Delta-N - Issue 1 - Arabic مجلة دلتا نون - العدد الأول

Page 1

‫مجلـــة يصــدرها مركــز دراســات الفكــر والشــأن العــام‪ .‬دمشــق ‪ -‬لنــدن‬

‫العــدد األول‪ ،‬متــــوز ‪ /‬يوليـــو ـ ‪2014‬‬

‫مقاالت‪:‬‬

‫ريبورتاجات‪:‬‬

‫دراســـــات‪:‬‬

‫• داعش وتجاوز حدود املزاودات‬

‫مراجعات كتب‪:‬‬

‫• املساكنة بني الجنسني‬

‫• الحروب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫• الرياضة السورية‪ :‬ضحية من ضحايا األزمة؟‬

‫• فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام‬

‫• رواية رسمدة لفادي عزام‬

‫• الحرب يف سوريا وحقوق الطفولة‬

‫• حق الجوار والخروج من املستنقع الطائفي‬


‫العدد ‪ 1‬ـ متوز ‪/‬يوليو ـ ‪2014‬‬

‫صورة الغالف‪:‬‬ ‫غسالة املجتمع’‬ ‫‘نارشين عرضا ‪ -‬خرجت للتو من ّ‬ ‫رسم‪ :‬مايا عدنان محمود‪ ،‬املزيد يف محور ‘املشهد البرصي’‬ ‫يف الصفحة ‪189‬‬

‫ِدل َتـا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ـ لندن‪ .‬السنة األوىل‪ ،‬العدد األول‪ ،‬متوز‪ /‬يوليو ‪2014‬‬

‫هيئة التحرير‪:‬‬

‫طالل امل َ ْي َهني (رئيس التحرير)‬

‫فرزند عمر (محرر القسم العريب)‬

‫مازن عيل (محرر القسم العريب وجولة العدد)‬ ‫عزام قصري (محرر القسم اإلنكليزي)‬

‫ماهر املونس (محرر القسم الصحفي)‬

‫الفريق الصحفي‪ :‬دميا نقوال‬ ‫طارق العبد‬ ‫عالء إحسان‬ ‫قيص عاممة‬ ‫أحمد حاج حمدو‬ ‫نور شلغني (جولة العدد ومقهى دلتا نون)‬ ‫فريق امللتيميديا‪ :‬مصطفى دباس‬ ‫كندة يوسف‬ ‫خالد هربش‬ ‫فريق الرتجمة‪ :‬مين القييس‬ ‫رميه سواح‬ ‫مسؤول اإلنرتنت‪ :‬طارق سواح‬ ‫تدقيق لغوي‪ :‬عبد السالم حلوم‬

‫لالتصال بنا‪:‬‬ ‫مكتب دمشق‪:‬‬

‫شارع العابد ‪ -‬جادة العاين‬ ‫ص‪.‬ب‪10250 :‬‬

‫مكتب لنــدن‪:‬‬

‫‪436A Hamilton House‬‬ ‫‪Mabledon Place, Bloomsbury‬‬ ‫‪London, WC1H 9BB‬‬ ‫‪Tel. +44 20 75 54 85 30‬‬ ‫‪email: editors@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.delta-n.c-tpa.org‬‬

‫مركز دراسات الفكر والشأن العام‬

‫‪Centre for Thought and Public Affairs‬‬ ‫‪email: info@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.c-tpa.org‬‬

‫التصميم واإلخراج الفني‪:‬‬

‫‪Omran Attar‬‬

‫‪gaea.goddess@gmail.com‬‬


‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ‪ -‬لندن‬


‫احملتوى‬ ‫‪7‬‬

‫حترير‬ ‫افتتاحية العدد‬

‫رئيس التحرير‬

‫‪8‬‬

‫تقديم العدد‬

‫هيئة التحرير‬

‫‪10‬‬

‫جولة العدد‬

‫هيئة التحرير‬

‫‪12‬‬

‫‪19‬‬

‫مقاالت‬ ‫مقاربة لنقد الطائفية يف سوريا‬

‫نريوز ساتيك‬

‫‪20‬‬

‫االفرتايض يخضع للواقع‪ :‬يعمق عيوبه ويشوه معرفته‬

‫مناف زيتون‬

‫‪24‬‬

‫يك ال ت ُفسد الثورة السورية بأيدي من ميتطونها‬

‫هوشنك أويس‬

‫‪30‬‬

‫مفارقات لونية يف الداخل السوري‬

‫رهام كوسا‬

‫‪34‬‬

‫األلرتاس‪ :‬النشأة والدور‬

‫فيكتوريوس شمس‬

‫‪38‬‬

‫التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا‬

‫عبد الله شالش‬

‫‪43‬‬

‫املرسح السوري أزمة عميقة تتطور‬

‫مايا جاموس‬

‫‪47‬‬

‫األدب السوري املعارض‬

‫عبد الوهاب عزاوي‬

‫‪51‬‬

‫عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتامعي والسيايس‬

‫ليليان بالن‬

‫‪55‬‬

‫داعش وتجاوز حدود املزاودات‬

‫مارك براترش‬

‫‪60‬‬

‫يف الصورة البرصية ملجلة دابق وإسقاطاتها‬

‫مصطفى دباس‬

‫‪63‬‬


‫‪71‬‬

‫مراجعات كتب‬ ‫رواية رسمدة لفادي عزام‬

‫نور شلغني‬

‫‪72‬‬

‫قلق يف العقيدة لسعيد ناشيد‬

‫عامر ديوب‬

‫‪78‬‬

‫‪85‬‬

‫ريبورتاجات صحفية‬ ‫املساكنة‬

‫كفاح زيني‬

‫‪86‬‬

‫لبنان‪ :‬الجئون يف الخيام والجئون يف القصور‬

‫عامر املأمون وعبد الله قاسم‬

‫‪90‬‬

‫ملف املخطوفني يف سوريا‬

‫قيص عاممة‬

‫‪96‬‬

‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫عبد الحاج‬

‫‪101‬‬

‫الرياضة السورية‪ :‬ضحية من ضحايا األزمة؟‬

‫عالء إحسان وأحمد حاج حمدو‬

‫‪109‬‬

‫املسلحون يف سوريا‪ :‬البحث عن الدعم والقيادة‬

‫طارق العبد‬

‫‪114‬‬

‫رحى الحرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة‬

‫دميا نقوال‬

‫‪118‬‬

‫‪123‬‬

‫دراسات‬ ‫الحروب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫سنان الحواط‬

‫‪124‬‬

‫من البنية التحتية لوسائط النقل إىل السياسة يف بريوت‬

‫أحمد عثامن‬

‫‪131‬‬

‫تيار العبث بني الفلسفة واملرسح‬

‫عالء العامل‬

‫‪139‬‬

‫الدولة السورية بني مصيدة القوة واملدى‬

‫وجدي وهبي‬

‫‪150‬‬

‫فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام‬

‫دنكان توماس‬

‫‪158‬‬

‫حق الجوار كوسيلة للخروج من املستنقع الطائفي‬

‫طاهر زمان‬

‫‪174‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘أم هشام’‬

‫تصوير‪ :‬كندة سكيكر❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫التقطت الصورة عام ‪.2013‬‬

‫❊ كندة سكيكر‪ :‬خريجة تصوير فوتوغرايف من املعهد التقاين للفنون التطبيقية‪ ،‬وطالبة يف قسم التقنيات يف املعهد العايل للفنون‬ ‫املرسحية بدمشق‪ .‬متارس التصوير التلفزيوين والفوتوغرايف حيث شاركت يف أربع معارض برعاية وزارة الثقافة‪ ،‬واتحاد املصورين‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حتــرير‬ ‫افتتاحية العدد‬ ‫تقديم العدد‬ ‫جولة العدد‬


‫حترير‬

‫االفتتاحية‬

‫شرق املتوسط ومالمح االنهيار‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عصيبة‪ ،‬تتآكل فيها الكيانات السياسية في العراق وسوريا‪ ،‬وتنهار معها التوافقات‬ ‫مرحلة‬ ‫هذه‬ ‫ٍ‬ ‫سنوات‬ ‫االجتماعية الشكلية التي جمعت‪ ،‬ظاهرياً على األقل‪ ،‬المكونات السكانية في عموم المنطقة‪ .‬فبعد‬ ‫من الصراع العنفي العبثي والمستمر يأتي ‘الحدث الداعشي’‪ ،‬حسب تسمية أحد األصدقاء‪ ،‬تتويجاً لقتامة‬ ‫المشهد‪ ،‬ليقذف بالمنطقة في عتم المجهول‪ ،‬ويخلط األوراق‪ ،‬ويزيد من تعقيد الصورة‪ .‬تتزامن هذه‬ ‫المرحلة مع مأسا ٍة إنساني ٍة كبرى أجبرت شرائح واسعة على النزوح والهجرة‪ ،‬أو القبول باألمر الواقع‪ ،‬مع‬ ‫شللٍ َم ُهولٍ في عجلة التنمية واالقتصاد والصحة والتعليم‪.‬‬ ‫التصريح بما كان‬ ‫ينفجر‪ ،‬في هذه المرحلة العصيبة‪ ،‬ما كان يتراكم مضطرماً تحت الرماد؛ ليعرب َد‬ ‫ُ‬ ‫مخبوءاً‪ ،‬والنطقُ بما كان عنه مسكوتاً‪ ،‬فتسقط كل األقنعة‪ ،‬وتقف المنطق ُة عاري ًة قبالة قباحتها وتوحشها‪،‬‬ ‫دون تجميلٍ أو مساحيق‪ ،‬تارك ًة إرثها الحضاري والثقافي الثري في عهدة الماضي والذكريات‪ .‬وبهذا يتحول‬ ‫شرق المتوسط إلى ساح ٍة تضم مزيجاً من القتلة والمقتولين‪ ،‬إلى حلب ٍة تشهد تسابقاً محموماً على سفك‬ ‫الدم‪ ،‬وإلى بيئ ٍة لتفريخ الكراهية والحقد وال َع َدم ّية‪ ،‬والسقوط في براثن الغرائزية األولى‪.‬‬ ‫لكن كيف أمكن لما حدث أن يحدث أص ًال؟ كيف سار الوضع إلى هذا الدرك من االنحطاط؟ وكيف‬ ‫تس ّنى لهذا الكابوس أن يكون؟ أين تبخّ رت أحالم النهضة والحداثة؟ وأين اختفت طموحات التغيير والتقدم؟‬ ‫تكثر أمثال هذه التساؤالت في أزمنة العنف؛ فقد عرفتها أوروبا إبان وبعيد الحروب العالمية على سبيل‬ ‫المثال‪ ،‬ما أفرز العديد من التيارات النقدية التي كان لها عميق األثر على سيرورة المعرفة واالشتغال‬ ‫الفكري‪ .‬هذا ما نشهده أيضاً في عموم المنطقة هذه األيام؛ إذ نلحظ تلك التساؤالت في العيون المصدومة‬ ‫بواقع مرير‪ ،‬نسمعها من األلسنة المتسائلة عن مستقبلٍ مجهول‪ ،‬ونقرؤها في كتابات ‘المثقفين’ على‬ ‫ٍ‬ ‫اختالف أصنافهم ومواقعهم‪ .‬لكن نادراً ما ترقى اإلجابات إلى كارثية الحدث‪ ،‬ونادراً ما تنجح في الفكاك‬ ‫من نظريات المؤامرة‪ ،‬لتدور غالباً في حلق ٍة مفرغ ٍة من ‘لَ ْوم اآلخر’ بعد صناعة هذا ‘اآلخر’‪ ،‬ويغيب البحث‬ ‫مهووس‪ ،‬في الغالب األعم‪ ،‬بإثبات أنهم‬ ‫الصادق والجاد عن الحلول والمخارج‪ .‬فالخطاب واالشتغال الفكري‬ ‫ٌ‬ ‫‘هم’ أساس المشكلة‪ ،‬وبأننا ‘نحن’ بريئون من أي مسؤولي ٍة فيما حدث ويحدث (بغض النظر عن انتماءات‬ ‫الـ ‘هم’ والـ ‘نحن’)‪ ،‬وفي خِ ضَ ِّم هذا الهوس تغرق المنطقة أكثر وأكثر في َو ْحلِ صراعاتها‪ .‬هذه االستماتة‬ ‫والتنصل من دور ‘الجالد’‪ ،‬هذه الرغبة العميقة في إعالن ‘براءتنا’‪ ،‬وإخفاء‬ ‫المازوخية في أخذ دور ‘الضحية’‬ ‫ُّ‬ ‫ويائس من مواجهة الواقع األليم ‪ٌ -‬‬ ‫صفة‬ ‫هروب ساف ٍر‬ ‫‘أيدينا’ المغموسة بالدماء حتى المرافق‪ ،‬ليست سوى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫تالزم العقلية السائدة الغارقة في غيب ّيتها وجنون عظمتها‪ ،‬الغارقة في نرجس ّيتها وإقصائيتها واستعالئها‪ٌ ،‬‬ ‫صفة‬ ‫تك ِّر ُس المأساة‪ ،‬وتعيد إنتاج ما هو قائم‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫وبعد كل هذا‪ ،‬فهل ما زلنا في حاج ٍة إلى مزي ٍد من الدالئل كي ُن ِق َّر بضرورة التغيير الجذري في‬ ‫المنطقة؟ سواء على المستوى الفردي أو الجماعي؟ تغيير ال يقف عند حدود التشذيب السياسي‪ ،‬بل ينفذ‬ ‫إلى آليات المعرفة واالشتغال الفكري‪ ،‬وإلى عمق المواقف تجاه الحياة واألشياء والمفاهيم‪ ،‬وإلى مناهج‬ ‫وأسس العقلية السائدة وإدراكها للدنيوي والمقدس‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مرحلة عصيبة‪ٌ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إجابات‬ ‫تساؤالت كبرى وتنتظر‬ ‫تطرح‬ ‫ومركبة تبحث عن حلول‪،‬‬ ‫عميقة‬ ‫أزمة‬ ‫هذه‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إجابات قادرة على اقتحام أيديولوجيات الخوف والصمت‪ ،‬وعلى الخروج من أسر‬ ‫إجابات شجاعة‪،‬‬ ‫مختلفة؛‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫إجابات تتحرر من ُح ّمى التماثل والتقليد‪ ،‬وتعيد االعتبار إلى عقل اإلنسان‬ ‫النماذج الجاهزة والمعلبة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بمسؤوليات ِج َسا ٍم‬ ‫في عص ٍر بات فيه شتم العقل فضيلة‪ .‬ولع ّله من النافل القول بأن كل ما سبق سيلقي‬ ‫على عاتق كل المهتمين‪ ،‬وبخاصة أولئك المشتغلين في قضايا الفكر والحقل العام‪ ،‬آملين أن تكون مجلة‬ ‫‘دلتا نون’ صوتاً فاع ًال‪ ،‬ومنبراً مفتوحاً لكافة األقالم الشابة والجادة‪ ،‬لكافة األفكار الخالقة‪ ،‬لكافة الطروحات‬ ‫الجريئة التي تناقش ما تعيشه منطقتنا‪ ،‬ع ّلنا نسهم‪ ،‬مع غيرنا‪ ،‬في عملية التغيير المنشودة‪.‬‬ ‫مح ّمد طالل امل َ ْي َهني‬ ‫رئيس التحرير‬

‫‪9‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬

‫التقدمي‬

‫حول العدد األول من جملة ‘دلتا نون’‬ ‫تسعى مجلة ‘دلتا نون’ في عددها األول‪ ،‬الذي نضعه بين أيديكم‪ ،‬إلى تعميق تجربة العدد صفر‬ ‫الصادر في أيار‪/‬مايو ‪ ،2014‬مع متابعة تركيزها على دراسة العالقة الكامنة بين ‘الفكر’ و‘الشأن العام’؛ تلك‬ ‫العالقة الشائكة التي ما فتئت تعتريها مواقف مسبقة تفصل بين الفكرة ‘النظرية’ والواقع ‘العملي’‪ .‬ربما‬ ‫يعود ذلك إلى االلتباس القائم بين مهمة المفكرين والمثقفين‪ ،‬القابضين على مبضع التحليل والتشريح‬ ‫ونحت المفاهيم‪ ،‬وبين القضايا اليومية التي يصادفها ويعيشها الناس في العمل والمدرسة والشارع‪ ،‬وإلى‬ ‫عدم إدراك (أو تغييب إدراك) العالقة التي تربط بين الفكر وهذه القضايا‪.‬‬ ‫وعليه تحاول مجلة ‘دلتا نون’‪ ،‬في العدد الحالي‪ ،‬إبرا َز بعض المالمح التي تحكم العالقة بين حقلي‬ ‫‘الفكر’ و‘الشأن العام’‪ ،‬وذلك بإثارة أكثر من قضية على المستويات االجتماعية واالقتصادية والثقافية‬ ‫اب شباب يعيشون واقعهم‪ ،‬يندمجون فيه‪ ،‬ويسهمون في‬ ‫واألدبية والفنية‪ ،‬معتمد ًة بالدرجة األولى على ُك َّت ٍ‬ ‫تشكيله‪ .‬حيث تفسح مجلة ‘دلتا نون’ المجال واسعاً أمام األقالم الشابة كي تستهل‪ ،‬أو تعمق‪ ،‬تجربتها في‬ ‫بروح منفتح ٍة على كافة الطروحات واألفكار‬ ‫الكتابة عبر النشر في هذه الصفحات‪ ،‬مع التزام هيئة التحرير ٍ‬ ‫واآلراء الملتزمة بسياستها التحريرية المعلنة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مساهمات واعد ٍة يظهر عليها الجهد البحثي والعلمي‬ ‫يحتوي العدد الحالي من مجلة ‘دلتا نون’ على‬ ‫واألدبي الحثيث‪ ،‬والطموح في تقديم مواد غنية بالمعلومة واالجتهاد الفكري؛ سواء في قضايا إشكالية‬ ‫كقضية ‘المساكنة’ بين الجنسين بقلم كفاح الزيني وقضية ‘الجئي القصور’ بقلم عمار المأمون وعبد الله‬ ‫قاسم‪ ،‬أو لجهة عرض المذاهب الفلسفية وإسقاطات الواقع على الفنون؛ كما جاء في مادة ‘العبث’ بقلم‬ ‫عالء العالم‪ ،‬ومادة ‘المسرح والمجتمع السوري’ بقلم مايا جاموس‪.‬‬ ‫نقرأ أيضاً في هذا العدد تغطي ًة للمشهد السوري؛ على المستوى السياسي بقلم هوشنك أوسي ورهام‬ ‫ٍ‬ ‫مقاالت منوعة بقلم‬ ‫كوسا‪ ،‬وعلى المستوى االقتصادي بقلم وجدي وهبي وعبد الله شالش‪ .‬وباإلضافة إلى‬ ‫عبد الوهاب عزاوي ومناف زيتون وليليان بالن وفيكتوريوس شمس‪ ،‬يقدم العدد الحالي أيضاً مراجعتي‬ ‫كتب‪ .‬حيث تستعرض نور شلغين رواية ‘سرمدة’ للكاتب فادي عزام عبر قراءتها قراء ًة مكثف ًة تحلل ما‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وبأدوات أدبي ٍة بالغة األمانة في استنطاق النص‪ .‬تأتي أهمية‬ ‫شعبي أصيل‪،‬‬ ‫موروث‬ ‫تحمله هذه الرواية من‬ ‫ٍّ‬ ‫القراءة التي تقدمها اآلنسة شلغين من مقارعتها ونقضها لقراء ٍة سابقةٍ‪ ،‬بقلم الشاعر السوري خلف علي‬ ‫الخلف‪ ،‬لنفس الرواية افتقرت فيها للروح المتسامحة مع المناهج الصارمة في قواعد فن الرواية‪ .‬أما‬ ‫المراجعة الثانية فبقلم عمار ديوب الذي يتصدى لكتاب ‘قلق في العقيدة’ للباحث المغربي سعيد ناشيد‪.‬‬ ‫ومع أن المراجعة قد ُكتبت من وجهة نظر يسارية‪ ،‬إال أن ذلك لم يجعلها تقع في فخ الخضوع المطلق‬ ‫لأليديولوجيا‪ .‬بل على العكس‪ ،‬فقد قدمت المراجعة عرضاً سلساً ومالئماً ألطروحة األستاذ ناشيد المثيرة‬ ‫للجدل في األوساط المعنية بالفكر الديني اإلسالمي‪.‬‬ ‫‪10‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫وتمشياً مع موسم كأس العالم لكرة القدم‪ ،‬فقد ارتأى الفريق الصحفي في مجلة ‘دلتا نون’ إعداد‬ ‫تحقيق عن تأثر وتأثير الرياضة (المحلية والعالمية) في واقع الصراع الذي تمر به سوريا‪ ،‬مع استمز ٍاج آلراء‬ ‫بعض صناّع السياسات الرياضية والقائمين عليها‪ .‬كما يمكن للقراء تصفح عدد من التحقيقات المهمة حول‬ ‫خارطة المسلحين وقضية المخطوفين في سوريا‪ ،‬وتأثير األزمة السورية على واقع الطفولة‪ ،‬وقوارب الموت‬ ‫إلى أوروبا‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مترجمة عن النص األصلي‬ ‫نصيب في مقالتين‪ .‬المقالة األولى‬ ‫وبالتأكيد كان للحدث الداعشي‬ ‫ٌ‬ ‫الـم ْر َسل باإلنكليزية بقلم مارك براتشر‪ ،‬حيث تطرح المقالة فكرة أن ‘داعش’‪ ،‬بإفراطه في المزاودة العنفية‬ ‫ُ‬ ‫والممارسات المتطرفة‪ ،‬فإنه يحكم على نفسه بالفناء‪ .‬قد ال نتفق تماماً مع ما ذهب إليه الكاتب‪ ،‬بخاصة‬ ‫وأنه يبدو وكأنه يختصر ظاهرة التطرف في تنظيم ‘داعش’‪ ،‬إال ان أطروحته تستحق التأمل والبحث‪ .‬أما‬ ‫المقال الثاني فهو ٌ‬ ‫نقدي للصورة البصرية ومحتوى مجلة ‘دابق’ التي بدأ تنظيم ‘داعش’ بنشرها‪،‬‬ ‫عرض‬ ‫ٌّ‬ ‫حيث يجادل المقال في أن اإلخراج االحترافي لمجة ‘دابق’ ظاهر ٌة فريد ٌة من نوعها في واقع الحركات‬ ‫الجهادية‪ ،‬مع احتمال أن تكون مقدم ًة تنذر بطموح التنظيم إلى التحول من وضعه المليشياوي الفوضوي‬ ‫إلى وضع الدولة المنظمة‪.‬‬ ‫وعميق ومتمكن‪،‬‬ ‫سلس‬ ‫يضاف إلى ما سبق عدة دراسات مهمة‪ .‬إذ يناقش سنان الحواط‪،‬‬ ‫بأسلوب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جذور الحرب األهلية التي يمكن أن تكون نتيجة للمظلومية أو الطمع‪ ،‬أو مزيجاً لكليهما‪ .‬كذلك يقدم طاهر‬ ‫زمان في دراسته (النص األصلي باإلنكليزية) لمحة إلى دور عالقات الجيرة في تجفيف المستنقع الطائفي‬ ‫الذي يجتاح المنطقة‪ .‬حيث يحلل التفاعل اليومي بين مختلف المكونات السكانية في سوريا في مناطق‬ ‫النزوح‪ ،‬متقاطعاً في هذه الدراسة مع التحليل الذي قدمه نيروز ساتيك عن الحالة الطائفية في سوريا‪ .‬كما‬ ‫يسلط أحمد عثمان الضوء في دراسته (النص األصلي باإلنكليزية) على العالقة الرمزية بين وسائط النقل‬ ‫بالسياسة في بيروت‪ ،‬حيث تعكس الالمساواة في واقع النقل في العاصمة اللبنانية حال ًة أكثر جذرية من‬ ‫الالمساواة على مستوى الممارسة السياسية‪ .‬أما دراسة دنكان توماس (النص األصلي أيضاً باإلنكليزية) فإنها‬ ‫عرض لعد ٍد‬ ‫تدرس دور فن الشارع والغرافيتي في إيران كوسيل ٍة لالحتجاج السياسي على النظام القائم‪ ،‬مع ٍ‬ ‫من اللوحات الفنية التي توضح فكرة الدراسة‪.‬‬ ‫وكما هو مالحظ فقد اخترنا عم ًال فنياً لفنانة صاعدة‪ ،‬مايا محمود‪ ،‬لتزين غالف العدد الحالي‪ .‬فقد‬ ‫جمع هذا العمل المعنون بـ ‘ناشرين عرضا’ بين البساطة والعمق؛ بساطة المالمح ووضوحها‪ ،‬وعمق المعنى‬ ‫الكامن وراءها‪ ،‬بخاصة وأن العمل ينقد القولبة التي يفرضها المجتمع قهراً على النساء‪ .‬وتضاف إلى ذلك‬ ‫مجموعة من األعمال الفنية البصرية (صور فوتوغراف ورسومات وكاريكاتور)‪ ،‬لتزين صفحات المجلة‪ ،‬قام‬ ‫ٌ‬ ‫عدد منهم إلى ‘تجمع فناني فلسطين’‪.‬‬ ‫بإعدادها‬ ‫مجموعة من الشباب ينتسب ٌ‬ ‫أخيراً نود في هيئة التحرير أن نتقدم بجزيل الشكر لكل من ساهم في إنجاز العدد الحالي فريقاً‪،‬‬ ‫و ُك ّتاباً‪ ،‬وفنانين‪ ،‬دون أن ننسى دعوة القراء األعزاء إلى إرسال انتقاداتهم وتعليقاتهم على المواد المنشورة‬ ‫في المجلة‪ ،‬أو على مستوى المجلة ككل‪ ،‬عبر البريد اإللكتروني التالي‪editors@c-tpa.org :‬‬ ‫هيئة التحرير‬ ‫مجلة دلتا نون‬ ‫‪11‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬

‫جولة العدد‬ ‫أخبار مركز دراسات الفكر والشأن العام‬ ‫تهنئة‬ ‫فاز ماهر المونس بجائزة أفضل نص في‬ ‫‘مهرجان سينما الشباب واألفالم القصيرة األول’‬ ‫في دمشق‪ .‬النص الفائز بالجائزة كان تدوين ًة‬ ‫مستندة إلى قصة واقعية نشرها المونس في‬ ‫مدونته ‘جرعة زائدة’‪ ،‬ليتحول النص فيما بعد‬ ‫فيلم قصير من إخراج نادين الهبل بعنوان‬ ‫إلى ٍ‬ ‫‘عشر دقائق بعد الوالدة’‪ .‬يذكر أن ماهر المونس‬ ‫عضو في هيئة التحرير في مجلة ‘دلتا نون’‪ ،‬حيث يشرف على القسم الصحفي في المجلة التي يصدرها‬ ‫ٌ‬ ‫‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’‪.‬‬ ‫تعاون مع أوبن دميوكراسي ‪OpenDemocracy‬‬ ‫في لقاء جرى في أيار‪/‬مايو ‪ 2014‬تم االتفاق على التعاون األولي بين ‘مركز دراسات الفكر والشأن‬ ‫العام’ والـ ‘أوبن ديمكراسي ‪ .’OpenDemocracy‬ووفقاً لهذا التعاون ستقوم هيئة التحرير في مجلة ‘دلتا‬ ‫نون’ باختيار بعض المواد المنشورة في المجلة كي يتم نشرها في موقع ‘أوبن ديمكراسي’‪ .‬يتيح هذا‬ ‫التعاون وصول المواد‪ ،‬التي ستتم ترجمتها إلى اإلنكليزية‪ ،‬إلى شريحة الواسعة من الجمهور الغربي‪ .‬يذكر‬ ‫أن ‘أوبن ديمكراسي’ مؤسسة غير حكومية غير ربحية تعنى بقضايا الديمقراطية‪ ،‬ومقرها لندن‪.‬‬

‫لقاءات مع منظمة إنرتناشيونال ألريت ‪International Alert‬‬

‫حضر ممثل عن ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ في لندن ورشتي عمل في أيار‪/‬مايو وتموز‪/‬يوليو‬ ‫بدعوة من منظمة ‘إنترناشيونال أليرت ‪ ،’International Alert‬وبحضور عدد من المنظمات والمؤسسات‬ ‫المعنية بالشأن السوري‪ .‬الفكرة من اللقاءات المذكورة هي دراسة دور المغتربين السوريين في دعم‬ ‫الوصول إلى حلول للوضع السوري المعقد‪ ،‬وفي بناء السالم‪.‬‬ ‫اجتماع مع مركز أبحاث حتليل النزاع يف جامعة كينت‬ ‫عقد مركز دراسات الفكر والشأن العام مؤخراً اجتماعاً مع البروفسور فرغال كوشران ‪Feargal‬‬ ‫‪ Cochrane‬للتباحث حول إمكانية التعاون في عدد من المشاريع الفكرية التي سيطلقها المركز حول وضع‬ ‫‪12‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫الصراع في سوريا‪ .‬يذكر أن البروفسور كوشران هو رئيس ‘مركز أبحاث تحليل النزاع ‪Conflict Analysis‬‬ ‫‪ ’Research Centre‬في جامعة كينت في بريطانيا‪ ،‬وترأس سابقاً معهد ريتشاردسون ألبحاث السالم والنزاع‬ ‫في جامعة النكاستر‪ .‬وتتمحور أبحاث البروفسور كوشران حول تفكيك أسباب النزاعات في المناطق ذات‬ ‫التركيبة السكانية غير المتجانسة‪ ،‬وكان له دور مساهم في إيجاد مخارج للنزاع العنفي في أيرلندا الشمالية‪.‬‬

‫سجاالت‬ ‫جدد اجلدل حول مواقفه‬ ‫أدونيس‪ :‬طبعةٌ جديدةٌ ألعمال الثمانينيات تُ ّ‬ ‫أشعل المف ّكر السوري أدونيس فتي ًال‬ ‫جديداً في الجدل المستم ّر حول مواقفه من‬ ‫الوضع المتدهور في سوريا‪ ،‬بعد إصدار الجزء‬ ‫الثاني من أعماله الشعرية الكاملة‪ ،‬وكتابه ‘فاتحة‬ ‫لنهايات القرن’ عن ‘دار الساقي’ في بيروت‪.‬‬ ‫نشرت آخر المقاالت المنشورة في هذا‬ ‫الصدد في صحيفة ‘األخبار’ بعنوان‪‘ :‬أدونيس‪...‬‬ ‫فاتحة لنهايات الربيع العربي’ للصحافي يزن‬ ‫الحاج‪ ،‬الذي تساءل عن أهمية نشر هذين الكتابين الذين يعودان إلى ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬وتعود‬ ‫أول بيانات ثانيهما إلى عام ‪ .1967‬يوضح الحاج أنّ تأريخ بيانات اإلصدار األول للكتابين جاء بالتزامن مع‬ ‫الهزيمة الكبرى في تاريخ العرب المعاصر‪ ،‬لتأتي النسخة الثانية مع االنتكاسات المتالحقة التي تشهدها‬ ‫الساحة العربية‪ ،‬ما يمثّل البداية الفعلية ألي نقد جديد لكتابي أدونيس‪.‬‬ ‫وكان أدونيس قد أشعل فتيل الجدل عام ‪ ،2011‬بعد أن نشر مقالة بعنوان‪‘ :‬رسالة مفتوحة إلى‬ ‫الرئيس بشار األسد’‪ ،‬ض ّمنها رؤيته حول األزمة العالقة في سوريا منذ بداياتها‪ ،‬ونصائحه إلى الرئيس السوري‬ ‫بهذا الشأن‪ ،‬ليفتح نيران الجبهة المعارضة لألسد على نفسه‪ ،‬بدءاً من مقالة صادق جالل العظم‪ ،‬وما تالها‬ ‫من ردود مع الكاتبة خالدة سعيد‪ ،‬بعد أن قرر أدونيس أن يعتزل الرد على أي من المقاالت التي فتحت‬ ‫ثبت في كتبي‪ ،‬وهي في المكتبات‪ ،‬وأنا أثق بذكاء الق ّراء”‪.‬‬ ‫نيرانها عليه‪ ،‬قائ ًال‪“ :‬كل ما كتبته ُم ٌ‬ ‫السيد يدير رحى اجلدل حول ‘اإلسالم السياسي’ ويُشعل سجاال ً ثقافيًا‬ ‫رضوان‬ ‫ّ‬ ‫شهدت صحيفة “الشرق األوسط” منذ منتصف‬ ‫نيسان‪/‬أبريل الماضي‪ ،‬جدالً فكرياً ساخناً بين عدة مثقفين‬ ‫عرب‪ .‬بدأ ذلك عندما كتب رضوان السيد‪ ،‬أستاذ الدراسات‬ ‫اإلسالمية في الجامعة اللبنانية‪ ،‬مقالة بعنوان‪‘ :‬الحملة على‬ ‫اإلسالم‪ ...‬والحملة على العرب’‪ ،‬تط ّرق فيها إلى انتقادات‬ ‫المثقفين التنويريين المستم ّرة لمفهوم اإلسالم المتشدد‬ ‫والتكفيري واإلرهابي‪ ،‬في دراسات منقوصة برأيه‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬ ‫وذكر السيد في المقال المنشور بالعدد ‪ 12925‬من الصحيفة أنّ الدراسات التي يحتفل بها بعض‬ ‫السني’‪ ،‬مشيراً إلى أنّ ‪ 17‬كتاباً عربياً صدر بعد ‪ ،2010‬ينحاز‬ ‫تشن حمالتها على ‘اإلسالم‬ ‫الباحثين العرب‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بحجة المقاومة‪ ،‬وتحرير العرب والمسلمين من هذا ‘اإلسالم السني’‪.‬‬ ‫إلى األصولية الشيعية ّ‬ ‫وجاء رد الكاتب السوري جورج طرابيشي سريعاً‪ ،‬بعد أن ذكره السيد في مقاله كأحد قادة تلك‬ ‫الحمالت ضد ‘اإلسالم الس ّني’‪ ،‬إلى جانب أدونيس وغيره من المثقفين‪ .‬حيث أشار طرابيشي في مقاله إلى‬ ‫أنّ اتهامات السيد تضع ‘اإلسالم الشيعي’ في دور الجالد‪ ،‬مقابل نظيره السني الذي أصبح الضحية‪ ،‬موضحاً‬ ‫أنّ الضحية في هذا األمر إنما هي ‘اإلسالم’ عموماً‪ ،‬من خالل هذا الترويج لشطره إلى خير مطلق ونقيض‬ ‫شرير‪ ،‬م ّتهماً كل من يتبنى هذه الرؤية بقيادة الحملة المزعومة على اإلسالم‪.‬‬ ‫وانضم المف ّكر الليبي محمد عبد المطلب الهوني إلى طرابيشي‪ ،‬بمقالة رد فيها على السيد عبر‬ ‫الصحيفة نفسها ونشرها موقع األوان للعقالنيين العرب‪ ،‬بعنوان‪‘ :‬إلى السيد رضوان الس ّيد‪ :‬الخليج ال يحتاج‬ ‫إلى قرضاوي آخر’‪ ،‬أشار من خاللها إلى أنّ الوقائع التي وردت في مقالة السيد كانت مجافية للواقع‪،‬‬ ‫وتح ّداه أن ُيثبت اتهامات التح ّيز الطائفي التي أطلقها على جمع من المثقفين العرب‪.‬‬ ‫لكن السجال لم ينته بمقالة الهوني‪ ،‬إذ عاد الس ّيد إلى الساحة بر ّد مزدوج على المقالتين‪ ،‬مشيراً إلى‬ ‫أنّه مهموم كغيره بما يجري داخل اإلسالم‪ ،‬وفظائع ‘اإلسالم السياسي’ الذي برز بقوة تنظيماته إلى الساحة‪،‬‬ ‫بعد أن فشلت قوى المجتمع المدني بإسقاط أنظمتها السياسية‪ ،‬منتقداً في الوقت نفسه تدخّ ل ‘حزب الله’‬ ‫اللبناني في محاربة من يقول إنّهم تكفيريون في سوريا‪.‬‬ ‫وأنهى الس ّيد النقاش المحتدم مطلع أيار‪/‬مايو‪ ،‬باإلشارة إلى أنّ من حقّ التنويريين معالجة ما يريدون‪،‬‬ ‫ومن ح ّقه رفض طرقهم بالتعامل مع الدين اإلسالمي وتحليله ودراسته‪ .‬هذا وقد نشرت المد ّونة التابعة‬ ‫مجلة ‘دلتا نون’ روابط المقاالت المذكورة‪.‬‬

‫كتب‬

‫كتاب ‘‪ ’La Syrie promise‬للكاتبة السورية هالة‬ ‫القضماني‪ ،‬عن دار ‘‪ ’Actes Sud‬الفرنسية‪ ،‬وهو عبارة عن‬ ‫سردية ترويها الكاتبة على شكل رسائل إلكترونية بينها وبين‬ ‫والدها المتوفى مؤخراً‪.‬‬

‫كتاب ‘‪ ’Syrie, la révolution orpheline‬للكاتب‬ ‫اللبناني زياد ماجد‪ ،‬عن دار ‘‪ ،’Actes Sud‬وفيه محاولة من‬ ‫الكاتب إلجمال الحالة السوية في تداخالتها المحلية والدولية‬ ‫بصورة بانورامية عبر رصد أهم الفاعلين الدوليين والمحليين‪.‬‬

‫‪14‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫كتاب ‘‪ ’Les Gardiens de l'air‬للكاتبة السورية روزا‬ ‫ياسين حسن‪ ،‬عن دار ‘‪ ،’Actes Sud‬وهو رواية مترجمة عن‬ ‫العربية كانت قد صدرت عن ‘دار الكوكب’ الشقيقة لشركة‬ ‫‘رياض الريس للكتب والنشر’ في بيروت‪.‬‬

‫كتاب ‘الخالص أم الخراب؟ سوريا على مفترق الطرق’‬ ‫صادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق اإلنسان‪ ،‬يضم األوراق‬ ‫البحثية التي قام بتحريرها وتقديمها ياسين الحاج صالح‪ ،‬وساهم‬ ‫فيه أحمد حسو‪ ،‬أكرم البني‪ ،‬أنور البني ورضوان زيادة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫كتاب ‘‪Arab Winter Comes to America: The‬‬ ‫‪ ’Truth About the War We're In‬للكاتب روبرت سبنسر‬ ‫‪ ،Robert Spencer‬الذي يقول فيه‪“ :‬ربما يكون الجو دافئاً‬ ‫بالخارج اآلن‪ ،‬ولكن عاصف ًة ثلجي ًة على وشك أن تهب من‬ ‫القلوب الباردة‪ ،‬التي تعيش حالة من الجمود‪ ،‬في شتاء إسالمي‬ ‫ال تبدو له نهاية”‪.‬‬

‫كتاب ‘الربيع العربي إلى أين؟ أفق جديد للتغيير‬ ‫الديمقراطي’‪ ،‬عن مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬تحرير عبد‬ ‫اإلله بلقزيز‪ ،‬وفيه يعاد طرح السؤال القديم عن السلطة العربية‪:‬‬ ‫تغيي ٌر من الداخل أم ثور ٌة جديدة؟‬

‫‪15‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬ ‫أبحاث‬ ‫تقرير‪‘ :‬هدر اإلنسانية‪ :‬تقرير يرصد الظروف االقتصادية واالجتماعية يف سوريا’‬ ‫صدر عن ‘المركز السوري لبحوث‬ ‫السياسات’ تقرير الربعين الثالث والرابع (تموز‪/‬‬ ‫يوليو – كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ )2013‬بعنوان‪:‬‬ ‫‘هدر اإلنسانية‪ :‬تقرير يرصد الظروف االقتصادية‬ ‫واالجتماعية في سورية’‪ ،‬بالتعاون مع األنوروا‪،‬‬ ‫وبرنامج األمم المتحدة اإلنمائي‪ ،‬بتاريخ أيار‪/‬‬ ‫مايو ‪ ،2014‬وقد جاء في تقديمه على موقع‬ ‫المركز االلكتروني‪“ :‬تواجه سورية واحدة من‬ ‫أكثر الكوارث التنموية واإلنسانية ح ّدة في‬ ‫التاريخ الحديث‪ ،‬حيث د ِّمر كل من االقتصاد‬ ‫ورأس المال البشري والثقافي واالجتماعي‪،‬‬ ‫ناهيك عن التخلخل الذي أصاب الهوية الوطنية‪.‬‬ ‫وهذه الكارثة تُس ُّيرها وتُذكيها قوى التسلط‬ ‫على المستويين المحلي والدولي‪ ،‬مسببة هدر‬ ‫اإلنسانية في سورية‪ .‬يهدف المركز السوري‬ ‫لبحوث السياسات من إعداد هذا التقرير‪ ،‬والذي‬ ‫يأتي في إطار سلسلة تقارير ربعية‪ ،‬إلى تقدير‬ ‫وتوثيق وتحليل اآلثار التنموية الكارثية للنزاع‬ ‫المستمر‪ ،‬باالستناد إلى أحدث البيانات واألدلة المتاحة ونماذج االقتصاد القياسي”‪.‬‬

‫تقرير‪‘ :‬األزمة املستمرة‪ :‬حتليل املشهد العسكري يف سوريا’‬ ‫في إطار اصداراته المعنونة بتحليل السياسات نشر ‘مركز بروكنغز ‪ ’Brookings‬ورقة بعنوان‪‘ :‬األزمة‬ ‫المستمرة‪ :‬تحليل المشهد العسكري في سوريا’ للكاتب تشارلز ليستر‪ ،‬يحلل فيها المعارضة المدعومة من‬ ‫الغرب‪ ،‬والنفوذ المتزايد للمسلحين الجهاديين‪ ،‬والقدرات المتنامية للقوات الموالية للحكومة‪.‬‬ ‫يشير ليستر إلى أن هذه األطراف ستظل في حالة مواجهة حتى يتم التوصل إلى حلٍ سياسي‪ ،‬ال‬ ‫سيما وأنّ تحقيق انتصار عسكري حاسم يبدو صعب المنال بالنسبة لكافة األطراف‪ .‬ولكن‪ ،‬نظراً لتزايد عدد‬ ‫الجماعات المسلحة لدى طرفي الصراع‪ ،‬فمن غير المرجح أن تتو ّقف دوامة العنف في سوريا حتى ولو‬ ‫توصلت الحكومة والمعارضة إلى اتفاقٍ ما‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪16‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫وبالتالي‪ ،‬يرى ليستر أنه ينبغي على الدول الغربية واإلقليمية أن‬ ‫تركز على هدفين أساسين لسياستهما إزاء األزمة السورية‪ .‬أوالً‪ ،‬يتع ّين‬ ‫على المجتمع الدولي تعزيز معارضة سورية متماسكة من شأنها أن‬ ‫تتحدى نظام األسد على أرض المعركة وعلى طاولة المفاوضات‪ .‬ثانياً‪،‬‬ ‫يتع ّين على المجتمع الدولي مساعدة الدول المجاورة لسوريا على‬ ‫إدارة اآلثار غير المباشرة لحالة العنف الناجمة من هذا الصراع‪ ،‬وفي‬ ‫شكلٍ خاص‪ ،‬الحد من إمكانية توسيع رقعة عمليات الجماعات الجهادية‬ ‫الموجودة في سوريا خارج حدود البالد‪.‬‬ ‫مساهمات ليلى أبو لغد حتت جمهر ‘املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات’‬ ‫نشر ‘المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات’ في الدوحة‪ ،‬دراسة للباحث السياسي والقانوني ع ّياد‬ ‫توصلت إليه الباحثة الفلسطينية األمريكية ليلى أبو لغد‪ ،‬في عدم تناسق المنطلقات‬ ‫البطنيحي‪ ،‬حول ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلدراكية للخطاب النسوي مع السياقات المركبة للنساء في المنطقة العربية‪.‬‬ ‫وتتناول دراسة البطنيحي المواضيع التي بحثت فيها أبو لغد حول التحديات التي تواجه النساء‬ ‫العربيات؛ كعدم انسجام الخطاب الحقوقي والتنموي الغربي مع فهم ظروفهن الخاصة‪ ،‬إضافة إلى تحليل‬ ‫قراءتها للدولة الحديثة بمنطق مختلف عن خطاب الحداثة‪ ،‬ونظرتها حول التص ّور العالمي لخطاب التنمية‬ ‫اجهن في العالمية‪ ،‬والدفاع عن خصوصيتهن‬ ‫الليبرالي بأنّه مض ٌّر بالنساء‪ ،‬ما يعطيهن الحق في رفض اندر ّ‬ ‫الحضارية والمحلية‪.‬‬ ‫ُيشار إلى أنّ ليلى أبو لغد‪ ،‬أستاذة في علم اإلنسان ودراسات المرأة والنوع في جامعة كلومبيا‪،‬‬ ‫تخرجت من كلية كارلتون عام ‪ ،1974‬وحصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة هارڤرد عام ‪،1984‬‬ ‫واشتهرت ببحثها الذي قدمته حول بدو قبيلة أوالد علي في مصر‪.‬‬

‫مازن عيل بالتعاون مع نور شلغني‬ ‫هيئة التحرير‬

‫‪17‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘فوق الدمار’‬

‫تصوير‪ :‬بشر عبد الهادي❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫صور ٌة فوتوغرافي ٌة مأخوذة يف مدينة الرقة السورية‪.‬‬

‫❊ برش عبد الهادي‪ :‬مدون ومصور فوتوغرايف منذ الـ ‪ .2009‬يكتب يف التقنية‪ ،‬حيث شارك بالعديد من املقاالت التقنية ضمن عدة‬ ‫مواقع عربية من بينها ‘كشكول التقنية’ و ‘أردرويد’‪ .‬سبق ونرش يف مجلة ‪ empirical magazine‬األمريكية عن الربيع العريب‬ ‫والدمار يف حلب‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬ ‫مقاربة لنقد الطائفية يف سوريا‬ ‫االفرتايض يخضع للواقع‪ :‬يعمق عيوبه ويشوه معرفته‬ ‫يك ال تُفسد الثورة السورية بأيدي من ميتطونها‬ ‫مفارقات لونية يف الداخل السوري‬ ‫األلرتاس‪ :‬النشأة والدور‬ ‫التوجهات املالية لرأس املال يف سوريا‬ ‫املرسح السوري أزمة عميقة تتطور‬ ‫األدب السوري املعارض‬ ‫عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتامعي والسيايس‬ ‫داعش ومقامرة العالقات العامة‬


‫مقاالت‬

‫نيروز ساتيك ❊‬

‫مقاربة دوالتية‬

‫لنقد الطائفية يف سوريا‬

‫اخلالصة‪:‬‬

‫تتعدد حاالت اقتحام جامعات ريفية للمدينة خالل يوميات األزمة السورية‪ ،‬يُ َص َّو ُر‬ ‫أسس طائفي ٍة عندما يكون أحدهام مختلفاً مذهبياً عن الطرف املقابل‪.‬‬ ‫بعضُ ها عىل ٍ‬ ‫تستعرض املقالة منوذجني عن ذلك‪ ،‬وتحللهام وفق العوامل االقتصادية واالجتامعية‬ ‫السائدة يف كل منطقة‪ .‬وتوضح أنه رغم اختالف أهداف االقتحام‪ ،‬فإن ما يجمعهام هو‬ ‫الخضوع للتناقضات التاريخية بني الريف واملدينة يف سوريا‪ .‬ولذلك ليس من الصعب‬ ‫تبديلها وتغيريها أو إعادة تحالفاتها يف منظومة سلطة سياسية دميقراطية تقوم عىل‬ ‫مبادئ املواطنة‪ .‬أما الخارس الوحيد هو الطائفية الزائفة‪.‬‬

‫❊ يشغل نيروز ساتيك وظيفة مساعد باحث في ‘المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات’‪ ،‬ويركز في اهتماماته على القضايا البحثية ذات الطابع‬ ‫االجتماعي في سوريا‪ .‬حصل نيروز على شهادة الليسانس (البكالوريوس) في العلوم السياسيّة من جامعة دمشق‪.‬‬

‫‪20‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاربة دوالتية لنقد الطائفية يف سوريا‬

‫ورثت دولة االستقالل السورية نحو عقدين ون ّيف من سياسات الهوية الطائفية المنهجية والمنظمة التي‬ ‫اتبعتها سلطات االنتداب الفرنسي‪ ،‬وخُ يل بعد زوال االنتداب أن المجتمع السوري قد وضع هذه المسألة خلفه‬ ‫ٍ‬ ‫إلى ح ٍّد ما‪ ،‬إلى أن َط َر َحت المسألة الطائفية نفسها خالل األزمة السورية الحالية بأشكالٍ‬ ‫ودرجات ووتائر مختلفة‪،‬‬ ‫مستترة أحيانًا وظاهرة أحيانًا أخرى‪ ،‬وبأشكال ملموسة يمكن قياسها كمؤشرات‪ .‬و َت َم َّث َل جوه ُر المسألة الطائفية‬ ‫ٌ‬ ‫تناقض طائفي‪ ،‬وهذا شكل ‘فظ’ من أشكال الوعي‬ ‫في تصوير التناقض بين السلطة الحاكمة والمعارضة على أنه‬ ‫الزائف والمقلوب‪.‬‬ ‫في ‪ 25‬آذار‪/‬مارس ‪ ،2011‬عندما التحقت مدينة الالذقية بالحركة االحتجاجية في درعا‪ ،‬نزل مدنيون‬ ‫سوريون بسياراتهم من القرى التي يسكنها علويون من ناحية المذهب الديني من جنوب الالذقية‪ ،‬لقمع الحركة‬ ‫االحتجاجية في المدينة‪ .‬إال أن حواجز الجيش السوري منعت دخولهم المدينة عند دوار جامعة تشرين وأجبرتهم‬ ‫على العودة‪ .‬في المقابل‪ ،‬لم تلتحق مدينة حلب الغنية بالحركة االحتجاجية في شكلٍ فاعل‪ ،‬فما كان من الريف‬ ‫ٍ‬ ‫سلوكيات انتقامية ثأرية‬ ‫الـم ْف َقر والمنتفض إال أن قام بغزو المدينة في ‪ 19‬تموز‪/‬يوليو ‪ 2012‬مع ممارسة‬ ‫الحلبي ُ‬ ‫طبقية كعمليات السلب والنهب بخاصة للمدينة الصناعية في الشيخ نجار‪ .‬المشترك في كلتا الحالتين‪ ،‬مع اختالف‬ ‫الهدف‪ ،‬أن هناك فعل اقتحا ٍم ريفي للمدينة‪ُ .‬ص ِّو َر الفعل األول على أنه ٌ‬ ‫فعل ‘طائفي’‪ ،‬بينما ُص ِّو َر الثاني على أنه‬ ‫ٌ‬ ‫فعل ‘ثوري’‪.‬‬ ‫كان من نتائج السياسات االقتصادية ذات االقتصاد المخطط لحكم البعث في سوريا حتى عام ‪ 2005‬أن‬ ‫تحولت الدولة إلى مصدر دخلٍ أساسي (الوظائف الحكومية) للمواطنين من المحافظات التي ال تشكل الصناعة‬ ‫والتجارة فيها نسباً عالية من أنماط اإلنتاج‪ .‬ومع إتباع الدولة لنهج ‘اقتصاد السوق االجتماعي’‪ ،‬المرتكز على‬ ‫سياسات اقتصادية ليبرالية في شكلٍ أساسي‪ ،‬اتجهت الحكومة السورية خالل العقد الماضي نحو عدم التوسع‬ ‫في التوظيف العام‪ .‬إذ بقيت نسبة المشتغلين في القطاع العام ثابتة بين عامي ‪( 2010 - 2001‬حوالي ‪،)%27‬‬ ‫بينما ارتفعت نسبة المشتغلين في القطاع الخاص المنظم (من ‪ %34‬إلى ‪ )%43‬في الفترة ذاتها‪ ،‬دون أن يعني‬ ‫ذلك تحسن ظروف العمل من ناحية األجور أو الحصول على التأمينات االجتماعية أو ضمان االستقرار الوظيفي‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مقاربة دوالتية لنقد الطائفية يف سوريا‬

‫ما يعني أن وظائف القطاع الخاص لم تكن ذات قيمة مضافة للمواطن السوري‪ ،‬بخاصة مع استمرار الحكومة‬ ‫السورية بتحسينها نسبياً لرواتب موظفي القطاع العام التي اتسمت بثباتها ودوامها مدى الحياة‪ .‬وبفعل ذلك‪،‬‬ ‫تح ّولت الوظائف الحكومية إلى قضي ٍة جديد ٍة للتوتر االجتماعي متفاعل ًة مع حالة الهجرة من الريف إلى المدينة‪،‬‬ ‫ومع معدل نمو سكاني من أعلى المعدالت في العالم‪ ،‬وتراجع دور الزراعة في الدخل الوطني بسبب السياسات‬ ‫االقتصادية النيوليبرالية الفاشلة‪ ،‬وحالة الجفاف التي َم َّرت وتم ُّر بها سوريا‪.‬‬ ‫دفع تراجع المردود االقتصادي من الزراعة ألهالي سوريا عموماً إلى البحث عن فرص عمل بديلة وبخاصة‬ ‫في الدولة‪ .‬وقد توفر ذلك إلى ح ٍّد ما لبعض الشرائح االجتماعية المقربة من السلطة في جنوب الالذقية‪ ،‬وذلك‬ ‫بسبب وجود موظفين علويين في موقع المسؤولية بخاصة في الجيش واألمن‪ .‬لم ُي َو َّظف العلويون حقيق ًة بسبب‬ ‫سياس ٍة طائفية‪ ،‬بل بسبب معامالتهم لذويهم وأبناء قراهم وفق منطق التضامن التقليدي والقرابة‪ .‬إن وجود‬ ‫ضباط كبار في الجيش واألمن من جنوب الالذقية ليست حال ًة سوري ًة فريدة‪ ،‬فقد كان كبار ضباط الجيش واألمن‬ ‫في العراق في عهد حكم البعث من تكريت العراق مسقط رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين‪.‬‬ ‫يقودنا ذلك إلى أن الفعل الريفي األول في الالذقية لم ينبع من ثقاف ٍة طائفي ٍة للشعب السوري‪ ،‬وإنما من‬ ‫دوافع مصلحية لشريح ٍة ريفي ٍة متضررة من تغيير الواقع السياسي واالقتصادي وتعيش على ما توفره مؤسسات‬ ‫الدولة من خدمات ووظائف حكومية‪ .‬بينما النخبة المدينية‪ ،‬التي كانت ترغب في التغيير‪ ،‬كانت متحرر ًة في‬ ‫اعتمادها على مؤسسات الدولة في شكل أكبر من الشريحة الريفية في جنوب الالذقية‪ ،‬كونها تمتهن وتعتمد‬ ‫على التجارة والخدمات واألعمال الحرفية وحواالت المغتربين في الخليج‪ .‬هذا الفعل الذي ُص ِّو َر على أنه ٌ‬ ‫فعل‬ ‫ٌ‬ ‫مصلحة في التغيير في مقابل مدين ٍة‬ ‫طائفي يمكن وضعه في إطار قمع الريف للمدينة؛ الريف الذي ليس له‬ ‫كانت تطمح إلعادة توزيع الثروة والسلطة‪ .‬في مقارن ٍة عربي ٍة من الثورة المصرية لتدعيم هذا االستنتاج‪ ،‬سنجد‬ ‫مثال ذلك في مدينة المحلة الكبرى‪ ،‬حيث عمد أهالي القرى المجاورة والمحيطة بالمدينة‪ ،‬والذين يعملون‬ ‫في مؤسسات األمن والجيش‪ ،‬إلى قمع المظاهرات المطالبة برحيل مبارك في الميدان الرئيسي للمدينة (ميدان‬ ‫الشون)‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫سياسات اقتصادية نيوليبرالية أ ّدت إلى انخفاض نسبة‬ ‫اتبعت الحكومة السورية في السنوات العشر األخيرة‬ ‫مساهمة الزراعة والصناعة في الدخل الوطني لصالح التجارة والسياحة‪ .‬أ ْفضَ ْت هذه السياسات إلى زياد ٍة في‬ ‫معدل النمو االقتصادي حوالي ‪ ،%5‬لكن نتائجه ‘اإليجابية’ لم تنعكس إال على المدن الكبرى (دمشق وحلب)‪،‬‬ ‫بينما حصدت المدن المتوسطة والصغيرة واألرياف نتائجه السلبية من فقر وبطالة وتفاوت طبقي‪ .‬وتدلل‬ ‫المؤشرات االقتصادية واالجتماعية في ريف حلب إلى حجم التفاوت الهائل في االستحواذ على الثروة بين‬ ‫حلب المدينة وريفها الذي دمرته اقتصادياً تلك السياسات‪ .‬لم يكن ريف حلب قبل تلك السياسات في مستوى‬ ‫اقتصادي جيد‪ ،‬لكنه كان مرتبطاً بالدولة من خالل سياسات الدعم التي توفرها الحكومة (المؤسسات االستهالكية‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫حظوظ‬ ‫المحروقات‪ ،‬السماد)‪ ،‬وألن المنطقة تعاني من التهميش وضعف سياسات التعليم‪ ،‬لم يكن ألبناء المنطقة‬ ‫وفرص في الحصول على وظائف في مؤسسات الدولة (المدرسة والمستوصف والجمعية التعاونية)‪ ،‬وقد بقيت‬ ‫ٌ‬ ‫تلك الوظائف مقتصر ًة على وجهاء كل قرية‪ .‬وبما أن الدولة قد بدأت تتخ ّلى تدريجياً عن هذه الخدمات التي‬ ‫دافع ألبناء المنطقة للتمسك بالدولة‪ .‬إن هذا التفاوت الطبقي أو الخلل‬ ‫كانت تقدمها‪ ،‬لم يعد هناك ٌ‬ ‫سبب أو ٌ‬ ‫في توزيع الثروة هو الذي دفع أهالي الريف المنتفضين على سياسات التهميش إلى غزو المدينة‪ ،‬ويمكن وضعه‬ ‫‪22‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاربة دوالتية لنقد الطائفية يف سوريا‬

‫في إطار ‘عقاب المدينة’ ألنها لم تشاركهم ثورتهم‪ ،‬وممارسة سلوكيات عقابية تحمل دالالت الحقد الطبقي‪.‬‬ ‫إن غزو الريف الحلبي للمدينة له جذوره التاريخية منذ عام ‪ 1850‬عندما دخل البدو المدينة لدعم انتفاضة‬ ‫العامة ضد الفروض الضريبية والتجنيد العثمانية‪ ،‬والتي بدأت بمهاجمة بيوت األعيان المسلمين‪ ،‬ومن ثم األحياء‬ ‫المسيحية الغنية للحصول على المال لتمويل االنتفاضة‪ ،‬لكن الصراخ األوروبي والكهنة المسيحيون‪ ،‬حاولوا أن‬ ‫طائفي بحت‪ ،‬وف ًقا لمصالحهم الخاصة‪.‬‬ ‫يقدموا المسألة على أنها صر ٌاع‬ ‫ٌّ‬ ‫المختلف في االقتحامين الريفيين هو الهدف (قمع‪/‬عقاب)‪ ،‬والمذهب (علوي‪/‬سني)‪ ،‬لكن ما يجمعهما هو‬ ‫الخضوع للتناقضات التاريخية بين الريف والمدينة في سوريا‪ .‬هذه التناقضات ذاتها خضعت للتغيير خالل العهود‬ ‫السابقة‪ ،‬ولذلك ليس من الصعب تبديلها وتغييرها أو إعادة تحالفاتها في منظومة سلطة سياسية ديمقراطية تقوم‬ ‫على مبادئ المواطنة‪ .‬أما الخاسر الوحيد هو الطائفية الزائفة‪.‬‬ ‫ال يمكن وصف الصراع السياسي الدائر في سوريا بأنه صراع طائفي‪ .‬لكن المشكلة تكمن عندما يتم‬ ‫ٌ‬ ‫جماعة واحدة تسلك‬ ‫قطاع من المجتمع على أساس االنتماء المذهبي‪ ،‬والتعامل معه على أنه‬ ‫التمييز ضد ٍ‬ ‫سلو ًكا واح ًدا‪ .‬يجب أن ُت ْف َه َم الطائفي ُة في ضوء العوامل االجتماعية‪/‬االقتصادية‪/‬السياسية‪ ،‬وليس في ضوء العوامل‬ ‫استخدمت بعض القوى الطائفية العامل الثقافي‪/‬الديني بحد ذاته إلعطاء‬ ‫الثقافية‪/‬الدينية في ح ِّد ذاتها‪ ،‬وإن‬ ‫ْ‬ ‫تكوين اجتماعي ثقافي أنثروبولوجي تش ّكل‬ ‫الصراع ُبع ًدا طائف ًيا في صيغة ‘نحن’ و‘هم’‪ .‬تختلف الطائفة بما هي‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تاريخ ًيا في االجتماع السياسي اإلسالمي‪ ،‬عن الطائفية بوصفها منظوميا نوعا من صناعة الطائفية‪ ،‬أو إعادة إنتاج‬ ‫الطوائف في طوائفيات ‘مقومنة’ ومسيسة‪ ،‬في نقطة جوهرية‪ :‬هي تسييس الطائفة وقومنتها واستخدامها في‬ ‫بناء وتطبيق سياسات الهوية الطائفية لغايات سياسية أو اقتصادية أو سلطوية‪ .‬ويكمن في هذه النقطة التمييز‬ ‫بين ‘نظام الملل’ اإلسالمي التقليدي وبين سياسات الهوية الطائفية أو ‘تطييف’ الطوائف الدينية والمذهبية في‬ ‫مرحلة الخرق الغربي‪-‬االستعماري للعالم العربي‪ ،‬والسيما منه في المرحلتين العثمانية واالحتالل المباشر‪ ،‬وإعادة‬ ‫بناء فهم المجتمع عن طريق خلق نخب ‘مقاولة’ كجماعات طائفية متناحرة‪ .‬أي ‘مجتمع جماعات’ دون مجتمع‬ ‫مدني‪ ،‬منقسم عمود ًيا فيما تشرحه مقولة ‘المجتمع الفسيفسائي’ التي هي‪ ،‬بوصفها مقولة نظرية متسقة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مقولة استشراقية صرفة‪ .‬ولقد شكلت هذه المقولة أساس ثقلٍ‬ ‫نظري في النظر إلى مجتمعات سوريا الطبيعية‬ ‫ٍّ‬ ‫كنموذج للمجتمع الفسيفسائي الذي تتجاور وحداته لكنها ال‬ ‫والعراق‪ ،‬أي إقليم بالد الشام التاريخي والعراق‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫تتالقى فيما بينها حسب تنميط المقولة النظرية‪ .‬مقولة تطبق حاليا في لبنان والعراق وفق نموذج ‘الديمقراطية‬ ‫التوافقية‘الذي يعتبر المفهوم األكثر تسطيحاً لمبادئ ومفاهيم الديمقراطية‪ .‬بما يعني أن من يطرح حالياً في‬ ‫المسألة السورية صيغاً أو مناهج طائفية يتالقى مع المقوالت والرؤى االستعمارية لمجتمعاتنا‪ ،‬ويضع سوريا‬ ‫أمام خطورة مسألة ‘تسييس الطائفة’ ما يؤدي إلى انهيار المشرق العربي برمته‪ ،‬وتحويله من دولٍ مركزي ٍة إلى‬ ‫ٍ‬ ‫جماعات طائفي ٍة وإثني ٍة عابر ٍة للحدود‪.‬‬ ‫في الختام تجدر اإلشارة إلى أن مسألة التماثل بين مؤسسات الدولة ومؤسسات نظام الحكم في سوريا‬ ‫ٌ‬ ‫قضية أخرى ال تناقشها هذه المقالة انطالقاً من أن السلطة السياسية هي أحد أركان الدولة‪ .‬لكن هذه‬ ‫هي‬ ‫المسألة تبقى في حاج ٍة إلى الكثير من الجهد البحثي لنقاشها‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫االفرتاضي يخضع للواقع‬

‫مناف زيتون❊‬

‫ويشوه معرفته‬ ‫يعمق عيوبه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫اخلالصة‪:‬‬

‫حني اخرتع ألفريد نوبل متفجرات الـ‪ TNT‬كان يسعى لتسهيل عمل املناجم‪ ،‬ولكن‬ ‫األمور انقلبت عىل عكس ما يشاء‪ ،‬وأسس جائزة نوبل بفروعها يف محاولة للتعويض‬ ‫عن الذنب الذي اقرتفه‪ .‬من املمكن معاملة اإلنرتنت كحالة مامثلة‪ ،‬وعىل الرغم من أن‬ ‫أصول ظهورها العسكرية تقل نبالً عن غاية نوبل‪ ،‬فإنها تجاوزت تلك الوظيفة الصغرية‬ ‫مقارنة بكل ما ساهمت فيه اليوم من خراب‪ .‬تعرض هذه املقالة األثر الذي تركته‬ ‫شبكة اإلنرتنت عىل الواقع مبالمحه العامة‪ ،‬بعد مرور أكرث من ثالثني عاماً عىل إتاحتها‬ ‫لالستخدام املدين‪.‬‬

‫❊ طالب ماجستير في كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬يعمل كصحفي مستقل‪ ،‬وعمل سابقاً كمحرر ومدير تحرير في عدة مواقع إلكترونية ودوريات مطبوعة‬ ‫محلية‪ .‬له عمالن روائيان هما ‘قليل من الموت’ و‘طائر الصدى’‪ ،‬إضافة لتأسيسه وإدراته لموقع ‘بلوكة‪.‬كوم’ المختص في نشر النصوص األدبية ومقاالت‬ ‫الرأي‪ ،‬والذي يشاركه الكتابة فيه أربعة آخرون من طالب كليته‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫االفرتاضي يخضع للواقع‬

‫العالم إلى قري ٍة صغيرة‪ ،‬وغيرها من الوصوف ا ّلتي تطلق على كل ابتكار‬ ‫َكس َر ال ُقيو َد الجغراف ّية‪ ،‬ح ّو َل‬ ‫َ‬ ‫تقني في مجال االتصاالت‪ .‬اإلنترنت ليس ّإل واحداً منها‪ ،‬سعة مجاالت استخدامه وإمكانية استغالله جعلت‬ ‫حجم الصدمة أكبر وأوسع‪ ،‬بالنسبة للكثيرين كان مبشراً بعه ٍد جديد‪ ،‬تفقد فيه السلطات بأنواعها ووسائل‬ ‫اإلعالم التقليدية سطوتها على التدفق المعلوماتي‪ ،‬بعد أن تصبح المعلومات عن كل ما في العالم متوفرة‬ ‫للجميع‪ .‬لكن اليوم‪ ،‬وبعد مرور حوالي الثالثين عاماً على رؤية اإلنترنت النور‪ ،‬وحوالي العقد على دخوله‬ ‫عالمنا العربي بالكم والنوع الكافي –بأدنى ح ٍد ممكن– فإن هذه االنطباعات األولى تحتاج إلى مراجعة‪.‬‬ ‫شبكة اإلنترنت كتقنية بدأت في العام ‪ 1969‬على يد وزارة الدفاع األمريكية‪ ،‬ليوضع بعد تطورها‬ ‫جزء منها (‪ )APRA Net‬بمتناول المدنيين في العام ‪ ،1983‬ولكن معظم الباحثين يعتبرون أن العام ‪2000‬‬ ‫هو نقطة انطالق انتشار اإلنترنت‪ ،‬خارجاً عن مكانته كجزء من الرفاهية التكنولوجية الغربية‪ ،‬وفي الوطن‬ ‫العربي يمكن تحديد هذه النقطة في زمانٍ ليس بعيداً عن هذا العام‪ ،‬في سوريا كانت القفزة النوعية‬ ‫في استخدامه في العام ‪ 2009‬حين دخل مخ ّدما إيريكسون وهواوي بأكثر من ‪ 33‬ألف بوابة إنترنت‬ ‫فائق السرعة (‪ ،)ADSL‬متيحاً بذلك لإلنترنت أن يلعب دوراً ريادياً في مخاطبة الرأي العام‪ ،‬واالعتماد‬ ‫عليه كمصدر متوفر في شكلٍ دائم للمعلومات واألنباء‪ ،‬وقادر على كسر الرقابة الحكومية المفروضة على‬ ‫وسائل اإلعالم التقليدية‪ ،‬ولكن هل من الممكن مقارنة الفوائد قليلة العدد واسعة النوع المعروفة لإلنترنت‬ ‫بالعيوب التي باتت جلية اليوم‪ ،‬وبكم األثر السلبي الذي يتركه على المجتمع فكرياً وأخالقياً وعلمياً؟‬ ‫األفراد يخسرون رهان‬ ‫يفترض باإلنترنت أن يكسر احتكار المؤسسات للخطاب الموجه‪ ،‬أو هذا ما قيل لنا‪ .‬خارج اإلنترنت‬ ‫هذا الخطاب محتكر من قبل وسائل اإلعالم ودور النشر‪ ،‬إضافة للسلطات السياسية والدينية والمالية التي‬ ‫تخاطب الرأي العام من خالل هذه المؤسسات‪.‬‬ ‫‪25‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫االفرتاضي يخضع للواقع‬

‫مع بداية الربيع العربي بدأت تظهر المجموعات اإلخبارية‪ ،‬والتي تسعى – أو هذا ما تعلنه على‬ ‫األقل‪ -‬إلى كسر قيود السياسات التحريرية لوسائل اإلعالم‪ ،‬خصوصاً تلك المفروضة من قبل الحكومات‪.‬‬ ‫وبعد مرور القليل من الشهور بدأت هذه المجموعات تفقد مصداقيتها لما تحمله من أخبار ملفقة تخدم‬ ‫غايات ناقليها‪ ،‬والرتباط معظم أخبارها بالمكاتب اإلعالمية للتنسيقيات والكتائب المسلحة‪ ،‬التي تمثل جه ًة‬ ‫سياسي ًة ال يناسبها أن تنقل كل األنباء كما هي‪ .‬انعدام الثقة في وسائل اإلعالم التقليدية بعد تجلي والءاتها‬ ‫المتطرفة لهذا الفريق السياسي أو ذاك‪ ،‬لم يمنع استمرار تفوقها كمصدر رئيسي لألخبار‪ .‬فلو قال شاب‬ ‫على صفحته على فيسبوك أنه رأى صاروخاً يمر من فوق رأسه‪ ،‬سيكون هناك الكثير من المشككين‪ ،‬في‬ ‫باسم وهمي على قناة العربية أو الجزيرة‪ ،‬ليس في المكان الذي مر منه الصاروخ‪ ،‬سيجد‬ ‫حين أن ناشطاً ٍ‬ ‫ألسباب غير الوالءات السياسية‪.‬‬ ‫عدداً أقل من المشككين‪ ،‬على األقل‬ ‫ٍ‬ ‫مجموعتا ‘أخبار شباب سوريا’ و‘تحرير سوري’ تعتبران من أكبر المجموعات اإلخبارية السورية‬ ‫المختصة بنقل وتبادل األنباء‪ .‬فأعضاء األولى أكثر من ‪ 24‬ألف‪ ،‬والثانية حوالي ‪ 20‬ألف‪ ،‬إضافة لتقديمها‬ ‫مراس ًال في مؤتمر جنيف ‪ .2‬هذه األرقام تبدو جيدة للوهلة األولى‪ ،‬ولكن نظر ًة أكثر تأنياً على أخبار‬ ‫هذه المجموعات‪ ،‬تكشف كون معظم أخبارها منقولة عن منقولة‪ ،‬وغالباً ما يكون المصدر إحدى وسائل‬ ‫اإلعالم التقليدية أو المكاتب اإلعالمية للجهات السياسية والعسكرية المختلفة‪ ،‬في حين أن األخبار الحصرية‬ ‫بالمجموعة ال تشكل نسبة تذكر‪ ،‬ومعظم مشتركيها ال يستخدمونها (المجموعات اإلخبارية) سوى كمكان‬ ‫لزيادة متابعي شبكات إخبارية أخرى‪ .‬ومن وجهة نظ ٍر ثانية فإن أرقام المشتركين المذكورة ما زالت ال‬ ‫تعني شيئاً‪ ،‬إذا ما قارناها بأكثر من ‪ 700‬ألف متابع لصفحة قناة أورينت المعروفة بتحيزها وقلة مهنيتها‬ ‫في نقل األنباء منذ اندالع الصراع في سوريا‪.‬‬ ‫ال بد من التنبه إلى عدم منح هذه المجموعات أهمية إعالمية وخبرية أكثر مما هي عليه‪ ،‬فهي‬ ‫ما زالت مرتبطة بأوضاع طارئة في بالدها‪ ،‬سواء من حيث صعوبة تحقيق التغطية الصحفية من قبل‬ ‫مراسلين محترفين‪ ،‬أو من حيث كون كثافة األنباء الصادرة من بلد معين تجعل من الصعوبة بمكان‬ ‫التحقق من جميع األنباء من قبل صحفيين محترفين‪ ،‬أو على األقل عاملين في وسيلة اإلعالم نفسها‪ .‬وفي‬ ‫كمنصات تنقل األخبار عنها من حينٍ آلخر لتزيد من‬ ‫حين تحتاج هذه المجموعات وسائل اإلعالم الكبرى‬ ‫ّ‬ ‫شهرتها ومصداقيتها‪ ،‬فإن العكس ليس صحيحاً‪ ،‬وبمجرد قدرة وسائل اإلعالم التقليدية على توظيف مراسلين‬ ‫يمارسون عملهم الصحفي بحرية فإن الحاجة إلى هذه المجموعات ستنتفي‪.‬‬ ‫توزيع احلقد‬ ‫ال يمكن ألحد أن ينكر الدور الكبير الذي لعبه اإلنترنت في تطور المعرفة‪ ،‬من حيث إمكانية‬ ‫التواصل الكبيرة التي أتاحها بين المهتمين بالعلوم المختلفة‪ ،‬ومن حيث سرعة وصول الكشوف العلمية إلى‬ ‫كل أنحاء العالم بمجرد تحقيقها‪ .‬وقد ظهر ذلك الدور في التجارب العلمية الكبرى التي تحتاج لمشاركة‬ ‫عدد كبير من العلماء في تحليل بياناتها‪ ،‬يصعب جمعهم في مكانٍ واحد مؤهل إلجراء بحوثهم‪.‬‬ ‫بالمقابل فإن سهولة تجمع أصحاب االهتمامات المشتركة كان له ضريبة كبيرة‪ ،‬وأكبر من األرباح‬ ‫‪26‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫االفرتاضي يخضع للواقع‬

‫المحققة ربما‪ .‬فكما أن الواقع يحوي من العلماء أقل بكثير من المتعصبين‪ ،‬فال بد أن ينعكس ذلك على‬ ‫االفتراضي‪ .‬وبفضل اإلنترنت بات بإمكان الجماعات السلفية في لبنان‪ ،‬التي قد ال يزيد جمهورها داخل‬ ‫وطنها على المئة ألف‪ ،‬أن توجه خطابها ألكثر من ‪ 65‬مليون مستخدم لإلنترنت يتكلم العربية‪ ،‬ليصبح‬ ‫توزيع الحقد وتحريض الكراهية لدى اآلخرين أسهل كماً ونوعاً‪ .‬فمث ًال بإمكان كاتب مثل حكم البابا أو نبيل‬ ‫فياض أن يوجه آراءه العنصرية والطائفية إلى عشرات آالف المتابعين لصفحته‪ ،‬نفس اآلراء التي ال توجد‬ ‫جريدة محترمة توزيعها أقل من ثالثة آالف نسخة تقبل بنشرها مهما كانت سياستها التحريرية متطرفة أو‬ ‫متساهلة‪ .‬كما بات بإمكان مئات فيديوهات العنف وامتهان النفس البشرية الوصول إلى ماليين المشتركين‬ ‫حول العالم؛ فيديوهات لم يكن أحد ليفكر بتصويرها لمعرفته أن ال أح َد سيقبل بنشرها‪ ،‬نفسها التي باتت‬ ‫تعرض اليوم –على عكس األعراف األخالقية صحفياً– على شاشات التلفزيون‪ ،‬بسبب طرحها ألول مرة بين‬ ‫أيدي العوام‪ ،‬وارتفاع الطلب عليها‪.‬‬ ‫على اإلنرتنت األرض مسطحة‬ ‫من أكبر المضار التي تسبب بها اإلنترنت سهولة تزوير المعلومات‪ ،‬بعضها على شكل اقتباسات‬ ‫تتحفنا بها صفحات الفيسبوك كل يوم‪ ،‬وتنسبها لشخصيات عالمية لم تقل ربع ما نقل عنها‪ ،‬حتى إنك تظن‬ ‫أن آينشتاين كان خطيباً أو مؤلفاً لكتب تطوير الذات‪ ،‬وليس عالم فيزياء غيرت أبحاثه مستقبل الفيزياء‬ ‫النظرية‪.‬‬ ‫مستخدمو اإلنترنت يعودون لخلفيات تعليمية مختلفة‪ ،‬سواء من حيث مستويات التعليم المحصلة‪،‬‬ ‫حد أدنى من إتقان مهارات‬ ‫أو من حيث فروع المعرفة التي يختصون بها أو يضطلعون بها‪ ،‬وإن كان هناك ٌّ‬ ‫استخدام الحاسوب‪ .‬سوى مواقع الجامعات ومراكز األبحاث التي تقدم الدراسات التي تنجزها بنفسها‪َ ،‬‬ ‫فإنك‬ ‫بالكاد تجد موقعاً أو صفح ًة ذات مصداقية كاملة كمصد ٍر للمعلومات‪.‬‬ ‫إحدى صفحات الفيسبوك نقلت معلوم ًة تقول أن بؤبؤ العين يتسع حتى مرة ونصف أكثر من الوضع‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫معلومة كهذه ستثير ضحك أي إنسان يتذكر درس العين من‬ ‫بشخص يهمك أمره؛‬ ‫لقائك‬ ‫الطبيعي له عند‬ ‫ٍ‬ ‫المدرسة اإلعدادية‪ ،‬أما تعليقات بعض األطباء المتحمسين لتصحيح المعلومة –إن وجدت– فستمر مرور‬ ‫علقت‬ ‫الكرام بين آالف التعليقات (في صفحة فيها أكثر من ‪ 18‬مليون مشترك)‪ ،‬وفي مكانٍ ما هناك من‬ ‫ْ‬ ‫هذه المعلومة المغلوطة في رأسه‪ ،‬ليقوم بإشهارها في مكانٍ آخر‪ ،‬إن لم يكن قد أعاد نشرها‪ ،‬ليصبح بعد‬ ‫مرور ما يكفي من الزمن أمراً صعباً أن تخبر الحقيقة لآلخرين بهذا الخصوص‪.‬‬ ‫اقتصار األمر على هذا الشكل الرومانسي من التشويه للمعلومات ال ُيعد مشكلة حقيقية‪ ،‬إذا ما قورن‬ ‫بالتشويه المتعمد لحماية معتقد ما أو وجهة نظر ما‪ .‬مئات –إن لم يكن آالف– المعلومات الكاذبة تبث‬ ‫كل يوم على صفحات ومواقع اإلنترنت لدعم فكرة ‘اإلعجاز’ عند مختلف األديان‪ ،‬وقد وصل األمر حد إقناع‬ ‫البعض أن األرض مسطحة وأن القمر نصف كروي‪ .‬أما الرقابة العلمية ‪-‬ولو األخالقية‪ -‬المفروضة على الكتب‬ ‫المنشورة فغائبة تماماً على اإلنترنت‪ ،‬إذ ال شي َء يمنعك من نشر مقال حجمه أربعة آالف كلمة تشرح‬ ‫فيه بنا ًء على أد ّلة وهمية وحوادث خيالية أن زيارات الفضائيين المزعومة لكوكبنا حقيقة وليست مجرد‬ ‫‪27‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫االفرتاضي يخضع للواقع‬

‫ٍ‬ ‫نظريات ضعيفة‪ .‬واألسوأ أن التعصب الديني لعلمائنا بات يظهر في صورة أوضح على صفحات الفيسبوك‪،‬‬ ‫إن لم يكن عن طريق الترهات التي ينشرونها متجاهلين تناقضها مع ما أمضوا عشرات السنين في دراسته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫معلومات و‘حقائق’ تتنافر مع أبسط القواعد العلمية المس ّلم بها منذ آالف السنين أحياناً‪،‬‬ ‫فبصمتهم وتركهم‬ ‫توخياً للردة على دينهم‪.‬‬ ‫املال يعود لعرشه‬

‫كما كل شيء في عالمنا ‘المتحضر’‪ ،‬المال يحكم كل شي‪ ،‬وشبكات التواصل االجتماعي حتى ٍ‬ ‫وقت‬ ‫ليس شديد البعد كانت استثنا ًء‪ ،‬ولكن مع الوقت بدأت تظهر بعض اإلعالنات على الهوامش الجانبية لهذه‬ ‫المواقع‪ ،‬بالكاد نالحظها‪ ،‬أو نبرمج نظرنا مع الوقت على تجاهلها‪ ،‬وفيما بعد تغيرت األمور جذرياً‪.‬‬ ‫جميع من يدير صفحة على فيسبوك الحظ في ٍ‬ ‫وقت أو آخر إضافة خيار جديد إلى منشورات‬ ‫مبلغ من المال يضمن َ‬ ‫لك ظهور هذا المنشور لدى عد ٍد معين‬ ‫الصفحة‪ ،Boost Post ،‬والذي يعني دفع ٍ‬ ‫من المشتركين في فيسبوك‪ ،‬قد يبدو األمر بسيطاً‪ ،‬بضعة منشورات تقوم بتمويلها‪ ،‬تحقق بعض االنتشار‬ ‫وينتهي األمر هنا‪ .‬ولكن األمر ليس كذلك‪ ،‬كل يوم ترى مئات المنشورات من صفحات َ‬ ‫لست معجباً بها‪،‬‬ ‫كاتب‬ ‫بحجة أن أحد أصدقائك ع ّلق عليها‪ ،‬أو أعجب بها‪ ،‬أو أن المنشور جاء على ذكر فرقة موسيقية أو ٍ‬ ‫سجلت إعجابك به‪ ،‬هذا كله بفضل المال‪ ،‬وال تعتقد َ‬ ‫أنك ستملك ماالً يكفي لهذه اإلعالنات يوماً يزيد عن‬ ‫أموال صفحة شركة إنتاج موسيقية أو دار نش ٍر كبرى تستغل هذه الميزة لتوصل َ‬ ‫إليك كتبها الهزيلة‪ ،‬معتقداً‬ ‫َ‬ ‫وصلتك بمحض الصدفة على موقع شديد االزدحام مثل فيسبوك‪.‬‬ ‫أنها‬ ‫في عام ‪ 2012‬تم إدراج فيسبوك كشركة مساهمة في بورصة نيويورك‪ ،‬و ُوضِ َع ْت أسهمه في التداول‬ ‫كمشروع ربحي‪ .‬النتائج األولية كانت مشجعة‪ ،‬ولكن مع‬ ‫ألول مرة‪ ،‬و ُوضِ َعت بالتالي الشركة تحت االختبار‬ ‫ٍ‬ ‫مضي األسابيع األولى بدأ يظهر ضعف أسهم فيسبوك‪ ،‬وعدم قدرتها على تحقيق أرباح رأسمالية (ناجمة عن‬ ‫بيع السهم بسعر يزيد عن سعر شرائه نتيجة صعوده)‪ ،‬لتليها الشكوك حول قدرة فيسبوك على االستمرار‬ ‫كشركة برمجيات منافسة‪ ،‬وجاء تصريح لشركة جنرال موتورز بأنها “غير مهتمة باإلعالن على موقع فيسبوك”‬ ‫ليضع الموقع أمام تح ٍد حقيقي ال بد من تفاديه ليستمر المشروع‪.‬‬ ‫المعادلة االقتصادية المعتادة في المواقع اإللكترونية تكون “مضمون مثير لالهتمام = الكثير من‬ ‫المستخدمين أو المتصفحين = اهتمام المعلنين”‪ .‬ولكن اهتمام المعلنين التقليديين بفيسبوك لم َ‬ ‫يرق‬ ‫إلى مستوى النفقات التي يتكبدها الموقع نتيجة اتساع قاعدة مستخدميه وما يترتب عليها من حاج ٍة‬ ‫إلى مخ ّدمات وموارد بشرية ومالية كبيرة‪ .‬الحل كان بكل بساطة هو تحويل المستخدمين ‪-‬عملياً السلعة‬ ‫المباعة للمعلن‪ -‬إلى مستهلكين‪ ،‬وذلك بطرح أسلوب جديد لإلعالن على فيسبوك‪ ،‬المنشورات المرعية أو‬ ‫الممولة‪ .‬اليوم ظهور كثير من المنشورات على صفحتك الرئيسية َم َر ُّده إلى تمويلها وحاجة فيسبوك إلى‬ ‫كم محد ٍد من المشاهدة ليحقق واجباته من التعاقد اإلعالني المبرم‪ .‬مع الوقت هذه المنشورات‬ ‫تحقيق ٍّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫صفحتك الرئيسية‪،‬‬ ‫نجاتك من منشوراتها في كل مكانٍ من‬ ‫إعجابك بصفحة ممولة ال يعني‬ ‫ستطغى‪ ،‬وعدم‬ ‫‪28‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫االفرتاضي يخضع للواقع‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫انضممت إلى فيسبوك واإلنترنت كله لو شئت‬ ‫أصدقاؤك الذي‬ ‫أصدقاؤك سيتحولون إلى حاالت نادرة‪،‬‬ ‫لتتواصل معهم بشكلٍ أفضل‪.‬‬ ‫اليوم شبكة اإلنترنت واقعة بين نارين‪ ،‬فإما مراقبتها للحد من تشويه الواقع والعقول‪ ،‬أو تخليصه من‬ ‫أيدي المؤسسات الكبرى التي تديره –وتملكه في شكلٍ أو آخر– مطلقين العنان لمخيلة أكثر من مليار‬ ‫ونصف المليار مستخدم‪ ،‬يحملون ما يحملون من مق ّو ٍ‬ ‫مات كافي ٍة لتشويه كل تفصيلٍ من تفاصيل انعكاس‬ ‫شعوب لم تعد تقرأ الكتب‬ ‫الواقع على االفتراضي‪ ،‬الذي بدوره يكاد يكون مصدر المعلومات الوحيد لغالبية‬ ‫ٍ‬ ‫أو الصحف‪ .‬أياً كان الحل األنسب‪ ،‬فإن الواقع ما يزال كما هو‪ ،‬واإلنترنت اليوم يعجز أن يكون إال حجراً‬ ‫آخر في الجدار الذي يرتفع فاص ًال بين البشر‪ُ ،‬متيحاً ألحقادهم وجهلهم بعالمهم‪ ،‬وببعضهم البعض‪ ،‬بالظهور‬ ‫َ‬ ‫تصلك كل يوم‪.‬‬ ‫واالنتشار كوبا ٍء يزيد خطور ًة عن الروابط المزعجة التي‬

‫‪29‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫هوشنك أوسي❊‬

‫ُ‬ ‫الثورة السوريّ ُة‬ ‫فس َد‬ ‫كي ال ت ُ َ‬

‫بأيدي من ميتطونها!‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫أثبتت األحداث األخرية يف املنطقة سقوط التعريفات التقليديّة للثورة كأن تكون منظ ّمة‪،‬‬ ‫منضبطة‪ ،‬وبعيدة عن الفوىض‪ ،‬أو أن تقودها أحزاب ثور ّية‪ ،‬وينظّر لها فالسفة وقادة كبار‪.‬‬ ‫لكن سقوط األنظمة الدكتاتوريّة ال يعني أن املنطقة ستتخلّص من الذهن ّية الدكتاتوريّة‬ ‫عم‬ ‫يف شكلٍ تلقايئ‪-‬أوتوماتييك‪ .‬والثورة السوريّة ليست استثناءاً تاريخ ّياً‪ ،‬وال هي طفر ٌة ّ‬ ‫سبقها من الثورات التي انطوت عىل خزينٍ هائلٍ من الطموحات واألحالم‪ .‬إال أن ما مي ّيزها‬ ‫أن املتطفّلني والفاسدين واملتط ّرفني قد امتطوا الثورة قبل وصولها للسلطة‪ .‬هذه املقالة‬ ‫ليست للتهويل أو املبالغة‪ ،‬بل لقرع املزيد من أجراس الخطر ّ‬ ‫لئل تنهار أحالمنا يف التح ّرر‬ ‫من كل األغالل ومصادر االستبداد‪.‬‬

‫❊ كاتب وشاعر وصحايف كردي سوري مقيم يف بلجيكا‪ .‬يكتب باللغتني العربيّة والكرديّة يف الشؤون الكرديّة والرتكيّة والسوريّة‪ .‬نرشت له صحف عربيّة عدّة‬ ‫كالحياة‪ ،‬والرشق األوسط‪ ،‬والخليج‪ ،‬واملستقبل اللبنانيّة‪ ،‬ومجلة نزوى‪ ،‬ومجلة الرشوق‪ ،‬ومجلة طنجة األدبيّة‪ ،‬كام ترجمت مقاالته اىل الرتكية واإلنكليزيّة‪.‬‬ ‫عضو رابطة الصحافيني السوريني‪ ،‬ونادي القلم الكردي‪ ،‬ونادي القلم الدويل‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ُ‬ ‫الثورة السوري ُّة بأيدي من ميتطونها!‬ ‫فسدَ‬ ‫كي ال ت ُ َ‬

‫صفيح ساخن وملتهب‪ُ ،‬‬ ‫تعيش مخاض والد ٍة جديدة؛ عسيرة ومؤلمة جداً‪.‬‬ ‫منطقة الشرق األوسط على‬ ‫ٍ‬ ‫كل المشاكل القوم ّية والدين ّية العالقة طفت على سطح الصراعات في المنطقة‪ ،‬لكن الشرق األوسط لن‬ ‫يعيش في هذا النفق الدموي‪ ،‬أو الجحيم إلى األبد‪ .‬الثورات في أفضل أحوالها صراعات‪ ،‬ربما تنزلق نحو‬ ‫الحرب األهل ّية أيضاً‪ ،‬وهذا ما جرى في فرنسا سنة ‪ 1789‬وفي روسيا سنة ‪ 1917‬وفي الصين وفيتنام وكوبا‬ ‫ومناطق عديدة من العالم راح ضح ّيتها الماليين‪ ،‬لكنها تبقى ثورات‪ .‬أثبتت األحداث األخيرة في المنطقة‪،‬‬ ‫سقوط التعريفات التقليد ّية للثورة‪ ،‬وأنها يجب أن تكون منظ ّمة‪ ،‬منضبطة‪ ،‬وبعيدة عن الفوضى‪ ،‬وتقودها‬ ‫أحزاب ثور ّية‪ّ ،‬‬ ‫وينظر لها فالسفة وقادة كبار‪ .‬لقد سقط التعريف الكالسيكي‪-‬اللينيني الذي يقول‪“ :‬ال حركة‬ ‫ثور ّية بدون نظر ّية ثور ّية”‪.‬‬ ‫مع سقوط األنظمة الدكتاتور ّية التي أتت للحكم عبر انقالبات عسكر ّية غ ّلفها أصحابها بشعارات‬ ‫ثور ّية رومانس ّية يوتوب ّية عن العدالة والحر ّية والديمقراط ّية واالشتراك ّية‪ .‬أثبتت األحداث أن هنالك حركة‬ ‫اجتماع ّية ثور ّية بدون نظر ّية وأحزاب ثور ّية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ليس من اإلنصاف وضع كل الفكر اليساري في‬ ‫المتاحف‪.‬‬ ‫سقوط األنظمة الدكتاتور ّية ال يعني أن المنطقة ستتخ ّلص من الذهن ّية الدكتاتور ّية في شكلٍ تلقائي‪-‬‬ ‫أوتوماتيكي‪ .‬ذلك أن تراكم نمط المعيشة القائمة على اإلذعان والرضوخ والوالء والطاعة العمياء‪ ،‬وقتل‬ ‫مراكز اإلحساس بالتف ّرد والتمايز في الشخص ّية وتدجينها ودغمها في القطيع‪ ،‬واغتيال إرادة التحرر لدى‬ ‫اإلنسان التي مارستها األنظمة الدكتاتور ّية الدين ّية والقوم ّية على مدى قرون‪ ،‬ال يمكن التخ ّلص منها في بضع‬ ‫سنوات‪ .‬حركة الفكر والتاريخ ال يمكن حصرها ضمن بعض الدوغمائيات األيديولوج ّية اليسار ّية أو اليمن ّية‪.‬‬ ‫التاريخ يقول‪ :‬ما من ثور ٍة دون تدخّ الت خارج ّية‪ ،‬مباشرة أو غير مباشرة‪ .‬كل ٍ‬ ‫طرف يريد أن يقطف ثمار‬ ‫الثورات وفق مقتضيات مصالحه الدول ّية اإلقليم ّية القوم ّية الدين ّية الطائف ّية‪ .‬وإذا لم تكن الثورة في صالحه‪،‬‬ ‫‪31‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫ُ‬ ‫الثورة السوري ُّة بأيدي من ميتطونها!‬ ‫فسدَ‬ ‫كي ال ت ُ َ‬

‫حينئذ‪ ،‬يسعى إلى وأدها أو الطعن فيها كما تفعل روسيا والصين وإيران حال ّياً مع الثورة السور ّية‪ .‬ما من‬ ‫ضحوا من أجلها‪ .‬ورغم ذلك تبقى ثورات‪ .‬ح ّتى لو فشلت‬ ‫ثور ٍة قطف ثمارها أصحابها الحقيقيون الذين ّ‬ ‫ثور ٌة ما ولم تحقق أهدافها‪ ،‬يبقى علم االجتماع السياسي يس ّميها ثورة‪ ،‬ألنها ساهمت في خلخلة البنى‬ ‫االجتماع ّية والفكر ّية الجامدة في المجتمع‪ ،‬وفتحت المجال أمام التح ّوالت ووالدة أفكار جديدة‪.‬‬ ‫الشاعر الروسي المعروف فالديمير مايكوفسكي (‪ )1930 – 1893‬وصلت به حالة اليأس واالنكسار‬ ‫والخيبة مما آلت إليه حال السلطة التي أفسدت كل األحالم الثور ّية لدى شباب ثورة أكتوبر سنة ‪ 1917‬إلى‬ ‫تفسر هذه‬ ‫درجة االنتحار‪ .‬وقبل مايكوفسكي انتحر الشاعر سيرغي يسينين (‪)1925 – 1895‬؛ وقتئذ‪ ،‬كانت ّ‬ ‫االنتحارات بأنها حدثت على خلف ّيات اجتماع ّية أو عاطف ّية أو ما شابه ذلك‪ ،‬بغية التعمية عليها كر ّد فعلٍ‬ ‫أو تعبي ٍر عن الخيبة والخذالن وانكسار األحالم الثور ّية تجاه السلطة الجديدة الحاكمة‪ .‬ولكن فيما بعد‪ ،‬أعاد‬ ‫الن ّقاد النظر في تفاصيل وارهاصات هذه المواقف ‪ -‬االنتحارات‪ .‬فاإلنسان هو حلم‪-‬طموح‪ ،‬إن مات الحلم‬ ‫طموح وأملٍ كعدمها‪.‬‬ ‫مات اإلنسان‪ ،‬ذلك أن حياة المرء دون‬ ‫ٍ‬ ‫وحين وضعت الثورة الجزائر ّية أوزارها على االحتالل الفرنسي‪ ،‬وتح ّررت الجزائر ونالت استقاللها‪،‬‬ ‫بنهم وشراهة‪ .‬وسرعان ما بدأ الشجار‬ ‫بدأت الطفيل ّيات ‘الثورج ّية’ تمتطي الثورة‪-‬السلطة وتقطف ثمارها ٍ‬ ‫والتطاحن ‘الثورجي’ على السلطة يظهر على السطح‪ ،‬وصارت البالد نهباً ألزالم وحاش ّية السلطة الجديدة إلى‬ ‫يومنا هذا‪.‬‬ ‫وحيال انهيار األحالم الثور ّية وزوال سحر الثورة على االحتالل‪ ،‬وانكشاف بطانة من امتطوها‪ ،‬ووصلوا‬ ‫ٌ‬ ‫موقف مبدئي‪،‬‬ ‫إلى السلطة على جثث الجماهير‪ ،‬فأفسدوا السلطة وأفسدتهم‪ ،‬كان للمبدع الجزائري‬ ‫قصة ‘الشهداء سيعودون هذا األسبوع’‬ ‫القص‪ ،‬ويمكن إيراد ّ‬ ‫رصين وحازم‪ ،‬سواء في الرواية أو الشعر أو ّ‬ ‫للكاتب والروائي الجزائري الراحل الطاهر ّ‬ ‫وطار (‪ ،)2010 – 1936‬وكيف أن الح ّكام الجدد (الث ّوار السابقون)‬ ‫بحجج واه ّية‪ ،‬ألن كل‬ ‫يشككون في عودة الشهداء (مليون ونصف شهيد) وبل يرتعبون من حدوث ذلك‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مسؤولٍ‬ ‫حاكم له قصة غد ٍر وخيانة مع أحد هؤالء الشهداء‪ .‬وبعودتهم إلى الجزائر يعني أن من امتطوا‬ ‫ٍ‬ ‫الثورة واستحوذوا على السلطة واستأثروا بها لن يفقدوا امتيازاتهم وحسب‪ ،‬بل سينتقم منهم الشهداء‬ ‫أيضاً‪ ،‬وسيساقون إلى المحاكم‪ ،‬وستفتح دفاترهم وينكشف غدرهم برفاقهم الشهداء حين كانوا أحياء‪ .‬لذا‪،‬‬ ‫القصة‪ ،‬فإن السلطات الحاكمة (ث ّوار األمس) تتخذ التدابير الالزمة للحؤول دون عودة الشهداء‬ ‫وبحسب تلك ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذين فقدوا حياتهم لتتحرر الجزائر‪ .‬وحين انتقد وطار النظام الجزائري الحاكم‪ ،‬وتدميره سحر الثورة‬ ‫الجزائر ّية‪ ،‬بالتأكيد كان هنالك من الك ّتاب والصحافيين واألدباء الجزائريين ممن وقفوا إلى جانب النظام‪،‬‬ ‫وهاجموا ّ‬ ‫وطار س ّراً أو جهراً سعياً وراء منفعة أو جرياً خلف مقا ٍم أو ٍ‬ ‫صيت أو حظوة‪.‬‬ ‫الثورة السور ّية ليست استثناءاً تاريخ ّياً‪ ،‬وال هي طفر ٌة ع ّما سبقها من الثورات التي انطوت على خزينٍ‬ ‫هائلٍ من المشاريع واألفكار والطموحات واألحالم العابرة لألقوام واألديان والطبقات‪ ،‬وصوالً للفضاء اإلنساني‬ ‫الهب وأخّ اذ‪ ،‬استقطبت‬ ‫األكثر رحاب ًة وعدالً وحر ّي ًة وديمقراط ّية‪ .‬هذه األحالم التي كانت لها بريقٌ وسح ٌر ٌ‬ ‫ماليين البشر ونخبها‪ ،‬أفسدتها السلطة حين وضعت الثورات أوزارها‪ ،‬وغدا الث ّوار ط ّالب سلطة‪ ،‬فتح ّولت‬ ‫الثورة بعد استالمها للسلطة إلى توليد االستبداد والفساد واإلفساد‪ ،‬وتحويل الجماهير (األصحاب الحقيقيون‬ ‫قطيع وهمج‪ ،‬تس ّبح بحمد مستب ّديها والطغاة الجدد‪.‬‬ ‫للثورة) إلى‬ ‫ٍ‬ ‫‪32‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ُ‬ ‫الثورة السوري ُّة بأيدي من ميتطونها!‬ ‫فسدَ‬ ‫كي ال ت ُ َ‬

‫ما يم ّيز الثورة السور ّية عن سابقاتها في العالم العربي والعالم بأسره‪ ،‬أن المتط ّفلين والفاسدين‬ ‫والمتط ّرفين قد امتطوا الثورة قبل وصولها للسلطة وإسقاط نظام األسد‪ ،‬وليس بعد إسقاطه‪ .‬وصارت الثورة‬ ‫ٍ‬ ‫يفسر الحال المتر ّد ّية للمعارضة‬ ‫السور ّية‪ ،‬نهباً ومرتعاً لكل طالب سلطة أو‬ ‫الهث وراءها‪ .‬وهذا ما كان ّ‬ ‫السور ّية التي وصلت وتس ّربت إلى الجيش الح ّر أيضاً‪ ،‬وفسح المجال أمام استشراء التط ّرف والتنظيمات‬ ‫التكفير ّية‪ .‬وإذا كانت جرائم المعارضة السياس ّية تقتصر على األخونة والعرعرة واالستيالء على المنح المال ّية‬ ‫وبخاصة كتائب ‘داعش’ و‘جبهة‬ ‫اآلتية للمعارضة أو اآلتية لالجئين السوريين‪ ،‬فإن جرائم الجيش الح ّر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫سي ٍء إلى أسوأ‪ .‬مع‬ ‫النصرة’ المتط ّرفة قد وصلت حد اإلرهاب والقتل على الهو ّية‪ .‬والحال في‬ ‫ٍ‬ ‫تفاقم من ّ‬ ‫األسف‪ ،‬زد على ذلك أن كل عنصر أو مسؤول عسكري أو أمني أو سياسي ينشقّ عن النظام‪ ،‬بعد أن كان‬ ‫يفعل “السبعة وذ ّمتها” (كما يقال في الدارجة) أثناء تواجده على رأس عمله كجز ٍء من نظام األسد‪ ،‬يصبح‬ ‫ثور ّياً معارضاً‬ ‫وينضم إلى المعارضة أو الجيش الح ّر‪ ،‬فيستم ّر في فساده واستبداده في المعارضة بنفس‬ ‫ّ‬ ‫القدر الذي كان يمارسه على السوريين‪ ،‬حين كان في السلطة‪ .‬ناهيكم عن اختراقات النظام للمعارضة‬ ‫السياس ّية والعسكر ّية في سوريا‪.‬‬ ‫وربما ال يمتلك المثقف السوري جرأة الطاهر ّ‬ ‫وطار في الكتابة عن مساوئ ومفاسد الثورة السور ّية‪،‬‬ ‫إلى جانب ذكره مفاتنها ومحاسنها‪ ،‬أو ال يمتلك شجاعة مايكوفسكي‪ ،‬أو خليل حاوي الذي لم يتحمل رؤية‬ ‫بلده ُيغزى من اإلسرائيليين فأطلق النار على نفسه‪ .‬ربما ال يمتلك المثقف السوري بعد هذه الخصلة‬ ‫في المواجهة والتح ّدي‪ ،‬حين يرى ثورته على استبداد وفساد نظام األسد‪ ،‬تتع ّرض للغزو األخواني والسلفي‬ ‫ويتحسب ما سيأتيه من الح ّكام‬ ‫والقومجي وفساده‪ ،‬ما يدفع المواطن السوري العادي وضع يده على قلبه‬ ‫ّ‬ ‫الجدد‪ ،‬بعد إسقاط نظام األسد‪ .‬لكن‪ ،‬بكل ثق ٍة سيأتي اليوم الذي تفتح فيها ليس فقط مل ّفات النظام‪ ،‬بل‬ ‫مل ّفات المعارضة أيضاً‪ ،‬في حال وصلت للسلطة أم ال‪.‬‬ ‫ما سلف ذكره أعاله‪ ،‬ليس من باب التهويل أو المبالغة‪ ،‬بل هو التحذير والتحذير ثم التحذير‪ ،‬وقرع‬ ‫المزيد من أجراس الخطر‪ ،‬وإطالق صافرات اإلنذار‪ّ ،‬‬ ‫لئل تنهار أحالمنا البسيطة في وصول الثورة السور ّية‬ ‫بالبالد نحو التح ّرر من كل األغالل ومنابع ومصادر االستبداد والفساد السياسي واالقتصادي والثقافي والديني‪.‬‬ ‫من نافلة القول‪ :‬إن فساد السلطة من فساد المعارضة‪ ،‬وإذا كان إفساد الشيء يعني قتله تدريج ّياً‪،‬‬ ‫فإن إفساد الثورة السور ّية ال يعني قتلها وحسب‪ ،‬بل قتل كل حلم جميل بمستقبلٍ جميلٍ وهادئٍ وراقٍ‬ ‫ومدني لسوريا‪.‬‬ ‫ٍّ‬

‫‪33‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مفارقات لونية‬

‫رهام كوسا❊‬

‫يف الداخل السوري‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫منذ كانون الثاين هذا العام‪ ،‬ومع الحديث عن انتخابات رئاسية سورية يف حزيران‪ ،‬تبدأ‬ ‫أغالق املحالت يف املدن السورية بارتداء العلم السوري‪ ،‬ما رآه البعض متهيداً للحملة‬ ‫االنتخابية التي طُر َِح فيها الرئيس بشار األسد مرشحاً رئيسياً‪ .‬يخرج العلم السوري من‬ ‫رمزيته الوطنية التي متثل الدولة والوطن‪ ،‬ليمثل طيفاً سياسياً محدداً‪ ،‬بخاصة مع اعتناق‬ ‫معارضة الخارج علامً بألوان أخرى‪ .‬يحاول املقال تسليط الضوء عىل الخطاب اإلعالمي‬ ‫والبرصي الـ ُم ْع َت َمد يف الحمالت االنتخابية الرئاسية‪ ،‬ودورها يف تحديد ألوان الحياة‬ ‫السياسية الحالية يف الداخل السوري‪ ،‬مع مقارن ٍة أولي ٍة لتلك الحمالت مع مثيالتها يف لبنان‬ ‫رئايس ينتظر أن ينتهي‪.‬‬ ‫حيث فرا ٌغ‬ ‫ٌّ‬

‫❊ طالبة ماجستير في كلية اإلعالم جامعة دمشق‪ ،‬ومعيدة في قسم اإلذاعة والتلفزيون في الكلية ذاتها‪ .‬تعمل صحفية لجمعية قرى األطفال ‪ .SOS‬عملت‬ ‫محررة لعدد من المواقع االلكتروني السورية واللبنانية‪ ،‬ومراسلة لمجلة ‪ Syria Today‬الورقية‪ .‬لديها مدونة شخصية أدبية تحمل اسم ‘فتات أيام’‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مفارقات لونية يف الداخل السوري‬

‫يشهد السوريون للمرة األولى منذ أربعين عاماً انتخابات رئاسية‪ ،‬تزامنت مع حرب أهلية لم يعتادوها‬ ‫قبال‪ .‬يحاول المواطن السوري التصرف مع فعل االنتخابات على أنه عادة‪ ،‬متكيفاً مع اللوحات والرايات‬ ‫التي تبدأ بدعوة لفكرة االنتخاب فقط‪ ،‬لتتحول إلى كرنفال لوني حاد‪ .‬يضطلع الخطاب اإلعالمي والسياسي‬ ‫بالدور األبرز في صياغة التوجه العام نحو االنتخابات وخلق ثقافة االختيار‪ ،‬محاوالً أن يقنع الرأي العام في‬ ‫الداخل والخارج بوجود بدائل مختلفة‪ ،‬لكن سقط سهواً أن ما نقله من حمالت لمرشحين مختلفين اعتمد‬ ‫هوية بصرية حد التطابق‪.‬‬ ‫المراقب للحملة االنتخابية في سوريا منذ بداية الحديث عنها‪ ،‬يعلم كيف بدأت تصاعدياً على‬ ‫اللوحات الطرقية وفي اإلذاعات والمحطات التلفزيونية الرسمية وشبه الرسمية‪ .‬تبدأ بطرح مفهوم االنتخابات‬ ‫أمام العامة بالقدر المطلوب من البساطة‪ ،‬ال تدعوه النتخاب هذا دون ذاك‪ ،‬بل تحضه فقط على التجربة‪،‬‬ ‫مقنعة إياه أن صوته سيصنع الفرق‪ ،‬تحمل إعالنات االنتخابات الحالية شعار “صوتك رئيس‪ ...‬صوتك‬ ‫الوطن”‪ .‬تربط اللوحات اإلعالنية بين التصويت والوطن كمفهوم عاطفي‪ ،‬رغم أن محللين ومطالعين للوضع‬ ‫السياسي في سوريا يدركون تماماً أن المشاركة في االنتخابات ستكون ضمن شرائح اجتماعية ومناطقية‬ ‫رمت ماليين ممن يحق لهم‬ ‫حرب أخرجت مدناً سورية خارج الخارطة إلى المجهول‪ ،‬كما ْ‬ ‫معينة‪ ،‬تفرضها ٌ‬ ‫االنتخاب على الحدود في مخيمات اللجوء‪ .‬وفقاً لمنظمة األمم المتحدة‪ ،‬وبناء على حسابات أجراها بعض‬ ‫الصحفيين في صحف عربية وعالمية‪ ،‬لن يتعدى عدد المشاركين في االنتخابات القادمة الخمسة ماليين‪،‬‬ ‫وذلك بعد عملية حسابية بسيطة مفادها أن من يحق له االنتخاب في سوريا وخارجها هم ‪ 12‬مليوناً ممن‬ ‫يتعدون الثامنة عشرة‪ ،‬نصفهم أو أكثر خارج سوريا في مخيمات اللجوء أو في مناطق الشمال والشمال‬ ‫الشرقي ممن تسيطر عليه المعارضة التي لن تسمح بانتخابات رئاسية يشارك فيها الرئيس بشار األسد كأبرز‬ ‫المرشحين‪.‬‬ ‫وفي خطوة سابقة وأكثر توقعاً لتهيئة السوري مسبقاً لما سيبرم في حزيران‪ ،‬تنطلق منذ بداية العام‪،‬‬ ‫‪35‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مفارقات لونية يف الداخل السوري‬

‫ودون إشعار مسبق دعوة رسمية لطالء أغالق المحالت في المدن السورية‪ .‬منتصف كانون الثاني الماضي‪،‬‬ ‫في حي المزة شيخ سعد‪ ،‬بعضهم كان قد بدأ في طالء الواجهات المعدنية باألسود من األسفل‪ .‬كان واضحاً‬ ‫أنهم يرسمون العلم السوري‪.‬‬ ‫ال يتطلب األمر دهاء الكتشاف أنه فرض للحضور بداية الحملة التي يرجح كثيرون أنها ستثبت مكان‬ ‫الرئيس بشار األسد بعد العاصفة التي دمرت الكثير‪ .‬يمثل العلم السوري طرفاً سياسياً واضحاً أمام األطراف‬ ‫التي اتخذت لها هويات لونية مختلفة من علم االنتداب األخضر الذي يمثل االئتالف السوري المعارض في‬ ‫الخارج‪ ،‬والذي تتمثل به فئة من المعارضين‪ ،‬إلى العلم األسود ذي عبارة التوحيد االذي يطبع كل تحركات‬ ‫الكتائب اإلسالمية المتشددة‪ .‬نسخ العلم على الواجهات التجارية للمحالت كافة هو إضفا ٌء للشرعية على‬ ‫طرف دون آخر‪ ،‬أي أن االنتخابات الحالية لن تضم سوى أصحاب العلم األول‪ .‬فيسبوكياً يرى البعض في‬ ‫تلوين الواجهات ضرورة لفرض النفوذ والحضور الحقيقيين‪ ،‬فيما يعتبره آخرون استفزازاً سياسياً فقط‪ .‬اتفق‬ ‫معظمهم أنه كان حرياً بهم استثناء واجهات محالت دمشق القديمة الخشبية‪ ،‬بعضها أثري يعود ألكثر من‬ ‫مئة عام‪ ،‬ومحو خدوشها بطالء صامت هو أمر مؤلم حقاً‪.‬‬ ‫دمشق اليوم ملونة بالعلم السوري في كل المحالت دونما استنثاء‪ .‬وإن بدأ بعضهم بطالء األغالق‬ ‫برتابة قسرية‪ ،‬راح آخرون يتف ّننون في ذلك‪ ،‬جاعلين من العلم والغلق لوحة بسيطة‪ ،‬تخرج من إطارها‬ ‫السياسي لتجعل الشارع أفضل‪ .‬يألفها الدمشقيون‪ .‬إذ ليست المرة األولى التي يفرض فيها إجراءات شكلية‬ ‫مجتزأة لخلق هوية بصرية مطلوبة لمواكبة حدث سياسي أو ثقافي معين‪ُ .‬ل ِّون َْت واجهات محالت حلب‬ ‫باألخضر عند اختيارها عاصمة للثقافة اإلسالمية عام ‪ .2006‬إجراء مماثل فرض في تسعينيات القرن الماضي‬ ‫بإلغاء كل أسماء المحالت األجنبية وترجمتها حرفياً إلى اللغة العربي‪ ،‬ليمسي محل ‘فوركاتس’ لأللبسة‬ ‫النسائية‪ ،‬محل ‘القطط األربعة’‪ .‬أيضاً ما لبث أن اعتاد الشارع السوري األسماء المترجمة بالالمنطقية‬ ‫الفكاهية تلك‪ ،‬بعضها ما زال إلى اآلن‪.‬‬ ‫ومع الحديث عن مقاطعة األحزاب والتكتالت المعارضة الداخلية والخارجية لالنتخابات‪ ،‬يبدو أمر‬ ‫اعتماد العلم السوري مكم ًال للتصور العام‪ .‬تحمل الحملة الحالية طابعاً منظماً وتراكمياً‪ .‬هذه المرة بدأ‬ ‫الموعد مبكراً‪ ،‬لكن لم يكن مستغرباً أبداً أن تبدأ حملة منظمة‪.‬‬ ‫تعتمد االنتخابات الحالية العلم السوري كهوية لونية يفترض أنها تخاطب جميع التوجهات السياسية‬ ‫متجاهلة ما اعتمدته األطراف األخرى من أعالم ورايات يصر أصحاب كل منها على شرعيتها‪ ،‬لكن ليس‬ ‫مجهوالً أبداً أن هذا العلم فرض نفسه كشعا ٍر لوني يمثل الطرف الحاكم في دمشق‪ .‬محاولة استخدام هذا‬ ‫الشعار اللوني للترويج لفعل االنتخاب‪ ،‬في شكلٍ يدفع كل السوريين لإلدالء بأصواتهم‪ ،‬ال يبدو أنه ينجح‬ ‫في إقناع ممن قرروا مسبقاً أنهم لن يشاركوا في االنتخاب‪ .‬ويطرح هذا تساؤالً على الجانب اآلخر‪ :‬هل‬ ‫يمكن أن تقنع هذه الشعارات الوطنية البسيطة‪ ،‬المعلقة على اللوحات اإلعالنية في العاصمة دمشق‪،‬‬ ‫الناس لإلدالء ألصواتهم في االنتخابات الرئاسية؟ بخاصة مع غياب شخصية معروفة مرشحة مقنعة غير‬ ‫الرئيس الحالي؟‬ ‫يعلن مجلس الشعب حتى اللحظة عن ترشح اسمين مغمورين‪ ،‬لم يكن ألحدهما أي شعبية سياسية‬ ‫اهتمام بأسماء أعضاء المجلس سوى‬ ‫عضو في مجلس شعب‪ .‬لكن ليس للسوريين‬ ‫ٌ‬ ‫قب ًال‪ ،‬سوى أن الحجار ٌ‬ ‫‪36‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مفارقات لونية يف الداخل السوري‬

‫بعض األعالم المعروفة للجميع‪ ،‬ممن يمثلون قاعدة فعالية تجارية أو صناعية ضخمة‪ .‬ومع األخذ في عين‬ ‫االعتبار الفوارق في القدرات المادية بين المرشحين الثالثة‪ ،‬يالحظ التفاوت الواضح في مستوى نضج‬ ‫اللوحات االنتخابية للمتنافسين‪ .‬يجمع كثي ٌر من الصحفيين على عدم وضوح الشعارات التي أطلقها كل‬ ‫من الحجار والنوري‪ ،‬متزامن ًة مع هوية بصرية هي أبعد ما تكون عن الج ّدية في طرح العناوين الرئيسية‬ ‫للبرامج االنتخابية‪.‬‬ ‫انتخابات رئاسية أخرى‪ ،‬ولكن األلوان وتصاميم اللوحات هناك تحمل طابعاً آخر‪ .‬ال‬ ‫في بيروت‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫تطرح عناوين قصيرة تلخص البرامج االنتخابية المفقودة حتى اآلن‪ ،‬بل تدعو الجميع للمشاركة في الفعل‬ ‫السياسي األهم لتحديد مستقبل البلد‪ .‬في لبنان يبدو التصوير البصري في اللوحات اإلعالنية أكثر تعقيداً‪،‬‬ ‫واحترافية‪ ،‬ربما العتياد الشعب اللبناني حياة سياسية أكثر تعقيداً‪ ،‬تضطلع بها الرايات والشعارات وصور‬ ‫الزعماء السياسيين‪ٌّ ،‬‬ ‫كل حسب ح ّيه‪ .‬هناك يحذرون من الفراغ‪ ،‬رابطين بينه وبين عدم استقرا ٍر دائم‪.‬‬ ‫ومع اختالف االعتبارات التي سيسمى بها الرئيس اللبناني القادم عن االعتبارات الحاضرة في سوريا‪ ،‬تبقى‬ ‫اللوحات المتزاحمة في العاصمة اللبنانية نوعاً من ‘التوعية الترفيهية’ للعامة ممن يدركون أن ال دور لهم‬ ‫بتاتاً في تحديد القائد السياسي المرتقب‪ .‬للمرة األولى يتم الحديث عن ‘لبننة’ القرار الرئاسي أي أنه لن‬ ‫يقوم على تسوي ٍة بين الدول العربية والغربية التي تتقاسم النفوذ السياسي بأسماء زعماء السياسة المحليين‬ ‫في لبنان‪ .‬مايزال المستقبل الرئاسي اللبناني غامضاً دون أن يضطلع اإلعالم اللبناني‪ ،‬في منابره المقروئة‬ ‫والمرئية‪ ،‬إال بالنقد الساخر الفاقد لألمل في إيجاد ٍّ‬ ‫حل قريب‪ ،‬ليتعامل الشارع اللبناني مع األزمة الطارئة‬ ‫كواحدة أخرى من المشاكل الحياتية الالحول لهم فيها وال قوة كأزمة الكهرباء والبطالة والغالء وغيرها ممن‬ ‫اعتادوا معايشتها والحديث عنها دون حنق كبير‪.‬‬ ‫إعالمي ألردوغان الستخدامه العلم التركي في حملته االنتخابية‪ .‬يختلف مفهوم‬ ‫انتقاد‬ ‫في تركيا‪ ،‬ينتشر‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫الرمز الوطني هناك‪ ،‬حيث يفترض أنه يمثل جميع األطراف السياسية ال حزباً بعينه‪ ،‬وهو ما يفتقد حالياً في‬ ‫سوريا مع تزاحم رايات فرض النفوذ‪.‬‬ ‫منحى‬ ‫على الطرف اآلخر من سوريا‪ ،‬وفقاً لشهو ٍد عادوا من هناك‪ ،‬فرض الحضور السياسي والعسكري‬ ‫ً‬ ‫لونياً معاكساً‪ .‬السواد الكامل ودون ذلك الجلد أو القتل‪ .‬تحمل الوحدة اللونية في المدينة طابعاً آخر‪ :‬كل‬ ‫متشحات بالسواد الدموي‪ ،‬ال يمكن االعتراض أو حتى مناقشة القرارات القطعية هناك‪ ،‬حيث تدأب‬ ‫النساء‬ ‫ٌ‬ ‫رعب يفحم الجميع‪.‬‬ ‫داعش إلى نشر مقاطع فيديو إلعداماتها اليومية لزرع ٍ‬ ‫نهاي ًة‪ ،‬ال يتوانى ٌّأي من األطراف السياسية على الساحة السورية في نشر رأيه السياسي للعامة‪،‬‬ ‫مستخدماً الخطاب اإلعالمي ‘الدعائي’ وسيل ًة واضح ًة لنشر األيدولوجيا المطلوبة‪ .‬أحياناً يأخذ النشر مسلك‬ ‫ٍ‬ ‫أوقات أخرى‪ .‬يعتاد السوريون األلوان المفترضة لمواكبة الخيار السياسي‬ ‫نصح في‬ ‫الفرض‪ ،‬ليكون مجرد ٍ‬ ‫اليومي‪ ،‬وللمرة األولى تفلح دمشق في االلتزام بلباس موحد‪ .‬لم تكن تهوى التخلف‪ ،‬لكن كانت فوضوي ًة‬ ‫حد الواقع‪ .‬هي مازالت كذلك‪ ،‬وإن َو َّح َد ْت َت َب ُّر َج َها هذه المرة‪.‬‬

‫‪37‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫فيكتوريوس بيان شمس❊‬

‫األلرتاس‪:‬‬

‫النشأة والدور‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ليس هنالك أسهل من أن يصنع النظام عدوه بنفسه‪ ،‬فأغلب شباب األلرتاس (روابط‬ ‫املشجعني لكرة القدم‪ ،‬يف مرص يف هذه املقالة) يتحدّ رون من بيئات وطبقات فقرية‬ ‫معدمة‪ .‬أي أنّهم طاقة اجتامعية هائلة‪ ،‬ستشكل فيام لو تو ّحدت عىل برنامج سيايس‬ ‫اجتامعي اقتصادي تهديداً ال يُستهان به للنظام‪ .‬فوجود األلرتاس‪ ،‬وعىل عكس ما هو‬ ‫حاصل يف أوروبا التي قطعت أشواطاً يف املسائل املتعلّقة بتحقيق الحد األدىن من العدالة‬ ‫االجتامعية وحرية الرأي والتعبري مثالً‪ ،‬يُعترب يف عاملنا العريب مؤرشاً عىل نجاح النظام‬ ‫السيايس يف تضليل وعي جامهريه‪ .‬فكانت األتراس بعدائها ألجهزة أمن النظام‪ ،‬وبالتحديد‬ ‫لقوى وزارة الداخلية‪ ،‬العدو املثايل بالنسبة للنظام‪ .‬وهو العدو الذي يف أقىص طموحاته‬ ‫يريد مساح ًة من الحرية تتيح له التعبري عن نفسه بتفجري مكبوته يف هذا املجال‪ ،‬الذي‬ ‫لن يصل يف حال من األحوال لدرجة تهديد وجود النظام‪ .‬يف شباط‪/‬فرباير ‪ ،2013‬أي أثناء‬ ‫عم كان عليه يف املوجة األوىل‬ ‫ما ُعرف بأحداث ‘قرص االتّحادية’‪ ،‬تراجع حضور األلرتاس ّ‬ ‫الفت لشباب األحزاب والتنظيامت التي نشأت بعد اإلطاحة‬ ‫يف ‪ ،2011‬فيام ُس ّجل حضو ٌر ٌ‬ ‫يؤش إىل أن هذه القوى كانت رهينة متثيلٍ‬ ‫بالرئيس السابق محمد حسني مبارك‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫سيايس مختلف‪ ،‬أبعدَ ٍ‬ ‫فئات واسع ًة من الشباب امله ّمش عن مصالحها املبارشة‪ ،‬فجاءت‬ ‫ٍّ‬ ‫الثورة لتعيدهم إىل مواقعهم الطبيعية‪ .‬هذا يعني أن قسامً كبرياً منهم انخرط يف العمل‬ ‫السيايس عرب األحزاب والتنظيامت حديثة النشوء‪.‬‬ ‫❊ كاتب سوري مقيم يف القاهرة منذ أواسط العام ‪ 2012‬بعد أن انتسب إىل ‘ائتالف اليسار السوري’‪ .‬عمل يف صفوف ‘اتحاد الشباب الدميقراطي السوري’‬ ‫منذ العام ‪ 1995‬وحتى ‪ ،1998‬ثم يف ‘الحزب الدميقراطي الشعبي’ يف لبنان منذ العام ‪ 1999‬وحتى أواسط العام ‪ 2011‬حيث تركه بعد أن ات ّخذ الحزب‬ ‫موقفاً مؤيّدا ً للنظام السوري‪ .‬درس العلوم السياسية واإلدارية يف الجامعة اللبنانية ببريوت‪ ،‬وله مساهامت يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع السورية‬ ‫والعربية‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫األلرتاس‪ :‬النشأة والدور‬

‫مقدمة‬ ‫ّ‬ ‫تعتبر الرياضة كما باقي األنشطة االجتماعية‪ ،‬الفن بمختلف ألوانه‪ ،‬العلم‪ ،‬التكنولوجيا‪ ،‬انعكاساً‬ ‫طبيعياً للوضع السياسي واالقتصادي واالجتماعي في أي بلد؛ تؤ ّثر فيه‪ ،‬وتتأ ّثر‪ ،‬فتساهم في تش ّكله الثقافي‪.‬‬ ‫والتعاطي مع المسألة الرياضية‪ ،‬كما غيرها من األنشطة‪ ،‬يختلف من بيئ ٍة ألخرى‪ ،‬أو من بل ٍد آلخر‪ ،‬بحسب‬ ‫غنى وتن ّوع الثقافات فيه‪ ،‬إضاف ًة لتأثير األوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية في شكلٍ مباش ٍر عليها‬ ‫وعلى المهتمين بها‪ .‬بتطور وسائل االتّصال والطفرة التكنولوجية الحاصلة‪ ،‬أصبح بإمكان المهت ّمين بالحدث‬ ‫الرياضي‪ ،‬كما بغيره‪ ،‬أن يتابعوا ويتفاعلوا مع مجريات ما يحدث في أي بقعة من العالم لحظة بلحظة‪ .‬هذا‬ ‫فريق خارج حدود بالده‪.‬‬ ‫ألي كان أن يتح ّزب لنا ٍد أو ٍ‬ ‫ما سمح ٍّ‬ ‫الفت م ّما يحدث في عالمنا العربي المتأ ّثر بما حوله‪ .‬هذا ما أظهرته‬ ‫وما يحدث في مصر‪ ،‬جز ٌء ٌ‬ ‫قوى‬ ‫أحداث ‘الربيع العربي’ المنطلقة من تونس في ‪ 17‬أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،2010‬فأبرزت على سطح األحداث ً‬ ‫ٍ‬ ‫وتنظيمات لعبت أدواراً ضخمة وأساسية‪ ،‬لم يكن المواطن العربي خارج حدود مصر يعرف عنها شيئاً‪.‬‬ ‫المشجعين لفرق كرة القدم المصرية‪ ،‬واحدة من القوى الفاعلة التي‬ ‫األلتراس ‪ ،ultras‬أو روابط‬ ‫ّ‬ ‫لعبت دوراً ال ُيستهان به إ ّبان الثورة المصرية التي اندلعت أحداثها في ‪/25‬يناير‪ ،2011/‬والتي أطاحت‬ ‫برأس السلطة‪ ،‬فظهرت كقوة سياسية ّ‬ ‫مشجعين‪ .‬لكنها ما لبثت أن‬ ‫منظمة بشكل جيد‪ ،‬أكثر منها روابط ّ‬ ‫ّ‬ ‫وخف وهجها‪ ،‬خاصة بعد األحداث والمراحل المفصلية المتعاقبة التي م ّرت بها مصر بسبب من‬ ‫خبت‪،‬‬ ‫تط ّور األوضاع السياسية والتنظيمية واألمنية فيها‪.‬‬ ‫سيتط ّرق هذا البحث السريع‪ ،‬لظروف نشأة األلتراس‪ ،‬وأسبابها التاريخية‪ ،‬والدور الوظيفي الذي من أجله‬ ‫تساهل النظام في منحها الترخيص‪ .‬لكن من زاوية موقعها وتأثيرها في الحياة السياسية كالعب أساسي في‬ ‫الفترة المفصلية التي أ ّدت للتغييرات التي نشهدها اليوم‪ ،‬إلستكشاف ما يمكن استنتاجه من هذه الظاهرة‪.‬‬ ‫‪39‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫األلرتاس‪ :‬النشأة والدور‬

‫نشأة األلرتاس وأسبابها التاريخية‬ ‫م ّرت مصر بمراحل وأطوار سياسية مختلفة نتيجة تفاعل قواها اإلجتماعية والسياسية‪ ،‬عدا عن‬ ‫موقعها الجيوستراتيجي في العالم العربي والعالم‪ ،‬الذي كان يفرض نفسه على واقعها‪ ،‬فقد تمرحلت الحياة‬ ‫السياسية المصرية بثالث نقالت أساسية‪ ،‬كانت األولى منها قد بدأت مع ثورة ‪/23‬يوليو‪ ،1953/‬حيث ق ّيدت‬ ‫حرية إنشاء األحزاب والجمعيات لصالح الحزب الواحد ‘كاالتّحاد االشتراكي’ الذي استأثر بالسلطة حتى‬ ‫المرحلة التالية‪ ،‬والتي بدأت في عهد الرئيس أنور السادات عندما صدر قانون األحزاب الذي يحمل الرقم‬ ‫(‪ )40‬للعام ‪ ،1977‬بحيث استحدثت لجنة شؤون األحزاب التابعة لمجلس الشورى المصري‪ ،‬وهي اللجنة‬ ‫المولجة بمنح التراخيص‪ .‬أنتجت هذه المرحلة ع ّدة أحزاب‪ ،‬منها ‘حزب الغد’ بزعامة أيمن نور‪ ،‬و‘الحزب‬ ‫العربي الديمقراطي’ الذي حاز على حكم من محكمة القضاء اإلداري بمجلس الدولة (دائرة األحزاب)‪.‬‬ ‫وقبلها‪ ،‬وأه ّمها جميعاً ‘الحزب الوطني’ المنحل على إثر ثورة ‪ 25‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ ،2011‬وهو الذي كان‬ ‫مهيمناً في شكلٍ‬ ‫مطلق على ‘لجنة شؤون األحزاب’‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫تعديل على القانون رقم (‪ )40‬للعام ‪ 1977‬ليضع على إنشاء األحزاب‬ ‫في عام ‪ُ ،2005‬أجري‬ ‫والجمعيات شروطاً أشبه بالتعجيزية مثل‪“ :‬عدم قيام الحزب في مبادئه أو برامجه أو في مباشرة نشاطه‬ ‫أو في اختيار قياداته أو أعضائه على أساس ديني أو طبقي أو طائفي أو فئوي أو جغرافي أو إلى استغالل‬ ‫المشاعر الدينية أو التفرقة بسبب الجنس أو األصل أو العقيدة”‪ .‬قبل هذا العام‪ ،‬أي في عام ‪ ،2004‬نشأت‬ ‫‘حركة كفاية’ الشهيرة‪ ،‬وعملت على فضح ممارسات النظام في ظل احتجاجات كانت تتصاعد في أكثر من‬ ‫مكان‪ ،‬أبرزها احتجاجات عمال المح ّلة‪ .‬أي أن ‘حركة كفاية’ نشأت متم ّرد ًة على القانون رقم (‪ .)40‬يضاف‬ ‫المؤسس منذ عام ‪ ،1928‬وبعض‬ ‫إلى هذا‪ ،‬أن هنالك أحزاب وتنظيمات دينية قديمة ‘كاإلخوان المسلمين’‬ ‫َّ‬ ‫التنظيمات ‘الجهادية’ كانت موجودة على الساحة السياسية المصرية‪ ،‬تعمل بصمت تارة‪ ،‬وبصخب ورعب‬ ‫وإرهاب تارة أخرى‪.‬‬ ‫بنا ًء على التعديل األخير للقانون رقم (‪ُ ،)40‬رخّ ص ‘التّحاد محبي النادي األهلي’ الذي كان يرمز له‬ ‫بـ ‘‪ ،’ALU‬والذي كان عبارة عن موقع الكتروني أنشأه في عام ‪ 1996‬مجموعة من المغتربين المصريين‬ ‫مشجعي األهلي’‪ .‬كل هذا كان يجري في ظل أوضاع‬ ‫في الخارج‪ ،‬ليصبح جمعية رسمية مشهرة هي ‘رابطة ّ‬ ‫اقتصادية متردية وصعبة يم ّر بها المجتمع المصري تحت حكم قوانين الطوارئ‪ ،‬وفساد مستش ٍر يصعب‪،‬‬ ‫بل يستحيل عالجه وفقاً للوضع القائم‪ .‬وهو ما سمح بتراكم األسباب حتى لحظة انفجارها في الثورة التي‬ ‫استطاعت اإلطاحة برأس النظام في ‪.2011‬‬ ‫كانت األلتراس المصرية من حيث التركيبة والدور الشكلي لها‪ ،‬محاكاة للتجارب التي سبقتها في‬ ‫بلدان أخرى كالبرازيل واألرجنتين في أميركا الالتنينة أربعينيات القرن الماضي‪ ،‬والتي امتدت فيما بعد‬ ‫تشجع‬ ‫ليؤسس في البداية ‪ 113‬طالباً مجموعة ‘التورسيدا’ التي كانت ّ‬ ‫إلى أوروبا وبالتحديد إلى أوكرانيا ّ‬ ‫فريق ‘هايدوك سبليت’ الكرواتي في نهائيات كأس العالم ‪ .1950‬ثم انتقلت شرارة األلتراس إلى بولندا‪ ،‬ثم‬ ‫إلى روسيا‪ ،‬وإيطاليا‪ ،‬وبريطانيا‪ ،‬ثم انتشرت في العديد من دول العالم‪ .‬أ ّما في عالمنا العربي فقد بقيت‬ ‫محصورة في بضع دول هي دول شمال إفريقيا‪ .‬والمفاجئ هنا أن أول ألتراس عربي‪ ،‬تش ّكل‪ ،‬كان في ليبيا‬ ‫يشجع نادي ‘االتّحاد’‪ ،‬إال أن سلطات العقيد معمر القذافي كانت‬ ‫عام ‪ 1989‬تحت اسم ‘دراغون’ الذي كان ّ‬ ‫‪40‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫األلرتاس‪ :‬النشأة والدور‬

‫قد أوقفته على الفور وقتها‪.‬‬ ‫بعد ظهور ‘رابطة مشجعي النادي األهلي’ أو ما ُيعرف بـ “‪ ”Ultras Ahlawy‬بفترة قصيرة‪ ،‬نشأ‬ ‫‘ألتراس وايت نايتس’ المحسوب على فريق الزمالك‪ ،‬لتكر السبحة فيما بعد‪ ،‬و ُينشئ كل فريق على امتداد‬ ‫مشجعيه‪ .‬وأغلب أعضاء هذه الروابط من الشباب‪ ،‬في بلد نسب البطالة فيه تتجاوز الـ‬ ‫الجمهورية رابطة ّ‬ ‫‪ ،%12‬ونسب األسر الفقيرة ‪ %33‬بحسب ‘الجهاز المركزي للتعبئة العامة واإلحصاء’‪.‬‬ ‫الدور الوظيفي لأللرتاس‬ ‫بعد انطالق الثورة من ميدان التحرير في ‪ 25‬كانون الثاني‪/‬يناير ‪ ،2011‬كان لأللتراس حضور الفت‬ ‫ووازن‪ ،‬فقد أضفوا على الحراك زخماً ال ُيستهان به استمر ألشهر بعد سقوط مبارك في ‪ 11‬شباط‪/‬فبراير‬ ‫‪ ،2011‬ليتركوا بصمتهم التي أصبحت جزءاً من المشهد السياسي‪ ،‬والتش ّكل الثقافي للمجتمع المصري بعد‬ ‫الثورة‪ .‬إذ استطاعوا بأساليبهم الف ّنية (الغناء‪ ،‬الغرافيتي‪ ،‬التحركات االحتفالية أو االحتجاجية عالية التنظيم)‬ ‫جذب األنظار إليهم‪ ،‬كظاهرة جديدة بدأت تقتحم المشهد المصري بكل جوانبه‪.‬‬ ‫لكن السؤال المحوري هنا‪ :‬لماذا منح النظام المصري ترخيصه وموافقته لأللتراس للبدء بإنشاء‬ ‫روابطهم وممارسة نشاطاتهم‪ ،‬على خالف األحزاب والجمعيات األخرى التي كان من الصعب عليها استيفاء‬ ‫كامل شروط القانون (‪ )40‬بتعديالته عام ‪2005‬؟ يقول محمد جمال بشير‪ ،‬مؤ ّلف كتاب ‘األلتراس’ الصادر‬ ‫عن ‘دار َد ِّون’ في طبعته الخامسة (ص ‪“ :)75‬األلتراس مجمواعات غير ُمس ّيسة نتيجة لعدم توافقية أفرادها‬ ‫على اتجاه سياسي مح ّدد‪ ،‬وهو ذلك النوع الذي تنتمي إليه أغلب مجموعات األلتراس المصرية‪ ،‬والذي‬ ‫يمنعها من المشاركة سياسياً‪ ،‬ويجعلها تقف بعيداً عن المطالبة بالحرية والعدالة االجتماعية أو المشاركة‬ ‫المجتمعية ألفرادها”‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬األلتراس مجموعات غير مس ّيسة‪ ،‬وليس لديها أيديولوجيا‪ .‬هذا يعني أن بنيتها ال تسمح لها‬ ‫المشاركة في الحياة السياسية كباقي التنظيمات‪ ،‬التي بالضرورة سيكون من أهدافها الوصول إلى السلطة‬ ‫في ظل نظام توتيوليتاري‪-‬أوليغارشي‪ ،‬ال يقبل المنافسة‪ .‬عدا عن أن أعضاء األلتراس‪ ،‬وبحسب نفس الكتاب‬ ‫(ص ‪ ،)96‬يعتبرون أن عداءهم هو للمثلث متساوي األضالع‪“ :‬كل رجال األمن أوغاد – ضد الميديا – ضد‬ ‫الكرة الحديثة”‪.‬‬ ‫مشجعاً‪ ،‬بحسب مديرية الشؤون الصحية‬ ‫في أوائل شباط‪/‬فبراير ‪ ،2012‬وقعت مجزرة راح ضحيتها ‪ّ 74‬‬ ‫‘مشجعي فريق النادي المصري’ المحسوب على مدينة بور سعيد‪،‬‬ ‫في بور سعيد‪ ،‬على خلفية عراك بين‬ ‫ّ‬ ‫و‘مشجعي فريق النادي األهلي’ المحسوب على العاصمة القاهرة‪ .‬اضطر الجيش‪ ،‬الذي اتُّهم بالتواطؤ‬ ‫ّ‬ ‫لتسهيل المجزرة وتشتيت أنظار الشعب المصري عن األوضاع السياسية الدقيقة التي تمر بها البالد‪ ،‬إلى‬ ‫مشجعي األهلي من المدينة بد ّبابته‪ .‬ومازالت تبعات هذه المجزرة ماثلة إلى اليوم‪ ،‬ومازال القضاء‬ ‫إخراج ّ‬ ‫يح ّقق في مالبساتها‪ .‬هذا عدا عن الحوادث الكثيرة المتف ّرقة هنا وهناك‪ ،‬والتي تقع بشكل ملفت‪ ،‬بحيث‬ ‫تشهد شوارع القاهرة في بعض المواسم الرياضية حروباً طاحنة‪ ،‬تستعمل فيها األسلحة البيضاء في شكل‬ ‫واضح‪.‬‬ ‫وبالعودة ألواسط عام ‪ ،2009‬حيث في ذروة احتدام الصراعات السياسية‪ ،‬وقبل انتخابات مجلسي‬ ‫‪41‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫األلرتاس‪ :‬النشأة والدور‬

‫الشورى والشعب بأشهر قليلة‪ ،‬وفي ظل غليان في الشارع المصري‪ ،‬وحراك سياسي الفت‪ ،‬استخدم النظام‬ ‫المصري المشكلة الحاصلة على خلفية مباراة كرة قدم بين المنتخب المصري ونظيره الجزائري‪ ،‬حيث‬ ‫توسعت لتالمس حدود التلويح بالقطيعة السياسية والدبلوماسية بعد األحداث المؤسفة التي وقعت‬ ‫ّ‬ ‫أثناء المباراة التي جرت في ملعب المريخ في منطقة أم درمان في العاصمة السودانية الخرطوم‪ ،‬والتي‬ ‫كشف فيما بعد عن تو ّرط جمال مبارك ابن الرئيس المخلوع بتأجيج هذه األحداث‪ .‬حيث عمل على نقل‬ ‫مجاناً إلى السودان‪ ،‬في خطوة الفتة لتضخيم األزمة‪ ،‬وإعطائها أكثر من‬ ‫المشجعين المصريين بالطائرات ّ‬ ‫ّ‬ ‫حجمها‪ .‬هذه األزمة التي ال عالقة لأللتراس بها‪ ،‬لكن النظام في ذروة مآزقه كان مضطراً الفتعال مشكلة‬ ‫كهذه‪ ،‬تصرف األنظار عنه‪ .‬وبالطبع‪ ،‬ليس هنالك أفضل من توظيف حدث رياضي بهذه الضخامة‪ ،‬وتوجيه‬ ‫اإلعالم إلعطائه صخب أكبر‪ ،‬فيصبح الحدث حدثاً ‘وطنياً’ يجلب التعاطف مع النظام في أشد لحظات‬ ‫ضعفه‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫عبد الله شالش❊‬

‫التوجهات السياسية‬

‫لرٔاس املال يف سوريا‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يقدم هذا املقال رشحاً موجزاً عن التوجه السيايس لرأس املال يف سوريا‪ ،‬مسلطاً الضوء‬ ‫عىل نشأته التاريخية وطبيعته الرتاكمية غري الوطنية‪ ،‬ثم عالقة الفساد املتبادل بني رأس‬ ‫املال والسلطة قبل الثورة السورية انتهاء بسلوك رأس املال خالل الثورة‪ ،‬من حادثة سوق‬ ‫الحريقة إىل دعوات اإلرضاب‪ ،‬ثم غياب أي رؤية سياسية وغياب املسؤولية االجتامعية مع‬ ‫بدء العسكرة وختاماً هجرة رؤوس األموال‪ .‬وحاولنا يف نهاية البحث لفت انتباه القارئ إىل‬ ‫الفرق الجوهري بني النمط السيايس لرأس املال يف سوريا ورأس املال يف الغرب‪.‬‬

‫❊ عبد الله شالش‪ ،‬خريج كلية االقتصاد بجامعة دمشق‪ ،‬ويعمل مراقب مالي في شركة خاصة في القاهرة‪.‬‬

‫‪43‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا‬

‫مقدمة‬ ‫شهدت سوريا في العقد الماضي تح ّوالً نحو الرأسمالية‪ ،‬تجسد ببيع قسم كبير من المؤسسات‬ ‫اإلنتاجية العامة بالتزامن مع ظهور مؤسسات جديدة خاصة‪ .‬ووسط فوضى التحول‪ ،‬كان مصطلح ‘المسؤولية‬ ‫االجتماعية لرجال األعمال’ من أكثر المصطلحات رواجاً في األوساط األكاديمية ولدى ُص ّناع القرار على حد‬ ‫سواء‪ .‬ويجسد المصطلح دعوة رؤوس األموال للمشاركة في دعم قطاعات المجتمع األقل دخ ًال؛ سواء عبر‬ ‫سائد في الغرب‪ ،‬أو عبر تقديم معونات مباشرة للطبقات‬ ‫دعم التعليم بالمنح أو البنية التحتية كما هو ٌ‬ ‫الفقيرة في صورة منتظمة أو بالحد األدنى عبر سداد الضرائب المستحقة‪.‬‬ ‫غالباً ما ُجو ِبهت هذه الدعوات بالتجاهل من قبل رأس المال المحلي‪ .‬والملفت في هذه الدعوة‬ ‫أنها كانت مقتصر ًة على المشاركة في الجانب المعيشي االجتماعي دون الجانب السياسي‪ ،‬وهو ما دفع‬ ‫برأس المال المحلي إلى االبتعاد عن الجانبين معاً‪ ،‬باستثناء قسم من رؤوس األموال المرتبطة ارتباطاً وثيقا‬ ‫بالسلطة والناتجة عنها أساساً‪ .‬وقبل الخوض في التفاصيل سنقوم بفرز مبدئي لرأس المال في سوريا بناء‬ ‫على نشأته التاريخية‬ ‫التاريخ احلديث لرأس املال السوري‬ ‫حقيقي لرأس المال في سوريا‪ .‬فبعد موجتي التأميم وحقبة‬ ‫اكمي‬ ‫ٍّ‬ ‫ال يمكن الحديث عن تكوينٍ تر ٍّ‬ ‫البيروقراطية الطويلة‪ ،‬كان صدور قانون االستثمار رقم ‪ 10‬عام ‪ 1991‬بمثابة دعوة الستثمار األموال المتراكمة‬ ‫خالل الفترات السابقة‪ ،‬وأيضاً جسد دعوة لرأس المال األجنبي للعمل داخل البالد ‘بما ينسجم مع الخطة‬ ‫اإلنمائية للدولة’‪ .‬وإذ يعتبر القانون رقم ‪ 10‬نقلة نوعية في مجال التشريع لرأس المال الخاص في سوريا‪،‬‬ ‫فإن ما ظهر الحقا أثبت أن دعوة االستثمار الصريحة المتضمنة في القانون لم تكن عامة‪ ،‬بل هدفت إلى‬ ‫توظيف رؤوس األموال الناتجة عن الفساد‪ ،‬والتي جسدت معظم التوظيفات المحلية في حين لم تكن‬ ‫البنية التحتية المادية منها أو التشريعية (من حيث وجود قانون يحمي رأس المال األجنبي ويعطيه فرصاً‬ ‫‪44‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا‬

‫متوازية) مواتي ًة لرأس المال األجنبي لالستثمار في مشاريع طويلة األجل‪ .‬وهكذا برزت حالة رأسمالية غير‬ ‫منظمة‪ ،‬يمكن إدراج الرأسماليات الناشئة ضمنها في ثالث فئات كما يلي‪:‬‬ ‫‪ .1‬رأس المال الناجم عن السلطة‪ :‬و هو رأسمال بدأ يتكون مع موجة التأميم الثانية بسبب الفساد القائم‬ ‫في السلطة االشتراكية التي تلت التأميم‪ .‬ونتيجة تحكم السلطة السياسية بكافة مصادر الثروة‪ ،‬فإن‬ ‫معظم األموال الموجودة في سوريا قبل ظهور قانون االستثمار رقم ‪ 10‬لعام ‪ 1991‬وبدء حالة االنفتاح‬ ‫العامة عام ‪ 2000‬كانت مدرجة ضمن هذه الفئة‪ .‬ومع غياب التشريعات التي تسمح باالستثمار‬ ‫الخاص قبل عام ‪ ،1991‬كان االستثمار في الخارج أو االدخار هما الخيارين الوحيدين لهذا النوع من‬ ‫غني عن التعريف‪ .‬وسنكتفي‬ ‫التراكم‪ .‬ونظراً الرتباط رأس المال هذا بالسلطة‪ ،‬فإن توجهه السياسي ٌّ‬ ‫بالقول أن رأس المال المتراكم نتيجة البيروقراطية القائمة قبل عام ‪ 2000‬هو الوجه االقتصادي للنظام‬ ‫السياسي في سوريا حتى وقتنا الحالي‪ ،‬وهو رأسمال ملتصق تماماً بالسلطة القائمة‪.‬‬ ‫‪ .2‬رأس المال القادم من الخارج بفعل المغتربين السوريين أو المستثمرين األجانب‪ :‬بعد ظهور‬ ‫التشريعات التي سمحت لهم بالعمل عام ‪- 1991‬كما ذكرنا‪ -‬فإن البنية التحتية لم تكن مؤهل ًة لنشوء‬ ‫استثما ٍر طويل األجل في سوريا‪ ،‬ما جعل رأس المال األجنبي حال ًة ربحي ًة موقتة‪ ،‬حيث تج ّلى معظمه‬ ‫باستثمارات في مجال الخدمات‪ ،‬وهو ما يعكس زيادة عدد المصارف وشركات النقل على حساب‬ ‫ثبات أو تراجع المشاريع الزراعية أو الصناعية المتوسطة والثقيلة طويلة األجل‪.‬‬ ‫‪ .3‬رأس المال المحلي المنفصل عن السلطة‪ :‬وهو رأس المال الذي تقلص بعد التأميم واقتصر على‬ ‫المشاريع الفردية أو شراء األمالك‪ ،‬ثم عاد للظهور بعد عام ‪ 2000‬في صورة تدريجية‪ ،‬بخاصة بعد‬ ‫بيع لألمالك‪ ،‬وإعادة ظهور البرجوازيين‬ ‫طفرة العقارات التي بدأت عام ‪ ،2003‬والتي و ّلدت حركة ٍ‬ ‫القدامى ضمن سقف العمل المسموح به‪ ،‬وهؤالء هم الفئة التي كان يع ّول عليها لتكوين توجه‬ ‫سياسي مختلف لرأس المال في سوريا‬ ‫سنركز في دراستنا على المجموعتين الثانية والثالثة من رؤوس األموال‪ ،‬ألن التوجه السياسي‬ ‫للمجموعة األولى يعتبر واضحاً‪.‬‬ ‫عالقة السلطة برأس املال قبل الثورة‪:‬‬ ‫مع الغياب التام للحياة السياسية في سوريا قبل الثورة‪ ،‬ال يمكن الحديث عن توجه سياسي محتمل‬ ‫لرأس المال‪ ،‬علماً أن الليبرالية السياسية تعتبر شرطاً أساسياً لليبرالية االقتصادية التي كانت سوريا تسير‬ ‫نحوها‪ .‬لكن المرجعية الفكرية المشوشة لرأس المال في سوريا كانت بعيد ًة تماماً عن محاولة خلق نمطٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مخالف للسلطة القائمة‪ ،‬بل كانت تتماشى معها تماماً‪ ،‬كأنها تم ّول فساد السلطة في صور ٍة غير مباشرة‪.‬‬ ‫ويمكن توضيح عالقة السلطة برؤوس األموال الخاصة بعد التشريع والسماح لها باالستثمار كملكي ٍة خاصة‬ ‫منتج مستوفياً كامل الشروط‪ ،‬ومع وصول البضاعة‪ ،‬تقوم‬ ‫بمثالٍ كثير التكرار في سوريا‪ :‬تاج ٌر يحاول استيراد ٍ‬ ‫ً‬ ‫السلطة بالحجز عليها دون وجود مس ّو ٍغ قانوني‪ ،‬فيلجأ التاجر إلى الدفع في صورة غير قانونية أيضا إلدخال‬ ‫بضاعته بدل اللجوء إلى القانون‪ .‬وعليه‪ ،‬يمكن وصف عالقة السلطة برأس المال في سوريا بعالقة الفساد‬ ‫جانب‬ ‫المتبادل‪ ،‬مع عدم تدخل رأس المال المصنف ضمن البندين الثاني والثالث بالحياة السياسية‪ ،‬أو بأي‬ ‫ٍ‬ ‫له عالقة بإدارة الدولة أو بناء مؤسساتها‪.‬‬ ‫‪45‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا‬

‫التوجه السياسي لرأس املال خالل الثورة‪:‬‬ ‫ش ّكلت حادثة سوق الحريقة الشهيرة بتاريخ ‪ 17‬شباط‪/‬فبراير ‪ ،2011‬مؤشراً قوياً على التململ القائم‬ ‫في األوساط الرأسمالية في سوريا‪ ،‬ودفعت الكثيرين إلى االعتقاد أن رأس المال الوطني بدأ يحاول صياغة‬ ‫سياسي مختلف‪ ،‬وأن الليبرالية االقتصادية التي جلبتها السلطة السياسية قد انقلبت عليها‪ ،‬لما يعنيه‬ ‫واقع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫سوق الحريقة كمرك ٍز لرأسمالية العاصمة‪.‬‬ ‫ومع تصاعد وتيرة االحتجاجات‪ ،‬بدأت هذه الرؤيا تثبت فشلها تدريجياً‪ ،‬وانقلبت تماماً مع دعوات‬ ‫اإلضراب التي أطلقها الناشطون‪ ،‬والتي القت دعماً في األرياف وقل دعمها في المراكز الرأسمالية‪ .‬وبدا‬ ‫واضحاً حينها انفصال الفئة الثانية والثالثة من رؤوس األموال عن حراك المجتمع‪ .‬ومع مرور الوقت وبدء‬ ‫ظهور الكتل المدنية كمحاول ٍة لصياغة رؤيا سياسية جماعية‪ ،‬غاب رأسماليو سوريا عن المشهد مر ًة أخرى‪،‬‬ ‫تجمع أو مبادرة لوضع رؤيا سياسية موحدة قد تظهر الهوية السياسية لرأس المال المحلي‪.‬‬ ‫فلم يظهر أي‬ ‫ٍ‬ ‫ومع بدء ظهور حالة العسكرة وتدهور الوضع اإلنساني في سوريا‪ ،‬كان المجتمع بأمس الحاجة إلى‬ ‫تحركٍ‬ ‫جماعي غير مسيس لرأس المال‪ ،‬يهدف إلى حماية الفئات المتضررة والحد من الفقر والتمويل‬ ‫ٍّ‬ ‫إنساني في صور ٍة‬ ‫دعم‬ ‫المسيس القادم من الخارج‪ .‬لكن هذا التجمع لم يكن موجوداً باستثناء وجود ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫فردية في بعض المناطق‪ّ ،‬إل أن التوجه العام لرأس المال كان التمسك بالحياد‪ .‬ومع ازدياد حدة المعارك‬ ‫وانتشارها جغرافياً وتدهور البنية التحتية في سوريا‪ ،‬بدأت حالة التدفق العكسي لرؤوس األموال ضمن‬ ‫الفئة الثانية؛ مصطحب ًة معها شرائح واسعة من الفئة الثالثة‪ .‬ليبقى جز ٌء من البرجوازية الوطنية يعمل في‬ ‫شكلٍ محدو ٍد في مراكز المدن‪ ،‬إضاف ًة إلى إعادة سيطرة الفئة األولى على معظم مفاصل الحياة االقتصادية‬ ‫في المجتمع بصفتها الرافد األساسي القتصاد النظام القائم‪.‬‬ ‫ما يمكن استخالصه من سلوك رأس المال في سوريا خالل االنتفاضة‪ ،‬أنه أقرب إلى رأسمال مضارب‬ ‫يعمل ضمن الواقع السياسي بغرض الربح دون محاولة تغيير الواقع‪ ،‬ودون وجود رؤيا سياسية علنية مع‬ ‫ما يحمله رأس المال المضارب من صفات أخرى‪ ،‬وهي االنسحاب عند الشعور بالخطر وعدم مراعاة مأساة‬ ‫المجتمع‪ .‬ويعود ذلك‪ ،‬كما ذكرنا في بداية المقال‪ ،‬إلى نشأته في صورة غير تراكمية وعدم اكتسابه هوية‬ ‫وطنية حقيقية‪.‬‬ ‫يجب التنويه دائماً إلى أن رؤوس األموال في الغرب‪ ،‬رغم تعاملها مع كل ديكتاتوريات العالم‬ ‫وتأقلمها معها‪ ،‬إال أنها تحمل توجهاً سياسياً صارماً في بالدها لدعم الديمقراطية‪ .‬وإن كانت تدعم حزباً في‬ ‫االنتخابات‪ّ ،‬إل أنها في العمق تدعم نظاماً سياسياً تعددياً‪ .‬تعتبره شرطاً أساسيا لليبرالية االقتصاد التي تتيح‬ ‫لها العمل بحرية‪ .‬هذا فض ًال عن التزامها اجتماعياً في شكل كبير في دعم فئات المجتمع األخرى‪ .‬وهنا‬ ‫يجب التذكير دائماً بمقول ٍة كان يرددها الدكتور عارف دليلة ‪-‬أستاذ االقتصاد السياسي في جامعة دمشق‬ ‫وعميد كلية االقتصاد األسبق‪ -‬في كل الندوات االقتصادية التي كانت تقام في دمشق قبل الثورة‪“ :‬يجب‬ ‫ٌ‬ ‫مقولة ال تبرر لرأس المال‬ ‫البدء بالنظام السياسي قبل الحديث عن أي إصالح اقتصادي”‪ ،‬وهي في الواقع‬ ‫تقصيره في بناء مستقبل بالده بقدر ما تح ّمله جزءاً من مسؤولية التدهور القائم‪ ،‬وتدعوه مع بقية طبقات‬ ‫سياسي بديلٍ يكون حام ًال لنظام اقتصادي عصري‪.‬‬ ‫نموذج‬ ‫المجتمع إلى التفكير في‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬

‫‪46‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مايا جاموس❊‬

‫املسرح السوري‬

‫أزمة عميقة تتطور‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يربز التساؤل عن املرسح يف بعض املدن السورية التي عرفت احتجاجات واسعة ضد‬ ‫النظام السيايس ووصل األمر ببعضها إىل الخروج املطلق لكل أشكال سلطة النظام منها‪،‬‬ ‫وبالتايل انتفاء الحجة الصحيحة القائلة بقمعه‪ ،‬وقبل استفحال دور اإلسالميني‪ .‬ملَ مل تظهر‬ ‫أو تتطور أشكال مرسحية تفاعلية؟ تستمر الرشوط القدمية لتخلف دور املرسح يف سوريا‬ ‫ٌ‬ ‫وأسباب أكرث تعقيداً‪.‬‬ ‫رشوط‬ ‫أي ‘ألزمته’‪ ،‬وتُضاف إليها‬ ‫ٌ‬

‫❊ حاصلة على إجازة من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق من قسم الدراسات المسرحية‪ ،‬وتكتب في مجال الصحافة الثقافية‪ ،‬والمسرح خاصة‪.‬‬

‫‪47‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫املسرح السوري أزمة عميقة تتطور‬

‫مع بداية الحراك الذي شهدته مناطق واسعة من سوريا في ‪ ،2011‬برز التساؤل عن المسرح‪ ،‬أين‬ ‫هو؟ بخاصة مع دخول بعض المدن ضمن مصطلح ‘التحرر’ وخروج كل أشكال سلطة النظام فيها‪ ،‬وبالتالي‬ ‫انتفاء الحجة الصحيحة القائلة بالقمع والرقابة ال َّل َذين كانت تمارسهما السلطة السياسية‪ ،‬لماذا لم تتمكن‬ ‫طاقة الحراك من تطوير أو استنهاض أشكال مسرحية إبداعية جديدة؟‬ ‫ثمة عوامل أساسية تحكم ازدهار المسرح عالمياً‪ ،‬أه ّمها مراحل الم ّد التاريخية‪ ،‬وهذا انطبق على‬ ‫سوريا التي عرف مسرحها انتعاشة خالل الفترة التي بدأت مع مرحلة المد القومي‪ ،‬ثم النهوض التحرري‬ ‫من االستعمار‪ ،‬حتى أن نكسة ‪ 67‬لم تكن ذات تأثير سلبي على وضع المسرح السوري رغم اإلحباط الكبير‬ ‫موضع حوار بينهم‪ ،‬انعكست أسئل ًة وأجوب ًة في النصوص المسرحية‬ ‫الذي خ ّلفته لدى المثقفين‪ ،‬بل كانت‬ ‫َ‬ ‫والعروض والمهرجانات والندوات‪ .‬أي لم تؤثر الهزيمة على طاقة المجتمع آنذاك بل رفدت المجتمع بمح ّفز‬ ‫لألسئلة القلقة والبحث عن إجابات لها في الثقافة‪ ،‬والمسرح على نحو مح ّدد (تجارب سعدالله ونّوس‪،‬‬ ‫وفرحان بلبل‪ ،‬وممدوح عدوان‪ ،‬ووليد إخالصي‪ ،‬إلخ)‪.‬‬ ‫مع انحسار موجة المد القومي‪ ،‬تق ّدمت الموجة الدينية اإلسالمية وأخذ اإلسالم السياسي يمأل الفراغات‬ ‫في سوريا‪ ،‬بين معاهد تدريس وتحفيظ القرآن‪ ،‬وتشجيع الجوامع والطرق الصوفية‪ ،‬ضمن عملية مجاملة‬ ‫واستغالل من قبل السلطة السياسية لإلسالم السياسي‪ ،‬مع األخذ في االعتبار صراعها الدموي مع اإلخوان‬ ‫المسلمين‪ ،‬ما أدخل البالد في حالة من الشلل والخوف والحذر وتحفيز عصبيات متخلفة تطل برأسها كلما‬ ‫سنحت الفرصة لها‪ ،‬دون أن تتم أية عملية مصالحة وترميم في المجتمع حتى اليوم‪ ،‬وترافق ذلك مع تغييب‬ ‫المبدعين والنخب الثقافية والسياسية (من كل التيارات) بين السجون والمنافي وممارسة التضييق على أي‬ ‫إبداع‪ .‬وبالتالي باتت السلطة‪-‬الدولة هي العامل األهم في وضع الثقافة والمسرح في شكل خاص عبر العقود‬ ‫األربعة الماضية‪ ،‬من خالل مسك المجتمع بكامله واحتكار كل شيء وتوجيهه وفرض الرقابة عليه واستخدام‬ ‫الثقافة ألسباب أيديولوجية ودعائية‪ .‬ففق َد المسرح جوهره وروحه القائمة على العالقة العفوية ّ‬ ‫الخلقة والجدلية‬ ‫مع المتفرج‪ ،‬وتفاقمت أزمته حتى هذا اليوم‪ ،‬دون أن يأتي ٌ‬ ‫جديد يح ّفزه‪.‬‬ ‫شرط‬ ‫ٌ‬ ‫‪48‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املسرح السوري أزمة عميقة تتطور‬

‫ومن جانب آخر فإن للبناء الفوقي للمجتمعات تأثيراً كبيراً‪ ،‬إذ بقدر ما يكون منفتحاً وعقالنياً‬ ‫وديموقراطياً بقدر ما يساعد في بروز ظواهر ثقافية فنية مختلفة‪ ،‬وتطورها مثل المسرح كظاهرة جمالية‬ ‫تأثيرية‪ ،‬كما يساهم في تخليص المجتمعات نفسها من أزماتها‪ .‬وعلى العكس من هذا عندما يكون البناء‬ ‫الفوقي للمجتمع محافظاً‪ ،‬أو تكون القوى االجتماعية‪ ،‬التي تمسك بالقيادة فيه‪ ،‬ذات طبيعة مغلقة‪ ،‬فإنها‬ ‫تؤثر سلباً في ظاهرة المسرح‪ .‬من هنا –في شكل أساسي‪ -‬يمكن أن نفهم عدم تطور تجارب مسرحية في‬ ‫المدن أو المناطق السورية التي خرجت منها سيطرة النظام السياسي‪ ،‬في وقت مب ّكر نسبياً‪ ،‬إضاف ًة إلى‬ ‫عدم أصالة العملية المسرحية بحد ذاتها في سوريا لتكون جزءاً بنيوياً حيوياً في ثقافة المجتمع‪.‬‬ ‫حيث تم تهميش المسرح من قبل السلطة منذ استالم البعث‪ ،‬وتغييبه في شكل جزئي أو كلي‬ ‫في عدد من المدن السورية التي عرفت الحقاً حراكاً شعبياً معارضاً مثل دير الزور وإدلب ودرعا‪ .‬كما‬ ‫تفاقمت األزمة بسبب غياب دور المسرحيين الذين اح ُتسِ ُبوا على الشق المعارض الداعم للحراك‪ ،‬سواء‬ ‫بسلميته أو بتس ّلحه‪ ،‬والذين اكتفوا بإعالن مواقفهم السياسية المتماهية مع الشارع المحتج‪ ،‬بدل أن يقوموا‬ ‫بدورهم الثقافي واإلبداعي‪ ،‬فلم نسمع عن مسرحيين عادوا إلى مدنهم ‘المحررة’ من العاصمة ليعملوا‬ ‫عروضاً مسرحية‪.‬‬ ‫وهذا جزء من أزمة المثقفين الذين لم يساهموا خالل مرحلة الحراك السلمي‪ ،‬في بلورة مشروع‬ ‫‘ثقافي’ يك ّرس قيم الحرية والتنوير والديمقراطية‪ ،‬بل على العكس من ذلك بات السؤال عن ‘المشروع’‬ ‫ماد ًة للتخوين واالتهام بحجة وجود هدف أساسي يتمثل بإسقاط السلطة‪ ،‬وبعده يتفرغ السوريون لالتفاق‬ ‫على ما يريدون‪ .‬وبهذا تك ّرست عقلية قمع التساؤل والنقد واالختالف‪ .‬وغدا عدد كبير من المسرحيين الذين‬ ‫برزوا كرموز معارضة‪ ،‬أو نشطوا في الحراك‪ ،‬خارج البلد‪ ،‬فال هم في الجزء الذي يخضع لسيطرة النظام‪،‬‬ ‫يقدمون نشاطهم في الشق اإلبداعي أو السياسي حتى‪ ،‬وال هم في الجزء الخاضع للمعارضة ينشرون قيمهم‬ ‫من خالل الفن أو النشاط السياسي‪ .‬إذاً المسرحيون بمن فيهم المعارضون اتجهوا حيث األمان ولو جزئياً‪،‬‬ ‫تلمس‬ ‫بعضهم بقوا في العاصمة (حيث تخضع لسلطة النظام) يعملون ضمن شروط ‘المتاح’‪ ،‬محاولين ُّ‬ ‫األزمة السورية في مسرحهم في شكل غير مباشر‪ ،‬وآخرون اختاروا البحث عن خيارات العمل خارج البلد‪.‬‬ ‫وال ننسى أن دخول البالد في فوضى السالح والعنف غ ّير كثيراً من أسئلة الناس والمثقفين‪ ،‬كما‬ ‫ص ّعب من العمل الجماعي المؤسسي كالمسرح‪ ،‬الذي يحتاج إلى شرطٍ آمنٍ ومستقر‪ ،‬علماً أنه ليس قاعد ًة‬ ‫الستمرار المسرح وازدهاره‪ ،‬ففي الحرب األهلية اللبنانية لم يتوقف اإلبداع المسرحي بل استمر حتى اليوم‬ ‫ينهل منها‪.‬‬ ‫هناك ظواهر نشأت بعد الحراك يمكن احتسابها على المسرح في بعض المدن‪ ،‬على يد هواة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مسرحية في‬ ‫عروض‬ ‫وبعض المسرحيات التي جاءت ضمن احتفاالت سنوية انطالق الحراك‪ .‬كما برزت‬ ‫مخيمات اللجوء أو في بعض بلدان اللجوء األوروبية‪ .‬واستمر المسرح بمركزيته في دمشق‪ ،‬وتوقف في‬ ‫شكل كلي في بعض المدن المنكوبة مثل حمص والرقة‪ ،‬ونشط في مدينة الالذقية محاوالً –كما في دمشق‪-‬‬ ‫هامش ض ّي ٍق لحري ٍة فرضتها األزمة‪ ،‬يلعب على ‘مفردات حديثة’ عن الفساد والديمقراطية‬ ‫أن يستفيد من‬ ‫ٍ‬ ‫وهجاء القمع‪ ،‬والعنف‪ ،‬والحوار‪ ،‬إلخ‪.‬‬ ‫تستمر الشروط القديمة المساهمة في تخلف دور المسرح في سورية‪ ،‬بخاصة الدور السلبي للغياب‬ ‫‪49‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫املسرح السوري أزمة عميقة تتطور‬

‫الطويل للديمقراطية عن سوريا‪ .‬كما الدور السلبي والمعيق للبناء الفوقي الديني في سوريا والعالم اإلسالمي‬ ‫عموماً‪ .‬ويمكن تكثيف هذين الشرطين بما قاله الراحل سعد الله ونّوس‪“ :‬المشكلة أعمق وأكثر تعقيداً من‬ ‫ٌ‬ ‫اجتماعية‬ ‫بنى‬ ‫عالقة سلطة‪/‬مجتمع‪ .‬هناك تركيب ثالثي‪ ،‬وربما يجب الغوص فيه أكثر لمحاولة استكشافه‪ً :‬‬ ‫ٌ‬ ‫متخلفة جداً‪ ،‬مع ب ًنى اجتماعي ٍة حديثة شكلياً‪ ،‬وغياب أي تساوق أو مشروع مستقبلي يمكن أن تقوم به‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عصرية ال تتعادى فيها السلطة مع المجتمع‪ ،‬بحيث ته ّمش السلطة مجتمعها‪ ،‬وتجبره على العودة‪ ،‬في‬ ‫دولة‬ ‫آلي ٍة دفاعي ٍة سلبيةٍ‪ ،‬إلى ُبناه التقليدية واألخالقية المفوتة” (من حوار ونّوس مع د‪.‬ماري إلياس المنشور في‬ ‫مجلة الطريق‪ ،‬العدد األول‪ ،‬سنة ‪.)1996‬‬ ‫ٌ‬ ‫شروط أكثر تعقيداً بسبب االنقسام الحاد في المجتمع الذي شمل المثقفين والمبدعين‪،‬‬ ‫وأضيفت‬ ‫بخاصة بعد سيطرة العنف‪ ،‬واستنزاف الطاقات بحروب عديدة وانتماءات متخلفة‪ ،‬وتعقيدات بشروط الحياة‬ ‫والمعيشة‪.‬‬ ‫ما الذي يمكن توقعه من المسرح؟ إن أزمة المسرح في سوريا قديمة وعميقة وتتطور بتطور‬ ‫المجتمع نفسه‪ ،‬وهو لم يدخل في ثقافة المجتمع السوري‪ ،‬من حيث اتصاله بالجماهير الواسعة‪ ،‬ولم‬ ‫يحدث ذلك بعد مرحلة انتعاشه التي تحدثنا عنها سابقاً‪ ،‬إال في تجارب قليلة إما كان النقد الجريء للسلطة‬ ‫السياسية عنصرها األساسي‪ ،‬أو عروض حملت عناصر أساسية جاذبة للجمهور مثل وجود أسماء فنانين‬ ‫معروفين تلفزيونياً‪ ،‬أو بعض العروض الكوميدية‪ .‬بالتأكيد ما سبق هو صورة سلبية عن وضع المسرح‬ ‫باعتباره حالة اجتماعية متأثرة بمجمل الشروط الموضوعية لمجتمعه مضافاً إليها شروطه الخاصة‪ .‬لكن في‬ ‫كل مرة نشاهد أو نسمع عن حدث مسرحي‪ ،‬أينما كان ومهما كان انتماؤه السياسي‪ ،‬فإن األمر يستحق‬ ‫الوقوف عنده كثيراً‪ ،‬أوالً الختبار هذا الفن ودوره في المجتمعات خالل أزماتها‪ ،‬وثانياً الختبار المجتمعات‬ ‫نفسها وقدرتها على تطوير ذاتها وتجاوز أزماتها من خالل الفنون‪ ،‬سواء بتطوير فنونها والقدرة على خلق‬ ‫إبداعات متجددة‪ ،‬أو بالنكوص‪ .‬فالمسرح مثله مثل أي عملية تاريخية اجتماعية ثقافية إبداعية ال بد من‬ ‫امتالكه لقدرات وقابليات ذاتية للتفاعل والتطور والمواكبة‪.‬‬

‫‪50‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫عبدالوهاب عزاوي❊‬

‫األدب السوري‬

‫األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه‬

‫اخلالصة‪:‬‬

‫الكتابة السورية اإلبداعية يف الوسط املعارض بعد االنتفاضة تُ َن ِّم ُط اإلنسان السوري‬ ‫كضحية أو بطل‪ ،‬وتغرق يف هجاء الديكتاتورية راسم ًة صور ًة موازي ًة للواقع‪ ،‬بدل أن‬ ‫ٍ‬ ‫رشوط معقد ٍة وعبثية‪ ،‬وبدل أن تبحث عن‬ ‫تدخل يف عمق التحوالت اإلنسانية بسبب‬ ‫أسئلة جديد تفرضها هذه الرشوط وتسهم يف تشكيل هويتنا عىل املدى الطويل‪.‬‬

‫❊ طبيب عيون‪ ،‬وعضو في ‘رابطة الكتاب السوريين’‪ .‬أع ّد عدة ملفات أدبية نُشرت في مجلة ‘اآلداب’ بين عامي ‪ .2009-2008‬صدر له ورقياً‪‘ :‬حزن فوضوي’‪،‬‬ ‫‘نوتا‪ ..‬فضاءات الحرية’‪‘ ،‬موزاييك الحصار’‪.‬‬

‫‪51‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه‬

‫لن يجد المراقب للخط العام للكتابة اإلبداعية السورية في وسط الكتاّب المعارضين بعد االنتفاضة‬ ‫السورية القائمة على السرد‪ ،‬ما بين يوم ّيات وشهادات ومقاالت ذات طابع وجداني والمعنية بتناول القضايا‬ ‫المتعلقة باالنتفاضة‪ ،‬صعوب ًة في مالحظة وقوعها في فخ الكتابة عن اإلنسان السوري بطريقة نمطية‪ ،‬بين‬ ‫قالبي ‘الضحية’ و‘البطل’‪ ،‬وسيرصد كتاب ًة تك ّرس العداء ضد الديكتاتور‪ ،‬تهاجمه‪ ،‬تح ّقره‪ ،‬كتابة إنشائية في‬ ‫كثير من األحيان‪ .‬ذلك مفهوم ومبرر في بداية االنتفاضة السورية‪ ،‬في سياق إسقاط ‘ألوهة’ الديكتاتور‬ ‫حملٍ بالكثير من اآلمال في األشهر األولى من عمر‬ ‫ومؤسسته‪ ،‬واألهم أنها تأتي في سياق‬ ‫ٍ‬ ‫حماس عا ٍّم ُم َّ‬ ‫االنتفاضة‪ ،‬كما حصل في العديد من الحاالت في التاريخ‪ ،‬مثل كتابات بابلو نيرودا في الحرب األهلية‬ ‫اإلسبانية‪ ،‬أو شعر ‘القضية الفلسطينية’‪ .‬هذه ‘الوظيفة’ المرحلية عبر المباشرة المبالغ فيها التي تصل‬ ‫الشتيمة أحياناً قد تكون ضرورية ومبررة‪ ،‬ولكن ذلك يفترض أن ترتبط في شكل عميق بم ٍّد في المجتمع‬ ‫مرافق ومتآثر معها‪ ،‬كما حصل في الحرب األهلية اللبنانية‪ .‬هناك نجد للكتابة وظيفة أخرى ساحرة ليس‬ ‫من الضرورة أن تكون مبنية على الخبرة أو العمق الفني‪ ،‬هي دور مباشر وفاعل في الحدث‪ ،‬لعل كتاب‬ ‫أمجد ناصر ‘بيروت صغيرة بحجم قبضة يد’ يرصد تفاعل هذا النمط من الكتابة مع الحدث في سياق كتابة‬ ‫يومية سردية تك ّرست الحقاً في األدب السوري‪.‬‬ ‫أعتقد أن تع ّقد األزمة في سوريا ودخول االنتفاضة في َ‬ ‫مآزق عميقةٍ‪ ،‬ووقوعها ُمرغم ًة في فخّ التسلح‪،‬‬ ‫وبالتالي الحقاً بين همجية النظام من طرف والتطرف اإلسالمي كوحش وحيد قادر على الصمود أمام‬ ‫عنف النظام‪ ،‬فرض انحساراً هائ ًال على الم ّد المجتمعي‪ ،‬وتهميشاً للطاقات التي كانت فاعلة على األرض‬ ‫ليغدو السالح سيداً للموقف‪ .‬هنا من المفترض أن تكتشف الثقافة أسئلتها الجديدة التي تتعلق بعمق‬ ‫التغيرات الحاصلة لدى ‘السوري’‪ ،‬ولألسف هذا لم يتك ّرس‪ .‬فما زالت الكتابة تغرق في هجاء الديكتاتورية‬ ‫ورثاء الشهداء والتباكي على المدن‪ ،‬في الوصف الذي ال يرقى إلى األلم المعاش يومياً‪ ،‬أو لسيل الصور‬ ‫المر ّوع‪ ،‬لتكون في ّ‬ ‫خطها العام محاولة محاكاة للواقع‪ ،‬وتدخل في ح ّيز يصادر المتلقي‪ ،‬يطالبه بالتعاطف‬ ‫أو يفرضه عليه مكتفي ًة بتكريس موقف‪ ،‬مرتبط ًة بالحدث العام فقط‪ .‬كتابة تعتمد على التفاصيل التي‬ ‫‪52‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه‬

‫ت ّوضح وحشية النظام وهول المأساة‪ ،‬لكنها ال تدخل في المخفي والمتعدد والمر ّكب‪ ،‬ال تمارس دورها في‬ ‫الكشف عن التناقضات التي تنتج عن هول الديكتاتورية والتي تؤدي إلى تع ّقد الشرط اإلنساني‪ .‬المفارقة‬ ‫مشروع ينقلها‬ ‫تغدو أكثر عمقاً بسبب هامشية دور المثقفين السوريين في االنتفاضة منذ بدايتها‪ ،‬وبغياب‬ ‫ٍ‬ ‫مشروع يتحول إلى هدف أعمق وأكبر من مجرد ‘إسقاط النظام’‪ ،‬فيبقى النظام رمزاً للمعارضين‬ ‫إلى ثورة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫الذين يريدون إسقاطه وللمؤيدين الذين يو ّدون حمايته‪ ،‬دون تش ّكل ‘رمز’ نقيض له يكث ُِّف آمال وأهداف‬ ‫دفع التدخالت الدولية‪ ،‬وفرضوا بالقمع والقتل خيار ‘الخالفة‬ ‫االنتفاضة‪ .‬هذا الفراغ مأله ‘اإلسالميون’ مع ِ‬ ‫ٍ‬ ‫عنيف لألصوات العقالنية السلمية والعلمانية‪.‬‬ ‫اإلسالمية’‪ ،‬مع إقصا ٍء‬ ‫كل كتاباتنا ال تؤثر على أرض الواقع وال يهتم بها ‘الثوار’ فعلياً‪ ،‬و ُق ّراؤنا أغلبهم خارج سوريا أو ضمن‬ ‫النخب الباقية في سوريا وهذا هو حالنا دوماً‪ ،‬قبل االنتفاضة وبعدها‪ .‬هذه حقيقة علينا االعتراف بها إن‬ ‫ك ّنا نو ّد أن نقدم شيئاً لسوريا على المدى الطويل‪ ،‬أتساءل لو عاد إلى الحياة نزار قباني‪ ،‬أشهر الشعراء‬ ‫السوريين‪ ،‬وكتب نصوصاً مماثلة بمباشرتها لتلك التي كتبها بعد حرب الخليج األولى‪ ،‬هل سيهتم بها‬ ‫السوريون؟ أجرؤ على افتراض أن من سيهتم بها هو النخب‪ ،‬وليس من الضرورة أن يحتفوا بها أيضاً‪ .‬ولهذا‬ ‫فإن الدعائية الممارسة في الكتابة فقدت حاملها االجتماعي وفقدت مب ّررها إلى ح ٍّد ما‪ ،‬هذا من المفترض‬ ‫ولكن ما نشهده هو العكس‪ .‬ومع ذلك‬ ‫يوسع خياراتها‪ْ .‬‬ ‫أن يريحها من عبء دورها كـ ‘بروباغندا للثورة’ وأن ّ‬ ‫فإن ضعف تأثير الكتابة حالياً ال يلغي ضرورتها بل يزيدها ألنها تساهم في بناء روح المجتمع على المدى‬ ‫باب لرسم مالمح أخرى لما نعيشه‪ ،‬ودعو ٌة للقدرة على التجاوز والمشاركة في مصي ٍر آخر‪.‬‬ ‫البعيد‪ ،‬إنها ٌ‬ ‫لعل الحراك السوري أسقط مرجعيات كبيرة فكرية وأيديولوجية كانت تسيطر على الكتابة اإلبداعية‪،‬‬ ‫عبر أسماء صعدت من خالل تيارات سياسية في مراحل سابقة‪ ،‬كما فقدت أسما ٌء كبرى تأثيرها الهائل‬ ‫الـمعاش‬ ‫على المشهد اإلبداعي‪ ،‬ولكن لألسف هذا لم يترافق مع إنتاج مرجعيات جديدة‪ .‬لعل الواقع ُ‬ ‫والتجربة الشخصية ش ّكال مرجعية أكثر حضوراً عبر كتابة سردية متعثّرة بالدرجة األولى أشبه بالمذ ّكرات‪،‬‬ ‫تقتبس من اليومي وتعتمد على تناقضاته‪ ،‬وعبثيته أحياناً‪ ،‬ومع ذلك وقع كثي ٌر منها في فخ الكتابة الدعائية‪.‬‬ ‫وعلى مستوى آخر تك ّرست عقلية إقصاء وتخوين لكل كتابة نقدية تقارب الحراك وترصد أخطاءه أو أسئلته‬ ‫الخالفية خاصة في المراحل األولى‪ ،‬حالة رقابة يمارسها المعارضون ال تختلف كثيراً عن تلك التي يمارسها‬ ‫النظام‪ ،‬وعدنا لنسمع ما يشبه “ال صوت يعلو على صوت المعركة”‪.‬‬ ‫هناك عدة حاالت إبداعية مغايرة للسياق السابق منها على سبيل المثال ال الحصر محمد ديبو‪ ،‬رائد‬ ‫وحش‪ ،‬وعارف حمزة‪ ،‬ولكنها ظواهر فردية وال تش ّكل تياراً عاماً‪ .‬وهناك حاالت ال تعتمد النشر الورقي مثل‬ ‫دارين أحمد التي تنشر في صفحتها على الفيس بوك‪ ،‬وبالتالي من الصعب اعتبارها ظاهرة مكرسة في‬ ‫األدب السوري بخاصة أن قسماً مهماً من أفرادها اضطر إلى مغادرة سوريا وبالتالي انقطع السياق الذي‬ ‫تش ّكلت هذه الحاالت ضمنه‪ ،‬ومع ذلك هي ما ُيراهن عليه في األدب السوري‪.‬‬ ‫جانب مقابل القسم األغلب من الكتابات واألعمال اإلبداعية التي تأتينا من السوريين الذين‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫انتقلوا إلى المهجر‪ ،‬تأتي مصاب ًة بعقدة النجاة إن صح التعبير‪ ،‬فهي تفترض لنفسها دوراً ثورياً في دعم‬ ‫الـمشاهد الغربي‪ ،‬فتركز على اإلنسان السوري‬ ‫االنتفاضة السورية‪ ،‬واألسوأ أنها تتماهى مع ما تتمناه من ُ‬ ‫كضحية يجب إنقاذها‪ ،‬وبالتالي َت َت َن َّمط‪ ،‬وتتحول إلى مونولوج طويل ّ‬ ‫ممل أحياناً‪ ،‬وال يقدم غير شحنة‬ ‫‪53‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه‬

‫عاطفية فائضة فوق الصورة البصرية والتقارير الدولية‪ .‬ومن المضحك المبكي أن أغلب هذه الكتابات‬ ‫بنوع من الريبة أو النفور أحياناً‪ ،‬ألن أصحابها ‘هربوا’ أو ال يعانون ما يعانيه من‬ ‫َينظر لها من في الداخل ٍ‬ ‫في الداخل‪ ،‬وبالتالي تزداد الهوة بين الكاتب والمتلقي‪ ،‬ويغدو ‘أدب المنفى السوري’ للمنفيين والدول‬ ‫المضيفة!‬ ‫كل ما سبق يهدف إلى مقاربة سؤال حول مستقبل األدب السوري‪ ،‬هل علينا أن ننتظر عدة سنوات‬ ‫لنتجاوز عتبة التنميط نحو التنوع والغنى؟ هل يمكن أن ننتج أدباً يدافع عن اإلنسان بإغناء إنسانيته عبر‬ ‫رصد تحوالتها تحت شرط حياتي ضاغط وعبثي‪ ،‬أن يقول ما تعجز عنه الكاميرا والتقارير‪ ،‬هل كان هذا حال‬ ‫األدب العراقي مث ًال قبل أن يعود إلى الخارطة اإلبداعية بتجارب ملفتة منذ فترة ليست بعيدة‪ ،‬أو األدب‬ ‫الفلسطيني خارج إطار ‘أدب القضية’؟ هل علينا أن نصلب أنفسنا ونجاهد الحقاً للنزول عن الصليب (في‬ ‫اقتباس مباشر من محمود درويش)‪ ،‬مع غياب من يسأل عنا مصلوبين أم غير مصلوبين؟ هل علينا أن‬ ‫نقضي سنوات أخرى لنتجاوز األزمة ونكتشف أسئلة جديدة تسهم في تشكيل هويتنا وتفضي إلى أساليب‬ ‫جديدة في طرحنا وفي عمق التناول؟ واألهم أن تصمد نصوصنا أمام امتحان الزمن؟ أهم المدارس األدبية‬ ‫في أوروبا جاءت بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وبغض النظر عن مصير هذه المدارس فقد مثّلت تفاع ًال هائ ًال‬ ‫مع المجتمع‪ ،‬وغ ّيرت فيه وأغنته‪ ،‬ولعل هذا هو دورها الحقيقي‪ :‬التغيير على المدى الطويل‪.‬‬

‫‪54‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫عالقة املذاهب الفنية‬

‫ليليان بالن❊‬

‫بالواقع االجتماعي والسياسي‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تهدف املقالة إىل التعريف بالدور التأثريي للحركة السياسية عىل املذاهب الفنية‪ .‬فالعالقة‬ ‫املتبادلة بني السياسة والفن تظهر يف تنوع االتجاهات الفنية تبعاً للحركات للسياسية‬ ‫واالجتامعية‪ ،‬ومن خالل اعتبار الفن كجزء ال يتج ّزأ من واقع الحراك الشعبي والجامهريي‬ ‫عرب الزمن‪ ،‬وكتعبري عن حركة سياسية تبلورت أدبياً وتص ّورت تشكيلياً ضمن مفاهيم فرتة‬ ‫معي وارتباطه باستمرارية‬ ‫فني ّ‬ ‫سياسية ما‪ .‬وتظهر هذه العالقة أيضاً من استمرارية فك ٍر ٍّ‬ ‫الواقع السيايس املعاش بدءاً من املدرسة االتباعية‪ ،‬وانتها ًء بباقي املدارس التي اختلفت‬ ‫توجهاتها تبعاً لزمنها السيايس واالجتامعي وحتى يومنا هذا‪.‬‬

‫❊ حاصلة على إﺟﺎﺯﺓ في اﻟﻔﻨﻮﻥ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻗﺴﻢ ﺍﻟﺤﻔﺮ ﻭﺍﻟﻂﺒﺎﻋﺔ‪ ،‬وعلى ﺩﺑﻠﻮﻡ ﺗﺄﻫﻴﻞ ﺗﺮﺑﻮﻱ‪ .‬تعمل كفنانة ﺗﺸﻜﻴﻠﻴﺔ ومد ّرسة لمادة التربية الفنية‪ ،‬كما شاركت‬ ‫في ﻟﺠﺎﻥ ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻗﺴﻢ ﺍﻟﻤﻨﺎﻫﺞ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ السورية‪.‬‬

‫‪55‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي‬

‫ككل ما هو مترابط في حياتنا‪ ،‬ال ب َّد لفلسفة الفنون من االرتباط الوثيق بواقعها المعاش‪ ،‬سياسياً‬ ‫ِّ‬ ‫واجتماعياً واقتصادياً‪ ،‬والتصوير األوضح ِّ‬ ‫لكل حاالتنا االجتماعية والسياسية يتج َّلى عبر العصور بفنون هذه‬ ‫عما يدور بداخله‪ ،‬ومع َب ٌر للمبدعين‪ .‬ومن هنا جاء‬ ‫المجتمعات‪ ،‬فالفن هو مرآة المجتمع وبوابته للتعبير َّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫االرتباط الوثيق عبر التاريخ بين الفن والسياسة واالجتماع‪ ،‬فكانت نشأة المذاهب الفنية مرتبطة‪ ،‬بكليتها‪،‬‬ ‫بواقع سياسي ساد ضمن حقب ٍة زمنية مع ّينة‪ ،‬وهي ليست وليدة الصدفة ولك ّنها تعبر عن ضرور ٍ‬ ‫ات تاريخ ّي ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ملحة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وغالباً ما يرتبط ظهور مذهب ف ّني بصعود طبق ٍة اجتماعي ٍة جديدة‪ ،‬ويزدهر بازدهارها‪ .‬فعصر‬ ‫المذهب االتّباعي‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬هو عصر أنظمة الحكم الملك ّية المركزية التي ق ّلصت نفوذ األمراء‬ ‫ووحدت إقطاعاتهم المش ّتتة في دول ٍة واحدة‪ .‬فبعد أن كان‬ ‫اإلقطاعيين‪ ،‬وح َّدت من سلطتهم المستقلة‪ّ ،‬‬ ‫رجال األدب وأهل الفن والقلم والفكر موزّعين متن ّقلين بين بالطات األمراء الصغيرة في أوائل عصر النهضة‪،‬‬ ‫التأم شملهم في العصر االتّباعي في بالطات الممالك الكبيرة‪ .‬وهذا العصر هو العصر الذي ترسخت فيه‬ ‫بصف ٍة نهائية ال ّلغات القومية لمختلف الشعوب األوروبية‪ ،‬كما تغيرت عالقة الفنان بجمهوره‪ .‬فحين كان‬ ‫أدب‬ ‫هذا الجمهور أرستقراطياً بات أقرب إلى أن يكون بورجوازياً‪ .‬ولكن هذا ال يعني أن األدب االتّباعي هو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫محافظ ال يح ِّرض الفرد على المجتمع‪ ،‬وال يرمي إلى هدم النظام القائم وال المساس‬ ‫ثوري‪ ،‬فهو في جوهره‬ ‫ٌّ‬ ‫بالتسلسل الطبقي الهرمي‪ .‬ألنّ الفنانين ته ّيبوا من خوض موضوع اإلصالح السياسي واالجتماعي‪ ،‬كحقوق‬ ‫األمة وحرية الفرد والنقد للمسؤولين‪ ،‬خوفاً من ارتداد البالد إلى ما كانت عليه من فوضى وعذاب في ظل‬ ‫اإلقطاع‪ ،‬والتّجاه العصر نحو سيادة الحكم الملكي المطلق ضمن سلط ٍة الوحدة واالئتالف‪ .‬وقد تج ّلى ذلك‬ ‫واضحاً‪ ،‬أدبياً‪ ،‬من خالل أعمال األديب الفرنسي بوالو الذي نظم مط ّول ًة شعرية من ألف ومئة وعشرة أبيات‬ ‫عن أهم القواعد االتباعية التي بقيت طوال جيلين منار ًة لما جاء بعده من اتّباعيين‪ .‬ومن جه ٍة تشكيلية‬ ‫ظهر نيوكوال بوسان (ت‪ )1665 .‬وما اتّسم به أسلوبه من الدقة والمتانة في البناء أنموذجاً‪ ،‬خالل القرنين‬ ‫السابع عشر والثامن عشر‪ ،‬لمن جاء بعده أمثال شاردان (ت‪ )1799 .‬وغيره‪ ،‬ومن أهم أعماله‪‘ :‬مذبحة‬ ‫‪56‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي‬

‫األبرياء’‪‘ ،‬طفولة باخوس’‪‘ ،‬وحي الشاعر’‪،‬‬ ‫و‘لوحة الشتاء’‪.‬‬ ‫وفي أواخر القرن الثامن عشر‬ ‫بدأت دعائم االتّباعية تتداعى نتيجة‬ ‫االنقالب الصناعي الذي ساد أوروبا في‬ ‫النصف الثاني لهذا القرن‪ .‬وقد م َّثل هذا‬ ‫االنقالب ثور ًة ال نظير لها في تاريخ‬ ‫االنسانية والتق ّدم البشري‪ ،‬حيث صعدت‬ ‫الطبقة المتوسطة لتعرف بما يسمى‬ ‫بالبورجوازية التي قلبت معالم المجتمع‬ ‫طفولة باخوس لبوسان‬ ‫رأساً على عقب‪ .‬فبعد الثورة الفرنسية‬ ‫تبلورت مفاهيم جديدة مثل الجمهورية‪ ،‬والديمقراطية‪ ،‬وحقوق اإلنسان‪ ،‬وحق األمة في اختيار مصير‬ ‫شعوبها‪ ،‬ونشأ المذهب الف ّني الجديد الذي ُع ِرف باسم ‘المذهب اإلبداعي’ الذي كان التعبير الف ّني عن ثورة‬ ‫أهم رواده جان جاك روسو وأبرز مؤلفاته ‘العقد االجتماعي’‪،‬‬ ‫البورجوازية السياسية واالجتماعية‪ .‬وكان من ِّ‬ ‫وغوته وهو من الك ّتاب األلمان ومن أعماله ‘آالم فرتر’‪ .‬أما الفنان فرانشيسكو دي غويا (ت‪ ،)1828 .‬الذي‬ ‫ُيعتبر من ر ّواد هذا المذهب في إسبانيا‪ ،‬فقد ص َّور بشاعة الحرب ومآسيها وما يرافقها من آالم‪ ،‬كما أنّه‬ ‫يعد الف ّنان األ ّول الذي أدخل عنصر البشاعة والتشويه‪ ،‬خارجاً بذلك عن مفهوم الجمال التقليدي‪ ،‬ومن أهم‬ ‫ُّ‬ ‫أعماله ‘حادثة ‪ 3‬أيار ‪ ’1808‬ومجموعته ‘كوارث الحرب’ ‪ .1814-1810‬وأيضاً أوجين دي الكروا (ت‪)1863 .‬‬ ‫الذي ُيعد رائد اإلبداعية لما يقارب األربعين عاماً في فرنسا الذي تأ ّثر بمؤلفات غوته وشكسبير وسكوت‪.‬‬ ‫أهم أعماله ‘الحرية قائدة للشعب’ و‘مذبحة سيو’‪.‬‬ ‫ومن ِّ‬ ‫ولكن مع بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر ظهر مذهب ‘الفن الواقعي’ كنتيجة للثورة‬ ‫الفكرية على المذهب اإلبداعي والتقدم العلمي الهائل من فتوحات علمية‪ ،‬كنظرية داروين والفلسفة‬ ‫الوضعية ألوغست كومت (السبيل إلى‬ ‫الحرية قائدة للشعب لدي الكروا‬ ‫معرفة الحقيقة من غير طريق المالحظة‬ ‫والتجربة)‪ ،‬وإخفاق ثورات ‪1848‬‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬حيث س ّمي هذا العام‬ ‫بعام ‘ربيع الشعوب’ الذي انتهى بفواجع‬ ‫في كل مكان وإطباق قبضة الحكم‬ ‫الرجعي الملكي‪ ،‬باإلضافة إلى انتشار‬ ‫األفكار االشتراكية التي لفتت األنظار إلى‬ ‫الطبقات الشعبية التي تئن تحت نير‬ ‫االستغالل‪ ،‬وخصوصاً العمال والفالحين‪.‬‬ ‫فقد عكس مذهب ‘الفن الواقعي’ هذه‬ ‫األشياء الجديدة وص َّور بؤس هذه الطبقات‬ ‫‪57‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي‬

‫ورغبتها بتغيير واقعها الما ّدي‪ .‬وقد اتسم‬ ‫فن هذه الفترة بأنه ال شخصي‪ ،‬ويطلب‬ ‫ُّ‬ ‫الد ّقة والموضوع ّية‪ ،‬مثلما يطلب العلم‪،‬‬ ‫فكان خير ممثّل لهذه الفترة الروائي‬ ‫الفرنسي إميل زوال في روايته ‘الحيوان‬ ‫البشري’‪ ،‬وأيضاً الروائي الفرنسي بلزاك‬ ‫واضع ‘الملهاة البشرية’‪ ،‬وتشارلز ديكينز‬ ‫في رواياته ‘أوليفر تويست’ و‘قصة‬ ‫فن العمارة‬ ‫مدينتين’‪ .‬كما تج ّلت في ّ‬ ‫نظرية فيزالي القائمة على ‘الوظائفية’‬ ‫مغربالت القمح لكوربييه‬ ‫حيث استعمل الحديد في العمارة‪ ،‬فكان‬ ‫برج إيفيل‪ .‬وتشيكيلياً الفنان غوستاف كوربييه (ت‪ )1877 .‬ومن إحدى لوحاته ‘مغربالت القمح’‪.‬‬ ‫ثم جاءت بعد ذلك المدرسة الرمزية التي تدين بنشأتها لعوامل فلسفية أوالً‪ ،‬وخصوصاً الفلسفة‬ ‫المثالية‪ ،‬التي جاءت رداً على شطط النزعة المادية الوضعية في تفسيرها الجبري للكون والتاريخ واإلنسان‪.‬‬ ‫لذلك جعل الرمزيون هدفهم األساسي هو اإلبحار داخل دائرة ّ‬ ‫اللوعي وكشف غوامضها‪ .‬وكذلك تزامنت‬ ‫على الصعيد االجتماعي مع استقرار أنظمة الحكم الرجعية الملكية واإلمبراطورية‪ ،‬في جميع أنحاء أوروبا‬ ‫عقب قمع الحركات الشعبية وخصوصاً انتفاضة ‘كومونة باريس’ في العام ‪ .1871‬ومن رواد هذه المدرسة‬ ‫أدبياً إدغار آالن بو‪ ،‬وبودلير الذي قال بيته الشهير‪“ :‬أنا جميلة‪ ...‬أيها البشر‪ ...‬كحلم من حجر”‪ .‬أما تشكيلياً‬ ‫فقد أعطت الرمزية األلوان والظالل قيمة رمزية وتعبيرية جديدة‪ ،‬فكان كل لون مرتبط بإحساس محدود أو‬ ‫بفكرة معينة؛ فاألحمر يرمز إلي الحركة والصخب والشهوة‪ ،‬واألصفر للمرض‪ ،‬بينما األخضر ّللمحدود‪.‬‬ ‫ولكن مالبثت العوامل التاريخية أن تغيرت‪ ،‬وتغ ّيرت معها المعطيات السياسية‪ ،‬فساد عص ٌر جديد هو‬ ‫عصر انتصار االشتراكية شبه العالمي‪ ،‬من ثورة أكتوبر في االتحاد السوفييتي إلى ثورة الصين‪ ،‬وظهرت أفكا ٌر‬ ‫جديدة تنادي بالتحرر القومي واالجتماعي من أجل الديمقراطية والحرية وحق تقرير المصير في العالم‬ ‫الثالث وسميت ‘بالواقعية الجديدة’‪.‬‬ ‫جانب من لوحة االستعداد لدييغو ريفريا‬ ‫واتسمت بسمات جديدة تختلف عن‬ ‫‘الواقعية القديمة’ حيث يتميز اإلنسان‬ ‫بحرية اإلرادة واالختيار‪ ،‬كما أنه ابن‬ ‫الشروط التاريخية المحيطة به التي هي‬ ‫في الحقيقة من صنعه‪ ،‬وتؤكد أن الفن‬ ‫هو عبارة عن إعادة خلق للواقع وتغليب‬ ‫عناصر على أخرى‪ ،‬كما أن الواقع بالنسبة‬ ‫لهذا المذهب الفني هو عبارة عن واقع‬ ‫متحرك ومتحول قابل للتغيير والتغير‪،‬‬ ‫‪58‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي‬

‫والهدف األساسي ليس هو تثبيت هذا الواقع إنما تجاوزه وتخطيه نحو األفضل فهي رؤية مستقبلية‬ ‫متكاملة‪ .‬وتثق هذه المدرسة بأن بذور التغيير لغد واعد تكمن في قلب الواقع الحالي المعاش‪ ،‬فمن‬ ‫أهم مميزاتها عرض حالة البؤس‪ ،‬والثورة عليه في آن‪ ،‬ومن هنا اتسمت بالنظرة التفاؤلية‪ .‬لذلك تولي‬ ‫هذه المدرسة اهتمامها للقوى الفاعلة في التاريخ أي قوى الجماهير‪ ،‬إذ أن هدفها األساسي إبراز المبادرة‬ ‫التاريخية للجماهير على صعيد جمالي وفني‪ .‬و ُيعتبر مكسيم غوركي مؤسس هذه المدرسة وهو كاتب‬ ‫روسي ولد عام ‪ 1869‬من أهم أعماله ‘حياة طفل’ و‘األم’ حيث نذر كتاباته للثورة‪ ،‬ومن إسبانيا الشاعر‬ ‫الشهيد فيديريكو غارسيا لوركا‪ ،‬وتشكيلياً يعتبر دييوجو ريفييرا (ت‪ )1957 .‬المكسيكي خير مثال على هذا‬ ‫المذهب ومن لوحاته الشهيرة ‘االستعداد’‪.‬‬ ‫وبهذا نؤكد أنه اليمكننا فصل الحياة الواقعية عن الحياة الفنية‪ ،‬ال أدبياً وال تشكيلياً‪ ،‬ألنها ٌّ‬ ‫كل متساو‬ ‫في خط سيره وال ب ّد لها من التأثر بعضها ببعض لتكون مرآة التاريخ على الواقع المعاش‪ .‬وكما هو الحال‬ ‫في أوروبا كان الحال في الشرق األوسط‪ ،‬البد من التداخل الالمنتهي بين الفن والسياسة منذ الجاهلية‬ ‫حيث استخدم كل من الفن والسياسة للترويج للدين‪ ،‬وحتى عصرنا هذا‪ ،‬وإن كان بطريقة مغايرة أصبح‬ ‫فيها الفن والدين يخدمان الواقع السياسي بصورة أو بأخرى‪ .‬وهذا ما تبلور في شكل واضح جداً ضمن‬ ‫أحداث السنوات األربع األخيرة في المنطقة العربية‪ .‬وهو ما سنتكلم عنه في مقاالت قادمة‪.‬‬

‫‪59‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫دولة اإلسالم يف العراق والشام ‘داعش’‪:‬‬

‫مارك براتشر❊‬

‫جتاوز حدود املزاودات❊❊‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫أثار ‘داعش’ مؤخراً الذعر بني وسائل اإلعالم‪ ،‬مهدداً بتفكيك سوريا والعراق وتحويل‬ ‫مسلمي أوروبا إىل متطرفني‪ ،‬وتقويض القضية العلامنية للثوار السوريني‪ .‬تبحث هذه‬ ‫املقالة يف الجدال الذي يزعم أن داعش رمبا يف الواقع يعمل كقوة مضادة للتطرف‪ ،‬بحيث‬ ‫يردع املجاهدين املستقبليني الذين سيخافون من االنضامم إىل ‘داعش’ كونهم سيضطرون‬ ‫لقتل زمالئهم الثوار أكرث من قتل قوات النظام‪ ،‬كام أنه سريدع الجامعات الجهادية األكرث‬ ‫اعتداالً من التعامل مع ‘داعش’ خوفاً من تقويض رشعيتهم‪.‬‬

‫❊ يحمل مارك بارتشري ‪ Marc Bracher‬شهاديت البكالوريوس واملاجستري يف الحرب واملجتمع من جامعة ويلز‪ ،‬سوانزي‪ .‬ينهي حالياً التحضري لشهادة املاجستري‬ ‫يف سياسات الرشق األوسط من جامعة إكسرت‪ ،‬حيث يتخصص بالتطرف اإلسالمي والرصاع الطائفي‪.‬‬ ‫❊❊ هذه المقالة ترجمة للنص األصلي المرسل إلى مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوان‪.ISIS’ “Out-Bidding” Overstep :‬‬

‫‪60‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دولة اإلسالم يف العراق والشام ‘داعش’‬

‫كثيراً ما ُينظر إلى الصراع الثوري في سوريا كحالة تشبه النظرية التطرفية المعروفة بـ ‘المزاودة’‪.‬‬ ‫اقترحت ميا بلوم هذا المصطلح عام ‪ ،2005‬ليشير إلى العمليات التي تقوم بسببها الجماعات الفاعلة في‬ ‫نفس المنطقة‪ ،‬والتي تمتلك نفس األيديولوجيات وتتنافس فيما بينها‪ ،‬في سبيل الحصول على الدعم ذاته؛‬ ‫عبر تصعيد خطابها وممارساتها من أجل الفوز بملكية تلك القضية‪ .‬في سياق الصراع السوري‪ ،‬تتنافس‬ ‫الميليشيات اإلسالمية التوسعية‪ ،‬التي ت ّدعي جميعها ملكية قضية الجهاد السلفي‪ ،‬متحول ًة إلى ميليشيات‬ ‫أكثر تطرفاً وأكثر قسوة‪ ،‬كل ذلك في سبيل تعزيز اعتبارهم ‘محاربي الله الحق’‪ .‬تم تنشيط عملية‬ ‫المزاودة في سوريا من قبل جهات أخرى‪ ،‬حيث نرى أن الجماعات المتطرفة –وبخاصة ‘جبهة النصرة’‬ ‫المرتبطة بتنظيم ‘القاعدة‘– تحصل على حصة األسد من التمويل الخارجي من المؤسسات الخيرية اإلسالمية‬ ‫السعودية‪ .‬وهذا ما ح َّفز فصائل ثورية أخرى أكثر اعتداالً‪ ،‬وربما أكثر علمانية‪ ،‬على المزاودة على اإلسالميين‬ ‫من أجل الحصول على السالح والدعم والمحاربين الالزمين لمواجهة العدوين التوأمين؛ مجموعات األسد‬ ‫والمجموعات الجهادية‪.‬‬ ‫يبدو أن دوامة التطرف والتعصب التي ال يمكن إيقافها قد سببت الذعر لإلعالم العالمي وصانعي‬ ‫السياسات‪ ،‬ودفعت إلى حال ٍة من الهستيريا من خالل المزاودة األخيرة التي قام بها ‘داعش’ في حربه‬ ‫الخاطفة في العراق‪ ،‬وإعالنه هذا األسبوع عن إقامة ‘دولة الخالفة اإلسالمية’‪ .‬بدأت السعودية العربية‬ ‫بحشد قواتها على الحدود العراقية‪ ،‬ويقال إن إيران أرسلت طائر ٍ‬ ‫ات مقاتلة‪ ،‬بينما يبدو أن حال ًة من الشلل‬ ‫قد أصابت أوباما وكاميرون‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ورغم كل شيء‪ ،‬فإن فوز ‘داعش’ بعملية المزاودة األخيرة التي قام‬ ‫بها قد يكون سيفاً ذي حدين؛ شل ‘داعش’‪ ،‬وتشويه حركة الجهاد السلفي بكاملها‪.‬‬ ‫مشكلة النجاح أنه يؤدي إلى غطرسة‪ .‬ويظهر السجل التاريخي للميليشيات الجهادية السلفية أن‬ ‫‘جنود الله’ ليسوا من َّزهين عن هذه الصفة السيئة‪ .‬أدى النجاح العملياتي بداي ًة لدى ‘الجماعة اإلسالمية‬ ‫المسلحة’ في الحرب األهلية في الجزائر ‪ 1990‬وصوالً إلى ‘القاعدة في العراق’ خالل سنوات االحتالل‬ ‫إلى إهمالٍ إستراتيجي‪ .‬فبينما تقوم هذه الجماعات بتمجيد نجاحاتها في ساحات المعارك‪ ،‬تمكن مالحظة‬ ‫‪61‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫دولة اإلسالم يف العراق والشام ‘داعش’‬

‫فشلها في احترام أهمية العالقات األهلية‪ .‬وهكذا وجد كال الطرفين أنفسهما بين المطرقة والسندان‪ ،‬حيث‬ ‫أثار تطبيق قوانين الشريعة بطريقة قاسية حفيظة القاعدة الشعبية المؤيدة لها سابقاً‪ .‬وجدت ‘الجماعة‬ ‫اإلسالمية المسلحة’ في الجزائر نفسها مهمش ًة ومنبوذ ًة من قبل باقي الثوار‪ ،‬في حين أصبحت ‘القاعدة في‬ ‫العراق’ دون أي أهمية تحت وطأة الجيش الوطني العراقي من ناحية‪ ،‬وتمرد أهالي العراق الغاضبين من‬ ‫ناحية أخرى‪ .‬عام ‪ 2011‬تم نشر ‘بيان شباب غزة’ الذي أوضح أن حتى حركة حماس التي تحظى بشيء من‬ ‫منأى من هذا المصير‪.‬‬ ‫االحترام لم تكن في ً‬ ‫يبدو أن الجماعات الجهادية السلفية تعلمت من أسالفها خالل األعوام الثالثة األولى للثورات العربية‬ ‫منذ عام ‪ .2011‬فقد ركزت ‘جبهة النصرة’ الطفل المدلل للقاعدة في سوريا على تلميع شهاداتها العسكرية‬ ‫والوطنية بقتالها ضد األسد‪ ،‬بدالً عن محاولة فرض قوانين الدولة اإلسالمية الصارمة التي يرفضها أغلب‬ ‫السوريين‪ .‬أما في ليبيا فقد حاولت الجماعات الجهادية الموجودة مسبقاً ‘كالجماعة الليبية اإلسالمية‬ ‫المقاتلة’ التأقلم مع األجندة الديمقراطية الجديدة‪ ،‬أما الجماعات الجديدة ‘كجماعة أنصار الشريعة’ فقد‬ ‫تعلمت احترام رأي الشعب‪ ،‬مستبدلين العنف بحمالت ‘القلوب والعقول’ بعد أن ثار أكثر من ‪ 30000‬ليبي‬ ‫احتجاجاً على طردهم من بني غازي بعد هجومهم على القنصلية األميركية عام ‪ .2012‬وحده ‘داعش’ لم‬ ‫يتعلم الدرس‪ ،‬حتى أن ‘القاعدة’ قد تبرأت منه لشدة تطرفه‪ ،‬وأصبح هدفاً للجماعات السنية المنافسة في‬ ‫سوريا والعراق‪.‬‬ ‫بعد تصرفات ‘داعش’ بدأت الدول السنية المجاورة لسوريا تفكر مرتين قبل دعم الجماعات الجهادية‬ ‫السلفية ضد األسد‪ .‬انتصرت ‘جبهة النصرة’ بمسابقة المزاودة بفضل قوتها الجهادية‪ ،‬وحافظت أجندتها‬ ‫الوطنية البحتة وعقالنيتها الظاهرة على صورتها كقنا ٍة آمنة بالنسبة لدول الخليج‪ .‬في المقابل‪ ،‬فإن برنامج‬ ‫عمل ‘داعش’ العالمي الذي أعلن عداوته للفصائل السورية الثورية‪ ،‬ولألنظمة السنية المجاورة‪ ،‬جعل منه‬ ‫بدي ًال خطيراً بالنسبة للراعين المحتملين‪ .‬لقد و ّقع ‘داعش’ على شهادة موته بعد مزاودته على ‘جبهة‬ ‫النصرة’ وتوسيع عملياته خارج األراضي السورية‪ ،‬وإعالن قيام ‘دولة الخالفة اإلسالمية’‪ .‬بينما ترغب الدول‬ ‫الخليجية الراعية رعاية مجموع ٍة ذات أهداف واضحة لزعزعة المنطقة برمتها‪ ،‬فإن التكتيك الوحشي الذي‬ ‫يستخدمه ‘داعش’ في العراق وسوريا‪ ،‬بذبح الثوار الزمالء والقوات الحكومية على حد سواء‪ ،‬سيؤدي غالباً‬ ‫إلى نفور الجهاديين المستقبليين الذين سيدركون ببطء أن االنضمام لهذه الجماعة سيتضمن حتماً قتلهم‬ ‫‘ألشخاص سنيين’ بدالً عن محاربة الطغيان‪.‬‬ ‫موصوم بالعار‪ ،‬ستبذل الجماعات‬ ‫وسيذهب داعش بش ّره إلى أبعد من ذلك أيضاً‪ .‬فباعتبار أن ‘داعش’‬ ‫ٌ‬ ‫الجهادية السلفية المشابهة مثل ‘جبهة النصرة’ في سوريا‪ ،‬والجماعات األخرى التي تحمل نفس الفكر‬ ‫‘كأنصار الشريعة’ في ليبيا تونس واليمن‪ ،‬جهداً لالبتعاد عن هذه الجماعة كون الخيار المباشر المطروح‬ ‫هو التقليل من قيمتها‪ .‬وطالما هذا الوضع مستمر‪ ،‬فلن يتم تنفير الجهاديين المحتملين في المستقبل من‬ ‫االنضمام إلى ‘داعش’ فقط بل حتى من االنضمام إلى ‘جبهة النصرة’ و‘أنصار الشريعة’ أيضاً‪ .‬وربما سيتحول‬ ‫‘داعش’ إلى أكبر قو ٍة مضاد ٍة للتطرف في المنطقة‪.‬‬

‫‪62‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مصطفى دباس❊‬

‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‪:‬‬

‫من التنظيم امليليشياوي إىل‬ ‫الدولة القروسطية‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫اختلفت األدوات التي بدأ تنظيم ‘داعش’ املتطرف يغزو بها املنطقة‪ ،‬ولعل أهمها‬ ‫استخدامه لوسائل اإلعالم كافة املرئية منها واملسموعة‪ ،‬واآلن املقروءة بعد صدور‬ ‫العدد األول من مجلة ‘دابق’ التي ستكون الناطق الرسمي باسم التنظيم‪ ،‬والتي‬ ‫أدهشت الكثريين برصياً‪ .‬فقد متتعت املجلة بالحرفية وأناقة اإلخراج وجودة الصور‬ ‫التي احتوتها‪ ،‬األمر الذي جعل البعض يصفون اإلعالم الذي يحاول داعش تقدميه أقرب‬ ‫إىل اإلعالم املنظم ‘للدولة’ منه إىل اإلعالم ‘امليليشيوي’ املتخبط‪ .‬كام أن صدورها بأكرث‬ ‫من لغة يؤكد أن ‘داعش’ بدأ يتجه نحو العاملية‪ ،‬خصوصا أنها تحايك الغرب من حيث‬ ‫تقدميها للمقوالت العامة للتنظيم‪ .‬املجلة التي حملت عنوان ‘العودة للخالفة’‪ ،‬وصدرت‬ ‫بـ ‪ 48‬صفحة‪ ،‬وباملواصفات القياسية تطرح كثرياً من التساؤالت حول اإلمكانيات املادية‬ ‫التي ميتلكها هذا التنظيم‪ ،‬وحول قدرته عىل تسخري التكنولوجيا اإلعالمية لخدمته يف‬ ‫زمنٍ عجزت فيه كثريٌ من التنظيامت الدينية األخرى املشابهة له عىل القيام بذلك‪.‬‬ ‫❊ صحفي وخريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬مصور فوتوغرافي ورسام كاريكاتور‪ .‬شارك في معرض تصوير بعنوان ‘أنت’‪ ،‬ومعرض كاريكاتور بعنوان ‘وجهة‬ ‫نظر’‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‬

‫لم تكن الحرفية اإلخراجية للعدد األول من مجلة ‘دابق’‪ ،‬التي أصدرها تنظيم الدولة اإلسالمية في‬ ‫العراق والشام‪ ،‬جديدة على هذا التنظيم الذي اعتاد بث مقاطع فيديو عالية الدقة منذ تأسيسه مطلع‬ ‫نيسان‪/‬أبريل ‪ ،2013‬فقد وصفها مراسل الـ‪ CNN‬بأنها سلسلة أفالم تشابه في جودتها أفالم هوليود‪ ،‬وسماها‬ ‫التنظيم ‘صليل الصوارم’‪ ،‬حيث ترصد بدقة كل المعارك واالنتصارات واإلعدامات التي يقوم بها‪ .‬تظهر في‬ ‫ٌ‬ ‫ومعدات عسكرية وتقنية‪ ،‬وكاميرات وسيارات حديثة‪ .‬وقد تم تصوير‬ ‫أسلحة‪،‬‬ ‫هذه األفالم عالية الجودة‬ ‫ٌ‬ ‫مقطع االفتتاح في الجزء الرابع من ‘صليل الصوارم’ من طائرة عمودية‪ ،‬ووصل عدد المشاهدات لهذه‬ ‫المقاطع إلى ماليين خالل أيام قليلة‪ ،‬فض ًال عن استخدام التنظيم للفضاء اإللكتروني في شكل واسع من‬ ‫خالل المدونات وحسابات ‘تويتير’ و‘فيسبوك’ لنشر أخباره والترويج ألفكاره ومنهجه‪ ،‬وبأكثر من لغة‪ ،‬وهو‬ ‫ما لم تستطع فصائل المعارضة المسلحة في سوريا من القيام به خالل ثالث سنوات؛ ما يطرح بقوة العديد‬ ‫من عالمات االستفهام حول مدى قدرة ‘داعش’ على تسخير التكنولوجيا وتطويعها لخدمته‪.‬‬ ‫المجلة التي حمل عنوانها الرئيسي ‘عودة الخالفة’ أصبحت متوفرة اآلن في العديد من الموقع‬ ‫االلكترونية بنسختها اإلنكليزية‪ ،‬كما تصدر بنسخة ورقية بلغات أخرى باعتبارها الناطق الرسمي باسم‬ ‫التنظيم‪ .‬وقد تشهد المرحلة القادمة والدة أداة إعالمية لتنظيم بدأ يفكر بمنطق ‘الدولة’‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫صحف عربية وعالمية ال‬ ‫من يدري فقد تصبح المجلة على قائمة وسائل اإلعالم األكثر شهرة بجانب‬ ‫سيما بعد انتشارها إلكترونياً كالنار في الهشيم‪ ،‬حيث يتبع التنظيم في تحريرها وإخراجها أسلوب اإلعالم‬ ‫الرسمي األحادي‪ ،‬مستثمراً كافة وسائل اإلعالم المرئية والمسموعة والمقروءة إليصال رسالته‪ ،‬بغض النظر‬ ‫عن مدى وحشية مضمونها‪ ،‬فهو يركز على شكل الرسالةعبر إظهار عناصر منتقاة من الخبر؛ سواء من حيث‬ ‫المعلومة أو من حيث المشهد البصري المرافق (الذي لم يكن بقسوة مشاهد الفيديو المسربة عبر موقع‬ ‫يوتيوب حيث تظهر عمليات اإلعدام والذبح بحق من يصفهم التنظيم بـ ‘الكفرة’)‪.‬‬ ‫تبدو المجلة جذاب ًة بصرياً‪ ،‬ولم يخفي الكثير ممن حصلوا على نسختها اإللكترونية‪ ،‬ومن رواد مواقع‬ ‫التواصل االجتماعي وبعض الفنيين في مجال اإلخراج‪ ،‬دهشتهم لقدرة هذا التنظيم ‪-‬الذي ُوصِ َف سابقاً‬ ‫‪64‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‬

‫بأنه أبعد ما يكون عن التكنولوجيا‪ -‬على إخراج وسيلة‬ ‫إعالمية على هذا القدر من االحترافية ولو على مستوى‬ ‫اإلخراج البصري‪ .‬فقد صدرت المجلة بـ ‪ 48‬صفحة وهو‬ ‫رقم عالمي إذا ما تحدثنا عن المواصفات العالمية لعدد‬ ‫صفحات المجالت‪ ،‬كما استخدمت النسب العالمية في‬ ‫حجم القطع المستخدم‪ .‬ص ْدر غالف المجلة عبارة عن‬ ‫صورة مصممة يظهر فيه القسم اآلسيوي من الوطن‬ ‫العربي‪ ،‬وجزء من مصر‪ ،‬باإلضافة إلى تركيا وإيران على‬ ‫كامل الصفحة‪ ،‬ويتوسطه عنوانٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عريض باللون األسود‬ ‫كتب فيه ‘عودة الخالفة’ بداللة واضحة إلى أهدف هذا‬ ‫التنظيم في التوسع الجغرافي‪ .‬كما اكتفى بثالثة عناوين‬ ‫فرعية كتبت بأسفل الصفحة ‘أخبار الشام والعراق’‬ ‫و‘من الهجرة إلى الخليفة’ و‘اإلمامة في ملة إبراهيم’‪،‬‬ ‫وبتنسيق خطي ملفت حيث اعتمد على استخدام‬ ‫أحجام مختلفة للخطوط بطريقة تجعل القارئ الغربي يشعر وكأنه يقرأ مجلة عالمية‪ ،‬مستخدماً خلفي ًة‬ ‫لهذه العناوين منسجم ًة تماماً مع اللون الك ّلي لبطن الغالف‪.‬‬ ‫في الصفحات الداخلية يبدو التركيز على المشهد البصري أكبر من القسم التحريري‪ ،‬وتقدر نسبة‬ ‫الصور بثلثي محتويات المجلة‪ ،‬وأما القسم التحريري فيظهر على شكل أعمدة تفصل بينها صور أو قد‬ ‫تكون الصورة هي خلفية للنص‪ .‬كما لوحظ استخدام صور كبيرة على مساحة صفحتين متصلتين كما في‬ ‫أساليب اإلخراج الحديثة‪ ،‬حيث أن الصورة تتكلم‪ .‬وبالنسبة للقارئ العربي يكفي أن ينقل بصره بين الصور‬ ‫حتى تصل إليه الكثير من المدلوالت الدينية أو حتى الحربية التي تهدف المجلة إيصالها للمتلقي‪ ،‬ويبدو‬ ‫واضحاً بأن هذا التنظيم ‘داعش’ قد أدرك منذ البداية أهمية امتالكه ألدوات اإلعالم كي يحارب بها‪ ،‬كما‬ ‫يحارب بقواته وعتاده على األرض‪.‬‬ ‫باقتباس ألبو مصعب الزرقاوي‪ ،‬القيادي السابق في تنظيم القاعدة في العراق‪ ،‬يقول‬ ‫تبدأ المجلة‬ ‫ٍ‬ ‫فيه “لقد أشعلت الشرارة هنا في العراق‪ ،‬وح ّرها سوف يتصاعد بإذن الله‪ ،‬حتى تحرق الجيوش الصليبية‬ ‫في دابق”‪ ،‬في إشارة إلى أن هدف هذا التنظيم ليس مرحلياً أو مرتبطاً باألحداث التي تجري في سوريا‪،‬‬ ‫بل نابع من عقيدة دينية وتاريخية تهدف إلى إعادة الدولة اإلسالمية إلى أمجادها السابقة في الفتوحات‬ ‫واالنتصار على الصليبيين ‘الكفرة’ بنظرهم‪ ،‬واالستمرار في التمدد‪ ،‬حيث استخدم التنظيم عبارة ‘داعش باقية‬ ‫وتتمدد’ في كثير مما نشره عبر مواقع التواصل االجتماعي وفي المواقع اإللكترونية‪.‬‬ ‫من مجموعة األخبار والصور التي تضمنتها المجلة‪ ،‬يبدو أنها موجهة للغرب أكثر من العرب‪ .‬فقد‬ ‫حاولت عرض المقوالت العامة التي يستند إليها تنظيم ‘داعش’‪ ،‬ومنها‪“ :‬أيها المسلمون في كل مكان‪،‬‬ ‫أبشروا خي ًرا‪ ،‬وارفعوا رؤوسكم عالية‪ ،‬بعون الله أصبح لكم دولة خالفة تعيد لكم الحقوق والكرامة والقيادة‪،‬‬ ‫إنها دولة حيث العرب وغير العرب‪ ،‬األبيض واألسود‪ ،‬الشرقي والغربي جميعاً أخوة‪ ،‬دولة تجمع القوقازي‬ ‫‪65‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‬

‫والهندي والصيني واإلفريقي واألميركي والفرنسي واأللماني واألسترالي‪ ،‬جمع الله قلوبهم معاً فأصبحوا إخوة‬ ‫بنعمته‪ ،‬يحبون بعضهم في الله ومن أجل الله‪ ،‬اختلطت دماؤهم وأصبحوا موحدين تحت راية واحدة‪،‬‬ ‫وليعلم العالم إننا نعيش اليوم في عصر جديد”‪.‬‬ ‫تبتعد المجلة في أسلوبها التحريري عن سرد التفاصيل في كتابة المواد الصحفية‪ ،‬حيث ال نجد‬ ‫في المجلة األخبار التقليدية التي اعتاد اإلعالم المضاد لداعش التركيز عليه من انتهاكات‪ ،‬ومقابر جماعية‪،‬‬ ‫وفرض للشريعة اإلسالمية من طريق القوة‪ ،‬وعمليات الذبح والجلد‪ ،‬ولم تسلط الضوء على األشخاص الذين‬ ‫يعيشون في المناطق التي يسطير عليها التنظيم‪ ،‬بل اكتفت باستعراض مجموعة من الصور تظهر الهدوء‬ ‫في المدينة التي يسيطر عليها التنظيم‪ .‬وفي المقابل تتحدث عن معاناة ‘رعيتها’ في المناطق التي تتعرض‬ ‫للقصف المستمر من قبل النظام السوري وبخاصة في مدينة دير الزور‪ .‬والمثير للسخرية أن دير الزور‬ ‫وحسب وسائل إعالم كثيرة‪ ،‬ونشطاء معنيين بحقوق اإلنسان‪ ،‬كانت المدينة األكثر معاناة من انتهاكات‬ ‫وتنكيل هذا التنظيم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مقاالت وأخباراً وتقارير مصورة تهدف إلى التركيز على مفاهيم التوحيد‪ ،‬والمنهج‪،‬‬ ‫تتضمن المجلة‬ ‫والهجرة‪ ،‬والجهاد والجماعة‪ ،‬حيث تقسم المجلة إلى سبعة فصول؛ حمل الفصل األول تعريفاً عن مجلة‬ ‫دابق وأهدافها وخلفياتها وسبب التسمية‪ ،‬إذ يكتب المحررون الدواعش أن االسم مستوحى من اسم منطقة‬ ‫ٍ‬ ‫حديث نبوي‪ ،‬وجرت فيها معركة ‘مرج دابق’ الشهيرة بين المماليك‬ ‫‘دابق’ شمالي حلب‪ ،‬والتي ذكرت في‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫سابقة ليوم القيامة‪ ،‬ففيها سيلتقي‬ ‫عالمة‬ ‫والعثمانيين‪ .‬وفي الرواية الدينية اإلسالمية‪ ،‬فهذه المنطقة‬ ‫المسلمون والصليبيون في معرك ٍة ينتصر فيها المسلمون‪ .‬استخدم المحررون في التعريف بالمجلة لفظ‬ ‫‘ملحمة’ أو ‘هرمجدون’‪ ،‬وهو مصطلح يع ّبر عن عقيد ٍة يهوديةٍ‪ ،‬ويقال بأنها يهودية‪-‬مسيحية مشتركة “تؤمن‬ ‫صدام بين قوى الخير والشر‪ ،‬وسوف تقوم تلك المعركة في أرض فلسطين في‬ ‫بمجيء يو ٍم يحدث فيه‬ ‫ٌ‬ ‫منطقة مجدو‪ ،‬أو وادي مجدو‪ ،‬متكون ًة من مئتي مليون جندي يأتون لوادي مجدو لخوض حرب نهائية”‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نبوي ألبي هريرة‪ ،‬ووفقاً للحديث‪ ،‬فإن منطقة دابق ستلعب دوراً تاريخياً في‬ ‫كما يستشهدون‬ ‫بحديث ٍّ‬ ‫المالحم التي تسبق فتح القسطنطينية‪ ،‬بعد انتصار المسلمين ورفع راية الخالفة في األرض‪.‬‬ ‫في الفصول الالحقة تستمر المجلة في اللعب على الوتر الديني الستقطاب مزي ٍد من الناس من‬ ‫طريق إيهامهم بعودة أمجاد الدولة اإلسالمية‪ ،‬ورفع راية اإلسالم في بقاع جغرافية متنوعة‪ ،‬حيث تع ّرف‬ ‫وتصف المجلة ‘داعش’ بأنه المخلص لهم من عذابات الدنيا‪ ،‬ومن قمع األنظمة الديكتاتورية الكافرة‪ ،‬ويقبل‬ ‫التوبة‪ ،‬ويحض على الهجرة والمبايعة التي تعتبر بمثابة صك غفران لذنوبهم‪.‬‬ ‫الدعوة للهجرة تظهر في شكل واضح من خالل مقالٍ في الصفحة ‪ 11‬من المجلة معنون بـ ‘دعوة‬ ‫للهجرة’‪ ،‬حيث يطلب من كل الناس الهجرة إلى العراق والشام ألن هذه األراضي ليست فقط للسوريين‬ ‫أو العراقيين‪ ،‬بل هي لجميع المسلمين‪ ،‬كما يوجه دعو ًة في شكل خاص إلى األطباء والمهندسين والطالب‬ ‫والخبراء باعتبار أنهم قدو ٌة لباقي الناس‪ ،‬كما أن لديهم واجباً دينياً بمساعدة باقي الناس على فهم عقيدتهم‬ ‫واصفاً إياهم بـ ‘المتعطشين لفهمها’‪ ،‬معتبراً أن “الهجرة ُ‬ ‫فرض َع ْينٍ على كل مسلم”‪.‬‬ ‫تعمل المجلة على تبييض صفحة داعش من خالل تركيزها على القهر والظلم الذي تتعرض له شعوب‬ ‫المنطقة‪ ،‬في محاول ٍة منها إلكساب داعش مزيداً من األطراف إلى جانبه باعتبار أنه يتبنى قضي ًة عالمي ًة‬ ‫‪66‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‬

‫تهدف إلى تحرير شعوب‬ ‫العالم من االستبداد والظلم‪.‬‬ ‫يبدو أن تنظم‬ ‫داعش استطاع ‪-‬من خالل‬ ‫اإلعالم في شكل عام‬ ‫ومجلته الجديدة في شكل‬ ‫خاص‪ -‬أن يمتلك وسائل‬ ‫وأدوات عجزت التنظيمات‬ ‫‘الميليشيوية’ أو الدينية‬ ‫المناهضة ألنظمة الحكم‬ ‫استخدامها‪ ،‬ولعل تنظيم‬ ‫دعوة للهجرة إىل دولة الخالفة‬ ‫‘جبهة النصرة’ في سوريا‬ ‫أكبر مثال على ذلك‪ .‬فرغم اإلمكانيات المادية التي يحظى بها‪ ،‬إال أنه ومع مرور ‪ 3‬سنوات من تواجده‬ ‫في شكل علني على األراضي السورية لم يستطع أن يقدم إعالماً يتصف بالحرفية والمؤسساتية‪ .‬بل كان‬ ‫يكتفي بنشر بيانات متفرقة ومقاطع فيديو تكاد تكون في معظمها مس ّربة وال تحاكي بشكلها أو مضمونها‬ ‫الرأي العالمي‪ ،‬وهي خالية من التقارير الصحفية والميدانية باستثناء بعض التقارير الفردية من قبل نشطاء‬ ‫إعالميين في المناطق التي يسطير عليها التنظيم‪ ،‬والتي غالباً ما تُشْ َت َرى من قبل محطات عالمية أو محلية‪،‬‬ ‫أي أنها ليست ناطقة رسمياً باسم التنظيم‪ .‬كما لم يستخدم فيها كاميرات الـ ‪ HD‬إذا كنا نتحدث عن‬ ‫التقارير المصورة‪ ،‬أو اإلخراج اإللكتروني المبهر إذا كنا نتحدث عن المخرجات الصحفية اإللكترونية أو حتى‬ ‫الورقية والتي ال زالت نادرة جداً‪ .‬وينسحب ذلك على باقي التنظيمات المسلحة في سوريا‪ ،‬وحتى على‬ ‫خشبي وال يحاكي التطور التكنلوجي الذي‬ ‫إعالم‬ ‫النظام الحاكم الذي يوصف إعالمه من قبل كثيرين بأنه ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫وصلت إليه المرحلة الراهنة‪.‬‬ ‫تنتقل المجلة في القسم التالي إلى مناقشة خبر إعالن الخالفة اإلسالمية في األول من رمضان‪ ،‬مشير ًة‬ ‫إلى فرح المؤمنين الذين مألوا الشوارع احتفاالت بقيامها‪ .‬ثم مقتبسات من خطبة الخليفة أبو بكر البغدادي‬ ‫الذي يتبع اسمه دائماً بجملة ‘نصره الله’‪ ،‬وتكاد ال تخلو صفحة من المجلة من أحد اقتباسات البغدادي‬ ‫بوصفه أميراً للمؤمنين وقدوتهم الحسنة‪ .‬ورغم تنوع المواد التي تنشرها المجلة بين األخبار والتقارير‪ ،‬إال‬ ‫أن الدعوة للهجرة والجهاد كان لها الحصة األكبر‪ ،‬مستخدم ًة الكثير من المفردات التعبوية التي تحاكي‬ ‫المشاعر والعقل معاً‪ ،‬لتوضح من خالل اقتباسات لخطبة الخلفية بأن العالم انقسم إلى معسكرين؛ األول‬ ‫مخيم المسلمين أو المؤمنين‪ ،‬والثاني مخيم المنافقين أو غير المؤمنين الذي يتضمن “اليهود والصليبيين‬ ‫وحلفاءهم‪ ،‬ومعهم بقية األمم واألديان الكافرة”‪ .‬وبهذا يخرج التنظيم من المنظور الضيق للصراع القائم في‬ ‫تاريخي بين اإلسالم وغير‬ ‫سوريا والعراق حالياً‪ ،‬والذي يبدو أنه صر ٌاع سني شيعي‪ ،‬ليظهره على أنه صر ٌاع‬ ‫ٌّ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وهدفه ليس محلياً كما يسوق له من قبل ‘الال داعشيين’‪ ،‬وال يقتصر على العراق وسوريا فقط‪ ،‬بل‬ ‫يهدف إلى بسط سيطرة اإلسالم على كل أنحاء العالم‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‬

‫ومن األخبار التي‬ ‫نشرتها المجلة في الفصول‬ ‫التالية “عقد اجتماع موسع‬ ‫بين زعماء ووجهاء القبائل‬ ‫في والية حلب وبين ممثل‬ ‫الدولة االسالمية‪ ،‬تحدثوا‬ ‫خالله عن جمع الزكاة‪،‬‬ ‫وأعدوا قوائم بأسماء األيتام‬ ‫واألرامل والمحتاجين للزكاة‬ ‫والصدقات‪ ،‬وكيفية تشجيع‬ ‫الشباب لالنضمام للدولة‬ ‫اإلسالمية”‪ ،‬وبهذا يظهر‬ ‫اجتامع مع العشائر العربية‬ ‫التنظيم براع ًة في إيصال‬ ‫ٍ‬ ‫بخطوات مدروس ٍة ومتقنة الستقطاب الفئات‬ ‫رسالته للجميع بأنه لم يعد تنظيماً مشتتاً وفوضوياً‪ ،‬بل يقوم‬ ‫المستضعفة من جهة‪ ،‬وإبراز توسعه عسكرياً في المنطقة من خالل تحريره لمنطقة الخبر والبوكمال التي‬ ‫يطلق عليها اسم ‘والية’‪ ،‬مع التركيز على الضحايا المدنيين الذين يستهدفهم الطيران العراقي والسوري في‬ ‫قصفه على مواقع ‘داعش’‪.‬‬ ‫ولم يتردد المحررون في وضع صور المجاهدين ‘الشهداء’ الذي سقطوا في سبيل نشر دعوة الله‬ ‫ونصرة المظلوم في األرض في شكل متوازن‪ ،‬مع نشر صور وصفهم بأنهم قتلى من جنود األعداء‪ ،‬والذي‬ ‫يقصد بهم جنود النظام‪ ،‬مبتعدين عن نشر صور الرؤوس المقطوعة أو الجثث الممزقة أو مشاهد الذبح‪.‬‬ ‫وبهذا يثبت التنظيم مر ًة أخرى من خالل ‘دابق’ أنه يسعى لتقديم إعالم احترافي‪ ،‬فهو ال ينشر الصور‬ ‫الملتقطة بكاميرات موبايل أو كاميرات هواة‪ ،‬بل بكاميرات احترافية ‪-‬كاميرات المؤسسة‪ -‬ليقول للعالم أنه‬ ‫يقدم إعالم ‘دولة’ وليس إعالم ‘تنظيم’‪.‬‬ ‫تنشر المجلة أيضا أخبار التنظيم في سوريا‪ ،‬وأخبار معارك التنظيم‪ ،‬وتعدد انتصارات ‘الدولة اإلسالمية’‬ ‫منذ دخولها العراق‪ ،‬وفي مقدمتها تحرير عدة محافظات‪ ،‬أو واليات بحسب ما يسميها التنظيم‪ ،‬من قوات‬ ‫الجيش العراقي‪ ،‬الذي أطلقت عليه صفة ‘الصفوي’‪ ،‬كـ “والية األنبار‪ ،‬وديالى‪ ،‬وكركوك‪ ،‬وصالح الدين”‪.‬‬ ‫وحول مخالفيها من رجال الصحوة والجيش والشرطة الذين يسميهم التنظيم بـ ‘المرتدين’ تنشر‬ ‫المجلة عن توبة آالف المرتدين خالل تحرير مدن العراق على التوالي‪ ،‬ويبين أن عمليات التحرير هذه قد‬ ‫ساعدت الكثير من المرتدين على التوبة والخالص من حكم الجيش ‘الصفوي’ الذي ف َّر من المعركة مخلفاً‬ ‫األسلحة والذخائر التي جهزته بها الدول ‘الصليبية’‪ ،‬مشير ًة إلى أن أعداداً كبير ًة من مقاتلي الصحوات في‬ ‫الواليات المحررة أعلنوا توبتهم‪.‬‬ ‫إن قدرة تنظيم داعش على تسخير التكنولوجيا اإلعالمية لصالحه‪ ،‬وإيجاد كوادر إعالمية للعمل على‬ ‫ٍ‬ ‫تساؤالت عديدة‬ ‫مستوى عالٍ من الحرفية‪ ،‬وما يتطلبه ذلك بدوره من الكثير من األموال‪ ،‬يطرح خلفه‬ ‫‪68‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها‬

‫عن مصادر تمويله‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق ذكرت‬ ‫صحيفة ‘فايننشال تايمز’‬ ‫بأن التنظيم “يعتمد في‬ ‫تمويل نفسه على نشاطاته‬ ‫اإلرهابية”‪ ،‬مشبه ًة إياه بـ‬ ‫“شرك ٍة وجمعي ٍة خيرية‬ ‫وحكوم ٍة في نفس الوقت‪،‬‬ ‫واستطاع تمويل نشاطاته‬ ‫عبر شبكة في الداخل‬ ‫والخارج وتعود لسنوات”‪.‬‬ ‫وزعمت الصحيفة أن ما‬ ‫أسمته “نجاح التنظيم‪ ،‬والسرعة الفائقة التي سيطر فيها على شمال العراق في األيام األخيرة ووضع البالد‬ ‫على حافة الحرب األهلية‪ ،‬جاء نتيجة لنشاطات تجارية واسعة‪ ،‬ومربحة في الوقت نفسه‪ ،‬وتم بناؤها عبر‬ ‫السنين”‪ .‬وقالت الصحيفة إن “سيطرة المسلحين على مدينة الموصل واألموال التي حصلوا عليها من البنك‬ ‫المركزي في المدينة‪ ،‬وتقدر بحوالي ‪ 225‬مليون دوالر أمريكي‪ ،‬استفاد ‘داعش’ منها‪ ،‬وشكلت لديه ثرو ًة‬ ‫ال تنافسه فيها أي جماعة أخرى”‪ .‬وفي المنطقة المحيطة بالرقة يقوم ‘داعش’ باستخراج ‪ 30.000‬برميل‬ ‫نفط يومياً‪ ،‬حسب تقارير استخباراتية غير دقيقة‪ ،‬وهذه الكمية قليلة مقارنة مع ‪ 300.000‬برميل كانت‬ ‫تستخرجها حكومة النظام السوري‪“ ،‬ومع ذلك توفر للتنظيم مصدراً للدخل ال بأس به”‪.‬‬ ‫وأضافت الصحيفة أنه “يتم بيع النفط من خالل وسطاء‪ ،‬وينقل بعد ذلك لتركيا‪ ،‬ويتم تهريب كميات‬ ‫كبيرة منها للعراق”‪ .‬وعثر المسؤولون األتراك على أنابيب نفط بدائية مطمورة تحت األرض لتهريب النفط‬ ‫عبر الحدود‪ .‬وأوضحت الصحيفة أن تنظيم ‘داعش’ يبيع النفط للنظام السوري‪ ،‬وذلك حسب عدد من‬ ‫التقارير المستقلة؛ فالنظام يبقي على الكهرباء في المناطق التي يسيطر عليها ‘داعش’ مقابل حصوله على‬ ‫براميل للنفط‪.‬‬ ‫اآلن وبعد صدور العدد األول من مجلة دابق‪ ،‬لم يعد تنظيم داعش تنظيماً افتراضياً‪ ،‬بل أصبح‬ ‫ماد ًة إعالمي ًة منتشر ًة عبر البريد اإللكتروني‪ ،‬وعلى صفحات مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬وقريباً ستصبح على‬ ‫رفوف المكتبات وربما في البيوت‪ ،‬إلى جانب العديد من الصحف‪ ،‬كمصدر لقراء األخبار والحصول على‬ ‫المعلومات‪ .‬تتوفر اآلن المجلة بنسخة‪ PDF‬بحجم ‪ 70‬ميجابايت‪ ،‬على عدد من المواقع االلكترونية التي‬ ‫وضعت رابطاً لتحميل المجلة(((‪ ،‬كما يمكن لألشخاص في المناطق التي يسيطر عليها داعش الحصول على‬ ‫النسخة الورقية منها‪ ،‬والتي ستطبع بعدة لغات منها اإلنكليزية والعربية‪.‬‬ ‫نعم إنه تنظيم ‘داعش’ الذي أربك العالم‪ ،‬وابتلع نصف المنطقة‪ ،‬ينطلق باتجاه ‘المأسسة’ ليصدر‬ ‫أول مجلة ناطقة باسمه وبعدة لغات‪ ،‬لتنحو ليس فقط نحو الداخل‪ ،‬بل لتأخذ مكانتها إلى جانب الصحافة‬ ‫العالمية‪.‬‬ ‫‪http://ia902500.us.archive.org/24/items/dbq01_desktop_en/dbq01_desktop_en.pdf 1‬‬

‫‪69‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘تعالوا جميعًا إىل العرض’‬ ‫تصوير‪ :‬أمان اهلل ميساوي❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫تم التقاط الصورة بتاريخ ‪ .2013-02-14‬األمل ليس تنظريا ً بل مامرسة‪.‬‬

‫❊ أمان الله ميساوي‪ :‬حاصل عىل شهادة املاجستري يف التسويق من املدرسة العليا للتجارة بتونس‪ .‬أسس رشكة إنتاج سمعي برصي‬ ‫يف تونس عام ‪ ،2014‬وله عدد من املشاركات يف معارض فنية‪.‬‬ ‫‪70‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬ ‫رواية رسمدة‬ ‫قلق يف العقيدة‬


‫مراجعات كتب‬

‫نور شلغين❊‬

‫سرمدة ‪ -‬عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف‪:‬‬

‫عبادةٌ يف حمراب املكان‬

‫مراجعة لرواية ‘سرمدة’‪ ،‬تأليف فادي ع ّزام‬ ‫‪ 221‬صفحة‪ ،‬قطع متوسط‪ ،‬نشر ‘الدار العربية للعلوم ناشرون’‪ ،‬بريوت‪.2011 ،‬‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تحاول هذه املراجعة تسليط الضوء عىل رواية سورية‪ ،‬ظُلمت بعض اليشء من حيث‬ ‫االنتشار‪ ،‬والجدل السلبي الذي متخّض عن إساءة فهم بعض عنارصها لدى الكثريين‪.‬‬ ‫ويخترص الكاتب يف سطوره دوافعه وشغفه وانتامئه لـ رسمدة‪ ،‬والتي تجلّت مالمحها بني‬ ‫دفتي هذا الكتاب‪ ،‬متناوالً بأسلوب متم ّيز املنطقة الجنوبية من سوريا (سهل حوران)‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫منتقداً ومحلالً وعارضاً أدق تفاصيل هذا املكان‪ ،‬الذي كان مهداً للثورة السورية الكربى‬ ‫ضد االستعامر الفرنيس عام ‪ .1925‬املكان هو بطل الرواية إىل جانب الكثري من الشخصيات‬ ‫التي ك ّونت مالمحه‪ ،‬وحملته إىل القارئ بجرأة متف ّردة‪ ،‬ومفزعة بالنسبة إىل آخرين ممن‬ ‫تركوا تعليقاتهم املمتعضة من الرواية والراوي‪ ،‬عرب موقع ‪ .Good reads‬وعىل أي حال‬ ‫تصعب مقاربة الرواية يف شكل مبارش مع أحداث سوريا الحالية‪ ،‬وإن م ّهدت مالمحها إىل‬ ‫ُ‬ ‫األسباب العميقة لحاجة السوريني إىل التحرر من أصفاد كبلتهم عرب السنني‪ ،‬وتبقى محاولة‬ ‫مناسبة للتنبؤ بالتح ّول السوري الكبري الذي بدأ ُبعيد إصدار الرواية بقليل عام ‪.2011‬‬ ‫ويعود فادي يردّد األمل رغم الخراب يف شبه سريته الذاتية‪“ :‬الكلامت تجعل منا أحراراً‪،‬‬ ‫فكلام تخرب مكان أو زمان يلجأ املعذبون إىل الكلامت‪ ،‬متنحهم العزاء واألمل”‪.‬‬ ‫❊ خريجة كلية اإلعالم في جامعة دمشق‪ ،‬ومهتمة بالشؤون الثقافية والفكرية‪ .‬تد ّربت وعملت في عدد من الصحف والمواقع اإللكترونية‬ ‫السورية والعربية‪ .‬وتعمل كمحررة وصحفية في الفريق الصحفي لمجلة دلتا نون‪ ،‬إضافة لعملها كمحررة في موقع ‘االقتصادي’ اإللكتروني‪.‬‬

‫‪72‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫سرمدة ‪ -‬عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف‬

‫“يا أبي افتح لي الباب‬ ‫يا ابنتي أسكتي صوت أساورك‬ ‫يا أبي أخشى وحش الغابة‬ ‫(((‬ ‫يا ابنتي وأنا أخشاه‪”..‬‬ ‫بهذه التهويدة األمازيغية المترجمة‪ ،‬تبدأ قصة هيال منصور في منتصف سرد مشهد سرمدة الطويل‪،‬‬ ‫وأسبوع آالم رافي عزمي‪ ،‬لسان الكاتب الشاب فادي عزام‪ ،‬الذي آثر أن يكون كتابه األول ملغوماً‪ ،‬يحمل‬ ‫غالفه لقطة هادئة ساكنة‪ ،‬لن تقول الكثير ع ّما تخبئه وراء أحجار جبل حوران السوداء‪ ،‬ولن تبوح بالكثير‬ ‫عن الدغل الذي سيقود فادي إليه ُق ّرا َءه بهدوء‪ ،‬وبصبر‪ ،‬ب َن َف ٍس روائي طويل‪ ،‬والكثير من األحداث واألشخاص‬ ‫الذين سيسردون حميمية المكان بأكثر األدوات جدالً‪.‬‬ ‫هي ليست دعوة إلى قراءة رواية‪ ،‬فلن تجد هنا مجرد مكان يسرد نفسه عن طريق شخوصه فحسب‪.‬‬ ‫إنها دعوة إلى البكاء والحزن بأقصى إنسانيتك‪ .‬فرافي عزمي الذي تغ ّير مسار حياته لبرهة عندما تن ّبه إلى‬ ‫ٌ‬ ‫جذوره الغارقة في القدم والحميمية‪ ،‬يكتشف عبر صفحات ‘سرمدة’ الـ ‪ ،221‬أن الزمان مكانٌ‬ ‫سائل‪ ،‬يجرفنا‬ ‫ت ّياره بغتة إلى ما لم نكن نتوقع حدوثه يوماً‪.‬‬ ‫عزة توفيق‪ ..‬أول عتبات املتاهة‪..‬‬ ‫“لم تكن سرمدة بالنسبة لي سوى مكان أجوف مررت به‪ .‬عشت فيه مرارة أيامي‪ ،‬دمغني باأللم‬ ‫والخوف والخفوت‪ .‬احتجت لسنوات ألخرج منه وأخرجه مني”‪ .‬لن أعيد هنا سرد الحالة الذهنية المختزنة‬ ‫لدى رافي عزمي عن سرمدة‪ ،‬قبل أن يبدأ باالعتراف بشرعية وج َهي قصته األولى‪ :‬عزة توفيق وهيال منصور‪.‬‬ ‫‪ 1‬تهويدة مغربية من الرتاث األمازيغي‪ ،‬اسمها‪ :‬أفافا إينوفا‬

‫‪73‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫سرمدة ‪ -‬عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف‬

‫فقد كثّف الكاتب كل مايو ّد قوله في العبارة السابقة في شكل مختصر‪ ،‬األمر الذي برع به فادي طيلة‬ ‫أجزاء القصة‪ ،‬من خالل توزيع المعاني بدقة على األحداث‪ ،‬وبكثافة متناسقة على طول جسد الرواية‪،‬‬ ‫مستخدماً خياله الواسع‪ ،‬والواقع الغني بالحميمية لبيئة جبل حوران‪ ،‬داخ ًال إلى نوع من الواقعية السحرية‬ ‫في بعض أجزائها‪.‬‬ ‫لطالما كانت فكرة التقمص أغنى أفكار هذه البقعة القريبة‪/‬البعيدة من سوريا‪ ،‬أغناها مخ ّيل ًة‪ ،‬وأحياناً‬ ‫واقعي ًة‪ ،‬ودائماً األكثر جدالً‪ .‬فعزة توفيق‪ ،‬دكتورة الفيزياء التي تدخل بغت ًة إلى حياة رافي عزمي‪ ،‬ستقوده‬ ‫إلى حكاية لن تتناسق مع شخصية امرأة بتخصص علمي عالٍ ‪ ،‬تقيم في باريس‪ ،‬المدينة التي ستبدو بالطبع‬ ‫بارد ًة بالنسبة للحرارة التي تضج بها جنبات سرمدة حميمي ًة‪ .‬بهذا الغموض والوضوح المثيرين للجدل‪ ،‬يروي‬ ‫فادي فكرة التقمص التي يعتقد بها ّ‬ ‫الـمش ّكلة لمعظم سكان البقعة السورية‬ ‫جل أبناء الطائفة الدرزية ُ‬ ‫المسماة ‘جبل العرب’‪ ،‬باالشتراك مع نسبة البأس بها من المسيحيين والمسلمين‪ .‬وال ينسى أن يشير إلى‬ ‫والجلي بين كل هذه االنتماءات المتن ّوعة‪ ،‬يقول‪“ :‬كانت سرمدة تتعايش ببساطة‪ ...‬ما لم‬ ‫التجانس الف ّذ‬ ‫ّ‬ ‫يستطع العقل الطائفي اللبناني فهمه‪ :‬كيف لبلدة درزية أن يكون مختارها مسيحي! وكيف لمسيحيي‬ ‫سرمدة أن يتبرعوا لبناء م ِْجل ِْس‪ ،‬مكان العبادة الخاص بطائفة الدروز‪ ،‬في البلدة!”‪.‬‬ ‫يختار فادي الجزء األكثر جدالً في حياة الدروز‪ ،‬الجزء الذي سيوفر له على مدى الجزء األول من‬ ‫روايته أكبر مح ّرك لألحداث‪ ،‬وجاذب للقارئ الذي لن يجد مف ّراً من الوقوع في براثن هذه األداة التي‬ ‫تمسك بطرفي الحياة والموت بطريقة ساحرة‪ ،‬تحمل الكثير من مالمح األسطورة‪ ،‬وبعض مالمح الواقعية‬ ‫يتوجه فادي في طرحه المثير هذا؟ ألنفسه التائهة في رفض سابق‬ ‫المؤكدة‪ .‬تحتار أثناء قراءتك‪ .‬لمن ّ‬ ‫لمكان دمغه باأللم والخفوت؟ أم إلى القارئ السوري الذي قد يجد هذا الطرح عادياً أحياناً؟ أو أكثر من‬ ‫عادي بقليل كثيراً؟ لكن المؤكد أنه سيبدو لقارئ خارج السياق المناطقي ألبناء الطائفة ومن يحيط بهم‪،‬‬ ‫أكثر بكثير من عادي‪ ،‬بل سيبدو نوعاً من الملحمة‪ ،‬فأي معجزة ستجعل شخصاً يتذكر أدق تفاصيل شخص‬ ‫كان هو في حياة سابقة‪ ،‬شخص ال يعرفه ربما‪ ،‬وال يوازيه قطعاً في الزمن؟‬ ‫ينتقل رافي إلى جسد هيال‪ ،‬يعبره ويسرد دون إطالة بلسانه قص ًة تحمل الكثير من التمرد في طياتها‪،‬‬ ‫الكثير من الحرية والجموح‪ ،‬إلى جانب القلق وعدم التأكد‪ ،‬والكثير من الصدق والطهر اللذين كثيراً ما‬ ‫يكون عقابهما جلي ًال‪ ،‬كما حصل عند مقتلها‪ُ .‬‬ ‫قتل هيال‪ ،‬فكرة توازي التقمص في استيعاب منطقها المزدوج‬ ‫لدى من َع َب َر السياق الدرزي بحذر أو فضول‪ .‬القتل‪ ،‬لم يكن مجرد حدث درامي في سياق رواية‪ ،‬بل‬ ‫فلسفة قائمة بحد ذاتها في عواقب امتالك جذور طيبة‪ ،‬ونوايا حسنة‪ ،‬وقلب طاهر وإن كان متمرداً‪ .‬عندما‬ ‫تغريك الحرية‪ ،‬عندما تعتقد خاطئاً باألحرى أنك تليق بالحرية‪ ،‬فتنظر إلى الخلف‪ ،‬ترى ّأي ثمن عظيم‬ ‫عليك أن تدفع‪ ،‬وترى التضحيات الحتمية التي لم تكن في حسبانك‪ ،‬ولن تستطيع الهروب منها أبداً‪ ،‬فتقف‬ ‫عاجزاً عن السيطرة على أفكار رأسك ونداءات قلبك‪ ،‬مخ ّلفاً وراءك الكثير من التشكك والحزن‪ ،‬الكثير من‬ ‫الالمفهوم والالمحتمل‪.‬‬ ‫تبدأ القصة من عتبات سرمدة‪ ،‬التي تتحول ِبسِ ماتها الكثيرة‪ ،‬إلى قرية من قرى جبل العرب كل‬ ‫حين‪ ،‬دون أن تكون بشكل حاسم إحداها‪ ،‬وقد تتق ّمص أحياناً روح ماكوندو‪ ،‬قرية ماركيز في ‘مئة عام من‬ ‫العزلة’‪ .‬يق ّدم فادي صورة بانورامية للواقع الدرزي‪ ،‬الذي تأقلم بتفرده مع السياق السوري في السنوات‬ ‫‪74‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫سرمدة ‪ -‬عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف‬

‫ُ‬ ‫السياق بعيو ِبه‪ ،‬ومنطقِه غير المفهوم‪ ،‬ولكثي ٍر من أبنائه أيضاً‪ُ .‬يق ّدم الكاتب‬ ‫األخيرة‪ ،‬أو ربما َق ِب َل ُه هذا‬ ‫أرشف ًة مختصرة‪ ،‬كمحاولة إلزالة االلتباس والغموض الذين يحيطان هذه الطائفة بهال ٍة تُثي ُر َن َه َم الكثيرين‬ ‫إلى التشكك بنواياها وإيمانها‪ .‬لكن محاوالت فادي تبقى بائسة‪ ،‬بمنطقيتها التي ال تُطبق في أغلب األحيان‬ ‫على سياق الحياة‪ ،‬ويقف عالقاً عند أبواب ‘كتب الحكمة’ (كتب العقيدة الدرزية)‪ ،‬التي تغلق أبوابها في‬ ‫وجه محاوالت األرشفة‪ ،‬خادم ًة بذلك سياق الرواية‪ ،‬بتوفير المزيد من الغموض لبعض شخصياتها دون‬ ‫أسباب واضحة‪ ،‬سوى نية عدم صهر هذه الفئة في بوتقة أوسع‪ ،‬تف ّوت عليهم فرصة التم ُّيز عن باقي أبناء‬ ‫عرقهم ونوعهم‪.‬‬ ‫فريدة‪ :‬وجه املعايري اآلخر‬ ‫“لم تكن تريد أن تكون امرأة رخيصة يجتاحها مراهق متخم بالهرمونات‪ ،‬ولكنها وجدت أن شيئاً‬ ‫غامضاً يدفعها باتجاهه‪ ،‬فهؤالء المع ّفرون ببقايا الطفولة والمستعدون لالنتقال لطور آخر يقعون في الهوة‬ ‫السحيقة من الفوضى واالشتياق‪ .‬ال أحد يريد فهمها‪ ،‬والجميع يكيل لها الشتائم والوصايا”‪ .‬فريدة هي الوجه‬ ‫اآلخر‪ ،‬الحقيقي تماماً كوجه هيال‪ ،‬لسرمدة‪ .‬ح ّمل فادي شخصيته الفريدة كثيراً من الصفات المتناقضة‪،‬‬ ‫وتد ّرج معها في سياق تطورها حرفاً حرفاً‪ ،‬حجراً حجراً‪ ،‬وحدثاً حدثاً‪ .‬من أرملة عادية مظلومة تتح ّول إلى‬ ‫معجزة‪ ،‬أو ساحرة‪ .‬الفأل النحس‪ ،‬ودعوة البكاء المفرحة إلى سرمدة التي التزال تئن تحت وطأة شعور‬ ‫الذنب الذي يراودها تجاه وصمة الذاكرة؛ هيال‪.‬‬ ‫كأن فادي أراد من فريدة أن تكون وسيلة الذهاب إلى الح ّد األقصى في كل شيء‪ .‬هنا تمتزج‬ ‫السعادة العاجلة والنشوة الموقتة بالحزن والبكاء الهستيري‪ ،‬أدوات للخروج من الظالم إلى النور‪ ،‬وهل‬ ‫مرتع لمراهقي القرية‪،‬‬ ‫نتحرر من أوجاعنا إال بالبكاء‪ ،‬والتخفف من ذنوبها؟ فريدة األرملة‪ ،‬تح ّول حوشها إلى ٍ‬ ‫تقمص‬ ‫لتصبح وجهاً نعرفه‪ ،‬صادفناه من قبل‪ ،‬بجسدها الفاتن‪ ،‬وروحها الخفيفة‪ ،‬بقوانينها الفريدة‪ .‬هل هي‬ ‫ٌ‬ ‫جديد لألرملة الغاوية في ‘زوربا’؟ لن يقف فادي كثيراً على أعتاب هذه التشابيه غير المؤكدة‪ ،‬فعلى عكس‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫نيكوس كازانتزاكيس الذي آثر إبقاء باب أرملته مواربا‪ ،‬يخلع فادي كل األبواب والشبابيك على أرملته بال‬ ‫اهتمام‪ ،‬يفضل الوضوح‪ ،‬وعدم المواربة‪ ،‬في كل تفاصيل حياتها‪ ،‬يح ّمل أس ّرتها وغرف حوشها الصغير الكثير‬ ‫من مشاهد الجنس العنيفة‪ ،‬مخترقاً أقصى حدود الجرأة في العرض‪ ،‬دون الوقوع –غالباً‪ -‬في فخ اإلسفاف!‬ ‫وكأنه يقطع عهداً على نفسه باختراق كل التابوات المحرمة‪ ،‬فرائحة الدين التي التزال تعبق في أجواء‬ ‫يسجل الكثير من الفظاظة في تفاصيله‪،‬‬ ‫الرواية‪ ،‬وستبقى حتى النهاية‪ ،‬تتداخل مع خيوط الجنس الذي ّ‬ ‫محاوالً إلباس الذنب ثوب الفضيلة‪ ،‬أو العكس!‬ ‫وال تنقطع الرموز عن الظهور في جوانب ‘سرمدة’ مسجل ًة أكبر تج ّلياتها في أثداء أم سلمان المنتفخة‬ ‫الممتلئة بالكثير من الحزن والغضب والحقد المكبوت‪ ،‬والتنجو منها إال بألم أكبر من حملهما الثقيل‪،‬‬ ‫ليصبح اعترافها المك ّلل بأقصى حاالت األلم دوا ًء لكل عقد سرمدة‪ ،‬إلى حين! كأنها دعوة صريحة إلى‬ ‫التط ّهر من كل غضبنا‪ ،‬أحزاننا‪ ،‬أحقدانا‪ ،‬وصقل أرواحنا باأللم‪ ،‬كأداة وحيدة للتخفف من كل العقد التي‬ ‫تغشي العيون عن نور الحياة‪.‬‬ ‫لن تستطيع الذهاب بعيداً‪ ،‬فالنص الذي يتح ّول إلى أسد جائع ينقض على رأسك‪ ،‬لن يرحمك من‬ ‫‪75‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫سرمدة ‪ -‬عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف‬

‫انقضاضه بكامل شراسته‪ ،‬بأحداثه المكثّفة في كل ناحية‪ ،‬والشخصيات المتناثرة على حوافها بالمزيد من‬ ‫اإلثارة‪ .‬يصل جنون الكاتب إلى مداه الجميل‪ ،‬فيقف الهثاً مسيطراً بلذة على شخصياته‪ ،‬يخاطبنا‪ ،‬أو يخاطب‬ ‫نفسه مع ّلقاً على حدث طبيعي يمر غريباً كجنون في مدينة الجنون هذه‪“ :‬معي العدة الالزمة لتغيير ما‬ ‫أريده‪ ،‬لإلضافة والحذف‪ ،‬للخلق واإلبادة”‪ ،‬كأنه يهدد بما لديه هنا من ُملكه على كل هذا الجمع الذي‬ ‫خلقه للتو على صفحات الرواية‪.‬‬ ‫بثينة‪ :‬شعرة اجلنون التي لن تنقطع‬ ‫يبدأ ٌ‬ ‫جديد من الحكاية‪ ،‬يختار له فادي عنوان ‘بثينة’‪ .‬لكن الحقيقة أن هذا الجزء ليس فيه‬ ‫فصل‬ ‫ٌ‬ ‫بطل محدد‪ ،‬أبطاله بثينة‪ ،‬فريدة بوجه جديد‪ ،‬حسين الغائب‪ ،‬سلوم العقيم وعائلته الخرافية‪ ،‬رحمة‪ ،‬صالحة‪،‬‬ ‫واألكثر تحريكاً للعواصف؛ بلخير ابن القرية‪ ،‬وصديقه فياض المنبوذ‪ ،‬واألستاذ زيدون الديكتاتور البعثي‪ .‬هنا‬ ‫تعود النساء إلى القيادة‪ ،‬إلى استالم زمام األمور عن الرجال الغائبين‪ ،‬والحاضرين الغائبين‪.‬‬ ‫وتعود السياسة إلى محاوالت اقتحام حياة هذا المسرح‪ّ .‬‬ ‫يطل رأس جمال عبد الناصر أيام المجاعة‪،‬‬ ‫بح ّل ٍة لم نعهدها‪ٌ ،‬‬ ‫لقطة واحد ٌة لوجه عبد الناصر الديكتاتور‪ ،‬يقول فادي‪“ :‬حين ُسئِل سلطان األطرش يوماً‬ ‫بغصة‪ ،‬وجملة واحدة‪ :‬سقى الله أيام فرنسا!)”‪،‬‬ ‫عن موقفه من الحكومة الوطنية بعد االستقالل‪ ،‬أجاب ّ‬ ‫ويضيف في مشهد زيارة عبد الناصر للجبل في ‪“ :1960‬جمال ح ّيى الجموع‪ ،‬وأخذ الرجال فع ًال‪ ،‬ولكن إلى‬ ‫السجون‪ ،‬واستطاع حكمه الفاسد أن يجعل من أبناء الثوار وعزلتهم وفقرهم أن يرسلوا البنات خادمات إلى‬ ‫بيروت‪ ،‬وجلب القحط والعسس‪ ،‬ولم ِ‬ ‫يأت الطحين أبداً إال تهريباً”‪.‬‬ ‫تقصد فادي أن يجرد قائد الثورة السورية الكبرى من لقب‬ ‫أقف هنا عند تفاصيل خفية وأسأل؛ هل ّ‬ ‫‘الباشا’ الذي مافتئ يلتصق باسمه في كل وقت؟ وجمال عبد الناصر حتى من أحقية اإلشارة إليه باسمه‬ ‫كم من الحيادية‪ ،‬أن يص ّور المشهد بعينٍ التم ّيز األلوان‪ ،‬تتم ّرد‬ ‫األخير؟ ربما كان يريد سرد األحداث بأكبر ٍّ‬ ‫على كل الخطوط الحمراء‪ ،‬ال تريد‪ ،‬وال تستطيع أن تراها‪ ،‬أو أن يؤرشف األحداث من منظار ق ّناص يص ّوب‬ ‫قلمه نحو الماضي‪ ،‬مهدداً الحقائق بكشف عر ّيها الكبير!‬ ‫برهة تمضي‪ ،‬ليحل بعدها حزب البعث بط ًال في الساحة التي تبدأ بفقدان مالمحها الدافئة بالتدريج‪.‬‬ ‫“زرعت السلطة ‪-‬التي بقيت خارجاً‪ -‬العيون والعسس‪ ،‬وأصبح أصحاب الخط الجميل يتبارون بتحبير‬ ‫التقارير بأي شاردة مارقة أو واردة عابرة‪ ،‬يحصونها ويبعثونها لفروع المخابرات المختلفة”‪ ،‬يقول فادي مع‬ ‫تخطي عتبة السبعينيات من القرن الماضي‪ ،‬حيث تبدأ المالمح بالتغ ُّير‪ ،‬فسرمدة المستقلة تضمحل تحت‬ ‫متسارع‬ ‫مد‬ ‫جناح السلطة‪ ،‬مستسلم ًة الجتياحها الهادئ‪ ،‬ويبدأ اليأس بسحب ألوان الجو الدافئ في جوانبها‪ٌّ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وتواجد هامشي للحزب الشيوعي‪ .‬تبدأ مالمح السلطة والشعب بالنضوج‪،‬‬ ‫نزق لحزب البعث االشتراكي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫هادئة من السياسة‪ ،‬تبتلعها بعد حين‪ ،‬بهدوء‪ .‬يبدو‬ ‫موجة‬ ‫واالقتراب من مالمحهما الحالية‪ ،‬وتجتاح سرمدة‬ ‫فادي غاضباً‬ ‫بصوت مكتوم‪ ،‬تبدأ لغته بالصمت التدريجي‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫يخف عبء األحداث الكثيفة عن كاهل األلفاظ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مساحات شاسع ًة مشبعة بإشارات االستفهام الكثيفة‪.‬‬ ‫منذر ًة بالنهاية‪ ،‬دون أن تصمت تماماً‪ ،‬تارك ًة‬ ‫تنتهي الرواية دون أن تنقطع كل خيوط حبكتها في شكل كامل‪ .‬ففياض المنبوذ يصبح بط ًال قومياً‬ ‫عندما يعود من الجنوب مح ّم ًال بتابوت في عملية تبادل أسرى ‘حزب الله’ مع االحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬وبلخير‬ ‫‪76‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫سرمدة ‪ -‬عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف‬

‫يعود بهيئة قرصان من دمشق يوم تأبين والدته فريدة‪ ،‬حام ًال معه تذكاراً سيظل وصم ًة في ذاكرة كل رجال‬ ‫القرية الذين م ّروا في حوشها يوماً‪ .‬كل تلك الخيوط المع ّلقة في الخلفية‪ ،‬تظل إشارات استفهام عالقة‬ ‫طوي ًال‪ ،‬كأنها تصلح لرواية أخرى‪ ،‬أو كجزء آخر لـ ‘سرمدة’‪ ،‬وتظل ن ّية الكاتب مب ّيت ًة لجذب كل حواس قارئه‪،‬‬ ‫وإبقاء الشخصيات وراء حجاب شفيف من الغموض حتى النهاية‪.‬‬ ‫سرمدة‪ :‬السردة التي ال تنتهي!‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أعدت‬ ‫أغلقت الكتاب على صمت الورق المطبق‪ ،‬وداخلي ضجيج يهت ّز له نبضي‪ .‬في هذا المكان‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورحت أجوس كل تلك‬ ‫أمسكت بيد رافي‪/‬فادي‪،‬‬ ‫اكتشاف تلك الحميمية التي تحيطني من كل صوب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫المالمح الدفينة في وجه كل من صادفته‪ ،‬ألجد فيه ملمحا أو مالمح من شخصيات الرواية الكثيرة‪ ،‬وأزمتنها‬ ‫الممت ّدة على طريقة األدب الالتيني‪.‬‬ ‫وتساءلت‪ ،‬ما أهمية ‘سرمدة’ اآلن؟ الرواية التي تسير في خطين زمني ّين مختلفين‪ ،‬يجمعهما مكانٌ‬ ‫ُ‬ ‫واحد‪ ،‬ويربط بينهما أشخاص‪ ،‬وتج ّليات آخرين‪َ .‬لم على تلك الرواية أن تش ّرح هذا الواقع السوري بامتياز‬ ‫طائفته اآلن بالتحديد‪ ،‬أن تعلن انتصار الرغبة‪ ،‬وتم ُّلك الخوف المستقر داخل النفس اإلنسانية‪ ،‬رغم كل‬ ‫التمسك باألصالة والجذور‪ ،‬إلى فهم هذا الماضي الحاضر‬ ‫تلك القدرة على التم ّرد؟! هل هي الحاجة إلى‬ ‫ّ‬ ‫بعمق‪ ،‬لنخرج من تلك القواقع التي ك ّنا نسكنها قبل بركان الحرب األخير؟ هل هو الت ْوق إلى إعادة تكوين‬ ‫الحالة الذهنية المتش ّكلة لدينا عن كل هذا الزمكان‪ ،‬الذي لر ّبما م ّر علينا يوماً‪ ،‬في أحد أطوار الروح؟! أو‬ ‫الرغبة في الولوج إلى كل التجارب اإلنسانية التي حملتها الرواية‪ ،‬مط ّوع ًة اللغة المرنة‪ ،‬واألحداث المشت ّعبة‪،‬‬ ‫والشخصيات المتف ّردة‪ ،‬والمدى الشاسع للمكان؟‬ ‫هي ثور ٌة على اإليقاع الرتيب الذي انتهجته الرواية السورية في العقود األخيرة‪ ،‬إذ بقيت في الظل‬ ‫مستتر ًة بنوع من الديبلوماسية في طرحها‪ ،‬فيما عدا بعض االستثناءات األخيرة‪ ،‬التي تج ّلت بمحاوالت ُيق ّر‬ ‫لها بالنجاح واالنتشار‪ .‬إال أنّ ‘سرمدة’ وغيرها من المحاوالت الدوؤبة إلعادة الرواية السورية إلى النور‬ ‫والصدارة ال تزال ضعيفة إلى ح ٍّد ما‪ .‬ويبدو أنّ ذلك يعود في أساسه إلى الحالة السياسية العامة التي‬ ‫تجعل أي كتاب يتناول الشأن العام عموماً‪ ،‬والسياسة خصوصاً‪ ،‬على خط النار في المواجهة مع السلطة‬ ‫أو التنظيمات األخرى في البالد‪ ،‬حيث س ُي ْم َن ُع نشر هذه الكتب في الجزء الذي تسيطر عليه من السوق‬ ‫ّ‬ ‫بمنأى عن القارئ السوري‪ ،‬ويظل كاتبها بعيداً عن السياق‬ ‫ستظل‬ ‫السورية‪ ،‬ما يؤدي إلى أنّ هذه األعمال‬ ‫ً‬ ‫وضع أجبر معظمهم على تجربة الغربة‪ .‬وفي حال تجاوزنا هذه النقطة مع‬ ‫الذي يكتب عنه‪ ،‬خصوصاً في ٍ‬ ‫فج مع السياسة‪،‬‬ ‫‘سرمدة’ كونها تجربة تنقيب في صناديق ذاكرة المكان والتاريخ‪ ،‬دون التناوش في شكلٍ ٍّ‬ ‫إال أنّ اتجاهات فادي الواضحة عبر وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬ومقاالته العديدة‪ ،‬تُعيده وتُعيد قارئه إلى‬ ‫خط المواجهة مع السلطات والتنظيمات‪ ،‬مثل العديد من ُ‬ ‫الكتاب السوريين الذين بدؤوا باالنسياق إلى نهر‬ ‫السياسة ونبش أعشاش الجهل والتخ ّلف‪ ،‬نقداً وتوصيفاً في كتاباتهم و ُكتبهم‪.‬‬

‫‪77‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫قلق يف العقيدة‬

‫ع ّمار ديّوب❊‬

‫وإشكالية العدمية‬

‫مراجعة لكتاب ‘قلق يف العقيدة’‬ ‫تأليف سعيد ناشيد‪ 127 ،‬صفحة‪ ،‬قطع متوسط‪ ،‬نشر ‘دار الطليعة’‪.2011،‬‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تهتم القراءة بتلمس الفرضيات الرئيسية يف كتاب سعيد ناشيد ‘قلق يف العقيدة’ ونقدها‪ .‬منهج‬ ‫الكاتب مثا ٌيل يف تحليله لهذه الفرضيات‪ ،‬ما يدفعه لتبني رؤية تتطابق حتى مع اإلسالميني‪،‬‬ ‫وإن كان ينتقدها؛ أي هو يقول أن اإلصالح الديني هو الحل ألزمات مجتمعاتنا‪ ،‬ويقوم‬ ‫بتأويل النص الديني‪ ،‬ويتنكر للترشيع وللفقه‪ ،‬ويث ّمن العقيدة فيه‪ ،‬بينام هم يقولون أن‬ ‫الدين (لكن دون إصالح) هو الحل لتلك املشكالت‪ .‬فتأويل ناشيد األقرب للعلامين‪ ،‬وبدالً من‬ ‫أن يعترب اإلصالح الديني مسألة معرفية وموضوعاً للبحث‪ ،‬فإنه يتعاطى معه كبوابة لإلصالح‬ ‫بكل معانيه؛ أي هو الحل ألزمات املجتمعات‪ ،‬وبهذا يتصالح مع اإلسالم السيايس الذي يفرس‬ ‫الدين كدين ودولة‪ .‬نجد أن مشكلة تخلّف مجتمعاتنا ال تُقرأ من زاوية أن الترشيع متخلف‬ ‫والعقيدة اإلسالمية متقدمة واإلله ميتافيزيقي ال ارتباط بينه وبني حياة الناس (وال يستوجب‬ ‫وجود هذا اإلله أي شعور بالذنب وال خوف من أي حساب)‪ ،‬بل تُقرأ من زاوية أن مجتمعاتنا‬ ‫محكوم ٌة لنظام رأساميل عاملي‪ ،‬وهو بطور األزمة‪ ،‬ومن أشكالها السياسية الطائفية والحروب‬ ‫والفقر واإلرهاب باسم الديني‪ ،‬والعودة نحو التدين وطرح الدين كحل خاليص لألزمات‪.‬‬ ‫املنهج املثايل للكاتب‪ ،‬يدفعه ليقول‪ :‬األفكار تحكم العامل‪ ،‬وبتغيري األفكار يتغري العامل‪ .‬هذه‬ ‫فكرة أصبحت خاطئة كلياً؛ فالعامل محكو ٌم بالجملة بنظام رأساميل كوين‪ ،‬وله نتائج وسريورات‬ ‫يفرضها عىل مختلف مستويات البنية االجتامعية العاملية؛ ومن خاللها تُقرأ أزمات العامل‪،‬‬ ‫ومنها أزمة عدم التطور‪ ،‬واملتعلقة بأزمة النظام الرأساميل التابع‪ .‬إذاً الحل ليس باإلصالح‬ ‫الديني وال باإلصالح السيايس‪ ،‬بل بتغيري الطبقة الرأساملية التابعة‪.‬‬ ‫❊ كاتب وباحث سوري‪ .‬كتب في عدة جرائد‪‘ ،‬الحياة’ و‘السفير’ و‘األخبار’‪ ،‬وفي ‘موقع األوان’‪ ،‬و‘العرب اللندنية’‪ ،‬وفي ‘مجلة دمشق’‪ ،‬وغيرها‪ .‬يهتم بصفة‬ ‫خاصة بالفكر النقدي‪ ،‬يناصر الثورات العربية دون شروط كلحظة أولى‪ ،‬والحقاً يصبح النقد بمثابة حياة للثورات؛ وبدونها تتعثر وقد تفشل‪.‬‬

‫‪78‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية‬

‫قراءتنا هذه معنية بفهم هذا الكتاب جيداً‪ ،‬فكل قراءة ُيفترض أن تصغي للنص أوالً‪ ،‬ال لنفس القارئ‪،‬‬ ‫ونهدف إلى إظهار الفكر النقدي في الصراعات الفكرية الجارية في عالمنا العربي‪ ،‬حيث تتركز بالمعنى‬ ‫السياسي بين التيارات اإلسالمية والداعية إلى تحكيم النص الديني في الدستور والمجتمع والتعليم‪ ،‬وبين‬ ‫تيارات حداثية ال ترفض الدين وتعتبره قضية شخصية لألفراد‪ ،‬وال يجوز المساس فيه‪ ،‬ولكنها ترفض أن يكون‬ ‫هو مصدر الدستور أو التشريع‪ ،‬وأن حياة البشرية المتغيرة تتطلب دستوراً وتشريعات متغيرة‪.‬‬ ‫نصاً تعبدياً للمؤمنين‬ ‫كتاب سعيد ناشيد((( ‘قلق في العقيدة’ ين ّزه الدين بفصله عن السياسة واعتباره ّ‬ ‫به‪ ،‬ويقدم لهم عالقة إيمانية مع الله‪ ،‬ويرفض سعيد قيام أي حكم أو التحكم بالبشر وفقه‪ .‬وتأتي أهمية‬ ‫يعم عالمنا العربي والعالم‪ ،‬حيث يناقش قضية اإلصالح الديني‪ ،‬كطريق رئيسي‬ ‫الكتاب في ظل الصراع الذي ّ‬ ‫إلعادة النظر باألديان‪ ،‬بل للخالص من جانبها الفقهي أو التشريعي‪ .‬ويخص بذلك اإلسالم‪ ،‬الذي يعد إلهه‬ ‫الميتافيزيقي مدخ ًال لتخليص أوربا من الغرق بمشكلة العدمية‪ .‬أوربا المسيحية وألنها كذلك‪ ،‬فمآلها ما بعد‬ ‫دين تاريخي‪ ،‬أي بمعنى يتضمن تصوراً للوجود‪ ،‬فيه بداية‬ ‫التدين هو العدمية‪ .‬الدين المسيحي واليهودي‪ٌ ،‬‬ ‫وفيه نهاية وفيه مخلص سيأتي الحقاً‪ ،‬وبالتالي مع تراجع الدين وتقدم العلمانية‪ ،‬تبقى قضية العودة للدين‬ ‫ممكنة كما يرى الباحث المميز سعيد ناشيد‪.‬‬ ‫الكاتب هنا ال يعيد المسألة إلى تعقيدات أزمة الرأسمالية العالمية وإغالقها كل أفق أرضي نحو حياة‬ ‫أفضل وحينها تظهر السماء كملجأ وكخالص‪ ،‬أي الدين‪ ،‬بل يعيد المسألة بشكل أساسي إلى أن اإلصالح‬ ‫الديني في أوروبا لم يكمل طريقه‪ ،‬وال بد من إكمال الطريق‪ .‬وليس بمقدورها ذلك أص ًال فالمسيحية‬ ‫واليهودية ال تسمح‪ ،‬وال العلمانية قطعت طريقها نحو تنحية الدين‪ .‬يسرد لنا الباحث مواثيق حقوق اإلنسان‪،‬‬ ‫‪ 1‬سعيد ناشيد باحث مغريب‪ ،‬لديه كتاب سابق بعنوان ‘االختيار العلامين وأسطورة النموذج’‪ .‬نرش الباحث دراساته الرئيسية يف موقع األوان ‪http://alawan.‬‬ ‫‪ ./org‬كتب يف جريدة ‘السفري’ و‘األخبار’ و‘الحياة’‪ ،‬ثم يف ‘موقع ‪ ،’24‬وأخريا ً يكتب يف جريدة ‘العرب اللندنية’‪ ،‬ويف جرائد ومواقع إلكرتونية أخرى‪ .‬الباحث‬ ‫إشكايل يف رؤيته لإلصالح الديني وملسألة العلامنية‪ ،‬ويعترب مثريا ً للجدال فيام يطرح‪ ،‬ولكنه متمكن من أصول النقد للرافضني لإلصالح (أي للمتمسكني بأن‬ ‫القرآن صالح لكل زمان ومكان وأن اإلسالم هو الحل)‪ ،‬ويتبنى العلامنية عىل قاعدة اإلصالح الديني‪ ،‬ويعتقد بأن اإلصالح الديني هو أصل كل إصالح يف‬ ‫البالد العربية‪.‬‬

‫‪79‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية‬

‫ويوضح أنها لم تتجاوز المقاربة الدينية حيث سمحت للمؤمن بحريته الدينية كحق مصان دستورياً‪ ،‬وهو ما‬ ‫أتاح المجال واسعاً لعودة الدين والطائفية والتمييز اإليجابي لصالح المسيحية وضد سواها‪.‬‬ ‫يرى سعيد أن خالص أوروبا من العدمية يتم باإلسالم‪ ،‬ولكن ليس أي إسالم‪ ،‬فهو يميز في اإلسالم بين‬ ‫العقيدة التي يعتبرها متقدمة جداً‪ ،‬وبين الشريعة التي يعتبرها متخلفة جداً؛ ويعتبر أن القرآن فيه إلهين‪:‬‬ ‫إله ديني وإله ميتافيزيقي‪ .‬ويرى أن اإلصالح يعتمد الله الثاني‪ ،‬ووفقه يجب إيجاد تصورات أنطولوجية‬ ‫إسالمية‪ ،‬وباعتبار اإلسالم حصيلة الديانات التي سبقته‪ ،‬فإن الطبيعي في األمور أن تستفيد البشرية وال سيما‬ ‫في أوروبا منه كي تتخلص من العدمية‪ .‬فالخروج من الدين في أوروبا غير ممكن إال بإله اإلسالم‪ ،‬فهو إلهٌ‬ ‫متعالٍ من ّز ٌه عن الوجود‪ ،‬بل هو كل الوجود‪ ،‬ولكنه ال ُيالحظ الطبيعة وال في سواها بل في القلب‪ .‬يقول‬ ‫خاص باألفراد‪ ،‬ومقطوعة الصلة باألرض وبتعاليم توجيهية للبشر‪.‬‬ ‫ناشيد “بتأويلنا أن الله الميتافيزيقي إلهٌ ٌ‬ ‫وهنا يؤكد أن القرآن تأسيسي ال توجيهي‪ ،‬أي أسس اإلسالم وكان ذلك في زمن النبي وهو ‘معجزته’‪ .‬وليس‬ ‫توجيهي أي ليس به أوامر مستمرة للناس في كل زمان ومكان‪ ،‬ومن يحوله نحو ذلك هم المتطرفون‪،‬‬ ‫وهؤالء ال يمثلون إال الشذوذ عن الفهم الدقيق والعميق للدين اإلسالمي ولله‪.‬‬ ‫القرآن وظيفته تعبدية فقط؛ أي يمنع القلق عند الناس ويعطيهم إلهاً يغمرهم بالطمأنينة‪ .‬سعيد يصر‬ ‫هنا أن علينا تغيير وظائف الله‪ ،‬وهو ما لم تنجح فيه أوروبا فبقي إصالحها الديني غير مكتمل‪.‬‬ ‫األديان برأي سعيد تظل “دلي ًال على اإلخفاق األخالقي والعقم العقلي والفشل الوجداني”‪ ،‬من يقرأ‬ ‫هذا سيسرع إلى تكفير الكاتب‪ .‬مقصد الباحث تخليص اإلله من سيطرة الفقه والتشريع‪ ،‬الذين يناسبان‬ ‫موج ٍه‬ ‫عصراً معيناً‪ ،‬وبعدها ومع األمويين صار الحكم حكماً ملكياً‪ .‬أي أن اإلسالم وكل دين حالما يتحول إلى ّ‬ ‫وآم ٍر وسلطة يصبح سلط ًة وضعية‪.‬‬ ‫اإلنسان ال يحتاج إلى سلط ٍة دينية‪ ،‬بل يحتاج إلى الله الذي يقارب “تصوراً أنطولوجيا يمنح معقولي ًة‬ ‫معين ًة لفوضى الوجود‪ ،‬واعتباطية الحياة وجنون الكون” هكذا إله‪ ،‬هو إله اإلصالح الديني والالهوتي‬ ‫ٌ‬ ‫إمكانية فقط إلل ٍه ميتافيزيقي‪ ،‬يخ ّلص الناس‬ ‫الجديد؛ إذ ال إمكانية لتعايش األديان مع غير عصرها‪ .‬هناك‬ ‫من العدمية األوروبية ومن التطرف اإلسالمي‪ .‬إذاً كما يقول ناشيد ال بد من تغيير وظائف الله‪.‬‬ ‫السبب أنه إله غير مرتبط باألرض‪ ،‬وال يمتلك سيرور ًة متصل ًة لتاريخ البشرية‪ ،‬وهو خارج التاريخ‬ ‫ٌ‬ ‫مفارق كلي ًة‪ .‬وفي قضية الجنة والنار والخلود‬ ‫والجغرافيا والخيال والجمال‪ .‬بتخارجه عن كل ذلك‪ ،‬فهو‬ ‫نصوص بعينها‪ ،‬ليؤكد أن أهمية اإلسالم‬ ‫حجج لتفنيد االعتماد على ظاهر النص أو على‬ ‫يسرد الكاتب عدة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بأحداث بعينها‪ ،‬وبعدها تصبح هذه‬ ‫نصوص خاص ٍة بالنبي أو‬ ‫في عدم وجود سلط ٍة ديني ٍة وتراتبي ٍة ووجود‬ ‫ٍ‬ ‫نصوص تع ّبدية‪ .‬هذه القضية سمحت لناشيد بالقول إن اإلسالم يسمح بالخروج من الدين‪،‬‬ ‫النصوص مجرد‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أي عن الفقه والتشريع‪ .‬بل هو يرى أن اإلسالم ليس دينا تشريعيا‪ ،‬وكل التشريعات الالحقة على القرآن‪،‬‬ ‫والتي مصدرها السنة‪ ،‬هي ليست من اإلسالم في شيء؛ فهي نتاج الدين حين َي َت َم ْأ َسس ويخدم األنظمة‪.‬‬ ‫ناشيد يرى أن القرآن ُيقرأ بألسن الرجال‪ .‬أي هو متعدد‪ ،‬ويمكن تأويله‪ ،‬وهو ما كان‪ ،‬وهو حجة التأويل‬ ‫ديني وإله ‘جديد’‪ .‬ليس مقصد الكالم تبني العلمانية‪ ،‬بل إشادتها “على إصالح‬ ‫الجديد‪ .‬إذاً ال بد من‬ ‫ٍ‬ ‫إصالح ٍّ‬ ‫الهوتي جذري بمقتضاه نخرج الله من إسار االحتجاز الديني”‪.‬‬ ‫ناشيد يوغل في فهم صيرورة العالم تقدماً أو تراجعاً وفقاً للوعي‪ ،‬ويتجاهل الطبيعة االقتصادية‬ ‫‪80‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية‬

‫واالجتماعية لحياتهم‪ ،‬ولذلك نجده يهمش هذا الواقع وال يقر ُؤه أبداً؛ فإن حصل اإلرهاب برأيه فهو “رجوع‬ ‫في صورة اإلله إلى زمن ثقافة القرابين”‪ ،‬والعنف الغربي في الحرب العالمية األولى والثانية “هو ٌ‬ ‫عنف‬ ‫متج ّذ ٌر من تقالي َد عريقة في حرب المسيحية الغربية على الشر والمواجهة الخالص ّية مع الشيطان”‪ .‬يحدد‬ ‫باحثنا قضيته الرئيسية بتغيير الوعي‪ ،‬وحينها تتغير حياة البشر‪ .‬اإلصالح الديني هو هو طريق اإلصالح‬ ‫السياسي‪ .‬القارئ لمقاالت سعيد في الصحف يجده أسير هذه الفكرة؛ فإن تكلم عن أوروبا والعدمية‬ ‫فيها فالسبب هو عدم إكمال اإلصالح الديني‪ ،‬وإن تكلم عن المتطرفين فهم برأيه الشذوذ من المسلمين‬ ‫يشن معرك ًة فكري ًة ضد الفقه والتشريع‬ ‫ويستندون إلى آيات وس ّنة يجب التبرؤ منها أو إصالحها‪ .‬وهنا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫سياسي للدين‪ ،‬إيجاباً أم سلباً‪ .‬خوض هذه المعركة على أرضية إله ‘جديد’ هو ما‬ ‫توظيف‬ ‫ويرفض أي‬ ‫ٍّ‬ ‫سيخلصنا من العدمية ومن التطرف‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ومحاولة‬ ‫وتأويل لألديان‪،‬‬ ‫اجتهاد‬ ‫مشكلة الكتاب بأكمله ليست في عرض وجهات نظ ٍر عن الدين؛ فهو‬ ‫ٌ‬ ‫ضمن مشروع اإلصالح الديني الذي يتبناه كثيرون‪ .‬مشكلته في تجاهله دور النظام الرأسمالي وإغالقه أي‬ ‫عالم يسوده العدل والحرية والمساواة‪ .‬كذلك يتجاهل ناشيد دور األنظمة العربية‪ ،‬وهي جزء من‬ ‫ٍ‬ ‫أفق نحو ٍ‬ ‫هذا النظام‪ ،‬والتي حولت الدين إلى أدا ٍة أيديولوجي ٍة كاملة‪ ،‬تن ّمي كل أشكال الطائفية والمذهبية‪ ،‬كي ُت َؤ ِّب َد‬ ‫ذاتها‪.‬‬ ‫قصدت هنا أن الرأسمالية أصبحت بطور األزمة‪ ،‬وهي كتشكيل ٍة اقتصادي ٍة اجتماعي ٍة لها طوران‪ :‬طور‬ ‫صعو ٍد وطور هبوط؛ ما قبل فشل ثورات ‪ 1848‬األوروبية كانت في طور الصعود‪ ،‬وما بعدها أصبحت في‬ ‫سياسي وأيديولوجي عائقاً أمام تطور القوى المنتجة‪ ،‬التي تراكمت بحيث‬ ‫طور الهبوط؛ أي أصبحت كنظا ٍم‬ ‫ٍّ‬ ‫أصبحت تسمح بحل كل مشكالت البشرية‪ .‬وإلدارة أزمتها العامة‪ ،‬وتفادي انهيارها‪ ،‬راحت تشن الحروب‬ ‫اإلمبريالية‪ ،‬وتقتسم العالم‪ ،‬وأخيراً ‘العولمة’ وهكذا؛ وهنا بدأت مالمح اإلزاحة العالمية لها‪ ،‬مع بروز الثورات‬ ‫االشتراكية؛ والتي فشلت في مهمتها كحفارة قبو ٍر للرأسمالية؛ ولكن هذا لم ُي ْن ِه األزمة العامة للرأسمالية‪ ،‬بل‬ ‫أبقاها‪ ،‬فأخذت أشكاالً عدة؛ وأبرز تحولٍ جدي ٍد فيها جاء مع أواخر السبعينيات‪ ،‬حيث أنهى كل أشكال إدارة‬ ‫األزمة القديمة‪ ،‬وظهر ما سميت بالسياسات الليبرالية الجديدة‪ ،‬والتي ارتبطت مع الرئيس األمريكي ريغان‬ ‫والمرأة الحديدية في بريطانيا تاتشر‪ .‬هذه السياسات التي بدأت تلغي دور الدولة الذي أوصى به كينز بعد‬ ‫األزمة الرأسمالية ‪ٍّ 1929‬‬ ‫ائب أكبر على‬ ‫كحل لها‪ :‬عبر تعميق دور الدولة كحامية لحقوق العمال‪ ،‬وفرض ضر َ‬ ‫الرأسمالية‪ ،‬وإيجاد ما سمي حينذاك الشراكة بين أرباب العمل والعمال‪ ،‬وبخاصة بعد نهاية الحرب العالمية‬ ‫إضافي هو منافسة الدولة االشتراكية حينها‪ .‬المهم هنا أن سياسات دعم العمال والفالحين‬ ‫ولسبب‬ ‫الثانية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫والطالب والفقراء‪ ،‬مع بداية الثمانينيات بدأت باالنحسار‪ ،‬وتم تدمير النقابات القوية وال سيما في بريطانيا‬ ‫وسواها‪ ،‬وبقي األمر كذلك‪ ،‬إلى أن وصلنا إلى أزم ٍة جديد ٍة تضرب ُك ًال من أمريكا وأوروبا‪ ،‬وبالتالي العالم‪،‬‬ ‫عام ‪ 2008‬وال تزال تتفاعل‪ .‬بل إن كل ثورات العالم اآلن هي نتاج تلك األزمة؛ وهي أزمة كبيرة‪ ،‬وأهم‬ ‫ٌ‬ ‫معادل‬ ‫تفسي ٍر لها يكمن في هيمنة رأس المال المالي على القطاع اإلنتاجي ما و ّلد فائضاً مالياً‪ ،‬ليس له‬ ‫مادي‪ ،‬وهذا ما خلق اقتصاداً وهمياً‪ ،‬أ ّدى الحقاً إلى أزمة ال زالت تتفاعل وتتفاعل‪ .‬الهام في األمر هنا أن‬ ‫ٌّ‬ ‫الرأسمالية لم تعد تقدم حلوالً للبشرية منذ عام ‪ ،1848‬وأصبحت كنظام سياسي وإيديولوجي معيقة للقوى‬ ‫المنتجة الرأسمالية ذاتها‪ ،‬وبالتالي صار ال بد من تشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة‪.‬‬ ‫‪81‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية‬

‫ومن هنا راجت نظريات فلسفية تتحدث عن موت الفاعل التاريخي‪ ،‬كالبنيوية؛ وقال نيتشه بموت‬ ‫الله‪ ،‬وهايدجر بالعدم؛ هنا لم تعد الفلسفة‪ ،‬وال سيما بعد هيغل وماركس‪ ،‬تقدم أي بعد تجاوزي‪ ،‬وأصبحت‬ ‫تذهب نحو قضايا بعيدة عن التطابق مع روح العصر وتجازوه‪ ،‬وصارت تعبر جدياً عن أزمة الرأسمالية‬ ‫العامة‪ .‬أي هي فلسفة األزمة‪ ،‬وليست فلسفة تقدمية كما كانت الفلسفة زمن هيغل مث ًال‪.‬‬ ‫مجتمعاتنا دخلت التاريخ حين دخلت الرأسمالية طور الهبوط‪ ،‬وهذه نظرية يشرحها مهدي عامل‬ ‫في كتابه نمط اإلنتاجالكولونيالي؛ فكانت برجوازياتنا‪ ،‬حتى في مصر‪ ،‬وهي األهم‪ ،‬برجوازيات غير تقدمية‪،‬‬ ‫ولم ُيسمح لها بطور الصعود‪ ،‬أي خُ لقت هي بشروط االمبريالية واالستعمار‪ ،‬فكانت بداية نشأتها كولونيالية‬ ‫بالضرورة‪ ،‬وكان من السهولة بمكان إسقاطالبرجوازية األم في مصر‪ .‬ولم تتجاوز المغرب وتونس‪ ،‬مصر‬ ‫الناصرية‪ .‬قصدت أن اختالف أشكال الرأسمالية في هذه البلدان لم ُيسمح لها بتجاوز البنية التابعة‪ ،‬بل إن‬ ‫هذه الرأسمالية المتنوعة تعبر عنها‪.‬‬ ‫اإلسالم السياسي جاء تعبيراً عن هذه األزمة‪ ،‬واإلصالح الديني السابق عليه والمتزامن معه‬ ‫والالحق عليه س ّهل له ذلك االنتشار والتوسع‪ ،‬وقدم نفسه كنهاية لعصر النهضة والتنوير العربي وكممثل‬ ‫للهويةوالخصوصية؛ أي قدم نفسه بسبب فشل االصالح في أن يكون واعياً لشروط التقدم التاريخي‪ ،‬والذي‬ ‫يتنافى كلي ّة مع أي تداخل بين الدولة والدين؛ اإلصالح السياسي الذي يقول بضرورة أن تصلح الطبقة‬ ‫المسيطرة ذاتها‪ ،‬فتتحول عن الشمولية إلى الديمقراطية‪ ،‬فيتشكل البديل‪.‬وقد فشل مرتين؛ األولى حين‬ ‫كانت البرجوازية ‘التقليدية’‪ ،‬أي الكولونيالية‪ ،‬مسيطرة قبل ثورات االستقالل في الخمسينيات‪ ،‬وفشلت ثانية‬ ‫مع فشل دولة تلك الثورات؛ وبالتالي لم يستطع اإلصالح السياسي أن يكون البديل‪ ،‬ألنه إصالح مرتبط‬ ‫بالطبقة البرجوازية التابعة بكل أشكالها‪ .‬الواقع الجديد في البلدان العربية وبعد ‪ 2011‬لن يسهم في تجاوز‬ ‫األزمات‪ ،‬ألن الطبقة التي “تسلطت” على الثورات هي فئات جديدة من البرجوازية‪ ،‬وبالتالي ال تمتلك‬ ‫حلوالً للمشكالت العامة‪ ،‬وهو ما سيجدد الثورات ال محالة‪.‬‬ ‫إذاً ال حل باإلصالح السياسي المسنود للطبقة البرجوازية‪ ،‬وطبعاً ال يمكن لإلصالح الديني أن يكون‬ ‫هو الحل‪ ،‬أي الحل ال يبدأ بتغيير أفكار معنية في العقل‪ ،‬فيتغير الواقع بعدها! وبالحقيقة واقعياً أصبح‬ ‫مشروع اإلسالم السياسي هو المستفيد من كل مشروع اإلصالح الديني‪ ،‬وبوجهيه العلماني واإلسالمي‪.‬‬ ‫نموذجه في السودان والحقاً مصر زمن مرسي‪ ،‬وفي عشرات الدول سقط نهائياً‪ .‬النموذج القادر على حل‬ ‫ُ‬ ‫المشكالت‪ ،‬هو نموذج جديد ومختلف‪ ،‬ولكننا ال نمتلك رؤية دقيقة حوله‪ ،‬وسيكون بالضرورة تجاوزياً‬ ‫للرأسمالية ذاتها؛ ولكن هل هذا يلغي ضرورة اإلصالح الديني؟ نستبق القول بـ ‘ال’ واضحة‪ .‬ولكن من‬ ‫الخطأ المعرفي أن يقدم اإلصالح الديني كحل لمشكالت المجتمع‪ ،‬وبرأينا هو مسألة معرفية تخص اإلطار‬ ‫الديني فقط‪ .‬وهو يأتي بحقل الصراعات المعرفية‪ ،‬أما الواقع ومشكالتُه وأزماته‪ ،‬فأجوب ُتها مرتبطة بالعلم‬ ‫االجتماعي والسياسي واالقتصادي الحديث‪ ،‬فعبره يمكن إيجاد الحلول‪ ،‬واالنحياز للطبقات األفقر والتخلص‬ ‫من األكاديمية ‘البرجوازية’ المتهافتة‪ ،‬والتي تفصل قطاعات الواقع والعلم بعضها عن بعض وكأن األمر‬ ‫ممكناً‪ .‬نقصد وبوضوح شديد‪ ،‬أن اإلصالح الديني يجب أن يخدم أي مشروعاً تاريخياً للتغير ويكون بالضرورة‬ ‫مشروعاً لتجاوز كل البنية التابعة التي أوضحناها أعاله‪.‬‬ ‫ولكن أزمة الرأسمالية تتطلب تجارب جديدة‪ ،‬فكانت تجربة‬ ‫التجربة االشتراكية سقطت كتجربة أولى؛ ّ‬ ‫‪82‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية‬

‫مناهضة العولمة‪ ،‬والحقاً االشتراكية في أمريكا الالتينية‪ ،‬واآلن تتقدم الثورات العربية‪ ،‬وهناك احتجاجات‬ ‫ضخمة في أوربا الضعيفة‪ ،‬كالبرتغال وإسبانيا واليونان وهكذا‪ ،‬وهذه كلها ‘بروفات’ للتجاوز‪ ،‬وهي تع ِّلم‬ ‫البشرية أن التجاوز ممكن‪ .‬تع ِّلم وتعبر عن ضرورة واقعية تفترضها التشكيلة الرأسمالية ذاتها القائمة على‬ ‫االستقطاب الطبقي كما كل تشكيلية طبقية‪.‬‬ ‫نريد القول أنه ليس باإلصالح الديني وحده يحيا اإلنسان‪ ،‬ويتخلص من العدمية واإلرهاب‪ ،‬وليس‬ ‫هو بوابة اإلصالح العام‪ ،‬وكذلك ليس السياسي‪ ،‬بل يتم ذلك بالتغيير الكامل للنظام الرأسمالي في المراكز‬ ‫واألطراف وفق مقوالت سمير أمين‪ ،‬وحينها سيكون المجال واسعاً لعالقة جديدة مع ‘فكرة’ اإلله؛ فكما‬ ‫أن الرأسمالية أقصت الفهم القديم للدين‪ ،‬واقتربت من عالقة اإلله كمتعالٍ ‪ ،‬وهي مقاربة العلمانية‪ ،‬فإن‬ ‫نظاماً جديداً يتجاوز الرأسمالية سيخلق أرضية جديدة لتدين جديد‪ ،‬وربما تتاح إمكانية كبيرة لتجاوز اإلله‬ ‫الميتافيزيقي كذلك‪.‬‬

‫‪83‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘السيدة رقية’‬

‫رسم‪ :‬أيهم حمادة❊‬

‫❊ أيهم حامدة‪ :‬فنان فلسطيني اختصاص إعالن‪ .‬خريج معهد الفنون التطبيقية‪ ،‬وعضو اتحاد الفنانني التشكيليني الفلسطينيني فرع‬ ‫سوريا‪ ،‬ومنسق ‘تجمع فناين فلسطني الشباب’‪ .‬لديه ثالثة أفالم أنيميشن قصرية‪ .‬وشارك بجميع معارض ‘اتحاد الفنانني التشكيليني‬ ‫الفلسطينيني’‪ ،‬ومعارض ‘تجمع فناين فلسطني الشباب’‪ .‬حائز عىل الجائزة التقديرية يف ‘بينايل طهران’ للملصق السيايس ‪.2007‬‬ ‫‪84‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتـاجات‬ ‫املساكنة‬ ‫لبنان‪ :‬الجئون يف الخيام والجئون يف القصور‬ ‫ملف املخطوفني يف سوريا‬ ‫قوارب املوت إىل أوروبا‬ ‫الرياضة يف سوريا‪ :‬ضحية من ضحايا األزمة؟‬ ‫املسلحون يف سوريا‪ :‬البحث عن الدعم والقيادة‬ ‫رحى الحرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة‬


‫ريبورتاجات‬

‫األلرتاس‪:‬‬

‫كفاح زيني❊‬

‫املساكنة‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫املساكنة هي إقامة شخصني مختلفي الجنس يف مكان واحد دون رابط عائيل بينهام‪ ،‬وهذا‬ ‫املفهوم ال يستدعي الحالة الجنسية بالرضورة‪ .‬لكن الفهم العام للمساكنة يتجاوز فكرة‬ ‫اإلقامة‪ ،‬ليتناول الجانب الجنيس يف الحالة يف شكل كبري‪ ،‬وتصبح املساكنة يف املقام األول‬ ‫عبارة عن ‘عالقة غري رشعية’‪“ .‬خوفاً من الفضيحة”‪ ،‬أجابت سارة عند سؤايل لها “ملَ ال‬ ‫تريدين وضع اسمك الكامل يف التحقيق؟”‪ .‬وأغلب العينات التي قابلتها مل تختلف عن‬ ‫سارة كثرياً‪“ .‬حقيقة واقعة سواء قبلناها أم ال”‪ ،‬يقول البعض عن املساكنة‪ ،‬وآخرون يرونها‬ ‫حالة طبيعية يف املدينة املعارصة‪ ،‬ويصل البعض إىل حد رؤية مناقشتها أمراً متخلفاً‪ .‬ورغم‬ ‫هذا اإلميان بالفعل لدى محتضني املساكنة‪ ،‬إال أن معظمهم تتشكل له حالة قلق عندما‬ ‫يتعلق األمر بجعل فعلهم علنياً‪ .‬قانونياً ال نرى أي مادة قي قانون العقوبات تناقش‬ ‫املساكنة‪ ،‬أما املؤسسات االجتامعية فرمبا تناهض املساكنة‪ ،‬إال أنه مل يتشكل قط أي حالة‬ ‫عنفية أو ترشيعية يف هذا املجال‪ .‬املساكنة هي حالة مترد ضد أخالق املجتمع السوري‪ ،‬إال‬ ‫أن املؤسسات التي تتعرض للتمرد صامتة عىل مستوى الفعل‪ ،‬وكذلك فاملتمردون صامتون‬ ‫عىل مستوى التغيري لجعل املساكنة مقوننة‪ ،‬املجتمع يقول للمساكن‪“ :‬اعرب لكن بصمت”‪.‬‬ ‫❊ طالب يف كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ ،‬وطالب يف املعهد العايل للفنون املرسحية (قسم الدراسات املرسحية)‪ .‬عمل كصحفي مستقل يف مجلة ‘الحياة‬ ‫الجديدة’ الصادرة يف لبنان و سوريا ويف صحيفة ‘البلد’ اللبنانية‪ ،‬وكمقدم للربامج يف التلفزيون السوري عام ‪ ،2010‬إضافة إىل إخراج عرضني مرسحيني يف‬ ‫دمشق‪.‬‬

‫‪86‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املساكنة‬

‫“عالقتي مع جسدي تغيرت‪ ،‬زالت قداسته‪ ،‬حالة األنثى الشرقية ذات األسرار ُدمرت لدي‪ ،‬الترهالت‬ ‫عند معدتي تصعد وضوحها على حساب إبهار نهدي‪ ،‬الفتاة السورية لها عالقة مع جسدها حميمية بل‬ ‫وسرية‪ ،‬هذه السرية ال يمكن كشفها إال من خالل اآلخر الذكر‪ ،‬المساكنة ال تكشف هذه السرية بل تزيل‬ ‫السر وتغيبه‪ ،‬وتصبح عالقة األنثى مع جسدها أقرب إلى عالقة الذكر مع جسده‪ ،‬المساكنة في بالدنا ال‬ ‫تحرر األنثى بل تجعلها ذكراً‪ ،‬إال أن المشكلة ليست بالمساكنة كفعل أخالقي‪ ،‬بل في وجود هذا الفعل في‬ ‫مجتمعنا‪ ،‬التمرد ال يمكن أن يشوبه الخوف”‪ .‬هكذا تحدثت نينا‪ ،‬وأضافت أنها لم تقرر أن تساكن بسبب‬ ‫الشريك‪ ،‬أو بمعنى حالة االختبار لعالقة زوجية‪ ،‬بل ساكنت ألجل المعرفة الجديدة‪“ ،‬ربما سأعيش التجربة‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬لكن ليس في هذا البلد الحزين”‪ ،‬اختتمت نينا حديثها‪.‬‬ ‫مجد يرى أن المساكنة ال تحتاج لسؤال‪ ،‬العلة ليست فيها بل بالعقلية التي تنتج سبب مساءلتها‪.‬‬ ‫المساكنة هي نمط من العالقات قد يكون منتج أو ال‪ ،‬والمساكنة كعالقة هي حقيقة ال تحتاج إلى نقاش‪،‬‬ ‫وبالتالي فاألشخاص الذين تربطهم عالقة مساكنة هم الحقيقة وليس ماهية هذه العالقة كتجرد‪ ،‬ويضيف‬ ‫مجد أن المساكنة ال يمكن أن تنتج عن حاجة شعور باالستقاللية أو حالة بديلة للعالقة الزوجية‪ ،‬إال أنه‬ ‫إذا أردنا للمساكنة أن تنجح بين المساكنين علينا التأكيد على أهمية الطرفين باإلصرار على حرية اآلخر‬ ‫وهويته‪ ،‬ربما هناك قانون واحد يلتزم به الطرفان هو إنهاء حالة تعدد شركاء الجنس‪ ،‬وربما هذا يأتي‬ ‫طبيعياً نتيجة الحالة المعيشية بين الطرفين التي تقتضيها المساكنة‪ .‬حيث أن المساكنة تعريك من حسابات‬ ‫الوحدة كطرف مسؤول‪ ،‬فالفردية سبيل لتقصي الهوية لكن نحتاج الحياة المشتركة كذلك الستكمال هذه‬ ‫الهوية‪ ،‬فأنت تحتاج اآلخر ليضيء على تفاصيل نفسك وحياتك‪ ،‬أما فيما يختص بشرعنة المساكنة يرى مجد‬ ‫أن مصدرها ليس السلطة االجتماعية بالتأكيد “بالعموم ال أعتقد أنني سأتزوج أي أنثى إن لم أساكنها‪ ،‬وال‬ ‫أتوقع أنني سأسبب األذى اجتماعياً ألي فتاة‪ ،‬حيث أنني لن أحب فتاة تقيم للتصنيف االجتماعي وزناً”‪،‬‬ ‫يقول مجد‪.‬‬ ‫المساكنة السورية‪ ،‬مصطلح مشتق عن المساكنة أم عن سوريا؟ هل تتغير المساكنة بتغير البيئة؟‬ ‫‪87‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫املساكنة‬

‫يقول عمار (أحد المساكنين السوريين في بيروت) إنه ال يمكن ربط المسألة ببلد ما‪ ،‬حيث أن الظاهرة‬ ‫منتشرة عالمياً‪ ،‬لكن ارتباطها ببيئة ما يكسبها خصائص تميزها بذاتها‪ ،‬وربما تجليات تأثيرات البيئة يمكن‬ ‫حصر أغلبها في حالة العلنية‪ .‬فالمساكنة في سوريا منتشرة‪ ،‬لكن الحديث عنها جهراً يجعلها موضوعاً مثيراً‬ ‫لالهتمام‪ ،‬كما أن الحالة في بيروت مث ًال أكثر تحجيماً من سوريا على صعيد االنتشار‪ ،‬إال أن مساءلتها أقل‬ ‫مما هو عليه في سوريا‪ ،‬وربما هذا جعل السوريين في بيروت يعايشون التجربة كما اللبنانيين من غير‬ ‫محاكمة عقلية‪ ،‬وربما أخذت المساكنة عند السوريين في بيروت معنى أوضح بسبب طبيعة المحتوى‬ ‫الذي خرجوا منه‪ ،‬ووجود فرصة تعبير عن النفس جسدياً وفكرياً أكثر في األرض الجديدة‪“ .‬أنا لم أعرف َلم‬ ‫ساكنت‪ ،‬لم يكن مهماً وجود فتاة في المنزل‪ ،‬لكن التجربة بحد ذاتها مثيرة حيث بإمكانك أن تقترب من‬ ‫تفاصيل الجنس اآلخر التي كنت مغيباً عنها‪ ،‬وربما كنت مغيباً ألنني كنت في سوريا‪ ،‬الخوف كان حاضراً‪،‬‬ ‫وهذه التفاصيل هي بعيدة عن العالقة الجنسية أو العاطفية”‪ ،‬يختتم عمار حديثه‪.‬‬ ‫إذا عالجنا المساكنة قانونياً‪ ،‬نرى أنه ال يوجد أي مادة قانونية تحرمها‪ ،‬وإذا تناولنا مادة الزنى كحالة‬ ‫تقريبية‪ ،‬نرى أن النص القانوني يعاقب المرأة الزانية العزباء‪ ،‬لكن ال يعاقب الرجل األعزب‪ ،‬رغم أن القانون‬ ‫ينص على الحرية الشخصية‪ .‬كما أن فعل الزنى يجب ضبطه بحالة التلبس‪ ،‬لكن يمكن معاقبة المرأة فقط‬ ‫دون تلبس إذا ساكنت ذكراً بتهمة مخالفة اآلداب العامة‪ ،‬لكن ذلك يحتاج لشكوى‪ ،‬وعقوبتها ال تتجاوز‬ ‫الشهر‪ ،‬وهذا الكالم على لسان الخبيرة القانونية رهادا عبدوش‪.‬‬ ‫وبافتراض أن المساكنة هي حاجة راهنة سواء بسبب الحالة اإلقتصادية أو حالة التطور االجتماعي أو‬ ‫غير ذلك‪ ،‬يبدو الزواج العرفي صيغة بديلة مقبولة على صعيد تغييب حالة التمرد في المساكنة‪ ،‬أو هرباً‬ ‫من قلق المتاهات القانونية‪ ،‬لكن باسل يرى أن الزواج العرفي هو صيغة للتوافق بين شخصين بعيداً عن‬ ‫حالة الرقابة أو المنع التي يمارسها المجتمع أو القانون‪ ،‬إال أن الزواج العرفي ليس بتمرد‪ ،‬فهو ال يثبت أي‬ ‫قيمة على هذا الصعيد‪ ،‬وهو يرى أن المساكنة كفعل هو تمرد ضد أنظمة المجتمع قبل كل شيء‪.‬‬ ‫“أردت أن أغسل جوارب ذكري‪ ،‬أن أمتلك ذكراً يعني أن أمتلك تفاصيل حياته” تقول رزان أن هذا ما‬ ‫دفعها في البداية لكي تساكن‪ .‬النتيجة كانت مختلفة حسب وصفها‪ ،‬حيث أنها لم تدرك خطورة معرفة كل‬ ‫شيء عن اآلخر الشريك‪ ،‬فهي لم تتمكن من تقبل الرائحة السيئة من األفواه عند الصباح‪ ،‬كذلك لم تستطع‬ ‫تس ّوغ رائحة الجوارب‪ .‬التفاصيل كانت قاتلة‪ ،‬ربما صامتة لم تفصح عنها بينها وبين نفسها‪ ،‬إال أنها أفزعتها‬ ‫من التجربة‪ ،‬كذلك الملل كان شيئاً ينمو باضطراد “الملل من اآلخر سببه معرفة كل شيء‪ ،‬لم يعد بإمكاني‬ ‫تخيل الصورة الرومانسية لذكري وهو يحلق ذقنه‪ ،‬بات كل شيء مبتذالً”‪ ،‬تنهي رزان حديثها‪.‬‬ ‫في اآلونة األخيرة‪ ،‬ازدادت حاالت المساكنة في سوريا “الحرب تغير موقفنا من الموت” يقول فرويد‪،‬‬ ‫وهذا الموقف يستدعي فعل كل شيء لألقصى‪ .‬ليس لنا سوى حظنا في حساب الموت‪ ،‬لذا علينا أن نعلن‬ ‫آخر أمنياتنا‪ ،‬الجنس وسيلة لمواجهة الموت‪ ،‬الجنس هو خلق‪ ،‬عبره بإمكاننا منح الحياة لآلخر‪ ،‬وعبره‬ ‫نواجه الموت‪ .‬إن الحرب تحررنا من أوهام السلم‪ ،‬ومن اإليمان باإلنسان الحضاري المتقدم‪ .‬الحرب هي‬ ‫على رأس القوى التي يمكن أن تفسد التكيف الحضاري‪ ،‬حيث أنها أرض خصبة النفجار الكبت االجتماعي‬ ‫للغرائز البشرية العدوانية‪ .‬وفي زمن الحرب تتهدم األسس الحضارية واإلنسانية‪ ،‬بحيث يصبح كل شيء من‬ ‫القتل وإلغاء اآلخر إلى أشنع األمور مباحاً‪ ،‬ودون أي اعتراض من األفراد الخاضعين للحرب‪ .‬وبالتالي يصبح‬ ‫‪88‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املساكنة‬

‫الحديث عن الرقيب االجتماعي أو الديني مغيباً‪ ،‬فالقتل موجود فما الذي سيكون أفظع؟ ومن هنا يصبح‬ ‫التمرد ضد أخالقيات المجتمع حالة طبيعية‪ ،‬في ظل فشل أخالقيات وأسس هذا المجتمع‪ ،‬الذي تج ّلى‬ ‫فشل بنيانه من خالل إنتاجه للحرب‪.‬‬ ‫المساكنة هي إقامة شخصين مختلفي الجنس في مكان واحد دون رابط عائلي بينهما‪ ،‬وهذا المفهوم‬ ‫ال يستدعي الحالة الجنسية بالضرورة‪ ،‬لكن الفهم العام للمساكنة يتجاوز فكرة اإلقامة‪ ،‬ليتناول الجانب‬ ‫الجنسي في الحالة في شكل كبير‪ ،‬وتصبح المساكنة في المقام األول عبارة عن عالقة غير شرعية‪ .‬وضمن‬ ‫الحديث عن انتشار المساكنة في ظل الحرب‪ ،‬يمكن الحديث عن دور الجانب الجنسي في ذلك‪ ،‬حيث‬ ‫يقول أدونيس “ليس ثمة لذة دونما فاجع‪ ،‬وفي الفعل الجنسي تنبعث رائحة الموت‪ ،‬ألن الفعل الجنسي‬ ‫ليس ماضي بل هو مستقبل‪ ،‬والمستقبل دائما مح ّمل بالموت”‪ ،‬حيث أننا ال نهرب من الموت إال من‬ ‫خالل الفعل الجنسي‪ ،‬ألن الجنس هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا قادرين على الخلق‪ .‬ومن هنا تنبعث‬ ‫قدرتنا و عجزنا من فعل واحد هو الجنس؛ فالجنس باعتباره والدة و خلق هو مستقبل‪ ،‬والمستقبل يحمل‬ ‫الموت والخلق في آن‪ .‬نحن ال نستطيع البقاء‪ ،‬لكن بإمكاننا أن نتحول ألشخاص آخرين بأن نهبهم الحياة‪،‬‬ ‫وهذا يكون بسبيل واحد هو الجنس‪ .‬كذلك فإن الحب هو أساس السعادة‪ ،‬ونحن في الحرب نبحث عن‬ ‫السعادة‪ ،‬وال نمتلكها إال بالحب الذي ال يمكن تحليله بوصفه حالة روحانية محضة‪ ،‬بل هو التقاء الروحي‬ ‫و الجسدي‪.‬‬ ‫انتشار المساكنة ال يمكن إبعاده عن األوضاع االقتصادية المتردية‪ ،‬فاألفراد المساكنين هم من فئة‬ ‫الشباب في الغالب‪ .‬هذه الفئة ازدادت نسبة البطالة فيها خالل الحرب‪ ،‬وتفاقمت أزمتها االقتصادية‪،‬‬ ‫وأصبح الزواج وتأسيس أسرة‪ ،‬وما ينتج من ذلك من مشاعر االستقرار واألمان‪ ،‬أصبح أصعب بسبب العوائق‬ ‫االقتصادية التي يقتضيها الزواج‪ .‬من هنا يمكن اللجوء إلى المساكنة التي ال تفرض أعباء اقتصادية أو‬ ‫مسؤوليات مادية كما الزواج‪ ،‬وتوفر مناخ من االستقرار شبه العائلي‪ ،‬الذي يعوض جزئياً عن الزواج‪.‬‬ ‫كذلك فإنه في ظل بلد يرضخ للسطوة الطائفية في مجال األحوال الشخصية‪ ،‬سواء على صعيد العرف‬ ‫أو القانون‪ ،‬تصبح المساكنة منفذاً مناسباً‪ .‬حيث أن البعض‪ ،‬وبخاصة اإلناث ممن ال يستطيعون مواجهة‬ ‫عواقب الغضب األسري جراء الزواج بشخص من غير طائفة‪ ،‬يرون المساكنة ح ًال لتحقيق رغباتهم ولو على‬ ‫صعيد موقت‪ .‬وأحيانا ال يكون العرف االجتماعي فقط هو العائق‪ ،‬فالقانون كذلك يشكل عائقاً للزواج كما‬ ‫في الحالة المسيحية‪/‬اإلسالمية‪.‬‬ ‫المساكنة ربما ال تحمل ماهية محددة بذاتها منفصلة عن المساكنين وعن البيئة‪ ،‬حيث أن المساكنة‬ ‫تحمل تعريفاً جديداً في كل مرة‪ ،‬تبعاً لطرفي المساكنة المنتجين لها‪ .‬وال يمكن كذلك حصر دوافع‬ ‫المساكنة‪ ،‬فهي متنوعة بقدر المساكنين‪ ،‬إال أن انتشارها في ظل الحرب ربما يمنحها ُبعداً لم تكن تحمله‬ ‫من قبل‪ .‬ويمكن القول أن البيئة السورية وظروفها أعطت المساكنة هوية خاصة لها خصائصها المميزة‪،‬‬ ‫وربما ستختلف المساكنة في شكل كبير إن كانت سوريا بغير حرب‪.‬‬

‫‪89‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫عمار المأمون❊‬

‫عبد الله قاسم❊❊‬

‫لبنان‪:‬‬

‫الجئون يف ِ‬ ‫اخل َيم‪ ،‬الجئون يف القصور‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يتناول هذا الريبورتاج ظاهرة انترشت يف بريوت وهي اجتذاب رجال كبار يف العمر لش ّبان‬ ‫وشابات صغار للعيش معهم بصورة مشرتكة‪ ،‬ومشاركتهم بعالقات جنسية أو غريها‪ ،‬يف‬ ‫سبيل املال واملأوى‪ .‬املادة تعرض أربع حاالت‪ ،‬كام تناقش الظاهرة من أربع جوانب؛ نفسية‬ ‫واجتامعية قانونية ودينية‪ .‬املوضوع محرم مبوجب الدين رشعاً‪ ،‬ويتجاوز األعراف يف بعض‬ ‫املجتمعات‪ ،‬إال أن خصوصيته تكمن يف الجوانب النفسية واالجتامعية التي يحملها‪ .‬ورغم‬ ‫تقبل بعض الفئات االجتامعية لهذه الظاهرة إال أن خصوصية الوضع السوري يف لبنان‬ ‫ووضع الالجئني و الالجئات بشكل عام هي ما تثري الجدل‪ ،‬فاألمر مثري للريبة مهام كانت‬ ‫املكاسب التي ينالها من خرج من بلده وباألخص يف ظل االختالفات العمرية الشاسعة‪.‬‬

‫عمر املأمون‪ :‬صحفي سوري مستقل يعمل من دمشق يف عدد من الصحف واملواقع العربية والدولية‪ .‬مهتم بشؤون الثقافة واملجتمع‪ .‬حاصل عىل شهادة‬ ‫❊ ّ‬ ‫املاجستري باإلعالم‪ ،‬وليسانس يف النقد والدراسات املرسحية‪.‬‬ ‫❊❊ عبد الله قاسم‪ :‬ناشط سوري مقيم يف بريوت مهتم بقضايا املجتمع املدين واإلغاثة‪ .‬يدرس اإلعالم بجامعة دمشق‪ ،‬ثم يف الجامعة اللبنانية‪ ،‬ويعمل بالتعاون‬ ‫مع عدد من املنظامت غري الحكومية املهتمة بالشأن السوري‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫اخليَم‪ ،‬الجئون يف القصور‬ ‫الجئون يف ِ‬

‫يحلمن بال ّلجوء‪ .‬الصيغة التقليدية لـ ‘الجئات مو سبايا’ تحمل معانٍ‬ ‫نعم‪ ،‬أصبحت بعض الفتيات‬ ‫ّ‬ ‫جديدة مشابهة لتلك التي نراها في األفالم‪ .‬فالشكل الجميل باإلضافة إلى المناوبة الليلية في أحد البارات‬ ‫يتيح الفرصة إلحداهن بأن تجد لنفسها ‘‪ ،’Sugar Daddy‬يتكفل بسكنها و إطعامها و مصروفها الشخصي‪،‬‬ ‫حيث تتحول إلى إكسسوار فاخر في مطاعم بيروت الباهظة‪ ،‬وأحياناً إلى دمية جنسية شابة متوافرة عند‬ ‫الطلب‪.‬‬ ‫عيناها جميلتان‪ ،‬وصوتها ّ‬ ‫خلب‪ ،‬مريم (‪21‬عاماً) خرجت من سوريا بسبب خالفات عائلية إثر سلوك‬ ‫أبيها الماجن الذي أدى إلى تفكك العائلة‪ ،‬وترك األب ‪-‬ذو المنصب الحساس‪ -‬األسرة وحيدة كي تتدبر‬ ‫أمورها بنفسها‪ .‬حال وصولها إلى بيروت أقامت عند بعض أصدقائها‪ ،‬ثم تمكنت من إيجاد عمل‪ ،‬في أحد‬ ‫بارات الجميزة‪ ،‬مستفيدة من جمالها وقدرتها على الغناء‪ ،‬لم يمضي أسبوع على بداية عملها حتى التقت‬ ‫جوني (‪ 44‬عاماً) الذي أعجب بها‪ ،‬وأصبح يتردد إلى البار ليستمع إلى قصة رحيلها التي أثارت تعاطفه‪.‬‬ ‫على إثرها طلب منها االنتقال إلى منزله ‘شديد الفخامة’ للعيش معه‪ .‬تقول مريم‪“ :‬لم يقترب مني طوال‬ ‫فترة إقامتي وقال لي إني ال أنتمي لهذا المكان –البار‪ -‬وإني كأخته”‪ .‬في البداية وعدها جوني بأن يؤمن‬ ‫لها عم ًال ومأوى الئقين‪ ،‬ثم أصبح الموضوع أكثر جدية حيث دعاها لإلقامة الدائمة في منزله‪“ ،‬صارحني‬ ‫بحبه‪ ،‬وقال لي إنه يريد الزواج مني ألني أَ َس ْر ُت ُه وإنه لن يمسني أبداً بدون زواج ‪either everything or-‬‬ ‫‪ .”nothing‬معظم التعابير التي يستخدمها جوني باللغة اإلنكليزية بسبب إقامته الطويلة خارجاً وتنقله‬ ‫في معظم أنحاء العالم‪ .‬منزله مليء بالتحف األجنبية والمقتنيات الثمينة المنتقاة بدقة‪ .‬على طاولة القهوة‬ ‫كتاب ‪ the Playboy Book‬إلى جانب لوحات ‘راقصات الكاوبوكي’ المستوردة من اليابان‪ .‬التدرك مريم‬ ‫قيمة معظم التحف والمقتنيات‪ ،‬بل تتصرف وكأنها معتادة على مشاهدة قنوات ‪ ShowTime‬في منزلها‬ ‫السابق في سوريا في أحد ضواحي دمشق النائية شديدة الحراسة‪.‬‬ ‫مريم مسؤولة عن نفقات عائلتها في سوريا‪ ،‬ومع ذلك تعيش حياة مرفهة في بيروت بعد أن استأجر‬ ‫‪91‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫اخليَم‪ ،‬الجئون يف القصور‬ ‫الجئون يف ِ‬

‫لها جوني سيارة لتسهيل تنقالتها ‪-‬تنقالتها المقتصرة على االحتفال مع األصدقاء على حساب جوني‪ -‬تقول‬ ‫أيضاً‪“ :‬ال أريد الزواج منه‪ ،‬عمره كبير و مازلت شابة‪ ،‬لكني مضطرة أن أجاريه ألني لن أعود إلى الشارع”‪.‬‬ ‫بعد أسبوعين سورياليين عاشتهما مريم بين المطاعم الفاخرة والسهرات الراقية قررت الرحيل نهاية‪،‬‬ ‫ألن جوني “طلب يدي عبر رسالة قصيرة على ‪ ،Whats App‬شو هاد‪ ...‬ما عم صدق‪ ،‬وصلنا لهون‪ ،‬متل‬ ‫المراهقين”‪ .‬غادرت مريم ‘قصر’ جوني وعادت للعمل في البار لمناوبتين‪ ،‬والغناء مرة واحدة في األسبوع‬ ‫في أحد مطاعم الـ‪ karaoke‬لتتمكن من دفع أجار غرفتها التي تسكنها مع ثالثة آخرين‪ ،‬وتحويل مبلغ‬ ‫صغير إلى أهلها في سوريا يقارب الـ ‪ ،$200‬على حد قولها “حافظت على نفسي‪ ،‬ولم أسمح له بلمسي‪،‬‬ ‫ولن أسمح ألحد باالقتراب مني”‪.‬‬ ‫ال يقتصر األمر على السوريات فقط بل امتد ليشمل فتيات بلدان المجاورة فــ ُعال (‪ 20‬عاماً) خرجت‬ ‫مع أهلها من العراق أيام الغزو األمريكي عام ‪ 2003‬إلى سوريا‪ ،‬ثم هربت إلى بيروت وحيدة منذ سنتين‬ ‫–كان عمرها ‪ 18‬عاماً عندما هربت‪ -‬بعد أن حصلت على نقود ورثتها عن أهلها على حد زعمها‪ .‬أغرم بها‬ ‫أحمد (‪ 63‬عاماَ تقريباً)‪ ،‬عراقي الجنسية أيضاً‪ .‬األخير دائم السفر‪ ،‬لكنه يزور لبنان متقطعاً‪ ،‬ليقيم في منزل‬ ‫ُعال في إحدى ضواحي بيروت‪ .‬تقول ُعال “استأجرنا المنزل سوية لكنه دائم الغياب‪ ،‬أنا مشتاقة إليه دائماً‪،‬‬ ‫لكن عندما يأتي إلى هنا يقيم عندي‪ ،‬سنتزوج قريباً وسيأخذني إلى فرنسا ثم أمريكا‪ ،‬حيث يؤسس لنا‬ ‫منزالً هناك”‪ .‬الغريب أن ُعال تتحول بين الليل والنهار‪ ،‬نهاراً هي ربة منزل من الطراز الرفيع‪ ،‬تستيقظ باكراً‬ ‫لتنظف المنزل وتطبخ‪ ،‬ومساء تتحول إلى فتاة عشرينية تحب السهر وارتياد الحفالت واستقبال الغرباء في‬ ‫وعال في األماكن العامة أقرب إلى نسخة‬ ‫منزلها الواسع متعدد الغرف واألس ّرة بصورة غريبة! شكل أحمد ُ‬ ‫جديدة من رواية ‘لوليتا’‪ ،‬أعين الما ّرة ورواد المقاهي تح ّدق بالعجوز ومعشوقته وهو يقبل يديها ويالطفها‪،‬‬ ‫في أشهر غيابه تقضي معظم وقتها تحادثه عبر ‪ Skype‬أو ‪ ،Viber‬يأتيها الرد فوراً وأحياناً يستغرق عدة‬ ‫أيام‪ .‬ما يثير الدهشة هو علنية هذا السلوك‪ ،‬والميل إلى إظهاره والتفاخر به‪ ،‬وترديد عبارة “الحب ال يعرف‬ ‫عمراً” لتتلوها ضحكات‪ ،‬والقبل السريعة التي يفصل بين صاحبيها جيالن أو ثالثة على األقل‪.‬‬ ‫ال يقتصر األمر على الفتيات‪ ،‬فـ أيهم (‪ 23‬عاماً) خرج من سوريا هرباً من الخدمة العسكرية اإللزامية‪،‬‬ ‫وتوجه إلى بيروت متبعاً ذات السيناريو المتعلق بالبارات والشكل الجميل‪ .‬المختلف أن هوية أيهم‬ ‫الجنسية لم تكن واضحة في سوريا ‪-‬إثر طبيعة عائلته الملتزمة دينياً‪ -‬لكن حين وصوله إلى بيروت تصارح‬ ‫مع جسده و‘خرج من الخزانة’ حيث أصبحت ميوله أوضح‪ ،‬فعمل في بار يرتاده المثليون وشارك في‬ ‫بعض الحفالت كراقص مساعد‪ .‬حينها جذب أنظار جاد (‪ 48‬عاماً) ليتحوال إلى ثنائي يجول شواطئ بيروت‬ ‫ومطاعمها‪ ،‬متأنقين أقرب لعارضي أزياء‪ .‬الدخل العالي الذي أصبح أيهم يكسبه ‪-‬عمله في عرض األزياء‬ ‫والبار الفخم‪ -‬م ّكنه من إخراج عائلته من سوريا لزيارته في بيروت ثم استقرارهم في بلد عربي شقيق‪.‬‬ ‫نوع من الرومانسية يحكم العالقات السابقة‪ ،‬التي ال تهدف إلى الجنس فقط لكنها‪ ،‬تحوي شيئاً من‬ ‫المتعة السرية واالعتماد على سحر المصادفة‪ .‬فالجنس ليس مقابل النقود بل أقرب إلى االنتشال من الفقر‬ ‫والتشرد‪ ،‬وأحياناً قصة حب حقيقية‪ .‬فهي غير منظمة أو خاضعة لعالقة “جنس مقابل نقود فقط” بل هي‬ ‫أقرب إلى ‪ escorting serves‬في شكل أكثر حميمية‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫اخليَم‪ ،‬الجئون يف القصور‬ ‫الجئون يف ِ‬

‫أسطورة الثوري السوري‬ ‫هناك صيغة أخرى تحكم هذا النوع من العالقات؛ ترتبط بالالجئيين السوريين و“أسطورتهم” هناك‪..‬‬ ‫بعض األجنبيات من جنسيات مختلفة تجذبهم حالة المشرد أشعث الشعر‪ .‬كما حدث مع أبو وطن (‪25‬‬ ‫عاماً) الذي يرفض التصريح عن اسمه الحقيقي‪ ،‬يقضي وقته “سائحاً” في شوارع بيروت ومقاهيها‪ ،‬بين‬ ‫أصدقائه الكثر‪ ..‬متحدثاً عن السياسة واألدب والفن ويقضي لياليه ضيفاً بين منازلهم إلى أن التقى بشاعرة‬ ‫إسبانية تدعى إليانا (‪41‬عاماً)‪ ،‬شدها شعره األشعث و صوته الرخيم و معاناته للوصول إلى بيروت‪ ،‬فقد‬ ‫عبر الحدود بصورة غير قانونية وقضى ليلته األولى في أحد المساجد في شارع الحمراء إلى أن تمكن‬ ‫من التواصل مع أصدقائه‪ ..‬الغريب أن إليانا تسمح لـ“أبو وطن” بالمبيت عندها في الفندق الفخم حيث‬ ‫تسكن لكنها لم تحاول تغيير شكله أو تحويله إلى زينة للمفاخرة فقد حافظت على أيقونة “أبو وطن”‬ ‫الذي يحيا “بوهيمياً”‪ ،‬يقول أنها أحبته ألنه الحقيقة‪ ،‬ألنها تريد أن تكتب قصيدة ال تنتهي‪ ..‬الهالة السحرية‬ ‫المحيطة به أتاحت له أن يدفع ثمن الكحول التي يشتريها‪ ،‬ويرد بعضا من ديونه المتراكمة‪ .‬وفجأة أصبح‬ ‫يمتلك “‪ ”I-pad‬التي يتناقض وجودها في يده مع مالبسه الرثة‪ ،‬و غياب الحزام الجلدي في سرواله‪ ,‬يقول‬ ‫أبو وطن‪“ :‬هذه ليست تجربتي األولى من هذا النوع‪ ،‬فقريباً أنتظر سيدة متزوجة من الخليج ستأتي هنا‬ ‫لنقيم سوية في شقة فاخرة لمدة شهر‪ ،‬ثم سأحتفظ بالشقة لخمسة أشهر إضافية على حسابها”‪.‬‬ ‫اجلانب االجتماعي‪ -‬جنس عابر‪:‬‬ ‫ما يثير الجدل في هذا الموضوع‪ ،‬هو مخالفته لبعض األعراف برأي الكثيرين‪ ،‬لكن أي أعراف منها؟‬ ‫يقول مصدر مختص بعلم االجتماع‪“ :‬هذه الظاهرة ليست بالقديمة‪ ،‬وهي ملحوظة في عديد من البلدان‬ ‫المتشددة دينياً لكن بصيغة أخرى‪ ،‬تحمل صفة الزواج‪ ،‬بالرغم من أن الدين يش ّرع الزواج بغض النظر‬ ‫عن االختالف باألعمار بين الزوجين‪ ،‬وال يرى فيه مشكلة‪ ،‬فهذه الظاهرة قد تكون مقبولة في المجتمعات‬ ‫التقليدية‪ ،‬فهي مألوفة في دول الخليج‪ ،‬إال أنّ ما ال يمكن تق ّبله في هذا الموضوع هو حقيقة استغالل‬ ‫الالجئات و أعمارهن الصغيرة‪ ،‬حتى لو ُك ّن موافقات‪ ،‬فهناك صيغ أكثر مالئمة – إن كان أحدهم يريد‬ ‫المساعدة فع ًال‪ -‬ال تحول هؤالء الفتيات إلى إكسسوارات أو أساليب للتزين أمام الناس‪ ،‬ال أرى أن الظاهرة‬ ‫غريبة عن مجتمعاتنا‪ ،‬لكن يجب ّأل تلقى القبول االجتماعي المتعلق بحالة الالجئات‪ ،‬فالموضوع إنساني‪،‬‬ ‫و هو استغالل بشكل أو آخر‪ ،‬باألخص للفتيات في عمر المراهقة المتأخرة‪ .‬قد يرى البعض أن الموضوع‬ ‫يحوي جانب من (الخُ بث) لدى الفتيات‪ ،‬إال أن ذلك ال يبرر أن يتورط (الراشدون) ‪ -‬نظرياً‪ -‬في هكذا‬ ‫تصرفات‪ ،‬هناك ضرر متبادل‪ ،‬واللوم يقع دائماً على الكبير‪ ،‬حتى في حال وجود حب حقيقي ال أظن أن‬ ‫األمر سيستمر‪ ،‬هو مجرد جنس عابر أو وسيلة للتباهي أمام الناس‪ .‬الحالة األولى هربت من المنزل وبالرغم‬ ‫من نمط الحياة الجديد والمختلف الذي توفر لها‪ّ ،‬إل أن الخطوة التي قامت بها يمكن اعتبارها صح ّية‪-‬‬ ‫ترك الرجل حين طلب يدها‪ ،-‬في حين أن الحالة الثانية هي حالة مرض ّية يجب أن تعالج وأن يوضع لها‬ ‫حد‪ .‬المشكلة ال تكمن في تأمين المأوى أو مستوى الئق من العيش‪ ،‬القضية تتعلق بفئة اجتماعية معينة‬ ‫ستتعرض لمواقف قد تحرف سلوكها في المستقبل و تؤثر على وجودها”‪.‬‬ ‫أما األكاديمي المختص في الجانب النفسي فيقول‪“ :‬بعيداً عن فكرة اللجوء أو عدم توافر مأوى‪ ،‬حالة‬ ‫‪93‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫اخليَم‪ ،‬الجئون يف القصور‬ ‫الجئون يف ِ‬

‫االرتباط‪ /‬الحب بين المختلفين بالعمر ذات تاريخ طويل في علم النفس و األدب فعقدة (لوليتا) التي أ ّلف‬ ‫عنها الروائي الروسي “فالديمير نوبوكف” رواية بنفس العنوان‪ ،‬تتحدث عن هذه العالقة‪ ،‬عن تخيل صورة‬ ‫األب و الوقوع في حبها وحتى ممارسة الجنس معها‪ ،‬فاألمر مرتبط بالتربية و التنشئة و توتر العالقة مع‬ ‫األب أو غيابه و هذا ماحدث مع الحالة األولى والثانية‪ ،‬األمر مرتبط بعالقة الفتاة مع الذكر‪ ،‬لكن ما يجعل‬ ‫األمر أكثر تأثيراً هو حالة اللجوء‪ ،‬فالذكر هنا يمثل صورة األب وما تحمله من أمان‪ ،‬كما أنه مباح جنسياً‪،‬‬ ‫مما قد يعمق االرتباط كما في الحالة الثانية‪ ،‬بحيث يتحول إلى حالة غير صح ّية‪ ،‬في حين أن الحالة‬ ‫األولى‪ ،‬تتمثل بمحاولة خداع تريد أن تمارسها الفتاة للوصول إلى مأربها‪ ،‬فالعالقة الجسدية – سواء كانت‬ ‫ّ‬ ‫تستغل الرجل‬ ‫موجودة أم ال – و التواجد الفيزيائي في ذات المكان كان هدفه االستغالل‪ ،‬الفتاة تظن أنها‬ ‫األكبر بالعمر في سبيل المال والمأوى‪ ،‬وهذا السلوك سيستمر لفترة طويلة مع عدة محاوالت مع رجال‬ ‫آخرين‪ ،‬هذا ما أظنه‪ .‬الحالة الثالثة‪ ،‬وتتمثل بالشاب “المثلي” فهي أقرب لحلم يتحقق‪ .‬فالشاب خرج من‬ ‫سوريا وهو يعاني من القمع الجنسي والمادي –و باألخص خالل ما تمر به سوريا‪ -‬و وجد متنفس له في‬ ‫بيروت‪ .‬فالعالقة بالنسبة له تتجاوز الجسد لتصل إلى التأسيس لحياة جديدة وسلوك جديد‪ ،‬هي اكتشاف‬ ‫لذاته‪ ،‬و ال أظن أنه قد يعود لسوريا تحت أي ظرف‪ ،‬فالتناقض الذي عاشه في ظل وجوده في سوريا‪ ،‬يجب‬ ‫ّأل يتكرر”‪.‬‬ ‫اجلانب القانوين – "ال يوجد نص قانوين واضح”‪:‬‬ ‫الحالة معقدة‪ ،‬في حين أن الدين يشرع الزواج لكنه يحرم المساكنة‪ ،‬لكن قانونياً قد يتشابه األمر‬ ‫بالدعارة‪ ،‬لكن كال الشخصين راضيان عما يفعالن و كلهما ال يعتبر قاصراً وفق القانون‪ ،‬كذلك حاالت‬ ‫المساكنة المقبولة اجتماعياً –نوعا ما‪ -‬و باألخص في ظل ازدحام بيروت بالالجئين وطبيعة المجتمع‪،‬‬ ‫القانون قد يتناول الموضوع كدعارة أوتسهيل للدعارة لكن لن يكون األمر واضحا ألن ال دالئل على الفعل‬ ‫“الداعر” وهو يتم بالتراضي‪ ،‬أما تحريض القواصر على الدعارة فهذا النص ال يمكن االعتماد عليه ألن‬ ‫الفتيات لسن قاصرات‪ ،‬الموضوع شائك قانونياً‪ ،‬إذ من الصعب إدانة شخصين يحققان الشروط القانونية‬ ‫بجرم يخالف العرف االجتماعي بصورة ما وال يجرمه القانون‪ ،‬و بالرغم من الحركات النسوية المطالبة‬ ‫بإنصاف المرأة وحمياتها إال أن الموضوع لم يتناول بعد‪ ،‬بصورة منطقية‪ .‬المرأة هنا هي التي تكسب‪ ،‬على‬ ‫الصعيد المادي فقط‪ .‬اآلثار األخرى ال يجرمها القانون‪.‬‬ ‫في تصريحه لموقع “نسوية كافية” يتح ّدث المحامي اللبناني أنطوان سبع‪“ :‬ال يوجد في القانون‬ ‫اللبناني المدني أو الجزائي أو في قوانين األحوال الشخصية اللبنانية‪ ،‬أي نظام أو تشريع يتعلق بموضوع‬ ‫المساكنة”‪ .‬لماذا؟ يجيب‪“ :‬ربما تعود أسباب إغفال هذا النمط من الحياة المشتركة بين شخصين‪ ،‬إلى‬ ‫سيطرة المرجعية الطائفية على نظام األحوال الشخصية في لبنان‪ ،‬وعلى الج ّو االجتماعي العام في البالد‪،‬‬ ‫الذي ال يزال ينظر إلى مثل هذا النمط‪ ،‬بالرغم من االنفتاح الملحوظ‪ ،‬الذي نشهده‪ ،‬في طبيعة العالقات‬ ‫الثنائية بين الرجل والمرأة‪ ،‬كمسألة شاذة عن المألوف‪ ،‬وغير مقبولة دينياً واجتماعياً‪ .‬وبالتالي فإن القوانين‬ ‫اللبنانية لم تتطرق إلى موضوع المساكنة بصورة مباشرة أو غير مباشرة”‪ .‬ويضيف‪“ :‬ال يوجد في قانون‬ ‫العقوبات اللبناني أي نص يج ّرم المساكنة بين غير متزوجين‪ ،‬وإنما هناك نصوص تعاقب العالقة الزنائية‪،‬‬ ‫‪94‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫اخليَم‪ ،‬الجئون يف القصور‬ ‫الجئون يف ِ‬

‫فإذا كانت حال المساكنة زنائية أو تشتمل على أفعال يعاقب عليها القانون‪ ،‬فإن المالحقة تنحصر بهذه‬ ‫األفعال وليس بفعل المساكنة في ذاته”‪ .‬نالحظ في كلتا الحالتين أن القانون لم يتناول الفروقات العمرية‬ ‫أو الحالة المطروحة حالياً‪.‬‬ ‫اجلانب الديني‪ :‬حرام شرعًا دون عقد زواج‪:‬‬ ‫الدين يرفض الموضوع و يحرمه‪ ،‬لكن البعض يرى األمر قريباً من المساكنة‪ ،‬فأي خلوة بين شخصين‬ ‫غير محكومة بعقد شرعي تعتبر حراماً‪ ،‬فالدين يتناول التواجد المادي للشخصين ضمن المكان‪ ،‬ال فرق‬ ‫العمر بينهما‪ ،‬فلطالما كال الطرفين قادران على الباءة “الزواج” مهما كانت اعمارهما‪ ،‬فعليهما الزواج‪ ،‬أما‬ ‫غياب العقد الشرعي فيجعل األمر محرماً‪ ،‬بالتالي الدين ال يرى في الموضوع مشكلة إن كان هناك عقد‬ ‫شرعي‪ ،‬ففرق السن مهما بلغ ال يشكل عائقاَ و هناك أمثلة كثيرة من التاريخ اإلسالمي الحديث و المعاصر‬ ‫التي ال ترى في الموضوع مشكلة‪ ،‬النص الديني يقنن التواجد‪ /‬الحضور‪ ،‬وال يتناول اآلثار االجتماعية أو‬ ‫النفسية التي من الممكن أن تجتلبها هكذا حالة‪.‬‬ ‫الدين يتناول موضوع عقد الزواج ال االختالف بين األعمار أو من يقوم بالنفقة‪ ،‬و بالطبع يتناول‬ ‫الحيثيات التي تتعلق بولي األمر و اإلشهار لكن يمكن تجاوزها في حال تراضي الطرفين‪ .‬إال أن هناك‬ ‫رأي آخر يقدمه األكاديمي السوري محمد شحرور وهو‪ :‬اإلفتاء بإباحة تواجد الشخصين في نفس المنزل‬ ‫دون عقد زواج “مساكنة” ما دام الموضوع يتم بالتراضي واعتبر الجنس بينهما تحت خانة “ملك اليمين”‪،‬‬ ‫مثير للجدل‪ .‬الرأي الذي قدمه الباحث شحرور حسب تصريحاته لـ“العربيةنت”‪ .‬إال أنه لم يتناول موضوع‬ ‫العمر‪ ،‬وهو األكثر خصوصية في هذه الحاالت‪ .‬فالدين اإلسالمي ال يحدد الفروق العمرية بل يحدد األعمار‬ ‫المالئمة لزواج كل من الذكر و األنثى‪.‬و ينسحب األمر على الديانة المسيحية‪.‬‬ ‫الموضوع محرم بموجب الدين شرعاً‪ ،‬ويتجاوز األعراف في بعض المجتمعات‪ ،‬إال أن خصوصيته تكمن‬ ‫في الجوانب النفسية واالجتماعية التي يحملها‪ .‬ورغم تقبل بعض الفئات االجتماعية لهذه الظاهرة إال أن‬ ‫خصوصية الوضع السوري في لبنان ووضع الالجئين و الالجئات بشكل عام هي ما تثير الجدل‪ ،‬فاألمر مثير‬ ‫للريبة مهما كانت المكاسب التي ينالها من خرج من بلده وباألخص في ظل االختالفات العمرية الشاسعة‪.‬‬ ‫“كل الشخوص رفضت ذكر أسمائها الحقيقية لكن األعمار حقيقة”‬

‫‪95‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫األلرتاس‪:‬‬

‫قصي عمامة❊‬

‫ظل االعتقال أم أثره؟‬ ‫االختطاف‪ّ ،‬‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ال أرقام دقيقة لعدد املغيبني قرسياً يف سوريا‪ ،‬وهنا ال نتحدث فقط عن معتقلني لدى‬ ‫جل الحديث عن مختطفني قامت عصابات تتبع لطريف‬ ‫السلطات الحاكمة يف دمشق‪ ،‬بل ّ‬ ‫النزاع الرئيسني يف البالد بتغيبهم؛ إما ألسباب سياسية أو ثأرية أو حتى مادية‪ .‬ومع أن‬ ‫الكثريين يربطون بني االعتقال واالختطاف إىل أن األحداث عىل األرض رسعان ما فكت‬ ‫هذا االرتباط‪ ،‬سواء بسبب الفجوة األمنية التي أدّت إىل منو هذه الجرمية كفعل جنايئ‬ ‫بحت مستقل عن الحدث السيايس واألمني‪ ،‬أو بسبب الرصاع املسلّح الذي تخوضه كتائب‬ ‫وجامعات مسلحة فيام بينها‪.‬‬

‫❊ صحفي سوري تخرج من كلية الفنون الجميلة‪ ،‬وشارك يف ‪ 4‬ملتقيات نحت بسوريا وعدة معارض‪ .‬ثم انتقل إىل العمل اإلعالمي حيث أثبت متيزا ً عىل‬ ‫مستوى الربامج الحوارية‪ .‬يعمل يف املجال اإلذاعي منذ عام ‪ ،2007‬إضافة إىل عمله يف الفريق الصحفي ملجلة دلتا نون‪.‬‬

‫‪96‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫االختطاف‪ّ ،‬‬ ‫ظل االعتقال أم أثره؟‬

‫حمص‪ ،‬المدينة السورية الواقعة في منتصف البالد‪ ،‬دخلت خط ما تحول اليوم إلى حرب‪ ،‬في شكل‬ ‫مبكر جداً‪ ،‬وتكاد تكون المدنية هي من ابتكرت االختطاف في سوريا‪ .‬فمع تصاعد حدة التظاهرات مع‬ ‫بداية الحراك الشعبي في المدينة‪ ،‬و توارد األنباء عن حاالت اعتقال عشوائي نفذتها السلطات آنذك‪ ،‬كانت‬ ‫قسم الحدث السياسي واألمني‬ ‫األنباء تشير أيضاً إلى وقوع حاالت اختطاف ُن ِّف َذ ْت من ِق َبلِ مدنين‪ .‬فبعد أن ّ‬ ‫سجل القسم المعارض عدة حاالت اختطاف بحق مدنيين من األحياء‬ ‫المدينة إلى قسمين‪ ،‬موالٍ ومعارض‪ّ ،‬‬ ‫الموالية للسلطات كي يقايض بها معتقلين لدى السلطة في أكثر التقديرات تفاؤالً‪ ،‬سرعان ما رد الشطر‬ ‫الموالي بخطف مدنيين لذات الغرض؛ المقايضة‪ .‬العملية باتت منظمة أكثر مع الوقت‪ ،‬ورغم الحذر الذي‬ ‫خُ لق بين أبناء المدينة‪ ،‬وقيام المتاريس وتغيير خطوط النقل واألسواق‪ ،‬إال أن االختطاف ظل يسجل حتى‬ ‫وقت متأخر من الصراع في المدينة‪.‬‬ ‫حية‬ ‫شهادة ّ‬ ‫حيدر رزوق صحفي يغطي الحرب السورية من حمص‪ ،‬تصل لمكتبه في حي عكرمة آالف من‬ ‫الملفات والشهادات حول مختطفين بعضهم اختفى منذ أكثر من عاميين‪ .‬يقول رزوق‪“ :‬بدأت عمليات‬ ‫االختطاف في َمدينة حمص بعد بداية األحداث في البالد بحوالي الثالثة أشهر‪ ،‬ولكنها لم تكن لتظهر بشكل‬ ‫واضح كونها كانت غريبة على المجتمع في مدينة حمص‪ ،‬وثانياً كونها كانت متفرقة وقليلة إلى أن ارتفعت‬ ‫وتيرة الخطف مع بداية العام ‪ ،2012‬وكانت أكثر نسبة للخطف في األشهر ‪ 2‬و ‪ 3‬من العام ‪ 2012‬وتحديداً‬ ‫في منطقة القرابيص التي شهدت أعالها‪ .‬أما بالنسبة ألعداد المخطوفين في مدينة حمص فال يوجد عدد‬ ‫دقيق‪ ،‬ولكن بحسب التقديرات وبعض اإلحصائيات فقد تجاوز العدد ‪ 2700‬مخطوف من مختلف مناطق‬ ‫حمص”‪.‬‬ ‫قضت الصفقة األخيرة في حمص القديمة على آمال اآلالف بالعثور على مختطفيهم‪ ،‬فلم تجد‬ ‫القوات الحكومية أية معتقالت خاصة‪ ،‬كما لم يظهر أي أثر ألحد منهم‪ .‬سابقاً نجح الخاطفون في تحقيق‬ ‫‪97‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫االختطاف‪ّ ،‬‬ ‫ظل االعتقال أم أثره؟‬

‫صفقات‪ ،‬لكن التح ّفظ الرسمي منع أي‬ ‫معلومات عن أرقام أو معلومات‪ .‬يتابع‬ ‫رزوق‪“ :‬ال يوجد عدد دقيق لمن حرروا‬ ‫بموجب صفقات‪ ،‬نظراً ألن بعض الذين‬ ‫تم تحريرهم كان عبر وسائط رسمية‬ ‫والبعض اآلخر تم تحريره بالتبادل وظل‬ ‫قيد الكتمان”‪.‬‬ ‫السبب األول لالختطاف بحسب‬ ‫الترتيب الزمني للممارسة في حمص كان‬ ‫رداً على عمليات االعتقال‪ ،‬لكن سرعان ما‬ ‫خط التامس الذي يفصل حي دير بعلبة وحي البياضة‬ ‫تغير هذا‪ ،‬يقول رزوق‪“ :‬نعم هناك ارتباط‬ ‫حيث حدثت مئات حاالت االختطاف‬ ‫بين عمليات االعتقال وعملية الخطف‪،‬‬ ‫ولكن ليس بنسبة كبيرة‪ ،‬ففي بعض الحاالت التي سجلت قام مجهولون باختطاف بعض المواطنين للمطالبة‬ ‫باإلفراج عن معتقلين‪ ،‬وذلك عبر التواصل مع ذوي المخطوف والضغط عليهم إلجبارهم على التواصل مع‬ ‫الجهات األمنية لإلفراج عن معتقلين ولكن لم تسجل أي حالة نجحت فيها عملية التفاوض”‪.‬‬ ‫اخلطف املضاد يف حمص‪:‬‬ ‫بدأت عملية الخطف المضاد عند ارتفاع جرائم الخطف من المعارضة المسلحة في شكل ملحوظ‬ ‫ما دفع بعض األشخاص سواء لتشكيل عصابات صغيرة‪ ،‬أو حتى من خالل أفراد‪ ،‬يقول رزوق‪ ،‬للرد على‬ ‫عمليات الخطف بالخطف المضاد بهدف تحرير مخطوف‪ ،‬أو إحداث حالة من توازن الرعب‪ ،‬إلجبار‬ ‫المعارضة المسلحة على التراجع عن تلك األعمال‪ ،‬وبالتالي‬ ‫الصحفي حيدر رزوق‬ ‫ازدادت عمليات الخطف المتبادل وازداد معه التحريض في‬ ‫المجتمع الحمصي‪ .‬الحقاً‪ ،‬وفي األشهر األخيرة شهدت حمص‬ ‫حاالت اختطافات لنساء وجدت جثثهن بعد أيام وقد اغتصبن‪،‬‬ ‫وذلك في أحياء موالية‪ ،‬ووجهت اتهامات لجيش الدفاع الوطني‬ ‫بارتكاب هذه الجرائم‪.‬‬ ‫وكصحفي متابع لملف المخطوفين يرى رزوق أن‬ ‫الخطف في حمص ترك أثراً سلبياً كبيراً في المجتمع األهلي‬ ‫الحمصي‪ ،‬وأحدث شرخاً في النسيج االجتماعي مع زيادة‬ ‫التحريض الطائفي‪ .‬فتلك العمليات بنيت على أساس طائفي ما‬ ‫أثر على العالقات االجتماعية بين أهالي حمص‪ ،‬وقد وصل األمر‬ ‫في بعض الحاالت بأن ساهم بعض المدنيين بتسهيل عمليات‬ ‫اختطاف لجيرانهم بسبب انتماءات طائفية‪.‬‬ ‫‪98‬‬

‫العدد ‪1‬‬

‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫االختطاف‪ّ ،‬‬ ‫ظل االعتقال أم أثره؟‬

‫التعاطي الرسمي املباشر وغري املباشر‪:‬‬ ‫“أهملت الحكومة الملف في‬ ‫بدايته‪ ،‬ولم تلتفت أي جهة رسمية‬ ‫لحاالت االختطاف‪ ،‬ولم تتجه لضبط هذه‬ ‫الحالة ببدايتها ما تسبب بارتفاع حدة‬ ‫تلك الجرائم‪ .‬وبعد ما يقارب العامين‬ ‫على بدء األحداث وارتفاع نسبة عمليات‬ ‫الخطف تحركت الحكومة من خالل توثيق‬ ‫الحاالت والتعامل معها بجدية أكثر‪ ،‬وقد‬ ‫نجحت في بعض األحيان من تحرير بعض‬ ‫المخطوفين‪ .‬ومع ذلك بقي هذا الملف‬ ‫من الملفات التي ال تحظى باهتمام كبير‬ ‫نفق يصل بني حي الساعة وسط حمص واملنطقة القدمية‬ ‫وكان يستخدم لنقل املخطوفني‬ ‫من الجهات الرسمية بحمص” يختم حيدر‬ ‫رزوق‪.‬‬ ‫على الضفة األخرى‪ ،‬في المناطق التي فقدت السلطة السيطرة عليها لصالح المعارضة المسلحة‪ ،‬أو‬ ‫الجماعات اإلسالمية المتطرفة‪ ،‬ظهر االختطاف أيضاً ولذات األسباب تقريباً‪ ،‬فاخ ُتطِ َف ناشطون وصحفيون‬ ‫مدنيون‪ُ ،‬‬ ‫وغ ِّي َب المئات ألسباب دينية أو عقائدية وطائفية أو حتى مادية‪.‬‬ ‫وكما هو حال عدم وجود أرقام رسمية لمختطفين في مناطق سيطرة السلطة‪ ،‬ال أرقام لعدد‬ ‫المختطفين في أماكن سيطرة المعارضة أو التنظيمات اإلسالمية‪ .‬يؤكد عبد الكريم ريحاوي رئيس ‘الرابطة‬ ‫السورية للدفاع عن حقوق اإلنسان’ لدلتا نون بالقول “ال يوجد رقم موثق ومؤكد لحاالت االختطاف لكن‬ ‫العدد المتوقع يتجاوز ‪ 1500‬مختطف بحسب التقديرات التي نمتلكها‪ ،‬الكثير من الكتائب المسلحة‬ ‫مارست االختطاف‪ ،‬معظمها كتائب إسالمية وبعض الكتائب التابعة للجيش الحر‪ ،‬ويبقى العدد األكبر من‬ ‫الحاالت من نصيب ميليشيات دولة العراق والشام االسالمية (داعش) التي قامت باختطاف مئات الناشطين‬ ‫واإلعالميين والقادة الميدانيين لكتائب مسلحة تابعة للجيش الحر باإلضافة إلى صحفيين أجانب”‪.‬‬ ‫ملاذا اخلطف؟‬ ‫تتنوع أسباب االختطاف وفقاً لنوع الجهة التي تمارسه‪ .‬يقول ريحاوي‪“ :‬أسباب عمليات االختطاف‬ ‫كثيرة ومتنوعة بحسب الجهة الخاطفة‪ .‬فميليشات ‘داعش’ مارست هذا النوع من الجرائم إلرهاب الناشطين‬ ‫واإلعالميين والصحفيين‪ ،‬وغالباً ما يتم إعدامهم‪ ،‬وفي حاالت قليلة جداً تم اإلفراج عن بعض المخطوفين‬ ‫األجانب مقابل مبالغ مالية كبيرة من خالل صفقات تمت في شكل سري بعيداً عن وسائل االعالم‪ .‬أما‬ ‫بالنسبة لبقية الجهات الخاطفة في المناطق المحررة فقامت به الكتائب اإلسالمية ألسباب تتعلق بشكل‬ ‫أساسي بتهم تتعلق بالتعاون مع النظام‪ ،‬أو في حاالت قليلة إلجبار النظام على عقد صفقة تبادل لمعتقلين‬ ‫في سجون المخابرات السورية‪ .‬أما الجزء األسوء في هذا الملف فهو ما قامت به كتائب ت ّدعي انتماءها‬ ‫‪99‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫االختطاف‪ّ ،‬‬ ‫ظل االعتقال أم أثره؟‬

‫للجيش الحر حيث مارست االختطاف بحق مواطنين ميسورين ورجال أعمال سوريين في المناطق الخاضعة‬ ‫لسيطرتها مقابل الحصول على فدية مالية‪ .‬وهذا النوع من الجرائم ال يختلف عن الجرائم التي قامت بها‬ ‫أيضا ميليشيات الدفاع الوطني التابعة للنظام مقابل الحصول على منفعة مادية لتمويل عمليات عسكرية أو‬ ‫لدفع رواتب المرتزقة”‪.‬‬ ‫تكثر األنباء عن صفقات تجري بين السلطات وبين المعارضة المسلحة التي نعود ون ّذكر أن لها‬ ‫مسميات عدة‪ ،‬وقد سجلت حاالت من التحرير والتحرير المضاد وفقاً لهذه الصفقات‪ .‬يقول ريحاوي‬ ‫“معظم المختطفين من قبل ‘داعش’ ال يزالون ضحية لالختفاء القسري ونعتقد اعتقاداً قوياً بأنهم قد‬ ‫التوصل إلى حل يفضي في نهاية األمر إلى‬ ‫ُأعدموا ميدانياً‪ .‬أما المعتقلين لدى بقية الكتائب فغالباً ما يتم‬ ‫ّ‬ ‫اإلفراج عنهم‪ .‬أما بالنسبة لصفقات التبادل بين الكتائب المسلحة والنظام‪ ،‬فهذا األمر يعتمد على أهمية‬ ‫المختطف لدى النظام‪ ،‬وغالباً ما يمتنع النظام عن الوفاء بالتزاماته حول الصفقة في حال نجاحها‪ ،‬وهذا ما‬ ‫لمسناه في حاالت عديدة أهمها الصفقة التي تمت بخصوص اإلفراج عن الراهبات والتي كان من المفترض‬ ‫أن يفرج النظام فيها عن ‪ 135‬معتقلة‪ ،‬لكنه في الحقيقة لم يفرج إال عن ‪ 30‬معتقلة”‪.‬‬ ‫حلب يف صدارة ملف اخملطوفني‬ ‫تحتل حلب مركزا متقدماً في ترتيب المدن الخاضعة لسيطرة المعارضة من حيث حاالت االختطاف‪،‬‬ ‫وفقاً لريحاوي‪ ،‬ريف حلب أوالً ثم ريف إدلب‪ ،‬الشمال السوري‪ ،‬فالشمال الغربي‪ ،‬الرقة وريفها وريف‬ ‫دمشق‪.‬‬ ‫ويرى ريحاوي أن ظاهرة االختطاف عادة ما ترافق الحروب األهلية والنزاعات المسلحة غير الدولية‪،‬‬ ‫لكن األمر المستهجن هنا أن تصبح حالة منهجية في المناطق المحررة‪ ،‬وهو أم ٌر ال يعطي الشعور باألمان‬ ‫للمدنيين الخاضعين لسلطة هذه الفئات‪ ،‬ومن المفترض وجود آلية قانونية بديلة تعطي الشعور باألمان‬ ‫واالستقرار للمجموعات السكانية في المناطق المحررة‪.‬‬ ‫تتصدى وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية لملف المختطفين وتستقبلهم تحت اسم ‘الغائبين’‪،‬‬ ‫حيث تفتش عنهم أوالً في الفروع األمنية وفقاً لكتب رسمية توجهها وتنتظر الرد‪ ،‬فيما تشرف أحياناً على‬ ‫صفقات للتبادل ال تتجاوز العشرات‪ ،‬بينما تغُ ُّص الوزارة بآالف الملفات لمختطفين يمكن أن يتحولوا‪ ،‬في‬ ‫يوم من األيام‪ ،‬إلى مجهولي مصير بعد انتهاء الحرب السورية‪.‬‬

‫‪100‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫عبد الحاج❊‬

‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫عصابات التهريب املنظمة تتقاسم‬ ‫ِّ‬ ‫ولكل مهاج ٍر قصة‬ ‫املهاجرين بحرًا وبرًا‬

‫اخلالصة‪:‬‬

‫تعد الهجرة عموماً واحد ًة من أكرث ظواهر االجتامع اإلنساين تعقيداً‪ ،‬وذلك بالنظر إىل‬ ‫تعدد مجاالت تأثريها خاصة مع التزايد املطرد يف أعداد املهاجرين من دول الرشق‬ ‫األوسط ‪-‬سوريا خصوصاً‪ -‬إىل أوربا بطرق غري قانونية‪ ،‬ويف شكل رسي غالباً؛ من خالل‬ ‫التسلل عرب مختلف منافذ الحدود املتاحة‪ ،‬أو باالستعانة بشبكات تهريب البرش‪ .‬تعقُّد‬ ‫إشكاالت وتحدّ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يات ال عىل صعيد الدول الـ ُمصدِّ رة‬ ‫الرسيي‪ ،‬فرض‬ ‫ظروف املهاجرين‬ ‫ّ‬ ‫أو املستقبلة للهجرة‪ ،‬أو عىل صعيد املهاجرين أنفسهم إنسانياً واجتامعياً واقتصادياً‬ ‫وقانونياً‪ ،‬بل كذلك عىل الدول التي تقع بحكم موقعها الجغرايف يف الطرق الرئيسة‬ ‫للهجرة‪.‬‬

‫❊ كاتب وصحفي سوري‪ .‬من مواليد سوريا‪ ،‬ومقيم في السويد‪ .‬يكتب في عدة صحف عربية منها ‘العرب اللندنية’ و‘الحياة اللندنية’ و‘القدس العربي’‪.‬‬

‫‪101‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫ٌ‬ ‫متداولة لمراكب صغيرة بدائية الصنع في الغالب‪ ،‬تحمل المهاجرين غير‬ ‫تسميات‬ ‫‘قوارب الموت’؛‬ ‫ٌ‬ ‫الشرعيين عبر البحار قوارب عمرها عشرات السنين‪ ،‬مهترئة يستخدمها مه ّربين جشعين مرتبطين بشبكات‬ ‫إجرامية منظمة‪ .‬وأضحت رمزاً للهجرة بين ب ٍّر و َب ْحر‪ ،‬إلى بالد َيعت ِقدُ المهاج ُر أنها أكثر أمناً‪ ،‬ستمنحه الحماية‬ ‫وتكفل له حياة كريمة‪ .‬مئات السوريين يصعدون من شواطئ تركيا ومصر وليبيا‪ ،‬هاربين من وطنٍ يسوده‬ ‫نزحت بهم قوارب الموت عبر البحار إلى حيث يقيمون‬ ‫الظلم والجوع وفوضى األمن‪ .‬يستذكر سوريون‬ ‫ْ‬ ‫اليوم في اوروبا تفاصيل رحالت الهروب الكبير‪.‬‬ ‫أبو أحمد (‪ 56‬سنة) ركب السفينة الليبية مهاجراً‪ ،‬ومعه زوجته وابنته وابنه وحفيده وزوجة ابنه‪،‬‬ ‫في رحلة لجوء‪ ،‬هروباً من الحرب في سوريا‪ ،‬فأصبح المشهد كالتالي‪ :‬أبو أحمد نجا‪ ،‬وهو في جزيرة كتانيا‪.‬‬ ‫وابنه نجا‪ ،‬وهو في جزيرة مالطا‪ .‬أما زوجته فتحمل الرقم ‪ 13‬في مقبرة ماتزلينو‪ .‬وحفيده يحمل الرقم ‪5‬‬ ‫في نفس المقبرة‪ .‬أما ابنته وزوجة ابنه فما يزال مصيرهم مجهوالً‪.‬‬ ‫عن تفاصيل الغرق يروي أبو أحمد‪“ :‬السفينة انطلقت من زوارة (ليبيا) التي تبعد ‪ 60‬كلم فقط عن‬ ‫الحدود التونسية‪ .‬كنا حوالي ‪ 400‬شخص معظمنا سوريين‪ ،‬وحوالي ‪ 30‬فلسطيني‪ .‬ركبنا في السفينة بعد‬ ‫دفع مبلغ حوالي ‪ $1000‬للمهربين‪ ،‬واالتفاق كان ايصالنا إلى السواحل اإليطالية‪ .‬وبعيد انطالق السفينة‬ ‫تعرضنا إلطالق نار كثيف من قبل ميليشيا تهريب ليبية كانت قريبة منا‪ .‬العيارات النارية أتت على األرجح‬ ‫بقصد القتل؛ ثالثة شبان أصيبوا‪ ،‬اثنان منهم في األيدي والثالث في ساقيه”‪.‬‬ ‫يتابع‪“ :‬على سطح السفينة ساد الهلع وحاول الناس االحتماء‪ ،‬لكن قبطان السفينة‪ ،‬وهو تونسي األصل‬ ‫ناج في مالطا و‪ 57‬في‬ ‫تل ّقى أوامر بالعودة إلى اليابسة‪ ،‬لكنه لم يتوقف”‪ .‬وبحسب أبو أحمد‪ :‬هناك ‪ٍ 143‬‬ ‫خمس في مالطا‪ ،‬و‪ 22‬في صقيلية‪ ،‬بينما مايزال ‪ 160‬في عداد المفقودين‪.‬‬ ‫جزيرة صقيلية‪ ،‬والجثث موزعة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫في تصريح صحفي مكتوب قال ‘المرصد األورومتوسطي لحقوق اإلنسان’ ‪-‬ومقره الرئيس جنيف– إن‬ ‫االتصاالت التي أجراها حول غرق السفينة تشير إلى أنه ال يزال هناك أكثر من مائة جثة في قاع البحر‬ ‫بحطام السفينة الغارقة‪ ،‬دون أن تقوم السلطات اإليطالية بدورها في انتشال الضحايا‪ ،‬رغم مرور ما يزيد‬ ‫‪102‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫على عشرة أيام من وقت وقوع الحادث‪ ،‬بزعم الحاجة إلى موازنة مالية ضخمة تقدر بثالثين مليون يورو‪.‬‬ ‫يروي فؤاد حسن (‪ 35‬سنة)‪ ،‬الذي كان ضمن مجموعة من المهاجرين من تركيا‪“ :‬ارتأيت الهجرة عبر‬ ‫البحر مع مهاجرين استقلوا المركب من مدينة إزمير غرب تركيا‪ ،‬وعددهم نحو سبعين شخصاً لقوا مصرعهم‬ ‫إثر غرق القارب وكان بينهم نحو عشرة عراقيين‪ ،‬كنت ضمن المجموعة‪ ،‬لكني ق ّلبت األمر مع نفسي‪،‬‬ ‫فتريثت‪ ،‬وفضلت الهجرة إلى أوروبا عبر روسيا وأوكرانيا”‪ .‬وصل حسن إلى هولندا بعد رحلة أيام سيراً على‬ ‫األقدام عبر أوكرانيا وبلغاريا برفقة مهربين‪ .‬ورغم المصاعب والمبالغ الطائلة التي دفعها حسن‪ ،‬لكنه يجد‬ ‫نفسه سعيداً ألنه لم يقرر في تلك اللحظات ركوب البحر‪.‬‬ ‫كانت مصادر تركية أفادت أن حصيلة غرق القارب كانت ‪ 12‬رج ًال‪ ،‬و‪ 18‬سيدة‪ ،‬و‪ 28‬طف ًال‪ ،‬وثالثة‬ ‫رضَّ ع‪ .‬وبحسب سعيد الذي ّ‬ ‫ظل في تركيا لعدة أشهر قبل انتقاله إلى أوروبا‪“ :‬إن أغلب المهاجرين غير‬ ‫الشرعيين اليوم هم من سوريا ولبنان‪ ،‬وأعداد أخرى من األردن والعراق وأثيوبيا وأرتيريا”‪.‬‬ ‫يعترف الشاب أحمد الوردي‪ ،‬الذي وصل إلى السويد عبر عملية تهريب معقدة من تركيا‪ ،‬اشتملت‬ ‫في مرحلة منها على ركوب البحر في قارب‪ ،‬بأن‪“ :‬عصابات تهريب البشر‪ ،‬تس ّهل األمر لمن يرغب بالتوجه‬ ‫إلى أوروبا‪ ،‬من الشباب الحالمين بمستقبل أفضل”‪ .‬والوردي‪ ،‬الذي حصل على حق االعتراف به كالجئ‬ ‫في السويد التي قدم إليها العام ‪ ،2012‬يحكم فكرته بالقول‪“ :‬مازالت البحار تُغ ِر ُق الكثير من الشباب من‬ ‫الصومال واليمن وسوريا الذين يضطرون إلى ترك بلدانهم”‪ .‬ويتابع أحمد‪ ،‬مستقياً معلوماته من تفاعله مع‬ ‫المهربين‪“ :‬أفضل طريقة للوصول هي عن طريق جواز سفر بلجيكي أو نمساوي‪ ،‬يخ ّول صاحبه أو حامله‬ ‫الدخول إلى السويد عبر المطار‪ ،‬أو عن طريق اليونان من أدرنه أو أزمير إلى جزيرة خيوس اليونانية وهي‬ ‫تبعد ‪ 7‬كم فقط عن البر التركي‪ ،‬ومن بعدها الذهاب إلى جنوب اليونان وإكمال الطريق بحراً إلى إيطاليا‪،‬‬ ‫ويفص ُل‬ ‫ومن إيطاليا الطريق مفتوح إلى السويد بشرط عدم ارتكاب أي فعلٍ يلفت نظر الشرطة إليك”‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫أحمد التكلفة‪“ :‬إلى جزيرة خيوس ‪ 2000‬دوالر‪ ،‬ومن جنوب اليونان إلى إيطاليا من ‪ 2000‬إلى ‪3000‬‬ ‫آالف دوالر‪ ،‬ومن إيطاليا إلى الحدود الدنماركيه السويدية عند جسر أوريسند ‪ 1000‬يورو‪ ،‬زائد المصروف‬ ‫الشخصي في تركيا واليونان وإيطاليا‪ ،‬الذي يتضمن المبيت والطعام واالتصاالت إذا اضطر األمر‪ .‬ويجب أن‬ ‫تكون في مظهر الئق إلى ح ٍّد يشبه األوروبيين وخصوصاً في اليونان وإيطاليا‪ ،‬وأنصح عدم التحرك كثيراً في‬ ‫اليونان‪ ،‬ألن الشرطة اليونانية مشهور ٌة بأمرين؛ األول تمييز المهاجر جيداً‪ ،‬والثانية تشم المهاجر من بعد ‪1‬‬ ‫كم”‪.‬‬ ‫تعتبر مدينة اإلسكندرية المصرية نقطة انطالق لكثير من مراكب الهجرة أيضاً‪ .‬فالرحالت التي أصبحت‬ ‫تتكرر عدة مرات إسبوعياً إما أن تنجح أو تفشل‪ ،‬وأمام الفشل أصبح السوريون‪ ،‬ومعهم الفلسطينيون‪ ،‬أمام‬ ‫الترحيل‪ ،‬أو البقاء تحت رحمة الشرطة المصرية التي تحتجزهم في شروط صحية سيئة‪ .‬أحمد‪ ،‬أحد الناجين‪،‬‬ ‫كان محتجزاً لدى السلطات المصرية‪ ،‬ورحل من مصر إلى سوريا‪ .‬يتحدث أحمد عن عملية االحتجاز في‬ ‫مصر قبل ترحيله إلى سوريا‪“ :‬تم تسفيرنا إلى لبنان بعد فترة حجز بسجن الدخيلة باإلسكندرية‪ ،‬وهناك‬ ‫سجن ثاني يسمى كرموش‪ ،‬كان عددنا ‪ 45‬سوري‪ ،‬والحجز كان ضمن عنب ٍر مساحته ‪ 16‬متر مربع‪ ،‬مع سجناء‬ ‫مصريين”‪ .‬ويضيف‪“ :‬تكلفة المكالمة إلى سوريا كانت ‪ ،$200‬عدا المعاملة السيئة جداً وكأننا إرهابيون‪.‬‬ ‫أتذكر أن أحدهم دفع ‪ 150‬يورو للحصول على هاتفه واالتصال بوالدته‪ .‬وك ّنا يومياً نجمع ‪ $300‬للسجان‬ ‫‪103‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫ليسمح لنا بفتح الباب والنوم بالممرات لمدة ‪ 4‬ساعات فقط‪ .‬بيع الممنوعات من قبل ضباط السجن كان‬ ‫علناً‪ ،‬وعند قرار الترحيل حجزوا لنا إلى لبنان‪ ،‬وسعر التذكرة على حسابنا ‪ .$230‬وقبل موعد الرحلة بنصف‬ ‫ساعة رافقتنا حر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫تمنيت‬ ‫اسة مشدد ٌة إلى المطار‪ ،‬ومن أصل ‪ 17‬موبايل سلمونا ‪ 3‬فقط”‪ .‬ويتابع‪“ :‬والله‬ ‫الموت في البحر على أن أعامل هكذا معاملة من مواطن عربي”‪.‬‬ ‫لكن بحسب العميد محسن عبد القادر ‪-‬مدير إدارة األموال العامة بغرب الدلتا– تحاول لسلطات‬ ‫المصرية الحد من هذه الظاهرة‪ ،‬وقد أحبطت قوات حرس الحدود محاولة هروب مركب صيد‪ ،‬وإنقاذ‬ ‫‏‪116‬‏ سورياً وفلسطينياً‪ ،‬وأربعة مصريين من طاقم المركب‪ .‬واستطاعت القطع البحرية إنقاذ المهاجرين‬ ‫غير الشرعيين‪ ،‬وانتشال الجثث التي غرقت‪ ،‬والتي وصلت إلى ‏‪20‬‏ جثة‪ ،‬تم العثور على ‏‪14‬‏ فقط‪ ،‬معظمهم‬ ‫أطفال ونساء‪.‬‬ ‫يروي قاسم فوزي من دمشق‪“ :‬إنه جاء إلى مصر منذ نحو العام‪ ،‬وأقام بمدينة ‪ 6‬أكتوبر‪ ،‬وحين ضاق‬ ‫به الحال‪ ،‬وكثر الحديث عن سفر السوريين إلى أوروبا والترحيب بهم كالجئين مع معون ٍة شهري ٍة تقدر‬ ‫بنحو ‪ 1500‬يورو‪ ،‬قرر السفر هو وأسرته‪ .‬فامتنعت زوجته عن خوض الرحلة البحرية‪ ،‬وفضلت اإلقامة في‬ ‫مصر هي وأوالدها‪ .‬ولم يسافر معه سوى ٌ‬ ‫ابنة واحدة‪ .‬ويضيف‪“ :‬تم التواصل مع أحد السوريين بأوروبا‪،‬‬ ‫حيث أرشدنا إلى السور َي ْين الل َذ ْين يؤ ِّمنان لنا السفر مع بعض الوسطاء المصريين؛ ُيس ّميان أبو أحمد وأبو‬ ‫جنات‪ ،‬وهما القائمان على تسفيرنا‪ ،‬ولم نلتقي بهما‪ .‬كان التعامل عن طريق هاتف أحد السوريين بمصر‪:‬‬ ‫أحد من‬ ‫“قمنا بدفع مبلغ يتراوح بين ‪ 3‬آالف دوالر و‪ 6‬آالف دوالر عن الفرد الواحد”‪ .‬ويتابع‪“ :‬لم يسافر ٌ‬ ‫السوريين قبلنا إال وقام بتحذيرنا من خوض هذه الرحلة‪ ،‬واالستعاضة عنها بأي وسيلة أخرى‪ .‬ولكن ضيق‬ ‫ذات اليد وحلم السفر أعمى بصرنا عن ذلك‪ .‬والفرق بيننا وبين المصريين أنهم يعلمون أنها هجرة غير‬ ‫ومأه ُلون نفسياً لخوضها‪ ،‬بينما نحن تم‬ ‫شرعية وأنهم قد يموتون جراء هذه الرحلة‪ ،‬ولذا فهم مستعدون َّ‬ ‫إيهامنا أننا سنسافر بطريقة شرعية وعبر ميناء رسمي”‪.‬‬ ‫تتجسد المأساة الحقيقية في أبونبال (فلسطيني‪-‬سوري من مخيم اليرموك) الذي جاء إلى مصر قبل‬ ‫السفر بأيام قليلة‪ .‬يقول أبو نبال‪“ :‬نحن انتقلنا من جحيم إلى جحيم آخر‪ .‬من سوريا حيث الموت والدمار‪،‬‬ ‫إلى البحر ومعاناة الموت أيضاً‪ .‬كالهما موت علي أي حال‪ .‬وقد ُ‬ ‫جئت هرباً من سوريا خصوصاً حين علمنا‬ ‫أنه سف ٌر شرعي‪ ،‬وبتأشيرات‪ .‬وأدخلونا من إحدى الشركات على أنها الميناء ولكن المفاجأة أنّنا وجدنا‬ ‫ومركب صغي ٍر جداً‪ .‬وحين َه َم ْمنا بالتراجع أشهر الصيادون الثالثة في وجوهنا‬ ‫رملي‬ ‫أنفسنا على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شاطئ ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫أدركت منذ تلك اللحظة أن سفرنا غير شرعي‪ ،‬وأن الموت‬ ‫السكاكين مه ّددين بالموت إن ارتفع صوتنا‪.‬‬ ‫في انتظارنا هنا أيضاً”‪ .‬ويضيف‪“ :‬بعد أن ركبنا المركب‪ ،‬قاموا بتغطيتنا حتى اليرى أحد من في المركب‪،‬‬ ‫وحين سألتهم نحن مسافرون بطريقة شرعية‪ ،‬لم نتلق سوى السباب بألفاظ بذيئة‪ .‬طلبوا منا كل التليفونات‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫المحمولة‪ ،‬وكان معنا ٌ‬ ‫خائفة تصرخ من ظلمة الليل والبحر عمرها عشر سنوات ماتت غرقاً في‬ ‫معاقة‬ ‫طفلة‬ ‫أحضان أمها ومعها أختها”‪.‬‬ ‫قصص غريبة‪:‬‬ ‫سوري قدم طلب لجو ٍء في مدينة ميونيخ األلمانية‪ .‬وبعد حصوله على اإلقامة‪ ،‬ه ّدد‬ ‫شخص‬ ‫‘م‪.‬ح’‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫‪104‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫بإلقاء نفسه من فوق رافع ٍة إذا لم ُيسمح له باستقدام أسرته من مصر‪ ،‬وذلك حسبما ذكر ناطقٌ باسم‬ ‫الشرطة األلمانية‪ .‬وظل السوري (‪ 31‬عاماً) قابعاً فوق الرافعة على ارتفاع ‪ 20‬متراً لمدة أكثر من ‪12‬‬ ‫اب في درجة حرارة ‪ 31‬درجة مئوية‪ ،‬وهو ما جعل رجال الشرطة يخافون من‬ ‫ساعة بال طعا ٍم أو شر ٍ‬ ‫انهياره وسقوطه‪ .‬وقالت الشرطة إنه رفض جميع العروض التي قدمتها له‪ ،‬وإنها لم تستطع استخدام وسادة‬ ‫القفز لتلقفه بسبب وجود الرافعة فوق منطقة سكنية‪ .‬وأكدت الخارجية األلمانية أن أسرة السوري تقدمت‬ ‫بالفعل لدى السفارة األلمانية في القاهرة بطلب السفر لرب األسرة في ألمانيا‪ .‬لم تمضي سوى أسابيع‬ ‫قليلة على وجود الرجل في ميونيخ‪ ،‬حيث تقدم بطلب اللجوء‪ ،‬وحسب مصادر خاصة فإن للرجل ثمانية‬ ‫أبناء‪.‬‬ ‫السوريون وما يعانونه في بلدهم ح َّولهم إلى سلع ٍة سهل ٍة بيد تجار البشر‪ ،‬إذ وجدت الشبكات في‬ ‫هؤالء الالجئين‪ ،‬وفي شريح ٍة واسع ٍة من اللبنانيين الفقراء‪ ،‬أهدافاً سهل ًة إلقناعهم بالهجرة غير القانونية‬ ‫وجني أموالٍ طائل ٍة منهم‪ .‬وكان الجيش اللبناني اعترض مركباً صغيراً كان ُيق ُِّل ‪ 13‬شخصاً في طريقهم من‬ ‫جنوب لبنان إلى إيطاليا بطريق ٍة غير قانونية‪ ،‬وأوقف خمسة أشخاص ينتمون إلى شبك ٍة ّ‬ ‫نظمت العملية‬ ‫ٍ‬ ‫حادث من نوعه في لبنان‪ ،‬بحسب ما أفاد مصد ٌر أمني‪ .‬حيث كشف التحقيق أن ك ًال من الركاب‬ ‫في أول‬ ‫ّ‬ ‫السوريين والفلسطينيين دفع مبلغ ‪ 5000‬دوالر لمنظمي الرحلة‪ ،‬وأن اللبنانيين الثالثة يشكلون جزءاً من‬ ‫شبك ٍة لتهريب األشخاص كانت تقوم بأول رحلة غير قانونية لها إلى إيطاليا‪ ،‬وقد تم توقيفهم‪ .‬وتم في ٍ‬ ‫وقت‬ ‫الحق توقيف شخصين آخرين في الشبكة بحسب المصدر الذي أشار إلى أن التحقيقات مستمرة‪ ،‬موضحاً‬ ‫ٍ‬ ‫أن الموقوفين أفادوا أن المركب كان يفترض أن يتوقف في محطات أخرى في حوض المتوسط‪ ،‬حيث‬ ‫سينضم إليه مسافرون آخرون‪ ،‬من دون أن تعرف ما هي هذه المحطات‪ .‬وذكر أن المركب يملكه لبناني‬ ‫من مدينة طرابلس (شمال لبنان)‪.‬‬ ‫يأتي ذلك بعد غرق عشرات اللبنانيين كانوا في طريقهم بطريق ٍة غير قانونية إلى أستراليا من‬ ‫أندونيسيا‪ .‬وألقى حادث أندونيسيا المروع الذي قتل فيه ‪ 39‬شخصاً من دولٍ شرق أوسطي ٍة (بينهم ‪28‬‬ ‫لبنانياً‪ ،‬بينما ال يزال العشرات في عداد المفقودين) ألقى الضوء على شبكات لتهريب األشخاص في لبنان‬ ‫نشطت خصوصاً في الشمال بعد تدفق الالجئين من سوريا نتيجة النزاع الدامي المستمر في بالدهم منذ‬ ‫ْ‬ ‫أكثر من سنتين‪ .‬وقال ناجون من حادث أندونيسيا أنهم دفعوا آالف الدوالرات لقاء مغادرتهم لبنان إلى‬ ‫جاكرتا‪ ،‬ومنها إلى أستراليا على متن ‘مركب الموت’ الذي فقدوا عليه العديد من أحبائهم‪ .‬لكن ارتفاع‬ ‫عدد المتقدمين بطلبات اللجوء إلى أوروبا‪ ،‬وغالبيتهم من أفغانستان ومن سوريا‪ ،‬التي يلجأ مواطنوها‬ ‫إلى كافة بلدان االتحاد األوروبي (بحسب روبرت فيسر ‪ Robert Visser‬مدير المكتب األوروبي لمواكبة‬ ‫طلبات اللجوء) دفع دول االتحاد إلى إعادة النظر في شؤون وعمليات طلبات اللجوء‪ .‬ومنذ فترة غير‬ ‫بعيدة وافق البرلمان األوروبي على سلسلة تشريعات خاصة باللجوء‪ ،‬وانعكس هذا األمر على دول االتحاد‬ ‫التي بادرت إلى إعادة النظر في بعض تشريعاتها‪ .‬حزمة التشريعات الخاصة بطالبي اللجوء‪ ،‬التي أقرها‬ ‫البرلمان األوروبي في شهر حزيران يونيو الماضي‪ ،‬جعلت كافة طالبي اللجوء يخضعون لذات المعاملة‬ ‫في كافة بلدان االتحاد‪ .‬وفي كرواتيا التي انضمت رسمياً إلى االتحاد األوروبي في مستهل العام الحالي‬ ‫ستطرح التشريعات األوروبية للمصادقة عليها في البرلمان الكرواتي‪ .‬لكن طرق التهريب عبر بلدان أوربا‬ ‫‪105‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫الشرقية‪ ،‬وعبرها يتم تهريب السوريين بواسطة السيارات والباصات والشاحنات المارة إلى دول الشمال‬ ‫األوربي‪ ،‬ليست متاحة للجميع‪ .‬حيث يقول مدير البيئة في مصلحة الهجرة السويدية كريستر زيترغرين‪:‬‬ ‫“إن القادرين على الدفع هم فقط من يتمكن الوصول إلى السويد‪ ،‬خاصة أن أسعار بطاقات السفر في‬ ‫ارتفاع مستمر‪ ،‬باإلضافة إلى تكاليف األشخاص الذين يتولون مهمة تهريبيهم‪ ،‬حيث يصعب على الشخص‬ ‫ٍ‬ ‫القيام بذلك دون مساعدة من المهربين في شراء بطاقات السفر أو توفير الوثائق المطلوبة”‪.‬‬ ‫ويوضح زيترغرين‪“ :‬إن غالبية السوريين المهاجرين يسلكون طريقاً مباشراً من مطار إسطنبول التركي‬ ‫إلى مطار ‪ Arlanda‬في العاصمة استوكهولم‪ ،‬وإنهم يفعلون ذلك بأوراق سفر مز ّورة‪ ،‬أو تكون تذكرة‬ ‫سفرهم مرتب ًة في شكل يخ ّولهم الوقوف في دول عدة بضنمها الدول اإلسكندنافية‪ ،‬التي يطلبون اإلقامة‬ ‫أثناء توقفهم بأحداها”‪ .‬ويبين زيترغرين‪“ :‬أن أعداد من السوريين المهاجرين وصلوا إلى ‪ Arlanda‬قادمين‬ ‫من الصين”‪.‬‬ ‫بترحاب فقط األجانب المدعويين‬ ‫تعاني أوربا اليوم من البطالة ومه ّددة باإلفالس‪ ،‬ودولها تستقبل‬ ‫ٍ‬ ‫للمناسبات السياسية‪ ،‬أو تقتصر إقامتهم على حضور المهرجانات أو الحفالت أو المشاركة في المناسبات‬ ‫الثقافية‪ .‬لهذه األسباب تخشى من تدفق المهاجرين‪ ،‬ألنها تعتبرهم منافسين في سوق العمل للمواطن‬ ‫األوروبي‪ ،‬ويهددون وحدة الثقافة والهوية‪ ،‬بخاصة بعد فشل بعض محاوالت اندماجهم في الثقافة األوروبية‪.‬‬ ‫لذلك معظم دول االتحاد األوربي ترى الحل اليوم قبل الغد في إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى‬ ‫أوطانهم‪ ،‬لهذا علينا أن ال نستغرب أن تتصدر أخبار موت المهاجرين الصحف والقنوات الفضائية العربية‬ ‫واألوروبية‪ .‬لكن أرقام مصلحة الهجرة السويدية كشفت عن ارتفاع عدد طالبي اللجوء المختفين والهاربين‬ ‫بعد تقديمهم للطلب أو تلقيهم لقرار الرفض‪ ،‬وقالت إن نسب ًة كبير ًة منهم شملتهم اتفاقية دبلن‪ .‬إذ كان‬ ‫العدد في عام ‪ 2013‬ما يقارب ‪ 7800‬طالب لجوء مختفي في السويد‪ ،‬أي بزيادة قدرها ‪ 1000‬شخص عن‬ ‫العام ‪ ،2012‬وأن ما يعادل ثلثهم حصل على قرار الرفض والترحيل‪ ،‬وأكثر من نصفهم شملتهم اتفاقية دبلن‪.‬‬ ‫وبحسب مدير عمليات الترحيل في مصلحة الهجرة ‪ Ulrik Åshuvud‬فإن عدد القادمين من‬ ‫المشمولين بقانون دبلن ازداد في اآلونة األخيرة‪ ،‬وأن األنظمة الحاسوبية الجديدة تم ّكن مصلحة الهجرة من‬ ‫تتبع الكثير من األشياء‪ ،‬وليس فقط بصمات األصابع‪ ،‬بل معرفة ما إذا كانوا قد حصلوا على قرار الطرد من‬ ‫دولٍ أخرى في االتحاد األوروبي‪ ،‬أي ما يتضمن قانون دبلن أيضاً‪.‬‬ ‫وقال ‪ Åshuvud‬في تصريحات صحفية‪“ :‬يمكننا رؤية تأشيرة الدخول بسهولة عبر نظام التأشيرة‬ ‫األوروبية المشترك‪ ،‬وهو التغيير الكبير الذي حصل عام ‪ ،2012‬ولواله لدخل الالجئون في نظام قضايا اللجوء‬ ‫الطبيعية في السويد”‪ ،‬خصوصاً بعد الضجة اإلعالمية حول حادثة المبادوسا‪ ،‬ومحاولة استغاللها سياسياً‬ ‫للهجوم على دول جنوب المتوسط‪.‬‬ ‫هجرة القاصرين‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫تعريف لها‪ .‬فحسب منظمة االتحاد العالمي‬ ‫قبل الخوض في تفاصيل هذه الظاهرة‪ ،‬يجدر بنا تحديد‬ ‫لمساعدة األطفال والوكالة العليا لغوث الالجئين‪ ،‬يتم تعريف الظاهرة بأربعة مقاييس أساسية وهي‪ :‬أوالً‪،‬‬ ‫المعطى المتعلق بالسن‪ ،‬وهو ما دون الثامنة عشر كما ص ّرح به اإلعالن العالمي لحقوق الطفل‪ ،‬ثانياً‪،‬‬ ‫‪106‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫المعطى الجغرافي الذي ينسحب على القادمين من دول العالم الثالث نحو دول االتحاد األوربي (في شكل‬ ‫مجموعات مهاجرة من األطفال من بينهم األطفال السوريين‪ ،‬حيث ال يتمتعون بحق اللجوء السياسي)‪ ،‬ثالثاً‪،‬‬ ‫المعطى المرتبط بالحماية والمصاحبة من طرف الراشدين (فهؤالء يوجدون خارج أية حماية أو مرافقة‪،‬‬ ‫وبالتالي فهم في وضعية تمنحهم حق الحماية والحصانة القانونية كما ينص عليها اإلعالن العالمي لحقوق‬ ‫الطفل)‪ ،‬ورابعاً‪ ،‬المعطى المرتبط بشبكات الهجرة‪ ،‬وبخاصة مافيا تهريب البشر باعتبار هؤالء األطفال ضحايا‬ ‫جميع أنواع االستغالل‪.‬‬ ‫يمكن تفسير هجرة القاصرين نحو أوربا بتداخل عدة عوامل منها ما هو اقتصادي‪ ،‬اجتماعي‪ ،‬سياسي‪،‬‬ ‫وثقافي‪ .‬وفي إطار مقاربة سوسيولوجية لهذه الظاهرة التي تعتبر هجرة القاصرين جزءاً من الظاهرة العامة‬ ‫للهجرة السرية التي تضم فئات اجتماعية كثيرة‪ ،‬وتستند هذه المقاربة على الرجوع إلى األسباب الحقيقية‬ ‫للهجرة بكل أصنافها والمتمثلة في الوضع االجتماعي واالقتصادي والسياسي وتفسير انعكاساته على دوافع‬ ‫الهجرة‪ .‬حيث يعتبر القاصرون من ضحايا هذا الواقع المتسم بالهامشية واإلقصاء اليومي والنزوح الذي‬ ‫تعيش فيه أسرهم‪ .‬كما أن األوضاع المادية المزرية التي تعيشها األسر السورية اليوم تدفع بالكثير من‬ ‫سن مبكرة‪ ،‬وهو ما ينتج عنه استغالل اقتصادي‪ ،‬أو يدفع إلى حمل‬ ‫أبنائها إلى ولوج عالم الشغل في ٍّ‬ ‫السالح‪ ،‬ما يجعل الطفل يفكر جدياً في الهروب من هذا الوضع‪ ،‬لم ال؟ فالهجرة السرية نحو أوربا خصوصاً‬ ‫يسهلها القرب الجغرافي‪ ،‬ما يساعد على دخول هذه المغامرة‪.‬‬ ‫كما أن هناك عوامل محفزة ومساعدة لظاهرة هجرة القاصرين منها اإلخفاق في إعادة إدماج‬ ‫األطفال المنقطعين عن الدراسة‪ ،‬والمهجرين من مدنهم ومحافظاتهم‪ .‬كذلك غياب المناخ الصحي في‬ ‫مناطق اللجوء‪ ،‬والعنف الذي يرافق سلوك المجتمع مع أطفاله‪ .‬ويلجأ القاصرون الراغبون في الهجرة إلى‬ ‫أساليب متعددة للوصول إلى القارة األوربية؛ منها شبكات الهجرة السرية و التزوير‪ ،‬فض ًال عن الهجرة عبر‬ ‫القوارب المطاطية أو الخشبية (قوارب الموت)‪ ،‬والهجرة عبر الشاحنات والناقالت التي تعبر الحدود التركية‪-‬‬ ‫اليونانية‪ .‬تعتبر الوسيلة األخيرة‪ ،‬من الوسائل السهلة والمفضلة لدى القاصرين‪ ،‬مع ما قد يجمله ذلك من‬ ‫مخاطر جمة على األطفال‪ .‬فالذين يركبون تحت إطارات الشاحنات قد يتعرضون للموت سحقاً بالعجالت‪،‬‬ ‫أما األطفال الذين يختبئون داخل حاويات الشاحنات فيتعرضون للموت خنقاً‪.‬‬ ‫يعاني األطفال المهاجرين سرياً‪ ،‬أثناء تواجدهم في أوروبا‪ ،‬أوضاعاً اجتماعية وإنسانية قاسية تتنافى‬ ‫مع ما يلزم أن يحظى به الطفل من أمنٍ واستقرار‪ .‬وفي هذا اإلطار ر ّكزت دول االتحاد األوروبي في تعاملها‬ ‫مع هذه الظاهرة على اعتبارين؛ يهدف األول إلى اتفاق دول االتحاد على صيغ موحدة ومشتركة للتعامل‬ ‫مع المهاجرين السريين بصفة عامة والقاصرين بصفة خاصة‪ ،‬في شكل ال يخالف االتفاقيات والمواثيق‬ ‫الدولية التي تركز على حقوق وحماية الطفولة‪ ،‬أما الثاني فيهدف إلى محاولة اتفاق هذه الدول مع الدول‬ ‫المصدرة لهذا النمط من الهجرة‪ .‬ما دفع باالتحاد األوروبي لتطبيق نظام جديد لمراقبة تدفق المهاجرين‬ ‫من دول شمال إفريقيا والشرق األوسط‪ ،‬يحمل عنوان ‘يوروسور’‪ .‬ويهدف هذا النظام إلى تقديم الدعم‬ ‫للوكالة األوروبية للحدود الخارجية‪ ،‬والحد من تسلل المهاجرين والالجئين غير الشرعيين إلى دول االتحاد‪.‬‬ ‫وكانت المفوضية األوروبية اقترحت برنامج ‘يوروسور’ عام ‪ ،2008‬لكنها تل َّكأَت في إقراره‪ّ .‬إل أن‬ ‫ٍ‬ ‫مناقشات حاد ًة وردود فعلٍ‬ ‫تزايد ضحايا حوادث غرق قوارب الموت التي تنقل الالجئين والمهاجرين‪ ،‬أثار‬ ‫‪107‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫قوارب املوت إىل أوروبا‬

‫كبيرة في األوساط السياسية والرأي العام األوروبي والدولي على سياسات الهجرة المتبعة‪ ،‬ما اضطر القمة‬ ‫األوروبية التي عقدت في أواخر تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪ 2013‬بطرح هذا الملف للمناقشة ولبحث مسألة‬ ‫مكافحة الهجرة غير الشرعية‪.‬‬ ‫وكانت منظمة العفو الدولية قد انتقدت‪ ،‬على لسان مدير مكتب المؤسسات األوروبية فيها نيكوالس‬ ‫بيغر‪ ،‬االتحاد األوروبي لفشل قمته في اتخاذ ما يلزم من االجراءات لحماية أرواح الالجئين والمهاجرين على‬ ‫طول الحدود األوروبية‪ .‬يقول بيغر‪“ :‬اتضح أن أولويات أوروبا ال تتعلق بإنقاذ األرواح أو حماية الناس على‬ ‫طول الحدود‪ ،‬بل منعهم من الوصول إلى أوروبا بأي ثمن حتى ولو كان هؤالء الناس في حاج ٍة إلى األمن‬ ‫والحماية”‪ .‬وقال رئيس المجلس األوروبي هيرمان فان رومبوي‪“ :‬إن اإلجراءات األوروبية الجديدة تقوم على‬ ‫ثالثة أسس ومبادئ هي الوقاية‪ ،‬والحماية‪ ،‬والتضامن”‪ ،‬مؤكداً “العزم على معالجة جذرية ألسباب تدفق‬ ‫موجات الالجئين والمهاجرين غير الشرعيين من خالل التنسيق مع بلدانهم األم ودول العبور”‪.‬‬ ‫صعد ملف المهاجرين بقوة إلى واجهة األحداث السياسية فى أوروبا إثر تفجيرات لندن اإلرهابية‬ ‫فى السابع من حزيران‪/‬يونيو ‪ ،2005‬وانتفاضة المهاجرين المهمشين فى الضواحي الفرنسية في السابع‬ ‫والعشرين من تشرين األول‪/‬أكتوبر وما تبعها من أعمال شغب وعنف محدودة النطاق في بلجيكا وألمانيا‬ ‫ٍ‬ ‫وهولندا واليونان‪ .‬فقد كشفت هذه األحداث مجتمع ًة الغطاء عن تر ٍ‬ ‫لسلبيات عديد ٍة سياسية‬ ‫اكمات‬ ‫واجتماعية واقتصادية وثقافية‪ ،‬تفاعلت في أوساط المهاجرين عبر عقو ٍد من الزمن بتأثير عوامل داخلية‬ ‫وخارجية مختلفة‪.‬‬ ‫ورغم اختالف طبيعة األحداث والظروف بين ما حدث في مدريد ولندن من جهة (باعتبارها ترتبط‬ ‫بظروف أمنية وأوضاع سياسية خارجية)‪ ،‬وما حدث في فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا من جهة أخرى‬ ‫(باعتبارها انعكاساً لظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية داخلية)‪ ،‬فإن هذه األحداث مجتمع ًة َن َّب َه ْت إلى‬ ‫خطورة ملف المهاجرين فيما يخص قضايا األمن والحريات وحقوق اإلنسان والعنصرية واللجوء السياسي‪،‬‬ ‫ومشكالت الفقر والبطالة والتهميش‪ ،‬وتح ّديات االستيعاب واالندماج والمواطنة‪ ،‬والتطرف واإلرهاب واإلسالم‬ ‫السياسي‪ ،‬ونمو المشاعر العنصرية والتمييز والتطرف اليميني‪ ،‬وطبيعة العالقة بين التيارات والقوى السياسية‬ ‫الداخلية فيما يتعلق بالتعامل مع هذا الملف وأثره على العالقات األوروبية الخارجية‪ ،‬بخاصة مع الدول‬ ‫مصدر الهجرة هذا‪.‬‬ ‫لكن نظرة المهاجرين أنفسهم أثناء إقامتهم الفعلية في موطنهم الجديد‪ ،‬وتقويمهم لتلك التجربة‬ ‫التي يم ّرون بها وبخاصة فيما ي ّتصل بعالقتهم بالمجتمع األصلي الذي نزحوا منه‪ ،‬ومدى ارتباطهم به‪ ،‬ونوع‬ ‫هذه العالقات والروابط التي ال تزال كلها في حاج ٍة إلى مزي ٍد من الدراسة المتع ّمقة؛ عن طريق االتصال‬ ‫المباشر وتطبيق مناهج وأساليب البحث األنثروبولوجي‪.‬‬ ‫ومع سقوط القضية السورية في الحضن الدولي‪ ،‬وفقدان األمل بأن الحرب في سوريا ستتوقف في‬ ‫ٍ‬ ‫وقت قريب‪ ،‬يركب الالجئون السوريون البحر‪ ،‬حيث ستبقى قوارب الموت ما بقيت األسباب‪ ،‬فحيث هناك‬ ‫جوع هناك مهاجر‪ ،‬وحيث هناك قتل فثمة نازح‪.‬‬

‫‪108‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ال ّرياضة يف سوريا‬

‫عالء إحسان❊‬

‫أحمد الحاج حمدو❊❊‬

‫كضحية من ضحايا األزمة‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تعاين الرياضة يف سوريا ما تعانيه بقية مناحي الحياة فيها‪ ،‬فالسنوات الثالث السابقة من‬ ‫عمر األزمة أثّرت سلبياً عىل كافة مفاصلها‪ ،‬وأدخلتها يف حالة من املوت الرسيري‪ .‬األرض التي‬ ‫أنجبت املصارع جوزيف عطية‪ ،‬صاحب امليدالية الفضية يف أوملبياد لوس أنجلس ‪،1984‬‬ ‫وغادة شعاع الحائزة عىل ذهبية السباعي يف أوملبياد أتالنتا ‪ ،1996‬باتت فقري ًة بالرياضة‬ ‫والرياضيني بعد أن تأثرت البنية التحتية من منشآت ومالعب بفعل الحرب القامئة‪ .‬ولهذا‪،‬‬ ‫اختار كث ٌري من الالعبني الهجرة بحثاً عن فرصة احرت ٍ‬ ‫اف خارجية‪ُ .‬ق ِتل البعض وأصيب آخرون‬ ‫قتلت مستقبلهم الريايض‪ ،‬وجعلتهم عاجزين مقعدين بعد مسري ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ات رياضي ٍة حافلة‪.‬‬ ‫إصابات ْ‬ ‫ومل تسلم الرياضة من نار االستقطاب السيايس‪ ،‬فقد تعرض العبون لالغتيال أو االعتقال تبعاً‬ ‫ملوقفهم السيايس‪ ،‬كام ق ّرر بعضهم حمل السالح واالنضامم ألحد أطراف الرصاع‪ ،‬فيام اختار‬ ‫آخرون االنشقاق عن ‘مؤسسة االتحاد الريايض العام’ التابعة للحكومة السورية‪ ،‬واالنضامم‬ ‫إىل ‘رابطة الرياضيني السوريني األحرار’ التي سعت لتكون بديالً عن املؤسسة الرسمية‪ .‬ويف‬ ‫شأنٍ آخر‪ ،‬وبينام يضبط العامل إيقاعه عىل مونديال الربازيل ‪ 2014‬الذي انطلق يف ‪ 12‬حزيران‪/‬‬ ‫يونيو‪ .‬تستمر التحضريات الستقباله يف جميع البلدان كام جرت العادة‪ .‬لكن هذه التحضريات‬ ‫أمني تعيشه‬ ‫ال تنطبق اليوم عىل سوريا التي غاب كأس العامل عن اهتامم شبابها بفعل توت ٍر ٍّ‬ ‫بالدهم منذ ثالث سنوات‪ .‬وتحولت ساحات املدن السورية من مرسح يجتمع حوله الهواة‬ ‫واملشجعني إىل أماكن خاوية عىل عروشها خوفاً من تفجري قد يدوي‪ ،‬أو قذيفة هاون تسقط‪.‬‬ ‫فيكفيك أن متيش دقائق معدودة يف شوارع دمشق لتتأكد أن الهروب من شبح املوت وتحصيل‬ ‫لقمة الحياة تصدرت أولويات الشاب السوري الذي يرتقب لعبة دولية تعرب عن واقعه‬ ‫❊ صحفي سوري وخريج كلية اإلعالم‪ ،‬يعمل يف ‘املركز السوري للتوثيق’ إضافة إىل عمله الصحفي املستقل مع عدة جهات أخرى‪ .‬عضو فريق مجلة ‘دلتا‬ ‫نون’ الصحفي‪.‬‬ ‫❊❊ خريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬يعمل كصحفي في المدينة ‘إف إم’‪.‬‬

‫‪109‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة‬

‫‘رابطة الرياضيني السوريني األحرار’‪ :‬نسعى العرتاف دويل رغم الصعوبات‬ ‫تقول مديرة المكتب اإلعالمي في ‘رابطة الرياضيين السوريين األحرار’ ريم علوان‪“ :‬تأسست الرابطة‬ ‫في آذار‪/‬مارس ‪ ،2012‬لتكون حاضناً للرياضيين المنشقين عن االتحاد الرياضي العام التابع للنظام‪ .‬ض ّمت‬ ‫حتى اليوم ‪ 1929‬شخصاً من الرياضيين واإلداريين‪ ،‬واستطاعت الحصول على اعتر ٍ‬ ‫اف خطي من قبل‬ ‫‘االئتالف الوطني المعارض’‪ ،‬كما شاركت في عدة مسابقات إقليمية أهمها في مصر وتركيا”‪ .‬وتضيف علوان‪:‬‬ ‫“كانت الرابطة عم ًال ثورياً بأخالق رياضية عالية‪ ،‬إال أنّ اإلدارة األولى ح ّولت مسار الرابطة إلى مصالحها‬ ‫الشخصية‪ ،‬وض ّمت أشخاصاً غير مؤهلين إليها من أجل الحصول على مكاسب معينة‪ ،‬ما أ ّدى إلى نشوب‬ ‫خالفات أفضت إلى انقسام الرابطة إلى خمسة كيانات‪ ،‬يعمل ٌّ‬ ‫كل منها في شكل مستقل وهي؛ رابطة‬ ‫الرياضيين األحرار‪ ،‬رياضيون من أجل سوريا‪ ،‬هيئة الرياضيين األحرار‪ ،‬االتحاد السوري الحر لكرة القدم‬ ‫واالتحاد السوري الحر للكاراتيه”‪ .‬وذلك طبيعي بحسب علوان التي تعزوه إلى “وجود أشخاص تر ّبوا على‬ ‫يد النظام‪ ،‬ولن نستطيع التخلص من أخالقهم الدونية‪ ،‬وإن لبسوا قناع الثورة”‪.‬‬ ‫حول الخسائر التي تعرضت لها الرياضة في شكل عام‪ ،‬تقول السيدة ريم إنّها تمكنت بالتعاون مع‬ ‫منظمات حقوق اإلنسان من توثيق نحو ‪ 400‬قتي ًال‪ ،‬وأكثر من ‪ 250‬معتق ًال رياضياً في السجون السورية‪،‬‬ ‫إضاف ًة إلى العديد من الجرحى الذين أصيبوا وتأثرت حياتهم الرياضية سلباً‪ ،‬أبرزهم المالكم ناصر الشامي‬ ‫صاحب برونزية أولمبياد أثينا ‪ .2004‬كما تأثر كثي ٌر من المنشآت بفعل الحرب القائمة‪ ،‬بينها ‘ملعب‬ ‫الحمدانية الدولي’ بحلب‪ ،‬الذي ُد ّمر جز ٌء كبي ٌر منه‪ ،‬كما تحولت بعض المالعب إلى ثكنات عسكرية مثل‬ ‫‘ملعب العباسيين’ بدمشق‪.‬‬ ‫تُنهي علوان الحديث بقولها‪“ :‬إنّ االتحاد الرياضي العام داخل سوريا هو جسم فاسد ومرتع‬ ‫للمكتسبات الشخصية‪ .‬كما أنّه مك َّون من أشخاص أفسدوا الرياضة دائماً‪ ،‬حتى خالل فترة الثورة‪ .‬ونحن‬ ‫كرابطة للرياضيين األحرار نسعى لسحب االعتراف من اللجنة األولمبية السورية‪ ،‬إال أننا نصطدم بعقبات‬ ‫تتعلق بحصر االعترافات السياسية بعدة دول‪ ،‬وليس الجميع ما يجعل مهمتنا صعبة”‪.‬‬ ‫‪110‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة‬

‫االحتاد الرياضي العام‪ 3 :‬مليارات حجم اخلسائر الرياضية‪ ..‬ومؤسساتنا الرسمية‬ ‫هي الوحيدة املعرتف بها عامليًا‬ ‫يقول د‪ .‬إبراهيم أبا زيد رئيس‬ ‫مكتب التنظيم المركزي في ‘االتحاد‬ ‫الرياضي العام’‪ ،‬وعضو ‘اللجنة األولمبية‬ ‫السورية’‪“ :‬إنّ استمرار األنشطة الرياضية‬ ‫الداخلية كان له دور هام في تحدي‬ ‫القوة الظالمية التي تريد إيقاف عجلة‬ ‫الحياة‪ ،‬إذ تم ّكن االتحاد من تنظيم‬ ‫بطوالت الجمهورية لمعظم األلعاب‪،‬‬ ‫كما تستعد المنتخبات السورية لعدة‬ ‫ريم علوان مديرة املكتب اإلعالمي‬ ‫استحقاقات عالمية أبرزها دورة األلعاب‬ ‫يف ‘رابطة الرياضيني السوريني األحرار’ يف إسطنبول‬ ‫األولمبية للشباب في الصين‪ ،‬ودورة‬ ‫األلعاب الشاطئية في تايلند‪ ،‬وغيرها من البطوالت”‪.‬‬ ‫وعن الخسائر التي لحقت بالرياضة السورية‪ ،‬يقول أبا زيد‪“ :‬تع ّرضت عدة أندية رياضية للتخريب‪،‬‬ ‫الس َلمية وال َّرستن وصوران وطيبة اإلمام ومورك‪ .‬كما بلغت الخسائر المادية أكثر من ‪ 3‬مليارات‬ ‫أبرزها في َ‬ ‫ليرة سورية‪ ،‬فض ًال عن توثيق مقتل أكثر من ‪ 100‬رياضي برصاص اإلرهاب التكفيري”‪.‬‬ ‫يضيف أبا زيد‪“ :‬استطاع االتحاد أن يأخذ دوراً اجتاز نطاقه الرياضي خالل فترة األزمة‪ ،‬فالمدن‬ ‫الرياضية تستوعب أكثر من ‪ 10‬آالف الجئ‪ ،‬ودوري كرة القدم يق ّدم دعماً مالياً لـ ‪ 2000‬أسرة‪ ،‬يعمل أحد‬ ‫وح ّكام‪ .‬ويساهم رياضيونا في إعطاء حصص تدريبية‬ ‫أفرادها في األندية أو يشاركون كالعبين ومدربين ُ‬ ‫لألطفال في مراكز اإليواء‪ ،‬وأخيراً وزّعنا بطاقات ألبناء الشهداء‪ ،‬وساهمنا بتقديم بعض التجهيزات الخاصة‬ ‫لهيئة مدارس أبناء الشهداء”‪.‬‬ ‫ال يخفي أبا زيد حصول حاالت‬ ‫د‪ .‬إبراهيم أبا زيد ريئ مكتب التنظيم يف االتحاد الريايض العام (ميني)‬ ‫وعالء إحسان من الفريق الصحفي يف دلتا نون (يسار)‬ ‫انشقاق في المؤسسة الرياضية الرسمية‪،‬‬ ‫إال أنَّها فردية على حد قوله‪ ،‬لم ت َ​َطل أياً‬ ‫من القيادات‪ .‬مضيفاً أنّ ‘اللجنة األولمبية‬ ‫السورية’ هي الوحيدة الممثلة للرياضة‬ ‫السورية من قبل ‘اللجنة األولمبية الدولية’‬ ‫واتحاداتها‪ .‬ويختم أبا زيد حديثه متسائ ًال‬ ‫حول مدى شرعية ‘رابطة الرياضيين‬ ‫السورين األحرار’‪ ،‬ومن هي الجهات‬ ‫الداعمة لها‪ ،‬وحجم االعتراف الحاصلة‬ ‫عليه إلى حد اآلن‪.‬‬ ‫‪111‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة‬

‫تشكل احتادًا ومنتخبًا حرًا لتمثيلها‬ ‫الكاراتيه‬ ‫ّ‬ ‫يتح ّدث أحمد قرقشلي‪ ،‬اإلداري في ‘االتحاد السوري الحر للكاراتيه’‪ ،‬وفي ‘المنتخب السوري الحر’‬ ‫للعبة ذاتها عن ظروف ُّ‬ ‫تشكل االتحاد قائ ًال‪“ :‬استطعنا تشكيل اتحاد برئاسة المدرب عماد زين العابدين‪،‬‬ ‫وشاركنا بعدة بطوالت في اليونان‪ ،‬بعد أن حصلنا على موافقة واعتراف االتحاد اليوناني‪ ،‬لمعرفتنا به‬ ‫وعالقاتنا مع مسؤوليه‪ ،‬وتمك ّنا من إحراز ميدالية ذهبية في بطولة أثينا المفتوحة للكاراتيه عن طريق‬ ‫الالعب علي البارودي”‪ .‬ويضيف‪“ :‬تواجهنا صعوبات مادية تتعلق بضعف تمويل االتحاد‪ ،‬وهذا ما سنحاول‬ ‫ّ‬ ‫تخطيه خالل السنوات القادمة”‪ .‬ويشير قرقشلي إلى أنّه يجب على جميع الرياضيين من مدربين والعبين‬ ‫التوحد جنباً إلى جنب لمساعدة أهلهم في الداخل‪.‬‬ ‫وإداريين ُّ‬ ‫سباح سوري‪ :‬الظلم والفساد الرياضي ال يعنيان مغادرة البالد‬ ‫ّ‬ ‫ُيع ّبر الس ّباح السوري صالح محمد‪،‬‬ ‫الحائز على المركز الثاني في سباق‬ ‫بارانا في األرجنتين شباط الماضي‪ ،‬عن‬ ‫واقع السباحة السورية قائ ًال‪“ :‬لم نتأثر‬ ‫كسباحين إثر األزمة القائمة‪ ،‬فتدريباتنا‬ ‫وإقامتنا كانتا مؤمنتين في شكل كامل‬ ‫من قبل االتحاد الرياضي العام داخل‬ ‫فندق تشرين ومسبحه‪ .‬لكن كان للظروف‬ ‫القائمة تأثير خارجي من حيث منع‬ ‫مشاركتنا في المسابقات العربية‪ ،‬تبعاً‬ ‫عالء إحسان من الفريق الصحفي يف دلتا نون (ميني) مع السباح مصفى محمد يف‬ ‫لقرار صادر عن جامعة الدول العربية‪،‬‬ ‫فندق ترشين الريايض يف منطقة الربامكة بدمشق (أيار‪/‬مايو ‪)2014‬‬ ‫والتي النتشّ رف بالمشاركة بها أص ًال‪ .‬إضاف ًة‬ ‫تعمد بعض الدول تأخير إرسال الفيزا لنا‪ ،‬ما أ ّدى إلى عدم مشاركتنا في عدة سباقات بسبب وصولنا‬ ‫إلى ُّ‬ ‫في وقت متأخر”‪.‬‬ ‫ويشير محمد إلى وجود ظلم ومحسوبيات وتقصير في الرياضة السورية‪ ،‬إذ أنّ حجم العائد المادي‬ ‫الذي يحصل عليه العبو الرياضات الفردية قليل جداً‪ ،‬مقارنة مع نظيرتها الجماعية‪ .‬ويضيف محمد قائ ًال‪:‬‬ ‫“إنّ كل هذه األمور ال تعني أن نشكي ه ّمنا للغريب”‪ .‬متسائ ًال عن جدوى خطوة االنشقاق التي أقدم عليها‬ ‫بعض الرياضيين‪ ،‬بخاصة أنّهم لن يستطيعوا اللعب تحت اسم سوريا‪ ،‬إال بظل ‘اللجنة األولمبية السورية’‬ ‫حصراً‪ ،‬أو اللعب في شكل فردي أو تحت راية دولة أخرى‪ ،‬كاشفاً عن ن ّية بعضهم العودة إلى سوريا بعد أن‬ ‫ضاقت بهم السبل في الخارج‪.‬‬ ‫حرب‬ ‫إذاً تبقى الرياضة السورية في الوقت الحاضر أسير ًة للنزاع السياسي والحرب القائمة في البالد‪ٌ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫وشتات‬ ‫مقسمين‪ ،‬مف ّرقين بين وطنٍ ضاق بهم‪،‬‬ ‫فرقت رياضيين اعتادوا رفع راي ٍة واحد ٍة تجمعهم‪ ،‬ليغدوا ّ‬ ‫قضى على مستقبل رياضاتهم‪.‬‬ ‫‪112‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة‬

‫انعدام مقومات مشاهدة مونديال كأس العامل يف الربازيل ‪2014‬‬ ‫هل ستشاهد كأس العالم هذا الموسم؟ “سأحاول إذا توفرت الكهرباء!” يجيب حسام وهو طالب‬ ‫في جامعة دمشق ثم يضيف‪“ :‬اعتدت تحضير نفسي جيداً لمتابعته‪ ،‬لكن هذه المرة لم أستطع فعل ذلك‬ ‫نتيجة غياب مح ّفزات المشاهدة”‪ .‬تختصر إجابة حسام واقع التيار الكهربائي الذي أصبح نوعاً من الرفاهية‬ ‫في سوريا‪ .‬لكن ثمة صعوبات أكبر تقف في وجه متابعي كأس العالم‪ ،‬لعل أبرزها الشروط القاسية التي‬ ‫وضعتها قناة ‘بي إن سبورت’ القطرية من فرض شراء جهاز استقبال مع كرت اشتراك مدمج ورفع أسعار‬ ‫االشتراك في شكل كبير ليصل إلى أكثر من ‪ 256‬دوالراً‪ ،‬في حين وصل السعر في السوق السوداء السورية‬ ‫إلى حوالي ‪ 70‬ألف ليرة وهو ما يعادل راتب موظف ألربعة أشهر‪ ،‬بينما كان رسم االشتراك في مونديال‬ ‫جنوب إفريقيا ‪ 2010‬حوالي ‪ 100‬دوالر‪ ،‬وهو ما كان يعادل ‪ 5‬آالف ليرة سورية‪ .‬ويضاف إلى ذلك وصول‬ ‫بث المبارايات في وقت متأخر من الليل‪ ،‬وهذه المشكلة بددت أوهام يوسف ‪ 22‬سنة الذي حاول اختصار‬ ‫المبلغ الباهظ لالشتراك بالتزاحم على المقاهي كما سيفعل كثيرون غيره‬ ‫إصرار وتضحية ألجل مباراة‬ ‫“كأس العالم يأتي كل أربع سنوات‪ ،‬وبين المونديال الماضي وشقيقه المرتقب تغيرت أشياء كثيرة”‪،‬‬ ‫يقول أيهم‪ ،‬وهو طالب دراسات عليا في جامعة دمشق‪ ،‬ويضيف‪“ :‬كنا ننتظر المونديال بشغف لنعيش‬ ‫تفاصيله‪ ،‬لكن اآلن بات على األبواب وأنا ال أعلم عنه شيئاً”‪ .‬أيهم الذي كان من المغرمين بهذه اللعبة‬ ‫يتحمس اليوم لمتابعة موسم كأس العالم رغم انعدام مق ّوماته في البالد‪ .‬إبراهيم ‪ 22‬سنة أحد سكان‬ ‫ضواحي دمشق الجنوبية‪ .‬أدهشني هذا الشاب بإصراره حيث قال‪“ :‬الظروف المؤسفة التي تعصف بالبالد‬ ‫لن تقف عائقاً أمام حبي لكرة القدم‪ ،‬وسأستخدم كل الطرق والوسائل في سبيل عدم تفويت أية مباراة”‬ ‫لم أكن أتوقع ذات يوم أن ثمة إنسان يغامر بالتوجه إلى مكان ربما يودي بحياته ألجل مشاهدة‬ ‫مباراة‪ .‬إنها منطقة ساروجا وسط العاصمة دمشق التي تحتضن محبي كرة القدم حول مقاهيها الشعبية‪،‬‬ ‫وتحتضن أيضاً قذائف الهاون التي باتت جزءاً ال يتجزأ من حياة سكانها اليومية‪ .‬منذ عدة أيام تعرضت‬ ‫المنطقة لسقوط أكثر من قذيفة حصدت ضحايا ومصابين‪ ،‬وذلك قبل ساعات من نهائي الدوري اإلسباني‬ ‫الذي جمع نادي برشلونة مع إتلتيكو مدريد‪ .‬أدهشني مشهد اكتظاظ المقاهي هناك خالل تلك المباراة‬ ‫كأن شيئاً لم يحصل‪ .‬فمن المتوقع أن يستمر سقوط القذائف وتودي بحياة المشجعين‪ .‬لكن الجميع كان‬ ‫يتابع بشغف دون أن يكترث لمفردات المعارك التي اعتادها الدمشقيون؛ يقول قاسم ‪23‬سنة‪ ،‬وهو أحد‬ ‫الزبائن في تلك المقاهي‪“ :‬عجلة الحياة ال بد أن تدور ألننا لو تخوفنا من القدر لما كان غادر منزله من‬ ‫ثالث سنوات”‪.‬‬

‫‪113‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ا ُ‬ ‫ملس ّلحون يف سوريا‪:‬‬

‫طارق العبد❊‬

‫الدعم والقيادة‬ ‫ُ‬ ‫البحث عن َّ‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫عىل مدى سنتني ونصف من عمر الحراك املسلح يف سوريا‪ ،‬يبدو املشهد يف غاية التعقيد‬ ‫مع مئات الكتائب واأللوية والفرق العسكرية التي تختلف يف كل يشء‪ ،‬لتتقاطع يف‬ ‫حقيق ٍة واحدة هي أنها مبثابة جسم بال رأس‪ ،‬ومجموعات تسعى للتمويل والبحث عن‬ ‫األسلحة‪ ،‬التي قد ال يكون هدفها األسايس هو إسقاط النظام بقدر ما ميتد إلعالن إماراتها‬ ‫الخاصة‪ .‬عىل مدى أكرث من عدد ملجلة ‘دلتا نون’‪ ،‬سنتط ّرق إىل ملف العمل املسلح يف‬ ‫البالد‪ :‬كيف يحصل املسلحون عىل التمويل والدعم‪ ،‬وماهي إسرتاتيجيات عملهم؟ من‬ ‫هي أبرز الفصائل املقاتلة؟ وما هي اتجاهاتها الفكرية؟ وهل استطاعت التأثري يف الشارع‬ ‫املعارض؟ يف السطور التالية سنتعرف أكرث عىل أبرز ثالث مجموعات مقاتلة‪ ،‬وهي‪‘ :‬الجبهة‬ ‫اإلسالمية’‪ ،‬و‘جبهة النرصة’‪ ،‬و‘الجيش الحر’‪.‬‬

‫❊ كاتب وصحفي يف الشؤون السياسية والعسكرية‪ ،‬بدأ حياته املهنية كمد ّون وتنقل يف عدة وسائل إعالمية‪ .‬يعمل حالياً يف صحيفة ‘السفري’ باإلضافة إىل‬ ‫‘مركز البناء اإلخباري’‪ ،‬وضمن الفريق الصحفي ملجلة ‘دلتا نون’‪ .‬يدرس يف كلية الطب البرشي ويستعد للدراسات العليا‪.‬‬

‫‪114‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫البحث عن الدَّ عم والقيادة‬ ‫ملس ّلحون يف سوريا‪:‬‬

‫اجلبهة اإلسالمية وحلم اخلالفة‬ ‫ظهرت ‘الجبهة اإلسالمية’ للعلن في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ ،2013‬وهي نتاج اندماج ‪ 8‬فصائل مقاتلة‪،‬‬ ‫أبرزها الرباعي‪‘ :‬حركة أحرار الشام’‪‘ ،‬ألوية صقور الشام’‪‘ ،‬جيش اإلسالم’‪ ،‬و‘لواء التوحيد’‪ .‬فيما بدا الفتاً‬ ‫دور حركة ‘شام اإلسالم’ في معارك الساحل األخيرة‪ .‬وإذا كانت الصورة األولى توحي بانسجام بين أكبر‬ ‫المجموعات المسلحة في البالد‪ ،‬إال أنّ الواقع يشي بخالفات فكرية وعقائدية واسعة‪ .‬فـ ‘أحرار الشام’ هي‬ ‫حركة تتبع النهج السلفي الجهادي‪ ،‬وتتشدد في قبول مقاتليها‪ ،‬وفق ما يرويه ناشطون في الشمال السوري‪.‬‬ ‫إذ ال تتردد في طلب صفحاته على مواقع التواصل االجتماعي‪ ،‬وتخضعه لدورات مكثفة في أصول العقيدة‬ ‫اإلسالمية والفكر السلفي‪ ،‬متمتع ًة في الوقت نفسه بدعم مالي يم ّكنها من تسديد رواتب تتراوح بين ‪200-‬‬ ‫‪ 300‬دوالر لكل مقاتل‪ .‬فيما يذهب أميرها أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) خطوة أبعد‪ ،‬عندما يعلن‬ ‫في مقابلة له على ‘قناة الجزيرة’ أنّ هدف الحركة هو بناء الدولة اإلسالمية بعد إسقاط النظام‪ ،‬ويؤكد‬ ‫تقاطعه في كثير من النقاط مع ‘جبهة النصرة’ التي باتت تمثل ‘تنظيم القاعدة’ في بالد الشام‪.‬‬ ‫وفي المقابل ينطلق كل من ‘لواء التوحيد’ و‘صقور الشام’ من خلفية إخوانية ال تتقاطع كثيراً مع‬ ‫ٍ‬ ‫هدف أبعد من إسقاط النظام‪ .‬ويتمركز‬ ‫‘أحرار الشام’‪ .‬إذ لم يعلن ٌّأي من الفصيلين إبان تشكيلهما عن‬ ‫األول في حلب‪ ،‬والثاني في ريف إدلب‪ ،‬حيث ينتمي مؤسس ‘لواء التوحيد’ عبد القادر صالح إلى عائلة‬ ‫كانت إحدى أبرز أعمدة ‘جماعة اإلخوان’ في ريف حلب‪ ،‬وتحديداً في مارع‪ ،‬والحال نفسه ينطبق على أبو‬ ‫عيسى الشيخ مؤسس ‘صقور الشام’‪ .‬واعتمد ٌّ‬ ‫كل منهما على عناصر محلية من أبناء المنطقة في معاركه‪،‬‬ ‫ودب من العناصر التي تب ّين‬ ‫هب ّ‬ ‫ولحشد عدد أكبر‪ ،‬لم يمانع ‘لواء التوحيد’ تحديداً في قبول كل ما ّ‬ ‫‘حجي مارع’ فصل الكثير من‬ ‫أن بعضها مجرد عصابات تقوم بالسرقة وبخاصة في حلب‪ ،‬ليقرر حينها ّ‬ ‫المقاتلين‪ .‬ولكن تحوالً طرأ على مسارهما‪ ،‬وال سيما ‘لواء التوحيد’ حين أعلن في شتاء ‪ 2012‬توقيعه على‬ ‫ميثاق يعلن بناء الدولة اإلسالمية‪ ،‬قبل أن يتراجع عنه بضغط من الشارع آنذاك‪ ،‬لكنه عاد وو ّقع على ميثاق‬ ‫‪115‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫البحث عن الدَّ عم والقيادة‬ ‫ملس ّلحون يف سوريا‪:‬‬

‫الجبهة الذي يؤكد على دولة الخالفة‪.‬‬ ‫أما ‘جيش اإلسالم’ فيعود أصله إلى ‘لواء‬ ‫اإلسالم’‪ ،‬الذي تشكل مطلع عام ‪ ،2012‬إ ّبان اشتداد‬ ‫المواجهات في دوما بريف دمشق‪ .‬ولع ّله األكثر‬ ‫قرباً من فكر ‘أحرار الشام’ السلفي‪ ،‬وإنْ بدرج ٍة‬ ‫أخف‪ ،‬حيث يشترك معه في نقاط عدة أبرزها‬ ‫تنظيم المقاتلين وإعدادهم في فصائل وكتائب‬ ‫للتنصت‪ ،‬وبعضها لالقتحام‪،‬‬ ‫مختصة‪ ،‬بعضها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأخرى للعمل المدني‪ ،‬إلخ‪ .‬ولع ّله الفصيل األكثر‬ ‫مسلحون يستعدون إلطالق قذيفة يف ريف حلب‬ ‫إثار ًة للجدل‪ ،‬بعد الكالم عن دعم مباشر من‬ ‫‘االستخبارات السعودية’ له‪ ،‬وهو ما نفاه وبشدة قائد الجيش زهران علوش‪ ،‬خالل أكثر من حوار‪ ،‬كما في‬ ‫لقائه مع ‘فضائية صوت الشعب’‪.‬‬ ‫جبهة النصرة‪ :‬الشعبية األكرب‬ ‫لم ُيثر ّأي فصيل مقاتل في سوريا الضجة التي أثارتها ‘جبهة النصرة’ منذ إعالن تش ّكلها في كانون‬ ‫الثاني‪/‬يناير ‪ ،2012‬حين تب ّنت تفجيراً في حي الميدان وسط دمشق‪ ،‬ليتركز عملها بالدرجة األولى على‬ ‫العمليات االنتحارية‪ ،‬كتفجير حي القزاز في أيار‪/‬مايو‪ ،‬أو مبنى هيئة األركان السورية في أيلول‪/‬سبتمبر‬ ‫من العام نفسه‪ .‬بل وأصبحت معظم الكتائب والفرق المقاتلة تعتمد عليها في عمليات االقتحام من خالل‬ ‫التفجيرات التي تسمح بفتح ثغرة تمهيداً للتقدم أكثر‪ .‬ولكن شعبيتها جاءت من عاملٍ آخر‪ ،‬وهو االستفادة‬ ‫صدى واسعاً في‬ ‫من األخطاء التي وقعت بها باقي المجموعات‪ ،‬باإلضافة للخطاب المتشدد الذي يالقي‬ ‫ً‬ ‫حاالت الحروب واألزمات‪ ،‬وهو وت ٌر أتقنت ‘جبهة النصرة’ العمل عليه بدقة كبيرة‪ ،‬مثلما فعلت في أنشودة‬ ‫‘بالذبح جيناكم’ التي انتشرت بكثافة في مظاهرات الشمال السوري‪ ،‬بخاصة ريف إدلب وحلب‪ .‬وهو‬ ‫خطاب سمح لها باستقطاب آالف المقاتلين‪ ،‬إضاف ًة التباعها سياسة النأي بالنفس عن االقتتال الذي ينشب‬ ‫ٌ‬ ‫بين الفصائل‪ ،‬قبل أن تنجر هي نفسها إلى‬ ‫مسلحون يستعدون للهجوم يف مورك بريف حامه‬ ‫المعركة بعد الضربات القاسية التي تلقتها‬ ‫من قبل الدولة اإلسالمية في العراق والشام‬ ‫(داعش)‪ .‬وتبقى النقطة األبرز في صالح ‘جبهة‬ ‫النصرة’ أنّها أصبحت تم ّول نفسها بنفسها‬ ‫بفضل سيطرتها الواسعة على حقول النفط في‬ ‫دير الزور وريف الحسكة‪ ،‬ما يسمح لها ببيعه‬ ‫وبالتالي إيجاد تمويل يضمن لها االستمرار أكثر‬ ‫في حربها‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫البحث عن الدَّ عم والقيادة‬ ‫ملس ّلحون يف سوريا‪:‬‬

‫اجليش احلر‪ :‬نهاية األسطورة‬ ‫يعتبر ‘الجيش الحر’ الحلقة األضعف‬ ‫بين جميع الفصائل المقاتلة في سوريا رغم‬ ‫امتالكه لشعبي ٍة في بدايات عمله‪ ،‬لم َ‬ ‫تحظ‬ ‫بها ٌّأي من المجموعات المسلحة‪ .‬ولكن‬ ‫تلقيه لضربات متتالية وخسائر كبيرة في‬ ‫معاركه‪ ،‬بخاصة في بابا عمرو بحمص وفي‬ ‫يبرود بالقلمون أخيراً‪ ،‬جعله يتراجع في‬ ‫مسلحون مع آلية مزودة مبضاد طريان يف ريف إدلب‬ ‫شكل حاد‪ .‬و ُيضاف إلى ذلك فقدانه للتنظيم‬ ‫وتع ّدد القادة المشرفين عليه‪ .‬إذ أعلنت عدة شخصيات عسكرية في خريف ‪ 2012‬قيادتها للحر‪ ،‬بداي ًة من‬ ‫العقيد رياض األسعد‪ ،‬والعميد سمير الشيخ رئيس ‘المجلس العسكري’‪ ،‬واللواء محمد الحاج علي‪ ،‬وكذلك‬ ‫مسؤول القيادة المشتركة فهد المصري‪ ،‬وأخيراً سليم إدريس رئيس ‘هيئة األركان’ سابقاً‪ ،‬قبل أن ُيعفى من‬ ‫منصبه لصالح عبد اإلله البشير القادم من القنيطرة‪ ،‬حيث كان مسؤوالً عن الجبهة الجنوبية‪ .‬ولعل كثرة‬ ‫القيادات والكالم عن ارتباطاتهم المباشرة بالغرب ضاعف حجم التراجع‪ ،‬والذي استفادت منه المجموعات‬ ‫األكثر تش ّدداً‪.‬‬ ‫ولكن رغم كل ما أصاب ‘الجيش الحر’ فقد بقي متماسكاً في جبهة واحدة هي الجبهة الجنوبية‪،‬‬ ‫حيث الزالت الكتائب تتبع لـ ‘المجلس العسكري’ و‘هيئة األركان’‪ ،‬وتمتاز بأنها مش َّكلة من أبناء المنطقة‬ ‫نفسها‪ ،‬كما تشرف على عملها ‘االستخبارات األردنية’ وتتحكم في شكل واسع بالعمليات العسكرية ومن‬ ‫يشترك فيها‪ ،‬باإلضافة لحاجتهم من السالح‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫فصيل جديد هو ‘جبهة ثوار سوريا’ الذي اع ُتبر تشكيله بمثابة بداية إعادة‬ ‫وظهر في األشهر األخيرة‬ ‫الهيكلة لـ ‘الجيش الحر’‪ ،‬مع اإلشارة إلى عد ٍد كبي ٍر من مقاتلي ألوية ‘أحفاد الرسول’‪ ،‬أحد أكبر مجموعات‬ ‫مالي‬ ‫‘الجيش الحر’ التي انضمت إلى ‘ثوار سوريا’ بقيادة جمال معروف‪ .‬وبدأت الجبهة تحظى‬ ‫ٍ‬ ‫بدعم ٍّ‬ ‫وإعالمي كبير لتسويقها كفصيلٍ غير متش ّدد يمكن االعتماد عليه للتزود باألسلحة النوعية‪ ،‬وعلى رأسها‬ ‫ٍّ‬ ‫مضادات الطيران‪ .‬كما ظهرت “حركة حزم” التي لمع اسمها بعد انضمام رئيس ‘هيئة األركان’ السابق سليم‬ ‫إدريس‪ ،‬بعد إعالن امتالكها لصواريخ أمريكية الصنع‪ ،‬ما يزيد االحتماالت عن تشكيل ‘حركة حزم’ و‘جبهة‬ ‫ثوار سوريا’ لنواة ‘الجيش الحر’ الجديد‪.‬‬ ‫مئات األلوية والكتائب تقاتل اليوم في سوريا‪ ،‬بدون قيادة موحدة أو عمل تنظيمي يجمعها معاً‪،‬‬ ‫وبأهداف متفرقة تبدأ من السيطرة المحدودة‪ ،‬لتصل إلى إعالن دولة الخالفة‪ ،‬ولكن كيف جاء المقاتلون‬ ‫إلى صفوف هذه المجموعات؟ وكيف استقطبت الفصائل المقاتلين من كل أنحاء العالم إلى سوريا؟‬ ‫يتبع في العدد القادم من مجلة دلتا نون‬

‫‪117‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫رحى احلرب يف سوريا‬

‫ديما نقوال❊‬

‫تطحن حقوق الطفولة‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫استطاعت ثالث سنوات من الحرب يف سوريا أن تعكّر منو جيل كامل من األطفال نفسياً‬ ‫وصحياً واجتامعياً وتعليمياً‪ .‬إذ تشري إحصائيات ‘يونيسيف’ إىل ترضر ‪ 5.5‬مليون طفل‬ ‫سوري من الرصاع الدائر يف البالد‪ ،‬بحسب تقرير أصدرته يف آذار‪/‬مارس ‪ .2014‬فكلام زادت‬ ‫الحرب من رضاوتها‪ ،‬أصابت األطفال بسالحها لترتكهم مرىض أو معوقني أو يتامى‪ ،‬وكلّام‬ ‫تدمرت البنية التحتية انعكس ذلك حرماناً من أبسط الحقوق التعليمية والصحية‪ ،‬ماسيرتك‬ ‫أثره األكيد عىل الجوانب النفسية واملجتمعية لحياة الطفل‪ .‬سنحاول يف هذا التحقيق‬ ‫تسليط الضوء عىل بعض آثار الحرب النفسية والتعليمية والصحية عىل الطفل السوري‪.‬‬

‫❊ خريجة تربية وعلم نفس‪ ،‬ومدونة ومهتمة بالشأن العام‪ .‬عملت يف مرشوع دمج لألطفال املعوقني‪ ،‬كام مترست وعملت يف املجال الصحفي‪.‬‬

‫‪118‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة‬

‫وخطر املوت‬ ‫وتسر ٌب‬ ‫حرمان‬ ‫التع ّلم بني مطرقة النظام وسندان املعارضة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تشير إحصائيات ‘يونيسيف’ إلى أن خُ مس مدارس سوريا تعرضت للتدمير أو اس ُتخدمت ألغراض‬ ‫عسكرية‪ ،‬وأنّ ثالثة ماليين طفل سوري ال يواظبون على الدراسة في شكل منتظم‪ ،‬إذ أنّ كثيراً من األسباب‬ ‫جعلت الطالب يتسربون من المدارس‪ ،‬فض ًال عن تعرضهم لخطر الموت ج ّراء القصف أو القذائف أو‬ ‫ ‬ ‫االشتباكات أثناء ذهابهم إلى المدرسة‪.‬‬ ‫ويبقى األهل يعانون من الحيرة بين المخاطرة بحياة أبنائهم وبين حرمانهم من التعليم‪ .‬يقول سمير‪،‬‬ ‫أب لطفلة في المرحلة االبتدائية في ‘مدرسة المنار’ في باب توما بدمشق‪“ :‬حين سمعنا خبر سقوط‬ ‫وهو ٌ‬ ‫قذائف الهاون على المدرسة كان شعور الخوف ال يوصف‪ ،‬والوقت الفاصل بين سماعي للخبر ورؤيتي‬ ‫لطفلتي ال يوصف‪ .‬لم تصب ابنتي بأي أذى جسدي‪ ،‬لكنها ال زالت تعاني الخوف بسبب ما حصل ألصدقائها‬ ‫الذين أصيبوا أو استشهدوا‪ ،‬أو فقدوا أعضاءهم‪ .‬منذ الحادثة لم يعد لدي حيرة في القرار‪ ،‬وحسمت أمري‬ ‫بعدم إرسال طفلتي إلى المدرسة”‬ ‫أما الطالب في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية‪ ،‬فهم باإلضافة إلى الخطر‪ ،‬يعانون‬ ‫ظروفاً تعليمية سيئة‪ ،‬فض ًال عن حرمانهم من التع ّلم في كثير من األحيان‪ .‬يقول سامر‪ ،‬وهو أستاذ في مدينة‬ ‫جرابلس الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشمال السوري‪“ :‬رغم أنّ المدارس الحكومية هنا بقيت تد ّرس‬ ‫المناهج الرسمية ‪-‬ماعدا مادة القومية‪ -‬ورغم استمرار تقاضي األساتذة رواتبهم من الحكومة السورية‪ ،‬إال أنّ‬ ‫مستوى التعليم يشهد تراجعاً ملحوظاً‪ ،‬بسبب نقص في عدد األساتذة والتجهيزات المدرسية والكتب والرقابة‬ ‫التربوية‪ ،‬وعدم تعاون بعض األهالي بسبب خوفهم على أبنائهم”‪ .‬ويتابع سامر‪“ :‬هذا وناهيك عن طالب‬ ‫الشهادة الثانوية‪ ،‬الذين ال يستطيعون في هذه الظروف الخضوع لالمتحانات العامة وهم في المناطق‬ ‫المحاصرة‪ .‬ورغم قيام االئتالف السوري المعارض بإجراء امتحانات للطالب ومنحهم شهادات‪ ،‬إال أنّ هذه‬ ‫الشهادات غير معترف بها وغير مجدية إال في بعض الجامعات الخاصة”‪.‬‬ ‫‪119‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬ ‫موجه تربوي (رفض‬ ‫ويؤ ّكد ّ‬ ‫ذكر اسمه) في مديرية تربية‬ ‫حمص أنّ الحكومة السورية تق ّدم‬ ‫كافة التسهيالت للمدارس حتى‬ ‫في مناطق سيطرة المعارضة‪،‬‬ ‫ويقول‪“ :‬أقامت الحكومة السورية‬ ‫مراكز امتحانية لطالب الشهادات‬ ‫في منطقة الرستن‪ ،‬غير الخاضعة‬ ‫لسيطرتها‪ ،‬والزالت الحكومة‬ ‫تق ّدم رواتب للمد ّرسين في هذه‬ ‫المناطق‪ ،‬رغم العمليات التخريبية‬ ‫التي طالتها من قبل المسلحين”‪.‬‬

‫رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة‬

‫مدرسة يف منطقة باب توما رشقي العاصمة دمشق سقطت عليها قذائف الهاون‬ ‫يف آذار‪/‬مارس ‪2014‬‬

‫ترميم فجوات التع ُّلم يف مدارس بديلة‬ ‫رغم صعوبة الظروف التعليمية التي يعاني منها األطفال في سوريا‪ ،‬يسعى الناشطون المدنيون‬ ‫والمجتمع األهلي المحلي للبحث عن حلول بديلة‪ ،‬ومبادرات لترميم الثغرات التعليمية الحاصلة‪ .‬ولعل‬ ‫خاصة في المناطق المحاصرة‪ ،‬أو التي تقع تحت سيطرة المعارضة‪ .‬نسرين حسن‬ ‫الدور األكبر يعود لها‪ّ ،‬‬ ‫من ‘المركز السوري لحقوق الطفل’ تقول‪“ :‬نسعى لتطوير منهج جديد يقوم بتعويض األطفال ع ّما فاتهم‬ ‫من تعليم بعد تس ّربهم من المدرسة بسبب ظروف األزمة السورية‪ ،‬وأن نحصل على ترخيص للعمل وفق‬ ‫قوانين التعليم السوري‪ ،‬كي نُج ّنب األطفال خسارة سنوات من عمرهم‪ ،‬إذ يجد األطفال صعوبة للعودة إلى‬ ‫مراحل متأخرة بعد تسربهم من المدرسة لسنة أو أكثر”‪.‬‬ ‫ويقول أحد ناشطي مدينة عربين في الغوطة الشرقية‪“ :‬نقوم بشكل دوري‪ ،‬وحسب المستطاع‬ ‫بإقامة أنشطة تعليمية لألطفال‪ .‬كما نُقيم حسب اإلمكانيات المتاحة دورات لطالب الشهادات اإلعدادية‬ ‫والثانوية”‪ .‬بينما يقول أبو زياد‪ ،‬وهو‬ ‫دميا نقوال من الفريق الصحفي يف دلتا نون (ميني) مع السيدة نرسين حسن (يسار)‬ ‫ناشط في ريف مدينة القنيطرة‪ ،‬إنّ‬ ‫الناشطين يقدمون تعليماً بدي ًال لحوالي‬ ‫‪ 600‬طفل في المناطق المحاصرة التي‬ ‫تدمرت جميع مدارسها‪ .‬ويضيف‪“ :‬حاولنا‬ ‫ترميم إحدى المدارس‪ ،‬وقمنا بتوفير‬ ‫مستلزمات العملية التدريسية‪ ،‬ومن بينها‬ ‫الكادر التعليمي المك َّون من ‪ 30‬مدرساً‪،‬‬ ‫يتقاضون أجوراً رمزية من ‘جمعية مدد’‬ ‫في المنطقة”‪.‬‬ ‫‪120‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة‬

‫ُمخ َّلفات احلرب على أجساد األطفال‪ :‬إعاقات وفريوسات‪..‬‬ ‫في حين ال توجد نسب واضحة لتزايد‬ ‫اإلعاقات‪ ،‬وخصوصاً بين األطفال في الوقت الحالي‪،‬‬ ‫ذكرت ‘منظمة الصحة العالمية’ أنّ ‪ %60‬من المراكز‬ ‫الصحية داخل سوريا تدمرت‪ ،‬وانهارت ثلث محطات‬ ‫معالجة الماء‪ ،‬بينما انخفضت معدالت التطعيم‪ ،‬كل‬ ‫هذا أ ّدى إلى ظهور األمراض الف ّتاكة من جديد بما‬ ‫في ذلك شلل األطفال‪.‬‬ ‫تقول مي أبو غزالة مديرة ‘مشروع الرياض‬ ‫الدامجة’ في سوريا‪“ :‬األزمة والحروب لها من‬ ‫األثر الجسدي الكثير على أطفالنا‪ ،‬وأخطر آثارها‬ ‫اإلعاقات والتش ّوهات الجسدية التي تنتج من القتل‬ ‫والعنف الدائر في البالد‪ ،‬وعليه سيكون للمرحلة‬ ‫القادمة نصيبها من زيادة اإلعاقات‪ ،‬هذا باإلضافة‬ ‫إلى ما تنتجه الحرب واألزمة من أمراض وفيروسات‬ ‫تؤثر على صحتهم من خالل نقص المواد الغذائية‬ ‫داخل مؤسسة مدد للتعليم – كانون الثاين‪/‬يناير ‪2014‬‬ ‫والطبية‪ ،‬فض ًال عن بعض الفيروسات التي بدأت‬ ‫تنتشر في بالدنا‪ ،‬ومنها شلل األطفال”‪.‬‬ ‫نتحجج باألزمة التي تمر بها البالد‪ ،‬بل أن نستمر في العمل لتفعيل قوانين‬ ‫تتابع أبو غزالة‪“ :‬يجب أال ّ‬ ‫برامج االهتمام بذوي اإلعاقة‪ ،‬وأن نقوم بنشر التوعية والثقافية اإليجابية نحو المعوقين”‪.‬‬ ‫يف مواجهة احلرب‪ :‬أطراف صناعية ودمج تعليمي جمتمعي‬ ‫يقول الدكتور أنس عنجاري من‬ ‫السيدة مي أبو غزالة (ميني) ودميا نقوال من الفريق الصحفي يف دلتا نون (يسار)‬ ‫‘المشروع الوطني السوري لألطراف‬ ‫الصناعية’ في ريف إدلب‪“ :‬إنّ مشروعنا‬ ‫خيري يق ّدم خدماته مجاناً دون تمييز أو‬ ‫تفاوت ألي سوري‪ ،‬يكفي فقط أن يكون‬ ‫سورياً مهما كان انتماؤه اآلخر‪ .‬نحن نقدم‬ ‫األطراف الصناعية لألطفال والبالغين‪،‬‬ ‫وهدفنا األبعد أن نقدم خدمة متكاملة‬ ‫المراحل‪ ،‬ابتدا ًء من تهيئة المريض‬ ‫نفسياً وجسمانياً وتركيب الطرف البديل‪،‬‬ ‫‪121‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة‬

‫والتدريب على السير مجدداً‪ ،‬انتها ًء بإعادة تأهيل المريض اجتماعياً ومساعدته على العودة لعمله السابق‪،‬‬ ‫واالنخراط كعضو فاعل في المجتمع”‪.‬‬ ‫وعن مفهوم دمج األطفال ذوي اإلعاقة تعليمياً ومجتمعياً تقول مي أبو غزالة‪“ :‬مفهوم الدمج هو‬ ‫من المفاهيم التي تسعى إلى تربية مختلفة تستند على قبول اآلخر أياً كان اختالفه‪ .‬وباإلضافة لكونها‬ ‫إحدى آليات تطوير البيئة التعليمية‪ ،‬فهي أيضاً ما سيترك األثر على جيلٍ قاد ٍم البد أن يغير ثقافته بالتق ُّبل‬ ‫أوالً‪ ،‬والتعبير بح ّرية ثانياً‪ ،‬ومراعاة احتياجات اآلخر ثالثاً”‪ .‬تتابع مديرة ‘مشروع الرياض الدامجة’‪“ :‬علينا أن‬ ‫نسعى ‪-‬رغم كل ما تمر به البالد‪ -‬للعمل على التنمية دون توقف‪ ،‬وبطرق وآليات تتسم بالمرونة والتك ُّيف‪،‬‬ ‫اللتين تُعتبران أحد الدروس المستفادة من مشاريع التنمية حتى في األزمات‪ ،‬حتى النعود بالبالد إلى‬ ‫الوراء‪ ،‬ونقف بانتظار ٍّ‬ ‫سياسي‪ ،‬أو آخر يضيف التأخر لمجتمعاتنا النامية”‪.‬‬ ‫حل‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫الدعم النفسي‬ ‫وحزن يدور يف‬ ‫عنف‬ ‫الطفل السوري‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫نفسية ّ‬ ‫حلقات ّ‬ ‫ّ‬ ‫بينما تق ّدر ‘يونيسيف’ أنّ مليوني طفل في حاجة إلى دعم وعالج نفسي‪ ،‬يؤ ّكد الواقع السوري أنّ‬ ‫جميع األطفال السوريين في حاجة إلى رعاية نفسية في ظل ما يتعرضون له من عنف مباشر أو غير‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لزخم إعالمي يغطي بشاعة‬ ‫واشتباكات وقذائف‪ ،‬وبين فقدان ونزوح وتهجير‪ ،‬والتع ّرض‬ ‫قصف‬ ‫مباشر‪ .‬فبين‬ ‫ٍ‬ ‫الحرب وال يراعي نقاوة األطفال‪ ،‬لن تجد طف ًال لم تترك الحرب جراحها وندباتها على نفسيته وسلوكه‪.‬‬ ‫تقول الناشطة في مجال الدعم النفسي لألطفال براءة‪“ :‬الظروف الراهنة فرضت على األطفال طريقة‬ ‫نمو وتفكير متماشية مع الحرب التي دخلت في لغتهم وأحاديثهم‪ .‬البيئة االجتماعية تترك أثرها على‬ ‫الطفل‪ ،‬فوجود الكبار ضمن ظروف حرب سينعكس على الطفل في شكل أو آخر‪ ،‬وحتى في أسلوب‬ ‫تعاطيهم مع اآلخرين‪ ،‬وفي األلعاب التي يلعبون بها‪ ،‬حيث أصبح األطفال يفضّ لون ألعاب الحرب والبواريد‬ ‫والجنود والدبابات‪ .‬وال يمكننا أن نعزل األطفال عن بلد يعيش حرباً وهم فيه‪ ،‬ولكن ربما يمكننا بقليل من‬ ‫التوعية جعل األطفال يدركون كيفية التعامل مع نتائج الحرب بأقل أذية ممكنة”‪.‬‬ ‫تتابع براءة‪“ :‬تركت الحرب آثارها على األطفال‪ ،‬ومن الموجع أنّي أتعامل يومياً مع أوالد سبقوا‬ ‫أعمارهم‪ ،‬عانوا الفقدان والرفض‪ ،‬وبعضهم يعيل أسرته وهو لم يتم العاشرة من عمره بعد‪ ،‬فيما آخرون‬ ‫لكن أجمل ما‬ ‫أورثتهم الحرب عنفها وغضبها‪ ،‬والبعض أخذوا منها الصمت والعزلة‪ ،‬والكثر أخذوا الحرمان‪ّ .‬‬ ‫يحدث هو أننا نستطيع مع الوقت تشكيل حلقة تمسك بأيدي بعضها البعض رغم كل ما تعاني منه”‪.‬‬ ‫وختامًا‬ ‫بينما تتلخص الحقوق البدهية للطفل بحق الحياة‪ ،‬وحق البقاء‪ ،‬وحق النماء‪ ،‬وحق الرعاية الصحية‪،‬‬ ‫وحق التعلم‪ ،‬وحق احترام رأي الطفل‪ ،‬وحق حمايته من االستغالل‪ ،‬نجد أنّ الحرب ال تحترم االتفاقيات‪،‬‬ ‫وأنّها لم تترك حقاً من حقوق الطفل السوري إال وقامت بانتهاكه‪ ،‬لتهدد مستقبل جيلٍ كاملٍ من األطفال‪،‬‬ ‫أبواب جديدة لتفعيل‬ ‫حرب بعضهم لم يرى غيرها بعد‪ .‬وهذا ما يؤكد على ضرورة فتح‬ ‫ٍ‬ ‫تربى وكبر على ٍ‬ ‫تضم الطفل إلى كنفها قدر المستطاع‪.‬‬ ‫أدوار المجتمع المدني والمحلي للبحث عن حلول بديلة ّ‬ ‫‪122‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراســـات‬ ‫الحروب األهلية بني املظلومية والطمع‬ ‫من البنية التحتية لوسائط النقل إىل السياسة يف بريوت‬ ‫تيار العبث بني الفلسفة واملرسح‬ ‫الدولة السورية بني مصيدة القوة واملدى‬ ‫فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام‬ ‫حق الجوار كوسيلة للخروج من املستنقع الطائفي‬


‫دراسات‬

‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫سنان حواط❊‬

‫دراسة نظرية حول العوامل الفاعلة‬ ‫يف احلروب واإلضرابات األهلية‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تهدف هذه الدراسة النظرية املخترصة إىل تسليط الضوء عىل مفهومي الطمع واملظلومية‬ ‫‪ Greed and Grievance‬اللذين يستخدمان لدراسة أسباب نشوب الحروب األهلية‬ ‫وآل ّياتها‪ .‬ففي حني يرى عد ٌد من الباحثني أن العامل الحاسم يف الحروب األهلية هو الطمع‬ ‫والرغبة بتحقيق املكاسب املادية‪ ،‬يرى آخرون أن هذه النظرة تهمل الجوانب األخرى‬ ‫للدور البرشي الفاعل ‪ Human Agency‬وتفشل فی تفسیر كثريٍ من االضطرابات املحلية‪.‬‬ ‫ستوضح هذه الدراسة الخطوط العريضة لهذين املفهومني مع االستعانة بعد ٍد من األمثلة‬ ‫من الحروب واالضطرابات األهلية يف عد ٍد من بلدان العامل‪ .‬وستعمل هذه الدراسة عىل‬ ‫توضيح كيف يتقاطع هذان املفهومان إىل حدٍّ بعي ٍد عىل أرض الواقع‪.‬‬

‫❊ باحث أكادميي مقيم يف لندن يعمل مع عدد من املنظامت واملراكز البحثية‪ ،‬ومتخصص يف التنمية العاملية يف مناطق النزاعات‪ .‬حائز عىل شهادة املاجستري‬ ‫يف إدارة التنمية من جامعة لندن لالقتصاد والعلوم السياسية‪ ،‬وعىل دبلوم يف الدراسات اإلسالمية واإلنسانية من معهد الدراسات اإلسامعيلية يف لندن‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫مع كل اندالع لصراع أهلي في منطقة الشرق األوسط أو العالم‪ ،‬يظهر سؤال مح ّير حول العوامل‬ ‫المسببة لهذا االنحدار إلى العنف واألسباب التي تؤدي إلى نزوع المقاتلين إلى ارتكاب الفظائع والسيما‬ ‫بالسكان المدنيين‪ .‬مما الشك فيه‪ ،‬تحتاج اإلجابة الدقيقة لمثل هذه األسئلة إلى بحث مستفيض تاريخي‬ ‫وسياسي ال يتسع له ٌ‬ ‫واحد بل يتطلب الكثير من العمل والوقت‪ .‬ولكن يبقى السؤال العام‪ ،‬هل من‬ ‫بحث ٌ‬ ‫الممكن مث ًال حصر ما يجري اليوم بالعراق بوجود خلل بنيوي في آليات الدولة العراقية سمح بتوفر الفرصة‬ ‫غنى بدون فهم المظلومية العميقة التي تشعر بها فئة‬ ‫للمليشيات لالستيالء على أكثر المناطق النفطية ً‬ ‫ّ‬ ‫كبيرة من العراقيين بسبب الغبن والتهميش؟ من ناحي ٍة أخرى هل يكفي في سوريا أن نحلل أسباب الصراع‬ ‫السياسية واالجتماعية العامة على المستوى الدولي بدون فهم العوامل الموضوعية والذاتية للمحاربين على‬ ‫األرض؟ األسئلة نفسها تنطبق على الكثير من الحروب األهلية سواء في شرق أوربا أو إفريقيا‪.‬‬ ‫من أجل الفهم النظري للحروب األهلية والصراعات المحلية‪ ،‬ستتمحور هذه الدراسة النظرية‬ ‫المختصرة حول مفهومي الطمع والمظلومية ‪ Greed and Grievance‬اللذان يشكالن مفهومين متناقضين‬ ‫ومتكاملين في آن‪ ،‬ومنطلقين نظريين لتفسير انحدار المجتمعات إلى الحروب واإلضرابات األهلية‪ .‬ففي‬ ‫حين يرى عدد من الباحثين أن العامل الحاسم في الحروب األهلية هو الطمع والرغبة بتحقيق المكاسب‬ ‫المادية‪ ،‬يرى آخرون أن هذه النظرة تهمل الجوانب األخرى للدور البشري الفاعل ‪ Human Agency‬وتفشل‬ ‫فی تفسیر الكثير من اإلضرابات المحلية‪.‬‬ ‫في شكل عام يعمل الداعمون لمفهوم دور الطمع في الحروب على التأكيد أن الحرب ليست سيئة‬ ‫للجميع وليست مض ّرة لألعمال التجارية جميعها‪ .‬على العكس‪ ،‬تشكل الحرب مصدراً هاماً للدخل والربح‬ ‫لبعض األفراد‪ .‬بالطبع يتضرر كثيرون من الحرب‪ ،‬ولكن األقل ّية المستفيدة تربح الكثير وهي األكثر تأثيراً‬ ‫وقدرة على الفعل في الحروب‪ .‬أما األكثرية المتضررة فهي غالباً ما تكون بال قدر ٍة على التأثير‪ .‬إن خلق‬ ‫السالم الذي يتحقق عندما تتغير مصالح األقلية‬ ‫خللٍ في هذه الخريطة االقتصادية واالجتماعية‬ ‫أساسي لبناء ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫‪125‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫المستفيدة القادرة بطريقة ما لتصبح متالئمة مع السالم‪.‬‬ ‫ولكن في المقابل يؤكد أولئك الداعمون لمفهوم دور المظلومية في الحروب على أنه ال يمكن‬ ‫تفسير نزوع المجتمعات البشرية للعنف بسبب العوامل االقتصادية وحسب‪ .‬فاإلنسان ينزع بطبعه إلى‬ ‫العنف في حاالت كثيرة كالشعور باإلهانة‪ ،‬ولتأكيد الذات الشخصية‪ ،‬والسيما عندما يترافق الفعل العنيف‬ ‫مع القيم الكبرى كالوطن والكرامة والشرف‪ .‬كما ينزع اإلنسان للعنف عند وجود الظلم وانعدام العدالة‪.‬‬ ‫ستعتمد هذه الدراسة النظرية المختصرة على دراسة العوامل المؤثرة في الحروب‪ .‬في البداية سوف‬ ‫تناقش الدراسة عالقة الحرب بالعوامل العقالنية الموضوعية ‪ Rational Factors‬وسوف تسرد النقاش الذي‬ ‫يقدمه بول كولير في محاولته إلثبات أن العوامل المتعلقة بالظلم وانعدام العدالة ال تكفي إلشعال الحروب‬ ‫األهلية‪ ،‬بل إن العوامل الموضوعية االقتصادية هي المؤثرة في الدخول في هذه الصراعات‪ .‬بعد ذلك تسرد‬ ‫الدراسة الرأي المقابل الذي يقلل من أهمية العوامل الموضوعية في انحدار المجتمعات إلى العنف لصالح‬ ‫العوامل العاطفية الذاتية‪ .‬تلجأ هذه الدراسة إلى االستعانة بعد ٍد من ُ‬ ‫الك َّتاب والدراسات النظرية‪ ،‬وستعمل‬ ‫على تقديم عد ٍد من األمثلة من الصراعات والحروب األهلية في العديد من البلدان‪ .‬وفي النهاية ستوضح‬ ‫الدراسة أن العوامل الموضوعية والذاتية تعمل معاً في صورة متوازية‪ ،‬مش ّكل ًة مناخاً مناسباً الستمرار الحرب‬ ‫وإذكائها‪ .‬ففي حين تش ّكل العوامل الموضوعية االقتصادية األساس الذي يح ّرك الطبقات العليا (القادة)‪،‬‬ ‫تكون العوامل الذاتية العاطفية األكثر تأثيراً على الطبقات الدنيا المحاربة‪.‬‬ ‫احلرب والعوامل العقالنية املوضوعية‬ ‫انتشرت الدراسات المتعلقة بدور العوامل االقتصادية في الحروب في شكل كبير في كتابات‬ ‫السالم والحرب في القرن الماضي‪ .‬تتمحور هذه الدراسات حول مفهومي الطمع والمظلومية ‪Greed and‬‬ ‫‪ Grievance‬ودورهما المحتمل في إشعال الحروب األهلية‪ .‬يؤكد أصحاب فكرة المظلومية في طرحهم‬ ‫على أن العامل األساسي المسبب للحروب األهلية هو الصراعات اإلثنية والطائفية التي تندلع بسبب الظلم‬ ‫وانتهاك حقوق اإلنسان‪ .‬ولكن من ناحية أخرى يعتقد أصحاب مفهوم الطمع أن العوامل االقتصادية هي‬ ‫الفاعلة فقط في اندالع الحروب األهلية‪ ،‬وأن خطاب المظلومية يلعب دوراً فقط لتبرير األعمال العسكرية‬ ‫وضمان استمرارها‪.‬‬ ‫من أشهر الك ّتاب تأثيراً في دراسة العوامل اإلقتصادية في الحروب هو البروفسور اإلنكليزي بول كولير‬ ‫‪ Paul Collier‬الذي تعتمد مقاربته على دراسات إحصائية للبلدان التي م ّرت بحروب أهلية خالل األعوام‬ ‫‪ 1960‬حتى العام ‪ .1995‬باستخدام هذه المقاربة وجد كولير عدداً من االستنتاجات الهامة التي استخدمها‬ ‫لوصف وتو ُّقع الحروب األهلية بعيداً عن الجدل الذي يتعلق بالعدل والمظلومية في تفسير اندالعها‪ .‬فعلى‬ ‫سبيل المثال وجد كولير أن احتمال نشوب الحروب األهلية يزداد مع زيادة نسبة الصادرات األولية في‬ ‫الناتج المحلي‪ .‬هذه الصادرات تشكل مصدراً للسرقات ومحفزاً للصراعات األهلية‪ .‬تشمل هذه الصادرات‬ ‫الكثير من المواد أبرزها األلماس (الذي لعب دوراً في الحرب األهلية في سيراليون)‪ ،‬والنفط (لعب دوراً‬ ‫في الحرب في الكونغو وأنغوال)‪ ،‬وحتى الخشب (الذي لعب دوراً في الحرب في ليبيريا) (‪.)Ross, 2002‬‬ ‫كما وجد كولير أن ازدياد نسبة الشباب في المجتمعات يزيد من احتمال حصول الحروب األهلية‬ ‫‪126‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫ألن األطراف المتحاربة ستجد الخزان البشري الالزم للقيام باألعمال الحربية‪ .‬اعتماداً على ذلك استطاع‬ ‫كولير الربط اإلحصائي بين مستوى التعليم واحتمال اندالع الحروب األهلية‪ ،‬من خالل افتراض أن عدم‬ ‫وجود مصادر متعددة للدخل‪ ،‬كما في حاالت انخفاض مستويات التعليم‪ ،‬يدفع الشباب لاللتحاق باألعمال‬ ‫المسلحة‪ .‬كمثال على ذلك يذكر كولير مثال الحرب األهلية الروسية في ‪ 1920 – 1919‬بين الجيشين األحمر‬ ‫واألبيض‪ ،‬حيث لوحظ فيها النقص الهائل في المقاتلين في فترة الصيف حيث ينشغل معظم المقاتلين في‬ ‫أعمال الحصاد‪.‬‬ ‫يسترسل كولير طوي ًال في دحض كل المزاعم التي تفترض أن الحروب تنشأ ألسباب تتعلق بالحاجة‬ ‫للعدالة أو كحالة للرفض لحكومة ظالمة‪ ،‬مب ّرراً ذلك بوجود معضلة في العمل الجماعي ‪Collective‬‬ ‫‪ Action‬الذي تتط ّلبه الحرب‪ .‬يرى كولير أنه من الصعب البدء بالحرب بسبب ارتفاع تكاليف المشاركة‬ ‫بمعارضة النظام القائم بالنسبة للفرد‪ُ .‬يشار هنا لمعضلة ‪ Free Riding‬أو ما يمكن ترجمته بالركوب الحر‪.‬‬ ‫يقول كولير أنه في حالة وجود ظلم ضد جماعة أو فئة في المجتمع فسيبقى الخيار العقالني ‪Rational‬‬ ‫‪ Choice‬للفرد المتع ّرض للظلم هو اإلحجام عن المشاركة في أعمال معارضة عسكرية قد تسبب له‬ ‫الموت أو االعتقال‪ ،‬حيث بإمكان هذا الفرد االنتظار حتى نجاح الحركة المعارضة المسلحة لينعم بفوائد‬ ‫زوال الظلم الحالي‪ ،‬بدون تحمل تبعات النضال للتخلص منه‪ .‬حتى في حالة الظلم الواضح وعدالة قضية‬ ‫المظلومين‪ ،‬يبقى الخيار الفردي عند مجموع األفراد هو انتظار بعضهم للدخول بالحرب‪ ،‬وبذلك يفشل‬ ‫القرار الجماعي بسبب الخيار الفردي األناني‪ .‬يرى كولير أن الطريقة الوحيدة للخروج من هذا االستعصاء‬ ‫هي وجود مصلحة آنية تقنع المقاتلين بالخروج على النظام القائم خصوصاً في المراحل األولى‪ ،‬حيث‬ ‫تكون تكلفة القتال هي األعلى لق ّوة الحكومة وقدرتها على االنتقام‪ .‬يستخدم كولير هذه المعضلة لتفسير‬ ‫عدم كفاية وجود الظلم لتفسير دخول البالد بتوترات وحروب‪.‬‬ ‫احلرب والعوامل الذاتية اإلنسانية‬ ‫من غير المستغرب أن ت ْلقى أفكار بول كولير انتقادات واسعة بسبب إرجاعها النزاعات المحلية‬ ‫بالكامل ألسباب عقالنية موضوعية دون قبول العوامل الذاتية اإلنسانية‪ .‬ينظر كولير للحروب بمنظار السوق‪.‬‬ ‫حيث يرى العدالة سلع ًة عام ًة تشبه الماء والهواء‪ .‬وباستخدام هذا المنظور يناقش كولير خيارات األفراد‬ ‫برفض الحكومات واالنغماس في القتال كخيارات اقتصادية تشبه تلك المتع ّلقة بشراء سلعة أو الدخول في‬ ‫عالقة تجارية معينة‪ .‬يمثل كولير النظرية االقتصادية الكالسيكية القائمة على الخيار الرشيد المعتمد على‬ ‫ميزان الربح والخسارة‪ ،‬مهم ًال دور األحاسيس اإلنسان ّية التي تلعب دوراً كبيراً في اتخاذ القرارات‪ ،‬وذلك‬ ‫بعيداً عن الخيارات المنطقية العقالنية التي ُيفترض أن تتسم بها الخيارات االقتصادية‪.‬‬ ‫هناك العديد من العوامل النفسية التي تؤثر على جنوح اإلنسان للعنف واالنخراط في األعمال‬ ‫الحربية‪ .‬هذه العوامل ال تتعلق بالخيارات الموضوعية العقالنية الذي يتحدث عنها كولير‪ .‬فعلى سبيل المثال‬ ‫جيمس غليغان ‪ James Gilligan‬يرى أن شعور اإلنسان بانتهاك كرامته اإلنسانية هو من العوامل الهامة‬ ‫التي تدفع اإلنسان للعنف‪ ،‬وبالتالي البدء بالحروب‪ .‬استنتج غليغان هذه الخالصة من خالل دراسته لقصص‬ ‫العنف عند السجناء‪ ،‬ووضَّ ح بأنه من الممكن تطبيقها على الحروب مثل العنف في العراق والشيشان‪.‬‬ ‫‪127‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫قد ترتبط العوامل النفسية أيضاً بالقيم العاطفية عند اإلنسان‪ .‬فعلى سبيل المثال يتأثر اإلنسان‬ ‫بالجوانب العاطفية التي ترتبط بالوطنية ومفاهيم البطولة واإلقدام‪ .‬تع ّزز هذه األفكار العمل الجماعي‬ ‫المشترك باتجاهات مختلفة قد يكون أحدها العمل الجمعي باتجاه العنف‪ .‬بهذا المعنى يصبح العمل‬ ‫الجماعي‪ ،‬الذي تح ّدث بول كولير عنه وأشار إلى عدم إمكانية حدوثه بدون تو ّفر الحافز اإلقتصادي‪ ،‬ممكناً‬ ‫بسبب وجود حوافز عاطفية قد تكون بدي ًال عنه‪ .‬كمثالٍ عن ذلك‪ ،‬تشير البروفسور إليزابث وود ‪Elizabeth‬‬ ‫‪ ،Wood‬في دراستها عن الحرب في السلفادور‪ ،‬أن العوامل المتعلقة بالشرف وتأكيد الذات والكرامة هي‬ ‫وكتبت وود أن المقاتلين أوضحوا‬ ‫من أهم العوامل التي قامت بتحفيز المتمردين على الثورة في السلفادور‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫لها أن المشاركة في الثورة تجلب للمقاتل سعاد ًة وفخراً ال يناله المتف ّرجون أو الصامتون‪ .‬لذا كان هناك‬ ‫فوائد عاطفية ال اقتصادي ًة من المشاركة بالثورة‪.‬‬ ‫من ناحية أخرى ترى فرانسيس ستوارت (‪ )Stewert, 2000‬أن التباين االقتصادي بين الطبقات‬ ‫جمعي ‪ Group Consciousness‬قد ُيستخدم‬ ‫وعي‬ ‫ٍّ‬ ‫االجتماعية يمكن أن ُي ْس َتغَل من قِبل القادة لبناء ٍ‬ ‫لخلق البيئة المالئمة لحدوث الحروب واإلضرابات‪ .‬يغ ّذي هذا الوعي‪ ،‬حسب ستوارت‪ ،‬التفاوت األفقي‬ ‫‪ Horizontal Inequality‬بين الطبقات‪ .‬يأتي التأكيد على التفاوت األفقي من حقيقة أنّ له خطورة كبيرة‬ ‫موجود في كل‬ ‫في إدخال المجتمعات في الصراعات األهلية‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬التفاوت في المجتمع‬ ‫ٌ‬ ‫مكان‪ ،‬كالبرازيل وكينيا وتايالند‪ ،‬دون أن يتس ّبب ذلك بالضرورة بالدخول في صراعات أهلية مسلحة‪ .‬يعود‬ ‫السبب في ذلك إلى أن حساب التفاوت في هذه الحاالت ير ّكز على التوزع المطلق للدخل دون حساب‬ ‫البعد االجتماعي لهذا التفاوت‪ .‬يناقش هذه الفكرة أيضاً البروفسور أمارتيا سن (‪ )Sen, 2011‬ويوضح أنه‬ ‫ٍ‬ ‫بتفاوت آخر غير اقتصادي‪ ،‬فإن هذا التفاوت يصبح عام ًال‬ ‫عندما يرتبط التفاوت االقتصادي بين الطبقات‬ ‫أساس ّياً في إذكاء الصراعات الداخلية‪ .‬فإذا كانت الطبقات الفقيرة اقتصادياً تتمايز عن الطبقات األخرى‬ ‫بعوامل غير اقتصادية‪ ،‬مثل اللون أو الدين‪ ،‬فإن هذا التفاوت يصبح حاسماً في تشجيع الصراعات األهلية‪.‬‬ ‫يرى سن أيضاً أن هذا النوع من التباين االجتماعي خطير ألنه ال يظهر بالضرورة آن ّياً بل يشكل ذاكر ًة من‬ ‫يفسر سن الصراع في شمال ايرلندا‬ ‫المظلومية التي قد تنفجر في ّأي لحظة في المستقبل‪ .‬على هذا المبدأ ّ‬ ‫نتاج لماضي إنكلترا ّ‬ ‫الظالم أليرلندا‪ .‬وباستخدام نفس الفكرة يتوقع سن أن السياسات المجحفة في‬ ‫بأنه ٌ‬ ‫الشرق األوسط قد زرعت الكثير من بذور الصراع للمستقبل‪.‬‬ ‫توازنات الصراع‬ ‫إن التركيز على مجموعة واحدة من عوامل الصراع من شأنه أن يخ ّرب جهود التسوية وإحالل السالم‬ ‫بعد الحروب األهلية ألنه يعكس اضطراباً في فهم آليات النزاعات المسلحة‪ .‬ولكن يبقى التركيز النظري من‬ ‫األهمية بمكان لمعرفة الديناميكية التي تتطور بها الحروب األهلية‪.‬‬ ‫تتقاطع مفاهيم المظلومية والطمع في الحروب األهلية في كثير من المواضع‪ .‬فمث ًال يش ّكل التفاوت‬ ‫االقتصادي بين الطبقات االجتماعية المتمايزة في الحروب مساح ًة للتالقي بين نظريتي الطمع والمظلومية‪،‬‬ ‫حيث يش ّكل الفقر الذي تعاني منه طبقة اجتماعية محددة حال ًة من المظلومية التي قد تس ّبب االنزالق‬ ‫في العنف‪ .‬المظلومية هنا مادية‪ ،‬ما يجعل انخراط الفئات االجتماعية المظلومة يشابه السعي المادي الذي‬ ‫‪128‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫يحفزه الطمع الذي يدفع بالبعض للدخول في الحروب‪.‬‬ ‫إن فهم العناصر االقتصادية في الحروب هو من أكثر األمور حسماً في الصراعات‪ ،‬ألن األرباح التي‬ ‫يجنيها أمراء الحروب من حالة الحرب تزودهم بالحوافز الكفيلة بتخريب الجهود الالزمة للسالم‪ .‬ففي حالة‬ ‫الدول النامية التي تعاني من تبعات الحروب من عقوبات‪ ،‬ومن تبعات السياسات االقتصادية العالمية‪،‬‬ ‫يصبح المناخ الراعي للعنف هو البيئة األنسب لنمو األعمال غير القانونية المربحة التي ال تكون متوفرة‬ ‫في حاالت السالم مع وجود دولة مركزية قوية‪ .‬يخلق هذا مصلح ًة حقيقي ًة عند أمراء الحروب إلبقاء حالة‬ ‫الفوضى‪ .‬وفي حاالت العنف والفوضى تزدهر أيضاً التجارة السوداء الخارجة عن القانون‪ .‬على سبيل المثال‬ ‫في فترة سابقة في أفغانستان‪ ،‬ارتبط في شكل أو بآخر حوالى ‪ %80‬من االقتصاد و‪ 30‬إلى ‪ %50‬من‬ ‫السكان ببعض جوانب تجارة المخدرات حسب تقديرات مجموعة األزمات الدولية ‪ ICG‬في عام ‪.2001‬‬ ‫إن البيئة المناسبة لتجارة المخدرات هي الفوضى‪ ،‬لذا من مصلحة الكثير من أمراء الحروب الحفاظ على‬ ‫الفوضى إلبقاء مداخيلهم‪ .‬ولكن‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬هناك حاجة حقيقية لفهم الدور البشري في الصراعات‬ ‫ألن إهماله يجعل جهود التسوية بأكملها فاشلة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬ال يمكن اختصار صراع كالكفاح‬ ‫الفلسطيني بمنظور مادي فقط‪ ،‬بل يجب فهم تاريخ الصراع والعوامل النفسية والذاتية التي تحيط به‪.‬‬ ‫في الحقيقة يعمل قادة النزاعات إلى تشكيل بيئة تضمن توليد العوامل الذاتية التي تغذي‬ ‫المظلومية؛ من خالل التعليم‪ ،‬واستغالل اآلثار النفسية الناتجة عن العقاب الجماعي للخصم‪ ،‬ومن خالل‬ ‫البروباغاندا‪ .‬تضمن هذه البيئة استمرارية التجنيد ودوام المعارك‪ .‬في شكل عام يبدو الصراع مؤلفاً من ع ّدة‬ ‫طبقات‪ .‬الطبقات العليا وهي القادة‪ ،‬وغالباً ما تكون خارج حدود الصراع المسلح وال تتأثر به بشكل مباشر‪.‬‬ ‫يطغى على هذه الطبقات العقالنية والموضوعية في اتخاذ القرارات العسكرية في الحرب أو النزاع األهلي‪.‬‬ ‫لذا تتميز هذه الطبقات بالنزعة المادية أو الطمع‪ .‬أما الطبقات الدنيا هي الطبقات المحاربة‪ ،‬وهي التي‬ ‫تتحمل تبعات الحرب وويالتها‪ .‬في حين أن الجوانب المادية قد تكون موجودة عند هذه الطبقات‪ ،‬وقد‬ ‫تدفعها لتقبل الخطر واالنخراط في المعارك‪ ،‬لكن هناك الكثير ممن تدفعهم العوامل النفسية والعاطفية‪.‬‬ ‫لذا في كثير من األحيان تعمل الطبقة العليا على استمرارية تأمين الدوافع العاطفية والنفسية من خالل‬ ‫التعليم والبروباغاندا‪ ،‬واستخدام مآسي الحرب وويالتها لتجديد العداء تجاه الخصم‪ ،‬ما يضفي على معاناة‬ ‫الطبقة المحاربة المعنى والقيمة‪ ،‬ويحافظ على قدرتها على القتال‪ .‬وبالتالي يصبح الطمع والمظلومية‬ ‫عجلتي الحرب األهلية اللتين تضمنان استمرار احتدامها‪.‬‬ ‫اخلامتة‬ ‫يهدف الفصل بين العوامل المختلفة للصراع إلى تسهيل الدراسة النظرية والفهم الشامل للحروب‬ ‫وديناميكياتها‪ .‬في هذه الدراسة النظرية تم التركيز على جانبين مؤثرين في اندالع الحروب األهلية‬ ‫واستمراريتها‪ :‬الطمع والمظلومية‪ .‬حيث يعزي بعض المفكرين انخراط المجتمعات بالنزاعات األهلية إلى‬ ‫جملة من العوامل المادية الموضوعية المتمحورة حول مفهوم الطمع‪ ،‬في حين يؤكد آخرون على دور‬ ‫وجود الظلم وانعدام العدالة بين مكونات المجتمع في إشعال فتيل هذه النزاعات‪.‬‬ ‫أظهرت هذه الدراسة رأي كولير بأهمية العوامل االقتصادية للدخول في الحرب‪ ،‬ووضّ حت أن بدون‬ ‫‪129‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫احلرب األهلية بني املظلومية والطمع‬

‫دراسات‬

Free ‫ وعلى رأسها الركوب الحر‬،‫هذه العوامل سيعاني الحراك العسكري من مشاكل العمل الجماعي‬ ‫ ولکن الدراسة أظهرت أيضاً أن حصر فهم الحروب وتفسير مسبباتها على الجانب الموضوعي‬.Riding ٍ ‫االقتصادي غير‬ ‫ حيث ناقشت الدراسة الكثير من العوامل النفسية والعاطفية التي تدفع الناس‬.‫كاف‬ ‫ أخيراً عمدت الدراسة إلى توضيح أن جميع العوامل تتفاعل على أرض الواقع في‬.‫لالنخراط في الحرب‬ ،‫ ففي حين تطغى على الطبقات العليا (القادة) في الصراع األهداف الموضوعية االقتصادية‬.‫حاالت الحروب‬ ‫ وتعمل الطبقات العليا من‬.‫تطغى على الطبقات الدنيا التي تحارب على األرض العوامل العاطفية الذاتية‬ ‫ إن‬.‫الصراع على استمرار توليد العوامل الذاتية العاطفية التي تضمن استمرار التجنيد والتبرير للحرب‬ ‫ أما على أرض‬،‫نظري فقط يساعد في دراسة الصراعات‬ ‫التمييز بين العوامل الموضوعية والذاتية هو تميي ٌز‬ ٌّ .‫الواقع فتتداخل هذه العوامل مع بعضها إلى نحو كبير‬

References • Collier, P., 2000. Doing Well out of War: Economic Perspective. In: Greed and Grievance: Economic Agendas in Civil Wars. s.l.:The International Peace Academy. • Gilligan, J., 2003. Shame, Guilt and Violence. Social Research , pp. 1149 - 1180. • ICG, 2001. Central Asia: Drugs and Conflict, Osh and Brussels: ICG Asia Report. • Ross, M., 2003. Oil, Drugs and Diamond: The Varying Roles of Natural Resources in Civil War. In: The Political Economy of Armed Conflict: Beyong Greed and Grievance. Colorado: Lynne Rienner Publishers , pp. 47 - 70. • Sen, A., 2011. Peace and Democratic Society. s.l.:OpenBook Publishers. • Stewert, F., 2004. The Root Causes of Humanitarian Emergencies. In: War, Hunger and Displacement: The Origins of Humanitarian Emergencies. s.l.:Oxford University Press, pp. 1 - 41. • Wood, E., 2000. The Emotional Benefits of Insurgency. In: J. Goodwin, J. Jasper & F. Polletta, eds. Passionate Politics: Emotions and Social Movements. Chicago: University of Chicago Press, pp. 267 - 302.

130

1 ‫العدد‬ 2014 ‫ يوليو ـ‬/ ‫متوز‬


‫أحمد عثمان❊‬

‫ماذا تقول‬

‫وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها❊❊‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫يتناول هذا املقال كيف ميكن قراءة الالمساواة االجتامعية السياسية‪ ،‬يف سياق منطقة‬ ‫بريوت الكربى‪ ،‬من خالل عيوب البنية التحتية للنقل فيها‪ .‬ميكن لجولة صغرية يف شوارع‬ ‫بريوت أن تكشف لنا ‘سلسلة غذائية’ من نوع ما‪ ،‬حيث تعامل البنى التحتية السيارات‬ ‫الخاصة املستهلكة كملوك‪ ،‬تتبعها يف التسلسل السيارات الخاصة غري املستهلكة‪ ،‬يليها‬ ‫وسائل النقل العام‪ ،‬وأخريا املشاة‪ .‬هذه ‘السلسلة الغذائية’ تتجىل يف التجاوزات‬ ‫امللموسة التي تقرتفها السيارات الخاصة املستهلكة بحق مثيالتها غري املستهلكة‪ ،‬والتي‬ ‫تقرتفها وسائل النقل يف شكل عام بحق املساحات املخصصة للمشاة‪ .‬بالتوازي مع هذه‬ ‫الخصخصة املادية تدار عمليات خصخصة رمزية شاملة‪ ،‬حيث تخضع حيادية الشارع‬ ‫أليقنة الحزب الذي يحكم الشارع – أيّاً كان هذا الحزب‪ .‬املنهجية املستخدمة هي‬ ‫املشاهدات الشخصية املوثقة فوتوغرافياً‪ ،‬يف حني أن اإلطار النظري املستخدم هو نقاش‬ ‫إنرييك پنيالوسا حول الالمساواة املدينية‪.‬‬ ‫❊ أحمد عثامن ‪ Ahmad Osman‬مرشح حالياً لشهادة ماجستري يف برنامج ‘سيتيز’ لتصميم املدن يف مدرسة لندن لالقتصاد‪ .‬درس باألصل التصميم‬ ‫الجرافييك يف الجامعة األمريكية يف بريوت (‪ ،)2007‬وعمل كمصمم يف رشكة خاصة ملدة ثالث سنوات قبل الرشوع يف التحضري ملاجستري يف الدراسات‬ ‫السياسية‪ ،‬أيضاً يف الجامعة األمريكية يف بريوت (‪ .)2013‬شمل بحثه السابق موضوعات متنوعة كنظرية الهندسة املعامرية الوظيفية‪ ،‬مناظري القراءة‬ ‫السياسية‪ ،‬السياسات اللغوية يف العامل الناطق باللغة العربية وانتهاك املادة ‪ )4(2‬من ميثاق األمم املتحدة‪.‬‬ ‫❊❊ هذه الدراسة ترجمة للنص األصيل املرسل إىل مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوان‪What Beirut’s Transport Infrastructure Says About :‬‬ ‫‪its Politics‬‬

‫‪131‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫مقدمة‬ ‫المساواة قضية شائكة؛ في الظاهر تُقرأ وكأنها فضيلة لكنها غالباً ما تستخدم في الممارسة كذريعة‬ ‫للقضاء على التنوع‪ .‬في سياق المدن‪ ،‬أشار ريتشارد سينيت ‪ Richard Sennett‬إلى مدى تلوث ممارسات‬ ‫خطط المدينة بمفاهيم الصراع‪ ،‬ومعاملة اختالفات الناس كمصدر تهديد لتتم محاصرتهم بدالً عن معاملتهم‬ ‫كمصدر للمعرفة (‪ .)1990‬من ناحية أخرى‪ ،‬فقد افترض إنريكي پنيالوسا ‪ Enrique Peñalosa‬أن المساواة‬ ‫االجتماعية هي أمر مرغوب به‪ ،‬وأنها قيمة تمكن قراءتها في شكل مباشر في بنية المدينة (‪.)2007‬‬ ‫من المثير لالهتمام أن پنيالوسا أشار في سياق نقاشه إلى فرانسيس فوكوياما ‪،Frances Fukuyama‬‬ ‫ففي كتابه ‘نهاية التاريخ’ أشار فوكوياما إلى لبنان باعتباره تمثي ًال للحالة األولية –التي تحدث عنها توماس‬ ‫هوبز‪ -‬إذا ما تجسدت في الحياة الواقعية (‪)2009‬؛ وبالطبع فقد عنى فوكوياما بكالمه لبنان الحرب‬ ‫األهلية عام ‪ .1975‬إذ رغم كل هشاشة الوضع السياسي الحالي في لبنان فإنه ال يزال في عداد الدول‬ ‫الضعيفة‪ ،‬وليس الدول المنهارة‪ ،‬إال أن ضعف وجود الدولة في مجال التخطيط المدني‪ ،‬وحتى في العاصمة‬ ‫اللبنانية بيروت‪ ،‬هو أمر صادم‪ .‬من هنا فإنه من المفيد النظر في التفاوت الموجود في هذا المشهد‪ ،‬ألنه‬ ‫يشير إلى االحتماالت التي يمكن أن تنشأ‪ ،‬ليس تحت حكم سيء بالضرورة بل تحت حكم في مستوياته‬ ‫األدنى‪ .‬‬ ‫ُ‬ ‫شرعت بالبحث الخاص بهذه الدراسة‪ ،‬كنت تائهاً في البداية بين أن أحصر بحثي بالضاحية‬ ‫حين‬ ‫الجنوبية لبيروت أو أن أعممه على بيروت كامل ًة‪ .‬يعامل الباحثون عاد ًة الضاحية الجنوبية لبيروت –أو فقط‬ ‫‘الضاحية’ كما تسمى بالعربية اللبنانية‪ -‬كحال ٍة قائم ٍة بحد ذاتها‪ .‬يعود ذلك لكون الضاحية معقل ‘حزب‬ ‫الله’ وبالتالي الستقالليتها الوظيفية عسكرياً‪ .‬ففي الضاحية تحافظ القوات المسلحة اللبنانية وقوى األمن‬ ‫رسمي محدد‪ ،‬فيما يتولى في الواقع حزب الله المسؤولية عن أمن المنطقة‪ .‬لكن إذا‬ ‫الداخلي على وجو ٍد‬ ‫ٍّ‬ ‫ما نظرنا من منظار الحياة المدنية فإن الضاحية تحوي ذات الظواهر المنتشرة في باقي أنحاء بيروت (وإن‬ ‫ٌ‬ ‫اختالف في حدة انتشارها)‪ ،‬وبالتالي ستتم دراسة الضاحية ضمن اإلطار الواسع لبيروت‪ ،‬وإن‬ ‫كان هناك‬ ‫‪132‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫كانت هناك ظواهر في الضاحية أكثر أو أقل حد ًة من نظيراتها في باقي بيروت فسوف يتم تنبيه القارئ‬ ‫إلى هذا األمر‪.‬‬ ‫املستويات املتعددة لالمساواة‬ ‫من المعروف أن الالمساواة على‬ ‫الصعيد المدني تأتي بمستويات متعددة‪،‬‬ ‫ولتلخيص ما سيأتي الحقاً‪ ،‬يمكننا الحديث‬ ‫عن ‘سلسل ٍة غذائية’ مدنية تعمل على النحو‬ ‫التالي‪ :‬مشاة < نقل العام < سيارات عامة <‬ ‫سيارات خاصة‬ ‫الشكل ‪ :1‬سيارة مركونة تجرب املشاة عىل النزول إىل الشارع‬ ‫برج الرباجنة (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫سندرس هذه ‘السلسلة الغذائية’ من‬ ‫خالل تفكيكها إلى الهيمنات الثنائية األساسية‪ ،‬وهي هيمنة النقل العام على المشاة‪ ،‬ووسائل النقل الخاص‬ ‫على وسائل النقل العام‪ ،‬والمواصالت الخاصة المستهلكة على المواصالت الخاصة غير المستهلكة‪ .‬خلف‬ ‫ٌ‬ ‫هيكل آخر أقل حسي ًة منه‪ ،‬أال وهو سيطرة الرمزية السياسية على المجال العام‪.‬‬ ‫هذا الهيكل يوجد‬ ‫‪ –1‬هيمنة وسائل النقل على املشاة‬ ‫تظهر عالقة الهيمنة تلك في ثالثة مستويات‪ .‬في المستوى األول واألساسي‪ ،‬يتم تزويد المشاة برصيف‬ ‫للمشي‪ ،‬ولكنه في الواقع مشغول من قبل السيارات المركونة‪.‬‬ ‫شاعت هذه الظاهرة نتيجة لنقص مواقف‬ ‫الشكل ‪ :2‬طريق مسدود للمشاة‪ ،‬برج الرباجنة (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫السيارات في بيروت‪ ،‬وكثرة سيارات الدفع الرباعي‬ ‫القادرة على اعتالء األرصفة‪ .‬وحقيق ًة فإن قانون المرور‬ ‫ال يطبق إال في جز ٍء صغي ٍر من بيروت‪ .‬كل من هذه‬ ‫الظواهر تعود أسبابها لمشاكل اجتماعية سياسية؛‬ ‫فمواقف السيارات في بيروت نادرة بسبب اعتماد‬ ‫اللبنانيين على وسائل النقل الخاصة –وكي نكون‬ ‫دقيقين أكثر من ‪ %68‬منهم (عون‪ -)2010 ،‬وهذا‬ ‫بدوره يعود إلى رداءة وسائل النقل العامة‪ .‬وتكثر‬ ‫سيارات الدفع الرباعي ألنه في البيئة االجتماعية‬ ‫اللبنانية يتم التعامل مع السائقين (في سيناريوهات‬ ‫ركن السيارة‪ ،‬أو عاقبة التعرض لحادث مث ًال) على‬ ‫أساس واسطتهم مع السلطة بدالً من التشريعات‬ ‫الصارمة‪ ،‬لذا فإن شراء سيارة دفع رباعي هو استثما ٌر‬ ‫سليم ألنها تعطي انطباعاً بالقوة والواسطة‪ .‬وأخيراً‬ ‫ٌ‬ ‫‪133‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫فإن قوانين السير تفرض في جز ٍء صغي ٍر‬ ‫من بيروت ألن قوى األمن الداخلي اللبنانية‬ ‫نقص في العديد‪ ،‬لذا فإن تطبيق‬ ‫تعاني من ٍ‬ ‫قوانين مرور كهذه ال تعد أولوية‪.‬‬ ‫على المستوى الثاني يمكن الحديث‬ ‫عن تحويل رصيف كان موجوداً بالسابق إلى‬ ‫مساحة لركن السيارات‪ ،‬كما يبدو في الشكل‬ ‫التالي‪:‬‬ ‫هنا‪ ،‬تمكننا رؤية تراجع البناء في‬ ‫الشكل ‪ :3‬خصخصة كامل الرصيف عرب استخدام التصميم‬ ‫شكل يتسع بالضبط إليقاف سيارة واحدة‬ ‫سانت ترييز (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫عند الزاوية؛ السيارة تجتاح الرصيف بشكل‬ ‫متاح فقط لألغنياء أو للمستثمرين ذوي‬ ‫كامل وتطرد المشاة إلى الشارع‪ .‬من الواضح أن هذا التخطيط ٌ‬ ‫العالقات القوية‪ ،‬حيث أن الحصول على رخصة بناء تغض الطرف عن االستيالء على الرصيف هو أمر‬ ‫يتطلب الوصول إلى سلطة البلدية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مساحة‬ ‫أخيراً‪ ،‬وعلى المستوى الثالث فإن المشاة ببساطة ال يملكون رصيفاً من أي نوع‪ ،‬أو ُت َق َّد ُم لهم‬ ‫صغير ٌة مثير ٌة للسخرية‪.‬‬ ‫بوضوح نحو استخدام الطريق‬ ‫نالحظ في الشكل ‪ ،4‬عرض الطريق في برج البراجنة (الضاحية) ينحو‬ ‫ٍ‬ ‫باتجا ٍه واح ٍد للسيارات مع مساحة جيدة تبقى للرصيف‪ .‬إال أن االستعمال الفعلي للطريق جاء بشكل حركة‬ ‫ٌ‬ ‫رصيف بعرض ‪ 40‬سم بالكاد يتسع‬ ‫مرورية باالتجاهين باإلضافة للمشاة الذين ال بد من مرورهم‪ ،‬والنتيجة‬ ‫للقدمين‪ ،‬بدون أن يتسع للوركين أو األكتاف التي تعلو هاتين القدمين‪ .‬من الواضح أن هذا الرصيف ال‬ ‫يستخدم من قبل المشاة ولهذا فإنه يمثل للسيارات مساح ًة مهدور ًة بعرض ‪ 40‬سم‪ .‬مثل هذا الرصيف‬ ‫ٌ‬ ‫أرصفة بشكل عام‬ ‫ليس ظاهر ًة شائعة (رغم أنه ليس بحال ٍة فريد ٍة أيضاً)‪ .‬ولكن الشوارع التي ال يوجد فيها‬ ‫ٌ‬ ‫شائعة بالفعل‪ ،‬وتمثل إصرار سلطات‬ ‫هي‬ ‫الشكل ‪ :4‬رصيف بالكاد موجود باملقارنة مع طريق باتجاهني‪ ،‬وصور ٌة ألحد املشاة‪،‬‬ ‫البلدية وتفضيلها استخدام الشوارع من‬ ‫برج الرباجنة (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫قبل السيارات على حساب المشاة‪.‬‬ ‫‪ -2‬هيمنة السيارات اخلاصة‬ ‫على وسائل النقل العامة‬ ‫بسبب انعدام تطبيق أي خطط‬ ‫رئيسية في بيروت الجديدة (بيري‬ ‫وآخرون‪ ،)2004 ،‬وألنه لم يتم االهتمام‬ ‫بالنقل المشترك في ٍّأي من الخطط‬ ‫الخاصة‪ ،‬لذا ليس هناك سوى مكان‬ ‫‪134‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫واحد يعمل في بيروت كمحطة نقل (هو‬ ‫محطة شارل حلو)‪ ،‬أي كمكان حش ٍد تم‬ ‫تصميمه لتقوم وسائل النقل العامة بتحميل‬ ‫الركاب منه‪ .‬عدا ذلك تعمل وسائل النقل‬ ‫العامة الثالثة (سيارات األجرة والسرفيس‬ ‫والباصات) بالطريقة التي يدعوها عامر الدر‬ ‫حي واركب” (‪ ،)2005‬حيث تتوقف‬ ‫“مبدأ ِّ‬ ‫وسيلة النقل ببساطة في أي مكانٍ يشير‬ ‫إليه الراكب للصعود أو النزول‪ .‬من المثير‬ ‫الشكل رقم ‪ :5‬سيارة أجرة تنزل راكباً عند زاوية‪ ،‬حارة حريك (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫لالهتمام أنه غالباً ما تكون الزوايا هي‬ ‫المكان الذي يختاره الركاب‪ ،‬وذلك بسبب كونها أكثر األماكن وضوحاً للرؤية على الطريق‪.‬‬ ‫كما نرى في الشكل ‪ ،5‬فإن الزوايا تشكل المواقع األسوأ لتوقف السيارات حيث تعيق مرور السيارات‬ ‫األخرى‪.‬‬ ‫كما ذكرنا سالفاً‪ ،‬يعتمد معظم اللبنانيين على السيارات الخاصة وهذا –وإن كان جزئياً– يعود‬ ‫لحقيقة أنه ال قيمة مضافة للتجربة الحالية لوسائل النقل العامة؛ بما أن الشوارع مجهز ٌة لخدمة السيارات‬ ‫ٌ‬ ‫خاصة لمرور الفانات والباصات‪ ،‬وال مواقف محددة لسيارات األجرة‪ .‬باإلضافة‬ ‫ات‬ ‫الخاصة‪ ،‬فال توجد ممر ٌ‬ ‫لوصف سائقي وسائل النقل العامة بأنهم سبب المضايقات على الطرقات‪ ،‬فإن هذا الوضع يحرم وسائل‬ ‫النقل العامة من قوتها الكالسيكية‪ ،‬وهي السرعة النسبية نتيجة الممرات الخاصة‪ .‬من الطبيعي إذاً أال تكون‬ ‫وسائل النقل العامة خياراً إال ألولئك الذين ال يملكون خيار ٍ‬ ‫ات أخرى‪.‬‬ ‫‪ -3‬هيمنة املواصالت اخلاصة املستهلكة على املواصالت اخلاصة غري املستهلكة‬ ‫األرصفة إذاً ليست سوى خيار‪ ،‬وهي –عند وجودها‪ -‬تعتبر لقم ًة سائغ ًة من قبل السيارات التي‬ ‫تستغلها كمواقف‪ .‬األسوأ من ذلك أنها في الواقع ال تخدم جميع السيارات على حد سواء‪ .‬بل تعتبر ملكي ًة‬ ‫خاصة للسيارات التي يقودها أصحاب‬ ‫شكل ‪ :6‬شارات مبتكرة تحجز الرصيف من أجل سيارات الزبائن‪ ،‬سانت ترييز‬ ‫األماكن التي تتوقف عندها‪ ،‬حيث تعتبر‬ ‫(عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫ملكية الرصيف سلع ًة استهالكي ًة؛ فإذا‬ ‫كان المكان متجراً تتم خصخصة الرصيف‬ ‫لالستخدام الحصري لزبائن المتجر‪ ،‬بينما‬ ‫إذا كان بناءاً سكنياً فيصبح استخدام‬ ‫الرصيف حصراً بسكان هذا البناء‪.‬‬ ‫تعتمد خصخصة الرصيف على ثراء‬ ‫المالك‪ .‬ففي أسفل الس ّلم التراتبي توجد‬ ‫تلك المتاجر التي ال تستخدم إشارات‬ ‫‪135‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫تخصيص للرصيف‪ ،‬لكن أصحابها وموظفيها يراقبون‬ ‫الرصيف (يكون المتجر في هذه الحالة صغيراً بما يكفي‬ ‫للقيام بمهم ٍة كهذه)‪ ،‬مبعدين أي سيارة تحاول التوقف إن‬ ‫لم تكن تخص المتجر أو زبائنه‪.‬‬ ‫رغم ذلك‪ ،‬فإنه وفي شكل متزايد تميل المتاجر‬ ‫الستخدام شارات كالكراسي البالستيكية أو شارات مبتكرة‬ ‫توضع جانب الرصيف‪ ،‬تشير في شكل واضح إلى أن هذه‬ ‫المساحة هي للزبائن فقط (انظر الشكل ‪ .)6‬وألن هذا‬ ‫واضح فإنه ال يترك أي مجال العتبار الرصيف مساحة‬ ‫النهج‬ ‫ٌ‬ ‫عامة‪ ،‬وبالتالي يقضي على أي محاولة لتوقف السيارات‬ ‫التي ال تخص المتجر أو زبائنه‪ ،‬باإلضافة لذلك فهو يوفر على صاحب‬ ‫المتجر عبء إبعاد السيارات في شكل شخصي‪.‬‬ ‫أما في أعلى السلم فتأتي المتاجر التي تستخدم واحداً من‬ ‫هذه العناصر الثالثة على األقل‪ :‬شارات مصممة بعبارة ممنوع التوقف‬ ‫(شكل ‪ ،)7‬خدمة شركات أمنية خاصة (شكل رقم ‪ 7‬و‪ ،)8‬وخدمة ركن‬ ‫سيارات (شكل ‪.)9‬‬ ‫المثير لالهتمام في هذه المجموعة من التداخالت هو‬ ‫مضمونها الخفي‪ :‬اآلن بعد خصخصة المساحات العامة‪ ،‬حان الوقت‬ ‫قطاع من االقتصاد اللبناني يتغ ّذى‬ ‫للمتاجرة بها! أي هناك اآلن‪ ،‬حرفياً‪ٌ ،‬‬ ‫بأكمله على خصخصة وتحويل األرصفة إلى سلع‪ ،‬األمر الذي سيجعل‬ ‫االنتقال إلى األرصفة العامة تجرب ًة صعب ًة في حال تمت هكذا محاولة‪.‬‬

‫شكل ‪ :7‬الفتات تناسب هوية املتجر‬ ‫سانت ترييز (عثامن‪)2014 ،‬‬

‫شكل ‪ :8‬خدمة ركن سيارات خاصة شعارها‬ ‫"أنتم يف أيد أمينة" (عثامن‪)2014 ،‬‬

‫‪ -4‬سيادة الرمزية السياسية على اجملال‬ ‫العام‬ ‫بعيداً عن النطاق الحسي‪ ،‬تتجلى السيطرة في شكلٍ‬ ‫رمزي في‬ ‫ٍّ‬ ‫شوارع بيروت‪ ،‬الموضوع الذي سنعالجه في هذا الجزء اآلن‪ .‬عام‬ ‫‪ ،2002‬كتب سينيت “إن كل شخص يمتلك حقاً عاماً‬ ‫كدرع خفي‪ ،‬وهو‬ ‫ٍ‬ ‫شكل ‪ :9‬خدمة ركن السيارات عىل‬ ‫الحق في أن ُيترك وشأنه”‪ .‬هذه الفكرة ال تجد احتراماً في شوارع‬ ‫الرصيف املجاور ملقهى سانت ترييز‬ ‫حي‬ ‫(عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬وتحديداً في الضاحية‪ ،‬إذ ليس الحياد السياسي ‘حقاً’ ألي ٍّ‬ ‫من األحياء‪.‬‬ ‫تظهر الصورتان أعاله أعالماً سوداء مرفوعة على جزيرة مرورية وعمود الكهرباء في ذكرى اإلمام‬ ‫سلع خاصة‬ ‫الحسين (أهم شخصية سياسية‪/‬دينية في المعتقد الشيعي)‪ .‬إذ مثلما تتحول األرصفة إلى ٍ‬ ‫بالمتاجر المتاخمة لها‪ ،‬تأتي األعالم إلى البنية التحتية المحايدة أص ًال وتحتلها‪ ،‬كما تحتل المساحات‬ ‫‪136‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫المحيطة بها‪ ،‬واسم ًة إياها على‬ ‫أنها ‘شيعي‪-‬ضاحية‪-‬حزب الله’‪.‬‬ ‫ال داعي للقول بأن األعالم‬ ‫ليست الشكل الوحيد لأليقنة‬ ‫التي ُي ْم َط ُر بها سكان الضاحية‬ ‫توضيح‬ ‫يومياً‪ ،‬والشكل ‪ 11‬هو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫بسيط لتنوع التقنيات التي تتم‬ ‫شكل ‪ :10‬أعالم سوداء يف ذكرى اإلمام الحسني‪ ،‬وهو شخصية رئيسية يف املعتقد الشيعي‬ ‫بها خصخصة المساحات العامة؛‬ ‫سانت ترييز (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫ففي هذا التقاطع‪ ،‬الشكل المركزي‬ ‫(على اليسار) هو الركيزة التي يستخدمها حزب الله كمؤشر موسمي لالحتفاالت الشيعية –حالياً ذكرى وفاة‬ ‫النبي محمد‪ -‬بينما في أعلى اليمين يمكننا رؤية قطعة من الورق المقوى مقتطعة على صورة لإلمام المهدي‪،‬‬ ‫ربما نُسيت من احتفالية ما خالل العام الماضي وربما تركت لتكون دلي ًال للمؤمنين في الملبس‪ .‬عند الجزء‬ ‫األيمن السفلي يمكننا رؤية صورة من الورق المقوى لعماد مغنية‪ ،‬قائد كبير في حزب الله تم اغتياله من قبل‬ ‫الموساد اإلسرائيلي عام ‪ .2007‬الموجة األخيرة من األيقنة‪ ،‬ولسنا بحاجة لذكرها‪ ،‬ذكرى مقاتلي حزب الله الذين‬ ‫سقطوا ويسقطون حالياً في الحرب األهلية السورية الحالية‪ ،‬لن أتوسع في الحديث عن هذا ألنه ال يختلف عن‬ ‫باقي األساليب التي يتبعها حزب الله في الخصخصة الرمزية للمساحات العامة في الضاحية‪.‬‬ ‫كما ُذكر سابقاً‪ ،‬فإن ظاهرة الخصخصة الرمزية تظهر في شكل أوضح في الضاحية وذلك كون مشروع‬ ‫وح من حيث الفجوة بين‬ ‫‘حزب الله’ االجتماعي‪-‬العسكري هو األكثر طموحاً بين باقي األحزاب اللبنانية؛ َط ُم ٌ‬ ‫سريع أن الخصخصة الرمزية‬ ‫المجتمع الحالي والمجتمع المرغوب بتكوينه‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فالشكل ‪ 12‬هو تذكي ٌر‬ ‫ٌ‬ ‫لألحياء هي ظاهر ٌة منتشر ٌة على نطاق بيروت ككل‪.‬‬ ‫تعتبر الخصخصة الرمزية تج ّلياً لالمساواة ألنها تقوم على فرضية أن بعض األفكار أعز من أخرى‪ .‬ظهرت‬ ‫أعالم ‘الحزب السوري القومي’ أكثر من مرة في شوارع الضاحية لكن ظهورها في كل مرة لم يستمر أكثر من‬ ‫ثالثة أيام متتالية‪ .‬كما يمكن الكالم في شكل مماثل عن أعالم ‘التيار الوطني الحر’ في مناطق تسيطر عليها‬ ‫القوات اللبنانية مث ًال‪.‬‬ ‫أقنعت أعوام الحرب األهلية السبعة‬ ‫شكل ‪ :11‬أيقنة دينية سياسية ألحد التقاطعات‪ ،‬حارة حريك (عثامن‪)2014 ،‬‬ ‫عشر اللبنانيين باستحالة التوصل التفاق‬ ‫اجتماعي‪-‬سياسي‪ ،‬حتى النقاش حول ما إذا كان‬ ‫لبنان عربياً أو فينيقياً قد توقف في شكلٍ كامل‪،‬‬ ‫حي قناعاته‬ ‫وتحول إلى اتفاقي ٍة صامت ٍة أن لكل ٍّ‬ ‫الخاصة‪ .‬كما نجحت قاعدة النأي بالنفس حتى‬ ‫اآلن بالحؤول دون الحرب األهلية‪ ،‬ولكنها تقوم‬ ‫بذلك عن طريق خنق النقاش الفكري العلني‪،‬‬ ‫والذي هو ركيز ٌة ال غنى عنها للوصول إلى‬ ‫العمومية التي تحدث عنها هابرماس (سينيت‪،‬‬ ‫‪137‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها‬

‫‪ .)2008‬األهم من ذلك فالوضع الحالي في لبنان يحصر‬ ‫إمكانية الخالف األيديولوجي ما بين األحياء‪-‬الطوائف‬ ‫وليس ضمنها‪ ،‬ما يس ّهل عملية خنق األصوات المعارضة‬ ‫ضمن الحي‪-‬الطائفة الواحدة‪ ،‬األمر الذي يذكرنا بما ورد‬ ‫في مذكرة سينيت “االنسجام يمكن اكتسابه فقط على‬ ‫حساب التنوع” (‪.)1990‬‬ ‫األمر األكثر أهمي ًة هو أن الخصخصة الرمزية‬ ‫ٌ‬ ‫عالمة من عالمات الالمساواة‬ ‫للمساحات العامة هي‬ ‫ألنها تفترض أن الفكرة المطروحة بحد ذاتها هي أهم‬ ‫من حق المواطن في أن يترك وشأنه‪ .‬لهذا الطرح اعتر ٌ‬ ‫اض‬ ‫وجيه‪ ،‬هو أن “حق المواطن أن يترك وشأنه” محال‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مليئة بالرموز واإلشارات‬ ‫وذلك ببساطة ألن أي مدينة‬ ‫ً‬ ‫في شكل يجعلها تتدخل في شأن المواطن‪ ،‬رغما عنها‪،‬‬ ‫وهذا يتطابق ربما مع ما جاء في مالحظة پنيالوسا “إن‬ ‫شكل ‪ :12‬تكتل من األيقونات السياسية حول بريوت‪ .‬الصور‬ ‫الالمساواة تتخ ّلل كل شيء حولنا لدرجة عالية ال نعود‬ ‫الثالثة يف األعىل ‪ A‬و‪ B‬و‪ :C‬القوات اللبنانية (حزب مسيحي‬ ‫مييني)‪ ،‬الصورتان يف الوسط ‪ D‬و‪ :E‬تيار املستقبل (حزب سني‬ ‫معها قادرين على التمييز بين األمور الحتمية واألمور‬ ‫مائل لليمني)‪ ،‬يف األسفل إىل اليمني ‪ :F‬الكتائب اللبنانية (حزب‬ ‫التي يمكن تغييرها” (‪ .)2007‬ولكن الرد على هذه األمور‬ ‫مسيحي مائل لليمني)‪ .‬يف األسفل إىل اليسار ‪ :G‬الحزب القومي‬ ‫السوري (حزب علامين مييني)‪ .‬الصور التي مل يص ّورها املؤلف‬ ‫المنتشرة يكون برفض الخضوع لألمور الحتمية‪ ،‬واإلصرار‬ ‫تم أخذها من املدونات التالية‪ :‬مرشبية‪ ،‬كيوي إنفو‪ ،‬فوتو‬ ‫على اعتبارها أموراً قابلة للتغيير حتى يثبت العكس‪ .‬وال‬ ‫بريوت‪ ،‬تايباد‪ ،‬وبريوت‪-‬نتسك‪.‬‬ ‫شك أن منطقاً كهذا ممكن أن تنتج منه مساحات عامة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مفرطة في الحيادية‪ .‬ولكن ما يقترحه پنيالوسا في سياق المساواة‪ ،‬وما أقترحه أنا‬ ‫مفرطة في المساواة أو‬ ‫في سياق الحيادية‪ ،‬هو ليس االنتقال من الصبغات اللونية المختلفة إلى البياض الساطع‪ ،‬بل معاملة المواطن‬ ‫كشريك في صنع المدينة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬فإن رفضي لتحميل المساحات العامة ش ّتى األيقونات السياسية ال‬ ‫ينبع من ازدرائي للسياسة باعتبار أنها ‘تل ّوث’ المساحات العامة‪ ،‬بل ينبع من اعتبار أن ربط السياسة بالمشهد‬ ‫الحياتي اليومي يؤدي لتشويه االثنين في آنٍ معاً‪.‬‬ ‫مراجع البحث‪:‬‬

‫‪• Al Dour, Amer. Public Transport In Lebanon: A Proposal for Reforming the Jitney System: A Case Study of Beirut (Beirut:‬‬ ‫)‪American University of Beirut MA Thesis، 2005‬‬ ‫)‪• Aoun, Alisar. Traffic and Transit in Beirut, Lebanon (Beirut: American University of Beirut MA Thesis، 2005‬‬ ‫‪• Berry, I. et al. « l'entre- deux » Des politiques institutionnelles Et des dynamiques sociales: Liban، Maroc، Algérie، Mauritanie‬‬ ‫)‪(Tours: programme de recherche PRUD، 2004‬‬ ‫)‪• Fukuyama, Francis. The End of History and the Last Man (New York: Maxwell Macmillan International، 1992‬‬ ‫)‪• Peñalosa, Enrique. The Endless City (London: Phaidon Press، 2007‬‬ ‫)‪• Sennett, Richard. The Conscience of the Eye (New York: Norton & Company، 1990‬‬ ‫)‪• Sennett, Richard. The Fall of Public Man (London، Penguin Books، 2002‬‬ ‫)‪• Sennett, Richard. “The Public Realm”، The Blackwell City Reader (Hoboken: Wiley-Blackwell، 2008‬‬ ‫‪• Wood, E., 2000. The Emotional Benefits of Insurgency. In: J. Goodwin, J. Jasper & F. Polletta, eds. Passionate Politics:‬‬ ‫‪Emotions and Social Movements. Chicago: University of Chicago Press, pp. 267 - 302.‬‬

‫‪138‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫تيار العبث‬

‫عالء الدين العالم❊‬

‫بني الفلسفة واملسرح‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫لطاملا ساهمت الحروب والثورات يف قلب النظم الفكرية‪ ،‬واالجتامعية‪ ،‬والسياسية يف املجتمع‪ ،‬وأزاحت األفكار الرئيسية‬ ‫إىل الهامش‪ ،‬واستبدلتها مبا كان هامشياً قبلها‪ ،‬ومام ال شك فيه أن هذا التغيري الذي يصيب بنية املجتمع يفرز بدوره‬ ‫تيارات فكرية وثقافية جديدة نابعة من روح املرحلة الجديدة‪ ،‬وناتجة عن أثر التغري يف كل من املجتمع والفرد عىل حد‬ ‫سواء‪ .‬كونها من أهم الحركات التي أثرت يف تاريخ أوروبا املعارص إن مل نقل أهمها‪ ،‬ساهمت الحرب العاملية الثانية يف‬ ‫تجديد بنية املجتمع األورويب وتغيري مفاهيمه وقلب كثري من املعتقدات واملسلامت التي احتلّت املركز يف حياة اإلنسان‬ ‫ريادي‪ ،‬ليس يف تغيري املجتمع األورويب وحسب‪ ،‬بل يف تغيري بنية العقل األورويب‬ ‫األورويب قبل الحرب‪ .‬وكان لها دو ٌر‬ ‫ٌّ‬ ‫بحيث التفت اإلنسان األورويب إىل عوامل هذه الحرب ومسبباتها‪ ،‬وإىل نتائجها الكارثية التي دمرت أوروبا وقتلت أكرث‬ ‫من أربعني مليون نسمة‪ ،‬ما شكّل صدمة للعقل األورويب بهذا الكم من الوحشية التي مارستها عليه آليات الحرب‬ ‫وحممها‪ .‬كان لهذه الصدمة دو ٌر ٌ‬ ‫فعال يف إفراز العقل األورويب ألفكار جديدة وفلسفات معارصة توازي مرحلة ما بعد‬ ‫الحرب وتتجاوب مع متطلباتها الفكرية‪ ،‬فنشأت مدراس فلسفية كان أبرزها الفلسفة الوجودية ورائدها جان بول سارتر‪،‬‬ ‫كام نشطت تيارات فكرية كانت قد بذرت بذورها األولية قبل الحرب وأزهرت بعدها‪ ،‬ومثالها البنيوية مع روادها كلود‬ ‫ليفي شرتاوس يف األنرثوبولوجيا‪ ،‬وروالن بارت يف النقد األديب‪ ،‬أيضا نشطت الحركة النسوية يف أوروبا بعد الحرب مطالبة‬ ‫بحقوق املرأة يف املجتمع ومساواتها مع الذكر ومن روادها سيمون دي بوفوار‪ .‬وال نغايل يف القول إن أحد أهم التيارات‬ ‫الفكرية التي كانت نابعة من آثار الحرب العاملية الثانية املتمثلة بصدمة اإلنسان األورويب وفشله يف درء اآللة اإلجرامية‬ ‫التي نشطت يف الحرب‪ ،‬هي تيار العبث الذي قام عىل أرضية عجز اإلنسان األورويب وذهوله من آثار هذه الحرب‬ ‫الرضوس‪ ،‬فخصائص العبث ‪-‬التي سنتوقف عندها يف شكل تفصييل الحقاً‪ -‬والتي متيزت بالالمعقولية والخروج عن كل‬ ‫األمناط الفكرية السائدة آنذاك مل تكن إال رد فعل عىل هذا الكم الهائل من الخراب والدمار املادي واملعنوي الذي منيت‬ ‫به أوروبا بعد الحرب‪ ،‬إذ وقف اإلنسان األورويب أمام هذه الجدارية املليئة بصور الخراب والدمار عاجزاً مذهوالً كافراً‬ ‫بكل مسلّمة‪ ،‬ومؤمناً بــ ‘عبثية’ الحياة وال معقوليتها‪.‬‬ ‫❊ خريج كلية اآلداب‪ ،‬قسم اللغة العربية بجامعة دمشق‪ .‬طالب يف املعهد العايل للفنون املرسحية‪ ،‬قسم الدراسات املرسحية بدمشق‪ .‬عمل يف صحف‬ ‫محلية داخل سوريا (سكرتري تحرير مجلة ‘الكفاح’ الفلسطينية سابقاً‪ ،‬وصحايف يف جريدة ‘ترشين’ سابقاً)‪ ،‬إضافة إىل صحف عربية مثل ‘السفري’ اللبنانية‪،‬‬ ‫و‘الحياة’ اللندنية‪ ،‬و‘العرب’ اللندنية‪.‬‬

‫‪139‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫متهيد‪:‬‬ ‫بحث يف دقة املصطلح‬ ‫ِب‬ ‫أتت كلمة عبث في معجم لسان العرب‪َ “ :‬ع َب َث َعب َثاً خ َل َط الشيء بعضه ببعض‪ ،‬و َع ِب َث َع َب َثاً لَع َ‬ ‫وهزل واستخف”((( ولعل المعنى الثاني لكلمة العبث هو األقرب لمصطلح ‘العبث’ الذي ُيطلق على هذا‬ ‫َ‬ ‫التيار الفكري والفني‪ .‬فالعبث يأخذ معناه من ال معقوليته وال جدواه‪ ،‬وهذا ما يشبه الهزل واللعب من‬ ‫حيث انتفاء الجدوى عن هذين الفعلين‪ .‬وللوقوف أكثر على دقة المصطلح‪ ،‬أي مصطلح العبث‪ ،‬وجب‬ ‫علينا البحث عن الترجمة الدقيقة لكلمة ‪ absurd‬التي تترجم غالباً إلى العربية بمعنى العبث أو الالمعقول؛‬ ‫ولعل عقالنية الالمعقول‪ ،‬تتضح لنا أكثر لو حاولنا فهم مدلوالت هذه الكلمات ‪-‬على ضوء المعاني الشائعة‬ ‫للكلمتين العربيتين كغيرهما من الكلمات فقدت معناها الحقيقي األصلي‪ -‬وذلك أن كلمة ‪( absurd‬التي‬ ‫على أساس معناها األصلي وصف ذلك المسرح بها) هي في أصلها الالتيني تعني الشيء المتنافر‪ ،‬غير‬ ‫المتناغم‪ ،‬غير المتوافق‪ ،‬أو غير المنسجم‪ .‬وبذلك يصبح ذلك الشيء ‪-‬أياً كان‪ -‬غير معقول وعبثياً‪ .‬أما‬ ‫على وجه التحديد‪ ،‬فإن الشيء غير المعقول هو وضع اإلنسان في الكون الذي نحن فيه كجزء من جزء‬ ‫صغير جداً من مجموع الذرات(((‪ .‬اعتماداً على ما سبق‪ ،‬يكون الشيء العبثي هو‪“ :‬العالقات غير المتوافقة‪.‬‬ ‫وبالتالي‪ ،‬فإن الشيء غير المتناغم أو المتنافر وغير المنسجم هو‪ :‬وضع اإلنسان مع نفسه المليئة‬ ‫بالتناقضات التي يصعب التخلص منها بدون المعرفة”(((‪.‬‬ ‫والجدير بالذكر هنا هو ترجمة البعض لكلمة ‪ absurd‬بـ ‘المحال’ بدالً من العبث أو الالمعقول‪ ،‬وال‬ ‫يخفى أن مثل هذه الترجمة تتصف بالضعف والبعد عن مقاربة المعنى الدقيق‪ ،‬فالمحال ال يمت لالمعقول‬ ‫بصلة‪ ،‬وال يمكن لكلمة محال أن تعبر عن هذا التيار الفكري وما يحمله من أفكار المعقولية تؤكد الجدوى‬ ‫الفعل اإلنساني وعبثيه وجوده‪.‬‬ ‫‪ 1‬ابن منظور ــ لسان العرب ــ تحقيق‪ :‬عبد السالم عبد العزيز ــ املكتبة التنويرية ــ لبنان ــ الطبعة األوىل‪.‬‬ ‫‪ 2‬بيكيت‪ ،‬صموئيل ــ خمس مرسحيات تجريبية ــ ترجمة وتقيم‪ :‬نادية النبهاوي ــ الهيئة املرصية العامة للكتاب ــ ‪1992‬‬ ‫‪ 3‬املرجع السابق ص‪22‬‬

‫‪140‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫هذا فيما يخص دقة تعريب المصطلح‪ ،‬أما فيما يخص معنى مصطلح العبث ودالالته‪ ،‬فنرى صفة‬ ‫العبثي والالمعقول “تستعمل للداللة على كل ما هو غير منطقي‪ .‬أما كلمة العبث فتستعمل للداللة على‬ ‫نوع من أنواع الكتابة المسرحية ظهر في الخمسينيات من هذا القرن‪ُ .‬يعتبر الناقد اإلنكليزي مارتن إيسلن‬ ‫‪ M. Esslin‬أول من أطلق تسمية مسرح العبث‪ ،‬وذلك في كتابة ‘مسرح العبث’‪ ،‬وقد جمع تحت هذه‬ ‫التسمية كتابات يونسكو وبيكيت وبينتر وجينيه”(((‪.‬‬ ‫نستخلص مما سبق أن أدق تعريب لكلمة ‪ absurd‬هو ‘العبث’‪ ،‬كونها الشائعة في التعبير عن هذا‬ ‫التيار الفكري والمسرحي من جهة‪ ،‬وكون مفردة ‘عبث’ تختزل بداخلها معاني الالجدوى والالمعقول‪ .‬وتجدر‬ ‫اإلشارة هنا إلى بعض األخطاء في استخدام مفردة العبث بحيث صار يطلقها العوام على كل فن ال يخضع‬ ‫لضوابط منطقية وال يلتزم بمسؤولية محددة‪ ،‬وهذا من سبيل الخطأ الشائع‪.‬‬ ‫العبث كتيار فلسفي‬ ‫يخال للبعض أن تيار العبث ما هو إال تيار مسرحي يتمثل بأعمال كل من صموئيل بيكيت ويوجين‬ ‫يونيسكو‪ ،‬ولعل السبب في ذلك الشهرة الواسعة لألعمال المسرحية التي ُوسِ مت بهذا النوع من المسرح‪،‬‬ ‫السيما مسرحية بيكيت ‘في انتظار غودو’‪ .‬لكن في حقيقة األمر نجد أن للعبث بذوراً فلسفية موغلة في‬ ‫القدم‪ ،‬تتمثل في بعض األساطير اليونانية القديمة التي تعرضت لمفهوم العبث ‪-‬ولو أن الكلمة لم ترد في‬ ‫شكل مباشر‪ -‬وع ّدته جوهر حياة اإلنسان وصفته المالزمة‪ ،‬وأكبر مثال على هذه األساطير هي ‘أسطورة‬ ‫سيزيف’‪ .‬إن احتقار سيزيف لآللهة‪ ،‬ونأيه عن الموت‪ ،‬وسعيه للتمتع بالحياة دفع باآللهة اليونانية للحكم‬ ‫عليه بحمل صخرة كبيرة إلى أعلى الجبل‪ ،‬ومن ثم رميها إلى األسفل‪ ،‬ومن ثم حملها إلى األعلى ورميها‬ ‫إلى األسفل‪ ،‬وهكذا دواليك‪ .‬إن هذه األسطورة تؤكد التفات العقل اليوناني الذي اختلقها إلى عبثية الوجود‬ ‫اإلنساني‪ ،‬فكل إنسان ما هو إال سيزيف يحمل صخرة أحالمه وأهدافه و ُرؤاه التي ما تنفك عن السقوط‪ ،‬وال‬ ‫يقنط سيزيف‪/‬اإلنسان من إعادة ال َك َّرة موقناً وراضياً بهذه العبثية وخاضعاً لها‪.‬‬ ‫أسطورة سيزيف‬ ‫“الالجدوى نقيضة األمل”(((‪ ،‬قد تكون الجملة السابقة أبسط جمل كامو في كتابه المعنون ‘أسطورة‬ ‫سيزيف’‪ ،‬وأكثرها تعبيراً عن معنى الالجدوى‪ .‬فإن العقل األوروبي ‪-‬كما ذكرنا سابقاً‪ -‬تعرض لصدمة وضعته‬ ‫أمام حقيقة ال مفر منها‪ ،‬وهي حقيقة الحرب الدامية‪ .‬إن هذا الكم الهائل من الدمار والقتلى أفرز حالة‬ ‫من اإليمان بالجدوى الفعل اإلنسان وعبثيته في الحياة‪ ،‬وبذلك ظهر تيار العبث مؤكداً عجز اإلنسان عن‬ ‫مواجهة قدره العبثي‪ ،‬وعن مواجهة “المعقولية العالم” كما يعبر عنها كامو‪ .‬ويمكننا القول أن كتاب كامو‬ ‫هذا كان الحجر األساس لفلسفة العبث بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬إذ يؤكد كامو فيه أن “هذا العالم غير‬ ‫معقول‪ ،‬ولكن الالجدوى تمكن في مواجهة الالمعقول”(((‪ ،‬فالعالم عند كامو يتأرجح على طرفي نقيض من‬ ‫ال جدوى الفعل من جهة‪ ،‬وال عقالنية العالم من جهة أخرى‪.‬‬ ‫‪ 4‬الياس ماري‪ ،‬قصاب حسن حنان‪ :‬املعجم املرسحي‪ ،‬تقديم سعد الله ونوس‪ ،‬دار نارشون‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪.1997 ،‬‬ ‫‪ 5‬كامو البري ــ أسطورة سيزيف ــ ترجمة‪ :‬أنيس زيك حسني ــ مكتبة الحياة ــ لبنان ــ بريوت ــ ‪.1983‬‬ ‫‪ 6‬املرجع السابق ص‪54‬‬

‫‪141‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫يبحر كامو في ‘أسطورة سيزيف’ معبراً عن معنى الالجدوى‪ ،‬ويضعها موضع العقدة بين العالم‬ ‫واإلنسان‪ ،‬فالالجدوى “تعتمد على اإلنسان قدر اعتمادها على هذا العالم‪ ،‬وفي الوقت الحاضر فإن‬ ‫الالجدوى هي الرابطة الوحيدة بينهما”(((‪.‬‬ ‫فكامو يرى مزيداً على ذلك أن الالجدوى هي العقدة التي تصل اإلنسان بالعالم‪ ،‬هي صفة ال يتصف‬ ‫بها اإلنسان وحسب‪ ،‬بل حتى العالم المحيط بنا كموجودات بشرية يتصف بهذه الالجدوى‪ ،‬وهي طبيعة‬ ‫متأصلة به “إن ّ‬ ‫اللجدوى ليست في اإلنسان وليست في العالم‪ ،‬وإنما في وجودهما معاً‪ ،‬والالجدوى هي‬ ‫(((‬ ‫الرابطة الوحيدة التي تجمع بينهما اآلن” ‪ .‬بهذه الكلمات يؤكد كامو على أن الالجدوى ما هي إال رابطة‬ ‫تجمع اإلنسان وما يحيط به من العالم‪ ،‬بل هي الرابطة الوحيدة كما يقول‪ ،‬فاإلنسان في فلسفة العبث‬ ‫ال يمكن له أن يتصل مع العالم إال من خالل الالجدوى‪ ،‬وهو‪ ،‬أي اإلنسان‪ ،‬ليس جاه ًال بال جدوى فعله‬ ‫ووجوده‪ ،‬بل هو مدرك لها أ ّيما إدراك‪ ،‬وأبرز مثال على ذلك يسوقه كامو‪ ،‬هو أسطورة سيزيف وما فعلت‬ ‫به آلهة األولمب‪ ،‬كونه حارب الموت‪ ،‬وكره اآللهة‪ ،‬وسعى للحياة “إن المحال المطلق عند كامو هو شخصية‬ ‫سيزيف األسطورية الذي بسبب احتقاره لآللهة‪ ،‬وكراهيته للموت‪ ،‬وعاطفته نحو الحياة‪ ،‬حكمت عليه اآللهة‬ ‫أن يدحرج حجراً بال نهاية إلى قمة الجبل‪ ،‬وما أن يصل إلى القمة حتى يندفع الحجر مرة أخرى هابطاً إلى‬ ‫السفح من جديد”(((‪ .‬ينصب اهتمام كامو في سيزيف على اللحظة التي يهبط فيها سيزيف أسفل الجبل‬ ‫ويعي مصيره العبثي‪ ،‬وتأخذ هذه اللحظة أهميتها عند كامو من كون وعي سيزيف في هذه اللحظة لقدره‬ ‫يبدأ بقبوله‪ ،‬رافعاً الصخرة إلى أعلى الجبل‪ ،‬وال يتخيل كامو عذاباً أعظم لسيزيف سوى أمله في النجاة‪.‬‬ ‫بذلك كان كتاب ألبير كامو ‘أسطورة سيزيف’ أحد أهم الكتب التي ن ََّظ َر ْت للعبث‪ .‬وحاول كامو‬ ‫من خالله تحويل فكرة ‘الالجدوى والالمعقولية’ إلى تيا ٍر فلسفي‪ ،‬يرى اإلنسان موجوداً بشرياً محكوماً‬ ‫بالالجدوى‪ ،‬وليس ‘محكوماً بالحرية’ كما رآه سارتر بفلسفته الوجودية‪.‬‬ ‫الغريب وكاليجوال‬ ‫لم يقتصر تج ّلي فلسفة العبث عند ألبير كامو على كتابه ‘أسطورة سيزيف’‪ ،‬بل نراه واضحاً أيضاً‬ ‫في كل من روايته ‘الغريب’ ومسرحيته ‘كاليجوال’‪ .‬ففي رواية ‘الغريب’ يجعل كامو من بطل روايته المثال‬ ‫األفضل عن حتمية الالجدوى في حياة الموجود البشري‪ ،‬إذ يتضح جلياً في العمل مدى االنفصال الحاصل‬ ‫بين بطل الرواية وبين عالمه المحيط‪ ،‬ما يؤكد فكر ًة ما َّ‬ ‫انفك كامو عن ترديدها تلخص شعور اإلنسان‬ ‫بالعبث وإدراكه ّللجدوى وهي‪“ :‬إن الشعور بالعبث هو انفصال بين اإلنسان وحياته”(‪ .((1‬وبذلك يؤكد‬ ‫كامو من خالل فلسفة العبث؛ على أن إدراك اإلنسان ‪-‬وهو إدراك حاصل ال محالة على حد تعبير كامو‪-‬‬ ‫لالجدوى التي تحيط به ولالمعقولية العالم الذي يعيش فيه يعمق شعوره بعبثية الفعل والوجود‪ ،‬ما يساهم‬ ‫في انفصال الفرد عن حياته‪ .‬إن االنفصال الذي يقصده كامو ليس االنفصال الـ َم َرضي القائم على العزلة عن‬ ‫ٌ‬ ‫انفصال ضمني مبطن ناتج عن شعور اإلنسان بالعبث‪ ،‬فـ “العبث أو‬ ‫المجتمع الواصل ح َّد التوحد‪ ،‬بل هو‬ ‫ ‪7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪ 10‬‬

‫املرجع السابق ص ‪56‬‬ ‫املرجع السابق ص ‪77‬‬ ‫مريوفيتش ديفيد زين‪ ،‬كوركوس ألن ــ أقدم لك البري كامي ـ ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ــ املرشوع القومي للرتجمة ــ القاهرة ــ ‪.2002‬‬ ‫املرجع السابق ص‪47‬‬

‫‪142‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫المحال بحث ال طائل تحته من أجل المعنى في كون يخلو من الغرضية”(‪ .((1‬إن ما يهتم به كامو أساساً‬ ‫هو االتفاق مع العبث أو المحال ألن ذلك يفسر ثقل وغرابة العالم المرعبة كما يخبره كل موجود بشري‪.‬‬ ‫ويشرع كامو من خالل روايته ‘الغريب’ إلى إبراز هذا الصراع القائم بين رغبة اإلنسان في الوضوح‬ ‫والتجلي وال معقولية العالم التي تصدمه على الدوام‪ ،‬وال َيسِ ُم كامو هذا الصراع بالعبثية فحسب‪ ،‬بل يجد‬ ‫أن هذا الصراع الالمتناهي بحد ذاته هو العبث عينه “إن ما هو محال أو عبث هو المواجهة بين معنى‬ ‫الالمعقول والرغبة العارمة في الوضوح التي ترن في أعماق الموجود البشري”(‪ .((1‬إن تركيز كامو على فكرة‬ ‫العبث في روايته ‘الغريب’ دفع كثيرين للقول بأنها من أهم أعماله األدبية التي تعرضت لفلسفة العبث‬ ‫وشرعت في تفسيرها‪ ،‬وهذا ما قاله كاتبا كتاب ‘أقدم لك ألبير كامو’ أن كامو “لم ُي َو ِّصف العبث بطريقة‬ ‫مناسبة في أي مكان أكثر مما وصفه في الرواية التي كان يحملها في حقيبته”(‪ ،((1‬وهنا يقصد رواية‬ ‫‘الغريب’‪.‬‬ ‫وتجدر اإلشارة بنا في ختام الحديث عن عمل كامو هذا أن مورسو بطل رواية الغريب ُيوضع في‬ ‫اللخيار‪ ،‬ووضع كامو بطله في ّ‬ ‫ّ‬ ‫اللخيار هو خير مثالٍ على أمرين؛ األول حتمية العبث بالنسبة للموجود‬ ‫البشري‪ ،‬والثاني هو مناقضة فكرة سارتر القائمة على الخيارات المتاحة أمام اإلنسان‪ ،‬والتي تجعل الحرية‬ ‫حرية اختيار ما أكون‪ -‬من الصفات األصيلة للكائن البشري‪.‬‬‫ومثلما رأيناه في كل من ‘أسطورة سيزيف’ و‘الغريب’‪ ،‬نرى العبث واضحاً وجلياً في مسرحية كامو‬ ‫األشهر ‘كالجيوال’ التي تروي قصة ملكٍ طغى لما رآه من الجدوى الحياة وعبثيتها‪ .‬فدافع القتل عند كالجيوال‬ ‫ليس المال‪ ،‬فهو مترف‪ ،‬وليس السلطة‪ ،‬كما ‘ماكبث’ فهو ملك‪ ،‬بل دافع القتل الوحيد عند كاليجوال هو‬ ‫إيمانه بالجدوى الفعل اإلنساني وال معقولية الحياة المعيشة؛ “نستطيع استنباط العبث عند كامو في‬ ‫كاليغوال‪ ،‬فهذا الملك الذي يلتفت إلى ال جدوى الحياة ويتصرف على أساسه معتمداً كامو في مسرحيته‬ ‫هذه على مقولة دستوفسكي‪ :‬إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح لإلنسان”(‪.((1‬‬ ‫وهكذا نلحظ التزام كامو في أعماله الثالثة السابقة فكرة العبث‪ ،‬وتأكيده حتميتها سواء كطبيعة‬ ‫الموجود البشري أو طبيعة العالم الذي يعيش فيه هذا الموجود‪ ،‬فالعبث عنده هو المقدمة المعطاة في‬ ‫كل تجربة حديثة‪ ،‬شعور مزعج قبل كل شيء‪ ،‬شعور بالتناقض وليست سوى بداية إلدراك الحياة؛ معناها‬ ‫ونتائجها‪.‬‬ ‫مسرح العبث‬ ‫“يمكن تفسير ظهور العبثية الفرنسية المفاجئ على أنها ردة فعل عدمية على الوحشية وغرف الغاز‬ ‫والقنابل الذرية التي شهدتها الحرب‪ ،‬لقد كشف مسرح العبث عن الجانب السلبي من وجودية سارتر‪ ،‬وع ّبر‬ ‫عن بؤس وعقم عالم بدا دون أهداف”(‪ .((1‬بهذه الكلمات يفتتح ج‪.‬ل‪ .‬ستيان في كتابه ‘الدراما الحديثة بين‬ ‫‪1 1‬‬ ‫‪ 12‬‬ ‫‪ 13‬‬ ‫‪ 14‬‬ ‫‪ 15‬‬

‫املرجع السابق ص‪49‬‬ ‫املرجع السابق ص‪80‬‬ ‫املرجع السابق ص‪45‬‬ ‫املرجع السابق ص ‪105‬‬ ‫ستيانج‪.‬ل‪ .‬الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد جمول‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سوريا‪ ،‬دمشق‪1995 ،‬‬

‫‪143‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫النظرية والتطبيق’ الفصل المخصص عن مسرح العبث مؤكداً الفكرة القائلة بأن مسرح العبث ما هو إال‬ ‫رد فعل إبداعي ناتج عن الكم الهائل من الوحشية والدموية التي ظهرت في الحرب العالمية الثانية‪ .‬كما‬ ‫ذكرنا سالفاً فإن اإلنسان األوروبي وجد نفسه فجأ ًة بمواجهة هذا الكم من الدمار والدم‪ ،‬فما كان منه ّإل‬ ‫أن وقف مذهوالً مؤمناً بعبثية الحياة كافراً بسلمية العلم ونتائجه‪ ،‬ومظ َل ًال بحالة رهيبة من الكآبة كان أهم‬ ‫مفرزاتها مسرح العبث‪.‬‬ ‫يظن المرء غير العالم بالعبث وظروفه ومنتوجاته اإلبداعية‪ ،‬والقارئ غير الداري لمسرح العبث‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫خاوية‬ ‫خالية من األحداث‪ ،‬وشخصياتها‬ ‫كلمات مقتطعة في شكل عشوائي‪،‬‬ ‫أن مسرحية العبث ما هي إال‬ ‫ٌ‬ ‫ال تحمل أي معنى حقيقي‪ ،‬وك ّتابها ما هم إال ٌ‬ ‫ثلة من المذهولين من آثار الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وجدوا‬ ‫ضالتهم في هذا النوع من الكتابة المسرحية الذي ال َين ُُّم ّإل عن رعون ٍة واستسهالٍ في الكتابة‪ .‬ال ريب أن‬ ‫أصحاب هذا الرأي هم ناظرون سطحيون للمسرح في شكل عام‪ ،‬ولهذا النوع المسرحي في شكل خاص؛‬ ‫فبعيداً ع ّما تحمله كثي ٌر من مسرحيات العبث لكل من بيكيت ويونيسكو من مضامين فكرية عالية‪ ،‬تحاكي‬ ‫جوهر الوجود اإلنساني وتنطلق من عالقته مع الخارج لتقدم رؤي ًة فلسفي ًة محضة ليس بالسهل فهمها‪،‬‬ ‫بعيداً عن هذه األمور‪ ،‬تتميز المسرحية العبثية ببنية جديدة مغايرة ومخالفة لكل البنى المسرحية التي‬ ‫سبقتها وتلتها‪ ،‬ما جعل لمسرح العبث خصوصية يتميز وينفرد بها‪ ،‬إذ “تقع المسرحية العبثية ضمن التراث‬ ‫الرمزي‪ ،‬كما كانت خالية من أي عقدة منطقية أو تشخيص بأي معنى تقليدي‪ ،‬فشخصياتها تفتقر للدوافع‬ ‫الموجودة في الدراما الواقعية وبهذا الشكل يتعمق إحساسها بالعبثية‪ ،‬كما يعمل غياب الحبكة على إبراز‬ ‫رتابة وتكرارية الزمن في القضايا اإلنسانية‪ ،‬وال يزيد الحوار في شكل عام كونه سلسلة من الكليشيهات‬ ‫المفككة التي ت َُح ِّج ُم المتحدثين إلى مجرد آالت ناطقة‪ ،‬وهذه المسرحية ال تحاكي الظرف اإلنساني بل‬ ‫تحاول تصويره في أسوأ أحواله من خالل صور ساخطة بقصد تحرير الساذج من أوهامه وتوجيه صدمة‬ ‫للقانع بواقعه”(‪ .((1‬ولذلك يمكننا اعتبار مسرحية العبث إحدى أهم األدوات التي تسعى لوضع اإلنسان أمام‬ ‫واقعه الوجودي إن صح التعبير‪.‬‬ ‫وأهم ما يميز هذه األعمال المسرحية‪ ،‬هو ن َْح ُوها نحواً جديداً لم َت ْن ُح ُه ٌّأي من الفنون األدبية‬ ‫السابقة‪ ،‬فدائماً ما كنا نلمس في األدب والشعر في العالم تلك الحدود الحادة والقوالب الجاهز واالتصال‬ ‫المباشر والعميق مع الواقع‪ ،‬هذا االتصال الفج هو ما ابتعدت عنه مسرحية العبث‪ ،‬فهي ت َُم ُّس َك دون أن‬ ‫قوالب فكري ًة جاهزة‪ ،‬ودون أن تحمل َ‬ ‫تقدم َ‬ ‫ٍ‬ ‫مقوالت فكري ًة وفلسفي ًة وسياسي ًة واضحة ومباشرة‪ ،‬بل‬ ‫لك‬ ‫لك‬ ‫َ‬ ‫هي تتضمن أفكاراً أعمق وأبعد قرا ُرها جوهر الوجود اإلنساني‪ .‬ويمكننا تلخيص بعض المحاور الرئيسية في‬ ‫مسرح العبث بالتالي‪:‬‬ ‫أوالً‪“ :‬االغتراب التام لإلنسان ووحدته في كونٍ يناصبه العداء‪ ،‬ويبدو كأنه ينكر عليه حق الوجود‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فمسرح العبث يقدم لنا‬ ‫شخصيات منبوذ ًة المنتمي ًة لَ َف َظ ْتها الحيا ُة”(‪ .((1‬إن االغتراب المقصود هنا ليس‬ ‫االغتراب الماركسي المتمثل باغتراب العامل عن حقه‪ ،‬وال االغتراب بمفهوم كولون ولسون القائم على‬ ‫اغتراب اإلنسان عن المجتمع الذي يوجد به‪ ،‬بل المقصود هو االغتراب كما رأيناه عند مورسو بطل رواية‬ ‫عالم تحكمه ّ‬ ‫‘الغريب’ لكامو‪ :‬اغتراب الموجود البشري المتميز ّ‬ ‫اللمعقولية‪ .‬وهنا يظهر األثر‬ ‫باللجدوى عن ٍ‬ ‫‪ 1 6‬املرجع السابق ص‪338‬‬ ‫‪ 17‬صويلحة نهاد‪ ،‬التيارات املرسحية املعارصة‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األرسة‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬‬

‫‪144‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫المتبادل بين فلسفة العبث عند كامو ومسرح العبث عند كل من بيكيت ويونيسكو‪ ،‬وأهم ما يذكر في‬ ‫هذا السياق هو األثر غير المباشر للفيلسوف األلماني مارتن هايدغر في هذا الجانب من فلسفة ومسرح‬ ‫العبث‪ .‬فما يعبر عنه هايدغر في كتابه ‘الكينونة والزمن’ وبخاصة نظريته المسماة ‘التواجد هناك’ يشكل‬ ‫أرضي ًة فلسفي ًة ص ّلب ًة قامت عليها فلسفة العبث في االغتراب‪ .‬إذ تتلخص نظرية ‘التواجد هناك’ بـما معناه‬ ‫“إن الموجود البشري يجد نفسه مرمى بين اآلخرين وما يحيط به‪ ،‬فمنذ إدراكه األول يحاول اإلنسان أن‬ ‫ٍ‬ ‫سمات‬ ‫يالئم نفسه مع اآلخر‪-‬الغريب‪ ،‬وتتحول هذه المحاوالت للتالؤم ‪-‬التي غالباً ما تتسم بالفشل‪ -‬إلى‬ ‫أصيل ٍة في الموجود البشري تساهم بشكل رئيسي في وجوده”(‪ ((1‬يمكننا استنباط ذات االغتراب من كالم‬ ‫هايدغر السابق وإن لم يصرح به بشكل مباشر‪ ،‬فوجود اإلنسان بين محيط غريب عنه تماماً‪ ،‬ومحاولته‬ ‫الدؤوبة للتالؤم مع هذا المحيط‪ ،‬تشكل نوعاً من اغتراب اإلنسان ع ّما حوله‪ ،‬اغتراب يؤثر في وحدة إنسان‬ ‫القرن العشرين وعزلته عن اآلخر‪.‬‬ ‫ثانياً‪“ :‬فكرة ّ‬ ‫اللجدوى التي تسيطر على كل شيء‪ ،‬فالعبث يرى أن كل األفعال التي يقوم بها اإلنسان‬ ‫ال طائل منها وال جدوى”(‪ ((1‬كذلك نلمس هنا التأثر التام لمسرح العبث بفلسفة العبث التي طرحها كامو‬ ‫في ‘أسطورة سيزيف’‪ ،‬فشخصيات مسرح العبث ال تفعل‪ ،‬وإن فعلت ففعلها الجدوى له‪ ،‬وأبرز مثال على‬ ‫ذلك هو فعل انتظار فالديمير واستراجون لغودو في مسرحية ‘في انتظار غودو’ لبيكيت‪ ،‬إذ أهم ما يميز‬ ‫فعل االنتظار هنا هو ال جدواه‪.‬‬ ‫ثالثاً‪“ :‬ترتبط فكرة ال جدوى الفعل بفكرة ال جدوى اللغة في مسرح العبث‪ ،‬فاإلنسان في مسرح‬ ‫العبث يتكلم ال لشيء‪ ،‬بل ليخدع نفسه بلعبة التواصل‪ ،‬وليهرب باإلحساس المرعب بالخواء الكامل من‬ ‫حوله”(‪ .((2‬وأبرز مثال على نظرة رواد مسرح العبث ل ّلغة هو الحوارات التي اشتملت عليها كل مسرحيات‬ ‫العبث‪ .‬إذ نجد في مسرحية العبث حضوراً جديداً ل ّلغة‪ ،‬فهي ليست ال ّلغة كأداة للتواصل البشري وفهم‬ ‫اآلخر‪ ،‬بل ما هي إال مجموعة من الكليشيهات يرددها شخصيات المسرحية على سبيل الكالم ال التواصل‪،‬‬ ‫بمعنى أنه وفي كثير من األحيان ال تلمس أي اتصال لغوي بين شخصية وأخرى في مسرح كل من بيكيت‬ ‫ويونيسكو‪ ،‬وهذا ما يكرس فكرة رواد مسرح العبث عن عجز ال ّلغة عن التعبير‪ ،‬وهذا ما سنشرع في‬ ‫تفصيله ومناقشته الحقاً‪.‬‬ ‫ال تشتمل هذه الميزات على كل ما يميز العبث كتيار مسرحي معاصر‪ ،‬ولكنها تقدم صورة بانورامية‬ ‫سريعة عن أهم ميزات العبث وأهم خصائصه‪ .‬ولو حاولنا االلتفات إلى بعض نقاط التالقي واالختالف بين‬ ‫كل من مسرح العبث وفلسفة العبث لوقفنا على بعض ما قاله مارتن أسلن في كتابه ‘دراما الالمعقول’‬ ‫حيث عقد أسلن مقارنة بين أسلوب مسرح العبث وبين العبث عند كامو وسارتر‪“ :‬بينما سارتر وكامو‬ ‫يعبران عن محتوى جديد بأسلوب تقليدي قديم‪ ،‬تجد أن مسرح العبث يذهب خطوة أبعد من ذلك‬ ‫بمحاولته تحقيق وحدة بين تصوراته األساسية والشكل الذي يصب فيه تلك التصورات‪ .‬بمعنى آخر إن‬ ‫مسرح سارتر وكامو أقل مالئمة كتعبير عن فلسفة سارتر وكامو من الناحية الفنية كما هو متميز من‬ ‫‪ 1 8‬هايدغر مارتن‪ ،‬الكينونة والزمن‪ ،‬ترجمة وتقديم فتحي املسكيني‪ ،‬مراجعة إسامعيل مصدق‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬ليبيا‪ ،‬بنغازي‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪2012 ،‬‬ ‫‪ 19‬صويلحة نهاد‪ ،‬التيارات املرسحية املعارصة‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األرسة‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬‬ ‫‪ 20‬املرجع السابق ص‪.135‬‬

‫‪145‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫الناحية الفلسفية عن مسرح العبث”(‪.((2‬‬ ‫صموئيل بيكيت‬ ‫ال يخفى عن القاصي والداني أن أحد أهم رواد مسرح العبث وأشهرهم هو المسرحي األيرلندي‬ ‫صموئيل بيكيت‪ ،‬فال يذكر مسرح العبث إال وذكر بيكيت والعكس أيضاً‪ ،‬ال سيما مسرحيته الشهيرة ‘في‬ ‫انتظار غودو’‪ .‬وكغيره من مبدعي أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬تب ّنى بيكيت فلسفة الالجدوى ووسم‬ ‫العالم بالالمعقولية‪ ،‬وعكس هذا التبني على نصوصه وأفكاره‪ ،‬بحيث أضفى على مسرحه صفات جعلت‬ ‫منه تياراً مستق ًال بحد ذاته‪ .‬وتفادياً للتكرار‪ ،‬فإن كل ما ذكر سابقاً من صفات لمسرح العبث ينطبق على‬ ‫مسرحيات بيكيت المتقدمة منها والمتأخرة‪ .‬وأهم ما ُيذكر هنا هو التناقص الكمي لمسرحيات بيكيت‪،‬‬ ‫وأقصد هنا بالتناقص الكمي ليس تناقص عدد المسرحيات المكتوبة في مراحل بيكيت المتأخرة‪ ،‬بل‬ ‫تناقص حجم المسرحية‪ ،‬إذ يلحظ الفرق الكمي مث ًال بين مسرحيته ‘في انتظار غودو’ ومسرحياته التجريبية‬ ‫الخمس‪ .‬وتفسر د‪.‬نهاد صليحة التناقص الكمي الذي أصاب مسرحيات بكيت المتأخرة على أنه “لقد أدرك‬ ‫بيكيت أن الرؤيا العبثية رؤية عدمية تؤدي بالضرورة إلى انتفاء القول والفعل من الحياة‪ ،‬لذلك يلحظ‬ ‫المتتبع ألعماله الدرامية أن هذه األعمال تتقلص في أحجامها تقلصاً اضطرادياً مع مرور الوقت حتى ال‬ ‫تكاد تشغل بضع صفحات”(‪.((2‬‬ ‫عكس رؤي َته للغة على‬ ‫إن أهم ما يميز مسرح بيكيت هو لغة هذا المسرح؛ بمعنى أن بيكيت‬ ‫َ‬ ‫مسرحه‪ ،‬فهو يرى أن اللغة عاجزة عن التعبير عن كل المشاعر اإلنسانية واألفكار‪ .‬لذلك نرى شخصياته‬ ‫تتحدث بلغة غريبة ال تواصل فيها وال انسجام‪ ،‬يسودها قطع غير مبرر‪ ،‬عاكس ًة بذلك رؤية كاتبها عن اللغة‬ ‫“وتبلغ عدمية بيكيت الفكرية أقصى درجاتها في تلك المسرحيات التي ينفي فيها ال ّلغة تماماً ليركز على‬ ‫وحدة اإلنسان في الوجود في كون يناصبه العداء‪ ،‬وعلى عجزه التام عن الفعل ومثال ذلك نصوص ‘بال‬ ‫كلمات’‪ ...‬ويتبين من هذا النص أن بيكيت قد وصل في التشكك من قدرة ال ّلغة على إحداث التواصل‬ ‫اإلنساني‪ ،‬وفي فعاليتها كأداة تفكير في عالم يخلو من المعنى‪ ،‬إلى نقطة النفي الكامل لوجودها‪ ،‬أي إلى‬ ‫نقطة الصمت المطبق‪ ،‬وهو هنا يوظف شك ًال مسرحياً معروفاً‪ ،‬وهو المايم توظيفاً جديداً إذ يجعله أداة‬ ‫(‪((2‬‬ ‫تعبير بليغة عن كفره بال ّلغة في إطار عبثية الوجود‪”.‬‬ ‫ويتضح لنا من هذا أن بيكيت تبنى ‪-‬بقصد أو دون قصد‪ -‬رأي رائد الظاهراتية ومؤسسها‪ ،‬الفيلسوف‬ ‫األلماني إدموند هوسرل‪ ،‬الذي رأى إن “الوجود األول‪-‬الخالص ال لغة فيه‪ ،‬فالوجود األول صامت واللغة‬ ‫(‪((2‬‬ ‫جلي في مسرحيات بيكيت‪ ،‬فاللغة أعجز‬ ‫في المرتبة الثانية” ‪ .‬إن رأي هوسرل في اللغة يظهر في شكل ّ‬ ‫عن التعبير‪ ،‬والوجود الخالص ال لغة فيه‪ ،‬وبذلك يكون بيكيت في رؤيته للغة قد انحاز لهوسرل وأيده في‬ ‫فكرة عجز اللغة عن أن تصاحب الوجود في جوهره‪ ،‬وخالف بذلك رأي هايدغر عن اللغة المتمثل بعبارته‬ ‫الشهيرة “اللغة بيت الوجود”‪.‬‬ ‫‪2 1‬‬ ‫‪ 22‬‬ ‫‪ 23‬‬ ‫‪ 24‬‬

‫اسلن مارتن‪ ،‬دراما الالمعقول‪ ،‬ترجمة عبد القادر التلمساين‪ ،‬سلسلة من املرسح العاملي‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد رقم ‪ ،19‬الطبعة الثانية‬ ‫صويلحة نهاد‪ ،‬التيارات املرسحية املعارصة‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األرسة‪ ،‬القاهرة‪.1997 ،‬‬ ‫بكيت صموئيل‪ ،‬خمس مرسحيات تجريبية‪ ،‬ترجمة وتقديم ناديا البنهاوي‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1992 ،‬‬ ‫هورسل أدموند‪ :‬فكرة الفينومينولوجيا‪ ،‬ترجمة‪ :‬فتحي انقزو‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪2007 ،‬‬

‫‪146‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫يوجني يونيسكو‬ ‫“يعود الفضل ليونيسكو في االعتراف بأول عرض مسرحية عبثية صريحة بعد الحرب‪ .‬فقد كانت‬ ‫‘المغنية الصلعاء’ عام ‪ .1948‬وفيها يقتصر عمل الزوجين على الجلوس والتحدث بكليشيهات تكاد ال تحمل‬ ‫أي معنى‪ ،‬وهذا ما يعتبر برأي المؤلف مأساة اللغة التي تقدم في شكل رمزي التفاهة الغرائبية لحياتهما‬ ‫الزوجية الخالية من الحب‪ .‬تعبر الشخصيات عن آلية الحياة التي نعيشها دون تفكير”(‪ ((2‬نستنبط مما سبق‬ ‫أن يونيسكو كان له ذات الرأي الذي كان قد تبناه بيكيت بما يخض موضوع اللغة‪ ،‬فاللغة عنده‪ ،‬كما عند‬ ‫بيكيت‪ ،‬عاجزة عن التعبير عن دواخل النفس البشرية‪ .‬وهذه الرؤية للغة التي اتسمت بها أعمال يونيسكو‬ ‫هي التي ساهمت في جعل نصوصه تقف جنباً إلى جنب مع نصوص بيكيت في ريادة مسرح العبث‪ .‬لم‬ ‫يكن يونيسكو مجرد ها ٍو لمسرح العبث‪ّ ،‬‬ ‫ومطلع عابر على أفكار العبث الفلسفية‪ ،‬بل تبناها بشكل عميق‬ ‫ودافع عنها بشراسة‪ ،‬سواء من خالل أعماله التي كانت توغل بالعبث مع تقدمها‪ ،‬أو من طريق مقاالته التي‬ ‫نظر فيها لهذا النوع من المسرح‪.‬‬ ‫أبرز مثال على تنظير يوجين يونيسكو لمسرح العبث ودفاعه عنه على اعتباره كنوع مسرحي‬ ‫جديد وليس مجرد موضة كما اتهم‪ ،‬هو رده على الصحفي كينيت تيتان حين هاجم مسرح العبث واتهم‬ ‫رواده بأنه ليسوا أصحاب رسالة إنسانية “كان واضحا أن يونيسكو ك ّون فلسفة ذات شأن عن العبث‪ ،‬حيث‬ ‫أثار ضجة عام ‪ ،1958‬في رده على الصحافي البريطاني كينيت تيتان الذي كتب (إنه ليس لهذا المؤلف‬ ‫المسرحي رسالة أو التزام)‪ ...‬كان لرد يونيسكو تأثير كبير إذ يقول فيه‪ :‬ال عالقة للفن بالعقيدة‪ .‬لكنه يتبنى‬ ‫وسائله الخاصة التي تمكنه من الفهم المباشر لما هو حقيقي”(‪ .((2‬إن هذا المقتبس يؤكد تبني يونيسكو‬ ‫الكامل لتيار العبث والدفاع عنه في وجه من اتهمه بخل ِّو المضمون والفكرة وبالشكل الفارغ‪ .‬ومن المفارقة‬ ‫الساخرة أن هذا النوع عومل في المسرح المصري على أنه موضة و ّلى زمانها‪ ،‬ومن ذلك ما ورد في مقدمة‬ ‫مسرحية ‘ياطالع الشجرة’ لتوفيق الحكيم إذ كتب في مقدمة المسرحية إن “مسرح ّ‬ ‫اللمعقول ليس سوى‬ ‫موضة ظهرت في الستينيات وانتهى عصرها‪ ،‬وأنه ما كتب مسرحيته ‘يا طالع الشجرة’ إال بهدف تغطية‬ ‫المسرح المصري بذاك اللون من التأليف؟!”(‪ .((2‬إن مثل هذه اآلراء التي ترى في مسرح العبث موضة ليس‬ ‫ّإل‪ ،‬ال يمكن فهم سبب قولها ّإل بعدم فهم أصحابها لمسرح العبث وبجهل تفاصيله ومكامن اإلبداع والفكر‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫هارولد بنرت‬ ‫لم يكن هارولد بنتر كاتباً مسرحياً ينتمي لمسرح العبث ّ‬ ‫واللمعقول بنفس طريقة بيكت ويونيسكو‪.‬‬ ‫فالقارئ لمسرح بنتر يلحظ مدى الفرق في بناء النص المسرحي بين بنتر وبين بيكيت ويونيسكو‪ ،‬ولعل‬ ‫أول اختالف بارز بين بيكيت وبنتر هو أن األخير “رفض‪ ،‬على العكس من بيكيت‪ ،‬التخلي عن اإلطار‬ ‫الخارجي الواقعي في أعماله‪ ،‬ونسج دراماه من التناقض الحاد بين عقالنية الواقع الظاهرية وبين جوهره‬ ‫‪ 2 5‬ستيان ج‪.‬ل‪ ،‬الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬ترجمة محمد جمول‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سوريا‪ ،‬دمشق‪1995 ،‬‬ ‫‪ 26‬املصدر السابق ص ‪362‬‬ ‫‪ 27‬بكيت صموئيل‪ ،‬خمس مرسحيات تجريبية‪ ،‬ترجمة وتقديم ناديا البنهاوي‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1992 ،‬‬

‫‪147‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫العبثي”(‪ .((2‬ففي حين ال نلمح في كل أعمال بيكيت أي ملمح واقعي ولو كان عابراً‪ ،‬سواء من طريق‬ ‫اللغة أو الديكور أو الحدث‪ ،‬نجد عند بنتر في جل مسرحياته هذا اإلطار الخارجي الواقعي الذي يحمل‬ ‫بجوهره العبث كجوهر للوجود اإلنساني‪ .‬فعلى سبيل المثال هناك فرق واضح بين لغة كل من شخصيات‬ ‫بيكيت ويونيسكو‪ ،‬وشخصيات بنتر‪ .‬فاللغة عنده ال تتميز بنفس الحدية في القطع والشرذمة والتشظي التي‬ ‫نقرؤها عن بيكيت‪ ،‬بل دائماً ما يعتمد بنتر على لغة ليست واقعية حياتية لكن فيها شيء من التواصل‬ ‫البشري‪ ،‬عارضاً من خالل هذه اللغة ما يريد قوله عن جوهر اإلنسان العبثي وجوهر العالم الالمعقول‪ .‬لكن‬ ‫هذا ال يعني أن موقف بنتر من اللغة ُينافي موقف بيكيت أو يدحضه‪ ،‬بل على العكس نجده ينظر إلى‬ ‫اللغة ال سيما في أعماله المتأخرة ذات النظرة التي ينظرها بيكيت لها “ليس فقط باعتبارها أداة عقيمة‬ ‫توهم اإلنسان بالتواصل مع اآلخر‪ ،‬بل باعتبارها أداة قهر وتسلط”(‪ .((2‬كذلك فإن االختالف بين بنتر وبيكت‬ ‫لم يكن اختالفاً جوهرياً رغم أن بنتر كان له ما يم ّيزه عن بيكيت‪ ،‬إال أنه بقي مديناً له ومتأثراً به‪ ،‬وهذا ما‬ ‫نستنتجه من كالم الناقد ج‪.‬ل‪.‬ستيان عن تأثر بنتر بيكيت‪ ،‬إذ يقول “بنتر كان يعتبر بيكيت أعظم كاتب في‬ ‫أيامنا‪ ،‬وقد تجلى تأثره ببيكت من خالل ديكور بنتر البسيط واعتماده الحوار البسيط العفوي العرضي في‬ ‫بعض مسرحياته المبكرة‪ ...‬إال أن موهبة بنتر الفذة تعود إلى هذا الغموض الموجود في حواره في شكل‬ ‫يميزه عن غيره”(‪.((3‬‬ ‫عود على بدء‪ ،‬تبين لنا أن العبث سواء كتيار فلسفي كما عند كامو‪ ،‬أو كنهج مسرحي كما عند كل‬ ‫ٌ‬ ‫(‪((3‬‬ ‫من بيكيت وبنتر ويونيسكو ‪ ،‬كان نتيجة ردة فعل إبداعية على حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية‪،‬‬ ‫وكان بمثابة حامل فكري للمرحلة التي ظهر فيها‪ ،‬ومثّل بذاته حالة نهوض ثورية‪-‬فكرية من ركام وخسارات‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ .‬كذلك لم يرتبط العبث بمرحلة ما بعد الحرب العالمية فقط‪ ،‬ولم يقتصر كموضة‬ ‫دارجة في منتصف القرن الماضي‪ ،‬بل تمكن من خالل بنيانه الفكري والمسرحي الذي درسناه سابقا من‬ ‫حصد مقعد بين األنواع المسرحية والفلسفات الخالدة‪ ،‬ففي حين كانت ال ّلغة في أوروبا تنفرد بعلم‬ ‫بذاته (تبدت بذوره مع الشكالنية الروسية‪ ،‬ومن ثم البنيوية‪ ،‬وفيما بعد في التفكيك على يد جاك ديريدا‪،‬‬ ‫وتنشط وتتطور كعلم مستقل له حوامل فلسفية أبرزها رؤية مارتن هايدغر للغة) قدر مسرح العبث على‬ ‫طرح رؤية مغايرة ومناقضة تماماً ل ّلغة‪ ،‬مدل ًال على فشلها وعجزها وتحولها إلى أداة تسلط كما رأينا عند‬ ‫بنتر‪ ،‬مستنداً على أرضية فلسفية ال تقل قيمة عن التي استندت عليها كل من البنيوية والتفكيك في جعل‬ ‫اللغة علماً‪ .‬الحال ذاته فيما يخص تيار العبث الفلسفي الذي تمكن من طرح نفسه وبقوة كفكر مغاير لما‬ ‫طرحه سارتر من حرية االختيار‪ ،‬وجدوى الفعل اإلنساني‪ .‬وهذا إنْ دل على شيء يدل على أن تيار العبث‪،‬‬ ‫بشقيه الفلسفي والمسرحي‪ ،‬سيبقى موجوداً على ساحة العقل البشري‪ ،‬وسيبقى العباً رئيسياً في لعبة جدل‬ ‫العقل في جدوى فعل اإلنسان ووجوده أو عدمه‪ ،‬وسيظل هذا التيار من الفكر هو السائد في زمن الحروب‬ ‫واالقتتال بين البشر‪.‬‬ ‫‪2 8‬‬ ‫‪ 29‬‬ ‫‪ 30‬‬ ‫‪ 31‬‬

‫ستيان ج‪.‬ل‪ ،‬الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد جمول‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سورية‪ ،‬دمشق‪1995 ،‬‬ ‫صويلحة نهاد‪ ،‬التيارات املرسحية املعارصة‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األرسة‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬‬ ‫ستيان ج‪.‬ل‪ ،‬الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمد جمول‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سورية‪ ،‬دمشق‪1995 ،‬‬ ‫تجدر اإلشارة إىل الخطأ الحاصل يف دراسة كل من بيكيت‪ ،‬ويونيسكو‪ ،‬وبنرت عىل أنهم كُتّاب ينتمون إىل مرسح العبث وحسب‪ ،‬إذ متكن كل من هؤالء يف‬ ‫االنفراد بصيغ مرسحية مختلفة‪ ،‬ما يتوجب عىل الباحث يف مرسح أي منهم‪ ،‬االنطالق من خصوصية كل منهم‪ ،‬وعدم الترسع يف جمع نتاجاتهم املرسحية‬ ‫تحت مظلة واحدة فقط‪.‬‬

‫‪148‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫تيار العبث بني الفلسفة واملسرح‬

‫ملاذا العبث اآلن‪/‬هنا‬ ‫لم يكن لتيار العبث في المسرح والفلسفة حضوراً كبيراً في المنطقة العربية‪ِ ،‬ع ّلة ذلك تناقض أفكار‬ ‫العبث الفلسفية والفكر الديني الطاغي في البلدان العربية‪ .‬فرغم تعرض المسرح العربي في عدة بلدان‬ ‫(سوريا‪ ،‬تونس‪ ،‬مصر‪ ،‬إلخ) إلى مسرح العبث‪ ،‬حيث ُع ِرضَ ت مسرحيات بيكيت ويونسيكو وبنتر في العديد‬ ‫من البلدان العربية‪ ،‬إال أن ذلك لم يخلق مزاجاً عاماً عربياً فنياً أو فلسفياً يتقارب ومفهوم العبث السائد‬ ‫في أوروبا‪ .‬أضف إلى ذلك أفول نجم العبث مسرحياً في أوروبا (بعد أن صار لكل من بيكيت ويونيسكو‬ ‫وبنتر خصوصية مسرحية تفرض على دارسهم أن يخرجهم من مظلة واحدة)‪ .‬بيد أن ما تعيشه المنطقة‬ ‫العربية اليوم من فوضى وخراب‪ ،‬أعادت العبث إلى الواجهة‪ ،‬ال كتيار فلسفي أو صرعة فنية‪ ،‬إنما كحالة‬ ‫شعورية أنتجتها الحرب وفرضها الموت المجاني‪ ،‬حيث يتجلى عبث الوجود البشري وال معقولية الحياة في‬ ‫نظر اإلنسان العربي الذي دخل في دوامة من الصراع ال يعرف متى ينتهي أتونها‪ ،‬فصار يبحث عن معنى‬ ‫أصيل للحياة‪ ،‬أو عن هدف يحيا ألجله بعد أن دفع كل هذا الحجم الهائل من الدماء ومازال‪ ،‬فصار كبطلي‬ ‫بيكيت فالديمير واستراجون ينتظر ‘غودو‪/‬الفرح‪ ،‬الحرية‪ ،‬األمن‪.’...‬‬ ‫من هنا‪ ،‬نجد أن العبث يحضر اليوم في العالم العربي (اآلن‪/‬هنا) ال كصرعة فكرية أو تيار فلسفية‪،‬‬ ‫بل كمفهو ٍم حياتي متأصل في يومياتنا‪ ،‬نلتمسه مع فجر كل يوم أحمر؛ مفهو ٍم قد ينتج فيما بعد نمطاً‬ ‫جديداً من التفكير العربي‪ ،‬نمطاً يستمد أصالته من الحالة العربية الراهنة وليس قالباً جاهزاً نستورده من‬ ‫اآلخر‪.‬‬

‫البيبلوغرافيا‬

‫ •‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬

‫ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬تحقيق عبد السالم عبد العزيز‪ ،‬املكتبة التنويرية‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة األوىل‬ ‫بيكيت صموئيل‪ ،‬خمس مرسحيات تجريبية‪ ،‬ترجمة وتقديم نادية النبهاوي‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪1992 ،‬‬ ‫إلياس ماري وقصاب حسن حنان‪ ،‬املعجم املرسحي‪ ،‬تقديم سعد الله ونوس‪ ،‬دار نارشون‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪1997 ،‬‬ ‫كامو ألبري‪ ،‬أسطورة سيزيف‪ ،‬ترجمة أنيس زيك حسني‪ ،‬مكتبة الحياة‪ ،‬لبنان‪ ،‬بريوت‪1983 ،‬‬ ‫مريوفيتش ديفيد زين وكوركوس ألن‪ ،‬أقدم لك ألبري كامي‪ ،‬ترجمة إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬املرشوع القومي للرتجمة‪ ،‬القاهرة‪2002 ،‬‬ ‫ستيان ج‪.‬ل‪ ،‬الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق‪ ،‬ترجمة محمد جمول‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬سورية‪ ،‬دمشق‪1995 ،‬‬ ‫صويلحة نهاد‪ ،‬التيارات املرسحية املعارصة‪ ،‬الهيئة املرصية العامة للكتاب‪ ،‬مكتبة األرسة‪ ،‬القاهرة‪1997 ،‬‬ ‫هايدغر مارتن‪ ،‬الكينونة والزمن‪ ،‬ترجمة وتقديم فتحي املسكيني‪ ،‬مراجعة إسامعيل مصدقن دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬ليبيا‪ ،‬بنغازي‪،‬الطبعة األوىل‪2012 ،‬‬ ‫اسلن مارتن‪ ،‬دراما الالمعقول‪ ،‬ترجمة عبد القادر التلمساين‪ ،‬سلسلة من املرسح العاملي‪ ،‬الكويت‪ ،‬العدد رقم ‪19‬‬ ‫هورسل أدموند‪ ،‬فكرة الفينومونولوجيا‪ ،‬ترجمة فتحي انقزو‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪2007 ،‬‬

‫‪149‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الدولة السورية‬

‫وجدي وهبي❊‬

‫بني مصيدة املدى والقوة‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫كرثت اآلراء حول العالقة بني مدى الدولة (حجم وظائفها)‪ ،‬وقوة الدولة (كفاءة مؤسساتها)‪.‬‬ ‫فبعض االقتصاديني اعترب أن كفاءة املؤسسات تستلزم تخفيض حجم الوظائف التي تؤديها الدولة‪،‬‬ ‫بينام رأى اقتصاديون آخرون أن كفاءة املؤسسات تعتمد عىل حجم وظائف كبري للدولة‪ ،‬فيام‬ ‫فريق ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫انفصال بني حجم وظائف الدولة وقوة مؤسساتها‪ ،‬ألن قوة‬ ‫ثالث للقول بأن هنالك‬ ‫ذهب ٌ‬ ‫املؤسسات تعتمد عىل عوامل متعددة؛ اقتصادية وغري اقتصادية‪ .‬ولقد ظهرت دراسات عديدة تبني‬ ‫عدم وجود وصفة جاهزة نستطيع تطبيقها عىل جميع الدول‪ .‬وقد بني فوكوياما يف كتابه بناء الدولة‬ ‫أنه ال عالقة حتمية بني املدى والقوة‪ ،‬فقد انخفضت قوة الدولة ‘كفاءة مؤسساتها’ يف كل من روسيا‬ ‫واليابان عندما قلّصوا من حجم الوظائف التي تقوم بها الدولة‪ ،‬بينام حصل العكس يف نيوزيلندا‬ ‫حيث ترافق انخفاض وظائف الدولة مع زيادة كفاءة مؤسساتها‪ .‬فمتضادة املدى والكفاءة غري‬ ‫واقعية‪ ،‬والسؤال الخاطئ لن يؤدي إال إىل إجابة خاطئة‪ .‬فالوصول إىل األداء االقتصادي األمثل ال‬ ‫يكون باالختيار بني حجم وظائف أكرب أو مؤسسات أكفأ‪ .‬ألن تقليص وظائف الدولة لن يؤدي‬ ‫بالرضورة اىل زيادة يف كفاءة مؤسساتها‪ ،‬وكفاءة املؤسسات ال تعتمد عىل تقليص وظائف الدولة‪،‬‬ ‫بل عىل عوامل متعددة أهمها عوامل مؤسساتية‪ .‬سنقوم بتسليط الضوء عىل العالقة بني حجم‬ ‫الدولة السورية وقوة مؤسساتها‪ ،‬انطالقاً من دراسة حجم الوظائف التي تقوم بها الدولة ضمن‬ ‫ثالث مستويات‪ :‬دنيا‪ ،‬ومتوسطة‪ ،‬وعليا‪ .‬ودراسة قوة مؤسسات الدولة ضمن نفس املستويات‬ ‫السابقة‪ ،‬معتمدين بذلك عىل معيار البنك الدويل –تقرير التنمية العاملية ‪ 1997-‬املقتبس من‬ ‫فوكوياما يف كتابه ‘بناء الدولة’‪ ،‬ومكتفني بوظيفتني من وظائف الدولة ضمن كل مستوى‪.‬‬ ‫❊ يحمل إجازة يف االقتصاد من جامعة دمشق‪ .‬يحرض حالياً رسالة ماجستري بعنوان ‘السياسات االقتصادية يف ضوء النظرية الكنزية’‪ .‬ويعمل كخبري يف مديرية‬ ‫البحث والتطوير يف الصندوق الوطني للمعونة االجتامعية يف سوريا‪.‬‬

‫‪150‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫أوالً‪ :‬وظائف الدولة‬ ‫وظائف الدولة تاريخيًا‬ ‫لقد تطورت وظائف الدولة لتتالءم ومتطلبات المرحلة االقتصادية‪ ،‬فكانت الدولة أول األمر مقتصر ًة‬ ‫على الدفاع الخارجي‪ ،‬واألمن الداخلي والقضاء أي ‘الدولة الحارسة’‪ .‬ثم مرت بعدة مراحل من حيث التدخل‬ ‫في النشاط االقتصادي أو عدم التدخل ضمن فترات زمنية متعاقبة‪ ،‬فشهدنا‪‘ :‬الدولة التدخلية’ بأشكالها‬ ‫المختلفة و‘الدولة الليبرالية’‪ .‬وضمن هذه األشكال المختلفة للدولة‪ ،‬كانت وظائف الدولة تتغير للتوافق‬ ‫مع نمط الدولة السائد مع االنتباه إلى أن وظائف الدولة عموماً أخذت منحنى تصاعدياً –وفي الحاالت‬ ‫الليبرالية منحنى تنازلياً‪ -‬من حيث توسع الدولة في الوظائف التي تقدمها لمواطنيها من أجل تحقيق مزيد‬ ‫من الرفاهية لهم‪ ،‬ورفع مستوى معيشتهم باإلضافة إلى تحقيق العدالة االجتماعية‪.‬‬ ‫وظائف الدولة السورية‬

‫الوظائف الدنيا‪:‬‬

‫هي الوظائف األساسية التي ينبغي على جميع الدول القيام بها‪ ،‬نظراً ألهميتها ومنفعتها المرتفعة‪.‬‬ ‫• توزيع الخدمات والمنافع العامة‪ :‬الخدمة العامة‪“ :‬هي الخدمة التي منفعتها تجاوز المستفيد‬ ‫منها‪ ،‬ويفيد منها الغير بالضرورة‪ ،‬وال يصدق عليها مبدأ القصر”(((‪ .‬وقد اتسع مفهوم الخدمة‬ ‫العامة مع ظهور ‘دولة الرفاهية’ وازدياد حجم الدولة ليشمل وظائف متعددة‪ ،‬ولكن سنقتصر‬ ‫على أهمها وهي‪ :‬تأمين المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق‪ ،‬حيث تقوم الدولة السورية‬ ‫بتأدية مهامها فيما يتعلق بتوزيع الخدمات والمنافع العامة‪.‬‬

‫‪ 1‬الببالوي‪ ،‬حازم‪ :‬دور الدولة يف االقتصاد‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪151‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫• حماية الفقراء‪ :‬تقوم الدولة السورية بحماية الفقراء وفق منهجيتين‪ ،‬األولى‪ :‬هي االستهداف‬ ‫الشامل لجميع أفرد الشعب السوري في تقديم الدعم التمويني لمادتي السكر والرز باإلضافة‬ ‫إلى بيع الخبز بأسعار مدعومة‪ .‬الثانية‪ :‬االستهداف المحدد من خالل الصندوق الوطني للمعونة‬ ‫االجتماعية‪ ،‬حيث قدمت الدعم النقدي للشرائح األفقر في المجتمع ضمن أربع مستويات للدعم‪.‬‬

‫الوظائف المتوسطة‪:‬‬

‫• الضمان االجتماعي‪ :‬تقوم مؤسسة التأمينات االجتماعية بتقديم راتب تقاعدي شهري للعاملين‬ ‫بعد انتهاء الخدمة‪ ،‬وتقديم تعويض نقدي وفق شروط محددة‪ ،‬باإلضافة إلى تواجد عدد من‬ ‫النقابات واالتحادات التي تقدم تعويض نقدي للعامل عند انتهاء خدمته‪.‬‬ ‫• تنظيم االحتكارات‪ :‬رغم العديد من القوانين التي تنص على مكافحة االحتكارات ومعاقبتها‪ّ ،‬إل‬ ‫أنه ال قرار فعلي اتخذ في هذا الخصوص‪ ،‬فيغلب على االقتصاد السوري احتكار القلة في جميع‬ ‫قطاعاته االقتصادية بدءاً بالشركات الكبرى وصوالً إلى سوق الهال‪ .‬وقد تراخت الدولة عن القيام‬ ‫بوظائفها في هذا المجال فتركت القطاع الخاص دون تنظيم للسوق ودون أي تطبيق فعلي‬ ‫لمكافحة االحتكار‪.‬‬

‫الوظائف الناشطة‪:‬‬

‫• السياسات االقتصادية‪ :‬تقوم الدولة السورية بسياسة الخطط الخمسية منذ ستينيات القرن‬ ‫الماضي‪ ،‬ويعتبر التخطيط االقتصادي المركزي سم ًة أساسي ًة في سوريا‪ ،‬باستثناء التحول الذي‬ ‫جرى في الخطة الخمسية العاشرة‪ ،‬حيث تم االنتقال إلى التخطيط التأشيري‪ .‬ويعد هذا نقطة‬ ‫تحول جوهرية في السياسة االقتصادية السورية‪ .‬فالدولة السورية تقوم بتنفيذ وظائفها في ما‬ ‫يتعلق بالسياسات االقتصادية ‪-‬من ناحية التخطيط‪ -‬فكانت تقوم بالتخطيط المركزي بدءاً من‬ ‫الخطة األولى إلى الخطة التاسعة‪ ،‬وانتقلت إلى التخطيط التأشيري بدءاً من الخطة العاشرة‪ ،‬وهي‬ ‫ما زالت تمارس عملية رسم السياسات االقتصادية ولو نظرياً على األقل‪.‬‬ ‫• إعادة توزيع للثروة‪ :‬شهد االقتصاد السوري حالة غياب لسياسات توزيع الثروة الممنهجة؛ سواء‬ ‫السياسات المحددة للتوزيع األولي للثروة أو التوزيع الثانوي‪ ،‬واقتصر على تقديم الخدمات‬ ‫الصحية والتعليمية مجاناً وتوزيع السلع التموينية بأسعار مدعومة‪ ،‬باالضافة الى دعم الخبز‪.‬‬ ‫أما السياسات المدروسة التي تفضي إلى إعادة توزيع الثروة لصالح تحقيق العدالة االجتماعية‬ ‫فكانت مغ ّيبة‪ ،‬سواء السياسات النقدية أو المالية أو سياسات األجور‪.‬‬ ‫وكمثالٍ على ذلك‪ :‬سنقوم بمقارنة مساهمة األغنياء وفئات الشعب األخرى في دفع الضرائب التي‬ ‫ترفد الموازنة العامة‪ ،‬وذلك من خالل مقارنة الضرائب المباشرة (الضرائب على الدخل‪ ،‬على األغنياء‪ ،‬األكثر‬ ‫عدالة) و الضرائب غير المباشرة (الضرائب على االستهالك‪ ،‬على جميع الشرائح‪ ،‬غير العادلة) خالل الفترة‬ ‫الممتدة من ‪ 2000‬إلى ‪ :2008‬حيث يظهر لنا الجدول التالي ازدياد نسبة الضرائب غير المباشرة (على‬ ‫‪152‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫الشرائح المختلفة) من ‪ %2.5‬من الناتج المحلي اإلجمالي الى ‪ ،%8.8‬وانخفاض الضرائب المباشرة‪ ،‬كضرائب‬ ‫الدخل التي تتناسب مع دخل المكلف‪ ،‬من ‪ %13‬من الناتج المحلي اإلجمالي الى ‪ .%6.5‬ويبين ما سبق‬ ‫غياب توج ٍه ج ّدي في اتخاذ سياسات اقتصادية تحقق العدالة االجتماعية(((‪.‬‬ ‫العام‬ ‫‪2000‬‬ ‫‪2001‬‬ ‫‪2002‬‬ ‫‪2003‬‬ ‫‪2004‬‬ ‫‪2005‬‬ ‫‪2006‬‬ ‫‪2007‬‬ ‫‪2008‬‬

‫نسبة الضرائب غير المباشرة إلى الناتج المحلي‬ ‫(غير العادلة)‬ ‫‪2.5‬‬ ‫‪5.6‬‬ ‫‪7.3‬‬ ‫‪7.2‬‬ ‫‪6.6‬‬ ‫‪6.5‬‬ ‫‪7.7‬‬ ‫‪7.4‬‬ ‫‪8.8‬‬

‫نسبة الضرائب المباشرة من الناتج المحلي‬ ‫(األكثر عدالة)‬ ‫‪13‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪11‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪7‬‬ ‫‪6.5‬‬

‫تقييم حجم وظائف الدولة السورية‪:‬‬ ‫يظهر لنا من التحليل السابق أن الدولة السورية تقوم بمهامها ضن المستويات الثالث‪ ،‬ولكن في‬ ‫شكل مجتزأ ضمن كل مستوى‪ .‬وقد صنفنا القيام بالوظائف ضمن ثالث تصنيفات‪ :‬ضعيف‪ ،‬ومتوسط‪ ،‬وجيد‪.‬‬ ‫والجدول التالي يوضح مدى حجم وظائف الدولة‪:‬‬ ‫المستوى‬ ‫دنيا‬ ‫متوسطة‬ ‫ناشطة‬

‫الوظائف‬

‫القيام بالوظائف‬

‫توزيع الخدمات والمنافع العامة‬

‫جيد‬

‫حماية الفقراء‬

‫متوسط‬

‫الضمان االجتماعي‬

‫جيد‬

‫تنظيم االحتكارات‬

‫ضعيف‬

‫السياسات االقتصادية‬

‫متوسط‬

‫إعادة توزيع الثروة‬

‫ضعيف‬

‫‪ 2‬بيانات غري منشورة‪ ،‬وزارة املالية‪ ،‬منقولة عن محارضة السياسة الرضيبية يف سوريا‪ ،‬الدكتور حسني القايض‪ ،‬جمعية العلوم االقتصادية‪.2011/1/3 ،‬‬

‫‪153‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫الشكل البياني‪ :‬وظائف الدولة السورية‬

‫توزيع الخدمات والمنافع العامة‬ ‫حماية الفقراء‬ ‫الضمان االجتماعي‬ ‫تنظيم االحتكار‬ ‫السياسات االقتصادية‬ ‫إعادة توزيع الثروة‬ ‫المجموع‬

‫التقييم‬

‫دنيا‬

‫جيد‬ ‫متوسط‬ ‫جيد‬ ‫ضعيف‬ ‫متوسط‬ ‫ضعيف‬ ‫‪5‬‬

‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪4‬‬

‫متوسطة‬

‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪3‬‬

‫عليا‬

‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫الجدول‪ :‬التقييم الرقمي للوظائف‬

‫ثانيًا‪ :‬قوة الدولة السورية (كفاءة مؤسساتها)‬ ‫تقاس قوة الدولة بقوة مؤسساتها‪ ،‬وبقدرتها على تنفيذ المهام المطلوبة منها وتنفيذ وظائفها‪.‬‬ ‫• الخدمات األساسية‪ :‬تعتبر الدولة السورية ذات كفاءة جيدة في تقديم الخدمات العامة‪ ،‬فهي‬ ‫تقدم حجم خدمات كبير وبكفاءة جيدة‪ ،‬فشبكة خدمات الصرف الصحي والكهرباء والماء تغطي‬ ‫نسبة كبيرة جداً من المدن والقرى السورية‪.‬‬ ‫• حماية الفقراء‪ :‬لم تنجح الدولة السورية فعلياً في منع انتشار الفقر وازدياده‪،‬حيث ارتفعت‬ ‫خطوط الفقر كما يظهر الجدول التالي مما يدل على ازدياد انتشار الفقر وعدم القدرة على‬ ‫حماية الفقراء‪ ،‬حيث وصلت نسبة الفقر حالياً الى ‪ %50‬من مجموع السكان(((‪:‬‬ ‫‪ 3‬عام ‪ 2007 ،2004‬دراسة الفقر يف سورية‪ .‬عام ‪ :2013‬تقديرات الباحث‪.‬‬

‫‪154‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫العام‬

‫اإلنفاق اإلجمالي‬

‫خط الفقر الغذائي‬

‫خط الفقر األدنى‬

‫خط الفقر األعلى‬

‫‪2004‬‬ ‫‪2007‬‬ ‫‪2013‬‬

‫‪3541‬‬ ‫‪4467‬‬ ‫‪12002.6‬‬

‫‪1012‬‬ ‫‪1439‬‬ ‫‪3866.5‬‬

‫‪1458‬‬ ‫‪2183‬‬ ‫‪5865.6‬‬

‫‪2052‬‬ ‫‪3037‬‬ ‫‪8160.2‬‬

‫عام ‪ 2007 ،2004‬دراسة الفقر في سورية‪ .‬عام ‪ :2013‬تقديرات الباحث‪.‬‬

‫• تنظيم االحتكارات‪ :‬تعتبر الدولة السورية ذات كفاءة ضعيفة في تنظيم االحتكارات‪ ،‬حيث يشهد‬ ‫االقتصاد السوري انتشار كبير لهذه االحتكارات‪.‬‬ ‫• الضمان االجتماعي‪ :‬إذا درسنا قدرة الدولة في تأمين الضمان االجتماعي من حيث العاملين‬ ‫في القطاع الحكومي لظهر لنا قدرة عالية من قبل مؤسسة التأمينات االجتماعية في تحقيق‬ ‫الضمان االجتماعي لجميع العاملين‪ ،‬ولكن عندما ندرس العاملين في القطاع الخاص يظهر لنا‬ ‫ضعف مؤسسة التأمينات في هذا المجال ألن غالبية العاملين في القطاع الخاص غير مسجلين‬ ‫بالتأمينات االجتماعية‪ ،‬ولم تستطع مؤسسة التأمينات االجتماعية – فعلياً ‪ -‬إلزام القطاع الخاص‬ ‫على تسجيل العاملين لديه بالتأمينات االجتماعية‪.‬‬ ‫• السياسات االقتصادية‪ :‬بالرغم من الخطط الخمسية المتعاقبة التي تنفذها الدولة ّإل أن النتائج‬ ‫التي تمخضت عن هذه الخطط تعكس العجز في تنفيذ السياسات المرسومة‪ ،‬وكمثال لذلك‬ ‫سنعرض الخطة الخمسية التاسعة(((‪:‬‬ ‫القطاع‬

‫المخطط‬

‫المنفذ‬

‫الفرق‬

‫الزراعة‬ ‫التعدين‬ ‫صناعات التحويلية‬ ‫ماء‪ ،‬كهرباء‬ ‫صناعة‬ ‫بناء وتشييد‬ ‫تجارة‬ ‫نقل‬ ‫مال وتأمين‬ ‫خدمات‬

‫‪3.8‬‬ ‫‪5.5‬‬ ‫‪41.7‬‬ ‫‪12.8‬‬ ‫‪0.8‬‬ ‫‪3.1‬‬ ‫‪5.7‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪7.6‬‬ ‫‪3.1‬‬

‫‪3.7‬‬ ‫‪-7.7‬‬ ‫‪18.6‬‬ ‫‪3.9‬‬ ‫‪-5‬‬ ‫‪4.1‬‬ ‫‪9.2‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪8.9‬‬ ‫‪7.9‬‬

‫‪-0.1‬‬ ‫‪-13.2‬‬ ‫‪-23.1‬‬ ‫‪-8.9‬‬ ‫‪-5.8‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪3.5‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪1.3‬‬ ‫‪4.8‬‬

‫يظهر لنا من الجدول‪ ،‬وبمقارنة نسب التخطيط مع نسب التنفيذ في معظم القطاعات االقتصادية‪:‬‬ ‫‪ 4‬هيئة تخطيط الدولة‪ ،‬تقييم أداء الخطة التاسعة‪.‬‬

‫‪155‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫ العجز عن تنفيذ السياسات المرسومة‪.‬‬‫ النسبة المنفذة كانت أقل من المخططة في قطاعات‪ :‬الزراعة‪ ،‬التعدين‪ ،‬الصناعات التحويلية‪.‬‬‫ النسبة المنفذة أكبر من المخططة في قطاعات التجارة والخدمات والمال‪ ،‬أي القطاعات التي‬‫تمثل الشرائح التي ينتمي إليها ‪ -‬المتنفذون‪ ،‬مما يعكس أثر القطاع الخاص في تنفيذ وتوجيه‬ ‫السياسات االقتصادية‪.‬‬ ‫• إعادة توزيع الثروة‪ :‬لقياس عدالة التوزيع سوف نعتمد ‘معيار جيني’ الذي يقيس العدالة‬ ‫االجتماعية‪ ،‬حيث قدر بـ ‪ 0.35‬في عام ‪ 2009‬ويعتبر معدالً معتدالً‪ ،‬ولكن إذا قارنا توزع اإلنفاق‬ ‫االستهالكي حسب مستوى الغنى‪ ،‬يظهر لنا أن العشير األغنى يستهلك ‪ %28‬من االستهالك الكلي‪،‬‬ ‫والعشير األفقر يستهلك ‪ %3‬من االستهالك الكلي‪ ،‬ما يعكس لنا ضعف المؤسسات وعدم قدرتها‬ ‫على تحقيق العدالة االقتصادية واالجتماعية‪.‬‬ ‫تقييم كفاءة املؤسسات السورية‪:‬‬ ‫يظهر لنا من التحليل السابق أن المؤسسات السورية مختلفة األداء ضن المستويات الثالث‪ ،‬وقد ص ّنفنا‬ ‫أداء المؤسسات ضمن ثالث تصنيفات‪ :‬ضعيف‪ ،‬متوسط‪ ،‬جيد‪ .‬والجدول التالي يوضح كفاءة المؤسسات‪:‬‬ ‫المستوى‬ ‫دنيا‬ ‫متوسطة‬ ‫ناشطة‬

‫المؤسسات‬

‫كفاءة المؤسسات‬

‫توزيع الخدمات والمنافع العامة‬

‫جيد‬

‫حماية الفقراء‬

‫ضعيف‬

‫الضمان االجتماعي‬

‫متوسط‬

‫تنظيم االحتكارات‬

‫ضعيف‬

‫السياسات االقتصادية‬

‫ضعيف‬

‫إعادة توزيع الثروة‬

‫ضعيف‬

‫جدول يوضح كفاءة المؤسسات السورية‬

‫مخطط بياني يوضح كفاءة المؤسسات السورية‬

‫‪156‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة‬

‫توزيع الخدمات والمنافع العامة‬ ‫حماية الفقراء‬ ‫الضمان االجتماعي‬ ‫تنظيم االحتكار‬ ‫السياسات االقتصادية‬ ‫إعادة توزيع الثروة‬ ‫المجموع‬

‫التقييم‬

‫دنيا‬

‫جيد‬ ‫ضعيف‬ ‫متوسط‬ ‫ضعيف‬ ‫ضعيف‬

‫‪3‬‬ ‫‪1‬‬

‫ضعيف‬ ‫‪4‬‬

‫‪3‬‬

‫متوسطة‬

‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫عليا‬

‫‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫جدول يوضح التقييم الرقمي للمؤسسات السورية‬

‫ثالثًا‪ :‬العالقة بني حجم الوظائف وكفاءة املؤسسات‬ ‫يف االقتصاد السوري‬ ‫قوة المؤسسات ال تعتمد على حجم الوظائف بل على عوامل أخرى اقتصادية وغير اقتصادية‪ ،‬رسمية‬ ‫وغير رسمية‪ ،‬منها‪ :‬مدى انتشار الفساد‪ ،‬والعادات والتقاليد‪ .‬وال يمكن ربط تحسن كفاءة المؤسسات‬ ‫بانخفاض حجم الوظائف التي تؤديها الدولة‪ ،‬بل هي متعلقة ببنية هذه المؤسسات التي هي مستندة‬ ‫الى بنية الدولة‪ ،‬ومن خالل دراسة العالقة إحصائياً –المستندة إلى التقييمات الرقمية في الدراسة أعاله‪-‬‬ ‫بين حجم الوظائف التي تؤديها الدولة السورية وقوة مؤسساتها‪ ،‬تبين أن معامل ارتباط الرتب –سبيرمان‪-‬‬ ‫يساوي ‪ .+0.914‬اإلشارة الموجبة تدل على طردية العالقة بين حجم وظائف الدولة في سوريا وقوة‬ ‫مؤسساتها‪ ،‬أما القيمة فمرتفعة‪ ،‬وقريبة من الواحد‪ ،‬ما يدل على وجود عالقة قوية بين المتغيرين‪ ،‬وأن‬ ‫كفاءة المؤسسات وحجم الوظائف التي تؤديها الدولة يؤثران في بعضهما البعض‪ ،‬ومرتبطان ببعضهما‪.‬‬ ‫بالنسبة لمعامل االنحدار فهو ‪ ،0.83‬أي أن نسبة تفسير المتغير األول للمتغير الثاني ‪ ،%83‬وهنالك ‪%17‬‬ ‫يعود لعوامل أخرى‪.‬‬ ‫(((‬

‫االستنتاج‬ ‫• هذا يعني أن حالة الدولة السورية ستكون مشابهة لحالة الدولة الروسية والدولة اليابانية‪ ،‬التي‬ ‫أ ّدى تقليص الوظائف التي تؤديها الدولة إلى انخفاض في قوتها (قوة مؤسساتها)‪.‬‬ ‫• العالقة الموجبة في الحالة السورية منطقية‪ ،‬نظراً ألن قوة المؤسسات السورية مستندة إلى حجم‬ ‫وظائف محدد‪ ،‬وانتفاء هذه الوظائف‪ ،‬سيعني انتفاء هذه المؤسسات‪ ،‬وقد ال يكون االقتصاد‬ ‫قادراً على االستعاضة عنها بمؤسسات أخرى غير حكومية‪.‬‬ ‫‪ 5‬تعقيب مهم‪ :‬معامل االرتباط غري ٍ‬ ‫كاف لتقييم العالقة بني متغريين بل هنالك محددات إحصائية أساسية أخرى للتثبت من صحة العالقة‪ ،‬ومن املمكن‬ ‫عند التوسع يف الدراسة وأخذ وظائف أخرى للدولة أن تختلف النتائج‪ .‬كام أن تغيري التقييامت لوظائف الدولة أو لكفاءة املؤسسات سيؤدي إىل اختالف‬ ‫معامل االرتباط واختالف النتائج‪ .‬‬

‫‪157‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫جعل املكان عامًا‪:‬‬

‫دنكان توماس❊‬

‫فن الشارع يف ايران❊❊‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تبحث هذه املقالة يف الجدل الدائر حول مسألة الحيز العام يف إيران من خالل الرتكيز‬ ‫عىل فن الشارع املعارص (الغرافيتي)‪ ،‬ففي الوقت الذي استحوذ فيه النشاط االحتجاجي‬ ‫للشباب اإليراين عىل االهتامم األكادميي‪ ،‬اليزال فن الشارع منسياً‪ .‬يف كل االحوال وبينام‬ ‫تبقى العديد من النشاطات الثقافية العارضة إما مقترصة عىل الحيز الخاص أو تترسب‬ ‫خفية إىل العلن‪ ،‬يبقى فن الشارع مظهراً احتجاجياً علنياً يتم إنتاجه واستهالكه مبارش ًة‬ ‫ضمن الحيز العام املتاح جهاراً‪ .‬مثل هذا النوع من التسلل يتيح املجال ألصوات متعددة‬ ‫مقموعة ليك متأل الفضاء العام‪ ،‬حيث يتم إحضار القيم والهويات املهمشة واملستبعدة إىل‬ ‫العلن‪ .‬كام أن ما يتيحه ذلك من إمكانية مشاركة جمهور املشاهدين يسهم يف إضعاف‬ ‫الحواجز الفاصلة بني العام والخاص‪ ،‬بني املتاح والالمتاح‪ ،‬بني ماميكن قوله وما الميكن‬ ‫التعبري عنه‪ ،‬بالشكل الذي يُظهر محدودية ونسبية وهشاشة النظام السائد‪ .‬ويُعتقد أن‬ ‫فن الشارع يُظهر تحوالت هامة يف مواقف الشباب اإليراين تجاه مسائل السلطة والهوية‬ ‫والحداثة منذ اندالع الثورة‪ .‬تناقش هذه املقالة املسائل السابقة مد ّعم ًة مبجموعة من‬ ‫الصور‪.‬‬

‫ ❊ دنكان توماس ‪ Dunkan Thomas‬مرشح لدرجة الماجستير في سياسات الشرق االوسط في مدرسة الدراسات الشرقية واإلفريقية بجامعة لندن‪.‬‬ ‫يكتب حول السياسة في المنطقة‪ ،‬وقد نشر في العديد من المواقع االلكترونية‪ ،‬بما فيها ‘فير أوبزرفر’ و‘الشرق’‪.‬‬ ‫❊❊ هذه الدراسة ترجمة للنص األصلي المرسل إلى مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوان‪Making Space Public: Street Art in Iran :‬‬

‫‪158‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫مقدمة‬ ‫“يتم إنتاج وهيكلة الفضاء االجتماعي عبر الصراعات‪ .‬بهكذا فهم تبدأ السياسة الديمقراطية بالتشكل‬ ‫في الحيز المتاح” (دوتشه‪)xxiv:1996 ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومكبلة‬ ‫يتم عاد ًة تصوير الحياة في جمهورية إيران اإلسالمية على أنها مقيد ٌة في شكلٍ ميؤوس منه‪،‬‬ ‫بجمل ٍة من المطالب تفرضها ٌ‬ ‫دولة قمعية ُك ّلية القدرة‪ .‬ولكن رغم القيود التي يفرضها النظام‪ ،‬في إيران كما‬ ‫في غيرها‪ ،‬تبقى الهيمنة غير كاملة ومشروعاً متطوراً يخضع للعديد من نقاط االختالف‪ .‬لكن بينما يتزايد‬ ‫االهتمام بالممارسات الثقافية االحتجاجية اليومية للشباب اإليراني((( ال يزال فن الشارع مهم ًال إلى حد‬ ‫بعيد(((‪.‬‬ ‫على خالف أشكال االحتجاج الثقافي األخرى‪ ،‬يتم إنتاج واستهالك فن الشارع مباشر ًة ضمن الحيز‬ ‫العام المتاح في شكل دائم‪ ،‬حيث يمثل معارض ًة علني ًة وجذرية‪ .‬وبالتالي يصبح المكان معرفاً بأنه ‘عام’‬ ‫بكل ما للكلمة من معنى (أي يصبح مكاناً للتفكير النقدي والتبادل الرمزي غير الخاضع للرقابة‪ ،‬تقطنه‬ ‫الـملكية التي تفرضها‬ ‫وتتنافس فيه العديد من األصوات)‪ .‬وعلى النقيض من اإليقاعات‬ ‫ّ‬ ‫الموجهة وبنى ُ‬ ‫ً‬ ‫الحداثة الرأسمالية عموماً على الحياة المدنية‪ ،‬يكتسب هذا الشكل من التحدي معانٍ أكثر أهمية عندما‬ ‫يمارس في الفضاء المؤدلج بصورة صارخة في الجمهورية اإلسالمية‪.‬‬ ‫ال يكشف فن الشارع فشل نظام الهيمنة في تعميم قيمه فقط‪ ،‬بل يكشف أيضاً محدودية قدرة‬ ‫الدولة على القسر وممارسة السيطرة المكانية‪ .‬هكذا يتم إخراج الرفض من الدوائر المهمشة واالستثنائية‬ ‫‪ 1‬عىل سبيل املثال‪ :‬نوشني (‪ )2005‬وروبرتسون (‪ )2012‬يبحثان يف املشهد املوسيقي تحت األرض يف إيران‪ ،‬شهايب (‪ )2006‬يناقش الـ ‘بريكوالج’ الثقايف يف‬ ‫أمناط اللباس‪ ،‬بيات (‪ )2010‬يبحث يف ‘سياسات املرح’‪ ،‬ومثياله فارزي (‪ )2006‬وبسمنجي (‪ )2005‬يستقصيان طيفاً واسعاً من املامرسات املامثلة‪ .‬رسيربين‬ ‫وتارفه (‪ )2013‬يقدمان رمبا التحليل األحدث واألشمل حول هكذا أمناط‪.‬‬ ‫‪ 2‬يتقاطع ‘فن الشارع’ مع الغرافيتي‪ ،‬ولكنه يتاميز عنه ببعض النواحي‪ .‬بينام يوصل األخري معاين مرتبطة مبجتمع معني ومكتوب وعادة غري متطور فنياً‪ ،‬فإن‬ ‫السابق عادة يعتمد عىل الصورة أو الرمز‪ ،‬ويسعى للتواصل مع رشيحة واسعة‪ ،‬وأكرث اهتامماً بكرس الرتابة املدينية من ادعاء ملكيته الحرصية للمكان‪.‬‬ ‫راجع دي نوتو (‪ )2014‬ملناقشة املزيد من هذه التاميزات‪.‬‬

‫‪159‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫والحصرية فيصبح منقوشاً مباشر ًة ضمن عمارة المدينة كحقيقة ال يمكن تجاهلها خالل الحياة اليومية‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫قسم نظري‪ ،‬وقسمان عمليان إلى حد كبير‪ .‬أوالً‪ ،‬أناقش‬ ‫هذه الدراسة‬ ‫مقسمة الى ثالثة أقسام؛ ٌ‬ ‫األهمية السياسية للممارسات الفنية‪ ،‬قبل أن أدرس بشيء من التفصيل العالقة التي تجمع فن الشارع‬ ‫والحيز العام والنظام السياسي‪ .‬القسم الثاني يناقش مسألة أدلجة الحيز العام في فترة ما بعد الثورة‪ ،‬مع‬ ‫تركيز خاص على سياسات الدمج االنتقائي للغرافيتي الثوري وفن الشارع في المخيال الشعبي الرسمي‪.‬‬ ‫أخيراً‪ ،‬أوضح الكيفية التي يعيق بها فن الشارع المعاصر النظام البصري المفروض‪ ،‬ولماذا تسهم التطورات‬ ‫التقنية في جعل تلك اإلعاقة أكثر مقاومة لالحتواء والرقابة من قبل السلطة‪.‬‬ ‫توضح الصور الحديثة أيضاً تحوالً في المواقف من السلطة والمعايير السائدة والهوية الثقافية‬ ‫والحداثة ‪ -‬كل العمليات االجتماعية األوسع التي تسعى الدولة اإليرانية للتحكم بها (راجع أديب مقدم‪،‬‬ ‫‪ .)2013‬يجعل فن الشارع هذا المسعى نحو التغير ‘عاماً’ بطريقة مميزة وفعالة‪.‬‬

‫القسم األول‪ :‬فن املقاومة‬ ‫‪ :1-1‬الفن كسياسة‪:‬‬ ‫تؤكد الطاقة والموارد التي تخصصها الدولة للفن‪ ،‬سواء كداعم أو كمراقب‪ ،‬قدرة هذا األخير على‬ ‫تدعيم أو مقارعة السلطة‪ .‬وبنفس الطريقة فإن الفاعلين المعارضين يشيرون إلى قدرة الفن على الحشد‬ ‫اض أساسي‪ :‬إن الفن ال يمثل‬ ‫والدفع نحو تغيير الوضع القائم‪ .‬كالهما –السلطة والمعارضة‪-‬يشتركان في افتر ٍ‬ ‫السلطة فقط‪“ ،‬وإنما يشارك بفعالية في الصراع على السلطة” (غرويس‪ ،)2008:3 ،‬ربما في شكل غير‬ ‫مباشر ولكن بالتأكيد “كفاعل يصوغ البنية التي تتشكل فيها المواقف من السلطة” (تريب‪.)2013:308 ،‬‬ ‫وبالتالي فإن أشكال ومحتوى وحدود الفن هي مناطق صراع تتشكل فيها الهيمنة –الوجه الرمزي للسلطة‪-‬‬ ‫ويتم تطبيعها وإعادة إنتاجها‪ ،‬أو بدالً من ذلك قد يتم إخضاعها “للمساءلة واالختالف والتنافس والتداول‬ ‫والتفاوض والتغيير مع الزمن” (تالي‪ .)1999:170 ،‬في بيئة تسلطية‪ ،‬كتلك السائدة في إيران‪ ،‬يؤ ِّمن الفن‬ ‫وسيل ًة إلنجاز هذا الصراع وعام ًال يتم من خالله سبر التحوالت في معايير القوة‪ .‬وفق هكذا فهم للفن يغدو‬ ‫كم ْنت ٍِج لرمو ٍز ذات‬ ‫الفنان شخصي ًة سياسية؛ ليس بالضرورة‬ ‫كداعم للنظام أو كعض ٍو في طليع ٍة ثورية‪ ،‬بل ُ‬ ‫ٍ‬ ‫مغزى فقط عندما ُيقرأ ضمن (وضد) نماذج التبادل الرمزي السائدة‪ .‬كما كتب موف (‪“ )2007:7‬تلعب‬ ‫جميع الممارسات الفنية دوراً في تأسيس وصيانة نظام رمزي محدد أو في تحدي هذا النظام‪ ،‬وذلك ما‬ ‫يمنح تلك الممارسات بعدها السياسي‪ .‬الشأن السياسي بدوره ُيعنى بمسألة الترتيب الرمزي للعالقات‬ ‫االجتماعية‪ ...‬وهنا يكمن بعده الفني”‪ .‬وبصورة مشابهة فإن مفهوم رنسير لـ ‘توزيع المعقول’ يعتبر أن‬ ‫هيكلة النظام السياسي تتم عبر “ممارسات فنية تقدم سلوكيات معينة للمواطنين على أنها مجموعة‬ ‫الممكنات المتوفرة‪ ...‬نظاماً من الحقائق المثبتة ذاتيا‪ ...‬منظوراً مبنياً على ما ُيرى و ُيسمع وما يمكن قوله‬ ‫أو التفكير به او صناعته أو فعله” (رنسير‪.)2004:85 ،‬‬ ‫على هذا النحو ترسم القيود والضوابط المفروضة على الفن حدود النشاط الفكري‪ ،‬وتع ِّرف مجال‬ ‫الممكنات السياسية واالجتماعية والثقافية‪ .‬في هذه األثناء‪ ،‬عندما يقوم الفنان النقدي بـ ‘إعادة توزيع’‬ ‫‪160‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫النظام الفني السائد وتوسيع “أطر اإلدراك والخبرة‪ ،‬بدالً من تعزيز أو إبراز الرؤى السياسية حول التقسيمات‬ ‫االجتماعية القائمة” (باباستيرجادس‪ ،)2006:19 ،‬فإن ذلك الفنان يماثل إلى درجة كبيرة تعريف سعيد‬ ‫(‪ )1994:11‬للمثقفين العا ّمين “الذين يشمل دورهم طرح أسئلة محرجة ومواجهة التشدد والعقائد الجامدة‪،‬‬ ‫وأن يؤدوا دور الشخص الذي ال يسهل تطويعه من قبل الحكومات أو المؤسسات”‪ .‬سواء عبر شحن الطاقة‬ ‫التعبيرية للصورة برسالة معينة أو عبر تطوير فن راديكالي جديد‪ ،‬فإن هكذا فنان يأمل بأن يتسبب بإحداث‬ ‫تحول في مفهوم النظام السائد‪ ،‬ليصبح هشاً ونسبياً وتمكن منافسته‪ ،‬بدالً من أن يكون طبيعياً وحتمياً وال‬ ‫تمكن مجابهته‪.‬‬ ‫كذلك قد يمارس الفن دوراً ب ّناءاً في إنتاج سرديات وهويات وتضامنيات جديدة‪،‬ـ ما يجعل احتكار‬ ‫وكسر احتكار اإلنتاج الفني قضي ًة جوهري ًة فيما يتعلق بتأسيس الهيمنة أو القضاء عليها‪.‬‬ ‫‪ :2-1‬فن الشارع واحليز العام‬ ‫يؤدي فنانو الشارع هذا الدور بطريقة خاصة وربما فريدة من نوعها‪ .‬كما يناقش بيات (‪،)2010‬‬ ‫تفضل الدول –سواء كانت ليبرالية أم تسلطية – االستخدام السلبي للمكان‪ ،‬وتدفع باتجاه أسلوب تفكير‬ ‫يعاد فيه إنتاج النظام السائد عبر النشاطات اليومية بصورة ال واعية‪ .‬بوصفه نقطة تتكثف فيها القوى‬ ‫السياسية الحيوية واالنضباطية‪ ،‬يأخذ الحيز العام دور “أداة لممارسة سيطرة وغلبة ورقابة الدولة” (دوتشه‪،‬‬ ‫‪ .)1999:121‬ال يدار ذلك فقط بواسطة البنية المادية للمدينة وقدرة الدولة على اإلجبار‪ ،‬وإنما أيضاً عبر‬ ‫سيطر ٍة ُم ْح َك َم ٍة تمارسها األنظمة الفنية‪.‬‬ ‫يعيق فن الشارع هذه السيطرة عبر جعل الصور والهويات والقيم المستثناة والمهمشمة مرئي ًة‬ ‫وواضح ًة للعلن‪ .‬فقط عبر هكذا تدخالت يصبح المكان ‘عاماً’ بأي معنى كان‪ ،‬ويعاد تعريفه بوصفه‬ ‫بيئ ًة عضوي ًة “تشكلت من خالل التفاعل واالندماج بين مماراسات متنوعة” (لدرت‪ .)1986:122 ،‬هذه‬ ‫الممارسات‪ ،‬كما الهمينة بحد ذاتها‪“ ،‬ليست ناجز ًة أو مغلقة‪ ...‬بل دائماً قيد البناء” (ماسي‪ )2005:9 ،‬فهي‬ ‫ٌ‬ ‫مفتوحة في وجه التنافس‪.‬‬ ‫بالنتيجة‬ ‫ملء المكان باألصوات المتعددة والمقموعة من قبل األنظمة ‘التمثيلية’ المسيطرة‪ ،‬يوضح ويقر‬ ‫بانهيار القدرة التعبيرية لهكذا أنظمة (عدم قدرتها على تمثيل المجتمع بكليته‪ ،‬أو حل تناقضاته‪ ،‬أو غرس‬ ‫السيطرة الالمفكر بها واألساسية لمشروع الهيمنة)‪ .‬عبر خلق مجالٍ لالغتراب‪“ ،‬لالعتراض واالنحراف‪...‬‬ ‫للمحرمات‪ ...‬للممنوع‪ ،‬لتجاوز المعايير والقيم السائدة” (كوتر‪ ،‬دي رو وفان هايسبروك‪ ،)2011:10،‬فإن فن‬ ‫الشارع يعيق فكرة المكان المسكون سلبياً‪ ،‬وذلك عبر إدخاله لعناصر الالمتوقع والعفوي‪ .‬تسعى المواجهة‬ ‫مع هكذا صور‪ ،‬سواء قوبلت بالتقدير أو الرفض او الفضول أو الذهول أو التفكر‪ ،‬إلى أن تستحث في‬ ‫المشاهدين التفكير النقدي واالرتباط وجدانياً باألمكنة اليومية‪ ،‬وبالتالي مع القوى التي تبني وتشغل‬ ‫المكان وتتنافس عليه‪ .‬بهكذا ارتباط يصبح المكان ‘عاماً’‪ ،‬والموضوع العام بدوره يصبح ‘سياسياً’‪ُ ،‬منتِجاً‬ ‫و ُمن َتجاً للبيئات االجتماعية (فكرياً وعاطفياً وتصورياً وفنياً ورمزياً)‪.‬‬ ‫ال ينبغي أن تُرى الصور المدروسة أدناه كمجرد شواهد على الصراع حول تعريف ‘الحيز العام’‬ ‫و‘النظام السياسي’ في إيران‪ ،‬وإنما كجزء ال يتجزأ من ذلك الصراع‪ .‬إذ يش ّكل الحقل الرمزي ساح ًة للتنافس‪،‬‬ ‫‪161‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫ويعيق فنانو الشارع بصورة نشطة الهيمنة الحكومية والمؤسساتية على هذا الحقل‪ .‬إن ك ًال من سعي النظام‬ ‫لرسم الصورة الطوباوية لثورة ‪ ،1979‬وكذلك فشل هذا المشروع في تعميم قيمه لتصبح ‘بدهيات’ حسب‬ ‫مفهوم غرامشي‪ ،‬يدل على دور الصور العامة في البناء والهدم المستمرين للنظام المهيمن‪.‬‬

‫القسم الثاين‪ :‬اجلمهورية اإلسالمية وأدجلة احليز العام‬ ‫ِ‬ ‫خال العالم‬ ‫‪ :1-2‬جمتمع‬ ‫“ليست جمهورية إيران‪ ،‬وال جمهورية ايران الديمقراطية‪ ،‬وال جمهورية إيران اإلسالمية الديمقراطية‪،‬‬ ‫فقط جمهورية إيران اإلسالمية” (خميني وأرجومند‪ .)1988:137 ،‬لخّ ص خطاب الخميني الى األمة‪ ،‬عشية‬ ‫التحضير للتصويت على الدستور الجديد لعام ‪ ،1979‬رؤيته للمجتمع الجديد‪ .‬لم يقبل إسالم الخميني أو‬ ‫“تقليد ال يكتنفه الغموض” (خميني‪ .)1981:68 ،‬بنا ًء عليه‪ ،‬وبينما انبثقت‬ ‫يتطلب مجتهدين إضافيين‪ ،‬كونه‬ ‫ٌ‬ ‫الثورة نفسها من كوكب ٍة من الرؤى الراديكالية “الروحانية والعملية‪ ،‬الدينية والعلمانية‪ ،‬الغربية والشرقية‪،‬‬ ‫التقدمية واإلقصائية‪ ،‬الحديثة واألصولية‪ ،‬الثورية والرجعية” (أديب مقدم‪ - )2011:255 ،‬تصور مهندسو نظام‬ ‫ما بعد الثورة “مجتمعاً خال العالم” (ختام‪ُ ،)2009 ،‬م ّطهراً من العناصر المفسدة‪ .‬بعيداً عن الفكرة األولية‬ ‫لـ “الغضب المسلم” (لويس‪ )1990 ،‬يشكل هذا االندفاع للوحدة والنظام ‪ order‬استجاب ًة حديث ًة ومتطور ًة‬ ‫للواقع االجتماعي واالقتصادي والسياسي ‪ -‬مجتمع “يسعى بصورة يائسة نحو هيكلية ما” (باوفان‪)1992 ،‬‬ ‫في مواجهة التأثيرات التفكيكفية للحداثة الرأسمالية‪ ،‬وفي حالة إيران‪ ،‬الجشع االستعماري واإلمبراطوري(((‪.‬‬ ‫خاضع لإلدارة‬ ‫لطالما ش ّكلت السيطرة على ‘الحيز العام’ جزءاً من مشروع الدولة‪ .‬فالسلوك العام‬ ‫ٌ‬ ‫الجزئية‪ ،‬من خالل مراقبة “حركة الجسد‪ ،‬ونبرة الصوت‪ ،‬ومستوى الضحك‪ ،‬وح ّدة النظرات” من قبل عمالء‬ ‫للدولة (بيات‪ .)2010:143 ،‬كذلك يمارس المواطنون هذا اآللية على أنفسهم وعلى بعضهم البعض‪ ،‬ما‬ ‫يقود إلى حال ٍة من القلق والشك والرقابة الذاتية ضمن ‘الحيز العام’ (فارزي‪ .)2006 ،‬وكما كتب قاشاني–‬ ‫ثابت (‪ )2002:170‬عن النظام البهلوي‪ ،‬وفي ظل الجمهورية اإلسالمية‪ ،‬يبقى جسد الشخص “وسيل ًة لتطبيق‬ ‫السياسة الثقافية واالجتماعية”‪ ،‬مع تجريد الرعايا من حق “تأكيد ذواتهم واالنحراف عن المعايير”‪ .‬ورغم‬ ‫تعدد طرق المخالفة غير العلنية للمعايير المفروضة (راجع فارزي‪ ،2006 ،‬شهابي‪ ،2006 ،‬بيات‪،)2006 ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫حوكمة‬ ‫ُت ْغ َر ُس في ‘الحيز العام’‬ ‫فوكوية ‪ (((Foucauldian Governmentality‬معينة‪ ،‬حتى لو كان ذلك‬ ‫االمتثال عبارة عن مجرد تأدية لما تدعوه ويدين (‪ )1999‬سياسة “كما لو ‪ .”as if‬الحيز العام هو أيضاً المكان‬ ‫تجميع لقدرة‬ ‫الذي تستعرض فيه الدولة سلطتها المطلقة‪ ،‬ف ُتن َّف ُذ هناك اإلعدامات وعقوبات الجلد‪ .‬وكمركز‬ ‫ٍ‬ ‫الدولة السياسية الحيوية واالنضباطية والقضائية فإن ‘الحيز العام’ هو بالتالي أدا ٌة لتعريف الرعايا على‬ ‫المعايير المفروضة وعلى العواقب الوخيمة التي تترتب على مخالفة تلك المعايير‪ .‬ورغم أن مستوى القسر‬ ‫‪ 3‬كام أظهر العديد من الباحثني‪ ،‬استبدلت الشيعية االنقالبية منافسيها األيديولوجيني واستوعبتهم حيث كان الخطاب الثوري الشمويل مبتكرا ً ومنتَجاً‬ ‫مركَّباً‪" :‬تقلي ٌد مخرتَع" (هوبسبون ‪ )1983‬ظهر من‪ ،‬وتأثر بشدة بقربه من األيديولوجيات الغربية –خاصة القومية واملاركسية‪ -‬كاستجابة ألزمة الحداثة‬ ‫االستعامرية‪ .‬راجع دبايش (‪ ،)1993‬بروجردي (‪ ،)1996‬مرسبايس (‪ ،)2000‬وحدت (‪.)2002‬‬ ‫‪ 4‬الحوكمة الفوكوية ترجمة للتعبري التايل ‪ Foucauldian Governmantality‬وهو مصطلح طرحه الفيلسوف الفرنيس ميشيل فوكو يقصد به عدة أمور‬ ‫منها‪ :‬األساليب التي تتبعها الحكومات إلنتاج مواطنني منسجمني مع سياساتها (هيئة التحرير)‪.‬‬

‫‪162‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫نسبي في ظل خاتمي واآلن روحاني‪ ،‬وعودة إلى الحماس‬ ‫قد تأرجح مع تعاقب اإلدارات السياسية (انفر ٌاج‬ ‫ٌّ‬ ‫ٍ‬ ‫منع صار ٍم ألي‬ ‫الثوري في ظل أحمدي نجاد)‪ ،‬يبقى السلوك والتعبير العلني خاضعين‬ ‫لتقييدات شديدة‪ ،‬مع ٍ‬ ‫إسالمي ومتماسك’ حيويةً‬ ‫شكلٍ من أشكال المعارضة العلنية‪ .‬بالطبع تبقى رغبة الدولة في إنتاج ‘حي ٍز عا ٍم‬ ‫ٍّ‬ ‫بالنسبة الدعاءاتها بامتالك سلطة أخالقية وشرعية شعبية‪ .‬يقوم اإلجماع السياسي واالجتماعي المفروض‬ ‫بتسخير الحيز العام وجعله أدا ًة إلعادة إنتاج األديولوجية الرسمية‪.‬‬ ‫‪ :2-2‬فن الدولة وإنتاج الهوية‬ ‫تحققت سيطرة الدولة على ‘الحيز العام’ بصورة مذهلة في فترة ما بعد الثورة بفضل ما أنتجته من‬ ‫فنون‪ .‬أكثرها شهر ًة هي الجداريات الضخمة التي تعرض شهداء وشخصيات دينية وصوراً وشعار ٍ‬ ‫ات مناهضة‬ ‫لإلمبريالية‪ ،‬والتي “تروج وترسخ وتنشر المبادئ األساسية للجمهورية اإلسالمية” (غروبر‪ .)2008:24 ،‬تسهم‬ ‫هكذا صور بتوسيع الجهاز االنضباطي للدولة‪ ،‬مكون ًة بذلك الحيز العام الذي تسيطر عليه وتراقب فيه‬ ‫السلوك العام‪.‬‬ ‫كذلك دمجت الدولة‪ ،‬أو ّ‬ ‫وظفت لصالحها‪ ،‬الغرافيتي الثوري في صورة انتقائية‪ .‬كما وضّ ح العديد‬ ‫من ُ‬ ‫الك َّتاب (راجع دباشي وشيلكوسكي‪1999 ،‬؛ سريبرني‪-‬محمدي ومحمدي‪ ،)1994 ،‬كان الغرافيتي منتشراً‬ ‫جداً خالل الثورة‪ ،‬شاغ ًال األمكنة والمعلومات المتداولة حول المظاهرات القادمة‪ ،‬في الوقت الذي حملت‬ ‫ٌ‬ ‫مجال‬ ‫اللوحات أجندات قومية وماركسية ونسوية وديمقراطية إلى جانب أجندات إسالمية(((‪ .‬نتج من ذلك‬ ‫أصوات متعددة‪ .‬يلعب الدمج االنتقائي للغرافيتي الثوري‪،‬‬ ‫تعددي وحيوي‪ ،‬تنافست وانعكست فيه‬ ‫بصري‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌّ‬ ‫فني أحادي‪ ،‬دوراً في الشرعنة‪ ،‬حين ُي َق َّد ُم نظا ُم ما بعد الثورة كنتيج ٍة‬ ‫وتسخير هذه اللوحات لصالح نظا ٍم ٍّ‬ ‫مباشر ٍة وحتمي ٍة وعضوي ٍة للثورة ذاتها‪ .‬توضح الحملة التي شنتها السلطات بالتوازي على كاتبي الغرافيتي‬ ‫وفناني الشارع (تريب‪ )2013:273 ،‬أهميتهم لتحقيق السيطرة البصرية العامة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لوحات (بوسترات)‬ ‫تم خالل الثورة إنتاج‬ ‫الشكل ‪ :1‬هذه اللوحة‪ ،‬أنتجت من قبل الحرس الثوري اإليراين‪،‬‬ ‫تعيد إنتاج غرافيتي ثوري عفوي كدعاية رسمية‪.‬‬ ‫لتيار ٍ‬ ‫ات أيديولوجي ٍة متنوعة في ورشات إحداث‬ ‫ٌ‬ ‫صحافة حر ٌة بكل معنى الكلمة‪:‬‬ ‫التغيير؛‬ ‫بمقدور أي شخص المشاركة‪ ،‬التي كانت غير‬ ‫موجهة كما المحتوى‪ ...‬وكان كل شي ٍء يوزع‬ ‫بدون مقابل” (سريبرني‪-‬محمدي ومحمدي‪،‬‬ ‫‪ .)1994:123‬بعد الثورة‪ ،‬فرضت الدولة سيطرتها‬ ‫على تلك الورشات‪ ،‬وصودر العديد من األعمال‪.‬‬ ‫اللوحات والرسومات “التي بدأت تجريبية‬ ‫وشخصية” تم بالنتيجة “تسخيرها ووضعها‬ ‫في خدمة االستخدام األيديولوجي‪ ...‬لخلق‬ ‫هوية وذاكرة عامة” (غروبر‪ .)2009:687 ،‬هذا‬ ‫‪ 5‬ملجموعة من هذه اللوحات‪ ،‬راجع‪http://www.floodgallery.org/postersweb.pdf :‬‬

‫‪163‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫االنتقال من الشعري إلى الوظيفي‪،‬‬ ‫من الالهرمي إلى المؤسساتي‪ ،‬غ ّير‬ ‫معاني األعمال جذرياً‪ ،‬حتى لو لم‬ ‫يتبدل محتواها‪ .‬سواء كانت مصادر ًة‬ ‫من فنانين مستقلين‪ ،‬أو ُم ْن َت َج ًة‬ ‫مباشر ًة من قبل الدولة‪ ،‬تُستخدم‬ ‫الصور التالية من الغرافيتي لكسب‬ ‫قبولٍ شعبي‪:‬‬ ‫الشكل ‪ :2‬جدار غرافيتي‪ ،‬فيه شعارات مناهضة للشاه وأمريكا وإرسائيل وروسيا‪ ،‬إضافة‬ ‫لصور للخميني ورشيعتي‪.‬‬ ‫يعرض كالهما كفاً أحمر‪ ،‬رمزاً‬ ‫للشهادة‪ ،‬مطبوع ًة بدم متظاهر جريح‪ ،‬إضافة إلى صور الخميني‪ .‬كذلك يبين الشكل ‪ 1‬تغيير تسمية ميدان‬ ‫غاله إلى ‘ميدان الشهداء’‪ .‬بإعادة إنتاج هذه اللوحات كعناصر للدعاية الرسمية‪ ،‬تقوم الدولة بتسخير‬ ‫وتجسيد فعل الشهادة نفسه‪ .‬بينما يستحيل معرفة الغايات التحررية للشهداء الحقيقيين المتوفين‪ ،‬فإن‬ ‫أولئك اللذين تعرضهم اللوحات الرسمية قد منحوا حياتهم للدولة اإلسالمية بصورة ال لبس فيها‪ .‬وبادعاء‬ ‫ملكية الموتى وتوسيع شهادتهم عبر الزمان والمكان‪ ،‬يغير الفن الرسمي معاني تضحياتهم كلياً‪ :‬ما كان‬ ‫تعبيراً عن تضامنٍ في صراع‪ ،‬غدا مطلباً سلطوياً لالمتثال والخضوع‪.‬‬ ‫يتكرر تكتيك التوظيف ذاته في األمثلة التالية‪:‬‬ ‫تعرض الصورتان نفس السطر المأخوذ من قصيدة لحافظ‪ ،‬والذي أصبح الزم ًة ثوري ًة معروفة‪“ :‬عندما‬ ‫يغادر الشيطان ستدخل المالئكة”‪ .‬في الظاهر يحتفل كالهما برحيل الشاه وعودة الخميني من المنفى‪ .‬لم‬ ‫يصبح آية الله الشخصية الرمزية في الثورة ألن اإليرانيين شاركوا رؤيته للدولة اإلسالمية المستقبلية بصورة‬ ‫دقيقة‪ ،‬بل على العكس‪َ ،‬ج ْم ُع ُه ألفكار‬ ‫الشكل ‪ :3‬يُقرأ يف الغرافيتي‪" :‬عندما يغادر الشيطان ستدخل املالئكة"‪.‬‬ ‫متأثرة بالفكر الشيعي والقومية‬ ‫باإلشارة إىل الشاه والخميني‪ ،‬بذات الرتتيب‪ ،‬كان ذلك شعارا ً ثورياً مشرتكاً‪.‬‬ ‫طُيل فوقه جزئياً من قبل مؤيدي الشاه‪.‬‬ ‫والماركسية ومعاداة اإلمبريالية هو‬ ‫ما أكسبه تأييداً جماهيرياً “تماماً‬ ‫ألنه عنى أشياء مختلفة لمتنافسين‬ ‫مختلفين” (معدل ‪ .)1992‬وبالتالي‪،‬‬ ‫بينما كانت الصورة السابقة تخميني ًة‬ ‫وعفوي ًة أصبحت الصورة الالحقة‬ ‫الشكل ‪ :4‬احتفاالً بالذكرى الخامسة والعرشين النتصار الثورة‪،‬‬ ‫رجعي ًة ومحسوبة‪ .‬وفي حين من‬ ‫تظهر هذه اللوحة دمج الشعار األعىل‪ ،‬الذي يظهر يف األسفل واليسار‪ ،‬يف دعاية الدولة‪.‬‬ ‫الصعب أن نعرف بدقة أي ‘خميني’‬ ‫هو الذي يصوره كاتب الغرافيتي‪،‬‬ ‫تمجد اللوحات الرسمية المرشد‬ ‫األعلى للجمهورية اإلسالمية‪ .‬أما‬ ‫الشكل ‪ ،4‬الذي أنتج بمناسبة الذكرى‬ ‫‪164‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫رمزي محدد‪ ،‬ومع طغيان الصور الضخمة‬ ‫الخامسة والعشرين للثورة‪ ،‬فيستوعب الشعار األصلي في‬ ‫ٍ‬ ‫ترتيب ٍّ‬ ‫للخميني والعلم اإليراني‪ ،‬تحولت األهمية الثورية للغرافيتي إلى إذعانٍ للنظام‪.‬‬ ‫وبتحول النقوش العابرة إلى صو ٍر ثابتة تصبح رموز التحرر إشار ٍ‬ ‫ات للهيمنة‪ ،‬ويوضح استخدام‬ ‫الغرافيتي الثوري وفن الشارع هذا التوظيف بطريقة صارخة‪ .‬استعمر هذا الفن الرسمي ‘الحيز العام’‪ُ ،‬م َح ِّوالً‬ ‫موقع للسيطرة‪ .‬تماماً كما كانت الثورة وفنها متالزمين معاً (رام‬ ‫ما كان مؤخراً ساحة للتنافس والصراع إلى‬ ‫ٍ‬ ‫‪ ،)2002:90‬كذلك خُ ِّص َص تأثير الصور العامة لصالح مشروع هيمن ٍة جديد‪.‬‬

‫القسم الثالث (تآكل الهيمنة واستعادة املكان)‬ ‫‪ :1-3‬فن الشارع املعاصر‬ ‫يتدخل فن الشارع المعاصر في هذا المجال شديد األدلجة‪ .‬ففي حين يخضع نظام الهيمنة في إيران‬ ‫لعدد ال يحصى من نقاط التنافس‪ ،‬من شق صف النخب (أرجومند ‪ )2009‬إلى ‘اندفاع تعددي’ من األسفل‬ ‫لألعلى (أديب‪-‬مقدم‪ ،)2013 ،‬يتميز فن الشارع بإحضار االعتراض مباشر ًة إلى الحيز العام اليومي‪.‬‬ ‫رغم الشعارات والصور التي زينت الجدران خالل الثورة‪ ،‬يمثل فن الشارع المعاصر بوضوح شيئاً‬ ‫جديداً تماماً في إيران‪ .‬فنياً‪ ،‬يسهم الفنانون في ثقاف ٍة عالمي ٍة تصفها إرفين (‪“ :)2012:25‬مانيفستو عملي‬ ‫لألشكال المعقدة للعولمة والتهجين الثقافي وإعادة المزج التي أصبحت الحالية الطبيعية للحياة في مدن‬ ‫عالمية ومتشابكة”‪ .‬يتحدى هذا االختيار الفني في صورة مباشرة الخطابات الرسمية حول ‘األصالة’‪ ،‬مب ّيناً‬ ‫الميل المتزايد لدى الشباب اإليراني “للتفكير في ما وراء األمة” (أبادوراي‪ .)1996 ،‬في نفس الوقت‪ ،‬يعبر‬ ‫العديد من الفنانين عن الرغبة في “تطوير نمط إيراني مميز قدر المستطاع”(((‪ ،‬جاعلين من فن الشارع‬ ‫مجاالً هاماً لما يسميه روبرتسون (‪“ )1995‬العولمة على أسس محلية”‪ .‬النموذج الفني المميز الناتج من‬ ‫ُ‬ ‫السكان “أن يتجاهلوا أو ببساطة أن ال يمتثلوا” للصورة الذهنية‬ ‫هذه العملية يعني أيضاً أنه بينما تع َّل َم‬ ‫الرسمية البالية (فارزي‪ ،)2006:128 ،‬فإن فن الشارع يميز نفسه باستمرار عن ما حوله‪ ،‬معززاً المشاركة‬ ‫التي نوقشت في القسم األول من هذه الدراسة‪ .‬كذلك سهلت االتصاالت العالمية انتقال المعرفة بين‬ ‫المجتمعات الفنية‪ ،‬متيح ًة للفنانين اإليرانيين أن يطوروا تقنيات معقدة للرسم على الجدران‪ ،‬بما يفسح‬ ‫المجال لمزي ٍد من الصور المعقدة‪.‬‬ ‫تق ّلل تقنيات التخزين والنشر في العالم االفتراضي من تعرض فن الشارع المعاصر لمخاطر الحذف‬ ‫ببساطة في العالم الواقعي‪ .‬يحدث االنتقال بين العالمين االفتراضي والواقعي باالتجاهين معاً‪ :‬بينما يتم‬ ‫التصوير والتحميل في العالم الفيزيائي‪ ،‬قد توزَّع تصاميم القوالب والملصقات في العالم االفتراضي‪ ،‬كما‬ ‫يعاد تصنيعها في عدة أماكن في العالم الواقعي‪ .‬بجمعه لالفتراضي والواقعي في سياقٍ واحد‪ ،‬يحوي فن‬ ‫العمارة المكانية هذا على عدة جوانب متعلقة بالوصول والنشر تجعل من قدرة الدولة على االحتواء أقل‬ ‫سهولة‪ .‬عندما تظهر الصور على المواقع االلكترونية والمدونات ووسائل التواصل االجتماعية فإنها تستحث‬ ‫نقاشات سياسية وفنية‪ ،‬األمر الذي يزيد من حجم تأثيرها و ُينتج منتدى آخر للحوار العام‪.‬‬ ‫‪ 6‬مقابلة مع فناين ‘طهران راتز’‪ ،‬متوفرة عىل‪http://www.youtube.com/watch?v=I_pFQdJYXf0 :‬‬

‫‪165‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫نشاهد تحوالً ملحوظاً في المحتوى أيضاً‪ ،‬فالصور التي تظهر اليوم في شوارع إيران ليست أيديولوجية‪.‬‬ ‫إذ ال تعكس تحوالً اجتماعياً شام ًال‪ ،‬وال ترتهن ألي برنامج ثوري؛ إسالمي أو قومي أو شيوعي‪ .‬بدالً من ذلك‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وغامضة في الغالب‪ .‬وعندما تحمل نقداً واضحاً فإنها تفضح إقصائية النظام الحالي‪،‬‬ ‫مغرقة في فرديتها‬ ‫فإنها‬ ‫بدالً من أن تسعى لتأسيس نظا ٍم جديد‪ .‬االبتعاد عن السرديات الشمولية‪ ،‬الفردية‪ ،‬اعتماد التالقح والتدوير‬ ‫من خالل شبكات التبادل؛ كل ذلك يشير إلى االنتقال بعيداً عن األيديولوجيات الحديثة والحقبة الثورية‬ ‫نحو ما بعد حداثة أكثر نقدية‪ ،‬ما ينسجم مع اقتراح أمثال بيات (‪ )2007‬ودباشي (‪ )2008‬في أن الثورة‬ ‫ملغى‬ ‫اإليرانية‪ ،‬للمفارقة‪ ،‬قد افتتحت عصراً ‘ما بعد إسالمي’‪ .‬وفي حين كان الغرافيتي الثوري إما موظفاً أو‬ ‫ً‬ ‫من قبل الدولة‪ ،‬فإن التميز الفني والمحتوى غير األيديولوجي ودورة الحياة المتنقلة لفن الشارع المعاصر‬ ‫تجعل منه أكثر مقاوم ًة لهكذا مصير‪.‬‬ ‫‪ :2-3‬إعادة تعريف املكان‪:‬‬ ‫تختصر الصورة التالية العديد من هذه االتجاهات‪ .‬بينما يعيد فوراً للذاكرة أسلوب ‘العالمات’ الذي‬ ‫(((‬ ‫ُط ِّور بداي ًة في نيويورك في الثمانينيات‪ ،‬نمط التراكب المتكرر يشابه تقليد سياه‪-‬مشق ‪Siyah Mashq‬‬ ‫أسلوب ٌّ‬ ‫هجين يجمع فناً عالمي النزعة مع جذو ٍر محلية‪:‬‬ ‫وخط‬ ‫في الخط اإلسالمي‪ .‬النتيجة هي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يعلق الفنان المعروف بـ “‪ ”A1one‬على هذا التهجين‪:‬‬ ‫“إنني مرتبط ببلدي‬ ‫وثقافتي بعمق‪ ...‬أياَ‬ ‫شكل ‪ :5‬كلمة "حقيقة" مكتوبة بأسلوب شديد التعقيد‪،‬‬ ‫من قبل الفنان ‪ ،A1one‬مبزج للمحيل والعاملي‪ .‬أمناط الخط‪ ،‬طهران‪.‬‬ ‫يكن ما أفعله فإنه يأتي‬ ‫من هكذا خلفية‪ ،‬إضافة‬ ‫لبعض التراكيب المرغوبة‪/‬‬ ‫غير المرغوبة اآلتية من‬ ‫العالم عبر اإلعالم‪ .‬أحاول‬ ‫أن أبحث في التراث‬ ‫في‬ ‫البصري لشعبي‪ .‬يؤثر َّ‬ ‫أحياناً ويلهمني‪ ،‬وأضيف نكهتي الخاصة” (مقابلة مع كاتب ‪.)2014/4/6‬‬ ‫ال يرى هذا التهجين المتعمد ‘إيران’ و‘الغرب’ ككيانات متماسكة‪ ،‬ويرفض الخطاب الرسمي بطرق‬ ‫أخرى أيضاً‪ .‬بنا ًء على كتابات متعددة ومتقاطعة وبالكاد مقروءة لكلمة ‘حقيقة’‪ ،‬يضم العمل تعددي ًة‬ ‫جذرية‪ ،‬تشابه جداً فكرة غرويس (‪ )2003:3‬حول “شيء متناقض قادر على تجسيد التناقض الذاتي األكثر‬ ‫جذرية” عبر حمله بداخله لعوامل نقضه‪ .‬حسب الفنان‪ ،‬يسعى العمل إليصال ‘تعقيد الحقيقة’ كمفهو ٍم ال‬ ‫يمكن أن ُيستوعب تماماً (مقابلة مع الكاتب ‪ – )2014/4/6‬ابتعاد جذري عن المبادئ اإلطالقية للخطاب‬ ‫الثوري لصالح ال مؤسساتية مشاكسة وما بعد حداثية‪ .‬يتيح ذلك عالق ًة بين المشاهد والبيئة مختلف ًة كلياً‬ ‫‪ 7‬سياه مشق ‪ Siyah Mashq‬من الفارسية مبعنى ‘املسودات’‪ ،‬حيث اعتاد الخطاطون أن يتدربوا عىل حسن الخط عرب كتابة الكلامت والحروف بشكل‬ ‫متكرر عىل رقع من الورق‪ .‬الحقاً تبني أن بعض هذه املسودات (التي تحوي كلامت عديدة متأل الصفحة‪ ،‬وال يجمعها أي معنى محدد) ذات جاملية فنية‬ ‫من حيث توزع وتقاطع الحروف (هيئة التحرير)‪.‬‬

‫‪166‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫عن تلك المفروضة عبر صور ٍة ذهني ٍة رسمية‪:‬‬ ‫عالقة ديمقراطية ونقدية ومنفتحة وغير قسرية‪.‬‬ ‫باالبتعاد قلي ًال عن هذا المعنى‪ ،‬الفني‬ ‫بحد ذاته مذهل‪ .‬تُظهر العديد من صور‬ ‫فن الشارع المارة وهم يقفون أو يلتفتون‬ ‫إلى األعمال الفنية في صور ٍة معبرة‪ .‬للحظة‪،‬‬ ‫تم إبعاد المكان عن سيطرة الدولة ومصالح‬ ‫الشركات‪ ،‬وأعيد تعريفه كمكانٍ للتفكير في ما‬ ‫يواجه بصورة عفوية غير متوقعة‪:‬‬ ‫يمكن أن َ‬ ‫في الشكل ‪ ،6‬صورة الطفل‪ ،‬يفكر بتجاوز‬ ‫إشارة ‘توقف’‪ ،‬ربما كي يوصل رسال ًة مفادها‬ ‫تجاهل السلطة واإليقاعات الموجهة في الدولة‬ ‫الحديثة‪ .‬العمل الثاني في الشكل ‪ ،7‬رغم أنه‬ ‫أكثر غموضاً‪ ،‬يمزق الواجهة الحضرية الرتيبة‬ ‫ليكشف ما تخفيه من فوضى ونشاز‪ ،‬إضافة‬ ‫إلى األصوات المعارضة المخفية تحت السطح‬ ‫تماماً‪ .‬ت ُْظ ِه ُر الصورتان قدر َة فن الشارع على‬ ‫دفع الحضور للمشاركة خارج إطار التركيب‬ ‫السكاني ضمن ثقافة الشباب‪ .‬إذ تع ّبر النظرة‬ ‫ٍ‬ ‫المؤثرة للمرأة المسنة عن تواصلٍ‬ ‫خاطف‪،‬‬ ‫ولكنه قوي بينها وبين الفنان‪ ،‬حيث يلعب الفن‬ ‫والح ّيز الذي تتيحه المدينة دور الوسيط‪ .‬ورغم‬ ‫أن الطفل صغير جداً ليق ّدر أي أهمي ٍة سياسي ٍة‬ ‫للعمل الفني‪ ،‬فإن هذا العمل الفني قد جذبه‬ ‫بتميزه عن محيطه نوعاً ما‪ .‬تكمن قوة هكذا‬ ‫مواجهات عفوية في صميم قدرة فن الشارع‬ ‫على التحدي‪.‬‬ ‫عندما تكون األعمال الفنية نقدي ًة في‬ ‫صور ٍة واضح ٍة فإنها غالباً ما تركز على تلك‬ ‫الشخصيات المه ّمشة أو المحرومة من قبل‬ ‫النظام السائد‪ ،‬أو تلك الحقوق التي ال يق ّرها‬ ‫النظام‪ .‬األطفال من أكثر المواضيع تكراراً‪ ،‬وغالباً‬ ‫ما يترافقون مع الفقر في المناطق الحضرية‪:‬‬

‫شكل ‪ :6‬امرأة تقف ملشاهدة عمل من فن الشارع (الفنان‪ :‬غري معروف)‪.‬‬

‫رس للرتابة شد انتباه طفل (الفنان‪)A1one :‬‬ ‫شكل ‪ :7‬ك ٌ‬

‫شكل ‪ :8‬طفل يحمل ألعاباً تركيبي ًة يف موقع بِناء‬ ‫(الفنان‪ :‬آييس وسكوت)‪.‬‬

‫‪167‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫من المهم دراسة هذه الصور وفي الذهن مسألة‬ ‫تمثيل األطفال من قبل الدولة اإليرانية تاريخياً‪ .‬فقد‬ ‫ٌ‬ ‫أطفال بعمر الحادية عشرة أو الثانية عشرة‬ ‫اشترك‬ ‫في القتال في الحرب العراقية‪-‬اإليرانية‪ ،‬وغالباً ما تم‬ ‫تخليدهم كشهداء في جداريات الدولة‪ .‬يعرض غروبر‬ ‫(‪ )2008‬مثاالً مشهوراً جداً‪ ،‬مص ِّوراً طف ًال ذي اثني عشر‬ ‫عاماً اسمه فهميده‪ ،‬أوقف زحف الدبابات العراقية‬ ‫عندما قفز تحتها وفجر قنبلة يدوية‪ .‬يعاد توصيف‬ ‫الطفل اآلن كشخصي ٍة تم استغاللها؛ لم يعد ميتاً في‬ ‫سبيل الدولة‪ ،‬وإنما بسبب إهمال الدولة واستغاللها له‪.‬‬ ‫حرية التعبير هي موضوع مشترك آخر‪:‬‬ ‫تتناول هذه األعمال القضية من خالل نقد‬ ‫الرقابة الذاتية‪ .‬تمسك الطفلة في الشكل ‪ 11‬قلماً‬ ‫غطى حبره كلماتها‪ ،‬وتكشف الشخصية في الشكل ‪12‬‬ ‫هويات متعددة جميعنا نخفيها‪ ،‬في حين يخفي الرجل‬ ‫في الشكل ‪ 13‬شعوراً حقيقياً خلف ابتسامة مزيفة‪.‬‬ ‫ك َت َب فارزي (‪ )2006‬عن ‘انفصام الشخصية االجتماعي’‬ ‫الناجم عن الحواجز المتينة بين المجالين العام‬ ‫والخاص في إيران‪ .‬تتحدى هذه الصور ذلك االنقسام‬ ‫وما يرسخه من إدارة بالرقابة الذاتية في ما يتعلق‬ ‫بالمواضيع العامة‪ .‬كذلك يشير تركيزها على الخضوع‬ ‫الفردي إلى التح ّول بعيداً عن الموضوع الجماعي‬ ‫المتع ّلق بالخطاب الثوري؛ تطو ٌر ينسجم مع تغير ٍ‬ ‫ات‬ ‫في الحقلين الفكري والسياسي (راجع‪ :‬وحدت ‪.)2002‬‬ ‫نقد مباش ٌر للدولة أيضاً‪.‬‬ ‫يوجه ٌ‬ ‫في بعض األحيان َّ‬ ‫على سبيل المثال تحتج األعمال التالية على عنف‬ ‫الدولة‪:‬‬ ‫بتصويرها للقمع العنيف تجاه متعة مسالمة‪،‬‬ ‫تس ِّيس هذه األعمال علناً ما يدعوه بيات (‪)2010‬‬ ‫‘سياسات المرح’‪ ،‬التي يحاول عبرها الشباب اإليراني‬ ‫التأسيس لذهني ٍة بديلة‪ .‬ويشير الشكل ‪ 15‬إلى‬ ‫ٍ‬ ‫تجمع المئات‬ ‫حدث معين في تموز ‪ ،2011‬عندما َّ‬ ‫للتراشق بالماء في إحدى حدائق طهران‪ .‬بعد سلسلة‬ ‫‪168‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬

‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫طفل بسبب‬ ‫شكل‪ :9‬تقول العبارة‪" :‬يف أي لحظة يف العامل‪ ،‬ميوت ٌ‬ ‫ضغوطات الفقر والعاملة القرسية" (الفنان‪ :‬نافر)‪.‬‬

‫شكل ‪ :10‬طفل عامل‪ ،‬خارج املنظمة اإلسالمية الدولية لحامية‬ ‫حقوق الطفل‪ .‬الفنان‪ :‬آييس وسكوت‪.‬‬

‫شكل ‪ :11‬كلامت طفل موضوعة تحت الرقابة (الفنان‪ :‬جيو)‪.‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫اعتقاالت‪ ،‬قام إعالم الدولة ِّ‬ ‫ببث اعتر ٍ‬ ‫افات بالمخالفة‬ ‫األخالقية – للسخرية فإن مجرد تعميم الحدث‬ ‫شجع أحداثاً مماثلة في عموم البالد(((‪ .‬على هذا‬ ‫ّ‬ ‫النحو يقدم فن الشارع خطاباً معارضاً بدي ًال بواسطة‬ ‫أشكالٍ عامة مفهومة أو سهلة الفهم‪ ،‬ومن ثم يتم‬ ‫تصويرها وتحميلها ومناقشتها في العالم االفتراضي‪.‬‬ ‫بينما ق ِّوضت قدرة الدولة على تصوير األحداث‪ ،‬فإن‬ ‫المقاربة بين عفوية النشاطات وردود الفعل العنيفة‬ ‫تب ّين مدى خطورة الممارسات المخالفة اليومية –بما‬ ‫فيها فن الشارع‪ -‬على نظا ٍم ذي حساسي ٍة مفرطة‪.‬‬ ‫لعب فن الشارع كذلك دوراً في احتجاجات‬ ‫عام ‪ 2009‬ضد التزوير‬ ‫المفترض إلعادة انتخاب‬ ‫أحمدي نجاد‪ .‬تظهر الصور‬ ‫التالية التحوالت التي نقلت‬ ‫ما كان أعماالً فني ًة غامضة‬ ‫سياسي‬ ‫احتجاج‬ ‫إلى صورة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫علني‪:‬‬ ‫نالحظ هنا كيف‬ ‫تم توظيف البنية التحتية‬ ‫لفن الشارع‪ ،‬والموجودة‬ ‫ٍ‬ ‫سياسي محدد‪ .‬يعني‬ ‫حدث‬ ‫مسبقاً‪ ،‬في خدمة‬ ‫ٍّ‬ ‫تخزين ونشر هذه الصور في العالم االفتراضي أنه‪،‬‬ ‫خالفاً للفترة التي تلت عام ‪ ،1979‬لم يعد بمقدور‬ ‫الدولة أن تستعيد بفعالي ٍة ت َ​َح ُّك َمها بالتمثيل البصري‬ ‫للصراع الشعبي‪ .‬غطى الغرافيتي واألشكال المرسومة‬ ‫بقوالب أقل احترافية شوارع إيران خالل احتجاجات‬ ‫‪ .2009‬وفي حين لم ينجو سوى القليل من الصور‬ ‫ٍ‬ ‫من ثورة ‪ ،1979‬فإن آالف الصور لشعار ٍ‬ ‫ورسومات‬ ‫ات‬ ‫جدارية من أحداث ‪ 2009‬نجت واستمرت في العالم‬ ‫االفتراضي(((‪.‬‬

‫شكل ‪ :12‬شخصيات متعددة تشق طريقها نحو املشاهدة العامة‬ ‫(الفنان‪)A1one :‬‬

‫شكل ‪ :13‬ابتسامة كاذبة تخفي املشاعر الحقيقية (الفنان‪ :‬آييس وسكوت)‪.‬‬

‫شكل ‪ :14‬ثنايئ يرقصان وسط الدم والطلقات (الفنان‪ :‬نافر)‪.‬‬

‫‪http://www.guardian.co.uk/world/2011/aug/04/water-fight-pistols-iran-arrests 8‬‬ ‫ٍ‬ ‫كأرشيف بديلٍ عامٍ ومتاح يحوي آالف الصور الصادرة من كل من األطراف؛ املعارضة‬ ‫‪ 9‬يف هذا الخصوص فإن موقع ‪ www.greens-arts.net‬مثري لالهتامم‬ ‫واملؤيدة للنظام‪.‬‬

‫‪169‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫تسعى تلك الصور لتغيير نظام الهيمنة‬ ‫جذري شامل‪ ،‬بل‬ ‫ليس فقط عبر إحداث تغيي ٍر‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫فني ‘الزحف بصمت’ (بيات‪)2010 ،‬‬ ‫عبر‬ ‫صنف ٍّ‬ ‫ينهي تدريجياً قدرة الدولة على رسم معالم الحياة‬ ‫ٍ‬ ‫بأصوات متعدد ٍة‬ ‫العامة‪ .‬عبر ملء الحيز العام‬ ‫ومقموعة‪ ،‬يكشف فن الشارع الحدود واإلقصاءات‬ ‫سياسي معينٍ غير مستقل‪،‬‬ ‫التي تؤسس لنظا ٍم‬ ‫ٍّ‬ ‫ويبدأ بتقويض الدعائم التي تسند ذلك النظام‪.‬‬ ‫خامتة‪:‬‬ ‫يعتبر فن الشارع مثاالً قوياً على أساليب‬ ‫معارضة الناس ل ُبنى الهيمنة من خالل ممارسات‬ ‫المقاومة اليومية‪ .‬بينما تبرز جداريات زمن‬ ‫الحرب كمعالم لرسوخ وثبات الدولة‪ ،‬فإن فن‬ ‫ومفتوح للمشاركة‬ ‫ومفعم بالحياة‬ ‫الشارع متغي ٌر‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫بأصوات متعدد ٍة مختلف ٍة‬ ‫مالئاً بذلك الحيز العام‬ ‫ومضطهدة‪ .‬إذاً يصبح ذلك الحيز ‘عاماً’ ويتم‬ ‫إخراجه –ولو جزئياً وفي صورة خاطفة‪ -‬من نطاق‬ ‫أنظمة السيطرة المتعددة التي يخضع لها‪.‬‬ ‫كذلك فإن التأثير الواضح لألساليب العالمية‪،‬‬ ‫ونشر وتخزين الصور في العالم االفتراضي‪ ،‬يجعل‬ ‫من فن الشارع مثاالً على طرق تكييف الثقافة‬ ‫العالمية الستخدامها محلياً‪ ،‬وعلى أساليب صياغة‬ ‫اضي في ظل الممارسات الواقعية‬ ‫إعال ٍم افتر ٍّ‬ ‫للهيمنة المقابلة‪ ،‬عبر تضخيم أثر تلك الممارسات‪.‬‬ ‫يتيح ذلك لنا إمكانية تقدير اإلمكانات الحقيقية‬ ‫لهكذا تقنية‪ ،‬من دون ‘الهوس’ بقدرتها على‬ ‫التغيير‪ :‬اإلعالم الجديد ليس محرضاً على التغيير‬ ‫السياسي وال تقدمياً بالضرورة‪ ،‬ولكنه قد يساند‬ ‫الممارسات في العالم الحقيقي ويساهم في إنتاج‬ ‫أشكالٍ جديدة للتعبير والمقاومة‪.‬‬ ‫رغم أن فن الشارع ال يزال في بداياته في‬ ‫إيران‪ ،‬فإنه يبرز كتح ٍّد ها ٍم لدول ٍة لطالما َش ْر َع َن ْت‬ ‫‪170‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬

‫شكل ‪ :15‬طفل معه مسدس مايئ تواجهه رشطة الشغَب‬ ‫(الفنان‪.)A1one :‬‬

‫شكل ‪ :17‬أثناء التحضري‬ ‫النتخابات ‪ ،2009‬حملة‬ ‫‘الوحوش’ نشطت لصالح املرشح‬ ‫الرئايس موسوي‪.‬‬

‫شكل ‪ :16‬لسنوات غطى‬ ‫‪ A1one‬طهران مبلصقات‬ ‫‘الوحش’ التي ترافقت بالحياة‬ ‫املدينية بصورة غري مفهومة‬ ‫(الفنان‪.)A1one :‬‬

‫شكل ‪ :18‬خالل قمع النظام للمتظاهرين بعنف‪ ،‬أصبحت ‘الوحوش’‬ ‫رمزا ً لالحتجاج الشعبي‪.‬‬


‫جعل املكان عامًا‪ :‬فن الشارع يف إيران‬

‫ومارست سلطتها من خالل التحكم بالتعبير الثقافي والحيز العام‪ .‬ذلك بح ِّد ذاته يجعل من فن الشارع‬ ‫ظاهر ًة سياسي ًة وثقافي ًة واجتماعي ًة وفنية‪ُ .‬يضعف فن الشارع الحواجز الفاصلة بين العام والخاص‪ ،‬بين‬ ‫الظاهر والخفي‪ ،‬بين ما ُيقال وما ال يمكن قوله‪ .‬كما ُيظهر لنا مواقف واهتمامات جيل الشباب اإليراني‪،‬‬ ‫الذين ال ُيعيرون الكثير من االهتمام ألزمة المحاكمات خالل الفترة الثورية‪ .‬ما بعد أيديولوجي‪ ،‬لكنه سياسي‬ ‫لدرج ٍة كبيرة‪ ،‬يش ِّك ُك فن الشارع الغرافيتي بالسرديات الكبرى ولكنه يحمل نوايا تغييرية‪ ،‬ويتيح للعديد من‬ ‫األصوات األخرى المه ّمشة والمستبعدة فرصة الظهور للعلن بقوة‪.‬‬ ‫مصادر األشكال‬

‫•‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫شكل ‪ :1‬صورة ‘ساحة الشهداء مع صورة الخميني’‪ .‬مرجع‪:‬‬ ‫‪Chelkowski، P. & Dabashi، H.، 2000.، Staging a Revolution: The art of persuasion in the Islamic Republic of Iran، Booth‬‬‫‪Chibborn Editions: London، pp. 109‬‬ ‫شكل ‪‘ :2‬امللصق الرسمي‪ ،‬ويضم كتابات عىل الجدران وصور الخميني ورشيعتي’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪www.lib.uchicago.edu/e/webexhibits/iranianposters/revolution.html‬‬ ‫شكل ‪‘ :3‬استخدام شعر حافظ عىل أنها كتابات ثورية عىل الجدران’‪ .‬مرجع‪:‬‬ ‫‪Chelkowski، P. & Dabashi، H.، 2000.، Staging a Revolution: The art of persuasion in the Islamic Republic of Iran، Booth‬‬‫‪Chibborn Editions: London، pp. 112‬‬ ‫شكل ‪‘ :4‬الذكرى السنوية للوحة الثورة تجمع بني الخميني وسطرا ً من شعر حافظ’‪ .‬مرجع‪:‬‬ ‫‪Gruber، C.، 2008، The Message is on the Wall: Mural Arts in Post- Revolutionary Iran، Persica، vol. 22‬‬ ‫شكل ‪‘ :5‬الكتابة عىل الجدران‪ ،‬الحقيقة بأسلوب سياه‪-‬مشق’‪ .‬صورة راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]taking-back-streets-iranian-graffiti.html> [Accessed 02.05.14/12/http://aidaforoutan.blogspot.co.uk/2012‬‬ ‫شكل ‪‘ :6‬صبي يقّطع إشارة توقف’ راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]http://soalife.com/the-best-cities-for-street-art-hunting> [Accessed 22.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :7‬صبي ينظر إىل فن لشارع’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]http://www.fatcap.com/article/iranian-graffiti.html> [Accessed 25.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :8‬طفل يحمل قرميد عىل موقع البناء’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]http://www.streetartutopia.com/?p=6874> [Accessed 21.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :9‬طفل ينتحر’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪20%http://www.stencilarchive.org/archives/var/albums/Middle_East/artists%20of%20middle%20east/a1one/IR%20A1one%20‬‬ ‫‪]painting%20a%20flower.jpg?m=130595694> [Accessed 02.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :10‬عاملة األطفال‪ ،‬خارج املنظمة اإلسالمية الدولية لحامية حقوق الطفل’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]http://icyandsot.com/wp-content/uploads/child-labor.jpg> [Accessed 15.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :11‬األطفال‪ ،‬الرقابة الذاتية’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]http://www.fatcap.com/uploads/sht/19651/bgp_1629197ae8256d9a1e2c7fde5a6b2fc13c54ef69.jpg> [accessed 23.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :12‬األنفس متعددة’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪20%http://www.stencilarchive.org/archives/var/albums/Middle_East/artists%20of%20middle%20east/a1one/IR%20A1one%20‬‬ ‫‪]painting%20a%20flower.jpg?m=1305956941> [accessed 03.05.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :13‬ابتسامة كاذبة’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪type=1&theater?/349727325043971/https://www.facebook.com/icyandsot/photos/a.182295011787204.49508.181763281840377‬‬ ‫‪][Accessed 27.04.14‬‬ ‫شكل ‪‘ :14‬ثنايئ يرقصان’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪]n.jpg [Accessed 22.04.14_387983956_520891707929757_556874/https://scontent-a-ams.xx.fbcdn.net/hphotoash3/t1.9‬‬ ‫شكل ‪‘ :15‬األطفال وضابط مكافحة الشغب يف معركة املياه’‪ .‬راجع الرابط‪:‬‬ ‫‪20%http://www.stencilarchive.org/archives/var/albums/Middle_East/artists%20of%20middle%20east/a1one/IR%20A1one%20‬‬

‫‪171‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ فن الشارع يف إيران‬:‫جعل املكان عامًا‬

‫دراسات‬

]painting%20a%20flower.jpg?m=1305956941 [Accessed 20.04.14 :‫ راجع الرابط‬.’‫ ‘الوحش يطل من خالل صدع يف الجدار‬:16 ‫• شكل‬ ]artist-profile-a1one-stencil-artist-iran/ [Accessed 02.05.14/25/06/http://papermonster.wordpress.com/2009 :‫ راجع الرابط‬.’‫ ‘الوحش يحمل صورة ملوسوي‬:17 ‫• شكل‬ ]images-for-a-new-age-tehran-street-art/ [Accessed 30.04.14/14/06/http://fryingpanfireblog.wordpress.com/2009 :‫ راجع الرابط‬.’‫ أين صويت‬:‫ ‘وحش يحمل الفتة‬:18 ‫• شكل‬ ]where-is-my-vote-street-art-emerges-in-tehran-photo/ [Accessed 02.05.14/17/06/http://hragvartanian.com/2009 ‫املراجع‬

• Adib-Moghaddam، A. (2011). A metahistory of the clash of civilisations. 1st ed. New York: Columbia University Press. • Adib-Moghaddam، A. (2013). On the Arab Revolts and the Iranian Revolution. 1st ed. New York: Bloomsbury Academic. • Appadurai، A. (1996). Sovereignity without territoriality: notes for a postnational geography. In: P. Yaeger, ed., The geography of identity، 1st ed. Ann Arbor، Michigan: the University of Michigan Press, pp.4058• Arjomand، S. (1988). The turban for the crown. 1st ed. New York: Oxford University Press. • Arjomand، S. (2009). After Khomeini. 1st ed. Oxford: Oxford University Press. • Basmenji، K. (2005). Tehran blues. 1st ed. London: Saqi. • Bauman، Z. (1992). Intimations of postmodernity. 1st ed. London: Routledge. • Bayat، A. (2007). Making Islam democratic. 1st ed. Stanford، Calif.: Stanford University Press. • Bayat، A. (2010). Life as politics. 1st ed. Stanford, Calif.: Stanford University Press. • Boroujerdi، M. (1996). Iranian intellectuals and the West. 1st ed. Syracuse, N.Y.: Syracuse University Press. • Cauter، L.، Roo، R. and Vanhaesebrouck، K. (2011). Art and activism in the age of globalization. 1st ed. [Rotterdam]: NAi. • Chelkowski، P. and Dabashi، H. (1999). Staging a revolution. 1st ed. New York: New York University Press. • Dabashi، H. (1993). Theology of discontent. 1st ed. New York: New York University Press. • Dabashi، H. (2008). Islamic liberation theology. 1st ed. London: Routledge. • DeNotto، M. (2014). Street art and graffiti Resources for online study. College \& Research Libraries News, 75(4), pp.208--211. • Deutsche، R. and Foundation، G. (1996). Evictions. 1st ed. Cambridge Mass.: MIT Press. • Deutsche، R. (1999). Uneven Development: public art in New York City. In: R. Ferguson، M. Gever، T. Minh-ha and C. West, ed., Out There: marginalization and contemporary cultures، 6th ed. Cambridge، Mass: MIT Press, pp.107130-. • Groys, B. (2008). Art power. 1st ed. Cambridge, Mass.: MIT Press. • Gruber, C. (2008). The Message is On the Wall: Mural Arts in Post-Revolutionary Iran. Persica, (22)، pp.1546-. • Hobsbawm، E. and Ranger، T. (1983). The Invention of tradition. 1st ed. Cambridge [Cambridgeshire]: Cambridge University Press. • Kashani-Sabet، F. (2002). Cultures of Iranianness: The Evolving Polemic of Iranian Nationalism. In: N. Keddie and R. Matthee, ed., Iran and the Surrounding World, 1st ed. Seattle and London: University of Washington Press, pp.162181-. • Khatam، A. (2009). The Islamic Republic’s Failed Quest for the Spotless City. MERIP Report, (250), pp.44--49. • Khomeini، R. and Algar، H. (1981). Islam and revolution. 1st ed. Berkeley، [Calif.]: Mizan Press. • Ledrut، R. (1986). Speech and the Silence of the City. In: M. Gottdiener and A. Lagopoulos، ed.، The City and The Sign: An Introduction to Urban Semiotics، 1st ed. New York: Columbia University Press, pp.114134-. • Levine، M. (2012). The Work on the Street: Street Art and Visual Culture. [online] Georgetown University. Available at: http:// faculty.georgetown.edu/irvinem/articles/Irvine-WorkontheStreet-1.pdf [Accessed 14 Apr. 2014]. • Lewis، B. (1990). The roots of Muslim rage. The Atlantic Monthly، 266(3), pp.47--60. • Massey، D. (2005). For space. 1st ed. London: SAGE. • Mirsepassi، A. (2000). Intellectual discourse and the politics of modernization. 1st ed. Cambridge: New York. • Moaddel، M. (2002). The study of Islamic culture and politics: An overview and assessment. Annual Review of Sociology, pp.359--386. • Mouffe، C. (2007). Art & Research: Chantal Mouffe. [online] Artandresearch.org.uk. Available at: http://www.artandresearch.

172

1 ‫العدد‬ 2014 ‫ يوليو ـ‬/ ‫متوز‬


‫ فن الشارع يف إيران‬:‫جعل املكان عامًا‬

org.uk/v1n2/mouffe.html [Accessed 5 Apr. 2014]. • Nooshin، L. (2005). Underground, overground: rock music and youth discourses in Iran. Iranian Studies, 38(3)، pp.463--494. • Papastergiadis، N. (2006). Spatial aesthetics. 1st ed. London: Rivers Oram. • Ram، H. (2002). Multiple Iconographies: political posters in the Iranian Revolution. In: S. Balaghi and L. Gumpert, ed., Picturing Iran: art, society and revolution، 1st ed. London: I.B. Taurus، pp.89202-. • Rancière، J. (2004). The politics of aesthetics. 1st ed. London: Continuum. • Robertson، B. (2012). Reverberations of dissent. 1st ed. New York: Continuum. • Robertson، R. (1995) Glocalization: Time-space and Homogeneity-heterogeneity. In: M. Featherstone et al (ed) Global Modernities، 1st ed. London: Sage. pp. 2544• Said، E. (1994). Representations of the intellectual. 1st ed. New York: Pantheon Books. • Shahabi، M. (2006). Youth subcultures in post-Revolution Iran: an alternative reading. In: P. Nilan and C. Feixa، ed.، Global Youth? Hybrid identities، plural worlds، 1st ed. London and New York: Routledge، pp.111129-. • Sreberny، A. and Mohammadi، A. (1994). Small media، big revolution. 1st ed. Minneapolis: University of Minnesota Press. • Sreberny، A. and Torfeh، M. (2013). Cultural revolution in Iran. 1st ed. London: I.B. Taurus. • Tally، J. (1999). The agonic freedom of citizens. Economy and Society, 28(2), pp.161--182. • Tripp، C. (2013). The power and the people. 1st ed. New York، NY: Cambridge University Press. • Vahdat، F. (2002). God and juggernaut. 1st ed. Syracuse: Syracuse University Press. • Varzi، R. (2006). Warring souls. 1st ed. Durham: Duke University Press. • Wedeen، L. (1999). Ambiguities of domination. 1st ed. Chicago: University of Chicago Press.

173

1 ‫العدد‬ 2014 ‫ يوليو ـ‬/ ‫متوز‬


‫دراسات‬

‫حق اجلرية‪:‬‬

‫طاهر زمان❊‬

‫خمرج من مستنقع الطائفية❊❊‬ ‫ٌ‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يسعى هذا املقال لتفنيد املنهجية الطائفية التي تؤثر عىل نظرتنا ملا يحدث يف سوريا‬ ‫اليوم‪ .‬لن يتحدث املقال عن مخاطر الطائفية‪ ،‬املوجودة بالفعل‪ ،‬لكنه سيبدأ حواراً ملحاولة‬ ‫إيجاد نص مشرتك يساعد يف تحويل مؤرشات هذا الرصاع املدمر‪ .‬للقيام بذلك‪ ،‬اقرتح نقل‬ ‫الرصاع إىل أولئك الذين يطالبون بالسلطة عرب تحريك الرمزية الدينية‪ .‬ميكن أن يتم ذلك‬ ‫من خالل التشكيك باألسس املعرفية التي يعتمدون عليها للمطالبة بالسلطة عن طريق‬ ‫وصلت إىل ما مفاده إن الدين‬ ‫ُ‬ ‫الدين‪ .‬بناءاً عىل حوارات أجري ُتها مع نازحني يف املنطقة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مرتبط بالعالقات‪ ،‬وليس بالهوية‪ .‬إذ يحثُّنا الدين عىل النظر إىل داخلنا لتعزيز العالقات‬ ‫ّ‬ ‫ويتجل ذلك عملياً‪ ،‬أي عىل مستوى الدين الـ ُمعاش‪ ،‬من خالل تغذية‬ ‫مع الذات ومع الله‪،‬‬ ‫مخلوقات اجتامعي ٌة باألصل والدين قوة نابذة‪ .‬أما تنظيم‬ ‫ٌ‬ ‫العالقات مع اآلخرين‪ .‬نحن‬ ‫عالقاتنا مع اآلخرين فهو الشغل الشاغل للتعاليم الدينية‪ .‬يف ما ييل سأدرس االحتامالت‬ ‫التي تتيحها التقاليد اإلسالمية لتحويل الغرباء إىل جريان‪ ،‬وكيف ميكن لسياسات التقارب‬ ‫تأمني أطر بديلة للرصاع الدائر‪.‬‬

‫ ❊ طاهر زمان ‪ Tahir Zaman‬حاصل عىل الدكتوراه وباحث زائر يف ‘مركز أبحاث الهجرة وللجوء واالنتامء’ يف جامعة إيست لندن‪ .‬يركز يف عمله البحثي‬ ‫عىل املالمح الثقافية االجتامعية لحياة النازحني يف الرشق األوسط‪ .‬أما اهتاممه البحثي اآلخر فيتمحور حول سياسة العمل اإلنساين‪ ،‬مع الرتكيز عىل‬ ‫املبادرات اإلنسانية ذات األساس اإلمياين‪.‬‬ ‫❊❊ هذه المقالة ترجمة للنص األصلي المرسل إلى مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوان‪The Right to Neighbourhood: a Way Out of the :‬‬ ‫‪Sectarian Quagmire‬‬

‫‪174‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫مقدمة‬ ‫نتج حص ُر الهوية باالنتماءات الدينية األولية مجموع ًة متميز ًة من العمليات والممارسات الساعية‬ ‫ُي ُ‬ ‫إلخضاع اآلخر والسيطرة عليه أو إقصاءه‪ ،‬في الوقت الذي يغلق فيه الباب أمام العوامل‪ ،‬االجتماعية‬ ‫والثقافية واالقتصادية‪ ،‬التي تتقاطع مع االنقسامات الطائفية ذاتها‪ .‬اتضح مؤخراً أن الشكل الطائفي‬ ‫للصراع السوري قد بدأ بالسيطرة‪ .‬بدأ المحللون السوريون والدوليون عموماً بتفسير الصراع السوري من‬ ‫خالل المنظور الطائفي‪ُ .‬يبدي القائمون على مراكز الدراسات وص ّناع السياسات والصحافيون واألكاديميون‬ ‫هوساً َم َرضِ ياً بالقراءات الجيوسياسية التي تركز على سيطرة المجموعات المسلحة الطائفية‪ ،‬وتع ّتم على‬ ‫دور ماليين السوريين‪ .‬تتماشى هذه القراءات مع رواية نظام األسد لألحداث والتي ومنذ بداية الصراع‬ ‫استخدمت الخطاب الطائفي الذي بدأت مجموعات من المعارضة المسلحة باستخدامه‪ .‬وعلى رغم صياغة‬ ‫بعيد في شكل كبير عن المفاهيم اليومية الحية للدين‪.‬‬ ‫الخطاب بلغة الرمزية الدينية إال أنه ٌ‬ ‫يسعى هذا المقال لتفنيد المنهجية الطائفية التي تؤثر على نظرتنا لما يحدث في سوريا اليوم‪ .‬لن‬ ‫يتحدث المقال عن مخاطر الطائفية‪ ،‬الموجودة بالفعل‪ ،‬لكنه سيبدأ حواراً لمحاولة إيجاد نص مشترك يساعد‬ ‫في تحويل مؤشرات هذا الصراع المدمر‪ .‬للقيام بذلك‪ ،‬اقترح نقل الصراع إلى أولئك الذين يطالبون بالسلطة‬ ‫عبر تحريك الرمزية الدينية‪ .‬يمكن أن يتم ذلك من خالل التشكيك باألسس المعرفية التي يعتمدون عليها‬ ‫ُ‬ ‫وصلت إلى ما‬ ‫للمطالبة بالسلطة عن طريق الدين‪ .‬بناءاً على حوارات أجري ُتها مع نازحين في المنطقة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مرتبط بالعالقات‪ ،‬وليس بالهوية‪ .‬إذ يح ُّثنا الدين على النظر إلى داخلنا لتعزيز العالقات‬ ‫مفاده إن الدين‬ ‫الـمعاش‪ ،‬من خالل تغذية العالقات مع‬ ‫مع الذات ومع الله‪ ،‬ويتج ّلى ذلك عملياً‪ ،‬أي على مستوى الدين ُ‬ ‫ٌ‬ ‫اجتماعية باألصل والدين قوة نابذة‪ .‬أما تنظيم عالقاتنا مع اآلخرين فهو الشغل‬ ‫مخلوقات‬ ‫اآلخرين‪ .‬نحن‬ ‫ٌ‬ ‫الشاغل للتعاليم الدينية‪ .‬في ما يلي سأدرس االحتماالت التي تتيحها التقاليد اإلسالمية لتحويل الغرباء إلى‬ ‫جيران‪ ،‬وكيف يمكن لسياسات التقارب تأمين أطر بديلة للصراع الدائر‪ .‬لكن أوالً سأحاول استكشاف كيف‬ ‫تآكل حق الجيرة في سوريا في العهد الحديث‪.‬‬ ‫‪175‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫غرباء بيننا‬ ‫بأسلوب واحد‪ .‬في الواقع يمكننا‬ ‫لم تولد الطائفية في ليلة وضحاها‪ ،‬كما أن التعبير عنها لم يكن‬ ‫ٍ‬ ‫القول إنها تقنية استخدمها نظام حزب البعث للسيطرة على تحركات السوريين ودرجة تفاعلهم مع بعضهم‪.‬‬ ‫كل ما نحتاجه فع ًال هو مالحظة ضعف الحركة بين المناطق المدنية األمر الذي يساهم في ترسيخ المفهوم‬ ‫الضيق للهوية‪ .‬من األمور الهامة التي تمكن مالحظتها أنه حتى في المدينة الواحدة ال سبب يدفع بسكان‬ ‫منطق ٍة ما إلى زيارة منطقة أخرى‪ .‬المساحات التي لديها تفاعل حقيقي مع مساحات أخرى قليلة جداً‬ ‫ومتباعدة‪ .‬وحيث توجد مناطق كهذه فإنها‪ ،‬وسأعطي هنا مثاالً المدينة القديمة في دمشق‪ ،‬تخضع لمراقبة‬ ‫شديدة من النظام‪ .‬يسهل رصد ومراقبة األماكن الضيقة الكتشاف جميع حاالت االنشقاق‪ .‬أصبح مركز‬ ‫موجهاً بعناية‪ .‬ال وجود ألسواق يمكنها جذب أشخاص من مجتمعات‬ ‫المدينة مكاناً محايداً يحوي خليطاً َّ‬ ‫أخرى‪ ،‬وال وجود ألنشطة رياضية تأخذ ممارسيها ومشجعيها في رحالت إلى مناطق أخرى‪ .‬المسارح‪ ،‬معارض‬ ‫الفنون‪ ،‬المعارض‪ ،‬الحفالت الموسيقية‪ ،‬السينما‪ ،‬مالعب الرياضة والمطاعم جميعها تنحصر في المركز‪ .‬تدار‬ ‫أغلب الرحالت اليومية بعناية شديدة‪ .‬غالباً ما يكون التحرك عبر المدينة عن طريق السرفيس (باص صغير‬ ‫خاص يتسع لحوالي ‪ 14‬راكباً يجوب طرقات ثابتة بين دمشق وضواحيها)‪ .‬التكلفة المعقولة وتواتر رحالت‬ ‫السرافيس يجعل منها وسيلة النقل المفضلة في المدينة لذوي الدخل المنخفض‪ .‬لم يكن تحديد مخططات‬ ‫الطرقات أمراً اعتباطياً‪ ،‬وهذا يدل على أن تحديد المخططات بهذا الشكل كان أمراً مطلوباً‪ .‬ال يوجد خط‬ ‫سير مباشر يربط جرمانا بالمهاجرين‪ ،‬أو مخيم اليرموك بالسيدة زينب؛ وهي مناطق ذات مجموعات‬ ‫عقائدية مختلفة‪ .‬وهكذا يتم تعزيز حالة االنعزال والتباعد بما يسهم في إعادة إنتاج مفهوم ‘اآلخر’‪.‬‬ ‫نحو سياسة التقارب‬ ‫ماذا نعني بعبارة ‘حق الجيرة’؟ عند الحديث عن الحقوق فإننا نعتمد في كالمنا على فهم الحقوق‬ ‫الفردية‪ .‬أدى ذلك الفهم إلى تقدم النقاشات حول الحرية والعدالة االجتماعية‪ ،‬فالتأييد المبدئي للفرد يؤدي‬ ‫إلى إهمال المجموعة ككل لصالح التركيز على أفرادها‪ .‬لكن الفرد يعيش من خالل عالقاته في داخل أو‬ ‫خارج مجموعات اجتماعية أكبر؛ كالعائلة أو الحي أو مكان العمل‪ .‬ويمكن لحق الجيرة الخاضع لسياسات‬ ‫التضامن‪ ،‬التي تبنى عليها العالقات المحلية‪ ،‬أن يحمي رفاهية وكرامة ونزاهة جميع مكونات الحي حتى‬ ‫أولئك الغرباء القادمين حديثاً‪ .‬يحمي هذا الحق األحياء من نزوات الدولة التي تسعى للدفاع عن مصالح‬ ‫المقربين منها‪ ،‬أولئك الذين يملكون كافة الحقوق االجتماعية والثقافية والسياسية وأيضاً االقتصادية‪ .‬سياسة‬ ‫التقارب هذه ليست سياسة محدودة وال تعمل على اإلقصاء‪ .‬بدالً من ذلك‪ ،‬تعتبر المسافات االجتماعية‬ ‫مساحات يجب ّ‬ ‫تخطيها بدالً من التقيد بها‪ .‬تفهم هذه السياسات أن الفرد والحي وحتى المدينة هم جز ٌء‬ ‫من كل‪ ،‬حيث تبدأ العالقات من الداخل إلى الخارج‪ .‬يمكننا هنا تخ ّيل مجموعة من الدوائر ذات المركز‬ ‫الواحد تتزايد بشكل تصاعدي‪ ،‬كما في ‘دمى الماتريوشكا ‪ –(((’Materyoshka Dolls‬حيث ال يكون الفراغ‬ ‫الفاصل بين األقسام المختلفة خالياً بل يكون مليئا بالعالقات الهادفة‪.‬‬ ‫‪ 1‬دمى املاتريوشكا هي دمى تقليدية يف روسيا تصنع من الخشب بأحجام مختلفة‪ .‬يستخدم تعبري دمى املاتريوشكا مجازياً لوصف الظواهر املتداخلة ضمن‬ ‫بعضها البعض مثل طبقات البصل (هيئة التحرير)‪.‬‬

‫‪176‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫يمكن إرجاع أسباب الصراع السوري إلى عقود طويلة من سياسة ترسيخ الطائفية التي أدت إلى تآكل‬ ‫حق الجيرة تدريجياً‪“ .‬من أين أنت؟”؛ ٌ‬ ‫سؤال ذو طابع طائفي حتى عند استخدامه في المناطق المدنية‪ .‬بدأ‬ ‫تمييز األحياء والمناطق تبعاً لالنتماء الديني المحدد للمجموعات التي تسكنها‪ .‬ويمكننا القول أن هذا النوع‬ ‫من التطور بالنسبة لألحياء هو تطور منظم‪ ،‬بمعنى أن الناس تميل نحو السكن في مناطق حيث يتواجد‬ ‫لديهم مسبقاً أقرباء أو شبكة عالقات اجتماعية‪ ،‬ولكن مع ذلك فإن السؤال ما زال قائماً حول ما إذا كانت‬ ‫دولة البعث قد شجعت على خالف ذلك‪.‬‬ ‫عشية الصراع في سوريا‪ ،‬كان التحول االجتماعي يجري بسرعة‪ .‬أدى سوء إدارة القطاع الزراعي‪ ،‬جنباً‬ ‫إلى جنب مع الجفاف القاسي‪ ،‬إلى جعل سبل العيش في المناطق القروية شبه مستحيلة‪ ،‬ودفع بأكثر من‬ ‫‪ 3‬مليون مواطن سوري كي يعيشوا في فقر مدقع(‪ُ .)I‬أجبرت المجتمعات المتآكلة في حوران في الجنوب‪،‬‬ ‫والحسكة ودير الزور والرقة في الشمال والشرق‪ ،‬على االنتقال الجماعي‪ ،‬بأكثر من خمسين ألف عائلة إلى‬ ‫المناطق المحيطة بالمراكز المدنية الرئيسية حمص ودمشق وحلب‪ ،‬هذه المناطق التي ينتشر فيها الفقر‬ ‫بسرعة كبيرة‪ .‬بسبب بقاء هؤالء الفقراء المحرومين مهمشين في مناطق نائية مهمشة أص ًال‪ ،‬فإن نظام‬ ‫األسد تخيل أنهم لم يعودوا موجودين‪ .‬طبعاً تغ ّير كل ذلك بعد بداية األحداث في ‪ 15‬آذار ‪.2011‬‬ ‫دوما‪ ،‬المدينة التي كانت قلب الثورة ضد نظام األسد‪ ،‬تعتبر مثاالً واضحاً‪ .‬حيث تمت التضحية‬ ‫بالحقوق االقتصادية للمنطقة إلفساح المجال لتحرير االقتصاد السوري الذي ينحاز للمراكز المدنية على‬ ‫حساب المناطق النائية(‪ .)II‬كما تم تقليص دور الشركات الصغيرة والمتوسطة‪ ،‬التي تعتبر أساس االقتصاد‬ ‫في دوما‪ ،‬بسبب انتشار البضائع التركية الرخيصة وذلك بعد أن وصل االنفراج السوري‪-‬التركي إلى ذروته‬ ‫عام ‪ .2010‬هنا باتت تداعيات العولمة جل ّي ًة للجميع‪ :‬البطالة‪ ،‬ضعف اقتصاد الطبقات العاملة المدنية‪،‬‬ ‫وتآكل قدرة المجتمعات المحلية‪ .‬انطلقت في دوما مطالبات بالخبز والحريات والعدالة االجتماعية كر ِّد‬ ‫على الوسائل المتعددة التي استخدمها نظام األسد في إهمال الحقوق االقتصادية للحي‪.‬‬ ‫حقيق ُة أن المظالم الشعبية هي من قاد االنتفاضة التي اندلعت في كافة أنحاء البالد ضد النظام‪،‬‬ ‫وحقيق ُة أن مطالب المتظاهرين كان يمكن تأويلها بأكثر من معنى‪ ،‬كل ذلك كان مؤشراً على صعوبة‬ ‫تماسك المعارضة‪ .‬يجب أن يفهم التعبير المستمر عن السخط واالستياء من السياسات غير المبنية‬ ‫على أسس واقعية ‪-‬سواء كانت سياسات المجتمع الدولي أو األسد أو داعش أو النصرة‪ -‬على أنه دعوة‬ ‫صريحة إليجاد حلول محلية‪ .‬لذا فإن تحدي الطائفية يتطلب أوالً وقبل أي شيء سياسة التقارب‪ ،‬كي تزول‬ ‫المسافات االجتماعية (سواء كانت خيالية أو حقيقية)‪ .‬هنا يكمن دور التقاليد الدينية في المساعدة على‬ ‫بناء اإلطار العام لحق الجيرة بما ينسجم مع قراءات علمانية لمجتمع مدني‪ ،‬حيث يمكن للغ ٍة ديني ٍة مميزة‬ ‫جذب أتباع لها وتعليمهم قواعد التفاعل مع ‘اآلخر’‪.‬‬ ‫مفردات منسية؟‬ ‫قبل البدء بتحريك هذه القواعد علينا أوال االتفاق على بعض المفردات‪ .‬في اللغة العربية غالباً ما‬ ‫تترجم كلمة ‘أمة ‪ ’nation‬بمعنى ‘وطن’‪ .‬في سياق الدول القومية ‪ (((nation states‬في العصر الحديث‬ ‫‪ 2‬ترجمة مصطلح ‪ nation state‬غري متفق عليه يف العربية‪ ،‬وأحياناً يرتجم إىل الدولة القومية أو الدولة‪-‬األمة أو حتى الدولة الحديثة (هيئة التحرير)‪.‬‬

‫‪177‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫ينص حق االنتماء على والدة الفرد في ذات البلد ‘قانون التراب ‪ ’jus soli‬أو على الحق الموروث ‘قانون‬ ‫الدم ‪ .’jus sanguinis‬يشير المصطلح العربي ‘وطن’ إلى أي مكان مأهول بالسكان‪ ،‬بدون ذكر قانون التراب‬ ‫أو الدم‪ .‬وفي قوانين ما قبل الحداثة في العالم المسلم تُشترط اإلقامة الفعلية في المكان المنتمى إليه‬ ‫‘قانون المنزل ‪ .’jus domicili‬في المقابل‪ ،‬تحت حكم الدولة القومية(‪ ،)III‬يصبح حق المواطنة حقاً رسمياً‬ ‫وضع قانوني‪ :‬وبالتالي فهذا المنطق يقلص االنتماء إلى األمة‪ ،‬ويجعله مشروطاً بحق‬ ‫يمنح لكل من له ٌ‬ ‫مصطلح مرن مرتبط بالعالقات‬ ‫الوالدة‪ .‬لذا يجب فهم كلمة ‘وطن’ في السياق الصحيح‪ .‬كلمة ‘وطن’ هي‬ ‫ٌ‬ ‫التي يغذيها الفرد بانتقاله من مكانٍ إلى مكان‪ .‬آثار هذا التقليد المفتوح‪ ،‬الذي يعتبر أن تن ُّقل الناس هو‬ ‫ٌ‬ ‫منقوشة في الممارسات االجتماعية واالقتصادية للناس في سوريا اليوم‪.‬‬ ‫القاعدة ال االستثناء‪،‬‬ ‫قام اإلصالحيون اإلسالميون بتبني واستخدام كلمة ‘وطن’ بعد مواجهتهم للقوى االستعمارية الغربية‬ ‫في القرن التاسع عشر‪ .‬خلط الطهطاوي بين مفهوم ‘الوطن’ ومفهوم األرض‪/‬اإلقليم ما أدى إلى ترسيخ‬ ‫مفهوم ‘الوطن’ في إطار الدولة القومية‪ .‬منذ ذلك الحين‪ ،‬يواجه المفكرون المعنيون بدور اإلسالم في‬ ‫طابع عالمي ونظام الدولة القومية الذي يعرف‬ ‫العالم المعاصر مهم ًة صعب ًة‪ :‬وهي التوفيق بين دينٍ ذي ٍ‬ ‫فكري والخوض في نقاشات حول صحة اعتبار‬ ‫مستنقع‬ ‫بأنه إقصائي‪ .‬دفعت هذه المفارقة بالعديد نحو‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍ‬ ‫الدين قضية هوية‪ .‬وعليه ال يوجد أفضل من عبارة “أنت ما تأكل وما تلبس” لوصف المناقشات التي تدور‬ ‫حالياً حول اإلسالم؛ من قبل المسلمين وغير المسلمين على حد سواء‪.‬‬ ‫كذلك فإن اإلفراط في تبسيط فكرة مجتمع المتدينين المتخيل –األمة– هو أم ٌر ضار‪ .‬فبالنسبة‬ ‫للكثيرين أصبحت الفكرة ببساطة مرادفاً للتضامن اإلسالمي‪ .‬أما بالنسبة لـ ‘الوطن’ فقد تم امتصاصه في‬ ‫نموذج الدولة القومية؛ حيث تصبح ‘األمة’ كونفيديرالية للدول القومية عندما يالئم ذلك النخب الحاكمة‪.‬‬ ‫ومن هنا تخرج الدعوات لبناء دولة إسالمية‪ ،‬فمع إقحام مفهوم ‘األمة’ في مفهوم ‘الوطن’ (كما شرحها‬ ‫الطهطاوي) نرى ظهور خطاب إسالمي في نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬بخاصة مع كتابات جمال الدين‬ ‫األفغاني‪ .‬تزامن ذلك مع خروج نداءات تحث ‘األمة’ على الدفاع عن الخالفة خالل فترة تفكك اإلمبراطورية‬ ‫العثمانية؛ ومرة أخرى قراءات نخبوية لـ ‘األمة’‪.‬‬ ‫الغريب يف رأي املسلمني العرب‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬في سياق المواجهة مع االستعمار الغربي وظهور نموذج الدولة القومية‪ ،‬نجد أن اللغة‬ ‫المستخدمة لوصف العالقات مع ‘اآلخر’ أصبحت أقسى‪ :‬فقد أصبح الغريب ‘أجنبياً’‪ .‬تشتق كلمة ‘أجنبي’‬ ‫(وجمعها أجانب) من الجذر ‘جنب’‪ ،‬أو يوضع على جنب‪ .‬كلمة تج ّنب التي تشترك في الجذر مع كلمة‬ ‫أجانب تعني التفادي؛ وهذا يح ّول ‘الغريب’ أو ‘األجنبي’ إلى شخص يجب تفاديه واجتنابه‪ُ .‬يعزى هذا‬ ‫في جز ٍء منه إلى المواجهات مع االستعمار‪ ،‬وإلى االرتباك الذي تولد بسبب التبعية ألولئك الذين ال‬ ‫يتشاركون النظرة ذاتها‪ .‬شهد القرن التاسع عشر تنافساً بين المحافظين واإلصالحيين للسيطرة على قلوب‬ ‫وعقول السكان المحليين للمناطق الخاضعة لإلمبراطورية العثمانية‪ .‬بدا أن اإلصالحيين يحاولون تحدي‬ ‫المعتقدات التقليدية ووضع قوانين جديدة في تقليد للقوى االستعمارية‪ .‬بينما اعتبرت العقول اإلصالحية‬ ‫في االستعارة الثقافية والمادية من أوروبا فرصة للتخلص من قيود الجمود المنسوبة للمعتقدات التقليدية‪،‬‬ ‫‪178‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫فهم اإلصالحيون تلك اإلصالحات في ضوء التوسع االستعماري –اعتبار الغرباء كضيوف غير مدعوين وغير‬ ‫مرغوب بهم‪ .‬للمفارقة‪ ،‬فإن من يدعم المعتقدات التقليدية –الذين أدخلوا الدين في خطاباتهم القومية–‬ ‫كانوا يناصرون فكر ًة تختلف مع اإلسالم الذي استمر لقرون عديدة والذي كان يدعو لفضيلة حسن استضافة‬ ‫الغرباء‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫قانوني أقل من استخدامه لوصف من‬ ‫كتصنيف‬ ‫اس ُتخدم مصطلح ‘غريب’ في فترة ما قبل الحداثة‬ ‫ٍّ‬ ‫غادر وطنه األصلي طوعياً أو قسرياً‪ ،‬ولم يعد يعتمد على طول مدة اإلقامة‪ .‬أصبح المصطلح مشتم ًال على‬ ‫الطالب وعلماء الدين والزاهدين المتجولين والحجاج والتجار والنازحين‪ ،‬وبات واضحاً أن المصطلح غدا‬ ‫غامضاً وضبابياً‪ .‬من ناحية أولى‪ ،‬كان حسن معاملة الغرباء أمراً ق ّيماً في الثقافة العربية ما قبل اإلسالم مثل‬ ‫أولئك الذين اشتهروا بالتعامل الحسن والكرم مع الغرباء والذين منحوا لقب ‘مأوى الغريب’(‪ .)IV‬تم تشريع‬ ‫هذا األسلوب بالتعامل مع الغرباء من قبل التعاليم القرآنية والنبوية التي شجعت على اللياقة والتعامل‬ ‫الحسن مع الغرباء‪ .‬تحديداً‪ ،‬إن تعزيز الممارسات القبلية ما قبل اإلسالم والتي تتعلق بالجوار ‪-‬منح الحماية‬ ‫والمساعدة لمن يبحث عن الملجأ‪ -‬يوضح األهمية البالغة لحسن الضيافة تجاه الغريب(‪ .)V‬ربما لم يكن‬ ‫هذا األمر مفاجئاً نظراً للطبيعة الجغرافية البدوية لشبه الجزيرة العربية‪ .‬استلزم المناخ القاسي والرحالت‬ ‫الشاقة في الصحراء حسن الضيافة‪ .‬باختصار كان هذا الخُ ُلق ضرورياً لضمان البقاء على قيد الحياة‪ .‬نتذكر‬ ‫هذا يومياً كلما حيينا أحدهم بعبارة أه ًال وسه ًال‪ :‬وطأت سه ًال وحللت أه ًال‪.‬‬ ‫َو َر َد في أحد األحاديث المنسوبة للنبي “بدأ اإلسالم غريباً‪ ،‬وسيعود غريباً كما بدأ‪ .‬فطوبى للغرباء”‪.‬‬ ‫ما زال المعنى الحقيقي لهذا الحديث قاب ًال للتأويل‪ ،‬إال أن فيه تقديراً واضحاً للغريب؛ مشجعاً على حسن‬ ‫معاملة اآلخر كمبدأ أساسي في اإلسالم‪ .‬عبارة أخرى تستخدم في التقاليد اإلسالمية تدعو لمساعدة الغرباء‬ ‫ومن بينهم ‘ابن السبيل’ وكذلك ‘عابر السبيل’‪ .‬يقول حديث للنبي “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر‬ ‫سبيل”(‪ ،)VI‬مشيراً إلى االستعارة الدينية وعيش الحياة في شكل كامل بنا ًء على الوصايا اإللهية باعتبارها‬ ‫رحل ًة أو معبراً‪ .‬علينا أن نتذكر أيضاً أن ‘ابن السبيل’ يعتبر من الفئات المستحقة للدعم المالي من خالل‬ ‫آلية توزيع الزكاة‪.‬‬ ‫مع ذلك‪ ،‬ففي مخيلة العرب‪ ،‬فإن فقدان اإلمكانيات االجتماعية والمادية بسبب االغتراب هو مصي ٌر‬ ‫أسوأ من الفقر المدقع؛ إنه فق ٌر في العالقات‪ .‬هناك ٌ‬ ‫شائع في دمشق يحذر من المصير الذي ينتظر‬ ‫مثل ٌ‬ ‫ذلك الذي يضطر لمغادرة وطنه‪“ :‬من ترك داره قل مقداره”‪ .‬لتعويض هذه الخسارة‪ ،‬يعاد تفسير النشاطات‬ ‫البشرية من خالل الروايات الدينية‪ .‬مث ًال فكرة أن بإمكان الدين تقديم الشرعية بالطريقة التي تستطيع‬ ‫الدولة أو ال تستطيع أن تقدمها هي فكرة مرت أكثر من مرة خالل حواراتي مع نازحين في الشرق األوسط‪.‬‬ ‫اإليمان باإلسالم يخفف من األلم الذي يترافق مع االغتراب‪ ،‬واللجوء ليس وصمة عار‪ .‬قال لي عارف‪،‬‬ ‫أحد الالجئين العراقيين في دمشق‪“ :‬كانت مغادرة العراق بالنسبة للعراقيين أمراً صعباً جداً‪ .‬لم يرد أحد‬ ‫المغادرة‪ ،‬لم يحتاجوا سوى المكان اآلمن كي يلجؤوا إليه‪ .‬وجدت أن اإليمان باإلسالم يجعل من كوني الجئا‬ ‫أمراً أسهل‪ .‬من الصعب جداً مغادرة وطنك‪ ،‬ولكني أعلم أن النبي فعل ذات الشيء‪ ،‬وأنه كان أيضا الجئاً‪.‬‬ ‫إذا فكرنا بهذا األمر نجد أن ال أهمية للحدود في اإلسالم‪ ،‬وأنه ال توجد جنسيات في اإلسالم‪ .‬االختالف فقط‬ ‫في اللغة واألرض؛ كلها هي أرض الله ويمكنك إيجاد مكان لتعيش وتعمل به أينما ذهبت”‪.‬‬ ‫‪179‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫التعاليم اإلسالمية تسمح للنازحين بإعادة تفسير الهجرة‪ .‬كما يذكرنا عارف “األرض ٌ‬ ‫ملك لله”‪ .‬السيادة‬ ‫اإلقليمية ٌ‬ ‫ملك لله ليست ملكاً للدولة‪ .‬للجميع الحق في التجول بحرية بدون عوائق‪ ،‬وال وجود للحدود في‬ ‫هذا المشروع‪ .‬يأمر القرآن بالتعاطف مع مجموع ٍة من الناس؛ من ضمنهم الجار ذو القربى‪ ،‬والجار الجنب‬ ‫الذي ال َي ُم ُّت لنا بصلة قربى(‪ .)VII‬يشير تفسير الطبري للقرآن أن الجار الذي ال يمت لنا بصلة قربى ال‬ ‫يجب بالضرورة أن يكون مسلماً‪ ،‬وأن القرآن يأمر بحسن معاملة جميع الجيران‪ .‬لذا فإن التفسير التقليدي‬ ‫لمعنى الجار الذي ال يمت لنا بصلة قربى يتوافق مع معنى كلمة غريب‪ ،‬حيث تأمر تعاليم القرآن بمنح‬ ‫الغريب مكاناً للعيش والعمل أينما اتجه‪.‬‬ ‫أن تتحول إىل ‘آخر’‪ :‬دروس مستفادة من حاالت النزوح اجلماعي‬ ‫تشير البحوث التي أجريتها حول حاالت النزوح الجماعي‪ ،‬ودور الدين في تلك المسألة‪ ،‬إلى فهم‬ ‫مختلف لمفهوم ‘األمة’‪ .‬كان العنف الناجم عن الصراع‪ ،‬إضافة إلى النزوح الجماعي‪ ،‬من أهم أسباب التحول‬ ‫االجتماعي؛ تم تفتيت المجتمعات ونهب االقتصاد أو تدميره‪ ،‬وتمت إعادة النظر وتفسير سبل الحياة‬ ‫في شكل جديد‪ .‬تكمن خسارة الموارد الثقافية الحيوية (التي تؤسس للفهم العقالني لكلمة ‘وطن’ ومن‬ ‫ثم محاولة استعادتها أو إعادة خلقها من جديد‪ ،‬أو ربما إعادة تشكيلها) في قلب عملية صنع القرار‬ ‫والممارسات والمعتقدات الدينية لدى النازحين في الشرق األوسط‪ .‬كما يقول ديفيد تارتون ‪David Turton‬‬ ‫الباحث االجتماعي في علوم اإلنسان “النزوح ال يتعلق فقط بخسارة المكان‪ ،‬واأللم والفجيعة الناتجة عن‬ ‫هذه الخسارة‪ .‬لكنه يتعلق أيضاً حتمياً بالنضال إليجاد مكانٍ آخر في هذا العالم”(‪ .)VIII‬وهكذا‪ ،‬ومع كل‬ ‫تجزئة جديدة تأتي إعادة تخيل وإعادة تكوين للمجتمع واألحياء‪ ،‬ومع تدمير موارد االقتصاد تأتي التغيرات‬ ‫ات جديد ٌة‬ ‫في إستراتيجيات سبل العيش‪ ،‬ومع كل إعادة نظر في الهيكلية االجتماعية التقليدية تتولد تصور ٌ‬ ‫للهوية واالنتماء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تحدثت إليهم خالل السنوات الثمانية الماضية األماكن الشعبية‬ ‫وصف العديد من النازحين الذين‬ ‫(كالمساجد والكنائس وأماكن التعلم والمراكز المجتمعية) بأنها كانت مساعدة جداً لهم في استعادة شي ٍء‬ ‫من االستقرار بعد حاالت النزوح‪ .‬عادة ما توصف المراكز المجتمعية‪ ،‬بخاصة تلك التي تعتمد على ذاتها‪،‬‬ ‫كمالجئ من الظروف الصعبة التي يعيشها النازحون عادة‪ .‬وبصرف النظر عن كونها تستخدم كمراكز للتعلم‬ ‫فإن هذه المراكز تستخدم أيضا كأماكن لالحتفال بالمناسبات (كاألعراس والمناسبات الدينية السنوية)‪،‬‬ ‫وتنظيم أنشطة رياضية وثقافية‪ ،‬وتعريف الجيران على بعضهم البعض وللصالة‪ .‬باختصار‪ ،‬تَحضُ ر هذه‬ ‫بعمق في حياة النازحين‪ .‬إن استخدام هذه األماكن الشعبية بكثافة‪ ،‬بما فيه استخدامها كأماكن‬ ‫األماكن‬ ‫ٍ‬ ‫اللتقاء األصدقاء ليتناولوا الطعام والمشروبات ويحسنوا ضيافة بعضهم‪ ،‬يجعل النازحين يؤكدون على أهمية‬ ‫فهم معنى ‘الوطن’ من خالل التفكير والممارسة الدينية‪ُ .‬يعنى الدين أساساً بتغذية العالقات االجتماعية‪.‬‬ ‫وتشكل التفاعالت الفردية أو الجماعية اليومية المفهوم الحياتي للدين‪ .‬إن قدسية الوطن هي أم ٌر ظرفي‪،‬‬ ‫رحال‪ ،‬ويصبح حق‬ ‫وهي ليست أمراً ثابتاً متعلقاً بالحجر فقط بل بالعالقات؛ حيث يتحول الوطن إلى ّ‬ ‫الحصول على ملجأ ومأوى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالهجرة‪.‬‬ ‫ارتبط مفهوم الجوار بفهم مفهوم بناء المنزل والدين‪ .‬يكمن فهم األمة كممارسة حياتية في فهم‬ ‫‪180‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫حق اجلرية‪ :‬خمرج من مستنقع الطائفية‬

‫الحقوق والواجبات المتعلقة بالحي والجوار‪ .‬وبعيداً عن الفهم السياسي لمعنى ‘األمة’‪ ،‬كما تشرحها جهود‬ ‫التحديث إلسالميين كجمال الدين األفغاني منذ نهاية القرن التاسع عشر وما بعد‪ ،‬تذكرنا تجارب النزوح‬ ‫سوري قابلته‬ ‫نازح‬ ‫ٌّ‬ ‫التي يعيشها النازحون أن ‘األمة’ ُو ِج َد ْت أوالً وقبل كل شيء في السياق المحلي‪ .‬كرر ٌ‬ ‫في أورفا ما ذكره نازحون عراقيون ُ‬ ‫كنت قد التقيتهم سابقاً في دمشق في ‪ .2010‬وأشار إلى أهمية زيارات‬ ‫الجوار كمقياس للعالقات الجادة‪“ :‬يعجبني حين يعاملنا األتراك بشكل مسا ٍو لهم‪ ،‬ال كالجئين فقراء‪ .‬عندما‬ ‫شخص عادي ومسا ٍو لهم‪ .‬لم أخلق ألشعر بشعور‬ ‫يزوروننا أو يدعوننا لزيارتهم في منازلهم أشعر بأني‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫تمنحك شعوراً رائعاً‪ .‬وزيارة الناس في منازلهم بهذا الشكل يعني أن لدينا عالقات‬ ‫الالجئين‪ .‬زيارة الناس لك‬ ‫سليمة‪”.‬‬ ‫اخلالصة‪ :‬مالذ سوري‬ ‫من هو الغريب إال ذلك الشخص المختلف عني؟ أي ‘اآلخر’‪ .‬إن تجربة التحول إلى ‘اآلخر’ تولد‬ ‫عندنا حساسي ًة تجاه االختالف‪ .‬التقاليد اإلسالمية تؤمن لنا لغ ًة لالحتفاء بالتنوع والتعددية‪ .‬وهذا ما تدعمه‬ ‫اس إِنَّا خَ َل ْق َنا ُك ْم م ِْن َذ َك ٍر َو ُأ ْن َث ٰى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُش ُعو ًبا َو َق َبائ َِل لِ َت َعا َر ُفوا * إِنَّ‬ ‫آية في القرآن (‪َ ﴿ :)49:13‬يا أَ ُّي َها ال َّن ُ‬ ‫أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد ال َّل ِه أَ ْت َقا ُك ْم * إِنَّ ال َّل َه َعل ٌِيم خَ ِبي ٌر﴾‪.‬‬ ‫وهكذا يتحول الغريب بسهولة إلى جار‪ .‬يتحول من كونه ضيفاً‪ ،‬ال يجب أن يطيل إقامته‪ ،‬إلى جار‪.‬‬ ‫يجب أن ال ننسى أن للجار حقوقه في التقاليد اإلسالمية‪ ،‬فعن عائشة أن رسول الله قال‪“ :‬ما زال جبريل‬ ‫يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”(‪ .)IX‬وحذر النبي من المعاملة السيئة للجار‪“ :‬لن يدخل الجنة من‬ ‫ال يأمن جاره بوائقه”(‪ .)X‬للتأكيد على عواقب التعامل السيء مع الجار‪ ،‬بغض النظر عن عقيدته أو عرقه‬ ‫أو جنسه‪ ،‬يذكرنا النبي أن التعامل الجيد مع الجار هو سمة المؤمنين‪ .‬ويقول النبي‪“ :‬من كان يؤمن بالله‬ ‫واليوم اآلخر فال يؤذ جاره‪ ،‬ومن كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فليكرم ضيفه‪ ،‬ومن كان يؤمن بالله واليوم‬ ‫اآلخر فليقل خيراً أو ليسكت”(‪.)XI‬‬ ‫بتوجيه أنظارنا إلى النازحين الموجودين داخل الحدود اإلقليمية السورية‪ ،‬نتذكر أن مناطق الصراع لم‬ ‫تنتج فقط أحياء محطمة وقرى مهجورة وعنفاً ال يمكن تخيله‪ ،‬بل أنتجت أيضاً‬ ‫ٍ‬ ‫شبكات تعتمد على نفسها‬ ‫ٍ‬ ‫ومساحات للضيافة‪ ،‬مالجئ ومالذات رغم تدهور وتآكل الموارد المتضائلة التي تحت تصرف المجتمعات‬ ‫المضيفة‪.‬‬ ‫في خضم الصراع يتم صون حق الجيرة في سوريا يومياً‪ .‬وبينما يصبح إيصال المساعدات اإلنسانية‬ ‫إلى المناطق التي تقع خارج سيطرة النظام أكثر تحدياً وأقل تواتراً‪ ،‬يجبر السوريون أكثر فأكثر على الهجرة‬ ‫إلى مناطق يسهل فيها الحصول على المساعدات اإلنسانية ويخف فيها تهديد القصف الجوي‪ .‬بحلول شهر‬ ‫تشرين الثاني‪/‬نوفمبر أصدر نظام األسد تقريرا يقول فيه أن نسبة ‪ %3‬من ‪ 6.5‬مليون نازح تتم استضافتهم‬ ‫في مراكز إيواء عامة (مساجد ومدارس وغيرها من المباني العامة)‪ ،‬فيما وجد أكثر من ‪ %85‬من النازحين‬ ‫ضمن الحدود السورية الملجأ في منازل األقرباء والعائلة وفقاً إلحصاءات الحكومة(‪.)XII‬‬ ‫استقبلت مدن كمدينة السلمية ومدينة السويداء‪ ،‬ذات األقليات اإلسماعيلية والدرزية‪ ،‬عدداً كبيراً‬ ‫من النازحين السنة‪ ،‬وعرض األهالي عليهم المأوى داخل منازلهم‪ .‬يعتبر استقبال السنة من ِق َبلِ مدنٍ ذات‬ ‫‪181‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫ خمرج من مستنقع الطائفية‬:‫حق اجلرية‬

‫دراسات‬

ً‫ يتح ّدى هذا األمر اعتبار الصراع صراعا‬.‫أغلبية من األقليات أمراً مهماً ألنه يتعارض مع الرواية الطائفية‬ ٌ ‫ يعتبر الغريب موضع ترحيب ودعم من‬،‫ بدالً من ذلك‬.‫مجموعة عقائدية السيطرة على أخرى‬ ‫تحاول فيه‬ ‫ فرص عمل‬،‫ نقص في الموارد‬:‫ ال شك أن الضغوط التي تواجهها المجتمعات المحلية كبيرة‬.’‫قبل ‘اآلخر‬ ‫ ونقص في إمكانية توفير حاجات الوافدين الجدد؛ جميعها عوامل‬،‫ أسعار متصاعدة للحاجات اليومية‬،‫أقل‬ ‫ ومع ذلك فإن األزمة تمنح فرصاً لتنمية عالقات الجوار واستعراض مظاهر‬.‫تساهم في تشكيل بؤر للتوتر‬ .‫ وبناء سياسة التقارب‬،‫ معرفة كيفية معاملة الغريب الموجود بيننا بطريقة أخالقية‬:‫الضيافة‬

‫الهوامش واملراجع‬

I http://www.irinnews.org/report/90442/syria-drought-pushing-millions-into-poverty II Popular Protest in North Africa and the Middle East (VI): The Syrian People’s Slow-motion Revolution Crisis Group Middle East/North Africa Report N°108, 6 July 2011. Available at: http://www.crisisgroup.org/en/regions/middle-east-north-africa/ egypt-syria-lebanon/syria/108-popular-protest-in-north-africa-and-the-middle-east-vi-the-syrian-peoples-slow-motionrevolution.aspx III Rifa’a al Tahtawi (2006) “Fatherland and Patriotism” in Donohue J & Esposito J (eds) Islam in Transition (Oxford: Oxford University Press) IV Rosenthal, F. (1997), “The stranger in medieval Islam”. Arabica, 44(1), pp.3575-. V Shoukri, A.M. (2010), Refugee status in Islam: concepts of protection in Islamic tradition and international law. London: I.B.Tauris. VI Sahih al- Bukhãri Vol.8, Book 076, No.0425 VII Al-Qur’an 4:36 VII Turton, D. (2005), “The meaning of place in a world of movement: Lessons from long-term field research in Southern Ethiopia”. Journal of Refugee Studies, 18(3):258280-. p.278. IX Sahih Muslim Book 032, Chapter 40, No.6354 X Sahih Muslim Book 001, Chapter 19, No.0074 XI Sahih Muslim Book 001, Chapter 20, No.0078. XII See “2014 Syrian Arab Republic Humanitarian action Response Plan” Available at: http://reliefweb.int/report/syrian-arabrepublic/2014-syrian-arab-republic-humanitarian-assistance-response-plan-sharp

182

1 ‫العدد‬ 2014 ‫ يوليو ـ‬/ ‫متوز‬


‫املشهد البصري‬


‫املشهد البصري‬

‫‘أمل’‬

‫رسم‪ :‬رامز منزالوي❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫العمل مقتنى من قبل وزارة الثقافة يف العام ‪ .2012‬حاز العمل عىل املركز الثاين يف معرض‬ ‫‘دار الكفيل’ يف العراق لعام ‪.2013‬‬

‫❊ رامز منزالوي‪ :‬فنان فلسطيني اختصاص تصوير ضويئ‪ ،‬وخريج معهد الفنون التطبيقية (‪ .)2005‬مصور صحفي يف الوكالة العربية‬ ‫السورية لألنباء (سانا)‪ ،‬ومدرس مادة التصوير الضويئ يف املعهد التقاين للفنون التطبيقية‪ .‬عضو ‘تجمع فناين فلسطني’‪ ،‬وعضو‬ ‫‘اتحاد الصحفيني’‪ ،‬وعضو ‘اتحاد املصورين العرب’‪ .‬شارك يف عدة معارض جامعية داخل وخارج سوريا‪.‬‬ ‫‪184‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫‘توقف الزمن’‬

‫تصوير‪ :‬أسماء الدوس❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫لحظات مختلفة!‬ ‫تم تصوير العمل يف عام ‪ .2012‬محاول ٌة إليقاف الزمن يف‬

‫❊ أسامء الدوس‪ :‬فنانة سورية خريجة معهد الفنون التطبيقية‪ ،‬قسم التصوير الضويئ‪ .‬تعمل كمصورة صحفية‪ .‬شاركات يف معارض‬ ‫جامعية وورشات عمل فنية عديدة‪.‬‬ ‫‪185‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘فلسطينية منكوبة’‬ ‫رسم‪ :‬رنا شعبان❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫اللوحة ‪ 70×50‬سم‪ ،‬قامش أكريليك وغواش وبقايا قهوة وحرب صيني‪.‬‬ ‫❊ رنا شعبان‪ :‬فنانة فلسطينية خريجة معهد دمشق املتوسط‪ ،‬فرع هندسة الديكور‪ .‬مارست العمل الفني يف مجال الرسوم املتحركة‬ ‫وقصص األطفال منذ حوايل ‪ 10‬سنوات (رسم الخلفيات‪ ،‬واليل آوت‪ ،‬وتصميم الشخصيات‪ ،‬وتحريكها‪ ،‬واإلرشاف الفني وتسجيل‬ ‫الصوت)‪ .‬كام عملت يف مجموعة من رشكات اإلنتاج الفني بسوريا والوطن العريب‪ .‬شاركت مع ‘تجمع فناين فلسطني’ مبعارض فنية‬ ‫يف دمشق‪.‬‬ ‫‪186‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫‘حالة جدل’‬

‫رسم‪ :‬معتز العمري❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫اللوحة ‪ 70×50‬سم‪ ،‬قامش أكريليك وغواش وبقايا قهوة وحرب صيني‪.‬‬

‫❊ معتز العمري‪ :‬فنان فلسطيني خريج معهد أدهم إسامعيل للفنون التشكيليه‪ ،‬ودبلوم بالرسم والديكور‪ .‬عضو ‘اتحاد الفنانيني‬ ‫التشكيليني الفلسطينني’‪ ،‬وعضو ‘تجمع فناين فلسطني’‪ .‬شارك يف معارض خارجية وداخلية عديدة‪ .‬حاز عىل الجائزة األوىل يف ‘يوم‬ ‫القدس العاملي’‪.‬‬ ‫‪187‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘أمل’‬

‫تصوير‪ :‬عيسى حممد اخلضر❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫فازت هذه الصورة مبسابقة الطبيعة الصامتة التي أقامتها مؤسسة ‘روبينا آرت’ لإلنتاج‬ ‫الفني ‪ .2014‬نوع الكامريا‪DMC-FZ8 Panasonic :‬‬

‫❊ عيىس محمد الخرض‪ :‬طالب يف السنة الثالثة هندسة ميكانيكية‪ .‬شارك يف معرض مشرتك أواخر الـ ‪ 2012‬يف ‘صالة جسور’‪ ،‬ومعرض‬ ‫ِ‬ ‫‘أنت’ يف منتدى البناء الثقايف ‪ .2014‬حاصل عىل املركز األول يف مسابقة الطبيعة الصامتة التي أقامتها مؤسسة ‘روبينا آرت’ لإلنتاج‬ ‫الفني ‪.2014‬‬ ‫‪188‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫غسالة اجملتمع’‬ ‫‘ناشرين عرضا ‪ -‬خرجت للتو من ّ‬ ‫رسم‪ :‬مايا عدنان حممود❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫ألوان مائية عىل ورق قياس ‪ 37×29‬سم ‪ -‬تاريخ ‪ .2014/5/6‬تعرب عن التقييد املفروض عىل‬ ‫النساء والفتيات يف مجتمعاتنا‪ ،‬يف تجسيد للمقولة العامية ‘نارشين عرضا’‪.‬‬

‫❊ مايا عدنان محمود‪ :‬تدرس إدارة األعامل يف جامعة ترشين بالالذقية‪.‬‬ ‫‪189‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘اليك’‬

‫كاريكاتور‪ :‬ياسر أحمد❊‬

‫❊ يارس أحمد‪ :‬فنان سوري خريج معهد إعداد املدرسني (‪ .)1997‬حاصل عىل العديد من الجوائز العاملية‪ ،‬وعضو لجنة تحكيم ألكرث‬ ‫من مسابقة‪ .‬عمل يف الصحافة منذ عام‪ ،2005‬وشارك يف العديد من املعارض‪ .‬مرشح لجائزة الصحافة العربية أربع دورات ضمن‬ ‫أفضل ثالثة فنانني‪ .‬عضو يف موقع ‘كيجل’ العاملي لرسامي الكاريكاتري‪.‬‬ ‫‪190‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫‘جدار’‬

‫تصوير‪ :‬عمار خضور❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫حيطان ُمهملة‪ ،‬لوحات طرقية‪ ،‬رضبات ألوان عفوية‪ ،‬تشكيالت لونية‪ .‬هذه بعض الصفات‬ ‫التي أستطيع أن أصف بها ما أراه عىل الجدران‪ ،‬والتي تدفعني إىل تصويرها وتوثيقها‪.‬‬

‫❊ عامر خضور‪ :‬يدرس يف كلية الحقوق بجامعة دمشق‪ .‬شارك يف عدة معارض فنية عامي ‪ 2012‬و‪ ،2013‬فضالً عن نشاطات تطوعية‬ ‫عامة يف دمشق‪.‬‬ ‫‪191‬‬

‫العدد ‪1‬‬ ‫متوز ‪ /‬يوليو ـ ‪2014‬‬


‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ‪ -‬لندن‬


‫حول جملة ِدلْـــ َتا نُــون‬

‫مجلة ِدلْـــتَا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام (دمشق ‪ -‬لندن)‪.‬‬ ‫تسعى املجلة إىل دراسة العالقة بني الفكر والشأن العام يف منطقة غرب آسيا وشامل‬ ‫إفريقيا (الرشق األوسط) عموماً‪ ،‬ويف سوريا خصوصاً‪ .‬تعمل املجلة عىل نرش مواد ترتاوح‬ ‫بني املقاالت والدراسات والريبورتاجات الصحفية ومراجعات الكتب‪ ،‬إضافة إىل قسم‬ ‫خاص بالصور الفوتوغرافية والرسومات والكاريكاتور‪ .‬وتهتم املجلة بنرش املواد التي‬ ‫تناقش‪ ،‬يف صور ٍة مرتابط ٍة ومنهجية‪ ،‬ما ينضوي تحت املحاور الثالثة التالية‪:‬‬

‫• الفكر‪ :‬مبا يشمله هذا العنوان العريض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من أفرا ٍد (كاملثقفني‬ ‫ٍ‬ ‫ومؤسسات (املراكز بحثية‪ ،‬والجامعات‪،‬‬ ‫واألكادمييني والخرباء وال ُكتّاب واإلعالميني)‪،‬‬ ‫والصحافة‪ ،‬ودور النرش)‪ ،‬و ُم ْخ َر َج ٍ‬ ‫ات (كالكتب‪ ،‬واألفكار‪ ،‬والحركات الفكرية)‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫• الشأن العام‪ :‬مبا يشمله هذا العنوان العريض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من أعر ٍ‬ ‫وثقافات‬ ‫اف‬ ‫سائدة و ُم َه َّمشة‪ ،‬وقضايا االقتصاد والتنمية والخدمات‪ ،‬واملجتمع املدين‪ ،‬والصحة‬ ‫والرتبية والتعليم‪ ،‬وتطبيق القانون والترشيعات والحقوق األساسية‪ ،‬واملامرسات‬ ‫السياسة‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫• العالقة بني املح َو َريْن السابقني‪ ،‬أي بني الفكر والشأن العام‪ :‬سواء عىل مستوى التأثر‬ ‫والتأثري‪ ،‬والتقاطع‪ ،‬والسببية‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬واالستقاللية‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫دعوة للكتابة يف ‘جملة ِدلْـــ َتا نُــون’‬

‫بعد إصدار العدد األول يف متوز‪/‬يوليو ‪ ،2014‬تسعى ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ إىل إصدار‬ ‫عددها الثاين يف أواخر شهر أيلول‪/‬سبتمرب ‪ .2014‬وعليه ندعوكم إىل إغناء املجلة‬ ‫مبساهامتكم الفكرية والنقدية واملستقلة‪ ،‬بعد االطّالع عىل رشوط وتعليامت النرش يف‬ ‫املوقع اإللكرتوين للمجلة‪ .delta-n.c-tpa.org :‬وميكن إرسال مساهامتكم عىل الربيد‬ ‫اإللكرتوين‪ ،editors@c-tpa.org :‬علامً أن آخر ٍ‬ ‫موعد الستقبال املساهامت هو نهاية آب‪/‬‬ ‫أغسطس ‪.2014‬‬

‫رسائل القراء‬

‫ترحب مجلة ِدلْـــتَا نُــون برسائل القراء سواء كانت تعليقات أو تعقيبات أو ردود عىل‬ ‫املواد املنشورة يف املجلة‪ ،‬أو اقرتاحات وانتقادات تسهم يف االرتقاء بعملها‪ .‬ميكن للقراء‬ ‫توجيه كافة الرسائل إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوين‪editors@c-tpa.org :‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مقاالت‬

‫ •‬ ‫• ‬

‫• مقاربة لنقد الطائفية يف سوريا – نريوز ساتيك‬ ‫• االفرتايض يخضع للواقع – مناف زيتون‬ ‫• يك ال تُفسد الثورة السورية بأيدي من ميتطونها – هوشنك أويس‬ ‫• ‬ ‫• مفارقات لونية يف الداخل السوري – رهام كوسا‬ ‫• ‬ ‫• األلرتاس‪ :‬النشأة والدور – فيكتوريوس شمس‬ ‫• التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا – عبد الله شالش‬ ‫• ‬ ‫• املرسح السوري أزمة عميقة تتطور – مايا جاموس‬ ‫• ‬ ‫• األدب السوري املعارض – عبد الوهاب عزاوي‬ ‫• عالقة املذاهب الفنية – ليليان بالن‬ ‫اترش‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫مارك‬ ‫• داعش وتجاوز حدود املزاودات –‬ ‫دراسات‬ ‫• يف الصورة البرصية ملجلة دابق وإسقاطاتها – مصطفى دباس‬ ‫• الحروب األهلية بني املظلومية والطمع – سنان الحواط‬ ‫• من البنية التحتية لوسائط النقل إىل السياسة يف بريوت‬ ‫– أحمد عثامن‬ ‫• تيار العبث بني الفلسفة واملرسح – عالء العامل‬ ‫• الدولة السورية بني مصيدة القوة واملدى – وجدي وهبي‬ ‫مراجعات كتب‬ ‫• فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام – دنكان توماس‬ ‫• رواية رسمدة لفادي عزام – نور شلغني‬ ‫• قلق يف العقيدة لسعيد ناشيد – عامر ديوب‬ ‫• حق الجوار كوسيلة للخروج من املستنقع الطائفي – طاهر زمان‬

‫مركز دراسات الفكر والشأن العام‬

‫املساكنة – كفاح زيني‬ ‫لبنان‪ :‬الجئون يف الخيام والجئون يف القصور – عامر املأمون وعبد‬ ‫الله قاسم‬ ‫ملف املخطوفني يف سوريا – قيص عاممة‬ ‫الرياضة السورية‪ :‬ضحية من ضحايا األزمة؟ ‪ -‬عالء إحسان‬ ‫وأحمد حاج حمدو‬ ‫املسلحون يف سوريا‪ :‬البحث عن الدعم والقيادة – طارق العبد‬ ‫رحى الحرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة – دميا نقوال‬

‫مجلة دلتا نون‬

‫‪Centre for Thought and Public Affairs‬‬ ‫‪email: info@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.c-tpa.org‬‬

‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ـ لندن‬

‫‪@CTPA_Arabic‬‏‬

‫‪@DeltaN_Arabic‬‏‬

‫‪CTPA.Arabic‬‏‬

‫‪email: editors@c-tpa.org‬‏‬ ‫‪www.delta-n.c-tpa.org‬‏‬ ‫‪DeltaN.Arabic‬‏‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.