مجلـــة يصــدرها مركــز دراســات الفكــر والشــأن العــام .دمشــق -لنــدن
العــدد األول ،متــــوز /يوليـــو ـ 2014
مقاالت:
ريبورتاجات:
دراســـــات:
• داعش وتجاوز حدود املزاودات
مراجعات كتب:
• املساكنة بني الجنسني
• الحروب األهلية بني املظلومية والطمع
• الرياضة السورية :ضحية من ضحايا األزمة؟
• فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام
• رواية رسمدة لفادي عزام
• الحرب يف سوريا وحقوق الطفولة
• حق الجوار والخروج من املستنقع الطائفي
العدد 1ـ متوز /يوليو ـ 2014
صورة الغالف: غسالة املجتمع’ ‘نارشين عرضا -خرجت للتو من ّ رسم :مايا عدنان محمود ،املزيد يف محور ‘املشهد البرصي’ يف الصفحة 189
ِدل َتـا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق ـ لندن .السنة األوىل ،العدد األول ،متوز /يوليو 2014
هيئة التحرير:
طالل امل َ ْي َهني (رئيس التحرير)
فرزند عمر (محرر القسم العريب)
مازن عيل (محرر القسم العريب وجولة العدد) عزام قصري (محرر القسم اإلنكليزي)
ماهر املونس (محرر القسم الصحفي)
الفريق الصحفي :دميا نقوال طارق العبد عالء إحسان قيص عاممة أحمد حاج حمدو نور شلغني (جولة العدد ومقهى دلتا نون) فريق امللتيميديا :مصطفى دباس كندة يوسف خالد هربش فريق الرتجمة :مين القييس رميه سواح مسؤول اإلنرتنت :طارق سواح تدقيق لغوي :عبد السالم حلوم
لالتصال بنا: مكتب دمشق:
شارع العابد -جادة العاين ص.ب10250 :
مكتب لنــدن:
436A Hamilton House Mabledon Place, Bloomsbury London, WC1H 9BB Tel. +44 20 75 54 85 30 email: editors@c-tpa.org www.delta-n.c-tpa.org
مركز دراسات الفكر والشأن العام
Centre for Thought and Public Affairs email: info@c-tpa.org www.c-tpa.org
التصميم واإلخراج الفني:
Omran Attar
gaea.goddess@gmail.com
يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق -لندن
احملتوى 7
حترير افتتاحية العدد
رئيس التحرير
8
تقديم العدد
هيئة التحرير
10
جولة العدد
هيئة التحرير
12
19
مقاالت مقاربة لنقد الطائفية يف سوريا
نريوز ساتيك
20
االفرتايض يخضع للواقع :يعمق عيوبه ويشوه معرفته
مناف زيتون
24
يك ال ت ُفسد الثورة السورية بأيدي من ميتطونها
هوشنك أويس
30
مفارقات لونية يف الداخل السوري
رهام كوسا
34
األلرتاس :النشأة والدور
فيكتوريوس شمس
38
التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا
عبد الله شالش
43
املرسح السوري أزمة عميقة تتطور
مايا جاموس
47
األدب السوري املعارض
عبد الوهاب عزاوي
51
عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتامعي والسيايس
ليليان بالن
55
داعش وتجاوز حدود املزاودات
مارك براترش
60
يف الصورة البرصية ملجلة دابق وإسقاطاتها
مصطفى دباس
63
71
مراجعات كتب رواية رسمدة لفادي عزام
نور شلغني
72
قلق يف العقيدة لسعيد ناشيد
عامر ديوب
78
85
ريبورتاجات صحفية املساكنة
كفاح زيني
86
لبنان :الجئون يف الخيام والجئون يف القصور
عامر املأمون وعبد الله قاسم
90
ملف املخطوفني يف سوريا
قيص عاممة
96
قوارب املوت إىل أوروبا
عبد الحاج
101
الرياضة السورية :ضحية من ضحايا األزمة؟
عالء إحسان وأحمد حاج حمدو
109
املسلحون يف سوريا :البحث عن الدعم والقيادة
طارق العبد
114
رحى الحرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة
دميا نقوال
118
123
دراسات الحروب األهلية بني املظلومية والطمع
سنان الحواط
124
من البنية التحتية لوسائط النقل إىل السياسة يف بريوت
أحمد عثامن
131
تيار العبث بني الفلسفة واملرسح
عالء العامل
139
الدولة السورية بني مصيدة القوة واملدى
وجدي وهبي
150
فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام
دنكان توماس
158
حق الجوار كوسيلة للخروج من املستنقع الطائفي
طاهر زمان
174
املشهد البصري
‘أم هشام’
تصوير :كندة سكيكر❊
حول العمل الفني: التقطت الصورة عام .2013
❊ كندة سكيكر :خريجة تصوير فوتوغرايف من املعهد التقاين للفنون التطبيقية ،وطالبة يف قسم التقنيات يف املعهد العايل للفنون املرسحية بدمشق .متارس التصوير التلفزيوين والفوتوغرايف حيث شاركت يف أربع معارض برعاية وزارة الثقافة ،واتحاد املصورين العرب. 6
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
حتــرير افتتاحية العدد تقديم العدد جولة العدد
حترير
االفتتاحية
شرق املتوسط ومالمح االنهيار ٌ ٌ عصيبة ،تتآكل فيها الكيانات السياسية في العراق وسوريا ،وتنهار معها التوافقات مرحلة هذه ٍ سنوات االجتماعية الشكلية التي جمعت ،ظاهرياً على األقل ،المكونات السكانية في عموم المنطقة .فبعد من الصراع العنفي العبثي والمستمر يأتي ‘الحدث الداعشي’ ،حسب تسمية أحد األصدقاء ،تتويجاً لقتامة المشهد ،ليقذف بالمنطقة في عتم المجهول ،ويخلط األوراق ،ويزيد من تعقيد الصورة .تتزامن هذه المرحلة مع مأسا ٍة إنساني ٍة كبرى أجبرت شرائح واسعة على النزوح والهجرة ،أو القبول باألمر الواقع ،مع شللٍ َم ُهولٍ في عجلة التنمية واالقتصاد والصحة والتعليم. التصريح بما كان ينفجر ،في هذه المرحلة العصيبة ،ما كان يتراكم مضطرماً تحت الرماد؛ ليعرب َد ُ مخبوءاً ،والنطقُ بما كان عنه مسكوتاً ،فتسقط كل األقنعة ،وتقف المنطق ُة عاري ًة قبالة قباحتها وتوحشها، دون تجميلٍ أو مساحيق ،تارك ًة إرثها الحضاري والثقافي الثري في عهدة الماضي والذكريات .وبهذا يتحول شرق المتوسط إلى ساح ٍة تضم مزيجاً من القتلة والمقتولين ،إلى حلب ٍة تشهد تسابقاً محموماً على سفك الدم ،وإلى بيئ ٍة لتفريخ الكراهية والحقد وال َع َدم ّية ،والسقوط في براثن الغرائزية األولى. لكن كيف أمكن لما حدث أن يحدث أص ًال؟ كيف سار الوضع إلى هذا الدرك من االنحطاط؟ وكيف تس ّنى لهذا الكابوس أن يكون؟ أين تبخّ رت أحالم النهضة والحداثة؟ وأين اختفت طموحات التغيير والتقدم؟ تكثر أمثال هذه التساؤالت في أزمنة العنف؛ فقد عرفتها أوروبا إبان وبعيد الحروب العالمية على سبيل المثال ،ما أفرز العديد من التيارات النقدية التي كان لها عميق األثر على سيرورة المعرفة واالشتغال الفكري .هذا ما نشهده أيضاً في عموم المنطقة هذه األيام؛ إذ نلحظ تلك التساؤالت في العيون المصدومة بواقع مرير ،نسمعها من األلسنة المتسائلة عن مستقبلٍ مجهول ،ونقرؤها في كتابات ‘المثقفين’ على ٍ اختالف أصنافهم ومواقعهم .لكن نادراً ما ترقى اإلجابات إلى كارثية الحدث ،ونادراً ما تنجح في الفكاك من نظريات المؤامرة ،لتدور غالباً في حلق ٍة مفرغ ٍة من ‘لَ ْوم اآلخر’ بعد صناعة هذا ‘اآلخر’ ،ويغيب البحث مهووس ،في الغالب األعم ،بإثبات أنهم الصادق والجاد عن الحلول والمخارج .فالخطاب واالشتغال الفكري ٌ ‘هم’ أساس المشكلة ،وبأننا ‘نحن’ بريئون من أي مسؤولي ٍة فيما حدث ويحدث (بغض النظر عن انتماءات الـ ‘هم’ والـ ‘نحن’) ،وفي خِ ضَ ِّم هذا الهوس تغرق المنطقة أكثر وأكثر في َو ْحلِ صراعاتها .هذه االستماتة والتنصل من دور ‘الجالد’ ،هذه الرغبة العميقة في إعالن ‘براءتنا’ ،وإخفاء المازوخية في أخذ دور ‘الضحية’ ُّ ويائس من مواجهة الواقع األليم ٌ - صفة هروب ساف ٍر ‘أيدينا’ المغموسة بالدماء حتى المرافق ،ليست سوى ٍ ٍ تالزم العقلية السائدة الغارقة في غيب ّيتها وجنون عظمتها ،الغارقة في نرجس ّيتها وإقصائيتها واستعالئهاٌ ، صفة تك ِّر ُس المأساة ،وتعيد إنتاج ما هو قائم. 8
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
وبعد كل هذا ،فهل ما زلنا في حاج ٍة إلى مزي ٍد من الدالئل كي ُن ِق َّر بضرورة التغيير الجذري في المنطقة؟ سواء على المستوى الفردي أو الجماعي؟ تغيير ال يقف عند حدود التشذيب السياسي ،بل ينفذ إلى آليات المعرفة واالشتغال الفكري ،وإلى عمق المواقف تجاه الحياة واألشياء والمفاهيم ،وإلى مناهج وأسس العقلية السائدة وإدراكها للدنيوي والمقدس. ٌ ٌ مرحلة عصيبةٌ ، ٌ ٍ ٍ إجابات تساؤالت كبرى وتنتظر تطرح ومركبة تبحث عن حلول، عميقة أزمة هذه ُ ٍ ٍ إجابات قادرة على اقتحام أيديولوجيات الخوف والصمت ،وعلى الخروج من أسر إجابات شجاعة، مختلفة؛ ّ ٍ إجابات تتحرر من ُح ّمى التماثل والتقليد ،وتعيد االعتبار إلى عقل اإلنسان النماذج الجاهزة والمعلبة، ٍ بمسؤوليات ِج َسا ٍم في عص ٍر بات فيه شتم العقل فضيلة .ولع ّله من النافل القول بأن كل ما سبق سيلقي على عاتق كل المهتمين ،وبخاصة أولئك المشتغلين في قضايا الفكر والحقل العام ،آملين أن تكون مجلة ‘دلتا نون’ صوتاً فاع ًال ،ومنبراً مفتوحاً لكافة األقالم الشابة والجادة ،لكافة األفكار الخالقة ،لكافة الطروحات الجريئة التي تناقش ما تعيشه منطقتنا ،ع ّلنا نسهم ،مع غيرنا ،في عملية التغيير المنشودة. مح ّمد طالل امل َ ْي َهني رئيس التحرير
9
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حترير
التقدمي
حول العدد األول من جملة ‘دلتا نون’ تسعى مجلة ‘دلتا نون’ في عددها األول ،الذي نضعه بين أيديكم ،إلى تعميق تجربة العدد صفر الصادر في أيار/مايو ،2014مع متابعة تركيزها على دراسة العالقة الكامنة بين ‘الفكر’ و‘الشأن العام’؛ تلك العالقة الشائكة التي ما فتئت تعتريها مواقف مسبقة تفصل بين الفكرة ‘النظرية’ والواقع ‘العملي’ .ربما يعود ذلك إلى االلتباس القائم بين مهمة المفكرين والمثقفين ،القابضين على مبضع التحليل والتشريح ونحت المفاهيم ،وبين القضايا اليومية التي يصادفها ويعيشها الناس في العمل والمدرسة والشارع ،وإلى عدم إدراك (أو تغييب إدراك) العالقة التي تربط بين الفكر وهذه القضايا. وعليه تحاول مجلة ‘دلتا نون’ ،في العدد الحالي ،إبرا َز بعض المالمح التي تحكم العالقة بين حقلي ‘الفكر’ و‘الشأن العام’ ،وذلك بإثارة أكثر من قضية على المستويات االجتماعية واالقتصادية والثقافية اب شباب يعيشون واقعهم ،يندمجون فيه ،ويسهمون في واألدبية والفنية ،معتمد ًة بالدرجة األولى على ُك َّت ٍ تشكيله .حيث تفسح مجلة ‘دلتا نون’ المجال واسعاً أمام األقالم الشابة كي تستهل ،أو تعمق ،تجربتها في بروح منفتح ٍة على كافة الطروحات واألفكار الكتابة عبر النشر في هذه الصفحات ،مع التزام هيئة التحرير ٍ واآلراء الملتزمة بسياستها التحريرية المعلنة. ٍ مساهمات واعد ٍة يظهر عليها الجهد البحثي والعلمي يحتوي العدد الحالي من مجلة ‘دلتا نون’ على واألدبي الحثيث ،والطموح في تقديم مواد غنية بالمعلومة واالجتهاد الفكري؛ سواء في قضايا إشكالية كقضية ‘المساكنة’ بين الجنسين بقلم كفاح الزيني وقضية ‘الجئي القصور’ بقلم عمار المأمون وعبد الله قاسم ،أو لجهة عرض المذاهب الفلسفية وإسقاطات الواقع على الفنون؛ كما جاء في مادة ‘العبث’ بقلم عالء العالم ،ومادة ‘المسرح والمجتمع السوري’ بقلم مايا جاموس. نقرأ أيضاً في هذا العدد تغطي ًة للمشهد السوري؛ على المستوى السياسي بقلم هوشنك أوسي ورهام ٍ مقاالت منوعة بقلم كوسا ،وعلى المستوى االقتصادي بقلم وجدي وهبي وعبد الله شالش .وباإلضافة إلى عبد الوهاب عزاوي ومناف زيتون وليليان بالن وفيكتوريوس شمس ،يقدم العدد الحالي أيضاً مراجعتي كتب .حيث تستعرض نور شلغين رواية ‘سرمدة’ للكاتب فادي عزام عبر قراءتها قراء ًة مكثف ًة تحلل ما ٍ ٍ وبأدوات أدبي ٍة بالغة األمانة في استنطاق النص .تأتي أهمية شعبي أصيل، موروث تحمله هذه الرواية من ٍّ القراءة التي تقدمها اآلنسة شلغين من مقارعتها ونقضها لقراء ٍة سابقةٍ ،بقلم الشاعر السوري خلف علي الخلف ،لنفس الرواية افتقرت فيها للروح المتسامحة مع المناهج الصارمة في قواعد فن الرواية .أما المراجعة الثانية فبقلم عمار ديوب الذي يتصدى لكتاب ‘قلق في العقيدة’ للباحث المغربي سعيد ناشيد. ومع أن المراجعة قد ُكتبت من وجهة نظر يسارية ،إال أن ذلك لم يجعلها تقع في فخ الخضوع المطلق لأليديولوجيا .بل على العكس ،فقد قدمت المراجعة عرضاً سلساً ومالئماً ألطروحة األستاذ ناشيد المثيرة للجدل في األوساط المعنية بالفكر الديني اإلسالمي. 10
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
وتمشياً مع موسم كأس العالم لكرة القدم ،فقد ارتأى الفريق الصحفي في مجلة ‘دلتا نون’ إعداد تحقيق عن تأثر وتأثير الرياضة (المحلية والعالمية) في واقع الصراع الذي تمر به سوريا ،مع استمز ٍاج آلراء بعض صناّع السياسات الرياضية والقائمين عليها .كما يمكن للقراء تصفح عدد من التحقيقات المهمة حول خارطة المسلحين وقضية المخطوفين في سوريا ،وتأثير األزمة السورية على واقع الطفولة ،وقوارب الموت إلى أوروبا. ٌ مترجمة عن النص األصلي نصيب في مقالتين .المقالة األولى وبالتأكيد كان للحدث الداعشي ٌ الـم ْر َسل باإلنكليزية بقلم مارك براتشر ،حيث تطرح المقالة فكرة أن ‘داعش’ ،بإفراطه في المزاودة العنفية ُ والممارسات المتطرفة ،فإنه يحكم على نفسه بالفناء .قد ال نتفق تماماً مع ما ذهب إليه الكاتب ،بخاصة وأنه يبدو وكأنه يختصر ظاهرة التطرف في تنظيم ‘داعش’ ،إال ان أطروحته تستحق التأمل والبحث .أما المقال الثاني فهو ٌ نقدي للصورة البصرية ومحتوى مجلة ‘دابق’ التي بدأ تنظيم ‘داعش’ بنشرها، عرض ٌّ حيث يجادل المقال في أن اإلخراج االحترافي لمجة ‘دابق’ ظاهر ٌة فريد ٌة من نوعها في واقع الحركات الجهادية ،مع احتمال أن تكون مقدم ًة تنذر بطموح التنظيم إلى التحول من وضعه المليشياوي الفوضوي إلى وضع الدولة المنظمة. وعميق ومتمكن، سلس يضاف إلى ما سبق عدة دراسات مهمة .إذ يناقش سنان الحواط، بأسلوب ٍ ٍ ٍ جذور الحرب األهلية التي يمكن أن تكون نتيجة للمظلومية أو الطمع ،أو مزيجاً لكليهما .كذلك يقدم طاهر زمان في دراسته (النص األصلي باإلنكليزية) لمحة إلى دور عالقات الجيرة في تجفيف المستنقع الطائفي الذي يجتاح المنطقة .حيث يحلل التفاعل اليومي بين مختلف المكونات السكانية في سوريا في مناطق النزوح ،متقاطعاً في هذه الدراسة مع التحليل الذي قدمه نيروز ساتيك عن الحالة الطائفية في سوريا .كما يسلط أحمد عثمان الضوء في دراسته (النص األصلي باإلنكليزية) على العالقة الرمزية بين وسائط النقل بالسياسة في بيروت ،حيث تعكس الالمساواة في واقع النقل في العاصمة اللبنانية حال ًة أكثر جذرية من الالمساواة على مستوى الممارسة السياسية .أما دراسة دنكان توماس (النص األصلي أيضاً باإلنكليزية) فإنها عرض لعد ٍد تدرس دور فن الشارع والغرافيتي في إيران كوسيل ٍة لالحتجاج السياسي على النظام القائم ،مع ٍ من اللوحات الفنية التي توضح فكرة الدراسة. وكما هو مالحظ فقد اخترنا عم ًال فنياً لفنانة صاعدة ،مايا محمود ،لتزين غالف العدد الحالي .فقد جمع هذا العمل المعنون بـ ‘ناشرين عرضا’ بين البساطة والعمق؛ بساطة المالمح ووضوحها ،وعمق المعنى الكامن وراءها ،بخاصة وأن العمل ينقد القولبة التي يفرضها المجتمع قهراً على النساء .وتضاف إلى ذلك مجموعة من األعمال الفنية البصرية (صور فوتوغراف ورسومات وكاريكاتور) ،لتزين صفحات المجلة ،قام ٌ عدد منهم إلى ‘تجمع فناني فلسطين’. بإعدادها مجموعة من الشباب ينتسب ٌ أخيراً نود في هيئة التحرير أن نتقدم بجزيل الشكر لكل من ساهم في إنجاز العدد الحالي فريقاً، و ُك ّتاباً ،وفنانين ،دون أن ننسى دعوة القراء األعزاء إلى إرسال انتقاداتهم وتعليقاتهم على المواد المنشورة في المجلة ،أو على مستوى المجلة ككل ،عبر البريد اإللكتروني التاليeditors@c-tpa.org : هيئة التحرير مجلة دلتا نون 11
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حترير
جولة العدد أخبار مركز دراسات الفكر والشأن العام تهنئة فاز ماهر المونس بجائزة أفضل نص في ‘مهرجان سينما الشباب واألفالم القصيرة األول’ في دمشق .النص الفائز بالجائزة كان تدوين ًة مستندة إلى قصة واقعية نشرها المونس في مدونته ‘جرعة زائدة’ ،ليتحول النص فيما بعد فيلم قصير من إخراج نادين الهبل بعنوان إلى ٍ ‘عشر دقائق بعد الوالدة’ .يذكر أن ماهر المونس عضو في هيئة التحرير في مجلة ‘دلتا نون’ ،حيث يشرف على القسم الصحفي في المجلة التي يصدرها ٌ ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’. تعاون مع أوبن دميوكراسي OpenDemocracy في لقاء جرى في أيار/مايو 2014تم االتفاق على التعاون األولي بين ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ والـ ‘أوبن ديمكراسي .’OpenDemocracyووفقاً لهذا التعاون ستقوم هيئة التحرير في مجلة ‘دلتا نون’ باختيار بعض المواد المنشورة في المجلة كي يتم نشرها في موقع ‘أوبن ديمكراسي’ .يتيح هذا التعاون وصول المواد ،التي ستتم ترجمتها إلى اإلنكليزية ،إلى شريحة الواسعة من الجمهور الغربي .يذكر أن ‘أوبن ديمكراسي’ مؤسسة غير حكومية غير ربحية تعنى بقضايا الديمقراطية ،ومقرها لندن.
لقاءات مع منظمة إنرتناشيونال ألريت International Alert
حضر ممثل عن ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ في لندن ورشتي عمل في أيار/مايو وتموز/يوليو بدعوة من منظمة ‘إنترناشيونال أليرت ،’International Alertوبحضور عدد من المنظمات والمؤسسات المعنية بالشأن السوري .الفكرة من اللقاءات المذكورة هي دراسة دور المغتربين السوريين في دعم الوصول إلى حلول للوضع السوري المعقد ،وفي بناء السالم. اجتماع مع مركز أبحاث حتليل النزاع يف جامعة كينت عقد مركز دراسات الفكر والشأن العام مؤخراً اجتماعاً مع البروفسور فرغال كوشران Feargal Cochraneللتباحث حول إمكانية التعاون في عدد من المشاريع الفكرية التي سيطلقها المركز حول وضع 12
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
الصراع في سوريا .يذكر أن البروفسور كوشران هو رئيس ‘مركز أبحاث تحليل النزاع Conflict Analysis ’Research Centreفي جامعة كينت في بريطانيا ،وترأس سابقاً معهد ريتشاردسون ألبحاث السالم والنزاع في جامعة النكاستر .وتتمحور أبحاث البروفسور كوشران حول تفكيك أسباب النزاعات في المناطق ذات التركيبة السكانية غير المتجانسة ،وكان له دور مساهم في إيجاد مخارج للنزاع العنفي في أيرلندا الشمالية.
سجاالت جدد اجلدل حول مواقفه أدونيس :طبعةٌ جديدةٌ ألعمال الثمانينيات تُ ّ أشعل المف ّكر السوري أدونيس فتي ًال جديداً في الجدل المستم ّر حول مواقفه من الوضع المتدهور في سوريا ،بعد إصدار الجزء الثاني من أعماله الشعرية الكاملة ،وكتابه ‘فاتحة لنهايات القرن’ عن ‘دار الساقي’ في بيروت. نشرت آخر المقاالت المنشورة في هذا الصدد في صحيفة ‘األخبار’ بعنوان‘ :أدونيس... فاتحة لنهايات الربيع العربي’ للصحافي يزن الحاج ،الذي تساءل عن أهمية نشر هذين الكتابين الذين يعودان إلى ثمانينيات القرن الماضي ،وتعود أول بيانات ثانيهما إلى عام .1967يوضح الحاج أنّ تأريخ بيانات اإلصدار األول للكتابين جاء بالتزامن مع الهزيمة الكبرى في تاريخ العرب المعاصر ،لتأتي النسخة الثانية مع االنتكاسات المتالحقة التي تشهدها الساحة العربية ،ما يمثّل البداية الفعلية ألي نقد جديد لكتابي أدونيس. وكان أدونيس قد أشعل فتيل الجدل عام ،2011بعد أن نشر مقالة بعنوان‘ :رسالة مفتوحة إلى الرئيس بشار األسد’ ،ض ّمنها رؤيته حول األزمة العالقة في سوريا منذ بداياتها ،ونصائحه إلى الرئيس السوري بهذا الشأن ،ليفتح نيران الجبهة المعارضة لألسد على نفسه ،بدءاً من مقالة صادق جالل العظم ،وما تالها من ردود مع الكاتبة خالدة سعيد ،بعد أن قرر أدونيس أن يعتزل الرد على أي من المقاالت التي فتحت ثبت في كتبي ،وهي في المكتبات ،وأنا أثق بذكاء الق ّراء”. نيرانها عليه ،قائ ًال“ :كل ما كتبته ُم ٌ السيد يدير رحى اجلدل حول ‘اإلسالم السياسي’ ويُشعل سجاال ً ثقافيًا رضوان ّ شهدت صحيفة “الشرق األوسط” منذ منتصف نيسان/أبريل الماضي ،جدالً فكرياً ساخناً بين عدة مثقفين عرب .بدأ ذلك عندما كتب رضوان السيد ،أستاذ الدراسات اإلسالمية في الجامعة اللبنانية ،مقالة بعنوان‘ :الحملة على اإلسالم ...والحملة على العرب’ ،تط ّرق فيها إلى انتقادات المثقفين التنويريين المستم ّرة لمفهوم اإلسالم المتشدد والتكفيري واإلرهابي ،في دراسات منقوصة برأيه. 13
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حترير وذكر السيد في المقال المنشور بالعدد 12925من الصحيفة أنّ الدراسات التي يحتفل بها بعض السني’ ،مشيراً إلى أنّ 17كتاباً عربياً صدر بعد ،2010ينحاز تشن حمالتها على ‘اإلسالم الباحثين العربّ ، ّ بحجة المقاومة ،وتحرير العرب والمسلمين من هذا ‘اإلسالم السني’. إلى األصولية الشيعية ّ وجاء رد الكاتب السوري جورج طرابيشي سريعاً ،بعد أن ذكره السيد في مقاله كأحد قادة تلك الحمالت ضد ‘اإلسالم الس ّني’ ،إلى جانب أدونيس وغيره من المثقفين .حيث أشار طرابيشي في مقاله إلى أنّ اتهامات السيد تضع ‘اإلسالم الشيعي’ في دور الجالد ،مقابل نظيره السني الذي أصبح الضحية ،موضحاً أنّ الضحية في هذا األمر إنما هي ‘اإلسالم’ عموماً ،من خالل هذا الترويج لشطره إلى خير مطلق ونقيض شرير ،م ّتهماً كل من يتبنى هذه الرؤية بقيادة الحملة المزعومة على اإلسالم. وانضم المف ّكر الليبي محمد عبد المطلب الهوني إلى طرابيشي ،بمقالة رد فيها على السيد عبر الصحيفة نفسها ونشرها موقع األوان للعقالنيين العرب ،بعنوان‘ :إلى السيد رضوان الس ّيد :الخليج ال يحتاج إلى قرضاوي آخر’ ،أشار من خاللها إلى أنّ الوقائع التي وردت في مقالة السيد كانت مجافية للواقع، وتح ّداه أن ُيثبت اتهامات التح ّيز الطائفي التي أطلقها على جمع من المثقفين العرب. لكن السجال لم ينته بمقالة الهوني ،إذ عاد الس ّيد إلى الساحة بر ّد مزدوج على المقالتين ،مشيراً إلى أنّه مهموم كغيره بما يجري داخل اإلسالم ،وفظائع ‘اإلسالم السياسي’ الذي برز بقوة تنظيماته إلى الساحة، بعد أن فشلت قوى المجتمع المدني بإسقاط أنظمتها السياسية ،منتقداً في الوقت نفسه تدخّ ل ‘حزب الله’ اللبناني في محاربة من يقول إنّهم تكفيريون في سوريا. وأنهى الس ّيد النقاش المحتدم مطلع أيار/مايو ،باإلشارة إلى أنّ من حقّ التنويريين معالجة ما يريدون، ومن ح ّقه رفض طرقهم بالتعامل مع الدين اإلسالمي وتحليله ودراسته .هذا وقد نشرت المد ّونة التابعة مجلة ‘دلتا نون’ روابط المقاالت المذكورة.
كتب
كتاب ‘ ’La Syrie promiseللكاتبة السورية هالة القضماني ،عن دار ‘ ’Actes Sudالفرنسية ،وهو عبارة عن سردية ترويها الكاتبة على شكل رسائل إلكترونية بينها وبين والدها المتوفى مؤخراً.
كتاب ‘ ’Syrie, la révolution orphelineللكاتب اللبناني زياد ماجد ،عن دار ‘ ،’Actes Sudوفيه محاولة من الكاتب إلجمال الحالة السوية في تداخالتها المحلية والدولية بصورة بانورامية عبر رصد أهم الفاعلين الدوليين والمحليين.
14
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
كتاب ‘ ’Les Gardiens de l'airللكاتبة السورية روزا ياسين حسن ،عن دار ‘ ،’Actes Sudوهو رواية مترجمة عن العربية كانت قد صدرت عن ‘دار الكوكب’ الشقيقة لشركة ‘رياض الريس للكتب والنشر’ في بيروت.
كتاب ‘الخالص أم الخراب؟ سوريا على مفترق الطرق’ صادر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق اإلنسان ،يضم األوراق البحثية التي قام بتحريرها وتقديمها ياسين الحاج صالح ،وساهم فيه أحمد حسو ،أكرم البني ،أنور البني ورضوان زيادة. كتاب ‘Arab Winter Comes to America: The ’Truth About the War We're Inللكاتب روبرت سبنسر ،Robert Spencerالذي يقول فيه“ :ربما يكون الجو دافئاً بالخارج اآلن ،ولكن عاصف ًة ثلجي ًة على وشك أن تهب من القلوب الباردة ،التي تعيش حالة من الجمود ،في شتاء إسالمي ال تبدو له نهاية”.
كتاب ‘الربيع العربي إلى أين؟ أفق جديد للتغيير الديمقراطي’ ،عن مركز دراسات الوحدة العربية ،تحرير عبد اإلله بلقزيز ،وفيه يعاد طرح السؤال القديم عن السلطة العربية: تغيي ٌر من الداخل أم ثور ٌة جديدة؟
15
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حترير أبحاث تقرير‘ :هدر اإلنسانية :تقرير يرصد الظروف االقتصادية واالجتماعية يف سوريا’ صدر عن ‘المركز السوري لبحوث السياسات’ تقرير الربعين الثالث والرابع (تموز/ يوليو – كانون األول/ديسمبر )2013بعنوان: ‘هدر اإلنسانية :تقرير يرصد الظروف االقتصادية واالجتماعية في سورية’ ،بالتعاون مع األنوروا، وبرنامج األمم المتحدة اإلنمائي ،بتاريخ أيار/ مايو ،2014وقد جاء في تقديمه على موقع المركز االلكتروني“ :تواجه سورية واحدة من أكثر الكوارث التنموية واإلنسانية ح ّدة في التاريخ الحديث ،حيث د ِّمر كل من االقتصاد ورأس المال البشري والثقافي واالجتماعي، ناهيك عن التخلخل الذي أصاب الهوية الوطنية. وهذه الكارثة تُس ُّيرها وتُذكيها قوى التسلط على المستويين المحلي والدولي ،مسببة هدر اإلنسانية في سورية .يهدف المركز السوري لبحوث السياسات من إعداد هذا التقرير ،والذي يأتي في إطار سلسلة تقارير ربعية ،إلى تقدير وتوثيق وتحليل اآلثار التنموية الكارثية للنزاع المستمر ،باالستناد إلى أحدث البيانات واألدلة المتاحة ونماذج االقتصاد القياسي”.
تقرير‘ :األزمة املستمرة :حتليل املشهد العسكري يف سوريا’ في إطار اصداراته المعنونة بتحليل السياسات نشر ‘مركز بروكنغز ’Brookingsورقة بعنوان‘ :األزمة المستمرة :تحليل المشهد العسكري في سوريا’ للكاتب تشارلز ليستر ،يحلل فيها المعارضة المدعومة من الغرب ،والنفوذ المتزايد للمسلحين الجهاديين ،والقدرات المتنامية للقوات الموالية للحكومة. يشير ليستر إلى أن هذه األطراف ستظل في حالة مواجهة حتى يتم التوصل إلى حلٍ سياسي ،ال سيما وأنّ تحقيق انتصار عسكري حاسم يبدو صعب المنال بالنسبة لكافة األطراف .ولكن ،نظراً لتزايد عدد الجماعات المسلحة لدى طرفي الصراع ،فمن غير المرجح أن تتو ّقف دوامة العنف في سوريا حتى ولو توصلت الحكومة والمعارضة إلى اتفاقٍ ما. ّ 16
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
وبالتالي ،يرى ليستر أنه ينبغي على الدول الغربية واإلقليمية أن تركز على هدفين أساسين لسياستهما إزاء األزمة السورية .أوالً ،يتع ّين على المجتمع الدولي تعزيز معارضة سورية متماسكة من شأنها أن تتحدى نظام األسد على أرض المعركة وعلى طاولة المفاوضات .ثانياً، يتع ّين على المجتمع الدولي مساعدة الدول المجاورة لسوريا على إدارة اآلثار غير المباشرة لحالة العنف الناجمة من هذا الصراع ،وفي شكلٍ خاص ،الحد من إمكانية توسيع رقعة عمليات الجماعات الجهادية الموجودة في سوريا خارج حدود البالد. مساهمات ليلى أبو لغد حتت جمهر ‘املركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات’ نشر ‘المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات’ في الدوحة ،دراسة للباحث السياسي والقانوني ع ّياد توصلت إليه الباحثة الفلسطينية األمريكية ليلى أبو لغد ،في عدم تناسق المنطلقات البطنيحي ،حول ما ّ ّ اإلدراكية للخطاب النسوي مع السياقات المركبة للنساء في المنطقة العربية. وتتناول دراسة البطنيحي المواضيع التي بحثت فيها أبو لغد حول التحديات التي تواجه النساء العربيات؛ كعدم انسجام الخطاب الحقوقي والتنموي الغربي مع فهم ظروفهن الخاصة ،إضافة إلى تحليل قراءتها للدولة الحديثة بمنطق مختلف عن خطاب الحداثة ،ونظرتها حول التص ّور العالمي لخطاب التنمية اجهن في العالمية ،والدفاع عن خصوصيتهن الليبرالي بأنّه مض ٌّر بالنساء ،ما يعطيهن الحق في رفض اندر ّ الحضارية والمحلية. ُيشار إلى أنّ ليلى أبو لغد ،أستاذة في علم اإلنسان ودراسات المرأة والنوع في جامعة كلومبيا، تخرجت من كلية كارلتون عام ،1974وحصلت على شهادة الدكتوراه من جامعة هارڤرد عام ،1984 واشتهرت ببحثها الذي قدمته حول بدو قبيلة أوالد علي في مصر.
مازن عيل بالتعاون مع نور شلغني هيئة التحرير
17
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
املشهد البصري
‘فوق الدمار’
تصوير :بشر عبد الهادي❊
حول العمل الفني: صور ٌة فوتوغرافي ٌة مأخوذة يف مدينة الرقة السورية.
❊ برش عبد الهادي :مدون ومصور فوتوغرايف منذ الـ .2009يكتب يف التقنية ،حيث شارك بالعديد من املقاالت التقنية ضمن عدة مواقع عربية من بينها ‘كشكول التقنية’ و ‘أردرويد’ .سبق ونرش يف مجلة empirical magazineاألمريكية عن الربيع العريب والدمار يف حلب. 18
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت مقاربة لنقد الطائفية يف سوريا االفرتايض يخضع للواقع :يعمق عيوبه ويشوه معرفته يك ال تُفسد الثورة السورية بأيدي من ميتطونها مفارقات لونية يف الداخل السوري األلرتاس :النشأة والدور التوجهات املالية لرأس املال يف سوريا املرسح السوري أزمة عميقة تتطور األدب السوري املعارض عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتامعي والسيايس داعش ومقامرة العالقات العامة
مقاالت
نيروز ساتيك ❊
مقاربة دوالتية
لنقد الطائفية يف سوريا
اخلالصة:
تتعدد حاالت اقتحام جامعات ريفية للمدينة خالل يوميات األزمة السورية ،يُ َص َّو ُر أسس طائفي ٍة عندما يكون أحدهام مختلفاً مذهبياً عن الطرف املقابل. بعضُ ها عىل ٍ تستعرض املقالة منوذجني عن ذلك ،وتحللهام وفق العوامل االقتصادية واالجتامعية السائدة يف كل منطقة .وتوضح أنه رغم اختالف أهداف االقتحام ،فإن ما يجمعهام هو الخضوع للتناقضات التاريخية بني الريف واملدينة يف سوريا .ولذلك ليس من الصعب تبديلها وتغيريها أو إعادة تحالفاتها يف منظومة سلطة سياسية دميقراطية تقوم عىل مبادئ املواطنة .أما الخارس الوحيد هو الطائفية الزائفة.
❊ يشغل نيروز ساتيك وظيفة مساعد باحث في ‘المركز العربي لألبحاث ودراسة السياسات’ ،ويركز في اهتماماته على القضايا البحثية ذات الطابع االجتماعي في سوريا .حصل نيروز على شهادة الليسانس (البكالوريوس) في العلوم السياسيّة من جامعة دمشق.
20
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مقاربة دوالتية لنقد الطائفية يف سوريا
ورثت دولة االستقالل السورية نحو عقدين ون ّيف من سياسات الهوية الطائفية المنهجية والمنظمة التي اتبعتها سلطات االنتداب الفرنسي ،وخُ يل بعد زوال االنتداب أن المجتمع السوري قد وضع هذه المسألة خلفه ٍ إلى ح ٍّد ما ،إلى أن َط َر َحت المسألة الطائفية نفسها خالل األزمة السورية الحالية بأشكالٍ ودرجات ووتائر مختلفة، مستترة أحيانًا وظاهرة أحيانًا أخرى ،وبأشكال ملموسة يمكن قياسها كمؤشرات .و َت َم َّث َل جوه ُر المسألة الطائفية ٌ تناقض طائفي ،وهذا شكل ‘فظ’ من أشكال الوعي في تصوير التناقض بين السلطة الحاكمة والمعارضة على أنه الزائف والمقلوب. في 25آذار/مارس ،2011عندما التحقت مدينة الالذقية بالحركة االحتجاجية في درعا ،نزل مدنيون سوريون بسياراتهم من القرى التي يسكنها علويون من ناحية المذهب الديني من جنوب الالذقية ،لقمع الحركة االحتجاجية في المدينة .إال أن حواجز الجيش السوري منعت دخولهم المدينة عند دوار جامعة تشرين وأجبرتهم على العودة .في المقابل ،لم تلتحق مدينة حلب الغنية بالحركة االحتجاجية في شكلٍ فاعل ،فما كان من الريف ٍ سلوكيات انتقامية ثأرية الـم ْف َقر والمنتفض إال أن قام بغزو المدينة في 19تموز/يوليو 2012مع ممارسة الحلبي ُ طبقية كعمليات السلب والنهب بخاصة للمدينة الصناعية في الشيخ نجار .المشترك في كلتا الحالتين ،مع اختالف الهدف ،أن هناك فعل اقتحا ٍم ريفي للمدينةُ .ص ِّو َر الفعل األول على أنه ٌ فعل ‘طائفي’ ،بينما ُص ِّو َر الثاني على أنه ٌ فعل ‘ثوري’. كان من نتائج السياسات االقتصادية ذات االقتصاد المخطط لحكم البعث في سوريا حتى عام 2005أن تحولت الدولة إلى مصدر دخلٍ أساسي (الوظائف الحكومية) للمواطنين من المحافظات التي ال تشكل الصناعة والتجارة فيها نسباً عالية من أنماط اإلنتاج .ومع إتباع الدولة لنهج ‘اقتصاد السوق االجتماعي’ ،المرتكز على سياسات اقتصادية ليبرالية في شكلٍ أساسي ،اتجهت الحكومة السورية خالل العقد الماضي نحو عدم التوسع في التوظيف العام .إذ بقيت نسبة المشتغلين في القطاع العام ثابتة بين عامي ( 2010 - 2001حوالي ،)%27 بينما ارتفعت نسبة المشتغلين في القطاع الخاص المنظم (من %34إلى )%43في الفترة ذاتها ،دون أن يعني ذلك تحسن ظروف العمل من ناحية األجور أو الحصول على التأمينات االجتماعية أو ضمان االستقرار الوظيفي. 21
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
مقاربة دوالتية لنقد الطائفية يف سوريا
ما يعني أن وظائف القطاع الخاص لم تكن ذات قيمة مضافة للمواطن السوري ،بخاصة مع استمرار الحكومة السورية بتحسينها نسبياً لرواتب موظفي القطاع العام التي اتسمت بثباتها ودوامها مدى الحياة .وبفعل ذلك، تح ّولت الوظائف الحكومية إلى قضي ٍة جديد ٍة للتوتر االجتماعي متفاعل ًة مع حالة الهجرة من الريف إلى المدينة، ومع معدل نمو سكاني من أعلى المعدالت في العالم ،وتراجع دور الزراعة في الدخل الوطني بسبب السياسات االقتصادية النيوليبرالية الفاشلة ،وحالة الجفاف التي َم َّرت وتم ُّر بها سوريا. دفع تراجع المردود االقتصادي من الزراعة ألهالي سوريا عموماً إلى البحث عن فرص عمل بديلة وبخاصة في الدولة .وقد توفر ذلك إلى ح ٍّد ما لبعض الشرائح االجتماعية المقربة من السلطة في جنوب الالذقية ،وذلك بسبب وجود موظفين علويين في موقع المسؤولية بخاصة في الجيش واألمن .لم ُي َو َّظف العلويون حقيق ًة بسبب سياس ٍة طائفية ،بل بسبب معامالتهم لذويهم وأبناء قراهم وفق منطق التضامن التقليدي والقرابة .إن وجود ضباط كبار في الجيش واألمن من جنوب الالذقية ليست حال ًة سوري ًة فريدة ،فقد كان كبار ضباط الجيش واألمن في العراق في عهد حكم البعث من تكريت العراق مسقط رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين. يقودنا ذلك إلى أن الفعل الريفي األول في الالذقية لم ينبع من ثقاف ٍة طائفي ٍة للشعب السوري ،وإنما من دوافع مصلحية لشريح ٍة ريفي ٍة متضررة من تغيير الواقع السياسي واالقتصادي وتعيش على ما توفره مؤسسات الدولة من خدمات ووظائف حكومية .بينما النخبة المدينية ،التي كانت ترغب في التغيير ،كانت متحرر ًة في اعتمادها على مؤسسات الدولة في شكل أكبر من الشريحة الريفية في جنوب الالذقية ،كونها تمتهن وتعتمد على التجارة والخدمات واألعمال الحرفية وحواالت المغتربين في الخليج .هذا الفعل الذي ُص ِّو َر على أنه ٌ فعل ٌ مصلحة في التغيير في مقابل مدين ٍة طائفي يمكن وضعه في إطار قمع الريف للمدينة؛ الريف الذي ليس له كانت تطمح إلعادة توزيع الثروة والسلطة .في مقارن ٍة عربي ٍة من الثورة المصرية لتدعيم هذا االستنتاج ،سنجد مثال ذلك في مدينة المحلة الكبرى ،حيث عمد أهالي القرى المجاورة والمحيطة بالمدينة ،والذين يعملون في مؤسسات األمن والجيش ،إلى قمع المظاهرات المطالبة برحيل مبارك في الميدان الرئيسي للمدينة (ميدان الشون). ٍ سياسات اقتصادية نيوليبرالية أ ّدت إلى انخفاض نسبة اتبعت الحكومة السورية في السنوات العشر األخيرة مساهمة الزراعة والصناعة في الدخل الوطني لصالح التجارة والسياحة .أ ْفضَ ْت هذه السياسات إلى زياد ٍة في معدل النمو االقتصادي حوالي ،%5لكن نتائجه ‘اإليجابية’ لم تنعكس إال على المدن الكبرى (دمشق وحلب)، بينما حصدت المدن المتوسطة والصغيرة واألرياف نتائجه السلبية من فقر وبطالة وتفاوت طبقي .وتدلل المؤشرات االقتصادية واالجتماعية في ريف حلب إلى حجم التفاوت الهائل في االستحواذ على الثروة بين حلب المدينة وريفها الذي دمرته اقتصادياً تلك السياسات .لم يكن ريف حلب قبل تلك السياسات في مستوى اقتصادي جيد ،لكنه كان مرتبطاً بالدولة من خالل سياسات الدعم التي توفرها الحكومة (المؤسسات االستهالكية، ٌ حظوظ المحروقات ،السماد) ،وألن المنطقة تعاني من التهميش وضعف سياسات التعليم ،لم يكن ألبناء المنطقة وفرص في الحصول على وظائف في مؤسسات الدولة (المدرسة والمستوصف والجمعية التعاونية) ،وقد بقيت ٌ تلك الوظائف مقتصر ًة على وجهاء كل قرية .وبما أن الدولة قد بدأت تتخ ّلى تدريجياً عن هذه الخدمات التي دافع ألبناء المنطقة للتمسك بالدولة .إن هذا التفاوت الطبقي أو الخلل كانت تقدمها ،لم يعد هناك ٌ سبب أو ٌ في توزيع الثروة هو الذي دفع أهالي الريف المنتفضين على سياسات التهميش إلى غزو المدينة ،ويمكن وضعه 22
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مقاربة دوالتية لنقد الطائفية يف سوريا
في إطار ‘عقاب المدينة’ ألنها لم تشاركهم ثورتهم ،وممارسة سلوكيات عقابية تحمل دالالت الحقد الطبقي. إن غزو الريف الحلبي للمدينة له جذوره التاريخية منذ عام 1850عندما دخل البدو المدينة لدعم انتفاضة العامة ضد الفروض الضريبية والتجنيد العثمانية ،والتي بدأت بمهاجمة بيوت األعيان المسلمين ،ومن ثم األحياء المسيحية الغنية للحصول على المال لتمويل االنتفاضة ،لكن الصراخ األوروبي والكهنة المسيحيون ،حاولوا أن طائفي بحت ،وف ًقا لمصالحهم الخاصة. يقدموا المسألة على أنها صر ٌاع ٌّ المختلف في االقتحامين الريفيين هو الهدف (قمع/عقاب) ،والمذهب (علوي/سني) ،لكن ما يجمعهما هو الخضوع للتناقضات التاريخية بين الريف والمدينة في سوريا .هذه التناقضات ذاتها خضعت للتغيير خالل العهود السابقة ،ولذلك ليس من الصعب تبديلها وتغييرها أو إعادة تحالفاتها في منظومة سلطة سياسية ديمقراطية تقوم على مبادئ المواطنة .أما الخاسر الوحيد هو الطائفية الزائفة. ال يمكن وصف الصراع السياسي الدائر في سوريا بأنه صراع طائفي .لكن المشكلة تكمن عندما يتم ٌ جماعة واحدة تسلك قطاع من المجتمع على أساس االنتماء المذهبي ،والتعامل معه على أنه التمييز ضد ٍ سلو ًكا واح ًدا .يجب أن ُت ْف َه َم الطائفي ُة في ضوء العوامل االجتماعية/االقتصادية/السياسية ،وليس في ضوء العوامل استخدمت بعض القوى الطائفية العامل الثقافي/الديني بحد ذاته إلعطاء الثقافية/الدينية في ح ِّد ذاتها ،وإن ْ تكوين اجتماعي ثقافي أنثروبولوجي تش ّكل الصراع ُبع ًدا طائف ًيا في صيغة ‘نحن’ و‘هم’ .تختلف الطائفة بما هي ٌ ً ً تاريخ ًيا في االجتماع السياسي اإلسالمي ،عن الطائفية بوصفها منظوميا نوعا من صناعة الطائفية ،أو إعادة إنتاج الطوائف في طوائفيات ‘مقومنة’ ومسيسة ،في نقطة جوهرية :هي تسييس الطائفة وقومنتها واستخدامها في بناء وتطبيق سياسات الهوية الطائفية لغايات سياسية أو اقتصادية أو سلطوية .ويكمن في هذه النقطة التمييز بين ‘نظام الملل’ اإلسالمي التقليدي وبين سياسات الهوية الطائفية أو ‘تطييف’ الطوائف الدينية والمذهبية في مرحلة الخرق الغربي-االستعماري للعالم العربي ،والسيما منه في المرحلتين العثمانية واالحتالل المباشر ،وإعادة بناء فهم المجتمع عن طريق خلق نخب ‘مقاولة’ كجماعات طائفية متناحرة .أي ‘مجتمع جماعات’ دون مجتمع مدني ،منقسم عمود ًيا فيما تشرحه مقولة ‘المجتمع الفسيفسائي’ التي هي ،بوصفها مقولة نظرية متسقة، ٌ مقولة استشراقية صرفة .ولقد شكلت هذه المقولة أساس ثقلٍ نظري في النظر إلى مجتمعات سوريا الطبيعية ٍّ كنموذج للمجتمع الفسيفسائي الذي تتجاور وحداته لكنها ال والعراق ،أي إقليم بالد الشام التاريخي والعراق ٍ ٌ ً تتالقى فيما بينها حسب تنميط المقولة النظرية .مقولة تطبق حاليا في لبنان والعراق وفق نموذج ‘الديمقراطية التوافقية‘الذي يعتبر المفهوم األكثر تسطيحاً لمبادئ ومفاهيم الديمقراطية .بما يعني أن من يطرح حالياً في المسألة السورية صيغاً أو مناهج طائفية يتالقى مع المقوالت والرؤى االستعمارية لمجتمعاتنا ،ويضع سوريا أمام خطورة مسألة ‘تسييس الطائفة’ ما يؤدي إلى انهيار المشرق العربي برمته ،وتحويله من دولٍ مركزي ٍة إلى ٍ جماعات طائفي ٍة وإثني ٍة عابر ٍة للحدود. في الختام تجدر اإلشارة إلى أن مسألة التماثل بين مؤسسات الدولة ومؤسسات نظام الحكم في سوريا ٌ قضية أخرى ال تناقشها هذه المقالة انطالقاً من أن السلطة السياسية هي أحد أركان الدولة .لكن هذه هي المسألة تبقى في حاج ٍة إلى الكثير من الجهد البحثي لنقاشها.
23
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
االفرتاضي يخضع للواقع
مناف زيتون❊
ويشوه معرفته يعمق عيوبه ّ ّ
اخلالصة:
حني اخرتع ألفريد نوبل متفجرات الـ TNTكان يسعى لتسهيل عمل املناجم ،ولكن األمور انقلبت عىل عكس ما يشاء ،وأسس جائزة نوبل بفروعها يف محاولة للتعويض عن الذنب الذي اقرتفه .من املمكن معاملة اإلنرتنت كحالة مامثلة ،وعىل الرغم من أن أصول ظهورها العسكرية تقل نبالً عن غاية نوبل ،فإنها تجاوزت تلك الوظيفة الصغرية مقارنة بكل ما ساهمت فيه اليوم من خراب .تعرض هذه املقالة األثر الذي تركته شبكة اإلنرتنت عىل الواقع مبالمحه العامة ،بعد مرور أكرث من ثالثني عاماً عىل إتاحتها لالستخدام املدين.
❊ طالب ماجستير في كلية اإلعالم بجامعة دمشق .يعمل كصحفي مستقل ،وعمل سابقاً كمحرر ومدير تحرير في عدة مواقع إلكترونية ودوريات مطبوعة محلية .له عمالن روائيان هما ‘قليل من الموت’ و‘طائر الصدى’ ،إضافة لتأسيسه وإدراته لموقع ‘بلوكة.كوم’ المختص في نشر النصوص األدبية ومقاالت الرأي ،والذي يشاركه الكتابة فيه أربعة آخرون من طالب كليته.
24
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
االفرتاضي يخضع للواقع
العالم إلى قري ٍة صغيرة ،وغيرها من الوصوف ا ّلتي تطلق على كل ابتكار َكس َر ال ُقيو َد الجغراف ّية ،ح ّو َل َ تقني في مجال االتصاالت .اإلنترنت ليس ّإل واحداً منها ،سعة مجاالت استخدامه وإمكانية استغالله جعلت حجم الصدمة أكبر وأوسع ،بالنسبة للكثيرين كان مبشراً بعه ٍد جديد ،تفقد فيه السلطات بأنواعها ووسائل اإلعالم التقليدية سطوتها على التدفق المعلوماتي ،بعد أن تصبح المعلومات عن كل ما في العالم متوفرة للجميع .لكن اليوم ،وبعد مرور حوالي الثالثين عاماً على رؤية اإلنترنت النور ،وحوالي العقد على دخوله عالمنا العربي بالكم والنوع الكافي –بأدنى ح ٍد ممكن– فإن هذه االنطباعات األولى تحتاج إلى مراجعة. شبكة اإلنترنت كتقنية بدأت في العام 1969على يد وزارة الدفاع األمريكية ،ليوضع بعد تطورها جزء منها ( )APRA Netبمتناول المدنيين في العام ،1983ولكن معظم الباحثين يعتبرون أن العام 2000 هو نقطة انطالق انتشار اإلنترنت ،خارجاً عن مكانته كجزء من الرفاهية التكنولوجية الغربية ،وفي الوطن العربي يمكن تحديد هذه النقطة في زمانٍ ليس بعيداً عن هذا العام ،في سوريا كانت القفزة النوعية في استخدامه في العام 2009حين دخل مخ ّدما إيريكسون وهواوي بأكثر من 33ألف بوابة إنترنت فائق السرعة ( ،)ADSLمتيحاً بذلك لإلنترنت أن يلعب دوراً ريادياً في مخاطبة الرأي العام ،واالعتماد عليه كمصدر متوفر في شكلٍ دائم للمعلومات واألنباء ،وقادر على كسر الرقابة الحكومية المفروضة على وسائل اإلعالم التقليدية ،ولكن هل من الممكن مقارنة الفوائد قليلة العدد واسعة النوع المعروفة لإلنترنت بالعيوب التي باتت جلية اليوم ،وبكم األثر السلبي الذي يتركه على المجتمع فكرياً وأخالقياً وعلمياً؟ األفراد يخسرون رهان يفترض باإلنترنت أن يكسر احتكار المؤسسات للخطاب الموجه ،أو هذا ما قيل لنا .خارج اإلنترنت هذا الخطاب محتكر من قبل وسائل اإلعالم ودور النشر ،إضافة للسلطات السياسية والدينية والمالية التي تخاطب الرأي العام من خالل هذه المؤسسات. 25
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
االفرتاضي يخضع للواقع
مع بداية الربيع العربي بدأت تظهر المجموعات اإلخبارية ،والتي تسعى – أو هذا ما تعلنه على األقل -إلى كسر قيود السياسات التحريرية لوسائل اإلعالم ،خصوصاً تلك المفروضة من قبل الحكومات. وبعد مرور القليل من الشهور بدأت هذه المجموعات تفقد مصداقيتها لما تحمله من أخبار ملفقة تخدم غايات ناقليها ،والرتباط معظم أخبارها بالمكاتب اإلعالمية للتنسيقيات والكتائب المسلحة ،التي تمثل جه ًة سياسي ًة ال يناسبها أن تنقل كل األنباء كما هي .انعدام الثقة في وسائل اإلعالم التقليدية بعد تجلي والءاتها المتطرفة لهذا الفريق السياسي أو ذاك ،لم يمنع استمرار تفوقها كمصدر رئيسي لألخبار .فلو قال شاب على صفحته على فيسبوك أنه رأى صاروخاً يمر من فوق رأسه ،سيكون هناك الكثير من المشككين ،في باسم وهمي على قناة العربية أو الجزيرة ،ليس في المكان الذي مر منه الصاروخ ،سيجد حين أن ناشطاً ٍ ألسباب غير الوالءات السياسية. عدداً أقل من المشككين ،على األقل ٍ مجموعتا ‘أخبار شباب سوريا’ و‘تحرير سوري’ تعتبران من أكبر المجموعات اإلخبارية السورية المختصة بنقل وتبادل األنباء .فأعضاء األولى أكثر من 24ألف ،والثانية حوالي 20ألف ،إضافة لتقديمها مراس ًال في مؤتمر جنيف .2هذه األرقام تبدو جيدة للوهلة األولى ،ولكن نظر ًة أكثر تأنياً على أخبار هذه المجموعات ،تكشف كون معظم أخبارها منقولة عن منقولة ،وغالباً ما يكون المصدر إحدى وسائل اإلعالم التقليدية أو المكاتب اإلعالمية للجهات السياسية والعسكرية المختلفة ،في حين أن األخبار الحصرية بالمجموعة ال تشكل نسبة تذكر ،ومعظم مشتركيها ال يستخدمونها (المجموعات اإلخبارية) سوى كمكان لزيادة متابعي شبكات إخبارية أخرى .ومن وجهة نظ ٍر ثانية فإن أرقام المشتركين المذكورة ما زالت ال تعني شيئاً ،إذا ما قارناها بأكثر من 700ألف متابع لصفحة قناة أورينت المعروفة بتحيزها وقلة مهنيتها في نقل األنباء منذ اندالع الصراع في سوريا. ال بد من التنبه إلى عدم منح هذه المجموعات أهمية إعالمية وخبرية أكثر مما هي عليه ،فهي ما زالت مرتبطة بأوضاع طارئة في بالدها ،سواء من حيث صعوبة تحقيق التغطية الصحفية من قبل مراسلين محترفين ،أو من حيث كون كثافة األنباء الصادرة من بلد معين تجعل من الصعوبة بمكان التحقق من جميع األنباء من قبل صحفيين محترفين ،أو على األقل عاملين في وسيلة اإلعالم نفسها .وفي كمنصات تنقل األخبار عنها من حينٍ آلخر لتزيد من حين تحتاج هذه المجموعات وسائل اإلعالم الكبرى ّ شهرتها ومصداقيتها ،فإن العكس ليس صحيحاً ،وبمجرد قدرة وسائل اإلعالم التقليدية على توظيف مراسلين يمارسون عملهم الصحفي بحرية فإن الحاجة إلى هذه المجموعات ستنتفي. توزيع احلقد ال يمكن ألحد أن ينكر الدور الكبير الذي لعبه اإلنترنت في تطور المعرفة ،من حيث إمكانية التواصل الكبيرة التي أتاحها بين المهتمين بالعلوم المختلفة ،ومن حيث سرعة وصول الكشوف العلمية إلى كل أنحاء العالم بمجرد تحقيقها .وقد ظهر ذلك الدور في التجارب العلمية الكبرى التي تحتاج لمشاركة عدد كبير من العلماء في تحليل بياناتها ،يصعب جمعهم في مكانٍ واحد مؤهل إلجراء بحوثهم. بالمقابل فإن سهولة تجمع أصحاب االهتمامات المشتركة كان له ضريبة كبيرة ،وأكبر من األرباح 26
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
االفرتاضي يخضع للواقع
المحققة ربما .فكما أن الواقع يحوي من العلماء أقل بكثير من المتعصبين ،فال بد أن ينعكس ذلك على االفتراضي .وبفضل اإلنترنت بات بإمكان الجماعات السلفية في لبنان ،التي قد ال يزيد جمهورها داخل وطنها على المئة ألف ،أن توجه خطابها ألكثر من 65مليون مستخدم لإلنترنت يتكلم العربية ،ليصبح توزيع الحقد وتحريض الكراهية لدى اآلخرين أسهل كماً ونوعاً .فمث ًال بإمكان كاتب مثل حكم البابا أو نبيل فياض أن يوجه آراءه العنصرية والطائفية إلى عشرات آالف المتابعين لصفحته ،نفس اآلراء التي ال توجد جريدة محترمة توزيعها أقل من ثالثة آالف نسخة تقبل بنشرها مهما كانت سياستها التحريرية متطرفة أو متساهلة .كما بات بإمكان مئات فيديوهات العنف وامتهان النفس البشرية الوصول إلى ماليين المشتركين حول العالم؛ فيديوهات لم يكن أحد ليفكر بتصويرها لمعرفته أن ال أح َد سيقبل بنشرها ،نفسها التي باتت تعرض اليوم –على عكس األعراف األخالقية صحفياً– على شاشات التلفزيون ،بسبب طرحها ألول مرة بين أيدي العوام ،وارتفاع الطلب عليها. على اإلنرتنت األرض مسطحة من أكبر المضار التي تسبب بها اإلنترنت سهولة تزوير المعلومات ،بعضها على شكل اقتباسات تتحفنا بها صفحات الفيسبوك كل يوم ،وتنسبها لشخصيات عالمية لم تقل ربع ما نقل عنها ،حتى إنك تظن أن آينشتاين كان خطيباً أو مؤلفاً لكتب تطوير الذات ،وليس عالم فيزياء غيرت أبحاثه مستقبل الفيزياء النظرية. مستخدمو اإلنترنت يعودون لخلفيات تعليمية مختلفة ،سواء من حيث مستويات التعليم المحصلة، حد أدنى من إتقان مهارات أو من حيث فروع المعرفة التي يختصون بها أو يضطلعون بها ،وإن كان هناك ٌّ استخدام الحاسوب .سوى مواقع الجامعات ومراكز األبحاث التي تقدم الدراسات التي تنجزها بنفسهاَ ، فإنك بالكاد تجد موقعاً أو صفح ًة ذات مصداقية كاملة كمصد ٍر للمعلومات. إحدى صفحات الفيسبوك نقلت معلوم ًة تقول أن بؤبؤ العين يتسع حتى مرة ونصف أكثر من الوضع ٌ َ معلومة كهذه ستثير ضحك أي إنسان يتذكر درس العين من بشخص يهمك أمره؛ لقائك الطبيعي له عند ٍ المدرسة اإلعدادية ،أما تعليقات بعض األطباء المتحمسين لتصحيح المعلومة –إن وجدت– فستمر مرور علقت الكرام بين آالف التعليقات (في صفحة فيها أكثر من 18مليون مشترك) ،وفي مكانٍ ما هناك من ْ هذه المعلومة المغلوطة في رأسه ،ليقوم بإشهارها في مكانٍ آخر ،إن لم يكن قد أعاد نشرها ،ليصبح بعد مرور ما يكفي من الزمن أمراً صعباً أن تخبر الحقيقة لآلخرين بهذا الخصوص. اقتصار األمر على هذا الشكل الرومانسي من التشويه للمعلومات ال ُيعد مشكلة حقيقية ،إذا ما قورن بالتشويه المتعمد لحماية معتقد ما أو وجهة نظر ما .مئات –إن لم يكن آالف– المعلومات الكاذبة تبث كل يوم على صفحات ومواقع اإلنترنت لدعم فكرة ‘اإلعجاز’ عند مختلف األديان ،وقد وصل األمر حد إقناع البعض أن األرض مسطحة وأن القمر نصف كروي .أما الرقابة العلمية -ولو األخالقية -المفروضة على الكتب المنشورة فغائبة تماماً على اإلنترنت ،إذ ال شي َء يمنعك من نشر مقال حجمه أربعة آالف كلمة تشرح فيه بنا ًء على أد ّلة وهمية وحوادث خيالية أن زيارات الفضائيين المزعومة لكوكبنا حقيقة وليست مجرد 27
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
االفرتاضي يخضع للواقع
ٍ نظريات ضعيفة .واألسوأ أن التعصب الديني لعلمائنا بات يظهر في صورة أوضح على صفحات الفيسبوك، إن لم يكن عن طريق الترهات التي ينشرونها متجاهلين تناقضها مع ما أمضوا عشرات السنين في دراسته، ٍ معلومات و‘حقائق’ تتنافر مع أبسط القواعد العلمية المس ّلم بها منذ آالف السنين أحياناً، فبصمتهم وتركهم توخياً للردة على دينهم. املال يعود لعرشه
كما كل شيء في عالمنا ‘المتحضر’ ،المال يحكم كل شي ،وشبكات التواصل االجتماعي حتى ٍ وقت ليس شديد البعد كانت استثنا ًء ،ولكن مع الوقت بدأت تظهر بعض اإلعالنات على الهوامش الجانبية لهذه المواقع ،بالكاد نالحظها ،أو نبرمج نظرنا مع الوقت على تجاهلها ،وفيما بعد تغيرت األمور جذرياً. جميع من يدير صفحة على فيسبوك الحظ في ٍ وقت أو آخر إضافة خيار جديد إلى منشورات مبلغ من المال يضمن َ لك ظهور هذا المنشور لدى عد ٍد معين الصفحة ،Boost Post ،والذي يعني دفع ٍ من المشتركين في فيسبوك ،قد يبدو األمر بسيطاً ،بضعة منشورات تقوم بتمويلها ،تحقق بعض االنتشار وينتهي األمر هنا .ولكن األمر ليس كذلك ،كل يوم ترى مئات المنشورات من صفحات َ لست معجباً بها، كاتب بحجة أن أحد أصدقائك ع ّلق عليها ،أو أعجب بها ،أو أن المنشور جاء على ذكر فرقة موسيقية أو ٍ سجلت إعجابك به ،هذا كله بفضل المال ،وال تعتقد َ أنك ستملك ماالً يكفي لهذه اإلعالنات يوماً يزيد عن أموال صفحة شركة إنتاج موسيقية أو دار نش ٍر كبرى تستغل هذه الميزة لتوصل َ إليك كتبها الهزيلة ،معتقداً َ وصلتك بمحض الصدفة على موقع شديد االزدحام مثل فيسبوك. أنها في عام 2012تم إدراج فيسبوك كشركة مساهمة في بورصة نيويورك ،و ُوضِ َع ْت أسهمه في التداول كمشروع ربحي .النتائج األولية كانت مشجعة ،ولكن مع ألول مرة ،و ُوضِ َعت بالتالي الشركة تحت االختبار ٍ مضي األسابيع األولى بدأ يظهر ضعف أسهم فيسبوك ،وعدم قدرتها على تحقيق أرباح رأسمالية (ناجمة عن بيع السهم بسعر يزيد عن سعر شرائه نتيجة صعوده) ،لتليها الشكوك حول قدرة فيسبوك على االستمرار كشركة برمجيات منافسة ،وجاء تصريح لشركة جنرال موتورز بأنها “غير مهتمة باإلعالن على موقع فيسبوك” ليضع الموقع أمام تح ٍد حقيقي ال بد من تفاديه ليستمر المشروع. المعادلة االقتصادية المعتادة في المواقع اإللكترونية تكون “مضمون مثير لالهتمام = الكثير من المستخدمين أو المتصفحين = اهتمام المعلنين” .ولكن اهتمام المعلنين التقليديين بفيسبوك لم َ يرق إلى مستوى النفقات التي يتكبدها الموقع نتيجة اتساع قاعدة مستخدميه وما يترتب عليها من حاج ٍة إلى مخ ّدمات وموارد بشرية ومالية كبيرة .الحل كان بكل بساطة هو تحويل المستخدمين -عملياً السلعة المباعة للمعلن -إلى مستهلكين ،وذلك بطرح أسلوب جديد لإلعالن على فيسبوك ،المنشورات المرعية أو الممولة .اليوم ظهور كثير من المنشورات على صفحتك الرئيسية َم َر ُّده إلى تمويلها وحاجة فيسبوك إلى كم محد ٍد من المشاهدة ليحقق واجباته من التعاقد اإلعالني المبرم .مع الوقت هذه المنشورات تحقيق ٍّ َ َ َ صفحتك الرئيسية، نجاتك من منشوراتها في كل مكانٍ من إعجابك بصفحة ممولة ال يعني ستطغى ،وعدم 28
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
االفرتاضي يخضع للواقع
َ َ َ انضممت إلى فيسبوك واإلنترنت كله لو شئت أصدقاؤك الذي أصدقاؤك سيتحولون إلى حاالت نادرة، لتتواصل معهم بشكلٍ أفضل. اليوم شبكة اإلنترنت واقعة بين نارين ،فإما مراقبتها للحد من تشويه الواقع والعقول ،أو تخليصه من أيدي المؤسسات الكبرى التي تديره –وتملكه في شكلٍ أو آخر– مطلقين العنان لمخيلة أكثر من مليار ونصف المليار مستخدم ،يحملون ما يحملون من مق ّو ٍ مات كافي ٍة لتشويه كل تفصيلٍ من تفاصيل انعكاس شعوب لم تعد تقرأ الكتب الواقع على االفتراضي ،الذي بدوره يكاد يكون مصدر المعلومات الوحيد لغالبية ٍ أو الصحف .أياً كان الحل األنسب ،فإن الواقع ما يزال كما هو ،واإلنترنت اليوم يعجز أن يكون إال حجراً آخر في الجدار الذي يرتفع فاص ًال بين البشرُ ،متيحاً ألحقادهم وجهلهم بعالمهم ،وببعضهم البعض ،بالظهور َ تصلك كل يوم. واالنتشار كوبا ٍء يزيد خطور ًة عن الروابط المزعجة التي
29
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
هوشنك أوسي❊
ُ الثورة السوريّ ُة فس َد كي ال ت ُ َ
بأيدي من ميتطونها!
اخلالصة: أثبتت األحداث األخرية يف املنطقة سقوط التعريفات التقليديّة للثورة كأن تكون منظ ّمة، منضبطة ،وبعيدة عن الفوىض ،أو أن تقودها أحزاب ثور ّية ،وينظّر لها فالسفة وقادة كبار. لكن سقوط األنظمة الدكتاتوريّة ال يعني أن املنطقة ستتخلّص من الذهن ّية الدكتاتوريّة عم يف شكلٍ تلقايئ-أوتوماتييك .والثورة السوريّة ليست استثناءاً تاريخ ّياً ،وال هي طفر ٌة ّ سبقها من الثورات التي انطوت عىل خزينٍ هائلٍ من الطموحات واألحالم .إال أن ما مي ّيزها أن املتطفّلني والفاسدين واملتط ّرفني قد امتطوا الثورة قبل وصولها للسلطة .هذه املقالة ليست للتهويل أو املبالغة ،بل لقرع املزيد من أجراس الخطر ّ لئل تنهار أحالمنا يف التح ّرر من كل األغالل ومصادر االستبداد.
❊ كاتب وشاعر وصحايف كردي سوري مقيم يف بلجيكا .يكتب باللغتني العربيّة والكرديّة يف الشؤون الكرديّة والرتكيّة والسوريّة .نرشت له صحف عربيّة عدّة كالحياة ،والرشق األوسط ،والخليج ،واملستقبل اللبنانيّة ،ومجلة نزوى ،ومجلة الرشوق ،ومجلة طنجة األدبيّة ،كام ترجمت مقاالته اىل الرتكية واإلنكليزيّة. عضو رابطة الصحافيني السوريني ،ونادي القلم الكردي ،ونادي القلم الدويل.
30
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
ُ الثورة السوري ُّة بأيدي من ميتطونها! فسدَ كي ال ت ُ َ
صفيح ساخن وملتهبُ ، تعيش مخاض والد ٍة جديدة؛ عسيرة ومؤلمة جداً. منطقة الشرق األوسط على ٍ كل المشاكل القوم ّية والدين ّية العالقة طفت على سطح الصراعات في المنطقة ،لكن الشرق األوسط لن يعيش في هذا النفق الدموي ،أو الجحيم إلى األبد .الثورات في أفضل أحوالها صراعات ،ربما تنزلق نحو الحرب األهل ّية أيضاً ،وهذا ما جرى في فرنسا سنة 1789وفي روسيا سنة 1917وفي الصين وفيتنام وكوبا ومناطق عديدة من العالم راح ضح ّيتها الماليين ،لكنها تبقى ثورات .أثبتت األحداث األخيرة في المنطقة، سقوط التعريفات التقليد ّية للثورة ،وأنها يجب أن تكون منظ ّمة ،منضبطة ،وبعيدة عن الفوضى ،وتقودها أحزاب ثور ّيةّ ، وينظر لها فالسفة وقادة كبار .لقد سقط التعريف الكالسيكي-اللينيني الذي يقول“ :ال حركة ثور ّية بدون نظر ّية ثور ّية”. مع سقوط األنظمة الدكتاتور ّية التي أتت للحكم عبر انقالبات عسكر ّية غ ّلفها أصحابها بشعارات ثور ّية رومانس ّية يوتوب ّية عن العدالة والحر ّية والديمقراط ّية واالشتراك ّية .أثبتت األحداث أن هنالك حركة اجتماع ّية ثور ّية بدون نظر ّية وأحزاب ثور ّية .ومع ذلك ،ليس من اإلنصاف وضع كل الفكر اليساري في المتاحف. سقوط األنظمة الدكتاتور ّية ال يعني أن المنطقة ستتخ ّلص من الذهن ّية الدكتاتور ّية في شكلٍ تلقائي- أوتوماتيكي .ذلك أن تراكم نمط المعيشة القائمة على اإلذعان والرضوخ والوالء والطاعة العمياء ،وقتل مراكز اإلحساس بالتف ّرد والتمايز في الشخص ّية وتدجينها ودغمها في القطيع ،واغتيال إرادة التحرر لدى اإلنسان التي مارستها األنظمة الدكتاتور ّية الدين ّية والقوم ّية على مدى قرون ،ال يمكن التخ ّلص منها في بضع سنوات .حركة الفكر والتاريخ ال يمكن حصرها ضمن بعض الدوغمائيات األيديولوج ّية اليسار ّية أو اليمن ّية. التاريخ يقول :ما من ثور ٍة دون تدخّ الت خارج ّية ،مباشرة أو غير مباشرة .كل ٍ طرف يريد أن يقطف ثمار الثورات وفق مقتضيات مصالحه الدول ّية اإلقليم ّية القوم ّية الدين ّية الطائف ّية .وإذا لم تكن الثورة في صالحه، 31
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
ُ الثورة السوري ُّة بأيدي من ميتطونها! فسدَ كي ال ت ُ َ
حينئذ ،يسعى إلى وأدها أو الطعن فيها كما تفعل روسيا والصين وإيران حال ّياً مع الثورة السور ّية .ما من ضحوا من أجلها .ورغم ذلك تبقى ثورات .ح ّتى لو فشلت ثور ٍة قطف ثمارها أصحابها الحقيقيون الذين ّ ثور ٌة ما ولم تحقق أهدافها ،يبقى علم االجتماع السياسي يس ّميها ثورة ،ألنها ساهمت في خلخلة البنى االجتماع ّية والفكر ّية الجامدة في المجتمع ،وفتحت المجال أمام التح ّوالت ووالدة أفكار جديدة. الشاعر الروسي المعروف فالديمير مايكوفسكي ( )1930 – 1893وصلت به حالة اليأس واالنكسار والخيبة مما آلت إليه حال السلطة التي أفسدت كل األحالم الثور ّية لدى شباب ثورة أكتوبر سنة 1917إلى تفسر هذه درجة االنتحار .وقبل مايكوفسكي انتحر الشاعر سيرغي يسينين ()1925 – 1895؛ وقتئذ ،كانت ّ االنتحارات بأنها حدثت على خلف ّيات اجتماع ّية أو عاطف ّية أو ما شابه ذلك ،بغية التعمية عليها كر ّد فعلٍ أو تعبي ٍر عن الخيبة والخذالن وانكسار األحالم الثور ّية تجاه السلطة الجديدة الحاكمة .ولكن فيما بعد ،أعاد الن ّقاد النظر في تفاصيل وارهاصات هذه المواقف -االنتحارات .فاإلنسان هو حلم-طموح ،إن مات الحلم طموح وأملٍ كعدمها. مات اإلنسان ،ذلك أن حياة المرء دون ٍ وحين وضعت الثورة الجزائر ّية أوزارها على االحتالل الفرنسي ،وتح ّررت الجزائر ونالت استقاللها، بنهم وشراهة .وسرعان ما بدأ الشجار بدأت الطفيل ّيات ‘الثورج ّية’ تمتطي الثورة-السلطة وتقطف ثمارها ٍ والتطاحن ‘الثورجي’ على السلطة يظهر على السطح ،وصارت البالد نهباً ألزالم وحاش ّية السلطة الجديدة إلى يومنا هذا. وحيال انهيار األحالم الثور ّية وزوال سحر الثورة على االحتالل ،وانكشاف بطانة من امتطوها ،ووصلوا ٌ موقف مبدئي، إلى السلطة على جثث الجماهير ،فأفسدوا السلطة وأفسدتهم ،كان للمبدع الجزائري قصة ‘الشهداء سيعودون هذا األسبوع’ القص ،ويمكن إيراد ّ رصين وحازم ،سواء في الرواية أو الشعر أو ّ للكاتب والروائي الجزائري الراحل الطاهر ّ وطار ( ،)2010 – 1936وكيف أن الح ّكام الجدد (الث ّوار السابقون) بحجج واه ّية ،ألن كل يشككون في عودة الشهداء (مليون ونصف شهيد) وبل يرتعبون من حدوث ذلك، ٍ مسؤولٍ حاكم له قصة غد ٍر وخيانة مع أحد هؤالء الشهداء .وبعودتهم إلى الجزائر يعني أن من امتطوا ٍ الثورة واستحوذوا على السلطة واستأثروا بها لن يفقدوا امتيازاتهم وحسب ،بل سينتقم منهم الشهداء أيضاً ،وسيساقون إلى المحاكم ،وستفتح دفاترهم وينكشف غدرهم برفاقهم الشهداء حين كانوا أحياء .لذا، القصة ،فإن السلطات الحاكمة (ث ّوار األمس) تتخذ التدابير الالزمة للحؤول دون عودة الشهداء وبحسب تلك ّ ّ الذين فقدوا حياتهم لتتحرر الجزائر .وحين انتقد وطار النظام الجزائري الحاكم ،وتدميره سحر الثورة الجزائر ّية ،بالتأكيد كان هنالك من الك ّتاب والصحافيين واألدباء الجزائريين ممن وقفوا إلى جانب النظام، وهاجموا ّ وطار س ّراً أو جهراً سعياً وراء منفعة أو جرياً خلف مقا ٍم أو ٍ صيت أو حظوة. الثورة السور ّية ليست استثناءاً تاريخ ّياً ،وال هي طفر ٌة ع ّما سبقها من الثورات التي انطوت على خزينٍ هائلٍ من المشاريع واألفكار والطموحات واألحالم العابرة لألقوام واألديان والطبقات ،وصوالً للفضاء اإلنساني الهب وأخّ اذ ،استقطبت األكثر رحاب ًة وعدالً وحر ّي ًة وديمقراط ّية .هذه األحالم التي كانت لها بريقٌ وسح ٌر ٌ ماليين البشر ونخبها ،أفسدتها السلطة حين وضعت الثورات أوزارها ،وغدا الث ّوار ط ّالب سلطة ،فتح ّولت الثورة بعد استالمها للسلطة إلى توليد االستبداد والفساد واإلفساد ،وتحويل الجماهير (األصحاب الحقيقيون قطيع وهمج ،تس ّبح بحمد مستب ّديها والطغاة الجدد. للثورة) إلى ٍ 32
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
ُ الثورة السوري ُّة بأيدي من ميتطونها! فسدَ كي ال ت ُ َ
ما يم ّيز الثورة السور ّية عن سابقاتها في العالم العربي والعالم بأسره ،أن المتط ّفلين والفاسدين والمتط ّرفين قد امتطوا الثورة قبل وصولها للسلطة وإسقاط نظام األسد ،وليس بعد إسقاطه .وصارت الثورة ٍ يفسر الحال المتر ّد ّية للمعارضة السور ّية ،نهباً ومرتعاً لكل طالب سلطة أو الهث وراءها .وهذا ما كان ّ السور ّية التي وصلت وتس ّربت إلى الجيش الح ّر أيضاً ،وفسح المجال أمام استشراء التط ّرف والتنظيمات التكفير ّية .وإذا كانت جرائم المعارضة السياس ّية تقتصر على األخونة والعرعرة واالستيالء على المنح المال ّية وبخاصة كتائب ‘داعش’ و‘جبهة اآلتية للمعارضة أو اآلتية لالجئين السوريين ،فإن جرائم الجيش الح ّر، ّ سي ٍء إلى أسوأ .مع النصرة’ المتط ّرفة قد وصلت حد اإلرهاب والقتل على الهو ّية .والحال في ٍ تفاقم من ّ األسف ،زد على ذلك أن كل عنصر أو مسؤول عسكري أو أمني أو سياسي ينشقّ عن النظام ،بعد أن كان يفعل “السبعة وذ ّمتها” (كما يقال في الدارجة) أثناء تواجده على رأس عمله كجز ٍء من نظام األسد ،يصبح ثور ّياً معارضاً وينضم إلى المعارضة أو الجيش الح ّر ،فيستم ّر في فساده واستبداده في المعارضة بنفس ّ القدر الذي كان يمارسه على السوريين ،حين كان في السلطة .ناهيكم عن اختراقات النظام للمعارضة السياس ّية والعسكر ّية في سوريا. وربما ال يمتلك المثقف السوري جرأة الطاهر ّ وطار في الكتابة عن مساوئ ومفاسد الثورة السور ّية، إلى جانب ذكره مفاتنها ومحاسنها ،أو ال يمتلك شجاعة مايكوفسكي ،أو خليل حاوي الذي لم يتحمل رؤية بلده ُيغزى من اإلسرائيليين فأطلق النار على نفسه .ربما ال يمتلك المثقف السوري بعد هذه الخصلة في المواجهة والتح ّدي ،حين يرى ثورته على استبداد وفساد نظام األسد ،تتع ّرض للغزو األخواني والسلفي ويتحسب ما سيأتيه من الح ّكام والقومجي وفساده ،ما يدفع المواطن السوري العادي وضع يده على قلبه ّ الجدد ،بعد إسقاط نظام األسد .لكن ،بكل ثق ٍة سيأتي اليوم الذي تفتح فيها ليس فقط مل ّفات النظام ،بل مل ّفات المعارضة أيضاً ،في حال وصلت للسلطة أم ال. ما سلف ذكره أعاله ،ليس من باب التهويل أو المبالغة ،بل هو التحذير والتحذير ثم التحذير ،وقرع المزيد من أجراس الخطر ،وإطالق صافرات اإلنذارّ ، لئل تنهار أحالمنا البسيطة في وصول الثورة السور ّية بالبالد نحو التح ّرر من كل األغالل ومنابع ومصادر االستبداد والفساد السياسي واالقتصادي والثقافي والديني. من نافلة القول :إن فساد السلطة من فساد المعارضة ،وإذا كان إفساد الشيء يعني قتله تدريج ّياً، فإن إفساد الثورة السور ّية ال يعني قتلها وحسب ،بل قتل كل حلم جميل بمستقبلٍ جميلٍ وهادئٍ وراقٍ ومدني لسوريا. ٍّ
33
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
مفارقات لونية
رهام كوسا❊
يف الداخل السوري
اخلالصة: منذ كانون الثاين هذا العام ،ومع الحديث عن انتخابات رئاسية سورية يف حزيران ،تبدأ أغالق املحالت يف املدن السورية بارتداء العلم السوري ،ما رآه البعض متهيداً للحملة االنتخابية التي طُر َِح فيها الرئيس بشار األسد مرشحاً رئيسياً .يخرج العلم السوري من رمزيته الوطنية التي متثل الدولة والوطن ،ليمثل طيفاً سياسياً محدداً ،بخاصة مع اعتناق معارضة الخارج علامً بألوان أخرى .يحاول املقال تسليط الضوء عىل الخطاب اإلعالمي والبرصي الـ ُم ْع َت َمد يف الحمالت االنتخابية الرئاسية ،ودورها يف تحديد ألوان الحياة السياسية الحالية يف الداخل السوري ،مع مقارن ٍة أولي ٍة لتلك الحمالت مع مثيالتها يف لبنان رئايس ينتظر أن ينتهي. حيث فرا ٌغ ٌّ
❊ طالبة ماجستير في كلية اإلعالم جامعة دمشق ،ومعيدة في قسم اإلذاعة والتلفزيون في الكلية ذاتها .تعمل صحفية لجمعية قرى األطفال .SOSعملت محررة لعدد من المواقع االلكتروني السورية واللبنانية ،ومراسلة لمجلة Syria Todayالورقية .لديها مدونة شخصية أدبية تحمل اسم ‘فتات أيام’.
34
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مفارقات لونية يف الداخل السوري
يشهد السوريون للمرة األولى منذ أربعين عاماً انتخابات رئاسية ،تزامنت مع حرب أهلية لم يعتادوها قبال .يحاول المواطن السوري التصرف مع فعل االنتخابات على أنه عادة ،متكيفاً مع اللوحات والرايات التي تبدأ بدعوة لفكرة االنتخاب فقط ،لتتحول إلى كرنفال لوني حاد .يضطلع الخطاب اإلعالمي والسياسي بالدور األبرز في صياغة التوجه العام نحو االنتخابات وخلق ثقافة االختيار ،محاوالً أن يقنع الرأي العام في الداخل والخارج بوجود بدائل مختلفة ،لكن سقط سهواً أن ما نقله من حمالت لمرشحين مختلفين اعتمد هوية بصرية حد التطابق. المراقب للحملة االنتخابية في سوريا منذ بداية الحديث عنها ،يعلم كيف بدأت تصاعدياً على اللوحات الطرقية وفي اإلذاعات والمحطات التلفزيونية الرسمية وشبه الرسمية .تبدأ بطرح مفهوم االنتخابات أمام العامة بالقدر المطلوب من البساطة ،ال تدعوه النتخاب هذا دون ذاك ،بل تحضه فقط على التجربة، مقنعة إياه أن صوته سيصنع الفرق ،تحمل إعالنات االنتخابات الحالية شعار “صوتك رئيس ...صوتك الوطن” .تربط اللوحات اإلعالنية بين التصويت والوطن كمفهوم عاطفي ،رغم أن محللين ومطالعين للوضع السياسي في سوريا يدركون تماماً أن المشاركة في االنتخابات ستكون ضمن شرائح اجتماعية ومناطقية رمت ماليين ممن يحق لهم حرب أخرجت مدناً سورية خارج الخارطة إلى المجهول ،كما ْ معينة ،تفرضها ٌ االنتخاب على الحدود في مخيمات اللجوء .وفقاً لمنظمة األمم المتحدة ،وبناء على حسابات أجراها بعض الصحفيين في صحف عربية وعالمية ،لن يتعدى عدد المشاركين في االنتخابات القادمة الخمسة ماليين، وذلك بعد عملية حسابية بسيطة مفادها أن من يحق له االنتخاب في سوريا وخارجها هم 12مليوناً ممن يتعدون الثامنة عشرة ،نصفهم أو أكثر خارج سوريا في مخيمات اللجوء أو في مناطق الشمال والشمال الشرقي ممن تسيطر عليه المعارضة التي لن تسمح بانتخابات رئاسية يشارك فيها الرئيس بشار األسد كأبرز المرشحين. وفي خطوة سابقة وأكثر توقعاً لتهيئة السوري مسبقاً لما سيبرم في حزيران ،تنطلق منذ بداية العام، 35
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
مفارقات لونية يف الداخل السوري
ودون إشعار مسبق دعوة رسمية لطالء أغالق المحالت في المدن السورية .منتصف كانون الثاني الماضي، في حي المزة شيخ سعد ،بعضهم كان قد بدأ في طالء الواجهات المعدنية باألسود من األسفل .كان واضحاً أنهم يرسمون العلم السوري. ال يتطلب األمر دهاء الكتشاف أنه فرض للحضور بداية الحملة التي يرجح كثيرون أنها ستثبت مكان الرئيس بشار األسد بعد العاصفة التي دمرت الكثير .يمثل العلم السوري طرفاً سياسياً واضحاً أمام األطراف التي اتخذت لها هويات لونية مختلفة من علم االنتداب األخضر الذي يمثل االئتالف السوري المعارض في الخارج ،والذي تتمثل به فئة من المعارضين ،إلى العلم األسود ذي عبارة التوحيد االذي يطبع كل تحركات الكتائب اإلسالمية المتشددة .نسخ العلم على الواجهات التجارية للمحالت كافة هو إضفا ٌء للشرعية على طرف دون آخر ،أي أن االنتخابات الحالية لن تضم سوى أصحاب العلم األول .فيسبوكياً يرى البعض في تلوين الواجهات ضرورة لفرض النفوذ والحضور الحقيقيين ،فيما يعتبره آخرون استفزازاً سياسياً فقط .اتفق معظمهم أنه كان حرياً بهم استثناء واجهات محالت دمشق القديمة الخشبية ،بعضها أثري يعود ألكثر من مئة عام ،ومحو خدوشها بطالء صامت هو أمر مؤلم حقاً. دمشق اليوم ملونة بالعلم السوري في كل المحالت دونما استنثاء .وإن بدأ بعضهم بطالء األغالق برتابة قسرية ،راح آخرون يتف ّننون في ذلك ،جاعلين من العلم والغلق لوحة بسيطة ،تخرج من إطارها السياسي لتجعل الشارع أفضل .يألفها الدمشقيون .إذ ليست المرة األولى التي يفرض فيها إجراءات شكلية مجتزأة لخلق هوية بصرية مطلوبة لمواكبة حدث سياسي أو ثقافي معينُ .ل ِّون َْت واجهات محالت حلب باألخضر عند اختيارها عاصمة للثقافة اإلسالمية عام .2006إجراء مماثل فرض في تسعينيات القرن الماضي بإلغاء كل أسماء المحالت األجنبية وترجمتها حرفياً إلى اللغة العربي ،ليمسي محل ‘فوركاتس’ لأللبسة النسائية ،محل ‘القطط األربعة’ .أيضاً ما لبث أن اعتاد الشارع السوري األسماء المترجمة بالالمنطقية الفكاهية تلك ،بعضها ما زال إلى اآلن. ومع الحديث عن مقاطعة األحزاب والتكتالت المعارضة الداخلية والخارجية لالنتخابات ،يبدو أمر اعتماد العلم السوري مكم ًال للتصور العام .تحمل الحملة الحالية طابعاً منظماً وتراكمياً .هذه المرة بدأ الموعد مبكراً ،لكن لم يكن مستغرباً أبداً أن تبدأ حملة منظمة. تعتمد االنتخابات الحالية العلم السوري كهوية لونية يفترض أنها تخاطب جميع التوجهات السياسية متجاهلة ما اعتمدته األطراف األخرى من أعالم ورايات يصر أصحاب كل منها على شرعيتها ،لكن ليس مجهوالً أبداً أن هذا العلم فرض نفسه كشعا ٍر لوني يمثل الطرف الحاكم في دمشق .محاولة استخدام هذا الشعار اللوني للترويج لفعل االنتخاب ،في شكلٍ يدفع كل السوريين لإلدالء بأصواتهم ،ال يبدو أنه ينجح في إقناع ممن قرروا مسبقاً أنهم لن يشاركوا في االنتخاب .ويطرح هذا تساؤالً على الجانب اآلخر :هل يمكن أن تقنع هذه الشعارات الوطنية البسيطة ،المعلقة على اللوحات اإلعالنية في العاصمة دمشق، الناس لإلدالء ألصواتهم في االنتخابات الرئاسية؟ بخاصة مع غياب شخصية معروفة مرشحة مقنعة غير الرئيس الحالي؟ يعلن مجلس الشعب حتى اللحظة عن ترشح اسمين مغمورين ،لم يكن ألحدهما أي شعبية سياسية اهتمام بأسماء أعضاء المجلس سوى عضو في مجلس شعب .لكن ليس للسوريين ٌ قب ًال ،سوى أن الحجار ٌ 36
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مفارقات لونية يف الداخل السوري
بعض األعالم المعروفة للجميع ،ممن يمثلون قاعدة فعالية تجارية أو صناعية ضخمة .ومع األخذ في عين االعتبار الفوارق في القدرات المادية بين المرشحين الثالثة ،يالحظ التفاوت الواضح في مستوى نضج اللوحات االنتخابية للمتنافسين .يجمع كثي ٌر من الصحفيين على عدم وضوح الشعارات التي أطلقها كل من الحجار والنوري ،متزامن ًة مع هوية بصرية هي أبعد ما تكون عن الج ّدية في طرح العناوين الرئيسية للبرامج االنتخابية. انتخابات رئاسية أخرى ،ولكن األلوان وتصاميم اللوحات هناك تحمل طابعاً آخر .ال في بيروت، ٌ تطرح عناوين قصيرة تلخص البرامج االنتخابية المفقودة حتى اآلن ،بل تدعو الجميع للمشاركة في الفعل السياسي األهم لتحديد مستقبل البلد .في لبنان يبدو التصوير البصري في اللوحات اإلعالنية أكثر تعقيداً، واحترافية ،ربما العتياد الشعب اللبناني حياة سياسية أكثر تعقيداً ،تضطلع بها الرايات والشعارات وصور الزعماء السياسيينٌّ ، كل حسب ح ّيه .هناك يحذرون من الفراغ ،رابطين بينه وبين عدم استقرا ٍر دائم. ومع اختالف االعتبارات التي سيسمى بها الرئيس اللبناني القادم عن االعتبارات الحاضرة في سوريا ،تبقى اللوحات المتزاحمة في العاصمة اللبنانية نوعاً من ‘التوعية الترفيهية’ للعامة ممن يدركون أن ال دور لهم بتاتاً في تحديد القائد السياسي المرتقب .للمرة األولى يتم الحديث عن ‘لبننة’ القرار الرئاسي أي أنه لن يقوم على تسوي ٍة بين الدول العربية والغربية التي تتقاسم النفوذ السياسي بأسماء زعماء السياسة المحليين في لبنان .مايزال المستقبل الرئاسي اللبناني غامضاً دون أن يضطلع اإلعالم اللبناني ،في منابره المقروئة والمرئية ،إال بالنقد الساخر الفاقد لألمل في إيجاد ٍّ حل قريب ،ليتعامل الشارع اللبناني مع األزمة الطارئة كواحدة أخرى من المشاكل الحياتية الالحول لهم فيها وال قوة كأزمة الكهرباء والبطالة والغالء وغيرها ممن اعتادوا معايشتها والحديث عنها دون حنق كبير. إعالمي ألردوغان الستخدامه العلم التركي في حملته االنتخابية .يختلف مفهوم انتقاد في تركيا ،ينتشر ٌ ٌّ الرمز الوطني هناك ،حيث يفترض أنه يمثل جميع األطراف السياسية ال حزباً بعينه ،وهو ما يفتقد حالياً في سوريا مع تزاحم رايات فرض النفوذ. منحى على الطرف اآلخر من سوريا ،وفقاً لشهو ٍد عادوا من هناك ،فرض الحضور السياسي والعسكري ً لونياً معاكساً .السواد الكامل ودون ذلك الجلد أو القتل .تحمل الوحدة اللونية في المدينة طابعاً آخر :كل متشحات بالسواد الدموي ،ال يمكن االعتراض أو حتى مناقشة القرارات القطعية هناك ،حيث تدأب النساء ٌ رعب يفحم الجميع. داعش إلى نشر مقاطع فيديو إلعداماتها اليومية لزرع ٍ نهاي ًة ،ال يتوانى ٌّأي من األطراف السياسية على الساحة السورية في نشر رأيه السياسي للعامة، مستخدماً الخطاب اإلعالمي ‘الدعائي’ وسيل ًة واضح ًة لنشر األيدولوجيا المطلوبة .أحياناً يأخذ النشر مسلك ٍ أوقات أخرى .يعتاد السوريون األلوان المفترضة لمواكبة الخيار السياسي نصح في الفرض ،ليكون مجرد ٍ اليومي ،وللمرة األولى تفلح دمشق في االلتزام بلباس موحد .لم تكن تهوى التخلف ،لكن كانت فوضوي ًة حد الواقع .هي مازالت كذلك ،وإن َو َّح َد ْت َت َب ُّر َج َها هذه المرة.
37
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
فيكتوريوس بيان شمس❊
األلرتاس:
النشأة والدور اخلالصة: ليس هنالك أسهل من أن يصنع النظام عدوه بنفسه ،فأغلب شباب األلرتاس (روابط املشجعني لكرة القدم ،يف مرص يف هذه املقالة) يتحدّ رون من بيئات وطبقات فقرية معدمة .أي أنّهم طاقة اجتامعية هائلة ،ستشكل فيام لو تو ّحدت عىل برنامج سيايس اجتامعي اقتصادي تهديداً ال يُستهان به للنظام .فوجود األلرتاس ،وعىل عكس ما هو حاصل يف أوروبا التي قطعت أشواطاً يف املسائل املتعلّقة بتحقيق الحد األدىن من العدالة االجتامعية وحرية الرأي والتعبري مثالً ،يُعترب يف عاملنا العريب مؤرشاً عىل نجاح النظام السيايس يف تضليل وعي جامهريه .فكانت األتراس بعدائها ألجهزة أمن النظام ،وبالتحديد لقوى وزارة الداخلية ،العدو املثايل بالنسبة للنظام .وهو العدو الذي يف أقىص طموحاته يريد مساح ًة من الحرية تتيح له التعبري عن نفسه بتفجري مكبوته يف هذا املجال ،الذي لن يصل يف حال من األحوال لدرجة تهديد وجود النظام .يف شباط/فرباير ،2013أي أثناء عم كان عليه يف املوجة األوىل ما ُعرف بأحداث ‘قرص االتّحادية’ ،تراجع حضور األلرتاس ّ الفت لشباب األحزاب والتنظيامت التي نشأت بعد اإلطاحة يف ،2011فيام ُس ّجل حضو ٌر ٌ يؤش إىل أن هذه القوى كانت رهينة متثيلٍ بالرئيس السابق محمد حسني مبارك ،وهو ما ّ سيايس مختلف ،أبعدَ ٍ فئات واسع ًة من الشباب امله ّمش عن مصالحها املبارشة ،فجاءت ٍّ الثورة لتعيدهم إىل مواقعهم الطبيعية .هذا يعني أن قسامً كبرياً منهم انخرط يف العمل السيايس عرب األحزاب والتنظيامت حديثة النشوء. ❊ كاتب سوري مقيم يف القاهرة منذ أواسط العام 2012بعد أن انتسب إىل ‘ائتالف اليسار السوري’ .عمل يف صفوف ‘اتحاد الشباب الدميقراطي السوري’ منذ العام 1995وحتى ،1998ثم يف ‘الحزب الدميقراطي الشعبي’ يف لبنان منذ العام 1999وحتى أواسط العام 2011حيث تركه بعد أن ات ّخذ الحزب موقفاً مؤيّدا ً للنظام السوري .درس العلوم السياسية واإلدارية يف الجامعة اللبنانية ببريوت ،وله مساهامت يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع السورية والعربية.
38
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
األلرتاس :النشأة والدور
مقدمة ّ تعتبر الرياضة كما باقي األنشطة االجتماعية ،الفن بمختلف ألوانه ،العلم ،التكنولوجيا ،انعكاساً طبيعياً للوضع السياسي واالقتصادي واالجتماعي في أي بلد؛ تؤ ّثر فيه ،وتتأ ّثر ،فتساهم في تش ّكله الثقافي. والتعاطي مع المسألة الرياضية ،كما غيرها من األنشطة ،يختلف من بيئ ٍة ألخرى ،أو من بل ٍد آلخر ،بحسب غنى وتن ّوع الثقافات فيه ،إضاف ًة لتأثير األوضاع السياسية واالقتصادية واالجتماعية في شكلٍ مباش ٍر عليها وعلى المهتمين بها .بتطور وسائل االتّصال والطفرة التكنولوجية الحاصلة ،أصبح بإمكان المهت ّمين بالحدث الرياضي ،كما بغيره ،أن يتابعوا ويتفاعلوا مع مجريات ما يحدث في أي بقعة من العالم لحظة بلحظة .هذا فريق خارج حدود بالده. ألي كان أن يتح ّزب لنا ٍد أو ٍ ما سمح ٍّ الفت م ّما يحدث في عالمنا العربي المتأ ّثر بما حوله .هذا ما أظهرته وما يحدث في مصر ،جز ٌء ٌ قوى أحداث ‘الربيع العربي’ المنطلقة من تونس في 17أيلول/سبتمبر ،2010فأبرزت على سطح األحداث ً ٍ وتنظيمات لعبت أدواراً ضخمة وأساسية ،لم يكن المواطن العربي خارج حدود مصر يعرف عنها شيئاً. المشجعين لفرق كرة القدم المصرية ،واحدة من القوى الفاعلة التي األلتراس ،ultrasأو روابط ّ لعبت دوراً ال ُيستهان به إ ّبان الثورة المصرية التي اندلعت أحداثها في /25يناير ،2011/والتي أطاحت برأس السلطة ،فظهرت كقوة سياسية ّ مشجعين .لكنها ما لبثت أن منظمة بشكل جيد ،أكثر منها روابط ّ ّ وخف وهجها ،خاصة بعد األحداث والمراحل المفصلية المتعاقبة التي م ّرت بها مصر بسبب من خبت، تط ّور األوضاع السياسية والتنظيمية واألمنية فيها. سيتط ّرق هذا البحث السريع ،لظروف نشأة األلتراس ،وأسبابها التاريخية ،والدور الوظيفي الذي من أجله تساهل النظام في منحها الترخيص .لكن من زاوية موقعها وتأثيرها في الحياة السياسية كالعب أساسي في الفترة المفصلية التي أ ّدت للتغييرات التي نشهدها اليوم ،إلستكشاف ما يمكن استنتاجه من هذه الظاهرة. 39
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
األلرتاس :النشأة والدور
نشأة األلرتاس وأسبابها التاريخية م ّرت مصر بمراحل وأطوار سياسية مختلفة نتيجة تفاعل قواها اإلجتماعية والسياسية ،عدا عن موقعها الجيوستراتيجي في العالم العربي والعالم ،الذي كان يفرض نفسه على واقعها ،فقد تمرحلت الحياة السياسية المصرية بثالث نقالت أساسية ،كانت األولى منها قد بدأت مع ثورة /23يوليو ،1953/حيث ق ّيدت حرية إنشاء األحزاب والجمعيات لصالح الحزب الواحد ‘كاالتّحاد االشتراكي’ الذي استأثر بالسلطة حتى المرحلة التالية ،والتي بدأت في عهد الرئيس أنور السادات عندما صدر قانون األحزاب الذي يحمل الرقم ( )40للعام ،1977بحيث استحدثت لجنة شؤون األحزاب التابعة لمجلس الشورى المصري ،وهي اللجنة المولجة بمنح التراخيص .أنتجت هذه المرحلة ع ّدة أحزاب ،منها ‘حزب الغد’ بزعامة أيمن نور ،و‘الحزب العربي الديمقراطي’ الذي حاز على حكم من محكمة القضاء اإلداري بمجلس الدولة (دائرة األحزاب). وقبلها ،وأه ّمها جميعاً ‘الحزب الوطني’ المنحل على إثر ثورة 25كانون الثاني/يناير ،2011وهو الذي كان مهيمناً في شكلٍ مطلق على ‘لجنة شؤون األحزاب’. ٍ ٌ تعديل على القانون رقم ( )40للعام 1977ليضع على إنشاء األحزاب في عام ُ ،2005أجري والجمعيات شروطاً أشبه بالتعجيزية مثل“ :عدم قيام الحزب في مبادئه أو برامجه أو في مباشرة نشاطه أو في اختيار قياداته أو أعضائه على أساس ديني أو طبقي أو طائفي أو فئوي أو جغرافي أو إلى استغالل المشاعر الدينية أو التفرقة بسبب الجنس أو األصل أو العقيدة” .قبل هذا العام ،أي في عام ،2004نشأت ‘حركة كفاية’ الشهيرة ،وعملت على فضح ممارسات النظام في ظل احتجاجات كانت تتصاعد في أكثر من مكان ،أبرزها احتجاجات عمال المح ّلة .أي أن ‘حركة كفاية’ نشأت متم ّرد ًة على القانون رقم ( .)40يضاف المؤسس منذ عام ،1928وبعض إلى هذا ،أن هنالك أحزاب وتنظيمات دينية قديمة ‘كاإلخوان المسلمين’ َّ التنظيمات ‘الجهادية’ كانت موجودة على الساحة السياسية المصرية ،تعمل بصمت تارة ،وبصخب ورعب وإرهاب تارة أخرى. بنا ًء على التعديل األخير للقانون رقم (ُ ،)40رخّ ص ‘التّحاد محبي النادي األهلي’ الذي كان يرمز له بـ ‘ ،’ALUوالذي كان عبارة عن موقع الكتروني أنشأه في عام 1996مجموعة من المغتربين المصريين مشجعي األهلي’ .كل هذا كان يجري في ظل أوضاع في الخارج ،ليصبح جمعية رسمية مشهرة هي ‘رابطة ّ اقتصادية متردية وصعبة يم ّر بها المجتمع المصري تحت حكم قوانين الطوارئ ،وفساد مستش ٍر يصعب، بل يستحيل عالجه وفقاً للوضع القائم .وهو ما سمح بتراكم األسباب حتى لحظة انفجارها في الثورة التي استطاعت اإلطاحة برأس النظام في .2011 كانت األلتراس المصرية من حيث التركيبة والدور الشكلي لها ،محاكاة للتجارب التي سبقتها في بلدان أخرى كالبرازيل واألرجنتين في أميركا الالتنينة أربعينيات القرن الماضي ،والتي امتدت فيما بعد تشجع ليؤسس في البداية 113طالباً مجموعة ‘التورسيدا’ التي كانت ّ إلى أوروبا وبالتحديد إلى أوكرانيا ّ فريق ‘هايدوك سبليت’ الكرواتي في نهائيات كأس العالم .1950ثم انتقلت شرارة األلتراس إلى بولندا ،ثم إلى روسيا ،وإيطاليا ،وبريطانيا ،ثم انتشرت في العديد من دول العالم .أ ّما في عالمنا العربي فقد بقيت محصورة في بضع دول هي دول شمال إفريقيا .والمفاجئ هنا أن أول ألتراس عربي ،تش ّكل ،كان في ليبيا يشجع نادي ‘االتّحاد’ ،إال أن سلطات العقيد معمر القذافي كانت عام 1989تحت اسم ‘دراغون’ الذي كان ّ 40
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
األلرتاس :النشأة والدور
قد أوقفته على الفور وقتها. بعد ظهور ‘رابطة مشجعي النادي األهلي’ أو ما ُيعرف بـ “ ”Ultras Ahlawyبفترة قصيرة ،نشأ ‘ألتراس وايت نايتس’ المحسوب على فريق الزمالك ،لتكر السبحة فيما بعد ،و ُينشئ كل فريق على امتداد مشجعيه .وأغلب أعضاء هذه الروابط من الشباب ،في بلد نسب البطالة فيه تتجاوز الـ الجمهورية رابطة ّ ،%12ونسب األسر الفقيرة %33بحسب ‘الجهاز المركزي للتعبئة العامة واإلحصاء’. الدور الوظيفي لأللرتاس بعد انطالق الثورة من ميدان التحرير في 25كانون الثاني/يناير ،2011كان لأللتراس حضور الفت ووازن ،فقد أضفوا على الحراك زخماً ال ُيستهان به استمر ألشهر بعد سقوط مبارك في 11شباط/فبراير ،2011ليتركوا بصمتهم التي أصبحت جزءاً من المشهد السياسي ،والتش ّكل الثقافي للمجتمع المصري بعد الثورة .إذ استطاعوا بأساليبهم الف ّنية (الغناء ،الغرافيتي ،التحركات االحتفالية أو االحتجاجية عالية التنظيم) جذب األنظار إليهم ،كظاهرة جديدة بدأت تقتحم المشهد المصري بكل جوانبه. لكن السؤال المحوري هنا :لماذا منح النظام المصري ترخيصه وموافقته لأللتراس للبدء بإنشاء روابطهم وممارسة نشاطاتهم ،على خالف األحزاب والجمعيات األخرى التي كان من الصعب عليها استيفاء كامل شروط القانون ( )40بتعديالته عام 2005؟ يقول محمد جمال بشير ،مؤ ّلف كتاب ‘األلتراس’ الصادر عن ‘دار َد ِّون’ في طبعته الخامسة (ص “ :)75األلتراس مجمواعات غير ُمس ّيسة نتيجة لعدم توافقية أفرادها على اتجاه سياسي مح ّدد ،وهو ذلك النوع الذي تنتمي إليه أغلب مجموعات األلتراس المصرية ،والذي يمنعها من المشاركة سياسياً ،ويجعلها تقف بعيداً عن المطالبة بالحرية والعدالة االجتماعية أو المشاركة المجتمعية ألفرادها”. إذاً ،األلتراس مجموعات غير مس ّيسة ،وليس لديها أيديولوجيا .هذا يعني أن بنيتها ال تسمح لها المشاركة في الحياة السياسية كباقي التنظيمات ،التي بالضرورة سيكون من أهدافها الوصول إلى السلطة في ظل نظام توتيوليتاري-أوليغارشي ،ال يقبل المنافسة .عدا عن أن أعضاء األلتراس ،وبحسب نفس الكتاب (ص ،)96يعتبرون أن عداءهم هو للمثلث متساوي األضالع“ :كل رجال األمن أوغاد – ضد الميديا – ضد الكرة الحديثة”. مشجعاً ،بحسب مديرية الشؤون الصحية في أوائل شباط/فبراير ،2012وقعت مجزرة راح ضحيتها ّ 74 ‘مشجعي فريق النادي المصري’ المحسوب على مدينة بور سعيد، في بور سعيد ،على خلفية عراك بين ّ و‘مشجعي فريق النادي األهلي’ المحسوب على العاصمة القاهرة .اضطر الجيش ،الذي اتُّهم بالتواطؤ ّ لتسهيل المجزرة وتشتيت أنظار الشعب المصري عن األوضاع السياسية الدقيقة التي تمر بها البالد ،إلى مشجعي األهلي من المدينة بد ّبابته .ومازالت تبعات هذه المجزرة ماثلة إلى اليوم ،ومازال القضاء إخراج ّ يح ّقق في مالبساتها .هذا عدا عن الحوادث الكثيرة المتف ّرقة هنا وهناك ،والتي تقع بشكل ملفت ،بحيث تشهد شوارع القاهرة في بعض المواسم الرياضية حروباً طاحنة ،تستعمل فيها األسلحة البيضاء في شكل واضح. وبالعودة ألواسط عام ،2009حيث في ذروة احتدام الصراعات السياسية ،وقبل انتخابات مجلسي 41
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
األلرتاس :النشأة والدور
الشورى والشعب بأشهر قليلة ،وفي ظل غليان في الشارع المصري ،وحراك سياسي الفت ،استخدم النظام المصري المشكلة الحاصلة على خلفية مباراة كرة قدم بين المنتخب المصري ونظيره الجزائري ،حيث توسعت لتالمس حدود التلويح بالقطيعة السياسية والدبلوماسية بعد األحداث المؤسفة التي وقعت ّ أثناء المباراة التي جرت في ملعب المريخ في منطقة أم درمان في العاصمة السودانية الخرطوم ،والتي كشف فيما بعد عن تو ّرط جمال مبارك ابن الرئيس المخلوع بتأجيج هذه األحداث .حيث عمل على نقل مجاناً إلى السودان ،في خطوة الفتة لتضخيم األزمة ،وإعطائها أكثر من المشجعين المصريين بالطائرات ّ ّ حجمها .هذه األزمة التي ال عالقة لأللتراس بها ،لكن النظام في ذروة مآزقه كان مضطراً الفتعال مشكلة كهذه ،تصرف األنظار عنه .وبالطبع ،ليس هنالك أفضل من توظيف حدث رياضي بهذه الضخامة ،وتوجيه اإلعالم إلعطائه صخب أكبر ،فيصبح الحدث حدثاً ‘وطنياً’ يجلب التعاطف مع النظام في أشد لحظات ضعفه.
42
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
عبد الله شالش❊
التوجهات السياسية
لرٔاس املال يف سوريا
اخلالصة: يقدم هذا املقال رشحاً موجزاً عن التوجه السيايس لرأس املال يف سوريا ،مسلطاً الضوء عىل نشأته التاريخية وطبيعته الرتاكمية غري الوطنية ،ثم عالقة الفساد املتبادل بني رأس املال والسلطة قبل الثورة السورية انتهاء بسلوك رأس املال خالل الثورة ،من حادثة سوق الحريقة إىل دعوات اإلرضاب ،ثم غياب أي رؤية سياسية وغياب املسؤولية االجتامعية مع بدء العسكرة وختاماً هجرة رؤوس األموال .وحاولنا يف نهاية البحث لفت انتباه القارئ إىل الفرق الجوهري بني النمط السيايس لرأس املال يف سوريا ورأس املال يف الغرب.
❊ عبد الله شالش ،خريج كلية االقتصاد بجامعة دمشق ،ويعمل مراقب مالي في شركة خاصة في القاهرة.
43
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا
مقدمة شهدت سوريا في العقد الماضي تح ّوالً نحو الرأسمالية ،تجسد ببيع قسم كبير من المؤسسات اإلنتاجية العامة بالتزامن مع ظهور مؤسسات جديدة خاصة .ووسط فوضى التحول ،كان مصطلح ‘المسؤولية االجتماعية لرجال األعمال’ من أكثر المصطلحات رواجاً في األوساط األكاديمية ولدى ُص ّناع القرار على حد سواء .ويجسد المصطلح دعوة رؤوس األموال للمشاركة في دعم قطاعات المجتمع األقل دخ ًال؛ سواء عبر سائد في الغرب ،أو عبر تقديم معونات مباشرة للطبقات دعم التعليم بالمنح أو البنية التحتية كما هو ٌ الفقيرة في صورة منتظمة أو بالحد األدنى عبر سداد الضرائب المستحقة. غالباً ما ُجو ِبهت هذه الدعوات بالتجاهل من قبل رأس المال المحلي .والملفت في هذه الدعوة أنها كانت مقتصر ًة على المشاركة في الجانب المعيشي االجتماعي دون الجانب السياسي ،وهو ما دفع برأس المال المحلي إلى االبتعاد عن الجانبين معاً ،باستثناء قسم من رؤوس األموال المرتبطة ارتباطاً وثيقا بالسلطة والناتجة عنها أساساً .وقبل الخوض في التفاصيل سنقوم بفرز مبدئي لرأس المال في سوريا بناء على نشأته التاريخية التاريخ احلديث لرأس املال السوري حقيقي لرأس المال في سوريا .فبعد موجتي التأميم وحقبة اكمي ٍّ ال يمكن الحديث عن تكوينٍ تر ٍّ البيروقراطية الطويلة ،كان صدور قانون االستثمار رقم 10عام 1991بمثابة دعوة الستثمار األموال المتراكمة خالل الفترات السابقة ،وأيضاً جسد دعوة لرأس المال األجنبي للعمل داخل البالد ‘بما ينسجم مع الخطة اإلنمائية للدولة’ .وإذ يعتبر القانون رقم 10نقلة نوعية في مجال التشريع لرأس المال الخاص في سوريا، فإن ما ظهر الحقا أثبت أن دعوة االستثمار الصريحة المتضمنة في القانون لم تكن عامة ،بل هدفت إلى توظيف رؤوس األموال الناتجة عن الفساد ،والتي جسدت معظم التوظيفات المحلية في حين لم تكن البنية التحتية المادية منها أو التشريعية (من حيث وجود قانون يحمي رأس المال األجنبي ويعطيه فرصاً 44
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا
متوازية) مواتي ًة لرأس المال األجنبي لالستثمار في مشاريع طويلة األجل .وهكذا برزت حالة رأسمالية غير منظمة ،يمكن إدراج الرأسماليات الناشئة ضمنها في ثالث فئات كما يلي: .1رأس المال الناجم عن السلطة :و هو رأسمال بدأ يتكون مع موجة التأميم الثانية بسبب الفساد القائم في السلطة االشتراكية التي تلت التأميم .ونتيجة تحكم السلطة السياسية بكافة مصادر الثروة ،فإن معظم األموال الموجودة في سوريا قبل ظهور قانون االستثمار رقم 10لعام 1991وبدء حالة االنفتاح العامة عام 2000كانت مدرجة ضمن هذه الفئة .ومع غياب التشريعات التي تسمح باالستثمار الخاص قبل عام ،1991كان االستثمار في الخارج أو االدخار هما الخيارين الوحيدين لهذا النوع من غني عن التعريف .وسنكتفي التراكم .ونظراً الرتباط رأس المال هذا بالسلطة ،فإن توجهه السياسي ٌّ بالقول أن رأس المال المتراكم نتيجة البيروقراطية القائمة قبل عام 2000هو الوجه االقتصادي للنظام السياسي في سوريا حتى وقتنا الحالي ،وهو رأسمال ملتصق تماماً بالسلطة القائمة. .2رأس المال القادم من الخارج بفعل المغتربين السوريين أو المستثمرين األجانب :بعد ظهور التشريعات التي سمحت لهم بالعمل عام - 1991كما ذكرنا -فإن البنية التحتية لم تكن مؤهل ًة لنشوء استثما ٍر طويل األجل في سوريا ،ما جعل رأس المال األجنبي حال ًة ربحي ًة موقتة ،حيث تج ّلى معظمه باستثمارات في مجال الخدمات ،وهو ما يعكس زيادة عدد المصارف وشركات النقل على حساب ثبات أو تراجع المشاريع الزراعية أو الصناعية المتوسطة والثقيلة طويلة األجل. .3رأس المال المحلي المنفصل عن السلطة :وهو رأس المال الذي تقلص بعد التأميم واقتصر على المشاريع الفردية أو شراء األمالك ،ثم عاد للظهور بعد عام 2000في صورة تدريجية ،بخاصة بعد بيع لألمالك ،وإعادة ظهور البرجوازيين طفرة العقارات التي بدأت عام ،2003والتي و ّلدت حركة ٍ القدامى ضمن سقف العمل المسموح به ،وهؤالء هم الفئة التي كان يع ّول عليها لتكوين توجه سياسي مختلف لرأس المال في سوريا سنركز في دراستنا على المجموعتين الثانية والثالثة من رؤوس األموال ،ألن التوجه السياسي للمجموعة األولى يعتبر واضحاً. عالقة السلطة برأس املال قبل الثورة: مع الغياب التام للحياة السياسية في سوريا قبل الثورة ،ال يمكن الحديث عن توجه سياسي محتمل لرأس المال ،علماً أن الليبرالية السياسية تعتبر شرطاً أساسياً لليبرالية االقتصادية التي كانت سوريا تسير نحوها .لكن المرجعية الفكرية المشوشة لرأس المال في سوريا كانت بعيد ًة تماماً عن محاولة خلق نمطٍ ٍ مخالف للسلطة القائمة ،بل كانت تتماشى معها تماماً ،كأنها تم ّول فساد السلطة في صور ٍة غير مباشرة. ويمكن توضيح عالقة السلطة برؤوس األموال الخاصة بعد التشريع والسماح لها باالستثمار كملكي ٍة خاصة منتج مستوفياً كامل الشروط ،ومع وصول البضاعة ،تقوم بمثالٍ كثير التكرار في سوريا :تاج ٌر يحاول استيراد ٍ ً السلطة بالحجز عليها دون وجود مس ّو ٍغ قانوني ،فيلجأ التاجر إلى الدفع في صورة غير قانونية أيضا إلدخال بضاعته بدل اللجوء إلى القانون .وعليه ،يمكن وصف عالقة السلطة برأس المال في سوريا بعالقة الفساد جانب المتبادل ،مع عدم تدخل رأس المال المصنف ضمن البندين الثاني والثالث بالحياة السياسية ،أو بأي ٍ له عالقة بإدارة الدولة أو بناء مؤسساتها. 45
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا
التوجه السياسي لرأس املال خالل الثورة: ش ّكلت حادثة سوق الحريقة الشهيرة بتاريخ 17شباط/فبراير ،2011مؤشراً قوياً على التململ القائم في األوساط الرأسمالية في سوريا ،ودفعت الكثيرين إلى االعتقاد أن رأس المال الوطني بدأ يحاول صياغة سياسي مختلف ،وأن الليبرالية االقتصادية التي جلبتها السلطة السياسية قد انقلبت عليها ،لما يعنيه واقع ٍ ٍّ سوق الحريقة كمرك ٍز لرأسمالية العاصمة. ومع تصاعد وتيرة االحتجاجات ،بدأت هذه الرؤيا تثبت فشلها تدريجياً ،وانقلبت تماماً مع دعوات اإلضراب التي أطلقها الناشطون ،والتي القت دعماً في األرياف وقل دعمها في المراكز الرأسمالية .وبدا واضحاً حينها انفصال الفئة الثانية والثالثة من رؤوس األموال عن حراك المجتمع .ومع مرور الوقت وبدء ظهور الكتل المدنية كمحاول ٍة لصياغة رؤيا سياسية جماعية ،غاب رأسماليو سوريا عن المشهد مر ًة أخرى، تجمع أو مبادرة لوضع رؤيا سياسية موحدة قد تظهر الهوية السياسية لرأس المال المحلي. فلم يظهر أي ٍ ومع بدء ظهور حالة العسكرة وتدهور الوضع اإلنساني في سوريا ،كان المجتمع بأمس الحاجة إلى تحركٍ جماعي غير مسيس لرأس المال ،يهدف إلى حماية الفئات المتضررة والحد من الفقر والتمويل ٍّ إنساني في صور ٍة دعم المسيس القادم من الخارج .لكن هذا التجمع لم يكن موجوداً باستثناء وجود ٍ ٍّ فردية في بعض المناطقّ ،إل أن التوجه العام لرأس المال كان التمسك بالحياد .ومع ازدياد حدة المعارك وانتشارها جغرافياً وتدهور البنية التحتية في سوريا ،بدأت حالة التدفق العكسي لرؤوس األموال ضمن الفئة الثانية؛ مصطحب ًة معها شرائح واسعة من الفئة الثالثة .ليبقى جز ٌء من البرجوازية الوطنية يعمل في شكلٍ محدو ٍد في مراكز المدن ،إضاف ًة إلى إعادة سيطرة الفئة األولى على معظم مفاصل الحياة االقتصادية في المجتمع بصفتها الرافد األساسي القتصاد النظام القائم. ما يمكن استخالصه من سلوك رأس المال في سوريا خالل االنتفاضة ،أنه أقرب إلى رأسمال مضارب يعمل ضمن الواقع السياسي بغرض الربح دون محاولة تغيير الواقع ،ودون وجود رؤيا سياسية علنية مع ما يحمله رأس المال المضارب من صفات أخرى ،وهي االنسحاب عند الشعور بالخطر وعدم مراعاة مأساة المجتمع .ويعود ذلك ،كما ذكرنا في بداية المقال ،إلى نشأته في صورة غير تراكمية وعدم اكتسابه هوية وطنية حقيقية. يجب التنويه دائماً إلى أن رؤوس األموال في الغرب ،رغم تعاملها مع كل ديكتاتوريات العالم وتأقلمها معها ،إال أنها تحمل توجهاً سياسياً صارماً في بالدها لدعم الديمقراطية .وإن كانت تدعم حزباً في االنتخاباتّ ،إل أنها في العمق تدعم نظاماً سياسياً تعددياً .تعتبره شرطاً أساسيا لليبرالية االقتصاد التي تتيح لها العمل بحرية .هذا فض ًال عن التزامها اجتماعياً في شكل كبير في دعم فئات المجتمع األخرى .وهنا يجب التذكير دائماً بمقول ٍة كان يرددها الدكتور عارف دليلة -أستاذ االقتصاد السياسي في جامعة دمشق وعميد كلية االقتصاد األسبق -في كل الندوات االقتصادية التي كانت تقام في دمشق قبل الثورة“ :يجب ٌ مقولة ال تبرر لرأس المال البدء بالنظام السياسي قبل الحديث عن أي إصالح اقتصادي” ،وهي في الواقع تقصيره في بناء مستقبل بالده بقدر ما تح ّمله جزءاً من مسؤولية التدهور القائم ،وتدعوه مع بقية طبقات سياسي بديلٍ يكون حام ًال لنظام اقتصادي عصري. نموذج المجتمع إلى التفكير في ٍ ٍّ
46
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مايا جاموس❊
املسرح السوري
أزمة عميقة تتطور
اخلالصة: يربز التساؤل عن املرسح يف بعض املدن السورية التي عرفت احتجاجات واسعة ضد النظام السيايس ووصل األمر ببعضها إىل الخروج املطلق لكل أشكال سلطة النظام منها، وبالتايل انتفاء الحجة الصحيحة القائلة بقمعه ،وقبل استفحال دور اإلسالميني .ملَ مل تظهر أو تتطور أشكال مرسحية تفاعلية؟ تستمر الرشوط القدمية لتخلف دور املرسح يف سوريا ٌ وأسباب أكرث تعقيداً. رشوط أي ‘ألزمته’ ،وتُضاف إليها ٌ
❊ حاصلة على إجازة من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق من قسم الدراسات المسرحية ،وتكتب في مجال الصحافة الثقافية ،والمسرح خاصة.
47
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
املسرح السوري أزمة عميقة تتطور
مع بداية الحراك الذي شهدته مناطق واسعة من سوريا في ،2011برز التساؤل عن المسرح ،أين هو؟ بخاصة مع دخول بعض المدن ضمن مصطلح ‘التحرر’ وخروج كل أشكال سلطة النظام فيها ،وبالتالي انتفاء الحجة الصحيحة القائلة بالقمع والرقابة ال َّل َذين كانت تمارسهما السلطة السياسية ،لماذا لم تتمكن طاقة الحراك من تطوير أو استنهاض أشكال مسرحية إبداعية جديدة؟ ثمة عوامل أساسية تحكم ازدهار المسرح عالمياً ،أه ّمها مراحل الم ّد التاريخية ،وهذا انطبق على سوريا التي عرف مسرحها انتعاشة خالل الفترة التي بدأت مع مرحلة المد القومي ،ثم النهوض التحرري من االستعمار ،حتى أن نكسة 67لم تكن ذات تأثير سلبي على وضع المسرح السوري رغم اإلحباط الكبير موضع حوار بينهم ،انعكست أسئل ًة وأجوب ًة في النصوص المسرحية الذي خ ّلفته لدى المثقفين ،بل كانت َ والعروض والمهرجانات والندوات .أي لم تؤثر الهزيمة على طاقة المجتمع آنذاك بل رفدت المجتمع بمح ّفز لألسئلة القلقة والبحث عن إجابات لها في الثقافة ،والمسرح على نحو مح ّدد (تجارب سعدالله ونّوس، وفرحان بلبل ،وممدوح عدوان ،ووليد إخالصي ،إلخ). مع انحسار موجة المد القومي ،تق ّدمت الموجة الدينية اإلسالمية وأخذ اإلسالم السياسي يمأل الفراغات في سوريا ،بين معاهد تدريس وتحفيظ القرآن ،وتشجيع الجوامع والطرق الصوفية ،ضمن عملية مجاملة واستغالل من قبل السلطة السياسية لإلسالم السياسي ،مع األخذ في االعتبار صراعها الدموي مع اإلخوان المسلمين ،ما أدخل البالد في حالة من الشلل والخوف والحذر وتحفيز عصبيات متخلفة تطل برأسها كلما سنحت الفرصة لها ،دون أن تتم أية عملية مصالحة وترميم في المجتمع حتى اليوم ،وترافق ذلك مع تغييب المبدعين والنخب الثقافية والسياسية (من كل التيارات) بين السجون والمنافي وممارسة التضييق على أي إبداع .وبالتالي باتت السلطة-الدولة هي العامل األهم في وضع الثقافة والمسرح في شكل خاص عبر العقود األربعة الماضية ،من خالل مسك المجتمع بكامله واحتكار كل شيء وتوجيهه وفرض الرقابة عليه واستخدام الثقافة ألسباب أيديولوجية ودعائية .ففق َد المسرح جوهره وروحه القائمة على العالقة العفوية ّ الخلقة والجدلية مع المتفرج ،وتفاقمت أزمته حتى هذا اليوم ،دون أن يأتي ٌ جديد يح ّفزه. شرط ٌ 48
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
املسرح السوري أزمة عميقة تتطور
ومن جانب آخر فإن للبناء الفوقي للمجتمعات تأثيراً كبيراً ،إذ بقدر ما يكون منفتحاً وعقالنياً وديموقراطياً بقدر ما يساعد في بروز ظواهر ثقافية فنية مختلفة ،وتطورها مثل المسرح كظاهرة جمالية تأثيرية ،كما يساهم في تخليص المجتمعات نفسها من أزماتها .وعلى العكس من هذا عندما يكون البناء الفوقي للمجتمع محافظاً ،أو تكون القوى االجتماعية ،التي تمسك بالقيادة فيه ،ذات طبيعة مغلقة ،فإنها تؤثر سلباً في ظاهرة المسرح .من هنا –في شكل أساسي -يمكن أن نفهم عدم تطور تجارب مسرحية في المدن أو المناطق السورية التي خرجت منها سيطرة النظام السياسي ،في وقت مب ّكر نسبياً ،إضاف ًة إلى عدم أصالة العملية المسرحية بحد ذاتها في سوريا لتكون جزءاً بنيوياً حيوياً في ثقافة المجتمع. حيث تم تهميش المسرح من قبل السلطة منذ استالم البعث ،وتغييبه في شكل جزئي أو كلي في عدد من المدن السورية التي عرفت الحقاً حراكاً شعبياً معارضاً مثل دير الزور وإدلب ودرعا .كما تفاقمت األزمة بسبب غياب دور المسرحيين الذين اح ُتسِ ُبوا على الشق المعارض الداعم للحراك ،سواء بسلميته أو بتس ّلحه ،والذين اكتفوا بإعالن مواقفهم السياسية المتماهية مع الشارع المحتج ،بدل أن يقوموا بدورهم الثقافي واإلبداعي ،فلم نسمع عن مسرحيين عادوا إلى مدنهم ‘المحررة’ من العاصمة ليعملوا عروضاً مسرحية. وهذا جزء من أزمة المثقفين الذين لم يساهموا خالل مرحلة الحراك السلمي ،في بلورة مشروع ‘ثقافي’ يك ّرس قيم الحرية والتنوير والديمقراطية ،بل على العكس من ذلك بات السؤال عن ‘المشروع’ ماد ًة للتخوين واالتهام بحجة وجود هدف أساسي يتمثل بإسقاط السلطة ،وبعده يتفرغ السوريون لالتفاق على ما يريدون .وبهذا تك ّرست عقلية قمع التساؤل والنقد واالختالف .وغدا عدد كبير من المسرحيين الذين برزوا كرموز معارضة ،أو نشطوا في الحراك ،خارج البلد ،فال هم في الجزء الذي يخضع لسيطرة النظام، يقدمون نشاطهم في الشق اإلبداعي أو السياسي حتى ،وال هم في الجزء الخاضع للمعارضة ينشرون قيمهم من خالل الفن أو النشاط السياسي .إذاً المسرحيون بمن فيهم المعارضون اتجهوا حيث األمان ولو جزئياً، تلمس بعضهم بقوا في العاصمة (حيث تخضع لسلطة النظام) يعملون ضمن شروط ‘المتاح’ ،محاولين ُّ األزمة السورية في مسرحهم في شكل غير مباشر ،وآخرون اختاروا البحث عن خيارات العمل خارج البلد. وال ننسى أن دخول البالد في فوضى السالح والعنف غ ّير كثيراً من أسئلة الناس والمثقفين ،كما ص ّعب من العمل الجماعي المؤسسي كالمسرح ،الذي يحتاج إلى شرطٍ آمنٍ ومستقر ،علماً أنه ليس قاعد ًة الستمرار المسرح وازدهاره ،ففي الحرب األهلية اللبنانية لم يتوقف اإلبداع المسرحي بل استمر حتى اليوم ينهل منها. هناك ظواهر نشأت بعد الحراك يمكن احتسابها على المسرح في بعض المدن ،على يد هواة، ٌ ٌ مسرحية في عروض وبعض المسرحيات التي جاءت ضمن احتفاالت سنوية انطالق الحراك .كما برزت مخيمات اللجوء أو في بعض بلدان اللجوء األوروبية .واستمر المسرح بمركزيته في دمشق ،وتوقف في شكل كلي في بعض المدن المنكوبة مثل حمص والرقة ،ونشط في مدينة الالذقية محاوالً –كما في دمشق- هامش ض ّي ٍق لحري ٍة فرضتها األزمة ،يلعب على ‘مفردات حديثة’ عن الفساد والديمقراطية أن يستفيد من ٍ وهجاء القمع ،والعنف ،والحوار ،إلخ. تستمر الشروط القديمة المساهمة في تخلف دور المسرح في سورية ،بخاصة الدور السلبي للغياب 49
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
املسرح السوري أزمة عميقة تتطور
الطويل للديمقراطية عن سوريا .كما الدور السلبي والمعيق للبناء الفوقي الديني في سوريا والعالم اإلسالمي عموماً .ويمكن تكثيف هذين الشرطين بما قاله الراحل سعد الله ونّوس“ :المشكلة أعمق وأكثر تعقيداً من ٌ اجتماعية بنى عالقة سلطة/مجتمع .هناك تركيب ثالثي ،وربما يجب الغوص فيه أكثر لمحاولة استكشافهً : ٌ متخلفة جداً ،مع ب ًنى اجتماعي ٍة حديثة شكلياً ،وغياب أي تساوق أو مشروع مستقبلي يمكن أن تقوم به ٌ ٌ عصرية ال تتعادى فيها السلطة مع المجتمع ،بحيث ته ّمش السلطة مجتمعها ،وتجبره على العودة ،في دولة آلي ٍة دفاعي ٍة سلبيةٍ ،إلى ُبناه التقليدية واألخالقية المفوتة” (من حوار ونّوس مع د.ماري إلياس المنشور في مجلة الطريق ،العدد األول ،سنة .)1996 ٌ شروط أكثر تعقيداً بسبب االنقسام الحاد في المجتمع الذي شمل المثقفين والمبدعين، وأضيفت بخاصة بعد سيطرة العنف ،واستنزاف الطاقات بحروب عديدة وانتماءات متخلفة ،وتعقيدات بشروط الحياة والمعيشة. ما الذي يمكن توقعه من المسرح؟ إن أزمة المسرح في سوريا قديمة وعميقة وتتطور بتطور المجتمع نفسه ،وهو لم يدخل في ثقافة المجتمع السوري ،من حيث اتصاله بالجماهير الواسعة ،ولم يحدث ذلك بعد مرحلة انتعاشه التي تحدثنا عنها سابقاً ،إال في تجارب قليلة إما كان النقد الجريء للسلطة السياسية عنصرها األساسي ،أو عروض حملت عناصر أساسية جاذبة للجمهور مثل وجود أسماء فنانين معروفين تلفزيونياً ،أو بعض العروض الكوميدية .بالتأكيد ما سبق هو صورة سلبية عن وضع المسرح باعتباره حالة اجتماعية متأثرة بمجمل الشروط الموضوعية لمجتمعه مضافاً إليها شروطه الخاصة .لكن في كل مرة نشاهد أو نسمع عن حدث مسرحي ،أينما كان ومهما كان انتماؤه السياسي ،فإن األمر يستحق الوقوف عنده كثيراً ،أوالً الختبار هذا الفن ودوره في المجتمعات خالل أزماتها ،وثانياً الختبار المجتمعات نفسها وقدرتها على تطوير ذاتها وتجاوز أزماتها من خالل الفنون ،سواء بتطوير فنونها والقدرة على خلق إبداعات متجددة ،أو بالنكوص .فالمسرح مثله مثل أي عملية تاريخية اجتماعية ثقافية إبداعية ال بد من امتالكه لقدرات وقابليات ذاتية للتفاعل والتطور والمواكبة.
50
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
عبدالوهاب عزاوي❊
األدب السوري
األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه
اخلالصة:
الكتابة السورية اإلبداعية يف الوسط املعارض بعد االنتفاضة تُ َن ِّم ُط اإلنسان السوري كضحية أو بطل ،وتغرق يف هجاء الديكتاتورية راسم ًة صور ًة موازي ًة للواقع ،بدل أن ٍ رشوط معقد ٍة وعبثية ،وبدل أن تبحث عن تدخل يف عمق التحوالت اإلنسانية بسبب أسئلة جديد تفرضها هذه الرشوط وتسهم يف تشكيل هويتنا عىل املدى الطويل.
❊ طبيب عيون ،وعضو في ‘رابطة الكتاب السوريين’ .أع ّد عدة ملفات أدبية نُشرت في مجلة ‘اآلداب’ بين عامي .2009-2008صدر له ورقياً‘ :حزن فوضوي’، ‘نوتا ..فضاءات الحرية’‘ ،موزاييك الحصار’.
51
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه
لن يجد المراقب للخط العام للكتابة اإلبداعية السورية في وسط الكتاّب المعارضين بعد االنتفاضة السورية القائمة على السرد ،ما بين يوم ّيات وشهادات ومقاالت ذات طابع وجداني والمعنية بتناول القضايا المتعلقة باالنتفاضة ،صعوب ًة في مالحظة وقوعها في فخ الكتابة عن اإلنسان السوري بطريقة نمطية ،بين قالبي ‘الضحية’ و‘البطل’ ،وسيرصد كتاب ًة تك ّرس العداء ضد الديكتاتور ،تهاجمه ،تح ّقره ،كتابة إنشائية في كثير من األحيان .ذلك مفهوم ومبرر في بداية االنتفاضة السورية ،في سياق إسقاط ‘ألوهة’ الديكتاتور حملٍ بالكثير من اآلمال في األشهر األولى من عمر ومؤسسته ،واألهم أنها تأتي في سياق ٍ حماس عا ٍّم ُم َّ االنتفاضة ،كما حصل في العديد من الحاالت في التاريخ ،مثل كتابات بابلو نيرودا في الحرب األهلية اإلسبانية ،أو شعر ‘القضية الفلسطينية’ .هذه ‘الوظيفة’ المرحلية عبر المباشرة المبالغ فيها التي تصل الشتيمة أحياناً قد تكون ضرورية ومبررة ،ولكن ذلك يفترض أن ترتبط في شكل عميق بم ٍّد في المجتمع مرافق ومتآثر معها ،كما حصل في الحرب األهلية اللبنانية .هناك نجد للكتابة وظيفة أخرى ساحرة ليس من الضرورة أن تكون مبنية على الخبرة أو العمق الفني ،هي دور مباشر وفاعل في الحدث ،لعل كتاب أمجد ناصر ‘بيروت صغيرة بحجم قبضة يد’ يرصد تفاعل هذا النمط من الكتابة مع الحدث في سياق كتابة يومية سردية تك ّرست الحقاً في األدب السوري. أعتقد أن تع ّقد األزمة في سوريا ودخول االنتفاضة في َ مآزق عميقةٍ ،ووقوعها ُمرغم ًة في فخّ التسلح، وبالتالي الحقاً بين همجية النظام من طرف والتطرف اإلسالمي كوحش وحيد قادر على الصمود أمام عنف النظام ،فرض انحساراً هائ ًال على الم ّد المجتمعي ،وتهميشاً للطاقات التي كانت فاعلة على األرض ليغدو السالح سيداً للموقف .هنا من المفترض أن تكتشف الثقافة أسئلتها الجديدة التي تتعلق بعمق التغيرات الحاصلة لدى ‘السوري’ ،ولألسف هذا لم يتك ّرس .فما زالت الكتابة تغرق في هجاء الديكتاتورية ورثاء الشهداء والتباكي على المدن ،في الوصف الذي ال يرقى إلى األلم المعاش يومياً ،أو لسيل الصور المر ّوع ،لتكون في ّ خطها العام محاولة محاكاة للواقع ،وتدخل في ح ّيز يصادر المتلقي ،يطالبه بالتعاطف أو يفرضه عليه مكتفي ًة بتكريس موقف ،مرتبط ًة بالحدث العام فقط .كتابة تعتمد على التفاصيل التي 52
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه
ت ّوضح وحشية النظام وهول المأساة ،لكنها ال تدخل في المخفي والمتعدد والمر ّكب ،ال تمارس دورها في الكشف عن التناقضات التي تنتج عن هول الديكتاتورية والتي تؤدي إلى تع ّقد الشرط اإلنساني .المفارقة مشروع ينقلها تغدو أكثر عمقاً بسبب هامشية دور المثقفين السوريين في االنتفاضة منذ بدايتها ،وبغياب ٍ مشروع يتحول إلى هدف أعمق وأكبر من مجرد ‘إسقاط النظام’ ،فيبقى النظام رمزاً للمعارضين إلى ثورة، ٍ الذين يريدون إسقاطه وللمؤيدين الذين يو ّدون حمايته ،دون تش ّكل ‘رمز’ نقيض له يكث ُِّف آمال وأهداف دفع التدخالت الدولية ،وفرضوا بالقمع والقتل خيار ‘الخالفة االنتفاضة .هذا الفراغ مأله ‘اإلسالميون’ مع ِ ٍ عنيف لألصوات العقالنية السلمية والعلمانية. اإلسالمية’ ،مع إقصا ٍء كل كتاباتنا ال تؤثر على أرض الواقع وال يهتم بها ‘الثوار’ فعلياً ،و ُق ّراؤنا أغلبهم خارج سوريا أو ضمن النخب الباقية في سوريا وهذا هو حالنا دوماً ،قبل االنتفاضة وبعدها .هذه حقيقة علينا االعتراف بها إن ك ّنا نو ّد أن نقدم شيئاً لسوريا على المدى الطويل ،أتساءل لو عاد إلى الحياة نزار قباني ،أشهر الشعراء السوريين ،وكتب نصوصاً مماثلة بمباشرتها لتلك التي كتبها بعد حرب الخليج األولى ،هل سيهتم بها السوريون؟ أجرؤ على افتراض أن من سيهتم بها هو النخب ،وليس من الضرورة أن يحتفوا بها أيضاً .ولهذا فإن الدعائية الممارسة في الكتابة فقدت حاملها االجتماعي وفقدت مب ّررها إلى ح ٍّد ما ،هذا من المفترض ولكن ما نشهده هو العكس .ومع ذلك يوسع خياراتهاْ . أن يريحها من عبء دورها كـ ‘بروباغندا للثورة’ وأن ّ فإن ضعف تأثير الكتابة حالياً ال يلغي ضرورتها بل يزيدها ألنها تساهم في بناء روح المجتمع على المدى باب لرسم مالمح أخرى لما نعيشه ،ودعو ٌة للقدرة على التجاوز والمشاركة في مصي ٍر آخر. البعيد ،إنها ٌ لعل الحراك السوري أسقط مرجعيات كبيرة فكرية وأيديولوجية كانت تسيطر على الكتابة اإلبداعية، عبر أسماء صعدت من خالل تيارات سياسية في مراحل سابقة ،كما فقدت أسما ٌء كبرى تأثيرها الهائل الـمعاش على المشهد اإلبداعي ،ولكن لألسف هذا لم يترافق مع إنتاج مرجعيات جديدة .لعل الواقع ُ والتجربة الشخصية ش ّكال مرجعية أكثر حضوراً عبر كتابة سردية متعثّرة بالدرجة األولى أشبه بالمذ ّكرات، تقتبس من اليومي وتعتمد على تناقضاته ،وعبثيته أحياناً ،ومع ذلك وقع كثي ٌر منها في فخ الكتابة الدعائية. وعلى مستوى آخر تك ّرست عقلية إقصاء وتخوين لكل كتابة نقدية تقارب الحراك وترصد أخطاءه أو أسئلته الخالفية خاصة في المراحل األولى ،حالة رقابة يمارسها المعارضون ال تختلف كثيراً عن تلك التي يمارسها النظام ،وعدنا لنسمع ما يشبه “ال صوت يعلو على صوت المعركة”. هناك عدة حاالت إبداعية مغايرة للسياق السابق منها على سبيل المثال ال الحصر محمد ديبو ،رائد وحش ،وعارف حمزة ،ولكنها ظواهر فردية وال تش ّكل تياراً عاماً .وهناك حاالت ال تعتمد النشر الورقي مثل دارين أحمد التي تنشر في صفحتها على الفيس بوك ،وبالتالي من الصعب اعتبارها ظاهرة مكرسة في األدب السوري بخاصة أن قسماً مهماً من أفرادها اضطر إلى مغادرة سوريا وبالتالي انقطع السياق الذي تش ّكلت هذه الحاالت ضمنه ،ومع ذلك هي ما ُيراهن عليه في األدب السوري. جانب مقابل القسم األغلب من الكتابات واألعمال اإلبداعية التي تأتينا من السوريين الذين من ٍ انتقلوا إلى المهجر ،تأتي مصاب ًة بعقدة النجاة إن صح التعبير ،فهي تفترض لنفسها دوراً ثورياً في دعم الـمشاهد الغربي ،فتركز على اإلنسان السوري االنتفاضة السورية ،واألسوأ أنها تتماهى مع ما تتمناه من ُ كضحية يجب إنقاذها ،وبالتالي َت َت َن َّمط ،وتتحول إلى مونولوج طويل ّ ممل أحياناً ،وال يقدم غير شحنة 53
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
األدب السوري ‘املعارض’ يف مأزقه
عاطفية فائضة فوق الصورة البصرية والتقارير الدولية .ومن المضحك المبكي أن أغلب هذه الكتابات بنوع من الريبة أو النفور أحياناً ،ألن أصحابها ‘هربوا’ أو ال يعانون ما يعانيه من َينظر لها من في الداخل ٍ في الداخل ،وبالتالي تزداد الهوة بين الكاتب والمتلقي ،ويغدو ‘أدب المنفى السوري’ للمنفيين والدول المضيفة! كل ما سبق يهدف إلى مقاربة سؤال حول مستقبل األدب السوري ،هل علينا أن ننتظر عدة سنوات لنتجاوز عتبة التنميط نحو التنوع والغنى؟ هل يمكن أن ننتج أدباً يدافع عن اإلنسان بإغناء إنسانيته عبر رصد تحوالتها تحت شرط حياتي ضاغط وعبثي ،أن يقول ما تعجز عنه الكاميرا والتقارير ،هل كان هذا حال األدب العراقي مث ًال قبل أن يعود إلى الخارطة اإلبداعية بتجارب ملفتة منذ فترة ليست بعيدة ،أو األدب الفلسطيني خارج إطار ‘أدب القضية’؟ هل علينا أن نصلب أنفسنا ونجاهد الحقاً للنزول عن الصليب (في اقتباس مباشر من محمود درويش) ،مع غياب من يسأل عنا مصلوبين أم غير مصلوبين؟ هل علينا أن نقضي سنوات أخرى لنتجاوز األزمة ونكتشف أسئلة جديدة تسهم في تشكيل هويتنا وتفضي إلى أساليب جديدة في طرحنا وفي عمق التناول؟ واألهم أن تصمد نصوصنا أمام امتحان الزمن؟ أهم المدارس األدبية في أوروبا جاءت بعد الحرب العالمية الثانية ،وبغض النظر عن مصير هذه المدارس فقد مثّلت تفاع ًال هائ ًال مع المجتمع ،وغ ّيرت فيه وأغنته ،ولعل هذا هو دورها الحقيقي :التغيير على المدى الطويل.
54
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
عالقة املذاهب الفنية
ليليان بالن❊
بالواقع االجتماعي والسياسي
اخلالصة: تهدف املقالة إىل التعريف بالدور التأثريي للحركة السياسية عىل املذاهب الفنية .فالعالقة املتبادلة بني السياسة والفن تظهر يف تنوع االتجاهات الفنية تبعاً للحركات للسياسية واالجتامعية ،ومن خالل اعتبار الفن كجزء ال يتج ّزأ من واقع الحراك الشعبي والجامهريي عرب الزمن ،وكتعبري عن حركة سياسية تبلورت أدبياً وتص ّورت تشكيلياً ضمن مفاهيم فرتة معي وارتباطه باستمرارية فني ّ سياسية ما .وتظهر هذه العالقة أيضاً من استمرارية فك ٍر ٍّ الواقع السيايس املعاش بدءاً من املدرسة االتباعية ،وانتها ًء بباقي املدارس التي اختلفت توجهاتها تبعاً لزمنها السيايس واالجتامعي وحتى يومنا هذا.
❊ حاصلة على إﺟﺎﺯﺓ في اﻟﻔﻨﻮﻥ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻗﺴﻢ ﺍﻟﺤﻔﺮ ﻭﺍﻟﻂﺒﺎﻋﺔ ،وعلى ﺩﺑﻠﻮﻡ ﺗﺄﻫﻴﻞ ﺗﺮﺑﻮﻱ .تعمل كفنانة ﺗﺸﻜﻴﻠﻴﺔ ومد ّرسة لمادة التربية الفنية ،كما شاركت في ﻟﺠﺎﻥ ﺗﺄﻟﻴﻒ ﻗﺴﻢ ﺍﻟﻤﻨﺎﻫﺞ ﻭﺯﺍﺭﺓ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ السورية.
55
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي
ككل ما هو مترابط في حياتنا ،ال ب َّد لفلسفة الفنون من االرتباط الوثيق بواقعها المعاش ،سياسياً ِّ واجتماعياً واقتصادياً ،والتصوير األوضح ِّ لكل حاالتنا االجتماعية والسياسية يتج َّلى عبر العصور بفنون هذه عما يدور بداخله ،ومع َب ٌر للمبدعين .ومن هنا جاء المجتمعات ،فالفن هو مرآة المجتمع وبوابته للتعبير َّ ً ِّ االرتباط الوثيق عبر التاريخ بين الفن والسياسة واالجتماع ،فكانت نشأة المذاهب الفنية مرتبطة ،بكليتها، بواقع سياسي ساد ضمن حقب ٍة زمنية مع ّينة ،وهي ليست وليدة الصدفة ولك ّنها تعبر عن ضرور ٍ ات تاريخ ّي ٍة ٍ ملحة. ّ وغالباً ما يرتبط ظهور مذهب ف ّني بصعود طبق ٍة اجتماعي ٍة جديدة ،ويزدهر بازدهارها .فعصر المذهب االتّباعي ،على سبيل المثال ،هو عصر أنظمة الحكم الملك ّية المركزية التي ق ّلصت نفوذ األمراء ووحدت إقطاعاتهم المش ّتتة في دول ٍة واحدة .فبعد أن كان اإلقطاعيين ،وح َّدت من سلطتهم المستقلةّ ، رجال األدب وأهل الفن والقلم والفكر موزّعين متن ّقلين بين بالطات األمراء الصغيرة في أوائل عصر النهضة، التأم شملهم في العصر االتّباعي في بالطات الممالك الكبيرة .وهذا العصر هو العصر الذي ترسخت فيه بصف ٍة نهائية ال ّلغات القومية لمختلف الشعوب األوروبية ،كما تغيرت عالقة الفنان بجمهوره .فحين كان أدب هذا الجمهور أرستقراطياً بات أقرب إلى أن يكون بورجوازياً .ولكن هذا ال يعني أن األدب االتّباعي هو ٌ ٌ محافظ ال يح ِّرض الفرد على المجتمع ،وال يرمي إلى هدم النظام القائم وال المساس ثوري ،فهو في جوهره ٌّ بالتسلسل الطبقي الهرمي .ألنّ الفنانين ته ّيبوا من خوض موضوع اإلصالح السياسي واالجتماعي ،كحقوق األمة وحرية الفرد والنقد للمسؤولين ،خوفاً من ارتداد البالد إلى ما كانت عليه من فوضى وعذاب في ظل اإلقطاع ،والتّجاه العصر نحو سيادة الحكم الملكي المطلق ضمن سلط ٍة الوحدة واالئتالف .وقد تج ّلى ذلك واضحاً ،أدبياً ،من خالل أعمال األديب الفرنسي بوالو الذي نظم مط ّول ًة شعرية من ألف ومئة وعشرة أبيات عن أهم القواعد االتباعية التي بقيت طوال جيلين منار ًة لما جاء بعده من اتّباعيين .ومن جه ٍة تشكيلية ظهر نيوكوال بوسان (ت )1665 .وما اتّسم به أسلوبه من الدقة والمتانة في البناء أنموذجاً ،خالل القرنين السابع عشر والثامن عشر ،لمن جاء بعده أمثال شاردان (ت )1799 .وغيره ،ومن أهم أعماله‘ :مذبحة 56
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي
األبرياء’‘ ،طفولة باخوس’‘ ،وحي الشاعر’، و‘لوحة الشتاء’. وفي أواخر القرن الثامن عشر بدأت دعائم االتّباعية تتداعى نتيجة االنقالب الصناعي الذي ساد أوروبا في النصف الثاني لهذا القرن .وقد م َّثل هذا االنقالب ثور ًة ال نظير لها في تاريخ االنسانية والتق ّدم البشري ،حيث صعدت الطبقة المتوسطة لتعرف بما يسمى بالبورجوازية التي قلبت معالم المجتمع طفولة باخوس لبوسان رأساً على عقب .فبعد الثورة الفرنسية تبلورت مفاهيم جديدة مثل الجمهورية ،والديمقراطية ،وحقوق اإلنسان ،وحق األمة في اختيار مصير شعوبها ،ونشأ المذهب الف ّني الجديد الذي ُع ِرف باسم ‘المذهب اإلبداعي’ الذي كان التعبير الف ّني عن ثورة أهم رواده جان جاك روسو وأبرز مؤلفاته ‘العقد االجتماعي’، البورجوازية السياسية واالجتماعية .وكان من ِّ وغوته وهو من الك ّتاب األلمان ومن أعماله ‘آالم فرتر’ .أما الفنان فرانشيسكو دي غويا (ت ،)1828 .الذي ُيعتبر من ر ّواد هذا المذهب في إسبانيا ،فقد ص َّور بشاعة الحرب ومآسيها وما يرافقها من آالم ،كما أنّه يعد الف ّنان األ ّول الذي أدخل عنصر البشاعة والتشويه ،خارجاً بذلك عن مفهوم الجمال التقليدي ،ومن أهم ُّ أعماله ‘حادثة 3أيار ’1808ومجموعته ‘كوارث الحرب’ .1814-1810وأيضاً أوجين دي الكروا (ت)1863 . الذي ُيعد رائد اإلبداعية لما يقارب األربعين عاماً في فرنسا الذي تأ ّثر بمؤلفات غوته وشكسبير وسكوت. أهم أعماله ‘الحرية قائدة للشعب’ و‘مذبحة سيو’. ومن ِّ ولكن مع بداية النصف الثاني للقرن التاسع عشر ظهر مذهب ‘الفن الواقعي’ كنتيجة للثورة الفكرية على المذهب اإلبداعي والتقدم العلمي الهائل من فتوحات علمية ،كنظرية داروين والفلسفة الوضعية ألوغست كومت (السبيل إلى الحرية قائدة للشعب لدي الكروا معرفة الحقيقة من غير طريق المالحظة والتجربة) ،وإخفاق ثورات 1848 الديموقراطية ،حيث س ّمي هذا العام بعام ‘ربيع الشعوب’ الذي انتهى بفواجع في كل مكان وإطباق قبضة الحكم الرجعي الملكي ،باإلضافة إلى انتشار األفكار االشتراكية التي لفتت األنظار إلى الطبقات الشعبية التي تئن تحت نير االستغالل ،وخصوصاً العمال والفالحين. فقد عكس مذهب ‘الفن الواقعي’ هذه األشياء الجديدة وص َّور بؤس هذه الطبقات 57
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي
ورغبتها بتغيير واقعها الما ّدي .وقد اتسم فن هذه الفترة بأنه ال شخصي ،ويطلب ُّ الد ّقة والموضوع ّية ،مثلما يطلب العلم، فكان خير ممثّل لهذه الفترة الروائي الفرنسي إميل زوال في روايته ‘الحيوان البشري’ ،وأيضاً الروائي الفرنسي بلزاك واضع ‘الملهاة البشرية’ ،وتشارلز ديكينز في رواياته ‘أوليفر تويست’ و‘قصة فن العمارة مدينتين’ .كما تج ّلت في ّ نظرية فيزالي القائمة على ‘الوظائفية’ مغربالت القمح لكوربييه حيث استعمل الحديد في العمارة ،فكان برج إيفيل .وتشيكيلياً الفنان غوستاف كوربييه (ت )1877 .ومن إحدى لوحاته ‘مغربالت القمح’. ثم جاءت بعد ذلك المدرسة الرمزية التي تدين بنشأتها لعوامل فلسفية أوالً ،وخصوصاً الفلسفة المثالية ،التي جاءت رداً على شطط النزعة المادية الوضعية في تفسيرها الجبري للكون والتاريخ واإلنسان. لذلك جعل الرمزيون هدفهم األساسي هو اإلبحار داخل دائرة ّ اللوعي وكشف غوامضها .وكذلك تزامنت على الصعيد االجتماعي مع استقرار أنظمة الحكم الرجعية الملكية واإلمبراطورية ،في جميع أنحاء أوروبا عقب قمع الحركات الشعبية وخصوصاً انتفاضة ‘كومونة باريس’ في العام .1871ومن رواد هذه المدرسة أدبياً إدغار آالن بو ،وبودلير الذي قال بيته الشهير“ :أنا جميلة ...أيها البشر ...كحلم من حجر” .أما تشكيلياً فقد أعطت الرمزية األلوان والظالل قيمة رمزية وتعبيرية جديدة ،فكان كل لون مرتبط بإحساس محدود أو بفكرة معينة؛ فاألحمر يرمز إلي الحركة والصخب والشهوة ،واألصفر للمرض ،بينما األخضر ّللمحدود. ولكن مالبثت العوامل التاريخية أن تغيرت ،وتغ ّيرت معها المعطيات السياسية ،فساد عص ٌر جديد هو عصر انتصار االشتراكية شبه العالمي ،من ثورة أكتوبر في االتحاد السوفييتي إلى ثورة الصين ،وظهرت أفكا ٌر جديدة تنادي بالتحرر القومي واالجتماعي من أجل الديمقراطية والحرية وحق تقرير المصير في العالم الثالث وسميت ‘بالواقعية الجديدة’. جانب من لوحة االستعداد لدييغو ريفريا واتسمت بسمات جديدة تختلف عن ‘الواقعية القديمة’ حيث يتميز اإلنسان بحرية اإلرادة واالختيار ،كما أنه ابن الشروط التاريخية المحيطة به التي هي في الحقيقة من صنعه ،وتؤكد أن الفن هو عبارة عن إعادة خلق للواقع وتغليب عناصر على أخرى ،كما أن الواقع بالنسبة لهذا المذهب الفني هو عبارة عن واقع متحرك ومتحول قابل للتغيير والتغير، 58
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
عالقة املذاهب الفنية بالواقع االجتماعي والسياسي
والهدف األساسي ليس هو تثبيت هذا الواقع إنما تجاوزه وتخطيه نحو األفضل فهي رؤية مستقبلية متكاملة .وتثق هذه المدرسة بأن بذور التغيير لغد واعد تكمن في قلب الواقع الحالي المعاش ،فمن أهم مميزاتها عرض حالة البؤس ،والثورة عليه في آن ،ومن هنا اتسمت بالنظرة التفاؤلية .لذلك تولي هذه المدرسة اهتمامها للقوى الفاعلة في التاريخ أي قوى الجماهير ،إذ أن هدفها األساسي إبراز المبادرة التاريخية للجماهير على صعيد جمالي وفني .و ُيعتبر مكسيم غوركي مؤسس هذه المدرسة وهو كاتب روسي ولد عام 1869من أهم أعماله ‘حياة طفل’ و‘األم’ حيث نذر كتاباته للثورة ،ومن إسبانيا الشاعر الشهيد فيديريكو غارسيا لوركا ،وتشكيلياً يعتبر دييوجو ريفييرا (ت )1957 .المكسيكي خير مثال على هذا المذهب ومن لوحاته الشهيرة ‘االستعداد’. وبهذا نؤكد أنه اليمكننا فصل الحياة الواقعية عن الحياة الفنية ،ال أدبياً وال تشكيلياً ،ألنها ٌّ كل متساو في خط سيره وال ب ّد لها من التأثر بعضها ببعض لتكون مرآة التاريخ على الواقع المعاش .وكما هو الحال في أوروبا كان الحال في الشرق األوسط ،البد من التداخل الالمنتهي بين الفن والسياسة منذ الجاهلية حيث استخدم كل من الفن والسياسة للترويج للدين ،وحتى عصرنا هذا ،وإن كان بطريقة مغايرة أصبح فيها الفن والدين يخدمان الواقع السياسي بصورة أو بأخرى .وهذا ما تبلور في شكل واضح جداً ضمن أحداث السنوات األربع األخيرة في المنطقة العربية .وهو ما سنتكلم عنه في مقاالت قادمة.
59
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
دولة اإلسالم يف العراق والشام ‘داعش’:
مارك براتشر❊
جتاوز حدود املزاودات❊❊
اخلالصة: أثار ‘داعش’ مؤخراً الذعر بني وسائل اإلعالم ،مهدداً بتفكيك سوريا والعراق وتحويل مسلمي أوروبا إىل متطرفني ،وتقويض القضية العلامنية للثوار السوريني .تبحث هذه املقالة يف الجدال الذي يزعم أن داعش رمبا يف الواقع يعمل كقوة مضادة للتطرف ،بحيث يردع املجاهدين املستقبليني الذين سيخافون من االنضامم إىل ‘داعش’ كونهم سيضطرون لقتل زمالئهم الثوار أكرث من قتل قوات النظام ،كام أنه سريدع الجامعات الجهادية األكرث اعتداالً من التعامل مع ‘داعش’ خوفاً من تقويض رشعيتهم.
❊ يحمل مارك بارتشري Marc Bracherشهاديت البكالوريوس واملاجستري يف الحرب واملجتمع من جامعة ويلز ،سوانزي .ينهي حالياً التحضري لشهادة املاجستري يف سياسات الرشق األوسط من جامعة إكسرت ،حيث يتخصص بالتطرف اإلسالمي والرصاع الطائفي. ❊❊ هذه المقالة ترجمة للنص األصلي المرسل إلى مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوان.ISIS’ “Out-Bidding” Overstep :
60
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
دولة اإلسالم يف العراق والشام ‘داعش’
كثيراً ما ُينظر إلى الصراع الثوري في سوريا كحالة تشبه النظرية التطرفية المعروفة بـ ‘المزاودة’. اقترحت ميا بلوم هذا المصطلح عام ،2005ليشير إلى العمليات التي تقوم بسببها الجماعات الفاعلة في نفس المنطقة ،والتي تمتلك نفس األيديولوجيات وتتنافس فيما بينها ،في سبيل الحصول على الدعم ذاته؛ عبر تصعيد خطابها وممارساتها من أجل الفوز بملكية تلك القضية .في سياق الصراع السوري ،تتنافس الميليشيات اإلسالمية التوسعية ،التي ت ّدعي جميعها ملكية قضية الجهاد السلفي ،متحول ًة إلى ميليشيات أكثر تطرفاً وأكثر قسوة ،كل ذلك في سبيل تعزيز اعتبارهم ‘محاربي الله الحق’ .تم تنشيط عملية المزاودة في سوريا من قبل جهات أخرى ،حيث نرى أن الجماعات المتطرفة –وبخاصة ‘جبهة النصرة’ المرتبطة بتنظيم ‘القاعدة‘– تحصل على حصة األسد من التمويل الخارجي من المؤسسات الخيرية اإلسالمية السعودية .وهذا ما ح َّفز فصائل ثورية أخرى أكثر اعتداالً ،وربما أكثر علمانية ،على المزاودة على اإلسالميين من أجل الحصول على السالح والدعم والمحاربين الالزمين لمواجهة العدوين التوأمين؛ مجموعات األسد والمجموعات الجهادية. يبدو أن دوامة التطرف والتعصب التي ال يمكن إيقافها قد سببت الذعر لإلعالم العالمي وصانعي السياسات ،ودفعت إلى حال ٍة من الهستيريا من خالل المزاودة األخيرة التي قام بها ‘داعش’ في حربه الخاطفة في العراق ،وإعالنه هذا األسبوع عن إقامة ‘دولة الخالفة اإلسالمية’ .بدأت السعودية العربية بحشد قواتها على الحدود العراقية ،ويقال إن إيران أرسلت طائر ٍ ات مقاتلة ،بينما يبدو أن حال ًة من الشلل قد أصابت أوباما وكاميرون .ومع ذلك ،ورغم كل شيء ،فإن فوز ‘داعش’ بعملية المزاودة األخيرة التي قام بها قد يكون سيفاً ذي حدين؛ شل ‘داعش’ ،وتشويه حركة الجهاد السلفي بكاملها. مشكلة النجاح أنه يؤدي إلى غطرسة .ويظهر السجل التاريخي للميليشيات الجهادية السلفية أن ‘جنود الله’ ليسوا من َّزهين عن هذه الصفة السيئة .أدى النجاح العملياتي بداي ًة لدى ‘الجماعة اإلسالمية المسلحة’ في الحرب األهلية في الجزائر 1990وصوالً إلى ‘القاعدة في العراق’ خالل سنوات االحتالل إلى إهمالٍ إستراتيجي .فبينما تقوم هذه الجماعات بتمجيد نجاحاتها في ساحات المعارك ،تمكن مالحظة 61
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
دولة اإلسالم يف العراق والشام ‘داعش’
فشلها في احترام أهمية العالقات األهلية .وهكذا وجد كال الطرفين أنفسهما بين المطرقة والسندان ،حيث أثار تطبيق قوانين الشريعة بطريقة قاسية حفيظة القاعدة الشعبية المؤيدة لها سابقاً .وجدت ‘الجماعة اإلسالمية المسلحة’ في الجزائر نفسها مهمش ًة ومنبوذ ًة من قبل باقي الثوار ،في حين أصبحت ‘القاعدة في العراق’ دون أي أهمية تحت وطأة الجيش الوطني العراقي من ناحية ،وتمرد أهالي العراق الغاضبين من ناحية أخرى .عام 2011تم نشر ‘بيان شباب غزة’ الذي أوضح أن حتى حركة حماس التي تحظى بشيء من منأى من هذا المصير. االحترام لم تكن في ً يبدو أن الجماعات الجهادية السلفية تعلمت من أسالفها خالل األعوام الثالثة األولى للثورات العربية منذ عام .2011فقد ركزت ‘جبهة النصرة’ الطفل المدلل للقاعدة في سوريا على تلميع شهاداتها العسكرية والوطنية بقتالها ضد األسد ،بدالً عن محاولة فرض قوانين الدولة اإلسالمية الصارمة التي يرفضها أغلب السوريين .أما في ليبيا فقد حاولت الجماعات الجهادية الموجودة مسبقاً ‘كالجماعة الليبية اإلسالمية المقاتلة’ التأقلم مع األجندة الديمقراطية الجديدة ،أما الجماعات الجديدة ‘كجماعة أنصار الشريعة’ فقد تعلمت احترام رأي الشعب ،مستبدلين العنف بحمالت ‘القلوب والعقول’ بعد أن ثار أكثر من 30000ليبي احتجاجاً على طردهم من بني غازي بعد هجومهم على القنصلية األميركية عام .2012وحده ‘داعش’ لم يتعلم الدرس ،حتى أن ‘القاعدة’ قد تبرأت منه لشدة تطرفه ،وأصبح هدفاً للجماعات السنية المنافسة في سوريا والعراق. بعد تصرفات ‘داعش’ بدأت الدول السنية المجاورة لسوريا تفكر مرتين قبل دعم الجماعات الجهادية السلفية ضد األسد .انتصرت ‘جبهة النصرة’ بمسابقة المزاودة بفضل قوتها الجهادية ،وحافظت أجندتها الوطنية البحتة وعقالنيتها الظاهرة على صورتها كقنا ٍة آمنة بالنسبة لدول الخليج .في المقابل ،فإن برنامج عمل ‘داعش’ العالمي الذي أعلن عداوته للفصائل السورية الثورية ،ولألنظمة السنية المجاورة ،جعل منه بدي ًال خطيراً بالنسبة للراعين المحتملين .لقد و ّقع ‘داعش’ على شهادة موته بعد مزاودته على ‘جبهة النصرة’ وتوسيع عملياته خارج األراضي السورية ،وإعالن قيام ‘دولة الخالفة اإلسالمية’ .بينما ترغب الدول الخليجية الراعية رعاية مجموع ٍة ذات أهداف واضحة لزعزعة المنطقة برمتها ،فإن التكتيك الوحشي الذي يستخدمه ‘داعش’ في العراق وسوريا ،بذبح الثوار الزمالء والقوات الحكومية على حد سواء ،سيؤدي غالباً إلى نفور الجهاديين المستقبليين الذين سيدركون ببطء أن االنضمام لهذه الجماعة سيتضمن حتماً قتلهم ‘ألشخاص سنيين’ بدالً عن محاربة الطغيان. موصوم بالعار ،ستبذل الجماعات وسيذهب داعش بش ّره إلى أبعد من ذلك أيضاً .فباعتبار أن ‘داعش’ ٌ الجهادية السلفية المشابهة مثل ‘جبهة النصرة’ في سوريا ،والجماعات األخرى التي تحمل نفس الفكر ‘كأنصار الشريعة’ في ليبيا تونس واليمن ،جهداً لالبتعاد عن هذه الجماعة كون الخيار المباشر المطروح هو التقليل من قيمتها .وطالما هذا الوضع مستمر ،فلن يتم تنفير الجهاديين المحتملين في المستقبل من االنضمام إلى ‘داعش’ فقط بل حتى من االنضمام إلى ‘جبهة النصرة’ و‘أنصار الشريعة’ أيضاً .وربما سيتحول ‘داعش’ إلى أكبر قو ٍة مضاد ٍة للتطرف في المنطقة.
62
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مصطفى دباس❊
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها:
من التنظيم امليليشياوي إىل الدولة القروسطية اخلالصة:
اختلفت األدوات التي بدأ تنظيم ‘داعش’ املتطرف يغزو بها املنطقة ،ولعل أهمها استخدامه لوسائل اإلعالم كافة املرئية منها واملسموعة ،واآلن املقروءة بعد صدور العدد األول من مجلة ‘دابق’ التي ستكون الناطق الرسمي باسم التنظيم ،والتي أدهشت الكثريين برصياً .فقد متتعت املجلة بالحرفية وأناقة اإلخراج وجودة الصور التي احتوتها ،األمر الذي جعل البعض يصفون اإلعالم الذي يحاول داعش تقدميه أقرب إىل اإلعالم املنظم ‘للدولة’ منه إىل اإلعالم ‘امليليشيوي’ املتخبط .كام أن صدورها بأكرث من لغة يؤكد أن ‘داعش’ بدأ يتجه نحو العاملية ،خصوصا أنها تحايك الغرب من حيث تقدميها للمقوالت العامة للتنظيم .املجلة التي حملت عنوان ‘العودة للخالفة’ ،وصدرت بـ 48صفحة ،وباملواصفات القياسية تطرح كثرياً من التساؤالت حول اإلمكانيات املادية التي ميتلكها هذا التنظيم ،وحول قدرته عىل تسخري التكنولوجيا اإلعالمية لخدمته يف زمنٍ عجزت فيه كثريٌ من التنظيامت الدينية األخرى املشابهة له عىل القيام بذلك. ❊ صحفي وخريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق .مصور فوتوغرافي ورسام كاريكاتور .شارك في معرض تصوير بعنوان ‘أنت’ ،ومعرض كاريكاتور بعنوان ‘وجهة نظر’.
63
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها
لم تكن الحرفية اإلخراجية للعدد األول من مجلة ‘دابق’ ،التي أصدرها تنظيم الدولة اإلسالمية في العراق والشام ،جديدة على هذا التنظيم الذي اعتاد بث مقاطع فيديو عالية الدقة منذ تأسيسه مطلع نيسان/أبريل ،2013فقد وصفها مراسل الـ CNNبأنها سلسلة أفالم تشابه في جودتها أفالم هوليود ،وسماها التنظيم ‘صليل الصوارم’ ،حيث ترصد بدقة كل المعارك واالنتصارات واإلعدامات التي يقوم بها .تظهر في ٌ ومعدات عسكرية وتقنية ،وكاميرات وسيارات حديثة .وقد تم تصوير أسلحة، هذه األفالم عالية الجودة ٌ مقطع االفتتاح في الجزء الرابع من ‘صليل الصوارم’ من طائرة عمودية ،ووصل عدد المشاهدات لهذه المقاطع إلى ماليين خالل أيام قليلة ،فض ًال عن استخدام التنظيم للفضاء اإللكتروني في شكل واسع من خالل المدونات وحسابات ‘تويتير’ و‘فيسبوك’ لنشر أخباره والترويج ألفكاره ومنهجه ،وبأكثر من لغة ،وهو ما لم تستطع فصائل المعارضة المسلحة في سوريا من القيام به خالل ثالث سنوات؛ ما يطرح بقوة العديد من عالمات االستفهام حول مدى قدرة ‘داعش’ على تسخير التكنولوجيا وتطويعها لخدمته. المجلة التي حمل عنوانها الرئيسي ‘عودة الخالفة’ أصبحت متوفرة اآلن في العديد من الموقع االلكترونية بنسختها اإلنكليزية ،كما تصدر بنسخة ورقية بلغات أخرى باعتبارها الناطق الرسمي باسم التنظيم .وقد تشهد المرحلة القادمة والدة أداة إعالمية لتنظيم بدأ يفكر بمنطق ‘الدولة’. ٍ صحف عربية وعالمية ال من يدري فقد تصبح المجلة على قائمة وسائل اإلعالم األكثر شهرة بجانب سيما بعد انتشارها إلكترونياً كالنار في الهشيم ،حيث يتبع التنظيم في تحريرها وإخراجها أسلوب اإلعالم الرسمي األحادي ،مستثمراً كافة وسائل اإلعالم المرئية والمسموعة والمقروءة إليصال رسالته ،بغض النظر عن مدى وحشية مضمونها ،فهو يركز على شكل الرسالةعبر إظهار عناصر منتقاة من الخبر؛ سواء من حيث المعلومة أو من حيث المشهد البصري المرافق (الذي لم يكن بقسوة مشاهد الفيديو المسربة عبر موقع يوتيوب حيث تظهر عمليات اإلعدام والذبح بحق من يصفهم التنظيم بـ ‘الكفرة’). تبدو المجلة جذاب ًة بصرياً ،ولم يخفي الكثير ممن حصلوا على نسختها اإللكترونية ،ومن رواد مواقع التواصل االجتماعي وبعض الفنيين في مجال اإلخراج ،دهشتهم لقدرة هذا التنظيم -الذي ُوصِ َف سابقاً 64
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها
بأنه أبعد ما يكون عن التكنولوجيا -على إخراج وسيلة إعالمية على هذا القدر من االحترافية ولو على مستوى اإلخراج البصري .فقد صدرت المجلة بـ 48صفحة وهو رقم عالمي إذا ما تحدثنا عن المواصفات العالمية لعدد صفحات المجالت ،كما استخدمت النسب العالمية في حجم القطع المستخدم .ص ْدر غالف المجلة عبارة عن صورة مصممة يظهر فيه القسم اآلسيوي من الوطن العربي ،وجزء من مصر ،باإلضافة إلى تركيا وإيران على كامل الصفحة ،ويتوسطه عنوانٌ ٌ عريض باللون األسود كتب فيه ‘عودة الخالفة’ بداللة واضحة إلى أهدف هذا التنظيم في التوسع الجغرافي .كما اكتفى بثالثة عناوين فرعية كتبت بأسفل الصفحة ‘أخبار الشام والعراق’ و‘من الهجرة إلى الخليفة’ و‘اإلمامة في ملة إبراهيم’، وبتنسيق خطي ملفت حيث اعتمد على استخدام أحجام مختلفة للخطوط بطريقة تجعل القارئ الغربي يشعر وكأنه يقرأ مجلة عالمية ،مستخدماً خلفي ًة لهذه العناوين منسجم ًة تماماً مع اللون الك ّلي لبطن الغالف. في الصفحات الداخلية يبدو التركيز على المشهد البصري أكبر من القسم التحريري ،وتقدر نسبة الصور بثلثي محتويات المجلة ،وأما القسم التحريري فيظهر على شكل أعمدة تفصل بينها صور أو قد تكون الصورة هي خلفية للنص .كما لوحظ استخدام صور كبيرة على مساحة صفحتين متصلتين كما في أساليب اإلخراج الحديثة ،حيث أن الصورة تتكلم .وبالنسبة للقارئ العربي يكفي أن ينقل بصره بين الصور حتى تصل إليه الكثير من المدلوالت الدينية أو حتى الحربية التي تهدف المجلة إيصالها للمتلقي ،ويبدو واضحاً بأن هذا التنظيم ‘داعش’ قد أدرك منذ البداية أهمية امتالكه ألدوات اإلعالم كي يحارب بها ،كما يحارب بقواته وعتاده على األرض. باقتباس ألبو مصعب الزرقاوي ،القيادي السابق في تنظيم القاعدة في العراق ،يقول تبدأ المجلة ٍ فيه “لقد أشعلت الشرارة هنا في العراق ،وح ّرها سوف يتصاعد بإذن الله ،حتى تحرق الجيوش الصليبية في دابق” ،في إشارة إلى أن هدف هذا التنظيم ليس مرحلياً أو مرتبطاً باألحداث التي تجري في سوريا، بل نابع من عقيدة دينية وتاريخية تهدف إلى إعادة الدولة اإلسالمية إلى أمجادها السابقة في الفتوحات واالنتصار على الصليبيين ‘الكفرة’ بنظرهم ،واالستمرار في التمدد ،حيث استخدم التنظيم عبارة ‘داعش باقية وتتمدد’ في كثير مما نشره عبر مواقع التواصل االجتماعي وفي المواقع اإللكترونية. من مجموعة األخبار والصور التي تضمنتها المجلة ،يبدو أنها موجهة للغرب أكثر من العرب .فقد حاولت عرض المقوالت العامة التي يستند إليها تنظيم ‘داعش’ ،ومنها“ :أيها المسلمون في كل مكان، أبشروا خي ًرا ،وارفعوا رؤوسكم عالية ،بعون الله أصبح لكم دولة خالفة تعيد لكم الحقوق والكرامة والقيادة، إنها دولة حيث العرب وغير العرب ،األبيض واألسود ،الشرقي والغربي جميعاً أخوة ،دولة تجمع القوقازي 65
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها
والهندي والصيني واإلفريقي واألميركي والفرنسي واأللماني واألسترالي ،جمع الله قلوبهم معاً فأصبحوا إخوة بنعمته ،يحبون بعضهم في الله ومن أجل الله ،اختلطت دماؤهم وأصبحوا موحدين تحت راية واحدة، وليعلم العالم إننا نعيش اليوم في عصر جديد”. تبتعد المجلة في أسلوبها التحريري عن سرد التفاصيل في كتابة المواد الصحفية ،حيث ال نجد في المجلة األخبار التقليدية التي اعتاد اإلعالم المضاد لداعش التركيز عليه من انتهاكات ،ومقابر جماعية، وفرض للشريعة اإلسالمية من طريق القوة ،وعمليات الذبح والجلد ،ولم تسلط الضوء على األشخاص الذين يعيشون في المناطق التي يسطير عليها التنظيم ،بل اكتفت باستعراض مجموعة من الصور تظهر الهدوء في المدينة التي يسيطر عليها التنظيم .وفي المقابل تتحدث عن معاناة ‘رعيتها’ في المناطق التي تتعرض للقصف المستمر من قبل النظام السوري وبخاصة في مدينة دير الزور .والمثير للسخرية أن دير الزور وحسب وسائل إعالم كثيرة ،ونشطاء معنيين بحقوق اإلنسان ،كانت المدينة األكثر معاناة من انتهاكات وتنكيل هذا التنظيم. ٍ مقاالت وأخباراً وتقارير مصورة تهدف إلى التركيز على مفاهيم التوحيد ،والمنهج، تتضمن المجلة والهجرة ،والجهاد والجماعة ،حيث تقسم المجلة إلى سبعة فصول؛ حمل الفصل األول تعريفاً عن مجلة دابق وأهدافها وخلفياتها وسبب التسمية ،إذ يكتب المحررون الدواعش أن االسم مستوحى من اسم منطقة ٍ حديث نبوي ،وجرت فيها معركة ‘مرج دابق’ الشهيرة بين المماليك ‘دابق’ شمالي حلب ،والتي ذكرت في ٌ ٌ سابقة ليوم القيامة ،ففيها سيلتقي عالمة والعثمانيين .وفي الرواية الدينية اإلسالمية ،فهذه المنطقة المسلمون والصليبيون في معرك ٍة ينتصر فيها المسلمون .استخدم المحررون في التعريف بالمجلة لفظ ‘ملحمة’ أو ‘هرمجدون’ ،وهو مصطلح يع ّبر عن عقيد ٍة يهوديةٍ ،ويقال بأنها يهودية-مسيحية مشتركة “تؤمن صدام بين قوى الخير والشر ،وسوف تقوم تلك المعركة في أرض فلسطين في بمجيء يو ٍم يحدث فيه ٌ منطقة مجدو ،أو وادي مجدو ،متكون ًة من مئتي مليون جندي يأتون لوادي مجدو لخوض حرب نهائية”. ٍ نبوي ألبي هريرة ،ووفقاً للحديث ،فإن منطقة دابق ستلعب دوراً تاريخياً في كما يستشهدون بحديث ٍّ المالحم التي تسبق فتح القسطنطينية ،بعد انتصار المسلمين ورفع راية الخالفة في األرض. في الفصول الالحقة تستمر المجلة في اللعب على الوتر الديني الستقطاب مزي ٍد من الناس من طريق إيهامهم بعودة أمجاد الدولة اإلسالمية ،ورفع راية اإلسالم في بقاع جغرافية متنوعة ،حيث تع ّرف وتصف المجلة ‘داعش’ بأنه المخلص لهم من عذابات الدنيا ،ومن قمع األنظمة الديكتاتورية الكافرة ،ويقبل التوبة ،ويحض على الهجرة والمبايعة التي تعتبر بمثابة صك غفران لذنوبهم. الدعوة للهجرة تظهر في شكل واضح من خالل مقالٍ في الصفحة 11من المجلة معنون بـ ‘دعوة للهجرة’ ،حيث يطلب من كل الناس الهجرة إلى العراق والشام ألن هذه األراضي ليست فقط للسوريين أو العراقيين ،بل هي لجميع المسلمين ،كما يوجه دعو ًة في شكل خاص إلى األطباء والمهندسين والطالب والخبراء باعتبار أنهم قدو ٌة لباقي الناس ،كما أن لديهم واجباً دينياً بمساعدة باقي الناس على فهم عقيدتهم واصفاً إياهم بـ ‘المتعطشين لفهمها’ ،معتبراً أن “الهجرة ُ فرض َع ْينٍ على كل مسلم”. تعمل المجلة على تبييض صفحة داعش من خالل تركيزها على القهر والظلم الذي تتعرض له شعوب المنطقة ،في محاول ٍة منها إلكساب داعش مزيداً من األطراف إلى جانبه باعتبار أنه يتبنى قضي ًة عالمي ًة 66
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها
تهدف إلى تحرير شعوب العالم من االستبداد والظلم. يبدو أن تنظم داعش استطاع -من خالل اإلعالم في شكل عام ومجلته الجديدة في شكل خاص -أن يمتلك وسائل وأدوات عجزت التنظيمات ‘الميليشيوية’ أو الدينية المناهضة ألنظمة الحكم استخدامها ،ولعل تنظيم دعوة للهجرة إىل دولة الخالفة ‘جبهة النصرة’ في سوريا أكبر مثال على ذلك .فرغم اإلمكانيات المادية التي يحظى بها ،إال أنه ومع مرور 3سنوات من تواجده في شكل علني على األراضي السورية لم يستطع أن يقدم إعالماً يتصف بالحرفية والمؤسساتية .بل كان يكتفي بنشر بيانات متفرقة ومقاطع فيديو تكاد تكون في معظمها مس ّربة وال تحاكي بشكلها أو مضمونها الرأي العالمي ،وهي خالية من التقارير الصحفية والميدانية باستثناء بعض التقارير الفردية من قبل نشطاء إعالميين في المناطق التي يسطير عليها التنظيم ،والتي غالباً ما تُشْ َت َرى من قبل محطات عالمية أو محلية، أي أنها ليست ناطقة رسمياً باسم التنظيم .كما لم يستخدم فيها كاميرات الـ HDإذا كنا نتحدث عن التقارير المصورة ،أو اإلخراج اإللكتروني المبهر إذا كنا نتحدث عن المخرجات الصحفية اإللكترونية أو حتى الورقية والتي ال زالت نادرة جداً .وينسحب ذلك على باقي التنظيمات المسلحة في سوريا ،وحتى على خشبي وال يحاكي التطور التكنلوجي الذي إعالم النظام الحاكم الذي يوصف إعالمه من قبل كثيرين بأنه ٌ ٌّ وصلت إليه المرحلة الراهنة. تنتقل المجلة في القسم التالي إلى مناقشة خبر إعالن الخالفة اإلسالمية في األول من رمضان ،مشير ًة إلى فرح المؤمنين الذين مألوا الشوارع احتفاالت بقيامها .ثم مقتبسات من خطبة الخليفة أبو بكر البغدادي الذي يتبع اسمه دائماً بجملة ‘نصره الله’ ،وتكاد ال تخلو صفحة من المجلة من أحد اقتباسات البغدادي بوصفه أميراً للمؤمنين وقدوتهم الحسنة .ورغم تنوع المواد التي تنشرها المجلة بين األخبار والتقارير ،إال أن الدعوة للهجرة والجهاد كان لها الحصة األكبر ،مستخدم ًة الكثير من المفردات التعبوية التي تحاكي المشاعر والعقل معاً ،لتوضح من خالل اقتباسات لخطبة الخلفية بأن العالم انقسم إلى معسكرين؛ األول مخيم المسلمين أو المؤمنين ،والثاني مخيم المنافقين أو غير المؤمنين الذي يتضمن “اليهود والصليبيين وحلفاءهم ،ومعهم بقية األمم واألديان الكافرة” .وبهذا يخرج التنظيم من المنظور الضيق للصراع القائم في تاريخي بين اإلسالم وغير سوريا والعراق حالياً ،والذي يبدو أنه صر ٌاع سني شيعي ،ليظهره على أنه صر ٌاع ٌّ اإلسالم ،وهدفه ليس محلياً كما يسوق له من قبل ‘الال داعشيين’ ،وال يقتصر على العراق وسوريا فقط ،بل يهدف إلى بسط سيطرة اإلسالم على كل أنحاء العالم. 67
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مقاالت
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها
ومن األخبار التي نشرتها المجلة في الفصول التالية “عقد اجتماع موسع بين زعماء ووجهاء القبائل في والية حلب وبين ممثل الدولة االسالمية ،تحدثوا خالله عن جمع الزكاة، وأعدوا قوائم بأسماء األيتام واألرامل والمحتاجين للزكاة والصدقات ،وكيفية تشجيع الشباب لالنضمام للدولة اإلسالمية” ،وبهذا يظهر اجتامع مع العشائر العربية التنظيم براع ًة في إيصال ٍ بخطوات مدروس ٍة ومتقنة الستقطاب الفئات رسالته للجميع بأنه لم يعد تنظيماً مشتتاً وفوضوياً ،بل يقوم المستضعفة من جهة ،وإبراز توسعه عسكرياً في المنطقة من خالل تحريره لمنطقة الخبر والبوكمال التي يطلق عليها اسم ‘والية’ ،مع التركيز على الضحايا المدنيين الذين يستهدفهم الطيران العراقي والسوري في قصفه على مواقع ‘داعش’. ولم يتردد المحررون في وضع صور المجاهدين ‘الشهداء’ الذي سقطوا في سبيل نشر دعوة الله ونصرة المظلوم في األرض في شكل متوازن ،مع نشر صور وصفهم بأنهم قتلى من جنود األعداء ،والذي يقصد بهم جنود النظام ،مبتعدين عن نشر صور الرؤوس المقطوعة أو الجثث الممزقة أو مشاهد الذبح. وبهذا يثبت التنظيم مر ًة أخرى من خالل ‘دابق’ أنه يسعى لتقديم إعالم احترافي ،فهو ال ينشر الصور الملتقطة بكاميرات موبايل أو كاميرات هواة ،بل بكاميرات احترافية -كاميرات المؤسسة -ليقول للعالم أنه يقدم إعالم ‘دولة’ وليس إعالم ‘تنظيم’. تنشر المجلة أيضا أخبار التنظيم في سوريا ،وأخبار معارك التنظيم ،وتعدد انتصارات ‘الدولة اإلسالمية’ منذ دخولها العراق ،وفي مقدمتها تحرير عدة محافظات ،أو واليات بحسب ما يسميها التنظيم ،من قوات الجيش العراقي ،الذي أطلقت عليه صفة ‘الصفوي’ ،كـ “والية األنبار ،وديالى ،وكركوك ،وصالح الدين”. وحول مخالفيها من رجال الصحوة والجيش والشرطة الذين يسميهم التنظيم بـ ‘المرتدين’ تنشر المجلة عن توبة آالف المرتدين خالل تحرير مدن العراق على التوالي ،ويبين أن عمليات التحرير هذه قد ساعدت الكثير من المرتدين على التوبة والخالص من حكم الجيش ‘الصفوي’ الذي ف َّر من المعركة مخلفاً األسلحة والذخائر التي جهزته بها الدول ‘الصليبية’ ،مشير ًة إلى أن أعداداً كبير ًة من مقاتلي الصحوات في الواليات المحررة أعلنوا توبتهم. إن قدرة تنظيم داعش على تسخير التكنولوجيا اإلعالمية لصالحه ،وإيجاد كوادر إعالمية للعمل على ٍ تساؤالت عديدة مستوى عالٍ من الحرفية ،وما يتطلبه ذلك بدوره من الكثير من األموال ،يطرح خلفه 68
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
يف الصورة البصرية لـ ‘جملة دابق’ وإسقاطاتها
عن مصادر تمويله. وفي هذا السياق ذكرت صحيفة ‘فايننشال تايمز’ بأن التنظيم “يعتمد في تمويل نفسه على نشاطاته اإلرهابية” ،مشبه ًة إياه بـ “شرك ٍة وجمعي ٍة خيرية وحكوم ٍة في نفس الوقت، واستطاع تمويل نشاطاته عبر شبكة في الداخل والخارج وتعود لسنوات”. وزعمت الصحيفة أن ما أسمته “نجاح التنظيم ،والسرعة الفائقة التي سيطر فيها على شمال العراق في األيام األخيرة ووضع البالد على حافة الحرب األهلية ،جاء نتيجة لنشاطات تجارية واسعة ،ومربحة في الوقت نفسه ،وتم بناؤها عبر السنين” .وقالت الصحيفة إن “سيطرة المسلحين على مدينة الموصل واألموال التي حصلوا عليها من البنك المركزي في المدينة ،وتقدر بحوالي 225مليون دوالر أمريكي ،استفاد ‘داعش’ منها ،وشكلت لديه ثرو ًة ال تنافسه فيها أي جماعة أخرى” .وفي المنطقة المحيطة بالرقة يقوم ‘داعش’ باستخراج 30.000برميل نفط يومياً ،حسب تقارير استخباراتية غير دقيقة ،وهذه الكمية قليلة مقارنة مع 300.000برميل كانت تستخرجها حكومة النظام السوري“ ،ومع ذلك توفر للتنظيم مصدراً للدخل ال بأس به”. وأضافت الصحيفة أنه “يتم بيع النفط من خالل وسطاء ،وينقل بعد ذلك لتركيا ،ويتم تهريب كميات كبيرة منها للعراق” .وعثر المسؤولون األتراك على أنابيب نفط بدائية مطمورة تحت األرض لتهريب النفط عبر الحدود .وأوضحت الصحيفة أن تنظيم ‘داعش’ يبيع النفط للنظام السوري ،وذلك حسب عدد من التقارير المستقلة؛ فالنظام يبقي على الكهرباء في المناطق التي يسيطر عليها ‘داعش’ مقابل حصوله على براميل للنفط. اآلن وبعد صدور العدد األول من مجلة دابق ،لم يعد تنظيم داعش تنظيماً افتراضياً ،بل أصبح ماد ًة إعالمي ًة منتشر ًة عبر البريد اإللكتروني ،وعلى صفحات مواقع التواصل االجتماعي ،وقريباً ستصبح على رفوف المكتبات وربما في البيوت ،إلى جانب العديد من الصحف ،كمصدر لقراء األخبار والحصول على المعلومات .تتوفر اآلن المجلة بنسخة PDFبحجم 70ميجابايت ،على عدد من المواقع االلكترونية التي وضعت رابطاً لتحميل المجلة((( ،كما يمكن لألشخاص في المناطق التي يسيطر عليها داعش الحصول على النسخة الورقية منها ،والتي ستطبع بعدة لغات منها اإلنكليزية والعربية. نعم إنه تنظيم ‘داعش’ الذي أربك العالم ،وابتلع نصف المنطقة ،ينطلق باتجاه ‘المأسسة’ ليصدر أول مجلة ناطقة باسمه وبعدة لغات ،لتنحو ليس فقط نحو الداخل ،بل لتأخذ مكانتها إلى جانب الصحافة العالمية. http://ia902500.us.archive.org/24/items/dbq01_desktop_en/dbq01_desktop_en.pdf 1
69
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
املشهد البصري
‘تعالوا جميعًا إىل العرض’ تصوير :أمان اهلل ميساوي❊
حول العمل الفني: تم التقاط الصورة بتاريخ .2013-02-14األمل ليس تنظريا ً بل مامرسة.
❊ أمان الله ميساوي :حاصل عىل شهادة املاجستري يف التسويق من املدرسة العليا للتجارة بتونس .أسس رشكة إنتاج سمعي برصي يف تونس عام ،2014وله عدد من املشاركات يف معارض فنية. 70
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
مراجعات كتب رواية رسمدة قلق يف العقيدة
مراجعات كتب
نور شلغين❊
سرمدة -عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف:
عبادةٌ يف حمراب املكان
مراجعة لرواية ‘سرمدة’ ،تأليف فادي ع ّزام 221صفحة ،قطع متوسط ،نشر ‘الدار العربية للعلوم ناشرون’ ،بريوت.2011 ،
اخلالصة: تحاول هذه املراجعة تسليط الضوء عىل رواية سورية ،ظُلمت بعض اليشء من حيث االنتشار ،والجدل السلبي الذي متخّض عن إساءة فهم بعض عنارصها لدى الكثريين. ويخترص الكاتب يف سطوره دوافعه وشغفه وانتامئه لـ رسمدة ،والتي تجلّت مالمحها بني دفتي هذا الكتاب ،متناوالً بأسلوب متم ّيز املنطقة الجنوبية من سوريا (سهل حوران)، ّ منتقداً ومحلالً وعارضاً أدق تفاصيل هذا املكان ،الذي كان مهداً للثورة السورية الكربى ضد االستعامر الفرنيس عام .1925املكان هو بطل الرواية إىل جانب الكثري من الشخصيات التي ك ّونت مالمحه ،وحملته إىل القارئ بجرأة متف ّردة ،ومفزعة بالنسبة إىل آخرين ممن تركوا تعليقاتهم املمتعضة من الرواية والراوي ،عرب موقع .Good readsوعىل أي حال تصعب مقاربة الرواية يف شكل مبارش مع أحداث سوريا الحالية ،وإن م ّهدت مالمحها إىل ُ األسباب العميقة لحاجة السوريني إىل التحرر من أصفاد كبلتهم عرب السنني ،وتبقى محاولة مناسبة للتنبؤ بالتح ّول السوري الكبري الذي بدأ ُبعيد إصدار الرواية بقليل عام .2011 ويعود فادي يردّد األمل رغم الخراب يف شبه سريته الذاتية“ :الكلامت تجعل منا أحراراً، فكلام تخرب مكان أو زمان يلجأ املعذبون إىل الكلامت ،متنحهم العزاء واألمل”. ❊ خريجة كلية اإلعالم في جامعة دمشق ،ومهتمة بالشؤون الثقافية والفكرية .تد ّربت وعملت في عدد من الصحف والمواقع اإللكترونية السورية والعربية .وتعمل كمحررة وصحفية في الفريق الصحفي لمجلة دلتا نون ،إضافة لعملها كمحررة في موقع ‘االقتصادي’ اإللكتروني.
72
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
سرمدة -عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف
“يا أبي افتح لي الباب يا ابنتي أسكتي صوت أساورك يا أبي أخشى وحش الغابة ((( يا ابنتي وأنا أخشاه”.. بهذه التهويدة األمازيغية المترجمة ،تبدأ قصة هيال منصور في منتصف سرد مشهد سرمدة الطويل، وأسبوع آالم رافي عزمي ،لسان الكاتب الشاب فادي عزام ،الذي آثر أن يكون كتابه األول ملغوماً ،يحمل غالفه لقطة هادئة ساكنة ،لن تقول الكثير ع ّما تخبئه وراء أحجار جبل حوران السوداء ،ولن تبوح بالكثير عن الدغل الذي سيقود فادي إليه ُق ّرا َءه بهدوء ،وبصبر ،ب َن َف ٍس روائي طويل ،والكثير من األحداث واألشخاص الذين سيسردون حميمية المكان بأكثر األدوات جدالً. هي ليست دعوة إلى قراءة رواية ،فلن تجد هنا مجرد مكان يسرد نفسه عن طريق شخوصه فحسب. إنها دعوة إلى البكاء والحزن بأقصى إنسانيتك .فرافي عزمي الذي تغ ّير مسار حياته لبرهة عندما تن ّبه إلى ٌ جذوره الغارقة في القدم والحميمية ،يكتشف عبر صفحات ‘سرمدة’ الـ ،221أن الزمان مكانٌ سائل ،يجرفنا ت ّياره بغتة إلى ما لم نكن نتوقع حدوثه يوماً. عزة توفيق ..أول عتبات املتاهة.. “لم تكن سرمدة بالنسبة لي سوى مكان أجوف مررت به .عشت فيه مرارة أيامي ،دمغني باأللم والخوف والخفوت .احتجت لسنوات ألخرج منه وأخرجه مني” .لن أعيد هنا سرد الحالة الذهنية المختزنة لدى رافي عزمي عن سرمدة ،قبل أن يبدأ باالعتراف بشرعية وج َهي قصته األولى :عزة توفيق وهيال منصور. 1تهويدة مغربية من الرتاث األمازيغي ،اسمها :أفافا إينوفا
73
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مراجعات كتب
سرمدة -عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف
فقد كثّف الكاتب كل مايو ّد قوله في العبارة السابقة في شكل مختصر ،األمر الذي برع به فادي طيلة أجزاء القصة ،من خالل توزيع المعاني بدقة على األحداث ،وبكثافة متناسقة على طول جسد الرواية، مستخدماً خياله الواسع ،والواقع الغني بالحميمية لبيئة جبل حوران ،داخ ًال إلى نوع من الواقعية السحرية في بعض أجزائها. لطالما كانت فكرة التقمص أغنى أفكار هذه البقعة القريبة/البعيدة من سوريا ،أغناها مخ ّيل ًة ،وأحياناً واقعي ًة ،ودائماً األكثر جدالً .فعزة توفيق ،دكتورة الفيزياء التي تدخل بغت ًة إلى حياة رافي عزمي ،ستقوده إلى حكاية لن تتناسق مع شخصية امرأة بتخصص علمي عالٍ ،تقيم في باريس ،المدينة التي ستبدو بالطبع بارد ًة بالنسبة للحرارة التي تضج بها جنبات سرمدة حميمي ًة .بهذا الغموض والوضوح المثيرين للجدل ،يروي فادي فكرة التقمص التي يعتقد بها ّ الـمش ّكلة لمعظم سكان البقعة السورية جل أبناء الطائفة الدرزية ُ المسماة ‘جبل العرب’ ،باالشتراك مع نسبة البأس بها من المسيحيين والمسلمين .وال ينسى أن يشير إلى والجلي بين كل هذه االنتماءات المتن ّوعة ،يقول“ :كانت سرمدة تتعايش ببساطة ...ما لم التجانس الف ّذ ّ يستطع العقل الطائفي اللبناني فهمه :كيف لبلدة درزية أن يكون مختارها مسيحي! وكيف لمسيحيي سرمدة أن يتبرعوا لبناء م ِْجل ِْس ،مكان العبادة الخاص بطائفة الدروز ،في البلدة!”. يختار فادي الجزء األكثر جدالً في حياة الدروز ،الجزء الذي سيوفر له على مدى الجزء األول من روايته أكبر مح ّرك لألحداث ،وجاذب للقارئ الذي لن يجد مف ّراً من الوقوع في براثن هذه األداة التي تمسك بطرفي الحياة والموت بطريقة ساحرة ،تحمل الكثير من مالمح األسطورة ،وبعض مالمح الواقعية يتوجه فادي في طرحه المثير هذا؟ ألنفسه التائهة في رفض سابق المؤكدة .تحتار أثناء قراءتك .لمن ّ لمكان دمغه باأللم والخفوت؟ أم إلى القارئ السوري الذي قد يجد هذا الطرح عادياً أحياناً؟ أو أكثر من عادي بقليل كثيراً؟ لكن المؤكد أنه سيبدو لقارئ خارج السياق المناطقي ألبناء الطائفة ومن يحيط بهم، أكثر بكثير من عادي ،بل سيبدو نوعاً من الملحمة ،فأي معجزة ستجعل شخصاً يتذكر أدق تفاصيل شخص كان هو في حياة سابقة ،شخص ال يعرفه ربما ،وال يوازيه قطعاً في الزمن؟ ينتقل رافي إلى جسد هيال ،يعبره ويسرد دون إطالة بلسانه قص ًة تحمل الكثير من التمرد في طياتها، الكثير من الحرية والجموح ،إلى جانب القلق وعدم التأكد ،والكثير من الصدق والطهر اللذين كثيراً ما يكون عقابهما جلي ًال ،كما حصل عند مقتلهاُ . قتل هيال ،فكرة توازي التقمص في استيعاب منطقها المزدوج لدى من َع َب َر السياق الدرزي بحذر أو فضول .القتل ،لم يكن مجرد حدث درامي في سياق رواية ،بل فلسفة قائمة بحد ذاتها في عواقب امتالك جذور طيبة ،ونوايا حسنة ،وقلب طاهر وإن كان متمرداً .عندما تغريك الحرية ،عندما تعتقد خاطئاً باألحرى أنك تليق بالحرية ،فتنظر إلى الخلف ،ترى ّأي ثمن عظيم عليك أن تدفع ،وترى التضحيات الحتمية التي لم تكن في حسبانك ،ولن تستطيع الهروب منها أبداً ،فتقف عاجزاً عن السيطرة على أفكار رأسك ونداءات قلبك ،مخ ّلفاً وراءك الكثير من التشكك والحزن ،الكثير من الالمفهوم والالمحتمل. تبدأ القصة من عتبات سرمدة ،التي تتحول ِبسِ ماتها الكثيرة ،إلى قرية من قرى جبل العرب كل حين ،دون أن تكون بشكل حاسم إحداها ،وقد تتق ّمص أحياناً روح ماكوندو ،قرية ماركيز في ‘مئة عام من العزلة’ .يق ّدم فادي صورة بانورامية للواقع الدرزي ،الذي تأقلم بتفرده مع السياق السوري في السنوات 74
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
سرمدة -عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف
ُ السياق بعيو ِبه ،ومنطقِه غير المفهوم ،ولكثي ٍر من أبنائه أيضاًُ .يق ّدم الكاتب األخيرة ،أو ربما َق ِب َل ُه هذا أرشف ًة مختصرة ،كمحاولة إلزالة االلتباس والغموض الذين يحيطان هذه الطائفة بهال ٍة تُثي ُر َن َه َم الكثيرين إلى التشكك بنواياها وإيمانها .لكن محاوالت فادي تبقى بائسة ،بمنطقيتها التي ال تُطبق في أغلب األحيان على سياق الحياة ،ويقف عالقاً عند أبواب ‘كتب الحكمة’ (كتب العقيدة الدرزية) ،التي تغلق أبوابها في وجه محاوالت األرشفة ،خادم ًة بذلك سياق الرواية ،بتوفير المزيد من الغموض لبعض شخصياتها دون أسباب واضحة ،سوى نية عدم صهر هذه الفئة في بوتقة أوسع ،تف ّوت عليهم فرصة التم ُّيز عن باقي أبناء عرقهم ونوعهم. فريدة :وجه املعايري اآلخر “لم تكن تريد أن تكون امرأة رخيصة يجتاحها مراهق متخم بالهرمونات ،ولكنها وجدت أن شيئاً غامضاً يدفعها باتجاهه ،فهؤالء المع ّفرون ببقايا الطفولة والمستعدون لالنتقال لطور آخر يقعون في الهوة السحيقة من الفوضى واالشتياق .ال أحد يريد فهمها ،والجميع يكيل لها الشتائم والوصايا” .فريدة هي الوجه اآلخر ،الحقيقي تماماً كوجه هيال ،لسرمدة .ح ّمل فادي شخصيته الفريدة كثيراً من الصفات المتناقضة، وتد ّرج معها في سياق تطورها حرفاً حرفاً ،حجراً حجراً ،وحدثاً حدثاً .من أرملة عادية مظلومة تتح ّول إلى معجزة ،أو ساحرة .الفأل النحس ،ودعوة البكاء المفرحة إلى سرمدة التي التزال تئن تحت وطأة شعور الذنب الذي يراودها تجاه وصمة الذاكرة؛ هيال. كأن فادي أراد من فريدة أن تكون وسيلة الذهاب إلى الح ّد األقصى في كل شيء .هنا تمتزج السعادة العاجلة والنشوة الموقتة بالحزن والبكاء الهستيري ،أدوات للخروج من الظالم إلى النور ،وهل مرتع لمراهقي القرية، نتحرر من أوجاعنا إال بالبكاء ،والتخفف من ذنوبها؟ فريدة األرملة ،تح ّول حوشها إلى ٍ تقمص لتصبح وجهاً نعرفه ،صادفناه من قبل ،بجسدها الفاتن ،وروحها الخفيفة ،بقوانينها الفريدة .هل هي ٌ جديد لألرملة الغاوية في ‘زوربا’؟ لن يقف فادي كثيراً على أعتاب هذه التشابيه غير المؤكدة ،فعلى عكس ٌ ً نيكوس كازانتزاكيس الذي آثر إبقاء باب أرملته مواربا ،يخلع فادي كل األبواب والشبابيك على أرملته بال اهتمام ،يفضل الوضوح ،وعدم المواربة ،في كل تفاصيل حياتها ،يح ّمل أس ّرتها وغرف حوشها الصغير الكثير من مشاهد الجنس العنيفة ،مخترقاً أقصى حدود الجرأة في العرض ،دون الوقوع –غالباً -في فخ اإلسفاف! وكأنه يقطع عهداً على نفسه باختراق كل التابوات المحرمة ،فرائحة الدين التي التزال تعبق في أجواء يسجل الكثير من الفظاظة في تفاصيله، الرواية ،وستبقى حتى النهاية ،تتداخل مع خيوط الجنس الذي ّ محاوالً إلباس الذنب ثوب الفضيلة ،أو العكس! وال تنقطع الرموز عن الظهور في جوانب ‘سرمدة’ مسجل ًة أكبر تج ّلياتها في أثداء أم سلمان المنتفخة الممتلئة بالكثير من الحزن والغضب والحقد المكبوت ،والتنجو منها إال بألم أكبر من حملهما الثقيل، ليصبح اعترافها المك ّلل بأقصى حاالت األلم دوا ًء لكل عقد سرمدة ،إلى حين! كأنها دعوة صريحة إلى التط ّهر من كل غضبنا ،أحزاننا ،أحقدانا ،وصقل أرواحنا باأللم ،كأداة وحيدة للتخفف من كل العقد التي تغشي العيون عن نور الحياة. لن تستطيع الذهاب بعيداً ،فالنص الذي يتح ّول إلى أسد جائع ينقض على رأسك ،لن يرحمك من 75
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مراجعات كتب
سرمدة -عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف
انقضاضه بكامل شراسته ،بأحداثه المكثّفة في كل ناحية ،والشخصيات المتناثرة على حوافها بالمزيد من اإلثارة .يصل جنون الكاتب إلى مداه الجميل ،فيقف الهثاً مسيطراً بلذة على شخصياته ،يخاطبنا ،أو يخاطب نفسه مع ّلقاً على حدث طبيعي يمر غريباً كجنون في مدينة الجنون هذه“ :معي العدة الالزمة لتغيير ما أريده ،لإلضافة والحذف ،للخلق واإلبادة” ،كأنه يهدد بما لديه هنا من ُملكه على كل هذا الجمع الذي خلقه للتو على صفحات الرواية. بثينة :شعرة اجلنون التي لن تنقطع يبدأ ٌ جديد من الحكاية ،يختار له فادي عنوان ‘بثينة’ .لكن الحقيقة أن هذا الجزء ليس فيه فصل ٌ بطل محدد ،أبطاله بثينة ،فريدة بوجه جديد ،حسين الغائب ،سلوم العقيم وعائلته الخرافية ،رحمة ،صالحة، واألكثر تحريكاً للعواصف؛ بلخير ابن القرية ،وصديقه فياض المنبوذ ،واألستاذ زيدون الديكتاتور البعثي .هنا تعود النساء إلى القيادة ،إلى استالم زمام األمور عن الرجال الغائبين ،والحاضرين الغائبين. وتعود السياسة إلى محاوالت اقتحام حياة هذا المسرحّ . يطل رأس جمال عبد الناصر أيام المجاعة، بح ّل ٍة لم نعهدهاٌ ، لقطة واحد ٌة لوجه عبد الناصر الديكتاتور ،يقول فادي“ :حين ُسئِل سلطان األطرش يوماً بغصة ،وجملة واحدة :سقى الله أيام فرنسا!)”، عن موقفه من الحكومة الوطنية بعد االستقالل ،أجاب ّ ويضيف في مشهد زيارة عبد الناصر للجبل في “ :1960جمال ح ّيى الجموع ،وأخذ الرجال فع ًال ،ولكن إلى السجون ،واستطاع حكمه الفاسد أن يجعل من أبناء الثوار وعزلتهم وفقرهم أن يرسلوا البنات خادمات إلى بيروت ،وجلب القحط والعسس ،ولم ِ يأت الطحين أبداً إال تهريباً”. تقصد فادي أن يجرد قائد الثورة السورية الكبرى من لقب أقف هنا عند تفاصيل خفية وأسأل؛ هل ّ ‘الباشا’ الذي مافتئ يلتصق باسمه في كل وقت؟ وجمال عبد الناصر حتى من أحقية اإلشارة إليه باسمه كم من الحيادية ،أن يص ّور المشهد بعينٍ التم ّيز األلوان ،تتم ّرد األخير؟ ربما كان يريد سرد األحداث بأكبر ٍّ على كل الخطوط الحمراء ،ال تريد ،وال تستطيع أن تراها ،أو أن يؤرشف األحداث من منظار ق ّناص يص ّوب قلمه نحو الماضي ،مهدداً الحقائق بكشف عر ّيها الكبير! برهة تمضي ،ليحل بعدها حزب البعث بط ًال في الساحة التي تبدأ بفقدان مالمحها الدافئة بالتدريج. “زرعت السلطة -التي بقيت خارجاً -العيون والعسس ،وأصبح أصحاب الخط الجميل يتبارون بتحبير التقارير بأي شاردة مارقة أو واردة عابرة ،يحصونها ويبعثونها لفروع المخابرات المختلفة” ،يقول فادي مع تخطي عتبة السبعينيات من القرن الماضي ،حيث تبدأ المالمح بالتغ ُّير ،فسرمدة المستقلة تضمحل تحت متسارع مد جناح السلطة ،مستسلم ًة الجتياحها الهادئ ،ويبدأ اليأس بسحب ألوان الجو الدافئ في جوانبهاٌّ . ٌ ٌ وتواجد هامشي للحزب الشيوعي .تبدأ مالمح السلطة والشعب بالنضوج، نزق لحزب البعث االشتراكي، ٌ ٌ ٌ هادئة من السياسة ،تبتلعها بعد حين ،بهدوء .يبدو موجة واالقتراب من مالمحهما الحالية ،وتجتاح سرمدة فادي غاضباً بصوت مكتوم ،تبدأ لغته بالصمت التدريجيّ ، ٍ يخف عبء األحداث الكثيفة عن كاهل األلفاظ، ٍ مساحات شاسع ًة مشبعة بإشارات االستفهام الكثيفة. منذر ًة بالنهاية ،دون أن تصمت تماماً ،تارك ًة تنتهي الرواية دون أن تنقطع كل خيوط حبكتها في شكل كامل .ففياض المنبوذ يصبح بط ًال قومياً عندما يعود من الجنوب مح ّم ًال بتابوت في عملية تبادل أسرى ‘حزب الله’ مع االحتالل اإلسرائيلي ،وبلخير 76
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
سرمدة -عن ال ّروح والتم ُّرد واخلوف
يعود بهيئة قرصان من دمشق يوم تأبين والدته فريدة ،حام ًال معه تذكاراً سيظل وصم ًة في ذاكرة كل رجال القرية الذين م ّروا في حوشها يوماً .كل تلك الخيوط المع ّلقة في الخلفية ،تظل إشارات استفهام عالقة طوي ًال ،كأنها تصلح لرواية أخرى ،أو كجزء آخر لـ ‘سرمدة’ ،وتظل ن ّية الكاتب مب ّيت ًة لجذب كل حواس قارئه، وإبقاء الشخصيات وراء حجاب شفيف من الغموض حتى النهاية. سرمدة :السردة التي ال تنتهي! ُ ُ أعدت أغلقت الكتاب على صمت الورق المطبق ،وداخلي ضجيج يهت ّز له نبضي .في هذا المكان ُ ُ ورحت أجوس كل تلك أمسكت بيد رافي/فادي، اكتشاف تلك الحميمية التي تحيطني من كل صوب. ً المالمح الدفينة في وجه كل من صادفته ،ألجد فيه ملمحا أو مالمح من شخصيات الرواية الكثيرة ،وأزمتنها الممت ّدة على طريقة األدب الالتيني. وتساءلت ،ما أهمية ‘سرمدة’ اآلن؟ الرواية التي تسير في خطين زمني ّين مختلفين ،يجمعهما مكانٌ ُ واحد ،ويربط بينهما أشخاص ،وتج ّليات آخرينَ .لم على تلك الرواية أن تش ّرح هذا الواقع السوري بامتياز طائفته اآلن بالتحديد ،أن تعلن انتصار الرغبة ،وتم ُّلك الخوف المستقر داخل النفس اإلنسانية ،رغم كل التمسك باألصالة والجذور ،إلى فهم هذا الماضي الحاضر تلك القدرة على التم ّرد؟! هل هي الحاجة إلى ّ بعمق ،لنخرج من تلك القواقع التي ك ّنا نسكنها قبل بركان الحرب األخير؟ هل هو الت ْوق إلى إعادة تكوين الحالة الذهنية المتش ّكلة لدينا عن كل هذا الزمكان ،الذي لر ّبما م ّر علينا يوماً ،في أحد أطوار الروح؟! أو الرغبة في الولوج إلى كل التجارب اإلنسانية التي حملتها الرواية ،مط ّوع ًة اللغة المرنة ،واألحداث المشت ّعبة، والشخصيات المتف ّردة ،والمدى الشاسع للمكان؟ هي ثور ٌة على اإليقاع الرتيب الذي انتهجته الرواية السورية في العقود األخيرة ،إذ بقيت في الظل مستتر ًة بنوع من الديبلوماسية في طرحها ،فيما عدا بعض االستثناءات األخيرة ،التي تج ّلت بمحاوالت ُيق ّر لها بالنجاح واالنتشار .إال أنّ ‘سرمدة’ وغيرها من المحاوالت الدوؤبة إلعادة الرواية السورية إلى النور والصدارة ال تزال ضعيفة إلى ح ٍّد ما .ويبدو أنّ ذلك يعود في أساسه إلى الحالة السياسية العامة التي تجعل أي كتاب يتناول الشأن العام عموماً ،والسياسة خصوصاً ،على خط النار في المواجهة مع السلطة أو التنظيمات األخرى في البالد ،حيث س ُي ْم َن ُع نشر هذه الكتب في الجزء الذي تسيطر عليه من السوق ّ بمنأى عن القارئ السوري ،ويظل كاتبها بعيداً عن السياق ستظل السورية ،ما يؤدي إلى أنّ هذه األعمال ً وضع أجبر معظمهم على تجربة الغربة .وفي حال تجاوزنا هذه النقطة مع الذي يكتب عنه ،خصوصاً في ٍ فج مع السياسة، ‘سرمدة’ كونها تجربة تنقيب في صناديق ذاكرة المكان والتاريخ ،دون التناوش في شكلٍ ٍّ إال أنّ اتجاهات فادي الواضحة عبر وسائل التواصل االجتماعي ،ومقاالته العديدة ،تُعيده وتُعيد قارئه إلى خط المواجهة مع السلطات والتنظيمات ،مثل العديد من ُ الكتاب السوريين الذين بدؤوا باالنسياق إلى نهر السياسة ونبش أعشاش الجهل والتخ ّلف ،نقداً وتوصيفاً في كتاباتهم و ُكتبهم.
77
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مراجعات كتب
قلق يف العقيدة
ع ّمار ديّوب❊
وإشكالية العدمية
مراجعة لكتاب ‘قلق يف العقيدة’ تأليف سعيد ناشيد 127 ،صفحة ،قطع متوسط ،نشر ‘دار الطليعة’.2011،
اخلالصة: تهتم القراءة بتلمس الفرضيات الرئيسية يف كتاب سعيد ناشيد ‘قلق يف العقيدة’ ونقدها .منهج الكاتب مثا ٌيل يف تحليله لهذه الفرضيات ،ما يدفعه لتبني رؤية تتطابق حتى مع اإلسالميني، وإن كان ينتقدها؛ أي هو يقول أن اإلصالح الديني هو الحل ألزمات مجتمعاتنا ،ويقوم بتأويل النص الديني ،ويتنكر للترشيع وللفقه ،ويث ّمن العقيدة فيه ،بينام هم يقولون أن الدين (لكن دون إصالح) هو الحل لتلك املشكالت .فتأويل ناشيد األقرب للعلامين ،وبدالً من أن يعترب اإلصالح الديني مسألة معرفية وموضوعاً للبحث ،فإنه يتعاطى معه كبوابة لإلصالح بكل معانيه؛ أي هو الحل ألزمات املجتمعات ،وبهذا يتصالح مع اإلسالم السيايس الذي يفرس الدين كدين ودولة .نجد أن مشكلة تخلّف مجتمعاتنا ال تُقرأ من زاوية أن الترشيع متخلف والعقيدة اإلسالمية متقدمة واإلله ميتافيزيقي ال ارتباط بينه وبني حياة الناس (وال يستوجب وجود هذا اإلله أي شعور بالذنب وال خوف من أي حساب) ،بل تُقرأ من زاوية أن مجتمعاتنا محكوم ٌة لنظام رأساميل عاملي ،وهو بطور األزمة ،ومن أشكالها السياسية الطائفية والحروب والفقر واإلرهاب باسم الديني ،والعودة نحو التدين وطرح الدين كحل خاليص لألزمات. املنهج املثايل للكاتب ،يدفعه ليقول :األفكار تحكم العامل ،وبتغيري األفكار يتغري العامل .هذه فكرة أصبحت خاطئة كلياً؛ فالعامل محكو ٌم بالجملة بنظام رأساميل كوين ،وله نتائج وسريورات يفرضها عىل مختلف مستويات البنية االجتامعية العاملية؛ ومن خاللها تُقرأ أزمات العامل، ومنها أزمة عدم التطور ،واملتعلقة بأزمة النظام الرأساميل التابع .إذاً الحل ليس باإلصالح الديني وال باإلصالح السيايس ،بل بتغيري الطبقة الرأساملية التابعة. ❊ كاتب وباحث سوري .كتب في عدة جرائد‘ ،الحياة’ و‘السفير’ و‘األخبار’ ،وفي ‘موقع األوان’ ،و‘العرب اللندنية’ ،وفي ‘مجلة دمشق’ ،وغيرها .يهتم بصفة خاصة بالفكر النقدي ،يناصر الثورات العربية دون شروط كلحظة أولى ،والحقاً يصبح النقد بمثابة حياة للثورات؛ وبدونها تتعثر وقد تفشل.
78
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية
قراءتنا هذه معنية بفهم هذا الكتاب جيداً ،فكل قراءة ُيفترض أن تصغي للنص أوالً ،ال لنفس القارئ، ونهدف إلى إظهار الفكر النقدي في الصراعات الفكرية الجارية في عالمنا العربي ،حيث تتركز بالمعنى السياسي بين التيارات اإلسالمية والداعية إلى تحكيم النص الديني في الدستور والمجتمع والتعليم ،وبين تيارات حداثية ال ترفض الدين وتعتبره قضية شخصية لألفراد ،وال يجوز المساس فيه ،ولكنها ترفض أن يكون هو مصدر الدستور أو التشريع ،وأن حياة البشرية المتغيرة تتطلب دستوراً وتشريعات متغيرة. نصاً تعبدياً للمؤمنين كتاب سعيد ناشيد((( ‘قلق في العقيدة’ ين ّزه الدين بفصله عن السياسة واعتباره ّ به ،ويقدم لهم عالقة إيمانية مع الله ،ويرفض سعيد قيام أي حكم أو التحكم بالبشر وفقه .وتأتي أهمية يعم عالمنا العربي والعالم ،حيث يناقش قضية اإلصالح الديني ،كطريق رئيسي الكتاب في ظل الصراع الذي ّ إلعادة النظر باألديان ،بل للخالص من جانبها الفقهي أو التشريعي .ويخص بذلك اإلسالم ،الذي يعد إلهه الميتافيزيقي مدخ ًال لتخليص أوربا من الغرق بمشكلة العدمية .أوربا المسيحية وألنها كذلك ،فمآلها ما بعد دين تاريخي ،أي بمعنى يتضمن تصوراً للوجود ،فيه بداية التدين هو العدمية .الدين المسيحي واليهوديٌ ، وفيه نهاية وفيه مخلص سيأتي الحقاً ،وبالتالي مع تراجع الدين وتقدم العلمانية ،تبقى قضية العودة للدين ممكنة كما يرى الباحث المميز سعيد ناشيد. الكاتب هنا ال يعيد المسألة إلى تعقيدات أزمة الرأسمالية العالمية وإغالقها كل أفق أرضي نحو حياة أفضل وحينها تظهر السماء كملجأ وكخالص ،أي الدين ،بل يعيد المسألة بشكل أساسي إلى أن اإلصالح الديني في أوروبا لم يكمل طريقه ،وال بد من إكمال الطريق .وليس بمقدورها ذلك أص ًال فالمسيحية واليهودية ال تسمح ،وال العلمانية قطعت طريقها نحو تنحية الدين .يسرد لنا الباحث مواثيق حقوق اإلنسان، 1سعيد ناشيد باحث مغريب ،لديه كتاب سابق بعنوان ‘االختيار العلامين وأسطورة النموذج’ .نرش الباحث دراساته الرئيسية يف موقع األوان http://alawan. ./orgكتب يف جريدة ‘السفري’ و‘األخبار’ و‘الحياة’ ،ثم يف ‘موقع ،’24وأخريا ً يكتب يف جريدة ‘العرب اللندنية’ ،ويف جرائد ومواقع إلكرتونية أخرى .الباحث إشكايل يف رؤيته لإلصالح الديني وملسألة العلامنية ،ويعترب مثريا ً للجدال فيام يطرح ،ولكنه متمكن من أصول النقد للرافضني لإلصالح (أي للمتمسكني بأن القرآن صالح لكل زمان ومكان وأن اإلسالم هو الحل) ،ويتبنى العلامنية عىل قاعدة اإلصالح الديني ،ويعتقد بأن اإلصالح الديني هو أصل كل إصالح يف البالد العربية.
79
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مراجعات كتب
قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية
ويوضح أنها لم تتجاوز المقاربة الدينية حيث سمحت للمؤمن بحريته الدينية كحق مصان دستورياً ،وهو ما أتاح المجال واسعاً لعودة الدين والطائفية والتمييز اإليجابي لصالح المسيحية وضد سواها. يرى سعيد أن خالص أوروبا من العدمية يتم باإلسالم ،ولكن ليس أي إسالم ،فهو يميز في اإلسالم بين العقيدة التي يعتبرها متقدمة جداً ،وبين الشريعة التي يعتبرها متخلفة جداً؛ ويعتبر أن القرآن فيه إلهين: إله ديني وإله ميتافيزيقي .ويرى أن اإلصالح يعتمد الله الثاني ،ووفقه يجب إيجاد تصورات أنطولوجية إسالمية ،وباعتبار اإلسالم حصيلة الديانات التي سبقته ،فإن الطبيعي في األمور أن تستفيد البشرية وال سيما في أوروبا منه كي تتخلص من العدمية .فالخروج من الدين في أوروبا غير ممكن إال بإله اإلسالم ،فهو إلهٌ متعالٍ من ّز ٌه عن الوجود ،بل هو كل الوجود ،ولكنه ال ُيالحظ الطبيعة وال في سواها بل في القلب .يقول خاص باألفراد ،ومقطوعة الصلة باألرض وبتعاليم توجيهية للبشر. ناشيد “بتأويلنا أن الله الميتافيزيقي إلهٌ ٌ وهنا يؤكد أن القرآن تأسيسي ال توجيهي ،أي أسس اإلسالم وكان ذلك في زمن النبي وهو ‘معجزته’ .وليس توجيهي أي ليس به أوامر مستمرة للناس في كل زمان ومكان ،ومن يحوله نحو ذلك هم المتطرفون، وهؤالء ال يمثلون إال الشذوذ عن الفهم الدقيق والعميق للدين اإلسالمي ولله. القرآن وظيفته تعبدية فقط؛ أي يمنع القلق عند الناس ويعطيهم إلهاً يغمرهم بالطمأنينة .سعيد يصر هنا أن علينا تغيير وظائف الله ،وهو ما لم تنجح فيه أوروبا فبقي إصالحها الديني غير مكتمل. األديان برأي سعيد تظل “دلي ًال على اإلخفاق األخالقي والعقم العقلي والفشل الوجداني” ،من يقرأ هذا سيسرع إلى تكفير الكاتب .مقصد الباحث تخليص اإلله من سيطرة الفقه والتشريع ،الذين يناسبان موج ٍه عصراً معيناً ،وبعدها ومع األمويين صار الحكم حكماً ملكياً .أي أن اإلسالم وكل دين حالما يتحول إلى ّ وآم ٍر وسلطة يصبح سلط ًة وضعية. اإلنسان ال يحتاج إلى سلط ٍة دينية ،بل يحتاج إلى الله الذي يقارب “تصوراً أنطولوجيا يمنح معقولي ًة معين ًة لفوضى الوجود ،واعتباطية الحياة وجنون الكون” هكذا إله ،هو إله اإلصالح الديني والالهوتي ٌ إمكانية فقط إلل ٍه ميتافيزيقي ،يخ ّلص الناس الجديد؛ إذ ال إمكانية لتعايش األديان مع غير عصرها .هناك من العدمية األوروبية ومن التطرف اإلسالمي .إذاً كما يقول ناشيد ال بد من تغيير وظائف الله. السبب أنه إله غير مرتبط باألرض ،وال يمتلك سيرور ًة متصل ًة لتاريخ البشرية ،وهو خارج التاريخ ٌ مفارق كلي ًة .وفي قضية الجنة والنار والخلود والجغرافيا والخيال والجمال .بتخارجه عن كل ذلك ،فهو نصوص بعينها ،ليؤكد أن أهمية اإلسالم حجج لتفنيد االعتماد على ظاهر النص أو على يسرد الكاتب عدة ٍ ٍ ٍ بأحداث بعينها ،وبعدها تصبح هذه نصوص خاص ٍة بالنبي أو في عدم وجود سلط ٍة ديني ٍة وتراتبي ٍة ووجود ٍ نصوص تع ّبدية .هذه القضية سمحت لناشيد بالقول إن اإلسالم يسمح بالخروج من الدين، النصوص مجرد ٍ ً ً أي عن الفقه والتشريع .بل هو يرى أن اإلسالم ليس دينا تشريعيا ،وكل التشريعات الالحقة على القرآن، والتي مصدرها السنة ،هي ليست من اإلسالم في شيء؛ فهي نتاج الدين حين َي َت َم ْأ َسس ويخدم األنظمة. ناشيد يرى أن القرآن ُيقرأ بألسن الرجال .أي هو متعدد ،ويمكن تأويله ،وهو ما كان ،وهو حجة التأويل ديني وإله ‘جديد’ .ليس مقصد الكالم تبني العلمانية ،بل إشادتها “على إصالح الجديد .إذاً ال بد من ٍ إصالح ٍّ الهوتي جذري بمقتضاه نخرج الله من إسار االحتجاز الديني”. ناشيد يوغل في فهم صيرورة العالم تقدماً أو تراجعاً وفقاً للوعي ،ويتجاهل الطبيعة االقتصادية 80
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية
واالجتماعية لحياتهم ،ولذلك نجده يهمش هذا الواقع وال يقر ُؤه أبداً؛ فإن حصل اإلرهاب برأيه فهو “رجوع في صورة اإلله إلى زمن ثقافة القرابين” ،والعنف الغربي في الحرب العالمية األولى والثانية “هو ٌ عنف متج ّذ ٌر من تقالي َد عريقة في حرب المسيحية الغربية على الشر والمواجهة الخالص ّية مع الشيطان” .يحدد باحثنا قضيته الرئيسية بتغيير الوعي ،وحينها تتغير حياة البشر .اإلصالح الديني هو هو طريق اإلصالح السياسي .القارئ لمقاالت سعيد في الصحف يجده أسير هذه الفكرة؛ فإن تكلم عن أوروبا والعدمية فيها فالسبب هو عدم إكمال اإلصالح الديني ،وإن تكلم عن المتطرفين فهم برأيه الشذوذ من المسلمين يشن معرك ًة فكري ًة ضد الفقه والتشريع ويستندون إلى آيات وس ّنة يجب التبرؤ منها أو إصالحها .وهنا ّ ٍ سياسي للدين ،إيجاباً أم سلباً .خوض هذه المعركة على أرضية إله ‘جديد’ هو ما توظيف ويرفض أي ٍّ سيخلصنا من العدمية ومن التطرف. ٌ ٌ ومحاولة وتأويل لألديان، اجتهاد مشكلة الكتاب بأكمله ليست في عرض وجهات نظ ٍر عن الدين؛ فهو ٌ ضمن مشروع اإلصالح الديني الذي يتبناه كثيرون .مشكلته في تجاهله دور النظام الرأسمالي وإغالقه أي عالم يسوده العدل والحرية والمساواة .كذلك يتجاهل ناشيد دور األنظمة العربية ،وهي جزء من ٍ أفق نحو ٍ هذا النظام ،والتي حولت الدين إلى أدا ٍة أيديولوجي ٍة كاملة ،تن ّمي كل أشكال الطائفية والمذهبية ،كي ُت َؤ ِّب َد ذاتها. قصدت هنا أن الرأسمالية أصبحت بطور األزمة ،وهي كتشكيل ٍة اقتصادي ٍة اجتماعي ٍة لها طوران :طور صعو ٍد وطور هبوط؛ ما قبل فشل ثورات 1848األوروبية كانت في طور الصعود ،وما بعدها أصبحت في سياسي وأيديولوجي عائقاً أمام تطور القوى المنتجة ،التي تراكمت بحيث طور الهبوط؛ أي أصبحت كنظا ٍم ٍّ أصبحت تسمح بحل كل مشكالت البشرية .وإلدارة أزمتها العامة ،وتفادي انهيارها ،راحت تشن الحروب اإلمبريالية ،وتقتسم العالم ،وأخيراً ‘العولمة’ وهكذا؛ وهنا بدأت مالمح اإلزاحة العالمية لها ،مع بروز الثورات االشتراكية؛ والتي فشلت في مهمتها كحفارة قبو ٍر للرأسمالية؛ ولكن هذا لم ُي ْن ِه األزمة العامة للرأسمالية ،بل أبقاها ،فأخذت أشكاالً عدة؛ وأبرز تحولٍ جدي ٍد فيها جاء مع أواخر السبعينيات ،حيث أنهى كل أشكال إدارة األزمة القديمة ،وظهر ما سميت بالسياسات الليبرالية الجديدة ،والتي ارتبطت مع الرئيس األمريكي ريغان والمرأة الحديدية في بريطانيا تاتشر .هذه السياسات التي بدأت تلغي دور الدولة الذي أوصى به كينز بعد األزمة الرأسمالية ٍّ 1929 ائب أكبر على كحل لها :عبر تعميق دور الدولة كحامية لحقوق العمال ،وفرض ضر َ الرأسمالية ،وإيجاد ما سمي حينذاك الشراكة بين أرباب العمل والعمال ،وبخاصة بعد نهاية الحرب العالمية إضافي هو منافسة الدولة االشتراكية حينها .المهم هنا أن سياسات دعم العمال والفالحين ولسبب الثانية، ٍ ٍّ والطالب والفقراء ،مع بداية الثمانينيات بدأت باالنحسار ،وتم تدمير النقابات القوية وال سيما في بريطانيا وسواها ،وبقي األمر كذلك ،إلى أن وصلنا إلى أزم ٍة جديد ٍة تضرب ُك ًال من أمريكا وأوروبا ،وبالتالي العالم، عام 2008وال تزال تتفاعل .بل إن كل ثورات العالم اآلن هي نتاج تلك األزمة؛ وهي أزمة كبيرة ،وأهم ٌ معادل تفسي ٍر لها يكمن في هيمنة رأس المال المالي على القطاع اإلنتاجي ما و ّلد فائضاً مالياً ،ليس له مادي ،وهذا ما خلق اقتصاداً وهمياً ،أ ّدى الحقاً إلى أزمة ال زالت تتفاعل وتتفاعل .الهام في األمر هنا أن ٌّ الرأسمالية لم تعد تقدم حلوالً للبشرية منذ عام ،1848وأصبحت كنظام سياسي وإيديولوجي معيقة للقوى المنتجة الرأسمالية ذاتها ،وبالتالي صار ال بد من تشكيلة اقتصادية اجتماعية جديدة. 81
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
مراجعات كتب
قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية
ومن هنا راجت نظريات فلسفية تتحدث عن موت الفاعل التاريخي ،كالبنيوية؛ وقال نيتشه بموت الله ،وهايدجر بالعدم؛ هنا لم تعد الفلسفة ،وال سيما بعد هيغل وماركس ،تقدم أي بعد تجاوزي ،وأصبحت تذهب نحو قضايا بعيدة عن التطابق مع روح العصر وتجازوه ،وصارت تعبر جدياً عن أزمة الرأسمالية العامة .أي هي فلسفة األزمة ،وليست فلسفة تقدمية كما كانت الفلسفة زمن هيغل مث ًال. مجتمعاتنا دخلت التاريخ حين دخلت الرأسمالية طور الهبوط ،وهذه نظرية يشرحها مهدي عامل في كتابه نمط اإلنتاجالكولونيالي؛ فكانت برجوازياتنا ،حتى في مصر ،وهي األهم ،برجوازيات غير تقدمية، ولم ُيسمح لها بطور الصعود ،أي خُ لقت هي بشروط االمبريالية واالستعمار ،فكانت بداية نشأتها كولونيالية بالضرورة ،وكان من السهولة بمكان إسقاطالبرجوازية األم في مصر .ولم تتجاوز المغرب وتونس ،مصر الناصرية .قصدت أن اختالف أشكال الرأسمالية في هذه البلدان لم ُيسمح لها بتجاوز البنية التابعة ،بل إن هذه الرأسمالية المتنوعة تعبر عنها. اإلسالم السياسي جاء تعبيراً عن هذه األزمة ،واإلصالح الديني السابق عليه والمتزامن معه والالحق عليه س ّهل له ذلك االنتشار والتوسع ،وقدم نفسه كنهاية لعصر النهضة والتنوير العربي وكممثل للهويةوالخصوصية؛ أي قدم نفسه بسبب فشل االصالح في أن يكون واعياً لشروط التقدم التاريخي ،والذي يتنافى كلي ّة مع أي تداخل بين الدولة والدين؛ اإلصالح السياسي الذي يقول بضرورة أن تصلح الطبقة المسيطرة ذاتها ،فتتحول عن الشمولية إلى الديمقراطية ،فيتشكل البديل.وقد فشل مرتين؛ األولى حين كانت البرجوازية ‘التقليدية’ ،أي الكولونيالية ،مسيطرة قبل ثورات االستقالل في الخمسينيات ،وفشلت ثانية مع فشل دولة تلك الثورات؛ وبالتالي لم يستطع اإلصالح السياسي أن يكون البديل ،ألنه إصالح مرتبط بالطبقة البرجوازية التابعة بكل أشكالها .الواقع الجديد في البلدان العربية وبعد 2011لن يسهم في تجاوز األزمات ،ألن الطبقة التي “تسلطت” على الثورات هي فئات جديدة من البرجوازية ،وبالتالي ال تمتلك حلوالً للمشكالت العامة ،وهو ما سيجدد الثورات ال محالة. إذاً ال حل باإلصالح السياسي المسنود للطبقة البرجوازية ،وطبعاً ال يمكن لإلصالح الديني أن يكون هو الحل ،أي الحل ال يبدأ بتغيير أفكار معنية في العقل ،فيتغير الواقع بعدها! وبالحقيقة واقعياً أصبح مشروع اإلسالم السياسي هو المستفيد من كل مشروع اإلصالح الديني ،وبوجهيه العلماني واإلسالمي. نموذجه في السودان والحقاً مصر زمن مرسي ،وفي عشرات الدول سقط نهائياً .النموذج القادر على حل ُ المشكالت ،هو نموذج جديد ومختلف ،ولكننا ال نمتلك رؤية دقيقة حوله ،وسيكون بالضرورة تجاوزياً للرأسمالية ذاتها؛ ولكن هل هذا يلغي ضرورة اإلصالح الديني؟ نستبق القول بـ ‘ال’ واضحة .ولكن من الخطأ المعرفي أن يقدم اإلصالح الديني كحل لمشكالت المجتمع ،وبرأينا هو مسألة معرفية تخص اإلطار الديني فقط .وهو يأتي بحقل الصراعات المعرفية ،أما الواقع ومشكالتُه وأزماته ،فأجوب ُتها مرتبطة بالعلم االجتماعي والسياسي واالقتصادي الحديث ،فعبره يمكن إيجاد الحلول ،واالنحياز للطبقات األفقر والتخلص من األكاديمية ‘البرجوازية’ المتهافتة ،والتي تفصل قطاعات الواقع والعلم بعضها عن بعض وكأن األمر ممكناً .نقصد وبوضوح شديد ،أن اإلصالح الديني يجب أن يخدم أي مشروعاً تاريخياً للتغير ويكون بالضرورة مشروعاً لتجاوز كل البنية التابعة التي أوضحناها أعاله. ولكن أزمة الرأسمالية تتطلب تجارب جديدة ،فكانت تجربة التجربة االشتراكية سقطت كتجربة أولى؛ ّ 82
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
قلق قي العقيدة وإشكالية العدمية
مناهضة العولمة ،والحقاً االشتراكية في أمريكا الالتينية ،واآلن تتقدم الثورات العربية ،وهناك احتجاجات ضخمة في أوربا الضعيفة ،كالبرتغال وإسبانيا واليونان وهكذا ،وهذه كلها ‘بروفات’ للتجاوز ،وهي تع ِّلم البشرية أن التجاوز ممكن .تع ِّلم وتعبر عن ضرورة واقعية تفترضها التشكيلة الرأسمالية ذاتها القائمة على االستقطاب الطبقي كما كل تشكيلية طبقية. نريد القول أنه ليس باإلصالح الديني وحده يحيا اإلنسان ،ويتخلص من العدمية واإلرهاب ،وليس هو بوابة اإلصالح العام ،وكذلك ليس السياسي ،بل يتم ذلك بالتغيير الكامل للنظام الرأسمالي في المراكز واألطراف وفق مقوالت سمير أمين ،وحينها سيكون المجال واسعاً لعالقة جديدة مع ‘فكرة’ اإلله؛ فكما أن الرأسمالية أقصت الفهم القديم للدين ،واقتربت من عالقة اإلله كمتعالٍ ،وهي مقاربة العلمانية ،فإن نظاماً جديداً يتجاوز الرأسمالية سيخلق أرضية جديدة لتدين جديد ،وربما تتاح إمكانية كبيرة لتجاوز اإلله الميتافيزيقي كذلك.
83
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
املشهد البصري
‘السيدة رقية’
رسم :أيهم حمادة❊
❊ أيهم حامدة :فنان فلسطيني اختصاص إعالن .خريج معهد الفنون التطبيقية ،وعضو اتحاد الفنانني التشكيليني الفلسطينيني فرع سوريا ،ومنسق ‘تجمع فناين فلسطني الشباب’ .لديه ثالثة أفالم أنيميشن قصرية .وشارك بجميع معارض ‘اتحاد الفنانني التشكيليني الفلسطينيني’ ،ومعارض ‘تجمع فناين فلسطني الشباب’ .حائز عىل الجائزة التقديرية يف ‘بينايل طهران’ للملصق السيايس .2007 84
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتـاجات املساكنة لبنان :الجئون يف الخيام والجئون يف القصور ملف املخطوفني يف سوريا قوارب املوت إىل أوروبا الرياضة يف سوريا :ضحية من ضحايا األزمة؟ املسلحون يف سوريا :البحث عن الدعم والقيادة رحى الحرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة
ريبورتاجات
األلرتاس:
كفاح زيني❊
املساكنة اخلالصة: املساكنة هي إقامة شخصني مختلفي الجنس يف مكان واحد دون رابط عائيل بينهام ،وهذا املفهوم ال يستدعي الحالة الجنسية بالرضورة .لكن الفهم العام للمساكنة يتجاوز فكرة اإلقامة ،ليتناول الجانب الجنيس يف الحالة يف شكل كبري ،وتصبح املساكنة يف املقام األول عبارة عن ‘عالقة غري رشعية’“ .خوفاً من الفضيحة” ،أجابت سارة عند سؤايل لها “ملَ ال تريدين وضع اسمك الكامل يف التحقيق؟” .وأغلب العينات التي قابلتها مل تختلف عن سارة كثرياً“ .حقيقة واقعة سواء قبلناها أم ال” ،يقول البعض عن املساكنة ،وآخرون يرونها حالة طبيعية يف املدينة املعارصة ،ويصل البعض إىل حد رؤية مناقشتها أمراً متخلفاً .ورغم هذا اإلميان بالفعل لدى محتضني املساكنة ،إال أن معظمهم تتشكل له حالة قلق عندما يتعلق األمر بجعل فعلهم علنياً .قانونياً ال نرى أي مادة قي قانون العقوبات تناقش املساكنة ،أما املؤسسات االجتامعية فرمبا تناهض املساكنة ،إال أنه مل يتشكل قط أي حالة عنفية أو ترشيعية يف هذا املجال .املساكنة هي حالة مترد ضد أخالق املجتمع السوري ،إال أن املؤسسات التي تتعرض للتمرد صامتة عىل مستوى الفعل ،وكذلك فاملتمردون صامتون عىل مستوى التغيري لجعل املساكنة مقوننة ،املجتمع يقول للمساكن“ :اعرب لكن بصمت”. ❊ طالب يف كلية اإلعالم بجامعة دمشق ،وطالب يف املعهد العايل للفنون املرسحية (قسم الدراسات املرسحية) .عمل كصحفي مستقل يف مجلة ‘الحياة الجديدة’ الصادرة يف لبنان و سوريا ويف صحيفة ‘البلد’ اللبنانية ،وكمقدم للربامج يف التلفزيون السوري عام ،2010إضافة إىل إخراج عرضني مرسحيني يف دمشق.
86
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
املساكنة
“عالقتي مع جسدي تغيرت ،زالت قداسته ،حالة األنثى الشرقية ذات األسرار ُدمرت لدي ،الترهالت عند معدتي تصعد وضوحها على حساب إبهار نهدي ،الفتاة السورية لها عالقة مع جسدها حميمية بل وسرية ،هذه السرية ال يمكن كشفها إال من خالل اآلخر الذكر ،المساكنة ال تكشف هذه السرية بل تزيل السر وتغيبه ،وتصبح عالقة األنثى مع جسدها أقرب إلى عالقة الذكر مع جسده ،المساكنة في بالدنا ال تحرر األنثى بل تجعلها ذكراً ،إال أن المشكلة ليست بالمساكنة كفعل أخالقي ،بل في وجود هذا الفعل في مجتمعنا ،التمرد ال يمكن أن يشوبه الخوف” .هكذا تحدثت نينا ،وأضافت أنها لم تقرر أن تساكن بسبب الشريك ،أو بمعنى حالة االختبار لعالقة زوجية ،بل ساكنت ألجل المعرفة الجديدة“ ،ربما سأعيش التجربة مرة أخرى ،لكن ليس في هذا البلد الحزين” ،اختتمت نينا حديثها. مجد يرى أن المساكنة ال تحتاج لسؤال ،العلة ليست فيها بل بالعقلية التي تنتج سبب مساءلتها. المساكنة هي نمط من العالقات قد يكون منتج أو ال ،والمساكنة كعالقة هي حقيقة ال تحتاج إلى نقاش، وبالتالي فاألشخاص الذين تربطهم عالقة مساكنة هم الحقيقة وليس ماهية هذه العالقة كتجرد ،ويضيف مجد أن المساكنة ال يمكن أن تنتج عن حاجة شعور باالستقاللية أو حالة بديلة للعالقة الزوجية ،إال أنه إذا أردنا للمساكنة أن تنجح بين المساكنين علينا التأكيد على أهمية الطرفين باإلصرار على حرية اآلخر وهويته ،ربما هناك قانون واحد يلتزم به الطرفان هو إنهاء حالة تعدد شركاء الجنس ،وربما هذا يأتي طبيعياً نتيجة الحالة المعيشية بين الطرفين التي تقتضيها المساكنة .حيث أن المساكنة تعريك من حسابات الوحدة كطرف مسؤول ،فالفردية سبيل لتقصي الهوية لكن نحتاج الحياة المشتركة كذلك الستكمال هذه الهوية ،فأنت تحتاج اآلخر ليضيء على تفاصيل نفسك وحياتك ،أما فيما يختص بشرعنة المساكنة يرى مجد أن مصدرها ليس السلطة االجتماعية بالتأكيد “بالعموم ال أعتقد أنني سأتزوج أي أنثى إن لم أساكنها ،وال أتوقع أنني سأسبب األذى اجتماعياً ألي فتاة ،حيث أنني لن أحب فتاة تقيم للتصنيف االجتماعي وزناً”، يقول مجد. المساكنة السورية ،مصطلح مشتق عن المساكنة أم عن سوريا؟ هل تتغير المساكنة بتغير البيئة؟ 87
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
املساكنة
يقول عمار (أحد المساكنين السوريين في بيروت) إنه ال يمكن ربط المسألة ببلد ما ،حيث أن الظاهرة منتشرة عالمياً ،لكن ارتباطها ببيئة ما يكسبها خصائص تميزها بذاتها ،وربما تجليات تأثيرات البيئة يمكن حصر أغلبها في حالة العلنية .فالمساكنة في سوريا منتشرة ،لكن الحديث عنها جهراً يجعلها موضوعاً مثيراً لالهتمام ،كما أن الحالة في بيروت مث ًال أكثر تحجيماً من سوريا على صعيد االنتشار ،إال أن مساءلتها أقل مما هو عليه في سوريا ،وربما هذا جعل السوريين في بيروت يعايشون التجربة كما اللبنانيين من غير محاكمة عقلية ،وربما أخذت المساكنة عند السوريين في بيروت معنى أوضح بسبب طبيعة المحتوى الذي خرجوا منه ،ووجود فرصة تعبير عن النفس جسدياً وفكرياً أكثر في األرض الجديدة“ .أنا لم أعرف َلم ساكنت ،لم يكن مهماً وجود فتاة في المنزل ،لكن التجربة بحد ذاتها مثيرة حيث بإمكانك أن تقترب من تفاصيل الجنس اآلخر التي كنت مغيباً عنها ،وربما كنت مغيباً ألنني كنت في سوريا ،الخوف كان حاضراً، وهذه التفاصيل هي بعيدة عن العالقة الجنسية أو العاطفية” ،يختتم عمار حديثه. إذا عالجنا المساكنة قانونياً ،نرى أنه ال يوجد أي مادة قانونية تحرمها ،وإذا تناولنا مادة الزنى كحالة تقريبية ،نرى أن النص القانوني يعاقب المرأة الزانية العزباء ،لكن ال يعاقب الرجل األعزب ،رغم أن القانون ينص على الحرية الشخصية .كما أن فعل الزنى يجب ضبطه بحالة التلبس ،لكن يمكن معاقبة المرأة فقط دون تلبس إذا ساكنت ذكراً بتهمة مخالفة اآلداب العامة ،لكن ذلك يحتاج لشكوى ،وعقوبتها ال تتجاوز الشهر ،وهذا الكالم على لسان الخبيرة القانونية رهادا عبدوش. وبافتراض أن المساكنة هي حاجة راهنة سواء بسبب الحالة اإلقتصادية أو حالة التطور االجتماعي أو غير ذلك ،يبدو الزواج العرفي صيغة بديلة مقبولة على صعيد تغييب حالة التمرد في المساكنة ،أو هرباً من قلق المتاهات القانونية ،لكن باسل يرى أن الزواج العرفي هو صيغة للتوافق بين شخصين بعيداً عن حالة الرقابة أو المنع التي يمارسها المجتمع أو القانون ،إال أن الزواج العرفي ليس بتمرد ،فهو ال يثبت أي قيمة على هذا الصعيد ،وهو يرى أن المساكنة كفعل هو تمرد ضد أنظمة المجتمع قبل كل شيء. “أردت أن أغسل جوارب ذكري ،أن أمتلك ذكراً يعني أن أمتلك تفاصيل حياته” تقول رزان أن هذا ما دفعها في البداية لكي تساكن .النتيجة كانت مختلفة حسب وصفها ،حيث أنها لم تدرك خطورة معرفة كل شيء عن اآلخر الشريك ،فهي لم تتمكن من تقبل الرائحة السيئة من األفواه عند الصباح ،كذلك لم تستطع تس ّوغ رائحة الجوارب .التفاصيل كانت قاتلة ،ربما صامتة لم تفصح عنها بينها وبين نفسها ،إال أنها أفزعتها من التجربة ،كذلك الملل كان شيئاً ينمو باضطراد “الملل من اآلخر سببه معرفة كل شيء ،لم يعد بإمكاني تخيل الصورة الرومانسية لذكري وهو يحلق ذقنه ،بات كل شيء مبتذالً” ،تنهي رزان حديثها. في اآلونة األخيرة ،ازدادت حاالت المساكنة في سوريا “الحرب تغير موقفنا من الموت” يقول فرويد، وهذا الموقف يستدعي فعل كل شيء لألقصى .ليس لنا سوى حظنا في حساب الموت ،لذا علينا أن نعلن آخر أمنياتنا ،الجنس وسيلة لمواجهة الموت ،الجنس هو خلق ،عبره بإمكاننا منح الحياة لآلخر ،وعبره نواجه الموت .إن الحرب تحررنا من أوهام السلم ،ومن اإليمان باإلنسان الحضاري المتقدم .الحرب هي على رأس القوى التي يمكن أن تفسد التكيف الحضاري ،حيث أنها أرض خصبة النفجار الكبت االجتماعي للغرائز البشرية العدوانية .وفي زمن الحرب تتهدم األسس الحضارية واإلنسانية ،بحيث يصبح كل شيء من القتل وإلغاء اآلخر إلى أشنع األمور مباحاً ،ودون أي اعتراض من األفراد الخاضعين للحرب .وبالتالي يصبح 88
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
املساكنة
الحديث عن الرقيب االجتماعي أو الديني مغيباً ،فالقتل موجود فما الذي سيكون أفظع؟ ومن هنا يصبح التمرد ضد أخالقيات المجتمع حالة طبيعية ،في ظل فشل أخالقيات وأسس هذا المجتمع ،الذي تج ّلى فشل بنيانه من خالل إنتاجه للحرب. المساكنة هي إقامة شخصين مختلفي الجنس في مكان واحد دون رابط عائلي بينهما ،وهذا المفهوم ال يستدعي الحالة الجنسية بالضرورة ،لكن الفهم العام للمساكنة يتجاوز فكرة اإلقامة ،ليتناول الجانب الجنسي في الحالة في شكل كبير ،وتصبح المساكنة في المقام األول عبارة عن عالقة غير شرعية .وضمن الحديث عن انتشار المساكنة في ظل الحرب ،يمكن الحديث عن دور الجانب الجنسي في ذلك ،حيث يقول أدونيس “ليس ثمة لذة دونما فاجع ،وفي الفعل الجنسي تنبعث رائحة الموت ،ألن الفعل الجنسي ليس ماضي بل هو مستقبل ،والمستقبل دائما مح ّمل بالموت” ،حيث أننا ال نهرب من الموت إال من خالل الفعل الجنسي ،ألن الجنس هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا قادرين على الخلق .ومن هنا تنبعث قدرتنا و عجزنا من فعل واحد هو الجنس؛ فالجنس باعتباره والدة و خلق هو مستقبل ،والمستقبل يحمل الموت والخلق في آن .نحن ال نستطيع البقاء ،لكن بإمكاننا أن نتحول ألشخاص آخرين بأن نهبهم الحياة، وهذا يكون بسبيل واحد هو الجنس .كذلك فإن الحب هو أساس السعادة ،ونحن في الحرب نبحث عن السعادة ،وال نمتلكها إال بالحب الذي ال يمكن تحليله بوصفه حالة روحانية محضة ،بل هو التقاء الروحي و الجسدي. انتشار المساكنة ال يمكن إبعاده عن األوضاع االقتصادية المتردية ،فاألفراد المساكنين هم من فئة الشباب في الغالب .هذه الفئة ازدادت نسبة البطالة فيها خالل الحرب ،وتفاقمت أزمتها االقتصادية، وأصبح الزواج وتأسيس أسرة ،وما ينتج من ذلك من مشاعر االستقرار واألمان ،أصبح أصعب بسبب العوائق االقتصادية التي يقتضيها الزواج .من هنا يمكن اللجوء إلى المساكنة التي ال تفرض أعباء اقتصادية أو مسؤوليات مادية كما الزواج ،وتوفر مناخ من االستقرار شبه العائلي ،الذي يعوض جزئياً عن الزواج. كذلك فإنه في ظل بلد يرضخ للسطوة الطائفية في مجال األحوال الشخصية ،سواء على صعيد العرف أو القانون ،تصبح المساكنة منفذاً مناسباً .حيث أن البعض ،وبخاصة اإلناث ممن ال يستطيعون مواجهة عواقب الغضب األسري جراء الزواج بشخص من غير طائفة ،يرون المساكنة ح ًال لتحقيق رغباتهم ولو على صعيد موقت .وأحيانا ال يكون العرف االجتماعي فقط هو العائق ،فالقانون كذلك يشكل عائقاً للزواج كما في الحالة المسيحية/اإلسالمية. المساكنة ربما ال تحمل ماهية محددة بذاتها منفصلة عن المساكنين وعن البيئة ،حيث أن المساكنة تحمل تعريفاً جديداً في كل مرة ،تبعاً لطرفي المساكنة المنتجين لها .وال يمكن كذلك حصر دوافع المساكنة ،فهي متنوعة بقدر المساكنين ،إال أن انتشارها في ظل الحرب ربما يمنحها ُبعداً لم تكن تحمله من قبل .ويمكن القول أن البيئة السورية وظروفها أعطت المساكنة هوية خاصة لها خصائصها المميزة، وربما ستختلف المساكنة في شكل كبير إن كانت سوريا بغير حرب.
89
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
عمار المأمون❊
عبد الله قاسم❊❊
لبنان:
الجئون يف ِ اخل َيم ،الجئون يف القصور اخلالصة: يتناول هذا الريبورتاج ظاهرة انترشت يف بريوت وهي اجتذاب رجال كبار يف العمر لش ّبان وشابات صغار للعيش معهم بصورة مشرتكة ،ومشاركتهم بعالقات جنسية أو غريها ،يف سبيل املال واملأوى .املادة تعرض أربع حاالت ،كام تناقش الظاهرة من أربع جوانب؛ نفسية واجتامعية قانونية ودينية .املوضوع محرم مبوجب الدين رشعاً ،ويتجاوز األعراف يف بعض املجتمعات ،إال أن خصوصيته تكمن يف الجوانب النفسية واالجتامعية التي يحملها .ورغم تقبل بعض الفئات االجتامعية لهذه الظاهرة إال أن خصوصية الوضع السوري يف لبنان ووضع الالجئني و الالجئات بشكل عام هي ما تثري الجدل ،فاألمر مثري للريبة مهام كانت املكاسب التي ينالها من خرج من بلده وباألخص يف ظل االختالفات العمرية الشاسعة.
عمر املأمون :صحفي سوري مستقل يعمل من دمشق يف عدد من الصحف واملواقع العربية والدولية .مهتم بشؤون الثقافة واملجتمع .حاصل عىل شهادة ❊ ّ املاجستري باإلعالم ،وليسانس يف النقد والدراسات املرسحية. ❊❊ عبد الله قاسم :ناشط سوري مقيم يف بريوت مهتم بقضايا املجتمع املدين واإلغاثة .يدرس اإلعالم بجامعة دمشق ،ثم يف الجامعة اللبنانية ،ويعمل بالتعاون مع عدد من املنظامت غري الحكومية املهتمة بالشأن السوري.
90
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
اخليَم ،الجئون يف القصور الجئون يف ِ
يحلمن بال ّلجوء .الصيغة التقليدية لـ ‘الجئات مو سبايا’ تحمل معانٍ نعم ،أصبحت بعض الفتيات ّ جديدة مشابهة لتلك التي نراها في األفالم .فالشكل الجميل باإلضافة إلى المناوبة الليلية في أحد البارات يتيح الفرصة إلحداهن بأن تجد لنفسها ‘ ،’Sugar Daddyيتكفل بسكنها و إطعامها و مصروفها الشخصي، حيث تتحول إلى إكسسوار فاخر في مطاعم بيروت الباهظة ،وأحياناً إلى دمية جنسية شابة متوافرة عند الطلب. عيناها جميلتان ،وصوتها ّ خلب ،مريم (21عاماً) خرجت من سوريا بسبب خالفات عائلية إثر سلوك أبيها الماجن الذي أدى إلى تفكك العائلة ،وترك األب -ذو المنصب الحساس -األسرة وحيدة كي تتدبر أمورها بنفسها .حال وصولها إلى بيروت أقامت عند بعض أصدقائها ،ثم تمكنت من إيجاد عمل ،في أحد بارات الجميزة ،مستفيدة من جمالها وقدرتها على الغناء ،لم يمضي أسبوع على بداية عملها حتى التقت جوني ( 44عاماً) الذي أعجب بها ،وأصبح يتردد إلى البار ليستمع إلى قصة رحيلها التي أثارت تعاطفه. على إثرها طلب منها االنتقال إلى منزله ‘شديد الفخامة’ للعيش معه .تقول مريم“ :لم يقترب مني طوال فترة إقامتي وقال لي إني ال أنتمي لهذا المكان –البار -وإني كأخته” .في البداية وعدها جوني بأن يؤمن لها عم ًال ومأوى الئقين ،ثم أصبح الموضوع أكثر جدية حيث دعاها لإلقامة الدائمة في منزله“ ،صارحني بحبه ،وقال لي إنه يريد الزواج مني ألني أَ َس ْر ُت ُه وإنه لن يمسني أبداً بدون زواج either everything or- .”nothingمعظم التعابير التي يستخدمها جوني باللغة اإلنكليزية بسبب إقامته الطويلة خارجاً وتنقله في معظم أنحاء العالم .منزله مليء بالتحف األجنبية والمقتنيات الثمينة المنتقاة بدقة .على طاولة القهوة كتاب the Playboy Bookإلى جانب لوحات ‘راقصات الكاوبوكي’ المستوردة من اليابان .التدرك مريم قيمة معظم التحف والمقتنيات ،بل تتصرف وكأنها معتادة على مشاهدة قنوات ShowTimeفي منزلها السابق في سوريا في أحد ضواحي دمشق النائية شديدة الحراسة. مريم مسؤولة عن نفقات عائلتها في سوريا ،ومع ذلك تعيش حياة مرفهة في بيروت بعد أن استأجر 91
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
اخليَم ،الجئون يف القصور الجئون يف ِ
لها جوني سيارة لتسهيل تنقالتها -تنقالتها المقتصرة على االحتفال مع األصدقاء على حساب جوني -تقول أيضاً“ :ال أريد الزواج منه ،عمره كبير و مازلت شابة ،لكني مضطرة أن أجاريه ألني لن أعود إلى الشارع”. بعد أسبوعين سورياليين عاشتهما مريم بين المطاعم الفاخرة والسهرات الراقية قررت الرحيل نهاية، ألن جوني “طلب يدي عبر رسالة قصيرة على ،Whats Appشو هاد ...ما عم صدق ،وصلنا لهون ،متل المراهقين” .غادرت مريم ‘قصر’ جوني وعادت للعمل في البار لمناوبتين ،والغناء مرة واحدة في األسبوع في أحد مطاعم الـ karaokeلتتمكن من دفع أجار غرفتها التي تسكنها مع ثالثة آخرين ،وتحويل مبلغ صغير إلى أهلها في سوريا يقارب الـ ،$200على حد قولها “حافظت على نفسي ،ولم أسمح له بلمسي، ولن أسمح ألحد باالقتراب مني”. ال يقتصر األمر على السوريات فقط بل امتد ليشمل فتيات بلدان المجاورة فــ ُعال ( 20عاماً) خرجت مع أهلها من العراق أيام الغزو األمريكي عام 2003إلى سوريا ،ثم هربت إلى بيروت وحيدة منذ سنتين –كان عمرها 18عاماً عندما هربت -بعد أن حصلت على نقود ورثتها عن أهلها على حد زعمها .أغرم بها أحمد ( 63عاماَ تقريباً) ،عراقي الجنسية أيضاً .األخير دائم السفر ،لكنه يزور لبنان متقطعاً ،ليقيم في منزل ُعال في إحدى ضواحي بيروت .تقول ُعال “استأجرنا المنزل سوية لكنه دائم الغياب ،أنا مشتاقة إليه دائماً، لكن عندما يأتي إلى هنا يقيم عندي ،سنتزوج قريباً وسيأخذني إلى فرنسا ثم أمريكا ،حيث يؤسس لنا منزالً هناك” .الغريب أن ُعال تتحول بين الليل والنهار ،نهاراً هي ربة منزل من الطراز الرفيع ،تستيقظ باكراً لتنظف المنزل وتطبخ ،ومساء تتحول إلى فتاة عشرينية تحب السهر وارتياد الحفالت واستقبال الغرباء في وعال في األماكن العامة أقرب إلى نسخة منزلها الواسع متعدد الغرف واألس ّرة بصورة غريبة! شكل أحمد ُ جديدة من رواية ‘لوليتا’ ،أعين الما ّرة ورواد المقاهي تح ّدق بالعجوز ومعشوقته وهو يقبل يديها ويالطفها، في أشهر غيابه تقضي معظم وقتها تحادثه عبر Skypeأو ،Viberيأتيها الرد فوراً وأحياناً يستغرق عدة أيام .ما يثير الدهشة هو علنية هذا السلوك ،والميل إلى إظهاره والتفاخر به ،وترديد عبارة “الحب ال يعرف عمراً” لتتلوها ضحكات ،والقبل السريعة التي يفصل بين صاحبيها جيالن أو ثالثة على األقل. ال يقتصر األمر على الفتيات ،فـ أيهم ( 23عاماً) خرج من سوريا هرباً من الخدمة العسكرية اإللزامية، وتوجه إلى بيروت متبعاً ذات السيناريو المتعلق بالبارات والشكل الجميل .المختلف أن هوية أيهم الجنسية لم تكن واضحة في سوريا -إثر طبيعة عائلته الملتزمة دينياً -لكن حين وصوله إلى بيروت تصارح مع جسده و‘خرج من الخزانة’ حيث أصبحت ميوله أوضح ،فعمل في بار يرتاده المثليون وشارك في بعض الحفالت كراقص مساعد .حينها جذب أنظار جاد ( 48عاماً) ليتحوال إلى ثنائي يجول شواطئ بيروت ومطاعمها ،متأنقين أقرب لعارضي أزياء .الدخل العالي الذي أصبح أيهم يكسبه -عمله في عرض األزياء والبار الفخم -م ّكنه من إخراج عائلته من سوريا لزيارته في بيروت ثم استقرارهم في بلد عربي شقيق. نوع من الرومانسية يحكم العالقات السابقة ،التي ال تهدف إلى الجنس فقط لكنها ،تحوي شيئاً من المتعة السرية واالعتماد على سحر المصادفة .فالجنس ليس مقابل النقود بل أقرب إلى االنتشال من الفقر والتشرد ،وأحياناً قصة حب حقيقية .فهي غير منظمة أو خاضعة لعالقة “جنس مقابل نقود فقط” بل هي أقرب إلى escorting servesفي شكل أكثر حميمية. 92
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
اخليَم ،الجئون يف القصور الجئون يف ِ
أسطورة الثوري السوري هناك صيغة أخرى تحكم هذا النوع من العالقات؛ ترتبط بالالجئيين السوريين و“أسطورتهم” هناك.. بعض األجنبيات من جنسيات مختلفة تجذبهم حالة المشرد أشعث الشعر .كما حدث مع أبو وطن (25 عاماً) الذي يرفض التصريح عن اسمه الحقيقي ،يقضي وقته “سائحاً” في شوارع بيروت ومقاهيها ،بين أصدقائه الكثر ..متحدثاً عن السياسة واألدب والفن ويقضي لياليه ضيفاً بين منازلهم إلى أن التقى بشاعرة إسبانية تدعى إليانا (41عاماً) ،شدها شعره األشعث و صوته الرخيم و معاناته للوصول إلى بيروت ،فقد عبر الحدود بصورة غير قانونية وقضى ليلته األولى في أحد المساجد في شارع الحمراء إلى أن تمكن من التواصل مع أصدقائه ..الغريب أن إليانا تسمح لـ“أبو وطن” بالمبيت عندها في الفندق الفخم حيث تسكن لكنها لم تحاول تغيير شكله أو تحويله إلى زينة للمفاخرة فقد حافظت على أيقونة “أبو وطن” الذي يحيا “بوهيمياً” ،يقول أنها أحبته ألنه الحقيقة ،ألنها تريد أن تكتب قصيدة ال تنتهي ..الهالة السحرية المحيطة به أتاحت له أن يدفع ثمن الكحول التي يشتريها ،ويرد بعضا من ديونه المتراكمة .وفجأة أصبح يمتلك “ ”I-padالتي يتناقض وجودها في يده مع مالبسه الرثة ،و غياب الحزام الجلدي في سرواله ,يقول أبو وطن“ :هذه ليست تجربتي األولى من هذا النوع ،فقريباً أنتظر سيدة متزوجة من الخليج ستأتي هنا لنقيم سوية في شقة فاخرة لمدة شهر ،ثم سأحتفظ بالشقة لخمسة أشهر إضافية على حسابها”. اجلانب االجتماعي -جنس عابر: ما يثير الجدل في هذا الموضوع ،هو مخالفته لبعض األعراف برأي الكثيرين ،لكن أي أعراف منها؟ يقول مصدر مختص بعلم االجتماع“ :هذه الظاهرة ليست بالقديمة ،وهي ملحوظة في عديد من البلدان المتشددة دينياً لكن بصيغة أخرى ،تحمل صفة الزواج ،بالرغم من أن الدين يش ّرع الزواج بغض النظر عن االختالف باألعمار بين الزوجين ،وال يرى فيه مشكلة ،فهذه الظاهرة قد تكون مقبولة في المجتمعات التقليدية ،فهي مألوفة في دول الخليج ،إال أنّ ما ال يمكن تق ّبله في هذا الموضوع هو حقيقة استغالل الالجئات و أعمارهن الصغيرة ،حتى لو ُك ّن موافقات ،فهناك صيغ أكثر مالئمة – إن كان أحدهم يريد المساعدة فع ًال -ال تحول هؤالء الفتيات إلى إكسسوارات أو أساليب للتزين أمام الناس ،ال أرى أن الظاهرة غريبة عن مجتمعاتنا ،لكن يجب ّأل تلقى القبول االجتماعي المتعلق بحالة الالجئات ،فالموضوع إنساني، و هو استغالل بشكل أو آخر ،باألخص للفتيات في عمر المراهقة المتأخرة .قد يرى البعض أن الموضوع يحوي جانب من (الخُ بث) لدى الفتيات ،إال أن ذلك ال يبرر أن يتورط (الراشدون) -نظرياً -في هكذا تصرفات ،هناك ضرر متبادل ،واللوم يقع دائماً على الكبير ،حتى في حال وجود حب حقيقي ال أظن أن األمر سيستمر ،هو مجرد جنس عابر أو وسيلة للتباهي أمام الناس .الحالة األولى هربت من المنزل وبالرغم من نمط الحياة الجديد والمختلف الذي توفر لهاّ ،إل أن الخطوة التي قامت بها يمكن اعتبارها صح ّية- ترك الرجل حين طلب يدها ،-في حين أن الحالة الثانية هي حالة مرض ّية يجب أن تعالج وأن يوضع لها حد .المشكلة ال تكمن في تأمين المأوى أو مستوى الئق من العيش ،القضية تتعلق بفئة اجتماعية معينة ستتعرض لمواقف قد تحرف سلوكها في المستقبل و تؤثر على وجودها”. أما األكاديمي المختص في الجانب النفسي فيقول“ :بعيداً عن فكرة اللجوء أو عدم توافر مأوى ،حالة 93
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
اخليَم ،الجئون يف القصور الجئون يف ِ
االرتباط /الحب بين المختلفين بالعمر ذات تاريخ طويل في علم النفس و األدب فعقدة (لوليتا) التي أ ّلف عنها الروائي الروسي “فالديمير نوبوكف” رواية بنفس العنوان ،تتحدث عن هذه العالقة ،عن تخيل صورة األب و الوقوع في حبها وحتى ممارسة الجنس معها ،فاألمر مرتبط بالتربية و التنشئة و توتر العالقة مع األب أو غيابه و هذا ماحدث مع الحالة األولى والثانية ،األمر مرتبط بعالقة الفتاة مع الذكر ،لكن ما يجعل األمر أكثر تأثيراً هو حالة اللجوء ،فالذكر هنا يمثل صورة األب وما تحمله من أمان ،كما أنه مباح جنسياً، مما قد يعمق االرتباط كما في الحالة الثانية ،بحيث يتحول إلى حالة غير صح ّية ،في حين أن الحالة األولى ،تتمثل بمحاولة خداع تريد أن تمارسها الفتاة للوصول إلى مأربها ،فالعالقة الجسدية – سواء كانت ّ تستغل الرجل موجودة أم ال – و التواجد الفيزيائي في ذات المكان كان هدفه االستغالل ،الفتاة تظن أنها األكبر بالعمر في سبيل المال والمأوى ،وهذا السلوك سيستمر لفترة طويلة مع عدة محاوالت مع رجال آخرين ،هذا ما أظنه .الحالة الثالثة ،وتتمثل بالشاب “المثلي” فهي أقرب لحلم يتحقق .فالشاب خرج من سوريا وهو يعاني من القمع الجنسي والمادي –و باألخص خالل ما تمر به سوريا -و وجد متنفس له في بيروت .فالعالقة بالنسبة له تتجاوز الجسد لتصل إلى التأسيس لحياة جديدة وسلوك جديد ،هي اكتشاف لذاته ،و ال أظن أنه قد يعود لسوريا تحت أي ظرف ،فالتناقض الذي عاشه في ظل وجوده في سوريا ،يجب ّأل يتكرر”. اجلانب القانوين – "ال يوجد نص قانوين واضح”: الحالة معقدة ،في حين أن الدين يشرع الزواج لكنه يحرم المساكنة ،لكن قانونياً قد يتشابه األمر بالدعارة ،لكن كال الشخصين راضيان عما يفعالن و كلهما ال يعتبر قاصراً وفق القانون ،كذلك حاالت المساكنة المقبولة اجتماعياً –نوعا ما -و باألخص في ظل ازدحام بيروت بالالجئين وطبيعة المجتمع، القانون قد يتناول الموضوع كدعارة أوتسهيل للدعارة لكن لن يكون األمر واضحا ألن ال دالئل على الفعل “الداعر” وهو يتم بالتراضي ،أما تحريض القواصر على الدعارة فهذا النص ال يمكن االعتماد عليه ألن الفتيات لسن قاصرات ،الموضوع شائك قانونياً ،إذ من الصعب إدانة شخصين يحققان الشروط القانونية بجرم يخالف العرف االجتماعي بصورة ما وال يجرمه القانون ،و بالرغم من الحركات النسوية المطالبة بإنصاف المرأة وحمياتها إال أن الموضوع لم يتناول بعد ،بصورة منطقية .المرأة هنا هي التي تكسب ،على الصعيد المادي فقط .اآلثار األخرى ال يجرمها القانون. في تصريحه لموقع “نسوية كافية” يتح ّدث المحامي اللبناني أنطوان سبع“ :ال يوجد في القانون اللبناني المدني أو الجزائي أو في قوانين األحوال الشخصية اللبنانية ،أي نظام أو تشريع يتعلق بموضوع المساكنة” .لماذا؟ يجيب“ :ربما تعود أسباب إغفال هذا النمط من الحياة المشتركة بين شخصين ،إلى سيطرة المرجعية الطائفية على نظام األحوال الشخصية في لبنان ،وعلى الج ّو االجتماعي العام في البالد، الذي ال يزال ينظر إلى مثل هذا النمط ،بالرغم من االنفتاح الملحوظ ،الذي نشهده ،في طبيعة العالقات الثنائية بين الرجل والمرأة ،كمسألة شاذة عن المألوف ،وغير مقبولة دينياً واجتماعياً .وبالتالي فإن القوانين اللبنانية لم تتطرق إلى موضوع المساكنة بصورة مباشرة أو غير مباشرة” .ويضيف“ :ال يوجد في قانون العقوبات اللبناني أي نص يج ّرم المساكنة بين غير متزوجين ،وإنما هناك نصوص تعاقب العالقة الزنائية، 94
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
اخليَم ،الجئون يف القصور الجئون يف ِ
فإذا كانت حال المساكنة زنائية أو تشتمل على أفعال يعاقب عليها القانون ،فإن المالحقة تنحصر بهذه األفعال وليس بفعل المساكنة في ذاته” .نالحظ في كلتا الحالتين أن القانون لم يتناول الفروقات العمرية أو الحالة المطروحة حالياً. اجلانب الديني :حرام شرعًا دون عقد زواج: الدين يرفض الموضوع و يحرمه ،لكن البعض يرى األمر قريباً من المساكنة ،فأي خلوة بين شخصين غير محكومة بعقد شرعي تعتبر حراماً ،فالدين يتناول التواجد المادي للشخصين ضمن المكان ،ال فرق العمر بينهما ،فلطالما كال الطرفين قادران على الباءة “الزواج” مهما كانت اعمارهما ،فعليهما الزواج ،أما غياب العقد الشرعي فيجعل األمر محرماً ،بالتالي الدين ال يرى في الموضوع مشكلة إن كان هناك عقد شرعي ،ففرق السن مهما بلغ ال يشكل عائقاَ و هناك أمثلة كثيرة من التاريخ اإلسالمي الحديث و المعاصر التي ال ترى في الموضوع مشكلة ،النص الديني يقنن التواجد /الحضور ،وال يتناول اآلثار االجتماعية أو النفسية التي من الممكن أن تجتلبها هكذا حالة. الدين يتناول موضوع عقد الزواج ال االختالف بين األعمار أو من يقوم بالنفقة ،و بالطبع يتناول الحيثيات التي تتعلق بولي األمر و اإلشهار لكن يمكن تجاوزها في حال تراضي الطرفين .إال أن هناك رأي آخر يقدمه األكاديمي السوري محمد شحرور وهو :اإلفتاء بإباحة تواجد الشخصين في نفس المنزل دون عقد زواج “مساكنة” ما دام الموضوع يتم بالتراضي واعتبر الجنس بينهما تحت خانة “ملك اليمين”، مثير للجدل .الرأي الذي قدمه الباحث شحرور حسب تصريحاته لـ“العربيةنت” .إال أنه لم يتناول موضوع العمر ،وهو األكثر خصوصية في هذه الحاالت .فالدين اإلسالمي ال يحدد الفروق العمرية بل يحدد األعمار المالئمة لزواج كل من الذكر و األنثى.و ينسحب األمر على الديانة المسيحية. الموضوع محرم بموجب الدين شرعاً ،ويتجاوز األعراف في بعض المجتمعات ،إال أن خصوصيته تكمن في الجوانب النفسية واالجتماعية التي يحملها .ورغم تقبل بعض الفئات االجتماعية لهذه الظاهرة إال أن خصوصية الوضع السوري في لبنان ووضع الالجئين و الالجئات بشكل عام هي ما تثير الجدل ،فاألمر مثير للريبة مهما كانت المكاسب التي ينالها من خرج من بلده وباألخص في ظل االختالفات العمرية الشاسعة. “كل الشخوص رفضت ذكر أسمائها الحقيقية لكن األعمار حقيقة”
95
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
األلرتاس:
قصي عمامة❊
ظل االعتقال أم أثره؟ االختطافّ ،
اخلالصة: ال أرقام دقيقة لعدد املغيبني قرسياً يف سوريا ،وهنا ال نتحدث فقط عن معتقلني لدى جل الحديث عن مختطفني قامت عصابات تتبع لطريف السلطات الحاكمة يف دمشق ،بل ّ النزاع الرئيسني يف البالد بتغيبهم؛ إما ألسباب سياسية أو ثأرية أو حتى مادية .ومع أن الكثريين يربطون بني االعتقال واالختطاف إىل أن األحداث عىل األرض رسعان ما فكت هذا االرتباط ،سواء بسبب الفجوة األمنية التي أدّت إىل منو هذه الجرمية كفعل جنايئ بحت مستقل عن الحدث السيايس واألمني ،أو بسبب الرصاع املسلّح الذي تخوضه كتائب وجامعات مسلحة فيام بينها.
❊ صحفي سوري تخرج من كلية الفنون الجميلة ،وشارك يف 4ملتقيات نحت بسوريا وعدة معارض .ثم انتقل إىل العمل اإلعالمي حيث أثبت متيزا ً عىل مستوى الربامج الحوارية .يعمل يف املجال اإلذاعي منذ عام ،2007إضافة إىل عمله يف الفريق الصحفي ملجلة دلتا نون.
96
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
االختطافّ ، ظل االعتقال أم أثره؟
حمص ،المدينة السورية الواقعة في منتصف البالد ،دخلت خط ما تحول اليوم إلى حرب ،في شكل مبكر جداً ،وتكاد تكون المدنية هي من ابتكرت االختطاف في سوريا .فمع تصاعد حدة التظاهرات مع بداية الحراك الشعبي في المدينة ،و توارد األنباء عن حاالت اعتقال عشوائي نفذتها السلطات آنذك ،كانت قسم الحدث السياسي واألمني األنباء تشير أيضاً إلى وقوع حاالت اختطاف ُن ِّف َذ ْت من ِق َبلِ مدنين .فبعد أن ّ سجل القسم المعارض عدة حاالت اختطاف بحق مدنيين من األحياء المدينة إلى قسمين ،موالٍ ومعارضّ ، الموالية للسلطات كي يقايض بها معتقلين لدى السلطة في أكثر التقديرات تفاؤالً ،سرعان ما رد الشطر الموالي بخطف مدنيين لذات الغرض؛ المقايضة .العملية باتت منظمة أكثر مع الوقت ،ورغم الحذر الذي خُ لق بين أبناء المدينة ،وقيام المتاريس وتغيير خطوط النقل واألسواق ،إال أن االختطاف ظل يسجل حتى وقت متأخر من الصراع في المدينة. حية شهادة ّ حيدر رزوق صحفي يغطي الحرب السورية من حمص ،تصل لمكتبه في حي عكرمة آالف من الملفات والشهادات حول مختطفين بعضهم اختفى منذ أكثر من عاميين .يقول رزوق“ :بدأت عمليات االختطاف في َمدينة حمص بعد بداية األحداث في البالد بحوالي الثالثة أشهر ،ولكنها لم تكن لتظهر بشكل واضح كونها كانت غريبة على المجتمع في مدينة حمص ،وثانياً كونها كانت متفرقة وقليلة إلى أن ارتفعت وتيرة الخطف مع بداية العام ،2012وكانت أكثر نسبة للخطف في األشهر 2و 3من العام 2012وتحديداً في منطقة القرابيص التي شهدت أعالها .أما بالنسبة ألعداد المخطوفين في مدينة حمص فال يوجد عدد دقيق ،ولكن بحسب التقديرات وبعض اإلحصائيات فقد تجاوز العدد 2700مخطوف من مختلف مناطق حمص”. قضت الصفقة األخيرة في حمص القديمة على آمال اآلالف بالعثور على مختطفيهم ،فلم تجد القوات الحكومية أية معتقالت خاصة ،كما لم يظهر أي أثر ألحد منهم .سابقاً نجح الخاطفون في تحقيق 97
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
االختطافّ ، ظل االعتقال أم أثره؟
صفقات ،لكن التح ّفظ الرسمي منع أي معلومات عن أرقام أو معلومات .يتابع رزوق“ :ال يوجد عدد دقيق لمن حرروا بموجب صفقات ،نظراً ألن بعض الذين تم تحريرهم كان عبر وسائط رسمية والبعض اآلخر تم تحريره بالتبادل وظل قيد الكتمان”. السبب األول لالختطاف بحسب الترتيب الزمني للممارسة في حمص كان رداً على عمليات االعتقال ،لكن سرعان ما خط التامس الذي يفصل حي دير بعلبة وحي البياضة تغير هذا ،يقول رزوق“ :نعم هناك ارتباط حيث حدثت مئات حاالت االختطاف بين عمليات االعتقال وعملية الخطف، ولكن ليس بنسبة كبيرة ،ففي بعض الحاالت التي سجلت قام مجهولون باختطاف بعض المواطنين للمطالبة باإلفراج عن معتقلين ،وذلك عبر التواصل مع ذوي المخطوف والضغط عليهم إلجبارهم على التواصل مع الجهات األمنية لإلفراج عن معتقلين ولكن لم تسجل أي حالة نجحت فيها عملية التفاوض”. اخلطف املضاد يف حمص: بدأت عملية الخطف المضاد عند ارتفاع جرائم الخطف من المعارضة المسلحة في شكل ملحوظ ما دفع بعض األشخاص سواء لتشكيل عصابات صغيرة ،أو حتى من خالل أفراد ،يقول رزوق ،للرد على عمليات الخطف بالخطف المضاد بهدف تحرير مخطوف ،أو إحداث حالة من توازن الرعب ،إلجبار المعارضة المسلحة على التراجع عن تلك األعمال ،وبالتالي الصحفي حيدر رزوق ازدادت عمليات الخطف المتبادل وازداد معه التحريض في المجتمع الحمصي .الحقاً ،وفي األشهر األخيرة شهدت حمص حاالت اختطافات لنساء وجدت جثثهن بعد أيام وقد اغتصبن، وذلك في أحياء موالية ،ووجهت اتهامات لجيش الدفاع الوطني بارتكاب هذه الجرائم. وكصحفي متابع لملف المخطوفين يرى رزوق أن الخطف في حمص ترك أثراً سلبياً كبيراً في المجتمع األهلي الحمصي ،وأحدث شرخاً في النسيج االجتماعي مع زيادة التحريض الطائفي .فتلك العمليات بنيت على أساس طائفي ما أثر على العالقات االجتماعية بين أهالي حمص ،وقد وصل األمر في بعض الحاالت بأن ساهم بعض المدنيين بتسهيل عمليات اختطاف لجيرانهم بسبب انتماءات طائفية. 98
العدد 1
متوز /يوليو ـ 2014
االختطافّ ، ظل االعتقال أم أثره؟
التعاطي الرسمي املباشر وغري املباشر: “أهملت الحكومة الملف في بدايته ،ولم تلتفت أي جهة رسمية لحاالت االختطاف ،ولم تتجه لضبط هذه الحالة ببدايتها ما تسبب بارتفاع حدة تلك الجرائم .وبعد ما يقارب العامين على بدء األحداث وارتفاع نسبة عمليات الخطف تحركت الحكومة من خالل توثيق الحاالت والتعامل معها بجدية أكثر ،وقد نجحت في بعض األحيان من تحرير بعض المخطوفين .ومع ذلك بقي هذا الملف من الملفات التي ال تحظى باهتمام كبير نفق يصل بني حي الساعة وسط حمص واملنطقة القدمية وكان يستخدم لنقل املخطوفني من الجهات الرسمية بحمص” يختم حيدر رزوق. على الضفة األخرى ،في المناطق التي فقدت السلطة السيطرة عليها لصالح المعارضة المسلحة ،أو الجماعات اإلسالمية المتطرفة ،ظهر االختطاف أيضاً ولذات األسباب تقريباً ،فاخ ُتطِ َف ناشطون وصحفيون مدنيونُ ، وغ ِّي َب المئات ألسباب دينية أو عقائدية وطائفية أو حتى مادية. وكما هو حال عدم وجود أرقام رسمية لمختطفين في مناطق سيطرة السلطة ،ال أرقام لعدد المختطفين في أماكن سيطرة المعارضة أو التنظيمات اإلسالمية .يؤكد عبد الكريم ريحاوي رئيس ‘الرابطة السورية للدفاع عن حقوق اإلنسان’ لدلتا نون بالقول “ال يوجد رقم موثق ومؤكد لحاالت االختطاف لكن العدد المتوقع يتجاوز 1500مختطف بحسب التقديرات التي نمتلكها ،الكثير من الكتائب المسلحة مارست االختطاف ،معظمها كتائب إسالمية وبعض الكتائب التابعة للجيش الحر ،ويبقى العدد األكبر من الحاالت من نصيب ميليشيات دولة العراق والشام االسالمية (داعش) التي قامت باختطاف مئات الناشطين واإلعالميين والقادة الميدانيين لكتائب مسلحة تابعة للجيش الحر باإلضافة إلى صحفيين أجانب”. ملاذا اخلطف؟ تتنوع أسباب االختطاف وفقاً لنوع الجهة التي تمارسه .يقول ريحاوي“ :أسباب عمليات االختطاف كثيرة ومتنوعة بحسب الجهة الخاطفة .فميليشات ‘داعش’ مارست هذا النوع من الجرائم إلرهاب الناشطين واإلعالميين والصحفيين ،وغالباً ما يتم إعدامهم ،وفي حاالت قليلة جداً تم اإلفراج عن بعض المخطوفين األجانب مقابل مبالغ مالية كبيرة من خالل صفقات تمت في شكل سري بعيداً عن وسائل االعالم .أما بالنسبة لبقية الجهات الخاطفة في المناطق المحررة فقامت به الكتائب اإلسالمية ألسباب تتعلق بشكل أساسي بتهم تتعلق بالتعاون مع النظام ،أو في حاالت قليلة إلجبار النظام على عقد صفقة تبادل لمعتقلين في سجون المخابرات السورية .أما الجزء األسوء في هذا الملف فهو ما قامت به كتائب ت ّدعي انتماءها 99
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
االختطافّ ، ظل االعتقال أم أثره؟
للجيش الحر حيث مارست االختطاف بحق مواطنين ميسورين ورجال أعمال سوريين في المناطق الخاضعة لسيطرتها مقابل الحصول على فدية مالية .وهذا النوع من الجرائم ال يختلف عن الجرائم التي قامت بها أيضا ميليشيات الدفاع الوطني التابعة للنظام مقابل الحصول على منفعة مادية لتمويل عمليات عسكرية أو لدفع رواتب المرتزقة”. تكثر األنباء عن صفقات تجري بين السلطات وبين المعارضة المسلحة التي نعود ون ّذكر أن لها مسميات عدة ،وقد سجلت حاالت من التحرير والتحرير المضاد وفقاً لهذه الصفقات .يقول ريحاوي “معظم المختطفين من قبل ‘داعش’ ال يزالون ضحية لالختفاء القسري ونعتقد اعتقاداً قوياً بأنهم قد التوصل إلى حل يفضي في نهاية األمر إلى ُأعدموا ميدانياً .أما المعتقلين لدى بقية الكتائب فغالباً ما يتم ّ اإلفراج عنهم .أما بالنسبة لصفقات التبادل بين الكتائب المسلحة والنظام ،فهذا األمر يعتمد على أهمية المختطف لدى النظام ،وغالباً ما يمتنع النظام عن الوفاء بالتزاماته حول الصفقة في حال نجاحها ،وهذا ما لمسناه في حاالت عديدة أهمها الصفقة التي تمت بخصوص اإلفراج عن الراهبات والتي كان من المفترض أن يفرج النظام فيها عن 135معتقلة ،لكنه في الحقيقة لم يفرج إال عن 30معتقلة”. حلب يف صدارة ملف اخملطوفني تحتل حلب مركزا متقدماً في ترتيب المدن الخاضعة لسيطرة المعارضة من حيث حاالت االختطاف، وفقاً لريحاوي ،ريف حلب أوالً ثم ريف إدلب ،الشمال السوري ،فالشمال الغربي ،الرقة وريفها وريف دمشق. ويرى ريحاوي أن ظاهرة االختطاف عادة ما ترافق الحروب األهلية والنزاعات المسلحة غير الدولية، لكن األمر المستهجن هنا أن تصبح حالة منهجية في المناطق المحررة ،وهو أم ٌر ال يعطي الشعور باألمان للمدنيين الخاضعين لسلطة هذه الفئات ،ومن المفترض وجود آلية قانونية بديلة تعطي الشعور باألمان واالستقرار للمجموعات السكانية في المناطق المحررة. تتصدى وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية لملف المختطفين وتستقبلهم تحت اسم ‘الغائبين’، حيث تفتش عنهم أوالً في الفروع األمنية وفقاً لكتب رسمية توجهها وتنتظر الرد ،فيما تشرف أحياناً على صفقات للتبادل ال تتجاوز العشرات ،بينما تغُ ُّص الوزارة بآالف الملفات لمختطفين يمكن أن يتحولوا ،في يوم من األيام ،إلى مجهولي مصير بعد انتهاء الحرب السورية.
100
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
عبد الحاج❊
قوارب املوت إىل أوروبا
عصابات التهريب املنظمة تتقاسم ِّ ولكل مهاج ٍر قصة املهاجرين بحرًا وبرًا
اخلالصة:
تعد الهجرة عموماً واحد ًة من أكرث ظواهر االجتامع اإلنساين تعقيداً ،وذلك بالنظر إىل تعدد مجاالت تأثريها خاصة مع التزايد املطرد يف أعداد املهاجرين من دول الرشق األوسط -سوريا خصوصاً -إىل أوربا بطرق غري قانونية ،ويف شكل رسي غالباً؛ من خالل التسلل عرب مختلف منافذ الحدود املتاحة ،أو باالستعانة بشبكات تهريب البرش .تعقُّد إشكاالت وتحدّ ٍ ٍ يات ال عىل صعيد الدول الـ ُمصدِّ رة الرسيي ،فرض ظروف املهاجرين ّ أو املستقبلة للهجرة ،أو عىل صعيد املهاجرين أنفسهم إنسانياً واجتامعياً واقتصادياً وقانونياً ،بل كذلك عىل الدول التي تقع بحكم موقعها الجغرايف يف الطرق الرئيسة للهجرة.
❊ كاتب وصحفي سوري .من مواليد سوريا ،ومقيم في السويد .يكتب في عدة صحف عربية منها ‘العرب اللندنية’ و‘الحياة اللندنية’ و‘القدس العربي’.
101
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
قوارب املوت إىل أوروبا
ٌ متداولة لمراكب صغيرة بدائية الصنع في الغالب ،تحمل المهاجرين غير تسميات ‘قوارب الموت’؛ ٌ الشرعيين عبر البحار قوارب عمرها عشرات السنين ،مهترئة يستخدمها مه ّربين جشعين مرتبطين بشبكات إجرامية منظمة .وأضحت رمزاً للهجرة بين ب ٍّر و َب ْحر ،إلى بالد َيعت ِقدُ المهاج ُر أنها أكثر أمناً ،ستمنحه الحماية وتكفل له حياة كريمة .مئات السوريين يصعدون من شواطئ تركيا ومصر وليبيا ،هاربين من وطنٍ يسوده نزحت بهم قوارب الموت عبر البحار إلى حيث يقيمون الظلم والجوع وفوضى األمن .يستذكر سوريون ْ اليوم في اوروبا تفاصيل رحالت الهروب الكبير. أبو أحمد ( 56سنة) ركب السفينة الليبية مهاجراً ،ومعه زوجته وابنته وابنه وحفيده وزوجة ابنه، في رحلة لجوء ،هروباً من الحرب في سوريا ،فأصبح المشهد كالتالي :أبو أحمد نجا ،وهو في جزيرة كتانيا. وابنه نجا ،وهو في جزيرة مالطا .أما زوجته فتحمل الرقم 13في مقبرة ماتزلينو .وحفيده يحمل الرقم 5 في نفس المقبرة .أما ابنته وزوجة ابنه فما يزال مصيرهم مجهوالً. عن تفاصيل الغرق يروي أبو أحمد“ :السفينة انطلقت من زوارة (ليبيا) التي تبعد 60كلم فقط عن الحدود التونسية .كنا حوالي 400شخص معظمنا سوريين ،وحوالي 30فلسطيني .ركبنا في السفينة بعد دفع مبلغ حوالي $1000للمهربين ،واالتفاق كان ايصالنا إلى السواحل اإليطالية .وبعيد انطالق السفينة تعرضنا إلطالق نار كثيف من قبل ميليشيا تهريب ليبية كانت قريبة منا .العيارات النارية أتت على األرجح بقصد القتل؛ ثالثة شبان أصيبوا ،اثنان منهم في األيدي والثالث في ساقيه”. يتابع“ :على سطح السفينة ساد الهلع وحاول الناس االحتماء ،لكن قبطان السفينة ،وهو تونسي األصل ناج في مالطا و 57في تل ّقى أوامر بالعودة إلى اليابسة ،لكنه لم يتوقف” .وبحسب أبو أحمد :هناك ٍ 143 خمس في مالطا ،و 22في صقيلية ،بينما مايزال 160في عداد المفقودين. جزيرة صقيلية ،والجثث موزعة: ٌ في تصريح صحفي مكتوب قال ‘المرصد األورومتوسطي لحقوق اإلنسان’ -ومقره الرئيس جنيف– إن االتصاالت التي أجراها حول غرق السفينة تشير إلى أنه ال يزال هناك أكثر من مائة جثة في قاع البحر بحطام السفينة الغارقة ،دون أن تقوم السلطات اإليطالية بدورها في انتشال الضحايا ،رغم مرور ما يزيد 102
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
قوارب املوت إىل أوروبا
على عشرة أيام من وقت وقوع الحادث ،بزعم الحاجة إلى موازنة مالية ضخمة تقدر بثالثين مليون يورو. يروي فؤاد حسن ( 35سنة) ،الذي كان ضمن مجموعة من المهاجرين من تركيا“ :ارتأيت الهجرة عبر البحر مع مهاجرين استقلوا المركب من مدينة إزمير غرب تركيا ،وعددهم نحو سبعين شخصاً لقوا مصرعهم إثر غرق القارب وكان بينهم نحو عشرة عراقيين ،كنت ضمن المجموعة ،لكني ق ّلبت األمر مع نفسي، فتريثت ،وفضلت الهجرة إلى أوروبا عبر روسيا وأوكرانيا” .وصل حسن إلى هولندا بعد رحلة أيام سيراً على األقدام عبر أوكرانيا وبلغاريا برفقة مهربين .ورغم المصاعب والمبالغ الطائلة التي دفعها حسن ،لكنه يجد نفسه سعيداً ألنه لم يقرر في تلك اللحظات ركوب البحر. كانت مصادر تركية أفادت أن حصيلة غرق القارب كانت 12رج ًال ،و 18سيدة ،و 28طف ًال ،وثالثة رضَّ ع .وبحسب سعيد الذي ّ ظل في تركيا لعدة أشهر قبل انتقاله إلى أوروبا“ :إن أغلب المهاجرين غير الشرعيين اليوم هم من سوريا ولبنان ،وأعداد أخرى من األردن والعراق وأثيوبيا وأرتيريا”. يعترف الشاب أحمد الوردي ،الذي وصل إلى السويد عبر عملية تهريب معقدة من تركيا ،اشتملت في مرحلة منها على ركوب البحر في قارب ،بأن“ :عصابات تهريب البشر ،تس ّهل األمر لمن يرغب بالتوجه إلى أوروبا ،من الشباب الحالمين بمستقبل أفضل” .والوردي ،الذي حصل على حق االعتراف به كالجئ في السويد التي قدم إليها العام ،2012يحكم فكرته بالقول“ :مازالت البحار تُغ ِر ُق الكثير من الشباب من الصومال واليمن وسوريا الذين يضطرون إلى ترك بلدانهم” .ويتابع أحمد ،مستقياً معلوماته من تفاعله مع المهربين“ :أفضل طريقة للوصول هي عن طريق جواز سفر بلجيكي أو نمساوي ،يخ ّول صاحبه أو حامله الدخول إلى السويد عبر المطار ،أو عن طريق اليونان من أدرنه أو أزمير إلى جزيرة خيوس اليونانية وهي تبعد 7كم فقط عن البر التركي ،ومن بعدها الذهاب إلى جنوب اليونان وإكمال الطريق بحراً إلى إيطاليا، ويفص ُل ومن إيطاليا الطريق مفتوح إلى السويد بشرط عدم ارتكاب أي فعلٍ يلفت نظر الشرطة إليك”. ِّ أحمد التكلفة“ :إلى جزيرة خيوس 2000دوالر ،ومن جنوب اليونان إلى إيطاليا من 2000إلى 3000 آالف دوالر ،ومن إيطاليا إلى الحدود الدنماركيه السويدية عند جسر أوريسند 1000يورو ،زائد المصروف الشخصي في تركيا واليونان وإيطاليا ،الذي يتضمن المبيت والطعام واالتصاالت إذا اضطر األمر .ويجب أن تكون في مظهر الئق إلى ح ٍّد يشبه األوروبيين وخصوصاً في اليونان وإيطاليا ،وأنصح عدم التحرك كثيراً في اليونان ،ألن الشرطة اليونانية مشهور ٌة بأمرين؛ األول تمييز المهاجر جيداً ،والثانية تشم المهاجر من بعد 1 كم”. تعتبر مدينة اإلسكندرية المصرية نقطة انطالق لكثير من مراكب الهجرة أيضاً .فالرحالت التي أصبحت تتكرر عدة مرات إسبوعياً إما أن تنجح أو تفشل ،وأمام الفشل أصبح السوريون ،ومعهم الفلسطينيون ،أمام الترحيل ،أو البقاء تحت رحمة الشرطة المصرية التي تحتجزهم في شروط صحية سيئة .أحمد ،أحد الناجين، كان محتجزاً لدى السلطات المصرية ،ورحل من مصر إلى سوريا .يتحدث أحمد عن عملية االحتجاز في مصر قبل ترحيله إلى سوريا“ :تم تسفيرنا إلى لبنان بعد فترة حجز بسجن الدخيلة باإلسكندرية ،وهناك سجن ثاني يسمى كرموش ،كان عددنا 45سوري ،والحجز كان ضمن عنب ٍر مساحته 16متر مربع ،مع سجناء مصريين” .ويضيف“ :تكلفة المكالمة إلى سوريا كانت ،$200عدا المعاملة السيئة جداً وكأننا إرهابيون. أتذكر أن أحدهم دفع 150يورو للحصول على هاتفه واالتصال بوالدته .وك ّنا يومياً نجمع $300للسجان 103
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
قوارب املوت إىل أوروبا
ليسمح لنا بفتح الباب والنوم بالممرات لمدة 4ساعات فقط .بيع الممنوعات من قبل ضباط السجن كان علناً ،وعند قرار الترحيل حجزوا لنا إلى لبنان ،وسعر التذكرة على حسابنا .$230وقبل موعد الرحلة بنصف ساعة رافقتنا حر ٌ ُ تمنيت اسة مشدد ٌة إلى المطار ،ومن أصل 17موبايل سلمونا 3فقط” .ويتابع“ :والله الموت في البحر على أن أعامل هكذا معاملة من مواطن عربي”. لكن بحسب العميد محسن عبد القادر -مدير إدارة األموال العامة بغرب الدلتا– تحاول لسلطات المصرية الحد من هذه الظاهرة ،وقد أحبطت قوات حرس الحدود محاولة هروب مركب صيد ،وإنقاذ 116 سورياً وفلسطينياً ،وأربعة مصريين من طاقم المركب .واستطاعت القطع البحرية إنقاذ المهاجرين غير الشرعيين ،وانتشال الجثث التي غرقت ،والتي وصلت إلى 20 جثة ،تم العثور على 14 فقط ،معظمهم أطفال ونساء. يروي قاسم فوزي من دمشق“ :إنه جاء إلى مصر منذ نحو العام ،وأقام بمدينة 6أكتوبر ،وحين ضاق به الحال ،وكثر الحديث عن سفر السوريين إلى أوروبا والترحيب بهم كالجئين مع معون ٍة شهري ٍة تقدر بنحو 1500يورو ،قرر السفر هو وأسرته .فامتنعت زوجته عن خوض الرحلة البحرية ،وفضلت اإلقامة في مصر هي وأوالدها .ولم يسافر معه سوى ٌ ابنة واحدة .ويضيف“ :تم التواصل مع أحد السوريين بأوروبا، حيث أرشدنا إلى السور َي ْين الل َذ ْين يؤ ِّمنان لنا السفر مع بعض الوسطاء المصريين؛ ُيس ّميان أبو أحمد وأبو جنات ،وهما القائمان على تسفيرنا ،ولم نلتقي بهما .كان التعامل عن طريق هاتف أحد السوريين بمصر: أحد من “قمنا بدفع مبلغ يتراوح بين 3آالف دوالر و 6آالف دوالر عن الفرد الواحد” .ويتابع“ :لم يسافر ٌ السوريين قبلنا إال وقام بتحذيرنا من خوض هذه الرحلة ،واالستعاضة عنها بأي وسيلة أخرى .ولكن ضيق ذات اليد وحلم السفر أعمى بصرنا عن ذلك .والفرق بيننا وبين المصريين أنهم يعلمون أنها هجرة غير ومأه ُلون نفسياً لخوضها ،بينما نحن تم شرعية وأنهم قد يموتون جراء هذه الرحلة ،ولذا فهم مستعدون َّ إيهامنا أننا سنسافر بطريقة شرعية وعبر ميناء رسمي”. تتجسد المأساة الحقيقية في أبونبال (فلسطيني-سوري من مخيم اليرموك) الذي جاء إلى مصر قبل السفر بأيام قليلة .يقول أبو نبال“ :نحن انتقلنا من جحيم إلى جحيم آخر .من سوريا حيث الموت والدمار، إلى البحر ومعاناة الموت أيضاً .كالهما موت علي أي حال .وقد ُ جئت هرباً من سوريا خصوصاً حين علمنا أنه سف ٌر شرعي ،وبتأشيرات .وأدخلونا من إحدى الشركات على أنها الميناء ولكن المفاجأة أنّنا وجدنا ومركب صغي ٍر جداً .وحين َه َم ْمنا بالتراجع أشهر الصيادون الثالثة في وجوهنا رملي أنفسنا على ٍ ٍ شاطئ ٍّ ُ أدركت منذ تلك اللحظة أن سفرنا غير شرعي ،وأن الموت السكاكين مه ّددين بالموت إن ارتفع صوتنا. في انتظارنا هنا أيضاً” .ويضيف“ :بعد أن ركبنا المركب ،قاموا بتغطيتنا حتى اليرى أحد من في المركب، وحين سألتهم نحن مسافرون بطريقة شرعية ،لم نتلق سوى السباب بألفاظ بذيئة .طلبوا منا كل التليفونات ٌ ٌ المحمولة ،وكان معنا ٌ خائفة تصرخ من ظلمة الليل والبحر عمرها عشر سنوات ماتت غرقاً في معاقة طفلة أحضان أمها ومعها أختها”. قصص غريبة: سوري قدم طلب لجو ٍء في مدينة ميونيخ األلمانية .وبعد حصوله على اإلقامة ،ه ّدد شخص ‘م.ح’ ٌّ ٌ 104
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
قوارب املوت إىل أوروبا
بإلقاء نفسه من فوق رافع ٍة إذا لم ُيسمح له باستقدام أسرته من مصر ،وذلك حسبما ذكر ناطقٌ باسم الشرطة األلمانية .وظل السوري ( 31عاماً) قابعاً فوق الرافعة على ارتفاع 20متراً لمدة أكثر من 12 اب في درجة حرارة 31درجة مئوية ،وهو ما جعل رجال الشرطة يخافون من ساعة بال طعا ٍم أو شر ٍ انهياره وسقوطه .وقالت الشرطة إنه رفض جميع العروض التي قدمتها له ،وإنها لم تستطع استخدام وسادة القفز لتلقفه بسبب وجود الرافعة فوق منطقة سكنية .وأكدت الخارجية األلمانية أن أسرة السوري تقدمت بالفعل لدى السفارة األلمانية في القاهرة بطلب السفر لرب األسرة في ألمانيا .لم تمضي سوى أسابيع قليلة على وجود الرجل في ميونيخ ،حيث تقدم بطلب اللجوء ،وحسب مصادر خاصة فإن للرجل ثمانية أبناء. السوريون وما يعانونه في بلدهم ح َّولهم إلى سلع ٍة سهل ٍة بيد تجار البشر ،إذ وجدت الشبكات في هؤالء الالجئين ،وفي شريح ٍة واسع ٍة من اللبنانيين الفقراء ،أهدافاً سهل ًة إلقناعهم بالهجرة غير القانونية وجني أموالٍ طائل ٍة منهم .وكان الجيش اللبناني اعترض مركباً صغيراً كان ُيق ُِّل 13شخصاً في طريقهم من جنوب لبنان إلى إيطاليا بطريق ٍة غير قانونية ،وأوقف خمسة أشخاص ينتمون إلى شبك ٍة ّ نظمت العملية ٍ حادث من نوعه في لبنان ،بحسب ما أفاد مصد ٌر أمني .حيث كشف التحقيق أن ك ًال من الركاب في أول ّ السوريين والفلسطينيين دفع مبلغ 5000دوالر لمنظمي الرحلة ،وأن اللبنانيين الثالثة يشكلون جزءاً من شبك ٍة لتهريب األشخاص كانت تقوم بأول رحلة غير قانونية لها إلى إيطاليا ،وقد تم توقيفهم .وتم في ٍ وقت الحق توقيف شخصين آخرين في الشبكة بحسب المصدر الذي أشار إلى أن التحقيقات مستمرة ،موضحاً ٍ أن الموقوفين أفادوا أن المركب كان يفترض أن يتوقف في محطات أخرى في حوض المتوسط ،حيث سينضم إليه مسافرون آخرون ،من دون أن تعرف ما هي هذه المحطات .وذكر أن المركب يملكه لبناني من مدينة طرابلس (شمال لبنان). يأتي ذلك بعد غرق عشرات اللبنانيين كانوا في طريقهم بطريق ٍة غير قانونية إلى أستراليا من أندونيسيا .وألقى حادث أندونيسيا المروع الذي قتل فيه 39شخصاً من دولٍ شرق أوسطي ٍة (بينهم 28 لبنانياً ،بينما ال يزال العشرات في عداد المفقودين) ألقى الضوء على شبكات لتهريب األشخاص في لبنان نشطت خصوصاً في الشمال بعد تدفق الالجئين من سوريا نتيجة النزاع الدامي المستمر في بالدهم منذ ْ أكثر من سنتين .وقال ناجون من حادث أندونيسيا أنهم دفعوا آالف الدوالرات لقاء مغادرتهم لبنان إلى جاكرتا ،ومنها إلى أستراليا على متن ‘مركب الموت’ الذي فقدوا عليه العديد من أحبائهم .لكن ارتفاع عدد المتقدمين بطلبات اللجوء إلى أوروبا ،وغالبيتهم من أفغانستان ومن سوريا ،التي يلجأ مواطنوها إلى كافة بلدان االتحاد األوروبي (بحسب روبرت فيسر Robert Visserمدير المكتب األوروبي لمواكبة طلبات اللجوء) دفع دول االتحاد إلى إعادة النظر في شؤون وعمليات طلبات اللجوء .ومنذ فترة غير بعيدة وافق البرلمان األوروبي على سلسلة تشريعات خاصة باللجوء ،وانعكس هذا األمر على دول االتحاد التي بادرت إلى إعادة النظر في بعض تشريعاتها .حزمة التشريعات الخاصة بطالبي اللجوء ،التي أقرها البرلمان األوروبي في شهر حزيران يونيو الماضي ،جعلت كافة طالبي اللجوء يخضعون لذات المعاملة في كافة بلدان االتحاد .وفي كرواتيا التي انضمت رسمياً إلى االتحاد األوروبي في مستهل العام الحالي ستطرح التشريعات األوروبية للمصادقة عليها في البرلمان الكرواتي .لكن طرق التهريب عبر بلدان أوربا 105
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
قوارب املوت إىل أوروبا
الشرقية ،وعبرها يتم تهريب السوريين بواسطة السيارات والباصات والشاحنات المارة إلى دول الشمال األوربي ،ليست متاحة للجميع .حيث يقول مدير البيئة في مصلحة الهجرة السويدية كريستر زيترغرين: “إن القادرين على الدفع هم فقط من يتمكن الوصول إلى السويد ،خاصة أن أسعار بطاقات السفر في ارتفاع مستمر ،باإلضافة إلى تكاليف األشخاص الذين يتولون مهمة تهريبيهم ،حيث يصعب على الشخص ٍ القيام بذلك دون مساعدة من المهربين في شراء بطاقات السفر أو توفير الوثائق المطلوبة”. ويوضح زيترغرين“ :إن غالبية السوريين المهاجرين يسلكون طريقاً مباشراً من مطار إسطنبول التركي إلى مطار Arlandaفي العاصمة استوكهولم ،وإنهم يفعلون ذلك بأوراق سفر مز ّورة ،أو تكون تذكرة سفرهم مرتب ًة في شكل يخ ّولهم الوقوف في دول عدة بضنمها الدول اإلسكندنافية ،التي يطلبون اإلقامة أثناء توقفهم بأحداها” .ويبين زيترغرين“ :أن أعداد من السوريين المهاجرين وصلوا إلى Arlandaقادمين من الصين”. بترحاب فقط األجانب المدعويين تعاني أوربا اليوم من البطالة ومه ّددة باإلفالس ،ودولها تستقبل ٍ للمناسبات السياسية ،أو تقتصر إقامتهم على حضور المهرجانات أو الحفالت أو المشاركة في المناسبات الثقافية .لهذه األسباب تخشى من تدفق المهاجرين ،ألنها تعتبرهم منافسين في سوق العمل للمواطن األوروبي ،ويهددون وحدة الثقافة والهوية ،بخاصة بعد فشل بعض محاوالت اندماجهم في الثقافة األوروبية. لذلك معظم دول االتحاد األوربي ترى الحل اليوم قبل الغد في إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى أوطانهم ،لهذا علينا أن ال نستغرب أن تتصدر أخبار موت المهاجرين الصحف والقنوات الفضائية العربية واألوروبية .لكن أرقام مصلحة الهجرة السويدية كشفت عن ارتفاع عدد طالبي اللجوء المختفين والهاربين بعد تقديمهم للطلب أو تلقيهم لقرار الرفض ،وقالت إن نسب ًة كبير ًة منهم شملتهم اتفاقية دبلن .إذ كان العدد في عام 2013ما يقارب 7800طالب لجوء مختفي في السويد ،أي بزيادة قدرها 1000شخص عن العام ،2012وأن ما يعادل ثلثهم حصل على قرار الرفض والترحيل ،وأكثر من نصفهم شملتهم اتفاقية دبلن. وبحسب مدير عمليات الترحيل في مصلحة الهجرة Ulrik Åshuvudفإن عدد القادمين من المشمولين بقانون دبلن ازداد في اآلونة األخيرة ،وأن األنظمة الحاسوبية الجديدة تم ّكن مصلحة الهجرة من تتبع الكثير من األشياء ،وليس فقط بصمات األصابع ،بل معرفة ما إذا كانوا قد حصلوا على قرار الطرد من دولٍ أخرى في االتحاد األوروبي ،أي ما يتضمن قانون دبلن أيضاً. وقال Åshuvudفي تصريحات صحفية“ :يمكننا رؤية تأشيرة الدخول بسهولة عبر نظام التأشيرة األوروبية المشترك ،وهو التغيير الكبير الذي حصل عام ،2012ولواله لدخل الالجئون في نظام قضايا اللجوء الطبيعية في السويد” ،خصوصاً بعد الضجة اإلعالمية حول حادثة المبادوسا ،ومحاولة استغاللها سياسياً للهجوم على دول جنوب المتوسط. هجرة القاصرين: ٍ تعريف لها .فحسب منظمة االتحاد العالمي قبل الخوض في تفاصيل هذه الظاهرة ،يجدر بنا تحديد لمساعدة األطفال والوكالة العليا لغوث الالجئين ،يتم تعريف الظاهرة بأربعة مقاييس أساسية وهي :أوالً، المعطى المتعلق بالسن ،وهو ما دون الثامنة عشر كما ص ّرح به اإلعالن العالمي لحقوق الطفل ،ثانياً، 106
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
قوارب املوت إىل أوروبا
المعطى الجغرافي الذي ينسحب على القادمين من دول العالم الثالث نحو دول االتحاد األوربي (في شكل مجموعات مهاجرة من األطفال من بينهم األطفال السوريين ،حيث ال يتمتعون بحق اللجوء السياسي) ،ثالثاً، المعطى المرتبط بالحماية والمصاحبة من طرف الراشدين (فهؤالء يوجدون خارج أية حماية أو مرافقة، وبالتالي فهم في وضعية تمنحهم حق الحماية والحصانة القانونية كما ينص عليها اإلعالن العالمي لحقوق الطفل) ،ورابعاً ،المعطى المرتبط بشبكات الهجرة ،وبخاصة مافيا تهريب البشر باعتبار هؤالء األطفال ضحايا جميع أنواع االستغالل. يمكن تفسير هجرة القاصرين نحو أوربا بتداخل عدة عوامل منها ما هو اقتصادي ،اجتماعي ،سياسي، وثقافي .وفي إطار مقاربة سوسيولوجية لهذه الظاهرة التي تعتبر هجرة القاصرين جزءاً من الظاهرة العامة للهجرة السرية التي تضم فئات اجتماعية كثيرة ،وتستند هذه المقاربة على الرجوع إلى األسباب الحقيقية للهجرة بكل أصنافها والمتمثلة في الوضع االجتماعي واالقتصادي والسياسي وتفسير انعكاساته على دوافع الهجرة .حيث يعتبر القاصرون من ضحايا هذا الواقع المتسم بالهامشية واإلقصاء اليومي والنزوح الذي تعيش فيه أسرهم .كما أن األوضاع المادية المزرية التي تعيشها األسر السورية اليوم تدفع بالكثير من سن مبكرة ،وهو ما ينتج عنه استغالل اقتصادي ،أو يدفع إلى حمل أبنائها إلى ولوج عالم الشغل في ٍّ السالح ،ما يجعل الطفل يفكر جدياً في الهروب من هذا الوضع ،لم ال؟ فالهجرة السرية نحو أوربا خصوصاً يسهلها القرب الجغرافي ،ما يساعد على دخول هذه المغامرة. كما أن هناك عوامل محفزة ومساعدة لظاهرة هجرة القاصرين منها اإلخفاق في إعادة إدماج األطفال المنقطعين عن الدراسة ،والمهجرين من مدنهم ومحافظاتهم .كذلك غياب المناخ الصحي في مناطق اللجوء ،والعنف الذي يرافق سلوك المجتمع مع أطفاله .ويلجأ القاصرون الراغبون في الهجرة إلى أساليب متعددة للوصول إلى القارة األوربية؛ منها شبكات الهجرة السرية و التزوير ،فض ًال عن الهجرة عبر القوارب المطاطية أو الخشبية (قوارب الموت) ،والهجرة عبر الشاحنات والناقالت التي تعبر الحدود التركية- اليونانية .تعتبر الوسيلة األخيرة ،من الوسائل السهلة والمفضلة لدى القاصرين ،مع ما قد يجمله ذلك من مخاطر جمة على األطفال .فالذين يركبون تحت إطارات الشاحنات قد يتعرضون للموت سحقاً بالعجالت، أما األطفال الذين يختبئون داخل حاويات الشاحنات فيتعرضون للموت خنقاً. يعاني األطفال المهاجرين سرياً ،أثناء تواجدهم في أوروبا ،أوضاعاً اجتماعية وإنسانية قاسية تتنافى مع ما يلزم أن يحظى به الطفل من أمنٍ واستقرار .وفي هذا اإلطار ر ّكزت دول االتحاد األوروبي في تعاملها مع هذه الظاهرة على اعتبارين؛ يهدف األول إلى اتفاق دول االتحاد على صيغ موحدة ومشتركة للتعامل مع المهاجرين السريين بصفة عامة والقاصرين بصفة خاصة ،في شكل ال يخالف االتفاقيات والمواثيق الدولية التي تركز على حقوق وحماية الطفولة ،أما الثاني فيهدف إلى محاولة اتفاق هذه الدول مع الدول المصدرة لهذا النمط من الهجرة .ما دفع باالتحاد األوروبي لتطبيق نظام جديد لمراقبة تدفق المهاجرين من دول شمال إفريقيا والشرق األوسط ،يحمل عنوان ‘يوروسور’ .ويهدف هذا النظام إلى تقديم الدعم للوكالة األوروبية للحدود الخارجية ،والحد من تسلل المهاجرين والالجئين غير الشرعيين إلى دول االتحاد. وكانت المفوضية األوروبية اقترحت برنامج ‘يوروسور’ عام ،2008لكنها تل َّكأَت في إقرارهّ .إل أن ٍ مناقشات حاد ًة وردود فعلٍ تزايد ضحايا حوادث غرق قوارب الموت التي تنقل الالجئين والمهاجرين ،أثار 107
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
قوارب املوت إىل أوروبا
كبيرة في األوساط السياسية والرأي العام األوروبي والدولي على سياسات الهجرة المتبعة ،ما اضطر القمة األوروبية التي عقدت في أواخر تشرين األول/أكتوبر 2013بطرح هذا الملف للمناقشة ولبحث مسألة مكافحة الهجرة غير الشرعية. وكانت منظمة العفو الدولية قد انتقدت ،على لسان مدير مكتب المؤسسات األوروبية فيها نيكوالس بيغر ،االتحاد األوروبي لفشل قمته في اتخاذ ما يلزم من االجراءات لحماية أرواح الالجئين والمهاجرين على طول الحدود األوروبية .يقول بيغر“ :اتضح أن أولويات أوروبا ال تتعلق بإنقاذ األرواح أو حماية الناس على طول الحدود ،بل منعهم من الوصول إلى أوروبا بأي ثمن حتى ولو كان هؤالء الناس في حاج ٍة إلى األمن والحماية” .وقال رئيس المجلس األوروبي هيرمان فان رومبوي“ :إن اإلجراءات األوروبية الجديدة تقوم على ثالثة أسس ومبادئ هي الوقاية ،والحماية ،والتضامن” ،مؤكداً “العزم على معالجة جذرية ألسباب تدفق موجات الالجئين والمهاجرين غير الشرعيين من خالل التنسيق مع بلدانهم األم ودول العبور”. صعد ملف المهاجرين بقوة إلى واجهة األحداث السياسية فى أوروبا إثر تفجيرات لندن اإلرهابية فى السابع من حزيران/يونيو ،2005وانتفاضة المهاجرين المهمشين فى الضواحي الفرنسية في السابع والعشرين من تشرين األول/أكتوبر وما تبعها من أعمال شغب وعنف محدودة النطاق في بلجيكا وألمانيا ٍ وهولندا واليونان .فقد كشفت هذه األحداث مجتمع ًة الغطاء عن تر ٍ لسلبيات عديد ٍة سياسية اكمات واجتماعية واقتصادية وثقافية ،تفاعلت في أوساط المهاجرين عبر عقو ٍد من الزمن بتأثير عوامل داخلية وخارجية مختلفة. ورغم اختالف طبيعة األحداث والظروف بين ما حدث في مدريد ولندن من جهة (باعتبارها ترتبط بظروف أمنية وأوضاع سياسية خارجية) ،وما حدث في فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا من جهة أخرى (باعتبارها انعكاساً لظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية داخلية) ،فإن هذه األحداث مجتمع ًة َن َّب َه ْت إلى خطورة ملف المهاجرين فيما يخص قضايا األمن والحريات وحقوق اإلنسان والعنصرية واللجوء السياسي، ومشكالت الفقر والبطالة والتهميش ،وتح ّديات االستيعاب واالندماج والمواطنة ،والتطرف واإلرهاب واإلسالم السياسي ،ونمو المشاعر العنصرية والتمييز والتطرف اليميني ،وطبيعة العالقة بين التيارات والقوى السياسية الداخلية فيما يتعلق بالتعامل مع هذا الملف وأثره على العالقات األوروبية الخارجية ،بخاصة مع الدول مصدر الهجرة هذا. لكن نظرة المهاجرين أنفسهم أثناء إقامتهم الفعلية في موطنهم الجديد ،وتقويمهم لتلك التجربة التي يم ّرون بها وبخاصة فيما ي ّتصل بعالقتهم بالمجتمع األصلي الذي نزحوا منه ،ومدى ارتباطهم به ،ونوع هذه العالقات والروابط التي ال تزال كلها في حاج ٍة إلى مزي ٍد من الدراسة المتع ّمقة؛ عن طريق االتصال المباشر وتطبيق مناهج وأساليب البحث األنثروبولوجي. ومع سقوط القضية السورية في الحضن الدولي ،وفقدان األمل بأن الحرب في سوريا ستتوقف في ٍ وقت قريب ،يركب الالجئون السوريون البحر ،حيث ستبقى قوارب الموت ما بقيت األسباب ،فحيث هناك جوع هناك مهاجر ،وحيث هناك قتل فثمة نازح.
108
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ال ّرياضة يف سوريا
عالء إحسان❊
أحمد الحاج حمدو❊❊
كضحية من ضحايا األزمة اخلالصة: تعاين الرياضة يف سوريا ما تعانيه بقية مناحي الحياة فيها ،فالسنوات الثالث السابقة من عمر األزمة أثّرت سلبياً عىل كافة مفاصلها ،وأدخلتها يف حالة من املوت الرسيري .األرض التي أنجبت املصارع جوزيف عطية ،صاحب امليدالية الفضية يف أوملبياد لوس أنجلس ،1984 وغادة شعاع الحائزة عىل ذهبية السباعي يف أوملبياد أتالنتا ،1996باتت فقري ًة بالرياضة والرياضيني بعد أن تأثرت البنية التحتية من منشآت ومالعب بفعل الحرب القامئة .ولهذا، اختار كث ٌري من الالعبني الهجرة بحثاً عن فرصة احرت ٍ اف خارجيةُ .ق ِتل البعض وأصيب آخرون قتلت مستقبلهم الريايض ،وجعلتهم عاجزين مقعدين بعد مسري ٍ ٍ ات رياضي ٍة حافلة. إصابات ْ ومل تسلم الرياضة من نار االستقطاب السيايس ،فقد تعرض العبون لالغتيال أو االعتقال تبعاً ملوقفهم السيايس ،كام ق ّرر بعضهم حمل السالح واالنضامم ألحد أطراف الرصاع ،فيام اختار آخرون االنشقاق عن ‘مؤسسة االتحاد الريايض العام’ التابعة للحكومة السورية ،واالنضامم إىل ‘رابطة الرياضيني السوريني األحرار’ التي سعت لتكون بديالً عن املؤسسة الرسمية .ويف شأنٍ آخر ،وبينام يضبط العامل إيقاعه عىل مونديال الربازيل 2014الذي انطلق يف 12حزيران/ يونيو .تستمر التحضريات الستقباله يف جميع البلدان كام جرت العادة .لكن هذه التحضريات أمني تعيشه ال تنطبق اليوم عىل سوريا التي غاب كأس العامل عن اهتامم شبابها بفعل توت ٍر ٍّ بالدهم منذ ثالث سنوات .وتحولت ساحات املدن السورية من مرسح يجتمع حوله الهواة واملشجعني إىل أماكن خاوية عىل عروشها خوفاً من تفجري قد يدوي ،أو قذيفة هاون تسقط. فيكفيك أن متيش دقائق معدودة يف شوارع دمشق لتتأكد أن الهروب من شبح املوت وتحصيل لقمة الحياة تصدرت أولويات الشاب السوري الذي يرتقب لعبة دولية تعرب عن واقعه ❊ صحفي سوري وخريج كلية اإلعالم ،يعمل يف ‘املركز السوري للتوثيق’ إضافة إىل عمله الصحفي املستقل مع عدة جهات أخرى .عضو فريق مجلة ‘دلتا نون’ الصحفي. ❊❊ خريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق .يعمل كصحفي في المدينة ‘إف إم’.
109
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة
‘رابطة الرياضيني السوريني األحرار’ :نسعى العرتاف دويل رغم الصعوبات تقول مديرة المكتب اإلعالمي في ‘رابطة الرياضيين السوريين األحرار’ ريم علوان“ :تأسست الرابطة في آذار/مارس ،2012لتكون حاضناً للرياضيين المنشقين عن االتحاد الرياضي العام التابع للنظام .ض ّمت حتى اليوم 1929شخصاً من الرياضيين واإلداريين ،واستطاعت الحصول على اعتر ٍ اف خطي من قبل ‘االئتالف الوطني المعارض’ ،كما شاركت في عدة مسابقات إقليمية أهمها في مصر وتركيا” .وتضيف علوان: “كانت الرابطة عم ًال ثورياً بأخالق رياضية عالية ،إال أنّ اإلدارة األولى ح ّولت مسار الرابطة إلى مصالحها الشخصية ،وض ّمت أشخاصاً غير مؤهلين إليها من أجل الحصول على مكاسب معينة ،ما أ ّدى إلى نشوب خالفات أفضت إلى انقسام الرابطة إلى خمسة كيانات ،يعمل ٌّ كل منها في شكل مستقل وهي؛ رابطة الرياضيين األحرار ،رياضيون من أجل سوريا ،هيئة الرياضيين األحرار ،االتحاد السوري الحر لكرة القدم واالتحاد السوري الحر للكاراتيه” .وذلك طبيعي بحسب علوان التي تعزوه إلى “وجود أشخاص تر ّبوا على يد النظام ،ولن نستطيع التخلص من أخالقهم الدونية ،وإن لبسوا قناع الثورة”. حول الخسائر التي تعرضت لها الرياضة في شكل عام ،تقول السيدة ريم إنّها تمكنت بالتعاون مع منظمات حقوق اإلنسان من توثيق نحو 400قتي ًال ،وأكثر من 250معتق ًال رياضياً في السجون السورية، إضاف ًة إلى العديد من الجرحى الذين أصيبوا وتأثرت حياتهم الرياضية سلباً ،أبرزهم المالكم ناصر الشامي صاحب برونزية أولمبياد أثينا .2004كما تأثر كثي ٌر من المنشآت بفعل الحرب القائمة ،بينها ‘ملعب الحمدانية الدولي’ بحلب ،الذي ُد ّمر جز ٌء كبي ٌر منه ،كما تحولت بعض المالعب إلى ثكنات عسكرية مثل ‘ملعب العباسيين’ بدمشق. تُنهي علوان الحديث بقولها“ :إنّ االتحاد الرياضي العام داخل سوريا هو جسم فاسد ومرتع للمكتسبات الشخصية .كما أنّه مك َّون من أشخاص أفسدوا الرياضة دائماً ،حتى خالل فترة الثورة .ونحن كرابطة للرياضيين األحرار نسعى لسحب االعتراف من اللجنة األولمبية السورية ،إال أننا نصطدم بعقبات تتعلق بحصر االعترافات السياسية بعدة دول ،وليس الجميع ما يجعل مهمتنا صعبة”. 110
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة
االحتاد الرياضي العام 3 :مليارات حجم اخلسائر الرياضية ..ومؤسساتنا الرسمية هي الوحيدة املعرتف بها عامليًا يقول د .إبراهيم أبا زيد رئيس مكتب التنظيم المركزي في ‘االتحاد الرياضي العام’ ،وعضو ‘اللجنة األولمبية السورية’“ :إنّ استمرار األنشطة الرياضية الداخلية كان له دور هام في تحدي القوة الظالمية التي تريد إيقاف عجلة الحياة ،إذ تم ّكن االتحاد من تنظيم بطوالت الجمهورية لمعظم األلعاب، كما تستعد المنتخبات السورية لعدة ريم علوان مديرة املكتب اإلعالمي استحقاقات عالمية أبرزها دورة األلعاب يف ‘رابطة الرياضيني السوريني األحرار’ يف إسطنبول األولمبية للشباب في الصين ،ودورة األلعاب الشاطئية في تايلند ،وغيرها من البطوالت”. وعن الخسائر التي لحقت بالرياضة السورية ،يقول أبا زيد“ :تع ّرضت عدة أندية رياضية للتخريب، الس َلمية وال َّرستن وصوران وطيبة اإلمام ومورك .كما بلغت الخسائر المادية أكثر من 3مليارات أبرزها في َ ليرة سورية ،فض ًال عن توثيق مقتل أكثر من 100رياضي برصاص اإلرهاب التكفيري”. يضيف أبا زيد“ :استطاع االتحاد أن يأخذ دوراً اجتاز نطاقه الرياضي خالل فترة األزمة ،فالمدن الرياضية تستوعب أكثر من 10آالف الجئ ،ودوري كرة القدم يق ّدم دعماً مالياً لـ 2000أسرة ،يعمل أحد وح ّكام .ويساهم رياضيونا في إعطاء حصص تدريبية أفرادها في األندية أو يشاركون كالعبين ومدربين ُ لألطفال في مراكز اإليواء ،وأخيراً وزّعنا بطاقات ألبناء الشهداء ،وساهمنا بتقديم بعض التجهيزات الخاصة لهيئة مدارس أبناء الشهداء”. ال يخفي أبا زيد حصول حاالت د .إبراهيم أبا زيد ريئ مكتب التنظيم يف االتحاد الريايض العام (ميني) وعالء إحسان من الفريق الصحفي يف دلتا نون (يسار) انشقاق في المؤسسة الرياضية الرسمية، إال أنَّها فردية على حد قوله ،لم ت ََطل أياً من القيادات .مضيفاً أنّ ‘اللجنة األولمبية السورية’ هي الوحيدة الممثلة للرياضة السورية من قبل ‘اللجنة األولمبية الدولية’ واتحاداتها .ويختم أبا زيد حديثه متسائ ًال حول مدى شرعية ‘رابطة الرياضيين السورين األحرار’ ،ومن هي الجهات الداعمة لها ،وحجم االعتراف الحاصلة عليه إلى حد اآلن. 111
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة
تشكل احتادًا ومنتخبًا حرًا لتمثيلها الكاراتيه ّ يتح ّدث أحمد قرقشلي ،اإلداري في ‘االتحاد السوري الحر للكاراتيه’ ،وفي ‘المنتخب السوري الحر’ للعبة ذاتها عن ظروف ُّ تشكل االتحاد قائ ًال“ :استطعنا تشكيل اتحاد برئاسة المدرب عماد زين العابدين، وشاركنا بعدة بطوالت في اليونان ،بعد أن حصلنا على موافقة واعتراف االتحاد اليوناني ،لمعرفتنا به وعالقاتنا مع مسؤوليه ،وتمك ّنا من إحراز ميدالية ذهبية في بطولة أثينا المفتوحة للكاراتيه عن طريق الالعب علي البارودي” .ويضيف“ :تواجهنا صعوبات مادية تتعلق بضعف تمويل االتحاد ،وهذا ما سنحاول ّ تخطيه خالل السنوات القادمة” .ويشير قرقشلي إلى أنّه يجب على جميع الرياضيين من مدربين والعبين التوحد جنباً إلى جنب لمساعدة أهلهم في الداخل. وإداريين ُّ سباح سوري :الظلم والفساد الرياضي ال يعنيان مغادرة البالد ّ ُيع ّبر الس ّباح السوري صالح محمد، الحائز على المركز الثاني في سباق بارانا في األرجنتين شباط الماضي ،عن واقع السباحة السورية قائ ًال“ :لم نتأثر كسباحين إثر األزمة القائمة ،فتدريباتنا وإقامتنا كانتا مؤمنتين في شكل كامل من قبل االتحاد الرياضي العام داخل فندق تشرين ومسبحه .لكن كان للظروف القائمة تأثير خارجي من حيث منع مشاركتنا في المسابقات العربية ،تبعاً عالء إحسان من الفريق الصحفي يف دلتا نون (ميني) مع السباح مصفى محمد يف لقرار صادر عن جامعة الدول العربية، فندق ترشين الريايض يف منطقة الربامكة بدمشق (أيار/مايو )2014 والتي النتشّ رف بالمشاركة بها أص ًال .إضاف ًة تعمد بعض الدول تأخير إرسال الفيزا لنا ،ما أ ّدى إلى عدم مشاركتنا في عدة سباقات بسبب وصولنا إلى ُّ في وقت متأخر”. ويشير محمد إلى وجود ظلم ومحسوبيات وتقصير في الرياضة السورية ،إذ أنّ حجم العائد المادي الذي يحصل عليه العبو الرياضات الفردية قليل جداً ،مقارنة مع نظيرتها الجماعية .ويضيف محمد قائ ًال: “إنّ كل هذه األمور ال تعني أن نشكي ه ّمنا للغريب” .متسائ ًال عن جدوى خطوة االنشقاق التي أقدم عليها بعض الرياضيين ،بخاصة أنّهم لن يستطيعوا اللعب تحت اسم سوريا ،إال بظل ‘اللجنة األولمبية السورية’ حصراً ،أو اللعب في شكل فردي أو تحت راية دولة أخرى ،كاشفاً عن ن ّية بعضهم العودة إلى سوريا بعد أن ضاقت بهم السبل في الخارج. حرب إذاً تبقى الرياضة السورية في الوقت الحاضر أسير ًة للنزاع السياسي والحرب القائمة في البالدٌ . ٍ وشتات مقسمين ،مف ّرقين بين وطنٍ ضاق بهم، فرقت رياضيين اعتادوا رفع راي ٍة واحد ٍة تجمعهم ،ليغدوا ّ قضى على مستقبل رياضاتهم. 112
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ال ّرياضة يف سوريا كضحية من ضحايا األزمة
انعدام مقومات مشاهدة مونديال كأس العامل يف الربازيل 2014 هل ستشاهد كأس العالم هذا الموسم؟ “سأحاول إذا توفرت الكهرباء!” يجيب حسام وهو طالب في جامعة دمشق ثم يضيف“ :اعتدت تحضير نفسي جيداً لمتابعته ،لكن هذه المرة لم أستطع فعل ذلك نتيجة غياب مح ّفزات المشاهدة” .تختصر إجابة حسام واقع التيار الكهربائي الذي أصبح نوعاً من الرفاهية في سوريا .لكن ثمة صعوبات أكبر تقف في وجه متابعي كأس العالم ،لعل أبرزها الشروط القاسية التي وضعتها قناة ‘بي إن سبورت’ القطرية من فرض شراء جهاز استقبال مع كرت اشتراك مدمج ورفع أسعار االشتراك في شكل كبير ليصل إلى أكثر من 256دوالراً ،في حين وصل السعر في السوق السوداء السورية إلى حوالي 70ألف ليرة وهو ما يعادل راتب موظف ألربعة أشهر ،بينما كان رسم االشتراك في مونديال جنوب إفريقيا 2010حوالي 100دوالر ،وهو ما كان يعادل 5آالف ليرة سورية .ويضاف إلى ذلك وصول بث المبارايات في وقت متأخر من الليل ،وهذه المشكلة بددت أوهام يوسف 22سنة الذي حاول اختصار المبلغ الباهظ لالشتراك بالتزاحم على المقاهي كما سيفعل كثيرون غيره إصرار وتضحية ألجل مباراة “كأس العالم يأتي كل أربع سنوات ،وبين المونديال الماضي وشقيقه المرتقب تغيرت أشياء كثيرة”، يقول أيهم ،وهو طالب دراسات عليا في جامعة دمشق ،ويضيف“ :كنا ننتظر المونديال بشغف لنعيش تفاصيله ،لكن اآلن بات على األبواب وأنا ال أعلم عنه شيئاً” .أيهم الذي كان من المغرمين بهذه اللعبة يتحمس اليوم لمتابعة موسم كأس العالم رغم انعدام مق ّوماته في البالد .إبراهيم 22سنة أحد سكان ضواحي دمشق الجنوبية .أدهشني هذا الشاب بإصراره حيث قال“ :الظروف المؤسفة التي تعصف بالبالد لن تقف عائقاً أمام حبي لكرة القدم ،وسأستخدم كل الطرق والوسائل في سبيل عدم تفويت أية مباراة” لم أكن أتوقع ذات يوم أن ثمة إنسان يغامر بالتوجه إلى مكان ربما يودي بحياته ألجل مشاهدة مباراة .إنها منطقة ساروجا وسط العاصمة دمشق التي تحتضن محبي كرة القدم حول مقاهيها الشعبية، وتحتضن أيضاً قذائف الهاون التي باتت جزءاً ال يتجزأ من حياة سكانها اليومية .منذ عدة أيام تعرضت المنطقة لسقوط أكثر من قذيفة حصدت ضحايا ومصابين ،وذلك قبل ساعات من نهائي الدوري اإلسباني الذي جمع نادي برشلونة مع إتلتيكو مدريد .أدهشني مشهد اكتظاظ المقاهي هناك خالل تلك المباراة كأن شيئاً لم يحصل .فمن المتوقع أن يستمر سقوط القذائف وتودي بحياة المشجعين .لكن الجميع كان يتابع بشغف دون أن يكترث لمفردات المعارك التي اعتادها الدمشقيون؛ يقول قاسم 23سنة ،وهو أحد الزبائن في تلك المقاهي“ :عجلة الحياة ال بد أن تدور ألننا لو تخوفنا من القدر لما كان غادر منزله من ثالث سنوات”.
113
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
ا ُ ملس ّلحون يف سوريا:
طارق العبد❊
الدعم والقيادة ُ البحث عن َّ
اخلالصة: عىل مدى سنتني ونصف من عمر الحراك املسلح يف سوريا ،يبدو املشهد يف غاية التعقيد مع مئات الكتائب واأللوية والفرق العسكرية التي تختلف يف كل يشء ،لتتقاطع يف حقيق ٍة واحدة هي أنها مبثابة جسم بال رأس ،ومجموعات تسعى للتمويل والبحث عن األسلحة ،التي قد ال يكون هدفها األسايس هو إسقاط النظام بقدر ما ميتد إلعالن إماراتها الخاصة .عىل مدى أكرث من عدد ملجلة ‘دلتا نون’ ،سنتط ّرق إىل ملف العمل املسلح يف البالد :كيف يحصل املسلحون عىل التمويل والدعم ،وماهي إسرتاتيجيات عملهم؟ من هي أبرز الفصائل املقاتلة؟ وما هي اتجاهاتها الفكرية؟ وهل استطاعت التأثري يف الشارع املعارض؟ يف السطور التالية سنتعرف أكرث عىل أبرز ثالث مجموعات مقاتلة ،وهي‘ :الجبهة اإلسالمية’ ،و‘جبهة النرصة’ ،و‘الجيش الحر’.
❊ كاتب وصحفي يف الشؤون السياسية والعسكرية ،بدأ حياته املهنية كمد ّون وتنقل يف عدة وسائل إعالمية .يعمل حالياً يف صحيفة ‘السفري’ باإلضافة إىل ‘مركز البناء اإلخباري’ ،وضمن الفريق الصحفي ملجلة ‘دلتا نون’ .يدرس يف كلية الطب البرشي ويستعد للدراسات العليا.
114
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ا ُ ُ البحث عن الدَّ عم والقيادة ملس ّلحون يف سوريا:
اجلبهة اإلسالمية وحلم اخلالفة ظهرت ‘الجبهة اإلسالمية’ للعلن في تشرين الثاني/نوفمبر ،2013وهي نتاج اندماج 8فصائل مقاتلة، أبرزها الرباعي‘ :حركة أحرار الشام’‘ ،ألوية صقور الشام’‘ ،جيش اإلسالم’ ،و‘لواء التوحيد’ .فيما بدا الفتاً دور حركة ‘شام اإلسالم’ في معارك الساحل األخيرة .وإذا كانت الصورة األولى توحي بانسجام بين أكبر المجموعات المسلحة في البالد ،إال أنّ الواقع يشي بخالفات فكرية وعقائدية واسعة .فـ ‘أحرار الشام’ هي حركة تتبع النهج السلفي الجهادي ،وتتشدد في قبول مقاتليها ،وفق ما يرويه ناشطون في الشمال السوري. إذ ال تتردد في طلب صفحاته على مواقع التواصل االجتماعي ،وتخضعه لدورات مكثفة في أصول العقيدة اإلسالمية والفكر السلفي ،متمتع ًة في الوقت نفسه بدعم مالي يم ّكنها من تسديد رواتب تتراوح بين 200- 300دوالر لكل مقاتل .فيما يذهب أميرها أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) خطوة أبعد ،عندما يعلن في مقابلة له على ‘قناة الجزيرة’ أنّ هدف الحركة هو بناء الدولة اإلسالمية بعد إسقاط النظام ،ويؤكد تقاطعه في كثير من النقاط مع ‘جبهة النصرة’ التي باتت تمثل ‘تنظيم القاعدة’ في بالد الشام. وفي المقابل ينطلق كل من ‘لواء التوحيد’ و‘صقور الشام’ من خلفية إخوانية ال تتقاطع كثيراً مع ٍ هدف أبعد من إسقاط النظام .ويتمركز ‘أحرار الشام’ .إذ لم يعلن ٌّأي من الفصيلين إبان تشكيلهما عن األول في حلب ،والثاني في ريف إدلب ،حيث ينتمي مؤسس ‘لواء التوحيد’ عبد القادر صالح إلى عائلة كانت إحدى أبرز أعمدة ‘جماعة اإلخوان’ في ريف حلب ،وتحديداً في مارع ،والحال نفسه ينطبق على أبو عيسى الشيخ مؤسس ‘صقور الشام’ .واعتمد ٌّ كل منهما على عناصر محلية من أبناء المنطقة في معاركه، ودب من العناصر التي تب ّين هب ّ ولحشد عدد أكبر ،لم يمانع ‘لواء التوحيد’ تحديداً في قبول كل ما ّ ‘حجي مارع’ فصل الكثير من أن بعضها مجرد عصابات تقوم بالسرقة وبخاصة في حلب ،ليقرر حينها ّ المقاتلين .ولكن تحوالً طرأ على مسارهما ،وال سيما ‘لواء التوحيد’ حين أعلن في شتاء 2012توقيعه على ميثاق يعلن بناء الدولة اإلسالمية ،قبل أن يتراجع عنه بضغط من الشارع آنذاك ،لكنه عاد وو ّقع على ميثاق 115
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
ا ُ ُ البحث عن الدَّ عم والقيادة ملس ّلحون يف سوريا:
الجبهة الذي يؤكد على دولة الخالفة. أما ‘جيش اإلسالم’ فيعود أصله إلى ‘لواء اإلسالم’ ،الذي تشكل مطلع عام ،2012إ ّبان اشتداد المواجهات في دوما بريف دمشق .ولع ّله األكثر قرباً من فكر ‘أحرار الشام’ السلفي ،وإنْ بدرج ٍة أخف ،حيث يشترك معه في نقاط عدة أبرزها تنظيم المقاتلين وإعدادهم في فصائل وكتائب للتنصت ،وبعضها لالقتحام، مختصة ،بعضها ّ ّ وأخرى للعمل المدني ،إلخ .ولع ّله الفصيل األكثر مسلحون يستعدون إلطالق قذيفة يف ريف حلب إثار ًة للجدل ،بعد الكالم عن دعم مباشر من ‘االستخبارات السعودية’ له ،وهو ما نفاه وبشدة قائد الجيش زهران علوش ،خالل أكثر من حوار ،كما في لقائه مع ‘فضائية صوت الشعب’. جبهة النصرة :الشعبية األكرب لم ُيثر ّأي فصيل مقاتل في سوريا الضجة التي أثارتها ‘جبهة النصرة’ منذ إعالن تش ّكلها في كانون الثاني/يناير ،2012حين تب ّنت تفجيراً في حي الميدان وسط دمشق ،ليتركز عملها بالدرجة األولى على العمليات االنتحارية ،كتفجير حي القزاز في أيار/مايو ،أو مبنى هيئة األركان السورية في أيلول/سبتمبر من العام نفسه .بل وأصبحت معظم الكتائب والفرق المقاتلة تعتمد عليها في عمليات االقتحام من خالل التفجيرات التي تسمح بفتح ثغرة تمهيداً للتقدم أكثر .ولكن شعبيتها جاءت من عاملٍ آخر ،وهو االستفادة صدى واسعاً في من األخطاء التي وقعت بها باقي المجموعات ،باإلضافة للخطاب المتشدد الذي يالقي ً حاالت الحروب واألزمات ،وهو وت ٌر أتقنت ‘جبهة النصرة’ العمل عليه بدقة كبيرة ،مثلما فعلت في أنشودة ‘بالذبح جيناكم’ التي انتشرت بكثافة في مظاهرات الشمال السوري ،بخاصة ريف إدلب وحلب .وهو خطاب سمح لها باستقطاب آالف المقاتلين ،إضاف ًة التباعها سياسة النأي بالنفس عن االقتتال الذي ينشب ٌ بين الفصائل ،قبل أن تنجر هي نفسها إلى مسلحون يستعدون للهجوم يف مورك بريف حامه المعركة بعد الضربات القاسية التي تلقتها من قبل الدولة اإلسالمية في العراق والشام (داعش) .وتبقى النقطة األبرز في صالح ‘جبهة النصرة’ أنّها أصبحت تم ّول نفسها بنفسها بفضل سيطرتها الواسعة على حقول النفط في دير الزور وريف الحسكة ،ما يسمح لها ببيعه وبالتالي إيجاد تمويل يضمن لها االستمرار أكثر في حربها. 116
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ا ُ ُ البحث عن الدَّ عم والقيادة ملس ّلحون يف سوريا:
اجليش احلر :نهاية األسطورة يعتبر ‘الجيش الحر’ الحلقة األضعف بين جميع الفصائل المقاتلة في سوريا رغم امتالكه لشعبي ٍة في بدايات عمله ،لم َ تحظ بها ٌّأي من المجموعات المسلحة .ولكن تلقيه لضربات متتالية وخسائر كبيرة في معاركه ،بخاصة في بابا عمرو بحمص وفي يبرود بالقلمون أخيراً ،جعله يتراجع في مسلحون مع آلية مزودة مبضاد طريان يف ريف إدلب شكل حاد .و ُيضاف إلى ذلك فقدانه للتنظيم وتع ّدد القادة المشرفين عليه .إذ أعلنت عدة شخصيات عسكرية في خريف 2012قيادتها للحر ،بداي ًة من العقيد رياض األسعد ،والعميد سمير الشيخ رئيس ‘المجلس العسكري’ ،واللواء محمد الحاج علي ،وكذلك مسؤول القيادة المشتركة فهد المصري ،وأخيراً سليم إدريس رئيس ‘هيئة األركان’ سابقاً ،قبل أن ُيعفى من منصبه لصالح عبد اإلله البشير القادم من القنيطرة ،حيث كان مسؤوالً عن الجبهة الجنوبية .ولعل كثرة القيادات والكالم عن ارتباطاتهم المباشرة بالغرب ضاعف حجم التراجع ،والذي استفادت منه المجموعات األكثر تش ّدداً. ولكن رغم كل ما أصاب ‘الجيش الحر’ فقد بقي متماسكاً في جبهة واحدة هي الجبهة الجنوبية، حيث الزالت الكتائب تتبع لـ ‘المجلس العسكري’ و‘هيئة األركان’ ،وتمتاز بأنها مش َّكلة من أبناء المنطقة نفسها ،كما تشرف على عملها ‘االستخبارات األردنية’ وتتحكم في شكل واسع بالعمليات العسكرية ومن يشترك فيها ،باإلضافة لحاجتهم من السالح. ٌ فصيل جديد هو ‘جبهة ثوار سوريا’ الذي اع ُتبر تشكيله بمثابة بداية إعادة وظهر في األشهر األخيرة الهيكلة لـ ‘الجيش الحر’ ،مع اإلشارة إلى عد ٍد كبي ٍر من مقاتلي ألوية ‘أحفاد الرسول’ ،أحد أكبر مجموعات مالي ‘الجيش الحر’ التي انضمت إلى ‘ثوار سوريا’ بقيادة جمال معروف .وبدأت الجبهة تحظى ٍ بدعم ٍّ وإعالمي كبير لتسويقها كفصيلٍ غير متش ّدد يمكن االعتماد عليه للتزود باألسلحة النوعية ،وعلى رأسها ٍّ مضادات الطيران .كما ظهرت “حركة حزم” التي لمع اسمها بعد انضمام رئيس ‘هيئة األركان’ السابق سليم إدريس ،بعد إعالن امتالكها لصواريخ أمريكية الصنع ،ما يزيد االحتماالت عن تشكيل ‘حركة حزم’ و‘جبهة ثوار سوريا’ لنواة ‘الجيش الحر’ الجديد. مئات األلوية والكتائب تقاتل اليوم في سوريا ،بدون قيادة موحدة أو عمل تنظيمي يجمعها معاً، وبأهداف متفرقة تبدأ من السيطرة المحدودة ،لتصل إلى إعالن دولة الخالفة ،ولكن كيف جاء المقاتلون إلى صفوف هذه المجموعات؟ وكيف استقطبت الفصائل المقاتلين من كل أنحاء العالم إلى سوريا؟ يتبع في العدد القادم من مجلة دلتا نون
117
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
رحى احلرب يف سوريا
ديما نقوال❊
تطحن حقوق الطفولة
اخلالصة: استطاعت ثالث سنوات من الحرب يف سوريا أن تعكّر منو جيل كامل من األطفال نفسياً وصحياً واجتامعياً وتعليمياً .إذ تشري إحصائيات ‘يونيسيف’ إىل ترضر 5.5مليون طفل سوري من الرصاع الدائر يف البالد ،بحسب تقرير أصدرته يف آذار/مارس .2014فكلام زادت الحرب من رضاوتها ،أصابت األطفال بسالحها لترتكهم مرىض أو معوقني أو يتامى ،وكلّام تدمرت البنية التحتية انعكس ذلك حرماناً من أبسط الحقوق التعليمية والصحية ،ماسيرتك أثره األكيد عىل الجوانب النفسية واملجتمعية لحياة الطفل .سنحاول يف هذا التحقيق تسليط الضوء عىل بعض آثار الحرب النفسية والتعليمية والصحية عىل الطفل السوري.
❊ خريجة تربية وعلم نفس ،ومدونة ومهتمة بالشأن العام .عملت يف مرشوع دمج لألطفال املعوقني ،كام مترست وعملت يف املجال الصحفي.
118
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة
وخطر املوت وتسر ٌب حرمان التع ّلم بني مطرقة النظام وسندان املعارضة: ٌ ُ ّ تشير إحصائيات ‘يونيسيف’ إلى أن خُ مس مدارس سوريا تعرضت للتدمير أو اس ُتخدمت ألغراض عسكرية ،وأنّ ثالثة ماليين طفل سوري ال يواظبون على الدراسة في شكل منتظم ،إذ أنّ كثيراً من األسباب جعلت الطالب يتسربون من المدارس ،فض ًال عن تعرضهم لخطر الموت ج ّراء القصف أو القذائف أو االشتباكات أثناء ذهابهم إلى المدرسة. ويبقى األهل يعانون من الحيرة بين المخاطرة بحياة أبنائهم وبين حرمانهم من التعليم .يقول سمير، أب لطفلة في المرحلة االبتدائية في ‘مدرسة المنار’ في باب توما بدمشق“ :حين سمعنا خبر سقوط وهو ٌ قذائف الهاون على المدرسة كان شعور الخوف ال يوصف ،والوقت الفاصل بين سماعي للخبر ورؤيتي لطفلتي ال يوصف .لم تصب ابنتي بأي أذى جسدي ،لكنها ال زالت تعاني الخوف بسبب ما حصل ألصدقائها الذين أصيبوا أو استشهدوا ،أو فقدوا أعضاءهم .منذ الحادثة لم يعد لدي حيرة في القرار ،وحسمت أمري بعدم إرسال طفلتي إلى المدرسة” أما الطالب في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية ،فهم باإلضافة إلى الخطر ،يعانون ظروفاً تعليمية سيئة ،فض ًال عن حرمانهم من التع ّلم في كثير من األحيان .يقول سامر ،وهو أستاذ في مدينة جرابلس الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشمال السوري“ :رغم أنّ المدارس الحكومية هنا بقيت تد ّرس المناهج الرسمية -ماعدا مادة القومية -ورغم استمرار تقاضي األساتذة رواتبهم من الحكومة السورية ،إال أنّ مستوى التعليم يشهد تراجعاً ملحوظاً ،بسبب نقص في عدد األساتذة والتجهيزات المدرسية والكتب والرقابة التربوية ،وعدم تعاون بعض األهالي بسبب خوفهم على أبنائهم” .ويتابع سامر“ :هذا وناهيك عن طالب الشهادة الثانوية ،الذين ال يستطيعون في هذه الظروف الخضوع لالمتحانات العامة وهم في المناطق المحاصرة .ورغم قيام االئتالف السوري المعارض بإجراء امتحانات للطالب ومنحهم شهادات ،إال أنّ هذه الشهادات غير معترف بها وغير مجدية إال في بعض الجامعات الخاصة”. 119
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات موجه تربوي (رفض ويؤ ّكد ّ ذكر اسمه) في مديرية تربية حمص أنّ الحكومة السورية تق ّدم كافة التسهيالت للمدارس حتى في مناطق سيطرة المعارضة، ويقول“ :أقامت الحكومة السورية مراكز امتحانية لطالب الشهادات في منطقة الرستن ،غير الخاضعة لسيطرتها ،والزالت الحكومة تق ّدم رواتب للمد ّرسين في هذه المناطق ،رغم العمليات التخريبية التي طالتها من قبل المسلحين”.
رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة
مدرسة يف منطقة باب توما رشقي العاصمة دمشق سقطت عليها قذائف الهاون يف آذار/مارس 2014
ترميم فجوات التع ُّلم يف مدارس بديلة رغم صعوبة الظروف التعليمية التي يعاني منها األطفال في سوريا ،يسعى الناشطون المدنيون والمجتمع األهلي المحلي للبحث عن حلول بديلة ،ومبادرات لترميم الثغرات التعليمية الحاصلة .ولعل خاصة في المناطق المحاصرة ،أو التي تقع تحت سيطرة المعارضة .نسرين حسن الدور األكبر يعود لهاّ ، من ‘المركز السوري لحقوق الطفل’ تقول“ :نسعى لتطوير منهج جديد يقوم بتعويض األطفال ع ّما فاتهم من تعليم بعد تس ّربهم من المدرسة بسبب ظروف األزمة السورية ،وأن نحصل على ترخيص للعمل وفق قوانين التعليم السوري ،كي نُج ّنب األطفال خسارة سنوات من عمرهم ،إذ يجد األطفال صعوبة للعودة إلى مراحل متأخرة بعد تسربهم من المدرسة لسنة أو أكثر”. ويقول أحد ناشطي مدينة عربين في الغوطة الشرقية“ :نقوم بشكل دوري ،وحسب المستطاع بإقامة أنشطة تعليمية لألطفال .كما نُقيم حسب اإلمكانيات المتاحة دورات لطالب الشهادات اإلعدادية والثانوية” .بينما يقول أبو زياد ،وهو دميا نقوال من الفريق الصحفي يف دلتا نون (ميني) مع السيدة نرسين حسن (يسار) ناشط في ريف مدينة القنيطرة ،إنّ الناشطين يقدمون تعليماً بدي ًال لحوالي 600طفل في المناطق المحاصرة التي تدمرت جميع مدارسها .ويضيف“ :حاولنا ترميم إحدى المدارس ،وقمنا بتوفير مستلزمات العملية التدريسية ،ومن بينها الكادر التعليمي المك َّون من 30مدرساً، يتقاضون أجوراً رمزية من ‘جمعية مدد’ في المنطقة”. 120
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة
ُمخ َّلفات احلرب على أجساد األطفال :إعاقات وفريوسات.. في حين ال توجد نسب واضحة لتزايد اإلعاقات ،وخصوصاً بين األطفال في الوقت الحالي، ذكرت ‘منظمة الصحة العالمية’ أنّ %60من المراكز الصحية داخل سوريا تدمرت ،وانهارت ثلث محطات معالجة الماء ،بينما انخفضت معدالت التطعيم ،كل هذا أ ّدى إلى ظهور األمراض الف ّتاكة من جديد بما في ذلك شلل األطفال. تقول مي أبو غزالة مديرة ‘مشروع الرياض الدامجة’ في سوريا“ :األزمة والحروب لها من األثر الجسدي الكثير على أطفالنا ،وأخطر آثارها اإلعاقات والتش ّوهات الجسدية التي تنتج من القتل والعنف الدائر في البالد ،وعليه سيكون للمرحلة القادمة نصيبها من زيادة اإلعاقات ،هذا باإلضافة إلى ما تنتجه الحرب واألزمة من أمراض وفيروسات تؤثر على صحتهم من خالل نقص المواد الغذائية داخل مؤسسة مدد للتعليم – كانون الثاين/يناير 2014 والطبية ،فض ًال عن بعض الفيروسات التي بدأت تنتشر في بالدنا ،ومنها شلل األطفال”. نتحجج باألزمة التي تمر بها البالد ،بل أن نستمر في العمل لتفعيل قوانين تتابع أبو غزالة“ :يجب أال ّ برامج االهتمام بذوي اإلعاقة ،وأن نقوم بنشر التوعية والثقافية اإليجابية نحو المعوقين”. يف مواجهة احلرب :أطراف صناعية ودمج تعليمي جمتمعي يقول الدكتور أنس عنجاري من السيدة مي أبو غزالة (ميني) ودميا نقوال من الفريق الصحفي يف دلتا نون (يسار) ‘المشروع الوطني السوري لألطراف الصناعية’ في ريف إدلب“ :إنّ مشروعنا خيري يق ّدم خدماته مجاناً دون تمييز أو تفاوت ألي سوري ،يكفي فقط أن يكون سورياً مهما كان انتماؤه اآلخر .نحن نقدم األطراف الصناعية لألطفال والبالغين، وهدفنا األبعد أن نقدم خدمة متكاملة المراحل ،ابتدا ًء من تهيئة المريض نفسياً وجسمانياً وتركيب الطرف البديل، 121
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ريبورتاجات
رحى احلرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة
والتدريب على السير مجدداً ،انتها ًء بإعادة تأهيل المريض اجتماعياً ومساعدته على العودة لعمله السابق، واالنخراط كعضو فاعل في المجتمع”. وعن مفهوم دمج األطفال ذوي اإلعاقة تعليمياً ومجتمعياً تقول مي أبو غزالة“ :مفهوم الدمج هو من المفاهيم التي تسعى إلى تربية مختلفة تستند على قبول اآلخر أياً كان اختالفه .وباإلضافة لكونها إحدى آليات تطوير البيئة التعليمية ،فهي أيضاً ما سيترك األثر على جيلٍ قاد ٍم البد أن يغير ثقافته بالتق ُّبل أوالً ،والتعبير بح ّرية ثانياً ،ومراعاة احتياجات اآلخر ثالثاً” .تتابع مديرة ‘مشروع الرياض الدامجة’“ :علينا أن نسعى -رغم كل ما تمر به البالد -للعمل على التنمية دون توقف ،وبطرق وآليات تتسم بالمرونة والتك ُّيف، اللتين تُعتبران أحد الدروس المستفادة من مشاريع التنمية حتى في األزمات ،حتى النعود بالبالد إلى الوراء ،ونقف بانتظار ٍّ سياسي ،أو آخر يضيف التأخر لمجتمعاتنا النامية”. حل ّ ِ الدعم النفسي وحزن يدور يف عنف الطفل السوري: ٌ ٌ نفسية ّ حلقات ّ ّ بينما تق ّدر ‘يونيسيف’ أنّ مليوني طفل في حاجة إلى دعم وعالج نفسي ،يؤ ّكد الواقع السوري أنّ جميع األطفال السوريين في حاجة إلى رعاية نفسية في ظل ما يتعرضون له من عنف مباشر أو غير ٍ ٍ لزخم إعالمي يغطي بشاعة واشتباكات وقذائف ،وبين فقدان ونزوح وتهجير ،والتع ّرض قصف مباشر .فبين ٍ الحرب وال يراعي نقاوة األطفال ،لن تجد طف ًال لم تترك الحرب جراحها وندباتها على نفسيته وسلوكه. تقول الناشطة في مجال الدعم النفسي لألطفال براءة“ :الظروف الراهنة فرضت على األطفال طريقة نمو وتفكير متماشية مع الحرب التي دخلت في لغتهم وأحاديثهم .البيئة االجتماعية تترك أثرها على الطفل ،فوجود الكبار ضمن ظروف حرب سينعكس على الطفل في شكل أو آخر ،وحتى في أسلوب تعاطيهم مع اآلخرين ،وفي األلعاب التي يلعبون بها ،حيث أصبح األطفال يفضّ لون ألعاب الحرب والبواريد والجنود والدبابات .وال يمكننا أن نعزل األطفال عن بلد يعيش حرباً وهم فيه ،ولكن ربما يمكننا بقليل من التوعية جعل األطفال يدركون كيفية التعامل مع نتائج الحرب بأقل أذية ممكنة”. تتابع براءة“ :تركت الحرب آثارها على األطفال ،ومن الموجع أنّي أتعامل يومياً مع أوالد سبقوا أعمارهم ،عانوا الفقدان والرفض ،وبعضهم يعيل أسرته وهو لم يتم العاشرة من عمره بعد ،فيما آخرون لكن أجمل ما أورثتهم الحرب عنفها وغضبها ،والبعض أخذوا منها الصمت والعزلة ،والكثر أخذوا الحرمانّ . يحدث هو أننا نستطيع مع الوقت تشكيل حلقة تمسك بأيدي بعضها البعض رغم كل ما تعاني منه”. وختامًا بينما تتلخص الحقوق البدهية للطفل بحق الحياة ،وحق البقاء ،وحق النماء ،وحق الرعاية الصحية، وحق التعلم ،وحق احترام رأي الطفل ،وحق حمايته من االستغالل ،نجد أنّ الحرب ال تحترم االتفاقيات، وأنّها لم تترك حقاً من حقوق الطفل السوري إال وقامت بانتهاكه ،لتهدد مستقبل جيلٍ كاملٍ من األطفال، أبواب جديدة لتفعيل حرب بعضهم لم يرى غيرها بعد .وهذا ما يؤكد على ضرورة فتح ٍ تربى وكبر على ٍ تضم الطفل إلى كنفها قدر المستطاع. أدوار المجتمع المدني والمحلي للبحث عن حلول بديلة ّ 122
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراســـات الحروب األهلية بني املظلومية والطمع من البنية التحتية لوسائط النقل إىل السياسة يف بريوت تيار العبث بني الفلسفة واملرسح الدولة السورية بني مصيدة القوة واملدى فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام حق الجوار كوسيلة للخروج من املستنقع الطائفي
دراسات
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
سنان حواط❊
دراسة نظرية حول العوامل الفاعلة يف احلروب واإلضرابات األهلية اخلالصة: تهدف هذه الدراسة النظرية املخترصة إىل تسليط الضوء عىل مفهومي الطمع واملظلومية Greed and Grievanceاللذين يستخدمان لدراسة أسباب نشوب الحروب األهلية وآل ّياتها .ففي حني يرى عد ٌد من الباحثني أن العامل الحاسم يف الحروب األهلية هو الطمع والرغبة بتحقيق املكاسب املادية ،يرى آخرون أن هذه النظرة تهمل الجوانب األخرى للدور البرشي الفاعل Human Agencyوتفشل فی تفسیر كثريٍ من االضطرابات املحلية. ستوضح هذه الدراسة الخطوط العريضة لهذين املفهومني مع االستعانة بعد ٍد من األمثلة من الحروب واالضطرابات األهلية يف عد ٍد من بلدان العامل .وستعمل هذه الدراسة عىل توضيح كيف يتقاطع هذان املفهومان إىل حدٍّ بعي ٍد عىل أرض الواقع.
❊ باحث أكادميي مقيم يف لندن يعمل مع عدد من املنظامت واملراكز البحثية ،ومتخصص يف التنمية العاملية يف مناطق النزاعات .حائز عىل شهادة املاجستري يف إدارة التنمية من جامعة لندن لالقتصاد والعلوم السياسية ،وعىل دبلوم يف الدراسات اإلسالمية واإلنسانية من معهد الدراسات اإلسامعيلية يف لندن.
124
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
مع كل اندالع لصراع أهلي في منطقة الشرق األوسط أو العالم ،يظهر سؤال مح ّير حول العوامل المسببة لهذا االنحدار إلى العنف واألسباب التي تؤدي إلى نزوع المقاتلين إلى ارتكاب الفظائع والسيما بالسكان المدنيين .مما الشك فيه ،تحتاج اإلجابة الدقيقة لمثل هذه األسئلة إلى بحث مستفيض تاريخي وسياسي ال يتسع له ٌ واحد بل يتطلب الكثير من العمل والوقت .ولكن يبقى السؤال العام ،هل من بحث ٌ الممكن مث ًال حصر ما يجري اليوم بالعراق بوجود خلل بنيوي في آليات الدولة العراقية سمح بتوفر الفرصة غنى بدون فهم المظلومية العميقة التي تشعر بها فئة للمليشيات لالستيالء على أكثر المناطق النفطية ً ّ كبيرة من العراقيين بسبب الغبن والتهميش؟ من ناحي ٍة أخرى هل يكفي في سوريا أن نحلل أسباب الصراع السياسية واالجتماعية العامة على المستوى الدولي بدون فهم العوامل الموضوعية والذاتية للمحاربين على األرض؟ األسئلة نفسها تنطبق على الكثير من الحروب األهلية سواء في شرق أوربا أو إفريقيا. من أجل الفهم النظري للحروب األهلية والصراعات المحلية ،ستتمحور هذه الدراسة النظرية المختصرة حول مفهومي الطمع والمظلومية Greed and Grievanceاللذان يشكالن مفهومين متناقضين ومتكاملين في آن ،ومنطلقين نظريين لتفسير انحدار المجتمعات إلى الحروب واإلضرابات األهلية .ففي حين يرى عدد من الباحثين أن العامل الحاسم في الحروب األهلية هو الطمع والرغبة بتحقيق المكاسب المادية ،يرى آخرون أن هذه النظرة تهمل الجوانب األخرى للدور البشري الفاعل Human Agencyوتفشل فی تفسیر الكثير من اإلضرابات المحلية. في شكل عام يعمل الداعمون لمفهوم دور الطمع في الحروب على التأكيد أن الحرب ليست سيئة للجميع وليست مض ّرة لألعمال التجارية جميعها .على العكس ،تشكل الحرب مصدراً هاماً للدخل والربح لبعض األفراد .بالطبع يتضرر كثيرون من الحرب ،ولكن األقل ّية المستفيدة تربح الكثير وهي األكثر تأثيراً وقدرة على الفعل في الحروب .أما األكثرية المتضررة فهي غالباً ما تكون بال قدر ٍة على التأثير .إن خلق السالم الذي يتحقق عندما تتغير مصالح األقلية خللٍ في هذه الخريطة االقتصادية واالجتماعية أساسي لبناء ّ ٌّ 125
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
المستفيدة القادرة بطريقة ما لتصبح متالئمة مع السالم. ولكن في المقابل يؤكد أولئك الداعمون لمفهوم دور المظلومية في الحروب على أنه ال يمكن تفسير نزوع المجتمعات البشرية للعنف بسبب العوامل االقتصادية وحسب .فاإلنسان ينزع بطبعه إلى العنف في حاالت كثيرة كالشعور باإلهانة ،ولتأكيد الذات الشخصية ،والسيما عندما يترافق الفعل العنيف مع القيم الكبرى كالوطن والكرامة والشرف .كما ينزع اإلنسان للعنف عند وجود الظلم وانعدام العدالة. ستعتمد هذه الدراسة النظرية المختصرة على دراسة العوامل المؤثرة في الحروب .في البداية سوف تناقش الدراسة عالقة الحرب بالعوامل العقالنية الموضوعية Rational Factorsوسوف تسرد النقاش الذي يقدمه بول كولير في محاولته إلثبات أن العوامل المتعلقة بالظلم وانعدام العدالة ال تكفي إلشعال الحروب األهلية ،بل إن العوامل الموضوعية االقتصادية هي المؤثرة في الدخول في هذه الصراعات .بعد ذلك تسرد الدراسة الرأي المقابل الذي يقلل من أهمية العوامل الموضوعية في انحدار المجتمعات إلى العنف لصالح العوامل العاطفية الذاتية .تلجأ هذه الدراسة إلى االستعانة بعد ٍد من ُ الك َّتاب والدراسات النظرية ،وستعمل على تقديم عد ٍد من األمثلة من الصراعات والحروب األهلية في العديد من البلدان .وفي النهاية ستوضح الدراسة أن العوامل الموضوعية والذاتية تعمل معاً في صورة متوازية ،مش ّكل ًة مناخاً مناسباً الستمرار الحرب وإذكائها .ففي حين تش ّكل العوامل الموضوعية االقتصادية األساس الذي يح ّرك الطبقات العليا (القادة)، تكون العوامل الذاتية العاطفية األكثر تأثيراً على الطبقات الدنيا المحاربة. احلرب والعوامل العقالنية املوضوعية انتشرت الدراسات المتعلقة بدور العوامل االقتصادية في الحروب في شكل كبير في كتابات السالم والحرب في القرن الماضي .تتمحور هذه الدراسات حول مفهومي الطمع والمظلومية Greed and Grievanceودورهما المحتمل في إشعال الحروب األهلية .يؤكد أصحاب فكرة المظلومية في طرحهم على أن العامل األساسي المسبب للحروب األهلية هو الصراعات اإلثنية والطائفية التي تندلع بسبب الظلم وانتهاك حقوق اإلنسان .ولكن من ناحية أخرى يعتقد أصحاب مفهوم الطمع أن العوامل االقتصادية هي الفاعلة فقط في اندالع الحروب األهلية ،وأن خطاب المظلومية يلعب دوراً فقط لتبرير األعمال العسكرية وضمان استمرارها. من أشهر الك ّتاب تأثيراً في دراسة العوامل اإلقتصادية في الحروب هو البروفسور اإلنكليزي بول كولير Paul Collierالذي تعتمد مقاربته على دراسات إحصائية للبلدان التي م ّرت بحروب أهلية خالل األعوام 1960حتى العام .1995باستخدام هذه المقاربة وجد كولير عدداً من االستنتاجات الهامة التي استخدمها لوصف وتو ُّقع الحروب األهلية بعيداً عن الجدل الذي يتعلق بالعدل والمظلومية في تفسير اندالعها .فعلى سبيل المثال وجد كولير أن احتمال نشوب الحروب األهلية يزداد مع زيادة نسبة الصادرات األولية في الناتج المحلي .هذه الصادرات تشكل مصدراً للسرقات ومحفزاً للصراعات األهلية .تشمل هذه الصادرات الكثير من المواد أبرزها األلماس (الذي لعب دوراً في الحرب األهلية في سيراليون) ،والنفط (لعب دوراً في الحرب في الكونغو وأنغوال) ،وحتى الخشب (الذي لعب دوراً في الحرب في ليبيريا) (.)Ross, 2002 كما وجد كولير أن ازدياد نسبة الشباب في المجتمعات يزيد من احتمال حصول الحروب األهلية 126
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
ألن األطراف المتحاربة ستجد الخزان البشري الالزم للقيام باألعمال الحربية .اعتماداً على ذلك استطاع كولير الربط اإلحصائي بين مستوى التعليم واحتمال اندالع الحروب األهلية ،من خالل افتراض أن عدم وجود مصادر متعددة للدخل ،كما في حاالت انخفاض مستويات التعليم ،يدفع الشباب لاللتحاق باألعمال المسلحة .كمثال على ذلك يذكر كولير مثال الحرب األهلية الروسية في 1920 – 1919بين الجيشين األحمر واألبيض ،حيث لوحظ فيها النقص الهائل في المقاتلين في فترة الصيف حيث ينشغل معظم المقاتلين في أعمال الحصاد. يسترسل كولير طوي ًال في دحض كل المزاعم التي تفترض أن الحروب تنشأ ألسباب تتعلق بالحاجة للعدالة أو كحالة للرفض لحكومة ظالمة ،مب ّرراً ذلك بوجود معضلة في العمل الجماعي Collective Actionالذي تتط ّلبه الحرب .يرى كولير أنه من الصعب البدء بالحرب بسبب ارتفاع تكاليف المشاركة بمعارضة النظام القائم بالنسبة للفردُ .يشار هنا لمعضلة Free Ridingأو ما يمكن ترجمته بالركوب الحر. يقول كولير أنه في حالة وجود ظلم ضد جماعة أو فئة في المجتمع فسيبقى الخيار العقالني Rational Choiceللفرد المتع ّرض للظلم هو اإلحجام عن المشاركة في أعمال معارضة عسكرية قد تسبب له الموت أو االعتقال ،حيث بإمكان هذا الفرد االنتظار حتى نجاح الحركة المعارضة المسلحة لينعم بفوائد زوال الظلم الحالي ،بدون تحمل تبعات النضال للتخلص منه .حتى في حالة الظلم الواضح وعدالة قضية المظلومين ،يبقى الخيار الفردي عند مجموع األفراد هو انتظار بعضهم للدخول بالحرب ،وبذلك يفشل القرار الجماعي بسبب الخيار الفردي األناني .يرى كولير أن الطريقة الوحيدة للخروج من هذا االستعصاء هي وجود مصلحة آنية تقنع المقاتلين بالخروج على النظام القائم خصوصاً في المراحل األولى ،حيث تكون تكلفة القتال هي األعلى لق ّوة الحكومة وقدرتها على االنتقام .يستخدم كولير هذه المعضلة لتفسير عدم كفاية وجود الظلم لتفسير دخول البالد بتوترات وحروب. احلرب والعوامل الذاتية اإلنسانية من غير المستغرب أن ت ْلقى أفكار بول كولير انتقادات واسعة بسبب إرجاعها النزاعات المحلية بالكامل ألسباب عقالنية موضوعية دون قبول العوامل الذاتية اإلنسانية .ينظر كولير للحروب بمنظار السوق. حيث يرى العدالة سلع ًة عام ًة تشبه الماء والهواء .وباستخدام هذا المنظور يناقش كولير خيارات األفراد برفض الحكومات واالنغماس في القتال كخيارات اقتصادية تشبه تلك المتع ّلقة بشراء سلعة أو الدخول في عالقة تجارية معينة .يمثل كولير النظرية االقتصادية الكالسيكية القائمة على الخيار الرشيد المعتمد على ميزان الربح والخسارة ،مهم ًال دور األحاسيس اإلنسان ّية التي تلعب دوراً كبيراً في اتخاذ القرارات ،وذلك بعيداً عن الخيارات المنطقية العقالنية التي ُيفترض أن تتسم بها الخيارات االقتصادية. هناك العديد من العوامل النفسية التي تؤثر على جنوح اإلنسان للعنف واالنخراط في األعمال الحربية .هذه العوامل ال تتعلق بالخيارات الموضوعية العقالنية الذي يتحدث عنها كولير .فعلى سبيل المثال جيمس غليغان James Gilliganيرى أن شعور اإلنسان بانتهاك كرامته اإلنسانية هو من العوامل الهامة التي تدفع اإلنسان للعنف ،وبالتالي البدء بالحروب .استنتج غليغان هذه الخالصة من خالل دراسته لقصص العنف عند السجناء ،ووضَّ ح بأنه من الممكن تطبيقها على الحروب مثل العنف في العراق والشيشان. 127
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
قد ترتبط العوامل النفسية أيضاً بالقيم العاطفية عند اإلنسان .فعلى سبيل المثال يتأثر اإلنسان بالجوانب العاطفية التي ترتبط بالوطنية ومفاهيم البطولة واإلقدام .تع ّزز هذه األفكار العمل الجماعي المشترك باتجاهات مختلفة قد يكون أحدها العمل الجمعي باتجاه العنف .بهذا المعنى يصبح العمل الجماعي ،الذي تح ّدث بول كولير عنه وأشار إلى عدم إمكانية حدوثه بدون تو ّفر الحافز اإلقتصادي ،ممكناً بسبب وجود حوافز عاطفية قد تكون بدي ًال عنه .كمثالٍ عن ذلك ،تشير البروفسور إليزابث وود Elizabeth ،Woodفي دراستها عن الحرب في السلفادور ،أن العوامل المتعلقة بالشرف وتأكيد الذات والكرامة هي وكتبت وود أن المقاتلين أوضحوا من أهم العوامل التي قامت بتحفيز المتمردين على الثورة في السلفادور. ْ لها أن المشاركة في الثورة تجلب للمقاتل سعاد ًة وفخراً ال يناله المتف ّرجون أو الصامتون .لذا كان هناك فوائد عاطفية ال اقتصادي ًة من المشاركة بالثورة. من ناحية أخرى ترى فرانسيس ستوارت ( )Stewert, 2000أن التباين االقتصادي بين الطبقات جمعي Group Consciousnessقد ُيستخدم وعي ٍّ االجتماعية يمكن أن ُي ْس َتغَل من قِبل القادة لبناء ٍ لخلق البيئة المالئمة لحدوث الحروب واإلضرابات .يغ ّذي هذا الوعي ،حسب ستوارت ،التفاوت األفقي Horizontal Inequalityبين الطبقات .يأتي التأكيد على التفاوت األفقي من حقيقة أنّ له خطورة كبيرة موجود في كل في إدخال المجتمعات في الصراعات األهلية .فعلى سبيل المثال ،التفاوت في المجتمع ٌ مكان ،كالبرازيل وكينيا وتايالند ،دون أن يتس ّبب ذلك بالضرورة بالدخول في صراعات أهلية مسلحة .يعود السبب في ذلك إلى أن حساب التفاوت في هذه الحاالت ير ّكز على التوزع المطلق للدخل دون حساب البعد االجتماعي لهذا التفاوت .يناقش هذه الفكرة أيضاً البروفسور أمارتيا سن ( )Sen, 2011ويوضح أنه ٍ بتفاوت آخر غير اقتصادي ،فإن هذا التفاوت يصبح عام ًال عندما يرتبط التفاوت االقتصادي بين الطبقات أساس ّياً في إذكاء الصراعات الداخلية .فإذا كانت الطبقات الفقيرة اقتصادياً تتمايز عن الطبقات األخرى بعوامل غير اقتصادية ،مثل اللون أو الدين ،فإن هذا التفاوت يصبح حاسماً في تشجيع الصراعات األهلية. يرى سن أيضاً أن هذا النوع من التباين االجتماعي خطير ألنه ال يظهر بالضرورة آن ّياً بل يشكل ذاكر ًة من يفسر سن الصراع في شمال ايرلندا المظلومية التي قد تنفجر في ّأي لحظة في المستقبل .على هذا المبدأ ّ نتاج لماضي إنكلترا ّ الظالم أليرلندا .وباستخدام نفس الفكرة يتوقع سن أن السياسات المجحفة في بأنه ٌ الشرق األوسط قد زرعت الكثير من بذور الصراع للمستقبل. توازنات الصراع إن التركيز على مجموعة واحدة من عوامل الصراع من شأنه أن يخ ّرب جهود التسوية وإحالل السالم بعد الحروب األهلية ألنه يعكس اضطراباً في فهم آليات النزاعات المسلحة .ولكن يبقى التركيز النظري من األهمية بمكان لمعرفة الديناميكية التي تتطور بها الحروب األهلية. تتقاطع مفاهيم المظلومية والطمع في الحروب األهلية في كثير من المواضع .فمث ًال يش ّكل التفاوت االقتصادي بين الطبقات االجتماعية المتمايزة في الحروب مساح ًة للتالقي بين نظريتي الطمع والمظلومية، حيث يش ّكل الفقر الذي تعاني منه طبقة اجتماعية محددة حال ًة من المظلومية التي قد تس ّبب االنزالق في العنف .المظلومية هنا مادية ،ما يجعل انخراط الفئات االجتماعية المظلومة يشابه السعي المادي الذي 128
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
يحفزه الطمع الذي يدفع بالبعض للدخول في الحروب. إن فهم العناصر االقتصادية في الحروب هو من أكثر األمور حسماً في الصراعات ،ألن األرباح التي يجنيها أمراء الحروب من حالة الحرب تزودهم بالحوافز الكفيلة بتخريب الجهود الالزمة للسالم .ففي حالة الدول النامية التي تعاني من تبعات الحروب من عقوبات ،ومن تبعات السياسات االقتصادية العالمية، يصبح المناخ الراعي للعنف هو البيئة األنسب لنمو األعمال غير القانونية المربحة التي ال تكون متوفرة في حاالت السالم مع وجود دولة مركزية قوية .يخلق هذا مصلح ًة حقيقي ًة عند أمراء الحروب إلبقاء حالة الفوضى .وفي حاالت العنف والفوضى تزدهر أيضاً التجارة السوداء الخارجة عن القانون .على سبيل المثال في فترة سابقة في أفغانستان ،ارتبط في شكل أو بآخر حوالى %80من االقتصاد و 30إلى %50من السكان ببعض جوانب تجارة المخدرات حسب تقديرات مجموعة األزمات الدولية ICGفي عام .2001 إن البيئة المناسبة لتجارة المخدرات هي الفوضى ،لذا من مصلحة الكثير من أمراء الحروب الحفاظ على الفوضى إلبقاء مداخيلهم .ولكن ،في الوقت نفسه ،هناك حاجة حقيقية لفهم الدور البشري في الصراعات ألن إهماله يجعل جهود التسوية بأكملها فاشلة .على سبيل المثال ،ال يمكن اختصار صراع كالكفاح الفلسطيني بمنظور مادي فقط ،بل يجب فهم تاريخ الصراع والعوامل النفسية والذاتية التي تحيط به. في الحقيقة يعمل قادة النزاعات إلى تشكيل بيئة تضمن توليد العوامل الذاتية التي تغذي المظلومية؛ من خالل التعليم ،واستغالل اآلثار النفسية الناتجة عن العقاب الجماعي للخصم ،ومن خالل البروباغاندا .تضمن هذه البيئة استمرارية التجنيد ودوام المعارك .في شكل عام يبدو الصراع مؤلفاً من ع ّدة طبقات .الطبقات العليا وهي القادة ،وغالباً ما تكون خارج حدود الصراع المسلح وال تتأثر به بشكل مباشر. يطغى على هذه الطبقات العقالنية والموضوعية في اتخاذ القرارات العسكرية في الحرب أو النزاع األهلي. لذا تتميز هذه الطبقات بالنزعة المادية أو الطمع .أما الطبقات الدنيا هي الطبقات المحاربة ،وهي التي تتحمل تبعات الحرب وويالتها .في حين أن الجوانب المادية قد تكون موجودة عند هذه الطبقات ،وقد تدفعها لتقبل الخطر واالنخراط في المعارك ،لكن هناك الكثير ممن تدفعهم العوامل النفسية والعاطفية. لذا في كثير من األحيان تعمل الطبقة العليا على استمرارية تأمين الدوافع العاطفية والنفسية من خالل التعليم والبروباغاندا ،واستخدام مآسي الحرب وويالتها لتجديد العداء تجاه الخصم ،ما يضفي على معاناة الطبقة المحاربة المعنى والقيمة ،ويحافظ على قدرتها على القتال .وبالتالي يصبح الطمع والمظلومية عجلتي الحرب األهلية اللتين تضمنان استمرار احتدامها. اخلامتة يهدف الفصل بين العوامل المختلفة للصراع إلى تسهيل الدراسة النظرية والفهم الشامل للحروب وديناميكياتها .في هذه الدراسة النظرية تم التركيز على جانبين مؤثرين في اندالع الحروب األهلية واستمراريتها :الطمع والمظلومية .حيث يعزي بعض المفكرين انخراط المجتمعات بالنزاعات األهلية إلى جملة من العوامل المادية الموضوعية المتمحورة حول مفهوم الطمع ،في حين يؤكد آخرون على دور وجود الظلم وانعدام العدالة بين مكونات المجتمع في إشعال فتيل هذه النزاعات. أظهرت هذه الدراسة رأي كولير بأهمية العوامل االقتصادية للدخول في الحرب ،ووضّ حت أن بدون 129
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
احلرب األهلية بني املظلومية والطمع
دراسات
Free وعلى رأسها الركوب الحر،هذه العوامل سيعاني الحراك العسكري من مشاكل العمل الجماعي ولکن الدراسة أظهرت أيضاً أن حصر فهم الحروب وتفسير مسبباتها على الجانب الموضوعي.Riding ٍ االقتصادي غير حيث ناقشت الدراسة الكثير من العوامل النفسية والعاطفية التي تدفع الناس.كاف أخيراً عمدت الدراسة إلى توضيح أن جميع العوامل تتفاعل على أرض الواقع في.لالنخراط في الحرب ، ففي حين تطغى على الطبقات العليا (القادة) في الصراع األهداف الموضوعية االقتصادية.حاالت الحروب وتعمل الطبقات العليا من.تطغى على الطبقات الدنيا التي تحارب على األرض العوامل العاطفية الذاتية إن.الصراع على استمرار توليد العوامل الذاتية العاطفية التي تضمن استمرار التجنيد والتبرير للحرب أما على أرض،نظري فقط يساعد في دراسة الصراعات التمييز بين العوامل الموضوعية والذاتية هو تميي ٌز ٌّ .الواقع فتتداخل هذه العوامل مع بعضها إلى نحو كبير
References • Collier, P., 2000. Doing Well out of War: Economic Perspective. In: Greed and Grievance: Economic Agendas in Civil Wars. s.l.:The International Peace Academy. • Gilligan, J., 2003. Shame, Guilt and Violence. Social Research , pp. 1149 - 1180. • ICG, 2001. Central Asia: Drugs and Conflict, Osh and Brussels: ICG Asia Report. • Ross, M., 2003. Oil, Drugs and Diamond: The Varying Roles of Natural Resources in Civil War. In: The Political Economy of Armed Conflict: Beyong Greed and Grievance. Colorado: Lynne Rienner Publishers , pp. 47 - 70. • Sen, A., 2011. Peace and Democratic Society. s.l.:OpenBook Publishers. • Stewert, F., 2004. The Root Causes of Humanitarian Emergencies. In: War, Hunger and Displacement: The Origins of Humanitarian Emergencies. s.l.:Oxford University Press, pp. 1 - 41. • Wood, E., 2000. The Emotional Benefits of Insurgency. In: J. Goodwin, J. Jasper & F. Polletta, eds. Passionate Politics: Emotions and Social Movements. Chicago: University of Chicago Press, pp. 267 - 302.
130
1 العدد 2014 يوليو ـ/ متوز
أحمد عثمان❊
ماذا تقول
وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها❊❊ اخلالصة:
يتناول هذا املقال كيف ميكن قراءة الالمساواة االجتامعية السياسية ،يف سياق منطقة بريوت الكربى ،من خالل عيوب البنية التحتية للنقل فيها .ميكن لجولة صغرية يف شوارع بريوت أن تكشف لنا ‘سلسلة غذائية’ من نوع ما ،حيث تعامل البنى التحتية السيارات الخاصة املستهلكة كملوك ،تتبعها يف التسلسل السيارات الخاصة غري املستهلكة ،يليها وسائل النقل العام ،وأخريا املشاة .هذه ‘السلسلة الغذائية’ تتجىل يف التجاوزات امللموسة التي تقرتفها السيارات الخاصة املستهلكة بحق مثيالتها غري املستهلكة ،والتي تقرتفها وسائل النقل يف شكل عام بحق املساحات املخصصة للمشاة .بالتوازي مع هذه الخصخصة املادية تدار عمليات خصخصة رمزية شاملة ،حيث تخضع حيادية الشارع أليقنة الحزب الذي يحكم الشارع – أيّاً كان هذا الحزب .املنهجية املستخدمة هي املشاهدات الشخصية املوثقة فوتوغرافياً ،يف حني أن اإلطار النظري املستخدم هو نقاش إنرييك پنيالوسا حول الالمساواة املدينية. ❊ أحمد عثامن Ahmad Osmanمرشح حالياً لشهادة ماجستري يف برنامج ‘سيتيز’ لتصميم املدن يف مدرسة لندن لالقتصاد .درس باألصل التصميم الجرافييك يف الجامعة األمريكية يف بريوت ( ،)2007وعمل كمصمم يف رشكة خاصة ملدة ثالث سنوات قبل الرشوع يف التحضري ملاجستري يف الدراسات السياسية ،أيضاً يف الجامعة األمريكية يف بريوت ( .)2013شمل بحثه السابق موضوعات متنوعة كنظرية الهندسة املعامرية الوظيفية ،مناظري القراءة السياسية ،السياسات اللغوية يف العامل الناطق باللغة العربية وانتهاك املادة )4(2من ميثاق األمم املتحدة. ❊❊ هذه الدراسة ترجمة للنص األصيل املرسل إىل مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوانWhat Beirut’s Transport Infrastructure Says About : its Politics
131
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
مقدمة المساواة قضية شائكة؛ في الظاهر تُقرأ وكأنها فضيلة لكنها غالباً ما تستخدم في الممارسة كذريعة للقضاء على التنوع .في سياق المدن ،أشار ريتشارد سينيت Richard Sennettإلى مدى تلوث ممارسات خطط المدينة بمفاهيم الصراع ،ومعاملة اختالفات الناس كمصدر تهديد لتتم محاصرتهم بدالً عن معاملتهم كمصدر للمعرفة ( .)1990من ناحية أخرى ،فقد افترض إنريكي پنيالوسا Enrique Peñalosaأن المساواة االجتماعية هي أمر مرغوب به ،وأنها قيمة تمكن قراءتها في شكل مباشر في بنية المدينة (.)2007 من المثير لالهتمام أن پنيالوسا أشار في سياق نقاشه إلى فرانسيس فوكوياما ،Frances Fukuyama ففي كتابه ‘نهاية التاريخ’ أشار فوكوياما إلى لبنان باعتباره تمثي ًال للحالة األولية –التي تحدث عنها توماس هوبز -إذا ما تجسدت في الحياة الواقعية ()2009؛ وبالطبع فقد عنى فوكوياما بكالمه لبنان الحرب األهلية عام .1975إذ رغم كل هشاشة الوضع السياسي الحالي في لبنان فإنه ال يزال في عداد الدول الضعيفة ،وليس الدول المنهارة ،إال أن ضعف وجود الدولة في مجال التخطيط المدني ،وحتى في العاصمة اللبنانية بيروت ،هو أمر صادم .من هنا فإنه من المفيد النظر في التفاوت الموجود في هذا المشهد ،ألنه يشير إلى االحتماالت التي يمكن أن تنشأ ،ليس تحت حكم سيء بالضرورة بل تحت حكم في مستوياته األدنى . ُ شرعت بالبحث الخاص بهذه الدراسة ،كنت تائهاً في البداية بين أن أحصر بحثي بالضاحية حين الجنوبية لبيروت أو أن أعممه على بيروت كامل ًة .يعامل الباحثون عاد ًة الضاحية الجنوبية لبيروت –أو فقط ‘الضاحية’ كما تسمى بالعربية اللبنانية -كحال ٍة قائم ٍة بحد ذاتها .يعود ذلك لكون الضاحية معقل ‘حزب الله’ وبالتالي الستقالليتها الوظيفية عسكرياً .ففي الضاحية تحافظ القوات المسلحة اللبنانية وقوى األمن رسمي محدد ،فيما يتولى في الواقع حزب الله المسؤولية عن أمن المنطقة .لكن إذا الداخلي على وجو ٍد ٍّ ما نظرنا من منظار الحياة المدنية فإن الضاحية تحوي ذات الظواهر المنتشرة في باقي أنحاء بيروت (وإن ٌ اختالف في حدة انتشارها) ،وبالتالي ستتم دراسة الضاحية ضمن اإلطار الواسع لبيروت ،وإن كان هناك 132
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
كانت هناك ظواهر في الضاحية أكثر أو أقل حد ًة من نظيراتها في باقي بيروت فسوف يتم تنبيه القارئ إلى هذا األمر. املستويات املتعددة لالمساواة من المعروف أن الالمساواة على الصعيد المدني تأتي بمستويات متعددة، ولتلخيص ما سيأتي الحقاً ،يمكننا الحديث عن ‘سلسل ٍة غذائية’ مدنية تعمل على النحو التالي :مشاة < نقل العام < سيارات عامة < سيارات خاصة الشكل :1سيارة مركونة تجرب املشاة عىل النزول إىل الشارع برج الرباجنة (عثامن)2014 ، سندرس هذه ‘السلسلة الغذائية’ من خالل تفكيكها إلى الهيمنات الثنائية األساسية ،وهي هيمنة النقل العام على المشاة ،ووسائل النقل الخاص على وسائل النقل العام ،والمواصالت الخاصة المستهلكة على المواصالت الخاصة غير المستهلكة .خلف ٌ هيكل آخر أقل حسي ًة منه ،أال وهو سيطرة الرمزية السياسية على المجال العام. هذا الهيكل يوجد –1هيمنة وسائل النقل على املشاة تظهر عالقة الهيمنة تلك في ثالثة مستويات .في المستوى األول واألساسي ،يتم تزويد المشاة برصيف للمشي ،ولكنه في الواقع مشغول من قبل السيارات المركونة. شاعت هذه الظاهرة نتيجة لنقص مواقف الشكل :2طريق مسدود للمشاة ،برج الرباجنة (عثامن)2014 ، السيارات في بيروت ،وكثرة سيارات الدفع الرباعي القادرة على اعتالء األرصفة .وحقيق ًة فإن قانون المرور ال يطبق إال في جز ٍء صغي ٍر من بيروت .كل من هذه الظواهر تعود أسبابها لمشاكل اجتماعية سياسية؛ فمواقف السيارات في بيروت نادرة بسبب اعتماد اللبنانيين على وسائل النقل الخاصة –وكي نكون دقيقين أكثر من %68منهم (عون -)2010 ،وهذا بدوره يعود إلى رداءة وسائل النقل العامة .وتكثر سيارات الدفع الرباعي ألنه في البيئة االجتماعية اللبنانية يتم التعامل مع السائقين (في سيناريوهات ركن السيارة ،أو عاقبة التعرض لحادث مث ًال) على أساس واسطتهم مع السلطة بدالً من التشريعات الصارمة ،لذا فإن شراء سيارة دفع رباعي هو استثما ٌر سليم ألنها تعطي انطباعاً بالقوة والواسطة .وأخيراً ٌ 133
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
فإن قوانين السير تفرض في جز ٍء صغي ٍر من بيروت ألن قوى األمن الداخلي اللبنانية نقص في العديد ،لذا فإن تطبيق تعاني من ٍ قوانين مرور كهذه ال تعد أولوية. على المستوى الثاني يمكن الحديث عن تحويل رصيف كان موجوداً بالسابق إلى مساحة لركن السيارات ،كما يبدو في الشكل التالي: هنا ،تمكننا رؤية تراجع البناء في الشكل :3خصخصة كامل الرصيف عرب استخدام التصميم شكل يتسع بالضبط إليقاف سيارة واحدة سانت ترييز (عثامن)2014 ، عند الزاوية؛ السيارة تجتاح الرصيف بشكل متاح فقط لألغنياء أو للمستثمرين ذوي كامل وتطرد المشاة إلى الشارع .من الواضح أن هذا التخطيط ٌ العالقات القوية ،حيث أن الحصول على رخصة بناء تغض الطرف عن االستيالء على الرصيف هو أمر يتطلب الوصول إلى سلطة البلدية. ٌ مساحة أخيراً ،وعلى المستوى الثالث فإن المشاة ببساطة ال يملكون رصيفاً من أي نوع ،أو ُت َق َّد ُم لهم صغير ٌة مثير ٌة للسخرية. بوضوح نحو استخدام الطريق نالحظ في الشكل ،4عرض الطريق في برج البراجنة (الضاحية) ينحو ٍ باتجا ٍه واح ٍد للسيارات مع مساحة جيدة تبقى للرصيف .إال أن االستعمال الفعلي للطريق جاء بشكل حركة ٌ رصيف بعرض 40سم بالكاد يتسع مرورية باالتجاهين باإلضافة للمشاة الذين ال بد من مرورهم ،والنتيجة للقدمين ،بدون أن يتسع للوركين أو األكتاف التي تعلو هاتين القدمين .من الواضح أن هذا الرصيف ال يستخدم من قبل المشاة ولهذا فإنه يمثل للسيارات مساح ًة مهدور ًة بعرض 40سم .مثل هذا الرصيف ٌ أرصفة بشكل عام ليس ظاهر ًة شائعة (رغم أنه ليس بحال ٍة فريد ٍة أيضاً) .ولكن الشوارع التي ال يوجد فيها ٌ شائعة بالفعل ،وتمثل إصرار سلطات هي الشكل :4رصيف بالكاد موجود باملقارنة مع طريق باتجاهني ،وصور ٌة ألحد املشاة، البلدية وتفضيلها استخدام الشوارع من برج الرباجنة (عثامن)2014 ، قبل السيارات على حساب المشاة. -2هيمنة السيارات اخلاصة على وسائل النقل العامة بسبب انعدام تطبيق أي خطط رئيسية في بيروت الجديدة (بيري وآخرون ،)2004 ،وألنه لم يتم االهتمام بالنقل المشترك في ٍّأي من الخطط الخاصة ،لذا ليس هناك سوى مكان 134
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
واحد يعمل في بيروت كمحطة نقل (هو محطة شارل حلو) ،أي كمكان حش ٍد تم تصميمه لتقوم وسائل النقل العامة بتحميل الركاب منه .عدا ذلك تعمل وسائل النقل العامة الثالثة (سيارات األجرة والسرفيس والباصات) بالطريقة التي يدعوها عامر الدر حي واركب” ( ،)2005حيث تتوقف “مبدأ ِّ وسيلة النقل ببساطة في أي مكانٍ يشير إليه الراكب للصعود أو النزول .من المثير الشكل رقم :5سيارة أجرة تنزل راكباً عند زاوية ،حارة حريك (عثامن)2014 ، لالهتمام أنه غالباً ما تكون الزوايا هي المكان الذي يختاره الركاب ،وذلك بسبب كونها أكثر األماكن وضوحاً للرؤية على الطريق. كما نرى في الشكل ،5فإن الزوايا تشكل المواقع األسوأ لتوقف السيارات حيث تعيق مرور السيارات األخرى. كما ذكرنا سالفاً ،يعتمد معظم اللبنانيين على السيارات الخاصة وهذا –وإن كان جزئياً– يعود لحقيقة أنه ال قيمة مضافة للتجربة الحالية لوسائل النقل العامة؛ بما أن الشوارع مجهز ٌة لخدمة السيارات ٌ خاصة لمرور الفانات والباصات ،وال مواقف محددة لسيارات األجرة .باإلضافة ات الخاصة ،فال توجد ممر ٌ لوصف سائقي وسائل النقل العامة بأنهم سبب المضايقات على الطرقات ،فإن هذا الوضع يحرم وسائل النقل العامة من قوتها الكالسيكية ،وهي السرعة النسبية نتيجة الممرات الخاصة .من الطبيعي إذاً أال تكون وسائل النقل العامة خياراً إال ألولئك الذين ال يملكون خيار ٍ ات أخرى. -3هيمنة املواصالت اخلاصة املستهلكة على املواصالت اخلاصة غري املستهلكة األرصفة إذاً ليست سوى خيار ،وهي –عند وجودها -تعتبر لقم ًة سائغ ًة من قبل السيارات التي تستغلها كمواقف .األسوأ من ذلك أنها في الواقع ال تخدم جميع السيارات على حد سواء .بل تعتبر ملكي ًة خاصة للسيارات التي يقودها أصحاب شكل :6شارات مبتكرة تحجز الرصيف من أجل سيارات الزبائن ،سانت ترييز األماكن التي تتوقف عندها ،حيث تعتبر (عثامن)2014 ، ملكية الرصيف سلع ًة استهالكي ًة؛ فإذا كان المكان متجراً تتم خصخصة الرصيف لالستخدام الحصري لزبائن المتجر ،بينما إذا كان بناءاً سكنياً فيصبح استخدام الرصيف حصراً بسكان هذا البناء. تعتمد خصخصة الرصيف على ثراء المالك .ففي أسفل الس ّلم التراتبي توجد تلك المتاجر التي ال تستخدم إشارات 135
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
تخصيص للرصيف ،لكن أصحابها وموظفيها يراقبون الرصيف (يكون المتجر في هذه الحالة صغيراً بما يكفي للقيام بمهم ٍة كهذه) ،مبعدين أي سيارة تحاول التوقف إن لم تكن تخص المتجر أو زبائنه. رغم ذلك ،فإنه وفي شكل متزايد تميل المتاجر الستخدام شارات كالكراسي البالستيكية أو شارات مبتكرة توضع جانب الرصيف ،تشير في شكل واضح إلى أن هذه المساحة هي للزبائن فقط (انظر الشكل .)6وألن هذا واضح فإنه ال يترك أي مجال العتبار الرصيف مساحة النهج ٌ عامة ،وبالتالي يقضي على أي محاولة لتوقف السيارات التي ال تخص المتجر أو زبائنه ،باإلضافة لذلك فهو يوفر على صاحب المتجر عبء إبعاد السيارات في شكل شخصي. أما في أعلى السلم فتأتي المتاجر التي تستخدم واحداً من هذه العناصر الثالثة على األقل :شارات مصممة بعبارة ممنوع التوقف (شكل ،)7خدمة شركات أمنية خاصة (شكل رقم 7و ،)8وخدمة ركن سيارات (شكل .)9 المثير لالهتمام في هذه المجموعة من التداخالت هو مضمونها الخفي :اآلن بعد خصخصة المساحات العامة ،حان الوقت قطاع من االقتصاد اللبناني يتغ ّذى للمتاجرة بها! أي هناك اآلن ،حرفياًٌ ، بأكمله على خصخصة وتحويل األرصفة إلى سلع ،األمر الذي سيجعل االنتقال إلى األرصفة العامة تجرب ًة صعب ًة في حال تمت هكذا محاولة.
شكل :7الفتات تناسب هوية املتجر سانت ترييز (عثامن)2014 ،
شكل :8خدمة ركن سيارات خاصة شعارها "أنتم يف أيد أمينة" (عثامن)2014 ،
-4سيادة الرمزية السياسية على اجملال العام بعيداً عن النطاق الحسي ،تتجلى السيطرة في شكلٍ رمزي في ٍّ شوارع بيروت ،الموضوع الذي سنعالجه في هذا الجزء اآلن .عام ،2002كتب سينيت “إن كل شخص يمتلك حقاً عاماً كدرع خفي ،وهو ٍ شكل :9خدمة ركن السيارات عىل الحق في أن ُيترك وشأنه” .هذه الفكرة ال تجد احتراماً في شوارع الرصيف املجاور ملقهى سانت ترييز حي (عثامن)2014 ، بيروت ،وتحديداً في الضاحية ،إذ ليس الحياد السياسي ‘حقاً’ ألي ٍّ من األحياء. تظهر الصورتان أعاله أعالماً سوداء مرفوعة على جزيرة مرورية وعمود الكهرباء في ذكرى اإلمام سلع خاصة الحسين (أهم شخصية سياسية/دينية في المعتقد الشيعي) .إذ مثلما تتحول األرصفة إلى ٍ بالمتاجر المتاخمة لها ،تأتي األعالم إلى البنية التحتية المحايدة أص ًال وتحتلها ،كما تحتل المساحات 136
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
المحيطة بها ،واسم ًة إياها على أنها ‘شيعي-ضاحية-حزب الله’. ال داعي للقول بأن األعالم ليست الشكل الوحيد لأليقنة التي ُي ْم َط ُر بها سكان الضاحية توضيح يومياً ،والشكل 11هو ٌ ٌ بسيط لتنوع التقنيات التي تتم شكل :10أعالم سوداء يف ذكرى اإلمام الحسني ،وهو شخصية رئيسية يف املعتقد الشيعي بها خصخصة المساحات العامة؛ سانت ترييز (عثامن)2014 ، ففي هذا التقاطع ،الشكل المركزي (على اليسار) هو الركيزة التي يستخدمها حزب الله كمؤشر موسمي لالحتفاالت الشيعية –حالياً ذكرى وفاة النبي محمد -بينما في أعلى اليمين يمكننا رؤية قطعة من الورق المقوى مقتطعة على صورة لإلمام المهدي، ربما نُسيت من احتفالية ما خالل العام الماضي وربما تركت لتكون دلي ًال للمؤمنين في الملبس .عند الجزء األيمن السفلي يمكننا رؤية صورة من الورق المقوى لعماد مغنية ،قائد كبير في حزب الله تم اغتياله من قبل الموساد اإلسرائيلي عام .2007الموجة األخيرة من األيقنة ،ولسنا بحاجة لذكرها ،ذكرى مقاتلي حزب الله الذين سقطوا ويسقطون حالياً في الحرب األهلية السورية الحالية ،لن أتوسع في الحديث عن هذا ألنه ال يختلف عن باقي األساليب التي يتبعها حزب الله في الخصخصة الرمزية للمساحات العامة في الضاحية. كما ُذكر سابقاً ،فإن ظاهرة الخصخصة الرمزية تظهر في شكل أوضح في الضاحية وذلك كون مشروع وح من حيث الفجوة بين ‘حزب الله’ االجتماعي-العسكري هو األكثر طموحاً بين باقي األحزاب اللبنانية؛ َط ُم ٌ سريع أن الخصخصة الرمزية المجتمع الحالي والمجتمع المرغوب بتكوينه .مع ذلك ،فالشكل 12هو تذكي ٌر ٌ لألحياء هي ظاهر ٌة منتشر ٌة على نطاق بيروت ككل. تعتبر الخصخصة الرمزية تج ّلياً لالمساواة ألنها تقوم على فرضية أن بعض األفكار أعز من أخرى .ظهرت أعالم ‘الحزب السوري القومي’ أكثر من مرة في شوارع الضاحية لكن ظهورها في كل مرة لم يستمر أكثر من ثالثة أيام متتالية .كما يمكن الكالم في شكل مماثل عن أعالم ‘التيار الوطني الحر’ في مناطق تسيطر عليها القوات اللبنانية مث ًال. أقنعت أعوام الحرب األهلية السبعة شكل :11أيقنة دينية سياسية ألحد التقاطعات ،حارة حريك (عثامن)2014 ، عشر اللبنانيين باستحالة التوصل التفاق اجتماعي-سياسي ،حتى النقاش حول ما إذا كان لبنان عربياً أو فينيقياً قد توقف في شكلٍ كامل، حي قناعاته وتحول إلى اتفاقي ٍة صامت ٍة أن لكل ٍّ الخاصة .كما نجحت قاعدة النأي بالنفس حتى اآلن بالحؤول دون الحرب األهلية ،ولكنها تقوم بذلك عن طريق خنق النقاش الفكري العلني، والذي هو ركيز ٌة ال غنى عنها للوصول إلى العمومية التي تحدث عنها هابرماس (سينيت، 137
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
ماذا تقول وسائط النقل يف بريوت حول سياساتها
.)2008األهم من ذلك فالوضع الحالي في لبنان يحصر إمكانية الخالف األيديولوجي ما بين األحياء-الطوائف وليس ضمنها ،ما يس ّهل عملية خنق األصوات المعارضة ضمن الحي-الطائفة الواحدة ،األمر الذي يذكرنا بما ورد في مذكرة سينيت “االنسجام يمكن اكتسابه فقط على حساب التنوع” (.)1990 األمر األكثر أهمي ًة هو أن الخصخصة الرمزية ٌ عالمة من عالمات الالمساواة للمساحات العامة هي ألنها تفترض أن الفكرة المطروحة بحد ذاتها هي أهم من حق المواطن في أن يترك وشأنه .لهذا الطرح اعتر ٌ اض وجيه ،هو أن “حق المواطن أن يترك وشأنه” محال، ٌ مليئة بالرموز واإلشارات وذلك ببساطة ألن أي مدينة ً في شكل يجعلها تتدخل في شأن المواطن ،رغما عنها، وهذا يتطابق ربما مع ما جاء في مالحظة پنيالوسا “إن شكل :12تكتل من األيقونات السياسية حول بريوت .الصور الالمساواة تتخ ّلل كل شيء حولنا لدرجة عالية ال نعود الثالثة يف األعىل Aو Bو :Cالقوات اللبنانية (حزب مسيحي مييني) ،الصورتان يف الوسط Dو :Eتيار املستقبل (حزب سني معها قادرين على التمييز بين األمور الحتمية واألمور مائل لليمني) ،يف األسفل إىل اليمني :Fالكتائب اللبنانية (حزب التي يمكن تغييرها” ( .)2007ولكن الرد على هذه األمور مسيحي مائل لليمني) .يف األسفل إىل اليسار :Gالحزب القومي السوري (حزب علامين مييني) .الصور التي مل يص ّورها املؤلف المنتشرة يكون برفض الخضوع لألمور الحتمية ،واإلصرار تم أخذها من املدونات التالية :مرشبية ،كيوي إنفو ،فوتو على اعتبارها أموراً قابلة للتغيير حتى يثبت العكس .وال بريوت ،تايباد ،وبريوت-نتسك. شك أن منطقاً كهذا ممكن أن تنتج منه مساحات عامة ٌ ٌ مفرطة في الحيادية .ولكن ما يقترحه پنيالوسا في سياق المساواة ،وما أقترحه أنا مفرطة في المساواة أو في سياق الحيادية ،هو ليس االنتقال من الصبغات اللونية المختلفة إلى البياض الساطع ،بل معاملة المواطن كشريك في صنع المدينة .بعبارة أخرى ،فإن رفضي لتحميل المساحات العامة ش ّتى األيقونات السياسية ال ينبع من ازدرائي للسياسة باعتبار أنها ‘تل ّوث’ المساحات العامة ،بل ينبع من اعتبار أن ربط السياسة بالمشهد الحياتي اليومي يؤدي لتشويه االثنين في آنٍ معاً. مراجع البحث:
• Al Dour, Amer. Public Transport In Lebanon: A Proposal for Reforming the Jitney System: A Case Study of Beirut (Beirut: )American University of Beirut MA Thesis، 2005 )• Aoun, Alisar. Traffic and Transit in Beirut, Lebanon (Beirut: American University of Beirut MA Thesis، 2005 • Berry, I. et al. « l'entre- deux » Des politiques institutionnelles Et des dynamiques sociales: Liban، Maroc، Algérie، Mauritanie )(Tours: programme de recherche PRUD، 2004 )• Fukuyama, Francis. The End of History and the Last Man (New York: Maxwell Macmillan International، 1992 )• Peñalosa, Enrique. The Endless City (London: Phaidon Press، 2007 )• Sennett, Richard. The Conscience of the Eye (New York: Norton & Company، 1990 )• Sennett, Richard. The Fall of Public Man (London، Penguin Books، 2002 )• Sennett, Richard. “The Public Realm”، The Blackwell City Reader (Hoboken: Wiley-Blackwell، 2008 • Wood, E., 2000. The Emotional Benefits of Insurgency. In: J. Goodwin, J. Jasper & F. Polletta, eds. Passionate Politics: Emotions and Social Movements. Chicago: University of Chicago Press, pp. 267 - 302.
138
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
تيار العبث
عالء الدين العالم❊
بني الفلسفة واملسرح اخلالصة: لطاملا ساهمت الحروب والثورات يف قلب النظم الفكرية ،واالجتامعية ،والسياسية يف املجتمع ،وأزاحت األفكار الرئيسية إىل الهامش ،واستبدلتها مبا كان هامشياً قبلها ،ومام ال شك فيه أن هذا التغيري الذي يصيب بنية املجتمع يفرز بدوره تيارات فكرية وثقافية جديدة نابعة من روح املرحلة الجديدة ،وناتجة عن أثر التغري يف كل من املجتمع والفرد عىل حد سواء .كونها من أهم الحركات التي أثرت يف تاريخ أوروبا املعارص إن مل نقل أهمها ،ساهمت الحرب العاملية الثانية يف تجديد بنية املجتمع األورويب وتغيري مفاهيمه وقلب كثري من املعتقدات واملسلامت التي احتلّت املركز يف حياة اإلنسان ريادي ،ليس يف تغيري املجتمع األورويب وحسب ،بل يف تغيري بنية العقل األورويب األورويب قبل الحرب .وكان لها دو ٌر ٌّ بحيث التفت اإلنسان األورويب إىل عوامل هذه الحرب ومسبباتها ،وإىل نتائجها الكارثية التي دمرت أوروبا وقتلت أكرث من أربعني مليون نسمة ،ما شكّل صدمة للعقل األورويب بهذا الكم من الوحشية التي مارستها عليه آليات الحرب وحممها .كان لهذه الصدمة دو ٌر ٌ فعال يف إفراز العقل األورويب ألفكار جديدة وفلسفات معارصة توازي مرحلة ما بعد الحرب وتتجاوب مع متطلباتها الفكرية ،فنشأت مدراس فلسفية كان أبرزها الفلسفة الوجودية ورائدها جان بول سارتر، كام نشطت تيارات فكرية كانت قد بذرت بذورها األولية قبل الحرب وأزهرت بعدها ،ومثالها البنيوية مع روادها كلود ليفي شرتاوس يف األنرثوبولوجيا ،وروالن بارت يف النقد األديب ،أيضا نشطت الحركة النسوية يف أوروبا بعد الحرب مطالبة بحقوق املرأة يف املجتمع ومساواتها مع الذكر ومن روادها سيمون دي بوفوار .وال نغايل يف القول إن أحد أهم التيارات الفكرية التي كانت نابعة من آثار الحرب العاملية الثانية املتمثلة بصدمة اإلنسان األورويب وفشله يف درء اآللة اإلجرامية التي نشطت يف الحرب ،هي تيار العبث الذي قام عىل أرضية عجز اإلنسان األورويب وذهوله من آثار هذه الحرب الرضوس ،فخصائص العبث -التي سنتوقف عندها يف شكل تفصييل الحقاً -والتي متيزت بالالمعقولية والخروج عن كل األمناط الفكرية السائدة آنذاك مل تكن إال رد فعل عىل هذا الكم الهائل من الخراب والدمار املادي واملعنوي الذي منيت به أوروبا بعد الحرب ،إذ وقف اإلنسان األورويب أمام هذه الجدارية املليئة بصور الخراب والدمار عاجزاً مذهوالً كافراً بكل مسلّمة ،ومؤمناً بــ ‘عبثية’ الحياة وال معقوليتها. ❊ خريج كلية اآلداب ،قسم اللغة العربية بجامعة دمشق .طالب يف املعهد العايل للفنون املرسحية ،قسم الدراسات املرسحية بدمشق .عمل يف صحف محلية داخل سوريا (سكرتري تحرير مجلة ‘الكفاح’ الفلسطينية سابقاً ،وصحايف يف جريدة ‘ترشين’ سابقاً) ،إضافة إىل صحف عربية مثل ‘السفري’ اللبنانية، و‘الحياة’ اللندنية ،و‘العرب’ اللندنية.
139
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
متهيد: بحث يف دقة املصطلح ِب أتت كلمة عبث في معجم لسان العربَ “ :ع َب َث َعب َثاً خ َل َط الشيء بعضه ببعض ،و َع ِب َث َع َب َثاً لَع َ وهزل واستخف”((( ولعل المعنى الثاني لكلمة العبث هو األقرب لمصطلح ‘العبث’ الذي ُيطلق على هذا َ التيار الفكري والفني .فالعبث يأخذ معناه من ال معقوليته وال جدواه ،وهذا ما يشبه الهزل واللعب من حيث انتفاء الجدوى عن هذين الفعلين .وللوقوف أكثر على دقة المصطلح ،أي مصطلح العبث ،وجب علينا البحث عن الترجمة الدقيقة لكلمة absurdالتي تترجم غالباً إلى العربية بمعنى العبث أو الالمعقول؛ ولعل عقالنية الالمعقول ،تتضح لنا أكثر لو حاولنا فهم مدلوالت هذه الكلمات -على ضوء المعاني الشائعة للكلمتين العربيتين كغيرهما من الكلمات فقدت معناها الحقيقي األصلي -وذلك أن كلمة ( absurdالتي على أساس معناها األصلي وصف ذلك المسرح بها) هي في أصلها الالتيني تعني الشيء المتنافر ،غير المتناغم ،غير المتوافق ،أو غير المنسجم .وبذلك يصبح ذلك الشيء -أياً كان -غير معقول وعبثياً .أما على وجه التحديد ،فإن الشيء غير المعقول هو وضع اإلنسان في الكون الذي نحن فيه كجزء من جزء صغير جداً من مجموع الذرات((( .اعتماداً على ما سبق ،يكون الشيء العبثي هو“ :العالقات غير المتوافقة. وبالتالي ،فإن الشيء غير المتناغم أو المتنافر وغير المنسجم هو :وضع اإلنسان مع نفسه المليئة بالتناقضات التي يصعب التخلص منها بدون المعرفة”(((. والجدير بالذكر هنا هو ترجمة البعض لكلمة absurdبـ ‘المحال’ بدالً من العبث أو الالمعقول ،وال يخفى أن مثل هذه الترجمة تتصف بالضعف والبعد عن مقاربة المعنى الدقيق ،فالمحال ال يمت لالمعقول بصلة ،وال يمكن لكلمة محال أن تعبر عن هذا التيار الفكري وما يحمله من أفكار المعقولية تؤكد الجدوى الفعل اإلنساني وعبثيه وجوده. 1ابن منظور ــ لسان العرب ــ تحقيق :عبد السالم عبد العزيز ــ املكتبة التنويرية ــ لبنان ــ الطبعة األوىل. 2بيكيت ،صموئيل ــ خمس مرسحيات تجريبية ــ ترجمة وتقيم :نادية النبهاوي ــ الهيئة املرصية العامة للكتاب ــ 1992 3املرجع السابق ص22
140
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
هذا فيما يخص دقة تعريب المصطلح ،أما فيما يخص معنى مصطلح العبث ودالالته ،فنرى صفة العبثي والالمعقول “تستعمل للداللة على كل ما هو غير منطقي .أما كلمة العبث فتستعمل للداللة على نوع من أنواع الكتابة المسرحية ظهر في الخمسينيات من هذا القرنُ .يعتبر الناقد اإلنكليزي مارتن إيسلن M. Esslinأول من أطلق تسمية مسرح العبث ،وذلك في كتابة ‘مسرح العبث’ ،وقد جمع تحت هذه التسمية كتابات يونسكو وبيكيت وبينتر وجينيه”(((. نستخلص مما سبق أن أدق تعريب لكلمة absurdهو ‘العبث’ ،كونها الشائعة في التعبير عن هذا التيار الفكري والمسرحي من جهة ،وكون مفردة ‘عبث’ تختزل بداخلها معاني الالجدوى والالمعقول .وتجدر اإلشارة هنا إلى بعض األخطاء في استخدام مفردة العبث بحيث صار يطلقها العوام على كل فن ال يخضع لضوابط منطقية وال يلتزم بمسؤولية محددة ،وهذا من سبيل الخطأ الشائع. العبث كتيار فلسفي يخال للبعض أن تيار العبث ما هو إال تيار مسرحي يتمثل بأعمال كل من صموئيل بيكيت ويوجين يونيسكو ،ولعل السبب في ذلك الشهرة الواسعة لألعمال المسرحية التي ُوسِ مت بهذا النوع من المسرح، السيما مسرحية بيكيت ‘في انتظار غودو’ .لكن في حقيقة األمر نجد أن للعبث بذوراً فلسفية موغلة في القدم ،تتمثل في بعض األساطير اليونانية القديمة التي تعرضت لمفهوم العبث -ولو أن الكلمة لم ترد في شكل مباشر -وع ّدته جوهر حياة اإلنسان وصفته المالزمة ،وأكبر مثال على هذه األساطير هي ‘أسطورة سيزيف’ .إن احتقار سيزيف لآللهة ،ونأيه عن الموت ،وسعيه للتمتع بالحياة دفع باآللهة اليونانية للحكم عليه بحمل صخرة كبيرة إلى أعلى الجبل ،ومن ثم رميها إلى األسفل ،ومن ثم حملها إلى األعلى ورميها إلى األسفل ،وهكذا دواليك .إن هذه األسطورة تؤكد التفات العقل اليوناني الذي اختلقها إلى عبثية الوجود اإلنساني ،فكل إنسان ما هو إال سيزيف يحمل صخرة أحالمه وأهدافه و ُرؤاه التي ما تنفك عن السقوط ،وال يقنط سيزيف/اإلنسان من إعادة ال َك َّرة موقناً وراضياً بهذه العبثية وخاضعاً لها. أسطورة سيزيف “الالجدوى نقيضة األمل”((( ،قد تكون الجملة السابقة أبسط جمل كامو في كتابه المعنون ‘أسطورة سيزيف’ ،وأكثرها تعبيراً عن معنى الالجدوى .فإن العقل األوروبي -كما ذكرنا سابقاً -تعرض لصدمة وضعته أمام حقيقة ال مفر منها ،وهي حقيقة الحرب الدامية .إن هذا الكم الهائل من الدمار والقتلى أفرز حالة من اإليمان بالجدوى الفعل اإلنسان وعبثيته في الحياة ،وبذلك ظهر تيار العبث مؤكداً عجز اإلنسان عن مواجهة قدره العبثي ،وعن مواجهة “المعقولية العالم” كما يعبر عنها كامو .ويمكننا القول أن كتاب كامو هذا كان الحجر األساس لفلسفة العبث بعد الحرب العالمية الثانية ،إذ يؤكد كامو فيه أن “هذا العالم غير معقول ،ولكن الالجدوى تمكن في مواجهة الالمعقول”((( ،فالعالم عند كامو يتأرجح على طرفي نقيض من ال جدوى الفعل من جهة ،وال عقالنية العالم من جهة أخرى. 4الياس ماري ،قصاب حسن حنان :املعجم املرسحي ،تقديم سعد الله ونوس ،دار نارشون ،الطبعة األوىل ،بريوت.1997 ، 5كامو البري ــ أسطورة سيزيف ــ ترجمة :أنيس زيك حسني ــ مكتبة الحياة ــ لبنان ــ بريوت ــ .1983 6املرجع السابق ص54
141
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
يبحر كامو في ‘أسطورة سيزيف’ معبراً عن معنى الالجدوى ،ويضعها موضع العقدة بين العالم واإلنسان ،فالالجدوى “تعتمد على اإلنسان قدر اعتمادها على هذا العالم ،وفي الوقت الحاضر فإن الالجدوى هي الرابطة الوحيدة بينهما”(((. فكامو يرى مزيداً على ذلك أن الالجدوى هي العقدة التي تصل اإلنسان بالعالم ،هي صفة ال يتصف بها اإلنسان وحسب ،بل حتى العالم المحيط بنا كموجودات بشرية يتصف بهذه الالجدوى ،وهي طبيعة متأصلة به “إن ّ اللجدوى ليست في اإلنسان وليست في العالم ،وإنما في وجودهما معاً ،والالجدوى هي ((( الرابطة الوحيدة التي تجمع بينهما اآلن” .بهذه الكلمات يؤكد كامو على أن الالجدوى ما هي إال رابطة تجمع اإلنسان وما يحيط به من العالم ،بل هي الرابطة الوحيدة كما يقول ،فاإلنسان في فلسفة العبث ال يمكن له أن يتصل مع العالم إال من خالل الالجدوى ،وهو ،أي اإلنسان ،ليس جاه ًال بال جدوى فعله ووجوده ،بل هو مدرك لها أ ّيما إدراك ،وأبرز مثال على ذلك يسوقه كامو ،هو أسطورة سيزيف وما فعلت به آلهة األولمب ،كونه حارب الموت ،وكره اآللهة ،وسعى للحياة “إن المحال المطلق عند كامو هو شخصية سيزيف األسطورية الذي بسبب احتقاره لآللهة ،وكراهيته للموت ،وعاطفته نحو الحياة ،حكمت عليه اآللهة أن يدحرج حجراً بال نهاية إلى قمة الجبل ،وما أن يصل إلى القمة حتى يندفع الحجر مرة أخرى هابطاً إلى السفح من جديد”((( .ينصب اهتمام كامو في سيزيف على اللحظة التي يهبط فيها سيزيف أسفل الجبل ويعي مصيره العبثي ،وتأخذ هذه اللحظة أهميتها عند كامو من كون وعي سيزيف في هذه اللحظة لقدره يبدأ بقبوله ،رافعاً الصخرة إلى أعلى الجبل ،وال يتخيل كامو عذاباً أعظم لسيزيف سوى أمله في النجاة. بذلك كان كتاب ألبير كامو ‘أسطورة سيزيف’ أحد أهم الكتب التي ن ََّظ َر ْت للعبث .وحاول كامو من خالله تحويل فكرة ‘الالجدوى والالمعقولية’ إلى تيا ٍر فلسفي ،يرى اإلنسان موجوداً بشرياً محكوماً بالالجدوى ،وليس ‘محكوماً بالحرية’ كما رآه سارتر بفلسفته الوجودية. الغريب وكاليجوال لم يقتصر تج ّلي فلسفة العبث عند ألبير كامو على كتابه ‘أسطورة سيزيف’ ،بل نراه واضحاً أيضاً في كل من روايته ‘الغريب’ ومسرحيته ‘كاليجوال’ .ففي رواية ‘الغريب’ يجعل كامو من بطل روايته المثال األفضل عن حتمية الالجدوى في حياة الموجود البشري ،إذ يتضح جلياً في العمل مدى االنفصال الحاصل بين بطل الرواية وبين عالمه المحيط ،ما يؤكد فكر ًة ما َّ انفك كامو عن ترديدها تلخص شعور اإلنسان بالعبث وإدراكه ّللجدوى وهي“ :إن الشعور بالعبث هو انفصال بين اإلنسان وحياته”( .((1وبذلك يؤكد كامو من خالل فلسفة العبث؛ على أن إدراك اإلنسان -وهو إدراك حاصل ال محالة على حد تعبير كامو- لالجدوى التي تحيط به ولالمعقولية العالم الذي يعيش فيه يعمق شعوره بعبثية الفعل والوجود ،ما يساهم في انفصال الفرد عن حياته .إن االنفصال الذي يقصده كامو ليس االنفصال الـ َم َرضي القائم على العزلة عن ٌ انفصال ضمني مبطن ناتج عن شعور اإلنسان بالعبث ،فـ “العبث أو المجتمع الواصل ح َّد التوحد ،بل هو 7 8 9 10
املرجع السابق ص 56 املرجع السابق ص 77 مريوفيتش ديفيد زين ،كوركوس ألن ــ أقدم لك البري كامي ـ ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ــ املرشوع القومي للرتجمة ــ القاهرة ــ .2002 املرجع السابق ص47
142
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
المحال بحث ال طائل تحته من أجل المعنى في كون يخلو من الغرضية”( .((1إن ما يهتم به كامو أساساً هو االتفاق مع العبث أو المحال ألن ذلك يفسر ثقل وغرابة العالم المرعبة كما يخبره كل موجود بشري. ويشرع كامو من خالل روايته ‘الغريب’ إلى إبراز هذا الصراع القائم بين رغبة اإلنسان في الوضوح والتجلي وال معقولية العالم التي تصدمه على الدوام ،وال َيسِ ُم كامو هذا الصراع بالعبثية فحسب ،بل يجد أن هذا الصراع الالمتناهي بحد ذاته هو العبث عينه “إن ما هو محال أو عبث هو المواجهة بين معنى الالمعقول والرغبة العارمة في الوضوح التي ترن في أعماق الموجود البشري”( .((1إن تركيز كامو على فكرة العبث في روايته ‘الغريب’ دفع كثيرين للقول بأنها من أهم أعماله األدبية التي تعرضت لفلسفة العبث وشرعت في تفسيرها ،وهذا ما قاله كاتبا كتاب ‘أقدم لك ألبير كامو’ أن كامو “لم ُي َو ِّصف العبث بطريقة مناسبة في أي مكان أكثر مما وصفه في الرواية التي كان يحملها في حقيبته”( ،((1وهنا يقصد رواية ‘الغريب’. وتجدر اإلشارة بنا في ختام الحديث عن عمل كامو هذا أن مورسو بطل رواية الغريب ُيوضع في اللخيار ،ووضع كامو بطله في ّ ّ اللخيار هو خير مثالٍ على أمرين؛ األول حتمية العبث بالنسبة للموجود البشري ،والثاني هو مناقضة فكرة سارتر القائمة على الخيارات المتاحة أمام اإلنسان ،والتي تجعل الحرية حرية اختيار ما أكون -من الصفات األصيلة للكائن البشري.ومثلما رأيناه في كل من ‘أسطورة سيزيف’ و‘الغريب’ ،نرى العبث واضحاً وجلياً في مسرحية كامو األشهر ‘كالجيوال’ التي تروي قصة ملكٍ طغى لما رآه من الجدوى الحياة وعبثيتها .فدافع القتل عند كالجيوال ليس المال ،فهو مترف ،وليس السلطة ،كما ‘ماكبث’ فهو ملك ،بل دافع القتل الوحيد عند كاليجوال هو إيمانه بالجدوى الفعل اإلنساني وال معقولية الحياة المعيشة؛ “نستطيع استنباط العبث عند كامو في كاليغوال ،فهذا الملك الذي يلتفت إلى ال جدوى الحياة ويتصرف على أساسه معتمداً كامو في مسرحيته هذه على مقولة دستوفسكي :إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح لإلنسان”(.((1 وهكذا نلحظ التزام كامو في أعماله الثالثة السابقة فكرة العبث ،وتأكيده حتميتها سواء كطبيعة الموجود البشري أو طبيعة العالم الذي يعيش فيه هذا الموجود ،فالعبث عنده هو المقدمة المعطاة في كل تجربة حديثة ،شعور مزعج قبل كل شيء ،شعور بالتناقض وليست سوى بداية إلدراك الحياة؛ معناها ونتائجها. مسرح العبث “يمكن تفسير ظهور العبثية الفرنسية المفاجئ على أنها ردة فعل عدمية على الوحشية وغرف الغاز والقنابل الذرية التي شهدتها الحرب ،لقد كشف مسرح العبث عن الجانب السلبي من وجودية سارتر ،وع ّبر عن بؤس وعقم عالم بدا دون أهداف”( .((1بهذه الكلمات يفتتح ج.ل .ستيان في كتابه ‘الدراما الحديثة بين 1 1 12 13 14 15
املرجع السابق ص49 املرجع السابق ص80 املرجع السابق ص45 املرجع السابق ص 105 ستيانج.ل .الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق ،ترجمة :محمد جمول ،منشورات وزارة الثقافة ،سوريا ،دمشق1995 ،
143
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
النظرية والتطبيق’ الفصل المخصص عن مسرح العبث مؤكداً الفكرة القائلة بأن مسرح العبث ما هو إال رد فعل إبداعي ناتج عن الكم الهائل من الوحشية والدموية التي ظهرت في الحرب العالمية الثانية .كما ذكرنا سالفاً فإن اإلنسان األوروبي وجد نفسه فجأ ًة بمواجهة هذا الكم من الدمار والدم ،فما كان منه ّإل أن وقف مذهوالً مؤمناً بعبثية الحياة كافراً بسلمية العلم ونتائجه ،ومظ َل ًال بحالة رهيبة من الكآبة كان أهم مفرزاتها مسرح العبث. يظن المرء غير العالم بالعبث وظروفه ومنتوجاته اإلبداعية ،والقارئ غير الداري لمسرح العبث، ٌ ٌ خاوية خالية من األحداث ،وشخصياتها كلمات مقتطعة في شكل عشوائي، أن مسرحية العبث ما هي إال ٌ ال تحمل أي معنى حقيقي ،وك ّتابها ما هم إال ٌ ثلة من المذهولين من آثار الحرب العالمية الثانية ،وجدوا ضالتهم في هذا النوع من الكتابة المسرحية الذي ال َين ُُّم ّإل عن رعون ٍة واستسهالٍ في الكتابة .ال ريب أن أصحاب هذا الرأي هم ناظرون سطحيون للمسرح في شكل عام ،ولهذا النوع المسرحي في شكل خاص؛ فبعيداً ع ّما تحمله كثي ٌر من مسرحيات العبث لكل من بيكيت ويونيسكو من مضامين فكرية عالية ،تحاكي جوهر الوجود اإلنساني وتنطلق من عالقته مع الخارج لتقدم رؤي ًة فلسفي ًة محضة ليس بالسهل فهمها، بعيداً عن هذه األمور ،تتميز المسرحية العبثية ببنية جديدة مغايرة ومخالفة لكل البنى المسرحية التي سبقتها وتلتها ،ما جعل لمسرح العبث خصوصية يتميز وينفرد بها ،إذ “تقع المسرحية العبثية ضمن التراث الرمزي ،كما كانت خالية من أي عقدة منطقية أو تشخيص بأي معنى تقليدي ،فشخصياتها تفتقر للدوافع الموجودة في الدراما الواقعية وبهذا الشكل يتعمق إحساسها بالعبثية ،كما يعمل غياب الحبكة على إبراز رتابة وتكرارية الزمن في القضايا اإلنسانية ،وال يزيد الحوار في شكل عام كونه سلسلة من الكليشيهات المفككة التي ت َُح ِّج ُم المتحدثين إلى مجرد آالت ناطقة ،وهذه المسرحية ال تحاكي الظرف اإلنساني بل تحاول تصويره في أسوأ أحواله من خالل صور ساخطة بقصد تحرير الساذج من أوهامه وتوجيه صدمة للقانع بواقعه”( .((1ولذلك يمكننا اعتبار مسرحية العبث إحدى أهم األدوات التي تسعى لوضع اإلنسان أمام واقعه الوجودي إن صح التعبير. وأهم ما يميز هذه األعمال المسرحية ،هو ن َْح ُوها نحواً جديداً لم َت ْن ُح ُه ٌّأي من الفنون األدبية السابقة ،فدائماً ما كنا نلمس في األدب والشعر في العالم تلك الحدود الحادة والقوالب الجاهز واالتصال المباشر والعميق مع الواقع ،هذا االتصال الفج هو ما ابتعدت عنه مسرحية العبث ،فهي ت َُم ُّس َك دون أن قوالب فكري ًة جاهزة ،ودون أن تحمل َ تقدم َ ٍ مقوالت فكري ًة وفلسفي ًة وسياسي ًة واضحة ومباشرة ،بل لك لك َ هي تتضمن أفكاراً أعمق وأبعد قرا ُرها جوهر الوجود اإلنساني .ويمكننا تلخيص بعض المحاور الرئيسية في مسرح العبث بالتالي: أوالً“ :االغتراب التام لإلنسان ووحدته في كونٍ يناصبه العداء ،ويبدو كأنه ينكر عليه حق الوجود، ٍ فمسرح العبث يقدم لنا شخصيات منبوذ ًة المنتمي ًة لَ َف َظ ْتها الحيا ُة”( .((1إن االغتراب المقصود هنا ليس االغتراب الماركسي المتمثل باغتراب العامل عن حقه ،وال االغتراب بمفهوم كولون ولسون القائم على اغتراب اإلنسان عن المجتمع الذي يوجد به ،بل المقصود هو االغتراب كما رأيناه عند مورسو بطل رواية عالم تحكمه ّ ‘الغريب’ لكامو :اغتراب الموجود البشري المتميز ّ اللمعقولية .وهنا يظهر األثر باللجدوى عن ٍ 1 6املرجع السابق ص338 17صويلحة نهاد ،التيارات املرسحية املعارصة ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،مكتبة األرسة ،القاهرة1997 ،
144
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
المتبادل بين فلسفة العبث عند كامو ومسرح العبث عند كل من بيكيت ويونيسكو ،وأهم ما يذكر في هذا السياق هو األثر غير المباشر للفيلسوف األلماني مارتن هايدغر في هذا الجانب من فلسفة ومسرح العبث .فما يعبر عنه هايدغر في كتابه ‘الكينونة والزمن’ وبخاصة نظريته المسماة ‘التواجد هناك’ يشكل أرضي ًة فلسفي ًة ص ّلب ًة قامت عليها فلسفة العبث في االغتراب .إذ تتلخص نظرية ‘التواجد هناك’ بـما معناه “إن الموجود البشري يجد نفسه مرمى بين اآلخرين وما يحيط به ،فمنذ إدراكه األول يحاول اإلنسان أن ٍ سمات يالئم نفسه مع اآلخر-الغريب ،وتتحول هذه المحاوالت للتالؤم -التي غالباً ما تتسم بالفشل -إلى أصيل ٍة في الموجود البشري تساهم بشكل رئيسي في وجوده”( ((1يمكننا استنباط ذات االغتراب من كالم هايدغر السابق وإن لم يصرح به بشكل مباشر ،فوجود اإلنسان بين محيط غريب عنه تماماً ،ومحاولته الدؤوبة للتالؤم مع هذا المحيط ،تشكل نوعاً من اغتراب اإلنسان ع ّما حوله ،اغتراب يؤثر في وحدة إنسان القرن العشرين وعزلته عن اآلخر. ثانياً“ :فكرة ّ اللجدوى التي تسيطر على كل شيء ،فالعبث يرى أن كل األفعال التي يقوم بها اإلنسان ال طائل منها وال جدوى”( ((1كذلك نلمس هنا التأثر التام لمسرح العبث بفلسفة العبث التي طرحها كامو في ‘أسطورة سيزيف’ ،فشخصيات مسرح العبث ال تفعل ،وإن فعلت ففعلها الجدوى له ،وأبرز مثال على ذلك هو فعل انتظار فالديمير واستراجون لغودو في مسرحية ‘في انتظار غودو’ لبيكيت ،إذ أهم ما يميز فعل االنتظار هنا هو ال جدواه. ثالثاً“ :ترتبط فكرة ال جدوى الفعل بفكرة ال جدوى اللغة في مسرح العبث ،فاإلنسان في مسرح العبث يتكلم ال لشيء ،بل ليخدع نفسه بلعبة التواصل ،وليهرب باإلحساس المرعب بالخواء الكامل من حوله”( .((2وأبرز مثال على نظرة رواد مسرح العبث ل ّلغة هو الحوارات التي اشتملت عليها كل مسرحيات العبث .إذ نجد في مسرحية العبث حضوراً جديداً ل ّلغة ،فهي ليست ال ّلغة كأداة للتواصل البشري وفهم اآلخر ،بل ما هي إال مجموعة من الكليشيهات يرددها شخصيات المسرحية على سبيل الكالم ال التواصل، بمعنى أنه وفي كثير من األحيان ال تلمس أي اتصال لغوي بين شخصية وأخرى في مسرح كل من بيكيت ويونيسكو ،وهذا ما يكرس فكرة رواد مسرح العبث عن عجز ال ّلغة عن التعبير ،وهذا ما سنشرع في تفصيله ومناقشته الحقاً. ال تشتمل هذه الميزات على كل ما يميز العبث كتيار مسرحي معاصر ،ولكنها تقدم صورة بانورامية سريعة عن أهم ميزات العبث وأهم خصائصه .ولو حاولنا االلتفات إلى بعض نقاط التالقي واالختالف بين كل من مسرح العبث وفلسفة العبث لوقفنا على بعض ما قاله مارتن أسلن في كتابه ‘دراما الالمعقول’ حيث عقد أسلن مقارنة بين أسلوب مسرح العبث وبين العبث عند كامو وسارتر“ :بينما سارتر وكامو يعبران عن محتوى جديد بأسلوب تقليدي قديم ،تجد أن مسرح العبث يذهب خطوة أبعد من ذلك بمحاولته تحقيق وحدة بين تصوراته األساسية والشكل الذي يصب فيه تلك التصورات .بمعنى آخر إن مسرح سارتر وكامو أقل مالئمة كتعبير عن فلسفة سارتر وكامو من الناحية الفنية كما هو متميز من 1 8هايدغر مارتن ،الكينونة والزمن ،ترجمة وتقديم فتحي املسكيني ،مراجعة إسامعيل مصدق ،دار الكتاب الجديد املتحدة ،ليبيا ،بنغازي، الطبعة األوىل2012 ، 19صويلحة نهاد ،التيارات املرسحية املعارصة ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،مكتبة األرسة ،القاهرة1997 ، 20املرجع السابق ص.135
145
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
الناحية الفلسفية عن مسرح العبث”(.((2 صموئيل بيكيت ال يخفى عن القاصي والداني أن أحد أهم رواد مسرح العبث وأشهرهم هو المسرحي األيرلندي صموئيل بيكيت ،فال يذكر مسرح العبث إال وذكر بيكيت والعكس أيضاً ،ال سيما مسرحيته الشهيرة ‘في انتظار غودو’ .وكغيره من مبدعي أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية ،تب ّنى بيكيت فلسفة الالجدوى ووسم العالم بالالمعقولية ،وعكس هذا التبني على نصوصه وأفكاره ،بحيث أضفى على مسرحه صفات جعلت منه تياراً مستق ًال بحد ذاته .وتفادياً للتكرار ،فإن كل ما ذكر سابقاً من صفات لمسرح العبث ينطبق على مسرحيات بيكيت المتقدمة منها والمتأخرة .وأهم ما ُيذكر هنا هو التناقص الكمي لمسرحيات بيكيت، وأقصد هنا بالتناقص الكمي ليس تناقص عدد المسرحيات المكتوبة في مراحل بيكيت المتأخرة ،بل تناقص حجم المسرحية ،إذ يلحظ الفرق الكمي مث ًال بين مسرحيته ‘في انتظار غودو’ ومسرحياته التجريبية الخمس .وتفسر د.نهاد صليحة التناقص الكمي الذي أصاب مسرحيات بكيت المتأخرة على أنه “لقد أدرك بيكيت أن الرؤيا العبثية رؤية عدمية تؤدي بالضرورة إلى انتفاء القول والفعل من الحياة ،لذلك يلحظ المتتبع ألعماله الدرامية أن هذه األعمال تتقلص في أحجامها تقلصاً اضطرادياً مع مرور الوقت حتى ال تكاد تشغل بضع صفحات”(.((2 عكس رؤي َته للغة على إن أهم ما يميز مسرح بيكيت هو لغة هذا المسرح؛ بمعنى أن بيكيت َ مسرحه ،فهو يرى أن اللغة عاجزة عن التعبير عن كل المشاعر اإلنسانية واألفكار .لذلك نرى شخصياته تتحدث بلغة غريبة ال تواصل فيها وال انسجام ،يسودها قطع غير مبرر ،عاكس ًة بذلك رؤية كاتبها عن اللغة “وتبلغ عدمية بيكيت الفكرية أقصى درجاتها في تلك المسرحيات التي ينفي فيها ال ّلغة تماماً ليركز على وحدة اإلنسان في الوجود في كون يناصبه العداء ،وعلى عجزه التام عن الفعل ومثال ذلك نصوص ‘بال كلمات’ ...ويتبين من هذا النص أن بيكيت قد وصل في التشكك من قدرة ال ّلغة على إحداث التواصل اإلنساني ،وفي فعاليتها كأداة تفكير في عالم يخلو من المعنى ،إلى نقطة النفي الكامل لوجودها ،أي إلى نقطة الصمت المطبق ،وهو هنا يوظف شك ًال مسرحياً معروفاً ،وهو المايم توظيفاً جديداً إذ يجعله أداة (((2 تعبير بليغة عن كفره بال ّلغة في إطار عبثية الوجود”. ويتضح لنا من هذا أن بيكيت تبنى -بقصد أو دون قصد -رأي رائد الظاهراتية ومؤسسها ،الفيلسوف األلماني إدموند هوسرل ،الذي رأى إن “الوجود األول-الخالص ال لغة فيه ،فالوجود األول صامت واللغة (((2 جلي في مسرحيات بيكيت ،فاللغة أعجز في المرتبة الثانية” .إن رأي هوسرل في اللغة يظهر في شكل ّ عن التعبير ،والوجود الخالص ال لغة فيه ،وبذلك يكون بيكيت في رؤيته للغة قد انحاز لهوسرل وأيده في فكرة عجز اللغة عن أن تصاحب الوجود في جوهره ،وخالف بذلك رأي هايدغر عن اللغة المتمثل بعبارته الشهيرة “اللغة بيت الوجود”. 2 1 22 23 24
اسلن مارتن ،دراما الالمعقول ،ترجمة عبد القادر التلمساين ،سلسلة من املرسح العاملي ،الكويت ،العدد رقم ،19الطبعة الثانية صويلحة نهاد ،التيارات املرسحية املعارصة ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،مكتبة األرسة ،القاهرة.1997 ، بكيت صموئيل ،خمس مرسحيات تجريبية ،ترجمة وتقديم ناديا البنهاوي ،الهيئة املرصية العامة للكتاب1992 ، هورسل أدموند :فكرة الفينومينولوجيا ،ترجمة :فتحي انقزو ،املنظمة العربية للرتجمة ،بريوت ،الطبعة األوىل2007 ،
146
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
يوجني يونيسكو “يعود الفضل ليونيسكو في االعتراف بأول عرض مسرحية عبثية صريحة بعد الحرب .فقد كانت ‘المغنية الصلعاء’ عام .1948وفيها يقتصر عمل الزوجين على الجلوس والتحدث بكليشيهات تكاد ال تحمل أي معنى ،وهذا ما يعتبر برأي المؤلف مأساة اللغة التي تقدم في شكل رمزي التفاهة الغرائبية لحياتهما الزوجية الخالية من الحب .تعبر الشخصيات عن آلية الحياة التي نعيشها دون تفكير”( ((2نستنبط مما سبق أن يونيسكو كان له ذات الرأي الذي كان قد تبناه بيكيت بما يخض موضوع اللغة ،فاللغة عنده ،كما عند بيكيت ،عاجزة عن التعبير عن دواخل النفس البشرية .وهذه الرؤية للغة التي اتسمت بها أعمال يونيسكو هي التي ساهمت في جعل نصوصه تقف جنباً إلى جنب مع نصوص بيكيت في ريادة مسرح العبث .لم يكن يونيسكو مجرد ها ٍو لمسرح العبثّ ، ومطلع عابر على أفكار العبث الفلسفية ،بل تبناها بشكل عميق ودافع عنها بشراسة ،سواء من خالل أعماله التي كانت توغل بالعبث مع تقدمها ،أو من طريق مقاالته التي نظر فيها لهذا النوع من المسرح. أبرز مثال على تنظير يوجين يونيسكو لمسرح العبث ودفاعه عنه على اعتباره كنوع مسرحي جديد وليس مجرد موضة كما اتهم ،هو رده على الصحفي كينيت تيتان حين هاجم مسرح العبث واتهم رواده بأنه ليسوا أصحاب رسالة إنسانية “كان واضحا أن يونيسكو ك ّون فلسفة ذات شأن عن العبث ،حيث أثار ضجة عام ،1958في رده على الصحافي البريطاني كينيت تيتان الذي كتب (إنه ليس لهذا المؤلف المسرحي رسالة أو التزام) ...كان لرد يونيسكو تأثير كبير إذ يقول فيه :ال عالقة للفن بالعقيدة .لكنه يتبنى وسائله الخاصة التي تمكنه من الفهم المباشر لما هو حقيقي”( .((2إن هذا المقتبس يؤكد تبني يونيسكو الكامل لتيار العبث والدفاع عنه في وجه من اتهمه بخل ِّو المضمون والفكرة وبالشكل الفارغ .ومن المفارقة الساخرة أن هذا النوع عومل في المسرح المصري على أنه موضة و ّلى زمانها ،ومن ذلك ما ورد في مقدمة مسرحية ‘ياطالع الشجرة’ لتوفيق الحكيم إذ كتب في مقدمة المسرحية إن “مسرح ّ اللمعقول ليس سوى موضة ظهرت في الستينيات وانتهى عصرها ،وأنه ما كتب مسرحيته ‘يا طالع الشجرة’ إال بهدف تغطية المسرح المصري بذاك اللون من التأليف؟!”( .((2إن مثل هذه اآلراء التي ترى في مسرح العبث موضة ليس ّإل ،ال يمكن فهم سبب قولها ّإل بعدم فهم أصحابها لمسرح العبث وبجهل تفاصيله ومكامن اإلبداع والفكر فيه. هارولد بنرت لم يكن هارولد بنتر كاتباً مسرحياً ينتمي لمسرح العبث ّ واللمعقول بنفس طريقة بيكت ويونيسكو. فالقارئ لمسرح بنتر يلحظ مدى الفرق في بناء النص المسرحي بين بنتر وبين بيكيت ويونيسكو ،ولعل أول اختالف بارز بين بيكيت وبنتر هو أن األخير “رفض ،على العكس من بيكيت ،التخلي عن اإلطار الخارجي الواقعي في أعماله ،ونسج دراماه من التناقض الحاد بين عقالنية الواقع الظاهرية وبين جوهره 2 5ستيان ج.ل ،الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق ،ترجمة محمد جمول ،منشورات وزارة الثقافة ،سوريا ،دمشق1995 ، 26املصدر السابق ص 362 27بكيت صموئيل ،خمس مرسحيات تجريبية ،ترجمة وتقديم ناديا البنهاوي ،الهيئة املرصية العامة للكتاب1992 ،
147
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
العبثي”( .((2ففي حين ال نلمح في كل أعمال بيكيت أي ملمح واقعي ولو كان عابراً ،سواء من طريق اللغة أو الديكور أو الحدث ،نجد عند بنتر في جل مسرحياته هذا اإلطار الخارجي الواقعي الذي يحمل بجوهره العبث كجوهر للوجود اإلنساني .فعلى سبيل المثال هناك فرق واضح بين لغة كل من شخصيات بيكيت ويونيسكو ،وشخصيات بنتر .فاللغة عنده ال تتميز بنفس الحدية في القطع والشرذمة والتشظي التي نقرؤها عن بيكيت ،بل دائماً ما يعتمد بنتر على لغة ليست واقعية حياتية لكن فيها شيء من التواصل البشري ،عارضاً من خالل هذه اللغة ما يريد قوله عن جوهر اإلنسان العبثي وجوهر العالم الالمعقول .لكن هذا ال يعني أن موقف بنتر من اللغة ُينافي موقف بيكيت أو يدحضه ،بل على العكس نجده ينظر إلى اللغة ال سيما في أعماله المتأخرة ذات النظرة التي ينظرها بيكيت لها “ليس فقط باعتبارها أداة عقيمة توهم اإلنسان بالتواصل مع اآلخر ،بل باعتبارها أداة قهر وتسلط”( .((2كذلك فإن االختالف بين بنتر وبيكت لم يكن اختالفاً جوهرياً رغم أن بنتر كان له ما يم ّيزه عن بيكيت ،إال أنه بقي مديناً له ومتأثراً به ،وهذا ما نستنتجه من كالم الناقد ج.ل.ستيان عن تأثر بنتر بيكيت ،إذ يقول “بنتر كان يعتبر بيكيت أعظم كاتب في أيامنا ،وقد تجلى تأثره ببيكت من خالل ديكور بنتر البسيط واعتماده الحوار البسيط العفوي العرضي في بعض مسرحياته المبكرة ...إال أن موهبة بنتر الفذة تعود إلى هذا الغموض الموجود في حواره في شكل يميزه عن غيره”(.((3 عود على بدء ،تبين لنا أن العبث سواء كتيار فلسفي كما عند كامو ،أو كنهج مسرحي كما عند كل ٌ (((3 من بيكيت وبنتر ويونيسكو ،كان نتيجة ردة فعل إبداعية على حالة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان بمثابة حامل فكري للمرحلة التي ظهر فيها ،ومثّل بذاته حالة نهوض ثورية-فكرية من ركام وخسارات الحرب العالمية الثانية .كذلك لم يرتبط العبث بمرحلة ما بعد الحرب العالمية فقط ،ولم يقتصر كموضة دارجة في منتصف القرن الماضي ،بل تمكن من خالل بنيانه الفكري والمسرحي الذي درسناه سابقا من حصد مقعد بين األنواع المسرحية والفلسفات الخالدة ،ففي حين كانت ال ّلغة في أوروبا تنفرد بعلم بذاته (تبدت بذوره مع الشكالنية الروسية ،ومن ثم البنيوية ،وفيما بعد في التفكيك على يد جاك ديريدا، وتنشط وتتطور كعلم مستقل له حوامل فلسفية أبرزها رؤية مارتن هايدغر للغة) قدر مسرح العبث على طرح رؤية مغايرة ومناقضة تماماً ل ّلغة ،مدل ًال على فشلها وعجزها وتحولها إلى أداة تسلط كما رأينا عند بنتر ،مستنداً على أرضية فلسفية ال تقل قيمة عن التي استندت عليها كل من البنيوية والتفكيك في جعل اللغة علماً .الحال ذاته فيما يخص تيار العبث الفلسفي الذي تمكن من طرح نفسه وبقوة كفكر مغاير لما طرحه سارتر من حرية االختيار ،وجدوى الفعل اإلنساني .وهذا إنْ دل على شيء يدل على أن تيار العبث، بشقيه الفلسفي والمسرحي ،سيبقى موجوداً على ساحة العقل البشري ،وسيبقى العباً رئيسياً في لعبة جدل العقل في جدوى فعل اإلنسان ووجوده أو عدمه ،وسيظل هذا التيار من الفكر هو السائد في زمن الحروب واالقتتال بين البشر. 2 8 29 30 31
ستيان ج.ل ،الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق ،ترجمة :محمد جمول ،منشورات وزارة الثقافة ،سورية ،دمشق1995 ، صويلحة نهاد ،التيارات املرسحية املعارصة ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،مكتبة األرسة ،القاهرة1997 ، ستيان ج.ل ،الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق ،ترجمة :محمد جمول ،منشورات وزارة الثقافة ،سورية ،دمشق1995 ، تجدر اإلشارة إىل الخطأ الحاصل يف دراسة كل من بيكيت ،ويونيسكو ،وبنرت عىل أنهم كُتّاب ينتمون إىل مرسح العبث وحسب ،إذ متكن كل من هؤالء يف االنفراد بصيغ مرسحية مختلفة ،ما يتوجب عىل الباحث يف مرسح أي منهم ،االنطالق من خصوصية كل منهم ،وعدم الترسع يف جمع نتاجاتهم املرسحية تحت مظلة واحدة فقط.
148
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
تيار العبث بني الفلسفة واملسرح
ملاذا العبث اآلن/هنا لم يكن لتيار العبث في المسرح والفلسفة حضوراً كبيراً في المنطقة العربيةِ ،ع ّلة ذلك تناقض أفكار العبث الفلسفية والفكر الديني الطاغي في البلدان العربية .فرغم تعرض المسرح العربي في عدة بلدان (سوريا ،تونس ،مصر ،إلخ) إلى مسرح العبث ،حيث ُع ِرضَ ت مسرحيات بيكيت ويونسيكو وبنتر في العديد من البلدان العربية ،إال أن ذلك لم يخلق مزاجاً عاماً عربياً فنياً أو فلسفياً يتقارب ومفهوم العبث السائد في أوروبا .أضف إلى ذلك أفول نجم العبث مسرحياً في أوروبا (بعد أن صار لكل من بيكيت ويونيسكو وبنتر خصوصية مسرحية تفرض على دارسهم أن يخرجهم من مظلة واحدة) .بيد أن ما تعيشه المنطقة العربية اليوم من فوضى وخراب ،أعادت العبث إلى الواجهة ،ال كتيار فلسفي أو صرعة فنية ،إنما كحالة شعورية أنتجتها الحرب وفرضها الموت المجاني ،حيث يتجلى عبث الوجود البشري وال معقولية الحياة في نظر اإلنسان العربي الذي دخل في دوامة من الصراع ال يعرف متى ينتهي أتونها ،فصار يبحث عن معنى أصيل للحياة ،أو عن هدف يحيا ألجله بعد أن دفع كل هذا الحجم الهائل من الدماء ومازال ،فصار كبطلي بيكيت فالديمير واستراجون ينتظر ‘غودو/الفرح ،الحرية ،األمن.’... من هنا ،نجد أن العبث يحضر اليوم في العالم العربي (اآلن/هنا) ال كصرعة فكرية أو تيار فلسفية، بل كمفهو ٍم حياتي متأصل في يومياتنا ،نلتمسه مع فجر كل يوم أحمر؛ مفهو ٍم قد ينتج فيما بعد نمطاً جديداً من التفكير العربي ،نمطاً يستمد أصالته من الحالة العربية الراهنة وليس قالباً جاهزاً نستورده من اآلخر.
البيبلوغرافيا
• • • • • • • • • •
ابن منظور ،لسان العرب ،تحقيق عبد السالم عبد العزيز ،املكتبة التنويرية ،لبنان ،الطبعة األوىل بيكيت صموئيل ،خمس مرسحيات تجريبية ،ترجمة وتقديم نادية النبهاوي ،الهيئة املرصية العامة للكتاب1992 ، إلياس ماري وقصاب حسن حنان ،املعجم املرسحي ،تقديم سعد الله ونوس ،دار نارشون ،الطبعة األوىل ،بريوت1997 ، كامو ألبري ،أسطورة سيزيف ،ترجمة أنيس زيك حسني ،مكتبة الحياة ،لبنان ،بريوت1983 ، مريوفيتش ديفيد زين وكوركوس ألن ،أقدم لك ألبري كامي ،ترجمة إمام عبد الفتاح إمام ،املرشوع القومي للرتجمة ،القاهرة2002 ، ستيان ج.ل ،الدراما الحديثة بني النظرية والتطبيق ،ترجمة محمد جمول ،منشورات وزارة الثقافة ،سورية ،دمشق1995 ، صويلحة نهاد ،التيارات املرسحية املعارصة ،الهيئة املرصية العامة للكتاب ،مكتبة األرسة ،القاهرة1997 ، هايدغر مارتن ،الكينونة والزمن ،ترجمة وتقديم فتحي املسكيني ،مراجعة إسامعيل مصدقن دار الكتاب الجديد املتحدة ،ليبيا ،بنغازي،الطبعة األوىل2012 ، اسلن مارتن ،دراما الالمعقول ،ترجمة عبد القادر التلمساين ،سلسلة من املرسح العاملي ،الكويت ،العدد رقم 19 هورسل أدموند ،فكرة الفينومونولوجيا ،ترجمة فتحي انقزو ،املنظمة العربية للرتجمة ،بريوت ،الطبعة األوىل2007 ،
149
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
الدولة السورية
وجدي وهبي❊
بني مصيدة املدى والقوة اخلالصة: كرثت اآلراء حول العالقة بني مدى الدولة (حجم وظائفها) ،وقوة الدولة (كفاءة مؤسساتها). فبعض االقتصاديني اعترب أن كفاءة املؤسسات تستلزم تخفيض حجم الوظائف التي تؤديها الدولة، بينام رأى اقتصاديون آخرون أن كفاءة املؤسسات تعتمد عىل حجم وظائف كبري للدولة ،فيام فريق ٌ ٌ انفصال بني حجم وظائف الدولة وقوة مؤسساتها ،ألن قوة ثالث للقول بأن هنالك ذهب ٌ املؤسسات تعتمد عىل عوامل متعددة؛ اقتصادية وغري اقتصادية .ولقد ظهرت دراسات عديدة تبني عدم وجود وصفة جاهزة نستطيع تطبيقها عىل جميع الدول .وقد بني فوكوياما يف كتابه بناء الدولة أنه ال عالقة حتمية بني املدى والقوة ،فقد انخفضت قوة الدولة ‘كفاءة مؤسساتها’ يف كل من روسيا واليابان عندما قلّصوا من حجم الوظائف التي تقوم بها الدولة ،بينام حصل العكس يف نيوزيلندا حيث ترافق انخفاض وظائف الدولة مع زيادة كفاءة مؤسساتها .فمتضادة املدى والكفاءة غري واقعية ،والسؤال الخاطئ لن يؤدي إال إىل إجابة خاطئة .فالوصول إىل األداء االقتصادي األمثل ال يكون باالختيار بني حجم وظائف أكرب أو مؤسسات أكفأ .ألن تقليص وظائف الدولة لن يؤدي بالرضورة اىل زيادة يف كفاءة مؤسساتها ،وكفاءة املؤسسات ال تعتمد عىل تقليص وظائف الدولة، بل عىل عوامل متعددة أهمها عوامل مؤسساتية .سنقوم بتسليط الضوء عىل العالقة بني حجم الدولة السورية وقوة مؤسساتها ،انطالقاً من دراسة حجم الوظائف التي تقوم بها الدولة ضمن ثالث مستويات :دنيا ،ومتوسطة ،وعليا .ودراسة قوة مؤسسات الدولة ضمن نفس املستويات السابقة ،معتمدين بذلك عىل معيار البنك الدويل –تقرير التنمية العاملية 1997-املقتبس من فوكوياما يف كتابه ‘بناء الدولة’ ،ومكتفني بوظيفتني من وظائف الدولة ضمن كل مستوى. ❊ يحمل إجازة يف االقتصاد من جامعة دمشق .يحرض حالياً رسالة ماجستري بعنوان ‘السياسات االقتصادية يف ضوء النظرية الكنزية’ .ويعمل كخبري يف مديرية البحث والتطوير يف الصندوق الوطني للمعونة االجتامعية يف سوريا.
150
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
أوالً :وظائف الدولة وظائف الدولة تاريخيًا لقد تطورت وظائف الدولة لتتالءم ومتطلبات المرحلة االقتصادية ،فكانت الدولة أول األمر مقتصر ًة على الدفاع الخارجي ،واألمن الداخلي والقضاء أي ‘الدولة الحارسة’ .ثم مرت بعدة مراحل من حيث التدخل في النشاط االقتصادي أو عدم التدخل ضمن فترات زمنية متعاقبة ،فشهدنا‘ :الدولة التدخلية’ بأشكالها المختلفة و‘الدولة الليبرالية’ .وضمن هذه األشكال المختلفة للدولة ،كانت وظائف الدولة تتغير للتوافق مع نمط الدولة السائد مع االنتباه إلى أن وظائف الدولة عموماً أخذت منحنى تصاعدياً –وفي الحاالت الليبرالية منحنى تنازلياً -من حيث توسع الدولة في الوظائف التي تقدمها لمواطنيها من أجل تحقيق مزيد من الرفاهية لهم ،ورفع مستوى معيشتهم باإلضافة إلى تحقيق العدالة االجتماعية. وظائف الدولة السورية
الوظائف الدنيا:
هي الوظائف األساسية التي ينبغي على جميع الدول القيام بها ،نظراً ألهميتها ومنفعتها المرتفعة. • توزيع الخدمات والمنافع العامة :الخدمة العامة“ :هي الخدمة التي منفعتها تجاوز المستفيد منها ،ويفيد منها الغير بالضرورة ،وال يصدق عليها مبدأ القصر”((( .وقد اتسع مفهوم الخدمة العامة مع ظهور ‘دولة الرفاهية’ وازدياد حجم الدولة ليشمل وظائف متعددة ،ولكن سنقتصر على أهمها وهي :تأمين المياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق ،حيث تقوم الدولة السورية بتأدية مهامها فيما يتعلق بتوزيع الخدمات والمنافع العامة.
1الببالوي ،حازم :دور الدولة يف االقتصاد ،دار الرشوق ،ص .23
151
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
• حماية الفقراء :تقوم الدولة السورية بحماية الفقراء وفق منهجيتين ،األولى :هي االستهداف الشامل لجميع أفرد الشعب السوري في تقديم الدعم التمويني لمادتي السكر والرز باإلضافة إلى بيع الخبز بأسعار مدعومة .الثانية :االستهداف المحدد من خالل الصندوق الوطني للمعونة االجتماعية ،حيث قدمت الدعم النقدي للشرائح األفقر في المجتمع ضمن أربع مستويات للدعم.
الوظائف المتوسطة:
• الضمان االجتماعي :تقوم مؤسسة التأمينات االجتماعية بتقديم راتب تقاعدي شهري للعاملين بعد انتهاء الخدمة ،وتقديم تعويض نقدي وفق شروط محددة ،باإلضافة إلى تواجد عدد من النقابات واالتحادات التي تقدم تعويض نقدي للعامل عند انتهاء خدمته. • تنظيم االحتكارات :رغم العديد من القوانين التي تنص على مكافحة االحتكارات ومعاقبتهاّ ،إل أنه ال قرار فعلي اتخذ في هذا الخصوص ،فيغلب على االقتصاد السوري احتكار القلة في جميع قطاعاته االقتصادية بدءاً بالشركات الكبرى وصوالً إلى سوق الهال .وقد تراخت الدولة عن القيام بوظائفها في هذا المجال فتركت القطاع الخاص دون تنظيم للسوق ودون أي تطبيق فعلي لمكافحة االحتكار.
الوظائف الناشطة:
• السياسات االقتصادية :تقوم الدولة السورية بسياسة الخطط الخمسية منذ ستينيات القرن الماضي ،ويعتبر التخطيط االقتصادي المركزي سم ًة أساسي ًة في سوريا ،باستثناء التحول الذي جرى في الخطة الخمسية العاشرة ،حيث تم االنتقال إلى التخطيط التأشيري .ويعد هذا نقطة تحول جوهرية في السياسة االقتصادية السورية .فالدولة السورية تقوم بتنفيذ وظائفها في ما يتعلق بالسياسات االقتصادية -من ناحية التخطيط -فكانت تقوم بالتخطيط المركزي بدءاً من الخطة األولى إلى الخطة التاسعة ،وانتقلت إلى التخطيط التأشيري بدءاً من الخطة العاشرة ،وهي ما زالت تمارس عملية رسم السياسات االقتصادية ولو نظرياً على األقل. • إعادة توزيع للثروة :شهد االقتصاد السوري حالة غياب لسياسات توزيع الثروة الممنهجة؛ سواء السياسات المحددة للتوزيع األولي للثروة أو التوزيع الثانوي ،واقتصر على تقديم الخدمات الصحية والتعليمية مجاناً وتوزيع السلع التموينية بأسعار مدعومة ،باالضافة الى دعم الخبز. أما السياسات المدروسة التي تفضي إلى إعادة توزيع الثروة لصالح تحقيق العدالة االجتماعية فكانت مغ ّيبة ،سواء السياسات النقدية أو المالية أو سياسات األجور. وكمثالٍ على ذلك :سنقوم بمقارنة مساهمة األغنياء وفئات الشعب األخرى في دفع الضرائب التي ترفد الموازنة العامة ،وذلك من خالل مقارنة الضرائب المباشرة (الضرائب على الدخل ،على األغنياء ،األكثر عدالة) و الضرائب غير المباشرة (الضرائب على االستهالك ،على جميع الشرائح ،غير العادلة) خالل الفترة الممتدة من 2000إلى :2008حيث يظهر لنا الجدول التالي ازدياد نسبة الضرائب غير المباشرة (على 152
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
الشرائح المختلفة) من %2.5من الناتج المحلي اإلجمالي الى ،%8.8وانخفاض الضرائب المباشرة ،كضرائب الدخل التي تتناسب مع دخل المكلف ،من %13من الناتج المحلي اإلجمالي الى .%6.5ويبين ما سبق غياب توج ٍه ج ّدي في اتخاذ سياسات اقتصادية تحقق العدالة االجتماعية(((. العام 2000 2001 2002 2003 2004 2005 2006 2007 2008
نسبة الضرائب غير المباشرة إلى الناتج المحلي (غير العادلة) 2.5 5.6 7.3 7.2 6.6 6.5 7.7 7.4 8.8
نسبة الضرائب المباشرة من الناتج المحلي (األكثر عدالة) 13 11 11 10 7 7 7 6.5
تقييم حجم وظائف الدولة السورية: يظهر لنا من التحليل السابق أن الدولة السورية تقوم بمهامها ضن المستويات الثالث ،ولكن في شكل مجتزأ ضمن كل مستوى .وقد صنفنا القيام بالوظائف ضمن ثالث تصنيفات :ضعيف ،ومتوسط ،وجيد. والجدول التالي يوضح مدى حجم وظائف الدولة: المستوى دنيا متوسطة ناشطة
الوظائف
القيام بالوظائف
توزيع الخدمات والمنافع العامة
جيد
حماية الفقراء
متوسط
الضمان االجتماعي
جيد
تنظيم االحتكارات
ضعيف
السياسات االقتصادية
متوسط
إعادة توزيع الثروة
ضعيف
2بيانات غري منشورة ،وزارة املالية ،منقولة عن محارضة السياسة الرضيبية يف سوريا ،الدكتور حسني القايض ،جمعية العلوم االقتصادية.2011/1/3 ،
153
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
الشكل البياني :وظائف الدولة السورية
توزيع الخدمات والمنافع العامة حماية الفقراء الضمان االجتماعي تنظيم االحتكار السياسات االقتصادية إعادة توزيع الثروة المجموع
التقييم
دنيا
جيد متوسط جيد ضعيف متوسط ضعيف 5
3 2
4
متوسطة
3 1
3
عليا
2 1
الجدول :التقييم الرقمي للوظائف
ثانيًا :قوة الدولة السورية (كفاءة مؤسساتها) تقاس قوة الدولة بقوة مؤسساتها ،وبقدرتها على تنفيذ المهام المطلوبة منها وتنفيذ وظائفها. • الخدمات األساسية :تعتبر الدولة السورية ذات كفاءة جيدة في تقديم الخدمات العامة ،فهي تقدم حجم خدمات كبير وبكفاءة جيدة ،فشبكة خدمات الصرف الصحي والكهرباء والماء تغطي نسبة كبيرة جداً من المدن والقرى السورية. • حماية الفقراء :لم تنجح الدولة السورية فعلياً في منع انتشار الفقر وازدياده،حيث ارتفعت خطوط الفقر كما يظهر الجدول التالي مما يدل على ازدياد انتشار الفقر وعدم القدرة على حماية الفقراء ،حيث وصلت نسبة الفقر حالياً الى %50من مجموع السكان(((: 3عام 2007 ،2004دراسة الفقر يف سورية .عام :2013تقديرات الباحث.
154
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
العام
اإلنفاق اإلجمالي
خط الفقر الغذائي
خط الفقر األدنى
خط الفقر األعلى
2004 2007 2013
3541 4467 12002.6
1012 1439 3866.5
1458 2183 5865.6
2052 3037 8160.2
عام 2007 ،2004دراسة الفقر في سورية .عام :2013تقديرات الباحث.
• تنظيم االحتكارات :تعتبر الدولة السورية ذات كفاءة ضعيفة في تنظيم االحتكارات ،حيث يشهد االقتصاد السوري انتشار كبير لهذه االحتكارات. • الضمان االجتماعي :إذا درسنا قدرة الدولة في تأمين الضمان االجتماعي من حيث العاملين في القطاع الحكومي لظهر لنا قدرة عالية من قبل مؤسسة التأمينات االجتماعية في تحقيق الضمان االجتماعي لجميع العاملين ،ولكن عندما ندرس العاملين في القطاع الخاص يظهر لنا ضعف مؤسسة التأمينات في هذا المجال ألن غالبية العاملين في القطاع الخاص غير مسجلين بالتأمينات االجتماعية ،ولم تستطع مؤسسة التأمينات االجتماعية – فعلياً -إلزام القطاع الخاص على تسجيل العاملين لديه بالتأمينات االجتماعية. • السياسات االقتصادية :بالرغم من الخطط الخمسية المتعاقبة التي تنفذها الدولة ّإل أن النتائج التي تمخضت عن هذه الخطط تعكس العجز في تنفيذ السياسات المرسومة ،وكمثال لذلك سنعرض الخطة الخمسية التاسعة(((: القطاع
المخطط
المنفذ
الفرق
الزراعة التعدين صناعات التحويلية ماء ،كهرباء صناعة بناء وتشييد تجارة نقل مال وتأمين خدمات
3.8 5.5 41.7 12.8 0.8 3.1 5.7 2 7.6 3.1
3.7 -7.7 18.6 3.9 -5 4.1 9.2 8 8.9 7.9
-0.1 -13.2 -23.1 -8.9 -5.8 1 3.5 6 1.3 4.8
يظهر لنا من الجدول ،وبمقارنة نسب التخطيط مع نسب التنفيذ في معظم القطاعات االقتصادية: 4هيئة تخطيط الدولة ،تقييم أداء الخطة التاسعة.
155
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
العجز عن تنفيذ السياسات المرسومة. النسبة المنفذة كانت أقل من المخططة في قطاعات :الزراعة ،التعدين ،الصناعات التحويلية. النسبة المنفذة أكبر من المخططة في قطاعات التجارة والخدمات والمال ،أي القطاعات التيتمثل الشرائح التي ينتمي إليها -المتنفذون ،مما يعكس أثر القطاع الخاص في تنفيذ وتوجيه السياسات االقتصادية. • إعادة توزيع الثروة :لقياس عدالة التوزيع سوف نعتمد ‘معيار جيني’ الذي يقيس العدالة االجتماعية ،حيث قدر بـ 0.35في عام 2009ويعتبر معدالً معتدالً ،ولكن إذا قارنا توزع اإلنفاق االستهالكي حسب مستوى الغنى ،يظهر لنا أن العشير األغنى يستهلك %28من االستهالك الكلي، والعشير األفقر يستهلك %3من االستهالك الكلي ،ما يعكس لنا ضعف المؤسسات وعدم قدرتها على تحقيق العدالة االقتصادية واالجتماعية. تقييم كفاءة املؤسسات السورية: يظهر لنا من التحليل السابق أن المؤسسات السورية مختلفة األداء ضن المستويات الثالث ،وقد ص ّنفنا أداء المؤسسات ضمن ثالث تصنيفات :ضعيف ،متوسط ،جيد .والجدول التالي يوضح كفاءة المؤسسات: المستوى دنيا متوسطة ناشطة
المؤسسات
كفاءة المؤسسات
توزيع الخدمات والمنافع العامة
جيد
حماية الفقراء
ضعيف
الضمان االجتماعي
متوسط
تنظيم االحتكارات
ضعيف
السياسات االقتصادية
ضعيف
إعادة توزيع الثروة
ضعيف
جدول يوضح كفاءة المؤسسات السورية
مخطط بياني يوضح كفاءة المؤسسات السورية
156
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
الدولة السورية بني مصيدة املدى والقوة
توزيع الخدمات والمنافع العامة حماية الفقراء الضمان االجتماعي تنظيم االحتكار السياسات االقتصادية إعادة توزيع الثروة المجموع
التقييم
دنيا
جيد ضعيف متوسط ضعيف ضعيف
3 1
ضعيف 4
3
متوسطة
2 1
2
عليا
1 1
جدول يوضح التقييم الرقمي للمؤسسات السورية
ثالثًا :العالقة بني حجم الوظائف وكفاءة املؤسسات يف االقتصاد السوري قوة المؤسسات ال تعتمد على حجم الوظائف بل على عوامل أخرى اقتصادية وغير اقتصادية ،رسمية وغير رسمية ،منها :مدى انتشار الفساد ،والعادات والتقاليد .وال يمكن ربط تحسن كفاءة المؤسسات بانخفاض حجم الوظائف التي تؤديها الدولة ،بل هي متعلقة ببنية هذه المؤسسات التي هي مستندة الى بنية الدولة ،ومن خالل دراسة العالقة إحصائياً –المستندة إلى التقييمات الرقمية في الدراسة أعاله- بين حجم الوظائف التي تؤديها الدولة السورية وقوة مؤسساتها ،تبين أن معامل ارتباط الرتب –سبيرمان- يساوي .+0.914اإلشارة الموجبة تدل على طردية العالقة بين حجم وظائف الدولة في سوريا وقوة مؤسساتها ،أما القيمة فمرتفعة ،وقريبة من الواحد ،ما يدل على وجود عالقة قوية بين المتغيرين ،وأن كفاءة المؤسسات وحجم الوظائف التي تؤديها الدولة يؤثران في بعضهما البعض ،ومرتبطان ببعضهما. بالنسبة لمعامل االنحدار فهو ،0.83أي أن نسبة تفسير المتغير األول للمتغير الثاني ،%83وهنالك %17 يعود لعوامل أخرى. (((
االستنتاج • هذا يعني أن حالة الدولة السورية ستكون مشابهة لحالة الدولة الروسية والدولة اليابانية ،التي أ ّدى تقليص الوظائف التي تؤديها الدولة إلى انخفاض في قوتها (قوة مؤسساتها). • العالقة الموجبة في الحالة السورية منطقية ،نظراً ألن قوة المؤسسات السورية مستندة إلى حجم وظائف محدد ،وانتفاء هذه الوظائف ،سيعني انتفاء هذه المؤسسات ،وقد ال يكون االقتصاد قادراً على االستعاضة عنها بمؤسسات أخرى غير حكومية. 5تعقيب مهم :معامل االرتباط غري ٍ كاف لتقييم العالقة بني متغريين بل هنالك محددات إحصائية أساسية أخرى للتثبت من صحة العالقة ،ومن املمكن عند التوسع يف الدراسة وأخذ وظائف أخرى للدولة أن تختلف النتائج .كام أن تغيري التقييامت لوظائف الدولة أو لكفاءة املؤسسات سيؤدي إىل اختالف معامل االرتباط واختالف النتائج .
157
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
جعل املكان عامًا:
دنكان توماس❊
فن الشارع يف ايران❊❊ اخلالصة: تبحث هذه املقالة يف الجدل الدائر حول مسألة الحيز العام يف إيران من خالل الرتكيز عىل فن الشارع املعارص (الغرافيتي) ،ففي الوقت الذي استحوذ فيه النشاط االحتجاجي للشباب اإليراين عىل االهتامم األكادميي ،اليزال فن الشارع منسياً .يف كل االحوال وبينام تبقى العديد من النشاطات الثقافية العارضة إما مقترصة عىل الحيز الخاص أو تترسب خفية إىل العلن ،يبقى فن الشارع مظهراً احتجاجياً علنياً يتم إنتاجه واستهالكه مبارش ًة ضمن الحيز العام املتاح جهاراً .مثل هذا النوع من التسلل يتيح املجال ألصوات متعددة مقموعة ليك متأل الفضاء العام ،حيث يتم إحضار القيم والهويات املهمشة واملستبعدة إىل العلن .كام أن ما يتيحه ذلك من إمكانية مشاركة جمهور املشاهدين يسهم يف إضعاف الحواجز الفاصلة بني العام والخاص ،بني املتاح والالمتاح ،بني ماميكن قوله وما الميكن التعبري عنه ،بالشكل الذي يُظهر محدودية ونسبية وهشاشة النظام السائد .ويُعتقد أن فن الشارع يُظهر تحوالت هامة يف مواقف الشباب اإليراين تجاه مسائل السلطة والهوية والحداثة منذ اندالع الثورة .تناقش هذه املقالة املسائل السابقة مد ّعم ًة مبجموعة من الصور.
❊ دنكان توماس Dunkan Thomasمرشح لدرجة الماجستير في سياسات الشرق االوسط في مدرسة الدراسات الشرقية واإلفريقية بجامعة لندن. يكتب حول السياسة في المنطقة ،وقد نشر في العديد من المواقع االلكترونية ،بما فيها ‘فير أوبزرفر’ و‘الشرق’. ❊❊ هذه الدراسة ترجمة للنص األصلي المرسل إلى مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوانMaking Space Public: Street Art in Iran :
158
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
مقدمة “يتم إنتاج وهيكلة الفضاء االجتماعي عبر الصراعات .بهكذا فهم تبدأ السياسة الديمقراطية بالتشكل في الحيز المتاح” (دوتشه)xxiv:1996 ، ٌ ومكبلة يتم عاد ًة تصوير الحياة في جمهورية إيران اإلسالمية على أنها مقيد ٌة في شكلٍ ميؤوس منه، بجمل ٍة من المطالب تفرضها ٌ دولة قمعية ُك ّلية القدرة .ولكن رغم القيود التي يفرضها النظام ،في إيران كما في غيرها ،تبقى الهيمنة غير كاملة ومشروعاً متطوراً يخضع للعديد من نقاط االختالف .لكن بينما يتزايد االهتمام بالممارسات الثقافية االحتجاجية اليومية للشباب اإليراني((( ال يزال فن الشارع مهم ًال إلى حد بعيد(((. على خالف أشكال االحتجاج الثقافي األخرى ،يتم إنتاج واستهالك فن الشارع مباشر ًة ضمن الحيز العام المتاح في شكل دائم ،حيث يمثل معارض ًة علني ًة وجذرية .وبالتالي يصبح المكان معرفاً بأنه ‘عام’ بكل ما للكلمة من معنى (أي يصبح مكاناً للتفكير النقدي والتبادل الرمزي غير الخاضع للرقابة ،تقطنه الـملكية التي تفرضها وتتنافس فيه العديد من األصوات) .وعلى النقيض من اإليقاعات ّ الموجهة وبنى ُ ً الحداثة الرأسمالية عموماً على الحياة المدنية ،يكتسب هذا الشكل من التحدي معانٍ أكثر أهمية عندما يمارس في الفضاء المؤدلج بصورة صارخة في الجمهورية اإلسالمية. ال يكشف فن الشارع فشل نظام الهيمنة في تعميم قيمه فقط ،بل يكشف أيضاً محدودية قدرة الدولة على القسر وممارسة السيطرة المكانية .هكذا يتم إخراج الرفض من الدوائر المهمشة واالستثنائية 1عىل سبيل املثال :نوشني ( )2005وروبرتسون ( )2012يبحثان يف املشهد املوسيقي تحت األرض يف إيران ،شهايب ( )2006يناقش الـ ‘بريكوالج’ الثقايف يف أمناط اللباس ،بيات ( )2010يبحث يف ‘سياسات املرح’ ،ومثياله فارزي ( )2006وبسمنجي ( )2005يستقصيان طيفاً واسعاً من املامرسات املامثلة .رسيربين وتارفه ( )2013يقدمان رمبا التحليل األحدث واألشمل حول هكذا أمناط. 2يتقاطع ‘فن الشارع’ مع الغرافيتي ،ولكنه يتاميز عنه ببعض النواحي .بينام يوصل األخري معاين مرتبطة مبجتمع معني ومكتوب وعادة غري متطور فنياً ،فإن السابق عادة يعتمد عىل الصورة أو الرمز ،ويسعى للتواصل مع رشيحة واسعة ،وأكرث اهتامماً بكرس الرتابة املدينية من ادعاء ملكيته الحرصية للمكان. راجع دي نوتو ( )2014ملناقشة املزيد من هذه التاميزات.
159
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
والحصرية فيصبح منقوشاً مباشر ًة ضمن عمارة المدينة كحقيقة ال يمكن تجاهلها خالل الحياة اليومية. ٌ قسم نظري ،وقسمان عمليان إلى حد كبير .أوالً ،أناقش هذه الدراسة مقسمة الى ثالثة أقسام؛ ٌ األهمية السياسية للممارسات الفنية ،قبل أن أدرس بشيء من التفصيل العالقة التي تجمع فن الشارع والحيز العام والنظام السياسي .القسم الثاني يناقش مسألة أدلجة الحيز العام في فترة ما بعد الثورة ،مع تركيز خاص على سياسات الدمج االنتقائي للغرافيتي الثوري وفن الشارع في المخيال الشعبي الرسمي. أخيراً ،أوضح الكيفية التي يعيق بها فن الشارع المعاصر النظام البصري المفروض ،ولماذا تسهم التطورات التقنية في جعل تلك اإلعاقة أكثر مقاومة لالحتواء والرقابة من قبل السلطة. توضح الصور الحديثة أيضاً تحوالً في المواقف من السلطة والمعايير السائدة والهوية الثقافية والحداثة -كل العمليات االجتماعية األوسع التي تسعى الدولة اإليرانية للتحكم بها (راجع أديب مقدم، .)2013يجعل فن الشارع هذا المسعى نحو التغير ‘عاماً’ بطريقة مميزة وفعالة.
القسم األول :فن املقاومة :1-1الفن كسياسة: تؤكد الطاقة والموارد التي تخصصها الدولة للفن ،سواء كداعم أو كمراقب ،قدرة هذا األخير على تدعيم أو مقارعة السلطة .وبنفس الطريقة فإن الفاعلين المعارضين يشيرون إلى قدرة الفن على الحشد اض أساسي :إن الفن ال يمثل والدفع نحو تغيير الوضع القائم .كالهما –السلطة والمعارضة-يشتركان في افتر ٍ السلطة فقط“ ،وإنما يشارك بفعالية في الصراع على السلطة” (غرويس ،)2008:3 ،ربما في شكل غير مباشر ولكن بالتأكيد “كفاعل يصوغ البنية التي تتشكل فيها المواقف من السلطة” (تريب.)2013:308 ، وبالتالي فإن أشكال ومحتوى وحدود الفن هي مناطق صراع تتشكل فيها الهيمنة –الوجه الرمزي للسلطة- ويتم تطبيعها وإعادة إنتاجها ،أو بدالً من ذلك قد يتم إخضاعها “للمساءلة واالختالف والتنافس والتداول والتفاوض والتغيير مع الزمن” (تالي .)1999:170 ،في بيئة تسلطية ،كتلك السائدة في إيران ،يؤ ِّمن الفن وسيل ًة إلنجاز هذا الصراع وعام ًال يتم من خالله سبر التحوالت في معايير القوة .وفق هكذا فهم للفن يغدو كم ْنت ٍِج لرمو ٍز ذات الفنان شخصي ًة سياسية؛ ليس بالضرورة كداعم للنظام أو كعض ٍو في طليع ٍة ثورية ،بل ُ ٍ مغزى فقط عندما ُيقرأ ضمن (وضد) نماذج التبادل الرمزي السائدة .كما كتب موف (“ )2007:7تلعب جميع الممارسات الفنية دوراً في تأسيس وصيانة نظام رمزي محدد أو في تحدي هذا النظام ،وذلك ما يمنح تلك الممارسات بعدها السياسي .الشأن السياسي بدوره ُيعنى بمسألة الترتيب الرمزي للعالقات االجتماعية ...وهنا يكمن بعده الفني” .وبصورة مشابهة فإن مفهوم رنسير لـ ‘توزيع المعقول’ يعتبر أن هيكلة النظام السياسي تتم عبر “ممارسات فنية تقدم سلوكيات معينة للمواطنين على أنها مجموعة الممكنات المتوفرة ...نظاماً من الحقائق المثبتة ذاتيا ...منظوراً مبنياً على ما ُيرى و ُيسمع وما يمكن قوله أو التفكير به او صناعته أو فعله” (رنسير.)2004:85 ، على هذا النحو ترسم القيود والضوابط المفروضة على الفن حدود النشاط الفكري ،وتع ِّرف مجال الممكنات السياسية واالجتماعية والثقافية .في هذه األثناء ،عندما يقوم الفنان النقدي بـ ‘إعادة توزيع’ 160
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
النظام الفني السائد وتوسيع “أطر اإلدراك والخبرة ،بدالً من تعزيز أو إبراز الرؤى السياسية حول التقسيمات االجتماعية القائمة” (باباستيرجادس ،)2006:19 ،فإن ذلك الفنان يماثل إلى درجة كبيرة تعريف سعيد ( )1994:11للمثقفين العا ّمين “الذين يشمل دورهم طرح أسئلة محرجة ومواجهة التشدد والعقائد الجامدة، وأن يؤدوا دور الشخص الذي ال يسهل تطويعه من قبل الحكومات أو المؤسسات” .سواء عبر شحن الطاقة التعبيرية للصورة برسالة معينة أو عبر تطوير فن راديكالي جديد ،فإن هكذا فنان يأمل بأن يتسبب بإحداث تحول في مفهوم النظام السائد ،ليصبح هشاً ونسبياً وتمكن منافسته ،بدالً من أن يكون طبيعياً وحتمياً وال تمكن مجابهته. كذلك قد يمارس الفن دوراً ب ّناءاً في إنتاج سرديات وهويات وتضامنيات جديدة،ـ ما يجعل احتكار وكسر احتكار اإلنتاج الفني قضي ًة جوهري ًة فيما يتعلق بتأسيس الهيمنة أو القضاء عليها. :2-1فن الشارع واحليز العام يؤدي فنانو الشارع هذا الدور بطريقة خاصة وربما فريدة من نوعها .كما يناقش بيات (،)2010 تفضل الدول –سواء كانت ليبرالية أم تسلطية – االستخدام السلبي للمكان ،وتدفع باتجاه أسلوب تفكير يعاد فيه إنتاج النظام السائد عبر النشاطات اليومية بصورة ال واعية .بوصفه نقطة تتكثف فيها القوى السياسية الحيوية واالنضباطية ،يأخذ الحيز العام دور “أداة لممارسة سيطرة وغلبة ورقابة الدولة” (دوتشه، .)1999:121ال يدار ذلك فقط بواسطة البنية المادية للمدينة وقدرة الدولة على اإلجبار ،وإنما أيضاً عبر سيطر ٍة ُم ْح َك َم ٍة تمارسها األنظمة الفنية. يعيق فن الشارع هذه السيطرة عبر جعل الصور والهويات والقيم المستثناة والمهمشمة مرئي ًة وواضح ًة للعلن .فقط عبر هكذا تدخالت يصبح المكان ‘عاماً’ بأي معنى كان ،ويعاد تعريفه بوصفه بيئ ًة عضوي ًة “تشكلت من خالل التفاعل واالندماج بين مماراسات متنوعة” (لدرت .)1986:122 ،هذه الممارسات ،كما الهمينة بحد ذاتها“ ،ليست ناجز ًة أو مغلقة ...بل دائماً قيد البناء” (ماسي )2005:9 ،فهي ٌ مفتوحة في وجه التنافس. بالنتيجة ملء المكان باألصوات المتعددة والمقموعة من قبل األنظمة ‘التمثيلية’ المسيطرة ،يوضح ويقر بانهيار القدرة التعبيرية لهكذا أنظمة (عدم قدرتها على تمثيل المجتمع بكليته ،أو حل تناقضاته ،أو غرس السيطرة الالمفكر بها واألساسية لمشروع الهيمنة) .عبر خلق مجالٍ لالغتراب“ ،لالعتراض واالنحراف... للمحرمات ...للممنوع ،لتجاوز المعايير والقيم السائدة” (كوتر ،دي رو وفان هايسبروك ،)2011:10،فإن فن الشارع يعيق فكرة المكان المسكون سلبياً ،وذلك عبر إدخاله لعناصر الالمتوقع والعفوي .تسعى المواجهة مع هكذا صور ،سواء قوبلت بالتقدير أو الرفض او الفضول أو الذهول أو التفكر ،إلى أن تستحث في المشاهدين التفكير النقدي واالرتباط وجدانياً باألمكنة اليومية ،وبالتالي مع القوى التي تبني وتشغل المكان وتتنافس عليه .بهكذا ارتباط يصبح المكان ‘عاماً’ ،والموضوع العام بدوره يصبح ‘سياسياً’ُ ،منتِجاً و ُمن َتجاً للبيئات االجتماعية (فكرياً وعاطفياً وتصورياً وفنياً ورمزياً). ال ينبغي أن تُرى الصور المدروسة أدناه كمجرد شواهد على الصراع حول تعريف ‘الحيز العام’ و‘النظام السياسي’ في إيران ،وإنما كجزء ال يتجزأ من ذلك الصراع .إذ يش ّكل الحقل الرمزي ساح ًة للتنافس، 161
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
ويعيق فنانو الشارع بصورة نشطة الهيمنة الحكومية والمؤسساتية على هذا الحقل .إن ك ًال من سعي النظام لرسم الصورة الطوباوية لثورة ،1979وكذلك فشل هذا المشروع في تعميم قيمه لتصبح ‘بدهيات’ حسب مفهوم غرامشي ،يدل على دور الصور العامة في البناء والهدم المستمرين للنظام المهيمن.
القسم الثاين :اجلمهورية اإلسالمية وأدجلة احليز العام ِ خال العالم :1-2جمتمع “ليست جمهورية إيران ،وال جمهورية ايران الديمقراطية ،وال جمهورية إيران اإلسالمية الديمقراطية، فقط جمهورية إيران اإلسالمية” (خميني وأرجومند .)1988:137 ،لخّ ص خطاب الخميني الى األمة ،عشية التحضير للتصويت على الدستور الجديد لعام ،1979رؤيته للمجتمع الجديد .لم يقبل إسالم الخميني أو “تقليد ال يكتنفه الغموض” (خميني .)1981:68 ،بنا ًء عليه ،وبينما انبثقت يتطلب مجتهدين إضافيين ،كونه ٌ الثورة نفسها من كوكب ٍة من الرؤى الراديكالية “الروحانية والعملية ،الدينية والعلمانية ،الغربية والشرقية، التقدمية واإلقصائية ،الحديثة واألصولية ،الثورية والرجعية” (أديب مقدم - )2011:255 ،تصور مهندسو نظام ما بعد الثورة “مجتمعاً خال العالم” (ختامُ ،)2009 ،م ّطهراً من العناصر المفسدة .بعيداً عن الفكرة األولية لـ “الغضب المسلم” (لويس )1990 ،يشكل هذا االندفاع للوحدة والنظام orderاستجاب ًة حديث ًة ومتطور ًة للواقع االجتماعي واالقتصادي والسياسي -مجتمع “يسعى بصورة يائسة نحو هيكلية ما” (باوفان)1992 ، في مواجهة التأثيرات التفكيكفية للحداثة الرأسمالية ،وفي حالة إيران ،الجشع االستعماري واإلمبراطوري(((. خاضع لإلدارة لطالما ش ّكلت السيطرة على ‘الحيز العام’ جزءاً من مشروع الدولة .فالسلوك العام ٌ الجزئية ،من خالل مراقبة “حركة الجسد ،ونبرة الصوت ،ومستوى الضحك ،وح ّدة النظرات” من قبل عمالء للدولة (بيات .)2010:143 ،كذلك يمارس المواطنون هذا اآللية على أنفسهم وعلى بعضهم البعض ،ما يقود إلى حال ٍة من القلق والشك والرقابة الذاتية ضمن ‘الحيز العام’ (فارزي .)2006 ،وكما كتب قاشاني– ثابت ( )2002:170عن النظام البهلوي ،وفي ظل الجمهورية اإلسالمية ،يبقى جسد الشخص “وسيل ًة لتطبيق السياسة الثقافية واالجتماعية” ،مع تجريد الرعايا من حق “تأكيد ذواتهم واالنحراف عن المعايير” .ورغم تعدد طرق المخالفة غير العلنية للمعايير المفروضة (راجع فارزي ،2006 ،شهابي ،2006 ،بيات،)2006 ، ٌ ٌ حوكمة ُت ْغ َر ُس في ‘الحيز العام’ فوكوية (((Foucauldian Governmentalityمعينة ،حتى لو كان ذلك االمتثال عبارة عن مجرد تأدية لما تدعوه ويدين ( )1999سياسة “كما لو .”as ifالحيز العام هو أيضاً المكان تجميع لقدرة الذي تستعرض فيه الدولة سلطتها المطلقة ،ف ُتن َّف ُذ هناك اإلعدامات وعقوبات الجلد .وكمركز ٍ الدولة السياسية الحيوية واالنضباطية والقضائية فإن ‘الحيز العام’ هو بالتالي أدا ٌة لتعريف الرعايا على المعايير المفروضة وعلى العواقب الوخيمة التي تترتب على مخالفة تلك المعايير .ورغم أن مستوى القسر 3كام أظهر العديد من الباحثني ،استبدلت الشيعية االنقالبية منافسيها األيديولوجيني واستوعبتهم حيث كان الخطاب الثوري الشمويل مبتكرا ً ومنتَجاً مركَّباً" :تقلي ٌد مخرتَع" (هوبسبون )1983ظهر من ،وتأثر بشدة بقربه من األيديولوجيات الغربية –خاصة القومية واملاركسية -كاستجابة ألزمة الحداثة االستعامرية .راجع دبايش ( ،)1993بروجردي ( ،)1996مرسبايس ( ،)2000وحدت (.)2002 4الحوكمة الفوكوية ترجمة للتعبري التايل Foucauldian Governmantalityوهو مصطلح طرحه الفيلسوف الفرنيس ميشيل فوكو يقصد به عدة أمور منها :األساليب التي تتبعها الحكومات إلنتاج مواطنني منسجمني مع سياساتها (هيئة التحرير).
162
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
نسبي في ظل خاتمي واآلن روحاني ،وعودة إلى الحماس قد تأرجح مع تعاقب اإلدارات السياسية (انفر ٌاج ٌّ ٍ منع صار ٍم ألي الثوري في ظل أحمدي نجاد) ،يبقى السلوك والتعبير العلني خاضعين لتقييدات شديدة ،مع ٍ إسالمي ومتماسك’ حيويةً شكلٍ من أشكال المعارضة العلنية .بالطبع تبقى رغبة الدولة في إنتاج ‘حي ٍز عا ٍم ٍّ بالنسبة الدعاءاتها بامتالك سلطة أخالقية وشرعية شعبية .يقوم اإلجماع السياسي واالجتماعي المفروض بتسخير الحيز العام وجعله أدا ًة إلعادة إنتاج األديولوجية الرسمية. :2-2فن الدولة وإنتاج الهوية تحققت سيطرة الدولة على ‘الحيز العام’ بصورة مذهلة في فترة ما بعد الثورة بفضل ما أنتجته من فنون .أكثرها شهر ًة هي الجداريات الضخمة التي تعرض شهداء وشخصيات دينية وصوراً وشعار ٍ ات مناهضة لإلمبريالية ،والتي “تروج وترسخ وتنشر المبادئ األساسية للجمهورية اإلسالمية” (غروبر .)2008:24 ،تسهم هكذا صور بتوسيع الجهاز االنضباطي للدولة ،مكون ًة بذلك الحيز العام الذي تسيطر عليه وتراقب فيه السلوك العام. كذلك دمجت الدولة ،أو ّ وظفت لصالحها ،الغرافيتي الثوري في صورة انتقائية .كما وضّ ح العديد من ُ الك َّتاب (راجع دباشي وشيلكوسكي1999 ،؛ سريبرني-محمدي ومحمدي ،)1994 ،كان الغرافيتي منتشراً جداً خالل الثورة ،شاغ ًال األمكنة والمعلومات المتداولة حول المظاهرات القادمة ،في الوقت الذي حملت ٌ مجال اللوحات أجندات قومية وماركسية ونسوية وديمقراطية إلى جانب أجندات إسالمية((( .نتج من ذلك أصوات متعددة .يلعب الدمج االنتقائي للغرافيتي الثوري، تعددي وحيوي ،تنافست وانعكست فيه بصري ٌ ٌّ ٌّ فني أحادي ،دوراً في الشرعنة ،حين ُي َق َّد ُم نظا ُم ما بعد الثورة كنتيج ٍة وتسخير هذه اللوحات لصالح نظا ٍم ٍّ مباشر ٍة وحتمي ٍة وعضوي ٍة للثورة ذاتها .توضح الحملة التي شنتها السلطات بالتوازي على كاتبي الغرافيتي وفناني الشارع (تريب )2013:273 ،أهميتهم لتحقيق السيطرة البصرية العامة. ٍ لوحات (بوسترات) تم خالل الثورة إنتاج الشكل :1هذه اللوحة ،أنتجت من قبل الحرس الثوري اإليراين، تعيد إنتاج غرافيتي ثوري عفوي كدعاية رسمية. لتيار ٍ ات أيديولوجي ٍة متنوعة في ورشات إحداث ٌ صحافة حر ٌة بكل معنى الكلمة: التغيير؛ بمقدور أي شخص المشاركة ،التي كانت غير موجهة كما المحتوى ...وكان كل شي ٍء يوزع بدون مقابل” (سريبرني-محمدي ومحمدي، .)1994:123بعد الثورة ،فرضت الدولة سيطرتها على تلك الورشات ،وصودر العديد من األعمال. اللوحات والرسومات “التي بدأت تجريبية وشخصية” تم بالنتيجة “تسخيرها ووضعها في خدمة االستخدام األيديولوجي ...لخلق هوية وذاكرة عامة” (غروبر .)2009:687 ،هذا 5ملجموعة من هذه اللوحات ،راجعhttp://www.floodgallery.org/postersweb.pdf :
163
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
االنتقال من الشعري إلى الوظيفي، من الالهرمي إلى المؤسساتي ،غ ّير معاني األعمال جذرياً ،حتى لو لم يتبدل محتواها .سواء كانت مصادر ًة من فنانين مستقلين ،أو ُم ْن َت َج ًة مباشر ًة من قبل الدولة ،تُستخدم الصور التالية من الغرافيتي لكسب قبولٍ شعبي: الشكل :2جدار غرافيتي ،فيه شعارات مناهضة للشاه وأمريكا وإرسائيل وروسيا ،إضافة لصور للخميني ورشيعتي. يعرض كالهما كفاً أحمر ،رمزاً للشهادة ،مطبوع ًة بدم متظاهر جريح ،إضافة إلى صور الخميني .كذلك يبين الشكل 1تغيير تسمية ميدان غاله إلى ‘ميدان الشهداء’ .بإعادة إنتاج هذه اللوحات كعناصر للدعاية الرسمية ،تقوم الدولة بتسخير وتجسيد فعل الشهادة نفسه .بينما يستحيل معرفة الغايات التحررية للشهداء الحقيقيين المتوفين ،فإن أولئك اللذين تعرضهم اللوحات الرسمية قد منحوا حياتهم للدولة اإلسالمية بصورة ال لبس فيها .وبادعاء ملكية الموتى وتوسيع شهادتهم عبر الزمان والمكان ،يغير الفن الرسمي معاني تضحياتهم كلياً :ما كان تعبيراً عن تضامنٍ في صراع ،غدا مطلباً سلطوياً لالمتثال والخضوع. يتكرر تكتيك التوظيف ذاته في األمثلة التالية: تعرض الصورتان نفس السطر المأخوذ من قصيدة لحافظ ،والذي أصبح الزم ًة ثوري ًة معروفة“ :عندما يغادر الشيطان ستدخل المالئكة” .في الظاهر يحتفل كالهما برحيل الشاه وعودة الخميني من المنفى .لم يصبح آية الله الشخصية الرمزية في الثورة ألن اإليرانيين شاركوا رؤيته للدولة اإلسالمية المستقبلية بصورة دقيقة ،بل على العكسَ ،ج ْم ُع ُه ألفكار الشكل :3يُقرأ يف الغرافيتي" :عندما يغادر الشيطان ستدخل املالئكة". متأثرة بالفكر الشيعي والقومية باإلشارة إىل الشاه والخميني ،بذات الرتتيب ،كان ذلك شعارا ً ثورياً مشرتكاً. طُيل فوقه جزئياً من قبل مؤيدي الشاه. والماركسية ومعاداة اإلمبريالية هو ما أكسبه تأييداً جماهيرياً “تماماً ألنه عنى أشياء مختلفة لمتنافسين مختلفين” (معدل .)1992وبالتالي، بينما كانت الصورة السابقة تخميني ًة وعفوي ًة أصبحت الصورة الالحقة الشكل :4احتفاالً بالذكرى الخامسة والعرشين النتصار الثورة، رجعي ًة ومحسوبة .وفي حين من تظهر هذه اللوحة دمج الشعار األعىل ،الذي يظهر يف األسفل واليسار ،يف دعاية الدولة. الصعب أن نعرف بدقة أي ‘خميني’ هو الذي يصوره كاتب الغرافيتي، تمجد اللوحات الرسمية المرشد األعلى للجمهورية اإلسالمية .أما الشكل ،4الذي أنتج بمناسبة الذكرى 164
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
رمزي محدد ،ومع طغيان الصور الضخمة الخامسة والعشرين للثورة ،فيستوعب الشعار األصلي في ٍ ترتيب ٍّ للخميني والعلم اإليراني ،تحولت األهمية الثورية للغرافيتي إلى إذعانٍ للنظام. وبتحول النقوش العابرة إلى صو ٍر ثابتة تصبح رموز التحرر إشار ٍ ات للهيمنة ،ويوضح استخدام الغرافيتي الثوري وفن الشارع هذا التوظيف بطريقة صارخة .استعمر هذا الفن الرسمي ‘الحيز العام’ُ ،م َح ِّوالً موقع للسيطرة .تماماً كما كانت الثورة وفنها متالزمين معاً (رام ما كان مؤخراً ساحة للتنافس والصراع إلى ٍ ،)2002:90كذلك خُ ِّص َص تأثير الصور العامة لصالح مشروع هيمن ٍة جديد.
القسم الثالث (تآكل الهيمنة واستعادة املكان) :1-3فن الشارع املعاصر يتدخل فن الشارع المعاصر في هذا المجال شديد األدلجة .ففي حين يخضع نظام الهيمنة في إيران لعدد ال يحصى من نقاط التنافس ،من شق صف النخب (أرجومند )2009إلى ‘اندفاع تعددي’ من األسفل لألعلى (أديب-مقدم ،)2013 ،يتميز فن الشارع بإحضار االعتراض مباشر ًة إلى الحيز العام اليومي. رغم الشعارات والصور التي زينت الجدران خالل الثورة ،يمثل فن الشارع المعاصر بوضوح شيئاً جديداً تماماً في إيران .فنياً ،يسهم الفنانون في ثقاف ٍة عالمي ٍة تصفها إرفين (“ :)2012:25مانيفستو عملي لألشكال المعقدة للعولمة والتهجين الثقافي وإعادة المزج التي أصبحت الحالية الطبيعية للحياة في مدن عالمية ومتشابكة” .يتحدى هذا االختيار الفني في صورة مباشرة الخطابات الرسمية حول ‘األصالة’ ،مب ّيناً الميل المتزايد لدى الشباب اإليراني “للتفكير في ما وراء األمة” (أبادوراي .)1996 ،في نفس الوقت ،يعبر العديد من الفنانين عن الرغبة في “تطوير نمط إيراني مميز قدر المستطاع”((( ،جاعلين من فن الشارع مجاالً هاماً لما يسميه روبرتسون (“ )1995العولمة على أسس محلية” .النموذج الفني المميز الناتج من ُ السكان “أن يتجاهلوا أو ببساطة أن ال يمتثلوا” للصورة الذهنية هذه العملية يعني أيضاً أنه بينما تع َّل َم الرسمية البالية (فارزي ،)2006:128 ،فإن فن الشارع يميز نفسه باستمرار عن ما حوله ،معززاً المشاركة التي نوقشت في القسم األول من هذه الدراسة .كذلك سهلت االتصاالت العالمية انتقال المعرفة بين المجتمعات الفنية ،متيح ًة للفنانين اإليرانيين أن يطوروا تقنيات معقدة للرسم على الجدران ،بما يفسح المجال لمزي ٍد من الصور المعقدة. تق ّلل تقنيات التخزين والنشر في العالم االفتراضي من تعرض فن الشارع المعاصر لمخاطر الحذف ببساطة في العالم الواقعي .يحدث االنتقال بين العالمين االفتراضي والواقعي باالتجاهين معاً :بينما يتم التصوير والتحميل في العالم الفيزيائي ،قد توزَّع تصاميم القوالب والملصقات في العالم االفتراضي ،كما يعاد تصنيعها في عدة أماكن في العالم الواقعي .بجمعه لالفتراضي والواقعي في سياقٍ واحد ،يحوي فن العمارة المكانية هذا على عدة جوانب متعلقة بالوصول والنشر تجعل من قدرة الدولة على االحتواء أقل سهولة .عندما تظهر الصور على المواقع االلكترونية والمدونات ووسائل التواصل االجتماعية فإنها تستحث نقاشات سياسية وفنية ،األمر الذي يزيد من حجم تأثيرها و ُينتج منتدى آخر للحوار العام. 6مقابلة مع فناين ‘طهران راتز’ ،متوفرة عىلhttp://www.youtube.com/watch?v=I_pFQdJYXf0 :
165
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
نشاهد تحوالً ملحوظاً في المحتوى أيضاً ،فالصور التي تظهر اليوم في شوارع إيران ليست أيديولوجية. إذ ال تعكس تحوالً اجتماعياً شام ًال ،وال ترتهن ألي برنامج ثوري؛ إسالمي أو قومي أو شيوعي .بدالً من ذلك ٌ ٌ وغامضة في الغالب .وعندما تحمل نقداً واضحاً فإنها تفضح إقصائية النظام الحالي، مغرقة في فرديتها فإنها بدالً من أن تسعى لتأسيس نظا ٍم جديد .االبتعاد عن السرديات الشمولية ،الفردية ،اعتماد التالقح والتدوير من خالل شبكات التبادل؛ كل ذلك يشير إلى االنتقال بعيداً عن األيديولوجيات الحديثة والحقبة الثورية نحو ما بعد حداثة أكثر نقدية ،ما ينسجم مع اقتراح أمثال بيات ( )2007ودباشي ( )2008في أن الثورة ملغى اإليرانية ،للمفارقة ،قد افتتحت عصراً ‘ما بعد إسالمي’ .وفي حين كان الغرافيتي الثوري إما موظفاً أو ً من قبل الدولة ،فإن التميز الفني والمحتوى غير األيديولوجي ودورة الحياة المتنقلة لفن الشارع المعاصر تجعل منه أكثر مقاوم ًة لهكذا مصير. :2-3إعادة تعريف املكان: تختصر الصورة التالية العديد من هذه االتجاهات .بينما يعيد فوراً للذاكرة أسلوب ‘العالمات’ الذي ((( ُط ِّور بداي ًة في نيويورك في الثمانينيات ،نمط التراكب المتكرر يشابه تقليد سياه-مشق Siyah Mashq أسلوب ٌّ هجين يجمع فناً عالمي النزعة مع جذو ٍر محلية: وخط في الخط اإلسالمي .النتيجة هي ٌ ٌ يعلق الفنان المعروف بـ “ ”A1oneعلى هذا التهجين: “إنني مرتبط ببلدي وثقافتي بعمق ...أياَ شكل :5كلمة "حقيقة" مكتوبة بأسلوب شديد التعقيد، من قبل الفنان ،A1oneمبزج للمحيل والعاملي .أمناط الخط ،طهران. يكن ما أفعله فإنه يأتي من هكذا خلفية ،إضافة لبعض التراكيب المرغوبة/ غير المرغوبة اآلتية من العالم عبر اإلعالم .أحاول أن أبحث في التراث في البصري لشعبي .يؤثر َّ أحياناً ويلهمني ،وأضيف نكهتي الخاصة” (مقابلة مع كاتب .)2014/4/6 ال يرى هذا التهجين المتعمد ‘إيران’ و‘الغرب’ ككيانات متماسكة ،ويرفض الخطاب الرسمي بطرق أخرى أيضاً .بنا ًء على كتابات متعددة ومتقاطعة وبالكاد مقروءة لكلمة ‘حقيقة’ ،يضم العمل تعددي ًة جذرية ،تشابه جداً فكرة غرويس ( )2003:3حول “شيء متناقض قادر على تجسيد التناقض الذاتي األكثر جذرية” عبر حمله بداخله لعوامل نقضه .حسب الفنان ،يسعى العمل إليصال ‘تعقيد الحقيقة’ كمفهو ٍم ال يمكن أن ُيستوعب تماماً (مقابلة مع الكاتب – )2014/4/6ابتعاد جذري عن المبادئ اإلطالقية للخطاب الثوري لصالح ال مؤسساتية مشاكسة وما بعد حداثية .يتيح ذلك عالق ًة بين المشاهد والبيئة مختلف ًة كلياً 7سياه مشق Siyah Mashqمن الفارسية مبعنى ‘املسودات’ ،حيث اعتاد الخطاطون أن يتدربوا عىل حسن الخط عرب كتابة الكلامت والحروف بشكل متكرر عىل رقع من الورق .الحقاً تبني أن بعض هذه املسودات (التي تحوي كلامت عديدة متأل الصفحة ،وال يجمعها أي معنى محدد) ذات جاملية فنية من حيث توزع وتقاطع الحروف (هيئة التحرير).
166
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
عن تلك المفروضة عبر صور ٍة ذهني ٍة رسمية: عالقة ديمقراطية ونقدية ومنفتحة وغير قسرية. باالبتعاد قلي ًال عن هذا المعنى ،الفني بحد ذاته مذهل .تُظهر العديد من صور فن الشارع المارة وهم يقفون أو يلتفتون إلى األعمال الفنية في صور ٍة معبرة .للحظة، تم إبعاد المكان عن سيطرة الدولة ومصالح الشركات ،وأعيد تعريفه كمكانٍ للتفكير في ما يواجه بصورة عفوية غير متوقعة: يمكن أن َ في الشكل ،6صورة الطفل ،يفكر بتجاوز إشارة ‘توقف’ ،ربما كي يوصل رسال ًة مفادها تجاهل السلطة واإليقاعات الموجهة في الدولة الحديثة .العمل الثاني في الشكل ،7رغم أنه أكثر غموضاً ،يمزق الواجهة الحضرية الرتيبة ليكشف ما تخفيه من فوضى ونشاز ،إضافة إلى األصوات المعارضة المخفية تحت السطح تماماً .ت ُْظ ِه ُر الصورتان قدر َة فن الشارع على دفع الحضور للمشاركة خارج إطار التركيب السكاني ضمن ثقافة الشباب .إذ تع ّبر النظرة ٍ المؤثرة للمرأة المسنة عن تواصلٍ خاطف، ولكنه قوي بينها وبين الفنان ،حيث يلعب الفن والح ّيز الذي تتيحه المدينة دور الوسيط .ورغم أن الطفل صغير جداً ليق ّدر أي أهمي ٍة سياسي ٍة للعمل الفني ،فإن هذا العمل الفني قد جذبه بتميزه عن محيطه نوعاً ما .تكمن قوة هكذا مواجهات عفوية في صميم قدرة فن الشارع على التحدي. عندما تكون األعمال الفنية نقدي ًة في صور ٍة واضح ٍة فإنها غالباً ما تركز على تلك الشخصيات المه ّمشة أو المحرومة من قبل النظام السائد ،أو تلك الحقوق التي ال يق ّرها النظام .األطفال من أكثر المواضيع تكراراً ،وغالباً ما يترافقون مع الفقر في المناطق الحضرية:
شكل :6امرأة تقف ملشاهدة عمل من فن الشارع (الفنان :غري معروف).
رس للرتابة شد انتباه طفل (الفنان)A1one : شكل :7ك ٌ
شكل :8طفل يحمل ألعاباً تركيبي ًة يف موقع بِناء (الفنان :آييس وسكوت).
167
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات من المهم دراسة هذه الصور وفي الذهن مسألة تمثيل األطفال من قبل الدولة اإليرانية تاريخياً .فقد ٌ أطفال بعمر الحادية عشرة أو الثانية عشرة اشترك في القتال في الحرب العراقية-اإليرانية ،وغالباً ما تم تخليدهم كشهداء في جداريات الدولة .يعرض غروبر ( )2008مثاالً مشهوراً جداً ،مص ِّوراً طف ًال ذي اثني عشر عاماً اسمه فهميده ،أوقف زحف الدبابات العراقية عندما قفز تحتها وفجر قنبلة يدوية .يعاد توصيف الطفل اآلن كشخصي ٍة تم استغاللها؛ لم يعد ميتاً في سبيل الدولة ،وإنما بسبب إهمال الدولة واستغاللها له. حرية التعبير هي موضوع مشترك آخر: تتناول هذه األعمال القضية من خالل نقد الرقابة الذاتية .تمسك الطفلة في الشكل 11قلماً غطى حبره كلماتها ،وتكشف الشخصية في الشكل 12 هويات متعددة جميعنا نخفيها ،في حين يخفي الرجل في الشكل 13شعوراً حقيقياً خلف ابتسامة مزيفة. ك َت َب فارزي ( )2006عن ‘انفصام الشخصية االجتماعي’ الناجم عن الحواجز المتينة بين المجالين العام والخاص في إيران .تتحدى هذه الصور ذلك االنقسام وما يرسخه من إدارة بالرقابة الذاتية في ما يتعلق بالمواضيع العامة .كذلك يشير تركيزها على الخضوع الفردي إلى التح ّول بعيداً عن الموضوع الجماعي المتع ّلق بالخطاب الثوري؛ تطو ٌر ينسجم مع تغير ٍ ات في الحقلين الفكري والسياسي (راجع :وحدت .)2002 نقد مباش ٌر للدولة أيضاً. يوجه ٌ في بعض األحيان َّ على سبيل المثال تحتج األعمال التالية على عنف الدولة: بتصويرها للقمع العنيف تجاه متعة مسالمة، تس ِّيس هذه األعمال علناً ما يدعوه بيات ()2010 ‘سياسات المرح’ ،التي يحاول عبرها الشباب اإليراني التأسيس لذهني ٍة بديلة .ويشير الشكل 15إلى ٍ تجمع المئات حدث معين في تموز ،2011عندما َّ للتراشق بالماء في إحدى حدائق طهران .بعد سلسلة 168
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
طفل بسبب شكل :9تقول العبارة" :يف أي لحظة يف العامل ،ميوت ٌ ضغوطات الفقر والعاملة القرسية" (الفنان :نافر).
شكل :10طفل عامل ،خارج املنظمة اإلسالمية الدولية لحامية حقوق الطفل .الفنان :آييس وسكوت.
شكل :11كلامت طفل موضوعة تحت الرقابة (الفنان :جيو).
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
اعتقاالت ،قام إعالم الدولة ِّ ببث اعتر ٍ افات بالمخالفة األخالقية – للسخرية فإن مجرد تعميم الحدث شجع أحداثاً مماثلة في عموم البالد((( .على هذا ّ النحو يقدم فن الشارع خطاباً معارضاً بدي ًال بواسطة أشكالٍ عامة مفهومة أو سهلة الفهم ،ومن ثم يتم تصويرها وتحميلها ومناقشتها في العالم االفتراضي. بينما ق ِّوضت قدرة الدولة على تصوير األحداث ،فإن المقاربة بين عفوية النشاطات وردود الفعل العنيفة تب ّين مدى خطورة الممارسات المخالفة اليومية –بما فيها فن الشارع -على نظا ٍم ذي حساسي ٍة مفرطة. لعب فن الشارع كذلك دوراً في احتجاجات عام 2009ضد التزوير المفترض إلعادة انتخاب أحمدي نجاد .تظهر الصور التالية التحوالت التي نقلت ما كان أعماالً فني ًة غامضة سياسي احتجاج إلى صورة ٍ ٍّ علني: نالحظ هنا كيف تم توظيف البنية التحتية لفن الشارع ،والموجودة ٍ سياسي محدد .يعني حدث مسبقاً ،في خدمة ٍّ تخزين ونشر هذه الصور في العالم االفتراضي أنه، خالفاً للفترة التي تلت عام ،1979لم يعد بمقدور الدولة أن تستعيد بفعالي ٍة ت ََح ُّك َمها بالتمثيل البصري للصراع الشعبي .غطى الغرافيتي واألشكال المرسومة بقوالب أقل احترافية شوارع إيران خالل احتجاجات .2009وفي حين لم ينجو سوى القليل من الصور ٍ من ثورة ،1979فإن آالف الصور لشعار ٍ ورسومات ات جدارية من أحداث 2009نجت واستمرت في العالم االفتراضي(((.
شكل :12شخصيات متعددة تشق طريقها نحو املشاهدة العامة (الفنان)A1one :
شكل :13ابتسامة كاذبة تخفي املشاعر الحقيقية (الفنان :آييس وسكوت).
شكل :14ثنايئ يرقصان وسط الدم والطلقات (الفنان :نافر).
http://www.guardian.co.uk/world/2011/aug/04/water-fight-pistols-iran-arrests 8 ٍ كأرشيف بديلٍ عامٍ ومتاح يحوي آالف الصور الصادرة من كل من األطراف؛ املعارضة 9يف هذا الخصوص فإن موقع www.greens-arts.netمثري لالهتامم واملؤيدة للنظام.
169
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
تسعى تلك الصور لتغيير نظام الهيمنة جذري شامل ،بل ليس فقط عبر إحداث تغيي ٍر ٍّ ٍ فني ‘الزحف بصمت’ (بيات)2010 ، عبر صنف ٍّ ينهي تدريجياً قدرة الدولة على رسم معالم الحياة ٍ بأصوات متعدد ٍة العامة .عبر ملء الحيز العام ومقموعة ،يكشف فن الشارع الحدود واإلقصاءات سياسي معينٍ غير مستقل، التي تؤسس لنظا ٍم ٍّ ويبدأ بتقويض الدعائم التي تسند ذلك النظام. خامتة: يعتبر فن الشارع مثاالً قوياً على أساليب معارضة الناس ل ُبنى الهيمنة من خالل ممارسات المقاومة اليومية .بينما تبرز جداريات زمن الحرب كمعالم لرسوخ وثبات الدولة ،فإن فن ومفتوح للمشاركة ومفعم بالحياة الشارع متغي ٌر ٌ ٌ ٍ بأصوات متعدد ٍة مختلف ٍة مالئاً بذلك الحيز العام ومضطهدة .إذاً يصبح ذلك الحيز ‘عاماً’ ويتم إخراجه –ولو جزئياً وفي صورة خاطفة -من نطاق أنظمة السيطرة المتعددة التي يخضع لها. كذلك فإن التأثير الواضح لألساليب العالمية، ونشر وتخزين الصور في العالم االفتراضي ،يجعل من فن الشارع مثاالً على طرق تكييف الثقافة العالمية الستخدامها محلياً ،وعلى أساليب صياغة اضي في ظل الممارسات الواقعية إعال ٍم افتر ٍّ للهيمنة المقابلة ،عبر تضخيم أثر تلك الممارسات. يتيح ذلك لنا إمكانية تقدير اإلمكانات الحقيقية لهكذا تقنية ،من دون ‘الهوس’ بقدرتها على التغيير :اإلعالم الجديد ليس محرضاً على التغيير السياسي وال تقدمياً بالضرورة ،ولكنه قد يساند الممارسات في العالم الحقيقي ويساهم في إنتاج أشكالٍ جديدة للتعبير والمقاومة. رغم أن فن الشارع ال يزال في بداياته في إيران ،فإنه يبرز كتح ٍّد ها ٍم لدول ٍة لطالما َش ْر َع َن ْت 170
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
شكل :15طفل معه مسدس مايئ تواجهه رشطة الشغَب (الفنان.)A1one :
شكل :17أثناء التحضري النتخابات ،2009حملة ‘الوحوش’ نشطت لصالح املرشح الرئايس موسوي.
شكل :16لسنوات غطى A1oneطهران مبلصقات ‘الوحش’ التي ترافقت بالحياة املدينية بصورة غري مفهومة (الفنان.)A1one :
شكل :18خالل قمع النظام للمتظاهرين بعنف ،أصبحت ‘الوحوش’ رمزا ً لالحتجاج الشعبي.
جعل املكان عامًا :فن الشارع يف إيران
ومارست سلطتها من خالل التحكم بالتعبير الثقافي والحيز العام .ذلك بح ِّد ذاته يجعل من فن الشارع ظاهر ًة سياسي ًة وثقافي ًة واجتماعي ًة وفنيةُ .يضعف فن الشارع الحواجز الفاصلة بين العام والخاص ،بين الظاهر والخفي ،بين ما ُيقال وما ال يمكن قوله .كما ُيظهر لنا مواقف واهتمامات جيل الشباب اإليراني، الذين ال ُيعيرون الكثير من االهتمام ألزمة المحاكمات خالل الفترة الثورية .ما بعد أيديولوجي ،لكنه سياسي لدرج ٍة كبيرة ،يش ِّك ُك فن الشارع الغرافيتي بالسرديات الكبرى ولكنه يحمل نوايا تغييرية ،ويتيح للعديد من األصوات األخرى المه ّمشة والمستبعدة فرصة الظهور للعلن بقوة. مصادر األشكال
•
• • • • • • • • • • • • • •
شكل :1صورة ‘ساحة الشهداء مع صورة الخميني’ .مرجع: Chelkowski، P. & Dabashi، H.، 2000.، Staging a Revolution: The art of persuasion in the Islamic Republic of Iran، BoothChibborn Editions: London، pp. 109 شكل ‘ :2امللصق الرسمي ،ويضم كتابات عىل الجدران وصور الخميني ورشيعتي’ .راجع الرابط: www.lib.uchicago.edu/e/webexhibits/iranianposters/revolution.html شكل ‘ :3استخدام شعر حافظ عىل أنها كتابات ثورية عىل الجدران’ .مرجع: Chelkowski، P. & Dabashi، H.، 2000.، Staging a Revolution: The art of persuasion in the Islamic Republic of Iran، BoothChibborn Editions: London، pp. 112 شكل ‘ :4الذكرى السنوية للوحة الثورة تجمع بني الخميني وسطرا ً من شعر حافظ’ .مرجع: Gruber، C.، 2008، The Message is on the Wall: Mural Arts in Post- Revolutionary Iran، Persica، vol. 22 شكل ‘ :5الكتابة عىل الجدران ،الحقيقة بأسلوب سياه-مشق’ .صورة راجع الرابط: ]taking-back-streets-iranian-graffiti.html> [Accessed 02.05.14/12/http://aidaforoutan.blogspot.co.uk/2012 شكل ‘ :6صبي يقّطع إشارة توقف’ راجع الرابط: ]http://soalife.com/the-best-cities-for-street-art-hunting> [Accessed 22.04.14 شكل ‘ :7صبي ينظر إىل فن لشارع’ .راجع الرابط: ]http://www.fatcap.com/article/iranian-graffiti.html> [Accessed 25.04.14 شكل ‘ :8طفل يحمل قرميد عىل موقع البناء’ .راجع الرابط: ]http://www.streetartutopia.com/?p=6874> [Accessed 21.04.14 شكل ‘ :9طفل ينتحر’ .راجع الرابط: 20%http://www.stencilarchive.org/archives/var/albums/Middle_East/artists%20of%20middle%20east/a1one/IR%20A1one%20 ]painting%20a%20flower.jpg?m=130595694> [Accessed 02.04.14 شكل ‘ :10عاملة األطفال ،خارج املنظمة اإلسالمية الدولية لحامية حقوق الطفل’ .راجع الرابط: ]http://icyandsot.com/wp-content/uploads/child-labor.jpg> [Accessed 15.04.14 شكل ‘ :11األطفال ،الرقابة الذاتية’ .راجع الرابط: ]http://www.fatcap.com/uploads/sht/19651/bgp_1629197ae8256d9a1e2c7fde5a6b2fc13c54ef69.jpg> [accessed 23.04.14 شكل ‘ :12األنفس متعددة’ .راجع الرابط: 20%http://www.stencilarchive.org/archives/var/albums/Middle_East/artists%20of%20middle%20east/a1one/IR%20A1one%20 ]painting%20a%20flower.jpg?m=1305956941> [accessed 03.05.14 شكل ‘ :13ابتسامة كاذبة’ .راجع الرابط: type=1&theater?/349727325043971/https://www.facebook.com/icyandsot/photos/a.182295011787204.49508.181763281840377 ][Accessed 27.04.14 شكل ‘ :14ثنايئ يرقصان’ .راجع الرابط: ]n.jpg [Accessed 22.04.14_387983956_520891707929757_556874/https://scontent-a-ams.xx.fbcdn.net/hphotoash3/t1.9 شكل ‘ :15األطفال وضابط مكافحة الشغب يف معركة املياه’ .راجع الرابط: 20%http://www.stencilarchive.org/archives/var/albums/Middle_East/artists%20of%20middle%20east/a1one/IR%20A1one%20
171
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
فن الشارع يف إيران:جعل املكان عامًا
دراسات
]painting%20a%20flower.jpg?m=1305956941 [Accessed 20.04.14 : راجع الرابط.’ ‘الوحش يطل من خالل صدع يف الجدار:16 • شكل ]artist-profile-a1one-stencil-artist-iran/ [Accessed 02.05.14/25/06/http://papermonster.wordpress.com/2009 : راجع الرابط.’ ‘الوحش يحمل صورة ملوسوي:17 • شكل ]images-for-a-new-age-tehran-street-art/ [Accessed 30.04.14/14/06/http://fryingpanfireblog.wordpress.com/2009 : راجع الرابط.’ أين صويت: ‘وحش يحمل الفتة:18 • شكل ]where-is-my-vote-street-art-emerges-in-tehran-photo/ [Accessed 02.05.14/17/06/http://hragvartanian.com/2009 املراجع
• Adib-Moghaddam، A. (2011). A metahistory of the clash of civilisations. 1st ed. New York: Columbia University Press. • Adib-Moghaddam، A. (2013). On the Arab Revolts and the Iranian Revolution. 1st ed. New York: Bloomsbury Academic. • Appadurai، A. (1996). Sovereignity without territoriality: notes for a postnational geography. In: P. Yaeger, ed., The geography of identity، 1st ed. Ann Arbor، Michigan: the University of Michigan Press, pp.4058• Arjomand، S. (1988). The turban for the crown. 1st ed. New York: Oxford University Press. • Arjomand، S. (2009). After Khomeini. 1st ed. Oxford: Oxford University Press. • Basmenji، K. (2005). Tehran blues. 1st ed. London: Saqi. • Bauman، Z. (1992). Intimations of postmodernity. 1st ed. London: Routledge. • Bayat، A. (2007). Making Islam democratic. 1st ed. Stanford، Calif.: Stanford University Press. • Bayat، A. (2010). Life as politics. 1st ed. Stanford, Calif.: Stanford University Press. • Boroujerdi، M. (1996). Iranian intellectuals and the West. 1st ed. Syracuse, N.Y.: Syracuse University Press. • Cauter، L.، Roo، R. and Vanhaesebrouck، K. (2011). Art and activism in the age of globalization. 1st ed. [Rotterdam]: NAi. • Chelkowski، P. and Dabashi، H. (1999). Staging a revolution. 1st ed. New York: New York University Press. • Dabashi، H. (1993). Theology of discontent. 1st ed. New York: New York University Press. • Dabashi، H. (2008). Islamic liberation theology. 1st ed. London: Routledge. • DeNotto، M. (2014). Street art and graffiti Resources for online study. College \& Research Libraries News, 75(4), pp.208--211. • Deutsche، R. and Foundation، G. (1996). Evictions. 1st ed. Cambridge Mass.: MIT Press. • Deutsche، R. (1999). Uneven Development: public art in New York City. In: R. Ferguson، M. Gever، T. Minh-ha and C. West, ed., Out There: marginalization and contemporary cultures، 6th ed. Cambridge، Mass: MIT Press, pp.107130-. • Groys, B. (2008). Art power. 1st ed. Cambridge, Mass.: MIT Press. • Gruber, C. (2008). The Message is On the Wall: Mural Arts in Post-Revolutionary Iran. Persica, (22)، pp.1546-. • Hobsbawm، E. and Ranger، T. (1983). The Invention of tradition. 1st ed. Cambridge [Cambridgeshire]: Cambridge University Press. • Kashani-Sabet، F. (2002). Cultures of Iranianness: The Evolving Polemic of Iranian Nationalism. In: N. Keddie and R. Matthee, ed., Iran and the Surrounding World, 1st ed. Seattle and London: University of Washington Press, pp.162181-. • Khatam، A. (2009). The Islamic Republic’s Failed Quest for the Spotless City. MERIP Report, (250), pp.44--49. • Khomeini، R. and Algar، H. (1981). Islam and revolution. 1st ed. Berkeley، [Calif.]: Mizan Press. • Ledrut، R. (1986). Speech and the Silence of the City. In: M. Gottdiener and A. Lagopoulos، ed.، The City and The Sign: An Introduction to Urban Semiotics، 1st ed. New York: Columbia University Press, pp.114134-. • Levine، M. (2012). The Work on the Street: Street Art and Visual Culture. [online] Georgetown University. Available at: http:// faculty.georgetown.edu/irvinem/articles/Irvine-WorkontheStreet-1.pdf [Accessed 14 Apr. 2014]. • Lewis، B. (1990). The roots of Muslim rage. The Atlantic Monthly، 266(3), pp.47--60. • Massey، D. (2005). For space. 1st ed. London: SAGE. • Mirsepassi، A. (2000). Intellectual discourse and the politics of modernization. 1st ed. Cambridge: New York. • Moaddel، M. (2002). The study of Islamic culture and politics: An overview and assessment. Annual Review of Sociology, pp.359--386. • Mouffe، C. (2007). Art & Research: Chantal Mouffe. [online] Artandresearch.org.uk. Available at: http://www.artandresearch.
172
1 العدد 2014 يوليو ـ/ متوز
فن الشارع يف إيران:جعل املكان عامًا
org.uk/v1n2/mouffe.html [Accessed 5 Apr. 2014]. • Nooshin، L. (2005). Underground, overground: rock music and youth discourses in Iran. Iranian Studies, 38(3)، pp.463--494. • Papastergiadis، N. (2006). Spatial aesthetics. 1st ed. London: Rivers Oram. • Ram، H. (2002). Multiple Iconographies: political posters in the Iranian Revolution. In: S. Balaghi and L. Gumpert, ed., Picturing Iran: art, society and revolution، 1st ed. London: I.B. Taurus، pp.89202-. • Rancière، J. (2004). The politics of aesthetics. 1st ed. London: Continuum. • Robertson، B. (2012). Reverberations of dissent. 1st ed. New York: Continuum. • Robertson، R. (1995) Glocalization: Time-space and Homogeneity-heterogeneity. In: M. Featherstone et al (ed) Global Modernities، 1st ed. London: Sage. pp. 2544• Said، E. (1994). Representations of the intellectual. 1st ed. New York: Pantheon Books. • Shahabi، M. (2006). Youth subcultures in post-Revolution Iran: an alternative reading. In: P. Nilan and C. Feixa، ed.، Global Youth? Hybrid identities، plural worlds، 1st ed. London and New York: Routledge، pp.111129-. • Sreberny، A. and Mohammadi، A. (1994). Small media، big revolution. 1st ed. Minneapolis: University of Minnesota Press. • Sreberny، A. and Torfeh، M. (2013). Cultural revolution in Iran. 1st ed. London: I.B. Taurus. • Tally، J. (1999). The agonic freedom of citizens. Economy and Society, 28(2), pp.161--182. • Tripp، C. (2013). The power and the people. 1st ed. New York، NY: Cambridge University Press. • Vahdat، F. (2002). God and juggernaut. 1st ed. Syracuse: Syracuse University Press. • Varzi، R. (2006). Warring souls. 1st ed. Durham: Duke University Press. • Wedeen، L. (1999). Ambiguities of domination. 1st ed. Chicago: University of Chicago Press.
173
1 العدد 2014 يوليو ـ/ متوز
دراسات
حق اجلرية:
طاهر زمان❊
خمرج من مستنقع الطائفية❊❊ ٌ اخلالصة: يسعى هذا املقال لتفنيد املنهجية الطائفية التي تؤثر عىل نظرتنا ملا يحدث يف سوريا اليوم .لن يتحدث املقال عن مخاطر الطائفية ،املوجودة بالفعل ،لكنه سيبدأ حواراً ملحاولة إيجاد نص مشرتك يساعد يف تحويل مؤرشات هذا الرصاع املدمر .للقيام بذلك ،اقرتح نقل الرصاع إىل أولئك الذين يطالبون بالسلطة عرب تحريك الرمزية الدينية .ميكن أن يتم ذلك من خالل التشكيك باألسس املعرفية التي يعتمدون عليها للمطالبة بالسلطة عن طريق وصلت إىل ما مفاده إن الدين ُ الدين .بناءاً عىل حوارات أجري ُتها مع نازحني يف املنطقة، ٌ مرتبط بالعالقات ،وليس بالهوية .إذ يحثُّنا الدين عىل النظر إىل داخلنا لتعزيز العالقات ّ ويتجل ذلك عملياً ،أي عىل مستوى الدين الـ ُمعاش ،من خالل تغذية مع الذات ومع الله، مخلوقات اجتامعي ٌة باألصل والدين قوة نابذة .أما تنظيم ٌ العالقات مع اآلخرين .نحن عالقاتنا مع اآلخرين فهو الشغل الشاغل للتعاليم الدينية .يف ما ييل سأدرس االحتامالت التي تتيحها التقاليد اإلسالمية لتحويل الغرباء إىل جريان ،وكيف ميكن لسياسات التقارب تأمني أطر بديلة للرصاع الدائر.
❊ طاهر زمان Tahir Zamanحاصل عىل الدكتوراه وباحث زائر يف ‘مركز أبحاث الهجرة وللجوء واالنتامء’ يف جامعة إيست لندن .يركز يف عمله البحثي عىل املالمح الثقافية االجتامعية لحياة النازحني يف الرشق األوسط .أما اهتاممه البحثي اآلخر فيتمحور حول سياسة العمل اإلنساين ،مع الرتكيز عىل املبادرات اإلنسانية ذات األساس اإلمياين. ❊❊ هذه المقالة ترجمة للنص األصلي المرسل إلى مجلة دلتا نون باللغة اإلنكليزية بعنوانThe Right to Neighbourhood: a Way Out of the : Sectarian Quagmire
174
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
مقدمة نتج حص ُر الهوية باالنتماءات الدينية األولية مجموع ًة متميز ًة من العمليات والممارسات الساعية ُي ُ إلخضاع اآلخر والسيطرة عليه أو إقصاءه ،في الوقت الذي يغلق فيه الباب أمام العوامل ،االجتماعية والثقافية واالقتصادية ،التي تتقاطع مع االنقسامات الطائفية ذاتها .اتضح مؤخراً أن الشكل الطائفي للصراع السوري قد بدأ بالسيطرة .بدأ المحللون السوريون والدوليون عموماً بتفسير الصراع السوري من خالل المنظور الطائفيُ .يبدي القائمون على مراكز الدراسات وص ّناع السياسات والصحافيون واألكاديميون هوساً َم َرضِ ياً بالقراءات الجيوسياسية التي تركز على سيطرة المجموعات المسلحة الطائفية ،وتع ّتم على دور ماليين السوريين .تتماشى هذه القراءات مع رواية نظام األسد لألحداث والتي ومنذ بداية الصراع استخدمت الخطاب الطائفي الذي بدأت مجموعات من المعارضة المسلحة باستخدامه .وعلى رغم صياغة بعيد في شكل كبير عن المفاهيم اليومية الحية للدين. الخطاب بلغة الرمزية الدينية إال أنه ٌ يسعى هذا المقال لتفنيد المنهجية الطائفية التي تؤثر على نظرتنا لما يحدث في سوريا اليوم .لن يتحدث المقال عن مخاطر الطائفية ،الموجودة بالفعل ،لكنه سيبدأ حواراً لمحاولة إيجاد نص مشترك يساعد في تحويل مؤشرات هذا الصراع المدمر .للقيام بذلك ،اقترح نقل الصراع إلى أولئك الذين يطالبون بالسلطة عبر تحريك الرمزية الدينية .يمكن أن يتم ذلك من خالل التشكيك باألسس المعرفية التي يعتمدون عليها ُ وصلت إلى ما للمطالبة بالسلطة عن طريق الدين .بناءاً على حوارات أجري ُتها مع نازحين في المنطقة، ٌ مرتبط بالعالقات ،وليس بالهوية .إذ يح ُّثنا الدين على النظر إلى داخلنا لتعزيز العالقات مفاده إن الدين الـمعاش ،من خالل تغذية العالقات مع مع الذات ومع الله ،ويتج ّلى ذلك عملياً ،أي على مستوى الدين ُ ٌ اجتماعية باألصل والدين قوة نابذة .أما تنظيم عالقاتنا مع اآلخرين فهو الشغل مخلوقات اآلخرين .نحن ٌ الشاغل للتعاليم الدينية .في ما يلي سأدرس االحتماالت التي تتيحها التقاليد اإلسالمية لتحويل الغرباء إلى جيران ،وكيف يمكن لسياسات التقارب تأمين أطر بديلة للصراع الدائر .لكن أوالً سأحاول استكشاف كيف تآكل حق الجيرة في سوريا في العهد الحديث. 175
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
غرباء بيننا بأسلوب واحد .في الواقع يمكننا لم تولد الطائفية في ليلة وضحاها ،كما أن التعبير عنها لم يكن ٍ القول إنها تقنية استخدمها نظام حزب البعث للسيطرة على تحركات السوريين ودرجة تفاعلهم مع بعضهم. كل ما نحتاجه فع ًال هو مالحظة ضعف الحركة بين المناطق المدنية األمر الذي يساهم في ترسيخ المفهوم الضيق للهوية .من األمور الهامة التي تمكن مالحظتها أنه حتى في المدينة الواحدة ال سبب يدفع بسكان منطق ٍة ما إلى زيارة منطقة أخرى .المساحات التي لديها تفاعل حقيقي مع مساحات أخرى قليلة جداً ومتباعدة .وحيث توجد مناطق كهذه فإنها ،وسأعطي هنا مثاالً المدينة القديمة في دمشق ،تخضع لمراقبة شديدة من النظام .يسهل رصد ومراقبة األماكن الضيقة الكتشاف جميع حاالت االنشقاق .أصبح مركز موجهاً بعناية .ال وجود ألسواق يمكنها جذب أشخاص من مجتمعات المدينة مكاناً محايداً يحوي خليطاً َّ أخرى ،وال وجود ألنشطة رياضية تأخذ ممارسيها ومشجعيها في رحالت إلى مناطق أخرى .المسارح ،معارض الفنون ،المعارض ،الحفالت الموسيقية ،السينما ،مالعب الرياضة والمطاعم جميعها تنحصر في المركز .تدار أغلب الرحالت اليومية بعناية شديدة .غالباً ما يكون التحرك عبر المدينة عن طريق السرفيس (باص صغير خاص يتسع لحوالي 14راكباً يجوب طرقات ثابتة بين دمشق وضواحيها) .التكلفة المعقولة وتواتر رحالت السرافيس يجعل منها وسيلة النقل المفضلة في المدينة لذوي الدخل المنخفض .لم يكن تحديد مخططات الطرقات أمراً اعتباطياً ،وهذا يدل على أن تحديد المخططات بهذا الشكل كان أمراً مطلوباً .ال يوجد خط سير مباشر يربط جرمانا بالمهاجرين ،أو مخيم اليرموك بالسيدة زينب؛ وهي مناطق ذات مجموعات عقائدية مختلفة .وهكذا يتم تعزيز حالة االنعزال والتباعد بما يسهم في إعادة إنتاج مفهوم ‘اآلخر’. نحو سياسة التقارب ماذا نعني بعبارة ‘حق الجيرة’؟ عند الحديث عن الحقوق فإننا نعتمد في كالمنا على فهم الحقوق الفردية .أدى ذلك الفهم إلى تقدم النقاشات حول الحرية والعدالة االجتماعية ،فالتأييد المبدئي للفرد يؤدي إلى إهمال المجموعة ككل لصالح التركيز على أفرادها .لكن الفرد يعيش من خالل عالقاته في داخل أو خارج مجموعات اجتماعية أكبر؛ كالعائلة أو الحي أو مكان العمل .ويمكن لحق الجيرة الخاضع لسياسات التضامن ،التي تبنى عليها العالقات المحلية ،أن يحمي رفاهية وكرامة ونزاهة جميع مكونات الحي حتى أولئك الغرباء القادمين حديثاً .يحمي هذا الحق األحياء من نزوات الدولة التي تسعى للدفاع عن مصالح المقربين منها ،أولئك الذين يملكون كافة الحقوق االجتماعية والثقافية والسياسية وأيضاً االقتصادية .سياسة التقارب هذه ليست سياسة محدودة وال تعمل على اإلقصاء .بدالً من ذلك ،تعتبر المسافات االجتماعية مساحات يجب ّ تخطيها بدالً من التقيد بها .تفهم هذه السياسات أن الفرد والحي وحتى المدينة هم جز ٌء من كل ،حيث تبدأ العالقات من الداخل إلى الخارج .يمكننا هنا تخ ّيل مجموعة من الدوائر ذات المركز الواحد تتزايد بشكل تصاعدي ،كما في ‘دمى الماتريوشكا –(((’Materyoshka Dollsحيث ال يكون الفراغ الفاصل بين األقسام المختلفة خالياً بل يكون مليئا بالعالقات الهادفة. 1دمى املاتريوشكا هي دمى تقليدية يف روسيا تصنع من الخشب بأحجام مختلفة .يستخدم تعبري دمى املاتريوشكا مجازياً لوصف الظواهر املتداخلة ضمن بعضها البعض مثل طبقات البصل (هيئة التحرير).
176
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
يمكن إرجاع أسباب الصراع السوري إلى عقود طويلة من سياسة ترسيخ الطائفية التي أدت إلى تآكل حق الجيرة تدريجياً“ .من أين أنت؟”؛ ٌ سؤال ذو طابع طائفي حتى عند استخدامه في المناطق المدنية .بدأ تمييز األحياء والمناطق تبعاً لالنتماء الديني المحدد للمجموعات التي تسكنها .ويمكننا القول أن هذا النوع من التطور بالنسبة لألحياء هو تطور منظم ،بمعنى أن الناس تميل نحو السكن في مناطق حيث يتواجد لديهم مسبقاً أقرباء أو شبكة عالقات اجتماعية ،ولكن مع ذلك فإن السؤال ما زال قائماً حول ما إذا كانت دولة البعث قد شجعت على خالف ذلك. عشية الصراع في سوريا ،كان التحول االجتماعي يجري بسرعة .أدى سوء إدارة القطاع الزراعي ،جنباً إلى جنب مع الجفاف القاسي ،إلى جعل سبل العيش في المناطق القروية شبه مستحيلة ،ودفع بأكثر من 3مليون مواطن سوري كي يعيشوا في فقر مدقع(ُ .)Iأجبرت المجتمعات المتآكلة في حوران في الجنوب، والحسكة ودير الزور والرقة في الشمال والشرق ،على االنتقال الجماعي ،بأكثر من خمسين ألف عائلة إلى المناطق المحيطة بالمراكز المدنية الرئيسية حمص ودمشق وحلب ،هذه المناطق التي ينتشر فيها الفقر بسرعة كبيرة .بسبب بقاء هؤالء الفقراء المحرومين مهمشين في مناطق نائية مهمشة أص ًال ،فإن نظام األسد تخيل أنهم لم يعودوا موجودين .طبعاً تغ ّير كل ذلك بعد بداية األحداث في 15آذار .2011 دوما ،المدينة التي كانت قلب الثورة ضد نظام األسد ،تعتبر مثاالً واضحاً .حيث تمت التضحية بالحقوق االقتصادية للمنطقة إلفساح المجال لتحرير االقتصاد السوري الذي ينحاز للمراكز المدنية على حساب المناطق النائية( .)IIكما تم تقليص دور الشركات الصغيرة والمتوسطة ،التي تعتبر أساس االقتصاد في دوما ،بسبب انتشار البضائع التركية الرخيصة وذلك بعد أن وصل االنفراج السوري-التركي إلى ذروته عام .2010هنا باتت تداعيات العولمة جل ّي ًة للجميع :البطالة ،ضعف اقتصاد الطبقات العاملة المدنية، وتآكل قدرة المجتمعات المحلية .انطلقت في دوما مطالبات بالخبز والحريات والعدالة االجتماعية كر ِّد على الوسائل المتعددة التي استخدمها نظام األسد في إهمال الحقوق االقتصادية للحي. حقيق ُة أن المظالم الشعبية هي من قاد االنتفاضة التي اندلعت في كافة أنحاء البالد ضد النظام، وحقيق ُة أن مطالب المتظاهرين كان يمكن تأويلها بأكثر من معنى ،كل ذلك كان مؤشراً على صعوبة تماسك المعارضة .يجب أن يفهم التعبير المستمر عن السخط واالستياء من السياسات غير المبنية على أسس واقعية -سواء كانت سياسات المجتمع الدولي أو األسد أو داعش أو النصرة -على أنه دعوة صريحة إليجاد حلول محلية .لذا فإن تحدي الطائفية يتطلب أوالً وقبل أي شيء سياسة التقارب ،كي تزول المسافات االجتماعية (سواء كانت خيالية أو حقيقية) .هنا يكمن دور التقاليد الدينية في المساعدة على بناء اإلطار العام لحق الجيرة بما ينسجم مع قراءات علمانية لمجتمع مدني ،حيث يمكن للغ ٍة ديني ٍة مميزة جذب أتباع لها وتعليمهم قواعد التفاعل مع ‘اآلخر’. مفردات منسية؟ قبل البدء بتحريك هذه القواعد علينا أوال االتفاق على بعض المفردات .في اللغة العربية غالباً ما تترجم كلمة ‘أمة ’nationبمعنى ‘وطن’ .في سياق الدول القومية (((nation statesفي العصر الحديث 2ترجمة مصطلح nation stateغري متفق عليه يف العربية ،وأحياناً يرتجم إىل الدولة القومية أو الدولة-األمة أو حتى الدولة الحديثة (هيئة التحرير).
177
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
ينص حق االنتماء على والدة الفرد في ذات البلد ‘قانون التراب ’jus soliأو على الحق الموروث ‘قانون الدم .’jus sanguinisيشير المصطلح العربي ‘وطن’ إلى أي مكان مأهول بالسكان ،بدون ذكر قانون التراب أو الدم .وفي قوانين ما قبل الحداثة في العالم المسلم تُشترط اإلقامة الفعلية في المكان المنتمى إليه ‘قانون المنزل .’jus domiciliفي المقابل ،تحت حكم الدولة القومية( ،)IIIيصبح حق المواطنة حقاً رسمياً وضع قانوني :وبالتالي فهذا المنطق يقلص االنتماء إلى األمة ،ويجعله مشروطاً بحق يمنح لكل من له ٌ مصطلح مرن مرتبط بالعالقات الوالدة .لذا يجب فهم كلمة ‘وطن’ في السياق الصحيح .كلمة ‘وطن’ هي ٌ التي يغذيها الفرد بانتقاله من مكانٍ إلى مكان .آثار هذا التقليد المفتوح ،الذي يعتبر أن تن ُّقل الناس هو ٌ منقوشة في الممارسات االجتماعية واالقتصادية للناس في سوريا اليوم. القاعدة ال االستثناء، قام اإلصالحيون اإلسالميون بتبني واستخدام كلمة ‘وطن’ بعد مواجهتهم للقوى االستعمارية الغربية في القرن التاسع عشر .خلط الطهطاوي بين مفهوم ‘الوطن’ ومفهوم األرض/اإلقليم ما أدى إلى ترسيخ مفهوم ‘الوطن’ في إطار الدولة القومية .منذ ذلك الحين ،يواجه المفكرون المعنيون بدور اإلسالم في طابع عالمي ونظام الدولة القومية الذي يعرف العالم المعاصر مهم ًة صعب ًة :وهي التوفيق بين دينٍ ذي ٍ فكري والخوض في نقاشات حول صحة اعتبار مستنقع بأنه إقصائي .دفعت هذه المفارقة بالعديد نحو ٍّ ٍ الدين قضية هوية .وعليه ال يوجد أفضل من عبارة “أنت ما تأكل وما تلبس” لوصف المناقشات التي تدور حالياً حول اإلسالم؛ من قبل المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. كذلك فإن اإلفراط في تبسيط فكرة مجتمع المتدينين المتخيل –األمة– هو أم ٌر ضار .فبالنسبة للكثيرين أصبحت الفكرة ببساطة مرادفاً للتضامن اإلسالمي .أما بالنسبة لـ ‘الوطن’ فقد تم امتصاصه في نموذج الدولة القومية؛ حيث تصبح ‘األمة’ كونفيديرالية للدول القومية عندما يالئم ذلك النخب الحاكمة. ومن هنا تخرج الدعوات لبناء دولة إسالمية ،فمع إقحام مفهوم ‘األمة’ في مفهوم ‘الوطن’ (كما شرحها الطهطاوي) نرى ظهور خطاب إسالمي في نهاية القرن التاسع عشر ،بخاصة مع كتابات جمال الدين األفغاني .تزامن ذلك مع خروج نداءات تحث ‘األمة’ على الدفاع عن الخالفة خالل فترة تفكك اإلمبراطورية العثمانية؛ ومرة أخرى قراءات نخبوية لـ ‘األمة’. الغريب يف رأي املسلمني العرب مرة أخرى ،في سياق المواجهة مع االستعمار الغربي وظهور نموذج الدولة القومية ،نجد أن اللغة المستخدمة لوصف العالقات مع ‘اآلخر’ أصبحت أقسى :فقد أصبح الغريب ‘أجنبياً’ .تشتق كلمة ‘أجنبي’ (وجمعها أجانب) من الجذر ‘جنب’ ،أو يوضع على جنب .كلمة تج ّنب التي تشترك في الجذر مع كلمة أجانب تعني التفادي؛ وهذا يح ّول ‘الغريب’ أو ‘األجنبي’ إلى شخص يجب تفاديه واجتنابهُ .يعزى هذا في جز ٍء منه إلى المواجهات مع االستعمار ،وإلى االرتباك الذي تولد بسبب التبعية ألولئك الذين ال يتشاركون النظرة ذاتها .شهد القرن التاسع عشر تنافساً بين المحافظين واإلصالحيين للسيطرة على قلوب وعقول السكان المحليين للمناطق الخاضعة لإلمبراطورية العثمانية .بدا أن اإلصالحيين يحاولون تحدي المعتقدات التقليدية ووضع قوانين جديدة في تقليد للقوى االستعمارية .بينما اعتبرت العقول اإلصالحية في االستعارة الثقافية والمادية من أوروبا فرصة للتخلص من قيود الجمود المنسوبة للمعتقدات التقليدية، 178
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
فهم اإلصالحيون تلك اإلصالحات في ضوء التوسع االستعماري –اعتبار الغرباء كضيوف غير مدعوين وغير مرغوب بهم .للمفارقة ،فإن من يدعم المعتقدات التقليدية –الذين أدخلوا الدين في خطاباتهم القومية– كانوا يناصرون فكر ًة تختلف مع اإلسالم الذي استمر لقرون عديدة والذي كان يدعو لفضيلة حسن استضافة الغرباء. ٍ قانوني أقل من استخدامه لوصف من كتصنيف اس ُتخدم مصطلح ‘غريب’ في فترة ما قبل الحداثة ٍّ غادر وطنه األصلي طوعياً أو قسرياً ،ولم يعد يعتمد على طول مدة اإلقامة .أصبح المصطلح مشتم ًال على الطالب وعلماء الدين والزاهدين المتجولين والحجاج والتجار والنازحين ،وبات واضحاً أن المصطلح غدا غامضاً وضبابياً .من ناحية أولى ،كان حسن معاملة الغرباء أمراً ق ّيماً في الثقافة العربية ما قبل اإلسالم مثل أولئك الذين اشتهروا بالتعامل الحسن والكرم مع الغرباء والذين منحوا لقب ‘مأوى الغريب’( .)IVتم تشريع هذا األسلوب بالتعامل مع الغرباء من قبل التعاليم القرآنية والنبوية التي شجعت على اللياقة والتعامل الحسن مع الغرباء .تحديداً ،إن تعزيز الممارسات القبلية ما قبل اإلسالم والتي تتعلق بالجوار -منح الحماية والمساعدة لمن يبحث عن الملجأ -يوضح األهمية البالغة لحسن الضيافة تجاه الغريب( .)Vربما لم يكن هذا األمر مفاجئاً نظراً للطبيعة الجغرافية البدوية لشبه الجزيرة العربية .استلزم المناخ القاسي والرحالت الشاقة في الصحراء حسن الضيافة .باختصار كان هذا الخُ ُلق ضرورياً لضمان البقاء على قيد الحياة .نتذكر هذا يومياً كلما حيينا أحدهم بعبارة أه ًال وسه ًال :وطأت سه ًال وحللت أه ًال. َو َر َد في أحد األحاديث المنسوبة للنبي “بدأ اإلسالم غريباً ،وسيعود غريباً كما بدأ .فطوبى للغرباء”. ما زال المعنى الحقيقي لهذا الحديث قاب ًال للتأويل ،إال أن فيه تقديراً واضحاً للغريب؛ مشجعاً على حسن معاملة اآلخر كمبدأ أساسي في اإلسالم .عبارة أخرى تستخدم في التقاليد اإلسالمية تدعو لمساعدة الغرباء ومن بينهم ‘ابن السبيل’ وكذلك ‘عابر السبيل’ .يقول حديث للنبي “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل”( ،)VIمشيراً إلى االستعارة الدينية وعيش الحياة في شكل كامل بنا ًء على الوصايا اإللهية باعتبارها رحل ًة أو معبراً .علينا أن نتذكر أيضاً أن ‘ابن السبيل’ يعتبر من الفئات المستحقة للدعم المالي من خالل آلية توزيع الزكاة. مع ذلك ،ففي مخيلة العرب ،فإن فقدان اإلمكانيات االجتماعية والمادية بسبب االغتراب هو مصي ٌر أسوأ من الفقر المدقع؛ إنه فق ٌر في العالقات .هناك ٌ شائع في دمشق يحذر من المصير الذي ينتظر مثل ٌ ذلك الذي يضطر لمغادرة وطنه“ :من ترك داره قل مقداره” .لتعويض هذه الخسارة ،يعاد تفسير النشاطات البشرية من خالل الروايات الدينية .مث ًال فكرة أن بإمكان الدين تقديم الشرعية بالطريقة التي تستطيع الدولة أو ال تستطيع أن تقدمها هي فكرة مرت أكثر من مرة خالل حواراتي مع نازحين في الشرق األوسط. اإليمان باإلسالم يخفف من األلم الذي يترافق مع االغتراب ،واللجوء ليس وصمة عار .قال لي عارف، أحد الالجئين العراقيين في دمشق“ :كانت مغادرة العراق بالنسبة للعراقيين أمراً صعباً جداً .لم يرد أحد المغادرة ،لم يحتاجوا سوى المكان اآلمن كي يلجؤوا إليه .وجدت أن اإليمان باإلسالم يجعل من كوني الجئا أمراً أسهل .من الصعب جداً مغادرة وطنك ،ولكني أعلم أن النبي فعل ذات الشيء ،وأنه كان أيضا الجئاً. إذا فكرنا بهذا األمر نجد أن ال أهمية للحدود في اإلسالم ،وأنه ال توجد جنسيات في اإلسالم .االختالف فقط في اللغة واألرض؛ كلها هي أرض الله ويمكنك إيجاد مكان لتعيش وتعمل به أينما ذهبت”. 179
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
دراسات
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
التعاليم اإلسالمية تسمح للنازحين بإعادة تفسير الهجرة .كما يذكرنا عارف “األرض ٌ ملك لله” .السيادة اإلقليمية ٌ ملك لله ليست ملكاً للدولة .للجميع الحق في التجول بحرية بدون عوائق ،وال وجود للحدود في هذا المشروع .يأمر القرآن بالتعاطف مع مجموع ٍة من الناس؛ من ضمنهم الجار ذو القربى ،والجار الجنب الذي ال َي ُم ُّت لنا بصلة قربى( .)VIIيشير تفسير الطبري للقرآن أن الجار الذي ال يمت لنا بصلة قربى ال يجب بالضرورة أن يكون مسلماً ،وأن القرآن يأمر بحسن معاملة جميع الجيران .لذا فإن التفسير التقليدي لمعنى الجار الذي ال يمت لنا بصلة قربى يتوافق مع معنى كلمة غريب ،حيث تأمر تعاليم القرآن بمنح الغريب مكاناً للعيش والعمل أينما اتجه. أن تتحول إىل ‘آخر’ :دروس مستفادة من حاالت النزوح اجلماعي تشير البحوث التي أجريتها حول حاالت النزوح الجماعي ،ودور الدين في تلك المسألة ،إلى فهم مختلف لمفهوم ‘األمة’ .كان العنف الناجم عن الصراع ،إضافة إلى النزوح الجماعي ،من أهم أسباب التحول االجتماعي؛ تم تفتيت المجتمعات ونهب االقتصاد أو تدميره ،وتمت إعادة النظر وتفسير سبل الحياة في شكل جديد .تكمن خسارة الموارد الثقافية الحيوية (التي تؤسس للفهم العقالني لكلمة ‘وطن’ ومن ثم محاولة استعادتها أو إعادة خلقها من جديد ،أو ربما إعادة تشكيلها) في قلب عملية صنع القرار والممارسات والمعتقدات الدينية لدى النازحين في الشرق األوسط .كما يقول ديفيد تارتون David Turton الباحث االجتماعي في علوم اإلنسان “النزوح ال يتعلق فقط بخسارة المكان ،واأللم والفجيعة الناتجة عن هذه الخسارة .لكنه يتعلق أيضاً حتمياً بالنضال إليجاد مكانٍ آخر في هذا العالم”( .)VIIIوهكذا ،ومع كل تجزئة جديدة تأتي إعادة تخيل وإعادة تكوين للمجتمع واألحياء ،ومع تدمير موارد االقتصاد تأتي التغيرات ات جديد ٌة في إستراتيجيات سبل العيش ،ومع كل إعادة نظر في الهيكلية االجتماعية التقليدية تتولد تصور ٌ للهوية واالنتماء. ُ تحدثت إليهم خالل السنوات الثمانية الماضية األماكن الشعبية وصف العديد من النازحين الذين (كالمساجد والكنائس وأماكن التعلم والمراكز المجتمعية) بأنها كانت مساعدة جداً لهم في استعادة شي ٍء من االستقرار بعد حاالت النزوح .عادة ما توصف المراكز المجتمعية ،بخاصة تلك التي تعتمد على ذاتها، كمالجئ من الظروف الصعبة التي يعيشها النازحون عادة .وبصرف النظر عن كونها تستخدم كمراكز للتعلم فإن هذه المراكز تستخدم أيضا كأماكن لالحتفال بالمناسبات (كاألعراس والمناسبات الدينية السنوية)، وتنظيم أنشطة رياضية وثقافية ،وتعريف الجيران على بعضهم البعض وللصالة .باختصار ،تَحضُ ر هذه بعمق في حياة النازحين .إن استخدام هذه األماكن الشعبية بكثافة ،بما فيه استخدامها كأماكن األماكن ٍ اللتقاء األصدقاء ليتناولوا الطعام والمشروبات ويحسنوا ضيافة بعضهم ،يجعل النازحين يؤكدون على أهمية فهم معنى ‘الوطن’ من خالل التفكير والممارسة الدينيةُ .يعنى الدين أساساً بتغذية العالقات االجتماعية. وتشكل التفاعالت الفردية أو الجماعية اليومية المفهوم الحياتي للدين .إن قدسية الوطن هي أم ٌر ظرفي، رحال ،ويصبح حق وهي ليست أمراً ثابتاً متعلقاً بالحجر فقط بل بالعالقات؛ حيث يتحول الوطن إلى ّ الحصول على ملجأ ومأوى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالهجرة. ارتبط مفهوم الجوار بفهم مفهوم بناء المنزل والدين .يكمن فهم األمة كممارسة حياتية في فهم 180
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
حق اجلرية :خمرج من مستنقع الطائفية
الحقوق والواجبات المتعلقة بالحي والجوار .وبعيداً عن الفهم السياسي لمعنى ‘األمة’ ،كما تشرحها جهود التحديث إلسالميين كجمال الدين األفغاني منذ نهاية القرن التاسع عشر وما بعد ،تذكرنا تجارب النزوح سوري قابلته نازح ٌّ التي يعيشها النازحون أن ‘األمة’ ُو ِج َد ْت أوالً وقبل كل شيء في السياق المحلي .كرر ٌ في أورفا ما ذكره نازحون عراقيون ُ كنت قد التقيتهم سابقاً في دمشق في .2010وأشار إلى أهمية زيارات الجوار كمقياس للعالقات الجادة“ :يعجبني حين يعاملنا األتراك بشكل مسا ٍو لهم ،ال كالجئين فقراء .عندما شخص عادي ومسا ٍو لهم .لم أخلق ألشعر بشعور يزوروننا أو يدعوننا لزيارتهم في منازلهم أشعر بأني ٌ َ تمنحك شعوراً رائعاً .وزيارة الناس في منازلهم بهذا الشكل يعني أن لدينا عالقات الالجئين .زيارة الناس لك سليمة”. اخلالصة :مالذ سوري من هو الغريب إال ذلك الشخص المختلف عني؟ أي ‘اآلخر’ .إن تجربة التحول إلى ‘اآلخر’ تولد عندنا حساسي ًة تجاه االختالف .التقاليد اإلسالمية تؤمن لنا لغ ًة لالحتفاء بالتنوع والتعددية .وهذا ما تدعمه اس إِنَّا خَ َل ْق َنا ُك ْم م ِْن َذ َك ٍر َو ُأ ْن َث ٰى َو َج َع ْل َنا ُك ْم ُش ُعو ًبا َو َق َبائ َِل لِ َت َعا َر ُفوا * إِنَّ آية في القرآن (َ ﴿ :)49:13يا أَ ُّي َها ال َّن ُ أَ ْك َر َم ُك ْم ِع ْن َد ال َّل ِه أَ ْت َقا ُك ْم * إِنَّ ال َّل َه َعل ٌِيم خَ ِبي ٌر﴾. وهكذا يتحول الغريب بسهولة إلى جار .يتحول من كونه ضيفاً ،ال يجب أن يطيل إقامته ،إلى جار. يجب أن ال ننسى أن للجار حقوقه في التقاليد اإلسالمية ،فعن عائشة أن رسول الله قال“ :ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”( .)IXوحذر النبي من المعاملة السيئة للجار“ :لن يدخل الجنة من ال يأمن جاره بوائقه”( .)Xللتأكيد على عواقب التعامل السيء مع الجار ،بغض النظر عن عقيدته أو عرقه أو جنسه ،يذكرنا النبي أن التعامل الجيد مع الجار هو سمة المؤمنين .ويقول النبي“ :من كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فال يؤذ جاره ،ومن كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فليكرم ضيفه ،ومن كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فليقل خيراً أو ليسكت”(.)XI بتوجيه أنظارنا إلى النازحين الموجودين داخل الحدود اإلقليمية السورية ،نتذكر أن مناطق الصراع لم تنتج فقط أحياء محطمة وقرى مهجورة وعنفاً ال يمكن تخيله ،بل أنتجت أيضاً ٍ شبكات تعتمد على نفسها ٍ ومساحات للضيافة ،مالجئ ومالذات رغم تدهور وتآكل الموارد المتضائلة التي تحت تصرف المجتمعات المضيفة. في خضم الصراع يتم صون حق الجيرة في سوريا يومياً .وبينما يصبح إيصال المساعدات اإلنسانية إلى المناطق التي تقع خارج سيطرة النظام أكثر تحدياً وأقل تواتراً ،يجبر السوريون أكثر فأكثر على الهجرة إلى مناطق يسهل فيها الحصول على المساعدات اإلنسانية ويخف فيها تهديد القصف الجوي .بحلول شهر تشرين الثاني/نوفمبر أصدر نظام األسد تقريرا يقول فيه أن نسبة %3من 6.5مليون نازح تتم استضافتهم في مراكز إيواء عامة (مساجد ومدارس وغيرها من المباني العامة) ،فيما وجد أكثر من %85من النازحين ضمن الحدود السورية الملجأ في منازل األقرباء والعائلة وفقاً إلحصاءات الحكومة(.)XII استقبلت مدن كمدينة السلمية ومدينة السويداء ،ذات األقليات اإلسماعيلية والدرزية ،عدداً كبيراً من النازحين السنة ،وعرض األهالي عليهم المأوى داخل منازلهم .يعتبر استقبال السنة من ِق َبلِ مدنٍ ذات 181
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
خمرج من مستنقع الطائفية:حق اجلرية
دراسات
ً يتح ّدى هذا األمر اعتبار الصراع صراعا.أغلبية من األقليات أمراً مهماً ألنه يتعارض مع الرواية الطائفية ٌ يعتبر الغريب موضع ترحيب ودعم من، بدالً من ذلك.مجموعة عقائدية السيطرة على أخرى تحاول فيه فرص عمل، نقص في الموارد: ال شك أن الضغوط التي تواجهها المجتمعات المحلية كبيرة.’قبل ‘اآلخر ونقص في إمكانية توفير حاجات الوافدين الجدد؛ جميعها عوامل، أسعار متصاعدة للحاجات اليومية،أقل ومع ذلك فإن األزمة تمنح فرصاً لتنمية عالقات الجوار واستعراض مظاهر.تساهم في تشكيل بؤر للتوتر . وبناء سياسة التقارب، معرفة كيفية معاملة الغريب الموجود بيننا بطريقة أخالقية:الضيافة
الهوامش واملراجع
I http://www.irinnews.org/report/90442/syria-drought-pushing-millions-into-poverty II Popular Protest in North Africa and the Middle East (VI): The Syrian People’s Slow-motion Revolution Crisis Group Middle East/North Africa Report N°108, 6 July 2011. Available at: http://www.crisisgroup.org/en/regions/middle-east-north-africa/ egypt-syria-lebanon/syria/108-popular-protest-in-north-africa-and-the-middle-east-vi-the-syrian-peoples-slow-motionrevolution.aspx III Rifa’a al Tahtawi (2006) “Fatherland and Patriotism” in Donohue J & Esposito J (eds) Islam in Transition (Oxford: Oxford University Press) IV Rosenthal, F. (1997), “The stranger in medieval Islam”. Arabica, 44(1), pp.3575-. V Shoukri, A.M. (2010), Refugee status in Islam: concepts of protection in Islamic tradition and international law. London: I.B.Tauris. VI Sahih al- Bukhãri Vol.8, Book 076, No.0425 VII Al-Qur’an 4:36 VII Turton, D. (2005), “The meaning of place in a world of movement: Lessons from long-term field research in Southern Ethiopia”. Journal of Refugee Studies, 18(3):258280-. p.278. IX Sahih Muslim Book 032, Chapter 40, No.6354 X Sahih Muslim Book 001, Chapter 19, No.0074 XI Sahih Muslim Book 001, Chapter 20, No.0078. XII See “2014 Syrian Arab Republic Humanitarian action Response Plan” Available at: http://reliefweb.int/report/syrian-arabrepublic/2014-syrian-arab-republic-humanitarian-assistance-response-plan-sharp
182
1 العدد 2014 يوليو ـ/ متوز
املشهد البصري
املشهد البصري
‘أمل’
رسم :رامز منزالوي❊ حول العمل الفني: العمل مقتنى من قبل وزارة الثقافة يف العام .2012حاز العمل عىل املركز الثاين يف معرض ‘دار الكفيل’ يف العراق لعام .2013
❊ رامز منزالوي :فنان فلسطيني اختصاص تصوير ضويئ ،وخريج معهد الفنون التطبيقية ( .)2005مصور صحفي يف الوكالة العربية السورية لألنباء (سانا) ،ومدرس مادة التصوير الضويئ يف املعهد التقاين للفنون التطبيقية .عضو ‘تجمع فناين فلسطني’ ،وعضو ‘اتحاد الصحفيني’ ،وعضو ‘اتحاد املصورين العرب’ .شارك يف عدة معارض جامعية داخل وخارج سوريا. 184
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
‘توقف الزمن’
تصوير :أسماء الدوس❊ حول العمل الفني: ٍ لحظات مختلفة! تم تصوير العمل يف عام .2012محاول ٌة إليقاف الزمن يف
❊ أسامء الدوس :فنانة سورية خريجة معهد الفنون التطبيقية ،قسم التصوير الضويئ .تعمل كمصورة صحفية .شاركات يف معارض جامعية وورشات عمل فنية عديدة. 185
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
املشهد البصري
‘فلسطينية منكوبة’ رسم :رنا شعبان❊
حول العمل الفني: اللوحة 70×50سم ،قامش أكريليك وغواش وبقايا قهوة وحرب صيني. ❊ رنا شعبان :فنانة فلسطينية خريجة معهد دمشق املتوسط ،فرع هندسة الديكور .مارست العمل الفني يف مجال الرسوم املتحركة وقصص األطفال منذ حوايل 10سنوات (رسم الخلفيات ،واليل آوت ،وتصميم الشخصيات ،وتحريكها ،واإلرشاف الفني وتسجيل الصوت) .كام عملت يف مجموعة من رشكات اإلنتاج الفني بسوريا والوطن العريب .شاركت مع ‘تجمع فناين فلسطني’ مبعارض فنية يف دمشق. 186
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
‘حالة جدل’
رسم :معتز العمري❊ حول العمل الفني: اللوحة 70×50سم ،قامش أكريليك وغواش وبقايا قهوة وحرب صيني.
❊ معتز العمري :فنان فلسطيني خريج معهد أدهم إسامعيل للفنون التشكيليه ،ودبلوم بالرسم والديكور .عضو ‘اتحاد الفنانيني التشكيليني الفلسطينني’ ،وعضو ‘تجمع فناين فلسطني’ .شارك يف معارض خارجية وداخلية عديدة .حاز عىل الجائزة األوىل يف ‘يوم القدس العاملي’. 187
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
املشهد البصري
‘أمل’
تصوير :عيسى حممد اخلضر❊ حول العمل الفني: فازت هذه الصورة مبسابقة الطبيعة الصامتة التي أقامتها مؤسسة ‘روبينا آرت’ لإلنتاج الفني .2014نوع الكامرياDMC-FZ8 Panasonic :
❊ عيىس محمد الخرض :طالب يف السنة الثالثة هندسة ميكانيكية .شارك يف معرض مشرتك أواخر الـ 2012يف ‘صالة جسور’ ،ومعرض ِ ‘أنت’ يف منتدى البناء الثقايف .2014حاصل عىل املركز األول يف مسابقة الطبيعة الصامتة التي أقامتها مؤسسة ‘روبينا آرت’ لإلنتاج الفني .2014 188
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
غسالة اجملتمع’ ‘ناشرين عرضا -خرجت للتو من ّ رسم :مايا عدنان حممود❊ حول العمل الفني: ألوان مائية عىل ورق قياس 37×29سم -تاريخ .2014/5/6تعرب عن التقييد املفروض عىل النساء والفتيات يف مجتمعاتنا ،يف تجسيد للمقولة العامية ‘نارشين عرضا’.
❊ مايا عدنان محمود :تدرس إدارة األعامل يف جامعة ترشين بالالذقية. 189
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
املشهد البصري
‘اليك’
كاريكاتور :ياسر أحمد❊
❊ يارس أحمد :فنان سوري خريج معهد إعداد املدرسني ( .)1997حاصل عىل العديد من الجوائز العاملية ،وعضو لجنة تحكيم ألكرث من مسابقة .عمل يف الصحافة منذ عام ،2005وشارك يف العديد من املعارض .مرشح لجائزة الصحافة العربية أربع دورات ضمن أفضل ثالثة فنانني .عضو يف موقع ‘كيجل’ العاملي لرسامي الكاريكاتري. 190
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
‘جدار’
تصوير :عمار خضور❊ حول العمل الفني: حيطان ُمهملة ،لوحات طرقية ،رضبات ألوان عفوية ،تشكيالت لونية .هذه بعض الصفات التي أستطيع أن أصف بها ما أراه عىل الجدران ،والتي تدفعني إىل تصويرها وتوثيقها.
❊ عامر خضور :يدرس يف كلية الحقوق بجامعة دمشق .شارك يف عدة معارض فنية عامي 2012و ،2013فضالً عن نشاطات تطوعية عامة يف دمشق. 191
العدد 1 متوز /يوليو ـ 2014
يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق -لندن
حول جملة ِدلْـــ َتا نُــون
مجلة ِدلْـــتَا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام (دمشق -لندن). تسعى املجلة إىل دراسة العالقة بني الفكر والشأن العام يف منطقة غرب آسيا وشامل إفريقيا (الرشق األوسط) عموماً ،ويف سوريا خصوصاً .تعمل املجلة عىل نرش مواد ترتاوح بني املقاالت والدراسات والريبورتاجات الصحفية ومراجعات الكتب ،إضافة إىل قسم خاص بالصور الفوتوغرافية والرسومات والكاريكاتور .وتهتم املجلة بنرش املواد التي تناقش ،يف صور ٍة مرتابط ٍة ومنهجية ،ما ينضوي تحت املحاور الثالثة التالية:
• الفكر :مبا يشمله هذا العنوان العريض ،عىل سبيل املثال ،من أفرا ٍد (كاملثقفني ٍ ومؤسسات (املراكز بحثية ،والجامعات، واألكادمييني والخرباء وال ُكتّاب واإلعالميني)، والصحافة ،ودور النرش) ،و ُم ْخ َر َج ٍ ات (كالكتب ،واألفكار ،والحركات الفكرية) ،وغريها. ٍ • الشأن العام :مبا يشمله هذا العنوان العريض ،عىل سبيل املثال ،من أعر ٍ وثقافات اف سائدة و ُم َه َّمشة ،وقضايا االقتصاد والتنمية والخدمات ،واملجتمع املدين ،والصحة والرتبية والتعليم ،وتطبيق القانون والترشيعات والحقوق األساسية ،واملامرسات السياسة ،وغريها. • العالقة بني املح َو َريْن السابقني ،أي بني الفكر والشأن العام :سواء عىل مستوى التأثر والتأثري ،والتقاطع ،والسببية ،واالنفصال ،واالستقاللية ،وغريها.
دعوة للكتابة يف ‘جملة ِدلْـــ َتا نُــون’
بعد إصدار العدد األول يف متوز/يوليو ،2014تسعى ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ إىل إصدار عددها الثاين يف أواخر شهر أيلول/سبتمرب .2014وعليه ندعوكم إىل إغناء املجلة مبساهامتكم الفكرية والنقدية واملستقلة ،بعد االطّالع عىل رشوط وتعليامت النرش يف املوقع اإللكرتوين للمجلة .delta-n.c-tpa.org :وميكن إرسال مساهامتكم عىل الربيد اإللكرتوين ،editors@c-tpa.org :علامً أن آخر ٍ موعد الستقبال املساهامت هو نهاية آب/ أغسطس .2014
رسائل القراء
ترحب مجلة ِدلْـــتَا نُــون برسائل القراء سواء كانت تعليقات أو تعقيبات أو ردود عىل املواد املنشورة يف املجلة ،أو اقرتاحات وانتقادات تسهم يف االرتقاء بعملها .ميكن للقراء توجيه كافة الرسائل إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوينeditors@c-tpa.org :
ريبورتاجات
مقاالت
• •
• مقاربة لنقد الطائفية يف سوريا – نريوز ساتيك • االفرتايض يخضع للواقع – مناف زيتون • يك ال تُفسد الثورة السورية بأيدي من ميتطونها – هوشنك أويس • • مفارقات لونية يف الداخل السوري – رهام كوسا • • األلرتاس :النشأة والدور – فيكتوريوس شمس • التوجهات السياسية لرأس املال يف سوريا – عبد الله شالش • • املرسح السوري أزمة عميقة تتطور – مايا جاموس • • األدب السوري املعارض – عبد الوهاب عزاوي • عالقة املذاهب الفنية – ليليان بالن اترش ر ب مارك • داعش وتجاوز حدود املزاودات – دراسات • يف الصورة البرصية ملجلة دابق وإسقاطاتها – مصطفى دباس • الحروب األهلية بني املظلومية والطمع – سنان الحواط • من البنية التحتية لوسائط النقل إىل السياسة يف بريوت – أحمد عثامن • تيار العبث بني الفلسفة واملرسح – عالء العامل • الدولة السورية بني مصيدة القوة واملدى – وجدي وهبي مراجعات كتب • فن الشارع يف إيران واستعادة الحيز العام – دنكان توماس • رواية رسمدة لفادي عزام – نور شلغني • قلق يف العقيدة لسعيد ناشيد – عامر ديوب • حق الجوار كوسيلة للخروج من املستنقع الطائفي – طاهر زمان
مركز دراسات الفكر والشأن العام
املساكنة – كفاح زيني لبنان :الجئون يف الخيام والجئون يف القصور – عامر املأمون وعبد الله قاسم ملف املخطوفني يف سوريا – قيص عاممة الرياضة السورية :ضحية من ضحايا األزمة؟ -عالء إحسان وأحمد حاج حمدو املسلحون يف سوريا :البحث عن الدعم والقيادة – طارق العبد رحى الحرب يف سوريا تطحن حقوق الطفولة – دميا نقوال
مجلة دلتا نون
Centre for Thought and Public Affairs email: info@c-tpa.org www.c-tpa.org
يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق ـ لندن
@CTPA_Arabic
@DeltaN_Arabic
CTPA.Arabic
email: editors@c-tpa.org www.delta-n.c-tpa.org DeltaN.Arabic