Delta-N - Issue 0 - Arabic مجلة دلتا نون - العدد صفر

Page 1

‫مجلـــة يصــدرها مركــز دراســات الفكــر والشــأن العــام‪ .‬دمشــق ‪ -‬لنــدن‬

‫مقاالت‪:‬‬

‫• األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب‬ ‫• نحو تأسيس وعي اجتامعي مختلف‬ ‫• العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا‬ ‫• دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية‬ ‫• الدولة الريعية زمن التحول السيايس‬ ‫• التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع‬ ‫• الحقيقة ‘ليست’ هناك‬

‫مراجعات كتب‪:‬‬

‫• إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية‬ ‫• التحول الدميقراطي‪ ..‬سورية منوذجاً‬

‫ريبورتاجات‪:‬‬

‫• إبداع وسط األمل‬ ‫• حول مراكز بحوث السياسات‬

‫العــدد صفر‪ ،‬أيـــار ‪ /‬مـايـــو ـ ‪2014‬‬

‫دراســـــات‪:‬‬

‫• املثقف واملعارضة والشأن السوري‬ ‫• غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة‬ ‫• بني الشعر والفيس بوك‬ ‫• السينام كمعرب عن تفاوت الرصاع‬ ‫• محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬ ‫• قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة‬


‫العدد ‪ 0‬ـ أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬

‫صورة الغالف‪:‬‬ ‫‘مالئكة يف زمن الحرب’‬

‫عدسة رامي ميك‪ ،‬املزيد يف محور‬ ‫‘املشهد البرصي’ يف الصفحة ‪134‬‬

‫ِدل َتـا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ـ لندن‪ .‬السنة األوىل‪ ،‬العدد صفر‪ ،‬أيار‪ /‬مايو ‪2014‬‬

‫هيئة التحرير‪ :‬طالل امل َ ْي َهني‬ ‫فرزند عمر‬ ‫حسني برو‬

‫لالتصال بنا‪:‬‬ ‫مكتب دمشق‪:‬‬

‫محررون مساعدون‪ :‬مجد جمول‬ ‫صفاء جمعة‬ ‫متني املَيْ َهني‬

‫مكتب لنــدن‪:‬‬

‫الفريق الصحفي‪ :‬ماهر املونس‬ ‫دميا نيقوال‬ ‫طارق العبد‬ ‫نور شلغني‬ ‫عالء إحسان‬ ‫قيص عاممة‬ ‫تصميم الصور‪ :‬رامي ميك‬ ‫لجني حاج يوسف‬ ‫مسؤول اإلنرتنت‪ :‬طارق سواح‬ ‫فريق امللتيميديا واملكتبة الصوتية‪ :‬خالد هربش‬ ‫كندة يوسف‬ ‫مصطفى دباس‬

‫شارع العابد ‪ -‬جادة العاين‬ ‫ص‪.‬ب‪10250 :‬‬ ‫‪436A Hamilton House‬‬ ‫‪Mabledon Place, Bloomsbury‬‬ ‫‪London, WC1H 9BB‬‬ ‫‪Tel. +44 20 75 54 85 30‬‬ ‫‪email: editors@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.delta-n.c-tpa.org‬‬

‫مركز دراسات الفكر والشأن العام‬

‫‪Centre for Thought and Public Affairs‬‬ ‫‪email: info@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.c-tpa.org‬‬

‫التصميم واإلخراج الفني‪:‬‬ ‫‪Omran Attar‬‬ ‫‪gaea.goddess@gmail.com‬‬


‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ‪ -‬لندن‬


‫يَضَ ُع ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ بني أيديكم العدد صفر من ‘مجلة ِدلْـــتَا نُـون’‪ .‬يَضُ ُّم العدد أكرث‬ ‫بأقالم شاب ٍة وواعد ٍة لتبحث‪ ،‬من زوايا مختلفة‪ ،‬يف إشكالية العالقة بني الفكر‬ ‫من عرشين مادة تم إعدادها ٍ‬ ‫والشأن العام‪ .‬وترتاوح هذه املواد بني املقاالت والدراسات ومراجعات الكتب والتحقيقات الصحفية‪ ،‬إضاف ًة إىل‬ ‫قسمٍ ٍ‬ ‫خاص باملشهد البرصي يشتمل عىل مجموع ٍة من الصور الفوتوغرافية ورسومات الكاريكاتور‪.‬‬

‫احملتوى‬ ‫‪7‬‬

‫حترير‬ ‫كلمة رئيس التحرير‬

‫رئيس التحرير‬

‫‪8‬‬

‫كلمة العدد‬

‫هيئة التحرير‬

‫‪9‬‬

‫‪11‬‬

‫مقاالت‬ ‫األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب‬

‫مازن عيل‬

‫‪13‬‬

‫اجتامعي مختلف‬ ‫وعي‬ ‫نحو تأسيس ٍ‬ ‫ٍّ‬

‫عامد العبّار‬

‫‪17‬‬

‫العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا‬

‫رهام كوسا‬

‫‪23‬‬

‫دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية‬

‫علياء أحمد‬

‫‪27‬‬

‫الدولة الريعية يف زمن التحول السيايس‬

‫مجد ج ّمول‬

‫‪31‬‬

‫التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع‬

‫وليد بركسية‬

‫‪35‬‬

‫الحقيقة ليست هناك‬

‫عماّ ر املأمون‬

‫‪39‬‬

‫‪43‬‬

‫مراجعات كتب‬ ‫إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية‬

‫فرزند عمر‬

‫‪45‬‬

‫التح ّول الدميقراطي ‪ ..‬سوريا منوذجاً‬

‫عبد الحاج‬

‫‪51‬‬


‫‪57‬‬

‫ريبورتاجات صحفية‬ ‫إبدا ٌع وسط األمل‬

‫الفريق الصحفي يف املجلة‬

‫‪59‬‬

‫حول مراكز بحوث السياسات‬

‫الفريق الصحفي يف املجلة‬

‫‪75‬‬

‫‪81‬‬

‫دراسات‬ ‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫محمد ديبو‬

‫‪83‬‬

‫غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة‬

‫فراس الح ّواط‬

‫‪101‬‬

‫بني الشعر والفيسبوك‬

‫سالف علوش‬

‫‪111‬‬

‫السينام ك ُم َع رِّب عن تفاوت الرصاع‬

‫فيكتوريوس شمس‬

‫‪119‬‬

‫محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫ياسمني عيود‬

‫‪129‬‬

‫قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة‬

‫ع ّزام قصري‬

‫‪141‬‬

‫‪147‬‬

‫املشهد البصري‬ ‫مالئكة يف زمن الحرب‬

‫رامي مك‬

‫‪148‬‬

‫عناق األخطبوط‬

‫سامرة سلاّ م‬

‫‪149‬‬

‫إرصار‬

‫مصطفى دباس‬

‫‪150‬‬

‫انترصنا‬

‫هاين عباس‬

‫‪151‬‬

‫نزوح‬

‫دعاء نشّ ار‬

‫‪152‬‬

‫ابتسامة‬

‫أسامة حويجة‬

‫‪153‬‬

‫قصة محاربة‬

‫بانا ماخوس‬

‫‪154‬‬

‫ضاع املفتاح‬

‫مرهف يوسف‬

‫‪155‬‬


‫حترير‬

‫‪6‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حتــرير‬ ‫كلمة رئيس التحرير‬ ‫كلمة العدد‬


‫حترير‬

‫كلمة رئيس التحرير‬

‫حول ‘جملة ِدلْ َتا نُون’‬

‫تَطْ َم ُح ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ ألن تكون منربا ً مفتوحاً يسعى إىل دراسة ‘العالقة’ بني ‘الفكر’ وبني ‘الشأن العام’‪.‬‬ ‫هذه املجلة نشا ٌط من نشاطات ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’ (دمشق – لندن)‪ ،‬حيث تصدر بجهود فريقٍ‬ ‫يتوزَّع أعضاؤه بني دمشق وبريوت والقاهرة والسويد وتركيا وباريس ولندن‪ .‬وتعمل ‘هيئة التحرير’ حالياً عىل‬ ‫إصدار ‘ ِدلْـــتَا نُــون’ كل شهرين يف نسخ ٍة إلكرتونية (متوفرة مجاناً عرب املوقع اإللكرتوين للمركز واملجلة)‪ ،‬مع‬ ‫األمل يف إصدارها يف نسخ ٍة ورقي ٍة مطبوع ٍة بعد مرور السنة األوىل‪.‬‬ ‫ت ُويل ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ أهمي ًة خاص ًة للقضايا الـ ُملِ َّحة يف منطقة ‘الرشق األوسط’ عموماً‪ ،‬وسوريا خصوصاً‪.‬‬ ‫وترتاوح املواد التي تنرشها املجلة بني املقاالت والدراسات ومراجعات الكتب والريبورتاجات الصحفية‪ ،‬إضاف ًة إىل‬ ‫الصور الفوتوغرافية‪ ،‬والرسومات التشكيلية‪ ،‬والكاريكاتور‪ .‬وتركز ‘هيئة التحرير’ يف صور ٍة خاصة عىل جذب األقالم‬ ‫نقدي وخلاّ ق‪ .‬كام تسعى إىل تشجيع رشيحة الشباب الذين مل يسبق لهم‬ ‫الشَّ ابة واملوهوبة‪ ،‬واملعتمدة عىل تفكريٍ ٍّ‬ ‫اقتحام غامر الكتابة‪ ،‬أو أولئك الذين ما زالوا يَتَ َهيَّبُون نرش كتاباتهم ألسباب مختلفة‪.‬‬ ‫تتبع املجلة سياس ًة تحريري ًة تنظِّ ُم استالم املواد وقراءتها والتواصل مع ال ُكتَّاب‪ .‬ومن املهم أن نشري إىل أن‬ ‫‘هيئة التحرير’ ال تتخذ أية مواقف سياسية أو أو فكرية أو أيديولوجية ُم ْس َبقَة‪ ،‬وال تتدخل بالتايل يف األفكار‬ ‫ٍ‬ ‫الواردة يف املواد الـ ُم ْر َسلَة‪ ،‬لكنها قد تضيف اقرت ٍ‬ ‫تعديالت معينة فيام يتعلق بأسلوب َع ْر ِض هذه األفكار‬ ‫احات أو‬ ‫(مبا يجعلها أكرث وضوحاً ومتاح ًة لرشيح ٍة أكرب من القراء)‪ .‬وميكن االطالع عىل كافة التفاصيل والرشوط املتعلقة‬ ‫بالكتابة يف املجلة عرب املوقع اإللكرتوين‪.‬‬ ‫يخص اسم املجلة ‘ ِدلْـــتَا نُــون’ الذي يحمل بُ ْعدا ً رمزياً قد يدفع بال ُق َّرا ِء األعزاء إىل‬ ‫أخريا ً ال بُ َّد من كلم ٍة فيام ُّ‬ ‫التساؤل عن معناه‪ .‬إذ يُ ْر َس ُم حرف ‘الدلتا’ اإلغريقي‪-‬الفينيقي عىل شكل مثل ٍّث رأسه نحو األعىل‪ :‬نحو الـ ُم َج َّرد‪،‬‬ ‫مجازي ‘للفكر’‪ .‬أما يف اإلرث العريب فريمز حرف ‘النون’‪ ،‬كام‬ ‫ومكافئ‬ ‫للس ُم ِّو‪ ،‬والعقل‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫نحو الـ ُمطْلَق‪ ،‬كرم ٍز للنار‪ُّ ،‬‬ ‫يف ‘كُ ْن فيكُون’‪ :‬إىل اكتامل الوجود‪ ،‬إىل تحقُّق الكينونة‪ ،‬إىل تشكُّلِ األشياء يف الواقع الـ ُمعاش املحيط بنا‪ ،‬كمكافئٍ‬ ‫مجازي ‘للشأن العام’ الذي يعيشه الناس ويتفاعلون معه‪ ،‬ويتأثرون به‪ ،‬ويؤثرون فيه‪ .‬هذا الجمع‪ ،‬بني َح ْرفيَ‬ ‫ٍّ‬ ‫ِ‬ ‫مجازي بني ‘الفكر’ و‘الشأن العام’‪ ،‬مع استحضا ٍر‬ ‫‘الدلتا’ و‘النون’‪ ،‬بني ‘ َر ْم ِزيَّة الدلتا’ و‘رمزية النون’‪ ،‬هو جم ٌع‬ ‫ٌّ‬ ‫لرسالة املركز؛ ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’‪.‬‬ ‫نتمنى أن تكون هذه البداية املتواضعة عند حسن ظ ِّن ال ُق َّراء األعزاء‪ ،‬عىل أمل االستمرار يف َس ْعيِنا الطَّ ُموح‬ ‫لتأسيس مساح ٍة فكري ٍة جديد ٍة تحرتم كُلاّ ً من الكاتب‪ ،‬والقارئ‪ ،‬والكلمة التي تجمع بينهام‪.‬‬ ‫د‪ .‬مح ّمد طالل امل َ ْي َهني‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫‪8‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫كلمة العدد‬ ‫نض ُع بني أيدي حرضاتكم العدد صفر من ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ الصادرة عن ‘مركز دراسات الفكر والشأن‬ ‫العام’ (دمشق – لندن)‪ .‬هذا العدد حصيل ُة ٍ‬ ‫جهد بذله فريق العمل عىل مدى شهو ٍر عديدة‪ ،‬بالتعاون مع رشيح ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫مميز ٍة من ال ُكتَّاب والفنانني الشباب‪ ،‬بغية تقديم عملٍ‬ ‫جديد يف الساحة الفكرية والثقافية والنقدية يف املنطقة‪.‬‬ ‫ال ميكن يف هذه ال ُع َجال ِة وصف انتقال الفكرة‪ ،‬التي بدأت بحوار ٍ‬ ‫ات جانبية بني ث ُــلَّ ٍة من الزمالء‪ ،‬من ح ّيز‬ ‫وبغض النظر عن لحظات التل ُّهف التي‬ ‫التخيّل وفضاء الحلم إىل عامل الواقع والتحقّق‪ .‬لكن مهام كانت مشاعرنا‪ِّ ،‬‬ ‫تصويب لل َهفوات التي قد نكون وقعنا فيها سيأيت من ال ُق َّراء‬ ‫افقت ظهور هذا العمل‪ ،‬فإن خ َري تقييمٍ ألدائنا‪ ،‬وخ َري‬ ‫ٍ‬ ‫ر ْ‬ ‫األعزاء‪ ،‬ومن املشتغلني يف الحقل الفكري وحقل الشأن العام؛ أولئك الذين نأمل أن يطّلعوا عىل هذا العمل دون‬ ‫أن يرت ّددوا يف التعبري عن آرائهم ومالحظاتهم وانتقاداتهم‪ ،‬وإرسالها إىل هيئة التحرير‪.‬‬ ‫يحتوي العدد عىل خمسة محاور؛ مقاالت‪ ،‬ومراجعات كتب‪ ،‬وريبورتاجات‪ ،‬ودراسات‪ ،‬إضافة إىل املشهد‬ ‫البرصي‪ .‬تضم هذه املحاور يف مجموعها ما يزيد عىل عرشين مادة ُز ِّو َد معظمها بخالص ٍة من بضعة سطور‪ ،‬يك‬ ‫رس وسهولة‪ .‬وقد تعددت املواضيع والقضايا التي أثارتها‬ ‫يَتَ َس ّنى للق ّراء األعزاء االطالع عىل األفكار املطروحة يف ي ٍ‬ ‫املواد املنشورة يف هذا العدد‪ .‬ففي محور املقاالت يكتب مازن عيل مقال ًة عن ‘األصولية اإلسالمية يف املرشق‬ ‫العريب’ يناقش فيها دور األنظمة السياسية يف توفري البيئة الحاضنة ألفكار التطرف‪ ،‬يف حني يناقش عامد العبار‬ ‫الدور املهم لقراءة النص الديني يف التأثري يف الشأن العام للمجتمعات‪ .‬وبينام تُ َعل ُِّق رهام كوسا عىل التأثر بالحدث‬ ‫األوكراين من خالل عرض بعض األمثلة من تعليقات السوريني‪ ،‬تشري علياء أحمد‪ ،‬يف مقالتها املعنونة ‘دور النساء‬ ‫السوريات يف العدالة االنتقالية’‪،‬إىل رضورة إرشاك املرأة يف قضايا شديدة األهمية عىل مستوى الشأن العام‬ ‫السوري‪ .‬كام يكتب مجد ج ّمول مقال ًة يف الشأن االقتصادي يناقش فيها ‘الدولة الريعية زمن التحول السيايس’‪،‬‬ ‫مع اإلشارة إىل أن املقالة املذكورة متهي ٌد لورق ٍة بحثي ٍة ُم َع َّمقة بقلم الكاتب سيتم نرشها مستقبالً‪ .‬وسيجد ال ُق َّراء‬ ‫مقالتني حول الواقع االفرتايض؛ إحداهام بقلم عامر املأمون يتحدث فيها عن الحرب الرقمية التي تطحن السوريني‬ ‫عىل شاشات الكمبيوتر‪ ،‬أما األخرى فبقلم وليد بركسية يشري فيها إىل واقع التدوين السوري والـ ُم َد َّونَات السورية‬ ‫ظل التحوالت التي متر بها البالد‪.‬‬ ‫يف ِّ‬ ‫يضم العدد أيضاً مراجعتي كتب؛ األوىل بقلم فرزند عمر يناقش فيها كتاباً أدبياً بعنوان ‘الوحدة تُ َد�ل ِّ ُل‬ ‫سيايس لرضوان زيادة‬ ‫كتاب‬ ‫ضحاياها’ للكاتب الشاب دارا عبدالله‪ ،‬والثانية بقلم عبد الحاج يلقي فيها الضوء عىل ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫بعنوان ‘التحول الدميقراطي ‪ ..‬سوريا منوذجاً’‪.‬‬ ‫يف محور الريبورتاجات الصحفية َع َم َد الفريق الصحفي يف ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’ إىل إعداد مادتني‪ .‬األوىل عبارة‬ ‫ظل الدمار‪ .‬أما‬ ‫عن ريبورتاج بعنوان ‘إبدا ٌع وسط األمل’ يتناول املظاهر الثقافية والفنية التي تكاثرتْ يف سوريا يف ِّ‬ ‫‪9‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬

‫كلمة العدد التجريبي‬

‫الثانية فهي لقا ٌء مع بعض الباحثني يف ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ يتحدثون فيه عن أهمية ودور املراكز‬ ‫البحثية يف العملية التنموية‪.‬‬ ‫كام يحتوي العدد عىل ست در ٍ‬ ‫اسات دسمة‪ .‬إذ ينرش محمد ديبو دراس ًة عميق ًة بعنوان ‘املثقف واملعارضة‬ ‫والشأن السوري’ يق ِّدم فيها مراجع ًة أولي ًة للواقع السيايس واالجتامعي يف سوريا وجهل كثريٍ املثقفني السوريني‬ ‫بواقع بالدهم‪ ،‬مع اإلشارة إىل أن هذه الدراسة ليست سوى جز ٍء من ورق ٍة بحثي ٍة ُمطَ ّول ٍة من الـ ُم َخط َِّط إصدارها‬ ‫نصيب يف العدد صفر من ‘مجلة ِدلْـــتَا نُــون’‬ ‫يف متوز‪/‬يوليو من ِق َبلِ ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’‪ .‬وللتاريخ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫سياقات متعددة’ بقلم فراس الح ّواط‪ .‬ومر ًة أخرى إىل الفنون حيث‬ ‫مع ماد ٍة شَ ّيق ٍة حول ‘ َغ ْيالن الدمشقي يف‬ ‫تُلْ ِقي سالف علوش يف دراستها الضوء عىل أثر التكنولوجيا (فيسبوك) عىل املادة األدبية الشعرية‪ ،‬يف حني يعطي‬ ‫عام هي القضية الفلسطينية‪ .‬ويف‬ ‫فيكتوريوس شمس يف دراسته ثالثة أمثل ٍة عن َد ْور السينام يف مقاربة قضية شأنٍ ٍ‬ ‫دراسته يقدم ع ّزام قصري قراء ًة نقدي ًة و ُمركّزة لدعوات تطبيق الرشيعة التي تكتسح الفضاء العام يف غري بقع ٍة يف‬ ‫سوريا والرشق األوسط‪ .‬وأخريا ً ننرش بالتعاون مع مؤسسة اتجاهات الجزء األول من دراس ٍة لياسمني عيود حول‬ ‫‘ ُم َح ِّد َدات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري’‪ ،‬عىل أمل أن يتم نرش األجزاء املتبقية يف األعداد القادمة‪.‬‬ ‫يف املحور األخري املعنون بـ ‘املشهد البرصي’ اخرتنا لكم باق ًة من األعامل الفنية التي ترتاوح بني التصوير‬ ‫الفوتوغرايف ورسومات الكاريكاتور‪ .‬وقد أُ ْر ِسلَت املساهامت إىل العدد الحايل من ِق َبلِ عد ٍد من الفنانني والفنانات‬ ‫الشباب هم‪ :‬رامي مكيّ ‪ ،‬وسامرة سلاّ م‪ ،‬ومصطفى دباس‪ ،‬وهاين عباس‪ ،‬ودعاء نشّ ار‪ ،‬وأسامة حويجة‪ ،‬وبانا ماخوس‪،‬‬ ‫ومرهف يوسف‪.‬‬ ‫د‪ .‬مح ّمد طالل امل َ ْي َهني‪ ،‬د‪ .‬فرزند عمر‪ ،‬أ‪ .‬حسني برو‬ ‫هيئة التحرير‬

‫‪10‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬ ‫األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب‬ ‫نحو تأسيس وعي اجتامعي مختلف‬ ‫العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا‬ ‫دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية‬ ‫الدولة الريعية زمن التحول السيايس‬ ‫التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع‬ ‫الحقيقة ‘ليست’ هناك‬


‫مقاالت‬

‫مازن عيل❊‬

‫األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي‪:‬‬

‫استثمار النظام السوري‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫ثالثة عوامل تعزز من ديناميات الفعل األصويل وتتضافر يف شكل غري مسبوق يف منطقة‬ ‫املرشق العريب‪ .‬أولها‪ :‬انحسار وضعف السلطة املركزية يف ثالث دول هي سوريا والعراق‬ ‫ولبنان‪ ،‬وثانيها‪ :‬انسحاب الكثافات املدنية عىل وقع تجريفها من قبل السلطة‪ ،‬أما الثالثة‪:‬‬ ‫بخطاب‬ ‫تكمن يف الحاجة أليديولوجيا الحشد املزدوج ضد محتل خارجي وسلطة مستبدة‬ ‫ٍ‬ ‫يتأسس عىل هذه العوامل‬ ‫أي خطاب‪َّ .‬‬ ‫سهلٍ له يف الذاكرة والوجدان مكان ٌة ال ينافسه فيها ُّ‬ ‫مضاعفة االنحطاط يف املرشق العريب لثقاف ٍة مأزوم ٍة أساساً يف ذاتها وهويتها وعالقتها مع‬ ‫ٍ‬ ‫حركات أصولية راديكالية تجد من يستثمرها يف‬ ‫‘اآلخر’‪ ،‬لتصبح مخرجات هذه الثقافة‬ ‫ٍ‬ ‫تضج‬ ‫تكتيكات ابتزا ٍز وتصفي ِة‬ ‫عبثي ُّ‬ ‫حسابات دولي ٍة وإقليمي ٍة ومحلية‪ ،‬لنكون أمام مشه ٍد ٍّ‬ ‫نظم سياسي ٍة تقلَّصت إىل ميليشيات سط ٍو‬ ‫فيه الحركات الراديكالية الدينية املتصارعة مع ٍ‬ ‫كل منها عىل اآلخر مبا يشبه ‘تواطؤ األضداد’‪.‬‬ ‫تديرحروباً أهلي ًة‪ ،‬ويتغذى ٌّ‬

‫❊ خريج كلية العلوم السياسية يف جامعة دمشق‪ .‬تقدم برسالة املاجستري تحت عنوان ‘املتطلبات السياسية للتنمية‪ :‬دراسة تحليلية يف تنظيم السلطة‬ ‫والتحديث السيايس’‪ .‬عمل كباحث متفرغ يف ‘مركز الدراسات اإلسرتاتيجية’ بدمشق بني ‪ ،2012-2008‬وكسكرتري تحرير وعضو الهيئة االستشارية يف مجلة‬ ‫‘دراسات فكرية’‪ .‬كام ساهم مبجموعة من األبحاث والدراسات لهيئات سياسية وحكومية يف سوريا أهمها‪‘ :‬قانون األحزاب’‪‘ ،‬قانون االنتخابات’‪‘ ،‬دراسات‬ ‫عن املجتمع املدين’ و‘الحياة الحزبية يف سوريا’‪ .‬له العديد من األبحاث املكتوبة منها ‘أسئلة يف النهضة’‪ ،‬و‘الدميقراطية بني الخصوصية والعاملية’‪ ،‬فضالً عن‬ ‫مشاركته يف برنامج التعاون األكادميي ‘وعي الذات ووعي اآلخر يف السياسة والتاريخ والثقافة’ بني جامعتي دمشق وإرالنغن األملانية‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي‬

‫تطورت الحركة األصولية اإلسالمية وتنقلت عرب مراحل عدة وصوالً إىل شكلها الحريك الراديكايل الناجز كام‬ ‫نعارصه اليوم والذي يتعني ‘مبنظومة شبكة العالقات’ الواسعة للحركات اإلسالمية الجهادية ‘ذاتية الحركة’ التي‬ ‫يتموضع يف مركزها تقريباً تنظيم ‘القاعدة’‪ .‬وباتت معروفة للكثريين تلك السريورة التي مرت بها األصولية‬ ‫اإلسالمية والظروف الدولية واإلقليمية التي سوغت قيامها‪ ،‬هذا فضالً عن املعارف الدينية التي قدمت النص‬ ‫واملنطق العقيدي لها‪ .‬كام ميكن تلخيص العنارص املب ِّيئة لها من فقر وأمية يف مجتمعات احتضنتها كأفغانستان‬ ‫والصومال وغريها مبقابل فشلها يف إيجاد الحواضن الالزمة يف أكرث من بقعة جغرافية مفرتضة‪.‬‬ ‫كان يكفي غياب أي سلطة مركزية قوية‪ ،‬وتعيني عدو محتل بدايةً‪ ،‬حتى تستدعي أيديولوجية مبنية عىل يقني‬ ‫إمياين كاإلسالم‪ ،‬تحشد بخطابه وتنظم برشيعته حتى تقرتب من النموذج األعىل يف الوعي املجتمعي كام وصل إلينا‬ ‫عرب أمهات الكتب التاريخية‪ ،‬وتسحبه عىل الواقع كمرسحية تنكرية نشاهد فصولها عىل مرسح الواقع‪ ،‬ثم تتنقل‬ ‫وتتمدد عىل بقاع جغرافية ذات مجتمعات موسومة باإلسالمية تقوم بالتعويض عن فشل املشاريع النهضوية من‬ ‫ماركسية ويسارية وليربالية وقومية يف حمل مهام التنمية والتحرير‪.‬‬ ‫تأخذ القضية مضاعفات أكرث جدية بالنظر إىل ظاهرة األصولية اإلسالمية يف منطقة املرشق العريب بالتحديد‬ ‫الذي يزخر بقصص ‘املايض املجيد’‪ ،‬والذي تعيش مجتمعاته عىل وقع إرث تاريخي ثقيل يحكم قيمها ويشكل‬ ‫وعيها لذاتها ولآلخر‪ .‬فقد انترشت الحركات األصولية اإلسالمية بعد احتالل العراق وسقوط بغداد التي كان لها‬ ‫صدى بالغ التأثري يف النفسية العربية يف املرشق‪ ،‬محدثة تحوالً جذرياً يف املفاهيم النضالية الكالسيكية مبختلف‬ ‫توجهاتها القومية واليسارية‪ .‬إذ تحول البعثي العلامين إىل داعية إسالمي‪ ،‬والفتحاوي إىل مريب ديني‪ ،‬وانبثقت من‬ ‫قلب الحركات السياسية دعوات إسالمية كفتح اإلسالم (التي خرجت من رحم تنظيم فتح االنتفاضة برئاسة أبو‬ ‫خالد العملة) يف كناية عن رفض وقطيعة كاملة مع اإلرث االديولوجي والنضايل املرتبط بالنظام الرسمي املقاوم‬ ‫وصوالً إىل معاداته‪.‬‬ ‫وعىل وقْعِ وجود الواليات املتحدة األمريكية يف العراق كان أحد محفزات استنهاض الخطاب اإلسالموي‬ ‫التعبوي يتحرض لالنفجار يف قلب املرشق‪ ،‬فها هو اآلخر املحتل قد أصبح عىل األرض بيننا ويتهدد التوأم الجار؛‬ ‫‪13‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي‬

‫سورية‪ .‬ورسعان ما بدأت حركات ‘الصحوة اإلسالمية’ بنسختها الجهادية بالتوالد والتكاثر تحت عنوان املقاومة‬ ‫التي لقيت مدا ً لوجستياً وبرشياً من بعض دول اإلقليم مستثمرة هذه الحركات يف استنقاع الواليات املتحدة يف‬ ‫العراق‪ .‬إذا ً كان هناك من يقتنص الفرصة يف لحظة تهديد‪ ،‬إنه النظام السوري الذي وجد يف هذه الحركات أجهزة‬ ‫معدة للتحريك مبا يشبه اإلمساك مبقود (روبوت) مفخخ يهدد به تارة ويلوح به تارة أخرى‪ ،‬صانعاً بعض تشكيالته‬ ‫يف قصدية متدبرة‪.‬‬ ‫وتفيد تجربة الثامنينات والتسعينات من القرن املايض أن هذه الحركات متتلك إمكانية تفلت كبرية بعد‬ ‫رشاكة موحى بها غري مبندة بعقد أو اتفاقية لتصبح عالقة عداوة وانتقام ما بعد الرشاكة‪ ،‬متاماً كام حدث مع‬ ‫الواليات املتحدة وبعض حلفائها يف أفغانستان‪ .‬لكن النظام السوري استطاع تحايش ارتداد الحركات األصولية عليه‬ ‫بعد عودة أفراده من العراق المتالكة تلك القاعدة التفصيلية من البيانات عن أفراد التنظيامت الجهادية العاملة‬ ‫بالعراق‪ ،‬وأظهر قدرة عالية عىل الضبط وعدم تفلت زمام األمور من يده‪ .‬يدخل النظام السيايس يف املرشق العريب‬ ‫كعنرص أصيل يف معادلة األصولية هذه املرة‪ ،‬تتبدل وظائفه بتغري رشوط املعادلة منتجة مشهدا ً مختلفاً يف كل‬ ‫ظرف‪ ،‬فتدعم األصولية تحت عنوان املقاومة وتحارب تحت عنوان اإلرهاب‪ ،‬والعنرص املتحرك يف قلب املعادلة‬ ‫كان دوماً النظام السوري عىل مستوى هذه املنطقة‪.‬‬ ‫لقد تبدى الدور السوري يف استثامر الحركات األصولية مرة أخرى يف لبنان بعد اغتيال الرئيس الراحل رفيق‬ ‫الحريري عندما الحت بوادر تهديد داهم للنظام إثر اتهامه مبارشة بعملية االغتيال‪ ،‬وللداللة عىل ذلك ميكن‬ ‫استعراض جملة القرائن التي وردت يف أحد الربامج الوثائقية التي يعدها الصحفي العريب يرسي فودة والتي‬ ‫تلت عملية االغتيال‪ .‬إذ يذكر أن اتصاالً جرى بصحيفة صدى البلد اللبنانية من قبل مجهول اسمه أبو عبيدة‬ ‫مبلغاً عن ن ّية تفجري ثكنة عسكرية يف صيدا‪ ،‬وقد حدث ذلك التفجري يف املكان والزمان الذي حددهام‪ ،‬مام أكد‬ ‫التكهنات القائلة بامكانية تواجد وفعالية تنظيم القاعدة يف لبنان‪ ،‬وتكررت هذه الحادثة أكرث من مرة يف عهد ما‬ ‫بعد الوجود السوري‪ ،‬ويف نهاية عام ‪ 2005‬تم تبني عملية إطالق صواريخ (كاتيوشا) من قبل تنظيم القاعدة من‬ ‫جنوب لبنان الواقع تحت سيطرة حزب الله الذي تتنافر معه القاعدة عقائدياً وتتهمه بالوقوف عائقاً بينه وبني‬ ‫ارسائيل‪ .‬لقد كان هذا التفلت العسكري لتنظيم القاعدة عىل التخوم اإلرسائيلية مثريا ً للريبة بالتوقيت وتخفي‬ ‫عنارصه عىل غري عادة أعضاء تنظيم القاعدة الذين يجاهرون بأسامئهم وهوياتهم وأهدافهم عادةً‪ .‬وما غض النظر‬ ‫الذي مارسه حزب الله عن تلك العملية بالتحديد ‪-‬التي ال ميكن أن تحدث دون علمه‪ -‬سوى إشارة ملالمح البديل‬ ‫املمكن يف حال غياب حزب الله حيث كانت األصوات تتعاىل لسحب سالحة يف تلك األيام‪.‬‬ ‫ويف ظل غياب الوجود العسكري واألمني السوري فإن القاعدة هي من ستكون عىل الحدود اإلرسائيلية دون‬ ‫ضابط أو رقيب‪ .‬كان النظام السوري ميتلك خريطة شبكة التنظيامت اإلسالمية املرتبطة بالقاعدة أو غري املرتبطة‬ ‫بها ولديه قاعدة بيانات شبه شاملة لعنارصها العائدة من العراق عىل وجه الخصوص‪ ،‬نتيجة انخراطه بصورة‬ ‫مبارشة يف العراق‪ ،‬وميتلك القدرة اإليحائية لتحريك بعضها يف أي اتجاه يريده‪ ،‬مستخدماً إياها ورقة ابتزاز أمام‬ ‫الغرب وإرسائيل‪ ،‬ويفيد استعراض لألسامء الكثرية التي نسبت إىل القاعدة أنها إما كانت يف السجون السورية أو‬ ‫نالت مباركة األجهزة األمنية أيام القتال يف العراق‪.‬‬ ‫لرمبا استطاع النظام السوري أن يلعب ورقة األصولية اإلسالمية واالستثامر بها يف أعىل إنتاجية لفرض رؤيته‬ ‫وتجنب املواجهة مع الواليات املتحدة بعد حرب العراق‪ ،‬إىل جانب كونه نظام منوذجي يف التسلطية تتغذى‬ ‫األصولية عىل سياساته العامة املنتجة للفقر واألمية ومشاعر الحرمان لدى رشيحة واسعة من سكانه مام خصب‬ ‫‪14‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫األصولية اإلسالمية يف املشرق العربي‬

‫حالة الراديكالية وشحنها بطاقة كامنة ال تلبث أن تتفجر لحظة انعدام النظام العام والسلطة املركزية‪ ،‬هذا يف‬ ‫حقيقة األمر محاولة يف فهم دينامية صعود تنظيامت مثل ‘داعش’ و‘النرصة’‪.‬‬ ‫قد ال ميلك أي نظام أن يصنع كل حيثيات البيئة الراديكالية بكليتها‪ ،‬إذ أنها تسري وفق دينامية انحطاط‬ ‫حضاري وتاريخي تعيشه املجتمعات العربية منذ قرون‪ ،‬لكن تضاعف منه النظم السياسية يف الدول النامية‪ ،‬أي‬ ‫ال تكون مهمة النظام توليدها جذرياً بقدر ما يحفر لها املمرات لتنساب وفق إرادته كام فعل النظام السوري‪،‬‬ ‫إال أنها تخرج عن السيطرة إذا أصبحت طوفاناً شعبياً مدفوعاً بكم هائل من القهر والظلم واالستهانة بإنسانية‬ ‫اإلنسان كام يحدث يف سورية اليوم‪.‬‬

‫‪15‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫عامد العبار❊‬

‫نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف‪:‬‬

‫فحدث}‬ ‫{وأما بنعمة ربّك‬ ‫مع آية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تطبيق‬ ‫فهم مش ّو ٍه للدين‪ ،‬أو عىل‬ ‫ٍ‬ ‫ال شكّ بأن املامرسة االجتامعية الخاطئة تقوم عىل ٍ‬ ‫انتقا ٍّيئ لنصوصه دون األخذ بعني االعتبار النصوص املك ّملة‪ ،‬وهذا ما وجدناه مع استخدام‬ ‫الناس يف مجتمعنا آلية (وأ ّما بنعمة ر ّبك فحدّ ث)‪ ،‬فكان فهمها وتطبيقها املجتزأ عند كثريٍ‬ ‫من الناس يؤدّي إىل االستغراق أكرث يف الحياة‪ ،‬ما أدّى إىل حال ٍة من الفرد ّية‪ ،‬واالنعزال‬ ‫التدريجي عن املجتمع‪ .‬ولذلك وجدنا أن نعيد التفكري يف كثريٍ من اآليات التي تقوم عليها‬ ‫مثل هذه املامرسات االجتامعية الخاطئة‪ ،‬وبهذه اآلية نبدأ‪.‬‬

‫املؤسسني يف ‘مركز دراسات الجمهورية الدميقراطية’‪ .‬كاتب للعديد من املقاالت الفكريّة والسياسيّة املنشورة يف مواقع وصحف‬ ‫❊ طبيب مقيم يف فرنسا‪ .‬أحد ّ‬ ‫سوريّة‪ ،‬كصحيفة ‘طلعنا عالحرية’ و‘عنب بلدي’ و‘سنديان’ وموقع ‘أورينت‪.‬نت’‪ .‬باحث يف الفكر اإلسالمي وقضايا التغيري االجتامعي‪ ،‬ومسألة الحريّة والال‬ ‫إكراه من منظور إسالمي‪ ،‬من خالل عدّة دراسات منشورة يف موقع ‘الجمهورية لدراسات الثورة السورية’‪ ،‬وموقع ‘أون إسالم نت’‪ .‬صدر له كتاب بعنوان‬ ‫‘قصة الحريّة بني النص القرآين والتطبيق التاريخي لإلسالم’‪.‬‬

‫‪16‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف‬

‫حامل أسايس للثقافة‬ ‫للنص الديني حضور مركزي يف عملية تشكيل الوعي االجتامعي يف مجتمعاتنا‪ ،‬فهو ٌ‬ ‫اإلسالمية‪ ،‬ومجتمعاتنا الحالية بجميع مك ّوناتها‪ ،‬إسالمية وغري إسالمية‪ ،‬مجتمعات تحمل ثقافة وعادات وتقاليد‬ ‫لعب النص الديني دورا ً أساسياً يف تكوينها‪ ،‬وبالتايل فإن أي إصالح فكري يعمل عىل إعادة تفعيل النص بشكل‬ ‫سليم‪ ،‬سيكون له تأثري عىل املجتمع بكل فئاته‪.‬‬ ‫تقوم املامرسات االجتامعية الخاطئة إ ّما عىل فهم مش ّوه للنص‪ ،‬أو عىل استخدامه واستخدام تفاسريه بشكل‬ ‫مجتزأ‪ ،‬ومبعزل عن بنيان النص األخالقي ككل‪.‬‬ ‫ميثل التطبيق االجتامعي آلية {وأما بنعمة ربّك فح ّدث}((( منوذجاً للتطبيق االنتقايئ للنصوص‪ ،‬أو االختيار‬ ‫االنتقايئ لتفاسريها‪ ،‬فلطاملا كان الفهم الجمعي لآلية؛ أن عىل الذي أنعم الله عليه أن يُظهر أثر النعمة عىل نفسه‬ ‫بني الناس‪ ،‬ولطاملا كان التطبيق العميل لها يتظاهر عىل املستوى االجتامعي باملزيد من التباهي بالنعمة واملال؛‬ ‫لطاملا فُهم أن الحديث عن نعم الله يكون من خالل اإلكثار من التمتّع بها‪ ،‬وأن حرمان النفس من هذا اإلكثار‬ ‫املحصلة أن هذا الشخص‬ ‫‘املتاح عادة ملن ميلك اإلمكان ّية’ هو نوع من الجحود بهذه النعمة‪ ،‬وأن ذلك يعني يف‬ ‫ّ‬ ‫يستحق النعمة من األساس‪.‬‬ ‫امل ُنعم عليه مل يكن‬ ‫ّ‬ ‫معرفة سياق اآلية رضوري وأسايس هنا لضبط معنى مفردة ‘فح ّدث’‪ .‬اآلية جاءت مبارشة بعد مجموعة من‬ ‫األوامر التي تحدد جملة من التزامات الفرد االجتامع ّية تجاه آخرين يعيشون ظروفاً حرجة كاليتيم واملحتاج؛‬ ‫{فأما اليتيم فال تقهر * وأما السائل فال تنهر * وأما بنعمة ربّك فح ّدث} يف سورة الضحى‪ .‬الحديث عن نعم الله‬ ‫يأيت هنا ضمن سياق الحض عىل العطاء والتكافل االجتامعيني‪ ،‬اآلية التي يفهمها معظم الناس عىل أنها تحض عىل‬ ‫ظهور أثر النعمة عىل الشخص املخاطَب‪ ،‬موقعها ال يخدم هذا الفهم نهائياً‪ .‬حتى أن الفهم الحريف للعبارة عىل‬ ‫أنها دعوة للح ّديث ‘مبعنى الكالم’ عن وجود هذه النعمة‪ ،‬ال ينسجم مع سياق اآلية‪.‬‬ ‫(‪ )1‬سورة الضحى‪11:‬‬

‫‪17‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف‬

‫لهذا الفهم أساس يف التفاسري املعتربة‪ ،‬فقد أورد الطربي يف تفسريه لآلية ‪َ {“ :‬وأ َّما ِب ِن ْع َم ِة َربِّ َك فَ َح ِّدثْ } قال‪:‬‬ ‫الجريري‪ ،‬عن أيب نرضة‪ ،‬قال‪ :‬كان املسلمون‬ ‫بالنب ّوة‪ ،‬حدثني يعقوب‪ ،‬قال‪ :‬ثنا ابن ُعلَية‪ ،‬قال‪ :‬ثنا سعيد بن إياس‬ ‫ّ‬ ‫يرون أن من شُ ْك ِر النعم أن يح ّدثَ بها”(((‪.‬‬ ‫كام أورد القرطبي رأياً مشابهاً حول معنى اآلية فقال‪“ :‬أي انرش ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء‪ .‬والتحدث‬ ‫بنعم الله‪ ،‬واالعرتاف بها شكر‪ .‬وروى ابن أيب نجيح عن مجاهد ‘وأما بنعمة ربك’ قال بالقرآن‪ .‬وعنه قال‪ :‬بالنب ّوة؛‬ ‫أي بلغ ما أرسلت به”(((‪ ،‬وللحق‪ ،‬فإن املفسرّ ين حني تناولوا اآلية مل يتهاونوا يف تفسري اآليات التي سبقتها‪ ،‬والتي‬ ‫تحض عىل مراعاة أمر اليتيم والسائل‪ ،‬بينام أىت التطبيق االجتامعي لآليات عىل اجتزاء كالم املفسرّ ين من سياقه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فأصبح التطبيق العميل لآلية محصورا ً يف الحديث عن النعمة‪ ،‬مبختلف أشكال الحديث‪.‬‬ ‫بالعودة أيضاً إىل السورة التي تسبق سورة الضحى من حيث الرتتيب‪ ،‬وهي سورة الليل‪ ،‬سنجد أن اآليات‬ ‫تتكلم يف السورتني ضمن ج ٍّو واحد‪ ،‬هو نفسه جو الحض عىل العطاء والنهي عن البخل وتكديس املال ‪{ :‬فَأَ َّما َم ْن‬ ‫سهُ‬ ‫سهُ لِلْ ُيسرْ َى * َوأَ َّما َمن بَ ِخ َل َو ْاستَ ْغ َنى * َوكَذ َ​َّب بِالْ ُح ْس َنى * ف َ​َس ُن َي رِّ ُ‬ ‫أَ ْعطَى َواتَّقَى * َو َص َّد َق بِالْ ُح ْس َنى * ف َ​َس ُن َي رِّ ُ‬ ‫لِلْ ُعسرْ َى * َو َما يُ ْغ ِنى َع ْن ُه َمالُ ُه إِذَا ت َ َر َّدى}(((‪.‬‬ ‫املحصلة ميكن قبول أي فهم وتطبيق لآلية‪ ،‬طاملا انسجم مع تحقيق االلتزامات االجتامع ّية التي تذكرها‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫لآليات‪‘ .‬فح ّدث’ يجب أن تكون مصداقاً لتدبري شؤون اليتيم‪ ،‬وملعالجة مشكلة السائل‪ ،‬للعطاء والتقوى‪ ،‬ولقهر‬ ‫البخل وفتنة املال؛ إن كان الفهم والتطبيق كذلك فح ّدث وال حرج‪ ،‬ألنك إن فعلت ذلك‪ ،‬ستكون ترصفاتك هي‬ ‫أ ّول من سيح ّدث عنك‪ ،‬وسيكون من حقّك أن تح ّدث‪ ،‬بل ومن واجبك أيضاً!‬ ‫نفس اإلشكالية تواجهنا عند مراجعة التطبيق الجمعي آلية ثانية أتت ضمن سياق مختلف ضمن سورة‬ ‫القصص‪َ { :‬وابْتَغِ ِفيماَ آت َ​َاك اللَّ ُه ال َّدا َر ِ‬ ‫َنس ن َِصيبَ َك ِم َن ال ُّدنْيَا َوأَ ْح ِسن كَماَ أَ ْح َس َن اللَّ ُه إِلَيْ َك َوال تَبْغِ‬ ‫اآلخ َر َة َوال ت َ‬ ‫الْف َ​َسا َد فيِ األَ ْر ِض إِ َّن اللَّ َه ال يُ ِح ُّب الْ ُمف ِْس ِدي َن}(((‪ .‬الفهم الشائع لآلية يظهر من خالل التطبيق السائد لها‪ ،‬حيث‬ ‫تستخدم اجتامعياً للتذكري برضورة أخذ القسط الرضوري من متع الحياة‪ .‬املالحظ أن اآلية تقول {ال تنس نصيبك‬ ‫من الدنيا}‪ ،‬والطبيعي أن يكون خطاب ‘ال تنس’ موجهاً ملن هو عىل وشك النسيان أو قد نيس بالفعل‪ ،‬وأن تكون‬ ‫وحق أقرب الناس إليهم‪ .‬التطبيق االجتامعي لآلية يُظهر بدوره فهامً‬ ‫موجهة ألشخاص قد أجحفوا بحق أنفسهم ّ‬ ‫مختلفاً عن ذلك‪ ،‬فتجد أن من يستخدمها يريد عملياً نصيباً إضافياً‪ ،‬يرى أن غريه قد سبقه بالحصول عليه ضمن‬ ‫متوالية تنافس ّية ال نهائ ّية‪ .‬االستخدام االجتامعي يضع اآلية كمدخل رشعي نحو استغراق أكرث يف الحياة‪ ،‬ويجعلك‬ ‫مذنباً إن كنت ممن ال يضع حدودا ً لحياته بالشكل الذي يرتضيه التصور السائد أو ‘الجائح’ للنص و للحياة ككل‪.‬‬ ‫الفهم السائد لهذه اآليات يخرج باآليات عن املنحى الذي تريد إيصاله‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أن ما يريده هذا‬ ‫الفهم هو مسألة غري مرشوعة ‘بالكامل’‪ ،‬أو تعارضه النصوص باملطلق‪ .‬إن اإلنفاق عىل الذات واألرسة ضمن حدود‬ ‫مع ّينة ال يعد سلوكاً خاطئاً بكل تأكيد‪ ،‬ونحن هنا ال نسعى إلثبات خطأه أساساً‪ .‬ولكن ما نعمل عىل مناقشته‪،‬‬ ‫أن هذا النوع من اإلنفاق هو مسألة فطرية غريزيّة‪ ،‬ليس من شأن النص الديني أن يثبتها بقدر ما من شأنه أن‬ ‫(‪)2‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫(‪)4‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫‪18‬‬

‫الطربي‪ ،‬محمد بن جرير‪ ،‬جامع البيان يف تأويل آي القرآن‪ ،‬دار هجر‪ ،‬القاهرة ‪ ،2001‬ط‪ ،1‬ج‪ ،24‬ص‪491‬‬ ‫القرطبي‪ ،‬محمد بن أحمد‪ ،‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت ‪ ،2006‬ط‪ ،1‬ج‪ ،23‬ص‪351‬‬ ‫سورة الليل‪.‬‬ ‫سورة القصص‪.‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف‬

‫ينظّمها‪ ،‬وأن يضعها يف خدمة بناء املجتمع‪ ،‬شأنها بذلك شأن جميع الغرائز البرشية‪ .‬ويف الحديث أن رسول الله‬ ‫صىل الله عليه وآله وسلم قال‪“ :‬كلوا وارشبوا وتصدقوا يف غري رسف وال مخيلة إن الله تعاىل يحب أن يرى أثر‬ ‫نعمته عىل عبده”(((‪ ،‬والحديث النبوي يحذّر اإلنسان بداي ًة من الرسف ويحضّ ه قبل ذلك عىل الصدقة‪ ،‬قبل أن‬ ‫ير ّده إىل غريزته بعد أن أعاد له تنظيم حياته بالشكل الذي يخدم الهدف منها‪ .‬وبحسب اآلية السابقة من سورة‬ ‫القصص‪ ،‬فإن نصيب الدنيا يتموضع بالضبط ما بني التفكري بالدار اآلخرة من جهة { َوابْتَغِ ِفيماَ آت َ​َاك اللَّ ُه ال َّدا َر‬ ‫ِ‬ ‫اآلخ َرةَ} ومنهج اإلحسان من جهة ثانية { َوأَ ْح ِسن كَماَ أَ ْح َس َن اللَّ ُه إِلَيْ َك}‪ .‬ضمن هذه اإلحداثيّات املضبوطة يأيت‬ ‫نصيبك من الدنيا‪ .‬لكن ملاذا هذه اإلحداثيات الصارمة؟ الجواب تجده يف الشطر األخري من اآلية نفسها { َوال تَبْغِ‬ ‫الْف َ​َسا َد فيِ األَ ْر ِض إِ َّن اللَّ َه ال يُ ِح ُّب الْ ُمف ِْس ِدي َن}؛ فانعدام الحس واملبادرة الفردية تجاه املجتمع يعني مع الوقت‬ ‫تراكم الفساد فيه‪ ،‬العملية ليست فقط عبارة عن رضائب وزكاة مفروضة‪ ،‬فهذه كلها مجتمعة هي الحد األدىن‬ ‫والرضوري ولكنها ليست كل يشء‪ .‬الخطاب القرآين يسعى إىل جعل اإلحسان منهج حياة‪ ،‬ويشري إىل أن غياب‬ ‫هذه القيمة له صلة ما بالفساد واإلفساد‪ .‬غياب اإلحسان يؤسس لبداية فرديّة أنانية‪ ،‬وعزلة عن هموم املجتمع‬ ‫واحتياجاته‪ ،‬وهذا يسهم يف تراكم مشاكله االجتامعية واالقتصادية مبا يعني تراكم الفساد‪ ،‬وال ّ‬ ‫شك أن أغلب‬ ‫املفسدين م ّروا بحالة االنفصال هذه يف البدايات‪.‬‬ ‫نشري هنا إىل أننا نعيش عاملاً تجتاحه فردانيّة أنانيّة ك َوباء‪ ،‬فردانيّة عىل املستوى الشخيص قبل تكوين أرسة‪،‬‬ ‫ثم تأخذ شكالً مختلفاً مع وجود الزوجة واألطفال‪ ،‬فتتسترّ بالعطاء األرسي‪ ،‬الذي يتمظهر من خالل تفاين الفرد يف‬ ‫تسخري هذا العطاء داخلياً عىل نطاق األرسة‪ .‬يرافق هذا األمر شعور تربيري أن هذا أحد أنواع العطاء االجتامعي‪،‬‬ ‫بل يتم تعميم فكرة أن هذا هو أعىل درجات العطاء‪ ،‬وما هي إال فردانية أرسيّة تؤسس لبدايات عزلة عن مشاكل‬ ‫املجتمع‪ ،‬وهي فرع من فردانيّة الذات‪ ،‬فاألرسة هي االمتداد الطبيعي للذات الفرديّة‪.‬‬ ‫ويف املجتمعات اإلسالمية يتم مترير ‘جائحة الفردانيّة’ تحت غطاء كثري من اآليات أو التفاسري املجتزأة ـ كام‬ ‫يحدث عند استخدام آية {وأما بنعمة ربّك فح ّدث}ـ مبا يخدم فكرة العطاء األرسي بالدرجة األوىل‪ ،‬حتى إذا ما‬ ‫أخذت األمور أكرث من حد اإلشباع بكثري‪ ،‬يتم عندها االلتفات نحو مصارف أخرى للعطاء خارج محور الذات‬ ‫الشخص ّية واألرسيّة‪ ،‬هذا إن بقي هناك قدرة عىل العطاء بعد كل هذا!‬ ‫املجتمع السوري مل يكن يوماً بعيدا ً عن هذه الجائحة‪ ،‬وكان يفرتض أن تكون الثورة مناسبة ال تع ّوض ملعالجة‬ ‫الكثري من املشاكل االجتامعية‪ ،‬كون األزمة ستغيرّ من الركود الذي أصيب به املجتمع ككل‪ ،‬ومع أن هذا التغيري‬ ‫حدث بنسبة ما‪ ،‬إال أن املالحظ أيضاً أن نسبة كبرية من الناس مل تغيرّ نظام حياتها أو طريقة فهمها للنصوص‬ ‫كل ما جرى‪ ،‬كثريون هم الذين مل تُغيرّ األحداث نظام حياتهم اليومي‪ ،‬منهم يف الداخل ويف بالد النزوح أو‬ ‫برغم ّ‬ ‫يف بلدان االستقرار يف الخارج‪ .‬وال نبالغ إن قلنا أن مج ّرد الحديث عن ‘النصيب من الدنيا’ يف مثل هذه الظروف‬ ‫هو مسألة فيها نسبة عالية من الرتف واألنان ّية‪ ،‬يف الوقت الذي تعيش فيه رشيحة ال يستهان بها من السوريني‬ ‫تحت خط الحياة بكثري!‬ ‫قد تبدو الفكرة غري ذات أهم ّية يف نظر كثريين‪ ،‬لكونها تتعلّق بتفاصيل صغرية جدا ً باملقارنة مع املشاكل‬ ‫التي تجتاح عاملنا العريب واإلسالمي؛ لكن من الرضوري هنا أن نعيد تذكري أنفسنا بأن إحدى أكرب مشكالتنا أننا‬ ‫(‪ )6‬رواه النسايئ‪ ،‬وقال عنه الحاكم صحيح عىل رشط الشيخني‪ ،‬ومل يخرجاه‪.‬‬

‫‪19‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫نحو تأسيس وعي اجتماعي خمتلف‬

‫مشغولون دامئاً بالقضايا الكربى‪ ،‬أو باألحرى بقضايا نعتقد أنها األكرب واألكرث أهمية ضمن سلّم أولويات التغيري‪،‬‬ ‫وهي إن افرتضنا ‘جدالً’ أنها أكرث أهميّة‪ ،‬إال أنها باملقابل أكرث صعوبة كون تغيريها ال يحتاج إىل قرارنا نحن فقط‪،‬‬ ‫بل تؤث ّر فيها قرارات لجهات متعددة‪ .‬ويف خض ّم ذلك تغيب ع ّنا الجزئيات الصغرية التي تقع ضمن نطاق املمكن‪،‬‬ ‫والتي نستطيع التأثري فيها بشكل مبارش ومضمون‪ ،‬وهي متثّل محور أي عملية تغيري اجتامعي‪ ،‬وال أبالغ إن قلت‬ ‫أن مسائل اإلنفاق والعطاء األرسيني إن ت ّم تنظيمها كام يجب مع إعادة قراءة النصوص املتعلّقة بها‪ ،‬فإننا سنكون‬ ‫أمام ثورة تغيري اجتامعية بكل معنى الكلمة‪.‬‬ ‫كثرية هي التفاصيل الحيات ّية التي ال نلقي لها باالً‪ ،‬بينام تكون يف الحقيقة هي العتبات األوىل للتغيري!‬

‫‪20‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫العرس يف أوكرانيا‬

‫رهام كوسا❊‬

‫والطبل يف سوريا‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫افرتاضياً يخرج الحدث األوكراين من ساحته اإلعالمية األوروبية‪ ،‬ليصبح أحد مواضيع‬ ‫الحديث بني السوريني عىل شبكات التواصل االجتامعي‪ .‬تتخصص صفحة ‘و ِّجه نصيحة من‬ ‫ثوار سوريا إىل ثوار أوكرانيا’ مبعالجة الشأن األوكراين من زاوية محلية تلقائية‪ .‬تسلط هذه‬ ‫سيايس‬ ‫املادة الضوء عىل ما تعكسه منشورات الصفحة من حال ٍة نفسي ٍة وذهني ٍة لقطاّعٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫مع ٍني يف الشارع السوري‪ ،‬وما تشكِّله هذه الصفحات من وسائل مشاركة سياسية بسيطة‬ ‫تخرج من إطارها املحيل هذه املرة لتتعامل مع ٍ‬ ‫حدث عاملي‪.‬‬

‫❊ طالبة ماجستري يف كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ ،‬ومعيدة يف قسم اإلذاعة والتلفزيون يف الكلية ذاتها‪ .‬تعمل صحفية لجمعية قرى األطفال ‪ ،SOS‬ومقدمة‬ ‫ومعدة برامج يف إذاعة ميلودي سوريا‪ .‬عملت محررة لعدد من املواقع اإللكرتونية السورية واللبنانية‪ ،‬ومراسلة ملجلة ‪ Syria Today‬الورقية‪ .‬لديها مدونة‬ ‫شخصية أدبية تحمل اسم ‘فتات أيام’‪.‬‬

‫‪21‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا‬

‫بينام يسيطر الغموض عىل الوضع السيايس يف أوكرانيا نتيجة التطورات املتسارعة هناك‪ ،‬ومع بدء الربملان‬ ‫األوكراين إدارة شؤون البالد دون انتظار توقيع الرئيس عىل القرارات املختلفة‪ ،‬يعلن الشارع السوري نجاح الثورة‬ ‫يف رشق أوروبا‪ ،‬بعد أسبوع فقط من بدء االحتجاجات الشعبية ضد الرئيس األوكراين فيكتور يانوكوفيتش‪ .‬تخرج‬ ‫املشاركة املحلية االفرتاضية لألحداث السياسية من نطاقها الجغرايف املعتاد‪ ،‬لتتناول حدثاً عاملياً يف دولة مل يكن‬ ‫للسوريني احتكاك قوي معها قبالً‪ .‬تربط وسائل التواصل االجتامعي وما توفره للعامة من منابر للحديث والتعبري‬ ‫الشخيص بني دول وثقافات العامل بشكل أكرث حقيقية ومبارشة مام استطاعت أن تضطلع به األقامر االصطناعية‬ ‫قبالً‪ .‬تحمل هذه الوسائل مفهوم العوملة السياسية والثقافية إىل مرحلة جدية كلياً‪ ،‬تتبسط بها األدوات وتتوفر يف‬ ‫يد الجميع‪ ،‬ليكون الكل مشاركاً يف هذه العوملة وليس متلقياً لها فقط‪.‬‬ ‫تكرث التعليقات املحلية عىل ما يحدث يف أوكرانيا عرب وسائل التواصل االجتامعي‪ ،‬وينفرد ‘فيس بوك’ بتغطية‬ ‫خاصة ملا حدث يف ثاين أكرب دول أوروبا الرشقية منذ بداية األحداث حتى اللحظة‪ ،‬فتحت عنوان ‘وجه نصيحة من‬ ‫ثوار سوريا إىل ثوار أوكرانيا’ أطلق السوريون حدثاً استطاع اجتذاب حوايل سبعة آالف متابع نشط خالل بضعة‬ ‫أيام‪ ،‬لتزدحم الصفحة الصغرية بـ ‘نصائح’ سورية لألوكرانيني يف ثورتهم الناشئة‪ ،‬نصائح يحمل معظمها طابعاً‬ ‫ساخرا ً يدرك أن ال رسالة حقيقية سرتسل لألوكرانيني من املنرب االفرتايض‪ ،‬ليذهب آخرون يف توجيه نصائح تنبع من‬ ‫ندم وإعادة نظر فعليني حول ما ارتكب يف ‘الثورة السورية’ من أخطاء‪.‬‬ ‫ضمن اإلطار التهكمي املنشور عىل صفحة الحدث‪ ،‬نصائح تتفاوت بني متوين املواد االستهالكية الرتفيهية التي‬ ‫ارتفع سعرها محلياً وفقد بعضها اآلخر‪ ،‬إىل سخرية من الرئيس األوكراين املخلوع‪“ ،‬اليوم انهزم الرئيس االوكراين‬ ‫دقيل الظهر قال بدو جنسية رقاوية ‪ ...‬قلتلو قوم انقلع من هيني بست ايدك وقت كان لك كلمة ع النفوس‬ ‫األوكرانية منشان جنسية ما رديت عيل”‪ .‬ينرش الرقاوي الفرايت معلقاً عىل عزل الرئيس‪.‬‬ ‫يرى مستخدمون آخرون يف الصفحة فرصة حقيقية لنقد ما حدث خالل السنوات الثالث املاضية تحت شعار‬ ‫الثورة‪ ،‬وينفرد عدد من املنشورات يف ذكر مالحظات يرى أصحابها أنه كان حرياً مبن قام بالثورة تطبيقها يف سوريا‬ ‫أوالً‪ ،‬فيام ينتقل البعض إىل توصيف ما يجب عىل املعارضة األوكرانية تجنبه مستقني ذلك من سقطات كثرية تقع‬ ‫‪22‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا‬

‫فيها املعارضة السورية حتى اللحظة‪ ،‬خاصة تلك التي تحاول بناء سلطة رشعية لها خارجياً‪ ،‬ينرش أحمد أبو الريم‪:‬‬ ‫“مربوك انتصاركم بس ديرو بالكم من كلمة (األنا)”‪.‬‬ ‫يصدم نجاح الثورة األوكرانية الشعب السوري من كافة االتجاهات السياسية‪ ،‬توقعوا سيناريو موازياً للقصة‬ ‫السورية بلغة رشق أوروبية‪ .‬ليس لؤماً سورياً بل بحثاً عن مشاركة يف األزمة الدولية يف الشامل حيث ما زالت‬ ‫األحداث تحتمل املزيد من التهكم واملشاركة واإلسقاطات عىل الواقع السوري‪ ،‬فالثورة شقراء استطاعت أن تستفز‬ ‫السوريني لكشف املزيد مام خفي طوال سنوات‪.‬‬ ‫ففي محاولة الستقراء الرأي العام السوري حول نجاح الثورة يف أوكرانيا‪ ،‬يطرح مرتادو الصفحة عىل بعضهم‬ ‫البعض عددا ً من األسئلة الجوهرية‪ ،‬يرجح تصويت املشاركني أن أسبوعاً واحدا ً ال يكفي لنجاح ثورة ما مقارنني‬ ‫ذلك بسنواتهم العجاف الثالث التي مل تجلب سوى الخيبة‪ ،‬كام ترصح أكرثية املشاركني يف االستفتاء أن الفرق بني‬ ‫نجاح الثورة األوكرانية يف مواجهتها مع ما يحصل يف سوريا يعود إىل التآمر العاملي عىل الشعب السوري‪ ،‬ومتيل‬ ‫الكفة يف تصويت آخر أيضاً إىل جدوى الثورة املسلحة مقابل االحتجاجات السلمية مربزة املواقف السياسية‬ ‫لألغلبية املتفاعلة عىل الصفحة‪.‬‬ ‫ويوضح مؤسس الصفحة (رفض الكشف عن اسمه ألسباب خاصة) وهو ‘ناشط يف الثورة السورية’ عىل حد‬ ‫تعبريه‪ ،‬أنها املرة األوىل التي يطلق فيها حدثاً عىل ‘فايسبوك’‪ ،‬مؤكدا ً أن إنشاءه للحدث كان تهكمياً بحتاً دون‬ ‫دوافع سياسية واضحة‪ ،‬ليتجاوز انتشار حدثه التوقعات‪.‬‬ ‫تعرب بعض املنشورات عن يأس وإحباط شديدين يغرق فيهام السوريون اليوم عىل اختالف توجهاتهم‬ ‫السياسية بعد ثالثة أعوام من األزمة السورية التي ستمتد إىل أمد بعيد عىل ما يبدو‪ ،‬وال يشكل الحدث االفرتايض‬ ‫الجديد سوى إضافة لعرشات الصفحات واألحداث االفرتاضية العديدة‪ ،‬نشاطات أطلقت بتأثري النوستالجيا والحنني‬ ‫الشعبي لحقبة ما قبل آذار ‪ ،2011‬ليعود السوريون فيها إىل تكرار أمنيات متشابهة ترغب لو عاد الزمن بضعة‬ ‫أعوام‪ ،‬ليس للقيام بيشء أو نفيه‪ ،‬سوى لتقدير حياة اعتادوها كان األجدر بهم أن يقدروا نعمتها‪ ،‬وال يبدو واضحاً‬ ‫مدى جدوى كل تلك النشاطات من عدمها يف ظل عدم تقدميها فائدة عىل أرض الواقع‪.‬‬ ‫يف ذات السياق‪ ،‬تيش منشورات الصفحة بحالة نفسية منهكة ملعظم روداها‪ ،‬هم يف الغالب سوريون‬ ‫معارضون وصل بهم يأسهم ملرحلة التهكم‪ ،‬منهم من مل يصل تلك املرحلة بعد‪ ،‬وال يرى الصحفي السوري عيل‬ ‫إبراهيم مشكلة يف ذلك بل يراها “فسحة لتاليف األخطاء بنفس تهكمي مبدع”‪ .‬تحمل األحداث االفرتاضية التي‬ ‫باتت ‘موضة’ فيسبوكية جديدة الروح ذاتها‪ ،‬يصبح فيس بوك منربا ً ألحداث تشتاق املايض‪ ،‬أو تتخيل مستقبالً‬ ‫فقد السوريون األمل يف حدوثه‪ .‬تصطف أسامء هذه األحداث يف أذهان رشيحة واسعة بات املوقع األزرق مهربها‬ ‫الوحيد‪ ،‬يف ساعات منزلية طالت مؤخرا ً ألسباب عديدة‪.‬‬ ‫خارج الصفحة‪ ،‬وتعليقاً عىل الحدث األوكراين‪ ،‬ينرش إعالميون وكتاب سوريون رؤيتهم ملا حدث‪ ،‬ينرش‬ ‫اإلعالمي السوري فيصل القاسم مصربا ً جمهوره عىل ‘تويرت’ و ‘فايسبوك’‪“ :‬ال تقارنوا أنفسكم بأوكرانيا‪ ،‬فالشعوب‬ ‫مثل أصابع الكف ليست متساوية”‪ ،‬كام يتساءل اإلعالمي رفيق نرص الله‪“ :‬هل األلعاب الشتوية أهم من خسارة‬ ‫أوكرانيا؟” مبيناً أن الروس أخطأوا مرة أخرى‪ ،‬ليلخص الكاتب الساخر لقامن ديريك ما يحصل افرتاضياً بقوله‪:‬‬ ‫“الشعب األوكراين أسقط النظام‪ ،‬والناشطون السوريون يتباهون”‪.‬‬ ‫تكشف صفحة ‘و ّجه نصيحة لثوار أوكرانيا’ اعرتافاً غري مبارش بأخطاء عديدة شلّت الثورة محلياً؛ يتحول‬ ‫‪23‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا‬

‫اآلالف إىل منابر وهمية هروباً من الواقع املتعب بعد آذار ‪ ،2011‬يدرك معظمهم أال إنجاز فعلياً لهذه الصفحات‬ ‫إال الهذر املزدحم‪ ،‬يواصل السوريون تفتيت ساعات نهارهم بكالم ال طائل له إال التعبري عن الذات حتى وإن‬ ‫كان عبثياً بحتاً‪ ،‬يف ظل غياب واضح لألسامء الثقافية واملدونني واألقالم الصحافية عن املشهد ككل وتركه لألسامء‬ ‫املعتادة التي اعتلت منابر التعبري الفعال لثالث سنوات وما تزال‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دور النساء السوريات‬

‫علياء أحمد❊‬

‫يف العدالة االنتقالية‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تؤكد املقالة عىل رضورة مشاركة النساء يف العدالة االنتقالية باعتبارها شكالً من أشكال‬ ‫مشاركتها السياسية‪ ،‬وبرضورة العمل عىل التحضري لهذه املرحلة عىل جميع املستويات‪.‬‬ ‫وتشري املقالة إىل أن مشاركة النساء‪ ،‬وباملناصفة مع الرجال‪ ،‬يف آليات العدالة سيساهم يف‬ ‫تحديد شكل الدولة السورية الجديدة‪ ،‬مع املطالبة بتفعيل املنظامت النسوية ودعوتها‬ ‫التخاذ دورها الف ّعال يف هذه املرحلة‪.‬‬

‫❊ خريجة علم اجتامع ـ جامعة حلب‪ .‬باحثة يف قضايا املرأة والطفل‪ ،‬نرشت عدد من الدراسات واملحارضات الثقافية‪ .‬مدربة يف اآلليات الدولية لحامية حقوق‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ورفع الوعي الجندري‪ .‬كتبت يف مواضيع اجتامعية وثقافية متنوعة يف منطقة الرشق األدىن‪ ،‬ونرشت يف العديد من املواقع االلكرتونية منها‪ :‬موقع‬ ‫األوان‪ ،‬موقع نساء سوريا ‪ ،www.nesasy.org‬موقع معهد جينيف لحقوق اإلنسان ‪ ،www.gihr.org‬وغريها‪.‬‬

‫‪25‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية‬

‫تعيش سوريا مرحلة مخاض عسري تهدد مبوت الجنني واألم يف الوقت نفسه‪ ،‬بداللة ارتفاع نسب العنف‬ ‫يف املجتمع السوري‪ ،‬وتزايد عدد ضحاياه من قتىل ومهجرين ونازحني ومخطوفني‪...‬إلخ‪ ،‬إىل جانب تدمري البنى‬ ‫التحتية يف الدولة‪ ،‬وغريها من اآلثار الكارثية للرصاع املمتد منذ ثالث سنوات‪ ،‬وال يزال مستمرا ً بدون توضح مالمح‬ ‫حل لو بعيد األمد يلوح يف األفق‪.‬‬ ‫ورغم أن الوضع الحايل عىل الصعيد السيايس وامليداين بعيد عن تحقيق حلم العدالة االنتقالية‪ ،‬والتي هي‬ ‫رضورة ملحة للخروج من هذا املأزق الدموي‪ ،‬إال أن التخطيط لها وتهيئة البنية املجتمعية والكوادر الالزمة‬ ‫لتحقيقها مسألة يف بالغ األهمية‪ ،‬عدا عن كونها عامل مساعد يف نرش السالم وتكريس قيمه يف املجتمع السوري‬ ‫الذي يشتاق لسالم ابتعد عنه طويالً‪.‬‬ ‫وكام أكدت كثري من االتفاقيات الدولية((( من خالل تجارب الدول‪ ،‬مأسوية نتائج النزاعات املسلحة عىل‬ ‫النساء واألطفال‪ ،‬ركزت اتفاقيات أخرى((( عىل أهمية دور النساء يف صنع السالم‪ .‬وال يبتعد الواقع السوري وحال‬ ‫النساء عن التوصيف الذي استقت منه االتفاقيات السابقة خالصاتها‪ ،‬فاإلحصاءات والدراسات امليدانية املهتمة‬ ‫بواقع النساء السوريات ومعاناتهن عىل اختالف أشكالها‪ ،‬حقيقة تؤكد عىل رضورة انتفاض النساء ذاتهن عىل‬ ‫الواقع املأسوي الذي يعشنه‪ ،‬واملساهمة يف تحقيق السالم السوري الذي سيولد من رحم السوريات اللوايت يجب‬ ‫أن يؤمن بقدراتهن عىل إنتاجه واملشاركة الحقيقية يف صنعه‪.‬‬ ‫ترتبط العدالة االنتقالية مبسألة االنتقال الدميقراطي‪ ،‬وكال املفهومني من قضايا الشأن العام وتساهم الدراسات‬ ‫الفكرية يف تبني مالمحهام ودور النساء ومشاركتهن يف تحديد مستقبل الدول الساعية إىل تكريس املنهج‬ ‫الدميقراطي السليم‪.‬‬ ‫األمر الذي يستوجب توفر جملة من الرشوط الذاتية واملوضوعية‪ ‬تأيت يف مقدمتها رضورة تصالح الدولة‬ ‫مع ذاتها‪ ،‬واالعرتاف بأخطائها وتصحيح ما اعوج من ترشيعاتها وقوانينها ويشكل صعوبات وتحديات متنع من‬ ‫تحقيق هذا الدور‪.‬‬ ‫‪ 1‬إعالن بشأن حامية النساء واألطفال يف حاالت الطوارئ والنزاعات املسلحة والصادر عام ‪.1974‬‬ ‫‪ 2‬قرارات مجلس األمن يف األمم املتّحدة رقم ‪ 1325‬و‪ 1820‬و‪ 1888‬حول املرأة واألمن والسالم‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية‬

‫وميكن توضيح مصطلح العدالة االنتقالية بأنه مجموعة من االجراءات الترشيعية واالجتامعية والقضائية‬ ‫واإلدارية التي تعالج ما حدث خالل فرتة سابقة تخللتها انتهاكات لحقوق االنسان من قبل أجهزة الدولة وجامعات‬ ‫منظمة أو غري منظمة‪ ،‬بهدف إظهار الحقيقة‪ ،‬وحفظ الذاكرة الوطنية‪ ،‬وجرب الرضر‪ ،‬ومحاكمة املنتهكني‪ ،‬وتكريس‬ ‫السلم األهيل للتأسيس لدولة الحق والقانون‪.‬‬ ‫يف محاولة للتأكيد عىل رضورة مشاركة النساء يف العدالة االنتقالية‪ ،‬نتصدى ملجموعة من األسئلة التي ال ميكن‬ ‫تقديم االجابة الوافية عنها يف هذه العجالة منها‪ :‬هل ميكننا اعتبار مشاركة النساء يف العدالة االنتقالية شكالً‬ ‫من أشكال مشاركتهن السياسية‪ ،‬التي ال ميكن وصفها حالياً عىل جانبي الرصاع ‘النظام واملعارضة’ إال باملشاركة‬ ‫الشكلية والتجميلية؟‬ ‫لإلجابة عن هذا التساؤل نستأنس بتعريف املشاركة السياسية عند صموئيل هاتنجتنون وجون نلسون‬ ‫بأنها “النشاط الذي يقوم به املواطنون العاديون بقصد التأثري يف عملية صنع القرار الحكومي‪ ،‬سواء كان هذا‬ ‫النشاط فردياً أم جامعياً‪ ،‬منظامً أو عفوياً‪ ،‬متواصالً أو متقطعاً‪ ،‬سلمياً أو عنفياً‪ ،‬رشعياً أو غري رشعي‪ ،‬فعاالً أم غري‬ ‫فعال”‪ ،‬ويتضمن مصطلح املشاركة السياسية قدرة املواطنات واملواطنني عىل التعبري عن إراداتهن‪/‬م يف القرارات‬ ‫السياسية‪ ،‬وإمكانية تحقيق هذه اإلرادات بشكل مبارش أو عن طريق ممثلني يختارونهن‪/‬م‪.‬‬ ‫وهنا البد لنا من الجزم بأن املشاركة السياسية هي املعيار الحقيقي للمواطَ َنة واملؤرش الدال عىل متتع الدولة‬ ‫بنظام سيايس دميقراطي‪ ،‬فاملواطنات واملواطنون املتساوون يف الحقوق وامللتزمون بأداء الواجبات‪ ،‬يشاركون‬ ‫بكامل حريتهم يف بناء مجتمعهم الذي ينتمون إليه ويكفل لهم حقوقهم اإلنسانية‪ .‬وهنا ننتقل لتساؤل جديد‪،‬‬ ‫هل تكون معيقات مشاركة النساء يف آليات العدالة االنتقالية هي نفسها املعيقات التي حددت شكل مشاركتها‬ ‫السياسية؟‬ ‫وضحت الكثري من الدراسات األسباب الكامنة وراء ضعف املشاركة السياسية للنساء‪ ،‬وتتنوع هذه األسباب‬ ‫نتيجة عوامل اجتامعية وثقافية واقتصادية وحتى سياسية ترتبط جميعها بالبنية الفكرية البطريركية للمجتمع‬ ‫التي تستفيد من الدين والترشيعات والقوانني والعادات والتقاليد كوسائل لقوننة املعوقات والتحديات التي تحد‬ ‫كاشف أكرث منه منشئ للقضايا املجتمعية يف جوانبها‬ ‫من مشاركة النساء‪ ،‬ونتيجة للرصاع الدائر‪ ،‬الذي كان له أث ٌر ٌ‬ ‫السلبية بشكل عام‪ ،‬وللمشكالت التي تعاين منها النساء بشكل خاص‪ ،‬فإن الصعوبات واملعيقات السابقة أصبحت‬ ‫أكرث وضوحاً‪ ،‬األمر الذي يستوجب معالجتها بحزم وبدون مراعاة واستحياء‪ ،‬وألننا نستطيع أن نجزم وبجرأة أن‬ ‫شكل مشاركة النساء يف آليات العدالة االنتقالية سينبئ بالشكل الذي ستكون عليه الدولة السورية الجديدة‪.‬‬ ‫فإذا قلنا أن ‘املجال العام’ مصطلح يُطلق عىل املساحة الرئيسة التي يتشكل فيها الرأي العام املكون من أراء‬ ‫مختلفة لتجمعات برشية تتمتع بحق املشاركة ولها نفس الحقوق والواجبات‪ ،‬ومكونة من أفراد ومجموعات‬ ‫تتحدد أمناطهم الفكرية ومنظومتهم القيمية‪ ،‬حسبام تقتيض تنشئتهم االجتامعية يف ‘املجال الخاص’ (الذي‬ ‫يتضمن كل ما يناقشه قانون األحوال الشخصية من عالقات أرسية وزواج وطالق و‪..‬إلخ)‪ ،‬فهو مرتبط حكامً بشكل‬ ‫الدولة ويُرعى من قبلها‪ ،‬لذلك البد من قطعية الربط بني املجالني الخاص والعام وتأثري كل منهام يف اآلخر‪ ،‬وبالتايل‬ ‫فإن مرحلة العدالة االنتقالية مرحلة حاسمة يف العمل عىل تحرير وتطوير املجال الخاص لينعكس إيجاباً عىل‬ ‫املجال العام‪ ،‬وبالتايل لبدء العمل املمنهج لبناء الدولة الدميقراطية املنشودة‪.‬‬ ‫وهنا البد من املرور عىل دور املنظامت النسوية ومساهمتها يف تفعيل دور النساء للمشاركة الفعالة يف‬ ‫العدالة االنتقالية ال نجد تحرجاً من رضورة مطالبة هذه املنظامت النسوية إىل جانب هيئات املجتمع املدين‬ ‫‪27‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية‬

‫ألخذ دورها الحقيقي والجاد يف متكني املرأة عىل جميع املستويات االجتامعية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬ومنح‬ ‫التسهيالت للعمل عىل إزالة الصورة النمطية للمرأة من خالل جميع الوسائل مع رضورة الرتكيز عىل وسائل االعالم‬ ‫بكل أنواعها‪ ،‬للوصول إىل مرحلة حقيقية يف إنجاز املطالب وأال تكون جعجعة بال طحني‪ ،‬وأن تعد مشاركتهن يف‬ ‫إجراءات العدالة االنتقالية عىل قدم املساواة مع الرجال‪ ،‬مقدمة رضورية لهذا الدور املرجو‪ ،‬ومن الرضوري مبكان‬ ‫اإلشارة إىل أن املطالبة بـ ‘كوتا’ نسائية يف آليات العدالة االنتقالية أمر غري وارد‪ ،‬بل يجب تحقيق مبدأ املناصفة‬ ‫بني النساء والرجال يف هذه اآلليات‪ ،‬وخاصة أن النساء هن األكرث ترضرا ً من النزاعات‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مجد َج ُّمول❊‬

‫الدولة الريعية زمن التحول السياسي‪:‬‬

‫عقبة أمام الدمقرطة وغياب الطرح‬ ‫عن النخب السياسية‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يسعى املقال إىل عرض إشكاليتني تواجه‪ ،‬ما درج عىل تسميته‪ ،‬دول ‘الربيع العريب’ يف‬ ‫سياق التحوالت التي تتع ّرض لها‪ .‬تكمن األوىل يف البنية الريعية لهذه الدول‪ ،‬والثانية يف‬ ‫رئييس يف صميم‬ ‫مطلب‬ ‫غياب طرح هذه اإلشكالية عن النخب السياسية مع أن حلَّها‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫عملية التحول الدميوقراطي‪ .‬فالدولة الريعية تُشكِّل عقب ًة أمام تحقيق الدميوقراطية‬ ‫الرتباطها باالستبداد كأسلوب للحكم‪ ،‬ملا توفره هذه البنية للسلطة الحاكمة من قدرة‬ ‫عىل السيطرة والتحكم مبوارد املجتمع مبا يخدم مصالحها دون مساءلة‪ ،‬وألن هذه الدولة‬ ‫تنبثق عنها رشائح اجتامعية ـ اقتصادية ترتبط مبارش ًة بالسلطة وتتناىف مصالحها مع بنية‬ ‫الدولة الدميوقراطية والحامل االجتامعي الذي تفرزه‪ .‬تغيب معالجة هذه القضية وغريها‬ ‫عن معظم النخب السياسية‪ ،‬يف حني أن تغيري بنية الدولة والعقلية التي تحكم مؤسساتها‬ ‫ٌ‬ ‫رشوط أساسية لالنتقال إىل دولة‬ ‫وهيكل االقتصاد‪ ،‬إىل جانب االنتقال السيايس‪ ،‬هي‬ ‫دميوقراطية‪ .‬هذا املقال مقدم ٌة لورق ٍة بحثي ٍة سيتم إنجازها مستقبالً‪.‬‬

‫❊ مجد جمول طالب يف السنة األوىل ماجستري‪ ،‬يف كلية االقتصاد‪ ،‬جامعة دمشق‪ .‬بعد انطالق االنتفاضة السورية‪ ،‬آذار ‪ ،2011‬وخاللها تنقّل بني عدة تجمعات‬ ‫سياسية وشارك بعدة نشاطات مدنية وسياسية‪ ،‬وهو حالياً عضو يف ‘تيار بناء الدولة السورية’ حيث شارك يف نشاطاته املدنية والسياسية وبتأسيس ‘منتدى‬ ‫البناء السيايس’‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫الدولة الريعية زمن التحول السياسي‬

‫عند بدء ظهور الحركات االحتجاجية يف املنطقة العربية من تونس إىل البحرين مرورا ً بسوريا‪ ،‬كان هنالك‬ ‫مجموعة من العوامل؛ الذاتية واملوضوعية‪ ،‬الداخلية والخارجية‪ ،‬عوامل يف سياق الفعل وأخرى يف سياق رد‬ ‫الفعل‪ ،‬ساهمت بهذا القدر أو ذاك يف تشكّل هذه الظاهرة ومآالتها‪ ،‬أي االحتجاجات العلنية الغاضبة‪ ،‬وإعادتها‬ ‫إىل املرسح السيايس العريب بعد عقود من الجمود‪ .‬ورسعان ما تح ّولت من مستوى الظاهرة إىل مستوى يقارب‬ ‫يل‪ :‬ما قبل االنتفاضات الشعبية‪ ،‬وما بعدها‪ .‬وإن كان‬ ‫حال ًة من ال َقطْع التاريخي بني مرحلتني متاميزتني بشكل ج ّ‬ ‫تخصها دون غريها‪ ،‬إلاّ أن هناك ظروفاً موضوعية تتشابه فيام بني الدول وبنسب‬ ‫لكل دولة ظروفها الذاتية التي ّ‬ ‫متفاوتة بحسب اكتامل هذا الظرف ونضجه‪ ،‬يتجلىّ هذا الرشط املوضوعي بوضوح عىل مستويني‪ :‬البنية الريعية‬ ‫للدولة والعقلية الريعية املسيطرة عليها‪ ،‬وبنية املجتمع املحكوم وطبيعة مؤسساته وتنظيامته غري الخارجة عن‬ ‫سلطة الدولة‪.‬‬ ‫فعىل مستوى الدولة‪ ،‬ميكن الحديث عن االقتصاد الريعي‪ ،‬الذي يقوم عىل مصادر ريعية ـ غري إنتاجية ـ‬ ‫خارجية‪ :‬كالعوائد النفطية واملساعدات الخارجية وعوائد خدمات السيادة (ترانزيت) نقل بحري ‪ ...‬إلخ’ باإلضافة‬ ‫لتحويالت املغرتبني والعاملني بالخارج‪ ،‬أو داخلية‪ :‬كالدخول التي تتكون يف القطاعات الخدمية كاملصارف والتأمني‬ ‫واألسواق املالية والعقارات والسياحة‪ .‬يُعتَرب االقتصاد الريعي حجر األساس للدولة الريعية‪ ،‬تحديدا ً عندما يقرتن‬ ‫هذا االقتصاد بنظام سيايس تديره عقلية ريعية‪ ،‬مبا تحمله من أبعاد سياسية واجتامعية فضالً عن االقتصادية‪،‬‬ ‫فالعقلية الريعية هي أسلوب متكامل إلدارة املوارد املادية والبرشية‪ ،‬ينطلق من منط اقتصادي (ريعي)‪ ،‬ليتجاوز‬ ‫االقتصاد ويطال البنية االجتامعية والثقافية واألخالقية أيضاً‪ ،‬ليصبح يف نهاية املطاف ناظامً ومسيرّ ا ً لكيفية إدارة‬ ‫الدولة وصنع القرار السيايس‪ ،‬لسلطة تجني وال تنتج‪ ،‬تكسب وال توزّع‪ ،‬تتث ّبت وال تتغيرّ ‪ .‬ويذكر االقتصادي املرصي‬ ‫حازم الببالوي يف كتاب ‘الدولة العربية’‪ ،‬الذي شارك جياكومو لوتشياين بتأليفه‪ ،‬أنه يف الدولة الريعية يعمل الجزء‬ ‫األسايس من املؤسسات وقوة العمل يف التوزيع واالستهالك‪ ،‬وتستطيع الدولة عن طريق التمركز واالحتكار أن‬ ‫تجعل مجموعة صغرية مرتبطة بها تعمل يف ميدان االقتصاد والسياسة‪.‬‬ ‫وعىل مستوى املجتمع‪ ،‬تعيش األغلبية من شعوب هذه الدول حالة من التهميش والفقر والبطالة ونقص‬ ‫‪30‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫الدولة الريعية زمن التحول السياسي‬

‫العدالة االجتامعية مبستويات صارخة‪ ،‬بالتوازي مع عالقة بني الدولة واملجتمع أساسها القهر واالستبداد بطابع‬ ‫تأميمي احتكاري لجهة الدولة‪ ،‬فهذا التقارب‪ ،‬عىل مستويي الدولة واملجتمع‪ ،‬هو ما يفسرّ (ليس وحده وإمنا‬ ‫مجال البحث يف هذه النقطة) حالة االنفجار الجمعي الغاضب واملطالب يتغيري حال معيشته بدءا ً من تغيري‬ ‫النظام السيايس‪.‬‬ ‫والجدير بالبحث هنا‪ ،‬هو جوهر هذا التغيري ومسارات تطوره عىل مستويي الدولة واملجتمع‪ ،‬فمن املعروف‬ ‫أن تغيريا ً سياسياً يستهدف تغيري النظام السيايس من استبدادي شمويل إىل دميوقراطي تع ّددي يتض ّمن‪ ،‬أو عليه أن‬ ‫يتض ّمن‪ ،‬تغيريا ً بنيوياً يف النظام االقتصادي االجتامعي السائد والذي يح ّدد بالرضورة بنية الدولة وهيكل االقتصاد‬ ‫وطبيعة العالقات االجتامعية واالقتصادية القامئة‪ .‬والستحالة فصل السيايس عن االقتصادي عن االجتامعي فال ب ّد‬ ‫وأن تكون طبيعة النظام االقتصادي االجتامعي متكاملة مع رشوط النظام السيايس السائد؛ إذن‪ ،‬النظام السيايس‬ ‫يؤسس ويكمل هذه اإلدارة‬ ‫الذي يدير الدولة واملجتمع بآليات دميوقراطية يحتاج لنظام اقتصادي اجتامعي ّ‬ ‫ويع ّزز القدرة الدميوقراطية للمؤسسات‪ ،‬نظام من شأنه أن يخلق تق ّدماً اقتصادياً وعدالة اجتامعية‪ ،‬فالفقراء‬ ‫واملرىض واأل ّميني ليسوا من مك ّونات الدولة الدميوقراطية التي يُف َرتض‪ ،‬لتكون دميوقراطية بالفعل‪ ،‬أن يتساوى‬ ‫مواطنوها األحرار ـ من الفقر واملرض والجهل ـ يك يكونوا أحرارا ً يف املشاركة والتمثيل السيايس‪.‬‬ ‫ومنوذج الدولة الريع ّية املح ِّدد لطبيعة الدولة السورية منذ بدايات تشكّلها‪ ،‬أو يف الجمهورية الثالثة عىل وجه‬ ‫املؤسس عىل قاعدة املشاركة السياسية الواسعة والف ّعالة‪،‬‬ ‫التحديد‪ ،‬ال يستقيم مع دميوقراطية الحكم والتمثيل َّ‬ ‫وال ميكن لهذا النموذج إلاّ أن يحول دون الدميوقراطية لتش ّبثه باالستبداد‪ ،‬فالرثوة ال ت ُ ْنتَج بل ت ُج َنى دون جهد‬ ‫أو ابتكار أو مشاركة مجتمعية واسعة‪ ،‬والسلطة هي مصدر الرثوة‪ ،‬وهذا ما يضطر بالحاكم ألن يبقى حاكامً‬ ‫وألن يدعم بقاء حكمه بكل األدوات فهو ميلك الرثوة‪ ،‬التي مصدرها السلطة‪ ،‬وينفقها يف سبيل دميومة حكمه‬ ‫يف مسارين رئيسني‪ :‬األول يف تدعيم عظمة السلطة وكياناتها بضخامة اإلنفاق عىل الجيش واألمن االستخبارايت‬ ‫املحيل لقمع وجود ومنع ظهور أي تشكيل مجتمعي‪ ،‬من الثقايف إىل السيايس‪ ،‬خارج سياق السلطة وسيطرتها‪،‬‬ ‫دون إهامل اإلنفاق امللحوظ عىل اإلعالم الرسمي‪ ،‬أداة الدعاية السلطوية‪ ،‬ويتمثّل املسار الثاين يف ‘رشوة’ املجتمع‬ ‫بتوزيع عالو ٍة هنا ووظائف وهمية هناك تحت مسميات من قبيل ‘املنحة’ أو ‘املكرمة’ التي تدلّنا عىل طبيعة‬ ‫العقلية الريعية التوزيعية الحاكمة للدولة ومق ّدراتها‪ ،‬وسمة هذا اإلنفاق‪ ،‬إضافة إىل أنه ال يحتكم ألولويات‬ ‫اقتصادية‪ ،‬ويع ّد أداة هامة المتصاص غضب الناس وإلقناعهم باالرتباط املصريي بينهم وبني الدولة‪/‬السلطة‪.‬‬ ‫وبعد أن صارت فرصة أو مرحلة التغيري السيايس‪ ،‬دون النظر إىل أنها تحققت بأقل من الحد األدىن من‬ ‫اب فاقت تكلفته عن عوائد التغيري امل ُنتظر وامل ُق َّدر له أن يكون مخيباً لآلمال‪ ،‬هل ستبقى بنية‬ ‫الطموح ومع خر ٍ‬ ‫االقتصاد كام هي ـ ريعية خدمية وليست إنتاجية؟ وهل ستُ َوزَّع دخول عوائد النمو عىل السوريني بنفس الشكل‬ ‫ليزداد غنى األغنياء وفقر الفقراء أكرث؟ لقد غاب عن رؤى النخب السياسية السورية وبرامجها‪ ،‬خصوصاً يف املرحلة‬ ‫الحالية‪ ،‬طرح ومعالجة مسائل من قبيل‪ :‬طبيعة الدولة السورية وبنية االقتصاد السوري وعالقات اإلنتاج وعالقات‬ ‫املؤسس‪ ،‬ورضورة تغيري هذا البنية لتغيريٍ فعيل للنظام ـ ربمّ ا ألن غالبيتها اعتادت‬ ‫التوزيع والعقد االجتامعي ّ‬ ‫مؤخرا ً عىل معاداة النظام الحاكم من بوابة السلطة ـ “يف مرحلة ما بعد ‪ 10‬حزيران ‪ 2000‬مل تعد سياسة املعارضة‬ ‫ت ُبنى إلاّ بداللة ‘اآلخر’‪ ،‬سواء كان يف الداخل أو خارج الحدود‪ ،‬ومل تعد تبنى كام كانت يف مرحلة ‪2000-1976‬‬ ‫عىل أساس ما تراه الذات املعارضة من برامج وفقاً للتوازنات‪ ،‬سواء كانت السقوف عالية أم منخفضة‪ ،‬حيث كان‬ ‫ما تراه الذات السياسية املعارضة هو الذي يرسم الحركة‪ ،‬نحو األعىل أو سقف أخفض وفقاً لتغري موازين القوى‪،‬‬ ‫‪31‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫الدولة الريعية زمن التحول السياسي‬

‫وليس بداللة ‘آخر’ تتحدد برامج وحركة املعارضة من خالله‪( ”.‬محمد سيد رصاص‪ .‬املعارضة يف بداية عهد األسد‪،‬‬ ‫األخبار اللبنانية‪ ،‬العدد ‪ .)2013/12/3 ،2166‬كام وأ ّن هذه املسائل غابت يف األساس‪ ،‬أو ظلّت غائبة‪ ،‬عن العقلية‬ ‫الحاكمة للسلطة دون أي مواجهة للواقع ومآالت انحداره لتستمر يف ذات النهج الذي أدارت وقادت به البالد‬ ‫والعباد طيلة العقود املاضية وأ ّدى إىل ما أ ّدى إليه اليوم‪ ،‬حيث مل تستطع هذه العقلية قراءته إلاّ بوصفه ‘مؤامرة‬ ‫خارجية’ عليها أو عىل الدولة وشعبها ـ حيث ال فرق عندهم بني املفهومني ـ وليس جراء عوامل داخلية تراكمت‬ ‫وتفاعلت عرب سنني طويلة لتتجلىّ بهذه الصورة الحركيّة املعقّدة‪.‬‬ ‫والنموذج املرصي مثال صارخ وميلء بالدروس‪ ،‬يف مرص‪ ،‬حيث وقع تغي ٌري سيايس لسلطة الحكم‪ ،‬برموزه‬ ‫وحزبه‪ ،‬ولكن النهج االقتصادي إلدارة املوارد وتوزيعها املجتمعي استم ّر عىل حاله‪ ،‬وظهر الحكم العسكري‪ ،‬ليظهر‬ ‫عند أول عملية انتخابية بعد الثورة‪ ،‬الحكم ال ّديني‪ ،‬أو مرشوعه بصبغ الدولة بلونه‪ ،‬وليعود الحكم العسكري‬ ‫مجددا ً مع احتامل بقائه ‘دميوقراطياً’‪ .‬فهل تتحقق الدميوقراطية مبج ّرد تغيري سلطة الحكم إىل سلطة أخرى‬ ‫بظروف أقل استبدادية من السابق بقليل؟ أي مع تعديالت دستورية ومشاركة عدد من األحزاب السياسية عرب‬ ‫صندوق انتخاب‪ ،‬دون األخذ بالحسبان أن النمو االقتصادي والتوزيع العادل للدخل والخدمات االجتامعية‪ ،‬من‬ ‫تعليم وصحة وسكن‪ ،‬هي من مق ّومات الدميوقراطية ورشو ٌط موضوعية النطالقها‪ ،‬ألن حجمها ونوعيتها وعدالة‬ ‫توزيعها هي التي ترتقي باإلنسان وبطموحه وبإنتاجيته وخياراته‪ ،‬الذي يُع ّد‪ ،‬أي االنسان‪ ،‬الهدف النهايئ لعملية‬ ‫التنمية وأساسها‪ ،‬والتنمية حرية ‪ ...‬حسب ما تعلَّمنا من أمارتيا ِسن ‪.Amartya Sen‬‬ ‫االقتصاد الريعي هو ضد االقتصاد اإلنتاجي والعقلية الريعية ضد العقلية اإلنتاجية بالرضورة‪ ،‬االقتصاد الريعي‬ ‫يستسهل الحصول عىل الرثوة‪/‬الريع ليوزّعها عىل مراكز السلطة ثم عىل القلّة املقربني ومن ثم يوزع القليل الذي‬ ‫تبقى عىل الرشائح األوسع من املجتمع‪.‬‬ ‫فال ب ّد من تغيري يتناسب واملضمون املعريف والتاريخي ملفهوم ‘الثورة’‪ ،‬تغي ٌري يُ ِ‬ ‫حدث فارقاً يف النهاية لصالح‬ ‫الرشائح االجتامعية امله َّمشة‪ ،‬الحامل االجتامعي للحراك املطالب بالتغيري والذي يرتبط حارضه ومستقبله‪،‬‬ ‫املؤسسية للدولة واملجتمع مبستوياتها املادية وال ِقيَ ِميَّة‪ :‬هيكل االقتصاد‬ ‫وجودياً‪ ،‬بهذا التغيري‪ .‬تغي ٌري يطال البنى ّ‬ ‫ومنط اإلنتاج والتوزيع‪ ،‬عقلية وذهنية اإلدارة الحاكمة ملوارد املجتمع املادية والبرشية‪ .‬إن تغيري هذه املنظومة‬ ‫ال ِقيَ َميَّة يسبقه تغي ٌري يف املنظومة املادية للمجتمع‪ ،‬عرب حشد كل الطّاقات لبناء قاعدة إنتاج مادي حقيقي تخلق‬ ‫القيمة وتوزعها من خالل عمليات اإلنتاج والتبادل والتوزيع واالستهالك بالسياق الذي يوظّف ويستخدم القسط‬ ‫األكرب من املوارد املادية والبرشية استخداماً أمثالً‪ ،‬هذه القيمة وبهذا األسلوب يف التشكّل والتوزيع من شأنها أن‬ ‫رسع من عملية الرتاكم املادي واملعريف للبدء مبرشوع التنمية املستدامة الذي يعود عىل اإلنسان السوري ارتقا ًء‬ ‫ت ِّ‬ ‫ويعب به عتبة التأخّر‪ ،‬وليتعاقد السوريون فيام بينهم عىل أساس حتمية التكامل ووحدة املصالح الوجودية‪،‬‬ ‫رُ‬ ‫ولتقوم عالقة بني الدولة واملجتمع أساسها التصالح وتبادل املنفعة ال القهر واالستبداد‪ ،‬وليستقل القرار السيايس‬ ‫‪-‬املستند لنظام اقتصادي غري تابع‪ -‬بدالً من خضوعه ملنطق التوازنات اإلقليمية بصفرية تأثريه عىل تلك التوازنات‪.‬‬

‫‪32‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫التدوين السوري‬

‫وليد بركسية❊‬

‫وجدلية االلتصاق بالواقع‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ازدادت أهمية التدوين السوري كحركة فكرية وثقافية بعد األزمة السياسية والحرب‬ ‫األهلية التي تشهدها البالد اليوم‪ ،‬ومع تنامي أعداد املدونني تدريجياً‪ ،‬ينقسم أولئك إىل‬ ‫قسمني يتشبث أحدهام بالواقع لرصده والتدوين حوله بطروحات شخصية أو عامة‪ ،‬فيام‬ ‫يبتعد اآلخر عن الواقع اإلنساين والسيايس نحو مواضيع أخرى قد تكون خيالية عىل صعيد‬ ‫التأليف األديب مثالً أو متخصصة يف إطارات ضيقة‪ ،‬لتبقى جدلية االلتصاق بالواقع التي‬ ‫تسعى املقالة إىل توضيحها محكوم ًة بشخصية الـ ُمدَ ِّون أوالً وأخرياً‪.‬‬

‫❊ كاتب وصحايف ومدون سوري مقيم يف بريوت‪ .‬خريج كلية اإلعالم يف جامعة دمشق ‪ ،2011‬يحرض لرسالة املاجستري يف جامعة بريوت العربية حول املدونات‬ ‫السورية‪ ،‬متخصص يف النقد اإلعالمي لصالح قسم امليديا يف جريدة املدن اإللكرتونية منذ آذار ‪ .2013‬ينرش كتاباته األدبية ومقاالته النقدية (سينامئياً وأدبياً)‬ ‫يف مدونة ‘فقاعات صابون’ منذ متوز ‪ ،2011‬مهتم بالشأن الثقايف والفكري بالدرجة األوىل‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع‬

‫مل يكن انتشار املدونات يف سوريا حتى فرتة قريبة بالكثافة املطلوبة مثلام هو الحال يف دول العامل واملنطقة‬ ‫العربية‪ ،‬حيث بقي التدوين ألسباب تقنية وحكومية بتأثري سياسة الحجب السابقة‪ ،‬محصورا ً بفئات قليلة من‬ ‫املهتمني النخبويني والصحافيني العاطلني عن العمل أو السوريني املغرتبني‪ ،‬ليكتسب التدوين تدريجياً أهمية أكرب‬ ‫يف ظل األزمة السياسية التي تعيشها البالد‪ ،‬حتى تكرس يف األذهان كنشاط فكري معارص بشمولية امللتيميديا‪،‬‬ ‫ومل يعد مقبوالً النظر إليه كمجرد هواية لقطع أوقات الفراغ بعكسه فنوناً كاملة من الكتابة واألدب إىل التصوير‬ ‫والغرافيكس مرورا ً بالصحافة وإعالم املواطن وغريها‪ ،‬لتربز بحدة قضية انعكاسات األزمة الطويلة يف البالد سياسياً‬ ‫وأمنياً واجتامعياً واقتصادياً‪ ،‬عىل قرارات املدونني السوريني فيام يقدمونه للجمهور‪.‬‬ ‫وتشهد أروقة اإلنرتنت اليوم‪ ،‬والدة جيل كبري من املدونني الذين وجدوا يف التدوين صيغة أكرث رسمية رمبا‬ ‫للتعبري عن أفكارهم مقارنة بالرثثرة اليومية عىل الشبكات االجتامعية التي احتلت صدارة اهتامم رشائح واسعة‬ ‫من الجمهور يف عرص الومضات عىل ‘فايسبوك’ و‘تويرت’‪ ،‬وبتنا نالحظ والدة مجتمعات افرتاضية تضم املدونني‬ ‫معاً كـ ‘اتحاد املدونني السوريني’ وصفحة ‘مدونات سورية’ عىل ‘فايسبوك’‪ ،‬أو موقع ‘كوكب سوريا’ الذي يجمع‬ ‫التدوينات السورية لعدد كبري من املدونات ويعيد نرشها عرب الـ ‘‪.’RSS‬‬ ‫ال يوجد إحصاء دقيق لعدد املدونات السورية اليوم‪ ،‬خاصة أن هناك قسامً من املدونني ال يفصح عن هويته‬ ‫الشخصية لسبب أو آلخر‪ ،‬وتنشط معظم تلك املدونات عىل محريك ‘ووردبرس’ و‘غوغل’ فيام يبقى استخدام‬ ‫منصة ‘تامبلر’ محدودا ً‪ ،‬وتتنوع اهتاممات أولئك جميعاً بني املذكرات الشخصية البسيطة وصوالً للتحليالت‬ ‫السياسية املعمقة مرورا ً بعرشات املواضيع املتخصصة والعامة األخرى‪.‬‬ ‫مدى التصاق املدونني بالواقع السوري يف ظل الحرب األهلية التي تعصف بالبالد منذ العام ‪ 2011‬ليست‬ ‫متشابهة لدى الجميع‪ ،‬حيث تتحكم القرارات الفردية واملزاجية الذاتية بالتدوين إىل حد كبري‪ ،‬نقطة فاصلة بني‬ ‫التدوين كفن إعالمي (مجازياً) وبني العمل االحرتايف يف وسائل اإلعالم التقليدية‪ ،‬وإن كان العمل االحرتايف محصورا ً‬ ‫بضوابط الزمان واملكان وقيم األخبار املتعددة‪ ،‬فإن التدوين يتحرر من ذلك نحو آفاق أوسع للتعبري عن الذات‬ ‫دون قيود‪.‬‬ ‫‪34‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع‬

‫يف ضوء ذلك‪ ،‬فضّ ل عدد من املدونني السوريني تحويل مدوناتهم العامة القدمية إىل الجانب السيايس أو رصد‬ ‫الجانب امليداين يف البالد مبوضوعية حرفية أو شخصانية ذاتية كام يف ‘مدونة مدينة’‪‘ ،‬مدونة بال اسم’‪‘ ،‬مدونة‬ ‫مؤنس’‪ ،‬وقام آخرون بإغالق مدوناتهم العامة القدمية وافتتاح مدونات متخصصة بأسامء جديدة كبداية للتعبري‬ ‫عن الواقع املعارص ‘مدونة خربشات’ تحولت إىل ‘مدونة آدم’ كام ارتأى البعض اآلخر االبتعاد عن تلك املعمعة‬ ‫الخطرة نحو مواضيع بعيدة عن األزمة يف البالد لتتحول مدوناتهم إىل عامل خيايل من الخواطر واألفكار املنفصلة‬ ‫عن الواقع واملعربة عن أحالم أصحابها بغد أفضل كام يف ‘خطر يف بايل’‪‘ ،‬مرافئ النورس’‪‘ ،‬قمر ال يكتمل’‪ ،‬وال‬ ‫يتعدى النوع األخري امليكانيزمات الدفاعية النفسية املعتادة يف العقل البرشي عند األزمات عرب التجاهل أو‬ ‫الهروب من الحقيقة‪.‬‬ ‫املدونات األدبية كنوع من املدونات املتخصصة تشغل قسامً كبريا ً من اهتاممات السوريني أكرث من غريها إىل‬ ‫حد ما‪ ،‬حيث باتت ملجأ دافئاً يف ظل تنامي صعوبات النرش محلياً وإقليمياً‪ ،‬وتعكس تلك املدونات ذات االنقسام‬ ‫السابق بني الواقع والخيال‪ ،‬فبينام باتت الكتابات األدبية لبعض املدونني انعكاساً لحقيقة الحرب والترشد واللجوء‬ ‫واملآيس اإلنسانية يف البالد كام يف ‘ماجدالينا’‪ ،‬و‘جرعة زائدة’ حافظت مدونات أخرى ولو جزئياً عىل خصوصيتها‬ ‫كأدب قد يعكس خيال صاحبه فقط مبعزل عن تفاصيل املكان والزمان عرب مواضيع عن الحب والجسد واملوت‬ ‫وغريها كام يف ‘بلوكة’‪ ،‬و‘فتات أيام’‪ ،‬والنوعان عموماً يبرشان بأقالم واعدة يف األدب املستقبيل برشط االستمرار‬ ‫واالهتامم والحصول عىل الفرص للنرش والربوز‪.‬‬ ‫االنفصال عن الواقع قد ال يكون سيئاً مثلام يبدو‪ ،‬بل هو رضوري إىل حد ما لالستمرار يف الحياة رغم الظروف‬ ‫املحيطة كنوع من التحدي للموت املجاين يف البالد‪ ،‬فال ميكن تعميم الجانب السيايس فقط عىل الحياة ككل رغم‬ ‫أهميته النسبية حالياً‪ ،‬بل تبقى هناك جوانب أخرى فنية وأدبية وسينامئية وشخصية تستحق تسليط الضوء عليها‬ ‫من منظور مختلف‪ ،‬ويبقى ذلك مرهوناً باألهمية النسبية التي يراها املدون نفسه يف املواضيع املختلفة‪ ،‬ومن‬ ‫هنا ال ميكن الحكم عىل التدوين من وجهة نظر املتلقي فقط ألنه ميثل يف األساس إشباعاً لحاجة املدون وحقه‬ ‫الطبيعي يف التعبري عن نفسه بالطريقة التي يراها مناسبة‪.‬‬ ‫من جهة أخرى ال غنى للمجتمع عن التدوين امللتصق بالواقع من أجل كرس روتينية تدفق األنباء واملعلومات‬ ‫عرب وسائل اإلعالم بأجنداتها السياسية املختلفة‪ ،‬إضافة لطرح الرؤى السياسية الخاصة مبختلف االتجاهات‪ ،‬وتربز‬ ‫يف هذا اإلطار املدونات البعيدة عن االنقسامات السياسية يف سوريا اليوم التي تعارض كل ما يجري يف البالد‬ ‫من قبل النظام واملعارضة والكتائب اإلسالمية املتشددة‪ ،‬كام ميكن القول أن األزمة يف البالد فتحت املجال أمام‬ ‫املدونني لدخول عامل ‘صحافة املواطن’ باستحياء بنقلهم الواقع اليومي يف محيطهم الجغرايف وخاصة من النواحي‬ ‫األمنية وامليدانية واملعيشية‪ ،‬بعدما كان ذلك النوع من التدوين محصورا ً بالدول الغربية‪.‬‬ ‫جدلية االلتصاق بالواقع ال ميكن حسمها حتى من وجهة نظر أكادميية‪ ،‬حيث ترجع د‪ .‬إميان عليوان‪ ،‬املحارضة‬ ‫يف قسم اإلعالم بجامعة بريوت العربية‪ ،‬املسألة إىل طبيعة التدوين امللتصقة بشخصية صاحبها ومميزاته الفردية‪،‬‬ ‫خاصة أن املدونات نشأت بداية كبديل افرتايض للمذكرات الشخصية قبل عرص الشبكات االجتامعية‪ ،‬لتتطور‬ ‫املدونات فيام بعد إىل مساحة حرة للتعبري ال يشرتط فيها الحرفية اإلعالمية‪ ،‬ومن هنا ال ميكننا كجمهور عام أو‬ ‫متخصص مطالبة املدونني االلتصاق بواقعهم أو تحميلهم مسؤوليات اجتامعية فوق طاقاتهم‪ ،‬كام ال ميكننا إطالق‬ ‫صفات إعالميني أو صحافيني أو أدباء أو مفكرين عليهم إال إن كانوا كذلك يف الواقع‪ ،‬لتبقى شخصية املدون‬ ‫وخصائصه الفردية هي العامل الحاسم يف تحديد طبيعة مدونته ومدى التصاقها بالواقع‪ ،‬سواء كان الواقع شديد‬ ‫الشخصية بنطاق اجتامعي ـ جغرايف ضيق أو عاماً يحايك قضايا املجتمع الراهنة‪.‬‬ ‫‪35‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫ع ّمار المأمون❊‬

‫احلقيقة ‘ليست’ هناك‪:‬‬

‫سوريا‪ ،‬احلرب الرقمية ‘قراءة عامة’‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تحدد املقالة العالقة بني اإلعالم ودوره يف التأثري عىل ما يحدث يف سوريا‪ ،‬وتعرض‬ ‫أساليب االستخدام الجديدة (كالتطبيقات‪ ،‬الوسائط املتعددة‪ ،‬التابليت)‪ ،‬وتناقش التفاعل‬ ‫بني وسائل اإلعالم الجديدة والتقليدية‪ ،‬والرأي العام‪ ،‬والعامل الحقيقي‪ ،‬باإلضافة إىل تدفق‬ ‫املعلومات ومصادرها‪ .‬توليد محتوى هذه الحرب الرقمية هو أحد العوامل املهمة يف هذه‬ ‫املقالة التي تحاول طرح سؤالني‪ :‬هل ميكننا االعتامد عىل األشخاص الذين يُـ َولِّدُ ون هذا‬ ‫املحتوى؟ هل ما يقولونه ميثِّل الحقيقة؟‬

‫❊ صحفي سوري مستقل يعمل من دمشق يف عدد من الصحف واملواقع العربية والدولية‪ .‬مهتم بشؤون الثقافة واملجتمع‪ .‬حاصل عىل شهادة املاجستري‬ ‫باإلعالم‪ ،‬وليسانس يف النقد والدراسات املرسحية‪.‬‬

‫‪36‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫احلقيقة ‘ليست’ هناك‬

‫أصيب الناس بالصدمة ـ عىل األقل البعض منهم ـ عندما اكتشفوا أن وسائل اإلعالم الجديد وتقنيات االتصال‬ ‫عرب اإلنرتنيت قد تؤدي إىل حدث جلل كالربيع العريب‪ .‬الحالة السورية كانت األكرث تعقيدا ً‪ ،‬حيث ما زالت مستمرة‬ ‫منذ ثالث سنوات‪ ،‬فوسائل اإلعالم الجديدة واإلعالم التقليدي لعبت دورا ً هاماً يف صناعة الحرب وتحريك الرأي‬ ‫العام بصورة أثرت عىل حياة األفراد الشخصية‪.‬‬ ‫كان من الصعب عىل أحدهم أن ينضم إىل املنظومة اإلعالمية الرسمية‪ ،‬قبل ما متر به سوريا اآلن من ‘ثورة‪/‬‬ ‫حرب’‪ ،‬إذ كان ال بد له من صالت واسعة و‘واسطة’ مع الحكومة‪ ‬باإلضافة إىل الكثري من املعامالت الروتينية‬ ‫والبريوقراطية‪ ،‬فاإلعالم الرسمي محكوم بـ ‘مافيا’ حسب العاملني باملجال‪ ،‬وقليلون هم القادرون عىل االنضامم‬ ‫إىل املنظومة اإلعالمية الرسمية‪.‬‬ ‫هذا االحتكار أصبح من السهل كرسه‪ ‬فوسائل اإلعالم ‘املعادية’ للنظام السوري ترسل مراسليها إىل الداخل‬ ‫تسلالً ‪ ‬ـ النظام السوري مينع عمل الصحفيني واملراسلني األجانب دون رقابته ـ أو باالتفاق مع القامئني يف بعض‬ ‫املناطق التي خرجت عن سيطرة النظام‪ ،‬أو ببساطة تتعاون مع‪ ‬بعض الناشطني يف الداخل خوفاً عىل طاقمها‪ ،‬إذ‬ ‫تم تصنيف سوريا كالبلد الرابع سوءا ً من حيث حرية الصحافة حسب التقرير السنوي ملنظمة مراسلني بال حدود‬ ‫عام ‪ .2013‬املفارقة تكمن يف اإلعالم ‘البديل‪/‬الجديد’‪ ،‬الذي يعمل القامئون عليه من داخل سوريا أو خارجها لبث‬ ‫ونرش صور وفيديوهات وتقارير عىل منصات خاصة بالناشطني‪ ‬أو بيعها لوسائل إعالمية كربى حيث مثن الصورة‬ ‫من أحد املناطق الساخنة حوايل ‪ $20‬كأدىن قيمة‪ ،‬ما خلق‪ ‬مسارين متناقضني للمعلومات وميكن للجمهور اختيار‬ ‫األنسب‪ ،‬أو األكرث قرباً من توجهه‪.‬‬ ‫حرب شخوص رقميني‬ ‫الجانب األهم اآلن هو ما يسمى بـ ‘اإلعالم الشخيص ـ الجامهريي’ حيث يتم إنتاج املحتوى من قبل فرد‬ ‫أو أفراد‪ -‬عىل صعيد شخيص‪ ،‬ثم نرشه‪ ‬عرب اإلنرتنيت عىل مستوى عاملي‪ ،‬ميكن أن يؤدي إىل تَ َو ُّرط املؤسسات‬‫اإلعالمية ‪-‬وأحيانا الحكومات‪ -‬ضمن رصاع عىل املعلومات وصحتها‪ ،‬فالربامج عىل القنوات السورية الرسمية وشبه‬ ‫‪37‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫احلقيقة ‘ليست’ هناك‬

‫الرسمية تستخدم نفس املواد التي تستخدمها قنوات معادية للنظام كـ ‘أورينت’ إلثبات وجهة نظرها‪ ،‬حيث‬ ‫يكذّب ٌ‬ ‫طرف اآلخ َر أو يتم اكتشاف أن املحتوى بحد ذاته ملفق من أحد الطرفني أومن قبل ‘املصدر‪/‬الفرد’ نفسه‪.‬‬ ‫املثال الصارخ عىل هذا هو مدونة ‘فتاة مثلية من دمشق’ والضجة اإلعالمية التي ثارت حولها‪ ،‬حيث أفقدت‬ ‫املواطن السوري‪ ‬ثقته بوسائل اإلعالم سواء التقليدية أو الجديدة‪ .‬فالفتاة ‘آمنة’ التي أصبحت تتحدث عن‬ ‫تجربتها يف سوريا وما تتعرض له ضمن دمشق من ضغوطات وتهديدات‪ ،‬تتحول يف النهاية ‪-‬بعد اكتشاف الخدعة‬ ‫عرب صحيفتي التيليغراف والغارديان‪ -‬إىل املدون األمرييك توم ماكامسرت الذي كان يكتب ما يراه مالمئاً لوجهة‬ ‫نظره‪ .‬وعىل إثرها استخدم التلفزيون السوري الوطني هذه القصة كدليل لفضح الكذب والتضليل ‪ ‬ضده‪ ،‬ضمن‬ ‫حملة دعائية عاملية معادية‪ .‬ما يثري الجدل أن هذه القصة تنتمي للعامل الرقمي ‘السايربي’ وال متتلك أساساً واقعياً‬ ‫وال ترتبط مبا يحدث فعلياً داخل سوريا عىل األرض‪ ،‬فالحرب اآلن هي حرب إنتاج املعلومات وإعادة إنتاجها‪.‬‬ ‫هذا ‘التورط’ اإلعالمي قاد الجامهري إىل حالة من فقدان الثقة بوسائل اإلعالم والرسائل التي تبثها‪ ،‬حتى‬ ‫وسائل اإلعالم الجديد التي كانت متتلك مصداقية عالية فقدت جزءا ً من ثقتها‪ ،‬بسبب عمل القامئني عليها سواء‬ ‫من داخل سوريا أو من خارجها‪ ،‬أو سلوك أصحاب منصات النرش نفسها كـ ‘فايسبوك’ الذي قامت إدارته بإغالق‬ ‫صفحة ‘أكاد الجبل’ التي توثق للثورة السورية وذلك يف متوز ‪.2013‬‬ ‫حرب تطبيقات اإلنرتنيت‬ ‫ال ميكننا أن نغض البرص عن الحرب الحقيقة‪ ،‬لكن الحرب الرقمية عىل ذات املستوى من األهمية فالناشطون‬ ‫يخاطرون بحياتهم للوصول إىل الخرب أو الصورة‪ .‬هم يف الداخل أو الخارج يقومون دامئا بنرش أساليب مختلفة‬ ‫لكرس رقابة النظام وتخطي جدران الحامية التي يقيمها النظام‪ ،‬أو كالذي قام به الناشط ‘دلشاد عثامن’‪ ،‬حيث‬ ‫ط ّور تطبيقاً يحدد مكان سقوط صواريخ ‘السكود’ ثم يرسل اإلحداثيات إىل الـ ُم ْستَ ْقبِل‪ .‬الـ ُم ْستَ ْقبِل ميكن أن‬ ‫يكون أي جهاز من الجيل الجديد ‘تابليت’‪ ،‬باإلضافة إىل أساليب إدارة املحتوى عن بعد (عن طريق تحرير املادة‬ ‫الـ ُم ْر َسلَة عرب منصات مختلفة‪ ،‬وحامية هذه املنصات بـ ‘جدران الحامية’ وبرامج الحامية من القرصنة)‪.‬‬ ‫يقول الناشط و‪.‬أ ـ ‪ 32‬عاماً‪‘‘ :‬علينا دامئا أن نتابع التطور التقني لحامية النشطاء يف الداخل وحامية املنصات‬ ‫التي نستخدمها من التعرض لالخرتاق من قبل القراصنة’’‬ ‫حرب اجلنس السايربي‬ ‫أحد العنارص الجديدة يف هذه الحرب هو ترسيب أرشطة جنسية سواء كانت تحوي شخوص من النظام أو‬ ‫املعارضة‪ ،‬كالفيلم املرسب لإلعالمي حسني مرتىض مدير قناة العامل يف سوريا‪ .‬الرشيط ليس بالدقيق وال ميكننا‬ ‫التأكد من مدى صحته‪ ،‬لكن البعض يأخذ حقيقة وجوده بعني االعتبار‪ .‬وعىل الجانب اآلخر هناك الرشيط الذي‬ ‫يحتوي عبد الرزاق طالس قائد كتيبة الفاروق وهو ميارس الجنس الرقمي‪ .‬ما يثري االهتامم هو أن كال الرشيطني‬ ‫مأخوذان من محادثات سكايب‪ ،‬ما يعني ‪-‬سواء صدقنا حقيقة الرشيط أم ال‪ -‬أن كال الطرفني مل يجرب اآلخر عىل‬ ‫الترصف‪ ،‬إذا ً ال ميكن ألحد ما أن يغتصب اآلخر عرب سكايب أو يجربه عىل نزع ثيابه‪ .‬ترسيب هذه الرشائط أو‬ ‫تصنيعها يلعب دورا ً أخالقياً هاماً فيام يتعلق مبصداقية هذه الشخصيات وتحويلهم إىل مادة دسمة للدعابة‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫احلقيقة ‘ليست’ هناك‬

‫حرب الكلمات‬ ‫ضمن هذا املستنقع الهائل من املعلومات التي يتم تبادلها وإعادة إنتاجها ثم نرشها نجد أنفسنا تحت تأثري‬ ‫نظرية ‘ما بعد حداثية’ تفرس جزءا ً من هذه الظاهرة‪ .‬فنحن محكومون بالـ ‘الواقع الفائق’ ويسعى الجميع إىل‬ ‫حامية ‘الصورة’‪ ‬التي يقدمها طرف ما عن نفسه أو حدث ما‪ .‬هذا أدى إىل خسارة املعرفة الحقيقية‪ ،‬ما جعل كل‬ ‫ما يحدث اآلن يخضع لتسميات متعددة تتفق مع سياسة املنصة التي تقوم بالنرش‪ .‬فام يحدث يف سوريا اآلن‬ ‫متعدد التسميات فهو بالنسبة إلعالم النظام الرسمي ‘أزمة‪ ،‬أحداث‪ ،‬مؤامرة كونية ‪ ...‬إلخ’ يف حني أن أطراف أخرى‬ ‫تسميه ‘ثورة‪ ،‬حرباً‪ ،‬حراكاً حرا ً‪ ،‬جهادا ً مقدساً ‪ ..‬إلخ’‪ ،‬حتى أن‪ ‬هذا املوقع الذي ينرش هذه املادة ميتلك سياسة‬ ‫خاصة به للتسمية‪ .‬بتطبيق هذه السياسة عىل مستوى أكرب بحيث تشمل ‘النصوص والصور والفيديوهات’ نرى‬ ‫أن قنوات املعلومات املختلفة‪ ‬أصبحت تؤثر عىل إدراك األفراد ملا يحدث من حولهم وردة فعلهم تجاهه‪ ،‬فيمكن‬ ‫لـ ‘مظاهرة ضد النظام’ أن ت ُسمى ‘مجموعة تدعو لهطول املطر’ حسب ‪ ‬قناة سام ‪-‬الدنيا سابقاً‪ -‬املوالية للنظام‬ ‫السوري‪ ،‬وهذا ما يرتك الجمهور‪/‬الرأي العام أمام‪ ‬نس ٍخ مختلف ٍة من قص ٍة ما‪ ،‬بعضها متامسك منطقياً ومدعوم‬ ‫بالصور والنصوص‪.‬‬

‫‪39‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫‪40‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬ ‫إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية‬ ‫التحول الدميقراطي‪ ..‬سورية منوذجاً‬


‫مراجعات كتب‬

‫ٌ‬ ‫إيقاعاتٌ‬ ‫أنغام سورية‪:‬‬ ‫أدبية على‬ ‫ٍ‬

‫سرد بني الواجب واخليال‬ ‫ٌ‬

‫مراجعة لكتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’‬ ‫تأليف‪ :‬دارا عبد اهلل‪ 71 ،‬صفحة‪ ،‬قطع متوسط‪ ،‬دار مسعى‪.2013 ،‬‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫هذه مراجع ٌة لكتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ للكاتب الشاب دارا عبد الله‪ .‬تنطلق‬ ‫رئييس لالوعي الجمعي‪ ،‬والحافظ التاريخي‬ ‫هذه املراجعة من فكرة أن الفن مستود ٌع‬ ‫ٌّ‬ ‫له ولطبيعة حراكه‪ .‬ضمن هذه الرؤية ستكون املادة املقدمة هنا محاول ًة لرصد البنية‬ ‫الحركية للمجتمع السوري من خالل قراءة ملثال أديب‪ ،‬وتتبع الحالة الفكرية وتفاعالتها‬ ‫مع الشأن العام‪ ،‬ومدى تأثريها وتأثّرها به‪ .‬كتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’ مجموعة من‬ ‫النصوص املتأقلمة مع ذاتها التفاعلية اللحظية‪ ،‬حيث اللحظة تتفوق عىل كل ما عداها؛‬ ‫هذه اللحظة التي تصاحب التغيري الجذري والثورات عامة‪ ،‬والتي تهتم بالهدم أكرث من‬ ‫البناء أو حسابات النجاح والفشل‪ .‬هذه اآللية التي تنتمي أصوالً لقوانني الحركة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫تتبنى نهجاً أقرب للفوىض من النظام‪ ،‬وأقرب للحياة منه للجامد واملوت‪ ،‬تحاول أن تكسب‬ ‫اللحظة‪ ،‬مؤمنة أن الفوىض تخلق يف النهاية قوانني جديدة‪ .‬يف هذه املادة أسعى إىل تقديم‬ ‫تحليل نقدي مع اإلشارة إىل نقاط ملحوظة يف فقرات الكتاب ككرس املألوف‪ ،‬واالعتامد‬ ‫عىل روح النكتة‪ ،‬وغلبة الجملة االسمية عىل الفعلية‪.‬‬

‫❊ طبيب سوري خريج جامعة حلب‪ .‬له كتابات أدبية ونقدية يف الشأن السوري والفكري العام‪ ،‬وامللف الكردي يف املنطقة‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬

‫فرزند عمر❊‬


‫ٌ‬ ‫إيقاعاتٌ‬ ‫أدبية على أنغام سورية‬

‫كتعريف أويل بالكتاب‬ ‫الكتاب منشور عن ‘دار مسعى للثقافة والنرش’ عام ‪ ،2013‬يحوي عىل عدة نصوص‪ُ ،‬عنوِنت بعناوين مختلفة‬ ‫بدءا ً من الرقم ‪ 1‬بعنوان ‘تسول’ إىل الرقم ‪ 77‬بعنوان ‘املسخ’ باإلضافة لوجود نص نهايئ بال رقم ُعنون تحت‬ ‫مسمى ‘هوامش’‪ .‬الكتاب جاء يف ‪ 71‬صفحة من القطع املتوسط‪ ،‬يف جلّه تأمالت ذهنية تنضيدية ملا هو متخارج‬ ‫عن الكاتب‪ ،‬أغلبها تتناول الثورة السورية‪ ،‬حتى أن الكاتب نفسه يف أحد حواراته مع الصحافة يرصح أنه لوال‬ ‫الثورة ملا خاض أساساً تجربة الكتابة‪.‬‬ ‫نظرة عامة‬ ‫النصوص هي عبارة عن تأمالت فكرية تحاول ترتيب الخارج وفق رؤية جديدة للخارج‪ ،‬تعالج أسئلة وجودية‬ ‫منها مطروح ومنها مل يُطرح‪ ،‬وهي ترتك لدى املتلقي تساؤالت جوهرية عىل الرغم من الشكالنية التي اعتمدها‬ ‫الكاتب يف بناء جمله اليقينية‪ ،‬ضمن مسار تحرييض للمتلقي‪ ،‬تحاول زرع خلخلة يف ذهنية القارئ‪ ،‬أساسها كرس‬ ‫املقدس وفق بنائية تعتمد الرسد الوصفي االنطباعي يف كثري من األحيان‪.‬‬ ‫الكتابة الثورية كسر املتعارف ونبذ املألوف‬ ‫مام يثري االنتباه لدى قراءة نصوص دارا عبد الله أن رائحة الثورة السورية تكاد تطغى عىل كل ما عداها‪،‬‬ ‫فالثورة بوقائعها عىل األرض حارضة‪ ،‬والثورة مبفهومها التغيريي الجذري حارضة كذلك‪ ،‬إن الثورة مبفهومها الجذري‬ ‫تتناول كل البنى‪ ،‬خاصة البنى املعرفية‪ ،‬هذه البنية التي تخص وتهم املشتغل ضمن الحيز والفضاء الثقايف‪.‬‬ ‫نرى دارا يحاول تأسيس هذا املفهوم الثوري عرب هدم ملا هو سائد وموجود‪ ،‬أو متوارث بطريقة التلقني‬ ‫التسلسيل‪ ،‬مع محاولة إيجاد صيغ بديلة‪ .‬نرى دارا ثائرا ً عىل الواقع من حوله‪ ،‬كام نراه ثائرا ً عىل ذاته أحيانا‪ ،‬فمنذ‬ ‫مطلع الكلمة األوىل لنصوصه نراه يعنون النص األول بعنوان ‘التسول’‪ ،‬إشارة منه إىل فعل مقدس ضمن الذهنية‬ ‫‪43‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫ٌ‬ ‫إيقاعاتٌ‬ ‫أدبية على أنغام سورية‬

‫السائدة‪ ،‬أال وهو العبادة‪ ،‬لينتهي بنص معنون بـ ‘املسخ’ الذي يروي حادثة عن أحد املعتقلني ممن استشهدوا‬ ‫تحت التعذيب‪.‬‬ ‫النصوص تحاول نبش األشياء وتعريتها يف سبيل رؤية جديدة مستندة إىل ذهنية تأىب االستكانة للراكد‬ ‫واملتوارث واملعهود‪ ،‬بل تحاول جاهد ًة إيجاد زوايا جديدة للرؤية تتامىش مع ما قدمته الثورة من وجود مادي‬ ‫ومعريف جديد‪ ،‬هذه املعرفة املنبثقة عن تحريك عنيف للبنى والقيم االجتامعية والفردية‪ ،‬ما أدى إىل اندثار‬ ‫بعضها وانبثاق بعضها اآلخر فيام تبدلت أغلب القيم املتبقية يف تسلسلها التقييمي من حيث األهمية‪.‬‬ ‫وفق هذا التغيري تم تلقي وإخراج الكينونة لدى الكاتب وفق مخارج غري مألوفة مبعانٍ وقيم تتفق مع ما بات‬ ‫موجودا ً وواقعاً‪ ،‬وليس مع ما كان‪ ،‬فعىل سبيل املثال نرى لدى الكاتب انحيازا ً باتجاه القيم الفردية الحريصة عىل‬ ‫تسيد الحرية كقيمة جوهرية ملاهية الوجود‪ ،‬أكرث من القيم الجمعية الحريصة عىل تسيد الكرامة كقيمة تؤسس‬ ‫أهميتها من خالل الحرص عىل استمرارية املجموع عرب تأصيله ال عرب تجديده‪ .‬وهذا بال شك يؤسس للخصوصية‬ ‫والتفرد الرضوريني لإلمساك مبفاعيل الحرية كقيمة انتهائية فردية يف أساسها الطبيعي‪.‬‬ ‫يقول دارا يف أحد نصوصه املعنونة بـ ‘السكني’ من رفوف املطبخ إىل أداة لنبش الذاكرة‪“ :‬أحلم بعام يكون‬ ‫فيه كل شخص أصل نفسه‪ ،‬وال ينحدر منه أحد”‪ .‬نرى هنا دعوة رصيحة إىل الفردية والتفرد وهي إحدى الدعوات‬ ‫التي يؤسس عليها الكاتب رؤاه الجديدة‪ ،‬حيث تبدو هذه القيم املرتبطة بالفردية والتفرد واضحة حتى يف عنوان‬ ‫الكتاب ‘الوحدة تدلل ضحاياها’‪ ،‬مع أنها جاءت يف سياقٍ تهكمي‪ ،‬نتيجة املفارقة املبنية عىل أساس غض الطرف‬ ‫عن مجازر جامعية باألسلحة الحديثة‪ ،‬بينام تستشعر باألىس والحزن ملقتل فرد واحد بأسلحة قدمية‪ ،‬إال أنها رغم‬ ‫ذلك جاءت متتدح الفرد عىل حساب املجموع‪.‬‬ ‫رغم هذا النزوح باتجاه القيم الفردية نجد الكاتب ال يستثني ذاته من وضعها ضمن محرق الثورة‪ ،‬فهي ذات‬ ‫قدمية مبنية وفق أسس معرفية راكدة ال تتناسب مع لحظة الربكان الثوري‪ ،‬وهي كام كل األشياء بحاجة إلعادة‬ ‫النظر‪ ،‬لذلك نجد الكاتب عىل سبيل املثال متناوالً ذاته إىل درجة السخرية يف النص املعنون بـ ‘مديح الخوف’‪.‬‬ ‫واللغة كذلك لها نصيبها من املراجعة‪ ،‬إذ يعتربها جزءا ً من االشكالية الكليانية‪ ،‬وجزءا ً ال بد وأن يعاد النظر‬ ‫يف بنيتها‪ ،‬وهو يف هذا الجانب تحديدا ً يحاول مامرسة ذلك سلوكياً ضمن ما يكتبه‪ ،‬إذ نراه متمردا ً عىل األشكال‬ ‫السائدة للغة من خالل تبنيه لصياغات داللية ينجح فيها أحياناً ويخفق أحياناً‪ ،‬إال أنه فيام يبدو أن رغبة التجريب‬ ‫والتغيري ورؤية األشياء من منظار جديد تطغى عىل كل يشء‪ ،‬حتى عىل حساب النجاح ذاته‪.‬‬ ‫الكتابة وفق آلية النكتة املفارقة والتضاد‬ ‫عند قراءة النصوص رغم ما تحتويه من أمل إال أن القارئ يستشعر بوجود يشء يدعو للضحك أحياناً كثرية‪،‬‬ ‫السخرية تكاد ال تفارق النصوص‪ ،‬هذه السخرية التي تبدو أنها مبنية وفق آليات النكتة‪ ،‬التي تحاول جلب‬ ‫املتناقضات يف صورة واحدة‪ ،‬حيث تؤمن املسافة بني األضداد مساحة غري مرئية من الضحك‪ ،‬وكلام كانت تلك‬ ‫املسافة كبرية كلام كانت مساحة الضحك أكرب‪.‬‬ ‫والنصوص يف مجملها مبنية وفق هذا األساس التكنييك حيث نجده يف أحد النصوص املعنونة بـ ‘تعاسة‬ ‫البرشي’ يقول‪“ :‬قبل الخلق فخ اللذة حرمنا من الفردوس‪ ،‬بعد الخلق‪ :‬الوعد بالفردوس حرمنا من اللذة”‪.‬‬ ‫إضافة لروح السخرية‪ ،‬ومساحة الضحك التي تخلقها هذه اآللية والتي تبدو بأنها رضورة تقنية موفقة من‬ ‫‪44‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ٌ‬ ‫إيقاعاتٌ‬ ‫أدبية على أنغام سورية‬

‫قبل الكاتب لخلق حالة توازن مشاعرية لدى القارئ‪ ،‬إال أنها تلعب دورا ً آخر ال يقل من حيث األهمية‪ ،‬فهي‬ ‫ٍ‬ ‫كتعويض حريك نتيجة نقص الحركية والزمن الذي تتمتع بها النصوص‪ ،‬والذي نجم أساساً من خالل اعتامد‬ ‫جاءت‬ ‫الكاتب عىل صياغة بالغية تعتمد الجملة االسمية كأساس‪ ،‬كام سيمر معنا الحقاً‪ ،‬هذا التضاد يخلق مساحة وحيزا ً‬ ‫حركياً يبدو يف أغلبه غري محسوس ظاهرياً يف آليات الكتابة‪ ،‬إال أنها تخلق لدى املتلقي بؤرا ً توترية عرب آلية الشحن‬ ‫والتفريغ املتأتية من خلق مشاعر متناقضة بني األمل واللذة‪ ،‬مسببة حركية مشاعرية لدى املتلقي تبدو رضورية‬ ‫لتلقي أي نص أديب من خالل ما تخلقه من مساحة واسعة من االندهاش‪.‬‬ ‫الكتابة على حواف الواقع‬ ‫الثورة السورية جاءت يف لحظة تراكم غري مستَثمر لحلم جيلٍ أو أكرث يف محاولة انتزاع املجتمع والفرد من‬ ‫براثن السلطة التي تتحكم بوجودها‪ ،‬هذا الحلم الذي انقطع يف لحظة غري محسوبة وغري منتظرة أو مدركة‬ ‫مسبقاً‪ ،‬كانت لها كل األثر عىل الالوعي الجمعي‪ ،‬من خالل تراكب لحظة اإليقاظ وتشاركيتها مع الحلم األساس‪،‬‬ ‫كام يحدث لدى األفراد متاماً‪ ،‬فاملنبه الذي يوقظ النائم عىل شكل مفاجئ يحتل حيزا ً من الحلم املتشكل لحظة‬ ‫اإليقاظ‪ ،‬كأن نجد عىل سبيل املثال أ ًّن الذي نحاول أن نوقظه برش املاء عليه‪ ،‬حلمه سيتخلله مشاهد لها عالقة‬ ‫باملياه‪ ،‬كأن يجد الشخص أنه يغرق أو ما شابه ذلك أثناء الحلم‪.‬‬ ‫هكذا متت مشاركة الواقع مع الخيال‪ ،‬وتم رسد الحلم‪/‬الواقع وفق هذا التكوين‪ ،‬لنشهد اختالطاً يقل مشاهدته‬ ‫بني الواقع والخيال إال يف لحظات رضية مشابهة‪.‬‬ ‫هذه اآللية نشهدها أحياناً كثرية لدى الكاتب‪ ،‬إذ أن مخيلته قلام تكون مفصولة عن لحظة الكتابة املتمثلة‬ ‫بتفاعالت الثورة وإشكالياتها‪ ،‬إىل درجة أن بعض النصوص ترقى ألن تكون خطاباً سياسياً بامتياز‪ ،‬والكاتب نفسه ال‬ ‫ينكر ذلك إذ يقول يف أحد النصوص ‘دموع القارئ روح الكاتب السائلة’‪“ :‬يلومني األصدقاء عىل الفائض الشعري‬ ‫يف املوقف السيايس”‪.‬‬ ‫كذلك نجد الكاتب يف أحيان أخرى ميرر أحالمه وتأمالته التي تبدو متخارجة عن الثورة عرب محرق الثورة‪،‬‬ ‫إنه يأىب إال أن تكون الثورة كام هي بوجودها اآلين لحظة الكتابة جزءا ً من تكوين وإعادة الهيكلة الذهنية التي‬ ‫يسعى إليها الكاتب‪ .‬فالكاتب يف نص ‘تسول’ عىل سبيل املثال يحاول رسد تأمالته بخصوص عالقة العبد بالله‪،‬‬ ‫والتي يحيد فيها عن املتعارف واملوروث من الرؤية كعادة الكاتب يف تفسري ما حوله‪ .‬هذه العالقة املستقلة عن‬ ‫الثورة وتفاعالتها موجودة قبل الثورة وخاللها إال أن الكاتب يأىب أن تكون تلك العالقة مفصولة عن الثورة‪ ،‬فهو‬ ‫يذكرنا يف نهاية النص ويقول‪“ :‬يف املصائب العظمى التدين إلحاد واإللحاد تدين”‪.‬‬ ‫وهنا تبدو اإلشارة إىل الثورة واضحة من خالل املصائب العظمى‪ ،‬فمشهدية التسول التي يرتكبها العبد تجاه‬ ‫الله‪ ،‬والتي يعتربها الكاتب مبثابة اإللحاد‪ ،‬ال تستقيم إال من خالل الثورة‪ ،‬فهي الربهان عىل الفرضية والشاهد‬ ‫عىل ذلك‪.‬‬ ‫هذه اآللية فرضت نوعاً من الكتابة التي سأسميها بالكتابة األدبية اإلخبارية‪ ،‬والتي نشهدها كثريا ً يف صدد‬ ‫تحليل البنى األدبية ملا يسمى باألدب امللتزم‪ ،‬إذ تتحول الكتابة إىل واجب والتزام بنقل الواقع كام هو‪ ،‬جنباً إىل‬ ‫جنب مع ما هو نزوح باتجاه البناء وفق أساسات املتخيَّل‪ ،‬ونعتقد أن ذلك جاء نتيجة تشاركية لحظة الكتابة‬ ‫مع الحلم السابق عىل اللحظة‪ ،‬حيث الخارج لحظة الكتابة يغدو جزءا ً من الحلم ومكوناً له‪ ،‬كام حاولنا تفسريه‬ ‫يف آليات الحلم املذكورة سابقاً‪ ،‬وبذلك تخرس الذات الفنية زمن االختامر الفني الكايف لتحليل الخارج وفق حالة‬ ‫‪45‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫ٌ‬ ‫إيقاعاتٌ‬ ‫أدبية على أنغام سورية‬

‫تخيلية فنية‪.‬‬ ‫فالذات الفنية األدبية من املفرتض أن تكون منفصلة عن الخارج لحظة اإلبداع‪ ،‬غري متصلة به إال وفق آلية‬ ‫الصورة واملرآة‪ ،‬ألنها يجب أن تبقى عاكسة لصورة الخارج‪ ،‬ال أن يكون الخارج كام هو أحد مكونات أو أحد أجزاء‬ ‫تلك الصورة‪ .‬استقالل الذات األدبية التكوينية لحظة الكتابة رضورة حتى متتلك قدرة تحليلية فنية ملا هو متخارج‬ ‫عنها‪ ،‬وليس مجرد تفسري وإخبار للواقع كام هو الحال يف النص اإلخباري‪ ،‬فكام ال يجوز أن تكون الفرضية جزءا ً‬ ‫من الربهان‪ ،‬كذلك ال يجوز أن نفرس اليشء بنفسه‪ ،‬أو كام تخربنا األمثال الشعبية بذلك كالذي فرس املاء باملاء‪.‬‬ ‫لذلك نجد أحياناً أن املشهد امللتقط ذو أهمية إخبارية وصفية أكرث منها تحليل فني متخيل‪ ،‬ويبدو النزوح إىل‬ ‫افرتاضات من قبيل أن النص جاء كرضورة إلكامل ما يعجز عن إدراكه املتلقي‪ ،‬وإخباره مبا ال ميتلكه من الحقيقة‪،‬‬ ‫عىل افرتاض مسبق بأن ذهنية املتلقي قارصة وعاجزة عن إدراك ما هو حقيقي‪ ،‬هو أمر يتبادر إىل ذهن املتلقي‪،‬‬ ‫وهي من األمور املنفرة يف سياق تلقي الكتابة األدبية أكرث مام هي مشوقة‪.‬‬ ‫ورمبا أكرث ما ميكن أن يدل عىل رؤيتنا تلك النصوص التي عنونت عىل الشكل التايل‪‘ :‬السكني من رفوف املطبخ‬ ‫إىل أداة لنبش الذاكرة’‪‘ ،‬تأمالت يف املعارضة’‪‘ ،‬أكراد’‪‘ ،‬محمد شيخو’‪‘ ،‬مجنون الفيدرالية’‪‘ ،‬اعرتافات سلفي مرتد’‪،‬‬ ‫‘املسخ’‪ .‬وهذا يؤكد ثانية حضور الثورة السورية وتفاعالتها بقوة عىل املشهد الكتايب كام أسلفنا سابقاً‪ ،‬وتغدو‬ ‫الثورة السورية واجباً واقعياً‪ ،‬تتشارك إخبارياً مع مخيلة الكاتب‪ ،‬ألنها جزء من الحلم‪ ،‬وبالتايل جزء من املخيلة‪،‬‬ ‫تشكل ماهية الحلم وتأسيسه الوجودي‪ ،‬والوقائع بعكس املتخيل تحتاج دامئاً إىل حوامل إخبارية أكرث منها حوامل‬ ‫فنية أدبية‪.‬‬ ‫اإلجابات اليقينية مقابل التساؤالت الظنية‬ ‫سبق وأن أرشنا أن الكاتب يعالج من حيث الرؤية أسئلة وجودية كبرية‪ ،‬يحاول من خالل اإلجابة عليها خلخلة‬ ‫السائد واملتعارف عليه‪ ،‬عرب طرح رؤية جديدة تحاول النظر إىل الوجود من زوايا غري مألوفة وأحياناً غري معروفة‪.‬‬ ‫رغم ذلك نرى يف بعض األحيان انزياحاً باتجاه الجواب اليقيني أكرث من التساؤل الظني الذي قد يفيد أكرث من‬ ‫األجوبة القطعية اليقينية يف حال تناول إشكاليات وجودية بهذا الحجم ومحاولة اخرتاق أويل لها‪.‬‬ ‫كذلك نرى أحياناً إجابات دون اإلشارة حتى للسؤال املطروح‪ ،‬حتى أنه يف بعض األحيان تتحول صيغة السؤال‬ ‫إىل جواب يقيني‪ ،‬فال نشهد استفهاماً يدل عىل السؤال رغم استخدام أدوات التساؤل‪ ،‬فالتساؤل يف كثري من‬ ‫األحيان يأيت إلثبات ما يرمي إليه الكاتب دون ترك أصداء للشك‪.‬‬ ‫ونقتبس من بعض ما جاء من النصوص كام يف نص ‘تأمالت يف املعارضة’ يقول الكاتب‪“ :‬من يستطيع أن يفهم‬ ‫رجل األمن الذي يعذب وهو يبيك! من سيفرس األلفة بني السجني والرصصور‪ ،‬من سيشعر بالسجني الذي كتب‬ ‫عىل حائط املنفردة أملي أهلكني”‪ .‬يف نص ‘تنظيم القاعدة’ يقول الكاتب‪“ :‬كيف ملن يتذلل وينسحق ويذرف‬ ‫دموعاً أمام الله يف املعبد أن يتسلط عىل الناس يف الشارع”‪ .‬وهنا نجد أن املراد من التساؤل ليست اإلجابة‪ ،‬ألن‬ ‫السؤال ال يحتمل إجابتني‪ ،‬هناك إجابة واحدة هي التي يريدها الكاتب‪ ،‬وال يجوز الخروج عنها‪ ،‬لذلك نجد غياب‬ ‫إشارات االستفهام ألنها أقرب إىل اإلجابة منها للتساؤل كام أرشنا سابقاً‪.‬‬

‫‪46‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ٌ‬ ‫إيقاعاتٌ‬ ‫أدبية على أنغام سورية‬

‫غلبة اجلملة االسمية على اجلملة الفعلية كصيغ بالغية‬ ‫مام يستطيع أي قارئ أن يالحظه وبسهولة أن هناك ارتكاز عىل بنية الجملة االسمية‪ ،‬حتى أن األفعال غائبة‬ ‫عن النصوص وإن وجد الفعل فغالباً يأيت مبثابة خرب للمبتدأ‪.‬‬ ‫إن هذه الصياغة البالغية تفيد أكرث ما تفيد الثبات والتأكيد كام أوضح لنا علامء البالغة من قبل‪ ،‬فهذه‬ ‫الصياغة تؤكد ما أرشنا إليه يف الفقرات السابقة من النزوح إىل اليقينية والتوكيدية بدالً من الظنية الحركية‬ ‫الفعلية‪ ،‬وهذا ما يتطلبه النص اإلخباري أكرث من النص األديب الفني القائم يف أساسه عىل الشك والظن‪.‬‬ ‫هذه الصياغة الطافية عىل السطح‪ ،‬إضافة للتوكيد والثبات الذي تعطيه فإنها تفتقر للزمن والحركة إن مل‬ ‫يتداركها الكاتب من خالل إعطاء حركية للمسند بجعلها فعالً أو اسامً اشتقاقياً من فعل‪ ،‬ت ُوقع الكاتب ومن وراءه‬ ‫النص يف إشكالية تناول النص األديب وفق معايري الصح والخطأ لدى املتلقي‪ ،‬ال وفق معايري الجامل الذي يتطلبه‬ ‫النص األديب‪ ،‬وضمن هذا السياق قد تشكل هذه البنية حجاباً يخفي حقائق جاملية موجودة يف النص‪ ،‬عرب مقاربة‬ ‫تحكيمية أساسها الخطأ والصواب‪.‬‬ ‫وهذا ما تفتقر إليه بعض النصوص رغم أن النصوص من املفرتض أن تتكلم وتصف حالة حركية غليانية كحالة‬ ‫الثورة السورية‪ ،‬لذلك تبدو أحياناً جامليات الكتابة األدبية غري مرئية نتيجة هذا الغطاء الحجايب‪.‬‬ ‫لكن عىل عكس ذلك ما تقدمه هذه الصياغة أيضاً‪ ،‬أنها تعطي الفاعل أولوية عىل الفعل‪ ،‬وتسلط الضوء عليه‬ ‫وتعطيه األهمية‪ ،‬فالفاعل هو األهم يف كل ما يحدث وهو األوىل باالهتامم واألجدر باملالحظة‪ ،‬وهذا بحد ذاته‬ ‫يشكل انقالباً عىل الذهنية السائدة‪ ،‬وانقالباً يخدم االنزياح باتجاه الفردية التي سبق وأن تحدثنا عنها‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫هو بؤرة االهتامم لدى الكاتب‪ ،‬عىل عكس ما هو سائد ومتوارث‪ ،‬إذ تتفوق وفق الذهنية السائدة الشعارات عىل‬ ‫الوجود يف حد ذاته‪ ،‬ويغدو الهدف أهم من صانعه‪ ،‬وبذلك تصبح حياة اإلنسان يف خطر حقيقي من خالل انزياح‬ ‫باتجاه املنتَج عىل حساب املن ِتج نفسه‪ ،‬وهذا ما ال يستسيغه الكاتب عىل حد ظننا‪.‬‬ ‫مبثابة اخلامتة‬ ‫‘الوحدة تدلل ضحاياها’‪ ،‬نصوص متأقلمة مع ذاتها التفاعلية اللحظية‪ ،‬حيث اللحظة تتفوق عىل كل ما‬ ‫عداها‪ ،‬هذه اللحظة من التغيري الجذري التي تصاحب الثورات عامة‪ ،‬والتي تهتم بالهدم أكرث من البناء‪ ،‬وتهتم‬ ‫بالتغيري اللحظي أكرث من حسابات النجاح والفشل‪ ،‬هذه اآللية التي تنتمي أصوالً لقوانني الحركة‪ ،‬وبالتايل تتبنى‬ ‫نهجاً أقرب للفوىض من النظام‪ ،‬وأقرب للحياة منه للجامد واملوت‪ ،‬تحاول أن تكسب اللحظة‪ ،‬مؤمنة أن الفوىض‬ ‫تخلق يف النهاية قوانني جديدة تتأقلم مع ما تم تنضيده أو تبنيه من قيم معرفية قادرة عىل اإلحاطة بفرتة زمنية‬ ‫مصبوغة ومرهونة لتلك القيم‪.‬‬ ‫لكن هذه الذهنية يف اللحظة عينها التي تؤمن مبيكانيزما التغيري وتنبهر به‪ ،‬تبدو مشتغلة يف كثري من األحيان‬ ‫ومتأثرة ومرهونة لهذه اللحظة أكرث مام تكون هي فاعلة ومؤثرة عليها‪ ،‬ألنها ذهنية تدرك عجزها املفرتض عىل‬ ‫أساس اقتناعها بسابقية اللحظة عىل إدراكها‪ ،‬لذلك تضع هذه الذهنية أهمية التغيري وأحقيتها بشكل ميكن لها‬ ‫أن تحجب كل يشء عداها‪ .‬هذا الطغيان إن صح التعبري ميكن له أن يسري بالتحول والتغيري باتجاه كمي أكرث منه‬ ‫كيفي‪ ،‬فرنى أنفسنا متفاجئني كام تفاجأنا باللحظة الثورية فيام قبل‪ ،‬أننا أمام كم هائل من التغيري غري املستوعب‬ ‫وغري الرضوري واملعرقل يف كثري من األحيان للطموحات واألماين التي من أجلها اندلعت تلك اللحظة‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫عبد الحاج❊‬

‫التحول الدميقراطي‪ ..‬سوريا منوذجًا‪:‬‬

‫كتاب جديد يؤسس ملرحلة ما بعد األسد‬ ‫مراجعة لكتاب ‘التحول الدميقراطي سوريا منوذجًا’‬ ‫الريس‪.2013 ،‬‬ ‫تأليف‪ :‬رضوان زيادة‪ 230 ،‬صفحة‪ ،‬قطع متوسط‪ ،‬دار ّ‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ُو ِض َع هذا الكتاب خالل خمس سنوات بدءاً بعام ‪ ،2007‬أي قبل بدء االحتجاجات يف سوريا‬ ‫التي رسعان ما تحولت إىل مواجهات عسكرية‪ .‬ومؤلفه يتحدث عن التحول الدميوقراطي‬ ‫الذي تَ َت َّب َع خطواته من أوروبا الجنوبية فالرشقية‪ ،‬ثم أمريكا الالتينية‪ ،‬قبل أن يصل إىل‬ ‫البلدان العربية بعد عرشين سنة‪ .‬ويقول أنه استقى هذا التحول من خمسني بلداً سافر‬ ‫إليها وتعرف إىل تجاربها‪ .‬وهو يرى أن ال مخرج لسوريا بعد سقوط النظام إال بإجراء‬ ‫‘املصالحة الوطنية’ الكفيلة بالخروج من أرس املايض الثقيل إىل رحاب املستقبل‪ ،‬بهمة‬ ‫السوريني الذين أمامهم مهمة مزدوجة بعد هذه الحرب‪ :‬العمل عىل استعادة الجمهورية‬ ‫وتنسم‬ ‫من اململكة املتوارثة‪ ،‬ومعاودة الدميوقراطية بعد أكرث من نصف قرن من اندحارها‪ّ ،‬‬ ‫أبسط مفاهيم الحريات‪.‬‬

‫❊ كاتب وصحفي سوري مقيم يف السويد‪ .‬يكتب يف عدة صحف عربية منها ‘العرب اللندنية’ و‘الحياة اللندنية’ و‘القدس العريب’‪.‬‬

‫‪48‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫التحول الدميقراطي‪ ..‬سوريا منوذجًا‬

‫ال يعني انتهاء نظام ديكتاتوري معني‪ ،‬أن تنتهي جميع املشاكل‪ .‬فسقوط نظام معني ال يخلق املدينة الفاضلة‪،‬‬ ‫بل إنه يفتح املجال أمام عهود طويلة لبناء عالقات اجتامعية واقتصادية وسياسية عادلة‪ ،‬وإىل القضاء عىل أشكال‬ ‫الالعدالة واالضطهاد األخرى‪.‬‬ ‫تحت هذا املفهوم‪ ،‬صدر عن دار رياض الريس كتاب ‘التحول الدميوقراطي‪ ..‬سوريا منوذجاً’ للكاتب السوري‬ ‫رضوان زيادة‪ ،‬محاوالً وضع مخططات ملا بعد سقوط النظام يف سوريا‪ .‬اعتمد زيادة منهج املقاربات املتعددة‪ ،‬الذي‬ ‫يعتمد يف تحليله عىل كافة العلوم االجتامعية‪ ،‬وأَخذا ً بالعوامل السياسية والثقافية واالقتصادية والجيوسياسية‬ ‫يف االعتبار‪ ،‬لرصد وتحليل وتوصيف الظواهر ذات العالقة بعملية التحول الدميقراطي املقبل‪ ،‬ومربزا ً تأثري‬ ‫صاحب كتاب ‘من الديكتاتورية إىل الدميقراطية’ بروفسيور علم االجتامع األمرييك جني شارب (‪ )1928‬امللقب‬ ‫بـ ‘مكيافيليل الالعنف’‪ ،‬وأبرز منظر لفكرة الكفاح السلمي أو املقاومة السلمية بهدف إسقاط األنظمة‬ ‫الديكتاتورية‪ ،‬من خالل اإلميان بقدرة الناس عىل التغيري‪ .‬شارب مل يكن األول يف ابتكار أفكار املقاومة السلمية‪،‬‬ ‫فقد سبقه غاندي بالتأكيد (الذي منه استفاد مارتن لوثر كينغ يف رصاعه من أجل حقوق السود يف الواليات‬ ‫املتحدة األمريكية‪ ،‬وهرني ديفيد ثورو‪ ،‬وليو تولستوي وغريهم)‪ ،‬إال أنه بالتأكيد أول من وضع كل هذه األفكار يف‬ ‫إطار اإلسرتاتيجية السياسية من أجل التغيري السلمي والنضال ضد الديكتاتوريات‪.‬‬ ‫املقدمة الطويلة للكتاب (‪ 47‬صفحة) أفردها زيادة للحديث عن منهج جني شارب لتحقيق التغيري السيايس‬ ‫عرب إسرتاتيجية الالعنف معتمدا ً عىل منظور خاص لتحليل القوى من أجل تحقيق التغيري السيايس السلمي‪،‬‬ ‫مبتكرا ً طرائق وآليات من أجل متكني الناس العاديني من إسقاط أنظمتهم الديكتاتورية‪.‬‬ ‫فاملقاومة السلمية‪ ،‬حسب ما نقلها زيادة عن جني شارب يف لقائهام يف منزل األخري يف مدينة بوسطن‪“ :‬خيار‬ ‫براغاميت لالنتصار‪ ،‬مع أن البعض يعتربونها خيارا ً أخالقياً (أي أولئك الذين يستبعدون استخدام العنف ألسباب‬ ‫دينية أو أخالقية)”‪ ،‬فغاندي آمن بالالعنف ألنه فعال سياسياً‪ ،‬وليس ألنه نقي أخالقياً‪.‬‬ ‫الحقاً‪ ،‬يفصل زيادة رؤية شارب ملجموعة عوامل أثرت وتؤثر عىل حصيلة املقاومة السلمية منها‪ :‬عوامل‬ ‫‪49‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫التحول الدميقراطي‪ ..‬سوريا منوذجًا‬

‫اجتامعية‪ ،‬وعوامل لها عالقة بالنظام الحاكم‪ ،‬وعوامل لها عالقة باألطراف الثالثة ودرجة تعاطف هذه األطراف مع‬ ‫أحد املتصارعني (املقاومة أو النظام)‪ ،‬وعوامل أخرى لها عالقة باملجموعة املقاوِمة‪ ،‬ليصل بنا إىل نظريته الخاصة‬ ‫يف املقاومة السلمية املبنية عىل تحليل مصادر القوة‪ ،‬مبيناً الفرق بني النظرية األحادية للقوة‪ ،‬التي تفرتض أن‬ ‫القوة السياسية من األعىل لألسفل‪ ،‬والنظرية املتعددة للقوة‪ ،‬وأن هناك عدة مصادر للقوة‪ ،‬تشكل املفتاح لفهم‬ ‫طبيعتها التعددية؛ وهي الرشعية واملوارد البرشية واملهارات واملعرفة‪ .‬وهناك عوامل غري ملموسة (الدين مثالً)‬ ‫واملوارد املادية والعقوبات‪ ،‬لكن الطاعة هي قلب القوة السياسية‪ .‬وأن الهدف هو دفع الناس إىل سحب طاعتهم‬ ‫للحاكم من أجل انجاز التغيري‪ ،‬ولكن قد نفشل أحياناً بسبب الخوف من العقوبة أو ملنافع شخصية‪ ،‬كذلك االلتزام‬ ‫األخالقي والتامهي النفيس مع الحاكم‪ .‬ومنطق الراحة أو لضعف الثقة بالنفس‪ .‬فالقوة تعتمد عىل أعمدة دعم‬ ‫داخل أنظمة الحكم الديكتاتورية وهي الجيش‪ ،‬واألمن‪ ،‬والسلطة القضائية‪ ،‬والوزارات‪ ،‬واملؤسسات الدينية‪،‬‬ ‫ومجتمع رجال األعامل‪ .‬ويعرض شارب ملا يسميه بعض الحقائق املرة املتعلقة باالعتامد عىل القوى الخارجية‪.‬‬ ‫بعد هذه املقدمة الطويلة جدا ً‪ ،‬يعرض مؤلف كتاب ‘السلطة واالستخبارات السورية’ املشهد الدويل يف الربع‬ ‫األخري من القرن العرشين‪ ،‬الذي تعرض إىل تحول بفعل موجة تغريات أصابت األنظمة السياسية شكلت ما سامه‬ ‫صموئيل هنتنغتون ‘املوجة الدميقراطية الثالثة’ التي ابتدأت يف الربتغال واليونان ‪ 1974‬ثم إسبانيا ‪ ،1975‬واتجهت‬ ‫صوب أمريكا الالتينية‪ ،‬وبعدها اكتسحت الدول الشيوعية يف االتحاد السوفيايت ورشق أوربا‪ ،‬إىل أن أثرت يف شكل‬ ‫عميق يف جنوب رشق آسيا‪.‬‬ ‫لكن وبحسب زيادة “بقيت دول جنويب املتوسط منيعة أمام موجة التحول الدميقراطي تلك‪ ،‬وترواحت‬ ‫أشكال التسلط فيها إىل منط الدولة الشمولية التوتاليتارية الكلاّ نية كام هي حال سورية”‪ .‬ويكمل “ميكن القول إن‬ ‫األنظمة السياسة يف جنويب املتوسط حاولت التكيف مع املوجة الثالثة وخصوصاً يف عقد التسعينيات‪ ،‬لكن وفق‬ ‫منطها الخاص”‪ .‬وهذا ما أطلق عليه زيادة اسم ‘العقد الضائع’‪ ،‬العقد الذي شهد انفتاحاً عىل أفكار املجتمع املدين‬ ‫وانفتاحاً اقتصادياً حيث كانت العوملة تفتح فرصاً الحدود لها للمجتمعات يف انتقال األفكار واألموال‪.‬‬ ‫لكن املجتمعات العربية كانت بانتظار ‘الحل البيولوجي’ كام سامه محمد عابد الجابري‪ ،‬الذي تحقق يشء‬ ‫من نبوءته يف نهاية التسعينيات وشهدت بعض البلدان تحوالت ال بأس بها‪ ،‬خصوصاً املغرب الذي كان قد شهد‬ ‫انفتاحاً جدياً خالل مرحلة التناوب ‪ .1996‬أما سوريا وغريها فكانت بانتظار ‘الحل البيولوجي’‪.‬‬ ‫يتابع رضوان زيادة‪ ،‬بعد أحداث الحادي العارش من أيلول‪/‬سبتمرب ‪ 2011‬الحت أجندة دولية جديدة‪ ،‬قدمت‬ ‫األمن ومكافحة اإلرهاب‪ ،‬عىل اإلصالح السيايس‪ ،‬كام ُو ِض َع موضوع الدميوقراطية وحقوق اإلنسان عىل األجندة‬ ‫الدولية‪ ،‬مع توجيه انتقادات لبعض حلفاء الواليات املتحدة يف املنطقة يف شكل رصيح (مرص والسعودية)‪ ،‬إضافة‬ ‫للنشاط الواضح للمعارضة السياسية واملجتمع املدين يف العديد من الدول العربية سيام مرص واألردن واملغرب‪،‬‬ ‫وتأسيس مبادرات سياسية ومجتمعية بات يطلق عليها ‘ربيع الدميوقراطية العريب’ منها ثورة األرز يف لبنان عام‬ ‫‪.2005‬‬ ‫يرى زيادة أن فشل الغزو األمرييك للعراق فجر جدالً واسعاً دولياً حول اإلسرتاتيجة الجديدة للواليات املتحدة‬ ‫لنرش الدميوقراطية التي تسعى إىل دعم التحول الدميوقراطي وحكم القانون‪.‬‬ ‫الربيع العريب الذي بدأ بتونس ومل ينتهي بالوالدة القيرصية للثورة السورية‪ ،‬التي تذرع النظام بعدم وصول‬ ‫‪50‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫التحول الدميقراطي‪ ..‬سوريا منوذجًا‬

‫االحتجاجات إليه‪ ،‬بسبب اختالف الظروف أو الخصوصية كنتيجة بحسب زيادة “الفهم الخاطئ أن ما بدأ بتونس‬ ‫ومرص وليبيا واليمن إمنا هو ناتج عن التدهور الظروف االقتصادية وارتفاع نسب البطالة وفقدان فرص العمل‪،‬‬ ‫األمر الذي دفع بهم (النظام) إىل اتخاذ إجراءات اقتصادية غري دامئة مثل زيادة الدعم للمواد الغذائية األساسية‪،‬‬ ‫أو إعطاء زيادة محدودة عىل الدخل لدى العاملني يف القطاع العام وغري ذلك‪ ،‬اعتقادا ً منهم أنهم يطوون صفحة‬ ‫االحتجاجات الشعبية إىل األبد” (ص ‪.)70‬‬ ‫و يبني زيادة أن ما أخر االحتجاجات يف سوريا هو الخوف يف شكل رئييس‪ :‬الخوف من قمع األجهزة األمنية‬ ‫التي تتباهى بذلك‪ ،‬إضافة إىل تحفز ذاكرة الخوف التي ترسخت بعد أحداث الثامنينيات‪ ،‬ويضيف “نجاح شباب‬ ‫درعا املحافظة الجنوبية يف كرس هذا الحاجز والخروج بعرشات املظاهرات تطالب بالحرية ومتدد املظاهرات‬ ‫إىل مدن أخرى‪ ،‬وقدرة الشباب السوري الفائقة عىل إدراك طبيعة السلطة الحاكمة وإبطال مفعولها السيايس‬ ‫واإلعالمي”‪ .‬ويطرح زيادة مثاالً يف الشعارات املرفوعة ‘خاين ييل بيقتل شعبو’ كرد عىل لغة التخوين التي‬ ‫يستخدمها النظام ضد كل من يقف يف وجهه‪ .‬ويبني زيادة أن استخدام النظام للعنف املسلح ضد املدنيني نقل‬ ‫الثورة إىل مرحلة أطلق عليها اسم ‘مرحلة الالعودة’‪ ،‬واتجاه املعارضة نحو الحسم العسكري وتشكيل الجيش الحر‬ ‫لتحرير سوريا من نظام عائلة األسد‪ .‬وبذلك تحولت ثورة الحرية والكرامة وبناء الدولة املدنية الدميوقراطية إىل‬ ‫نزاع مسلح حسب زيادة يسقط فيه املئات يومياً‪.‬‬ ‫وهنا يعقد زيادة مقارنة بني تفكك النظم السياسية السلطوية يف أوربا الرشقية وبلدان أمريكا الالتينية‬ ‫مقارنة‪ ‬بالبلدان العربية‪ ،‬وجذور التحول يف تشيكوسلوفاكيا كنموذج يف أوروبا الرشقية‪ ،‬وسوريا كنموذج آخر يف‬ ‫دول الرشق األوسط‪ .‬ويرى أن التجربة التشيكية حققت نجاحا يف التحول الدميقراطي عىل مستويني‪ :‬مستوى‬ ‫التحول اآلمن من عهد تجربة الحزب الواحد الشمويل إىل الدميقراطية التعددية‪ ،‬ومستوى االنفصال السلس عن‬ ‫سلوفاكيا دون املرور بحروب عرقية أو إثنية كام حصل مع يوغسالفيا السابقة‪ .‬فعوامل التشابه بني التجربتني‬ ‫التشيكية والسورية هي أن النظام التشييك كان شبيهاً كثريا ً بالنظام السوري من حيث بناء املؤسسات األمنية‬ ‫وهيكلية املؤسسات السياسية‪ ،‬إذ كان الحزب الشيوعي يسيطر عىل كل مرافق الحياة السياسية واالقتصادية‬ ‫واالجتامعية من خالل تكتل أحزاب سياسية صغرية (كام هو حال الجبهة الوطنية التقدمية يف سوريا)‪ .‬يرى املؤلف‬ ‫أن تجربة ‘ميثاق الـ ‪ ’77‬تشبه قصة ‘بيان الـ ‪ ’99‬عام ‪ 2000‬يف سوريا‪ ،‬كام أن النقاشات بني املعارضتني الداخلية‬ ‫والخارجية تشبه تلك التي كانت يف تشيكوسلوفاكيا‪ .‬وكام ‘ميثاق الـ ‪ ’77‬متاماً كان الهم األسايس يف ‘بيان الـ ‪ ’99‬هو‬ ‫موضوع حقوق اإلنسان‪ ،‬حيث طالب البيان بإلغاء حالة الطوارئ واألحكام العرفية‪ ،‬وإصدار عفو عام عن جميع‬ ‫املعتقلني السياسيني ومعتقيل الرأي والضمري‪ ،‬وثالثاً إرساء دولة القانون وإطالق الحريات العامة‪ ،‬وترافق ذلك مع‬ ‫تأسيس عدد من الناشطني يف الخارج مجموعة عمل تهدف إىل مساندة املثقفني يف الداخل واملشاركة يف النقاش‪.‬‬ ‫لكن ال بد من اإلشارة إىل وجود اختالف رئييس بني التجربتني التشيكية والسورية‪- ‬يقول املؤلف‪ -‬فاملعارضة‬ ‫السورية مل متتلك إسرتاتيجية واضحة ملا يجب القيام به‪ ،‬ودراسة توقع رد فعل السلطات‪ ،‬فام إن بدأت السلطات‬ ‫السورية بعمليات االعتقال حتى تراجعت الحركة الدميقراطية وفقدت قدرتها عىل االستمرار أو التأثري‪.‬‬ ‫يتحدث زيادة كذلك عن عدالة املرحلة االنتقالية وكيفية الوصول إليها بأقل وقت ممكن‪ ،‬مبيناً الخطوات‬ ‫اآليلة إلرساء االنتقال الدميوقراطي اآلمن‪ .‬محددا ً أبرز مقوماتها القامئة عىل‪ :‬إنشاء لجان تقيص الحقائق‪ ،‬ورفع‬ ‫الدعاوى القضائية للتصدي النتهاكات حقوق اإلنسان‪ ،‬والتعويضات لضامن حقوق الضحايا‪ ،‬وإصالح املؤسسات‬ ‫‪51‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫التحول الدميقراطي‪ ..‬سوريا منوذجًا‬

‫السياسية واألمنية‪ ،‬وإحياء ذكرى أحداث املايض بغية التأسيس ملا ميكن تسميته ‘الذاكرة الجامعية الرادعة’‪ .‬ليختم‬ ‫الكتاب بالتحديات التي تواجه سوريا املستقبل وهي وفق وجهة نظر رضوان زيادة محددة بــ “اإلصالح السيايس‬ ‫والدستوري‪ ،‬وتفكيك النظام الشمويل باالعتامد عىل عمودين أساسيني هام‪ :‬املصالحة من أجل كسب املستقبل‬ ‫واستعادة الثقة باملؤسسات‪ .‬والتحدي الثاين هو التنمية االقتصادية بعد عقود من السياسات االقتصادية الخاطئة‪.‬‬ ‫أما التحدي الثالث فهو تحديث الجيش السوري وتحويله إىل جيش احرتايف”‪ .‬وأخريا ً يرى زيادة “رضورة االنعطاف‬ ‫يف السياسات الخارجية عىل أساس تحقيق مصالح الشعب بدالً من تحقيق مصالح النظام”‪ ،‬ألن “املعركة الحقيقية‬ ‫للسوريني هي استعادة الجمهورية”‪.‬‬ ‫حاول زيادة تطبيق مقولة شارب “أن التخطيط ملرحلة ما بعد سقوط النظام يجب بحثه ودراسته يف وقت‬ ‫مبكر واإلعداد له جيدا ً”‪ ،‬وأدرك أنه ليس املطلوب النقاء األخالقي باالبتعاد عن العنف‪ ،‬بل تحقيق التغيري‬ ‫السيايس‪ .‬لذلك أرص عىل تسمية التحول الدميقراطي وليس حركة الالعنف‪ .‬لكنه يبدو متفائالً أكرث من اللزوم حني‬ ‫يفرتض أن سوريا ستقود معركة الحريات والدميوقراطية وتنرشهام يف العامل العريب‪ .‬وتفاؤله املفرط يعزى إىل أن‬ ‫مواضيع الكتاب عولجت قبل بدء األحداث واملعارك العسكرية يف سوريا (وطبعاً يف مرحلة كانت الخطط عىل‬ ‫الورق تبشرّ ‪ ،‬فيام الوقائع عىل االرض حالياً تنذر)‪ ،‬وقبل أن تتكشف احتجاجات الشعب السوري وثورته عن حرب‬ ‫عربية إقليمية دولية تخفي تحت عباءتها تنظيامت إسالمية متطرفة تقود الحرب ضد النظام السوري‪ ،‬لكنها‬ ‫ليست طبعاً من عناها زيادة بأنها ستقود سوريا اىل الحرية‪ ،‬وبالطبع لن تنرشها يف العامل العريب‪ ،‬فوجودها يف حد‬ ‫ذاته نقيض الحريات والدميوقراطية‪.‬‬

‫‪52‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتـاجات‬ ‫إبداع وسط األمل‬ ‫حول مراكز بحوث السياسات‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‪:‬‬

‫تتخمر يف سوريا‬ ‫ومناذج اجتماعية وثقافية‬ ‫ّ‬ ‫أكرث بلدان العامل خطورة‬ ‫إعداد‪ :‬الفريق الصحفي في مجلة ِدلْ َتا نُون‬ ‫نور شلغين‪ ،‬ديما نقوال‪ ،‬عالء إحسان‪ ،‬طارق العبد‪ ،‬قصي عمامة‪ ،‬بإشراف‪ :‬ماهر المونس‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫حرب وقتلٍ ودما ٍء فحسب‪ ،‬فرغم كل العنف‬ ‫خطئ من يظن أن ‘سوريا’ مجرد بلد ٍ‬ ‫ُم ٌ‬ ‫شعب يعشق الحياة‪،‬‬ ‫الذي يدور يف البالد منذ حوايل ‪ 3‬سنوات‪ ،‬ورغم الدمار‪ ،‬فهناك‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫بنشاطات فكري ٍة؛ تار ًة بالفن‪ ،‬وتارة بالثقافة‪.‬‬ ‫ويعمل عىل التفاعل مع الحدث األليم‬ ‫من هذه النشاطات ما أفرزته األزمة يف البالد‪ ،‬ومنها ما كان موجوداً من قبل واستمر‪،‬‬ ‫وتوسع‪ .‬نسعى يف هذا الريبورتاج إىل تسليط الضوء عىل عد ٍد من‬ ‫ومنها ما تنشّ ط ومنا ّ‬ ‫هذه النشاطات‪ .‬ففي املحور الفكري والثقايف واملجتمعي أرشنا إىل مبادر ٍ‬ ‫ات مثل ‘املركز‬ ‫السوري للتوثيق’‪ ،‬ومؤسسة ‘اتجاهات’ الثقافية‪ ،‬و‘منتدى البناء الثقايف’‪ ،‬وشباب ‘معاً‬ ‫نقرأ’‪ ،‬ومرشوع ‘رساقب األمل’ يف ريف إدلب‪ .‬ويف املحور الفني وقفنا عند فيلم ‘امللك ال‬ ‫سوري شاب‪ ،‬وتجربة ‘شكسبري يف الزعرتي’‪ ،‬وفكرة ‘ومضة’‪ .‬ثم انتقلنا من‬ ‫ميوت’ ملخرجٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫العامل الثقايف والفني الواقعي إىل العامل االفرتايض‪ ،‬يف ‘حكاية ما انحكت’‪ ،‬إضافة إىل تناول‬ ‫ٍ‬ ‫مقابالت مع اثنني من أصحاب املد ّونات‪ .‬أما يف املحور اإلعالمي‬ ‫موضوع التدوين عرب‬ ‫إلعالم جدي ٍد بديلٍ عن النمط التقليدي‪ :‬موقع إلكرتوين‪ ،‬وإذاعة‬ ‫فقد تناولنا عدة تجارب ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫برزت عىل‬ ‫لنشاطات إعالمي ٍة ْ‬ ‫إلكرتونية‪ ،‬وغرفة تحرير أخبار افرتاضية‪ ،‬أي ثالثة مناذج‬ ‫هامش األوضاع يف سوريا‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫مقدمة‬ ‫ثالث سنوات َم َّرتْ ُم َخلِّ َف ًة يف سوريا مئات آالف الضحايا واملفقودين‪ ،‬وماليني املهجرين والنازحني‪ ،‬ودمارا ً‬ ‫واسعاً مل يستثني املنازل ودور العلم والصحة والثقافة‪ .‬إال أن ذلك كلّه مل يكن عائقاً يقف يف وجه فكر ٍة‪ ،‬أو مظه ٍر‬ ‫ثقا ٍّيف أراده شباب ورجال وأطفال ونساء الداخل السوري‪.‬‬ ‫ولطاملا ارتبطت األعامل الفكرية بالتح ّوالت الكربى يف حياة الشعوب‪ ،‬من هنا كان األدب والتأريخ والتوثيق‬ ‫من أش ّد األدوات مالزم ًة لتح ّو ٍل جللٍ بحجم أحداث سوريا‪ ،‬وكان النهم إىل تح ّو ٍل ثقا ٍّيف موا ٍز وجاد يزداد ح ّد ًة يوماً‬ ‫بعد يوم‪ ،‬خاص ًة يف أوساط الجيل الشاب‪ ،‬الذي القى يف الفوىض التي أحاطت بكل يشء فرص ًة لتحطيم صناديق‬ ‫التفكري القدمية والخروج من قيود ‘التابوات’ التي تربىّ عليها‪ ،‬إضافة إىل الكثري من اإلثارة والجاذبية‪ .‬كان الهامش‬ ‫السعي‬ ‫يتّسع ويضيق يوماً بعد يوم تبعاً للظروف والسياقات التي تفرض أشياء جديدة كل لحظة‪ .‬لكن بقي‬ ‫ٍ‬ ‫للتق ّدم إىل ركنٍ ما من املشهد العام‪ ،‬متجلّياً يف العديد من املحاوالت الدؤوبة للنهوض مام خلفته وكشفته الحرب‪،‬‬ ‫سواء عىل مستوى الثقافة أو اإلعالم أو الصحافة أو األدب أو غريها‪.‬‬ ‫يتناول هذا الريبورتاج‪ ،‬الذي أع ّده من داخل سوريا الفريق الصحفي يف مجلة دلتا نون‪ ،‬يتناول الظواهر‬ ‫والنشاطات الثقافية التي أفرزتها األحداث التي تعصف بالبالد منذ ثالث سنوات‪ ،‬إضافة إىل تلك التي كانت سابقاً‬ ‫واستمرت يف سنوات الحرب‪.‬‬

‫مراكز األبحاث والدراسات‪:‬‬ ‫خطوةٌ أوىل يف مسرية األلف ميل‬ ‫يف خضم ما تعيشه البالد هذه األيام من أحداث تختلف تسمياتها باختالف املنظور التي يُنظر إليها من خالله‪،‬‬ ‫يعاين سكان البالد من صعوب ٍة بالغ ٍة يف التعبري عن حقيقة آرائهم‪ ،‬وواقع ما يفكّرون به أو نظرتهم تجاه الحكومة‬ ‫أو املعارضة‪.‬‬ ‫بكل تأكيد العوامل املوضوعية املتعلقة بأجهزة األمن والخشية من‬ ‫رأي ُمعلَنٍ ‪ ،‬ومهام كان اتجاهه‪ ،‬يراعي ِّ‬ ‫وأي ٍ‬ ‫االعتقال من ناحية‪ ،‬أو تلك املتعلقة بالتشهري والخشية من االختطاف من الناحية األخرى‪.‬‬ ‫أما من الناحية الذاتية‪ ،‬فاآلراء بطبيعة الحال متأثر ٌة بالعائلة التي ينتمي إليها الفرد (العائلة الشخصية‪ ،‬أو‬ ‫عائلة األصدقاء‪ ،‬أو عائلة العمل) إضافة ملا يتلقّاه من وسائل اإلعالم‪ ،‬ناهيك عن تجاربه الخاصة‪ .‬لذا برزت مشكل ٌة‬ ‫حقيقي ٌة يف توثيق وكتابة تاريخ األحداث التي متر بها سوريا‪ ،‬حيث أن الصحفيني هم املدونون واملؤرخون الجدد‪،‬‬ ‫ولكنهم ‘يع ّدون للعرشة ألف مرة قبل كتابة أي كلمة’ ويراعي الجميع املحظورات التي قد تلقي بهم يف إحدى‬ ‫الخانات‪ ،‬ومنها إىل خارج حدود الحياة‪.‬‬ ‫أزمة تاري ٍخ وتوثيقٍ حقيقية متر بها سوريا‪ ،‬الحدث الطازج وابن يومه‪ ،‬ويختلف يف روايته بألف طريقة‪ ،‬فام‬ ‫بالكم حني مير عليه شه ٌر أو سنة‪ ،‬وما بالكم إذا مل يكن للحادثة صورة أو فيديو‪.‬‬ ‫منط ٍ‬ ‫لذا شكلت الحالة السورية خالل السنوات الثالث املاضية فرص ًة لظهور ٍ‬ ‫جديد من الحياة الفكرية‪ ،‬يتمثل‬ ‫ٍ‬ ‫مستندات موثق ٍة‬ ‫يف مراكز مختصة بالدراسات واألبحاث التي تؤسس ملرحل ٍة مقبل ٍة ستعتمد‪ ،‬ويف شكلٍ كبريٍ‪ ،‬عىل‬ ‫تناقش ما عاشته البالد يف الفرتة السابقة‪ .‬ورغم القوانني ونقص اإلمكانيات يف بعض األحيان إال أن عدة مراكز‬ ‫ومجموعات قد متكنت من تأسيس عملها‪ ،‬والسعي لبناء منه ٍج يف البحث ضمن تفاصيل املشهد السوري‪.‬‬ ‫‪55‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫املركز السوري للتوثيق‪ :‬موضوعية أم حيادية؟‬ ‫يعتمد املركز السوري للتوثيق عىل متطوعني يف معظم املحافظات السورية للعمل عىل تدوينٍ واسعٍ لألحداث‬ ‫اليومية‪ ،‬فتشكل بذلك أرشيفاً لكافة املواقع الساخنة وتاريخها‪ .‬ويشري عضو املركز زين عادلة إىل أن املركز‪ ،‬الذي‬ ‫بدأ عمله يف ترشين الثاين‪/‬نوفمرب عام ‪ ،2011‬عمل عىل توثيق ضحايا الحرب الدائرة لكال الطرفني‪ ،‬سواء املدنيني‬ ‫أو القوات املسلحة ويف شكلٍ دقيق قدر اإلمكان‪ ،‬ما جعل الحصيلة مثالً تقل عن تلك التي تعتمدها جهات أخرى‪.‬‬ ‫ويضيف الشاب العرشيني‪“ :‬نعمل مع شبكة مراسلني أساسيني‪ ،‬وكذلك نتعاون مع متطوعني يف البالد يزودوننا‬ ‫باألحداث اليومية يف مناطقهم لنقوم بتدقيقها ثم نرشها‪ ،‬سواء كصور أو كمقاطع مصورة‪ ،‬ثم نقاطعها مع عدة‬ ‫مصادر أخرى قبل الوصول إىل الخرب النهايئ‪ ،‬بحيث نركّز عىل املهنية واملوضوعية يف الحدث دون االنجرار إىل‬ ‫ٍ‬ ‫طرف دون آخر‪ ،‬وهو ما يفرض علينا خطوطاً وسياس ًة معينة يف العمل والتوثيق وكذلك التدقيق يف الشهادات‬ ‫ٍ‬ ‫واألرقام الواردة إلينا عن أي ٍ‬ ‫بيانات متكامل ٍة متكن العودة إليها عند تحضري أي‬ ‫حدث يف البالد‪ ،‬ما أنتج لنا قاعدة‬ ‫ٍ‬ ‫بحث أو دراس ٍة عن تاريخ أي موقع منذ بداية األزمة السورية قبل ثالث سنوات‪ ،‬وامتد مؤخرا ً إىل إعداد دراسات‬ ‫واحصاءات مثل حصيلة القتىل املدنيني والعسكريني يف كل مدينة‪ ،‬ومن ثم بحسب يوميات االقتتال عىل مدى‬ ‫السنوات املاضية‪ ،‬وكذلك عدد وضحايا قذائف الهاون يف دمشق والتي قمنا بها بالتعاون مع صحيفة السفري‬ ‫اللبنانية‪ ،‬ونستعد اليوم للرتكيز يف تفاصيل إضافية كالحياة يف بعض املناطق الساخنة أو وضع الالجئني يف الخارج‬ ‫من خالل نشطائنا يف هذه املناطق”‪.‬‬ ‫مؤسسة اجتاهات للثقافة والفنون‬ ‫تركز مؤسسة اتجاهات عىل تعزيز دور الثقافة والفنون املستقلة وفق ما يرشح عضو املجموعة أيهم أبو‬ ‫شقرا بقوله‪“ :‬هي مؤسسة ثقافية ناشطة يف الثقافة املستقلة يف سوريا واملنطقة العربية‪ ،‬وتعمل عىل تفعيل دور‬ ‫الثقافة والفنون املستقلة لتلعب دورا ً إيجابياً يف عملية التغيري الثقايف‪ ،‬السيايس واالجتامعي”‪.‬‬ ‫كام تسعى املؤسسة إىل املساهمة يف‬ ‫بناء عالقة أصيلة بني الفعل الثقايف والفني‬ ‫من ناحية‪ ،‬واملجتمع السوري بتنوعه‬ ‫صورة من إحدى الورشات التي أقامتها مؤسسة ‘اتجاهات’‬ ‫وتعدده من ناحية أخرى‪ ،‬لرتكز اتجاهات‬ ‫ويظهر فيها عدد من املشاركني‬ ‫عملها عىل ثالثة محاور‪ ،‬هي‪ :‬املساهمة يف‬ ‫تنشيط الحركة الفنية والتعاون مع الفنانني‬ ‫والفاعلني الثقافيني املستقلني‪ ،‬كجز ٍء من‬ ‫نشاط إبداعي متحرك ودينامييك ومتجاوب‬ ‫مع بيئته االجتامعية والسياسية‪ .‬ويف شكلٍ‬ ‫موا ٍز تساهم ‘اتجاهات’ يف تطوير الدراسات‬ ‫واألبحاث امليدانية واألكادميية‪ ،‬كمواد‬ ‫مرجعية لفهم وتحليل الحالة الراهنة‪.‬‬ ‫كام تتطلع ‘اتجاهات’ إىل سوريا متعددة‪،‬‬ ‫‪ ‬‬ ‫‪56‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫متنوعة‪ ،‬منتجة فكرياً‪ ،‬أصيلة فنياً‪ ،‬وتؤمن‬ ‫كحق لكل مواطن سوري‪.‬‬ ‫بالثقافة ٍّ‬ ‫ولعل إحدى ميزات املجموعة هي‬ ‫الرتكيز عىل األبحاث والدراسات التي تعمل‬ ‫عليها ‘اتجاهات’ ضمن عدة مستويات‬ ‫كمرشو ٍع طويل األمد تم إطالق النسخة‬ ‫األوىل منه العام املايض‪ ،‬وهو مرشوع‬ ‫‘أبحاث لتعميق ثقافة املعرفة’ ويهدف إىل‬ ‫بناء قدرات وإتاحة فرص تفرغ للباحثني‬ ‫الشباب يف مجاالت البحث والدراسات‬ ‫الثقافية‪ ،‬ورفع مهارات الباحثني وتوجيههم‬ ‫وإتاحة الفرصة لهم إلنجاز مرشو ٍع بحثي‬ ‫(قد يكون بحثهم األول خارج إطار الدراسة‬ ‫‪ ‬‬ ‫األكادميية)‪ ،‬وبإرش ٍ‬ ‫رش من باحثني‬ ‫اف مبا ٍ‬ ‫مختصني يف املجال الثقايف يشكلون اللجنة‬ ‫العلمية للمرشوع‪ ،‬استمر هذا املرشوع ‪ 8‬أشهر‪ ،‬ودعم يف العام املايض ‪ 11‬باحثاً شاباً‪ .‬وتعمل ‘اتجاهات’ اليوم عىل‬ ‫إطالق الدورة الثانية من املرشوع خالل فرتة قريبة‪ ،‬حيث تهدف خطة املرشوع خالل األعوام الخمسة القادمة‬ ‫إىل بناء جيل من الباحثني الشباب‪ ،‬وتأسيس إلطار ومنهج نظري كدليل للباحثني الشباب‪ ،‬إضافة إىل تأسيس نواة‬ ‫مركز أبحاث للدراسات الثقافية واالجتامعية‪.‬‬ ‫إضافة إىل ذلك تعمل ‘اتجاهات’ كجهة بحثية ضمن أكرث من مرشوع‪ ،‬فقد أنجزت إىل جانب مسح السياسات‬ ‫الثقافية الذي تحدثت عنه‪ ،‬عدة أبحاث أخرى ستنرش قريباً‪ ،‬تتمحور حول دور الفنون والثقافة يف ظل الحروب‬ ‫والثورات والنزاعات املسلحة‪ ،‬البحث األول يدرس دور الثقافة يف صناعة السلم األهيل يف مجتمعات عاشت‬ ‫تجارب مشابهة مثل رصبيا وراوندا وتشييل‪ ،‬وبحث آخر عن الفن يف سورية والعراق ولبنان يف ظل الظروف‬ ‫املشابهة التي تعيشها سوريا اليوم‪.‬‬ ‫وبالحديث عن الثقافة املستقلة يرشح الشاب أن هذا الحقل هو الذي ينطلق من اإلرادة الحرة ومن التعبري‬ ‫املستقل وامل ُصان من كافة أشكال الضغط االقتصادي والسيايس‪ ،‬والقادر عىل التعامل بإيجابي ٍة مع املعطيات‬ ‫االجتامعية املحيطة به‪ .‬وبذلك تهدف إىل تحسني البيئة العامة للعمل الثقايف يف سوريا‪ ،‬مبا يتضمنه ذلك من‬ ‫تطوير السياسات الثقافية والتوجهات املدنية العامة وتنويع مصادر وأساليب التمويل‪ .‬ويضيف أبو شقرا‪“ :‬نرى‬ ‫أن الضغط للتغيري عىل صعيد السياسات الثقافية‪ ،‬واقرتاح تعديالت وسياسات ثقافية بديلة هي مهمة تقع عىل‬ ‫عاتق املجتمع املدين ومؤسسات الثقافة املستقلة‪ ،‬وتحديدا ً اليوم‪ ،‬ألننا نرى أن التحوالت الحاصلة حالياً‪ ،‬ليست‬ ‫فقط تحوالت سياسية‪ ،‬إمنا هي يف عمقها قضية تحوالت ثقافية‪ .‬كام أننا نرى بوضوح أن الثقافة لن تكون شاغالً‬ ‫رئيسياً ملتخذي القرار يف املرحلة الالحقة يف سورية (نتيجة األولويات العديدة)‪ ،‬لذا فإن األمر يعود إىل املؤسسات‬ ‫والناشطني والباحثني املستقلني لوضع الثقافة عىل طاولة النقاش السيايس والضغط تجاه االستفادة من مرحلة‬ ‫إعادة بلورة هوية وشخصية سوريا‪ ،‬بحيث تكون الثقافة مكوناً هاماً من مكونات التحول يف املرحلة القادمة”‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫وأطلقت ‘اتجاهات’ مرشوع ‘أولويات العمل الثقايف يف سورية’ الذي يهدف إىل بناء توافقات بني الفاعلني‬ ‫الثقافيني املستقلني حول أولويات عملهم‪ ،‬وقدرتهم عىل التأثري اإليجايب يف التطورات والتحديات االجتامعية‬ ‫والثقافية يف سوريا‪ .‬كام طرحت ‘اتجاهات’ أيضاً ‘استبيان رأي حول أولويات العمل الثقايف يف سوريا’ وعملت عىل‬ ‫نرشه ضمن قطاع واسع‪ .‬ويتناول هذا االستبيان ثالثة محاور‪:‬‬ ‫‪ )1‬رصد التغريات الثقافية منذ انطالق الحراك يف عام ‪.2011‬‬ ‫‪ )2‬أولويات العمل الثقايف ودور القطاع املستقل يف الوضع الراهن‪.‬‬ ‫‪ )3‬الدور املفرتض للقطاع الحكومي‪.‬‬ ‫ويساهم هذا االستبيان يف شكلٍ‬ ‫أسايس يف تشكيل قاعد ٍة أساسية لسياسة ثقافية جديدة يف سوريا‪ ،‬وأرضية‬ ‫ٍّ‬ ‫معرفية لخطوات الربنامج القادمة‪.‬‬

‫ضجيج ثقايف صاخب‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأبدي‬ ‫خالد‬ ‫فاخلرب ليس عاجالً‪ ،‬بل‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬

‫ولعل إرادة الحياة لدى أبناء هذه األرض ظلّت حارض ًة رغم الحرب والقتل والدمار‪ ،‬وترددت صداها يف عدة‬ ‫ّ‬ ‫مشاريع ثقافية وفكرية جذبت جمهورا ً يتسع شيئاً فشيئاً‪.‬‬ ‫منتدى البناء الثقايف‪ :‬رقعةٌ للحرية تزداد اتساعًا‬ ‫بدأت فكرة املنتدى من نا ٍد سيناميئ‬ ‫يرعاه ‘تيار بناء الدولة السورية’ املعارض‪،‬‬ ‫الذي ال زال ميارس نشاطه من قلب العاصمة‬ ‫دمشق‪ ،‬وتطورت إىل نشاطاته نهاية ‪،2013‬‬ ‫كمنتدى‬ ‫لتتبلور بداية العام ‪ 2014‬يف صورتها‬ ‫ً‬ ‫ثقا ٍّيف متعدد األبواب‪ ،‬الهدف منه –بحسب‬ ‫مؤسسيه‪ -‬وضع أول حجر أساس يف عملية‬ ‫وعي الشباب السوري‪ ،‬وتحريضاً عىل‬ ‫بناء ٍ‬ ‫‘الثورة السلمية’ وكل تغيري تحتاجه البنية‬ ‫السورية إلعادة بناء ما كان مزعزعاً أو صار‬ ‫خراباً‪.‬‬ ‫وخالل لقائنا بأحد أعضاء املنتدى‪ ،‬حدثنا عن سعي املنتدى منذ البداية إىل االقرتاب من هواجس الشباب‬ ‫الراهنة‪ ،‬فكان يعرض أفالماً متنوعة املواضيع‪ ،‬أبرزها الحروب األهلية واالقتتال الطائفي وأفالم األوسكار العاملية‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫القت رواجاً‬ ‫ممهدا ً بنقاشات تيل تلك العروض‬ ‫لنقاشات أكرب وأعمق‪ .‬تال ذلك مجموعة من املعارض املتنوعة التي ْ‬ ‫كبريا ً‪ ،‬كان أكرثها إثار ًة لالهتامم معرض ِ‬ ‫‘أنت’ للتصوير الضويئ‪ ،‬بالتعاون مع جمعية ‘سوريات يصنعن السالم’‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مبشاركات متنوع ٍة من مص ّورين يف الداخل والخارج‪ ،‬بنحو ‪ 75‬صورة‬ ‫وكان فعلياً االنطالقة الجامهريية للمنتدى‪،‬‬ ‫ضوئية‪ ،‬تعددت مواضيعها‪ ،‬حول محور ٍ‬ ‫واحد هو ‘املرأة السورية خالل ‪ ،’2013‬ق ّدم املشاركون فيها املرأة السورية‬ ‫صورة ملتقطة من داخل ‘منتدى البناء الثقايف’‬ ‫خالل أحد النشاطات التفاعلية املتعلقة باملرسح‬

‫‪58‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫بكل صورها يف مخيالتهم؛ من املرأة الجميلة‪ ،‬إىل النازحة‪ ،‬فالثائرة واملرشدة واملتم ّردة والعارية‪ ،‬وحتى املغتصبة‪.‬‬ ‫يقول عضو املكتب اإلعالمي واملسؤول عن النشاطات الفنية مصطفى دبّاس‪“ :‬إن ال ّرواج الذي ناله املنتدى‬ ‫شهري محد ٌد ومدروس‪ ،‬وكان لوجود ‘تيار‬ ‫برنامج‬ ‫يف فرت ٍة قصري ٍة ش ّجع عىل تنظيمٍ أك ٍرب لنشاطاته‪ ،‬فأصبح لدينا‬ ‫ٌّ‬ ‫ٌ‬ ‫بناء الدولة’‪ ،‬الذي يجسد املنتدى جانبه الثقايف‪ ،‬دورا ً يف تأمني مساح ٍة مميز ٍة من الحريّة املتاحة لنا وللمشاركني‪،‬‬ ‫وقد ّمنا للناس حقّهم الطبيعي بالتعبري عن آرائهم ألبعد ح ّد‪ ،‬بطرقٍ راقي ٍة وسلمية‪ ،‬ومن قلب دمشق‪ ،‬بهدف‬ ‫تنشيط الحركة الثقافية يف البالد‪ ،‬ولكرس عزلة الشباب عن السياق‪ ،‬ومحاولة تغيري الكثري من املفاهيم الثقافية”‪.‬‬ ‫كتاب يُح ّدد مسبقاً‪،‬‬ ‫ويرتبط باملنتدى مجموعة القراءة ‘الق ّراء قادة’ التي تجتمع شهرياً يف حلقات نقاش حول ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أمسيات أدبي ٍة دوري ٍة ت ُقام يف املقر‪ ،‬ويليها نقاشاتٌ فكري ٌة بني الحضور‪ .‬يضيف دبّاس‪“ :‬مل نستضف‬ ‫إضافة إىل‬ ‫جل ضيوفنا من الشباب الهواة‪ ،‬سعياً إىل تحقيق‬ ‫يف املنتدى كثريا ً من املثقفني املشهورين‪ ،‬بل تع ّمدنا أن يكون ّ‬ ‫مساحة من التجديد واستقطاب الجيل املعني ببناء الوطن‪ ،‬وجذبهم إىل االهتامم بالشأن العام‪ ،‬وم ّد ي ّد العون‬ ‫لهم يف سعيهم للخوض يف عملية البناء والتغيري”‪.‬‬ ‫ومن أبرز الـ َمـ َعارِض التي نظ ّمها املنتدى معرض الكاريكاتور ‘وجهة نظر’ الذي ض ّم محاور سياسية واقتصادية‬ ‫واجتامعية‪ ،‬وشارك فيه فنانون من داخل وخارج سوريا‪ ،‬منهم جوان زيرو وهاين عبّاس‪ ،‬وتضمنت رسومهام‬ ‫املعروضة نقدا ً سياسياً مبارشا ً لرموز السلطة‪ ،‬ما يُع ّد إنجازا ً للمعرض الذي غطّته وسائل إعالمية سوريّة مختلفة‬ ‫االتجاهات السياسية‪.‬‬ ‫وق ّدم املنتدى يف سياق محاوالته الـ ُم َج ِّددة عروضاً مرسحي ًة تفاعلية‪ ،‬تسمى ‘عروض األداء’‪ ،‬منها ما ق ّدمه‬ ‫طالب من املعهد العايل للفنون املرسحية‪ ،‬بعنوان ‘كونشريتو الرصاص’‪ ،‬وعروضاً أخرى قدمتها فرقة ‘مياس’‬ ‫املرسحية‪ .‬وكان آخر معرض هو معرض االسكتش ‘إنو هيك’‪ ،‬الذي عرض الومضات األوىل ألفكار الرسامني‪ ،‬مبشاركة‬ ‫عدد كبري منهم‪ ،‬تنوعت أفكارهم‪ ،‬واجتمعت عىل العفوية يف عرض أفكار أصحابها‪.‬‬ ‫كام تم طرح دورات تعليم اللغة الكردية يف املنتدى مؤخرا ً‪ ،‬ستليها الحقاً سلسلة دورات تعليمية ملجموعة‬ ‫من اللغات املحكية يف سوريا غري العربية‪ ،‬والهدف من ذلك “محاولة دمج عموم السوريني بأصحاب تلك اللغات‪،‬‬ ‫وحاميتها من االندثار”‪.‬‬ ‫‘معًا نقرأ’‪ :‬بعيدًا عن السرب‬ ‫مجموع ٌة من الشباب بدأوا مرشوعهم‬ ‫املبني عىل اهتامماتهم‪ ،‬والنابع من‬ ‫الخاص‬ ‫ّ‬ ‫إميانهم بأن التح ّوالت الثقافية ال يمُ كن أن‬ ‫تكون بني ليل ٍة وضحاها‪ ،‬بل عرب املحاوالت‬ ‫املتكررة والجهد الدؤوب للتغيري‪.‬‬ ‫يقول العضو املؤسس يف مجموعة‬ ‫‘معاً نقرأ’ معن اله ّمة‪“ :‬بدأنا من شخصني‬ ‫منسقني‪ ،‬قبل ظهور األزمة يف سوريا بـ‬ ‫ّ‬ ‫‪ 6‬أشهر‪ ،‬مبجموع ٍة عىل الفيسبوك تنظّم‬

‫لقاء اآلنسة نور شلغني‪ ،‬عضو الفريق الصحفي يف مجلة دلتا نون‪،‬‬ ‫مع السيد معن الهمة املنسق العام ملرشوع ‘معاً نقرأ’‬

‫‪59‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫منسقني‪ ،‬وأكرث من‬ ‫حلقات نقاشيّة حول كتب يتم اختيارها بالتصويت بني الق ّراء شهرياً‪ .‬واليوم أصبحنا خمسة ّ‬ ‫‪ 5000‬مشرتك يف املجموعة‪ ،‬الفكرة األساسية منها هو نقل عدواها إىل املجتمع‪ ،‬وخلق وعي عام متسائل‪ ،‬ومساحة‬ ‫مشرتكة للسوريني عىل اختالفاتهم‪،‬وعىل أساس االنتامء الفكري فقط”‪.‬‬ ‫الوالدة املبكّرة للمجموعة وضعتها يف مواجهة ظروف استثنائية منتصف آذار ‪ ،2011‬فقد كان اهتامم‬ ‫موسعاً ومتحررا ً من القيود املكانية والفكرية إىل ح ّد ما‪ ،‬بحسب معن اله ّمة‪ ،‬فتح ُّول األماكن‬ ‫املجموعة قبل األزمة ّ‬ ‫يف دمشق إىل قنبلة موقوتة محتملة االنفجار يف أي وقت‪ ،‬وضع هذا ح ّدا ً موقتاً لالجتامعات‪ ،‬فتح ّولت إىل العمل‬ ‫اإللكرتوين كونه األرسع واألكرث استمرارية‪ .‬كام وضعت هواجس أخرى ح ّدا ً لتنوع املواضيع املطروحة للنقاش‪.‬‬ ‫يقول اله ّمة‪“ :‬ناقشنا قبل األحداث الكثري من األعامل املثرية للجدل كروايتي “مزرعة الحيوان’ و‘‪ ’1984‬لجورج‬ ‫أورويل‪ ،‬أما اآلن فنحن نحاول حرص النقاشات مبواضيع كالتطوير الذايت والرواية والتاريخ ‪.”...‬‬ ‫املنسي لـ ‘الثورة’‪ :‬السلمية و‘حكاية ما انحكت’‬ ‫التشبث بالوجه‬ ‫حماوالت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫موقع ‘حكاية ما انحكت’ موق ٌع إلكرتو ٌّين أطلقته‬ ‫وسيم حسن أحد مؤسيس موقع ‘حكاية ما انحكت’‬ ‫مجموعة من الشباب املعارض للسلطة يف سوريا منذ‬ ‫‪“ 2012‬لتقديم الوجه السلمي املدين لحراكهم‪ ،‬عرب تسليط‬ ‫الضوء عىل حكايات خاصة يهملها اإلعالم‪ ،‬وحكايات قادمة‬ ‫من مواقع الفعل االحتجاجي‪ ،‬وتوفريا ً ملنرب يحتوي إبداع‬ ‫املشاركني يف ذلك النشاط مبا يرفد العمل االحتجاجي اليومي‪،‬‬ ‫ولتعزيز قضايا هؤالء بأنهم غري منسيني‪ ،‬وأن عملهم يستحق‬ ‫التوثيق والنرش‪ ،‬وعدم التوقف عند إهامل اإلعالم له”‪،‬‬ ‫حسب القامئني عليه‪.‬‬ ‫يقول مدير تحرير موقع ‘حكاية ما انحكت’‪( ،‬رفض‬ ‫ذكر اسمه)‪“ :‬أحد األفكار األساسية التي دفعتنا إلطالق‬ ‫هذا املرشوع تكمن يف أن الكثري من املواد اإلبداعية التيي‬ ‫نتجها السوريون (الفتة‪ ،‬شعار‪ ،‬غرافيتي‪ ،‬فلم‪ ،‬جدال عىل‬ ‫وسائل التواصل االجتامعي حول قضية ما) تضيع يف الفضاء‬ ‫الشعار الخاص مبوقع ‘حكاية ما انحكت’‬ ‫اإللكرتوين بعد وقت‪ ،‬مادفعنا للعمل عىل توثيق ذلك من‬ ‫جهة‪ ،‬وتقدميه للرأي العام لعكس وجهات نظر السوريني‬ ‫املختلفة حول كافة القضايا”‪.‬‬ ‫ق ّدم املوقع مضمونه باللغة اإلنكليزية‪ ،‬سعياً إىل التوضيح‬ ‫للقارئ الغريب‪ ،‬أن الرصاع يف سوريا مل يتح ّول كلياً إىل لغة‬ ‫العنف والرصاع عىل ‘السلطة’ أو ‘الحرب األهلية’‪ ،‬كام تص ّور‬ ‫رص املوقع عىل أنه ينقل صورة محايدة‬ ‫وسائل اإلعالم‪ ،‬بل ي ّ‬ ‫لألحداث‪ ،‬دون أن ينفي عيوب حراك من يبت ّنون أعاملهم‪،‬‬ ‫وبدون تأليه هذا العمل‪“ ،‬فهذه الثورة كأي ثورة لها عنفها‬ ‫‪60‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫الخاص ومثالبها وعيوبها‪ ،‬ولذا نسعى ألن نسلط العني النقدية عىل كل هذا بعيدا ً عن التأليه أوالشيطنة”‪ ،‬يقول‬ ‫وسيم حسن‪ ،‬أحد مؤسيس املوقع‪.‬‬ ‫ويؤكّد القامئون عىل املوقع‪ ،‬الذين يعملون من داخل وخارج سوريا‪ ،‬أن عىل الثقافة واإلبداع دامئاً الوقوف‬ ‫باملرصاد للسياسة‪ ،‬عرب النقد وعدم الرضوخ لها‪ ،‬وملساعيها بالهيمنة عىل كل يشء‪ ،‬وأن عىل املثقف واملبدع رفض‬ ‫أن يكون تابعاً ألحد سواء كان ثورة أم سلطة‪ ،‬بدون برت أي ٍ‬ ‫متاس وتوا ٍز بينهام بالرضورة‪.‬‬ ‫إذ ال ميكن للمبدع أن يعمل كلياً بعيدا ً عن السياسة‪ ،‬كون هذا العمل يدخل يف نطاق االهتامم بالشأن العام‪،‬‬ ‫إذ من واجب املثقّف دامئاً أن يكون ذا تو ّجه عام‪ ،‬وأن ينخرط بعملية التغيري‪ ،‬عىل أن يُبقي مسافة بينه وبني أي‬ ‫تط ّرف‪ ،‬بحيث يستطيع أن ينتقد شتّى البنى‪.‬‬ ‫ملش ّتت‬ ‫السورية‪:‬‬ ‫املدونات‬ ‫املسار ا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫يف خضَ ِّم تسارع وترية األحداث يف سوريا‪ ،‬وجدت املد ّونات السورية نفسها يف مأزق‪ ،‬يف حني نضج منافسها‬ ‫الرشس ‘فيسبوك’‪ ،‬ورسق الكثري من ميّزاتها وق ّدمها للجميع بأرسع الطرق‪ُ ،‬محققاً قدرا ً عظيامً من اآلنية ومساهامً‬ ‫بدور كبري ال يخفى عىل أحد يف األحداث السورية منذ بدايتها‪ .‬تشتّت أصحاب املد ّونات يف مواقفهم املتباينة‬ ‫والتائهة‪ ،‬اختار البعض اآلخر ركوب املوجة‪ ،‬وتب ّني وجهات نظر موالية أو معارضة‪ ،‬واختار آخرون الوقوف عىل‬ ‫الحياد‪ ،‬مفضّ لني أن تكون مد ّوناتهم متنفّساً لهم ولقرائهم‪ ،‬إذ “يك تصل إىل الجميع ويسمعك الجميع عليك الرتفّع‬ ‫عن االنقسامات املؤقتة‪ ،‬وااللتزام مبا يجمع‬ ‫بني البرش بدالً من تفرقتهم” كام يقول املد ّون‬ ‫املد ّون مناف زيتون صاحب مدونة ‘بلوكة’‬ ‫السوري مناف زيتون‪ ،‬صاحب مد ّونة ‘بلوكة’‬ ‫التي انطلقت مصادف ًة مع اليوم التايل لبداية‬ ‫األحداث يف البالد‪.‬‬ ‫‘بلوكة’ مد َّونة سوريّة يكتب فيها‬ ‫اليوم خمسة كُتّاب‪ ،‬أُريد منها يف البداية أن‬ ‫تكون منربا ً ثقافياً ملشاريع كُتّاب وصحافيني‪،‬‬ ‫بعيدا ً عن وسائل اإلعالم التقليدية وماتفرضه‬ ‫ٍ‬ ‫وتشذيب‬ ‫ضغوط‬ ‫سياساتها التحريرية من‬ ‫ٍ‬ ‫املد ّون أحمد األشقر صاحب مدونة ‘مسرت بلوند’‬ ‫لآلراء ووجهات النظر‪ .‬لكن الوقت الحرج‬ ‫لوالدتها وضعها قبالة خيار ٍ‬ ‫ات قليلة؛ فإما‬ ‫السجال السيايس الدائر وقرس‬ ‫الدخول يف ّ‬ ‫نفسها عىل ٍ‬ ‫طرف دون آخر‪ ،‬أو االبتعاد عن‬ ‫الخطاب املبارش يف ما يخص البالد‪ ،‬وبالتايل‬ ‫خسارة عامل الجذب الذي متلكه معظم‬ ‫املضامني السياسية اآلن‪ .‬يقول زيتون‪“ :‬لألسف‬ ‫مل تق ّدم املد ّونات أي يشء عىل أرض الواقع‬ ‫اليوم‪ ،‬فخطاب املدونات السورية ازداد‬ ‫‪61‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫اعتداالً وتعقالً أكرث من أي ٍ‬ ‫وقت مىض‪ ،‬وهاتان السمتان مرفوضتان بشكلٍ كبري بسبب االحتقان الكبري الذي‬ ‫يسيطر عىل الجميع”‪.‬‬ ‫ويتّفق املد ّون السوري املتوقّف عن التدوين أحمد األشقر مع زيتون‪ ،‬بأن الكالم املعتدل مل ي ُعد يلقى رواجاً‬ ‫بجانب “املعارضة املتطرفة والتشبيح”‪ ،‬وأن الكالم أصبح ترفاً ثقافياً ليس له أي تأثري أو صدى بجانب صوت‬ ‫الرصاص اليوم‪ ،‬لذا اختار ككرث غريه التوقف عن التدوين‪ ،‬بعد فرتة قصرية من قيام ‘هكر’ متط ّرف دينياً باسم‬ ‫‘الطري الحر’ بتهكري املد ّونة وحذف جميع محتوياتها‪.‬‬ ‫ويف تعليقٍ عىل واقع التدوين يف سوريا‪ ،‬نرش املد ّون السوري موريس العايق يف آذار‪/‬مارس ‪ 2012‬تحقيقاً‬ ‫مكتوباً بعنوان ‘سوريا‪ :‬التدوين خارج الرسب’‪“ :‬مل يكن املدون السوري عموماً بعيد عن خطر االعتقال قبل ‪15‬‬ ‫آذار ‪ ،2011‬لذلك مل يكن من السهل عىل املدون أن يعلن عن اسمه الرصيح ويكتب يف قضايا الشأن العام بسهولة‪،‬‬ ‫والكثري من املدونني هجروا مدوناتهم الرصيحة إىل صفحات ومدونات أخرى يكتبون فيها بأسامء مستعارة‬ ‫وبحرية أوسع‪ ،‬وبحسب تقرير صادر عن ‘املركز السوري لإلعالم وحرية التعبري’ فإن ما يقارب ‪ُ 15‬م َد ِّون و ُم َد ِّونة‬ ‫تم توقيفهم عىل إثر نشاطهم خالل ما يقارب السنة‪ ،‬وحتى نهاية شهر ترشين األول ‪ ،2011‬ومنهم من اعتقل‬ ‫ألكرث من مرة”‪.‬‬ ‫مد ّونات معارضة تجاوزت هذا األمر‪ ،‬تقول مد ّونة ‘الـ ُم ْن َد َّسة’ يف التعريف عن نفسها‪“ :‬ييل بالداخل بيبعتو‬ ‫مقاالتهون لييل بالخارج ييل بدورهون بينرشوها من باب االحتياط االلكرتوين”‪ .‬فاليوم يف سوريا عد ٌد ال يُستهان‬ ‫ٍ‬ ‫به من املد ّونات التي اختارت ارتداء ثوب االعتدال مبضمونٍ‬ ‫املندسة‪،‬‬ ‫معارض للسلطة يف شكلٍ واضح‪ ،‬كمد ّونات‬ ‫ّ‬ ‫كربيت‪ ،‬أمواج إسبانية‪ ،‬طباشري وسوريا فوق الجميع‪ ،‬وغريها‪ ،‬مبواضيع متن ّوعة تشمل املقاالت التحليلية إىل‬ ‫التغطيات امليدانية‪ ،‬واآلراء واملواقف السياسية والثقافية‪.‬‬

‫للصورة صوت وكلمة حاضرة‬ ‫أفرزت الفرتة الحالية التي تعيشها سوريا مبا فيها من سلبيات كثرية‪ ،‬طغت رمبا عىل إيجابياتها‪ ،‬عدة مواهب‬ ‫ٍ‬ ‫روايات إعالمي ٍة مس ّيس ٍة قد تش ّوه‬ ‫حاولت تسليط الضوء عىل ما يحصل عىل أرض الواقع السوري مبتعد ًة عن‬ ‫املحتوى وتسيرّ ه نحو ٍ‬ ‫غايات أخرى‪ .‬األفالم القصرية‪ ،‬ومشاريع الحب والضحك‪ ،‬وتلك الخاصة باألطفال هي مظاهر‬ ‫ناتجة وليست وليد نفسها‪.‬‬ ‫فيلم ‘امللك ال ميوت’ ليامن مغربي‪ :‬حكاية سورية من اخلارج إىل داخل‬ ‫ظل املخرج السوري الشاب يامن املغريب‪ ،‬صاحب فيلم ‘امللك ال ميوت’‪ ،‬مرتبطاً بقوة بسوريا منذ خروجه من‬ ‫البالد متوجهاً إىل مرص‪ .‬يف آخر سنوات دراسته‪ ،‬قرر أن يكون مرشوع تخرجه حول قصة واقعية للمعارض السوري‬ ‫ميشيل كيلو داخل أحد املعتقالت‪ ،‬وكان فيلامً قصريا ً أهداه لرتاب سوريا‪.‬‬ ‫يقول يامن‪“ :‬الفيلم هو عمل سيناميئ قصري يحاول ملس خطوط مل نجرؤ عىل الخوض فيها طوال سنوات‬ ‫كثرية‪ ،‬أبطاله ممثلون سوريون أرادوا إيصال صوت املعتقل السوري ومعاناته‪ُ ،‬ص ّور يف يف استديوهات كلية الفنون‬ ‫ٍ‬ ‫بصعوبات كبرية‪ ،‬أهمها صعوبة استحضار املشاهد داخل‬ ‫بالقاهرة”‪ .‬فيلم ‘امللك ال ميوت’‪ ،‬حسب املغريب‪ ،‬م َّر‬ ‫املعتقل حيث “أننا نعتمد عىل القصة املحكية عىل لسان كيلو‪ ،‬وعىل روايات أشخاص كانوا يف الداخل وتراوحت‬ ‫‪62‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫ظروف تواجدهم فيه‪ ،‬ما ص ّعب علينا تخيل البيئة املناسبة‪ ،‬باإلضافة إىل رغبة الجمهور السوري يف مشاهدة عمل‬ ‫ثقايف وفني يليق بالظروف القاسية التي تشهدها البالد”‪.‬‬ ‫الفيلم هدفه سوريا والشعب السوري وال يشء سواهام حسب املغريب الذي يضيف قائالً‪“ :‬كانت السنوات‬ ‫الثالثة املاضية ثقيلة علينا وعىل أبناء وطننا‪ ،‬إال أنها فتحت فضاءات وعوامل مل نكن كسوريني نستطيع الخوض‬ ‫أو النقاش فيها‪ ،‬وارتفع منسوب الجرأة إىل الدرجة التي مل يبق فيها خطوط حمراء‪ ،‬بالنسبة يل عىل األقل”‪ .‬وعن‬ ‫التكلفة املادية لفيلمه يجيب املغريب‪“ :‬اعتامدنا كان عىل أنفسنا يف التمويل وعىل الدعم البسيط املقدم من‬ ‫املعهد العايل للسينام بالقاهرة‪ ،‬مقررين االبتعاد عن أي جهة ممكن أن تفرض أفكارها ورؤيتها عىل محتوى‬ ‫العمل”‪.‬‬ ‫يأمل يامن املغريب يف العودة إىل سوريا قريباً‪ ،‬وتصوير أعامل أكرب تعالج ما حصل فيها‪ ،‬إال أنه يرى ذلك أمرا ً‬ ‫ٍ‬ ‫جهات‬ ‫مبكرا ً جدا ً وصعباً يف ظل التضييق األمني‪ ،‬كام أنه ال يخفي خشيته من التكلفة املرتفعة وصعوبة وجود‬ ‫ٍ‬ ‫أجندات معينة‪.‬‬ ‫ممولة مستقلة تقبل اإلرشاف عىل أعام ٍل تحرتم عقل الجمهور وال تخدم‬ ‫شكسبري يف الزعرتي‪ :‬مشاريع احلب والضحك‬ ‫يعد أطفال سوريا أحد أبرز األطراف الخارسة إزاء الحرب التي تشهدها بالدهم‪ ،‬من نزوح وتهجري وموت‬ ‫وترسب درايس وتجنيد لدى األطراف املقاتلة‪ ،‬مرورا ً باآلثار النفسية التي تركتها الحرب عليهم لسنوات‪ .‬إذ تقول‬ ‫آخر الدراسات ‘غري الرسمية’ إن ‪ 9‬آالف طفل عىل األقل قضوا خالل العنف الدائر يف البالد منذ عام ‪ ،2011‬ناهيك‬ ‫رسب من التعليم واملدارس‪.‬‬ ‫عن ‪ 3‬ماليني مت ّ‬ ‫ويف محاول ٍة ملواجهة هذه املخاطر‪ ،‬ورغب ًة يف زرع بسم ٍة عىل وجوه األطفال وأهاليهم يربز مرشوع ‘شكسبري‬ ‫يف الزعرتي’ الذي يرشف عليه نشطاء وممثلون سوريون بينهم الفنان نوار بلبل‪ .‬يقول نوار‪“ :‬شكسبري يف الزعرتي‬ ‫هو عرض مؤلف من مرسحيتني هام ‘امللك لري’ و‘هاملت’ أبطاله أطفال سوريون أجربتهم ظروف وطنهم عىل‬ ‫النزوح إىل مخيم الزعرتي عىل الحدود األردنية السورية‪ .‬حاولنا تبسيط فكرة العرض مبا يتالءم مع مستوى وعيهم‬ ‫مبتعدين عن مفردات مجردة كالسياسة والثورة‪ ،‬حيث كان هدفنا إخراج األطفال من لعبة الكبار القذرة‪ ،‬والعمل‬ ‫عىل إعادة إنتاج الضحك والفرح لديهم‪ ،‬محاولني خلق بقعة صغرية ميكنهم فيها التعبري عن ذواتهم بالغناء‬ ‫والتمثيل والرسم والحركة‪ ،‬مضيفاً أن هناك مسؤولية كبرية علينا وعىل كل من يستطع املساهمة يف التخفيف من‬ ‫معاناتهم يف االنخراط يف مثل هذه املشاريع”‪.‬‬ ‫يتحدث عالء حوراين‪ ،‬أحد النشطاء املرشفني عىل املرشوع‪ ،‬عن الصعوبات التي واجهت انطالقته قائالً‪“ :‬بداي ًة‬ ‫كان الهاجس األكرب بالنسبة لنا هو الحصول عىل املوافقات األمنية من السلطات األردنية‪ ،‬كون العمل سيتم عىل‬ ‫أراضيها‪ ،‬وبعد طرح الفكرة عليهم القينا ترحيباً كبريا ً وتشجيعاً عىل امليض يف املرشوع‪ .‬بعد ذلك كان ال بد من‬ ‫التواصل من املنظامت الدولية املعنية بالطفل وحقوق اإلنسان ليؤمنوا لنا املركز وكافة املستلزمات للبدء بالعمل‬ ‫مع األطفال‪ ،‬إال أن التجاوب كان متواضعاً‪ .‬حيث مل يتمكنوا بعد شهر ونصف من األخذ والرد إال من تأمني‬ ‫خيمة واحدة ملدة يومني من أصل ثالثة أشهر كنا بحاجة إليها‪ ،‬كام طالبنا بتأمني وجبات لألطفال بعد الربوفات‬ ‫الخاصة باملرسحيات إال أن األمم املتحدة ‘بكافة كوادرها’ مل تتمكن من تأمني سوى وجبات ألربعة أيام من أصل‬ ‫‪ 50‬يوماً!”‪ .‬ويضيف حوراين‪“ :‬كل تلك التحديات دفعتنا إىل إنشاء مركزنا الخاص‪ ،‬محاولني تأمني كل ما يتعلق‬ ‫بالتحضري للعرض واملستلزمات املادية املتعلقة بذلك‪ ،‬مضيفاً أن الدعم كان سورياً خالصاً من أفراد مستقلني عن‬ ‫‪63‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫أي تجمع أو حزب سيايس”‪.‬‬ ‫شكسبري يف الزعرتي ُعرِض بتاريخ ‪ 27‬من الشهر الحايل <آذار‪/‬مارس ‪ >2014‬بالتزامن مع يوم املرسح العاملي‬ ‫مرتافقاً مع ٍ‬ ‫عرض للوح ٍة رسمها أطفال املخيم كرسال ٍة منهم إىل أطفال العامل‪ .‬كام متت دعوة املمثلة أنجيليا جويل‪،‬‬ ‫والعب الكرة ذو األصول الجزائرية زين الدين زيدان لحضور فعالياته‪.‬‬ ‫مشاريع صغرية يف سراقب األمل‪:‬‬ ‫الشعار الخاص مبشاريع صغرية‬ ‫مرشوع صغري يف بلدة رساقب بريف إدلب أطلقه نهاية‬ ‫العام املايض خمسة شبان سوريني متطوعني يف الداخل‬ ‫والخارج يسعى ملساعدة من ترضروا من الحرب الدائرة‬ ‫عن طريق تأمني فرص عمل ودخل مادي ليعينهم عىل ما‬ ‫خرسوه يف ظروف الحرب‪ .‬يقول ‘حسن’ أحد القامئني عىل‬ ‫املرشوع‪“ :‬هدفنا األسايس هو تجنب الوصول إىل مجتمع‬ ‫خامل يعتمد عىل املعونات التي لن تدوم طويالً‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إىل رغبتنا يف إعادة عجلة االقتصاد والحياة التجارية إىل سابق‬ ‫عهدها”‪ .‬كسوة مالبس لألطفال يف الشتاء‪ ،‬ورشة خياطة‪،‬‬ ‫افتتاح محالت نوفوتيه وبقاليات‪ ،‬املساعدة عىل عالج أطفال‬ ‫مترضرين يف مشايف أوروبا هي بعض الفعاليات التي متكن‬ ‫‘رساقب األمل’ من إنجازها‪ ،‬حسب ‘حسن’ الذي لفت إىل‬ ‫أن وجود تنظيم الدولة اإلسالمية يف الشام والعراق ‘داعش’‬ ‫سلبي عليهم‪ ،‬وعىل كل مفاصل الحياة يف البلدة‪ .‬ولكن بعد ‘تحرير’ البلدة منه منذ‬ ‫يف الفرتة املاضية كان له أث ٌر ٌّ‬ ‫شهرين أصبح لديهم حرية أكرب يف العمل واستطاعوا إنجاز ما مل يستطيعوا إنجازه يف الفرتة املاضية‪.‬‬ ‫يضيف ‘حسن’‪“ :‬نسعى ليك يكون مرشوع وطن”‪ ،‬إال أنه يتحدث عن الصعوبات املادية التي تواجهه وضعف‬ ‫التمويل‪ .‬ففي رساقب حالياً “حوايل ‪ 50‬مرشوعاً قيد التحضري تكلفة الواحد منها بني ‪ 1500-500‬دوالر (أي ما‬ ‫يعادل ‪ 210000-70000‬لرية سورية)‪ ،‬وإذا ما قورن هذا املبلغ باملساعدات املالية التي تصلنا من متربعني مغرتبني‬ ‫يف أوروبا والخليج فهي متواضعة جدا ً”‪.‬‬ ‫‘ومضة’‪ :‬حلظات خارج زمن احلرب‬ ‫يصف قيص عاممة ما شاهده ذلك اليوم‪“ :‬كنت يف املصعد‪ ،‬فتح الباب عىل مجموعة من األشخاص فجأة‬ ‫يف أحد الطوابق‪ ،‬ووجدت نفيس أمامهم ينظرون إيل وأنا أنظر إليهم‪ ،‬كان هذا متاماً كام هو املرسح ستارة تفتح‬ ‫ملمثل عىل جمهوره وبالعكس”‪ .‬هكذا خطرت الفكرة لنغم ناعسة مؤسسة ‘مرشوع ومضة’ يف دمشق‪ ،‬الذي وإن‬ ‫كان يعتمد عىل فكرة املرسح الخفي‪ ،‬إال أنه اتخذ طابعاً أكرث أملاً وفناً يف دمشق‪ ،‬ويف ذات املصعد نفذت ناعسة‬ ‫فكرتها األوىل مع مجموعة من الشباب املتطوعني يف مركز كانت تعمل فيه كمتطوعة أيضاً‪.‬‬ ‫تطورت الفكرة لتخرج من املصعد إىل الشارع‪ ،‬فالتقت صاحبة املرشوع بعدد من املوسيقيني واملرسحني‬ ‫الشباب‪ ،‬رسمت خطوط العرض األوىل ومكانه‪ ،‬وتقوم فكرته عىل ظهور مفاجئ ملجموعة من العازفني واملغنيني‬ ‫‪64‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫يف أحد شوارع دمشق وقلبها تحديدا ً ‘الشعالن’‪ ،‬ليفاجئوا‬ ‫املارة بأغنية تُختار بعناية فائقة يك ال ت ُحسب عىل أحد‬ ‫أطراف النزاع‪ .‬العرض األول كان يف الشعالن بدمشق‪،‬‬ ‫وكان املرشوع ال يزال مرشوعاً مل يحمل اسامً بعد‪ ،‬ومن‬ ‫دون موافقات أمينة‪ ،‬تقول ناعسة‪“ :‬باستثناء ترصيح من‬ ‫وزارة املصالحة الوطنية”‪ ،‬وتعتقد ناعسة أيضاً أن الحرب‬ ‫مليئة باملفاجأت‪ ،‬فلام ال تفاجئ الدمشقيني بيشء جميل‬ ‫أيضاً؟ مع أنها ال تنكر أن بعض املارة مل يعريوا أي اهتامم‬ ‫لهؤالء الشبان وكانوا يتابعون طريقهم‪ ،‬فيام سجلت‬ ‫دموع لدى بعضهم‪ ،‬ومشاركة وعرض تقديم الدعم من‬ ‫البعض اآلخر‪.‬‬ ‫قدم مرشوع ‘ومضة’ حتى اآلن أربع ومضات يف‬ ‫دمشق‪ ،‬ويخطط ملشاريع أكرث ‘مرسحية’ مثل تقديم‬ ‫عرض يف حافلة عامة أو مدرسة‪ .‬القامئون عىل املرشوع‬ ‫الصورة إلحدى الومضات املفاجئة يف شارع‬ ‫ما كانوا ليطلقوا الومضات لو أن الحرب مل تزر البالد‪ ،‬كام‬ ‫الشعالن وسط دمشق‬ ‫أنهم يخططون للتوقف عن إطالالتهم يف شوارع دمشق‬ ‫فور انتهاء املعارك‪ ،‬ألن البالد باعتقادهم تحتاج ملثل هذا‬ ‫النوع من املشاريع التي تبث األمل يف أم ٍة فقدت الكثري خالل ثالث سنوات من الرصاع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ولهدف‬ ‫بعد أن ت ُنفذ الومضات يف الشارع‪ ،‬يتم رفع فيديو مصور عىل اإلنرتنت ليشاهده من مل يكن حارضا ً‪،‬‬ ‫آخر يقوم شباب ‘ومضة’ بالنرش عرب اإلنرتنت‪“ .‬السوريون انقسموا وقسم كبري منهم غادر البالد‪ ،‬هؤالء لهم الحق‬ ‫يف مشاهدة ذلك أيضاً” لكن ملاذا دمشق حرصا ً؟ تقول ناعسة إنها تختار مناطق قلب دمشق لتتجنب ما قد يُلصق‬ ‫باملرشوع من سامت سياسية‪ ،‬ولو أنها تتمنى أن تعر َِض يف كل مكان من سوريا‪ ،‬لكن الظرف لن يسمح لومضة‬ ‫بالظهور يف مخيم الريموك وضاحية األسد مثالً‪ ،‬فإن متت واحدة لن تتم األخرى‪ ،‬لذلك ينفذ املرشوع يف مناطق‬ ‫يتفق عليها السوريون‪ ،‬ويف مناطق ال تلون بصبغة سياسية أو عسكرية ما‪.‬‬ ‫كثريا ً ما اتهمت عروض ‘ومضة’‪ .‬فالومضة التي اتخذت اسم ‘ومضة كياموية’ سبقت الفاجعة الكياموية التي‬ ‫ُسجلت يف الغوطة الرشقية للعاصمة‪ ،‬وأتت بعد فاجعة خان العسل بريف حلب الكياموية أيضاً‪ .‬كان ال بد من‬ ‫الظهور ألجل السوريني وليس لدعم طرف ما‪ ،‬طبعا ُحسبت هذه الومضة عىل أنها ضد النظام‪ ،‬فيام اعتربها البعض‬ ‫مع النظام‪“ ،‬نحن مجانني” جمل ٌة يقولها القامئون عىل املرشوع الذي اتهم كثريا ً بالتبيعة للسلطات‪ ،‬أواملعارضة‪،‬‬ ‫واملرشوع الذي أطلق يف فرت ٍة ميوت فيها السوريون بكل أشكال املوت وصنوفه‪ .‬لكن كل هذا ليس سبباً لعدم‬ ‫ظهور املرشوع‪ ،‬فاملهم هم هؤالء الباقون يف العاصمة‪ ،‬والذين يستحقون األفضل‪ .‬القامئون عىل املرشوع يرفضون‬ ‫أن يسمى باملرشوع املوسيقي بل هو مجرد مرشوع يهدف لنرش األمان أوالً يف نفس القامئني عليه ثم يف نفس‬ ‫املشاهدين‪.‬‬ ‫لكن الجنون الحق يحتاج لدعم مادي‪ ،‬وهنا تتحدث ناعسة عن الجنون الفني طبعاً‪ .‬الدعم وصل من داخل‬ ‫البالد بشكل كبري فهناك من قدم التجهيزات الصوتية وهناك من تطوع‪ ،‬وهناك من عرض املساعدة‪ ،‬لكن مع‬ ‫‪65‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫كل هذا الدعم ال تنفي ناعسة أن الخطر قد زارها وزار فريق العمل أيضاً‪ .‬ومع أن املرشوع ال يزال بكرا ً بالنسبة‬ ‫للمشاهد إال أنه ناضج يف أذهان املرشفني عليه‪ ،‬حيث أدخلوا باإلضافة إىل الغناء والعزف القليل من التمثيل‬ ‫والحركة يف املشاهد التي ستعرض الحقاً‪ .‬وتضم ‘ومضة’ شباباً سوريني مختلفي املشارب السياسية من معارضني‬ ‫ومواليني‪ ،‬ال يختلفون عىل الخشبة االفرتاضية التي يقفون عليها‪ ،‬فهم يتفقون عىل األساسيات التي مل يتفقوا عليها‬ ‫ٍ‬ ‫بظروف مهنية صعبة كمعظم الباقني يف دمشق‪ ،‬ويعيشون الحرب معاً تحت شعار تسميه ناعسة‬ ‫إال ضمناً‪ ،‬وميرون‬ ‫“حرب املصلحة املشرتكة” التي تجمع من يريد الحياة‪ ،‬وتعترب أن املرحلة التي متر بها سوريا اليوم هي األفضل‬ ‫ملثل هذا النوع من النشاطات الثقافية‪ .‬عدوى ‘ومضة’ وصلت إىل مخيم الريموك املحارص بجانب العاصمة‪ ،‬حيث‬ ‫عام من الحصار تقريباً‪ .‬ورغم ذلك قام شباب يف داخل املخيم بالعزف عىل البيانو يف‬ ‫قىض العرشات جوعاً بعد ٍ‬ ‫الطريق أيضاً‪ .‬هذا التأثري يعتز به القامئون عىل املرشوع‪ ،‬فحني اجتمع أكرث من ‪ 200‬شخص يف “الجرس األبيض‬ ‫مثالً” تكون الفكرة قد متت والتي ملخصها “اعملوا واشعروا بالسعادة فأنتم تستحقونها وال تتطرفوا مهام حدث”‪.‬‬ ‫جمهور ‘ومضة’ يف الغالب يضم أم شهيد وابن شهيد وزوجة شهيد‪ ،‬أو قريب معتقل ومفقود ومغيب ومخطوف‪:‬‬ ‫هي دعو ٌة للحياة‪ ،‬يطلقها شباب سوريا من قلب العاصمة للجميع ومن الجميع‪.‬‬

‫سوريا‪ :‬اخلرب الذي ال يغيب وال يُغ َّيب‬

‫يف سياقٍ آخر تعد األزمة السورية من أكرث ما يحتل األخبار بشكلٍ يومي يف العامل بسبب القضايا التي تطرحها‬ ‫وكثافة األخبار التي فرضتها يف السنوات الثالثة األخرية‪ .‬ويف ظل غياب منابر إعالمية تعرب عن الشباب وتلبي‬ ‫احتياجاتهم للمصداقية‪ ،‬قرر الشباب السوري أن يأخذوا دورهم يف صناعة الخرب من خالل ‘وسائل اعالمية بديلة’‪.‬‬ ‫نواطري ‘عنب بلدي’ يف داريا‪ :‬نشاط سلمي وفرحة بالعدد صفر‬ ‫‘عنب بلدي’ جريدة أطلقها مجموعة من شباب وبنات داريا الناشطني يف الحراك السلمي يف املدينة‪ ،‬أرادوا‬ ‫حسب قولهم “خلق منرب حر ألقالم الشباب‬ ‫التي قُ ّيدت وحورصت من قبل نظام الرأي‬ ‫الواحد خالل العقود املاضية‪ ،‬وأراد الفريق من‬ ‫خالل الجريدة أن يوصل صوته إىل الشارع‪،‬‬ ‫الذي افتقر لوجود وسيلة إعالمية حرة تحمل‬ ‫أفكار الثورة ومبادئ املجتمع املدين الذي‬ ‫نشدته الثورة منذ انطالقتها”‪.‬‬ ‫وحسب ‘ناطور’‪ ،‬وهو محر ٌر يف الجريدة‪:‬‬ ‫“فإن إصدار جريدة ورقية مل يكن باألمر السهل‬ ‫من الناحية املهنية يف ذلك الوقت‪ ،‬وكان عنرص‬ ‫العمل الطوعي هو أساس املرشوع‪ ،‬وبوجود‬ ‫شباب هواة مل يكن لديهم أي خربة صحفية كان‬ ‫البد من االعتامد عىل املهارات الذاتية ألعضاء‬ ‫الفريق باإلضافة ملعارفهم األكادميية والثقافية‪،‬‬ ‫‪66‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫إبداع وسط األمل‬

‫فقد تم تقسيم أبواب الجريدة عىل األعضاء بحسب اختصاصاتهم وقدراتهم األدبية والفكرية والفنية‪ ،‬وتم العمل‬ ‫بجهد كبري وحثيث عىل إصدار العدد صفر‪ ،‬الذي كان تل ّمسه باألصابع مبثابة حلم ملجموعة الشباب غري الواثق‬ ‫يف ذلك الوقت‪ -‬من قدرته عىل تطبيق الفكرة”‪.‬‬‫يؤكد العاملون يف ‘عنب بلدي’ أنه خالل األشهر الـ ‪ 26‬من عمر الجريدة‪ ،‬تطور العمل يف شكل ملحوظ‪،‬‬ ‫وبدأت مالمح االحرتاف تظهر شيئاً فشيئاً لدى أعضاء الفريق‪ ،‬من خالل قراءة ردود أفعال القراء واالستامع إىل‬ ‫مالحظاتهم ونقدهم‪ .‬كام لعب التدريب املهني الذي تلقته الجريدة بواسطة بعض املنظامت اإلعالمية دورا ً كبريا ً‬ ‫يف تحسني وتطوير مستوى املحتوى الصحفي للجريدة‪ .‬وبدأت الجريدة تتحول شيئاً فشيئاً من مجموعة عمل إىل‬ ‫مؤسسة متلك نظامها الداخيل وقوانينها‪ ،‬وسياستها التحريرية وقواعد العمل الصحفي‪ ،‬باإلضافة إىل عالقاتها التي‬ ‫تتسع يف الوسط اإلعالمي‪.‬‬ ‫ويتابع ‘ناطور’‪“ :‬كانت التحديات األبرز التي تواجه اإلعالم يف شكل عام هي القدرة عىل االستمرار والوصول‬ ‫إىل الجمهور يف شكل مهني‪ ،‬والقدرة عىل الوصول والتحرك داخل البالد لالقرتاب من قضايا الناس واالستامع لهم‬ ‫ملعالجة قضاياهم صحفياً‪ ،‬والعنرص الثالث هو التمويل لتأمني استمرارية املرشوع ودعم أعضائه وتطوير عملهم”‪.‬‬ ‫قد يكون من الصعب تقييم مقدار النجاح أو الفشل الذي حققته الجريدة عىل صعيد الهدف األسايس‬ ‫الذي وضعته لنفسها‪ ،‬كام يقول املحررون يف الجريدة‪“ ،‬فمع دخول املجتمع السوري يف نفق املحنة الكبرية التي‬ ‫يتعرض لها حالياً‪ ،‬ووقوعه يف أرس الحاجة ملا هو أكرث إلحاحاً من ‘الحرية’ كهدف أسمى للثورة‪ ،‬كالحاجة لألمان‬ ‫واملأوى والغذاء‪ .‬ورمبا أصبح الخطاب الفكري والثقايف والسيايس الذي تحمله الصحف مثالياً لدرجة البعد عن‬ ‫هموم الناس‪ ،‬لذلك كان البد من التطرق يف شكل مبارش لقضايا الناس االجتامعية واإلنسانية‪ ،‬وتسليط الضوء عىل‬ ‫همومهم من خالل تحقيقات ومواد صحفية تعالج مشاكلهم‪ ،‬وقد استطاعت الجريدة عىل هذا الصعيد كرس‬ ‫بعض الجدران االجتامعية التي خلقتها األعراف والتقاليد االجتامعية والتعرض ملواضيع حساسة وهامة‪ ،‬كاملواضيع‬ ‫املتصلة باملرأة والدين”‪ .‬وبالتأكيد ‘عنب بلدي’ مثلها كمثل وسائل اإلعالم الرائدة التي تسعى ألن تكون سلطة‬ ‫رابعة تؤثر يف الناس ويف أصحاب القرار وتصنع التغيري‪.‬‬ ‫روزنة‪ :‬راديو يهتم بالشارع السوري بكوادر سورية ‪%100‬‬ ‫يعد ‘راديو روزنة’ من إذاعات اإلنرتنت الرائدة بالظهور والتطور مع بدايات األزمة السورية‪ .‬أعضاء ‘راديو‬ ‫روزنة’ يعرفون عن أنفسهم بأنهم مجموعة من السوريني الذين قرروا إنشاء وسيلة إعالمية سورية تدعم اإلعالم‬ ‫الحر وتتسم بالحيادية واالستقاللية مللء الفراغ اإلعالمي املهني املوجود يف الساحة السورية‪ .‬ميس من اإلداريني‬ ‫املسؤولني يف راديو روزنة تؤكد “كوادر روزنة سورية ‪.’’%100‬‬ ‫فريق التحرير موجود خارج سوريا‪ ،‬فيام يعمل ضمن فريق املراسلني ‪ 64‬صحفياً ومواطناً صحفياً يف الداخل‪.‬‬ ‫روزنة يغطي الوضع السوري بكل أنحاء البالد ويركز عىل الحياة اليومية والقصص اإلنسانية إىل جانب األوضاع‬ ‫السياسية”‪ .‬وحيث تتنوع األهداف والطرق التي يسعى اإلعالم فيها للتأثري بالرأي العام يتخذ راديو روزنة‬ ‫التغطية الحيادية التي تشكل تحدياً وإيصال اإلخبار مبصداقية وحرفية‪ .‬تؤكد ميس “مرشوعنا يسعى لخلق مناخ‬ ‫دميوقراطي يدعم الحريات العامة يف الشأن السوري‪ ،‬وهو وسيلة إعالمية تسمح ألي سوري مهام كان رأيه للتعبري‬ ‫عن نفسه بكل مايخص قضايا الشارع السوري”‪.‬‬ ‫‪67‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫إبداع وسط األمل‬

‫حترير سوري‪ :‬اخلرب يبقى ‘منفي’ حتى يتم ‘التحقق’ منه‬ ‫مرشوع ‘تحرير سوري’ هو مجموعة‬ ‫أخبارية تطوعية‪ .‬يقول تشارلز أحد مؤسيس‬ ‫املجموعة‪“ :‬بدأت الفكرة إلنشاء وسيلة إعالمية‬ ‫مستقلة‪ ،‬ليس لها تبعية ألحد (أخوان‪ ،‬نظام‪،‬‬ ‫عسكر ‪ ..‬إلخ)” وهي وليدة ‘الثورة’ التي بنظر‬ ‫القامئني عىل املرشوع ثورة عىل كل خطأ أو‬ ‫عمل يرض للبلد‪.‬‬ ‫لعل أهم ما مييز مرشوع تحرير سوري‬ ‫أنه ال يفرض خربا ً‪ ،‬بل يضع األخبار للتحقق‪،‬‬ ‫وكل خرب هو منفي حتى يتم التحقق منه‪.‬‬ ‫يقول تشارلز‪“ :‬لسنا مجموعة تنويرية‪ ،‬بل نحن‬ ‫نسعى لجعل الناس تبحث عن الخرب‪ ،‬وتشكك‬ ‫يف أي حدث‪ ،‬وتبحث بنفسها عن الحدث‬ ‫وهذا بحد ذاته تغيري وتأثري بالرأي العام‪ ،‬وكأن‬ ‫املجموعة تخلق الحس الصحفي يف كل متابع‬ ‫سوري”‪ .‬وعن أبرز الصعوبات التي تواجه العمل أوضح تشارلز‪“ :‬الصعوبات يف شكل عام بالنسبة لإلداريني هي‬ ‫محاولة نقل الواقع وأخطاء جميع األطراف دون أن نتهم باالنحياز لطرف ألننا ننقل أخباره‪ ،‬وهدفنا البعيد هو‬ ‫تطوير املجموعة ليشء أكرب وأكرث انتشارا ً”‪.‬‬

‫‪68‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حول مراكز بحوث السياسات‪:‬‬

‫‘املركز السوري لبحوث السياسات’ منوذجًا‬ ‫إعداد‪ :‬الفريق الصحفي في مجلة ِدلْ َتا نُون‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫نشأت مراكز بحوث السياسات عموماً يف سوريا كحاجة فرضتها األحداث املتسارعة يف‬ ‫البالد يف ظل التطورات امليدانية والسياسية‪ .‬ويف الوقت الذي كادت تخلو سوريا من‬ ‫تأسس ‘املركز السوري لبحوث‬ ‫أي مرك ٍز‬ ‫بحثي مستقلٍ و ُم ْع َت َم ٍد كمصد ٍر للمعلومات‪ّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫السياسات’‪ ،‬كمؤسس ٍة مستقل ٍة‪ ،‬تسعى للوصول إىل أكرب قد ٍر من املعلومات بطريق ٍة قريب ٍة‬ ‫للواقع قدر اإلمكان‪ .‬أجرى الفريق الصحفي يف ‘مجلة ِدلـــ َتا نُــون’ لقا ًء مع ‘املركز السوري‬ ‫لبحوث السياسات’‪ ،‬بحضور ربيع نرص‪ ،‬وزيك محيش‪ ،‬ورميا دايل‪ ،‬يف مقر املركز بدمشق‪.‬‬ ‫وقد أجاب األستاذ نرص‪ ،‬الباحث يف املركز‪ ،‬عىل عد ٍد من األسئلة التي طرحناها‪ ،‬واملتعلقة‬ ‫ظل األزمة الراهنة‪ ،‬مروراً بدوافع نشأته ومصادر متويله‪ ،‬وعن‬ ‫بتأسيس املركز‪ ،‬وعمله يف ِّ‬ ‫أبرز الصعوبات التي تتم مواجهتها‪ .‬كام تطرقنا يف لقائنا إىل تأثري الوضع األمني واألزمة‬ ‫الحالية عىل عمل املركز‪ ،‬وكيف حافظ املركز عىل استقالليته يف ظل التجاذبات السياسية‬ ‫والتح ّزب واالنقسام القائم يف البالد‪ .‬كام ختمنا اللقاء بأمثل ٍة عن عمل املركز وعن التقارير‬ ‫التي أعدها عن الوضع السوري‪.‬‬

‫‪69‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫حول مراكز بحوث السياسات‬

‫ً‬ ‫بداية ما هو ‘املركز السوري لبحوث السياسات’؟ تأسيسه؟ وعمله؟‬ ‫يف ظل شح اإلنتاج البحثي املوجه للسياسات‪ ،‬تأسس ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ كمؤسسة مستقلة‪،‬‬ ‫مدنية‪ ،‬غري حكومية‪ ،‬غري ربحية‪ ،‬تقوم بإنتاج الدراسات والبحوث الـ ُم َو َّجهة للسياسات العامة بطريقة احرتافية‪،‬‬ ‫وتسهم بطرح البدائل املمكنة للسياسات العامة ملؤسسات صناعة القرار وللرأي العام‪.‬‬ ‫ويقوم املركز بتنفيذ حوارات سياساتية مبنية عىل البحوث واألدلة بحيث تحرتم حرية التعبري والتفكري وقبول‬ ‫الرأي اآلخر‪ ،‬وتساهم يف تطوير وتعزيز فعالية املؤسسات الحكومية واملدنية‪ .‬ويشكّل الحوار مساحة مفتوحة‬ ‫يقوم املركز بإدارتها بحيادية وموضوعية معتمدا ً عىل أكرب قدر من املعرفة املتوفرة مبشاركة ممثلني عن مختلف‬ ‫أصحاب العالقة بغية تطوير املعرفة بطريقة تشاركية‪ ،‬والوصول إىل خيارات سياساتية تخدم حاجات املجتمع‬ ‫بالشكل األمثل‪.‬‬ ‫كيف كانت بداية ‘املركز السوري لبحوث الدراسات’؟ وما هي دوافع نشأته؟‬ ‫نشأت الكثري من مراكز البحوث املوجهة للسياسات يف الدول النامية بعد استقاللها منتصف القرن املايض‪،‬‬ ‫للمساهمة يف اإلنتاج املعريف املوجه للسياسات العامة‪ ،‬وجَسرْ الهوة بني املعارف املرتاكمة وصناعة السياسات‬ ‫العامة بكافة مراحلها‪ .‬ورغم انتشار هذه املراكز يف شكل متسارع إال أن مفهوم مركز السياسات ال يزال غري محدد‬ ‫ومتنوع إىل َح ٍّد كبري‪ .‬حيث ميكن تصنيف مراكز السياسات وفقاً ملوقعها السيايس ( مستقلة أو حكومية أو حزبية‬ ‫أو تابعة لقطاع األعامل أو املجتمع املدين)‪ ،‬أو لوظائفها الرئيسية ذات األولوية (الوظيفة البحثية أو الحوارية أو‬ ‫الدفاعية)‪.‬‬ ‫ما هي أبرز الصعوبات التي تواجهها مراكز الدراسات عمومًا‪ .‬والصعوبات التي‬ ‫يواجهها مركزكم؟‬ ‫تواجه معظم مراكز السياسات تحديات كبرية يف الدول النامية مثل ضعف إمكانيات البحث العلمي والقيود‬ ‫املك ّبلة لحرية الفكر والبحث‪ ،‬باإلضافة إىل التدخل املبارش للقوى السياسية املؤثرة يف كل من أهداف وأولويات‬ ‫وأداء هذه املراكز مبا يف ذلك حرية النرش‪ ،‬وضعف املوارد املالية واملادية التي تخصص للبحث ما يسهم يف إضعاف‬ ‫استقاللية هذه املراكز‪ .‬ويضاف إىل ذلك الخلل يف الربط بني املعرفة والبحوث من جهة والسياسات من جهة‬ ‫أخرى؛ فالبحوث املوجهة للسياسات تحتاج إىل عملٍ مركَّ ٍز يف وضع طروحات وبدائل قابلة للتطبيق ومرتبطة‬ ‫بالقضايا الواقعية‪ ،‬كام تحتاج إىل جهو ٍد استثنائية يف مجال التواصل مع صناع القرار بفاعلية ومع املجتمع بطرق‬ ‫تشاركية وشفافة‪.‬‬ ‫أثرت األزمة عمومًا والوضع األمني يف البالد خصوصًا على عملكم ونشاطكم‬ ‫هل ّ‬ ‫يف جمال البحث امليداين؟‬ ‫عانت سوريا من نقص املراكز البحثية وخاصة املراكز البحثية املعنية بالسياسات العامة‪ ،‬وترافق ذلك مع مناخ‬ ‫مؤسسايت غري مالئم الزدهار عملية البحث العلمي نتيج ًة للتضييق عىل الحريات العامة والحريات األكادميية‪،‬‬ ‫والتضييق عىل الحوارات الجادة املتعلقة بالقضايا العامة‪ ،‬ونقص االستثامر يف البحث العلمي والرتكيز عىل‬ ‫‪70‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حول مراكز بحوث السياسات‬

‫التعليم الك ّمي‪ .‬باملقابل فإن صناعة السياسات‬ ‫العامة ظلّت إىل حد كبري غائبة عن مشاركة أفراد‬ ‫املجتمع‪ .‬فتباعدت بالنتيجة السياسات العامة‬ ‫ويف شكل متزايد عن تطلعات ومصالح املجتمع‬ ‫السوري‪ ،‬وافتقرت آليات املساءلة للفاعلية‪ ،‬مع‬ ‫دور هزيل للقضاء‪ ،‬وتغييب لإلعالم املستقل‪،‬‬ ‫وتهميش ملؤسسات املجتمع املدين‪ .‬لقد بينت‬ ‫األزمة الحالية (منذ آذار ‪ )2011‬العجز املزمن‬ ‫للسياسات عن تلبية جز ٍء كبريٍ من طموحات‬ ‫الشعب السوري يف تنمية مستدامة تضمينية‪ ،‬ما‬ ‫يزيد من الحاجة إىل رسم التصورات املستقبلية‬ ‫للقضايا الكربى عىل املستوى الوطني بطريقة‬ ‫تشاركية ومستندة إىل املعرفة واألدلة العلمية‪.‬‬ ‫كام أن األزمة التي متر بها سورية يف حاجة اىل‬ ‫تبني الحلول قصرية األجل‪.‬‬

‫ما هي سياسة املركز وركائزه األساسية التي يعمل عليها؟‬ ‫إن أحد أهم ركائز ‘املركز السوري لبحوث السياسات’ هو االستقاللية والحرفية يف العمل‪ .‬وقد تب ّنى املركز يف‬ ‫سبيل ذلك مجموعة من األسس كان أهمها العمل كجزء من املجتمع املدين لخدمة النفع العام‪ ،‬وإرشاك ممثلني‬ ‫عن القطاعات الثالث العام والخاص واألهيل يف دعم عمل املركز‪ ،‬وتبني رشاكات إسرتاتيجية معهم‪.‬‬ ‫إضافة لتشكيل مجلس لألمناء من شخصيات وطنية عامة فكرية مستقلة ومشهود لها بالنزاهة واملوضوعية‬ ‫والحرص عىل الشأن العام ومتثل تيارات فكرية متنوعة‪ .‬ولضامن سالمة العمل الفني وااللتزام باإلسرتاتيجيات‬ ‫ووضع األجندة بنا ًء عىل أولويات املجتمع يعتمد املركز عىل هيئة فنية استشارية محرتفة من خرباء محليني‬ ‫وإقليميني ودوليني‪.‬‬ ‫حتيزه لهذا الطرف أو ذاك؟‬ ‫كيف يحقق املركز استقالليته وكيف يضمن عدم ّ‬ ‫يعترب التمويل أحد املحددات األساسية لالستقاللية‪ ،‬لذلك تم تأسيس املركز بتمويل ذايت من مؤسيس وزمالء‬ ‫وص ِّم َمت محفظة متويل متنوعة تضمن استقاللية املركز عن أي مصدر متويل‪ .‬وال يقبل املركز التمويل من‬ ‫املركز‪ُ ،‬‬ ‫األحزاب السياسية‪ .‬كام يعتمد املركز يف شكل رئييس يف متويل مشاريعه البحثية عىل رأس املال البرشي التطوعي‪،‬‬ ‫املتمثل بجهود الباحثني من داخل وخارج املركز‪ ،‬كأساس لتغطية احتياجات العمل‪ .‬وبالنظر إىل حجم العمل‬ ‫املطلوب والساعات املقدمة تطوعاً إلنجازه‪ ،‬يعترب املنتج النهايئ يف كل مرشوع ذا صبغة تطوعية قياساً بالتعويض‬ ‫الرمزي املقدم للمشاركني بإنجازه‪.‬‬ ‫‪71‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫حول مراكز بحوث السياسات‬

‫ما هي القضايا أو املشاكل التي‬ ‫يتناولها املركز يف دراساته؟‬ ‫تتضمن أولويات العمل يف املركز الرتكيز‬ ‫عىل املستوى اإلسرتاتيجي والقضايا اإلشكالية‬ ‫الكربى ضمن السياسات العامة‪ .‬فغياب رؤية‬ ‫وإسرتاتيجية واضحة عىل املستوى الكيل يف‬ ‫صناعة السياسات يف سورية خلق الحاجة لتعبئة‬ ‫هذا الفراغ عىل مستوى الخيارات اإلسرتاتيجية‬ ‫وتقييمها والحوار حولها من ِق َبلِ املركز الذي عمل‬ ‫عىل تصميم مرشوعه األسايس‪‘ ،‬سياسات تنموية‬ ‫بديلة يف سوريا’‪ ،‬حيث يهدف إىل املساهمة يف‬ ‫تطوير السياسات العامة التنموية ذات األولوية‪،‬‬ ‫ومبشاركة فعالة من القطاعات واملواطنني املعنيني‬ ‫للوصول إىل تنمية مستدامة‪.‬‬

‫هل ميكن أن تشرح لنا منهجيات املركز يف أدائه وعمله مع مثال شارح؟‬ ‫يتبنى املركز منهجيات علمية متعددة االختصاصات تركز عىل القضايا االقتصادية واالجتامعية وتشابكاتها‪،‬‬ ‫ويتم استخدام وتطوير املنهجيات الكمية الرياضية يف شكل أسايس باالعتامد عىل مناذج قياسية وإحصائية‬ ‫والدراسات املستقبلية‪ .‬كام يتم اعتامد املنهجيات الكيفية بخاصة يف القضايا االجتامعية واملؤسسية وفقاً لألصول‬ ‫العلمية‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك يتم العمل عىل املستويني الكيل والجزيئ‪ ،‬حيث يقوم املركز بالتحليل االقتصادي‬ ‫االجتامعي عىل الصعيد الوطني‪ ،‬وينفّذ ُمسوحاً ودراسات عىل مستوى األرس واألفراد‪.‬‬ ‫ولرصد وتحليل الواقع االقتصادي واالجتامعي يف سورية‪ ،‬ونتيج ًة لقلة البيانات واملعلومات املتوفرة عن الواقع‬ ‫السوري‪ ،‬عمل املركز عىل تشخيص وتحليل جذور األزمة للوصول إىل فهم أعمق لالختالالت التي أ ّدت إليها‪ ،‬حيث‬ ‫صدر تقرير ‘تحليل الجذور واآلثار االقتصادية واالجتامعية لألزمة يف سورية’ يف كانون الثاين‪/‬يناير ‪ 2013‬مبشاركة‬ ‫العديد من الباحثني املستقلني‪.‬‬ ‫وقد تضمن هذا التقرير تحليالً وتقييامً لآلثار االقتصادية واالجتامعية لألزمة خالل عامي ‪ُ ،2012-2011‬مربزا ً‬ ‫العوامل التي قادت إىل األزمة الحالية واملتمثلة يف جذرها باالختناق املؤسسايت الذي ه َّمش قطاعات كبرية من‬ ‫املجتمع‪َ ،‬حارِماً إياها من املساهمة بفاعلية يف الحياة السياسية واالقتصادية واالجتامعية‪.‬‬ ‫ويف ظل تعقد األزمة السورية واتخاذها أبعادا ً جديدة وتداخل العوامل الداخلية والخارجية املؤثرة فيها‪،‬‬ ‫بالتزامن مع تهميش الرأي العام السوري وعدم إرشاكه يف صياغة رؤية واضحة للخروج من األزمة‪ ،‬صمم املركز‬ ‫مرشوع ‘األزمة السورية‪ :‬استرشاف بدائل الحل’‪.‬‬ ‫‪72‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حول مراكز بحوث السياسات‬

‫واعتمد هذا املرشوع عىل رسم منهجي للسيناريوهات املحتملة للخروج من األزمة موضحاً دور الفاعلني‪،‬‬ ‫والبديل األمثل لتجاوز األزمة‪ .‬وبدأ املرشوع بوضع مالمح رؤية بعيدة املدى تعتمد القيم واملبادئ الرئيسية‬ ‫املرغوبة ومبشاركة العديد من املهتمني بالشأن العام‪ .‬وتم استخدام هذه الرؤية لتقييم السيناريوهات املحتملة‬ ‫يل كخيا ٍر تفضييل للمجتمع السوري‬ ‫لألزمة‪ .‬فقد أظهرت الدراسة تصدرا ّ ملحوظاً لـ ‘سيناريو املفاوضات’ بثقلٍ داخ ٍّ‬ ‫عىل باقي السيناريوهات األخرى‪ .‬وقد تم عرض نتائج املرشوع يف مؤمتر ‘نحو حل إسرتاتيجي لألزمة السورية‪ :‬دور‬ ‫املجتمع املدين’ والذي شارك املركز يف تنظيمه‪.‬‬ ‫ما هي آخر نتائج تقاريركم املتعلقة باألزمة السورية؟‬ ‫فيام يتعلق باآلثار االقتصادية واالجتامعية لألزمة يف سوريا‪ ،‬يقوم ‘املركز السوري لبحوث السياسات’‪ ،‬وبالتعاون‬ ‫مع ‘وكالة األمم املتحدة إلغاثة وتشغيل الالجئني الفلسطينيني (األونروا)’ و’الربنامج اإلمنايئ لألمم املتحدة’‪ ،‬بإصدار‬ ‫تقارير ربعية لتقييم هذه اآلثار عىل املجتمع السوري ومؤسساته‪.‬‬ ‫وتسعى هذه التقارير لتشخيص االختالالت التنموية الكربى خالل األزمة بطريقة علمية‪ ،‬بحيث تشكّل أحد‬ ‫مصادر املعلومات الرضورية لصياغة السياسات والربامج التي تتجاوز يف نظرتها الحالة اإلنسانية الطارئة إىل توسيع‬ ‫الخيارات اإلسرتاتيجية التنموية ملا بعد األزمة‪.‬‬ ‫يقدم املركز نتائج بحوثه ومشاريعه لخدمة الصالح العام‪ ،‬ساعياً لتمكني أفراد املجتمع وتوسيع خياراتهم من‬ ‫خالل تأمني نفاذهم للمعلومات وضامن حقّهم يف املعرفة‪.‬‬

‫‪73‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫‪74‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراســـات‬ ‫املثقف واملعارضة والشأن السوري‬ ‫غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة‬ ‫بني الشعر والفيس بوك‬ ‫السينام كمعرب عن تفاوت الرصاع‬ ‫قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة‬ ‫محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬


‫دراسات‬

‫محمد ديبو❊‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‪:‬‬

‫طويل ال ب ُ َّد منه‬ ‫متهيد‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫بقدر ما عكست الثورة السورية توق السوريني نحو الحرية‪ ،‬كشفت –باملقدار نفسه‪ -‬حجم الجهل ونقص‬ ‫املعرفة املوجود فيام يخص هذه الـ ‘سوريا’ التي يصبون إليها‪ .‬ليس عىل مستوى الشارع‪/‬الجمهور‪/‬‬ ‫الشعب فحسب‪ ،‬بل عىل مستوى النخبة املثقفة التي تكتب جهالً فيام يخص بلدها‪ ،‬فتكون أحد أسباب‬ ‫التأزيم بدالً من أن تكون أحد محرضات التنوير والحل‪ .‬لهذا كان البد من العودة إىل هذه املعرفة التي‬ ‫أنتجها املثقف السوري حول ‘سورياه’‪ ،‬لتكون الكارثة أنه ال يوجد معرفة حول سوريا بأقالم السوريني‬ ‫إال ملاماً! مثة الكثري من األيديولوجيا والقليل من املعرفة‪ .‬وهذا ما دفعنا للبدء بهذا البحث الذي يناقش‬ ‫‘جهل’ املثقفني السوريني حول سورياهم‪ ،‬أو متكن األيديولوجيا منهم عىل حساب املعرفة‪ ،‬عرب سؤالٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مثقف‬ ‫كتاب معريفٌّ واحدٌ يتحدث عن سوريا بقلم‬ ‫يعكس حجم مأساة الثقافة السورية‪ :‬ملَ ليس هناك ٌ‬ ‫سوري قبل عام ‪2000‬؟ وملَ ليس هناك إال الكتب املترسعة حول سوريا بعد عام ‪2000‬؟ وهي بالكاد‬ ‫ٍّ‬ ‫تتجاوز أصابع اليد الواحدة؟ هذا السؤال‪ ،‬مضافاً له جهل املثقفني السوريني بطبيعة بلدهم وتركيبة نظامه‬ ‫السيايس واالقتصادي واالجتامعي‪ ،‬دفع البحث إىل الغوص يف طبيعة الثقافة السورية مذ تشكلت سوريا‬ ‫بجغرافيتها الحديثة يف ظل االنتداب الفرنيس (‪ ،)1946-1920‬قارئاً ‪-‬يف هذه املادة‪ -‬اإلطار التاريخي الذي‬ ‫تك ّون فيه املثقف السوري والتح ّوالت التي جرت عىل مفهوم املثقف ومنوذجه‪ ،‬بدءاً من ‘املثقف املتعلم’‬ ‫و’املثقف األيديولوجي’ و ‘املثقف الثوري’ و’املثقف النقدي’ انتهاءاً بـ ‘املثقف العمومي النقدي’ الذي‬ ‫يولد اليوم يف ظل الثورة‪ ،‬معيداً سوريا إىل خارطة اهتامماته املعرفية بعد أن هيمنت عليه األيديولوجيا‬ ‫طويالً‪ .‬عىل أمل أن نتمكن يف أجزاء قادمة من قراءة األسباب الخارجية (خارج إطار املعرفة) التي تسببت‬ ‫بهذا الفقر‪ ،‬واألسباب الداخلية (داخل النص املعريف امل ُ ْن َتج ومنهجه)‪ ،‬ساعني بنفس الوقت ملحاولة فتح‬ ‫باب جدي ٍد يف هذا اإلطار‪ ،‬نأمل أن يُ ْت َب َع مبزي ٍد من النقاش والجدل مع مثقفني ومفكرين آخرين‪ ،‬وأن يُولَدَ‬ ‫ٍ‬ ‫‘جديدٌ ’ ما ال يرتهن للثورة أو املايض بقدر ارتهانه للمعرفة ورشوطها فحسب‪.‬‬ ‫❊ كاتب وشاعر وباحث سوري‪ ،‬يكتب يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع االلكرتونية‪ .‬حاز بديوانه ‘لو يخون الصديق’ عىل جائزة دمشق عاصمة الثقافة‬ ‫العربية‪ .‬كام صدر له قصة بعنوان ‘خطأ انتخايب’ عن دار الساقي‪ ،‬وشهادة عن الثورة ووتجربة االعتقال بعنوان ‘كمن يشهد موته’ عن دار املواطن‪ .‬إضافة‬ ‫إىل مجموعة أبحاث منها بحث بعنوان ‘الطائفية كعامل من عوامل النزاع األهيل يف سوريا’ الصادر عن مركز املجتمع املدين والدميقراطية ضمن كتاب‬ ‫مشرتك عن السلم األهيل يف سوريا‪.‬‬

‫‪76‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫ع ّرت االنتفاضة السورية‪ ،‬التي اندلعت يف الخامس عرش من آذار‪ ،‬املثقفني واملعارضة السورية الرسمية‬ ‫‘كنخبة’ يف آن‪ ،‬لجهة أنها كشفت األوهام التي تسيطر عىل أذهان هؤالء وانعكاس ذلك يف اسرتاتيجيات نضالهم‬ ‫العاجزة‪ ،‬وفيام يكتبون‪ :‬عطالة وجهالً وتبسيطاً ال يليق بانتفاضة يدفع السوريون والسوريات مثن استمرارها بوجه‬ ‫الطاغية من دمهم بشكل يومي‪.‬‬ ‫إن الكثري مام يكتب حول سوريا يف الصحف واملراكز البحثية اليوم يالمس حدود الجهل يف كثري من األحيان‪.‬‬ ‫جهل بوضع البلد الداخيل وتركيبته‪ :‬سياسياً واقتصادياً واجتامعياً وثقافياً‪ ،‬ريفاً ومدينة‪ ،‬فقراء‪/‬نخبة طبقية مهيمنة‬ ‫وناهبة‪ ،‬مثقفاً‪/‬سلطة‪ .‬وببنية النظام السوري وطبيعته‪ :‬طائفي أم سلطوي‪ ،‬قائم بغريه أم بدعم الخارج‪/‬املحور‪،‬‬ ‫يعتمد احتكار القلة والدفاع عن مصالحهم بوجه األكرثية الساحقة من الفقراء املسحوقني املذلني املهانني أم‬ ‫يحقق مطالب الطبقات الشعبية األوسع يف توازن دقيق وحساس مع مصالح الحيتان االقتصادية‪ ،‬يعتمد العنف‬ ‫املطلق آداة وحيدة لحامية السلطة ومصدر الرشعية أم مث ّة أسباب أخرى تساند هذا األمر؟‬ ‫هذا الجهل املعريف الفادح بسوريا الذي كشفته االنتفاضة‪ ،‬والذي أدى فيام أدى من جملة نتائج كثرية إىل‬ ‫أن تقف اليوم املعارضة السورية والنخبة املثقفة عاجزة أمام الحائط املسدود الذي وصلت إليه جميع األطراف‪،‬‬ ‫كنتيجة منطقية إلسرتاتيجيات خاطئة ُوضعت بنا ًء عىل معلومات ومعارف خاطئة وغري دقيقة‪ ،‬األمر الذي يعيدنا‬ ‫إىل املثقف ودوره يف إنتاج الثقافة واملعرفة الخاصة ببلده وطبيعة سلطته املستبدة‪ ،‬ومدى مواجهة هذه الثقافة‬ ‫(((‬ ‫للسلطة ألن “السلطة عنف‪ ،‬فيام القيود الوحيدة التي يعرتف بها الفكر الخالق هي قواعده املتأصلة يف داخله”‬ ‫أي سلطة كانت‪ :‬سياسية أم اقتصادية أم اجتامعية‪.‬‬ ‫وهي قواعد تنحاز لإلنسان‪/‬الفرد‪/‬الضعيف حتامً بوجه السلطة‪ّ ،‬‬ ‫هذا الوضع املزري للمثقف السوري اليوم يضعنا أمام أسئلة كربى‪ ،‬تبدأ من التح ّري ال عن أسباب غياب‬ ‫املثقف وسلطته اليوم وعن ضمور دوره فحسب‪ ،‬وعن أسباب عدم قدرته عىل إنتاج املعرفة التي هي شغله‬ ‫األساس‪ ،‬وعن دوره يف تس ّيد الجهل والوهم واأليديولوجيا واالنبهار األعمى أو التشاؤم مبا يحصل بدالً من إنتاج‬ ‫املعرفة بالوضع القائم أو تفسريه متهيدا ً لتغيريه‪ ،‬كام يقول ماركس‪.‬‬ ‫‪ 1‬آالن باديو‪ ،‬مقالة ‘التفكري بالحدث’ من كتاب ‘الفلسفة يف الحارض’ آلالن باديو وسالفوي جيجك‪ ،‬ترجمة‪ :‬يزن الحاج‪ ،‬دار التنوير ‪،2013‬ص‪.23 :‬‬

‫‪77‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫عبارة ماركس السابقة تيش بأن املعرفة بـ “تسبق الحدث ألنها متهد له‪ ،‬عرب املساهمة يف تنوير من يقوم‬ ‫به عىل شدة الظلم والفساد‪ ،‬مبعنى أنها تنتج الوعي املح ّرك لهذه الجامهري ليك تفكر وتفهم أنها مستغلة فتبدأ‬ ‫عملية التفكري بكيفية الخروج من هذا الوضع مستدلة مبا كتبه املثقف كمعامل طريق أو نقاط علاّ م‪ ،‬ألن املهمة‬ ‫الحقيقية للمثقف تكمن يف ‘صوغ البدائل من الوضع القائم”((( ألن املثقف “يساهم يف مناقشة الشأن العام‬ ‫بأدوات عقالنية‪ ،‬ومن منطلق املواقف األخالقية”(((‪.‬‬ ‫هذا ما يجب أن يكون عليه الوضع‪ ،‬فهل كان قامئاً يف سوريا قبل االنتفاضة؟ وإن كان قامئاً أو موجودا ً‪ ،‬فهل‬ ‫كان قامئاً كشعور عام بالظلم أم كشعور خاص معريف‪/‬علمي مبني عىل أسس وأرقام ومعلومة وليس أيديولوجيا؟‬ ‫أي شعور مييز املثقف بشعوره املعريف بهذا الظلم وسبل تفكيكه عن املواطن العادي بشعوره الفطري يف الظلم‪،‬‬ ‫سواء من موقع من يقع عليه الظلم أو من موقع أيديولوجي ينتمي له هذا املواطن؟‬ ‫قبل البدء بنقاش املعرفة التي أنتجها املثقف العريب والسوري تحديدا ً‪ ،‬والقارصة عن اإلحاطة بالوضع اليوم‬ ‫ملعرفة أسباب ذلك‪ ،‬علينا أن نؤكد إن كانت هذه املعرفة قارصة فعالً‪ ،‬وتستحق وصفها الذي نصفها به‪ ،‬وهل‬ ‫هي كذلك بالعموم أم مثة اخرتاقات ما لبعض املثقفني؟ وهل هي اخرتاقات هامة ذات داللة وتحدث أثرا ً أم أنها‬ ‫مجرد ‘رصخة صامء’ أم ماذا؟‬ ‫ليك ال يكون كالمنا يف الهباء سنتحدث عن بعض أوجه املعرفة القارصة كام تجلت يف كتابات املثقفني السوريني‬ ‫عن سوريا‪ ،‬بشكل خاطف ورسيع‪ ،‬عرب أمثلة رسيعة‪ ،‬عىل أمل أن نتمكن الحقاً من تسليط الضوء يف جزء خاص‬ ‫من هذا البحث عىل هذا األمر بشكل تفصييل وم ّوسع عرب الدخول يف نقاش م ّوسع مع املعرفة التي أنتجها املثقف‬ ‫السوري حول سوريا‪ ،‬سواء فيام يتعلق باالنتفاضة أو بسوريا بشكل عام‪ ،‬مكتفني هنا ببعض األمثلة ليك ال يطول‬ ‫هذا الجزء من البحث‪ ،‬ويك يدرك القارئ الهدف األسايس لهذا البحث‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مثال أول‪ :‬مؤخرا تحدث املفكر السوري الكبري صادق جالل العظم عام سماّ ه ‘العلوية السياسية’ مفرتضاً أن‬ ‫النظام يف سوريا هو نوع من علوية سياسية‪ ،‬إذ قال‪“ :‬ال ميكن للرصاع أن يصل إىل خامتته بدون سقوط العلوية‬ ‫السياسية متاماً كم أن الحرب يف لبنان ما كان ميكن أن تصل إىل خامتتها بدون سقوط املارونية السياسة وليس‬ ‫املوارنة يف لبنان”(((‪.‬‬ ‫يصعب الفهم كيف ميكن ملفكر مثل العظم أن ال يدرك الفوارق بني سوريا ولبنان من جهة التكوين والفضاء‬ ‫العام الذي ولد به كال البلدين يف ظل االنتداب الفرنيس‪ ،‬حيث اتجهت سوريا نحو النظام الجمهوري واتجه‬ ‫لبنان بفعل توازناته الطائفية نحو نظام املارونية السياسية الذي رشعن األمر دستورياً وربط بني النظام والطائفة‬ ‫واستمد رشعيته التاريخية من هذا النظام إىل أن قامت الحرب األهلية اللبنانية‪ ،‬يف حني أن رشعية النظام السوري‬ ‫مستمدة تاريخياً من األسس الجمهورية رغم كل عللها‪ ،‬حتى قبل أن يصل النظام الحايل إىل السلطة‪ ،‬إذ يتناىس‬ ‫العظم أن ‘العلوية السياسية’ أو ‘املارونية السياسية’ أو غري ها من هذه النظم تقوم يف بعد أول عىل أساس طائفي‬ ‫واضح ورصيح‪ ،‬يدمج بني النظام السيايس والدولة‪ ،‬بحيث تكون النصوص الدستورية رصيحة وواضحة لجهة ‘حق’‬ ‫‪ 2‬عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية‪ ،‬العدد ‪- 4‬املجلد األول‪-‬ربيع‪ ،2013‬ص‪.142 :‬‬ ‫‪ 3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.131 :‬‬ ‫‪ 4‬صادق جالل العظم لـ‘املدن’‪ :‬الحل بسقوط العلوية السياسية‪ ،‬جريدة املدن االلكرتونية‪ ،‬حوار دمية ونوس‪ ،‬الخميس ‪ ،2014/03/13‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.almodon.com/Culture/Articles/%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D982-%%D8%AC%D984%%D8%A7%D984-%‬‬ ‫‪%D8%A7%D984%%D8%B9%D8%B8%D985--%%D984%%D986-%%D98%A%D986%%D8%AA%D987%%D98%A‬‬‫‪%D8%A7%D984%%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A8%D8%AF%D988%%D986-%‬‬ ‫‪%D8%B3%D982%%D988%%D8%B7-%D8%A7%D984%%D8%B9%D984%%D988%%D98%A%D8%A9.‬‬

‫‪78‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫هذه الطائفة يف الحكم عىل نحو ما شهده لبنان مثالً‪ ،‬وهو أمر يغيب يف سوريا التي ينص دستورها عىل النظام‬ ‫الجمهوري‪ ،‬مذ ولدت سوريا بشكلها الحديث‪.‬‬ ‫ويف ٍ‬ ‫بعد ثانٍ عىل العالقة بني الطائفة والسلطة‪ ،‬ترى الطائفة نفسها أنها ممثلة سياسياً عرب هذه السلطة‪،‬‬ ‫بحيث تشعر الطائفة أنها متارس السياسة أو تشارك بالحكم من خالل حقها الطبيعي هذا الذي كفله لها الدستور‬ ‫وهو أمر غري متوفر أيضاً يف سوريا‪ ،‬حيث تنظر الطائفة العلوية للنظام السوري بوصفه حامياً لها وليس ممثالً‬ ‫سياسياً‪ ،‬يف حني أنه يف نظام ‘العلوية السياسية’ أو ‘املارونية السياسية’ تنظر الطائفة للسلطة بوصفها االثنان‬ ‫معاً‪ ،‬مع ترافق األمر مع سلطة دينية تسند السلطة السياسية ولكنها تفرتق عنها بشكل واضح فالكنيسة املارونية‬ ‫يف لبنان تاريخيا هي مستقلة عن السلطة السياسية‪ ،‬يف حني أن السلطة يف سوريا صادرت الطائفة العلوية كلياً‬ ‫وفككت مرتكزات قوتها وحرمتها حتى من مرجعية دينية‪ ،‬ليك تقوم هي مبهمة ‘التمثيل الديني’ دون أن تفصح‬ ‫عن األمر‪ ،‬مانعة نشوء أي قطب ديني داخل الطائفة يسحب منها رشعيتها هذه‪ ،‬دون أن تعطي العلويني ـ أو أي‬ ‫طائفة أخرى ـ حقوقهم السياسية‪ ،‬يف حني حرمت العلويني من حقوقهم السياسية و أن يكون لهم مرجعية دينية‬ ‫معاً‪ ،‬ليك يسهل الهيمنة عليهم وربطهم بها ليكونوا مجرد وقود لها(((‪.‬‬ ‫وفق تص ّورنا يقوم النظام السوري عىل احتكار الطائفية والتالعب بها‪ ،‬إذ مل يكن يوماً نظاماً طائفياً كام‬ ‫يتوهم الكثريون بل هو نظام يحتكر الطائفية والحديث بها‪ ،‬ليق ّدم نفسه نظاماً علامنياً يف حني أن نظام ‘الطائفية‬ ‫السياسية’ ال يتورع عن تقديم نفسه بصفته الطائفية الواضحة‪ .‬وهنا مثة فرق واضح بني األمرين‪ ،‬لن نخوض‬ ‫يف تفاصيله هنا‪ ،‬مع رضورة مالحظة أن النظام السوري اليوم يستمد آليات حكمه يف العمق من جوهر النظام‬ ‫االنتدايب الذي فرضته فرنسا يف سوريا‪ ،‬مع فارق جوهري أيضاً عىل مستوى السطح عن تجربة االنتداب الذي غرق‬ ‫بالطائفية وأعلنها يف إطار دويالت ويف قوات الرشق التي كانت تعتمد عىل األقليات‪ ،‬يف حني أن النظام السوري‬ ‫احتكر الطائفية ولعب بها باطنياً وبطرق رسية‪/‬أمنية‪ ،‬مغطياً عليها بـ علامنوية‪/‬وحدوية‪/‬قومجية‪/‬مامنعة وغريها‬ ‫من األوراق التي مكنته عىل مدى عقود من التغطية عىل احتكاره للطائفية(((‪.‬‬ ‫وهنا نشري إىل خطأ آخر من األخطاء الشائعة ولكن القاتلة التي وقع بها املثقفون السوريون يف مقاربتهم‬ ‫للنظام وطبيعته‪ ،‬حني افرتضوا أن النظام السوري هو أول من اعتمد عىل الطائفية يف األمن والجيش‪ ،‬يف حني أن‬ ‫جذور األمر تعود إىل االنتداب الفرنيس الذي رسخ هذا األمر يف ‘قوات الرشق’ مبواجهة ‘س ّنة املدن’ الذين كانوا‬ ‫يحملون لواء القومية العربية التي كان الفرنسيون يخشونها‪ .‬فوفقاً للتخطيط الفرنيس‪ ،‬ط ّور الجيش تركيباً ريفياً‬ ‫وأقلوياً قوياً‪ ،‬كان للعلويني فيه موقع مرموق‪ .‬وقد صح هذا بصورة خاصة يف صفوف الجنود وضباط الصف‪ .‬ويف‬ ‫نهاية االنتداب‪ ،‬كانت عدة كتائب يف القوات الخاصة مؤلفة بكاملها تقريباً من العلويني‪ .‬ومل تكن أية كتيبة عربية‬ ‫ُسنية رصفة‪ ،‬وحتى رسايا الخيّالة القليلة التي كان فيها عنارص كثرية من العرب الس ّنة ملئت يف مجملها بعنارص‬ ‫من مناطق ريفية ومن مدن نائية‪ .‬وقد فضل الفرنسيون املجندين من األقليات ومن سكان األرياف لسبب واضح‬ ‫‪ 5‬للمزيد حول هذا األمر اقرأ بحثنا املنشور يف اآلداب‪ :‬العلويون‪ :‬مسألة طائفية أم اجتامعية‪ :‬محمد ديبو‪ ،‬عدد خريف ‪ ،2012‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://adabmag.com/node/512،‬‬ ‫وكذلك‪ :‬علويّو سوريا من العزلة إىل لعنة السلطة‪ ،‬يوسف كنعان‪ ،‬مركز دراسات الجمهورية الدميقراطية‪ 12،‬اكتوبر ‪ ،2013‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://drsc-sy.org/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D98%A%D8%AC%D98%A%D8%A9‬‬‫‪%D8%B3%D984%%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D984%%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%‬‬ ‫‪AF-%D981%%D98%A-%D985%%D988%%D8%A7%D8%AC%D987%%D8%A9-%D8%A7/.‬‬ ‫‪ 6‬ملزيد من املعلومات حول هذا األمر ميكن مراجعة بحثنا املعنون بـ ‘الطائفية كعامل من عوامل النزاع األهيل’ الصادر ضمن كتاب ‘عوامل السلم األهيل‬ ‫والنزاع األهيل يف سوريا’ عن مركز ‘املجتمع املدين والدميقراطية’‪ ،‬واملتوفر عىل صفحة املركز يف نسخة الكرتونية‪.‬‬

‫‪79‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫هو أن أولئك املجندين كانوا بعيدين جدا ً عن أيديولوجيا سوريا السياسية السائدة‪ .‬وباإلضافة إىل ذلك‪ ،‬فإن‬ ‫‘الوضع االقتصادي املرتدي’ يف مجتمعات سوريا الريفية واألقلوية جعل الجيش واسطة لحراكها االجتامعي‪ .‬وبهذه‬ ‫الطريقة‪ ،‬أصبحت الرتب األدىن يف الجيش‪ ،‬مبا فيها رتبة صف ضابط‪ ،‬حكرا ً عىل العلويني والدروز وس ّنة املناطق‬ ‫الريفية‪ .‬وملا كان العلويون أكرب األقليات‪ ،‬ورمبا أفقرها‪ ،‬يف البلد‪ ،‬فإنهم كانوا األكرث عددا ً يف الجيش‪ .‬إال أنه مل يكن‬ ‫لهم تأثري ملموس مدة جيل كامل بعد االستقالل‪ .‬فالضباط السنة كانوا ممسكني بنقاط القوة يف الجيش خالل‬ ‫األعوام التالية لالستقالل‪ ،‬ومل يسيطر العلويون عىل الجيش إال يف الستينيات‪ ،‬بعد أعامل تطهري متتالية ج ّردت‬ ‫املراتب العليا يف الجيش من الضباط السنة‪ .‬وكانت الحكومات السورية يف تلك األعوام‪ ،‬كالفرنسيني من قبل‪ ،‬ترى‬ ‫أن العلويني بعيدون جدا ً عن الرصاعات السياسية السورية‪ ،‬وبالتايل حياديون سياسياً(((‪.‬‬ ‫يعطينا املقطع السابق فكرة واضحة عن أمرين‪ :‬أوالً‪ ،‬إن تكوين الجيش الطائفي بدأ من مرحلة االنتداب‬ ‫الفرنيس وليس يف عهد ‘ثورة البعث’‪ .‬وثانياً إن الحكومات السورية الالحقة مل ترتك العلويني يف الجيش لثقتها‬ ‫بهم أو العتبارهم مواطنني‪ ،‬بل ألنهم ‘حياديون سياسياً’ وال يشكلون خطرا ً عليهم آنذاك‪ ،‬وألنه منذ بدايات‬ ‫القرن التاسع عرش‪ ،‬اتخذت األرس املرموقة يف املدن موقفاً عدائياً من املؤسسة العسكرية‪ ،‬التي كانت تلك األرس‬ ‫تعتربها مؤسسة دونها‪ ،‬اجتامعياً‪ .‬وجهدت يف ثني أبنائها عن االلتحاق بالجيش‪ ،‬واستخدمت ثرواتها وأنسبائها يف‬ ‫الحكم للحصول عىل إعفاءات‪ .‬وقد استمر هذا األمر حتى منتصف الثالثينيات أي عندما تعاظم إمكان حصول‬ ‫سوريا عىل االستقالل‪ .‬وعندها فقط‪ ،‬أخذ بعض الوطنيني يشجع أبناء النخبة املدينية عىل االنضامم إىل الجيش‬ ‫بااللتحاق بالكلية العسكرية يف حمص‪ .‬ولكن عىل الرغم من أنه كان هناك زيادة يف نسبة عرب املدن السنة‬ ‫الذين أصبحوا ضباطاً بني عامي ‪( 1945-1936‬وهي نسبة فاقت نسبة الضباط يف فرتة ‪ ،)1935-1925‬فإن العالقة‬ ‫بني سلك الضباط والقادة الوطنيني مل تكن طيبة‪ .‬فقبل كل يشء‪ ،‬جاء أولئك الضباط من فروع متواضعة ألرس‬ ‫مدينية بارزة أو من الطبقات الوسطى الصاعدة‪ ،‬وكانوا ينظرون بامتعاض إىل الزعامء املدنيني األبرز اجتامعياً‬ ‫واألكرث ثرا ًء ‪ ...‬فالقادة السياسيون السوريون كانوا يحتقرون الجيش ‪ ...‬ال يثقون بسلك الضباط‪ ،‬إذ اتهموه‬ ‫بخدمة الفرنسيني رصاحة‪ ،‬أو عىل األقل بخدمة املصالح الفرنسية باستنكافه عن النضال الوطني(((‪ .‬مام يعطينا‬ ‫فكرة عن حجم العوامل املؤثرة يف تركيبة الجيش السوري تاريخياً‪ ،‬والتي يتم اختزالها اليوم يف البعد الطائفي‪،‬‬ ‫يف حني أنها تستوجب دراسة معمقة لوحدها تأخذ دور االنتداب واألبعاد السياسية واالقتصادية واالجتامعية‬ ‫والطائفية واألحداث السياسية داخالً وخارجاً (نكبة فلسطني والنكسة‪ ،‬حرب الثامنينيات وحرب لبنان وحرب‬ ‫رس الجيش واملؤسسة‬ ‫الخليج) وتسليح الجيش عىل يد السوفيات ثم اإليرانيني‪ ،‬وتداخل كل ذلك وتشابكه لنفهم ّ‬ ‫العسكرية ودورهام يف النظام الذي يعتربه العظم اليوم باستسهال ‘علوية سياسية’‪.‬‬ ‫هذا الجهل املعريف بسوريا‪ ،‬هو ما يدفعنا لهذا البحث‪ ،‬عرب محاولة قراءة‪ :‬ملاذا يلجأ العظم إىل هذه القراءة‬ ‫الطائفية للوضع يف سوريا؟ ومل ليس لدى العظم أي كتاب عن سوريا وبنية نظامها وطبيعة مثقفيها؟ وهو الذي‬ ‫مل يرتك أحدا ً ينجو من نقده؟ لِ َم تغيب سوريا وطبيعة نظامها واقتصادها ومشاكلها عن كتبه؟ وهل هذا الغياب‬ ‫له عالقة بهذا الحديث اليوم بحيث يكتشف املثقف السوري العريق أن ثقافته عن سوريا ضحلة وضعيفة إىل‬ ‫هذا الحد أم ماذا؟‬ ‫ٌ‬ ‫مثال ثانٍ ‪ :‬إذا كتبنا اليوم عىل جوجل عبارة قانون الطوارئ يف سوريا مرفقة مع أسامء املثقفني السوريني‪،‬‬ ‫‪ 7‬فيليب خوري‪ ،‬سوريا واالنتداب الفرنيس‪ -‬سياسة القومية العربية ‪ ،1945-1920‬ترجمة مؤسسة األبحاث العربية‪ ،‬الطبعة األوىل – بريوت ‪،1997‬ص‪:‬‬ ‫‪.694-693‬‬ ‫‪ 8‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.693 :‬‬

‫‪80‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫سيعطينا خيار البحث أن الغالبية ترفق بني حكم البعث وقانون الطوارئ من جهة‪ ،‬وبني االستبداد والحقبة‬ ‫األسدية من جهة ثانية‪ ،‬وكأن االستبداد مل يكن قبل األسد‪ ،‬يف حني أن حقبة األسد يف حقيقة األمر هي التتويج‬ ‫الفعيل ملرحلة املد الثوري الشعبوي‪ ،‬أو أصنص املرحلة التاريخية من عمر سوريا والتي بدأت مع انقالب حسني‬ ‫الزعيم عام ‪ ،1949‬ففي مقال له يقول عبد الرزاق عيد‪“ :‬علينا أن نحدد إشكالية مقاربتنا الحوارية هذه يف صيغة‬ ‫التساؤل عن حقيقة املحنة التي يعيشها املجتمع السوري مع نظامه العصبوي التسلطي‪ :‬هل هي أزمة بنية‬ ‫حقوقية قانونية فرضت عىل سوريا مع قانون الطوارئ الذي ولد منتهكاً بذاته يف لحظة إعالنه‪ ،‬إذ أعلنه ما سمي‬ ‫مبجلس قيادة الثورة عام ‪ 1963‬املشكل من قبل الضباط االنقالبيني‪ ،‬يف حني يشرتط قانون الطوارئ إلعالن حالة‬ ‫الطوارئ أن يصدر مبرسوم عن مجلس الوزراء املنعقد برئاسة رئيس الجمهورية‪ ،‬ثم ينبغي عرضها عىل مجلس‬ ‫النواب يف أول اجتامع له‪ ،‬وهو ما مل يحصل حتى اآلن ‪ ...‬األساس الذي ميكن أن يفرس النسق الداخيل االستبدادي‬ ‫للنظام خالل عقود التسلطية األسدية‪ ،‬ميكن أن نجد لها أصولها البعثية ليس يف قانون الطوارئ الذي بدأ مع‬ ‫االنقالب البعثي فحسب‪ ،‬بل باملرسوم الذي يرشع قانونياً إطالق يد سلطة املخابرات الحقاً‪ ،‬إذ صدر املرسوم رقم‬ ‫‪ 14‬لعام ‪ 1969‬أي يف زمن البعث ما قبل األسدي‪ ،‬فنصت مادته ‪ 16‬عىل حامية العاملني يف أمن الدولة من املالحقة‬ ‫القضائية إذا ارتكبوا جرماً‪ ،‬وهكذا تبدأ لحظة انحسار دور القانون لصالح أجهزة األمن ‪ ...‬هذا القانون البعثي‬ ‫سيكتسب خصوصيته األسدية من خالل عملية الرتييف والتطييف التي بدأها األسد من خالل اللجنة العسكرية‬ ‫يف الستينيات وحسمها يف السبعينيات يف االستيالء عىل مصادر قوة النظام العسكرية واألمنية‪ ،‬حيث ستتأسس‬ ‫منظومة ما تسميه حنة أرندت ‘االعتباطية املقيدة’ املميزة للنظم الشمولية‪ ،‬بنكهة محلية سورية أسدية ذات‬ ‫عصبوية طائفية الحمة للتسلطية االحتكارية الفئوية للمجتمع عىل حساب اللحمة االجتامعية الوطنية التي كان‬ ‫ينجزها املجتمع السوري عىل طريق اندماجه يف صيغة الدولة الوطنية خالل نصف قرن منذ ‪ ،1920‬ليبدأ نصف‬ ‫قرن مضاد منذ ‪ 1970‬حتى اليوم عىل طريق التكسري الداخيل املمنهج واملنتظم لبنية سريورة بناء الدولة الوطنية‪،‬‬ ‫وذلك لصالح قيام الدولة األمنية ـ العسكرية الفئوية الطائفية ذات الصخب األيديولوجي الشعاري القومي الذي‬ ‫ميوه حالة التفتيت الداخيل‪ ،‬حيث دولة من هذا النوع ال ميكن إال وأن تنحل إىل عصابة كام هو مآلها اليوم‪ ،‬مبا‬ ‫يجعل من قانون الطوارئ حكاية قدمية!”(((‪.‬‬ ‫ويقول الكاتب رضوان زيادة‪“ :‬لقد لعب املسجد بكل تأكيد دورا ً محورياً بخاصة يف مراكز املدن الرئيسية يف‬ ‫استخدامه كنقطة بدء للتظاهرات أكرث من كونه موجهاً لها‪ ،‬فتطبيق قانون الطوارئ يف سوريا ملدة تزيد عن ‪47‬‬ ‫سنة مل يؤ ِّد فقط إىل حظر التظاهرات والتجمعات وإمنا قىض عىل التقاليد الرضورية لتمرين الشباب عىل الخروج‬ ‫والتظاهر من أجل املطالبة بحقوقهم”(‪.((1‬‬ ‫ويقول الكاتب ياسني الحاج صالح‪“ :‬حالة الطوارئ التي تعيشها سوريا منذ ‪ 48‬عاماً‪ ،‬زادت من تغلغل سلطة‬ ‫النخبة الحاكمة يف كل مناحي الحياة العامة والخاصة للشعب السوري‪ ،‬ومل يعد هناك من رادع للنظام من‬ ‫استغالل هذه السلطة يف إهانة هذا الشعب”(‪.((1‬‬ ‫األمثلة السابقة وأغلب كتابات املثقفني السوريني عموماً‪ ،‬تقول أن قانون الطوارئ فُرض مع مجيء البعث إىل‬ ‫‪ 9‬عبد الرزاق عيد‪ ،‬هل محنة الحراك الدميقراطي السوري هي يف قانون الطوارئ؟‪ ،‬موقع الحوار املتمدن‪ ،‬العدد‪ ،15 / 1 / 2010 - 2889 :‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=199457‬‬ ‫‪ 10‬من يقف وراء االحتجاجات يف سوريا‪ ،‬رضوان زيادة‪ ،‬الحياة‪ ،‬األحد‪ 21 ,‬أغسطس ‪ ،2011‬الرابط عىل موقع إيالف‪:‬‬ ‫‪html.677363/8/http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2011‬‬ ‫‪ 11‬سجني دمشق‪ ،‬ياسني الحاج صالح‪ ،‬نيويورك تاميز‪ ،‬نقلته الرشق األوسط بتاريخ األربعـاء ‪ 13‬ابريل ‪ ،2011‬العدد ‪،11824‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=11824&article=617058#.UyHX2PmSynQ‬‬

‫‪81‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫السلطة‪ ،‬وبطريقة تظهر يف كثري من األحيان‪ ،‬بأن الحكم قبل البعث كان ‘دميقراطياً’ إذ كثريا ً ما يتم االستشهاد‬ ‫بفرتة الحكم الربملاين ‘الدميقراطي’ يف الخمسينيات عىل أنها ‘واحة’ الدميقراطية السورية‪ ،‬يف حني أن األمر ليس‬ ‫كذلك أبدا ً‪ ،‬فلنقرأ ما يقوله املناضل نبيل شويري الذي عارص تلك املرحلة بتفاصيلها الصاخبة‪“ :‬املشكلة األساس‬ ‫يف سوريا هي يف القوانني االستثنائية ويف مقدمتها قانون الطوارئ‪ ،‬الذي كثريا ً ما يخطئون يف تاريخ رسيانه‪ ،‬وهو‬ ‫عىل زعمهم يوم الثامن من آذار ‪ .1963‬والحال أنه بدأ يف العهد االستقاليل مع بداية حرب فلسطني العام ‪.1948‬‬ ‫وأول حاكم عريف يف سوريا كان جميل مردم ثم حسني الزعيم ثم أديب الشيشكيل ثم جامل عبد النارص ثم‬ ‫طبّق ‪-‬أي قانون الطوارئ‪ -‬يف العهد املدعو باالنفصال‪ ،‬ومل يرفع إال يف فرتات محدودة هي فرتات الحكم الربملاين‬ ‫‪ ،1951-1949‬و ‪ ،1958-1954‬ويف أشهر معدودات من صيف ‪ 1962‬إىل ‪ 8‬آذار ‪ .1963‬وإذا توخينا جوهر املسألة‬ ‫الذي هو حكم االستبداد العسكري فعمره يف بالدنا يحسب مبئات السنني‪ .‬ونعود فنقول إن الظن يف أن املسألة أو‬ ‫العقدة األساسية يف وجه الدميقراطية هي يف إرصار الحكم االستبدادي املخابرايت الفاسد عىل إبقاء قانون الطوارئ‬ ‫وغريه يف وجه املعارضة وال سيام معارضة اإلخوان املسلمني ‪ ...‬إن الذي يظن بأن حل هذه املشكلة‪ ،‬مشكلة قانون‬ ‫الطوارئ سيؤدي إىل مصالحة اجتامعية‪-‬سياسية تسمح باستئناف الحياة السياسية الطبيعية وتعيد الدميقراطية‪،‬‬ ‫هو بالضبط كمن يرى رأس جبل الجليد العائم ويتغافل عن أربعة أخامسه املغمورة‪ ،‬ومعروف مصري القبطان‬ ‫وركاب الباخرة يف مثل هذه الحال‪ .‬إن املهمة األساسية التي يجب أن ينجزها املثقفون التقدميون هي فتح‬ ‫امللفات املانعة للدميقراطية ويف مقدمتها تلك االجتهادات الفقهية التي تستبيح أموال وأعراض ودماء مسلمني‬ ‫يدينون مبذاهب غري املذاهب األربعة املعرتف بها والخامس املقبول عىل مضض”(‪ .((1‬وهذا يعطينا فكرة عن‬ ‫جهل املثقف من جهة و التوظيف السياسوي أو األيديولوجي للمثقف السوري ملعرفته بهدف ‘دحر االستبداد’‬ ‫بشكل سياسوي رغبوي‪ ،‬فيكون بذلك يساهم يف بقاء االستبداد رغم نواياه النبيلة‪ ،‬ألن ‘معارفه’ هذه‪ ،‬أو توظيفه‬ ‫السياسوي هذا‪ ،‬أو قراءته الرغبوية هذه‪ ،‬ستنتج وعياً زائفاً بهذا النظام وبنيته‪ ،‬وبالتايل وعياً زائفاً بطرق إسقاطه‪،‬‬ ‫وهو ما نحصد مثنه يف سوريا اليوم‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مثال ثالث‪ :‬يف أغلب كتابات املثقفني السوريني‪ ،‬سنلمح عبارات من نوع إطالقي مفادها أن حافظ األسد‬ ‫هيمن عىل البعث‪ ،‬أو أن اللجنة العسكرية ‘العلوية’ هي من هيمن عىل البعث وح ّوله إىل مجرد أداة بيد‬ ‫السلطة‪ ،‬وهو أمر صحيح يف حقيقة األمر‪ ،‬إال أنه يتغافل عن اإلطار التاريخي الذي ولد فيه هذا األمر‪ ،‬أي من‬ ‫خالل قراءة تجربة البعث كلها وتجارب كل األشخاص الذين تعاقبوا عليها‪ ،‬منذ بدايتها حتى اليوم يف سوريا‪ ،‬إذ‬ ‫مل يكن األسد أ ّول من فعل ذلك بل هو فضاء عام دمغ أغلب التجارب الحزبية يف سوريا‪ ،‬ومن يقرأ مذكرات‬ ‫املسؤولني والسياسيني وقادة األحزاب واملناضلني الذين كتبوا عن هذه الفرتة يدرك حجم الدسائس والتقلبات‬ ‫السياسية التي يخترصها ‘مثقفو اليوم’ بفرتة حافظ األسد وابنه دون أن يعني األمر تربئة األخريين‪ ،‬الذين جاء‬ ‫حكمهام تتويجاً لكل ما سبق‪ ،‬إال أن قراءة األمر خارج السياق التاريخي يشكل معرفة مبتورة تركز عىل الشخص‬ ‫بدل النظام أو األخري بدل الفضاء العام الذي ولد يف سياقه النظام بدءا ً من تك ّون سوريا حتى اليوم‪.‬‬ ‫ويكفي أن نرسد املثال التايل‪ ،‬وأيضاً من مذكرات نبيل شويري لنفهم‪“ :‬وبسبب نزاعه مع عبد النارص قرر‬ ‫عفلق أن يدير الحزب ‘عىل كيفو’‪ .‬فراح يرتب املؤمترات منفردا ً‪ :‬مؤمتر لألردن ومؤمتر للعراق ومؤمتر للبنان‪ ،‬ويعينّ‬ ‫قيادات حزبية لهذه األقطار‪ .‬وكان من نتائج ذلك خروج قيادة األردن بزعامة عبد الله الرمياوي‪ ،‬وقيادة العراق‬ ‫بزعامة فؤاد الركايب‪ .‬لقد كان عفلق يرغب بهذه الترصفات يف مقارعة عبد النارص وأكرم الحوراين‪ ،‬فركب موجة‬ ‫‪ 12‬صقر أبو فخر‪ ،‬سوريا وحطام املراكب املبعرثة‪ ،‬حوار مع نبيل شويري‪ :‬عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬الطبعة‬ ‫األوىل ‪ ،2005‬ص‪.15-14 :‬‬

‫‪82‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫الوحدوية يف عهد االنفصال وأشاع أن أكرم الحوراين انفصايل‪ .‬ثم ارتكب الجرمية الكربى بحق حزب البعث يف أيار‬ ‫‪ 1962‬عندما عقد املؤمتر القومي الخامس‪ ،‬ومتكن من فصل أكرم الحوراين من الحزب‪ .‬لكن الحوراين بعدما خاب‬ ‫أمله يف الحزب حاول أن يعيد تجربة الدميقراطية إىل سوريا‪ ،‬فأدار ظهره للحزب وأسس حركة سياسية جديدة”(‪.((1‬‬ ‫ما يعني أن ترصفات اللجنة العسكرية ليست تجربة منعزلة عن الحزب كله‪ ،‬بل مثة فضاء عام ترعرعت فيه‪،‬‬ ‫وعليه ال ميكن فهم تجربة البعث يف السلطة دون قراءة هذا السياق التاريخي ونقده كله‪ ،‬بعيدا ً عن التوظيف‬ ‫السياسوي الض ّيق الذي يتوجه للسلطة الحالية بعيدا ً عن جذورها‪ ،‬والذي هو نتاج يأس طبع الثقافة العربية منذ‬ ‫نصف قرن عىل األقل‪.‬‬ ‫إن إطاللة متفحصة ونقدية عىل ما كتبه املثقف العريب والسوري منذ مثانينيات القرن املايض‪ ،‬ستضعنا أمام‬ ‫هول اليأس والخيبة التي كانت تسيطر عىل أذهان املثقفني‪ .‬هذا ما نلمحه بوضوح يف كتابات املشاركني يف ندوة‬ ‫نظمها ‘مركز دراسات الوحدة العربية’ يف عام ‪ ،2003‬إذ سنلمح تلك الخيبة يف كل األبحاث املكتوبة‪ ،‬حيث يقول‬ ‫محمود أمني العامل يف بحث حمل عنوان ‘املشهد الفكري والثقايف العريب’‪“ :‬إن األمر بالنسبة ألمتنا العربية يبدو‬ ‫بائساً يف هذه املرحلة الراهنة اآلنية ‪ ...‬حقاً‪ ،‬إن واقعنا العريب الراهن سواء عىل مستوى األنظمة العربية‪ ،‬أو‬ ‫عىل املستوى الشعبي واقع واقع!” داعياً لسلطة الثقافة التي “يبنيها املثقفون الواعون من مختلف قوى اإلنتاج‬ ‫واإلبداع واملعرفة ومنظامت املجتمع املدين”(‪ .((1‬ويقول يف مكان آخر من البحث‪“ :‬تسود يف املجتمعات الراهنة‬ ‫يف نهاية القرن العرشين وبدايات هذا القرن الحادي والعرشين‪ ،‬ثقافة ثنائية ملتبسة غري متوازنة‪ ،‬فضالً عن‬ ‫هشاشة وسطحية بنيتها املعنوية واملادية عىل السواء‪ ،‬فال القديم الرتايث الذايت عميق الجذور يف تأصيله املعريف‬ ‫والقيمي والوجداين ‪ ...‬وال الفاعل الخارجي له أسسه وركائزه الراسخة املستنبتة النابعة يف الوقت نفسه من‬ ‫اإلبداع املجتمعي الذايت”(‪.((1‬‬ ‫هذا اليأس الذي طغى عىل املثقفني ناجم يف حقيقة األمر من فقدان القدرة عىل التغيري‪ ،‬وهو ما سنلمحه‬ ‫يف االبتعاد عن الشأن العام بتفاصيله اليومية‪ ،‬إذ منذ خروج السلطة منترصة يف سوريا يف مثانيات القرن املايض‬ ‫سيخمد الصوت العام للمثقف وتغيب شؤون الحياة العامة عن كتابته(‪ ،((1‬تحت ضغط السلطة التي ص ّحرت‬ ‫املجتمع وع ّممت خروج السياسة منه‪ ،‬قاتلة املجتمع السيايس واملدين الذين انسحب منهام املثقف‪ ،‬ليختفي‬ ‫املثقف العضوي ‘بلغة غراميش’ أو ‘الثوري’ بلغة تلك املرحلة‪ ،‬لصالح ‘املثقف التقني’ املنزوي يف إطار اختصاصه‪.‬‬ ‫وضمن هذا السياق سيغيب مفهوم ‘الثورة’ الذي كان حارضا ً طيلة خمسينيات وستينيات وسبعينيات وحتى‬ ‫مثانينيات القرن املايض عن كتابات املثقفني‪ ،‬ألن ‘التنظري الثوري’ بغض النظر عن رأيي فيه‪ ،‬استمر طويال من دون‬ ‫ثورات‪ ،‬وفقد مكانته يف الرأي العام ويف الشارع ألسباب عديدة‪ ،‬حتى بات لفظ ثورة لفظاً مثريا ً للسخرية‪ ،‬إذ إن‬ ‫فشل الشيوعية يف أوربا‪ ،‬واستهالك هذه الكلمة يف االنقالبات العسكرية وبعض حركات التحرر التي تح ّولت إىل‬ ‫دكتاتوريات‪ ،‬مل يفقد كلمة ثورة بريقها فحسب‪ ،‬بل أفقدها مضمونها أيضا‪ ،‬وتح ّولت إىل مفردة ميتة يف خزانة‬ ‫اللغة الحزبية(‪ .((1‬وسنعود الحقاً ملناقشة أسباب ذلك‪ ،‬ليرتاجع بعدها انشغال املثقف بالشأن العام‪ ،‬إال بشكل‬ ‫سطحي وعريض ووفق ما تسمح به سلطات األمر الواقع‪ ،‬حيث ستظهر عىل السطح مقوالت مثل ‘اإلصالح’‬ ‫‪13‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪15‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪17‬‬

‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.105-104:‬‬ ‫الثقافة العربية‪ :‬أسئلة التطّور واملستقبل’‪ ،‬ندوة فكرية‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬كانون األول‪ /‬ديسمرب ‪ ،2003‬ص‪.23-22:‬‬ ‫املصدر السابق‪ ،‬ص‪.15 :‬‬ ‫قد تكون آخر رصخة جمعية للمثقفني السوريني بوجه السلطة كانت خالل لقاء املثقفني مع أعضاء مجلس الشعب حيث كان حارضا ميشال كيلو‬ ‫والشاعر الراحل ممدوح عدوان حني قال أن السلطة تكذب حتى يف نرشة الطقس‪.‬‬ ‫عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية‪ ،‬العدد ‪4-‬املجلد األول‪-‬ربيع‪ ،2013‬ص‪.139 :‬‬

‫‪83‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫و‘التغيري السلمي الهادئ’ و‘التداول السلمي للسلطة’ و‘املجتمع املدين’ و‘النهضة’ و‘الدميقراطية’ وهي التي‬ ‫بقيت رائجة حتى انفجار الربيع العريب ليعود مصطلح الثورة واالنتفاضة إىل التداول‪ ،‬ويفاجأ بهام املثقف قبل‬ ‫غريه‪ ،‬فهي مقوالت كان نسفها من قواميس معرفته التي عال عليها غبار اليأس والهزمية‪ .‬ليس عىل املستوى العام‬ ‫فحسب‪ ،‬بل عىل املستوى املعريف أيضاً‪ ،‬إذ ليس عيباً أن ال يتنبأ املثقف باملستقبل ويكون قادرا ً عىل اإلحاطة به‪،‬‬ ‫بل العيب يكمن يف عدم قراءة الواقع وفهمه والتخيل عن الكتابة عن أوضاعه وتقديم بيانات وأرقام ومعارف‬ ‫حول طبيعة السلطة ووضع البلد وتركيبته السياسية واالقتصادية‪ ،‬فلو كان هذا منجزا ً لكان ساهم يف فهم ما‬ ‫يحصل اليوم‪ ،‬ولرمبا ق ّدم ذخرية معرفية يستند إليها الثوار واملتظاهرون والسياسيون يف فهم ما يحصل‪ ،‬وألن‬ ‫هؤالء استندوا يف قراءتهم للسلطة وبنيتها وعنفها إىل املتوافر من هذه املعرفة التي قدمها هؤالء املثقفون رغم‬ ‫كل عيوبها فأنتجت ما أنتجت من ثورة هي ابنة وعي هذا الشعب‪ ،‬وهي انعكاس يف أحد أبعادها لغياب هذا‬ ‫الوعي الذي يعترب رشطا أساسياً لنجاح أي ثورة دون أن يكون كافياً‪ ،‬ألن الث ّوار يف نهاية املطاف هم “نتاج الثقافة‬ ‫واالجتامع واالقتصاد يف ظل نظام الحكم القائم‪ .‬إنهم نتاج قيمه السائدة‪ .‬وأنظمة االستبداد الفاسدة التي تحكم‬ ‫فرتات طويلة تفسد املجتمعات‪ .‬والثوار هم نتاج تلك املجتمعات‪ ،‬وهم أيضا نتاج تح ّدي النظام‪ .‬ولكن التحدي‬ ‫بالنفي ال يعني بالرضورة نشوء أخالق وقيم جديدة‪ .‬ويكمن دور املثقف العمومي يف نقد الثقافة والقيم السائدة‬ ‫والناتجة من هيمنة ثقافة االستبداد‪ ،‬ويف التثقيف عىل قيم الثورة كتحرر من االستبداد”(‪ ((1‬مام يعني أنه ليس‬ ‫صحيحاً الوعي الشعبوي السائد اليوم أن هذه الثورات ولدت دون مثقفني‪ ،‬بل هي نتاج “صريورة ثقافية طويلة‬ ‫ساهم فيها املثقفون الدميقراطيون‪ ،‬وساهمت يف تبلور هذه الثورات ونشوء خطابها املميز‪ .‬وإن فئات قارئة‬ ‫ومطلعة كانت يف صلب هذه الثورات‪ ،‬وال سيّام يف أوساط جيل الشباب املثقف الذي تأثر بتجارب علمية وبقراءة‬ ‫مثقفني نقديني محليني وعرب واالستامع إليهم‪ ،‬خصوصاً مع ظهور معرض الكتب‪ ،‬والكتب املنشورة عىل اإلنرتنت‪،‬‬ ‫وكرس احتكار املعارف والتحكم فيها‪ ،‬وخرق جميع أشكال الرقابة السلطوية التقليدية ج ّراء ثورة االتصاالت‬ ‫ووسائل اإلعالم اإلخبارية الفضائية”(‪ .((1‬وهذا ينطبق عىل سوريا التي كانت ثورتها يف آذار ‪ 2011‬نتاج نضال طويل‬ ‫األمد دفع مثنه اآلالف من املثقفني الثوريني والسياسيني واملناضلني سنوات من عمرهم يف السجون‪ ،‬وقد أخذت‬ ‫تجليها األبرز يف مرحلتي ربيع دمشق وإعالن دمشق‪ ،‬إال أن الوعي الذي كان يحكم أفق هذه الطبقة املحرضة‬ ‫عىل التغيري هو وعي محدود وعاجز‪ ،‬بعضها ألسباب بنيوية وبعضها اآلخر ألسباب واقعية تتجىل بالعالقة بني‬ ‫املثقف والسلطة يف واقع مضطرب‪ ،‬وبطبيعة املعرفة امل ْنتَ َجة من قبل هذا املثقف وقصورها‪.‬‬ ‫املقوالت التي راجت يف أفكار املثقفني مل تكن نتاج تأصيل وتراكم معرفيني‪ ،‬بقدر ما هي نتاج هزمية ويأس‬ ‫أدى لتعلّق املثقف بشكل سحري أيديولوجي بكل ما هو ب ّراق دون أن يسنده بتأصيل معريف يتجادل مع الواقع‬ ‫لينتج معرفته استنادا ً لهذا الواقع وما يحتمل‪ ،‬بل هو نتاج أفكار متناقلة من كتاب إىل كتاب دون أن يكون للواقع‬ ‫أي صدى‪ ،‬مع استثناءات قليلة جدا ً وعىل مستوى السطح‪ ،‬ميكن أن نلمسها يف كتابات طيب تيزيني عن الدولة‬ ‫ّ‬ ‫األمنية السورية ويف كتابه ‘من ثالثية الفساد إىل املجتمع املدين’ وكذلك يف كتايب ‘هرطقات ‪ 1‬و‪ ’2‬لـجورج طرابييش‬ ‫عن التحذير من خطر األصوليات الكامنة يف املجتمع دون أن تغطي ترشيح االستبداد الذي يشكل األساس املنتج‬ ‫لهذه األصوليات‪.‬‬ ‫وليك يزيد األمر وضوحاً‪ ،‬لن نعرث يف املكتبة السورية كلها يف حدود علمي عىل كتاب فكري‪/‬معريف‪/‬علمي‬ ‫رشح طبيعة االستبداد والسلطة السورية ملثقف سوري‪ ،‬أو حتى كتاب سيايس‪ ،‬قبل عام ‪ ،2000‬يف حني‬ ‫واحد ي ّ‬ ‫‪ 18‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.141:‬‬ ‫‪ 19‬املصدر السابق‪ ،‬صد‪.139 :‬‬

‫‪84‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫المس األدب والسينام املوضوع بحدود املراوغة واملكر والروايئ وأحياناً بشكل رصيح(‪ .((2‬إن رسدا ً لعناوين أهم‬ ‫املثقفني واملفكرين السوريني ستجعلنا نشعر بالخيبة‪ ،‬إذ لن نعرث عىل كتاب واحد عن سوريا إال بعد عام ‪2000‬‬ ‫ويف استثناءات قليلة ملثقفني أتوا من السجون أو من السياسة مثل ياسني الحاج صالح يف كتابه ‘سوريا من‬ ‫الظل‪ :‬نظرات داخل الصندوق األسود’ وهو مجموعة مقاالت أكرث منه كتاب‪ ،‬يف حني سنجد أن أغلب الكتب‬ ‫ذات املرجعية حول سوريا والتي تتحدث عن طبيعة النظام السوري واملجتمع السوري واالقتصاد السوري هي‬ ‫لكتاب غربيني أمثال سيل‪ ،‬وفان دام‪ ،‬وهينبوش وغريهم‪ ،‬مع وجود ‘شذرات’ لسوريني وعرب هنا وهناك مثل‬ ‫أبحاث الدكتور عارف دليلة االقتصادية وكتابات طيب تيزيني عن الدولة األمنية‪ ،‬ومقاالت وكتب عبد الرزاق عيد‬ ‫ورضوان زيادة وبرهان غليون وغريهم‪.‬‬ ‫إن املفكر صادق جالل العظم الذي اكتشف ‘العلوية السياسية’ اليوم لن نعرث يف كتبه عىل كتاب واحد عن‬ ‫سوريا‪ ،‬وهو الذي مل يرتك أحدا ً يف العامل العريب من رشقه حتى غربه إال وانتقده‪ ،‬بدءا ً من الفكر الديني وإبليس‬ ‫والهزمية و‘الحقبة السعودية’ والثورة الفلسطينية وناقدي سلامن رشدي واإلسالميون يف حني تغيب سوريا عن‬ ‫كتبه وهو السوري العريق بامتياز‪ .‬وكذلك األمر بالنسبة للمفكر برهان غليون وإن بدرجة أقل حيث سنجد‬ ‫اهتامماً الفتاً لغليون بالشأن العام واالنخراط يف حركة املجتمع املدين واملعارضة السورية بشكل فعال وسيكتب‬ ‫الكثري من املقاالت عن سوريا‪ ،‬إال أن هذا الجهد لن يتط ّور ليقدم كتاباً متكامالً عن سوريا‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة‬ ‫ألغلب املفكرين السوريني من جورج طرابييش وحتى جامل باروت الذي يعترب استثنا ًء هنا كونه قدم مرشوع‬ ‫استرشاف سوريا الذي عمل عليه طويالً‪ ،‬وق ّدم يف حقيقة األمر منوذجاً لعمل معريف متكامل يف إنتاج املعرفة‬ ‫بالسلطة وآلياتها واملجتمع وطبيعته من خالل االعتامد عىل الرقم ومعرفة الواقع يف تفاصيله املتعرجة ال االكتفاء‬ ‫بالكتب كام فعل الكثري من املثقفني وهو ما سنتحدث عنه الحقاً‪ .‬ولكن رغم ذلك فإن كتب باروت مل تظهر إال‬ ‫بعد عام ‪ 2000‬أيضا!‬ ‫عىل ضفاف هذا الغياب مثة كتب عاجلة أو شذرات عرب مقاالت أو أبحاث غري مكتملة‪ ،‬ميكن اإلشارة إليها‬ ‫برسعة‪ ،‬وكلها صدرت بعد عام ‪ ،2000‬منها كتيب ‘سوريا‪ :‬زهرة أم قنبلة’ لـمحمد كامل الخطيب و‘يحدثونك عن‬ ‫املجتمع املدين’ لـعبد الرزاق عيد و‘املثقف ضد السلطة’ لـرضوان زيادة وغريها من األبحاث التي تناولت املجتمع‬ ‫املدين بعد إخفاق حركته نتيجة وأد السلطة له‪ .‬إال أن هذه األخرية املتعلقة باملجتمع املدين عىل األقل‪ ،‬هي رد‬ ‫فعل عىل حدث جرى أكرث مام هي تأصيل ملفهوم املجتمع املدين السوري ودراسة عميقة له‪.‬‬ ‫هنا سنجد غياباً للمثقف السوري عن الشأن العام السوري مبعناه املبارش منذ عام ‪ 1980‬وحتى عام ‪2000‬‬ ‫حيث أطلقت السلطة مرشوع إصالح شكيل للتغطية عىل التوريث وفتحت الفضاء العام أمام املثقف الذي انخرط‬ ‫يف عملية التغيري وبدأ يتقدم باتجاه ساحة الرأي العام املقىص عنها‪ .‬وبفعل غيابه املديد عن املجتمع تق ّدم بشكل‬ ‫يحكمه السحر والرغبة بالتغيري أكرث مام تحكمه املعرفة بحدود الواقع‪ ،‬إذ كان إميانه بالحرية واملجتمع املدين‬ ‫سحرياً‪/‬غيبياً أقرب للحلم منه إىل الواقع وهذا ليس عيباً بقدر ما هو توصيف واقع‪ ،‬ألن كل تغيري يبدأ كحلم‬ ‫ورغبة‪ ،‬إال أن املشكلة تكمن يف استسهال الحلم والرغبة والتقوقع داخلهام بدالً من مقارعة الواقع والغوص يف‬ ‫تفاصيله‪ ،‬وأحشائه‪ .‬وهذا ما أصاب حركة املجتمع املدين التي ظلت يف حدود السحر والرغبة بالتغيري أكرث من‬ ‫العمل عىل التغيري عرب فتح منافذ املعرفة عىل الواقع بدالً من الكتب إلنتاج معرفة تحيط بالوضع العام والسلطة‬ ‫واملجتمع لفهم طبيعة املستبد وأدواته وطبيعة املجتمع ومدى قدرته عىل تقبّل التغيري السيايس واالجتامعي‬ ‫‪ 20‬من الروايات التي عالجت االستبداد‪‘ :‬سمر الليايل’ لنبيل سليامن و ‘حراس الهواء’ و ‘نيغاتيف’ لروزا ياسني حسن و ‘صلصال’ لسمر يزبك و ‘هواء ثقيل‬ ‫فاتر’ لعمر قدور‪ .‬و ‘مديح الكراهية’ لخالد خليفة‪.‬‬

‫‪85‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫وحدود هذا القبول‪ ،‬أي أن املعرفة بقيت بحدود التوق للحرية والرغبة بالتغيري أكرث مام هي معرفة بهام‪ .‬ولعل‬ ‫ضمور حركة املجتمع املدين وتوقف نتاجها الثقايف بعد حملة االعتقاالت‪ ،‬يعكس جانباً من األمر‪ ،‬فهي بدأت من‬ ‫خارج املثقف مبا بات يعرف يف سوريا بخطاب القسم‪ ،‬وانتهت باعتقاالت السلطة‪ ،‬لريضخ الجميع إال البعض الذين‬ ‫حملوا رسالة التغيري فكانوا ‘مناضلني’ أكرث مام هم مثقفني‪ ،‬ليعكس هذا األمر مدى ضعف تربة الثقافة والنضال‬ ‫السوري أيضاً وما فعلته تجربة الثامنينيات‪ ،‬وهو ما جعل مناضالً مثل نبيل شويري يعلّق عىل تجربة ربيع دمشق‬ ‫واملجتمع املدين ـ رغم أنه يقصد السياسيني إال أن كالمه ينطبق عىل املثقفني الذين كانوا يف صلب هذه الحركة‬ ‫أيضاً ـ بالقول‪“ :‬إنه مجرد موضة‪ .‬أقول هذا ألنني أعرف بعض املنخرطني يف هذا التيار‪ ،‬حتى أنني أعرف أرسارهم‪.‬‬ ‫وما أخشاه أن ينطبق عليهم تعليق أحد ظرفاء بريوت عىل إحدى املجموعات السياسية‪ ،‬فقد قال‪ :‬إن ثقافتهم‬ ‫شهادة‪ ،‬وطموحهم وظيفة‪ ،‬وفضائلهم رذائل مؤجلة ‪ ...‬إذا كان هؤالء يطالبون الحكم السوري باالنفتاح أكرث عىل‬ ‫الدميقراطية وبالسامح بتأسيس مجتمع مدين فجوايب من شقني‪ :‬أوالً‪ ،‬املجتمع املدين يصنع وال يطالب به‪ .‬ومن‬ ‫املحال أن يوجد حكم مينحه أو يقدر عىل منع قيامه‪ .‬ثانياً‪ ،‬املدخل إىل الدميقراطية هو النقاش مع السلطة‪ .‬أي‬ ‫أن متسك خطاب القسم للرئيس بشار األسد وتقرأ الفقرة التي تحدثت عن هذا املوضوع ثم تفتتح النقاش معه‬ ‫ومع السلطة يف هذا الشأن ‪ ...‬ليؤسسوا جريدة حائط‪ ،‬أو يصدروا جريدة لهم‪ .‬زيك األرسوزي يف اإلسكندرون بدأ‬ ‫بجريدة مخطوطة‪ .‬ليعملوا مثل جريدة ‘الكلب’ التي أصدرها صدقي إسامعيل”(‪.((2‬‬ ‫ال يعني ما سبق أن الثقافة السورية بني عامي ‪ 2000-1980‬كانت ضامرة باملطلق‪ ،‬فقد سجل بعض املفكرين‬ ‫واالقتصاديني بصامت واضحة يف مقارعة املستبد وإنتاج معرفة تشري إىل املستبد بوضوح وبشكل معريف علمي‬ ‫رصني بعيدا عن األيديولوجية التي تركز عادة عىل رجم االستبداد وترشيره وأبلسته أكرث مام تقدم معرفة به‪.‬‬ ‫فقد واجه املفكر االقتصادي عارف دليلة قوانني السلطة االقتصادية وبينّ محدوديتها وأرضارها ودفع مثن ذلك‬ ‫سنوات من عمره يف املعتقل‪ ،‬حيث هاجم قوانني السلطة االقتصادية عام ‪ 1990‬وطرد من جامعة دمشق عىل‬ ‫إثرها‪ ،‬ليعود إىل عمله يف الجامعة بقرار من الرئيس األسد عىل إثر ربيع دمشق‪ ،‬إال أنه رسعان ما تبني للسلطة‬ ‫عجزها عن احتوائه فكان اعتقاله بعد إجهاض ربيع دمشق بحكم عرش سنوات أعفي من ربع مدتها‪ .‬إال أن مثال‬ ‫دليلة يبقى استثنا ًء والشمعة التي تنري الظالم‪ ،‬يف حني أن التاريخ ال يسري إال حني تتلقف الجامهري هذه الشموع‪.‬‬ ‫ما سبق يعطينا فكرة واضحة عن أن مثة غياباً واضحاً لسوريا ونظامها وطبيعتها واقتصادها واجتامعها‬ ‫وطبقاتها عن مادة املثقف إال ما ندر‪ ،‬وحتى هذا النادر إن وجد فهو يعاين نقصاً معرفياً يجعلنا نطرح أسئلة كثرية‬ ‫حول أسبابه‪ ،‬تبدأ من البحث عن أسباب هذا الغياب وال تنتهي عند سبب عدم خوض املثقف يف هذه األمور‪،‬‬ ‫وعام إذا كانت هذه األدوار ليست أساساً من دور املثقف‪ ،‬وبالتايل هناك تح ّول يف مفهوم املثقف ووظيفته؟‬ ‫إن رؤية كيفية انخراط املثقف السوري بالثورة والتنظري لها بعد الربيع العريب يؤكد أن املثقف يعي دوره يف‬ ‫هذا الشأن‪ ،‬فلم غاب عنه سابقاً وانتظر الربيع ليعيده إليه؟ وهل هذه العودة إىل مفاهيم ‘الثورة’ و‘االنتفاضة’‬ ‫وهي التي غابت طويالً عنه هي عودة معرفية أم سحرية تعيل من شأن األيديولوجيا عىل حساب املعرفة‪ ،‬وبالتايل‬ ‫ال زال املثقف يكرر عجزه مرة أخرى يف بيع الوهم؟ وهل هذه العودة إىل الشأن العام بعد عام ‪ 2000‬هي عودة‬ ‫معرفية تقطع مع األيديولوجيا أم أنها بقيت مشدودة إىل هذه األيديولوجيا؟ أم بني بني؟‬ ‫‪ 21‬صقر أبو فخر‪ ،‬سوريا وحطام املراكب املبعرثة‪ ،‬حوار مع نبيل شويري‪ :‬عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬الطبعة‬ ‫األوىل ‪ ،2005‬ص‪.463-462-461 :‬‬

‫‪86‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫حتوله‪:‬‬ ‫الفضاء العام الذي ولد فيه املثقف السوري‪ ،‬وحمطات‬ ‫ّ‬ ‫مل يتخطى املثقف السوري حتى اليوم‪ ،‬األمناط األوىل أو األطوار األوىل للمثقف‪ ،‬فإذا كان املثقف العمومي النقدي‬ ‫املشغول بالهم العام واملستقل عن كل سلطة (حزبية‪ ،‬سياسية‪ ،‬اقتصادية‪ ،‬أيديولوجية‪ ،‬معارضة‪ ،‬ثورة) هو نتيجة‬ ‫كل األطوار التي م ّر فيها تاريخ املثقف عاملياً‪ ،‬سواء يف عالقته مع املعرفة وإنتاجها أو السلطة‪ ،‬فإن املثقف السوري‬ ‫قد يكون الزال رازحاً يف هذا املايض الذي يجعل منه ‘مثقف أيديولوجيا’ أو ‘مثقف ثورة’ أو ‘مثقف شعبوي’ أو‬ ‫‘مثقف مختص’ أو ‘مثقف نقدي’ أو ‘مثقف سلطة’(‪ ،((2‬أكرث مام هو ‘مثقف’ دون تبعية ألي يشء آخر (سلطة‪،‬‬ ‫ثورة‪ ،‬أيديولوجيا) إال ما تنتجه معرفته العلمية اإلبستمولوجية حتى لو كانت نتيجتها عكس ما يرتجي ويبتغي‬ ‫ويتمنى‪ ،‬ولكن رشط االنتامء للناس واملسحوقني واملهانني‪ ،‬أي أن تكون معرفته يف خدمة اإلنسانية جمعاء ‘وليس‬ ‫مجرد وطنية أو قومية ضيقة دون أن يكون العيب يف األخريتني بل يف تعصبّهام أو تعصب املثقف لهام’‪ ،‬ألن انتامء‬ ‫املثقف لهؤالء هو ما يحدد جوهر معناه املرتبط بإنارة الطريق لهم وخلق البدائل‪ ،‬دون أن يكون تابعاً لهم أو‬ ‫أسريا ً ألفكارهم‪ ،‬بل يقتيض األمر بالرضورة الرصاع مع ‘أفكارهم’ وهزها ألن أفكاره بالرضورة تقوم عىل دفعهم‬ ‫نحو التغيري عرب هز أسس قناعاتهم التي ولّدت بيئة حاضنة لالستبداد‪ ،‬دون أن “نغرق يف رومانسية تجعل الث ّوار‬ ‫أولياء وقديسني‪ ،‬وهم ليسوا كذلك‪ ،‬فهم يخرجون إىل الثورة لحظة اإلرادة الحرة تلك‪ ،‬وهم نتاج الثقافة واالجتامع‬ ‫واالقتصاد يف ظل نظام الحكم القائم‪ .‬إنهم نتاج قيمه السائدة”(‪.((2‬‬ ‫فهل هذا ما فعله املثقف السوري اليوم‪ ،‬أم أنه احتمى بثقافة الجمهور السائدة ليحصد شعبية زائفة ويضلل‬ ‫جمهوره الذي مل تتغري ثقافته التي كانت باألمس مؤيدة لالستبداد فأصبحت اليوم فجأة ضد االستبداد نتيجة‬ ‫ظروف كثرية دون أن تالمس أسس الثقافة املنتجة لالستبداد يف أذهانهم؟!‬ ‫أي قراءة تاريخية للمثقف السوري ودوره ضمن الفضاء العام الذي ولد به‪ ،‬منذ تشكل سوريا بشكلها‬ ‫إ ّن ّ‬ ‫الحديث بني عامي ‪ 1936-1920‬ستعطينا فكرة عن األمناط التي مر فيها مفهوم املثقف الذي كان يحتكره أو يقوم‬ ‫بدوره سابقاً رجال الدين وأعيان املدن والقرى المتالكهم الكتابة والقراءة‪ ،‬ليبدأ مع انتشار التعليم تدريجياً ينتقل‬ ‫مركز الثقل من هؤالء إىل املتعلمني الجدد (أطباء‪ ،‬مهندسني‪ ،‬حقوقيني‪ ،‬معلمني) حيث ارتبط بداية اسم املثقف‬ ‫بكل من هو متعلم ‪ ،‬مع استحواذ ‘املدرس’ عىل القيمة األكرث ارتباطاً مبفهوم املثقف كونه كان يقوم بدور تعليم‬ ‫الناس مبادئ الكتابة والقراءة يف مجتمع شبه أمي‪ ،‬لنكون أمام أول بذرة لوالدة مفهوم املثقف املرتبط بتنوير‬ ‫الناس وإخراجهم من ‘الجهل إىل النور’ وفق منط ‘املثقف املتعلّم’ هذا‪ ،‬والذي استحوذ آنذاك عىل القيمة الرمزية‬ ‫للمثقف‪ ،‬حيث كان ينظر لهؤالء باحرتام كبري يف املجتمع كنخبة(‪.((2‬‬ ‫تزامن انتشار وت ّوسع حركة التعليم مع انتشار األحزاب السياسية ليبدأ تدريجياً يولد ‘املثقف األيديولوجي’‬ ‫أو ‘الطليعي’ الذي يحمل ه ّم التغيري وقلب األوضاع السائدة إمنا لصالح أيديولوجيا‪/‬حزب يرى أنها تحقق الرفاه‬ ‫املنشود‪ ،‬لينتقل مفهوم املثقف أو يتطور من تعليم الناس القراءة والكتابة وإخراجهم من الجهل والنور إىل‬ ‫‪ 22‬السلطة هنا ال تأخذ معنى السلطة السياسية فقط بل املعارضة سلطة أيضا‪ ،‬أي من املمكن أن يكون املثقف معارضا ولكن فكره مرهون لهذه املعارضة‬ ‫ويف سبيلها أكرث مام هو مرهون للمعرفة وهذا نقص أو خطأ يف إنتاج املعرفة‪.‬‬ ‫‪ 23‬عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية‪ ،‬العدد ‪- 4‬املجلد األول‪-‬ربيع‪ ،2013‬ص‪.141:‬‬ ‫‪ 24‬لن نتحدث هنا عن مثقفني ومفكرين ورجال دين مثل عبد الرحمن الكواكبي ومحمد كرد عيل وشكيب أرسالن و عبد الرحمن الشهبندر وغريهم‪،‬‬ ‫ألنهم أنتجوا ثقافتهم ومارسوا دورهم التنويري يف نهاية القرن التاسع عرش وبداية القرن العرشين‪ ،‬ومل تكن سوريا قد تشكلت بعد‪ .‬وميكن اعتبار أنهم‬ ‫ولدوا يف الفضاء العثامين‪ /‬العريب‪ ،‬أي يف تلك املرحلة االنتقالية التي كان فيها العرب ممزقني بني الرابطتني العربية والعثامنية يف مرحلة أوىل‪ ،‬وبني سوريا‬ ‫الكربى أو القبول بسوريا الصغرى يف مرحلة ثانية دون أن ينفي األمر عنهم صفة املثقف املهموم بهموم شعبه وتطلعاته‪ ،‬ولكنه خارج دائرة اهتاممنا‬ ‫املرتكزة عىل سوريا يف هذا البحث‪.‬‬

‫‪87‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫تغيري أوضاعهم السياسية واالقتصادية واالجتامعية عرب فكرة الثورة أو الحزب أو الطليعة أو النخبة‪ .‬ولعل أكرث ما‬ ‫ميكن أن ي ّوضح لنا طبيعة هذا االنتقال من مفهوم ‘املثقف املتعلّم’ إىل مفهوم ‘املثقف الطليعي‪/‬األيديولوجي’‬ ‫ومدى الرتابط بينهام هو أن أغلب مؤسيس األحزاب السياسية السورية كانوا مدرسني أساساً أو مارسوا التدريس‬ ‫خالل فرتة من حياتهم (عفلق‪ ،‬البيطار‪ ،‬األرسوزي‪ ،‬ياسني الحافظ ‪ ،)...‬إذ يقول نبيل شويري‪“ :‬كان عفلق والبيطار‬ ‫يعطيان دروساً خصوصية‪ .‬البيطار يعمل يف مدرسة دوحة األدب‪ ،‬وعفلق يف إحدى املدارس‪ ،‬وذلك يف خمسينات‬ ‫القرن املايض”(‪ .((2‬حيث جمعوا بني املهمتني ليخفت بعدها منط ‘املثقف املتعلم’‪ ،‬ويخف وهجه مع انتشار‬ ‫التعليم وتوسعه لصالح منط ‘املثقف األيديولوجي‪/‬الطليعي’ الذي يتامس ويتقاطع مع ‘املثقف الثوري’ الذي ساد‬ ‫حتى مثانينيات القرن املايض‪ ،‬حيث أن ‘املثقف الثوري’ وجد بكرثة عربياً يف مرحلة انتشار األيديولوجيات‪ ،‬وال‬ ‫سيام اليسار التي عظّمت من لفظ ثورة وثوري‪ ،‬واأليديولوجيات القومية بأنواعها‪ ،‬وحركات العسكر االنقالبية‬ ‫التي كانت تس ّمى ثورات و‘تنشئ مجالس قيادة الثورة’‪ .‬وانسجم التنظري الثوري مع فكر اليسار ومزاج حركات‬ ‫التحرر الوطني يف العامل بعد الحرب العاملية الثانية‪ .‬وقد ترجم العرب أكرث مام أنتجوا ‘فكرا ً ثورياً’ يسارياً‬ ‫وعاملثالثياً يف تلك املرحلة”(‪.((2‬‬ ‫هنا كانت الرغبة بالتغيري هي الوقود الذي يغذي هذا املثقف بعيدا ً عن قراءة الواقع وبحث ممكناته أي‬ ‫ميكن القول أنها ‘ثقافة من فوق’ تحمل فكرة ما‪/‬يوتوبيا‪ ،‬حيث كان لكل تيار يوتوبياه‪ :‬الوحدة بالنسبة للقوميني‪،‬‬ ‫واألممية بالنسبة للشيوعيني‪ ،‬والوحدة اإلسالمية بالنسبة للشيوعيني وتعمل عىل إيجاد مكان لها يف الواقع دون‬ ‫بحث ممكنات هذا الواقع واحتامالته‪ ،‬وألن ‘األيديولوجيا’ هي العليا لدى هذا النمط من املثقف‪ ،‬فإن األمر‬ ‫سينعكس عىل اهتامماته‪ ،‬حيث أن هذه األيديولوجيا تركز عىل األفكار الكربى أكرث مام تركز عىل الواقع‪ ،‬فتجد‬ ‫هذه األفكار صداها يف شغل املثقف واهتامماته أكرث مام نجد الواقع ذاته‪.‬‬ ‫األيديولوجيات الكربى ركزت عىل مفاهيم الوحدة العربية والقومية العربية وفلسطني والثورة واالشرتاكية‬ ‫والرأساملية والتقدم والتخلف والتنمية وغريها‪ ،‬ولذا كان ‘املثقف الطليعي‪/‬األيديولوجي’ منتجاً لتلك املعرفة‬ ‫التي تتامهى مع األيديولوجيا أكرث من بحثه عن املعرفة كام هي يف الواقع‪ ،‬ألن األيديولوجيا هنا هي حجاب‬ ‫زائف أو معرفة زائفة بالواقع ‘دون أن يعني األمر أن كل أيديولوجيا هي زيف‪ ،‬بل يف تح ّول هذه األيديولوجيا‬ ‫إىل سحر يحمل التغيري بحد ذاته بعيدا ً عن الواقع’‪ ،‬إذ وضعت مفاهيم ور ّوجتها عىل أنها هي من ينتج التغيري‬ ‫ويحقق مصالح الناس‪ ،‬فحلّت الثورة و القومية وفلسطني واالشرتاكية والتح ّول االشرتايك ككلامت سحرية تحمل‬ ‫بذور التغيري بحد ذاتها كام تفعل اليوم كلمة الدميقراطية التي تستخدم كأيديولوجيا أكرث مام هي معرفة‪ .‬أي إن‬ ‫منط املثقف األيديولوجي‪/‬الطليعي أحل ‘األيديولوجيا‪/‬السحر’ مكان ‘املعرفة بالواقع’ عىل اعتبار أن األوىل توصل‬ ‫الجامهري للجنة املوعودة‪ ،‬يف حني أن العالقة ‘فكرا ً وسلوكاً’ بني هذا املثقف والقاع تقترص عىل األيديولوجية‬ ‫املفارقة للواقع أساساً‪ ،‬ولعل ذكر املثال التايل يعطينا فكرة عن األمر‪“ :‬ميشال عفلق مل يكن يتعاطى الحياة العامة‪،‬‬ ‫وال عالقة له بالناس البتة‪ .‬عالقاته كانت محصورة بأنصاف املثقفني والطالب واملثقفني النظريني الذين ال يتعاطون‬ ‫العمل العام‪ ،‬وهؤالء ‘أفندية’ كام قال عنهم أكرم الحوراين يف مذكراته”(‪.((2‬‬ ‫‪ 25‬صقر أبو فخر‪ ،‬سوريا وحطام املراكب املبعرثة‪ ،‬حوار مع نبيل شويري‪ :‬عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬الطبعة‬ ‫األوىل ‪ ،2005‬ص‪.158 :‬‬ ‫‪ 26‬عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية‪ ،‬العدد ‪ - 4‬املجلد األول‪-‬ربيع‪ ،2013‬ص‪.139 138- :‬‬ ‫‪ 27‬صقر أبو فخر‪ ،‬سوريا وحطام املراكب املبعرثة‪ ،‬حوار مع نبيل شويري‪ :‬عفلق والبعث واملؤامرات والعسكر‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنرش‪ ،‬الطبعة‬ ‫األوىل ‪ ،2005‬ص‪.96 :‬‬

‫‪88‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫ويف هذه املرحلة ولدى هذا النمط من املثقفني‪/‬املنظرين كان مثة تزاوج بني العمل الثقايف ومامرسة السياسة‬ ‫أو االنتامء لحزب سيايس أو أيديولوجيا‪ ،‬وذلك لصالح الثانية‪ ،‬أي مل تكن الثقافة مستقلة أبدا ً ومل يكن هناك أي‬ ‫مفهوم حول استقالليتها‪ ،‬بل كانت متارس بوصفها كذلك‪ ،‬أي دمجاً بني االثنني‪ ،‬ومن النادر جدا ً أن نجد ‘مثقفاً’‬ ‫تعاطى الشأن العام من موقع استقالليته عن الحزب أو األيديولوجيا فهو كان يستمد جوهر وجوده منها ألنها‬ ‫الحاضنة التي ولد فيها‪ ،‬دون أن يعني ذلك أبدا ً أننا ننفي عن املثقف حقه باإلميان بأيديولوجيا معينة أو االنتامء‬ ‫لحزب سيايس‪.‬‬ ‫أبدا ً بل يتوجب أن تكون معرفته خاضعة للمعرفة وحسب وأن تكون أيديولوجيته خاضعة للنقد وما تنتجه‬ ‫معرفته املستقلة ال العكس‪ .‬ولعل ما يقوله شويري يلقي الضوء عىل هذا األمر أيضاً‪ ،‬إذ يقول‪“ :‬يف سنة ‪ 1943‬أراد‬ ‫عفلق أن يرتشح لالنتخابات النيابية‪ ،‬وقبيل االنتخابات اجتمع عدد من املثقفني يف منزل أحمد الرشابايت لدعم‬ ‫شكري القوتيل ضد زعامء الكتلة الوطنية اآلخرين‪ ،‬وأصدروا بياناً باسم مثقفي دمشق وقعه كل من ميشال عفلق‬ ‫وصالح البيطار تأييدا ً لـشكري القوتيل”(‪ ،((2‬إذ نلمح هنا التداخل بني الحزيب‪/‬األيديولوجي والثقايف ونلمح جزئياً‬ ‫تبعية الثاين لألول‪ ،‬ونلحظ كيف يدمج شويري بني املثقف واملنظر وقائد الحزب البيطار وعفلق‪ ،‬مام يعطينا فكرة‬ ‫تبقى غامئة عموماً عن التداخل القائم بني الطرفني‪.‬‬ ‫منط املثقف هذا ولد من رحم الحزب وحركة التحرر العربية التي سادت حتى نكسة حزيران‪ ،‬ليبدأ بعدها‬ ‫وعىل أثر الهزمية التي عانتها هذه املشاريع األيديولوجية والدة ما ميكن أن نسميه ‘املثقف األيديولوجي النقدي’‬ ‫أي املثقف الذي مل يتخىل عن أيديولوجيته بل بدأ ينتقدها من الداخل ومل يخرج منها‪ ،‬حيث ستبقى أيديولوجياته‬ ‫الكربى قامئة وحاجبة للواقع مع تغيري وجهة النظر إليها أي نقدها يف الجزئيات دون الكليات‪ ،‬دون أن يصل النقد‬ ‫حدود التفكري بالبدهي واملسلّم به‪ ،‬وهو ما أدى إىل الصدام بني السلطة واملثقف األيديولوجي‪ ،‬إذ يقول بشارة‪:‬‬ ‫“لكن الساحة مل تخل من منظرين عرب وثوريني‪ ،‬كام أن السجون العربية ازدحمت باملثقفني النقديني املتهمني‬ ‫بالتنظري للثورة وقلب نظام الحكم‪ ،‬نقدياً يسارياً كان التنظري أم قومياً‪ ،‬وسواء كانت مواقفهم ثورية أو مجرد‬ ‫إصالحية”(‪ .((2‬ليصبح املثقف أمام خيارين‪ :‬االنشقاق والسجن أو الصمت والتح ّول إىل ‘مثقف مختص نقدي’‬ ‫يعمل من داخل آليات السلطة‪ ،‬أي ما ميكن أن نسميه املثقف املنغمس يف غيتو اختصاصه من موقع نقدي أيضا‪.‬‬ ‫وكأمثلة عىل منط املثقف األيديولوجي النقدي الذي بقي نقده داخل األيديولوجيا أي نقد قرشي ظاهري‪ ،‬نرى‬ ‫أن املؤمنني باأليديولوجيا القومية مثالً تنقلوا من حزب قومي إىل آخر قومي أيضا‪ ،‬أو انشق الحزب نفسه تحت‬ ‫وطأة تناقضاته الداخلية ليلتحق املثقف بأحدهام‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة لليسار الذي انشطر يف سوريا يسارات‬ ‫متعددة‪ ،‬حيث ستبقى فكرة الثورة قامئة يف جوهره بكافة تشكيالته إىل حني انهيار االتحاد السوفيايت (وسنعود‬ ‫للحديث عن املثقف والثورة يف سوريا يف جزء آخر)‪ ،‬وكذلك األمر بالنسبة للتيار اإلسالمي الذي هو األضعف يف‬ ‫سوريا تاريخياً‪ ،‬لجهة إنتاج الثقافة والعالقة بها‪ ،‬كون عالقته األهم تقوم عىل الرتاث اإلسالمي وما أنتجه السلف‬ ‫أكرث من العمل عىل مفاهيم ‘اإلصالح الديني’ وقراءة اإلسالم بعيون الحارض‪ ،‬ولعل كتاب ‘االشرتاكية واإلسالم’‬ ‫ملؤسس الحركة مصطفى السباعي هو األخري يف هذا السياق‪.‬‬ ‫ويف مثال آخر‪ :‬كان لدى املثقف القومي املنتمي لنمط املثقف األيديولوجي‪/‬الطليعي إميان كبري بأن الوحدة‬ ‫العربية هي الحل والرتياق لكل املشاكل العربية‪ ،‬ومبجرد ولوج هذه الجنة يدخل املواطن العريب ج ّنة التغيري‬ ‫املوعود‪.‬‬ ‫‪ 28‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.100 :‬‬ ‫‪ 29‬عزمي بشارة‪ ،‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية‪ ،‬العدد ‪ - 4‬املجلد األول‪-‬ربيع‪ ،2013‬ص‪.139 138- :‬‬

‫‪89‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫وهي ما دفعت باتجاه مشاريع وحدوية ارتجالية أي وحدة ملجرد الوحدة دون معرفة إن كانت قادرة عىل‬ ‫الصمود أم ال‪ ،‬ولهذا ماتت الوحدة السورية املرصية عىل يد املطالبني بها بعد ثالث سنوات من بدئها‪ ،‬ألنها مل‬ ‫تبنى عىل معرفة بالواقع واحتامالته بل نتيجة رغبة شعبوية أعطاها مرشوعيتها كل من األحزاب واملثقف هذا‪.‬‬ ‫مع الهزمية ووالدة ‘املثقف األيديولوجي النقدي’ سيصبح السؤال‪ :‬مل فشلنا ومل نحقق الوحدة؟ دون أن‬ ‫يالمس النقد ‘الوحدة’ ذاتها وعام إذا كانت ‘الوحدة اآلن’ بحد ذاتها جيدة فعالً أم ال‪ ،‬دون أن يفكر أح ٌد يف‬ ‫الدولة الوطنية (ال ُقطْرِية عىل حد تعبريهم بكرثة) القامئة والعمل عىل تجذيرها يك تكون طريقاً نحو وحدة‬ ‫مستقبلية‪ ،‬إذ بقي جرحي ‘سايكس بيكو’ والهزمية يفعالن فعلهام يف ذهن املثقف لوقت طويل دون القدرة عىل‬ ‫الخروج من البقاء تحت أثر الجرح واملرض إىل التعايف منه حتى يومنا هذا(‪ ،((3‬ليمهد الطريق بذلك للدكتاتوريات‬ ‫القامئة عىل هذه األيديولوجيات التي تاجرت بالوحدة وفلسطني‪ ،‬وبكل قضية كأداة للبقاء يف السلطة‪ .‬إذ سنجد‬ ‫أن األيديولوجية النقدية نفسها أبقت إميانها بالوحدة وأهملت الدولة القامئة بحجة أنها منتج ‘سايكس بيكو’‪،‬‬ ‫وص ّبت جام نقدها عىل السلطات الحاملة لهذه األيديولوجية من موقع جزيئ يهدف إىل الوصول إىل السلطة بديالً‬ ‫عنها ال أكرث وال أقل‪ ،‬وهو الذي امتد حتى اليوم يف صيغة املعارضات التي تأسست عىل هذه الضدية القاتلة دون‬ ‫أي مرشوع وطني أو نقدي‪.‬‬ ‫من هنا سيبدأ العمل النقدي عىل املشاريع الكربى لدى املثقف وسيغيب الواقع‪ ،‬لنكون أمام نقد ملجرد النقد‪،‬‬ ‫يف الوقت الذي كانت فيه األيديولوجيات تتح ّول إىل استبداد عضوض‪ ،‬وقد تجىل األمر يف األحزاب السياسية التي‬ ‫مل تغيرّ أيديولوجياتها وتراجعها ويف األداء السيايس الذي جعل قادة الحزب أنبياء معصومني وقادة إىل األبد مع‬ ‫صعود مفهوم القائد إىل األبد الذي ك ّرس مسألة االستبداد ود ّجن املثقفني فتح ّول قسم منهم ط ّيعاً متخلّياً عن‬ ‫أوهامه نحو غيتو االختصاص أو إىل السجن ملقارعته الدكتاتورية من موقع األيديولوجيا النقدية وليس من موقع‬ ‫املثقف املستقل‪ ،‬إذ مع مرحلة الثامنينيات وخروج السلطة منترصة يف سوريا سيذهب هذا املثقف األيديولوجي‬ ‫النقدي نحو السجن أو املنفى‪ ،‬ويولد املثقف املنحرص يف غيتو اختصاصه من موقع نقدي سيتجذر أكرث مع انهيار‬ ‫االتحاد السوفيايت الذي دفع املثقف إىل جملة مراجعات عىل رأسها مسألة الثورة‪ ،‬حيث سينقسم من بقي خارج‬ ‫املعتقل إىل قسمني‪ :‬األول ملتحق كلياً بالسلطة ومنافعها ومنحرص ضمن غيتو االختصاص بشكل كيل‪ ،‬وآخر‬ ‫ينحرص ضمن غيتو اختصاصه الثقايف إمنا يبقى عىل متاس مع الشأن العام‪ ،‬دون أن يتصادم مع السلطة بشكل‬ ‫مبارش‪ ،‬بحيث يعمل عىل استغالل الهامش املتاح والعمل ضمنه لتوسيع مساحة اللعب ال أكرث‪ ،‬محاذرا ً أن ال‬ ‫يستفز السلطة يك ال يلتحق بزمالئه‪ ،‬ويف هذا السياق قد يكون طيب تيزيني مثاالً يعكس هذه التحوالت‪ ،‬فهو‬ ‫ابن األيديولوجيا اليسارية بحيث تنطبق عليه صفة ‘املثقف األيديولوجي’ ليتح ّول بعد هزمية حزيران إىل موقع‬ ‫املثقف األيديولوجي من موقع نقدي‪ ،‬بحيث يبقى إميانه راسخاً باأليديولوجيا اليسارية ولكن يبحث عن العطب‬ ‫يف الرتاث والحل يف الثورة‪ ،‬ليطلق مرشوعه النقدي الضخم ‘من الرتاث إىل الثورة’‪.‬‬ ‫وتحت تأثري انهيار االتحاد السوفيايت سيخرج من األيديولوجية اليسارية باتجاه رحابة الفكر النقدي‪ ،‬ليغيرّ‬ ‫عنوان مرشوعه إىل ‘من الرتاث إىل النهضة’ ليصبح مثقفاً أيديولوجياً نقدياً يسلّط سهام نقده نحو الدولة األمنية‬ ‫ويبدأ منذ منتصف مثانينيات القرن املايض يتحدث بشكل علني عن الدولة األمنية‪ ،‬ويصبح فيام بعد منخرطاً يف‬ ‫الشأن العام‪ ،‬بشكل كيل خاصة بعد عام ‪ ،2000‬ويصبح ‘مثقفاً نقدياً‪ ،‬عضوياً’‪.‬‬ ‫طيلة مرحلة التسعينيات سيخرج من السجن دفعة جديدة من املثقفني الذين تعلّموا وقرؤوا وك ّونوا معارف‬ ‫‪ 30‬حلل هذا األمر بشكل جيد املفكر جورج طرابييش يف كتابه ‘املرض بالغرب‪ :‬التحليل النفيس لعصاب جامعي’‪.‬‬

‫‪90‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫طيلة سنوات سجنهم‪ ،‬حيث كان السجن بالنسبة لهم مبثابة مطهر دفعهم دفعا للخروج من منط املثقف‬ ‫األيديولوجي النقدي الذي يقارع السلطة من موقع أيديولوجي بعد أن خرج من رشانق وأوهام كثرية لصالح‬ ‫العودة إىل الواقع إمنا برضوض كثرية‪ ،‬ولعل أبرز من ميكن أن يعطي ضوءا ً عىل هذا األمر ويكون مثاالً عليه بذات‬ ‫الوقت‪ ،‬هو الكاتب ياسني الحاج صالح‪ ،‬إذ يقول‪“ :‬كنت عضوا يف اللجنة املركزية للحزب الشيوعي السوري ـ‬ ‫املكتب السيايس يف جامعة حلب‪ ،‬أي واحدا ً من بني مجموعة يف قيادة العمل الحزيب الطاليب ‪ ...‬بعد شهور من‬ ‫االعتقال أمكنني أن أقول يف أحد نقاشاتنا‪ :‬إين ال أتص ّور نفيس خارج الحزب! كلمة ‘الحزب’ هنا مشحونة بعاطفة‬ ‫غامرة‪ ،‬ال ميكن ملن حرم منها إال أن يكون يتيامً أعتقد اليوم أن هذا مر ّوع‪ .‬من ال يتص ّور نفسه خارج ‘الحزب’‬ ‫فسيبقى تابعاً بال نهاية ‪ ...‬يف السجن‪ ،‬شيئاً فشيئاً‪ ،‬تبدلت عالقتي مع الحزب إىل يشء أكرث دستورية‪ .‬رصت أتص ّور‬ ‫نفيس خارجه ‪ ...‬بعد سنوات السجن استقر يب األمر عىل الهامش‪ :‬أختنق يف الداخل‪ ،‬وال أريد أن أكون بعيدا ً يف‬ ‫الخارج‪ .‬محيط الدائرة هو مكاين املناسب ‪ ...‬كانت الكتابة قد أضحت انشغايل املركزي‪ ،‬وصيغة تدخيل املفضلة‬ ‫يف الشأن العام”(‪.((3‬‬ ‫ولنا أن نالحظ أن أغلب مثقفي سوريا اليوم‪ ،‬هم ‘خريجو معتقالت’ أو ما ميكن أن نطلق عليهم ‘الجئي‬ ‫الثقافة’ بعد أن خذلتهم السياسة‪ ،‬وليلتقي هذا املثقف املتك ّون من رحم تجربة السجن مع شطره اآلخر املثقف‬ ‫النقدي املنغلق يف غيتو اختصاصه جزئياً‪ ،‬حيث شكلت لحظة ربيع دمشق لحظة تالقٍ بني هذين النموذجني‬ ‫الذين سيولد منهام من اآلن وصاعدا ً ‘املثقف النقدي العضوي’ املتحرر من أرس األيديولوجيا وغيتو االختصاص‬ ‫نحو االهتامم أكرث بالشأن العام مع إبقاء مسافة واضحة بني هذا املثقف والسلطة لن يتخطاها إال قلة منهم‪،‬‬ ‫أي أن املثقفني الخارجني من السجن ولدوا من رحم هزمية النضال السيايس بوجه الدكتاتورية‪ ،‬يف حني ولد‬ ‫املثقف النقدي املختص من رحم هزمية املشاريع األيديولوجية التي آمنوا بها‪ ،‬ليبقى كل طرف يعاين من آثار‬ ‫هزميته‪ ،‬حيث سينعكس الغياب الذي قضاه هؤالء املثقفون يف السجون يف فكرهم‪ ،‬عىل شكل ابتعاد قرسي عن‬ ‫الواقع وعدم القدرة عىل التقاط التغريات التي أصابت املجتمع السوري‪ ،‬وبالتايل سيبقى فكرهم ‘غريباً’ أحيانا‬ ‫و‘شعاراتياً’ أحيانا و‘ثأرياً’ يف أحيان‪ ،‬فهو من جهة شجا ٌع جدا ً يف مواجهة الدكتاتورية وجهاً لوجه‪ ،‬وعاج ٌز عن فهم‬ ‫ممكنات الواقع واحتامالته من جهة ثانية‪ ،‬يف حني ستبقى آثار املرحلة األيديولوجية ظاهرة يف فكر النوع الثاين‪،‬‬ ‫خاصة يف طريقة التعامل مع الدميقراطية‪.‬‬ ‫ولكن من متازج الطرفني بعد ربيع دمشق عىل األقل سيولد املثقف النقدي العضوي‪ ،‬املقرتب من الواقع‬ ‫أكرث واملفكّر بسوريا أكرث‪ ،‬حيث ستبدأ سوريا وهمومها تحرض كدولة وطنية بعد أن كانت الوحدة والقومية‬ ‫واألممية وفلسطني تحتالن ذهن هذا املثقف‪ ،‬الذي عاد لينخرط بالشأن العام أكرث ويوقع العرائض ويشكل‬ ‫منظامت حقوق إنسان ويقرتح بدائل بشأن نظام الحكم وسبل تغيريه داعياً لعقد اجتامعي جديد بني املثقف‬ ‫والسلطة‪ ،‬حيث بدأت تظهر يف الحياة السياسية الفقرية واملعزولة عن املجتمع عموماً تعابري من نوع ‘املجتمع‬ ‫املدين’ و‘التداول السلمي للسلطة’ و‘إلغاء قانون الطوارئ’ و‘إلغاء الحزب الواحد’‪ ...‬و لكن بالتأكيد مل يكن بني‬ ‫مفرادتهم ‘الثورة’ التي تم تطليقها نهائياً لكرثة ما ابتذلت يف طيلة العقود الفاصلة بني الخمسينيات والثامنينيات‪،‬‬ ‫وهو ما دفع بشارة للقول‪“ :‬ما يهمني هنا هو أن التنظري الثوري‪ ،‬بغض النظر عن رأيي فيه‪ ،‬استمر طويالً من‬ ‫دون ثورات‪ ،‬وفقد مكانته يف الرأي العام ويف الشارع ألسباب عديدة‪ ،‬حتى بات لفظ ثورة لفظاً مثريا ً للسخرية‪ ،‬إذ‬ ‫إن فشل الشيوعية يف أوربا‪ ،‬واستهالك هذه الكلمة يف االنقالبات العسكرية وبعض حركات التحرر التي تح ّولت‬ ‫‪ 31‬ياسني الحاج صالح‪ ،‬بالخالص يا شباب! ‪ 16‬عاما يف السجون السورية‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،2012‬ص‪.100 99-:‬‬

‫‪91‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫إىل دكتاتوريات‪ ،‬مل يفقد كلمة ثورة بريقها فحسب‪ ،‬بل أفقدها مضمونها أيضاً‪ ،‬وتح ّولت إىل مفردة ميتة يف خزانة‬ ‫اللغة الحزبية”(‪.((3‬‬ ‫ولكم أن نقيس الزمن الفاصل بني والدة سوريا بشكلها الحديث وربيع دمشق أو بداية التسعينيات عىل أبعد‬ ‫تقدير‪ ،‬لنعرف كم غابت سوريا وكم تأخرت تلك الثقافة عن مراكمة املعارف عن سوريا ولسوريا‪ ،‬وهو ما يفرس‬ ‫جزئياً ملا تخلو املكتبة السورية حتى اليوم من كتب معرفية عميقة تهتم بسوريا وتدرسها بيد مثقفني سوريني‪.‬‬ ‫املفارقة أنه بعد أن أقىص املثقف السوري بكافة أشكاله ‘الثورة’ من قاموسه‪ ،‬فاجأت الثورة الجميع وجاءت‬ ‫يف الخامس عرش من آذار ‪ 2011‬عىل شكل احتجاجات بسيطة تط ّورت إىل انتفاضة ثم ثورة تتامزج فيها الحرب‬ ‫األهلية والتدخالت الخارجية والعنف بكافة أشكاله‪ ،‬ليبقى السؤال‪ :‬مل غابت الثورة عن ذهن املثقف يف الوقت‬ ‫الذي كانت تقرتب فيه؟ ومل نيس كل كالمه السابق عن ‘التغيري التدريجي اآلمن’ حني اندلعت والتحق بها‪ ،‬هذا إن‬ ‫كانت السلطة تركت مكاناً لغري ذلك؟ وهل كان موقفه املؤيد لها ‘ثورياً’ أم ‘نقدياً’؟ وهل يتكامل هذا مع دوره‬ ‫كمثقف أم أنه خان هذا الدور لصالح التبعية للثورة؟‬ ‫هذا ما سنحاول البحث فيه يف القسم الثاين من هذا البحث‪ ،‬إضافة إىل محاولة قراءة األسباب الكامنة وراء‬ ‫عجز املثقف عن تقديم معرفة بسوريا تخضع لرشوط املعرفة وحدها‪ ،‬عرب مستويني اثنني‪ :‬األول يقرأ الرشوط‬ ‫الخارجية التي أثرت وتأثر بها املثقف‪ ،‬والثاين يقرأ الرشوط الداخلية للنص املنتج من قبل املثقف‪ ،‬أي املنهج املتبع‬ ‫وكيفية إنتاج املثقف لنصه‪.‬‬

‫‪ 32‬عزمي بشارة‪ :‬عن املثقف والثورة‪ ،‬مجلة تبني للدراسات الفكرية والثقافية الفصلية‪ ،‬العدد ‪- 4‬املجلد األول‪-‬ربيع‪ ،2013‬ص‪.139 :‬‬

‫‪92‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‪:‬‬

‫فراس الحواط❊‬

‫الد َم ْ‬ ‫شقي يف سياقاتٍ خمتلفة‬ ‫َغ ْي َلان ِّ‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫تسعى هذه الدراسة إىل تسليط الضوء عىل عملية تذكر التاريخ يف سبيل مواجهة الحارض‪ ،‬وهذه‬ ‫العملية ترتبط مبجاالت عديدة متعلقة بالشأن العام‪ ،‬إذ يتم االستعانة بها يف مجاالت السياسة‬ ‫والفكر والثقافة‪ ،‬خصوصاً عند السعي ملواجهة تحديات الحارض‪ .‬وبغية تحقيق هذا الهدف فإن‬ ‫هذه الدراسة تتناول قصة تاريخية محددة‪ ،‬هي قصة غيالن الدمشقي الذي عاش يف دمشق‬ ‫يف القرن الثامن امليالدي‪ ،‬إذ يتم دراسة األساليب التي ظهرت فيها هذه القصة يف ثالث حاالت‬ ‫تنتمي إىل فرتات مختلفة كلياً‪ ،‬كام تلجأ الدارسة إىل محاولة فهم السياقات التي ظهرت فيها هذه‬ ‫الحاالت عىل اختالفها‪ .‬يتم يف البداية تناول الصورة التي قدمها القايض عبد الجبار عن غيالن‬ ‫الدمشقي‪ ،‬ويتم توضيح العالقة التي تربط بني هذه الصورة والواقع الذي كان القايض يعيش فيه‬ ‫أثناء قيامه بهذا العمل‪ ،‬فبعد أن يتم إيجاز بعض األمور املتعلقة بواقع القايض عبد الجبار يتم‬ ‫االستنتاج أنه قد سعى إىل توظيف قصة غيالن الدمشقي يف سبيل مواجهة ما كان مير آنذاك من‬ ‫ظروف‪ ،‬وهذا ما أدى إىل تصوير غيالن بشكل محدد جداً‪ .‬كذلك يتم تناول الصورة التي قدمها‬ ‫‘ابن عساكر’ عن غيالن الدمشقي وذلك من خالل تسليط الضوء عىل الفرتة التاريخية املحددة‬ ‫التي كتب فيها ابن عساكر هذا العمل‪ ،‬وبنفس الطريقة تخلص الدراسة إىل أن واقع ابن عساكر‬ ‫وغاياته املرحلية قد دفعاه إىل تشكيل صورة مختلفة كلياً عام جاء يف كتاب القايض‪ ،‬لكن كال‬ ‫املؤرخني يتفقان يف أنهام قاما بتذكر غيالن خدمة ملصالحهام اآلنية‪ .‬تتابع الدراسة يف تناول الحالة‬ ‫الثالثة وهي األسلوب الذي اتبعه املخرج والكاتب السوري هيثم حقي يف فلمه السيناميئ الذي‬ ‫تناول حياة غيالن‪ .‬تكمن أهمية العمل الذي قدمه حقي يف أنه قد قام باستعادة هذا الشخصية‬ ‫التاريخية انطالقاً عىل ما يبدو من ظروف آنية‪ ،‬إال أنه قد تفادى الوقوع يف فخ التبسيط الذي‬ ‫يؤدي أحياناً إىل التعامل مع األحداث التاريخية كنامذج يولد منها الحارض‪.‬‬ ‫❊ كاتب سوري حائز عىل شهادة جامعية يف الرتجمة‪ ،‬ويف عام ‪ 2012‬حصل عىل شهادة املاجستري من معهد دراسة حضارات املسلمني يف لندن‪ .‬قام بتقديم‬ ‫مساهامت تناولت موضوع الحوكمة يف سياق املجتمعات اإلسالمية وستصدر قريباً ضمن مجلد من إعداد نفس املعهد‪ ،‬وله دراسة غري منشورة تناولت‬ ‫شخصية غيالن الدمشقي‪ .‬يعمل يف مجال الرتجمة بني العربية واالنكليزية ومهتم بشؤون السياسة والتاريخ والدين‪.‬‬

‫‪93‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫مقدمة‬ ‫يتجه كثري من املهتمني يف املجاالت الفكرية والسياسية والثقافية يف املنطقة العربية نحو مواجهة الواقع‬ ‫الصعب الذي متر به هذه املنطقة‪ ،‬ومحاولة إيجاد حلول متكّن املجتمعات من الخروج من األزمات الحالية‪ ،‬إال‬ ‫أن مساعي البعض أحياناً ما تعاين من بعض املغالطات التي تستحق الوقوف عندها وتسليط الضوء عليها‪ ،‬وال‬ ‫شك أن طريقة التعاطي مع التاريخ هي من إحدى املشاكل التي تتحول أحيانا إىل أزمات حقيقية‪ .‬تتقاطع الكثري‬ ‫من املحاوالت الباحثة عن حلول للواقع الراهن‪ ،‬يف سعيها لالستعانة باملايض يف سبيل مواجهة مشاكل الحارض‪.‬‬ ‫وهذا ال يقترص فقط عىل بعض االتجاهات الدينية عموماً‪ ،‬علامً أن التيارات الفكرية اإلسالمية التي وجدت الحل‬ ‫يف العودة للاميض هي ال متثل ظاهرة جديدة اليوم‪ ،‬بل‪ ،‬قد ظهرت يف أواخر القرن التاسع عرش‪ ،‬من خالل فكر‬ ‫التجديد واإلصالح الذي ظهر مع بعض املفكرين اإلسالميني مثل محمد عبده ورشيد رضا اللذان أرادا أن يقدما حالً‬ ‫لحال األمة‪ ،‬خصوصاً بعد أن اطلعوا عىل حداثة الغرب‪ ،‬إذ تلخصت استجابتهم لذلك الواقع بالوصول إىل نتيجة‬ ‫مفادها أن الحل يتمثل يف العودة إىل املجتمع اإلسالمي األول (حوراين‪.)1977 ،‬‬ ‫تظهر عملية اسرتجاع التاريخ يف الكثري من االتجاهات التي تنحو نحو تذكر حقبة أو شخصية أو حدث معني‬ ‫من املايض ومحاولة تطويعه بحيث يبدو وكأنه املالذ الذي يجب اللجوء إليه تجنباً ملا مير من صعوبات ومشاكل‬ ‫يف الزمن الحارض‪ ،‬ويف هذه الحالة فإن الحارض يبدو وكأنه جزء يشكل امتدادا ً طبيعياً للاميض يأخذ منه سامته‬ ‫األساسية يف عملية تشبه عملية انتقال الجينات الوراثية‪ ،‬فإن واجهتنا مشكلة يف زمن ما فإن العالج إمنا يتمثل‬ ‫بالقدرة عىل عزل الجينات املرغوب بها‪.‬‬ ‫هذا ما يصفه الدكتور عزيز العظمة بالفهم العضواين للتاريخ (العظمة‪ .)1987 ،‬وتنطوي هذه املقاربة يف فهم‬ ‫التاريخ عىل أن يتم فرز األحداث التاريخية إىل نوعني؛ النوع األول هو التاريخ ‘األصيل’ الذي يشكل منوذجاً مثالياً‬ ‫ينبغي اتباعه دامئا‪ ،‬والنوع الثاين هو التاريخ ‘الدخيل’ الذي يجب تجنبه والحذر منه أو حتى محاربته للحفاظ‬ ‫عىل صفاء ونقاء الحارض واملستقبل‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫دراسة حالة غيالن الدمشقي (ت‪)724 .‬‬ ‫يحفل تاريخنا وحارضنا العربيان بنامذج كثرية ميكن تسليط الضوء عليها لتوضيح الجوانب التي تحيط بعملية‬ ‫االستعانة باملايض ملواجهة الحارض‪ ،‬وقد تم االستعانة يف هذه الدراسة بحالة غيالن الدمشقي ملا اكتسبته هذه‬ ‫الشخصية من وجود بارز يف الرتاث الفكري العريب تجىل مبظاهر مختلفة أشد االختالف‪ ،‬وباعتبار هذه الشخصية‬ ‫ما زالت تشد انتباه بعض املهتمني وخصوصا أولئك الذين يسعون من خالل غيالن الدمشقي لتقديم حلول تفيد‬ ‫بنظرهم للخروج من بعض مشاكل الواقع الحايل نظرا ً ملا ارتبط بهذه الشخصية من أفكار تتعلق بالعدل والحرية‪.‬‬ ‫يقدم محمد عامرة موجزا ً عن حياة غيالن الدمشقي يف كتابه ‘مسلمون ثوار’‪ ،‬فيسلط الضوء عىل أفكار غيالن‬ ‫الدمشقي التي كانت تقوم عىل فكرة أن الله قد منح اإلنسان حرية اختيار أفعاله وترصفاته وهذا ما اندرج‬ ‫ضمن مبادئ ما سمي بـ ‘الغيالنية’ التي قامت عىل معارضة األمويني سياسياً (عامرة‪ .)1988 ،‬يشري عامرة أيضاً‬ ‫إىل العالقة التي جمعت غيالن بالخليفة عمر بن عبد العزيز الذي استعان بغيالن يف مصادرة بعض األموال من‬ ‫األمويني وردها لبيت مال املسلمني كخطوة يف سبيل تحقيق العدل‪ .‬إال أن هذا ما دفع ـ بحسب عامرةـ هشام‬ ‫بن عبد امللك الحقاً ليأمر بصلب غيالن عىل أحد أبواب دمشق وإعدامه بعد محاكمته عىل يد الشيخ األوزاعي‪.‬‬ ‫يقوم عامرة برشح موقف غيالن فيقول عنه‪“ :‬إنه كان موقفاً ثورياً من كل سلبيات الحياة يف العرص الذي عاش‬ ‫فيه” (نفس املصدر‪ ،‬ص‪ .)142‬ليك نفهم السياق الذي قام به عامرة بتسليط الضوء عىل حياة غيالن الدمشقي‬ ‫واستعادة قصة حياته‪ ،‬يبدو من الالفت لالنتباه أن عامرة يلجأ إىل توضيح هدفه من هذا الكتاب عندما يوضح‬ ‫الحاجة إىل مواجهة الواقع الذي انطلق منه فيؤكد “تتزايد أهمية الجهود الفكرية التي تصحح صورة اإلسالم يف‬ ‫عيون بنيه‪ ،‬والتي تنصفه عندما تكون املقارنة بينه وبني غريه من األديان ‪ ..‬تلك الجهود التي تقدم اإلسالم الحق‬ ‫‪ ..‬دين االستنارة ‪ ..‬والعقالنية ‪ ..‬ورباط الوحدة والتوحيد ‪( ”..‬نفس املصدر‪ ،‬ص‪.)5‬‬ ‫من الجدير بالذكر أنه يف حالة غيالن الدمشقي ال ميكن الحديث عن تسجيل ألحداث مبارشة قامت أثناء‬ ‫حياته إذ أن أقدم املصادر التاريخية املتوفرة ـ ومن بينها املصادر التي اعتمد عليها عامرةـ تعود إىل فرتات تلت‬ ‫وفاة غيالن عىل األقل بحوايل ‪ 100‬عام‪ ،‬وهذه املشكلة تعرتض أي عمل تاريخي يتناول الفرتة األموية إذ أن كل‬ ‫األعامل التاريخية التي تتناول هذه الفرتة هي من إنتاج فرتات الحقة‪.‬‬ ‫تشكل حالة غيالن مثاالً جيدا َ يف مجال هذه الدراسة بالتحديد ملا استقطبته هذه الشخصية من كتابات أو‬ ‫تجليات أظهرت غيالن مبظاهر وأشكال أخذت يف التعدد واالختالف حد التطرف كام كانت قصة غيالن الدمشقي‬ ‫محط اهتامم وانتباه للكثريين عىل مر العصور وعىل ما يبدو أن مرور عدة قرون عىل الفرتة التي من املفرتض أن‬ ‫غيالن قد عاش فيها مل مينع أبدا ً من تذكره وال حتى من االستعانة به يف سياقات وموضوعات معارصة‪.‬‬ ‫غيالن الدمشقي كما صوره القاضي عبد اجلبار (ت‪)1025 .‬‬ ‫يعد القايض عبد الجبار من أهم فالسفة ومؤرخي مذهب املعتزلة‪ ،‬ويشري فؤاد سيد إىل أن القايض كان‬ ‫إمام مذهب االعتزال يف عرصه‪ ،‬وهو الوحيد الذي عرف باسم ‘قايض القضاة’ (فضل االعتزال وطبقات املعتزلة‪،‬‬ ‫ص‪ .)121.‬وقد قام القايض يف كتابه ‘فضل االعتزال وطبقات املعتزلة’ بتأريخ هذا املذهب من خالل تحديد عرش‬ ‫طبقات تضم كل منها بعض الشخصيات التي قام هو بتصنيفها واعتبارها من أعالم مذهب االعتزال‪ .‬وفيام بعد‬ ‫قام مؤرخ آخر هو الحاكم الجشمي يف كتابه ‘رشح عيون املسائل’ بإضافة طبقتني لطبقات القايض ليتم ذكر‬ ‫‪95‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫القايض عبد الجبار نفسه ضمن الطبقة التي أصبحت تحتل املرتبة الثانية عرشة‪ ،‬وهذا ما يدل عىل املكانة الرفيعة‬ ‫التي احتلها القايض بالنسبة لفكر االعتزال بشكل عام‪.‬‬ ‫ويف مقدمة كتابه يشري القايض إىل أنه قام بهذا العمل تلبية لدعوة امللك خورازم شاه (أبو العباس مأمون بن‬ ‫مأمون)‪ ،‬الذي كان آخر ملوك األرسة املأمونية التي حكمت خوارزم من عام ‪ 995‬حتى عام ‪1017‬م‪ .‬وقد عرفت‬ ‫هذه األرسة بتبني مذهب االعتزال حتى قام بعض من أتباع السلطان محمود الغزنوي (محمود بن سبكتكني)‬ ‫بقتل آخر ملوكهم امللك أبو العباس والسيطرة بذلك عىل خورازم (املصدر السابق‪ ،‬ص‪ .)137 .‬يشري فؤاد سيد‬ ‫إىل حالة العداء التي كانت موجودة لدى السلطان محمود الغزنوي تجاه املعتزلة إذ متثل ذلك عىل سبيل املثال‬ ‫باضطهاد املعتزلة وحرق كتبهم (نفس املصدر)‪.‬‬ ‫إن حقيقة انهيار األرسة املأمونية عىل يد أتباع السلطان محمود وحالة العداء التي أظهرها تجاه املعتزلة هي‬ ‫نقاط أساسية لفهم كتابات القايض يف هذه الفرتة بالتحديد‪ ،‬ففي كتاب “فضل االعتزال وطبقات املعتزلة” يحاول‬ ‫القايض أن يرشح مهمته يف إعداد هذا الكتاب إذ يقول‪“ :‬فرأيت الترسع إىل ذلك واجباً‪ ،‬ليعلم األمري السيد امللك‬ ‫العادل‪ ،‬أطال الله أيامه وحرس مكانه‪ ،‬أنه فيام متسك به‪ ،‬موافق للرسول عليه السالم واألمئة وأن من خالفه فهو‬ ‫مخالف لهم‪ ،‬وليك يأنس بكرثة موافقيه من العلامء فيثبت عند ذلك ما وضعته يف هذا الكتاب” (نفس املصدر‪،‬‬ ‫ص‪ .)138‬إن هذا اإلعالن الرصيح من القايض عبد الجبار يوضح العالقة بني الواقع الذي انطلق منه وبني العمل‬ ‫الذي قدمه والطريقة التي أدى بها هذا العمل‪ .‬ويشري سليامن عيل مراد إىل أن األمر الذي دفع القايض إىل إمتام‬ ‫هذه العمل كان اهتاممه بالدفاع عن مذهب املعتزلة وخصوصا مبدأ العدل اإللهي‪ ،‬وقد لجأ إىل تضمني قامئة‬ ‫تضم شخصيات إسالمية بارزة وذلك بغية استعراض النسب واألصل الذي انتمت له املعتزلة (‪.)Mourad, 2006‬‬ ‫قبل الخوض يف ما قدمه القايض عبد الجبار عن غيالن والطريقة التي صوره بها قد يكون من املفيد إيجاز‬ ‫بعض األفكار عن املعتزلة‪ .‬ترجع بعض الدراسات نشأة املعتزلة إىل زمن الحسن البرصي وبالتحديد عندما ‘اعتزل’‬ ‫واصل بن عطاء (ت‪ )748 .‬من حلقة الحسن‪ ،‬وتحدث عن موقفه تجاه عقوبة مرتكبي املعايص‪ ،‬إذ حدد ذلك‬ ‫بعبارة “منزلة بني املنزلتني”‪ .‬إال أن فكر االعتزال وما يقوم عليه من معتقدات ومبادئ مل يتبلور إال الحقاً عندما‬ ‫نشأت فكرة ‘أهل العدل والتوحيد’ التي تشري إىل اإلميان بالعدالة اإللهية التي تعترب اإلنسان حرا ً مخريا ً ال يتم‬ ‫عقابه إال باالستناد إىل ما منحه الله من حرية يف اختيار أفعاله‪ .‬وقد متت إضافة مبادئ أخرى هي مبدأ الوعد‬ ‫والوعيد ومبدأ املنزلة بني املنزلتني ومن ثم األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬يف الوقت الذي ارتبطت فيه جميع‬ ‫املبادئ الخمسة بفكر االعتزال يؤكد القايض عبد الجبار يف كتبه عىل أولوية مبديئ العدل والتوحيد‪.‬‬ ‫يأيت ذكر غيالن الدمشقي كأول اسم يف الطبقة الرابعة من طبقات املعتزلة التي صنفها القايض عبد الجبار‪،‬‬ ‫وذلك حتى قبل واصل بن عطاء‪ .‬وإن أهم ما يلفت االنتباه يف الصورة التي عرضها عبد الجبار عن غيالن الدمشقي‬ ‫هو العالقة بني غيالن والخليفة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬إذ تكتسب هذه العالقة أهمية كبرية وذلك الرتباط صفة‬ ‫العدل بالخليفة عمر الذي عرف بالخليفة العادل‪ .‬وقد كان هذا محط انتباه القايض عبد الجبار عىل ما يبدو إذ‬ ‫حاول جاهدا َ أن يصور اإلعجاب واالحرتام اللذين أظهرهام الخليفة عمر تجاه غيالن‪ .‬فيصور القايض حادثة دارت‬ ‫يف بالط الخليفة‪:‬‬ ‫“دخل غيالن عىل عمر بن عبد العزيز‪ ،‬فقال له عمر‪ :‬مايل أراك مصفرا ً‪ .‬قال‪ :‬أوجاع وأسقام‪ .‬قال‪ :‬أقسمت‬ ‫عليك لتخربين‪ .‬قال‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬آكل حالوة الدنيا فأجدها مرة فصغر قدرها واستوت عندي حجارتها وذهبها‪.‬‬ ‫وكأن الناس يساقون إىل الجنة وأنا أساق إىل النار‪ .‬فقال عمر‪ :‬من رسه أن ينظر إىل رجل قد وهب نفسه لله‬ ‫‪96‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫وفرغها له وليس فيه عضو إال وهو ينطق بالحكمة‪ ،‬فلينظر إىل هذا‪ .‬ثم قال له واصل بن عطاء‪ :‬من أين أوتيت‬ ‫هذا العلم يا أبا مروان؟ فقال‪ :‬ويحك يا وضني‪ ،‬أرد الله مبا تعلم‪ ،‬يفزع إليك العلم إفزاعاً‪ .‬إن الذي ترى جهلنا مبا‬ ‫ال نعلم هو من تقصرينا فيام نعلم”‬ ‫متثل هذه الحادثة أهمية كبرية إذ تصور غيالن كرجل حكيم ابتعد بزهده وإميانه عن كل ملذات الدنيا‪،‬‬ ‫وهذا ـ عىل ما يبدو من خالل ما أورده القايض ـ ما رفع من مكانة غيالن لدى الخليفة‪ .‬وعىل الرغم مام يرتبط‬ ‫بـ واصل بن عطاء من أفكار تعطيه مكانة خاصة لدى املعتزلة إال أنه بدوره تم تصويره عىل أن علمه ال يضاهي‬ ‫علم غيالن الذي يقوم بتوجيه واصل وتقديم النصح له‪ .‬ويزيد ذكر واصل بن عطاء من أهمية هذه الحادثة إذ‬ ‫أنها بهذا الشكل قد أظهرت غيالن متفوقاً عىل أعالم زمانه‪ .‬ويتابع عبد الجبار يف إظهار العالقة بني غيالن وعمر‬ ‫ولكن يتم تصوير غيالن هذه املرة مبظهر الشخص الحكيم الذي يقوم بتحذير الخليفة نفسه وتذكريه مبسؤولياته‬ ‫وذلك من خالل رسالة وجهها غيالن إىل عمر بن عبد العزيز وجاء فيها‪:‬‬ ‫“أبرصت يا عمر وما كدت‪ .‬أعلم يا عمر أنك أدركت من اإلسالم خلقاً بالياً أو رسامً عافياً‪ .‬فيا ميت بني األموات‬ ‫ال ترى أثرا ً فتتبع وال تسمع صوتاً فتنتفع‪ .‬قد خفي عليك‪ .‬أميتت السنة وظهرت البدعة وأخيف العامل فال يتكلم‬ ‫وال يفطن الجاهل فيسأل ورمبا نجت األمة باإلمام فانظر أي اإلمامني أنت فإن الله تعاىل يقول‪ :‬وجعلناهم أمئة‬ ‫يدعون إىل النار‪ .‬ولن تجد يا عمر داعياً إىل النار ال يتبعه أحد ولكن الدعاة إىل النار هم دعاة إىل معايص الله فهذا‬ ‫مثل الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقني”‬ ‫ويتابع عبد الجبار أن الخليفة عمر قام بعد ذلك بالطلب من غيالن ملساعدته يف مسؤولياته وما كان من‬ ‫غيالن إال أن طلب توليته بيع الخزائن ورد املظامل‪ .‬وعند قيام غيالن ببيع خزائن األمويني كان ينادي‪“ :‬هلم إىل‬ ‫متاع الخونة‪ ،‬هلم إىل متاع الظلمة‪ ،‬تعالوا إىل متاع من خلف الرسول صىل الله عليه يف أمته بغري سريته وسنته”‬ ‫ويضيف القايض عبد الجبار أن هشام بن عبد امللك قبض عىل غيالن وأودعه السجن‪ ،‬فقام أحد أصحاب غيالن‬ ‫بإرسال رسالة له يواسيه ويعزيه مبا أصابه فام كان من غيالن إال أن رد له بهذه السطور‪:‬‬ ‫“إنك ونحوك خلقت يف زمن ابتىل الله العباد فيه بجهل ال علم معه‪ ،‬وضاللة ال هدى معها (ولبس ال بيان‬ ‫معه) إال قليل‪ ،‬فاجتمع العباد عىل الهلكة وقعدوا بكل رصاط يوعدون ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها‬ ‫عوجاً وسموا الدين وأهل الدين بغري أسامئهم واجتمعت منهم عليه الجامعة‪ ،‬فليس يلتفت ملتفت إال إىل ضال‬ ‫مضل‪ ،‬إال فرقة يسرية‪ ،‬ومع ذلك فحججه عىل أهل الباطل ظاهرة‪ ،‬ولهم الويل الطويل‪ ،‬وعزيتني وقد أصبت لو‬ ‫كنت تهنيني”‬ ‫تسلط هذه الرسالة الضوء عىل خصوصية الواقع الذي يحاول القايض تصوير غيالن فيه‪ ،‬وهو ما يشكل له‬ ‫أهمية خاصة ألنه يحقق رغبته يف إظهار النسب القوي للمعتزلة وخصوصاً يف ما يصوره عىل أنه متسك بالدين‬ ‫الصحيح حتى عندما يشتد الخطر الذي يهدد هذا الدين‪ .‬إذ أن املقارنة بني ما ينقله عبد الجبار عن لسان غيالن‬ ‫يف هذه الرسالة مع الواقع الذي كان يعيشه عبد الجبار نفسه وما كانت تعانيه املعتزلة يف وقته توضح األسباب‬ ‫التي تدفع بهذه الرسالة لتكون ذات أهمية خاصة بالنسبة له‪.‬‬ ‫يتابع القايض عبد الجبار ليصور مشهد صلب وإعدام غيالن‪ ،‬إذ يضيف أن هشام قد أمر بالبداية بقطع أطراف‬ ‫غيالن وحتى بعد أن نفذ ذلك بغيالن فإنه مل يستكن بل تابع بكل إرادة قائال‪:‬‬ ‫“قاتلهم الله كم من حق قد أماتوه‪ ،‬وكم من باطل قد أحيوه‪ ،‬وكم من ذليل يف دين الله أعزوه‪ ،‬وكم من عزيز‬ ‫‪97‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫يف دين الله أذلوه”‪ .‬يتابع القايض أنه بعد ذلك‪“ :‬قيل لهشام‪ :‬قطعت يدي غيالن ورجليه‪ ،‬وأطلقت لسانه‪ ،‬فقد بىك‬ ‫الناس حوله‪ ،‬ونبههم عىل ما كانوا غافلني عنه”‪ .‬ثم يضيف أن هشام أرسل فقطع لسانه‪ .‬يف هذا الجزء بالتحديد‬ ‫يظهر الربط املبارش بني الواقع الذي كان يعيش فيه عبد الجبار وما أراد تصويره عن حياة غيالن الدمشقي‪ ،‬فتتم‬ ‫هنا اإلشارة إىل الدور الذي قام به غيالن من تنبيه الناس وتوعيتهم ومل يكن مبقدور أحد أن مينع غيالن من أداء‬ ‫دوره إال بقطع لسانه ومنعه من الكالم‪ .‬وهنا ال ميكن أبدا ً تجنب األخذ باالعتبار ذلك الواقع الذي كان عبد الجبار‬ ‫يلعب فيه دور القايض والفيلسوف‪.‬‬ ‫غيالن الدمشقي كما صوره ابن عساكر (ت‪)1175 .‬‬ ‫يعد أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي من أهم املؤرخني الذين كتبوا عن تاريخ مدينة دمشق‪ ،‬فإىل جانب كونه‬ ‫إماماً وعالمة فإن عمله ‘تاريخ مدينة دمشق’ يعد من أهم املصادر التاريخية عن دمشق وسوريا بشكل عام يف‬ ‫الفرتة حتى القرن الثاين عرش امليالدي‪ .‬باملقارنة مع القايض عبد الجبار والعالقة التي كانت تربطه بأمري خوارزم‬ ‫فإن ابن عساكر أيضا كان يحتل مكانة رفيعة يف دمشق‪ ،‬وكانت تربطه عالقة قوية مع امللك نور الدين زنيك الذي‬ ‫توىل بنفسه مهمة رعاية هذا الكتاب الذي قام ابن عساكر بإعداده (‪.)Lindsay, 2001‬‬ ‫قبل الخوض يف ما قدمه ابن عساكر عن غيالن الدمشقي ال بد من تسليط الضوء عىل الواقع الذي كان‬ ‫موجودا ً يف سوريا خالل القرن الثاين عرش عندما قام ابن عساكر بتأليف ‘تاريخ مدينة دمشق’‪.‬‬ ‫خالل القرنني الحادي عرش والثاين عرش كانت بالد الشام تشهد الكثري من النزاعات‪ ،‬وكان النفوذ يتوزع بني‬ ‫عدة أطراف‪ ،‬ففي بداية القرن الثاين عرش بالتحديد سيطر نور الدين زنيك عىل حلب بينام كانت دمشق بيد أرسة‬ ‫البوريني‪ ،‬وكان النفوذ الصليبي موجودا ً يف مدن ومناطق مجاورة‪ .‬كام كانت الدولة الفاطمية تشكل خطرا ً عىل‬ ‫استقرار هؤالء األطراف‪ .‬متكن نور الدين زنيك سنة ‪ 1154‬من دخول دمشق وبدأ بضم املدن األخرى ململكته حتى‬ ‫شهدت أوج قوتها مع تويل صالح الدين للحكم وسيطرته فيام بعد عىل القدس ومن ثم مرص‪ .‬يف الفرتة ما بني‬ ‫‪ 1154‬و‪ 1174‬حكم نور الدين زنيك بالد الشام واتخذ من دمشق عاصمة له‪ ،‬كام أن جهوده العسكرية لتوحيد‬ ‫هذه املنطقة قد ترافقت مع فرض املذهب السني‪ ،‬ومحاوالته لقمع املناوئني له سياسياً أو دينياً ومن بينهم أتباع‬ ‫بعض املذاهب الشيعية (‪ .)The Encuclopedia of Islam, 1995‬ففي هذه الظروف قام ابن عساكر بتأليف‬ ‫‘تاريخ مدينة دمشق’ إىل أن أتم عمله عام ‪.1174‬‬ ‫يتناول ابن عساكر يف كتابه ‘تاريخ مدينة دمشق’ أهم الشخصيات اإلسالمية التي ارتبطت يف شكلٍ أو بآخر‬ ‫مبدينة دمشق أو مبنطقة بالد الشام عموماً‪ ،‬حيث يتناول كل شخصية مبفردها ويربز بعض الجوانب التي متيزت‬ ‫بها‪ .‬ومن الجدير باالنتباه أنه يتناول بعض الخلفاء والصحابة والعلامء إال أن تناوله لحالة غيالن الدمشقي تثري‬ ‫االهتامم بشكل خاص ألن غيالن مل يظهر هنا كشخصية دينية أو سياسية ذات شأن رفيع بل عىل العكس متاماً‪.‬‬ ‫يبدأ ابن عساكر الحديث عن غيالن الدمشقي بذكر بعض املقوالت من سبيل “وغيالن هذا هو الذي يعرف‬ ‫بغيالن القدري‪ ،‬ويروى عن النبي صىل الله عليه وسلم يف ذمه”‪ ،‬كام يتابع فيذكر عدة نسخ من حديث نبوي‬ ‫ينقل عن الرسول قوله‪“ :‬يكون يف أمتي رجالن أحدهام‪ :‬وهب يهب الله له الحكمة‪ ،‬واآلخر غيالن فتنته عىل هذه‬ ‫األمة أشد من فتنة الشيطان”‪ ،‬ويضيف حديثاً آخر يقول فيه الرسول‪“ :‬يكون يف أمتي رجل يقال له غيالن‪ ،‬هو أرض‬ ‫عىل أمتي من إبليس”‪ .‬ال يقوم ابن عساكر مبناقشة صحة هذه األحاديث بل يضيف أن أحدا ً قال لغيالن‪“ :‬ويحك‬ ‫يا غيالن‪ ،‬أمل أجدك يف شبيبتك ترامي النساء بالتفاح يف شهر رمضان؟ ثم رصت حارثياً تخدم امرأة تزعم أنها أم‬ ‫‪98‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫املؤمنني ثم تحولت فرصت قدرياً زنديقاً”‪ ،‬كام يقوم بنفس الوقت بذكر نسخ متشابهة ألقوال تم تناقلها عن‬ ‫أشخاص آخرين‪ ،‬فيذكر عىل سبيل املثال‪“ :‬ويلك يا غيالن‪ ،‬أمل تكن زفاناً؟ ويلك يا غيالن أمل تكن قبطياً وأسلمت؟‬ ‫ويلك يا غيالن أمل أجدك يف شبيبتك وأنت ترامي النساء بالتفاح يف شهر رمضان ثم رصت حارثياً تخدم امرأة حارث‬ ‫الكذاب وتزعم أنها أم املؤمنني؟ ثم تحولت من ذلك فرصت قدريا زنديقاً؟”‪ .‬تقدم كل هذه األحاديث واملقوالت‬ ‫صورة ترتسم يف ذهن القارئ لتحط من مكانة غيالن دينياً ومعرفياً‪ ،‬وإن أكرث ما تركز عليه هذه األمثلة هو إظهار‬ ‫غيالن كشخص منبوذ كلياً حتى أن الرسول بنفسه قد تنبأ بخطر هذا الشخص عىل األمة وحذر منه حتى قبل‬ ‫عرشات السنني من والدته‪.‬‬ ‫إال أن ما يثري االهتامم يف شكل خاص هو العالقة التي حاول ابن عساكر تصويرها بني غيالن والخليفة عمر‬ ‫بن عبد العزيز‪ .‬فيذكر ابن عساكر كالماً يعزوه إىل غيالن قائالً “كان أشد الناس عيل كالماً عمر بن عبد العزيز‪،‬‬ ‫كأنه يلقن من السامء”‪ .‬ويتابع ابن عساكر أن غيالن أضاف‪“ :‬ولقد كنت أطلب له مسائل أعنته فيها‪ ،‬فبينا أنا‬ ‫ذات يوم يف السوق إذا دراهم بيض يقلبها اليهودي والنرصاين والحائض والجنب‪ ،‬قلت‪ :‬إن يكن يوم أظفر به‬ ‫فاليوم‪ ،‬قال‪ :‬فدخلت عليه‪ ،‬فقلت‪ :‬يا أمري املؤمنني هذه الدراهم البيض فيها كتاب الله يقلبها اليهودي والنرصاين‬ ‫والحائض والجنب‪ ،‬فإن رأيت أن تأمر مبحوها‪ ،‬فقال‪ :‬أردت أن تحتج علينا األمم إن غرينا توحيد ربنا واسم نبينا‪،‬‬ ‫قال‪ :‬فبهت‪ ،‬فلم أدر ما أرد عليه”‪.‬‬ ‫يف الوقت الذي قام عبد الجبار بإظهار املكانة العالية التي متتع بها غيالن عند الخليفة عمر‪ ،‬يدل هذا املثال‬ ‫عىل أن غيالن كان كل همه أن يحظى مبقابلة الخليفة عمر‪ ،‬وكان يسعى جاهدا ً أن يجد فرصة ليتسنى له ذلك‪،‬‬ ‫ولهذا السبب فقد أراد استغالل فرصة انقلبت عليه عكسياً إذ مل يحصل منها إال عىل الخيبة بعد أن صده الخليفة‬ ‫عمر‪ .‬ومل يكن هذا املثال الوحيد الذي يركز عىل عالقة عمر بغيالن بل يذكر ابن عساكر أيضا أن أحدا ً قال‪:‬‬ ‫“دخلت عىل ‘عمر بن عبد العزيز’ وغيالن قاعد بني يديه فقال يا غيالن ويلك ما هذا الذي أحدثت يف اإلسالم‪،‬‬ ‫فقال يا أمري املؤمنني ما أحدثت يف اإلسالم شيئاً‪ ،‬قال بىل قولك يف القدر”‪ .‬يتابع ابن عساكر بعد ذلك ليصور غيالن‬ ‫مدركاً لجهالته وتائباً بعد أن قام عمر بتأنيبه‪ ،‬إذ يقول غيالن‪“ :‬صدقت يا أمري املؤمنني والله لقد جئتك ضاالً‬ ‫فهديتني وأعمى فبرصتني وجاهالً فعلمتني‪ ،‬والله ال أتكلم يف يشء من هذا األمر أبدا”‪ ،‬وهذا ما استدعى عمر‬ ‫لريد عليه محذرا ً‪“ :‬لنئ بلغني أنك تكلم يف يشء من هذا األمر أبدا ً ألجعلنك نكاالً للناس أو للعاملني”‪ .‬ويتابع ابن‬ ‫عساكر أن بعد أن تاب غيالن أمام عمر واعرتف بخطأه فإن عمر بن عبد العزيز علم أن غيالن استمر يف القول يف‬ ‫القدر‪ ،‬فيذكر أن عمرا ً استدعاه ثانية ليعود ويتوب قائالً‪“ :‬أقول قد كنت أعمى فبرصتني وأصم فأسمعتني وضاالً‬ ‫فهديتني”‪ .‬هذا ما دعا عمر ليضيف‪“ :‬اللهم إن كان عبدك غيالن صادقاً وإال فاصلبه”‪ .‬يذكر ابن عساكر أن هشام‬ ‫بن عبد امللك هو من قام بصلب غيالن فيام بعد‪ ،‬إال أن هذه األحاديث التي ذكرها تدل عىل أن عمر بن عبد‬ ‫العزيز كان هو أول خليفة أموي يكشف عام لدى غيالن من أفكار خارجة عن الدين‪ ،‬وأنه هو من دعا إىل الله‬ ‫أن يقتص منه‪ .‬يتضح هذا جلياً عندما يقوم ابن عساكر بإضافة حادثة أخرى قام فيها عمر بن عبد العزيز بالدعاء‬ ‫إىل الله أن يعاقب غيالن عىل بدعته فيذكر أن عمر قال‪“ :‬اللهم إن كان صادقا فارفعه ووفقه وإن كان كاذبا فال‬ ‫متته إال مقطوع اليدين والرجلني مصلوباً”‪ ،‬ويضيف أن عمر بن عبد العزيز قام مرة أخرى بالدعاء إىل الله من أن‬ ‫يقتص من غيالن‪ ،‬وكان ذلك بحضور شخص يدعى عمرو بن مهاجر‪ .‬وهذا ما يزيد من وضوح الفكرة التي أراد‬ ‫ابن عساكر توصيلها وهي أن الخليفة عمر هو بنفسه كان عىل علم مبا لدى غيالن من بدع‪ ،‬ولذلك فإن عملية‬ ‫صلبه وإعدامه التي متت عىل يد الخليفة هشام إمنا كانت تلبية ملا أراده عمر بن عبد العزيز‪ .‬ويف هذا الخصوص‬ ‫‪99‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫بالتحديد يذكر ابن عساكر أن عمرو بن مهاجر قال‪“ :‬فوالله إين لفي الرصافة جالس فقيل يل قد قطعت يداه‬ ‫ورجاله‪ ،‬قال فأتيته فوقفت عليه وإنه مللقى فقلت له يا غيالن هذه دعوة عمر بن عبد العزيز قد أدركتك قال‬ ‫ثم أمر به فصلب”‪ .‬ينهي ابن عساكر حديثه عن غيالن بإضافة حديث ورد فيه “إن هشاماً وقر يف صدره من قتل‬ ‫غيالن يشء فكتب إليه منري ال تفعل يا أمري املؤمنني فإن قتل غيالن كان من فتوح الله العظام عىل هذه األمة”‪.‬‬ ‫إن محاولة فهم األسلوب الذي لجأ إليه ابن عساكر لتصوير غيالن الدمشقي ال ميكن عزلها عن الواقع الذي‬ ‫ظهر فيه كتاب ‘تاريخ مدينة دمشق’ والظروف السياسية التي كانت موجودة آنذاك‪ .‬وهنا ال بد من اإلشارة‬ ‫بالتحديد ملحاوالت نور الدين زنيك ملواجهة األطراف الدينية املختلفة وتأسيس دولته التي كانت تعتمد عىل‬ ‫وجود مذهب ديني واحد يعمل عىل توحيد البالد تحت راية واحدة‪ ،‬وهذا بالطبع قد متثل بالتحديد بنبذ البدع‪،‬‬ ‫ومبحاولة تقديم دمشق عىل أنها عاصمة تاريخية قام فيها الخلفاء األمويون من قبله بذات الجهد لنبذ ما هو‬ ‫منحرف عن ‘الدين الصحيح’‪ .‬ولذلك فإن غيالن الدمشقي قد ظهر هنا عىل أنه ذلك الفاسق صاحب البدعة الذي‬ ‫حاول التقرب من الخلفاء لكنهم قاموا بكشفه والتنبه لخطره منذ البداية‪.‬‬ ‫غيالن الدمشقي كما صوره هيثم حقي‬ ‫مل تقترص قصة غيالن الدمشقي عىل الظهور يف كتب املؤرخني كـابن عساكر والقايض عبد الجبار بل إنها‬ ‫استدعت اهتامم العديد من الكتاب حتى يومنا هذا‪ .‬فقد قام املخرج السوري هيثم حقي عام ‪ 2008‬بتأليف‬ ‫وإخراج فلم سيناميئ تناول هذه القصة وحمل اسم ‘التجيل األخري لغيالن الدمشقي’‪ .‬يقوم الفلم بالرتكيز عىل‬ ‫إظهار غيالن بشخصية املدافع عن الحق والعدل بكل ما أويت من قوة‪ ،‬وهو ال يتواىن عن ذلك حتى عندما كان‬ ‫مدركاً أن هذا الطريق قد يودي بحتفه عىل يد هشام بن عبد امللك‪ .‬فيقوم هيثم حقي بدوره بالرتكيز عىل عالقة‬ ‫غيالن بالخليفة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬إذ يصور الفلم أن غيالن كان يدعو إىل أن تكون الخالفة لألصلح سياسياً‪،‬‬ ‫وأنه قَب َِل بخالفة عمر بن عبد العزيز فقط عندما رأى سعي عمر إىل إحقاق الحق والقضاء عىل الظلم‪ .‬يف هذا‬ ‫السياق يظهر غيالن يف الفلم قائالً لعمر‪“ :‬وإذا كنت قد ورثت الخالفة ونحن نرفض توريثها ونطالب بالبيعة‬ ‫لألصلح سياسياً فإننا والحق يقال فبعد ما رأينا من أفعالك ونبذك ملتاع الدنيا وزهدك بفخفخة امللك والسلطان‪،‬‬ ‫تراك يا ابن عبد العزيز األصلح لها‪ ،‬وإذ نبايعك أمريا ً للمؤمنني‪ ،‬نوصيك بتقوى الله يف عباده ورد أموال املسلمني‬ ‫التي استوىل عليها أبناء عمومتك من بني أمية لبيت مال املسلمني باستعاملها يف إصالح حال العباد التي آلت‬ ‫إىل فساد”‬ ‫ويتضح يف هذا الفلم سعي حقي إىل الرتكيز عىل الدور السيايس لغيالن الدمشقي‪ ،‬وتصوير موقفه من عملية‬ ‫اختيار الحاكم منطلقاً من إميانه بالعدل ورفع الظلم من دون أن يكون لديه أية مصلحة أخرى‪ ،‬فيظهر غيالن يف‬ ‫الفلم مدافعاً عن موقفه تجاه تويل عمر بن عبد العزيز الحكم فيقول‪:‬‬ ‫“قد بايعناه لنعيد الحق ألصحابه‪ .‬أعرف ما تقولونه من أننا تنازلنا عن ما كنا نطالب به من تفويض األمر‬ ‫لألصلح بني الناس لكننا وجدنا عمر بن عبد العزيز األصلح واألقدر عىل مل الشمل مع وعده برد املظامل والعدل‬ ‫فإن مل يفعل وقفنا يف وجهه كام وقفنا يف وجه سلفه”‬ ‫يشري الفلم كذلك بشكل بسيط إىل شخصيات تاريخية أخرى فيتم ذكر ابن رشد والحالج وعبد الرحمن‬ ‫الكواكبي‪ ،‬وذلك من خالل تصوير ما مثلته هذه الشخصيات من أفكار دعت إلحكام العقل والخروج عن السلطة‬ ‫الدينية املستبدة التي قامت بدورها بقمع هذه األفكار بيد من حديد‪.‬‬ ‫‪100‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫إن ربط هذه الشخصيات بشخصية غيالن الدمشقي يعرب عن رغبة حقي بإظهار امتداد تاريخي لالتجاه الذي‬ ‫ينزع إىل إحكام العقل والقيام بالثورة عىل الواقع املستبد‪ .‬هل أراد حقي توسيع املجال الزمني لهذا االمتداد‬ ‫التاريخي ليعرب به عن الواقع الحايل املعارص؟ ماهي الرسالة التي أراد توصيلها للمشاهد من خالل العودة إلحياء‬ ‫هذه األمثلة من التاريخ؟‬ ‫إن ‘التجيل األخري لغيالن الدمشقي’ مل ميثل عمالً تاريخياً قامئاً عىل تقديم رسد أو تصور معني لفرتة‪ ،‬أو‬ ‫شخصية تاريخية معينة‪ .‬بل لجأ حقي يف هذا الفلم إىل املزاوجة بني الواقع املعارص والقصة التاريخية‪ ،‬وذلك من‬ ‫خالل االنطالق من تصوير حياة شخصية الشاب سامي‪ ،‬املوظف املسحوق الذي يعيش يف مدينة دمشق ويحاول‬ ‫إعداد رسالة دكتوراه عن غيالن الدمشقي‪ .‬يصور الفلم حياة سامي الذي يثريه ويشده كثريا ً ما يجري حوله من‬ ‫مشاكل‪ ،‬وباألخص تلك التي تتمثل بحاالت الظلم‪.‬‬ ‫من خالل نافذته يقوم سامي مبراقبة ما يجري يف املنزل املقابل ملنزله‪ ،‬إذ يقوم جاره املدمن عىل القامر‬ ‫بتحويل زوجته إىل سلعة لتقوم هي رغامً عام يقع عليها من إهانة مبحاولة توفري بعض املال ألطفالها‪ .‬يراقب‬ ‫سامي ما يدور يف هذا البيت وما يحدث حوله عىل نطاق أوسع‪ ،‬من دون أن يكون قادرا ً عىل املشاركة الفاعلة يف‬ ‫هذا الواقع فيصل إىل درجة االنفصال التام عن واقعه‪ ،‬حتى يصل به املطاف إىل إيصال الرسائل من الفتاة التي‬ ‫أحب إىل الشخص التي كانت عىل عالقة به‪ ،‬وليقوم الحقاً بتوصيلها بنفسه إىل منزل هذا الشاب‪.‬‬ ‫ميثل الواقع الذي يعيش فيه سامي‪ ،‬بكل ما فيه من مشاكل اجتامعية وسياسية‪ ،‬منوذجاً عن املجتمعات‬ ‫املعارصة التي يستهدفها الفلم‪.‬‬ ‫وبنفس الوقت فإن الطريقة التي قام بها سامي مبواجهة هذه املشاكل متثلت باالنفصال عن هذا الواقع‪،‬‬ ‫والهروب نحو تخيل ما حدث مع غيالن الدمشقي منذ عدة قرون خلت تلبية لرغبته بإحقاق العدل ورفع الظلم‪،‬‬ ‫فيحاول التعويض عام يعيشه من سلبية وبرودة وعدم قدرة عىل التأثري من جهة‪ ،‬مبا يقوم هو بتخيله عن غيالن‬ ‫الدمشقي وسعيه الدؤوب إىل إحقاق الحق وتحقيق العدل‪ .‬عندما تصل األمور مع سامي إىل الحد األقىص من‬ ‫الخسارة املرتافقة بالسلبية فإنه يلجأ إىل تخيل مشهد صلب وإعدام غيالن الدمشقي عىل يد هشام بن عبد امللك‪.‬‬ ‫إن لجوء حقي إىل استعادة قصة غيالن من خالل ما يقوم به سامي من هروب من واقعه إمنا يساهم يف‬ ‫تشكيل فهم أعمق لهذه القصة التاريخية وإمكانية تجليها يف واقعنا املعارص‪ ،‬فالتجيل األخري لغيالن الدمشقي‬ ‫إمنا حدث ‪-‬حسب حقي‪ -‬يف خيال سامي‪ .‬ال شك أن قصة غيالن قد استهوت حقي ملا حملته هذه الشخصية من‬ ‫إحكام لدور العقل‪ ،‬واتجاه نحو تحقيق العدل‪ ،‬إال أن الالفت لالنتباه أن العالقة بني عمر بن عبد العزيز وغيالن‪،‬‬ ‫والتي أراد حقي إظهار فكرة العدل من خاللها‪ ،‬قد ساهمت بنفس الوقت بتثبيت فكرة استحالة تحقيق هذا‬ ‫النوع من العدل الذي يقوم عىل وجود حاكم عادل‪ .‬فالفلم يظهر أن هذه العالقة رسعان ما انتهت بقتل عمر‬ ‫بن عبد العزيز وانتقال الخالفة الحقاً ليد هشام بن عبد امللك الذي قام بدوره بإعدام غيالن‪ .‬إن االتجاه الذي‬ ‫اتبعه حقي يف تصوير استحالة تحقق هذا النوع من العدل إمنا يعرب عن رغبته إلظهار أفكاره السياسية الخاصة‬ ‫بشكل فني‪ .‬وهذا ما يتوافق بشكل تام مع الرؤية التي ميتلكها حقي يف مجال السياسية‪ ،‬والتي ميكن أن تتلخص‬ ‫يف الدميقراطية االجتامعية التي تعمل عىل تحقيق مبدأ املواطنة املتساوية أمام قانون يعدل ليصبح عادالً (حقي‪،‬‬ ‫‪.)2011‬‬

‫‪101‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫استعادة املاضي خلدمة احلاضر‬

‫خامتة‬ ‫إن التاريخ مبا فيه من أحداث ال شك يشكل مجاالً واسعاً لالستفادة منه يف ميادين كثرية وخصوصاً يف ميادين‬ ‫السياسة والفكر وعلم االجتامع‪ ،‬إال أن قراءة التاريخ والطريقة التي نستخدمه فيها تتطلب كثريا ً من العناية‬ ‫خصوصاً عندما يلجأ الباحث أو املهتم –يف شكل مبارش أو غري مبارش‪ -‬إىل تسخري التاريخ يف سبيل املصلحة اآلنية‪.‬‬ ‫إن الحاالت الثالثة التي تم فيها تذكر وتصوير غيالن الدمشقي يف فرتات مختلفة تشكل مناذج لبعض األساليب‬ ‫التي يتم من خاللها تذكر املايض يف سبيل مواجهة اللحظة اآلنية‪ .‬ففي حالة القايض عبد الجبار فإن غيالن‬ ‫الدمشقي ظهر كأحد مؤسيس فكر االعتزال الذي كان القايض من أهم دعاته‪.‬‬ ‫يف هذا السياق تم تصوير غيالن كرجل حكيم يسعى بكل ما أويت إىل تحقيق العدل والوقوف مبوقف قوي‬ ‫لحامية الدين عندما يشتد الخطر عليه خصوصاً من أولئك الذين يدعون متثيله‪ .‬إن تصوير غيالن بهذا الشكل يف‬ ‫‘فضل االعتزال وطبقات املعتزلة’ إمنا عرب عن سعي القايض للبحث يف التاريخ عام ميكن أن يكون قد شكل أصالً‬ ‫ومرجعي ًة ليس فقط ملذهب االعتزال‪ ،‬الذي كان مير بوقت صعب‪ ،‬بل لألرسة املأمونية يف مجابهتها للمخاطر التي‬ ‫كانت تحدق بها‪.‬‬ ‫أما بالنسبة البن عساكر فإن صورة غيالن التي قدمها والتي كانت مناقضة متاما ملا جاء من خالل القايض عبد‬ ‫الجبار كانت أيضاً خالصة بحث ابن عساكر عن مناذج تاريخية تشكل أساساً ملا كان يجري يف عهده‪ .‬لقد بدا غيالن‬ ‫من خالل ‘تاريخ مدينة دمشق’ كشخص زنديق قام الخلفاء األمويون بكشف مآربه وخطره عىل الدين فوضعوا‬ ‫حدا ً له‪ ،‬وهذه الصورة ال بد من مقارنتها مع سعي الزنكيني آنذاك نحو تأسيس دولة قوية يتولون فيها مهمة‬ ‫حامية الدين‪ .‬ولذلك فإن ابن عساكر اتجه إىل تشكيل ‘فهم عضواين’ للتاريخ الذي يعيد نفسه ويكون غيالن فيه‬ ‫هو األساس للبدع التي ينبغي القضاء عليها‪.‬‬ ‫لقد قدم هيثم حقي مقاربة دقيقة تفادت الوقوع يف التبسيط الذي يسرتجع املايض كام هو ليوظفه يف‬ ‫ظروف الحارض‪ .‬فقد قام بدوره بالربط املبارش بني اللحظة اآلنية وما مير بها من تحديات مع القصة التاريخية‪،‬‬ ‫إال أن األسلوب الفني الذي متت من خالله استعادة شخصية غيالن إضافة إىل الدور السلبي الذي متتع به سامي‬ ‫قد ساهام يف توضيح فكرة عدم إمكانية تحقق املايض يف الحارض‪ ،‬وبالتايل عدم جدوى الهروب من الواقع الحايل‬ ‫الستعادة ما مر يف املايض من أحداث‪.‬‬

‫املصادر واملراجع‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫ابن عساكر‪ .‬تاريخ مدينة دمشق‪ .‬بريوت‪ :‬دار الفكر‪1997 ،‬‬ ‫حوراين الربت‪ .‬الفكر العريب يف عرص النهضة‪ .‬ترجمة‪ :‬كريم عزقول‪ .‬بريوت‪ :‬دار النهار للنرش‪1977 ،‬‬ ‫القايض عبد الجبار‪ .‬فضل االعتزال وطبقات املعتزلة‪ .‬تحقيق‪ :‬فؤاد سيد‪ .‬الدار التونسية للنرش‪.‬‬ ‫العظمة عزيز‪ .‬الرتاث بني السلطان والتاريخ‪ .‬الدار البيضاء‪ :‬عيون املقاالت‪1987 ،‬‬ ‫عامرة محمد‪ .‬مسلمون ثوار‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الرشوق‪1988 ،‬‬ ‫حقي هيثم‪ .‬الخوف من الدميوقراطية‪ .‬جريدة الحياة‪ 14 .‬ترشين الثاين ‪2011‬‬

‫‪References‬‬

‫‪• Lindsay James E. Ibn Asakir and Early Islamic History. Princeton: The Darwin Press, 2001‬‬ ‫‪• Mourad S. A. Early Islam between Myth and History. Leiden: Brill, 2006‬‬ ‫‪• The Encyclopedia of Islam. Leiden: Brill, 1995‬‬

‫‪102‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫بني الشعر والفيس بوك‪:‬‬

‫سالف علّوش❊‬

‫ومضات للتواصل االجتماعي‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تعد املادة املعنونة ‘بني الشعر والفيس بوك’ إضاء ًة أو مقارب ًة بسيط ًة للتحول الذي طرأ‬ ‫عىل الشعر بني القصائد واملقطعات الشعرية املطبوعة أو املنشورة يف الصحف والدوريات‪،‬‬ ‫والتي حظيت باهتامم القارئ املهتم بالشعر أصالً‪ ،‬وبني النص الشعري األحدث ـ واألحدث‬ ‫باملعنى الزمني ال باملعنى النقدي للمفردة‪ .‬لقد اختار هذا النص طريقه إىل املتلقي‬ ‫عرب صفحات التواصل االجتامعي‪ ،‬فغاب عنه القارئ املهتم والقادر عىل التمييز‪ ،‬فتلك‬ ‫الصفحات هي مجتمع بأكمله وليست منرباً متخصصاً كام هو حال الديوان الشعري أو‬ ‫تقصد اقتناءها واالطالع عىل ما ض ّمت‬ ‫املجلة أو الجريدة املختصة والتي يحصل عليها قار ٌئ ّ‬ ‫بني صفحاتها‪ ،‬فاستطاع هذا القارئ أن يحكم عىل النص بحسب خربته أو علمه أو قدرته‬ ‫اللغوية‪ .‬ضمت املادة تعريفاً بسيطاً لشكل النص الشعري األكرث رواجا يف صفحات الفيس‬ ‫بوك ذلك الشكل املسمى أدبيا بالومضة الشعرية‪ .‬وحاولت تقديم األسباب التي ساقت‬ ‫النص الشعري إىل هذا االختزال‪ ،‬فالنص مؤثر ومتأثر بالواقع االجتامعي الذي نعيشه ما‬ ‫أدى به إىل التأثر شبه اإلجباري بعرص الرسعة الذي نعيشه‪.‬كام ضمت أيضا مجموعة من‬ ‫ٍ‬ ‫مطبوعات ورقي ٍة‪ ،‬واقترصت إبداعاتهم عىل‬ ‫الومضات لشعراء مل يتم النرش لهم سابقاً يف‬ ‫صفحات التواصل االجتامعي‪ .‬وقد تم انتقاء األسامء عشوائياً من بني الصفحات التي‬ ‫اعتمدت تقديم بضعة نصوص لكل شاعر‬ ‫ُ‬ ‫استطعت االطالع عىل ما فيها من كتابات‪ .‬وقد‬ ‫ُ‬ ‫لتبيان شعريته وعدم اقتصارها عىل جملة إبداعية وردت محض صدفة مع محاوالت‬ ‫كمتلق ال كناقد‪.‬‬ ‫لتلقي كل نص عىل حدا وقراءته‬ ‫ٍ‬ ‫❊ خريجة جامعة البعث ـ كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ـ قسم اللغة العربية ‪ ،1999‬وحائزة عىل دبلوم التأهيل الرتبوي ‪ ،2000‬ودبلوم الدراسات العليا يف‬ ‫الدراسات األدبية ‪ ،2001‬وتحرض حالياً رسالة ماجستري يف املرسح‪ .‬نرشت عدة دراسات ومقاالت يف العديد من الصحف والدوريات منها جريدة األسبوع‬ ‫األديب‪ ،‬ومجلة املوقف األديب التابعة التحاد الكتاب العرب يف سوريا‪ ،‬ومجلة الرافد يف الشارقة‪ .‬فائزة باملركز الثالث يف مسابقة سعاد الصباح قسم النقد يف‬ ‫الكويت ‪.2005‬‬

‫‪103‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫بني الشعر والفيس بوك‬

‫بني زمن كان الشعر فيه تاريخاً قامئاً بذاته يسجل الحرب‪ ،‬الحب‪ ،‬املرض‪ ،‬العلم‪ ،‬وزمن آخر أصبح فيه الشعر‬ ‫محاوالت جاهدة للتعبري عن فكرة أو املطالبة بحق‪ ،‬محاوالت لرفع صوت الكلمة يف وجه الرصاصة‪ .‬وهذا يؤكد‬ ‫لنا ارتباط الكتابة كفكرة وأسلوب وتعبري بالواقع العام الذي يعيشه اإلنسان كام يؤكد أيضا تبدل أسلوب وواقع‬ ‫النص حسب التبدل الحيايت الذي يعيشه الكاتب واملتلقي يف آن معاً‪ .‬فلطاملا أثرت السياسة يف وقع الكلمة‬ ‫ونهجها ولطاملا أثر العلم والتكنولوجيا بها أيضاً‪ ،‬إنها عرضة للتأثري والتأثر طاملا استمرت الكلمة والكتابة واإلنسان‬ ‫يف الوجود‪.‬‬ ‫عود عىل بدء فإننا نرى التباين بني املنابر املتعددة للكلمة‪ .‬فمن ذلك الشاعر الذي كان يقول نصاً ومييض‬ ‫وهو يدرك أن النص غدا محفوظاً يف أذهان سامعيه وال حاجة له للبحث عمن يحتفظ أو ما يحتفظ مبا قال‪ ،‬إىل‬ ‫مرحلة التدوين‪ ،‬التي كان الشاعر فيها ينهك نفسه يف نحت الكلمة‪ ،‬ونحت منربها أيضاً‪ ،‬باحثاً عن ورق يحتفظ‬ ‫له باختالجاته الداخلية‪ ،‬إىل مرحلة افتقدنا فيها ما هو ورقي وأصبح عىل الكلمة أن تكون رسيعة خفيفة تتناسب‬ ‫مع مزاج متلقيها العاجل‪ .‬فتصدرت املشهد أشكال جديدة من الشعر تتناسب وعرص الرسعة‪.‬‬ ‫ما الدوافع التي أدت إىل بروز هذه األشكال الجديدة؟ مثة سؤال يتعلق بالزمن‪ ،‬فإذا كان الشعر فناً من الفنون‬ ‫ُ‬ ‫األفعال تشكيلَها الزماين مع تفاعل إيحايئ للمكان وتأثريه يف ذات الشاعر‬ ‫الزمانية من حيث هو لوحة لغوية تحرك‬ ‫فهل نلمس أثرا ً للزمن الراهن برسعته الجنونية؟ وللمكان الذي بدأ يضيق حتى حدود اختناق شاغليه؟ هل لهام‬ ‫أثر يف األدب بعامة والشعر بخاصة؟‏‬ ‫تخلّص الشعر يف سريورته السابقة من كثري من ضوابطه كقافية ووزن ومطلع وخامتة لينتقل إىل الوزن الرسيع‬ ‫الذي يتخفف قدر ما استطاع‪ ،‬لنصل إىل ما يسمى بالنص النرثي والذي يُطلق عليه اآلن اسم قصيدة النرث‪ ،‬ثم‬ ‫لتصبح الومضة هي األكرث تناسباً مع املنابر املفتوحة للمتلقي والكاتب يف آن معا حيث أصبح الوقت ضيقاً عىل‬ ‫حد تعبري الجميع فال يسمح بندوة أو محارضة أو أمسية أو ما كان من منابر للتعبري‪ .‬فام هي تلك الومضة؟ ومن‬ ‫أين أىت هذا املسمى لنص يكاد يضاهي أطول النصوص إبداعاً وتألقاً؟‬ ‫الومضة هي صفة لهذا الشكل املقتبس أو املأخوذ أو املقلّد كشعر الهايكو الياباين أو املقطعات الشعرية‬ ‫‪104‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫بني الشعر والفيس بوك‬

‫اإلنكليزية القصرية جدا ً‪ ،‬وهي تختلف عن القصيدة القصرية باتساع فضاء األخرية يف البو ِح أو الصورة أو املوسيقا‬ ‫أو املساحة فالومضة أكرث إيجازا ً وتكثيفاً واختزاالً‪.‬‬ ‫بعد هذا رمبا أمكن لنا مقاربة الومضة بتعريف بسيط‪ :‬فهي نص أشبه ما يكون بربق خاطف يتسم بعفوية‬ ‫وبساطة متكنه من النفاذ إىل الذاكرة للبقاء فيها معتمدا ً عىل تركيز عا ٍل وكثاف ٍة شديدة مردهام انطباع كامل‪،‬‬ ‫واحد مستخلص من حالة شعورية أو تأملية أو معرفية عميقة‪ ،‬فهي تتوفر عىل الرتكيز والغنى الواضح باإليحاءات‬ ‫والرموز‪ ،‬وتدفق رقراق وانسياب عضوي بديع لوعي شعري عميق‪ .‬إذن فالشكل نص مخترص مختزل بأعىل قدرة‬ ‫لالختزال‪ ،‬وأما املضمون فهو مقوالت تومض من خالل النص برسعة خاطفة‪.‬‬ ‫يف ظل هذا التخفف أصبحت صفحات التواصل االجتامعي هي األكرث حظوة بتعبرينا واختالجاتنا‪ ،‬انفعاالتنا‬ ‫وهمومنا ومطالبنا‪ ،‬وأصبح املنرب مفتوحاً لكل من يريد الكتابة فضاعت مقاييس النص بكل أشكاله‪ ،‬وبات الشعر‬ ‫يف غالبه ومضة أو خاطرة‪.‬‬ ‫وهذا ال يعني انتفاء وجود النص الطويل الذي يربز متكن قائله من لغته الشعرية وقدرته عىل البوح واستجرار‬ ‫املتلقي للتفاعل والتواطؤ ضمنياً مع هذا النص ولكننا سنعرض يف هذه اإلضاءة مبدئياً للنصوص القصرية جدا ً أو‬ ‫الومضات الشعرية التي حظي موقع التواصل االجتامعي ‘فيس بوك’ بنرشها عىل صفحاته كوسيلة لعرض النص‬ ‫بصفته الوسيلة األقرب واألسهل واألكرث حظوة بالقراء يف زمننا هذا بينام سنقوم بإنجاز إضاءة تخص النص الشعري‬ ‫الطويل الذي احتضنه أيضاً هذا املوقع‪ .‬وهنا نجد أنفسنا يف مواقع التواصل االجتامعي أمام ازدحام للكلامت ال‬ ‫ضابط له إال األهواء الشخصية فيام نقول‪.‬‬ ‫كرث الكتّاب والشعراء‪ ،‬أو لنقل كرثت الكتابات واملحاوالت الشعرية البسيطة أو العميقة التي تستحق تسمية‬ ‫شعر‪ ،‬بينام غاب القارئ املتمكن من انتقاء ما ميكن تسميته شعرا ً وما ينتمي إىل الهرطقة اللغوية التي ال طائل‬ ‫منها‪ .‬وما نحن اآلن بصدده هو فقط محاوالت للتعرف عىل بعض النصوص الشعرية القصرية لبعض األسامء التي‬ ‫مل يتح لها منرب لنصها‪ ،‬أو أنها آثرت البقاء بعيدا ً عن الضوء يف ظل صخب الكلمة وكرثة الذين يقومون بفعل‬ ‫الكتابة اقرتاناً بقلة القراء الذين مييزون الغث من الثمني‪ .‬وبقيت األسامء الالمعة سابقاً هي املتعارف عليها‬ ‫كشعراء وروائيني وقاصني ونقاد‪ ،‬وافتقدنا لجيل رمبا مل يعرف طريقاً ليوصل نصه إلينا سوى تلك الصفحات‪.‬‬ ‫رغم وجود الكثري من النصوص التي ال طائل منها والتي ال تنتمي إىل األدب ال من قريب وال من بعيد إال أننا‬ ‫فعالً نجد نصاً قد ضاع حقه وحق قائله عىل تلك الصفحات‪ ،‬ف ُح ِر َم مثرة إبداعه كام رسق منه نصه حيث ال مجال‬ ‫للتوثيق أو نسب النص هنا‪ .‬فنكون قد عدنا أدراجنا إىل ظاهرة الرسقات األدبية وما عاد يعرف من أبدع ماذا‪.‬‬ ‫والنامذج كثرية لهذا اإلبداع الذي ال يحظى باهتامم منابرنا‪ ،‬بل ورمبا مير كرث عليه دون االلتفات ملا ضم النص من‬ ‫حس وصورة‪ .‬سأحاول هنا أن ألتمس بعضها عليّ أستطيع تسليط الضوء قليال عىل تلك الجملة من األحاسيس‬ ‫التي مل نسمع صوتها يف دورياتنا ودور نرشنا‪.‬‬

‫“صادروا املغارة ‪ ...‬يا مريم‬ ‫(((‬ ‫فبات إمياننا ‪ ..‬يف العراء” (تيسري نارص)‬

‫كم من املعاين والصور تتداعى إىل ذهن املتلقي عند قراءة تينك الجملتني؟ هل هي حقاً مغارة ولد فيها‬ ‫املسيح وباتت مريم تترضع إىل ربها فتحمل املفهوم الديني البحت حيث أصبحنا مؤمنني بال نبي وال رسالة وال‬ ‫حاضن؟ أم أنها مصادرة فكرية سلبنا فيها إرادة الفكرة واملوقف وأصبحنا مسلويب العقول ال تحكمنا سوى غريزة‬ ‫‪https://www.facebook.com/tayseer.nasser?fref=ts 1‬‬

‫‪105‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫بني الشعر والفيس بوك‬

‫القطيع حيث أن تلك املصادرة منعتنا من التعبري فكان لزاماً علينا االتباع؟ أم أنها مصادرة عاطفية‪ ،‬سلبنا فيها‬ ‫مشاعرنا وموضوعها فأصبحنا محبني بال محبوب؟ تبقى األسئلة مفتوحة ونظرة املتلقي أيضاً عىل النص فكل‬ ‫يأخذه النص إىل أرضية سابقة يف نفسه وثقافته ومفاهيمه ويبقى الشاعر املرجع األوحد ملفتاح النص‪.‬‬

‫“وألنك ‪ ..‬األنثى الوطن‬ ‫كان قدري ِ‬ ‫بك‬ ‫أن أنتهي‬ ‫الجـــئــــــــاً ‪ ...‬مرتني” (تيسري نارص)‬

‫هجرة أخرى يحملها الشاعر من نص إىل نص‪ ،‬غربة تتكرر يف رفضه للواقع‪ .‬وال تزال تتكرر املعاين املفتوحة‬ ‫للتلقي ويبقى الشاعر مفتاحه‪ ،‬هل هي األنثى األرض التي نضيع فيها يف ترحالنا وال نعرث عىل وطن‪ ،‬أم أنها أنثى‬ ‫آدم التي يشعر بالغربة خارجها؟ أهي األنثى األم التي ترتكنا غرباء حاملا نخرج من رحمها فنبحث عنها يف كل‬ ‫النساء وال نجدها ونعود أدراجنا إليها طلبا لقتل الغربة فنلجأ للخالص منها ونعاود اللجوء إليها‪.‬‬

‫“كلهم‬ ‫كانوا يحصون املسامري يف جسد النبي‬ ‫مل يصغ أحد‬ ‫لشجن املجدلية” (تيسري نارص)‬

‫معاناتنا؟ أم هي معاناة فردية؟ هل الشاعر هو النبي أم هو املجدلية؟ أنحن النبي‪ ،‬والوطن هو املجدلية؟‬ ‫أنحن املجدلية‪ ،‬والوطن النبي؟ مل نزل أمام االحتامالت املتعددة لنص مينحنا مساحات من التفكري استطاع قائله‬ ‫اختزالها بجملة أو اثنتني‪.‬‬

‫“الناجون من الحرب‬ ‫قتىل نسيهم املوت” (تيسري نارص)‬

‫املوت ال ينىس‪ ،‬ولكننا ميتون بانتظار طابور الرثاء‪ ،‬ال يعرف أحد دوره فيه‪ ،‬نستبق إليه لنحصل عىل حظ أقل‬ ‫من القهر‪.‬‬

‫‪106‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬

‫“تشطرين الحرب‬ ‫نصف‬ ‫ٌ‬ ‫ير ّد ُد ‪ ..‬كل مطلع قهر‪:‬‬ ‫(العني بالعني‬ ‫‪ ...‬والطّفل بالطّفل)‬ ‫وآخر‬ ‫بالحب‬ ‫يض ّمد‬ ‫ّ‬ ‫ما أعطبته القذائف‪ ..‬يف نوايانا‬ ‫فينام قرير القلب‬ ‫يف حدقة‪ ...‬أنثاه” (تيسري نارص)‬


‫بني الشعر والفيس بوك‬

‫وينتقل الشاعر من نص مختزل مكثف إىل نص أكرث رحابة يف مفرداته وصوره‪ ،‬نص يحاول تجسيد صورة أو‬ ‫مشهد من مشاهد الحياة ولكنه يرتكنا أيضا أمام حرية السؤال وسعة الخيال‪ .‬نص مل يجد متنفساً سوى صفحات‬ ‫الفيس بوك التي حرمته ألقه كام حرمته متلقياً متمحصاً يحاول الدخول إىل كنه النص والتفاعل معه‪ .‬وحرمتنا‬ ‫أيضا حالة من التحليق يف فضاء نص آرس لطاملا متنينا أن نكون قائليه‪ ،‬ولطاملا حاولنا أن نكون عىل قدره من‬ ‫التعبري واإلحساس‪.‬‬

‫“كيف لـنـا أن نكون اثنني وأنا ال أعرف سوى أنك أين‪،‬‬ ‫(((‬ ‫وكيف للحيـاة أن تجعلك غريباً‪ ،‬وأنت روح تعرفني أكرث مني” (أملى جاد)‬

‫ال أكرث من ذلك اختزاالً لتعريف الحب أو التامهي‪ .‬نصل إىل الفكرة لنبقى يف حرية موضوعها الذي تعرفه‬ ‫الكاتبة وحدها‪ ،‬أهو الله الذي يذوب فينا فيكوننا ونكونه؟ أم أنه معشوق لحالة حب تتملكنا؟ أم هو وطن ال‬ ‫نكون خارجه وال يحمل معناه إن أخرجناه منا؟‬

‫تذهب يف النسيان‬ ‫“وأنت‬ ‫ُ‬ ‫تذكّر أنّ‬ ‫عطري مازال يجري اآلن يف دمك” (أملى جاد)‬

‫هي األنثى الباقية التي لن يصل يوما إىل نسيانها مهام حاول‪ ،‬هي قصة تطول الصفحات يف رشحها إن دخلنا‬ ‫يف متاهة الحب والتعلق والفقد والفراق والذاكرة‪ ،‬اختزلتها الشاعرة بجملتني تفضيان إىل استحالة محوها من‬ ‫الذاكرة‪..‬‬

‫“الحزن أكرب من ٍ‬ ‫لص يتسلّل يف األعامق ِخلسة‬ ‫الحزن‪ ..‬ق ّناص يصيب الروح مبهارة” (أملى جاد)‬

‫لنا أيضاً أن نكتب صفحات يف تعريف ورشح أحزاننا وأسبابها ونتائجها‪ ،‬بينام تومض لنا الشاعرة بتعريف شدة‬ ‫يف االختزال للحزن بعبارة أدبية وصورة مختلفة عن املألوف‪.‬‬

‫“هذا الشتاء قاس‬ ‫لعل ليايل الشتاء ج ّرحها الربد كثرياً‬ ‫ّ‬ ‫وهواء الشتاء يشبه الغياب ‪ ...‬يشبهني‬ ‫أناديك‬ ‫والريح تخدش صويت”! (أملى جاد)‬

‫الشاعرة ذاتها تخطو بنا خطوة من ومضتها إىل سعة أكرب يف الكالم‪ ،‬فتقدم الصورة واالنفعال مبفردات أكرث‬ ‫فرمبا تصل بنا إىل تحديد أكرب ملوضوعها وتحاول تسليمنا مفتاح نصها بذلك‪.‬‬

‫“الحنني يف القلب كَحصان‬ ‫ال يرفع ساقاً إال ليضع أخرى” (بيسان خري بيك)‬

‫(((‬

‫‪https://www.facebook.com/alma779?fref=ts 2‬‬ ‫‪https://www.facebook.com/bissan.kherbic?fref=ts 3‬‬

‫‪107‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫بني الشعر والفيس بوك‬

‫ذلك األمل الذي يتملكنا فال يرتك منا ذرة من جسد أو ذاكرة إال ويحتلها‪ ،‬حني يتملكنا الحنني كان حصاناً تحفر‬ ‫دعسات أقدامه يف قلوبنا حلامً بعد آخر‪ ،‬يف رؤية كاتبة النص أو لنقل مبتكرة الصورة‪ ،‬أومضت لنا فاخترصت‬ ‫وأبدعت‪.‬‬

‫“ َيدُكَ يف َيدي‬ ‫صب فيِ من َبعه” (بيسان خري بيك)‬ ‫نَه ٌر يَ ُّ‬

‫تلك اليد التي تحولت نهرا ً ينتهي هديره يف تلك الكف التي تتلقى‪.‬‬

‫“عىل عتبة العامل أقف كالباب‬ ‫بعين ِه الثّاقبة و بيد ِه القصرية” (بيسان خري بيك)‬

‫كم من احتامالت املعنى يحمل ذاك النص املقتضب أهي باب عىل عامل مفتوح بال حدود أم أنه عامل يتجسد‬ ‫بقلب حبيب‪ .‬أم هو رصيف الذكريات؟ أم؟ كم من التساؤالت يفتحها أمامك نص ما تعدى بضع مفردات فكان‬ ‫قصيدة طويلة يف احتامالته‪.‬‬

‫“أضع يدي عىل ورق ٍة بيضاء وأم ّرر القلم بني أصابعي‬ ‫ويف الرسمة كانت كفّي تُشبهني‬ ‫ِشبه جزير ٍة مفتوح ٍة لجهة القلب فقط” (بيسان خري بيك)‬

‫تخرج الشاعرة من املشهد الخاطف لرتسم مشهدا ً أرحب لك فيه أن ترى الصورة واضحة‪ ،‬وترتك لك مساحة‬ ‫أيضاً يك تكون جزءا ً من الصورة‪ .‬ويك تربهن أن من يومض يف إحساسه ليس بعاجز عن اإلطالة فهو ميتلكها أنىّ شاء‬ ‫فرد املساحة األوسع لنا معرفة ولكنها املساحة األقل خياالً‪.‬‬

‫“جاء الوقت ضَ يقاً هذه املرة‬ ‫(((‬ ‫ِ‬ ‫ال أنا َعربت ِ‬ ‫إبعادك َعني” (محمود الشاعر)‬ ‫إليك وال القدر نَجح يف‬

‫كأن الوقت ضيف يحل بتوقيت محدد فيخترص فيه الشاعر ضيق نفسه وجدران ذاكرته التي تحبسه فيها‬ ‫خارج وقت العامل الواقعي‪.‬‬

‫“كَم َمىض بِكَ الوقت إىل الال وقت‬ ‫قال‪ :‬ال ُعشاق يَسكنون يف األبد َونح ُن َوقعهم يف َد ِم النور” (محمود الشاعر)‬

‫يبقى شاعرنا حبيس دائرة الوقت لكنه يحاول تجريب تأثري هذا الوقت فينا علنا نصل وإياه من خالل مفرداته‬ ‫إىل بقعة واحدة من اإلحساس فنمتزج مع نصه ووقته‪.‬‬

‫“مير الوقت‬ ‫قريباً من باب الغد يقف وحيداً‬ ‫دون صديق وﻻ حبيبة‬ ‫وحيد مثل شجرة التل الذي شهد الحب والحرب‬ ‫وحيد كزهرة يف كتاب‬

‫‪https://www.facebook.com/MahmoudD.maher?fref=ts 4‬‬

‫‪108‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫بني الشعر والفيس بوك‬

‫ينتصب الوحيد أمام الغد‬ ‫كفنجان قهوة عىل طاولة سلب املوت كرسيها” (محمود الشاعر)‬

‫ينتقل بنا الشاعر من ومضة إىل خاطرة لكنه يبقى يدور يف حلقة الوقت فيوحي لنا بضيقه يف وجهه وإحساسه‬ ‫بقرب املوت منه يف كل لحظة‪ ،‬ينتقل إىل الخاطرة ليقدم لنا رشحا عن نفسه املرصودة يف انفعاالت النص ومفرداته‪.‬‬

‫“أين يهرب النوم يف عتمة الليل ‪ ...‬أيعقل‬ ‫أن يبقى الحلم مستيقظا يف انتظاري؟؟” (قاسم مصطفى الربباري)‬

‫(((‬

‫وهل ينام الحلم أصالً؟ أو أنها تلك األعذار التي مننحها ألحالمنا حني تهجرنا ومتيض؟ وهل هو الحلم الذي‬ ‫يزورنا يف النوم؟ أو هو الحلم الذي مينحنا الحياة ونحن ننتظر املوت عىل رشفته؟‬

‫“وقف القلب خاشعاً‬ ‫لذكرى ‪...‬علها تكون صالتُنا األخرية” (قاسم مصطفى الربباري)‬

‫أ َو نستطيع ختم باب القلب يف وجه الذكرى؟ أم هي أمنيات ال تتحقق ونبقى دامئي الصالة لذكريات مرت؟‬

‫“عندما يلملم النهار ضجيجه ويرحل أتجول بني األزقة‬ ‫أزرع أوراق أحالمي علها تكرب وحدها فتتحقق” (قاسم مصطفى الربباري)‬

‫مير أحدنا فرياه كالماً عادياً سطر عىل وجه صفحة الكرتونية ومييض رمبا دون أن يلتفت أننا حقاً نزرع األحالم‪.‬‬ ‫نزرعها يف دواخلنا‪ ،‬يف شوارع من نحب‪ ،‬ويف أزقة األمكنة التي نعشق‪ ،‬األحالم أيضا تكرب‪ ،‬وتنتظر املطر‪.‬‬ ‫تبقى الفروقات قامئة بني شاعر وآخر‪ ،‬فهناك من يكتب ليصلك إحساسه فيبدع يف اإليصال‪ ،‬ومنهم من يكتب‬ ‫فيبهرك بصوره املحبوكة كمشهد مرتامي األطراف واألبعاد‪ .‬لوحة لك فيها أن تذهب بخيالك وتخرتع معادالً للنص‬ ‫يف نفسك‪ ،‬فيدهشك ومينحك فضاء أكرب مع النص من نص واضح املعامل والحدود‪.‬‬ ‫لنا اآلن أن نرى فضائل الفضاءات اإللكرتونية عىل نصوصنا املستلقية هنا وهناك‪ ،‬فقد حصل النص عىل رسعة‬ ‫أكرب يف االنتشار والتلقي وعىل فضاء أوسع من صالة لإللقاء يف مدينة أو بلد‪ .‬ورغم الظلم الواقع عىل ذاك النص‬ ‫والشاعر‪ ،‬فكم من احتامالت تدمري صفحة ضمت كل خلجات وتاريخ صاحبها لتتحول من تأريخ إىل ممحاة؟‬ ‫لنكن إذن ذاك العشب الذي تنهمر فوقه قطرات ندى هؤالء الشعراء فيلتمع خرضة وامتناناً لحاالت عميقة‬ ‫من اإلحساس خلقوها فينا‪ ،‬وليغفروا لنا أنهم ما وجدوا منربا ً يستحق وقع خطا كلامتهم وإحساسهم‪ .‬ولنكن تلك‬ ‫املساحة البيضاء أمامهم ليصبوا فيها ومضاتهم فيكون خيالنا القصيدة‪.‬‬

‫‪https://www.facebook.com/qassem.moustfa 5‬‬

‫‪109‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫فيكتوريوس بيان شمس❊‬

‫كمعبر عن تفاوت الصراع‬ ‫السينما‬ ‫ّ‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫الربح‪ ،‬هو واحد من الغايات األساسية لصناعة السينام‪ ،‬ومضمون العمل السيناميئ‪ ،‬غاية أخرى‪،‬‬ ‫ورشط أسايس من رشوط وصوله وتسويقه‪ .‬والسينام كغريها من الفنون التي تتفاعل مع الواقع‪ ،‬تأخذ‬ ‫منه‪ ،‬وتساهم يف بناء ورفع سوية الوعي والثقافة املجتمعية‪ .‬تعبرّ األعامل التي نوقشت‪-‬يف هذه‬ ‫الدراسة‪ -‬عن طرق مختلفة يف عالج قضية واحدة‪ ،‬ما زالت الشعوب العربية ترزح تحت تأثريها إىل‬ ‫اليوم‪ .‬املسألة األساس فيها‪ ،‬أن كل عمل عالج هذه القضية من زاوية تتوافق ليس فقط مع رؤيته‪،‬‬ ‫بل مع مصالحه أيضاً‪ ،‬عدا عن أنّه حاول التوفيق بني الرشطني السابقني ‘الربح‪ ،‬واملضمون’‪ .‬هذا ما‬ ‫برز بوضوح يف األعامل الثالثة التي نوقشت‪ .‬فـ ‘الطريق إىل إيالت’ حاول من خالل الرسد والتصوير‬ ‫والتوصيف كلغة مفهومة للرشيحة العربية األوسع واألبسط‪ ،‬تبييض صفحة النظام العريب يف طور‬ ‫الهزمية التي تعاين منها األ ّمة العربية‪ ،‬من خالل ‘عملٍ بطو ٍّيل’ ال يخلو من التشويه امليلودرامي الذي‬ ‫فيلم له مهم ٌة محدّ د ٌة واحدة‪ :‬تضليل‬ ‫وصل حدود التزوير والدمياغوجية يف مشاهد كثرية‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫كرشط الستمرار النظام‪ .‬أما الفيلم اإليطايل ‘الحياة حلوة’ فقد حقّق الرشطني ‘الربح‪،‬‬ ‫الوعي العريب‬ ‫واملضمون’ بلغ ٍة أيديولوجي ٍة متعدّ دة املعاين‪ ،‬تخاطب كل واحد ٍة منها جمهوراً مختلفاً عن اآلخر‪ .‬بينام‬ ‫صيغ فيلم ‘الزمن الباقي’ بطريق ٍة قلّام ا ْع ُت ِمدَ ْت يف السينام العربية‪ .‬حاول فيه مخرجه توصيف القضية‬ ‫الفلسطينية بطريق ٍة ذكية‪ ،‬لكنها جاءت بلغ ٍة واحد ٍة مليئ ٍة بالرموز والدالالت التي قد تستعيص عىل‬ ‫املشاهد العريب العادي‪ .‬وقد بدا الفيلم وكأنّه يستكمل ما انتهى عنده روبريتو بينيني يف فيلمه ‘الحياة‬ ‫حلوة’؛ أي نشوء إرسائيل بزوال فلسطني‪ .‬إذاً‪ ،‬لعبت السينام دوراً جوهرياً يف بناء الوعي تجاه قضايا‬ ‫الشأن العام تارةً‪ ،‬وتشويهه تار ًة أخرى‪ ،‬فكانت كسالحٍ ذي حدّ ين‪ ،‬يؤدّي الغرض ملن أحسن استخدامه‪.‬‬ ‫يف الحالتني كان املشاهد العريب ضحيتها كام هو ضحية واقعٍ بات يسعى لتغيريه‪ .‬هل ستنتج الحركة‬ ‫منسجم مع وعي املشاهد العريب؟ هذا مرهونٌ‬ ‫الثقافية العربية سينام أخرى تعبرّ عن واقعها بشكل‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫وعي ممكنٍ آخر‪ ،‬ألن الواقع يحدّ د‬ ‫لبناء‬ ‫السائد‪،‬‬ ‫ومرشوط بقدرتها عىل تغيري واقعها‪ ،‬أي هدم الوعي‬ ‫ٍ‬ ‫الوعي وليس العكس‪ ،‬فالوعي الجمعي العام يختلف يف طور النرص‪ ،‬عنه يف طور الهزمية‪ .‬هذا ما يفسرّ‬ ‫اله ّوة الثقافية التي تل ّمسنا بعضاً من آثارها يف بضعة أعامل سينامئية‪.‬‬ ‫❊ كاتب سوري مقيم يف القاهرة منذ أواسط العام ‪ 2012‬بعد أن انتسب إىل ‘ائتالف اليسار السوري’‪ .‬عمل يف صفوف ‘اتحاد الشباب الدميقراطي السوري’‬ ‫منذ العام ‪ 1995‬وحتى ‪ ،1998‬ثم يف ‘الحزب الدميقراطي الشعبي’ يف لبنان منذ العام ‪ 1999‬وحتى أواسط العام ‪ 2011‬حيث تركه بعد أن اتّخذ الحزب‬ ‫موقفاً مؤيّدا ً للنظام السوري‪ .‬درس العلوم السياسية واإلدارية يف الجامعة اللبنانية ببريوت‪ ،‬وله مساهامت يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع السورية‬ ‫والعربية‪.‬‬

‫‪110‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫مقدمة‬ ‫بَ َنت إرسائيل بعد نشوئها يف العام ‪ 1948‬كيانها السيايس عىل مجموعة من األساطري‪ ،‬واألوهام الدينية التي‬ ‫تعترب اآلخرين ‘أغيار’‪ ،‬سخّرهم الله لخدمة بني إرسائيل‪ ،‬سعى الكيان عىل وقعنة وترسيخ مجموعة من الشعارات‪:‬‬ ‫‘فلسطني أرض بال شعب‪ ،‬لشعب بال أرض’‪ ،‬وبحسب الرواية التلمودية‪“ :‬حدودك يا إرسائيل من الفرات إىل‬ ‫النيل”‪ .‬وقد حرص هذا الكيان عىل تقديم منوذج ‘حضاري دميقراطي’ يف منطقة تحكمها نُظُ ٌم استبدادية‪ ،‬ستثبت‬ ‫األحداث الالحقة يف املنطقة حاجة هذا الكيان لهذه األنظمة‪ ،‬بدليل ترصيح رئيس وزراء العدو السابق ايهود‬ ‫باراك إبّان قيام الثورة املرصية‪“ :‬بيننا وبني مرص اتفاقية‪ ،‬لكن فيام بيننا وبني النظام السوري تفاهم غري معلن‬ ‫ضمن حدودنا لعقود طويلة”‪ ،‬وهو ما أكّده يف بداية األحداث يف سوريا‪ ،‬ترصيح رامي مخلوف ابن خال بشار‬ ‫األسد‪ ،‬وواجهة النظام املافيوية االقتصادية عندما قال يف ‪ 11‬أيار ‪“ :2011‬أمن إرسائيل‪ ،‬من أمن سوريا”!‬ ‫إذا ً‪ ،‬مصالح وجودية متبادلة بني كيانات كانت تبدو متعادية‪ ،‬ثبت الحقاً أن وجود إحداها رشط لوجود‬ ‫األخرى‪ ،‬ال تقوم إال بها‪ .‬لكن كيف يُرتجم هذا عىل صعيد الثقافة والفنون واألدب‪ ،‬وهي األلوان األكرث تأثريا ً يف‬ ‫الوعي الجمعي العام؟‬ ‫منذ العقد األخري من القرن املايض وإىل اليوم‪ ،‬تشهد ساحتنا الثقافية واألدبية هجمة سينامئية رشسة‪ ،‬ذات‬ ‫هويات قومية‪/‬لغوية متع ّددة‪ ،‬تسعى بشكل حثيث لتبييض صورة إرسائيل‪ ،‬عرب أفالم مزدوجة اللغة ملا تحويه‬ ‫من رسائل متع ّددة تخاطب ع ّدة مناذج من العقول‪ .‬والسينام‪ ،‬مثلها مثل باقي الفنون‪ ،‬الرسم واملوسيقى واملرسح‬ ‫والرواية والقصيدة واألغنية وغريها‪ ،‬قامئة عىل قاعدة بسيطة ساذجة مفادها أن ‘الفن لغة العامل’‪ ،‬وهي لألمانة‬ ‫لغة خطرة عابرة للعقول والقلوب‪ ،‬تستطيع أن تفعل وتؤث ّر‪ ،‬أكرث بكثري من فعل املدافع والطائرات‪.‬‬

‫‪111‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫فيلم ‘احلياة حلوة’‬ ‫ويف تدليلنا عىل ذلك نبحث يف فيلم إيطايل للمخرج واملمثل الشهري ‘روبريتو بينيني ‪،’Roberto Benigni‬‬ ‫عنوانه ‘الحياة حلوة ‪ .’Life is Beautiful‬يقع الفيلم يف ساعة وستة وخمسني دقيقة‪ ،‬وقد كلّف إنتاجه ‪2‬‬ ‫مليون دوالر أمرييك‪ ،‬وهو أعىل رقم يسجله إنتاج فيلم سيناميئ إيطايل حتى اليوم‪ ،‬ساهمت يف إنتاجه رشكات‬ ‫إيطالية هي‪‘ :‬ميالمبو سينيامتوغرافيكا ‪ ’Melampo Cinematografica‬و‘مجموعة غيتيش غوري ‪Gecci Gori‬‬ ‫‪ُ .’Group‬عر َِض الفيلم عام ‪ .1997‬واملفارقة‪ ،‬أنه عرض يف حوايل ‪ 30‬دولة ليس منها إرسائيل‪ ،‬وس ّجل أرباحاً فاقت‬ ‫‪ 230‬مليون دوالر‪.‬‬ ‫يتح ّدث الفيلم الذي رشّ ح لسبع جوائز ‘أوسكار’ ونال منها ثالث‪ ،‬عن شاب يهودي إيطايل يُدعى ‘جويدو‬ ‫‪ ،’Guido‬يغادر مدينته يف فرتة الحرب العاملية الثانية مع صديقه إىل مدينة أخرى يعيش فيها ع ّمه الذي ميلك‬ ‫فندقاً فاخرا ً فيها‪ ،‬ليعمل عنده كنادل‪ .‬ويف الطريق إىل املدينة تتعطّل سيارته‪ ،‬وبينام يصلحها صديقه يذهب إىل‬ ‫مزرعة قريبة لغسل يديه‪ ،‬فتسقط سيدة تدعى ‘دورا ‪ ’Dora‬من أعىل سطح املزرعة ليتلقّفها جويدو بني ذراعيه‪،‬‬ ‫ويعالجها من لسعات تع ّرضت لها‪ .‬وبحوار رسيع‪ ،‬ع ّرف عن نفسه بالـ ‘أمري’‪ ،‬كام خاطب السيدة الشابة دورا بالـ‬ ‫‘أمرية’‪.‬‬ ‫غادر جيدو املزرعة محمالً ببعض بيض الدجاج كعربون اعرتاف عىل ما فعله‪ .‬ثم بعد الوصول إىل املدينة‬ ‫والعمل فيها‪ ،‬يحاول الشاب الحصول عىل رخصة إلنشاء مكتبة‪ ،‬فيتعثرّ بإجراءات روتينية تعيقه بعض اليشء‪،‬‬ ‫ليكون البيض الذي يف جيوبه ر ٌّد قدري عىل كل من يتسبب يف تعثرّ ه‪ .‬هذا ما حدث مع أحد موظّفي البلدية الذين‬ ‫امتنعوا عن توقيع طلبه إلنشاء املكتبة‪.‬‬ ‫والفيلم بدقائقه الــ ‪ 116‬ال يخلو من املواقف القدرية الكثرية التي ترمي بجويدو بأحضان دورا كيفام التفت‪،‬‬ ‫فها هو يقع عليها أثناء هروبه عىل دراجة هوائية من أحدهم عند أحد املفرتقات‪ ،‬وال يوفّر فرصة انتحال شخصية‬ ‫مفتش الرتبية ليزور املدرسة التي تعمل بها‪ ،‬أو لقاء بالصدفة يف ساحة عا ّمة‪ .‬مواقف كثرية من هذا النوع يتخلّلها‬ ‫الفيلم‪.‬‬ ‫أ ّما دورا‪ ،‬والتي كانت مخطوبة ألحد الضباط الفاشيني يف تلك الحقبة‪ ،‬فقد بدأت تبادل جويدو املشاعر لدرجة‬ ‫أنها طلبت منه يف الحفلة املقامة بفندق عمه أن يختطفها‪ ،‬وهذا ما حدث فعالً عىل حصان ع ّمه الذي كتب عليه‬ ‫الفاشيون عبارات مسيئة لليهود بعد أن صبغ باللون األخرض‪ .‬تزوج جويدو من دورا‪ ،‬وأنجبا ‘يوشع ‪ ’Joshua‬الذي‬ ‫يحلم بدبابة حقيقية‪ ،‬ثم افتتح مكتبته‪ ،‬إال أن الفرحة مل تكتمل‪ ،‬فاعتقل جويدو وابنه‪ ،‬واقتيدوا إىل معسكرات‬ ‫العمل الشاق الفاشية‪ ،‬النتظار مصريهم‪ .‬عندما اكتشفت األم دورا ما حدث‪ ،‬اتّخذت قرارها ولحقت بهم لتشارك‬ ‫زوجها وابنها املصري ذاته‪.‬‬ ‫لح الطفل يوشع باألسئلة عىل أبيه‪ ،‬يريد أن يعرف إىل أين يذهبون‪ ،‬وملاذا‪ .‬ومبا أنّه كان وحيد أباه الذي‬ ‫يُ ّ‬ ‫يخاف عليه من معرفة الحقيقة‪ ،‬يقنعه الوالد بأنهم ذاهبون ليلعبوا لعبة قاسية بعض اليشء‪ ،‬لكن الرابح فيها‬ ‫سيحصل يف النهاية عىل ما يريد ويحلم‪ ،‬والطفل هنا يحلم بالدبابة‪ .‬واقعان يُعاشان يف نفس املكان؛ واحد حقيقي‪،‬‬ ‫يعاين فيه األب ما يعاين يف املعسكر الفايش‪ .‬وآخر وهمي‪ ،‬يحاول جويدو أن يص ّوره البنه إلبعاده عن هذا الواقع‬ ‫املرعب الذي آلت حالهم إليه‪.‬‬ ‫يتعلّق جويدو باآلمال مهام كانت ضعيفة أو شبه معدومة‪ ،‬يراهن عىل الضابط الفايش الذي كان يخدمه يف‬ ‫‪112‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫مطعم ع ّمه قبل االعتقال‪ ،‬إال أن كل آماله تبخّرت أمام سطحية الضابط‪ ،‬وأنانيته‪ ،‬ونرجسيته‪ ،‬التي مل تستطع أن‬ ‫تخرج إىل الفضاء اإلنساين األرحب‪ ،‬ليشعر مبأساة هذا النادل املعتقل‪.‬‬ ‫فجأة يشعر املعتقلون بأن شيئاً ما يحدث يف الخارج‪ ،‬ليتك ّهن البعض بأن الجنود يقومون بتصفية بعض‬ ‫املعتقلني متهيدا ً ملغادرة املكان‪ .‬يخرج جويدو وابنه لعلّه يجد زوجته ليهربوا معاً‪ ،‬فيخ ّبئ ابنه يف مكان ما يف ساحة‬ ‫املعسكر‪ ،‬ويبدأ بالبحث منفردا ً‪ ،‬وعندما اكتشف أمره‪ ،‬اقتيد من قبل جندي إىل حتفه‪ ،‬حيث قتل بكل بساطة‪.‬‬ ‫مع انبالج فجر اليوم التايل‪ ،‬كانت ساحة املعسكر خالية متاماً‪ ،‬إال من بعض الفوىض والدخان‪ ،‬خرج الطفل من‬ ‫مخبئه ليفاجأ بدبابة أمريكية تقتحم ساحة املعسكر‪ ،‬ثم ينقله جندي عىل ظهر هذه الدبابة التي ظهرت له وكأنها‬ ‫الحلم املوعود الذي تحقّق إىل أمه خارج املعتقل‪ ،‬وليرصخا معاً‪“ :‬انترصنا”!‬ ‫يف نقاش الفيلم‬ ‫هذا هو الفيلم باختصار‪ .‬والسؤال هنا‪ :‬ما الرسالة التي حاول الفيلم إيصالها؟ عنف الفاشية مثالً؟ إظهار‬ ‫املأساة اليهودية ‘الهولوكوست’؟ حالة إنسانية تتعلّق بعائلة خاضت تجربة قاسية؟‬ ‫الفيلم يحتوي كل هذا‪ ،‬عدا عن ذلك فإن هذه األفكار وصلت عرب العديد من األعامل سواء السينامئية أو‬ ‫غريها‪ ،‬وسيصبح من االبتذال تكرارها بفيلم ضخم لروبريتو بينيني‪.‬‬ ‫املسألة بحاجة لعني تستطيع اخرتاق ما يستبطن الفيلم من رسائل أيديولوجية عميقة‪ ،‬فهو عمل مغرق‬ ‫كل حسب فهمه‪ ،‬إضافة إىل أن هناك عامل آخر يتحكّم‬ ‫بالرموز والدالالت الهامة‪ ،‬ويخاطب أكرث من رشيحة‪ٌّ ،‬‬ ‫بصناعة السينام‪ ،‬وهو عامل الربح‪ .‬مبعنى‪ :‬أن العمل الناجح‪ ،‬هو العمل الذي يستطيع التوفيق‪ ،‬بني مسألة الربح‪،‬‬ ‫ومسألة الرسالة السياسية املو ّجهة للنخبة‪ ،‬التي قد تكون مغلّفة مبظهر إنساين يستطيع الوصول لكل الفئات‬ ‫والرشائح الثقافية‪.‬‬ ‫يف املعنى الثاين أ ّدى الفيلم رسالته متاماً‪ ،‬أي أنّه استطاع استجالب التعاطف مع حالة إنسانية‪ ،‬خيضت يف تلك‬ ‫لب املسألة يكمن يف الشق األول‪ ،‬أي بالرسالة السياسية املو ّجهة للنخبة‪.‬‬ ‫الحقبة فعالً‪ .‬لكن ّ‬ ‫يلُ ُم مشهد دخول الدبابة األمريكية شعث الفيلم كله‪ ،‬عىل طريقة الخطف الخلفي يف كتابة األدب‪ ،‬أي أن‬ ‫مفتاح فهم الفيلم‪ ،‬يبتدئ من هنا‪ .‬ماذا لو حملت القوات املقتحمة لساحة املعسكر العلم الربيطاين‪ ،‬أو الفرنيس‪،‬‬ ‫أو الرويس‪ ،‬أو أي من دول الحلف آنذاك؟ هل سيتغيرّ معنى الرسالة التي أراد مخرج العمل إيصالها؟ باإلجابة عىل‬ ‫هذا السؤال املفتاحي يتح ّدد املعنى الحقيقي للعمل‪ ،‬ففي مرحلة أفول نجم بريطانيا عن منطقتنا‪ ،‬سطع نجم‬ ‫الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬مع أنهام خاضتا الحرب العاملية الثانية وانترصتا معاً!‬ ‫بالعودة لشخصيات الفيلم الرئيسية‪ ،‬حاول املخرج تصوير األب جويدو عىل أنّه الشخصية األكرث تعقيدا ً‬ ‫وتركيباً‪ ،‬فهي متثّل املايض اليسء لليهود يف تلك الفرتة من الحرب العاملية الثانية‪ .‬أي املايض الذي سيعاين املأساة‬ ‫بكل تفاصيلها‪ ،‬وهو املايض الذي ما فتئ القدر يرميه عىل تلك األمرية الجميلة‪ ،‬وأحياناً يرميها عليه‪ ،‬إنّها أرض‬ ‫رصح شمعون برييز يف العام ‪ 2008‬يف الذكرى الـ ‪ 60‬لتأسيس الكيان‪“ :‬إرسائيل‬ ‫الحلم املوعودة‪ ،‬هناك حيث كام ّ‬ ‫الستني من عمرها”‪ .‬إنها أرض فلسطني التي منها انطلقت كل‬ ‫دولة ولدت منذ ثالثة آالف عام‪ ،‬وهي اليوم يف ّ‬ ‫املزاعم واألساطري‪ .‬وجويدو هو املايض الذي كان ينتج بالتزاوج مع تلك األرض ذاك الحلم‪ ،‬والحلم هنا هو ذلك‬ ‫االبن الربيء الذي يبحث عن مستقبل يتوقعن فيه‪ .‬نتج عن املأساة وعاشها‪ ،‬وكان املايض الذي مات مع موت‬ ‫‪113‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫أوروبا الفاشية يخاطبه مطمئناً‪ :‬ستنجو يا صغريي وتكرب ‘ستتوقعن’‪ .‬وهذا االبن يوشع يف حاجة لقوة حقيقية‬ ‫توصله إىل بر األمان بانتهاء املأساة‪ ،‬بحاجة لتحقيق حلمه‪ ،‬وها هو الحلم يتحقّق بانتهاء تلك الحقبة السيئة من‬ ‫تاريخ أوروبا‪ ،‬ليخرج من ذلك التاريخ‪ ،‬منترصا ً عىل ظهر دبابة‪ ،‬هي وحدها الكفيلة بإيصاله ألحضان أمه بأمان‪.‬‬ ‫أليست “فلسطني أرض بال شعب‪ ،‬لشعب بال أرض”؟‬ ‫إذا ً‪ ،‬طرح الفيلم قضية قيام هذا الكيان بطريقة ف ّنية غاية يف الذكاء واملكر والدهاء‪ ،‬تستجلب العطف وتوصل‬ ‫الرسائل بلغتني‪ ،‬تغلّف إحداها األخرى‪ ،‬واحدة إنسانية بسيطة‪ ،‬واألخرى أيديولوجية معقّدة‪ .‬لكن‪ ،‬هل استطاعت‬ ‫السينام العربية تقديم يشء يضاهي ما طرحه روبريتو بينيني؟ سنأخذ هنا منوذجني‪ ،‬واحد فلسطيني‪ ،‬واآلخر عريب‪،‬‬ ‫علّنا نتل ّمس شيئاً‪.‬‬ ‫يف السينما الفلسطينية‬ ‫يف العام ‪ُ ،2009‬عرض يف ‘مهرجان كان’ السيناميئ الـ ‪ 60‬فيلامً للمخرج الفلسطيني إيليا سليامن‪ ،‬الذي شاركت‬ ‫يف صناعته مجموعة كبرية من رشكات اإلنتاج‪ ،‬فمن فرنسا ‘‪ ’Film The‬و‘‪ ’Nazira Films‬و‘‪،’France 3 Cinema‬‬ ‫ومن بلجيكا ‘‪ ،’Artemis Films‬ومن اإلمارات العربية املتحدة ‘‪ ،’MBC Group‬إضافة إىل دعم من رشكة‬ ‫‘‪ ’Programme MEDIA de la Communaute Europeenne‬التابعة لالتحاد األورويب‪.‬‬ ‫يقع فيلم ‘الزمن الباقي’ يف ساعة وأربعة وأربعني دقيقة‪ ،‬ويؤرخ لنكبة العرب يف فلسطني العام ‪1948‬‬ ‫من خالل عائلة املخرج نفسه‪ ،‬وهي عائلة مسيحية من مدينة النارصة‪ ،‬تشهد عىل عمليات اقتحام املنظّامت‬ ‫الصهيونية ملدينة النارصة وتهجري سكّانها إىل الدول العربية املحيطة بفلسطني‪ ،‬وكيف أمىض رئيس بلدية هذه‬ ‫املدينة وثيقة االستسالم مبباركة دينية من جميع املرجعيات التي كانت موجودة يف املدينة‪ .‬جرى هذا بعد انكسار‬ ‫القوات العربية املشاركة يف الحرب وانسحابها منها‪ .‬قاوم من بقي يف النارصة بقدر استطاعتهم‪ ،‬ومنهم فؤاد‬ ‫سليامن والد املخرج‪ ،‬إىل أن تغيرّ ت األحوال بعد سنوات بحيث حاز فؤاد سليامن عىل رخصة صيد من سلطات‬ ‫االحتالل‪ ،‬وتف ّرغ لعمله يف ورشته وعائلته‪.‬‬ ‫بدأ ابنه يكرب‪ ،‬وتغيرّ ت طرق النضال‪ .‬فام عجز عنه الكبار‪ ،‬حاول أن يوجده فؤاد بابنه إيليا‪ ،‬ت ُدلّل عىل ذلك‬ ‫مشاهد توبيخ أستاذ املدرسة إليليا الذي كان يتح ّدث لزمالئه عن ‘اإلمربيالية األمريكية’‪ ،‬ليسأله األستاذ موبّخاً‪:‬‬ ‫“من قال لك أن أمريكا إمربيالية؟! ثم كيف تتح ّدث بهذه األمور يف املدرسة؟!”‪ .‬يكرب فؤاد سليامن ويكرب ابنه معه‪،‬‬ ‫إىل أن ميرض وميوت‪ ،‬ليكمل إيليا الطريق‪ .‬من هنا يعرض الفيلم ملرحلة جديدة كان فيها إيليا مسافرا ً‪ ،‬ثم عاد إىل‬ ‫أرض الوطن‪ ،‬ليكمل حياته مع أمه التي كانت يف آخر سنوات حياتها‪ ،‬يتناهشها املرض‪.‬‬ ‫يذهب إيليا يف رحلة استطالعية إىل مدينة رام الله يف الضفة الغربية‪ ،‬ليجد أن الناس تعيش حياة عادية‪،‬‬ ‫تذهب إىل الحانات واملراقص‪ ،‬تتعايش مع مواجهة االحتالل بشكل روتيني‪ ،‬فال الدبابة تخيفهم‪ ،‬وال تحذيرات‬ ‫دوريات االحتالل التي ترصخ عرب مكربات الصوت معلنة عن بدء حظر التجول تثنيهم عن الرقص يف املالهي‬ ‫الليلية التي يرتادونها‪ .‬لكن إيليا يصطدم بالجدار العازل بني الضفة وبقية فلسطني التاريخية‪ ،‬الذي يسهل القفز‬ ‫من فوقه عرب خشبة الزانة‪ .‬هذا هو الفيلم باختصار‪.‬‬

‫‪114‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫يف نقاش الفيلم‬ ‫حاول إيليا سليامن أن يؤ ّرخ الحتالل فلسطني بطريقة ذكية‪ ،‬بحيث أخذ عائلته منوذجاً لتمرحل األحداث يف‬ ‫بقعة صغرية‪ ،‬هي مدينة النارصة‪ .‬يعرض الفيلم الهروب املخزي لكتيبة عربية بعد أن تركت ثيابها العسكرية يف‬ ‫الطريق‪ ،‬لرتتديها عنارص عصابة ‘الهاغانا’ الصهيونية‪ ،‬وتعود للمدينة التي خُدعت بهم‪ ،‬فاستقبلتهم ‘بالزغاريد’‬ ‫والتي رسعان ما اكتشفت‪ ،‬أن النعجة ليست سوى الذئب الذي انتزع جلدها‪ ،‬ليتق ّنع به‪.‬‬ ‫حاول الفيلم إظهار حالة من التعايش الحذر بني سكان البالد األصليني‪ ،‬واملحتلّني الجدد‪ .‬فاملحتل الجديد‬ ‫أصبح يتذ ّوق التبولة‪ ،‬وقد يعمل خادماً يف بيتك‪ .‬ثم أن رشطي املرور عندهم أصبح كرشطي املرور يف عاملنا العريب‪،‬‬ ‫مي ّرر من يريد‪ ،‬ويوقف من يريد‪ .‬إضافة إىل أن الناس يف أرايض ‪ 1948‬أصبحت متعايشة مع االحتالل وقوانينه‬ ‫وثقافته‪ ،‬بحيث أنّك ترى مجموعة من التالميذ العرب يغ ّنون يف مدرستهم لذكرى استقالل إرسائيل رافعني أعالمها‬ ‫بأيديهم‪ ،‬يجري هذا بحضور املسؤولني الرتبويني اإلرسائيليني‪.‬‬ ‫أسقط إيليا سليامن بعض الخطابات الحامسية للرئيس الراحل جامل عبد النارص عىل بعض املشاهد األشد‬ ‫هدوءا ً يف النارصة‪ ،‬يف محاولة سوريالية إلظهار الصخب الخارجي املتزامن مع هدوء داخيل‪ ،‬ربمّ ا يكون نابعاً عن‬ ‫عجز‪ ،‬أو يأس أو إحباط طال املجتمع الداخيل بر ّمته‪.‬‬ ‫يف القفزة الزمنية املمت ّدة من لحظة اختفاء الوالد فؤاد سليامن عن مشاهد الفيلم‪ ،‬إىل اللحظة التي ظهر فيها‬ ‫إيليا كشخصية رئيسية تكمل ما تبقّى من دقائق الفيلم بصمت مطلق‪ .‬غيّب املخرج مرحلة مهمة ج ّدا ً‪ ،‬وهي‬ ‫مرحلة السبعينيات من القرن املايض والتي شهدت حرب أكتوبر من العام ‪ ،1973‬وهي الحرب التي بنى عليها‬ ‫النظام السوري منظومة تسلّطه وتحكّمه باملجتمع السوري‪ ،‬ال بل واملجتمع اللبناين الذي مزقّته الحرب األهلية‬ ‫بعدها بسنوات‪ .‬أ ّما عىل الجانب املرصي‪ ،‬فام زال النظام إىل اليوم محكوماً باتفاقية ‘كامب ديفيد’ التي كانت‬ ‫سبباً يف عزل مرص عن محيطها العريب لسنوات طويلة‪ ،‬وقد قيّدتها بسالسل االتفاقيات املجحفة التي وقع الشعب‬ ‫املرصي ضحيتها إىل اليوم‪.‬‬ ‫إذا ً‪ ،‬يظهر فجأة إيليا الصامت‪ ،‬ليق ّدم له رشطي إرسائييل طبق التبولة مرحباً بعودته‪ ،‬ويهتم بشؤون منزلهم‪،‬‬ ‫ثم يعود إيليا ليجلس مع أصدقائه عىل نفس املقهى الذي كان يجلس والده عليها‪ ،‬قبل النكبة وبعدها‪ .‬ثم‬ ‫يزور الضفة الغربية ليتعرف عىل واقع آخر مغاير‪ ،‬واقع تأث ّر باملتغيرّ ات الخارجية‪ ،‬بحيث سيطرت عليه ثقافة‬ ‫أخرى‪ ،‬أخذت جيل الشباب من بعد ات ّفاقية ‘غزة‪-‬أريحا’ يف ‪ 13‬أيلول‪/‬سبتمرب ‪ 1993‬ليتشابه مع جيل الشباب يف‬ ‫محيطه العريب وغري العريب‪ .‬إذ تغيرّ منط الحياة‪ ،‬وطرق النضال‪ ،‬وأصبح التعاطي مع االحتالل عىل أنه سلطة يجب‬ ‫مناهضتها‪ ،‬وليس احتالالً تجب مقاومته‪.‬‬ ‫هذا ال يعني أن روح التح ّدي‪ ،‬أو املواجهة قد خفتت‪ ،‬بدليل مشهد الدبابة الرابضة عىل باب أحد البيوت‪،‬‬ ‫تحرك مدفعها عىل ساكن البيت كيفام التفت‪ ،‬لكن التعامل ما بني الصهاينة والفلسطينيني‪ ،‬أخذ شكالً آخر‪ ،‬له‬ ‫عالقة باملتغيرّ ات‪ ،‬متأثرا ً‪ ،‬ومؤثّرا ً بها‪.‬‬ ‫ومن خالصات الفيلم املهمة التي يستطيع املشاهد استنتاجها‪ :‬االختالف الثقايف والدميوغرايف والنضايل بني‬ ‫عب عنها جدار الفصل العنرصي أميا تعبري‪.‬‬ ‫‘فلسطني ‪ ،’1948‬و ‘فلسطني ‪ ’1967‬والتي رّ‬ ‫الفيلم ذيك‪ ،‬وميلء كسابقه بالرموز والدالالت التي استخدمت يف مكانها الختصار عقود من الزمن بحبكات‬ ‫‘ميلودرامية’ تجمع بطريقة موفّقة ما بني البساطة والتعقيد‪ ،‬وكأنه تكملة ملا بدأه فيلم ‘الحياة حلوة’ لـروبريتو‬ ‫‪115‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫بينيني‪ ،‬فهو يؤ ّرخ للمرحلة التي انتهى عندها هذا الفيلم‪ ،‬ليبدأ فيلم ‘الزمن الباقي’ بتكملة الحكاية التي كانت‬ ‫رشحاً وتفسريا ً وتربيرا ً للواقع الفلسطيني الجديد‪ ،‬أكرث منها وعظاً وإرشادا ً‪ ،‬أو ادعاءا ً لبطوالت سينامئية فارغة من‬ ‫أي مضمون‪ .‬هذا عىل الجانب الفلسطيني‪ ،‬لكن ماذا عن الجانب العريب؟‬ ‫السينما العربية‬ ‫قلنا سابقاً أن للسينام غايتني ال تنفصالن عن بعضهام‪ ،‬واحدة تتعلّق بالربح‪ ،‬واألخرى تتعلّق مبضمون امل ُنتَج‪،‬‬ ‫الذي يجب أن يتناسب وذوق املستهلك‪ .‬والسينام يف بالدنا‪ ،‬مثلها مثل باقي الفنون‪ ،‬تخضع ملواصفات تح ّددها‬ ‫الطبقات السائدة‪ ،‬أي الحاكمة‪ .‬ولهذا‪ ،‬سيكون أي إنتاج عريب خالص محكوم بالرتويج لرؤية السلطة التي ال تنهزم‬ ‫وال تكرس يف الرصاع مع العدو‪ ،‬مثالنا عىل ذلك الفيلم املرصي الشهري ‘الطريق إىل إيالت’ الذي عرض للمرة األوىل‬ ‫يف العام ‪ ،1993‬للمخرج املرصي إنعام محمد عيل‪ ،‬ومن إنتاج قطاع اإلنتاج املرصي‪ ،‬وهو قطاع حكومي‪ .‬بتكلفة‬ ‫غري معروفة عىل وجه الدقّة‪.‬‬ ‫يتح ّدث الفيلم عن عملية عسكرية نوعية تتطلّب خربة من نوع خاص‪ ،‬لن يستطيع تنفيذها سوى رجال‬ ‫الضفادع البرشية‪ ،‬وقد كلفت مجموعة مرصية بالتد ّرب عىل الغوص ملسافات طويلة لرضب ثالثة أهداف‬ ‫إرسائيلية هي‪ :‬ناقلة الجنود ‘باتشيفع’‪ ،‬وناقلة العتاد ‘باتيام’‪ ،‬والرصيف الحريب مليناء مدينة إيالت‪.‬‬ ‫تتخلّل العملية صعوبات كثرية‪ ،‬يستطيع الفريق التغلب عليها‪ ،‬ومن ثم ينفّذ ما ذهب من أجله‪ ،‬تظهر يف‬ ‫الفيلم شخصية أبو هاين الذي يبدو كأحد املتعاملني مع ‘األمن املرصي’ وهو يساهم يف تسهيل تلك العملية‪،‬‬ ‫بحيث يظهر مع الجنود يف مرص‪ ،‬واألردن قبل التنفيذ‪ .‬ويظهر أيضاً بعض الفدائيني الفلسطينيني‪ ،‬يواكبون العنارص‬ ‫املرصية حتى لحظات ما قبل انطالق العملية‪.‬‬ ‫احتوى الفيلم عىل مشاهد إلثارة املشاهدين‪ ،‬كمشهد مت ّدد الصاعق‪ ،‬مماّ اقتىض حفّه من قبل أحد الضباط‬ ‫املرصيني ليتمكّنوا من إدخاله يف ‘التوربني’ املتف ّجر‪ ،‬عدا عن مشاهد عاطفية من قبيل ضعف أحد الجنود‬ ‫املشاركني‪ ،‬والذي انهار عندما علم يف اللحظات األخرية مبضمون العملية‪.‬‬ ‫يف نقاش الفيلم‬ ‫غرق الفيلم‪ ،‬الذي حقّق نجاحاً باهرا ً باملبالغات التي وصلت حد التزوير‪ ،‬فأبو هاين الذي ُه ّمش دوره يف‬ ‫العملية‪ ،‬هو وديع ح ّداد ابن صفد الفلسطينية املتويف يف أملانيا الرشقية عام ‪ ،1978‬والذي ناضل يف صفوف ‘حركة‬ ‫القوميني العرب’ ثم يف ‘الجبهة الشعبية لتحرير فلسطني’ التي أسست عام ‪ 1967‬مع رفيقه جورج حبش الذي‬ ‫توفيّ يف عامن عام ‪ .2008‬ووديع حداد هو ذاك الطبيب الذي كتبت عنه ‘الواشنطن بوست’ عند وفاته معنون ًة‬ ‫صفحتها األوىل بوصفه‪“ :‬الطبيب الذي قبض عىل مطارات العامل ذات م ّرة”‪.‬‬ ‫كان وديع حداد ع ّراب املنظامت الثورية التي قاتلت من أجل فلسطني‪‘ ،‬كالجيش األحمر الياباين’‪ ،‬و‘مجموعة‬ ‫العمل املبارش الفرنسية’‪ ،‬و‘األلوية الحمراء اإليطالية’‪ ،‬و‘بادر‪-‬ماينهوف’ األملانية‪ ،‬وغريها الكثري الكثري‪ .‬كانت كل‬ ‫هذه املنظّامت تعترب هذا الرجل مرجعيتها‪ ،‬وهو من كان يعلن عن العمليات التي تنفّذ ضد الكيان الصهيوين‪،‬‬ ‫وهو من يفاوض ملبادلة املخطوفني باألرسى‪ .‬كان وديع ح ّداد رقامً صعباً يف معادلة الرصاع مع العدو الصهيوين‬ ‫الذي متكّن من اغتياله بالسم‪ٍ ،‬‬ ‫وبأيد عربية‪.‬‬ ‫‪116‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫إذا ً ببساطة‪ُ ،‬ه ّمش هذا الرجل الذي أنجز العملية من ألفها إىل ياءها‪ ،‬لكنه بكل بساطة بحسب الفيلم‪ ،‬تعثرّ‬ ‫بحاجته لعنارص نوعية غري موجودة يف املنظماّ ت الثورية التي كانت تعمل تحت إرشافه‪ ،‬لكنها موجودة بالجيوش‬ ‫العربية النظامية‪ ،‬المتالكها للقدرات والتقنيات الالزمة‪ ،‬فلجأ إىل الرئيس جامل عبد النارص حينها‪ ،‬شارحاً له عن‬ ‫تفاصيل العملية‪ ،‬فوافق الرجل فورا ً ومنحه الرجال القادرين عىل االلتزام التام بالتوجيهات إلنجاز ما هو مطلوب‬ ‫منهم‪ .‬هذا مل يظهر يف الفيلم‪ ،‬بل ظهر عكسه‪ .‬باإلضافة إىل أن العملية بحسب رواة آخرين كانوا مقربني من أبو‬ ‫هاين‪ ،‬نُفّذت بصواريخ محمولة عىل زوارق‪ ،‬وليس كام جاء يف الفيلم!‬ ‫عدا عن ذلك‪ ،‬فإن الطبيعة التسووية لألنظمة العربية فيام بعد مرحلة الرئيس عبد النارص‪ ،‬ما كانت لتقبل‬ ‫بنوعية العمل الذي قام به وديع حداد (أبو هاين)‪ ،‬وهو عمل يقطع عليها كل خطوط التسوية والتفاوض‪ ،‬مع‬ ‫عدو يجب أن يُحافظ معه عىل حالة ‘الال حرب‪ ،‬والال سلم’ كإسرتاتيجية لبقاء واستمرار هذه األنظمة‪ .‬وبناء عليه‪،‬‬ ‫تم تزوير الفيلم مبا يتناسب مع ما تطرحه هذه األنظمة من ا ّدعاءات عن انتصارات وهمية حققتها جيوشها عىل‬ ‫إرسائيل‪.‬‬ ‫لقي هذه الفيلم ترحيباً جامهريياً‪ ،‬ال ألنه صادق‪ ،‬فالجيل الجديد ال يعرف من هو وديع حداد وماذا فعل‪،‬‬ ‫حيث هنا بالضبط يكمن هامش التزوير‪ .‬أُعجب الجيل الجديد بالفيلم‪ ،‬كإعجابه بأي عمل يهاجم العدو‪ ،‬سواء‬ ‫كان سينامئياً‪ ،‬أو مرسحياً‪ ،‬أو غنائياً‪ ،‬أو ‘عملية استشهادية’ أو أي يشء من هذا القبيل‪.‬‬ ‫مطلوب من السينام‪ ،‬كام غريها‪ ،‬أن تغرس يف عقول الناس وهامً مفاده‪ :‬هذه األنظمة مل تتخىل عن فلسطني‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإن فيلم تعترب هذه غايته القصوى‪ ،‬لن يق ّدم بالتأكيد سوى عمل رسدي وصفي‪ ،‬يتخلّله التزوير لسببني‪:‬‬ ‫إضفاء عامل اإلثارة‪ ،‬وتبييض صفحة النظام العريب‪ .‬والسينام العربية ال تغامر‪ ،‬فعامل التشويق مطلوب‪ ،‬وإن كان‬ ‫رشطه التزوير‪ .‬وإال‪ ،‬كيف يُس ّوق عمل يبتغي الربح؟‬ ‫يف اخلامتة‬ ‫استحرضنا يف نقاشنا لفيلم ‘الحياة حلوة’ للمخرج واملمثل اإليطايل الشهري روبريتو بينيني منوذجني من األفالم‬ ‫العربية واحد فلسطيني‪ ،‬واآلخر عريب مرصي‪ ،‬لعلّنا نستطيع مقاربة أساليب ونتائج هذه الصناعة‪ .‬يعنينا هنا‬ ‫بالطبع‪ ،‬مسألة فلسطني برشح وتفسري مسألة االحتالل والتحرير‪ .‬فام أظهره الفيلم اإليطايل‪ ،‬هو وقعنة األسطورة‪،‬‬ ‫عب عن تحقيق الحلم اليهودي بطريقة ذكية جعلت املشاهد العادي يتعاطف‬ ‫وهي واقعة بالفعل‪ ،‬أي أنّه رّ‬ ‫كل عىل طريقته‪ ،‬وهذا هو‬ ‫ويتفاعل معها‪ ،‬سواء كان عربياً أم غري ذلك‪ .‬تفسري للتاريخ عىل طريقتهم‪ ،‬يفهمه ٌ‬ ‫املطلوب‪.‬‬ ‫أما إيليا سليامن فقد حاول أن يظهر املايض برسد مر ّمز‪ ،‬لي ّربر ما آلت إليه الحال‪ ،‬أي أنّه فسرّ مسألة الهزمية‬ ‫والتعايش مع العدو بطريقة ذكية‪ .‬يبقى أن هناك مأخذ مهم عىل هذا الفيلم‪ ،‬أنّه أغفل مسألة العمل املقاوم‪،‬‬ ‫فيام حاول إظهار بعض جوانب االحتجاج السلمي‪ ،‬بهذا يكون إيليا سليامن قد أغفل واحدا ً من أهم جوانب تلك‬ ‫الفرتة‪ ،‬خاصة وأن الفيلم عندما عرض يف العام ‪ ،1997‬كان قد م ّر عىل االنتفاضة األوىل حوايل ‪ 10‬سنني‪ .‬والسؤال‪ :‬ما‬ ‫الجديد الذي أضافه هذا الفيلم؟ فعىل عكس ‘الحياة حلوة’ الذي أغرق يف الرموز والدالالت مبتعدا ً عن التفاصيل‪.‬‬ ‫غرق فيلم ‘الزمن الباقي’ يف التفاصيل املر ّمزة‪ ،‬ومل يكن كسابقه اإليطايل مغلّفاً بلغتني‪ ،‬إيليا سليامن تح ّدث بلغة‬ ‫واحدة لفئة واحدة‪ ،‬أغلب الظن أنّه مل يكن مو ّجهاً للمتف ّرج العريب بشكل عام‪ ،‬بل خاطب النخبة أينام كانت‪.‬‬ ‫‪117‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫السينما كمعرب عن تفاوت الصراع‬

‫هل كان باستطاعته تج ّنب الرتميز؟ ربمّ ا‪ ،‬لكن ذلك كان سيقتيض إطالة م ّدة الفيلم أكرث بكثري‪ ،‬ألن الرتميز ساعد‬ ‫بشكل واضح عىل االختصار‪.‬‬ ‫أ ّما فيلم ‘الطريق إىل ايالت’‪ ،‬فهو إنتاج هيئة حكومية‪ ،‬إذ ما املتوقّع من أنظمة عاملنا العريب سوى هذا اللون‬ ‫من األعامل امليلودرامية املبتذلة؟ هذا الفيلم أنتجته هيئة حكومية يف بلد محكومة بات ّفاقية ‘كامب ديفيد’‪،‬‬ ‫تعب عن يشء آخر‪ .‬أنتجت‬ ‫تواطأت حكوماتها مع العدو يف حصار قطاع غزة‪ .‬كانت ت ّدعي العداء‪ ،‬بينام مامرساتها رّ‬ ‫أفالم كثرية يف الفرتة األخرية عىل منط ‘الطريق إىل إيالت’‪ ،‬فيلم ‘أوالد العم’ مثالً‪ ،‬وهو فيلم ساذج مبتذل‪ ،‬أقرب‬ ‫للخيال منه للواقع‪.‬‬ ‫ال ميكن ألي عمل سيناميئ‪ ،‬أو ف ّني من أي صنف‪ ،‬أن يز ّور واقعاً معاشاً‪ ،‬وال أن يغيرّ ه‪ .‬باستطاعة العمل الفني‬ ‫ويعب عن واقع‪ ،‬هو ناتج عنه بقدر ما يؤث ّر فيه‪ .‬هذا ينطبق عىل الفيلم اإليطايل ‘الحياة حلوة’‪ ،‬لكنه‬ ‫أن يدعم رّ‬ ‫أبدا ً ال ينطبق عىل ما ق ّدمته السينام العربية إال ما ندر‪ ،‬كاستثناء يؤكّد القاعدة‪ ،‬وهذا ينطبق عىل أفالم من منط‬ ‫‘الزمن الباقي’ إليليا سليامن الذي جانب املنطق بتفاصيل تربيرية تفسريية كثرية‪.‬‬

‫‪118‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ياسمين حسين عيود❊‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‪:‬‬

‫دراسة ميدانية يف التنوع الثقايف❊❊‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يهدف البحث إىل تعرف محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري وإىل تحديد‬ ‫املهام واإلجراءات املنوطة باألرسة لتعزيز هذه الهوية وأكرث هذه العوامل تأثرياً يف تشكيل‬ ‫شخصية الطفل املستقبلية وتأصيل الهوية الثقافية‪ ،‬إضافة إىل إبراز دور الرتبية والتعليم‬ ‫يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خالل تقديم بعض املقرتحات واإلجراءات‬ ‫حول ذلك‪ .‬وقد توصل البحث من خالل إجراءاته إىل أن املحددات الثقافية األكرث تأثرياً يف‬ ‫إطار األرسة هي كاآليت‪ :‬الرتبية األخالقية املمثلة ملالمح املجتمع‪ ،‬األغاين الرتاثية‪ ،‬اللغة األم‬ ‫(العربية أو أي لغة أخرى يتحدث بها السوريون من رسيان وأرمن وآشور وأكراد)‪ ،‬القصص‬ ‫والحكايا الرتاثية‪ ،‬الحرف والصناعات اليدوية‪ ،‬طقوس االحتفاالت واألعياد واألعراس‪ .‬أما‬ ‫املحددات الثقافية األكرث تأثرياً يف إطار املؤسسات التعليمية (الروضة‪ ،‬املدرسة) هي كاآليت‪:‬‬ ‫التنوع الثقايف والتعددية يف محتوي املناهج وأنشطة التعليم والتعلم‪ ،‬ترسيخ مشاعر‬ ‫االعتزاز بالرتاث الثقايف السوري لدى األطفال‪ ،‬ترسيخ الشعور الوطني يف وجدان األطفال‬ ‫بالتأكيد عىل أهمية دراسة التاريخ املشرتك‪ ،‬تزويد األطفال مبعلومات وتجارب وخربات‬ ‫أصيلة عن الدول األخرى بثقافاتها املتنوعة‪ ،‬وجود منهج معارص يخص باالهتامم منهج‬ ‫اللغة العربية‪ ،‬الربامج الالصفية واملشاركة يف األعياد الوطنية‪ .‬وقد خلص البحث إىل التأكيد‬ ‫عىل ربط الطفل بهويته الثقافية ولغته األم‪ ،‬والرتبية عىل االنفتاح وتقبل اآلخر يف األرسة‬ ‫واملؤسسة التعليمية‪ .‬تقدم املادة الحالية توطئ ًة نظري ًة ملحددات تشكيل الهوية ومنهج‬ ‫البحث‪ ،‬عىل أن تتلوها أجزاء تنرش تباعاً يف األعداد القادمة من املجلة‪.‬‬ ‫❊ ياسمني عيود باحثة ومدربة معتمد يف املجال الرتبوي والحقوقي‪ ،‬مع تجربة واسعة يف اإلدارة والتعليم الحكومي الجامعي واملدريس‪ .‬حاصلة عىل ماجستري‬ ‫يف تربية الطفل‪ ،‬دبلوم الدراما يف سياق تعلمي‪ ،‬دبلوم إدارة املوارد البرشية‪ ،‬وتحرض حالياً لدرجة الدكتوراه‪ .‬لديها العديد من األبحاث واملقاالت املنشورة‪.‬‬ ‫❊❊ تم إعداد هذه الدراسة يف سياق نشاط ملؤسسة اتجاهات للثقافة املستقلة‪.‬‬

‫‪119‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫مقدمــة‬ ‫ت ُعد الهوية الثقافية حجر الزاوية يف تكوين األمم واملدخل األسايس لتحقيق التنمية البرشية يف أي مجتمع من‬ ‫خالل تكوين اإلنسان املنتج‪ ،‬الواعي لقضايا أمته الراهنة‪ ،‬الساعي لتقليص الفجوة بني الواقع الراهن وما وصلت‬ ‫إليه الحضارة اإلنسانية من تقدم وازدهار عىل مختلف األصعدة‪.‬‬ ‫وأما املنظمة العربية للرتبية والثقافة والعلوم تعترب أن الهوية الثقافية هي‪“ :‬النواة الحية للشخصية الفردية‬ ‫والجامعية‪ ،‬والعامل الذي يحدد السلوك ونوع القرارات واألفعال األصيلة للفرد والجامعة‪ ،‬والعنرص املحرك الذي‬ ‫يسمح لألمة مبتابعة التطور واإلبداع ‪،‬مع االحتفاظ مبكوناتها الثقافية الخاصة وميزاتها الجامعية‪ ،‬التي تحددت‬ ‫بفعل التاريخ الطويل واللغة القومية والسيكولوجية املشرتكة وطموح الغد”‪( .‬اليونسكو‪ ،2003 ،‬ص‪)111‬‬ ‫ومبا أن الهوية الوطنية مدينة للثقافة التي أوجدتها‪ ،‬فإ َّن الواجب األول للدولة‪ ،‬إمنا يتمثَّل يف‪“ :‬تعزيز الهوية‬ ‫الثقافية التي ت ُكسب األمة مكونات هويتها الوطنية‪ ،‬ويف ترسيخ حضور هذه الهوية يف مختلف مناحي الحياة‬ ‫واألنشطة اإلنسانية جميعاً‪ ،‬ويف العمل عىل تنميق هذه الهوية نحو الكامل اإلنسا ِّين املمكن” (بسيسو‪،2005 ،‬‬ ‫ص‪.)12‬‬ ‫فقد أثبتت غالبية الدراسات أن الفرد يبدأ يف إدراك هويته يف سن مبكرة‪ ،‬وأن السن الطبيعي إلدراك الطفل‬ ‫لهويته القومية تبدأ ببلوغه ‪ 7-6‬سنني‪ ،‬ويزداد إدراكه بتقدم عمره‪ ،‬وبالتايل ميكن إكساب الفرد االتجاهات‬ ‫اإليجابية نحو الوالء للوطن يف سن مبكرة (حسني‪.)2000 ،‬‬ ‫كام أشارت دراسة أخرى إىل أن الطفل ميكنه اكتساب االتجاهات اإليجابية نحو الوالء للوطن منذ سن‬ ‫السابعة‪ ،‬وذلك من خالل نشاطه مع الجامعات املختلفة‪ ،‬ولذلك فإن قوة االنتامء تعضد الهوية الثقافية لدى‬ ‫أفراد املجتمع (حسانني‪.)1989،‬‬ ‫ومن هنا صارت املؤسسات الرتبوية بدءا ً من األرسة وانتها ًء بالجامعة مطالبة بالحفاظ عىل ثقافة األفراد‬ ‫املعرضة للتدهور واالندثار‪ ،‬وأن تعمل عىل التأكيد عىل الهوية الثقافية للمجتمع؛ ألن التعليم يشكل حجر الزاوية‬ ‫يف تشكيل الهوية الثقافية ويف تعزيزها والحفاظ عليها لكل شعب من الشعوب‪ ،‬لذلك فإن الدول تتخذ التعليم‬ ‫‪120‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫كأداة أساسية لرتبية أبنائها منذ الصغر عىل املبادئ واألفكار واأليديولوجيات التي تشكل يف النهاية الهوية الثقافية‬ ‫للمجتمع‪.‬‬ ‫وال تقل وسائل اإلعالم عن بقية املؤسسات مسؤولية يف تكوين الهوية الثقافية للطفل والتأسيس لها‪ ،‬ملا تتوفر‬ ‫لها من امتيازات ومواصفات تجعلها موضع جذب واستقطاب وبخاصة التلفزيون الذي يتيح للطفل الفرصة يك‬ ‫يكون يف موضع التقمص الوجداين ‪ Empathy‬وما يرتتب عىل ذلك من تأثري يف شخصية الطفل وثقافته‪ .‬ولكن مع‬ ‫هذه االمتيازات واملواصفات نتلمس جوانب الضعف والتقصري يف أجهزة األعالم إزاء الطفولة‪ ،‬وذلك لقلة الربامج‬ ‫املوجهة للطفولة والتي إن وجدت فإنها تعاين من غياب األمنوذج القومي املؤثر يف شخصية الطفل واقتصارها‬ ‫عىل مناذج ثقافية عاملية ال متت إىل ثقافة الطفل العريب بصلة تذكر ومبا يجعل الطفل مييل إىل تبخيس الذات‬ ‫واالنبهار باآلخر‪.‬‬

‫مشكلة البحث‬ ‫إن من أبرز الدوافع نحو تأكيد الهوية الثقافية هو ما يشهده عامل اليوم املتغري يف كثري من أحداثه‪ ،‬واملتمثل‬ ‫يف االنفتاح والنمو والتقدم التكنولوجي الذي له تأثرياته الواضحة عىل املجتمع مبختلف مكوناته وخصائصه‪،‬‬ ‫ومام ال شك فيه أن العوملة الثقافية أصبحت تبارش تأثريها عىل األجيال الجديدة من أبناء املجتمع‪ ،‬حيث ترسي‬ ‫مفاهيم جديدة ومفردات غربية عىل لغتنا العربية‪ ،‬صار الجيل الجديد يرددها ويدافع عنها‪ ،‬بل صار مكمن‬ ‫الخطورة يتمثل فيام ميكن أن تتعرض له قيم االنتامء واالعتزاز بالوطن والعروبة من تهديد‪ ،‬وصار من الواجب‬ ‫عىل مؤسسات الرتبية والتعليم ـ متمثلة يف األرسة والروضة واملدرسة والجامعة ـ أن تتحمل مسؤولياتها الستعادة‬ ‫التوازن املفقود والدفاع عن هويتنا وثقافتنا‪.‬‬ ‫وهذا ما أشار إليه محمد عابد الجابري ليبني وضع أطفال العامل يف ظل العوملة التي تعمل عىل تقويض الهوية‬ ‫الثقافية‪ ،‬حيث ينقسمون اىل ثالث فئات هم (حسب الغزاوي‪ ،2008 ،‬ص‪:)18‬‬ ‫• أطفال األغنياء‪ :‬الذين يعيشون يف وضعية ‘الال انتامء’ يكربون بال جذور‪ ،‬وال يحملون أي هوية وطنية‪ ،‬وال‬ ‫يشعرون باالنتامء االجتامعي‪ ،‬وطنهم هو املنتجات والسلع ذات العالمات أو ‘املاركات’ الرفيعة املشهورة‪،‬‬ ‫ولغتهم هي لغة الرموز العاملية‪ ،‬إنهم يدربون عىل االستهالك والثقة يف املاكينات أكرث من األشخاص )‪fast‬‬ ‫‪.)food، fast eats ،fast life‬‬ ‫• أطفال الطبقة الوسطى‪ :‬وهؤالء يتظاهرون بأن لديهم أكرث مام هو عندهم بالفعل وهم يعانون ويخفون‬ ‫حاجتهم الحقيقية‪.‬‬ ‫• أطفال الفقراء‪ :‬وهؤالء ال يلعبون ‘بالليزر’ كام يلعب أطفال األغنياء ولكن بطلقات الرصاص التي تخرتق‬ ‫أجسادهم‪ ،‬واملجتمع عىل العموم يقهرهم وال يستمع إليهم‪ ،‬جذورهم يف الهواء وجذور أوالد األغنياء‬ ‫ليس لها وجود‪ .‬كام أن هيمنة السوق يف بلدان عديدة عملت عىل كرس روابط التضامن االجتامعي‬ ‫ومتزيق االنسجام االجتامعي‪.‬‬ ‫هذا التصنيف ينطبق يف جزء كبري منه عىل وضع الطفولة يف بعض أرجاء العامل العريب والذي يدلل عىل أن‬ ‫إمكانية اخرتاق هوية الطفل العريب واردة بدرجة كبرية‪ ،‬وأن إمكانية الصد الثقايف املقابل ال تقوى عىل املجابهة‬ ‫والتحدي ومثل هذا يشكّل خطرا ً داهامً ملستقبل الطفل العريب ومحاولة اجتزائه من محيطة الثقايف باتجاه‬ ‫‪121‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫التغريب‪.‬‬ ‫وبالتايل يف ظل هذه الظروف من الال انتامء والضياع كان ال بد من التأكيد عىل أهمية الهوية يف تشكيل‬ ‫الشخصية الفردية واملجتمعية‪ ،‬وهذا ما عاد الجابري ليؤكد عليه حني رأى أنه‪“ :‬ال تكتمل الهوية الثقافية وال تربز‬ ‫خصوصيتها‪ ،‬وال تغدو هوية ممتلئة قادرة عىل نشدان العاملية إال إذا تجسدت مرجعتيها يف كيان تتطابق فيه‬ ‫ثالثة عنارص‪ :‬الوطن ‘الجغرافية والتاريخ’‪ ،‬الدولة ‘التجسيد القانوين لوحدة الوطن واألمة’‪ ،‬واألمة ‘النسب الروحي‬ ‫الذي تنسجه الثقافة املشرتكة’” (الجابري‪ ،1998 ،‬ص‪.)16‬‬ ‫وحقيقة إن ما مييز املجتمع السوري هو التنوع الثقايف الناتج من التنوع اإلثني نتيجة الرتكيبة السكانية‬ ‫املكونة من العرب‪ ،‬واألكراد‪ ،‬والرتكامن‪ ،‬واآلشوريني واألرمن فضالً عن األقليات األخرى املتآخية عرب العصور والتي‬ ‫انصهرت ضمن وحدة ثقافية استطاعت تحقيق تجانس نسبي يف األفكار واملعتقدات والتقاليد‪ ،‬والتصورات‬ ‫السائدة يف املجتمع السوري وصوالً اىل تحقيق هوية ثقافية مميزة للشخصية السورية‪ .‬وعىل ضوء هذه املعطيات‬ ‫السابقة ميكن بلورة مشكلة البحث يف التساؤل الرئييس اآليت‪ :‬ماهي محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل قي‬ ‫ظل التنوع الثقايف يف املجتمع السوري؟‬

‫أهميـة البحث‬ ‫يكتسب البحث أهم َّيته من خالل الجوانب اآلتية‪:‬‬ ‫• بيان تأثري التنوع الثقايف يف تشكيل الهوية الوطنية السورية‪.‬‬ ‫• معرفة العوامل األرسية والرتبوية والثقافية املؤثرة يف تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‪.‬‬ ‫• أهمية معرفة محددات تشكيل الهوية الثقافية التي قد تفيد املهتمني يف مجال تطوير الربامج واملشاريع‬ ‫الثقافية لألطفال باتخاذ اإلجراءات اإليجابية وخلق الظروف املالمئة مام يؤدي إىل تغيري الواقع الثقايف‬ ‫والرتبوي وتطويره‪.‬‬ ‫• إ ّن هذا البحث ينسجم مع توصيات املؤمترات والتقارير العربية للتنمية الثقافية مثل املؤمترات الدورية‬ ‫للوزراء املسؤولني عن الشؤون الثقافية يف الوطن العريب‪ ،‬االجتامع اإلقليمي حول الحفاظ عىل الرتاث‬ ‫الثقايف ‪ 2012‬يف لبنان‪ ،‬مؤمتر حامية الرتاث الثقايف العريب والنهوض به عام ‪ 2007‬التي تؤكد رضورة‬ ‫الحفاظ عىل الهوية الثقافية يف مواجهة تحديات العوملة‪.‬‬ ‫• أهمية ما كانت قد أغفلته الدراسات واألبحاث يف املجال الثقايف‪ ،‬إذ يتوقع ‪-‬يف حدود علم الباحثة‪ -‬أن‬ ‫يكون هذا البحث األول من نوعه يف سوريا الذي يبحث يف موضوع محددات الهوية الثقافية للطفل‬ ‫السوري‪.‬‬

‫أهـداف البحـث‬ ‫يهدف البحث إىل تحقيق ما ييل‪:‬‬ ‫‪ -1‬تع ّرف أهم العوامل األرسية والرتبوية واملجتمعية املؤثرة يف الهوية الثقافية للطفل السوري‪.‬‬ ‫‪ -2‬تع ّرف أكرث هذه العوامل تاثريا ً يف تشكيل شخصية الطفل املستقبلية وتأصيل الهوية الثقافية مبا يتفق مع‬ ‫‪122‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫ثقافة املجتمع‪ ،‬بحيث يؤدي ذلك إىل تجاوز التحديات التي تضعف تلك الهوية‪.‬‬ ‫‪ -3‬تحديد املهام واإلجراءات املنوطة باألرسة لتعزيز الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫‪ -4‬إبراز دور الرتبية والتعليم يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خالل تقديم بعض املقرتحات‬ ‫واإلجراءات حول ذلك‪.‬‬

‫أسـئلـة البحـث‬ ‫يتضمن البحث التساؤل الرئيس اآليت‪ :‬ماهي محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل قي ظل التنوع الثقايف‬ ‫يف املجتمع السوري؟ ومتكن اإلجابة عن هذا التساؤل من خالل سعي البحث لإلجابة عن التساؤالت الفرعية‬ ‫اآلتية‪:‬‬ ‫• ما املقصود بالهوية الثقافية؟ وما مكوناتها؟‬ ‫• ما إسهامات الرتبية األرسية والتعليم املدريس يف الحفاظ عيل الهوية الثقافية يف ظل التنوع الثقايف يف‬ ‫سوريا؟‬ ‫• ما هي أكرث العوامل تأثريا ً يف تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري؟‬

‫منهج البحث‬ ‫اعتمدت الباحثة املنهج الوصفي التحلييل لرصد أبرز محددات الهوية الثقافية‪ ،‬وتحليل العوامل التي رمبا‬ ‫تكون مسؤولة عن تشكيل الهوية الثقافية يف املجتمع السوري‪ ،‬والوقوف عىل أبرز مظاهرها يف إطار من التفسري‬ ‫والتحليل‪ ،‬ثم التنبؤ بالدور الذي ميكن أن تسهم به الرتبية األرسية واملجتمعية يف تدعيم والحفاظ عىل الهوية‬ ‫الثقافية يف ظل التنوع الثقايف يف سوريا‪ .‬فهذا املنهج يساعد يف الحصول عىل أكرب قدر ممكن من املعلومات حول‬ ‫هذه الظواهر استنادا ً إىل حقائق الواقع‪ ،‬وتعترب األبحاث الوصفية أكرث من مرشوع لجمع املعلومات‪ ،‬فهي تصف‬ ‫وتحلل وتقارن وتقيس وتفرس(‪.)Lokesh, 1993, p405‬‬ ‫أدوات البحث‬ ‫لتحقيق أهداف البحث قامت الباحثة بإعداد األداة التالية‪ :‬تصميم استبانة موجه للمعلمني ولوالدي األطفال‬ ‫واليافعني من سن ‪ 12-3‬سنة تشتمل عىل مجموعة من البنود التي تقيس مدى تركيز األرسة واملربني عىل إكساب‬ ‫الطفل ملجموعة من التعاليم والعادات والقيم واملعارف واالتجاهات‪.‬‬ ‫جمتمع البحث وعينته‬ ‫يتكون املجتمع األصيل للبحث‪:‬‬ ‫ الوالدين لألطفال يف مرحلة الطفولة (‪ 12-3‬سنة) يف محافظة دمشق‪.‬‬‫ معلمي مرحلتي الروضة والتعليم األسايس الحلقة األوىل يف محافظة دمشق‪.‬‬‫أما عينة البحث فتتكون من ‪ 525‬من اآلباء واملعلمني ممثلة للمجتمع األصيل مختارة عشوائياً‪.‬‬ ‫‪123‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫حـدود البحـث‬ ‫• الحدود البرشية‪ 525 :‬والد‪/‬ة ومعلم‪/‬ة ممثل‪/‬ة للمجتمع األصيل مختارين بطريقة عشوائية‪.‬‬ ‫• الحدود املكانية‪ :‬قامت الباحثة بتطبيق البحث أثناء ورشات العمل التدريبية والجلسات الحوارية مع كل‬ ‫من اآلباء واألمهات واملعلمني يف عدة مراكز وقاعات تدريبية يف محافظة دمشق‪.‬‬ ‫• الحدود الزمانية‪ :‬قامت الباحثة بتطبيق الدراسة يف الفرتة الزمنية الواقعة بني ‪2013/4/20‬م ولغاية‬ ‫‪2013/6/10‬م‪.‬‬

‫مصطلحات البحث وتعريفاته اإلجرائية‬ ‫والتعريفات هنا جاءت كام هو مقصود منها يف البحث أي ‘التعريفات اإلرائية’‪:‬‬ ‫• املحددات ‪ :determinants‬أي عنرص أو أي عامل أو أداة تستخدمها األرسة وسيل ًة تثقيفية يف تشكيل‬ ‫الهوية الثقافية للطفل يف مرحلة الطفولة (‪ )12-3‬سنة‪.‬‬ ‫• ثقافة الطفل ‪ :child culture‬مجموعة العلوم والفنون واآلداب واملهارات والقيم التي يستطيع الطفل‬ ‫استيعابها ومتثيلها يف كل مرحلة الطفولة (‪ )12-3‬سنة لتمكنه من توجيه سلوكه داخل املجتمع توجيهاً‬ ‫سليامً‪.‬‬ ‫• الهوية الثقافية ‪ :cultural identity‬مجموعة السامت والخصائص التي تنفرد بها الشخصية السورية‪،‬‬ ‫وتجعلها متميزة عن غريها من الهويات الثقافية األخرى‪ ،‬وتتمثل تلك الخصائص يف اللغة والدين والتاريخ‬ ‫والرتاث واملوروث الثقايف من عادات وتقاليد وأعراف وغريها من املكونات الثقافية‪.‬‬ ‫• التنوع الثقايف‪ :‬أي تعدد املعتقدات وقواعد السلوك واللغة والدين والقانون والفنون والعادات والتقاليد‬ ‫واألعراف والنظم االقتصادية والسياسية ملجتمع ما‪ ،‬فاملجتمع الواحد ميكن أن يتضمن هويات ثقافية‬ ‫متنوعة تشكل يف كليتها الهوية الوطنية املميزة للمجتمع ككل‪.‬‬

‫الدراسـات السـابقة‬

‫دراسة هاين موىس‪ ،2010 ،‬جامعة بنها‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬دور الرتبية يف الحفاظ عىل الهوية الثقافية يف املجتمع العريب‪.‬‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬إبراز دور التعليم يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها‪.‬‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬توصلت الدراسة إىل ما ييل‪:‬‬ ‫• رضورة إسهام األرسة يف التأكيد عىل القيم الداعمة للهوية الثقافية ومواجهة التداعيات السلبية للعوملة‬ ‫عىل أبنائهم‪.‬‬ ‫• أهمية الحفاظ عيل الهوية الثقافية من خالل القدرة عيل التعامل بشكل إيجايب مع التعددية الفكرية‬ ‫والثقافية والعرقية والسياسية واالقتصادية‪.‬‬ ‫• التأكيد عىل التنوع الثقايف والتعددية يف محتوي املناهج وأنشطة التعليم والتعلم‪.‬‬

‫‪124‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫• تقديم قراءة جديدة للرتاث تتامىش مع متغريات العرص؛ بحيث يكون عامالً من عوامل اإلبداع‪.‬‬ ‫• إثبات الوجود والهوية الثقافية العربية عىل الخريطة العاملية من خالل التواجد عىل شبكة اإلنرتنت‪،‬‬ ‫وتزويدها بقواعد بيانات ونظم معلومات باللغة العربية‪ ،‬وإنتاج برامج متكِّن مستخدمي اإلنرتنت من‬ ‫البحث والتقيص باللغة العربية‪.‬‬

‫دراسة سامي الغزاوي‪ ،2009 ،‬جامعة دياىل العراق‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬محددات الهوية الثقافية للطقل العراقي ‘دراسة ميدانية يف مرحلة رياض األطفال’‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬معرفة املحددات التي تستخدمها األرسة العراقية يف عملية تشكيل الهوية الثقافية للطفل‪.‬‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬توصلت الدراسة إىل اآليت‪ :‬قلة املتوفر من املحتوى الثقايف املقدم للطفل العراقي‪ ،‬وهو نتاج‬ ‫طبيعي للظروف التي مر بها العراق خالل العقدين األخريين من القرن املايض املتمثلة بقيام حرب الخليج الثانية‬ ‫عام ‪ ،1991‬وما أعقبها من حصار ظامل سحق إنسانية اإلنسان العراقي إىل الحد الذي دفع أكرث أفراد الطبقة‬ ‫الوسطى إىل بيع مدخراتهم من أجل توفري لقمة العيش لألبناء‪ ،‬فكيف ستكون الهوية الثقافية للطفل يف مثل هذه‬ ‫الظروف؟ وما أوضاع أطفال الطبقات املهمشة إذا كان هذا هو حال الطبقة الوسطى؟ وقد أثرت األمية األبجدية‬ ‫والثقافية للوالدين‪ ،‬التي ازدهرت يف ظل هذه الظروف االستثنائية املعقدة‪ ،‬عىل تشكيل هوية الطفل العراقي‪.‬‬ ‫فضالً عن دخول قوات االحتالل العراق يف ‪ 2003/4/9‬وما رافق االحتالل من أحداث ومواجهات مسلحة دامية راح‬ ‫ضحيتها اآلالف من الشهداء واملعوقني واملهجرين داخل وخارج البالد‪ ،‬فمشاهدة أعامل العنف الرمزي من خالل‬ ‫أجهزة التلفاز ومعايشته عىل الطبيعة أثناء املواجهات الدامية بني املسلحني ‘مبختلف فصائلهم’ وقوات االحتالل‬ ‫جعلت معظم وسائل تشكيل الهوية الثقافية تعكس جانب العنف؛ سواء أكان يف املحتوى الثقايف كالحكايات التي‬ ‫يسمعها الطفل‪ ،‬أم يف طبيعة األلعاب التي ميارسها يف املناسبات الوطنية التي يشارك فيها الطفل ذويه‪.‬‬

‫دراسة فريال حمود‪ ،2009 ،‬جامعة دمشق‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬الهوية االجتامعية ‘دراسة ميدانية يف املدارس العامة يف مدينة دمشق’‪.‬‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬ت ّعرف تشكُّل الهوية االجتامعية وفق املجاالت األساسية التي تتكون منها باستخدام ‘املقياس‬ ‫املوضوعي لرتب الهوية اإليديولوجية واالجتامعية’‪.‬‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬توصلت الدراسة إىل ما ييل‪:‬‬ ‫• بينت النتائج اإلحصائية أن الفروق يف مستويات الهوية االجتامعية لصالح الذكور يف مستوى االنغالق‪.‬‬ ‫• كام بينت العالقة االرتباطية أن مجاالت الهوية أكرث نشاطاُ يف مستوى التعليق‪ ،‬وأن الفروق بني الجنسني‬ ‫كانت لصالح الذكور‪.‬‬ ‫• مستوى اإلنجاز والتعليق ملجال الرتفيه‪ ،‬ويف مستوى االنغالق ملجال الدور الجنيس‪ ،‬وهذه الفروق لصالح‬ ‫اإلناث يف مستوى االنغالق ملجال العالقة مع اآلخر‪.‬‬ ‫• وتضمنت مقرتحات الدراسة‪ :‬االهتامم بتنمية مجاالت الهوية ـ تطوير آليات الوسائط الرتبوية لتهيئة‬ ‫املراهقني لألدوار االجتامعية ـ دعم الربامج واألنشطة التي تحفّز املراهقني لتحديد أهدافهم وتوجيه‬ ‫نشاطاتهم بطرق بناءة‪.‬‬ ‫‪125‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫دراسة أحمد كنعان‪ ،2004 ،‬جامعة دمشق‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬دور الرتبية يف مواجهة العوملة وتحديات القرن الحادي والعرشين وتعزيز الهوية الحضارية‬ ‫واالنتامء لألمة‪.‬‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬إبراز دور الرتبية وبيان كيفية التصدي لالستالب الثقايف من خالل تعزيز الهوية الحضارية‬ ‫واالنتامء القومي عن طريق بناء املناهج الحديثة املتطورة‪ ،‬واإلفادة من معطيات التكنولوجيا الحديثة والتقانات‬ ‫الرتبوية املتعددة يف إعداد املعلمني وتأهيلهم وتدريبهم املستمر‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬خلص البحث إىل تأكيد الهوية العربية الحضارية األصيلة‪ ،‬ويدعو إىل مواجهة التحديات‬ ‫املختلفة‪ ،‬وتعزيز االنتامء القومي ألبناء األمة العربية من خالل‪:‬‬ ‫• رضورة رفض الهيمنة الثقافية األجنبية‪ ،‬وتعزيز الهوية الثقافية العربية‪ ،‬وذلك بدعم اللغة العربية وتعزيز‬ ‫مكانتها وتنشيط التنمية القومية‪.‬‬ ‫• تطوير املناهج التعليمية ومواكبتها ملعطيات الحضارة العاملية الحديثة‪.‬‬ ‫• إعداد املعلمني وتدريبهم املستمر ملواجهة التحديات مبختلف أشكالها وغرس القيم العربية والروح‬ ‫الدميقراطية وتجسيدها سلوكاً عملياً‪.‬‬

‫دراسة شحادة وبيكريمان ‪ ،Beckerman&Shhadi ، 2003‬فلسطني‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬تصورات األطفال تجاه القضايا الخاصة بهويتهم الثّقافية ‘الفلسطينية واليهودية’‪.‬‬ ‫(‪Palestenian-Jewish Bilingual Education in Israel: Its Influence on Cultural Identities and Its‬‬ ‫‪)Impact on Intergroup Conflict‬‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬تعرف تصورات األطفال تجاه القضايا الخاصة بهويتهم الثّقافية الفلسطينية واليهودية الخاصة‬ ‫والتي تتشك ُّل خالل التّفاعل يف مدرسة يهودية فلسطينية ثنائية اللغة‪.‬‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬توصلت الدراسة إىل ما ييل‪ :‬جاءت ال ّدراسة كخطو ٍة أوىل اتجهت نحو أن تكون دراس ٍة طولية‬ ‫عن التّأثري طّويل األمد للتّعليم ثنايئ اللغة عىل األطفال‪ ،‬وكيف يَتص ّورو َن ال ّنزاعَ‪ ،‬وعالقاتهم الحارضة واملستقبلي َة‬ ‫مع ‘اآلخر’‪ ،‬وهويّاتهم الثّقافية وإدراكهم لل ّنزاع اإلرسائييل الفلسطيني‪ ،‬وباختصار فإن هذه الدراسة ركزت عىل‬ ‫دور الترّ بية ثنائية اللغة يف تشكّيل الهويّات يف بيئات مليئة بال ّنزاع‪.‬‬

‫دراسة مريم الرشقاوي‪ ،2002 ،‬مرص‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬أساليب تعزيز الهوية يف مواجهة الهيمنة الثقافية ـ رؤية معارصة إلدارة التعليم‪.‬‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬التأكيد عىل التميز الثقايف والهوية الثقافية‪ ،‬وأهمية التفاعل بوعي مع النظام العاملي الجديد‪،‬‬ ‫وذلك من خالل وضع منظومة ألساليب اإلدارة التعليمية لتعزيز الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬توصلت الدراسة إىل ما ييل‪ :‬رضورة بناء هوية ثقافية ذات ثوابت راسخة‪ ،‬واحرتام التفاوت‬ ‫داخل اإلطار الثقايف الواحد‪ ،‬وأن تتحمل إدارة التعليم مسؤولية الحفاظ عىل الهوية الثقافية‪.‬‬

‫‪126‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫دراسة إسامعيل عبد الفتاح‪ ،2000 ،‬مرص‪:‬‬

‫عنوان الدراسة‪ :‬الهوية الثقافية للطفل العريب ‘رؤية من الواقع املرصي’‪.‬‬ ‫هدف الدراسة‪ :‬التأكيد عىل أن املدرسة تؤدي دورا ً حيوياً يف تأكيد العوية الثقافية وتحقيق التجانس القومي‬ ‫عن طريق التوحيد الثقايف والفكري بني مختلف الطبقات ويف كل أنحاء الدولة‪ ،‬مام يؤدي إىل التامسك القومي‬ ‫للمجتمع‪.‬‬ ‫نتائج الدراسة‪ :‬توصلت الدراسة إىل ما ييل‪ :‬يقوم التعليم بدور بارز يف تدعيم اإلحساس الوطني والهوية‬ ‫الثقافية الوطنية والقومية‪ ،‬وتدعيم الوالء واالنتامء يف نفوس الطالب‪ ،‬كام يسهم بإيجابية يف تشكيل أو إعادة بناء‬ ‫الشخصية الوطنية والقومية لألجيال الجديدة‪ ،‬وتوحيد التوجهات القومية للطالب؛ مام يوحد الهوية القومية‪،‬‬ ‫ورضورة عقد املؤمترات لتطوير التعليم بهدف اإلسهام يف تشكيل الهوية الثقافية يف مقررات التاريخ واللغة‬ ‫العربية وفروعها املختلفة‪.‬‬ ‫كام أشارت مجموعة من الدراسات إىل أهمية ودور املناهج التعليمية يف تعزيز وتنمية الهوية الثقافية يف‬ ‫املجتمعات التي تواجه مجموعة من املتغريات العاملية وخاصة العوملة‪ ،‬وكلها تدعو إىل رضورة إعادة النظر يف‬ ‫املناهج التعليمية الحالية‪ ،‬والعمل عيل تطويرها وهندستها بشكل آخر يؤدي إىل تعزيز وتنمية الهوية الثقافية‬ ‫لدى الطالب؛ ألن هذه املناهج تتجاهل القضايا واملشكالت املعارصة؛ مام يسهم يف تغريب الطالب واغرتابهم عن‬ ‫مجتمعهم‪ ،‬وبالتايل فهذا يدعو إىل رضورة التفكري يف منهج معارص يف ظل الهوية الثقافية وخاصة منهج اللغة‬ ‫العربية‪ ،‬ذلك املنهج الذي يعد من العوامل الرئيسة يف تكوين الهوية الثقافية والحفاظ عليها (موىس‪ ،2010 ،‬ص‪.)6‬‬

‫تعليق على الدراسات السابقة ومدى االستفادة منها يف البحث احلايل‬ ‫بعد العرض السابق للدراسات العربية واألجنبية التي أتيح للباحثة االطالع عليها‪ ،‬والتي تناولت متغريات‬ ‫البحث الذي نحن بصدده‪ ،‬رأت الباحثة أن تناقش تلك الدراسات حتى تتضح نوعية العالقة بينها وبني البحث‬ ‫الحايل بغرض االستفادة منها يف صياغة البحث الحايل‪ ،‬ويف اختيار أدواته وعينته‪ ،‬وكذلك االستفادة منها يف إعداد‬ ‫االستبانة‪ ،‬وتعرف األسلوب اإلحصايئ‪ ،‬وما توصلت إليه هذه الدراسات من نتائج‪.‬‬ ‫منهج الدراسات السابقة‪:‬‬ ‫إن معظم الدراسات السابقة اتبعت منهجاً واحدا ً هو املنهج الوصفي التحلييل‪ ،‬وترى الباحثة أن هذا املنهج‬ ‫هو أنسب املناهج لقياس املتغريات الخاصة بالبحث الحايل‪ ،‬ولهذا تتفق الباحثة مع هذه الدراسات يف استخدام‬ ‫املنهج الوصفي التحلييل لقياس متغريات البحث مع أفراد العينة املستخدمة‪.‬‬ ‫األدوات املستخدمة يف الدراسات السابقة‪:‬‬ ‫اتضح للباحثة من خالل استعراض الدراسات السابقة أن األدوات املستخدمة ملعرفة محددات الهوية الثقافية‬ ‫بجوانبها املختلفة هي االستبانة‪ ،‬وقد اعتمدت هذه الدراسات عىل مصادر متعددة لتعرف محددات ومكونات‬ ‫هذه الهوية من وجهة نظر اآلباء واملعلمني وحتى األطفال أنفسهم‪.‬‬ ‫‪127‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫مكانة الدراسة احلالية بني الدراسات السابقة‪:‬‬ ‫تتبني مكانة الدراسة الحالية بني الدراسات السابقة من خالل النقاط التالية‪:‬‬ ‫• أهمية تناول موضوع الهوية الثقافية للطفل‪ ،‬حيث أخذ هذا املوضوع اهتامم الباحثني العرب واألجانب‬ ‫من خالل إجراء الدراسات واألبحاث امليدانية‪.‬‬ ‫• أكدت الدراسات التي تناولت الرتبية والهوية الثقافية (موىس‪2010 ،‬؛ الرشقاوي‪2008 ،‬؛ الجابري‪1998،‬؛‬ ‫الغزاوي‪ )2009 ،‬أنه البد من اتخاذ خطوات وقائية تعزز الهوية الثقافية من خالل الربامج واألنشطة‬ ‫الرتبوية‪ ،‬وجاء هذا البحث ليسلط الضوء عىل دور املؤسسات التعليمية كذلك يف تشكيل الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫• ال توجد دراسة يف القطر العريب السوري ‪-‬عىل حد علم الباحثة‪ -‬تناولت الهوية الثقافية للطفل السوري‬ ‫ومحدداتها‪.‬‬ ‫• كام تع ُّد الدراسة الحالية إسهاماً جديدا ً يف معرفة املحددات الهوية الثقافية للطفل السوري يف ظل التنوع‬ ‫الثقايف الغني للبيئة السورية لتكون مرجعاً ميكن اإلفادة منها يف تطوير االسرتاتيجيات والربامج الثقافية‬ ‫التي تستهدف رشيحة األطفال واليافعني‪.‬‬

‫مام سبق نجد وعىل الرغم من وجود تشابه بني الدراسات السابقة والدراسة الحالية يف تسليط الضوء عىل‬ ‫الهوية الثقافية وفق املتغريات‪ ،‬إال أنَّها تختلف عنها من حيث هدفها وموضوعها وعينة البحث فيها‪.‬‬

‫اإلطار النظري‬

‫تعريف الهوية الثقافية‪:‬‬ ‫يف واقع األمر إن إيجاد تعريف محدد ملفهوم الهوية أمر بالغ الصعوبة‪ ،‬بسبب تعدد املدارس الفكرية التي‬ ‫تناولت املوضوع‪ ،‬باإلضافة إىل سعته وشموليته‪ ،‬حيث تشارك يف تكوينه متغريات متعددة‪ ،‬وخاصة املتغريات‬ ‫املجتمعية التي تطرأ وتؤثر يف الفكر‪ ،‬فالهوية مفهوم له داللته اللغوية واستخداماته الفلسفية واالجتامعية‬ ‫والنفسية والثقافية‪ .‬وبالنسبة ملفهوم ‘الهوية’ لغ ًة فقد قيل “الهوية يف الفلسفة حقيقة الشئ أو الشخص التي‬ ‫متيزه عن غريه‪ ،‬أو هي بطاقة يثبت فيها اسم الشخص وجنسيته ومولده وعمله‪ ،‬وتسمى البطاقة الشخصية أيضاً”‬ ‫أما عن آراء املفكرين حول مفهوم الهوية فيالحظ أن األمر ال يختلف كثريا ً‪ ،‬وإن كان يتصف بأنه أكرث تحديدا ً؛‬ ‫ألنه يرتبط بالبعد الثقايف أو االجتامعي للمصطلح‪ ،‬فقد ع َّرف سعيد إسامعيل عيل الهوية بأنها‪“ :‬جملة املعامل‬ ‫املميزة للشئ التي تجعله هو هو‪ ،‬بحيث ال تخطئ يف متييزه عن غريه من األشياء‪ ،‬ولكل منا ـ كإنسان ـ شخصيته‬ ‫املميزة له‪ ،‬فله نسقه القيمي ومعتقداته وعاداته السلوكية وميوله واتجاهاته وثقافته‪ ،‬وهكذا الشأن بالنسبة‬ ‫لألمم والشعوب” (عيل‪ ،1997 ،‬ص‪ .)95‬كام أشار أحد الباحثني إىل أن الهوية‪“ :‬مفهوم اجتامعي نفيس يشري إىل‬ ‫كيفية إدراك شعب ما لذاته‪ ،‬وكيفية متايزه عن اآلخرين‪ ،‬وهي تستند إىل مسلامت ثقافية عامة‪ ،‬مرتبطة تاريخياً‬ ‫بقيمة اجتامعية وسياسية واقتصادية للمجتمع” (عـيد‪ ،2001،‬ص‪)110‬‬ ‫كام أن الهوية ترتبط باالنتامء‪ ،‬فقد ع ّرفها البعض بأنها‪“ :‬مجموعة من السامت الثقافية التي تتصف بها‬ ‫جامعة من الناس يف فرتة زمنية معينة‪ ،‬والتي تولد اإلحساس لدى األفراد باالنتامء لشعب معني‪ ،‬واالرتباط بوطن‬ ‫معني‪ ،‬والتعبري عن مشاعر االعتزاز‪ ،‬والفخر بالشعب الذي ينتمي إليه هؤالء األفراد”‪( .‬الفقي‪ ،1999 ،‬ص‪)205‬‬ ‫‪128‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫ومن املفاهيم التي قدمت للهوية الثقافية ما تبنته منظمة اليونسكو والذي ينص عىل‪“ :‬أن الهوية الثقافية‬ ‫تعني أوالً وقبل كل شئ أننا أفراد ننتمي إىل جامعة لغوية محلية أو إقليمية أو وطنية‪ ،‬مبا لها من قيم أخالقية‬ ‫وجاملية متيزها‪ ،‬ويتضمن ذلك أيضاً األسلوب الذي نستوعب به تاريخ الجامعة وتقاليدها وعاداتها وأسلوب‬ ‫حياتها‪ ،‬وإحساسنا بالخضوع له واملشاركة فيه‪ ،‬أو تشكيل قدر مشرتك منه‪ ،‬وتعني الطريقة التي تظهر فيها‬ ‫أنفسنا يف ذات كلية‪ ،‬وتعد بالنسبة لكل فرد منا نوعاً من املعادلة األساسية التي تقرر ـ بطريقة إيجابية أو سلبية‬ ‫ـ الطريقة التي ننتسب بها إىل جامعتنا والعامل بصفة عامة” (املحروقي‪ ،2004 ،‬ص‪)164‬‬ ‫كام تشري الهوية أيضاً إىل أن هوية الشخص تعني صفاته الجوهرية التي متيزه عن غريه‪ ،‬وقد شبهوها‬ ‫بالبصمة‪ ،‬كام ذهبت بعض التعريفات إىل أن الهوية االجتامعية هي‪“ :‬تلك السامت الخاصة مبفهوم الذات الفردية‬ ‫يف ضوء أسس ومرتكزات لجامعتهم االجتامعية‪ ،‬وعضويتهم الطبقية معاً‪ ،‬ومع ارتباطاتهم العاطفية والتقييمية‬ ‫وغريها من االرتباطات السلوكية؛ التي تربطهم بهذه الجامعة مؤكدة‪ ،‬انتامءاتهم إليها” (‪.)Feather, 1994, p467‬‬ ‫وهذا التعريف يوضح العالقة بني االنتامء وبني الهوية‪ ،‬حيث إن كالً منهام يؤثر يف اآلخر ويتأثر به‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫عندما يعرف أن هويته ترتبط بهوية املجتمع الذي يوجد فيه‪ ،‬فإن هذا يجعله يتمسك ويرتبط مبجتمعه‪.‬‬ ‫إذن ميكن أن نخلص من ذلك باآليت (موىس‪ ،2010 ،‬ص‪:)12‬‬ ‫• أنه يصعب أن نجد تعريفاً جامعاً مانعاً للهوية الثقافية‪.‬‬ ‫• أن الهوية تختلف من مجتمع آلخر ومن عرص لعرص‪.‬‬ ‫• أن الهوية تختلف باختالف التوجهات الفكرية واأليديولوجية‪.‬‬ ‫• أن الهوية الثقافية تتكون من مزيج من اللغة والدين والتاريخ وثقافة املجتمع‪ ،‬وهذا معناه أن الهوية‬ ‫يكون لها خصوصيتها املستمدة من ثقافة املجتمع وتصقلها تاريخه وحضارته‪.‬‬ ‫• أن هناك ثالث مستويات للهوية تتمثل يف‪ :‬الهوية الفردية وهي عىل مستوى الفرد‪ ،‬والهوية الجامعية وهي‬ ‫التي تكون عىل مستوى الجامعة التي يوجد فيها الفرد‪ ،‬والهوية الوطنية والقومية‪ ،‬وهي التي تشمل‬ ‫املجتمع كله‪ ،‬وهذا معناه أن الهوية الثقافية ألي فرد ال تكون كاملة‪.‬‬ ‫• أن الهوية الثقافية تتكون يف ضوء ثالثة عنارص رئيسة هي‪ :‬الوطن واألمة والدولة‪.‬‬ ‫• أنه ال يوجد تعارض بني وجود هوية لكل مجتمع وبني التفاعل مع متغريات العرص‪.‬‬ ‫• أن من مظاهر ضعف الهوية عندما يؤدي اإلعجاب بالعلم والتقدم إىل اإلعجاب مبن أبدعوه‪ ،‬فيسريون‬ ‫وراءهم ويتبعون خصوصياتهم الثقافية‪ ،‬وهذا يقودنا إىل رضورة التعرف عىل مكونات الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫ويف ضوء ذلك ميكن تعريف الهوية الثقافية بأنها مجموعة السامت والخصائص التي تنفرد بها الشخصية‪،‬‬ ‫وتجعلها متميزة عن غريها من الهويات الثقافية األخرى‪ ،‬وتتمثل تلك الخصائص يف اللغة والدين والعادات‬ ‫والتقليد واألعراف وغريها من املكونات الثقافية ذات السمة املميزة ملجتمع ما‪ .‬ولتحديد مرجعية الهوية الثقافية‬ ‫السورية ال بد من تحديد إطار مرجعي للهوية العربية يعتمد عىل ما ييل (الفران ‪ ،2008،‬ص‪:)15‬‬ ‫‪ .1‬الدين‪ :‬كام هو معروف أن فكرة الدين مرتبطة باإلنسان منذ وجوده‪ ،‬كام يعترب أحد املقومات املعربة عن‬ ‫هوية املجتمع‪.‬‬ ‫‪ .2‬اللغة‪ :‬ت ُعترب اللغة ألي أمة من األمم عنواناً لشخصيتها وهويتها‪ ،‬وأداة للتعبري ولرتجمة الخواطر واألفكار‬ ‫‪129‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫واملشاعر‪ ،‬وهي وسيلة التفاهم والتعلم والتطور وتناقل الخربات والثقافات والحضارات‪.‬‬ ‫‪ .3‬العرف‪ :‬يُعترب العرف اإلطار املرجعي ألي مجتمع من املجتمعات‪ ،‬ألنه يحدد خصوصيته وهويته ومييزه‬ ‫عن غريه من املجتمعات‪ ،‬كام يختلف من مجتمع إىل اآلخر حسب طبيعته وقيمه‪.‬‬ ‫‪ .4‬الجغرافية‪ :‬تحدد الجغرافية من خاللها الحدود الطبيعية ألي أمة من األمم‪ ،‬مبا تتضمنه من عرقيات و‬ ‫قوميات وشعوب‪ ،‬بحيث تجمعهم ظروف ومصري وأهداف واحدة‪.‬‬

‫املراجع‪:‬‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫الجابري‪ ،‬محمد عابد (‪ :)1998‬العوملة والهوية الثقافية‪ ،‬مجلة املستقبل العريب‪ ،‬ع ‪ ،228‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫الجابري‪ ،‬محمد عابد (‪ :)1995‬مسألة الهوية‘العروبة واإلسالم والغرب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫حسانني‪ ،‬عبد العزيز(‪ :)1989‬تنمية االتجاهات اإليجابية نحو الوالء للوطن لدي األطفال يف سن السابعة من العمر‪ ،‬رسالة ماجستري‪ ،‬معهد الدراسات العليا‬ ‫للطفولة‪ ،‬جامعة عني شمس‪.‬‬ ‫حسني‪ ،‬عصام أحمد (‪ :)2000‬إدراك الهوية القومية لدى الطفل املرصي‪ ،‬رسالة ماجستري‪ ،‬معهد الدراسات العليا للطفولة‪ ،‬جامعة عني شمس‪.‬‬ ‫الرشقاوي‪ ،‬مريم (‪ :)2008‬أساليب تعزيز الهوية يف مواجهة الهيمنة الثقافية ‪ -‬رؤية معارصة إلدارة التعليم‪ ،‬مؤمتر ‘مناهج التعليم والهوية الثقافية’‪ ،‬جامعة‬ ‫عني شمس‪.‬‬ ‫عيد‪ ،‬محمد إبراهيم (‪ :)2001‬الهوية الثقافية العربية يف عامل متغري‪ ،‬مجلة الطفولة والتنمية‪ ،‬مجلد ‪ ،1‬ع ‪ ،3‬القاهرة‪.‬‬ ‫الغزاوي‪ ،‬سـامي (‪ :)2009‬محددات تشكيل الهوية للطفل العراقي‪ .‬دراسة ميدانية ملرحلة رياض األطفال’‪ ،‬جامعة دياىل‪ ،‬العراق‪.‬‬ ‫الفران‪ ،‬هاين (‪ :)2006‬محددات تأكيد الهوية الثقافية العربية يف التصميم املعامري من خالل األسلوب البنايئ الحديث ‘دراسة تحليلية’‪ ،‬بحث غري منشور‪،‬‬ ‫كلية الفنون الجميلة‪ ،‬جامعة دمشق‪.‬‬ ‫الفقي‪ ،‬إسامعيل (‪ :)1999‬إدراك طالب الجامعة ملفهوم العوملة وعالقته بالهوية واالنتامء ‘دراسة امربيقية’‪ ،‬املؤمتر القومي السنوي الحدي والعرشون‬ ‫للجمعية املرصية للمناهج وطرق التدريس بعنوان ‘العوملة ومناهج التعليم’‪.‬‬ ‫كنعان‪ ،‬أحمد (‪ :)2004‬دور الرتبية يف مواجهة العوملة وتحديات القرن الحادي والعرشين وتعزيز الهوية الحضارية واالنتامء لألمة‪ ،‬بحث مقدم إىل ندوة‪:‬‬ ‫العوملة وأولويات الرتبية‪ ،‬كلية الرتبية جامعة امللك سعود‪.‬‬ ‫املحروقي‪ ،‬حمدي (‪ :)2004‬دور الرتبية يف مواجهة تداعيات العوملة عيل الهوية الثقافية‪ ،‬منشورات مركز تطوير التعليم الجامعي‪ ،‬جامعة عني شمس‪.‬‬ ‫اليونسكو(‪‘ :)2003‬اتفاقية حامية الرتاث الثقايف غري املادي’‪ :‬املؤمتر العام ملنظمة األمم املتحدة للرتبية والعلم والثقافة ‘اليونسكو’‪ ،‬يف الفرتة ‪ 29‬سبتمرب‪/‬‬ ‫أيلول ـ ‪17‬أكتوبر‪ /‬ترشين األول‪ ،‬باريس‪.‬‬

‫‪References‬‬

‫‪• Feather, N. T (1994): Values، National Identification and Favoritism Towards the In-Group, British Journal of Social‬‬ ‫‪Psychology، no 33.‬‬ ‫‪• Lokesh, K. (1993): Methodolgy of Education Research, Rikas publishing house, New Delhi.‬‬

‫‪130‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫عزام القصير❊‬

‫العودة إىل املستقبل‪:‬‬

‫قراءة يف دعوات تطبيق الشريعة‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫إن هدف إقامة الدولة اإلسالمية التي تُحكم مبقتىض الرشيعة هو حجر الزاوية الذي يستند‬ ‫إليه بناء األيديولوجية اإلسالمية اآلخذة يف االنتشار‪ .‬هذا الهدف العام والجامع يشكل‬ ‫متجانس من التنظيامت والجامعات‬ ‫ٍ‬ ‫الستار األيديولوجي الذي يخفي وراءه خليطاً غري‬ ‫ِّ‬ ‫التي قد تختلف يف اإلسرتاتيجيات وتتباين يف تحديد األولويات وتفسري املعطيات‪ .‬نتخذ‬ ‫هنا منحى دراسة الخطاب األيديولوجي واملشرتكات الجامعة ملتبني اإلسالم السيايس‪،‬‬ ‫مجموعات وأفراداً يف مرحلة ما بعد سيد قطب‪ ،‬يف ضوء استعراض مقتضب لألفكار‬ ‫واملحطات التاريخية التي أدّت إىل طُف ِّو حركات اإلسالم السيايس عىل سطح الحراك‬ ‫السيايس يف املنطقة العربية يف الوقت الراهن‪ .‬تُويل هذه الدراسة اهتامماً خاصاً للعوامل‬ ‫الذاتية التي أنتجت الفكر الديني املتشدد ور َّوجت القتحامه الشأن العام‪ .‬ذلك من دون‬ ‫إهامل العوامل املوضوعية ـ االجتامعية واالقتصادية والسياسية ـ التي م َّهدت الطريق‬ ‫النتشار الفكر الجهادي التكفريي‪ .‬ويف الختام تحاول الدراسة تبيان سبل إنعاش الفكر‬ ‫اإلسالمي بغية تجاوز األثر السلبي لبعض التيارات اإلسالمية املتطرفة عىل الشأن العام‪.‬‬

‫❊ باحث وأكادميي سوري‪ ،‬مهتم بشؤون الرشق األوسط وقضايا اإلسالم السيايس‪ .‬درس العلوم السياسية يف جامعة دمشق ومن ثم انتقل إىل بريطانيا حيث‬ ‫أنهى برنامجاً يف الدراسات العليا يف الدراسات اإلسالمية واإلنسانية‪ .‬يعمل حالياً عىل إعداد رسالة املاجستري يف معهد الدراسات العربية واإلسالمية يف جامعة‬ ‫إكسرت‪ ،‬بريطانيا‪.‬‬

‫‪131‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫العودة إىل املستقبل‬

‫أي لحظة‪ ،‬ليَقتُل ويُقتَل‪ٌ .‬‬ ‫رجال م َّنا يريدون الدولة‬ ‫ٌ‬ ‫جيش من الفتية العرب واملسلمني مستع ٌّد لينفجر يف ِّ‬ ‫دوي املدافع وجامجم الشهداء‪ .‬هكذا نقف اليوم عرا ًة أمام مرآة الذات‪ ،‬ويف اآلذان صوتٌ‬ ‫اإلسالمية ولو عىل ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫إغريقي يهمس‪ :‬اعرف نفسك‪ .‬يسأل واح ٌد م ّنا‪ :‬هل حقاً نحن خري أمة أخرجت للناس؟ وهل هذه معامل الرسالة‬ ‫ٌ‬ ‫الخالدة لألمة العربية؟ فيجيب آخر‪ :‬نعم زالت األقنعة وبتنا نراقب يومياتنا الدامية عىل الشاشات‪ .‬مرارة الواقع‬ ‫متحي طالء األيديولوجيا وتبدد وهم الشعارات‪.‬‬ ‫إن هدف إقامة الدولة اإلسالمية التي ت ُحكم مبقتىض الرشيعة هو حجر الزاوية الذي يستند إليه بناء‬ ‫الستار األيديولوجي الذي يخفي‬ ‫األيديولوجية اإلسالمية اآلخذة يف االنتشار‪ .‬هذا الهدف العام والجامع يشكل ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫متجانس من التنظيامت والجامعات التي قد تختلف يف اإلسرتاتيجيات وتتباين يف تحديد‬ ‫وراءه خليطاً غري‬ ‫األولويات وتفسري املعطيات‪ .‬نتخذ هنا منحى دراسة الخطاب األيديولوجي واملشرتكات الجامعة ملتبني اإلسالم‬ ‫السيايس‪ ،‬مجموعات وأفرادا ً يف مرحلة ما بعد سيد قطب‪ ،‬يف ضوء استعراض مقتضب لألفكار واملحطات التاريخية‬ ‫التي أدت إىل طُف ِّو حركات اإلسالم السيايس عىل سطح الحراك السيايس يف املنطقة العربية يف الوقت الراهن‪ .‬ت ُويل‬ ‫هذه الدراسة اهتامماً خاصاً للعوامل الذاتية التي أنتجت الفكر الديني املتشدد ور َّوجت القتحامه الشأن العام‪.‬‬ ‫ذلك من دون إهامل العوامل املوضوعية ـ االجتامعية واالقتصادية والسياسية ـ التي مهدت الطريق النتشار الفكر‬ ‫الجهادي التكفريي‪ .‬ويف الختام تحاول الدراسة تبيان سبل إنعاش الفكر اإلسالمي بغية تجاوز األثر السلبي لبعض‬ ‫التيارات اإلسالمية املتطرفة عىل الشأن العام‪.‬‬ ‫بدايةً‪ ،‬فكرة الدولة اإلسالمية التي بدأ التنظري املنهجي لها مع املفكر الباكستاين أبو األعىل املودودي (‪-1903‬‬ ‫‪ )1979‬هي نتاج للفكر الحدايث متاماً كفكرة النهضة التي سيطرت عىل الخطاب اإلسالمي يف النصف الثاين من‬ ‫القرن التاسع عرش‪ .‬عىل الرغم من ذلك فإن جهدا ً كبريا ً قد بذل لتأصيل فكرة الدولة اإلسالمية مبنحها سندا ً تاريخياً‬ ‫وتغليفها بغالف إسالمي‪.‬‬ ‫ماسة إىل أن‬ ‫كتب املودودي يف مقدمة كتابه‪‘ :‬نظرية اإلسالم وهديه يف السياسة والقانون والدستور’‪“ :‬الحاجة ّ‬ ‫َ‬ ‫نكشف الغطاء عن وجه ‘نظرية اإلسالم السياسية’ رجاء أن ينقشع بذلك هذا الظالم الفكري الضارب أطنابه عىل‬ ‫املجتمع‪ ،‬وتلجم أفواه من أعلنوا سفهاً (أن اإلسالم ما جاء للمجتمع اإلنساين بنظام اجتامعي وال سيايس) فنخرج‬ ‫‪132‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫العودة إىل املستقبل‬

‫بذلك نورا ً للذين يتسكعون يف ظلامت العرص حائرين ال يهتدون”(((‪ .‬كان ذلك‪ ،‬فأخرج املودودي للعاملني مصطلح‬ ‫‘الحاكمية’ الذي احتضنه فيام بعد سيد قطب (‪ )1966-1906‬ورعاه أفضل رعاية‪ ،‬فنام املصطلح وترعرع وتفرع‬ ‫عنه جاهلي ٌة وتكف ٌري وجها ٌد أعمى‪ .‬حتى وصلنا اليوم إىل جامعات تتحدث عن آيات الحاكمية يف القرآن‪.‬‬ ‫امللفت هنا أن كلمة ‘حاكمية’ التي باتت من مرتكزات الخطاب السيايس للحركات اإلسالمية املعارصة كام‬ ‫‘الدولة اإلسالمية’ مل يرد ذكرها يف القرآن أو الحديث النبوي‪ .‬إ ْن عدنا أيضاً ملعاجم اللغة العربية لن نجد ذكرا ً‬ ‫للمصطلح‪ .‬يربط املودودي الحاكمية بالجذر اللغوي ‘حكم’ الذي جاء القرآن عىل ذكر اشتقاقاته أكرث من مائتي‬ ‫مرة‪ ،‬لكن أياً منها ال يشري إىل تويل ومامرسة السلطة السياسية‪ .‬غالبية االستخدامات تشري إما للحكمة والبصرية‬ ‫والقدرة عىل متييز الحق من الباطل‪ ،‬أو إىل العلم والفقه والقضاء‪ .‬و‘الحاكم’ يف معاجم اللغة هو القايض‪،‬‬ ‫ففي أدبيات الحديث النبوي وفقهه كثريا ً ما يتطابق ‘الحكم’ و‘القضاء’ دومنا تفريق‪ .‬فاملصطلح العريب والقرآين‬ ‫املستخدم للداللة عىل الشأن السيايس هو ‘األمر’ والذي استمر مصدرا ً للنسبة إىل الدولة أو الحكومة حتى العهد‬ ‫العثامين‪ ،‬حيث استُ ِ‬ ‫خدمت صفة ‘األمريي’‪ ،‬التي ُح ِّرف َْت فيام بعد لـ ‘املريي’‪ ،‬للداللة عىل كل ما هو مرتب ٌط بالسلطة‬ ‫(((‬ ‫السياسية أو القطاع العام ‪ .‬يكتسب التحليل اللغوي السابق أهمي ًة خاص ًة عند محاولة فهم النصوص القرآنية‬ ‫املستخدمة لتربير دعوات تطبيق الرشيعة‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬أحد أكرث الشواهد الرشعية تكرارا ً يف كتابات‬ ‫املودودي وعىل ألسنة منظري اإلسالم السيايس املعارصين هي جمل ٌة من اآلية الرابعة واألربعني من سورة املائدة‪:‬‬ ‫{ومن مل يحكم مبا أنزل الله فأولئك هم الكافرون}‪ .‬بالعودة ألسباب النزول يتضح أن املقصود ليس أمرا ً إلهياً يقيض‬ ‫بتطبيق الرشيعة يف كل زمان ومكان‪ ،‬بل إن اآلية مقتطعة من سياق تاريخي يدور حول تحكيم الرسول يف خالف‬ ‫حول دفع الدية بني بني قريظة وبني النضري(((‪ .‬ليس يف ذلك مجرد سو ُء فهمٍ أو ٌ‬ ‫فقهي محدود األثر‪ ،‬بل‬ ‫خالف ٌ‬ ‫إن ألوفاً دفعوا حيواتهم مثن تفسريات اآلية وسذاجة التعميم‪ .‬فعندما ُسئل طارق الزمر‪ ،‬أحد األعضاء البارزين‬ ‫يف جامعة الجهاد يف مرص‪ ،‬عن سنده الرشعي يف إطالق التكفري وإباحة االغتياالت‪ ،‬كان رده موجزا ً‪ :‬الله عز وجل‬ ‫{ومن مل يحكم مبا أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(((‪.‬‬ ‫بالعودة لالستخدام االصطالحي لـ‘الحاكمية’‪ ،‬فإن بناء الدولة االسالمية يستند إىل مبدأ الحاكمية الذي يعني‬ ‫أن الرشيعة يجب أن تكون القانون األعىل يف الدولة‪ .‬فتبعاً للمودودي‪ ،‬إن كان ُ‬ ‫ستهل بنطق‬ ‫دخول الفر ِد اإلسال َم يُ ُ‬ ‫(((‬ ‫شهادة أن ال إله إال الله‪ ،‬فإن دخول الدولة يف اإلسالم يكون بنطق دستورها لشهادة أن ال حاكمية إال لله ‪.‬‬ ‫فالحاكمية لله‪ ،‬وما عىل العباد سوى طاعة اإلرادة اإللهية والعمل مبقتضاها‪ ،‬واتباع غري ذلك يستتبع حتامً الدخول‬ ‫يف طور الجاهلية‪.‬‬ ‫يشرتك املودودي مع من أتوا بعده يف استخالص النتيجة السابقة‪ ،‬والتي تعني عملياً تكفري الحكومات‬ ‫واملجتمعات اإلسالمية التي تتبع قوانني وضعية‪ .‬ولكن بدأ االفرتاق عند تحديد اإلجراءات الواجب اتباعها إلخراج‬ ‫املجتمعات اإلسالمية من حالة الكفر والجاهلية‪ .‬فمنهج املودودي يقيض بالسعي الستالم السلطة عرب اآلليات‬ ‫السياسية املتاحة بغية الرشوع يف تطبيق الرشيعة وأسلمة املجتمع‪ ،‬أما سيد قطب فقد بنى عىل فكر املودودي‬ ‫ٍ‬ ‫ملسات راديكالية قادت ُه لالسرتسال يف ‘فعل’ تكفري املجتمعات والنخب عىل ح ٍّد سواء‪ .‬كلم ُة ‘فعل’ هنا‬ ‫وأضاف‬ ‫‪1‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬ ‫‪4‬‬ ‫‪5‬‬

‫املودودي‪ ،‬أبو األعىل‪ .‬نظرية اإلسالم وهديه يف السياسة والقانون والدستور‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪ ،1969 ،‬ص‪.10‬‬ ‫األنصاري‪ ،‬محمد جابر‪ .‬التأزم السيايس عند العرب وسوسيولوجيا اإلسالم‪ :‬مكونات الحالة املزمنة‪ ،‬طبعة ثانية‪ ،‬دار الرشوق‪ ،1999 ،‬ص‪.170-155‬‬ ‫ابن كثري‪ .‬تفسري القرآن العظيم‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬ص‪.113‬‬ ‫حنفي‪ ،‬حسن‪ .‬الحركات اإلسالمية يف مرص‪ ،‬املؤسسة اإلسالمية للنرش‪ ،‬بريوت‪ ،1986 ،‬ص‪.104‬‬ ‫املودودي‪ ،‬أبو األعىل‪ .‬نظرية اإلسالم وهديه يف السياسة والقانون والدستور‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بريوت‪ ،1969 ،‬ص‪.201‬‬

‫‪133‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫العودة إىل املستقبل‬

‫واجب عرب فعل الجهاد‪.‬‬ ‫مقصودة والغاية منها الداللة عىل أن التكفري ليس مجرد تهمة‪ ،‬بل حك ٌم ناج ٌز تنفيذه‬ ‫ٌ‬ ‫كتابات املودودي حول تطبيق الرشيعة واملنهج القطبي الراديكايل َغ َد َوا زاد الحركات الجهادية التي أخذت‬ ‫تتزايد كالفطر منذ منتصف سبعينيات القرن املايض‪ .‬وهكذا طوت التوليفة القطبية ـ املودودية صفحة السلفية‬ ‫اإلصالحية واملنهج العقيل يف التفسري الذي اتبعه محمد عبده وجامل الدين األفغاين يف فرت ٍ‬ ‫ات سابقة‪ ،‬وشرُِّعت‬ ‫األبواب لسلفية جهادية تنظر بعني الريبة للعقل وتفرط يف استخدام العنف‪.‬‬ ‫إن التحول عىل مستوى فكر اإلسالم السيايس يبدو منسجامً مع املدخل املاركيس يف التحليل من حيث أن‬ ‫جمل ًة من العوامل والرشوط املادية قد أسهمت يف توجيه التحول عىل مستوى األفكار‪ .‬فقراءة تنظري املودودي‬ ‫للدولة اإلسالمية مبعزل عن ظروف والدة دولة باكستان سيودي للوقوع يف خطأ سيد قطب الذي رأى يف نظريات‬ ‫املودودي نظريات اإلسالم‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬يرى محمد عامرة أن املودودي حارب الدميقراطية خوفاً من األغلبية‬ ‫غري املسلمة يف الهند قبل استقالل باكستان عام ‪ ،1947‬أما بعد والدة باكستان ذات األغلبية املسلمة شرَ َ ع يف‬ ‫إثبات دميقراطية اإلسالم وعدم تعارضه مع النظام التمثييل(((‪ .‬كذلك فإن من اإلجحاف تحليل راديكالية قطب من‬ ‫دون التطرق لظروف القمع الوحيش الذي تعرض له عىل أيدي أجهزة أمن النظام النارصي‪ .‬عموماً فقد شكلت‬ ‫تخصيب الفكر الجهادي االنقاليب‪ .‬باتباع ذات األسلوب يف التحليل فإ َّن ما يبدو رواجاً‬ ‫السجون املرصية بؤ َر‬ ‫ِ‬ ‫للمنهج القطبي ليس دليالً عىل صحة املنهج‪ ،‬كام أن نزوعه نحو العدوانية والعنف ليس بالرضورة مستمدا ً من‬ ‫املعب عنه يف انتشار البطالة وغياب قنوات املشاركة السياسية والتوزيع‬ ‫روح اإلسالم‪ ،‬بل إن اختالل البنى التحتية‪ ،‬رَّ‬ ‫غري العادل للرثوة‪ ،‬أدى لرواج الفكر اإلسالمي الراديكايل خاص ًة يف األرياف امله َّمشة ويف أحزمة الفقر حول املدن‪.‬‬ ‫إن اإلرث الذي تركه املودودي وقطب يويل أهمية خاصة ألسلمة الدولة واملجتمع عرب تطهريهام من األمراض‬ ‫التي أتت من الغرب والعودة بهام لنقاء الجيل األول وفرض الرشيعة عىل جميع مناحي الحياة‪ .‬وتحقيق ذلك‬ ‫الكشف عن نظري ٍة إسالمي ٍة خالصة يف‬ ‫يكون بعبور بوابة ‘الدولة اإلسالمية’‪ .‬إن ادعاء املودودي وقطب وأخالفهم‬ ‫َ‬ ‫السياسة وحكم الدولة ما هو إال جانب من جوانب محاوالت تحميل النصوص ما ال تحتمل‪ ،‬ومظه ٌر من مظاهر‬ ‫عبادة النص وتجاهل مقاصده‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫محاوالت أع َّم الستنطاق النصوص بنظريات واكتشافات علمية وإنسانية الحقة‪.‬‬ ‫فام ذلك سوى جزء من‬ ‫ِ‬ ‫فصدمة الحداثة دفعت البعض للتقوقع واتخاذ املوقف الحاميئ والبدء يف رحلة البحث عن الذات يف مواجهة‬ ‫اآلخر املتقدم واملسلح بجميع أسباب القوة‪.‬‬ ‫الصنع للدول ِة الحديث ِة‬ ‫والنص املقدس ملجأي الحركات اإلسالمية الباحث ِة عن َ‬ ‫غدا التاريخ‬ ‫بدائل محل َّي ِة ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫(‪ )Nation-State‬وهياكلها ونظم الحكم فيها‪َ .‬خ َبت يف املقابل األصوات املنادية بالتخلُّق بأخالق اإلسالم والجري‬ ‫يف مضامر الحضارة اإلنسانية إىل جانب األمم األخرى‪ .‬وخارت قوى التيار العقيل التوفيقي فف ُِسح املجال لتيار‬ ‫أي عقال‪.‬‬ ‫عنف‬ ‫رص ذهبي ويدعو إلحاللها ولو كان السبيل إىل ذلك ٌ‬ ‫تلفيقي يبني صورا ً ذهني ًة لع ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫منفلت من ِّ‬ ‫فأصبح تجاوز الواقع وإنكاره سم ًة عامة لدى اإلسالميني الجدد‪ .‬تك َّدس الغبار عىل كتب التوفيقيني ومل تعد‬ ‫صدى‪ ،‬بل إن البعض أسامهم ‘فقهاء السلطان’ و‘فقهاء الحيض والنفاس’‪ .‬فلم يعد يُعت ُّد بآرا ِء‬ ‫كلامتهم تلقى‬ ‫ً‬ ‫ٍ‬ ‫مرجعيات تقليدي ٍة كالشي ِخ محمد الغزايل‪ ،‬الذي َخل َُص إىل أ َّن “اإلسالم مل يضع رسامً محددا ً ألسلوب الحكم‪ ،‬وإمنا‬ ‫وضع له أخالقاً وقيامً‪ ،‬فكيف نويل حاكامً وكيف نعزله؟ وكيف نحاسبه ونراقبه؟ ما هي أجهزة الشورى؟ وكيف‬ ‫إرهاب أو إغراء؟ ‪ ...‬لألمم يف هذه امليادين أن‬ ‫نستوثق من التقاء اآلراء الناضجة فيها؟ وكيف منيض يف مجراها دون‬ ‫ٍ‬ ‫‪ 6‬عامرة‪ ،‬محمد‪ .‬أبو األعىل املودودي والصحوة االسالمية‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬القاهرة‪ ،1987 ،‬ص‪.422-418‬‬

‫‪134‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫العودة إىل املستقبل‬

‫موقف متقد ٌم يؤيد القاعدة القائلة‪“ :‬حيثام‬ ‫تجتهد يف وضع النظام الذي يحقق مصلحتها دون قيد ما”‪ (((.‬يف ذلك ٌ‬ ‫ُوجدت مصلحة ال َّناس فث َّم رش ُع الله”‪.‬‬ ‫ليس املقصود مام سبق تربئ ُة علام ِء الدين وفقهائه التقليديني‪ ،‬فهم يتحملون مسؤولي ًة رئيسي ًة يف واقع‬ ‫األدلجة وتسطيح الفكر اإلسالمي‪ .‬فالشيخ الغزايل نفسه ُ‬ ‫يقول يف موضعٍ آخر‪“ :‬لو أن السلف األول اشتغل‬ ‫بالفلسفة الالهوتية ملا خرج اإلسالم من جزيرة العرب ‪ ...‬خلقت البطالة أناساً يطيلون الفكر العابث والنظر‬ ‫يرتاب من جد ِل الفك ِر‬ ‫الرشود ‪ ...‬أوجد الفراغ مجالس كالمية كثرية كان لها يف تاريخنا وكياننا أثر رديء”(((‪ .‬من ُ‬ ‫يتيح َ‬ ‫فترشيح‬ ‫األحادي اللون وادعاءات امتالك الحقيقة‪ .‬أسئل ٌة جوهري ٌة البد من نقاشها يف العلن‪،‬‬ ‫للخطاب‬ ‫املجال‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫امليثولوجيا الدينية مل يعد سفسطة‪ .‬ركود الفكر اإلسالمي واتخاذه املوقع الدفاعي هو يف صميم األزمة‪ .‬فالجنة‬ ‫جيل‬ ‫والنار والقضاء والقدر والتكفري والجهاد وغريها مواضي ُع تو ِّج ُه جيالً من الشباب البائس اليائس من دنياه‪ٌ ،‬‬ ‫اإلسالمي لن يستعي َد حيويته حتى يَن ُف َخ الحوا ُر في ِه‬ ‫أوهام ‘الدولة اإلسالمية’‪ .‬خالصة القول أ َّن الفك َر‬ ‫أصبح‬ ‫حطب ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫الروح‪ .‬أمل يحن وقت إحياء علوم الدين؟ مىض أكرث من مائة عام ومل يَظهر بيننا مج ِّد ٌد يُهذب األصول لينقذ من‬ ‫الضَّ الل‪ .‬ولكن كيف أسهم الواقع يف رد ِة اإلسالميني عن العقل ودخولهم جاهلية الفكر؟‬ ‫إن كان االستخدام املرشوع للعنف هو أهم ما مييز الدولة الحديثة بحسب ماكس فيرب‪ ،‬فإن تجارب أنظمة‬ ‫الحكم يف العامل العريب يف فرتة ما بعد االستقالل أثبتت مبا ال يدع مجاالً للشك نجاح تلك األنظمة يف تسخري حق‬ ‫استخدام العنف لربط املؤسسات والنخب الدينية والعسكرية واالقتصادية بالنظام السيايس ولتفريغ املجتمع من‬ ‫أي نشاط أو تنظيم مدين قادر عىل لجم السلطات‪ .‬يكاد النظام البعثي يف سورية أن يكون الحالة املعيارية التي‬ ‫ينطبق عليها التعميم السابق‪ .‬فعندما رفع سوريون شعار إسقاط النظام السيايس أدركوا رسيعاً أن ذلك يستلزم‬ ‫تغيري النخب الدينية واالقتصادية والعسكرية أيضاً‪ .‬فالنظام السيايس تغلغل يف ثنايا الدولة السورية حتى بات فك‬ ‫االرتباط بني االثنني أمرا ً غاية يف الصعوبة‪.‬‬ ‫ذلك االستخدام األدايت للدولة ألكرث من نصف قرن أ ّدى لشيوع فهمٍ مشو ٍه لفكرة الدولة الحديثة لدى العامة‬ ‫يف العامل العريب‪ .‬فالدولة مل تعد مؤسس ًة حيادي ًة ينتفع منها الجميع‪ ،‬وإمنا ملكي ًة خاص ًة لطغم ٍة حاكمة‪ .‬أيضاً فإن‬ ‫ادعاء األنظمة السياسية الشمولية تبنيها العلامنية قاد إىل تالزم مصطلح العلامنية يف ذهن الكثريين مع التسلط‬ ‫السلة التي تحوي‬ ‫وقمع الحريات‪ .‬يف ظل هذا الواقع كثريا ً ما يتم اليوم تقديم الرشيعة اإلسالمية عىل أنها َّ‬ ‫مفاتيح حل املشكالت السياسية واالقتصادية واالجتامعية التي توارثها الحكام العرب‪ .‬أمعنت الحركات اإلسالمية‬ ‫الجديدة يف غُل ِّوها حتى تجاوزت أفكار مرجعها الحديث املتمثل بكتابات سيد قطب ومنهجه‪ .‬يف هذه املرحلة‬ ‫مل تعد الدولة الحديثة إطار عمل تلك الحركات واستمر نكران الدولة الحديثة حتى وصلنا لدعوات إقامة ‘الدولة‬ ‫اإلسالمية’ وليس دول ٍة إسالمية‪ .‬فدولة اإلسالم غدت واحدة‪ ،‬دستورها القرآن‪ ،‬والحاكمية فيها لله وحده‪ ،‬يُطبَّق‬ ‫فيها رشع الله فتَ ِ‬ ‫ستظ ُّل به األمة اإلسالمية جمعاء‪ .‬وصف ٌة بسيط ٌة تُق َّدم للخروج من املآزق التي باتت تتنازع‬ ‫الدول العربية واإلسالمية‪.‬‬ ‫هذا الخطاب اإلسالمي التبسيطي هو املقابل للخطاب السيايس األيديولوجي يف الجمهوريات العربية طيلة‬ ‫النصف الثاين من القرن العرشين والذي هيمنت عليه فكرة فرض الوحدة العربية لجمع شمل األمة العربية‬ ‫ٍ‬ ‫اتيجيات واضح ٍة للنهوض بالواقع العريب والوصول‬ ‫الواحدة‪ .‬فكام عجز القوميون العرب سابقاً عن رسم إسرت‬ ‫‪ 7‬الغزايل‪ ،‬محمد‪ .‬مقاالت الشيخ محمد الغزايل‪ ،‬جمع‪ :‬عبد الحميد حسانني حسن‪ ،‬الجزء الثاين‪ ،‬نهضة مرص للطباعة والنرش‪ ،‬القاهرة‪ ،2002 ،‬ص‪.209‬‬ ‫‪ 8‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.201‬‬

‫‪135‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫العودة إىل املستقبل‬

‫إىل الوحدة املنشودة فإن اإلسالميني اليوم يسريون عىل نفس الخطى يف ما يتعلق باالنشغال بالكُليَّات وإهامل‬ ‫ال ُجزئيَّات‪ .‬يف هذا الخصوص‪ ،‬يرى الربوفسور عزيز العظمة أ َّن إرصا َر القومي َني العرب عىل إعطاء فكرة التجانس‬ ‫والوحدة صفة البداهة‪ ،‬وترددهم قبل اإلقرار بحقيقة التنوع واالختالف‪ ،‬جعلهم غري قادرين عىل إدراك الواقع‪.‬‬ ‫رصوا عىل استمرا ِر ٍ‬ ‫ذات ُمتو َّهم ٍة فرضوها بسطو ِة الدولة املستبدة‪ ،‬فكانت النتيجة مزيدا ً من التفتت‪ .‬ذات‬ ‫فأ ُّ‬ ‫النقاش ينسحب عىل األيديولوجية اإلسالمية السائدة‪ .‬ففي دعوات تطبيق الرشيعة اإلسالمية تغليب للرمزي عىل‬ ‫(((‬ ‫التاريخي‪ ،‬مبعنى تغليب هوي ٍة ثابت ٍة ُمتو َّهم ٍة عىل حقيق ِة التكثرُّ ِ والتن ُّوع داخل هذه الهوية‪.‬‬ ‫كل يش ٍء ستأيت بالحل وال تفريغ املجتمع من اإلسالم هو الرتياق امل ُـنتظَر‪ .‬الواقع معقد‬ ‫ختاماً‪ ،‬ال أسلم ُة ِّ‬ ‫برنامج عملٍ متكامل للنهوض‪ .‬فأحد أهم معوقات اللحاق بركب الحضارة هو ما يطلق عليه عبد اإلله‬ ‫ويستلزم‬ ‫َ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫بلقزيز مصطلح ‘املنهج االستعجايل’ والذي يشري إىل العزوف عن اجرتاع حلول تستجيب إىل تعقيدات الواقع‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تختزل الواق َع‬ ‫وصفات بنكه ٍة أيديولوجي ٍة‬ ‫العريب املعاش واللجوء إىل خطوات متهورة كاالنقالبات‪ ،‬أو النزوع إىل‬ ‫يف ِ‬ ‫أي مرشو ٍع للنهوض لن يُبرص النور ما مل يَق َبل‬ ‫أحد جوانبه‪ ،‬ديناً كان أم سياسة‪ ،‬اقتصادا ً أو اجتامع‪ .‬ولك َّن َّ‬ ‫والتمسك بإمكانية عزل الفكرة عن تاريخ َّيتها له ارتداداتٌ كارثي ٌة عىل‬ ‫اإلسالميون التاريخ‪ ،‬فا ِّدعا ُء ال زمن َّي ِة اإلسالم‬ ‫ُّ‬ ‫ايض ألفرا ٍد يتأثرون بالواقع وتتشكَّل استعداداتهم وفقاً ملقتضياته‪ .‬قد‬ ‫األمة والتي هي يف حقيقة األمر تجم ٌع افرت ٌ‬ ‫تجمعهم فكر ٌة أو أفكار ولك َّن كالً منهم اتخذ مسارا ً تاريخياً متميزا ً أثناء صياغة احتياجاته ومنط تفكريه وأسلوب‬ ‫حياته‪.‬‬ ‫مرشو ُع العود ِة للمستقبل غ ُري قابلٍ للحياة‪ .‬فإ ّما مقامر ٌة بعود ٍة ٍ‬ ‫محسوب نحو مستقبلٍ‬ ‫ملاض متخ َّيلٍ أو تقد ٌم‬ ‫ٌ‬ ‫مأمو ٍل يستوعبنا جميعاً‪.‬‬

‫‪ 9‬العظمة‪ ،‬عزيز‪ .‬األصالة أو سياسة الهروب من الواقع‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بريوت‪ ،1992 ،‬ص‪.24-22‬‬ ‫‪ 10‬بلقزبز‪ ،‬عبد اإلله‪ .‬الجيش والسياسة والسلطة يف الوطن العريب‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،2002 ،‬ص ‪.23-18‬‬

‫‪136‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬


‫املشهد البصري‬

‫مالئكة يف زمن احلرب‬ ‫رامي مكي❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫رغامً عن قذارات الحرب تبقى الرباءة يف عيون أطفالنا‪ .‬تم التقاط الصورة يف إحدى‬ ‫مدارس الالجئني السوريني عام ‪.2013‬‬

‫❊ رامي ميك‪ :‬مصور فوتوغرايف ومصمم غرافيك‪ .‬له العديد من النشاطات يف الوسط الفني والسياحي السوري‪ .‬أسس رشكة تصميم‬ ‫وإدارة فنية باسم أرابيان صول يف دمشق عام ‪ .2006‬كام أنشاً موقعاً إلكرتونياً يوثق برصياً تفاصيل دمشق القدمية‪ .‬له مشاركات‬ ‫بعدة معارض فنية محلية وعربية‪ .‬موقعه الشخيص عىل اإلنرتنت‪www.ramimaki.com :‬‬ ‫‪138‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫عناق األخطبوط‬ ‫إعداد سمارة سالم❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫‘عناق االخطبوط’ جز ٌء من عملٍ فني بعنوان ‘لجوء’‪.‬‬ ‫ترين أن الكوكب مقهى صغري‪ ،‬مقهى وحيد ميكنك التدخني فيه‪ .‬ال زيت الزيتون وال الزعرت الربي داخل الخبز‪ .‬يوجد ما يكفي من‬ ‫املنفى يك تعريف أن الحب يشء مختلف متاماً‪ ،‬وأن الجسد رؤية أقل تعقيدا ً وأكرث أملاً‪ .‬بعني سمكة كل يشء يتجه اليك‪ ،‬يدور‪ ،‬يدور‪،‬‬ ‫ويبتعد عىل شكل دوائر من حولك‪ .‬يداك الطويلتان عبثاً ال تقدران عىل اللعب‪.‬‬ ‫دخلت الجزائر صعدت فوق امليزان‪ :‬م ٌرت وستون‪ ،‬يف ‪ 45‬كيلو‪ .‬ال فرق اآلن يف الحجم!‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أصبحت حيواناً! حيواناً يأكل برشاهة‪ ،‬ميارس الحب‪ ،‬يفقد اللغة‪ ،‬وتُسرْ َ ُق منه أوراقه الثبوتية وجواز سفره‪ .‬ينتقل من بيت آلخر‬ ‫ُ‬ ‫كمجرد جسد‪ .‬مع حيوانك الجديد الذي يتنفس بكل ما لديه من قوة السخرية‪ .‬تنحنني لتلتقطي كوب قهوة بالحليب‪ .‬تخطيه‪ ،‬يعود‬ ‫شعرك لطبيعته تحت املطر‪ .‬تبتسمني وتختبئني ألن القطط أيضاً ال تحتمله‪.‬‬ ‫تتوقفني عن حمل الكامريا ‪ ...‬ال ميكن لحيوانٍ أن يحمل كامريا!‬ ‫❊ سامرة سالم‪ :‬طالبة يف املدرسة العليا للفنون الجميلة يف العاصمة الجزائرية‪.‬‬ ‫‪139‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫إصرار‬

‫بعدسة مصطفى دباس❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫‘إرصار’ صور ٌة تم التقاطها يف ركن الدين يف عيد الفطر سنة ‪.2012‬‬

‫❊ مصطفى دباس‪ :‬صحفي‪ ،‬خريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬مصور فوتوغرايف ورسام كاريكاتور‪ .‬شارك يف معرض تصوير فوتوغرايف‬ ‫بعنوان ِ‬ ‫‘أنت’‪ ،‬ومعرض كاريكاتور بعنوان ‘وجهة نظر’‪ .‬‬ ‫‪140‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫انتصرنا‬

‫كاريكاتور هاين عباس❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫تم رسم ‘انترصنا’ عام ‪ .2013‬بقياس ‪ A4‬عىل الكمبيوتر‪.‬‬

‫❊ هاين عباس‪ :‬خريج دار املعلمني دمشق ‪ .1999‬توقف عند السنة الثالثة يف كلية الرتبية جامعة دمشق‪ .‬عضو نقابة الفنون الجميلة‬ ‫السورية منذ ‪ .1999‬أقام أول معرض فردي عام ‪ 1998‬يف جامعة دمشق‪ ،‬إضافة إىل عدة معارض فردية ومشرتكة يف سوريا والعامل‪.‬‬ ‫حاصل عىل املركز األول للرسامني املحرتفني يف سوريا ثالث مرات‪ ،‬حاصل عىل املركز الثاين يف ‘مسابقة حرية الصحافة العاملية’‬ ‫‪ ،2013‬وعدة جوائز رشفية وتقديرية عربية ودولية‪ .‬عضو لجنة تحكيم يف عدد من املهرجانات منها ‘مهرجان سوريا الدويل‬ ‫للكاريكاتور’‪ ،‬و‘مهرجان ناجي العيل األول للكاريكاتور’ بدمشق ‪ ،2007‬وعضو لجنة تحكيم جائزة مركز ‘بديل’ يف رام الله‪ .‬له‬ ‫ثالثة أفالم كرتون قصرية منجزة وقيد املونتاج‪ .‬يرسم يف عدد من الصحف واملواقع اإللكرتونية العربية‪.‬‬ ‫‪141‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫نزوح‬

‫دعاء نشار❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫تم التقاط الصورة بتاريخ ‪ 15‬آب‪/‬أغسطس ‪.2013‬‬

‫❊ دعاء نشار‪ :‬تدرس يف السنة الرابعة يف كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق‪ ،‬تخصص تصوير زيتي‪.‬‬ ‫‪142‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ابتسامة‬

‫أسامة حويجة❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫تم رسم ‘ابتسامة’ بتاريخ ‪ 10‬كانون الثاين‪/‬يناير ‪ .2014‬والعمل يتكلم عن فقدان معظم‬ ‫أطفال سورية لالبتسامة بسبب األوضاع الحالية ومحاولة البحث عنها‪.‬‬

‫❊ أسامة حويجة‪ :‬فنان سوري خريج كلية الرتبية الرياضية جامعة ترشين عام ‪ .2005‬عمل يف رشكة النجم لالنتاج الفني دمشق‬ ‫باختصاص رسام تحريك ثنايئ االبعاد ‪ ،2008-2006‬ويعمل حالياً يف ديب يف رشكة ‘الصورة الحقيقية لإلنتاج الفني’ منذ عام ‪2008‬‬ ‫حتى اآلن‪ .‬شارك يف عد ٍد من املعارض السابقة منها معرض كاريكاتور فردي يف املكتبة املركزية جامعة ترشين ‪ ،2002‬ومعرض‬ ‫كاريكاتور جامعي يف سلمية ‪ ،2004‬ومعرض كاريكاتور فردي يف املكتبة املركزية يف جامعة ترشين ‪.2005‬‬ ‫‪143‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫قصة حماربة‬

‫بعدسة بانا ماخوس❊‬

‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫التقطت ‘قصة محاربة’ يف ‪ 21‬كانون األول‪/‬ديسمرب ‪ ،2013‬والصورة من سلسلة تحمل‬ ‫نفس العنوان‪ ،‬شاركت الصورة يف معرض عن املرأة السورية ‪ 2013‬بعنوان ِ‬ ‫‘أنت’‪.‬‬

‫❊ بانا ماخوس‪ :‬مصورة فوتوغرافية‪ .‬خريجة كلية االقتصاد بجامعة ترشين‪ ،‬وطالبة يف كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬عضوة يف ‘فرقة‬ ‫املرسح الجامعي’ يف جامعة ترشين حيث شاركت يف عدة مرسحيات بصفة مساعد مخرج ومصور فوتوغرايف‪ .‬كام شاركت يف‬ ‫خمسة معارض مشرتكة يف التصوير الفوتوغرايف بني الالذقية ودمشق‪ ،‬وعدة ورشات عمل يف صناعة األفالم وكتابة السيناريو‪ ،‬ولها‬ ‫تجربة فيلم قصري (فيديو آرت)) بعنوان ‘بال لون’‪.‬‬ ‫‪144‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫ضاع املفتاح‬

‫كاريكاتور مرهف يوسف❊‬ ‫حول العمل الفني‪:‬‬ ‫تم رسم العمل ‘ضاع املفتاح’ عام ‪ ،2002‬وأعيد تجديده ووضع تعديالت عليه عام ‪.2009‬‬ ‫❊ مرهف يوسف‪ :‬فنان سوري خريج معهد الفنون التطبيقية ‪( 2004‬اختصاص نحت)‪ .‬مختص يف مجال الكاريكاتور والرسوم‬ ‫املتحركة وفن الطفل (سيناريو وقصص)‪ .‬شارك يف العديد من املعارض وامللتقيات يف سوريا‪ ،‬ولديه العديد من التامثيل مبختلف‬ ‫املواد خشب وحجر وبرونز‪ .‬شارك يف إعداد عدد من أفالم الرسوم املتحركة كمسلسل ‘دانية’ عىل الـ ‪ ،MBC‬وسلسلة أغاين جحا‪.‬‬ ‫ولديه العديد من األفالم القصرية أهمها فيلم ‘بحرية الوجع’‪ ،‬وفيلم ‘لحظة أمل’‪ .‬شارك يف العديد من معارض الكاريكاتور يف‬ ‫سوريا وإيطاليا ورومانيا ومرص وغريها‪ ،‬حيث حاز عىل العديد من الجوائز منها ‘جائزة الويب’ يف مهرجان ديفا يف رومانيا ‪،2006‬‬ ‫والجائزة الخاصة يف ‘مسابقة األقالم’ يف سوريا عام ‪ ،2007‬والجائزة الثانية يف ‘مسابقة الثقافة العاملية’ يف كندا عام ‪.2010‬‬ ‫‪145‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫‪146‬‬

‫العدد ‪0‬‬ ‫أيار ‪ /‬مايو ـ ‪2014‬‬


‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ‪ -‬لندن‬



‫حول جملة ِدلْـــ َتا نُــون‬

‫مجلة ِدلْـــتَا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام (دمشق ‪ -‬لندن)‪.‬‬ ‫تسعى املجلة إىل دراسة العالقة بني الفكر والشأن العام يف منطقة غرب آسيا وشامل‬ ‫إفريقيا (الرشق األوسط) عموماً‪ ،‬ويف سوريا خصوصاً‪ .‬تعمل املجلة عىل نرش مواد ترتاوح‬ ‫بني املقاالت والدراسات والريبورتاجات الصحفية ومراجعات الكتب‪ ،‬إضافة إىل قسم‬ ‫خاص بالصور الفوتوغرافية والرسومات والكاريكاتور‪ .‬وتهتم املجلة بنرش املواد التي‬ ‫تناقش‪ ،‬يف صور ٍة مرتابط ٍة ومنهجية‪ ،‬ما ينضوي تحت املحاور الثالثة التالية‪:‬‬ ‫• الفكر‪ :‬مبا يشمله هذا العنوان العريض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من أفرا ٍد (كاملثقفني‬ ‫ٍ‬ ‫ومؤسسات (املراكز بحثية‪ ،‬والجامعات‪،‬‬ ‫واألكادمييني والخرباء وال ُكتّاب واإلعالميني)‪،‬‬ ‫والصحافة‪ ،‬ودور النرش)‪ ،‬و ُم ْخ َر َج ٍ‬ ‫ات (كالكتب‪ ،‬واألفكار‪ ،‬والحركات الفكرية)‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫• الشأن العام‪ :‬مبا يشمله هذا العنوان العريض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من أعر ٍ‬ ‫وثقافات‬ ‫اف‬ ‫سائدة و ُم َه َّمشة‪ ،‬وقضايا االقتصاد والتنمية والخدمات‪ ،‬واملجتمع املدين‪ ،‬والصحة‬ ‫والرتبية والتعليم‪ ،‬وتطبيق القانون والترشيعات والحقوق األساسية‪ ،‬واملامرسات‬ ‫السياسة‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫• العالقة بني املح َو َريْن السابقني‪ ،‬أي بني الفكر والشأن العام‪ :‬سواء عىل مستوى التأثر‬ ‫والتأثري‪ ،‬والتقاطع‪ ،‬والسببية‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬واالستقاللية‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫دعوة للكتابة يف جملة ِدلْـــ َتا نُــون‬

‫بعد إصدار العدد صفر يف أيار‪/‬مايو ‪ ،2014‬تسعى مجلة ِدلْـــتَا نُــون إىل إصدار‬ ‫عددها األول يف شهر متوز‪/‬يوليو ‪ .2014‬وعليه ندعو املهتمني (بخاصة من الجيل الشاب‬ ‫والصاعد) إىل إغناء املجلة مبساهامتهم الفكرية والنقدية واملستقلة‪ ،‬بعد االطّالع عىل‬ ‫رشوط وتعليامت النرش يف املوقع اإللكرتوين للمجلة‪ .www.delta-n.c-tpa.org :‬ميكن‬ ‫إرسال الكتابات إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوين‪ ،editors@c-tpa.org :‬علامً أن‬ ‫آخر ٍ‬ ‫موعد الستقبال املساهامت هو منتصف حزيران‪/‬يونيو ‪.2014‬‬

‫رسائل القراء‬

‫ترحب مجلة ِدلْـــتَا نُــون برسائل القراء سواء كانت تعليقات أو تعقيبات أو ردود عىل‬ ‫املواد املنشورة يف املجلة‪ ،‬أو اقرتاحات وانتقادات تسهم يف االرتقاء بعملها‪ .‬ميكن للقراء‬ ‫توجيه كافة الرسائل إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوين‪editors@c-tpa.org :‬‬


‫مقاالت‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫األصولية اإلسالمية يف املرشق العريب – مازن عيل‬ ‫اجتامعي مختلف – عامد الع ّبار‬ ‫وعي‬ ‫نحو تأسيس ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫العرس يف أوكرانيا والطبل يف سوريا – رهام كوسا‬ ‫دور النساء السوريات يف العدالة االنتقالية – علياء أحمد‬ ‫الدولة الريعية زمن التحول السيايس ‪ -‬مجد جـ ّمول‬ ‫التدوين السوري وجدلية االلتصاق بالواقع – وليد بركسية‬ ‫الحقيقة ليست هناك – عماّ ر املأمون‬

‫دراسات‬

‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫املشهد البصري‬

‫ ‬ ‫مراجعات كتب‬ ‫ ‬ ‫ • إيقاعات أدبية عىل أنغام سورية – فرزند عمر‬ ‫ ‬ ‫ • التح ّول الدميقراطي ‪ ..‬سوريا منوذجاً – عبد الحاج‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ريبورتاجات‬ ‫ • إبدا ٌع وسط األمل – الفريق الصحفي يف مجلة ِدلْـــتَا نُــون ‬ ‫• حول مراكز بحوث السياسات – الفريق الصحفي يف مجلة ‬ ‫ ‬ ‫ِدلْـــتَا نُــون‬ ‫‪ ‬‬

‫مركز دراسات الفكر والشأن العام‬

‫‪Centre for Thought and Public Affairs‬‬ ‫‪email: info@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.c-tpa.org‬‬ ‫‪CTPA.Arabic‬‏‬

‫‪@CTPA_Arabic‬‏‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا – محمد ديبو‬ ‫غيالن الدمشقي يف سياقات مختلفة – فراس الح ّواط‬ ‫بني الشعر والفيسبوك – سالف علّوش‬ ‫السينام ك ُم َع رِّب عن تفاوت الرصاع – فيكتوريوس شمس‬ ‫محددات تشكل الهوية الثقافية للطفل السوري ‪ -‬ياسمني عيود‬ ‫قراءة يف دعوات تطبيق الرشيعة – ع ّزام قصري‬

‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬ ‫•‬

‫مالئكة يف زمن الحرب – رامي ميك‬ ‫عناق األخطبوط – سامرة سالم‬ ‫إرصار – مصطفى دباس‬ ‫انترصنا – هاين عباس‬ ‫نزوح – دعاء نشار‬ ‫ابتسامة ‪ -‬أسامة حويجة‬ ‫قصة محاربة – بانا ماخوس‬ ‫ضاع املفتاح – مرهف يوسف‬

‫مجلة دلتا نون‬

‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ـ لندن‬

‫‪email: editors@c-tpa.org‬‏‬ ‫‪www.delta-n.c-tpa.org‬‏‬ ‫‪DeltaN.Arabic‬‏‬

‫‪@DeltaN_Arabic‬‏‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.