مجلـــة يصــدرها مركــز دراســات الفكــر والشــأن العــام .دمشــق -لنــدن
مقاالت:
• األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب • نحو تأسيس وعي اجتامعي مختلف • العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا • دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية • الدولة الريعية زمن التحول السيايس • التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع • الحقيقة ‘ليست’ هناك
مراجعات كتب:
• إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية • التحول الدميقراطي ..سورية منوذجاً
ريبورتاجات:
• إبداع وسط األمل • حول مراكز بحوث السياسات
العــدد صفر ،أيـــار /مـايـــو ـ 2014
دراســـــات:
• املثقف واملعارضة والشأن السوري • غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة • بني الشعر والفيس بوك • السينام كمعرب عن تفاوت الرصاع • محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري • قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة
العدد 0ـ أيار /مايو ـ 2014
صورة الغالف: ‘مالئكة يف زمن الحرب’
عدسة رامي ميك ،املزيد يف محور ‘املشهد البرصي’ يف الصفحة 134
ِدل َتـا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق ـ لندن .السنة األوىل ،العدد صفر ،أيار /مايو 2014
هيئة التحرير :طالل امل َ ْي َهني فرزند عمر حسني برو
لالتصال بنا: مكتب دمشق:
محررون مساعدون :مجد جمول صفاء جمعة متني املَيْ َهني
مكتب لنــدن:
الفريق الصحفي :ماهر املونس دميا نيقوال طارق العبد نور شلغني عالء إحسان قيص عاممة تصميم الصور :رامي ميك لجني حاج يوسف مسؤول اإلنرتنت :طارق سواح فريق امللتيميديا واملكتبة الصوتية :خالد هربش كندة يوسف مصطفى دباس
شارع العابد -جادة العاين ص.ب10250 : 436A Hamilton House Mabledon Place, Bloomsbury London, WC1H 9BB Tel. +44 20 75 54 85 30 email: editors@c-tpa.org www.delta-n.c-tpa.org
مركز دراسات الفكر والشأن العام
Centre for Thought and Public Affairs email: info@c-tpa.org www.c-tpa.org
التصميم واإلخراج الفني: Omran Attar gaea.goddess@gmail.com
يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق -لندن
يَضَ ُع ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ بني أيديكم العدد صفر من ‘مجلة ِدلْـــتَا نُـون’ .يَضُ ُّم العدد أكرث بأقالم شاب ٍة وواعد ٍة لتبحث ،من زوايا مختلفة ،يف إشكالية العالقة بني الفكر من عرشين مادة تم إعدادها ٍ والشأن العام .وترتاوح هذه املواد بني املقاالت والدراسات ومراجعات الكتب والتحقيقات الصحفية ،إضاف ًة إىل قسمٍ ٍ خاص باملشهد البرصي يشتمل عىل مجموع ٍة من الصور الفوتوغرافية ورسومات الكاريكاتور.
احملتوى 7
حترير كلمة رئيس التحرير
رئيس التحرير
8
كلمة العدد
هيئة التحرير
9
11
مقاالت األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب
مازن عيل
13
اجتامعي مختلف وعي نحو تأسيس ٍ ٍّ
عامد العبّار
17
العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا
رهام كوسا
23
دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية
علياء أحمد
27
الدولة الريعية يف زمن التحول السيايس
مجد ج ّمول
31
التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع
وليد بركسية
35
الحقيقة ليست هناك
عماّ ر املأمون
39
43
مراجعات كتب إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية
فرزند عمر
45
التح ّول الدميقراطي ..سوريا منوذجاً
عبد الحاج
51
57
ريبورتاجات صحفية إبدا ٌع وسط األمل
الفريق الصحفي يف املجلة
59
حول مراكز بحوث السياسات
الفريق الصحفي يف املجلة
75
81
دراسات املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
محمد ديبو
83
غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة
فراس الح ّواط
101
بني الشعر والفيسبوك
سالف علوش
111
السينام ك ُم َع رِّب عن تفاوت الرصاع
فيكتوريوس شمس
119
محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
ياسمني عيود
129
قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة
ع ّزام قصري
141
147
املشهد البصري مالئكة يف زمن الحرب
رامي مك
148
عناق األخطبوط
سامرة سلاّ م
149
إرصار
مصطفى دباس
150
انترصنا
هاين عباس
151
نزوح
دعاء نشّ ار
152
ابتسامة
أسامة حويجة
153
قصة محاربة
بانا ماخوس
154
ضاع املفتاح
مرهف يوسف
155
حترير
6
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حتــرير كلمة رئيس التحرير كلمة العدد
حترير
كلمة رئيس التحرير
حول ‘جملة ِدلْ َتا نُون’
تَطْ َم ُح ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ ألن تكون منربا ً مفتوحاً يسعى إىل دراسة ‘العالقة’ بني ‘الفكر’ وبني ‘الشأن العام’. هذه املجلة نشا ٌط من نشاطات ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ (دمشق – لندن) ،حيث تصدر بجهود فريقٍ يتوزَّع أعضاؤه بني دمشق وبريوت والقاهرة والسويد وتركيا وباريس ولندن .وتعمل ‘هيئة التحرير’ حالياً عىل إصدار ‘ ِدلْـــتَا نُــون’ كل شهرين يف نسخ ٍة إلكرتونية (متوفرة مجاناً عرب املوقع اإللكرتوين للمركز واملجلة) ،مع األمل يف إصدارها يف نسخ ٍة ورقي ٍة مطبوع ٍة بعد مرور السنة األوىل. ت ُويل ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ أهمي ًة خاص ًة للقضايا الـ ُملِ َّحة يف منطقة ‘الرشق األوسط’ عموماً ،وسوريا خصوصاً. وترتاوح املواد التي تنرشها املجلة بني املقاالت والدراسات ومراجعات الكتب والريبورتاجات الصحفية ،إضاف ًة إىل الصور الفوتوغرافية ،والرسومات التشكيلية ،والكاريكاتور .وتركز ‘هيئة التحرير’ يف صور ٍة خاصة عىل جذب األقالم نقدي وخلاّ ق .كام تسعى إىل تشجيع رشيحة الشباب الذين مل يسبق لهم الشَّ ابة واملوهوبة ،واملعتمدة عىل تفكريٍ ٍّ اقتحام غامر الكتابة ،أو أولئك الذين ما زالوا يَتَ َهيَّبُون نرش كتاباتهم ألسباب مختلفة. تتبع املجلة سياس ًة تحريري ًة تنظِّ ُم استالم املواد وقراءتها والتواصل مع ال ُكتَّاب .ومن املهم أن نشري إىل أن ‘هيئة التحرير’ ال تتخذ أية مواقف سياسية أو أو فكرية أو أيديولوجية ُم ْس َبقَة ،وال تتدخل بالتايل يف األفكار ٍ الواردة يف املواد الـ ُم ْر َسلَة ،لكنها قد تضيف اقرت ٍ تعديالت معينة فيام يتعلق بأسلوب َع ْر ِض هذه األفكار احات أو (مبا يجعلها أكرث وضوحاً ومتاح ًة لرشيح ٍة أكرب من القراء) .وميكن االطالع عىل كافة التفاصيل والرشوط املتعلقة بالكتابة يف املجلة عرب املوقع اإللكرتوين. يخص اسم املجلة ‘ ِدلْـــتَا نُــون’ الذي يحمل بُ ْعدا ً رمزياً قد يدفع بال ُق َّرا ِء األعزاء إىل أخريا ً ال بُ َّد من كلم ٍة فيام ُّ التساؤل عن معناه .إذ يُ ْر َس ُم حرف ‘الدلتا’ اإلغريقي-الفينيقي عىل شكل مثل ٍّث رأسه نحو األعىل :نحو الـ ُم َج َّرد، مجازي ‘للفكر’ .أما يف اإلرث العريب فريمز حرف ‘النون’ ،كام ومكافئ للس ُم ِّو ،والعقل، ٍّ ٍّ نحو الـ ُمطْلَق ،كرم ٍز للنارُّ ، يف ‘كُ ْن فيكُون’ :إىل اكتامل الوجود ،إىل تحقُّق الكينونة ،إىل تشكُّلِ األشياء يف الواقع الـ ُمعاش املحيط بنا ،كمكافئٍ مجازي ‘للشأن العام’ الذي يعيشه الناس ويتفاعلون معه ،ويتأثرون به ،ويؤثرون فيه .هذا الجمع ،بني َح ْرفيَ ٍّ ِ مجازي بني ‘الفكر’ و‘الشأن العام’ ،مع استحضا ٍر ‘الدلتا’ و‘النون’ ،بني ‘ َر ْم ِزيَّة الدلتا’ و‘رمزية النون’ ،هو جم ٌع ٌّ لرسالة املركز؛ ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’. نتمنى أن تكون هذه البداية املتواضعة عند حسن ظ ِّن ال ُق َّراء األعزاء ،عىل أمل االستمرار يف َس ْعيِنا الطَّ ُموح لتأسيس مساح ٍة فكري ٍة جديد ٍة تحرتم كُلاّ ً من الكاتب ،والقارئ ،والكلمة التي تجمع بينهام. د .مح ّمد طالل امل َ ْي َهني رئيس التحرير 8
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
كلمة العدد نض ُع بني أيدي حرضاتكم العدد صفر من ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ الصادرة عن ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ (دمشق – لندن) .هذا العدد حصيل ُة ٍ جهد بذله فريق العمل عىل مدى شهو ٍر عديدة ،بالتعاون مع رشيح ٍة ٍ مميز ٍة من ال ُكتَّاب والفنانني الشباب ،بغية تقديم عملٍ جديد يف الساحة الفكرية والثقافية والنقدية يف املنطقة. ال ميكن يف هذه ال ُع َجال ِة وصف انتقال الفكرة ،التي بدأت بحوار ٍ ات جانبية بني ث ُــلَّ ٍة من الزمالء ،من ح ّيز وبغض النظر عن لحظات التل ُّهف التي التخيّل وفضاء الحلم إىل عامل الواقع والتحقّق .لكن مهام كانت مشاعرناِّ ، تصويب لل َهفوات التي قد نكون وقعنا فيها سيأيت من ال ُق َّراء افقت ظهور هذا العمل ،فإن خ َري تقييمٍ ألدائنا ،وخ َري ٍ ر ْ األعزاء ،ومن املشتغلني يف الحقل الفكري وحقل الشأن العام؛ أولئك الذين نأمل أن يطّلعوا عىل هذا العمل دون أن يرت ّددوا يف التعبري عن آرائهم ومالحظاتهم وانتقاداتهم ،وإرسالها إىل هيئة التحرير. يحتوي العدد عىل خمسة محاور؛ مقاالت ،ومراجعات كتب ،وريبورتاجات ،ودراسات ،إضافة إىل املشهد البرصي .تضم هذه املحاور يف مجموعها ما يزيد عىل عرشين مادة ُز ِّو َد معظمها بخالص ٍة من بضعة سطور ،يك رس وسهولة .وقد تعددت املواضيع والقضايا التي أثارتها يَتَ َس ّنى للق ّراء األعزاء االطالع عىل األفكار املطروحة يف ي ٍ املواد املنشورة يف هذا العدد .ففي محور املقاالت يكتب مازن عيل مقال ًة عن ‘األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب’ يناقش فيها دور األنظمة السياسية يف توفري البيئة الحاضنة ألفكار التطرف ،يف حني يناقش عامد العبار الدور املهم لقراءة النص الديني يف التأثري يف الشأن العام للمجتمعات .وبينام تُ َعل ُِّق رهام كوسا عىل التأثر بالحدث األوكراين من خالل عرض بعض األمثلة من تعليقات السوريني ،تشري علياء أحمد ،يف مقالتها املعنونة ‘دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية’،إىل رضورة إرشاك املرأة يف قضايا شديدة األهمية عىل مستوى الشأن العام السوري .كام يكتب مجد ج ّمول مقال ًة يف الشأن االقتصادي يناقش فيها ‘الدولة الريعية زمن التحول السيايس’، مع اإلشارة إىل أن املقالة املذكورة متهي ٌد لورق ٍة بحثي ٍة ُم َع َّمقة بقلم الكاتب سيتم نرشها مستقبالً .وسيجد ال ُق َّراء مقالتني حول الواقع االفرتايض؛ إحداهام بقلم عامر املأمون يتحدث فيها عن الحرب الرقمية التي تطحن السوريني عىل شاشات الكمبيوتر ،أما األخرى فبقلم وليد بركسية يشري فيها إىل واقع التدوين السوري والـ ُم َد َّونَات السورية ظل التحوالت التي متر بها البالد. يف ِّ يضم العدد أيضاً مراجعتي كتب؛ األوىل بقلم فرزند عمر يناقش فيها كتاباً أدبياً بعنوان ‘الوحدة تُ َد�ل ِّ ُل سيايس لرضوان زيادة كتاب ضحاياها’ للكاتب الشاب دارا عبدالله ،والثانية بقلم عبد الحاج يلقي فيها الضوء عىل ٍ ٍّ بعنوان ‘التحول الدميقراطي ..سوريا منوذجاً’. يف محور الريبورتاجات الصحفية َع َم َد الفريق الصحفي يف ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ إىل إعداد مادتني .األوىل عبارة ظل الدمار .أما عن ريبورتاج بعنوان ‘إبدا ٌع وسط األمل’ يتناول املظاهر الثقافية والفنية التي تكاثرتْ يف سوريا يف ِّ 9
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حترير
كلمة العدد التجريبي
الثانية فهي لقا ٌء مع بعض الباحثني يف ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ يتحدثون فيه عن أهمية ودور املراكز البحثية يف العملية التنموية. كام يحتوي العدد عىل ست در ٍ اسات دسمة .إذ ينرش محمد ديبو دراس ًة عميق ًة بعنوان ‘املثقف واملعارضة والشأن السوري’ يق ِّدم فيها مراجع ًة أولي ًة للواقع السيايس واالجتامعي يف سوريا وجهل كثريٍ املثقفني السوريني بواقع بالدهم ،مع اإلشارة إىل أن هذه الدراسة ليست سوى جز ٍء من ورق ٍة بحثي ٍة ُمطَ ّول ٍة من الـ ُم َخط َِّط إصدارها نصيب يف العدد صفر من ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ يف متوز/يوليو من ِق َبلِ ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ .وللتاريخ ٌ ٍ سياقات متعددة’ بقلم فراس الح ّواط .ومر ًة أخرى إىل الفنون حيث مع ماد ٍة شَ ّيق ٍة حول ‘ َغ ْيالن الدمشقي يف تُلْ ِقي سالف علوش يف دراستها الضوء عىل أثر التكنولوجيا (فيسبوك) عىل املادة األدبية الشعرية ،يف حني يعطي عام هي القضية الفلسطينية .ويف فيكتوريوس شمس يف دراسته ثالثة أمثل ٍة عن َد ْور السينام يف مقاربة قضية شأنٍ ٍ دراسته يقدم ع ّزام قصري قراء ًة نقدي ًة و ُمركّزة لدعوات تطبيق الرشيعة التي تكتسح الفضاء العام يف غري بقع ٍة يف سوريا والرشق األوسط .وأخريا ً ننرش بالتعاون مع مؤسسة اتجاهات الجزء األول من دراس ٍة لياسمني عيود حول ‘ ُم َح ِّد َدات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري’ ،عىل أمل أن يتم نرش األجزاء املتبقية يف األعداد القادمة. يف املحور األخري املعنون بـ ‘املشهد البرصي’ اخرتنا لكم باق ًة من األعامل الفنية التي ترتاوح بني التصوير الفوتوغرايف ورسومات الكاريكاتور .وقد أُ ْر ِسلَت املساهامت إىل العدد الحايل من ِق َبلِ عد ٍد من الفنانني والفنانات الشباب هم :رامي مكيّ ،وسامرة سلاّ م ،ومصطفى دباس ،وهاين عباس ،ودعاء نشّ ار ،وأسامة حويجة ،وبانا ماخوس، ومرهف يوسف. د .مح ّمد طالل امل َ ْي َهني ،د .فرزند عمر ،أ .حسني برو هيئة التحرير
10
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب نحو تأسيس وعي اجتامعي مختلف العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية الدولة الريعية زمن التحول السيايس التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع الحقيقة ‘ليست’ هناك
مقاالت
مازن عيل❊
األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي:
استثمار النظام السوري اخلالصة:
ثالثة عوامل تعزز من ديناميات الفعل األصويل وتتضافر يف شكل غري مسبوق يف منطقة املرشق العريب .أولها :انحسار وضعف السلطة املركزية يف ثالث دول هي سوريا والعراق ولبنان ،وثانيها :انسحاب الكثافات املدنية عىل وقع تجريفها من قبل السلطة ،أما الثالثة: بخطاب تكمن يف الحاجة أليديولوجيا الحشد املزدوج ضد محتل خارجي وسلطة مستبدة ٍ يتأسس عىل هذه العوامل أي خطابَّ . سهلٍ له يف الذاكرة والوجدان مكان ٌة ال ينافسه فيها ُّ مضاعفة االنحطاط يف املرشق العريب لثقاف ٍة مأزوم ٍة أساساً يف ذاتها وهويتها وعالقتها مع ٍ حركات أصولية راديكالية تجد من يستثمرها يف ‘اآلخر’ ،لتصبح مخرجات هذه الثقافة ٍ تضج تكتيكات ابتزا ٍز وتصفي ِة عبثي ُّ حسابات دولي ٍة وإقليمي ٍة ومحلية ،لنكون أمام مشه ٍد ٍّ نظم سياسي ٍة تقلَّصت إىل ميليشيات سط ٍو فيه الحركات الراديكالية الدينية املتصارعة مع ٍ كل منها عىل اآلخر مبا يشبه ‘تواطؤ األضداد’. تديرحروباً أهلي ًة ،ويتغذى ٌّ
❊ خريج كلية العلوم السياسية يف جامعة دمشق .تقدم برسالة املاجستري تحت عنوان ‘املتطلبات السياسية للتنمية :دراسة تحليلية يف تنظيم السلطة والتحديث السيايس’ .عمل كباحث متفرغ يف ‘مركز الدراسات اإلسرتاتيجية’ بدمشق بني ،2012-2008وكسكرتري تحرير وعضو الهيئة االستشارية يف مجلة ‘دراسات فكرية’ .كام ساهم مبجموعة من األبحاث والدراسات لهيئات سياسية وحكومية يف سوريا أهمها‘ :قانون األحزاب’‘ ،قانون االنتخابات’‘ ،دراسات عن املجتمع املدين’ و‘الحياة الحزبية يف سوريا’ .له العديد من األبحاث املكتوبة منها ‘أسئلة يف النهضة’ ،و‘الدميقراطية بني الخصوصية والعاملية’ ،فضالً عن مشاركته يف برنامج التعاون األكادميي ‘وعي الذات ووعي اآلخر يف السياسة والتاريخ والثقافة’ بني جامعتي دمشق وإرالنغن األملانية.
12
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي
تطورت الحركة األصولية اإلسالمية وتنقلت عرب مراحل عدة وصوالً إىل شكلها الحريك الراديكايل الناجز كام نعارصه اليوم والذي يتعني ‘مبنظومة شبكة العالقات’ الواسعة للحركات اإلسالمية الجهادية ‘ذاتية الحركة’ التي يتموضع يف مركزها تقريباً تنظيم ‘القاعدة’ .وباتت معروفة للكثريين تلك السريورة التي مرت بها األصولية اإلسالمية والظروف الدولية واإلقليمية التي سوغت قيامها ،هذا فضالً عن املعارف الدينية التي قدمت النص واملنطق العقيدي لها .كام ميكن تلخيص العنارص املب ِّيئة لها من فقر وأمية يف مجتمعات احتضنتها كأفغانستان والصومال وغريها مبقابل فشلها يف إيجاد الحواضن الالزمة يف أكرث من بقعة جغرافية مفرتضة. كان يكفي غياب أي سلطة مركزية قوية ،وتعيني عدو محتل بدايةً ،حتى تستدعي أيديولوجية مبنية عىل يقني إمياين كاإلسالم ،تحشد بخطابه وتنظم برشيعته حتى تقرتب من النموذج األعىل يف الوعي املجتمعي كام وصل إلينا عرب أمهات الكتب التاريخية ،وتسحبه عىل الواقع كمرسحية تنكرية نشاهد فصولها عىل مرسح الواقع ،ثم تتنقل وتتمدد عىل بقاع جغرافية ذات مجتمعات موسومة باإلسالمية تقوم بالتعويض عن فشل املشاريع النهضوية من ماركسية ويسارية وليربالية وقومية يف حمل مهام التنمية والتحرير. تأخذ القضية مضاعفات أكرث جدية بالنظر إىل ظاهرة األصولية اإلسالمية يف منطقة املرشق العريب بالتحديد الذي يزخر بقصص ‘املايض املجيد’ ،والذي تعيش مجتمعاته عىل وقع إرث تاريخي ثقيل يحكم قيمها ويشكل وعيها لذاتها ولآلخر .فقد انترشت الحركات األصولية اإلسالمية بعد احتالل العراق وسقوط بغداد التي كان لها صدى بالغ التأثري يف النفسية العربية يف املرشق ،محدثة تحوالً جذرياً يف املفاهيم النضالية الكالسيكية مبختلف توجهاتها القومية واليسارية .إذ تحول البعثي العلامين إىل داعية إسالمي ،والفتحاوي إىل مريب ديني ،وانبثقت من قلب الحركات السياسية دعوات إسالمية كفتح اإلسالم (التي خرجت من رحم تنظيم فتح االنتفاضة برئاسة أبو خالد العملة) يف كناية عن رفض وقطيعة كاملة مع اإلرث االديولوجي والنضايل املرتبط بالنظام الرسمي املقاوم وصوالً إىل معاداته. وعىل وقْعِ وجود الواليات املتحدة األمريكية يف العراق كان أحد محفزات استنهاض الخطاب اإلسالموي التعبوي يتحرض لالنفجار يف قلب املرشق ،فها هو اآلخر املحتل قد أصبح عىل األرض بيننا ويتهدد التوأم الجار؛ 13
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي
سورية .ورسعان ما بدأت حركات ‘الصحوة اإلسالمية’ بنسختها الجهادية بالتوالد والتكاثر تحت عنوان املقاومة التي لقيت مدا ً لوجستياً وبرشياً من بعض دول اإلقليم مستثمرة هذه الحركات يف استنقاع الواليات املتحدة يف العراق .إذا ً كان هناك من يقتنص الفرصة يف لحظة تهديد ،إنه النظام السوري الذي وجد يف هذه الحركات أجهزة معدة للتحريك مبا يشبه اإلمساك مبقود (روبوت) مفخخ يهدد به تارة ويلوح به تارة أخرى ،صانعاً بعض تشكيالته يف قصدية متدبرة. وتفيد تجربة الثامنينات والتسعينات من القرن املايض أن هذه الحركات متتلك إمكانية تفلت كبرية بعد رشاكة موحى بها غري مبندة بعقد أو اتفاقية لتصبح عالقة عداوة وانتقام ما بعد الرشاكة ،متاماً كام حدث مع الواليات املتحدة وبعض حلفائها يف أفغانستان .لكن النظام السوري استطاع تحايش ارتداد الحركات األصولية عليه بعد عودة أفراده من العراق المتالكة تلك القاعدة التفصيلية من البيانات عن أفراد التنظيامت الجهادية العاملة بالعراق ،وأظهر قدرة عالية عىل الضبط وعدم تفلت زمام األمور من يده .يدخل النظام السيايس يف املرشق العريب كعنرص أصيل يف معادلة األصولية هذه املرة ،تتبدل وظائفه بتغري رشوط املعادلة منتجة مشهدا ً مختلفاً يف كل ظرف ،فتدعم األصولية تحت عنوان املقاومة وتحارب تحت عنوان اإلرهاب ،والعنرص املتحرك يف قلب املعادلة كان دوماً النظام السوري عىل مستوى هذه املنطقة. لقد تبدى الدور السوري يف استثامر الحركات األصولية مرة أخرى يف لبنان بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري عندما الحت بوادر تهديد داهم للنظام إثر اتهامه مبارشة بعملية االغتيال ،وللداللة عىل ذلك ميكن استعراض جملة القرائن التي وردت يف أحد الربامج الوثائقية التي يعدها الصحفي العريب يرسي فودة والتي تلت عملية االغتيال .إذ يذكر أن اتصاالً جرى بصحيفة صدى البلد اللبنانية من قبل مجهول اسمه أبو عبيدة مبلغاً عن ن ّية تفجري ثكنة عسكرية يف صيدا ،وقد حدث ذلك التفجري يف املكان والزمان الذي حددهام ،مام أكد التكهنات القائلة بامكانية تواجد وفعالية تنظيم القاعدة يف لبنان ،وتكررت هذه الحادثة أكرث من مرة يف عهد ما بعد الوجود السوري ،ويف نهاية عام 2005تم تبني عملية إطالق صواريخ (كاتيوشا) من قبل تنظيم القاعدة من جنوب لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله الذي تتنافر معه القاعدة عقائدياً وتتهمه بالوقوف عائقاً بينه وبني ارسائيل .لقد كان هذا التفلت العسكري لتنظيم القاعدة عىل التخوم اإلرسائيلية مثريا ً للريبة بالتوقيت وتخفي عنارصه عىل غري عادة أعضاء تنظيم القاعدة الذين يجاهرون بأسامئهم وهوياتهم وأهدافهم عادةً .وما غض النظر الذي مارسه حزب الله عن تلك العملية بالتحديد -التي ال ميكن أن تحدث دون علمه -سوى إشارة ملالمح البديل املمكن يف حال غياب حزب الله حيث كانت األصوات تتعاىل لسحب سالحة يف تلك األيام. ويف ظل غياب الوجود العسكري واألمني السوري فإن القاعدة هي من ستكون عىل الحدود اإلرسائيلية دون ضابط أو رقيب .كان النظام السوري ميتلك خريطة شبكة التنظيامت اإلسالمية املرتبطة بالقاعدة أو غري املرتبطة بها ولديه قاعدة بيانات شبه شاملة لعنارصها العائدة من العراق عىل وجه الخصوص ،نتيجة انخراطه بصورة مبارشة يف العراق ،وميتلك القدرة اإليحائية لتحريك بعضها يف أي اتجاه يريده ،مستخدماً إياها ورقة ابتزاز أمام الغرب وإرسائيل ،ويفيد استعراض لألسامء الكثرية التي نسبت إىل القاعدة أنها إما كانت يف السجون السورية أو نالت مباركة األجهزة األمنية أيام القتال يف العراق. لرمبا استطاع النظام السوري أن يلعب ورقة األصولية اإلسالمية واالستثامر بها يف أعىل إنتاجية لفرض رؤيته وتجنب املواجهة مع الواليات املتحدة بعد حرب العراق ،إىل جانب كونه نظام منوذجي يف التسلطية تتغذى األصولية عىل سياساته العامة املنتجة للفقر واألمية ومشاعر الحرمان لدى رشيحة واسعة من سكانه مام خصب 14
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي
حالة الراديكالية وشحنها بطاقة كامنة ال تلبث أن تتفجر لحظة انعدام النظام العام والسلطة املركزية ،هذا يف حقيقة األمر محاولة يف فهم دينامية صعود تنظيامت مثل ‘داعش’ و‘النرصة’. قد ال ميلك أي نظام أن يصنع كل حيثيات البيئة الراديكالية بكليتها ،إذ أنها تسري وفق دينامية انحطاط حضاري وتاريخي تعيشه املجتمعات العربية منذ قرون ،لكن تضاعف منه النظم السياسية يف الدول النامية ،أي ال تكون مهمة النظام توليدها جذرياً بقدر ما يحفر لها املمرات لتنساب وفق إرادته كام فعل النظام السوري، إال أنها تخرج عن السيطرة إذا أصبحت طوفاناً شعبياً مدفوعاً بكم هائل من القهر والظلم واالستهانة بإنسانية اإلنسان كام يحدث يف سورية اليوم.
15
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
عامد العبار❊
نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف:
فحدث} {وأما بنعمة ربّك مع آية ّ ّ
اخلالصة: تطبيق فهم مش ّو ٍه للدين ،أو عىل ٍ ال شكّ بأن املامرسة االجتامعية الخاطئة تقوم عىل ٍ انتقا ٍّيئ لنصوصه دون األخذ بعني االعتبار النصوص املك ّملة ،وهذا ما وجدناه مع استخدام الناس يف مجتمعنا آلية (وأ ّما بنعمة ر ّبك فحدّ ث) ،فكان فهمها وتطبيقها املجتزأ عند كثريٍ من الناس يؤدّي إىل االستغراق أكرث يف الحياة ،ما أدّى إىل حال ٍة من الفرد ّية ،واالنعزال التدريجي عن املجتمع .ولذلك وجدنا أن نعيد التفكري يف كثريٍ من اآليات التي تقوم عليها مثل هذه املامرسات االجتامعية الخاطئة ،وبهذه اآلية نبدأ.
املؤسسني يف ‘مركز دراسات الجمهورية الدميقراطية’ .كاتب للعديد من املقاالت الفكريّة والسياسيّة املنشورة يف مواقع وصحف ❊ طبيب مقيم يف فرنسا .أحد ّ سوريّة ،كصحيفة ‘طلعنا عالحرية’ و‘عنب بلدي’ و‘سنديان’ وموقع ‘أورينت.نت’ .باحث يف الفكر اإلسالمي وقضايا التغيري االجتامعي ،ومسألة الحريّة والال إكراه من منظور إسالمي ،من خالل عدّة دراسات منشورة يف موقع ‘الجمهورية لدراسات الثورة السورية’ ،وموقع ‘أون إسالم نت’ .صدر له كتاب بعنوان ‘قصة الحريّة بني النص القرآين والتطبيق التاريخي لإلسالم’.
16
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف
حامل أسايس للثقافة للنص الديني حضور مركزي يف عملية تشكيل الوعي االجتامعي يف مجتمعاتنا ،فهو ٌ اإلسالمية ،ومجتمعاتنا الحالية بجميع مك ّوناتها ،إسالمية وغري إسالمية ،مجتمعات تحمل ثقافة وعادات وتقاليد لعب النص الديني دورا ً أساسياً يف تكوينها ،وبالتايل فإن أي إصالح فكري يعمل عىل إعادة تفعيل النص بشكل سليم ،سيكون له تأثري عىل املجتمع بكل فئاته. تقوم املامرسات االجتامعية الخاطئة إ ّما عىل فهم مش ّوه للنص ،أو عىل استخدامه واستخدام تفاسريه بشكل مجتزأ ،ومبعزل عن بنيان النص األخالقي ككل. ميثل التطبيق االجتامعي آلية {وأما بنعمة ربّك فح ّدث}((( منوذجاً للتطبيق االنتقايئ للنصوص ،أو االختيار االنتقايئ لتفاسريها ،فلطاملا كان الفهم الجمعي لآلية؛ أن عىل الذي أنعم الله عليه أن يُظهر أثر النعمة عىل نفسه بني الناس ،ولطاملا كان التطبيق العميل لها يتظاهر عىل املستوى االجتامعي باملزيد من التباهي بالنعمة واملال؛ لطاملا فُهم أن الحديث عن نعم الله يكون من خالل اإلكثار من التمتّع بها ،وأن حرمان النفس من هذا اإلكثار املحصلة أن هذا الشخص ‘املتاح عادة ملن ميلك اإلمكان ّية’ هو نوع من الجحود بهذه النعمة ،وأن ذلك يعني يف ّ يستحق النعمة من األساس. امل ُنعم عليه مل يكن ّ معرفة سياق اآلية رضوري وأسايس هنا لضبط معنى مفردة ‘فح ّدث’ .اآلية جاءت مبارشة بعد مجموعة من األوامر التي تحدد جملة من التزامات الفرد االجتامع ّية تجاه آخرين يعيشون ظروفاً حرجة كاليتيم واملحتاج؛ {فأما اليتيم فال تقهر * وأما السائل فال تنهر * وأما بنعمة ربّك فح ّدث} يف سورة الضحى .الحديث عن نعم الله يأيت هنا ضمن سياق الحض عىل العطاء والتكافل االجتامعيني ،اآلية التي يفهمها معظم الناس عىل أنها تحض عىل ظهور أثر النعمة عىل الشخص املخاطَب ،موقعها ال يخدم هذا الفهم نهائياً .حتى أن الفهم الحريف للعبارة عىل أنها دعوة للح ّديث ‘مبعنى الكالم’ عن وجود هذه النعمة ،ال ينسجم مع سياق اآلية. ( )1سورة الضحى11:
17
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف
لهذا الفهم أساس يف التفاسري املعتربة ،فقد أورد الطربي يف تفسريه لآلية َ {“ :وأ َّما ِب ِن ْع َم ِة َربِّ َك فَ َح ِّدثْ } قال: الجريري ،عن أيب نرضة ،قال :كان املسلمون بالنب ّوة ،حدثني يعقوب ،قال :ثنا ابن ُعلَية ،قال :ثنا سعيد بن إياس ّ يرون أن من شُ ْك ِر النعم أن يح ّدثَ بها”(((. كام أورد القرطبي رأياً مشابهاً حول معنى اآلية فقال“ :أي انرش ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء .والتحدث بنعم الله ،واالعرتاف بها شكر .وروى ابن أيب نجيح عن مجاهد ‘وأما بنعمة ربك’ قال بالقرآن .وعنه قال :بالنب ّوة؛ أي بلغ ما أرسلت به”((( ،وللحق ،فإن املفسرّ ين حني تناولوا اآلية مل يتهاونوا يف تفسري اآليات التي سبقتها ،والتي تحض عىل مراعاة أمر اليتيم والسائل ،بينام أىت التطبيق االجتامعي لآليات عىل اجتزاء كالم املفسرّ ين من سياقه، ّ فأصبح التطبيق العميل لآلية محصورا ً يف الحديث عن النعمة ،مبختلف أشكال الحديث. بالعودة أيضاً إىل السورة التي تسبق سورة الضحى من حيث الرتتيب ،وهي سورة الليل ،سنجد أن اآليات تتكلم يف السورتني ضمن ج ٍّو واحد ،هو نفسه جو الحض عىل العطاء والنهي عن البخل وتكديس املال { :فَأَ َّما َم ْن سهُ سهُ لِلْ ُيسرْ َى * َوأَ َّما َمن بَ ِخ َل َو ْاستَ ْغ َنى * َوكَذ ََّب بِالْ ُح ْس َنى * ف ََس ُن َي رِّ ُ أَ ْعطَى َواتَّقَى * َو َص َّد َق بِالْ ُح ْس َنى * ف ََس ُن َي رِّ ُ لِلْ ُعسرْ َى * َو َما يُ ْغ ِنى َع ْن ُه َمالُ ُه إِذَا ت َ َر َّدى}(((. املحصلة ميكن قبول أي فهم وتطبيق لآلية ،طاملا انسجم مع تحقيق االلتزامات االجتامع ّية التي تذكرها يف ّ لآليات‘ .فح ّدث’ يجب أن تكون مصداقاً لتدبري شؤون اليتيم ،وملعالجة مشكلة السائل ،للعطاء والتقوى ،ولقهر البخل وفتنة املال؛ إن كان الفهم والتطبيق كذلك فح ّدث وال حرج ،ألنك إن فعلت ذلك ،ستكون ترصفاتك هي أ ّول من سيح ّدث عنك ،وسيكون من حقّك أن تح ّدث ،بل ومن واجبك أيضاً! نفس اإلشكالية تواجهنا عند مراجعة التطبيق الجمعي آلية ثانية أتت ضمن سياق مختلف ضمن سورة القصصَ { :وابْتَغِ ِفيماَ آت ََاك اللَّ ُه ال َّدا َر ِ َنس ن َِصيبَ َك ِم َن ال ُّدنْيَا َوأَ ْح ِسن كَماَ أَ ْح َس َن اللَّ ُه إِلَيْ َك َوال تَبْغِ اآلخ َر َة َوال ت َ الْف ََسا َد فيِ األَ ْر ِض إِ َّن اللَّ َه ال يُ ِح ُّب الْ ُمف ِْس ِدي َن}((( .الفهم الشائع لآلية يظهر من خالل التطبيق السائد لها ،حيث تستخدم اجتامعياً للتذكري برضورة أخذ القسط الرضوري من متع الحياة .املالحظ أن اآلية تقول {ال تنس نصيبك من الدنيا} ،والطبيعي أن يكون خطاب ‘ال تنس’ موجهاً ملن هو عىل وشك النسيان أو قد نيس بالفعل ،وأن تكون وحق أقرب الناس إليهم .التطبيق االجتامعي لآلية يُظهر بدوره فهامً موجهة ألشخاص قد أجحفوا بحق أنفسهم ّ مختلفاً عن ذلك ،فتجد أن من يستخدمها يريد عملياً نصيباً إضافياً ،يرى أن غريه قد سبقه بالحصول عليه ضمن متوالية تنافس ّية ال نهائ ّية .االستخدام االجتامعي يضع اآلية كمدخل رشعي نحو استغراق أكرث يف الحياة ،ويجعلك مذنباً إن كنت ممن ال يضع حدودا ً لحياته بالشكل الذي يرتضيه التصور السائد أو ‘الجائح’ للنص و للحياة ككل. الفهم السائد لهذه اآليات يخرج باآليات عن املنحى الذي تريد إيصاله ،ولكن هذا ال يعني أن ما يريده هذا الفهم هو مسألة غري مرشوعة ‘بالكامل’ ،أو تعارضه النصوص باملطلق .إن اإلنفاق عىل الذات واألرسة ضمن حدود مع ّينة ال يعد سلوكاً خاطئاً بكل تأكيد ،ونحن هنا ال نسعى إلثبات خطأه أساساً .ولكن ما نعمل عىل مناقشته، أن هذا النوع من اإلنفاق هو مسألة فطرية غريزيّة ،ليس من شأن النص الديني أن يثبتها بقدر ما من شأنه أن ()2 ()3 ()4 ()5
18
الطربي ،محمد بن جرير ،جامع البيان يف تأويل آي القرآن ،دار هجر ،القاهرة ،2001ط ،1ج ،24ص491 القرطبي ،محمد بن أحمد ،الجامع ألحكام القرآن ،مؤسسة الرسالة ،بريوت ،2006ط ،1ج ،23ص351 سورة الليل. سورة القصص.
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف
ينظّمها ،وأن يضعها يف خدمة بناء املجتمع ،شأنها بذلك شأن جميع الغرائز البرشية .ويف الحديث أن رسول الله صىل الله عليه وآله وسلم قال“ :كلوا وارشبوا وتصدقوا يف غري رسف وال مخيلة إن الله تعاىل يحب أن يرى أثر نعمته عىل عبده”((( ،والحديث النبوي يحذّر اإلنسان بداي ًة من الرسف ويحضّ ه قبل ذلك عىل الصدقة ،قبل أن ير ّده إىل غريزته بعد أن أعاد له تنظيم حياته بالشكل الذي يخدم الهدف منها .وبحسب اآلية السابقة من سورة القصص ،فإن نصيب الدنيا يتموضع بالضبط ما بني التفكري بالدار اآلخرة من جهة { َوابْتَغِ ِفيماَ آت ََاك اللَّ ُه ال َّدا َر ِ اآلخ َرةَ} ومنهج اإلحسان من جهة ثانية { َوأَ ْح ِسن كَماَ أَ ْح َس َن اللَّ ُه إِلَيْ َك} .ضمن هذه اإلحداثيّات املضبوطة يأيت نصيبك من الدنيا .لكن ملاذا هذه اإلحداثيات الصارمة؟ الجواب تجده يف الشطر األخري من اآلية نفسها { َوال تَبْغِ الْف ََسا َد فيِ األَ ْر ِض إِ َّن اللَّ َه ال يُ ِح ُّب الْ ُمف ِْس ِدي َن}؛ فانعدام الحس واملبادرة الفردية تجاه املجتمع يعني مع الوقت تراكم الفساد فيه ،العملية ليست فقط عبارة عن رضائب وزكاة مفروضة ،فهذه كلها مجتمعة هي الحد األدىن والرضوري ولكنها ليست كل يشء .الخطاب القرآين يسعى إىل جعل اإلحسان منهج حياة ،ويشري إىل أن غياب هذه القيمة له صلة ما بالفساد واإلفساد .غياب اإلحسان يؤسس لبداية فرديّة أنانية ،وعزلة عن هموم املجتمع واحتياجاته ،وهذا يسهم يف تراكم مشاكله االجتامعية واالقتصادية مبا يعني تراكم الفساد ،وال ّ شك أن أغلب املفسدين م ّروا بحالة االنفصال هذه يف البدايات. نشري هنا إىل أننا نعيش عاملاً تجتاحه فردانيّة أنانيّة ك َوباء ،فردانيّة عىل املستوى الشخيص قبل تكوين أرسة، ثم تأخذ شكالً مختلفاً مع وجود الزوجة واألطفال ،فتتسترّ بالعطاء األرسي ،الذي يتمظهر من خالل تفاين الفرد يف تسخري هذا العطاء داخلياً عىل نطاق األرسة .يرافق هذا األمر شعور تربيري أن هذا أحد أنواع العطاء االجتامعي، بل يتم تعميم فكرة أن هذا هو أعىل درجات العطاء ،وما هي إال فردانية أرسيّة تؤسس لبدايات عزلة عن مشاكل املجتمع ،وهي فرع من فردانيّة الذات ،فاألرسة هي االمتداد الطبيعي للذات الفرديّة. ويف املجتمعات اإلسالمية يتم مترير ‘جائحة الفردانيّة’ تحت غطاء كثري من اآليات أو التفاسري املجتزأة ـ كام يحدث عند استخدام آية {وأما بنعمة ربّك فح ّدث}ـ مبا يخدم فكرة العطاء األرسي بالدرجة األوىل ،حتى إذا ما أخذت األمور أكرث من حد اإلشباع بكثري ،يتم عندها االلتفات نحو مصارف أخرى للعطاء خارج محور الذات الشخص ّية واألرسيّة ،هذا إن بقي هناك قدرة عىل العطاء بعد كل هذا! املجتمع السوري مل يكن يوماً بعيدا ً عن هذه الجائحة ،وكان يفرتض أن تكون الثورة مناسبة ال تع ّوض ملعالجة الكثري من املشاكل االجتامعية ،كون األزمة ستغيرّ من الركود الذي أصيب به املجتمع ككل ،ومع أن هذا التغيري حدث بنسبة ما ،إال أن املالحظ أيضاً أن نسبة كبرية من الناس مل تغيرّ نظام حياتها أو طريقة فهمها للنصوص كل ما جرى ،كثريون هم الذين مل تُغيرّ األحداث نظام حياتهم اليومي ،منهم يف الداخل ويف بالد النزوح أو برغم ّ يف بلدان االستقرار يف الخارج .وال نبالغ إن قلنا أن مج ّرد الحديث عن ‘النصيب من الدنيا’ يف مثل هذه الظروف هو مسألة فيها نسبة عالية من الرتف واألنان ّية ،يف الوقت الذي تعيش فيه رشيحة ال يستهان بها من السوريني تحت خط الحياة بكثري! قد تبدو الفكرة غري ذات أهم ّية يف نظر كثريين ،لكونها تتعلّق بتفاصيل صغرية جدا ً باملقارنة مع املشاكل التي تجتاح عاملنا العريب واإلسالمي؛ لكن من الرضوري هنا أن نعيد تذكري أنفسنا بأن إحدى أكرب مشكالتنا أننا ( )6رواه النسايئ ،وقال عنه الحاكم صحيح عىل رشط الشيخني ،ومل يخرجاه.
19
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف
مشغولون دامئاً بالقضايا الكربى ،أو باألحرى بقضايا نعتقد أنها األكرب واألكرث أهمية ضمن سلّم أولويات التغيري، وهي إن افرتضنا ‘جدالً’ أنها أكرث أهميّة ،إال أنها باملقابل أكرث صعوبة كون تغيريها ال يحتاج إىل قرارنا نحن فقط، بل تؤث ّر فيها قرارات لجهات متعددة .ويف خض ّم ذلك تغيب ع ّنا الجزئيات الصغرية التي تقع ضمن نطاق املمكن، والتي نستطيع التأثري فيها بشكل مبارش ومضمون ،وهي متثّل محور أي عملية تغيري اجتامعي ،وال أبالغ إن قلت أن مسائل اإلنفاق والعطاء األرسيني إن ت ّم تنظيمها كام يجب مع إعادة قراءة النصوص املتعلّقة بها ،فإننا سنكون أمام ثورة تغيري اجتامعية بكل معنى الكلمة. كثرية هي التفاصيل الحيات ّية التي ال نلقي لها باالً ،بينام تكون يف الحقيقة هي العتبات األوىل للتغيري!
20
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
العرس يف أوكرانيا
رهام كوسا❊
والطبل يف سوريا
اخلالصة: افرتاضياً يخرج الحدث األوكراين من ساحته اإلعالمية األوروبية ،ليصبح أحد مواضيع الحديث بني السوريني عىل شبكات التواصل االجتامعي .تتخصص صفحة ‘و ِّجه نصيحة من ثوار سوريا إىل ثوار أوكرانيا’ مبعالجة الشأن األوكراين من زاوية محلية تلقائية .تسلط هذه سيايس املادة الضوء عىل ما تعكسه منشورات الصفحة من حال ٍة نفسي ٍة وذهني ٍة لقطاّعٍ ٍّ مع ٍني يف الشارع السوري ،وما تشكِّله هذه الصفحات من وسائل مشاركة سياسية بسيطة تخرج من إطارها املحيل هذه املرة لتتعامل مع ٍ حدث عاملي.
❊ طالبة ماجستري يف كلية اإلعالم بجامعة دمشق ،ومعيدة يف قسم اإلذاعة والتلفزيون يف الكلية ذاتها .تعمل صحفية لجمعية قرى األطفال ،SOSومقدمة ومعدة برامج يف إذاعة ميلودي سوريا .عملت محررة لعدد من املواقع اإللكرتونية السورية واللبنانية ،ومراسلة ملجلة Syria Todayالورقية .لديها مدونة شخصية أدبية تحمل اسم ‘فتات أيام’.
21
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا
بينام يسيطر الغموض عىل الوضع السيايس يف أوكرانيا نتيجة التطورات املتسارعة هناك ،ومع بدء الربملان األوكراين إدارة شؤون البالد دون انتظار توقيع الرئيس عىل القرارات املختلفة ،يعلن الشارع السوري نجاح الثورة يف رشق أوروبا ،بعد أسبوع فقط من بدء االحتجاجات الشعبية ضد الرئيس األوكراين فيكتور يانوكوفيتش .تخرج املشاركة املحلية االفرتاضية لألحداث السياسية من نطاقها الجغرايف املعتاد ،لتتناول حدثاً عاملياً يف دولة مل يكن للسوريني احتكاك قوي معها قبالً .تربط وسائل التواصل االجتامعي وما توفره للعامة من منابر للحديث والتعبري الشخيص بني دول وثقافات العامل بشكل أكرث حقيقية ومبارشة مام استطاعت أن تضطلع به األقامر االصطناعية قبالً .تحمل هذه الوسائل مفهوم العوملة السياسية والثقافية إىل مرحلة جدية كلياً ،تتبسط بها األدوات وتتوفر يف يد الجميع ،ليكون الكل مشاركاً يف هذه العوملة وليس متلقياً لها فقط. تكرث التعليقات املحلية عىل ما يحدث يف أوكرانيا عرب وسائل التواصل االجتامعي ،وينفرد ‘فيس بوك’ بتغطية خاصة ملا حدث يف ثاين أكرب دول أوروبا الرشقية منذ بداية األحداث حتى اللحظة ،فتحت عنوان ‘وجه نصيحة من ثوار سوريا إىل ثوار أوكرانيا’ أطلق السوريون حدثاً استطاع اجتذاب حوايل سبعة آالف متابع نشط خالل بضعة أيام ،لتزدحم الصفحة الصغرية بـ ‘نصائح’ سورية لألوكرانيني يف ثورتهم الناشئة ،نصائح يحمل معظمها طابعاً ساخرا ً يدرك أن ال رسالة حقيقية سرتسل لألوكرانيني من املنرب االفرتايض ،ليذهب آخرون يف توجيه نصائح تنبع من ندم وإعادة نظر فعليني حول ما ارتكب يف ‘الثورة السورية’ من أخطاء. ضمن اإلطار التهكمي املنشور عىل صفحة الحدث ،نصائح تتفاوت بني متوين املواد االستهالكية الرتفيهية التي ارتفع سعرها محلياً وفقد بعضها اآلخر ،إىل سخرية من الرئيس األوكراين املخلوع“ ،اليوم انهزم الرئيس االوكراين دقيل الظهر قال بدو جنسية رقاوية ...قلتلو قوم انقلع من هيني بست ايدك وقت كان لك كلمة ع النفوس األوكرانية منشان جنسية ما رديت عيل” .ينرش الرقاوي الفرايت معلقاً عىل عزل الرئيس. يرى مستخدمون آخرون يف الصفحة فرصة حقيقية لنقد ما حدث خالل السنوات الثالث املاضية تحت شعار الثورة ،وينفرد عدد من املنشورات يف ذكر مالحظات يرى أصحابها أنه كان حرياً مبن قام بالثورة تطبيقها يف سوريا أوالً ،فيام ينتقل البعض إىل توصيف ما يجب عىل املعارضة األوكرانية تجنبه مستقني ذلك من سقطات كثرية تقع 22
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا
فيها املعارضة السورية حتى اللحظة ،خاصة تلك التي تحاول بناء سلطة رشعية لها خارجياً ،ينرش أحمد أبو الريم: “مربوك انتصاركم بس ديرو بالكم من كلمة (األنا)”. يصدم نجاح الثورة األوكرانية الشعب السوري من كافة االتجاهات السياسية ،توقعوا سيناريو موازياً للقصة السورية بلغة رشق أوروبية .ليس لؤماً سورياً بل بحثاً عن مشاركة يف األزمة الدولية يف الشامل حيث ما زالت األحداث تحتمل املزيد من التهكم واملشاركة واإلسقاطات عىل الواقع السوري ،فالثورة شقراء استطاعت أن تستفز السوريني لكشف املزيد مام خفي طوال سنوات. ففي محاولة الستقراء الرأي العام السوري حول نجاح الثورة يف أوكرانيا ،يطرح مرتادو الصفحة عىل بعضهم البعض عددا ً من األسئلة الجوهرية ،يرجح تصويت املشاركني أن أسبوعاً واحدا ً ال يكفي لنجاح ثورة ما مقارنني ذلك بسنواتهم العجاف الثالث التي مل تجلب سوى الخيبة ،كام ترصح أكرثية املشاركني يف االستفتاء أن الفرق بني نجاح الثورة األوكرانية يف مواجهتها مع ما يحصل يف سوريا يعود إىل التآمر العاملي عىل الشعب السوري ،ومتيل الكفة يف تصويت آخر أيضاً إىل جدوى الثورة املسلحة مقابل االحتجاجات السلمية مربزة املواقف السياسية لألغلبية املتفاعلة عىل الصفحة. ويوضح مؤسس الصفحة (رفض الكشف عن اسمه ألسباب خاصة) وهو ‘ناشط يف الثورة السورية’ عىل حد تعبريه ،أنها املرة األوىل التي يطلق فيها حدثاً عىل ‘فايسبوك’ ،مؤكدا ً أن إنشاءه للحدث كان تهكمياً بحتاً دون دوافع سياسية واضحة ،ليتجاوز انتشار حدثه التوقعات. تعرب بعض املنشورات عن يأس وإحباط شديدين يغرق فيهام السوريون اليوم عىل اختالف توجهاتهم السياسية بعد ثالثة أعوام من األزمة السورية التي ستمتد إىل أمد بعيد عىل ما يبدو ،وال يشكل الحدث االفرتايض الجديد سوى إضافة لعرشات الصفحات واألحداث االفرتاضية العديدة ،نشاطات أطلقت بتأثري النوستالجيا والحنني الشعبي لحقبة ما قبل آذار ،2011ليعود السوريون فيها إىل تكرار أمنيات متشابهة ترغب لو عاد الزمن بضعة أعوام ،ليس للقيام بيشء أو نفيه ،سوى لتقدير حياة اعتادوها كان األجدر بهم أن يقدروا نعمتها ،وال يبدو واضحاً مدى جدوى كل تلك النشاطات من عدمها يف ظل عدم تقدميها فائدة عىل أرض الواقع. يف ذات السياق ،تيش منشورات الصفحة بحالة نفسية منهكة ملعظم روداها ،هم يف الغالب سوريون معارضون وصل بهم يأسهم ملرحلة التهكم ،منهم من مل يصل تلك املرحلة بعد ،وال يرى الصحفي السوري عيل إبراهيم مشكلة يف ذلك بل يراها “فسحة لتاليف األخطاء بنفس تهكمي مبدع” .تحمل األحداث االفرتاضية التي باتت ‘موضة’ فيسبوكية جديدة الروح ذاتها ،يصبح فيس بوك منربا ً ألحداث تشتاق املايض ،أو تتخيل مستقبالً فقد السوريون األمل يف حدوثه .تصطف أسامء هذه األحداث يف أذهان رشيحة واسعة بات املوقع األزرق مهربها الوحيد ،يف ساعات منزلية طالت مؤخرا ً ألسباب عديدة. خارج الصفحة ،وتعليقاً عىل الحدث األوكراين ،ينرش إعالميون وكتاب سوريون رؤيتهم ملا حدث ،ينرش اإلعالمي السوري فيصل القاسم مصربا ً جمهوره عىل ‘تويرت’ و ‘فايسبوك’“ :ال تقارنوا أنفسكم بأوكرانيا ،فالشعوب مثل أصابع الكف ليست متساوية” ،كام يتساءل اإلعالمي رفيق نرص الله“ :هل األلعاب الشتوية أهم من خسارة أوكرانيا؟” مبيناً أن الروس أخطأوا مرة أخرى ،ليلخص الكاتب الساخر لقامن ديريك ما يحصل افرتاضياً بقوله: “الشعب األوكراين أسقط النظام ،والناشطون السوريون يتباهون”. تكشف صفحة ‘و ّجه نصيحة لثوار أوكرانيا’ اعرتافاً غري مبارش بأخطاء عديدة شلّت الثورة محلياً؛ يتحول 23
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا
اآلالف إىل منابر وهمية هروباً من الواقع املتعب بعد آذار ،2011يدرك معظمهم أال إنجاز فعلياً لهذه الصفحات إال الهذر املزدحم ،يواصل السوريون تفتيت ساعات نهارهم بكالم ال طائل له إال التعبري عن الذات حتى وإن كان عبثياً بحتاً ،يف ظل غياب واضح لألسامء الثقافية واملدونني واألقالم الصحافية عن املشهد ككل وتركه لألسامء املعتادة التي اعتلت منابر التعبري الفعال لثالث سنوات وما تزال.
24
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دور النساء السوريات
علياء أحمد❊
يف العدالة االنتقالية
اخلالصة: تؤكد املقالة عىل رضورة مشاركة النساء يف العدالة االنتقالية باعتبارها شكالً من أشكال مشاركتها السياسية ،وبرضورة العمل عىل التحضري لهذه املرحلة عىل جميع املستويات. وتشري املقالة إىل أن مشاركة النساء ،وباملناصفة مع الرجال ،يف آليات العدالة سيساهم يف تحديد شكل الدولة السورية الجديدة ،مع املطالبة بتفعيل املنظامت النسوية ودعوتها التخاذ دورها الف ّعال يف هذه املرحلة.
❊ خريجة علم اجتامع ـ جامعة حلب .باحثة يف قضايا املرأة والطفل ،نرشت عدد من الدراسات واملحارضات الثقافية .مدربة يف اآلليات الدولية لحامية حقوق اإلنسان ،ورفع الوعي الجندري .كتبت يف مواضيع اجتامعية وثقافية متنوعة يف منطقة الرشق األدىن ،ونرشت يف العديد من املواقع االلكرتونية منها :موقع األوان ،موقع نساء سوريا ،www.nesasy.orgموقع معهد جينيف لحقوق اإلنسان ،www.gihr.orgوغريها.
25
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية
تعيش سوريا مرحلة مخاض عسري تهدد مبوت الجنني واألم يف الوقت نفسه ،بداللة ارتفاع نسب العنف يف املجتمع السوري ،وتزايد عدد ضحاياه من قتىل ومهجرين ونازحني ومخطوفني...إلخ ،إىل جانب تدمري البنى التحتية يف الدولة ،وغريها من اآلثار الكارثية للرصاع املمتد منذ ثالث سنوات ،وال يزال مستمرا ً بدون توضح مالمح حل لو بعيد األمد يلوح يف األفق. ورغم أن الوضع الحايل عىل الصعيد السيايس وامليداين بعيد عن تحقيق حلم العدالة االنتقالية ،والتي هي رضورة ملحة للخروج من هذا املأزق الدموي ،إال أن التخطيط لها وتهيئة البنية املجتمعية والكوادر الالزمة لتحقيقها مسألة يف بالغ األهمية ،عدا عن كونها عامل مساعد يف نرش السالم وتكريس قيمه يف املجتمع السوري الذي يشتاق لسالم ابتعد عنه طويالً. وكام أكدت كثري من االتفاقيات الدولية((( من خالل تجارب الدول ،مأسوية نتائج النزاعات املسلحة عىل النساء واألطفال ،ركزت اتفاقيات أخرى((( عىل أهمية دور النساء يف صنع السالم .وال يبتعد الواقع السوري وحال النساء عن التوصيف الذي استقت منه االتفاقيات السابقة خالصاتها ،فاإلحصاءات والدراسات امليدانية املهتمة بواقع النساء السوريات ومعاناتهن عىل اختالف أشكالها ،حقيقة تؤكد عىل رضورة انتفاض النساء ذاتهن عىل الواقع املأسوي الذي يعشنه ،واملساهمة يف تحقيق السالم السوري الذي سيولد من رحم السوريات اللوايت يجب أن يؤمن بقدراتهن عىل إنتاجه واملشاركة الحقيقية يف صنعه. ترتبط العدالة االنتقالية مبسألة االنتقال الدميقراطي ،وكال املفهومني من قضايا الشأن العام وتساهم الدراسات الفكرية يف تبني مالمحهام ودور النساء ومشاركتهن يف تحديد مستقبل الدول الساعية إىل تكريس املنهج الدميقراطي السليم. األمر الذي يستوجب توفر جملة من الرشوط الذاتية واملوضوعية تأيت يف مقدمتها رضورة تصالح الدولة مع ذاتها ،واالعرتاف بأخطائها وتصحيح ما اعوج من ترشيعاتها وقوانينها ويشكل صعوبات وتحديات متنع من تحقيق هذا الدور. 1إعالن بشأن حامية النساء واألطفال يف حاالت الطوارئ والنزاعات املسلحة والصادر عام .1974 2قرارات مجلس األمن يف األمم املتّحدة رقم 1325و 1820و 1888حول املرأة واألمن والسالم.
26
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية
وميكن توضيح مصطلح العدالة االنتقالية بأنه مجموعة من االجراءات الترشيعية واالجتامعية والقضائية واإلدارية التي تعالج ما حدث خالل فرتة سابقة تخللتها انتهاكات لحقوق االنسان من قبل أجهزة الدولة وجامعات منظمة أو غري منظمة ،بهدف إظهار الحقيقة ،وحفظ الذاكرة الوطنية ،وجرب الرضر ،ومحاكمة املنتهكني ،وتكريس السلم األهيل للتأسيس لدولة الحق والقانون. يف محاولة للتأكيد عىل رضورة مشاركة النساء يف العدالة االنتقالية ،نتصدى ملجموعة من األسئلة التي ال ميكن تقديم االجابة الوافية عنها يف هذه العجالة منها :هل ميكننا اعتبار مشاركة النساء يف العدالة االنتقالية شكالً من أشكال مشاركتهن السياسية ،التي ال ميكن وصفها حالياً عىل جانبي الرصاع ‘النظام واملعارضة’ إال باملشاركة الشكلية والتجميلية؟ لإلجابة عن هذا التساؤل نستأنس بتعريف املشاركة السياسية عند صموئيل هاتنجتنون وجون نلسون بأنها “النشاط الذي يقوم به املواطنون العاديون بقصد التأثري يف عملية صنع القرار الحكومي ،سواء كان هذا النشاط فردياً أم جامعياً ،منظامً أو عفوياً ،متواصالً أو متقطعاً ،سلمياً أو عنفياً ،رشعياً أو غري رشعي ،فعاالً أم غري فعال” ،ويتضمن مصطلح املشاركة السياسية قدرة املواطنات واملواطنني عىل التعبري عن إراداتهن/م يف القرارات السياسية ،وإمكانية تحقيق هذه اإلرادات بشكل مبارش أو عن طريق ممثلني يختارونهن/م. وهنا البد لنا من الجزم بأن املشاركة السياسية هي املعيار الحقيقي للمواطَ َنة واملؤرش الدال عىل متتع الدولة بنظام سيايس دميقراطي ،فاملواطنات واملواطنون املتساوون يف الحقوق وامللتزمون بأداء الواجبات ،يشاركون بكامل حريتهم يف بناء مجتمعهم الذي ينتمون إليه ويكفل لهم حقوقهم اإلنسانية .وهنا ننتقل لتساؤل جديد، هل تكون معيقات مشاركة النساء يف آليات العدالة االنتقالية هي نفسها املعيقات التي حددت شكل مشاركتها السياسية؟ وضحت الكثري من الدراسات األسباب الكامنة وراء ضعف املشاركة السياسية للنساء ،وتتنوع هذه األسباب نتيجة عوامل اجتامعية وثقافية واقتصادية وحتى سياسية ترتبط جميعها بالبنية الفكرية البطريركية للمجتمع التي تستفيد من الدين والترشيعات والقوانني والعادات والتقاليد كوسائل لقوننة املعوقات والتحديات التي تحد كاشف أكرث منه منشئ للقضايا املجتمعية يف جوانبها من مشاركة النساء ،ونتيجة للرصاع الدائر ،الذي كان له أث ٌر ٌ السلبية بشكل عام ،وللمشكالت التي تعاين منها النساء بشكل خاص ،فإن الصعوبات واملعيقات السابقة أصبحت أكرث وضوحاً ،األمر الذي يستوجب معالجتها بحزم وبدون مراعاة واستحياء ،وألننا نستطيع أن نجزم وبجرأة أن شكل مشاركة النساء يف آليات العدالة االنتقالية سينبئ بالشكل الذي ستكون عليه الدولة السورية الجديدة. فإذا قلنا أن ‘املجال العام’ مصطلح يُطلق عىل املساحة الرئيسة التي يتشكل فيها الرأي العام املكون من أراء مختلفة لتجمعات برشية تتمتع بحق املشاركة ولها نفس الحقوق والواجبات ،ومكونة من أفراد ومجموعات تتحدد أمناطهم الفكرية ومنظومتهم القيمية ،حسبام تقتيض تنشئتهم االجتامعية يف ‘املجال الخاص’ (الذي يتضمن كل ما يناقشه قانون األحوال الشخصية من عالقات أرسية وزواج وطالق و..إلخ) ،فهو مرتبط حكامً بشكل الدولة ويُرعى من قبلها ،لذلك البد من قطعية الربط بني املجالني الخاص والعام وتأثري كل منهام يف اآلخر ،وبالتايل فإن مرحلة العدالة االنتقالية مرحلة حاسمة يف العمل عىل تحرير وتطوير املجال الخاص لينعكس إيجاباً عىل املجال العام ،وبالتايل لبدء العمل املمنهج لبناء الدولة الدميقراطية املنشودة. وهنا البد من املرور عىل دور املنظامت النسوية ومساهمتها يف تفعيل دور النساء للمشاركة الفعالة يف العدالة االنتقالية ال نجد تحرجاً من رضورة مطالبة هذه املنظامت النسوية إىل جانب هيئات املجتمع املدين 27
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية
ألخذ دورها الحقيقي والجاد يف متكني املرأة عىل جميع املستويات االجتامعية واالقتصادية والسياسية ،ومنح التسهيالت للعمل عىل إزالة الصورة النمطية للمرأة من خالل جميع الوسائل مع رضورة الرتكيز عىل وسائل االعالم بكل أنواعها ،للوصول إىل مرحلة حقيقية يف إنجاز املطالب وأال تكون جعجعة بال طحني ،وأن تعد مشاركتهن يف إجراءات العدالة االنتقالية عىل قدم املساواة مع الرجال ،مقدمة رضورية لهذا الدور املرجو ،ومن الرضوري مبكان اإلشارة إىل أن املطالبة بـ ‘كوتا’ نسائية يف آليات العدالة االنتقالية أمر غري وارد ،بل يجب تحقيق مبدأ املناصفة بني النساء والرجال يف هذه اآلليات ،وخاصة أن النساء هن األكرث ترضرا ً من النزاعات.
28
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مجد َج ُّمول❊
الدولة الريعية زمن التحول السياسي:
عقبة أمام الدمقرطة وغياب الطرح عن النخب السياسية اخلالصة: يسعى املقال إىل عرض إشكاليتني تواجه ،ما درج عىل تسميته ،دول ‘الربيع العريب’ يف سياق التحوالت التي تتع ّرض لها .تكمن األوىل يف البنية الريعية لهذه الدول ،والثانية يف رئييس يف صميم مطلب غياب طرح هذه اإلشكالية عن النخب السياسية مع أن حلَّها ٌ ٌّ عملية التحول الدميوقراطي .فالدولة الريعية تُشكِّل عقب ًة أمام تحقيق الدميوقراطية الرتباطها باالستبداد كأسلوب للحكم ،ملا توفره هذه البنية للسلطة الحاكمة من قدرة عىل السيطرة والتحكم مبوارد املجتمع مبا يخدم مصالحها دون مساءلة ،وألن هذه الدولة تنبثق عنها رشائح اجتامعية ـ اقتصادية ترتبط مبارش ًة بالسلطة وتتناىف مصالحها مع بنية الدولة الدميوقراطية والحامل االجتامعي الذي تفرزه .تغيب معالجة هذه القضية وغريها عن معظم النخب السياسية ،يف حني أن تغيري بنية الدولة والعقلية التي تحكم مؤسساتها ٌ رشوط أساسية لالنتقال إىل دولة وهيكل االقتصاد ،إىل جانب االنتقال السيايس ،هي دميوقراطية .هذا املقال مقدم ٌة لورق ٍة بحثي ٍة سيتم إنجازها مستقبالً.
❊ مجد جمول طالب يف السنة األوىل ماجستري ،يف كلية االقتصاد ،جامعة دمشق .بعد انطالق االنتفاضة السورية ،آذار ،2011وخاللها تنقّل بني عدة تجمعات سياسية وشارك بعدة نشاطات مدنية وسياسية ،وهو حالياً عضو يف ‘تيار بناء الدولة السورية’ حيث شارك يف نشاطاته املدنية والسياسية وبتأسيس ‘منتدى البناء السيايس’.
29
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
الدولة الريعية زمن التحول السياسي
عند بدء ظهور الحركات االحتجاجية يف املنطقة العربية من تونس إىل البحرين مرورا ً بسوريا ،كان هنالك مجموعة من العوامل؛ الذاتية واملوضوعية ،الداخلية والخارجية ،عوامل يف سياق الفعل وأخرى يف سياق رد الفعل ،ساهمت بهذا القدر أو ذاك يف تشكّل هذه الظاهرة ومآالتها ،أي االحتجاجات العلنية الغاضبة ،وإعادتها إىل املرسح السيايس العريب بعد عقود من الجمود .ورسعان ما تح ّولت من مستوى الظاهرة إىل مستوى يقارب يل :ما قبل االنتفاضات الشعبية ،وما بعدها .وإن كان حال ًة من ال َقطْع التاريخي بني مرحلتني متاميزتني بشكل ج ّ تخصها دون غريها ،إلاّ أن هناك ظروفاً موضوعية تتشابه فيام بني الدول وبنسب لكل دولة ظروفها الذاتية التي ّ متفاوتة بحسب اكتامل هذا الظرف ونضجه ،يتجلىّ هذا الرشط املوضوعي بوضوح عىل مستويني :البنية الريعية للدولة والعقلية الريعية املسيطرة عليها ،وبنية املجتمع املحكوم وطبيعة مؤسساته وتنظيامته غري الخارجة عن سلطة الدولة. فعىل مستوى الدولة ،ميكن الحديث عن االقتصاد الريعي ،الذي يقوم عىل مصادر ريعية ـ غري إنتاجية ـ خارجية :كالعوائد النفطية واملساعدات الخارجية وعوائد خدمات السيادة (ترانزيت) نقل بحري ...إلخ’ باإلضافة لتحويالت املغرتبني والعاملني بالخارج ،أو داخلية :كالدخول التي تتكون يف القطاعات الخدمية كاملصارف والتأمني واألسواق املالية والعقارات والسياحة .يُعتَرب االقتصاد الريعي حجر األساس للدولة الريعية ،تحديدا ً عندما يقرتن هذا االقتصاد بنظام سيايس تديره عقلية ريعية ،مبا تحمله من أبعاد سياسية واجتامعية فضالً عن االقتصادية، فالعقلية الريعية هي أسلوب متكامل إلدارة املوارد املادية والبرشية ،ينطلق من منط اقتصادي (ريعي) ،ليتجاوز االقتصاد ويطال البنية االجتامعية والثقافية واألخالقية أيضاً ،ليصبح يف نهاية املطاف ناظامً ومسيرّ ا ً لكيفية إدارة الدولة وصنع القرار السيايس ،لسلطة تجني وال تنتج ،تكسب وال توزّع ،تتث ّبت وال تتغيرّ .ويذكر االقتصادي املرصي حازم الببالوي يف كتاب ‘الدولة العربية’ ،الذي شارك جياكومو لوتشياين بتأليفه ،أنه يف الدولة الريعية يعمل الجزء األسايس من املؤسسات وقوة العمل يف التوزيع واالستهالك ،وتستطيع الدولة عن طريق التمركز واالحتكار أن تجعل مجموعة صغرية مرتبطة بها تعمل يف ميدان االقتصاد والسياسة. وعىل مستوى املجتمع ،تعيش األغلبية من شعوب هذه الدول حالة من التهميش والفقر والبطالة ونقص 30
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
الدولة الريعية زمن التحول السياسي
العدالة االجتامعية مبستويات صارخة ،بالتوازي مع عالقة بني الدولة واملجتمع أساسها القهر واالستبداد بطابع تأميمي احتكاري لجهة الدولة ،فهذا التقارب ،عىل مستويي الدولة واملجتمع ،هو ما يفسرّ (ليس وحده وإمنا مجال البحث يف هذه النقطة) حالة االنفجار الجمعي الغاضب واملطالب يتغيري حال معيشته بدءا ً من تغيري النظام السيايس. والجدير بالبحث هنا ،هو جوهر هذا التغيري ومسارات تطوره عىل مستويي الدولة واملجتمع ،فمن املعروف أن تغيريا ً سياسياً يستهدف تغيري النظام السيايس من استبدادي شمويل إىل دميوقراطي تع ّددي يتض ّمن ،أو عليه أن يتض ّمن ،تغيريا ً بنيوياً يف النظام االقتصادي االجتامعي السائد والذي يح ّدد بالرضورة بنية الدولة وهيكل االقتصاد وطبيعة العالقات االجتامعية واالقتصادية القامئة .والستحالة فصل السيايس عن االقتصادي عن االجتامعي فال ب ّد وأن تكون طبيعة النظام االقتصادي االجتامعي متكاملة مع رشوط النظام السيايس السائد؛ إذن ،النظام السيايس يؤسس ويكمل هذه اإلدارة الذي يدير الدولة واملجتمع بآليات دميوقراطية يحتاج لنظام اقتصادي اجتامعي ّ ويع ّزز القدرة الدميوقراطية للمؤسسات ،نظام من شأنه أن يخلق تق ّدماً اقتصادياً وعدالة اجتامعية ،فالفقراء واملرىض واأل ّميني ليسوا من مك ّونات الدولة الدميوقراطية التي يُف َرتض ،لتكون دميوقراطية بالفعل ،أن يتساوى مواطنوها األحرار ـ من الفقر واملرض والجهل ـ يك يكونوا أحرارا ً يف املشاركة والتمثيل السيايس. ومنوذج الدولة الريع ّية املح ِّدد لطبيعة الدولة السورية منذ بدايات تشكّلها ،أو يف الجمهورية الثالثة عىل وجه املؤسس عىل قاعدة املشاركة السياسية الواسعة والف ّعالة، التحديد ،ال يستقيم مع دميوقراطية الحكم والتمثيل َّ وال ميكن لهذا النموذج إلاّ أن يحول دون الدميوقراطية لتش ّبثه باالستبداد ،فالرثوة ال ت ُ ْنتَج بل ت ُج َنى دون جهد أو ابتكار أو مشاركة مجتمعية واسعة ،والسلطة هي مصدر الرثوة ،وهذا ما يضطر بالحاكم ألن يبقى حاكامً وألن يدعم بقاء حكمه بكل األدوات فهو ميلك الرثوة ،التي مصدرها السلطة ،وينفقها يف سبيل دميومة حكمه يف مسارين رئيسني :األول يف تدعيم عظمة السلطة وكياناتها بضخامة اإلنفاق عىل الجيش واألمن االستخبارايت املحيل لقمع وجود ومنع ظهور أي تشكيل مجتمعي ،من الثقايف إىل السيايس ،خارج سياق السلطة وسيطرتها، دون إهامل اإلنفاق امللحوظ عىل اإلعالم الرسمي ،أداة الدعاية السلطوية ،ويتمثّل املسار الثاين يف ‘رشوة’ املجتمع بتوزيع عالو ٍة هنا ووظائف وهمية هناك تحت مسميات من قبيل ‘املنحة’ أو ‘املكرمة’ التي تدلّنا عىل طبيعة العقلية الريعية التوزيعية الحاكمة للدولة ومق ّدراتها ،وسمة هذا اإلنفاق ،إضافة إىل أنه ال يحتكم ألولويات اقتصادية ،ويع ّد أداة هامة المتصاص غضب الناس وإلقناعهم باالرتباط املصريي بينهم وبني الدولة/السلطة. وبعد أن صارت فرصة أو مرحلة التغيري السيايس ،دون النظر إىل أنها تحققت بأقل من الحد األدىن من اب فاقت تكلفته عن عوائد التغيري امل ُنتظر وامل ُق َّدر له أن يكون مخيباً لآلمال ،هل ستبقى بنية الطموح ومع خر ٍ االقتصاد كام هي ـ ريعية خدمية وليست إنتاجية؟ وهل ستُ َوزَّع دخول عوائد النمو عىل السوريني بنفس الشكل ليزداد غنى األغنياء وفقر الفقراء أكرث؟ لقد غاب عن رؤى النخب السياسية السورية وبرامجها ،خصوصاً يف املرحلة الحالية ،طرح ومعالجة مسائل من قبيل :طبيعة الدولة السورية وبنية االقتصاد السوري وعالقات اإلنتاج وعالقات املؤسس ،ورضورة تغيري هذا البنية لتغيريٍ فعيل للنظام ـ ربمّ ا ألن غالبيتها اعتادت التوزيع والعقد االجتامعي ّ مؤخرا ً عىل معاداة النظام الحاكم من بوابة السلطة ـ “يف مرحلة ما بعد 10حزيران 2000مل تعد سياسة املعارضة ت ُبنى إلاّ بداللة ‘اآلخر’ ،سواء كان يف الداخل أو خارج الحدود ،ومل تعد تبنى كام كانت يف مرحلة 2000-1976 عىل أساس ما تراه الذات املعارضة من برامج وفقاً للتوازنات ،سواء كانت السقوف عالية أم منخفضة ،حيث كان ما تراه الذات السياسية املعارضة هو الذي يرسم الحركة ،نحو األعىل أو سقف أخفض وفقاً لتغري موازين القوى، 31
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
الدولة الريعية زمن التحول السياسي
وليس بداللة ‘آخر’ تتحدد برامج وحركة املعارضة من خالله( ”.محمد سيد رصاص .املعارضة يف بداية عهد األسد، األخبار اللبنانية ،العدد .)2013/12/3 ،2166كام وأ ّن هذه املسائل غابت يف األساس ،أو ظلّت غائبة ،عن العقلية الحاكمة للسلطة دون أي مواجهة للواقع ومآالت انحداره لتستمر يف ذات النهج الذي أدارت وقادت به البالد والعباد طيلة العقود املاضية وأ ّدى إىل ما أ ّدى إليه اليوم ،حيث مل تستطع هذه العقلية قراءته إلاّ بوصفه ‘مؤامرة خارجية’ عليها أو عىل الدولة وشعبها ـ حيث ال فرق عندهم بني املفهومني ـ وليس جراء عوامل داخلية تراكمت وتفاعلت عرب سنني طويلة لتتجلىّ بهذه الصورة الحركيّة املعقّدة. والنموذج املرصي مثال صارخ وميلء بالدروس ،يف مرص ،حيث وقع تغي ٌري سيايس لسلطة الحكم ،برموزه وحزبه ،ولكن النهج االقتصادي إلدارة املوارد وتوزيعها املجتمعي استم ّر عىل حاله ،وظهر الحكم العسكري ،ليظهر عند أول عملية انتخابية بعد الثورة ،الحكم ال ّديني ،أو مرشوعه بصبغ الدولة بلونه ،وليعود الحكم العسكري مجددا ً مع احتامل بقائه ‘دميوقراطياً’ .فهل تتحقق الدميوقراطية مبج ّرد تغيري سلطة الحكم إىل سلطة أخرى بظروف أقل استبدادية من السابق بقليل؟ أي مع تعديالت دستورية ومشاركة عدد من األحزاب السياسية عرب صندوق انتخاب ،دون األخذ بالحسبان أن النمو االقتصادي والتوزيع العادل للدخل والخدمات االجتامعية ،من تعليم وصحة وسكن ،هي من مق ّومات الدميوقراطية ورشو ٌط موضوعية النطالقها ،ألن حجمها ونوعيتها وعدالة توزيعها هي التي ترتقي باإلنسان وبطموحه وبإنتاجيته وخياراته ،الذي يُع ّد ،أي االنسان ،الهدف النهايئ لعملية التنمية وأساسها ،والتنمية حرية ...حسب ما تعلَّمنا من أمارتيا ِسن .Amartya Sen االقتصاد الريعي هو ضد االقتصاد اإلنتاجي والعقلية الريعية ضد العقلية اإلنتاجية بالرضورة ،االقتصاد الريعي يستسهل الحصول عىل الرثوة/الريع ليوزّعها عىل مراكز السلطة ثم عىل القلّة املقربني ومن ثم يوزع القليل الذي تبقى عىل الرشائح األوسع من املجتمع. فال ب ّد من تغيري يتناسب واملضمون املعريف والتاريخي ملفهوم ‘الثورة’ ،تغي ٌري يُ ِ حدث فارقاً يف النهاية لصالح الرشائح االجتامعية امله َّمشة ،الحامل االجتامعي للحراك املطالب بالتغيري والذي يرتبط حارضه ومستقبله، املؤسسية للدولة واملجتمع مبستوياتها املادية وال ِقيَ ِميَّة :هيكل االقتصاد وجودياً ،بهذا التغيري .تغي ٌري يطال البنى ّ ومنط اإلنتاج والتوزيع ،عقلية وذهنية اإلدارة الحاكمة ملوارد املجتمع املادية والبرشية .إن تغيري هذه املنظومة ال ِقيَ َميَّة يسبقه تغي ٌري يف املنظومة املادية للمجتمع ،عرب حشد كل الطّاقات لبناء قاعدة إنتاج مادي حقيقي تخلق القيمة وتوزعها من خالل عمليات اإلنتاج والتبادل والتوزيع واالستهالك بالسياق الذي يوظّف ويستخدم القسط األكرب من املوارد املادية والبرشية استخداماً أمثالً ،هذه القيمة وبهذا األسلوب يف التشكّل والتوزيع من شأنها أن رسع من عملية الرتاكم املادي واملعريف للبدء مبرشوع التنمية املستدامة الذي يعود عىل اإلنسان السوري ارتقا ًء ت ِّ ويعب به عتبة التأخّر ،وليتعاقد السوريون فيام بينهم عىل أساس حتمية التكامل ووحدة املصالح الوجودية، رُ ولتقوم عالقة بني الدولة واملجتمع أساسها التصالح وتبادل املنفعة ال القهر واالستبداد ،وليستقل القرار السيايس -املستند لنظام اقتصادي غري تابع -بدالً من خضوعه ملنطق التوازنات اإلقليمية بصفرية تأثريه عىل تلك التوازنات.
32
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
التدوين السوري
وليد بركسية❊
وجدلية االلتصاق بالواقع
اخلالصة: ازدادت أهمية التدوين السوري كحركة فكرية وثقافية بعد األزمة السياسية والحرب األهلية التي تشهدها البالد اليوم ،ومع تنامي أعداد املدونني تدريجياً ،ينقسم أولئك إىل قسمني يتشبث أحدهام بالواقع لرصده والتدوين حوله بطروحات شخصية أو عامة ،فيام يبتعد اآلخر عن الواقع اإلنساين والسيايس نحو مواضيع أخرى قد تكون خيالية عىل صعيد التأليف األديب مثالً أو متخصصة يف إطارات ضيقة ،لتبقى جدلية االلتصاق بالواقع التي تسعى املقالة إىل توضيحها محكوم ًة بشخصية الـ ُمدَ ِّون أوالً وأخرياً.
❊ كاتب وصحايف ومدون سوري مقيم يف بريوت .خريج كلية اإلعالم يف جامعة دمشق ،2011يحرض لرسالة املاجستري يف جامعة بريوت العربية حول املدونات السورية ،متخصص يف النقد اإلعالمي لصالح قسم امليديا يف جريدة املدن اإللكرتونية منذ آذار .2013ينرش كتاباته األدبية ومقاالته النقدية (سينامئياً وأدبياً) يف مدونة ‘فقاعات صابون’ منذ متوز ،2011مهتم بالشأن الثقايف والفكري بالدرجة األوىل.
33
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع
مل يكن انتشار املدونات يف سوريا حتى فرتة قريبة بالكثافة املطلوبة مثلام هو الحال يف دول العامل واملنطقة العربية ،حيث بقي التدوين ألسباب تقنية وحكومية بتأثري سياسة الحجب السابقة ،محصورا ً بفئات قليلة من املهتمني النخبويني والصحافيني العاطلني عن العمل أو السوريني املغرتبني ،ليكتسب التدوين تدريجياً أهمية أكرب يف ظل األزمة السياسية التي تعيشها البالد ،حتى تكرس يف األذهان كنشاط فكري معارص بشمولية امللتيميديا، ومل يعد مقبوالً النظر إليه كمجرد هواية لقطع أوقات الفراغ بعكسه فنوناً كاملة من الكتابة واألدب إىل التصوير والغرافيكس مرورا ً بالصحافة وإعالم املواطن وغريها ،لتربز بحدة قضية انعكاسات األزمة الطويلة يف البالد سياسياً وأمنياً واجتامعياً واقتصادياً ،عىل قرارات املدونني السوريني فيام يقدمونه للجمهور. وتشهد أروقة اإلنرتنت اليوم ،والدة جيل كبري من املدونني الذين وجدوا يف التدوين صيغة أكرث رسمية رمبا للتعبري عن أفكارهم مقارنة بالرثثرة اليومية عىل الشبكات االجتامعية التي احتلت صدارة اهتامم رشائح واسعة من الجمهور يف عرص الومضات عىل ‘فايسبوك’ و‘تويرت’ ،وبتنا نالحظ والدة مجتمعات افرتاضية تضم املدونني معاً كـ ‘اتحاد املدونني السوريني’ وصفحة ‘مدونات سورية’ عىل ‘فايسبوك’ ،أو موقع ‘كوكب سوريا’ الذي يجمع التدوينات السورية لعدد كبري من املدونات ويعيد نرشها عرب الـ ‘.’RSS ال يوجد إحصاء دقيق لعدد املدونات السورية اليوم ،خاصة أن هناك قسامً من املدونني ال يفصح عن هويته الشخصية لسبب أو آلخر ،وتنشط معظم تلك املدونات عىل محريك ‘ووردبرس’ و‘غوغل’ فيام يبقى استخدام منصة ‘تامبلر’ محدودا ً ،وتتنوع اهتاممات أولئك جميعاً بني املذكرات الشخصية البسيطة وصوالً للتحليالت السياسية املعمقة مرورا ً بعرشات املواضيع املتخصصة والعامة األخرى. مدى التصاق املدونني بالواقع السوري يف ظل الحرب األهلية التي تعصف بالبالد منذ العام 2011ليست متشابهة لدى الجميع ،حيث تتحكم القرارات الفردية واملزاجية الذاتية بالتدوين إىل حد كبري ،نقطة فاصلة بني التدوين كفن إعالمي (مجازياً) وبني العمل االحرتايف يف وسائل اإلعالم التقليدية ،وإن كان العمل االحرتايف محصورا ً بضوابط الزمان واملكان وقيم األخبار املتعددة ،فإن التدوين يتحرر من ذلك نحو آفاق أوسع للتعبري عن الذات دون قيود. 34
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع
يف ضوء ذلك ،فضّ ل عدد من املدونني السوريني تحويل مدوناتهم العامة القدمية إىل الجانب السيايس أو رصد الجانب امليداين يف البالد مبوضوعية حرفية أو شخصانية ذاتية كام يف ‘مدونة مدينة’‘ ،مدونة بال اسم’‘ ،مدونة مؤنس’ ،وقام آخرون بإغالق مدوناتهم العامة القدمية وافتتاح مدونات متخصصة بأسامء جديدة كبداية للتعبري عن الواقع املعارص ‘مدونة خربشات’ تحولت إىل ‘مدونة آدم’ كام ارتأى البعض اآلخر االبتعاد عن تلك املعمعة الخطرة نحو مواضيع بعيدة عن األزمة يف البالد لتتحول مدوناتهم إىل عامل خيايل من الخواطر واألفكار املنفصلة عن الواقع واملعربة عن أحالم أصحابها بغد أفضل كام يف ‘خطر يف بايل’‘ ،مرافئ النورس’‘ ،قمر ال يكتمل’ ،وال يتعدى النوع األخري امليكانيزمات الدفاعية النفسية املعتادة يف العقل البرشي عند األزمات عرب التجاهل أو الهروب من الحقيقة. املدونات األدبية كنوع من املدونات املتخصصة تشغل قسامً كبريا ً من اهتاممات السوريني أكرث من غريها إىل حد ما ،حيث باتت ملجأ دافئاً يف ظل تنامي صعوبات النرش محلياً وإقليمياً ،وتعكس تلك املدونات ذات االنقسام السابق بني الواقع والخيال ،فبينام باتت الكتابات األدبية لبعض املدونني انعكاساً لحقيقة الحرب والترشد واللجوء واملآيس اإلنسانية يف البالد كام يف ‘ماجدالينا’ ،و‘جرعة زائدة’ حافظت مدونات أخرى ولو جزئياً عىل خصوصيتها كأدب قد يعكس خيال صاحبه فقط مبعزل عن تفاصيل املكان والزمان عرب مواضيع عن الحب والجسد واملوت وغريها كام يف ‘بلوكة’ ،و‘فتات أيام’ ،والنوعان عموماً يبرشان بأقالم واعدة يف األدب املستقبيل برشط االستمرار واالهتامم والحصول عىل الفرص للنرش والربوز. االنفصال عن الواقع قد ال يكون سيئاً مثلام يبدو ،بل هو رضوري إىل حد ما لالستمرار يف الحياة رغم الظروف املحيطة كنوع من التحدي للموت املجاين يف البالد ،فال ميكن تعميم الجانب السيايس فقط عىل الحياة ككل رغم أهميته النسبية حالياً ،بل تبقى هناك جوانب أخرى فنية وأدبية وسينامئية وشخصية تستحق تسليط الضوء عليها من منظور مختلف ،ويبقى ذلك مرهوناً باألهمية النسبية التي يراها املدون نفسه يف املواضيع املختلفة ،ومن هنا ال ميكن الحكم عىل التدوين من وجهة نظر املتلقي فقط ألنه ميثل يف األساس إشباعاً لحاجة املدون وحقه الطبيعي يف التعبري عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة. من جهة أخرى ال غنى للمجتمع عن التدوين امللتصق بالواقع من أجل كرس روتينية تدفق األنباء واملعلومات عرب وسائل اإلعالم بأجنداتها السياسية املختلفة ،إضافة لطرح الرؤى السياسية الخاصة مبختلف االتجاهات ،وتربز يف هذا اإلطار املدونات البعيدة عن االنقسامات السياسية يف سوريا اليوم التي تعارض كل ما يجري يف البالد من قبل النظام واملعارضة والكتائب اإلسالمية املتشددة ،كام ميكن القول أن األزمة يف البالد فتحت املجال أمام املدونني لدخول عامل ‘صحافة املواطن’ باستحياء بنقلهم الواقع اليومي يف محيطهم الجغرايف وخاصة من النواحي األمنية وامليدانية واملعيشية ،بعدما كان ذلك النوع من التدوين محصورا ً بالدول الغربية. جدلية االلتصاق بالواقع ال ميكن حسمها حتى من وجهة نظر أكادميية ،حيث ترجع د .إميان عليوان ،املحارضة يف قسم اإلعالم بجامعة بريوت العربية ،املسألة إىل طبيعة التدوين امللتصقة بشخصية صاحبها ومميزاته الفردية، خاصة أن املدونات نشأت بداية كبديل افرتايض للمذكرات الشخصية قبل عرص الشبكات االجتامعية ،لتتطور املدونات فيام بعد إىل مساحة حرة للتعبري ال يشرتط فيها الحرفية اإلعالمية ،ومن هنا ال ميكننا كجمهور عام أو متخصص مطالبة املدونني االلتصاق بواقعهم أو تحميلهم مسؤوليات اجتامعية فوق طاقاتهم ،كام ال ميكننا إطالق صفات إعالميني أو صحافيني أو أدباء أو مفكرين عليهم إال إن كانوا كذلك يف الواقع ،لتبقى شخصية املدون وخصائصه الفردية هي العامل الحاسم يف تحديد طبيعة مدونته ومدى التصاقها بالواقع ،سواء كان الواقع شديد الشخصية بنطاق اجتامعي ـ جغرايف ضيق أو عاماً يحايك قضايا املجتمع الراهنة. 35
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
ع ّمار المأمون❊
احلقيقة ‘ليست’ هناك:
سوريا ،احلرب الرقمية ‘قراءة عامة’
اخلالصة: تحدد املقالة العالقة بني اإلعالم ودوره يف التأثري عىل ما يحدث يف سوريا ،وتعرض أساليب االستخدام الجديدة (كالتطبيقات ،الوسائط املتعددة ،التابليت) ،وتناقش التفاعل بني وسائل اإلعالم الجديدة والتقليدية ،والرأي العام ،والعامل الحقيقي ،باإلضافة إىل تدفق املعلومات ومصادرها .توليد محتوى هذه الحرب الرقمية هو أحد العوامل املهمة يف هذه املقالة التي تحاول طرح سؤالني :هل ميكننا االعتامد عىل األشخاص الذين يُـ َولِّدُ ون هذا املحتوى؟ هل ما يقولونه ميثِّل الحقيقة؟
❊ صحفي سوري مستقل يعمل من دمشق يف عدد من الصحف واملواقع العربية والدولية .مهتم بشؤون الثقافة واملجتمع .حاصل عىل شهادة املاجستري باإلعالم ،وليسانس يف النقد والدراسات املرسحية.
36
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
احلقيقة ‘ليست’ هناك
أصيب الناس بالصدمة ـ عىل األقل البعض منهم ـ عندما اكتشفوا أن وسائل اإلعالم الجديد وتقنيات االتصال عرب اإلنرتنيت قد تؤدي إىل حدث جلل كالربيع العريب .الحالة السورية كانت األكرث تعقيدا ً ،حيث ما زالت مستمرة منذ ثالث سنوات ،فوسائل اإلعالم الجديدة واإلعالم التقليدي لعبت دورا ً هاماً يف صناعة الحرب وتحريك الرأي العام بصورة أثرت عىل حياة األفراد الشخصية. كان من الصعب عىل أحدهم أن ينضم إىل املنظومة اإلعالمية الرسمية ،قبل ما متر به سوريا اآلن من ‘ثورة/ حرب’ ،إذ كان ال بد له من صالت واسعة و‘واسطة’ مع الحكومة باإلضافة إىل الكثري من املعامالت الروتينية والبريوقراطية ،فاإلعالم الرسمي محكوم بـ ‘مافيا’ حسب العاملني باملجال ،وقليلون هم القادرون عىل االنضامم إىل املنظومة اإلعالمية الرسمية. هذا االحتكار أصبح من السهل كرسه فوسائل اإلعالم ‘املعادية’ للنظام السوري ترسل مراسليها إىل الداخل تسلالً ـ النظام السوري مينع عمل الصحفيني واملراسلني األجانب دون رقابته ـ أو باالتفاق مع القامئني يف بعض املناطق التي خرجت عن سيطرة النظام ،أو ببساطة تتعاون مع بعض الناشطني يف الداخل خوفاً عىل طاقمها ،إذ تم تصنيف سوريا كالبلد الرابع سوءا ً من حيث حرية الصحافة حسب التقرير السنوي ملنظمة مراسلني بال حدود عام .2013املفارقة تكمن يف اإلعالم ‘البديل/الجديد’ ،الذي يعمل القامئون عليه من داخل سوريا أو خارجها لبث ونرش صور وفيديوهات وتقارير عىل منصات خاصة بالناشطني أو بيعها لوسائل إعالمية كربى حيث مثن الصورة من أحد املناطق الساخنة حوايل $20كأدىن قيمة ،ما خلق مسارين متناقضني للمعلومات وميكن للجمهور اختيار األنسب ،أو األكرث قرباً من توجهه. حرب شخوص رقميني الجانب األهم اآلن هو ما يسمى بـ ‘اإلعالم الشخيص ـ الجامهريي’ حيث يتم إنتاج املحتوى من قبل فرد أو أفراد -عىل صعيد شخيص ،ثم نرشه عرب اإلنرتنيت عىل مستوى عاملي ،ميكن أن يؤدي إىل تَ َو ُّرط املؤسساتاإلعالمية -وأحيانا الحكومات -ضمن رصاع عىل املعلومات وصحتها ،فالربامج عىل القنوات السورية الرسمية وشبه 37
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مقاالت
احلقيقة ‘ليست’ هناك
الرسمية تستخدم نفس املواد التي تستخدمها قنوات معادية للنظام كـ ‘أورينت’ إلثبات وجهة نظرها ،حيث يكذّب ٌ طرف اآلخ َر أو يتم اكتشاف أن املحتوى بحد ذاته ملفق من أحد الطرفني أومن قبل ‘املصدر/الفرد’ نفسه. املثال الصارخ عىل هذا هو مدونة ‘فتاة مثلية من دمشق’ والضجة اإلعالمية التي ثارت حولها ،حيث أفقدت املواطن السوري ثقته بوسائل اإلعالم سواء التقليدية أو الجديدة .فالفتاة ‘آمنة’ التي أصبحت تتحدث عن تجربتها يف سوريا وما تتعرض له ضمن دمشق من ضغوطات وتهديدات ،تتحول يف النهاية -بعد اكتشاف الخدعة عرب صحيفتي التيليغراف والغارديان -إىل املدون األمرييك توم ماكامسرت الذي كان يكتب ما يراه مالمئاً لوجهة نظره .وعىل إثرها استخدم التلفزيون السوري الوطني هذه القصة كدليل لفضح الكذب والتضليل ضده ،ضمن حملة دعائية عاملية معادية .ما يثري الجدل أن هذه القصة تنتمي للعامل الرقمي ‘السايربي’ وال متتلك أساساً واقعياً وال ترتبط مبا يحدث فعلياً داخل سوريا عىل األرض ،فالحرب اآلن هي حرب إنتاج املعلومات وإعادة إنتاجها. هذا ‘التورط’ اإلعالمي قاد الجامهري إىل حالة من فقدان الثقة بوسائل اإلعالم والرسائل التي تبثها ،حتى وسائل اإلعالم الجديد التي كانت متتلك مصداقية عالية فقدت جزءا ً من ثقتها ،بسبب عمل القامئني عليها سواء من داخل سوريا أو من خارجها ،أو سلوك أصحاب منصات النرش نفسها كـ ‘فايسبوك’ الذي قامت إدارته بإغالق صفحة ‘أكاد الجبل’ التي توثق للثورة السورية وذلك يف متوز .2013 حرب تطبيقات اإلنرتنيت ال ميكننا أن نغض البرص عن الحرب الحقيقة ،لكن الحرب الرقمية عىل ذات املستوى من األهمية فالناشطون يخاطرون بحياتهم للوصول إىل الخرب أو الصورة .هم يف الداخل أو الخارج يقومون دامئا بنرش أساليب مختلفة لكرس رقابة النظام وتخطي جدران الحامية التي يقيمها النظام ،أو كالذي قام به الناشط ‘دلشاد عثامن’ ،حيث ط ّور تطبيقاً يحدد مكان سقوط صواريخ ‘السكود’ ثم يرسل اإلحداثيات إىل الـ ُم ْستَ ْقبِل .الـ ُم ْستَ ْقبِل ميكن أن يكون أي جهاز من الجيل الجديد ‘تابليت’ ،باإلضافة إىل أساليب إدارة املحتوى عن بعد (عن طريق تحرير املادة الـ ُم ْر َسلَة عرب منصات مختلفة ،وحامية هذه املنصات بـ ‘جدران الحامية’ وبرامج الحامية من القرصنة). يقول الناشط و.أ ـ 32عاماً‘‘ :علينا دامئا أن نتابع التطور التقني لحامية النشطاء يف الداخل وحامية املنصات التي نستخدمها من التعرض لالخرتاق من قبل القراصنة’’ حرب اجلنس السايربي أحد العنارص الجديدة يف هذه الحرب هو ترسيب أرشطة جنسية سواء كانت تحوي شخوص من النظام أو املعارضة ،كالفيلم املرسب لإلعالمي حسني مرتىض مدير قناة العامل يف سوريا .الرشيط ليس بالدقيق وال ميكننا التأكد من مدى صحته ،لكن البعض يأخذ حقيقة وجوده بعني االعتبار .وعىل الجانب اآلخر هناك الرشيط الذي يحتوي عبد الرزاق طالس قائد كتيبة الفاروق وهو ميارس الجنس الرقمي .ما يثري االهتامم هو أن كال الرشيطني مأخوذان من محادثات سكايب ،ما يعني -سواء صدقنا حقيقة الرشيط أم ال -أن كال الطرفني مل يجرب اآلخر عىل الترصف ،إذا ً ال ميكن ألحد ما أن يغتصب اآلخر عرب سكايب أو يجربه عىل نزع ثيابه .ترسيب هذه الرشائط أو تصنيعها يلعب دورا ً أخالقياً هاماً فيام يتعلق مبصداقية هذه الشخصيات وتحويلهم إىل مادة دسمة للدعابة.
38
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
احلقيقة ‘ليست’ هناك
حرب الكلمات ضمن هذا املستنقع الهائل من املعلومات التي يتم تبادلها وإعادة إنتاجها ثم نرشها نجد أنفسنا تحت تأثري نظرية ‘ما بعد حداثية’ تفرس جزءا ً من هذه الظاهرة .فنحن محكومون بالـ ‘الواقع الفائق’ ويسعى الجميع إىل حامية ‘الصورة’ التي يقدمها طرف ما عن نفسه أو حدث ما .هذا أدى إىل خسارة املعرفة الحقيقية ،ما جعل كل ما يحدث اآلن يخضع لتسميات متعددة تتفق مع سياسة املنصة التي تقوم بالنرش .فام يحدث يف سوريا اآلن متعدد التسميات فهو بالنسبة إلعالم النظام الرسمي ‘أزمة ،أحداث ،مؤامرة كونية ...إلخ’ يف حني أن أطراف أخرى تسميه ‘ثورة ،حرباً ،حراكاً حرا ً ،جهادا ً مقدساً ..إلخ’ ،حتى أن هذا املوقع الذي ينرش هذه املادة ميتلك سياسة خاصة به للتسمية .بتطبيق هذه السياسة عىل مستوى أكرب بحيث تشمل ‘النصوص والصور والفيديوهات’ نرى أن قنوات املعلومات املختلفة أصبحت تؤثر عىل إدراك األفراد ملا يحدث من حولهم وردة فعلهم تجاهه ،فيمكن لـ ‘مظاهرة ضد النظام’ أن ت ُسمى ‘مجموعة تدعو لهطول املطر’ حسب قناة سام -الدنيا سابقاً -املوالية للنظام السوري ،وهذا ما يرتك الجمهور/الرأي العام أمام نس ٍخ مختلف ٍة من قص ٍة ما ،بعضها متامسك منطقياً ومدعوم بالصور والنصوص.
39
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب
40
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية التحول الدميقراطي ..سورية منوذجاً
مراجعات كتب
ٌ إيقاعاتٌ أنغام سورية: أدبية على ٍ
سرد بني الواجب واخليال ٌ
مراجعة لكتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ تأليف :دارا عبد اهلل 71 ،صفحة ،قطع متوسط ،دار مسعى.2013 ،
اخلالصة: هذه مراجع ٌة لكتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ للكاتب الشاب دارا عبد الله .تنطلق رئييس لالوعي الجمعي ،والحافظ التاريخي هذه املراجعة من فكرة أن الفن مستود ٌع ٌّ له ولطبيعة حراكه .ضمن هذه الرؤية ستكون املادة املقدمة هنا محاول ًة لرصد البنية الحركية للمجتمع السوري من خالل قراءة ملثال أديب ،وتتبع الحالة الفكرية وتفاعالتها مع الشأن العام ،ومدى تأثريها وتأثّرها به .كتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ مجموعة من النصوص املتأقلمة مع ذاتها التفاعلية اللحظية ،حيث اللحظة تتفوق عىل كل ما عداها؛ هذه اللحظة التي تصاحب التغيري الجذري والثورات عامة ،والتي تهتم بالهدم أكرث من البناء أو حسابات النجاح والفشل .هذه اآللية التي تنتمي أصوالً لقوانني الحركة ،وبالتايل تتبنى نهجاً أقرب للفوىض من النظام ،وأقرب للحياة منه للجامد واملوت ،تحاول أن تكسب اللحظة ،مؤمنة أن الفوىض تخلق يف النهاية قوانني جديدة .يف هذه املادة أسعى إىل تقديم تحليل نقدي مع اإلشارة إىل نقاط ملحوظة يف فقرات الكتاب ككرس املألوف ،واالعتامد عىل روح النكتة ،وغلبة الجملة االسمية عىل الفعلية.
❊ طبيب سوري خريج جامعة حلب .له كتابات أدبية ونقدية يف الشأن السوري والفكري العام ،وامللف الكردي يف املنطقة.
42
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
فرزند عمر❊
ٌ إيقاعاتٌ أدبية على أنغام سورية
كتعريف أويل بالكتاب الكتاب منشور عن ‘دار مسعى للثقافة والنرش’ عام ،2013يحوي عىل عدة نصوصُ ،عنوِنت بعناوين مختلفة بدءا ً من الرقم 1بعنوان ‘تسول’ إىل الرقم 77بعنوان ‘املسخ’ باإلضافة لوجود نص نهايئ بال رقم ُعنون تحت مسمى ‘هوامش’ .الكتاب جاء يف 71صفحة من القطع املتوسط ،يف جلّه تأمالت ذهنية تنضيدية ملا هو متخارج عن الكاتب ،أغلبها تتناول الثورة السورية ،حتى أن الكاتب نفسه يف أحد حواراته مع الصحافة يرصح أنه لوال الثورة ملا خاض أساساً تجربة الكتابة. نظرة عامة النصوص هي عبارة عن تأمالت فكرية تحاول ترتيب الخارج وفق رؤية جديدة للخارج ،تعالج أسئلة وجودية منها مطروح ومنها مل يُطرح ،وهي ترتك لدى املتلقي تساؤالت جوهرية عىل الرغم من الشكالنية التي اعتمدها الكاتب يف بناء جمله اليقينية ،ضمن مسار تحرييض للمتلقي ،تحاول زرع خلخلة يف ذهنية القارئ ،أساسها كرس املقدس وفق بنائية تعتمد الرسد الوصفي االنطباعي يف كثري من األحيان. الكتابة الثورية كسر املتعارف ونبذ املألوف مام يثري االنتباه لدى قراءة نصوص دارا عبد الله أن رائحة الثورة السورية تكاد تطغى عىل كل ما عداها، فالثورة بوقائعها عىل األرض حارضة ،والثورة مبفهومها التغيريي الجذري حارضة كذلك ،إن الثورة مبفهومها الجذري تتناول كل البنى ،خاصة البنى املعرفية ،هذه البنية التي تخص وتهم املشتغل ضمن الحيز والفضاء الثقايف. نرى دارا يحاول تأسيس هذا املفهوم الثوري عرب هدم ملا هو سائد وموجود ،أو متوارث بطريقة التلقني التسلسيل ،مع محاولة إيجاد صيغ بديلة .نرى دارا ثائرا ً عىل الواقع من حوله ،كام نراه ثائرا ً عىل ذاته أحيانا ،فمنذ مطلع الكلمة األوىل لنصوصه نراه يعنون النص األول بعنوان ‘التسول’ ،إشارة منه إىل فعل مقدس ضمن الذهنية 43
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب
ٌ إيقاعاتٌ أدبية على أنغام سورية
السائدة ،أال وهو العبادة ،لينتهي بنص معنون بـ ‘املسخ’ الذي يروي حادثة عن أحد املعتقلني ممن استشهدوا تحت التعذيب. النصوص تحاول نبش األشياء وتعريتها يف سبيل رؤية جديدة مستندة إىل ذهنية تأىب االستكانة للراكد واملتوارث واملعهود ،بل تحاول جاهد ًة إيجاد زوايا جديدة للرؤية تتامىش مع ما قدمته الثورة من وجود مادي ومعريف جديد ،هذه املعرفة املنبثقة عن تحريك عنيف للبنى والقيم االجتامعية والفردية ،ما أدى إىل اندثار بعضها وانبثاق بعضها اآلخر فيام تبدلت أغلب القيم املتبقية يف تسلسلها التقييمي من حيث األهمية. وفق هذا التغيري تم تلقي وإخراج الكينونة لدى الكاتب وفق مخارج غري مألوفة مبعانٍ وقيم تتفق مع ما بات موجودا ً وواقعاً ،وليس مع ما كان ،فعىل سبيل املثال نرى لدى الكاتب انحيازا ً باتجاه القيم الفردية الحريصة عىل تسيد الحرية كقيمة جوهرية ملاهية الوجود ،أكرث من القيم الجمعية الحريصة عىل تسيد الكرامة كقيمة تؤسس أهميتها من خالل الحرص عىل استمرارية املجموع عرب تأصيله ال عرب تجديده .وهذا بال شك يؤسس للخصوصية والتفرد الرضوريني لإلمساك مبفاعيل الحرية كقيمة انتهائية فردية يف أساسها الطبيعي. يقول دارا يف أحد نصوصه املعنونة بـ ‘السكني’ من رفوف املطبخ إىل أداة لنبش الذاكرة“ :أحلم بعام يكون فيه كل شخص أصل نفسه ،وال ينحدر منه أحد” .نرى هنا دعوة رصيحة إىل الفردية والتفرد وهي إحدى الدعوات التي يؤسس عليها الكاتب رؤاه الجديدة ،حيث تبدو هذه القيم املرتبطة بالفردية والتفرد واضحة حتى يف عنوان الكتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ ،مع أنها جاءت يف سياقٍ تهكمي ،نتيجة املفارقة املبنية عىل أساس غض الطرف عن مجازر جامعية باألسلحة الحديثة ،بينام تستشعر باألىس والحزن ملقتل فرد واحد بأسلحة قدمية ،إال أنها رغم ذلك جاءت متتدح الفرد عىل حساب املجموع. رغم هذا النزوح باتجاه القيم الفردية نجد الكاتب ال يستثني ذاته من وضعها ضمن محرق الثورة ،فهي ذات قدمية مبنية وفق أسس معرفية راكدة ال تتناسب مع لحظة الربكان الثوري ،وهي كام كل األشياء بحاجة إلعادة النظر ،لذلك نجد الكاتب عىل سبيل املثال متناوالً ذاته إىل درجة السخرية يف النص املعنون بـ ‘مديح الخوف’. واللغة كذلك لها نصيبها من املراجعة ،إذ يعتربها جزءا ً من االشكالية الكليانية ،وجزءا ً ال بد وأن يعاد النظر يف بنيتها ،وهو يف هذا الجانب تحديدا ً يحاول مامرسة ذلك سلوكياً ضمن ما يكتبه ،إذ نراه متمردا ً عىل األشكال السائدة للغة من خالل تبنيه لصياغات داللية ينجح فيها أحياناً ويخفق أحياناً ،إال أنه فيام يبدو أن رغبة التجريب والتغيري ورؤية األشياء من منظار جديد تطغى عىل كل يشء ،حتى عىل حساب النجاح ذاته. الكتابة وفق آلية النكتة املفارقة والتضاد عند قراءة النصوص رغم ما تحتويه من أمل إال أن القارئ يستشعر بوجود يشء يدعو للضحك أحياناً كثرية، السخرية تكاد ال تفارق النصوص ،هذه السخرية التي تبدو أنها مبنية وفق آليات النكتة ،التي تحاول جلب املتناقضات يف صورة واحدة ،حيث تؤمن املسافة بني األضداد مساحة غري مرئية من الضحك ،وكلام كانت تلك املسافة كبرية كلام كانت مساحة الضحك أكرب. والنصوص يف مجملها مبنية وفق هذا األساس التكنييك حيث نجده يف أحد النصوص املعنونة بـ ‘تعاسة البرشي’ يقول“ :قبل الخلق فخ اللذة حرمنا من الفردوس ،بعد الخلق :الوعد بالفردوس حرمنا من اللذة”. إضافة لروح السخرية ،ومساحة الضحك التي تخلقها هذه اآللية والتي تبدو بأنها رضورة تقنية موفقة من 44
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ٌ إيقاعاتٌ أدبية على أنغام سورية
قبل الكاتب لخلق حالة توازن مشاعرية لدى القارئ ،إال أنها تلعب دورا ً آخر ال يقل من حيث األهمية ،فهي ٍ كتعويض حريك نتيجة نقص الحركية والزمن الذي تتمتع بها النصوص ،والذي نجم أساساً من خالل اعتامد جاءت الكاتب عىل صياغة بالغية تعتمد الجملة االسمية كأساس ،كام سيمر معنا الحقاً ،هذا التضاد يخلق مساحة وحيزا ً حركياً يبدو يف أغلبه غري محسوس ظاهرياً يف آليات الكتابة ،إال أنها تخلق لدى املتلقي بؤرا ً توترية عرب آلية الشحن والتفريغ املتأتية من خلق مشاعر متناقضة بني األمل واللذة ،مسببة حركية مشاعرية لدى املتلقي تبدو رضورية لتلقي أي نص أديب من خالل ما تخلقه من مساحة واسعة من االندهاش. الكتابة على حواف الواقع الثورة السورية جاءت يف لحظة تراكم غري مستَثمر لحلم جيلٍ أو أكرث يف محاولة انتزاع املجتمع والفرد من براثن السلطة التي تتحكم بوجودها ،هذا الحلم الذي انقطع يف لحظة غري محسوبة وغري منتظرة أو مدركة مسبقاً ،كانت لها كل األثر عىل الالوعي الجمعي ،من خالل تراكب لحظة اإليقاظ وتشاركيتها مع الحلم األساس، كام يحدث لدى األفراد متاماً ،فاملنبه الذي يوقظ النائم عىل شكل مفاجئ يحتل حيزا ً من الحلم املتشكل لحظة اإليقاظ ،كأن نجد عىل سبيل املثال أ ًّن الذي نحاول أن نوقظه برش املاء عليه ،حلمه سيتخلله مشاهد لها عالقة باملياه ،كأن يجد الشخص أنه يغرق أو ما شابه ذلك أثناء الحلم. هكذا متت مشاركة الواقع مع الخيال ،وتم رسد الحلم/الواقع وفق هذا التكوين ،لنشهد اختالطاً يقل مشاهدته بني الواقع والخيال إال يف لحظات رضية مشابهة. هذه اآللية نشهدها أحياناً كثرية لدى الكاتب ،إذ أن مخيلته قلام تكون مفصولة عن لحظة الكتابة املتمثلة بتفاعالت الثورة وإشكالياتها ،إىل درجة أن بعض النصوص ترقى ألن تكون خطاباً سياسياً بامتياز ،والكاتب نفسه ال ينكر ذلك إذ يقول يف أحد النصوص ‘دموع القارئ روح الكاتب السائلة’“ :يلومني األصدقاء عىل الفائض الشعري يف املوقف السيايس”. كذلك نجد الكاتب يف أحيان أخرى ميرر أحالمه وتأمالته التي تبدو متخارجة عن الثورة عرب محرق الثورة، إنه يأىب إال أن تكون الثورة كام هي بوجودها اآلين لحظة الكتابة جزءا ً من تكوين وإعادة الهيكلة الذهنية التي يسعى إليها الكاتب .فالكاتب يف نص ‘تسول’ عىل سبيل املثال يحاول رسد تأمالته بخصوص عالقة العبد بالله، والتي يحيد فيها عن املتعارف واملوروث من الرؤية كعادة الكاتب يف تفسري ما حوله .هذه العالقة املستقلة عن الثورة وتفاعالتها موجودة قبل الثورة وخاللها إال أن الكاتب يأىب أن تكون تلك العالقة مفصولة عن الثورة ،فهو يذكرنا يف نهاية النص ويقول“ :يف املصائب العظمى التدين إلحاد واإللحاد تدين”. وهنا تبدو اإلشارة إىل الثورة واضحة من خالل املصائب العظمى ،فمشهدية التسول التي يرتكبها العبد تجاه الله ،والتي يعتربها الكاتب مبثابة اإللحاد ،ال تستقيم إال من خالل الثورة ،فهي الربهان عىل الفرضية والشاهد عىل ذلك. هذه اآللية فرضت نوعاً من الكتابة التي سأسميها بالكتابة األدبية اإلخبارية ،والتي نشهدها كثريا ً يف صدد تحليل البنى األدبية ملا يسمى باألدب امللتزم ،إذ تتحول الكتابة إىل واجب والتزام بنقل الواقع كام هو ،جنباً إىل جنب مع ما هو نزوح باتجاه البناء وفق أساسات املتخيَّل ،ونعتقد أن ذلك جاء نتيجة تشاركية لحظة الكتابة مع الحلم السابق عىل اللحظة ،حيث الخارج لحظة الكتابة يغدو جزءا ً من الحلم ومكوناً له ،كام حاولنا تفسريه يف آليات الحلم املذكورة سابقاً ،وبذلك تخرس الذات الفنية زمن االختامر الفني الكايف لتحليل الخارج وفق حالة 45
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب
ٌ إيقاعاتٌ أدبية على أنغام سورية
تخيلية فنية. فالذات الفنية األدبية من املفرتض أن تكون منفصلة عن الخارج لحظة اإلبداع ،غري متصلة به إال وفق آلية الصورة واملرآة ،ألنها يجب أن تبقى عاكسة لصورة الخارج ،ال أن يكون الخارج كام هو أحد مكونات أو أحد أجزاء تلك الصورة .استقالل الذات األدبية التكوينية لحظة الكتابة رضورة حتى متتلك قدرة تحليلية فنية ملا هو متخارج عنها ،وليس مجرد تفسري وإخبار للواقع كام هو الحال يف النص اإلخباري ،فكام ال يجوز أن تكون الفرضية جزءا ً من الربهان ،كذلك ال يجوز أن نفرس اليشء بنفسه ،أو كام تخربنا األمثال الشعبية بذلك كالذي فرس املاء باملاء. لذلك نجد أحياناً أن املشهد امللتقط ذو أهمية إخبارية وصفية أكرث منها تحليل فني متخيل ،ويبدو النزوح إىل افرتاضات من قبيل أن النص جاء كرضورة إلكامل ما يعجز عن إدراكه املتلقي ،وإخباره مبا ال ميتلكه من الحقيقة، عىل افرتاض مسبق بأن ذهنية املتلقي قارصة وعاجزة عن إدراك ما هو حقيقي ،هو أمر يتبادر إىل ذهن املتلقي، وهي من األمور املنفرة يف سياق تلقي الكتابة األدبية أكرث مام هي مشوقة. ورمبا أكرث ما ميكن أن يدل عىل رؤيتنا تلك النصوص التي عنونت عىل الشكل التايل‘ :السكني من رفوف املطبخ إىل أداة لنبش الذاكرة’‘ ،تأمالت يف املعارضة’‘ ،أكراد’‘ ،محمد شيخو’‘ ،مجنون الفيدرالية’‘ ،اعرتافات سلفي مرتد’، ‘املسخ’ .وهذا يؤكد ثانية حضور الثورة السورية وتفاعالتها بقوة عىل املشهد الكتايب كام أسلفنا سابقاً ،وتغدو الثورة السورية واجباً واقعياً ،تتشارك إخبارياً مع مخيلة الكاتب ،ألنها جزء من الحلم ،وبالتايل جزء من املخيلة، تشكل ماهية الحلم وتأسيسه الوجودي ،والوقائع بعكس املتخيل تحتاج دامئاً إىل حوامل إخبارية أكرث منها حوامل فنية أدبية. اإلجابات اليقينية مقابل التساؤالت الظنية سبق وأن أرشنا أن الكاتب يعالج من حيث الرؤية أسئلة وجودية كبرية ،يحاول من خالل اإلجابة عليها خلخلة السائد واملتعارف عليه ،عرب طرح رؤية جديدة تحاول النظر إىل الوجود من زوايا غري مألوفة وأحياناً غري معروفة. رغم ذلك نرى يف بعض األحيان انزياحاً باتجاه الجواب اليقيني أكرث من التساؤل الظني الذي قد يفيد أكرث من األجوبة القطعية اليقينية يف حال تناول إشكاليات وجودية بهذا الحجم ومحاولة اخرتاق أويل لها. كذلك نرى أحياناً إجابات دون اإلشارة حتى للسؤال املطروح ،حتى أنه يف بعض األحيان تتحول صيغة السؤال إىل جواب يقيني ،فال نشهد استفهاماً يدل عىل السؤال رغم استخدام أدوات التساؤل ،فالتساؤل يف كثري من األحيان يأيت إلثبات ما يرمي إليه الكاتب دون ترك أصداء للشك. ونقتبس من بعض ما جاء من النصوص كام يف نص ‘تأمالت يف املعارضة’ يقول الكاتب“ :من يستطيع أن يفهم رجل األمن الذي يعذب وهو يبيك! من سيفرس األلفة بني السجني والرصصور ،من سيشعر بالسجني الذي كتب عىل حائط املنفردة أملي أهلكني” .يف نص ‘تنظيم القاعدة’ يقول الكاتب“ :كيف ملن يتذلل وينسحق ويذرف دموعاً أمام الله يف املعبد أن يتسلط عىل الناس يف الشارع” .وهنا نجد أن املراد من التساؤل ليست اإلجابة ،ألن السؤال ال يحتمل إجابتني ،هناك إجابة واحدة هي التي يريدها الكاتب ،وال يجوز الخروج عنها ،لذلك نجد غياب إشارات االستفهام ألنها أقرب إىل اإلجابة منها للتساؤل كام أرشنا سابقاً.
46
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ٌ إيقاعاتٌ أدبية على أنغام سورية
غلبة اجلملة االسمية على اجلملة الفعلية كصيغ بالغية مام يستطيع أي قارئ أن يالحظه وبسهولة أن هناك ارتكاز عىل بنية الجملة االسمية ،حتى أن األفعال غائبة عن النصوص وإن وجد الفعل فغالباً يأيت مبثابة خرب للمبتدأ. إن هذه الصياغة البالغية تفيد أكرث ما تفيد الثبات والتأكيد كام أوضح لنا علامء البالغة من قبل ،فهذه الصياغة تؤكد ما أرشنا إليه يف الفقرات السابقة من النزوح إىل اليقينية والتوكيدية بدالً من الظنية الحركية الفعلية ،وهذا ما يتطلبه النص اإلخباري أكرث من النص األديب الفني القائم يف أساسه عىل الشك والظن. هذه الصياغة الطافية عىل السطح ،إضافة للتوكيد والثبات الذي تعطيه فإنها تفتقر للزمن والحركة إن مل يتداركها الكاتب من خالل إعطاء حركية للمسند بجعلها فعالً أو اسامً اشتقاقياً من فعل ،ت ُوقع الكاتب ومن وراءه النص يف إشكالية تناول النص األديب وفق معايري الصح والخطأ لدى املتلقي ،ال وفق معايري الجامل الذي يتطلبه النص األديب ،وضمن هذا السياق قد تشكل هذه البنية حجاباً يخفي حقائق جاملية موجودة يف النص ،عرب مقاربة تحكيمية أساسها الخطأ والصواب. وهذا ما تفتقر إليه بعض النصوص رغم أن النصوص من املفرتض أن تتكلم وتصف حالة حركية غليانية كحالة الثورة السورية ،لذلك تبدو أحياناً جامليات الكتابة األدبية غري مرئية نتيجة هذا الغطاء الحجايب. لكن عىل عكس ذلك ما تقدمه هذه الصياغة أيضاً ،أنها تعطي الفاعل أولوية عىل الفعل ،وتسلط الضوء عليه وتعطيه األهمية ،فالفاعل هو األهم يف كل ما يحدث وهو األوىل باالهتامم واألجدر باملالحظة ،وهذا بحد ذاته يشكل انقالباً عىل الذهنية السائدة ،وانقالباً يخدم االنزياح باتجاه الفردية التي سبق وأن تحدثنا عنها ،فاإلنسان هو بؤرة االهتامم لدى الكاتب ،عىل عكس ما هو سائد ومتوارث ،إذ تتفوق وفق الذهنية السائدة الشعارات عىل الوجود يف حد ذاته ،ويغدو الهدف أهم من صانعه ،وبذلك تصبح حياة اإلنسان يف خطر حقيقي من خالل انزياح باتجاه املنتَج عىل حساب املن ِتج نفسه ،وهذا ما ال يستسيغه الكاتب عىل حد ظننا. مبثابة اخلامتة ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ ،نصوص متأقلمة مع ذاتها التفاعلية اللحظية ،حيث اللحظة تتفوق عىل كل ما عداها ،هذه اللحظة من التغيري الجذري التي تصاحب الثورات عامة ،والتي تهتم بالهدم أكرث من البناء ،وتهتم بالتغيري اللحظي أكرث من حسابات النجاح والفشل ،هذه اآللية التي تنتمي أصوالً لقوانني الحركة ،وبالتايل تتبنى نهجاً أقرب للفوىض من النظام ،وأقرب للحياة منه للجامد واملوت ،تحاول أن تكسب اللحظة ،مؤمنة أن الفوىض تخلق يف النهاية قوانني جديدة تتأقلم مع ما تم تنضيده أو تبنيه من قيم معرفية قادرة عىل اإلحاطة بفرتة زمنية مصبوغة ومرهونة لتلك القيم. لكن هذه الذهنية يف اللحظة عينها التي تؤمن مبيكانيزما التغيري وتنبهر به ،تبدو مشتغلة يف كثري من األحيان ومتأثرة ومرهونة لهذه اللحظة أكرث مام تكون هي فاعلة ومؤثرة عليها ،ألنها ذهنية تدرك عجزها املفرتض عىل أساس اقتناعها بسابقية اللحظة عىل إدراكها ،لذلك تضع هذه الذهنية أهمية التغيري وأحقيتها بشكل ميكن لها أن تحجب كل يشء عداها .هذا الطغيان إن صح التعبري ميكن له أن يسري بالتحول والتغيري باتجاه كمي أكرث منه كيفي ،فرنى أنفسنا متفاجئني كام تفاجأنا باللحظة الثورية فيام قبل ،أننا أمام كم هائل من التغيري غري املستوعب وغري الرضوري واملعرقل يف كثري من األحيان للطموحات واألماين التي من أجلها اندلعت تلك اللحظة. 47
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب
عبد الحاج❊
التحول الدميقراطي ..سوريا منوذجًا:
كتاب جديد يؤسس ملرحلة ما بعد األسد مراجعة لكتاب ‘التحول الدميقراطي سوريا منوذجًا’ الريس.2013 ، تأليف :رضوان زيادة 230 ،صفحة ،قطع متوسط ،دار ّ
اخلالصة: ُو ِض َع هذا الكتاب خالل خمس سنوات بدءاً بعام ،2007أي قبل بدء االحتجاجات يف سوريا التي رسعان ما تحولت إىل مواجهات عسكرية .ومؤلفه يتحدث عن التحول الدميوقراطي الذي تَ َت َّب َع خطواته من أوروبا الجنوبية فالرشقية ،ثم أمريكا الالتينية ،قبل أن يصل إىل البلدان العربية بعد عرشين سنة .ويقول أنه استقى هذا التحول من خمسني بلداً سافر إليها وتعرف إىل تجاربها .وهو يرى أن ال مخرج لسوريا بعد سقوط النظام إال بإجراء ‘املصالحة الوطنية’ الكفيلة بالخروج من أرس املايض الثقيل إىل رحاب املستقبل ،بهمة السوريني الذين أمامهم مهمة مزدوجة بعد هذه الحرب :العمل عىل استعادة الجمهورية وتنسم من اململكة املتوارثة ،ومعاودة الدميوقراطية بعد أكرث من نصف قرن من اندحارهاّ ، أبسط مفاهيم الحريات.
❊ كاتب وصحفي سوري مقيم يف السويد .يكتب يف عدة صحف عربية منها ‘العرب اللندنية’ و‘الحياة اللندنية’ و‘القدس العريب’.
48
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
التحول الدميقراطي ..سوريا منوذجًا
ال يعني انتهاء نظام ديكتاتوري معني ،أن تنتهي جميع املشاكل .فسقوط نظام معني ال يخلق املدينة الفاضلة، بل إنه يفتح املجال أمام عهود طويلة لبناء عالقات اجتامعية واقتصادية وسياسية عادلة ،وإىل القضاء عىل أشكال الالعدالة واالضطهاد األخرى. تحت هذا املفهوم ،صدر عن دار رياض الريس كتاب ‘التحول الدميوقراطي ..سوريا منوذجاً’ للكاتب السوري رضوان زيادة ،محاوالً وضع مخططات ملا بعد سقوط النظام يف سوريا .اعتمد زيادة منهج املقاربات املتعددة ،الذي يعتمد يف تحليله عىل كافة العلوم االجتامعية ،وأَخذا ً بالعوامل السياسية والثقافية واالقتصادية والجيوسياسية يف االعتبار ،لرصد وتحليل وتوصيف الظواهر ذات العالقة بعملية التحول الدميقراطي املقبل ،ومربزا ً تأثري صاحب كتاب ‘من الديكتاتورية إىل الدميقراطية’ بروفسيور علم االجتامع األمرييك جني شارب ( )1928امللقب بـ ‘مكيافيليل الالعنف’ ،وأبرز منظر لفكرة الكفاح السلمي أو املقاومة السلمية بهدف إسقاط األنظمة الديكتاتورية ،من خالل اإلميان بقدرة الناس عىل التغيري .شارب مل يكن األول يف ابتكار أفكار املقاومة السلمية، فقد سبقه غاندي بالتأكيد (الذي منه استفاد مارتن لوثر كينغ يف رصاعه من أجل حقوق السود يف الواليات املتحدة األمريكية ،وهرني ديفيد ثورو ،وليو تولستوي وغريهم) ،إال أنه بالتأكيد أول من وضع كل هذه األفكار يف إطار اإلسرتاتيجية السياسية من أجل التغيري السلمي والنضال ضد الديكتاتوريات. املقدمة الطويلة للكتاب ( 47صفحة) أفردها زيادة للحديث عن منهج جني شارب لتحقيق التغيري السيايس عرب إسرتاتيجية الالعنف معتمدا ً عىل منظور خاص لتحليل القوى من أجل تحقيق التغيري السيايس السلمي، مبتكرا ً طرائق وآليات من أجل متكني الناس العاديني من إسقاط أنظمتهم الديكتاتورية. فاملقاومة السلمية ،حسب ما نقلها زيادة عن جني شارب يف لقائهام يف منزل األخري يف مدينة بوسطن“ :خيار براغاميت لالنتصار ،مع أن البعض يعتربونها خيارا ً أخالقياً (أي أولئك الذين يستبعدون استخدام العنف ألسباب دينية أو أخالقية)” ،فغاندي آمن بالالعنف ألنه فعال سياسياً ،وليس ألنه نقي أخالقياً. الحقاً ،يفصل زيادة رؤية شارب ملجموعة عوامل أثرت وتؤثر عىل حصيلة املقاومة السلمية منها :عوامل 49
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب
التحول الدميقراطي ..سوريا منوذجًا
اجتامعية ،وعوامل لها عالقة بالنظام الحاكم ،وعوامل لها عالقة باألطراف الثالثة ودرجة تعاطف هذه األطراف مع أحد املتصارعني (املقاومة أو النظام) ،وعوامل أخرى لها عالقة باملجموعة املقاوِمة ،ليصل بنا إىل نظريته الخاصة يف املقاومة السلمية املبنية عىل تحليل مصادر القوة ،مبيناً الفرق بني النظرية األحادية للقوة ،التي تفرتض أن القوة السياسية من األعىل لألسفل ،والنظرية املتعددة للقوة ،وأن هناك عدة مصادر للقوة ،تشكل املفتاح لفهم طبيعتها التعددية؛ وهي الرشعية واملوارد البرشية واملهارات واملعرفة .وهناك عوامل غري ملموسة (الدين مثالً) واملوارد املادية والعقوبات ،لكن الطاعة هي قلب القوة السياسية .وأن الهدف هو دفع الناس إىل سحب طاعتهم للحاكم من أجل انجاز التغيري ،ولكن قد نفشل أحياناً بسبب الخوف من العقوبة أو ملنافع شخصية ،كذلك االلتزام األخالقي والتامهي النفيس مع الحاكم .ومنطق الراحة أو لضعف الثقة بالنفس .فالقوة تعتمد عىل أعمدة دعم داخل أنظمة الحكم الديكتاتورية وهي الجيش ،واألمن ،والسلطة القضائية ،والوزارات ،واملؤسسات الدينية، ومجتمع رجال األعامل .ويعرض شارب ملا يسميه بعض الحقائق املرة املتعلقة باالعتامد عىل القوى الخارجية. بعد هذه املقدمة الطويلة جدا ً ،يعرض مؤلف كتاب ‘السلطة واالستخبارات السورية’ املشهد الدويل يف الربع األخري من القرن العرشين ،الذي تعرض إىل تحول بفعل موجة تغريات أصابت األنظمة السياسية شكلت ما سامه صموئيل هنتنغتون ‘املوجة الدميقراطية الثالثة’ التي ابتدأت يف الربتغال واليونان 1974ثم إسبانيا ،1975واتجهت صوب أمريكا الالتينية ،وبعدها اكتسحت الدول الشيوعية يف االتحاد السوفيايت ورشق أوربا ،إىل أن أثرت يف شكل عميق يف جنوب رشق آسيا. لكن وبحسب زيادة “بقيت دول جنويب املتوسط منيعة أمام موجة التحول الدميقراطي تلك ،وترواحت أشكال التسلط فيها إىل منط الدولة الشمولية التوتاليتارية الكلاّ نية كام هي حال سورية” .ويكمل “ميكن القول إن األنظمة السياسة يف جنويب املتوسط حاولت التكيف مع املوجة الثالثة وخصوصاً يف عقد التسعينيات ،لكن وفق منطها الخاص” .وهذا ما أطلق عليه زيادة اسم ‘العقد الضائع’ ،العقد الذي شهد انفتاحاً عىل أفكار املجتمع املدين وانفتاحاً اقتصادياً حيث كانت العوملة تفتح فرصاً الحدود لها للمجتمعات يف انتقال األفكار واألموال. لكن املجتمعات العربية كانت بانتظار ‘الحل البيولوجي’ كام سامه محمد عابد الجابري ،الذي تحقق يشء من نبوءته يف نهاية التسعينيات وشهدت بعض البلدان تحوالت ال بأس بها ،خصوصاً املغرب الذي كان قد شهد انفتاحاً جدياً خالل مرحلة التناوب .1996أما سوريا وغريها فكانت بانتظار ‘الحل البيولوجي’. يتابع رضوان زيادة ،بعد أحداث الحادي العارش من أيلول/سبتمرب 2011الحت أجندة دولية جديدة ،قدمت األمن ومكافحة اإلرهاب ،عىل اإلصالح السيايس ،كام ُو ِض َع موضوع الدميوقراطية وحقوق اإلنسان عىل األجندة الدولية ،مع توجيه انتقادات لبعض حلفاء الواليات املتحدة يف املنطقة يف شكل رصيح (مرص والسعودية) ،إضافة للنشاط الواضح للمعارضة السياسية واملجتمع املدين يف العديد من الدول العربية سيام مرص واألردن واملغرب، وتأسيس مبادرات سياسية ومجتمعية بات يطلق عليها ‘ربيع الدميوقراطية العريب’ منها ثورة األرز يف لبنان عام .2005 يرى زيادة أن فشل الغزو األمرييك للعراق فجر جدالً واسعاً دولياً حول اإلسرتاتيجة الجديدة للواليات املتحدة لنرش الدميوقراطية التي تسعى إىل دعم التحول الدميوقراطي وحكم القانون. الربيع العريب الذي بدأ بتونس ومل ينتهي بالوالدة القيرصية للثورة السورية ،التي تذرع النظام بعدم وصول 50
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
التحول الدميقراطي ..سوريا منوذجًا
االحتجاجات إليه ،بسبب اختالف الظروف أو الخصوصية كنتيجة بحسب زيادة “الفهم الخاطئ أن ما بدأ بتونس ومرص وليبيا واليمن إمنا هو ناتج عن التدهور الظروف االقتصادية وارتفاع نسب البطالة وفقدان فرص العمل، األمر الذي دفع بهم (النظام) إىل اتخاذ إجراءات اقتصادية غري دامئة مثل زيادة الدعم للمواد الغذائية األساسية، أو إعطاء زيادة محدودة عىل الدخل لدى العاملني يف القطاع العام وغري ذلك ،اعتقادا ً منهم أنهم يطوون صفحة االحتجاجات الشعبية إىل األبد” (ص .)70 و يبني زيادة أن ما أخر االحتجاجات يف سوريا هو الخوف يف شكل رئييس :الخوف من قمع األجهزة األمنية التي تتباهى بذلك ،إضافة إىل تحفز ذاكرة الخوف التي ترسخت بعد أحداث الثامنينيات ،ويضيف “نجاح شباب درعا املحافظة الجنوبية يف كرس هذا الحاجز والخروج بعرشات املظاهرات تطالب بالحرية ومتدد املظاهرات إىل مدن أخرى ،وقدرة الشباب السوري الفائقة عىل إدراك طبيعة السلطة الحاكمة وإبطال مفعولها السيايس واإلعالمي” .ويطرح زيادة مثاالً يف الشعارات املرفوعة ‘خاين ييل بيقتل شعبو’ كرد عىل لغة التخوين التي يستخدمها النظام ضد كل من يقف يف وجهه .ويبني زيادة أن استخدام النظام للعنف املسلح ضد املدنيني نقل الثورة إىل مرحلة أطلق عليها اسم ‘مرحلة الالعودة’ ،واتجاه املعارضة نحو الحسم العسكري وتشكيل الجيش الحر لتحرير سوريا من نظام عائلة األسد .وبذلك تحولت ثورة الحرية والكرامة وبناء الدولة املدنية الدميوقراطية إىل نزاع مسلح حسب زيادة يسقط فيه املئات يومياً. وهنا يعقد زيادة مقارنة بني تفكك النظم السياسية السلطوية يف أوربا الرشقية وبلدان أمريكا الالتينية مقارنة بالبلدان العربية ،وجذور التحول يف تشيكوسلوفاكيا كنموذج يف أوروبا الرشقية ،وسوريا كنموذج آخر يف دول الرشق األوسط .ويرى أن التجربة التشيكية حققت نجاحا يف التحول الدميقراطي عىل مستويني :مستوى التحول اآلمن من عهد تجربة الحزب الواحد الشمويل إىل الدميقراطية التعددية ،ومستوى االنفصال السلس عن سلوفاكيا دون املرور بحروب عرقية أو إثنية كام حصل مع يوغسالفيا السابقة .فعوامل التشابه بني التجربتني التشيكية والسورية هي أن النظام التشييك كان شبيهاً كثريا ً بالنظام السوري من حيث بناء املؤسسات األمنية وهيكلية املؤسسات السياسية ،إذ كان الحزب الشيوعي يسيطر عىل كل مرافق الحياة السياسية واالقتصادية واالجتامعية من خالل تكتل أحزاب سياسية صغرية (كام هو حال الجبهة الوطنية التقدمية يف سوريا) .يرى املؤلف أن تجربة ‘ميثاق الـ ’77تشبه قصة ‘بيان الـ ’99عام 2000يف سوريا ،كام أن النقاشات بني املعارضتني الداخلية والخارجية تشبه تلك التي كانت يف تشيكوسلوفاكيا .وكام ‘ميثاق الـ ’77متاماً كان الهم األسايس يف ‘بيان الـ ’99هو موضوع حقوق اإلنسان ،حيث طالب البيان بإلغاء حالة الطوارئ واألحكام العرفية ،وإصدار عفو عام عن جميع املعتقلني السياسيني ومعتقيل الرأي والضمري ،وثالثاً إرساء دولة القانون وإطالق الحريات العامة ،وترافق ذلك مع تأسيس عدد من الناشطني يف الخارج مجموعة عمل تهدف إىل مساندة املثقفني يف الداخل واملشاركة يف النقاش. لكن ال بد من اإلشارة إىل وجود اختالف رئييس بني التجربتني التشيكية والسورية- يقول املؤلف -فاملعارضة السورية مل متتلك إسرتاتيجية واضحة ملا يجب القيام به ،ودراسة توقع رد فعل السلطات ،فام إن بدأت السلطات السورية بعمليات االعتقال حتى تراجعت الحركة الدميقراطية وفقدت قدرتها عىل االستمرار أو التأثري. يتحدث زيادة كذلك عن عدالة املرحلة االنتقالية وكيفية الوصول إليها بأقل وقت ممكن ،مبيناً الخطوات اآليلة إلرساء االنتقال الدميوقراطي اآلمن .محددا ً أبرز مقوماتها القامئة عىل :إنشاء لجان تقيص الحقائق ،ورفع الدعاوى القضائية للتصدي النتهاكات حقوق اإلنسان ،والتعويضات لضامن حقوق الضحايا ،وإصالح املؤسسات 51
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
مراجعات كتب
التحول الدميقراطي ..سوريا منوذجًا
السياسية واألمنية ،وإحياء ذكرى أحداث املايض بغية التأسيس ملا ميكن تسميته ‘الذاكرة الجامعية الرادعة’ .ليختم الكتاب بالتحديات التي تواجه سوريا املستقبل وهي وفق وجهة نظر رضوان زيادة محددة بــ “اإلصالح السيايس والدستوري ،وتفكيك النظام الشمويل باالعتامد عىل عمودين أساسيني هام :املصالحة من أجل كسب املستقبل واستعادة الثقة باملؤسسات .والتحدي الثاين هو التنمية االقتصادية بعد عقود من السياسات االقتصادية الخاطئة. أما التحدي الثالث فهو تحديث الجيش السوري وتحويله إىل جيش احرتايف” .وأخريا ً يرى زيادة “رضورة االنعطاف يف السياسات الخارجية عىل أساس تحقيق مصالح الشعب بدالً من تحقيق مصالح النظام” ،ألن “املعركة الحقيقية للسوريني هي استعادة الجمهورية”. حاول زيادة تطبيق مقولة شارب “أن التخطيط ملرحلة ما بعد سقوط النظام يجب بحثه ودراسته يف وقت مبكر واإلعداد له جيدا ً” ،وأدرك أنه ليس املطلوب النقاء األخالقي باالبتعاد عن العنف ،بل تحقيق التغيري السيايس .لذلك أرص عىل تسمية التحول الدميقراطي وليس حركة الالعنف .لكنه يبدو متفائالً أكرث من اللزوم حني يفرتض أن سوريا ستقود معركة الحريات والدميوقراطية وتنرشهام يف العامل العريب .وتفاؤله املفرط يعزى إىل أن مواضيع الكتاب عولجت قبل بدء األحداث واملعارك العسكرية يف سوريا (وطبعاً يف مرحلة كانت الخطط عىل الورق تبشرّ ،فيام الوقائع عىل االرض حالياً تنذر) ،وقبل أن تتكشف احتجاجات الشعب السوري وثورته عن حرب عربية إقليمية دولية تخفي تحت عباءتها تنظيامت إسالمية متطرفة تقود الحرب ضد النظام السوري ،لكنها ليست طبعاً من عناها زيادة بأنها ستقود سوريا اىل الحرية ،وبالطبع لن تنرشها يف العامل العريب ،فوجودها يف حد ذاته نقيض الحريات والدميوقراطية.
52
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتـاجات إبداع وسط األمل حول مراكز بحوث السياسات
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل:
تتخمر يف سوريا ومناذج اجتماعية وثقافية ّ أكرث بلدان العامل خطورة إعداد :الفريق الصحفي في مجلة ِدلْ َتا نُون نور شلغين ،ديما نقوال ،عالء إحسان ،طارق العبد ،قصي عمامة ،بإشراف :ماهر المونس اخلالصة: حرب وقتلٍ ودما ٍء فحسب ،فرغم كل العنف خطئ من يظن أن ‘سوريا’ مجرد بلد ٍ ُم ٌ شعب يعشق الحياة، الذي يدور يف البالد منذ حوايل 3سنوات ،ورغم الدمار ،فهناك ٌ ٍ ً بنشاطات فكري ٍة؛ تار ًة بالفن ،وتارة بالثقافة. ويعمل عىل التفاعل مع الحدث األليم من هذه النشاطات ما أفرزته األزمة يف البالد ،ومنها ما كان موجوداً من قبل واستمر، وتوسع .نسعى يف هذا الريبورتاج إىل تسليط الضوء عىل عد ٍد من ومنها ما تنشّ ط ومنا ّ هذه النشاطات .ففي املحور الفكري والثقايف واملجتمعي أرشنا إىل مبادر ٍ ات مثل ‘املركز السوري للتوثيق’ ،ومؤسسة ‘اتجاهات’ الثقافية ،و‘منتدى البناء الثقايف’ ،وشباب ‘معاً نقرأ’ ،ومرشوع ‘رساقب األمل’ يف ريف إدلب .ويف املحور الفني وقفنا عند فيلم ‘امللك ال سوري شاب ،وتجربة ‘شكسبري يف الزعرتي’ ،وفكرة ‘ومضة’ .ثم انتقلنا من ميوت’ ملخرجٍ ٍّ العامل الثقايف والفني الواقعي إىل العامل االفرتايض ،يف ‘حكاية ما انحكت’ ،إضافة إىل تناول ٍ مقابالت مع اثنني من أصحاب املد ّونات .أما يف املحور اإلعالمي موضوع التدوين عرب إلعالم جدي ٍد بديلٍ عن النمط التقليدي :موقع إلكرتوين ،وإذاعة فقد تناولنا عدة تجارب ٍ ٍ برزت عىل لنشاطات إعالمي ٍة ْ إلكرتونية ،وغرفة تحرير أخبار افرتاضية ،أي ثالثة مناذج هامش األوضاع يف سوريا. 54
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
مقدمة ثالث سنوات َم َّرتْ ُم َخلِّ َف ًة يف سوريا مئات آالف الضحايا واملفقودين ،وماليني املهجرين والنازحني ،ودمارا ً واسعاً مل يستثني املنازل ودور العلم والصحة والثقافة .إال أن ذلك كلّه مل يكن عائقاً يقف يف وجه فكر ٍة ،أو مظه ٍر ثقا ٍّيف أراده شباب ورجال وأطفال ونساء الداخل السوري. ولطاملا ارتبطت األعامل الفكرية بالتح ّوالت الكربى يف حياة الشعوب ،من هنا كان األدب والتأريخ والتوثيق من أش ّد األدوات مالزم ًة لتح ّو ٍل جللٍ بحجم أحداث سوريا ،وكان النهم إىل تح ّو ٍل ثقا ٍّيف موا ٍز وجاد يزداد ح ّد ًة يوماً بعد يوم ،خاص ًة يف أوساط الجيل الشاب ،الذي القى يف الفوىض التي أحاطت بكل يشء فرص ًة لتحطيم صناديق التفكري القدمية والخروج من قيود ‘التابوات’ التي تربىّ عليها ،إضافة إىل الكثري من اإلثارة والجاذبية .كان الهامش السعي يتّسع ويضيق يوماً بعد يوم تبعاً للظروف والسياقات التي تفرض أشياء جديدة كل لحظة .لكن بقي ٍ للتق ّدم إىل ركنٍ ما من املشهد العام ،متجلّياً يف العديد من املحاوالت الدؤوبة للنهوض مام خلفته وكشفته الحرب، سواء عىل مستوى الثقافة أو اإلعالم أو الصحافة أو األدب أو غريها. يتناول هذا الريبورتاج ،الذي أع ّده من داخل سوريا الفريق الصحفي يف مجلة دلتا نون ،يتناول الظواهر والنشاطات الثقافية التي أفرزتها األحداث التي تعصف بالبالد منذ ثالث سنوات ،إضافة إىل تلك التي كانت سابقاً واستمرت يف سنوات الحرب.
مراكز األبحاث والدراسات: خطوةٌ أوىل يف مسرية األلف ميل يف خضم ما تعيشه البالد هذه األيام من أحداث تختلف تسمياتها باختالف املنظور التي يُنظر إليها من خالله، يعاين سكان البالد من صعوب ٍة بالغ ٍة يف التعبري عن حقيقة آرائهم ،وواقع ما يفكّرون به أو نظرتهم تجاه الحكومة أو املعارضة. بكل تأكيد العوامل املوضوعية املتعلقة بأجهزة األمن والخشية من رأي ُمعلَنٍ ،ومهام كان اتجاهه ،يراعي ِّ وأي ٍ االعتقال من ناحية ،أو تلك املتعلقة بالتشهري والخشية من االختطاف من الناحية األخرى. أما من الناحية الذاتية ،فاآلراء بطبيعة الحال متأثر ٌة بالعائلة التي ينتمي إليها الفرد (العائلة الشخصية ،أو عائلة األصدقاء ،أو عائلة العمل) إضافة ملا يتلقّاه من وسائل اإلعالم ،ناهيك عن تجاربه الخاصة .لذا برزت مشكل ٌة حقيقي ٌة يف توثيق وكتابة تاريخ األحداث التي متر بها سوريا ،حيث أن الصحفيني هم املدونون واملؤرخون الجدد، ولكنهم ‘يع ّدون للعرشة ألف مرة قبل كتابة أي كلمة’ ويراعي الجميع املحظورات التي قد تلقي بهم يف إحدى الخانات ،ومنها إىل خارج حدود الحياة. أزمة تاري ٍخ وتوثيقٍ حقيقية متر بها سوريا ،الحدث الطازج وابن يومه ،ويختلف يف روايته بألف طريقة ،فام بالكم حني مير عليه شه ٌر أو سنة ،وما بالكم إذا مل يكن للحادثة صورة أو فيديو. منط ٍ لذا شكلت الحالة السورية خالل السنوات الثالث املاضية فرص ًة لظهور ٍ جديد من الحياة الفكرية ،يتمثل ٍ مستندات موثق ٍة يف مراكز مختصة بالدراسات واألبحاث التي تؤسس ملرحل ٍة مقبل ٍة ستعتمد ،ويف شكلٍ كبريٍ ،عىل تناقش ما عاشته البالد يف الفرتة السابقة .ورغم القوانني ونقص اإلمكانيات يف بعض األحيان إال أن عدة مراكز ومجموعات قد متكنت من تأسيس عملها ،والسعي لبناء منه ٍج يف البحث ضمن تفاصيل املشهد السوري. 55
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
املركز السوري للتوثيق :موضوعية أم حيادية؟ يعتمد املركز السوري للتوثيق عىل متطوعني يف معظم املحافظات السورية للعمل عىل تدوينٍ واسعٍ لألحداث اليومية ،فتشكل بذلك أرشيفاً لكافة املواقع الساخنة وتاريخها .ويشري عضو املركز زين عادلة إىل أن املركز ،الذي بدأ عمله يف ترشين الثاين/نوفمرب عام ،2011عمل عىل توثيق ضحايا الحرب الدائرة لكال الطرفني ،سواء املدنيني أو القوات املسلحة ويف شكلٍ دقيق قدر اإلمكان ،ما جعل الحصيلة مثالً تقل عن تلك التي تعتمدها جهات أخرى. ويضيف الشاب العرشيني“ :نعمل مع شبكة مراسلني أساسيني ،وكذلك نتعاون مع متطوعني يف البالد يزودوننا باألحداث اليومية يف مناطقهم لنقوم بتدقيقها ثم نرشها ،سواء كصور أو كمقاطع مصورة ،ثم نقاطعها مع عدة مصادر أخرى قبل الوصول إىل الخرب النهايئ ،بحيث نركّز عىل املهنية واملوضوعية يف الحدث دون االنجرار إىل ٍ طرف دون آخر ،وهو ما يفرض علينا خطوطاً وسياس ًة معينة يف العمل والتوثيق وكذلك التدقيق يف الشهادات ٍ واألرقام الواردة إلينا عن أي ٍ بيانات متكامل ٍة متكن العودة إليها عند تحضري أي حدث يف البالد ،ما أنتج لنا قاعدة ٍ بحث أو دراس ٍة عن تاريخ أي موقع منذ بداية األزمة السورية قبل ثالث سنوات ،وامتد مؤخرا ً إىل إعداد دراسات واحصاءات مثل حصيلة القتىل املدنيني والعسكريني يف كل مدينة ،ومن ثم بحسب يوميات االقتتال عىل مدى السنوات املاضية ،وكذلك عدد وضحايا قذائف الهاون يف دمشق والتي قمنا بها بالتعاون مع صحيفة السفري اللبنانية ،ونستعد اليوم للرتكيز يف تفاصيل إضافية كالحياة يف بعض املناطق الساخنة أو وضع الالجئني يف الخارج من خالل نشطائنا يف هذه املناطق”. مؤسسة اجتاهات للثقافة والفنون تركز مؤسسة اتجاهات عىل تعزيز دور الثقافة والفنون املستقلة وفق ما يرشح عضو املجموعة أيهم أبو شقرا بقوله“ :هي مؤسسة ثقافية ناشطة يف الثقافة املستقلة يف سوريا واملنطقة العربية ،وتعمل عىل تفعيل دور الثقافة والفنون املستقلة لتلعب دورا ً إيجابياً يف عملية التغيري الثقايف ،السيايس واالجتامعي”. كام تسعى املؤسسة إىل املساهمة يف بناء عالقة أصيلة بني الفعل الثقايف والفني من ناحية ،واملجتمع السوري بتنوعه صورة من إحدى الورشات التي أقامتها مؤسسة ‘اتجاهات’ وتعدده من ناحية أخرى ،لرتكز اتجاهات ويظهر فيها عدد من املشاركني عملها عىل ثالثة محاور ،هي :املساهمة يف تنشيط الحركة الفنية والتعاون مع الفنانني والفاعلني الثقافيني املستقلني ،كجز ٍء من نشاط إبداعي متحرك ودينامييك ومتجاوب مع بيئته االجتامعية والسياسية .ويف شكلٍ موا ٍز تساهم ‘اتجاهات’ يف تطوير الدراسات واألبحاث امليدانية واألكادميية ،كمواد مرجعية لفهم وتحليل الحالة الراهنة. كام تتطلع ‘اتجاهات’ إىل سوريا متعددة، 56
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
متنوعة ،منتجة فكرياً ،أصيلة فنياً ،وتؤمن كحق لكل مواطن سوري. بالثقافة ٍّ ولعل إحدى ميزات املجموعة هي الرتكيز عىل األبحاث والدراسات التي تعمل عليها ‘اتجاهات’ ضمن عدة مستويات كمرشو ٍع طويل األمد تم إطالق النسخة األوىل منه العام املايض ،وهو مرشوع ‘أبحاث لتعميق ثقافة املعرفة’ ويهدف إىل بناء قدرات وإتاحة فرص تفرغ للباحثني الشباب يف مجاالت البحث والدراسات الثقافية ،ورفع مهارات الباحثني وتوجيههم وإتاحة الفرصة لهم إلنجاز مرشو ٍع بحثي (قد يكون بحثهم األول خارج إطار الدراسة األكادميية) ،وبإرش ٍ رش من باحثني اف مبا ٍ مختصني يف املجال الثقايف يشكلون اللجنة العلمية للمرشوع ،استمر هذا املرشوع 8أشهر ،ودعم يف العام املايض 11باحثاً شاباً .وتعمل ‘اتجاهات’ اليوم عىل إطالق الدورة الثانية من املرشوع خالل فرتة قريبة ،حيث تهدف خطة املرشوع خالل األعوام الخمسة القادمة إىل بناء جيل من الباحثني الشباب ،وتأسيس إلطار ومنهج نظري كدليل للباحثني الشباب ،إضافة إىل تأسيس نواة مركز أبحاث للدراسات الثقافية واالجتامعية. إضافة إىل ذلك تعمل ‘اتجاهات’ كجهة بحثية ضمن أكرث من مرشوع ،فقد أنجزت إىل جانب مسح السياسات الثقافية الذي تحدثت عنه ،عدة أبحاث أخرى ستنرش قريباً ،تتمحور حول دور الفنون والثقافة يف ظل الحروب والثورات والنزاعات املسلحة ،البحث األول يدرس دور الثقافة يف صناعة السلم األهيل يف مجتمعات عاشت تجارب مشابهة مثل رصبيا وراوندا وتشييل ،وبحث آخر عن الفن يف سورية والعراق ولبنان يف ظل الظروف املشابهة التي تعيشها سوريا اليوم. وبالحديث عن الثقافة املستقلة يرشح الشاب أن هذا الحقل هو الذي ينطلق من اإلرادة الحرة ومن التعبري املستقل وامل ُصان من كافة أشكال الضغط االقتصادي والسيايس ،والقادر عىل التعامل بإيجابي ٍة مع املعطيات االجتامعية املحيطة به .وبذلك تهدف إىل تحسني البيئة العامة للعمل الثقايف يف سوريا ،مبا يتضمنه ذلك من تطوير السياسات الثقافية والتوجهات املدنية العامة وتنويع مصادر وأساليب التمويل .ويضيف أبو شقرا“ :نرى أن الضغط للتغيري عىل صعيد السياسات الثقافية ،واقرتاح تعديالت وسياسات ثقافية بديلة هي مهمة تقع عىل عاتق املجتمع املدين ومؤسسات الثقافة املستقلة ،وتحديدا ً اليوم ،ألننا نرى أن التحوالت الحاصلة حالياً ،ليست فقط تحوالت سياسية ،إمنا هي يف عمقها قضية تحوالت ثقافية .كام أننا نرى بوضوح أن الثقافة لن تكون شاغالً رئيسياً ملتخذي القرار يف املرحلة الالحقة يف سورية (نتيجة األولويات العديدة) ،لذا فإن األمر يعود إىل املؤسسات والناشطني والباحثني املستقلني لوضع الثقافة عىل طاولة النقاش السيايس والضغط تجاه االستفادة من مرحلة إعادة بلورة هوية وشخصية سوريا ،بحيث تكون الثقافة مكوناً هاماً من مكونات التحول يف املرحلة القادمة”. 57
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
وأطلقت ‘اتجاهات’ مرشوع ‘أولويات العمل الثقايف يف سورية’ الذي يهدف إىل بناء توافقات بني الفاعلني الثقافيني املستقلني حول أولويات عملهم ،وقدرتهم عىل التأثري اإليجايب يف التطورات والتحديات االجتامعية والثقافية يف سوريا .كام طرحت ‘اتجاهات’ أيضاً ‘استبيان رأي حول أولويات العمل الثقايف يف سوريا’ وعملت عىل نرشه ضمن قطاع واسع .ويتناول هذا االستبيان ثالثة محاور: )1رصد التغريات الثقافية منذ انطالق الحراك يف عام .2011 )2أولويات العمل الثقايف ودور القطاع املستقل يف الوضع الراهن. )3الدور املفرتض للقطاع الحكومي. ويساهم هذا االستبيان يف شكلٍ أسايس يف تشكيل قاعد ٍة أساسية لسياسة ثقافية جديدة يف سوريا ،وأرضية ٍّ معرفية لخطوات الربنامج القادمة.
ضجيج ثقايف صاخب: ٌ وأبدي خالد فاخلرب ليس عاجالً ،بل ٌ ّ
ولعل إرادة الحياة لدى أبناء هذه األرض ظلّت حارض ًة رغم الحرب والقتل والدمار ،وترددت صداها يف عدة ّ مشاريع ثقافية وفكرية جذبت جمهورا ً يتسع شيئاً فشيئاً. منتدى البناء الثقايف :رقعةٌ للحرية تزداد اتساعًا بدأت فكرة املنتدى من نا ٍد سيناميئ يرعاه ‘تيار بناء الدولة السورية’ املعارض، الذي ال زال ميارس نشاطه من قلب العاصمة دمشق ،وتطورت إىل نشاطاته نهاية ،2013 كمنتدى لتتبلور بداية العام 2014يف صورتها ً ثقا ٍّيف متعدد األبواب ،الهدف منه –بحسب مؤسسيه -وضع أول حجر أساس يف عملية وعي الشباب السوري ،وتحريضاً عىل بناء ٍ ‘الثورة السلمية’ وكل تغيري تحتاجه البنية السورية إلعادة بناء ما كان مزعزعاً أو صار خراباً. وخالل لقائنا بأحد أعضاء املنتدى ،حدثنا عن سعي املنتدى منذ البداية إىل االقرتاب من هواجس الشباب الراهنة ،فكان يعرض أفالماً متنوعة املواضيع ،أبرزها الحروب األهلية واالقتتال الطائفي وأفالم األوسكار العاملية، ٍ القت رواجاً ممهدا ً بنقاشات تيل تلك العروض لنقاشات أكرب وأعمق .تال ذلك مجموعة من املعارض املتنوعة التي ْ كبريا ً ،كان أكرثها إثار ًة لالهتامم معرض ِ ‘أنت’ للتصوير الضويئ ،بالتعاون مع جمعية ‘سوريات يصنعن السالم’، ٍ مبشاركات متنوع ٍة من مص ّورين يف الداخل والخارج ،بنحو 75صورة وكان فعلياً االنطالقة الجامهريية للمنتدى، ضوئية ،تعددت مواضيعها ،حول محور ٍ واحد هو ‘املرأة السورية خالل ،’2013ق ّدم املشاركون فيها املرأة السورية صورة ملتقطة من داخل ‘منتدى البناء الثقايف’ خالل أحد النشاطات التفاعلية املتعلقة باملرسح
58
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
بكل صورها يف مخيالتهم؛ من املرأة الجميلة ،إىل النازحة ،فالثائرة واملرشدة واملتم ّردة والعارية ،وحتى املغتصبة. يقول عضو املكتب اإلعالمي واملسؤول عن النشاطات الفنية مصطفى دبّاس“ :إن ال ّرواج الذي ناله املنتدى شهري محد ٌد ومدروس ،وكان لوجود ‘تيار برنامج يف فرت ٍة قصري ٍة ش ّجع عىل تنظيمٍ أك ٍرب لنشاطاته ،فأصبح لدينا ٌّ ٌ بناء الدولة’ ،الذي يجسد املنتدى جانبه الثقايف ،دورا ً يف تأمني مساح ٍة مميز ٍة من الحريّة املتاحة لنا وللمشاركني، وقد ّمنا للناس حقّهم الطبيعي بالتعبري عن آرائهم ألبعد ح ّد ،بطرقٍ راقي ٍة وسلمية ،ومن قلب دمشق ،بهدف تنشيط الحركة الثقافية يف البالد ،ولكرس عزلة الشباب عن السياق ،ومحاولة تغيري الكثري من املفاهيم الثقافية”. كتاب يُح ّدد مسبقاً، ويرتبط باملنتدى مجموعة القراءة ‘الق ّراء قادة’ التي تجتمع شهرياً يف حلقات نقاش حول ٍ ٍ أمسيات أدبي ٍة دوري ٍة ت ُقام يف املقر ،ويليها نقاشاتٌ فكري ٌة بني الحضور .يضيف دبّاس“ :مل نستضف إضافة إىل جل ضيوفنا من الشباب الهواة ،سعياً إىل تحقيق يف املنتدى كثريا ً من املثقفني املشهورين ،بل تع ّمدنا أن يكون ّ مساحة من التجديد واستقطاب الجيل املعني ببناء الوطن ،وجذبهم إىل االهتامم بالشأن العام ،وم ّد ي ّد العون لهم يف سعيهم للخوض يف عملية البناء والتغيري”. ومن أبرز الـ َمـ َعارِض التي نظ ّمها املنتدى معرض الكاريكاتور ‘وجهة نظر’ الذي ض ّم محاور سياسية واقتصادية واجتامعية ،وشارك فيه فنانون من داخل وخارج سوريا ،منهم جوان زيرو وهاين عبّاس ،وتضمنت رسومهام املعروضة نقدا ً سياسياً مبارشا ً لرموز السلطة ،ما يُع ّد إنجازا ً للمعرض الذي غطّته وسائل إعالمية سوريّة مختلفة االتجاهات السياسية. وق ّدم املنتدى يف سياق محاوالته الـ ُم َج ِّددة عروضاً مرسحي ًة تفاعلية ،تسمى ‘عروض األداء’ ،منها ما ق ّدمه طالب من املعهد العايل للفنون املرسحية ،بعنوان ‘كونشريتو الرصاص’ ،وعروضاً أخرى قدمتها فرقة ‘مياس’ املرسحية .وكان آخر معرض هو معرض االسكتش ‘إنو هيك’ ،الذي عرض الومضات األوىل ألفكار الرسامني ،مبشاركة عدد كبري منهم ،تنوعت أفكارهم ،واجتمعت عىل العفوية يف عرض أفكار أصحابها. كام تم طرح دورات تعليم اللغة الكردية يف املنتدى مؤخرا ً ،ستليها الحقاً سلسلة دورات تعليمية ملجموعة من اللغات املحكية يف سوريا غري العربية ،والهدف من ذلك “محاولة دمج عموم السوريني بأصحاب تلك اللغات، وحاميتها من االندثار”. ‘معًا نقرأ’ :بعيدًا عن السرب مجموع ٌة من الشباب بدأوا مرشوعهم املبني عىل اهتامماتهم ،والنابع من الخاص ّ إميانهم بأن التح ّوالت الثقافية ال يمُ كن أن تكون بني ليل ٍة وضحاها ،بل عرب املحاوالت املتكررة والجهد الدؤوب للتغيري. يقول العضو املؤسس يف مجموعة ‘معاً نقرأ’ معن اله ّمة“ :بدأنا من شخصني منسقني ،قبل ظهور األزمة يف سوريا بـ ّ 6أشهر ،مبجموع ٍة عىل الفيسبوك تنظّم
لقاء اآلنسة نور شلغني ،عضو الفريق الصحفي يف مجلة دلتا نون، مع السيد معن الهمة املنسق العام ملرشوع ‘معاً نقرأ’
59
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
منسقني ،وأكرث من حلقات نقاشيّة حول كتب يتم اختيارها بالتصويت بني الق ّراء شهرياً .واليوم أصبحنا خمسة ّ 5000مشرتك يف املجموعة ،الفكرة األساسية منها هو نقل عدواها إىل املجتمع ،وخلق وعي عام متسائل ،ومساحة مشرتكة للسوريني عىل اختالفاتهم،وعىل أساس االنتامء الفكري فقط”. الوالدة املبكّرة للمجموعة وضعتها يف مواجهة ظروف استثنائية منتصف آذار ،2011فقد كان اهتامم موسعاً ومتحررا ً من القيود املكانية والفكرية إىل ح ّد ما ،بحسب معن اله ّمة ،فتح ُّول األماكن املجموعة قبل األزمة ّ يف دمشق إىل قنبلة موقوتة محتملة االنفجار يف أي وقت ،وضع هذا ح ّدا ً موقتاً لالجتامعات ،فتح ّولت إىل العمل اإللكرتوين كونه األرسع واألكرث استمرارية .كام وضعت هواجس أخرى ح ّدا ً لتنوع املواضيع املطروحة للنقاش. يقول اله ّمة“ :ناقشنا قبل األحداث الكثري من األعامل املثرية للجدل كروايتي “مزرعة الحيوان’ و‘ ’1984لجورج أورويل ،أما اآلن فنحن نحاول حرص النقاشات مبواضيع كالتطوير الذايت والرواية والتاريخ .”... املنسي لـ ‘الثورة’ :السلمية و‘حكاية ما انحكت’ التشبث بالوجه حماوالت ّ ّ موقع ‘حكاية ما انحكت’ موق ٌع إلكرتو ٌّين أطلقته وسيم حسن أحد مؤسيس موقع ‘حكاية ما انحكت’ مجموعة من الشباب املعارض للسلطة يف سوريا منذ “ 2012لتقديم الوجه السلمي املدين لحراكهم ،عرب تسليط الضوء عىل حكايات خاصة يهملها اإلعالم ،وحكايات قادمة من مواقع الفعل االحتجاجي ،وتوفريا ً ملنرب يحتوي إبداع املشاركني يف ذلك النشاط مبا يرفد العمل االحتجاجي اليومي، ولتعزيز قضايا هؤالء بأنهم غري منسيني ،وأن عملهم يستحق التوثيق والنرش ،وعدم التوقف عند إهامل اإلعالم له”، حسب القامئني عليه. يقول مدير تحرير موقع ‘حكاية ما انحكت’( ،رفض ذكر اسمه)“ :أحد األفكار األساسية التي دفعتنا إلطالق هذا املرشوع تكمن يف أن الكثري من املواد اإلبداعية التيي نتجها السوريون (الفتة ،شعار ،غرافيتي ،فلم ،جدال عىل وسائل التواصل االجتامعي حول قضية ما) تضيع يف الفضاء الشعار الخاص مبوقع ‘حكاية ما انحكت’ اإللكرتوين بعد وقت ،مادفعنا للعمل عىل توثيق ذلك من جهة ،وتقدميه للرأي العام لعكس وجهات نظر السوريني املختلفة حول كافة القضايا”. ق ّدم املوقع مضمونه باللغة اإلنكليزية ،سعياً إىل التوضيح للقارئ الغريب ،أن الرصاع يف سوريا مل يتح ّول كلياً إىل لغة العنف والرصاع عىل ‘السلطة’ أو ‘الحرب األهلية’ ،كام تص ّور رص املوقع عىل أنه ينقل صورة محايدة وسائل اإلعالم ،بل ي ّ لألحداث ،دون أن ينفي عيوب حراك من يبت ّنون أعاملهم، وبدون تأليه هذا العمل“ ،فهذه الثورة كأي ثورة لها عنفها 60
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
الخاص ومثالبها وعيوبها ،ولذا نسعى ألن نسلط العني النقدية عىل كل هذا بعيدا ً عن التأليه أوالشيطنة” ،يقول وسيم حسن ،أحد مؤسيس املوقع. ويؤكّد القامئون عىل املوقع ،الذين يعملون من داخل وخارج سوريا ،أن عىل الثقافة واإلبداع دامئاً الوقوف باملرصاد للسياسة ،عرب النقد وعدم الرضوخ لها ،وملساعيها بالهيمنة عىل كل يشء ،وأن عىل املثقف واملبدع رفض أن يكون تابعاً ألحد سواء كان ثورة أم سلطة ،بدون برت أي ٍ متاس وتوا ٍز بينهام بالرضورة. إذ ال ميكن للمبدع أن يعمل كلياً بعيدا ً عن السياسة ،كون هذا العمل يدخل يف نطاق االهتامم بالشأن العام، إذ من واجب املثقّف دامئاً أن يكون ذا تو ّجه عام ،وأن ينخرط بعملية التغيري ،عىل أن يُبقي مسافة بينه وبني أي تط ّرف ،بحيث يستطيع أن ينتقد شتّى البنى. ملش ّتت السورية: املدونات املسار ا ُ ُ ّ ّ ِ يف خضَ ِّم تسارع وترية األحداث يف سوريا ،وجدت املد ّونات السورية نفسها يف مأزق ،يف حني نضج منافسها الرشس ‘فيسبوك’ ،ورسق الكثري من ميّزاتها وق ّدمها للجميع بأرسع الطرقُ ،محققاً قدرا ً عظيامً من اآلنية ومساهامً بدور كبري ال يخفى عىل أحد يف األحداث السورية منذ بدايتها .تشتّت أصحاب املد ّونات يف مواقفهم املتباينة والتائهة ،اختار البعض اآلخر ركوب املوجة ،وتب ّني وجهات نظر موالية أو معارضة ،واختار آخرون الوقوف عىل الحياد ،مفضّ لني أن تكون مد ّوناتهم متنفّساً لهم ولقرائهم ،إذ “يك تصل إىل الجميع ويسمعك الجميع عليك الرتفّع عن االنقسامات املؤقتة ،وااللتزام مبا يجمع بني البرش بدالً من تفرقتهم” كام يقول املد ّون املد ّون مناف زيتون صاحب مدونة ‘بلوكة’ السوري مناف زيتون ،صاحب مد ّونة ‘بلوكة’ التي انطلقت مصادف ًة مع اليوم التايل لبداية األحداث يف البالد. ‘بلوكة’ مد َّونة سوريّة يكتب فيها اليوم خمسة كُتّاب ،أُريد منها يف البداية أن تكون منربا ً ثقافياً ملشاريع كُتّاب وصحافيني، بعيدا ً عن وسائل اإلعالم التقليدية وماتفرضه ٍ وتشذيب ضغوط سياساتها التحريرية من ٍ املد ّون أحمد األشقر صاحب مدونة ‘مسرت بلوند’ لآلراء ووجهات النظر .لكن الوقت الحرج لوالدتها وضعها قبالة خيار ٍ ات قليلة؛ فإما السجال السيايس الدائر وقرس الدخول يف ّ نفسها عىل ٍ طرف دون آخر ،أو االبتعاد عن الخطاب املبارش يف ما يخص البالد ،وبالتايل خسارة عامل الجذب الذي متلكه معظم املضامني السياسية اآلن .يقول زيتون“ :لألسف مل تق ّدم املد ّونات أي يشء عىل أرض الواقع اليوم ،فخطاب املدونات السورية ازداد 61
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
اعتداالً وتعقالً أكرث من أي ٍ وقت مىض ،وهاتان السمتان مرفوضتان بشكلٍ كبري بسبب االحتقان الكبري الذي يسيطر عىل الجميع”. ويتّفق املد ّون السوري املتوقّف عن التدوين أحمد األشقر مع زيتون ،بأن الكالم املعتدل مل ي ُعد يلقى رواجاً بجانب “املعارضة املتطرفة والتشبيح” ،وأن الكالم أصبح ترفاً ثقافياً ليس له أي تأثري أو صدى بجانب صوت الرصاص اليوم ،لذا اختار ككرث غريه التوقف عن التدوين ،بعد فرتة قصرية من قيام ‘هكر’ متط ّرف دينياً باسم ‘الطري الحر’ بتهكري املد ّونة وحذف جميع محتوياتها. ويف تعليقٍ عىل واقع التدوين يف سوريا ،نرش املد ّون السوري موريس العايق يف آذار/مارس 2012تحقيقاً مكتوباً بعنوان ‘سوريا :التدوين خارج الرسب’“ :مل يكن املدون السوري عموماً بعيد عن خطر االعتقال قبل 15 آذار ،2011لذلك مل يكن من السهل عىل املدون أن يعلن عن اسمه الرصيح ويكتب يف قضايا الشأن العام بسهولة، والكثري من املدونني هجروا مدوناتهم الرصيحة إىل صفحات ومدونات أخرى يكتبون فيها بأسامء مستعارة وبحرية أوسع ،وبحسب تقرير صادر عن ‘املركز السوري لإلعالم وحرية التعبري’ فإن ما يقارب ُ 15م َد ِّون و ُم َد ِّونة تم توقيفهم عىل إثر نشاطهم خالل ما يقارب السنة ،وحتى نهاية شهر ترشين األول ،2011ومنهم من اعتقل ألكرث من مرة”. مد ّونات معارضة تجاوزت هذا األمر ،تقول مد ّونة ‘الـ ُم ْن َد َّسة’ يف التعريف عن نفسها“ :ييل بالداخل بيبعتو مقاالتهون لييل بالخارج ييل بدورهون بينرشوها من باب االحتياط االلكرتوين” .فاليوم يف سوريا عد ٌد ال يُستهان ٍ به من املد ّونات التي اختارت ارتداء ثوب االعتدال مبضمونٍ املندسة، معارض للسلطة يف شكلٍ واضح ،كمد ّونات ّ كربيت ،أمواج إسبانية ،طباشري وسوريا فوق الجميع ،وغريها ،مبواضيع متن ّوعة تشمل املقاالت التحليلية إىل التغطيات امليدانية ،واآلراء واملواقف السياسية والثقافية.
للصورة صوت وكلمة حاضرة أفرزت الفرتة الحالية التي تعيشها سوريا مبا فيها من سلبيات كثرية ،طغت رمبا عىل إيجابياتها ،عدة مواهب ٍ روايات إعالمي ٍة مس ّيس ٍة قد تش ّوه حاولت تسليط الضوء عىل ما يحصل عىل أرض الواقع السوري مبتعد ًة عن املحتوى وتسيرّ ه نحو ٍ غايات أخرى .األفالم القصرية ،ومشاريع الحب والضحك ،وتلك الخاصة باألطفال هي مظاهر ناتجة وليست وليد نفسها. فيلم ‘امللك ال ميوت’ ليامن مغربي :حكاية سورية من اخلارج إىل داخل ظل املخرج السوري الشاب يامن املغريب ،صاحب فيلم ‘امللك ال ميوت’ ،مرتبطاً بقوة بسوريا منذ خروجه من البالد متوجهاً إىل مرص .يف آخر سنوات دراسته ،قرر أن يكون مرشوع تخرجه حول قصة واقعية للمعارض السوري ميشيل كيلو داخل أحد املعتقالت ،وكان فيلامً قصريا ً أهداه لرتاب سوريا. يقول يامن“ :الفيلم هو عمل سيناميئ قصري يحاول ملس خطوط مل نجرؤ عىل الخوض فيها طوال سنوات كثرية ،أبطاله ممثلون سوريون أرادوا إيصال صوت املعتقل السوري ومعاناتهُ ،ص ّور يف يف استديوهات كلية الفنون ٍ بصعوبات كبرية ،أهمها صعوبة استحضار املشاهد داخل بالقاهرة” .فيلم ‘امللك ال ميوت’ ،حسب املغريب ،م َّر املعتقل حيث “أننا نعتمد عىل القصة املحكية عىل لسان كيلو ،وعىل روايات أشخاص كانوا يف الداخل وتراوحت 62
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
ظروف تواجدهم فيه ،ما ص ّعب علينا تخيل البيئة املناسبة ،باإلضافة إىل رغبة الجمهور السوري يف مشاهدة عمل ثقايف وفني يليق بالظروف القاسية التي تشهدها البالد”. الفيلم هدفه سوريا والشعب السوري وال يشء سواهام حسب املغريب الذي يضيف قائالً“ :كانت السنوات الثالثة املاضية ثقيلة علينا وعىل أبناء وطننا ،إال أنها فتحت فضاءات وعوامل مل نكن كسوريني نستطيع الخوض أو النقاش فيها ،وارتفع منسوب الجرأة إىل الدرجة التي مل يبق فيها خطوط حمراء ،بالنسبة يل عىل األقل” .وعن التكلفة املادية لفيلمه يجيب املغريب“ :اعتامدنا كان عىل أنفسنا يف التمويل وعىل الدعم البسيط املقدم من املعهد العايل للسينام بالقاهرة ،مقررين االبتعاد عن أي جهة ممكن أن تفرض أفكارها ورؤيتها عىل محتوى العمل”. يأمل يامن املغريب يف العودة إىل سوريا قريباً ،وتصوير أعامل أكرب تعالج ما حصل فيها ،إال أنه يرى ذلك أمرا ً ٍ جهات مبكرا ً جدا ً وصعباً يف ظل التضييق األمني ،كام أنه ال يخفي خشيته من التكلفة املرتفعة وصعوبة وجود ٍ أجندات معينة. ممولة مستقلة تقبل اإلرشاف عىل أعام ٍل تحرتم عقل الجمهور وال تخدم شكسبري يف الزعرتي :مشاريع احلب والضحك يعد أطفال سوريا أحد أبرز األطراف الخارسة إزاء الحرب التي تشهدها بالدهم ،من نزوح وتهجري وموت وترسب درايس وتجنيد لدى األطراف املقاتلة ،مرورا ً باآلثار النفسية التي تركتها الحرب عليهم لسنوات .إذ تقول آخر الدراسات ‘غري الرسمية’ إن 9آالف طفل عىل األقل قضوا خالل العنف الدائر يف البالد منذ عام ،2011ناهيك رسب من التعليم واملدارس. عن 3ماليني مت ّ ويف محاول ٍة ملواجهة هذه املخاطر ،ورغب ًة يف زرع بسم ٍة عىل وجوه األطفال وأهاليهم يربز مرشوع ‘شكسبري يف الزعرتي’ الذي يرشف عليه نشطاء وممثلون سوريون بينهم الفنان نوار بلبل .يقول نوار“ :شكسبري يف الزعرتي هو عرض مؤلف من مرسحيتني هام ‘امللك لري’ و‘هاملت’ أبطاله أطفال سوريون أجربتهم ظروف وطنهم عىل النزوح إىل مخيم الزعرتي عىل الحدود األردنية السورية .حاولنا تبسيط فكرة العرض مبا يتالءم مع مستوى وعيهم مبتعدين عن مفردات مجردة كالسياسة والثورة ،حيث كان هدفنا إخراج األطفال من لعبة الكبار القذرة ،والعمل عىل إعادة إنتاج الضحك والفرح لديهم ،محاولني خلق بقعة صغرية ميكنهم فيها التعبري عن ذواتهم بالغناء والتمثيل والرسم والحركة ،مضيفاً أن هناك مسؤولية كبرية علينا وعىل كل من يستطع املساهمة يف التخفيف من معاناتهم يف االنخراط يف مثل هذه املشاريع”. يتحدث عالء حوراين ،أحد النشطاء املرشفني عىل املرشوع ،عن الصعوبات التي واجهت انطالقته قائالً“ :بداي ًة كان الهاجس األكرب بالنسبة لنا هو الحصول عىل املوافقات األمنية من السلطات األردنية ،كون العمل سيتم عىل أراضيها ،وبعد طرح الفكرة عليهم القينا ترحيباً كبريا ً وتشجيعاً عىل امليض يف املرشوع .بعد ذلك كان ال بد من التواصل من املنظامت الدولية املعنية بالطفل وحقوق اإلنسان ليؤمنوا لنا املركز وكافة املستلزمات للبدء بالعمل مع األطفال ،إال أن التجاوب كان متواضعاً .حيث مل يتمكنوا بعد شهر ونصف من األخذ والرد إال من تأمني خيمة واحدة ملدة يومني من أصل ثالثة أشهر كنا بحاجة إليها ،كام طالبنا بتأمني وجبات لألطفال بعد الربوفات الخاصة باملرسحيات إال أن األمم املتحدة ‘بكافة كوادرها’ مل تتمكن من تأمني سوى وجبات ألربعة أيام من أصل 50يوماً!” .ويضيف حوراين“ :كل تلك التحديات دفعتنا إىل إنشاء مركزنا الخاص ،محاولني تأمني كل ما يتعلق بالتحضري للعرض واملستلزمات املادية املتعلقة بذلك ،مضيفاً أن الدعم كان سورياً خالصاً من أفراد مستقلني عن 63
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
أي تجمع أو حزب سيايس”. شكسبري يف الزعرتي ُعرِض بتاريخ 27من الشهر الحايل <آذار/مارس >2014بالتزامن مع يوم املرسح العاملي مرتافقاً مع ٍ عرض للوح ٍة رسمها أطفال املخيم كرسال ٍة منهم إىل أطفال العامل .كام متت دعوة املمثلة أنجيليا جويل، والعب الكرة ذو األصول الجزائرية زين الدين زيدان لحضور فعالياته. مشاريع صغرية يف سراقب األمل: الشعار الخاص مبشاريع صغرية مرشوع صغري يف بلدة رساقب بريف إدلب أطلقه نهاية العام املايض خمسة شبان سوريني متطوعني يف الداخل والخارج يسعى ملساعدة من ترضروا من الحرب الدائرة عن طريق تأمني فرص عمل ودخل مادي ليعينهم عىل ما خرسوه يف ظروف الحرب .يقول ‘حسن’ أحد القامئني عىل املرشوع“ :هدفنا األسايس هو تجنب الوصول إىل مجتمع خامل يعتمد عىل املعونات التي لن تدوم طويالً ،باإلضافة إىل رغبتنا يف إعادة عجلة االقتصاد والحياة التجارية إىل سابق عهدها” .كسوة مالبس لألطفال يف الشتاء ،ورشة خياطة، افتتاح محالت نوفوتيه وبقاليات ،املساعدة عىل عالج أطفال مترضرين يف مشايف أوروبا هي بعض الفعاليات التي متكن ‘رساقب األمل’ من إنجازها ،حسب ‘حسن’ الذي لفت إىل أن وجود تنظيم الدولة اإلسالمية يف الشام والعراق ‘داعش’ سلبي عليهم ،وعىل كل مفاصل الحياة يف البلدة .ولكن بعد ‘تحرير’ البلدة منه منذ يف الفرتة املاضية كان له أث ٌر ٌّ شهرين أصبح لديهم حرية أكرب يف العمل واستطاعوا إنجاز ما مل يستطيعوا إنجازه يف الفرتة املاضية. يضيف ‘حسن’“ :نسعى ليك يكون مرشوع وطن” ،إال أنه يتحدث عن الصعوبات املادية التي تواجهه وضعف التمويل .ففي رساقب حالياً “حوايل 50مرشوعاً قيد التحضري تكلفة الواحد منها بني 1500-500دوالر (أي ما يعادل 210000-70000لرية سورية) ،وإذا ما قورن هذا املبلغ باملساعدات املالية التي تصلنا من متربعني مغرتبني يف أوروبا والخليج فهي متواضعة جدا ً”. ‘ومضة’ :حلظات خارج زمن احلرب يصف قيص عاممة ما شاهده ذلك اليوم“ :كنت يف املصعد ،فتح الباب عىل مجموعة من األشخاص فجأة يف أحد الطوابق ،ووجدت نفيس أمامهم ينظرون إيل وأنا أنظر إليهم ،كان هذا متاماً كام هو املرسح ستارة تفتح ملمثل عىل جمهوره وبالعكس” .هكذا خطرت الفكرة لنغم ناعسة مؤسسة ‘مرشوع ومضة’ يف دمشق ،الذي وإن كان يعتمد عىل فكرة املرسح الخفي ،إال أنه اتخذ طابعاً أكرث أملاً وفناً يف دمشق ،ويف ذات املصعد نفذت ناعسة فكرتها األوىل مع مجموعة من الشباب املتطوعني يف مركز كانت تعمل فيه كمتطوعة أيضاً. تطورت الفكرة لتخرج من املصعد إىل الشارع ،فالتقت صاحبة املرشوع بعدد من املوسيقيني واملرسحني الشباب ،رسمت خطوط العرض األوىل ومكانه ،وتقوم فكرته عىل ظهور مفاجئ ملجموعة من العازفني واملغنيني 64
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
يف أحد شوارع دمشق وقلبها تحديدا ً ‘الشعالن’ ،ليفاجئوا املارة بأغنية تُختار بعناية فائقة يك ال ت ُحسب عىل أحد أطراف النزاع .العرض األول كان يف الشعالن بدمشق، وكان املرشوع ال يزال مرشوعاً مل يحمل اسامً بعد ،ومن دون موافقات أمينة ،تقول ناعسة“ :باستثناء ترصيح من وزارة املصالحة الوطنية” ،وتعتقد ناعسة أيضاً أن الحرب مليئة باملفاجأت ،فلام ال تفاجئ الدمشقيني بيشء جميل أيضاً؟ مع أنها ال تنكر أن بعض املارة مل يعريوا أي اهتامم لهؤالء الشبان وكانوا يتابعون طريقهم ،فيام سجلت دموع لدى بعضهم ،ومشاركة وعرض تقديم الدعم من البعض اآلخر. قدم مرشوع ‘ومضة’ حتى اآلن أربع ومضات يف دمشق ،ويخطط ملشاريع أكرث ‘مرسحية’ مثل تقديم عرض يف حافلة عامة أو مدرسة .القامئون عىل املرشوع الصورة إلحدى الومضات املفاجئة يف شارع ما كانوا ليطلقوا الومضات لو أن الحرب مل تزر البالد ،كام الشعالن وسط دمشق أنهم يخططون للتوقف عن إطالالتهم يف شوارع دمشق فور انتهاء املعارك ،ألن البالد باعتقادهم تحتاج ملثل هذا النوع من املشاريع التي تبث األمل يف أم ٍة فقدت الكثري خالل ثالث سنوات من الرصاع. ٍ ولهدف بعد أن ت ُنفذ الومضات يف الشارع ،يتم رفع فيديو مصور عىل اإلنرتنت ليشاهده من مل يكن حارضا ً، آخر يقوم شباب ‘ومضة’ بالنرش عرب اإلنرتنت“ .السوريون انقسموا وقسم كبري منهم غادر البالد ،هؤالء لهم الحق يف مشاهدة ذلك أيضاً” لكن ملاذا دمشق حرصا ً؟ تقول ناعسة إنها تختار مناطق قلب دمشق لتتجنب ما قد يُلصق باملرشوع من سامت سياسية ،ولو أنها تتمنى أن تعر َِض يف كل مكان من سوريا ،لكن الظرف لن يسمح لومضة بالظهور يف مخيم الريموك وضاحية األسد مثالً ،فإن متت واحدة لن تتم األخرى ،لذلك ينفذ املرشوع يف مناطق يتفق عليها السوريون ،ويف مناطق ال تلون بصبغة سياسية أو عسكرية ما. كثريا ً ما اتهمت عروض ‘ومضة’ .فالومضة التي اتخذت اسم ‘ومضة كياموية’ سبقت الفاجعة الكياموية التي ُسجلت يف الغوطة الرشقية للعاصمة ،وأتت بعد فاجعة خان العسل بريف حلب الكياموية أيضاً .كان ال بد من الظهور ألجل السوريني وليس لدعم طرف ما ،طبعا ُحسبت هذه الومضة عىل أنها ضد النظام ،فيام اعتربها البعض مع النظام“ ،نحن مجانني” جمل ٌة يقولها القامئون عىل املرشوع الذي اتهم كثريا ً بالتبيعة للسلطات ،أواملعارضة، واملرشوع الذي أطلق يف فرت ٍة ميوت فيها السوريون بكل أشكال املوت وصنوفه .لكن كل هذا ليس سبباً لعدم ظهور املرشوع ،فاملهم هم هؤالء الباقون يف العاصمة ،والذين يستحقون األفضل .القامئون عىل املرشوع يرفضون أن يسمى باملرشوع املوسيقي بل هو مجرد مرشوع يهدف لنرش األمان أوالً يف نفس القامئني عليه ثم يف نفس املشاهدين. لكن الجنون الحق يحتاج لدعم مادي ،وهنا تتحدث ناعسة عن الجنون الفني طبعاً .الدعم وصل من داخل البالد بشكل كبري فهناك من قدم التجهيزات الصوتية وهناك من تطوع ،وهناك من عرض املساعدة ،لكن مع 65
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
كل هذا الدعم ال تنفي ناعسة أن الخطر قد زارها وزار فريق العمل أيضاً .ومع أن املرشوع ال يزال بكرا ً بالنسبة للمشاهد إال أنه ناضج يف أذهان املرشفني عليه ،حيث أدخلوا باإلضافة إىل الغناء والعزف القليل من التمثيل والحركة يف املشاهد التي ستعرض الحقاً .وتضم ‘ومضة’ شباباً سوريني مختلفي املشارب السياسية من معارضني ومواليني ،ال يختلفون عىل الخشبة االفرتاضية التي يقفون عليها ،فهم يتفقون عىل األساسيات التي مل يتفقوا عليها ٍ بظروف مهنية صعبة كمعظم الباقني يف دمشق ،ويعيشون الحرب معاً تحت شعار تسميه ناعسة إال ضمناً ،وميرون “حرب املصلحة املشرتكة” التي تجمع من يريد الحياة ،وتعترب أن املرحلة التي متر بها سوريا اليوم هي األفضل ملثل هذا النوع من النشاطات الثقافية .عدوى ‘ومضة’ وصلت إىل مخيم الريموك املحارص بجانب العاصمة ،حيث عام من الحصار تقريباً .ورغم ذلك قام شباب يف داخل املخيم بالعزف عىل البيانو يف قىض العرشات جوعاً بعد ٍ الطريق أيضاً .هذا التأثري يعتز به القامئون عىل املرشوع ،فحني اجتمع أكرث من 200شخص يف “الجرس األبيض مثالً” تكون الفكرة قد متت والتي ملخصها “اعملوا واشعروا بالسعادة فأنتم تستحقونها وال تتطرفوا مهام حدث”. جمهور ‘ومضة’ يف الغالب يضم أم شهيد وابن شهيد وزوجة شهيد ،أو قريب معتقل ومفقود ومغيب ومخطوف: هي دعو ٌة للحياة ،يطلقها شباب سوريا من قلب العاصمة للجميع ومن الجميع.
سوريا :اخلرب الذي ال يغيب وال يُغ َّيب
يف سياقٍ آخر تعد األزمة السورية من أكرث ما يحتل األخبار بشكلٍ يومي يف العامل بسبب القضايا التي تطرحها وكثافة األخبار التي فرضتها يف السنوات الثالثة األخرية .ويف ظل غياب منابر إعالمية تعرب عن الشباب وتلبي احتياجاتهم للمصداقية ،قرر الشباب السوري أن يأخذوا دورهم يف صناعة الخرب من خالل ‘وسائل اعالمية بديلة’. نواطري ‘عنب بلدي’ يف داريا :نشاط سلمي وفرحة بالعدد صفر ‘عنب بلدي’ جريدة أطلقها مجموعة من شباب وبنات داريا الناشطني يف الحراك السلمي يف املدينة ،أرادوا حسب قولهم “خلق منرب حر ألقالم الشباب التي قُ ّيدت وحورصت من قبل نظام الرأي الواحد خالل العقود املاضية ،وأراد الفريق من خالل الجريدة أن يوصل صوته إىل الشارع، الذي افتقر لوجود وسيلة إعالمية حرة تحمل أفكار الثورة ومبادئ املجتمع املدين الذي نشدته الثورة منذ انطالقتها”. وحسب ‘ناطور’ ،وهو محر ٌر يف الجريدة: “فإن إصدار جريدة ورقية مل يكن باألمر السهل من الناحية املهنية يف ذلك الوقت ،وكان عنرص العمل الطوعي هو أساس املرشوع ،وبوجود شباب هواة مل يكن لديهم أي خربة صحفية كان البد من االعتامد عىل املهارات الذاتية ألعضاء الفريق باإلضافة ملعارفهم األكادميية والثقافية، 66
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
إبداع وسط األمل
فقد تم تقسيم أبواب الجريدة عىل األعضاء بحسب اختصاصاتهم وقدراتهم األدبية والفكرية والفنية ،وتم العمل بجهد كبري وحثيث عىل إصدار العدد صفر ،الذي كان تل ّمسه باألصابع مبثابة حلم ملجموعة الشباب غري الواثق يف ذلك الوقت -من قدرته عىل تطبيق الفكرة”.يؤكد العاملون يف ‘عنب بلدي’ أنه خالل األشهر الـ 26من عمر الجريدة ،تطور العمل يف شكل ملحوظ، وبدأت مالمح االحرتاف تظهر شيئاً فشيئاً لدى أعضاء الفريق ،من خالل قراءة ردود أفعال القراء واالستامع إىل مالحظاتهم ونقدهم .كام لعب التدريب املهني الذي تلقته الجريدة بواسطة بعض املنظامت اإلعالمية دورا ً كبريا ً يف تحسني وتطوير مستوى املحتوى الصحفي للجريدة .وبدأت الجريدة تتحول شيئاً فشيئاً من مجموعة عمل إىل مؤسسة متلك نظامها الداخيل وقوانينها ،وسياستها التحريرية وقواعد العمل الصحفي ،باإلضافة إىل عالقاتها التي تتسع يف الوسط اإلعالمي. ويتابع ‘ناطور’“ :كانت التحديات األبرز التي تواجه اإلعالم يف شكل عام هي القدرة عىل االستمرار والوصول إىل الجمهور يف شكل مهني ،والقدرة عىل الوصول والتحرك داخل البالد لالقرتاب من قضايا الناس واالستامع لهم ملعالجة قضاياهم صحفياً ،والعنرص الثالث هو التمويل لتأمني استمرارية املرشوع ودعم أعضائه وتطوير عملهم”. قد يكون من الصعب تقييم مقدار النجاح أو الفشل الذي حققته الجريدة عىل صعيد الهدف األسايس الذي وضعته لنفسها ،كام يقول املحررون يف الجريدة“ ،فمع دخول املجتمع السوري يف نفق املحنة الكبرية التي يتعرض لها حالياً ،ووقوعه يف أرس الحاجة ملا هو أكرث إلحاحاً من ‘الحرية’ كهدف أسمى للثورة ،كالحاجة لألمان واملأوى والغذاء .ورمبا أصبح الخطاب الفكري والثقايف والسيايس الذي تحمله الصحف مثالياً لدرجة البعد عن هموم الناس ،لذلك كان البد من التطرق يف شكل مبارش لقضايا الناس االجتامعية واإلنسانية ،وتسليط الضوء عىل همومهم من خالل تحقيقات ومواد صحفية تعالج مشاكلهم ،وقد استطاعت الجريدة عىل هذا الصعيد كرس بعض الجدران االجتامعية التي خلقتها األعراف والتقاليد االجتامعية والتعرض ملواضيع حساسة وهامة ،كاملواضيع املتصلة باملرأة والدين” .وبالتأكيد ‘عنب بلدي’ مثلها كمثل وسائل اإلعالم الرائدة التي تسعى ألن تكون سلطة رابعة تؤثر يف الناس ويف أصحاب القرار وتصنع التغيري. روزنة :راديو يهتم بالشارع السوري بكوادر سورية %100 يعد ‘راديو روزنة’ من إذاعات اإلنرتنت الرائدة بالظهور والتطور مع بدايات األزمة السورية .أعضاء ‘راديو روزنة’ يعرفون عن أنفسهم بأنهم مجموعة من السوريني الذين قرروا إنشاء وسيلة إعالمية سورية تدعم اإلعالم الحر وتتسم بالحيادية واالستقاللية مللء الفراغ اإلعالمي املهني املوجود يف الساحة السورية .ميس من اإلداريني املسؤولني يف راديو روزنة تؤكد “كوادر روزنة سورية .’’%100 فريق التحرير موجود خارج سوريا ،فيام يعمل ضمن فريق املراسلني 64صحفياً ومواطناً صحفياً يف الداخل. روزنة يغطي الوضع السوري بكل أنحاء البالد ويركز عىل الحياة اليومية والقصص اإلنسانية إىل جانب األوضاع السياسية” .وحيث تتنوع األهداف والطرق التي يسعى اإلعالم فيها للتأثري بالرأي العام يتخذ راديو روزنة التغطية الحيادية التي تشكل تحدياً وإيصال اإلخبار مبصداقية وحرفية .تؤكد ميس “مرشوعنا يسعى لخلق مناخ دميوقراطي يدعم الحريات العامة يف الشأن السوري ،وهو وسيلة إعالمية تسمح ألي سوري مهام كان رأيه للتعبري عن نفسه بكل مايخص قضايا الشارع السوري”. 67
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
إبداع وسط األمل
حترير سوري :اخلرب يبقى ‘منفي’ حتى يتم ‘التحقق’ منه مرشوع ‘تحرير سوري’ هو مجموعة أخبارية تطوعية .يقول تشارلز أحد مؤسيس املجموعة“ :بدأت الفكرة إلنشاء وسيلة إعالمية مستقلة ،ليس لها تبعية ألحد (أخوان ،نظام، عسكر ..إلخ)” وهي وليدة ‘الثورة’ التي بنظر القامئني عىل املرشوع ثورة عىل كل خطأ أو عمل يرض للبلد. لعل أهم ما مييز مرشوع تحرير سوري أنه ال يفرض خربا ً ،بل يضع األخبار للتحقق، وكل خرب هو منفي حتى يتم التحقق منه. يقول تشارلز“ :لسنا مجموعة تنويرية ،بل نحن نسعى لجعل الناس تبحث عن الخرب ،وتشكك يف أي حدث ،وتبحث بنفسها عن الحدث وهذا بحد ذاته تغيري وتأثري بالرأي العام ،وكأن املجموعة تخلق الحس الصحفي يف كل متابع سوري” .وعن أبرز الصعوبات التي تواجه العمل أوضح تشارلز“ :الصعوبات يف شكل عام بالنسبة لإلداريني هي محاولة نقل الواقع وأخطاء جميع األطراف دون أن نتهم باالنحياز لطرف ألننا ننقل أخباره ،وهدفنا البعيد هو تطوير املجموعة ليشء أكرب وأكرث انتشارا ً”.
68
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حول مراكز بحوث السياسات:
‘املركز السوري لبحوث السياسات’ منوذجًا إعداد :الفريق الصحفي في مجلة ِدلْ َتا نُون اخلالصة: نشأت مراكز بحوث السياسات عموماً يف سوريا كحاجة فرضتها األحداث املتسارعة يف البالد يف ظل التطورات امليدانية والسياسية .ويف الوقت الذي كادت تخلو سوريا من تأسس ‘املركز السوري لبحوث أي مرك ٍز بحثي مستقلٍ و ُم ْع َت َم ٍد كمصد ٍر للمعلوماتّ ، ِّ ٍّ السياسات’ ،كمؤسس ٍة مستقل ٍة ،تسعى للوصول إىل أكرب قد ٍر من املعلومات بطريق ٍة قريب ٍة للواقع قدر اإلمكان .أجرى الفريق الصحفي يف ‘مجلة ِدلـــ َتا نُــون’ لقا ًء مع ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ ،بحضور ربيع نرص ،وزيك محيش ،ورميا دايل ،يف مقر املركز بدمشق. وقد أجاب األستاذ نرص ،الباحث يف املركز ،عىل عد ٍد من األسئلة التي طرحناها ،واملتعلقة ظل األزمة الراهنة ،مروراً بدوافع نشأته ومصادر متويله ،وعن بتأسيس املركز ،وعمله يف ِّ أبرز الصعوبات التي تتم مواجهتها .كام تطرقنا يف لقائنا إىل تأثري الوضع األمني واألزمة الحالية عىل عمل املركز ،وكيف حافظ املركز عىل استقالليته يف ظل التجاذبات السياسية والتح ّزب واالنقسام القائم يف البالد .كام ختمنا اللقاء بأمثل ٍة عن عمل املركز وعن التقارير التي أعدها عن الوضع السوري.
69
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
حول مراكز بحوث السياسات
ً بداية ما هو ‘املركز السوري لبحوث السياسات’؟ تأسيسه؟ وعمله؟ يف ظل شح اإلنتاج البحثي املوجه للسياسات ،تأسس ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ كمؤسسة مستقلة، مدنية ،غري حكومية ،غري ربحية ،تقوم بإنتاج الدراسات والبحوث الـ ُم َو َّجهة للسياسات العامة بطريقة احرتافية، وتسهم بطرح البدائل املمكنة للسياسات العامة ملؤسسات صناعة القرار وللرأي العام. ويقوم املركز بتنفيذ حوارات سياساتية مبنية عىل البحوث واألدلة بحيث تحرتم حرية التعبري والتفكري وقبول الرأي اآلخر ،وتساهم يف تطوير وتعزيز فعالية املؤسسات الحكومية واملدنية .ويشكّل الحوار مساحة مفتوحة يقوم املركز بإدارتها بحيادية وموضوعية معتمدا ً عىل أكرب قدر من املعرفة املتوفرة مبشاركة ممثلني عن مختلف أصحاب العالقة بغية تطوير املعرفة بطريقة تشاركية ،والوصول إىل خيارات سياساتية تخدم حاجات املجتمع بالشكل األمثل. كيف كانت بداية ‘املركز السوري لبحوث الدراسات’؟ وما هي دوافع نشأته؟ نشأت الكثري من مراكز البحوث املوجهة للسياسات يف الدول النامية بعد استقاللها منتصف القرن املايض، للمساهمة يف اإلنتاج املعريف املوجه للسياسات العامة ،وجَسرْ الهوة بني املعارف املرتاكمة وصناعة السياسات العامة بكافة مراحلها .ورغم انتشار هذه املراكز يف شكل متسارع إال أن مفهوم مركز السياسات ال يزال غري محدد ومتنوع إىل َح ٍّد كبري .حيث ميكن تصنيف مراكز السياسات وفقاً ملوقعها السيايس ( مستقلة أو حكومية أو حزبية أو تابعة لقطاع األعامل أو املجتمع املدين) ،أو لوظائفها الرئيسية ذات األولوية (الوظيفة البحثية أو الحوارية أو الدفاعية). ما هي أبرز الصعوبات التي تواجهها مراكز الدراسات عمومًا .والصعوبات التي يواجهها مركزكم؟ تواجه معظم مراكز السياسات تحديات كبرية يف الدول النامية مثل ضعف إمكانيات البحث العلمي والقيود املك ّبلة لحرية الفكر والبحث ،باإلضافة إىل التدخل املبارش للقوى السياسية املؤثرة يف كل من أهداف وأولويات وأداء هذه املراكز مبا يف ذلك حرية النرش ،وضعف املوارد املالية واملادية التي تخصص للبحث ما يسهم يف إضعاف استقاللية هذه املراكز .ويضاف إىل ذلك الخلل يف الربط بني املعرفة والبحوث من جهة والسياسات من جهة أخرى؛ فالبحوث املوجهة للسياسات تحتاج إىل عملٍ مركَّ ٍز يف وضع طروحات وبدائل قابلة للتطبيق ومرتبطة بالقضايا الواقعية ،كام تحتاج إىل جهو ٍد استثنائية يف مجال التواصل مع صناع القرار بفاعلية ومع املجتمع بطرق تشاركية وشفافة. أثرت األزمة عمومًا والوضع األمني يف البالد خصوصًا على عملكم ونشاطكم هل ّ يف جمال البحث امليداين؟ عانت سوريا من نقص املراكز البحثية وخاصة املراكز البحثية املعنية بالسياسات العامة ،وترافق ذلك مع مناخ مؤسسايت غري مالئم الزدهار عملية البحث العلمي نتيج ًة للتضييق عىل الحريات العامة والحريات األكادميية، والتضييق عىل الحوارات الجادة املتعلقة بالقضايا العامة ،ونقص االستثامر يف البحث العلمي والرتكيز عىل 70
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حول مراكز بحوث السياسات
التعليم الك ّمي .باملقابل فإن صناعة السياسات العامة ظلّت إىل حد كبري غائبة عن مشاركة أفراد املجتمع .فتباعدت بالنتيجة السياسات العامة ويف شكل متزايد عن تطلعات ومصالح املجتمع السوري ،وافتقرت آليات املساءلة للفاعلية ،مع دور هزيل للقضاء ،وتغييب لإلعالم املستقل، وتهميش ملؤسسات املجتمع املدين .لقد بينت األزمة الحالية (منذ آذار )2011العجز املزمن للسياسات عن تلبية جز ٍء كبريٍ من طموحات الشعب السوري يف تنمية مستدامة تضمينية ،ما يزيد من الحاجة إىل رسم التصورات املستقبلية للقضايا الكربى عىل املستوى الوطني بطريقة تشاركية ومستندة إىل املعرفة واألدلة العلمية. كام أن األزمة التي متر بها سورية يف حاجة اىل تبني الحلول قصرية األجل.
ما هي سياسة املركز وركائزه األساسية التي يعمل عليها؟ إن أحد أهم ركائز ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ هو االستقاللية والحرفية يف العمل .وقد تب ّنى املركز يف سبيل ذلك مجموعة من األسس كان أهمها العمل كجزء من املجتمع املدين لخدمة النفع العام ،وإرشاك ممثلني عن القطاعات الثالث العام والخاص واألهيل يف دعم عمل املركز ،وتبني رشاكات إسرتاتيجية معهم. إضافة لتشكيل مجلس لألمناء من شخصيات وطنية عامة فكرية مستقلة ومشهود لها بالنزاهة واملوضوعية والحرص عىل الشأن العام ومتثل تيارات فكرية متنوعة .ولضامن سالمة العمل الفني وااللتزام باإلسرتاتيجيات ووضع األجندة بنا ًء عىل أولويات املجتمع يعتمد املركز عىل هيئة فنية استشارية محرتفة من خرباء محليني وإقليميني ودوليني. حتيزه لهذا الطرف أو ذاك؟ كيف يحقق املركز استقالليته وكيف يضمن عدم ّ يعترب التمويل أحد املحددات األساسية لالستقاللية ،لذلك تم تأسيس املركز بتمويل ذايت من مؤسيس وزمالء وص ِّم َمت محفظة متويل متنوعة تضمن استقاللية املركز عن أي مصدر متويل .وال يقبل املركز التمويل من املركزُ ، األحزاب السياسية .كام يعتمد املركز يف شكل رئييس يف متويل مشاريعه البحثية عىل رأس املال البرشي التطوعي، املتمثل بجهود الباحثني من داخل وخارج املركز ،كأساس لتغطية احتياجات العمل .وبالنظر إىل حجم العمل املطلوب والساعات املقدمة تطوعاً إلنجازه ،يعترب املنتج النهايئ يف كل مرشوع ذا صبغة تطوعية قياساً بالتعويض الرمزي املقدم للمشاركني بإنجازه. 71
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ريبورتاجات
حول مراكز بحوث السياسات
ما هي القضايا أو املشاكل التي يتناولها املركز يف دراساته؟ تتضمن أولويات العمل يف املركز الرتكيز عىل املستوى اإلسرتاتيجي والقضايا اإلشكالية الكربى ضمن السياسات العامة .فغياب رؤية وإسرتاتيجية واضحة عىل املستوى الكيل يف صناعة السياسات يف سورية خلق الحاجة لتعبئة هذا الفراغ عىل مستوى الخيارات اإلسرتاتيجية وتقييمها والحوار حولها من ِق َبلِ املركز الذي عمل عىل تصميم مرشوعه األسايس‘ ،سياسات تنموية بديلة يف سوريا’ ،حيث يهدف إىل املساهمة يف تطوير السياسات العامة التنموية ذات األولوية، ومبشاركة فعالة من القطاعات واملواطنني املعنيني للوصول إىل تنمية مستدامة.
هل ميكن أن تشرح لنا منهجيات املركز يف أدائه وعمله مع مثال شارح؟ يتبنى املركز منهجيات علمية متعددة االختصاصات تركز عىل القضايا االقتصادية واالجتامعية وتشابكاتها، ويتم استخدام وتطوير املنهجيات الكمية الرياضية يف شكل أسايس باالعتامد عىل مناذج قياسية وإحصائية والدراسات املستقبلية .كام يتم اعتامد املنهجيات الكيفية بخاصة يف القضايا االجتامعية واملؤسسية وفقاً لألصول العلمية .وباإلضافة إىل ذلك يتم العمل عىل املستويني الكيل والجزيئ ،حيث يقوم املركز بالتحليل االقتصادي االجتامعي عىل الصعيد الوطني ،وينفّذ ُمسوحاً ودراسات عىل مستوى األرس واألفراد. ولرصد وتحليل الواقع االقتصادي واالجتامعي يف سورية ،ونتيج ًة لقلة البيانات واملعلومات املتوفرة عن الواقع السوري ،عمل املركز عىل تشخيص وتحليل جذور األزمة للوصول إىل فهم أعمق لالختالالت التي أ ّدت إليها ،حيث صدر تقرير ‘تحليل الجذور واآلثار االقتصادية واالجتامعية لألزمة يف سورية’ يف كانون الثاين/يناير 2013مبشاركة العديد من الباحثني املستقلني. وقد تضمن هذا التقرير تحليالً وتقييامً لآلثار االقتصادية واالجتامعية لألزمة خالل عامي ُ ،2012-2011مربزا ً العوامل التي قادت إىل األزمة الحالية واملتمثلة يف جذرها باالختناق املؤسسايت الذي ه َّمش قطاعات كبرية من املجتمعَ ،حارِماً إياها من املساهمة بفاعلية يف الحياة السياسية واالقتصادية واالجتامعية. ويف ظل تعقد األزمة السورية واتخاذها أبعادا ً جديدة وتداخل العوامل الداخلية والخارجية املؤثرة فيها، بالتزامن مع تهميش الرأي العام السوري وعدم إرشاكه يف صياغة رؤية واضحة للخروج من األزمة ،صمم املركز مرشوع ‘األزمة السورية :استرشاف بدائل الحل’. 72
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حول مراكز بحوث السياسات
واعتمد هذا املرشوع عىل رسم منهجي للسيناريوهات املحتملة للخروج من األزمة موضحاً دور الفاعلني، والبديل األمثل لتجاوز األزمة .وبدأ املرشوع بوضع مالمح رؤية بعيدة املدى تعتمد القيم واملبادئ الرئيسية املرغوبة ومبشاركة العديد من املهتمني بالشأن العام .وتم استخدام هذه الرؤية لتقييم السيناريوهات املحتملة يل كخيا ٍر تفضييل للمجتمع السوري لألزمة .فقد أظهرت الدراسة تصدرا ّ ملحوظاً لـ ‘سيناريو املفاوضات’ بثقلٍ داخ ٍّ عىل باقي السيناريوهات األخرى .وقد تم عرض نتائج املرشوع يف مؤمتر ‘نحو حل إسرتاتيجي لألزمة السورية :دور املجتمع املدين’ والذي شارك املركز يف تنظيمه. ما هي آخر نتائج تقاريركم املتعلقة باألزمة السورية؟ فيام يتعلق باآلثار االقتصادية واالجتامعية لألزمة يف سوريا ،يقوم ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ ،وبالتعاون مع ‘وكالة األمم املتحدة إلغاثة وتشغيل الالجئني الفلسطينيني (األونروا)’ و’الربنامج اإلمنايئ لألمم املتحدة’ ،بإصدار تقارير ربعية لتقييم هذه اآلثار عىل املجتمع السوري ومؤسساته. وتسعى هذه التقارير لتشخيص االختالالت التنموية الكربى خالل األزمة بطريقة علمية ،بحيث تشكّل أحد مصادر املعلومات الرضورية لصياغة السياسات والربامج التي تتجاوز يف نظرتها الحالة اإلنسانية الطارئة إىل توسيع الخيارات اإلسرتاتيجية التنموية ملا بعد األزمة. يقدم املركز نتائج بحوثه ومشاريعه لخدمة الصالح العام ،ساعياً لتمكني أفراد املجتمع وتوسيع خياراتهم من خالل تأمني نفاذهم للمعلومات وضامن حقّهم يف املعرفة.
73
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
74
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراســـات املثقف واملعارضة والشأن السوري غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة بني الشعر والفيس بوك السينام كمعرب عن تفاوت الرصاع قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
دراسات
محمد ديبو❊
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا:
طويل ال ب ُ َّد منه متهيد ٌ ٌ اخلالصة:
بقدر ما عكست الثورة السورية توق السوريني نحو الحرية ،كشفت –باملقدار نفسه -حجم الجهل ونقص املعرفة املوجود فيام يخص هذه الـ ‘سوريا’ التي يصبون إليها .ليس عىل مستوى الشارع/الجمهور/ الشعب فحسب ،بل عىل مستوى النخبة املثقفة التي تكتب جهالً فيام يخص بلدها ،فتكون أحد أسباب التأزيم بدالً من أن تكون أحد محرضات التنوير والحل .لهذا كان البد من العودة إىل هذه املعرفة التي أنتجها املثقف السوري حول ‘سورياه’ ،لتكون الكارثة أنه ال يوجد معرفة حول سوريا بأقالم السوريني إال ملاماً! مثة الكثري من األيديولوجيا والقليل من املعرفة .وهذا ما دفعنا للبدء بهذا البحث الذي يناقش ‘جهل’ املثقفني السوريني حول سورياهم ،أو متكن األيديولوجيا منهم عىل حساب املعرفة ،عرب سؤالٍ ٍ مثقف كتاب معريفٌّ واحدٌ يتحدث عن سوريا بقلم يعكس حجم مأساة الثقافة السورية :ملَ ليس هناك ٌ سوري قبل عام 2000؟ وملَ ليس هناك إال الكتب املترسعة حول سوريا بعد عام 2000؟ وهي بالكاد ٍّ تتجاوز أصابع اليد الواحدة؟ هذا السؤال ،مضافاً له جهل املثقفني السوريني بطبيعة بلدهم وتركيبة نظامه السيايس واالقتصادي واالجتامعي ،دفع البحث إىل الغوص يف طبيعة الثقافة السورية مذ تشكلت سوريا بجغرافيتها الحديثة يف ظل االنتداب الفرنيس ( ،)1946-1920قارئاً -يف هذه املادة -اإلطار التاريخي الذي تك ّون فيه املثقف السوري والتح ّوالت التي جرت عىل مفهوم املثقف ومنوذجه ،بدءاً من ‘املثقف املتعلم’ و’املثقف األيديولوجي’ و ‘املثقف الثوري’ و’املثقف النقدي’ انتهاءاً بـ ‘املثقف العمومي النقدي’ الذي يولد اليوم يف ظل الثورة ،معيداً سوريا إىل خارطة اهتامماته املعرفية بعد أن هيمنت عليه األيديولوجيا طويالً .عىل أمل أن نتمكن يف أجزاء قادمة من قراءة األسباب الخارجية (خارج إطار املعرفة) التي تسببت بهذا الفقر ،واألسباب الداخلية (داخل النص املعريف امل ُ ْن َتج ومنهجه) ،ساعني بنفس الوقت ملحاولة فتح باب جدي ٍد يف هذا اإلطار ،نأمل أن يُ ْت َب َع مبزي ٍد من النقاش والجدل مع مثقفني ومفكرين آخرين ،وأن يُولَدَ ٍ ‘جديدٌ ’ ما ال يرتهن للثورة أو املايض بقدر ارتهانه للمعرفة ورشوطها فحسب. ❊ كاتب وشاعر وباحث سوري ،يكتب يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع االلكرتونية .حاز بديوانه ‘لو يخون الصديق’ عىل جائزة دمشق عاصمة الثقافة العربية .كام صدر له قصة بعنوان ‘خطأ انتخايب’ عن دار الساقي ،وشهادة عن الثورة ووتجربة االعتقال بعنوان ‘كمن يشهد موته’ عن دار املواطن .إضافة إىل مجموعة أبحاث منها بحث بعنوان ‘الطائفية كعامل من عوامل النزاع األهيل يف سوريا’ الصادر عن مركز املجتمع املدين والدميقراطية ضمن كتاب مشرتك عن السلم األهيل يف سوريا.
76
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
ع ّرت االنتفاضة السورية ،التي اندلعت يف الخامس عرش من آذار ،املثقفني واملعارضة السورية الرسمية ‘كنخبة’ يف آن ،لجهة أنها كشفت األوهام التي تسيطر عىل أذهان هؤالء وانعكاس ذلك يف اسرتاتيجيات نضالهم العاجزة ،وفيام يكتبون :عطالة وجهالً وتبسيطاً ال يليق بانتفاضة يدفع السوريون والسوريات مثن استمرارها بوجه الطاغية من دمهم بشكل يومي. إن الكثري مام يكتب حول سوريا يف الصحف واملراكز البحثية اليوم يالمس حدود الجهل يف كثري من األحيان. جهل بوضع البلد الداخيل وتركيبته :سياسياً واقتصادياً واجتامعياً وثقافياً ،ريفاً ومدينة ،فقراء/نخبة طبقية مهيمنة وناهبة ،مثقفاً/سلطة .وببنية النظام السوري وطبيعته :طائفي أم سلطوي ،قائم بغريه أم بدعم الخارج/املحور، يعتمد احتكار القلة والدفاع عن مصالحهم بوجه األكرثية الساحقة من الفقراء املسحوقني املذلني املهانني أم يحقق مطالب الطبقات الشعبية األوسع يف توازن دقيق وحساس مع مصالح الحيتان االقتصادية ،يعتمد العنف املطلق آداة وحيدة لحامية السلطة ومصدر الرشعية أم مث ّة أسباب أخرى تساند هذا األمر؟ هذا الجهل املعريف الفادح بسوريا الذي كشفته االنتفاضة ،والذي أدى فيام أدى من جملة نتائج كثرية إىل أن تقف اليوم املعارضة السورية والنخبة املثقفة عاجزة أمام الحائط املسدود الذي وصلت إليه جميع األطراف، كنتيجة منطقية إلسرتاتيجيات خاطئة ُوضعت بنا ًء عىل معلومات ومعارف خاطئة وغري دقيقة ،األمر الذي يعيدنا إىل املثقف ودوره يف إنتاج الثقافة واملعرفة الخاصة ببلده وطبيعة سلطته املستبدة ،ومدى مواجهة هذه الثقافة ((( للسلطة ألن “السلطة عنف ،فيام القيود الوحيدة التي يعرتف بها الفكر الخالق هي قواعده املتأصلة يف داخله” أي سلطة كانت :سياسية أم اقتصادية أم اجتامعية. وهي قواعد تنحاز لإلنسان/الفرد/الضعيف حتامً بوجه السلطةّ ، هذا الوضع املزري للمثقف السوري اليوم يضعنا أمام أسئلة كربى ،تبدأ من التح ّري ال عن أسباب غياب املثقف وسلطته اليوم وعن ضمور دوره فحسب ،وعن أسباب عدم قدرته عىل إنتاج املعرفة التي هي شغله األساس ،وعن دوره يف تس ّيد الجهل والوهم واأليديولوجيا واالنبهار األعمى أو التشاؤم مبا يحصل بدالً من إنتاج املعرفة بالوضع القائم أو تفسريه متهيدا ً لتغيريه ،كام يقول ماركس. 1آالن باديو ،مقالة ‘التفكري بالحدث’ من كتاب ‘الفلسفة يف الحارض’ آلالن باديو وسالفوي جيجك ،ترجمة :يزن الحاج ،دار التنوير ،2013ص.23 :
77
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
عبارة ماركس السابقة تيش بأن املعرفة بـ “تسبق الحدث ألنها متهد له ،عرب املساهمة يف تنوير من يقوم به عىل شدة الظلم والفساد ،مبعنى أنها تنتج الوعي املح ّرك لهذه الجامهري ليك تفكر وتفهم أنها مستغلة فتبدأ عملية التفكري بكيفية الخروج من هذا الوضع مستدلة مبا كتبه املثقف كمعامل طريق أو نقاط علاّ م ،ألن املهمة الحقيقية للمثقف تكمن يف ‘صوغ البدائل من الوضع القائم”((( ألن املثقف “يساهم يف مناقشة الشأن العام بأدوات عقالنية ،ومن منطلق املواقف األخالقية”(((. هذا ما يجب أن يكون عليه الوضع ،فهل كان قامئاً يف سوريا قبل االنتفاضة؟ وإن كان قامئاً أو موجودا ً ،فهل كان قامئاً كشعور عام بالظلم أم كشعور خاص معريف/علمي مبني عىل أسس وأرقام ومعلومة وليس أيديولوجيا؟ أي شعور مييز املثقف بشعوره املعريف بهذا الظلم وسبل تفكيكه عن املواطن العادي بشعوره الفطري يف الظلم، سواء من موقع من يقع عليه الظلم أو من موقع أيديولوجي ينتمي له هذا املواطن؟ قبل البدء بنقاش املعرفة التي أنتجها املثقف العريب والسوري تحديدا ً ،والقارصة عن اإلحاطة بالوضع اليوم ملعرفة أسباب ذلك ،علينا أن نؤكد إن كانت هذه املعرفة قارصة فعالً ،وتستحق وصفها الذي نصفها به ،وهل هي كذلك بالعموم أم مثة اخرتاقات ما لبعض املثقفني؟ وهل هي اخرتاقات هامة ذات داللة وتحدث أثرا ً أم أنها مجرد ‘رصخة صامء’ أم ماذا؟ ليك ال يكون كالمنا يف الهباء سنتحدث عن بعض أوجه املعرفة القارصة كام تجلت يف كتابات املثقفني السوريني عن سوريا ،بشكل خاطف ورسيع ،عرب أمثلة رسيعة ،عىل أمل أن نتمكن الحقاً من تسليط الضوء يف جزء خاص من هذا البحث عىل هذا األمر بشكل تفصييل وم ّوسع عرب الدخول يف نقاش م ّوسع مع املعرفة التي أنتجها املثقف السوري حول سوريا ،سواء فيام يتعلق باالنتفاضة أو بسوريا بشكل عام ،مكتفني هنا ببعض األمثلة ليك ال يطول هذا الجزء من البحث ،ويك يدرك القارئ الهدف األسايس لهذا البحث. ٌ مثال أول :مؤخرا تحدث املفكر السوري الكبري صادق جالل العظم عام سماّ ه ‘العلوية السياسية’ مفرتضاً أن النظام يف سوريا هو نوع من علوية سياسية ،إذ قال“ :ال ميكن للرصاع أن يصل إىل خامتته بدون سقوط العلوية السياسية متاماً كم أن الحرب يف لبنان ما كان ميكن أن تصل إىل خامتتها بدون سقوط املارونية السياسة وليس املوارنة يف لبنان”(((. يصعب الفهم كيف ميكن ملفكر مثل العظم أن ال يدرك الفوارق بني سوريا ولبنان من جهة التكوين والفضاء العام الذي ولد به كال البلدين يف ظل االنتداب الفرنيس ،حيث اتجهت سوريا نحو النظام الجمهوري واتجه لبنان بفعل توازناته الطائفية نحو نظام املارونية السياسية الذي رشعن األمر دستورياً وربط بني النظام والطائفة واستمد رشعيته التاريخية من هذا النظام إىل أن قامت الحرب األهلية اللبنانية ،يف حني أن رشعية النظام السوري مستمدة تاريخياً من األسس الجمهورية رغم كل عللها ،حتى قبل أن يصل النظام الحايل إىل السلطة ،إذ يتناىس العظم أن ‘العلوية السياسية’ أو ‘املارونية السياسية’ أو غري ها من هذه النظم تقوم يف بعد أول عىل أساس طائفي واضح ورصيح ،يدمج بني النظام السيايس والدولة ،بحيث تكون النصوص الدستورية رصيحة وواضحة لجهة ‘حق’ 2عزمي بشارة ،عن املثقف والثورة ،مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية ،العدد - 4املجلد األول-ربيع ،2013ص.142 : 3املصدر السابق ،ص.131 : 4صادق جالل العظم لـ‘املدن’ :الحل بسقوط العلوية السياسية ،جريدة املدن االلكرتونية ،حوار دمية ونوس ،الخميس ،2014/03/13الرابط: http://www.almodon.com/Culture/Articles/%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D982-%%D8%AC%D984%%D8%A7%D984-% %D8%A7%D984%%D8%B9%D8%B8%D985--%%D984%%D986-%%D98%A%D986%%D8%AA%D987%%D98%A%D8%A7%D984%%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D8%AF%D988%%D986-% %D8%B3%D982%%D988%%D8%B7-%D8%A7%D984%%D8%B9%D984%%D988%%D98%A%D8%A9.
78
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
هذه الطائفة يف الحكم عىل نحو ما شهده لبنان مثالً ،وهو أمر يغيب يف سوريا التي ينص دستورها عىل النظام الجمهوري ،مذ ولدت سوريا بشكلها الحديث. ويف ٍ بعد ثانٍ عىل العالقة بني الطائفة والسلطة ،ترى الطائفة نفسها أنها ممثلة سياسياً عرب هذه السلطة، بحيث تشعر الطائفة أنها متارس السياسة أو تشارك بالحكم من خالل حقها الطبيعي هذا الذي كفله لها الدستور وهو أمر غري متوفر أيضاً يف سوريا ،حيث تنظر الطائفة العلوية للنظام السوري بوصفه حامياً لها وليس ممثالً سياسياً ،يف حني أنه يف نظام ‘العلوية السياسية’ أو ‘املارونية السياسية’ تنظر الطائفة للسلطة بوصفها االثنان معاً ،مع ترافق األمر مع سلطة دينية تسند السلطة السياسية ولكنها تفرتق عنها بشكل واضح فالكنيسة املارونية يف لبنان تاريخيا هي مستقلة عن السلطة السياسية ،يف حني أن السلطة يف سوريا صادرت الطائفة العلوية كلياً وفككت مرتكزات قوتها وحرمتها حتى من مرجعية دينية ،ليك تقوم هي مبهمة ‘التمثيل الديني’ دون أن تفصح عن األمر ،مانعة نشوء أي قطب ديني داخل الطائفة يسحب منها رشعيتها هذه ،دون أن تعطي العلويني ـ أو أي طائفة أخرى ـ حقوقهم السياسية ،يف حني حرمت العلويني من حقوقهم السياسية و أن يكون لهم مرجعية دينية معاً ،ليك يسهل الهيمنة عليهم وربطهم بها ليكونوا مجرد وقود لها(((. وفق تص ّورنا يقوم النظام السوري عىل احتكار الطائفية والتالعب بها ،إذ مل يكن يوماً نظاماً طائفياً كام يتوهم الكثريون بل هو نظام يحتكر الطائفية والحديث بها ،ليق ّدم نفسه نظاماً علامنياً يف حني أن نظام ‘الطائفية السياسية’ ال يتورع عن تقديم نفسه بصفته الطائفية الواضحة .وهنا مثة فرق واضح بني األمرين ،لن نخوض يف تفاصيله هنا ،مع رضورة مالحظة أن النظام السوري اليوم يستمد آليات حكمه يف العمق من جوهر النظام االنتدايب الذي فرضته فرنسا يف سوريا ،مع فارق جوهري أيضاً عىل مستوى السطح عن تجربة االنتداب الذي غرق بالطائفية وأعلنها يف إطار دويالت ويف قوات الرشق التي كانت تعتمد عىل األقليات ،يف حني أن النظام السوري احتكر الطائفية ولعب بها باطنياً وبطرق رسية/أمنية ،مغطياً عليها بـ علامنوية/وحدوية/قومجية/مامنعة وغريها من األوراق التي مكنته عىل مدى عقود من التغطية عىل احتكاره للطائفية(((. وهنا نشري إىل خطأ آخر من األخطاء الشائعة ولكن القاتلة التي وقع بها املثقفون السوريون يف مقاربتهم للنظام وطبيعته ،حني افرتضوا أن النظام السوري هو أول من اعتمد عىل الطائفية يف األمن والجيش ،يف حني أن جذور األمر تعود إىل االنتداب الفرنيس الذي رسخ هذا األمر يف ‘قوات الرشق’ مبواجهة ‘س ّنة املدن’ الذين كانوا يحملون لواء القومية العربية التي كان الفرنسيون يخشونها .فوفقاً للتخطيط الفرنيس ،ط ّور الجيش تركيباً ريفياً وأقلوياً قوياً ،كان للعلويني فيه موقع مرموق .وقد صح هذا بصورة خاصة يف صفوف الجنود وضباط الصف .ويف نهاية االنتداب ،كانت عدة كتائب يف القوات الخاصة مؤلفة بكاملها تقريباً من العلويني .ومل تكن أية كتيبة عربية ُسنية رصفة ،وحتى رسايا الخيّالة القليلة التي كان فيها عنارص كثرية من العرب الس ّنة ملئت يف مجملها بعنارص من مناطق ريفية ومن مدن نائية .وقد فضل الفرنسيون املجندين من األقليات ومن سكان األرياف لسبب واضح 5للمزيد حول هذا األمر اقرأ بحثنا املنشور يف اآلداب :العلويون :مسألة طائفية أم اجتامعية :محمد ديبو ،عدد خريف ،2012الرابط: http://adabmag.com/node/512، وكذلك :علويّو سوريا من العزلة إىل لعنة السلطة ،يوسف كنعان ،مركز دراسات الجمهورية الدميقراطية 12،اكتوبر ،2013الرابط: http://drsc-sy.org/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D98%A%D8%AC%D98%A%D8%A9%D8%B3%D984%%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D984%%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8% AF-%D981%%D98%A-%D985%%D988%%D8%A7%D8%AC%D987%%D8%A9-%D8%A7/. 6ملزيد من املعلومات حول هذا األمر ميكن مراجعة بحثنا املعنون بـ ‘الطائفية كعامل من عوامل النزاع األهيل’ الصادر ضمن كتاب ‘عوامل السلم األهيل والنزاع األهيل يف سوريا’ عن مركز ‘املجتمع املدين والدميقراطية’ ،واملتوفر عىل صفحة املركز يف نسخة الكرتونية.
79
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
هو أن أولئك املجندين كانوا بعيدين جدا ً عن أيديولوجيا سوريا السياسية السائدة .وباإلضافة إىل ذلك ،فإن ‘الوضع االقتصادي املرتدي’ يف مجتمعات سوريا الريفية واألقلوية جعل الجيش واسطة لحراكها االجتامعي .وبهذه الطريقة ،أصبحت الرتب األدىن يف الجيش ،مبا فيها رتبة صف ضابط ،حكرا ً عىل العلويني والدروز وس ّنة املناطق الريفية .وملا كان العلويون أكرب األقليات ،ورمبا أفقرها ،يف البلد ،فإنهم كانوا األكرث عددا ً يف الجيش .إال أنه مل يكن لهم تأثري ملموس مدة جيل كامل بعد االستقالل .فالضباط السنة كانوا ممسكني بنقاط القوة يف الجيش خالل األعوام التالية لالستقالل ،ومل يسيطر العلويون عىل الجيش إال يف الستينيات ،بعد أعامل تطهري متتالية ج ّردت املراتب العليا يف الجيش من الضباط السنة .وكانت الحكومات السورية يف تلك األعوام ،كالفرنسيني من قبل ،ترى أن العلويني بعيدون جدا ً عن الرصاعات السياسية السورية ،وبالتايل حياديون سياسياً(((. يعطينا املقطع السابق فكرة واضحة عن أمرين :أوالً ،إن تكوين الجيش الطائفي بدأ من مرحلة االنتداب الفرنيس وليس يف عهد ‘ثورة البعث’ .وثانياً إن الحكومات السورية الالحقة مل ترتك العلويني يف الجيش لثقتها بهم أو العتبارهم مواطنني ،بل ألنهم ‘حياديون سياسياً’ وال يشكلون خطرا ً عليهم آنذاك ،وألنه منذ بدايات القرن التاسع عرش ،اتخذت األرس املرموقة يف املدن موقفاً عدائياً من املؤسسة العسكرية ،التي كانت تلك األرس تعتربها مؤسسة دونها ،اجتامعياً .وجهدت يف ثني أبنائها عن االلتحاق بالجيش ،واستخدمت ثرواتها وأنسبائها يف الحكم للحصول عىل إعفاءات .وقد استمر هذا األمر حتى منتصف الثالثينيات أي عندما تعاظم إمكان حصول سوريا عىل االستقالل .وعندها فقط ،أخذ بعض الوطنيني يشجع أبناء النخبة املدينية عىل االنضامم إىل الجيش بااللتحاق بالكلية العسكرية يف حمص .ولكن عىل الرغم من أنه كان هناك زيادة يف نسبة عرب املدن السنة الذين أصبحوا ضباطاً بني عامي ( 1945-1936وهي نسبة فاقت نسبة الضباط يف فرتة ،)1935-1925فإن العالقة بني سلك الضباط والقادة الوطنيني مل تكن طيبة .فقبل كل يشء ،جاء أولئك الضباط من فروع متواضعة ألرس مدينية بارزة أو من الطبقات الوسطى الصاعدة ،وكانوا ينظرون بامتعاض إىل الزعامء املدنيني األبرز اجتامعياً واألكرث ثرا ًء ...فالقادة السياسيون السوريون كانوا يحتقرون الجيش ...ال يثقون بسلك الضباط ،إذ اتهموه بخدمة الفرنسيني رصاحة ،أو عىل األقل بخدمة املصالح الفرنسية باستنكافه عن النضال الوطني((( .مام يعطينا فكرة عن حجم العوامل املؤثرة يف تركيبة الجيش السوري تاريخياً ،والتي يتم اختزالها اليوم يف البعد الطائفي، يف حني أنها تستوجب دراسة معمقة لوحدها تأخذ دور االنتداب واألبعاد السياسية واالقتصادية واالجتامعية والطائفية واألحداث السياسية داخالً وخارجاً (نكبة فلسطني والنكسة ،حرب الثامنينيات وحرب لبنان وحرب رس الجيش واملؤسسة الخليج) وتسليح الجيش عىل يد السوفيات ثم اإليرانيني ،وتداخل كل ذلك وتشابكه لنفهم ّ العسكرية ودورهام يف النظام الذي يعتربه العظم اليوم باستسهال ‘علوية سياسية’. هذا الجهل املعريف بسوريا ،هو ما يدفعنا لهذا البحث ،عرب محاولة قراءة :ملاذا يلجأ العظم إىل هذه القراءة الطائفية للوضع يف سوريا؟ ومل ليس لدى العظم أي كتاب عن سوريا وبنية نظامها وطبيعة مثقفيها؟ وهو الذي مل يرتك أحدا ً ينجو من نقده؟ لِ َم تغيب سوريا وطبيعة نظامها واقتصادها ومشاكلها عن كتبه؟ وهل هذا الغياب له عالقة بهذا الحديث اليوم بحيث يكتشف املثقف السوري العريق أن ثقافته عن سوريا ضحلة وضعيفة إىل هذا الحد أم ماذا؟ ٌ مثال ثانٍ :إذا كتبنا اليوم عىل جوجل عبارة قانون الطوارئ يف سوريا مرفقة مع أسامء املثقفني السوريني، 7فيليب خوري ،سوريا واالنتداب الفرنيس -سياسة القومية العربية ،1945-1920ترجمة مؤسسة األبحاث العربية ،الطبعة األوىل – بريوت ،1997ص: .694-693 8املصدر السابق ،ص.693 :
80
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
سيعطينا خيار البحث أن الغالبية ترفق بني حكم البعث وقانون الطوارئ من جهة ،وبني االستبداد والحقبة األسدية من جهة ثانية ،وكأن االستبداد مل يكن قبل األسد ،يف حني أن حقبة األسد يف حقيقة األمر هي التتويج الفعيل ملرحلة املد الثوري الشعبوي ،أو أصنص املرحلة التاريخية من عمر سوريا والتي بدأت مع انقالب حسني الزعيم عام ،1949ففي مقال له يقول عبد الرزاق عيد“ :علينا أن نحدد إشكالية مقاربتنا الحوارية هذه يف صيغة التساؤل عن حقيقة املحنة التي يعيشها املجتمع السوري مع نظامه العصبوي التسلطي :هل هي أزمة بنية حقوقية قانونية فرضت عىل سوريا مع قانون الطوارئ الذي ولد منتهكاً بذاته يف لحظة إعالنه ،إذ أعلنه ما سمي مبجلس قيادة الثورة عام 1963املشكل من قبل الضباط االنقالبيني ،يف حني يشرتط قانون الطوارئ إلعالن حالة الطوارئ أن يصدر مبرسوم عن مجلس الوزراء املنعقد برئاسة رئيس الجمهورية ،ثم ينبغي عرضها عىل مجلس النواب يف أول اجتامع له ،وهو ما مل يحصل حتى اآلن ...األساس الذي ميكن أن يفرس النسق الداخيل االستبدادي للنظام خالل عقود التسلطية األسدية ،ميكن أن نجد لها أصولها البعثية ليس يف قانون الطوارئ الذي بدأ مع االنقالب البعثي فحسب ،بل باملرسوم الذي يرشع قانونياً إطالق يد سلطة املخابرات الحقاً ،إذ صدر املرسوم رقم 14لعام 1969أي يف زمن البعث ما قبل األسدي ،فنصت مادته 16عىل حامية العاملني يف أمن الدولة من املالحقة القضائية إذا ارتكبوا جرماً ،وهكذا تبدأ لحظة انحسار دور القانون لصالح أجهزة األمن ...هذا القانون البعثي سيكتسب خصوصيته األسدية من خالل عملية الرتييف والتطييف التي بدأها األسد من خالل اللجنة العسكرية يف الستينيات وحسمها يف السبعينيات يف االستيالء عىل مصادر قوة النظام العسكرية واألمنية ،حيث ستتأسس منظومة ما تسميه حنة أرندت ‘االعتباطية املقيدة’ املميزة للنظم الشمولية ،بنكهة محلية سورية أسدية ذات عصبوية طائفية الحمة للتسلطية االحتكارية الفئوية للمجتمع عىل حساب اللحمة االجتامعية الوطنية التي كان ينجزها املجتمع السوري عىل طريق اندماجه يف صيغة الدولة الوطنية خالل نصف قرن منذ ،1920ليبدأ نصف قرن مضاد منذ 1970حتى اليوم عىل طريق التكسري الداخيل املمنهج واملنتظم لبنية سريورة بناء الدولة الوطنية، وذلك لصالح قيام الدولة األمنية ـ العسكرية الفئوية الطائفية ذات الصخب األيديولوجي الشعاري القومي الذي ميوه حالة التفتيت الداخيل ،حيث دولة من هذا النوع ال ميكن إال وأن تنحل إىل عصابة كام هو مآلها اليوم ،مبا يجعل من قانون الطوارئ حكاية قدمية!”(((. ويقول الكاتب رضوان زيادة“ :لقد لعب املسجد بكل تأكيد دورا ً محورياً بخاصة يف مراكز املدن الرئيسية يف استخدامه كنقطة بدء للتظاهرات أكرث من كونه موجهاً لها ،فتطبيق قانون الطوارئ يف سوريا ملدة تزيد عن 47 سنة مل يؤ ِّد فقط إىل حظر التظاهرات والتجمعات وإمنا قىض عىل التقاليد الرضورية لتمرين الشباب عىل الخروج والتظاهر من أجل املطالبة بحقوقهم”(.((1 ويقول الكاتب ياسني الحاج صالح“ :حالة الطوارئ التي تعيشها سوريا منذ 48عاماً ،زادت من تغلغل سلطة النخبة الحاكمة يف كل مناحي الحياة العامة والخاصة للشعب السوري ،ومل يعد هناك من رادع للنظام من استغالل هذه السلطة يف إهانة هذا الشعب”(.((1 األمثلة السابقة وأغلب كتابات املثقفني السوريني عموماً ،تقول أن قانون الطوارئ فُرض مع مجيء البعث إىل 9عبد الرزاق عيد ،هل محنة الحراك الدميقراطي السوري هي يف قانون الطوارئ؟ ،موقع الحوار املتمدن ،العدد ،15 / 1 / 2010 - 2889 :الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=199457 10من يقف وراء االحتجاجات يف سوريا ،رضوان زيادة ،الحياة ،األحد 21 ,أغسطس ،2011الرابط عىل موقع إيالف: html.677363/8/http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2011 11سجني دمشق ،ياسني الحاج صالح ،نيويورك تاميز ،نقلته الرشق األوسط بتاريخ األربعـاء 13ابريل ،2011العدد ،11824الرابط: http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=11824&article=617058#.UyHX2PmSynQ
81
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
السلطة ،وبطريقة تظهر يف كثري من األحيان ،بأن الحكم قبل البعث كان ‘دميقراطياً’ إذ كثريا ً ما يتم االستشهاد بفرتة الحكم الربملاين ‘الدميقراطي’ يف الخمسينيات عىل أنها ‘واحة’ الدميقراطية السورية ،يف حني أن األمر ليس كذلك أبدا ً ،فلنقرأ ما يقوله املناضل نبيل شويري الذي عارص تلك املرحلة بتفاصيلها الصاخبة“ :املشكلة األساس يف سوريا هي يف القوانني االستثنائية ويف مقدمتها قانون الطوارئ ،الذي كثريا ً ما يخطئون يف تاريخ رسيانه ،وهو عىل زعمهم يوم الثامن من آذار .1963والحال أنه بدأ يف العهد االستقاليل مع بداية حرب فلسطني العام .1948 وأول حاكم عريف يف سوريا كان جميل مردم ثم حسني الزعيم ثم أديب الشيشكيل ثم جامل عبد النارص ثم طبّق -أي قانون الطوارئ -يف العهد املدعو باالنفصال ،ومل يرفع إال يف فرتات محدودة هي فرتات الحكم الربملاين ،1951-1949و ،1958-1954ويف أشهر معدودات من صيف 1962إىل 8آذار .1963وإذا توخينا جوهر املسألة الذي هو حكم االستبداد العسكري فعمره يف بالدنا يحسب مبئات السنني .ونعود فنقول إن الظن يف أن املسألة أو العقدة األساسية يف وجه الدميقراطية هي يف إرصار الحكم االستبدادي املخابرايت الفاسد عىل إبقاء قانون الطوارئ وغريه يف وجه املعارضة وال سيام معارضة اإلخوان املسلمني ...إن الذي يظن بأن حل هذه املشكلة ،مشكلة قانون الطوارئ سيؤدي إىل مصالحة اجتامعية-سياسية تسمح باستئناف الحياة السياسية الطبيعية وتعيد الدميقراطية، هو بالضبط كمن يرى رأس جبل الجليد العائم ويتغافل عن أربعة أخامسه املغمورة ،ومعروف مصري القبطان وركاب الباخرة يف مثل هذه الحال .إن املهمة األساسية التي يجب أن ينجزها املثقفون التقدميون هي فتح امللفات املانعة للدميقراطية ويف مقدمتها تلك االجتهادات الفقهية التي تستبيح أموال وأعراض ودماء مسلمني يدينون مبذاهب غري املذاهب األربعة املعرتف بها والخامس املقبول عىل مضض”( .((1وهذا يعطينا فكرة عن جهل املثقف من جهة و التوظيف السياسوي أو األيديولوجي للمثقف السوري ملعرفته بهدف ‘دحر االستبداد’ بشكل سياسوي رغبوي ،فيكون بذلك يساهم يف بقاء االستبداد رغم نواياه النبيلة ،ألن ‘معارفه’ هذه ،أو توظيفه السياسوي هذا ،أو قراءته الرغبوية هذه ،ستنتج وعياً زائفاً بهذا النظام وبنيته ،وبالتايل وعياً زائفاً بطرق إسقاطه، وهو ما نحصد مثنه يف سوريا اليوم. ٌ مثال ثالث :يف أغلب كتابات املثقفني السوريني ،سنلمح عبارات من نوع إطالقي مفادها أن حافظ األسد هيمن عىل البعث ،أو أن اللجنة العسكرية ‘العلوية’ هي من هيمن عىل البعث وح ّوله إىل مجرد أداة بيد السلطة ،وهو أمر صحيح يف حقيقة األمر ،إال أنه يتغافل عن اإلطار التاريخي الذي ولد فيه هذا األمر ،أي من خالل قراءة تجربة البعث كلها وتجارب كل األشخاص الذين تعاقبوا عليها ،منذ بدايتها حتى اليوم يف سوريا ،إذ مل يكن األسد أ ّول من فعل ذلك بل هو فضاء عام دمغ أغلب التجارب الحزبية يف سوريا ،ومن يقرأ مذكرات املسؤولني والسياسيني وقادة األحزاب واملناضلني الذين كتبوا عن هذه الفرتة يدرك حجم الدسائس والتقلبات السياسية التي يخترصها ‘مثقفو اليوم’ بفرتة حافظ األسد وابنه دون أن يعني األمر تربئة األخريين ،الذين جاء حكمهام تتويجاً لكل ما سبق ،إال أن قراءة األمر خارج السياق التاريخي يشكل معرفة مبتورة تركز عىل الشخص بدل النظام أو األخري بدل الفضاء العام الذي ولد يف سياقه النظام بدءا ً من تك ّون سوريا حتى اليوم. ويكفي أن نرسد املثال التايل ،وأيضاً من مذكرات نبيل شويري لنفهم“ :وبسبب نزاعه مع عبد النارص قرر عفلق أن يدير الحزب ‘عىل كيفو’ .فراح يرتب املؤمترات منفردا ً :مؤمتر لألردن ومؤمتر للعراق ومؤمتر للبنان ،ويعينّ قيادات حزبية لهذه األقطار .وكان من نتائج ذلك خروج قيادة األردن بزعامة عبد الله الرمياوي ،وقيادة العراق بزعامة فؤاد الركايب .لقد كان عفلق يرغب بهذه الترصفات يف مقارعة عبد النارص وأكرم الحوراين ،فركب موجة 12صقر أبو فخر ،سوريا وحطام املراكب املبعرثة ،حوار مع نبيل شويري :عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر ،املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،الطبعة األوىل ،2005ص.15-14 :
82
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
الوحدوية يف عهد االنفصال وأشاع أن أكرم الحوراين انفصايل .ثم ارتكب الجرمية الكربى بحق حزب البعث يف أيار 1962عندما عقد املؤمتر القومي الخامس ،ومتكن من فصل أكرم الحوراين من الحزب .لكن الحوراين بعدما خاب أمله يف الحزب حاول أن يعيد تجربة الدميقراطية إىل سوريا ،فأدار ظهره للحزب وأسس حركة سياسية جديدة”(.((1 ما يعني أن ترصفات اللجنة العسكرية ليست تجربة منعزلة عن الحزب كله ،بل مثة فضاء عام ترعرعت فيه، وعليه ال ميكن فهم تجربة البعث يف السلطة دون قراءة هذا السياق التاريخي ونقده كله ،بعيدا ً عن التوظيف السياسوي الض ّيق الذي يتوجه للسلطة الحالية بعيدا ً عن جذورها ،والذي هو نتاج يأس طبع الثقافة العربية منذ نصف قرن عىل األقل. إن إطاللة متفحصة ونقدية عىل ما كتبه املثقف العريب والسوري منذ مثانينيات القرن املايض ،ستضعنا أمام هول اليأس والخيبة التي كانت تسيطر عىل أذهان املثقفني .هذا ما نلمحه بوضوح يف كتابات املشاركني يف ندوة نظمها ‘مركز دراسات الوحدة العربية’ يف عام ،2003إذ سنلمح تلك الخيبة يف كل األبحاث املكتوبة ،حيث يقول محمود أمني العامل يف بحث حمل عنوان ‘املشهد الفكري والثقايف العريب’“ :إن األمر بالنسبة ألمتنا العربية يبدو بائساً يف هذه املرحلة الراهنة اآلنية ...حقاً ،إن واقعنا العريب الراهن سواء عىل مستوى األنظمة العربية ،أو عىل املستوى الشعبي واقع واقع!” داعياً لسلطة الثقافة التي “يبنيها املثقفون الواعون من مختلف قوى اإلنتاج واإلبداع واملعرفة ومنظامت املجتمع املدين”( .((1ويقول يف مكان آخر من البحث“ :تسود يف املجتمعات الراهنة يف نهاية القرن العرشين وبدايات هذا القرن الحادي والعرشين ،ثقافة ثنائية ملتبسة غري متوازنة ،فضالً عن هشاشة وسطحية بنيتها املعنوية واملادية عىل السواء ،فال القديم الرتايث الذايت عميق الجذور يف تأصيله املعريف والقيمي والوجداين ...وال الفاعل الخارجي له أسسه وركائزه الراسخة املستنبتة النابعة يف الوقت نفسه من اإلبداع املجتمعي الذايت”(.((1 هذا اليأس الذي طغى عىل املثقفني ناجم يف حقيقة األمر من فقدان القدرة عىل التغيري ،وهو ما سنلمحه يف االبتعاد عن الشأن العام بتفاصيله اليومية ،إذ منذ خروج السلطة منترصة يف سوريا يف مثانيات القرن املايض سيخمد الصوت العام للمثقف وتغيب شؤون الحياة العامة عن كتابته( ،((1تحت ضغط السلطة التي ص ّحرت املجتمع وع ّممت خروج السياسة منه ،قاتلة املجتمع السيايس واملدين الذين انسحب منهام املثقف ،ليختفي املثقف العضوي ‘بلغة غراميش’ أو ‘الثوري’ بلغة تلك املرحلة ،لصالح ‘املثقف التقني’ املنزوي يف إطار اختصاصه. وضمن هذا السياق سيغيب مفهوم ‘الثورة’ الذي كان حارضا ً طيلة خمسينيات وستينيات وسبعينيات وحتى مثانينيات القرن املايض عن كتابات املثقفني ،ألن ‘التنظري الثوري’ بغض النظر عن رأيي فيه ،استمر طويال من دون ثورات ،وفقد مكانته يف الرأي العام ويف الشارع ألسباب عديدة ،حتى بات لفظ ثورة لفظاً مثريا ً للسخرية ،إذ إن فشل الشيوعية يف أوربا ،واستهالك هذه الكلمة يف االنقالبات العسكرية وبعض حركات التحرر التي تح ّولت إىل دكتاتوريات ،مل يفقد كلمة ثورة بريقها فحسب ،بل أفقدها مضمونها أيضا ،وتح ّولت إىل مفردة ميتة يف خزانة اللغة الحزبية( .((1وسنعود الحقاً ملناقشة أسباب ذلك ،ليرتاجع بعدها انشغال املثقف بالشأن العام ،إال بشكل سطحي وعريض ووفق ما تسمح به سلطات األمر الواقع ،حيث ستظهر عىل السطح مقوالت مثل ‘اإلصالح’ 13 14 15 16 17
املصدر السابق ،ص.105-104: الثقافة العربية :أسئلة التطّور واملستقبل’ ،ندوة فكرية ،مركز دراسات الوحدة العربية ،الطبعة األوىل ،بريوت ،كانون األول /ديسمرب ،2003ص.23-22: املصدر السابق ،ص.15 : قد تكون آخر رصخة جمعية للمثقفني السوريني بوجه السلطة كانت خالل لقاء املثقفني مع أعضاء مجلس الشعب حيث كان حارضا ميشال كيلو والشاعر الراحل ممدوح عدوان حني قال أن السلطة تكذب حتى يف نرشة الطقس. عزمي بشارة ،عن املثقف والثورة ،مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية ،العدد 4-املجلد األول-ربيع ،2013ص.139 :
83
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
و‘التغيري السلمي الهادئ’ و‘التداول السلمي للسلطة’ و‘املجتمع املدين’ و‘النهضة’ و‘الدميقراطية’ وهي التي بقيت رائجة حتى انفجار الربيع العريب ليعود مصطلح الثورة واالنتفاضة إىل التداول ،ويفاجأ بهام املثقف قبل غريه ،فهي مقوالت كان نسفها من قواميس معرفته التي عال عليها غبار اليأس والهزمية .ليس عىل املستوى العام فحسب ،بل عىل املستوى املعريف أيضاً ،إذ ليس عيباً أن ال يتنبأ املثقف باملستقبل ويكون قادرا ً عىل اإلحاطة به، بل العيب يكمن يف عدم قراءة الواقع وفهمه والتخيل عن الكتابة عن أوضاعه وتقديم بيانات وأرقام ومعارف حول طبيعة السلطة ووضع البلد وتركيبته السياسية واالقتصادية ،فلو كان هذا منجزا ً لكان ساهم يف فهم ما يحصل اليوم ،ولرمبا ق ّدم ذخرية معرفية يستند إليها الثوار واملتظاهرون والسياسيون يف فهم ما يحصل ،وألن هؤالء استندوا يف قراءتهم للسلطة وبنيتها وعنفها إىل املتوافر من هذه املعرفة التي قدمها هؤالء املثقفون رغم كل عيوبها فأنتجت ما أنتجت من ثورة هي ابنة وعي هذا الشعب ،وهي انعكاس يف أحد أبعادها لغياب هذا الوعي الذي يعترب رشطا أساسياً لنجاح أي ثورة دون أن يكون كافياً ،ألن الث ّوار يف نهاية املطاف هم “نتاج الثقافة واالجتامع واالقتصاد يف ظل نظام الحكم القائم .إنهم نتاج قيمه السائدة .وأنظمة االستبداد الفاسدة التي تحكم فرتات طويلة تفسد املجتمعات .والثوار هم نتاج تلك املجتمعات ،وهم أيضا نتاج تح ّدي النظام .ولكن التحدي بالنفي ال يعني بالرضورة نشوء أخالق وقيم جديدة .ويكمن دور املثقف العمومي يف نقد الثقافة والقيم السائدة والناتجة من هيمنة ثقافة االستبداد ،ويف التثقيف عىل قيم الثورة كتحرر من االستبداد”( ((1مام يعني أنه ليس صحيحاً الوعي الشعبوي السائد اليوم أن هذه الثورات ولدت دون مثقفني ،بل هي نتاج “صريورة ثقافية طويلة ساهم فيها املثقفون الدميقراطيون ،وساهمت يف تبلور هذه الثورات ونشوء خطابها املميز .وإن فئات قارئة ومطلعة كانت يف صلب هذه الثورات ،وال سيّام يف أوساط جيل الشباب املثقف الذي تأثر بتجارب علمية وبقراءة مثقفني نقديني محليني وعرب واالستامع إليهم ،خصوصاً مع ظهور معرض الكتب ،والكتب املنشورة عىل اإلنرتنت، وكرس احتكار املعارف والتحكم فيها ،وخرق جميع أشكال الرقابة السلطوية التقليدية ج ّراء ثورة االتصاالت ووسائل اإلعالم اإلخبارية الفضائية”( .((1وهذا ينطبق عىل سوريا التي كانت ثورتها يف آذار 2011نتاج نضال طويل األمد دفع مثنه اآلالف من املثقفني الثوريني والسياسيني واملناضلني سنوات من عمرهم يف السجون ،وقد أخذت تجليها األبرز يف مرحلتي ربيع دمشق وإعالن دمشق ،إال أن الوعي الذي كان يحكم أفق هذه الطبقة املحرضة عىل التغيري هو وعي محدود وعاجز ،بعضها ألسباب بنيوية وبعضها اآلخر ألسباب واقعية تتجىل بالعالقة بني املثقف والسلطة يف واقع مضطرب ،وبطبيعة املعرفة امل ْنتَ َجة من قبل هذا املثقف وقصورها. املقوالت التي راجت يف أفكار املثقفني مل تكن نتاج تأصيل وتراكم معرفيني ،بقدر ما هي نتاج هزمية ويأس أدى لتعلّق املثقف بشكل سحري أيديولوجي بكل ما هو ب ّراق دون أن يسنده بتأصيل معريف يتجادل مع الواقع لينتج معرفته استنادا ً لهذا الواقع وما يحتمل ،بل هو نتاج أفكار متناقلة من كتاب إىل كتاب دون أن يكون للواقع أي صدى ،مع استثناءات قليلة جدا ً وعىل مستوى السطح ،ميكن أن نلمسها يف كتابات طيب تيزيني عن الدولة ّ األمنية السورية ويف كتابه ‘من ثالثية الفساد إىل املجتمع املدين’ وكذلك يف كتايب ‘هرطقات 1و ’2لـجورج طرابييش عن التحذير من خطر األصوليات الكامنة يف املجتمع دون أن تغطي ترشيح االستبداد الذي يشكل األساس املنتج لهذه األصوليات. وليك يزيد األمر وضوحاً ،لن نعرث يف املكتبة السورية كلها يف حدود علمي عىل كتاب فكري/معريف/علمي رشح طبيعة االستبداد والسلطة السورية ملثقف سوري ،أو حتى كتاب سيايس ،قبل عام ،2000يف حني واحد ي ّ 18املصدر السابق ،ص.141: 19املصدر السابق ،صد.139 :
84
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
المس األدب والسينام املوضوع بحدود املراوغة واملكر والروايئ وأحياناً بشكل رصيح( .((2إن رسدا ً لعناوين أهم املثقفني واملفكرين السوريني ستجعلنا نشعر بالخيبة ،إذ لن نعرث عىل كتاب واحد عن سوريا إال بعد عام 2000 ويف استثناءات قليلة ملثقفني أتوا من السجون أو من السياسة مثل ياسني الحاج صالح يف كتابه ‘سوريا من الظل :نظرات داخل الصندوق األسود’ وهو مجموعة مقاالت أكرث منه كتاب ،يف حني سنجد أن أغلب الكتب ذات املرجعية حول سوريا والتي تتحدث عن طبيعة النظام السوري واملجتمع السوري واالقتصاد السوري هي لكتاب غربيني أمثال سيل ،وفان دام ،وهينبوش وغريهم ،مع وجود ‘شذرات’ لسوريني وعرب هنا وهناك مثل أبحاث الدكتور عارف دليلة االقتصادية وكتابات طيب تيزيني عن الدولة األمنية ،ومقاالت وكتب عبد الرزاق عيد ورضوان زيادة وبرهان غليون وغريهم. إن املفكر صادق جالل العظم الذي اكتشف ‘العلوية السياسية’ اليوم لن نعرث يف كتبه عىل كتاب واحد عن سوريا ،وهو الذي مل يرتك أحدا ً يف العامل العريب من رشقه حتى غربه إال وانتقده ،بدءا ً من الفكر الديني وإبليس والهزمية و‘الحقبة السعودية’ والثورة الفلسطينية وناقدي سلامن رشدي واإلسالميون يف حني تغيب سوريا عن كتبه وهو السوري العريق بامتياز .وكذلك األمر بالنسبة للمفكر برهان غليون وإن بدرجة أقل حيث سنجد اهتامماً الفتاً لغليون بالشأن العام واالنخراط يف حركة املجتمع املدين واملعارضة السورية بشكل فعال وسيكتب الكثري من املقاالت عن سوريا ،إال أن هذا الجهد لن يتط ّور ليقدم كتاباً متكامالً عن سوريا ،وكذلك األمر بالنسبة ألغلب املفكرين السوريني من جورج طرابييش وحتى جامل باروت الذي يعترب استثنا ًء هنا كونه قدم مرشوع استرشاف سوريا الذي عمل عليه طويالً ،وق ّدم يف حقيقة األمر منوذجاً لعمل معريف متكامل يف إنتاج املعرفة بالسلطة وآلياتها واملجتمع وطبيعته من خالل االعتامد عىل الرقم ومعرفة الواقع يف تفاصيله املتعرجة ال االكتفاء بالكتب كام فعل الكثري من املثقفني وهو ما سنتحدث عنه الحقاً .ولكن رغم ذلك فإن كتب باروت مل تظهر إال بعد عام 2000أيضا! عىل ضفاف هذا الغياب مثة كتب عاجلة أو شذرات عرب مقاالت أو أبحاث غري مكتملة ،ميكن اإلشارة إليها برسعة ،وكلها صدرت بعد عام ،2000منها كتيب ‘سوريا :زهرة أم قنبلة’ لـمحمد كامل الخطيب و‘يحدثونك عن املجتمع املدين’ لـعبد الرزاق عيد و‘املثقف ضد السلطة’ لـرضوان زيادة وغريها من األبحاث التي تناولت املجتمع املدين بعد إخفاق حركته نتيجة وأد السلطة له .إال أن هذه األخرية املتعلقة باملجتمع املدين عىل األقل ،هي رد فعل عىل حدث جرى أكرث مام هي تأصيل ملفهوم املجتمع املدين السوري ودراسة عميقة له. هنا سنجد غياباً للمثقف السوري عن الشأن العام السوري مبعناه املبارش منذ عام 1980وحتى عام 2000 حيث أطلقت السلطة مرشوع إصالح شكيل للتغطية عىل التوريث وفتحت الفضاء العام أمام املثقف الذي انخرط يف عملية التغيري وبدأ يتقدم باتجاه ساحة الرأي العام املقىص عنها .وبفعل غيابه املديد عن املجتمع تق ّدم بشكل يحكمه السحر والرغبة بالتغيري أكرث مام تحكمه املعرفة بحدود الواقع ،إذ كان إميانه بالحرية واملجتمع املدين سحرياً/غيبياً أقرب للحلم منه إىل الواقع وهذا ليس عيباً بقدر ما هو توصيف واقع ،ألن كل تغيري يبدأ كحلم ورغبة ،إال أن املشكلة تكمن يف استسهال الحلم والرغبة والتقوقع داخلهام بدالً من مقارعة الواقع والغوص يف تفاصيله ،وأحشائه .وهذا ما أصاب حركة املجتمع املدين التي ظلت يف حدود السحر والرغبة بالتغيري أكرث من العمل عىل التغيري عرب فتح منافذ املعرفة عىل الواقع بدالً من الكتب إلنتاج معرفة تحيط بالوضع العام والسلطة واملجتمع لفهم طبيعة املستبد وأدواته وطبيعة املجتمع ومدى قدرته عىل تقبّل التغيري السيايس واالجتامعي 20من الروايات التي عالجت االستبداد‘ :سمر الليايل’ لنبيل سليامن و ‘حراس الهواء’ و ‘نيغاتيف’ لروزا ياسني حسن و ‘صلصال’ لسمر يزبك و ‘هواء ثقيل فاتر’ لعمر قدور .و ‘مديح الكراهية’ لخالد خليفة.
85
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
وحدود هذا القبول ،أي أن املعرفة بقيت بحدود التوق للحرية والرغبة بالتغيري أكرث مام هي معرفة بهام .ولعل ضمور حركة املجتمع املدين وتوقف نتاجها الثقايف بعد حملة االعتقاالت ،يعكس جانباً من األمر ،فهي بدأت من خارج املثقف مبا بات يعرف يف سوريا بخطاب القسم ،وانتهت باعتقاالت السلطة ،لريضخ الجميع إال البعض الذين حملوا رسالة التغيري فكانوا ‘مناضلني’ أكرث مام هم مثقفني ،ليعكس هذا األمر مدى ضعف تربة الثقافة والنضال السوري أيضاً وما فعلته تجربة الثامنينيات ،وهو ما جعل مناضالً مثل نبيل شويري يعلّق عىل تجربة ربيع دمشق واملجتمع املدين ـ رغم أنه يقصد السياسيني إال أن كالمه ينطبق عىل املثقفني الذين كانوا يف صلب هذه الحركة أيضاً ـ بالقول“ :إنه مجرد موضة .أقول هذا ألنني أعرف بعض املنخرطني يف هذا التيار ،حتى أنني أعرف أرسارهم. وما أخشاه أن ينطبق عليهم تعليق أحد ظرفاء بريوت عىل إحدى املجموعات السياسية ،فقد قال :إن ثقافتهم شهادة ،وطموحهم وظيفة ،وفضائلهم رذائل مؤجلة ...إذا كان هؤالء يطالبون الحكم السوري باالنفتاح أكرث عىل الدميقراطية وبالسامح بتأسيس مجتمع مدين فجوايب من شقني :أوالً ،املجتمع املدين يصنع وال يطالب به .ومن املحال أن يوجد حكم مينحه أو يقدر عىل منع قيامه .ثانياً ،املدخل إىل الدميقراطية هو النقاش مع السلطة .أي أن متسك خطاب القسم للرئيس بشار األسد وتقرأ الفقرة التي تحدثت عن هذا املوضوع ثم تفتتح النقاش معه ومع السلطة يف هذا الشأن ...ليؤسسوا جريدة حائط ،أو يصدروا جريدة لهم .زيك األرسوزي يف اإلسكندرون بدأ بجريدة مخطوطة .ليعملوا مثل جريدة ‘الكلب’ التي أصدرها صدقي إسامعيل”(.((2 ال يعني ما سبق أن الثقافة السورية بني عامي 2000-1980كانت ضامرة باملطلق ،فقد سجل بعض املفكرين واالقتصاديني بصامت واضحة يف مقارعة املستبد وإنتاج معرفة تشري إىل املستبد بوضوح وبشكل معريف علمي رصني بعيدا عن األيديولوجية التي تركز عادة عىل رجم االستبداد وترشيره وأبلسته أكرث مام تقدم معرفة به. فقد واجه املفكر االقتصادي عارف دليلة قوانني السلطة االقتصادية وبينّ محدوديتها وأرضارها ودفع مثن ذلك سنوات من عمره يف املعتقل ،حيث هاجم قوانني السلطة االقتصادية عام 1990وطرد من جامعة دمشق عىل إثرها ،ليعود إىل عمله يف الجامعة بقرار من الرئيس األسد عىل إثر ربيع دمشق ،إال أنه رسعان ما تبني للسلطة عجزها عن احتوائه فكان اعتقاله بعد إجهاض ربيع دمشق بحكم عرش سنوات أعفي من ربع مدتها .إال أن مثال دليلة يبقى استثنا ًء والشمعة التي تنري الظالم ،يف حني أن التاريخ ال يسري إال حني تتلقف الجامهري هذه الشموع. ما سبق يعطينا فكرة واضحة عن أن مثة غياباً واضحاً لسوريا ونظامها وطبيعتها واقتصادها واجتامعها وطبقاتها عن مادة املثقف إال ما ندر ،وحتى هذا النادر إن وجد فهو يعاين نقصاً معرفياً يجعلنا نطرح أسئلة كثرية حول أسبابه ،تبدأ من البحث عن أسباب هذا الغياب وال تنتهي عند سبب عدم خوض املثقف يف هذه األمور، وعام إذا كانت هذه األدوار ليست أساساً من دور املثقف ،وبالتايل هناك تح ّول يف مفهوم املثقف ووظيفته؟ إن رؤية كيفية انخراط املثقف السوري بالثورة والتنظري لها بعد الربيع العريب يؤكد أن املثقف يعي دوره يف هذا الشأن ،فلم غاب عنه سابقاً وانتظر الربيع ليعيده إليه؟ وهل هذه العودة إىل مفاهيم ‘الثورة’ و‘االنتفاضة’ وهي التي غابت طويالً عنه هي عودة معرفية أم سحرية تعيل من شأن األيديولوجيا عىل حساب املعرفة ،وبالتايل ال زال املثقف يكرر عجزه مرة أخرى يف بيع الوهم؟ وهل هذه العودة إىل الشأن العام بعد عام 2000هي عودة معرفية تقطع مع األيديولوجيا أم أنها بقيت مشدودة إىل هذه األيديولوجيا؟ أم بني بني؟ 21صقر أبو فخر ،سوريا وحطام املراكب املبعرثة ،حوار مع نبيل شويري :عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر ،املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،الطبعة األوىل ،2005ص.463-462-461 :
86
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
حتوله: الفضاء العام الذي ولد فيه املثقف السوري ،وحمطات ّ مل يتخطى املثقف السوري حتى اليوم ،األمناط األوىل أو األطوار األوىل للمثقف ،فإذا كان املثقف العمومي النقدي املشغول بالهم العام واملستقل عن كل سلطة (حزبية ،سياسية ،اقتصادية ،أيديولوجية ،معارضة ،ثورة) هو نتيجة كل األطوار التي م ّر فيها تاريخ املثقف عاملياً ،سواء يف عالقته مع املعرفة وإنتاجها أو السلطة ،فإن املثقف السوري قد يكون الزال رازحاً يف هذا املايض الذي يجعل منه ‘مثقف أيديولوجيا’ أو ‘مثقف ثورة’ أو ‘مثقف شعبوي’ أو ‘مثقف مختص’ أو ‘مثقف نقدي’ أو ‘مثقف سلطة’( ،((2أكرث مام هو ‘مثقف’ دون تبعية ألي يشء آخر (سلطة، ثورة ،أيديولوجيا) إال ما تنتجه معرفته العلمية اإلبستمولوجية حتى لو كانت نتيجتها عكس ما يرتجي ويبتغي ويتمنى ،ولكن رشط االنتامء للناس واملسحوقني واملهانني ،أي أن تكون معرفته يف خدمة اإلنسانية جمعاء ‘وليس مجرد وطنية أو قومية ضيقة دون أن يكون العيب يف األخريتني بل يف تعصبّهام أو تعصب املثقف لهام’ ،ألن انتامء املثقف لهؤالء هو ما يحدد جوهر معناه املرتبط بإنارة الطريق لهم وخلق البدائل ،دون أن يكون تابعاً لهم أو أسريا ً ألفكارهم ،بل يقتيض األمر بالرضورة الرصاع مع ‘أفكارهم’ وهزها ألن أفكاره بالرضورة تقوم عىل دفعهم نحو التغيري عرب هز أسس قناعاتهم التي ولّدت بيئة حاضنة لالستبداد ،دون أن “نغرق يف رومانسية تجعل الث ّوار أولياء وقديسني ،وهم ليسوا كذلك ،فهم يخرجون إىل الثورة لحظة اإلرادة الحرة تلك ،وهم نتاج الثقافة واالجتامع واالقتصاد يف ظل نظام الحكم القائم .إنهم نتاج قيمه السائدة”(.((2 فهل هذا ما فعله املثقف السوري اليوم ،أم أنه احتمى بثقافة الجمهور السائدة ليحصد شعبية زائفة ويضلل جمهوره الذي مل تتغري ثقافته التي كانت باألمس مؤيدة لالستبداد فأصبحت اليوم فجأة ضد االستبداد نتيجة ظروف كثرية دون أن تالمس أسس الثقافة املنتجة لالستبداد يف أذهانهم؟! أي قراءة تاريخية للمثقف السوري ودوره ضمن الفضاء العام الذي ولد به ،منذ تشكل سوريا بشكلها إ ّن ّ الحديث بني عامي 1936-1920ستعطينا فكرة عن األمناط التي مر فيها مفهوم املثقف الذي كان يحتكره أو يقوم بدوره سابقاً رجال الدين وأعيان املدن والقرى المتالكهم الكتابة والقراءة ،ليبدأ مع انتشار التعليم تدريجياً ينتقل مركز الثقل من هؤالء إىل املتعلمني الجدد (أطباء ،مهندسني ،حقوقيني ،معلمني) حيث ارتبط بداية اسم املثقف بكل من هو متعلم ،مع استحواذ ‘املدرس’ عىل القيمة األكرث ارتباطاً مبفهوم املثقف كونه كان يقوم بدور تعليم الناس مبادئ الكتابة والقراءة يف مجتمع شبه أمي ،لنكون أمام أول بذرة لوالدة مفهوم املثقف املرتبط بتنوير الناس وإخراجهم من ‘الجهل إىل النور’ وفق منط ‘املثقف املتعلّم’ هذا ،والذي استحوذ آنذاك عىل القيمة الرمزية للمثقف ،حيث كان ينظر لهؤالء باحرتام كبري يف املجتمع كنخبة(.((2 تزامن انتشار وت ّوسع حركة التعليم مع انتشار األحزاب السياسية ليبدأ تدريجياً يولد ‘املثقف األيديولوجي’ أو ‘الطليعي’ الذي يحمل ه ّم التغيري وقلب األوضاع السائدة إمنا لصالح أيديولوجيا/حزب يرى أنها تحقق الرفاه املنشود ،لينتقل مفهوم املثقف أو يتطور من تعليم الناس القراءة والكتابة وإخراجهم من الجهل والنور إىل 22السلطة هنا ال تأخذ معنى السلطة السياسية فقط بل املعارضة سلطة أيضا ،أي من املمكن أن يكون املثقف معارضا ولكن فكره مرهون لهذه املعارضة ويف سبيلها أكرث مام هو مرهون للمعرفة وهذا نقص أو خطأ يف إنتاج املعرفة. 23عزمي بشارة ،عن املثقف والثورة ،مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية ،العدد - 4املجلد األول-ربيع ،2013ص.141: 24لن نتحدث هنا عن مثقفني ومفكرين ورجال دين مثل عبد الرحمن الكواكبي ومحمد كرد عيل وشكيب أرسالن و عبد الرحمن الشهبندر وغريهم، ألنهم أنتجوا ثقافتهم ومارسوا دورهم التنويري يف نهاية القرن التاسع عرش وبداية القرن العرشين ،ومل تكن سوريا قد تشكلت بعد .وميكن اعتبار أنهم ولدوا يف الفضاء العثامين /العريب ،أي يف تلك املرحلة االنتقالية التي كان فيها العرب ممزقني بني الرابطتني العربية والعثامنية يف مرحلة أوىل ،وبني سوريا الكربى أو القبول بسوريا الصغرى يف مرحلة ثانية دون أن ينفي األمر عنهم صفة املثقف املهموم بهموم شعبه وتطلعاته ،ولكنه خارج دائرة اهتاممنا املرتكزة عىل سوريا يف هذا البحث.
87
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
تغيري أوضاعهم السياسية واالقتصادية واالجتامعية عرب فكرة الثورة أو الحزب أو الطليعة أو النخبة .ولعل أكرث ما ميكن أن ي ّوضح لنا طبيعة هذا االنتقال من مفهوم ‘املثقف املتعلّم’ إىل مفهوم ‘املثقف الطليعي/األيديولوجي’ ومدى الرتابط بينهام هو أن أغلب مؤسيس األحزاب السياسية السورية كانوا مدرسني أساساً أو مارسوا التدريس خالل فرتة من حياتهم (عفلق ،البيطار ،األرسوزي ،ياسني الحافظ ،)...إذ يقول نبيل شويري“ :كان عفلق والبيطار يعطيان دروساً خصوصية .البيطار يعمل يف مدرسة دوحة األدب ،وعفلق يف إحدى املدارس ،وذلك يف خمسينات القرن املايض”( .((2حيث جمعوا بني املهمتني ليخفت بعدها منط ‘املثقف املتعلم’ ،ويخف وهجه مع انتشار التعليم وتوسعه لصالح منط ‘املثقف األيديولوجي/الطليعي’ الذي يتامس ويتقاطع مع ‘املثقف الثوري’ الذي ساد حتى مثانينيات القرن املايض ،حيث أن ‘املثقف الثوري’ وجد بكرثة عربياً يف مرحلة انتشار األيديولوجيات ،وال سيام اليسار التي عظّمت من لفظ ثورة وثوري ،واأليديولوجيات القومية بأنواعها ،وحركات العسكر االنقالبية التي كانت تس ّمى ثورات و‘تنشئ مجالس قيادة الثورة’ .وانسجم التنظري الثوري مع فكر اليسار ومزاج حركات التحرر الوطني يف العامل بعد الحرب العاملية الثانية .وقد ترجم العرب أكرث مام أنتجوا ‘فكرا ً ثورياً’ يسارياً وعاملثالثياً يف تلك املرحلة”(.((2 هنا كانت الرغبة بالتغيري هي الوقود الذي يغذي هذا املثقف بعيدا ً عن قراءة الواقع وبحث ممكناته أي ميكن القول أنها ‘ثقافة من فوق’ تحمل فكرة ما/يوتوبيا ،حيث كان لكل تيار يوتوبياه :الوحدة بالنسبة للقوميني، واألممية بالنسبة للشيوعيني ،والوحدة اإلسالمية بالنسبة للشيوعيني وتعمل عىل إيجاد مكان لها يف الواقع دون بحث ممكنات هذا الواقع واحتامالته ،وألن ‘األيديولوجيا’ هي العليا لدى هذا النمط من املثقف ،فإن األمر سينعكس عىل اهتامماته ،حيث أن هذه األيديولوجيا تركز عىل األفكار الكربى أكرث مام تركز عىل الواقع ،فتجد هذه األفكار صداها يف شغل املثقف واهتامماته أكرث مام نجد الواقع ذاته. األيديولوجيات الكربى ركزت عىل مفاهيم الوحدة العربية والقومية العربية وفلسطني والثورة واالشرتاكية والرأساملية والتقدم والتخلف والتنمية وغريها ،ولذا كان ‘املثقف الطليعي/األيديولوجي’ منتجاً لتلك املعرفة التي تتامهى مع األيديولوجيا أكرث من بحثه عن املعرفة كام هي يف الواقع ،ألن األيديولوجيا هنا هي حجاب زائف أو معرفة زائفة بالواقع ‘دون أن يعني األمر أن كل أيديولوجيا هي زيف ،بل يف تح ّول هذه األيديولوجيا إىل سحر يحمل التغيري بحد ذاته بعيدا ً عن الواقع’ ،إذ وضعت مفاهيم ور ّوجتها عىل أنها هي من ينتج التغيري ويحقق مصالح الناس ،فحلّت الثورة و القومية وفلسطني واالشرتاكية والتح ّول االشرتايك ككلامت سحرية تحمل بذور التغيري بحد ذاتها كام تفعل اليوم كلمة الدميقراطية التي تستخدم كأيديولوجيا أكرث مام هي معرفة .أي إن منط املثقف األيديولوجي/الطليعي أحل ‘األيديولوجيا/السحر’ مكان ‘املعرفة بالواقع’ عىل اعتبار أن األوىل توصل الجامهري للجنة املوعودة ،يف حني أن العالقة ‘فكرا ً وسلوكاً’ بني هذا املثقف والقاع تقترص عىل األيديولوجية املفارقة للواقع أساساً ،ولعل ذكر املثال التايل يعطينا فكرة عن األمر“ :ميشال عفلق مل يكن يتعاطى الحياة العامة، وال عالقة له بالناس البتة .عالقاته كانت محصورة بأنصاف املثقفني والطالب واملثقفني النظريني الذين ال يتعاطون العمل العام ،وهؤالء ‘أفندية’ كام قال عنهم أكرم الحوراين يف مذكراته”(.((2 25صقر أبو فخر ،سوريا وحطام املراكب املبعرثة ،حوار مع نبيل شويري :عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر ،املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،الطبعة األوىل ،2005ص.158 : 26عزمي بشارة ،عن املثقف والثورة ،مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية ،العدد - 4املجلد األول-ربيع ،2013ص.139 138- : 27صقر أبو فخر ،سوريا وحطام املراكب املبعرثة ،حوار مع نبيل شويري :عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر ،املؤسسة العربية للدراسات والنرش ،الطبعة األوىل ،2005ص.96 :
88
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
ويف هذه املرحلة ولدى هذا النمط من املثقفني/املنظرين كان مثة تزاوج بني العمل الثقايف ومامرسة السياسة أو االنتامء لحزب سيايس أو أيديولوجيا ،وذلك لصالح الثانية ،أي مل تكن الثقافة مستقلة أبدا ً ومل يكن هناك أي مفهوم حول استقالليتها ،بل كانت متارس بوصفها كذلك ،أي دمجاً بني االثنني ،ومن النادر جدا ً أن نجد ‘مثقفاً’ تعاطى الشأن العام من موقع استقالليته عن الحزب أو األيديولوجيا فهو كان يستمد جوهر وجوده منها ألنها الحاضنة التي ولد فيها ،دون أن يعني ذلك أبدا ً أننا ننفي عن املثقف حقه باإلميان بأيديولوجيا معينة أو االنتامء لحزب سيايس. أبدا ً بل يتوجب أن تكون معرفته خاضعة للمعرفة وحسب وأن تكون أيديولوجيته خاضعة للنقد وما تنتجه معرفته املستقلة ال العكس .ولعل ما يقوله شويري يلقي الضوء عىل هذا األمر أيضاً ،إذ يقول“ :يف سنة 1943أراد عفلق أن يرتشح لالنتخابات النيابية ،وقبيل االنتخابات اجتمع عدد من املثقفني يف منزل أحمد الرشابايت لدعم شكري القوتيل ضد زعامء الكتلة الوطنية اآلخرين ،وأصدروا بياناً باسم مثقفي دمشق وقعه كل من ميشال عفلق وصالح البيطار تأييدا ً لـشكري القوتيل”( ،((2إذ نلمح هنا التداخل بني الحزيب/األيديولوجي والثقايف ونلمح جزئياً تبعية الثاين لألول ،ونلحظ كيف يدمج شويري بني املثقف واملنظر وقائد الحزب البيطار وعفلق ،مام يعطينا فكرة تبقى غامئة عموماً عن التداخل القائم بني الطرفني. منط املثقف هذا ولد من رحم الحزب وحركة التحرر العربية التي سادت حتى نكسة حزيران ،ليبدأ بعدها وعىل أثر الهزمية التي عانتها هذه املشاريع األيديولوجية والدة ما ميكن أن نسميه ‘املثقف األيديولوجي النقدي’ أي املثقف الذي مل يتخىل عن أيديولوجيته بل بدأ ينتقدها من الداخل ومل يخرج منها ،حيث ستبقى أيديولوجياته الكربى قامئة وحاجبة للواقع مع تغيري وجهة النظر إليها أي نقدها يف الجزئيات دون الكليات ،دون أن يصل النقد حدود التفكري بالبدهي واملسلّم به ،وهو ما أدى إىل الصدام بني السلطة واملثقف األيديولوجي ،إذ يقول بشارة: “لكن الساحة مل تخل من منظرين عرب وثوريني ،كام أن السجون العربية ازدحمت باملثقفني النقديني املتهمني بالتنظري للثورة وقلب نظام الحكم ،نقدياً يسارياً كان التنظري أم قومياً ،وسواء كانت مواقفهم ثورية أو مجرد إصالحية”( .((2ليصبح املثقف أمام خيارين :االنشقاق والسجن أو الصمت والتح ّول إىل ‘مثقف مختص نقدي’ يعمل من داخل آليات السلطة ،أي ما ميكن أن نسميه املثقف املنغمس يف غيتو اختصاصه من موقع نقدي أيضا. وكأمثلة عىل منط املثقف األيديولوجي النقدي الذي بقي نقده داخل األيديولوجيا أي نقد قرشي ظاهري ،نرى أن املؤمنني باأليديولوجيا القومية مثالً تنقلوا من حزب قومي إىل آخر قومي أيضا ،أو انشق الحزب نفسه تحت وطأة تناقضاته الداخلية ليلتحق املثقف بأحدهام ،وكذلك األمر بالنسبة لليسار الذي انشطر يف سوريا يسارات متعددة ،حيث ستبقى فكرة الثورة قامئة يف جوهره بكافة تشكيالته إىل حني انهيار االتحاد السوفيايت (وسنعود للحديث عن املثقف والثورة يف سوريا يف جزء آخر) ،وكذلك األمر بالنسبة للتيار اإلسالمي الذي هو األضعف يف سوريا تاريخياً ،لجهة إنتاج الثقافة والعالقة بها ،كون عالقته األهم تقوم عىل الرتاث اإلسالمي وما أنتجه السلف أكرث من العمل عىل مفاهيم ‘اإلصالح الديني’ وقراءة اإلسالم بعيون الحارض ،ولعل كتاب ‘االشرتاكية واإلسالم’ ملؤسس الحركة مصطفى السباعي هو األخري يف هذا السياق. ويف مثال آخر :كان لدى املثقف القومي املنتمي لنمط املثقف األيديولوجي/الطليعي إميان كبري بأن الوحدة العربية هي الحل والرتياق لكل املشاكل العربية ،ومبجرد ولوج هذه الجنة يدخل املواطن العريب ج ّنة التغيري املوعود. 28املصدر السابق ،ص.100 : 29عزمي بشارة ،عن املثقف والثورة ،مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية ،العدد - 4املجلد األول-ربيع ،2013ص.139 138- :
89
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
وهي ما دفعت باتجاه مشاريع وحدوية ارتجالية أي وحدة ملجرد الوحدة دون معرفة إن كانت قادرة عىل الصمود أم ال ،ولهذا ماتت الوحدة السورية املرصية عىل يد املطالبني بها بعد ثالث سنوات من بدئها ،ألنها مل تبنى عىل معرفة بالواقع واحتامالته بل نتيجة رغبة شعبوية أعطاها مرشوعيتها كل من األحزاب واملثقف هذا. مع الهزمية ووالدة ‘املثقف األيديولوجي النقدي’ سيصبح السؤال :مل فشلنا ومل نحقق الوحدة؟ دون أن يالمس النقد ‘الوحدة’ ذاتها وعام إذا كانت ‘الوحدة اآلن’ بحد ذاتها جيدة فعالً أم ال ،دون أن يفكر أح ٌد يف الدولة الوطنية (ال ُقطْرِية عىل حد تعبريهم بكرثة) القامئة والعمل عىل تجذيرها يك تكون طريقاً نحو وحدة مستقبلية ،إذ بقي جرحي ‘سايكس بيكو’ والهزمية يفعالن فعلهام يف ذهن املثقف لوقت طويل دون القدرة عىل الخروج من البقاء تحت أثر الجرح واملرض إىل التعايف منه حتى يومنا هذا( ،((3ليمهد الطريق بذلك للدكتاتوريات القامئة عىل هذه األيديولوجيات التي تاجرت بالوحدة وفلسطني ،وبكل قضية كأداة للبقاء يف السلطة .إذ سنجد أن األيديولوجية النقدية نفسها أبقت إميانها بالوحدة وأهملت الدولة القامئة بحجة أنها منتج ‘سايكس بيكو’، وص ّبت جام نقدها عىل السلطات الحاملة لهذه األيديولوجية من موقع جزيئ يهدف إىل الوصول إىل السلطة بديالً عنها ال أكرث وال أقل ،وهو الذي امتد حتى اليوم يف صيغة املعارضات التي تأسست عىل هذه الضدية القاتلة دون أي مرشوع وطني أو نقدي. من هنا سيبدأ العمل النقدي عىل املشاريع الكربى لدى املثقف وسيغيب الواقع ،لنكون أمام نقد ملجرد النقد، يف الوقت الذي كانت فيه األيديولوجيات تتح ّول إىل استبداد عضوض ،وقد تجىل األمر يف األحزاب السياسية التي مل تغيرّ أيديولوجياتها وتراجعها ويف األداء السيايس الذي جعل قادة الحزب أنبياء معصومني وقادة إىل األبد مع صعود مفهوم القائد إىل األبد الذي ك ّرس مسألة االستبداد ود ّجن املثقفني فتح ّول قسم منهم ط ّيعاً متخلّياً عن أوهامه نحو غيتو االختصاص أو إىل السجن ملقارعته الدكتاتورية من موقع األيديولوجيا النقدية وليس من موقع املثقف املستقل ،إذ مع مرحلة الثامنينيات وخروج السلطة منترصة يف سوريا سيذهب هذا املثقف األيديولوجي النقدي نحو السجن أو املنفى ،ويولد املثقف املنحرص يف غيتو اختصاصه من موقع نقدي سيتجذر أكرث مع انهيار االتحاد السوفيايت الذي دفع املثقف إىل جملة مراجعات عىل رأسها مسألة الثورة ،حيث سينقسم من بقي خارج املعتقل إىل قسمني :األول ملتحق كلياً بالسلطة ومنافعها ومنحرص ضمن غيتو االختصاص بشكل كيل ،وآخر ينحرص ضمن غيتو اختصاصه الثقايف إمنا يبقى عىل متاس مع الشأن العام ،دون أن يتصادم مع السلطة بشكل مبارش ،بحيث يعمل عىل استغالل الهامش املتاح والعمل ضمنه لتوسيع مساحة اللعب ال أكرث ،محاذرا ً أن ال يستفز السلطة يك ال يلتحق بزمالئه ،ويف هذا السياق قد يكون طيب تيزيني مثاالً يعكس هذه التحوالت ،فهو ابن األيديولوجيا اليسارية بحيث تنطبق عليه صفة ‘املثقف األيديولوجي’ ليتح ّول بعد هزمية حزيران إىل موقع املثقف األيديولوجي من موقع نقدي ،بحيث يبقى إميانه راسخاً باأليديولوجيا اليسارية ولكن يبحث عن العطب يف الرتاث والحل يف الثورة ،ليطلق مرشوعه النقدي الضخم ‘من الرتاث إىل الثورة’. وتحت تأثري انهيار االتحاد السوفيايت سيخرج من األيديولوجية اليسارية باتجاه رحابة الفكر النقدي ،ليغيرّ عنوان مرشوعه إىل ‘من الرتاث إىل النهضة’ ليصبح مثقفاً أيديولوجياً نقدياً يسلّط سهام نقده نحو الدولة األمنية ويبدأ منذ منتصف مثانينيات القرن املايض يتحدث بشكل علني عن الدولة األمنية ،ويصبح فيام بعد منخرطاً يف الشأن العام ،بشكل كيل خاصة بعد عام ،2000ويصبح ‘مثقفاً نقدياً ،عضوياً’. طيلة مرحلة التسعينيات سيخرج من السجن دفعة جديدة من املثقفني الذين تعلّموا وقرؤوا وك ّونوا معارف 30حلل هذا األمر بشكل جيد املفكر جورج طرابييش يف كتابه ‘املرض بالغرب :التحليل النفيس لعصاب جامعي’.
90
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
طيلة سنوات سجنهم ،حيث كان السجن بالنسبة لهم مبثابة مطهر دفعهم دفعا للخروج من منط املثقف األيديولوجي النقدي الذي يقارع السلطة من موقع أيديولوجي بعد أن خرج من رشانق وأوهام كثرية لصالح العودة إىل الواقع إمنا برضوض كثرية ،ولعل أبرز من ميكن أن يعطي ضوءا ً عىل هذا األمر ويكون مثاالً عليه بذات الوقت ،هو الكاتب ياسني الحاج صالح ،إذ يقول“ :كنت عضوا يف اللجنة املركزية للحزب الشيوعي السوري ـ املكتب السيايس يف جامعة حلب ،أي واحدا ً من بني مجموعة يف قيادة العمل الحزيب الطاليب ...بعد شهور من االعتقال أمكنني أن أقول يف أحد نقاشاتنا :إين ال أتص ّور نفيس خارج الحزب! كلمة ‘الحزب’ هنا مشحونة بعاطفة غامرة ،ال ميكن ملن حرم منها إال أن يكون يتيامً أعتقد اليوم أن هذا مر ّوع .من ال يتص ّور نفسه خارج ‘الحزب’ فسيبقى تابعاً بال نهاية ...يف السجن ،شيئاً فشيئاً ،تبدلت عالقتي مع الحزب إىل يشء أكرث دستورية .رصت أتص ّور نفيس خارجه ...بعد سنوات السجن استقر يب األمر عىل الهامش :أختنق يف الداخل ،وال أريد أن أكون بعيدا ً يف الخارج .محيط الدائرة هو مكاين املناسب ...كانت الكتابة قد أضحت انشغايل املركزي ،وصيغة تدخيل املفضلة يف الشأن العام”(.((3 ولنا أن نالحظ أن أغلب مثقفي سوريا اليوم ،هم ‘خريجو معتقالت’ أو ما ميكن أن نطلق عليهم ‘الجئي الثقافة’ بعد أن خذلتهم السياسة ،وليلتقي هذا املثقف املتك ّون من رحم تجربة السجن مع شطره اآلخر املثقف النقدي املنغلق يف غيتو اختصاصه جزئياً ،حيث شكلت لحظة ربيع دمشق لحظة تالقٍ بني هذين النموذجني الذين سيولد منهام من اآلن وصاعدا ً ‘املثقف النقدي العضوي’ املتحرر من أرس األيديولوجيا وغيتو االختصاص نحو االهتامم أكرث بالشأن العام مع إبقاء مسافة واضحة بني هذا املثقف والسلطة لن يتخطاها إال قلة منهم، أي أن املثقفني الخارجني من السجن ولدوا من رحم هزمية النضال السيايس بوجه الدكتاتورية ،يف حني ولد املثقف النقدي املختص من رحم هزمية املشاريع األيديولوجية التي آمنوا بها ،ليبقى كل طرف يعاين من آثار هزميته ،حيث سينعكس الغياب الذي قضاه هؤالء املثقفون يف السجون يف فكرهم ،عىل شكل ابتعاد قرسي عن الواقع وعدم القدرة عىل التقاط التغريات التي أصابت املجتمع السوري ،وبالتايل سيبقى فكرهم ‘غريباً’ أحيانا و‘شعاراتياً’ أحيانا و‘ثأرياً’ يف أحيان ،فهو من جهة شجا ٌع جدا ً يف مواجهة الدكتاتورية وجهاً لوجه ،وعاج ٌز عن فهم ممكنات الواقع واحتامالته من جهة ثانية ،يف حني ستبقى آثار املرحلة األيديولوجية ظاهرة يف فكر النوع الثاين، خاصة يف طريقة التعامل مع الدميقراطية. ولكن من متازج الطرفني بعد ربيع دمشق عىل األقل سيولد املثقف النقدي العضوي ،املقرتب من الواقع أكرث واملفكّر بسوريا أكرث ،حيث ستبدأ سوريا وهمومها تحرض كدولة وطنية بعد أن كانت الوحدة والقومية واألممية وفلسطني تحتالن ذهن هذا املثقف ،الذي عاد لينخرط بالشأن العام أكرث ويوقع العرائض ويشكل منظامت حقوق إنسان ويقرتح بدائل بشأن نظام الحكم وسبل تغيريه داعياً لعقد اجتامعي جديد بني املثقف والسلطة ،حيث بدأت تظهر يف الحياة السياسية الفقرية واملعزولة عن املجتمع عموماً تعابري من نوع ‘املجتمع املدين’ و‘التداول السلمي للسلطة’ و‘إلغاء قانون الطوارئ’ و‘إلغاء الحزب الواحد’ ...و لكن بالتأكيد مل يكن بني مفرادتهم ‘الثورة’ التي تم تطليقها نهائياً لكرثة ما ابتذلت يف طيلة العقود الفاصلة بني الخمسينيات والثامنينيات، وهو ما دفع بشارة للقول“ :ما يهمني هنا هو أن التنظري الثوري ،بغض النظر عن رأيي فيه ،استمر طويالً من دون ثورات ،وفقد مكانته يف الرأي العام ويف الشارع ألسباب عديدة ،حتى بات لفظ ثورة لفظاً مثريا ً للسخرية ،إذ إن فشل الشيوعية يف أوربا ،واستهالك هذه الكلمة يف االنقالبات العسكرية وبعض حركات التحرر التي تح ّولت 31ياسني الحاج صالح ،بالخالص يا شباب! 16عاما يف السجون السورية ،دار الساقي ،الطبعة األوىل ،2012ص.100 99-:
91
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا
إىل دكتاتوريات ،مل يفقد كلمة ثورة بريقها فحسب ،بل أفقدها مضمونها أيضاً ،وتح ّولت إىل مفردة ميتة يف خزانة اللغة الحزبية”(.((3 ولكم أن نقيس الزمن الفاصل بني والدة سوريا بشكلها الحديث وربيع دمشق أو بداية التسعينيات عىل أبعد تقدير ،لنعرف كم غابت سوريا وكم تأخرت تلك الثقافة عن مراكمة املعارف عن سوريا ولسوريا ،وهو ما يفرس جزئياً ملا تخلو املكتبة السورية حتى اليوم من كتب معرفية عميقة تهتم بسوريا وتدرسها بيد مثقفني سوريني. املفارقة أنه بعد أن أقىص املثقف السوري بكافة أشكاله ‘الثورة’ من قاموسه ،فاجأت الثورة الجميع وجاءت يف الخامس عرش من آذار 2011عىل شكل احتجاجات بسيطة تط ّورت إىل انتفاضة ثم ثورة تتامزج فيها الحرب األهلية والتدخالت الخارجية والعنف بكافة أشكاله ،ليبقى السؤال :مل غابت الثورة عن ذهن املثقف يف الوقت الذي كانت تقرتب فيه؟ ومل نيس كل كالمه السابق عن ‘التغيري التدريجي اآلمن’ حني اندلعت والتحق بها ،هذا إن كانت السلطة تركت مكاناً لغري ذلك؟ وهل كان موقفه املؤيد لها ‘ثورياً’ أم ‘نقدياً’؟ وهل يتكامل هذا مع دوره كمثقف أم أنه خان هذا الدور لصالح التبعية للثورة؟ هذا ما سنحاول البحث فيه يف القسم الثاين من هذا البحث ،إضافة إىل محاولة قراءة األسباب الكامنة وراء عجز املثقف عن تقديم معرفة بسوريا تخضع لرشوط املعرفة وحدها ،عرب مستويني اثنني :األول يقرأ الرشوط الخارجية التي أثرت وتأثر بها املثقف ،والثاين يقرأ الرشوط الداخلية للنص املنتج من قبل املثقف ،أي املنهج املتبع وكيفية إنتاج املثقف لنصه.
32عزمي بشارة :عن املثقف والثورة ،مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية ،العدد - 4املجلد األول-ربيع ،2013ص.139 :
92
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
استعادة املاضي خلدمة احلاضر:
فراس الحواط❊
الد َم ْ شقي يف سياقاتٍ خمتلفة َغ ْي َلان ِّ اخلالصة:
تسعى هذه الدراسة إىل تسليط الضوء عىل عملية تذكر التاريخ يف سبيل مواجهة الحارض ،وهذه العملية ترتبط مبجاالت عديدة متعلقة بالشأن العام ،إذ يتم االستعانة بها يف مجاالت السياسة والفكر والثقافة ،خصوصاً عند السعي ملواجهة تحديات الحارض .وبغية تحقيق هذا الهدف فإن هذه الدراسة تتناول قصة تاريخية محددة ،هي قصة غيالن الدمشقي الذي عاش يف دمشق يف القرن الثامن امليالدي ،إذ يتم دراسة األساليب التي ظهرت فيها هذه القصة يف ثالث حاالت تنتمي إىل فرتات مختلفة كلياً ،كام تلجأ الدارسة إىل محاولة فهم السياقات التي ظهرت فيها هذه الحاالت عىل اختالفها .يتم يف البداية تناول الصورة التي قدمها القايض عبد الجبار عن غيالن الدمشقي ،ويتم توضيح العالقة التي تربط بني هذه الصورة والواقع الذي كان القايض يعيش فيه أثناء قيامه بهذا العمل ،فبعد أن يتم إيجاز بعض األمور املتعلقة بواقع القايض عبد الجبار يتم االستنتاج أنه قد سعى إىل توظيف قصة غيالن الدمشقي يف سبيل مواجهة ما كان مير آنذاك من ظروف ،وهذا ما أدى إىل تصوير غيالن بشكل محدد جداً .كذلك يتم تناول الصورة التي قدمها ‘ابن عساكر’ عن غيالن الدمشقي وذلك من خالل تسليط الضوء عىل الفرتة التاريخية املحددة التي كتب فيها ابن عساكر هذا العمل ،وبنفس الطريقة تخلص الدراسة إىل أن واقع ابن عساكر وغاياته املرحلية قد دفعاه إىل تشكيل صورة مختلفة كلياً عام جاء يف كتاب القايض ،لكن كال املؤرخني يتفقان يف أنهام قاما بتذكر غيالن خدمة ملصالحهام اآلنية .تتابع الدراسة يف تناول الحالة الثالثة وهي األسلوب الذي اتبعه املخرج والكاتب السوري هيثم حقي يف فلمه السيناميئ الذي تناول حياة غيالن .تكمن أهمية العمل الذي قدمه حقي يف أنه قد قام باستعادة هذا الشخصية التاريخية انطالقاً عىل ما يبدو من ظروف آنية ،إال أنه قد تفادى الوقوع يف فخ التبسيط الذي يؤدي أحياناً إىل التعامل مع األحداث التاريخية كنامذج يولد منها الحارض. ❊ كاتب سوري حائز عىل شهادة جامعية يف الرتجمة ،ويف عام 2012حصل عىل شهادة املاجستري من معهد دراسة حضارات املسلمني يف لندن .قام بتقديم مساهامت تناولت موضوع الحوكمة يف سياق املجتمعات اإلسالمية وستصدر قريباً ضمن مجلد من إعداد نفس املعهد ،وله دراسة غري منشورة تناولت شخصية غيالن الدمشقي .يعمل يف مجال الرتجمة بني العربية واالنكليزية ومهتم بشؤون السياسة والتاريخ والدين.
93
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
مقدمة يتجه كثري من املهتمني يف املجاالت الفكرية والسياسية والثقافية يف املنطقة العربية نحو مواجهة الواقع الصعب الذي متر به هذه املنطقة ،ومحاولة إيجاد حلول متكّن املجتمعات من الخروج من األزمات الحالية ،إال أن مساعي البعض أحياناً ما تعاين من بعض املغالطات التي تستحق الوقوف عندها وتسليط الضوء عليها ،وال شك أن طريقة التعاطي مع التاريخ هي من إحدى املشاكل التي تتحول أحيانا إىل أزمات حقيقية .تتقاطع الكثري من املحاوالت الباحثة عن حلول للواقع الراهن ،يف سعيها لالستعانة باملايض يف سبيل مواجهة مشاكل الحارض. وهذا ال يقترص فقط عىل بعض االتجاهات الدينية عموماً ،علامً أن التيارات الفكرية اإلسالمية التي وجدت الحل يف العودة للاميض هي ال متثل ظاهرة جديدة اليوم ،بل ،قد ظهرت يف أواخر القرن التاسع عرش ،من خالل فكر التجديد واإلصالح الذي ظهر مع بعض املفكرين اإلسالميني مثل محمد عبده ورشيد رضا اللذان أرادا أن يقدما حالً لحال األمة ،خصوصاً بعد أن اطلعوا عىل حداثة الغرب ،إذ تلخصت استجابتهم لذلك الواقع بالوصول إىل نتيجة مفادها أن الحل يتمثل يف العودة إىل املجتمع اإلسالمي األول (حوراين.)1977 ، تظهر عملية اسرتجاع التاريخ يف الكثري من االتجاهات التي تنحو نحو تذكر حقبة أو شخصية أو حدث معني من املايض ومحاولة تطويعه بحيث يبدو وكأنه املالذ الذي يجب اللجوء إليه تجنباً ملا مير من صعوبات ومشاكل يف الزمن الحارض ،ويف هذه الحالة فإن الحارض يبدو وكأنه جزء يشكل امتدادا ً طبيعياً للاميض يأخذ منه سامته األساسية يف عملية تشبه عملية انتقال الجينات الوراثية ،فإن واجهتنا مشكلة يف زمن ما فإن العالج إمنا يتمثل بالقدرة عىل عزل الجينات املرغوب بها. هذا ما يصفه الدكتور عزيز العظمة بالفهم العضواين للتاريخ (العظمة .)1987 ،وتنطوي هذه املقاربة يف فهم التاريخ عىل أن يتم فرز األحداث التاريخية إىل نوعني؛ النوع األول هو التاريخ ‘األصيل’ الذي يشكل منوذجاً مثالياً ينبغي اتباعه دامئا ،والنوع الثاين هو التاريخ ‘الدخيل’ الذي يجب تجنبه والحذر منه أو حتى محاربته للحفاظ عىل صفاء ونقاء الحارض واملستقبل.
94
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
دراسة حالة غيالن الدمشقي (ت)724 . يحفل تاريخنا وحارضنا العربيان بنامذج كثرية ميكن تسليط الضوء عليها لتوضيح الجوانب التي تحيط بعملية االستعانة باملايض ملواجهة الحارض ،وقد تم االستعانة يف هذه الدراسة بحالة غيالن الدمشقي ملا اكتسبته هذه الشخصية من وجود بارز يف الرتاث الفكري العريب تجىل مبظاهر مختلفة أشد االختالف ،وباعتبار هذه الشخصية ما زالت تشد انتباه بعض املهتمني وخصوصا أولئك الذين يسعون من خالل غيالن الدمشقي لتقديم حلول تفيد بنظرهم للخروج من بعض مشاكل الواقع الحايل نظرا ً ملا ارتبط بهذه الشخصية من أفكار تتعلق بالعدل والحرية. يقدم محمد عامرة موجزا ً عن حياة غيالن الدمشقي يف كتابه ‘مسلمون ثوار’ ،فيسلط الضوء عىل أفكار غيالن الدمشقي التي كانت تقوم عىل فكرة أن الله قد منح اإلنسان حرية اختيار أفعاله وترصفاته وهذا ما اندرج ضمن مبادئ ما سمي بـ ‘الغيالنية’ التي قامت عىل معارضة األمويني سياسياً (عامرة .)1988 ،يشري عامرة أيضاً إىل العالقة التي جمعت غيالن بالخليفة عمر بن عبد العزيز الذي استعان بغيالن يف مصادرة بعض األموال من األمويني وردها لبيت مال املسلمني كخطوة يف سبيل تحقيق العدل .إال أن هذا ما دفع ـ بحسب عامرةـ هشام بن عبد امللك الحقاً ليأمر بصلب غيالن عىل أحد أبواب دمشق وإعدامه بعد محاكمته عىل يد الشيخ األوزاعي. يقوم عامرة برشح موقف غيالن فيقول عنه“ :إنه كان موقفاً ثورياً من كل سلبيات الحياة يف العرص الذي عاش فيه” (نفس املصدر ،ص .)142ليك نفهم السياق الذي قام به عامرة بتسليط الضوء عىل حياة غيالن الدمشقي واستعادة قصة حياته ،يبدو من الالفت لالنتباه أن عامرة يلجأ إىل توضيح هدفه من هذا الكتاب عندما يوضح الحاجة إىل مواجهة الواقع الذي انطلق منه فيؤكد “تتزايد أهمية الجهود الفكرية التي تصحح صورة اإلسالم يف عيون بنيه ،والتي تنصفه عندما تكون املقارنة بينه وبني غريه من األديان ..تلك الجهود التي تقدم اإلسالم الحق ..دين االستنارة ..والعقالنية ..ورباط الوحدة والتوحيد ( ”..نفس املصدر ،ص.)5 من الجدير بالذكر أنه يف حالة غيالن الدمشقي ال ميكن الحديث عن تسجيل ألحداث مبارشة قامت أثناء حياته إذ أن أقدم املصادر التاريخية املتوفرة ـ ومن بينها املصادر التي اعتمد عليها عامرةـ تعود إىل فرتات تلت وفاة غيالن عىل األقل بحوايل 100عام ،وهذه املشكلة تعرتض أي عمل تاريخي يتناول الفرتة األموية إذ أن كل األعامل التاريخية التي تتناول هذه الفرتة هي من إنتاج فرتات الحقة. تشكل حالة غيالن مثاالً جيدا َ يف مجال هذه الدراسة بالتحديد ملا استقطبته هذه الشخصية من كتابات أو تجليات أظهرت غيالن مبظاهر وأشكال أخذت يف التعدد واالختالف حد التطرف كام كانت قصة غيالن الدمشقي محط اهتامم وانتباه للكثريين عىل مر العصور وعىل ما يبدو أن مرور عدة قرون عىل الفرتة التي من املفرتض أن غيالن قد عاش فيها مل مينع أبدا ً من تذكره وال حتى من االستعانة به يف سياقات وموضوعات معارصة. غيالن الدمشقي كما صوره القاضي عبد اجلبار (ت)1025 . يعد القايض عبد الجبار من أهم فالسفة ومؤرخي مذهب املعتزلة ،ويشري فؤاد سيد إىل أن القايض كان إمام مذهب االعتزال يف عرصه ،وهو الوحيد الذي عرف باسم ‘قايض القضاة’ (فضل االعتزال وطبقات املعتزلة، ص .)121.وقد قام القايض يف كتابه ‘فضل االعتزال وطبقات املعتزلة’ بتأريخ هذا املذهب من خالل تحديد عرش طبقات تضم كل منها بعض الشخصيات التي قام هو بتصنيفها واعتبارها من أعالم مذهب االعتزال .وفيام بعد قام مؤرخ آخر هو الحاكم الجشمي يف كتابه ‘رشح عيون املسائل’ بإضافة طبقتني لطبقات القايض ليتم ذكر 95
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
القايض عبد الجبار نفسه ضمن الطبقة التي أصبحت تحتل املرتبة الثانية عرشة ،وهذا ما يدل عىل املكانة الرفيعة التي احتلها القايض بالنسبة لفكر االعتزال بشكل عام. ويف مقدمة كتابه يشري القايض إىل أنه قام بهذا العمل تلبية لدعوة امللك خورازم شاه (أبو العباس مأمون بن مأمون) ،الذي كان آخر ملوك األرسة املأمونية التي حكمت خوارزم من عام 995حتى عام 1017م .وقد عرفت هذه األرسة بتبني مذهب االعتزال حتى قام بعض من أتباع السلطان محمود الغزنوي (محمود بن سبكتكني) بقتل آخر ملوكهم امللك أبو العباس والسيطرة بذلك عىل خورازم (املصدر السابق ،ص .)137 .يشري فؤاد سيد إىل حالة العداء التي كانت موجودة لدى السلطان محمود الغزنوي تجاه املعتزلة إذ متثل ذلك عىل سبيل املثال باضطهاد املعتزلة وحرق كتبهم (نفس املصدر). إن حقيقة انهيار األرسة املأمونية عىل يد أتباع السلطان محمود وحالة العداء التي أظهرها تجاه املعتزلة هي نقاط أساسية لفهم كتابات القايض يف هذه الفرتة بالتحديد ،ففي كتاب “فضل االعتزال وطبقات املعتزلة” يحاول القايض أن يرشح مهمته يف إعداد هذا الكتاب إذ يقول“ :فرأيت الترسع إىل ذلك واجباً ،ليعلم األمري السيد امللك العادل ،أطال الله أيامه وحرس مكانه ،أنه فيام متسك به ،موافق للرسول عليه السالم واألمئة وأن من خالفه فهو مخالف لهم ،وليك يأنس بكرثة موافقيه من العلامء فيثبت عند ذلك ما وضعته يف هذا الكتاب” (نفس املصدر، ص .)138إن هذا اإلعالن الرصيح من القايض عبد الجبار يوضح العالقة بني الواقع الذي انطلق منه وبني العمل الذي قدمه والطريقة التي أدى بها هذا العمل .ويشري سليامن عيل مراد إىل أن األمر الذي دفع القايض إىل إمتام هذه العمل كان اهتاممه بالدفاع عن مذهب املعتزلة وخصوصا مبدأ العدل اإللهي ،وقد لجأ إىل تضمني قامئة تضم شخصيات إسالمية بارزة وذلك بغية استعراض النسب واألصل الذي انتمت له املعتزلة (.)Mourad, 2006 قبل الخوض يف ما قدمه القايض عبد الجبار عن غيالن والطريقة التي صوره بها قد يكون من املفيد إيجاز بعض األفكار عن املعتزلة .ترجع بعض الدراسات نشأة املعتزلة إىل زمن الحسن البرصي وبالتحديد عندما ‘اعتزل’ واصل بن عطاء (ت )748 .من حلقة الحسن ،وتحدث عن موقفه تجاه عقوبة مرتكبي املعايص ،إذ حدد ذلك بعبارة “منزلة بني املنزلتني” .إال أن فكر االعتزال وما يقوم عليه من معتقدات ومبادئ مل يتبلور إال الحقاً عندما نشأت فكرة ‘أهل العدل والتوحيد’ التي تشري إىل اإلميان بالعدالة اإللهية التي تعترب اإلنسان حرا ً مخريا ً ال يتم عقابه إال باالستناد إىل ما منحه الله من حرية يف اختيار أفعاله .وقد متت إضافة مبادئ أخرى هي مبدأ الوعد والوعيد ومبدأ املنزلة بني املنزلتني ومن ثم األمر باملعروف والنهي عن املنكر .يف الوقت الذي ارتبطت فيه جميع املبادئ الخمسة بفكر االعتزال يؤكد القايض عبد الجبار يف كتبه عىل أولوية مبديئ العدل والتوحيد. يأيت ذكر غيالن الدمشقي كأول اسم يف الطبقة الرابعة من طبقات املعتزلة التي صنفها القايض عبد الجبار، وذلك حتى قبل واصل بن عطاء .وإن أهم ما يلفت االنتباه يف الصورة التي عرضها عبد الجبار عن غيالن الدمشقي هو العالقة بني غيالن والخليفة عمر بن عبد العزيز ،إذ تكتسب هذه العالقة أهمية كبرية وذلك الرتباط صفة العدل بالخليفة عمر الذي عرف بالخليفة العادل .وقد كان هذا محط انتباه القايض عبد الجبار عىل ما يبدو إذ حاول جاهدا َ أن يصور اإلعجاب واالحرتام اللذين أظهرهام الخليفة عمر تجاه غيالن .فيصور القايض حادثة دارت يف بالط الخليفة: “دخل غيالن عىل عمر بن عبد العزيز ،فقال له عمر :مايل أراك مصفرا ً .قال :أوجاع وأسقام .قال :أقسمت عليك لتخربين .قال :يا أمري املؤمنني ،آكل حالوة الدنيا فأجدها مرة فصغر قدرها واستوت عندي حجارتها وذهبها. وكأن الناس يساقون إىل الجنة وأنا أساق إىل النار .فقال عمر :من رسه أن ينظر إىل رجل قد وهب نفسه لله 96
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
وفرغها له وليس فيه عضو إال وهو ينطق بالحكمة ،فلينظر إىل هذا .ثم قال له واصل بن عطاء :من أين أوتيت هذا العلم يا أبا مروان؟ فقال :ويحك يا وضني ،أرد الله مبا تعلم ،يفزع إليك العلم إفزاعاً .إن الذي ترى جهلنا مبا ال نعلم هو من تقصرينا فيام نعلم” متثل هذه الحادثة أهمية كبرية إذ تصور غيالن كرجل حكيم ابتعد بزهده وإميانه عن كل ملذات الدنيا، وهذا ـ عىل ما يبدو من خالل ما أورده القايض ـ ما رفع من مكانة غيالن لدى الخليفة .وعىل الرغم مام يرتبط بـ واصل بن عطاء من أفكار تعطيه مكانة خاصة لدى املعتزلة إال أنه بدوره تم تصويره عىل أن علمه ال يضاهي علم غيالن الذي يقوم بتوجيه واصل وتقديم النصح له .ويزيد ذكر واصل بن عطاء من أهمية هذه الحادثة إذ أنها بهذا الشكل قد أظهرت غيالن متفوقاً عىل أعالم زمانه .ويتابع عبد الجبار يف إظهار العالقة بني غيالن وعمر ولكن يتم تصوير غيالن هذه املرة مبظهر الشخص الحكيم الذي يقوم بتحذير الخليفة نفسه وتذكريه مبسؤولياته وذلك من خالل رسالة وجهها غيالن إىل عمر بن عبد العزيز وجاء فيها: “أبرصت يا عمر وما كدت .أعلم يا عمر أنك أدركت من اإلسالم خلقاً بالياً أو رسامً عافياً .فيا ميت بني األموات ال ترى أثرا ً فتتبع وال تسمع صوتاً فتنتفع .قد خفي عليك .أميتت السنة وظهرت البدعة وأخيف العامل فال يتكلم وال يفطن الجاهل فيسأل ورمبا نجت األمة باإلمام فانظر أي اإلمامني أنت فإن الله تعاىل يقول :وجعلناهم أمئة يدعون إىل النار .ولن تجد يا عمر داعياً إىل النار ال يتبعه أحد ولكن الدعاة إىل النار هم دعاة إىل معايص الله فهذا مثل الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقني” ويتابع عبد الجبار أن الخليفة عمر قام بعد ذلك بالطلب من غيالن ملساعدته يف مسؤولياته وما كان من غيالن إال أن طلب توليته بيع الخزائن ورد املظامل .وعند قيام غيالن ببيع خزائن األمويني كان ينادي“ :هلم إىل متاع الخونة ،هلم إىل متاع الظلمة ،تعالوا إىل متاع من خلف الرسول صىل الله عليه يف أمته بغري سريته وسنته” ويضيف القايض عبد الجبار أن هشام بن عبد امللك قبض عىل غيالن وأودعه السجن ،فقام أحد أصحاب غيالن بإرسال رسالة له يواسيه ويعزيه مبا أصابه فام كان من غيالن إال أن رد له بهذه السطور: “إنك ونحوك خلقت يف زمن ابتىل الله العباد فيه بجهل ال علم معه ،وضاللة ال هدى معها (ولبس ال بيان معه) إال قليل ،فاجتمع العباد عىل الهلكة وقعدوا بكل رصاط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً وسموا الدين وأهل الدين بغري أسامئهم واجتمعت منهم عليه الجامعة ،فليس يلتفت ملتفت إال إىل ضال مضل ،إال فرقة يسرية ،ومع ذلك فحججه عىل أهل الباطل ظاهرة ،ولهم الويل الطويل ،وعزيتني وقد أصبت لو كنت تهنيني” تسلط هذه الرسالة الضوء عىل خصوصية الواقع الذي يحاول القايض تصوير غيالن فيه ،وهو ما يشكل له أهمية خاصة ألنه يحقق رغبته يف إظهار النسب القوي للمعتزلة وخصوصاً يف ما يصوره عىل أنه متسك بالدين الصحيح حتى عندما يشتد الخطر الذي يهدد هذا الدين .إذ أن املقارنة بني ما ينقله عبد الجبار عن لسان غيالن يف هذه الرسالة مع الواقع الذي كان يعيشه عبد الجبار نفسه وما كانت تعانيه املعتزلة يف وقته توضح األسباب التي تدفع بهذه الرسالة لتكون ذات أهمية خاصة بالنسبة له. يتابع القايض عبد الجبار ليصور مشهد صلب وإعدام غيالن ،إذ يضيف أن هشام قد أمر بالبداية بقطع أطراف غيالن وحتى بعد أن نفذ ذلك بغيالن فإنه مل يستكن بل تابع بكل إرادة قائال: “قاتلهم الله كم من حق قد أماتوه ،وكم من باطل قد أحيوه ،وكم من ذليل يف دين الله أعزوه ،وكم من عزيز 97
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
يف دين الله أذلوه” .يتابع القايض أنه بعد ذلك“ :قيل لهشام :قطعت يدي غيالن ورجليه ،وأطلقت لسانه ،فقد بىك الناس حوله ،ونبههم عىل ما كانوا غافلني عنه” .ثم يضيف أن هشام أرسل فقطع لسانه .يف هذا الجزء بالتحديد يظهر الربط املبارش بني الواقع الذي كان يعيش فيه عبد الجبار وما أراد تصويره عن حياة غيالن الدمشقي ،فتتم هنا اإلشارة إىل الدور الذي قام به غيالن من تنبيه الناس وتوعيتهم ومل يكن مبقدور أحد أن مينع غيالن من أداء دوره إال بقطع لسانه ومنعه من الكالم .وهنا ال ميكن أبدا ً تجنب األخذ باالعتبار ذلك الواقع الذي كان عبد الجبار يلعب فيه دور القايض والفيلسوف. غيالن الدمشقي كما صوره ابن عساكر (ت)1175 . يعد أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي من أهم املؤرخني الذين كتبوا عن تاريخ مدينة دمشق ،فإىل جانب كونه إماماً وعالمة فإن عمله ‘تاريخ مدينة دمشق’ يعد من أهم املصادر التاريخية عن دمشق وسوريا بشكل عام يف الفرتة حتى القرن الثاين عرش امليالدي .باملقارنة مع القايض عبد الجبار والعالقة التي كانت تربطه بأمري خوارزم فإن ابن عساكر أيضا كان يحتل مكانة رفيعة يف دمشق ،وكانت تربطه عالقة قوية مع امللك نور الدين زنيك الذي توىل بنفسه مهمة رعاية هذا الكتاب الذي قام ابن عساكر بإعداده (.)Lindsay, 2001 قبل الخوض يف ما قدمه ابن عساكر عن غيالن الدمشقي ال بد من تسليط الضوء عىل الواقع الذي كان موجودا ً يف سوريا خالل القرن الثاين عرش عندما قام ابن عساكر بتأليف ‘تاريخ مدينة دمشق’. خالل القرنني الحادي عرش والثاين عرش كانت بالد الشام تشهد الكثري من النزاعات ،وكان النفوذ يتوزع بني عدة أطراف ،ففي بداية القرن الثاين عرش بالتحديد سيطر نور الدين زنيك عىل حلب بينام كانت دمشق بيد أرسة البوريني ،وكان النفوذ الصليبي موجودا ً يف مدن ومناطق مجاورة .كام كانت الدولة الفاطمية تشكل خطرا ً عىل استقرار هؤالء األطراف .متكن نور الدين زنيك سنة 1154من دخول دمشق وبدأ بضم املدن األخرى ململكته حتى شهدت أوج قوتها مع تويل صالح الدين للحكم وسيطرته فيام بعد عىل القدس ومن ثم مرص .يف الفرتة ما بني 1154و 1174حكم نور الدين زنيك بالد الشام واتخذ من دمشق عاصمة له ،كام أن جهوده العسكرية لتوحيد هذه املنطقة قد ترافقت مع فرض املذهب السني ،ومحاوالته لقمع املناوئني له سياسياً أو دينياً ومن بينهم أتباع بعض املذاهب الشيعية ( .)The Encuclopedia of Islam, 1995ففي هذه الظروف قام ابن عساكر بتأليف ‘تاريخ مدينة دمشق’ إىل أن أتم عمله عام .1174 يتناول ابن عساكر يف كتابه ‘تاريخ مدينة دمشق’ أهم الشخصيات اإلسالمية التي ارتبطت يف شكلٍ أو بآخر مبدينة دمشق أو مبنطقة بالد الشام عموماً ،حيث يتناول كل شخصية مبفردها ويربز بعض الجوانب التي متيزت بها .ومن الجدير باالنتباه أنه يتناول بعض الخلفاء والصحابة والعلامء إال أن تناوله لحالة غيالن الدمشقي تثري االهتامم بشكل خاص ألن غيالن مل يظهر هنا كشخصية دينية أو سياسية ذات شأن رفيع بل عىل العكس متاماً. يبدأ ابن عساكر الحديث عن غيالن الدمشقي بذكر بعض املقوالت من سبيل “وغيالن هذا هو الذي يعرف بغيالن القدري ،ويروى عن النبي صىل الله عليه وسلم يف ذمه” ،كام يتابع فيذكر عدة نسخ من حديث نبوي ينقل عن الرسول قوله“ :يكون يف أمتي رجالن أحدهام :وهب يهب الله له الحكمة ،واآلخر غيالن فتنته عىل هذه األمة أشد من فتنة الشيطان” ،ويضيف حديثاً آخر يقول فيه الرسول“ :يكون يف أمتي رجل يقال له غيالن ،هو أرض عىل أمتي من إبليس” .ال يقوم ابن عساكر مبناقشة صحة هذه األحاديث بل يضيف أن أحدا ً قال لغيالن“ :ويحك يا غيالن ،أمل أجدك يف شبيبتك ترامي النساء بالتفاح يف شهر رمضان؟ ثم رصت حارثياً تخدم امرأة تزعم أنها أم 98
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
املؤمنني ثم تحولت فرصت قدرياً زنديقاً” ،كام يقوم بنفس الوقت بذكر نسخ متشابهة ألقوال تم تناقلها عن أشخاص آخرين ،فيذكر عىل سبيل املثال“ :ويلك يا غيالن ،أمل تكن زفاناً؟ ويلك يا غيالن أمل تكن قبطياً وأسلمت؟ ويلك يا غيالن أمل أجدك يف شبيبتك وأنت ترامي النساء بالتفاح يف شهر رمضان ثم رصت حارثياً تخدم امرأة حارث الكذاب وتزعم أنها أم املؤمنني؟ ثم تحولت من ذلك فرصت قدريا زنديقاً؟” .تقدم كل هذه األحاديث واملقوالت صورة ترتسم يف ذهن القارئ لتحط من مكانة غيالن دينياً ومعرفياً ،وإن أكرث ما تركز عليه هذه األمثلة هو إظهار غيالن كشخص منبوذ كلياً حتى أن الرسول بنفسه قد تنبأ بخطر هذا الشخص عىل األمة وحذر منه حتى قبل عرشات السنني من والدته. إال أن ما يثري االهتامم يف شكل خاص هو العالقة التي حاول ابن عساكر تصويرها بني غيالن والخليفة عمر بن عبد العزيز .فيذكر ابن عساكر كالماً يعزوه إىل غيالن قائالً “كان أشد الناس عيل كالماً عمر بن عبد العزيز، كأنه يلقن من السامء” .ويتابع ابن عساكر أن غيالن أضاف“ :ولقد كنت أطلب له مسائل أعنته فيها ،فبينا أنا ذات يوم يف السوق إذا دراهم بيض يقلبها اليهودي والنرصاين والحائض والجنب ،قلت :إن يكن يوم أظفر به فاليوم ،قال :فدخلت عليه ،فقلت :يا أمري املؤمنني هذه الدراهم البيض فيها كتاب الله يقلبها اليهودي والنرصاين والحائض والجنب ،فإن رأيت أن تأمر مبحوها ،فقال :أردت أن تحتج علينا األمم إن غرينا توحيد ربنا واسم نبينا، قال :فبهت ،فلم أدر ما أرد عليه”. يف الوقت الذي قام عبد الجبار بإظهار املكانة العالية التي متتع بها غيالن عند الخليفة عمر ،يدل هذا املثال عىل أن غيالن كان كل همه أن يحظى مبقابلة الخليفة عمر ،وكان يسعى جاهدا ً أن يجد فرصة ليتسنى له ذلك، ولهذا السبب فقد أراد استغالل فرصة انقلبت عليه عكسياً إذ مل يحصل منها إال عىل الخيبة بعد أن صده الخليفة عمر .ومل يكن هذا املثال الوحيد الذي يركز عىل عالقة عمر بغيالن بل يذكر ابن عساكر أيضا أن أحدا ً قال: “دخلت عىل ‘عمر بن عبد العزيز’ وغيالن قاعد بني يديه فقال يا غيالن ويلك ما هذا الذي أحدثت يف اإلسالم، فقال يا أمري املؤمنني ما أحدثت يف اإلسالم شيئاً ،قال بىل قولك يف القدر” .يتابع ابن عساكر بعد ذلك ليصور غيالن مدركاً لجهالته وتائباً بعد أن قام عمر بتأنيبه ،إذ يقول غيالن“ :صدقت يا أمري املؤمنني والله لقد جئتك ضاالً فهديتني وأعمى فبرصتني وجاهالً فعلمتني ،والله ال أتكلم يف يشء من هذا األمر أبدا” ،وهذا ما استدعى عمر لريد عليه محذرا ً“ :لنئ بلغني أنك تكلم يف يشء من هذا األمر أبدا ً ألجعلنك نكاالً للناس أو للعاملني” .ويتابع ابن عساكر أن بعد أن تاب غيالن أمام عمر واعرتف بخطأه فإن عمر بن عبد العزيز علم أن غيالن استمر يف القول يف القدر ،فيذكر أن عمرا ً استدعاه ثانية ليعود ويتوب قائالً“ :أقول قد كنت أعمى فبرصتني وأصم فأسمعتني وضاالً فهديتني” .هذا ما دعا عمر ليضيف“ :اللهم إن كان عبدك غيالن صادقاً وإال فاصلبه” .يذكر ابن عساكر أن هشام بن عبد امللك هو من قام بصلب غيالن فيام بعد ،إال أن هذه األحاديث التي ذكرها تدل عىل أن عمر بن عبد العزيز كان هو أول خليفة أموي يكشف عام لدى غيالن من أفكار خارجة عن الدين ،وأنه هو من دعا إىل الله أن يقتص منه .يتضح هذا جلياً عندما يقوم ابن عساكر بإضافة حادثة أخرى قام فيها عمر بن عبد العزيز بالدعاء إىل الله أن يعاقب غيالن عىل بدعته فيذكر أن عمر قال“ :اللهم إن كان صادقا فارفعه ووفقه وإن كان كاذبا فال متته إال مقطوع اليدين والرجلني مصلوباً” ،ويضيف أن عمر بن عبد العزيز قام مرة أخرى بالدعاء إىل الله من أن يقتص من غيالن ،وكان ذلك بحضور شخص يدعى عمرو بن مهاجر .وهذا ما يزيد من وضوح الفكرة التي أراد ابن عساكر توصيلها وهي أن الخليفة عمر هو بنفسه كان عىل علم مبا لدى غيالن من بدع ،ولذلك فإن عملية صلبه وإعدامه التي متت عىل يد الخليفة هشام إمنا كانت تلبية ملا أراده عمر بن عبد العزيز .ويف هذا الخصوص 99
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
بالتحديد يذكر ابن عساكر أن عمرو بن مهاجر قال“ :فوالله إين لفي الرصافة جالس فقيل يل قد قطعت يداه ورجاله ،قال فأتيته فوقفت عليه وإنه مللقى فقلت له يا غيالن هذه دعوة عمر بن عبد العزيز قد أدركتك قال ثم أمر به فصلب” .ينهي ابن عساكر حديثه عن غيالن بإضافة حديث ورد فيه “إن هشاماً وقر يف صدره من قتل غيالن يشء فكتب إليه منري ال تفعل يا أمري املؤمنني فإن قتل غيالن كان من فتوح الله العظام عىل هذه األمة”. إن محاولة فهم األسلوب الذي لجأ إليه ابن عساكر لتصوير غيالن الدمشقي ال ميكن عزلها عن الواقع الذي ظهر فيه كتاب ‘تاريخ مدينة دمشق’ والظروف السياسية التي كانت موجودة آنذاك .وهنا ال بد من اإلشارة بالتحديد ملحاوالت نور الدين زنيك ملواجهة األطراف الدينية املختلفة وتأسيس دولته التي كانت تعتمد عىل وجود مذهب ديني واحد يعمل عىل توحيد البالد تحت راية واحدة ،وهذا بالطبع قد متثل بالتحديد بنبذ البدع، ومبحاولة تقديم دمشق عىل أنها عاصمة تاريخية قام فيها الخلفاء األمويون من قبله بذات الجهد لنبذ ما هو منحرف عن ‘الدين الصحيح’ .ولذلك فإن غيالن الدمشقي قد ظهر هنا عىل أنه ذلك الفاسق صاحب البدعة الذي حاول التقرب من الخلفاء لكنهم قاموا بكشفه والتنبه لخطره منذ البداية. غيالن الدمشقي كما صوره هيثم حقي مل تقترص قصة غيالن الدمشقي عىل الظهور يف كتب املؤرخني كـابن عساكر والقايض عبد الجبار بل إنها استدعت اهتامم العديد من الكتاب حتى يومنا هذا .فقد قام املخرج السوري هيثم حقي عام 2008بتأليف وإخراج فلم سيناميئ تناول هذه القصة وحمل اسم ‘التجيل األخري لغيالن الدمشقي’ .يقوم الفلم بالرتكيز عىل إظهار غيالن بشخصية املدافع عن الحق والعدل بكل ما أويت من قوة ،وهو ال يتواىن عن ذلك حتى عندما كان مدركاً أن هذا الطريق قد يودي بحتفه عىل يد هشام بن عبد امللك .فيقوم هيثم حقي بدوره بالرتكيز عىل عالقة غيالن بالخليفة عمر بن عبد العزيز ،إذ يصور الفلم أن غيالن كان يدعو إىل أن تكون الخالفة لألصلح سياسياً، وأنه قَب َِل بخالفة عمر بن عبد العزيز فقط عندما رأى سعي عمر إىل إحقاق الحق والقضاء عىل الظلم .يف هذا السياق يظهر غيالن يف الفلم قائالً لعمر“ :وإذا كنت قد ورثت الخالفة ونحن نرفض توريثها ونطالب بالبيعة لألصلح سياسياً فإننا والحق يقال فبعد ما رأينا من أفعالك ونبذك ملتاع الدنيا وزهدك بفخفخة امللك والسلطان، تراك يا ابن عبد العزيز األصلح لها ،وإذ نبايعك أمريا ً للمؤمنني ،نوصيك بتقوى الله يف عباده ورد أموال املسلمني التي استوىل عليها أبناء عمومتك من بني أمية لبيت مال املسلمني باستعاملها يف إصالح حال العباد التي آلت إىل فساد” ويتضح يف هذا الفلم سعي حقي إىل الرتكيز عىل الدور السيايس لغيالن الدمشقي ،وتصوير موقفه من عملية اختيار الحاكم منطلقاً من إميانه بالعدل ورفع الظلم من دون أن يكون لديه أية مصلحة أخرى ،فيظهر غيالن يف الفلم مدافعاً عن موقفه تجاه تويل عمر بن عبد العزيز الحكم فيقول: “قد بايعناه لنعيد الحق ألصحابه .أعرف ما تقولونه من أننا تنازلنا عن ما كنا نطالب به من تفويض األمر لألصلح بني الناس لكننا وجدنا عمر بن عبد العزيز األصلح واألقدر عىل مل الشمل مع وعده برد املظامل والعدل فإن مل يفعل وقفنا يف وجهه كام وقفنا يف وجه سلفه” يشري الفلم كذلك بشكل بسيط إىل شخصيات تاريخية أخرى فيتم ذكر ابن رشد والحالج وعبد الرحمن الكواكبي ،وذلك من خالل تصوير ما مثلته هذه الشخصيات من أفكار دعت إلحكام العقل والخروج عن السلطة الدينية املستبدة التي قامت بدورها بقمع هذه األفكار بيد من حديد. 100
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
إن ربط هذه الشخصيات بشخصية غيالن الدمشقي يعرب عن رغبة حقي بإظهار امتداد تاريخي لالتجاه الذي ينزع إىل إحكام العقل والقيام بالثورة عىل الواقع املستبد .هل أراد حقي توسيع املجال الزمني لهذا االمتداد التاريخي ليعرب به عن الواقع الحايل املعارص؟ ماهي الرسالة التي أراد توصيلها للمشاهد من خالل العودة إلحياء هذه األمثلة من التاريخ؟ إن ‘التجيل األخري لغيالن الدمشقي’ مل ميثل عمالً تاريخياً قامئاً عىل تقديم رسد أو تصور معني لفرتة ،أو شخصية تاريخية معينة .بل لجأ حقي يف هذا الفلم إىل املزاوجة بني الواقع املعارص والقصة التاريخية ،وذلك من خالل االنطالق من تصوير حياة شخصية الشاب سامي ،املوظف املسحوق الذي يعيش يف مدينة دمشق ويحاول إعداد رسالة دكتوراه عن غيالن الدمشقي .يصور الفلم حياة سامي الذي يثريه ويشده كثريا ً ما يجري حوله من مشاكل ،وباألخص تلك التي تتمثل بحاالت الظلم. من خالل نافذته يقوم سامي مبراقبة ما يجري يف املنزل املقابل ملنزله ،إذ يقوم جاره املدمن عىل القامر بتحويل زوجته إىل سلعة لتقوم هي رغامً عام يقع عليها من إهانة مبحاولة توفري بعض املال ألطفالها .يراقب سامي ما يدور يف هذا البيت وما يحدث حوله عىل نطاق أوسع ،من دون أن يكون قادرا ً عىل املشاركة الفاعلة يف هذا الواقع فيصل إىل درجة االنفصال التام عن واقعه ،حتى يصل به املطاف إىل إيصال الرسائل من الفتاة التي أحب إىل الشخص التي كانت عىل عالقة به ،وليقوم الحقاً بتوصيلها بنفسه إىل منزل هذا الشاب. ميثل الواقع الذي يعيش فيه سامي ،بكل ما فيه من مشاكل اجتامعية وسياسية ،منوذجاً عن املجتمعات املعارصة التي يستهدفها الفلم. وبنفس الوقت فإن الطريقة التي قام بها سامي مبواجهة هذه املشاكل متثلت باالنفصال عن هذا الواقع، والهروب نحو تخيل ما حدث مع غيالن الدمشقي منذ عدة قرون خلت تلبية لرغبته بإحقاق العدل ورفع الظلم، فيحاول التعويض عام يعيشه من سلبية وبرودة وعدم قدرة عىل التأثري من جهة ،مبا يقوم هو بتخيله عن غيالن الدمشقي وسعيه الدؤوب إىل إحقاق الحق وتحقيق العدل .عندما تصل األمور مع سامي إىل الحد األقىص من الخسارة املرتافقة بالسلبية فإنه يلجأ إىل تخيل مشهد صلب وإعدام غيالن الدمشقي عىل يد هشام بن عبد امللك. إن لجوء حقي إىل استعادة قصة غيالن من خالل ما يقوم به سامي من هروب من واقعه إمنا يساهم يف تشكيل فهم أعمق لهذه القصة التاريخية وإمكانية تجليها يف واقعنا املعارص ،فالتجيل األخري لغيالن الدمشقي إمنا حدث -حسب حقي -يف خيال سامي .ال شك أن قصة غيالن قد استهوت حقي ملا حملته هذه الشخصية من إحكام لدور العقل ،واتجاه نحو تحقيق العدل ،إال أن الالفت لالنتباه أن العالقة بني عمر بن عبد العزيز وغيالن، والتي أراد حقي إظهار فكرة العدل من خاللها ،قد ساهمت بنفس الوقت بتثبيت فكرة استحالة تحقيق هذا النوع من العدل الذي يقوم عىل وجود حاكم عادل .فالفلم يظهر أن هذه العالقة رسعان ما انتهت بقتل عمر بن عبد العزيز وانتقال الخالفة الحقاً ليد هشام بن عبد امللك الذي قام بدوره بإعدام غيالن .إن االتجاه الذي اتبعه حقي يف تصوير استحالة تحقق هذا النوع من العدل إمنا يعرب عن رغبته إلظهار أفكاره السياسية الخاصة بشكل فني .وهذا ما يتوافق بشكل تام مع الرؤية التي ميتلكها حقي يف مجال السياسية ،والتي ميكن أن تتلخص يف الدميقراطية االجتامعية التي تعمل عىل تحقيق مبدأ املواطنة املتساوية أمام قانون يعدل ليصبح عادالً (حقي، .)2011
101
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
استعادة املاضي خلدمة احلاضر
خامتة إن التاريخ مبا فيه من أحداث ال شك يشكل مجاالً واسعاً لالستفادة منه يف ميادين كثرية وخصوصاً يف ميادين السياسة والفكر وعلم االجتامع ،إال أن قراءة التاريخ والطريقة التي نستخدمه فيها تتطلب كثريا ً من العناية خصوصاً عندما يلجأ الباحث أو املهتم –يف شكل مبارش أو غري مبارش -إىل تسخري التاريخ يف سبيل املصلحة اآلنية. إن الحاالت الثالثة التي تم فيها تذكر وتصوير غيالن الدمشقي يف فرتات مختلفة تشكل مناذج لبعض األساليب التي يتم من خاللها تذكر املايض يف سبيل مواجهة اللحظة اآلنية .ففي حالة القايض عبد الجبار فإن غيالن الدمشقي ظهر كأحد مؤسيس فكر االعتزال الذي كان القايض من أهم دعاته. يف هذا السياق تم تصوير غيالن كرجل حكيم يسعى بكل ما أويت إىل تحقيق العدل والوقوف مبوقف قوي لحامية الدين عندما يشتد الخطر عليه خصوصاً من أولئك الذين يدعون متثيله .إن تصوير غيالن بهذا الشكل يف ‘فضل االعتزال وطبقات املعتزلة’ إمنا عرب عن سعي القايض للبحث يف التاريخ عام ميكن أن يكون قد شكل أصالً ومرجعي ًة ليس فقط ملذهب االعتزال ،الذي كان مير بوقت صعب ،بل لألرسة املأمونية يف مجابهتها للمخاطر التي كانت تحدق بها. أما بالنسبة البن عساكر فإن صورة غيالن التي قدمها والتي كانت مناقضة متاما ملا جاء من خالل القايض عبد الجبار كانت أيضاً خالصة بحث ابن عساكر عن مناذج تاريخية تشكل أساساً ملا كان يجري يف عهده .لقد بدا غيالن من خالل ‘تاريخ مدينة دمشق’ كشخص زنديق قام الخلفاء األمويون بكشف مآربه وخطره عىل الدين فوضعوا حدا ً له ،وهذه الصورة ال بد من مقارنتها مع سعي الزنكيني آنذاك نحو تأسيس دولة قوية يتولون فيها مهمة حامية الدين .ولذلك فإن ابن عساكر اتجه إىل تشكيل ‘فهم عضواين’ للتاريخ الذي يعيد نفسه ويكون غيالن فيه هو األساس للبدع التي ينبغي القضاء عليها. لقد قدم هيثم حقي مقاربة دقيقة تفادت الوقوع يف التبسيط الذي يسرتجع املايض كام هو ليوظفه يف ظروف الحارض .فقد قام بدوره بالربط املبارش بني اللحظة اآلنية وما مير بها من تحديات مع القصة التاريخية، إال أن األسلوب الفني الذي متت من خالله استعادة شخصية غيالن إضافة إىل الدور السلبي الذي متتع به سامي قد ساهام يف توضيح فكرة عدم إمكانية تحقق املايض يف الحارض ،وبالتايل عدم جدوى الهروب من الواقع الحايل الستعادة ما مر يف املايض من أحداث.
املصادر واملراجع
• • • • • •
ابن عساكر .تاريخ مدينة دمشق .بريوت :دار الفكر1997 ، حوراين الربت .الفكر العريب يف عرص النهضة .ترجمة :كريم عزقول .بريوت :دار النهار للنرش1977 ، القايض عبد الجبار .فضل االعتزال وطبقات املعتزلة .تحقيق :فؤاد سيد .الدار التونسية للنرش. العظمة عزيز .الرتاث بني السلطان والتاريخ .الدار البيضاء :عيون املقاالت1987 ، عامرة محمد .مسلمون ثوار .القاهرة :دار الرشوق1988 ، حقي هيثم .الخوف من الدميوقراطية .جريدة الحياة 14 .ترشين الثاين 2011
References
• Lindsay James E. Ibn Asakir and Early Islamic History. Princeton: The Darwin Press, 2001 • Mourad S. A. Early Islam between Myth and History. Leiden: Brill, 2006 • The Encyclopedia of Islam. Leiden: Brill, 1995
102
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
بني الشعر والفيس بوك:
سالف علّوش❊
ومضات للتواصل االجتماعي اخلالصة: تعد املادة املعنونة ‘بني الشعر والفيس بوك’ إضاء ًة أو مقارب ًة بسيط ًة للتحول الذي طرأ عىل الشعر بني القصائد واملقطعات الشعرية املطبوعة أو املنشورة يف الصحف والدوريات، والتي حظيت باهتامم القارئ املهتم بالشعر أصالً ،وبني النص الشعري األحدث ـ واألحدث باملعنى الزمني ال باملعنى النقدي للمفردة .لقد اختار هذا النص طريقه إىل املتلقي عرب صفحات التواصل االجتامعي ،فغاب عنه القارئ املهتم والقادر عىل التمييز ،فتلك الصفحات هي مجتمع بأكمله وليست منرباً متخصصاً كام هو حال الديوان الشعري أو تقصد اقتناءها واالطالع عىل ما ض ّمت املجلة أو الجريدة املختصة والتي يحصل عليها قار ٌئ ّ بني صفحاتها ،فاستطاع هذا القارئ أن يحكم عىل النص بحسب خربته أو علمه أو قدرته اللغوية .ضمت املادة تعريفاً بسيطاً لشكل النص الشعري األكرث رواجا يف صفحات الفيس بوك ذلك الشكل املسمى أدبيا بالومضة الشعرية .وحاولت تقديم األسباب التي ساقت النص الشعري إىل هذا االختزال ،فالنص مؤثر ومتأثر بالواقع االجتامعي الذي نعيشه ما أدى به إىل التأثر شبه اإلجباري بعرص الرسعة الذي نعيشه.كام ضمت أيضا مجموعة من ٍ مطبوعات ورقي ٍة ،واقترصت إبداعاتهم عىل الومضات لشعراء مل يتم النرش لهم سابقاً يف صفحات التواصل االجتامعي .وقد تم انتقاء األسامء عشوائياً من بني الصفحات التي اعتمدت تقديم بضعة نصوص لكل شاعر ُ استطعت االطالع عىل ما فيها من كتابات .وقد ُ لتبيان شعريته وعدم اقتصارها عىل جملة إبداعية وردت محض صدفة مع محاوالت كمتلق ال كناقد. لتلقي كل نص عىل حدا وقراءته ٍ ❊ خريجة جامعة البعث ـ كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ـ قسم اللغة العربية ،1999وحائزة عىل دبلوم التأهيل الرتبوي ،2000ودبلوم الدراسات العليا يف الدراسات األدبية ،2001وتحرض حالياً رسالة ماجستري يف املرسح .نرشت عدة دراسات ومقاالت يف العديد من الصحف والدوريات منها جريدة األسبوع األديب ،ومجلة املوقف األديب التابعة التحاد الكتاب العرب يف سوريا ،ومجلة الرافد يف الشارقة .فائزة باملركز الثالث يف مسابقة سعاد الصباح قسم النقد يف الكويت .2005
103
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
بني الشعر والفيس بوك
بني زمن كان الشعر فيه تاريخاً قامئاً بذاته يسجل الحرب ،الحب ،املرض ،العلم ،وزمن آخر أصبح فيه الشعر محاوالت جاهدة للتعبري عن فكرة أو املطالبة بحق ،محاوالت لرفع صوت الكلمة يف وجه الرصاصة .وهذا يؤكد لنا ارتباط الكتابة كفكرة وأسلوب وتعبري بالواقع العام الذي يعيشه اإلنسان كام يؤكد أيضا تبدل أسلوب وواقع النص حسب التبدل الحيايت الذي يعيشه الكاتب واملتلقي يف آن معاً .فلطاملا أثرت السياسة يف وقع الكلمة ونهجها ولطاملا أثر العلم والتكنولوجيا بها أيضاً ،إنها عرضة للتأثري والتأثر طاملا استمرت الكلمة والكتابة واإلنسان يف الوجود. عود عىل بدء فإننا نرى التباين بني املنابر املتعددة للكلمة .فمن ذلك الشاعر الذي كان يقول نصاً ومييض وهو يدرك أن النص غدا محفوظاً يف أذهان سامعيه وال حاجة له للبحث عمن يحتفظ أو ما يحتفظ مبا قال ،إىل مرحلة التدوين ،التي كان الشاعر فيها ينهك نفسه يف نحت الكلمة ،ونحت منربها أيضاً ،باحثاً عن ورق يحتفظ له باختالجاته الداخلية ،إىل مرحلة افتقدنا فيها ما هو ورقي وأصبح عىل الكلمة أن تكون رسيعة خفيفة تتناسب مع مزاج متلقيها العاجل .فتصدرت املشهد أشكال جديدة من الشعر تتناسب وعرص الرسعة. ما الدوافع التي أدت إىل بروز هذه األشكال الجديدة؟ مثة سؤال يتعلق بالزمن ،فإذا كان الشعر فناً من الفنون ُ األفعال تشكيلَها الزماين مع تفاعل إيحايئ للمكان وتأثريه يف ذات الشاعر الزمانية من حيث هو لوحة لغوية تحرك فهل نلمس أثرا ً للزمن الراهن برسعته الجنونية؟ وللمكان الذي بدأ يضيق حتى حدود اختناق شاغليه؟ هل لهام أثر يف األدب بعامة والشعر بخاصة؟ تخلّص الشعر يف سريورته السابقة من كثري من ضوابطه كقافية ووزن ومطلع وخامتة لينتقل إىل الوزن الرسيع الذي يتخفف قدر ما استطاع ،لنصل إىل ما يسمى بالنص النرثي والذي يُطلق عليه اآلن اسم قصيدة النرث ،ثم لتصبح الومضة هي األكرث تناسباً مع املنابر املفتوحة للمتلقي والكاتب يف آن معا حيث أصبح الوقت ضيقاً عىل حد تعبري الجميع فال يسمح بندوة أو محارضة أو أمسية أو ما كان من منابر للتعبري .فام هي تلك الومضة؟ ومن أين أىت هذا املسمى لنص يكاد يضاهي أطول النصوص إبداعاً وتألقاً؟ الومضة هي صفة لهذا الشكل املقتبس أو املأخوذ أو املقلّد كشعر الهايكو الياباين أو املقطعات الشعرية 104
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
بني الشعر والفيس بوك
اإلنكليزية القصرية جدا ً ،وهي تختلف عن القصيدة القصرية باتساع فضاء األخرية يف البو ِح أو الصورة أو املوسيقا أو املساحة فالومضة أكرث إيجازا ً وتكثيفاً واختزاالً. بعد هذا رمبا أمكن لنا مقاربة الومضة بتعريف بسيط :فهي نص أشبه ما يكون بربق خاطف يتسم بعفوية وبساطة متكنه من النفاذ إىل الذاكرة للبقاء فيها معتمدا ً عىل تركيز عا ٍل وكثاف ٍة شديدة مردهام انطباع كامل، واحد مستخلص من حالة شعورية أو تأملية أو معرفية عميقة ،فهي تتوفر عىل الرتكيز والغنى الواضح باإليحاءات والرموز ،وتدفق رقراق وانسياب عضوي بديع لوعي شعري عميق .إذن فالشكل نص مخترص مختزل بأعىل قدرة لالختزال ،وأما املضمون فهو مقوالت تومض من خالل النص برسعة خاطفة. يف ظل هذا التخفف أصبحت صفحات التواصل االجتامعي هي األكرث حظوة بتعبرينا واختالجاتنا ،انفعاالتنا وهمومنا ومطالبنا ،وأصبح املنرب مفتوحاً لكل من يريد الكتابة فضاعت مقاييس النص بكل أشكاله ،وبات الشعر يف غالبه ومضة أو خاطرة. وهذا ال يعني انتفاء وجود النص الطويل الذي يربز متكن قائله من لغته الشعرية وقدرته عىل البوح واستجرار املتلقي للتفاعل والتواطؤ ضمنياً مع هذا النص ولكننا سنعرض يف هذه اإلضاءة مبدئياً للنصوص القصرية جدا ً أو الومضات الشعرية التي حظي موقع التواصل االجتامعي ‘فيس بوك’ بنرشها عىل صفحاته كوسيلة لعرض النص بصفته الوسيلة األقرب واألسهل واألكرث حظوة بالقراء يف زمننا هذا بينام سنقوم بإنجاز إضاءة تخص النص الشعري الطويل الذي احتضنه أيضاً هذا املوقع .وهنا نجد أنفسنا يف مواقع التواصل االجتامعي أمام ازدحام للكلامت ال ضابط له إال األهواء الشخصية فيام نقول. كرث الكتّاب والشعراء ،أو لنقل كرثت الكتابات واملحاوالت الشعرية البسيطة أو العميقة التي تستحق تسمية شعر ،بينام غاب القارئ املتمكن من انتقاء ما ميكن تسميته شعرا ً وما ينتمي إىل الهرطقة اللغوية التي ال طائل منها .وما نحن اآلن بصدده هو فقط محاوالت للتعرف عىل بعض النصوص الشعرية القصرية لبعض األسامء التي مل يتح لها منرب لنصها ،أو أنها آثرت البقاء بعيدا ً عن الضوء يف ظل صخب الكلمة وكرثة الذين يقومون بفعل الكتابة اقرتاناً بقلة القراء الذين مييزون الغث من الثمني .وبقيت األسامء الالمعة سابقاً هي املتعارف عليها كشعراء وروائيني وقاصني ونقاد ،وافتقدنا لجيل رمبا مل يعرف طريقاً ليوصل نصه إلينا سوى تلك الصفحات. رغم وجود الكثري من النصوص التي ال طائل منها والتي ال تنتمي إىل األدب ال من قريب وال من بعيد إال أننا فعالً نجد نصاً قد ضاع حقه وحق قائله عىل تلك الصفحات ،ف ُح ِر َم مثرة إبداعه كام رسق منه نصه حيث ال مجال للتوثيق أو نسب النص هنا .فنكون قد عدنا أدراجنا إىل ظاهرة الرسقات األدبية وما عاد يعرف من أبدع ماذا. والنامذج كثرية لهذا اإلبداع الذي ال يحظى باهتامم منابرنا ،بل ورمبا مير كرث عليه دون االلتفات ملا ضم النص من حس وصورة .سأحاول هنا أن ألتمس بعضها عليّ أستطيع تسليط الضوء قليال عىل تلك الجملة من األحاسيس التي مل نسمع صوتها يف دورياتنا ودور نرشنا.
“صادروا املغارة ...يا مريم ((( فبات إمياننا ..يف العراء” (تيسري نارص)
كم من املعاين والصور تتداعى إىل ذهن املتلقي عند قراءة تينك الجملتني؟ هل هي حقاً مغارة ولد فيها املسيح وباتت مريم تترضع إىل ربها فتحمل املفهوم الديني البحت حيث أصبحنا مؤمنني بال نبي وال رسالة وال حاضن؟ أم أنها مصادرة فكرية سلبنا فيها إرادة الفكرة واملوقف وأصبحنا مسلويب العقول ال تحكمنا سوى غريزة https://www.facebook.com/tayseer.nasser?fref=ts 1
105
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
بني الشعر والفيس بوك
القطيع حيث أن تلك املصادرة منعتنا من التعبري فكان لزاماً علينا االتباع؟ أم أنها مصادرة عاطفية ،سلبنا فيها مشاعرنا وموضوعها فأصبحنا محبني بال محبوب؟ تبقى األسئلة مفتوحة ونظرة املتلقي أيضاً عىل النص فكل يأخذه النص إىل أرضية سابقة يف نفسه وثقافته ومفاهيمه ويبقى الشاعر املرجع األوحد ملفتاح النص.
“وألنك ..األنثى الوطن كان قدري ِ بك أن أنتهي الجـــئــــــــاً ...مرتني” (تيسري نارص)
هجرة أخرى يحملها الشاعر من نص إىل نص ،غربة تتكرر يف رفضه للواقع .وال تزال تتكرر املعاين املفتوحة للتلقي ويبقى الشاعر مفتاحه ،هل هي األنثى األرض التي نضيع فيها يف ترحالنا وال نعرث عىل وطن ،أم أنها أنثى آدم التي يشعر بالغربة خارجها؟ أهي األنثى األم التي ترتكنا غرباء حاملا نخرج من رحمها فنبحث عنها يف كل النساء وال نجدها ونعود أدراجنا إليها طلبا لقتل الغربة فنلجأ للخالص منها ونعاود اللجوء إليها.
“كلهم كانوا يحصون املسامري يف جسد النبي مل يصغ أحد لشجن املجدلية” (تيسري نارص)
معاناتنا؟ أم هي معاناة فردية؟ هل الشاعر هو النبي أم هو املجدلية؟ أنحن النبي ،والوطن هو املجدلية؟ أنحن املجدلية ،والوطن النبي؟ مل نزل أمام االحتامالت املتعددة لنص مينحنا مساحات من التفكري استطاع قائله اختزالها بجملة أو اثنتني.
“الناجون من الحرب قتىل نسيهم املوت” (تيسري نارص)
املوت ال ينىس ،ولكننا ميتون بانتظار طابور الرثاء ،ال يعرف أحد دوره فيه ،نستبق إليه لنحصل عىل حظ أقل من القهر.
106
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
“تشطرين الحرب نصف ٌ ير ّد ُد ..كل مطلع قهر: (العني بالعني ...والطّفل بالطّفل) وآخر بالحب يض ّمد ّ ما أعطبته القذائف ..يف نوايانا فينام قرير القلب يف حدقة ...أنثاه” (تيسري نارص)
بني الشعر والفيس بوك
وينتقل الشاعر من نص مختزل مكثف إىل نص أكرث رحابة يف مفرداته وصوره ،نص يحاول تجسيد صورة أو مشهد من مشاهد الحياة ولكنه يرتكنا أيضا أمام حرية السؤال وسعة الخيال .نص مل يجد متنفساً سوى صفحات الفيس بوك التي حرمته ألقه كام حرمته متلقياً متمحصاً يحاول الدخول إىل كنه النص والتفاعل معه .وحرمتنا أيضا حالة من التحليق يف فضاء نص آرس لطاملا متنينا أن نكون قائليه ،ولطاملا حاولنا أن نكون عىل قدره من التعبري واإلحساس.
“كيف لـنـا أن نكون اثنني وأنا ال أعرف سوى أنك أين، ((( وكيف للحيـاة أن تجعلك غريباً ،وأنت روح تعرفني أكرث مني” (أملى جاد)
ال أكرث من ذلك اختزاالً لتعريف الحب أو التامهي .نصل إىل الفكرة لنبقى يف حرية موضوعها الذي تعرفه الكاتبة وحدها ،أهو الله الذي يذوب فينا فيكوننا ونكونه؟ أم أنه معشوق لحالة حب تتملكنا؟ أم هو وطن ال نكون خارجه وال يحمل معناه إن أخرجناه منا؟
تذهب يف النسيان “وأنت ُ تذكّر أنّ عطري مازال يجري اآلن يف دمك” (أملى جاد)
هي األنثى الباقية التي لن يصل يوما إىل نسيانها مهام حاول ،هي قصة تطول الصفحات يف رشحها إن دخلنا يف متاهة الحب والتعلق والفقد والفراق والذاكرة ،اختزلتها الشاعرة بجملتني تفضيان إىل استحالة محوها من الذاكرة..
“الحزن أكرب من ٍ لص يتسلّل يف األعامق ِخلسة الحزن ..ق ّناص يصيب الروح مبهارة” (أملى جاد)
لنا أيضاً أن نكتب صفحات يف تعريف ورشح أحزاننا وأسبابها ونتائجها ،بينام تومض لنا الشاعرة بتعريف شدة يف االختزال للحزن بعبارة أدبية وصورة مختلفة عن املألوف.
“هذا الشتاء قاس لعل ليايل الشتاء ج ّرحها الربد كثرياً ّ وهواء الشتاء يشبه الغياب ...يشبهني أناديك والريح تخدش صويت”! (أملى جاد)
الشاعرة ذاتها تخطو بنا خطوة من ومضتها إىل سعة أكرب يف الكالم ،فتقدم الصورة واالنفعال مبفردات أكرث فرمبا تصل بنا إىل تحديد أكرب ملوضوعها وتحاول تسليمنا مفتاح نصها بذلك.
“الحنني يف القلب كَحصان ال يرفع ساقاً إال ليضع أخرى” (بيسان خري بيك)
(((
https://www.facebook.com/alma779?fref=ts 2 https://www.facebook.com/bissan.kherbic?fref=ts 3
107
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
بني الشعر والفيس بوك
ذلك األمل الذي يتملكنا فال يرتك منا ذرة من جسد أو ذاكرة إال ويحتلها ،حني يتملكنا الحنني كان حصاناً تحفر دعسات أقدامه يف قلوبنا حلامً بعد آخر ،يف رؤية كاتبة النص أو لنقل مبتكرة الصورة ،أومضت لنا فاخترصت وأبدعت.
“ َيدُكَ يف َيدي صب فيِ من َبعه” (بيسان خري بيك) نَه ٌر يَ ُّ
تلك اليد التي تحولت نهرا ً ينتهي هديره يف تلك الكف التي تتلقى.
“عىل عتبة العامل أقف كالباب بعين ِه الثّاقبة و بيد ِه القصرية” (بيسان خري بيك)
كم من احتامالت املعنى يحمل ذاك النص املقتضب أهي باب عىل عامل مفتوح بال حدود أم أنه عامل يتجسد بقلب حبيب .أم هو رصيف الذكريات؟ أم؟ كم من التساؤالت يفتحها أمامك نص ما تعدى بضع مفردات فكان قصيدة طويلة يف احتامالته.
“أضع يدي عىل ورق ٍة بيضاء وأم ّرر القلم بني أصابعي ويف الرسمة كانت كفّي تُشبهني ِشبه جزير ٍة مفتوح ٍة لجهة القلب فقط” (بيسان خري بيك)
تخرج الشاعرة من املشهد الخاطف لرتسم مشهدا ً أرحب لك فيه أن ترى الصورة واضحة ،وترتك لك مساحة أيضاً يك تكون جزءا ً من الصورة .ويك تربهن أن من يومض يف إحساسه ليس بعاجز عن اإلطالة فهو ميتلكها أنىّ شاء فرد املساحة األوسع لنا معرفة ولكنها املساحة األقل خياالً.
“جاء الوقت ضَ يقاً هذه املرة ((( ِ ال أنا َعربت ِ إبعادك َعني” (محمود الشاعر) إليك وال القدر نَجح يف
كأن الوقت ضيف يحل بتوقيت محدد فيخترص فيه الشاعر ضيق نفسه وجدران ذاكرته التي تحبسه فيها خارج وقت العامل الواقعي.
“كَم َمىض بِكَ الوقت إىل الال وقت قال :ال ُعشاق يَسكنون يف األبد َونح ُن َوقعهم يف َد ِم النور” (محمود الشاعر)
يبقى شاعرنا حبيس دائرة الوقت لكنه يحاول تجريب تأثري هذا الوقت فينا علنا نصل وإياه من خالل مفرداته إىل بقعة واحدة من اإلحساس فنمتزج مع نصه ووقته.
“مير الوقت قريباً من باب الغد يقف وحيداً دون صديق وﻻ حبيبة وحيد مثل شجرة التل الذي شهد الحب والحرب وحيد كزهرة يف كتاب
https://www.facebook.com/MahmoudD.maher?fref=ts 4
108
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
بني الشعر والفيس بوك
ينتصب الوحيد أمام الغد كفنجان قهوة عىل طاولة سلب املوت كرسيها” (محمود الشاعر)
ينتقل بنا الشاعر من ومضة إىل خاطرة لكنه يبقى يدور يف حلقة الوقت فيوحي لنا بضيقه يف وجهه وإحساسه بقرب املوت منه يف كل لحظة ،ينتقل إىل الخاطرة ليقدم لنا رشحا عن نفسه املرصودة يف انفعاالت النص ومفرداته.
“أين يهرب النوم يف عتمة الليل ...أيعقل أن يبقى الحلم مستيقظا يف انتظاري؟؟” (قاسم مصطفى الربباري)
(((
وهل ينام الحلم أصالً؟ أو أنها تلك األعذار التي مننحها ألحالمنا حني تهجرنا ومتيض؟ وهل هو الحلم الذي يزورنا يف النوم؟ أو هو الحلم الذي مينحنا الحياة ونحن ننتظر املوت عىل رشفته؟
“وقف القلب خاشعاً لذكرى ...علها تكون صالتُنا األخرية” (قاسم مصطفى الربباري)
أ َو نستطيع ختم باب القلب يف وجه الذكرى؟ أم هي أمنيات ال تتحقق ونبقى دامئي الصالة لذكريات مرت؟
“عندما يلملم النهار ضجيجه ويرحل أتجول بني األزقة أزرع أوراق أحالمي علها تكرب وحدها فتتحقق” (قاسم مصطفى الربباري)
مير أحدنا فرياه كالماً عادياً سطر عىل وجه صفحة الكرتونية ومييض رمبا دون أن يلتفت أننا حقاً نزرع األحالم. نزرعها يف دواخلنا ،يف شوارع من نحب ،ويف أزقة األمكنة التي نعشق ،األحالم أيضا تكرب ،وتنتظر املطر. تبقى الفروقات قامئة بني شاعر وآخر ،فهناك من يكتب ليصلك إحساسه فيبدع يف اإليصال ،ومنهم من يكتب فيبهرك بصوره املحبوكة كمشهد مرتامي األطراف واألبعاد .لوحة لك فيها أن تذهب بخيالك وتخرتع معادالً للنص يف نفسك ،فيدهشك ومينحك فضاء أكرب مع النص من نص واضح املعامل والحدود. لنا اآلن أن نرى فضائل الفضاءات اإللكرتونية عىل نصوصنا املستلقية هنا وهناك ،فقد حصل النص عىل رسعة أكرب يف االنتشار والتلقي وعىل فضاء أوسع من صالة لإللقاء يف مدينة أو بلد .ورغم الظلم الواقع عىل ذاك النص والشاعر ،فكم من احتامالت تدمري صفحة ضمت كل خلجات وتاريخ صاحبها لتتحول من تأريخ إىل ممحاة؟ لنكن إذن ذاك العشب الذي تنهمر فوقه قطرات ندى هؤالء الشعراء فيلتمع خرضة وامتناناً لحاالت عميقة من اإلحساس خلقوها فينا ،وليغفروا لنا أنهم ما وجدوا منربا ً يستحق وقع خطا كلامتهم وإحساسهم .ولنكن تلك املساحة البيضاء أمامهم ليصبوا فيها ومضاتهم فيكون خيالنا القصيدة.
https://www.facebook.com/qassem.moustfa 5
109
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
فيكتوريوس بيان شمس❊
كمعبر عن تفاوت الصراع السينما ّ اخلالصة:
الربح ،هو واحد من الغايات األساسية لصناعة السينام ،ومضمون العمل السيناميئ ،غاية أخرى، ورشط أسايس من رشوط وصوله وتسويقه .والسينام كغريها من الفنون التي تتفاعل مع الواقع ،تأخذ منه ،وتساهم يف بناء ورفع سوية الوعي والثقافة املجتمعية .تعبرّ األعامل التي نوقشت-يف هذه الدراسة -عن طرق مختلفة يف عالج قضية واحدة ،ما زالت الشعوب العربية ترزح تحت تأثريها إىل اليوم .املسألة األساس فيها ،أن كل عمل عالج هذه القضية من زاوية تتوافق ليس فقط مع رؤيته، بل مع مصالحه أيضاً ،عدا عن أنّه حاول التوفيق بني الرشطني السابقني ‘الربح ،واملضمون’ .هذا ما برز بوضوح يف األعامل الثالثة التي نوقشت .فـ ‘الطريق إىل إيالت’ حاول من خالل الرسد والتصوير والتوصيف كلغة مفهومة للرشيحة العربية األوسع واألبسط ،تبييض صفحة النظام العريب يف طور الهزمية التي تعاين منها األ ّمة العربية ،من خالل ‘عملٍ بطو ٍّيل’ ال يخلو من التشويه امليلودرامي الذي فيلم له مهم ٌة محدّ د ٌة واحدة :تضليل وصل حدود التزوير والدمياغوجية يف مشاهد كثرية ،وهو ٌ ٍ كرشط الستمرار النظام .أما الفيلم اإليطايل ‘الحياة حلوة’ فقد حقّق الرشطني ‘الربح، الوعي العريب واملضمون’ بلغ ٍة أيديولوجي ٍة متعدّ دة املعاين ،تخاطب كل واحد ٍة منها جمهوراً مختلفاً عن اآلخر .بينام صيغ فيلم ‘الزمن الباقي’ بطريق ٍة قلّام ا ْع ُت ِمدَ ْت يف السينام العربية .حاول فيه مخرجه توصيف القضية الفلسطينية بطريق ٍة ذكية ،لكنها جاءت بلغ ٍة واحد ٍة مليئ ٍة بالرموز والدالالت التي قد تستعيص عىل املشاهد العريب العادي .وقد بدا الفيلم وكأنّه يستكمل ما انتهى عنده روبريتو بينيني يف فيلمه ‘الحياة حلوة’؛ أي نشوء إرسائيل بزوال فلسطني .إذاً ،لعبت السينام دوراً جوهرياً يف بناء الوعي تجاه قضايا الشأن العام تارةً ،وتشويهه تار ًة أخرى ،فكانت كسالحٍ ذي حدّ ين ،يؤدّي الغرض ملن أحسن استخدامه. يف الحالتني كان املشاهد العريب ضحيتها كام هو ضحية واقعٍ بات يسعى لتغيريه .هل ستنتج الحركة منسجم مع وعي املشاهد العريب؟ هذا مرهونٌ الثقافية العربية سينام أخرى تعبرّ عن واقعها بشكل ٍ ٌ وعي ممكنٍ آخر ،ألن الواقع يحدّ د لبناء السائد، ومرشوط بقدرتها عىل تغيري واقعها ،أي هدم الوعي ٍ الوعي وليس العكس ،فالوعي الجمعي العام يختلف يف طور النرص ،عنه يف طور الهزمية .هذا ما يفسرّ اله ّوة الثقافية التي تل ّمسنا بعضاً من آثارها يف بضعة أعامل سينامئية. ❊ كاتب سوري مقيم يف القاهرة منذ أواسط العام 2012بعد أن انتسب إىل ‘ائتالف اليسار السوري’ .عمل يف صفوف ‘اتحاد الشباب الدميقراطي السوري’ منذ العام 1995وحتى ،1998ثم يف ‘الحزب الدميقراطي الشعبي’ يف لبنان منذ العام 1999وحتى أواسط العام 2011حيث تركه بعد أن اتّخذ الحزب موقفاً مؤيّدا ً للنظام السوري .درس العلوم السياسية واإلدارية يف الجامعة اللبنانية ببريوت ،وله مساهامت يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع السورية والعربية.
110
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
مقدمة بَ َنت إرسائيل بعد نشوئها يف العام 1948كيانها السيايس عىل مجموعة من األساطري ،واألوهام الدينية التي تعترب اآلخرين ‘أغيار’ ،سخّرهم الله لخدمة بني إرسائيل ،سعى الكيان عىل وقعنة وترسيخ مجموعة من الشعارات: ‘فلسطني أرض بال شعب ،لشعب بال أرض’ ،وبحسب الرواية التلمودية“ :حدودك يا إرسائيل من الفرات إىل النيل” .وقد حرص هذا الكيان عىل تقديم منوذج ‘حضاري دميقراطي’ يف منطقة تحكمها نُظُ ٌم استبدادية ،ستثبت األحداث الالحقة يف املنطقة حاجة هذا الكيان لهذه األنظمة ،بدليل ترصيح رئيس وزراء العدو السابق ايهود باراك إبّان قيام الثورة املرصية“ :بيننا وبني مرص اتفاقية ،لكن فيام بيننا وبني النظام السوري تفاهم غري معلن ضمن حدودنا لعقود طويلة” ،وهو ما أكّده يف بداية األحداث يف سوريا ،ترصيح رامي مخلوف ابن خال بشار األسد ،وواجهة النظام املافيوية االقتصادية عندما قال يف 11أيار “ :2011أمن إرسائيل ،من أمن سوريا”! إذا ً ،مصالح وجودية متبادلة بني كيانات كانت تبدو متعادية ،ثبت الحقاً أن وجود إحداها رشط لوجود األخرى ،ال تقوم إال بها .لكن كيف يُرتجم هذا عىل صعيد الثقافة والفنون واألدب ،وهي األلوان األكرث تأثريا ً يف الوعي الجمعي العام؟ منذ العقد األخري من القرن املايض وإىل اليوم ،تشهد ساحتنا الثقافية واألدبية هجمة سينامئية رشسة ،ذات هويات قومية/لغوية متع ّددة ،تسعى بشكل حثيث لتبييض صورة إرسائيل ،عرب أفالم مزدوجة اللغة ملا تحويه من رسائل متع ّددة تخاطب ع ّدة مناذج من العقول .والسينام ،مثلها مثل باقي الفنون ،الرسم واملوسيقى واملرسح والرواية والقصيدة واألغنية وغريها ،قامئة عىل قاعدة بسيطة ساذجة مفادها أن ‘الفن لغة العامل’ ،وهي لألمانة لغة خطرة عابرة للعقول والقلوب ،تستطيع أن تفعل وتؤث ّر ،أكرث بكثري من فعل املدافع والطائرات.
111
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
فيلم ‘احلياة حلوة’ ويف تدليلنا عىل ذلك نبحث يف فيلم إيطايل للمخرج واملمثل الشهري ‘روبريتو بينيني ،’Roberto Benigni عنوانه ‘الحياة حلوة .’Life is Beautifulيقع الفيلم يف ساعة وستة وخمسني دقيقة ،وقد كلّف إنتاجه 2 مليون دوالر أمرييك ،وهو أعىل رقم يسجله إنتاج فيلم سيناميئ إيطايل حتى اليوم ،ساهمت يف إنتاجه رشكات إيطالية هي‘ :ميالمبو سينيامتوغرافيكا ’Melampo Cinematograficaو‘مجموعة غيتيش غوري Gecci Gori ُ .’Groupعر َِض الفيلم عام .1997واملفارقة ،أنه عرض يف حوايل 30دولة ليس منها إرسائيل ،وس ّجل أرباحاً فاقت 230مليون دوالر. يتح ّدث الفيلم الذي رشّ ح لسبع جوائز ‘أوسكار’ ونال منها ثالث ،عن شاب يهودي إيطايل يُدعى ‘جويدو ،’Guidoيغادر مدينته يف فرتة الحرب العاملية الثانية مع صديقه إىل مدينة أخرى يعيش فيها ع ّمه الذي ميلك فندقاً فاخرا ً فيها ،ليعمل عنده كنادل .ويف الطريق إىل املدينة تتعطّل سيارته ،وبينام يصلحها صديقه يذهب إىل مزرعة قريبة لغسل يديه ،فتسقط سيدة تدعى ‘دورا ’Doraمن أعىل سطح املزرعة ليتلقّفها جويدو بني ذراعيه، ويعالجها من لسعات تع ّرضت لها .وبحوار رسيع ،ع ّرف عن نفسه بالـ ‘أمري’ ،كام خاطب السيدة الشابة دورا بالـ ‘أمرية’. غادر جيدو املزرعة محمالً ببعض بيض الدجاج كعربون اعرتاف عىل ما فعله .ثم بعد الوصول إىل املدينة والعمل فيها ،يحاول الشاب الحصول عىل رخصة إلنشاء مكتبة ،فيتعثرّ بإجراءات روتينية تعيقه بعض اليشء، ليكون البيض الذي يف جيوبه ر ٌّد قدري عىل كل من يتسبب يف تعثرّ ه .هذا ما حدث مع أحد موظّفي البلدية الذين امتنعوا عن توقيع طلبه إلنشاء املكتبة. والفيلم بدقائقه الــ 116ال يخلو من املواقف القدرية الكثرية التي ترمي بجويدو بأحضان دورا كيفام التفت، فها هو يقع عليها أثناء هروبه عىل دراجة هوائية من أحدهم عند أحد املفرتقات ،وال يوفّر فرصة انتحال شخصية مفتش الرتبية ليزور املدرسة التي تعمل بها ،أو لقاء بالصدفة يف ساحة عا ّمة .مواقف كثرية من هذا النوع يتخلّلها الفيلم. أ ّما دورا ،والتي كانت مخطوبة ألحد الضباط الفاشيني يف تلك الحقبة ،فقد بدأت تبادل جويدو املشاعر لدرجة أنها طلبت منه يف الحفلة املقامة بفندق عمه أن يختطفها ،وهذا ما حدث فعالً عىل حصان ع ّمه الذي كتب عليه الفاشيون عبارات مسيئة لليهود بعد أن صبغ باللون األخرض .تزوج جويدو من دورا ،وأنجبا ‘يوشع ’Joshuaالذي يحلم بدبابة حقيقية ،ثم افتتح مكتبته ،إال أن الفرحة مل تكتمل ،فاعتقل جويدو وابنه ،واقتيدوا إىل معسكرات العمل الشاق الفاشية ،النتظار مصريهم .عندما اكتشفت األم دورا ما حدث ،اتّخذت قرارها ولحقت بهم لتشارك زوجها وابنها املصري ذاته. لح الطفل يوشع باألسئلة عىل أبيه ،يريد أن يعرف إىل أين يذهبون ،وملاذا .ومبا أنّه كان وحيد أباه الذي يُ ّ يخاف عليه من معرفة الحقيقة ،يقنعه الوالد بأنهم ذاهبون ليلعبوا لعبة قاسية بعض اليشء ،لكن الرابح فيها سيحصل يف النهاية عىل ما يريد ويحلم ،والطفل هنا يحلم بالدبابة .واقعان يُعاشان يف نفس املكان؛ واحد حقيقي، يعاين فيه األب ما يعاين يف املعسكر الفايش .وآخر وهمي ،يحاول جويدو أن يص ّوره البنه إلبعاده عن هذا الواقع املرعب الذي آلت حالهم إليه. يتعلّق جويدو باآلمال مهام كانت ضعيفة أو شبه معدومة ،يراهن عىل الضابط الفايش الذي كان يخدمه يف 112
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
مطعم ع ّمه قبل االعتقال ،إال أن كل آماله تبخّرت أمام سطحية الضابط ،وأنانيته ،ونرجسيته ،التي مل تستطع أن تخرج إىل الفضاء اإلنساين األرحب ،ليشعر مبأساة هذا النادل املعتقل. فجأة يشعر املعتقلون بأن شيئاً ما يحدث يف الخارج ،ليتك ّهن البعض بأن الجنود يقومون بتصفية بعض املعتقلني متهيدا ً ملغادرة املكان .يخرج جويدو وابنه لعلّه يجد زوجته ليهربوا معاً ،فيخ ّبئ ابنه يف مكان ما يف ساحة املعسكر ،ويبدأ بالبحث منفردا ً ،وعندما اكتشف أمره ،اقتيد من قبل جندي إىل حتفه ،حيث قتل بكل بساطة. مع انبالج فجر اليوم التايل ،كانت ساحة املعسكر خالية متاماً ،إال من بعض الفوىض والدخان ،خرج الطفل من مخبئه ليفاجأ بدبابة أمريكية تقتحم ساحة املعسكر ،ثم ينقله جندي عىل ظهر هذه الدبابة التي ظهرت له وكأنها الحلم املوعود الذي تحقّق إىل أمه خارج املعتقل ،وليرصخا معاً“ :انترصنا”! يف نقاش الفيلم هذا هو الفيلم باختصار .والسؤال هنا :ما الرسالة التي حاول الفيلم إيصالها؟ عنف الفاشية مثالً؟ إظهار املأساة اليهودية ‘الهولوكوست’؟ حالة إنسانية تتعلّق بعائلة خاضت تجربة قاسية؟ الفيلم يحتوي كل هذا ،عدا عن ذلك فإن هذه األفكار وصلت عرب العديد من األعامل سواء السينامئية أو غريها ،وسيصبح من االبتذال تكرارها بفيلم ضخم لروبريتو بينيني. املسألة بحاجة لعني تستطيع اخرتاق ما يستبطن الفيلم من رسائل أيديولوجية عميقة ،فهو عمل مغرق كل حسب فهمه ،إضافة إىل أن هناك عامل آخر يتحكّم بالرموز والدالالت الهامة ،ويخاطب أكرث من رشيحةٌّ ، بصناعة السينام ،وهو عامل الربح .مبعنى :أن العمل الناجح ،هو العمل الذي يستطيع التوفيق ،بني مسألة الربح، ومسألة الرسالة السياسية املو ّجهة للنخبة ،التي قد تكون مغلّفة مبظهر إنساين يستطيع الوصول لكل الفئات والرشائح الثقافية. يف املعنى الثاين أ ّدى الفيلم رسالته متاماً ،أي أنّه استطاع استجالب التعاطف مع حالة إنسانية ،خيضت يف تلك لب املسألة يكمن يف الشق األول ،أي بالرسالة السياسية املو ّجهة للنخبة. الحقبة فعالً .لكن ّ يلُ ُم مشهد دخول الدبابة األمريكية شعث الفيلم كله ،عىل طريقة الخطف الخلفي يف كتابة األدب ،أي أن مفتاح فهم الفيلم ،يبتدئ من هنا .ماذا لو حملت القوات املقتحمة لساحة املعسكر العلم الربيطاين ،أو الفرنيس، أو الرويس ،أو أي من دول الحلف آنذاك؟ هل سيتغيرّ معنى الرسالة التي أراد مخرج العمل إيصالها؟ باإلجابة عىل هذا السؤال املفتاحي يتح ّدد املعنى الحقيقي للعمل ،ففي مرحلة أفول نجم بريطانيا عن منطقتنا ،سطع نجم الواليات املتحدة األمريكية ،مع أنهام خاضتا الحرب العاملية الثانية وانترصتا معاً! بالعودة لشخصيات الفيلم الرئيسية ،حاول املخرج تصوير األب جويدو عىل أنّه الشخصية األكرث تعقيدا ً وتركيباً ،فهي متثّل املايض اليسء لليهود يف تلك الفرتة من الحرب العاملية الثانية .أي املايض الذي سيعاين املأساة بكل تفاصيلها ،وهو املايض الذي ما فتئ القدر يرميه عىل تلك األمرية الجميلة ،وأحياناً يرميها عليه ،إنّها أرض رصح شمعون برييز يف العام 2008يف الذكرى الـ 60لتأسيس الكيان“ :إرسائيل الحلم املوعودة ،هناك حيث كام ّ الستني من عمرها” .إنها أرض فلسطني التي منها انطلقت كل دولة ولدت منذ ثالثة آالف عام ،وهي اليوم يف ّ املزاعم واألساطري .وجويدو هو املايض الذي كان ينتج بالتزاوج مع تلك األرض ذاك الحلم ،والحلم هنا هو ذلك االبن الربيء الذي يبحث عن مستقبل يتوقعن فيه .نتج عن املأساة وعاشها ،وكان املايض الذي مات مع موت 113
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
أوروبا الفاشية يخاطبه مطمئناً :ستنجو يا صغريي وتكرب ‘ستتوقعن’ .وهذا االبن يوشع يف حاجة لقوة حقيقية توصله إىل بر األمان بانتهاء املأساة ،بحاجة لتحقيق حلمه ،وها هو الحلم يتحقّق بانتهاء تلك الحقبة السيئة من تاريخ أوروبا ،ليخرج من ذلك التاريخ ،منترصا ً عىل ظهر دبابة ،هي وحدها الكفيلة بإيصاله ألحضان أمه بأمان. أليست “فلسطني أرض بال شعب ،لشعب بال أرض”؟ إذا ً ،طرح الفيلم قضية قيام هذا الكيان بطريقة ف ّنية غاية يف الذكاء واملكر والدهاء ،تستجلب العطف وتوصل الرسائل بلغتني ،تغلّف إحداها األخرى ،واحدة إنسانية بسيطة ،واألخرى أيديولوجية معقّدة .لكن ،هل استطاعت السينام العربية تقديم يشء يضاهي ما طرحه روبريتو بينيني؟ سنأخذ هنا منوذجني ،واحد فلسطيني ،واآلخر عريب، علّنا نتل ّمس شيئاً. يف السينما الفلسطينية يف العام ُ ،2009عرض يف ‘مهرجان كان’ السيناميئ الـ 60فيلامً للمخرج الفلسطيني إيليا سليامن ،الذي شاركت يف صناعته مجموعة كبرية من رشكات اإلنتاج ،فمن فرنسا ‘ ’Film Theو‘ ’Nazira Filmsو‘،’France 3 Cinema ومن بلجيكا ‘ ،’Artemis Filmsومن اإلمارات العربية املتحدة ‘ ،’MBC Groupإضافة إىل دعم من رشكة ‘ ’Programme MEDIA de la Communaute Europeenneالتابعة لالتحاد األورويب. يقع فيلم ‘الزمن الباقي’ يف ساعة وأربعة وأربعني دقيقة ،ويؤرخ لنكبة العرب يف فلسطني العام 1948 من خالل عائلة املخرج نفسه ،وهي عائلة مسيحية من مدينة النارصة ،تشهد عىل عمليات اقتحام املنظّامت الصهيونية ملدينة النارصة وتهجري سكّانها إىل الدول العربية املحيطة بفلسطني ،وكيف أمىض رئيس بلدية هذه املدينة وثيقة االستسالم مبباركة دينية من جميع املرجعيات التي كانت موجودة يف املدينة .جرى هذا بعد انكسار القوات العربية املشاركة يف الحرب وانسحابها منها .قاوم من بقي يف النارصة بقدر استطاعتهم ،ومنهم فؤاد سليامن والد املخرج ،إىل أن تغيرّ ت األحوال بعد سنوات بحيث حاز فؤاد سليامن عىل رخصة صيد من سلطات االحتالل ،وتف ّرغ لعمله يف ورشته وعائلته. بدأ ابنه يكرب ،وتغيرّ ت طرق النضال .فام عجز عنه الكبار ،حاول أن يوجده فؤاد بابنه إيليا ،ت ُدلّل عىل ذلك مشاهد توبيخ أستاذ املدرسة إليليا الذي كان يتح ّدث لزمالئه عن ‘اإلمربيالية األمريكية’ ،ليسأله األستاذ موبّخاً: “من قال لك أن أمريكا إمربيالية؟! ثم كيف تتح ّدث بهذه األمور يف املدرسة؟!” .يكرب فؤاد سليامن ويكرب ابنه معه، إىل أن ميرض وميوت ،ليكمل إيليا الطريق .من هنا يعرض الفيلم ملرحلة جديدة كان فيها إيليا مسافرا ً ،ثم عاد إىل أرض الوطن ،ليكمل حياته مع أمه التي كانت يف آخر سنوات حياتها ،يتناهشها املرض. يذهب إيليا يف رحلة استطالعية إىل مدينة رام الله يف الضفة الغربية ،ليجد أن الناس تعيش حياة عادية، تذهب إىل الحانات واملراقص ،تتعايش مع مواجهة االحتالل بشكل روتيني ،فال الدبابة تخيفهم ،وال تحذيرات دوريات االحتالل التي ترصخ عرب مكربات الصوت معلنة عن بدء حظر التجول تثنيهم عن الرقص يف املالهي الليلية التي يرتادونها .لكن إيليا يصطدم بالجدار العازل بني الضفة وبقية فلسطني التاريخية ،الذي يسهل القفز من فوقه عرب خشبة الزانة .هذا هو الفيلم باختصار.
114
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
يف نقاش الفيلم حاول إيليا سليامن أن يؤ ّرخ الحتالل فلسطني بطريقة ذكية ،بحيث أخذ عائلته منوذجاً لتمرحل األحداث يف بقعة صغرية ،هي مدينة النارصة .يعرض الفيلم الهروب املخزي لكتيبة عربية بعد أن تركت ثيابها العسكرية يف الطريق ،لرتتديها عنارص عصابة ‘الهاغانا’ الصهيونية ،وتعود للمدينة التي خُدعت بهم ،فاستقبلتهم ‘بالزغاريد’ والتي رسعان ما اكتشفت ،أن النعجة ليست سوى الذئب الذي انتزع جلدها ،ليتق ّنع به. حاول الفيلم إظهار حالة من التعايش الحذر بني سكان البالد األصليني ،واملحتلّني الجدد .فاملحتل الجديد أصبح يتذ ّوق التبولة ،وقد يعمل خادماً يف بيتك .ثم أن رشطي املرور عندهم أصبح كرشطي املرور يف عاملنا العريب، مي ّرر من يريد ،ويوقف من يريد .إضافة إىل أن الناس يف أرايض 1948أصبحت متعايشة مع االحتالل وقوانينه وثقافته ،بحيث أنّك ترى مجموعة من التالميذ العرب يغ ّنون يف مدرستهم لذكرى استقالل إرسائيل رافعني أعالمها بأيديهم ،يجري هذا بحضور املسؤولني الرتبويني اإلرسائيليني. أسقط إيليا سليامن بعض الخطابات الحامسية للرئيس الراحل جامل عبد النارص عىل بعض املشاهد األشد هدوءا ً يف النارصة ،يف محاولة سوريالية إلظهار الصخب الخارجي املتزامن مع هدوء داخيل ،ربمّ ا يكون نابعاً عن عجز ،أو يأس أو إحباط طال املجتمع الداخيل بر ّمته. يف القفزة الزمنية املمت ّدة من لحظة اختفاء الوالد فؤاد سليامن عن مشاهد الفيلم ،إىل اللحظة التي ظهر فيها إيليا كشخصية رئيسية تكمل ما تبقّى من دقائق الفيلم بصمت مطلق .غيّب املخرج مرحلة مهمة ج ّدا ً ،وهي مرحلة السبعينيات من القرن املايض والتي شهدت حرب أكتوبر من العام ،1973وهي الحرب التي بنى عليها النظام السوري منظومة تسلّطه وتحكّمه باملجتمع السوري ،ال بل واملجتمع اللبناين الذي مزقّته الحرب األهلية بعدها بسنوات .أ ّما عىل الجانب املرصي ،فام زال النظام إىل اليوم محكوماً باتفاقية ‘كامب ديفيد’ التي كانت سبباً يف عزل مرص عن محيطها العريب لسنوات طويلة ،وقد قيّدتها بسالسل االتفاقيات املجحفة التي وقع الشعب املرصي ضحيتها إىل اليوم. إذا ً ،يظهر فجأة إيليا الصامت ،ليق ّدم له رشطي إرسائييل طبق التبولة مرحباً بعودته ،ويهتم بشؤون منزلهم، ثم يعود إيليا ليجلس مع أصدقائه عىل نفس املقهى الذي كان يجلس والده عليها ،قبل النكبة وبعدها .ثم يزور الضفة الغربية ليتعرف عىل واقع آخر مغاير ،واقع تأث ّر باملتغيرّ ات الخارجية ،بحيث سيطرت عليه ثقافة أخرى ،أخذت جيل الشباب من بعد ات ّفاقية ‘غزة-أريحا’ يف 13أيلول/سبتمرب 1993ليتشابه مع جيل الشباب يف محيطه العريب وغري العريب .إذ تغيرّ منط الحياة ،وطرق النضال ،وأصبح التعاطي مع االحتالل عىل أنه سلطة يجب مناهضتها ،وليس احتالالً تجب مقاومته. هذا ال يعني أن روح التح ّدي ،أو املواجهة قد خفتت ،بدليل مشهد الدبابة الرابضة عىل باب أحد البيوت، تحرك مدفعها عىل ساكن البيت كيفام التفت ،لكن التعامل ما بني الصهاينة والفلسطينيني ،أخذ شكالً آخر ،له عالقة باملتغيرّ ات ،متأثرا ً ،ومؤثّرا ً بها. ومن خالصات الفيلم املهمة التي يستطيع املشاهد استنتاجها :االختالف الثقايف والدميوغرايف والنضايل بني عب عنها جدار الفصل العنرصي أميا تعبري. ‘فلسطني ،’1948و ‘فلسطني ’1967والتي رّ الفيلم ذيك ،وميلء كسابقه بالرموز والدالالت التي استخدمت يف مكانها الختصار عقود من الزمن بحبكات ‘ميلودرامية’ تجمع بطريقة موفّقة ما بني البساطة والتعقيد ،وكأنه تكملة ملا بدأه فيلم ‘الحياة حلوة’ لـروبريتو 115
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
بينيني ،فهو يؤ ّرخ للمرحلة التي انتهى عندها هذا الفيلم ،ليبدأ فيلم ‘الزمن الباقي’ بتكملة الحكاية التي كانت رشحاً وتفسريا ً وتربيرا ً للواقع الفلسطيني الجديد ،أكرث منها وعظاً وإرشادا ً ،أو ادعاءا ً لبطوالت سينامئية فارغة من أي مضمون .هذا عىل الجانب الفلسطيني ،لكن ماذا عن الجانب العريب؟ السينما العربية قلنا سابقاً أن للسينام غايتني ال تنفصالن عن بعضهام ،واحدة تتعلّق بالربح ،واألخرى تتعلّق مبضمون امل ُنتَج، الذي يجب أن يتناسب وذوق املستهلك .والسينام يف بالدنا ،مثلها مثل باقي الفنون ،تخضع ملواصفات تح ّددها الطبقات السائدة ،أي الحاكمة .ولهذا ،سيكون أي إنتاج عريب خالص محكوم بالرتويج لرؤية السلطة التي ال تنهزم وال تكرس يف الرصاع مع العدو ،مثالنا عىل ذلك الفيلم املرصي الشهري ‘الطريق إىل إيالت’ الذي عرض للمرة األوىل يف العام ،1993للمخرج املرصي إنعام محمد عيل ،ومن إنتاج قطاع اإلنتاج املرصي ،وهو قطاع حكومي .بتكلفة غري معروفة عىل وجه الدقّة. يتح ّدث الفيلم عن عملية عسكرية نوعية تتطلّب خربة من نوع خاص ،لن يستطيع تنفيذها سوى رجال الضفادع البرشية ،وقد كلفت مجموعة مرصية بالتد ّرب عىل الغوص ملسافات طويلة لرضب ثالثة أهداف إرسائيلية هي :ناقلة الجنود ‘باتشيفع’ ،وناقلة العتاد ‘باتيام’ ،والرصيف الحريب مليناء مدينة إيالت. تتخلّل العملية صعوبات كثرية ،يستطيع الفريق التغلب عليها ،ومن ثم ينفّذ ما ذهب من أجله ،تظهر يف الفيلم شخصية أبو هاين الذي يبدو كأحد املتعاملني مع ‘األمن املرصي’ وهو يساهم يف تسهيل تلك العملية، بحيث يظهر مع الجنود يف مرص ،واألردن قبل التنفيذ .ويظهر أيضاً بعض الفدائيني الفلسطينيني ،يواكبون العنارص املرصية حتى لحظات ما قبل انطالق العملية. احتوى الفيلم عىل مشاهد إلثارة املشاهدين ،كمشهد مت ّدد الصاعق ،مماّ اقتىض حفّه من قبل أحد الضباط املرصيني ليتمكّنوا من إدخاله يف ‘التوربني’ املتف ّجر ،عدا عن مشاهد عاطفية من قبيل ضعف أحد الجنود املشاركني ،والذي انهار عندما علم يف اللحظات األخرية مبضمون العملية. يف نقاش الفيلم غرق الفيلم ،الذي حقّق نجاحاً باهرا ً باملبالغات التي وصلت حد التزوير ،فأبو هاين الذي ُه ّمش دوره يف العملية ،هو وديع ح ّداد ابن صفد الفلسطينية املتويف يف أملانيا الرشقية عام ،1978والذي ناضل يف صفوف ‘حركة القوميني العرب’ ثم يف ‘الجبهة الشعبية لتحرير فلسطني’ التي أسست عام 1967مع رفيقه جورج حبش الذي توفيّ يف عامن عام .2008ووديع حداد هو ذاك الطبيب الذي كتبت عنه ‘الواشنطن بوست’ عند وفاته معنون ًة صفحتها األوىل بوصفه“ :الطبيب الذي قبض عىل مطارات العامل ذات م ّرة”. كان وديع حداد ع ّراب املنظامت الثورية التي قاتلت من أجل فلسطني‘ ،كالجيش األحمر الياباين’ ،و‘مجموعة العمل املبارش الفرنسية’ ،و‘األلوية الحمراء اإليطالية’ ،و‘بادر-ماينهوف’ األملانية ،وغريها الكثري الكثري .كانت كل هذه املنظّامت تعترب هذا الرجل مرجعيتها ،وهو من كان يعلن عن العمليات التي تنفّذ ضد الكيان الصهيوين، وهو من يفاوض ملبادلة املخطوفني باألرسى .كان وديع ح ّداد رقامً صعباً يف معادلة الرصاع مع العدو الصهيوين الذي متكّن من اغتياله بالسمٍ ، وبأيد عربية. 116
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
إذا ً ببساطةُ ،ه ّمش هذا الرجل الذي أنجز العملية من ألفها إىل ياءها ،لكنه بكل بساطة بحسب الفيلم ،تعثرّ بحاجته لعنارص نوعية غري موجودة يف املنظماّ ت الثورية التي كانت تعمل تحت إرشافه ،لكنها موجودة بالجيوش العربية النظامية ،المتالكها للقدرات والتقنيات الالزمة ،فلجأ إىل الرئيس جامل عبد النارص حينها ،شارحاً له عن تفاصيل العملية ،فوافق الرجل فورا ً ومنحه الرجال القادرين عىل االلتزام التام بالتوجيهات إلنجاز ما هو مطلوب منهم .هذا مل يظهر يف الفيلم ،بل ظهر عكسه .باإلضافة إىل أن العملية بحسب رواة آخرين كانوا مقربني من أبو هاين ،نُفّذت بصواريخ محمولة عىل زوارق ،وليس كام جاء يف الفيلم! عدا عن ذلك ،فإن الطبيعة التسووية لألنظمة العربية فيام بعد مرحلة الرئيس عبد النارص ،ما كانت لتقبل بنوعية العمل الذي قام به وديع حداد (أبو هاين) ،وهو عمل يقطع عليها كل خطوط التسوية والتفاوض ،مع عدو يجب أن يُحافظ معه عىل حالة ‘الال حرب ،والال سلم’ كإسرتاتيجية لبقاء واستمرار هذه األنظمة .وبناء عليه، تم تزوير الفيلم مبا يتناسب مع ما تطرحه هذه األنظمة من ا ّدعاءات عن انتصارات وهمية حققتها جيوشها عىل إرسائيل. لقي هذه الفيلم ترحيباً جامهريياً ،ال ألنه صادق ،فالجيل الجديد ال يعرف من هو وديع حداد وماذا فعل، حيث هنا بالضبط يكمن هامش التزوير .أُعجب الجيل الجديد بالفيلم ،كإعجابه بأي عمل يهاجم العدو ،سواء كان سينامئياً ،أو مرسحياً ،أو غنائياً ،أو ‘عملية استشهادية’ أو أي يشء من هذا القبيل. مطلوب من السينام ،كام غريها ،أن تغرس يف عقول الناس وهامً مفاده :هذه األنظمة مل تتخىل عن فلسطني. وهكذا ،فإن فيلم تعترب هذه غايته القصوى ،لن يق ّدم بالتأكيد سوى عمل رسدي وصفي ،يتخلّله التزوير لسببني: إضفاء عامل اإلثارة ،وتبييض صفحة النظام العريب .والسينام العربية ال تغامر ،فعامل التشويق مطلوب ،وإن كان رشطه التزوير .وإال ،كيف يُس ّوق عمل يبتغي الربح؟ يف اخلامتة استحرضنا يف نقاشنا لفيلم ‘الحياة حلوة’ للمخرج واملمثل اإليطايل الشهري روبريتو بينيني منوذجني من األفالم العربية واحد فلسطيني ،واآلخر عريب مرصي ،لعلّنا نستطيع مقاربة أساليب ونتائج هذه الصناعة .يعنينا هنا بالطبع ،مسألة فلسطني برشح وتفسري مسألة االحتالل والتحرير .فام أظهره الفيلم اإليطايل ،هو وقعنة األسطورة، عب عن تحقيق الحلم اليهودي بطريقة ذكية جعلت املشاهد العادي يتعاطف وهي واقعة بالفعل ،أي أنّه رّ كل عىل طريقته ،وهذا هو ويتفاعل معها ،سواء كان عربياً أم غري ذلك .تفسري للتاريخ عىل طريقتهم ،يفهمه ٌ املطلوب. أما إيليا سليامن فقد حاول أن يظهر املايض برسد مر ّمز ،لي ّربر ما آلت إليه الحال ،أي أنّه فسرّ مسألة الهزمية والتعايش مع العدو بطريقة ذكية .يبقى أن هناك مأخذ مهم عىل هذا الفيلم ،أنّه أغفل مسألة العمل املقاوم، فيام حاول إظهار بعض جوانب االحتجاج السلمي ،بهذا يكون إيليا سليامن قد أغفل واحدا ً من أهم جوانب تلك الفرتة ،خاصة وأن الفيلم عندما عرض يف العام ،1997كان قد م ّر عىل االنتفاضة األوىل حوايل 10سنني .والسؤال :ما الجديد الذي أضافه هذا الفيلم؟ فعىل عكس ‘الحياة حلوة’ الذي أغرق يف الرموز والدالالت مبتعدا ً عن التفاصيل. غرق فيلم ‘الزمن الباقي’ يف التفاصيل املر ّمزة ،ومل يكن كسابقه اإليطايل مغلّفاً بلغتني ،إيليا سليامن تح ّدث بلغة واحدة لفئة واحدة ،أغلب الظن أنّه مل يكن مو ّجهاً للمتف ّرج العريب بشكل عام ،بل خاطب النخبة أينام كانت. 117
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
السينما كمعرب عن تفاوت الصراع
هل كان باستطاعته تج ّنب الرتميز؟ ربمّ ا ،لكن ذلك كان سيقتيض إطالة م ّدة الفيلم أكرث بكثري ،ألن الرتميز ساعد بشكل واضح عىل االختصار. أ ّما فيلم ‘الطريق إىل ايالت’ ،فهو إنتاج هيئة حكومية ،إذ ما املتوقّع من أنظمة عاملنا العريب سوى هذا اللون من األعامل امليلودرامية املبتذلة؟ هذا الفيلم أنتجته هيئة حكومية يف بلد محكومة بات ّفاقية ‘كامب ديفيد’، تعب عن يشء آخر .أنتجت تواطأت حكوماتها مع العدو يف حصار قطاع غزة .كانت ت ّدعي العداء ،بينام مامرساتها رّ أفالم كثرية يف الفرتة األخرية عىل منط ‘الطريق إىل إيالت’ ،فيلم ‘أوالد العم’ مثالً ،وهو فيلم ساذج مبتذل ،أقرب للخيال منه للواقع. ال ميكن ألي عمل سيناميئ ،أو ف ّني من أي صنف ،أن يز ّور واقعاً معاشاً ،وال أن يغيرّ ه .باستطاعة العمل الفني ويعب عن واقع ،هو ناتج عنه بقدر ما يؤث ّر فيه .هذا ينطبق عىل الفيلم اإليطايل ‘الحياة حلوة’ ،لكنه أن يدعم رّ أبدا ً ال ينطبق عىل ما ق ّدمته السينام العربية إال ما ندر ،كاستثناء يؤكّد القاعدة ،وهذا ينطبق عىل أفالم من منط ‘الزمن الباقي’ إليليا سليامن الذي جانب املنطق بتفاصيل تربيرية تفسريية كثرية.
118
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ياسمين حسين عيود❊
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري:
دراسة ميدانية يف التنوع الثقايف❊❊
اخلالصة: يهدف البحث إىل تعرف محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري وإىل تحديد املهام واإلجراءات املنوطة باألرسة لتعزيز هذه الهوية وأكرث هذه العوامل تأثرياً يف تشكيل شخصية الطفل املستقبلية وتأصيل الهوية الثقافية ،إضافة إىل إبراز دور الرتبية والتعليم يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خالل تقديم بعض املقرتحات واإلجراءات حول ذلك .وقد توصل البحث من خالل إجراءاته إىل أن املحددات الثقافية األكرث تأثرياً يف إطار األرسة هي كاآليت :الرتبية األخالقية املمثلة ملالمح املجتمع ،األغاين الرتاثية ،اللغة األم (العربية أو أي لغة أخرى يتحدث بها السوريون من رسيان وأرمن وآشور وأكراد) ،القصص والحكايا الرتاثية ،الحرف والصناعات اليدوية ،طقوس االحتفاالت واألعياد واألعراس .أما املحددات الثقافية األكرث تأثرياً يف إطار املؤسسات التعليمية (الروضة ،املدرسة) هي كاآليت: التنوع الثقايف والتعددية يف محتوي املناهج وأنشطة التعليم والتعلم ،ترسيخ مشاعر االعتزاز بالرتاث الثقايف السوري لدى األطفال ،ترسيخ الشعور الوطني يف وجدان األطفال بالتأكيد عىل أهمية دراسة التاريخ املشرتك ،تزويد األطفال مبعلومات وتجارب وخربات أصيلة عن الدول األخرى بثقافاتها املتنوعة ،وجود منهج معارص يخص باالهتامم منهج اللغة العربية ،الربامج الالصفية واملشاركة يف األعياد الوطنية .وقد خلص البحث إىل التأكيد عىل ربط الطفل بهويته الثقافية ولغته األم ،والرتبية عىل االنفتاح وتقبل اآلخر يف األرسة واملؤسسة التعليمية .تقدم املادة الحالية توطئ ًة نظري ًة ملحددات تشكيل الهوية ومنهج البحث ،عىل أن تتلوها أجزاء تنرش تباعاً يف األعداد القادمة من املجلة. ❊ ياسمني عيود باحثة ومدربة معتمد يف املجال الرتبوي والحقوقي ،مع تجربة واسعة يف اإلدارة والتعليم الحكومي الجامعي واملدريس .حاصلة عىل ماجستري يف تربية الطفل ،دبلوم الدراما يف سياق تعلمي ،دبلوم إدارة املوارد البرشية ،وتحرض حالياً لدرجة الدكتوراه .لديها العديد من األبحاث واملقاالت املنشورة. ❊❊ تم إعداد هذه الدراسة يف سياق نشاط ملؤسسة اتجاهات للثقافة املستقلة.
119
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
مقدمــة ت ُعد الهوية الثقافية حجر الزاوية يف تكوين األمم واملدخل األسايس لتحقيق التنمية البرشية يف أي مجتمع من خالل تكوين اإلنسان املنتج ،الواعي لقضايا أمته الراهنة ،الساعي لتقليص الفجوة بني الواقع الراهن وما وصلت إليه الحضارة اإلنسانية من تقدم وازدهار عىل مختلف األصعدة. وأما املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم تعترب أن الهوية الثقافية هي“ :النواة الحية للشخصية الفردية والجامعية ،والعامل الذي يحدد السلوك ونوع القرارات واألفعال األصيلة للفرد والجامعة ،والعنرص املحرك الذي يسمح لألمة مبتابعة التطور واإلبداع ،مع االحتفاظ مبكوناتها الثقافية الخاصة وميزاتها الجامعية ،التي تحددت بفعل التاريخ الطويل واللغة القومية والسيكولوجية املشرتكة وطموح الغد”( .اليونسكو ،2003 ،ص)111 ومبا أن الهوية الوطنية مدينة للثقافة التي أوجدتها ،فإ َّن الواجب األول للدولة ،إمنا يتمثَّل يف“ :تعزيز الهوية الثقافية التي ت ُكسب األمة مكونات هويتها الوطنية ،ويف ترسيخ حضور هذه الهوية يف مختلف مناحي الحياة واألنشطة اإلنسانية جميعاً ،ويف العمل عىل تنميق هذه الهوية نحو الكامل اإلنسا ِّين املمكن” (بسيسو،2005 ، ص.)12 فقد أثبتت غالبية الدراسات أن الفرد يبدأ يف إدراك هويته يف سن مبكرة ،وأن السن الطبيعي إلدراك الطفل لهويته القومية تبدأ ببلوغه 7-6سنني ،ويزداد إدراكه بتقدم عمره ،وبالتايل ميكن إكساب الفرد االتجاهات اإليجابية نحو الوالء للوطن يف سن مبكرة (حسني.)2000 ، كام أشارت دراسة أخرى إىل أن الطفل ميكنه اكتساب االتجاهات اإليجابية نحو الوالء للوطن منذ سن السابعة ،وذلك من خالل نشاطه مع الجامعات املختلفة ،ولذلك فإن قوة االنتامء تعضد الهوية الثقافية لدى أفراد املجتمع (حسانني.)1989، ومن هنا صارت املؤسسات الرتبوية بدءا ً من األرسة وانتها ًء بالجامعة مطالبة بالحفاظ عىل ثقافة األفراد املعرضة للتدهور واالندثار ،وأن تعمل عىل التأكيد عىل الهوية الثقافية للمجتمع؛ ألن التعليم يشكل حجر الزاوية يف تشكيل الهوية الثقافية ويف تعزيزها والحفاظ عليها لكل شعب من الشعوب ،لذلك فإن الدول تتخذ التعليم 120
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
كأداة أساسية لرتبية أبنائها منذ الصغر عىل املبادئ واألفكار واأليديولوجيات التي تشكل يف النهاية الهوية الثقافية للمجتمع. وال تقل وسائل اإلعالم عن بقية املؤسسات مسؤولية يف تكوين الهوية الثقافية للطفل والتأسيس لها ،ملا تتوفر لها من امتيازات ومواصفات تجعلها موضع جذب واستقطاب وبخاصة التلفزيون الذي يتيح للطفل الفرصة يك يكون يف موضع التقمص الوجداين Empathyوما يرتتب عىل ذلك من تأثري يف شخصية الطفل وثقافته .ولكن مع هذه االمتيازات واملواصفات نتلمس جوانب الضعف والتقصري يف أجهزة األعالم إزاء الطفولة ،وذلك لقلة الربامج املوجهة للطفولة والتي إن وجدت فإنها تعاين من غياب األمنوذج القومي املؤثر يف شخصية الطفل واقتصارها عىل مناذج ثقافية عاملية ال متت إىل ثقافة الطفل العريب بصلة تذكر ومبا يجعل الطفل مييل إىل تبخيس الذات واالنبهار باآلخر.
مشكلة البحث إن من أبرز الدوافع نحو تأكيد الهوية الثقافية هو ما يشهده عامل اليوم املتغري يف كثري من أحداثه ،واملتمثل يف االنفتاح والنمو والتقدم التكنولوجي الذي له تأثرياته الواضحة عىل املجتمع مبختلف مكوناته وخصائصه، ومام ال شك فيه أن العوملة الثقافية أصبحت تبارش تأثريها عىل األجيال الجديدة من أبناء املجتمع ،حيث ترسي مفاهيم جديدة ومفردات غربية عىل لغتنا العربية ،صار الجيل الجديد يرددها ويدافع عنها ،بل صار مكمن الخطورة يتمثل فيام ميكن أن تتعرض له قيم االنتامء واالعتزاز بالوطن والعروبة من تهديد ،وصار من الواجب عىل مؤسسات الرتبية والتعليم ـ متمثلة يف األرسة والروضة واملدرسة والجامعة ـ أن تتحمل مسؤولياتها الستعادة التوازن املفقود والدفاع عن هويتنا وثقافتنا. وهذا ما أشار إليه محمد عابد الجابري ليبني وضع أطفال العامل يف ظل العوملة التي تعمل عىل تقويض الهوية الثقافية ،حيث ينقسمون اىل ثالث فئات هم (حسب الغزاوي ،2008 ،ص:)18 • أطفال األغنياء :الذين يعيشون يف وضعية ‘الال انتامء’ يكربون بال جذور ،وال يحملون أي هوية وطنية ،وال يشعرون باالنتامء االجتامعي ،وطنهم هو املنتجات والسلع ذات العالمات أو ‘املاركات’ الرفيعة املشهورة، ولغتهم هي لغة الرموز العاملية ،إنهم يدربون عىل االستهالك والثقة يف املاكينات أكرث من األشخاص )fast .)food، fast eats ،fast life • أطفال الطبقة الوسطى :وهؤالء يتظاهرون بأن لديهم أكرث مام هو عندهم بالفعل وهم يعانون ويخفون حاجتهم الحقيقية. • أطفال الفقراء :وهؤالء ال يلعبون ‘بالليزر’ كام يلعب أطفال األغنياء ولكن بطلقات الرصاص التي تخرتق أجسادهم ،واملجتمع عىل العموم يقهرهم وال يستمع إليهم ،جذورهم يف الهواء وجذور أوالد األغنياء ليس لها وجود .كام أن هيمنة السوق يف بلدان عديدة عملت عىل كرس روابط التضامن االجتامعي ومتزيق االنسجام االجتامعي. هذا التصنيف ينطبق يف جزء كبري منه عىل وضع الطفولة يف بعض أرجاء العامل العريب والذي يدلل عىل أن إمكانية اخرتاق هوية الطفل العريب واردة بدرجة كبرية ،وأن إمكانية الصد الثقايف املقابل ال تقوى عىل املجابهة والتحدي ومثل هذا يشكّل خطرا ً داهامً ملستقبل الطفل العريب ومحاولة اجتزائه من محيطة الثقايف باتجاه 121
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
التغريب. وبالتايل يف ظل هذه الظروف من الال انتامء والضياع كان ال بد من التأكيد عىل أهمية الهوية يف تشكيل الشخصية الفردية واملجتمعية ،وهذا ما عاد الجابري ليؤكد عليه حني رأى أنه“ :ال تكتمل الهوية الثقافية وال تربز خصوصيتها ،وال تغدو هوية ممتلئة قادرة عىل نشدان العاملية إال إذا تجسدت مرجعتيها يف كيان تتطابق فيه ثالثة عنارص :الوطن ‘الجغرافية والتاريخ’ ،الدولة ‘التجسيد القانوين لوحدة الوطن واألمة’ ،واألمة ‘النسب الروحي الذي تنسجه الثقافة املشرتكة’” (الجابري ،1998 ،ص.)16 وحقيقة إن ما مييز املجتمع السوري هو التنوع الثقايف الناتج من التنوع اإلثني نتيجة الرتكيبة السكانية املكونة من العرب ،واألكراد ،والرتكامن ،واآلشوريني واألرمن فضالً عن األقليات األخرى املتآخية عرب العصور والتي انصهرت ضمن وحدة ثقافية استطاعت تحقيق تجانس نسبي يف األفكار واملعتقدات والتقاليد ،والتصورات السائدة يف املجتمع السوري وصوالً اىل تحقيق هوية ثقافية مميزة للشخصية السورية .وعىل ضوء هذه املعطيات السابقة ميكن بلورة مشكلة البحث يف التساؤل الرئييس اآليت :ماهي محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل قي ظل التنوع الثقايف يف املجتمع السوري؟
أهميـة البحث يكتسب البحث أهم َّيته من خالل الجوانب اآلتية: • بيان تأثري التنوع الثقايف يف تشكيل الهوية الوطنية السورية. • معرفة العوامل األرسية والرتبوية والثقافية املؤثرة يف تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري. • أهمية معرفة محددات تشكيل الهوية الثقافية التي قد تفيد املهتمني يف مجال تطوير الربامج واملشاريع الثقافية لألطفال باتخاذ اإلجراءات اإليجابية وخلق الظروف املالمئة مام يؤدي إىل تغيري الواقع الثقايف والرتبوي وتطويره. • إ ّن هذا البحث ينسجم مع توصيات املؤمترات والتقارير العربية للتنمية الثقافية مثل املؤمترات الدورية للوزراء املسؤولني عن الشؤون الثقافية يف الوطن العريب ،االجتامع اإلقليمي حول الحفاظ عىل الرتاث الثقايف 2012يف لبنان ،مؤمتر حامية الرتاث الثقايف العريب والنهوض به عام 2007التي تؤكد رضورة الحفاظ عىل الهوية الثقافية يف مواجهة تحديات العوملة. • أهمية ما كانت قد أغفلته الدراسات واألبحاث يف املجال الثقايف ،إذ يتوقع -يف حدود علم الباحثة -أن يكون هذا البحث األول من نوعه يف سوريا الذي يبحث يف موضوع محددات الهوية الثقافية للطفل السوري.
أهـداف البحـث يهدف البحث إىل تحقيق ما ييل: -1تع ّرف أهم العوامل األرسية والرتبوية واملجتمعية املؤثرة يف الهوية الثقافية للطفل السوري. -2تع ّرف أكرث هذه العوامل تاثريا ً يف تشكيل شخصية الطفل املستقبلية وتأصيل الهوية الثقافية مبا يتفق مع 122
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
ثقافة املجتمع ،بحيث يؤدي ذلك إىل تجاوز التحديات التي تضعف تلك الهوية. -3تحديد املهام واإلجراءات املنوطة باألرسة لتعزيز الهوية الثقافية. -4إبراز دور الرتبية والتعليم يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خالل تقديم بعض املقرتحات واإلجراءات حول ذلك.
أسـئلـة البحـث يتضمن البحث التساؤل الرئيس اآليت :ماهي محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل قي ظل التنوع الثقايف يف املجتمع السوري؟ ومتكن اإلجابة عن هذا التساؤل من خالل سعي البحث لإلجابة عن التساؤالت الفرعية اآلتية: • ما املقصود بالهوية الثقافية؟ وما مكوناتها؟ • ما إسهامات الرتبية األرسية والتعليم املدريس يف الحفاظ عيل الهوية الثقافية يف ظل التنوع الثقايف يف سوريا؟ • ما هي أكرث العوامل تأثريا ً يف تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري؟
منهج البحث اعتمدت الباحثة املنهج الوصفي التحلييل لرصد أبرز محددات الهوية الثقافية ،وتحليل العوامل التي رمبا تكون مسؤولة عن تشكيل الهوية الثقافية يف املجتمع السوري ،والوقوف عىل أبرز مظاهرها يف إطار من التفسري والتحليل ،ثم التنبؤ بالدور الذي ميكن أن تسهم به الرتبية األرسية واملجتمعية يف تدعيم والحفاظ عىل الهوية الثقافية يف ظل التنوع الثقايف يف سوريا .فهذا املنهج يساعد يف الحصول عىل أكرب قدر ممكن من املعلومات حول هذه الظواهر استنادا ً إىل حقائق الواقع ،وتعترب األبحاث الوصفية أكرث من مرشوع لجمع املعلومات ،فهي تصف وتحلل وتقارن وتقيس وتفرس(.)Lokesh, 1993, p405 أدوات البحث لتحقيق أهداف البحث قامت الباحثة بإعداد األداة التالية :تصميم استبانة موجه للمعلمني ولوالدي األطفال واليافعني من سن 12-3سنة تشتمل عىل مجموعة من البنود التي تقيس مدى تركيز األرسة واملربني عىل إكساب الطفل ملجموعة من التعاليم والعادات والقيم واملعارف واالتجاهات. جمتمع البحث وعينته يتكون املجتمع األصيل للبحث: الوالدين لألطفال يف مرحلة الطفولة ( 12-3سنة) يف محافظة دمشق. معلمي مرحلتي الروضة والتعليم األسايس الحلقة األوىل يف محافظة دمشق.أما عينة البحث فتتكون من 525من اآلباء واملعلمني ممثلة للمجتمع األصيل مختارة عشوائياً. 123
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
حـدود البحـث • الحدود البرشية 525 :والد/ة ومعلم/ة ممثل/ة للمجتمع األصيل مختارين بطريقة عشوائية. • الحدود املكانية :قامت الباحثة بتطبيق البحث أثناء ورشات العمل التدريبية والجلسات الحوارية مع كل من اآلباء واألمهات واملعلمني يف عدة مراكز وقاعات تدريبية يف محافظة دمشق. • الحدود الزمانية :قامت الباحثة بتطبيق الدراسة يف الفرتة الزمنية الواقعة بني 2013/4/20م ولغاية 2013/6/10م.
مصطلحات البحث وتعريفاته اإلجرائية والتعريفات هنا جاءت كام هو مقصود منها يف البحث أي ‘التعريفات اإلرائية’: • املحددات :determinantsأي عنرص أو أي عامل أو أداة تستخدمها األرسة وسيل ًة تثقيفية يف تشكيل الهوية الثقافية للطفل يف مرحلة الطفولة ( )12-3سنة. • ثقافة الطفل :child cultureمجموعة العلوم والفنون واآلداب واملهارات والقيم التي يستطيع الطفل استيعابها ومتثيلها يف كل مرحلة الطفولة ( )12-3سنة لتمكنه من توجيه سلوكه داخل املجتمع توجيهاً سليامً. • الهوية الثقافية :cultural identityمجموعة السامت والخصائص التي تنفرد بها الشخصية السورية، وتجعلها متميزة عن غريها من الهويات الثقافية األخرى ،وتتمثل تلك الخصائص يف اللغة والدين والتاريخ والرتاث واملوروث الثقايف من عادات وتقاليد وأعراف وغريها من املكونات الثقافية. • التنوع الثقايف :أي تعدد املعتقدات وقواعد السلوك واللغة والدين والقانون والفنون والعادات والتقاليد واألعراف والنظم االقتصادية والسياسية ملجتمع ما ،فاملجتمع الواحد ميكن أن يتضمن هويات ثقافية متنوعة تشكل يف كليتها الهوية الوطنية املميزة للمجتمع ككل.
الدراسـات السـابقة
دراسة هاين موىس ،2010 ،جامعة بنها:
عنوان الدراسة :دور الرتبية يف الحفاظ عىل الهوية الثقافية يف املجتمع العريب. هدف الدراسة :إبراز دور التعليم يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها. نتائج الدراسة :توصلت الدراسة إىل ما ييل: • رضورة إسهام األرسة يف التأكيد عىل القيم الداعمة للهوية الثقافية ومواجهة التداعيات السلبية للعوملة عىل أبنائهم. • أهمية الحفاظ عيل الهوية الثقافية من خالل القدرة عيل التعامل بشكل إيجايب مع التعددية الفكرية والثقافية والعرقية والسياسية واالقتصادية. • التأكيد عىل التنوع الثقايف والتعددية يف محتوي املناهج وأنشطة التعليم والتعلم.
124
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
• تقديم قراءة جديدة للرتاث تتامىش مع متغريات العرص؛ بحيث يكون عامالً من عوامل اإلبداع. • إثبات الوجود والهوية الثقافية العربية عىل الخريطة العاملية من خالل التواجد عىل شبكة اإلنرتنت، وتزويدها بقواعد بيانات ونظم معلومات باللغة العربية ،وإنتاج برامج متكِّن مستخدمي اإلنرتنت من البحث والتقيص باللغة العربية.
دراسة سامي الغزاوي ،2009 ،جامعة دياىل العراق:
عنوان الدراسة :محددات الهوية الثقافية للطقل العراقي ‘دراسة ميدانية يف مرحلة رياض األطفال’ هدف الدراسة :معرفة املحددات التي تستخدمها األرسة العراقية يف عملية تشكيل الهوية الثقافية للطفل. نتائج الدراسة :توصلت الدراسة إىل اآليت :قلة املتوفر من املحتوى الثقايف املقدم للطفل العراقي ،وهو نتاج طبيعي للظروف التي مر بها العراق خالل العقدين األخريين من القرن املايض املتمثلة بقيام حرب الخليج الثانية عام ،1991وما أعقبها من حصار ظامل سحق إنسانية اإلنسان العراقي إىل الحد الذي دفع أكرث أفراد الطبقة الوسطى إىل بيع مدخراتهم من أجل توفري لقمة العيش لألبناء ،فكيف ستكون الهوية الثقافية للطفل يف مثل هذه الظروف؟ وما أوضاع أطفال الطبقات املهمشة إذا كان هذا هو حال الطبقة الوسطى؟ وقد أثرت األمية األبجدية والثقافية للوالدين ،التي ازدهرت يف ظل هذه الظروف االستثنائية املعقدة ،عىل تشكيل هوية الطفل العراقي. فضالً عن دخول قوات االحتالل العراق يف 2003/4/9وما رافق االحتالل من أحداث ومواجهات مسلحة دامية راح ضحيتها اآلالف من الشهداء واملعوقني واملهجرين داخل وخارج البالد ،فمشاهدة أعامل العنف الرمزي من خالل أجهزة التلفاز ومعايشته عىل الطبيعة أثناء املواجهات الدامية بني املسلحني ‘مبختلف فصائلهم’ وقوات االحتالل جعلت معظم وسائل تشكيل الهوية الثقافية تعكس جانب العنف؛ سواء أكان يف املحتوى الثقايف كالحكايات التي يسمعها الطفل ،أم يف طبيعة األلعاب التي ميارسها يف املناسبات الوطنية التي يشارك فيها الطفل ذويه.
دراسة فريال حمود ،2009 ،جامعة دمشق:
عنوان الدراسة :الهوية االجتامعية ‘دراسة ميدانية يف املدارس العامة يف مدينة دمشق’. هدف الدراسة :ت ّعرف تشكُّل الهوية االجتامعية وفق املجاالت األساسية التي تتكون منها باستخدام ‘املقياس املوضوعي لرتب الهوية اإليديولوجية واالجتامعية’. نتائج الدراسة :توصلت الدراسة إىل ما ييل: • بينت النتائج اإلحصائية أن الفروق يف مستويات الهوية االجتامعية لصالح الذكور يف مستوى االنغالق. • كام بينت العالقة االرتباطية أن مجاالت الهوية أكرث نشاطاُ يف مستوى التعليق ،وأن الفروق بني الجنسني كانت لصالح الذكور. • مستوى اإلنجاز والتعليق ملجال الرتفيه ،ويف مستوى االنغالق ملجال الدور الجنيس ،وهذه الفروق لصالح اإلناث يف مستوى االنغالق ملجال العالقة مع اآلخر. • وتضمنت مقرتحات الدراسة :االهتامم بتنمية مجاالت الهوية ـ تطوير آليات الوسائط الرتبوية لتهيئة املراهقني لألدوار االجتامعية ـ دعم الربامج واألنشطة التي تحفّز املراهقني لتحديد أهدافهم وتوجيه نشاطاتهم بطرق بناءة. 125
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
دراسة أحمد كنعان ،2004 ،جامعة دمشق:
عنوان الدراسة :دور الرتبية يف مواجهة العوملة وتحديات القرن الحادي والعرشين وتعزيز الهوية الحضارية واالنتامء لألمة. هدف الدراسة :إبراز دور الرتبية وبيان كيفية التصدي لالستالب الثقايف من خالل تعزيز الهوية الحضارية واالنتامء القومي عن طريق بناء املناهج الحديثة املتطورة ،واإلفادة من معطيات التكنولوجيا الحديثة والتقانات الرتبوية املتعددة يف إعداد املعلمني وتأهيلهم وتدريبهم املستمر نتائج الدراسة :خلص البحث إىل تأكيد الهوية العربية الحضارية األصيلة ،ويدعو إىل مواجهة التحديات املختلفة ،وتعزيز االنتامء القومي ألبناء األمة العربية من خالل: • رضورة رفض الهيمنة الثقافية األجنبية ،وتعزيز الهوية الثقافية العربية ،وذلك بدعم اللغة العربية وتعزيز مكانتها وتنشيط التنمية القومية. • تطوير املناهج التعليمية ومواكبتها ملعطيات الحضارة العاملية الحديثة. • إعداد املعلمني وتدريبهم املستمر ملواجهة التحديات مبختلف أشكالها وغرس القيم العربية والروح الدميقراطية وتجسيدها سلوكاً عملياً.
دراسة شحادة وبيكريمان ،Beckerman&Shhadi ، 2003فلسطني:
عنوان الدراسة :تصورات األطفال تجاه القضايا الخاصة بهويتهم الثّقافية ‘الفلسطينية واليهودية’. (Palestenian-Jewish Bilingual Education in Israel: Its Influence on Cultural Identities and Its )Impact on Intergroup Conflict هدف الدراسة :تعرف تصورات األطفال تجاه القضايا الخاصة بهويتهم الثّقافية الفلسطينية واليهودية الخاصة والتي تتشك ُّل خالل التّفاعل يف مدرسة يهودية فلسطينية ثنائية اللغة. نتائج الدراسة :توصلت الدراسة إىل ما ييل :جاءت ال ّدراسة كخطو ٍة أوىل اتجهت نحو أن تكون دراس ٍة طولية عن التّأثري طّويل األمد للتّعليم ثنايئ اللغة عىل األطفال ،وكيف يَتص ّورو َن ال ّنزاعَ ،وعالقاتهم الحارضة واملستقبلي َة مع ‘اآلخر’ ،وهويّاتهم الثّقافية وإدراكهم لل ّنزاع اإلرسائييل الفلسطيني ،وباختصار فإن هذه الدراسة ركزت عىل دور الترّ بية ثنائية اللغة يف تشكّيل الهويّات يف بيئات مليئة بال ّنزاع.
دراسة مريم الرشقاوي ،2002 ،مرص:
عنوان الدراسة :أساليب تعزيز الهوية يف مواجهة الهيمنة الثقافية ـ رؤية معارصة إلدارة التعليم. هدف الدراسة :التأكيد عىل التميز الثقايف والهوية الثقافية ،وأهمية التفاعل بوعي مع النظام العاملي الجديد، وذلك من خالل وضع منظومة ألساليب اإلدارة التعليمية لتعزيز الهوية الثقافية. نتائج الدراسة :توصلت الدراسة إىل ما ييل :رضورة بناء هوية ثقافية ذات ثوابت راسخة ،واحرتام التفاوت داخل اإلطار الثقايف الواحد ،وأن تتحمل إدارة التعليم مسؤولية الحفاظ عىل الهوية الثقافية.
126
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
دراسة إسامعيل عبد الفتاح ،2000 ،مرص:
عنوان الدراسة :الهوية الثقافية للطفل العريب ‘رؤية من الواقع املرصي’. هدف الدراسة :التأكيد عىل أن املدرسة تؤدي دورا ً حيوياً يف تأكيد العوية الثقافية وتحقيق التجانس القومي عن طريق التوحيد الثقايف والفكري بني مختلف الطبقات ويف كل أنحاء الدولة ،مام يؤدي إىل التامسك القومي للمجتمع. نتائج الدراسة :توصلت الدراسة إىل ما ييل :يقوم التعليم بدور بارز يف تدعيم اإلحساس الوطني والهوية الثقافية الوطنية والقومية ،وتدعيم الوالء واالنتامء يف نفوس الطالب ،كام يسهم بإيجابية يف تشكيل أو إعادة بناء الشخصية الوطنية والقومية لألجيال الجديدة ،وتوحيد التوجهات القومية للطالب؛ مام يوحد الهوية القومية، ورضورة عقد املؤمترات لتطوير التعليم بهدف اإلسهام يف تشكيل الهوية الثقافية يف مقررات التاريخ واللغة العربية وفروعها املختلفة. كام أشارت مجموعة من الدراسات إىل أهمية ودور املناهج التعليمية يف تعزيز وتنمية الهوية الثقافية يف املجتمعات التي تواجه مجموعة من املتغريات العاملية وخاصة العوملة ،وكلها تدعو إىل رضورة إعادة النظر يف املناهج التعليمية الحالية ،والعمل عيل تطويرها وهندستها بشكل آخر يؤدي إىل تعزيز وتنمية الهوية الثقافية لدى الطالب؛ ألن هذه املناهج تتجاهل القضايا واملشكالت املعارصة؛ مام يسهم يف تغريب الطالب واغرتابهم عن مجتمعهم ،وبالتايل فهذا يدعو إىل رضورة التفكري يف منهج معارص يف ظل الهوية الثقافية وخاصة منهج اللغة العربية ،ذلك املنهج الذي يعد من العوامل الرئيسة يف تكوين الهوية الثقافية والحفاظ عليها (موىس ،2010 ،ص.)6
تعليق على الدراسات السابقة ومدى االستفادة منها يف البحث احلايل بعد العرض السابق للدراسات العربية واألجنبية التي أتيح للباحثة االطالع عليها ،والتي تناولت متغريات البحث الذي نحن بصدده ،رأت الباحثة أن تناقش تلك الدراسات حتى تتضح نوعية العالقة بينها وبني البحث الحايل بغرض االستفادة منها يف صياغة البحث الحايل ،ويف اختيار أدواته وعينته ،وكذلك االستفادة منها يف إعداد االستبانة ،وتعرف األسلوب اإلحصايئ ،وما توصلت إليه هذه الدراسات من نتائج. منهج الدراسات السابقة: إن معظم الدراسات السابقة اتبعت منهجاً واحدا ً هو املنهج الوصفي التحلييل ،وترى الباحثة أن هذا املنهج هو أنسب املناهج لقياس املتغريات الخاصة بالبحث الحايل ،ولهذا تتفق الباحثة مع هذه الدراسات يف استخدام املنهج الوصفي التحلييل لقياس متغريات البحث مع أفراد العينة املستخدمة. األدوات املستخدمة يف الدراسات السابقة: اتضح للباحثة من خالل استعراض الدراسات السابقة أن األدوات املستخدمة ملعرفة محددات الهوية الثقافية بجوانبها املختلفة هي االستبانة ،وقد اعتمدت هذه الدراسات عىل مصادر متعددة لتعرف محددات ومكونات هذه الهوية من وجهة نظر اآلباء واملعلمني وحتى األطفال أنفسهم. 127
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
مكانة الدراسة احلالية بني الدراسات السابقة: تتبني مكانة الدراسة الحالية بني الدراسات السابقة من خالل النقاط التالية: • أهمية تناول موضوع الهوية الثقافية للطفل ،حيث أخذ هذا املوضوع اهتامم الباحثني العرب واألجانب من خالل إجراء الدراسات واألبحاث امليدانية. • أكدت الدراسات التي تناولت الرتبية والهوية الثقافية (موىس2010 ،؛ الرشقاوي2008 ،؛ الجابري1998،؛ الغزاوي )2009 ،أنه البد من اتخاذ خطوات وقائية تعزز الهوية الثقافية من خالل الربامج واألنشطة الرتبوية ،وجاء هذا البحث ليسلط الضوء عىل دور املؤسسات التعليمية كذلك يف تشكيل الهوية الثقافية. • ال توجد دراسة يف القطر العريب السوري -عىل حد علم الباحثة -تناولت الهوية الثقافية للطفل السوري ومحدداتها. • كام تع ُّد الدراسة الحالية إسهاماً جديدا ً يف معرفة املحددات الهوية الثقافية للطفل السوري يف ظل التنوع الثقايف الغني للبيئة السورية لتكون مرجعاً ميكن اإلفادة منها يف تطوير االسرتاتيجيات والربامج الثقافية التي تستهدف رشيحة األطفال واليافعني.
مام سبق نجد وعىل الرغم من وجود تشابه بني الدراسات السابقة والدراسة الحالية يف تسليط الضوء عىل الهوية الثقافية وفق املتغريات ،إال أنَّها تختلف عنها من حيث هدفها وموضوعها وعينة البحث فيها.
اإلطار النظري
تعريف الهوية الثقافية: يف واقع األمر إن إيجاد تعريف محدد ملفهوم الهوية أمر بالغ الصعوبة ،بسبب تعدد املدارس الفكرية التي تناولت املوضوع ،باإلضافة إىل سعته وشموليته ،حيث تشارك يف تكوينه متغريات متعددة ،وخاصة املتغريات املجتمعية التي تطرأ وتؤثر يف الفكر ،فالهوية مفهوم له داللته اللغوية واستخداماته الفلسفية واالجتامعية والنفسية والثقافية .وبالنسبة ملفهوم ‘الهوية’ لغ ًة فقد قيل “الهوية يف الفلسفة حقيقة الشئ أو الشخص التي متيزه عن غريه ،أو هي بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله ،وتسمى البطاقة الشخصية أيضاً” أما عن آراء املفكرين حول مفهوم الهوية فيالحظ أن األمر ال يختلف كثريا ً ،وإن كان يتصف بأنه أكرث تحديدا ً؛ ألنه يرتبط بالبعد الثقايف أو االجتامعي للمصطلح ،فقد ع َّرف سعيد إسامعيل عيل الهوية بأنها“ :جملة املعامل املميزة للشئ التي تجعله هو هو ،بحيث ال تخطئ يف متييزه عن غريه من األشياء ،ولكل منا ـ كإنسان ـ شخصيته املميزة له ،فله نسقه القيمي ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته ،وهكذا الشأن بالنسبة لألمم والشعوب” (عيل ،1997 ،ص .)95كام أشار أحد الباحثني إىل أن الهوية“ :مفهوم اجتامعي نفيس يشري إىل كيفية إدراك شعب ما لذاته ،وكيفية متايزه عن اآلخرين ،وهي تستند إىل مسلامت ثقافية عامة ،مرتبطة تاريخياً بقيمة اجتامعية وسياسية واقتصادية للمجتمع” (عـيد ،2001،ص)110 كام أن الهوية ترتبط باالنتامء ،فقد ع ّرفها البعض بأنها“ :مجموعة من السامت الثقافية التي تتصف بها جامعة من الناس يف فرتة زمنية معينة ،والتي تولد اإلحساس لدى األفراد باالنتامء لشعب معني ،واالرتباط بوطن معني ،والتعبري عن مشاعر االعتزاز ،والفخر بالشعب الذي ينتمي إليه هؤالء األفراد”( .الفقي ،1999 ،ص)205 128
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
ومن املفاهيم التي قدمت للهوية الثقافية ما تبنته منظمة اليونسكو والذي ينص عىل“ :أن الهوية الثقافية تعني أوالً وقبل كل شئ أننا أفراد ننتمي إىل جامعة لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية ،مبا لها من قيم أخالقية وجاملية متيزها ،ويتضمن ذلك أيضاً األسلوب الذي نستوعب به تاريخ الجامعة وتقاليدها وعاداتها وأسلوب حياتها ،وإحساسنا بالخضوع له واملشاركة فيه ،أو تشكيل قدر مشرتك منه ،وتعني الطريقة التي تظهر فيها أنفسنا يف ذات كلية ،وتعد بالنسبة لكل فرد منا نوعاً من املعادلة األساسية التي تقرر ـ بطريقة إيجابية أو سلبية ـ الطريقة التي ننتسب بها إىل جامعتنا والعامل بصفة عامة” (املحروقي ،2004 ،ص)164 كام تشري الهوية أيضاً إىل أن هوية الشخص تعني صفاته الجوهرية التي متيزه عن غريه ،وقد شبهوها بالبصمة ،كام ذهبت بعض التعريفات إىل أن الهوية االجتامعية هي“ :تلك السامت الخاصة مبفهوم الذات الفردية يف ضوء أسس ومرتكزات لجامعتهم االجتامعية ،وعضويتهم الطبقية معاً ،ومع ارتباطاتهم العاطفية والتقييمية وغريها من االرتباطات السلوكية؛ التي تربطهم بهذه الجامعة مؤكدة ،انتامءاتهم إليها” (.)Feather, 1994, p467 وهذا التعريف يوضح العالقة بني االنتامء وبني الهوية ،حيث إن كالً منهام يؤثر يف اآلخر ويتأثر به ،فاإلنسان عندما يعرف أن هويته ترتبط بهوية املجتمع الذي يوجد فيه ،فإن هذا يجعله يتمسك ويرتبط مبجتمعه. إذن ميكن أن نخلص من ذلك باآليت (موىس ،2010 ،ص:)12 • أنه يصعب أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً للهوية الثقافية. • أن الهوية تختلف من مجتمع آلخر ومن عرص لعرص. • أن الهوية تختلف باختالف التوجهات الفكرية واأليديولوجية. • أن الهوية الثقافية تتكون من مزيج من اللغة والدين والتاريخ وثقافة املجتمع ،وهذا معناه أن الهوية يكون لها خصوصيتها املستمدة من ثقافة املجتمع وتصقلها تاريخه وحضارته. • أن هناك ثالث مستويات للهوية تتمثل يف :الهوية الفردية وهي عىل مستوى الفرد ،والهوية الجامعية وهي التي تكون عىل مستوى الجامعة التي يوجد فيها الفرد ،والهوية الوطنية والقومية ،وهي التي تشمل املجتمع كله ،وهذا معناه أن الهوية الثقافية ألي فرد ال تكون كاملة. • أن الهوية الثقافية تتكون يف ضوء ثالثة عنارص رئيسة هي :الوطن واألمة والدولة. • أنه ال يوجد تعارض بني وجود هوية لكل مجتمع وبني التفاعل مع متغريات العرص. • أن من مظاهر ضعف الهوية عندما يؤدي اإلعجاب بالعلم والتقدم إىل اإلعجاب مبن أبدعوه ،فيسريون وراءهم ويتبعون خصوصياتهم الثقافية ،وهذا يقودنا إىل رضورة التعرف عىل مكونات الهوية الثقافية. ويف ضوء ذلك ميكن تعريف الهوية الثقافية بأنها مجموعة السامت والخصائص التي تنفرد بها الشخصية، وتجعلها متميزة عن غريها من الهويات الثقافية األخرى ،وتتمثل تلك الخصائص يف اللغة والدين والعادات والتقليد واألعراف وغريها من املكونات الثقافية ذات السمة املميزة ملجتمع ما .ولتحديد مرجعية الهوية الثقافية السورية ال بد من تحديد إطار مرجعي للهوية العربية يعتمد عىل ما ييل (الفران ،2008،ص:)15 .1الدين :كام هو معروف أن فكرة الدين مرتبطة باإلنسان منذ وجوده ،كام يعترب أحد املقومات املعربة عن هوية املجتمع. .2اللغة :ت ُعترب اللغة ألي أمة من األمم عنواناً لشخصيتها وهويتها ،وأداة للتعبري ولرتجمة الخواطر واألفكار 129
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري
واملشاعر ،وهي وسيلة التفاهم والتعلم والتطور وتناقل الخربات والثقافات والحضارات. .3العرف :يُعترب العرف اإلطار املرجعي ألي مجتمع من املجتمعات ،ألنه يحدد خصوصيته وهويته ومييزه عن غريه من املجتمعات ،كام يختلف من مجتمع إىل اآلخر حسب طبيعته وقيمه. .4الجغرافية :تحدد الجغرافية من خاللها الحدود الطبيعية ألي أمة من األمم ،مبا تتضمنه من عرقيات و قوميات وشعوب ،بحيث تجمعهم ظروف ومصري وأهداف واحدة.
املراجع:
• • •
• • • • • • • • •
الجابري ،محمد عابد ( :)1998العوملة والهوية الثقافية ،مجلة املستقبل العريب ،ع ،228مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت. الجابري ،محمد عابد ( :)1995مسألة الهوية‘العروبة واإلسالم والغرب ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت. حسانني ،عبد العزيز( :)1989تنمية االتجاهات اإليجابية نحو الوالء للوطن لدي األطفال يف سن السابعة من العمر ،رسالة ماجستري ،معهد الدراسات العليا للطفولة ،جامعة عني شمس. حسني ،عصام أحمد ( :)2000إدراك الهوية القومية لدى الطفل املرصي ،رسالة ماجستري ،معهد الدراسات العليا للطفولة ،جامعة عني شمس. الرشقاوي ،مريم ( :)2008أساليب تعزيز الهوية يف مواجهة الهيمنة الثقافية -رؤية معارصة إلدارة التعليم ،مؤمتر ‘مناهج التعليم والهوية الثقافية’ ،جامعة عني شمس. عيد ،محمد إبراهيم ( :)2001الهوية الثقافية العربية يف عامل متغري ،مجلة الطفولة والتنمية ،مجلد ،1ع ،3القاهرة. الغزاوي ،سـامي ( :)2009محددات تشكيل الهوية للطفل العراقي .دراسة ميدانية ملرحلة رياض األطفال’ ،جامعة دياىل ،العراق. الفران ،هاين ( :)2006محددات تأكيد الهوية الثقافية العربية يف التصميم املعامري من خالل األسلوب البنايئ الحديث ‘دراسة تحليلية’ ،بحث غري منشور، كلية الفنون الجميلة ،جامعة دمشق. الفقي ،إسامعيل ( :)1999إدراك طالب الجامعة ملفهوم العوملة وعالقته بالهوية واالنتامء ‘دراسة امربيقية’ ،املؤمتر القومي السنوي الحدي والعرشون للجمعية املرصية للمناهج وطرق التدريس بعنوان ‘العوملة ومناهج التعليم’. كنعان ،أحمد ( :)2004دور الرتبية يف مواجهة العوملة وتحديات القرن الحادي والعرشين وتعزيز الهوية الحضارية واالنتامء لألمة ،بحث مقدم إىل ندوة: العوملة وأولويات الرتبية ،كلية الرتبية جامعة امللك سعود. املحروقي ،حمدي ( :)2004دور الرتبية يف مواجهة تداعيات العوملة عيل الهوية الثقافية ،منشورات مركز تطوير التعليم الجامعي ،جامعة عني شمس. اليونسكو(‘ :)2003اتفاقية حامية الرتاث الثقايف غري املادي’ :املؤمتر العام ملنظمة األمم املتحدة للرتبية والعلم والثقافة ‘اليونسكو’ ،يف الفرتة 29سبتمرب/ أيلول ـ 17أكتوبر /ترشين األول ،باريس.
References
• Feather, N. T (1994): Values، National Identification and Favoritism Towards the In-Group, British Journal of Social Psychology، no 33. • Lokesh, K. (1993): Methodolgy of Education Research, Rikas publishing house, New Delhi.
130
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
عزام القصير❊
العودة إىل املستقبل:
قراءة يف دعوات تطبيق الشريعة اخلالصة: إن هدف إقامة الدولة اإلسالمية التي تُحكم مبقتىض الرشيعة هو حجر الزاوية الذي يستند إليه بناء األيديولوجية اإلسالمية اآلخذة يف االنتشار .هذا الهدف العام والجامع يشكل متجانس من التنظيامت والجامعات ٍ الستار األيديولوجي الذي يخفي وراءه خليطاً غري ِّ التي قد تختلف يف اإلسرتاتيجيات وتتباين يف تحديد األولويات وتفسري املعطيات .نتخذ هنا منحى دراسة الخطاب األيديولوجي واملشرتكات الجامعة ملتبني اإلسالم السيايس، مجموعات وأفراداً يف مرحلة ما بعد سيد قطب ،يف ضوء استعراض مقتضب لألفكار واملحطات التاريخية التي أدّت إىل طُف ِّو حركات اإلسالم السيايس عىل سطح الحراك السيايس يف املنطقة العربية يف الوقت الراهن .تُويل هذه الدراسة اهتامماً خاصاً للعوامل الذاتية التي أنتجت الفكر الديني املتشدد ور َّوجت القتحامه الشأن العام .ذلك من دون إهامل العوامل املوضوعية ـ االجتامعية واالقتصادية والسياسية ـ التي م َّهدت الطريق النتشار الفكر الجهادي التكفريي .ويف الختام تحاول الدراسة تبيان سبل إنعاش الفكر اإلسالمي بغية تجاوز األثر السلبي لبعض التيارات اإلسالمية املتطرفة عىل الشأن العام.
❊ باحث وأكادميي سوري ،مهتم بشؤون الرشق األوسط وقضايا اإلسالم السيايس .درس العلوم السياسية يف جامعة دمشق ومن ثم انتقل إىل بريطانيا حيث أنهى برنامجاً يف الدراسات العليا يف الدراسات اإلسالمية واإلنسانية .يعمل حالياً عىل إعداد رسالة املاجستري يف معهد الدراسات العربية واإلسالمية يف جامعة إكسرت ،بريطانيا.
131
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
العودة إىل املستقبل
أي لحظة ،ليَقتُل ويُقتَلٌ . رجال م َّنا يريدون الدولة ٌ جيش من الفتية العرب واملسلمني مستع ٌّد لينفجر يف ِّ دوي املدافع وجامجم الشهداء .هكذا نقف اليوم عرا ًة أمام مرآة الذات ،ويف اآلذان صوتٌ اإلسالمية ولو عىل ِّ ُ ٍ إغريقي يهمس :اعرف نفسك .يسأل واح ٌد م ّنا :هل حقاً نحن خري أمة أخرجت للناس؟ وهل هذه معامل الرسالة ٌ الخالدة لألمة العربية؟ فيجيب آخر :نعم زالت األقنعة وبتنا نراقب يومياتنا الدامية عىل الشاشات .مرارة الواقع متحي طالء األيديولوجيا وتبدد وهم الشعارات. إن هدف إقامة الدولة اإلسالمية التي ت ُحكم مبقتىض الرشيعة هو حجر الزاوية الذي يستند إليه بناء الستار األيديولوجي الذي يخفي األيديولوجية اإلسالمية اآلخذة يف االنتشار .هذا الهدف العام والجامع يشكل ِّ ٍ متجانس من التنظيامت والجامعات التي قد تختلف يف اإلسرتاتيجيات وتتباين يف تحديد وراءه خليطاً غري األولويات وتفسري املعطيات .نتخذ هنا منحى دراسة الخطاب األيديولوجي واملشرتكات الجامعة ملتبني اإلسالم السيايس ،مجموعات وأفرادا ً يف مرحلة ما بعد سيد قطب ،يف ضوء استعراض مقتضب لألفكار واملحطات التاريخية التي أدت إىل طُف ِّو حركات اإلسالم السيايس عىل سطح الحراك السيايس يف املنطقة العربية يف الوقت الراهن .ت ُويل هذه الدراسة اهتامماً خاصاً للعوامل الذاتية التي أنتجت الفكر الديني املتشدد ور َّوجت القتحامه الشأن العام. ذلك من دون إهامل العوامل املوضوعية ـ االجتامعية واالقتصادية والسياسية ـ التي مهدت الطريق النتشار الفكر الجهادي التكفريي .ويف الختام تحاول الدراسة تبيان سبل إنعاش الفكر اإلسالمي بغية تجاوز األثر السلبي لبعض التيارات اإلسالمية املتطرفة عىل الشأن العام. بدايةً ،فكرة الدولة اإلسالمية التي بدأ التنظري املنهجي لها مع املفكر الباكستاين أبو األعىل املودودي (-1903 )1979هي نتاج للفكر الحدايث متاماً كفكرة النهضة التي سيطرت عىل الخطاب اإلسالمي يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش .عىل الرغم من ذلك فإن جهدا ً كبريا ً قد بذل لتأصيل فكرة الدولة اإلسالمية مبنحها سندا ً تاريخياً وتغليفها بغالف إسالمي. ماسة إىل أن كتب املودودي يف مقدمة كتابه‘ :نظرية اإلسالم وهديه يف السياسة والقانون والدستور’“ :الحاجة ّ َ نكشف الغطاء عن وجه ‘نظرية اإلسالم السياسية’ رجاء أن ينقشع بذلك هذا الظالم الفكري الضارب أطنابه عىل املجتمع ،وتلجم أفواه من أعلنوا سفهاً (أن اإلسالم ما جاء للمجتمع اإلنساين بنظام اجتامعي وال سيايس) فنخرج 132
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
العودة إىل املستقبل
بذلك نورا ً للذين يتسكعون يف ظلامت العرص حائرين ال يهتدون”((( .كان ذلك ،فأخرج املودودي للعاملني مصطلح ‘الحاكمية’ الذي احتضنه فيام بعد سيد قطب ( )1966-1906ورعاه أفضل رعاية ،فنام املصطلح وترعرع وتفرع عنه جاهلي ٌة وتكف ٌري وجها ٌد أعمى .حتى وصلنا اليوم إىل جامعات تتحدث عن آيات الحاكمية يف القرآن. امللفت هنا أن كلمة ‘حاكمية’ التي باتت من مرتكزات الخطاب السيايس للحركات اإلسالمية املعارصة كام ‘الدولة اإلسالمية’ مل يرد ذكرها يف القرآن أو الحديث النبوي .إ ْن عدنا أيضاً ملعاجم اللغة العربية لن نجد ذكرا ً للمصطلح .يربط املودودي الحاكمية بالجذر اللغوي ‘حكم’ الذي جاء القرآن عىل ذكر اشتقاقاته أكرث من مائتي مرة ،لكن أياً منها ال يشري إىل تويل ومامرسة السلطة السياسية .غالبية االستخدامات تشري إما للحكمة والبصرية والقدرة عىل متييز الحق من الباطل ،أو إىل العلم والفقه والقضاء .و‘الحاكم’ يف معاجم اللغة هو القايض، ففي أدبيات الحديث النبوي وفقهه كثريا ً ما يتطابق ‘الحكم’ و‘القضاء’ دومنا تفريق .فاملصطلح العريب والقرآين املستخدم للداللة عىل الشأن السيايس هو ‘األمر’ والذي استمر مصدرا ً للنسبة إىل الدولة أو الحكومة حتى العهد العثامين ،حيث استُ ِ خدمت صفة ‘األمريي’ ،التي ُح ِّرف َْت فيام بعد لـ ‘املريي’ ،للداللة عىل كل ما هو مرتب ٌط بالسلطة ((( السياسية أو القطاع العام .يكتسب التحليل اللغوي السابق أهمي ًة خاص ًة عند محاولة فهم النصوص القرآنية املستخدمة لتربير دعوات تطبيق الرشيعة .فعىل سبيل املثال ،أحد أكرث الشواهد الرشعية تكرارا ً يف كتابات املودودي وعىل ألسنة منظري اإلسالم السيايس املعارصين هي جمل ٌة من اآلية الرابعة واألربعني من سورة املائدة: {ومن مل يحكم مبا أنزل الله فأولئك هم الكافرون} .بالعودة ألسباب النزول يتضح أن املقصود ليس أمرا ً إلهياً يقيض بتطبيق الرشيعة يف كل زمان ومكان ،بل إن اآلية مقتطعة من سياق تاريخي يدور حول تحكيم الرسول يف خالف حول دفع الدية بني بني قريظة وبني النضري((( .ليس يف ذلك مجرد سو ُء فهمٍ أو ٌ فقهي محدود األثر ،بل خالف ٌ إن ألوفاً دفعوا حيواتهم مثن تفسريات اآلية وسذاجة التعميم .فعندما ُسئل طارق الزمر ،أحد األعضاء البارزين يف جامعة الجهاد يف مرص ،عن سنده الرشعي يف إطالق التكفري وإباحة االغتياالت ،كان رده موجزا ً :الله عز وجل {ومن مل يحكم مبا أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(((. بالعودة لالستخدام االصطالحي لـ‘الحاكمية’ ،فإن بناء الدولة االسالمية يستند إىل مبدأ الحاكمية الذي يعني أن الرشيعة يجب أن تكون القانون األعىل يف الدولة .فتبعاً للمودودي ،إن كان ُ ستهل بنطق دخول الفر ِد اإلسال َم يُ ُ ((( شهادة أن ال إله إال الله ،فإن دخول الدولة يف اإلسالم يكون بنطق دستورها لشهادة أن ال حاكمية إال لله . فالحاكمية لله ،وما عىل العباد سوى طاعة اإلرادة اإللهية والعمل مبقتضاها ،واتباع غري ذلك يستتبع حتامً الدخول يف طور الجاهلية. يشرتك املودودي مع من أتوا بعده يف استخالص النتيجة السابقة ،والتي تعني عملياً تكفري الحكومات واملجتمعات اإلسالمية التي تتبع قوانني وضعية .ولكن بدأ االفرتاق عند تحديد اإلجراءات الواجب اتباعها إلخراج املجتمعات اإلسالمية من حالة الكفر والجاهلية .فمنهج املودودي يقيض بالسعي الستالم السلطة عرب اآلليات السياسية املتاحة بغية الرشوع يف تطبيق الرشيعة وأسلمة املجتمع ،أما سيد قطب فقد بنى عىل فكر املودودي ٍ ملسات راديكالية قادت ُه لالسرتسال يف ‘فعل’ تكفري املجتمعات والنخب عىل ح ٍّد سواء .كلم ُة ‘فعل’ هنا وأضاف 1 2 3 4 5
املودودي ،أبو األعىل .نظرية اإلسالم وهديه يف السياسة والقانون والدستور ،مؤسسة الرسالة ،بريوت ،1969 ،ص.10 األنصاري ،محمد جابر .التأزم السيايس عند العرب وسوسيولوجيا اإلسالم :مكونات الحالة املزمنة ،طبعة ثانية ،دار الرشوق ،1999 ،ص.170-155 ابن كثري .تفسري القرآن العظيم ،الجزء الثالث ،دار طيبة ،ص.113 حنفي ،حسن .الحركات اإلسالمية يف مرص ،املؤسسة اإلسالمية للنرش ،بريوت ،1986 ،ص.104 املودودي ،أبو األعىل .نظرية اإلسالم وهديه يف السياسة والقانون والدستور ،مؤسسة الرسالة ،بريوت ،1969 ،ص.201
133
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
العودة إىل املستقبل
واجب عرب فعل الجهاد. مقصودة والغاية منها الداللة عىل أن التكفري ليس مجرد تهمة ،بل حك ٌم ناج ٌز تنفيذه ٌ كتابات املودودي حول تطبيق الرشيعة واملنهج القطبي الراديكايل َغ َد َوا زاد الحركات الجهادية التي أخذت تتزايد كالفطر منذ منتصف سبعينيات القرن املايض .وهكذا طوت التوليفة القطبية ـ املودودية صفحة السلفية اإلصالحية واملنهج العقيل يف التفسري الذي اتبعه محمد عبده وجامل الدين األفغاين يف فرت ٍ ات سابقة ،وشرُِّعت األبواب لسلفية جهادية تنظر بعني الريبة للعقل وتفرط يف استخدام العنف. إن التحول عىل مستوى فكر اإلسالم السيايس يبدو منسجامً مع املدخل املاركيس يف التحليل من حيث أن جمل ًة من العوامل والرشوط املادية قد أسهمت يف توجيه التحول عىل مستوى األفكار .فقراءة تنظري املودودي للدولة اإلسالمية مبعزل عن ظروف والدة دولة باكستان سيودي للوقوع يف خطأ سيد قطب الذي رأى يف نظريات املودودي نظريات اإلسالم .فعىل سبيل املثال ،يرى محمد عامرة أن املودودي حارب الدميقراطية خوفاً من األغلبية غري املسلمة يف الهند قبل استقالل باكستان عام ،1947أما بعد والدة باكستان ذات األغلبية املسلمة شرَ َ ع يف إثبات دميقراطية اإلسالم وعدم تعارضه مع النظام التمثييل((( .كذلك فإن من اإلجحاف تحليل راديكالية قطب من دون التطرق لظروف القمع الوحيش الذي تعرض له عىل أيدي أجهزة أمن النظام النارصي .عموماً فقد شكلت تخصيب الفكر الجهادي االنقاليب .باتباع ذات األسلوب يف التحليل فإ َّن ما يبدو رواجاً السجون املرصية بؤ َر ِ للمنهج القطبي ليس دليالً عىل صحة املنهج ،كام أن نزوعه نحو العدوانية والعنف ليس بالرضورة مستمدا ً من املعب عنه يف انتشار البطالة وغياب قنوات املشاركة السياسية والتوزيع روح اإلسالم ،بل إن اختالل البنى التحتية ،رَّ غري العادل للرثوة ،أدى لرواج الفكر اإلسالمي الراديكايل خاص ًة يف األرياف امله َّمشة ويف أحزمة الفقر حول املدن. إن اإلرث الذي تركه املودودي وقطب يويل أهمية خاصة ألسلمة الدولة واملجتمع عرب تطهريهام من األمراض التي أتت من الغرب والعودة بهام لنقاء الجيل األول وفرض الرشيعة عىل جميع مناحي الحياة .وتحقيق ذلك الكشف عن نظري ٍة إسالمي ٍة خالصة يف يكون بعبور بوابة ‘الدولة اإلسالمية’ .إن ادعاء املودودي وقطب وأخالفهم َ السياسة وحكم الدولة ما هو إال جانب من جوانب محاوالت تحميل النصوص ما ال تحتمل ،ومظه ٌر من مظاهر عبادة النص وتجاهل مقاصده. ٍ محاوالت أع َّم الستنطاق النصوص بنظريات واكتشافات علمية وإنسانية الحقة. فام ذلك سوى جزء من ِ فصدمة الحداثة دفعت البعض للتقوقع واتخاذ املوقف الحاميئ والبدء يف رحلة البحث عن الذات يف مواجهة اآلخر املتقدم واملسلح بجميع أسباب القوة. الصنع للدول ِة الحديث ِة والنص املقدس ملجأي الحركات اإلسالمية الباحث ِة عن َ غدا التاريخ بدائل محل َّي ِة ُّ ُّ ( )Nation-Stateوهياكلها ونظم الحكم فيهاَ .خ َبت يف املقابل األصوات املنادية بالتخلُّق بأخالق اإلسالم والجري يف مضامر الحضارة اإلنسانية إىل جانب األمم األخرى .وخارت قوى التيار العقيل التوفيقي فف ُِسح املجال لتيار أي عقال. عنف رص ذهبي ويدعو إلحاللها ولو كان السبيل إىل ذلك ٌ تلفيقي يبني صورا ً ذهني ًة لع ٍ ٌ منفلت من ِّ فأصبح تجاوز الواقع وإنكاره سم ًة عامة لدى اإلسالميني الجدد .تك َّدس الغبار عىل كتب التوفيقيني ومل تعد صدى ،بل إن البعض أسامهم ‘فقهاء السلطان’ و‘فقهاء الحيض والنفاس’ .فلم يعد يُعت ُّد بآرا ِء كلامتهم تلقى ً ٍ مرجعيات تقليدي ٍة كالشي ِخ محمد الغزايل ،الذي َخل َُص إىل أ َّن “اإلسالم مل يضع رسامً محددا ً ألسلوب الحكم ،وإمنا وضع له أخالقاً وقيامً ،فكيف نويل حاكامً وكيف نعزله؟ وكيف نحاسبه ونراقبه؟ ما هي أجهزة الشورى؟ وكيف إرهاب أو إغراء؟ ...لألمم يف هذه امليادين أن نستوثق من التقاء اآلراء الناضجة فيها؟ وكيف منيض يف مجراها دون ٍ 6عامرة ،محمد .أبو األعىل املودودي والصحوة االسالمية ،دار الرشوق ،القاهرة ،1987 ،ص.422-418
134
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
العودة إىل املستقبل
موقف متقد ٌم يؤيد القاعدة القائلة“ :حيثام تجتهد يف وضع النظام الذي يحقق مصلحتها دون قيد ما” (((.يف ذلك ٌ ُوجدت مصلحة ال َّناس فث َّم رش ُع الله”. ليس املقصود مام سبق تربئ ُة علام ِء الدين وفقهائه التقليديني ،فهم يتحملون مسؤولي ًة رئيسي ًة يف واقع األدلجة وتسطيح الفكر اإلسالمي .فالشيخ الغزايل نفسه ُ يقول يف موضعٍ آخر“ :لو أن السلف األول اشتغل بالفلسفة الالهوتية ملا خرج اإلسالم من جزيرة العرب ...خلقت البطالة أناساً يطيلون الفكر العابث والنظر يرتاب من جد ِل الفك ِر الرشود ...أوجد الفراغ مجالس كالمية كثرية كان لها يف تاريخنا وكياننا أثر رديء”((( .من ُ يتيح َ فترشيح األحادي اللون وادعاءات امتالك الحقيقة .أسئل ٌة جوهري ٌة البد من نقاشها يف العلن، للخطاب املجال ِ ِّ ُ ُ امليثولوجيا الدينية مل يعد سفسطة .ركود الفكر اإلسالمي واتخاذه املوقع الدفاعي هو يف صميم األزمة .فالجنة جيل والنار والقضاء والقدر والتكفري والجهاد وغريها مواضي ُع تو ِّج ُه جيالً من الشباب البائس اليائس من دنياهٌ ، اإلسالمي لن يستعي َد حيويته حتى يَن ُف َخ الحوا ُر في ِه أوهام ‘الدولة اإلسالمية’ .خالصة القول أ َّن الفك َر أصبح حطب ِ َ َ َّ الروح .أمل يحن وقت إحياء علوم الدين؟ مىض أكرث من مائة عام ومل يَظهر بيننا مج ِّد ٌد يُهذب األصول لينقذ من الضَّ الل .ولكن كيف أسهم الواقع يف رد ِة اإلسالميني عن العقل ودخولهم جاهلية الفكر؟ إن كان االستخدام املرشوع للعنف هو أهم ما مييز الدولة الحديثة بحسب ماكس فيرب ،فإن تجارب أنظمة الحكم يف العامل العريب يف فرتة ما بعد االستقالل أثبتت مبا ال يدع مجاالً للشك نجاح تلك األنظمة يف تسخري حق استخدام العنف لربط املؤسسات والنخب الدينية والعسكرية واالقتصادية بالنظام السيايس ولتفريغ املجتمع من أي نشاط أو تنظيم مدين قادر عىل لجم السلطات .يكاد النظام البعثي يف سورية أن يكون الحالة املعيارية التي ينطبق عليها التعميم السابق .فعندما رفع سوريون شعار إسقاط النظام السيايس أدركوا رسيعاً أن ذلك يستلزم تغيري النخب الدينية واالقتصادية والعسكرية أيضاً .فالنظام السيايس تغلغل يف ثنايا الدولة السورية حتى بات فك االرتباط بني االثنني أمرا ً غاية يف الصعوبة. ذلك االستخدام األدايت للدولة ألكرث من نصف قرن أ ّدى لشيوع فهمٍ مشو ٍه لفكرة الدولة الحديثة لدى العامة يف العامل العريب .فالدولة مل تعد مؤسس ًة حيادي ًة ينتفع منها الجميع ،وإمنا ملكي ًة خاص ًة لطغم ٍة حاكمة .أيضاً فإن ادعاء األنظمة السياسية الشمولية تبنيها العلامنية قاد إىل تالزم مصطلح العلامنية يف ذهن الكثريين مع التسلط السلة التي تحوي وقمع الحريات .يف ظل هذا الواقع كثريا ً ما يتم اليوم تقديم الرشيعة اإلسالمية عىل أنها َّ مفاتيح حل املشكالت السياسية واالقتصادية واالجتامعية التي توارثها الحكام العرب .أمعنت الحركات اإلسالمية الجديدة يف غُل ِّوها حتى تجاوزت أفكار مرجعها الحديث املتمثل بكتابات سيد قطب ومنهجه .يف هذه املرحلة مل تعد الدولة الحديثة إطار عمل تلك الحركات واستمر نكران الدولة الحديثة حتى وصلنا لدعوات إقامة ‘الدولة اإلسالمية’ وليس دول ٍة إسالمية .فدولة اإلسالم غدت واحدة ،دستورها القرآن ،والحاكمية فيها لله وحده ،يُطبَّق فيها رشع الله فتَ ِ ستظ ُّل به األمة اإلسالمية جمعاء .وصف ٌة بسيط ٌة تُق َّدم للخروج من املآزق التي باتت تتنازع الدول العربية واإلسالمية. هذا الخطاب اإلسالمي التبسيطي هو املقابل للخطاب السيايس األيديولوجي يف الجمهوريات العربية طيلة النصف الثاين من القرن العرشين والذي هيمنت عليه فكرة فرض الوحدة العربية لجمع شمل األمة العربية ٍ اتيجيات واضح ٍة للنهوض بالواقع العريب والوصول الواحدة .فكام عجز القوميون العرب سابقاً عن رسم إسرت 7الغزايل ،محمد .مقاالت الشيخ محمد الغزايل ،جمع :عبد الحميد حسانني حسن ،الجزء الثاين ،نهضة مرص للطباعة والنرش ،القاهرة ،2002 ،ص.209 8مرجع سابق ،ص.201
135
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
دراسات
العودة إىل املستقبل
إىل الوحدة املنشودة فإن اإلسالميني اليوم يسريون عىل نفس الخطى يف ما يتعلق باالنشغال بالكُليَّات وإهامل ال ُجزئيَّات .يف هذا الخصوص ،يرى الربوفسور عزيز العظمة أ َّن إرصا َر القومي َني العرب عىل إعطاء فكرة التجانس والوحدة صفة البداهة ،وترددهم قبل اإلقرار بحقيقة التنوع واالختالف ،جعلهم غري قادرين عىل إدراك الواقع. رصوا عىل استمرا ِر ٍ ذات ُمتو َّهم ٍة فرضوها بسطو ِة الدولة املستبدة ،فكانت النتيجة مزيدا ً من التفتت .ذات فأ ُّ النقاش ينسحب عىل األيديولوجية اإلسالمية السائدة .ففي دعوات تطبيق الرشيعة اإلسالمية تغليب للرمزي عىل ((( التاريخي ،مبعنى تغليب هوي ٍة ثابت ٍة ُمتو َّهم ٍة عىل حقيق ِة التكثرُّ ِ والتن ُّوع داخل هذه الهوية. كل يش ٍء ستأيت بالحل وال تفريغ املجتمع من اإلسالم هو الرتياق امل ُـنتظَر .الواقع معقد ختاماً ،ال أسلم ُة ِّ برنامج عملٍ متكامل للنهوض .فأحد أهم معوقات اللحاق بركب الحضارة هو ما يطلق عليه عبد اإلله ويستلزم َ (((1 بلقزيز مصطلح ‘املنهج االستعجايل’ والذي يشري إىل العزوف عن اجرتاع حلول تستجيب إىل تعقيدات الواقع ٍ ُ تختزل الواق َع وصفات بنكه ٍة أيديولوجي ٍة العريب املعاش واللجوء إىل خطوات متهورة كاالنقالبات ،أو النزوع إىل يف ِ أي مرشو ٍع للنهوض لن يُبرص النور ما مل يَق َبل أحد جوانبه ،ديناً كان أم سياسة ،اقتصادا ً أو اجتامع .ولك َّن َّ والتمسك بإمكانية عزل الفكرة عن تاريخ َّيتها له ارتداداتٌ كارثي ٌة عىل اإلسالميون التاريخ ،فا ِّدعا ُء ال زمن َّي ِة اإلسالم ُّ ايض ألفرا ٍد يتأثرون بالواقع وتتشكَّل استعداداتهم وفقاً ملقتضياته .قد األمة والتي هي يف حقيقة األمر تجم ٌع افرت ٌ تجمعهم فكر ٌة أو أفكار ولك َّن كالً منهم اتخذ مسارا ً تاريخياً متميزا ً أثناء صياغة احتياجاته ومنط تفكريه وأسلوب حياته. مرشو ُع العود ِة للمستقبل غ ُري قابلٍ للحياة .فإ ّما مقامر ٌة بعود ٍة ٍ محسوب نحو مستقبلٍ ملاض متخ َّيلٍ أو تقد ٌم ٌ مأمو ٍل يستوعبنا جميعاً.
9العظمة ،عزيز .األصالة أو سياسة الهروب من الواقع ،دار الساقي ،بريوت ،1992 ،ص.24-22 10بلقزبز ،عبد اإلله .الجيش والسياسة والسلطة يف الوطن العريب ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بريوت ،2002 ،ص .23-18
136
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املشهد البصري
املشهد البصري
مالئكة يف زمن احلرب رامي مكي❊
حول العمل الفني: رغامً عن قذارات الحرب تبقى الرباءة يف عيون أطفالنا .تم التقاط الصورة يف إحدى مدارس الالجئني السوريني عام .2013
❊ رامي ميك :مصور فوتوغرايف ومصمم غرافيك .له العديد من النشاطات يف الوسط الفني والسياحي السوري .أسس رشكة تصميم وإدارة فنية باسم أرابيان صول يف دمشق عام .2006كام أنشاً موقعاً إلكرتونياً يوثق برصياً تفاصيل دمشق القدمية .له مشاركات بعدة معارض فنية محلية وعربية .موقعه الشخيص عىل اإلنرتنتwww.ramimaki.com : 138
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
عناق األخطبوط إعداد سمارة سالم❊
حول العمل الفني: ‘عناق االخطبوط’ جز ٌء من عملٍ فني بعنوان ‘لجوء’. ترين أن الكوكب مقهى صغري ،مقهى وحيد ميكنك التدخني فيه .ال زيت الزيتون وال الزعرت الربي داخل الخبز .يوجد ما يكفي من املنفى يك تعريف أن الحب يشء مختلف متاماً ،وأن الجسد رؤية أقل تعقيدا ً وأكرث أملاً .بعني سمكة كل يشء يتجه اليك ،يدور ،يدور، ويبتعد عىل شكل دوائر من حولك .يداك الطويلتان عبثاً ال تقدران عىل اللعب. دخلت الجزائر صعدت فوق امليزان :م ٌرت وستون ،يف 45كيلو .ال فرق اآلن يف الحجم! عندما ُ ٍ أصبحت حيواناً! حيواناً يأكل برشاهة ،ميارس الحب ،يفقد اللغة ،وتُسرْ َ ُق منه أوراقه الثبوتية وجواز سفره .ينتقل من بيت آلخر ُ كمجرد جسد .مع حيوانك الجديد الذي يتنفس بكل ما لديه من قوة السخرية .تنحنني لتلتقطي كوب قهوة بالحليب .تخطيه ،يعود شعرك لطبيعته تحت املطر .تبتسمني وتختبئني ألن القطط أيضاً ال تحتمله. تتوقفني عن حمل الكامريا ...ال ميكن لحيوانٍ أن يحمل كامريا! ❊ سامرة سالم :طالبة يف املدرسة العليا للفنون الجميلة يف العاصمة الجزائرية. 139
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املشهد البصري
إصرار
بعدسة مصطفى دباس❊ حول العمل الفني: ‘إرصار’ صور ٌة تم التقاطها يف ركن الدين يف عيد الفطر سنة .2012
❊ مصطفى دباس :صحفي ،خريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق .مصور فوتوغرايف ورسام كاريكاتور .شارك يف معرض تصوير فوتوغرايف بعنوان ِ ‘أنت’ ،ومعرض كاريكاتور بعنوان ‘وجهة نظر’ . 140
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
انتصرنا
كاريكاتور هاين عباس❊ حول العمل الفني: تم رسم ‘انترصنا’ عام .2013بقياس A4عىل الكمبيوتر.
❊ هاين عباس :خريج دار املعلمني دمشق .1999توقف عند السنة الثالثة يف كلية الرتبية جامعة دمشق .عضو نقابة الفنون الجميلة السورية منذ .1999أقام أول معرض فردي عام 1998يف جامعة دمشق ،إضافة إىل عدة معارض فردية ومشرتكة يف سوريا والعامل. حاصل عىل املركز األول للرسامني املحرتفني يف سوريا ثالث مرات ،حاصل عىل املركز الثاين يف ‘مسابقة حرية الصحافة العاملية’ ،2013وعدة جوائز رشفية وتقديرية عربية ودولية .عضو لجنة تحكيم يف عدد من املهرجانات منها ‘مهرجان سوريا الدويل للكاريكاتور’ ،و‘مهرجان ناجي العيل األول للكاريكاتور’ بدمشق ،2007وعضو لجنة تحكيم جائزة مركز ‘بديل’ يف رام الله .له ثالثة أفالم كرتون قصرية منجزة وقيد املونتاج .يرسم يف عدد من الصحف واملواقع اإللكرتونية العربية. 141
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املشهد البصري
نزوح
دعاء نشار❊ حول العمل الفني: تم التقاط الصورة بتاريخ 15آب/أغسطس .2013
❊ دعاء نشار :تدرس يف السنة الرابعة يف كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق ،تخصص تصوير زيتي. 142
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ابتسامة
أسامة حويجة❊ حول العمل الفني: تم رسم ‘ابتسامة’ بتاريخ 10كانون الثاين/يناير .2014والعمل يتكلم عن فقدان معظم أطفال سورية لالبتسامة بسبب األوضاع الحالية ومحاولة البحث عنها.
❊ أسامة حويجة :فنان سوري خريج كلية الرتبية الرياضية جامعة ترشين عام .2005عمل يف رشكة النجم لالنتاج الفني دمشق باختصاص رسام تحريك ثنايئ االبعاد ،2008-2006ويعمل حالياً يف ديب يف رشكة ‘الصورة الحقيقية لإلنتاج الفني’ منذ عام 2008 حتى اآلن .شارك يف عد ٍد من املعارض السابقة منها معرض كاريكاتور فردي يف املكتبة املركزية جامعة ترشين ،2002ومعرض كاريكاتور جامعي يف سلمية ،2004ومعرض كاريكاتور فردي يف املكتبة املركزية يف جامعة ترشين .2005 143
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
املشهد البصري
قصة حماربة
بعدسة بانا ماخوس❊
حول العمل الفني: التقطت ‘قصة محاربة’ يف 21كانون األول/ديسمرب ،2013والصورة من سلسلة تحمل نفس العنوان ،شاركت الصورة يف معرض عن املرأة السورية 2013بعنوان ِ ‘أنت’.
❊ بانا ماخوس :مصورة فوتوغرافية .خريجة كلية االقتصاد بجامعة ترشين ،وطالبة يف كلية اإلعالم بجامعة دمشق .عضوة يف ‘فرقة املرسح الجامعي’ يف جامعة ترشين حيث شاركت يف عدة مرسحيات بصفة مساعد مخرج ومصور فوتوغرايف .كام شاركت يف خمسة معارض مشرتكة يف التصوير الفوتوغرايف بني الالذقية ودمشق ،وعدة ورشات عمل يف صناعة األفالم وكتابة السيناريو ،ولها تجربة فيلم قصري (فيديو آرت)) بعنوان ‘بال لون’. 144
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
ضاع املفتاح
كاريكاتور مرهف يوسف❊ حول العمل الفني: تم رسم العمل ‘ضاع املفتاح’ عام ،2002وأعيد تجديده ووضع تعديالت عليه عام .2009 ❊ مرهف يوسف :فنان سوري خريج معهد الفنون التطبيقية ( 2004اختصاص نحت) .مختص يف مجال الكاريكاتور والرسوم املتحركة وفن الطفل (سيناريو وقصص) .شارك يف العديد من املعارض وامللتقيات يف سوريا ،ولديه العديد من التامثيل مبختلف املواد خشب وحجر وبرونز .شارك يف إعداد عدد من أفالم الرسوم املتحركة كمسلسل ‘دانية’ عىل الـ ،MBCوسلسلة أغاين جحا. ولديه العديد من األفالم القصرية أهمها فيلم ‘بحرية الوجع’ ،وفيلم ‘لحظة أمل’ .شارك يف العديد من معارض الكاريكاتور يف سوريا وإيطاليا ورومانيا ومرص وغريها ،حيث حاز عىل العديد من الجوائز منها ‘جائزة الويب’ يف مهرجان ديفا يف رومانيا ،2006 والجائزة الخاصة يف ‘مسابقة األقالم’ يف سوريا عام ،2007والجائزة الثانية يف ‘مسابقة الثقافة العاملية’ يف كندا عام .2010 145
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
146
العدد 0 أيار /مايو ـ 2014
يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق -لندن
حول جملة ِدلْـــ َتا نُــون
مجلة ِدلْـــتَا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام (دمشق -لندن). تسعى املجلة إىل دراسة العالقة بني الفكر والشأن العام يف منطقة غرب آسيا وشامل إفريقيا (الرشق األوسط) عموماً ،ويف سوريا خصوصاً .تعمل املجلة عىل نرش مواد ترتاوح بني املقاالت والدراسات والريبورتاجات الصحفية ومراجعات الكتب ،إضافة إىل قسم خاص بالصور الفوتوغرافية والرسومات والكاريكاتور .وتهتم املجلة بنرش املواد التي تناقش ،يف صور ٍة مرتابط ٍة ومنهجية ،ما ينضوي تحت املحاور الثالثة التالية: • الفكر :مبا يشمله هذا العنوان العريض ،عىل سبيل املثال ،من أفرا ٍد (كاملثقفني ٍ ومؤسسات (املراكز بحثية ،والجامعات، واألكادمييني والخرباء وال ُكتّاب واإلعالميني)، والصحافة ،ودور النرش) ،و ُم ْخ َر َج ٍ ات (كالكتب ،واألفكار ،والحركات الفكرية) ،وغريها. ٍ • الشأن العام :مبا يشمله هذا العنوان العريض ،عىل سبيل املثال ،من أعر ٍ وثقافات اف سائدة و ُم َه َّمشة ،وقضايا االقتصاد والتنمية والخدمات ،واملجتمع املدين ،والصحة والرتبية والتعليم ،وتطبيق القانون والترشيعات والحقوق األساسية ،واملامرسات السياسة ،وغريها. • العالقة بني املح َو َريْن السابقني ،أي بني الفكر والشأن العام :سواء عىل مستوى التأثر والتأثري ،والتقاطع ،والسببية ،واالنفصال ،واالستقاللية ،وغريها.
دعوة للكتابة يف جملة ِدلْـــ َتا نُــون
بعد إصدار العدد صفر يف أيار/مايو ،2014تسعى مجلة ِدلْـــتَا نُــون إىل إصدار عددها األول يف شهر متوز/يوليو .2014وعليه ندعو املهتمني (بخاصة من الجيل الشاب والصاعد) إىل إغناء املجلة مبساهامتهم الفكرية والنقدية واملستقلة ،بعد االطّالع عىل رشوط وتعليامت النرش يف املوقع اإللكرتوين للمجلة .www.delta-n.c-tpa.org :ميكن إرسال الكتابات إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوين ،editors@c-tpa.org :علامً أن آخر ٍ موعد الستقبال املساهامت هو منتصف حزيران/يونيو .2014
رسائل القراء
ترحب مجلة ِدلْـــتَا نُــون برسائل القراء سواء كانت تعليقات أو تعقيبات أو ردود عىل املواد املنشورة يف املجلة ،أو اقرتاحات وانتقادات تسهم يف االرتقاء بعملها .ميكن للقراء توجيه كافة الرسائل إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوينeditors@c-tpa.org :
مقاالت
• • • • • • •
األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب – مازن عيل اجتامعي مختلف – عامد الع ّبار وعي نحو تأسيس ٍ ٍّ العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا – رهام كوسا دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية – علياء أحمد الدولة الريعية زمن التحول السيايس -مجد جـ ّمول التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع – وليد بركسية الحقيقة ليست هناك – عماّ ر املأمون
دراسات
املشهد البصري
مراجعات كتب • إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية – فرزند عمر • التح ّول الدميقراطي ..سوريا منوذجاً – عبد الحاج ريبورتاجات • إبدا ٌع وسط األمل – الفريق الصحفي يف مجلة ِدلْـــتَا نُــون • حول مراكز بحوث السياسات – الفريق الصحفي يف مجلة ِدلْـــتَا نُــون
مركز دراسات الفكر والشأن العام
Centre for Thought and Public Affairs email: info@c-tpa.org www.c-tpa.org CTPA.Arabic
@CTPA_Arabic
• • • • • •
املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا – محمد ديبو غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة – فراس الح ّواط بني الشعر والفيسبوك – سالف علّوش السينام ك ُم َع رِّب عن تفاوت الرصاع – فيكتوريوس شمس محددات تشكل الهوية الثقافية للطفل السوري -ياسمني عيود قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة – ع ّزام قصري
• • • • • • • •
مالئكة يف زمن الحرب – رامي ميك عناق األخطبوط – سامرة سالم إرصار – مصطفى دباس انترصنا – هاين عباس نزوح – دعاء نشار ابتسامة -أسامة حويجة قصة محاربة – بانا ماخوس ضاع املفتاح – مرهف يوسف
مجلة دلتا نون
يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام .دمشق ـ لندن
email: editors@c-tpa.org www.delta-n.c-tpa.org DeltaN.Arabic
@DeltaN_Arabic