Delta-N - Issue 02 - Arabic مجلة دلتا نون - العدد الثاني

Page 1

‫مجلـــة يصــدرها مركــز دراســات الفكــر والشــأن العــام‪ .‬دمشــق ‪ -‬لنــدن‬

‫العــدد الثاين‪ ،‬كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬

‫تقريــر‪:‬‬

‫مراجعات كتب‪:‬‬

‫ريبورتاجات‪:‬‬

‫• العدالة االنتقالية من الباسك إىل أوكرانيا‬

‫• يف السرية الصوفية ملحمد إقبال‬

‫مقاالت‪:‬‬

‫دراســـات‪:‬‬

‫• دلتا نون تناقش ملف املعتقلني‬ ‫• حول اإللحاد يف مجتمع متدين‬

‫• قراءة يف التنظري الثوري يف سوريا‬

‫• الدولة الليربالية بني الرتهيب والعلمنة‬

‫• الزواج يف ظل الواقع السوري‬


‫العدد ‪ 2‬ـ كانون األول ‪/‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬

‫صورة الغالف‪:‬‬ ‫‘نصف إمرأة’‬

‫آالء حميدي‪ ،‬املزيد يف محور ‘املشهد البرصي’‬ ‫يف الصفحة ‪221‬‬

‫ِدل َتـا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ـ لندن‪ .‬السنة األوىل‪ ،‬العدد الثاين‪ ،‬كانون األول‪ /‬ديسمرب ‪2014‬‬

‫هيئة التحرير‪:‬‬

‫طالل امل َ ْي َهني (رئيس التحرير)‬

‫فرزند عمر (محرر القسم العريب)‬

‫مازن عيل (محرر القسم العريب وجولة العدد)‬ ‫عزام قصري (محرر القسم اإلنكليزي)‬

‫ماهر املونس (محرر القسم الصحفي)‬

‫الفريق الصحفي‪ :‬دميا نقوال‬ ‫طارق العبد‬ ‫عالء إحسان‬ ‫قيص عاممة‬ ‫أحمد حاج حمدو‬ ‫نور شلغني (جولة العدد ومقهى دلتا نون)‬ ‫فريق امللتيميديا‪ :‬مصطفى دباس‬ ‫كندة يوسف‬ ‫خالد هربش‬ ‫فريق الرتجمة‪ :‬مين القييس‬ ‫رميه سواح‬ ‫مسؤول اإلنرتنت‪ :‬طارق سواح‬ ‫تدقيق لغوي‪ :‬عبد السالم حلوم‬ ‫محمد متني امليهني‬

‫لالتصال بنا‪:‬‬ ‫مكتب دمشق‪:‬‬

‫شارع العابد ‪ -‬جادة العاين‬ ‫ص‪.‬ب‪10250 :‬‬

‫مكتب لنــدن‪:‬‬

‫‪436A Hamilton House‬‬ ‫‪Mabledon Place, Bloomsbury‬‬ ‫‪London, WC1H 9BB‬‬ ‫‪Tel. +44 20 75 54 85 30‬‬ ‫‪email: editors@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.delta-n.c-tpa.org‬‬

‫مركز دراسات الفكر والشأن العام‬

‫‪Centre for Thought and Public Affairs‬‬ ‫‪email: info@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.c-tpa.org‬‬

‫التصميم واإلخراج الفني‪:‬‬

‫‪Omran Attar‬‬

‫‪gaea.goddess@gmail.com‬‬


‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ‪ -‬لندن‬


‫احملتوى‬ ‫‪7‬‬

‫حترير‬ ‫االفتتاحية‪ :‬الظالمية‬ ‪‭‬حني‬ ‪‭‬تثبت‬ ‪‭‬أركانها‬

‫هيئة التحرير‬

‫‪8‬‬

‫جولة العدد‬

‫هيئة التحرير‬

‫‪10‬‬

‫‪17‬‬

‫مقاالت‬ ‫قراءة‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬التنظري‬ ‪‭‬الثوري ‬يف‬ ‪‭‬السياق‬ ‪‭‬السوري‬

‫طالل املَيْ َهني‮‬

‫‪18‬‬

‫الشــرق‬

‫من ّور الش ّوا‬

‫‪24‬‬

‫الفساد‪ :‬مقاربة‬ ‪‭‬منظومية‬ ‪‭‬نحو‬ ‪‭‬التحديث‬

‫مازن عيل‬

‫‪30‬‬

‫مظاهر‬ ‪‭‬العلمنة‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬املامرسات‬ ‪‭‬اإلسالمية‬ ‪‭‬األوىل‬

‫مبارك أباعزي‬

‫‪34‬‬

‫مرثية‬ ‪‭‬لربي ‬عٍ ‪‭‬ضائع‪ :‬الشيطان‬ ‪‭‬يكمن‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬التفاصيل‬

‫هوزان خداج‬

‫‪38‬‬

‫تنظيم‬ ‪‭‬الدولة‬ ‪‭‬اإلسالمية‬‪ ‭:‬تساؤالت‬ ‪‭‬تاريخية‬ ‪‭‬وفكرية‬

‫وسيم السلطي‬

‫‪42‬‬

‫فيلم‬ ‪‘‭‬املرآة’‬ ‪‭‬ألندريه‬ ‪‭‬تاركوفسيك‪ :‬قراءة‬ ‪‭‬نقدية‬

‫عالء الدين العامل‬

‫‪49‬‬

‫‪55‬‬

‫مراجعات كتب‬ ‫تقاطع‬ ‪‭‬نريان‬

‫محمد حجو‬

‫‪56‬‬

‫ُمح ّمد‬ ‪‭‬إقبال‪ :‬نحو‬ ِ‪‭‬سري ٍ ‬ة ‪‭‬صوف ّية‬

‫خالد محمد عبده‬

‫‪64‬‬

‫إعادة‬ ‪‭‬قراءة‬ ‪‭‬لرواية‬ ‪‘‭‬مزرعة‬ ‪‭‬الحيوانات’‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬زمن‬ ‪‘‭‬الربيع‬ ‪‭‬العريب’‬

‫أحمد مصطفى الغر‬

‫‪81‬‬


‫‪89‬‬

‫ريبورتاجات صحفية‬ ‫مبادئ‬ ‪‭‬العدالة‬ ‪‭‬االنتقالية‬‪ ‭:‬من‬ ‪‭‬بالد‬ ‪‭‬الباسك‬ ‪‭‬إىل‬ ‪‭‬أوكرانيا‬

‫سليامن عيل سليامن‬

‫‪90‬‬

‫اإللحاد‬ ‪‭‬والبحث‬ ‪‭‬عن‬ ‪‭‬رب‬ ‪‭‬غري‬ ‪‭‬سخيف‬

‫نرسين عالء الدين‬

‫‪104‬‬

‫‬حرف ‪‭‬ضائ ٌ ‬ع ‪‭‬يف‬ ‪‭‬أبجدية‬ ‪‭‬األزمة‬ ‪‭‬السورية‬ ‫املقبلون‬ ‪‭‬عىل‬ ‪‭‬الزواج‪‬ ٌ :‬‬

‫أحمد حاج حمدو‬

‫‪111‬‬

‫الفصائل‬ ‪‭‬املسلحة‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬سوريا‬‪ ‭:‬أهالً‬ ‪‭‬باملسلحني‬ ‪‭‬ولكن‬ ‪‭‬برشوط‬‬

‫طارق العبد‬

‫‪119‬‬

‫عن‬ ‪‭‬الحرب‬ ‪‭‬والتعايش‪ :‬القصة‬ ‪‭‬الحمصيّة‬ ‪‭‬الكاملة‬

‫سومر طالل العيل‬

‫‪123‬‬

‫بني‬ ‪‭‬أمل‬ ‪‭‬املعتقل‬ ‪‭‬وترصيح‬ ‪‭‬الوزير‬‪ ‭:‬ملف‬ ‪‭‬االعتقال‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬سوريا‬

‫قيص عاممة‬

‫‪128‬‬

‫أحال ٌ ‬م ‪‭‬سورية‪ :‬بني‬ ‪‭‬الداخل‬ ‪‭‬والخارج‬

‫مليس الجاسم‬

‫‪135‬‬

‫‪141‬‬

‫دراسات‬ ‫أسباب‬ ‪‭‬عجز‬ ‪‭‬املثقف عن‬ ‪‭‬إنتاج‬ ‪‭‬معرفة‬ ‪‭‬سورية‬

‫محمد ديبو‬

‫‪142‬‬

‫مفهوم‬ ‪‭‬الهوية‬ ‪‭‬الرسدية من‬ ‪‭‬منظور‬ ‪‭‬بول‬ ‪‭‬ريكور‬

‫زهري الخويلدي‬

‫‪154‬‬

‫كل‬ ‪‭‬الطرق‬ ‪‭‬تؤدي‬ ‪‭‬إىل‬ ‪‭‬العوملة‪ :‬روما‬ ‪‭‬الجديدة‬

‫إبراهيم النفره‬

‫‪161‬‬

‫الخطاب‬ ‪‭‬اإلعالمي‬ ‪‭‬االرسائييل املوجه‬ ‪‭‬للعرب‬ ‪‭‬عرب‬ ‪‭‬الـ‬ ‪‘‭‬نيوميديا’‬ ‪‭‬‬

‫حيان الضلع‬

‫‪168‬‬

‫إشكالية‬ ‪‭‬التدخل‬ ‪‭‬الدويل‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬سوريا‬

‫محمد زيكار‬

‫‪175‬‬

‫محددات‬ ‪‭‬تشكيل‬ ‪‭‬الهوية‬ ‪‭‬الثقافية للطفل السوري‬

‫ياسمني حسني عيود‬

‫‪181‬‬

‫الفضاء‬ ‪‭‬العمومي‬ ‪‭‬من‬ ‪‭‬هابرماس‬ ‪‭‬إىل‬ ‪‭‬نانيس‬ ‪‭‬فريزر‬

‫رشيد العلوي‬

‫‪193‬‬

‫يف‬ ‪‭‬الدولة‬ ‪‭‬الليربالية‬‪ ‭:‬بني‬ ‪‭‬الرتهيب‬ ‪‭‬والعلمنة‬

‫تحسني بايازيوراك‬

‫‪211‬‬

‫املشهد البصري‬

‫‪218‬‬


‫املشهد البصري‬

‫تخيلي لزوجني سوريني’‬ ‫‘تشبيه عقلي ّ‬

‫كنده يوسف ❊‬

‫❊ خريجة طلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ ،‬قسم اإلذاعة والتلفزيون‪ .‬مدونة يف موقع ‪ .blokeh.com‬كتبت وأخرجت عدة أفالم قصرية‬ ‫كان آخرها بعنوان ‪ .Altico‬منسقة نشاطات ثقافية ومعارض فنية يف ‘منتدى البناء الثقايف’ يف دمشق‪ ،‬ومعدة تقارير ومذيعة يف‬ ‫‘راديو بنا’ (يبث عرب اإلنرتنت)‪ ،‬إضافة إىل عملها كصحفية مستقلة‪.‬‬ ‫“الفن بالنسبة يل وسيلة ال محدودة للتفكري‪ .‬يصبح الفن ذا معنى حني يلتقي الجنون بالوعي البرشي‪ .‬ال أعترب نفيس فنانة‪ ،‬ولكني‬ ‫أفسح املجال ألفكاري لتتنفس يك تعرب عن كينونتها املريضة”‪.‬‬ ‫‪6‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حتــرير‬ ‫افتتاحية العدد‬ ‫جولة العدد‬


‫حترير‬

‫االفتتاحية‬

‫الظالمية حني تثبت أركانها‬ ‫نضع بين أيديكم العدد الثاني من مجلة دلتا نون التي يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪.‬‬ ‫يأتي هذا العدد الجديد في ٍ‬ ‫عصيب تعيش فيه شعوب المنطقة حال ًة عميق ًة من االنقسام واالستقطاب‬ ‫وقت‬ ‫ٍ‬ ‫تصدعات وانهيار ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سادت‬ ‫ات في المنظومات السياسية واالجتماعية التي‬ ‫وخلق ‘اآلخر’ ورفضه‪ .‬كل هذا وسط‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫منظومات بديلة قادرة على تجاوز تراكمات‬ ‫في المنطقة لعقود‪ ،‬دون أن يترافق ذلك بالضرورة مع بناء‬ ‫إنتاج لما كان قائماً تحت عناوين‬ ‫الماضي‪ .‬بل لعل ما يحدث في عد ٍد من دول المنطقة ليس سوى إعادة ٍ‬ ‫صيغ قد تكون أكثر قمعاً وظلماً وتطرفاً واستبداداً‪ ،‬ما يزيد من المعاناة اإلنسانية‪ ،‬و ُيضعف‬ ‫مختلفة‪ ،‬وفي ٍ‬ ‫من احتماالت خلق حلولٍ قابلة للتطبيق‪.‬‬ ‫لكن هذا الواقع لم ِ‬ ‫تعددت أسبابه وتنوعت من السياسي واالجتماعي واالقتصادي‪،‬‬ ‫يأت من فراغ‪ ،‬فقد‬ ‫ْ‬ ‫فض ًال عن الجمود الفكري الذي يمكن اعتباره واحداً من أهم تلك األسباب‪ .‬ورغم إقرار الكثيرين بأهمية‬ ‫نقدي وجريء‪ ،‬إال أن الظروف القائمة‬ ‫فكري‬ ‫نتاج‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫الحراك الفكري‪ ،‬ورغم أن المنطقة في أمس الحاجة إلى ٍ‬ ‫ستجعل من أي محاول ٍة ج ّدي ٍة في هذا السياق عرض ًة للتهجم والتخندق‪ .‬وسط هذه الظروف تؤكد مجلة‬ ‫دلتا نون على أنها ليست مشروعاً إرضائياً‪ ،‬وليست مبادر ًة لالصطفاف السياسي األعمى أو للتماهي مع‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ونقدية‪ ،‬تُعلي من حرية الرأي والتعبير‪ ،‬في سبيل فهم‬ ‫فكرية‬ ‫محاولة‬ ‫العنف المنفلت في المنطقة‪ ،‬بل هي‬ ‫الواقع المعقد تمهيداً للتعامل معه‪ ،‬باالعتماد على شبك ٍة من األقالم الشابة والصاعدة والمخضرمة‪.‬‬ ‫تأتي مواد العدد الحالي‪ ،‬تمشّ ياً مع نهج المجلة‪ ،‬كي تدرس األبعاد الفكرية لعد ٍد من القضايا في‬ ‫الفضاء العام في المنطقة‪ .‬وقد تراوحت هذه المواد بين المقاالت ومراجعات الكتب والريبورتاجات‬ ‫والدراسات‪ ،‬باإلضافة إلى مجموع ٍة مختار ٍة من األعمال الفنية في قسم المشهد البصري‪.‬‬ ‫ففي قسم المقاالت ترثي هوازن خداج “الربيع الضائع”‪ ،‬في حين يحاول وسيم السلطي اإلشارة إلى‬ ‫بعض الجذور الفكرية التي استندت إليها داعش في نشأتها‪ .‬كما كتب رئيس التحرير‪ ،‬د‪ .‬طالل الميهني‪،‬‬ ‫مقاالً نقدياً قدم قراء ًة أولي ًة في خطاب المعارضة السورية السائدة إعالمياً‪ ،‬وقدم محرر القسم العربي في‬ ‫المجلة‪ ،‬األستاذ مازن علي‪ ،‬مقاالً عن التآزر بين الفساد والمنظومات السياسية القائمة‪ .‬أما منور شوا فكتب‬ ‫وبأسلوب أدبي وفكري سلس عن صورة الشرق كما تصنعها العين الغربية‪ .‬يضاف إلى ذلك مقاالت بقلم‬ ‫مبارك أباعزي عن العلمانية في اإلسالم‪ ،‬وعالء الدين العالم عن فيلم المرآة لتاركوفسكي‪.‬‬ ‫عرض لكتب محمد إقبال بقلم خالد محمد عبده‪ ،‬وإعادة قراءة لرواية مزرعة‬ ‫وقد اشتمل العدد على ٍ‬ ‫الحيوان في سياق الربيع العربي بقلم أحمد مصطفى الغر‪ ،‬ومراجعة بقلم محمد حجو لكتاب تقاطع نيران‬ ‫للمؤلفة سمر يزبك‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫في قسم الريبورتاجات يكتب سليمان سليمان تقريراً محكماً عن مؤتمر العدالة االنتقالية الذي أقيم‬ ‫في إقليم الباسك الفرنسي‪ .‬كما يقدم الفريق الصحفي في دلتا نون عدداً من التحقيقات المنوعة التي‬ ‫تناولت الواقع السوري والشرق أوسطي؛ بدءاً باإللحاد والسالح وأحالم الشباب الضائعة‪ ،‬وانتها ًء بالمعتقلين‬ ‫والتعايش والزواج في ظل الوضع السوري القائم‪.‬‬ ‫وتقرؤون في قسم الدراسات عن العولمة بقلم إبراهيم النفره‪ ،‬وإشكالية التدخل الدولي في سوريا‬ ‫بقلم محمد زيكار‪ ،‬والخطاب اإلعالمي اإلسرائيلي بقلم حيان الضلع‪ ،‬والجزء الثاني من محددات الهوية‬ ‫الثقافية للطفل السوري بقلم ياسمين عيود‪ .‬كما يكتب محمد ديبو الجزء الثاني من دراسته المعمقة‬ ‫عن واقع المثقف السوري وعالقته مع المعارضة والشأن العام في سوريا‪ .‬ويشتمل العدد على دراستين‬ ‫فلسفيتين بقلم رشيد العلوي عن هايبرماس وفريزر والفضاء العمومي‪ ،‬وبقلم زهير الخويلدي عن الهوية‬ ‫السردية في فكر الفيلسوف بول ريكور‪ .‬وأخيراً تقرؤون دراس ًة مترجم ًة عن اإلنكليزية تس ّلط الضوء في‬ ‫صور ٍة نقدي ٍة على الترهيب المتأصل في مفهوم الدولة الليبرالية بقلم الباحث تحسين بايازيوراك‪.‬‬ ‫أخيراً وليس آخراً‪ ،‬نأمل أن تنال المواد استحسان ال ُقراء األعزاء‪ ،‬وأن تكون استمراراً لسعي هيئة‬ ‫التحرير لخلق حال ٍة من النقاش الفكري الحر والنقدي في القضايا العامة في سوريا وعموم المنطقة‪.‬‬ ‫هيئة التحرير‬ ‫مجلة دلتا نون‬

‫‪9‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬

‫جولة العدد‬ ‫أخبار مركز دراسات الفكر والشأن العام‬ ‫تهنئة‬ ‫في ختام “ملتقى أريج السابع للصحافة االستقصائية” فاز‬ ‫أحمد حاج حمدو‪ ،‬بالمشاركة مع مختار إبراهيم‪ ،‬بالجائزة األولى‬ ‫من فئة المطبوع عن تحقيقهما المعنون بـ “االغتراب المزدوج‪:‬‬ ‫وعقد ملتقى‬ ‫شبكات تستولي على عقارات السوريين بالتزوير”‪ُ .‬‬ ‫أريج السابع مطلع كانون األول‪/‬ديسمبر ‪ 2014‬في العاصمة‬ ‫األردنية عمان‪ ،‬وبحضور المئات من أعضاء منظمة أريج‪ ،‬وعدد‬ ‫من اإلعالميين المخضرمين العرب واألجانب كيسري فودة وسايمور‬ ‫هيرش‪ .‬يذكر أن أحمد حاج حمدو هو عضو الفريق الصحفي في‬ ‫مجلة دلتا نون التي يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪.‬‬ ‫إطالق ملحق دلتا نون اخملتصر‬ ‫تم في تشرين األول‪/‬أكتوبر ‪ 2014‬إطالق ملحق دلتا نون المختصر‪ ،‬وهو مدونة تابعة لمجلة دلتا نون‬ ‫التي ينشرها مركز دراسات الفكر والشأن العام (دمشق – لندن)‪ .‬يشكل الملحق منصة للنشر السريع لمواد‬ ‫قصيرة الحجم‪ ،‬دون الحاجة لالنتظار ليتم نشرها في مجلة دلتا نون التي تصدر فصلياً‪ .‬ويهتم الملحق بنشر‬ ‫مواد تناقش وتسلط الضوء على األحداث اليومية اآلنية وقضايا الساعة‪ ،‬مع التركيز على الوقائع والمقابالت‬ ‫واالعتماد على آراء الخبراء‪ .‬وقد تكون هذه المواد على شكل‪ :‬تعليقات وتحليالت‪ ،‬مقاالت رأي أو تقارير‬ ‫صحفية‪ .‬يمكن االطالع على الملحق على الرابط التالي‪deltanblog.wordpress.com :‬‬ ‫دعوة للمشاركة يف العدد القادم من جملة دلتا نون‬ ‫تدعو هيئة التحرير كل الكتاب والباحثين المهتمين إلى المشاركة في العدد القادم (ربيع ‪ )2015‬من‬ ‫مجلة دلتا نون‪ .‬يمكن إرسال المساهمات المكتوبة على اإليميل التالي ‪ editors@c-tpa.org‬علماً أن آخر‬ ‫موعد الستقبال المواد هو نهاية كانون الثاني‪/‬يناير ‪.2015‬‬ ‫دعوة للمشاركة يف ملف خاص عن اإلسالم السياسي‬ ‫يحتوي العدد القادم من مجلة دلتا نون (ربيع ‪ )2015‬على ملف خاص حول اإلسالم السياسي‪.‬‬ ‫سيتضمن الملف عدداً من المقاالت القصيرة والمطولة التي تناقش اإلسالم السياسي على كافة المستويات؛‬ ‫‪10‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫االصطالحية والتاريخية والفلسفية واالجتماعية والسياسية العملية وغيرها‪.‬‬ ‫وفي هذا السياق تدعو هيئة التحرير كل الكتاب والباحثين المهتمين إلى المشاركة في هذا الملف‪،‬‬ ‫وإرسال مساهماتهم المكتوبة إلى اإليميل التالي ‪ editors@c-tpa.org‬علماً أن آخر موعد الستالم المواد هو‬ ‫نهاية كانون الثاني‪/‬يناير ‪ .2015‬يذكر أن هيئة التحرير ستسعى إلى ترجمة الملف ليكون متاحاً للجمهور‬ ‫الناطق باإلنكليزية‪ ،‬كما أن بعض المواد المختارة سيتم نشرها في موقع أوبن ديمكراسي في سياق اتفاقية‬ ‫التعاون مع مركز دراسات الفكر والشأن العام‪.‬‬ ‫ورقة بحثية عن تأثري الصراع على الوضع النفسي لألطفال يف سوريا‬ ‫(قيد التحضري للنشر)‬

‫أنجزت الباحثة علياء أحمد دراسة ميدانية عن تأثير العنف على الوضع النفسي لألطفال في سوريا‪.‬‬ ‫حيث توصلت الباحثة في هذه الورقة إلى مجموعة من النتائج التي حصلت عليها عبر دراسة ميدانية‬ ‫مباشرة‪ .‬وقد عمدت الباحثة إلى توظيف عدد من الطرائق البحثية في مجاالت علم االجتماع وعلم النفس‪،‬‬ ‫فض ًال عن االستبيانات المباشرة والمقابالت مع شريحة عشوائية من األطفال النازحين وذويهم في ريف‬ ‫دمشق‪ .‬ويعمل مركز دراسات الفكر والشأن العام على تجهيز الورقة للنشر لتغدو متوفرة مطلع كانون‬ ‫الثاني‪/‬يناير ‪.2015‬‬ ‫ورقة بحثية عن الكتابة الروائية األنثوية والشأن العام (قيد التحضري للنشر)‬ ‫يعمل مركز دراسات الفكر والشأن العام على إصدار ورقة بحثية تناقش دور الكتابة الروائية األنثوية‬ ‫في التفاعل مع قضايا الفضاء العمومي‪ .‬حيث قامت هيئة التحرير باختيار عدد من األسماء األدبية من‬ ‫سوريا والعراق والسودان وكردستان وتركيا وتمت دعوة عدد من الكتاب للكتابة عنهن وعن نتاجهن األدبي‪.‬‬ ‫الورقة من إشراف عضو هيئة التحرير الدكتور فرزند عمر‪ ،‬وتقديم األستاذ الدكتور سعد الدين كليب أستاذ‬ ‫علم الجمال في جامعة حلب في سوريا‪.‬‬ ‫حماضرة يف جامعة لندن‬ ‫ألقى الدكتور طالل الميهني‪ ،‬رئيس تحرير دلتا‬ ‫نون ومدير المركز‪ ،‬محاضر ًة بعنوان‪“ :‬سوريا اليوم‪:‬‬ ‫الصحة والسياسة”‪ .‬حيث سلطت المحاضرة الضوء على‬ ‫واقع السياسة الصحية في سوريا في ظل الصراع العنفي‬ ‫القائم‪ ،‬وقدم الدكتور الميهني عرضاً عن تعقيدات‬ ‫الوضع السوري وأثر ذلك على الواقع الصحي‪ .‬يذكر‬ ‫أن المحاضرة كانت برعاية مجلس رعاية األكاديميين‬ ‫المعرضين للخطر ‪Council for At-Risk Academics‬‬ ‫في لندن‪.‬‬ ‫‪11‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬ ‫حماضرة تفاعلية يف كلية الدراسات الشرقية واإلفريقية‬ ‫في سياق نشاطات مركز دراسات الفكر والشأن العام‪،‬‬ ‫ألقى األستاذ مازن علي‪ ،‬محرر القسم العربي في دلتا نون‪،‬‬ ‫محاضر ًة بعنوان‪“ :‬المشرق العربي فوات تاريخي وآالم‬ ‫مجانية”‪ .‬ناقشت المحاضرة بعض األفكار الخاصة بالوضع‬ ‫الجيوسياسي في سوريا بخاصة مع استفحال الصراع العنفي‪،‬‬ ‫ووقوع أجزاء من سوريا والعراق تحت سيطرة تنظيم الدولة‬ ‫اإلسالمية (داعش)‪ ،‬وتأثير ذلك على الجغرافيا السياسية في‬ ‫المنطقة‪ .‬تبع اللقاء جلسة نقاش مفتوح مع الحضور‪.‬‬

‫أخبار ثقافية وفنية‬ ‫‪ BBC‬تس ّلط الضوء على أفالم الواقع العربي يف مهرجان عن قرب‬ ‫أقامت هيئة اإلذاعة‬ ‫البريطانية ‪ ،BBC‬مهرجان‬ ‫األفالم الوثائقية “عن قرب”‪،‬‬ ‫الذي يسلط الضوء على األفالم‬ ‫التي تم صنعها منذ بداية االنتفاضات في العالم العربي‪ ،‬وذك على مسرح الهيئة في لندن‪ ،‬بين ‪ 31‬أكتوبر‪/‬‬ ‫تشرين األول و‪ 3‬نوفمبر‪/‬تشرين الثاني ‪.2014‬‬ ‫وذكر موقع ‪ BBC‬العربي أنّ برنامج المهرجان سيتض ّمن عروضاً ومحاضرات ونقاشات وورشات عمل‬ ‫لجميع المهت ّمين في مجال األفالم التمثيلية الطويلة والقصيرة‪ ،‬واألفالم الوثائقية واالستقصائية‪ ،‬إضافة إلى أفالم‬ ‫صحافة المواطن‪ ،‬وسيتم تكريم الفائزين بجوائز المهرجان خالل حفل الختام‪ ،‬إضافة إلى اإلعالن عن اسم الفائز‬ ‫بأول جائزة من نوعها للصحفي العربي الشاب‪.‬‬ ‫وأشار الموقع االلكتروني إلى أنّه تم تخصيص الجلسة الثانية في برنامج المهرجان‪ ،‬ألمسية “حكايات‬ ‫من سوريا”‪ ،‬والتي تتضمن الفيلم الوثائقي “شباب اليرموك” من إخراج أليكس سالفاتوري سينز‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫فيلم “وداعاً دمشق” من إخراج عزة الحموي‪ ،‬والذي تدور قصته حول المعاناة الخاصة التي تتع ّرض لها الفنانة‬ ‫السورية المعارضة مي سكاف خالل فترة الحرب‪.‬‬ ‫و ُيشار إلى أنّه قد ترأس لجنة تحكيم األفالم القصيرة والطويلة‪ ،‬مسؤولة إعالم ‪ BBC‬باللغات غير‬ ‫اإلنكليزية ليليان الندور‪ ،‬فيما ترأس لجنة تحكيم األفالم الوثائقية واالستقصائية وصحافة المواطن‪ ،‬رئيس تحرير‬ ‫برنامج “بانورما” الذي تعرضه قناة “‪ ”BBC‬توم جايلز‪.‬‬ ‫وقد تم اإلعالن عن أسماء الفائزين وهم‪ :‬فيلم “أم أميرة” للمخرج ناجي إسماعيل (عن فئة األفالم‬ ‫الوثائقية)‪ ،‬وفيلم “زينوس” للمخرج مهدي فليفل (عن فئة األفالم القصيرة)‪ ،‬وفيلم “جرح” للمخرج وائل كالدو‬ ‫(عن فئة صحافة المواطن)‪ ،‬وفيلم “صابر على الغلب” للمخرج عبد الفتاح فرج (وهي جائزة بي بي سي العربي‬ ‫للصحافيين الشباب)‪.‬‬ ‫‪12‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫فيلم “بلدنا الرهيب”‬ ‫يحصد اجلائزة الكربى يف مهرجان مارسيليا السينمائي الدويل‬ ‫حاز الفيلم السوري “بلدنا الرهيب” على اهتمام‬ ‫الصحافة العربية خالل الفترة الماضية‪ ،‬بعد أن حصل‬ ‫على الجائزة الكبرى في مهرجان مارسيليا الدولي ‪،2014‬‬ ‫في شهر سبتمبر‪/‬أيلول ‪.2014‬‬ ‫ويتناول الفيلم قصة الكاتب السوري المعارض‬ ‫ياسين الحاج صالح‪ ،‬الذي اعتقلته السلطات السورية‬ ‫ويجسد رحلته الحقيقية‬ ‫في ‪ 1980‬لنحو ‪ 16‬عاماً‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫في البالد قبل أن ينتهي إلى منفاه الحالي في تركيا‪.‬‬ ‫وقد تم تصوير الفيلم‪ ،‬الذي أخرجه زياد الحمصي‬ ‫وعلي األتاسي‪ ،‬في بقاع سورية عديدة‪ ،‬بدءاً من دوما الخاضعة لسيطرة المعارضة‪ ،‬إلى القلمون والصحراء‬ ‫السورية‪ ،‬وصوالً إلى مدينة الرقة الشمالية‪ ،‬التي يسيطر عليها تنظيم ‘داعش’‪ ،‬ويشارك المخرجان في تجسيد‬ ‫شخصيات الفيلم الوثائقي إلى جانب ياسين الحاج صالح‪ ،‬لينتهي الفيلم بنبأ اعتقال زوجته سميرة الخليل‪،‬‬ ‫إلى جانب الناشطة رزان زيتونة وغيرهم في دوما‪.‬‬ ‫و ُيشار إلى أن الفيلم الذي استغرق تصويره عاماً من عمر الحرب السورية‪ُ ،‬يؤ ّرخ مرحلة تاريخية‬ ‫هامة‪ ،‬بدءاً من المراحل السلمية لالنتفاضة السورية‪ ،‬إلى تصاعد التسليح والعنف في البالد‪ ،‬وصوالً إلى‬ ‫ظهور التيارات اإلسالموية المتطرفة وهيمنتها على الحركة المعارضة في البالد‪.‬‬ ‫مسرحية “فوق الصفر” حتمل هواجس السوريني إىل بريوت‬ ‫احتضن مسرح “بابل” في بيروت‪،‬‬ ‫العرض المسرحي السوري الراقص “فوق‬ ‫الصفر”‪ ،‬للمخرج السوري أسامة حالل‪ ،‬في‬ ‫أربع أمسيات متتالية‪ ،‬بين ‪ 8‬و‪ 12‬تشرين‬ ‫األول‪/‬أكتوبر ‪.2014‬‬ ‫وأ ّدى شخصيات المسرحية ‪ 8‬مؤدين‪،‬‬ ‫عملوا على تجسيد هواجس السوريين‬ ‫خالل الحرب‪ ،‬على اختالف انتماءاتهم‪،‬‬ ‫منطلقين من شعر األلماني برتولد بريخت‪،‬‬ ‫التي قام بتلحينها العازف السوري مازن السيد‪ .‬وامتد العرض المسرحي على نحو ‪ 80‬دقيقة‪ ،‬جمعت مشاهد‬ ‫متنوعة من واقع الحرب السورية على اختالف بقاع ضحاياها‪ ،‬بدءاً من االعتقال والخطف‪ ،‬والقصف واألسلحة‬ ‫الكيماوية‪ ،‬وليس انتهاء بالخوف وتفشّ ي التط ّرف‪ ،‬لينتهي المؤدون إلى نتيجة واحدة على اختالف انتماءاتهم‪،‬‬ ‫وهي االنتحار‪ ،‬مبقين على أحدهم معلقاً بين احتماالت االنتحار أو البقاء على قيد الحياة‪ .‬و ُيشار إلى أنّ‬ ‫المخرج السوري قدم في عام ‪ 2012‬عم ًال مسرحياً راقصاً بعنوان “سولفان” مع فرقة “سما” بقيادة عالء كريميد‪،‬‬ ‫متناوالً بشكل مشابه زمن الحرب من جانب الهواجس اإلنسانية‪.‬‬ ‫‪13‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬ ‫أخبار متفرقة‬ ‫أدونيس يثري اجلدل ويبقى بال نوبل مرة أخرى‬ ‫لم يكد الجدل المتواصل حول المواقف السياسية للشاعر‬ ‫السوري أدونيس يخفت‪ ،‬حتى تصاعد جدل جديد حول تأهله الدائم‬ ‫لجائزة ‘نوبل’ العالمية في مجال األدب‪ ،‬وعدم فوزه بها مر ًة إثر أخرى‪.‬‬ ‫بعض الصحف العربية وصفت أدونيس بالمرشّ ح األبدي للجائزة‪،‬‬ ‫في حين أبدى الشاعر المصري فاروق جويدة خيبة أمله لعدم فوز‬ ‫نظيره السوري بالجائزة العريقة‪ ،‬معتبراً أنّه يستح ّقها أكثر من الفائز‬ ‫النهائي‪ ،‬األديب الفرنسي باتريك موديانو‪ ،‬مضيفا‪“ :‬أن اللجنة لها‬ ‫تقديرات في منح الجائزة‪ ،‬منها حسابات سياسية أكثر منها أدبية”‪.‬‬ ‫وكان أدونيس قد تع ّرض في وقت سابق بداية آب‪/‬أغسطس‬ ‫‪ 2014‬الماضي لهجوم عنيف ش ّنه نظيره العراقي عبد القادر الجنابي‪،‬‬ ‫الذي أطلق نيران انتقاداته على أدونيس‪ ،‬في إشارات عديدة حول‬ ‫تناقض مواقفه‪ ،‬واصفا إياه بـ “شيطان يعرف كيف يصنع من صغار‬ ‫الشعراء عبيداً له في كل زاوية وجريدة ليفرضوه كإله الحداثة”‪ .‬وذهب الجنابي إلى اتهام أدونيس بالتقلب‬ ‫المرفق بالكذب‪ ،‬مستشهداً بـ “وقوفه إلى جانب النظام السوري خالل الحرب‪ ،‬ألسباب طائفية بحتة”‪ ،‬ليختم‬ ‫بقوله‪“ :‬بعض األغبياء يغفرون ألدونيس بحجة أنه شاعر كبير‪ .‬وأنا أقول ربما فع ًال أدونيس شاعر كبير عند‬ ‫العرب‪ ،‬لكن بكل تأكيد إنه إنسان صغير‪ ،‬أينما ّ‬ ‫حل‪ .‬وهذا ليس بشاعر في قاموسي”‪.‬‬ ‫إدوارد سعيد‪ :‬حاض ٌر رغم عقد وعام على الرحيل‬ ‫عاد المفكر العربي الراحل إدوارد سعيد إلى الواجهة مجدداً‪،‬‬ ‫في ذكرى رحيله الحادية عشر‪ ،‬والتي صادفت في ‪ 25‬أيلول‪/‬‬ ‫سبتمبر‪ ،‬وذلك بالحوار الفكري الذي أجراه الشاعر السوري نوري‬ ‫الجراح معه‪ ،‬وأعاد نشره مجددا عبر صحيفة ‘العرب’ اللندنية‪.‬‬ ‫وذكر الجراح أنّ النص المنشور ُأنجز في عام ‪،1996‬‬ ‫وتمت ترجمته إلى لغات عديدة كالفرنسية واإلنكليزية‬ ‫واأللمانية‪ ،‬وحاز على اهتمام كبير يستدعي إعادته إلى الوعي‬ ‫ِ‬ ‫تختف حاجة‬ ‫العربي اليوم‪ ،‬لما يحمله من أفكار ومقاربات لم‬ ‫ّ‬ ‫العالم العربي إليها‪ ،‬رغم مرور سنوات طويلة عليها‪ .‬وينقل الجراح في النص المذكور أهم أفكار المفكر الفلسطيني‬ ‫الراحل عن لسانه مباشرة‪ ،‬حول العديد من كتاباته التي أثارت اهتماماً عالمياً أثناء العقود الماضية‪ ،‬وسط إشارة إلى‬ ‫تقصير العرب في قراءة هذه اإلسهامات كما فعل الغرب وسائر العالم‪ ،‬فض ًال عن انتقادات سعيد لشخصية المثقف‬ ‫العربي الذي أضاع بوصلته وفقد مكانته المفترضة كمثقف ح ّر‪ ،‬كما يرى‪ ،‬ليختم بعدة آراء حول طبيعة الصراع‬ ‫الفلسطيني االسرائيلي‪ ،‬والواقع العربي في ظل هذه القضية المثخنة بالتفاصيل‪.‬‬ ‫و ُيشار إلى أنّ النص الذي نشره الجراح‪ ،‬يأتي بعد أيام من نشر صحيفة ‘القدس العربي’ عدة مقاالت‬ ‫أنجزها ن ّقاد وك ّتاب عرب حول أفكار وإسهامات إدوارد سعيد بمناسبة ذكرى وفاته الحادية عشر‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املفكر املغربي سعيد ناشيد‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫فشل اخلروج من العبودية ال يربر رفض احلرية‬ ‫أ ّكد المفكر المغربي سعيد ناشيد في سياق‬ ‫حديث نشرته صحيفة ‘القدس العربي’ نهاية شهر‬ ‫أيلول‪/‬سبتمبر ‪ ،2014‬أنّ هواجس سيطرة الحركات‬ ‫الدينية المتطرفة على أوائل ثورات القرن الراهن‪،‬‬ ‫أصبحت تتأكد يوماً بعد آخر‪ ،‬إال أنّ ذلك ال يعني أن‬ ‫تتباكى الشعوب على األنظمة االستبدادية السالفة‪،‬‬ ‫ألنها هي من أفرزت هذه الحركات المتطرفة من قبل‪.‬‬ ‫وأشار ناشيد إلى أنّ سيطرة األيديولوجيات‬ ‫الهمجية اليوم على زمام الحركات الثورية في العالم‬ ‫العربي ماهو إال نتيجة من نتائج قمع الحركات‬ ‫الفكرية والحضارية من قبل األنظمة االستبدادية في العقود السابقة‪ .‬ورأى المفكر المغربي بأن هذه‬ ‫ٌ‬ ‫محكومة بالفشل‪ ،‬ألنّها لم تكن مهيئة الستالم القيادة قبل قيام هذه الثورات‪،‬‬ ‫الحركات اإلسالمية المتطرفة‬ ‫ولم تتحمل مسؤوليات عظيمة كهذه من قبل‪ ،‬إضافة إلى محدودية قاعدتها االقتصادية التي تؤهلها لمثل‬ ‫هذه المكانة‪ .‬وعن تمدد تنظيم دولة الخالفة اإلسالمية ‘داعش’‪ ،‬قال ناشيد‪“ :‬داعش هي إحدى الثمار الم ّرة‬ ‫لمسار فقهي تحريمي وتكفيري”‪ ،‬مؤ ّكدا أنّ التنظيم لم يهبط من السماء فجأة‪ ،‬بل هو نتيجة بذور الخطاب‬ ‫الديني السائد في معظم المجتمعات العربية واإلسالمية‪ ،‬والذي ترعاه الكثير من الدول واألحزاب العربية‪.‬‬ ‫وختم ناشيد بأنّ ضرورة إصالح صورة اإلسالم‪ ،‬وتحديث الخطاب الديني السائد وتطهيره من المفاهيم‬ ‫الرجعية والهمجية‪ ،‬هي معركة العالم كله خالل الفترة القادمة‪ ،‬للوصول إلى فرص أفضل للنضال اإلنساني‬ ‫من أجل عولمة عادلة‪.‬‬ ‫مشروع سوريا تكتب‪ :‬صوت جديد على طريق الدميقراطية‬ ‫أعلن موقع ‘سوريا حكاية ما انحكت’ عن بدء إصدار‬ ‫مجلة ‘سوريا تكتب’ الثقافية السياسية اإللكترونية‪ ،‬بالتعاون‬ ‫مع مؤسسة ‘سمير القصير’‪ ،‬بهدف خلق وتفعيل صوت‬ ‫ديمقراطي مؤ ّثر للوقت الحالي والمستقبلي‪ .‬وذكر الموقع‪،‬‬ ‫الذي ُيعنى بأرشفة األخبار السورية المعارضة ذات الطابع‬ ‫اإلنساني والف ّني خالل السنوات األخيرة‪ ،‬أنّ مشروع المجلة يأخذ على عاتقه العمل الكتابي التأسيسي‬ ‫سياسياً وثقافياً واجتماعياً لفكرة دولة المواطنة المأمولة في سوريا‪ ،‬وتعزيز اإليمان بالحريات العامة‬ ‫والخاصة وبالديمقراطية‪.‬‬ ‫ونشر موقع ‘سوريا حكاية ما انحكت’‪ ،‬شروط ومعايير النشر في المجلة التي يرأس تحريرها الكاتب‬ ‫والباحث السوري محمد ديبو‪ ،‬إلى جانب الكاتب والباحث في مؤسسة ‘سمير القصير’ عبدالله أمين الحالق‪،‬‬ ‫كمساعد في رئاسة التحرير‪.‬‬ ‫‪15‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حترير‬ ‫دراسات وتقارير‬ ‫مركز بروكنجز ينشر دراسة جديدة حول الصراع الطائفي واإلقليمي يف الشرق األوسط‬ ‫صدر عن ‘مركز بروكنجز الدوحة’‪ ،‬نهاية تموز‪/‬يوليو ‪ ،2014‬دراسة تحليلية جديدة‬ ‫بعنوان ‘ما وراء الطائفية‪ :‬الحرب الباردة الجديدة في الشرق األوسط’‪ ،‬للباحث األميركي‬ ‫غريغوري غوس‪.‬‬ ‫ويشير غوس إلى صراع النفوذ والقوة بين القوى الطائفية الكبرى في المنطقة‪،‬‬ ‫متمثل ًة في إيران والمملكة العربية السعودية‪ ،‬الفتاً إلى التشابهات الهيكلية المهمة بين‬ ‫الصراعات اإلقليمية الحالية وتلك التي نشبت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي‪.‬‬ ‫ويحلل الباحث األميركي عبر دراسته ماهية الصراع المفترض بين القوى السنية والشيعية‬ ‫في المنطقة‪ ،‬رافضاً اعتبار الصراع الدائر حالياً قائماً على أسباب طائفية فقط‪ ،‬بل‬ ‫أيديولوجية أكثر‪ ،‬مستشهداً بالعديد من تجليات هذا الصراع األيديولوجي في المنطقة‬ ‫من قبل‪ ،‬والذي لم يكن محصوراً بفئتي السنة والشيعة وحدهما فقط‪ .‬ويختم غوس باإلشارة إلى الدور الضبابي‬ ‫للسياسة األميركية الجديدة في الشرق األوسط‪ ،‬مع التأكيد على أنّ أولويات هذه اإلدارة تنصب حالياً على الصفقة‬ ‫النووية مع إيران‪ ،‬بغض النظر عن سلوك األخيرة في بلدان المنطقة كسوريا والعراق ولبنان‪ُ .‬يذكر أنّ غوس أستاذ‬ ‫بالعالقات الدولية في ‘كلية بوش’ للخدمات الحكومية‪ ،‬التابعة لـ ‘جامعة تكساس أي أند إم’‪ ،‬ونشر في وقت سابق‬ ‫العديد من المقاالت والدراسات حول سياسات الشرق األوسط ومنطقة شبه الجزيرة العربية والخليج‪.‬‬

‫الصداقة وأبو حيان التوحيدي يف كتاب من تأليف الدكتورة نهى الشعار‬ ‫صدر عن دار نشر روتليدج‪ ،‬وضمن سلسلة الثقافة والحضارة في الشرق األوسط‪،‬‬ ‫كتاب جديد للدكتورة نهى الشعار بعنوان‪‘ :‬الصداقة في الفكر السياسي للتوحيدي ومعاصريه‬ ‫ٌ‬ ‫‪.’Friendship in the Political Thought of Al-Tawhidi and his Contemporaries‬‬ ‫يسهم هذا الكتاب في النقاش الحديث في مجال األخالقيات السياسية‪ ،‬ويقدم قراء ًة‬ ‫جديد ًة للفكر السياسي واألخالقي في العهد البويضي‪ُ ،‬مركزاً بشكل خاص على فكر أبو‬ ‫حيان التوحيدي (توفي على األرجح عام ‪1023‬م)‪ .‬يعتبر هذا الكتاب أول معالجة معمقة‬ ‫لألخالقيات والفكر السياسي والمثالية االجتماعية عند التوحيدي‪ ،‬ويسعى إلى تحفيز‬ ‫دراسات أعمق عن التأثيرات المعقدة التي أسهمت في صياغة فكره‪ ،‬وبخاصة مفهوم‬ ‫الصداقة الذي تم تحليله في السياق المجتمعي في العهد البويضي‪ ،‬وبالمقارنة مع معاصريه‬ ‫الذين ناقشوا ذات المفهوم‪ .‬كما يسلط الكتاب الضوء على مفهوم الصداقة في السياق السياسي‪ ،‬مبرزاً دورها في إصالح‬ ‫الواقع االجتماعي وكوسيل ٍة للحياة السعيدة‪ .‬فالصداقة أدا ٌة تلجم االنفعال والمصالح الشخصية‪ ،‬وتجلب التعاون‪ ،‬وتعزز‬ ‫العقل في مواجهة التعصب الديني‪.‬‬ ‫يصحح موقع التوحيدي في مجتمعه‪ :‬فعوضاً عن النظر إليه كشخص منعزل عن المجتمع‬ ‫يقدم الكتاب جدالً ِّ‬ ‫ورافض للقواعد اإليمانية التقليدية في اإلسالم‪ ،‬كما اقترح كريمر‪ ،‬فإن هذا العمل يضع التوحيدي في سياقه التاريخي‬ ‫والفكري‪ ،‬وينوه بأنه رغم كونه ذا فك ٍر غير تقليدي في عدة جوانب‪ ،‬إال أن نتاجه الفكري كان مستنداً في العمق إلى‬ ‫الثقافة اإلسالمية التي ترعرع في أحضانها‪.‬‬ ‫جولة العدد من إعداد‪:‬‬ ‫نور شلغني ومازن عيل وطالل امليهني‬ ‫‪16‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬ ‫قراءة يف التنظري الثوري يف السياق السوري‬ ‫الرشق‬ ‫الفساد‪ :‬مقاربة منظومية نحو التحديث‬ ‫مظاهر العلمنة يف املامرسات اإلسالمية األوىل‬ ‫مرثية لربيع ضائع‬ ‫داعش وتساؤالت تاريخية وفكرية‬ ‫فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسيك‬


‫مقاالت‬

‫طالل ال َم ْي َهني❊‬

‫قراءة يف التنظري الثوري‬

‫يف السياق السوري‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫تسعى هذه الورقة املخترصة إىل نقد الخطاب املعارض السائد إعالمياً‪ ،‬ونقد التنظري الثوري‬ ‫الذي يؤسس ملثل هذا الخطاب‪ .‬حيث يرى الكاتب أن الخطاب املعارض يشتمل عىل‬ ‫ٍ‬ ‫تناقض صارخ‪ :‬فهو ه ٌَّش إنْ نظرنا إليه حسب مق ِّومات التنظري الفكري الرصني‪ ،‬إال أنه‬ ‫يحمل الكثري من عنارص الفكر األيديولوجي الـ ُم َصا ِدر للحقيقة‪ .‬وقد أفىض هذا الوضع‬ ‫إىل تعرية األيديولوجيا الثورية من أساسها النظري‪ ،‬مع املحافظة عىل هيكلها الدوغاميئ‬ ‫املتخشب‪ .‬كثري ٌة هي العنارص التي دفعت بالتنظري الثوري إىل فجو ٍة حقيقي ٍة بني التزاماته‬ ‫األيديولوجية و َو ْرطَ ِته الرباغامتية‪ ،‬ولكنها تضافرت يك تجعل من التنظري الثوري‪ ،‬وبكل‬ ‫أسف‪ ،‬تنظرياً ضد الثورة‪.‬‬

‫❊ خريج كلية الطب البشري‪ ،‬وحاصل على الدبلوم في تاريخ وفلسفة العلوم من معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب‪ .‬يعمل حالياً كباحث أكاديمي‬ ‫في مجال السرطانيات في مركز ترميم الدماغ‪ ،‬ويقوم بتدريس العلوم العصبية والسلوك البشري بجامعة كامبريدج في بريطانيا‪ .‬أسس مع مجموعة من‬ ‫الزمالء ‘مركز دراسات الفكر والشأن العام’‪ ،‬حيث يشغل منصب مدير المركز ورئيس تحرير مجلة ‘دلتا نون’‪ .‬له العديد من المقاالت والمشاركات العلمية‬ ‫المحكمة في مجالت ومؤتمرات تخصصية‪ ،‬كما يكتب في مجاالت السياسة والنقد الثقافي في عدة منابر عربية مثل صحيفة ‘الحياة’‪ ،‬و‘القدس العربي’‪،‬‬ ‫و‘ملحق نوافذ’‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫قراءة يف التنظري الثوري يف السياق السوري‬

‫ُ‬ ‫يمتلك قاطع الطريق بروكروستس ‪ ،Procrustes‬حسب األسطورة اإلغريقية‪ ،‬منزالً على الطريق‬ ‫المقدس ‪ Hiera Hodos‬قرب مدينة أثينا‪ ،‬حيث يعرض على ضحاياه النوم في غرف ٍة خاص ٍة بالضيوف‪ .‬لكن‬ ‫نوع خاص‪ :‬يجب أن يكون طول الضيف مساوياً تماماً لطول السرير الذي‬ ‫لدى بروكروستس هذا َه َو ٌس من ٍ‬ ‫سينام عليه؛ فإن كان الضيف أقصر من السرير فإنه يعمد إلى ش ّده ّ‬ ‫ومطه‪ ،‬وإن كان الضيف أطول من‬ ‫تطابق كاملٍ بين طوله‬ ‫السرير فإنه يعمد إلى نشره بالمنشار‪ .‬وفي كلتا الحالتين‪ ،‬وفي سبيل الوصول إلى‬ ‫ٍ‬ ‫وطول السرير‪ ،‬يموت الضيف المسكين فدا ًء لل َه َوس!‬ ‫تنطبق أسطورة بروكروستس على أتباع الفكر األيديولوجي‪ ،‬أولئك الذين يسقطون أسرى للفكرة التي‬ ‫يقين ال َي ُشو ُبه ٌ‬ ‫الحلم األولوية على الحقيقة‪ ،‬وال يتو ّرعون‬ ‫خلل أو شك‪ ،‬أولئك الذين يعطون‬ ‫يؤمنون بأنها ٌ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫التوهم‪،‬‬ ‫فحالة من‬ ‫قالب جام ٍد ومسبق الصنع‪ .‬أما النتيجة‬ ‫ّ‬ ‫عن تشويه وفبركة الحقائق ُب ْغ َي َة حش ِرها في ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫عكسي للغاية التي يغدو ُّ‬ ‫وانفصال عن الواقع‪ ،‬مع مفعولٍ‬ ‫كل شي ٍء مباحاً في سبيلها‪ .‬وهكذا تضمحل‬ ‫ٍّ‬ ‫الفكرة‪ ،‬التي يفترض أن تُعلي من شأن اإلنسان‪ ،‬لتغدو مب ّرراً الستباحة اإلنسان (على مبدأ‪ :‬نجحت العملية‪،‬‬ ‫لكن مات المريض)‪.‬‬ ‫خطاب متخشّ ٌب‬ ‫فاقع لهذه المقاربة ال َه َوس ّية‪ .‬فهو‬ ‫ٌ‬ ‫يبرز خطاب النظام‪ ،‬في السياق السوري‪ ،‬كتجسي ٍد ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ومرتك ٌز على مس ّل ٍ‬ ‫مصطلحات مكرر ٍة ت َُص ّور الشعب (وتسمية الشعب تقتصر على‬ ‫مات مغلوطة‪ ،‬وعلى‬ ‫القطاع الموالي في ِع ْرف النظام) ككينون ٍة مطلقة القوة‪ ،‬دون أن يتردد‪ ،‬للمفارقة‪ ،‬في االستعالء على هذا‬ ‫الشعب‪ ،‬في اآلن ذاته‪ ،‬بعد أن يستغله في خدمة األيديولوجيا السلطوية‪ .‬هذا ما تقوله التراجيديا التي‬ ‫تنموي‬ ‫اجع‬ ‫ٌّ‬ ‫ترافق المشهد‪ :‬مئات آالف الضحايا‪ ،‬وماليين المعتقلين والمفقودين والمخطوفين والنازحين‪ ،‬وتر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وتفكك مجتمعي‪ ،‬لكن خطاب النظام ال يفتأ يتحدث‪ ،‬بجرع ٍة عالي ٍة من الهلوسة والغرانديوز‬ ‫واقتصادي‬ ‫ٌّ‬ ‫(جنون العظمة)‪ ،‬عن االنتصار على “المؤامرة” على حساب خسارة الوطن واإلنسان‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫قراءة يف التنظري الثوري يف السياق السوري‬

‫من المؤسف أن نجد َه َوساً مشابهاً في الخطاب المعارض الذي يتبنى قضي ًة كالثورة‪ ،‬بخاصة حين‬ ‫تتنكس الثورة لتغدو بدورها حام ًال أليديولوجيا متخشبة ت ّدعي امتالك الحقيقة المطلقة‪ .‬ففي الحالتين نقع‬ ‫خطاب يهمش اإلنسان في سبيل “القضية” التي ال بد أن تكون لها األولوية‬ ‫خطاب منزوع األنسنة‪،‬‬ ‫على‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫باعتبارها على حق‪ .‬لكن بينما كان خطاب النظام موضوعاً متكرراً لتحليلٍ‬ ‫مكثف خالل السنوات الماضية‪،‬‬ ‫نجد أن الخطاب المعارض ما يزال في حاج ٍة إلى دراس ٍة مع ّمقة‪.‬‬ ‫ال بد من التأكيد هنا على أن الخطاب المعارض ليس ك ًال متجانساً‪ ،‬بل هو ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عريض يضم العديد‬ ‫طيف‬ ‫من المواقف المتباينة‪ .‬وحرصاً على عدم الوقوع في فخِّ التعميم فإن التحليل المبسط في هذه المقالة‬ ‫ٌ‬ ‫شريحة كبير ٌة من‬ ‫سيحاول‪ ،‬في صور ٍة مقتضبة‪ ،‬تناول الخطاب المعارض “السائد إعالمياً” والذي تصنعه‬ ‫ٍ‬ ‫تجمعات معارضةٍ‪ ،‬في حين بقي‬ ‫المثقفين المعارضين؛ معظمهم خارج البالد‪ ،‬وجز ٌء منهم آثر االنضواء في‬ ‫ٍ‬ ‫كحاالت فردي ٍة (مستفيدين غالباً من الواقع االفتراضي الذي تقدمه منابر الميديا االجتماعية)‪ .‬كما‬ ‫آخرون‬ ‫يجب التنويه إلى أن دراسة الخطاب المعارض‪ ،‬وعملياً دراسة أي خطاب‪ ،‬ليست سوى دراس ٍة للتنظير القابع‬ ‫ولملمح من مالمح المنظومة العامة‪ ،‬ولمواقف شريح ٍة من المثقفين التي تتفاعل وتنتج في فضاء‬ ‫وراءه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫هذه المنظومة‪ .‬إذ ال يمكن عزل الخطاب عن ُص ّناعه‪ ،‬أو عن الظروف التي يتشكل فيها هذا الخطاب‪.‬‬ ‫انطالقاً مما سبق‪ ،‬وبالعودة إلى الشهور األولى من الحراك الشعبي في سوريا‪ ،‬يمكن القول أن التنظير‬ ‫الثوري‪ ،‬ضمن هذه الشريحة السائدة إعالمياً‪ ،‬لم يكن متبلوراً أو متشك ًال في هيئ ٍة واضحة المعالم‪ .‬فقد‬ ‫كانت الممارسة سابق ًة على الخطاب‪ ،‬بخاصة وأن الحراك قد أخذ طبيع ًة عفوي ًة تج ّلت كصدم ٍة غير متوقعة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جارف ال يملك القدر َة على التحكم فيه‪ .‬لكن‬ ‫قبالة هذا الواقع وجد الخطاب المعارض نفسه وسط تيا ٍر‬ ‫من الملحوظ في تلك الفترة المبكرة أن الخطاب المعارض‪ ،‬في مجارا ٍة للخطاب العفوي المنتشر‪ ،‬كان‬ ‫مشبعاً بالمفاهيم العامة ذات البعد اإلنساني (الكرامة‪ ،‬الحرية‪ ،‬العدالة‪ ،‬رفع الظلم‪ ،‬إلخ)‪ ،‬وموجهاً في‬ ‫صورة وطنية جامعة لعموم المكونات السكانية في المجتمع السوري‪ .‬لكن مع ارتفاع سوية العنف والعنف‬ ‫المضاد‪ ،‬سرعان ما تق ّلصت وتراجعت هذه المفاهيم‪ .‬وفي مرحل ٍة الحق ٍة صار الحديث عنها مدعا ًة ُّ‬ ‫للتهكم‬ ‫والسخرية‪ ،‬بعد أن ساد التصعيد الكالمي الشعبوي‪ .‬وخالل هذا التحول‪ ،‬حافظ الخطاب المعارض على سمته‬ ‫األساسية‪ ،‬واستمر بالسباحة مع تيا ٍر يغوص في َو ْحلِ التشدد‪ ،‬مستغ ًال مشاعر الغضب واأللم الحاد عند‬ ‫الناس‪.‬‬ ‫خطاب‬ ‫متوقع في أي‬ ‫يمكن الحديث أيضاً عن االستقطاب كسم ٍة أخرى للخطاب المعارض (وهذا‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫يعارض خطاباً سلطوياً)‪ .‬لكن من المالحظ أن هذا االستقطاب‪ ،‬الذي خلق “اآلخر” على المستوى المعنوي‬ ‫والمادي‪ ،‬قد ق ّزم “الثورة” وح ّولها إلى ٍ‬ ‫طرف من األطراف الموجودة على الساحة‪ ،‬متح ّوالً مع الوقت إلى‬ ‫عقب ٍة ت ُْجه ُِض فرص التالقي مع هذا “اآلخر”‪ .‬ولم يقتصر االستقطاب على خلق حال ٍة من التضاد مع النظام‬ ‫فقط‪ ،‬بل تجاوزه إلى االحتكاك مع باقي عناصر الطيف الصامت والمعارض (كما في التبادل الروتيني‬ ‫والبائس لالتهامات والتخوين إلخ)‪ .‬من الواضح هنا أن المثقف المعارض‪ ،‬والخطاب المتولِّد عنه‪ ،‬لم يكن في‬ ‫منأى من االستقطاب الذي طبع المجتمع السوري عموماً‪ ،‬وأ ّدى إلى تقسيمه سيكولوجياً بحكم األمر الواقع؛‬ ‫ً‬ ‫تقسيم لم يقف عند حدود التوزع الجغرافي واالصطفاف السياسي‪ ،‬بل امتد ليشمل األبعاد االقتصادية‬ ‫ٌ‬ ‫‪20‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫قراءة يف التنظري الثوري يف السياق السوري‬

‫والديمغرافية االجتماعية‪ ،‬مع آثا ٍر رضّ ي ٍة من المتوقع استمرارها على مستوى الذاكرة الجيلية في المستقبل‪.‬‬ ‫تتع ّزز هذه اآلثار الرضّ ية مع متابعة السلبية التي تسيطر على الخطاب االستقطابي المذكور‪ .‬إذ تمكن‬ ‫مالحظة ذلك على مستوى المصطلحات التي يتم تكرارها في صور ٍة متواترة (سقاط‪ ،‬اجتثاث‪ ،‬ثأر‪ ،‬إبادة‬ ‫اجع ملحوظ (العدالة‪ ،‬الحقوق‪ ،‬القانون‪ ،‬بناء السالم‪،‬‬ ‫إلخ)‪ ،‬وعلى مستوى القيم اإليجابية التي تعاني من تر ٍ‬ ‫التقدم‪ ،‬االزدهار)‪.‬‬ ‫قد تكون هذه السلبية منسجم ًة لح ٍّد ما مع السياق العنفي العام‪ ،‬إال أنها بالمحصلة ليست سوى‬ ‫سعي نحو التغيير‪ .‬وعلى المستوى العملي‪ ،‬يبدو أن النتاج الفكري ّ‬ ‫لمنظري الثورة‬ ‫تكريس‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لواقع ٍ‬ ‫قائم دون ٍ‬ ‫قد انحصر في حلق ٍة مفرغ ٍة من التنظير لألمر الواقع‪ ،‬أي من محاوالت التفسير والتحليل (أو باألحرى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لمآالت متوقعة دون‬ ‫لحدث سبق أن تم وانتهى‪ ،‬أو من االستشراف المستقبلي‬ ‫التعليق) التالي والمتأخر‬ ‫أن يكون لهذه المساهمة الفكرية‪ ،‬في مساراتها المختلفة‪ ،‬وبغض النظر عن صدق أو سوء النوايا‪ ،‬دو ٌر في‬ ‫توجيه ال َّدفة أو التحكم فيها‪ .‬بل على العكس‪ ،‬يلعب هذا الخطاب دوراً في تكريس األمر الواقع‪ ،‬أو إعادة‬ ‫إنتاجه دون أن يعي القائمون عليه ومستهلكوه ذلك بالضرورة‪ .‬طبعاً ال يتحمل مثقفو الخطاب المعارض‬ ‫السائد وحدهم مسؤولية ذلك‪ ،‬إذ ال يمكن إنكار العجز والخواء الفكري المتراكم على مدى عقو ٍد وقرونٍ‬ ‫من االستبداد‪.‬‬ ‫منحى أكثر دموي ًة مع صعود التطرف الذي تمارسه العديد من األطراف‬ ‫تأخذ مسارات األحداث‬ ‫ً‬ ‫العنفية الفاعلة‪ .‬ومع اختزال الحدث السوري في سردي ٍة طائفي ٍة استشراقية‪ ،‬استمرت السباحة السافرة مع‬ ‫التيار السائد (بدالً من بذل الجهود لتقويم التيار‪ ،‬ناهيكم عن صناعته)‪ .‬حيث لم يتردد بعض المثقفين‬ ‫في التخ ّلي عن ورقة التوت العلمانية والحداثية منسحبين طوعاً إلى هوياتهم الضيقة والمنتمية إلى‬ ‫مرحلة ما قبل الدولة‪ .‬دفع ذلك بالخطاب المعارض ألن يأخذ مالمح َع َد ِم َّي ًة في بعض الجوانب‪ .‬فقد أفرز‬ ‫التنظير الثوري‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬حال ًة غريب ًة من التآزر الخطابي مع كل من يعادي النظام‪ .‬ولع ّله من‬ ‫النافل القول أن هذا التعاقد ‘الفاوستي’ الساذج مع الشيطان كان َو َباالً على المشهد السوري‪ ،‬بخاصة‬ ‫بعد أن بدأت البالد تعاني من ويالت داعش وغيرها‪ .‬كما نجد تحالفاً خطابياً غريباً بين اليسار والتطرف‬ ‫اإلسالموي‪ ،‬في رد فعلٍ غير مسؤول على التآزر الخطابي النقيض بين اليسار والنظم المستبدة‪ .‬فعلى طرفي‬ ‫الطيف اليساري نقع على مقارب ٍة المسؤولة وانتهازية تنطلق من مناكفة اآلخر (هناك نماذج تاريخية قريبة‬ ‫ومشابهة كما حدث في الثورة اإليرانية وفي أحداث الثمانينيات في سوريا‪ ،‬ولكن في تلك الفترة لم يكن‬ ‫التطرف اإلسالموي فاقعاً كما نشهد هذه األيام في تنظيمات القاعدة وما شابهها‪ ،‬كما أن الخطاب اليساري‬ ‫منحى تبريرياً كما هي الحال في المشهد السوري)‪ .‬أما على مستوى اليمين االجتماعي المحافظ‬ ‫لم يأخذ‬ ‫ً‬ ‫داعم خجولٍ أو ساف ٍر للتطرف اإلسالموي‪،‬‬ ‫فإننا نرى‬ ‫ً‬ ‫صدى لهذا االنشطار االستقطابي السابح مع التيار بين ٍ‬ ‫أو مسان ٍد لتطرف النظام (تحت مسميات مختلفة كتحريم الخروج على ولي األمر)‪ ،‬أو الصمت (على سبيل‬ ‫اجتناب الفتنة)‪ .‬لكن ما يميز هذا التآزر الخطابي‪ ،‬بين هذه األطراف المتنافرة‪ ،‬هو عدم استناده إلى قاعد ٍة‬ ‫أيديولوجي ٍة ناضجة بقدر استناده إلى تبادلٍ لردود األفعال الكيدية‪ .‬وهذا ما يفسر التذبذب والتحول السريع‬ ‫في المواقف من اعتبار جه ٍة متطرف ٍة جزءاً من الثورة‪ ،‬مث ًال‪ ،‬قبل االنقالب على ذلك ومهاجمة ذات الجهة‬ ‫‪21‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫قراءة يف التنظري الثوري يف السياق السوري‬

‫بحجة أنها مخترقة من قبل النظام وحلفائه ‪ -‬وقد برز هذا التحول في صور ٍة صارخ ٍة مع أحداث العراق‬ ‫األخيرة‪ ،‬حيث عمد الخطاب إلى تشجيع (أو الصمت إزاء) داعش في العراق‪ ،‬مع االستمرار بمهاجمتها في‬ ‫سوريا!‬ ‫يغيب عن الخطاب المعارض‪ ،‬وسط كل هذا‪ ،‬الطرح السياسي‪ ،‬ال بل تمكن مالحظة قد ٍر من َش ْي َط َن ِة‬ ‫السياسة وتشويهها ‪ -‬رغم أن الثورة في ِع ْر ِف التنظير الثوري الحالي ُمخْ َت َزلَ ٌة في َس ْر ِد َّي ِة التغيير السياسي (أو‬ ‫سعي موهو ٍم‪ ،‬لدى ُص ّناع الخطاب المعارض‬ ‫تغيير رأس السلطة)‪ .‬ربما يعود غياب أو تغييب السياسة إلى ٍ‬ ‫السائد‪ ،‬للوصول إلى حال ٍة من الطهرانية السطحية من رجس العمل السياسي الذي ارتبط باالنتهازية والقذارة‬ ‫في ذهن الناس! لكن كل هذا ال يغير من حقيقة وقوع الخطاب المعارض السائد إعالمياً في ورطة‪ :‬إذ لم‬ ‫يحقق وعوده في إسقاط النظام‪ ،‬ولم يستطع فتح الشأن العام السوري وخلق بيئة جديدة للعمل السياسي‬ ‫الحقيقي‪ ،‬ولم يعد قادراً على ادعاء طهرانيته وبراءته من الدم الذي يسيل (حتى لو اختبأ وراء التبريرات)‪.‬‬ ‫لكن رغم هذه الورطة‪ ،‬وبدالً من الدخول في مصارح ٍة شامل ٍة وشفافة‪ ،‬يبدو أن التنظير الثوري السائد‬ ‫ال يمتلك الشجاعة أو النية إلخضاع الحقيقة المطلقة التي ي ّدعي امتالكها للمساءلة أو التشكيك‪ ،‬حيث‬ ‫يغيب التقييم الذاتي في شكلٍ شبه كامل‪ .‬ولهذا لم نرى مر ٍ‬ ‫اجعات جاد ًة بعد أن استيقظ التنظير الثوري‬ ‫على وقع الفاجعة‪ .‬بل على العكس بدأ هذا الخطاب بالتباكي على الثورة التي ُسرقت (وأسهم هو في‬ ‫سرقتها من حيث ال يدري)‪ ،‬وبدأ بإلقاء الل ْوم على النظام وتخاذل المجتمع الدولي أو على شرائح أخرى‬ ‫من الخطاب المعارض التي تم تهميشها على حساب الخطاب السائد‪ .‬أفرز ما سبق بيئ ًة حاضن ًة لنظرية‬ ‫المؤامرة التي باتت تحظى بقبولٍ‬ ‫واسع عند أصحاب هذا الخطاب‪ ،‬لتكتمل الدائرة‪ ،‬ويغدو التنظير الثوري‬ ‫ٍ‬ ‫صور ًة مرآتي ًة لتنظير النظام‪ .‬ومع تأسيس الخطاب المعارض على أساس التناظر العكوس لخطاب النظام‪،‬‬ ‫بات المشهد حلق ًة مفرغ ًة من ردود األفعال العنفية المنفعلة ال الفاعلة‪ .‬ال يجعل ما سبق شبح النظام‬ ‫ح ّياً فقط‪ ،‬بل يجعل مشروعية واستمرارية الخطاب المعارض معتمد ًة في صور ٍة شبه كلي ٍة على بقاء النظام‬ ‫(وليس على المبادئ والطموحات التي يفترض السعي إلى تحقيقها!)‪.‬‬ ‫لكن ما ُي ْجم ُِع عليه ُص ّناع الخطاب المعارض السائد إعالمياً هو أن نقطة االستناد عندهم تعتمد‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وبدرجات مختلفة‪ ،‬على الخارج‪ :‬سواء تمثّل هذا الخارج في قوى إقليمية‪ ،‬أو دولية‪ ،‬أو متطوعين عابرين‬ ‫السمة‪ ،‬أن الخطاب المعارض ذو ميولٍ عولمي ٍة وما بعد حداثية‪،‬‬ ‫للحدود‪ .‬يمكن القول‪ ،‬انطالقاً من هذه ِّ‬ ‫عابر ٍة للحدود ونابذ ٍة في صور ٍة سطحي ٍة للسيادة‪ .‬إال أن اجتماع الخطاب المعارض مع انتهازية التآزر مع‬ ‫القوى المتطرفة يعطيه‪ ،‬في نفس الوقت‪ ،‬أبعاداً قروسطية ما قبل حداثية‪ ،‬ويضعف بالتالي من حضوره‬ ‫قبالة القوى الداعمة على مستوى المجتمع الدولي (تمكن متابعة التصريحات الدولية حول الشأن السوري‬ ‫التي ما عادت تستخدم كلمات مثل ‘ثورة’ أو ‘انتفاضة’‪ ،‬بل باتت تصف الوضع السوري على أنه حرب‬ ‫أهلية أو صراع عنفي أو ‘حرب على اإلرهاب’)‪.‬‬ ‫يؤكد هذا التناقض على وجود فصا ٍم ُم َتأَ ِّصلٍ يميز خطاب المعارضة والتنظير الثوري عموماً‪ .‬نرى ذلك‬ ‫أص ًال في عدم التزام خطاب الثورة بفكرة الثورة (أو ما يفترض أن تكون عليه هذه الفكرة)‪ .‬فقد تم تفريغ‬ ‫الثورة من معناها الطوباوي من خالل حشر المتناقضات فيها‪ :‬كما في الجمع بين الثورة والخطاب الن ْدبي‬ ‫‪22‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫قراءة يف التنظري الثوري يف السياق السوري‬

‫المتمحور حول الضحية‪ ،‬أو الجمع بين الثورة وخطاب الل ْوم المتمحور حول الجالد‪ ،‬أو الجمع بين الثورة‬ ‫وخطاب االحتجاج والمطالبة‪.‬‬ ‫في كل هذه الحاالت ال يمكن أن تجتمع الثورة‪ ،‬من حيث تعريفاتها الوجودية‪ ،‬ومن حيث كونها‬ ‫ثورة‪ ،‬مع هذا المزيج من الن ْدب والل ْوم والمطالبة‪ ،‬ومع هذا الكم الهائل من االنفعال وعدم القدرة على‬ ‫المبادرة‪ .‬فأكثر ما يركز عليه الخطاب الثوري الشائع هو تأكيد امتالكه اليقيني للحقيقة المطلقة دون أن‬ ‫يكون َم ْع ِن ّياً بابتكار وسائل إثبات أو تحقيق ذلك في صورة واقعية‪ .‬ولهذا ُي ْك ِث ُر الخطاب المعارض من طرح‬ ‫منسجم‬ ‫معارض‬ ‫وخطاب‬ ‫السؤال التالي‪“ :‬وهل سيقبل النظام بكذا أو كذا؟” في الحقيقة‪ ،‬وفي سياق ثور ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مع ذاته‪ ،‬يغدو مثل هذا السؤال عديم المعنى؛ فالثورة (أي ثورة) غير معني ٍة بانتظار الـ َم ْك ُرمات ممن تثور‬ ‫عليه‪ .‬لكن مجرد طرح هذا السؤال يحمل دالل ًة مهم ًة مفادها‪ ،‬مر ًة أخرى‪ ،‬أن شبح النظام لم يمت عند‬ ‫ُص َّناع هذا الخطاب‪ ،‬في اعتر ٍ‬ ‫ضمني باليأس الذي يتناقض جذرياً مع مفهوم الثورة‪ .‬يؤدي هذا الفصام‬ ‫اف‬ ‫ٍّ‬ ‫منسجم مع ذاته ومع ما ُي ْف َت َرض أن تمثله‬ ‫إلى حال ٍة من النفاق على مستوى التنظير الثوري‪ :‬فهو غير‬ ‫ٍ‬ ‫روح الثورة والمبادرة والتغيير‪ ،‬وذلك على العكس من خطاب النظام (المنسجم مع طبيعته الديكتاتورية‬ ‫االستبدادية والقمعية)‪ ،‬أو خطاب داعش (المنسجم مع طبيعتها المؤدلجة) ‪ -‬ولعله من النافل القول أن‬ ‫هذا النفاق يغدو أكثر وضوحاً على مستوى الممارسة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫مشتمل على‬ ‫بالمحصلة يمكن تلخيص واقع التنظير الثوري عند الخطاب المعارض السائد إعالمياً بأنه‬ ‫تناقض صارخ‪ :‬فهو َه ٌّش إنْ نظرنا إليه حسب مق ِّومات التنظير الفكري الرصين‪ ،‬إال أنه يحمل الكثير من‬ ‫ٍ‬ ‫الـم َصادِر للحقيقة‪ .‬وقد أفضى هذا الوضع إلى نتيج ٍة غريبة‪ :‬تعرية األيديولوجيا‬ ‫عناصر الفكر األيديولوجي ُ‬ ‫الثورية من أساسها النظري‪ ،‬مع المحافظة على هيكلها الدوغمائي المتخشب‪ .‬وال حاجة هنا إلى كثي ٍر من‬ ‫التنقيب للبحث عن أسباب التفسخ الذي يصيب المشهد السوري؛ فصامية الخطاب وعدم انسجامه مع ذاته‬ ‫من ناحية‪ ،‬واالنفصال الرضي بين الخطاب الفصامي والواقع من ناحية ثانية‪ ،‬مع ما يسبق ذلك من تَشَ ُّوهٍ‬ ‫في الممارسة‪ ،‬وما يتلوه من تبري ٍر لهذا التشوه‪ .‬وربما يكون مجموع هذه العناصر هو ما يدفع بالتنظير‬ ‫الثوري إلى فجو ٍة حقيقي ٍة بين التزاماته األيديولوجية و َو ْر َطتِه البراغماتية‪ ،‬بين طموحاته التي استسهلت‬ ‫ركوب الموجة وتضخيم األمل وبين فقر األدوات المتاحة والالزمة لتحقيق هذا األمل‪ ،‬وهو ما يجعل من‬ ‫التنظير الثوري بكل أسف‪ ،‬على مستوى النتيجة‪ ،‬تنظيراً ضد الثورة‪.‬‬ ‫مالحظة‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫توصيف مبسط من داخل التنظير والخطاب الثوري‪،‬‬ ‫في هذا المقال‬ ‫أي على مستوى المحتوى‪ ،‬عند شريحة من الطيف المعارض‪ ،‬على‬ ‫أن يتبعه مقال آخر يعنى بتقديم تحليل معياري من خارج التنظير‬ ‫والخطاب الثوري‪ ،‬مع نقد جذري له من حيث كونه كذلك‪.‬‬

‫‪23‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫من ّور الش ّوا ❊‬

‫الشــرق‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تريد هذه املقالة أن تعيد إىل السطح من جديد‪ ،‬أو تلقي مزيداً من الضوء عىل‪ ،‬قضية‬ ‫التمثيل‪ .‬ففيام أنت ‪-‬كرشقي مصنف عىل أنّه ينتمي إىل العامل الثالث‪ -‬متارس حياتك اليومية‬ ‫يف الشارع‪ ،‬يف املقهى‪ ،‬يف مركز عملك‪ ،‬وحدَك أو يف إطارك االجتامعي‪ ،‬أو الثقايف‪ ،‬مثّة من‬ ‫يجلس يف مكتبه ما وراء البحار ليكتب‪ ،‬ضمن مؤسساته األكادميية والتخييلية‪ ،‬عنك‪ .‬مثّة‬ ‫من يزعم أنه ميثّلك‪ ،‬من ينمطك وينمذجك‪ ،‬من َي ِس ُمكَ ـ كفرد ضمن مجموعة برشية‬ ‫ٍ‬ ‫ظل ضمن‬ ‫بصفات مغرقة يف العمومية‪ ،‬ال أسامء محددة‪ ،‬مج ّرد ٍّ‬ ‫هو من يكتب عناوينها ـ‬ ‫ظالل برشية ينسجها عىل صفحته ليتلقفها ص ّناع السياسة‪ .‬باختصار مثّة من يُقيص صوتك‬ ‫ثم يرسقه‪ .‬طباقياً‪ ،‬تثري املقالة‪ ،‬أيضاً‪ ،‬تساؤالت كبرية ـ وإن كانت غري مبارشة‬ ‫ويه ّمشه‪ ،‬ومن ّ‬ ‫ـ حول صوتِك أنت‪ ،‬فجواتِكَ الفكرية املهولة‪ ،‬فراغك الذي استدعى مقولة ماركس‪“ :‬إنهم‬ ‫عاجزون عن متثيل أنفسهم‪ ،‬يجب أن ُيثَّلوا”‪ ،‬حول خطابِك‪ ،‬ال أقول املضاد‪ ،‬أو الذي يعتمد‬ ‫اللو َم فكر ًة مفتاحية للحلول‪ ،‬بل الذي يساعدك لعبور الحدود الجغرافية‪ ،‬إنسانياً وثقافياً‪،‬‬ ‫السيايس اليو َم أنّه مل يعرتف بعد‬ ‫إىل حيث يكون اآلخر؛ اآلخر الغريب الذي يُظ ِه ُر خطابُه‬ ‫ّ‬ ‫يتغي‪ ،‬ذلك الخطاب‬ ‫ـ عىل ّ‬ ‫األقل أخالقياً ـ بأنّ صوتك موجود‪ ،‬والذي ُيظهِر‪ ،‬أيضاً‪ ،‬أنه مل ّ‬ ‫نسب ثقايفّ ميتدّ لقرون‪ ،‬مبا تحمله كلمة “ثقايف”‪ ،‬هنا‪ ،‬من‬ ‫الذي ميكن أن نقول إنّه ذو ٍ‬ ‫أبحاث معرفية‪ ،‬ورحالت استكشافية‪ ،‬وأعامل روائية وسينامئية‪ ،‬لذلك أرى أنه ال بد لنا‬ ‫املقيص ثقافياً‪ ،‬وذلك بأن نعي‪-‬بحسب مقولة أنطونيو غراميش‪ -‬ما نحن‬ ‫من استعادة صوتنا‬ ‫ّ‬ ‫حقاً‪ ،‬كنتاج للعملية التاريخية حتى اللحظة الحارضة‪ ،‬التي أودعت فينا آثاراً ال حرص لها‪،‬‬ ‫وأن نقدّ م جرداً بتلك العملية‪.‬‬ ‫❊ طالب دراسات عليا في كلية اآلداب‪ ،‬قسم اللغة العربية‪ ،‬شعبة النقد األدبي والبالغة بجامعة دمشق‪ .‬يمارس مهنة الصحافة‪ ،‬وله العديد من المقاالت‬ ‫في سياق النقد الثقافي‪ ،‬كما أن له تجربة في كتابة القصة القصيرة نشرت في مجلة الموقف األدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الشرق‬

‫مس َـرحًا على خشبات الغرب‬ ‫الشرق كعادته ُم ْ‬ ‫نج َز االعتر ُ‬ ‫اف باالختالف ثقاف ًة تؤدي إلى المشترك اإلنساني واقعياً؟ هل ثمة ما يمكن أن نسميه‬ ‫هل ُأ ِ‬

‫شعوب بأكملها‬ ‫‘اللعب العميق’ في البحث المعرفي وصو ًال إلى وضع سياسات تترتّب عليها الهيمن ُة على‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫استقالل الدول الحديثة التي تش ّكلت بعد‬ ‫نج َز‬ ‫ثم هل ُأ ِ‬ ‫سياسياً واقتصادياً‪ ،‬بعد أن كانت عسكرياً أيضاً‪ ،‬ومن ّ‬ ‫فكفكة االستعمار؟‬ ‫أظن أنّ أحداً لم يق ّدم إلى اليوم إجاب ًة قاطعة‪ ،‬في الوقت الذي تكمن فيه اإلجابات لدى الناس في‬ ‫ُ‬ ‫اإلنسان البسيط في‬ ‫مفردات حياتهم اليومية‪ .‬لقد بات الفكر‪ ،‬أو البحث المعرفي‪ ،‬أعق َد بكثير م ّما ُيعا ِي ُش ُه‬ ‫ّأي مكانٍ في هذا العالم‪ ،‬في الشارع‪ ،‬في المقهى‪ ،‬فكيف به في ‘الشرق’!‪ ،‬ما يجعله –أي البحث المعرفي‪-‬‬ ‫م ّتهماً إنسانياً‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫النص مج ّرد استعارة لغوية‪ ،‬تصبح‬ ‫النص وحياة الناس ث ّمة‬ ‫خطوط ُّ‬ ‫النص فيها هو المهيمن‪ ،‬ما دام ّ‬ ‫بين ّ‬ ‫ٍ‬ ‫سياقات بحثية جديدة على أنّها مراجع موثوقة‪.‬‬ ‫مع مرور الزمن قاعد ًة علمي ًة تث ّبت في األرشيف‪ ،‬لِت ِر َد في‬ ‫يقول فريريك نيتشه‪“ :‬الحقائق أوهام نسِ َي الناس أنها كذلك”‪.‬‬ ‫اخللفية ‪1‬‬

‫فتفجرت عن أكثر مواطن‬ ‫المزة‪ ،‬إنها التاسعة صباحاً‪ .‬تبدو دمشق كما لو كانت أنثى تثاءبت ثيا ُبها َّ‬ ‫أنوثتها إثارة‪ .‬دمشق التي تُظه ُر بين قطعتي قماش س َّر ألقها وبريقها؛ المدينة الوحيدة التي أعترف بأني لن‬ ‫‪25‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫الشرق‬

‫أندم يوماً ألنّها دخلت نطاق ذاكرتي‪ ،‬والتي أخشى اليوم أن تتوقف الحياة فيها فجأة‪ .‬على طول أوتستراد‬ ‫يضج الدمشقيون‪ ،‬اليوم‪ ،‬حيوية‬ ‫المزة الذي يصل بك إلى ساحة األمويين‪ ،‬ويستم ّر بك إلى شارع الثورة‪ّ ،‬‬ ‫على نح ٍو مزدحم لم تشهده منذ ثالث سنوات وبضعة أشهر إال فيما ندر‪ .‬فمنذ أيام أنهى السوريون‪ ،‬كجزء‬ ‫من العالم اإلسالمي‪ ،‬شهر صيامهم‪ ،‬بعد أن ُأغرقوا ألماً واستمتاعاً بدراما كانت من الفنية تتفاوت ما بين‬ ‫االرتقاء والهذر‪.‬‬ ‫عادت دمشق إلى الحياة من جديد‪ ،‬هكذا يبدو األمر للوهلة األولى‪ ،‬وأنت ترى الناس شباناً‬ ‫ٍ‬ ‫وفتيات‬ ‫وكباراً في السن‪ ،‬أحياناً‪ ،‬جالسين وواقفين يتمسكون باألسطوانات المعدنية في حافالت النقل الداخلي‪ ،‬إال‬ ‫أنك ما إن تالمس تجاعيد وجوههم التي سببتها رائحة الموت‪ ،‬حتى تدرك أنّ األلم عظيم‪ ،‬وأن ما يتح ّرك‬ ‫مج ّرد أجساد متناغمة ال تزال ترتّل مع محمود درويش‪“ :‬على هذه األرض‪ ...‬سيدة األرض‪ ...‬ما يستحق‬ ‫الحياة”‪.‬‬ ‫اخللفية ‪2‬‬

‫المقهى‪ .‬يبدو المشهد أش َّد تفاؤالً‪ ،‬حيث الصخب يعلو مع حركة األيدي تلقي بالنرد‪ ،‬وإيقاع حجارة‬ ‫طاولة الزهر‪ ،‬واألحاديث المترافقة مع الجدية الظاهرة على الوجوه تارة‪ ،‬واالبتسامات الساخرة تارة أخرى‪.‬‬ ‫الحركي‪ .‬إلى اليمين‪،‬‬ ‫قرقعة األكواب‪ ،‬رشفات القهوة‪ ،‬صمت القارئ الهادئ‪ ،‬إنها موسيقا اإلنسان في تج ّليه‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫صمت‬ ‫سبعيني ينفث‪ ،‬وحيداً على طاولته‪ ،‬دخان التنباك في‬ ‫ني يقرأ الجريدة‪ ،‬وفي الزاوية‪ ،‬هناك‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫ست ّي ٌّ‬ ‫غامض‪ .‬يبدو أنّه يخطو به خطو ًة تتجاوز الحاضر القاسي الذي أفقده ل ّذة الصباحات القديمة‪ ،‬وخطوة‬ ‫ماض فقده‪ ،‬وربما‪ ،‬لن يعود‪ ،‬فيما يبدو الجالس في الجانب اآلخر من المقهى يتص ّفح‬ ‫أخرى تعيده إلى ٍ‬ ‫دمشقي مغرقٍ في الشعبية والقِدم كمقهى الكمال‪.‬‬ ‫اإلنترنت على محموله؛ حالة قد تكون شا ّذة في مقهى‬ ‫ّ‬ ‫بمج ّرد أن تلقي علبة سجائرك وهاتفك وتجلس على الطاولة‪ ،‬تدرك أنّ الحياة لم تتغ ّير؛ تو ّقفت قلي ًال‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إحساس‬ ‫فخرجت م ّما كنت مشبعاً به من‬ ‫ثم عادت‪ ،‬أو أنّك غادرت المقهى إلحضار شي ٍء ما‬ ‫ٍ‬ ‫ر ّبما للحظات‪ّ ،‬‬ ‫كثرت تجاعيدُ وجه ذاك‪ ،‬أو شر َد‬ ‫شيب هذا‪ ،‬أو ْ‬ ‫ثم عدت‪ ،‬وإن زاد ُ‬ ‫منحتك إ ّيا ُه جدرانُه‪ ،‬أو وجو ُه الناس فيه‪ّ ،‬‬ ‫َمن كانت ثرثرتُه قبل قليل تمأل المقهى كما كان لسنوات‪..‬‬ ‫اخللفية ‪3‬‬

‫من الذاكرة‪ .‬إنّه الشرق متجسداً في إحدى أعرق عواصمه وأقدمها؛ في دمشق‪ .‬الشرق‪ .‬تلك الكلمة‬ ‫ذات الرنين الثقافي المت َعب والمث َقل بسلطة الق ّوة الثقافية الغربية؛ القوة الثقافية التي كانت ناعمة يوماً؛ إال‬ ‫أنَها أصبحت مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين‪ ،‬أكث َر قسوة وإجراماً‪ ،‬واليو َم أكث َر دها ًء‪.‬‬ ‫أفتح صفح ًة م ّما رسخ في ذاكرتي من كتاب ‘االستشراق’ للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد‪ .‬تقول‬ ‫ُ‬ ‫غرترود بل عام ‪ 1907‬وهي العميلة البريطانية الخبيرة في دمشق‪ ،‬التي ُص ِّورت على أنها باحثة في اآلثار‬ ‫رحالة (وهي كذلك)‪ ،‬فيما كان األهم حقيق ًة كونها مستشارة المندوب السامي بيرسي كوكس‪ ،‬شأنها في ذلك‬ ‫ّ‬ ‫‪26‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الشرق‬

‫شأن تي‪ .‬إي‪ .‬لورانس‪ ،‬وفيليب‪ ،‬في الجزيرة العربية‪“ :‬تُرى كم ألف س ّنة م ّرت على هذه الحال ‪ -‬أي على‬ ‫حالة الحرب التي يعيش فيها العرب‪ .‬سوف نجد اإلجابة عند من يقرؤون أولى السجالت القديمة للحياة‬ ‫لكن العربي لم يفلح‪ ،‬على م ّر القرون‪ ،‬في‬ ‫في أعماق الصحراء‪ ،‬فتاريخ هذه الحال يعود إلى تلك األزمان‪َّ ،‬‬ ‫استخالص ِّأي حكم ٍة من خبرته‪ .‬إنه ال يعيش في أمان مطلقاً‪ ،‬ومع ذلك فهو يتص ّرف كما لو كان األمن خبز‬ ‫يومه”‪.‬‬ ‫اخللفية ‪2‬‬

‫المقهى‪ .‬ماضياً وحاضراً‪ ،‬هل ّ‬ ‫كل هؤالء ‘يتص ّرفون’!!؟ ي ّدعون؟ بلغة اللوحة اإلنسانية التي يرسمونها‪،‬‬ ‫كل هذه السمات‪ ،‬فهم شكلياً على ّ‬ ‫اآلن‪ ،‬يبدون منعتقين من ّ‬ ‫األقل بشر‪ .‬قد ال يدركون أنهم في نظر الخبيرة‬ ‫ثم يبدون كما لو أنّهم ال يكتسبون السمات التي‬ ‫البريطانية مج ّرد مخلوقات ال تشبهها في إنسان ّيتها‪ ،‬ومن ّ‬ ‫تتمتع هي بها‪ ،‬إال أنهم ال يظهرون أن أحداً بحاج ٍة إلى العودة إلى “السجالت القديمة للحياة في أعماق‬ ‫الصحراء” ليفهمهم‪ ،‬ال يظهرون أنهم جامدون في بدائ ّيتهم‪ ،‬أنهم لم يخضعوا أبداً لتح ّوالت التاريخ والتط ّور‬ ‫والحداثة‪ .‬ومع ذلك ال تتر ّدد في وضعهم على قائمة مفتوحة لطعام السياسيين بنث ٍر يبدو في الظاهر ترفاً‬ ‫لغوياً‪ ،‬لكنه كان‪ ،‬وال يزال‪ ،‬إنفاقاً مجدياً‪ ،‬سياسياً واقتصادياً‪ ،‬فنحن ما زلنا نعيش ضمن األلف سنة‪ ،‬وضمن‬ ‫قرون ‘بل’‪.‬‬ ‫اخللفية ‪3‬‬

‫من الذاكرة‪ .‬في مكان آخر‪ ،‬وفي صفحاتها الشخصية بين العامين ‪ 1914-1889‬تضيف غرترود بل‪،‬‬ ‫بكلمات تتعلق بالحياة في دمشق‪“ :‬بدأت أرى‪ ،‬ولو دون وضوح‪ ،‬معنى حضارة مدينة شرقية عظيمة‪ ،‬وكيف‬ ‫يعيش الناس فيها وما يفكرون فيه‪ ،‬ولقد تمكنت من التوافق معهم‪ .‬وأعتقد أن كوني إنكليزية ساعدني‬ ‫كثيراً‪ .‬لقد ارتفعت مكانتنا في العالم في السنوات الخمس الماضية‪ ،‬واالختالف بالغ الوضوح‪ .‬أعتقد أنه‬ ‫يرجع إلى نجاح حكومتنا في مصر إلى ح ٍّد كبير‪ ...‬وهزيمة روسيا ترمز للكثير‪ .‬أظن أن السياسة القوية التي‬ ‫يتبعها اللورد كيرزُن في الخليج الفارسي وإزاء الهند ترمز إلى ما هو أكثر بكثير‪ ،‬فمن ال يعرف الشرق لن‬ ‫يدرك مدى ارتباط هذه العناصر كلها بعضها ببعض‪ ،‬وليس من قبيل المبالغة أن أقول إنه لو كانت البعثة‬ ‫البريطانية قد أخفقت‪ ،‬ف ُر َّدت على أعقابها‪ ،‬عند أبواب مدينة كابول‪ ،‬لما لقي السائح اإلنكليزي غير الصدود‬ ‫والجفاء في شوارع دمشق”‪.‬‬ ‫قوة هذين النصين وخطورتهما ال تكمن في أنّهما يستندان إلى القوة الثقافية‪ ،‬وحتى السياسية‬ ‫والعسكرية التي كانت لبريطانيا كرأس هرم غربي إزاء الشرق‪ ،‬وال في مدى البالغة التي يتم ّتعان بها‪ ،‬أو في‬ ‫سلطان وسحر الصياغة‪ ،‬وال في مدى صدق ما يصفانه آنذاك (أو اآلن فنظرة الغرب لم تتغير)‪ ،‬بل تكمن‬ ‫لسبب‬ ‫في أنّ هذه الصورة هي ما يبدو أن الغرب يريد أن يحافظ عليه؛ صورة الشرقي البدائي‪ ،‬ولهذا‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫آخر‪ُ ،‬و ِج َدت هي في الشرق‪.‬‬ ‫‪27‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫الشرق‬

‫اخللفية ‪2‬‬

‫ُ‬ ‫ألتفت‬ ‫المقهى‪ .‬يوقظني النادل الخمسيني بكوب شاي ساخن كنت قد طلبت أن يحضره‪ ،‬وكأس ماء‪.‬‬ ‫أربعيني يجلس إلى الطاولة المجاورة لطاولتي‪ ،‬ألنظ َر كم الساعة‪ .‬إنّها متوقفة‬ ‫يساراً فتقع عيني على ساعة‬ ‫ِّ‬ ‫عند التاسعة ولكن ال أدري منذ متى‪ِ .‬‬ ‫بقيت الجريد ُة على الطاولة المجاورة وغادر الرجل الذي كان يقرؤها‪،‬‬ ‫مرتدياً ذهنياً كلماتِها ليتركها مجرد صفحات بيضاء‪ ،‬وربما ترك كل شيء‪ ،‬حتى الكلمات‪ ،‬وغادر‪.‬‬ ‫خارج النص‬

‫بطبع حاد‪ ،‬بل بالنصوص التي سجنت الشرق‪ ،‬أشعر أن غضباً تم ّلكني‪ .‬استب ّدت بي فكرة أننا‬ ‫ال‬ ‫ٍ‬ ‫كشرقيين مج ّرد أوابد هم صنعوها‪ ،‬فكر ٍة وضعوها على واجهات محالتهم الفخمة في باريس ولندن وبرلين‬ ‫وبالتأكيد في واشنطن‪ ،‬واليوم هم أشد العابدين‪ ،‬ليس لها‪ ،‬ولكن لمجرد وجودها‪ .‬تخ ّيلت لو أنّ أوروبياً‬ ‫يجلس في الجانب اآلخر ما وراء البحار في إحدى الحواضر الغربية‪ ،‬في مقهى‪ ،‬في تلك اللحظة‪ ،‬وتخ ّيلت‬ ‫حجم االمتيازات التي يتمتع بها‪ ،‬أقلها مادياً‪ ،‬فانتهيت إلى أن أنا أنا فقط ألنّ هو هو‪ .‬فجغرافياً ما هو‬ ‫غربي إال ألنني شرقي‪ ،‬وأخالقياً ما هو متف ّوق إال ألنني مهزوم‪ ،‬وسياسياً ما هو مستعمِر إال ألنني مستع َمر‪،‬‬ ‫رسخ فكر ًة لم يكن يوماً لها وجود فعلي إال في أبحاثه وكتاباته‬ ‫وما ذاك إال ألنه معرفياً وبقوة الثقافة َّ‬ ‫التخييلية‪ ،‬وهي فكرة أنه ينتمي إلى عرق متفوق وأنتمي إلى عرق دوني هو اليوم في الدرجة الثالثة‪ ،‬أنه‬ ‫من العالم األول‪ ،‬وأنا أنتمي إلى دولة من دول العالم الثالث‪.‬‬ ‫قد ال تبدو الفكرة هنا‪ ،‬بالنسبة إلى من يرى فيها مغاالة‪ ،‬أو –لنقل‪ -‬مبالغ فيها‪ ،‬المفتاح السحري‪ ،‬أو‬ ‫ثم ستصبح مألوفة فتفقد بريقها‪ .‬إنها فكرة قديمة تناولها‬ ‫المركز المفهومي لحل مشكالتنا الواقعية‪ ،‬ومن ّ‬ ‫الوعي النقدي على األقل بعد الثورة الفكرية التي أحدثها كتابا ‘االستشراق’ و‘الثقافة واإلمبريالية’‪ ،‬إال أنها‬ ‫يمكن أن تُد َرج كسلعة ثقافية مك ّررة ضمن الترسانة النص ّية التي ال تتوقف مصانع التسليح الفكرية الغربية‬ ‫عن إمداد اإلعالم والسينما‪ ،‬وبالضرورة‪ ،‬السياسة بها‪ .‬فنحن اليوم في انتظار العرض األول لفيلم ‘ملكة‬ ‫الصحراء’ للمخرج العميق النفوذ فيرنر هيرتزوغ‪ ،‬الفيلم الذي يحكي سيرة الرحالة والمستشرقة غيرترود‬ ‫بل‪ ،‬التي تؤدي شخصيتها الفنانة العالمية نيكول كيدمان‪ ،‬يشاركها الفنان السوري جهاد عبدو بدور مرشد‬ ‫بل؛ في انتظار فيلم ال أتوقع منه حواراً متبادل االعتماد بين الشرق والغرب‪ ،‬بل هو الذات األوروبية العليا‬ ‫ممثل ًة في السيدة بل‪ ،‬وهي تسهم في إعادة ترتيب أوضاع منطقة الشرق األوسط بعد الحرب العالمية‬ ‫األولى‪ ،‬وقد يتزامن عرضه (من يدري) مع إعادة ترتيب المنطقة ذاتها من جديد‪.‬‬ ‫لقد استثمر فينا الغرب وق ّدم مشاريعه على أجسادنا‪ ،‬وال يزال‪ ،‬فما وجود القواعد العسكرية األمريكية‬ ‫في الخليج إال لهذا‪ ،‬وكذلك في أفغانستان‪ ،‬وفي معظم الشرق‪ ،‬وما قاتل الجيش الفرنسي في مالي إال لهذا‪،‬‬ ‫واليوم ال شيء تغير؛ سوريا‪ ،‬لبنان‪ ،‬العراق‪ ،‬اليمن‪ ،‬ليبيا‪ ،‬مصر‪ ،‬تونس‪ .‬باتت مج ّرد جغرافيا شرق ّية عادت‬ ‫‪28‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الشرق‬

‫اليوم من جديد لترقص رقصة الموت على خشبات العرض الغربية‪ ،‬وهي تواجه مسخاً‪ ،‬وحشاً أسطورياً فاخَ َر‬ ‫مدير وكالة السي آي أيه عام ‪ 2006‬بأنه سيوجده‪.‬‬ ‫إنسانًا‬

‫أو ّد أن أؤ ّكد أن المسألة ال تندرج في سبيل العداء للغرب؛ الغرب الذي ال يبادلنا‪ ،‬حتى اللحظة‪ ،‬حق‬ ‫االحترام واالعتراف باختالفنا عنه‪ ،‬ولكن أن نعاني الجمود في بدائيتنا (إذا سلمنا بذلك) ليس مبرراً ألن‬ ‫يتدخّ ل في حياتنا‪ ،‬في عيشنا‪ ،‬في ثقافتنا‪ .‬إذا كان يؤمن باالختالف‪ ،‬ويحترم من يختلف معه حقاً‪ ،‬فعليه‬ ‫أال يمارس قوته الثقافية بالهيمنة على ثقافتنا بل بإقصائها‪ ،‬وقوته السياسية بالهيمنة على أسلوبنا في إدارة‬ ‫دولنا‪ ،‬وقوته االقتصادية بالهيمنة على مقدراتنا وثرواتنا‪.‬‬ ‫إن الفعل الغربي في الشرق لَ َي ُ‬ ‫نسف ّ‬ ‫كل المبادئ التي يتظاهر بها الغرب من حقوق اإلنسان إلى‬ ‫الحرية إلى الديمقراطية‪ ،‬حتى العدالة اإلنسانية‪ .‬بل إنّه ال يتوانى‪ ،‬كلما شعر بأن سيطرته يتهددها خطر ما‪،‬‬ ‫في إدخالنا في متاهة تلو أخرى‪ ،‬كمتاهة ديدالوس‪ ،‬فإذا ما شعر بأنّ السيطرة استت ّبت له رمى إلينا بخيط‬ ‫سرحتِنا‪:‬‬ ‫أدرياني للخروج من هذه المتاهة‪ .‬هكذا نحن نعيش في كنف أسطورة إغريقية هي اليوم عنوان َم َ‬ ‫نحن الشرق‪ ...‬أمام الغرب‪.‬‬

‫‪29‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مازن عيل❊‬

‫الفساد‪:‬‬

‫مقاربة منظومية نحو التحديث‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ال بد من إعادة النظر بظاهرة الفساد ودراستها موضوعياً‪ ،‬وتحديد مصادرها ومسوغات‬ ‫تفاقمها حتى اكتسبت صفة ‘الظاهرة’‪ ،‬بعيداً عن أحكام القيمة التي تدينها‪ .‬ألنها‪ ،‬ومن‬ ‫وجهة نظر مسؤولة‪ ،‬هي مسؤولية جامعية تطال فلسفة النظام النظام السيايس برمته‬ ‫وآثاره الواقعة عىل املجتمع املنعكسة يف ثقافته وقيمه‪ ،‬التي تجعل من الفساد ظاهرة‬ ‫مربرة أو مدانة اجتامعياً‪.‬‬

‫❊ خريج كلية العلوم السياسية يف جامعة دمشق‪ .‬تقدم برسالة املاجستري تحت عنوان ‘املتطلبات السياسية للتنمية‪ :‬دراسة تحليلية يف تنظيم السلطة‬ ‫والتحديث السيايس’‪ .‬عمل كباحث متفرغ يف ‘مركز الدراسات اإلسرتاتيجية’ بدمشق‪ ،‬وكسكرتري تحرير وعضو الهيئة االستشارية يف مجلة ‘دراسات فكرية’‪.‬‬ ‫كام ساهم مبجموعة من األبحاث والدراسات لهيئات سياسية وحكومية يف سوريا أهمها‪‘ :‬قانون األحزاب’‪‘ ،‬قانون االنتخابات’‪‘ ،‬دراسات عن املجتمع املدين’‬ ‫و‘الحياة الحزبية يف سوريا’‪ .‬له العديد من األبحاث املكتوبة منها ‘أسئلة يف النهضة’‪ ،‬و‘الدميقراطية بني الخصوصية والعاملية’‪ ،‬فضالً عن مشاركته يف برنامج‬ ‫التعاون األكادميي ‘وعي الذات ووعي اآلخر يف السياسة والتاريخ والثقافة’ بني جامعتي دمشق وإرالنغن األملانية‪ .‬انضم إىل هيئة التحرير يف مجلة دلتا‬ ‫نون كمحرر للقسم العريب وجولة العدد‪.‬‬

‫‪30‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفساد‪ :‬مقاربة منظومية نحو التحديث‬

‫تتزاحم األبحاث والدراسات التي تتناول بشكل دوري القضايا والتحديات االجتماعية واالقتصادية التي‬ ‫تواجهها البلدان النامية‪ ،‬وتعقد من أجلها الندوات والمحاضرات وورش العمل‪ ،‬وعلى رأسها قضايا التنمية‬ ‫والديمقراطية‪ .‬حيث بات الربط العضوي بينهما ضرورة يتفق عليها الجميع‪ .‬لينتقل الحديث بعدها عن‬ ‫معوقات التنمية وكيف يمكن للديمقراطية بتعينها اإلجرائي أن تسهم في إزاحة هذه المعوقات المتمظهرة‬ ‫على شكل أمراض مركبة من الهدر والفساد‪.‬‬ ‫لكن بداية‪ ،‬ال بد من إعادة النظر بظاهرة الفساد نفسها ودراستها موضوعياً‪ ،‬وتحديد مصادرها‬ ‫ومسوغات تفاقمها حتى اكتسبت صفة ‘الظاهرة’‪ ،‬بعيداً عن أحكام القيمة التي تدينها‪ .‬ألنها‪ ،‬ومن وجهة‬ ‫نظر مسؤولة‪ ،‬هي مسؤولية جماعية تطال فلسفة النظام النظام السياسي برمته وآثاره الواقعة على المجتمع‬ ‫المنعكسة في ثقافته وقيمه‪ ،‬التي تجعل من الفساد ظاهرة مبررة أو مدانة اجتماعياً‪.‬‬ ‫يوصف‬ ‫وحيث أن ظاهرة الفساد متعددة ومتداخلة المظاهر بدرجة يصعب معها تحديد تعريف ِّ‬ ‫حالة الفساد‪ ،‬فإن أول ما يتبادر للذهن تلك المظاهر المالية من اختالس لألموال العامة أو الرشوة التي‬ ‫يتقاضاها الموظف العام واستغالل المنصب والوساطة نتيجة القرابة أو غيرها‪ .‬مما ّ‬ ‫يشل انسياب اإلجراءات‬ ‫القانونية ويفرمل الهياكل اإلدارية المصممة إلدارة الشأن العام ويحرفها عن أداء وظيفتها بالفعالية والكفاءة‬ ‫المطلوبة‪.‬‬ ‫إال أن ظاهرة الفساد حين تفكيكها من ناحية بنيوية‪ ،‬نجدها أعم وأشمل‪ .‬فهي ال تقتصر على الجانب‬ ‫المالي أو إساءة استخدام المنصب العام فحسب‪ ،‬بل إنه تحويل أو تح ّول عن اإلدارة الف ّعالة للشأن العام‬ ‫وغياب الشأن العام مقابل الشأن الخاص‪ ،‬بما ينطوي عليه الخاص من أشخاص بعينهم أو أشخاص اعتباريين‪.‬‬ ‫فالفساد هو تح ّول المصلحة العامة إلى مصلحة خاصة ألفراد أو لجماعات أضيق‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫الفساد‪ :‬مقاربة منظومية نحو التحديث‬

‫وهنا تُعد المقاربة اإلدارية قاصرة عن فهم وحل ظاهرة الفساد بالقدر الذي تنتفي معه إمكانية‬ ‫مقاربتها مقاربة تربوية أو ثقافية‪ ،‬فهي في هذه الحالة استهانة واستكانة لواقع وثقافة مجتمع نسمه بغير‬ ‫صفة؛ بينما يكتنز في حقيقته قيماً حضارية أعلى وأكثر تمدناً‪ .‬ألن اإلدارة نفسها أصبحت موضوعاً وليست‬ ‫حال‪ .‬فما هي المقاربة التي يمكن أن ندخل بها على ظاهرة الفساد بتعينه الذي نلحظه من استغالل نفوذ‬ ‫أو دفع رشوة أو برطيل؟ السيما إذا عرفنا بأن ذلك التعين األخير يق ّدم من قبل المواطن من أجل تسريع‬ ‫وتسيير الماكينة اإلدارية بالدرجة األولى‪.‬‬ ‫المقاربة اإلدارية‪ ،‬وإن بدت أنها األقرب في تشميل ظاهرة الفساد‪ ،‬سرعان ما نجد بأنها شكلية تقتصر‬ ‫على تعديل القوانين واألنظمة اإلدارية وسن قوانين جديدة في إطار ما نطلق عليه عملية اإلصالح اإلداري‪،‬‬ ‫الذي ال ينتج عنه إال تضخم في القوانين وتشابك النصوص وتعقد اإلجراءات‪ ،‬ما ير ِّكب حالة الفساد ويجعلها‬ ‫أكثر استعصاءاً عن الكشف في ظل كثرة الت وقيعات وتبعثر المسؤولية‪.‬‬ ‫وعليه‪ ،‬أين تكمن العلة؟ ومن أين يبدأ االستطباب لتجاوز تلك المقاربات‪ ،‬أو إيجاد مقاربة تُجمل ما‬ ‫سبقها من إجراءات قانونية وإدارية وتربوية اجتماعية؟‬ ‫الع ّلة تكمن تماماً في تلك المقاربة المنظومية الكلية للنظام السياسي ونقاط اتصاله مع الشأن العام‬ ‫وضمان عدم انزياحه إلى نطاقات ضيقة من الشأن الخاص‪ .‬والمسألة المنظومية يطرحها ‘علم السيبرناتيك’‬ ‫الذي يعالج المسائل التنظيمية وظيفياً ويربطها مع البنية‪ ،‬بحيث تنطوي كل بنية على وظيفة محددة‬ ‫متخصصة وظيفياً تتكامل مع البنى األخرى مشكلة منظومة تتحرك في ظهرانيها المسألة العامة في ظل‬ ‫إدارة ف ّعالة للنظام العام‪.‬‬ ‫تستند هذه المقاربة التنظيمية على مجموعة من المبادئ واألصول تهدف إلى إيجاد إدارة فعالة‬ ‫للشأن العام‪ ،‬ورسم الخرائط السلطوية وخطوط االتصال وقنوات التصريف العملية لتحديث اإلدارة‪ ،‬كي‬ ‫تظهر لدينا بنية قادرة على مواكبة ما يستجد من مهام تستطيع التفاعل معها؛ كإعادة اإلعمار‪ ،‬والتنمية‬ ‫المستدامة‪ ،‬وبعض تعييناتها اإلجرائية كالحكومة اإللكترونية مث ًال‪ ،‬والتي ال تستقيم معها المفاعيل الجانبية‬ ‫للفساد فض َال عن تجفيف مصادره‪ .‬وهذه المبادئ تتلخص بما يلي‪:‬‬ ‫• كلية القرارات العامة‪ :‬أي أن تصدر القرارات عن حصر المشترك العام وتحديده بدقة في‬ ‫الجوانب المختلفة‪ ،‬فكلما زادت وتنوعت التشكيالت االجتماعية الداخلة في عملية القرار كلما استبعدت‬ ‫الخصوصيات الفردية وتعادلت اآلراء الحدية‪ ،‬وانصب االهتمام نحو األولويات العامة لهذه التشكيالت‪ ،‬مع‬ ‫مفاضلتها بصورة موضوعية تكفلها الضرورة‪.‬‬ ‫• تعدد الهيئات‪ :‬أن يصدر القرار قدر ما أمكن من هيئات متعددة‪ ،‬تضطلع كل منها باختصاصات‬ ‫مختلفة عن األخرى في شأن األمر المعني المزمع أخذ القرار بصدده‪ ،‬وتعدد االختصاصات وزاوية‬ ‫النظر التخصصي منه‪ ،‬وأن تكون كل هيئة مختلفة عن األخرى من حيث التكوين والتشكيل حتى إسناد‬ ‫الصالحيات؛ سواء كانت بالتعيين أو باالنتخاب وأن تختلف فيها مستويات التسلسل الهرمي والوظيفي ضماناً‬ ‫الستكمال النواقص في صنع القرار من خالل تعدد السلطات‪.‬‬ ‫• الفصل بين الهيئات وتوازنها‪ :‬بحيث تنتفي إمكانية أي من هذه الهيئات أن ينشئ األخرى‪ ،‬أو أن‬ ‫‪32‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفساد‪ :‬مقاربة منظومية نحو التحديث‬

‫يكون له أثر في تشكيلها‪ .‬وأال يكون في قدرة هذه الهيئات نفيها أو حلها أو إلغاؤها‪ ،‬وإال كانت تابعة‬ ‫لها‪ ،‬والتبعية هنا حتى إن خالف مرؤوسه مجرد سماح ومحض أريحية‪ ،‬والسماح واألريحية ال تبنى بهما‬ ‫المؤسسات‪.‬‬ ‫• تقييد النيابة العامة‪ :‬إذ ما من قائم على شأن عام إال ويكون ممث ًال عن غيره‪ ،‬حيث أنه يمثل‬ ‫جماعة عامة في التحليل النهائي‪ ،‬بغض النظر عن أسلوب اكتساب الصفة التمثيلية باالنتخاب أو بالتعيين‪،‬‬ ‫المهم أنه يأخذ صفة تمثيلية عن جماعة ما‪ .‬ومبدأ التمثيل هذا يفقد شرعيته بتجاوز شروط النيابة‪ ،‬إذ‬ ‫ال نيابة إال ومحدودة ال تقبل التجاوز ومقيدة ال تقبل اإلطالق فهي مشروطة ال تقبل االنفالت‪ .‬وإال غدت‬ ‫الممارسة عدواناً وسلباً للسلطة العامة‪.‬‬ ‫• مبدأ التداول‪ :‬وهو العنصر األساسي الذي تستقل به الوظيفة العامة عن سواها من الحيز الخاص‪،‬‬ ‫فالموقع العام أو المنصب العام هو المستقر واألكثر دواماً بينما شاغله‪ ،‬فهو طارئ عليه تنتهي صالحيته‬ ‫بعد زمن معين‪ .‬وبغير هذا التداول والتغيير يصير المنصب ملحقاً بشخص متوليه وتتشخصن الوظيفة‬ ‫العامة‪ ،‬مما يفقد المنصب العام شرعية أداءه للشأن العام‪.‬‬ ‫إن الفساد يعطل النظام الساعي إلى النهوض بالعملية التنموية وينخر المفاصل المبرمجة على أساسها‬ ‫المؤسسات‪ ،‬فيحرفها عن مساراتها دون عملية تصويب وتقويم كان يجب أن تنطوي عليها الهياكل التنظيمية‬ ‫والمؤسسات نفسها‪ .‬وتقدم لنا المقاربة التنظيمية رؤية أكثر شمولية ومدخ ًال إلعادة البنيان اإلداري الذي‬ ‫نعكف على تحقيقه في مؤسساتنا وهيئاتنا التي استعصت معها وصفات الخبراء الدوليين (المفتقدين إلى‬ ‫حس المكان)‪.‬‬ ‫في النهاية يضع لنا هذا النوع من المقاربات حداً لظاهرة الفساد‪ ،‬ويخضعه لعدسة المراجعة والتحكم‬ ‫بميكانيزماته‪ ،‬خصوصاً الفساد من العيار الثقيل‪ .‬أما الفساد الصغير‪ ،‬ال يلبث أن يفقد مصادر تبريره‪ ،‬ليصبح‬ ‫حاالت فردية وجزراً معزولة تجف مع مرور الوقت دون أن تؤثر في سيرورة النظام‪ ،‬ألن الفساد الكبير هو‬ ‫من يعطل نظاماَ كام ًال‪ ،‬قد تشيع في ثناياه مظاهر القهر والظلم واإلثراء الفاحش‪ ،‬واحتكار الثروات وصبها‬ ‫في قنوات خاصة تفيد فئة متنفذة‪ ،‬معطلة بذلك أي سيرورة باتجاه التحديث‪.‬‬

‫‪33‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مظاهر العلمنة‬

‫مبارك أباعزي❊‬

‫يف املمارسات اإلسالمية األوىل‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يحاول مقال ‘مظاهر العلمنة يف املامرسات اإلسالمية األوىل’ البحث عن بعض مظاهر‬ ‫العلمنة يف الرتاث اإلسالمي القديم‪ ،‬من خالل أفعال وسلوكات الرسول وعمر بن الخطاب‬ ‫باعتبارهام قطبني كبريين يف الرتاث اإلسالمي‪ .‬وتم االعتامد عىل بعض األحداث كواقعة‬ ‫تأبري النخل وبعض الحروب التي قادها الرسول‪ ،‬أو إيقاف حد الرسقة وزواج املتعة من‬ ‫لدن عمر بن الخطاب‪ ،‬وهذه األمور كلها رأينا فيها ترصفا للعقل البرشي ضدا عىل ما هو‬ ‫نيص أو ديني‪ .‬وقد تم التوصل إىل أن الرسول كان علام َين الترصف والسلوك يف كثري من‬ ‫األحيان‪ ،‬مثله يف ذلك مثل عمر بن الخطاب‪.‬‬

‫❊ باحث مغربي في الشأن األمازيغي ومهتم بالجانب الحقوقي‪ .‬حاصل على الماجستير في علم النص وتحليل الخطاب‪ .‬له مقاالت منشورة في مجالت‬ ‫وجرائد مشرقية ومغاربية‪.‬‬

‫‪34‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مظاهر العلمنة يف املمارسات اإلسالمية األوىل‬

‫يعد مفهوم العلمنة من المفاهيم األكثر انتشاراً في الخطاب السياسي اإلسالمي المعاصر‪ ،‬وقد تم‬ ‫تناوله من مرجعيات مختلفة حتى أصبح القبض على معنى محدد من معانيه أمراً صعباً‪ ،‬ونتيجة لذلك‬ ‫ارتبكت عالقة الناس بالمفهوم مداً وجزراً‪ ،‬رفضا وقبوال‪ ،‬حسب الوسيط اإلديولوجي الذي ُبلغت به؛‬ ‫فاإلسالميون ألصقوها باإللحاد ون ّفروا منها كل العقول البسيطة التي ال تفهم مغازي العلمنة وأهدافها‪،‬‬ ‫وأوهموا الناس أنها ترتبط بالعالم (ال َعالمانية)‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬وكثيراً ما اختلف رواد العلمنة أنفسهم في حدود‬ ‫السياسي وحدود الديني‪ ،‬كل حسب وجهة نظره ألمور الحياة وطرق تدبيرها‪ .‬ولعل المفهوم األكثر انتشاراً‬ ‫هو “فصل الدين عن السياسية”‪ ،‬وهو نفسه الذي نتبناه ونحاول أن نبحث عن بعض آثاره في التراث‬ ‫اإلسالمي القديم‪ ،‬مستندين في ذلك إلى بعض سلوكات الرسول وعمر بن الخطاب‪.‬‬ ‫ونشير بدءاً إلى أن العلمنة مرفوضة في أوساط اإلسالم السياسي رفضاً قاطعاً‪ ،‬ويعود ذلك إلى أسباب‬ ‫عدة‪ ،‬لعل أبرزها أنها‪ ،‬أي العلمنة‪ ،‬تنزع عن اإلسالموي الوتر الذي يعزف عليه ألحانه ذات النغمة الوصولية‪،‬‬ ‫إذ ال تسمح له بأن يتحدث في أمور السياسة بمرجعيات دينية‪ ،‬وهو بذلك معزول اجتماعياً في ركن‬ ‫الفتاوى الدينية‪ .‬ولما كان األمر كذلك‪ ،‬فهو يحتاج إلى براهين نصية يبرر بها دمجه بين الديني والسياسي‪،‬‬ ‫لذلك يستعين مثال بقول الله عز وجل‪َ ﴿ :‬و َمنْ َل ْم َي ْح ُك ْم ِب َما أَ ْنز َ​َل ال َّل ُه َف ُأو َلئ َِك هُ ُم ا ْل َكا ِف ُر َ‬ ‫ون﴾‪ ،‬متجاه ًال‬ ‫بذلك مكونين أساسيين؛ األول هو السياق اللغوي للنص‪ ،‬أي أن اآلية ورد قبلها قوله عز وجل‪﴿ :‬إِنَّا أَ ْن َز ْلنَا‬ ‫ون َو ْ َ‬ ‫ون ا َّل ِذينَ أَ ْس َل ُموا ِل َّل ِذينَ هَ ادُوا َوال َّر َّبا ِن ُّي َ‬ ‫ال َّت ْو َرا َة فِي َها هُ دًى َو ُنو ٌر َي ْح ُك ُم ِب َها ال َّن ِب ُّي َ‬ ‫ال ْح َبا ُر ِب َما ْاست ُْحف ُِظوا‬ ‫َّاس َواخْ َش ْونِ َو َل ت َْش َت ُروا ِبآ َياتِي َث َمنًا َقل ًِيل َو َمنْ َل ْم َي ْح ُك ْم‬ ‫ِمنْ ِكت ِ‬ ‫َاب ال َّل ِه َو َكا ُنوا َع َل ْي ِه ُش َهدَا َء َف َل تَخْ َش ُوا الن َ‬ ‫‪35‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مظاهر العلمنة يف املمارسات اإلسالمية األوىل‬

‫ِب َما أَ ْنز َ​َل ال َّل ُه َف ُأو َلئ َِك هُ ُم ا ْل َكا ِف ُر َ‬ ‫ون﴾‪ ،‬وفي هذه اآليات إشارة واضحة إلى أن المعنيين بالخطاب هم اليهود‬ ‫دون المسلمين‪ .‬والمكون الثاني هو السياق المقامي المرتبط بأسباب النزول‪ ،‬ففي تفسير القرطبي ورد أن‬ ‫اصة‪َ ،‬واخْ َتا َر ُه ال َّن َّحاس؛ َق َال‪َ :‬و َيدُ ّل َع َلى َذل َِك َ�ث َل َثة أَشْ َياء؛ ِم ْن َها أَنَّ ا ْل َي ُهود َق ْد ُذ ِك ُروا‬ ‫اآلية “هِ َي فِي ا ْل َي ُهود خَ َّ‬ ‫َق ْبل َه َذا فِي َق ْوله‪ِ ﴿ :‬ل َّل ِذينَ هَ ادُوا﴾؛ َف َعا َد الضَّ مِير َع َل ْيه ِْم‪َ ،‬و ِم ْن َها أَنَّ سِ َياق ا ْل َك َلم َيدُ ّل َع َلى َذل َِك؛ أَ َل َت َرى أَنَّ‬ ‫ِين أَ ْن َك ُروا ال َّر ْجم َوا ْلق َِصاص”‪.‬‬ ‫َب ْعده ﴿ َو َك َت ْبنَا َع َل ْيه ِْم﴾ َف َه َذا الضَّ مِير لِ ْل َي ُهو ِد ِبإِ ْج َم ٍاع؛ َوأَ ْيضً ا َفإِنَّ ا ْل َي ُهود ُه ْم ا َّلذ َ‬ ‫وفي السياق نفسه أكد الطبري أن هذه اآليات نزلت في أهل الكتاب وليس في المسلمين‪ ،‬وقد احتذى به‬ ‫الزمخشري أيضاً في ذلك‪.‬‬ ‫وفي المقابل‪ ،‬يتعمد الخطاب اإلسالموي تجاهل وثائق تاريخية غاية في األهمية‪ ،‬تدل على ما بين‬ ‫الدين والسياسية من تباين وتباعد واختالف في مجاالت التدبير؛ فقد ورد في النصوص التاريخية أن الرسول‬ ‫قال للناس “أنتم أعلم بشؤون دنياكم” عندما أخطأ رأيه في واقعة تأبير النخل‪ ،‬أي أن قضايا االقتصاد‬ ‫واالجتماع وغيرها ال تخضع للوحي الديني‪ ،‬بل هي من أمور الوحي العقلي‪ ،‬وهذه العبارة ال تختلف في‬ ‫شيء عن عبارة “الدين لله والوطن للجميع” التي تنسب إلى المسيح‪ ،‬وأخذها الكثيرون من بعده‪ ،‬من‬ ‫قبيل األزهري سعد زغلول‪.‬‬ ‫و ُيذكر أيضا أن الرسول اختار موقعاً لمحاربة العدو في إحدى الغزوات‪ ،‬لكن الحباب بن المنذر سأله‬ ‫إن كان اختياره لذلك الموقع من الوحي الديني‪ ،‬أم من الوحي العقلي‪ ،‬فأجابه الرسول أن ذلك من أمور‬ ‫العقل‪ ،‬فدله الحباب على موقع آخر أصلح لتحقيق النصر‪ .‬وفي صحيح مسلم ورد أن الرسول أوصى بريدة‬ ‫قائ ًال‪“ :‬إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله‪ ،‬فال تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم‬ ‫على حكمك‪ ،‬فإنك ال تدري أتصيب حكم الله فيهم أم ال”‪ ،‬وهو ما ينطبق على أهل زماننا‪ ،‬إذ ليسوا في‬ ‫مرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم لكي يدبروا أمور الدين فقط‪ ،‬بله أمور الدنيا‪ ،‬بشكل فردي وسليم‪.‬‬ ‫بل إن الرسول كان يقوم بسلوكات ذات طابع علماني حينما تراه يشاور رعيته في أمور الدنيا‪ ،‬بخالف‬ ‫شيوخ هذا الزمان الذين يريدون إخضاع الدنيا واآلخرة لوصايتهم الثيوقراطية‪ ،‬ولو كانوا على كلمة واحدة‬ ‫لهان األمر‪ ،‬لكنهم في معظم األحيان يختلفون في كل أمور الدنيا والدين‪ ،‬باستثناء عدد صلوات اليوم‬ ‫الواحد! وهو ما ال يصح حينما يرتبط األمر بكالم الله‪.‬‬ ‫أما عمر بن الخطاب‪ ،‬فقد ُذكِر في النصوص التاريخية أنه أوقف حد السرقة عام المجاعة‪ ،‬ولم‬ ‫ينقل لنا التاريخ اإلسالمي أن الناس أعادوا هذا الحد إلى الوجود‪ .‬وإذا قلنا لإلسالميين اليوم إن عمر أوقف‬ ‫حد السرقة يقولون إنه أعملها اإلعمال الصحيح‪ ،‬كما يذهب إلى ذلك أبو إسحاق الجويني‪ ،‬وال نعرف ما‬ ‫يعنيه إعماله لها اإلعمال الصحيح‪ ،‬لكن المؤكد أن عمر أوقف الحد‪ ،‬وال تعنينا التفاصيل ما دام األمر ثابتا‬ ‫بالنصوص التاريخية‪.‬‬ ‫فض ًال عن ذلك‪ ،‬يعتبر عمر بن الخطاب أكثر الناس اجتهاداً‪ ،‬ليس ألنه ألغى حد السرقة فقط‪ ،‬بل‬ ‫ألنه منع زواج المتعة أيضا الذي ما زال موجوداً في بعض البالد اإلسالمية‪ .‬وكثيراً ما يسمع الواحد منا من‬ ‫يسخر من وجوده عند الشيعة معتبراً األمر غير مختلف عن ‘المباغي’ المقننة‪ ،‬لكن هؤالء الناس ال يعرفون‬ ‫أن الشيعة لم تخترع زواج المتعة‪ ،‬بل اعتمدت على نص قرآني واضح المعنى صريح العبارة وهو قوله‬ ‫‪36‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مظاهر العلمنة يف املمارسات اإلسالمية األوىل‬

‫جل وعال‪﴿ :‬فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن﴾‪ ،‬ولكنهم سيقولون من جديد إن الشيعة عليهم‬ ‫أن ينظروا من جديد في ما يحيط بهم –رغم أن السنة لم تنظر في صالحية حد السرقة‪ -‬ألن الله العلي‬ ‫والقدير والرحيم بالعباد لن يريد باألنثى ما يحصل لها من قهر جراء ما يسمى بزواج المتعة‪.‬‬ ‫وقد قام عمر أيضا بإيقاف العمل بما سمي في عهد الرسول وأبي بكر بـ ‘المؤلفة قلوبهم’‪ ،‬وهم‬ ‫فئة من غير المسلمين يتلقون الصدقات من خزينة المسلمين حتى تألف قلوبهم‪ .‬وأظن أن استقراء كتب‬ ‫التاريخ اإلسالمي سيتيح وثائق أكثر أهمية من هذه‪ ،‬وال يحتاج ذلك سوى إلى بناء مشاريع بحوث أكاديمية‬ ‫لتتحقق الغاية وننتهي من هذه المعضلة الكبيرة‪.‬‬ ‫إن فصل الديني عن الدنيوي ضرورة ملحة‪ ،‬وقد كان الرسول هو أول ما بدأها‪ ،‬وإن بشكل نسبي‪،‬‬ ‫كما أن التصرف في النص الديني تحقيقا للعدالة االجتماعية‪ ،‬أمر ملح‪ ،‬وهو ما فعله عمر وغيره من‬ ‫قبل‪ ،‬ألن الخضوع لسلطة النص في الحين الذي تضيع فيه مصالح الناس‪ ،‬ال يمكن لله نفسه إال أن‬ ‫يرفضه‪ ،‬فلو افترضنا أن الوحي سينزل في القرن الواحد والعشرين‪ ،‬هل سيكون النص الديني‪ ،‬الذي نزل‬ ‫قبل خمسة عشر قرناً‪ ،‬هو نفسه الذي سينزل اآلن‪ ،‬أم أنه سيخضع لشروط الحياة الجديدة التي تطبعها‬ ‫تعقيدات كثيرة؟‬

‫‪37‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫لربيع ضائع‪:‬‬ ‫مرثية‬ ‫ٍ‬

‫هوازن خداج❊‬

‫الشيطان يكمن يف التفاصيل‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫إن ما نعيشه من فوىض السالح واألفكار واملفاهيم وحالة االقتتال الطائفي الديني‪ ،‬وغريها‬ ‫من مصائبنا السورية الحالية‪ ،‬يتحمل جزءاً كبرياً منها النظام‪ ،‬والجزء اآلخر يتحمله رشكاء‬ ‫الظل من مثقفني ومن ‘أحزاب تقدمية علامنية’ مل تكن قادرة عىل إزهار الربيع‪ ،‬لكنها‬ ‫تستطيع أن تنوح عىل ما تبقى من زهور األرض السورية التي باتت تداس بكافة أنواع‬ ‫األسلحة الدينية الطائفية التي مل تأت من املريخ إمنا هي جزء من شياطيننا‪.‬‬

‫❊ خريجة معهد رسم وتصميم من جامعة دمشق‪ .‬عملت يف موقع ثروة بروجكت عام ‪ .2002‬تضمن العمل إعداد التقارير الصحفية للموقع‪ ،‬وتحرير املواد‪،‬‬ ‫باإلضافة إىل مساهامت يف كتابة الدراسات واملقاالت‪ .‬لها العديد من املواد املنشورة حالياً يف منابر عربية مثا‪‘ :‬الحوار املتمدن’‪ ،‬مجلة ‘تحوالت’‪‘ ،‬ميدل‬ ‫إيست أون الين’‪‘ ،‬نساء سوريا’‪ ،‬وصحيفة ‘العرب’ اللندنية‪.‬‬

‫‪38‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مرثية لربيع ضائع‪ :‬الشيطان يكمن يف التفاصيل‬

‫لكي ال نظلم الربيع كثيراً ونحمله وزر السقوط والتصدع فيما يجري من العنف واإلرهاب ونزيف‬ ‫الدماء على كافة األراضي العربية‪ ،‬فنقطة االرتكاز الربيعية لما يجري من أهوال لم تكن معلقة في الفضاء‪،‬‬ ‫وما قبلها لم يكن سراباً‪ ،‬سنبعثر التراب عن قبر لم يجف بعد ولم يصبح تاريخاً منصرماً‪ ،‬فقد يفيد أحيانا‬ ‫تغيير االتجاه في قراءة ما يحدث من فوضى السالح واألفكار والمفاهيم وحتى حالة االقتتال الطائفي‬ ‫الديني وغيرها من مصائبنا السورية الحالية‪.‬‬ ‫لقد جرت العادة تحميل ما يجري للنظام الديكتاتوري الفاسد الذي ساهم بشكل قطعي بالوصول‬ ‫إلى ما نعيشه من انهيار‪ ،‬وال يمكننا بأي حال من األحوال تبرئة القاتل‪ .‬فانهيارنا ليس حديثاً إنه جز ٌء من‬ ‫وناتج طبيعي لما عاشه الشعب السوري بكافة أطيافه من كبت الحريات‬ ‫لعبة الفساد وانعدام المساءلة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وغياب الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني‪ ،‬وعدم إحياء جميع الثقافات الموجودة في المجتمع‪،‬‬ ‫وعدم االستفادة من المزيج االجتماعي والثقافي التعددي‪ ،‬باإلضافة إلى جمل ٍة من الدساتير والقوانين التي‬ ‫لم يجر عليها أي تعديل منذ الحكم العثماني أو الفرنسي‪.‬‬ ‫العب أساسي من ضمن مجموع ٍة ضخم ٍة من الالعبين‬ ‫لكن هذا النظام لم يكن العباً منفرداً‪ ،‬بل هو ٌ‬ ‫المحليين واإلقليميين والدوليين‪ .‬وبما أن الحديث هنا يقتصر على الشأن الداخلي‪ ،‬فال يمكننا عدم االلتفات‬ ‫إلى وضع المجتمع السوري وظروف تكوينه الناتجة عن تقسيمات سايكس بيكو؛ تلك التي لم تتوافق‬ ‫فيها الحدود الجغرافية مع الخريطة الديمغرافية للشعوب والقوميات بكافة خصوصياتها الثقافية األصيلة‬ ‫التي نشأت وتطورت عبر مراحل تاريخية طويلة‪ .‬ما أدى إلى ضياع الهوية الثقافية الجامعة تحت سقف‬ ‫‪39‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫مرثية لربيع ضائع‪ :‬الشيطان يكمن يف التفاصيل‬

‫ٌ‬ ‫حادثة أو إشاعة حتى يهرع الجميع إلى القبيلة أو الطائفة التي نشأ فيها‪ ،‬والتي يعتقد‬ ‫الوطن‪ .‬إذ تكفي‬ ‫أنها ستحميه‪ ،‬فالمشاعر الفطرية الضيقة والمغلقة المتأصلة بالسواد األعظم َع َّب َدت الطريق النتشار ثقافة‬ ‫التعصب والكراهية والخوف من اآلخر المختلف‪.‬‬ ‫هذه الحالة يتحمل جزءاً كبيراً منها النظام نتيجة مصادرته ومالحقته للمشاريع الثقافية الساعية إلى‬ ‫حجر على أي فكر واحترام الخصوصية الثقافية لكافة المكونات‪ .‬أما‬ ‫تغيي ٍر يعتمد التعددية الفكرية دون ْ‬ ‫الجزء اآلخر فيتحمله شركاء الظل من مثقفين وأحزاب‪ :‬المثقفون أصابتهم حالة االسترخاء فاستكانوا إلى‬ ‫المواجهه الصامتة بينهم وبين مجموعات الحكم المتمسكة بالسلطة والمستأثرة بالثروة الوطنية وبقية أفراد‬ ‫المجتمع الصامت المنبوذ‪ .‬فمثقفونا لم يتركوا أبراجهم ويتوجهوا نحو الشارع العريض من الجماهير التي‬ ‫تشكو من أمراض الموروث االجتماعي‪ ،‬وسالسل الفقر والجوع والمرض وانتشار األمية والبطالة وغيرها‪،‬‬ ‫والمكتفية بعيش حالة القلق الالمجدي في واقع التخلف الحضاري واالستالب السياسي‪ .‬فلم يتم إنجاز‬ ‫شي ٍء على صعيد بناء اإلنسان الجديد‪ ،‬ولم يتم تثبيت أي رؤية واضحة للمكون المجتمعي وكيفية العمل‬ ‫على تفعيل كافة القوى والقدرات الفكرية والبشرية في المجتمع‪ .‬أما األحزاب فقد سقطت في دوام ٍة من‬ ‫المعضالت كمعضلة عدم استطاعتها الخروج من عباءة تعصبها للتكوينة الحزبية‪ ،‬فمارست في معظمها‬ ‫نفس حاالت العنف السياسي الداخلي الذي تمارسه السلطة على المجتمعات واألفراد بعدم قبولها الحوار‬ ‫الب ّناء واختالف الرأي بين أفرادها باعتباره عالقة تفاعلية تهدف للتجديد والتطور‪ ،‬وصوالً إلى حد التكفير‬ ‫واإلدانة والطرد في حال طرح الفكر والنهج الحزبيين على طاولة الجدل‪ ،‬ويعتبر هذا ‘الرأي اآلخر’ معارض ًة‬ ‫للنظرية‪ ،‬التي ُوضعت على األقل قبل مئة سنة ولم تعد تتناسب مع التطورات العالمية التي تشكل جزءاً‬ ‫من مقومات الوجود الحزبي‪ ،‬لكنها تستمر كشعا ٍر أجوف ُيرفع أو ُيخفى حسب الضرورة‪ .‬ومعضلة االنتماء‬ ‫التي أتت إما كبيرة أوسع من حدود الوطن‪ ،‬كأن ينتمي الشخص إلى األممية العالمية كاألحزاب الشيوعية‬ ‫التي تعتبر أن الوطن هو كيانٌ صغي ٌر ضمن المجموعة العالمية‪ ،‬أو القومية العربية بالنسبة لحزب البعث‬ ‫الذي يعتبر الوطن قطراً قاب ًال لالنصهار في الكيان القومي العربي‪ ،‬أو السورية بالنسبة للحزب السوري‬ ‫القومي االجتماعي‪ ،‬أو العالم اإلسالمي بالنسبة للتيارات األصولية اإلسالمية التي تعتبر أن الوطن قط ٌر ال‬ ‫يمثل شيئاً في وحدة األمة اإلسالمية‪ .‬أو صغيرة كاألمة الكردية بالنسبة للقومية الكردية أو اآلشورية أو‬ ‫االنتماء الطائفي والقبلي‪.‬‬ ‫أما المعضلة التي ش ّكلت صدم ًة حضارية‪ ،‬والتي يتحمل مسؤوليتها األحزاب التقدمية العلمانية‪ ،‬أنها‬ ‫لم تستطع خالل وجودها امتالك أي وسيل ٍة فعالة لالنتشار وتكوين قاعدتها الجماهيرية‪ ،‬بل َت َب َّنت بشكلٍ ما‬ ‫حالة التهميش‪ ،‬وغابت عن كل الساحات الهامة وكل القضايا المصيرية‪ ،‬تارك ًة الباب مفتوحاً لتحتل األحزاب‬ ‫والتيارات الدينية والطائفية التي تم دعمها من قبل النظام كأوراق سياسية في وجه التهديد الديمقراطي‬ ‫العالمي‪ ،‬واستطاعت بناء مستنبتاتها في صفوف الشعب لتزيد في المحرمات السياسية والتشظي المجتمعي‬ ‫في البلدان المتعددة الطوائف‪ .‬إن ضعف األحزاب العلمانية الناتج عن تعرضها للقمع كان مساهماً جيداً‬ ‫في تدعيم األفكار الطائفية‪ ،‬وتعزيز االنقسامات في صفوف الشعب‪ ،‬والذهاب بالخطاب السياسي إلى‬ ‫خطاب ديني وتحويل العقيدة السياسية إلى عقيد ٍة دينية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪40‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مرثية لربيع ضائع‪ :‬الشيطان يكمن يف التفاصيل‬

‫لن نبرئ النظام‪ ،‬لكننا لن نبرئ هذه النسخ المشوهة التي أثبتت فشلها في إحداث أي تغيي ٍر بسيطٍ‬ ‫لألفراد المنضوين في صفوفها‪ ،‬والمصابين بنفس أمراض المجتمع من ٍ‬ ‫تزلف ووصولي ٍة وجعجع ٍة وبراغماتي ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫تجمعات إقصائية معزولة تلهث في مكانها ال تقبل اآلخر المختلف حزبياً‪ ،‬ال تحاور‬ ‫وطائفية‪ ،‬وكانت مجرد‬ ‫وال تناور‪ ،‬لتسهم بشكلٍ غير مباشر‪ ،‬بوجودها الهش واصطفافاتها غير المحسوبة‪ ،‬في فتح المجال لتمدد‬ ‫أنواع األصوليات المختلفة بكل مفاعيلها القاتلة‪.‬‬ ‫مهما كانت يد النظام طويلة‪ ،‬وأياً كان ما فعله وما سيفعله‪ ،‬فهو لم يكن وحده‪ ،‬فعجز المعارضة عن‬ ‫امتالك قوى اجتماعية قادرة على الدخول في سجال سياسي مع السلطة‪ ،‬أو منافسة حقيقية مع النظام‪،‬‬ ‫أو طرح نفسها كبديل يتبناه الشعب‪ ،‬لتبقى على حالها أصواتاً معزول ًة ال تغير كفة الميزان الجماهيري وال‬ ‫تقود حتى المنتمين إليها‪ .‬فالتصحر الذي طال الجغرافيا طال العقول وأحزابنا التقدمية العلمانية لم تكن‬ ‫قادرة على إزهار الربيع‪ ،‬لكنها تستطيع أن تنوح على ما تبقى من زهور األرض السورية التي باتت تداس‬ ‫بكافة أنواع األسلحة الدينية الطائفية التي لم تأت من المريخ إنما هي جزء من شياطيننا‪.‬‬ ‫هذه الحالة من الفشل الذريع لألحزاب العقائدية واأليديولوجيات القائمة واألنظمة وقيادات المجتمع‬ ‫على الساحة السورية التي أدت إلى االنهيار التام في البنية المجتمعية والفكرية التي وصلنا إليها‪ ،‬تستوجب‬ ‫من كافة الهيئات الفكرية والثقافية العمل على تأسيس أنواع مختلفة وحديثة من الحراك السياسي والحزبي‬ ‫الذي يعتمد مراجعة العقائد ووضعها على طاولة البحث والنقد من حيث مواكبتها لخصوصية المجتمعات‪،‬‬ ‫وإيجاد طريقة مختلفة في التعاطي مع األفراد‪ .‬وهذا يعني بناء هيكلية جديدة تعتمد التفاعلية في األداء‬ ‫والوظيفة الحزبية وفتح المجال لطرح كافة األفكار للوصول نحو بناء أحزاب سياسية قادرة على خلق‬ ‫كوادر فعالة في المجتمعات‪ ،‬مع تشجيع المبادرات الفردية الثقافية ومساعدتها على إيصال صوتها عبر‬ ‫استخدام كافة الوسائل المتاحة‪ .‬ومن األجدى قبل كل ذلك منع استغالل العامل الديني والمذهبي في‬ ‫الحراك السياسي حماي ًة للدين وللمواطنة في آنٍ معاً‪ ،‬حيث أثبتت التجارب السابقة والحالية أن دمج الدين‬ ‫مشروع‬ ‫بالسياسة أدى إلى تجاوزات أودت باألوطان إلى حالة من االنهيار والتفتت‪ ،‬خصوصاً في ظل غياب‬ ‫ٍ‬ ‫ثقافي تنموي اجتماعي يشكل بدي ًال يتخطى حالة االنتماءات الضيقة والعاجزة عن بناء وطنٍ واحد يضم‬ ‫الجميع‪ .‬وهذه مسؤولية الهيئات الحزبية والفكرية والثقافية عبر رفضها للواقع الماضي واآلني‪ ،‬والتوجه نحو‬ ‫الجماهير ضمن إطار أساسي ينادي بحق وجود الرأي اآلخر والعمل على حمايته‪ ،‬وهو ما يعيد الفاعلية‬ ‫للتأثير الشعبي بصفته األساس الحقيقي في بناء المجتمع الحداثي الذي يالئم الجميع‪.‬‬ ‫أما في وضعنا الحالي الذي تم التأسيس له من قبل الجميع ستبقى الحقيقة المرة‪ ،‬فاالنغالقات‬ ‫تم تجذيره في هذه‬ ‫الطائفية واإلثنية والحزبية ال يمكنها توليد الطمأنينة أيا كانت الحلول المدرجة‪ ،‬فما ّ‬ ‫المرحلة م ّكن الشيطان الذي يسكن في تفاصيلنا ليكون شريكاً في القتل أو الرفض ونفي اآلخر أياً كان‬ ‫انتماؤه‪ ،‬ولم يبق للسوريين من ٍّ‬ ‫حل سوى ركوب الموجة التي تقودها قطعان اإلبل إلى ماشاء الله‪.‬‬

‫‪41‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪:‬‬

‫وسيم السلطي❊‬

‫تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يسعى هذا املقال إىل تسليط الضوء عىل بعض األسباب الفكرية لنشوء داعش ومرشوعها‬ ‫أصل‬ ‫األيديولوجي‪ ،‬حيث يتم طرح سؤالني مع محاولة لإلجابة عليهام‪ :‬أوالً‪ ،‬هل هناك ٌ‬ ‫إسالمي ملا تقوم به داعش؟ أم أنه جاء من الفراغ؟ وثانياً‪ ،‬وإذا كان هناك أصل‪ ،‬فام هي‬ ‫الفرتة الزمنية اإلسالمية التي اختارتها داعش لتكون منوذجاً لها؟‬

‫❊ خريج كلية الفلسفة بجامعة دمشق‪ .‬يعمل حالياً على إعداد رسالة ماجستير حول ‘تاريخ الفلسفة’‪ .‬عمل في السابق كمحرر ومنضد في مجلة ‘الكفاح’‬ ‫التابعة لمنظمة الشبيبة الفلسطينية‪ ،‬كما راسل صحيفة ‘تشرين’ في صفحتي ‘عكس الجد’ و‘دراما’‪ .‬يكتب حالياً في جريدة ‘العرب’ اللندنية‪ ،‬كما يدرس‬ ‫مادة الفلسفة لطالب الثالث الثانوي في مركز جفرا التربوي‪.‬‬

‫‪42‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪ :‬تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫تأثر الوطن العربي في تاريخه الحديث والمعاصر بثالثة تيارات أيديولوجية تحكمت بواقعه السياسي‬ ‫والفكري‪ ،‬وهذه التيارات هي الديني والماركسي والقومي‪ .‬وما يهم في هذه الدراسة هو ‘التيار الديني’‬ ‫الذي تعرف المجتمع العربي من خالله على ما يسمى ‘النموذج اإلسالمي’ الذي مثله جماعة اإلخوان‬ ‫المسلمين‪ .‬فقد برزت في فترة ما بين الحربين العالميتين أفكار حسن البنا مؤسس الجماعة بمصر حيث‬ ‫أنشأ جمعيات كرست نفسها للشعائر الدينية والصوفية‪ ،‬ولمحاربة انتشار العادات االجتماعية التي تعدها‬ ‫مفسدة‪ .‬كما كرست نفسها لمواجهة األفكار العلمانية‪ .‬وحين نشبت الحرب العالمية الثانية كان حسن البنا‬ ‫قد أصبح زعيماً معترفاً به في أوساط المهتمين باإلصالح االجتماعي والديني‪ ،‬كما في أوساط رجال السياسة‬ ‫لص ُعب على الحكام التخلص منه‪،‬‬ ‫على مختلف مشاربهم‪ .‬ولو أن البنا قد تغلغل ببط ٍء في مجال السياسي َ‬ ‫لكن لجوء منظمته إلى العنف واإلرهاب‪ ،‬واتهام الحكام ممن ال يدور في فلك أفكاره بالفساد واالنحالل‬ ‫الخلقي‪ ،‬جعل أفكاره منبوذ ًة وغير مستحبة حتى قادته هذه العقلية إلى االغتيال‪ ،‬وإغالق مقر منظمته‬ ‫في مصر‪ .‬وقد الحظ نقاد حركة اإلخوان المسلمين أن أقوال البنا ال تلبي حاجة الناشئة المتطلعة إلى قيام‬ ‫مجتمع حديث‪ ،‬بل على العكس إنها تعود بالمجتمع إلى الوراء‪ ،‬وأنه كان يبغي من خلف هذه األفكار‬ ‫الوصول إلى السلطة‪ .‬في الحقيقة فإن حسن البنا لم يكن لديه برنامج مفصل يتضمن انبعاثاً إسالمياً جديداً‪،‬‬ ‫لكنه كان يدرك أن لإلسالم معنى واسعاً‪ ،‬وأنه ينظم كل شؤون الناس بما في ذلك القضايا المعاصرة‪ ،‬وأنه ال‬ ‫يقتصر على المسائل الدينية والروحية الصوفية‪ .‬بعبارة أخرى فإن اإلسالم ينظم أمور الحياة الدنيا واآلخرة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫شامل جامع‪ ،‬لكنه ال يقبل بالسياسة الحزبية أبداً‪ .‬وعندما سئل البنا عن مدى اتفاق اإلسالم مع‬ ‫دين‬ ‫وهو ٌ‬ ‫‪43‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪ :‬تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫الديمقراطية أو القومية أو االشتراكية‪ ،‬أو العلمانية والشيوعية‪ ،‬بذل قصارى جهده ليبين أن اإلسالم يحتوي‬ ‫على كل حسنات األنظمة األخرى‪ ،‬وقال إنّ اإلسالم هو في األساس نظام يضمن الحرية والمساواة‪ ،‬ويوفر‬ ‫الرخاء والعدالة للجميع‪ ،‬وينشر روح التسامح والخلق االجتماعي‪ .‬هكذا يرى البنا أنه ليس من الضروري‬ ‫أن يستعير المسلمون أفكار ومؤسسات من مجتمعات أخرى‪ ،‬كما أنكر إنكاراً جازماً‪ ،‬حتى نشوب الحرب‬ ‫ٌ‬ ‫عالقة بالسياسة‪ ،‬حيث كان يحث أتباعه على االبتعاد عنها‪ ،‬وينصحهم‬ ‫العالمية الثانية‪ ،‬أن يكون لحركته‬ ‫بالتركيز على العمل الديني‪ .‬ولكن هذا ال يعني أن منظمة البنا كانت راضي ًة عن األنظمة السياسية القائمة‪،‬‬ ‫وعن مجرى التطور في العالم اإلسالمي‪ .‬مع هذا فقد سعى البنا في العام ‪ 1941‬لدخول البرلمان‪ ،‬لكنه منع‬ ‫من االشتراك في العمل السياسي في الوقت الذي كان مريدوه يتكلمون صراح ًة عن ضرورة السيطرة الثورية‬ ‫على السلطة السياسية حتى تحقق حركتهم أهدافها‪.‬‬ ‫ومع أن الدين والسياسة في اإلسالم قد تداخال تداخ ًال مستمراً‪ ،‬ورغم األصولية اإلسالمية التي تمتعت‬ ‫بها جماعة اإلخوان المسلمين‪ ،‬إال أن الجماعة لم تطرح فكرة ‘الخالفة اإلسالمية’ بشكل علني‪ .‬وما يدلل‬ ‫على ذلك أيضاً‪ ،‬تسلم مرسي للحكم في مصر وهو منها‪ ،‬أي من جماعة اإلخوان‪ ،‬كعضو في حزب ‘الحرية‬ ‫والعدالة’ في إطار دولة حديثة‪ .‬أي أن اإلخوان‪ ،‬ورغم دعوتهم إلى رفض نظم العصر ومؤسساته وفكره‬ ‫وثقافته باعتباره ‘عصر جاهلية’ يجب تركه جمل ًة وتفصي ًال والعودة إلى النبع األصيل‪ ،‬إلى إسالم السلف‬ ‫الصالح الذي يتحدد أص ًال بعصر الرسول‪ ،‬إال أنهم براغماتيون يحملون أهدافاً ومطامع سياسية بعيداً عن‬ ‫فكرة الخالفة اإلسالمية التي جاءت بها ‘الدولة اإلسالمية في العراق والشام’ (داعش)‪.‬‬ ‫جاءت داعش إلى سوريا والعراق‪ ،‬ليس من أجل إسقاط نظام أو مطامع سلطوية‪ ،‬وال من أجل تحرير‬ ‫الناس وال من أجل رفع ظلم هنا أو فقر هناك‪ ،‬بل جاءت ولتعلن بشكل واضح عن سبب قدومها وهو إعالن‬ ‫عودة ‘الخالفة اإلسالمية’ ونشر اإلسالم من جديد‪ .‬ومع تهكم العديد وسخريته من هذا اإلعالن‪ ،‬إال أن داعش‬ ‫قامت وتقوم فع ًال بتطبيق هذه العودة على أرض الواقع‪ .‬تجسد ذلك بإعالن أبو بكر البغدادي خليف ًة‬ ‫للمسلمين في كل بقاع العالم‪ .‬بمعنى أن الخالفة اإلسالمية قد باتت أمراً واقعاً‪ ،‬وأن هذه ‘الدولة اإلسالمية’‬ ‫قد أصبح لها كيانٌ حقيقي واقعي؛ كيانٌ يتطلب اعترافنا شئنا أم أبينا‪ ،‬كيانٌ يمثله غزو البالد لفتحها ونشر‬ ‫اإلسالم فيها‪ ،‬وله كافة أدوات القوة وعواملها التي تعمل على ترسيخ هذا الكيان وتأكيد وجوده‪ ،‬وبقيامنا‬ ‫بنظرة تحليلية للموضوع‪ ،‬نجد هذه العوامل عند التنظيم كالتالي‪:‬‬ ‫القوة العسكرية‪ :‬حيث تمتلك عدداً كبيراً جداً من المقاتلين من جنسيات متعددة‪ ،‬ويتصفون بشدة‬ ‫البأس وعددهم غير معروف‪ ،‬وغالباً ما يتم التكتم على الرقم الحقيقي‪.‬‬ ‫القوة االقتصادية‪ :‬بعد الدعم الهائل الذي كانت تتلقاه داعش من جهات غير معروفة‪ ،‬أعلنت‬ ‫سيطرتها على حقول النفط في الشمال الشرقي من سوريا‪ ،‬وحقول النفط في الشمال العراقي‪ ،‬والبنوك‬ ‫التجارية والعراقية في الموصل‪ ،‬كما أعلنت عن االكتفاء المالي الذاتي‪ ،‬أي أنه لو توقف عنها اإلمداد‬ ‫المالي‪ ،‬فباستطاعتها االعتماد على نفسها لحينٍ من الزمن‪.‬‬ ‫القوة االفتراضية‪ :‬عن طريق معرفتها بآخر ما توصلت إليه التكنولوجيا في العالم‪ ،‬وقدرتها على‬ ‫‪44‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪ :‬تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫التعامل مع أحدث الوسائل التقنية والمعلوماتية‪ ،‬باإلضافة إلى دور الشبكات الضخمة الداخلية منها‬ ‫والخارجية في المنطقة والتي تعمل على غسل أدمغة الشباب وأدلجتها وتربيتها على أفكار التنظيم من‬ ‫أجل استقطابها‪ .‬يقوم التنظيم أيضاً‪ ،‬من خالل وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬على تجنيد واستقطاب أعداد‬ ‫كبيرة من الشباب في صفوف التنظيم في كافة أنحاء العالم العربي والغربي‪ ،‬إضاف ًة إلى تجنيد النساء‪.‬‬ ‫إذ إن هناك عدة تقارير عن نساء أوروبيات سافرن إلى سورية لالنضمام إلى الجهاديين‪ .‬وفي نيسان‪/‬‬ ‫أبريل اختفت فتاتان في النمسا‪ ،‬تتراوح أعمارهن بين ‪ 15‬و‪16‬عاماً‪ ،‬ثم ظهرتا الحقاً في سوريا‪ ،‬ويجري اآلن‬ ‫البحث عنهما من قبل اإلنتربول‪ .‬كما تسللت في أيار‪/‬مايو فتاتان توأمان من بريطانيا‪ ،‬تبلغان من العمر‬ ‫‪16‬عاما‪ ،‬من منزلهما في مانشستر وسافرتا إلى سورية‪ ،‬لتصبحا عروسين للجهاديين‪ .‬وقد اتصلت الفتاتان‪،‬‬ ‫سلمى وزهرة هاالني‪ ،‬هاتفياً بأسرتهما لتقوال إنهما وصلتا إلى البالد التي مزقتها الحرب وقالتا “لن نعود”‪.‬‬ ‫وفي تموز‪/‬يوليو اعتقل مكتب التحقيقات الفيدرالي الممرضة دنفر شانون‪ ،‬البالغة من العمر ‪19‬عاما‪ ،‬والتي‬ ‫اعتنقت اإلسالم مؤخراً‪ ،‬فيما كانت تستعد لركوب الطائرة للسفر إلى تركيا‪ ،‬وبعدها إلى سورية‪ .‬وقالت‬ ‫الفتاة إنه تم تجنيدها عبر اإلنترنت بواسطة رجل تونسي‪ ،‬ادعى أنه كان يقاتل من أجل ‘الدولة اإلسالمية’‪.‬‬ ‫بعد هذا العرض لعوامل القوة التي تمتلكها داعش والتي تدعم وجودها‪ ،‬البد من التساؤل عن‬ ‫العوامل التي أثرت وأغنت هذا الوجود ومكنته من تثبيت نفسه على األرض أكثر فأكثر‪ ،‬بعيداً عن السبب‬ ‫الذي يكون غير مقنع أحياناً‪ ،‬أو لندعوه بالسبب التقليدي أو السبب القريب الذي يبتعد أحياناً كثيرة‪،‬‬ ‫ويقترب أحياناً أقل‪ ،‬من الحقيقة والذي ينتشر في مثل هذه الحاالت‪ ،‬وهو أن االستبداد السياسي يعطي‬ ‫التطرف الديني كل مقومات وجوده ويهيئ له المناخ الذي يسمح له باالزدهار‪ ،‬ولكنه سرعان ما يقمعه‬ ‫حدود‬ ‫بعنف إذا تجاوز حدوداً معينة‪ ،‬وهو البد أن يتجاوز هذه الحدود ألن التطرف ال يمكن أن يرسم له‬ ‫ٌ‬ ‫ال يمكن أن يتعداها‪ .‬لذا يدخل التطرف في عالقة جدلية شديدة التعقيد مع هذا االستبداد؛ عالقة نفعية‬ ‫وضارة في آن واحد‪ .‬ولكن لو سلمنا بهذا السبب‪ ،‬والذي أظنه غير ٍ‬ ‫كاف وغير مبر ٍر بإسقاط داعش ألكثر‬ ‫من ‪ 1400‬عام من تاريخ البشرية لتقوم بتطبيق نموذج الخالفة‪ ،‬هذا اإلسقاط الضخم للزمن من حسابها‪،‬‬ ‫يقودنا لطرح عدة تساؤالت‪.‬‬ ‫أو ًال‪ :‬هل هناك ٌ‬ ‫أصل إسالمي لما تقوم به داعش؟ أم جاء من الفراغ؟‬ ‫ثانياً‪ :‬وإذا كان‪ ،‬فما هي الفترة الزمنية اإلسالمية التي اختارتها داعش لتكون نموذجاً لها؟‬ ‫فيما يتعلق بالتساؤل الثاني‪ ،‬يدلنا عنوان النموذج الداعشي ‘الخالفة اإلسالمية’ على أن الفترة التي‬ ‫اختارتها ليست بالفترة التي كان فيها النبي محمد على قيد الحياة‪ .‬وبالتالي تكون هذه الفترة الزمنية في‬ ‫الوقت الذي بدأت فيها الخالفة اإلسالمية ما بعد وفاة الرسول أي زمن تولي أبو بكر للخالفة‪ .‬بهذا التحديد‬ ‫الزمني يمكننا النفاذ إلى إجابة التساؤل األول وذلك عبر إلقاء نظرة على الخالفتين وتحديداً فترة حروب‬ ‫الردة والفتوحات اإلسالمية أيام أبو بكر‪.‬‬ ‫أ‪ -‬الخالفة اإلسالمية سنة ‪632‬م‪ :‬بعد وفاة النبي محمد‪ ،‬خرجت بعض القبائل في شبه الجزيرة‬ ‫العربية وارتدت عن اإلسالم بثالثة أشكال‪ .‬منهم‪ ،‬وهم الجزء األكبر‪ ،‬من ارتد عن دفع الزكاة‪ .‬والشكل الثاني‬ ‫‪45‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪ :‬تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫عاد إلى عبادة األوثان‪ .‬فيما خرج الشكل الثالث عن اإلسالم وقال بأنه مقترن بفترة حياة النبي محمد‪ .‬لذلك‬ ‫حين قرر أبو بكر‪ ،‬بعد توليه الخالفة‪ ،‬محاربة أولئك المرتدين‪ ،‬اجتمع بجيوشه ‪-‬التي كانت حينها تتألف‬ ‫من ‪ 11‬لواء يقود ك ًال منها أمي ٌر يحدده الخليفة‪ -‬وخاطبهم بأن “ادعوهم إلى الله فإن ارتدوا عن كفرهم‬ ‫اقبلوا منهم ذلك‪ ،‬ومن يرفض قاتلوه وال تبقوا عليه‪ ،‬وال يقبل من أحد إال اإلسالم”‪ .‬وعندما فرغ أبو بكر من‬ ‫محاربة المرتدين‪ ،‬واستقرت األمور في شبه الجزيرة بدأت فترة الفتوحات لنشر اإلسالم في العراق والشام‪.‬‬ ‫حيث أمر خالد ابن الوليد بغزو العراق‪ ،‬ومن ثم دمشق وفلسطين‪ ،‬ومن يمتنع منهم اعتناق اإلسالم قاتلوه‬ ‫أو عليه بالجزية‪.‬‬ ‫كنت قد ُ‬ ‫ب‪ -‬الخالفة اإلسالمية سنة ‪ُ :2013‬‬ ‫ذكرت الهدف الذي جاءت داعش لتحققه أال وهو “إقامة‬ ‫الخالفة ونشر اإلسالم”‪ .‬وهكذا فبعد إعالن الخالفة وتنصيب الخليفة اتبعت داعش سلوكيات محددة‪ .‬حيث‬ ‫تقوم فور دخولها أي منطقة بقتل من ليس مسلماً‪ .‬وباستثناء األزيديين ومسيحيي الموصل‪ ،‬فاألغلبية‬ ‫الساحقة من سكان المناطق التي وقعت تحت سيطرة داعش هم من المسلمين‪ .‬ولكن تعريف االنتماء إلى‬ ‫اإلسالم وفق رؤية داعش هو انتما ٌء إلى نهجها العنفي والمتطرف‪ ،‬وكل انحر ٍ‬ ‫اف عن هذا النهج حسب رأيهم‬ ‫هو انحراف عن اإلسالم‪ ،‬إال من يود إعالن إسالمه أمام العامة‪ .‬لهذا فكونك مسلماً ال ينقذك بالضرورة‪ ،‬بل‬ ‫عليك أن تعلن اعترافك بالخالفة وأن تبايع الخليفة‪ ،‬ناهيك عن المحظورات والممنوعات التي يتم فرضها‪.‬‬ ‫ليس السبيل لهذه المقارنة أو إلقاء النظرة على الخالفة‪ ،‬هو إظهار دموية اإلسالم أو تطابق‬ ‫النموذجين‪ ،‬فلكل حال ٍة أسبابها وظروفها الموضوعية والتاريخية‪ .‬لكن المراد من ذلك‪ ،‬أنه من حيث الشكل‬ ‫أال يمكن مالحظة أن شيئاً مما تقوم به داعش يشبه ظاهرياً تلك الفترة الزمنية؟ سواء في نشر اإلسالم وفتح‬ ‫البالد واالعتراف بالخالفة‪ ،‬وفرض الجزية؟‬ ‫قد يقول قائل إن هذه المقارنة باطلة‪ ،‬وأن العودة إلى تلك المرحلة ال تصح بالمطلق‪ ،‬وفي هذا‬ ‫ٌ‬ ‫وعرضة للخطأ والزلل‪ ،‬لذلك نحن غير‬ ‫إشكالي أص ًال‪ ،‬فهو اختر ٌاع بشري‬ ‫يمكن الرد بأن موضوع الخالفة‬ ‫ٌّ‬ ‫ملزمين على أخذه كما هو وعلى مبدأ حرفية النص دون رؤي ٍة نقدية شاملة‪ .‬ويمكن توضيح هذه اإلشكالية‬ ‫بالرجوع إلى المفكر علي عبد الرازق وكيف ناقش فكرة الخالفة في كتابه ‘اإلسالم وأصول الحكم’ على‬ ‫أساس فرضيتين‪ .‬األولى أن الخالفة ليست متأصلة باإلسالم‪ ،‬فهي لذلك ليست ضرورية‪ .‬والثانية أن القول‬ ‫بفصل الدين عن الدولة يفترض أن اإلسالم كالمسيحية يحمل رسال ًة عالمية‪ .‬وفي معرض دفاعه عن الفرضية‬ ‫األولى يقول بأن المصدرين األساسيين في اإلسالم‪ ،‬وهما القرآن والحديث‪ ،‬ال يذكران شيئاً عن الخالفة‪،‬‬ ‫أما اإلشارات الغامضة إلى الموضوع فال تدعم إذا ما فسرت تفسيراً صحيحاً قضيتها‪ ،‬ولذلك برأيه أصبحت‬ ‫الخالفة مصدر انقسام وتمرد بين المسلمين‪ .‬كما أن القول برفاهية المسلمين وممارسة أصول دينهم تعتمد‬ ‫على وجود الخالفة ٌ‬ ‫قول مردود‪ ،‬إذ ليس ثمة ضرورة ألن تتخذ السلطة شكل الخالفة كما حدد علماء‬ ‫ٌ‬ ‫وقت معين هو ٌ‬ ‫اإلسالم‪ ،‬وأي شكل من أشكال السلطة يخدم مصلحة المسلمين في ٍ‬ ‫مقبول استناداً إلى‬ ‫شكل‬ ‫قاعدة ‘تغير األحكام بتغير األحوال’‪ .‬وينتقل منطقياً من هذه الفرضية إلى الفرضية الثانية‪ ،‬أي الفصل بين‬ ‫السلطتين الدينية والمدنية فيقول‪“ :‬إن النبي مارس السلطة التي أملتها ظروف زمانه الخاصة‪ ،‬لكن عمله‬ ‫‪46‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪ :‬تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫ٌ‬ ‫محاولة إليجاد دولة‪ ،‬أو أنه كان جزءاً من رسالته الدينية‪ ،‬وهي الرسالة‬ ‫هذا يجب أن ال يفسر على أنه‬ ‫النبوية وليس الزمنية‪ ،‬فرسالة محمد انتهت بوفاته‪ ،‬وكان على المسلمين من بعده أن ينظموا أنفسهم‬ ‫في شكلٍ حكومي ما‪ ،‬إذ لم يكن في وسعهم العودة إلى الحالة السابقة‪ ،‬وأرسى انتخاب أبو بكر خليفة‬ ‫على المسلمين سابق ًة بالنسبة لموضوع الخالفة‪ ،‬لكن مركز الخالفة كان سياسياً وليس دينياً‪ ،‬ولم يصبح‬ ‫ٌ‬ ‫أهمية دينية إال فيما بعد‪ ،‬عندما رأى الخلفاء أنه من مصلحتهم تعزيز هذه األهمية”‪ .‬من‬ ‫لهذا المركز‬ ‫هذا يستنتج علي عبد الرازق أن الخالفة فقدت مبررها‪ ،‬وصار باإلمكان تجاوزها بعد أن تغيرت الظروف‬ ‫السياسية تغيراً جذرياً‪ ،‬وهذا ما أدى إلى اتهامه بالكفر واإللحاد‪ ،‬ونبذه اجتماعياً‪.‬‬ ‫اآلن‪ ،‬إذا تركنا هذه األسباب‪ ،‬وتوجهنا إلى الموضوع بنظر ٍة أخرى مبتعدين عن مسألة الخالفتين‬ ‫والمقارنة وما إلى ذلك‪ ،‬يمكن حينها التركيز على موضوع ‘التجنيد’ في صفوف التنظيم‪ .‬ألم تستطع داعش‬ ‫تنظيم عدد كبير من الشباب العربي في صفوفها؟ وكيف استطاعت بسط نفوذها من غير صعوبات أحياناً‬ ‫ٌ‬ ‫مسألة غير عصية على أحد وظاهر ٌة‬ ‫على عقول هذه الشباب‪ ،‬بنموذج يعود عمره إلى مئات السنين؟ هذه‬ ‫للعيان‪ ،‬فقد نشرت جريدة ‘العرب اليوم’ تقريراً بتاريخ ‪ ،2014/8/10‬أكدت فيه مصادر أمنية عراقية لـ‬ ‫‪ CNN‬أن المئات من الشباب في محافظات صالح الدين ونينوى واألنبار انضموا خالل األيام الماضية إلى‬ ‫داعش‪ ،‬وتحدثت المصادر عن عدة طرق يقوم عبرها التنظيم باجتذاب األتباع في المناطق التي تعاني من‬ ‫مرارة التهميش السياسي‪ .‬وتق ّدر المصادر األمنية األمريكية والعراقية وجود عشرة آالف مقاتل في صفوف‬ ‫داعش في سوريا والعراق‪ ،‬بينهم المئات من العناصر التي حررها التنظيم من السجون مؤخراً‪ ،‬وال يشمل‬ ‫مئات من‬ ‫ذلك العدد المتطوعين الجدد الذين انضموا إلى التنظيم بعد تقدمه األخير شمال العراق وهم ٌ‬ ‫الشبان الذين تتراوح أعمارهم ما بين ‪ 16‬و‪ 25‬سنة‪ ،‬ومعظمهم من الفقراء والعاطلين عن العمل وغير‬ ‫المتعلمين‪ ،‬وفقاً لما يؤكده لـ ‪ CNN‬مسؤولون عراقيون‪ .‬وقد تحدثت ‪ CNN‬إلى والد أحد الشبان الذين‬ ‫انضموا إلى داعش مؤخراً‪ ،‬وطلب تعريفه باسم أبو رعد‪ ،‬حيث أشار إلى أن ابنه البالغ من العمر ‪19‬سنة‬ ‫حزم حقائبه وغادر المنزل من أجل االلتحاق بالقتال‪ ،‬ووجه أبو رعد انتقادات قاسية لحكومة المالكي قائ ًال‬ ‫إنها المسؤولة عما يجري موضحاً وجهة نظره بالقول‪“ :‬لقد سمحت الحكومة لهذه العصابات (داعش)‬ ‫بالسيطرة على البالد”‪ ،‬مضيفاً‪“ :‬قبل دخول المسلحين كان ابني يستمع للموسيقى ويلعب بألعاب الفيديو‪،‬‬ ‫ولكنه تغير بعد ذلك وبات شخصاً مختلفاً‪ ...‬كان يحلم بأن يصبح مهندس كمبيوتر‪ ،‬ولكنه اليوم بات مجرد‬ ‫إرهابي”‪.‬‬ ‫هذا التدمير الممنهج للمنظومة الفكرية واألخالقية والمجتمعية العربية الذي تقوم به داعش‪ ،‬يتطلب‬ ‫منا أن نتساءل عن مدى هشاشة هذه المنظومة وعدم مقاومتها لهذا الهجوم الذي تتعرض له‪ .‬هنا يكون‬ ‫الرد من خالل العودة إلى الكارثة الفكرية التي حصلت في تاريخ الفكر العربي أال وهي مرور سبعة قرون‬ ‫عجاف‪ ،‬سبعة قرون خالية من الفكر واإلنتاج الفكري الواضح والمميز‪ ،‬والتي تتحدد تقريباً منذ وفاة العالمة‬ ‫ابن خلدون إلى أن جاء عصر النهضة العربية حيث حمل بعض المفكرين والمثقفين هماً نهضوياً كان قد‬ ‫أشار إليه الدكتور الجابري باعتباره يهدف إلى ‘التمدن’ و‘مقاومة االستعمار األجنبي’‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫تنظيم الدولة اإلسالمية‪ :‬تساؤالت تاريخية وفكرية‬

‫ٌ‬ ‫قرونٌ‬ ‫عربية جافة فكرياً‪ ،‬وقرونٌ وسطى أوربية مظلمة على كافة الصعد‪ .‬الفرق أنه في األولى لم يتم‬ ‫إنتاج أي شيء جراء هذه القرون‪ ،‬أما في الثانية فقد نهضت أوروبا نهض ًة فكري ًة وإنسانية‪ .‬يكمن السبب‬ ‫في أن اإلنسان الغربي عرف وقرأ ونقد جيداً تاريخه الكنسي والديني ومنه أنتج ‘العلمانية’؛ ليس بمعناها‬ ‫الخاطئ وغير المفهوم من قبل الكثيرين بأنها ٌ‬ ‫آتية من العلم‪ ،‬بل معناها الذي يقصد منه فصل الدين عن‬ ‫األمور الدنيوية واألرضية‪ .‬إال أنهم لم يخلصوا إلى هذه النتيجة إال بعد أن رؤوا سيطرة الدين على كل‬ ‫مفاصل الحياة السياسية واالجتماعية واألخالقية ما أدى إلى انغالقهم على العالم بشكل تام‪.‬‬ ‫لذا تكمن القصة لدينا في عدم اإللمام الشامل والواسع بتاريخنا العربي‪ ،‬وحتى اإلسالمي‪ ،‬كي نستطيع‬ ‫إنتاج شيء يضاهي أو يقترب من المستوى األوروبي‪ .‬هذا اإللمام يحتاج قراء ًة تاريخي ًة بعينٍ دقيقة بعيداً‬ ‫عن أسلوب الرواية دون التأكد من صحتها ودقتها التاريخية‪ .‬هذا ما قد يفسر استغرابنا النموذج الداعشي‪،‬‬ ‫وفي نفس الوقت انتقادنا لعدد من الحركات الفكرية كـ ‘المعتزلة‘التي أسهمت في إثراء العقل العربي‪.‬‬ ‫لقد أغرقنا أسلوب الرواية في الماضي‪ ،‬فجعل حاضرنا ومستقبلنا متعلقاً بماضينا‪ ،‬ودون قدرة على النهوض‪،‬‬ ‫نموذج تاريخي يمكن أن تأتي به‪.‬‬ ‫وهذا ما يسهل من إعادة إحيا ٍء أي‬ ‫ٍ‬

‫املراجع‬

‫(‪ )1‬عبد الرزاق‪ ،‬عيل‪“ .‬اإلسالم وأصول الحكم”‪ .‬يف الفكر النهضوي اإلسالمي‪ .‬دار الكتاب املرصي‪ ،‬القاهرة‪ .‬دار الكتاب اللبناين‪ ،‬بريوت‪2011 .‬م‪.‬‬ ‫(‪ )2‬د‪ .‬خزنة كاتبي‪ ،‬غيداء‪“ .‬أوليات الحروب‪ .‬حروب الردة يف اإلسالم”‪ .‬دار املدار اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪2011 .‬م‪.‬‬ ‫(‪ )3‬موقع ‪ R.T‬اإلخباري االلكرتوين‪.‬‬ ‫(‪ )4‬عابد الجابري‪ ،‬محمد‪ .‬مجموعة محارضات بعنوان “إشكاليات فكرية معارصة يف الوطن العريب”‪/ .‬قسم الفلسفة‪ /‬جامعة دمشق‪.‬‬ ‫(‪ )5‬تقرير لـ‪ ،CNN‬نرش يف جريدة “العرب اليوم” بتاريخ ‪.2014/8/4‬‬

‫‪48‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسكي‪:‬‬

‫عالء الدين العالم❊‬

‫قراءة نقدية‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ال ميكن افتتاح الحديث عن فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسيك بعبارات منطية من قبيل‪:‬‬ ‫تدور أحداث الفيلم‪ ،‬تنطلق فكرة الفيلم األساسية من‪ ،‬أو يقدم الفيلم مجموعة من‬ ‫املقوالت‪ ،‬إلخ‪ ،‬كام ال ميكن استخدام هذه العبارات أثناء قراءة هذا الفيلم‪ ،‬ال ليشء إمنا‬ ‫ألنه فيلم مختلف‪ ،‬وهنا لن أكيل املدائح للفيلم مؤكداً بذلك عىل اختالفه‪ ،‬إمنا ُيرتك الحكم‬ ‫يف مثل هذه املقامات للمشاهد‪ .‬أما عن االختالف فهو لن يختلف فيه أحد‪ ،‬سواء رأى‬ ‫هذا االختالف من وجهة نظر سلبية أدت لحكم قيم ٍة بخس‪ ،‬أم رآه إيجابية أفرزت حكامً‬ ‫معيارياً بالجودة والتميز‪.‬‬

‫❊ خريج كلية اآلداب‪ ،‬قسم اللغة العربية بجامعة دمشق‪ .‬طالب في المعهد العالي للفنون المسرحية‪ ،‬قسم الدراسات المسرحية بدمشق‪ .‬عمل في صحف‬ ‫محلية داخل سوريا (سكرتير تحرير مجلة ‘الكفاح’ الفلسطينية سابقاً‪ ،‬وصحافي في جريدة ‘تشرين’ سابقاً)‪ ،‬إضافة إلى صحف عربية مثل ‘السفير’‬ ‫اللبنانية و‘الحياة’ اللندنية‪ ،‬و‘العرب’ اللندنية‪.‬‬

‫‪49‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسكي‪ :‬قراءة نقدية‬

‫يكتسب فيلم ‘المرآة’ ميزة االختالف من خالل ابتعاده عن حبكة تقليدية مبنية على فعلٍ ينتج حدثاً‬ ‫يرتقي للذروة وينتهي بنهاي ٍة حزينة أو مفرحة‪ .‬يظهر في الفيلم البنا ُء المغاير للحدث‪ ،‬بمعنى أنه ال توجد‬ ‫ٌ‬ ‫أحداث كاملة لها مسار محدد تنتهي عند نقطة معينة وتغير مصير الشخصيات‪ ،‬إنما يتصف الحدث هنا‬ ‫باالنقطاع وعدم التمام والتشرذم وفقدانه للوحدة التي تجمع أجزاءه‪ ،‬باإلضافة إلى تداخل مجموعة من‬ ‫األحداث واألفعال في زمنين مختلفين أيضاً‪ .‬ال ُيرى في ‘المرآة’ ذرو ٌة أو ٌ‬ ‫سريع يظهر‬ ‫نهاية لفعل ما‪ ،‬أو تغي ٌر ٌ‬ ‫محدد واضح ‪-‬على الرغم من وجود زمنين يتمكن المشاهد‬ ‫زمن‬ ‫جلياً في نفسية الشخصيات‪ ،‬وال ُيلحظ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫من فصلهما‪ -‬تسير فيه األحداث تتابعاً أو بشكل اطرادي‪ .‬أيضاً ال يظهر تسلسل لألحداث منطقي‪ ،‬أو لنقل‬ ‫تراتبي يصعد بوتيرة الفيلم وإيقاعه‪ .‬إنما يتداخل في ‘المرآة’ الزمن والحدث والشخصية والفعل والصورة‬ ‫واإليقاع المتواتر تداخ ًال يشكل بذاته بني ًة غني ًة بالمفردات والمقوالت اإلنسانية التي ال تظهر إال بعد تأمل‬ ‫وتفكير‪ .‬كل هذه األمور أدت إلى أن يظهر فيلم ‘المرآة’ ألندريه تاركوفسكي مسبوغاً بهذا السربال من‬ ‫االختالف والتمايز‪.‬‬ ‫تفرض المرآة على من يقف أمامها عالقة تناظر‪ ،‬أي أنها تعكس كل ما يقابلها وتك ّونه داخل إطارها‬ ‫كما هو‪ .‬إن عالقة المرايا هذه هي العالقة القائم عليها الفيلم‪ ،‬وهي اللبنة التي ما إن يصل إليها المشاهد‬ ‫ويزحزحها‪ ،‬مكتشفاً التناظر والتباين‪ ،‬حتى يتفكك الفيلم أمامه وينهار إلى وحداته األولية مظهراً كل ما‬ ‫فيه من جماليات بصرية ومقوالت فكرية كانت مختفية خلف العنوان الواضح وهو ‘المرآة’‪ .‬تبدأ العالقة‬ ‫المرآوية في الفيلم انطالقاً من طرحه زمنين مختلفين محورهما شخصية االبن‪/‬األب‪ ،‬التي تشكل بذاتها‬ ‫محور عالقة المرايا‪ ،‬بمعنى أن التناظر يحصل على اعتبار أن هذه الشخصية هي الوساطة بين كل أطراف‬ ‫‪50‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسكي‪ :‬قراءة نقدية‬

‫التناظر والتباين الذي ك ّرس العالقة المرآوية بين األم والزوجة‪ ،‬األب واالبن‪ ،‬روسيا األمس وروسيا اليوم‪،‬‬ ‫الريف والمدينة‪ ،‬الحرب والسلم‪ ،‬المطر والحريق‪ ،‬الحلم والواقع‪ ،‬حيث يقيم تاركوفسكي بين هذه الثنائيات‬ ‫عالقة مرايا قائمة على التناظر والتباين‪ .‬فالتناظر يظهر من خالل تكرار الجنس وهو األنثى في ثنائية أم‪/‬‬ ‫زوجة‪ ،‬الذكر في ثنائية أب‪/‬ابن‪ ،‬المساحات الخضراء الشاسعة في روسيا األمس‪/‬روسيا اليوم‪ .‬وعبر وضع‬ ‫ذات الممثلة في دور األم الشابة والزوجة‪ ،‬والطفل الممثل عينه في دور األب عندما كان طف ًال‪ ،‬واالبن‪ .‬أما‬ ‫التباين فأولى عالمته هي تغ ّير دور األنثى من أ ّم إلى زوجة‪ ،‬فاألنثى التي تُرى في بداية الفيلم موجه ًة كل‬ ‫طاقتها نحو أطفالها‪ ،‬تظهر في دور زوجة االبن كأنثى تريد أن تتحرر وتتوق للخروج من قيد هذا الزوج‬ ‫غريب األطوار‪ ،‬والسيما تح ّول دورها كأنثى من أم يغيب عنها جانب الزوجة إال في االنتظار‪ ،‬إلى زوجة‬ ‫يغيب عنها جانب األمومة إال فيما ندر‪.‬‬ ‫تعود عالقة المرايا لتوسم عالقة زمني الفيلم‪ ،‬إذ تجري حبكة الفيلم في زمنين (زمن األم وابنها‪،‬‬ ‫زمن االبن بعد أن صار أباً وزوجته)‪ .‬إن العالقة القائمة بين الزمنين هي عالقة مرايا يحكمها تناظ ٌر من‬ ‫خالل التشويش الحاصل في كال الزمنين‪ ،‬بمعنى أن تاركوفسكي ال يأبه في فيلمه بوضع تسلسل منطقي‬ ‫أو تتابعي يتبعه المشاهد‪ ،‬فهو يتذكر وال يتابع في الذاكرة‪ ،‬ينتقل بين الزمنين بشكل اعتباطي مفاجئ‪ ،‬وال‬ ‫يعتمد في تقطيعه للفيلم زمنين واضحين ينتقل بينهما بشكل مرتب‪ ،‬مشهد هنا ومشهد هناك على سبيل‬ ‫المثال‪ ،‬إنما يسلسل خمسة مشاهد من زمن األم‪ ،‬ومشهد من زمن الزوجة‪ ،‬ثم يعود إلى زمن األم بشكل‬ ‫مفاجئ دون ّأي وسيلة ربط‪ .‬كذلك ال يم ّيز تاركوفسكي الزمنين من خالل اللون‪ ،‬فحيناً يصور مشاهد زمن‬ ‫األم بلون داكن وحيناً آخر بألوان طبيعية‪ .‬وكذلك حال مشاهد الزوجة فلم تصور بلونٍ واحد للداللة على‬ ‫الزمن إنما بثالث ٍ‬ ‫فئات لونية‪ ،‬داكن‪ ،‬وأسود وأبيض‪ ،‬وألوان طبيعية‪ .‬ومن الممكن أن يخال البعض أن هذا‬ ‫االنتقال يؤثر في بنية العمل ووحدته‪ ،‬لكن لو تذكرنا أن عملية التذكر لدى اإلنسان تنتج زمناً ذا أحداث‬ ‫غير مرتبة واعتباطية في التسلسل لعرفنا أن عشوائية ترتيب المشاهد‪ ،‬وعدم الفصل بين الزمنين بحدة‪،‬‬ ‫والتشويش الذي يصيب ذاكرة االبن‪/‬األب‪ ،‬يكرس مقولة الفيلم في التذكر وينقل الذكرى من حال ٍة ذهني ٍة‬ ‫مجردة إلى صور ٍة مرئية‪.‬‬ ‫كذلك الحال بالنسبة لثنائية الحلم والواقع‪ ،‬إذ يداخل تاركوفسكي بين الحلم والواقع وال يضع بينهما‬ ‫حداً فاص ًال على امتداد الفيلم‪ .‬فكما يستخدم إبطاء الحركة في الكادر في مشاهد الحلم يستخدمه في‬ ‫مشاهد الواقع‪ .‬وينطبق هذا على الفئة اللونية بين الحلم والواقع أيضاً فال تمايز في اللون‪ ،‬وهذا بدوره‬ ‫يكرس ما سبق من التشويش الذي يصيب عملية تذكر الحلم ومقارنته مع الواقع في الذهن البشري‪.‬‬ ‫تتجلى أوضح صور التباين في عالقة المرايا في الفيلم في المكان الحاضن للحكاية‪ ،‬فزمن األم يحضنه‬ ‫تأويالت كثيرة قد يكون تفسيرها تقييداً‬ ‫مكانٌ ريفي‪ ،‬وزمن الزوجة يحضنه مكانٌ مديني‪ .‬لهذا التباين‬ ‫ٌ‬ ‫للخيال الذي يمنحه الفيلم أكثر مما هو شرح له‪ ،‬ولكن قد يصلح أحد التفسيرات لهذا التباين القائلة بأن‬ ‫انتقال القصة من الريف إلى المدينة هو انتقال المجتمع الروسي من البساطة إلى األدلجة الشيوعية‪ ،‬من‬ ‫المجتمع اإلقطاعي إلى المجتمع العمالي االشتراكي‪ ،‬من نقاء الحقول إلى عتمة المعامل‪ ،‬ومن حرية التأمل‬ ‫إلى تقييد الفكر بأيديولوجيا محددة‪.‬‬ ‫إن انتقاد تاركوفسكي في فيلمه ‘المرآة’ للنظام الشيوعي في االتحاد السوفييتي لم يتوقف على‬ ‫‪51‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مقاالت‬

‫فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسكي‪ :‬قراءة نقدية‬

‫التباين الحاصل في البنية المكانية‪ ،‬إذ كان الفيلم بمثابة مرآة عاكسة لكل أخطاء النظام الشيوعي في‬ ‫روسيا ممث ًال بستالين‪ ،‬والصين ممث ًال بماو تسي تونغ‪ ،‬حيث ُي َح ِّمل تاركوفسكي النظام الشيوعي االشتراكي‬ ‫في االتحاد السوفييتي مسؤولية الحرب العالمية الثانية من خالل عرض قصة األم التي ال تنفك هي وأوالدها‬ ‫تنتظر زوجها لحين عودته من الحرب‪ ،‬مظهراً بذلك كم المعاناة الهائل الذي تعرض له الروس جراء دخول‬ ‫روسيا في الحرب العالمية‪ ،‬والسيما األنثى الروسية ممثل ًة بدور األم‪ ،‬والطفل الروسي ممث ًال بدور االبن‪،‬‬ ‫مرفقاً ذلك بمشاهد واقعية للحرب العالمية الثانية تصور معاناة الروس من ويالت الحرب‪ ،‬ومشاهد أخرى‬ ‫للقنبلة الذرية أثناء سقوطها على هورشيما‪ .‬لكن الفيلم يفصل بين الموقف السلبي من النظام الشيوعي‬ ‫الذي اتخذ قرار الحرب وبين اإلنسان الروسي الحر الذي دافع عن بالده‪ ،‬وذلك من خالل قصيدة للشاعر‬ ‫الروسي الرسين تاركوفسكي والد المخرج‪ ،‬فتأتي القصيدة متزامن ًة مع مشاهد الحرب العالمية الثانية‬ ‫ومشهد األطفال الذين يتعلمون الرماية في ثلوج روسيا وصقيعها‪ ،‬يقول تاركوفسكي األب‪:‬‬ ‫إنّي َر َب ُ‬ ‫رجي‬ ‫طت َمصيري ِب َس ِ‬ ‫فأنا اآلن باألزمن ِة القادمة‬ ‫َيكفِينِي ُخ ُلودِي‬ ‫مِن أَجلِ سيلِ َدمِي مِن عص ٍر إلى آخر‬ ‫مِن أَجلِ زَاوي ٍة دافئ ٍة وآمنة‬ ‫َد َف ُ‬ ‫عت َث َمنَ َحياتِي ِبإرا َدتِي‬ ‫تع ّبر هذه القصيدة عن موقف الشاعر من الشعب الروسي في الحرب العالمية الثانية‪ ،‬هو ينتقد‬ ‫النظام الشمولي الذي جر روسيا إلى الحرب‪ ،‬وال ينتقد اإلنسان الروسي الذي دفع روحه ثمنا لكرامته‪ .‬لم‬ ‫يقتصر تتبع الفيلم لمثالب النظام الشيوعي عند حد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬بل تعداه للحديث عن روسيا‬ ‫ما بعد الحرب‪ ،‬منتقدا آلية النظام الشيوعي الستاليني الذي حول اإلنسان الروسي إلى آلة وعمل على‬ ‫تشييء الروس بدال من إعطائهم الحريات فكان بذلك نظاما شموليا بامتياز‪ .‬يعبر عن هذه المقولة مشهد‬ ‫األم عندما تظن أنها ارتكبت خطأً أثناء تدقيقها إحدى المقاالت‪ ،‬فتنطلق مسرعة تحت السماء والطارق‬ ‫لتصل إلى الجريدة وتتأكد من وجود الخطأ‪ ،‬فتجد أنه مجرد ته ّيؤ ناتج عن الرهاب السياسي الذي فرضه‬ ‫النظام الشيوعي وينتهي الموقف على خير‪ .‬يطرح تاركوفسكي من خالل هذا المشهد أمرين‪ ،‬األول قسوة‬ ‫النظام السياسي الشيوعي في االتحاد السوفييتي الذي قد ينهي حياة شخص ما بسبب خطأ في جريدة‪،‬‬ ‫والثاني هو تصوير البنية المعمارية السوفييتية ذات السراديب الطويلة المتداخلة والجدران المتخمة‬ ‫بأيقونات الشيوعية حيث تظهر صورة ستالين بوضوح في هذا المشهد‪ ،‬ما يؤكد فكرة ترميز الحزب والقائد‬ ‫لدرجة التأليه‪ ،‬وبناء كل المباني الحكومية على طريقة المعتقالت بحيث ال يكاد المرء يفرق بين نظام بناء‬ ‫المشفى أو الجريدة ونظام بناء المعتقل السياسي‪.‬‬ ‫ال يقتصر انتقاد تاركوفسكي للنظام الشيوعي في االتحاد السوفييتي وحسب‪ ،‬بل ينتقد النظام‬ ‫الشيوعي في الصين ممث ًال بماو تسي تونغ‪ ،‬حيث ينتقد الفيلم ما وصل إليه النظام الشيوعي الصيني من‬ ‫تقديس وسبغ صفات اآللهة على ماو تسي تونغ من خالل إدراج مشاهد واقعية تظهر اإلقبال الجماهيري‬ ‫‪52‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫فيلم ‘املرآة’ ألندريه تاركوفسكي‪ :‬قراءة نقدية‬

‫الهائل في الصين‪ ،‬ورفع صورة ماو تسي تونغ في كل مكان‪ .‬إن تاركوفسكي في ‘المرآة’ ال ينتقد أسس‬ ‫النظام الشيوعي االشتراكي ومرتكزاته النظرية‪ ،‬إنما ينتقد الحالة التي وصل إليها والتي يناقض فيها مبادئه‬ ‫وأفكاره‪.‬‬ ‫يقف تاركوفسكي موقفاً حذراً من اللغة ينعكس في فيلمه ‘المرآة’‪ .‬فكما في كل أفالمه يعتمد‬ ‫تاركوفسكي على الصورة التي تظهر بشكل لوحة فنية‪ ،‬وكأن تاركوفسكي في كاميرته يرسم مالمح الصورة‬ ‫التي يريد أن يح ّملها ما يريد‪ .‬ويمهد لذلك في المشهد األول الذي يتلو المقدمة‪ ،‬حيث نرى األم تتوسط‬ ‫مرج أخضر‬ ‫الكادر وتجلس على خشب ٍة مرتفع ٍة عن األرض ظهرها للكاميرا ومن جانبيها األشجار وأمامها ٌ‬ ‫واسع‪ .‬إن هذه الصورة لتك ّون بذاتها لوحة فنية طبيعية يخالها المرء لو فصلت عن تاليها وسابقها رسماً‪،‬‬ ‫وقس ذلك على كل مشاهد الفيلم‪ .‬إن تاركوفسكي بذلك يستبدل باللفظة الصورة‪ ،‬ويستبدل بلغة الكالم‬ ‫لغة السينما التي تتكون من الصورة كما يقول الناقد جان ميتري‪ ،‬مع أنه ال يقصي اللغة بشكل تام وأبرز‬ ‫دليل توظيفه للشعر في خدمة الصورة وتكامل المعنى‪.‬‬ ‫ينتهي الفيلم بتطابق المرآة‪ ،‬وتطابق أطراف الثنائيات على وجهيها‪ ،‬ففي المشهد األخير تتطابق‬ ‫صورة الذكر بشقيها األب‪/‬االبن‪ ،‬وصورة األنثى بشقيها األم‪/‬الزوجة‪ ،‬والزمن بشقيه الحاضر‪/‬الماضي‪ ،‬وذلك‬ ‫في قالب مكاني هو القرية‪ .‬أي أن تاركوفسكي اختار الريف الروسي بدالً من المدن الروسية مدل ًال بذلك‬ ‫على آخر انتقا ٍد له للنظام الشيوعي في الفيلم الذي ش ّيأ اإلنسان الروسي (أي ح ّوله إلى شيء) وقيده في‬ ‫سراديب المدن‪.‬‬ ‫اليقف فيلم “المرآة” عند حدود روسيا الكبرى‪ ،‬وحدود تقويض النظام الستاليني ورصد ممارساته‬ ‫بحق الروس‪ ،‬إنما يتجاوز ذلك ليهاجم كل األنظمة السياسية الشمولية التي تُشَ ّي ُء اإلنسان وتحوله إلى عبد‬ ‫للدولة ولمؤسساتها الكونفدرالية‪ .‬من هنا نجد أن ما رصده تاركوفسكي في فيلمه يتقارب وواقع الحال‬ ‫العربي‪ ،‬فمثلما ُسحِ َقت األنثى (أماً وزوجة) في االتحاد السوفيتي في العهد الستاليني تحت نير النظام‬ ‫الشمولي‪ ،‬تعاني األنثى العربية اليوم ما تعانيه سواء من األنظمة الشمولية التي أحكمت قبضتها على‬ ‫الحكم في معظم البلدان العربية سابقاً‪ ،‬أو من أشكال الحكم الجديدة التي أفرزها ‘الربيع العربي’؛ حيث‬ ‫بقيت المرأة رغم كل التغييرات الجذرية‪ ،‬التي عصفت في المجتمعات العربية بعد ‪ ،2011‬بقيت المرأة‬ ‫حبيسة العقلية القبلية العربية‪ .‬ولعل المثال األوضح على هذا هو االنتهاكات التي تعرضت لها النسوة في‬ ‫المناطق الواقعة تحت سيطرة الدولة اإلسالمية في العراق والشام ‘داعش’‪.‬‬ ‫من هنا نجد أن ‘مرآة’ تاركوفسكي‪ ،‬التي عكست شتات العائلة الروسية في ظل الحكم الستاليني‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وحكومات جديدة‬ ‫تعكس اليوم الشتات العربي الذي نتج عن أنظم ٍة سياسي ٍة ُم َت َع ِّن َتة في وجه التغيير‪،‬‬ ‫جاءت كسابقاتها بقوة السالح والنار‪.‬‬

‫‪53‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫بورتريه‬

‫أحمد بندقجي ❊‬

‫❊ طالب سنة رابعة يف كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق‪ ،‬اختصاص اتصاالت برصية‪ .‬شارك يف عدة أنشطة ومعارض منها ورشة‬ ‫عمل جامعية عام ‪ 2011‬يف املركز الثقايف الفرنيس بدمشق عن صناعة األفالم القصرية بتقنية ‪ ،Stop Motion‬معرض الربيع‬ ‫السنوي ‪ ،2013‬معرض كاريكاتور يف ‘منتدى البناء الثقايف’ بدمشق ‪ ،2014‬معرض سكتش ‘أنو هيك’ يف ‘منتدى البناء الثقايف’‬ ‫‪ ،2014‬مشاركة يف ورشة عمل رسم جداري باسم ‘جدران السالم’ يف منطقة النبك برعاية ‘ملتقى سوريات يصنعن السالم’‪ ،‬إضافة‬ ‫إىل رسم عدة قصص لدار ‘أصالة’ يف بريوت‪.‬‬ ‫‪54‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬ ‫تقاطع نريان‬ ‫محمد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬ ‫مزرعة الحيوانات والربيع العريب‬


‫مراجعات كتب‬

‫تقاطع نريان‬

‫محمد حجو❊‬

‫مراجعة لكتاب ‘تقاطع نريان’‬ ‫تأليف سمر يزبك‪ 304 ،‬صفحة‪ ،‬قطع متوسط‪ ،‬نشر ‘دار اآلداب’‪ ،‬بريوت‪.2012 ،‬‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫بالشخصنة حيناً واملوضوعية أحياناً أخرى‪ ،‬متسك سمر يزبك بأطراف خيوط باكورة الثورة‬ ‫عاشق يلثم جسد حبيبته‪.‬‬ ‫السورية لتنسج منها بحرفية ثوباً مرقعاً يلبسه القارئ بتمهل‬ ‫ٍ‬ ‫متثل كل رقع ٍة فيه مدين ًة تذوقت منذ أم ٍد بعيد شهد الحرية الغايل مثنه والصعب مناله؛‬ ‫تبدأه من دمشق وشوارعها التي غزاها مجرمون يدعون حب الوطن‪ ،‬إىل درعا وأطفالها‬ ‫وعشائرها‪ ،‬فبانياس والتوتر الطائفي الذي يسكنها‪ .‬ومن جرس الشغور ومقابرها الجامعية‬ ‫إىل جبلة والقامشيل وحمص‪ .‬وال ينساب من بني يديها النقد الالذع لكل املقرصين‬ ‫واملجرمني فرتميهم بسهام غضبها تارةً‪ ،‬وبجمرات خيبة أملها تار ٍ‬ ‫ات أخرى‪ ،‬فال يسلم من‬ ‫تقريعها ال النظام وال املتواطئون معه أو املتخاذلون يف مجابهته‪.‬‬

‫❊ يكتب القصة القصيرة والمقاالت السياسية واالجتماعية والثقافية‪ .‬نشرت له عدة صحف ومجالت من أبرزها مجلة العربي الكويتية وصحيفة العربي‬ ‫الجديد‪ .‬نالت قصته ‘البنيان المرصوص’ المركز الثالث ضمن مسابقة ‘قصص على الهواء’ التي تقيمها مجلة العربي بالتعاون مع بي بي سي إكسترا‪.‬‬

‫‪56‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تقاطع نريان‬

‫مقدمة‬

‫تسعى مراجعة كتاب ‘تقاطع نيران’ الحالية إلى تقديم نقد تقريري للمعلومات المعروضة بقلم سمر‬ ‫يزبك‪ ،‬ولن تتوجه –إال في بعض المواطن التي تنوه إلى جماليات اللغة المستخدمة– إلى سبر بنية النص‬ ‫األدبية‪ ،‬وذلك كون العمل مما يصعب تصنيفه؛ فهو قد يندرج تحت بند المذكرات الشخصية‪ ،‬لكنه يتسم‬ ‫بتقريرية عرضه لشهادات األشخاص الذين عاينوا الشارع السوري إبان اندالع الثورة وأثناءها‪.‬‬ ‫عندما يقوم القارئ بزيارة هذا العمل الفني والشخصي في آنٍ معاً فإن عبار ًة توضيحية تقوم مقام‬ ‫موظفة االستقبال لتزيل لبس االسم عن الذين يجهلونه‪“ :‬تقاطع نيران هو الموقع الذي يكون فيه شخص أو‬ ‫مجموعة قتالية أو سياسية في مرمى نيران متعددة‪ ،‬من العدو ومن الصديق”‪ .‬هذه الجملة تتوضح للقارئ‬ ‫أكثر حين يتخذ القرار بالغوص في صفحات هذا العمل المملوء ألماً وأم ًال‪ ،‬فراوية حكاياته تقبع في تقاطع‬ ‫نيرانٍ‬ ‫معنوي ومادي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫العمل عبارة عن شهادات عيانية لبدايات الثورة (الشهور األربعة األولى) منضدة بأسلوب روائي متميز‬ ‫وهواجس امرأة سورية مزقها وما يزال حزنها على بلدها الجريح‪ .‬بهذه الكلمات يمكننا أن نلخص تجاوزاً‬ ‫بالطبع هذا العمل‪ .‬يمكننا تصنيف هذا العمل بالـ ‘سودوروائي’ أو شبه الروائي‪ ،‬فهو يقترب من المذكرات‬ ‫ألناس وفضاءات أخرى تعطيه الثقة ليثب إلى عالم الرواية‬ ‫لكنه يحمل بين طيات هذه المذكرات أبعاداً ٍ‬ ‫نفس وعزم‪ .‬سمر يزبك بعملها هذا تقترب من كتابات إيزابيل الليندي التي لطالما أقحمت حياتها‬ ‫بثقة ٍ‬ ‫الشخصية في أعمالها األدبية‪.‬‬ ‫‪57‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫تقاطع نريان‬

‫انتماء ثوري‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سمر يزبك‪ ،‬صاحبة الروايات المثيرة للجدل سياسيا واجتماعيا‪ ،‬تقتحم بشجاعة منقطعة النظير‬ ‫مشاهد الثورة السورية وتؤرخ لها ‪-‬رغم نفيها لذلك‪ -‬ال بأسلوب جاف وأكاديمي‪ ،‬بل بروح التعاطف التي‬ ‫تشع من كلماتها‪.‬‬ ‫ينقسم العمل إلى فقرات معنونة تاريخياً‪ ،‬اليوم الفالني من الشهر الفالني في السنة الفالنية‪ ،‬تفصل‬ ‫بينها مسافات زمنية متباعدة أو متقاربة‪ .‬هذا الشيء يتفهمه القارئ إذ أنه ال يتاح للكاتبة أن تنزل إلى‬ ‫الشارع أو تستمع إلى شهادات الناشطين متى أرادت‪ ،‬وحتى اﻷخبار عل شبكة االنترنت يعترضها انقطاعه‬ ‫المستمر‪.‬‬ ‫تأخذنا الكاتبة في جولة سندبادية دمشقية‪ ،‬متوقفة عند مناطق التوتر والتظاهر وساردة بأسلوب‬ ‫سلس ال يخلو من المغالطات ما تراه‪ ،‬وهي محاولة منها كما أشارت هي للخروج من تصنيف الشيطان‬ ‫اﻷخرس الذي يرى الظلم واقعاً على أبناء شعبه فال يحرك ساكناً‪.‬‬ ‫أسلوب الكاتبة المميز يحول أخباراً سمعناها ونسمعها يومياً إلى حدث جديد يثير مشاعرنا ويحضنا‬ ‫على التعاطف مع ما يجري بإنسانية‪ ،‬تفوق بكثير تلك المشاعر التي انتابتنا إثر مشاهداتنا للقنوات‬ ‫اﻹخبارية والتي تنقل المشهد ببرودة كأنها تصور مؤتمراً صحفياً ﻷحد السياسيين‪ .‬فمن ذلك قولها واصفة‬ ‫حال أهالي درعا بعد الحصار اﻷول للمدينة بين نيسان وأيار من العام اﻷول للثورة‪“ :‬اﻷخبار عنهم غامضة‪،‬‬ ‫لكن رائحة الموت واضحة”‪.‬‬ ‫تلخص الكاتبة مأساة السوريين في الحرب الدائرة بالقول‪“ :‬أنا والقتلة من مدينة واحدة في دمي‬ ‫يجري بعض من دمهم”‪ .‬هذه الجملة تستخدمها الكاتبة لإلشارة إلى أنها والقتلة إما ينحدرون من مدينة‬ ‫واحدة‪ ،‬كحالها وعاطف نجيب‪ ،‬أو لإلشارة العامة الرتباطها بعائلة األسد وبرأس النظام في كونهم ينتمون‬ ‫للطائفة العلوية‪ .‬هذا التلخيص يمكن للقارئ إسقاطه على حياة السوريين اآلن فهم إن حملوا السالح‬ ‫حملوه ضد إخوتهم‪ ،‬وإن ماتوا فبرصاصهم أو بقذائف أطلقتها ضغطة زناد قد تكون ألبنائهم‪.‬‬ ‫سمر يزبك تقطع شعرة معاوية مع النظام ومع بشار األسد وتتهمه بتوظيف الطائفية للمحافظة على‬ ‫السلطة‪ .‬بشار اﻷسد يذكر باسمه الصريح هو ونظامه واالتهام لهم واضح تماماً بالتوغل في الدماء السورية‪.‬‬ ‫هذه النقطة تفوقت فيها الكاتبة سمر على نظرائها ممن حاولوا التأريخ لبدايات الثورة من خالل روايات‬ ‫ومقاالت‪ ،‬والذين اكتفوا بإشارات غالباً ما تكون مبهمة لشخص بشار األسد وماهر األسد وعاطف نجيب بل‬ ‫وحتى رفعت األسد‪ ،‬ناسجين بفعلهم هذا شبكة أمان تلتقطهم في حال بقي األسد‪ ،‬ومرسخين في الوقت‬ ‫ذاته قدماً شاحبة تمنعهم من السقوط أخالقياً إن انتصرت الثورة‪ .‬تحدد سمر موقفها ممن اختاروا الصمت‬ ‫من المثقفين إزاء نهر الدم الجاري‪ ،‬فتصفهم بالشركاء في القتل‪.‬‬ ‫في الكتاب يستشف القارئ بنعومة هاجساً كبيراً لدى يزبك في تفنيد روايات النظام البعثي التي‬ ‫جاهد ليجعلها مقنعة فخرجت كما هو؛ مليئة بالزيف وسخيفة‪ .‬وهي توظف لهذا الغرض مناقشاتها مع‬ ‫شهود العيان إن صح التعبير‪ ،‬وتحاول إقناع من ص ّدق ادعاءات النظام بعكس ذلك‪ .‬من أجل ذلك تسبر‬ ‫الكاتبة‪ ،‬بخبرة من يعلم دهاليز اﻹعالم السوري‪ ،‬غور السياسات اﻹعالمية التي اتبعها النظام لمجابه الثورة‬ ‫‪58‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تقاطع نريان‬

‫واالحتجاجات‪ ،‬متسلح ًة بشهادات إعالميين مغلوب على أمرهم‪ ،‬وخالصتها قول المذيعة مجهولة االسم‬ ‫ليزبك‪“ :‬نحن موظفون فقط‪ ،‬نتقاضى أجوراً‪ ،‬ولسنا إعالميين”‪.‬‬ ‫تتبدى سمر يزبك من خالل الكتاب مدافعة شرسة عن حرية التعبير‪ ،‬وعن حقها هي أوالً في أن‬ ‫تعرف مجريات ما يحدث من حولها‪ ،‬خاصة وأن سياسة التعتيم التي انتهجها إعالم النظام عند بدء الثورة‬ ‫جاءت بنتائج عكسية ووخيمة عليه‪ ،‬إذ أن أغلب الناس كانوا سيكتفون لو علموا ما يحدث بهز الرأس أو‬ ‫الخوف أو حتى تصديق روايات من النظام يعلمون في صميمهم أنها أساطير فرعونية لم يتم تحنيطها جيداً‪.‬‬ ‫سياسة التعتيم هذه دفعت بالكثير من الناس إلى محاولة استقصاء ما يحدث من حولهم في ظل غياب أي‬ ‫توضيح رسمي‪ .‬هذا االستقصاء كشف للسواد اﻷعظم منهم أن الذين يتم وصفهم بالعصابات هم في الحقيقة‬ ‫متظاهرون سلميون‪ .‬وهكذا وكما يحدث مع من ضاق أفقهم السياسي‪ ،‬فقد انقلب سحر النظام عليه وتم‬ ‫تصعيد مطالب المتظاهرين‪ .‬هذه النقطة جلية جداً في كلمات يزبك التي تحض بشكل مباشر كل من لديه‬ ‫شك في كذب النظام أن ينزل إلى الشارع ويرى بعينيه ال بأعين الفضائيات حقيقة ما يجري على اﻷرض‪.‬‬ ‫تتساءل الكاتبة‪“ :‬هل كانت أربعون سنة كافية لخلق هذه اﻷجيال الخائفة القاتلة؟” وهي تجيب في‬ ‫جل روايتها عن هذا التساؤل ببلى؛ بلى التي تنطقها كلماتها تأتي مدوية وقوية‪.‬‬ ‫سمر يزبك التي عودت قراءها على شجاعة وصفها لحال سوريا قبل اﻷزمة‪ ،‬لم يتراجع بعد اﻷزمة‬ ‫زخم سبرها ﻷغوار النظام السوري العفن والذي ت َُح ِّم ُله سمر أكبر الوزر في تشويه المجتمع السوري‬ ‫وتحويله للطائفة العلوية ‪-‬التي تنتمي إليها الكاتبة‪ -‬لطائفة يعشش فيها خوف دائم من الطوائف اﻷخرى‬ ‫وباﻷخص السنة‪ ،‬وذلك حتى يخلق نظام الحكم السوري تكت ًال طائفياً يدعمه ويضحي من أجله‪.‬‬ ‫سمر أيضا تنفي صفة اإلخالص للطائفة عن النظام؛ فالعلويون في معظمهم فقراء‪ ،‬إال من انخرط في‬ ‫نظام الحكم وس ّولت له نفسه سرقة شعبه‪ ،‬وهو في ذلك ال يختلف عن مجرمي وسارقي البالد من أبناء‬ ‫الطوائف اﻷخرى‪ .‬كما أن عقاب العلوي الخارج عن طاعة حزب البعث اﻷسدي هو أكبر بكثير مما يتلقاه‬ ‫المنتمون إلى غير طوائف‪.‬‬ ‫كلمات سمر يزبك تقطر بالكره نحو فئة الشبيحة‪ ،‬فهي دائماً ما تتحدث عنهم بكلمات من وصل‬ ‫به النفور منهم حد القرف‪ .‬هم ليسوا بأمن وال جيش‪ ،‬شبان مستهترون مفتولو العضالت يحسبون أن‬ ‫حملهم للسالح وانتماءهم يخوالنهم فعل ما يجول في رأسهم‪ .‬وهم محقون في ذلك إذ أنهم‪ ،‬وكما تصورهم‬ ‫الكاتبة‪ ،‬ال يمكن المساس بهم من قبل الجيش على الحواجز‪ ،‬حيث يتسللون إلى أماكن التظاهرات السلمية‬ ‫ويقمعونها بال شفقة أو رحمة؛ فيقتلون ويعطبون من أمامهم وكأنهم هم البشر والمتظاهرون ذباب‪.‬‬ ‫تنفي يزبك إمكانية حدوث حوار بين المتظاهرين واألمن والجيش والنظام “ترى ما هو الحوار‬ ‫الذي يمكن افتراضه بين فوهة مدفع وبيت أعزل؟ لنجر حواراً‪ :‬ال حوار”‪ ،‬هذه الكلمات تعتبرها يزبك من‬ ‫شرح أو تفصيل‪.‬‬ ‫المس ّلمات التي ال تحتاج إلى ٍ‬ ‫كما توضح يزبك توظيف الطائفية من قبل النظام من أجل جذب أبناء الطائفة إليه‪ ،‬مع أنه هو الذي‬ ‫كان يقتل العلويين ويتهم السنة بقتلهم ليؤجج اﻷحقاد الدفينة ويصور للعلويين جحيمية الحياة دون نظام‬ ‫بشار اﻷسد‪ .‬اﻷمر ذاته فعله النظام مع الجيش‪ ،‬فأمر قناصته ورجال أمنه بتصفية العديد من المجندين‬ ‫واتهام المتظاهرين بذلك‪.‬‬ ‫‪59‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫تقاطع نريان‬

‫سيهجر الشعب كله؟!”‬ ‫االستنكار والتعجب من أفعال النظام حاضران دائماً في كلمات يزبك‪“ :‬هل‬ ‫ِّ‬ ‫“من يفعل هذا بشعبه؟!” “هل يعقل أن يفعل نظام كل هذا بشعبه؟!” “كيف يقوم الرئيس بإصدار قرارات‬ ‫الموت؟!” إلخ‪.‬‬ ‫بني اإلحباط واحلرية‬ ‫العمل مليء بكم هائل من اﻷسئلة التي يندرج معظمها تحت خانة غير القابل لإلجابة‪ ،‬وهي بذلك‬ ‫تجسد حيرة المواطن العادي الذي ال ينتمي إلى أي من أطراف الصراع والغارق في مستنقع الدهشة الذي‬ ‫يزداد قذارة مع كل يوم ينقضي وكل روح تزهق‪.‬‬ ‫يتضح جلياً‪ ،‬بين السطور تار ًة‪ ،‬وبشكل مباشر تارات أخرى‪ ،‬حجم التذبذب الذي يعيشه الناشط‬ ‫السياسي في ظل الثورة السورية‪ .‬فهو‪/‬هي ممزقون بين ما يرونه واجبهم في نقل حقيقة ما يحدث على‬ ‫أرض الواقع‪ ،‬وبين عوائلهم التي لن يتوانى النظام عن التنكيل والتشهير بها حتى ولو قرر الناشط الرحيل‬ ‫عن البالد بمفرده‪/‬ها‪.‬‬ ‫تبكي يزبك بحرقة وحيد ًة في غرفتها إزاء دموع وصراخ ابنتها الخائفة عليها من الموت‪ ،‬ويغزوها‬ ‫التشوش واالرتباك حيال خطوتها الالحقة؛ هل تكمل مشوارها في البحث عن الحقيقة ونقلها‪ ،‬مخاطر ًة‬ ‫بحياتها وحياة ابنتها وعائلتها؟ أم تركن إلى الخوف خائنة لضميرها ككاتبة ومثقفة؟‬ ‫شعور طفيف باﻹحباط قد يتسلل إلى روح القارئ أثناء مطالعته للصفحات الخمسين اﻷولى‪ ،‬وذلك ﻷن‬ ‫الصورة التي ترسمها يزبك عن الثورة وبداياتها بريشة كلماتها المبدعة هي صورة مثالية للغاية ال أظن أنها‬ ‫ٌ‬ ‫إغفال لكثير من التجاوزات التي كانت تحدث في ذلك‬ ‫تنطبق على أية ثورة أو أي شعب في العالم‪ ،‬وفيها‬ ‫الوقت من المتظاهرين‪ .‬هذه الصورة قد تصب في خانة التمجيد والقداسة التي ال ترضى بإبداء العيوب أو‬ ‫الحديث عنها‪ ،‬ونحن كسوريين يقع على عاتقنا محاولة التخلص منه‪ ،‬إذ أنه من مخلفات اﻷنظمة الشمولية‪.‬‬ ‫سمر يزبك يف قلب تقاطع نريان‬ ‫تمتزج الروائية بالصحفية في كتاب يزبك هذا والذي يعد خليطاً متجانساً من طرفي شخصيتها‬ ‫المميزة‪ .‬كما يحدث وأن تقوم الروائية بالشرود في سر ٍد إبداعي لما يحدث‪ ،‬ومن ثم تعيدها الشخصية‬ ‫الصحفية إلى المهنية والموضوعية‪ .‬هذا االنتقال الذي أخرجته يزبك سلساً على الرغم من صعوبته ساهم‬ ‫في صبغ العمل بحيوية تشد القارئ وتخفف من جفاف المادة الصحفية التوثيقية‪ ،‬وقد لخصت ذلك بقولها‪:‬‬ ‫“أنا أكثر رواية حقيقية يمكن أن أكتبها في يوم من اﻷيام”‪.‬‬ ‫يتخلل العمل ذكريات منثورة للكاتبة تصور طفولتها التي تتبدى لنا قاسية من خالل كلماتها؛ فعائلتها‬ ‫لم تغفر لها تحررها المبكر وهربها من منزل أهلها‪ ،‬أما موقفها من الثورة السورية فقد أحال الطين إلى‬ ‫وحول سائلة‪ .‬الذي ال يعرف سيرة حياة يزبك سيصدم عندما يعرف بقرابتها ألسامة بن الدن! فنجوى غانم‬ ‫قريبتها هي الزوجة األولى ألسامة بن الدن‪ .‬كما سيصطدم أكثر عندما تخبره يزبك بأنه كانت ﻷسامة فيال‬ ‫تجاور فيال فواز اﻷسد‪ .‬وهكذا أضفى إسقاط ما يحدث في سوريا على حياة الكاتبة الشخصية في بعض‬ ‫األحيان حميمية على العمل يقربه من قلب القارئ‪.‬‬ ‫‪60‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تقاطع نريان‬

‫تروج الثورة يف الغرب وتنفي عنها الصبغة اإلسالمية‬ ‫سمر يزبك ّ‬ ‫يبدو الكتاب وكأنه موجهٌ للغرب‪ ،‬إذ يغلب عليه الخطاب التسويقي للمآسي‪ .‬حيث تحاول الكاتبة‬ ‫جهدها إظهار الحراك على أنه غير إسالمي‪ ،‬وهذا أمر خاطئ للغاية‪ ،‬فسواء كنا علمانيين أو أصحب فكر‬ ‫إسالمي‪ ،‬متدينين أو ملحدين‪ ،‬فال بد لنا من أن نكون على اﻷقل منصفين‪ .‬المتظاهرون في أغلبهم كانوا‬ ‫من الطائفة السنية‪ ،‬وكانوا متدينين‪ ،‬وإال فكيف نفسر الشعارات المرفوعة؟ “يا الله مالنا غيرك يا الله‪ ،‬الله‬ ‫سوريا حرية وبس‪ ،‬قائدنا لألبد سيدنا محمد‪ ،‬لبيك لبيك لبيك يا الله‪ ،‬عالجنة رايحين شهداء بالماليين‪ ،‬هي‬ ‫لله هي لله ال للسلطة وال للجاه‪ ،‬تكبير‪ ،‬هييي ويالله وما منركع إال لله‪ ،‬إلخ”‪ ،‬كما أن أغلب الناشطين في‬ ‫التلفاز أو الذين يبثون مقاطع اليوتيوب يغلب على كالمهم الطابع الديني‪ ،‬بل ويمكن اعتبارهم أصحاب‬ ‫فكر ديني بامتياز‪ .‬أنا ال أنفي أبداً حراك العلمانيين وال الناشطين من الطوائف اﻷخرى‪ ،‬لكننا ال نستطيع‬ ‫تغليب القليل على الكثير‪.‬‬ ‫قمة الموقف الحاد من إسالميي الثورة تظهر مركز ًة في جملة واحدة تعبر عن دواخل سمر يزبك‪،‬‬ ‫حيث تقول‪“ :‬تصلني معلومات بأن اﻹسالميين يشتغلون على اﻷرض‪ ،‬وأن قوتهم المالية هائلة‪ ،‬لكن ذلك ال‬ ‫يعني شيئاً”‪.‬‬ ‫اﻹسالم عقدة حسب أحد الناشطين اليساريين العلمانيين ممن حاورتهم يزبك‪ .‬وحسب هذا الناشط‬ ‫فقد اضطروا إلى استخدام المساجد حتى يتمكنوا من التجمع والخروج في المظاهرات‪ .‬الكاتبة كعادتها في‬ ‫هذا العمل تسعى إلى إيصال فكرة للغرب بأن العلمانيين هم أصحاب الثورة وليس اﻹسالميون‪ .‬طبعاً وكما‬ ‫ُ‬ ‫أشرت سابقاً فهذا الكالم ال يمت للواقع بصلة‪ ،‬فالشعارات كانت واضحة‪.‬‬ ‫تشوب كلمات سمر بعض السخرية من المظاهر الدينية‪ ،‬وخاصة النقاب‪ ،‬فتذكر وصف الحجاب‬ ‫بالخيشة والذي استخدمه سعد الله الجابري –حسب كلمات سمر دون ذكر المصدر– رئيس الوزراء في عام‬ ‫‪ 1944‬لوصف الحجاب بعد حادثة ‘نقطة الحليب’ التي اعترض على إثرها أعضاء ما كان يعرف بالجمعية‬ ‫الغراء على اجتماع نساء سافرات مع أخريات محجبات ليشاركن بفعاليات غير مقبولة من هذه الجمعية‪.‬‬ ‫لكن تكرار ذكر أن النساء جميعهن محجبات ينطوي على أمرين في رأيي‪:‬‬ ‫ إن سمر يزبك تحاول أن تؤكد للعالم العربي والغربي على حد سواء بأن معظم الذين خرجوا‬‫سلميين أغلبهم من الطائفة السنية وأنهم متدينون‪ ،‬فمعظم نسائهن يتشحن بالسواد ويتنقبن‪ ،‬اﻷمر‬ ‫الذي يدحض أقوالً كثيرة زعمت أن اﻹسالميين تطفلوا على الثورة السلمية ليحولوها إلى صدام مسلح‪.‬‬ ‫ تريد الكاتبة أن تمهد إلى ظهور المتشددين المسلحين بالقول بأن أولئك قد وجدوا في المتظاهرين‬‫السلميين المتدينين حاضن ًة شعبي ًة بنوا أسسهم على أكتافها‪ ،‬مستثمرين تعاطف المتظاهرين‬ ‫المتدينين البسطاء فكرياً مع فكرة الخالفة اﻹسالمية وحكم الدين‪.‬‬ ‫وتظهر الفرقة بين المتظاهرين جلي ًة وواضح ًة في نقل الكاتبة لوقائع المظاهرتين المتتاليتين‬ ‫النسائيتين في دمشق بساحة عرنوس؛ ففي اليوم اﻷول تظاهرت النساء المحجبات‪ ،‬ثم في اليوم الذي يليه‬ ‫خرجت مظاهرة مكونة من ستين امرأة تقريباً ممن وصفتهم الكاتبة بالحاسرات والعلمانيات‪ ،‬وانضمت‬ ‫إليهن الكاتبة‪ .‬هذه السطور تولد في نفس القارئ تساؤلين‪ :‬اﻷول‪ ،‬لماذا خرجت النساء على دفعتين‪ ،‬واحدة‬ ‫‪61‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫تقاطع نريان‬

‫محجبة واألخرى سافرة؟ أما كان اﻷجدى واﻷجدر أن يخرجن مجتمعات فيكثر عددهن ويعطين صورة راقية‬ ‫عن تالحم الشعب السوري بمكوناته الغنية التعددية؟ هذا السؤال سهل اﻹجابة في رأيي؛ فالتنسيق هو‬ ‫الفيصل هنا‪ ،‬ولألسف فإن تنسيقيات بداية التظاهرات لم تكن موحدة‪ .‬إضافة إلى ذلك فعامل التخوف من‬ ‫اﻵخر لعب دوراً أساسياً؛ فغالبية المتدينين كانت لديهم شكوك عظيمة في إخالص العلمانيين‪ ،‬متصورين أن‬ ‫األخيرين هم على عالقة وثيقة بالنظام‪ .‬وعلى الطرف اﻵخر يظن معظم العلمانيين بأن المتدينين منتمون‬ ‫بطبيعة الحال إلى فرق دينية كاﻹخوان المسلمين وغيرهم‪ ،‬وهم ال يريدون أن يتم نسبهم إلى هكذا فرق‪.‬‬ ‫أما التساؤل الثاني‪ ،‬فهو لماذا خرجت الكاتبة مع السافرات ولم تخرج مع المتدينات؟ وهنا ال يمكننا أن‬ ‫نجزم؛ فالكاتبة تتابع كثيراً من التنسيقيات‪ ،‬وتنخرط مع الناس وتنقل مظاهرات المتدينين وغيرهم‪ .‬وقد‬ ‫يعود السبب إلى عدم علم الكاتبة بالمظاهرة اﻷولى‪ ،‬أو لكونها وكما أشرنا سابقاً ال تريد أن يتم احتسابها‬ ‫على جماعات متدينة‪ ،‬أو لموقفها الرافض والمعلن من الدين ككل‪ .‬هذا الموقف ليس بجديد على كتابات‬ ‫يزبك التي لطالما صورت في كتاباتها تأففاً من تحكم الدين بحياة المواطن السوري‪ ،‬خاصة النساء على حد‬ ‫وصفها‪.‬‬ ‫لكن رغم انتقادها للدين‪ ،‬إال أن سمر يزبك تتسم بالحيادية والموضوعية في نقل ما يصلها من‬ ‫الناشطين الموثوقين‪ ،‬فهي لم تتوان عن ذكر طل الملوحي ومطالبة أهالي بانياس إلطالق سراحها‪ .‬طل‬ ‫الملوحي التي كانت من أوائل من كتبوا ضد النظام في المدونات‪ ،‬وهي من بين الذين ساهموا في إشعال‬ ‫فتيل الثورة السورية‪ ،‬وقد تعرضت للسجن وتشويه السمعة‪ .‬كثير من المثقفين والكتاب والمنظرين في‬ ‫الثورة السورية تجاهلوا طل وإسهاماتها العظيمة‪ ،‬وخاصة الذين انتموا سابقا إلى الحزب الشيوعي‪ ،‬ومن‬ ‫أبرزهم ياسين الحاج صالح‪ .‬ففي مقال له في جريدة الحياة تحت عنوان‪‘ :‬أبطال واضحون في أسطورة’‪،‬‬ ‫أغفل الحاج صالح ذكر طل الملوحي تماماً بينما بالغ في التغزل بإنجاز زوجته سميرة خليل ورزان زيتونة‬ ‫وغيرهم‪ .‬كثير من المراقبين يرجع هذا التجاهل المتعمد إلى كون طل الملوحي محجبة ومحافظة دينياً‪،‬‬ ‫اﻷمر الذي ال ينطبق على من مجدهم ياسين الحاج صالح‪.‬‬ ‫سمر يزبك تعالت عن الطائفية ورفض اﻵخر لمجرد أنه يختلف عنا‪ ،‬وهي نقطة ذهبية تحسب لهذه‬ ‫الكاتبة الفذة‪ .‬وقد ظهر ذلك جلياً في تركيزها على ضرورة الحفاظ على إنسانيتنا في ظل الحرب الدائرة؛‬ ‫فالتعاطف اﻹنساني حسب يزبك ال يجب أن يقف في طريقه موقف سياسي وال انتماء طائفي وال حتى‬ ‫فكر ثقافي‪ .‬يأتي تركيزها هذا موسوماً بدهشة عارمة من موقف النظام والتابعين له‪ ،‬ممن رفضوا حتى‬ ‫التعاطف مع أسر الشهداء واعتبروه خيانة عظمى تستوجب العقاب‪ .‬اﻷمر ذاته انتشر بعد مدة بين صفوف‬ ‫المعارضين وأصبح التعاطف اﻹنساني مع قاعدة النظام ورفض العنف يستوجبان السخط ويشيران إلى‬ ‫عمالة المتعاطف والشك باحتمال كونه جاسوساً للنظام‪.‬‬ ‫حتوالت واعرتاف ببعض أخطاء الثورة‬ ‫تقارن الكاتبة بين الشباب المتحمس لمساعدة المتظاهرين والمليء بالحيوية والنشاط‪ ،‬وبين‬ ‫شخصيات المعارضة التي يغزوها التلكؤ والخمول وتستبد بأوصالها البيروقراطية‪ .‬فهناك ٌ‬ ‫حالة من تعدد‬ ‫الشخصيات أو النفاق تعيشها شخوص المعارضة التي تروي الشهادات‪ ،‬فمن ناحية يقولون أنهم علمانيون‬ ‫‪62‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫تقاطع نريان‬

‫ال انتماءات دينية لهم‪ ،‬بل حتى في بعض الحاالت ملحدون‪ ،‬ثم تراهم يهتفون مع المتظاهرين‪ :‬الله سوريا‬ ‫حرية وبس‪ .‬هنالك اعتراف بأخطاء قام بها الناشطون وهو أمر إيجابي إذ أن من ضمن أهداف انتفاضة‬ ‫وثورة الشعب السوري كسر أسطورة اﻷلوهية التي نسجها النظام حول عائلة اﻷسد وحزب البعث‪ .‬كما تشير‬ ‫الكاتبة إلى ازدواجية معايير الغرب تجاه الوضع في سوريا وذلك لقربها من إسرائيل‪ ،‬فاألمريكيون والناتو‬ ‫لم يهرعوا لـ ‘إنقاذ الناس’ كما ادعوا أنهم فعلوا في ليبيا‪ ،‬كما لم يتدخلوا سياسياً بالزخم ذاته الذي أظهروه‬ ‫تجاه ثورة مصر‪.‬‬ ‫يف النص بعض اﻷخطاء ال بد من التنويه إليها‬ ‫قول الكاتبة أنه “في أحد األيام خرجت دمشق كلها للتظاهر”‪ ،‬وهذا اﻷمر خاطئ للغاية‪ ،‬فحتى‬ ‫حمص ‘عاصمة الثورة’‪ ،‬ودرعا ‘مهد الثورة’‪ ،‬لم تخرج كلها ضد النظام‪ ،‬وقد كان اﻷجدر بالكاتبة أن تبتعد‬ ‫عن التعميم‪ .‬قد تكون استخدمت هذه الكلمة “كلها” للتعبير عن كبر حجم المظاهرات‪ ،‬ولكن في اﻷمر‬ ‫مبالغة شديدة ال داعي لها في رأي كاتب هذه السطور‪ .‬كما أن حلب تأخرت في الخروج بمظاهرات‬ ‫والذين بدؤوا يخرجون لم يكن عددهم يتجاوز العشرات في مدين ٍة يسكنها قرابة الخمسة ماليين إنسان‪،‬‬ ‫كما أنها أوحت –عن قصد أو غير قصد– بأن مظاهرات حلب سبقت تظاهرات حماة وهذا خاطئ للغاية‪.‬‬ ‫صب حيناً في مصلحة النص‬ ‫في النص تكرار لبعض الجمل وللكثير من اﻷحداث المتشابهة‪ ،‬وقد َّ‬ ‫ولم ينتقص منه؛ فوضح للقارئ‪ ،‬وخاصة ذلك الذي لم يشهد الواقع السوري التظاهري المعاش‪ ،‬أن أفعال‬ ‫النظام كانت هي ذاتها يومياً‪ .‬وتؤكد سمر ذلك بقولها‪“ :‬عيون لم أكن ألمحها في دمشق؛ أعرف أني أردد‬ ‫هذه الجملة كثيراً في يومياتي ولكني ال أمل من تردادها”‪ .‬إال أن هذا لم يمنع أن التكرار ساهم في‬ ‫أحيانٍ أخرى في بث الملل لدى القارئ ومن ذلك تكرار‪“ :‬مدينة أشباح‪ ،‬القتلة ينبتون من اﻷرض‪ ،‬من أين‬ ‫أتى هؤالء‪ ،‬تعاطي الحبوب المنومة‪ ..‬إلخ”‪ .‬كما تغيب بعض األسماء الهامة عن قلم سمر من أهمها‪ :‬حمزة‬ ‫الخطيب‪ ،‬ورزان زيتونة‪.‬‬ ‫يف اخلتام‬ ‫ال يسع القارئ لسطور تقاطع نيران إال أن يشعر باألسى واألمل معاً؛ األسى لما حل ببلدٍ‪ ،‬تعتبر مدنه‬ ‫ٍ‬ ‫وتشتت أصاب أهلها فأحالهم إما‬ ‫اب ودما ٍر‬ ‫كحلب ودمشق من أقدم المدن المأهولة في العالم‪ ،‬من خر ٍ‬ ‫الجئين أو نازحين أو محاصرين ينتظرون لقم ًة تقيهم خطر الموت جوعاً‪ ،‬أو شربة ما ٍء تروي ظماً قد يطول‪.‬‬ ‫بشباب كرسوا‬ ‫وعلى الطرف المقابل يبرز األمل فارساً على صهوة حصانٍ أسود صعب الترويض؛ متمث ًال‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫معنويات لم تكن تعني لهم الكثير قب ًال‪ ،‬وجاءت انتفاضتهم لتقلب‬ ‫أنفسهم وخاطروا بأرواحهم في سبيل‬ ‫معايير أولوياتهم؛ فنراهم منخرطين في تنسيقيات قد تودي بهم إلى ٍ‬ ‫موت أسود داخل سجون االستبداد‪:‬‬ ‫هذا الشباب الذي أقام أفراحاً مبكرة لالحتفال بحري ٍة طالت سرقتها‪.‬‬

‫‪63‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حمد إقبال‪:‬‬ ‫ُم ّ‬

‫خالد محمد عبده❊‬

‫نحو ِسريةٍ‬ ‫صوفية‬ ‫ّ‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫‘الصويف’ الذي نقد‬ ‫يلقي الباحث يف هذه الدراسة الضوء عىل سرية وكتابات محمد إقبال ّ‬ ‫ال ّتصوف‪ ،‬وأعاد بناءه من خالل سرية حياته‪ ،‬ومتثّله ملعاين الصوفية‪ ،‬وتنزيلها عىل واقعه‪،‬‬ ‫ومحاولة استنطاق الصوفية القدامى من خالله هو‪ .‬كثرية هي الكتابات عن إقبال باعتباره‬ ‫فيلسوفًا أو رائدً ا من ر ّواد الوعي يف العرص الحديث‪ ،‬أو مجددًا‪ ،‬أو سلف ًّيا حديثًا‪ ،‬أو تقدّ م ًّيا أو‬ ‫رجع ًيا‪ ،‬لكننا ال نظفر بكتابة عربية حول إقبال ‘الصويف’ الذي اتخذ من جالل الدّ ين الرومي‬ ‫هاديًا ومرشدً ا وإماماً له‪ ،‬يف نظم الشّ عر‪ ،‬أو يف نقد أهل الصورة من علامء الكالم أو الفالسفة‬ ‫أو الفقه‪ ،‬الذين ال يهتمون من العلم سوى بقشوره تاركني اللباب‪ ،‬متغافلني اإلنسان املقصود‬ ‫بكافة هذه العلوم واألفكار‪ .‬تحاول الدراسة أن تبني سرية حياة إقبال ساعي ًة إىل إبراز نشأته‬ ‫الصوفية‪ ،‬وأصوله التي اعتمد عليها‪ ،‬وتركّز عىل عرض ومراجعة عدد من كتبه التي تضم إنتاجه‬ ‫الشعري والنرثي امل ّتصل بال ّتصوف رو ًحا ومنها ًجا‪ ،‬عىل أن تكون هذه السطور خطوة الهتامم‬ ‫أكرب مبا يتعلق برؤية إقبال للتصوف والصوفية‪ ،‬ومبا يصحح الصورة املغلوطة التي تبناها‬ ‫الجمهور الحديث عن إقبال ‘املجدد السلفي’‪.‬‬

‫❊ باحث مصري‪ ،‬حاصل على ماجستير في الفلسفة من جامعة القاهرة‪ ،‬مختص في اإلسالميات والتصوف‪ .‬صدر له كتاب عن ‘أ ّمية النبي’ في التراث‬ ‫اإلسالمي باالشتراك مع المستشرق األلماني سبيستيان غونتر‪ .‬أع ّد وحقق ثالثة كتب في أدب الجدل والدفاع بين اإلسالم والمسيحية‪ ،‬وله تحت الطبع‬ ‫كتاب عن ‘الجدل بين اإلسالم والمسيحية في القرن الثاني الهجري’‪ ،‬باالشتراك مع البرفسور ديفيد توماس ورفعت عبيد‪ .‬يكتب في المجالت والدوريات‬ ‫العلمية والجرائد مقاالت تهتم بالشأن الديني والتصوف‪.‬‬

‫‪64‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫لقد َجا َء ُ‬ ‫إقبال كرسول إ ْن مل يكن لعرصِه فلسائ ِر ال ُعصو ِر‬ ‫نيكلسون‬

‫مقدمة‬ ‫ص ّدر هرمان هسه ‪‘ Hermann Hesse‬رسالة الخلود’ (جاويد نامه) إلقبال‪ ،‬ترجمة آن ماري شيمل‬ ‫بقوله‪“ :‬ينتمي السير محمد إقبال إلى ثالثة أحياز روحية‪ ،‬وهذه األحياز الروحية الثالثة هي منابع آثاره‬ ‫العظيمة‪ ،‬وهي‪ :‬ح ّيز القارة الهندية‪ ،‬وح ّيز العالم اإلسالمي‪ ،‬وح ّيز الفكر الغربي”(((‪.‬‬ ‫هندي األصل إ ّال أنه أحسن قراءة القرآن كما ع ّلمه والده‪،‬‬ ‫ويمكننا أن نقول مع هسه إذا كان إقبال‬ ‫َّ‬ ‫سن مب ّكرة استطاع أن يفهم من رسالة القرآن ومن رحلة النبي ما يجعله يعيد بناء فلسفة وفكر قديم‪،‬‬ ‫وفي ٍّ‬ ‫وليس القرآن وحده المرجع عند إقبال‪ ،‬بل الذي قرأ القرآن قرأ الفيدانتا‪ ،‬وقرأ نصوص ال ّتص ّوف العربي‬ ‫والفارسي‪.‬‬ ‫وفي الوقت الذي ّاطلع فيه إقبال على هيجل طالع مؤلفات ابن عربي‪ ،‬وإذا كان قد قرأ برجسون‬ ‫وساجله‪ ،‬فلم يترك بساتين سنائي الغزنوي‪ ،‬وإذ بدا في حياته األولى ناق ًدا بح ّدة لكتابات حافظ الشيرازي‪،‬‬ ‫الذي رأى فيها دع ًما لوحدة الوجود وتغيي ًبا لعوام المسلمين في الهند‪ ،‬فإنه لم يجد مرش ًدا ودلي ًال في رحلة‬ ‫حياته ومعراجه وكتاباته الشعرية سوى جالل ال ّدين الرومي‪ ،‬وكتب أغلب قصائده وأشعاره بنفس أسلوب‬ ‫ال ّرومي وعلى نفس الوزن (المثنوي) حتى أنّه ُس ّمي ‘رومي هذا العصر’‪ .‬و ُك ّرم من قِبل بلدية قونيه بوسط‬ ‫تذكاري في حديقة مقام ال ّرومي‪.‬‬ ‫نصب‬ ‫ٌّ‬ ‫األناضول حيث ُأقيم له ٌ‬ ‫فمن هو مح ّمد إقبال؟ ومن أين جاء؟ وماذا ق ّدم؟ وكيف قطع خطواته على ِّ‬ ‫خط الحياة وخاض بحار‬ ‫الشعر والفلسفة والسياسة؟‬ ‫خاص مبحمد إقبال‪ ،‬أرشفت عليه آنا ماري شيمل وألربت تَايْال‪ ،‬أملانيا ‪1979‬م‪ .‬حيث ت ّم الرجوع إىل كلمة هرمان‬ ‫‪ 1‬مجلة ‘فكر وفن’‪ ،‬العدد ‪ 32‬وهو عدد ٌّ‬ ‫هسه يف أكرث من مقال من مقاالت العدد‪ ،‬ونرشت الكلمة مستقله يف بداية العدد‪.‬‬

‫‪65‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫ُولد ُمح ّمدُ إقبال في سيالكوت بالبنجاب الغربية في الثالث من ذي القعدة عام ‪1294‬هـ((( الموافق‬ ‫للتاسع من تشرين الثاني‪/‬نوفمبر عام ‪1877‬م‪ .‬وتعود أصول إقبال إلى أسرة من براهمة كشمير‪ُ ،‬عرفت‬ ‫باسم سبرو‪ ،‬وهي كلمة سنسكريتية األصل تعني الس ّباق إلى العلوم والمعارف‪ ،‬ومن هو على دراية بالقراءة‬ ‫والمدارسة‪ ،‬وكما يصف إقبال هذه العائلة‪ ،‬كانت من الذكاء والمعرفة بمكان كبير‪.‬‬ ‫والكتابة ُ‬ ‫ويخبرنا جاويد إقبال أن هذه األسرة كانت متد ّينة إلى ح ٍّد كبير‪ ،‬فكان ج ّده األعلى‪ ،‬الذي اعتنق‬ ‫اإلسالم في القرن الرابع عشر الميالدي‪ ،‬واح ًدا من مشايخ الطرق الصوفية البارزين في كشمير‪ ،‬ويصفه‬ ‫ُ‬ ‫إقبال نفسه بأنه كان أحد األولياء المرموقين في عصره (‪1470-1421‬م)‪ ،‬وبعض أسالف إقبال بالطبع أضحوا‬ ‫مبج ًال لهم‪ ،‬ولعله كان‬ ‫صوف ّيين‪ ،‬ويقال إن أحدهم أ ّلف في التص ّوف‪ ،‬وكان والد إقبال نفسه مح ًّبا للصوف ّية ّ‬ ‫من أتباع الطريقة القادرية التي عرفها إقبال منذ طفولته(((‪.‬‬ ‫يتنصل ُ‬ ‫إقبال من جذوره أو يرى أصله قبل اإلسالم معي ًبا‪ ،‬كما هو الحال عند بعض المسلمين في‬ ‫لم ّ‬ ‫إلي‪ ،‬فلن تجدوا‬ ‫أيامنا‪ ،‬بل كانت ساللته البرهمية مصدر فخر واعتزاز له‪ ،‬إذ يقول في ‘زبور عجم’‪“ :‬انظروا ّ‬ ‫هندي فانظ ْر إلى‬ ‫في الهند غيري رج ًال من ساللة البراهمةِ‪ ،‬عار ًفا بأسرار ال ّرو ِم وتبريز”(((‪ .‬ويقول‪“ :‬أنا كاف ٌر‬ ‫ٌّ‬ ‫والسال ُم‪ ،‬وعلى شفتي الصالة والسالم”‪.‬‬ ‫شوقي وذوقي‪ ،‬مل ُء قلبي الصال ُة ّ‬ ‫كان ُ‬ ‫إقبال ُي ّ‬ ‫جل والده كثي ًرا‪ ،‬ويراه مثاالً ناد ًرا لألخالق‪ ،‬زه ًدا وور ًعا وفق ًها ووع ًيا‪ ،‬ويرجع إليه السبب‬ ‫في براعته ونجاحه في التعبير عن جليل المعاني ودقيقها(((‪ .‬عاش والد إقبال زهاء مائة عا ٍم‪ ،‬وقد ق ّرت‬ ‫ع ّينه بنجاح ابنه الذي ع ّلمه كيف يقرأ القرآن ويفاد من دروس الصوفية‪ ،‬ورأى نجم إقبال في حياته في‬ ‫صعود وعلو‪.‬‬ ‫دراسته‬ ‫بدأ ُ‬ ‫إقبال دراس َته في سيالكوت‪ ،‬ثم انتقل إلى الهور‪ ،‬التي سيلقي محاضراته فيما بعد فيها‪ ،‬وتتملذ‬ ‫ُ‬ ‫إقبال على شاعر األرد ّية نواب ميرزا داغ الدهلوي‪ ،‬وأشاد به‪ ،‬لكن الفضل الكبير في إيقاد قريحته وصقله‬ ‫كان يعود إلى أستاذه المولوي السيد مير حسن‪ ،‬الذي ع ّلمه اآلداب العربية والفارسية واألردية‪ ،‬وحينما‬ ‫أرادت الحكومة فيما بعد منح إقبال رتبة ‘سير’ لم يقبل بذلك إال بعد أن يعترفوا بفضل أستاذه أ ّوالً‪ ،‬وحين‬ ‫حي‬ ‫متجدد ألستاذي!”(((‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُسئل عن مؤلفات أستاذه قال‪“ :‬أنا بنفسي مؤ ّل ٌف ٌّ‬ ‫ ‪2‬‬ ‫‪ 3‬‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪ 5‬‬

‫‪ 6‬‬

‫يحب أن يؤ ّرخ بتاريخ هجرة النبي‪ ،‬لذلك ذكرنا التاريخ عىل النحو الذي ذكره فيام بعد‪.‬‬ ‫كان مح ّمد إقبال ُّ‬ ‫راجع أحمد مع ّوض‪‘ ،‬العالمة إقبال حياته وآثاره’‪ ،‬نرشة دار الكتب املرصية‪1980 ،‬م‪ ،‬ص ص ‪.18-17‬‬ ‫النص إىل درايته وخربه بنصوص جالل الدّين ال ّرومي ِ‬ ‫وحكَمِ مرشده ال ّروحي شمس تربيزي‪.‬‬ ‫يشري إقبال أيضً ا يف هذا ّ‬ ‫كل يوم”‪ .‬راجع أحمد مع ّوض‪ ،‬العالّمة‬ ‫كل ما أنشأته من شع ٍر أو نرثٍ إىل توجيهات أيب‪ ،‬فقد ع ّودين تالوة القرآن صباح ّ‬ ‫كان إقبال يقول‪“ :‬يرجع الفضل يف ّ‬ ‫إقبال ص‪ .22‬وكانت والدة إقبال من أحب الناس إىل قلبه‪ ،‬حزن كث ًريا عىل فقدها ورثاها مبرثية طويلة عنونها بـ ‘يف ذكرى املرحومة والدايت’‪ ،‬ومنها‪“ :‬عندما‬ ‫باملوت‪ ،‬فإن بذ َر ال ّن ِ‬ ‫ِ‬ ‫بات إذا‬ ‫أصيح‪ :‬من ذا الذي يذكرين يف الدعاء يف منتصف الليايل؟!” ومام جاء يف هذه املرثي ُة “أن اإلنسا َن ال يفنى‬ ‫آيت إىل تراب مرقدك‪ُ ،‬‬ ‫ينبت من جديد يف شكل شجرة جميلة”‪ .‬راجع‪ :‬محمد حسن األعظمي‪ ،‬والصاوي شعالن‪ ،‬الحياة واملوت يف فلسفة إقبال‪ ،‬نرش حيدر آباد‬ ‫الت ِ‬ ‫اب ُ‬ ‫دُفن يف ّ‬ ‫دكن ‪1945‬م‪ ،‬ص ‪.86-84‬‬ ‫انظر أحمد مع ّوض‪ ،‬العالمة إقبال‪ ،‬ص ‪ .34‬يتذكّر املتابع لسرية موالنا جالل الدّين ال ّرومي أن شمس تربيزي مرشد ال ّرومي الروحي وسبب فتحه لعامل العشق‬

‫‪66‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫في الهور حصل إقبال على درجة الماجستير في الفلسفة عام ‪1899‬م‪ ،‬وفي هذا الوقت تتلمذ على‬ ‫يد المستشرق اإلنجليزي توماس أرنولد (‪ )Thomas Arnold 1864 - 1930‬الذي كان أستا ًذا في جامعة‬ ‫لندن آنذاك‪ ،‬والمؤرخ للدعوة في اإلسالم‪ ،‬وكان على عالقة جيدة بعلماء الهند من أمثال موالنا شبلي‬ ‫النعماني‪ ،‬وألطاف حسين حالي‪ .‬وقد حزن إقبال على مفارقة أرنولد للهند‪ ،‬وكتب في ذلك‪“ :‬لقد كانت‬ ‫ذرات قلبي على وشك أن تقترب من الشّ مس‪ ،‬وكانت زجاج ُة قلبي المكسور على وشكِ أن تكون مرآ َة‬ ‫ُ‬ ‫ونخل رغباتي كاد أن يورق‪ ،‬فآهٍ‪ ..‬لقد ُ‬ ‫كنت على وشكِ أن أصل إلى مرادي وأتح ّول تح ّوالً ال يتص ّوره‬ ‫العالم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وذهبت عنه‪ ،‬بعد أن أمطرت قلي ًال على أزهار أمنيتي‪.‬‬ ‫أحد‪ ،‬ولكن سحبت غيوم ال ّرحمة أذيالها من بستاني‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫الكليم في ذروة سيناء العلم؟! وقد وهب موج أنفاسك الحياة للعلم‪ ،‬فإنك أنت الذي أوجدت‬ ‫أين أنت أ ّيها‬ ‫ُ‬ ‫ال ّرغبة في قلوبنا للبحث عن العلم‪ ،‬فال نجد في نفوسنا شو ًقا ورغبة بعد رحيلك!”(((‪.‬‬ ‫حب العلوم‬ ‫وقد ع ّبر إقبال فيما بعد عن إصراره وعزيمته الستكمال ما بدأه وما تل ّقاه من درس ّ‬ ‫والمعارف‪ ،‬وااللتحاق بأستاذه في الخارج قائ ًال‪“ :‬إن يد الجنون سوف ّ‬ ‫تحل عقدة القضاء والقدر‪ ،‬وسوف‬ ‫أصل إليك بعد تحطيم قيود البنجاب”(((‪.‬‬ ‫اشتغل ُ‬ ‫إقبال بال ّتدريس في الهور‪ ،‬وتحدي ًدا في الكلية الشرقية‪ ،‬وفي هذه الفترة قام بترجمة وتلخيص‬ ‫وتأليف بعض الكتب التي أضحت مقررات دراسية‪ ،‬ومنها على سبيل المثال‪ :‬علم االقتصاد‪ ،‬وترجمة كتاب‬ ‫التربية الوطنية ‪ Civics‬للمستر واكر ‪ ،Walker‬وتاريخ الهند باالشتراك مع الله رام برشاد‪ ،‬ودروس في‬ ‫األوردو باالشتراك مع الحكيم أحمد شجاع‪ .‬عقب ذلك بأكثر من عام غادر إقبال الهند م ّتج ًها إلى إنجلترا‬ ‫إلكمال دراساته واالستفادة من أستاذه أرنولد‪.‬‬ ‫إقبال يف أوروبا‬ ‫ُ‬ ‫في ّ‬ ‫الطريق من الهند إلى أوروبا زار إقبال وهو ينتقل من الهند مقام الولي نظام ال ّدين أولياء‪ ،‬وأنشد‬ ‫متوس ًال بهذا الولي‪ ،‬سائ ًال‬ ‫قصيد ًة هناك وأهداها إليه‪ ،‬كان عنوانها ‘ورقة الورد’‪ّ ،‬‬ ‫توجه فيها إلى الله بالدعاء‪ّ ،‬‬ ‫(((‬

‫الواسع مل يخلف مؤلفات وراءه أو أوراق ت ُنسب إليه باستثناء مقاالت قصرية جمعها األتباع من بعده‪ ،‬إالّ أن ال ّرومي خلّد ذكراه يف شعره كله‪ ،‬وكتب ديوانًا‬ ‫كب ًريا باسمه‪ ،‬ولعل إقبال أراد أن يفعل ذلك مع من علّمه العربية والفارسية ونحو األردية بشكل صحيح مكّنه بعد ذلك من استخدام هذه اللغات للتعبري‬ ‫عن مشاعره الجياشّ ة يف أبهى صورة‪.‬‬ ‫‪ 7‬انظر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪ ،38‬وقارن‪ :‬خليل الرحامن عبد الرحامن‪‘ ،‬محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية’‪ ،‬أطروحة دكتوراه يف جامعة أم القرى مبكة‬ ‫املك ّرمة عام ‪1404‬هـ‪ ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪ 8‬آمن إقبال بذاتية اإلنسان واعتربها محور الكون كلّه‪ ،‬ورأى أن اإلنسان سوف يصل إىل مراده من خالل تنميته لها‪ ،‬إذ هو نائب الله يف األرض‪ ،‬يقول إقبال‬ ‫ٌ‬ ‫مخلوق له صفات الخالق”‪ .‬ويقول‬ ‫يف قصيدته ‘أجنحة جربيل’‪“ :‬إن يد املؤمن هي يد الله‪ ،‬ي ٌد قويّة ج ّبارة خالّقة‪ ...‬خُلقت من ط ٍني واستحالت إىل نور‪ ،‬فهو‬ ‫َ‬ ‫أساس الحياة‪،‬‬ ‫ة‬ ‫الذاتي‬ ‫أن‬ ‫مذهبه‪:‬‬ ‫وخالصة‬ ‫ويعب شعر إقبال عن فلسفته يف الذاتية‬ ‫أيضً ا‪“ :‬ق ِّو ذاتك وك ّملها بحيث تجعل اإلله يستشريك يف تقرير مصريك”‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫تتجل يف هذه الذّاتية‪ ،‬فعىل اإلنسان أن ينظر إىل فطرته ويستخرج كل ما فيها‪ ،‬وال يؤمن إقبال بوحدة‬ ‫فالله تعاىل ذاتٌ ‪ ،‬واإلنسا ُن ذاتٌ ‪ ،‬وحياة اإلنسانِ ّ‬ ‫الوجود التي تنايف الذاتية‪ .‬وإن االستقالل يف الفكر واالبتكار يبني عن الذاتية‪ ،‬والتقلي ُد يضعفها ومييتها‪ .‬وإن الشّ دائد واملح َن يف هذه الحياة تق ّوي الذاتية‪.‬‬ ‫واآلالم واللذات يك ّمل بعضها بعضً ا‪ ،‬وإن الج ّنة التي نتص ّورها يُنقص لذتها فَق ُد األمل واللذة فيها‪ .‬راجع ‘بيام مرشق’ ترجمة عبد الوهاب ع ّزام‪ ،‬كراتيش‪،‬‬ ‫‪1951‬م‪ ،‬وقارن محارضة الرشيفة دينا عبد الحميد التي ألقتها بجامعة القاهرة يف يوم ذكرى إقبال مايو ‪1959‬م‪ ،‬ص ‪.13-12‬‬ ‫‪ 9‬س ّجل ُ‬ ‫إقبال تفاصيل هذه الرحلة ضمن خطابيه إىل املولوي إنشاء الله خان‪ ،‬مدير مجلة الوطن بالهور بتاريخ ‪ 12‬أيلول‪/‬سبتمرب‪ ،‬و‪ 25‬ترشين الثاين‪/‬نوفمرب‬ ‫من عام ‪1905‬م‪.‬‬

‫‪67‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫الله أن يل ّبي رغائبه في ال ّتزود من العلم والمعارف‪ ،‬وأن يعلن ذاته‪ ،‬دون حاج ٍة إلى أحد‪ ،‬وأن ير ّده إلى‬ ‫وطنه‪ ،‬ل ُيق ّبل أقدام والديه(‪.((1‬‬ ‫ُ‬ ‫إقبال بكلية الثالوث ‪ Trinity College‬في جامعة كمبردج بمساعدة أستاذه أرنولد‪ ،‬الذي‬ ‫التحق‬ ‫س ّهل له إتمام دراسته في ميونخ‪ ،‬للحصول على درجة الدكتوراه‪ .‬وفي هذه الفترة د ّرس إقبال من المهتمين‬ ‫بال ّتصوف في كمبردج ُك ٌّل من‪ :‬ميك تيجرت‪ ،‬ونيكلسون‪ ،‬وبراون‪ .‬ولقد استفاد ُ‬ ‫إقبال منهم كثي ًرا ح ّتى أن‬ ‫األستاذ نيكلسون‪ ،‬ال ّدارس الشهير للتصوف العربي والفارسي‪ ،‬ترجم له ديوانه أسرار الذات‪ ،‬وكان سب ًبا فيما‬ ‫بعد لذيوع شهرته في أوروبا(‪.((1‬‬ ‫لم تقتصر دراسة إقبال على الفلسفة‪ ،‬بل تع ّدى اهتمامه ال ّتصوف إلى القانون‪ ،‬ولتحقيق إحدى رغائبه‬ ‫التي حالت الظروف دون تحقيقها في الهند‪ ،‬أخذ على عاتقه متابعة دروس القانون في لندن‪ ،‬وحصل على‬ ‫إجاز ٍة فيه من هناك‪ .‬كما تع ّلم الشعر والفلسفة في ألمانيا‪.‬‬ ‫كتب إقبال وهو في أوروبا يقول‪“ :‬إن األمة اإلسالمية لم تقم على أساس الوحدة الوطنية والقومية‪،‬‬ ‫أساس يختلف عن األسس المألوفة لدى العالم”‪ .‬وقد ألقى‬ ‫بل إن مهندسها‬ ‫العربي ُمح ّم ًدا قد أقامها على ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫الصحف والجرائد وقتها‪ ،‬ومنها‪‘ :‬اإلسالم وال ّتصوف’‪،‬‬ ‫إقبال ع ّدة محاضرات في لندن عن اإلسالم‪ ،‬ونُشرت في ُّ‬ ‫و‘أثر اإلسالم على الحضارة الغربية’‪ ،‬و‘اإلسالم والديمقراطية’‪ ،‬و‘اإلسالم والعقالنية’‪.‬‬ ‫وفي هذه المرحلة ازداد شغف إقبال بالفلسفة واالقتصاد والقانون والسياسة‪ ،‬ح ّتى أن نفسه خاطبته‬ ‫لكن أستاذه أرنولد لم يوافقه على ما يقول‪ ،‬وأخبره‬ ‫أن‬ ‫يقاطع نظم الشّ عر‪ ،‬وح ّدث المق ّربين منه بذلك‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أن شعره ليس خياالً مج ّر ًدا‪ ،‬بل إنه يؤ ّثر على القلوب ويثي ُر فيها الحيا َة وال ّنشاط‪ ،‬ويدعو ال ّناس إلى الكفاح‬ ‫نظم إقبال من‬ ‫والعمل‪ ،‬فال ينبغي له هجرانه‪ ،‬فامتثل إقبال لنُصح أستاذه واستمر في نظم األشعار‪ .‬وتح ّول ُ‬ ‫اللغة األرد ّية إلى الفارسية‪ ،‬إذ رأى فيها أدا ًة حسن ًة للتعبير عن المعاني الفلسفية الغامضة واألفكار الدقيقة‪،‬‬ ‫وهي أوسع انتشا ًرا من األردية في محيط البلدان اإلسالمية(‪.((1‬‬ ‫اشتغل ُ‬ ‫وتدريس الفلسفة بعد عودته من أوروبا‪ ،‬ومن أعمال إقبال في هذه الفترة‬ ‫إقبال بالمحاماة‬ ‫ِ‬ ‫(‪1910-1908‬م) التي نُشرت وهي مجموعة مقاالت‪‘ :‬اإلسال ُم كمثالٍ‬ ‫سياسي وخُ لقي’‪ ،‬و‘الجماعة اإلسالمية’‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫السياسي في اإلسالم’‪.‬‬ ‫و‘الفك ُر‬ ‫ُّ‬ ‫ف ّكر إقبال في إعداد منظومة طويلة يشرح فيها للمسلمين شخصية المسلم وذاتيته وكيانه التي‬ ‫‪ 1 0‬يذكر جاويد إقبال يف كتابه عن والده ‘النهر الخالد’ أنه كتب قصيدة وبعث بها إىل الخواجه حسن نظامي مبدينة دلهي ورجاه أن ينشدها عند رضيح‬ ‫الضيح‪ ،‬ثم اختار بيتًا من تلك املنظومة‪ ،‬فكتبه عىل باب الرضيح‪“ :‬إنك‬ ‫الخواجه نظام الدين أولياء‪ .‬فحقّق نظامي بغية إقبال‪ ،‬وأنشد املنظومة عند ّ‬ ‫باب عالٍ‪ ،‬وأمنيتي أن أتلقّى شيئًا من هذا الباب العايل‪ ،‬الذي ال يزال يوزّع الآللئ والجواهر”‪ .‬وتظه ُر الرواية اعتقاد إقبال يف بركة‬ ‫أنت معطي الهند ولك ٌ‬ ‫األولياء‪ .‬ففي سفره إىل أوروبا‪ ،‬زار إقبال مقام هذا الو ّيل وأنشد هناك منظومته ‘رجاء مسافر’ مهديًا إياه إىل صاحب املقام‪ .‬انظر ‘النهر الخالد’ كتاب عن‬ ‫حياة شاعر الرشق واإلسالم العالّمة محمد إقبال‪ ،‬ترجمة ظهور أحمد‪ ،‬نرشة املجلس األعىل للثقافة‪2005 ،‬م‪ ،‬املجلد األول ص ‪ ،177‬وص ‪.196‬‬ ‫رجال صوف ًّيا بطبعه‪ ،‬وكان إقبال يحرض محارضاته بانتظام‪ ،‬ويناقشه يف أمور التّصوف ومشكالته‪ ،‬واستمرت املراسالت بينهام بعد‬ ‫‪ 11‬كان األستاذ ميك تيجرت ً‬ ‫غي موقفه؛ ألنه كان‬ ‫قد‬ ‫كان‬ ‫إذا‬ ‫يسأله‬ ‫إقبال‬ ‫إىل‬ ‫فكتب‬ ‫ار’‪،‬‬ ‫رس‬ ‫األ‬ ‫‘لديوان‬ ‫نيكلسون‬ ‫بها‬ ‫قام‬ ‫التي‬ ‫اإلنجليزية‬ ‫الرتجمة‬ ‫قرأ‬ ‫قد‬ ‫تيجرت‬ ‫عودته من إنجلرتا‪ .‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫وقت مكثه يف أوروبا كام الحظ تيجرت متص ّوفًا وجوديًّا! وكان إقبال قد أع ّد بدوره متأث ًرا بتيجرت مقاالً عن فلسفة تيجرت‪ ،‬كام يذكر عبد الرحمن طارق‬ ‫يف ‘كلامت إقبال وترصيحاته باإلنجليزية’‪ ،‬ص ‪ .140‬انظر جاويد إقبال‪ ،‬السابق نفسه ‪.210-209/1‬‬ ‫‪ 12‬انظر ‘روائع إقبال’ للندوي‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪68‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫ينبغي أن يكون عليها في ظل هذه الصراعات الكبرى‪ ،‬فقد كانت أحداث الحرب العالمية األولى في‬ ‫بداياتها‪ ،‬وكان في ٍ‬ ‫وقت سابق قد طلب منه والده أن يكتب منظوم ًة بالفارسية على أسلوب الشاه بو علي‬ ‫قلندر‪ ،‬فوعده بذلك ُ‬ ‫إقبال‪ ،‬وبالفعل بين عامي ‪1918-1915‬م نشر إقبال منظومته الشعرية ذات الجزءين‬ ‫‘األسرار وال ّرموز’ (أسرار معرفة الذات‪ ،‬ورموز نفي ال ّذات)‪.‬‬ ‫وعلى نهج الصوفية واألولياء أ ّكد إقبال أن رسالته ومهمته في الحياة التي تح ّدث عنها في هذه‬ ‫المثنوي المعنون ‘أسرار خودى’ وله هدفه‪ ...‬ولكني‬ ‫المنظومة موحاة إليه‪ ،‬كتب يقول‪“ :‬لقد ُكتب هذا‬ ‫ُّ‬ ‫الح ّرة المحضة‪،‬‬ ‫أقسم بالله الواحد األوحد‪ ،‬الذي يسيطر على حياتي ومالي وشرفي‪ ،‬أني لم أكتبه بإرادتي ُ‬ ‫كنت مك ّل ًفا بذلك‪ .‬وإنه لمما يثير دهشتي‪ :‬لماذا ُأ ُ‬ ‫وإنما ُ‬ ‫خترت لكتاب ِة مثل هذا الموضوع؟! إن روحي لن‬ ‫َ‬ ‫تعرف ال ّدعة حتى يتم قسمه الثاني (يشير إلى‪‘ :‬رموز بيخودى’)‪ ،‬فإنني ألشعر اآلن أن ذلك هو واجبي‬ ‫شعلت بال ّنار سينائي‪ّ ،‬‬ ‫لعل موسى يظهر!”‪.‬‬ ‫الوحيد‪ .‬ولعل ذلك وحده هو الهدف الحقيقي لحياتي‪ ...‬وها قد ُأ ْ‬ ‫وقد أثارت منظومة ‘أسرار ال ّذات’ التي أعلنها إقبال كمنظوم ٍة متكاملة ردو َد أفعالٍ كبيرة في بالده‪،‬‬ ‫فمنهم من أعجبته وص ّفق له‪ ،‬ومنهم من أنكر عليه آراءه‪ ،‬وبخاصة ما تع ّلق منها بنقده للفالسفة اإللهيين‬ ‫والصوفية من أهل فارس كحافظ الشّ يرازي لسانِ الغيب وترجمان األسرار‪ .‬فاألخير كان معرو ًفا‬ ‫كأفالطون‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫في البالد‪ ،‬وكانت أشعاره وأقواله تُقرأ وتُحفظ وتُردد على نطاقٍ واسع‪ ،‬و ُينظر إليه بكل تبجيل واحترا ٍم‬ ‫وإجالل‪ ،‬وقد جاء في المنظومة‪“ :‬إن أفالطون الذي أ ّثرت آراؤه في المسلمين وتصوفهم كان على الطريقة‬ ‫ً‬ ‫الصهباء فإن في كأسه ُس ّم الفناء!”‪.‬‬ ‫الغنمية!”‪ ،‬ويقول‪“ :‬احذر‬ ‫حافظا أسير ّ‬ ‫استمرت ردو ُد األفعالِ تجاه أشعار إقبال مدة ثالث سنوات‪ ،‬وكان من أكثر المعارضين ذك ًرا في هذه‬ ‫ْ‬ ‫الصوفية بالهند‪ ،‬والشاعر أكبر إله آبادي‪ ،‬والشيخ نور محمد‬ ‫الواقعة حسن النظامي‪ ،‬األمين العام لمؤتمر ّ‬ ‫والد إقبال‪ .‬وبناء على توجيه والده حذف إقبال مقدمة المنظومة ونقده لحافظ الشيرازي من الطبعة‬ ‫ً‬ ‫الثانية لها‪ .‬لكنه كما توضّ ح إحدى رسائله التي كتبها إلى حسن النظامي ّ‬ ‫محافظا على رأيه في حافظ‬ ‫ظل‬ ‫الشيرازي‪ ،‬وال ّتصوف الفارسي‪ ،‬وأشكال التصوف المعاصرة في الهند‪.‬‬ ‫يقول إقبال‪“ :‬إنني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى ال ّتص ّو ِف‪ ،‬وقد زادتني فلسفة أوروبا نزو ًعا إليه‪ ،‬فإن‬ ‫ولكن تد ّبر القرآن الكريم ومطالعة تاريخ اإلسالم‪ ،‬قد‬ ‫تتوجه إلى وحدة الوجود‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فلسفة أوروبا جملتها ّ‬ ‫أشعرني بغلطي‪ ،‬ومن أجل تعاليم القرآن عدلت عن أفكاري السابقة‪ ...‬إن ال ّرهبانية ظهرت في ّ‬ ‫كل أمة‬ ‫وعملت إلبطال الشريعة والقانون‪ .‬واإلسالم في حقيقته هو دعوة استنكار هذه الرهبانية(‪ ...((1‬وال ّتصوف‬ ‫الذي ظهر بين المسلمين –أعني ال ّتصوف اإليراني‪ ((1(-‬أخذ من رهبانية ّ‬ ‫كل أ ّمة وجهد أن يجذب إليه‬ ‫مجاال لقراءة اآلية بصورة مختلفة عىل النحو التايل‪( :‬ث ُ َّم قَ َّف ْي َنا َع َل‬ ‫‪ 1 3‬اعتمد إقبال وغريه يف ذ ّم الرهبانية عىل القرآن‪ ،‬وتحديدا ً آية سورة الحديد‪ .‬لكن هناك ً‬ ‫ُوب ال َِّذي َن ات َّ َب ُعو ُه َرأْفَ ًة َو َر ْح َم ًة َو َرهْـــــ َبانِ َّي ًة ابْتَ َد ُعوهَا‪َ ،‬ما كَتَ ْب َناهَا َعلَ ْي ِه ْم‪َّ ،‬إل ابْ ِتغَاء‬ ‫يس ابْنِ َم ْريَ َم َوآت َ ْي َنا ُه الْ ِنج َ‬ ‫ِيل‪َ ،‬و َج َعلْ َنا ِف قُل ِ‬ ‫آث َا ِر ِهم ِب ُر ُسلِ َنا‪َ ،‬وقَ َّف ْي َنا ِب ِع َ‬ ‫رِضْ َوانِ اللَّ ِه‪ ،‬ف َ​َم َر َعــ ْوهَا َح َّق ِر َعايَ ِت َها‪ ،‬فَآت َ ْي َنا ال َِّذي َن آ َم ُنوا ِم ْن ُه ْم أَ ْج َر ُه ْم َوكَ ِث ٌري ِّم ْن ُه ْم ف َِاسقُونَ)‪[ .‬سورة الحديد‪ ]27:‬مدح القرآن هنا الرهبانية ومل يذّمها كام‬ ‫حق رعايتها؛ الحظ أن الرتاث اإلسالمي مل يتح ّرج من إطالق وصف ‘الراهب’ عىل أحد الصحابة الكبار كـ‬ ‫هو شائع‪ ،‬ولكن الذّم ملن مل يرع هذه الرهبانية ّ‬ ‫أويس القرين‪ ،‬فكام يُورد الحاكم يف مستدركه “أويس راهب هذه األمة”‪ ،‬وأبو بكر املخزومي وكان يقال له ‘راهب قريش’‪ .‬ملزيد من التفصيل راجع‪ :‬عبد‬ ‫ال ّرحمن بدوي‪‘ ،‬تاريخ التّصوف اإلسالمي’‪،‬ما يُتسب إىل النبي من حديث عن ال ّرهبان والرهبانية‪ ،‬ص ‪.114-104‬‬ ‫ويؤصل إقبال التّصوف يف القرآن كام يفعل الصوفية أنصار املصدر‬ ‫‪ 14‬يظهر أثر االسترشاق هنا يف كالم إقبال‪ ،‬كام يشري حسن حنفي‪ ،‬وتظهر الشعوبية‪ّ ،‬‬ ‫اإلسالمي للتّص ّوف‪ .‬راجع‪‘ :‬محمد إقبال‪ ،‬فيلسوف الذّاتية’‪ ،‬دار املدار اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪2009 ،‬م‪ ،‬ص ‪.466‬‬

‫‪69‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫َّ‬ ‫كل نحلة‪ ...‬ليست عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن‪ ،‬فإن القرآن يب ّين المغايرة ال ّتامة بين الخالق‬ ‫والمخلوق”(‪.((1‬‬ ‫إقبال بعد نشره لألسرار وال ّرموز ‘خضر راه’ (خضر ّ‬ ‫ُ‬ ‫الطريق) وألقى هذه المنظومة في عام‬ ‫نظم‬ ‫‪1922‬م‪ ،‬وتالها بمنظومة أخرى عنونها بـ ‘ظهور اإلسالم’‪ ،‬وألقاها كذلك في حفل جمعية ‘حماية اإلسالم’‬ ‫رخيصا‪ ،‬كما يقول إقبال‪ ،‬فتح ّول إقبال‬ ‫في الفترة التي سقطت فيها الخالفة العثمانية وصار دم المسلم‬ ‫ً‬ ‫فجر األنها ُر‬ ‫من الشاعر الرقيق إلى ‘الداعية المجاهد’ الذي يقول الحقائق‬ ‫ّ‬ ‫وتشب من حماسته النيران‪ ،‬و ُي ّ‬ ‫(‪((1‬‬ ‫بإيمانه وعزمه‪ ،‬ويتك ّهن بسطوع شمس اإلسالم وصدارته من جديد ‪.‬‬ ‫ألقى ُ‬ ‫القت اهتما ًما كبي ًرا من الجماهير‬ ‫إقبال عدة محاضرات عن اإلسالم في أماكن عدة في الهند‪ْ ،‬‬ ‫على اختالف طوائفهم وأديانهم‪ ،‬حتى قال أحد األساتذة الهنادك في إحدى الحفالت‪“ :‬إذا فاخر المسلمون‬ ‫بأن إقباالً‬ ‫مسلم‪ ،‬فإننا نفخر بأنه هندي”‪ .‬وتلك المحاضرات التي ألقاها إقبال هي التي جمعها فيما بعد‬ ‫ٌ‬ ‫ونشرها في كتابه ‘إعادة بناء التفكير الديني في اإلسالم’ عام ‪1930‬م(‪.((1‬‬ ‫وبين عامي ‪ 1932-1931‬حضر إقبال مؤتمري المائدة المستديرة الثاني والثالث‪ ،‬المنعقدين في لندن‪،‬‬ ‫وقام بزيارته إلى إيطاليا ومصر وفلسطين وفرنسا وإسبانيا‪ ،‬وفي هذا الوقت ألقى بعض المحاضرات وكتب‬ ‫ٍ‬ ‫بشخصيات بارزة في هذه البالد كشيخ األزهر في مصر وموسوليني‪ ،‬وبرجسون(‪ .((1‬وحينما‬ ‫األشعار‪ ،‬والتقى‬ ‫عاد إلى الهند تل ّقى دعو ًة لزيارة أفغانستان‪ ،‬ول ّبى دعو َة نادر شاه ملك أفغانستان‪ ،‬وفي رحلته هذه تأ ّثر‬ ‫كثي ًرا بحفاوة القلوب وكرم النفوس‪ ،‬ونظم من أثر هذه الزيارة أشعا ًرا كثيرة منها‪ :‬منظومة ‘مسافر’‪ ،‬وقصيدة‬ ‫‘في ذكرى غزنين’‪ .‬وفي رحلته هذه زار مقام الحكيم سنائي (ت ‪545‬ه) األب ال ّروحي لموالنا جالل ال ّدين‬ ‫الرومي‪ ،‬وصاحب ‘حديقة الحقيقة’‪ ،‬وكذلك قام ُ‬ ‫إقبال بزيارة مقام الشاعر الصوفي محمود الغزنوي إذ كان‬ ‫إقبال يحافظ على هذه الزيارات لمراقد الصوفية واألولياء‪ ،‬ففي سرهند بالبنجاب‪ّ ،‬‬ ‫محل مجدد األمة في‬ ‫‪ 15‬‬

‫‪ 16‬‬

‫‪1 7‬‬ ‫‪ 18‬‬

‫نص الرسالة عند عبد الوهّاب ع ّزام يف ‘محمد إقبال‪ ،‬سريته وفلسفته وشعره’ القاهرة‪1953 ،‬م‪ ،‬ص ‪ .103-101‬وجدير بالذّكر أن إقبال مل يكن يكابر‬ ‫راجع ّ‬ ‫الحق‪ ،‬وال يستكرب‪ ،‬بل يتفكّر ويتدبّر إىل أن يقتنع بحجة يف يده‪ ،‬ومتى ما سكنت نفسه وارتىض ما وصل إليه عدّل رأيه‪ .‬فعىل سبيل املثال نراه قد سفّه‬ ‫يف ّ‬ ‫الحق” شعا ًرا هاديًا للفرد واألمة‪ ،‬ويف‬ ‫الحالّج وف ّند بعض كلامته من قبل‪ ،‬وملا تفطّن إىل جلية األمر‪ ،‬م ّجد الحالّج متجيدًا‪ ،‬بل اتخذ من قولته الشهرية‪“ :‬أنا ّ‬ ‫الهندي غالب وقرة العني البابية من األرواح الجليلة التي رغبت عن الج ّنة‪ ،‬وفضّ لت أن تجول‬ ‫‘جاويد نامه’ رحلته املعراجية اعترب إقبال الحال َّج والشّ اع َر‬ ‫ّ‬ ‫إىل األبد‪ ،‬وهم ظاهرة ص ّحية يف اإلسالم!‬ ‫لعل الكتابة عن إقبال عىل هذه الصورة كانت بداية تشكيل للصورة السلفية إلقبال‪ ،‬فهو بهذه الصورة مذكو ٌر حتى اآلن يف وسط ديني يرى يف إقبال‬ ‫ٍ‬ ‫كمنتقد‬ ‫لفي) املستمسك بالعروة الوثقى‪ ،‬السائر عىل خطى ابن تيمية‪ ،‬قارن‪ :‬الندوي‪‘ ،‬روائع إقبال’‪ ،‬ص ‪ .29‬ويدعم هذه الصورة ظهور إقبال‬ ‫ّ‬ ‫(الس ّ‬ ‫للتّصوف الذي أخّر املسلمني‪ ،‬وهنا تتم قراءة إقبال حسب معتقد بعينه‪ ،‬كمثل قراءة محمد إسامعيل الندوي لـ ‘التّصوف يف شعر إقبال’‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫مقال قص ٌري‬ ‫نرشه يف مجلة منرب اإلسالم‪ ،‬السنة الثالثة والعرشون‪ ،‬ذو القعدة ‪1385‬هـ‪ -‬العدد‪ ،11‬إذ تحدث عن التصوف يف شعر إقبال كغرض ت ّم انتقاده فحسب من‬ ‫خالل رسالة بعث بها إقبال إىل أحد أصدقائه عام ‪ 1916‬تحدّث فيها عن تحريف مظاهر اإلسالم وتشويه شعائره الدينية عىل يد الفرس‪ ،‬وتحدث عن‬ ‫األفكار اإللحادية والزنديقية يف كالم محي الدين ابن عريب‪ ،‬وغريه من الشعراء‪ ،‬ونعى عىل بعضهم تقاعسهم عن الجهاد‪ ،‬ورضاهم بالفقر والقعود وعدم‬ ‫االنتاج‪ .‬إالّ أن إقبال يف تكوينه املعريف وتربيته وإنتاجه الشعري والنرثي‪ ،‬ال ميكن أن تتلخّص نظرته للروحانيات يف املوقف الناقد فحسب‪ ،‬فقد تط ّورت‬ ‫نظرة إقبال إىل مفاهيم كثرية كان قد اعرتض عليها سابقاً‪ .‬ففي كثري من أشعاره الالحقة عىل سبيل املثال مدح الفقر‪ ،‬وإذا كان قد اعرتض عىل أهل فارس‪،‬‬ ‫ووص ابنه جاويد أن يحافظ عىل دروس الرومي‪.‬‬ ‫فقد اختار يف رحلة حياته ومعراجه أن يكون جالل الدّين الرومي مرشده وشيخه ومعلّمه‪ّ ،‬‬ ‫‘العالمة إقبال’‪،‬ص ‪.65-62‬‬ ‫راجع‪ :‬أحمد مع ّوض‪ّ ،‬‬ ‫انظر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪ .73-65‬وعبد الوهاب ع ّزام‪ ،‬محمد إقبال‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪ .65‬وخليل الرحامن‪‘ ،‬محمد إقبال وموقفه من الحضارة الغربية’‪،‬ص‬ ‫‪.87-72‬‬

‫‪70‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫وقته أحمد السرهندي(‪ ،((1‬قام إقبال بزيارة مقامه الشريف‪ ،‬وكان معه ابنه جاويد‪ ،‬الذي لم يكن وقتها قد‬ ‫تجاوز العشر سنين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫والعرب في التأريخ‪ ،‬فنظم تاريخ وفاة زوجته‬ ‫الصوفية‬ ‫استخدم‬ ‫ِ‬ ‫إقبال ‘حساب ُ‬ ‫الج ّمل’ على عادة ّ‬ ‫سردار بيكم ‪1935‬م‪1354/‬هـ ضمن مقطوع ٍة له‪ ،‬ور ّمـزه بكلمة ‘سرمه ما زاغ’ والتي تساوي قيمة حروفها‬ ‫العددية التاريخ الهجري لوفاة زوجته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫السالم عام ‪ ،1937‬وكان من أعضاء مجلسه‬ ‫كما أسس‬ ‫إقبال مرك ًزا إسالم ًّيا في الهند ُ‬ ‫وس ّمي بدار ّ‬ ‫اإلداري محمد أسد (ليوبولد فايس) صاحب كتاب ّ‬ ‫‘الطريق إلى م ّكة’‪ ،‬وأبو األعلى المودودي‪ ،‬وكان كالهما‬ ‫وقت قصي ٌر ج ًّدا وانتقل إقبال إلى الرفيق األعلى بجسده‬ ‫يقيم في مكة وقتها‪ ،‬وانتقال إلى الهند‪ ،‬وما هو إال ٌ‬ ‫قبل أن يلقاه المودودي‪.‬‬ ‫رحا ُمه ِل ًكا لن يندمل إ ّال بعد أم ٍد‬ ‫قال طاغور معل ًقا على وفاته‪“ :‬لقد تركت وفاة إقبال فرا ًغا ُيشب ُه ُج ً‬ ‫عالمي كإقبال كارثة ال تحتملها الهند‪ ...‬وإن ما أصابه شع ُر إقبال من ذيوع وانتشار‬ ‫طويل‪ ،‬إن موت شاع ٍر‬ ‫ٍّ‬ ‫(‪((2‬‬ ‫يرجع بال ريب إلى ما فيه من نورانية األدب الخالد وعظمته” ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حممـد إقبال‬ ‫آثار‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كتب ُمح ّمد إقبال في مجاالت ع ّدة‪ ،‬فلم تقتصر كتاباته على األشعار أو اإلسالميات أو ال ّتص ّوف؛ بل‬ ‫َ‬ ‫ص ّنف في االقتصاد والتربية واللغة والسياسة والقانون‪ ،‬إلى جانب مؤلفاته التي كتبها في الفلسفة اإلسالمية‬ ‫وال ّتصوف وأشعاره التي َح َو ْت مضامين ع ّدة‪ ،‬ويمكن االستفادة منها في فنون ش ّتى‪ .‬وسنعرض فيما يلي‬ ‫ألغلب الكتابات التي تتصل بالجانب الصوفي‪ ،‬لكن يمكن تلخيص كتابات إقبال على النحو التالي‪:‬‬ ‫‪ -1‬علم االقتصاد‪.‬‬ ‫‪ -2‬ترجمة كتاب ‘التربية الوطنية’‪.‬‬ ‫‪ -3‬تاريخ الهند باالشتراك مع الله رام برشاد‪.‬‬ ‫‪ -4‬دروس في األردو باالشتراك مع الحكيم أحمد شجاع‪.‬‬ ‫‪ -5‬مرآة العجم‪.‬‬ ‫‪ -6‬تط ّور الغيبيات في فارس‪.‬‬ ‫‪ -7‬أسرار خودى (أسرار الذات)‪.‬‬ ‫‪ -8‬رموز بيخودى (رموز نفي الذات)‪.‬‬ ‫السني إىل مكانته يف الهند يف أثناء‬ ‫‪ 1 9‬من املعروف أن إقبال كان يُك ّن إعجابًا شديدًا تجاه املجدد أحمد الرسهندي الذي لعب دو ًرا ها ًّما يف إعادة اإلسالم ّ‬ ‫الحكم املغويل‪ ،‬إضافة إىل كونه من مشايخ الطريقة النقشبندية‪ .‬كتب إقبال يف خطابه إىل سيد سليامن ندوي عام ‪“ :1917‬إن خواجه نقشبند‪ ،‬ومجدد‬ ‫رسهند يحتالن منزلة عالية جدًّا يف قلبي رغم أن هذه الطريقة الصوفية قد وقعت تحت التأثري الفاريس‪ ،‬وهو ما يصدق أيضً ا حتى عىل الطريقة القادرية‬ ‫تبي متاماً إعجاب إقبال باملجدد‪ ،‬وهي كلمته عن نيتشه‪“ :‬مت ّنى لو أنه عاش يف زمن‬ ‫التي‬ ‫ُ‬ ‫التحقت بها أنا نفيس كمبتدئ”‪ .‬ومث ّة مالحظة يف ‘جاويد نامه’ ّ‬ ‫األحمدي”‪ .‬راجع‪‘ :‬فكر وفن’‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.49-48‬‬ ‫‪ 20‬انظر أحمد مع ّوض‪ ،‬ص ‪ .85‬وحسني مجيب املرصي‪‘ ،‬روضة األرسار ملحمد إقبال’‪ ،‬مكتبة األنجلو‪ ،‬القاهرة ‪1977‬م‪ ،‬ص‪ ،19‬والنقل عن آربري يف ترجمته‬ ‫لجاويد نامه‪ ،‬نرشة لندن ‪ ،1966‬ص‪.11،12‬‬

‫‪71‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫‪ -9‬بيام مشرق (رسالة المشرق)‪.‬‬ ‫‪ -10‬بانك درا‪( .‬صلصلة الجرس)‪.‬‬ ‫‪ -11‬زبور عجم‪.‬‬ ‫‪ -12‬كلشن راز جديد (روضة األسرار)‪.‬‬ ‫‪ -13‬بند َكى نامه (رسالة العبودية)‪.‬‬ ‫‪ -14‬إعادة بناء الفكر الديني في اإلسالم‪.‬‬ ‫‪ -15‬جاويد نامة (رسالة الخلود)‪.‬‬ ‫‪ -16‬بال جبريل (أجنحة جبريل)‪.‬‬ ‫‪ -17‬ضرب كليم (ضرب الكليم)‪.‬‬ ‫‪ -18‬بس جه بايدكرد أى اقوام شرق (ماذا ينبغي أن نفعل يا أمم الشّ رق)‪.‬‬ ‫‪ -19‬مسافر‪.‬‬ ‫‪ -20‬ارمغان حجاز‪( .‬هدية الحجاز)‪.‬‬ ‫‪ -21‬رسائل إقبال‪.‬‬ ‫‪ -1‬تطور امليتافيزيقا يف فارس ‪Development of Metaphysics in Persia‬‬ ‫للنص كانت على يد حسين‬ ‫تُرجم العنوان بتص ّرف في النشرات العربية للكتاب‪ ،‬وأول ترجمة عربية ّ‬ ‫النص عن نسخة فرنسية‪ ،‬وهي تلك الترجمة التي قامت بها إيفا ميروفيتش‬ ‫مجيب المصري الذي نقل ّ‬ ‫ونُشرت في فرنسا عام ‪1980‬م‪ .‬فالترجم ُة الحرف ّي ُة للعنوان األصلي الذي وضعه إقبال ‘تطور الميتافيزيقا‬ ‫ترج َمه إلى ‘ما وراء الطبيعة في إيران’ ونشره في مصر عام ‪1986‬م‪.‬‬ ‫في فارس’‪ ،‬إال أن األستاذ المصري َ‬ ‫وقد أعاد الترجمة بتص ّرف في عنوانه‪ ،‬وإن كانت ترجمة الكتاب أ ّدق وأفضل من ترجمة األستاذ المصري‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫كل من األستاذين حسن الشافعي المتخصص في الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬واألستاذ محمد السعيد جمال الدين‬ ‫المتخصص في األدب الفارسي‪ ،‬والذي أنجز من قبل أطروحة الدكتوراه في دراسة وترجمة كتاب ‘جاويد‬ ‫إسهام في تاريخ الفلسفة‬ ‫نامه’ لمحمد إقبال‪ .‬وترجما الكتاب بعنوان‪‘ :‬تطور الفكر الفلسفي في إيران‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫اإلسالمية’‪ ،‬ونُشر الكتاب في الدار الفنية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة ‪1989‬م‪.‬‬ ‫والكتاب في أصله عبار ٌة عن الرسالة التي حصل بها إقبال على الدكتوراه من جامعة مينشن(‪ ((2‬عام‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪ ،1908‬وقد ق ّدمها باللغة اإلنجليزية ونُشر ألول مرة في لندن في العام نفسه‪ ،‬ثم طبع عدة مرات في الهور‬ ‫وتُرجم إلى لغات عدة‪.‬‬ ‫يتضمن الكتاب حدي ًثا عن الثنو ّية الفارسية‪ ،‬ليب ّين إقبال أثر الفكر الفلسفي اإليراني قبل اإلسالم على‬ ‫الفكر الفلسفي بعده‪ ،‬وفي الفكر الفلسفي في اإلسالم‪ .‬حيث يتحدث إقبال عن المشّ ائين الفرس المتأثرون‬ ‫باألفلوطينية المحدثة‪ ،‬ويتحدث عن المذهب العقلي في اإلسالم وانهياره‪ ،‬والصراع بين الواقعية والمثالية‪،‬‬ ‫‪ 21‬يذكر أحمد معوض ص ‪ 229‬اسم الجامعة عىل هذا النحو‪ ،‬ويكرره حسن حنفي أيضا ص‪ ،461‬يف حني يذكر املرصي يف ترجمته للكتاب أنها جامعة ميونيخ‬ ‫ص‪ ،5‬ويذكر األستاذان الشافعي وجامل الدين يف ترجمتهام للكتاب أن الجامعة التي تقدم إليها إقبال جامعة لودفيغ ماكسميليا‪ ،‬ص ‪.6‬‬

‫‪72‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫ثم التصوف‪ ،‬مفن ًدا أقوال أهل االستشراق فيه‪ ،‬متح ّدثا عن نشأة التصوف وأصله‪ ،‬ثم الفكر اإليراني في‬ ‫العصر الحديث‪ ،‬ثم خاتمة الكتاب‪.‬‬ ‫ويمكن اعتبار كتاب إقبال هذا أول عرض مكتمل لتطور الفكر الفلسفي في إيران‪ ،‬ويالحظ ٌّ‬ ‫كل‬ ‫من شريف في مقدمته لنشرة الهور‪ ،‬وحسن الشافعي في مقدمة ترجمته للكتاب‪ ،‬وحسن حنفي تأثر‬ ‫إقبال بآراء االستشراق في التراث اإلسالمي‪ ،‬ويرصد حسن حنفي هذا التأثر في عرضه النقدي للكتاب في‬ ‫‘فيلسوف الذاتية‘(‪.((2‬‬ ‫‪ -2‬أسرار خودى (أسرار الذات)‬ ‫وهو أول أشعار إقبال الفارسية من ضرب المثنوي‪ ،‬نُشر في الهور عام ‪1915‬م‪ .‬وقد تض ّمنت هذه‬ ‫وجه فيها انتقادات بشكل خاص للشاعر‬ ‫الطبعة مقدمة نقدية للتصوف الفارسي‪ ،‬وفكرة وحدة الوجود‪ ،‬كما ّ‬ ‫حافظ الشيرازي‪ .‬وفي هذا الديوان يتح ّدث إقبال عن إرادة الذات وتقويتها وتربيتها حتى تتحرر من قيودها؛‬ ‫موضحا المراحل التي ينبغي أن تم ّر النفس بها حتى تصل إلى ذروة‬ ‫ُمدي ًنا ما ُيسمى بتدمير الذات وإفنائها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كمالها‪ ،‬ومن ثم يتحقق للعارف نياب ًة عن الله في أرضه‪ ،‬مستعي ًنا ببعض أحداث السيرة النبوية والقصص‬ ‫والحكايات التي تساعده على توضيح فكرته‪.‬‬ ‫استفاد إقبال كثي ًرا في منظومته من دروس موالنا جالل الدين الرومي‪ ،‬والمطالع للديوان يرى أثر‬ ‫واضحا فيه‪ .‬إذ يذكر إقبال في مقدمة ‘األسرار’ إن جالل الدين الرومي هو الذي أيقظه ون ّبهه‬ ‫المثنوي‬ ‫ً‬ ‫ودعاه أن يسلك هذا السبيل‪ ،‬ويقصد هذا القصد ويشيع في الناس بيانه‪ ،‬ويبلغهم رسالته وهو يعترف‬ ‫وقص فيها أحداث معراجه‬ ‫لجالل الدين الرومي باإلمامة في كثير من أشعاره‪ .‬وكما نظم إقبال ‘جاويد نامه’ ّ‬ ‫جعل جالل الدين بمثابة جبريل له(‪.((2‬‬ ‫تُرجمت هذه المنظومة إلى ٍ‬ ‫لغات ع ّدة‪ ،‬كان أولها عام ‪1945‬م ترجمة نيكلسون المستشرق اإلنجليزي‪،‬‬ ‫وخصص الشطر األكبر منها لدراسة الرومي وتحقيق أعماله‬ ‫الذي قضى حياته ك ّلها في درس التصوف‪ّ ،‬‬ ‫مهتما‬ ‫وترجمتها إلى اإلنجليزية‪ .‬ثم نشر مالحظات عن ‘أسرار خودى’ آرثر أربري الذي كان هو اآلخر‬ ‫ًّ‬ ‫ري‪ .‬كما ترجمها إلى العربية األستاذ عبد الوهاب عزام هي والرموز‬ ‫بالدرس الصوفي‪ ،‬وحقق أعمال الن ّف ّ‬ ‫(‪((2‬‬ ‫ونشرها في القاهرة بعنوان ‘األسرار والرموز’ عام ‪1956‬م ‪.‬‬ ‫‪ -3‬رموز بيخودي (رموز نفي الذات)‬ ‫في منظومته األولى تناول إقبال الذات وتربيتها‪ ،‬وصلة الفرد بالمجتمع اإلنساني‪ ،‬وفي هذه المنظومة‬ ‫‪ 2 2‬راجع ص ‪481 - 461‬‬ ‫حبال‬ ‫القطب الرومي املرشد وصاحب الضمري الصايف‪ ،‬هو أمري قافلة العشق السكران‪ ،‬عال مقامه القمر والشمس‪ ،‬يجعل من نهر املجرة ً‬ ‫‪ 23‬يقول إقبال‪“ :‬إن‬ ‫َ‬ ‫لخيمته‪ ،‬لقد استقر نو ُر القرآن يف صميم صدره‪ ،‬فغدا جام جمشيد خجالً أمام مرآته‪ّ ،‬أن ملو ٍج يقيم منزله يف لجة بحره‪ ،‬أنا ذاك الذي أوايل السكرة بعد‬ ‫نص‪“ :‬إن الذي أرضم بنار شعلته هشيم قلبي هو املرشد الرومي‪ ،‬القائل منزلنا كربياؤنا”‪.‬‬ ‫السكرة من صهبائه”‪ .‬ويقول يف ٍّ‬ ‫‪ 24‬انظر عرضاً تفصيلياً ألرسار خودي يف ‘إقبال سريته وفلسفته’ لعزام‪ ،‬ص ‪.103-101‬‬

‫‪73‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫تح ّدث إقبال عن المجتمع ونظامه وكماله وتنشئة الفرد‪ ،‬ورأى أن كمال التربية بالنبوة‪ ،‬ثم تحدث عن أركان‬ ‫األمة اإلسالمية‪ ،‬واستطرد في بيان ال ّتوحيد‪ ،‬ومقصد الرسالة اإلسالمية‪ ،‬وتسخير قوى العالم‪ ،‬ثم كتب خطا ًبا‬ ‫للمرأة المسلمة‪ ،‬وناجى النبي الذي ُب َ‬ ‫ٍ‬ ‫وجه نق ًدا‬ ‫عث رحم ًة للعالمين‪ .‬وإذا كان إقبال في‬ ‫كتابات أخرى ّ‬ ‫للصوفية والتفاسير اإلشارية‪ ،‬فإنه في هذه المنظومة ق ّدم ما يمكن اعتباره تفسي ًرا صوف ًّيا لسورة اإلخالص‪.‬‬ ‫يقول إقبال عن هذه المنظومة‪“ :‬إن القسم الثاني من المثنوي ‘رموز بيخودى’ يكاد يكون تا ًّما إال‬ ‫علي أن أسجله‬ ‫أنني أفكر في قسم ثالث‪ .‬وإن ذهني لتفيض فيه اآلراء أدب ًّيا وهناك الكثير جداً مما ينبغي ّ‬ ‫بحيث أشعر بأني في مأزق‪ .‬وسوف يكون موضوع هذا القسم هو الوجود المستقبلي لإلسالم أي أنه سوف‬ ‫يبرز الضوء الذي يلقيه القرآن على تاريخ المسلمين في المستقبل والتقلبات المؤثرة في القرون التالية‬ ‫التي سوف تقع في المجتمع اإلسالمي”(‪.((2‬‬ ‫تُرجمت أيضا هذه المنظومة إلى العديد من اللغات‪ ،‬فترجمها آرثر اربري تحت عنوان ‪The‬‬ ‫‪ Mysteries of Selflessness‬ونُشرت في لندن عام ‪1952‬م‪ .‬وقد ذكرنا قبل قليل ترجمة األستاذ عبد الوهاب‬ ‫عزام لها إلى العربية ونشرها عام ‪.1956‬‬ ‫‪ -4‬بيان مشرق (رسالة املشرق)‬ ‫يقول إقبال عن هذا الديوان‪“ :‬ليس بي حاجة إلى أن أقول شيئًا عن ‘بيان مشرق’ الذي يظهر بعد‬ ‫مائة سنة من ‘الديوان الشرقي الغربي’ لجوته‪ ،‬وعلى ما سيرى الق ّراء بأنفسهم‪ ،‬فإن الهدف الرئيسي منها هو‬ ‫يمس التلقين الداخلي لألفراد واألمم”‪ .‬ثم تح ّدث إقبال‬ ‫عرض ذلك الواقع األخالقي والديني والقومي الذي ُّ‬ ‫في مقدمته عن األثر الشرقي في آداب األلمان‪ ،‬مستعرضً ا بعض التراجم لنصوص حافظ الشيرازي وسعدي‬ ‫والعطار والفردوسي‪.‬‬ ‫الوهاب ع ّزام‪ ،‬وكانت ترجمته أول ترجمة للديوان كام ًال‬ ‫تُرجم هذا الديوان إلى العربية على ي ّد عبد ّ‬ ‫في ّأي اللغات عام ‪1951‬م ونُشر في كراتشي‪ ،‬ثم تُرجم للعربية مر ًة أخرى‪ُ ،‬‬ ‫وطبع في نفس المكان على يد‬ ‫مسعود عالم ندوي‪ .‬وفي عام ‪ 1956‬صدرت في باريس الترجمة الفرنسية‪ ،‬وقامت بها ُصحبة محمد أشنا‬ ‫السيدة إيفا ميروفيتش التي قضت شط ًرا كبي ًرا من حياتها في دراسة موالنا جالل الدين الرومي وترجمة‬ ‫أعمالها إلى الفرنسية‪ ،‬وكان سب ًبا في إسالمها وعشقها للتصوف و ُدفنت بالجوار المبارك في قونيه‪ .‬كذلك‬ ‫تُرجم الديوان إلى األلمانية ونُشر في فيزبادن عام ‪ ،1963‬على يد عاشقة اإلسالم وال ّتصوف آنّا ماري شيمل‪،‬‬ ‫التي كتبت فيما بعد عن إقبال كتابات مستقلة وحاضرت عنه في بلدان عدة‪ .‬وكما ترجم آربري له من قبل‬ ‫‘رموز نفي الذات’‪ ،‬ترجم له قس ًما من الديوان ‘شقائق الطور’‪ ،‬وهي رباع ّيات‪ ،‬ونشرها في لندن ‪1947‬م‪.‬‬ ‫ويشتمل ديوان إقبال هذا على األقسام التالية‪:‬‬ ‫• شقائق الطور‪.‬‬ ‫• األفكار‪ ،‬وهي إحدى وخمسون قصيدة‪.‬‬ ‫نقال عن أحمد معوض ص‪.24‬‬ ‫‪ 25‬من رسالة إىل موالنا كرامي املؤرخة يف أول متوز‪/‬يوليو ‪ً 1917‬‬

‫‪74‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫• ‬ ‫• ‬ ‫• ‬

‫الخمر الباقية‪ ،‬وهي قصائد صوفية رمزية من الضرب الذي ُيسمى في اصطالح األدب الفارسي‬ ‫خمس وأربعون‪.‬‬ ‫غزالً‪ ،‬وعدد الغزليات في هذا القسم‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫نقش الفرنج‪ ،‬وهي أربع وعشرون قصيدة‪ ،‬يذكر فيها إقبال بعض شعراء أوروبا وفالسفتها وينقد‬ ‫مذاهبهم وآراءهم‪.‬‬ ‫قطع متفرقات وأبيات ألحقها بالديوان‪.‬‬ ‫الدقائق‪ ،‬وهي ٌ‬

‫‪ -5‬بانك درا (صلصلة اجلرس)‬ ‫ويضم هذا ال ّديوان مجموع ًة مختار ًة من أشعار إقبال األردية‪ ،‬وتمثّل المجموعة ثالث مراحل مبكرة‬ ‫قسمه إقبال عدة أقسام‪ .‬في القسم‬ ‫من إنتاجه الشعري‪ .‬نُشر هذا الديوان للمرة األولى عام ‪1924‬م‪ ،‬وقد ّ‬ ‫األول أشعاره األولى حتى سفره إلى أوروبا عام ‪ ،1905‬ويحتوي على قصائد قومية ووطنية وأخرى إسالمية‬ ‫وإنسانية‪ .‬والقسم الثاني من عام ‪ 1905‬إلى عام ‪ ،1908‬وهذا القسم جدي ٌر بالعناية للباحث في فكر إقبال‪،‬‬ ‫إذ يعكس معارفه ومناقشاته ورؤيته هناك‪ .‬أما القسم الثالث فمن عام ‪ 1908‬إلى عام ‪ ،1924‬وهو العام‬ ‫الذي نُشر فيه الكتاب ثم ُطبع من بعده أكثر من أربعين مرة‪.‬‬ ‫وقد تض ّمن هذا الديوان قصيدة ‘شكوى’ و‘جواب شكوى’‪ ،‬والتي ترجمها إلى العربية الصاوي شعالن‬ ‫الصاوي في القاهرة‪ ،‬مع منظومات‬ ‫بعنوان‪‘ :‬حديث الروح’ وغنتها السيدة أم كلثوم‪ .‬وقد ُطبعت ترجمة ّ‬ ‫أخرى(‪ ((2‬من هذا الديوان‪ ،‬وض ّمنها كتابه ‘إيوان إقبال’‪ .‬كما تضمن هذا الديوان قصيدته الطويلة عن ‘الخضر‬ ‫والطريق’ والقصيدة التي رثى بها أمه‪.‬‬ ‫وإذا كان هذا الديوان قد نال شهر ًة واسع ًة في باكستان وخارجها‪ ،‬إال أنه لم يترجم كام ًال في اللغة‬ ‫العربية إال مؤخ ًرا على يد جالل السعيد الحفناوي‪ ،‬ونشره المجلس األعلى للثقافة في مصر عام ‪2003‬م‪.‬‬ ‫‪ -6‬زبور العجم‬ ‫ص ّدر إقبال هذا الديوان بقوله‪“ :‬إن عيني قد تحجبها شعرة حي ًنا وقد ترى العالمين حي ًنا‪ .‬إن وادي‬ ‫العشق سحيق وطويل‪ ،‬ولكن طريق مئة سنة تُطوى بآه ٍة واحدة‪ ،‬فلتجتهد في الطلب‪ ،‬وال تترك زمام األمل‬ ‫من يدك”‪ .‬ويتكون هذا ال ّديوان من أربعة أقسام‪:‬‬ ‫ • األ ّول‪ :‬فيه دعاء وست وستون قطعة‪.‬‬ ‫• والثاني‪ :‬فيه خمس وسبعون قطعة‪.‬‬ ‫• والثالث‪ :‬كلشن راز جديد (روضة األسرار)‪.‬‬ ‫• والرابع‪ :‬بندكي نامه (رسالة العبودية)‪.‬‬ ‫‪ 26‬من هذه األشعار مقطوعات بالعناوين التالية‪ :‬صقلية‪ ،‬يا شباب اإلسالم‪ ،‬دعاء‪ ،‬ذاتية املسلم‪ ،‬خلود الشهداء‪ ،‬الشهيدة‪ ،‬حلم أم‪ ،‬تحية للشاعر الصويف‬ ‫غالب‪ ،‬املوت حقيقة‪ ،‬نعيم األشواق‪ ،‬خلود الحياة‪ ،‬مرثية إقبال يف أمه‪ ،‬عودة النور‪ .‬راجع ‘شاعر الرشق محمد إقبال’‪ ،‬مجموعة أشعار جمعها أمجد حسن‬ ‫الشقية‪.‬‬ ‫وإبراهيم محمد‪ ،‬وكالهام أستاذان من أساتذة اللغات ّ‬

‫‪75‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫تُرجم القسم الثالث إلى اللغة العربية نظ ًما بعنوان ‘روضة األسرار’‪ ،‬وشرحه وع ّلق عليه األستاذ حسين‬ ‫مجيب المصري‪ ،‬ونُشر في مكتبة األنجلو المصرية عام ‪1977‬م‪ .‬كتب إقبال هذا القسم مساج ًال به كتاباً‬ ‫الصوفية العظيمة المسماة بـ‬ ‫لصوفي أخر من أهل القرن السابع‪ ،‬وهو محمود الشبستري‪ ،‬مبدع المنظومة ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫‘كلشن راز’‪ ،‬وقد كانت هذه المنظومة سب ًبا في تخليد اسم صاحبها‪ ،‬ومن أفضل الشروحات لها شرح الشيخ‬ ‫الالهيجي‪ ،‬وكانت وفاة الشبستري عام ‪720‬هـ تقريبا(‪ .((2‬وفي منظومة إقبال الجديدة يجيب على تسعة‬ ‫ٌ‬ ‫فلسفية وصوف ّي ٌة‪ ،‬ويحل مشاكل وحدة الوجود على ضوء الفكر الحديث فالسؤال األول‬ ‫أسئلة‪ ،‬فيها دقائقٌ‬ ‫يقول فيه‪“ :‬أنا في حيرة من فكري‪ ،‬ما الشيء الذي يسمى فكراً؟ وأي فكر يد ّلنا على الطريق؟ لماذا نطيع‬ ‫الله ثم نكاد نكفر؟!”‪ ،‬أما السؤال التاسع‪“ :‬من الذي انتهى إلى سر الوحدة؟ وما الذي انتهت إليه معرفة‬ ‫العارف؟”‪.‬‬ ‫أما بندكي نامه (رسالة العبودية) فهي القسم الرابع من ديوان ‘زبور العجم’‪ ،‬وهي عبارة عن منظومة‬ ‫يحمل فيها إقبال على العبودية واإلذالل‪ ،‬ويبدأ ُ‬ ‫إقبال فيها بحديث عن العبودية وآثارها في الحياة‪ ،‬يتبعه‬ ‫َرجم هذا الكتاب إلى العربية‪،‬‬ ‫ببيانٍ للفنون الجميلة لدى العبيد‪ ،‬سواء في ذلك الموسيقى والتصوير‪ .‬وقد ت َ‬ ‫ضمن كتابه عن إقبال‪ ،‬األستاذ أحمد معوض‪ ،‬ترجم ًة نثري ًة ونشره في مصر عام ‪1980‬م‪.‬‬ ‫‪ -7‬إعادة بناء الفكر الديني يف اإلسالم‬ ‫ٌ‬ ‫مجموعة من المحاضرات التي ألقاها إقبال في مدراس وحيدر آباد وعليكره في عامي‬ ‫هذا الكتاب‬ ‫كتاب واحد عام ‪ 1930‬في ‪ 249‬صفحة‪ ،‬ثم صدرت الطبعة الثانية‬ ‫‪ 1928‬و‪1929‬م‪ ،‬وقد نُشرت في الهور في ٍ‬ ‫متض ّمن ًة بعض التعديالت‪ ،‬ومنها إضافة محاضرة‪ :‬هل الدين أم ٌر ممكن؟ و َي ْن ُشدُ إقبال بهذه المحاضرات أن‬ ‫صحيحا بوصفه رسال ًة عالمية‪ ،‬ويبرز ُ‬ ‫إقبال في هذه المحاضرات كمؤسس‬ ‫يساعد على فهم اإلسالم فه ًما‬ ‫ً‬ ‫للروحية اإلسالمية الحديثة(‪ ،((2‬إذ حاول أن يبني الفلسفة اإلسالمية بنا ًء جدي ًدا آخذاً في عين االعتبار المأثور‬ ‫من فلسفة اإلسالم‪.‬‬ ‫تُرجم الكتاب إلى اللغة الفرنسية كما تُرجم إلى العديد من اللغات كشأن كتب إقبال األخرى‪ .‬وقد‬ ‫ترجمته إلى الفرنسية السيدة إيفا ميروفيتش ونشرته في باريس عام ‪1955‬م‪ ،‬وتُرجم إلى العربية على يد‬ ‫عباس محمود‪ ،‬وجعل عنوانه ‘تجديد التفكير الديني في اإلسالم’‪ .‬وقد راجع المقدمة والفصل األول منه‬ ‫المرحوم عبد العزيز المراغي‪ُ ،‬‬ ‫وطبع في القاهرة ‪1968‬م‪ .‬وكما ع ّلق أحمد معوض على ال ّتصرف في ترجمة‬ ‫لفظ ‪ Reconstruction‬بـ ‘تجديد’‪ ،‬فيما هي تعني حرف ًّيا ‘إعادة البناء’‪ ،‬ع ّلق حسن حنفي أيضً ا(‪.((2‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر أن محمد يوسف عدس‪ ،‬قام حدي ًثا بترجمة جديدة للكتاب‪ ،‬حافظ فيها على‬ ‫عنوان الترجمة القديمة‪ ،‬وإن كان قد ط ّور الترجمة‪ ،‬وزاد فيها ترجمة الفصل السابع‪ ،‬الذي لم يكن قد‬ ‫تُرجم من الكتاب إلى العربية‪ ،‬وطبع الكتاب في سلسلة الفكر النهضوي اإلسالمي‪ ،‬التي تصدر عن مكتبة‬ ‫‪ 2 7‬راجع‪ :‬مرتىض مطهري‪‘ ،‬الكالم والعرفان’‪ ،‬نرشة الدار اإلسالمية بريوت‪1992،‬م‪ ،‬ص‪ 102،103‬وقارن ص‪ 3‬من نرشة ‘روضة األرسار’ ملحمد إقبال‪.‬‬ ‫‪ 28‬انظر‪ :‬أحمد معوض ص ‪ ،262-258‬وعبد الوهاب عزام ص ‪.167-154‬‬ ‫‪ 29‬راجع‪‘ :‬فيلسوف الذاتية’‪ ،‬ص‪483‬‬

‫‪76‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫اإلسكندرية عام ‪2011‬م‪ .‬ويشتمل الكتاب على فصول سبعة‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫• المعرفة والخبرة الدينية‬ ‫• االختبار الفلسفي للخبرة الدينية‬ ‫• مفهوم الله ومعنى الصالة‬ ‫ • الذات اإلنسانية حريتها وخلودها‬ ‫• روح الثقافة اإلسالمية‬ ‫ • مبدأ االجتهاد والحركة في اإلسالم‬ ‫• هل الدين أمر ممكن؟‬ ‫‪ -8‬جاويد نامه (رسالة اخللود)‬ ‫نظم إقبال هذا المثنوي‪ ،‬الذي ُيع ّد من أطول وأشهر منظوماته ك ّلها‪ ،‬ونشره في عام ‪1930‬م‪ .‬تُرجم‬ ‫هذا المثنوي ترجمات ع ّدة‪ ،‬نذكر منها‪ :‬ترجمة آنّا ماري شيمل إلى األلمانية والتركية‪ ،‬وقد نُشرت الترجمة‬ ‫األلمانية في مينشين عام ‪ ،1957‬في حين نشرت الترجمة التركية في أنقرة عام ‪1958‬م‪ .‬وباالشتراك مع‬ ‫محمد مقيم ترجمت إيفا ميروفيتش المنظومة ونشرتها في باريس عام ‪1962‬م‪ .‬كما ترجمها آرثر آربري إلى‬ ‫اإلنجليزية ونشرها في لندن عام ‪1966‬م‪.‬‬ ‫السماء’‬ ‫وفي عام ‪ 1973‬نشر األستاذ حسين مجيب المصري ترجمته الشعرية للمنظومة بعنوان ‘في ّ‬ ‫في القاهرة‪ .‬ثم أتى من بعده الدكتور محمد السعيد جمال الدين‪ ،‬الذي نال درجة الدكتوراه من كلية‬ ‫اآلداب جامعة عين شمس عن دراسته وترجمته لمنظومة ‘جاويد نامه’‪ ،‬ونشرها في القاهرة عام ‪.1947‬‬ ‫‘جاويد نامه’ قصة سفر في األفالك تذ ّكرنا في الشّ رق بمعراج البسطامي والقشيري وابن عربي والخرقاني‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والعطار‪ ،‬ومن قبلهم معراج النبي األكرم‪ .‬كما تذكرنا بفاوست والكوميديا اإللهية‬ ‫وغفران المع ّري‪ ،‬وسنائي‬ ‫وغيرها من روائع األدب األوروبي‪ .‬وال ّ‬ ‫شك أن إقبال تأثر بكل هؤالء وغيرهم‪ ،‬إ ّال أنه أضفى على الموضوع‬ ‫وج ّدة في كثي ٍر من األفكار التي تجعل الزماً على قارئها‪ ،‬حتى يسبر غور ما فيها من‬ ‫سح ًرا وجماالً وصد ًقا ِ‬ ‫دروس ومعانٍ ‪ ،‬أن يتز ّود بزا ٍد ليس بالقليل من األدب والتص ّوف والفلسفة والتاريخ(‪.((3‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫روح جالل ال ّدين ال ّرومي‪ ،‬الذي ي ّتخذه إقبال‬ ‫مقدمة فيها مناجا ٌة‬ ‫للقصة‬ ‫وفصول أخرى‪ ،‬إلى أن تظهر ُ‬ ‫ُ‬ ‫في هذه الرحلة مرش ًدا ودلي ًال‪ ،‬ويبدأ في شرح أسرار المعراج له‪ .‬ثم يأتي زروان‪ ،‬وهو روح ال ّزمان والمكان‪،‬‬ ‫الستة؛ القمر وعطارد وال ّزهرة والمريخ‬ ‫فيحمل الشاعر ودليله إلى العالم العلوي‪ ،‬فيسيحان في األفالك ّ‬ ‫والمشتري وزحل‪ ،‬ثم فيما وراء األفالك‪ .‬ويختم المنظومة برسالته إلى ابنه جاويد‪.‬‬ ‫اب‪ ،‬والتعالي على الما ّديات‪ ،‬لكي‬ ‫يقول إقبال في ‘جاويد نامه’‪“ :‬ما ال ّد ُ‬ ‫السمو عن وجه ال ّتر ِ‬ ‫ين؟ هو ّ‬ ‫ُ‬ ‫روح طاهر ٍة بريئ ٍة من أ ْوضَ ار المادة”‪“ .‬إن من قال هو الله ال‬ ‫يتع ّرف‬ ‫اإلنسان على ما بين جوانحه من ٍ‬ ‫‪ 30‬راجع دراسة عن ‘جاويد نامه’ كتبها األستاذ محمد السعيد جامل الدّين وض ّمنها كتابه ‘األدب املقارن‪ :‬دراسات تطبيقية يف األدبني العريب والفاريس’‪ ،‬ص‬ ‫‪ 123-57‬وراجع أيضً ا ‘جاويد نامه‪ :‬رسالة الخلود’‪ ،‬نرشة دار الرشوق الدولية‪ ،‬القاهرة ‪2007‬م‪.‬‬

‫‪77‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫الجهات‪ ،‬وال ّر ُ‬ ‫الح ُّر بمنأى عن ِّ‬ ‫ُ‬ ‫كل قيدٍ‪ ...‬إن‬ ‫الكوني ذو األبعاد‪ .‬فال ّروح ال تحتويها‬ ‫يحتويه هذا ال ّنظا ُم‬ ‫جل ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫ال ّر َ‬ ‫ُ‬ ‫والصق ُر ال يليقُ به أن يكونَ فأ ًرا”‪“ .‬إن األصالة كامنة في‬ ‫ينهض‬ ‫جل الح َّر‬ ‫صائحا من ال ّتر ِ‬ ‫اب المظلم‪ّ ،‬‬ ‫ً‬ ‫جذور ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الحي هو الخ ّال ُق للعصور‬ ‫وإصالح الحيا ِة وتقويمها ال‬ ‫كل مخلوقٍ ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يكون أب ًدا بال ّتقليد‪ ...‬إن القلب َّ‬ ‫وح حضورها بال ّتقليد”‪“ .‬من أنا؟ من أنت؟ أين العالم؟ ل َِم البعدُ بيننا وبينك؟! قل لي‬ ‫وال ّدهور‪ ،‬وتفقدُ ال ُّر ُ‬ ‫لماذا أنا في قيد القدر؟ أنت ال تموت ل َِم أموت أنا؟!”‪“ .‬إذا أردت الحياة تق ّدم بذاتيتك‪ ،‬أغرق عالم األبعاد‬ ‫في ذاتك”‪.‬‬ ‫‪ -9‬بال جربيل (جناح جربيل)‬ ‫نشر إقبال هذا ال ّديوان عام ‪1935‬م‪ُ ،‬‬ ‫وطبع من بعده أكثر من عشرين م ّرة‪ .‬ترجمته آنا ماري شيمل‬ ‫إلى اإلنجليزية‪ ،‬مع مقدمة واسعة عما ُكتب عن إقبال‪ ،‬ونُشرت الترجمة في لندن ‪1963‬م‪ ،‬وترجمه إلى‬ ‫الفرنسية نثراً ميرزا سعيد ظفر وسوزان بوساك‪ ،‬ونقله من الفرنسية إلى العربية نثراً عبد المعين الملوحي‪،‬‬ ‫ثم صاغه شعراً بالعربية زهير ظاظا‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ورباعيات قليلة‪،‬‬ ‫والديوان إحدى وستون قطعة تتناول أفكاره الشائعة في شعره في صو ٍر ش ّتى‬ ‫وقصائد أخرى نظمها في األندلس حين زار قرطبة‪ .‬ومن قصائد القسم الثالث من هذا الديوان منظومة‬ ‫خارجا من الج ّنة’ و‘محاورة طويلة بين جالل ال ّدين ال ّرومي ومريد‬ ‫‘لينين أمام الله’‪ ،‬و‘المالئكة يو ّدعون آدم ً‬ ‫هندي’‪ ،‬و‘جبريل وإبليس’‪ ،‬وقصائد أخرى كثيرة‪.‬‬ ‫‪ -10‬ضرب كليم (ضرب الكليم)‬ ‫ُطبعت هذه المجموعة الشعرية إلقبال‪ ،‬التي كتبها باللغة األردية عام ‪1936‬م‪ ،‬ونقلها األستاذ عبد‬ ‫الوهاب ع ّزام إلى العربية نظماً في عام ‪1952‬م‪ .‬ومما جاء فيه حوار بين العلم والعشق‪ ،‬يقول فيه إقبال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫قال لي العلم غرو ًرا‪ :‬إنما العشق جنون‬ ‫قال لي العشق مجي ًبا‪ :‬إنما العلم ظنين‪ ...‬ال تكن سوس كتاب يا أسيراً للظنون‬ ‫فمن العشق شهود‪ ...‬ومن العلم حجاب‪ ...‬من لهيب العشق ثارت ثورة في الكائنات‬ ‫وشهود الذات للعشق‪ ،‬وللعلم الصفات‬ ‫وممات‬ ‫ثبات وحيا ٌة‬ ‫ٌ‬ ‫ومن العشق ٌ‬ ‫علمنا سؤال جلي‪ ...‬عشقنا خافي الجواب‬ ‫العشق ٌ‬ ‫معجز ُ‬ ‫ملك زانه فق ٌر ودين‬ ‫ات‬ ‫ِ‬ ‫وعبيد العشق أدناهم له ٌ‬ ‫عرش مكين‬ ‫ومن العشق زمان ومكان ومكين‬ ‫إنما العشقُ يقين‬ ‫وبه يفتح باب‬ ‫‪78‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫ألفه المنزل في شرع من الحب حرام‬ ‫خطر البحر حالل‪ ...‬راحة السرب حرام‬ ‫خفقة البرق حالل‪ ...‬وفرة الحب حرام‬ ‫(‪((3‬‬ ‫علمنا ُ‬ ‫نسل الكتاب‪ ...‬عشقنا ُأ ّم الكتاب ‪.‬‬ ‫‪ -11‬بس جه بايد كرد اى اقوام شرق‪ ،‬ومسافر‬ ‫(ماذا ينبغي أن نفعل يا أمم الشرق‪ ،‬ومثنوي املسافر)‬ ‫هاتان منظوماتان مثنوية‪ ،‬نشر إقبال األولى منها في عام ‪1936‬م‪ ،‬وبعد ذلك نُشرت مع ‘مثنوي‬ ‫مسافر’ في مجلد واحد‪ .‬وقد نقلها األستاذ أحمد غازي إلى العربية نثراً‪ ،‬وصاغها الشيخ الصاوي شعالن شعراً‬ ‫بالعربية‪ ،‬وفي السنوات األخيرة أعاد ترجمتها إلى العربية يوسف عبد الفتاح فرج‪ ،‬ونشرها في المجلس‬ ‫األعلى للثقافة بالقاهرة عام ‪1995‬م‪.‬‬ ‫يفيض إقبال في شرح مفاهيم الفقر االختياري‪ ،‬والرجل الح ّر‪ ،‬بتفاصيل وتعليقات هامة‪ ،‬يتلوها ٌ‬ ‫عرض‬ ‫ألسرار الشريعة ويذ ّكرنا عرضه بأسرار العبادات التي كتب فيها من قبل أبو حامد الغ ّزالي في كتابه الشهير‬ ‫‘إحياء علوم ال ّدين’(‪.((3‬‬ ‫يع ّبر إقبال في منظومته عن حبه وشغفه بمرشده ال ّروحي موالنا جالل ال ّدين ال ّرومي‪ .‬وكما اتخذه‬ ‫في رحلة سابقة رائد ودلي ًال ومرش ًدا يتخذه في ‘أمم الشرق’ هادياً وينظم على لسانه األشعار‪ ،‬من مثل‪:‬‬ ‫“كن مثل إبراهيم في اإليمان‪ ...‬حتى َ‬ ‫تزيل معابد األوثان”‪ .‬ومن أشعار المنظومة‪“ :‬وإذا األبصا ُر لم تدرك‬ ‫القلب ض ّلت في ضحاها”‪ ،‬ومنها‪:‬‬ ‫هداها‪ ...‬من سراج‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫والعيش والمتع ُة في ال ّدنيا مناه‬ ‫“ ُك ٌّل يعيش في إطار نفسه‪...‬‬ ‫يخشى البلى قبل حلول رمسه‪ ...‬فاعجب ٍ‬ ‫لميت لم يزل قيد الحياة”‬ ‫يسجل إقبال انطباعاته عندما زار أضرحة األولياء‪ ،‬من مثل سنائي الغزنوي‪.‬‬ ‫وفي مثنوي (مسافر) ّ‬ ‫‪ -12‬أرمغان حجاز (هدية احلجاز)‬ ‫لم ير هذا الديوان النور إ ّال في تشرين الثاني‪/‬نوفمبر ‪ 1938‬بعد وفاة إقبال‪ .‬وترجمه إلى العربية‬ ‫سمير عبد الحميد إبراهيم ضمن رسالته للحصول على الماجستير من قسم اللغات الشرقية في جامعة‬ ‫القاهرة في عام ‪ .1971‬وإن كان األستاذ سمير قد ترجمه في هذا الوقت إ ّال أنه لم يطبع إال في عام‬ ‫‪ .1976‬وكان قد سبقه إلى النشر األستاذ حسين مجيب المصري‪ ،‬فقد ترجمه ونظمه شعراً كعادته في‬ ‫‪ 3 1‬راجع ‘رضب الكليم’‪ ،‬ترجمة ع ّزام‪ ،‬القاهرة ‪ ،1952‬ص ‪ ،12‬وترجمة جالل السعيد الحفناوي‪ ،‬املجلس األعىل للثقافة‪ ،‬القاهرة ‪ ،2004‬ص ‪ .31‬وقارن‪ :‬زاهد‬ ‫منري عامر‪‘ ،‬عالقة العشق بالتهذيب عند محمد إقبال’‪ ،‬مجلة دراسات العامل اإلسالمي‪ ،‬باكستان‪ 2 ،1 5- ،‬شباط‪/‬فرباير ‪ ،2012‬ص ‪.19 – 10‬‬ ‫‪ 32‬قارن ماجد فخري‪‘ ،‬تاريخ الفلسفة اإلسالمية منذ القرن الثامن حتّى يومنا هذا’‪ ،‬نرشة دار املرشق بريوت‪ ،‬ص ‪ .335-333‬ففي أسطر قليلة يشري األستاذ‬ ‫فخري إىل وجه شبه بني محاولة إقبال تجديد التفكري الديني‪ ،‬ومحاولة الغ ّزايل إحياء العلوم الدينية‪.‬‬

‫‪79‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫حممد إقبال‪ :‬نحو سرية صوفية‬

‫ترجمات إقبال وغيره من شعراء الصوفية كيونس إمره وغالب‪ ،‬ونشره في القاهرة عام ‪.1975‬‬ ‫ينقسم هذا ال ّديوان قسمين‪ :‬القسم األول رباعيات ومقطعات فارسية‪ ،‬منها‪‘ :‬إلى الحقِّ ’‪‘ ،‬إلى العالم’‪،‬‬ ‫‘إلى األمة’‪‘ ،‬إلى رفقاء ّ‬ ‫الصوفية الكبار في تض ّرعهم إلى الله ومناجاتهم له‪،‬‬ ‫الطريق’‪ ،‬وفيه يسلك إقبال سبيل ّ‬ ‫إلهي‪.‬‬ ‫واإلبانة عما تموج به قلوبهم من عشق ّ‬ ‫ومن أشعار هذا القسم‪:‬‬ ‫“أال يا ح ّبذا تلك الطريق‪ ...‬تطول وال يؤانسها ال ّرفيق‬ ‫لها ال ّزفر ُ‬ ‫ات فافتح منك قلباً‪ ...‬ل ُتحرق فيها حزنًا ال تطيق”‬ ‫أما القسم الثاني فباللغة األردية‪ ،‬ويشتمل على ‘مجلس شورى إبليس’‪ ،‬وبعض القصائد األخرى‪.‬‬

‫بعض املراجع عن إقبال باللغة العربية‬

‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫‪ -‬‬

‫محمد إقبال‪ ،‬سريته وفلسفته وشعره‪ ،‬عبد الوهّاب ع ّزام‪ ،‬سلسلة األلف كتاب‪ ،‬نرشة القاهرة ‪.1960‬‬ ‫محمد إقبال مف ّك ًرا إسالم ًّيا‪ ،‬محمد الكتّاين‪ ،‬نرشة املغرب ‪1978‬م‪.‬‬ ‫العالّمة محمد إقبال‪ ،‬حياته وآثاره‪ ،‬أحمد مع ّوض‪ ،‬نرشة القاهرة ‪1980‬م‪.‬‬ ‫إقبال الشاعر الثائر‪ ،‬نجيب الكيالين‪ ،‬نرشة بريوت ‪1959‬م‪.‬‬ ‫أرسار العشق املبدع‪ ،‬آنا ماري شيمل‪ ،‬نرشة مؤسسة الفرقان لندن‪1998 ،‬م‪.‬‬ ‫خاص مبحمد إقبال‪ ،‬أرشف عليه آنا ماري شيمل وألربت ت َايْال‪ ،‬أملانيا ‪1979‬م‪.‬‬ ‫مجلة فكر وفن‪ ،‬العدد ‪ 32‬وهو عدد ٌّ‬ ‫محمد إقبال فكره الديني والفلسفي‪ ،‬محمد العريب بوعزيزي‪ ،‬دمشق ‪2004‬م‪.‬‬ ‫اإلسالم واملجتمع املفتوح‪ ،‬اإلخالص والحركة يف فكر محمد إقبال‪ ،‬سليامن بشري ديان‪ ،‬بريوت ‪2011‬م‪.‬‬

‫‪80‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ ‬

‫أحمد مصطفى الغر❊‬

‫يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫‘مزرعة الحيوانات’ رواية شهرية لجورج أورويل‪ ،‬وهو اسم الشهرة للكاتب الربيطاين إريك‬ ‫أرثر بلري‪ ،‬املولود عام ‪ 1903‬واملتوىف يف لندن عام ‪1950‬م‪ .‬وهذه الرواية قص ٌة وهمية لكنها‬ ‫ٍ‬ ‫سيايس بارع عىل الثورة الروسية‪ ،‬وكيف حادت عن مسارها الحقاً و ُخ ِدع‬ ‫إسقاط‬ ‫ذات‬ ‫ٍّ‬ ‫الناس بحكم الفرد الواحد‪ ،‬وهو ستالني‪ .‬لكن بأي حال فإن الرواية‪ ،‬ورغم مرور سنوات‬ ‫كثرية عىل كتابتها‪ ،‬وزوال حكم ستالني‪ ،‬فإنها ما زالت تحوي مناذج لشخصيات عديدة‬ ‫ظهرت الحقاً يف دول مختلفة حول العامل‪.‬‬

‫❊ كاتب ومدون وقاص مصري‪ .‬عمل كسكرتير تحرير جريدة ‘الراية العربية’ المصرية سابقاً‪ .‬كاتب رأي في ‘يمن برس’‪‘ ،‬مركز النور لالبداع’‪ ،‬وموقع ‘آراء‬ ‫الكويتي‪ ،‬وموقع ‘أورينت نت’ السوري‪ ،‬وراديو روزنه‪ .‬يكتب القصة القصيرة وحاصل على عدد من الجوائز األدبية‪.‬‬

‫‪81‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫حكاية الثورة يف مزرعة احليوانات‬ ‫شخص يدعى مستر جونز‪ ،‬يعامل حيوانات مزرعته‬ ‫تدور أحداث الرواية في مزرعة بإنجلترا يمتلكها‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫بقسو ٍة دائماً‪ ،‬وفي إحدى الليالي‪ ،‬قرر الخنزير العجوز ميجور أن يعقد اجتماعا مع حيوانات المزرعة ليحكي‬ ‫حلم رآه‪ .‬كان ميجور حكيماً يحظى باحترام الجميع‪ ،‬لذا أن َْص َتت الحيوانات له باهتمام عندما انبرى‬ ‫لهم عن ٍ‬ ‫في الحديث عن الحرية من استغالل البشر‪ ،‬وضرورة التمرد على سيطرة هذا الكائن البشري المستبد‪،‬‬ ‫وبحسب كالمه فإن “االنسان هو عدونا الحقيقي الوحيد‪ ،‬أبعدوا االنسان فيزول معه السبب الحقيقي للجوع‬ ‫والعمل المرهق إلى األبد‪ ،‬اإلنسان هو المخلوق الوحيد الذي يستهلك بدون أن ينتج”‪.‬‬ ‫ميجور ع ّلم الحيوانات نشيد الثورة‪“ :‬وحوش إنجلترا‪ ...‬وحوش إيرلندا‪ ...‬وحوش كل أرض وكل مناخ‪،”...‬‬ ‫بعدها بدأت جلبة تكرار النشيد بأصوات الحيوانات فاستيقظ مستر جونز‪ .‬ينتهي االجتماع ويموت ميجور‬ ‫بعدها بثالثة أيام‪ ،‬وتقوم الثورة في أحد االيام االحقة‪ ،‬ويتولى زمامها في المزرعة خنزيران هما سنوبول‬ ‫ونابليون‪ .‬بعد طرد جونز يتم تغيير اسم المزرعة إلى ‘مزرعة الحيوانات’‪ ،‬وتم تلخيص مبادئ الثورة في سبع‬ ‫وصايا ُسميت بـ ‘الحيوانية’‪.‬‬ ‫نجحت الثورة في توحيد الحيوانات ونشر المساواة بينهم وتوفير الطعام والتخلص من عبوديتها‬ ‫لالنسان‪ ،‬لكن مع الوقت بدأت الحنازير في االرتقاء بمكانتها عن باقي الحيوانات‪ .‬وبالتزامن كان هناك‬ ‫ٌ‬ ‫خالف يشتد بين القطبين سنوبول ونابليون‪ ،‬وقد وصل الخالف إلى أشده عندما تقدم سنوبول بفكرة‬ ‫كالب شرسة كان قد تولى نابليون تربيتها سابقاً‬ ‫إنشاء الطاحونة‪ ،‬تلك التي عارضها نابليون بشدة‪ ،‬فجاءت ٌ‬ ‫وانطلقت باتجاه سنوبول تطارده حتى هرب من المزرعة مفلتاً من أنيابها بحياته‪.‬‬ ‫ليبدأ حكم الفرد األوحد‪ ،‬وهو نابليون الذي يسكن في بيت مستر جونز‪ ،‬ويرتدي ثيابه‪ ،‬ويسير على‬ ‫قدمين مقلداً البشر‪ ،‬وتزداد الخنازير في اختراق وصايا ‘الحيوانية’‪ ،‬بل وتحريفها‪ ،‬فتتعامل مع البشر مرة‬ ‫أخرى‪ ،‬وتشرب الخمر وتتعامل بالنقود وتنام على السرائر‪ ،‬وتحتفظ لنفسها بأفضل الطعام وبكميات كبيرة‪،‬‬ ‫‪82‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫بينما تعاني باقي الحيوانات الجوع والتعب واإلرهاق‪ .‬كما تتم االستعانة بأداة إعالمية لبقة وفعالة تتمثل‬ ‫في خنزير يدعى سكويلر‪ ،‬هذا الذي ينسب كل فعل طيب وحسن إلى القائد البطل نابليون‪ ،‬بينما كل فعل‬ ‫شائن أو سيء إلى الخائن العميل سنوبول!‬ ‫لتنتقل المزرعة من سيء (فترة مستر جونز) إلى أسوأ (فترة نابليون)‪ ،‬وتبدو الثورة في أعين من‬ ‫عاصروها وكأنها كابوس أفسد حياتهم تدريجياً‪ ،‬لكن ما من أحد يمكنه أن يقول ذلك صراح ًة وإال ستنهشه‬ ‫أنياب ومخالب كالب نابليون الشرسة‪.‬‬ ‫الشخصيات من منظور جديد‬ ‫شخصيات الرواية كانت تصور شخصيات حقيقية في االتحاد السوفيتي في ذاك الوقت المنصرم‪ ،‬مث ًال‬ ‫كان نابليون تجسيداً لــستالين‪ ،‬وسنوبول هو ليون تروتسكي‪ ،‬ورأى البعض في شخصية الخنزير سنوبول‬ ‫تجسيداً ودمجاً لشخصيتي تروتسكي ولينين معاً‪ ،‬أما ميجور العجوز فهو كارل ماركس مؤسس الماركسية‬ ‫واألب الروحي للشيوعية‪ ،‬وسكويلر هو تجسيد فياتشسالف مولوتوف وصحيفة برافدا ولكل وسيلة إعالمية‬ ‫تجسيد لشخصية‬ ‫سخّ رها ستالين لتعظيم أفعاله وإضفاء الثورية عليها وتبيض جرائمه‪ ،‬والخنزير مينيموس‬ ‫ٌ‬ ‫ماكسيم جوركي‪ ،‬ومستر جونز هو نيقوالي الثاني آخر أباطرة روسيا‪ ،‬وغيرها من الشخصيات الحقيقية التي‬ ‫تم تجسيدها‪.‬‬ ‫في إسقاطنا المعاصر للرواية على حالتنا في بلدان ‘الربيع العربي’‪ ،‬فإن ثمة كثير من المواقف التي‬ ‫تستدعي إعادة قراءتها مر ًة أخرى‪ ،‬فما لحق مؤخراً بثورة ‪ 25‬يناير المصرية يدق ناقوس الخطر بأن تتحول‬ ‫األحالم الوردية بعهود الحرية والديموقراطية إلى عهود استبداد وظالم تفوق ما كانت عليه قبل الثورة‪،‬‬ ‫لباس جديد مزركش بديموقراطية شكلية‬ ‫الخطر يكمن في تغير المفاهيم الثورية وعودة االستبداد في ٍ‬ ‫وحرية وهمية‪.‬‬ ‫قد تحتمل كل شخصية ظهرت في الرواية أن نقارنها بكثير من شخصيات واقعنا السياسي القائم‪.‬‬ ‫أليس مستر جونز هو كل حاكم ديكتاتوري‪ ،‬انتشر الفساد في عهده حتى صارت رائحته تزكم األنوف؟‬ ‫للدرجة التي وصلت بهم إلى إعداد أبنائهم ليرثوا من بعدهم عرش الحكم‪ ،‬وكأن الجمهوريات قد تحولت‬ ‫في غفلة من الشعوب إلى ممالك‪ ،‬يرثها أبناء الرؤساء مع التركة! نابليون وسنوبول يمكن اعتبارهم رفقاء‬ ‫الثورة في الميادين قبل أن يتحولوا إلى فرقاء‪ ،‬وصل بهم األمر إلى المحاكم واتهامات الخيانة والعمالة‬ ‫للخارج والتشويه اإلعالمي المستعر‪.‬‬ ‫إن لحظة انقسام المزرعة بين سنوبول ونابليون حول بناء طاحونة الهواء لتقليل العمل‪ ،‬أو التخلي‬ ‫عن بنائها وفي المقابل زيادة الجهد والتعب لزيادة اإلنتاج‪ ،‬كانت لحظة فارقة وتشبه إلى حد كبير حالة‬ ‫االنقسام بين فريقين في بعض البلدان العربية اآلن‪ ،‬لكل منهما وجهة نظر يظل متمسكاً بها حتى الموت‬ ‫ولو على حساب الثورة أو الشعب‪ ،‬المهم أن تبقى فكرته ونهجه هو القائم وهو السبيل إلقامة الدولة‬ ‫الجديدة‪.‬‬ ‫أليس مستغرباً أن يقوم نابليون بعد طرده لسنوبول من المزرعة واتهامه بالخيانة العظمى‪ ،‬أن يقوم‬ ‫ببناء الطاحونة التي كانت في األساس فكرة سنوبول‪ ،‬والتي كان يعاديها نابليون بكل ما أوتي من قوة؟ وما‬ ‫‪83‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫يزيد العجب هو خطاب سكويلر –إعالم السلطة الحكومي والرسمي‪ -‬الذي أوضح فيه أن فكرة الطاحونة‬ ‫كانت باألساس من أفكار نابليون ولكنها ُسرقت منه!‬ ‫و يظل الحمار بنجامين محايداً ال يقف مع هذا أو ذاك‪ ،‬فعلى حد قوله‪ ،‬سواء بطاحونة الهواء أو‬ ‫بدونها‪ ،‬فإن الحياة ستستمر كعادتها دائماً على حالها السيء! أال يجسد بنجامين حال الكثيرين المتعبين‬ ‫من أفكار الساسة؟ المنهكين من تجارب األحزاب وفشلها؟ المتشائمين من كل الخطط النظرية للتقدم؟ قد‬ ‫يرى البعض أنه الفئة الساخرة من أوهام األنظمة ووعودها الوردية‪ ،‬لكنه في كل األحوال ال يترك منازله‬ ‫سوى للعمل‪ ،‬إن كان هناك عمل‪ ،‬وال يذهب إلى صناديق االقتراع إال خوفاً من الغرامة المالية التي تلوح‬ ‫بها األنظمة لمن يمتنع عن المشاركة‪ .‬أما النتائج فهي جاهزة قبل بدأ التصويت من األساس‪ .‬بنجامين هو‬ ‫تجسيد للجموع الصامتة على فساد السلطة ‪-‬قديماً وحديثاً‪ -‬على‬ ‫‘حزب الكنبة’ في بعض البلدان‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫اعتبار أن ال شيء سيتغير‪ ،‬وإن تغير فسيكون نحو األسوأ فقط! هناك مقولة مأثورة لجورج أورويل يقول‬ ‫فيها‪“ :‬ال يمكن أن تتوافر السعادة إال في الرضا”‪ ،‬وألن بنجامين لم يكن يشعر بالرضا‪ ،‬ربما هذا كان سر‬ ‫عدم سعادته طوال أحداث الرواية!‬ ‫سكويلر الخنزير اللبق‪ ،‬الذي يجيد اختيار الكلمات التي يخاطب بها اآلخرين في المزرعة‪ ،‬والذي جعل‬ ‫من نابليون بط ًال أوحداً وقائداً فريداً في تاريخ الحيوانية‪ ،‬يتميز بأنه يجيد استخدام األرقام واإلحصائيات‬ ‫ليؤكد بها على أن حال الحيوانات يتحسن عن ذي قبل‪ ،‬إال أن األرقام ال تطعم الجوعى‪ ،‬واإلحصائيات ال‬ ‫تغني الفقراء‪.‬‬ ‫مينيموس خنزير آخر يجيد تأليف األغاني واألناشيد التي تلهب الحماسة والوطنية‪ ،‬وبالتأكيد تمجد‬ ‫من القائد نابليون‪ .‬أال ينطبق حال سكويلر ومينيموس على حال كثيرين من األبواق االعالمية في أوطاننا؟‬ ‫ألم يعج موقع يوتيوب بالكثير من الفيديوهات التي توضح حال هذه الفئة قبل الثورات وبعدها؟ وكيف‬ ‫يغيرون من جلودهم بسرعة فريدة ليصيروا أول المعجبين بالقائد الجديد وأول من يهتف بحياته‪ ،‬إلى أن‬ ‫يسقط الحاكم فيصيروا أول من يندد بأفعاله قبل أن يبدؤوا مرة أخرى في الهتاف للحاكم التالي؟‬ ‫كذلك نجد أن بالدنا تعج بكثير من نوعية المهرة المدللة مولي‪ ،‬تلك التي تمثل الرفاهية والطبقات‬ ‫العليا والبرجوازية‪ ،‬طبقة ال تمثل أكثر من ‪ 5%‬من مجتمعاتنا إال أنها تمتلك اكثر من ‪ % 95‬من الثروة‪ .‬في‬ ‫الواقع إن الحصان القوي بوكسر والحمار بنجامين والفرس الرقيقة كلوفر هم الشخصيات المفضلة لي في‬ ‫هذه الرواية‪ ،‬ليس فقط للصورة األدبية التي أظهرهم بها أورويل في روايته‪ ،‬لكن أيضاً ألنهم يمثلون السواد‬ ‫األعظم من المجتمع العامل المنبري إلى بناء الوطن دون مكائد السياسة أو بحارها القذرة‪.‬‬ ‫لقد أضاع بوكسر حياته وجهده في سبيل المزرعة وكان له دور مؤثر في معركة حظيرة األبقار‪ ،‬لكن‬ ‫أحداً لم يقدر له ذلك وفي النهاية وعند مرضه تم بيعه إلى ذابح جياد ليقدم لحمه إلى القطط والكالب‪.‬‬ ‫إلذن بوكسر هو مثال لكثيرين ممن أفنوا حياتهم من أجل الوطن‪ ،‬ولم يقدر لهم الحكام هذه األدوار‬ ‫الجليلة التي قاموا بها‪ ،‬وكان مصيرهم النفي أو القتل أو السجن‪ ،‬أو في أفضل األحيان النسيان!‬ ‫الكالب الشرسة هي السلطات األمنية الغاشمة الباطشة‪ ،‬والتي ال تقل في شراستها عن الكالب التي‬ ‫ظهرت في الرواية‪ ،‬ال بل تفوقها‪ .‬لقد كانت أداة في يد الحاكم يديرها كيفما شاء‪ ،‬فبدت كأدوات قتل‬ ‫يستخدمها الحاكم ضد أعدائه قبل أعداء الوطن‪ ،‬وكل خالف سياسي مع الحاكم صار عداء للدولة والثورة‬ ‫‪84‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫والشعب‪ ،‬ويستحق مرتكبه عقوبة اإلعدام نهشاً باألنياب الحادة والمخالب البارزة‪ ،‬وال يمكن نسيان أن‬ ‫بطش الشرطة المصرية كان سبباً في قيام ثورة ‪ 25‬يناير المصرية‪.‬‬ ‫هل تصلح الرواية لهذا الزمان؟‬ ‫إن ثمة أوجه للشبه بين ما كان يحدث في االتحاد السوفيتي في ذاك الوقت وما حدث في بعض‬ ‫بلدان العرب سواء قبل الثورة أو بعدها‪ .‬وإن كانت ثورات ‘الربيع العربي’ مازالت في طور الثورية ولم‬ ‫تكلل بعد سواء بالنجاح التام أو الفشل التام فهي مازالت تواجه تحديات جمة‪ ،‬أبرزها‪ :‬الدولة العميقة‬ ‫لألنظمة السابقة‪ ،‬وأصحاب األفكار الظالمية والمتشددون‪ ،‬وعراقيل الدول الغربية ودول الجيران التي يبحث‬ ‫كل منها عن مصالحه‪.‬‬ ‫لقد صورت الرواية كيف يمكن أن تتحول اليوتوبيا المأمولة إلى ديستوبيا كابوسية‪ ،‬فيتم تغيير النظام‬ ‫الفاسد القائم إلى نظام آخر يتحول مع الوقت إلى نظام أكثر فساداً من سابقه‪ ،‬فتظهر أشكال االستبداد‬ ‫والدكتاتورية وإخضاع األفراد والموارد للحاكم الفرد وحزبه‪ ،‬وتدخل القبضة األمنية في حياة الناس بشكل‬ ‫يفوق الوصف‪ ،‬وتتحول الثورة إلى معولٍ يهدم حياة الناس بدالً من هدم الظلم والفساد‪.‬‬ ‫عندما قرأت الرواية للمرة األولى منذ أكثر من عشر سنوات‪ ،‬وبمجرد وصولي إلى صفحتها األخيرة‬ ‫ُ‬ ‫قررت أن أعيد قراءتها مر ًة أخرى‪ .‬حينها لم يكن في مخيلة أي مواطن عربي أن ثمة ثورات أو ربيع سياسي‬ ‫أو ديموقراطية وحرية وغيرها من المصطلحات في طريقها إلى بالدنا‪ ،‬فقد اعتدنا منذ عهد األجداد أن‬ ‫الحاكم ال يغيبه عن منصبه سوى الموت‪ ،‬والموت فقط!‬ ‫اآلن‪ ،‬وبعد أن انتفض الشباب وتغيرت المفاهيم‪ ،‬صار واضحاً أن إعادة قراءة الرواية ضرور ٌة الستلهام‬ ‫الكثير من جوانبها وإسقاطها على حاضرنا‪ ،‬وربما يتضح ذلك في كثير من المقاالت الصحفية التي أسقط‬ ‫فيها كتابها بعض أحداث الرواية على ما يحدث في بالدهم‪ ،‬وان ُ‬ ‫كنت لست متفقاً تماماً مع ذلك‪ ،‬بخاصة‬ ‫أن ثورات العرب لم تكتمل بعد وموجاتها الثورية مازالت مستمرة ومتجددة‪ ،‬وأنه من غير اإلنصاف أن‬ ‫نحكم عليها بالفشل اآلن‪.‬‬ ‫لكن ثمة تشابهات توحي بالتشاؤم أيضاً‪ .‬أال تتشابه الوصايا السبع التي تم إقرارها في المزرعة والتي‬ ‫تم تغييرها الحقاً مع المطالب التي خرجت الشعوب العربية مطالبة بها‪ ،‬حتى إذا ما نجحت الثورات‪ ،‬وبدأ‬ ‫اقتسام الغنائم‪ ،‬تفرق الرفقاء وصاروا فرقاء؟ هل من أحد يسمع عن مطالب الشباب في ثورة ‪ 25‬يناير‬ ‫المصرية؟ أو منجزات الثورة الليبية أو اليمنية؟ هل تم إعادة بن علي إلى تونس ليحاكم أمام القضاء؟ أليس‬ ‫مهرجان البراءات لرجال النظام المصري خير دليل على أن ثورة ‪ 25‬يناير قد فشلت أو بمعنى أدق قد تم‬ ‫إفشالها؟‬ ‫ألم تقم الفضائيات والصحف بالتالعب بأهداف الثورات أو تغييبها عمداً؟ وهو أمر يتشابه تماماً مع‬ ‫تغيير الوصية السابعة كما ورد في الرواية عندما تحولت من “كل الحيوانات متساوية” إلى “كل الحيوانات‬ ‫متساوية‪ ،‬ولكن بعضها أكثر مساواة من اآلخرين”؟ وهذه النقطة تحمل إسقاطاً سياسياً بارعاً ينطبق تماماً‬ ‫ٍ‬ ‫طبقات بعينها في بالدنا تعتبر نفسها وصي ًة على الشعوب‪ ،‬وأنها أعلى مكان ًة وقيمة ومنزلة من غيرها‬ ‫على‬ ‫من المواطنين‪.‬‬ ‫‪85‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مراجعات كتب‬

‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫وألنه قد يصعب أحيانا على بعض القادة أن يصلوا إلى الطبقات المختلفة من شعوبهم‪ ،‬فال بد حينها‬ ‫من أبواق إعالمية تخاطب تلك الجماهير؛ أبواق تنبري إلى تضليل الجموع وتغييب الحقائق عنها‪ ،‬وتنشر ما‬ ‫يريده الحاكم وتوزع األكاذيب بهدف التخويف‪ .‬هذه الوسائل االعالمية اللعينة هي كما ظهرت في الرواية‬ ‫شخصيتا الخنزيرين سكويلر ومينيموس‪.‬‬ ‫إذن الرواية ليست مقتصرة على الثورة البلشفية واالتحاد السوفيتي فقط‪ ،‬أو عهد ستالين فحسب‪.‬‬ ‫وبالمناسبة ففي عام ‪ 2002‬ظهرت رواية بعنوان ‘فرصة سنوبول’ ألديب اسمه جون ريد حاول فيها أن‬ ‫يكتب تتم ًة لرواية ‘مزرعة الحيوانات’‪ ،‬وبالتالي فإن الراوية وإن مر عليها الزمن‪ ،‬فإنها تبقى قابلة للقراءة‬ ‫بشكل جديد في أزمنة مختلفة‪.‬‬ ‫‘مزرعة الحيوانات’ ٌ‬ ‫رواية ُك ِت َب ْت كي تبقى‪ ،‬فقد صدرت عام ‪1945‬م‪ ،‬وتُرجمت إلى ما يقارب الــ ‪70‬‬ ‫لغة‪ ،‬وتحولت إلى فيلم كرتوني‪ ،‬ثم إلى فيلم سينمائي عام ‪1999‬م‪ .‬كما أن الفترات التي شهدت منع‬ ‫الرواية من النشر والتوزيع في بعض البلدان كانت من أهم أسباب انتشارها؛ فالممنوع مرغوب‪ .‬حيث يذكر‬ ‫أن أحد المسؤولين في وزارة اإلرشاد البريطانية قد حذر الناشر البريطاني من نشر الرواية‪ ،‬فرفضها الناشر‬ ‫وكان رده‪“ :‬سيكون األمر أقل مدعاة للعداوة لو كانت الطبقة المسيطرة في القصة غير الخنازير‪ ،‬أرى أن‬ ‫تصوير الخنازير كطبقة حاكمة سيغضب بال شك كثيرين‪ ،‬وخصوصاً سريعي التأثر‪ ،‬مثل الروس”‪.‬‬ ‫لو كانت الرواية عربية‬ ‫في ظني أنه لو ُكتبت رواية مثل ‘مزرعة الحيوانات’ لتصور الحياة السياسية أو الثورات في ّأي‬ ‫من الدول العربية لهاجت وماجت النخب الحاكمة وأبواقها اإلعالمية لتعترض على كيفية تصوير أشخاصها‬ ‫بحيوانات تسكن مزرعة‪ .‬وربما ستنجح األبواق اإلعالمية باختالف أشكالها (المسموعة‪ ،‬المقروءة‪ ،‬المرئية) في‬ ‫الحشد ضد التشبيه القصصي‪ ،‬متناسي ًة الجانب األهم في الرواية وهو النقد السياسي الكائن بين سطورها‪.‬‬ ‫لقد عملت الرواية على فضح الممارسات الستالينية التي أفسدت المبادئ الثورية االشتراكية لكن‬ ‫بشكل غير مباشر‪ ،‬وفي هذا براعة فائقة وحنكة أدبية عميقة‪ ،‬وهي تفوق كثير من روايات العرب‪ ،‬سواء‬ ‫الممنوعة أو المنشورة‪ ،‬التي تنتقد األنظمة العربية‪ .‬فالروايات العربية صريحة وواضحة في تناولها‪ ،‬فرجل‬ ‫الشرطة يظهر بصفته واسمه وزيه الرسمي‪ ،‬وهو ما يجعلها محدودة في زمانها ومكان حدوثها‪.‬‬ ‫لقد أجاد أورويل استخدام الرمز‪ ،‬وما يزيد متعة القراءة هو استخدامه للرمز بطريقة ساخرة وجذابة‬ ‫(هذا يذكرنا بالحكيم بيدبا في رائعته ‘كليلة ودمنة’)‪ .‬فمث ًال شعار القرن والحافر الموصف في رواية ‘مزرعة‬ ‫الحيوانات’ يتشابه مع المطرقة والمنجل (الشعار الشيوعي الشهير والمستخدم في االتحاد السوفييتي)‪.‬‬ ‫وألنه كان من الممكن معرفة المقصود من وراء شخصية كل حيوان فقد هذا أزعج هذا الكثير من‬ ‫الماركسيين الذين رأوا أن الرواية قد أضرت باالشتراكية فكراً وثورة‪ ،‬لكن أي ثورة هذه التي تضر بها رواية؟‬ ‫فالثورة هي التي خانت نفسها من خالل ممارسات أقطابها (نابليون وباقي الخنازير) في ظل صمت وخنوع‬ ‫وجهل واستسالم باقي الحيوانات‪.‬‬ ‫‪86‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫إعادة قراءة لرواية ‘مزرعة احليوانات’ يف زمن ‘الربيع العربي’‬

‫ليس دائماً من يفسد الثورات هم أعداؤها‪ ،‬ففي بعضها يكون اإلفساد نابعاً من رجال الثورة أنفسهم‪.‬‬ ‫وللتأكيد أشير إلى أن انحراف الثورة عن مسارها ال يعد نقيصة أو عيباً في فعل الثورة نفسه‪ ،‬فالثورة‬ ‫ٌ‬ ‫مرهونة بأفعال الثوار ومدى قدرتهم على‬ ‫ما قامت ّإل لهدم الفساد والطغيان والديكاتورية‪ .‬لكن النتائج‬ ‫الحفاظ على المكتسبات التي تحققت‪ .‬فهل يمكن مث ًال تقبل هذه الرواية عربياً لو أنها كانت تفضح‬ ‫ٍ‬ ‫ممارسات فاسدة ألقطاب شاركت في الثورة‪ ،‬وصارت موجودة في السلطة؟ ربما تتقبلها الشعوب تلك التي‬ ‫ما زالت تعاني في سبيل الوصول إلى حريتها المنشودة‪ ،‬سواء من المستعمر األجنبي الذي احتل دولها‪ ،‬أو‬ ‫حتى المستعمر المحلي الذي اغتصب السلطة والثروة‪ ،‬وربما ستعود األنظمة القديمة متخفي ًة في صورة‬ ‫ثور ٍة جديدة أو في شكل موج ٍة ثوري ٍة مكمل ٍة أو تصحيحية‪.‬‬ ‫قد قرأت منذ فترة أنه من بين الخطط األدبية المقبلة للكاتب األديب عزت القمحاوي كتابة رواية‬ ‫قد يطلق عليها اسم ‘مزرعة الحيوانات’‪ ،‬في محاكاة للراوية الشهيرة للكاتب اإلنجليزي جورج أورويل‪ .‬لكن‬ ‫مشروع القمحاوي سينقد واقع قادة الدول الذين أنتجهم ‘الربيع العربي’‪ ،‬ونحن في انتظار صدورها‪ .‬وليكن‬ ‫خير ختام لنا اآلن هو مقولة أورويل‪“ :‬إن كان التحرر يعني شيئاً فهو الحق في أن تقول للناس ما ال َي َو ُّدون‬ ‫سماعه”‪.‬‬

‫‪87‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫راما السمان ❊‬

‫❊ خريجة كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق ‪ ،2014‬اختصاص حفر وطباعة‪ .‬دمجت يف مرشوع تخرجها بعنوان ‘مايسرتو’ بني الفن‬ ‫البرصي واملوسيقا‪ .‬تعتمد عىل السكيتش يف تكوين أعاملها التي تصفها بأنها بني التعبريية والواقعية‪.‬‬ ‫‪88‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتـاجات‬ ‫العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬ ‫املقبلون عىل الزواج يف سوريا‬ ‫اإللحاد والبحث عن رب غري سخيف‬ ‫الفصائل املسلحة يف سوريا‬ ‫عن الحرب والتعايش يف حمص‬ ‫بني أمل املعتقل وترصيح الوزير‬ ‫أحالم سورية بني الداخل والخارج‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪:‬‬

‫سليمان علي سليمان❊‬

‫من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تعد العدالة االنتقال ّية من النظم القانون ّية حديثة العهد‪ ،‬وقد غدت عقب التطبيقات‬ ‫املتك ّررة‪ ،‬والرصاعات الداخل ّية العنيفة التي تجتاح العامل اليوم‪ ،‬محل اهتامم العديد من‬ ‫مراكز البحث والدراسات يف مختلف املجاالت‪ ،‬القانون ّية والسياس ّية واالجتامع ّية‪ .‬ويف هذا‬ ‫اإلطار تأسست الجمع ّية الفرانكفون ّية للعدالة االنتقال ّية التي نظّمت أسبوعاً بحثياً ك ّرس‬ ‫لبحث مبادئ العدالة االنتقال ّية األربعة‪ ،‬حيث متّت دراستها ومناقشتها مع العديد من‬ ‫املشاركني املختصني يف القضاء والصحافة والطب النفيس والقانون والسياسة‪ .‬ليتم تطبيق‬ ‫هذه املبادئ عىل حالة األزمة األوكرانية كوسيلة ملعالجة انتهاكات حقوق اإلنسان يف هذا‬ ‫البلد الذي يشهد رصاعاً دموياً‪ .‬شارك كاتب هذه السطور يف املؤمتر‪ ،‬وأعد تقريراً خاصاً‬ ‫لدلتا نون عن وقائع الجلسات واملحارضات التي عقدت يف القسم الفرنيس من إقليم‬ ‫الباسك يف الفرتة بني ‪ 28‬متوز‪/‬يوليو و‪ 1‬آب‪/‬أغسطس ‪.2014‬‬

‫❊ خريج كلية القانون بجامعة دمشق‪ ،‬وكليّة القانون بجامعة بواتييه بفرنسا‪ .‬يختص حالياً يف مجال حقوق املؤلف والحقوق املجاورة‪ ،‬حيث يعد أطروحته يف‬ ‫جامعة بواتييه عن األداء كموضوع لحق مجاور لحق املؤلف‪ .‬باحث يف مجال العدالة االنتقالية ومهتم بقضايا االنتقال السيايس‪-‬القانوين وبفلسفة العدالة‪.‬‬ ‫مؤسس ‘للجمعية الفرانكفونية السورية للدراسات السياسيّة والقانونيّة’‪ ،‬وعضو يف ‘منرب النداء الوطني’‪.‬‬ ‫عضو ّ‬

‫‪90‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫مقدمة‬ ‫قد ال يكون هناك أجمل من أن تقيض عطلة الصيف يف طبيع ٍة ريفيّ ٍة جميلة‪ ،‬حيث متتزج خرضة‬ ‫غابات جبال شاهقة بسام َء زرقاء تزيّنها غيو ٌم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كزبد يطفو عىل شاطئ‪ .‬لكن الجغرافيا وحدها قد ال تشبع‬ ‫فضول من يريد اكتشاف املكان بكل تفاصيله‪ .‬فالتاريخ أيضا جز ٌء من املكان‪ .‬وإذا كنت تقيض هذه العطلة‬ ‫يف إقليم الباسك الشاميل (جنوب فرنسا)(((‪ ،‬فإن تفاصيل الجغرافيا والتاريخ ستزيد متعة وفائدة إقامتك‪.‬‬ ‫مع ذلك فإن هذه العطلة ليست كسواها‪ ،‬فهي تندرج يف إطار مرشوع أطلقته الجمعية الفرانكفونية‬ ‫شكال‬ ‫للعدالة االنتقالية((( لتنظيم ما يعرف بـ ‘جامعة الصيف ‪ ’Summer School - Université d’été‬التي تعد ً‬ ‫جديدا ً يف التعليم الجامعي يتجاوز الطرق الكالسيكية كاملحارضات والدروس واالمتحانات‪ ،‬إىل إدخال مفاهي َم‬ ‫جديد ٍة يف العملية التعليمية‪ ،‬كالدراسة املتع ّددة التخصصات ‪ interdisciplinaire‬ملوضوع البحث‪ ،‬وإرشاك‬ ‫الطالب يف عمل بحثي تحت إرشاف مختصني ما يسمح بتبادل الخربات والتجارب حول موضوع الدراسة‪.‬‬ ‫تخصصها‪ ،‬وكذلك املوضوع املختار للدراسة يف أول عمل بحثي‬ ‫وال شك أن اسم الجمعية يعكس مجال ّ‬ ‫تقوم به من هذا النوع منذ تأسيسها نهاية العام املنرصم؛ حيث اختار املنظّمون موضوعاً حديثاً وذا أهمي ٍة‬ ‫خاصة يف هذا الظرف املتوتر الذي متر به أكرث من منطقة يف العامل كله‪ ،‬ومنه العامل العريب وسوريا‪ ،‬وهو‪:‬‬ ‫مبادئ العدالة االنتقالية ‪.Les principes de la justice transitionelle‬‬ ‫‪ 1‬إقليم الباسك منطقة جغرافية تشمل اليوم مناطق داخل فرنسا وهو ما يعرف بالباسك الشاميل‪ ،‬ومناطق يف إسبانيا وهو الباسك الجنويب‪ ،‬وهو إقليم واسع‬ ‫مبساحة ‪ 20‬ألف كلم مربّع ميتد عرب جبال البريينيه الفاصلة بني البلدين حتى خليج بسكاي يف الغرب‪ .‬وهو موطن شعب الباسك ‪-‬حوايل ‪ 3‬مليون‪ -‬الذي‬ ‫يتحدث لغة متم ّيزة عن الفرنسية واإلسبانية هي لغة الباسك‪.‬‬ ‫املؤسسة يف ‪ Bayonne‬جنوب فرنسا منذ كانون‬ ‫‪ 2‬الجمعية الفرانكفونية للعدالة االنتقالية ‪ّ Association Francophone de justice transitionelle‬‬ ‫الثاين‪/‬ديسمرب عام ‪ 2013‬من قبل باحثني مختصني يف العدالة االنتقالية هام الربفسور جان بيري ماسياس ‪ Jean-Pierre Massias‬والربوفسور خافيري فيليب‬ ‫‪ Xavier Philippe‬بهدف تعزيزها عن طريق النرش وتنظيم الدورات البحثية واملحارضات والتعاون مع كافه الهيئات واملنظامت املختصة يف هذا املجال‪.‬‬

‫‪91‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫لقد حظي كاتب هذه السطور بإقام ٍة رائع ٍة بصحبة خرباء ومختصني وباحثني وطلب ٍة مهتمني بالعدالة‬ ‫االنتقالية مل ّدة أسبو ٍع كامل يف إطار ‘جامعة الصيف’ التي جرت يف جنوب فرنسا يف قرية جبلية يف إقليم‬ ‫الباسك الشاميل جنوب فرنسا‪ .‬وقد زاد غنى هذا الحدث مشاركة باحثني ومهتمني من أكرث من عرش‬ ‫جنسيات‪ ،‬من أفغانستان إىل فلسطني املحتلة إىل تونس والجزائر ورواندا والكامرون والكونغو واألرجنتني‬ ‫وكولومبيا وإسبانيا‪ ،‬باإلضافة إىل فرنسا البلد املضيف‪ ،‬وسوريا التي حظينا بفرصة متثيلها‪.‬‬ ‫يضاف إىل ذلك أن ظروف هذا الحدث زادت من أهميته‪ ،‬فزمنياً يأيت يف مرحلة انتقال تشهدها العديد‬ ‫ٍ‬ ‫مخاض يشهده العامل مؤذناً بحدوث‬ ‫من بالد العامل ال سيام بلدان ما بات يعرف بـ ‘الربيع العريب’ ويف مرحلة‬ ‫تغيريٍ يف أحادية القطبية التي سادت لعقو ٍد طويلة منذ نهاية الحرب الباردة ‪ .1989-1947‬وبالتأكيد فإ ّن‬ ‫مج ّرد ذكر الحرب الباردة يثري يف الذاكرة كل الصور السوداء للآميس التي شهدها العامل يف أكرث من مكانٍ كان‬ ‫مرسحاً لهذه الحرب‪ .‬وال شك أيضا أن تجارب االنتقال التي شهدتها ع ّدة بلدان بعد انهيار االتحاد السوفيايت‬ ‫يف رشق أوروبا أو يف أمريكا الجنوبية ساهمت يف تشكيل مفهوم العدالة االنتقالية كام نعرفها اليوم‪ .‬لكننا‬ ‫ٍ‬ ‫مفهوم واحد للعدالة االنتقالية‪ ،‬التي تعد حتى اليوم‬ ‫تعريف أو‬ ‫سنحرتز يف السطور القادمة من تقديم‬ ‫ٍ‬ ‫موضوعاً غامضاَ وغري واضح املعامل‪.‬‬ ‫وكذا‪ ،‬تزامن هذا الحدث مع الحرب اإلرسائيلية الهمجيّة عىل الشعب الفلسطيني يف غ ّزة‪ ،‬حيث زاد‬ ‫من زخم حضور هذا الحدث األليم مشاركة زمال ٍء لنا قدموا خصيصاً من فلسطني املحتلة للمشاركة يف‬ ‫ٍ‬ ‫تساؤالت ع ّدة تتعلق باالختصاص الدويل الشامل أو االحتياطي‬ ‫جامعة الصيف هذه‪ ،‬حيث أثار هذه الحدث‬ ‫يف محاكمة مجرمي الحرب‪ ،‬وكذلك تساؤالت أخرى حول محكمة الجنايات الدولية وعملها‪.‬‬ ‫أما مكانياً‪ ،‬فإن مام هو جدير باإلعجاب اختيار مقر إقامة جامعة الصيف هذه يف إقليم الباسك‪،‬‬ ‫وتحديدا ً قرية سان إيتيان بيغوري ‪ Saint-Étienne-de-Baïgorry‬التي عاشت يف مرحلة سابقة عنفاً دامياً‬ ‫قبل أن تنتقل من الحرب إىل السالم ليتم التعامل مع املايض بتطبيق آليات للعدالة االنتقالية‪.‬‬ ‫أيام بحث ّية‪،‬‬ ‫ومن ناحية التنظيم‪ ،‬فإن الربنامج املكثّف لدراسة مبادئ العدالة االنتقالية ق ُّسم إىل أربعة ٍ‬ ‫كل منها مبحارض ٍ‬ ‫ات متهيديّ ٍة صباحية قبل االنتقال يف فرتة ما بعد الظهر إىل التطبيق العميل‪ ،‬ليتم العمل‬ ‫بدأ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كل منها يف تطبيق آلية العدالة االنتقالية املطروحة عىل الحالة محل الدراسة وهي‬ ‫مجموعات تبحث ّ‬ ‫يف‬ ‫األزمة األوكرانية‪ ،‬لينتهي اليوم بأمسية يهبط فيها املشاركون إىل القرية الجميلة‪ ،‬ليحرضوا يف السينام الصغرية‬ ‫واألليفة ما ّد ًة وثائقي ًة أو مونتاجاً وثائقياً يتمحور حول موضوع الدراسة الذي تم اختياره لليوم‪.‬‬ ‫ومن غري شك‪ ،‬كانت فرتات االسرتاحة والطعام (الذي كان فرص ًة ال تف ّوت ملعرفة تراث وتقاليد ومطبخ‬ ‫هذا الجزء من إقليم الباسك‪ ،‬ال سيام لحومه ونبيذه وجبنه!) كانت مساح ًة يف غاية األهمية للتعارف ولتبادل‬ ‫اآلراء حول العديد من النقاط‪ ،‬ال سيام املتعلّقة بالتاريخ السيايس للعديد من البلدان واالنتقال الدميقراطي‬ ‫فيها وبرنامج العدالة االنتقالية الذي ط ّبق ملعالجة آثار رصاع املايض‪.‬‬ ‫وقد اختار املنظّمون األزم َة األوكرانية للبحث فيها ويف إمكانية تطبيق العدالة االنتقالية كحلٍ دائم‬ ‫مينع استمرار العنف وانتهاكات حقوق اإلنسان من جهة‪ ،‬ويحفظ وحدة البالد السيادية من جه ٍة ثانية‪ ،‬وهي‬ ‫أزم ٌة مركّبة يجتمع فيها املحيل بالخارجي‪ ،‬والتاريخي باملعارص‪ ،‬وأزمة الهوية باللغة‪ ،‬والثورة بالعنف‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫‪ 27‬متوز‪/‬يوليو‪ :‬إىل بايون ‪Bayonne‬‬

‫كل يش ٍء طبيعي يف القطار املتجه‬ ‫من بوردو إىل بايون حتى تدخل إقليم‬ ‫األطليس‪ ،‬والواقع كام يشري اسمه‬ ‫البريينيه‬ ‫ّ‬ ‫يف غرب جبال البريينيه املطلّة عىل املحيط‬ ‫األطليس‪ ،‬وهو أحد األقاليم املشكّلة ملنطقة‬ ‫آكيتني‪ ،‬ويشمل ما يعرف ببالد الباسك‬ ‫الشاملية أو الفرنسية واملتصلة بالباسك‬ ‫اإلسباين عىل الجانب اآلخر من الحدود‪.‬‬ ‫أناس بلباس‬ ‫يف محطات التوقف العديدة ٌ‬ ‫خريطة إقليم الباسك‪ ،‬يظهر فيها قسامه الفرنيس يف الشامل واإلسباين يف الجنوب‬ ‫مو ّحد األلوان باألحمر واألبيض‬ ‫يصعدون؛ أم ٌر ما يجري يف بايون‪ ،‬إنه يوم اختتام مهرجانات بايون الذي يجري يف األسبوع األخري من شهر‬ ‫متوز من كل عام‪ .‬تصل لتجد الحشود الضخمة ومظاهر االحتفال املنترشة يف كل زاوية‪ ،‬واالستثناءات عىل‬ ‫اللونني األبيض واألحمر نادرة‪ .‬ويف الحال تالحظ اختالف الهوية الثقافية واللغوية يف املكان‪ .‬حيث تجد كتاب ًة‬ ‫أخرى يف العديد من اليافطات بلغ ٍة أخرى‪ :‬إنها الباسكية‪.‬‬ ‫جول ٌة قصري ٌة يف املدينة املختلفة‪ ،‬ثم التج ّمع باملشاركني يف ‘جامعة الصيف’ للتوجه جنوباً إىل قرية سان‬ ‫إيتيان بيغوري ‪ Saint-Étienne-de-Baïgorry‬الجبلية حيث سيجري العمل‪.‬‬ ‫ومع االجتامع باملرشفني والنقاش الحقاً مع الزمالء ال سيام ‘الباسكيني’ واالستامع إىل بعض الشهادات‪،‬‬ ‫باإلضافة أخريا ً إىل الفيلم الخاص بالباسك والذي سيعرض يف اليوم الثالث‪ ،‬تكتشف عالقة املكان بالحدث‪،‬‬ ‫ومناسبة اختياره مقرا ً للبحث يف العدالة االنتقالية‪ .‬فإذا كان الحديث عن الباسك يُحيل إىل الرصاع يف الباسك‬ ‫اإلسباين بني الحكومة واالنفصاليني‪ ،‬ال سيام حركة إيتا التي اختارت الخيار املسلّح‪ ،‬فإن إقليم الباسك الشاميل‬ ‫عرف أيضاً مشاكل تتعلّق بالهوية‪ ،‬أو ما يعرف بـ ‘العنف السكاين’‪ ،‬وإن كانت تسمية بالد الباسك ‪Pays de‬‬ ‫‪ Basque‬ال تثري اليوم أي تحفّظ‪.‬‬ ‫ففي إسبانيا لجأ جز ٌء من القوميني الباسكيني إىل السالح لنيل االستقالل متأثرين بالحركات الثورية‬ ‫يف كوبا وفييتنام والجزائر منذ مطلع الستينيات‪ .‬فتأسست عام ‪ 1959‬حركة إيتا االنفصالية (إيتا ‪ETA‬‬ ‫والتي تعني بالد الباسك والحرية ‪ )Euskadi Ta Askatasuna‬لطلب استقالل إقليم الباسك وإقليم نافارا‬ ‫املجاور‪ .‬كان اللجوء إىل العنف نتيجة الدكتاتورية الفاشية اإلسبانية تحت حكم الجرنال فرانكو الذي طال‬ ‫طغيانه كافة الرشائح اإلسبانية‪ ،‬والذي قمع بوحشية كل االنفصاليني والباسكيني الذين وقفوا مع الجمهوريني‬ ‫يف الحرب األهلية‪ ،‬ونتيجة سياسة طمس الهوية واللغة الباسكية‪ .‬استمر العمل املسلح بعد سقوط حكم‬ ‫الجرنال فرانكو ‪ ،1975‬رغم االنتقال الدميقراطي الذي أقر الحكم الذايت لسبعة عرش مقاطعة مبا فيها الباسك‬ ‫ونافارا‪ ،‬ونفّذت الحركة العديد من الهجامت راح ضحيتها حوايل األلف ضحيّة خالل أربعني عاماً من مطالب‬ ‫االستقالل‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫يف ‪ 20‬ترشين األول‪/‬أكتوبر ‪ 2011‬أعلنت الحركة من جانب واحد اعتزال العمل املسلّح‪ ،‬لكنها اشرتطت‬ ‫لتسليم السالح االستجابة لبعض مطالبها ال سيام بخصوص معتقليها من الناشطني‪ .‬وتقلّصت مطالب الحركة‬ ‫إىل العفو العام ثم إىل املطالبة بإجراءات فرديّة لتحرير املعتقلني الذين يناهزون الخمسامئة معتقل يف‬ ‫السجون اإلسبانية والفرنسية‪.‬‬ ‫ورغم متتّع إقليم الباسك يف إسبانيا باستقالل ذايت واسع منذ عام ‪ ،1979‬حيث أن له مجلسه التمثييل‬ ‫الخاص واستقالله الرضيبي ورشطته الخاصة كام تعترب لغة الباسك فيه رسميّة‪ ،‬باإلضافة إىل استقالليّة يف‬ ‫مجاالت الص ّحة والتعليم واإلدارة‪ ،‬فإن آثار رصاع املايض املرتاكمة ما زالت عالقة‪ ،‬ما يطرح رضورة معالجة‬ ‫امللفات العالقة كملف املعتقلني واملصالحة‪.‬‬ ‫أما يف الباسك الشاميل الواقع يف فرنسا‪ ،‬فقد عرف كذلك العنف ولو بدرج ٍة أقل وبشكلٍ متقطّع‪.‬‬ ‫ورغم أن تسمية بالد الباسك ال تثري أي مشكلة ّإل أن املطلب الرئيس للباسكيني هو إحداث مقاطعة خاصة‬ ‫بالباسك‪ ،‬ما قوبل بالرفض مرارا ً‪ ،‬حيث يثري األمر السؤال املحرج للحكومة الفرنسية حول الخصوصيات التي‬ ‫تحسن وضع اللغة والثقافة املحليّة‬ ‫يجب أن تقر للعديد من األقاليم (كاأللزاس‪ ،‬وجزيرة كورسيكا)‪ .‬ورغم ّ‬ ‫للباسكيني‪ ،‬لكن يبقى هناك املزيد لعمله‪ ،‬ما يُحيل إىل العدالة االنتقالية إلكامل معالجة آثار ما بعد الرصاع‪.‬‬ ‫اليوم األول ‪ 28‬متوز‪/‬يوليو ‪ :2014‬االنتقال الدميقراطي والعدالة االنتقالية‬ ‫يجدر مبق ّدمة البحث يف العدالة االنتقالية أن تتطرق إىل إشكاليتني متالزمتني‪ :‬سياسية وقضائية‪ ،‬أي‬ ‫تلك املتعلقة باالنتقال الدميقراطي من ناحية‪ ،‬واألخرى املتعلقة بآليات العدالة االنتقالية‪ ،‬وهذا ما كان محورا ً‬ ‫لليوم األول‪.‬‬ ‫ال َ‬ ‫شك أن بيئة تطبيق العدالة االنتقالية هي بيئة استثنائية‪ ،‬ونستطيع القول أن هناك خاصيتني لبيئة‬ ‫تطبيق العدالة االنتقالية‪ ،‬رغم أن ال وجود لقاعدة معيارية تحكم حاالت تطبيق العدالة االنتقالية‪ .‬الخاصية‬ ‫األوىل سياسية‪ ،‬وهي ترتاوح بني انهيار الرشعية‪ ،‬أو املساس الجسيم بها بحيث تفقد الثقة باملؤسسات‬ ‫املؤسسة األمنية والعسكرية التي متارس االنتهاكات املنهجية والواسعة لحقوق اإلنسان‬ ‫الحكومية ال سيام ّ‬ ‫مستفيدة من حالة الالعقاب‪ ،‬وهذه الحالة تتعلق بالنظم الدكتاتورية أو العسكرية(((‪ ،‬وبني انحالل العقد‬ ‫االجتامعي وتح ّول الرصاع السيايس إىل رصاع مسلّح سواءا ً وصل األمر إىل حدود الحرب األهلية أم اقترص عىل‬ ‫حاالت العصيان املسلّح(((‪.‬‬ ‫الخاصية الثانية تتعلق بالحالة القضائية يف املرحلة االنتقالية‪ ،‬أي بواقع استحالة عمل العدالة العادية‬ ‫ملعالجة آثار املايض‪ ،‬سواء بسبب ضخامة املهام امللقاة عىل عاتقها‪ ،‬أو بسبب فساد مؤسسة العدالة‬ ‫وخضوعها للتأثريات السياسية وعدم الثقة بها‪ ،‬ما ي ّربر اللجوء إىل ٍ‬ ‫آليات دوليّة للمساعدة سواء تعلّق األمر‬ ‫‪ 3‬كحالة تونس ومرص‪ ،‬وكحالة ميامنار التي خضعت لحكم العسكريني لخمسني عاماً حتى ‪2011‬؛ وإندونيسيا تحت حكم الجرنال سوهاترو ‪1998-1965‬‬ ‫وكينيا التي عاشت اضطرابات عنيفة عقب االنتخابات الرئاسية والربملانية عام ‪.2007‬‬ ‫‪ 4‬كالحرب األهلية يف سرياليون التي دامت ‪ 10‬سنوات حتى ‪ ،1999‬والحرب األهلية يف ليبرييا التي دامت ‪ 14‬عاماً حتى ‪ ،2003‬وفيها تم انتخاب السيدة‬ ‫إيلني جونسون سريليف عقب العملية االنتقالية يف ‪ 2005‬كرئيسة للبالد وهي أول امرأة يف هذا املنصب يف القارة االفريقية‪.‬‬

‫‪94‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫بالجوء للمحاكم الدولية أو لجان التحقيق وكشف الحقيقة الدوليّة‪.‬‬ ‫وال يرتبط تطبيق العدالة االنتقالية بحجم حالة العنف ومدى االنتهاكات السابقة‪ ،‬فقد يتم إعاملها يف‬ ‫وقت مبكّر كحل وسط قبل تفاقم الوضع‪ ،‬ومثال ذلك ما حدث يف كينيا التي خرجت من اضطرابات العنف‬ ‫ما بعد انتخابات ‪ 2007‬بتطبيق آليات العدالة االنتقالية منذ العام التايل ‪ 2008‬بعد حوايل ‪ 1100‬قتيل(((‪.‬‬ ‫وقد تتأخر ال سيام يف حاالت الحروب األهلية التي متتد لسنوات ع ّدة غالباً خصوصاً عند وجود العبني‬ ‫إقليميني أو دوليني يطيلون أمد الرصاع ومثاله كمبوديا التي انتهى نظام الخمري الحمر فيها بعد تقسيمها‬ ‫عقب الغزو الفيتنامي‪ ،‬قبل القضاء عىل الخمري الحمر نهائياً عام ‪ ،1998‬لتطبق العدالة االنتقالية يف ‪2005‬‬ ‫بعد مليون و‪ 700‬ألف قتيل(((‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫تعريف يطرح للعدالة االنتقالية؟ يف الحقيقة أن مسألة التعريف عموماً مسألة شائكة‪،‬‬ ‫لكن هل من‬ ‫مبفهوم غري ثابت وما زال يف ط ّور التشكّل (وحتى عىل مستوى املصطلح‪ ،‬فام يزال محل‬ ‫وعندما يتعلّق األمر‬ ‫ٍ‬ ‫خالف بني عدالة انتقالية‪ ،‬عدالة ما بعد الرصاع‪ ،‬عدالة موقتة‪ ،‬إلخ)‪ ،‬فإن مسألة التعريف تصبح وصف ّية‬ ‫تعب عن جوهر‬ ‫وغري دقيقة‪ .‬لكننا نالحظ مع تع ّدد التعريفات أن هناك بعض املفاهيم األساس ّية التي ّ‬ ‫العدالة االنتقاليّة وهي‪ :‬العدالة‪ ،‬الحقيقة‪ ،‬املصالحة‪ ،‬تحقيق السالم‪ ،‬املحاسبة‪ ،‬التعويض‪ ،‬حفظ الذاكرة‪ ،‬منع‬ ‫التكرار‪ ،‬االنتقال إىل دولة القانون‪ ،‬إلخ‪ .‬لكننا نستطيع القول باختصار أن العدالة االنتقالية هي جملة اآلليات‬ ‫القضائية وغري القضائية التي تهدف إىل تحقيق هديف العدالة والسالم الدائم‪.‬‬ ‫أما خصائص هذه العدالة األساسية فتتعلّق بظرف تطبيقها‪ ،‬فهي استثنائية‪ ،‬مؤقتة‪ ،‬بطيئة وذات‬ ‫امتدا ٍد زمني كبريٍ نسبياً‪ ،‬مكلفة ومركّبة‪ .‬كام أنّها تعترب نوعاً من أنواع العدالة‪ ،‬بل إن البعض يعتربها‬ ‫مجاالً مركّباً ومستقالً بحد ذاته يجمع العديد من العلوم كالقانون والسياسة والطب النفيس وعلم االجتامع‬ ‫واألنرثوبولوجيا وعلم اإلجرام وعلم الضحايا‪ ،‬إلخ‪ .‬ومن املالحظ بالنسبة ملكونات العدالة االنتقالية أنّها عدالة‬ ‫برنامج مركّب من عدة ٍ‬ ‫آليات يتم‬ ‫مركّبة ومتن ّوعة العنارص‪ ،‬فليس هناك من ٌط واحد للعدالة االنتقالية‪ ،‬ألنّها‬ ‫ٌ‬ ‫اختيارها مبا يناسب الحالة املعن ّية‪ .‬وهي بشكل عام ترتاوح بني ثالثة مناذج وفق التايل‪:‬‬ ‫لكن الخيارات املذكورة‬ ‫تعب بالتأكيد عن مجمل‬ ‫ال ّ‬ ‫آليات العدالة االنتقالية‪ ،‬إذ‬ ‫يجب أال تختزل هذه العدالة‬ ‫مبج ّرد العدالة العقابية‪ ،‬ذلك‬ ‫أن ما مي ّيز العدالة االنتقالية‬ ‫عن العدالة العادية أنّها تربط‬ ‫ثالثة أزمنة‪ :‬املايض الذي تراجعه‬ ‫وتحاسب عىل االنتهاكات التي‬ ‫‪ 5‬األرقام مأخوذة من املوقع الرسمي للمركز الدويل للعدالة االنتقالية عىل اإلنرتنت‪ ،‬الرابط‪./http://www.ictj.org :‬‬ ‫‪ 6‬املرجع السابق‪.‬‬

‫‪95‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫ارتكبت يف نطاقه‪ ،‬والحارض الذي تقوم بعمل‬ ‫قطيعة بينه وبني املايض العنفي والدموي (عن‬ ‫طريق آليات التعويض وإعادة التأهيل)‪ ،‬واملستقبل‬ ‫الذي تبنيه عىل أساس السالم الدائم (عن طريق‬ ‫آليات املصالحة ودعم االنتقال الدميقراطي ومنع‬ ‫التكرار)‪ .‬إذن فالعقاب‪ ،‬والتعويض‪ ،‬وبناء السالم‬ ‫الدائم ومنع التكرار هي أهداف العدالة االنتقالية‪.‬‬ ‫لكن األهداف الثالثة املذكورة ال ميكن أن‬ ‫تتحقّق بدون الحقيقة‪ .‬فالحقيقة هي مفتاح‬ ‫حق‬ ‫العدالة والسالم ومق ّدمتهام الرضوريةً‪ .‬وهي ٌّ‬ ‫أسايس للضحايا يسبق أي حق آخر‪ ،‬ومن هنا‬ ‫ٌّ‬ ‫بشكلٍ‬ ‫أسايس حول‬ ‫نالحظ أنها عدالة تتمحور‬ ‫الضحايا قبل الجناة‪.‬‬ ‫وبهذا ميكن حرص مبادئ العدالة االنتقالية يف أربعة مبادئ هي‪ :‬الحق يف معرفة الحقيقة‪ ،‬الحق يف‬ ‫العدالة‪ ،‬الحق يف التعويض‪ ،‬والحق يف السالم وعدم التكرار‪ ،‬وهي املبادئ التي كانت محور البحث تباعاً‬ ‫غسالة! فالعدالة االنتقالية وسيلة لغسل‬ ‫يف األيام التالية‪ ،‬والتي تظهر يف الشكل آدناه بصورة مدخل حجرة ّ‬ ‫قذارات املايض الدموي‪ ،‬ولفتح صفحة جديدة بيضاء لبناء املستقبل‪.‬‬ ‫وتجدر اإلشارة إىل أن آليات العدالة االنتقالية ليست مسألة خيار‪ ،‬فهي آليات تتكامل‪ ،‬وتعالج مختلف‬ ‫جوانب العملية الرضورية لتحقيق هديف العدالة والسالم الدائم‪ .‬فال ميكن لعدالة انتقالية أن تنجح دون‬ ‫ٍ‬ ‫تعويض عادل‪،‬‬ ‫كشف حقيقة االنتهاكات السابقة لحقوق اإلنسان أو دون محاسبة مرتكبي الجرائم أو دون‬ ‫إلخ‪ .‬وهذا ما كان محور العمل يف الحالة التطبيقية التي تم العمل عليها‪ ،‬وهي إعداد مرشوع معلّل لقانون‬ ‫عدالة انتقالية قابل للتطبيق بالنسبة للحالة األوكرانية التي ستكون موضوع البحث يف األيام املقبلة‪ .‬وليتم‬ ‫اختتام اليوم بعرض وثائقي ‘التعذيب‪ :‬الجالدون والضحايا’ وهو يتعلّق مبسألة يف غاية األهمية لناحية رضورة‬ ‫املعالجة‪ ،‬بالنسبة لالنتهاكات املاضية وبالنسبة لضامن عدم التكرار وهي التعذيب‪ ،‬حيث تم النقاش حول‬ ‫عمل توثيقي يكشف الحقيقة املتعلّقة بالتعذيب يف سجون النظام العسكري اليوناين ‪.1974-1967‬‬ ‫اليوم الثاين ‪ 29‬متوز‪/‬يوليو ‪ :2014‬احلقيقة‬ ‫الحقيقة مبدأ أسايس وجامع يف كل تجارب العدالة االنتقالية‪ ،‬فال عدالة انتقالية بدون إقامة الحقيقة‪.‬‬ ‫وهي الحق األول للضحايا‪ ،‬ورضورة لبناء ذاكرة وطنية يتم من خاللها التصالح مع الذات مبواجهة املايض‬ ‫وتح ّمل تبعاته واالستفادة من تجاربه‪ .‬وعكس الحقيقة النسيان‪ ،‬وهو أم ٌر بالغ الخطورة عىل الهوية الوطنية‬ ‫وعىل بناء املستقبل‪ ،‬وهو يشجع بقاء حالة الالعقاب عن انتهاكات حقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫مطلق أي أنه ال يقبل التقييد (وبهذا هو يختلف عن الحق يف املعلومة ‪Droit à‬‬ ‫حق‬ ‫ٌ‬ ‫والحق يف الحقيقة ٌ‬ ‫‪96‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫‪ l’information‬أي الحق بالوصول‬ ‫إىل البيانات اإلدارية أو الحكومية‬ ‫والذي يرتبط بواجب الشفاف ّية‬ ‫ويتح ّدد برضورات الصالح العام)‪،‬‬ ‫وهو من الحقوق غري القابلة‬ ‫للسقوط مبيض الزمن وغري القابلة‬ ‫حق‬ ‫رصف أو التنازل‪ .‬وهو ٌّ‬ ‫للت ّ‬ ‫فردي وجامعي يف آنٍ معاً‪ ،‬أي‬ ‫حق لضحايا مختلف أنواع‬ ‫هو ٌّ‬ ‫وحق كذلك‬ ‫االنتهاكات ولذويهم‪ٌّ ،‬‬ ‫للشعب برمته يف كشف حقيقة‬ ‫جانب من الجلسات التي دارت أثناء املؤمتر‬ ‫ما جرى يف املايض واملسؤولني عن‬ ‫أحداثه‪.‬‬ ‫لكن أي حقيقة ننشد؟ يف الواقع ال وجود لحقيقة واحدة‪ ،‬بل لحقائق ع ّدة‪ ،‬ونستطيع القول أن هناك‬ ‫ثالث حقائق‪ :‬الحقيقة الشخصية (الفرديّة) والحقيقة الجامعية والحقيقة الواقعية‪.‬‬ ‫فالحقيقة قد تتأثر بعوامل شخص ّية تتعلّق بأشخاص الحدث السيام الضحايا‪ ،‬أو بعوامل خارج ّية‪.‬‬ ‫فالصدمة وجرح املايض يؤث ّر يف الذاكرة وبالتايل يف عمليّة كشف الحقيقة‪ .‬لكن هذا يجب أال يعوق هذه‬ ‫امله ّمة‪ ،‬ذلك أن هذه الصدمة والجرح العميق يتوارث مع األجيال‪ ،‬وسيكون بالتايل عامالً سلبيا يف إقامة‬ ‫السالم وبناء دولة القانون واملواطنة‪ .‬وكذلك تتأثر عملية كشف الحقيقة بعوامل خارج ّية‪ ،‬موضوع ّية كضياع‬ ‫األدلة وفناء الشهود‪ ،‬أو إراديّة كالتزييف والتأثريات السياسية‪.‬‬ ‫أما عن كيف ّية كشف الحقيقة‪ ،‬فمنذ منتصف القرن العرشين عرف العامل تشكيل هيئات مختصة‬ ‫بتطبيق العدالة االنتقالية أطلق عليها اسم لجان الحقيقة((( ‪ ،Truth Commissions‬وهي عبارة عن هيئات‬ ‫تؤسس لتقوم بدور التحقّق والتحري والتحليل والتحكيم واالقرتاح‪ .‬فتعمل عىل‬ ‫موقتة مستقلة وغري حكومية ّ‬ ‫إقامة الحقيقة بالتحقّق والتثبّت من الوقائع وسامع الشهادات وتحديد الضحايا واملسؤولني عن االنتهاكات‬ ‫األخطر لحقوق اإلنسان‪ ،‬ثم تحديد حاجات الضحايا‪ .‬وتقوم هذه اللجان بإعداد تقريرها النهايئ املتضمن‬ ‫كشف الحقيقة والتوصيات بخصوص اإلصالحات املمكنة والتعويضات‪.‬‬ ‫وتشكّل هذه اللجان من قبل الحكومة الوطنية سواء أكانت انتقالية أو ثورية أو ائتالفية‪ ،‬وقد تشكل‬ ‫من األمم املتحدة التي ترشف عىل العملية االنتقالية يف إطار عملية سالم شامل كام يف السلفادور وهاييتي‪.‬‬ ‫‪ 7‬تجدر اإلشارة إىل رضورة التفرقة بني لجان الحقيقة ولجان كشف الوقائع‪ ،‬فاألوىل ال تتعلّق بحادث واحد بل بحقبة زمنية كاملة تشمل كل االنتهاكات‬ ‫من أي نوع والتي ارتكبت خاللها‪ ،‬وهي كذلك ذات مهمة أعقد‪ ،‬فكشف الضحايا والجناة بالنسبة للتحقيق يف وقائع معينة أمر أبسط منه يف عمل لجان‬ ‫الحقيقة حيث أعداد الضحايا والجناة أكرب وحيث قد ينقلب الضحايا جناة يف مرحلة الحقة‪ ،‬وكذلك تختلف اللجنتان يف أدوات العمل‪ ،‬فلجان الحقيقة‬ ‫بخالف لجان إقامة الوقائع تتعدى الطرق التقليدية يف التحقيق‪ ،‬وأخريا تبحث لجان إقامة الوقائع يف الحقيقة الواقعية وتصدر تقريرها بخصوصها‪ ،‬يف حني‬ ‫معي أو إجراءا ً للتعويض إلخ‪.‬‬ ‫تتعدى لجان الحقيقة هذا الدور إىل مهام أخرى‪ ،‬كاقرتاح إصالح مؤسسايت ّ‬

‫‪97‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫ولجان الحقيقة هي األكرث شيوعاً واألكرث فعالية يف تطبيق العدالة االنتقالية‪.‬‬ ‫وقد تم الرتكيز يف هذا اإلطار عىل جانب مهم من جوانب كشف الحقيقة‪ ،‬وهو الحق يف معرفة مصري‬ ‫املختفني قرسياً‪ ،‬وهو ملف يف غاية األهمية من الناحية اإلنسانية‪ ،‬إلعادة املفقودين إىل ذويهم أو عىل األقل‬ ‫لكشف مصائرهم وتحرير ذويهم من قيد الذاكرة واالحتامالت‪ .‬ومن الناحية العمل ّية لضامن نجاح عملية‬ ‫العدالة االنتقالية بغلق هذا امللف وتجاوز أحداث املايض‪ .‬فاالختفاء القرسي من أهم عقبات إقامة الحقيقة‪،‬‬ ‫ونستطيع القول أن ال حقيقة ف ّعالة دون أن تكشف مصري املفقودين واملخطوفني‪.‬‬ ‫حق متف ّر ٌع عن‬ ‫كام تم التط ّرق إىل موضوع األرشفة‪ ،‬والحق يف الوصول إىل البيانات املحفوظة‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫الحق يف املعلومة وهو من حقوق اإلنسان املك ّرسة يف اإلعالن العاملي لحقوق اإلنسان لعام ‪ .1948‬ليتم‬ ‫االنتقال بعدها إىل التطبيق العميل‪ ،‬حيث كُلّف املشاركون بتشكيل لجان للحقيقة واملصالحة يف أوكرانيا‪،‬‬ ‫وتم إخضاعهم للعديد من الحاالت املتعلّقة باالستامع إىل شخوص الحدث األوكراين من مرتكبي انتهاكات‬ ‫حقوق اإلنسان ومن ضحايا هذه االنتهاكات‪ .‬بهدف كشف حقيقتها‪ .‬ويف هذا التدريب تع ّرف املشاركون عىل‬ ‫تقنيات كشف الحقيقة وأسلوب عمل لجان الحقيقة يف الحاالت املختلفة‪.‬‬ ‫وانتهى اليوم الثاين بعرض ونقاش فيلم ‘رواندا‪ :‬عرشون عاماً بعد اإلبادة’ الذي يوثق جانب املحاكامت‬ ‫يف برنامج العدالة االنتقالية الذي طُ ّبق عقب اإلبادة‪ ،‬والذي متحور بشكلٍ رئيس حول محاكمة املجرمني أمام‬ ‫املحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا ‪.TPIR‬‬ ‫اليوم الثالث ‪ 30‬متوز‪/‬يوليو ‪ :2014‬التعويضات‬ ‫العدالة االنتقالية نظا ٌم قانو ٌّين خاص يربط بني مرحلتي الرصاع والسالم الدائم‪ ،‬ولهذا فهو ال يُعنى فقط‬ ‫باملايض لكشف حقيقة االنتهاكات التي حصلت‪ ،‬بل يتوجه أيضاً إىل املستقبل الذي يجب أن يُبنى عىل ٍ‬ ‫أسس‬ ‫سليمة متنع تكرار تجربة املايض‪ .‬ويف هذا اإلطار تندرج التعويضات كأساس ال ب ّد منه لتحقيق املصالحة‬ ‫والسالم‪.‬‬ ‫وإذ يتساءل الفيلسوف األمرييك جون راولز ‪“ :John Rawls‬ما معنى الحريّة ملن ال ميلك شيئاً؟” فإننا‬ ‫نستطيع أن نتساءل بدورنا‪ ،‬ما معنى العدالة دون تعويض الرضر؟ مبعنى أن تكريس نظام العدالة ألي قيمة‬ ‫مهام كانت سامية كالحرية غري ٍ‬ ‫كاف بذاته دون ضامن حق امللكية وصيانة هذا الحق‪ .‬وهذا يتضمن إقرار‬ ‫مبدأ املسؤولية وتعويض الرضر‪ .‬ويف هذا اإلطار تعترب آليات التعويض يف إطار العدالة االنتقالية أمرا ً أساسيّاً‬ ‫ال ميكن االستغناء عنه‪.‬‬ ‫ويعد تعويض ضحايا االنتهاكات حقاً للضحايا والتزاماً عىل الدولة‪ ،‬وهو حق فردي وجامعي يف ذات‬ ‫الوقت‪ ،‬ويتضمن التعويض عن الرضر املادي والجسدي والنفيس واملعنوي‪.‬‬ ‫وطبيعة االنتهاكات الشاملة لحقوق اإلنسان تفرض شكالً مختلفا من التعويض يختلف عام هو متّبع‬ ‫يف العدالة العادية التي تقوم فيها السلطات القضائية بإقرار تعويض املترضرين وفق قواعد املسؤولية املدنية‪.‬‬ ‫فخاصيّة العمومية‪ ،‬أي شمول الرضر ألعداد كبرية من الضحايا‪ ،‬باإلضافة إىل ترافق الرضر الفردي بالجامعي وتن ّوع‬ ‫أشكال الرضر‪ ،‬تقتيض اللجوء إىل برامج تعويض متكاملة ماديّة وغري ماديّة‪ ،‬فرديّة وجامعيّة‪ ،‬وهو ما يق َّدم عن‬ ‫‪98‬‬

‫العدد ‪2‬‬

‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫طريق الجهاز اإلداري ال القضايئ‬ ‫يف الدولة‪.‬‬ ‫ولهذا التفريق أهميته‪،‬‬ ‫فالطريقة القضائية ضيقة لناحية‬ ‫إقرار من يستحق التعويض‪،‬‬ ‫وقواعد املسؤولية املدنية تقتيض‬ ‫إثبات عنارصها وهي الخطأ‬ ‫والرضر والعالقة السببية بينهام‪.‬‬ ‫أ ّما الطريقة اإلدارية فأكرث مرونة‬ ‫واتساعاً لناحية تحديد مستحقي‬ ‫متحف الذاكرة ‪ Museo de la Memoria‬يف سانتياغو يف تشييل‬ ‫التعويض‪ .‬كذلك تختلف‬ ‫الطريقتان يف أنواع التعويض املقرتحة‪ ،‬فربامج التعويض تتض ّمن خيارات أوسع‪ ،‬ال سيام يف مجال التعويض‬ ‫املعنوي وإعادة التأهيل‪.‬‬ ‫بالنسبة للتعويض املادي‪ ،‬فهو يبدأ برد األموال وامللكيات‪ ،‬مرورا ً بتعويض الخسارة مبقابل‪ ،‬نقدياً كان‬ ‫(سواء كان دفع ًة واحدة أو دوري ًة يف صورة مؤقتة أو دامئة) أم عينياً (كتقديم مساكن بديلة‪ ،‬أو إيجاد فرص‬ ‫عمل عىل سبيل املثال)‪ .‬وشكل هذا التعويض ليس فردياً فقط‪ ،‬بل قد يكون جامعياً بإنشاء وضعٍ قانو ٍّين‬ ‫ٍ‬ ‫خدمات معينة كالسكن والصحة والتعليم والنقل بشكل مجاين أو‬ ‫خاص ملجتمع الضحايا عن طريق تقديم‬ ‫بأسعار مخفّضة‪ ،‬أو مبنح امتيازات معينة أو إعفاءات رضيبة‪ .‬وكام نالحظ‪ ،‬فإن مروحة الخيارات واسعة‪ ،‬وال‬ ‫أفضلية لخيا ٍر عىل آخر‪ ،‬وتبقى مسألة املناسبة واالختيار للجهة املسؤولة عن برنامج التعويضات‪ ،‬والتي يجدر‬ ‫بها التواصل مع الضحايا وإرشاكهم يف عملية اتخاذ القرارات‪.‬‬ ‫أما بالنسبة للتعويض املعنوي فهو ذو أهمي ٍة خاصة يف عملية معالجة آثار الرصاع النفسية‪ ،‬وله دو ٌر‬ ‫هام يف منع تراكم األحقاد التي قد تشعل فتيل الرصاع مج ّددا ً‪ .‬وتقوم فلسفة هذا التعويض عىل عملية‬ ‫تبديل الوعي الفردي بالتضحية إىل وعي وطني وجامعي؛ أي أن تُ حى فكرة الضحية الفردية أو الفئوية‬ ‫لصالح فكر ٍة أخرى تتجاوز األحكام الكليّة واملسبقة‪ :‬أنا‪/‬نحن الضحية وهو‪/‬هم الجناة‪ ،‬فيام يشكل ما ميكن‬ ‫تسميته مبجتمع الضحايا‪ ،‬مقابل مجموعة املسؤولني والجناة‪.‬‬ ‫أما من الناحية التقنية‪ ،‬فالتطبيقات تكشف العديد من الخربات والوسائل لتحقيق أهداف التعويض‬ ‫يوم وطني إلحياء ذكرى الضحايا‪ ،‬أو إقامة مراسم سنوية معيّنة‪ ،‬أو إنشاء‬ ‫املعنوي‪ ،‬واألمثلة كثرية كتحديد ٍ‬ ‫متاحف السالم أو النصب التذكارية أو أمكنة الذاكرة‪ ،‬أو تقديم اعتذار رسمي‪ ،‬أو تخليد الضحايا ور ّد االعتبار‬ ‫لهم بتسمية األماكن العامة بأسامئهم‪ ،‬والقامئة مفتوحة عىل مبادرات واقرتاحات أخرى لتحقيق ذات الهدف‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مساس باالعتبار والقيم‬ ‫تعويض ال يتعلق بخسار ٍة مادية أو‬ ‫وعدا التعويضني املادي واملعنوي‪ ،‬هناك‬ ‫ٌ‬ ‫املعنوية األخرى‪ ،‬وهو تعويض الرضر الجسدي والنفيس‪ .‬فالرصاعات املسلّحة تخلّف أعدادا ً هائلة من أصحاب‬ ‫اإلعاقات والتشوهات الجسدية والنفسية‪ ،‬وهي ترتبط بشكلٍ أسايس بجرائم تجنيد األطفال والعنف الجنيس‬ ‫‪99‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫ضد املرأة والطفل (وهي الفئات األضعف واألكرث تأثرا بالرصاعات املسلحة)‪.‬‬ ‫وتطرح آليات التعويض مشاكل ع ّدة أهمها مشكلة التمويل‪ .‬فمرحلة ما بعد الرصاع تكشف عن ك ِّم‬ ‫ٍ‬ ‫الخسارة وكلفتها‪ ،‬وترتب التز ٍ‬ ‫واستحقاقات مرهقة للدولة‪ ،‬كإعادة اإلعامر وتأهيل البنية التحتية‪ .‬كام‬ ‫امات‬ ‫تطرح هذه املشكلة مسألة تحديد مستحقي التعويض‪ ،‬وتحديد صفة الضحية‪.‬‬ ‫بقيت اإلشارة إىل أن آلية التعويضات يف إطار العدالة االنتقالية تطرح العالقات املتع ّددة األوجه لهذه‬ ‫العدالة بالعلوم األخرى‪ ،‬كالطب النفيس واألنرثوبولوجيا وعلم االجتامع وعلم اإلجرام وعلم الضحية‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إىل االعتبار الذي يجب أن يراعى بخصوص الدين والتقاليد والثقافة املحلية يف بيئة الرصاع‪ .‬كام تلعب وسائل‬ ‫اإلعالم وهيئات املجتمع املدين دورا ً هاما يف مجال التعويض املعنوي ودعم املصالحة‪.‬‬ ‫ويف هذا اإلطار شكّل وثائقي ‘بالد الباسك‪ :‬باتجاه إنهاء العنف’ الذي ُعرض يف ختام اليوم الثالث مثاالً‬ ‫ممتازا ً لتطبيق العدالة االنتقالية‪ ،‬ومواجهة املايض والتعامل معه‪.‬‬ ‫اليوم الرابع ‪ 31‬متوز‪/‬يوليو ‪ :2014‬العقاب وضمان عدم التكرار‬ ‫ال بد من فهم العدالة االنتقالية بشكلٍ متوازن‪ ،‬فمضمونها ال ينطوي عىل عدال ٍة تعويضية أوعىل‬ ‫عدال ٍة جزائية بشكلٍ حرصي‪ .‬فاملساران متالزمان‪ .‬وقد كُ ِّر َس هذا اليوم آللية املحاسبة‪ ،‬ومناهضة الالعقاب‬ ‫ومنع تكرار االنتهاكات‪ ،‬وهذا يندرج ضمن حقّني هام الحق يف العدالة والحق يف عدم التكرار‪ ،‬أو لنقل‪:‬‬ ‫الحق يف السالم الدائم‪.‬‬ ‫أما بالنسبة للحق يف العدالة فهو ينطوي عىل محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق اإلنسان‪ ،‬وهو التزا ٌم‬ ‫دويل عىل كافة الدول مبناهضة حالة الالعقاب عن انتهاكات حقوق اإلنسان والجرائم ضد اإلنسانية وجرائم‬ ‫الحرب‪ .‬وهذا الحق هو املقابل للنسيان‪ ،‬أو للعفو الشامل‪ ،‬الذي يرتك آثارا ً سلبي ًة للغاية تؤدي الستمرار بيئة‬ ‫الرصاع وته ّدد بتج ّدده‪.‬‬ ‫وتق ّدم التطبيقات يف أكرث من بلد أمثل ًة متن ّوع ًة لناحية االختصاص القضايئ‪ ،‬ففي بعض التجارب تم‬ ‫اللجوء إىل العدالة الدولية بإنشاء محكمة جنائية دولية خاصة ‪ ،TPI‬أو باإلحالة إىل محكمة الجنايات الدولية‬ ‫‪ .CPI‬ولهذا االختصاص سلبياته (كالكلفة املادية الضخمة‪ ،‬والبطء يف املحاكامت‪ ،‬وقلّة األحكام الصادرة‪،‬‬ ‫واتباع إجراءات النظام القضايئ األنغلو‪-‬أمرييك)‪ ،‬وإيجابياته (كتأمني محاكمة عادلة وغري مسيّسة)‪ .‬ويف بعض‬ ‫التجارب ُعهد باختصاص النظر يف انتهاكات املرحلة السابقة للقضاء الوطني أو املختلط (كام يف كمبوديا‬ ‫حيث أسست الغرف االستثنائية التي تضم قضا ًة وطنيني وأجانب يف هيئاتها)‪.‬‬ ‫أما من الناحية املوضوعية تطرح العدالة العقابية العديد من التساؤالت والصعوبات‪ ،‬كغياب‬ ‫التحقيقات واألدلة ال سيام الشهادات أو صعوبة إجراءها (لسبب مادي كطمس معامل الجرمية‪ ،‬أو قانوين‬ ‫كعدم وجود نظام قانوين ف ّعال لحامية الشهود‪ ،‬أو تقادم الجرم‪ ،‬أو مبدأ عدم رجعية القوانني الجزائية‬ ‫الجديدة‪ ،‬فضالً عن الحصانات واللجوء السيايس والتذ ّرع بواجب الطاعة للرؤساء)‪.‬‬ ‫لكن يبقى التحدي األكرب يف إنجاز عملية العدالة االنتقالية بشقها املتعلّق باملحاسبة هو آليات العفو‬ ‫العام والصفح‪ ،‬أو العفو الخاص عندما تستخدم بذريعة املصالحة‪ ،‬وهي آلياتٌ خطرية قد تؤدي إىل فشل‬ ‫‪100‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫تطبيق العدالة االنتقالية بتأكيدها حالة الالعقاب‪ .‬إذ يعترب العفو آلي ًة قضائي ًة خاصة تهدف إىل إنهاء إمكانية‬ ‫أو تعطيل آثار املالحقة القضائية بالنسبة ملجموعة معينة من األشخاص وبالنسبة لجرائم محددة‪ .‬وهو‬ ‫يختلف عن الصفح أو العفو الخاص يف أن األخري ُينح بصف ٍة فردية ال جامعية‪ ،‬كام أنه ال يكون إال بعد‬ ‫الحكم (يف حني أن العفو قد يصدر بعد الحكم فيوقف أثره‪ ،‬أو قبل الحكم فيوقف املالحقة القضائية)‪.‬‬ ‫ويشجع الربوتوكول الثاين التفاقيات جنيف ‪ 1977‬يف املادة ‪ 6‬الفقرة ‪ 5‬عىل العفو يف الرصاعات‬ ‫الداخلية املسلحة فينص عىل أنه‪“ :‬تسعى السلطات الحاكمة ‪-‬لدى انتهاء األعامل العدائية‪ -‬ملنح العفو‬ ‫الشامل عىل أوسع نطاق ممكن لألشخاص الذين شاركوا يف النزاع املسلح أو الذين قيدت حريتهم ألسباب‬ ‫تتعلق بالنزاع املسلح سواء كانوا معتقلني أم محتجزين” وكام نالحظ فإن هذا النص يتعلق مبرحلة ما بعد‬ ‫النزاع الداخيل املسلح‪ ،‬ويتعلق بالجرائم العادية ال جرائم القانون الدويل اإلنساين كام توضّ حه الفقرة األوىل‬ ‫حول نطاق تطبيق املادة بالقول‪“ :‬تنطبق هذه املادة عىل ما يجري من محاكامت وما يوقع من عقوبات‬ ‫جنائية ترتبط بالنزاع املسلح”‪.‬‬ ‫أما بالنسبة لجرائم الحرب والجرائم ضد اإلنسانية‪ ،‬فقد صدرت العديد من اإلعالنات غري امللزمة من‬ ‫ٍ‬ ‫هيئات دولية موقفاً‬ ‫األمم املتحدة التي ترفض العفو عن الجرائم املتعلقة بحقوق اإلنسان‪ .‬كام أصدرتْ عد ُة‬ ‫مناهضاً للعفو عن هذه الجرائم كموقف املحكمة األمريكية (لدول أمريكا الوسطى والجنوبية) لحقوق‬ ‫اإلنسان من قانون العفو يف الربازيل عام ‪ .1979‬كام أن املحاكم الوطنية قد تبطل مفعول قوانني العفو‬ ‫بإعامل قاعدة تسلسل القوة امللزمة للقواعد القانونية‪ ،‬باالحتجاج باالتفاقيات الدولية أو بالنصوص الدستورية‬ ‫إلبطال العفو أو الحد من آثاره‪ ،‬وهو ما قامت به مثالً محكمة استئناف سانتياغو يف تشييل عام ‪2003‬‬ ‫عندما أكّدت إدانة خمسة ضباط بجرائم ال تقبل العفو ‪ Inamnistiable‬مبوجب االتفاقيات املص ّدقة يف‬ ‫تشييل‪ ،‬وكام حدث بالحكم بـ ‘ال دستورية’ قانون أرجنتيني يحمي عسكريي الرتب الدنيا من املحاكامت‪،‬‬ ‫ويضيّق النطاق الزمني لالنتهاكات القابلة للمحاكمة‪.‬‬ ‫ويلعب املجتمع املدين بهيئاته املختلفة دورا ً هاماً يف منع استمرار الالعقاب‪ ،‬ال سيام جمعيات الضحايا‬ ‫وجمعيات الدفاع عن حقوق اإلنسان باإلضافة إىل الناشطني يف املجالني اإلنساين والحقوقي‪ ،‬حيث تؤدي‬ ‫جميعها دورا ً هاماً يف كرس الصمت وتشجيع الضحايا عىل كشف الحقيقة والتغلّب عىل الخوف‪ .‬كام تساهم‬ ‫عن طريق التواصل مع وسائل اإلعالم يف تشكيل رأي عام ضاغط عىل الحكومة يف سبيل دفع عجلة العدالة‬ ‫لكشف الحقيقة ومحاسبة املجرمني‪.‬‬ ‫محصل ٌة للمصالحة‬ ‫أما فيام يتعلّق مبنع تكرار االنتهاكات‪ ،‬أو ما أسميناه ‘الحق يف السالم الدائم’‪ ،‬فهو ّ‬ ‫التي تتوقف بدورها عىل جديّة عملية العدالة االنتقالية‪ ،‬أي نجاحها يف كشف الحقيقة التي تحقّق هدفني‪:‬‬ ‫ر ّد كرامة واعتبار الضحايا باالعرتاف بتضحياتهم‪ ،‬وتوضيح الحقيقة التاريخة املتعلّقة بالفرتة الزمنية التي‬ ‫جرت فيها االنتهاكات والجرائم‪ .‬كام تتوقّف هذه املصالحة‪ ،‬وبالتايل ضامن عدم تكرار انتهاكات حقوق‬ ‫اإلنسان‪ ،‬عىل جديّة محاكمة املسؤولني عن الجرائم وفعال ّية برامج التعويض املختلفة ورسعتها‪ ،‬ذلك أن نجاح‬ ‫هاتني اآلليتني يزيل االحتقان ومينع تراكم األحقاد أو إعادة إنتاج بيئة الرصاع يف املستقبل‪ .‬وأخريا ً‪ ،‬يرتبط‬ ‫ضامن عدم تكرار انتهاكات وجرائم حقوق اإلنسان باإلصالح املؤسسايت لألجهزة التي ساهمت بارتكاب هذه‬ ‫االنتهاكات‪ ،‬وبتحقيق االنتقال إىل دولة القانون التي تحرتم قيم ومبادئ حقوق اإلنسان‪.‬‬ ‫‪101‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫ويف سياق الحديث‬ ‫عن آلية املحاسبة يف العدالة‬ ‫االنتقالية‪ ،‬قام املشاركون مبحاكاة‬ ‫محاكم ٍة لقادة ميليشيات‬ ‫ولضباط أوكرانيني أمام محكمة‬ ‫جنائية دولية خاصة بأوكرانيا‪،‬‬ ‫وذلك يف إطار عملية شاملة‬ ‫للعدالة االنتقالية كمخرج لألزمة‬ ‫يف هذا البلد‪ ،‬حيث قُ ّدمت‬ ‫مرافعاتٌ حاول بها فريقا االدعاء‬ ‫صورة جامعية لعدد من املشاركني يف املؤمتر ويبدو الكاتب يف الصف األعىل‬ ‫والدفاع تكييف األحداث محل‬ ‫البحث وتقديم االدعاءات أو الدفوع املناسبة لإلدانة أو لدفع االتهامات‪.‬‬ ‫ويف ختام يوم العمل الرابع‪ ،‬تم عرض الفيلم الفرنيس ‘زولو ‪ ’Zulu‬إنتاج عام ‪ ،2013‬الذي تدور‬ ‫أحداثه يف جنوب إفريقيا‪ ،‬ويتحدث عن مرحلة ما بعد نظام الفصل العنرصي‪ ،‬وتطبيق العدالة االنتقالية عن‬ ‫طريق لجنة الحقيقة واملصالحة التي أثارت الحساسية بني الضحايا ومرتكبي انتهاكات حقوق اإلنسان‪ .‬وهو‬ ‫يتناول مواضيع الندم والصفح والعنف واالنتقام‪ ،‬حيث أن الالعقاب يولّد الشعور بالخيبة‪ ،‬واملواجهة بني‬ ‫ضحايا األمس وجالديه مام يُحيل إىل ‘العدالة الذاتية’ لتحصيل الحقوق‪.‬‬ ‫اليوم اخلامس ‪ 1‬آب ‪/‬أغسطس ‪ :2014‬خامتة‬

‫يف نهاية أسبو ٍع كثيف‪ ،‬تم خالله سرب آليات العدالة االنتقالية ومقاربة العديد من تجاربها‪ ،‬وتطبيقها‬ ‫عملياً عىل األزمة األوكرانية‪ ،‬كان ال بد من جائزة صغرية يحظى بها املشاركون كتتويج لعمل جامعي‬ ‫وفردي شيّق‪ .‬وهذا ما كان باالنتقال إىل الضفّة األخرى إلقليم الباسك‪ ،‬إىل إسبانيا‪ ،‬وبالتحديد إىل مدينة‬ ‫سان سيباستيان أو دونوستيا ‪ .Saint Sébasian - Donosti‬حيث قمنا بزيارة ملجلس مقاطعة غيبوثكوا‬ ‫‪ ،Diputación Foral de Gipuzkoa‬وفيها كانت محارضة الختام القيّمة التي ق ّدمها املستشار يف محكمة‬ ‫استئناف فرساي سريج بورتيليل ‪ Serge Portelli‬صاحب األعامل العديدة يف مجال العدالة وإصالحها‪.‬‬ ‫ليست هناك حقيقةٌ‪ ،‬والعدالة غري موجودة! هذه الخالصات تتصل ليس فقط يف فهمنا للحقيقة‬ ‫والعدالة‪ ،‬بل ويف الواقع الذي يفرض نفسه ويجربنا عىل تغيري نظرتنا باستمرار لكل بناء فكري‪ .‬وإذا كانت‬ ‫العدالة نظاماً عقالنياً إلدارة املجتمع‪ ،‬فإن هذا النظام يتشكّل وفق طبيعة هذا املجتمع تشكّل املاء يف اإلناء‪،‬‬ ‫ليس فقط لناحية القيم التي يتبناها ويقوم بتكريسها وحاميتها‪ ،‬بل لناحية مرونته وتكيّفه مع الظروف‬ ‫الواقعية أيضاً‪ ،‬وهي الظروف التي أدت لخلق عدال ٍة استثنائية كالعدالة االنتقالية‪ ،‬التي يحق وصفها بـ‬ ‫‘عدالة الحد األدىن’‪.‬‬ ‫‪102‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫مبادئ العدالة االنتقالية‪ :‬من بالد الباسك إىل أوكرانيا‬

‫وكأمنا جاء ذلك مثاالً مؤكِّدا ً للنقصان‬ ‫وعدم الكامل يف هذه العدالة‪ ،‬تطالعك يف‬ ‫العديد من مقاهي مدينة سان سيباستيان‬ ‫صو ٌر معلّق ٌة مع عبار ٍ‬ ‫ات بالباسكية تسعفنا‬ ‫إحدى زميالتنا برتجمتها‪“ :‬إنهم معتقلون‬ ‫باسكيون عىل خلفية أحداث املايض‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأبطال يف عيون‬ ‫مجرمون بنظر من يعتقلهم‪،‬‬ ‫مواطنيهم‪ ،‬وكأن العدالة االنتقالية تظهر لنا‬ ‫كل يشء”‪.‬‬ ‫عجزها عن فعل ّ‬ ‫تتج ّول يف كورنيش املدينة الساحل ّية‬ ‫الجميلة لتلتقي بتمثا ٍل أليقونة إسبانيا‪ :‬دون‬ ‫كيشوت ‪ Don Quixote‬برمحه املكسور‬ ‫يصحبة رفيق دربه سانشو بانزا ‪Sancho‬‬ ‫متثال لدون كيشوت وسانشو‬ ‫‪ Panza‬يتجوالن يف عا ٍمل يع ُّمه االبتذال‬ ‫نصيب هذا‬ ‫واالضطراب وانهيار القيم‪ ،‬يف محاول ٍة للرتميم وتأكيد قيم الفرسان النبيلة‪ .‬لكن هل يكون‬ ‫ُ‬ ‫النظام القانوين يف تحقيق هديف العدالة والسالم نصيب دون كيشوته يف محاربته لطواحني الهواء أو يف لقاء‬ ‫دولسينيه ‪ Dulcinea‬املتو َّهمة؟ لسنا ندري!‬ ‫ومع هذا الكم من األفكار التي متوج‪ ،‬والتي تكثّف املايض والحارض واملستقبل‪ ،‬تبقى سوريا يف محور‬ ‫االهتامم‪ ،‬وهي التي تعد اليوم إحدى أكرب بؤر التوتر يف العامل‪ ،‬واإلسقاط الذي تم خالل أسبوع العدالة‬ ‫االنتقالية هذا عىل األزمة األوكرانية ميكن أن يتم كذلك عىل األزمة السورية‪.‬‬ ‫أي مستقبلٍ للعدالة االنتقالية يف سوريا؟ قد نحاول اإلجابة عىل هذا التساؤل يف مناسبة الحقة‪.‬‬ ‫ُّ‬

‫‪103‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫اإلحلاد‬

‫نسرين عالء الدين❊‬

‫والبحث عن رب غري سخيف‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ال يكفي أن تولد يف بالد تتخذ التوحيد شعاراً لها وتجعل القرآن والسنة دستورها يك تكون‬ ‫مؤمناً موحداً‪ .‬فالبحث عن اإلله الذي يبدأ مباذا‪ ،‬وكيف‪ ،‬وملاذا؟ يحتاج إىل أجوبة لن‬ ‫يجدها من يعيش يف بيئة متشددة‪ ،‬بل قد تدفعه هذه البيئة إىل إنكار اإلله بينه وبني‬ ‫نفسه‪ ،‬متظاهراً باإلميان أمام املجتمع‪ ،‬يف محاولة حثيثة للبحث عن راح ٍة وتوازنٍ ‪ ،‬كان‬ ‫ليجدهام لو استطاع العيش يف بيئة تساؤلية متكّن املشكّك من تشكيل قناعة متوازية‬ ‫اتجاه الله‪.‬‬

‫لالستامع إىل التسجيل الصويت املرافق للامدة‬ ‫‪https://soundcloud.com/ctpa-arabic/e97z2scfeybj‬‬

‫‪104‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫اإلحلاد والبحث عن رب غري سخيف‬

‫التهميش الفكري سبب إحلادي‬ ‫ال يحاول عبد الله الذي يعمل في إحدى الدوائر الحكومية في السعودية إخفاء موضوع إلحاده عن‬ ‫محيطه‪ ،‬ويقول‪“ :‬أنا لم أب ّدل دين اإلسالم بدين أخر‪ ،‬ألني لم أقتنع بأي من الديانات األخرى‪ ،‬حيث تجتمع‬ ‫تلك الديانات مع اإلسالم في الشكل الخارجي‪ ،‬إذ تعتمد هذه األديان في معظمها على قصص وروايات‬ ‫تاريخية يختلف الكثيرون في إسنادها وصحتها”‪ .‬ويضيف عبد الله ذو الثالثين عاماً‪“ :‬لم يكن من الممكن‬ ‫أن أحصل على التنوير الفكري داخل المملكة‪ ،‬لكن انتدابي إلى الخارج إلتمام دراستي العليا أتاح لي أن‬ ‫أتعرف على مساحة فكرية لم يكن مسموحاً بها في السعودية‪ ،‬حيث كان أصدقائي يسخرون من دياناتهم‬ ‫وكنت أشاركهم في ضحكهم‪ ،‬ولكن عندما صاروا يطرحون بعض النكت عن اإلسالم كنت أغضب فوجدت‬ ‫تناقضاً داخلياً في نفسي‪ ،‬كيف أضحك على دياناتهم وأمنع نفسي من الضحك على النكات التي تتناول‬ ‫اإلسالم؟ خاصة أنني لم أكن مقتنعاً تماماً بالقصص التي كنا نتلقاها في المدرسة والجامع‪ ،‬ومنها كيف يهتم‬ ‫أله قوي ال يهز عرشه أحد لدخولنا إلى التواليت بالرجل اليسرى بدالً من الرجل اليمنى‪ ،‬وكيف سيدخل‬ ‫الشيطان إلى جسدي عندما أستمع للموسيقى واألغاني وغيرها من التساؤالت الكثيرة‪ .‬وعندما كنت أناقش‬ ‫سي‪ ،‬كانوا ينهوني عن األسئلة ويقولون هي كذلك والنقاش ممنوع في أمور الدين‪ .‬وصرت أبحث في‬ ‫مد ّر ّ‬ ‫الكتب وفي قناعتي إلى أن توصلت إلى أنه ال يوجد أهمية لدين يعتقد أتباعه أن الكون خُ لق صدفة‪ ،‬أو أن‬ ‫قصة حدثت قبل ‪ 1400‬عام ستحكم مجرى حياتنا اليومية”‪ .‬ويؤ ّكد عبد الله‪“ :‬طبعاً هذه القناعة لم تتكون‬ ‫في فترة قصيرة بل أخذت فترة ً تتراوح بين أربع إلى خمس سنوات عشت معظمها خارج السعودية‪ ،‬حيث‬ ‫عشت في بالد ال تمارس ضغوطاً على مواطنيها والمقيمين فيها كي يمارسوا عبادات دينية‪ ،‬أياً كانت تلك‬ ‫‪105‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫اإلحلاد والبحث عن رب غري سخيف‬

‫الديانات! مما خلق لدي مجاالً لمراجعة التعاليم التي تلقيتها حول الثواب والعقاب‪ ،‬وحول النار والجنة‬ ‫وحول الخالق أو (الله) بحد ذاته‪.‬‬ ‫ويتابع عبد الله‪“ :‬لم أستطع أن أتوصل إلى معظم الحقائق‪ ،‬كخلق الكون ووجود اإلله الذي لم يثبت‬ ‫العلم عدم وجوده‪ ،‬لكنه أثبت عدم الحاجة إليه‪ ،‬إلى أن اكتفيت بتحكيم العقل‪ .‬وأنا ال أخجل عندما ُأسأل‬ ‫عن أم ٍر ما‪ ،‬أن أقول ال أعرف‪ ،‬حيث يوجد فرضيات علمية كثيرة لكيفية نشأة الكون‪ ،‬لكن العلم س َّد لدي‬ ‫فجوات كثيرة نتجت عن تساؤالتي حول الوجود والكون”‪.‬‬ ‫وعن األسلوب الذي يتبعه عبد الله في حياته يقول‪“ :‬الدين اإلسالمي متغلغل في حياتنا اليومية‪ ،‬فأنا‬ ‫متزوج من قبل أن أترك اإلسالم‪ ،‬وزوجتي تعلم بموضوع إلحادي‪ ،‬لكنها ال تمانع في ذلك وهي ال زالت‬ ‫مسلمة‪ ،‬أما أبنائي فنحن نحاول أن نعرفهم على الدين اإلسالمي وعن تعاليمه لكن بشكل مبسط ودون‬ ‫ُ‬ ‫أفضل أن يختاروا الطريقة التي‬ ‫أن نجبرهم على القيام بأي نوع من العبادات كالصالة والصوم وغيره‪ .‬وأنا‬ ‫يجدون أنها تناسبهم في حياتهم‪ ،‬فأنا حالياً أقيم في المملكة لكن أبنائي يقيمون في إحدى الدول األوربية‪،‬‬ ‫ففي السعودية يتم إدخال الدين اإلسالمي في كل تفاصيل الحياة اليومية لإلنسان ويطرحه القائمون هناك‬ ‫بطريقة ساذجة‪ ،‬وفي المقابل يرفضون أي نقاش في الدين مهما كان هذا النقاش بسيطاً‪ ،‬ويقابلون الشخص‬ ‫بالعنف والتهديد”‪ .‬وعن نسبة األشخاص الملحدين في السعودية يقول عبد الله‪“ :‬ظهرت بعض اإلحصائيات‬ ‫لكن األكيد أن عدد األشخاص الملحدين في السعودية‬ ‫منذ فترة بسيطة‪ ،‬لكني لست متأكداً من دقتها‪ّ ،‬‬ ‫ليس قلي ًال‪ ،‬والبعض منهم يجاهر بهذا األمر‪ ،‬حيث بدأت أالحظ ازدياد عددهم من خالل صفحات التواصل‬ ‫االجتماعي وغيرها من مواقع الكترونية في السنوات الخمس األخيرة”‪ ،‬وعن تعامل السلطات السعودية‬ ‫مع هذه الظاهرة يقول عبد الله‪“ :‬في البداية أنكر الجميع وجود ملحدين في السعودية‪ ،‬لكني لمست‬ ‫تغ ُّيراً في األسلوب والكلمات التي تُستعمل في مناقشتي أو مناقشة من هم مثلي‪ ،‬حيث كان يتم اتهامنا‬ ‫بالعلمانية أو الليبرالية‪ ،‬لكنهم اليوم يقولون يا ملحد! ربما كان هذا االتهام غائب عن ذهنهم فيما قبل‪.‬‬ ‫ويتابع “إن السلطات السعودية ليست جادة في تنفيذ العقوبات التي وضعتها في حق من يثبت عليه‬ ‫اإللحاد”‪ ،‬لذلك هو ال يخشى على نفسه من إقامة الحد عليه‪ ،‬طالما أن هويته الحقيقية لم تكتشفها‬ ‫السلطات المعنية‪.‬‬ ‫خوف على اجملتمع‬ ‫يعتبر ماجد ذو السبعة والثالثين عاماً‪ ،‬والذي يخفي موضوع إلحاده عن عدد من أقاربه ومعارفه‪ ،‬أن‬ ‫عدم وجود أي مثال مش ّرف عن المجتمع اإلسالمي يمثل مشكلة حقيقية بالنسبة له‪ ،‬ويشير إلى أنّه البد‬ ‫من وجود مجتمعات يمكن االستشهاد بها‪ ،‬حيث تكون قد فهمت وطبقت اإلسالم بشكل صحيح‪ ،‬إذا كان‬ ‫الدين بالفعل صالح لكل زمان ومكان‪ ،‬لكن ذلك غير موجود‪ .‬ويؤ ّكد أنّ المتشدد من أي فئة هو مسي ٌء لها‪.‬‬ ‫ويتابع ماجد‪“ :‬إنّ المجتمع العلمي واكتشافاته التي ال تتماشى مع ظاهر القرآن والسنة‪ ،‬ساهما‬ ‫في إعادة بلورة نظرتي للدين‪ ،‬فأنا ال أؤمن بوجود الله على الشكل الذي يطرحه اإلسالم أو بقية األديان‬ ‫السماوية‪ ،‬رغم أن العلم لم يثبت عدم وجود الخالق”‪ .‬ويضيف‪“ :‬مسألة تركي للدين اإلسالمي لم تأخذ مني‬ ‫وقت طوي ًال بعد أن غ ّيرت نظرتي لإلسالم‪ ،‬ولم أعد أنظر إليه بنظرة عاطفية‪ ،‬وصرت أبحث في الحقائق‬ ‫‪106‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫اإلحلاد والبحث عن رب غري سخيف‬

‫العلمية‪ ،‬ومن وجهة نظري المتواضعة‪ ،‬أجد أن المنطق والموضوعية يؤديان إلى تق ُّبل اإللحاد إلى حد كبير‪،‬‬ ‫فاإللحاد يمثل فكر نقدي ال أكثر”‪ .‬ويقول ماجد الذي يقيم في الرياض‪ ،‬ويعمل في إحدى المؤسسات‬ ‫الحكومية السعودية‪“ :‬كانت هناك محاوالت إلقناعي بأن اإلسالم هو دين الحق في بداية معرفة بعض‬ ‫األصدقاء بموضوع إلحادي‪ ،‬كما عانيت من رفض بعض أقاربي لموضوع اإللحاد‪ ،‬لكنهم تفهموا هذا األمر‬ ‫فيما بعد”‪ .‬ويضيف‪“ :‬ليست لدي خشية أو خوف على نفسي بقدر خشيتي على الطريقة التي تتبعها‬ ‫المملكة في محاربة أصحاب الفكر المتن ّور الذين ينادون بالحرية الفكرية‪ ،‬والتي أرى أنّها من أساسيات‬ ‫ظهور اإلبداع في المجتمع‪ ،‬فمن أسباب الضمور الفكري تهميش استقاللية العقل والعيش في مجتمع‬ ‫‘قوالب’ إن صح التعبير‪ .‬وعن تأثير اإلسالم في حياته‪ ،‬يقول ماجد‪“ :‬أنا أرفض الدين اإلسالمي بشكله‬ ‫ٍ‬ ‫لخوف من عقاب إلهي‪،‬‬ ‫ومضمونه‪ ،‬وأحاول االمتثال بالعدل وحسن الخلق‪ ،‬ولكن ليس ذلك رجا ًء بجنة أو‬ ‫حيث شعرت براحة كبيرة بعد تركي لإلسالم فأنا لم أعد أقوم بأي عمل‪ ،‬وأنا أحسب هل سأدخل الجنة أو‬ ‫ُ‬ ‫سأعاقب بالنار‪ ،‬على قدر حسابي لمسألة هل سيتضرر أي إنسان من قيامي بهذا العمل أو ال‪ .‬ولم أعد‬ ‫أشعر أن هناك من يراقبني من بعيد‪ ،‬ويحمل بيده عصا من النار لمعاقبتي عند أقل هفوة قد تصدر مني‪.‬‬ ‫بالد التوحيد واإلحلاد‬ ‫أجرى ‘معهد غالوب الدولي’ دراسة إحصائية حول الملحدين والمؤمنين في العالم‪ ،‬وب ّينت الدراسة‬ ‫أن الصين احتلت المركز األول عالمياً في اإللحاد‪ ،‬تلتها اليابان ثم التشيك وفرنسا‪ .‬وتضع الدراسة المملكة‬ ‫العربية السعودية في المرتبة األولى ضمن العالم اإلسالمي في معدالت إلحاد تجاوزت ‪ 6%‬من السكان‪.‬‬ ‫وحاولت المملكة السعودية إنكار صحة هذه اإلحصائية وغيرها من التقارير الصحفية التي تتحدث‬ ‫عن ازدياد عدد الملحدين في المملكة عن طريق علماء الدين لديها‪ ،‬والذين نفوا بشدة وجود ملحدين في‬ ‫المملكة‪ ،‬دليلهم أن المساجد دائماً ممتلئة بالمصلين‪ ،‬والشعائر الدينية ُمقامة في جميع أنحاء المملكة‪،‬‬ ‫التي تُعتبر من أكثر البلدان المسلمة تشدداً في تطبيق الدين اإلسالمي على مواطنيها والمقيمين فيها‪،‬‬ ‫مما خلق جواً متعصباً وخانقاً للحريات‪ .‬فالمرأة في السعودية ال تتمتع بأدنى حد من الحقوق التي من‬ ‫المفترض أن الدين اإلسالمي منحها إياها‪ .‬كما يعاني السعوديون من الفكر المتش ّدد الذي يكبت األسئلة‬ ‫ويقمعها وال يرحب باالختالف في الرأي ويمنع الحوار‪ ،‬ما خلق تيارات فكرية عديدة سارعت السلطات‬ ‫إلى محاربتها وقمعها عن طريق منع عدد كبير من الكتب من الدخول إلى المملكة‪ ،‬واتهام األفراد الذين‬ ‫يروجون لألفكار التحريرية بالعلمانية واللبرالية الممنوعة في السعودية‪ ،‬ما خلق فراغاً فكرياً لدى فئات‬ ‫واسعة من الشعب السعودي‪.‬‬ ‫وأدى كل ذلك‪ ،‬بحسب مراقبين للوضع السعودي إلى ارتفاع نسبة الشباب الذين يتعاطون المخدرات‬ ‫والمشروبات الكحولية‪ ،‬فيما لجأت الفئات المثقفة إلى الثورة على الفكر الديني المتشدد وأعلنت إلحادها‬ ‫وتركها لجميع المس ّلمات التي كانت تحاول المملكة غرسها لدى مواطنيها‪.‬‬ ‫ووجد علماء الدين في السعودية أن محاربة ظاهرة اإللحاد تبدأ من التشديد على وسائل التواصل‬ ‫االجتماعي والنت ووسائل اإلعالم كافة‪ ،‬وفرض رقابة على األشخاص الموفودين إلى الخارج‪ ،‬وإيجاد وسائل‬ ‫للتعويض عن إيفاد األشخاص إلى الخارج والذين يشكلون أكبر نسبة من الملحدين في المملكة‪.‬‬ ‫‪107‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫اإلحلاد والبحث عن رب غري سخيف‬

‫القناعة القسرية باإلله تؤدي إىل اخلروج من اإلطار األخالقي للموضوع‬ ‫ال تتفق الدكتورة ليلى شريف‬ ‫االختصاصية في الصحة النفسية والعالج‬ ‫النفسي‪ ،‬مع األخصائيين النفسيين‬ ‫الذين يقولون إن الملحدين مريضون‬ ‫نفسياً‪ ،‬ومعظمهم ينتمون إلى خلفيات‬ ‫اجتماعية وأسرية مفككة‪ .‬وتشير إلى‬ ‫أنّ معظم علماء النفس واالجتماع‬ ‫يجمعون على أن اإلنسان يعمد في‬ ‫مرحلة الطفولة والمراهقة على بعثرة‬ ‫الهوية التي تربى عليها‪ ،‬ليعيد تكوين‬ ‫الدكتورة ليىل الرشيف‬ ‫هذه الهوية اإليديولوجية‪ ،‬والتي تتضمن‬ ‫األسس األخالقية ومن ضمنها تساؤالت‬ ‫حول الكون والخالق‪ ،‬ويبحث اإلنسان عن حقائق علمية ليبني عليها واقع إيمانه‪ ،‬ولكن هذه العملية قد‬ ‫تستغرق وقتاً مع البعض‪ ،‬فيما ال تستغرق وقتاً مع اآلخرين الذين يس ّلمون باألمر‪ ،‬وذلك كله حسب األهل‬ ‫والبيئة المحيطة‪ .‬حيث يتشكل اإلله لدى البعض بشكل قسري ومخيف بالنسبة للطفل أو المراهق‪ ،‬فيصبح‬ ‫هذا اإلنسان يخاف من الله وال يخشاه ‘بالمعنى القدسي للرب’‪ ،‬ما يؤدي باإلنسان إما إلى الخوف وسيطرته‬ ‫عليه‪ ،‬أو يدفعه هذا الخوف إلى التمرد والخروج على المألوف‪ .‬وإذا كان في بيئة متشددة فإنّه ينكر‬ ‫اإلله بينه وبين نفسه‪ ،‬ويتظاهر باإليمان أمام المجتمع وعندما يصل إلى مرحلة الجامعة قد ينساق مع‬ ‫التيارات الفكرية المتعددة‪ ،‬أما األشخاص الذين يعيشون في بيئة تساؤلية تسمح بالتفكير والتساؤل فإنهم‬ ‫يستطيعون تشكيل قناعة متوازية تجاه اإلله‪ ،‬حيث أنَّ ‘ال َّرب السخيف’ غير موجود‪ ،‬لذلك يرفضه الملحدون‪،‬‬ ‫والبيئة المغلقة فكرياً ال تسمح لهم بإيجاد إله بديل عن هذا اإلله السخيف‪ ،‬لذلك تجدهم ينكرون فكرة‬ ‫وجود اإلله ويختارون ألـ ‘ال إله’‪.‬‬ ‫َو َمن َي ْر َت ِد ْد ِمنكُ ْم َعن ِدي ِن ِه فَ َي ُم ْت َو ُه َو ك ِ‬ ‫َاف ٌر‬ ‫يفرق الشيخ والباحث في حوار األديان وفقه المرأة محمد وليد فليون‪ ،‬بين اإللحاد واالرتداد عن دين‬ ‫الج ْور إلحاداً‪.‬‬ ‫اإلسالم‪ ،‬ويقول‪ُ “ :‬يراد من كلمة اإللحاد في اللغة‪ ،‬ال َم ْيل عن الشيء إلى جانبه‪ ،‬ومن هنا ُس ّمي َ‬ ‫وقد ورد لفظ اإللحاد في القرآن الكريم ثالث مرات بهذا المعنى (في سورة األعراف ‪ ،180‬والنحل ‪،103‬‬ ‫وفصلت ‪ ،)40‬و ُقصد فيها ك ّلها الميل عن اإليمان إلى الكفر وإنكار الشريعة‪ .‬ومؤخّ راً ُأطلقت الكلمة وصار‬ ‫ّ‬ ‫يراد منها إنكار الخالق‪ ،‬بمعنى أنّ وجود هذا الكون يمكن أن يكون بأي طريقة وكيفية‪ ،‬إال أن يكون من‬ ‫ّ‬ ‫مستقل‪ .‬أما مصطلح ‘ال ّر َّدة’ فيراد به في اإلسالم‪ ،‬انتقال‬ ‫صنع الله‪ .‬والكالم في هذا الموضوع يحتاج لبحث‬ ‫المسلم من عقيدة ودين اإلسالم إلى عقيدة دينية غيرها‪ ،‬أو إلى ‘ال دين’‪ .‬وقد دأب العلماء المسلمون‬ ‫عبر العصور على التأكيد بوجوب قتل الملحد والمرتد‪ ،‬وذلك حسب رأيهم بعد مناقشتهما وبيان ما يش ّكل‬ ‫‪108‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫اإلحلاد والبحث عن رب غري سخيف‬

‫عليهما من أمور العقيدة والشريعة اإلسالمية‪ ،‬على أن ُيعطى المرتد أو الملحد مهلة ثالثة أيام بلياليها ليعلن‬ ‫رجوعه عن ر ّدته‪ ،‬وإال ُقـتل وصودر ماله ُ‬ ‫وطلقت زوجته‪ .‬وهكذا أوجدوا ما أطلق عليه ‘ح ّد الر ّدة’‪ .‬غير أن‬ ‫رأينا في الموضوع مختلف كل االختالف‪ ،‬و ِمثْلنا في هذا بعض أهل العلم”‪ .‬ويتابع فليون‪“ :‬يمكن أن‬ ‫نلخّ ص رأينا في هذا الموضوع على الشكل التالي‪ :‬في القرآن الكريم أكثر من آية تتحدث عن حالة الر ّدة‪،‬‬ ‫منها قول الله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذينَ آ َمنُواْ ُث َّم َك َف ُرواْ ُث َّم آ َمنُواْ ُث َّم َك َف ُرواْ ُث َّم ا ْزدَادُواْ ُك ْف ًرا َّل ْم َي ُكنِ ال َّل ُه ِل َي ْغ ِف َر‬ ‫َل ُه ْم َو َال ِل َي ْه ِد َي ُه ْم َس ِبي ًال﴾‪( .‬النساء ‪ .)137‬أي أنّ من دخل في اإلسالم‪ ،‬ثم ارتد عنه وكفر به‪ ،‬ثم رجع إليه‪،‬‬ ‫ثم ارتد‪ ،‬ثم ازداد بعد ردته كفراً به فلن يغفر الله له‪ .‬والسؤال هنا‪ :‬كيف سيزداد كفراً وقد ُقتل؟ ونحن‬ ‫هنا ال نورد هذا دفاعاً عن حالة الردة‪ ،‬بل نشير إلى نهاية هذه الحكاية كما ص ّرح بها القرآن الكريم‪ .‬في‬ ‫ُ‬ ‫القرآن الكريم فيه انتها َء حياة اإلنسان فإنه ف ّرق‪ ،‬وهو المن ّزل بلسان عربي مبين‪ ،‬ب ّين القتل‬ ‫كل موضع ذكر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫والموت‪ ،‬فما كان بفعل البشر س ّماه قتال‪َ ﴿ :‬و َما ك َ‬ ‫ان ل ُِم ْؤ ِمنٍ أن َي ْقت َُل ُم ْؤ ِمنًا إِال َخطئًا﴾‪( .‬النساء ‪ ،)92‬وتقول‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ون فِي َس ِبيلِ ال َّل ِه َف َي ْق ُت ُل َ‬ ‫الج َّن َة ُي َقا ِت ُل َ‬ ‫ون‬ ‫آية أخرى‪﴿ :‬إِ َّن ال َّل َه ْاش َت َرى ِمنَ ا ْل ُم ْؤ ِم ِنينَ أَن ُف َس ُه ْم َوأ ْم َوا َل ُهم ِبأ َّن َل ُه ُم َ‬ ‫َو ُي ْق َت ُل َ‬ ‫ون﴾‪( .‬التوبة ‪ ،)111‬ويقول تعالى أيضاً‪َ ﴿ :‬ف َط َّو َع ْت َل ُه َن ْف ُس ُه َق ْت َل أَخِ ي ِه َف َق َت َل ُه َف َأ ْص َب َح ِمنَ ا ْل َخاسِ رِينَ ﴾‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫(المائدة ‪ ،)30‬بينما س ّمى ما كان بفعل الله بدون فعل بشري موتاً‪ُ ﴿ :‬ث َّم أ َما َت ُه َفأ ْق َب َرهُ ﴾ (عبس ‪ ،)21‬وأية‬ ‫ات َوأَ ْح َيا﴾ (النجم ‪ ،)44‬ويقول تعالى‪َ ﴿ :‬و َال َيزَا ُل َ‬ ‫أخرى‪َ ﴿ :‬وأَ َّن ُه هُ َو أَ َم َ‬ ‫ون ُي َقا ِت ُلو َن ُك ْم َح َّت َى َي ُر ُّدو ُك ْم َعن دِين ُِك ْم‬ ‫إِنِ ْاست َ​َط ُاعواْ َو َمن َي ْر َت ِد ْد م ُ‬ ‫ِنك ْم َعن دِي ِن ِه َف َي ُم ْت َوهُ َو َكا ِف ٌر َف ُأ ْو َلئ َِك َح ِب َط ْت أَ ْع َما ُل ُه ْم فِي الدُّ ْن َيا َواآلخِ َرةِ﴾‪.‬‬ ‫(البقرة ‪ ،)217‬كذلك اآلية السابقة‪﴿ :‬إِ َّن ا َّل ِذينَ آ َمنُواْ ُث َّم َك َف ُرواْ ُث َّم آ َمنُواْ ُث َّم َك َف ُرواْ ُث َّم ا ْزدَادُواْ ُك ْف ًرا َّل ْم َي ُكنِ‬ ‫ال َّل ُه ِل َي ْغ ِف َر َل ُه ْم َو َال ِل َي ْه ِد َي ُه ْم َس ِبي ًال﴾‪( .‬النساء ‪ ،)137‬فكيف يزداد كفراً وهو ميت؟‪ .‬ويضيف فليون‪“ :‬هكذا‬ ‫فمهما بحثت فلن تجدي ر ّدة تنتهي بقتل‪ ،‬بل بمجرد موت‪ ،‬ومن بنود صلح الحديبية أن تقبل قريش كل‬ ‫من ارتد من المسلمين‪ ،‬وأن له الحق في الذهاب إلى مكة أو حيث يريد‪ ،‬فلو كان قتل المرتد واجباً فكيف‬ ‫يسمح النبي (ص) لمن يرتد من المسلمين باللحاق بقريش وال يقتله؟ فكيف يكون قتل المرتد واجباً ثم ال‬ ‫يذكر عنه شيئاً‪ .‬في المقابل يجب التأكيد على أن قتل المرتد ينسف كل آية في القرآن تؤكد على الحرية‬ ‫الدينية‪ .‬منها‪َ ﴿ :‬ال إِ ْك َرا َه فِي الدِّينِ ﴾‪( .‬البقرة ‪ .)256‬وآية أخرى‪َ ﴿ :‬و َل ْو َشاء َر ُّب َك آل َمنَ َمن فِي َ‬ ‫األ ْر ِض ُك ُّل ُه ْم‬ ‫َّاس َح َّتى َي ُكو ُنواْ ُم ْؤ ِم ِنينَ ﴾ (يونس ‪ .)99‬ويقول تعالى‪َ ﴿ :‬ف َذ ِّك ْر إِ َّن َما أَ َ‬ ‫َجمِي ًعا أَ َف َأ َ‬ ‫نت ُم َذ ِّك ٌر﴾‬ ‫نت ُت ْكرِهُ الن َ‬ ‫(الغاشية ‪ .)21‬على أنه بإمكاني القول‪“ :‬إنَّ من يصل إلى الدين الصحيح لن يرتد”‪.‬‬ ‫ويتابع فليون‪“ :‬في اعتقادي أنَّ أبرز األسباب التي تؤدي إلى اإللحاد أو االرتداد عن الدين في الوطن‬ ‫العربي وفي العالم هو تقديم رجال الدين ألديانهم بطريقة غير التي ق ّدمها بها الرسل‪ ،‬تماماً كما إذا ق ّدمنا‬ ‫الطعام الفاسد للجائع‪ ،‬فهو بكل تأكيد سيرفضه‪ .‬إن الطريقة التي ق ّدم فيها األنبياء سالم الله عليهم‪ ،‬ومنهم‬ ‫اس َي ْدخُ ُلونَ فِي ِدينِ ال َّل ِه أَ ْف َو ًاجا كما ورد في سورة النصر ‪2‬ـ بينما طريقتنا‬ ‫النبي محمد (ص)‪ ،‬جعلت ال َّن َ‬ ‫َ‬ ‫عند أغلب رجال الدين جعلت الناس يخرجون من ِدينِ ال َّل ِه أ ْف َواجاً‪ ،‬بسبب عالقتهم بنصوص الشريعة‪،‬‬ ‫فحين اختلطت نصوص الشريعة الصافية بوسخ عقولهم واجتهاداتهم صار الناس يفضلون البقاء بدون دين‪،‬‬ ‫أو أن يعتنقوا أية عقيدة على أن يؤمنوا بنصوص فيها وسخهم‪ ،‬ولذلك أرى من الطبيعي والطبيعي جداً‬ ‫ونتائجها عند الناس (رجال الدين)‬ ‫ازدياد عدد الملحدين في العالم‪ ،‬وهذه ظاهرة يتح ّمل إث َمها عند الله‬ ‫َ‬ ‫ومن يقتدي بهم الناس كاألرض الخصبة‪ ،‬ولن يستطيع أحد أن يمنع المطر‪ ،‬لكن إذا نزل المطر وال يوجد‬ ‫الفالح‪ ،‬أو ُوجد وهو غير خبير‪ ،‬فإن األرض ستنبت أشواكاً‪ ،‬وستكون عما قريب مأوى للحشرات واألفاعي‪.‬‬ ‫‪109‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫اإلحلاد والبحث عن رب غري سخيف‬

‫التصحر الديني‪ ،‬وأعتقد أن معالجتها تكمن في أمرين‪ :‬األول‬ ‫ولذلك أستطيع أن أسمي ظاهرة اإللحاد بـ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫إعادة بناء رجل الدين بذات الطريقة التي بنى بها رسل الله أتبا َعهم والثاني‪ :‬إعداد مناهج تعليم شرعية‬ ‫تتناسب ومقاصد الشريعة وتحترم اإلنسان‪ ،‬وهذا ما نفتقده اليوم‪ .‬ولكل أحد أن يعجب إذا ب ّينا الحقيقة‬ ‫الم ّرة في أن الكثير من الكتب ومناهج التعليم الشرعي في العالم اإلسالمي تدعو إلى العنف والطبقية‬ ‫واإلثنية واحتقار اآلخر وتكفيره‪ ،‬ومنها ما يدعو إلى الحروب األهلية باسم الدين‪.‬‬ ‫ويختم فليون القول‪“ :‬إن تأثير رجال الدين غير المتن ّورين وغير الكفوئين‪ ،‬هو السبب األعظم في‬ ‫استفحال ظاهرة اإللحاد‪ ،‬وإذا بقي األمر كذلك‪ ،‬فلينتظر الجميع عرس البوم‪ .‬وعلى ذكر طرق المعرفة‬ ‫الجديدة من انترنت وغيرها‪ ،‬فإنها في الوقت الذي ساهمت فيه بنشر المعارف العلمية وأنعشت التواصل‬ ‫االجتماعي إال أنها أعطت جانب اإليمان في أغلب الحاالت مفعوالً عكسياً‪ ،‬فبينما كان الناس يؤ ّملون منها‬ ‫أن توصل الحقائق اإليمانية إليهم‪ ،‬إذا بنا ننشر غسيلنا الوسخ ـ فحين يقرأ العالم على اإلنترنت أحاديث‬ ‫مثبتة فيما س ّميناه الصحاح ّ‬ ‫تحض على التطرف والسلب واحتقار اإلنسان واالرتزاق بالحروب وامتهان كرامة‬ ‫المرأة وظلم الطفولة‪ ،‬فإن من حق كل أحد أن يلحد‪ ،‬إال أنّنا نرجو النجاح في مهمتنا المتمثلة بتقديم الماء‬ ‫فلنصفـق لـبريفير الشاعر الفرنسي الذي خاطب‬ ‫للعطاش صافياً من نبعه‪ ،‬ولو على طريقة القوارير‪ ،‬وإال‬ ‫ّ‬ ‫الله بقوله‪ :‬أبانا الذي في السماء ابق فيها‪ ،‬وقد قال ذلك بعد أن رأى نتاج عمل رجال الدين‪ ،‬ألم يقل السيد‬ ‫المسيح‪ :‬من ثمارهم تعرفونهم؟‬ ‫مالحظة‪:‬‬ ‫طلب الشباب السعودي الذين التقيتهم تغير أسمائهم الحقيقية‪،‬‬ ‫وكذلك امتنعوا عن عرض صورهم خوفاً من المالحقة القانونية‬ ‫واالجتماعية التي ستطالهم في حال كشفت هويتهم الحقيقية‪.‬‬

‫‪110‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املقبلون على الزواج‪:‬‬

‫أحمد حاج حمدو❊‬

‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫ٌ‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يعاين املقبلون عىل الزواج من ظروف صعبة خلفتها آثار الحرب الدائرة يف البالد منذ‬ ‫ثالثة أعوام ونيف‪ ،‬فاس ُتهدفت الحدائق واملنتزهات التي جمعت شتات العشاق عىل‬ ‫مقاعدها‪ ،‬وتباعدت الطرقات التي تفصل بني املخطوبني‪ ،‬لتربز قصص مأساوية بعضها ما‬ ‫يقبل التصديق وأخرى ال مجال الستيعابها‪ ،‬ابتدا ًء بزواج الق ُّص‪ ،‬مروراً بارتفاع سن الزواج‬ ‫وتفش العنوسة‪ ،‬وليس نهاية‪ ،‬عند هجرة أعداد كبرية من املتزوجني لخارج أسوار البالد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعودة العقلية القبلية لتسيطر عىل عقول معظم رشائح املجتمع السوري‪ ،‬ليبقى املقبلون‬ ‫عىل الزواج هم الحلقة األضعف يف مسلسل االقتتال الدامي‪ ،‬وتعلن املعارك ارتفاع صوتها‬ ‫عىل صوت زغاريد األعراس التي كانت متأل البالد‪ .‬ورغم زيادة حاالت الزواج التي وصلت‬ ‫إىل ‪ 60‬عقد يومياً‪ ،‬إال أنها تبقى وليد ًة لألزمة السورية‪ .‬كام أفرزت الظروف الراهنة وجود‬ ‫ثقافة تعدد الزوجات وانتشار العنوسة‪ ،‬ناهيك عن زواج الق ُّص الذي انترش بشكلٍ ملحوظ‬ ‫نتيجة الظروف اإلقتصادية السيئة التي تدفع األهايل للتخلص من فتياتهم يف سن مبكّر‪،‬‬ ‫دون أن يكون زواج القرص املشكلة الوحيدة التي يعاين منها املجتمع السوري اليوم‪ .‬إذ‬ ‫يعب بدوره عن غياب الطبقة االقتصادية الوسطى‪.‬‬ ‫اتسع الرشخ بني مراسيم الزواج‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫ففي ٍ‬ ‫بكل مراسمها عند بعض الرشائح االجتامعية‪ ،‬تغيب‬ ‫وقت تنترش فيه األعراس الباذخة ِّ‬ ‫هذه املراسم عند رشيحة الفقراء الذين ترضروا من الحرب‪ .‬وساهمت األحداث األخرية‬ ‫يف والدة أول حالة زواج مدين يف تاريخ سورية‪ ،‬بينام انعدم الزواج بني الطوائف بعد أن‬ ‫كان موجوداً ومتأصالً يف املجتمع السوري‪ ،‬لكن كل هذه الظروف مل تقف بوجه السوريني‬ ‫الذين لجأوا مؤ ّخراً لعقد قرانهم عرب تقنية السكايب متحدين الظروف التي ف ّرقتهم نتيجة‬ ‫تباعد املسافات بينهم وتقطيع اوصال املدن السورية‪.‬‬ ‫❊ خريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬يعمل كصحفي يف املدينة إف إم‪ ،‬وعضو الفريق الصحفي يف مجلة دلتا نون‪.‬‬

‫‪111‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫مقدمة‬ ‫روايات ومالحم كثيرة تتصارع لتعريف الحب في زمن الحرب‪ ،‬لكنها عجزت عن تعريفه ووصف حالته‬ ‫ٌ‬ ‫بين ركام الحرب السورية‪ .‬فإذا كنت تظن أن المقبلين على الزواج نجوا من تفاصيل المعارك الدائرة‪ ،‬فأنت‬ ‫لم تسمع بقصة يوسف ابن حي الميدان الدمشقي الذي دخل إلى مخيم اليرموك ّ‬ ‫ليزف عروسه‪ ،‬فخرج بعد‬ ‫عام مكوناً عائل ًة كاملة في خندق الحصار الذي اجتاح المنطقة‪ .‬يقول يوسف‪“ :‬أجبرت على الزواج وإنجاب‬ ‫طفلي البكر على إيقاع المجاعة‪ ،‬ثم تمكنت مع عائلتي من الخروج من المخيم ضمن المبادرة اإلنسانية”‪.‬‬ ‫وتتف ّرع مشكلة الزواج لتكون األكثر كارثية‪ ،‬فالمجتمع السوري فتي‪ ،‬ما جعلها أضخم المشاكل‬ ‫ٍ‬ ‫ظروف صعب ٍة خلفتها آثار الحرب‬ ‫االجتماعية التي خلفها االقتتال‪ ،‬حيث يعاني المقبلون على الزواج من‬ ‫الدائرة في البالد منذ ثالثة أعوام ونيف‪ .‬فقد اس ُتهدفت الحدائق والمنتزهات التي جمعت شتات العشاق‬ ‫قصص مأساوية بعضها ما يقبل‬ ‫على مقاعدها‪ ،‬وتباعدت الطرقات التي تفصل بين المخطوبين‪ ،‬لتبرز‬ ‫ٌ‬ ‫التصديق وأخرى ال مجال الستيعابها ابتدا ًء بزواج ال ُق ّصر‪ ،‬مروراً بارتفاع سن الزواج وتفشّ ي العنوسة‪ ،‬وليس‬ ‫نهاية عند هجرة أعداد كبيرة من المتزوجين لخارج أسوار البالد‪ ،‬وعودة العقلية القبلية لتسيطر على عقول‬ ‫معظم شرائح المجتمع السوري‪ ،‬ليبقى المقبلون على الزواج هم الحلقة األضعف في مسلسل االقتتال‬ ‫الدامي‪ ،‬وتعلن المعارك ارتفاع صوتها على صوت زغاريد األعراس التي كانت تمأل البالد‪.‬‬ ‫حاالت الزواج املرتفعة معظمها ‘زواج حرب‘‬ ‫على وقع االشتباكات والقصف المستمر تتزايد حاالت الزواج لتبلغ أكثر مما كانت عليه في األعوام‬ ‫‪112‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫التي سبقت األزمة‪ ،‬حيث يب ّين القاضي‬ ‫الشرعي األول بدمشق‪ ،‬محمود معراوي‪،‬‬ ‫أن عدد عقود الزواج التي تعقد بشكلٍ‬ ‫مباش ٍر أمام المحكمة الشرعية في دمشق‬ ‫وريفها وصلت إلى ‪ 60‬عقداً يومياً‪ .‬يشير‬ ‫معراوي إلى أن حاالت الزواج في دمشق‬ ‫وريفها ارتفعت نتيجة اإلقبال الكبير من‬ ‫المحافظات األخرى على المحكمة الشرعية‪،‬‬ ‫مؤكداً أنه ال يمكن إجراء إحصاءات دقيقة‬ ‫جانب من اللقاء مع الباحثة االجتامعية إيفا عطفة‬ ‫عن عدد عقود الزواج في المحافظات‬ ‫كافة‪ ،‬نتيجة الظروف الراهنة وهجرة الكثير من أبناء المحافظات المتوترة إلى خارج محافظاتهم‪.‬‬ ‫وتقول الباحثة االجتماعية إيفا عطفة في هذا الصدد‪“ :‬هذا االرتفاع ال يع ّبر بالضرورة عن تعافي‬ ‫المجتمع بل ُّ‬ ‫يدل على خللٍ اجتماعي يحيط بالسوريين”‪ ،‬وتضيف‪“ :‬معظم هذه الحاالت جاءت وليد ًة‬ ‫لألزمة التي تمر بها البالد‪ّ ،‬‬ ‫وإل فإن المجتمع بغنى عنها”‪ ،‬موضح َة أن “األحداث األخيرة فتحت األبواب أمام‬ ‫زواج ال ُق ّصر‪ ،‬إضافة إلى حاالت الزواج التي أفرزتها عمليات االغتصاب‪ ،‬ناهيك عن زواج المصلحة الذي القى‬ ‫رواجاً خالل األحداث األخيرة وكان هدفه السفر إلى إحدى الدول األوروبية أو الحافز االقتصادي المغري”‪.‬‬ ‫بدوره اعتبر األخصائي النفسي واالجتماعي أحمد فنيخير أن ‪ 60‬حالة زواج يومياً هو رقم متواضع‪،‬‬ ‫مستبعداً أن تكون األحداث الجارية سبباً في زيادة حاالت الزواج‪ .‬ويدلل فنيخير على رأيه بأن “حالة الزواج‬ ‫في مجتمعنا تترافق بما يعرف بـ ‘اإلزمان’‪ ،‬أي زمن التعارف بين الشريكين الذي قد يكون ممتداً لعدة‬ ‫سنين‪ ،‬وآن األوان لعقد القران وتكوين األسرة المنشودة بغض النظر عن الظروف المحيطة”‪.‬‬ ‫ُطفن قبل النضوج بسبب املعارك‬ ‫قاصرات ق‬ ‫َ‬ ‫وثياب ليس بالضرورة أن تكون جديدة‪ ،‬هي كل ما يحتاجه الشاب‬ ‫محبس من الحديد وغرف ُة صغيرة‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫للزواج فال مهر وال طقوس أو احتفاالت‬ ‫(جانب من اللقاء مع األخصايئ النفيس أحمد فنيخري)‬ ‫من تلك التي اعتدنا رؤيتها سابقاً في‬ ‫سوريا‪ .‬هي ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫رجال استغلوا‬ ‫قصة أبطالها‬ ‫وفتيات في أعمار تتراوح‬ ‫الظروف السيئة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫طفن باكراً‪.‬‬ ‫بين ‪ 13‬و‪ُ 16‬ق َ‬ ‫لم تتردد لمى (‪ 15‬عاماً) من منطقة‬ ‫السكري بحلب في الزواج من رجلٍ‬ ‫يكبرها بسنوات‪ ،‬إذ أرادت فقط أن تخ ِّفف‬ ‫عن والدها بعض المصاريف بعد إغالق‬ ‫المصنع الذي كان يعمل فيه بمنطقة‬ ‫‪113‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫“صحيح أن زوجي يكبرني‬ ‫الراموسة في حلب‪ ،‬وتخلت عن أحالمها الكثيرة‪ ،‬حتى نسيتها تماماً‪ .‬تقول لمى‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫بسنوات‪ ،‬لكنني سعيدة ألنّه يؤمن لي متطلبات الحياة”‪ .‬لمى ليست القاصر الوحيدة التي فقدت أحالمها‬ ‫بؤس اقتصادي‪ ،‬فأكثر من نصف معامالت الزواج في دمشق وريفها هي‬ ‫مبكراً نتيجة ما خ َّلفته الحرب من ٍ‬ ‫لقاصرات دون سن األهلية‪ ،‬حسبما يشير معراوي‪ .‬ويرجع القاضي الشرعي األول في دمشق سبب ازدياد‬ ‫زواج القاصرات للظروف الراهنة‪َّ ،‬ألن الكثير من اآلباء يبحثون عمن يرعى بناتهم في الوقت الراهن‪ ،‬مشيراً‬ ‫إلى أنه “في الظروف العادية قبل األزمة كانت نسبة زواج القاصرات أقل مما هي عليه اليوم بكثير”‪.‬‬ ‫بدوره قال مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسون‪“ :‬إنَّ ظاهرة زواج القاصرات متجذرة منذ القدم‪،‬‬ ‫وإن االنفتاح الفكري والثقافي والتعليمي في مجتمعنا أعطى صورة أخرى للزواج وبناء األسرة‪ ،‬وهذا ما‬ ‫جعلنا نعمل للحد من قضايا زواج القاصرات وتحديد النسل التي تعتبر من األحكام االجتهادية في المجتمع‬ ‫الديني‪ ،‬ومن القضايا القانونية في المجتمع المدني”‪.‬‬ ‫واعتبر النائب البطريركي للروم األرثوذوكس في دمشق لوقا الخوري‪ ،‬أنَّ كل ديان ٍة ومذهب لها ما‬ ‫يخصها في مسألة الزواج‪ ،‬لكنها جميعاً ال تشجع زواج القاصرات‪ ،‬مؤ ِّكداً على ضرورة وجود قانون عام‬ ‫لزواجهن‪ ،‬تأخذ به كل األديان انطالقاً من الحرص على مصلحة المجتمع السوري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫القاضي الشرعي محمد شريف المنير كشف أيضاً أنَّ نسبة الزواج العرفي في محافظتي دمشق‬ ‫وريفها وصلت إلى ما يقارب ‪ 90%‬من مجمل حاالت الزواج‪ ،‬مشيراً إلى “أنَّ واقعات الزواج في كلتا‬ ‫المحافظتين تبلغ يومياً ‪ 100‬حالة وسطياً‪ ،‬قرابة ‪ 10‬معامالت منها تتم في المحكمة الشرعية”‪.‬‬ ‫وتب ِّين الباحثة االجتماعية إيفا عطفة أنَّ زواج القواصر ليس جديداً على السوريين وإنما هي ظاهرة‬ ‫متأصلة في معظم شرائح المجتمع السوري‪ ،‬عطفة تتابع‪“ :‬االنحراف االجتماعي في مجتمعنا الشرقي اعتاد‬ ‫أن يز ِّوج الفتاة منذ أن تفتح عينيها على الحياة تخ ّوفاً من انحرافها وانجرارها خلف هذا الشاب أو ذاك‪ ،‬ألن‬ ‫الفتاة في هذا السن تكون مراهقة‪ ،‬وأي شاب تصادفه يكون فارس أحالمها مهما كانت مواصفاته‪ ،‬وهنا بكل‬ ‫بساطة يستطيع الشاب أن يستدرج الفتاة إلى الزواج دون علم أهلها‪ ،‬وهذا األمر أصبح شائعاً في مجتمعنا‬ ‫نتيجة وجود وسائل التواصل التي ال يمكن ضبطها من قبل األهل”‪.‬‬ ‫رأي عطفة ال يختلف كثيراً عما اتجه إليه األخصائي النفسي واالجتماعي أحمد فنيخير الذي اعتبر‬ ‫أنَّ زواج ال ُق ّصر جاء نتيجة األسباب االجتماعية‪ ،‬موضحاً أنَّ حاالت زواج ال ُق ّصر تبرز فيها الثقافة االجتماعية‬ ‫واإلطار المرجعي التربوي أو حتى الديني لبعض األسر‪ ،‬معتبراً “أنَّ الكنف االجتماعي وثقافته التي تش َّربها‬ ‫الوالدان وتك ّونت خاللها قيمهم تؤثر على اتخاذ القرار في تزويج القاصر”‪.‬‬ ‫فاطمة (‪ 14‬عاماً) من منطقة الزاهرة بدمشق كانت إحدى ضحايا زواج ال ُق ّصر‪ .‬تقول فاطمة‪“ :‬أجبرني‬ ‫والدي على ترك المدرسة بعد أن تق َّدم لي رجل أربعيني فتز ّوجته رغم أنِّي أحلم أن أكمل دراستي وأصبح‬ ‫طبيبة أسنان”‪ .‬ال يختلف األمر كثيراً مع هدى (‪ 15‬عاماً) من مدينة القور ّية بريف دير الزور التي توضح‬ ‫ٌّ‬ ‫فاضطرت للتضحية بنفسها مقابل تعهد زوجها الخمسيني بسد تلك الديون كمهر‬ ‫أن الديون أغرقت عائلتها‬ ‫لها‪ ،‬تقول هدى‪“ :‬لم أكن أتو ّقع أن أتزوج بهذا العمر لكن ظروف الحياة صعبة وعائلتي وقعت في ورطة‬ ‫المعيشة فكان زواجي الحل الوحيد لتخليصها من تلك الديون”‪.‬‬ ‫‪114‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫صر يف املناطق الساخنة قابله ارتفاع سن الزواج يف املناطق اآلمنة‬ ‫زواج ُ‬ ‫الق ّ‬ ‫لم يعد الزواج يحتمل عمراً متوسطاً‪ ،‬فزواج ال ُق ّصر في بعض المجتمعات السورية قابله ارتفاع سن‬ ‫سن الزواج لدى الشاب‬ ‫الزواج لدى شرائح أخرى في المجتمع‪ ،‬حسبما تب ّين إيفا عطفة التي أوضحت أن َّ‬ ‫ارتفع من ‪ 26‬إلى ‪ 32‬سنة بسبب الخدمة اإللزامية وانخراط عدد كبير من الشباب في الحرب الجارية‪ ،‬أما‬ ‫سن الزواج لدى الفتيات فهي مرتفعة أساساً في مناطق الساحل السوري وحمص والسويداء مقارن ًة مع‬ ‫باقي المناطق السورية نتيجة ارتفاع المستوى التعليمي الذي يؤ ّدي لتأخير الزواج‪ ،‬مشير ًة إلى أنَّ متوسط‬ ‫سن الزواج لدى الفتيات ارتفع من ‪ 24‬إلى ‪ 30‬عاماً‪ ،‬وذلك على الرغم من اعتبار المجتمع السوري هذا‬ ‫الرقم سن العنوسة‪.‬‬ ‫ومن خالل البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة واإلحصاء‪ ،‬ومن واقع دراسة عقود الزواج في‬ ‫المحاكم الشرعية‪ ،‬يتب ّين أنَّ اختيار الرجال لزوجاتهم يحكمه أوالً معيار عمر الزوجة‪ .‬فالنسبة األعلى للفتاة‬ ‫المطلوبة للزواج هي الواقعة في الفئة العمرية ‪ 25-20‬سنة بنسبة ‪ ،51%‬كما أن ‪ 72%‬من حاالت الزواج تكون‬ ‫من نصيب الفتاة دون ‪ 25‬سنة‪ ،‬بينما تزيد نسبة الرجال الذين يقدمون على الزواج بعمر يزيد عن ‪ 25‬سنة‬ ‫(‪ ،)70%‬علماً أن أكثر التقارب العمري بين الزوجين ضمن المرحلة العمرية ‪ 25-20‬بنسبة ‪ ،59%‬في حين يقدم‬ ‫الرجال على الزواج من فتيات يصغرنهم بعشر سنوات في الفئة العمرية ‪ ،25-20‬بنسبة ‪ ،49%‬أما رجال الفئة‬ ‫العمرية ‪ 50-45‬سنة فإنَّ ‪ 55%‬منهم يتزوجون فتيات تصغرنهم بسنوات تتراوح بين ‪ 35-10‬سنة‪.‬‬ ‫انعدام زواج الطوائف ووالدة الزواج املدين‬ ‫على مقع ٍد واح ٍد في إحدى حدائق ‘جامعة دمشق’ يجلس الشاب (ن)‪ ،‬طالب السنة الرابعة في‬ ‫قسم علم االجتماع‪ ،‬وإلى جانبه زميلته في السنة الثالثة بقسم اللغة العربية (ي)‪ ،‬وهما من ضحايا العزوف‬ ‫عن الزواج بين الطوائف‪ ،‬عيونهما تفضح إصرارهما على المضي قدماً بحبهما‪.‬‬ ‫يقول (ن)‪“ :‬بدأت قصتنا قبل األحداث الدامية التي تشهدها البالد وكان كل شيء على ما يرام‪،‬‬ ‫حيث بدأت أحالمنا في الزواج تتح ّقق بعد أن تمك ّنا من جمع عائلتي مع عائلة (ي)”‪ ،‬موضحاً أن بداية‬ ‫صورة تجمع كل من (ن) و(ي)‬ ‫األحداث كونت جداراً بينه وبين خطيبته‬ ‫المعهودة وخصوصاً عندما طلب أهلها‬ ‫أن تقطع عالقتها به‪ .‬أما (ي) التي طلبت‬ ‫عدم كشف اسميهما واالكتفاء بصورة‬ ‫تخفي مالمح الوجه منعاً من تعريضهما‬ ‫لمشاكل فتقول‪“ :‬حتى لو وافق أهلي فإن‬ ‫ُ‬ ‫“تعرضت‬ ‫مجتمعي لن يرحمني” وتضيف‪:‬‬ ‫لعدة مشاكل من جانب أهلي بسبب‬ ‫بقائي مع (ن) فلم أكن أتوقع يوماً أن‬ ‫تصل بنا الظروف إلى هذه الدرجة من‬ ‫المصاعب”‪.‬‬ ‫‪115‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫َّ‬ ‫ولعل الزواج بين الطوائف من أكثر الطبائع المتأصلة في المجتمع السوري والتي غيرتها األحداث‪،‬‬ ‫حيث تبدد العشاق الذين يختلفون في الطائفة‪ ،‬وإن كانوا متف َق ْين فإن المجتمع لن يرحمهما‪ ،‬حيث‬ ‫كانت ظاهرة الزواج بين الطوائف في سورية موجود ًة بوضوح وتعبر عن ثقافة التآخي التي لطالما ألفها‬ ‫“لكن األمر لم يتوقف عند رفض الزواج بين الطوائف وانعدام هذه الحاالت” بحسب إيفا عطفة‬ ‫السوريون‪َّ .‬‬ ‫التي لفتت إلى أنَّ “األحداث التي شهدتها البالد أنتجت أفكاراً ال يمكن اعتبارها مستوردة‪ ،‬وأعادت البالد‬ ‫إلى العقلية القبلية‪ ،‬فإضاف ًة إلى رفض الزواج بين الطوائف‪ ،‬تو َّلدت أفكار عشائرية داخل الطائفة الواحدة‪،‬‬ ‫حيث ترفض اآلخر ألنه من تلك العشيرة أو ذاك الفخذ‪ ،‬وبالتالي فقد أصبح االنتماء القبلي والعشائري‬ ‫يلعب دوراً أساسياً في أي حالة زواج”‪.‬‬ ‫هذا الكالم ال يتفق مع ما قاله أحمد فنيخير‪ ،‬الذي رأى أن‪“ :‬السوريون هم أصحاب الكاريزما‬ ‫العاطفية الودودة والرؤوم‪ ،‬وثقافتهم تقبل اآلخر وال ترفض حواره”‪ ،‬موضحاً أن ثقافة عدم تق ّبل اآلخر سيأتي‬ ‫يوم وتنتهي مع انتهاء الترويج لها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ومقابل انعدام الزواج بين الطوائف‪ ،‬نشَّ طت األحداث األخيرة ‘الزواج المدني’ الذي يرفضه القانون‬ ‫السوري‪ ،‬حيث اعتاد السوريون ممن يرغبون في إقامة هذا النوع من الزواج التوجه إلى دول ٍة أخرى إلتمام‬ ‫زواجهم المدني‪ ،‬لكن هذا الوهم تبدد مع أول حالة زواج مدني في تايخ سورية بين رشا وهمرين‪ ،‬والتي‬ ‫ُول َدت في أحضان مدينة القامشلي شمال شرق سورية ذات األغلبية الكردية‪ ،‬فاألكراد بهذا اإلجراء بدأوا‬ ‫يخطون بثقة نحو تسيير شؤون بلداتهم‪ .‬رئيسة ‘بلدية القامشلي’ سيما بكداش دافعت بدورها عن هذه‬ ‫الخطوة‪ ،‬مؤكدة أنّه‪“ :‬من اآلن فصاعداً نحن في بلدية القامشلي سنعقد قران كل من يتز ّوج مدنياً‪ ،‬وذلك‬ ‫في مكتب خاص ُأنشئ لكتابة هذه العقود في البلدية”‪.‬‬ ‫الواقع ‘الطبقي’ لألفراح يف سوريا‬ ‫ٍ‬ ‫ظروف غير عادية‪ .‬فقد يلفت انتباهك إذا تج ّولت في شوارع العاصمة‬ ‫عادي وأفر ٌاح عادية في‬ ‫زواج ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ِّ‬ ‫مشهد األعراس الباذخة التي تُقام بكل مراسمها من بدالت العروس وجموع السيارات إلى الصاالت الفاخرة‬ ‫في فنادق الشيراتون والفورسيزن وديديمان‪ ،‬حيث ينسيك هذا المشهد أن البالد تعيش حرباً دموي ًة وضيقاً‬ ‫اقتصادياً‪ ،‬فأصحاب تلك الحفالت بالتأكيد ال يعيشون تداعيات الحرب والحصار‪ ،‬ولم ينتموا يوماً إلى الغالبية‬ ‫التي ترزح تحت وطأة ارتفاع األسعار وصعوبة تأمين لقمة العيش‪ .‬إذ تُقام هذه الحفالت بوقت تتضخم فيه‬ ‫نسبة زواج الفقراء الذي لم ُيعد يتطلب تلك األعباء المادية التي كانت تثقل كاهل الشباب‪ ،‬فتأمين الطعام‬ ‫والشراب للعروس يكون كافياً لتزويجها‪ ،‬وال سيما في المناطق الساخنة التي شهدت حصاراً اقتصادياً‪ ،‬ويكون‬ ‫تبرير ذلك بأنه تخفيف ألعباء الطعام والشراب واللباس عن العائلة‪.‬‬ ‫يقول إمام مسجد الحسن في منطقة بستان القصر بحلب‪ ،‬والتي تديرها الفصائل المسلحة المعارضة‪:‬‬ ‫“يراجعني يومياً عشرات المصلين الذين يطلبون مني البحث عن شاب ليتزوج بناتهم دون مقابل”‪ ،‬ويشير‬ ‫اإلمام الذي رفض ذكر اسمه إلى أنه “تم التكمن من عقد ‪ 16‬قران في الحي المذكور دون أية تكاليف‬ ‫تذكر”‪.‬‬ ‫عبد اللطيف أحد المتزوجين حديثاً في محافظة حماة يقول “وقفت أمام احتمالين‪ ،‬إما إلغاء فكرة‬ ‫‪116‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫الزواج أو التماشي مع قسوة الظروف االقتصادية‪ ،‬فقررت مع خطيبتي الرضا بالقليل‪ ،‬وألغينا حفل الزفاف‬ ‫وبدلة العروس و‘المحلي’ وهي حلويات تقدم للحاضرين في الزفاف‪ ،‬باإلضافة إلى التخلي عن ‘الزفة’ وهي‬ ‫إحدى مراسم الزواج المعروفة في سوريا‪ ،‬حيث يلجأ العريس إلى استئجار سيارة فاخرة يقوم بتزيينها‬ ‫بالورود والبالونات ليتربع مع عروسه في المقعد الخلفي كي يجوبوا شوارع المدينة”‪ .‬ويضيف عبد اللطيف‪:‬‬ ‫“ثمن أداة منزلية واحدة تعادل معاشي لمدة ‪ 4‬أشهر‪ ،‬والمسكن بات توفيره في منطقة آمنة حلماً يراود‬ ‫معظم حديثي الزواج‪ ،‬إضاف ًة إلى الذهب الذي وصل ثمن الغرام الواحد منه إلى ‪ 7000‬ليرة بعد أن كان ال‬ ‫يتجاوز ‪ 2000‬قبل اندالع األحداث”‪.‬‬ ‫وتقول الناشطة ريم حوري في هذا الصدد‪“ :‬سقط منذ بداية األزمة العديد من الشروط والمتطلبات‬ ‫التي كانت ترهق الشباب المقبلين على الزواج‪ ،‬وباألخص ما كانت تطلبه أسر الطبقة المتوسطة التي‬ ‫حاولت‪ ،‬في سنوات ما قبل األزمة‪ ،‬الصعود إلى األعلى على حساب تزويج بناتها من خالل طلب الكثير من‬ ‫الذهب والمهر وامتالك السكن المنفرد والسيارة وجميع التجهيزات الكهربائية‪ ،‬لتعيدها الظروف الراهنة‬ ‫إلى الواقعية والرضى بالقليل‪ ،‬ابتدا ًء من االكتفاء بخواتم الزواج فقط‪ ،‬وليس انتها ًء بقبول سكن ابنتهم مع‬ ‫أهل زوجها شرط أن يكون لديه دخل ثابت”‪ .‬في حين يبين أستاذ علم االجتماع في ‘جامعة دمشق’ بالل‬ ‫العرابي‪“ :‬أنه من الطبيعي أن تدفع األزمة العائالت السورية للتساهل في متطلبات المهر لبناتهم‪ ،‬ألن الرضا‬ ‫بالقليل خير من األعباء االقتصادية للفتاة”‪.‬‬ ‫وال يختلف األمر بالنسبة إلى العائالت التي امتنعت عن فكرة تزويج بناتها في بداية األحداث‪،‬‬ ‫منتظرة عودة الهدوء إلى البالد‪ ،‬فقد أجبرت مع مرور الوقت على تقديم التسهيالت الكبيرة رغم زيادة‬ ‫الصعوبات االقتصادية والمعيشية غير المسبوقة‪ ،‬ألن األمور ستزداد صعوبة‪ .‬وبحسب عال اإلبراهيم‪ ،‬خريجة‬ ‫علم اجتماع‪ ،‬فإن “الفتاة السورية اليوم يالحقها ‘شبح العنوسة’ ألن أعداد الشباب في البالد تقل يوماً تلو‬ ‫اآلخر‪ ،‬فمنهم من ُقتل أو سافر والبقية ينتظرون دورهم”‪.‬‬ ‫الزواج خارج سورية أسوأ من داخلها‬ ‫لم يكن المقبلون على الزواج في مخيمات النزوح أحسن حاالً‪ ،‬فهاجس التخلص من الفتاة لتخفيف‬ ‫األعباء قد الحق السوريين إلى أماكن النزوح‪ .‬ويبين أحد النشطاء اإلغاثيون على الحدود السورية التركية‬ ‫(رفض ذكر اسمه) أنه “رغم المساعدات الكبيرة التي تصل إلى مخيم كلس فإن ذلك لم يمنع األهالي من‬ ‫إقامة حاالت الزواج العشوائي فيكفي أن يملك الشاب خيمة فارغة ويعلن قبوله بالزواج من الفتاة ليعقد‬ ‫قرانهما”‪.‬‬ ‫أما في األردن فلم يكن الوضع أحسن حاالً‪ ،‬وال سيما مع التقارير اإلعالمية المكثفة التي تصدر من‬ ‫هناك متحدث ًة عن وجود ‘تاجرات للفتيات’ ي ُقمن بتزويج السوريات القاصرات لمسنين قدموا من عدة دول‬ ‫لهذا الغرض‪ ،‬ويوضح تقري ٌر مصو ٌر نشره التلفزيون األلماني((( ظاهرة انتشار تزويج الجئات سوريات بأعمار‬ ‫بين ‪ 13‬و‪ 15‬لمسنين تتجاوز أعمارهم ‪ 60‬عاماً‪ .‬ويشير التقرير إلى أن “منظمات حقوق اإلنسان حاولت‬ ‫‪ 1‬رابط التقرير املتلفز الذي نرشه التلفزيون األملاين‪https://www.youtube.com/watch?v=Aq1sWAn-lKw :‬‬

‫‪117‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫ٌ‬ ‫ضائع يف أبجدية األزمة السورية‬ ‫حرف‬ ‫املقبلون على الزواج‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫التدخل مراراً إليقاف المتاجرة بالقاصرات‪،‬‬ ‫لكنها فشلت ألن الشريعة اإلسالمية تجيز‬ ‫زواج الفتاة في هذا العمر إذا كان جسمها‬ ‫قاب ًال للتحمل”‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫إحصائية صادر ٌة عن دائرة‬ ‫وتتح ّدث‬ ‫قاضي القضاة األردني عن زواج ‪925‬‬ ‫قاصرة سورية منذ بداية األزمة في آذار‪/‬‬ ‫مارس ‪ ،2011‬وحتى نهاية العام الماضي‬ ‫‪ ،2013‬من أصل ‪ 4090‬فتاة سورية تزوجن‬ ‫في األردن خالل ذات الفترة‪ .‬وأشارت‬ ‫اإلحصائية إلى وجود ‪ 2936‬فتاة سورية‬ ‫تزوجن العام الماضي في األردن من‬ ‫أردنيين وسوريين وجنسيات مختلفة‪،‬‬ ‫فيما سجلت حاالت زواج السوريات في‬ ‫العام األول من األزمة السورية ‪ 351‬حالة‬ ‫وارتفعت عام ‪ 2012‬إلى ‪ .803‬وبحسب‬ ‫اإلحصائية ذاتها فقد سجلت أعلى‬ ‫جانب من أسواق دمشق املعنية ببيع لوازن األفراح واألعراس‬ ‫فئة عمرية تزوجت العام الماضي من‬ ‫السوريات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين ‪ 21‬و‪ 25‬عاماً‪ ،‬حيث بلغت العام الماضي ‪ 828‬حالة مرتفعة عن‬ ‫عام ‪ 2011‬بـ ‪ 711‬حالة‪.‬‬ ‫ويبقى احلب‬ ‫تمح الحرب روح الحياة لدى الشباب السوري‪ ،‬فمن يتجول في شوارع العاصمة يالحظ اكتظاظ‬ ‫لم ُ‬ ‫المقاهي والكافيتيريات بالعشاق والمخطوبين‪ ،‬باإلضافة إلى صاالت األفراح التي استأنفت عملها مؤخراً‬ ‫نتيجة عودة اإلقبال على إقامة األفراح للمقتدرين مالياً‪ ،‬حسبما يشير براء كور مدير ‘صالة التهاني لألفراح’‬ ‫في دمشق‪ .‬وينطبق هذا الكالم أيضاً على العشاق المنكوبين الذين فرقتهم الحرب‪ ،‬فتحدوها وأقدموا على‬ ‫إقامة الزواج عبر برنامج ‘سكايب’ التي تتلخص بأن يرتدي الشاب بدلة أنيقة‪ ،‬والفتاة فستاناً أبيض‪ ،‬ويفتح‬ ‫الشاب في بالد الغربة البرنامج‪ ،‬وحيداً أو مع عدد من األصدقاء‪ ،‬بينما تكون العروس في الطرف السوري‬ ‫أو العكس‪ ،‬جالس ًة مع أهلها وأهله في كثي ٍر من األحيان‪ ،‬يقرأ الشيخ في سوريا الفاتحة‪ ،‬فيرد الشاب‪ ،‬عبر‬ ‫اإلنترنت‪ ،‬بـ‪“ :‬آمين” ليحادث الشيخ عبر ‘سكايب’ الفتاة ويسألها هل هي موافقة‪ ،‬وتعلن الفتاة موافقتها‪،‬‬ ‫ويرتدي الشاب محبسه وحده‪ ،‬وكذلك الفتاة‪ ،‬لتنطلق الزغاريد‪.‬‬

‫‪118‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفصائل املسلحة يف سوريا‪:‬‬

‫طارق العبد❊‬

‫أهالً باملسلحني ولكن بشروط‬

‫اخلالصة‪:‬‬

‫كيف تستقطب الفصائل املسلحة يف سوريا املقاتلني إىل صفوفها؟ يتفاوت األمر بني‬ ‫منطقة وأخرى وبني مجموعة وأخرى تبعاً للعوامل املناطقية والعشائرية وحتى املالية‬ ‫بينام تعتمد بعض الكتائب واأللوية عىل العقيدة الدينية فتعمد إىل غسل دماغ‬ ‫الشباب صغري السن وإقناعهم بـ ‘الجهاد’ ثم سحبهم من أي بلد إىل األراض السورية‬ ‫فيام يكون الحال معكوساً لدى البعض من املقاتلني املقتنعني أصالً بوجوب الحضور‬ ‫والقتال يف البالد وللشهادات العلمية وضع خاص بالنسبة للفصائل الكربى مثل جبهة‬ ‫النرصة وتنظيم الدولة اإلسالمية يف العراق والشام يعلق عىل هذه التفاصيل الخبري يف‬ ‫الجامعات الجهادية عبد الله عيل والباحث يف العالقات الدولية كيفورك أملاسيان‪.‬‬

‫❊ كاتب وصحفي يف الشؤون السياسية والعسكرية‪ .‬بدأ حياته املهنية كمد ّون وتنقل يف عدة وسائل إعالم‪ .‬يعمل حالياً يف صحيفة السفري‪ ،‬باإلضافة إىل مركز‬ ‫البناء اإلخباري وضمن الفريق الصحفي ملجلة دلتا نون‪ ،‬كام يدرس يف كلية الطب البرشي بجامعة دمشق ويستعد للدراسات العليا‪.‬‬

‫‪119‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫الفصائل املسلحة يف سوريا‪ :‬أهالً باملسلحني ولكن بشروط‬

‫كيف يصل المقاتلون إلى فصائل المعارضة؟ وكيف تختار األخيرة من يحارب في صفوفها؟ أسئلة تطرح‬ ‫بكثرة مع غزارة المجموعات المسلحة في البالد وتنوع اتجاهاتها وتحالفاتها مع باقي القوى على األرض‪ ،‬فيما‬ ‫تبدو مسألة استقطاب المقاتلين محط جدل بين دور العقيدة الدينية والعامل المناطقي واالقتصادي والكفاءة‬ ‫العلمية وبالطبع عمر المتطوع للقتال‪.‬‬ ‫نظرة سريعة على حال الفصائل المقاتلة في سوريا تكشف أن طريقة قبولها للمقاتل تتفاوت من منطقة‬ ‫ألخرى‪ .‬ففي درعا مث ًال يلعب العامل العشائري والعائلي دوراً في ذلك‪ ،‬وليس من المستغرب أن تكون هناك‬ ‫مشهد ينسحب على مكونات الجيش الحر في‬ ‫كتيبة تنتمي بالكامل إلى عائل ٍة واحدة أو عشير ٍة واحدة‪ ،‬وهو‬ ‫ٌ‬ ‫دير الزور‪ .‬وفي المقابل تفضل بعض المجموعات االعتماد على ابن المنطقة ففي الغوطة الشرقية ينتمي معظم‬ ‫العناصر في الحر أو جيش االسالم وغيره إلى دمشق وريفها‪ ،‬سواء أكانوا من المقيمين فيها أو العائدين من‬ ‫االغتراب‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫حالة تتكرر مع الفصائل اإلسالمية األكثر تشدداً باستثناء جبهة النصرة وحركة أحرار الشام التي‬ ‫ال تهتم كثيراً للمنطقة أو العائلة بقدر تركيزها على العقيدة الدينية‪ .‬حيث يخضع المتطوع الختبارات فكرية‬ ‫وعقائدية ويتم مراجعة ماضيه الديني قبل اتخاذ قرار القبول من عدمه‪ ،‬وفي المقابل ال تتردد بإرسال ابن ريف‬ ‫دمشق للقتال في إدلب على سبيل المثال‪.‬‬ ‫أما بالنسبة للدولة اإلسالمية في العراق والشام ‘داعش’ فالمشهد يختلف كلياً إذ يشكل المقاتلون‬ ‫األجانب نسب ًة جيدة تقابلها ٌ‬ ‫نسبة كبيرة من السوريين‪ ،‬ولكن التنظيم يتعمد هنا توزيعهم بحيث ال يقاتل ٌّأي‬ ‫منهم في أرضه‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬وبعد سيطرته على ريف دير الزور‪ ،‬أرسل العديد من أبناء المنطقة إلى‬ ‫الحسكة لقتال الوحدات الكردية هناك‪.‬‬ ‫عامل آخر يلعب دوراً هاماً في استقطاب المقاتلين وهو سن المتطوع‪ .‬إذ يبدو الفتاً أن الغالبية الساحقة‬ ‫من عناصر جيش اإلسالم تتراوح أعمارهم بين ‪ 16‬و‪ 30‬سنة‪ ،‬وينخفض السن أكثر مع جبهة النصرة التي أقامت‬ ‫‪120‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفصائل املسلحة يف سوريا‪ :‬أهالً باملسلحني ولكن بشروط‬

‫قبل أشهر معسكراً لألطفال لتدريبهم على‬ ‫العمليات القتالية‪.‬‬ ‫يع ّلق في هذا السياق الكاتب والباحث‬ ‫في شؤون الجماعات الجهادية عبد الله علي‬ ‫على الموضوع قائ ًال‪“ :‬العامل األهم والذي‬ ‫يلعب الدور األبرز في استقطاب المقاتلين‬ ‫الجدد هو عامل العقيدة‪ .‬إذ علينا اإلقرار أن‬ ‫هناك شرائح موجودة في المجتمعات العربية‬ ‫قناص يتبع للجيش الحر داخل منزل يف مورك يف ريف حامه‬ ‫واإلسالمية لديها قناعة راسخة بفريضة‬ ‫الجهاد ووجوب القيام به بالتوازي مع باقي فرائض االسالم كالصالة والصيام وغيرها‪ .‬وبالتالي فإن استقطاب هذه‬ ‫الشرائح ال يحتاج إلى أي آلية خاصة وإنما فقط إلى وسائل لتسهيل عبورهم وانضمامهم إلى الفصائل الناشطة‬ ‫في بلد ما”‪.‬‬ ‫ويعتبر علي أن التحريض اإلعالمي يشكل دوراً إضافياً من خالل لفت انتباه الشباب إلى الظلم الذي‬ ‫تعاني منه األمة واستخدام مقاطع مصورة وممنتجة بشكل جيد للتأثير في عواطفهم واستفزاز نخوتهم‪ .‬وغالباً ما‬ ‫تجد دعاية الجهاديين ضالتها في البيئات الفقيرة أو قليلة التعلم‪ ،‬حيث يسهل خداع الشباب وإقناعهم باألفكار‬ ‫المض ِّللة‪.‬‬ ‫على أن هذا وبحسب الباحث ال يمنع أن عدداً من المثقفين وحاملي الشهادات ينتسبون إلى التنظيمات‬ ‫المتطرفة‪ ،‬بل إن بعضهم ال يمانع في تنفيذ عمليات انتحارية‪ ،‬وقد حدث هذا بالفعل سواء في سوريا أو‬ ‫العراق‪ .‬ويعلق قائ ًال‪“ :‬الخطوة األهم أو العامل الحاسم هو غسيل الدماغ الذي يخضع له المنتسب الجديد‬ ‫بمجرد التحاقه بالفصيل الجهادي‪ ،‬حيث يتم تعريضه لبعض اإلجراءات التي تهدف إلى قطع صلته بماضيه‬ ‫وإعادة تنشئته من جديد‪ ،‬حيث يتم تغيير اسمه وإعطائه لقباً يبعد به عن أسرته الحقيقية وكذلك تغيير مالبسه‬ ‫وطريقة عيشه ومن ثم إخضاعه لمعسكر يتراوح بين شهر وثالثة شهور يتم خالله تلقينه األفكار الجديدة التي‬ ‫ستتحكم به وبسلوكه والتي تقوم على العنف والوحشية”‪.‬‬ ‫الكاتب عبد الله عيل‬ ‫ويعقب أن الصغار بالسن أو األميين أو ذوي‬ ‫المستوى المتدني في التعلم هم الفئة المناسبة التي‬ ‫تحاول التنظيمات الجهادية استهدافها ومخاطبتها ألنها‬ ‫األسهل باإلقناع من جهة‪ ،‬وألنها تخضع للمغريات المادية‬ ‫بشكل أسرع من جهة ثانية‪ .‬ويضيف‪“ :‬وكما يقال التعليم‬ ‫في الصغر كالنقش في الحجر‪ ،‬لذلك فإنه كلما خضع‬ ‫الشباب آلليات تلقين الجهاديين في سن مبكرة كلما كانوا‬ ‫نواة مثلى للوالء المطلق ألمرائهم وقادتهم وشيوخهم‪ ،‬وهذا‬ ‫بالضبط ما يحتاجه الفصيل الجهادي؛ الطاعة من دون‬ ‫تفكير وتنفيذ أوامر القادة وكأنها أوامر رب العالمين‪ .‬ولكن‬ ‫‪121‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫الفصائل املسلحة يف سوريا‪ :‬أهالً باملسلحني ولكن بشروط‬

‫كما قلنا سابقاً يبقى هناك شريحة من المتعلمين‬ ‫والمثقفين تنتسب إلى هذه الفصائل عن قناعة تامة‬ ‫بأفكارها وأساليبها العنفية وقد سمعنا مراراً عن أطباء‬ ‫نفذوا عمليات انتحارية في سوريا أو العراق”‪.‬‬ ‫بدوره يعتبر الباحث في العالقات الدولية‬ ‫كيفورك ألماسيان أن اعتماد بعض الفصائل على‬ ‫تجنيد المسلحين من مناطقهم يعود لعدم ثقتها بأبناء‬ ‫مسلحون متشددون يف الريف اإلدلبي شامل البالد‬ ‫المحافظات والقرى االخرى ويضيف‪“ :‬هذا األمر‬ ‫يتنافى مع الشعار الذي س ّوقه بعض وسائل االعالم أن‬ ‫‘الثورة السورية’ هي من أجل كل الشعب السوري‪.‬‬ ‫باإلضافة إلى ذلك‪ ،‬هناك العامل األمني‪ ،‬فهذه‬ ‫الجماعات اإلرهابية تعرف أن الجيش السوري يعرف‬ ‫كيف يخترق صفوف هذه الجماعات المسلحة‪ ،‬لذلك‪،‬‬ ‫فإن أي شخص يريد أن ينضم إلى هذه الجماعات‬ ‫يجب أن يكون من نفس المنطقة ومعروف لـ ‘أمير‬ ‫الباحث كيفورك أملاسيان‬ ‫الجماعة’ على أنه وفي وله خلفية تكفيرية تناسب‬ ‫عمل الجماعة وأهدافها”‪.‬‬ ‫ويرى ألماسيان أن حملة الشهادات ال فرق‬ ‫بينهم وبين الجاهل‪ ،‬فالتطرف ال صلة له بالحالة‬ ‫العلمية معقباً‪“ :‬استقطبت معظم الجماعات المسلحة‬ ‫في سوريا المقاتلين األجانب‪ ،‬ولم يقتصر ذلك على‬ ‫جبهة النصرة أو داعش‪ .‬وهذا يدل على حاجة هذه‬ ‫الجماعات إلى خزان بشري ألن معظم الشعب‬ ‫عنرص من تنظيم داعش قرب مدفع يف حقل الشاعر يف ريف حمص‬ ‫السوري يرفض أن يقاتل من أجل أهداف هذه‬ ‫الجماعات اإلرهابية من إنشاء إمارات إسالمية أو‬ ‫خالفة إسالمية‪ .‬أما بالنسبة لحاملي الشهادات‪ ،‬فهؤالء ال يختلفون عن شخص أمي ألن منهج القاعدة وداعش هو‬ ‫في القلوب‪ ،‬والتطرف الديني والمذهبي ليس له عالقة بالتحصيل العلمي‪ .‬ما يفعله هؤالء ليس عن جهل بل‬ ‫عن قناعة أن ما يسمونه الخالفة اإلسالمية ال يمكن أن تقوم إال بالسيف‪ ،‬وأصحاب الشهادات لهم دور ترويجي‬ ‫وتكنولوجي واجتماعي منفصل عن أدوار الجهاديين الذين يسفكون الدماء ويقاتلون على الجبهات”‪.‬‬ ‫في المحصلة إذاً يتدفق المسلحون من شتى أرجاء العالم إلى سوريا للقتال بعد أن يتم اللعب على وتر‬ ‫العواطف عند بعضهم‪ ،‬فيما يبدو استقطاب البعض اآلخر سه ًال للغاية دون وجود أي حلولٍ جذرية تحول دون‬ ‫توقف وصول المقاتلين وتعبئة الخزان البشري للفصائل‪.‬‬ ‫في العدد القادم‪ :‬لعبة اإلعالم لدى الفصائل أين أصابت وأين أخفقت‪.‬‬

‫‪122‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫عن احلرب والتعايش‪:‬‬

‫سومر طالل العلي❊‬

‫احلمصية الكاملة‬ ‫القصة‬ ‫ّ‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يس ٌء من تبعات ما م ّر‬ ‫اختلف سكان حمص عىل أشياء كثرية‪ ،‬فبعضهم كان له‬ ‫ٌ‬ ‫نصيب ّ‬ ‫وقسم آخر اختار متابعة عاداته الحمص ّية املعروفة‪ .‬ومع أن حوايل مليون مواطن‬ ‫مبدينتهم‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫حميص قد اختلفوا عىل مكانة مدينتهم يف الحرب الدائرة عرب ثالث سنوات‪ ،‬لكن ال‬ ‫سوري‬ ‫ّ‬ ‫ميكن لحميص واحد أن يختلف مع نفسه بأن هذه املدينة كانت عاصمة النكتة السورية قبل‬ ‫اف عديدة ترى أن ما‬ ‫أربع سنوات‪ ،‬ما جعل من سكانها مصدراً للالبتسامة والضحكة‪ .‬أطر ٌ‬ ‫حدث هنا كان اقتتاالً داخلياً بني أبناء مدينة واحدة‪ .‬لكن عندما تتجول يف املدينة تصادف‬ ‫واقعاً يخالف إىل حدّ ال بأس به هذا التوجه‪ ،‬فحمص عرفت عرب عرشات السنني تقسيامً‬ ‫اجتامعياً‪ ،‬نال النصيب األكرب من اهتاممات السكان‪ ،‬حيث ترى أحياء شعبية باختالفاتها‬ ‫الفكرية واملناطق ّية والطبقية واملادية‪ .‬إال أنه بعد مرور هذه السنوات الصعبة عىل املدينة‬ ‫يبدو أن جزءاً من سكان حمص موق ٌن بأن التعايش أهم من الحرب‪.‬‬

‫❊ خريج كلية اإلعالم بجامعة دمشق‪ .‬يعمل كصحفي ومعد برامج يف إذاعة ميلودي إف إم‪ ،‬ويكتب يف عدة منابر عربية‪.‬‬

‫‪123‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫عن احلرب والتعايش‪ :‬القصة احلمصية الكاملة‬

‫تقسيم ولكن!‬

‫يقسم المدينة بشكل عام إلى جزء قديم يتميز بالمحافظة االجتماعية‪ ،‬تر ّكز‬ ‫المهندس فؤاد عودة ّ‬ ‫في أعمالها على المهن اليدوية التراثية‪ ،‬وأحياء أخرى في الجزء الغربي تتميز بارتفاع الدخل والمستوى‬ ‫مستوى مادي أقل من الفئتين السابقتين‪،‬‬ ‫المعيشي واالجتماعي‪ ،‬ومن ثم األحياء األقرب لكونها ضواحي ذات‬ ‫ً‬ ‫فض ًال عن البطالة وسوء الخدمات‪.‬‬ ‫فيما يرى أحد طالب معهد الهندسة المعلوماتية في ‘جامعة البعث’ فادي برشم‪ ،‬أن أسس العالقات‬ ‫بين السكان اختلفت ع ّما كانت عليه قبل األزمة بشكل كبير‪ ،‬حيث قامت سابقاً على التماسك االجتماعي‬ ‫للمنطقة الواحدة فض ًال عن أنّها كانت مبنية على أسس معيشية أو تعليمية أو ثقافية‪.‬‬ ‫وبالعودة إلى أكثر من أربع سنوات‪ ،‬فقد اتسمت حمص بالطبقية والعائلية وكان ذلك واضحاً من‬ ‫خالل األسر العريقة في المدينة‪ ،‬وهو األمر الذي تجاوز حدود الطوائف واألديان‪ ،‬فمال الناس إلى نظرائهم‬ ‫من المستوى المادي واالجتماعي بغض النظر عن الخلفية الدينية‪ .‬ويعتقد عودة أن هذا النمط أدى إلى‬ ‫وجود طبقية كبيرة بين أحياء ذات منبت جغرافي أو عائلي واحد‪ ،‬بينما كانت العالقات االجتماعية عابرة‬ ‫ألية حواجز أخرى‪ ،‬وأنها كانت متركزة أكثر على التشابه الطبقي واالقتصادي والدراسي بشكل كبير‪.‬‬ ‫و ُيشار إلى أنّ العالقات االجتماعية الحمصية عانت خالل الفترة األخيرة عبر مراحل عديدة‪ ،‬بدايتها‬ ‫كان في استحالة الخروج من المنزل مسا ًء بسبب المخاطر األمنية‪ ،‬لينكفئ السكان على أبناء أحيائهم ما‬ ‫أدى إلى انغالقٍ‬ ‫نسبي وتقوقع لفترة ليست بالقصيرة‪ ،‬لكن هذه الظاهرة أخذت باالنحسار بعد التطورات‬ ‫ٍّ‬ ‫األخيرة‪ ،‬لتبقى بحاجة إلى الوقت والثقة‪ .‬و ُيعتبر هذا الوضع طبيعي نتيجة الحدث الراهن‪ ،‬لكن الرغبة في‬ ‫االستمرار أو ربما العودة إلى واقع سابق‪ ،‬هو الوضع غير الطبيعي واألقل إيجابية‪.‬‬ ‫‪124‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫عن احلرب والتعايش‪ :‬القصة احلمصية الكاملة‬

‫نقطة بيضاء يف حرب سوداء‬ ‫أحياناً يكون التفاؤل في الحروب‬ ‫طاقة إيجابية لألشخاص المتضررين نفسياً‬ ‫واجتماعياً‪ ،‬وربما يكون هروباً من الواقع‬ ‫هروب‬ ‫المحيط‪ ،‬وفي حمص تحديداً هو‬ ‫ٌ‬ ‫إلى واقع االبتسامة المعهودة للسكان‪،‬‬ ‫والتي باتت جزءاً من تاريخ المدينة‬ ‫الحديث‪ .‬هذا التفاؤل هو ما يخبرنا به‬ ‫املهندس فؤاد عودة –يسار‪ -‬مع الصحفي سومر العيل‬ ‫حي الخضر بمنطقة عكرمة القديمة‪ ،‬الحي‬ ‫الجامع لسكان حمص اجتماعياً واقتصادياً‬ ‫بالدرجة األولى‪ ،‬والواقع جنوبي القلعة األثرية‪ ،‬وال يبتعد كثيراً عن منطقة حمص القديمة‪ ،‬المكان الذي‬ ‫ذاع صيته كثيراً خالل ثالث سنوات‪ .‬ر ّبما ذلك يدعم النظرية االجتماعية على حساب نظريات أخرى أخذت‬ ‫أهمية إعالمية‪ ،‬فمختار الحارة محمد إبراهيم أو ‘الشيخ’‪ ،‬كما ُيلقب أسوة بتقاليد الحي السائدة حتى اآلن‪،‬‬ ‫يرى أنه برغم اختالف نوعية السكان‪ ،‬فأبناء الريف والمدينة يجاورون بعضهم منذ عشرات السنين حتى‬ ‫اآلن‪ ،‬ووعي سكان المنطقة بنتائج ما حدث في أماكن أخرى بحمص‪ ،‬جعلهم يختارون البقاء في تعايش‬ ‫عرفوه خالل أكثر من ‪ 40‬عاماً دون أن يغفل رأيه بدور رجال ال ّدين الذين قرروا أخذ دور إيجابي الستمرار‬ ‫الهدوء على عكس نظرائهم في أماكن أخرى‪.‬‬ ‫وطبعاً هذا الحي الشعبي المعروف بتنوع سكانه‪ ،‬ما يزال يحافظ على عاداته التقليدية‪ ،‬ويحترم مكانة‬ ‫المثقف‪ .‬ومع أنه حي شعبي نسبياً‪ ،‬إال أن طبقة‬ ‫مع املختار محمد إبراهيم‬ ‫سكانه قبل األزمة كانت ممتازة كما يرى المختار‪،‬‬ ‫أما اآلن فبعض التجار الذين كانوا يملكون معامل‪،‬‬ ‫تح ّولوا إلى العمل على بسطات صغيرة في الحي‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬فالعامل المادي والطبقي لعب دوراً كبيراً‬ ‫لدى تفكير الناس وترتيب أولوياتهم‪ ،‬إذ اختار سكان‬ ‫هذا الحي استكمال حياتهم بدالً من المشاركة باألزمة‬ ‫التي تدور في مدينتهم‪.‬‬ ‫ويعتقد المختار أن الحواجز اإلسمنتية شكلت‬ ‫عائقاً‪ ،‬كونها أصبحت فواصل وهمية في الحي بين‬ ‫شارع وآخر‪ ،‬رغم أنه يرى الحي كتلة واحدة رغم‬ ‫األحداث الكبيرة التي حصلت حوله‪ ،‬ولم يب ِد تخ ّوفه‬ ‫من أي شيء بين أبناء الحي الواحد‪ ،‬إذ يؤكد أنّ‬ ‫االنتماء هنا للحي وليس للعائلة‪ ،‬ما يميزه عن أحياء‬ ‫حمص الجديدة‪.‬‬ ‫‪125‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫عن احلرب والتعايش‪ :‬القصة احلمصية الكاملة‬

‫لم ُ‬ ‫يخل حي الخضر من المشاكل في بداية األزمة الحمصية‪ ،‬لكن المختار أبو ال ّنور يذكر أن عائالت‬ ‫حمصية معروفة استبعدت بعض أفرادها ممن شاركوا باألحداث في بدايتها‪ ،‬احتراماً آلراء جيرانهم‪ ،‬وحفاظاً‬ ‫الحي‪.‬‬ ‫على وحدة ّ‬ ‫فادي الذي يسكن في حي العدوية يعتقد أن حي عكرمة القديمة‪ ،‬على األغلب هو الحي الوحيد‬ ‫في حمص الذي بقي محافظاً على التعايش بين الطوائف جميعها‪ ،‬على أمل أن تعود حمص مثله‪ .‬أما‬ ‫فؤاد عودة فيقول‪“ :‬تفاجأت بتنوع حي عكرمة طائفياً ودينياً وعرقياً‪ ،‬ومحافظته على النسيج االجتماعي‬ ‫المتماسك في مدينة عرفت أحداثاً مؤسفة وانغالقاً وخوفاً متبادالً بين السكان”‪ ،‬ويقول‪“ :‬أرى دوماً شباب‬ ‫وصبايا من كل الطوائف في المقاهي‪ ،‬والحياة هنا تذكرني بحمص ما قبل األزمة بشكل ملفت للنظر”‪.‬‬ ‫ويذهب عودة ألبعد من ذلك‪ ،‬حيث يرى أن هذا المثال يحتاج لدراس ٍة معمقة ألن وجود هكذا‬ ‫نموذج بمدينة حمص بالتحديد قد يعطي أم ًال بحياة أفضل ومستقبل واعد يمكن البناء عليه لعودة‬ ‫التماسك االجتماعي وترميم الجراح االجتماعية في مدينة حمص‪ ،‬وفي سوريا بشكل عام‪ ،‬مضيفاً‪“ :‬إنّه من‬ ‫المدهش أن نرى بنا ًء في عكرمة يحتوي عائالت من منابت مختلفة‪ ،‬والالفت هو التعايش الكبير والنابع‬ ‫منهم بدون أي عامل خارجي قسري‪ ،‬وهو من األمور القليلة التي تبعث على التفاؤل بواقعنا األليم”‪.‬‬ ‫هذا التفاؤل ينبع من خصوصية مدينة حمص بالنظر إلى الجزء األبيض من هذه الحرب السوداء‪،‬‬ ‫وهو ال ينفي الواقع السيء في فترات عديدة‪ ،‬لكنه يؤكد ميل سكان حمص بالبساطة والتسامح‪.‬‬ ‫االختالف ال يعني اخلالف‬ ‫قبل تقييم هذا القول‪ ،‬قد يعتقد البعض أن القتل يعني تجاوز االنسان لحدوده البشرية‪ ،‬لكن هذا‬ ‫المثل ينطبق تماماً على مدينة حمص‪ ،‬فالنظرة البعيدة للحدث‪ ،‬تدل على أنها تقسمت إلى جزر صغيرة‬ ‫ال قواسم مشتركة بينها‪ .‬وهذا صحيح نسبياً قبل سنتين من اآلن بسبب الخوف من العوامل الخارجية‪.‬‬ ‫لكن اليوم‪ ،‬ومع خروج مسلحي المعارضة من المدينة‪ ،‬باتت الحدود وهمية فقط في فكر من عانوا من‬ ‫تبعات الحرب الصعبة‪ ،‬واألشخاص الذين مايزالون ضمن دائرة أفكارهم الشخصية الخاصة‪ .‬ومن وجهة نظر‬ ‫فادي أنه “بعد تهجير الناس من منازلهم بسبب الحرب خ ّفت العالقات االجتماعية بشكل كبير حتى بين‬ ‫المق ّربين‪ ،‬خوفاً من تفجيرات وتوترات أمنية‪ ،‬وخوفاً من االختالفات في اآلراء السياسية أيضاً”‪.‬‬ ‫ويروي مختار حي الخضر قصة حدثت قبل سنتين عندما طلبت منه بعض نساء الحي شراء بعض‬ ‫الحاجيات من الحي اآلخر‪ ،‬بعد سماع قصص مختلفة عن االختطاف‪ ،‬فاقترح عليهم الذهاب برفقته وعلى‬ ‫ضمانته بعدم حدوث شيء مما ذكر‪ ،‬ويؤكد المختار أنّه بعد الحادثة بأيام قليلة‪ ،‬صار األهالي يذهبون‬ ‫لوحدهم‪ ،‬ولم يعودوا بحاجة إليه‪.‬‬ ‫ال يعني هذا الكالم أن المدينة لم تشهد حرباً كبيرة‪ ،‬فالمشكلة تكمن بالثقة بين األحياء وخصوصاً‬ ‫المتجاورة‪ ،‬وتبقى القصة السابقة مثاالً بسيطاً ألحداث كثيرة تعتبر غريبة على حمص‪ ،‬التي لم تُعرف بتاريخ‬ ‫حربي‪ّ ،‬‬ ‫ولعل أشهرها قصة تيمورلنك الشهيرة‪ ،‬عندما تظاهروا بالجنون بعد دخول جيشه إلى المدينة‪ ،‬فخرج‬ ‫ّ‬ ‫منها كما دخل كما يقال‪.‬‬ ‫‪126‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫عن احلرب والتعايش‪ :‬القصة احلمصية الكاملة‬

‫عن احلرب والتعايش‬ ‫إذا كانت الحرب واقعاً مفروضاً‬ ‫منذ عدة سنوات‪ ،‬فإن التعايش االجتماعي‬ ‫الحمصي متعلق بمصير حياة الناس اليومية‬ ‫فيها منذ عشرات السنين‪ ،‬ويدركون أنه ال‬ ‫مف ّر منه‪ ،‬لكن هذه العملية برأي فؤاد عودة‬ ‫تحتاج لمزيد من الوقت والهدوء دون ضغط‬ ‫الحرب‪ ،‬وإيمان الس ّكان بأهمية التعايش رغم‬ ‫كل الحروب والكوارث‪ .‬فادي يعتقد أيضاً أنه‬ ‫إذا كانت الحرب أهم من التعايش لما كانت‬ ‫حمص باقية اليوم‪ ،‬وكنا رأينا أحياءها متف ّرقة‪،‬‬ ‫ورغم أنها خسرت كثيراً من ميزاتها سابقاً‪،‬‬ ‫فهي تستطيع العودة من جديد‪.‬‬ ‫يبدو أن التعايش الحمصي هو القدر‬ ‫الطالب الجامعي فادي برشم‬ ‫لسكانها‪ ،‬ولن تفرق الحرب بينهم رغم‬ ‫الصعوبات الموضوعية ووجود أناس تنظر إلى الواقع بسلبية لعدة أسباب‪ ،‬فيما تبقى الحاجة ماسة لمعالجة‬ ‫مؤسسات ومنظمات أهلية إلعادة وصل ما ُقطع وتسهيل سبل عودة‬ ‫اقتصادية واجتماعية ومبادرات من ّ‬ ‫التعايش بأقصر الطرق وأمثلها‪.‬‬ ‫تجسد في حي‬ ‫وفي نهاية القصة الحمصية التي أخذت طابع الدراما السوداء‪ ،‬نبع بريق أمل واسع ّ‬ ‫عكرمة‪ ،‬دون إهمال الحياة الكاملة في المدينة‪ ،‬باإلضافة إلى قسمها القديم الذي عاد جزء من سكانه‬ ‫ليتشارك الحياة‪ .‬فما ُعرف عن هذه المدينة كعاصمة الضحك السورية‪ ،‬وبعد ما وصلت إلى العالمية عن‬ ‫طريق ابتسامة زرعها سكانها لكل سوري يمر بها‪ ،‬ها هي تنهض من جديد‪ ،‬بهمة أهلها‪ ،‬كي تثبت أن‬ ‫التعايش أبقى من الحرب‪.‬‬

‫‪127‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪:‬‬

‫قصي عمامة❊‬

‫ملف االعتقال يف سوريا‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫ال تكاد أرسة سورية تخلو من قصة مخطوف أو معتقل أو مغيب أو مفقود‪ ،‬سواء كان‬ ‫قريباً من الدرجة األوىل أو رمبا العارشة أو كان جاراً أو صديقاً‪ .‬سوريون اختفى أثرهم يف‬ ‫اتهامات‬ ‫ٌ‬ ‫أتون حرب البالد أو ثورتها أو رصاعها أو املؤامرة عليها؛ بني املعارضة ونظام الحكم‬ ‫متبادل ٌة حول ملفي املختطفني واملعتقلني‪ ،‬فال أرقام واضحة وال دالئل وال تحقيقات‪ .‬يف‬ ‫هذه املادة ال نقارن بني رأي موايل للسلطة ورأي معارض لها بل نجمع بني رأي ‘املعني‬ ‫سابق يف فرع أمني‬ ‫األول’ عن ملف املعتقلني وفقاً للقوانني واألنظمة‪ ،‬وبني شهادة معتقلٍ ٍ‬ ‫سوري‪ ،‬علامً بأن هذا املعتقل ما يزال تحت الثامنة عرشة من عمره!‬

‫لالستامع إىل التسجيل الصويت املرافق للامدة‬ ‫‪https://soundcloud.com/ctpa-arabic/1hpnthce9f68‬‬ ‫❊ صحفي سوري يعمل يف املجال اإلذاعي منذ عام ‪ .2007‬خريج كلية الفنون الجميلة‪ ،‬ومشارك يف ‪ 4‬ملتقيات نحت بسوريا‪ ،‬إضافة إىل مشاركته يف عدة‬ ‫معارض‪ .‬تخ ّرج من الجامعة وانتقل للعمل اإلعالمي‪ .‬يعمل حالياً ضمن فريق مجلة دلتا نون‪ ،‬إضافة إىل نشاطاته الصحفية املتفرقة‪.‬‬

‫‪128‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪ :‬ملف االعتقال يف سوريا‬

‫الوزير‪ :‬شروط االعتقال تتحسن لكنه مستمر‪ ...‬عشرة آالف معتقل يف سوريا‪...‬‬ ‫ونعم هناك من ميوت منهم‪.‬‬ ‫حين تسلم الدكتور علي حيدر حقيبة وزارة الدولة لشؤون المصالحة الوطنية في الحكومة السورية‬ ‫عام ‪ ،2012‬قال إن الوزارة كانت اقتراحه الشخصي ضمن برنامج ‘الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير’ التي‬ ‫حلت مؤخراً‪ .‬حيدر هو رئيس ‘الحزب القومي السوري’‪ ،‬والذي ال يمت بصلة هيكلية بالحزب الذي يحمل‬ ‫ذات االسم في ‘الجبهة الوطنية التقدمية’‪ ،‬وال يزال يصنف نفسه وحزبه ضمن صفوف ‘معارضة الداخل’‬ ‫التي شاركت في الحكومة السورية ضمن بيان حكومي يحتوي برنامج حل سياسي في البالد‪.‬‬ ‫يميز علي حيدر‪ ،‬وزير الدولة لشؤون المصالحة الوطنية‪ ،‬بين ملف المختطفين والمعتقلين‪ ،‬ويقول‬ ‫إن عدد المعتقلين يقدر باآلالف وإن كان ليس هناك رقم واضح ومحدد لعددهم‪ ،‬فيقول “أقدر العدد‬ ‫بأكثر من عشرة آالف معتقل‪ ،‬وإن كان هذا الرقم متحوالً وليس ثابتاً ألن هناك عمليات اعتقال بشكل دائم‬ ‫وهناك من يخلى سبيلهم كذلك‪ .‬أنا أعرف أن هناك أرقاماً كبيرة لمعتقلين في السجون‪ ،‬ونحن ننتظر أن‬ ‫تنتهي مفاعيل مرسوم العفو األخير كي نحدد أرقاماً ثابتة‪ .‬األهم من األرقام هو طريقة التعاطي الرسمية مع‬ ‫هذا الملف‪ .‬لدينا مالحظات حول ذلك ابتدا ًء من طريقة التوقيف وأسبابه مروراً بظروف اعتقاله ثم بإحالته‬ ‫قلت سابقاً‬ ‫إلى القضاء والجهات المختصة‪ .‬نحن في الوزارة حاولنا دائماً تحسين ظروف االعتقال‪ ،‬وقد ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتحدثت عن ضرورة إدراج عملية االعتقال في إطار مؤسساتي”‪.‬‬ ‫حين التقت دلتا نون بالوزير حيدر كان مرسوم العفو الذي أصدره األسد قد م ّر عليه شه ٌر فقط‪،‬‬ ‫وحتى اليوم لم تأتي المفاعيل التي تحدث عنها الوزير بأي أرقام جديدة لعدد المفرج عنهم‪ .‬يتابع حيدر‬ ‫إنه ال يزال يوجه مالحظات على عمليات االعتقال‪ ،‬ومع ذلك يشير إلى أن هناك تحسناً لجهة استطاعة‬ ‫الوزارة الحصول على معلومات حول المعتقلين‪ ،‬ولجهة الحصول على تفاصيل أكثر عنهم‪ ،‬ويعتبر أن هذا‬ ‫التحسن ‘جيد’ لكنه احتاج ٍ‬ ‫لوقت للوصول إليه‪.‬‬ ‫‪129‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪ :‬ملف االعتقال يف سوريا‬

‫ونحن ندخل وزارة المصالحة الوطنية‪ ،‬صدفنا سيد ًة تقول إن ابنها اعتقل في الخامس عشر من‬ ‫شباط من هذا العام حين م ّر على حاجز أمني في قلب دمشق‪ .‬سألنا الوزير عن هذا‪ ،‬وكيف أن االعتقال‬ ‫ال يزال يسجل في دمشق‪ ،‬بعد ثالث سنوات من الحرب التي اندلعت أساساً‬ ‫ألسباب مماثلة؟ وافقنا الوزير‬ ‫ٍ‬ ‫بأن هذا يحدث وقال‪“ :‬صحيح إن الحواجز تعتقل لكن هذا من مفاعيل قانون الطوارئ الذي أوقف العمل‬ ‫به‪ ،‬وهناك تعميم للنشرات الشرطية ألسماء المطلوبين‪ ،‬وهناك عمل بنظام األتمتة في بعض الحواجز‪.‬‬ ‫لكن بواقع الحال ال يزال ما نطلبه حول شروط االعتقال غير مطبق في ظل أزمة البالد”‪ .‬نسأل حيدر إن‬ ‫حكم فهو بذلك‬ ‫كنت الوزارة تميز بين السجين السياسي والسجين الجنائي؟ فيقول إن كل من صدر بحقه ٌ‬ ‫بالنسبة إلينا موقوف‪ ،‬ويستطرد أن الوزارة حاولت تحسين اإلجراءات الخاصة باالعتقال‪.‬‬ ‫نعود لنسأل الوزير عن عدد المعتقلين‪ ،‬فيبلغنا أن الرقم غير واضح ألن عدد المعتقلين مرتبط‬ ‫بعدد المفقودين من أبناء البالد‪ ،‬والتمييز بينهما ال يمكن اآلن‪ ،‬فكلما فقد شخص ما تعتبره عائلته معتق ًال‬ ‫“وهناك اآلالف من المفقودين الذين حين نسأل األجهزة األمنية عنهم تأتينا اإلجابة بأنهم ليسوا موقفين‬ ‫أو معتقلين”‪ .‬ويخبرنا الوزير أن الرقم الذي قدره بعشرة آالف ُبني على أساس ما قدم من طلبات مباشرة‬ ‫للوزارة من قبل المواطنين وليس من تصريح جهات رسمية وأمنية‪.‬‬ ‫يتفق معظم من عرفوا االعتقال في سوريا‪ ،‬قبل وبعد الحرب في البالد‪ ،‬على أن التعذيب الجسدي‬ ‫واالنتهاكات التي تصل حد اإلعدام في المعتقالت السرية ال تزال ترتكب حتى الساعة‪ ،‬فض ًال عن وجود‬ ‫مئات الروايات عن ممارسات ارتكبت في معتقالت وصلت حد القتل واالعتداء الجنسي باإلضافة لما وثقته‬ ‫منظمات دولية ومحلية‪ .‬الوزير حيدر يوافق على ما قيل من قبل معتقلين سابقين وإن كان لديه وجهة‬ ‫نظر أقل ألماً‪“ :‬عندما ُيخلى سبيل البعض يتحدثون عن تعذيب تم في الفترة األولى من التوقيف‪ ،‬لكن بعد‬ ‫الحصول على معلومات أولية من المعتقل يتوقف التعذيب‪ .‬في الفترة األخيرة تحدث البعض عن تحسن‬ ‫في ذلك وأن البعض لم يتعرض حتى لضربة كف”‪ ،‬يقول الوزير‪.‬‬ ‫قبل أيام من لقائنا بالوزير حيدر قال المعارض السوري فايز سارة إن ابنه قضى في أحد المعتقالت‬ ‫تحت التعذيب‪ .‬الموت في المعتقالت أم ٌر يؤكده حيدر لكن ألسباب مختلفة عن تلك التي تنشر أو‬ ‫يتحدث عنها شهود عيان ومعتقلين سابقين‪ ،‬حيث يقول حيدر‪“ :‬ال شك أن هناك من يموت في المعتقالت‬ ‫والسجون‪ ،‬لكن علينا معرفة األسباب‪ ،‬فمن طبيعة دور الحياة أن يموت الناس ألسباب صحية‪ .‬نحن نتحدث‬ ‫عن عشرة آالف معتقل مث ًال‪ ،‬ومن الطبيعي أن يموت بعضهم‪ .‬مسألة إطالق األحكام تصبغها الخلفية‬ ‫السياسية‪ .‬فحين يتوفى شخص في السجن يقال إنه قتل تحت التعذيب حين يكون معارضاً‪ .‬نحن بحاجة‬ ‫لتحقيقات خاصة من جهات قضائية وطبية‪ّ ،‬‬ ‫تطلع على األسماء لمعرفة الحقيقة‪ .‬هناك اليوم إجراءات‬ ‫رسمية وتقارير طب شرعي تجرى لكل من يقضي في المعتقالت‪ ،‬وحتى هناك صور‪ .‬لكنني ال أنكر وجود‬ ‫وفيات في السجون‪ ،‬لكن يجب أن نعرف األسباب‪ .‬وأنا ال أسميه إال وفاة‪ ،‬فالقتل هو أمر جرمي يحتاج‬ ‫ألدلة‪ ،‬ليست معنا اآلن‪ ،‬وقد اطلعت إلى بعض الملفات ووجدت أن الوفاة طبيعية”‪.‬‬ ‫نقاطعه‪ :‬هل أطلعت على أي ملف تبين فيه أن المعتقل قتل تحت التعذيب؟ “ال أبداً”‪ ،‬يجيب‬ ‫الوزير‪.‬‬ ‫‪130‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪ :‬ملف االعتقال يف سوريا‬

‫يكثر الحديث عن سرية تامة‬ ‫تحيط بالمعتقالت السورية‪ ،‬حيث‬ ‫يوثق معتقلون سابقون ومنظمات‬ ‫دولية معنية بحقوق اإلنسان‬ ‫فظائع ترتكب من دون أي رقابة‬ ‫من أي جهة محلية أو دولية‪ ،‬عن‬ ‫هذا يقول حيدر‪“ :‬الزيارات غير‬ ‫ممكنة للمنظمات الدولية ألننا‬ ‫عيل حيدر‪ ،‬وزير املصالحة الوطنية‪ ،‬أثناء إجراء اللقاء‬ ‫لم نتحول لدولة مشمولة بالرعاية‬ ‫الدولية‪ .‬إن كنت تقصد منظمات كالهالل األحمر والصليب األحمر الدولي‪ ،‬فقد حدثت زيارات من هذا‬ ‫النوع في بعض األماكن‪ .‬لكن هل التقييم كاف أم غير كاف فهذا هو السؤال”‪ .‬يقول حيدر إن الوزارة ال‬ ‫تطلع على جميع الحاالت بل على تلك التي ترد من قبل األهالي‪ ،‬والتي تتابعها الوزارة وتحصل على إجابات‬ ‫عليها من األجهزة األمنية‪.‬‬ ‫خمتطفو عدرا‪ ،‬خمسة آالف خمتفي‬

‫سيطرت القوات الحكومية على مناطق عدرا العمالية وعدرا البلد في نهاية شهر أيلول ‪ ،2014‬وظهر‬ ‫مع هذه السيطرة ملف مختطفي عدرا‪ ،‬الذين قال لنا حيدر إن رقمهم قد يصل إلى خمسة آالف مختطف‪.‬‬ ‫ورغم المحاوالت التفاوضية إال أن الجهود باءت بالفشل‪ .‬وككل حرب كالتي تعصف بالبالد‪ ،‬قد يبقى الملف‬ ‫مفتوحاً لسنوات من دون حل‪ ،‬يقول حيدر‪“ :‬دون شك هناك قسم من المفقودين والمعتقلين سيظلون‬ ‫كذلك لسنوات طويلة”‪ ،‬ويطرح لنا مثاالً عن “عائالت قدمت أسماء أبنائها على أنهم مفقودين‪ ،‬لنكتشف أن‬ ‫أبنائهم انشقوا عن الدولة‪ ،‬وليسوا بمفقودين‪ ،‬وكذلك الحال بالنسبة لمن قتل في المعارك وأحرقت جثثهم‪.‬‬ ‫هنا ال بد من اإلشارة إلى ضرورة الحل السياسي الذي سيبقى بعده ملفات لمفقودين‪ ،‬ولديك مثال الحرب‬ ‫األهلية اللبنانية التي وحتى اليوم ال يزال هناك ملفات المختفين فيها بال حل”‪.‬‬ ‫يقول حيدر “إن سوريا عرفت عمليات إحراق لجثث أو رميها باآلبار‪ ،‬وحتى هناك مدافن جماعية”‪.‬‬ ‫وسألنا حيدر هل هذا يرتكب من الطرفين‪ ،‬فقال‪“ :‬إن الدولة ال تفعل ذلك والجيش السوري ال يفعله”‪،‬‬ ‫فسألناه حتى األمن والمخابرات أال يفعالن ذلك؟ فقال‪“ :‬األمن والمخابرات هم في ساحة القتال يقاتلون‬ ‫وبالتالي هذا كالم لم يسجل على الدولة‪ ،‬حتى حين قلنا أن هناك من يقضي في المعتقالت وأماكن‬ ‫التوقيف‪ ،‬فهؤالء تصدر بحقهم شهادات وفاة نظامية‪ ،‬ويبلغ األهل‪ ،‬وإن تأخر تسليم الجثث‪ ،‬تدفن في‬ ‫مدافن جماعية ولهم أرقام”‪.‬‬ ‫‪131‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪ :‬ملف االعتقال يف سوريا‬

‫النفق‬ ‫تركنا الدكتور علي حيدر في مكتبه في مشروع دمر بدمشق‪ ،‬وتوجهنا للقاء وائل الذي يبلغ من‬ ‫العمر سبعة عشرة عاماً في منطقة الشهبندر في قلب العاصمة‪ .‬وائل الذي يصنف من في سنه كطفل‪،‬‬ ‫حتى ضمن القانون السوري‪ ،‬كان قد خرج من أحد األفرع األمنية قبل ثمانية وأربعين ساعة فقط! وافق‬ ‫وائل على الحديث معنا عن تجربة شهرين في المعتقل الذي يطلق على القسم الذي كان هو فيه اسم‬ ‫‘النفق’‪.‬‬ ‫ق ّلب وائل صوره الشخصية عبر هاتف أخته النقال الذي كان بحوزته‪ ،‬ليرينا كيف كانت هيئته قبل‬ ‫شهرين‪ .‬وبينما كان يقف أمامنا هزي ًال وحليق الرأس‪ ،‬بعيون متعبة‪ ،‬الحظنا على رقبته أثر كدمة‪ ،‬فيما كان‬ ‫يتناول الطعام طيلة فتره وجودنا معه‪ ،‬ويسرد لنا ما شاهده وما اختبره في المعتقل‪ .‬فقد اعتقل حين م ّر‬ ‫من حاجز حي الزاهرة بدمشق‪ ،‬وكانت تهمته على الحاجز أنه فلسطيني سوري ُكتب على هويته أنه ولد‬ ‫في مخيم اليرموك المحاصر بجنوب العاصمة‪ .‬حين اعتقل كان يتقدم المتحانات الشهادة الثانوية‪ ،‬وكان من‬ ‫الطالب القالئل الذي غادروا المخيم برعاية األمم المتحدة (منظمة غوث وتشغيل الالجئين الفلسطينيين)‬ ‫ووزارة الشؤون االجتماعية السورية وعدد من الفصائل الفلسطينية‪ ،‬لكن لم تشفع له الورقة التي حملها‬ ‫على الحاجز حين اعتقل‪ .‬أنزله العنصر من سيارة األجرة وطلب منه التوقف بجانب الجدار قبل أن ُي ْص َح َب‬ ‫بسيارة خاصة إلى فرع في أحد شوارع العاصمة‪ ،‬ويصبح نزي ًال في ‘النفق’‪.‬‬ ‫‘النفق’ بحسب وصف وائل لـ دلتا نون‪ ،‬ما هو إال مم ٌّر يربط بين مجموع ٍة من القاعات والزنزانات‬ ‫والغرف‪ .‬العدد الكبير من المعتقلين جعل ضباط الفرع يقررون أن يكون الممر مكاناً لالعتقال! عرض‬ ‫الممر يكفي لكي يجلس وائل القرفصاء وظهره مسنود بشكل كامل إلى الجدار‪ ،‬ويحتضن ركبتيه ملتصقاً‬ ‫بمعتقلين آخرين‪ ،‬ق ّدر وائل عددهم بـ ‪ 50‬شخصاً‪ ،‬وهو أصغرهم سناً‪ .‬لم يستطع وائل أن يتحدث إال‬ ‫للمعتقل الذي يجلس في ذات الوضعية على يمينه‪ ،‬فمن الممنوع عليه أن يتحدث مع من يجلس إلى‬ ‫يساره‪ ،‬وهذا بالطبع يطبق على جميع المعتقلين في ‘النفق’‪.‬‬ ‫يدخل وائل إلى الحمام مر ًة واحدة في األسبوع‪ ،‬ويدخل معه خمسة معتقلين في ذات اللحظة‪،‬‬ ‫الجميع عراة تماماً‪ ،‬وينتهي الحمام بعد خمس دقائق في أحسن األحوال‪ .‬نام وائل طوال شهرين في ذات‬ ‫الوضعية التي كان يجلس بها‪ ،‬وحين سألنا وائل عن تلك العالمة في رقبته‪ ،‬فقال وهو يستخدم يديه ليشرح‬ ‫أكثر‪“ :‬الضابط في التحقيق كان يضع يده هنا لخنقي‪ ،‬كان صوتي ينقطع ويكاد نفسي أن ينقطع أيضاَ‪،‬‬ ‫وحين أصرخ في نهاية األلم أو النفس‪ ،‬يسحب المحقق يده ويضربني على وجهي‪ ،‬هذه العالمة واحد ٌة من‬ ‫العالمات الكثيرة على جسدي”‪.‬‬ ‫في ‘النفق’ يشرف على ضبط المعتقلين ومراقبتهم معتقلون قدامى‪ ،‬يقول وائل‪ .‬فمن أمضى أكثر‬ ‫من عام في االعتقال‪ ،‬يصبح مراقباً ومساعداً للمحقق‪ .‬يتابع وائل‪“ :‬من كان يشرف على تعذيبي هو ضابط‬ ‫لم أرى وجهه أبداً‪ ،‬فحين ُأقاد للتحقيق تُعصب عيناي‪ .‬من كان ينفذ التعذيب هو معتقل‪ .‬كان يضربني‬ ‫بوحشية‪ ،‬ويتمادى في ذلك‪ .‬إحدى الوضعيات التي آلمتني ولحد اآلن‪ ،‬هي قلبي على كرسي ورأس نحو‬ ‫األسفل‪ ،‬تعلق يداي بحبل حديدي وترفعان نحو السقف‪ ،‬وحين تصالن للنقطة الطبيعة الرتفاعهما يبدأ األلم‬ ‫‪132‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪ :‬ملف االعتقال يف سوريا‬

‫مع رفعهما أكثر وأكثر‪ ،‬كان جسدي يتمزق‪ ،‬وكنت أصرخ‪ ،‬هنا يرفع المحقق العصبة عن عيني‪ ،‬بعد أن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وجدت عظم لوح الكتف وقد برز لدرجة جعلتني‬ ‫نظرت‪،‬‬ ‫أصبح في الخلف مني‪ ،‬وقال لي انظ ْر إلى كتفك‪،‬‬ ‫أتمكن من رؤيته بطرف عيني‪ .‬حينها ضربني الضابط بقدمه على عظم اللوح فيما ال تزال يداي مرفوعتان”‪.‬‬ ‫تعذيب بال أي تحقيق أو توجيه تهمة‪ .‬كان وائل ينتظر أن‬ ‫استمر تعذيب وائل لمدة أسبوعين‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫يدافع عن نفسه حين ستوجه له تهمة واضحة‪ ،‬ويقول إنه استطاع أن يبقى صامداً مع ذلك األلم النفسي‬ ‫والجسدي ألنه كان ينشط في مجال الدعم النفسي قبل اعتقاله “عليك أن تبقى صامداً وال تفكر‪ ،‬ال تسألني‬ ‫كيف‪ ،‬لكن عليك ذلك‪ ،‬هناك بعض المعتقلين الذي يصابون بنوبات غريبة‪ ،‬ينهارون‪ ،‬يفقدون الوعي تماماً‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أسئلة من قبيل‪ ،‬هل سأخرج من‬ ‫بدأت تدور في ذهني‬ ‫ثم يموتون‪ ،‬أنا تعرضت لهذه الحالة لمرتين‪ ،‬حين ْ‬ ‫ٌ‬ ‫معتقل آخر‬ ‫ارتفعت حرارتي وأغمي علي‪ .‬اقتادني‬ ‫هنا؟ كيف هي أمي؟ هل تعلم أني هنا؟ ما هي نهايتي؟‬ ‫ْ‬ ‫إلى الحمام ورشني بالماء‪ ،‬تسمى الحالة بين المعتقلين بـ ‘الفصالن’ إذا مررت بها فلن تحيى”‪ .‬وائل لم‬ ‫يكن يتوقع أبداً أن يخرج من معتقله‪ ،‬كان متأكداً من موته‪ .‬خاطب نفسه بأنه سيلتقي بوالده المتوفى في‬ ‫الجنة “قلت لنفسي سأرتاح من كل شيء‪ ،‬من الحواجز‪ ،‬من حصار المخيم الذي تعيشه أمي مع أخوتي‪،‬‬ ‫من كل هذه الحرب وهذا األلم”‪ .‬شاهد وائل معتق ًال في ‘النفق’ قدر عمره بخمسة وستين عاماً‪ ،‬وشاهد‬ ‫معتق ًال ضريراً‪ ،‬وآخر بترت أقدامه‪ ،‬وقال إن هناك معتقلون أكملوا العاميين في ‘النفق’‪.‬‬ ‫عاش وائل حصار اليرموك وأيام جوعه وقلة الطعام فيه‪ ،‬لكن في ‘النفق’ كان الطعام الذي يقدم‬ ‫لوائل ومن معه هو حساء فيه بعض األرز يقول‪“ :‬اشتقت أمام هذا الطعام لما كنت آكله في المخيم‬ ‫المحاصر‪ ،‬لمرة واحدة أطعمونا قطعة صغيرة للغاية من البطيخ األحمر‪ ،‬يبدو أن أمراً ما جعلهم يقدمون‬ ‫هذا الطعام لنا في ذلك اليوم‪ ،‬أذكر جيداً أن المعتقلين المشرفين علينا‪ ،‬حصلوا في آخر النهار على قطعة‬ ‫كبيرة من البطيخ كمكافأة لهم‪ ،‬فهؤالء مستعدون لفعل أي شيء مقابل سيجارة واحدة تُعطى لهم في آخر‬ ‫اليوم”‪.‬‬ ‫يقول وائل إن كل معتقل جديد‪ ،‬يجبر على القيام بأعمال تسمى ‘السخرة’ وهذه األخيرة تتضمن نقل‬ ‫جثث المعتقلين الذي قضوا من شدة اإلعياء أو تحت التعذيب‪“ ،‬كنا نحملهم في ‘بطانية’ رائحتها سيئة‬ ‫للغاية‪ ،‬ونلقيهم في مكب نفايات‪ ،‬ال أعلم ما هي الخطوة التالية‪ ،‬لكنني حملت عدداً كبيراً من الجثث”‪.‬‬ ‫يتابع “أيقظوني مر ًة عند الرابعة صباحاً‪ ،‬كان الضابط الذي ال أراه أبداً‪ ،‬يجلس في غرفة التحقيق‪،‬‬ ‫أعرف ذلك من رائحة سجائره‪ ،‬بينما يقوم المعتقل الذي يعذبني بوضع وجهي على الجدار‪ ،‬ويضربني المرة‬ ‫تلو المرة‪ ،‬الدماء كانت تسيل من أنفي وفمي‪ ،‬وتصبح عيناي حمراوين‪ ،‬كان جميع المعتقلين بعيون حمراء‬ ‫يحتبس فيها الدم”‪ .‬حتى اآلن لم توجه لوائل أي تهمة ولم يحقق معه بعد‪“ ،‬قال لي الضابط اتخ ْذ وضعية‬ ‫جاثياً‪ ،‬ثم بدأ تعذيبي‪ .‬الضابط المحقق لم يضربني بيده أبداً‪ ،‬كان يستخدم قدمه فقط‪ ،‬هو يرتدي ‘بسطاراً’‬ ‫عسكرياً‪ .‬قال لي مر ًة وحرفياً إنه ال يضربني بيديه كي ال تتسخا‪ ،‬كنت ُأحرق بالسيجارة‪ ،‬كانت دخاناً عربياً‬ ‫يلف يدوياً‪ ،‬يتميز بنهاية غليظة”‪.‬‬ ‫يقول وائل “طلبت مرة من الضابط أن أقبل قدمه كي يتوقف عن تعذيبي‪ ،‬قال لي أن حذائه أنظف‬ ‫مني‪ ،‬رجوته باسم الله‪ ،‬فكفر كثيراً‪ ،‬قلت له من أجل السيد الرئيس‪ ،‬قال لي‪ :‬اآلن عرفته كنت تشتمه في‬ ‫‪133‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫بني أمل املعتقل وتصريح الوزير‪ :‬ملف االعتقال يف سوريا‬

‫المخيم! نعم‪ ...‬طلبت تقبيل قدمه لكنه رفض‪ ،‬كان األلم قد بات ال يحتمل أبداً فاق طاقتي وقدرتي على‬ ‫التحمل”‪ .‬وبعد شهرين ُوجهت إلى وائل سبع ُت َه ٍم من قبل الضابط المحقق هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬المشاركة في مظاهرات في مخيم اليرموك حين كان تحت سيطرة الجيش السوري‪.‬‬ ‫‪ -2‬توجيه اتهامات للنظام السوري عن طريق وسائل اإلعالم‪.‬‬ ‫‪ -3‬االنتساب لتنظيم جبهة النصرة‪.‬‬ ‫‪ -4‬سرقة المنازل في مخيم اليرموك‪.‬‬ ‫‪ -5‬حماية المقرات الخاصة بالمسلحين في مخيم اليرموك‪.‬‬ ‫‪ -6‬تأمين الطعام لمسلحين في مخيم اليرموك‪.‬‬ ‫‪ -7‬الخروج من مخيم اليرموك بطريقة غير شرعية‬ ‫يقول وائل إنه أنكر جميع التهم حين تالها عليه الضابط‪ ،‬وأنه اعترف بأنه ساهم في مظاهرات في‬ ‫الفترتين اللتين عرفهما المخيم‪ ،‬فتظاهر ضد النظام في البالد حين كان الجيش ينتشر فيه‪ ،‬وضد المسلحين‬ ‫حين دخلوا إليه‪ ،‬ويصف نفسه بأنه محايد سياسياً اليوم‪ .‬أطلق سراح وائل بحكم قضائي برأ ذمته من‬ ‫جميع التهم التي وجهت إليه في المعتقل‪ ،‬ونص الحكم على أن جميع االعترافات التي وقع عليها انتزعت‬ ‫منه تحت التعذيب‪ ،‬لكن هذا لم يكن ليحدث لوال أن عائلة وائل وأصدقاء لها في دمشق‪ ،‬تمكنوا من دفع‬ ‫نصف مليون ليرة كرشوة لسماسرة كي يح ّول وائل إلى سجن عدرا ومنه إلى القصر العدلي الذي أطلق‬ ‫سراحه‪.‬‬ ‫حين وصل وائل إلى القصر العدلي كان حافي القدمين‪ ،‬وال يملك أي مال‪ ،‬وحين غادر القصر العدلي‬ ‫ركض إلى بائع حلويات وطلب منه طبقاً وأخبره أنه ال يمتلك المال ليدفع له‪ ،‬أعطاه البائع‪ ،‬فجلس على‬ ‫الرصيف يأكله‪ ،‬وهو غير مصدقٍ أنه خرج للتو من اعتقال يصفه بالمميت‪ .‬وحين سألنا وائل عن ما يخطط‬ ‫له اليوم‪ .‬كان مقتنعاً بأنه سيسافر من سوريا وال ينوي العودة إليها أبداً‪.‬‬

‫‪134‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫أحالم سورية‪:‬‬ ‫ٌ‬

‫لميس الجاسم❊‬

‫بني الداخل واخلارج‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫يعيش الشباب السوري اليوم ضمن ظروف حياتية قاسية بسبب حالة الرصاع املستمرة‬ ‫يف سوريا منذ أربعة أعوام‪ ،‬لعل أهمها الظرف النفيس اليسء وغري املستقر الذي ال‬ ‫يرتك لهم مجاالً للتخطيط أو حتى لتحديد األهداف‪ .‬يأيت هذا التحقيق كمحاولة أولية‬ ‫لتسليط الضوء عىل األهداف التي تغريت‪ ،‬واألولويات الجديدة التي ظهرت‪ ،‬عند‬ ‫الشباب السوري ويف مقدمتها السفر‪ .‬فمع أن السفر أولوي ٌة اليوم للشاب السوري‪ ،‬إال‬ ‫أنه ما زال صعباً أمام الشابة السورية‪ .‬ومن ناحية أخرى يحاول التحقيق التعرف عىل‬ ‫أولويات وأهداف الشباب السوري اليوم ممن حققوا حلمهم بالسفر إىل أوربا (سريكز‬ ‫التحقيق الحايل عىل فرنسا كنموذج)‪ .‬كيف يصف الشباب السوريون هذه التجربة‬ ‫الجديدة؟ وكيف ينظر اآلخرون إىل مشاريعهم وظروفهم؟ وأخرياً يسلط التحقيق‬ ‫الضوء عىل االختالف الجديد الذي يضاف إىل سلسلة االختالفات والتناقضات التي‬ ‫تفرق السوريني‪ ،‬بخاصة الفئة العمرية الشابة التي مل تعد مشطور ًة جغرافياً فقط‪ ،‬بل‬ ‫فكرياً وثقافياً أيضاً كنتيج ٍة الختالف الظروف واألولويات بني من يعيش داخل سوريا‬ ‫وخارجها‪.‬‬

‫❊ خريجة كلية اإلعالم عام ‪ .2011‬مدونة سورية منذ عام ‪ .2008‬أخرجت وأعدت فيلامً قصريا ً بعنوان ‘حبل غسيل’‪.‬‬

‫‪135‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫أحالم سورية‪ :‬بني الداخل واخلارج‬ ‫ٌ‬

‫تفاوت األهداف واألولويات بني الشباب السوري داخل البلد وخارجه‬ ‫في اليوم الدولي للشباب الموافق لـ ‪ 12‬آب‪/‬أغسطس ‪ 2014‬والموجه نحو موضوع ‘الشباب والصحة‬ ‫العقلية’ تحدث أمين عام األمم المتحدة في رسالته السنوية عن أنّ “الصحة النفسية هي الحالة التي نشعر‬ ‫بها‪ ،‬إنها عواطفنا ورفاهنا‪ ،‬وعلينا جميعا أن نعتني بصحتنا النفسية حتى نعيش حياة راضية”‪ .‬بالمقابل في‬ ‫سوريا التي تعاني من صراع مستمر منذ أربعة أعوام‪ ،‬تظهر واحدة من أهم اآلثار النفسية “الشعور الدائم‬ ‫بحتمية الموت يرافقه حالة من األرق والخوف المستمر” وفقاً لكتاب الصدمة النفسية عن أثر الحروب‬ ‫والكوارث على اإلنسان العربي‪.‬‬ ‫في ظل هذه الظروف النفسية االستثنائية التي يعيشها الشباب السوري كيف تغيرت أهدافه‬ ‫وأولوياته؟ ولماذا يتربع السفر على قائمة أحالمه؟ وحين يتحقق حلمه بالرحيل كيف تتعدل أولوياته؟ وما‬ ‫مدى جداوها؟ هذا ماسنحاول اإلجابة عليه ضمن هذا التحقيق‪.‬‬ ‫تعديالت تكتيكية وخيارات جديدة‬ ‫يصف أحمد اليونس ‪ 27‬عاماً (يعمل كمندوب علمي في شركة دوائية) تجربته في تعديل أهدافه‬ ‫بالجيدة نسبياً أمام كل العقبات التي رافقته منذ التخرج في عام ‪ 2011‬وحتى اآلن‪ ،‬بدءاً من تخلصه من‬ ‫خدمة العلم بدفع البدل عن الخدمات الثابتة التي كان مكلفاً بها‪ ،‬وهذا برأيه يغير حياة أي شاب سوري‬ ‫فال يطارده شبح السفر‪ ،‬وانتها ًء بانعدام فكرة افتتاح الصيدلية الخاصة به كخطوة طبيعية بعد دراسته‬ ‫الصيدلة والمشروطة بخدمة عامين في الريف بسبب الظروف األمنية واالقتصادية ووضع الريف الخطر في‬ ‫كافة المحافظات السورية حسب وصفه‪ .‬يتابع اليونس‪“ :‬اليوم سأختص في اإلدارة الدولية وهو ٌ‬ ‫بعيد‬ ‫مجال ٌ‬ ‫تماماً عن اختصاص المخابر الذي كنت أود دراسته والذي سيبقى مؤج ًال حتى تنتهي الحرب ربما”‪.‬‬ ‫‪136‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫أحالم سورية‪ :‬بني الداخل واخلارج‬ ‫ٌ‬

‫ال حل يشبه السفر‬ ‫ال شيء يشغل ذهن أدهم ‪ 24‬عاماً الحاصل‬ ‫على ماجستير التسويق الدولي من المعهد العالي‬ ‫إلدارة األعمال حديثاً سوى فكرة السفر الملحة والتي‬ ‫يصفها قائ ًال‪“ :‬السفر حاجة ملحة بسبب تأجيل‬ ‫خدمة العلم‪ ،‬هو هاجس بالنسبة لي وألخي ولجميع‬ ‫أصدقائي‪ ،‬لقد فعلت ما بوسعي ودرست الماجستير‬ ‫ألستطيع التأجيل ولكني اليوم بحاجة للسفر حتى‬ ‫أتمكن من دفع البدل”‪.‬‬ ‫البدل النقدي الذي تم تخفيضه ضمن تعديل‬ ‫على المرسوم التشريعي رقم ‪ 30‬الخاص بخدمة العلم‪،‬‬ ‫بات يقضي بقبول البدل النقدي من المكلف المقيم‬ ‫أحمد يونس‪ ،‬مندوب علمي لرشكة دوائية‪ ،‬أثناء إجراء املقابلة‬ ‫خارج أراضي الجمهورية العربية السورية في دول‬ ‫عربية أو أجنبية وفقاً لما يلي‪“ :‬ثمانية آالف دوالر‬ ‫أمريكي لمن كانت إقامتهم دائمة لمدة ال تقل عن أربع سنوات‪ ،‬و‪ 2500‬دوالر أمريكي لمن ولد في دولة‬ ‫عربية أو أجنبية وأقام فيها أو في غيرها إقامة دائمة ومستمرة حتى دخوله سن التكليف”‪.‬‬ ‫ال يعتبر أدهم هذا المبلغ صغيراً حتى بعد تخفيضه ضمن الظروف االقتصادية السيئة التي تعيشها‬ ‫البلد‪ ،‬ولكنه الحل الوحيد الممكن أمام معضلة خدمة العلم موضحاً أنّ “الذهاب إلى الجيش قبل هذه‬ ‫الظروف كان كابوساً للشباب‪ ،‬وأنا شخصياً ال كنت أمانعه‪ ،‬أما اليوم فعواقبه إن لم تودي بحياة الشاب إن‬ ‫كان محظوظاً فهي ستقضي على فرصه في العمل‬ ‫عال حريري‪ ،‬محررة يف موقع إلكرتوين‪ ،‬أثناء إجراء املقابلة‬ ‫وسنوات نشاطه وإبداعه‪ ،‬حيث هناك من يمارس‬ ‫خدمة العلم منذ خمس سنوات على األقل وال‬ ‫موعد محدد لتسريحه”‪.‬‬ ‫معضلة السفر‬ ‫بمجرد اإلطالع على أوضاع الالجئين والمقيمين‬ ‫السوريين في بلدان الجوار السوري‪ ،‬حيث يصل عدد‬ ‫الالجئين المسجلين في لبنان إلى المليون الجئ‬ ‫ومثيله في تركيا مع تجاوزه الـ ‪ 600‬ألف الجئ في‬ ‫األردن‪ ،‬تتجه أنظار الشباب السوري إلى أوروبا نجا ًة‬ ‫من الموت وبحثاً عن االستقرار‪ ،‬حتى ولو عن طريق‬ ‫قوارب الموت والتهريب الذي تراه عال الحريري‪،‬‬ ‫‪ 25‬عاماً (تعمل محررة في موقع إلكتروني) بالحل‬ ‫‪137‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫ريبورتاجات‬

‫أحالم سورية‪ :‬بني الداخل واخلارج‬ ‫ٌ‬

‫المفروض في ظل واقع قاسي يعيشه السوري‪ ،‬حيث تغلق جميع السفارات في وجهه أمام الحصول على‬ ‫الفيزا‪ ،‬وال يقف األمر عند ذلك على حد تعبيرها “بل يتعداه إلى القيود االجتماعية والنفسية التي ال تزال‬ ‫تؤثر وتمنع المرأة السورية من السفر لوحدها‪ ،‬رغم كل هذه الظروف السيئة التي نعيشها‪”.‬‬ ‫عن األولويات يف باريس‬ ‫منذ عام ‪ 2012‬استقبلت فرنسا أكثر من ‪ 5000‬الجئ سوري يتوزعون على ثالثة تصنيفات قانونية‬ ‫وفقاً للتقرير األخير الصادر عن وزارة الخارجية الفرنسية‪ :‬األول طالبو اللجوء الذين يقدر عددهم بـ ‪3000‬‬ ‫سوري وبنسبة قبول باإليجاب لهذه الطلبات تصل إلى ‪ ،96%‬والتصنيف الثاني فهم الالجئون السوريون‬ ‫الذين ُقبلت طلباتهم ويصل عددهم إلى ‪ 500‬الجئ‪ ،‬أما التصنيف الثالث األخير فهم المواطنوان السوريون‬ ‫المقيمون في فرنسا ويقدر عددهم بـ ‪ 2000‬مواطن تحت وضع قانوني آخر كفيزا الطالب أو الزيارة مث ًال‪.‬‬

‫وعندها تتحول أوراق هذه اإلقامة القابلة للتمديد بصعوبة إلى أولوية‪ ،‬كما يقول طوني عبجي ‪28‬‬ ‫سنة (طبيب يختص النسائية في باريس منذ العام تقريباً) فـ “التمديد مشروط بنتائج فحوصات تعديل‬ ‫الشهادة‪ ،‬واأللولوية اليوم البقاء هنا واالستقرار المؤقت الذي لم يكن وارداً بالحسبان لوال الظروف التي تم ّر‬ ‫بها سوريا‪ .‬كان مخططاً أن أنهي اختصاصي وأعود إلى سوريا وهو ما يبدو صعباً للغاية اليوم”‪.‬‬ ‫البداية من الصفر‬ ‫تُشَ ِّبه ماري صالحاني‪ 25 ،‬عاماً (خريجة معهد محاسبة وتمويل)‪ ،‬والمقيمة في باريس منذ تسعة‬ ‫أشهر‪ ،‬تُشَ ِّبه تجربتها بالطفل الصغير الذي يبدأ منذ الصفر‪ .‬إذ ال تقتصر الصعوبات على تمديد أوراق اإلقامة‬ ‫أو الحصول عليها فقط‪ ،‬بل تمتد لتشمل كل شيء‪ :‬تعلم لغة جديدة‪ ،‬إقامة عالقات جديدة‪ ،‬والتعرف على‬ ‫عالم صعب ومعقد‪ ،‬وحتى ممارسة عمل جديد‪ .‬تقول ماري‪“ :‬أد ِّرس اليوم اللغة العربية لألطفال العرب‪،‬‬ ‫تمهيد في طريق البحث عن عمل في التسويق الذي‬ ‫اللغة العربية التي لم أكن يوماً متفوقة فيها‪ ،‬ولكنه‬ ‫ٌ‬ ‫أختص به‪ ،‬ولكنه مرهون بتعلم اللغة الفرنسية الصعبة”‪.‬‬ ‫هذه الصعوبات التي يؤكدها د‪.‬كلود يعقوب المهندس المعماري والمدرس في مختبر ‪Citu-‬‬ ‫‪ Pargraphe‬وجامعة باريس الثامنة قائ ًال‪“ :‬مشاريع وأهداف الشباب القادمين إلى فرنسا محدودة‪ ،‬ليس‬ ‫لنقص في األفكار أو الطموح‪ ،‬ولكنه <يرتبط> مع البيئة الجديدة اللغوية‪ ،‬الثقافية والفكرية والتي يتطلب‬ ‫تبنيها وقتاً‪”.‬‬ ‫وعن المشاريع واأللولويات الجديدة يوضح د‪ .‬يعقوب بأنها نادرة جداً‪ ،‬حيث هناك بعض الحاالت‬ ‫الشابة التي تحتاج للدعم والمتابعة المستمرة حتى تتقدم‪ ،‬ويضيف‪“ :‬ال ننسى أن هؤالء الشباب يأتون من‬ ‫بيئة لم تمنحهم يوماً حرية اتخاذ المبادرات المبتكرة وأقل بكثير من التقدم في مسارات غير معروفة أو‬ ‫حتى مشاريع واعدة‪ ”.‬يقول د‪.‬يعقوب إنه “من الصعب التنبؤ بمستقبل هذه األهداف الجديدة للشباب‬ ‫السوريين ألنه من الصعب لهم كما لكثر غيرهم االنتقال من النية إلى الفعل ومن الكالم إلى اإلنجاز‪،‬‬ ‫‪138‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫أحالم سورية‪ :‬بني الداخل واخلارج‬ ‫ٌ‬

‫حيث أنه المسار الذي يجب أن يرافقهم‬ ‫ويساعدهم”‪.‬‬ ‫نقطة جديدة لالختالف‬ ‫يحاول كثير من السوريين المقيمين‬ ‫في باريس البدء بحياة جديدة‪ ،‬لكن أولويات‬ ‫السوريين خارج البالد تختلف كثيراً عن تلك‬ ‫التي يفكر بها أقرانهم في الداخل السوري؛‬ ‫البقاء على قيد الحياة مقابل تعلم لغة‬ ‫جديدة‪ ،‬الزواج والرغبة باالستمتاع بأبسط‬ ‫التفاصيل الحياتية اليومية كالكهرباء والماء‬ ‫مقابل تمديد اإلقامة واكتشاف ثقافة جديدة‬ ‫مغايرة للثقافة األصلية‪.‬‬ ‫كل هذا المعطيات عن االختالف‬ ‫باألهداف والمشاريع تقودنا إلى التفكير‬ ‫بالشرخ الثقافي االجتماعي الذي ستخلفه‬ ‫ماري صالحاين –ميني‪ -‬مع مليس الجاسم –يسار‪ -‬أثناء إجراء املقابلة‬ ‫الظروف الحالية في سوريا‪ ،‬تلك الظروف‬ ‫التي دفعت جزءاً من الشباب إلى السفر وأبقت الجزء اآلخر هناك؛ شباب يتقاسمون الفئة العمرية ذاتها‪،‬‬ ‫وتفاصيل الحياة السابقة التي خبروها سوياً في سوريا‪ ،‬ولكنهم اليوم ال تباعد بينهم الجغرافيا فقط‪ ،‬بل‬ ‫ٌ‬ ‫تفارق فكري وثقافي واجتماعي أيضاً‪ ،‬وهو ما يعمق من االختالف بين السوريين الذين فرقتهم‬ ‫يباعد بينهم‬ ‫السياسة بداي ًة‪ ،‬مع ما تبعها من عواقب مستمرة دون أن تكون النهاية واضحة حتى اآلن‪.‬‬

‫‪139‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫حال املواطن العربي‬ ‫مرهف يوسف ❊‬

‫❊ فنان سوري خريج معهد الفنون التطبيقية ‪( 2004‬اختصاص نحت)‪ .‬مختص يف مجال الكاريكاتور والرسوم املتحركة وفن الطفل‬ ‫(سيناريو وقصص)‪ .‬شارك يف العديد من املعارض وامللتقيات يف سوريا‪ ،‬ولديه العديد من التامثيل مبختلف املواد خشب ‪ +‬حجر‬ ‫‪ +‬برونز‪ .‬وشارك يف إعداد عدد من أفالم الرسوم املتحركة كمسلسل ‘دانية’ عىل الـ ‪ ،MBC‬وسلسلة أغاين جحا‪ .‬ولديه العديد من‬ ‫األفالم القصرية أهمها فيلم ‘بحرية الوجع’‪ ،‬وفيلم ‘لحظة أمل’‪ .‬شارك يف العديد من معارض الكاريكاتور يف سوريا وإيطاليا ورومانيا‬ ‫ومرص وغريها‪ ،‬حيث حاز عىل العديد من الجوائز منها ‘جائزة الويب’ يف مهرجان ديفا يف رومانيا ‪ ،2006‬والجائزة الخاصة يف‬ ‫‘مسابقة األقالم’ يف سوريا ‪ ،2007‬والجائزة الثانية يف ‘مسابقة الثقافة العاملية’ يف كندا ‪.2010‬‬ ‫‪140‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراســـات‬ ‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬ ‫مفهوم الهوية الرسدية من منظور بول ريكور‬ ‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‬ ‫الخطاب اإلعالمي اإلرسائييل والنيوميديا‬ ‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬ ‫الهوية الثقافية للطفل السوري‬ ‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانيس فريزر‬ ‫يف الدولة الليربالية‬


‫دراسات‬

‫محمد ديبو❊‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا ‪ -‬اجلزء الثاين‪:‬‬

‫أسباب عجز املثقف‬ ‫عن إنتاج معرفة سورية‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يقف خلف عدم قدرة املثقف السوري عىل إنتاج معرفة تهتم بسوريا أمور كثرية‪ ،‬سنعمل‬ ‫عىل تقسميها إىل محورين‪ ،‬األول يقرأ األسباب الخارجة عن إرادة املثقف ونصه أي ما‬ ‫ميكن أن نطلق عليها ‘األسباب العامة‪/‬الخارجية’‪ ،‬والثاين يتعلق بالنص املنتج وطبيعة‬ ‫إنتاجه‪ ،‬أي ‘األسباب الخاصة‪ /‬الداخلية’‪.‬‬

‫❊ كاتب وشاعر وباحث سوري‪ ،‬يكتب يف عدد من الصحف واملجالت واملواقع االلكرتونية‪ .‬حاز بديوانه ‘لو يخون الصديق’ عىل جائزة دمشق عاصمة الثقافة‬ ‫العربية‪ .‬كام صدر له قصة بعنوان ‘خطأ انتخايب’ عن دار الساقي‪ ،‬وشهادة عن الثورة ووتجربة االعتقال بعنوان ‘كمن يشهد موته’ عن دار املواطن‪ .‬إضافة‬ ‫إىل مجموعة أبحاث منها بحث بعنوان ‘الطائفية كعامل من عوامل النزاع األهيل يف سوريا’ الصادر عن مركز املجتمع املدين والدميقراطية ضمن كتاب‬ ‫مشرتك عن السلم األهيل يف سوريا‪.‬‬

‫‪142‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫مقدمة‪ :‬األسباب العامة‪/‬اخلارجية‬ ‫ونعني بها جملة األسباب الخارجة عن إرادة المثقف ولكنها تؤثر به بشكل مباشر سواء على الصعيد‬ ‫الشخصي (حياته‪ ،‬حريته‪ ،‬إلخ) أو على صعيد نصه‪ ،‬وهي تتقاطع جزئياً مع ما تم الحديث عنه سابقاً ضمن‬ ‫الفضاء العام الذي ولد فيه المثقف‪ .‬وبشكل أكثر تحديداً هي القوى المهيمنة على الفضاء العام الذي ولد‬ ‫فيه المثقف وأثرت بشكل مباشر عليه وعلى نصه‪ .‬على أن نحاول بعد االنتهاء من توصيف األسباب العامة‬ ‫والخاصة قراءة كيفية تأثيرها عليه وكيف كانت ردة فعله تجاهها‪ :‬هل قاومها وحاول تفكيك سلطاتها أو‬ ‫التحايل عليها؟ أم رضخ لها؟ آخذين بعين االعتبار حدود اإلمكانات البشرية والمعرفية للمثقف عبر سؤال‪:‬‬ ‫وهل كان الظرف التاريخي يسمح بتجاوزها أص ًال‪ ،‬على اعتبار أن المعرفة هي تراكم وقدرة على الوصول‬ ‫إلى مصادرها من جهة‪ ،‬وهي محدودة بقدرة المثقف وإمكانيات مقاومته للخطر والقمع والتصفية والسجن‬ ‫من جهة أخرى؟ وسنكتفي هنا‪ ،‬بتعدادها وشرحها‪.‬‬ ‫أوال ً ‪ -‬األيديولوجيا‬ ‫على خالف ما يظن بأن القمع والسلطة العنيفة هي أولى األسباب التي ساهمت في منع المثقف‬ ‫من فهم واقعه وقراءة سوريته‪ ،‬يأتي الفضاء األيديولوجي الذي كان سائداً قبل تشكل االستبداد‪ ،‬حتى‬ ‫بشكله البدائي في أيام الوحدة السورية المصرية‪ ،‬ليقول الكثير‪ .‬إذ لم يولد حزب واحد يعترف بسوريا‬ ‫كما هي‪ .‬فمع تفكك االمبراطورية العثمانية وبداية االنتداب الفرنسي بدأت تولد أحزاب تأتي رداً على‬ ‫سايكس بيكو وفشل مشروع الشريف حسين‪ ،‬أكثر مما هي أحزاب تعي حدودها ومجتمعاتها وتعمل‬ ‫لها‪ .‬بل هي ُشكلت من قبل أعيان المدن والقرى ورجال الدين والتجار الذين هددت مصالحهم ج ّراء‬ ‫االنتداب الفرنسي الذي كسر العالقة التي كانت سائدة في ظل االحتالل العثماني بين الباب العالي والقاع‬ ‫‪143‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫االجتماعي عبر سلطة األعيان هذه‪ .‬فمث ًال تش ّكل في بداية االنتداب الفرنسي حزبا ‘االستقالل’ و‘الشعب’‪،‬‬ ‫حيث “أعطى األول أولوي ًة خاص ًة لضم الدول العربية في شبه الجزيرة العربية‪ .‬في حين التفت الثاني‬ ‫أساساً إلى اآلمال والتطلعات القومية في إطار مرحلة االنتداب االنتقالية”(‪ ،)1‬ناهيك عن كون كل األحزاب‬ ‫والحركات والجمعيات التي ولدت في الفضاء العثماني كانت ذات تطلع عربي‪ ،‬وهو أمر طبيعي إذ لم تكن‬ ‫سوريا بشكلها الحالي قد ولدت بعد‪ ،‬بل كانت سوريا تعني بالد الشام كلها‪.‬‬ ‫وطيلة فترة االنتداب الفرنسي ستولد الكثير من األحزاب ذات البعد القومي الوحدوي بدءاً من ‘عصبة‬ ‫العمل القومي’ وليس انتها ًء ‘بالكتلة الوطنية’ (التي شكلت رابطة الشباب القوميين رداً على األولى) و‘حزب‬ ‫الشعب’ اللذين كانا أهم حزبين خالل فترتي االنتداب واالستقالل‪ ،‬مروراً بأحزاب مثل ‘الوحدة القومية’ الذي‬ ‫تشكل عام ‪ 1934‬وحزب ‘شباب الوحدة’ (‪ )1933‬وغيرها كثير‪ ،‬في حين أن األحزاب التي اهتمت بسوريا‬ ‫كانت ذات طابع شخصي أو ملكي يهدف لجعل سوريا مملكة أو تابعة مثل ‘الحزب الملكي’ أو ‘حزب‬ ‫الدفاع’ و‘لجنة العهد الوطني’ التي “أسسها عام ‪ 1931‬األمير سعيد الجزائري الذي كان يطمح إلى العرش‬ ‫على سوريا‪ .‬ولم تلق هذه اللجنة تأييداً يذكر‪ ،‬مع أن برنامجها كان يركز على استقالل سورية ووحدتها”(‪.)2‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مفارقة للواقع‪ ،‬جانحة‬ ‫لحظة‬ ‫منذ أعلن الملك فيصل الوحدة العربية رداً على االنتداب بدأت تتشكل‬ ‫باتجاه الحلم العربي‪ ،‬حيث الواقع والدولة تسير بجهة وترسي أسسها الخاصة بها حول هوية سوريا‪ ،‬في حين‬ ‫أن الجماهير واألحزاب السياسية تتطلع نحو مكانٍ آخر‪ ،‬غير معترف ٍة بما بين يديها‪ ،‬لتبدأ تتشكل ٌ‬ ‫ثقافة ذات‬ ‫هامش لالعتراض‪ .‬إذ رغم‬ ‫وحدوي ستتجذر يوماً بعد يوم‪ ،‬وتطبع األحزاب والقاع معاً‪ ،‬دون أن تترك أي‬ ‫بع ٍد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫موافقة السوريين آنذاك على سوريا الصغرى إال أنهم لم يتو ّقفوا يوماً عن المطالبة بسوريا الكبرى ( لبنان‪،‬‬ ‫اعترفت بها اتفاقيات الحسين – مكماهون‪.‬‬ ‫سوريا‪ ،‬العراق‪ ،‬األردن‪ ،‬فلسطين) لتشكل نوا ًة لدولة عربية كبرى‬ ‫ْ‬ ‫ليست المشكلة في الحلم السوري الجانح نحو الوحدة‪ ،‬بل في إهماله منذ تلك اللحظة للحقائق‬ ‫الجيوسياسية وعدم إعطائها القدر الكافي من االهتمام؛ أي التفكير بسوريا نفسها في حدود المتاح وبما‬ ‫يمكن فعله‪ .‬وقد عبر محمد هواش عن هذه المفارقة التي تم ّكن من التقاطها بالقول‪“ :‬من المؤكد أن‬ ‫الوحدة تستحق التضحيات‪ ،‬غير أنه من الخطأ اعتبارها الدواء الشافي لكل العلل‪ .‬كما أن الجهل بما يحدث‬ ‫تحت سقفها كان من الممكن أن يؤدي بسورية إلى إحباطات وخيبة أمل قاسية‪ .‬بيد أن سورية‪ ،‬روح‬ ‫ومح ّرك الوحدة العربية‪ ،‬ال تعترف بحق التشكك‪ ،‬فنزعتها وميلها إلى تكوين دولة عربية موحدة تكاد تكون‬ ‫في مرتبة العقيدة‪ ،‬وهي دافعها إلى الموافقة على أي حاكم شريطة أن يكون عربياً‪ ،‬ليس مهماً بالنسبة‬ ‫إليها أن يكون قد ولد على أرضها وفي حدودها الدنيا‪ -‬التي فرضت عليها وكانت دوماً محل اعتراض‬ ‫ورفض‪ .-‬وما أدل على نظرة الشعب السوري إلى بقية مواطني العالم العربي من الموقع الهام الذي احتله‬ ‫األمير عبد القادر الجزائري في نفوس سكان دمشق التي أتى إليها منفياً‪ .‬فقد رشحه القوميون العرب لعرش‬ ‫سورية‪ ،‬ومن بعده استقبلت سوريا األمير فيصل ابن شريف مكة على أنه أحد أبنائها وأجلسته على عرشها‪،‬‬ ‫ولم تتردد إزاء الوحدة مع مصر وتسليم أمورها لجمال عبد الناصر” (‪.)3‬‬ ‫وفي مرحلة االستقالل الذي ش ّكل فرص ًة مهدورة لبناء الدولة السورية والتفكير بها دون التخلي عن‬ ‫الحلم العربي‪ ،‬أدى فشل وترهل الكتلة الوطنية والنخبة الحاكمة في حكم البالد إلى زيادة تج ّذر وتم ّدد‬ ‫المطالب القومية عبر تفكي ٍر سطحي أيديولوجي حملته أحزاب تلك المرحلة‪ ،‬مدعوم ًة بنكبة فلسطين‬ ‫‪144‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫والعدوان الثالثي على مصر وصعود عبد الناصر‪ ،‬ما عزز التناقض بين “الوالء األيديولوجي األسطوري‬ ‫تجاه الوحدة العربية‪ .‬والوالء الفعلي الذي تستشعره المجتمعات البشرية يومياً وتعايشه على المستوى‬ ‫الميكروكزمي (الجزئي المحلي) االجتماعي واإلقليمي المتوارث من الماضي” كما يقول باالزولي الذي تابع‬ ‫قائ ًال‪“ :‬لم توجد هناك في بداية األمر مرحلة وسيطة بين هذين النوعين من الوالء‪ ،‬وبالتالي لم يكن هناك‬ ‫انتما ٌء سوري بمعنى الكلمة‪ .‬فسورية بشكلها المحدود لم تكن قد ظهرت بعد إلى الوجود” (‪.)4‬‬ ‫لوعي‬ ‫لحظة االستقالل المهدورة بين عامي ‪ 1946‬و‪ 1958‬كانت تضم بين طياتها ما يمكن أن ّ‬ ‫يؤسس ٍ‬ ‫سوري مهتم بسوريا دون أن تفقد سوريا انتماءها القومي وتطلعها الوحدوي‪ ،‬إذ لم يكن المطلوب التخلي‬ ‫عن األخير‪ ،‬بل وضع التفكير بالفكرة الوحدوية على قدميها بدالً من رأسها‪ ،‬أي عبر االهتمام بالدولة السورية‬ ‫وتحسين شروط بقائها والقبول بها كمعبر ودولة باتجاه الحلم‪ ،‬بدالً من القطرنة والرفض لما هو قائم‪ ،‬وهو‬ ‫ما ُيدفع ثمنه حتى اآلن‪ ،‬ألن اللحظة التالية للحظة االستقالل‪ ،‬وتحديداً منذ الوحدة السورية‪-‬المصرية (التي‬ ‫تشكل بحد ذاتها نوعاً من التفكير المقلوب بالوحدة العربية عبر إهمالها لمفهوم الدولة وأهميته في العالم‬ ‫الحديث لحساب مفهوم األمة الذي عانى هو اآلخر من تحريف وتضخيم كبيرين) بدأت تجنح نحو المزيد‬ ‫من األيديولوجيا التي حملتها األحزاب الراديكالية التي تقدمت نحو مسرح التاريخ السوري الحديث‪ ،‬وكلها‬ ‫أحزاب لم يكن لسوريا كدولة أو وطن أي اعتبار في أدبياتها‪ ،‬إذ كلها أيديولوجيات خارجية تفكر بالخارج‬ ‫والموضوع أكثر من الذات‪ ،‬بدءاً من الحزب القومي السوري المتطلع نحو ‘أمة سورية’ واإلخوان المسلمين‬ ‫السوريين المتطلعين نحو ‘أمة إسالمية’ وحزب البعث العربي االشتراكي المتطلع نحو ‘أمة عربية’ والحزب‬ ‫الشيوعي السوري المتطلع نحو ‘أممية اشتراكية’ وليس انتها ًء بكل األحزاب الصغرى التي ولدت على ضفاف‬ ‫هذه األحزاب‪ ،‬إذ يكفي أن ّ‬ ‫ُّ‬ ‫بدقة؛كل‬ ‫نطلع على أسماء األحزاب السورية في السلطة والمعارضة لنفهم األمر‬ ‫شي ٍء حاض ٌر فيها إال سوريا‪.‬‬ ‫بل إن التدقيق في أسماء األحزاب وحدها سيعطينا فكر ًة واضحة عن هيمنة الفكر الوحدوي‪ ،‬فالجبهة‬ ‫الوطنية التقدمية تشكلت من األحزاب التالية‪‘ :‬حزب البعث العربي االشتراكي’ و‘حزب االتحاد االشتراكي‬ ‫العربي’ و‘الحزب الشيوعي السوري’ ( بكداش) و‘الحزب الشيوعي السوري’ (فيصل) و‘حزب الوحدويين‬ ‫االشتراكيين’ و‘حزب االشتراكيين العرب’ و‘الحزب الوحدوي االشتراكي الديمقراطي’ ( انضم عام ‪ ،)1988‬كما‬ ‫انضم الحقاً ‘الحزب السوري القومي االجتماعي’ و‘حزب االتحاد العربي الديمقراطي’ و‘حزب العهد الوطني’‪.‬‬ ‫وفي المعارضة سنجد أن أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي هي‪‘ :‬االتحاد االشتراكي العربي الديمقراطي’‬ ‫و‘حزب الشعب الديمقراطي السوري’ (الشيوعي–المكتب السياسي سابقاً) و‘حزب العمال الثوري العربي’‬ ‫و‘حركة االشتراكيين العرب’ و‘حزب البعث الديمقراطي العربي االشتراكي’ و‘حزب العمل الشيوعي’‪.‬‬ ‫ولما كانت األحزاب السياسية من السلطات الفاعلة على المستوى السياسي‪ ،‬وعلى المستوى الرمزي‬ ‫(كنخبة) أيضاً‪ ،‬فسندرك أننا أمام سلطة سياسية ترفض ‘سوريا’ وسلطة رمزية تدفع الجمهور نحو كل شيء‬ ‫(فلسطين‪ ،‬وحدة عربية‪ ،‬تضامن عربي‪ ،‬إلخ) إال سوريا‪ ،‬ناهيكم عن كون كل هذه األحزاب تعاني قصوراً في‬ ‫معالجة مسألة الدولة التي لم يكن لها أي اهتمام في أبجدياتها وأيديولوجياتها‪ ،‬فتع ّبد بذلك الطريق نحو‬ ‫الدكتاتورية التي استولت على الدولة فعلياً‪ ،‬دون أن تترك ألحزاب الجبهة الوطنية ومعارضتها حتى ‘القضايا‬ ‫الكبرى’ مثل ‘األمة العربية’ و‘المقاومة’ و‘تحرير فلسطين’ و‘بناء المجتمع العربي االشتراكي الموحد’ التي‬ ‫‪145‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫هيمنت عليها السلطة السورية واحتكرتها لنفسها لتزيد من أدلجة الجمهور وتوجيهه بعيداً عن السلطة‬ ‫والدولة وسوريا نفسها‪.‬‬ ‫ولما كان المثقف السوري ولد من رحم هذه األيديولوجيا كما ذكرنا في القسم األول من هذا‬ ‫البحث‪ ،‬فإنه كان عملياً مساهماً في تكوين هذا الفضاء الرمزي واأليديولوجي العام‪ ،‬ألن مفهوم المثقف‬ ‫بمعناه الذي ننظر إليه اليوم لم يكن ولد بعد‪ ،‬إذ لم يشكل نوعاً من الرمزية أو االستقاللية عن السلطة‪،‬‬ ‫ولم يكن أكثر من ‘عضو حزبي’ يمتلك إمكانيات الكالم والبالغة‪ .‬ولعل أبلغ كالم على ذلك هو التحالف‬ ‫الذي أرسى أسسه أكرم الحوراني بعد وصول البعث إلى السلطة‪ ،‬إذ “حددت اإلجراءات في الستينيات‬ ‫من القرن الماضي التحالفات الطبقية واالجتماعية‪ ،‬وتبلورت تقريباً بالصيغة التي وضعها أكرم الحوراني‪،‬‬ ‫وهو أحد أهم الشخصيات السياسية في سورية بين منتصف األربعينيات ومنتصف الستينيات‪ ،‬وجوهر‬ ‫هذه الصيغة السلطة القائمة على تحالف الجيش وفئات المثقفين ‘الثوريين’ وفالحي الريف وفقراء المدن‬ ‫بقيادة الجيش”(‪.)5‬‬ ‫وفي قراءة ما سبق في تجادلٍ مع الفضاء العام الذي ولد فيه المثقف والذي تم شرحه سابقاً‪ ،‬سندرك‬ ‫حزب سياسي أكثر‬ ‫أن المثقف المعني هنا هو المثقف الثوري األيديولوجي الذي كان متعلماً ومنتمياً إلى ٍ‬ ‫منه المثقف بالمعنى العضوي المستقل‪ .‬وعليه كان هذا المثقف سنداً لتلك السلطات ّ‬ ‫ومنظراً لها في خلق‬ ‫وتكوين الفضاء األيديولوجي السحري العام‪ ،‬حيث ظلت تلك اللحظة قائم ًة حتى ثمانينيات القرن الماضي‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مهتمة بسوريا‬ ‫سورية جديد ٌة‬ ‫لحظة‬ ‫ولم تنته كلياً إال مع ربيع دمشق عام ‪ ،2001-2000‬حيث بدأت تتشكل‬ ‫بعد أن ولد المثقف النقدي العمومي وبات يفكر بسوريا كدولة ووطن‪.‬‬ ‫يبقى السؤال‪ :‬لماذا لم يتمكن المثقف من كسر هذه السردية األيديولوجية والتحليق خارجها؟ وهل‬ ‫كان بإمكانه فع ًال كسر الرحم األيديولوجي الذي ولد فيه أساساً‪ ،‬دون أن ننسى أنه ال يمكن دراسته بعيداً‬ ‫عن السلطة القمعية وتجادلها مع هذه األيديولوجيا (وهو ما سندرسه تالياً)؟ وهل كانت جملة المعارف‬ ‫والوعي السائد (باعتبار أن المعرفة تراكم) يساعدان على والدة هذا المثقف؟‬ ‫تغول السلطة القمعية‪ ،‬تق ّزم الدولة‬ ‫ثانيًا ‪ّ -‬‬ ‫العامل األيديولوجي أعاله وتضخمه وإغفاله لمسألة الدولة م ّهد الطريق عملياً للسلطات المستبدة التي‬ ‫ولدت من رحم هذه األيديولوجية لتهيمن على الدولة والفضاء العام والثقافة والمعرفة‪ ،‬بدءاً من مشروع‬ ‫ناصر الثقافي الذي‪ ،‬على أهميته‪ ،‬انتزع سلطة الثقافة من المجتمع واألفراد وح ّولها على المدى البعيد إلى‬ ‫سلط ٍة بيد الدولة‪ .‬وفي سوريا هيمنت السلطة على كل المؤسسات الثقافية في البلد وبدأت تشكل مؤسساتها‬ ‫للهيمنة أكثر م ّما لنشر الثقافة‪ ،‬وذلك بمشاركة المثقف نفسه الذي لم يكن قد تب ّين أو أغفل الجانب‬ ‫سلطات تحمل مشروعاً تقدمياً وحدوياً‪ .‬وليس أدل على‬ ‫االستبدادي التسلطي في هذه السلطات‪ ،‬معتبراً أنها‬ ‫ٌ‬ ‫التعبير عن هذه اللحظة من االنتباه إلى أن اتحاد الكتاب العرب (تأسس عام ‪ ،)1969‬الذي تح ّول اليوم‬ ‫إلى مسخ مؤسسة وسلطة‪ ،‬قد ساهم في تأسيسه كبار المثقفين السوريين‪ ،‬وأن عدداً كبيراً من المثقفين‬ ‫السوريين ولدوا ونموا في رحاب مؤسسات السلطة (وزارة الثقافة والصحف السورية الرسمية) بعد أن ُأقْصِ َي‬ ‫القطاع الخاص والمبادرات الفردية عن الثقافة وذلك بمباركة المثقف وصمته‪ ،‬دون أن يدرك أنه لم يفعل إال‬ ‫‪146‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫وضع الحبل حول عنقه‪ ،‬ليكتشف ذلك مؤخراً‪ ،‬ووضع السينما السورية اليوم خير دليلٍ على ذلك‪.‬‬ ‫ودجنتهم وربطت لقمة عيشهم بيدها في ظل سلطة ح ّولت‬ ‫بعد أن احتوت السلطات المثقفين ّ‬ ‫أساسي للدخول‪ ،‬بدأت تعلن عن وجهها االنكشاري بخاصة بعد أزمة الثمانينيات حيث‬ ‫الدولة إلى مصد ٍر‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫بدأت الرقابة ومنع الكتب ومالحقة المثقف النتزاع أي تفكير نقدي أو معارض‪ ،‬ساعية وبشكلٍ تدريجي‬ ‫إلى عزل المثقف عن مصادر الثقافة العالمية من جهة‪ ،‬والفضاء العام الداخلي من جهة أخرى‪ ،‬لتنشأ ٌ‬ ‫بدعة‬ ‫جديد ٌة ر ّوج لها كثي ٌر من المثقفين (سنتحدث عنها الحقاً بتفصيل) تفصل ما بين الثقافة والشأن العام‪.‬‬ ‫هنا كانت السلطة قد حققت أمرين اثنين؛ فقد ربطت لقمة المثقف بها‪ ،‬ومنعت عنه مصادر‬ ‫المعرفة‪ ،‬ليترافق األمر مع تجهيل المجتمع عبر تدمير مؤسسات التعليم والمدارس والجامعات بعد أن‬ ‫تح ّولت إلى مجرد ‘تلقين وتحفيظ’ بعيداً عن السؤال والنقد الذي فعلت السلطة كل ما بوسعها لوأدهما‪،‬‬ ‫حيث كانت األحزاب (وبخاصة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية‪ ،‬والمثقف الثوري األيديولوجي جز ٌء منها)‬ ‫عام ًال مساهماً في ذلك بقوة‪ ،‬حين قبلت شروط البعث بعدم العمل السياسي في الجامعات والجيش‪ ،‬ما‬ ‫جعلها ممسوك ًة أمنياً بشكل كبير وخالية من ّأي حراك سياسي أو معرفي‪.‬‬ ‫السلطات المستبدة هذه في محاربتها المعرفة والعلم وصلت حداً لم تسبقها له أ ّية سلطة انكشارية‬ ‫ال يمكن أن تحكم إال عبر تجهيل الناس عمداً‪ ،‬حيث بات أي سؤال أو استقصاء أو معلومة يحتاج إلى‬ ‫‘موافقة أمنية’ مهما كان نوع البحث أو المعلومة‪ ،‬بدءاً من الزراعة والصناعة والري‪ ،‬فما بالكم بالوضع‬ ‫السياسي واألمني في البلد الذي كان المقترب منه‪ ،‬مصيره السجن على أقل تقدير؟!‬ ‫وفي إطار اللقاءات والمشاورات التي عقدها الباحث مع مثقفين وباحثين و ُك َّتاب ومواطنين من‬ ‫ٌ‬ ‫وأرقام حول تفاصيل التفاصيل في‬ ‫معرفة‬ ‫مختلف المشارف‪ ،‬كانت اإلجابة عن سؤال‪ :‬لماذا ليس لدينا‬ ‫ٌ‬ ‫االختصاصات السورية حتى تلك البعيدة عن السياسة؟ كانت اإلجابات تأتي دوماً بأن السلطات األمنية لم‬ ‫تكن تسمح!‬ ‫منعت فيها السلطة باحثين من الذهاب إلى‬ ‫وفع ًال لقد وقف الباحث على عد ٍد من الحاالت التي‬ ‫ْ‬ ‫مؤسسات الدولة للحصول على المعلومة‪ ،‬ناهيكم عن منع أي استطالعات للرأي أو إحصائيات مستقلة‪،‬‬ ‫حيث كانت كل المعلومات واألرقام تؤخذ من السلطة التي تنشرها وفق ما تريد وتخفي ما تريد‪ ،‬حيث‬ ‫ج ّيرت السلطة حتى األرقام لمصلحتها‪ ،‬إذ لم تكن تعلنها إذا كانت تصب ضد مصلحتها أو توجهها‪ .‬وقد‬ ‫عبر االقتصادي السوري عارف دليلة عن األمر بالقول‪“ :‬هناك في سوريا تُط ّبق أشد أشكال السرية‪ ،‬حيث‬ ‫الشفافية يجب أن تكون كاملة ومطلقة‪ .‬يجب أن توضع هذه األرقام المالية والمصرفية والنقدية في أيدي‬ ‫الشعب وكل باحث‪ .‬فكيف نفسر هذه السرية التي ال مثيل لها في العالم‪ :‬سرية الرقم المالي‪ ،‬سرية الرقم‬ ‫النقدي في المصرف المركزي‪ ،‬سرية األرقام المصرفية”(‪ .)6‬ليبقى السؤال‪ :‬كيف يمكن إنتاج معرفة حقيقية‬ ‫دون رقم ومعلومة وبحث وتواصل مع القاع؟‬ ‫هنا سنجد أن المثقف بات محاصراً من عدة جهات‪ :‬األيديولوجيا التي لم تكن تجعل من سوريا مجاالً‬ ‫الهتمامه‪ ،‬ومن تمكن من اختراق هذا العامل‪ ،‬وجد نفسه أمام سلطة انكشارية ج َّففت منابع المعرفة‬ ‫وهددت بالسجن والقتل كل من اقترب حدودها ومعارفها وقد حصل األمر مع المفكر والخبير االقتصادي‬ ‫عارف دليلة‪ ،‬علماً أن اعتقاله جاء بعد ربيع دمشق‪ ،‬أي بعد أن ولد المثقف المف ّكر بسوريا وليس قبلها‪.‬‬ ‫‪147‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫ولهذا ٌ‬ ‫داللة حول مدى مقارعة المثقف السابق للسلطة‪ ،‬ومن غامر بذلك وقف العامل المادي عائقاً أمامه‬ ‫(سنتحدث عن األمر الحقاً)‪ .‬علماً أن الدكتور عارف وقف بوجه السلطة منذ قانون االستثمار رقم (‪ )10‬عام‬ ‫‪ ،1991‬حيث انتقد إجراءات السلطة االقتصادية مراراً‪.‬‬ ‫ويبقى السؤال‪ ،‬معطوفاً على سؤال سابق‪ :‬هل حاول المثقفون السوريون أساساً البحث عن معرفة‬ ‫تهتم بسوريا وتدحض هذه السلطة عبر التحايل على إجراءاتها وأبواب قمعها؟ عبر الذهاب نحو منابع‬ ‫المعرفة إلنتاجها وتقديمها لجيل ال يجد اليوم أي ثقافة حول سوريا‪ :‬سلط ًة ومجتمعاً وجامع ًة واقتصاداً‬ ‫واجتماعاً ورقماً؟‬ ‫إذا استثنينا المثقفين المعارضين الذي كانت ثقافتهم نابع ًة أساساً من معارضتهم للنظام بحيث يمكن‬ ‫اعتبارهم معارضين أكثر من كونهم مثقفين‪ ،‬فإن النتيجة ستكون أقرب للسلب‪ ،‬إذ سنجد صعوبة بالغة في‬ ‫العثور على معلومة مستقلة عن سوريا لمثقف أو كاتب سوري قبل عام ‪ ،2000‬حتى لو كانت في مجال‬ ‫الزراعة والبنية المجتمعية أو ت ّوزع القبائل أو حول ما جرى في ثمانينيات القرن الماضي‪.‬‬ ‫وإذا كان صلف السلطة واستبدادها مط ّبقين على المثقف الذي وجد داخل سوريا‪ ،‬أو أن ظروفه لم‬ ‫تكن تسمح له بالمغادرة (إما مادياً أو بسبب منع السلطة)‪ ،‬فإن العذر يسقط عن المثقف السوري الذي‬ ‫يعيش بعيداً عن نيران السلطة‪ ،‬أو أن ظروفه كانت تسمح له بالمغادرة والعودة‪ ،‬ناهيكم عن تكتم مثقف‬ ‫الداخل عن الكثير من المعارف التي كان يعرفها بحكم موقعه أو قربه من السلطات‪ ،‬إذ كان يمكن نشرها‬ ‫باسم مستعار للتحايل على السلطة‪ .‬إال أن بعضهم آثر الصمت أو البقاء في خدمة السلطة إلى لحظة‬ ‫اندالع الثورة‪.‬‬ ‫قمع السلطة هذا وضع حدوداً للمثقف لم يتجاوزها‪ ،‬بحيث بات من تلقاء ذاته يعرف الخطوط‬ ‫الحمراء التي لم يقترب منها أحد‪ ،‬حتى بعد عام ‪ ،2000‬فمث ًال ليس لدينا أي كتاب معرفي عما حصل فع ًال‬ ‫في سوريا الثمانينيات؛ كيف انتصر النظام؟ ومن هم اإلخوان؟ ومن هي الطليعة المقاتلة؟ وما عالقتها‬ ‫باألجندة الوطنية واألجندة الخارجية؟ وما عالقة النظام بالحرب األهلية التي جرت في لبنان؟ هل كان عام ًال‬ ‫مساعداً في تأجيجها كي يبعد الخطر عنه؟ وهل لهذا عالقة باستراتيجية النظام القائمة على التهديد منذ‬ ‫تلك األيام بالحروب األهلية والـ ‘األفغانستانات المتنقلة’ كما ص ّرح األسد االبن مع بداية االنتفاضة؟‬ ‫كل تلك األسئلة يقف المثقف السوري اليوم عاجزاً عن اإلجابة عنها‪ ،‬ألنه لم يفكر بها سابقاً‪ ،‬ولهذا‬ ‫يقف حائراً اليوم أمام ‘داعش’ و‘حالش’ و‘االتحاد الديمقراطي’ والحروب األهلية التي تهدد المنطقة‪ ،‬ألنه‬ ‫لم يقرأ يوماً بنية هذا النظام وطبيعة تحالفاته‪ ،‬ملتزماً بما أرادته السلطة له تحت قوة القمع والبطش‪.‬‬ ‫وليس لهذا عالقة ببطش السلطة فحسب‪ ،‬بل له عالقة باألسباب الداخلية التي حكمت وعي المثقف نفسه‬ ‫وآليات إنتاجه لنصه‪ ،‬وهو ما سنتحدث عنه ضمن األسباب الخاصة‪/‬الداخلية‪.‬‬ ‫ثالثًا ‪ -‬أسباب من رحم القمع‬ ‫ثمة أسباب نتجت عن مناخ القمع السلطوي العام‪ ،‬ولكنها ذات صلة أكثر بالتأثير على المثقف‪ ،‬األمر‬ ‫الذي دفعنا إلفساح فقرة خاصة بها بدالً من الحديث عنها ضمن الفقرة السابقة‪ ،‬رغم أنه يمكن اعتبارها‬ ‫أحد فروعها‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫‪148‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫(‪ )1‬عدم وجود مراكز أبحاث واحتكار المعرفة ونشر التجهيل وتفقير الحياة الجامعية‬ ‫أدركت السلطة مبكراً أن أحد عوامل بقائها مرتبط بعامل الوعي العام من جهة‪ ،‬وعامل أال يعرف‬ ‫المواطن شيئا عن تصرفاتها وأفعالها من جهة ثانية‪ .‬لذا عمدت أوالً إلى قطع منابع المعرفة عبر تأميم‬ ‫الثقافة ومراقبتها والهيمنة على اإلعالم ودور النشر ومنع التواصل مع الخارج إال بإشراف العين األمنية‬ ‫الرقيبة‪ ،‬حيث عملت السلطة على إعالء األسوار وتحويل سوريا إلى سجن ال تدخله أي معلومة إال بمعرفة‬ ‫السلطة‪ .‬وقد نجح هذا األمر منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينيات‪ ،‬مع اكتمال نموذجه‬ ‫من الثمانينيات وصاعداً‪ ،‬ليبدأ ينكسر تدريجياً بفعل تط ّور وسائل االتصاالت عبر الستاليت أوالً‪ ،‬ومن ثم‬ ‫اإلنترنت الحقاً‪ ،‬وهو ما ساهم بعزل المثقف عن مصادر المعرفة والتواصل مع ما ينتج معرفيا في الخارج‪،‬‬ ‫بخاصة لناحية ما ينشر عن سوريا من تقارير منظمات دولية وأبحاث وانتهاكات السلطة التي تجد طريقها‬ ‫عادة للخارج من خالل نشطاء أو سياسيين يعملون في السر في سوريا‪ .‬ولهذا األمر دور فعاّل تمكن‬ ‫مالحظته من بدء اهتمام المثقف السوري بسوريا وإنتاج مقاالت وكتب عن سوريا بالتزامن مع انكسار‬ ‫جدار السجن الكبير‪ ،‬حيث هناك تواقت زمني بين األمرين في سوريا‪ ،‬سنتحدث عنه الحقاً‪.‬‬ ‫هذا المناخ ترافق مع تفريغ الجامعات من محتواها العلمي والرمزي في آن‪ .‬إذ لم تعد الجامعات‬ ‫مكاناً فقيراً سياسياً فحسب‪ ،‬بل أيضا مكاناً مفقراً علمياً‪ ،‬حتى على صعيد االختصاصات العلمية التقنية التي‬ ‫ال يؤثر ّ‬ ‫التط ّور بها على بنية السلطة‪ .‬أدى هذا إلى تراجع سوريا معرفياً وعلمياً‪ ،‬في ظل سعي السلطة‬ ‫لتوظيف كل شيء في خدمة بقائها‪ ،‬حيث “بلغت نسبة األمية في عام ‪ 2005‬نحو ‪ 15.9‬في المئة من‬ ‫السكان‪ 15 ،‬عاماً فأكثر من العمر‪ ،‬وأصبحت هذه النسبة ‪ 16.9‬في المئة في عام ‪ .2009‬التقدم ليس‬ ‫متساوياً على مستويات التعليم كلها‪ ،‬حيث االلتحاق بالثانوي والجامعي دون المستويات المطلوبة‪ .‬ويظهر‬ ‫من التراكم على صعيد رأس المال البشري ضعف هذا التراكم وبطء حدوثه‪ .‬ويؤشر عدد سنوات التمدرس‬ ‫إلى هذا التراكم الذي كان ينمو حتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي بما يفوق ‪ 4‬في المئة سنويا‪،‬‬ ‫وتراجع هذا المعدل عام ‪ 2000‬إلى ‪ 1‬في المئة تقريباً”(‪ ،)7‬ما حرم المثقف من مصادر معرفة كان يمكن‬ ‫أن تقدمها حلقات البحث في الجامعات‪ ،‬على األقل لجهة رصد اتجاهات الشباب ومعرفة ما يدور في‬ ‫أذهانهم‪ ،‬بما يتيح للمثقف إنتاج معرفة أقرب للدقة عن سوريا وأقرب لفهم جيل الشباب وتطلعاتهم‪.‬‬ ‫ما سبق كله‪ ،‬أدى بطبيعة الحال ألن تكون سوريا خالية من أي مركز بحثي مستقل أو حتى حكومي‬ ‫يهتم بالشؤون السورية أو يعمل على مراكمة معارف وأرقام حول سورية‪ ،‬إذ إن المؤسسات الوحيدة التي‬ ‫كانت تنتج معرف ًة وأرقاماً حول سوريا هي المكتب المركزي لإلحصاء وهيئة تخطيط الدولة‪ ،‬وهما مؤسستا‬ ‫سلطة أكثر مما هما مؤسستان معرفيتان‪ ،‬ناهيكم عن إحجامهما عن نشر أي شيء قد يؤثر على وضع‬ ‫السلطة‪ ،‬عدا عن نشر أرقام مزيفة حين تقتضي مصلحة السلطة ذلك‪ ،‬كما هو الحال في معدالت النمو‬ ‫أو البطالة التي كانت تقدرها الهيئة والمكتب اإلحصائي برقم في حين أغلب الباحثين يقدرونها برقم‬ ‫آخر‪“ ،‬فوفقاً للمجموعة اإلحصائية لعام ‪ 2010‬الحكومية‪ ،‬بلغ معدل البطالة ‪ 8,6‬في المئة‪ ،‬بينما تذهب‬ ‫التقديرات إلى ‪ 15‬و‪ 20‬في المئة”(‪ ،)8‬علماً أن هناك من يقدرها بأعلى من ذلك أيضاً‪.‬‬ ‫وهنا لنا أن نذكر أن السلطة كانت واعي ًة جداً لهذا األمر حيث كانت تتقصد عدم السماح بمراكز‬ ‫أبحاث خارج سلطتها أو أن تدار من قبل أشخاص ال تثق بهم‪ ،‬إلدراكها الجيد ألهمية هذا األمر على‬ ‫‪149‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫المدى البعيد على موقعها وسلطتها‪ ،‬وهو أم ٌر تخ ّلت السلطة عن حذرها فيه قلي ًال بعد عام ‪ 2000‬دون أن‬ ‫ترفعه كلياً‪ ،‬إذ أخبر الباحث نبيل فياض صاحب هذه السطور في لقا ٍء صحفي أن رئيس فرع االستخبارات‬ ‫العسكرية آصف شوكت كان وعده بأن يسمح له بتأسيس مركز أبحاث في سوريا مقابل خدمات أداها‬ ‫فياض للنظام السوري عام ‪ 2007‬حين كان النظام مهدداً بعيد اغتيال الحريري‪ ،‬وبمجرد ما انتهى فياض من‬ ‫نموذج عن المثقف الذي يضع علمه ومعرفته بخدمة السلطة‬ ‫مهمته لم يتم السماح له بذلك‪ ،‬لنكون أمام‬ ‫ٍ‬ ‫االنكشارية‪ ،‬إذ يتح ّول إلى مجرد تابع‪ ،‬وهو ما عاد فياض ليلعبه مرة أخرى مع بدء األحداث عام ‪ 2011‬من‬ ‫جهة‪ ،‬وعلى مدى خوف السلطة من المعرفة من جهة أخرى‪ ،‬إذ لم تسمح وتثق حتى بأدواتها وبالعاملين‬ ‫معها ومنهم فياض نفسه‪.‬‬ ‫(‪ )2‬ت ّرهل البرجوازية السورية وتبعيتها‬ ‫منذ الوحدة السورية المصرية بدأت إجراءات التأميم تعمل على التضييق على البرجوازية السورية‪،‬‬ ‫إال أن األمر لم يأخذ مداه المطلق الذاهب باتجاه تجريف قوة البرجوازية السورية كلياً إال مع وصول‬ ‫البعث إلى السلطة عام ‪ 1963‬حيث ساهمت السنوات من ‪ 63‬وحتى ‪ 70‬بقيادة حافظ األسد وصالح‬ ‫جديد‪ ،‬ذي البعد اليساري الراديكالي‪ ،‬بتفكيك كل قوة الرأسمالية التقليدية في سوريا‪ ،‬ليعود بعد عام ‪1970‬‬ ‫حافظ األسد ويوقف هذه اإلجراءات دون أن يتوقف عن النهج االقتصادي نفسه إنما بطريقة أكثر مرونة‬ ‫اعتمدت على البراغماتية والتعددية االقتصادية ودو ٍر محدو ٍد للقطاع الخاص‪ .‬حيث ساهم منذ تلك اللحظة‬ ‫حافظ األسد بـ “خلق طبقة رأسمالية جديدة داعمة لحكمه تبقى تحت الرقابة والسيطرة بحيث ال يتاح‬ ‫لها إمكانية القفز إلى السلطة‪ .‬وبقيت النظرة الحذرة تجاه الرأسمالية العائدة الجديدة تسم موقفه تجاهها‬ ‫حتى مماته”(‪ .)9‬وقد تم بذلك عزل البرجوازية السورية عن ساحة العمل المجتمعي والثقافي‪ ،‬مع أنه من‬ ‫المعروف تاريخياً دور البرجوازية الوطنية في تنشيط الحركة السياسية ورعاية الثقافة‪ ،‬ولو أنها تفعل ذلك‬ ‫بدواعي خدمة مصالحها أيضاً‪ .‬وقد افتقد المثقف بذلك إحدى القوى التي كان يمكن أن تشكل سنداً‬ ‫له بوجه السلطة‪ ،‬ومساعداً له على الوصول إلى منابع المعرفة بطريقة أو بأخرى‪ ،‬على األقل من خالل‬ ‫تمويل ورعاية بعض النشاطات ومراكز األبحاث‪ ،‬ليصبح أي عمل ترعاه البرجوازية السورية يمر أوالً من‬ ‫الدائرة األمنية السلطوية‪ ،‬وهو ما بتنا نشهده مؤخراً بخاصة بعد عام ‪ 2000‬حين عادت البرجوازية الجديدة‬ ‫أو ‘المئة الكبار’ لتلعب هذا الدور إنما من داخل دائرة السلطة نفسها‪ ،‬ال بكونها برجوازية وطنية ذات‬ ‫استقالل ومشروع خاص بها‪.‬‬ ‫(‪ )3‬ضعف األحزاب السياسية وضعف اهتمامها بالثقافة‬ ‫تحدثنا في القسم األول من هذا البحث عن العالقة بين المثقف واألحزاب السياسة‪ ،‬وكيف أن‬ ‫المثقف في أحد مراحله كان ‘عضواً حزبياً’ و‘ناشطاً سياسياً’ أكثر منه مثقفاً‪ .‬وهو أمر طبيعي في سياق‬ ‫التطورات السورية والتاريخ السوري الحديث‪ ،‬بخاصة أن الكثير من هذه األحزاب قد أخذت على عاتقها‬ ‫مهمة نشر التعليم في الخمسينيات والستينيات سبي ًال لكسب قواعد شعبية لها‪ ،‬ما جعل منها الرحم الذي‬ ‫ولد فيه المثقف السوري‪ ،‬إذ يشكل ‘المثقف األيديولوجي’ الذي تحدثنا عن نمطه سابقاً‪ ،‬واحداً من األطوار‬ ‫التي م ّر بها المثقف السوري‪ .‬وهنا يمكن أن نعالج أمرين‪:‬‬ ‫‪150‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫األول‪ :‬إن الثقافة لم يكن لها أي أولوية تذكر في فكر هذه األحزاب‪ ،‬إال من حيث كونها أدا ًة للتحشيد‬ ‫والتجميع‪ ،‬بحيث يتح ّول المثقف إلى صوت الحزب كما كان الشاعر يوماً صوت القبيلة‪ .‬وألن المثقف‬ ‫في جوهر وظيفته سلطة في مواجهة كل السلطات‪ ،‬فإن األمر أخذ واحداً من أمرين إما انصياع المثقف‬ ‫للسلطة الحزبية واألمين العام‪ ،‬أو ‘االنشقاق’ والبقاء خارج الرحم الحزبي ما يحرمه من المالذ اآلمن الذي‬ ‫كان الحزب يوفره للكثير من المثقفين‪ ،‬ناهيكم عن حرمان المثقف من مصادر معرفة كان يوفرها الحزب‬ ‫إما مادياً عبر شرائها من موازنة الحزب أو من خالل قدرته (كونه حزباً) على الوصول للمعلومة بشكل‬ ‫أسرع‪ ،‬وهو حال أغلب المثقفين السوريين الذين هجروا أحزابهم أو لفظتهم هي‪ ،‬بخاصة بعد أن بدأ‬ ‫االستبداد السوري يتك ّون بشكله العضوض‪ .‬ويتب ّين يوماً بعد يوم أن األحزاب السورية لم تعد أكثر من تابع‬ ‫للسلطة كأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أو مالحقة ومنفية ومعزولة وتعمل تحت األرض أو السجن جراء‬ ‫مناخات القمع السيئة الذكر‪ ،‬بخاصة بعد عام ‪.1980‬‬ ‫هنا لم يتمكن المثقف وال هذه األحزاب من بل ّورة تص ّور أو نوع من العالقة الصحية بين الثقافة‬ ‫والسياسة‪ ،‬بحيث تبقى للثقافة كرامتها وللسياسة اعتبارها‪ ،‬بحيث يق ّدم الحزب المالذ اآلمن والرؤية التنفيذية‬ ‫ويقدم المثقف صوته النقدي ورؤيته وخبرته لهذا الحزب ليصار إلى امتحانه على ضوء عمل المثقف على‬ ‫أرض الواقع‪ .‬هذه الرؤية التي كان يجب أن تولد لم تر النور في عالمنا العربي بعد‪ ،‬إذ ال تزال العالقة بين‬ ‫السياسي والثقافي تناحرية‪ ،‬وهو أمر ذو صلة باألمر الثاني الذي سنتحدث عنه‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬كان من المفترض أن تؤدي سيرورة المثقف من حيث والدته في الرحم الحزبي‪/‬األيديولوجي‬ ‫إلى انفصال المثقف عن هذا الرحم تدريجياً لتنمو عالقة صحية بين المثقف والحزب أو المثقف والسلطة‬ ‫ضمن سياق تاريخي صحي‪ .‬إال أن مناخ االستبداد الذي قطع هذه السيرورة مع الوحدة السورية المصرية‬ ‫والتي أخذت مسارها مع وصول البعث في ‪ 1963‬وتمأسست في عام ‪ ،1970‬ساهمت في بتر هذه العالقة‬ ‫ومنعت تط ّورها‪ ،‬لتصبح عالقة المثقف مع حزبه إما ‘تبعية’ أو ‘انشقاق’‪ ،‬ناهيكم عن قتل الحياة السياسية‬ ‫بأكملها‪ ،‬األمر الذي أفقد المثقف األيديولوجي مبكراً ماء الرحم الذي يسبح به‪ ،‬إذ تمزقت تلك المشيمة‬ ‫قبل أن تأخذ مداها وتنضج‪ ،‬فخرج المثقف من رحمها دون اكتمال ليواجه النفي أو السجن أو العزلة أو‬ ‫التبعية لهيكل الحزب الذي ت ّبقى‪ ،‬فض ًال عن كون شروط هذه األحزاب لم تسمح لها أساساً بأن تكون أحزاباً‬ ‫حقيقية‪ ،‬فكيف ستبلور إذاً عالق ًة صحي ًة مع المثقف؟‬ ‫(‪ )4‬فقر المجتمع المدني‬ ‫إن تغ ّول السلطة أدى من جملة ما أدى إلى وأد المجتمع المدني في سوريا وإخصاء المجتمع‬ ‫األهلي‪ .‬ولما كان المجتمع المدني حاضناً للنشاطات المدنية والفعاليات‪ ،‬فإن وجوده يشكل حاضن ًة حامية‬ ‫للمثقف وبيئ ًة خصبة لعمله‪ ،‬بحيث يشكل المجتمع المدني المجال الحيوي الذي يتحرك فيه المثقف‬ ‫لمواجهة السلطة‪ ،‬من حيث كونه ممث ًال رمزياً لسلطة المجتمع بمواجهة تغ ّول الدولة‪.‬‬ ‫إن موت المجتمع المدني السوري على يد سلطة االستبداد ساهم في فقدان المثقف ألحد المجاالت‬ ‫الحيوية التي تحميه رمزياً من بطش السلطة‪ ،‬وتشكل القناة التي تنتقل من خاللها أفكاره للجماهير‪ ،‬وهو‬ ‫ما ساهم في عزلة المثقف ووحدته وانكفائه وانعدام تأثيره‪ ،‬ناهيكم عن كون المجتمع المدني يشكل أحد‬ ‫مصادر المعرفة للمثقف لجهة كونه ساحة احتكاك بين المجتمع والسلطة‪ ،‬ولجهة كونه التعبير األمثل عن‬ ‫‪151‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫رؤى المجتمع وتصوراته وآرائه حول مختلف القضايا العامة‪ .‬هذا ما يجعل من المجتمع المدني ساح ًة‬ ‫تتبلور وتتشكل فيها األفكار والمعارف في جدلٍ حيوي بين المثقف والقاع والسلطة والوعي السائد‪ ،‬وهي‬ ‫ٌ‬ ‫معرفة خام يحتاجها المثقف كونها معجونة بعرق الواقع‪ ،‬لينتجها الحقاً بنص معرفي أدق وأكثر تكثيفاً‬ ‫وتعبيراً ورؤية‪.‬‬ ‫رابعًا ‪ -‬القدرة املادية للمثقف‬ ‫بعد أن أ ّممت السلطة أغلب مؤسسات القطاع الخاص ومنها الثقافية‪ ،‬جاعل ًة من السلطة أدا ًة لــ‬ ‫“إنتاج ثروات شخصية من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى الستخدام السيطرة االقتصادية أداة لتعزيز السياسة‬ ‫عبر التحكم في المصالح وتوزعها(‪ ،”)10‬تحولت الدولة إلى رب عمل كبير من جهة‪ ،‬والقطاع الخاص إلى‬ ‫تابع للدولة عبر تنمية ‘برجوازية تقليدية’ مهادنة‪ ،‬و‘برجوازية دولة’ تكونت في الرحم السلطوي ذاته‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫و‘برجوازية صاعدة’ تكونت فيما بعد من تحالف أبناء الطبقتين السابقتين وأبناء المسؤولين األمنيين‬ ‫ورجاالت الدولة الكبار من جهة أخرى‪ .‬لنكون في نهاية المطاف أمام سلطة تقبض على منافذ الثروة كلها‪،‬‬ ‫جاعل ًة بركتها تصب على الموالين لها وحارمة كل معارض منها‪ ،‬األمر الذي جعل المثقف في حاجة ماسة‬ ‫لهذا الرضى في ظل انسداد كل اآلفاق األخرى‪ ،‬خاصة في ظل الهيمنة الشمولية الكلية للسلطة على مصادر‬ ‫الثروة بين عامي ‪ 1965‬وعام ‪ ،1990‬لتبدأ النوافذ المغلقة تشرع أمام العمل مع الخارج تدريجياً وببطء‪،‬‬ ‫بالتوازي مع عودة القطاع الخاص ودخوله مجاالت الثقافة واإلعالم‪ ،‬ولكن ليس ليفتح المجال أمام المثقف‬ ‫بل ليرتهنه بطرق أخرى كما سنشرح الحقاً‪ .‬وهو ما يعني في نهاية المطاف أن الوضع المادي السيء‬ ‫للمثقف جعل حاجته ماسة لراتب الدولة المأسورة لسلطة تدرك ما تفعل‪ ،‬فحاربت المثقف بلقمة عيشه‪.‬‬ ‫ولعل قيام السلطة بطرد المعارضين من وظائفهم وحرمانهم من حقوقهم المدنية والعسكرية خير دليل‬ ‫على ذلك‪ ،‬وهو أمر ال تزال تفعله حتى اللحظة‪.‬‬ ‫وإذا عرفنا أن أغلب المثقفين السوريين من منابت ريفية فقيرة‪ ،‬سندرك كيف انعكس هذا األمر‬ ‫على خفوت صوتهم النقدي ضد السلطة‪ ،‬دون أن يعني هذا األمر أن كل من تمتع بوضع مادي مريح كان‬ ‫ذا صوت نقدي ضد السلطة بل أحياناً العكس هو الصحيح‪ ،‬فالشاعر نزار قباني الذي كان يعيش في لندن‬ ‫وبوضع مادي مريح جاء ومثل بين يدي األسد بعد وفاة ابنه باسل راثياً ومادحاً بنفس الوقت‪ ،‬في حين‬ ‫لم يفعل القاص زكريا تامر‪ ،‬وهو يعيش في لندن وهو ابن مدينة أيضاً‪ ،‬في حين رأينا أن الشاعر ممدوح‬ ‫عدوان القادم من بيئة ريفية فقيرة سيواجه السلطة في أوج قوتها في مجلس الشعب في ثمانينيات القرن‬ ‫الماضي هو ومجموعة من المثقفين منهم ميشيل كيلو ابن مدينة الالذقية‪.‬‬ ‫خامسًا ‪ -‬اإلعالم ودور النشر‬ ‫في ظل سعيها إلى الهيمنة على وسائل اإلعالم كلها‪ ،‬وجد المثقف نفسه محاصراً بين إعالم السلطة‬ ‫ومؤسساتها من جهة‪ ،‬واإلعالم الخارجي بكل ما تعنيه الرقابة المباشرة المس ّلطة على كل من يكتب فيه من‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬ما حرم المثقف من صلة الوصل أو إحدى الحلقات التي تصله بالقاع‪ .‬وفي ظل معرفتنا بأن‬ ‫وسائل اإلعالم الخارجية أغلبها يخضع لرقابة مطلقة قبل دخولها البلد‪ ،‬حيث أن أغلب الصحف والمجالت‬ ‫‪152‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫كانت وال تزال ممنوعة في سوريا‪ ،‬فإننا سندرك أنه حتى في حال اخترق المثقف أحد محرمات السلطة‪ ،‬فإن‬ ‫نتاجه لن يصل الجمهور السوري‪ ،‬وسيضعه بوجه المدفع السلطوي‪ ،‬ما ساهم أيضا بعزوفه عن المغامرة‪.‬‬ ‫وحتى حين سمحت السلطة بتشكيل إعالم خاص‪ ،‬فإن الرخص الممنوحة لم تعط إال للطبقة األمنية‪/‬‬ ‫التجارية الصاعدة الموثوقة والمحسوبة كلياً على السلطة‪ ،‬ما يعني أن هذا اإلعالم كان أكثر احتوا ًء للمثقف‬ ‫من اإلعالم السلطوي التقليدي الذي كان قد فقد لونه ونكهته ج ّراء تراكم الغبار المهني والسلطوي عليه‪.‬‬ ‫فبدأ اإلعالم الجديد يمنح المثقف والعاملين فيه رواتب عالية مقابل تدجينهم والعمل في ظل رعاية‬ ‫السلطة التي كانت الطبقة الجديدة خير منف ٍذ لها‪.‬‬ ‫دور النشر هي الوحيدة التي بقيت مستثنا ًة من التأميم دون أن تكون مستثنا ًة من الرقابة الغبية‬ ‫بكل ما تحمله الكلمة من معنى‪ ،‬إذ لم يكن ُيسمح بنشر أي كتاب دون موافقة وزارة اإلعالم واتحاد الكتاب‬ ‫اللذين تح ّوال إلى مؤسسات أمنية بالباطن‪ ،‬ومؤسسات دولة بالظاهر‪ .‬وحتى الكتاب المنشور في الخارج‬ ‫كان يحتاج لموافقة خاصة بالتداول في سوريا‪ ،‬ما حرم المثقف من مصادر المعرفة التي يحتاجها لمراكمة‬ ‫معرفته وتكوينها عن سوريا وغيرها‪ ،‬ومن توصيل ما ينتجه من جهة أخرى‪.‬‬

‫املراجع‬

‫(‪ )1‬محمد هواش‪ ،‬آتك ّون جمهورية ‪ -‬سوريا واالنتداب’‪ ،‬منشورات السائح‪ ،‬لبنان‪ -‬طرابلس‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،2005‬ص‪.91:‬‬ ‫(‪ )2‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.217:‬‬ ‫(‪ )3‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.127:‬‬ ‫(‪ )4‬باالزويل‪‘ ،‬سوريا الحلم واالنفصال’‪ ،‬نقال عن محمد هواش‪‘ ،‬تك ّون جمهورية ‪ -‬سوريا واالنتداب’‪ ،‬منشورات السائح‪ ،‬لبنان‪ -‬طرابلس‪ ،‬الطبعة االوىل‬ ‫‪ ،2005‬ص‪.128 127-:‬‬ ‫(‪ )5‬سمري سعيفان‪‘ ،‬سياسات توزيع الدخل ودورها يف االنفجار االجتامعي يف سورية’‪ ،‬كتاب ‘خلفيات الثورة – دراسات سورية’‪ ،‬مجموعة مؤلفني‪،‬‬ ‫املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت ‪ ،2013‬ص‪.99:‬‬ ‫(‪ )6‬عارف دليلة‪‘ ،‬االقتصاد السوري‪ :‬املشكالت والحلول’‪ ،‬الحوار املتمدن‪ ،‬تاريخ‪ 5 :‬آب ‪ /‬أغسطس ‪ ،1115‬الرابط‪:‬‬ ‫‪http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=2356‬‬ ‫(‪ )7‬نبيل مرزوق‪‘ ،‬التنمية املفقودة يف سوريا’‪ ،‬كتاب ‘خلفيات الثورة – دراسات سورية’ ‪ -‬مجموعة مؤلفني‪ ،‬املركز العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪،‬‬ ‫الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت ‪ ،2013‬ص‪.47،48 :‬‬ ‫(‪ )8‬سمري سعيفان‪‘ ،‬سياسات توزيع الدخل ودورها يف االنفجار االجتامعي يف سوريا’‪ ،‬كتاب ‘خلفيات الثورة – دراسات سورية’‪ ،‬مجموعة مؤلفني‪ ،‬املركز‬ ‫العريب لألبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت ‪ ،2013‬ص‪.127:‬‬ ‫(‪ )9‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.102:‬‬ ‫(‪ )10‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.97:‬‬

‫‪153‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫زهير الخويلدي‬

‫مفهوم الهوية السردية‬

‫من منظور بول ريكور‬

‫اخلالصة‪:‬‬

‫ميثل تحقيق الهوية مطلب كل إنسان عىل وجه املعمور من األرض وتنقسم إىل هوية‬ ‫شخصية تخض كل فرد وهوية ثقافية تشمل جامعة تاريخية معينة وهوية إنسانية‬ ‫تغطى مختلف الشعوب واملجتمعات‪ .‬غري أن النظر إىل تجربة الهوية من زاوية الجوهر‬ ‫الساكن والخصائص النهائية والطبائع الثابتة قد يؤدي إىل اإلصابة بالعقم والجدب‬ ‫ويخلف أزمة هوية وتصادم مع الغري وانبتات عن الذات والعامل‪ .‬إن االلتجاء إىل الرسد‬ ‫قد يكون أقوم املسالك للخروج من األزمة وزرع التعدد والتنوع والتغري داخل رحم‬ ‫الهوية وإدراجها ضمن التاريخ ودفعها يف مخاض دينامييك تتالقى فيه مع الهويات‬ ‫األخرى‪.‬‬

‫‪154‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املثقف واملعارضة والشأن العام يف سوريا‬

‫“لفظ الهوية مشتق من ال ُه َو كما تُشتقّ اإلنسانية من اإلنسان”‬ ‫يطرح موضوع الهوية في إطار االنتماء إلى أمة والوفاء للتقاليد واإليمان بدين والتكلم بلغة وحمل‬ ‫جنسية وطن وامتالك شخصية قاعدية واالنحياز الى جهة واالنضواء تحت راية مؤسسة أو حزب‪ .‬غير أن‬ ‫اإلشكالي في هذه المسألة هو التناقضات البارزة للعيان بين دوائر االنتماء والفوارق في المحددات التي‬ ‫تمنح الكائن البشري تشخصه وخصوصيته التي تميزه عن بقية الكائنات األخرى‪.‬‬ ‫ال يتعلق األمر في هذا المجال الفلسفي الريكوري بالبحث في هوية األشياء فذلك يرتبط بمفهوم‬ ‫الجوهر الذي يعني وجود نواة خالصة ال تتغير يجب معرفتها والتعبير عنها بلغة المفهوم بل يحرص‬ ‫على الخوض في هوية األشخاص والتعرف على وجودهم التاريخي ومختلف التغيرات التي تحصل لهم في‬ ‫حياتهم اليومية واإلمساك ببعض من مالمحهم العامة واستحضار مفاهيم الفرد والذات والشخص‪.‬‬ ‫كما ال يقتصر األمر أيضا على هوية فردية معزولة يطرحها الكوجيتو التأسيسي للعالم باالعتماد على‬ ‫نفسه وباالنطالق من الصفر المعرفي عبر العود على بدء بل يشمل الهوية الجماعية المشتركة التي تتحدد‬ ‫باللغة والدين والعرق والثقافة والتاريخ والمصير المشترك والتي تتطلب معالجة جدلية بين األنا واآلخر‬ ‫والبحث عن شروط التواصل بين الخصوصيات والكونية قصد الوصول إلى إثبات اإلنية من منظور الغيرية‬ ‫عن طريق االعتراف بالمختلف والمباين واالندماج ضمن هوية مركبة كوكبية‪.‬‬ ‫عالوة على ذلك توجد هوية عددية وهوية شخصية وهوية منطقية “والمقصود بفلسفة الهوية كل‬ ‫نظرية ال تفرق بين المادة والروح وال بين الذات والموضوع وتنظر إليهما على أنهما وحدة ال تنفصل”‪.‬‬ ‫‪155‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫لكن‪ ،‬إذا كان األمر بهذه البساطة والوضوح‪ ،‬لماذا نستدعي مفهوم الهوية السردية؟ وماذا سيضيف‬ ‫إلى جدلية الخصوصية والكونية؟ وهل يساعد على التفكير في المفارقات والصعوبات التي يثيرها التناقض‬ ‫بينهما؟ وكيف تحافظ الهوية السردية على مطلب إثبات الذات وبلوغ اإلنية من جهة واالنفتاح على الغير‬ ‫والكيان في العالم من جهة أخرى؟ من هو الفاعل الحقيقي في تشكيل الهوية؟ وماهو دور السرد في‬ ‫تشكيل هذه الهوية؟ وبأي معنى يستدعي التخييل والزمانية ويستحضر شذرات من اإلتيقا والشعرية ويربط‬ ‫بين الفعل والتراجيديا ويدفع بالتي هي أحسن كل من حيل التاريخ وعنف الكلي؟‬ ‫ما ينبغي االنتباه إليه منذ الوهلة األولى أننا نعاني أزمة هوية وفقدان بوصلة نتيجة صعوبة التوفيق‬ ‫بين األصالة والحداثة وتعذر تحقيق التزامن والتعاصر بين الميراث العائد بقوة في ثوب سلفي تقليدي‬ ‫والعولمة الضاغطة من جميع الجهات في ثوب اختراقي استقطابي‪ .‬لقد أدى هذا الوضع المتفجر إلى‬ ‫تشكل شيزوفرنية مقيتة داخل الذات‪ ،‬إذ نعيش المعايير األداتية التي جاءت بها العولمة للتواصل فيما بيننا‬ ‫في حياتنا اليومية ونعيش قيم التراث ونحكي قصصه ونعظم سردياته في مخيالنا وذاكرتنا وعالمنا الداخلي‪.‬‬ ‫من هنا يظهر لنا أن مطلب إثبات الذات والبحث عن الهوية قصد الدفاع عليها وتحقيق استمراريتها هو‬ ‫ورطة ألي مفكر عقالني يشتغل على القيم الكونية وينبذ الخطاب األبولوجي االفتخاري ويتضح كذلك أن‬ ‫التساؤل نفسه عن الهوية من نحن؟ ومن نكون؟ هو هوس مرضي ونزعة نكوصية بلغة علمية نفسية‪،‬‬ ‫وبالتالي يكون طرح مشكل الهوية هو معالجة مشكل زائف أو مغلوط ال يؤدي إلى أي قرار وال ينتج‬ ‫عنه أي اكتشاف جديد بل يبعدنا عن معالجة القضايا الجادة وينسينا طرح المشاكل الحقيقية التي تتعلق‬ ‫باإلنسان من حيث هو إنسان كوني وليس من حيث هو شخص بعينه ينتمي إلى مجتمع معين ويتميز عن‬ ‫غيره بخصوصية ثقافية محددة‪ .‬فهل يمكننا مفهوم الهوية السردية من تجاوز أزمة الهوية في حضارة إقرأ؟‬ ‫والى أي مدى نقدر على استخدامه كمعول نظري وايتيقي للمعالجة االستعصاءات التي يعاني منها األفراد‬ ‫الناطقون بلغة الضاد؟ وما المقصود أوال بالهوية بصفة عامة؟ ولماذا ربط ريكور ثانيا بين الهوية والسرد؟‬ ‫وما الفرق بين الكوجيتو وعين الذات؟ وماهي الصلة بين سرد الهوية والوعي بالتاريخ؟ وهل الهوية هي‬ ‫األمر الوحيد الذي يهمنا في الحياة أم توجد أمور أخرى أكثر حيوية منه؟‬ ‫في هذا المقام ينقد بول ريكور الهوية الشخصية في معناها الجوهراني الثبوتي‪ ،‬ويشخص النقص‬ ‫في غياب البعد الزمني الخاص بالذات وذلك حينما يتم تعريف الشخص من منظور التطابق والعددية‬ ‫في اإلرجاع المحدد للهوية ‪ idem‬وبالتالي لم يتم أخذ بعين االعتبار البعد التاريخي للشخص الذي نتكلم‬ ‫عنه وانتمائه إلى محيط ثقافي وسياق اجتماعي وزمانية وجود‪ ،‬ولم يقع تناول الهوية من زاوية متعددة‬ ‫ديناميكية وهو ما يشرع لذلك سرد الذات للغير وسرد الغير لذاتنا ‪.ipse‬‬ ‫على هذا النحو يقترح ريكور لتدارك التغافل عن تمفصل الهوية الشخصية ضمن البعد الزمني‬ ‫للوجود اإلنساني أن يتم تعويض هذا النقص بإعادة االعتبار للنظرية السردية من زاوية مساهتمها في‬ ‫تشكيل الذات‪ .‬وبالتالي يلعب الخيال وليس التاريخ دورا بارزا في هذا التشكيل‪ ،‬اذ أن الهوية السردية‬ ‫التي نسردها حين يروي أحدهم قصة حياته أو تروي مجموعة معينة ذاكرة ماضيها أو يروي القاص حكاية‬ ‫يلعب فيها الخيال الدور األول وليس الوقائع التاريخية والسيما أنه هو الذي يتيح للذات فهم نفسها بطريقة‬ ‫أفضل بعد فهما للعالم ولآلخرين‪.‬‬ ‫‪156‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫في هذا السياق يعرف ريكور الهوية العينية بأنها الهوية المطابقة التي ال تتغير مع الزمن وتحافظ‬ ‫على نفس الخصائص والعناصر البسيطة األولى وتقترب من مفهوم الجوهر الثابت عند أرسطو وتحافظ‬ ‫على ذاتها رغم كل التقلبات وتبقى هي عينها وكأنها في حالة سكون وجمود وتعتقد أنها قد تشكلت في‬ ‫السابق مرة واحدة والى األبد وكانت ديمومتها الزمنية هي ميزتها القصوى والوحدانية والتطابق والتماثل‬ ‫مع نفسها والتشابه التكراري من صفاتها األزلية‪.‬‬ ‫غير أن هذا التصور الثبوتي للهوية يعاني من مشاكل في حالة وجود مسافة زمنية بين الذات‬ ‫ونفسها بسبب النمو والشيخوخة وحينما يتحول عامل الزمن إلى تباعد واختالف وتنوع وبالتالي ضياع‬ ‫المرجعية وتتغير الثوابت فإنهذا يفرض الخروج من الذات نحو مالقاة العالم واالتصال باألغيار واالندراج في‬ ‫الصيرورة التاريخية والقطع مع االستمرار وتحريك السواكن‪ .‬أما الهوية الذاتية فهي ال تؤمن بأن الحقيقة‬ ‫تبقى وال تقف عند الجوهر والطبع وال تقف عند بدايات التشكل التاريخي بصورة تقديسية وال تتجمد في‬ ‫الزمان وتحن إلى األصل وإنما تعيش الزمن وتتطور معه وتؤمن بالكثرة في المراجع والتنوع في المصادر‬ ‫وتنهل من مختلف الحقول وتعول أساسا على المكون السردي والبعد الرمزي والنواة الروحية والتجربة‬ ‫اللغوية في اثبات الذات‪.‬‬ ‫والحق أن الذات تتكلم اللغة وحبلى بالكالم‪ ،‬كما أن اللغة ليست بنية ثابتة ومعطى جامد وال مجرد‬ ‫نسق مغلق من الرموز والعالمات وإنما هي تجربة حية وعالم متغير وخطاب يتكلمه أشخاص تتراوح‬ ‫حياتهم بين الممارسة والمعاناة وبين الفعل والعذاب ويمتلكون قدرة على الكالم والسرد وعلى االلتزام‬ ‫االتيقي‪ .‬من البين عندئذ “أنه ليس هناك من قصة محايدة أخالقياً‪ .‬إن األدب عبارة عن مختبر واسع تجري‬ ‫فيه التقديرات والتقييمات وأحكام االستحسان واإلدانة‪ ،‬وهناك تستخدم السردية كحقل تمهيدي لألخالق‪”.‬‬ ‫في الواقع ان الهوية الشخصية هي المكان المحبذ الذي يحتد فيه التناقض بين الهوية العينية‬ ‫والهوية الذاتية ولذلك أي تجاهل من طرف الهوية اإلنسانية للنظرية السردية يمنعها من تحقيق انتصار‬ ‫في هذه المواجهة‪ ،‬وحينما تتجمد الهوية العينية عند الطبع ‪ caractére‬فإنها تجعل الهوية الذاتية منحصرة‬ ‫في قطب المحافظة على الذات وتؤدي ديمومة الطبع إلى تغطية المطابق للمتغير وحجب الذاتي للعيني‬ ‫والفشل الذريع في سرد الذات‪.‬‬ ‫والحق أن الطبع حسب ريكور هو طبيعة جامدة ومنظور المتناه لم يختره اإلنسان بل هو ال إرادي‬ ‫مطلق يشبه الالوعي ويتصل بصورة عضوية بالجسد وتؤثر طريقته في الوجود على انفتاح الشخص على‬ ‫عالم األفكار ويرتبط بالوجود في الحياة التي تمثله الوالدة ويمثل مجموعة العالمات المميزة التي تسمح‬ ‫بالتعرف على هوية فرد على أنه هو عينه وبعبارة أخرى الطبع هو “الطبقة من وجودنا التي ال نستطيع أن‬ ‫نغيرها ولكن علينا أن نرضى بها”‪.‬‬ ‫هكذا تدور بين الهوية العينية والهوية الذاتية مواجهة مباشرة ال تجد تحققها وتجسدها إال من خالل‬ ‫مفهوم الهوية السردية الذي يرد على التناقضات والمفارقات التي تقع فيها الهوية الشخصية ويؤسس جدلية‬ ‫العين والغير‪.‬‬ ‫من نافل القول أن يكشف ريكور عن الطابع العالئقي للهوية ويبين أن حياة البشر تصبح أسهل‬ ‫للقراءة وأمتع حين تؤول حسب الحكايات التي يرويها الناس عن تجاربهم وقابلية هذه التجارب للفهم عبر‬ ‫تحبيك التاريخ والخيال‪.‬‬ ‫‪157‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫في هذا اإلطار تمثل الهوية القصصية إجابة شعرية السرد على التباسية الزمان ومحاولة من الذات‬ ‫الساردة لكي تتعقل الزمانية المنفلتة من عقال السردية وردم الهوة التي يتركها التأمل في التشقق بين زمان‬ ‫النفس الفردية وزمان العالم أو في التصدع القائم بين الزمان الفنومينولوجي والزمان الكسمولوجي‪ .‬كما أن‬ ‫الهوية السردية هي الوحدة الهشة الناتجة عن تقاطع التاريخ والقصص وتتشكل حينما يتم تخصيص هوية‬ ‫محددة لفرد أو لجماعة عن طريق السرد ومن خالل إيجاد جواب عن سؤال من فعل هذا؟ برواية قصة‪.‬‬ ‫“وتفهم كلمة ‘هوية’ هنا بمعنى المقولة العملية‪ .‬ويعني اإلتيان على ذكر هوية فرد أو جماعة الجواب عن‬ ‫السؤال‪ :‬من فعل ذلك؟ أو من هو الفاعل أو المؤلف؟ وما الذي يسوغ اعتبار فاعل فعل ما‪ ،‬هو الفعل الذي‬ ‫يعزى السم علم‪ ...‬هو نفسه من تمتد حياته من الميالد إلى الموت؟ للجواب عن ذلك البد من سرد‪”.‬‬ ‫ربما التناقض الذي تقع فيه الهوية الشخصية ناتج عن افتراض وجود ذات متطابقة بالرغم من تعدد‬ ‫حاالتها عبر الزمان سببه اعتبار الهوية الصورية هي الهوية الجوهرية لإلنسان وإهمال البعد المتحرك‬ ‫والزمني للذات‪.‬لقد جانب هيوم الصواب ومن بعده نيتشه حينما اعتبرا الذات المتطابقة مجرد وهم‬ ‫جوهري وأكدا على التعدد في القوى المتدافعة والرغبات المتصارعة والكثرة في الدوافع والخيارات التي‬ ‫تتكون منها الهوية‪.‬‬ ‫إذا نظرنا إلى الهوية من زاوية التطابق والجوهر والدوام فإننا نلغي ذاتية الذات وما تتميز به من‬ ‫كثرة وتغير وتبدل وانفتاح على اآلخر وعلى العالم ويمكن إعادة تصويرها من خالل تأليفات شعرية للنص‬ ‫السردي وبواسطة حبك القصة الخيالية الحقيقية التي ترويها الذات عن نفسها عبر بنية زمانية ديناميكية‪.‬‬ ‫والحق أن الذات تعرف نفسها أكثر حينما تمارس وتتعذب وتتعلم أكثر من تجاربها عبر قص حياتها‬ ‫الممتحنة بالمعاناة وتجعل من الحكاية وسيلة للتطهر وفرصة لصقل النفس والدفاع عن الذات وتطهيرها‪.‬‬ ‫كما تناول ريكور الهوية الجماعية إلى جانب الهوية الفردية في إطار الربط الفلسفي بين السرد‬ ‫والذات حيث تتحول حياة المجموعة إلى نسيج سردي يشترك األفراد في حياكته عبر إعادة تصوير‬ ‫تجاربهم‪“ .‬ومما يدل على فائدة فكرة الهوية الفردية أنها يمكن أن تنطبق على الجماعة كما تنطبق على‬ ‫الفرد”‪ ،‬إذا تمكن الفرد من الوعي بالتاريخ والمعرفة الذاتية بواسطة السرد فإن الجماعة تحافظ على‬ ‫بقائها وتمسك تاريخها الفعلي وتشغل ذاكرتها من خالل االستغراق في القص وعن طريق هويتها السردية‪.‬‬ ‫وبالتالي توجد عالقة دائرية بين الذات والسرد إذ “تتعرف الذوات على ذاتها في القصص التي ترويها‬ ‫عنها” وتمثل الحكايات شهادة على األحداث التأسيسية الكبرى في تاريخ المجموعة وتعكس السرديات‬ ‫طبيعة الشعب وتحافظ على هويته وتكون الجماعة التاريخية قد استمدت هويتها من تلقي النصوص التي‬ ‫أنتجتها‪ .‬أضف إلى ذلك يحقق سرد التجارب الفردية نوعا من التماسك الذاتي ويتخطى التجارب المتنافرة‬ ‫والتواريخ الصغرى التي عاشتها الذات نحو قصة متماسكة وتاريخ واحد وقوة حياة وتسمح باالنهماك مع‬ ‫الذات وتحصين الهوية‪ .‬لكن “هذا الزخم ال يتحول الى فعل اال عبر قرار يقول فيه كل شخص‪ :‬ها أنا ذا”‪.‬‬ ‫بناء على ذلك توفر الهوية السردية حال شعريا لمعضلة الدائرة الهرمينوطيقية إلعادة تشكيل الزمان‬ ‫من خالل السرد وتتكون الفعالية السردية من الحبك والمحاكاة وتتعلق بالبنية الرمزية للفعل التي تظهرها‬ ‫حكايات سابقة وتحيل إلى السمات ما قبل السردية التي تتصل بالرغبة‪ ،‬وبالتالي تنبع الهوية القصصية من‬ ‫إعادة تشكيل سرد سابق بسرد الحق ومن تصويب المتناه للفعل عبر تنويعات خيالية وتأليف حبكات‪.‬‬ ‫‪158‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫غاية المراد من اعتماد مفهوم قصصي للهوية هو البحث عن بنية للتجربة اإلنسانية قادرة على‬ ‫استيعاب التاريخ والخيال والقصص في عالقة تمازج وتقاطع سواء تعلق األمر بكائن فردي أو جماعة ثقافية‪.‬‬ ‫وبالتالي يتحول فهم الذات إلى عملية تأويل تتشابك فيها األنماط السردية والقصص الخيالية كوسائط‪ .‬في‬ ‫الواقع الثقافي والتاريخي “ليست الهوية السردية بالهوية الساكنة التي ال تترك ندوبا وتماما كما يمكن‬ ‫تأليف حبكات من موضوع واحد لألحداث العرضية نفسها كذلك من الممكن دائما نسج الحبكات المختلفة‬ ‫بل المتعارضة عن حيواتنا”‪.‬‬ ‫غير أن ريكور يكشف عن محدودية الحل الذي توفره الهوية السردية اللتباسية الزمانية ويرى أن‬ ‫الهوية السردية تعيش حركية غير مستقرة وتثابر على االبتكار ولكنها تنقض نفسها وتزيد من حيرة اإلنسان‬ ‫وتعجز عن استنفاذ مطلب البقاء الذاتي للذات وتدفعها إلى التجريب في عالم غريب عنه وتخلخل‬ ‫التماسك الداخلي للذات وتصير مشكال بدل أن تكون حال وبالرغم من أن الهوية السردية مقولة عملية إال‬ ‫أنها تبحر في الخيال أكثر من اإلرادة وتخفق إستراتيجية اإلقناع وينقصها الشعور بالعدالة وتفقد الحياد‬ ‫األخالقي‪ .‬ان التعريف الفلسفي الهوية االنسانية في حد ذاتها غير قادر على تفسير الشروط النفسية‬ ‫واالجتماعية لفهم هذه الظاهرة واالحاطة بالتحوالت والمراوحة بين التماثل والتباين‪ .‬لكن هل يمكن رسم‬ ‫صورة حقيقية عن الذات بكتابة السيرة الذاتية والكشف عن المكون التاريخي للنحن؟‬ ‫من المعلوم أن الهوية السردية هي مقولة عملية بالنسبة إلى فرد أو جماعة تمثل إجابة عن سؤال‪:‬‬ ‫من فعل ذلك؟ أو من هو القائم بالفعل؟ والتي يتم بمقتضاها ضبط جملة من المحددات عبر وحدة‬ ‫التاريخ والقصص وتسمية شخص معين ونسبته إلى اسم علم عن طريق سرد حكاية وقص حياة هذا الفاعل‪.‬‬ ‫ان الرد على مشكل الهوية الشخصية بالمرور بدنيا التطابق والتماثل ودون اللجوء الى السرد‬ ‫يوقع مطلب تحقيق الهوية في تناقض ال حل له ويجعل من االستحالة التأليف بين الوفاء للذات والقيام‬ ‫بالتغيرات ويعسر افتراض وجود ذات مطابقة مع ذاتها بالرغم من تعدد حاالتها المختلفة عبر الزمان‪.‬‬ ‫يدعو ريكور الى استبدال الهوية الجوهرية بالهوية السردية واحالل ذاتيتة الذات محل التطابق ويرى‬ ‫أهمية االعتماد على بنية زمنية تتكيف مع هوية متحركة وفق نموذج التأليف الشعري للنص السردي‪.‬‬ ‫“وخالفاً للهوية المجردة لدى المطابق‪ ،‬يمكن أن تشتمل الهوية السردية‪ ،‬المكونة لدوام الذات‪ ،‬على‬ ‫التغير والتبدل في اطار تماسك زمان حياتي واحد”‪ .‬كما تعيد الذات هيكلة نفسها وتنتج نمط جديدا من‬ ‫الحياة عبر اعادة تصوير القصص التي ترويها عن نفسها وقيامها بالتحليل األدبي لسيرتها الذاتية”‪.‬‬ ‫من نافل القول أن رؤية اإلنسان لهويته يصطبغ بالتناهي وال ّالعصمة وال ّالاكتمال وال ّالتناسب بين‬ ‫الكوني والخصوصي ولذلك يسعى ريكور إلى تشييد عدة جسور ووسائط بين الطبع المتناهي والفعل‬ ‫ال ّالمتناهي ويحاول تحقيق المصالحة بين العناصر التكوينية للطبيعة البشرية المتنافرة وتثبيت التوسطات‬ ‫الهشة‪ .‬من هذا المنطلق ليس اإلنسان وسيطا كائنا بين المالك واألبله‪ ،‬بل هو وسط بينه وبين ذاته من‬ ‫ناحية أولى وفعل وجوده يعني القيام بإنجاز عدة توسطات بين الطبع واالحترام‪ .‬على هذا النحو “يجب‬ ‫االعتقاد أن كل القيم هي مفتوحة لكل البشر‪ ،‬ولكن من جهة خاصة بكل منهم بهذا المعنى يكون كل‬ ‫واحد إنساناً”‪ .‬لكن كيف يكون اإلنسان ‪-‬كما يرى بول ريكور‪ -‬من حيث هو إنسان بسيطا في حيويته‬ ‫ومعقدا في إنسانيته؟‬ ‫‪159‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫لقد تناول بول ريكور مفهوم الهوية بمختلف أبعاده اإلشكالية وب ّين أزمة الهوية وخطابها االقصائي‬ ‫ورفضها لحق االختالف ووقوعها في نزعة “فردوسية األنا وشيطانية اآلخر” وإضافة إلى ذلك فرق بين‬ ‫التعريف بالهوية كهوية عينية واالشتغال عليها كهوية ذاتية وربطها بالهوية السردية وصوال إلى العالقة‬ ‫التفاهمية مع العرق والم ّلة التي ينتمي إليها الفرد دون إقصاء لآلخر أو الشعور بالتفوق على اآلخر‪ .‬جملة‬ ‫القول أن ثبت الهوية هو مسار طويل تتبعه الذات من الرغبة في االعتراف ومحاولة انتزاعه من اآلخر‬ ‫والظفر به بالتوافق مع القيم الكونية ومنح الغيرية حق الضيافة واإلقامة الوجودية في قلب الهوية‪ .‬لكن‬ ‫ماهي اآلليات الضرورية من أجل بناء هوية سردية عربية؟ وكيف تدمج الغيرية وتحقق البعد الكوني؟‬ ‫والحق أن الشرقيين أكثر شعوب العالم تعلقا بسردياتهم وقصصه وحكاياتهم عن أنفسهم ولقد‬ ‫صاروا جماعات تاريخية وكونوا الملل والنحل بواسطة هذه المسرودات وكانت حكاياتهم مجرد شهادات‬ ‫مروية عن األحداث التأسيسية لتاريخهم ودولهم وقد عكست طبيعتهم المنظومة المعيارية التي تضمنتها‬ ‫هذه التقاليد واألحداث وقد استمدت هوياتهم خصوصيتها من تلقيهم لهذه النصوص الكبرى عبر تاريخهم‬ ‫الطويل وهم في حاجة اليوم الى التعرف على ذواتهم من خالل غيرهم والقيام بتصويبات مطبقة على‬ ‫حكاياتهم التأسيسية والتخلي عن أوهام التفوق واألحكام الخاطئة والتشبث بأمل تحقيق الوعود التأسيسية‬ ‫لإلنسانية واالهتداء بقيم الصفح والمصالحة والتعارف‪ .‬فمتى يحول الشرقيون السرد الى قوة حياة ويجعلون‬ ‫من حكاياتهم الكبرى تاريخهم الفعلي بطريقة نقدية واسترجاعية؟‬

‫املصادر‪:‬‬

‫‪. 1‬‬ ‫‪ .2‬‬ ‫‪ .3‬‬ ‫‪ .4‬‬

‫‪160‬‬

‫ريكور(بول)‪ ،‬فلسفة اإلرادة‪ ،‬اإلنسان الخطاء‪ ،‬ترجمة عدنان نجيب الدين‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2003 ،‬‬ ‫ريكور (بول)‪ ،‬الذات عينها كآخر‪ ،‬ترجمة جورج زينايت‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2005 ،‬‬ ‫ريكور (بول)‪ ،‬الزمان والرسد‪ ،‬الزمان املروي‪ ،‬ترجمة سعيد الغامني‪ ،‬دار الكتاب الجديد املتحدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2006 ،‬‬ ‫سعيد (جالل الدين)‪ ،‬معجم املصطلحات والشواهد الفلسفية‪ ،‬دار الجنوب للنرش‪ ،‬تونس‪.1998 ،‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪:‬‬

‫إبراهيم النفره❊‬

‫روما اجلديدة‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تتصدى الدراسة ملوضوع العوملة كإشكالية بحثية مرتبطة بحكم الرضورة املوضوعية‪ ،‬ارتباطاً عضوياً‪ ،‬بالراهن‬ ‫العريب تَ َظْ ُهراً وتأثراً وتفاعالً‪ .‬تحاول هذه الدراسة َّأل تكتفي بالتوصيف والتحليل السلبي لهذه الظاهرة‬ ‫(العوملة) من زاوي ٍة فكري ٍة تعلو عىل الواقع املعاش‪ .‬بل تحاول أن تبني ما يواجه الفكر العريب حالياً يف منطقتنا‬ ‫مهمت معقدة مركبة يف آنٍ معاً‪ ،‬كتبيان الوسائل‬ ‫اطي من ّ‬ ‫التي تشهد مخاضاً عسرياً إلرهاصات تح ُّولٍ دميقر ٍّ‬ ‫والسياسات الالزمة للتعامل مع موضوع العوملة كواقع قائم‪ ،‬لكن من منظور تفاعيل منتج‪ ،‬وليس من منظور‬ ‫تأثُّري يتمظهر بعالقة تابعية ترسخ كافة أنواع التبعية االقتصادية والسياسية والثقافية‪ .‬وتسعى الدراسة إىل‬ ‫صياغة نهج (باراديغم) معريف جديد ينبذ ما سبق‪ ،‬ويعيد صياغة العوملة وفق قالب جديد يندرج تحت إطار‬ ‫مفهوم ‘العاملية’‪.‬‬

‫❊ معيد يف كلية االقتصاد بجامعة دمشق‪ ،‬وموفد إىل جمهورية روسيا االتحادية لنيل درجة الدكتوراه‪.‬‬

‫‪161‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪ :‬روما اجلديدة‬

‫مقدمة‬ ‫عند الحديث عن العولمة‪ ،‬الب ّد أن يكون الحديث دقيقاً وموضوعياً قدر المستطاع‪ ،‬فقد أضحت‬ ‫موضة العصر وشغلها الشاغل سواء على الصعيد االقتصادي أو االجتماعي أو السياسي‪ ،‬ناهيك عن ال ّلبوس‬ ‫الذي تتج ّلى فيه هذه العولمة في كافة ميادين الحياة‪ .‬ول ّما كانت العديد من الوقائع العالمية تتجلى على‬ ‫مسرح العولمة فع ًال اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً‪،‬كان لزاماً علينا بحث هذا المفهوم بشيء من اإلسهاب‪،‬‬ ‫مبينين المقدمات التاريخية لنشأة هذه الظاهرة‪ ،‬إذا سمحت التعابير واألدوات والوسائل واالنعكاسات‬ ‫اإليجابية والسلبية المتمخضة عنها على الساحة العالمية واإلقليمية والوطنية‪ .‬وسنحاول تبيان ما إذا كان‬ ‫هناك بالفعل عولمة أم أنها اسم لشيء آخر‪.‬‬ ‫في سبيل التصدي لهذه اإلشكالية البحثية المرتبطة بحكم الضرورة الموضوعية ارتباطاً عضوياً بالراهن‬ ‫العربي الذي تحكمه عوامل ذاتية تدلل عليها الماهية أو الخصوصية العربية تمظهراً وتأثراً وتفاع ًال‪ .‬هذا‬ ‫الراهن محكوم أيضاً بعوامل موضوعية خارجة عنه تتلخص في جملة التحوالت االقتصادية والسياسية‬ ‫الدولية واإلقليمية‪ ،‬والعناصر الفاعلة في جملة التحوالت القائمة حالياً في عالمنا العربي‪.‬‬ ‫تحاول هذه الدراسة َّأل تكتفي بالتوصيف والتحليل السلبي لهذه الظاهرة (العولمة) من زاوية فكرية‬ ‫الـمعاشة‪.‬‬ ‫تعلو على الواقع المعاش الذي صارت فيه تجليات هذه الظاهرة بادية في كل تفاصيل الحياة ُ‬ ‫إذ تحاول أن تبين ما يواجه الفكر العربي حالياً في منطقتنا‪ ،‬التي تشهد مخاضاً عسيراً إلرهاصات تح ُّول‬ ‫ديمقراطي‪ ،‬من مهمات معقدة مركبة في آنٍ معاً‪ ،‬وهي تبيان الوسائل والسياسات ّ‬ ‫اللزمة للتعامل مع‬ ‫موضوع العولمة كواقع قائم‪ ،‬لكن من منظور تفاعلي منتج وليس من منظور تأ ُّثري يتمظهر بعالقة تابعية‬ ‫ترسخ كافة أنواع التبعية االقتصادية والسياسية والثقافية‪.‬‬ ‫‪162‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪ :‬روما اجلديدة‬

‫تحاكي دراسة هذه اإلشكالية‪ ،‬راهنية التحول في المجتمعات العربية التي تقوم اآلن بإعادة النظر في‬ ‫كافة المسلمات الفكرية السابقة وصياغتها من جديد وفق منطق فكري ثوري‪ ،‬إن جاز التعبير‪ ،‬يرفض واقعاً‬ ‫‘سلبياً’ غير مكتمل بحكم الضرورة التاريخية‪ ،‬وتسعى إلى صياغة أو رسم نهج (باراديغم) معرفي جديد ينبذ‬ ‫ما سبق من أفكار وسياسات راكمت اضمحالالً في كافة الميادين‪.‬‬ ‫تقوم هذه الدراسة باإلجابة على هذه اإلشكالية من زاوية الضرورة الراهنة‪ ،‬بمواجهة ظاهرة العولمة‬ ‫بتجليها التبعي‪ ،‬والعمل على سياسات جديدة تُدخل منطقتنا العربية في مفهوم أوسع وأكثر عدالة‪ ،‬تكون‬ ‫فاع ًال ومشاركاً فيه؛ هو مفهوم ‘العالمية’‪.‬‬ ‫أوال ً ‪ -‬حول مفهوم العوملة‬ ‫هناك العديد من التعريفات الموضوعة لمصطلح العولمة‪ .‬فهي بتعريف الفيلسوف السوري الطيب‬ ‫تيزيني‪“ :‬ابتالع كل ما هو موجود وإعادته على شكل من ّمط”‪.‬‬ ‫وفي تعريف آخر لصادق جالل العظم العولمة هي‪“ :‬ظاهرة مركبة ‪-‬ذات محتوى شامل‪ -‬ناتجة‬ ‫من آليات النشاط الالمتناهي لرأس المال فوق القومي‪ ،‬يتمخض عنها وقائع وأحداث وظواهر تشكل في‬ ‫مجموعها أساساً لطور تاريخي جديد من أطوار النظام الرأسمالي‪ ،‬وهي بحكم آلياتها االقتصادية التي تتمثل‬ ‫في االعتماد المتبادل بين اقتصاديات مختلف الدول‪ ،‬ومذهبها االقتصادي هو حرية السوق وتحرير التجارة‬ ‫والخصخصة وتدعيم حرية انتقال رؤوس األموال وتشجيع االستثمار‪ .‬تنشر مجموعة من القيم السياسية‬ ‫والثقافية واالجتماعية يجري تعميمها على مستوى العالم ألن التطور الهائل في اإلنتاج وضرورة تصريف‬ ‫هذا اإلنتاج يقتضي نشر قيم وأنماط استهالكية مناسبة أي تعميم أنماط استهالك وإنتاج وتبادل وتوزيع‬ ‫من خالل تقديم أنماط ثقافية واجتماعية وسياسية لقيم وأخالقيات تشمل العالم كله وبالشكل الذي يحقق‬ ‫وحدة السوق العالمية”‪.‬‬ ‫في حين يرى العالم أنتونير جيدنتر العولمة بأنها‪“ :‬ازدياد كثافة العالقات االجتماعية في عموم‬ ‫العالم‪ ،‬فارتبطت بالنتيجة مواضع مختلفة متمايزة بطريقة جعلت نشوء وقائع محلية بتأثير حوادث جارية‬ ‫على مسافة أميال بعيدة أمراً حاص ًال”‪.‬‬ ‫هناك جدل حول تعريف دقيق وشامل لمفهوم العولمة‪ ،‬ونالحظ أن مجمل التعريفات تطرح‬ ‫العولمة من خالل تجلياتها وآلياتها ليس أكثر‪ .‬وبالتالي يمكننا إضافة تعريف إلى مجمل التعريفات التي‬ ‫سبقت لتصبح العولمة‪“ :‬ذلك اإلطار الذي تتم من خالله إذابة كافة العوائق والحواجز السياسية واإلقليمية‬ ‫الـم َع ْولَم‪ ،‬إال أنها تتج ّلى في واقع مخالف‬ ‫والقومية (انصهار المجتمعات) في بوتقة واحدة تأخذ اللبوس ُ‬ ‫(أمركة) وتستخدم أدوات عالمية تتناسب مع أهدافها لتحقيق هذه الغاية”‪.‬‬ ‫ثانيًا ‪ -‬العوملة تاريخيًا‬ ‫يمكننا القول بأن العولمة مفهوم حديث‪/‬قديم في نفس الوقت‪ ،‬حيث أن التجارة الدولية كانت تتم‬ ‫دون حواجز قبل نشوء القوميات (الدولة القومية) التي سعت إلى تغليب مصالحها على مصالح اآلخرين‪.‬‬ ‫‪163‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪ :‬روما اجلديدة‬

‫ولكن علينا األخذ باالعتبار أن الصراع بين العولمة واإلقليمية والقومية –في شكل رئيسي‪ -‬ما يزال قائماً‪،‬‬ ‫حيث تقلل العولمة من أهمية الحدود وتعمل على تقويضها‪ ،‬بينما تؤكد المحلية على الخطوط الفاصلة‬ ‫بين الدول في مختلف المجاالت‪ ،‬االقتصادية والسياسية والفكرية‪.‬‬ ‫هذا المعنى يجعل العولمة تطرح ضمناً مستقبل الدولة القومية وحدود سيادتها ودورها في المجالين‬ ‫الداخلي والخارجي‪ .‬وانطالقاً من سعي العولمة لتملك المجال العالمي من قبل رأس المال المتلهف‬ ‫الستغالل الفروق بين المناطق والدول‪ ،‬فإنها تسعى باستمرار لنسف القواعد التي تقررها الدول في سبيل‬ ‫الحد من اتساع المبدأ التنافسي‪ ،‬وتتحول مساحات من األراضي والقضايا والسياسات والحقوق‪ ،‬التي تم‬ ‫نزع وطنيتها في دول كثيرة‪ ،‬إلى سيطرة المؤسسات والمنظمات الدولية الفعالة في إطار العولمة‪ ،‬وتتحول‬ ‫الدولة أيضاً إلى أداة سياسية وحقوقية وأمنية لحماية أنشطة السلطات المعلومة المستجدة‪ ،‬التي تتجلى‬ ‫بشكل بارز بالشركات المتعددة الجنسية‪ .‬ويعبر عن هذه التحوالت بتحول أساسي يطال عمق الظاهرة‬ ‫التي تميز هذه المرحلة‪ ،‬يتج ّلى بالتحول من نمط الرأسمالية القومية (االحتكارات) إلى الرأسمالية العابرة‬ ‫للقارات التي ارتبط بها ظهور مفهوم العولمة الذي عبر عن اتساع مجال وفضاء التجارة واإلنتاج ليشمل‬ ‫السوق العالمية بأجمعها‪ّ .‬إل أن العولمة ضمن سياقها التاريخي لم تؤد إلى إلغاء دور الدولة‪ ،‬فقد تعايشت‬ ‫معها طوال القرون الماضية‪ ،‬ووفق نمطها السائد أو المعاصر‪ ،‬أو بمعنى األمركة‪ ،‬فإنها لم تؤد إلى إلغاء دور‬ ‫الدولة القومية بل هي‪ ،‬بمعنى من المعاني‪ ،‬تعبي ٌر عن تمجيد الدولة القومية األمريكية‪.‬‬ ‫من جانب آخر‪ ،‬رغم توسيع نشاط الشركات العابرة للقارات إلى مختلف دول العالم ّإل أنها ما زالت‬ ‫متجذرة في الوطن األم‪ ،‬وتلجأ إلى هذا الوطن عندما تتعرض ألزمة ما‪ .‬ونشير هنا أن هذه الشركات ال تقوم‬ ‫بفعل ذلك بدافع االنتماء بقدر ما يرجع إلى ضعفها وعجزها حتى اآلن عن امتالك األدوات والوسائل الالزمة‬ ‫للدفاع عن نفسها‪ .‬وهي رغم حاجاتها للدولة األم‪ ،‬فإنها ما تزال تعمل على إضعاف دورها وتقويض سلطاتها‬ ‫وتحاول امتالك وسائلها وأدواتها‪ ،‬عبر سيطرتها من خالل آليات الخصخصة‪ ،‬والتي تشكل مدخ ًال رحباً لسيطرة‬ ‫عمل هذه الشركات‪.‬‬ ‫إن أخطر ما تقوم به قوى العولمة‪ ،‬هو تفكيك اإلطار الوطني للرأسمالية وتقويض دور الدولة‪ ،‬دون‬ ‫أن تخلق إطاراً عالمياً بدي ًال لما كانت تفعله الدولة في الضبط والتحكم باألزمات الرأسمالية‪ ،‬وهذا سيؤدي‬ ‫إلى غياب ضوابط الرأسمالية على الصعيد العالمي وضعف ضوابطها على الصعيد الداخلي‪ ،‬ما سيؤدي‬ ‫بدوره إلى حدوث انهيارات اقتصادية عالمية غير مسبوقة‪ .‬إن هذه الظاهرة هي أحد تناقضات العولمة‬ ‫وتحمل في طياتها صراع نمطين للعالقات الدولية‪ ،‬وبناء على نتائج هذا الصراع سيكون مستقبل كل منها‪.‬‬ ‫لكن يمكننا القول إن بداية العولمة يؤرخ لها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ويمكن إيجاز‬ ‫المقدمات أو المسببات التاريخية المؤدية لنشوء العولمة ابتدا ًء من انهيار نظام بريتون وودز‪ ،‬وما تاله‬ ‫من تزايد دور كل الشركات متعددة الجنسيات التي تزايدت أرباحها‪ ،‬واتسعت أسواقها‪ ،‬وتعاظم نفوذها‬ ‫في التجارة الدولية‪ .‬وتزايد دور مؤسسات العولمة الثالثة (صندوق النقد الدولي‪ ،‬البنك الدولي‪ ،‬المنظمة‬ ‫العالمية للتجارة) التي لعبت دوراً مباشراً في تصميم برامج اإلصالح االقتصادي وسياسات التثبيت والتكيف‬ ‫الهيكلي في الدول النامية (التحول إلى اقتصاد السوق)‪ .‬باإلضافة إلى عولمة كل من النشاط اإلنتاجي‬ ‫والمالي واندماج أسواق المال‪ .‬كل ذلك ترافق مع تغير مراكز القوى االقتصادية وهيكل االقتصاد العالمي‬ ‫‪164‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪ :‬روما اجلديدة‬

‫وسياسات التنمية المتبعة‪ ،‬وميل واضح نحو التكتل االقتصادي‪ .‬هذه التغيرات كانت متساوقة مع ثورة‬ ‫ديمقراطية في المجال السياسي‪ ،‬وثورة ُسميت بثورة اقتصاد السوق وحرية التبادل‪ ،‬كانت بعد قيام المنظمة‬ ‫العالمية للتجارة‪ ،‬وخصوصاً بعد تفكك االتحاد السوفيتي ‪.1991‬‬ ‫كل هذه المقدمات التاريخية مهدت الطريق لولوج العولمة‪ ،‬لتغزو العالم بأسره بسحرها وجنونها‬ ‫على حد تعبير فريدمان عندما قال‪“ :‬نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة‪ ،‬العولمة هي األمركة‪،‬‬ ‫والواليات المتحدة قوة مجنونة‪ ،‬نحن قوة ثورية خطرة‪ ،‬وأولئك الذين يخشوننا على حق”‪.‬‬ ‫ثالثًا ‪ -‬أدوات العوملة‬ ‫كما أسلفنا فإن العولمة لتحقيق غاياتها تقوم باستخدام مجموعة من األدوات التي تعمل من خاللها‬ ‫على تهيئة المناخ الالزم لولوج السلع والخدمات والرساميل واألفكار المعولمة بحكم طبيعتها في البلدان‬ ‫التي تنشط فيها هذه األدوات‪.‬‬ ‫تتلخص هذه األدوات بما ُيسمى ‘الثالوث غير المق َّدس’ على حد تعبير ريتشارد بيت‪ ،‬وهي صندوق‬ ‫النقد الدولي‪ ،‬والبنك الدولي لإلنشاء والتعمير‪ ،‬ومنظمة التجارة العالمية‪ ،‬التي تعمل من خالل سياساتها‬ ‫المختلفة على الجمع بين النيوليبرالية ‪ -‬الفريدمانية والعولمة كمفهوم اقتصادي اجتماعي سياسي‪ ،‬سواء من‬ ‫خالل السياسات التصحيحية المرتبطة بالسياسات االقتصادية لهذه البلدان التي تطرحها هذه المؤسسات أو‬ ‫من خالل التسهيالت المشروطة التي يقدمها البنك الدولي‪ ،‬إضاف ًة إلى ما تقوم به منظمة التجارة العالمية‬ ‫من ترسيخ لدعائم النظام التجاري الدولي وتقويته وإزالة الحواجز القائمة بين الدول بهدف إخضاع هذه‬ ‫البلدان لميكانيزمات السوق الجديدة وللنظام الرأسمالي العالمي‪.‬‬ ‫رابعًا ‪ -‬آثار العوملة‬ ‫ُيع َرف الشيء بتجلياته‪ ،‬كذلك العولمة تُع َرف بما تفرزه من آثا ٍر اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة‬ ‫في مجمل مفاصل حياة الشعوب‪ .‬على مستوى السوق العالمية‪ ،‬فإن العولمة تتجلى اندماجاً لألسواق في‬ ‫حقول التجارة الدولية واالستثمارات المباشرة وانهيار الحواجز أمام حركة التجارة العالمية وخضوع جميع‬ ‫دول العالم لقوى السوق‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬إن تبادالً شام ًال بين مختلف أطراف العالم يتحول بموجبه العالم‬ ‫إلى محطة تفاعلية موحدة لإلنسانية بأكملها‪ .‬إضاف ًة إلى ذلك لن يكون هناك بعد اآلن مستهلك محلي‪،‬‬ ‫وتحصل خاماتها من مكان آخر‪ ،‬وتُص َّنع في مكان‬ ‫بل سيقبل الناس على شراء سلع تم تصميمها في مكان‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ثالث‪ ،‬حتى تصل إلى المستهلك بشكل أرخص وأكثر جودة في مكان رابع‪.‬‬ ‫لكن هناك أيضاً آثار سلبية‪ ،‬تتجلى في أن الدول النامية (دول الجنوب) تحديداً‪ ،‬وشركاتها‪ ،‬ستتلقى‬ ‫صدمات قوية من الدول والشركات المتقدمة‪ ،‬لكون هذه األخيرة لديها اإلمكانات األفضل إلنتاج أرخص‬ ‫المواد وأجودها‪ ،‬وهي تزيح من طريقها الشركات األقل كفاء ًة‪ ،‬ويتمخض عن هذه الحالة نمو غير متكافئ‬ ‫وتر ّكز للثروة وازدياد التفاوت في توزيع الدخول‪ ،‬سواء أكان ذلك على مستوى الدول حيث ستزداد الدول‬ ‫غنى والفقيرة فقراً‪ ،‬أو على مستوى األفراد داخل الدولة الواحدة‪ ،‬حيث ستتركز األموال والثروات في‬ ‫الغنية ً‬ ‫أيدي فئة قليلة وتتآكل الطبقات الوسطى لحساب الطبقات الفقيرة‪.‬‬ ‫‪165‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪ :‬روما اجلديدة‬

‫خامسًا ‪ -‬العوملة حقيقة أم وهم عاملي؟‬ ‫بعد السرد السابق لتاريخ وأدوات وآثار العولمة فالبد من طرح السؤال التالي‪ :‬هل العولمة بمواصفاتها‬ ‫السابقة مرشحة ألن تغزو العالم أو أنها طيف آيل للزوال؟‬ ‫َّلما كانت العولمة هي ما تحاول القوة العظمى تسويقه وفرضه على المجتمع اإلنساني‪ ،‬فإنها محاولة‬ ‫فرض هيمنة النمط الواحد في الكسب والمعاش والثقافة والتفكير والسياسية والحكم بما يحقق تعميم‬ ‫أسلوب اإلنتاج الرأسمالي وإغالق دائرة التراكم الرأسمالي على الصعيد العالمي‪ .‬من هنا فإن ُ‬ ‫الك ّتاب‬ ‫والمفكرين يتحدثون اليوم عن االقتصاد المعولم وليس عن االقتصاد العالمي‪ .‬حتى يكاد يختفي تعبير‬ ‫االقتصاد الدولي‪ ،‬بمعنى العالقات االقتصادية بين الدول‪ ،‬من اآلداب العالمية‪.‬‬ ‫وبالتالي يمكننا القول بأن العولمة ومهما بدت في أنها تنتشر انتشار النار في الهشيم‪ ،‬تعجز في ظل‬ ‫الظروف الموضوعية‪ ،‬عن غزو العالم واختصار الحضارات اإلنسانية وتقاليد الشعوب وثقافاتها في حضارة‬ ‫القوة المهيمنة وثقافتها ألسباب عدة منها‪:‬‬ ‫• ألن العولمة شعار حق يراد به باطل‪ ،‬بمعنى أن المنادين بالعولمة ال يريدونها لمصلحة كل‬ ‫الناس في كل أرجاء العالم بل يريدونها لمصلحة األقوياء في إخضاع الضعفاء ولمصلحة األغنياء‬ ‫في استغالل الفقراء‪ .‬فإذا علمنا أن القوة تتركز في دولة واحدة ويزداد تركزها‪ ،‬وتتحول كل‬ ‫أطراف المجتمع اإلنساني األخرى إلى ضعفاء‪ ،‬يتضح لدينا استحالة تحقق العولمة كما يريدها‬ ‫دعاتها‪ .‬وكذا الحال فيما يتعلق بتركز الثروة بيد األغنياء وتناقص أعدادهم في حين يتزايد‬ ‫عدد الفقراء مما يدفعهم لتشكيل جبهة مقاومة كبيرة يستحيل قمعها وإخضاعها‪ .‬ولقد دلت‬ ‫دورات مفاوضات الغات ‪ GATT‬بين عامي ‪ 1947‬و‪ 1994‬وكذلك الخالفات التي برزت في‬ ‫سياتل بين القوى االقتصادية الكبرى من جهة (بين الواليات المتحدة األمريكية من ناحية وبين‬ ‫االتحاد األوربي واليابان من ناحية ثانية)‪ ،‬وبينها وبين الدول النامية من جهة أخرى‪ ،‬إضافة إلى‬ ‫المظاهرات الصاخبة التي رافقتها في براغ في التشيك‪.‬‬ ‫• ألن القوى المنتجة لم تتطور بعد إلى المستوى الذي يجعل عالقات اإلنتاج الرأسمالية في‬ ‫المستوى الوطني تعرقل النمو االقتصادي في كل أجزاء العالم‪ ،‬بل على العكس من ذلك ما‬ ‫زال اإلطار الوطني لعالقات اإلنتاج مع ما يتطلبه ذلك من فرض مستوى معين من الحماية‬ ‫شرطاً ضرورياً لتحقيق النمو في القسم األعظم من دول العالم‪ .‬والعولمة المطروحة تريد بل‬ ‫تشترط تجاوز الحدود السياسية اقتصادياً‪ ،‬وتلغي تدخل الدولة في االقتصاد وحمايته وتوجيهه‪،‬‬ ‫مما يجعل مقوالت من مثل التخصيص األمثل للموارد وتعميم الرفاه على مستوى العالم مجرد‬ ‫شعارات‪ .‬لقد عرفت االقتصادات الوطنية في كل الدول عبر مراحل انتقالها من أسلوب إنتاج‬ ‫إلى أسلوب إنتاج آخر تعددية األنماط االقتصادية‪ ،‬بما يتوافق مع مستويات مختلفة لتطور‬ ‫القوى المنتجة (مثل تعايش النمط العبودي مع اإلقطاعي وتعايش النمط اإلقطاعي والبضاعي‬ ‫الصغير مع النمط الرأسمالي إلخ‪ .)...‬كما أن محاولة األنظمة االشتراكية السابقة تعميم أسلوب‬ ‫اإلنتاج االشتراكي على قطاعات اقتصادية لم تتطور فيها القوى المنتجة إلى مستوى هذه‬ ‫العالقات كان السبب وراء تخلف النمو االقتصادي في هذه الدول ومن ثم انهيارها‪ .‬صحيح أن‬ ‫‪166‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫كل الطرق تؤدي إىل العوملة‪ :‬روما اجلديدة‬

‫اإلنهيار كان بتأثير العوامل الخارجية‪ ،‬ولكن ليس من دون ضعف بنيتها الداخلية‪ ،‬وعدم قدرتها‬ ‫على المقاومة‪ .‬والعولمة التي تسعى القوة العظمى فرضها على العالم قبل نضوج الظروف‬ ‫الموضوعية لذلك‪ ،‬لن تشكل برأينا خروجاً على القاعدة ولن يمكن فرضها بالقوة‪.‬‬ ‫• إن دعاة العولمة من الدول االقتصادية الكبرى غير موحدي المصلحة‪ ،‬ألن قانون النمو المتفاوت‬ ‫الذي يحكم االقتصاد الرأسمالي يمارس فعله على المستوى الدولي‪ ،‬كما على المستوى الوطني‪.‬‬ ‫ما يجعل توافق الدول العظمى على دعم العولمة مؤقتاً‪ ،‬البد أن ينتهي إلى الخصومة فيما‬ ‫بينها عند بلوغ التفاوت في نموها حداً معيناً‪.‬‬ ‫ • إذا كانت الدول العظمى تقبل مرحلياً أن تتخلى عن بعض سلطاتها وسيادتها لصالح آلية السوق‬ ‫فيها‪ ،‬فألنها تستعيض عن نقص سيادتها الوطنية بسيادة أوسع وأشمل على المستوى العالمي‪.‬‬ ‫وهكذا فإن السبع الكبار ‪ +‬روسيا تقرر وضع االقتصاد العالمي وتؤثر في أوضاع السوق‬ ‫وتحريك آليته‪ ،‬وعلى هذا النحو تشكل مجلس أمن دولي اقتصادي بما يحمي مصالحهم‪ .‬من‬ ‫هنا فإن الدول األخرى بما فيها الدول الصناعية المتقدمة غير األعضاء في نادي الكبار‪ ،‬ال‬ ‫يمكن أن تتخلى بسهولة عن سيادتها الوطنية على قراراتها‪ ،‬ما سيعني بالضرورة ظهور معارضة‬ ‫للعولمة كما تريدها القوى العظمى‪ ،‬وخاصة من قبل الدول النامية التي يعد كل انتقاص من‬ ‫سيادتها مساساً بمصالحها‪.‬‬ ‫وهكذا فإننا نرى أن العولمة التي يراد فرضها من األقوياء على الضعفاء‪ ،‬ومن األغنياء على الفقراء‬ ‫البد أن تندحر‪ ،‬ألنها تخالف منطق التاريخ‪ .‬في حين أن العالمية التي تعبر عن سيرورة موضوعية طبيعية‪،‬‬ ‫ستتمدد أكثر فأكثر ألنها تعبر عن قانونية التطور وتلبي رغبات الناس دون إكراه‪ .‬فتيار العالمية سوف‬ ‫يقرب بين الناس في بناء حضارة إنسانية متساوقة‪ ،‬ولكنها متعددة‪ .‬قد يقلص من السيادة الوطنية ولكن‬ ‫لتوسيع سيادة اإلنسان‪ ،‬وسيعمل على تقليص مساحة الشرور لتوسيع مساحات الخير والصالح‪ .‬لكن مع‬ ‫نشوء الدولة القومية‪ ،‬واتجاه الدول الكبيرة الضطهاد الشعوب الصغيرة‪ ،‬تحولت العالمية عن هدفها وبدأت‬ ‫مسيرة العولمة القائمة على الرغبة في إلغاء اآلخرين بحضارتهم‪ ،‬بثقافتهم وأحياناً بوجودهم‪.‬‬ ‫فالعالمية تيار قادر على إدماج كل الشعوب واألمم في حضارة إنسانية تقوم على االعتراف باآلخر‪،‬‬ ‫وتفسح في المجال أمام هذا اآلخر ليغنيها ويغتني بها وهي قادمة ال محالة‪ .‬يجب العمل معها والتفاعل‬ ‫فيها لالنتقال من صراع الحضارات إلى الحوار فيما بينها‪ ،‬من الهيمنة إلى المشاركة‪ ،‬من االستغالل إلى‬ ‫اقتسام الخيرات‪ .‬والعالمية تنتقل باإلنسانية من االتجاه نحو إفقارها وصوالً للنمط الواحد‪ ،‬إلى االتجاه‬ ‫نحو إغنائها بتعدد األنماط والثقافات‪ ،‬واإلفساح في المجال أمام الناس الختيار ما يالئمهم من الموروث‬ ‫الثقافي والسياسي واالجتماعي مما قدمته شعوب العالم‪ .‬إنها نقيض العولمة وإن تشابهتا في الشكل فهما‬ ‫متناقضتان في األهداف والمضامين‪.‬‬

‫‪167‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫اخلطاب اإلعالمي االسرائيلي‬ ‫املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫حيان الضلع❊‬

‫أفيخاي أدرعي مثاال ً‬ ‫اخلالصة‪:‬‬

‫يعترب مصطلح الـ ‘نيوميديا ‪ -‬اإلعالم الجديد’ واحداً من أكرث املصطلحات الجدلية اليوم‪ ،‬فقد تجده‬ ‫باسم ‘اإلعالم البديل’ يف بعض املراجع أو ‘التفاعيل’ يف أماكن أخرى‪ .‬ولكن أياً تكن التسمية فإن‬ ‫املقصود بها هو عملية نقل رسالة معينة ( نص‪ -‬صوت‪ -‬صورة) إىل جمهور واسع باستخدام مزيج‬ ‫مؤلف من األجهزة الطرفية (الكمبيوتر‪ -‬الهواتف الذكية‪ -‬اللوحيات) وشبكة اإلنرتنت كوسيط‪،‬‬ ‫إضافة إىل شبكات التواصل االجتامعي كبيئة عمل‪ .‬وال نبالغ إن قلنا أن هذا النوع من اإلعالم‬ ‫تجاوز دوره الذي أنشئ من أجله أساساً ليبدأ بلعب دور فاعل يف قضايا الرصاع السيايس والثقايف‬ ‫والتاريخي‪ ،‬حيث بدأ بإزاحة الوسائل التقليدية (الفضائيات – الصحف – اإلذاعات‪ )..‬ليرتبع عىل‬ ‫عرش صناعة وقيادة الرأي العام العاملي‪ .‬يف هذه الدراسة املخترصة‪ ،‬سنعالج معاً كيفية استخدام‬ ‫العدو اإلرسائييل لهذا النوع من اإلعالم‪ ،‬انطالقاً من تحليل خطابه عرب مواقع التواصل االجتامعي‪،‬‬ ‫ولكن متى بدأ الكيان اإلرسائييل مبخاطبة العرب إعالمياً؟‬

‫❊ خريج كلية االقتصاد بجامعة ترشين يف الالذقية‪ ،‬سوريا‪ .‬يعد لرسالة ماجستري يف العالقات االقتصادية الدولية‪ .‬عمل ككاتب ومحرر اقتصادي يف عدد من‬ ‫الصحف واملواقع اإللكرتونية السورية‪.‬‬

‫‪168‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫اخلطاب اإلعالمي اإلسرائيلي املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫مقدمة‬ ‫تعود جذور الخطاب اإلعالمي المباشر بين العرب وعدوهم اإلسرائيلي إلى العام ‪ 2000‬عندما أنشأت‬ ‫وزارة الخارجية اإلسرائيلية دائرة خاصة للصحافة العربية‪ ،‬عينت على رأسها ناطقة إعالمية (يهودية من أصل‬ ‫مصري) هي أميرة سلطاني (أميرة أورون)‪ .‬تبعها في العام ‪ 2004‬استحداث منصب الناطق باسم جيش الدفاع‬ ‫فسرت الخارجية حينها هذه الخطوة بأنها “الرغبة اإلسرائيلية في التعاطي‬ ‫اإلسرائيلي باللغة العربية‪ ،‬حيث ّ‬ ‫مع اإلنسان العربي من دون وسطاء وبخطاب إسرائيلي مباشر”‪ .‬وكان أول من شغله الضابط برتبة رائد إيتان‬ ‫عروسي‪ ،‬ومن ثم تبعه الرائد أفيخاي أدرعي الذي ما زال يقوم بهذه المهمة حتى اليوم‪ ،‬فمن هو أدرعي؟‬

‫أفيخاي أدرعي ‪Avichay Adraee‬‬

‫يرد لفظ اسمه بالعربية أحياناً أفيخاي أو أفيحاي‪ ،‬وهو بحسب موسوعة ويكيبيديا إسرائيلي الجنسية‬ ‫ينحدر من أصول يهودية سورية‪ ،‬من مواليد العام ‪ ،1982‬يتقن اللغة العربية بطالقة‪ .‬التحق بالجيش‬ ‫اإلسرائيلي في العام ‪ 2001‬وشغل مناصب مختلفة وصوالً إلى رتبة رائد‪ ،‬ليعين في العام ‪ 2005‬كمتحدث‬ ‫بلسان جيش الدفاع اإلسرائيلي لإلعالم العربي‪.‬‬

‫باألرقام‬ ‫يستخدم الجيش اإلسرائيلي وسائل التواصل االجتماعية الحديثة بطريقة فعالة‪ ،‬حيث يبلغ عدد‬ ‫متابعي صفحة أدرعي على موقع فيسبوك أكثر من نصف مليون متابع‪ ،‬بينما ال يتخطى عدد متابعيه على‬ ‫موقع تويتر المئة ألف متابع‪.‬‬ ‫‪169‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫اخلطاب اإلعالمي اإلسرائيلي املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫وهي أرقام تتوافق إلى حد بعيد مع الدراسات التي تقول أن استخدام الموقع األزرق فيسبوك في‬ ‫منطقة الشرق األوسط يتفوق على باقي مواقع التواصل األخرى‪ ،‬على عكس منطقة الخليج العربي‪ .‬وكذلك‬ ‫تعتبر هذه األرقام كبيرة مقارنة مع المزاج العربي العام الذي يدعو إلى المقاطعة وعدم التطبيع مع‬ ‫العدو اإلسرائيلي‪ ،‬فيما ال تشير عملية بحث على موقعي جوجل بلس ويوتيوب إلى وجود صفحات رسمية‬ ‫للمتحدث‪.‬‬ ‫املضمون النصي‪ :‬األسلوب واللغة‬ ‫‪ - 1‬محاباة الثقافة العربية‪:‬‬ ‫‪ -1‬استخدام أمثال وحكم وعبارات عربية متداولة على نحو واسع سواء في اللغة العربية الفصحى‬ ‫أو الدارجة‪ ،‬فعلى سبيل المثال تتكرر عبارة “ضربني وبكى‪ ،‬سبقني واشتكى” في بداية الكثير‬ ‫من منشورات جيش الدفاع التي عادة ما تكون مخصصة لتبرير عدوان أو استهداف معين‪.‬‬ ‫أو مث ًال يمكن أن نجد عبارة “حماس مسؤولة عن اختطاف الشبان الثالثة‪ ،‬عيب عليها”‪ .‬كذلك‬ ‫عبارات التحية اللطيفة واألمنيات الطيبة من قبيل “أسبوعكم ورد”‪.‬‬ ‫‪ -2‬التركيز على استخدام المناسبات واألعياد المتعلقة بالتراث اإلسالمي والعربي (األعياد الدينية‪،‬‬ ‫شهر رمضان‪ ،‬ليلة القدر‪ ،‬إلخ) بشكل يخدم الهدف المتوخى من المنشور كأن يقول مث ًال‬ ‫“عشية عيد الفطر‪ ،‬تطلق حماس صورايخها اإلرهابية باتجاه المستوطنات اإلسرائيلية”‪ .‬وقد‬ ‫تجد الكثير من المنشورات موسومة بعبارة “جمعة مباركة للجميع”‪ ،‬وهي نابعة من عمق‬ ‫التاريخ اإلسالمي الذي يعتبر يوم الجمعة يوماً مباركاً انطالقاً من تسمية إحدى سور القرآن‬ ‫الكريم بهذا االسم‪ ،‬ووروده في عدد من نصوص السنة النبوية‪.‬‬ ‫‪ -3‬يدرك العقل اإلسرائيلي االستخباراتي بشكل جيد أن المدخل إلى صناعة الرأي العام العربي‬ ‫هو الدين‪ ،‬ومن خالله يمكن النفاذ إلى باقي عوالم شخصية اإلنسان العربي وتحوير نظرتها‬ ‫ورؤيتها لقضية الصراع العربي‪-‬اإلسرائيلي‪ ،‬لذلك يتقصد نشر أدعية إسالمية محكمة الصياغة‬ ‫منسوبة إلى ‘أصدقاء’ مسلمين للمتحدث باسم جيش الدفاع؛ فمث ًال ينشر أدرعي‪“ :‬دعاء‬ ‫جمعة خاص من صديقي المسلم”‪ ،‬ويفتتحه بـ “اللهم إني أسألك في صالتي” وصوالً إلى‬ ‫العبارة الختامية “يا أرحم الراحمين”‪.‬‬ ‫‪ - 2‬ال يفوت أدرعي أن يقوم بتذكير جمهور متابعيه بإطالالته اإلعالمية قبيل القيام بها‪ ،‬لضمان أوسع‬ ‫شريحة من المشاهدة‪“ :‬سيكون لي مقابلة على قناة الجزيرة بعد دقائق‪ ،‬تابعوني”‪ .‬ومن ثم‬ ‫يعمد المتحدث إلى نشر روابط لتسجيالت هذه المقابالت للتأكد من الوصول إلى من فاتته‬ ‫المتابعة‪.‬‬ ‫‪ - 3‬شرعنة ضرب األهداف المدنية (المدارس‪ ،‬المقابر‪ ،‬المنازل‪ ،‬المشافي‪ ،‬المساجد‪ ،‬إلخ) من خالل‬ ‫التأكيد والتذكير مراراً على استخدامها من قبل المقاومة الفلسطينية كمقار عمليات أو منصات‬ ‫إلطالق الصواريخ أو مداخل ومخارج لألنفاق‪.‬‬ ‫‪170‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫اخلطاب اإلعالمي اإلسرائيلي املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫‪ -4‬‬

‫‪ -5‬‬

‫‪- 6‬‬

‫‪- 7‬‬

‫‪ -8‬‬

‫استخدام اإلحصاءات واألرقام المرتبطة بنتائج وأسباب االعتداءات العسكرية والطلعات الجوية‬ ‫وتحديثها بشكل مستمر واستباقي‪ ،‬في محاولة إلى قطع الطريق على وسائل اإلعالم العربية في‬ ‫إيصال األرقام الحقيقية‪ ،‬وإيقاع المتلقي العربي في حالة من التشكيك الدائم بصدق معلوماته‪ .‬مث ًال‪:‬‬ ‫“نفذ سالح الجو في جيش الدفاع اإلسرائيلي ‪ 15‬طلعة جوية‪ ،‬أغار خاللها على ‪ 50‬هدفاً تخريبياً‬ ‫داخل قطاع غزة”‪ .‬وتندرج هذه التقنية ضمن أكثر وسائل اإلقناع نجاحاً وتأثيراً‪ ،‬حيث يحتفظ العقل‬ ‫البشري باألرقام والنسب بطريقة ال واعية تؤثر على تشكيل قناعاته وبلورتها مع الزمن‪.‬‬ ‫من أكثر التكتيكات ‪-‬التي يستخدمها أدرعي‪ -‬ذكاءاً تلك المتعلقة بقلب األدوار بين المرسل‬ ‫والمتلقي للرسالة اإلعالمية‪ ،‬حيث يضع نفسه مكان المواطن الفلسطيني ويلجأ إلى تقديم‬ ‫إجابات وتساؤالت على مقاس االحتالل اإلسرائيلي‪ ،‬هدفها تشويه صورة المقاومة الفلسطينية‬ ‫لدى جمهورها وبيئتها الحاضنة‪ ،‬فعلى سبيل المثال يقول‪“ :‬المواطن في غزة يتساءل اليوم‪ ،‬لماذا‬ ‫فرضت عليه حماس ‪ 3‬معارك عسكرية خالل أقل من ‪ 3‬سنوات؟”‪.‬‬ ‫المواظبة على توجيه رسائل مفادها التذكير بأن الشعب اليهودي هو شعب عريق ذو تاريخ‬ ‫وتقاليد وأعراف إنسانية‪ ،‬حيث تتكرر اإلشارة إلى المناسبات التاريخية والعادات واألعياد اليهودية؛‬ ‫مثل عيد الفصح وعيد الميمونة وعيد الحب العبري‪ ،‬مع التعريج على عبارات المعايدة التقليدية‬ ‫المستخدمة في الثقافة اليهودية من قبيل “تربحوا وتسعدوا”‪.‬‬ ‫تلعب المصطلحات المستخدمة في الخطاب اإلعالمي دوراً كبيراً في كسب المواقف أو تبديلها‪،‬‬ ‫فهي قوة مؤثرة في صلب العملية اإلعالمية‪ ،‬وتزداد أهميتها في حاالت الصراع وتضارب المصالح‪،‬‬ ‫بخاصة في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة‪ ،‬حيث تتسابق أطراف النزاع إلى اختيار ونحت‬ ‫المصطلحات اإلعالمية وتسويقها‪ .‬ومن هنا يتعامل اإلعالم اإلسرائيلي الناطق بالعربية مع هذه‬ ‫القضية بحساسية ودقة شديدتين‪ ،‬فعاد ًة ما توصف كوادر المقاومة الفلسطينية وفقا لـ أدرعي‬ ‫بصفات من قبيل “المخربون – اإلرهابيون”‪ ،‬بينما يصر على تسمية المستوطنين بأنهم “مواطنو‬ ‫دولة إسرائيل” وذلك كنوع من الرد على أدبيات بعض الدول العربية التي ترفض اإلشارة إلى‬ ‫الكيان اإلسرائيلي بأنه دولة‪ ،‬حتى بعد مرور عقود على قيامه‪.‬‬ ‫مبدأ ‘الحقيقة المبتورة’‪ :‬تبدأ جميع االعتداءات والهجمات العسكرية وخروقات الهدن ‪-‬وفقاً‬ ‫للخطاب اإلعالمي اإلسرائيلي‪ -‬من قبل المقاومة الفلسطينية‪ ،‬ومن ثم يتوجب على ‘جيش‬ ‫الدفاع’ الرد أو صد العدوان تحت ذرائع “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” أو “حماية البيت‬ ‫اإلسرائيلي”‪ .‬هذه الطريقة بالتعاطي مع حقيقة الصراع العربي–اإلسرائيلي بشكل مبتور‪ ،‬تشكل‬ ‫الحامل األساسي وصلب الخطاب اإلعالمي اإلسرائيلي اليوم‪ ،‬وكأن الكيان المحتل لم يقم يوماً‬ ‫على أرض فلسطينية‪ ،‬ولم يقتل‪ ،‬ولم يهجر‪ ،‬ولم يستوطن‪ ،‬ولم يعذب‪ ،‬ولم يستعبد‪ ،‬وكأن حركات‬ ‫المقاومة تنشأ من العدم دون فعل عدواني استوجب قيامها أساساً عبر التاريخ‪ ،‬هكذا هي وفقاً‬ ‫لإلعالم اإلسرائيلي ‘حركات إرهابية’ هدفها التخريب‪ .‬إذاً ‘الحقيقة المبتورة’ هي اقتطاع وتغييب‬ ‫عامل التاريخ االستعماري والنشأة الدموية للكيان اإلسرائيلي لتبدو القضية بأنها آنية ومعاصرة‬ ‫على شكل (فعل عربي عدواني ورد فعل إسرائيلي مقاوم)‪.‬‬ ‫‪171‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫اخلطاب اإلعالمي اإلسرائيلي املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫‪ - 9‬تؤكد معظم النظريات المتعلقة بفن اإلقناع والتأثير‪ ،‬وتلك المرتبطة بعلوم البرمجة اللغوية‬ ‫العصبية‪ ،‬على ضرورة استخدام التعابير ذات المعاني المحصورة والمحددة‪ ،‬واالبتعاد عن‬ ‫المصطلحات ذات المعاني الفضفاضة‪ ،‬حيث يتلقى العقل الباطن هذه الكلمات بطريقة سريعة‬ ‫تؤثر فيه بشكل مباشر‪ .‬يدرك أدرعي أهمية هذه القاعدة جيداً في التواصل حيث يعمد إلى نشر‬ ‫عبارات من قبيل “بحزم‪ ،‬بدقة‪ ،‬بدون تردد‪ ،‬بتصميم يواصل جيش الدفاع قيامه بمهامه”‪.‬‬ ‫‪ -10‬للتأكيد على ما يريد أدرعي إيصاله إلى المتابع العربي ووسمه بالمصداقية‪ ،‬يلجأ إلى نشر‬ ‫مقاالت وتقارير وتغريدات واردة على لسان وسائل إعالم غير اسرائيلية أو صحفيين أجانب‪،‬‬ ‫كنشره لتقرير أوردته محطة هندية على النحو التالي‪“ :‬شكراً لمحطة ‪ NDTV‬الهندية التي‬ ‫تمكنت من كشف األسرار التي كنا نعلمها جمي ًعا (‪ )..‬هكذا يتم التجهيز إلطالق صاروخ على يد‬ ‫عناصر حماس من موقع يسكنه مدنيون”‪ ،‬أو مث ًال “مراسل إيطالي يغرد بكذا”‪.‬‬ ‫املضمون البصري والسمعي‪ :‬الصورة والفيديو‬ ‫يدرك جيش العدو اإلسرائيلي جيداً مدى أهمية الصورة في عالم الميديا اليوم‪ ،‬ويستخدمها بحرفي ٍة‬ ‫عالي ٍة إليصال رسائله بأسرع الطرق‪ .‬ويدرك المتفحص للمواد الموجهة للعالم العربي سريعاً أن جهداً كبيراً‬ ‫مبنياً على أحدث نظريات علم النفس يبذل في هذا اإلطار‪ ،‬وال يقل عن ذلك الذي يوجه لصياغة النصوص‬ ‫والعبارات والشعارت اللفظية‪ ،‬وفيما يلي أبرز السمات المستخدمة‪:‬‬ ‫‪ - 1‬اإلنفوغرافيك‪ :‬إن أهم ما يميز الخطاب اإلعالمي اإلسرائيلي الموجه للعرب من الناحية البصرية‬ ‫هو تماشيه مع آخر التطورات في هذا المجال‪ ،‬وعلى وجه التحديد استخدامه طريقة الخالصات‬ ‫البصرية‪ ،‬أو ما يسمى بالرسوم المعلوماتية ‪ info graphics‬وهو مصطلح يطلق على فن تحويل‬ ‫البيانات والمعلومات والمفاهيم المعقدة إلى صور ورسوم يمكن فهمها واستيعابها بسهولة‬ ‫ووضوح وتشويق‪ .‬في الواقع‪ ،‬إن استخدام هذا األسلوب يشير إلى وجود فريق تقني متخصص‬ ‫يساند أدرعي في عمله‪ ،‬حيث يتم اختيار معلومات حساسة تشكل نبض الحدث وحديث اإلعالم‬ ‫المقاوم ليتم تحويلها إلى رسوم بسيطة بهدف دحض االتهامات عن الجيش والحكومة اإلسرائيلية‪.‬‬ ‫حيث نجد مث ًال رسوما تحصي عدد الصواريخ التي تدعي إسرائيل قيام المقاومة الفلسطينية‬ ‫بإطالقها من مراكز مدنية في فترة زمنية معينة (‪ 50‬صاروخاً من المستشفيات‪ 260 ،‬من المدارس‪،‬‬ ‫‪ 160‬من المساجد‪ ،‬إلخ) أو مث ًال إحصاءات بصرية لمساعدات إنسانية تدعي إسرائيل القيام‬ ‫بتسهيل دخولها إلى قطاع غزة المحاصر (‪ 1000‬طن من المواد الطبية‪ 37 ،‬ألف طن من المواد‬ ‫الغذائية‪ ،‬إلخ)‪ ،‬كي يسهل على من يراها استيعابها دون الحاجة إلى قراءة الكثير من النصوص‪.‬‬ ‫ويعتبر اإلنفوغرافيك أحد الوسائل الهامة والفعالة هذه األيام وأكثرها جاذبية لعرض المعلومات‬ ‫خصوصاً عبر الشبكات االجتماعية‪.‬‬ ‫‪ - 2‬الصورة الذهنية لـ “الجيش الذي ال يقهر”‪ :‬يدأب أدرعي على استغالل كل اإلمكانات التي تتيحها‬ ‫مواقع التواصل االجتماعي ومنها (الصورة والفيديو) للتأكيد على خلق صورة ذهنية لدى المتلقي‬ ‫العربي حول جيش العدو اإلسرائيلي “الذي ال يقهر”‪ ،‬ومن ذلك نشره لصور تتميز بجودة ودقة‬ ‫‪172‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫اخلطاب اإلعالمي اإلسرائيلي املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫عالية وبألوان مميزة ألسلحة متنوعة يستخدمها في عملياته العسكرية‪ ،‬كذلك لمقاطع فيديو‬ ‫لبعض هذه العمليات من مواقع يمكن القول أنه من المستحيل لكاميرات وسائل اإلعالم الوصول‬ ‫إليها‪ ،‬كتسجيل لغارة جوية معينة من كاميرا مثبتة على إحدى الطائرات الحربية المشاركة فيها‪،‬‬ ‫أو لعملية مداهمة ليلية موثقة بكاميرا قادرة على التصوير في الظالم‪ ،‬أو حتى لتدريبات عسكرية‬ ‫معينة‪ .‬كذلك نجد صوراً لعناصر جيش الدفاع بهندامهم وعتادهم الكامل‪ ،‬مرفقة بعبارات من‬ ‫قبيل “على أهبة االستعداد للدفاع عن البيت اإلسرائيلي”‪.‬‬ ‫‪ - 3‬صورة “المقاومة الضعيفة”‪ :‬ال يضيع المتحدث باسم جيش العدو فرصة استخدام هذه الميزات‬ ‫البصرية‪ ،‬للقول بأن المقاومة الفلسطينية “ضعيفة وغير قادرة على المواجهة”‪ ،‬من خالل نشر‬ ‫صور لألنفاق المهدمة أو األسلحة المستولى عليها‪ ،‬وفيديوهات لمقار تم تدميرها عقب الغارات‬ ‫الجوية‪.‬‬ ‫‪ - 4‬الخرائط‪ :‬ال أحد يمكنه التكهن بمدى صحة الخرائط التي يتم نشرها على صفحات أدرعي‬ ‫االجتماعية‪ ،‬ولكنها تعكس عم ًال استخباراتياً دقيقاً‪ ،‬يوحي بعلم اسرائيل لكل ما يدور في قطاع‬ ‫غزة من عمل مقاوم‪ .‬حيث تُظهر هذه الخرائط مواقع منصات إطالق الصواريخ ومنازل قادة‬ ‫المقاومة والمخابئ والقواعد القتالية‪ .‬وتريد إسرائيل من خالل نشرها لهذه لخرائط إضعاف‬ ‫عزيمة المقاومين وحثهم على تغيير تكتيكاتهم العسكرية بغية إرباكهم في المعركة‪.‬‬ ‫‪ - 5‬التكبير والتظليل‪ :‬من بين مئات المنشورات التي يراها مستخدمو وسائل التواصل االجتماعي‬ ‫خالل دقائق على صفحاتهم‪ ،‬يعرف جيش الدفاع كيف يلفت انتباههم إلى منشوراته باللجوء إلى‬ ‫صور تحوي نصوصاً قصيرة بخط واضح مع تكبير حجم الكلمات التي يعتقد أنها األكثر أهمية‬ ‫وجذباً للقارئ العربي المستهدف‪ .‬كذلك نجد استخداماً لميزة التظليل (باللون األحمر عادة)‬ ‫لهذه الكلمات‪ ،‬وهي طريقة ترجع أصولها إلى علم اإلعالن والتسويق حيث يدرس المصممون‬ ‫الغرافيكيون هذه التقنية البسيطة لخلق إعالنات فعالة تترك أثراً في ذهن المتلقي‪.‬‬ ‫كيف يتفاعل العرب؟‬ ‫تصلب في التكتيك فيما يخص‬ ‫يعاني الخطاب اإلعالمي العربي من قصور في الرؤية‪ ،‬بشكل عام‪ ،‬ومن‬ ‫ٍ‬ ‫قضية الصراع العربي‪-‬اإلسرائيلي بشكل خاص‪ .‬ويمكن تقسيم هذا الخطاب تبعا لنوع الوسائل اإلعالمية إلى‬ ‫قسمين‪:‬‬ ‫‪ - 1‬الوسائل التقليدية‪ :‬فيما خال استثناءات قليلة جداً‪ ،‬ما يزال يدور في فلك السياسات التقليدية‬ ‫الرامية إلى (تشويه صورة العدو وتشكيل رأي عام عربي معادي)‪ ،‬وهي أهداف ينبغي أن يكون‬ ‫العرب قد حققوها في خطابهم منذ زمن بعيد‪ ،‬إذا ما أخذنا بعين االعتبار العمر الزمني للقضية‬ ‫الفلسطينية‪ .‬إضاف ًة إلى ذلك‪ ،‬فإن هذا الخطاب متأثر بشكل مباشر باألنظمة الحاكمة في هذا‬ ‫البلد أو ذاك‪ ،‬حيث تجده مث ًال‪ :‬خشبياً في سوريا‪ ،‬وموارباً في دول الخليج العربي‪ ،‬ووصولياً في‬ ‫لبنان‪.‬‬ ‫‪ - 2‬اإلعالم الجديد‪ :‬على الرغم من أن هذا النوع يعطي إمكانية أكبر للمبادرات‪ ،‬بعيداً عن القيود‬ ‫‪173‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫اخلطاب اإلعالمي اإلسرائيلي املوجه للعرب عرب الـ ‘نيوميديا’‬

‫السياسية في البلدان أو حتى القيود المتعلقة بالحريات العامة وحرية التعبير عن الرأي‪ ،‬فإن‬ ‫التعاطي العربي مع الخطاب اإلسرائيلي ما يزال في إطار رد الفعل وليس الفعل‪ ،‬وبطرق يمكن‬ ‫وصفها بالفردية والعشوائية‪ ،‬فال يوجد مث ًال منصات تخاطب المواطن العبري بلغته‪ .‬وبالعودة إلى‬ ‫رصد التفاعل العربي مع منشورات جيش الدفاع عبر وسائل هذا النوع من اإلعالم‪ ،‬يمكننا القول‬ ‫أنه ال توجد إحصائية ديموغرافية دقيقة لتوزع المتابعين على مواقع التواصل من ناحية الجغرافيا‬ ‫أو الجنسية‪ ،‬حيث تبقى هكذا أرقام في حوزة مدير الصفحة حصراً‪ ،‬وهي ميزة يوفرها مثال موقع‬ ‫الـ فيسبوك ألصحاب الصفحات حيث يزودهم بتحليالت وبيانات عن متابعيهم من ناحية الجنس‬ ‫والعمر والتوزع المكاني وغيرها‪ .‬إال أن أدرعي يفاخر بتزايد أعداد متابعيه العرب ويصر في‬ ‫إطالالته اإلعالمية أن هذا “دليل مصداقية”‪ ،‬وعلى المقلب اآلخر تظهر دعوات عربية بين الحين‬ ‫واآلخر إللغاء اإلعجاب أو المتابعة‪ ،‬بهدف سحب البساط من تحت أقدام العدو وعدم فتح نافذة‬ ‫له للوصول إلى العقل العربي‪.‬‬ ‫الالفت‪ ،‬أننا ال نجد صفحات اجتماعية مناهضة ذات وزن تعمل على كشف زيف ادعاءات جيش‬ ‫الدفاع عبر وسائل التواصل‪ ،‬على غرار تلك التي ظهرت إبان الحرب السورية‪ ،‬والتي استخدمتها أطراف النزاع‬ ‫للقول بأنّ الطرف اآلخر مضلل‪ ،‬وإنما يتركز تجاوب مستخدمي هذه المواقع على شكل‪:‬‬ ‫ ‪ -‬شتائم للعدو اإلسرائيلي (وتشكل النسبة العظمى من التفاعل)‬ ‫ تعليقات تك ّذب المنشورات‬‫ ‪ -‬دعوات إلى المقاطعة وعدم التطبيع‬ ‫ بعض الروابط لتسجيالت تعود لعمليات عسكرية تقوم بها المقاومة الفلسطينية‬‫ ‪ -‬مشاركة لبعض المنشورات مرفقة بتوجيه االتهام والمسؤولية للعدو اإلسرائيلي عن النتائج الكارثية‬ ‫التي يسببها عدوانه المتكرر‬ ‫أ ّياً يكن نوع التفاعل مع هذه الصفحات‪ ،‬فإنها تساهم بشكل مباشر بزيادة عدد المتابعين من‬ ‫خالل رفع تقييمها من قبل الشركات المشغلة لهذه المواقع‪ ،‬إضافة إلى زيادة عدد مرات الظهور وبالتالي‬ ‫مساعدة العدو في الوصول إلى الهدف الذي أنشأها من أجله‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫مسافات بعيدة ما تزال تفصل العرب عن اللحاق باإلعالم اإلسرائيلي‬ ‫نهاي ًة يشير كل ما سبق إلى أن‬ ‫المخاتل الذي انتقل –متكئاً على وسائل الـ نيوميديا‪ -‬من مرحلة تكوين الرأي العام اإلسرائيلي إلى اختراق‬ ‫الرأي العام العربي في عمقه‪.‬‬

‫‪174‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫محمد زيكار❊‬

‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تتجىل أهمية هذا املوضوع من خالل مدى تأثري حق استعامل القوة وتطبيق القوانني الدولية عىل الواقع الدويل‪،‬‬ ‫وكيف كان الستعامل القوة أو عدم استعاملها آثار سلبية‪ .‬لذلك شكل استخدام القوة العسكرية لحل األزمات‬ ‫إشكالية يف القانون الدويل‪ ،‬ومن بني اإلشكاليات املطروحة حالياً األزمة السورية‪ ،‬حيث تُشكل هذه األزمة تحدياً‬ ‫كبرياً للمجتمع الدويل للوقوف أمام مسؤولياته بوقف الجرائم واالنتهاكات بحق الشعب السوري‪ ،‬بخاصة أنه‬ ‫يف حال كانت الحكومة غري قادرة أو غري راغبة يف حامية شعبها تنتقل املسؤولية إىل املجتمع الدويل‪ .‬وقد أفرد‬ ‫ميثاق األمم املتحدة وسائل وأساليب ملواجهة األزمات والنزعات التي تهدد السلم واألمن الدوليني‪ ،‬فام هو‬ ‫نصيب األزمة السورية من تطبيق تلك الوسائل واألساليب؟‬

‫❊ ماجستري يف القانون الدويل‪ ،‬وله عدة مقاالت ودراسات منشورة يف صحف ومواقع عربية‪.‬‬

‫‪175‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬

‫متهيد‬ ‫سنحاول من خالل هذه الورقة استعراض وضع األزمة السورية وإشكاليات حلها‪ ،‬واألسانيد القانونية للمجتمع‬ ‫الدولي للتدخل ووضع حد لألزمة من خالل ثالثة محاور في نطاق الشرعية الدولية وميثاق األمم المتحدة‪ ،‬بكونها‬ ‫تمثل طرق حل األزمات التي تعرض السلم واألمن الدوليين للخطر‪ ،‬وباعتبار األزمة السورية تشكل خطر على أمن‬ ‫المنطقة ككل‪ ،‬والحالة اإلنسانية في سورية تجاوزت الكثير من األزمات التي عصفت بالعالم أجمع‪.‬‬ ‫غالباً ما تكون غايات التدخل الظاهرة غايات إنسانية نبيلة مثل حماية المدنيين أو إلنهاء حالة‬ ‫الفوضى القائمة‪ .‬وعلى ذلك نص ميثاق األمم المتحدة على أن أعضاء األمم المتحدة يعهدون إلى مجلس‬ ‫األمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم واألمن الدوليين ويوافقون على أن يعمل المجلس نائباً عنهم‬ ‫في هذا الشأن(‪ .)1‬وقد أفرد الميثاق الفصل السابع منه لبيان مدى تدابير العمل الجماعي التي تدخل في‬ ‫سلطات مجلس األمن والتي تهدف إلى قمع العدوان وإعادة السلم واألمن الدوليين إلى نصابهما‪ ،‬وقد‬ ‫ُعنون هذا الفصل بـ “فيما يتخذ من أعمال في حاالت تهديد السلم واإلخالل به وأعمال العدوان”‪ ،‬وهناك‬ ‫الفصل السادس من الميثاق المعنون بـ “حل المنازعات ح ًال سلمياً”‪.‬‬ ‫الفصل السادس‬ ‫اس ُتخدِم الفصل السادس في األزمة السورية بعد تدويلها ووضع الملف السوري أمام مجلس األمن‪،‬‬ ‫وتقصي الحقائق ووضع مبادرات لحل األزمة ح ًال سلمياً‪ ،‬كان آخرها‬ ‫وتم إرسال أكثر من لجنة للمراقبة‬ ‫ّ‬ ‫مبادرة كوفي عنان ذات النقاط الست‪ ،‬والتي اع ُت ِم َدت لتكون من محاور التفاوض في مؤتمري جنيف ‪1‬‬ ‫وجنيف ‪ ،2‬مدعوم ًة من جامعة الدول العربية واألمم المتحدة‪ ،‬وكانت نهايتها جميعها الفشل‪ ،‬بسبب عدم‬ ‫صدق النوايا لدى الحكومة السورية للوصول إلى ٍّ‬ ‫حل سلمي لألزمة‪ ،‬وتأخر المبادرة من المجتمع الدولي‬ ‫بالعمل الجدي لحل األزمة‪.‬‬ ‫‪176‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬

‫الـمعنون بـ “حل المنازعات ح ًال سلمياً” فإنه يعد من المبادئ‬ ‫و إذا خضنا في غمار الفصل السادس ُ‬ ‫األساسية في القانون الدولي‪ .‬فقد أكدته مؤتمرات السالم التي عقدت في الهاي‪ 1899‬و‪ ،1907‬كما تم ذكره‬ ‫في العديد من االتفاقات الدولية والوثائق المؤسسة للمنظمات الدولية(‪ ،)2‬حيث نصت المادة ‪ 33‬منه على‬ ‫أن على أطراف أي نزاع أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق‬ ‫والتحكيم والتسوية القضائية(‪ .)3‬والجانب الموضوعي لهذا الفصل هو وجوب البحث عن تسوية مبكرة وعادلة‬ ‫للنزاعات الدولية قبل أن تتعقد وتتفاقم بصورة تجعل من الصعب التوصل لتسوية سلمية لها‪ .‬لذلك لم‬ ‫يشكل الفصل السادس طريقاً لحل األزمة السورية في بدايتها‪ ،‬ومع تعقد المسألة وتفاقمها لن ولم يجدي‬ ‫الفصل السادس نفعاً معها بخاصة أن القرارات تحت الفصل السادس غير ملزمة وإنما مجرد توصيات(‪.)4‬‬ ‫الفصل السابع‬ ‫لقد جاءت صيغة استخدام القوة كإجراء قمعي مستندة إلى أحكام الفصل السابع من الميثاق‪،‬‬ ‫لمواجهة حاالت اإلخالل بالسلم واألمن‪ ،‬أو تهديد السلم واألمن‪ ،‬أو ادعاء بحالة من حاالت التدخل اإلنساني‪.‬‬ ‫وال زالت هذه الحاالت جميعها غير مقبولة تماماً ومحل الكثير من الشكوك(‪ .)5‬وقد أوضحت المواد ‪ 41‬و‪42‬‬ ‫من الفصل السابع التدابير التي يمكن لمجلس األمن اتخاذها إلعادة السلم واألمن الدوليين إلى نصابهما‪.‬‬ ‫حيث تنقسم إلى التدابير غير العسكرية والتدابير العسكرية‪ ،‬وتكون القرارات تحت هذا الفصل ملزم ًة سواء‬ ‫قبلت الدولة المعنية به أم رفضت‪.‬‬ ‫على مستوى األزمة السورية‪ ،‬وحسب المادة ‪ 41‬من الفصل السابع‪ ،‬تم فرض عقوبات وقطع صالت‬ ‫مع سورية‪ ،‬لكن كانت هذه القرارات مفردة من دول معينة‪ ،‬ولم يصدر قرار من مجلس األمن يلزم الجميع‬ ‫بها‪ ،‬بخاصة أن البعثة السورية لدى األمم المتحدة مازالت متواجدة على رأس عملها‪ ،‬ومازالت هنالك‬ ‫عالقات دبلوماسية مع المجتمع الدولي‪ ،‬وطرق المواصالت والمطارات مازالت فعالة‪.‬‬ ‫وقد نصت المادة ‪ 41‬على التدابير التي تتخذ في هذه األوضاع‪ ،‬حيث يجوز أن يكون من بينها‬ ‫وقف الصالت االقتصادية والمواصالت الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية والالسلكية وغيرها من‬ ‫وسائل المواصالت وقفاً جزئياً أو كلياً وقطع العالقات الدبلوماسية(‪ .)6‬هذه المادة ال تتطلب استخدام القوة‬ ‫لتنفيذ القرارات الصادرة بقطع الصالت االقتصادية وطرق المواصالت وغيرها‪ ،‬وهي عموماً تكون مقدمة‬ ‫الستخدام القوة المتمثل بالمادة ‪ 42‬من الفصل السابع‪ .‬ومن التطبيقات لهذه المادة‪ :‬مواجهة أزمة الخليج‬ ‫الثانية الناجمة عن غزو العراق للكويت حين أصدر مجلس األمن القرار ‪ 661‬في ‪ 1990‬والذي فرض عقوبات‬ ‫اقتصادية ومالية ضد العراق وألحقها بالقرار رقم ‪ 670‬في ‪ 1990‬الذي مد تطبيق الجزاءات على جميع وسائل‬ ‫النقل بما فيها الطائرات (‪ .)7‬وكذلك القرار رقم ‪ 1737‬في ‪ 2006‬الصادر من مجلس األمن في مواجهة أزمة‬ ‫البرنامج النووي اإليراني والذي تم االتفاق من خالله على “أن تتخذ جميع الدول التدابير الضرورية للحيلولة‬ ‫دون توريد أو بيع أو نقل جميع األصناف والمواد والسلع التي تساهم في أنشطة إيران النووية”(‪.)8‬‬ ‫في األزمة السورية لم يتم اتخاذ أي قرار حتى اآلن تحت الفصل السابع يبيح التدخل العسكري‬ ‫ضد النظام السوري (وإنْ كان قد اس ُتخدِم ضد التنظيمات اإلرهابية)‪ ،‬أو يلزم أي طرف من األطراف بوقف‬ ‫االنتهاكات الحاصلة بسبب حق النقض (الفيتو) الذي استخدمته روسيا والصين أربع مرات على مشاريع‬ ‫‪177‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬

‫قرارات إلدانة وتحميل النظام السوري مسؤولية انتهاكات حقوق اإلنسان والقانون الدولي‪.‬‬ ‫وبرأينا فإن النظام القانوني الدولي يخضع الزدواجية معايير مفضوحة‪ .‬ففي حين عطلت روسيا‬ ‫والصين تفعيل القانون الدولي فيما يخص األزمة السورية‪ ،‬فإن الفيتو األمريكي عطل في كثير من األحيان‬ ‫حاالت تج ّلى بوضوح فيها تهديد للسلم واألمن الدوليين‪ .‬حيث استخدمت الواليات المتحدة حق النقض‬ ‫داخل مجلس األمن ‪ 87‬مرة منها ‪ 41‬مرة بخصوص قرارات إلدانة إسرائيل ولدعم الحقوق العربية(‪ .)9‬لكن‬ ‫المصلحة البحتة هي ما تحكم تعطيل تطبيق القوانين الدولية‪ ،‬كما أن المصلحة البحتة هي ما تف ّعل هذه‬ ‫القوانين الدولية أيضاً‪ ،‬ولهذا فليس غريباً ما يحدث من فيتو روسي‪-‬صيني (من مبدأ عدم التدخل بالشؤون‬ ‫الداخلية للدول حسب تعبيرها)‪.‬‬ ‫علماً أن التحالف الدولي الذي ُشكِل لضرب داعش في العراق وسورية يعتبر خرقاً للسيادة السورية‪،‬‬ ‫ألنه لم يتم التعاون والتنسيق مع القيادة السورية (بعكس تصريحات النظام الذي يقول أنه تم التنسيق‬ ‫نصت على أنه “إذا رأى‬ ‫معه) لدخول األجواء السورية وضرب مقرات داعش‪ .‬وبالرجوع إلى مادة ‪ 42‬التي ّ‬ ‫مجلس األمن أن التدابير المنصوص عليها في المادة ‪ 41‬ال تفي بالغرض‪ ،‬أو ثبت أنها لم تف به‪ ،‬جاز له أن‬ ‫يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من األعمال ما يلزم لحفظ السلم واألمن الدولي أو إلعادته‬ ‫إلى نصابه”(‪ .)10‬حيث يقوم مجلس األمن بتفعيل هذه المادة‪ ،‬إذا تبين عدم فعالية أو ضعف أثر المادة ‪41‬‬ ‫السابقة الذكر‪ -‬كما يمكن العمل وفق المادة ‪ 42‬مباشر ًة دون اللجوء إلى المادة ‪ 41‬بخصوص التدابير غير‬‫العسكرية‪ .‬وكل هذا يرجع الى سلطة مجلس األمن وتقرير ما يراه مالئماً للحالة المعروضة‪.‬‬ ‫ومن تطبيقات هذا الوضع ما حصل في الحالة الليبية‪ .‬فنتيجة لما تم رصده من انتهاكات جسيمة‬ ‫لحقوق االنسان وللقانون الدولي االنساني‪ ،‬واعتبارها تهديداً للسلم واألمن الدوليين‪ ،‬حسب ماجاء في‬ ‫ديباجة قرار مجلس األمن رقم ‪ 1970‬لعام ‪ 2011‬فقد تم اعتبار تلك األفعال المسوغ أو الحجة القانونية‬ ‫لوضع ليبيا تحت الفصل السابع واتخاذ بداي ًة بعض التدابير غير العسكرية تحت الفصل السابع‪ .‬وقد تبع‬ ‫ذلك إصدار القرار رقم ‪ 1973‬لعام ‪ ،2011‬وذلك لعجز التدابير غير العسكرية عن وقف االنتهاكات‪ ،‬حيث‬ ‫نص القرار األخير “على حماية المدنيين الليبين وفرض منطقة حظر طيران على األراضي الليبية مع استبعاد‬ ‫أي قوة احتالل لألراضي الليبية”(‪.)11‬‬ ‫أما ما يحدث اآلن من ضربات جوية للتحالف الدولي‪ ،‬الذي شكلته أمريكا مع بعض الدول العربية‬ ‫واألوروبية لضرب مواقع لتنظيم داعش في العراق وسورية‪ ،‬فإنه يتم دون تفويض مجلس األمن‪ ،‬ويعد‬ ‫ٌ‬ ‫مخالف لميثاق األمم‪.‬هذا في حين برر األمريكان هذا التدخل بأنه تحت‬ ‫انتهاكاً للسيادة السورية‪ ،‬أي أنه‬ ‫نطاق المادة ‪ 51‬من ميثاق األمم المتحدة‪ ،‬والتي تسمح بتدخل عسكري في حال وجود “تهديد وشيك‬ ‫وفعلي‪ ،‬وبشكل فردي”‪ ،‬والذي ترجمته اإلدارة األمريكية بهذا الشكل على إثر مقتل الصحفيين األمريكيين‬ ‫على يد تنظيم داعش‪ .‬لذلك يجب عدم الخلط بين التدخل تحت مظلة مجلس األمن والشرعية الدولية‬ ‫(وهو موضوع الدراسة)‪ ،‬وبين التحالفات الفردية التي تتم دون تفويض من مجلس األمن والمجتمع الدولي‪.‬‬ ‫مواقف املعارضة السورية‬ ‫أما على مستوى مواقف الساسة السوريين‪ ،‬فإننا نجد تباين في المواقف‪ ،‬ألن المعارضة كانت‬ ‫‪178‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬

‫منقسمة من موضوع التدخل العسكري في سوريا‪ .‬حيث منذ بداية تشكيل المجلس الوطني المعارض دعا‬ ‫لتدخل عسكري دولي أو أمريكي للقضاء على النظام برأيهم على غرار النموذج الليبي‪ ،‬وكذلك االئتالف‬ ‫المعارض اتخذ نفس رؤية المجلس الوطني من التدخل الدولي‪ .‬في حين اتخذت فصائل من المعارضة‬ ‫موقفا مغايراً‪ ،‬مثل هيئة التنسيق الوطنية التي رفضت منذ بداية تشكيلها أي تدخل دولي وخاصة العسكري‬ ‫في الحالة السورية‪ ،‬واعتبرت أنه سيكون غزو للدولة السورية وسيسقط الدولة ومؤسساتها ولن يسقط‬ ‫النظام‪ ،‬وبأنه يخالف مبدأ السيادة وعدم التدخل الواردة في ميثاق األمم‪ .‬كما تعمل هيئة التنسيق على‬ ‫إصدار قرار من مجلس األمن بوضع جميع المقاتلين غير السوريين إن كان في صف النظام أو المعارضة‬ ‫خارج الشرعية الدولية‪.‬‬ ‫جدير بالذكر أن استخدام القوة المسلحة أو العسكرية وتحت مبدأ التدخل اإلنساني‪ ،‬وإن كان‬ ‫بتفويض من األمم المتحدة وتتوفر له المشروعية القانونية بموجب الفصل السابع‪ ،‬تظل مشروعيته محاط ًة‬ ‫بالشكوك‪ ،‬حتى وإن كانت تستهدف وقف معاناة إنسانية وتتصدى النتهاكات حقوق اإلنسان‪ .‬ففقهاء‬ ‫القانون الدولي مثل البروفسور رايان جودمان من جامعة هارفرد يرى تناقضاً في الربط بين اصطالح‬ ‫‘التدخل’ و‘اإلنساني’ الذي يستخدم كغطاء للغزو العسكري االستباقي‪ .‬بينما يرى المستشار القانوني لألمم‬ ‫المتحدة جيفري روبرتسون عكس هذا الرأي إذ يقول بإمكانية استخدام الحق المباح في القانون الدولي‬ ‫لمساعدة المدنيين العزل وإن كان هذا الحق مقيداً ومشروطاً(‪ .)12‬وقد أوضحت محكمة العدل الدولية‬ ‫أن استخدام القوة ليس أسلوباً مناسباً من أجل ضمان احترام حقوق اإلنسان من قبل الدول وليس هنالك‬ ‫تناسب بين استخدام القوة وبين العمل من اجل احترام الحقوق األساسية للدول(‪.)13‬‬ ‫هل يستطيع اجملتمع الدويل التدخل ضد النظام السوري‬ ‫خارج نطاق جملس االمن؟‬ ‫في محاولة التخلص من اآلثار المترتبة على عدم استطاعة مجلس األمن ممارسة سلطاته في اتخاذ‬ ‫قرارات في المسائل المتعلقة باألمن والسلم الدولي بسبب إساءة استخدام حق النقض (الفيتو) من قبل‬ ‫الدول دائمة العضوية‪ ،‬أصدرت الجمعية العامة القرار ‪ 377‬في عام ‪ 1950‬وهو الذي يعرف بقرار ‘االتحاد‬ ‫من أجل السالم’ وهو يضمن أحكاماً تهدف إلى دعم سلطات الجمعية العامة في ميدان مواجهة األزمات‬ ‫والمشكالت الدولية وااللتفاف على مجلس األمن وحق النقض‪ .‬فمن خالل هذا القرار يمكن وضع حد‬ ‫لجرائم اإلبادة الجماعية والجرائم ضد اإلنسانية الحاصلة في سوريا من قبل المجتمع الدولي‪ ،‬كما يمكن‬ ‫تحويل ملف سورية إلى المحكمة الجنائية الدولية‪ .‬لكن أياً من ذلك لم يتم‪ .‬وللعلم فبقوة هذا القرار‬ ‫تم التدخل في كوريا ‪ ،1950‬وبمثله ُأجبرت إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على االنسحاب الكامل إثر عدوان‬ ‫السويس ‪ .1956‬وجدير بالذكر أن قرار االتحاد من أجل السالم قد ُأصدر لتفادي التع ّنت الروسي في حق‬ ‫النقض داخل مجلس األمن بخصوص األزمة الكورية‪ ،‬وقد صدر بناء على اقتراح أمريكي للتدخل المباشر في‬ ‫الحرب الكورية‪.‬‬ ‫بالمحصلة لدينا عدة وسائل في القانون الدولي للعمل إلحالل السلم واألمن في األزمة السورية‬ ‫باعتبارها تمثل تهديداً للسلم واألمن‪ .‬لكن ما يعيق المجتمع الدولي من التدخل بالدرجة األولى هو الفيتو‬ ‫‪179‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫إشكالية التدخل الدويل يف سوريا‬

‫المزدوج الروسي‪-‬الصيني في مجلس األمن‪ ،‬وغياب اإلرادة الدولية لوضع حد للحرب الدائرة في سوريا على‬ ‫مستوى قرار ‘االتحاد من أجل السالم’ في الجمعية العامة‪ .‬كما نالحظ أن متابعة المجتمع الدولي وتعامله‬ ‫لما يحصل في سوريا يعد جريمة ضد اإلنسانية لكونه تعامل معها ليس كأزمة إنسانية وإنما كمصالح‬ ‫وتحالفات ورسم مشاريع وتقسيمات في المنطقة وتحويل الصراع إلى حرب على اإلرهاب‪ .‬حتى أن فعالية‬ ‫األمم المتحدة وقدرتها على تحقيق أهدافها ظلت ضعيفة من الناحية العملية منذ تأسيسها‪ ،‬حيث بقيت‬ ‫إرادتها مرهونة بإرادة الدول الكبرى والمحصلة النهائية إلرادة الطرف األقوى‪ .‬وقد برزت طلبات عديدة في‬ ‫أروقة األمم المتحدة تدعو إلى إصالح بنية هذه المنظمة لتكون تعبيراً حقيقيا عن حال اليوم(‪.)14‬‬ ‫خامتة‬ ‫نهاي ًة إن القانون الدولي لم يتم وضعه إال لخدمة الدول العظمى حتى تحافظ على وجودها وهيمنتها‬ ‫ومصالحها على امتداد الكرة األرضية‪ .‬كما أن التدخالت العسكرية الدولية وحدها ال تحقق االستقرار‪ ،‬وبدون‬ ‫رؤية لحل سياسي فإن الفوضى ستكون سيدة الموقف بعد التدخل‪ ،‬والحالة الليبية ماثلة أمامنا حيث‬ ‫الفوضى والتنازع بين الميليشيات المسلحة وانعدام الدولة بعد ثالث سنوات من التدخل العسكري للناتو‪.‬‬ ‫كما أن التدخل لضرب اإلرهاب‪ ،‬والتغاضي عن األسباب الرئيسية التي سهلت وجود اإلرهاب في المنطقة‪،‬‬ ‫جريمة أخرى بحد ذاتها‪ .‬وعلى ذلك من الضروري إيجاد حل لوقف رحى الحرب الدائرة في سوريا‪ ،‬والتي‬ ‫تحولت من أزمة داخلية إلى صراع أقطاب أممي على مناطق نفوذ وهيمنة بين الدول الكبرى‪ ،‬ما سمح‬ ‫لإلرهاب بالتفشي في الجسد السوري‪ .‬وبالمحصلة فإن المجتمع الدولي إلى اآلن لم يقف أمام مسؤوليته‬ ‫مما يجري في سوريا بسبب لهثه وراء مصالحه والتغاضي عما يحل باإلنسان والدولة السورية‪.‬‬

‫املراجع والهوامش‬

‫‪ .1‬املادة ‪ 24‬من ميثاق األمم املتحدة‪.‬‬ ‫‪ .2‬د‪.‬إبراهيم العناين‪ .‬النظام الدويل يف مواجهة االزمات والكوارث‪ .‬الطبعة الثالثة‪ .‬دار النهضة العربية‪.‬‬ ‫‪ .3‬املادة ‪ 33‬من ميثاق األمم املتحدة‪.‬‬ ‫‪ .4‬د‪.‬إبراهيم العناين‪ .‬النظام الدويل يف مواجهة األزمات والكوارث‪ .‬الطبعة الثالثة‪ .‬دار النهضة العربية‪.‬‬ ‫‪ .5‬د‪.‬أحمد أبو الوفا‪ .‬القانون الدويل اإلنساين‪ .‬الطبعة األوىل‪ .‬املجلس األعىل للثقافة‪.‬‬ ‫‪ .6‬املادة ‪ 41‬من ميثاق األمم املتحدة‪.‬‬ ‫‪ .7‬القراران رقم ‪ 670 - 661‬لعام ‪ 1990‬الصادران عن مجلس األمن بخصوص العراق‪.‬‬ ‫‪ .8‬القرار رقم ‪ 1737‬لعام ‪ 2006‬الصادر عن مجلس االمن بخصوص العقوبات عىل إيران‪.‬‬ ‫‪ .9‬د‪ .‬نعوم تشومسيك‪ .‬السيطرة عىل اإلعالم‪.‬‬ ‫‪ .10‬املادة ‪ 42‬من ميثاق األمم املتحدة‪.‬‬ ‫‪ .11‬القراران رقم ‪ 1970‬و‪ 1973‬لعام ‪ 2011‬الصادران عن مجلس األمن بخصوص ليبيا‪.‬‬ ‫‪ .12‬صحيفة األيام العدد ‪ 8028‬عام ‪.2011‬‬ ‫‪ .13‬غسان الجندي‪ .‬حق التدخل اإلنساين‪ .‬عامن‪ .‬دار وائل للنرش‪.2003 .‬‬ ‫‪ .14‬مجيب الرحمن عبيد‪ .‬مستقبل األمم املتحدة يف ظل هيمنة القطب الواحد‪ .‬مركز البحوث واملعلومات‪ .‬قراءات سياسية‪ .‬العدد ‪ 10‬أبريل ‪.2003‬‬

‫‪180‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية‬ ‫للطفل السوري (اجلزء الثاين)❊❊‬

‫ياسمين حسين عيود❊‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫يهدف البحث إىل تعرف محددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري وإىل تحديد املهام واإلجراءات املنوطة‬ ‫باألرسة لتعزيز هذه الهوية وأكرث هذه العوامل تأثرياً يف تشكيل شخصية الطفل املستقبلية وتأصيل الهوية‬ ‫الثقافية‪ ،‬إضافة إىل إبراز دور الرتبية والتعليم يف تدعيم الهوية الثقافية والحفاظ عليها من خالل تقديم بعض‬ ‫املقرتحات واإلجراءات حول ذلك‪ .‬وقد توصل البحث من خالل إجراءاته إىل أن املحددات الثقافية األكرث تأثرياً يف‬ ‫إطار األرسة هي كاآليت‪ :‬الرتبية األخالقية املمثلة ملالمح املجتمع‪ ،‬األغاين الرتاثية‪ ،‬اللغة األم (العربية أو أي لغة‬ ‫أخرى يتحدث بها السوريون من رسيان وأرمن وآشور وأكراد)‪ ،‬القصص والحكايا الرتاثية‪ ،‬الحرف والصناعات‬ ‫اليدوية‪ ،‬طقوس االحتفاالت واألعياد واألعراس‪.‬أما املحددات الثقافية األكرث تأثرياً يف إطار املؤسسات التعليمية‬ ‫(الروضة‪ ،‬املدرسة) هي كاآليت‪ :‬التنوع الثقايف والتعددية يف محتوي املناهج وأنشطة التعليم والتعلم‪ ،‬ترسيخ‬ ‫مشاعر االعتزاز بالرتاث الثقايف السوري لدى األطفال‪ ،‬ترسيخ الشعور الوطني يف وجدان األطفال بالتأكيد عىل‬ ‫أهمية دراسة التاريخ املشرتك‪ ،‬تزويد األطفال مبعلومات وتجارب وخربات أصيلة عن الدول األخرى بثقافاتها‬ ‫املتنوعة‪ ،‬وجود منهج معارص يخص باالهتامم منهج اللغة العربية‪ ،‬الربامج الالصفية واملشاركة يف األعياد الوطنية‪.‬‬ ‫وقد خلص البحث إىل التأكيد عىل ربط الطفل بهويته الثقافية ولغته األم‪ ،‬والرتبية عىل االنفتاح وتقبل اآلخر يف‬ ‫األرسة واملؤسسة التعليمية‪.‬تقدم املادة الحالية توطئ ًة نظري ًة ملحددات تشكيل الهوية ومنهج البحث‪ ،‬عىل أن‬ ‫تتلوها أجزاء تنرش تباعاً يف األعداد القادمة من املجلة‪.‬‬ ‫❊ باحثة ومدربة معتمد يف املجال الرتبوي والحقوقي‪ ،‬مع تجربة واسعة يف اإلدارة والتعليم الحكومي الجامعي واملدريس‪ .‬حاصلة عىل ماجستري يف تربية‬ ‫الطفل‪ ،‬دبلوم الدراما يف سياق تعلمي‪ ،‬دبلوم إدارة املوارد البرشية‪ ،‬وتحرض حالياً لدرجة الدكتوراه‪ .‬لديها العديد من األبحاث واملقاالت املنشورة‪.‬‬ ‫❊❊ تم إعداد هذه الدراسة يف سياق نشاط ملؤسسة ‘اتجاهات’ للثقافة املستقلة‪.‬‬

‫‪181‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫أوال ً ‪ -‬مكونات الهوية الثقافية يف اجملتمع العربي‬ ‫إن الهوية الثقافية تتكون من عدة عناصر مرتبطة ببعضها‪ ،‬وأي خلل في أحدها يؤدي إلى خلل في‬ ‫باقي مكوناتها‪ ،‬ومن أبرز هذه المكونات (موسى‪ ،2010 ،‬ص‪:(15-13‬‬ ‫اللغة‪:‬‬ ‫تعد اللغة المكون األول والرئيس في الهوية الثقافية‪ ،‬فهي حياة أي أمة وبدايتها ونهايتها‪ ،‬ألن اللغة‬ ‫في أي مجتمع ليست مجرد كلمات وألفاظ للتفاهم بين أفراد المجتمع‪ ،‬ولكنها وعاء يحوي مكونات عقلية‬ ‫ووجدانية ومعتقدات وخصوصيات هذا المجتمع‪ ،‬وبالتالي فالحفاظ على اللغة يعني ضمان بقاء واستمرارية‬ ‫أي مجتمع‪.‬‬ ‫فاللغة جزء ال يتجزأ من ماهية الفرد وهويته‪ ،‬كما أنها تتغلغل في الكيان االجتماعي والحضاري ألي‬ ‫مجتمع بشري‪ ،‬وتنفذ إلي جميع نواحي الحياة فيه؛ ألنها من أهم مقومات وحدة الشعوب‪ .‬وقد أشارت‬ ‫منظمة اليونسكو على لسان مديرها إلى أهمية الحفاظ على اللغات الخاصة بالمجتمعات حيث قال‪:‬‬ ‫“إن اللغات هي من المقومات الجوهرية لهوية األفراد والجماعات‪ ،‬وعنصر أساسي في تعايشهم السلمي‪،‬‬ ‫كما أنها عامل ‏استراتيجي للتقدم نحو التنمية المستدامة‪ ،‬وللربط السلس بين القضايا العالمية والقضايا‬ ‫المحلية‪...‬فتعدد اللغات هو ‏الوسيلة الوحيدة التي تضمن لجميع اللغات إيجاد متسع لها في عالمنا الذي‬ ‫‪182‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫تسوده العولمة‪ ،‬لذلك تدعو اليونسكو الحكومات وهيئات األمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني‬ ‫والمؤسسات التعليمية والجمعيات ‏المهنية وجميع الجهات المعنية األخرى إلى مضاعفة أنشطتها الرامية‬ ‫إلى ضمان احترام وتعزيز وحماية جميع اللغات‪ ،‬وال ‏سيما اللغات المهددة‪ ،‬وذلك في جميع مجاالت الحياة‬ ‫الفردية والجماعية”‪.‬‬ ‫إذاً فالعالقة بين اللغة وبين الهوية الثقافية عالقة قوية ال تنفصم‪ ،‬ولهذا كان من أهم مقاييس رقي‬ ‫األمم مقدار عنايتها بلغتها تعليماً ونشراً وتيسيراً لصعوباتها‪ ،‬ونظراً لألهمية القصوى للغة العربية‪ ،‬وكونها‬ ‫عنصراً رئيساً من عناصر الهوية الثقافية‪ ،‬تعرضت لحمالت كثيرة للقضاء عليها؛ بغرض القضاء على الهوية‬ ‫الثقافية‪ ،‬وقد أشار العقاد إلى تلك الحمالت بقوله‪“ :‬الحملة على لغتنا الفصحى حملة على كل شيء يعنينا‪،‬‬ ‫وعلى كل تقليد من التقاليد االجتماعية والدينية‪ ،‬وعلى اللسان والفكر والضمير في ضربة واحدة؛ ألن زوال‬ ‫اللغة في أكثر األمم يبقيها بجميع مقوماتها غير ألفاظها‪ ،‬ولكن زوال اللغة العربية ال يبقي للعربي قواماً‬ ‫يميزه في سائر األمم‪ ،‬وال يعصمه أن يذوب في غمار األمم‪ ،‬فال تبقي له باقية”‪.‬‬ ‫وفي ظل العولمة ازداد ما تتعرض له اللغة العربية من محاوالت تذويبها والقضاء عليها‪ ،‬حتى صار‬ ‫الشباب يتفاخر بتناقل األلفاظ والمصطلحات بلغات أجنبية‪ ،‬وصارت أسماء المحال التجارية تكتب باللغات‬ ‫األجنبية‪ ،‬وغيرها من السلوكيات التي تنبئ بخطورة األمر‪ ،‬بخاصة في ظل االنفتاح اإلعالمي والثورة الهائلة‬ ‫في عالم االتصاالت‪.‬‬ ‫الديـن‪:‬‬ ‫يعد الدين المكون األول لهويتنا الثقافية في المجتمع العربي‪ ،‬ألنه هو الذي يحدد لألمة فلسفتها‬ ‫األساسية عن سر الحياة وغاية الوجود‪ ،‬كما يجيب عن األسئلة الخالدة التي فرضت نفسها على اإلنسان في‬ ‫كل زمان ومكان‪ .‬فللتعاليم الدينية تأثيرها العميق والشامل في هويتنا الثقافية‪ ،‬كما أن التوحيد بمعناه‬ ‫الشامل يمثل أبرز مالمح هذه الهوية‪ .‬والتدين هنا ال يعني ممارسة الشعائر الدينية وحدها‪ ،‬بل هو موقف‬ ‫من ثوابت كثيرة‪ ،‬منها ما يرتبط باألسرة وكيفية تكوينها بشكل صحيح‪ ،‬فهذا مكون رئيسي من مكونات‬ ‫الهوية الثقافية‪ ،‬ومنها ما يرتبط بالمنهج العلمي الذي اعتمد على العقل والوحي بشكل متوازن‪ ،‬وهذا يمثل‬ ‫أيضا ملمحاً من مالمح هويتنا الثقافية (موسى‪ ،2010 ،‬ص‪.)14‬‬ ‫وقد أشار كثير من مفكري وفالسفة الغرب إلي أهمية العناية بالجانب الديني قبل أية جوانب أخرى‪،‬‬ ‫فمث ًال يقول وليم جيمس‪“ :‬اإليمان بالله هو الذي يجعل للحياة قيمة‪ ،‬وهو الذي يمكننا من أن نستخرج‬ ‫من الحياة كل ما فيها من لذة وسعادة‪ ،‬وهو الذي يجعلنا نتحمل كل ما في الحياة من محن‪ ،‬ونتقبلها‬ ‫بكثير من الشجاعة والرضا‪ ،‬وهو الذي يهيئ لنا كل ما هو ضرورة لحياة وادعة”‪.‬‬ ‫التـاريخ‪:‬‬ ‫ال يمكن ألية أمة أن تشعر بوجودها بين األمم إال عن طريق تاريخها الذي يمثل أحد قسمات‬ ‫هويتها‪ .‬فالتاريخ هو السجل الثابت لماضي األمة وديوان مفاخرها وذكرياتها‪ ،‬وهو آمالها وأمانيها‪ ،‬بل هو‬ ‫الذي يميز الجماعات البشرية بعضها عن بعض‪ .‬فكل الذين يشتركون في ماض واحد يعتزون ويفخرون‬ ‫‪183‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫بمآثره يكونون أبناء أمة واحدة‪ ،‬فالتاريخ المشترك عنصر مهم من عناصر المحافظة على الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫وعلى ذلك يكون طمس تاريخ األمة أو تشويهه أو االلتفاف عليه هو أحد الوسائل الناجحة إلخفاء هويتها‬ ‫أو تهميشها‪.‬‬ ‫وهذا معناه أننا اآلن بحاجة إلي نهضة فكرية وثقافية لمحاربة األساليب الجديدة التي تعمل علي‬ ‫محو ذاكرة التاريخ‪ ،‬مثل ما يسمى بمشروع الشرق األوسط الجديد‪ ،‬وما يعنيه من محاوالت إلحداث‬ ‫تغييرات في الهيكل التنظيمي للمنطقة العربية‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلي تقويض إمكانية بناء نظام عربي‬ ‫جديد‪ .‬ولعل هذا التاريخ المجيد هو الذي يكمن وراء محاوالت الغرب طمس معالم الهوية العربية‬ ‫واإلسالمية‪ ،‬ومن األهمية أن يتوفر للعرب وعي علمي بتاريخ مجتمعهم العربي وتطوره ودينامياته‪ ،‬وقوانينه‬ ‫النوعية‪ ،‬بما يعينهم على تأصيل هويتهم‪ ،‬ومعرفة المالبسات التاريخية لحدودها (المرجع السابق‪ ،‬ص‪.)15‬‬ ‫ولهذا البد من االهتمام بتطوير مناهج تعليم التاريخ‪ ،‬فبدالً من أن تركز بشكل رئيس على عرض‬ ‫التاريخ في شكل حروب وصراعات وخالفات‪ ،‬البد من االهتمام بعصور السالم واالزدهار والرقي والتطورات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬والحديث عن تأثير كبار المفكرين والفالسفة العرب والمسلمين مثل ابن رشد‪ ،‬وابن سينا‪،‬‬ ‫والفارابي‪ ،‬وابن النفيس‪ ،‬والخوارزمي وغيرهم كثير ممن أثروا الحياة الفكرية وأسهموا في إحداث التقدم‬ ‫واالزدهار الحضاري للمجتمع العربي واإلسالمي‪ ،‬باإلضافة إلى اإلشارة لدور المرأة في المجتمعات عبر‬ ‫العصور المختلفة‪.‬‬ ‫فكل هذا يمكن أن يسهم بدور كبير في تأصيل الهوية الثقافية‪ ،‬بل والمحافظة عليها من األخطار‬ ‫التي تواجهها‪ ،‬خاصة وأننا في عصر العولمة التي يمكن أن تكون أحد العوامل التي أدت إلي حدوث أزمة‬ ‫في الهوية الثقافية العربية‪.‬‬

‫ثانيًا ‪ -‬العوامل املؤثرة يف تكوين الهوية الثقافية‬ ‫األسرة‬ ‫ينعكس أثر البنية الثقافية لألسرة بأوضاعها االقتصادية واالجتماعية والثقافية والدينية والترويحية على‬ ‫الطفل كونها أساس تكوينه وبناء ثقافته األولى التي تعزز لديه مفاهيم أولية صحيحة ذات دالالت واضحة‬ ‫عما حوله‪ ،‬والتي تتأثر إلى حد كبير بدرجة ثقافة األسرة ومستوى الوعي بها‪ ،‬والبيئة المحيطة سواء أكانت‬ ‫صحراوية أم ريفية أو حضرية‪ ،‬وكذلك مستوى المجتمع الذي يعيش فيه الطفل‪ ،‬وما إذا كان مجتمعاً‬ ‫متقدماً أو متخلفاً ليس بالمفهوم االقتصادي فقط‪ ،‬بل بالمفهوم الثقافي أيضاً‪.‬‬ ‫فاألسرة هي الوحدة االجتماعية األولى لتنشئة الطفل حيث تشبع حاجاته البيولوجية والنفسية‬ ‫وتتدرج معه إلى أن يصبح قادراً على التوافق مع مطالب المجتمع وقيمه‪ ،‬فهي األداة الوحيدة تقريباً التي‬ ‫تمد الطفل بالمهارات واالتجاهات والقيم السائدة في مجتمعه‪ ،‬ومنها يستطيع تمييز الصواب عن الخطأ‪،‬‬ ‫حيث يرى بستالوزي أن “األسرة هي مصدر كل تربية صحيحة يتأثر بها الطفل” (الطائي‪ ،2011 ،‬ص ‪.)36‬‬ ‫واألسرة كمنظمة اجتماعية تتميز عن المنظمات األخرى ببعض الخصائص التي تجعل منها نظاماً‬ ‫اجتماعياً مستق ًال ذا صفات فريدة‪ ،‬ويمكن تلخيص أسباب احتفاظ األسرة بدورها الرئيسي في التنشئة‬ ‫‪184‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫االجتماعية للطفل فيما يأتي (عبد الرزاق‪ ،2004 ،‬ص‪:)116‬‬ ‫ • األسرة هي المؤسسة األولى التي ينشأ فيها الطفل وهي التي تشكل طبيعته االجتماعية وتشكل‬ ‫أفكاره وبناء شخصيته‪.‬‬ ‫ • هي حجر الزاوية في البناء االجتماعي فإذا صلحت األسرة صلحت بقية النظم االجتماعية في‬ ‫المجتمع‪.‬‬ ‫• هي المؤسسة األولى التي تنقل للطفل الميراث الثقافي للمجتمع‪.‬‬ ‫ويمكن لألسرة أن تقوم بدورها في تشكيل الهوية الثقافية للطفل من خالل اآلتي‪:‬‬ ‫• إعداد األطفال ألن يكونوا مواطنين صالحين متمسكين بعقيدتهم‪.‬‬ ‫ • اغتنام كل فرصة للحديث المباشر مع األبناء حول مقومات الوطن من لغة وتاريخ وجغرافية‬ ‫مشتركة‪ ،‬وتنشئة األبناء على العادات الصحيحة للمواطن المخلص لوطنه‪ ،‬واحترام قواعد‬ ‫وأنظمة األمن والسالمة‪ ،‬وأن يبينوا لهم باألمثلة والشواهد المقربة إلى عقولهم بأن هذه‬ ‫األنظمة والقوانين إنما وضعت لحفظ سالمتنا والحفاظ على مصالحنا وحقوقنا ولتيسير شؤوننا‬ ‫الحياتية‪.‬‬ ‫• غرس حب الوطن في نفوس األطفال ليزدادوا اعتزازاً به مع العمل من أجل تقدمه‪.‬‬ ‫ • التعريف بصروح الوطن وتراثه الثقافي بأخذ األطفال في جوالت تشمل المواقع التاريخية‬ ‫والتراثية‪ ،‬مع سرد القصص حول كل موقع منها‪.‬‬ ‫ • تعزيز ثقافة الحوار والمشاركة وبث روح التسامح مع االختالف في نفسه‪.‬‬ ‫وحسب (أبوفودة‪ )2007،‬فلألسرة دور في إكساب الطفل االنتماء لوطنه‪ ،‬وتقدير المصلحة العامة‪،‬‬ ‫والعمل بروح الفريق‪ ،‬وتحمل المسؤولية‪ ،‬واتباع األساليب العقالنية في الحوار‪ ،‬وتأدية الواجبات والتمسك‬ ‫بالحقوق ومبادئ العدالة االجتماعية وممارسة النقد والمشاركة في الحوار‪.‬‬ ‫املؤسسات التعليمية (الروضة واملدرسة)‪:‬‬ ‫تعد الروضة والمدرسة بمختلف مراحلها وصوالً للجامعة‪ ،‬بمختلف اختصاصاتها‪ ،‬من المؤسسات التي‬ ‫أنشأها المجتمع من أجل استمرارية تراثه والحفاظ على هويته الثقافية وتربية أبنائه وإعدادهم للحياة‬ ‫االجتماعية والمشاركة فيها بكفاءة وفعالية‪ ،‬لذا ال يمكن اعتبارها مؤسسات ذات انكفاء ذاتي بل هي جز ٌء‬ ‫من النسق الممثل للمجتمع بتنوعه‪ ،‬وأي تغيير في النظم االجتماعية البد أن ينعكس عليها‪ .‬فالتغير في‬ ‫النظام االقتصادي أو السياسي ال بد أن يؤثر على فلسفة المدرسة وأهدافها ومناهجها وطرائقها‪ ،‬وأي تغير‬ ‫في النظام التعليمي سيؤثر على النظم األخرى في المجتمع‪.‬‬ ‫وفي إطار النظام العالمي الجديدة (العولمة) ستكون الوظيفة الرئيسة للتعليم هي تكريس القدرة على‬ ‫التكيف مع التغير المستمر ‪ Cope-Ability‬بحيث تتم بسرعة وكفاءة بشكل ال يتعارض مع الهوية الثقافية‪،‬‬ ‫ومن ثم سيصبح على اإلنسان المتعلم أن يكون لديه رؤية عن الصور المختلفة للمستقبل بما يحمله من‬ ‫مشكالت وتحديات‪ ،‬وصور التنظيم االجتماعي واالقتصادي المناسبة لمواجهته (كنعان‪ ،2004 ،‬ص‪.)24‬‬ ‫‪185‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫وإن وظيفة التعليم أيضاً تكمن في تطوير اإلنسان المبدع القادر على التعامل مع التكنولوجيا‬ ‫الحديثة لمواجهة مطالب المستقبل‪ ،‬ومن ثم فال بد للتعليم من التأكيد على مفهوم التعليم الشامل بما‬ ‫يتضمنه من تزاوج التخصصات‪ ،‬وهذا يتطلب الربط بين العلوم الطبيعية والرياضية واإلنسانية فيما يعرف‬ ‫باسم العلوم البينية بدالً من اعتبار كل علم أو مجال وحدة منفصلة (إبراهيم وعبد المنعم‪ ،1999 ،‬ص‪.)139‬‬ ‫وهذا ما يدعم مفهوم النهج الشمولي التكاملي الذي تبنى عليه المناهج الحديثة الذي يعتمد في جوهره‬ ‫منهج الخبرة المتكاملة‪.‬‬

‫‪ -1‬رياض األطفال‪:‬‬

‫إن للسنوات الخمس األولى من عمر الطفل أهمية كبرى في تكوين األساس الذي تبنى عليه جميع‬ ‫الخصائص الشخصية الالحقة‪ ،‬ففيها يتم تشكيل خطوط الشخصية الرئيسية للطفل ووضع البذور األولى‬ ‫لهويته الثقافية واالجتماعية‪ ،‬وغرس القيم والمبادئ والتقاليد‪ .‬ولألطفال في كل مجتمع مفردات لغوية‬ ‫ومعايير وطرائق خاصة في اللعب وأساليب خاصة في التعبير عن أنفسهم وإشباع حاجاتهم‪ .‬ومن هنا‬ ‫برز االهتمام بدور الحضانة ورياض األطفال كونها أول اتصال اجتماعي حقيقي ومنظم للطفل مع العالم‬ ‫الخارجي‪.‬‬ ‫ومن العوامل التي ساهمت في ظهور دور الحضانة ورياض األطفال‪ :‬استكمال المرأة لتعليمها‬ ‫وخروجها إلى ميدان العمل‪ ،‬وضيق المساحات المخصصة للعب في الشقق السكنية حيث ال يتاح للطفل‬ ‫البحث واالستكشاف والتجريب‪.‬‬ ‫بالطبع لن تحل الروضة محل البيت ألن االطفال ال يقضون فيها إال ساعات محدودة‪ ،‬إال أنها توفر‬ ‫لهم‪ ،‬باإلضافة إلى جماعة الرفاق‪ ،‬أول فرصة للمشاركة والتعاون واالستكشاف خارج بيوتهم بعيداً عن مراقبة‬ ‫األمهات‪ ،‬وتعمل رياض األطفال على تصحيح الكثير من األخطاء التي يقع فيها األهل وتعوض الطفل مما‬ ‫يحرم منه بالضرورة من خالل أهدافها التي تنشد إلى تحقيقها (هاشم‪ ،2006 ،‬ص‪:)32-31‬‬ ‫ • التنمية الشاملة والمتكاملة لكل طفل في المجاالت العقلية والجسمية والحركية واالنفعالية‬ ‫واالجتماعية والخلقية مع األخذ بعين االعتبار الفروق الفردية في القدرات واالستعدادات‬ ‫والمستويات النمائية‪.‬‬ ‫• تنمية روح االنتماء والوالء للوطن وربطه بهوية مجتمعه الثقافية والوطنية‪.‬‬ ‫ • التنشئة االجتماعية والصحية والسليمة في ظل قيم المجتمع ومبادئه وأهدافه‪.‬‬ ‫ • تنمية مهارات الطفل اللغوية والقدرية والفنية من خالل األنشطة الفردية والجماعية وإنماء‬ ‫القدرة على التفكير والتخيل‪.‬‬ ‫• تلبية حاجات ومطالب النمو الخاصة بهذه المرحلة من العمر لتمكين الطفل من تحقيق ذاته‬ ‫ومساعدته على تكوين الشخصية السوية القادرة على التعامل مع المجتمع‪.‬‬ ‫• تهيئة الطفل للحياة المدرسية النظامية في مرحلة التعليم األساسي وذلك عن طريق االنتقال‬ ‫التدريجي من جو األسرة إلى المدرسة‪ ،‬بكل ما يتطلبه ذلك من تعود على النظام‪ ،‬وتكوين‬ ‫‪186‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫عالقات إنسانية مع المعلمة والزمالء‪ ،‬وممارسة أنشطة التعليم التي تتفق واهتمامات الطفل‬ ‫ومعدالت نموه في شتى المجاالت‪.‬‬ ‫• تعويد الطفل على التفاعل مع كل المؤسسات المحيطة ببيئة الروضة‪.‬‬ ‫• توثيق الصلة بين الطفل واألسرة والروضة والمجتمع ككل‪.‬‬ ‫ • تنمية قدرة األطفال على حل المشكالت من خالل تقويمهم الذاتي ألعمالهم واشتراكهم في‬ ‫حل المشكالت بشكل جماعي‪.‬‬ ‫• مساعدة األطفال على تكوين ميول إيجابية وعالقات طيبة مع أقرانهم والبالغين من خالل‬ ‫االشتراك في األعمال الجماعية وتبادل الخدمات فيما بينهم واستخدام التعابير المهذبة في‬ ‫التعبير عن مشاعرهم نحو اآلخرين‪.‬‬ ‫يتبين مما سبق االهتمام الملحوظ بمرحلة رياض األطفال عالمياً ومحلياً اعترافاً وتسليماً بأهمية‬ ‫هذه المرحلة ودورها التأسيسي للمراحل الالحقة‪ ،‬حيث إن التغييرات في المجال االقتصادي واالجتماعي‬ ‫واألسري‪ ،‬وكذلك الوعي بأهمية هذه المرحلة‪ ،‬قد وضعت التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة من األولويات‪.‬‬ ‫وقد ظهر هذا االهتمام لدى المتخصصين في مجال الطفولة فاهتموا بتربية ورعاية وتعليم الطفل في‬ ‫مرحلة ما قبل المدرسة فانعكس ذلك على حياة األسرة عبر تغير الكثير من عاداتها وسلوكياتها بما يناسب‬ ‫طبيعة الطفل وحاجاته وخصائصه النمائية؛ فوضعت البرامج والسياسات واالستراتيجيات للنهوض بواقع‬ ‫هذه المرحلة فكانت لها فلسفتها وأهدافها وبرامجها والمختصين بها بما يكفل تحقيق نتائج إيجابية لكافة‬ ‫العناصر المكونة لها‪.‬‬ ‫مقترحات لغرس االنتماء وتكوين الهوية الثقافية فى مرحلة الطفولة المبكرة‪:‬‬ ‫ • االهتمام بقصص التاريخ والتراث الشعبي لتنمية قيم االنتماء لدى الطفل‪.‬‬ ‫ • استخدام الوسائل التعليمية واألدوات التربوية المستقاة من وحي البيئة واأللوان المميزة لكل‬ ‫ثقافة محلية‪.‬‬ ‫ • تكوين ثقافة شعبية محلية من خالل التركيز على األلعاب واألحاجي واأللغاز الشعبية المستمدة‬ ‫من التراث الشعبي‪.‬‬ ‫ • اعتماد نموذج صورة العلم في محيط الطفل التعليمي وتعريفه بدالالت األلوان المميزة له‬ ‫لغرس قيم االنتماء والوالء للوطن وتعرف رموزه (بدءاً من العلم‪ ،‬الخريطة‪ ،‬النشيد الوطني‪،‬‬ ‫العمالت المحلية‪ ،‬إلخ)‪.‬‬ ‫ • اعتماد نماذج وصور ومجسمات للحيوانات والنباتات المنتشرة في مدينته أو منطقته أوالً‪ ،‬ثم‬ ‫في وطنه باستخدام الخريطة والرسومات المناسبة‪.‬‬ ‫• تكوين وترسيخ القيم والمهارات االجتماعية كالمحبة والتعاون وتقبل االختالف وبث روح‬ ‫التسامح عن طريق المسابقات بأنواعها‪.‬‬ ‫ • الزيارات والرحالت الميدانية لمختلف المعالم والمناطق األثرية والمتاحف والحدائق العامة‪.‬‬ ‫‪187‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫‪ -2‬المدرسة‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫للتربية الدور الرائد في ترميم التصدع الذي أصاب عملية بناء الهوية القومية إزاء الضغوط المتراكبة‬ ‫للعولمة وخاصة الثقافية منها‪ ،‬من خالل وضع خطوط أساسية لتربية الهوية الثقافية تكون حاضنتها األساسية‬ ‫المدرسة‪ ،‬وتستجيب من خاللها لتحوالت الهوية بفعل ضغوط العولمة الثقافية‪.‬‬ ‫فقد تطور مفهوم المدرسة في العالم العربي من التعليم‪ ،‬إلى التربية والتعليم‪ ،‬بمعنى أن تكون‬ ‫المدرسة مصدر مفاهيم وقيم وثقافة المجتمع إضافة إلى دورها التعليمي‪ .‬لكن هذا المفهوم لم يتحقق‬ ‫بصورته المأمولة إما ألسباب تتعلق بالرؤية الثقافية والتربوية المفترضة للمدرسة أو ألسباب مادية كقلة‬ ‫اإلمكانيات أو ضعفها أو ألسباب فنية وإدارية كتأهيل المدرس ومستواه وأسلوبه التعليمي (سليمان‪،2006 ،‬‬ ‫ص‪ .)45‬ويمكن أن تعمل المدرسة على تشكيل الهوية الثقافية للطفل من خالل تربية األطفال على السالم‪.‬‬ ‫وتهدف التربية على السالم بصفة عامة إلى تعليم القواعد الضرورية للعالقة المنسجمة والسليمة بين األمم‬ ‫والناس على اختالف مشاربهم‪ ،‬وتشجيع االحترام الكامل لحقوق اإلنسان وحرياته‪ ،‬واحترام الحق في التطور‬ ‫والتنمية‪ ،‬واحترام حرية أي فرد في التعبير‪ ،‬والحصول على المعلومات والتفاوض من أجل حسم الصراعات‪،‬‬ ‫والتمسك بمبادئ الحرية والعدالة والتسامح والتعاون والتعدد الثقافي والحوار (عرابي‪ ،2000 ،‬ص‪ .)34‬كما‬ ‫يمكن للمدرسة أن تعمل على ترسيخ قيم الوطنية والمواطنة من خالل‪:‬‬ ‫ • المناخ المدرسي والمقررات الدراسية‪ ،‬وأسلوب وأداء المعلم‪ ،‬وطرائق التدريس واألنشطة‬ ‫المدرسية‪ .‬حيث ينبغي تهيئة المناخ المدرسي المناسب الذي يسمح بتعلم وتدريس مفاهيم‬ ‫التربية الوطنية‪ ،‬ويتيح المجال لمشاركة األطفال والمعلمين في األنشطة المختلفة‪ ،‬فالعمل‬ ‫الجماعي والتعاون يسهل العملية التعليمية التي يقوم بها المعلمون‪ ،‬وتزداد فاعليتهم وأداؤهم‬ ‫عندما تتوفر مختلف لوازم التعليم‪ ،‬وتقدم اإلمكانات المختلفة‪ ،‬وتنفتح المدرسة على الخارج‪.‬‬ ‫ولقد ُوجد أن المدرسة التي تسود فيها مبادئ االحترام المتبادل لآلراء والذات الفردية‪ ،‬وترسخ‬ ‫العالقات اإلنسانية اإليجابية وغيرها‪ ،‬تؤدي إلى ترسيخ قيم التماسك االجتماعي وانتماء ووالء‬ ‫الفرد لوطنه (إسماعيل‪.)2006 ،‬‬ ‫ • أن تهتم المقررات الدراسية‪ ،‬وخاصة مقررات الدراسات االجتماعية والنصوص والقراءة والتعبير‪،‬‬ ‫بإكساب األطفال الهوية الوطنية‪ ،‬وتؤكد فيها على ارتباط الطفل بوطنه أرضاً وتاريخاً وأمة‪،‬‬ ‫وتستثير لديه مشاعر الفخر باالنتساب لوطنه وتغذي فيه االستعداد للتضحية في سبيله بالنفس‬ ‫والنفيس‪ ،‬وأن تكون هذه المقررات ذات تأثير إيجابي نحو االنتماء‪.‬‬ ‫ • من أجل تعليم ناجح للمواطنة يجب االهتمام بالمعلم الذي ال يزال عنصراً فعاالً في العملية‬ ‫التعليمية‪ ،‬ليس باعتباره حام ًال للمعرفة التي يجب أن يكتسبها الطالب عن وطنهم وقضاياه‪،‬‬ ‫بل ألنه يمثل نموذجاً للمواطن الذي سوف يحتذي به الطالب في طريقهم ليكونوا مواطنين‬ ‫صالحين (الدوسري‪.)2008 ،‬‬ ‫ • ضرورة تنويع أساليب وطرائق تعليم التربية الوطنية لتشمل برامج تدريبية‪ ،‬وورشاً للعصف‬ ‫الذهني والتوعية وزيارات ميدانية‪ .‬ويجب التركيز على هذه الزيارات الميدانية والرحالت ألن‬ ‫تعليم الوطنية والمواطنة ال يتحقق على النحو األمثل إال في المواقف العملية‪ ،‬ومن خالل‬ ‫‪188‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫عالقة المدرسة بمختلف مؤسسات المجتمع المدني والبيئة الخارجية‪ .‬فهناك ميادين كثيرة‬ ‫إذا استغلت بشكل جيد من المدرسة أمكن رفع أداء المعلمين والطالب مثل االشتراك في‬ ‫األندية الرياضية واالجتماعية‪ ،‬واالنتخاب والترشيح‪ ،‬والمشاركة في حماية البيئة والمحافظة‬ ‫عليها وغيرها (مازن‪ ،2008 ،‬ص‪.)5‬‬ ‫وأخيراً إذا كان تعزيز الهوية الثقافية هو مهمة مؤسسات وقطاعات متعددة‪ ،‬فإن هناك قطاعات‬ ‫بعينها لها الدور األكبر‪ ،‬وفي مقدمة هذه القطاعات قطاع التعليم الذي يمكنه القيام بدور كبير في مجال‬ ‫تعزيز الهوية الثقافية‪ .‬فالتعليم منوط به تربية النشء‪ ،‬وغرس القيم في عقولهم وقلوبهم منذ سنوات‬ ‫أعمارهم األولى‪ ،‬فض ًال عن دوره في دعم قيم الوالء واالنتماء‪ ،‬وبالتالي له دوره الكبير في مجال تعزيز‬ ‫الهوية الثقافية وترسيخ ثوابتها ودعائمها األساسية‪.‬‬ ‫إذاً سيعتمد هذا الحل على إستراتيجية تربوية‪ ،‬وهذه اإلستراتيجية تعتمد على مبدأين أساسيين‬ ‫هما (المحروقي‪ ،2004 ،‬ص‪ :)182‬أن تسعى التربية إلى تأكيد الهوية العربية بثوابتها ومكوناتها وأبعادها‬ ‫المختلفة وتحصينها ضد محاوالت السيطرة والهيمنة‪ ،‬وأن تؤكد التربية على تعزيز التفاعل اإليجابي مع‬ ‫معطيات الثقافات األخرى‪ ،‬بحيث يقوم هذا التفاعل على الندية والتأثير المتبادل‪ ،‬واإلفادة من عناصر التميز‬ ‫في ثقافة اآلخر دون انبهار أو ذوبان‪.‬‬ ‫دور العبـادة‪:‬‬ ‫تقوم دور العبادة بدور فعال في تربية الطفل وتشكيل شخصيته االجتماعية والثقافية حيث تقوم‬ ‫على تعليم الفرد والجماعة التعاليم والمعايير الدينية التي تمد الفرد بإطار سلوكي ومعياري‪ ،‬وتنمية الصغير‬ ‫وتوحيد السلوك االجتماعي‪ .‬ويتلخص دور ُدور العبادة فيما يلي (طعيمة‪ ،2000 ،‬ص‪:)54‬‬ ‫ • تعليم الفرد والجماعة التعاليم الدينية السماوية التي تحكم السلوك بما يتضمن سعادة الفرد‬ ‫والمجتمع‪.‬‬ ‫• الدعوة إلى ترجمة التعاليم السماوية إلى سلوك عملي‪.‬‬ ‫اض عنه يعمل في إطاره‪.‬‬ ‫• إمداد الطفل بإطار سلوكي معياري ر ِ‬ ‫• إكساب الطفل قيماً واتجاهات ومعارف دينية واجتماعية وخلقية وثقافية متنوعة‪.‬‬ ‫ • تنمية الضمير لدى الطفل الفرد والجماعة‪.‬‬ ‫ • توحيد السلوك االجتماعي والتقريب بين مختلف الطبقات االجتماعية‪.‬‬ ‫• بث روح التسامح وتقبل اآلخر واالبتعاد عن التعصب أو كره المختلف‪.‬‬ ‫وتتبع دور العبادة األساليب النفسية واالجتماعية في غرس قيمها الدينية التي لها كبير األثر في‬ ‫التنشئة االجتماعية للطفل مثل التكرار واإلقناع والدعوة إلى المشاركة الجماعية‪ ،‬وعرض النماذج السلوكية‬ ‫المثالية‪ ،‬واإلرشاد العملي‪ ،‬والقصص والحكايا‪.‬‬ ‫ومما سبق نرى كثافة وخطورة االختراق الثقافي الذي يتعرض له نسق القيم والثقافة بصفة عامة في‬ ‫المجتمع العربي‪ ،‬وعدم مقدرة المؤسسات التربوية التقليدية كاألسرة والمدرسة –وفق صيغ أدائها الحالية–‬ ‫‪189‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫على حماية الهوية الثقافية واألمن الثقافي للمجتمع‪ ،‬واإليفاء بحاجات أفراده من القيم والرموز والمعايير‬ ‫والمرجعيات التي أصبحت تُصاغ خارج حدود الثقافة الوطنية‪ ،‬األمر الذي ترتب عليه مساس باألمن الثقافي‬ ‫ومكونات الهوية‪ ،‬بحيث صارت المؤسسات التربوية والتعليمية واإلعالمية –بشكلها التقليدي الحالي‪ -‬غير‬ ‫قادرة على القيام بوظائفها للحفاظ على الهوية الثقافية‪.‬‬ ‫اإلعالم‪:‬‬ ‫لإلعالم أهمية كبرى على مستوى الفرد واألسرة والمجتمع والدولة واألمة والعالم‪ ،‬وفي جميع مرافق‬ ‫الحياة اإلنسانية؛ التربوية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والصحية‪ ،‬واالقتصادية‪ ،‬والسياسية‪ .‬وتتمثل إحدى وظائفه‬ ‫األساسية في تدعيم اإلحساس بالمواطنة واالنتماء والرغبة في المشاركة في بناء الوطن واإلسهام في تشكيل‬ ‫الهوية بأبعادها الفردية والجماعية والثقافية والوطنية ومحاولة خلق وعي عام لدى الجماهير بأهمية‬ ‫االكتفاء الذاتي واالعتماد على النفس (نادي‪ ،2012،‬ص‪ )14‬بخاصة وأن‪:‬‬ ‫• وسائل اإلعالم جزء رئيسي في حياتنا اليومية‪.‬‬ ‫ • أقوى أدوات االتصال العصرية التي تعين الفرد على معايشة العصر‪.‬‬ ‫ • ترجمة التوجهات االجتماعية بمختلف االتجاهات الفكرية وتفعيل الحراك السياسي والمشهد‬ ‫الثقافي والنتاج الفكري واالبداعي‪.‬‬ ‫• التأثير على القضايا السياسية واالقصادية والثقافية والفكرية‪.‬‬ ‫ • العلم بما يجري في العالم من أخبار وأحداث وتطورات والتفاعل معها‪.‬‬ ‫ • التبادل الثقافي والحضاري والمعرفي بين الدول والشعوب والتفاعل فيما بينها‪.‬‬ ‫ • بناء القناعات واالتجاهات والمعتقدات عند األفراد والجماعات‪.‬‬ ‫وتؤثر وسائل اإلعالم على الطفل بشكل مباشر خاصة عندما تكون الرسالة جديدة كلياً عليه او تحوي‬ ‫كم كبير من اإلثارة والتشويق‪ .‬لكن األشيع أن يكون تأثرها تراكمياً؛ فحين يتعرض الطفل لرسائل متقاربة‬ ‫في أزمنة مختلفة‪ ،‬وبشكل متدرج‪ ،‬ومن خالل أكثر من صورة وطريقة يرسخ في نفسه تماماً األفعال‬ ‫واألقوال التي ذكرت له‪ ،‬خصوصاً مع كثرة إثارة الرسالة وتناولها بين األطفال أنفسهم “هل شاهدت البرنامج‬ ‫الفالني؟”‪ ،‬أو “ما أطرف الشخص الفالني”‪ ،‬أو “لقد أعجبني البطل الفالني”‪ .‬وهكذا تتأصل الرسالة من خالل‬ ‫التناول الجماعي لها أيضاً من قبل األطفال‪ .‬ويكون هذا التأثير وفق أربعة عوامل (قرني‪ ،2004،‬ص‪:)12‬‬ ‫‪ -1‬نوعية الوسيلة وقوتها ومدى انجذاب الطفل إليها‪ ،‬وهي مرتبة بحسب نسبة تأثيرها كاآلتي‪:‬‬ ‫• السمعية البصرية‪ :‬كالتلفاز والسينما والفيديو وتمثل أعلى ثقل بنسبة ‪70%-60‬‬ ‫ • التفاعلية‪ :‬كألعاب الكمبيوتر وتمثل ثق ًال متوسطاً ‪30%-20‬‬ ‫ • السمعية‪ :‬كاإلذاعة والكاسيت وتمثل ثق ًال متوسطاً ‪% 20-10‬‬ ‫ • البصرية (المقروءة)‪ :‬كالمجالت والكتب والقصص وتمثل ‪20%-10‬‬ ‫‪ -2‬عمر الطفل وخلفيته الثقافية وبيئته االجتماعية‪:‬‬ ‫‪190‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫وهل لدى الطفل حصانة ثقافية؟ وهل البيئة مشجعة؟ وهل الوسيلة منتشرة؟‬ ‫‪ -3‬نوعية الرسالة للطفل من خالل المادة اإلعالمية المقدمة‪:‬‬ ‫وتعتبر هذه أهم قضية فالطفل ‪-‬بالجملة‪ -‬مستقبل جيد لكل ما يرسل له خصوصاً إذا صاحب المادة‬ ‫تشويق وإثارة للطفل‪.‬‬ ‫‪ -4‬الوقت الذي يقضيه مع وسائل اإلعالم والذي قد يصل إلى ‪ 6-5‬ساعات يومياً‬ ‫بتحليل رياضي يمكن القول أن تأثير اإلعالم ‪-‬تربوياً‪ -‬على الطفل يشكل نسبة تقارب ‪ .40%-35‬كما‬ ‫أكدت دراسات عديدة حول واقع إعالم الطفل العربي أن أداء اإلعالم الموجه للطفل ليس على المستوى‬ ‫الذي يمكنه من القيام بدوره في تربية وإعداد الطفل العربي وتثقيفه‪ .‬وإن خطورة التقصير في وسائل‬ ‫اإلعالم العربية تجاه الطفل العربي تكمن في أنها تفتح الباب أمام وسائل اإلعالم والثقافة الغربية‪ ،‬مما‬ ‫يكون له أسوأ األثر في تشكيل شخصية األطفال العرب وقيمهم وعقيدتهم وربطهم بهويتهم الثقافية (عمار‪،‬‬ ‫‪ ،1994‬ص ‪ .)44‬إذ تستورد محطات التلفزيون العربي بين ‪ 60%-40‬من برامجها من الدول الغربية‪ ،‬ويحتل‬ ‫ٍ‬ ‫بخاف على أحد أن المنطقة العربية تعاني من‬ ‫اإلنتاج األمريكي ‪ 80%‬من تلك البرامج المستوردة‪ ،‬وليس‬ ‫التبادل الالمتكافئ إعالمياً فيما يعبر عنه بحالة ‘التبعية اإلعالمية’‪ ،‬ولقد حذر حامد عمار من االنبهار باإلعالم‬ ‫الغربي بصفة عامة واألمريكي بصفة خاصة‪ ،‬وما قد يترتب على ذلك من تمثيل ألفكاره وثقافته ومفاهيمه‪،‬‬ ‫وغيرها من اآلثار السلبية على ثقافتنا القومية (المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.)48‬‬ ‫وكما تبين لدينا تجتمع تلك المؤثرات في ظل واقع إعالمي يعاني من (مجاهد‪:)2001 ،‬‬ ‫• ندرة برامج األطفال في اإلذاعات والتلفزيونات العربية‪.‬‬ ‫• عدم وجود ُم ِع ِّدي برامج أطفال متخصصين‪.‬‬ ‫• ضعف مستوى برامج األطفال ونمطية البرامج واعتمادها غالباً على األغاني‪.‬‬ ‫• االختيار غير الموفق غالباً ألوقات بث برامج األطفال‪.‬‬ ‫ • ما يقارب خمسين قناة تلفزيونية لألطفال في أوربا مقابل خمسة في العالم العربي‪ ،‬إحداهما‬ ‫غربية بالكامل‪ ،‬وثانية كرتون ياباني مدبلج (في الغالب)‪ ،‬وثالثة منوعات سطحية‪ ،‬ورابعة ذات‬ ‫مهنية عالية لكن مع غياب المضمون التربوي‪ ،‬وخامسة محافظة (مشفرة) لكنها متواضعة فنياً‬ ‫ومهنياً‪.‬‬ ‫• ندرة المادة الكرتونية الهادفة المناسبة لألطفال وقلة التشويق واعتماد النمطية‪.‬‬ ‫• ندرة المسرحيات والمنوعات الهادفة والتربوية لألطفال‪.‬‬ ‫• احتواء الكثير من األفالم الغربية على مشاهد ال تليق بالطفل وتؤثر على سلوكه‪.‬‬ ‫ • احتواء بعض أفالم الكرتون الغربية على انحرافات عقائدية‪.‬‬ ‫ • غياب البعد األخالقي في كافة ما يعرض من أفالم الكرتون الغربية وانتشار العنف وثقافته في‬ ‫أغلب الكرتون‪.‬‬ ‫ومما سبق يرى أن اإلعالم العربي يواجه تحديات كبرى في ظل العولمة الثقافية اليتم وقف اختراقها‬ ‫‪191‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫حمددات تشكيل الهوية الثقافية للطفل السوري‬

‫إال من خالل الحفاظ على القيم الذاتية‪ ،‬الثقافية الوطنية وتعزيزها‪ ،‬وإن كان هذا ال يمنع من االنفتاح على‬ ‫الثقافات األخرى دون االعتماد على اإلنتاج الثقافي وقبوله دون تمحيص أو نقد‪.‬‬

‫املصادر واملراجع‪:‬‬

‫‪ -1‬أبو فودة‪ ،‬طارق (‪ :)2007‬االنتامء الوطني‪ ،‬منشورات مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -2‬إسامعيل‪ ،‬محمد أحمد (‪ :)2006‬برنامج مقرتح لتفعيل دور أنشطة نادي الطفل لتأصيل الهوية الثقافية ملواجهة التحديثات الحضارية مبراكز إعالم‬ ‫محافظة قناة السويس‪ ،‬مجلة كلية تربية عني شمس‪ ،‬ع ‪ ،30‬ج ‪ ،3‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -3‬الدورسي‪ ،‬نادية (‪ :)2008‬بعض مسؤوليات املدرسة الثانوية تجاه تعزيز الهوية الثقافية لطالبها‪ ،‬مؤمتر مناهج التعليم والهوية الثقافية‪ ،‬جامعة‬ ‫عني شمس‪.‬‬ ‫‪ -4‬سليامن‪ ،‬سمية (‪ :)2006‬املجتمع العريب بني التمسك بالهوية واالندماج العاملي‪ ،‬منشورات املركز العاملي للدراسات وأبحاث الكتاب األخرض‪.‬‬ ‫‪ -5‬طعيمة‪ ،‬رشدي أحمد (‪ :)2000‬الثقافة العربية اإلسالمية بني التأليف والتدريس‪ ،‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -6‬عرايب‪ ،‬محمد عباس(‪ :)2000‬دور األرسة واملدرسة يف تنمية الوطنية واملواطنة يف نفوس األطفال‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -7‬عامر‪ ،‬حامد (‪ :)1994‬أصول اإلنسان ىف ربوع مرص ومؤرشاتها ىف مطلع التسعينات‪ ،‬املؤمتر العلمي السنوي الرابع عرش‪ 13-11‬يوليو‪ ،‬التعليم‬ ‫واإلعالم‪ ،‬رابطة الرتبية الحديثة‪ ،‬القاهرة‪.‬‬ ‫‪ -8‬قرين‪،‬عيل (‪ :)2000‬دور اإلعالم يف بلورة اتجاهات التغري يف قواعد السياسة الدولية يف عرص املعلومات‪ ،‬انعكاسات العوملة السياسية والثقافية عيل‬ ‫الوطن العريب‪ ،‬مركز دراسات الرشق األوسط‪ ،‬األردن‪.‬‬ ‫‪ -9‬كنعان‪ ،‬أحمد (‪ :)2004‬دور الرتبية يف مواجهة العوملة وتحديات القرن الحادي والعرشين وتعزيز الهوية الحضارية واالنتامء لألمة‪ ،‬بحث مقدم إىل‬ ‫ندوة‪ :‬العوملة وأولويات الرتبية‪ ،‬كلية الرتبية جامعة امللك سعود‪.‬‬ ‫‪ -10‬مازن‪ ،‬حسام (‪ :)2008‬هندسة مناهجنا التعليمية يف إطار الهوية الثقافية العربية والتحديات العرصية‪ ،‬مؤمتر “مناهج التعليم والهوية الثقافية”‪،‬‬ ‫جامعة عني شمس‪.‬‬ ‫‪ -11‬مجاهد‪ ،‬محمد إبراهيم (‪ :)2001‬بعض مخاطر العوملة التي تهدد الهوية الثقافية للمجتمع ودور الرتبية يف مواجهتها‪ ،‬مجلة مستقبل الرتبية‬ ‫العربية‪ ،‬مجلد ‪ ،7‬ع ‪.22‬‬ ‫‪ -12‬املحروقي‪ ،‬حمدي (‪ :)2004‬دور الرتبية يف مواجهة تداعيات العوملة عىل الهوية الثقافية‪ ،‬منشورات مركز تطوير التعليم الجامعي‪ ،‬جامعة عني‬ ‫شمس‪.‬‬ ‫‪ -13‬نادي‪ ،‬وليد (‪ :)2012‬دور االعالم ىف تنمية االنتامء لدى الطفل‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة اإلدارة املركزية للدراسات والبحوث‪ ،‬مرص‪.‬‬ ‫‪ -14‬هاشم‪ ،‬شريين عباس (‪ :)2006‬األنشطة العلمية وتنمية مهارات التفكري لطفل الروضة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر العريب‪ ،‬القاهرة‪.‬‬

‫‪192‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي‬

‫من هابرماس إىل نانسي‬

‫رشيد العلوي❊‬

‫فريزر❊‬

‫اخلالصة‪:‬‬ ‫تتوخى هذه املساهمة الوقوف عىل نظرية هابرماس يف الفضاء العمومي أو يف أركيولوجيا العمومية كبعد مؤسس‬ ‫للمجتمع الربجوازي‪ ،‬لرصد بنية هذا الفضاء ووظيفته ووسائل اشتغاله‪ ،‬والدور الذي لعبته يف فهم قضايا العامل املعارص‪،‬‬ ‫مع إبراز حدودها املفرتضة والتي وقفت عليها أساسا الفيلسوفة االمريكية املعارصة نانيس فريزر‪ .‬ال يتعلق األمر‬ ‫هنا باملقاربة بني نظريتني فلسفيتني متعارضتني حول الفضاء العمومي‪ ،‬وإمنا بإبراز وبيان مضمون أطروحة هابرماس‬ ‫والكشف عن تحليله ملبدأ العمومية يف الفكر الفلسفي الحديث واملعارص‪ ،‬وعىل األخص قراءته الجديدة لكانط ونقده‬ ‫ألطروحة حنا أرندت‪ ،‬وبيان مضمون أركيولوجية هابرماس السياسية واالجتامعية يف تحليله لبنيات الفضاء العمومي‬ ‫الربجوازي يف القرنني الثامن عرش والتاسع عرش إلبراز دوره التاريخي يف سريورة التطور االجتامعي واالقتصادي والسيايس‬ ‫للمجتمع الغريب‪ ،‬ثم راهنية التفكري يف مسألة الفضاء العمومي يف زمن العوملة وما تطرحه الدميقراطية الحالية من حدود‬ ‫بعد أزمة دولة الرعاية‪ ،‬وما تفرتضه من تفكري بلغة هابرماس يف الدولة ما بعد الدولة‪-‬األمة (الدولة الوطنية)‪ .‬أما فيام‬ ‫يتعلق بنانيس فريزر فهي مل تضع نظرية يف الفضاء العمومي وإمنا حاولت أن تعيد النظر يف بعض مرتكزات نظرية‬ ‫هابرماس من خالل نقدها للتصور‪/‬اإلطار الويستفايل ‪ Le cadre Westphalien‬الذي يحكمها والذي يعود إىل األسس‬ ‫الوستفالية التي أطرت الدولة الغربية الحديثة‪ ،‬معتربة أن نظرية هابرماس متجاوزة بالنظر إىل متغريات عامل اليوم‬ ‫وما أفرزته العوملة من إعادة النظر يف أسس الدولة‪-‬األمة‪ ،‬ويف النظرية الدميقراطية عامة‪ ،‬انسجاماً ومستجدات الحركة‬ ‫االجتامعية الجديدة وديناميتها العابرة لألمم والحاجة إىل فضاء عمومي ما بعد برجوازي ‪ postbourgeoise‬بديل‪.‬‬ ‫يعود هذا االختيار إىل أن هابرماس ونانيس فريزر عىل حد سواء ينتميان معا إىل املدرسة النقدية (النظرية النقدية)‪ ،‬ما‬ ‫يعني أن السجال بينهام هو ٌ‬ ‫سجال نظري‪-‬معريف يستمد مرشوعيته من التقليد الذي دأب عليه فالسفة ومنظرو املدرسة‬ ‫النقدية منذ تأسيسها‪ .‬وعىل الرغم من أنه سجال مل يتخذ شكالً مبارشاً‪ :‬حوارياً أو تناظرياً إال أنه معلن عنه‪ ،‬وعىل األخص‬ ‫يف العقدين األخريين‪ ،‬حيث دشنه الجيل الثاين والثالث من أجيال مدرسة فرانكفورت مبساهمة كل من‪ :‬ريتشارد روريت‪،‬‬ ‫أكسل هونيت‪ ،‬هابرماس‪ ،‬نانيس فريزر‪ ،‬سيال بن حبيب‪ ،‬وجون مارك فريي‪.‬‬ ‫ ❊ مؤطر تربوي ملادة الفلسفة يف التعليم الثانوي التأهييل‪ ،‬وباحث يف الفلسفة السياسية املعارصة يف الدار البيضاء يف املغرب‪.‬‬ ‫❊❊ نرشت هذه املادة يف موقع ‘مؤمنون بال حدود’‪.‬‬

‫‪193‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫مدخل‬

‫يطرح التفكير في العمومية ‪ la publicité‬العديد من المفارقات واإلشكاالت المرتبطة بالشأن‬ ‫العام‪ ،‬ذلك أن التفكير الفلسفي في تطوره التاريخي يخضع قضايا الوجود البشري وكل أوضاع وشؤون‬ ‫البشر للسؤال‪ ،‬ولعل العمومية كمفهوم متداول بشكل كبير في الفلسفة السياسية (وعلى األخص الفلسفة‬ ‫المعاصرة) يجد مدخله األساس في الترابط الحميمي والالمشروط بين اإلنسان كذات مفكرة وعاملة وفاعلة‬ ‫مع نفسه من جهة‪ ،‬ومع اآلخرين والعالم من جهة أخرى؛ إنه مدخل الشأن الذاتي والجمعي والشأن العام‪،‬‬ ‫الذي يفرض علينا اليوم الوقوف على كل أبعاد العمومية من منظور السياسة ومن منظور الفلسفة‪.‬‬ ‫إذا كانت المدينة‪-‬الدولة ‪ polis‬الشرط الضروري لتحديد اإلنسان‪/‬المواطن عند أرسطو ‪ ،Aristote‬فإن‬ ‫المدينة‪-‬الدولة ذاتها تشترط التمييز بين المجال الخاص ‪ le domaine privé‬والمجال العام ‪le domaine‬‬ ‫‪ public‬وهو الشرط الذي وضعته حنا أرندت ‪ Hannah Arendt‬للتفكير في العمومية ضمن ما أسمته ‪Via‬‬ ‫‪ Activa‬حياة‪-‬فعل بحيث انطلقت من السياسات ‪ les politiques‬ألرسطو لرصد تحوالت البنيات االجتماعية‬ ‫وما رافقها من تحوالت في الفعل السياسي‪ ،‬لفهم العالم الحديث‪.‬‬ ‫يعود الفضل في التفكير في العمومية إلى كانط ‪ Kant‬الذي دافع بقوة عن الجرأة في استعمال‬ ‫العقل‪ ،‬تلك الجرأة التي تفترض الشجاعة واالستقاللية والمسؤولية واإلرادة‪ ،‬ولكن‪ :‬أي استعمال ممكن‬ ‫للعقل؟ يميز كانط ‪ Kant‬بين االستعمال الخاص للعقل واالستعمال العمومي للعقل‪ ،‬وهو التمييز‬ ‫الذي ساهم بشكل كبير في نحت ما سماه هابرماس ‪ Habermas‬بالفضاء العمومي ‪،l’espace public‬‬ ‫ذلك الفضاء الذي يتداخل فيه الفعل السياسي لتأطير الممارسة السياسية بواسطة الدعاية ‪la publicité‬‬ ‫لتوجيه الرأي العام ‪ l’opinion publique‬وجهة العمومية‪ ،‬بالفعل التواصلي‪ ،‬وهنا تصير العمومية معياراً‬ ‫لكل تفكير يحكم أي فعل إنساني في الزمان والمكان‪ ،‬وكل قضية من قضايا الشأن العام‪ :‬العدالة‪ ،‬الحق‪،‬‬ ‫‪194‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫السلطة‪ ،‬القوة‪ ،‬العنف‪ ،‬الواجب‪ ،‬الشرعية‪ ،‬المشروعية‪ ،‬إلخ‪ .‬ومن جهة أخرى الفعل التواصلي وما يفرضه‬ ‫من أخالقيات للمناقشة والتداول من أجل اإلجماع أو التنازع‪ ،‬وما يفرضه هذا من سجال لعل أبرزه بين‬ ‫كارل أوتو أبل ‪ K. Otto Apple‬وهابرماس ‪ ،Habermas‬وكل المساهمات المعاصرة التي أتحفنا بها ليوتار‬ ‫‪ lyotard‬وبول ريكور ‪ P. Ricœur‬ودريدا ‪ J. Derrida‬ونانسي فريزر ‪ Nancy Fraser‬وبيتر سلوتردايك ‪P.‬‬ ‫‪ Sloterdijik‬وريتشارد رورتي ‪ .R. Rorty‬وبهذا المعنى أصبح التفكير في العمومية مشروطاً بالتفكير في‬ ‫الفضاء العمومي الواقعي منه واالفتراضي معاً‪ .‬فمع التحوالت السياسية الجارية اليوم في العالم غدا النقاش‬ ‫ملحاً أكثر مما مضى حول مسألة العمومية وعالقتها بالديمقراطية (سواء في بعدها التمثيلي أو التشاركي أو‬ ‫ما بعد التشاركي كما هو الحال في مساهمة كاستيل مانييل ‪ ،)C. Manuel‬وعالقة هذه األخيرة بالشرعية‬ ‫والمشروعية‪ ،‬وانتها ًء بحضور النقاش الديني في هذا الفضاء العمومي‪.‬‬ ‫تتوخى هذه المساهمة الوقوف على نظرية هابرماس في الفضاء العمومي أو في أركيولوجيا‬ ‫مؤسس للمجتمع البرجوازي‪ ،‬لرصد بنية هذا الفضاء ووظيفته ووسائل اشتغاله‪ ،‬والدور الذي‬ ‫العمومية كبع ٍد‬ ‫ٍ‬ ‫لعبته في فهم قضايا العالم المعاصر‪ ،‬مع إبراز حدودها المفترضة والتي وقفت عليها أساسا الفيلسوفة‬ ‫االمريكية المعاصرة نانسي فريزر‪.‬‬ ‫ال يتعلق األمر هنا بالمقاربة بين نظريتين فلسفيتين متعارضتين حول الفضاء العمومي‪ ،‬وإنما‬ ‫بإبراز وبيان مضمون أطروحة هابرماس والكشف عن تحليله لمبدأ العمومية في الفكر الفلسفي الحديث‬ ‫والمعاصر‪ ،‬وعلى األخص قراءته الجديدة لكانط ونقده ألطروحة حنا أرندت‪ ،‬وبيان مضمون أركيولوجية‬ ‫هابرماس السياسية واالجتماعية في تحليله لبنيات الفضاء العمومي البرجوازي في القرن الثامن عشر‬ ‫والتاسع عشر إلبراز دوره التاريخي في سيرورة التطور االجتماعية واالقتصادي والسياسي للمجتمع الغربي‪،‬‬ ‫ثم راهنية التفكير في مسألة الفضاء العمومي في زمن العولمة وما تطرحه الديمقراطية الحالية من حدود‬ ‫بعد أزمة دولة الرعاية‪ ،‬وما تفترضه من تفكير بلغة هابرماس في الدولة ما بعد الدولة‪-‬األمة (الوطنية)‪.‬‬ ‫أ ّما فيما يتعلق بنانسي فريزر فهي لم تضع نظرية في الفضاء العمومي وإنما حاولت أن تعيد النظر في‬ ‫بعض مرتكزات نظرية هابرماس من خالل نقدها للتصورأو اإلطار الويستفالي الذي يحكمها‪ ،‬والذي يعود‬ ‫إلى األسس الوستفالية التي أطرت الدولة الغربية الحديثة‪ ،‬معتبرة أن نظرية هابرماس متجاوزة بالنظر إلى‬ ‫متغيرات عالم اليوم وما أفرزته العولمة من إعادة النظر في أسسالدولة‪-‬األمة‪ ،‬وفي النظرية الديمقراطية‬ ‫عامة‪ ،‬انسجاماً مع مستجدات الحركة االجتماعية الجديدة وديناميتها العابرة لألمم والحاجة إلى فضاء‬ ‫عمومي ما بعد برجوازي ‪ postbourgeoise‬بديل‪.‬‬ ‫يعو د هذا االختيار إلى أن هابرماس ونانسي فريزر‪ ،‬على حد سواء‪ ،‬ينتميان معا إلى المدرسة النقدية‬ ‫(النظرية النقدية)‪ ،‬ما يعني أن السجال بينهما هو سجال نظري‪-‬معرفي يستمد مشروعيته من التقليد الذي‬ ‫دأب عليه فالسفة ومنظرو المدرسة النقدية منذ تأسيسها‪ .‬وعلى الرغم من أنه سجال لم يتخذ شك ًال مباشراً‪:‬‬ ‫حوارياً أو تناظرياً إال أنه معلن عنه‪ ،‬وعلى األخص في العقدين األخيرين‪ ،‬حيث دشنه الجيل الثاني والثالث‬ ‫من أجيال مدرسة فرانكفورت بمساهمة كل من‪ :‬ريتشارد رورتي‪ ،‬أكسل هونيت‪ ،‬هابرماس‪ ،‬نانسي فريزر‪،‬‬ ‫سيال بن حبيب‪ ،‬وجون مارك فيري‪.‬‬ ‫‪195‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫أوال – الفضاء العمومي الربجوازي عند هابرماس‪:‬‬

‫مع بداية العقد األخير من القرن الماضي تناسل النقاش حول الفضاء العمومي ودوره في بناء‬ ‫الديمقراطية وإعادة النظر في الفعل السياسي‪ .‬ولقد شكلت مساهمة الفيلسوف األلماني المعاصر يورغن‬ ‫هابرماس ‪ Jürgen Habermas‬أولى المساهمات التي دشنها في بداية الستينيات من القرن الماضي‪ .‬وبالنظر‬ ‫إلى ملحاحية النظر في هذا المفهوم من زاوية نظرية‪-‬معرفية من جهة ومن زاوية ممارساتية‪-‬ملموسة من‬ ‫جهة أخرى‪ ،‬ارتأينا أن نقارب هذا المفهوم منطلقين من رؤية هابرماس الذي يعتبر المؤسس الحقيقي‬ ‫للعالقة بين الفضاء العمومي والديمقراطية وذلك من خالل قراءته لكانط ‪ E. Kant‬ولمبدأ العمومية الذي‬ ‫وضعه هذا األخير (االستعمال العمومي للعقل)‪ ،‬ومن رؤية بعض الفالسفة النقديين المعاصرين الذين‬ ‫حاولوا بيان أن رؤية هابرماس ال عالقة لها بالنظرية النقدية التي ينتمي إليها (مدرسة فرانكفورت)‪ ،‬ذلك‬ ‫أن مهمة الفلسفة االجتماعية هي النظر في الواقع كما هو من أجل َت َل ُّمس كافة عناصر الفعل االجتماعي‬ ‫الستشراف المستقبل‪ ،‬وما يعنيه ذلك من كون النظرية النقدية أساس أي بناء فلسفي جديد يروم المساهمة‬ ‫بهذا القدر أو ذاك في بناء رؤية وجودية للواقع وللممارسة االجتماعية خالية من الشطحات الميتافيزيقية‬ ‫والتخيالت واألوهام التي صار العقل المعاصر وكراً لها‪.‬‬ ‫يستمد هابرماس مشروعية خطابه الفلسفي من إرث مدرسة فرانكفورت من جهة‪ ،‬ومن قيمة‬ ‫مساهماته الفلسفية الثاقبة النظر من جهة أخرى‪ ،‬بحيث ال يكاد يفلت من تأثيره كل من ولج عالمه‬ ‫الفلسفي والسياسي من بابه الواسع‪ ،‬على الرغم مما تطرحه بعض أفكاره السياسية حول القضايا العالمية‬ ‫الراهنة من تساؤالت عميقة‪.‬‬ ‫وتكمن جدة مساهمة الفيلسوف النقدي في إعادة نظره في بنية المفاهيم الرائجة آنذاك في حقل‬ ‫الفلسفة السياسية‪ ،‬وعلى األخص تصور حنا أرندت ‪ H. Arendt‬حول مفهوم الميدان العام ‪le demain‬‬ ‫‪ public‬الذي صاغته أواخر الخمسينيات‪ ،‬والسعي وراء بناء تصور بديل وفهم مغاير يأخذ بعين االعتبار‬ ‫متطلبات المرحلة من أجل التأسيس لفعل سياسي ألماني جديد ينسجم ومرحلة ما بعد النازية‪ .‬ويحاول‬ ‫هابرماس في قراءته ألرندت العودة إلى مساهمة الفيلسوف األلماني إيمانويل كانط التي صاغها في كتابه‬ ‫‘صراع الكليات’ ‪ le conflit des faculties‬وفي مقالته الشهيرة جواباً على سؤال‪ :‬ما هي األنوار؟ ‪qu’est-ce‬‬ ‫‪que les lumières‬؟‬ ‫ينطلق هابرماس من واقع ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية‪ ،‬وما تقتضيه الشروط السياسية‬ ‫من التأسيس لمشروع مجتمعي يتجاوز الكوارث التي تسببت فيها النازية‪ ،‬وهي المرحلة التي ُت ْن َع ْت بما‬ ‫بعد النازية‪ ،‬حيث خاض صراعاً مريراً ضد بقايا النازية في الجامعة األلمانية (حرم حتى من التدريس)‪،‬‬ ‫ومساهمة الفالسفة المعاصرين في التنظير للفكر النازي‪ ،‬وعلى األخص مساهمة هايدجر ‪ ،Heidegger‬التي‬ ‫خص لها هابرماس حيزاً كبيراً في إنتاجاته الفلسفية الالحقة‪.‬‬ ‫ينسجم هم هابرماس السياسي مع ميوله الفلسفية والمعرفية بحيث مكنته معاشرته وعمله مع‬ ‫فالسفة الجيل األول لمدرسة فرانكفورت من تقوية ممانعة نقدية للفكر النازي ‘االشتراكية القومية’‪ ،‬وتدخل‬ ‫بشكل مباشر في النضال الطالبي اليساري الذي خبره ونظر له في مرحلة الخمسينيات وعياً منه بأهمية‬ ‫النضال السياسي الذي يقوم به الطالب اليساريون آنذاك في الجامعة‪.‬‬ ‫‪196‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫من الصعوبة اإللمام بكل حيثيات صعود هابرماس وبالسياق العام والخاص الذي جاءت فيه مساهمته‬ ‫في بناء تصور جديد للفضاء العمومي‪ .‬ونكتفي بالقول أن كتابه ‘الفضاء العمومي‪ :‬أركيولوجية العمومية‬ ‫كبعد مؤسس للمجتمع البرجوازي’ الذي نشره سنة ‪ 1962‬هو أطروحة الدكتوراه الثانية التي قدمها سنة‬ ‫‪ 1961‬بجامعة ماربورغ بعد أطروحته االولى حول شيلنج التي أنجزها سنة ‪ 1954‬على شكل بحث ضخم‬ ‫في العلوم السياسية واالجتماعية تناول فيها موضوع األركيولوجيا االجتماعية والتاريخية للرأي العام كنمط‬ ‫من الهيمنة المؤسساتية داخل المجتمعات البرجوازية الحديثة والمعاصرة‪.‬‬ ‫وينتمي هذا الكتاب الى المرحلة األولى من تطور فكر هابرماس الفلسفي والسياسي‪ ،‬أي المرحلة‬ ‫التي احتك فيها بالجيل األول من مدرسة فرانكفورت حيث اشتغل مع أدورنو في نهاية الخمسينيات وتمرس‬ ‫في معهد العلوم االجتماعية‪ ،‬أي مرحلة أعلن فيها هابرماس انتماءه إلى الفلسفة الماركسية من وجهة نظر‬ ‫مدرسة فرانكفورت التي أعادت النظر في الماركسية‪ ،‬وهو األمر الذي أنجزه أيضا هابرماس نفسه في كتابه‬ ‫‘بعد ماركس’ ‪ Après Marx‬من خالل قراءاته الجديدة لفلسفة كانط وهيجل‪ .‬ونشير الى أهمية هذه‬ ‫المرحلة ألن أغلب الدراسات أولت عنايتها للمرحلة الثانية من تطور فكر هابرماس أي مرحلة العقالنية‬ ‫التواصلية التي دشنها في بداية الثمانينات بنظريته حول ‘الفعل التواصلي’‪ ،‬بهدف تجديد النظرية النقدية‪.‬‬ ‫إن التفكير في الفضاء العمومي هو تفكير في الشرط اإلنساني الحديث في أبعاده االجتماعية‬ ‫والسياسية وتحوالته التاريخية‪ ،‬أي تفكير في‪:‬‬ ‫ • اندماج الفرد في المجتمع‬ ‫ • مشاركة الفرد المواطن في الحياة العامة والسياسية‬ ‫• مساهمة الفرد في تعزيز الديمقراطية (السلطة السياسية)‬ ‫وهي العناصر األساسية التي شغلت هابرماس منذ وقت مبكر إلى اآلن‪ ،‬بحيث قدم مساهمات عديدة‬ ‫من أجل تحقيق ذلك االندماج وتلك المشاركة والمساهمة‪.‬‬ ‫تثير الصالت الوثيقة بين الفضاء العمومي والمجتمع المدني إشكاالت سياسية ستقود في الفلسفة‬ ‫السياسية المعاصرة إلى التمييز بين المجال الذي يشمل الدولة ومؤسساتها من جهة؛ وبين الميدان الخاص‬ ‫الذي يتصل بالحياة الشخصية لألفراد وحقوقهم المدنية من جهة أخرى‪ .‬وفي اآلن ذاته فإن بحث مفهوم‬ ‫العمومية يقتضي التسلح بأكثر من مجال معرفي واحد‪ ،‬وقد اقتصر على التاريخ والسوسيولوجيا معتبرا‬ ‫أن مفهوم الفضاء العمومي مفهوم تاريخي ومقولة تاريخية تستوجب البحث في شروط قيامها وتطورها‬ ‫التاريخي‪ ،‬مميزاً في هذا التاريخ بين الفضاء العمومي العامي والفضاء العمومي الذي يستند إلى النخبة‪.‬‬ ‫وقد عمل على تحديد القيمة السياسية والنظرية لهذا المفهوم معاً‪ ،‬وتتبع تطوره في تاريخ الفلسفة‬ ‫مركزاً على االنتعاشة الحقيقية للفضاء العمومي في القرن الثامن عشر بأروبا والذي ساهمت فيه الطبقة‬ ‫الثالثة الصاعدة (الطبقة البرجوازية) وحاجتها إلى هذا الفضاء لتجاوز النظام اإلقطاعي‪ ،‬حيث رصد كل‬ ‫مجاالت االستعمال العمومي للعقل‪ :‬الصالونات‪ ،‬الجرائد والمجالت‪ ،‬النقاشات العمومية المنتشرة آنذاك‬ ‫والمترافقة مع النمو االقتصادي وصعود البرجوازية إلى مستوى اإلنتاج وتطور الرأسمال الصناعي والمالي‪.‬‬ ‫‪197‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫ووقف في اآلن ذاته على كل الحيثيات المتعلقة بنمو العقل العمومي والحاجة إلى أدوات الدعاية‬ ‫التي استعملتها البرجوزاية من أجل توجيه المجتمع وقيادة العقل نحو التحرر من سيطرة الفكر القرسطوي‬ ‫ومخلفاته‪ .‬مبيناً الدور االجتماعي والسياسي للفضاء العمومي في نشر الفكر الليبرالي الصاعد لتعزيز‬ ‫الديمقراطية التمثيلية التي كانت بالفعل في تلك المرحلة نظرية ثورية تستجيب لطموح الطبقة البرجوازية‬ ‫وحاجتها إلى االنعتاق من الفكر الظالمي‪ .‬ففي اقتران ظهور الفضاء العمومي بوالدة الدولة الحديثة وتحديداً‬ ‫مع الثورة الفرنسية‪ ،‬التي أدمجت الطبقة المتوسطة في مناقشة وتدبير قضايا الشأن العام خاصة المشاركة‬ ‫في البرلمان‪ ،‬رد على حنا أرندت التي تؤكد أن والدة الفضاء العمومي تمتد جذورها التاريخية إلى اليونان‪،‬‬ ‫ّإل أن نشأة الفضاء العمومي ت ّمت مع الدولة الحديثة‪.‬‬ ‫‪ –1‬أركيولوجية العمومية‪:‬‬

‫يوظف هابرماس مفهوم األركيولوجيا لرصد داللة مفهوم الفضاء العمومي من جهة‪:‬‬ ‫• تكونه التاريخي‬ ‫• تحوالته المرتبطة بالوضع االقتصادي واالجتماعي والسياسي‬ ‫• وظيفته األساس‪ :‬الحوار‪ ،‬الحجاج‪ ،‬اإلقناع؛ أي دوره التواصلي‬ ‫ • تفاعله مع عناصر البنية العامة للمجتمع البرجوازي‬ ‫ • ارتباطه بالرأي العام‪ ،‬وطرق اشتغاله‪ ،‬واستعمال الجمهور للعقل استعماالً عمومياً كان أم غير‬ ‫عمومي‪ ،‬إ ّما في اتجاه قبول السلطة (االستيالب والخضوع والهيمنة) أو ضد السلطة (القوة‬ ‫المضادة)‪.‬‬ ‫هكذا نم ّيز مع هابرماس بين مفهوم العمومية ومفهوم الدائرة العمومية ‪ sphère publique‬ألن‬ ‫هذه األخيرة هي مجال تشكل الرأي العام النقدي الذي يوظفه الجمهور‪ .‬حيث يقول‪“ :‬إن موضوع الفضاء‬ ‫العمومي هو الجمهور باعتباره حامل رأي عام ذي وظيفة نقدية”‪ .‬فالعمومية تشير في بعض معانيها إلى‬ ‫المؤسسات العمومية الخاضعة لسلطة الدولة‪ .‬فالدولة تس ّير تلك المؤسسات تسييراً بيروقراطياً وتتحكم فيها‬ ‫قانونياً وفق التشريعات السياسية والبرامج الفوقية لضمان وظيفتها المتمثلة في ضمان الخدمة العمومية‬ ‫للمواطنين‪.‬‬ ‫وفي معرض بيانه لداللة مفهوم الفضاء العمومي يبرز هابرماس الفرق بين العمومية ومفهوم الدعاية‬ ‫‪ la publicité‬التي تفيد آلي ًة من آليات التأثير في الرأي العام‪ ،‬التأثير في المعيش وعلى عقول األفراد عبر‬ ‫التحايل والكذب والتغليط وتشويه وتزييف الحقائق عبر وسائل االعالم‪ .‬وتهدف الدولة من الدعاية إلى‬ ‫التحكم السياسي ‪( la manipulation‬أي االستخدام أو التمويه) في المجال العمومي لتحقيق التطابق‬ ‫بين برامج السلطة السياسية (الحكومية) والحاجيات التي يطالب بها الشعب‪ .‬لذلك فالدعاية إذن أداة‬ ‫تستخدمها الدولة الحديثة لتوجيه عقول الناس وصناعتها والتحكم فيها وإفراغها من أي محتوى نقدي‪.‬‬ ‫اتخذ مفهوم الفضاء العمومي دالالت عديدة ومتنوعة نجملها فيما يلي‪:‬‬ ‫‪198‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫ • سياسية‪ :‬أي نمط اجتماع االفراد في المدينة وكيفية تنظيمهم لشؤونهم ولكيفية استعمالهم‬ ‫لمواهبهم الذهنية والجسدية؛‬ ‫• اجتماعية‪ :‬ألنه يمثل مسحا لكل البنيات االجتماعية من جهة مكوناتها ووظائفها وكيفية تفاعل‬ ‫عناصرها؛‬ ‫• اقتصادية‪ :‬ألن الفضاء العمومي هو أيضا مجال لتبادل السلع والبضائع وحل مشكالت التوزيع‪،‬‬ ‫ويشمل مختلف عالقات االنتاج واالستعمال والتبادل ولطبيعة اشتغالها تحررا أم اغترابا (وهو‬ ‫فضاء المجتمع المدني)‬ ‫ • ثقافية‪ :‬ويتعلق األمر هنا باإلنتاجات الرمزية اللغوية واألدبية والفكرية‪ ...‬حيث تتبع هابرماس‬ ‫حركة الصالونات األدبية ودور البرجوازية كأفراد خصوصيين لعبوا أدوارا هامة في الصراع بين‬ ‫الطبقة الثالثة وبقايا االقطاعية‪...‬‬ ‫ • اثيقية‪ :‬فالفضاء العمومي يحتاج إلى توجيه االنسان لذاته فكرا وعمال‪ ،‬وهو ما ليس ممكنا‬ ‫إال بفضل معايير إثيقية معينة سيحددها هابرماس فيما بعد في قواعد أخالقيات المناقشة‪،‬‬ ‫دون أن ننسى حقيقة الفعل اإلنساني من جهة منطلقاته وغاياته وأساليب مداولته مع االخر‬ ‫بخصوص الشأن العام؛‬ ‫ • أنطولوجية‪ :‬وتتعلق بالمجال الذي يوجد فيه الكائن‪ :‬تربة الوجود المشترك من أجل العيش‬ ‫المشترك‪ .‬فوجود الفرد داخل الفضاء العمومي هو وجود الكائن داخل مجال مؤسس على‬ ‫مبادئ ومحكوم بقيم حارسة لإلنسانية‪ .‬والفرد يتمتع في هذا الفضاء بكل حرياته المتاحة‬ ‫والتي تنسجم مع العقل من أجل تنظيم هذا المجال تنظيما محكما يجعله متأرجحا بين‬ ‫المجتمع والدولة‪.‬‬ ‫اهتم هابرماس بالفضاء العمومي بما هو فضاء لقضايا الشأن العام (قضايا التواصل والعالم المعيش)‪،‬‬ ‫ففيه يتم اإلعالن عن المواطنة وير ّبى فيه المواطن (الفرد) عليها ويمارسها كاملة‪ ،‬فال معنى للفضاء العمومي‬ ‫ما لم يكن مجاالً لممارسة المواطنة وللفعل السياسي الديمقراطي المبني على الحوار وتبادل اآلراء وصياغة‬ ‫الرأي العام المضاد للسلطة لبناء قوة مضادة للدولة‪ ،‬فإذا كانت الحركات االجتماعية الجديدة قوة مضادة‬ ‫في وجه السلطة بمختلف أنواعها‪ ،‬فإنها بذلك تسعى إلى بناء سلطة نقيض بمثابة حارس لقيم الكونية‪،‬‬ ‫والمحافظة على كينونة الفرد بما هو كائن اجتماعي وسياسي‪.‬‬ ‫تندرج إشكالية الفضاء العمومي ضمن إشكال العالقة بين الدولة والمجتمع المدني‪ ،‬ألن التفكير‬ ‫في الفضاء العام هو تفكير في الممارسة اإلنسانية وغاياتها في أبعادها السياسية والتاريخية واالجتماعية‪،‬‬ ‫وتفكير في أدوات اندماج الفرد في المجتمع ومشاركته في الحياة االجتماعية وفي الممارسة السياسية‪ ،‬أي‬ ‫في الديمقراطية كفعل‪ ،‬وما تقتضيه من وسائط تواصلية تحتاج إلى أطر أخالقية لتحقيق اإلجماع والتنازل‬ ‫في الرأي‪ .‬وهو ما قاد تفكير هابرماس في النموذج الليبرالي للفضاء العمومي الذي تشكل في المجتمع‬ ‫البرجوازي األوروبي خالل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬حيث تدخلت البرجوازية عبر الدعاية لتنميط‬ ‫الوعي ولتحقيق السيطرة الكليانية على نمط الوجود الفردي من خالل تشكيل وصناعة الرأي العام‪ ،‬وهو‬ ‫‪199‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫األمر الذي انطلق منه كارل ماركس في بحثه لأليديولوجيا كوعي زائف تروم منه البرجوازية السيطرة‬ ‫على العقول‪ ،‬عبر التضليل والدعاية لتحقيق غاياتها وأهدافها االستغاللية‪ .‬فالطبقة المسيطرة في نظر‬ ‫كارل ماركس ال يمكنها أن تحقق مراميها إال باالعتماد على أدوات التعمية والتمويه والتشويه التي تضلل‬ ‫الوعي الفردي‪ ،‬وهكذا ميز ماركس بين أدوات السيطرة والتحكم والهيمنة المادية‪-‬المباشرة والتي يلخصها‬ ‫في كل أشكال القمع المادي‪-‬األيديولوجي‪ ،‬وبين أدوات االحتواء غير المباشرة والرمزية والتي تعمل على‬ ‫إدماج الفرد في المجتمع عبر أدوات التنشئة االجتماعية (األسرة‪ ،‬المدرسة‪ ،‬العمل)‪ ،‬وما تقتضيه التراتبية‬ ‫االجتماعية في المجتمع الطبقي من احترام لقواعد االنضباط العام لضمان استمرارية الحياة االجتماعية‪.‬‬ ‫وتظل تلك األدوات في نظر ماركس محكوم ًة بتوطيد سيطرة الطبقة البرجوازية على أدوات ووسائل االنتاج‬ ‫عبر تدجين قوى االنتاج واستالبها‪ .‬من هنا استخلص هابرماس‪ ،‬كما رأينا مع ماركس‪ ،‬أن التحوالت الكبرى‬ ‫في الفضاء العمومي البرجوازي مرتبطة بتطور عالقات اإلنتاج وأشكال التبادل ووسائل التواصل‪.‬‬ ‫‪ - 2‬منطان من العمومية‪:‬‬ ‫في معرض بحثه عن تحدي ٍد لمضمون العمومية يرصد هابرماس شكلين من أشكال العمومية التي‬ ‫اخترقت المجتمع األوروبي في القرنين ‪ 18‬و‪ ،19‬حيث ميز بين‪:‬‬ ‫ • عمومية نقدية حاملة لرأي عام نقدي‬ ‫ • عمومية دعائية خاضعة لوسائل اإلعالم الرسمية وموجهة من طرف الدولة لكل المواطنين وفق‬ ‫أغراضها‬ ‫ومنه حاول تبرير جملة الخالصات التي توصل إليها في بحثه للعمومية إلى العودة إلى اليونان‬ ‫مشدداً على أن الفصل بين المجال الخاص والمجال العام لم يظهر إال في العصر الحديث‪ ،‬حيث تشكل‬ ‫المجتمع الرأسمالي والطبقة البرجوازية التي نشأت تدريجيا داخل األنظمة القديمة (اإلقطاعية)‪ ،‬وتميزت‬ ‫البرجوازية بدفع الفضاء العمومي إلى الظهور كفضاء سياسي هدفه التحرر من بقايا اإلقطاعية عبر الصراع‬ ‫األيديولوجي في كل المجاالت (الثقافية‪ ،‬الفكرية‪ ،‬الفلسفية‪ ،‬العلمية‪ ،‬االقتصادية)‪ ،‬ويرجع هابرماس ‪-‬كما‬ ‫هو الحال لدى كارل ماركس‪ -‬التطورات الحاصلة على الصعيد األيديولوجي (الدعاية عبر وسائل االعالم) إلى‬ ‫التغيرات الجارية في التجارة الرأسمالية (االقتصاد)‪ :‬أي خضوع البنية الفوقية للبنية التحتية‪ .‬محاوالً استثمار‬ ‫هذه المقاربة لبحث أثر عالقات اإلنتاج‪ ،‬وأشكال التبادل‪ ،‬ووسائل التواصل‪ ،‬في ظهور النمط الليبرالي‬ ‫للفضاء العمومي البرجوازي‪.‬‬ ‫يتوجه هابرماس في تحليله للعمومية إلى نقد فكرة حنا أرندت التي بينت أن إحدى مميزات الحداثة‬ ‫السياسية هي التمييز بين العمومي والخصوصي؛ فكل أنشطة االنسان وممارساته اليومية‪ ،‬كالعمل واألسرة‬ ‫والدولة محددة بانفصال المجال العمومي السياسي عن المجال الخصوصي أي دائرة األسرة‪ .‬إال أنها لم‬ ‫تركز جهدها على المجتمع الرأسمالي األوروبي كما فعل هابرماس‪ ،‬ولم تبحث في مسألة االعالم (الجرائد)‬ ‫ودورها في تداول الشأن العام ومناقشة قضاياه ومشاكله‪ ،‬حيث تؤكد أنه ال وجود للحرية خارج هذا‬ ‫الغياب للفضاء العمومي‪ ،‬ما دامت الحرية هي أساس هذا الفضاء بما هو فضاء عمومي مشترك يتحقق فيه‬ ‫‪200‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫االلتقاء واإلجماع والحرية بواسطة القول والفعل‪ .‬أي أن الفضاء العمومي هو شرط إمكان الحرية والحقيقة‬ ‫ونمط التفكير (خاصة لدى اإلغريق)‪ .‬فاإلغريق بالنسبة لها هم من اكتشف هذا البناء األصيل للفضاء‬ ‫العمومي حيث الدولة‪-‬المدينة (وتحديداً دور األغورا ‪ )l’Agora‬كمركز للقرار وممارسة السلطة السياسية‬ ‫المباشرة‪ ،‬وهنا يتوجب االنتباه أيضاً إلى قوة الحجة واإلقناع الخطابي ألن اإلنسان ال يتحرر إال حينما يمارس‬ ‫ٌ‬ ‫مشروطة باآلخرين وبتواجده في العالم‪.‬‬ ‫السلطة على اآلخرين وحريته‬ ‫وفي تعريفه الدقيق للفضاء العمومي يقول هابرماس‪“ :‬يمكن أن يفهم المجال العمومي البرجوازي‪،‬‬ ‫أوالً وقبل كل شيء‪ ،‬باعتباره مجاالً لمجموعة من الناس الخاصين المجتمعين في شكل جمهور‪ .‬وهؤالء‬ ‫الناس يطالبون بهذا المجال المقنن والمنظم من طرف السلطة‪ ،‬ولكنهم يطالبون به مباشرة ضد السلطة‬ ‫نفسها‪ ،‬لكي يتمكنوا من مناقشتها حول القواعد العامة للتبادل‪ ،‬وحول ميدان تبادل البضائع والعمل‬ ‫االجتماعي‪ ،‬وهو ميدان يبقى خاضعاً بشكل أساسي ولكن أهميته أصبحت ذات طبيعة عمومية”‪ .‬إال أن‬ ‫هذا التعريف يطرح صعوبة أساسية تتعلق بالتناقض الصريح الذي يخترق الدائرة العمومية‪ ،‬والذي يستند‬ ‫إلى أن هذه الدائرة تمثل بنية منظمة من قبل سلطة الدولة التي تتدخل ألجل فرض وضبط قواعد وآليات‬ ‫وبنيات السوق‪ ،‬وتوجيه الرأي العام نحو تحقيق غاياتها الكبرى‪ .‬وفي نفس الوقت تتضمن رأياً يحمله‬ ‫الجمهور ذا وظيفة نقدية كما رأينا سلفاً‪ .‬وإذا صح هذا التمييز بين نمطين من العمومية فبماذا يمكن‬ ‫تفسير تلك االزدواجية؟‬ ‫‪ - 3‬بنية الفضاء العمومي‪ :‬النموذج الليربايل‬ ‫يشدد هابرماس على وجود تعارض بين الدائرة العمومية والدولة‪ .‬ذلك أن الدولة تسعى إلى ضبط‬ ‫العالقات وتطوير وسائل الهيمنة والسيطرة على الرأي العام وتوجيهه نحو أهدافها (موظف ًة كل الترسانة‬ ‫القانونية وكل وسائل الدعاية)‪ ،‬في حين أن دور الفضاء العمومي يقتصر أساساً على نقد آليات السيطرة‬ ‫عمومي قاد ٍر على لعب دور الوساطة حيث يقول‪:‬‬ ‫رأي‬ ‫والهيمنة‪ ،‬معتمداً في ذلك على العقل وحده‪ ،‬لبناء ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫“تلعب اآلراء العمومية دور الوساطة بين حاجات المجتمع والدولة”‪.‬‬ ‫ويعمل هابرماس على بيان هذين النمطين من العمومية من خالل استقصاء الفعل السياسي‪ ،‬مشدداً‬ ‫على أن العمومية في أوروبا القرنين ‪ 18‬و‪ 19‬يخترقها نمطان من الفعل‪:‬‬ ‫ • الفعل السياسي الشرعي والعلني الذي يعبر عن موقف توافقي مع الدولة‪ ،‬والذي يتفادى كل‬ ‫مواجهة بين الدولة والمجتمع المدني‬ ‫ • الفعل السياسي السري وغير القانوني وغير المعترف به من طرف الدولة‪ ،‬وهو فعل مقموع‬ ‫تفسره الماركسية‬ ‫ومضاد لسلطة الدولة ويطالب بتغييرها‪ .‬وهذا التمييز هو الذي حاولت أن ّ‬ ‫بالصراع الطبقي‪ ،‬ألن المواقع االجتماعية واالقتصادية هي التي تحدد طبيعة المصلحة‪ ،‬وتحدد‬ ‫المعايير التي بموجبها يتم االرتقاء االجتماعي‪.‬‬ ‫يخترق الفضاء العمومي نوعان من السلطة‪ :‬السلطة السياسية السائدة والحاكمة‪ ،‬ثم السلطة التي‬ ‫تنبع من الدينامية االجتماعية والسياسية واالقتصادية‪ ،‬أي السلطة غير المعترف بها مؤسساتياً‪ ،‬وال تمثل في‬ ‫‪201‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫المؤسسات الرسمية‪ ،‬ويقصد بها كل أنواع الحركات االجتماعية والسياسية واالقتصادية الكالسيكية‪-‬التقليدية‬ ‫والجديدة‪.‬‬ ‫إذا كانت السلطة السياسية الرسمية تتدخل في الفضاء العمومي بشكل شرعي وقانوني وتنظم‬ ‫المواطنين وتضمن لهم ممارسة حقوقهم السياسية واالجتماعية وكل ما يتعلق باالستقرار والسلم‪ ،‬فإن السلطة‬ ‫المضادة أو غير الرسمية‪/‬الحكومية تعمل على ممارسة الضغط لتحقيق المزيد من المكتسبات‪ ،‬وهي سلطة‬ ‫تستمد مشروعيتها من طبيعة مطالبها السياسية واالجتماعية واالقتصادية التي ترفعها لضمان انخراط أوسع‬ ‫للمواطنين‪ ،‬وبذلك تكون هذه السلطة أو قوة الضغط هذه ضرورية في حيوية الفعل السياسي وحركية‬ ‫المجتمع وحيويته‪ ،‬ذلك أن السلطة الرسمية التي تستغل كل الموارد وكافة الوسائل واالمكانات لضمان رأي‬ ‫عام ينسجم وأهدافها العملية والنظرية‪ ،‬ال تستطيع ضمان االستمرارية والدوام إال بوجود هذه المعارضة‬ ‫الخارجية‪ ،‬على الرغم من أن هذه األخيرة ينبغي أن تبقى من وجهة نظر رسمية محدودة التأثير‪ ،‬وأال تمت ّد‬ ‫قوتها وهيمنتها إلى كل الدينامية المجتمعية لتخلق بذلك تهديدا للسلطة الرسمية‪.‬‬ ‫ويشدد هابرماس على أن الدينامية االجتماعية تخترقها ثالث وسائط مباشرة توظف بهذا القدر أو‬ ‫ذاك الضفاء المشروعية على الفعل‪:‬‬ ‫ • السلطة كوسيط توظفه الدولة والمجتمع السياسي‬ ‫• المال كوسيط يستعمله النسق االقتصادي أو مجال التبادالت االقتصادية والتجارية والمالية‬ ‫• الفعل التواصلي كوسيط يستعمله المجتمع المدني الفعال في الفضاء العمومي‬ ‫وتعمل الدولة على تحوير الوظيفة النقدية للفضاء العمومي وتوجيهه وتوظيفه توظيفا ايديولوجيا‬ ‫وسياسيا لتحقيق مصالحها‪ .‬ألن النقد من منظور الفعل السياسي الرسمي يمارس داخل مؤسسات الدولة‬ ‫وليس خارجها‪ ،‬مما يعني عملياً أن تأطير الممارسة السياسية بالقوانين واألعراف يؤدي إلى التحكم في‬ ‫الوظيفة النقدية لهذه الممارسة في سبيل إعادة انتاج نفس عالقات اإلنتاج‪ ،‬بحيث توظف الدولة األحزاب‬ ‫والنقابات والجمعيات واألفراد ودور النشر والتوزيع ووسائل االعالم وكل المؤسسات الثقافية لتوجيه الرأي‬ ‫العام لصالحها‪ .‬ولبيان هذا األمر يعود هابرماس إلى القرن الثامن عشر ليجد أن العمومية في االصطالح‬ ‫الفرنسي تفيد‪ :‬جمهور القراء أو الفئة االجتماعية المثقفة التي تمتلك القدرة على استعمال العقل استعماالً‬ ‫عمومياً‪ .‬إال أن هذا االستعمال لم يتخذ أشكاالً شرعية مؤسساتية بل ظل سرياً في ظل الصراع القائم‬ ‫بين البرجوازية الصاعدة (الطبقة الثالثة) والنظام اإلقطاعي الذي ال يزال مهيمناً على الفكر‪ .‬وظلت تلك‬ ‫الممارسة السرية الستخدام العقل محصورة بين أشخاص خصوصيين لم يجدوا بعد طريقهم الى الجمهور‬ ‫(أي معزولين في الصالونات)‪ ،‬وذلك بالنظر إلى الهيمنة الكلية للسلطة السياسية على مجاالت التداول‬ ‫والنقاش التي لم تظهر علناً إال بعد صر ٍاع مرير‪ ،‬فمجتمع البالط يقف أمام تحرك مجال العائلة البرجوازية‬ ‫الضيق‪ .‬وهكذا يمكن القول إن العمومية في تلك الفترة كانت داخلية‪-‬سرية نظراً لكونها مستهدفة من‬ ‫قبل السلطة السياسية‪ .‬وسنحاول أن نركز أكثر على دور حركة التنوير في الدفاع عن العمومية بمعنى‬ ‫استعمال العقل استعماالً عمومياً الذي طوره كانط تحديداً‪ :‬فما هي العالقة القائمة بين مبدأ العمومية‬ ‫وحركة التنوير؟ وكيف قارب كانط مسألة العمومية؟ وما العالقة القائمة بين التنوير والعمومية؟ وكيف نظر‬ ‫هابرماس إلى عمومية كانط؟‬ ‫‪202‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫‪ - 4‬مبدأ العمومية وحركة التنوير‪ :‬كانط منوذجًا‬

‫يمثل كانط في نظر هابرماس المؤسس الحقيقي لمبدأ العمومية‪ ،‬أو الفضاء العمومي البرجوازي‪،‬‬ ‫وبفضله بلور هيجل التصور األيديولوجي لهذا الفضاء في حقل فلسفة الحق والتاريخ‪ ،‬وهو التصور الذي‬ ‫أدى إلى تشكيل الفهم الماركسي للدولة البرجوازية وللخطاب األيديولوجي المؤطر لحقوق االنسان فيما‬ ‫بعد‪ .‬وقد تتبع هابرماس حركية الفكر في التاريخ األلماني والفرنسي واإلنجليزي لمحاولة التأصيل لمبدأ‬ ‫العمومية ورصد التحوالت الجارية في‪:‬‬ ‫• التصور الفلسفي السياسي األخالقي الكانطي‬ ‫• الجدل التاريخي الهيجلي والماركسي‬ ‫ • التصور الليبرالي مع دي توكفيل وجون ستيوارت مل‬ ‫ومن خالل قراءته الجديدة لكانط وهيجل وماركس والفكر الليبرالي الفرنسي استطاع هابرماس أن‬ ‫يؤسس مشروعه الفلسفي الذي ارتكز في خطوطه العريضة على‪:‬‬ ‫ • النظرية النقدية التقليدية‪ :‬في اتجاه فلسفة اجتماعية‬ ‫ • نقد الحداثة أو نقد العقل االداتي والدفاع عن الحداثة بما هي مشروع غير مكتمل‬ ‫ • النظرية التواصلية التي بحث فيها شرط االجماع داخل المجتمع الديمقراطي‪ :‬االستعمال‬ ‫العمومي للبرهنة من خالل أخالقيات المناقشة‬ ‫ويصعب اختزال اسهام هابرماس في العقالنية التواصلية ما لم نعمل على التمييز بين المرحلة‬ ‫األولى من تطوره فكره ونسقه الفلسفي والسياسي وبين المرحلة الثانية كما أشرنا سلفا‪ .‬فاطالعه على‬ ‫كانط سيمكنه من التأكيد على أن العمومية الكانطية تستوجب االنتقال من الفردية إلى الكونية في‬ ‫مستوى االخالق والسياسة‪ :‬ألن غاية هذه العمومية هي بلوغ مجتمع مدني يقيم الحق على نحو كوني‬ ‫(كوسموبوليتي) يتجاوز العالقة بين االفراد داخل المجتمع المدني والدولة الكونية التي هدفها السلم‪.‬‬ ‫إال أن معيار الكونية الكانطي الذي يؤسس للعقل العملي ليس وحده كافيا على المستوى االخالقي‬ ‫لتأسيس عمومية أنوارية لذا أضاف هابرماس المناقشة بين الذوات والحوار وحرية التعبير والرأي والتي‬ ‫تهدف بلوغ اإلجماع ألنه يرتكز على واقع الممارسة االجتماعية كمعيار للكونية كما هو هدفه الفلسفة‬ ‫االجتماعية‪.‬‬ ‫وإلى جانب معيار الكونية فإن العمومية الكانطية تتأسس على الحرية أي حرية الفرد في التفكير‬ ‫الذاتي وفي استعمال العقل‪ ،‬ألنه غاية في ذاته (مسؤول له ارادة تحترم‪ )...‬وليس وسيلة لغيره‪ .‬والحرية‬ ‫هنا ال تتحقق إال بتجاوز الفرد لالستبداد واالرهاب الديني الكنيسي‪ .‬إألا أن الحرية التي نادت بها األنوار‬ ‫تطرح في نظر هابرماس مسألة الحق‪ ،‬وما يستلزمه األمر من إعادة بناء للعالقة بين الفضاء العمومي‬ ‫السياسي والحق‪ ،‬وما جاء متأخرا في مشروع هابرماس‪.‬‬ ‫‪203‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫‪ - 5‬الفضاء العمومي واحلق‪:‬‬

‫يشدد هابرماس على أن البعد السياسي للعمومية (الحداثة السياسية) يجد أساسه في واقع الناس‬ ‫اليومي وفي شروطهم التي تستوجب حضور الديمقراطية كمطلب ضروري لعقلنة الفعل السياسي الذي‬ ‫وضعت األنوار من خالل اهتمامها بالعقل العملي ركائزه من خالل مقاربتها لمسألتين‪:‬‬ ‫• الشرعية أو الممارسة الديمقراطية‬ ‫ • التعاقد االجتماعي أو السياسي (حقوق االنسان‪ :‬حرية استعمال العقل العمومي والخاص‪،‬‬ ‫الخروج من الوصاية)‬ ‫وهو األمر الذي أدى إلى اعتبار الفضاء العمومي فضا ًء مضاداً للسلطة السياسية االستبدادية‪ ،‬يطالب‬ ‫بالحقوق وبصنع القرار وحرية التعبير‪ .‬فمع الدولة الحديثة فقط تجسد الطالق بين الفلسفة والدين‬ ‫(الالهوت)‪ ،‬بين السياسة واألخالق‪ ،‬من خالل التأكيد أن شؤون البشر هي من اختصاص البشر‪ ،‬أي عبر‬ ‫التعاقد واالتفاق واإلجماع‪.‬‬ ‫قاد الترابط الكانطي بين العمومية وحرية استعمال العقل إلى طرح إشكالية الفضاء العمومي‬ ‫السياسي والحق‪ .‬فإذا كانت العمومية تفيد االستعمال العمومي للعقل مع كانط‪ ،‬فإن ممارسة هذا‬ ‫االستعمال هي مجال الحرية‪ ،‬أي حرية استعمال العقل والتفكير والحق في إبداء الرأي وتشكيل رأي عام‬ ‫من أجل “العرض العمومي للحقيقة” والمشاركة في التداول في سبيل تحقيق اإلجماع‪ .‬إال أن الحرية التي‬ ‫تدافع عنها األنوار (وتحديداً مع كانط) هي حرية غير مقيدة بأية عقلية دوغمائية متحجرة في مجالي‬ ‫الفكر والفعل معاً‪ ،‬وخالية من أي وصاية خارجية معطلة لقدرات الذات‪ .‬ولكن مع ذلك فاستعمال العقل‪،‬‬ ‫بما هو مجال الحرية‪ ،‬قد يقود الى صر ٍاع بين عقلين أو بين استخدامين متعارضين للعقل‪ :‬أقصد بين‬ ‫االستعمال الرسمي المؤسساتي للحقيقية وبين االستخدام غير الرسمي أي النقدي للحقيقة وتعميمها‪ .‬هنا‬ ‫تكمن إشكالية الحق فكيف يمكن أن تتحقق لفكر نقدي حريته في التفكير الى جانب فكر آخر له (قد‬ ‫يكون بالضرورة مناقضاً) هو أيضا حقه في أن يفكر بحرية ويستعمل عقله استعماالً عمومياً؟‬ ‫في عمق هذه اإلشكالية يذكرنا هابرماس بنص هام لكانط وهو ‘صراع الكليات’ الذي يعالج فيه‬ ‫الصراع أو التناقض بين كلية الفلسفة من جهة‪ ،‬وكليات الطب والقانون والالهوت من جهة أخرى‪ .‬ذلك أن‬ ‫هذه األخيرة موجهة ومحكومة بسياسة الدولة‪ ،‬حيث تتمكن من خاللها من إعادة إنتاج النخب الحاكمة‬ ‫والمسيرة لدواليب الدولة‪ ،‬في حين أن غرض كلية الفلسفة هو العرض العمومي للحقيقة‪ .‬فالفالسفة‬ ‫مستقلون تماماً عن مصالح الدولة‪ ،‬وال يوجهون إال بالعقل وحده‪ ،‬ففي خضم الصراع القائم بين الكليات‬ ‫(يقول هابرماس) فإن العقل وحده ينبغي أن يضمن الحق في التعبير (عن الحقيقة) عمومياً‪ ،‬ألنه بدون‬ ‫هذه الحرية فإن الحقيقة ال يمكن أن تظهر (أن تنجلي)‪.‬‬ ‫لم يقتصر جهد هابرماس على كانط وحده‪ ،‬بل امتد حفره االركيولوجي إلى‪ :‬روسو‪ ،‬هوبز‪ ،‬هيجل‪،‬‬ ‫ماركس‪ ،‬ليؤكد بعد تحليله للرأي العام أن فكر حقوق االنسان قد طوعته البرجوازية واستعملته استعماالً‬ ‫أيديولوجياً إلخفاء واقع الصراع والتفاوت والتحكم واالقصاء والهيمنة حيث يقول‪“ :‬لقد وظفت حقوق‬ ‫‪204‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫االنسان إلظهار كونية مغلوطة وادعاء اإلنسانية والتسامح ومن وراء ذلك التوظيف نجد الغرب اإلمبريالي‬ ‫يسعى إلى خدمة مصالحه والتحكم من نفوذه في العالم وفرض هيمنته”‪.‬‬ ‫لقد عمل هابرماس‪ ،‬في كتابه ‘الحق والديمقراطية’ (‪ ،)1992‬على تجاوز نظرية الحق كما هي متداولة‬ ‫في الفلسفة الحديثة‪ ،‬موجهاً اهتمامه نحو التأسيس لعدالة جديدة تقوم على الفعل التواصلي‪ ،‬حيث‬ ‫عمل جاهداً على فحص تجربة الفيدرالية األلمانية والتجربة األمريكية في مجال العدالة‪ ،‬ورصد مختلف‬ ‫التناقضات التي اعترضت تجارب دولة الحق‪ ،‬وهكذا أعاد االعتبار للنموذج الكانطي في الكوسموبوليتية‪،‬‬ ‫مساج ًال رواد الليبرالية السياسية األمريكية (راؤول تحديداً)‪ .‬فاالستعمال العمومي للعقل كما ّ‬ ‫نظر له راؤول‬ ‫تعترضه جملة عوائق مرتبطة تحديداً بحيادية الدولة تجاه رؤى العالم‪ ،‬ومواقف الفاعلين في المؤسسات‬ ‫الدستورية‪ ،‬وهو األمر الذي قاده الى إعادة النظر في العالقة بين االيمان والمعرفة مدافعا باستماتة عن‬ ‫دور الدين في الفضاء العمومي‪.‬‬ ‫‪ - 6‬الرأي العام والدعاية‪:‬‬ ‫يتم النظر إلى الرأي في التقليد الفلسفي كفكر عام لم يبلغ بعد درجة التأمل‪ ،‬الرتباطه بما هو‬ ‫حسي‪ ،‬أي بالتجربة اليومية‪ ،‬وهو نابع من الممارسة اليومية‪ ،‬وتقوم عناصره في الفكر السياسي على الدعاية‬ ‫والثقافة السائدة‪ ،‬وكل أنماط االنتاج القائمة على التملك والمردودية‪.‬‬ ‫تخفي اآلراء‪ ،‬في نظر هابرماس‪ ،‬المصالح المادية المباشرة لطبقة أو فئة اجتماعية تستحوذ على‬ ‫وسائل الدعاية واإلنتاج‪ ،‬وال تخرج عن دائرة المصالح الفردية واالجتماعية‪ .‬غير أن الرأي العام بالنسبة له‬ ‫يقترن بالفضاء العمومي وال يمكن عزل أحدهما عن اآلخر‪ ،‬ألن الرأي العام هو أيضا مقولة تاريخية شأنه‬ ‫شأن الفضاء العمومي يرتبط بالدولة الحديثة ويكون “موجهاً بإرادة عقلنة السياسة باسم األخالق”‪ .‬ذلك أن‬ ‫الرأي من المنظور الكانطي يتحدد في التمييز بين االستعمال العمومي واالستعمال الخاص للعقل‪ ،‬حيث‬ ‫يقول هابرماس‪“ :‬كانت العمومية في األصل تضمن العالقة التي كان يقيمها االستعمال العمومي للعقل‬ ‫مع األسس التشريعية للسيطرة كما مع المراقبة النقدية لممارستها‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت فهي – أي العمومية‬ ‫– تشكل مبدأ سيطرة تمارس من خالل القدرة على التحكم في رأي غير عام‪ ،‬األمر الذي يؤدي إلى هذا‬ ‫االلتباس المتفرد‪ :‬تكمن العمومية من استخدام الجمهور‪ ،‬في نفس الوقت الذي تمثل فيه الوسيلة التي‬ ‫تستعملها لتبرير ذواتنا تجاهه‪ .‬وهكذا انتصرت عمومية االستخدام على العمومية النقدية”‪ .‬وقد أدى تحليل‬ ‫هابرماس للرأي إلى التأكيد على مبدأ التطويع الذي سلكته البرجوازية في تطورها التاريخي على الرأي العام‪،‬‬ ‫ذلك أن وسائل اإلعالم‪ ،‬وأساساً الجريدة التي وقف عليها كثيراً‪ ،‬تحولت بفعل ضغط السوق واإلشهار والدعاية‬ ‫الطبقية إلى خدمة المصالح المادية المباشرة للطبقة المسيطرة‪ ،‬ولكن مع ذلك ظهرت الصحافة السياسية‬ ‫(الجريدة الحزبية) التي لم تكن مرتبطة بضغوط الدعاية‪ .‬فهذا التحول من العمومية النقدية إلى العمومية‬ ‫العامية (عمومية االستخدام) جاء مع الفضاء العمومي البرجوازي الذي حول استعمال العقل كمجال للحرية‬ ‫إلى استعمال خاضع للدعاية وتحوير الرأي لخدمة أهداف سياسية‪ .‬ويصر هابرماس على أن الرأي العام‬ ‫الذي يتحدث عنه هو الرأي النقدي الذي يتشكل لدى الجمهور عامة‪ ،‬حيث أن العمومية المرادة هنا هي‬ ‫‪205‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫“الجمهور الحامل ألحكام والذي يمتلك القدرة على استعمال العقل”‪ ،‬مستنداً في ذلك على هيجل الذي‬ ‫أضفى قيمة على الرأي المشترك (العام)‪ :‬وهو أحكام مشتركة بين أفراد جماعة ما أو فئة ما‪.‬‬

‫ثانيًا ‪ -‬نانسي فريزر يف مواجهة هابرماس‬ ‫“ال يالئم ‘النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي’‪ ،‬النظرية النقدية المعاصرة‪ .‬نحن بحاجة إلى‬ ‫تصور ما بعد برجوازي يسمح لنا بتخيل دور الفضاءات العمومية (أو على األقل البعض منها) الذي يتجاوز‬ ‫الشكل البسيط لرأي ذاتي مستقل ومنفصل عن السيرورة الرسمية التخاذ القرار”‪N, Fraser: qu’est-ce( .‬‬ ‫‪)que la justice sociale, p142‬‬ ‫اهتمت نانسي فريزر بمفهوم الفضاء العمومي عند هابرماس بالنظر إلى قيمته السياسية التي تساهم‬ ‫في فهم المالبسات التي تعترض الحركات االجتماعية التقدمية والنظريات السياسية التي ترتكز عليها‪ .‬فقد‬ ‫مثلت هذه النظرية‪ ،‬طوال العقود الثالثة األخيرة من القرن العشرين‪ ،‬إسهاماً مباشراً في فهم التغيرات‬ ‫السياسية التي أعقبت ثورة أيار‪/‬مايو ‪ ،68‬بعد ظهور الحركات االجتماعية الجديدة من قبيل‪ :‬األقليات العرقية‬ ‫واإلثنية‪ ،‬الحركة النسوية‪ ،‬حركات الحقوق الجنسية‪ ،‬حركات الثقافات واللغات المهمشة‪ ،‬حركة العاطلين عن‬ ‫العمل‪ ،‬والحركات المتصلة بمختلف المشاكل التي أفرزتها الرأسمالية عبر تطورها التاريخي‪.‬‬ ‫وينصب اهتمام فريزر أساسا على محاولة تجديد أطروحات النظرية النقدية‪ ،‬من خالل مراجعة‬ ‫مواقف الجيل األول والثاني من أجيال مدرسة فرانكفورت‪ ،‬وفي هذا السياق راجعت نظرية هابرماس في‬ ‫الفضاء العمومي أو فيما تسميه “النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي”‪ ،‬لبيان صلته بالنظرية‬ ‫النقدية المعاصرة‪ ،‬ولفحص األسس السياسية والفلسفية التي قام عليها‪ ،‬من أجل صياغة أطروحة جديدة أو‬ ‫ما تطلق عليه اسم الفضاء العمومي ما بعد البرجوازي ‪.l’espace public post-bourgeoisies‬‬ ‫وتؤكد أن المشكلة األولى التي يطرحها مفهوم الفضاء العمومي الهابرماسي تكمن في العالقة بين‬ ‫الدولة وأجهزتها من جهة‪ ،‬والفضاءات التعبيرية العمومية وجمعيات المواطنين من جهة أخرى‪ .‬ذلك أن‬ ‫النموذج الكالسيكي للدولة (االشتراكي والماركسي) يفرض رقابة االقتصاد للدولة االشتراكية التي تراقب أيضاً‬ ‫مجموع المواطنين االشتراكيين‪ .‬فالتشابك واللبس الذي يكتنف العالقة بين أجهزة الدولة والفضاء العمومي‬ ‫وجمعيات المواطنين يعود إلى الشكل التحكمي والسلطوي للدولة االشتراكية في كل هذه الفضاءات‬ ‫والتنظيمات‪ ،‬وهو شكل ال ديمقراطي وال تشاركي‪ ،‬وهو ما يطرح بدوره السؤال حول الديمقراطية االشتراكية‬ ‫ذاتها كما طبقتها األنظمة الستالينية‪ .‬ونفس األمر ينطبق على الديمقراطية البرجوازية التي طوقت الفضاء‬ ‫العمومي السياسي ّ‬ ‫وأطرته ُبأ ُط ٍر وتشريعات قانونية وطنية لم تعد تستجيب لحاجيات المواطنين اليوم‪.‬‬ ‫ولذلك فإن كال النمطين‪ :‬البرجوازي واالشتراكي على حد سواء لم يعودا صالحين لنمط العيش المشترك‬ ‫اليوم‪ ،‬أي في عالم يحتاج إلى مواطنة كونية تنتفي فيه الحدود الوطنية الويستفالية‪.‬‬ ‫تعتبر فريزر أن نظرية الفضاء العمومي تمتلك “قيمة مفهومية”‪ ،‬بحيث تساعدنا على فهم بعض‬ ‫المشكالت المعاصرة المتصلة مباشرة بالديمقراطية‪ .‬وتعرف الفضاء العمومي على أنه “فضاء المجتمعات‬ ‫الحديثة حيث تمر المشاركة السياسية عبر اللغة‪ .‬إنه فضاء المواطنين الذين يناضلون من أجل مصالحهم‬ ‫‪206‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫المشتركة‪ ،‬فضاء ُي َم ْأسِ ُس تفاع ًال تداولياً”‪ .‬وترفض التعريف الهابرماسي الذي يحدد المشاركة في جمهو ٍر‬ ‫ٍ‬ ‫مثقف يتقن استعمال العقل بشكلٍ نقدي‪ ،‬ألن المجتمع المعاصر يختلف جذرياً عن مجتمع القرنين الثامن‬ ‫عشر والتاسع عشر‪ ،‬مؤكد ًة في اآلن ذاته أنه رغم ما يمكن أن يقال من مؤاخذات على نظرية هابرماس‬ ‫فإن مفهوم الفضاء العمومي “ضروري للنظرية النقدية للمجتمع وللممارسة السياسية الديمقراطية”‪.‬‬ ‫ألنه مكان منفصل عن الدولة‪ ،‬وفضاء إلنتاج ونشر الخطاب النقدي تجاه الدولة‪ ،‬البد له من أن يتصور‬ ‫اقتصادا غير رسمي (اقتصاد الدولة) وخالياً من عالقات السوق‪ ،‬إنه فضاء لعالقات التخاطب يسمح بالنقاش‬ ‫والتداول‪ .‬فإذا حولت الرأسمالية الفضاء العمومي إلى مكان للبيع والشراء فإن الفضاء العمومي الذي يالئم‬ ‫النظرية النقدية المعاصرة ينبغي أن يتجاوز النموذج البرجوازي بحيث‪“ :‬ال يمكن ألية محاولة لفهم حدود‬ ‫الديمقراطية الرأسمالية المتأخرة أن تتم دون اللجوء واالستعانة بطريقة أو بأخرى لبذل الجهوذ من أجل‬ ‫تطوير نماذج بديلة للديمقراطية”‪ .‬غير أن الفهم الهابرماسي غير كاف‪ ،‬فالنظر في حدود الديمقراطية‬ ‫الموجودة واقعياً يتوجب التساؤل حول هذا الفهم الذي يبدو متجاوزاً‪.‬‬ ‫أبانت أركيولوجيا هابرماس عن عظمة وانحطاط شكلٍ خاص للفضاء العمومي المحدود في التاريخ‪،‬‬ ‫والذي سماه الفضاء العمومي البرجوازي من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى عن تساؤله عن قانون النموذج‬ ‫المعياري المتعلق بهذه المؤسسة والتي يطلق عليها اسم “النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي”‪،‬‬ ‫وكان هدفه فيما ترى فريزر مزدوجاً‪:‬‬ ‫ ‪ -‬قصد فحص الشروط التي جعلت هذا النمط من الفضاء العمومي ممكناً‬ ‫ إعادة وضع تلك الشروط في مكانها‪ ،‬وإدراك راهنية المنفعة المعيارية لهذا النموذج الليبرالي‬‫وتؤكد على الحاجة إلى تجديد هذه النظرية وتجاوزها ألن “الشروط الجديدة لديمقراطية الجماهير‬ ‫ولدولة الرعاية في نهاية القرن العشرين‪ ،‬أسقطت الفضاء العمومي البرجوازي ونموذجه الليبرالي في عداد‬ ‫النسيان‪ .‬وأن شكال جديدا للفضاء العمومي ضروري لحماية وصيانة الوظيفة النقدية لهذا الفضاء ولمأسسة‬ ‫الديمقراطية”‪.‬‬ ‫وتلوم هابرماس في أنه لم يبلور تصوراً بدي ًال عن النموذج الليبرالي الذي ّ‬ ‫نظر له‪ ،‬وهو ما يتنافى‬ ‫مع روح النظرية النقدية المعاصرة حيث تقول‪“ :‬غريب أن هابرماس لم يذهب إلى وضع نموذج جديد‬ ‫للفضاء العمومي ما بعد البرجوازي‪ .‬وأكثر من ذلك لم يؤشكل أبداً بعض الفرضيات المتداولة حول النموذج‬ ‫الليبرالي‪ ،‬وعليه فالفضاء العمومي انتهى دون اقتراح معنى وفهم لفضاء عمومي مغاير للنموذج الليبرالي‬ ‫خدمة ألهداف وغايات النظرية النقدية المعاصرة”‪ .‬وما يعنيه ذلك من أن هابرماس لم يؤشكل‪ ،‬ولم يقترح‬ ‫بدي ًال للنموذج البرجوازي‪ ،‬هو أن جهد هابرماس ال ينسجم وتوجهات المدرسة النقدية وال يخدمها بل هو‬ ‫بعيد عنها‪.‬‬

‫ثالثًا ‪ -‬حدود النموذج الليربايل للفضاء العمومي الربجوازي‬ ‫تقر فريزر بالحاجة إلى تجاوز نظرية هابرماس‪ ،‬بالنظر إلى كونها مبنية على أسس االطار الوطني‬ ‫الويستفالي التي تجاوزها التاريخ‪ ،‬ولتعارض هذه النظرية مع معطيات الواقع االجتماعي الجديد الذي‬ ‫‪207‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫كشفت عنه نظريات جديدة في التاريخ‪ ،‬والعرق‪ ،‬والنوع‪ ،‬والثقافة‪ .‬وهكذا تعلن أن هدفها هو الدفاع عن‬ ‫“فضاء عمومي بديل للنموذج الليبرالي” و“سأبدأ بمقارنة التأويل الهابرماسي للتحوالت البنيوية للفضاء‬ ‫العمومي مع تأويل آخر (فهم آخر) يستند إلى اإلستوغرافيا الحالية‪ ...‬وفي خالصة موجزة سأضع بعض سبل‬ ‫التفكير داخل النقاشات النقدية التي ستفتح المجال أمام فهم آخر وما بعد برجوازي للفضاء العمومي (أي‬ ‫التفكير في فضاء عمومي ما بعد برجوازي)”‪.‬‬ ‫وفي المقطع المعنون بـ‪“ :‬أي تاريخ؟ أي تصور؟” تصرح فريزر “لنأخذ أوالً تأويل هابرماس للتحوالت‬ ‫البنيوية للفضاء العمومي كتجمع ألشخاص خصوصيين يجتمعون للصراع حول المصلحة العمومية أو‬ ‫المصلحة المشتركة‪ .‬تمتلك هذه الفكرة قوتها وواقعيتها في بداية أوروبا الحديثة مع تأسيس ‘الفضاء‬ ‫العمومي البرجوازي’ الذي شكل القوة النقيض والمعادية للدولة المطلقة‪ .‬وفي المقابل فهي تفتقد ألية‬ ‫مصداقية في واقع اليوم‪ ،‬ألن الجماهير العريضة غير المرتبطة بالبرجوازية هي التي صارت تلعب اليوم‬ ‫أدواراً هامة في اللعبة السياسية‪ ،‬وهي التي تحرص على الخدمة العمومية وتطالب بها حينما تفتقدها‪،‬‬ ‫ناهيك عن كون الدولة المعاصرة قد قننت العديد من الحاجيات التي كانت مجرد مطالب في التاريخ‬ ‫الحديث‪ ...‬وهؤالء العموم مدعوون لخدمة الوسيط بين المجتمع والدولة ورافضين أن تكون الدولة مسؤولة‬ ‫أمام المجتمع بواسطة العمومية”‪.‬‬ ‫تقوم نانسي فريزر على امتحان واختبار نظرية هابرماس‪ ،‬وفحص بعض أسسها‪ ،‬ونقد بعض العناصر‬ ‫التي ترتكز عليها في ضوء بعض التحليالت اإلستوغرافية التي قدمها كل من جون الندز ‪Jean Landes‬‬ ‫وماري ريان ‪ Mary Ryan‬وجيوف إلي ‪ ،Jeoff Eley‬وتركز على نقطتين أساسيتن‪:‬‬ ‫‪ -1‬مسألة النوع الحاضرة بقوة‪ ،‬تلك التي ساهمت في طرحها بعض الحركات العريقة المتنامية في‬ ‫العالم خالل القرن التاسع عشر والقرن العشرين‪ ،‬والتي عمادها‪ ،‬النساء‬ ‫‪ -2‬مسألة السود الذين ناضلوا في أمريكا وكونوا فضاء عموميا نقيضا للفضاء الرسمي عبر نضاالتهم‬ ‫وحركاتهم‬ ‫وتقارن بين التأويل الهابرماسي والتأويل اإلستوغرافي الحالي حيث تعتبر أن التأويل األخير ينطلق من‬ ‫أن هابرماس قدم الفضاء العمومي البرجوازي باعتباره فضا ًء مثالياً‪ .‬حيث تشدد إليزابيت بروكس هيجنبوتان‬ ‫‪ ،Elizabeth Brooks Higginbothan‬وتقر بوجود فضاء عمومي بديل مسير من طرف السود في الواليات‬ ‫المتحدة األمريكية ما بين ‪ 1880‬و‪ ،1920‬حيث طرح السود الحق في المشاركة السياسية (التصويت)‬ ‫إلى جانب مجموع الفضاءات ومؤسسات المجتمع المدني‪ ،‬وتصر على أن البرجوازية لم تكن تمثل أبداً‬ ‫الجمهور أي الشعب‪ .‬ولقد كانت هذه الفكرة جوهرية لفهم االعتراضات التي تقيمها فريزر على هابرماس‪،‬‬ ‫ألن التجربة األمريكية كانت بالفعل نموذجاً أغفله هابرماس في نظريته عن الفضاء العمومي‪ .‬لذلك فالفضاء‬ ‫العمومي البرجوازي ليس وحده موجوداً وليس البرجوازيون وحدهم من ّ‬ ‫يؤطره‪ ،‬بل إن هناك جمهوراً آخر‬ ‫كان موجوداً منذ بداية الفضاء العمومي‪ .‬فإلى جانب البرجوازيين هناك دوماً‪ :‬جمهور المواطنين‪ ،‬صغار‬ ‫الفالحين‪ ،‬النساء والنخبة‪ ،‬جمهور الطبقة العاملة‪ ،‬إلخ‪ .‬إنه جمهور عريض متعدد ومتنوع‪ .‬وإن العالقات بين‬ ‫الجمهور البرجوازي وباقي العموم هي دوماً عالقات صراعية‪ ،‬وهو األمر الذي يقر به جيوف إيلي ‪Geoff‬‬ ‫‪208‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫‪ Ely‬إذ ال يمكن أن يولد الفضاء العمومي إال في خضم الصراع االجتماعي‪ .‬ما يعني أن النموذج الهابرماسي‬ ‫وفق التأويالت الجديدة هو مجرد نموذج مثالي‪ ،‬طوباوي‪.‬‬ ‫تحاول فريزر أن تعتمد مقاربة أخرى جديدة وبديلة للتأويل الهابرماسي من جهة‪ ،‬ولنقاده من جهة‬ ‫أخرى‪ ،‬معتبر ًة أن كال التأويلبن جذري إلى أقصى‪ .‬وتؤكد أن نظرية هابرماس حول الفضاء العمومي تشتغل‬ ‫على مستويين‪:‬‬ ‫‪ ) 1‬مستوى إمبريقي (تجريبي) تاريخي مؤسساتي‬ ‫‪ ) 2‬مستوى نقد األيديولوجيا أو المثال المعياري‬ ‫وفي سياق بحثها لمرتكزات النظرية التقليدية للفضاء العمومي ترى أن هابرماس بنى نظريته حول‬ ‫ستة افتراضات مؤسساتية كلها وطنية‪:‬‬ ‫‪ )1‬جهاز الدولة الوطنية (الدولة‪-‬األمة) الذي يمارس السيادة داخل مجال حدودي ووسط قاطنيه‬ ‫‪ ) 2‬اقتصاد وطني منظم قانونياً وفق التشريعات الوطنية‬ ‫‪ ) 3‬جسم المواطنين الذين يقطنون داخل حدود وطنية ويقتسمون مصالح عامة‬ ‫‪ ) 4‬لغة وطنية تؤسس وسيط التواصل داخل الفضاء العمومي‬ ‫‪ )5‬أدب وطني يؤسس وسيط التكوين وإعادة إنتاج توجيه ذاتي (وطني) في سبيل جماعة متخيلة‬ ‫(وطنية) أي هوية وطنية‬ ‫‪ )6‬بنية وطنية للتواصل‪ ،‬وصحافة وطنية ومن ثمة شبكة وطنية لإلعالم والتوزيع‬ ‫هذه العناصر المؤسساتية هي التي ارتكزت عليها النظرية التقليدية للفضاء العمومي بطريقة‬ ‫أيديولوجية محددة وموجهة نحو سيرورة وطنية للتواصل العمومي عن طريق اللغة الوطنية واإلعالم‬ ‫الوطني‪ ،‬والتي تخدم مصالح عامة مدبرة تواصلياً‪ .‬ذلك أن كيان المواطنين يقوم بقيادة وتنظيم شروط‬ ‫العيش المشترك‪ ،‬وبشكل خاص اقتصاد وطني‪ .‬وهو ما ال يسمح باالعتراف أو البين‪-‬ذاتية على مستوى‬ ‫كوني عابر لألمم‪ .‬بحيث اكتفت النظرية التقليدية الهابرماسية على المستوى اإلمبريقي (التجريبي) بالنظر‬ ‫فقط في السيرورات التاريخية التي ساهمت في دمقرطة الدولة‪-‬األمة (الوطنية)‪ .‬أما على المستوى‬ ‫المعياري فال تمثل إال مساهمة في نظرية الديمقراطية الوطنية‪ .‬وهنا تكمن حدود نظرية هابرماس في‬ ‫الفضاء العمومي‪ .‬وفي هذين المستويين ترى نانسي فريزر أنه يمكن نقد اختالالت الديمقراطية للدول‪-‬‬ ‫األمم بتجاوز الطرح الهابرماسي‪ ،‬من خالل البحث عن أسس جديدة لنظرية معاصرة‪ .‬ألن نظرية هابرماس‬ ‫تتعلق بمشروع سياسي محدود مرتبط بالدولة الوطنية (أي دمقرطة الدولة الحديثة) بحيث يصعب معه‬ ‫“فهم كيف تؤسس الفضاءات العمومية سلطة ديمقراطية مضادة لسلطة الدولة”‪ ،‬لذا فإن نقد هذه النظرية‬ ‫التقليدية يتوجه إلى األسس الوطنية التي قامت عليها‪.‬‬ ‫أسس وطني ٍة أي داخل اإلطار الوطني‪ ،‬ونفس األمر (في‬ ‫كانت المقاربة الهابرماسية دوماً مبني ًة على ٍ‬ ‫المقاييس الواسعة) يتعلق باالنتقادات المتنوعة التي تعيد التفكير في الفضاء العمومي من وجهة نظر‬ ‫الجندر (النساء) والعرق (األقليات) والطبقة (الفقراء)‪ .‬ولم يتم أشكلة نظرية الفضاء العمومي إال في العقود‬ ‫‪209‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫األخيرة بفضل أهمية تنامي الظواهر العابرة لألمم‪ ،‬والمرتبطة بالعولمة‪ ،‬أو بما بعد االستعمار أو بالتعددية‬ ‫الثقافية‪ ،‬حيث أصبح من الضروري بحث إمكانية وضرورة إعادة تشكيل نظرية الفضاء العمومي على أسس‬ ‫عابرة لألمم (دولية‪-‬عالمية)‪.‬‬ ‫تنطلق فريزر من بعض عناصر التفكير في هذا السبيل من أجل فضاء عمومي ما بعد برجوازي‪:‬‬ ‫“يتمثل اقتراحي العام في إعادة تسييس نظرية الفضاء العمومي التي تتعرض لخطر فقدان قيمتها‬ ‫السياسية”‪ .‬حيث يطرح اإلطار الوطني للفضاء العمومي في النظرية التقليدية العديد من المشكالت والتي‬ ‫يمكن تحديدها في مشكلتين أساسيتين‪:‬‬ ‫ • األولى‪ :‬الفرق بين الدول الوطنية والسلطة الخاصة‪ ،‬بحيث صار من الواجب إعادة بناء السلط‬ ‫العمومية على نحو دولي (عالمي) من أجل الحد من سطوة السلطة الخاصة ولفرض رقابة‬ ‫ديمقراطية دولية عليها‬ ‫• الثانية‪ :‬تتصل بالفرق بين المواطنة داخل الدولة الواحدة والبلدان األخرى‪ ،‬بحيث يجب مأسسة‬ ‫عناصر المواطنة الدولية‪/‬الكونية‪ ،‬وإنتاج تضامن واسع وغير مقيد بالفروقات اللغوية والعرقية (اإلثنية)‬ ‫والدينية والوطنية‪ ،‬ومن ثم إنتاج وبناء فضاءات عمومية واسعة مبنية على تواصل ديمقراطي مفتوح‪.‬‬ ‫ومن أجل التأسيس لمقاربة جديدة للفضاء العمومي ينبغي تفادي مقاربتين محدودتين‪:‬‬ ‫• مقاربة إمبريقية‪ :‬تلك التي تأخذ بعين االعتبار فقط النظرية في عالقتها بالوقائع الموجود‬ ‫والتي تتأسس على المعايير‪.‬‬ ‫ • مقاربة مثالية‪ :‬متعالية على الواقع االجتماعي‪.‬‬ ‫والبديل هو مقاربة نظرية نقدية توظف الخصائص المعيارية‪ ،‬وتأخذ بعين االعتبار اإلمكانات‬ ‫السياسية‪.‬‬

‫الئحة املصادر واملراجع‪:‬‬

‫‪1 - Habermas, Droit et démocratie. Entre faits et normes, trad. R. Rochlitz et C. Bouchindhomme, Paris, Gallimard, 1997.‬‬ ‫‪2 - Habermas, Après Marx, traduit par J-René Ladmiral, Fayard, Paris, 1985.‬‬ ‫‪3 - Nancy Fraser: qu’est-ce que la justice sociale ? Reconnaissance et redistribution, paris 2011, la Découvert/poche.‬‬ ‫‪4 - N, Fraser: le féminisme en mouvement, dès les années 1960 à l’ère néolibérale,Paris, La Découverte, coll. «Politique et‬‬ ‫‪sociétés», 2012, Trad. Estelle Ferrarese.‬‬ ‫‪5 - H. Arendt, condition de l’homme moderne, Paris, Pocket 2012.‬‬

‫‪210‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫يف الدولة الليربالية‪:‬‬

‫تحسين بايازيوراك❊‬

‫بني الرتهيب والعلمنة‬ ‫اخلالصة‪:‬‬ ‫بحثت يف هذه الدراسة املخترصة يف فكرتني هام‪ :‬ترهيب الدولة الليربالية وال َعلْ َم َنة‪ .‬تم ذلك من خالل اإلشارة‬ ‫لدفاع الربوفيسور النعيم عن الدولة العلامنية ونقد طالل أسد للعلامنية باعتبارها غري محايدة‪ .‬ميكن القول‬ ‫بأن الدولة الحيادية غري موجودة من حيث املبدأ (علامنية أو أي نوع آخر) وأنه برصف النظر عن كون الدولة‬ ‫العلامنية شيئاً مرغوباً به‪ ،‬يجب أن نعلم أن اعتامد مثل هذه الدولة ال يعني اعتامد دولة حيادية‪ ،‬بل عىل‬ ‫العكس‪ :‬دولة تسعى لعلمنة املجتمع بشكل ذيك‪ ،‬ويف الوقت ذاته ترهيبي‪ .‬األسئلة الهامة التي تنتج عن هذا‬ ‫املوضوع هي‪ :‬هل يجب عىل املجتمع أن يصبح علامنياً يك يصبح فعاالً يف الدولة الحديثة؟ هل يجب أن تسعى‬ ‫املجتمعات لعلمنة نفسها من خالل الدولة العلامنية؟ هل هناك هيكليات سياسية أقل ترهيباً؟ يف سياق‬ ‫املجتمعات غري الغربية‪ ،‬ونظراً الختالف طبيعة ما يعترب ‘ديناً’ يف هذه املجتمعات‪ ،‬هل ميكن لنامذج بديلة من‬ ‫العلامنية أن تتطور؟ يف ضوء هذه املادة املوجزة ينبغي استخدام هذه الدراسة املتواضعة كمقدمة للبحث يف‬ ‫هذا النوع من األسئلة‪.‬‬

‫❊ تحسني بايازيوراك ‪ Tahsin Beyazyurek‬طالب دكتوراه يف مجال الفلسفة بجامعة إستنبول ولندن‪ .‬وهذه الدراسة هي ترجمة عن األصل اإلنكليزي‬ ‫امل ُ ْر َسل إىل مجلة دلتا نون من ِقبَل الكاتب بعنوان ‪The Libral State: Coercion and Secularization‬‬

‫‪211‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬

‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫مقدمة‬

‫لطالما شكلت العلمانية بوصفها شك ًال للحكم موضع خالف في الدول ذات األغلبية المسلمة‪ ،‬منذ‬ ‫أن بدأت القوى األوروبية باحتالل العالم‪ .‬خ ّلفت هذه القوى وراءها بصماتها االستعمارية‪ :‬الدولة الوطنية‪،‬‬ ‫القوة العسكرية الحديثة‪ ،‬جهاز إداري وإدارة اقتصادية على النموذج األوروبي‪ ،‬وتلك جميعها غدت وسائل‬ ‫تستخدمها أنظمة الحكم في أغلب الدول‪ .‬تمثل العلمانية ميراثاً آخر خلفته هذه الفترة‪ ،‬وكأي أم ٍر واقع‬ ‫تتعرض العلمانية للتصارع مع األشخاص الذين تؤثر بهم‪ .‬تتجلى جذور العلمانية في المجتمعات األوروبية‬ ‫من خالل الخطابات التدريجية ألنظمة الحكم التي حولت الهيكل التقليدي للسلطة إلى هيكل الدول‬ ‫العلمانية الحديثة‪ ،‬وال تشترك الدول الموجودة خارج نطاق ‘الغرب’ بهذا األصل‪ .‬مع ذلك فإن التطورات‬ ‫األخيرة التي حصلت في إندونيسيا (أكبر بلد مسلم في العالم)‪ ،‬تركيا (موطن الخالفة(‪ )1‬األخيرة)‪ ،‬ودول‬ ‫الربيع العربي في الشرق األوسط‪ ،‬قد جلبت إلى الواجهة أحزاباً سياسية وحركات ومفاهيم ‘إسالمية’ التوجه‪.‬‬ ‫ما زال هذا الوضع الجديد خاضعاً للنقاش‪ ،‬وما زال الدور اإلسالمي في الحياة العامة خاضعاً للنقاش أيضاً‪.‬‬ ‫األسئلة التي ينبغي طرحها حول مستقبل هذه األمم هي‪ :‬كيف يمكن حماية حقوق األقليات والمتدينين‬ ‫الذين عانوا الكثير تحت حكم ديكتاتوريات علمانية‪ -‬في عهد الديمقراطية المقبل؟ كيف يمكن أن يؤثر‬‫اإلسالم على هيكل الدولة؟ كيف يمكن تالفي إمكانية االنحطاط نحو أنواع أخرى من القمع‪ ،‬وبتحديد أكثر‬ ‫قيام األغلبية المسلمة بقمع األقليات؟ يعتبر العديد من الليبراليين في األوساط األكاديمية الدولة العلمانية‬ ‫بمثابة نموذج ناجح للحضارة األوروبية‪ .‬لكن ينبغي مناقشة العديد من جوانب العلمانية‪ ،‬كالتمييز اإلشكالي‬ ‫بين العام والخاص‪ ،‬وتشريع مطالبها بالتحييد‪ ،‬ومدى مالءمة فرضها على المجتمعات غير الغربية‪.‬‬ ‫سأخوض في هذه الدراسة المختصرة في موضوعين مترابطين بخصوص العلمانية الحديثة‪ ،‬وهي‪ :‬أو ًال‪،‬‬ ‫فرض ‘الدولة الليبرالية’‪ ،‬وثانياً‪ ،‬العلمنة‪ .‬من أجل الوصول إلى ذلك‪ ،‬سأشير في مراحل متعددة إلى العمل‬ ‫‪212‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الفضاء العمومي من هابرماس إىل نانسي فريزر‬

‫المؤثر للبروفيسور عبدالله النعيم ‘اإلسالم والدولة العلمانية’ كمثال عن الدولة العلمانية التي سأنتقدها‪،‬‬ ‫وكتاب طالل أسد ‘تك ّون العلماني’ من أجل توجيه القليل من النقد إلى أطروحة النعيم‪ .‬سأختتم البحث‬ ‫بأنه بغض النظر عن كون الدولة العلمانية شيئاً مرغوباً فيه‪ ،‬فإنه يجب االعتراف أن اعتماد ‘دولة علمانية’‬ ‫ال يعني اعتماد دولة محايدة بل دولة تعلمن المجتمع بطريقة ذكية وترهيبية‪ .‬نتيجة لذلك سيتم طرح‬ ‫مجموعة جديدة وهامة من األسئلة التي تتطلب مزيداً من االهتمام‪.‬‬

‫الرتهيب ‪Coercion‬‬

‫الفرضية األساسية المتجذرة في الخطاب الليبرالي العلماني هي وجوب معاملة الرعية ‪-‬أي الناس في‬ ‫مجتمع سياسي جماعي‪ ،‬والمواطنين العاديين في الدولة الحديثة‪ -‬التي توجه لهم هذه البرامج السياسية‬ ‫باحترام‪ .‬المقصود باالحترام هنا أن يتم إقناع الرعية‪ ،‬بدالً عن إجبارهم‪ ،‬بالقبول بالوضع العلماني الليبرالي‪.‬‬ ‫على الرغم من ذلك‪ ،‬فإن هذه الفرضية األساسية غالباً ما تترك بدون تدقيق‪ .‬إن استخدام العنف واإلقناع‬ ‫العقالني الحر هما تطرفان نادراً ما ُيظهران أنفسهما في الخطاب السياسي اليومي المحنك‪ .‬بدالً عن ذلك‪،‬‬ ‫فإن األمر األكثر ظهوراً هو ٌ‬ ‫طيف يمتد من التطرف باستخدام العنف إلى الفكرة الطوباوية لإلقناع العقالني‬ ‫الحر‪ .‬نحتاج للبحث أكثر في تحليل ذكي لمعنى ‘الترهيب’ من أجل فتح النقاش على أسس أكثر واقعية‪.‬‬ ‫على الرغم من أن المعنى الدقيق لكلمة ‘ترهيب’ هو ‘أن ال تترك بدي ًال آخر سوى كذا’‪ ،‬إال أن ‘عدم‬ ‫وجود بديل’ يعتمد بشكل كبير على السياق‪‘ .‬ال بديل’ تعني عادة عدم وجود ‘بديل معقول‘(‪ .)2‬وكمثال‪:‬‬ ‫في حال وجدت غرفة ببابين أحدهما مقفل‪ ،‬فإنه ال بديل للشخص الموجود في الغرفة عن استخدام الباب‬ ‫الذي يمكن فتحه‪ ،‬مع ذلك فإن البعض قد يجادل أنه يمكن للشخص الموجود في الغرفة البقاء فيها ‪ -‬إال‬ ‫أن هذا ليس بدي ًال معقوالً ألن مثل هذه الفكرة قد تتسبب بموت هذا الشخص عطشاً بعد بضعة أيام‪ .‬ما‬ ‫يعتبر ‘معقوالً’ يعتمد بشكل كبير على الظروف المحيطة وعلى معتقدات الناس وأولوياتهم‪ .‬هناك طريقة‬ ‫معقدة ومتطورة للتالعب بالناس والسيطرة عليهم وتغيير ما يعتبرونه ‘بديال معقوالً‘(‪ .)3‬إن البعد الترهيبي‬ ‫لهذه ‘البدائل المعقولة’ ال يأتي من اقتناع الناس بالصحة الفلسفية للجدل حول ضرورة إطاعة الدولة‪ ،‬بل‬ ‫من حقيقة أن الناس‪ ،‬على المستوى البراغماتي العملي‪ ،‬ال يمكنهم العمل والعيش بدون وجود كيان كهيكل‬ ‫الدولة ليحكم جماهير الشعب‪ ،‬مما يقود الناس للطاعة(‪.)4‬‬ ‫ال يمكن التقليل من أهمية هذا األمر نظراً ألنه يجب اعتبار األشخاص الذين يوجه لهم هذا الخطاب‬ ‫العلماني الليبرالي كمواطنين متأنين‪ .‬ترتبط فكرة المواطنة حتماً بفكرة ‘الدولة’ وتعتبر بأنها نموذج األمر‬ ‫الواقع الذي تعتمده الفلسفة السياسية الحديثة‪ .‬من ناحية‪ ،‬فإن المناظر السياسي البروفيسور النعيم (ربما‬ ‫هو المدافع األبرز عن العلمانية في العالم اإلسالمي) يعترف بأن الدولة بطبيعتها قمعية‪ .‬يقول النعيم بأننا‬ ‫إذا أخذنا كمثال المؤسسات الدينية فإنه وبصراحة يجب على الدولة أن تسيطر عليها للحد من طرق تأثيرها‬ ‫على السلوك العام في المجتمعات التي تتواجد فيها‪ .‬حتى الدولة العلمانية التي ال تقدم‪ ،‬أو أنها غير مطالبة‬ ‫بتقديم الدعم المادي للمؤسسات الخاصة‪ ،‬فإنها ال تستطيع كما يقول النعيم “منح هذه المؤسسات الحرية‬ ‫الكاملة لنشر قيمها كما تشاء أو القيام بالنشاطات التي ترغب بالقيام بها بشكل مستقل باسم حرية الدين‬ ‫‪213‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫والمعتقد”(‪ .)5‬من ناحية أخرى‪ ،‬فإن النعيم كباحث علماني يؤكد أن الدولة بالتعريف هي مؤسسة غير‬ ‫أخالقية‪ ،‬وأنها ال يمكن أن تمتلك أو تجسد أخالقياتها الخاصة المستقلة(‪.)6‬‬ ‫هذا الطرح ينطوي على تناقضات واضحة‪ .‬هل يمكن أن تكون هناك علمنة بدون دولة؟ هل يمكن أن‬ ‫تكون هناك دولة ال أخالقية (ولن ُقل محايدة) وليست قمعية؟ ومن باب أولى هل يمكن أن تكون العلمانية‬ ‫غير قمعية؟ يجب أن تمتلك الدولة بعضاً من الشرعية إن لم تكن تريد أن تسقط بشكل معياري‪ .‬الدول‬ ‫العلمانية‪-‬الليبرالية أو الماركسية أو اإلسالمية هي ذات الجهاز ولكنها تعمل في ظل أيديولوجيات مختلفة‪.‬‬ ‫وبغض النظر عن الرؤية ‘األناركية الفوضوية’ التي ترفض شرعية الترهيب (والدولة) تحت أي ظرف‪ ،‬فإن‬ ‫اعتماد الدولة العلمانية واعتماد الترهيب المالزم لها يحتاج إلى شرعنة (االستخدام الشرعي للعنف حسب‬ ‫فيبر ‪ .)Weber‬لكن أصبحت ادعاءات العلمانية‪-‬الليبرالية بالحياد مهمة جداً في هذه المرحلة‪ ،‬ألنه وكما‬ ‫يقول ج‪.‬ف‪ .‬غاوس ‪“ :G. F. Gaus‬تبرير الترهيب بشكل أخالقي يتطلب أسباباً محايدة”(‪ .)7‬وكما ناقشنا سابقاً‪،‬‬ ‫فإن الترهيب بسبب ‘البدائل المعقولة’ يختلف عن ‘البدائل فقط’ من حيث تأثير النتائج على المواطنين‪.‬‬ ‫ومع ذلك فإن الترهيب المستخدم من قبل الدولة العلمانية‪ -‬الليبرالية يختلف بالطبع على مستوى الطريقة‬ ‫عن الترهيب المستخدم من قبل الدولة الديكتاتورية‪ .‬مث ًال‪ ،‬تهديد الحكومة بسجن من يشرب الكحول ليس‬ ‫كمثل البرامج التثقيفية الحكومية حول شرب الكحول بطريقة مسؤولة‪ ،‬وعقوبة السجن لفترة طويلة لجريمة‬ ‫ما أكثر ترهيباً من عقوبة السجن لفترة قصيرة‪ ،‬والغرامة الكبيرة قسرية أكثر من الغرامة الصغيرة إلخ‪ .‬لذا‬ ‫فإن ‘الترهيب’ يجب أن ال يكون إشكالياً إن كان سيظهر بمظهر عقالني وناجماً عن إجراء محايد‪ .‬تعرضت‬ ‫‘الحيادية’ سلفاً لالنتقاد‪ ،‬وتم إظهارها بأنها تفتقد للفهم الذاتي المعياري‪ ،‬لذا ال بد من تحليل أكثر دقة‬ ‫للترهيب لكي يعرف مواطنو الدولة العلمانية‪-‬الليبرالية ما الذي سيواجهونه (توضيح هذه الفكرة تمكن‬ ‫الرعايا من االختيار بشكل مدروس)‪.‬‬ ‫تلتزم الليبرالية ببعض مبادئ التسامح وما يسمى ‘معاداة السلطة األبوية’‪ :‬بحيث يكون الرعايا هم‬ ‫من يقرر ما هو األفضل بالنسبة لهم(‪ .)8‬إنها ترى أن غياب االضطهاد الممنهج لألساليب العنيفة في الحياة‬ ‫هي قيمة أساسية في المجتمع البشري‪ .‬فالحرية هي القيمة المركزية التي تدور حول المفهوم المعقد‬ ‫للطبيعة ودور الحريات االجتماعية(‪ .)9‬أطروحة أشعيا بيرلين الشهيرة تدور حول الموضوع ذاته‪ ،‬حيث تصبح‬ ‫الحرية السلبية –أي الحرية من تدخل الحكومة– أمراً إيجابياً‪ .‬وهكذا يصبح السؤال التالي هاماً جداً “كيف‬ ‫يمكن التأكد من أن تقرير المعايير التي يستخدمها الناس لن يغير بدوره طريقة تفكيرهم؟”‪ .‬هناك العديد‬ ‫من النماذج الديمقراطية –التي يتجاهلها العلمانيون الليبراليون– ومفاهيم الحكومة الشعبية التي يمكن أن‬ ‫تقلب هذه المشكلة‪ ،‬وقد تم اقتراح إيجاد أنظمة فيديرالية وبرلمانات محلية لنقل السلطة‪ ،‬وأنظمة قانونية‬ ‫تعددية لتلبية الحقوق من قبل مفكرين مسلمين كبالك وظافر(‪ ،)10‬وليس عن طريق غطاء اإلعالنات العالمية‬ ‫بل عن طريق االعتراف بحق المجتمعات بتقرير الطرق التي تُحكم بها على المستوى المحلي‪ .‬العلمانيون‪،‬‬ ‫كالنعيم‪ ،‬يتعاملون غالباً مع األساليب الموجودة لألنظمة الديمقراطية وكأنها األساليب المثالية للديمقراطية‬ ‫والحكم متجاهلين مفاهيم متنوعة أخرى للدول الديمقراطية يمكن استخدامها(‪.)11‬‬ ‫لذا‪ ،‬وتلخيصاً لكل ما سبق‪ ،‬تتجذر الليبرالية العلمانية باالعتقاد أنها ال تجبر الرعايا على التصرف بناء‬ ‫‪214‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫على بعض أنظمة القيم‪ ،‬ولتحقيق ذلك ينبغي على العلمانية أن تكون حيادية‪ .‬لكن ثبت أن العلمانية هي‬ ‫نظام تعمل به الدولة‪ ،‬وأن الدولة بطبيعتها تكون ترهيبية‪ .‬وبسبب الطبيعة الترهيبية للدولة‪ ،‬فإن الدولة‬ ‫العلمانية الليبرالية ستكون بذاتها ترهيبية‪ ،‬وهنا يطرح هذا السؤال نفسه‪ ،‬هل يمكن اعتبار الدولة العلمانية‬ ‫حيادية؟ طريقة واحدة طرحت لحل مشكلة الترهيب في الدولة وهي عدم اعتماد العلمانية فقط بل البحث‬ ‫عن هيكليات سياسية بديلة‪.‬‬ ‫الع ْل َم َنة‬ ‫َ‬ ‫يؤكد البروفسيور النعيم أن المواطنين أحرار عندما يعتبرون أنفسهم مصادر التوثيق للمطالب‬ ‫الشرعية(‪ .)12‬في حال استمرت الدولة العلمانية كما يراها بشكل معياري‪ ،‬فإن مقولته “أنا أدعو لدولة‬ ‫علمانية‪ ،‬ال لعلمنة المجتمع” ستصبح مقنعة بالنسبة للمتدينين في نهاية المطاف(‪ .)13‬الفرق بين العلمانية‬ ‫والعلمنة يحتاج لتوضيح‪‘ :‬العلمانية’ كتفويض يحد من دور الدين في المجال العام‪ ،‬و‘العلمنة’ كعملية‬ ‫ثقافية واجتماعية‪ .‬وبحسب التحليل الغائي ‪ teleological‬لفيبر تبنى العلمانية على نظرية ‘الترشيد والعقلنة’‪،‬‬ ‫واإلزالة التدريجية للغموض الذي يلف الهيكل اإلداري للحكم واالقتصاد والعائلة‪ ،‬باإلضافة لحركة تشرح خلو‬ ‫العالم من التفسيرات الغامضة‪ ،‬السرية والسحرية(‪( )14‬يعرف ذلك بعملية ‘التخلص من الوهم’)‪ .‬وقد ظهرت‬ ‫منذ فيبر اتجاهات اجتماعية تؤكد أنه عندما يتبنى المجتمع االقتصادي الحديث دستوراً علمانياً‪ ،‬يالحظ‬ ‫انخفاض بنسبة الدين بسبب تراجع اإليمان بالماورائيات في عقول الناس(‪ .)15‬نظراً ألن أطروحة النعيم هي‬ ‫محاولة للوصول إلى العلمانية بدون علمنة‪ ،‬فإن أطروحته تحوي إشار ًة بسيط ًة إلى نقاشات تتعامل مع‬ ‫العالقة العرضية بين العلمانية كمشروع دولة والعلمنة كإجراء اجتماعي‪ .‬كتاب طالل أسد ‘تك ّون العلماني’‬ ‫وعلوم اإلنسان‪/‬النفس الفلسفية األخرى تعالج هذه النظريات بشكل مباشر‪ ،‬وسنتحدث عنها الحقا‪.‬‬ ‫وفقاً ألسد‪ ،‬فإنه يجب تنظيم فهم الدين والعلمانية كأصناف تحليلية ‪ analytical categories‬من خالل‬ ‫االعتراف بعالقتهما الجدلية المترابطة‪ .‬عندما يتم فهمها بشكل تحولي‪ ،‬فإن المعاني اآلنية المترابطة للدين‬ ‫والعلمانية تتحول إلى مصطلحات جدلية إشكالية بحيث يتم تجنب التجانس والثبات الستاتيكي فيها‪ .‬تخلق‬ ‫الحداثة –العلمانية‪ -‬ظروفاً تولد فيها التبدالت والتصورات المفاهيمية الجديدة لألديان(‪ .)16‬ومع ذلك فإنها‬ ‫تشير إلى حقيقة أن محاوالت العلمانية للحد من تدخل الدين في المجال العام ال بد أن تصطدم بالمذاهب‬ ‫التكوينية والمعايير والقواعد التي تؤثر على الممارسات الدينية في المجال الخاص‪ .‬تفترض أطروحة العلمانية‬ ‫التي كتبها النعيم بسذاجة وجود فضاء عام يخلو من هذه الضغوطات والصراع <بين المجال العام والخاص>‪،‬‬ ‫والمطالبة بالحيادية الحوارية في النقاش العقالني النقدي تغطي على اآللية الحقيقية للعالقات السلطوية‬ ‫في السياسة(‪ .)17‬أوهام العلمانية هذه تخفي انقسام العمل بين اإليمان الديني والجدلية العلمانية من خالل‬ ‫قمع األشكال المعقدة والدقيقة من اإلقناع والخطاب والترهيب التي تعمل في المجال العام‪ .‬تستمر هذه‬ ‫العالقات السلطوية الخفية بالعمل ضمن النظام العلماني‪ ،‬وبهذا تعتبر العلمانية حالة من التع ّدي على‬ ‫تشكيل الذات‪ ،‬وعليه فعلمانية النعيم هي ٌ‬ ‫شكل من أشكال العلمنة‪.‬‬ ‫يجب البحث بشكل خاص في العلمانية كمشروع دولة‪ ،‬والعلمنة كإجراء اجتماعي‪ .‬تهتم الليبرالية‬ ‫‪215‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫بتحقيق التوازن بين الحريات الخاصة والجماعية‪ ،‬ولعل المبدأ األساسي لـ ‘حرية الوعي’ هو الذي يجعل‬ ‫العلمانية أساسية للفلسفة السياسية الليبرالية(‪ .)18‬يرى أسد أن قراءة بديلة مقنعة بشكل أكبر للعلمانية‬ ‫ستفهم أن العلمانية “تتجلى في العالقات السلطوية المتينة ووسائل الحكم المرتبطة بظهور الدولة الحديثة‬ ‫والرأسمالية”(‪ .)19‬ولهذا تمكن إعادة النظر إلى العلمانية ليس باعتبارها فص ًال بين الدين والدولة ولكن‬ ‫باعتبارها إدارة مستمرة للفكر الديني والممارسة الدينية من قبل الدولة(‪ -)20‬ال يعني ذلك أن تكون الدولة‬ ‫متدينة أو غير متدينة بل يعني أن تقوم الدولة بتأمين نقد فعال للدين(‪.)21‬‬ ‫يؤكد أسد أن إحدى ميزات الحكم الليبرالي الحديث هي أنه “ال إكراه (قوة) وال مفاوضات (موافقة)‬ ‫ولكن فن حكم يستخدم ‘االنضباط الذاتي’ و‘المشاركة’ و‘القانون’ و‘االقتصاد’ كعناصر لالستراتيجيا‬ ‫السياسية”(‪ .)22‬لنأخذ مثاالً في االقتصاد‪ ،‬ففي حالة الفائدة (المحرمة في اإلسالم) يعتقد النعيم أن “التأسيس‬ ‫الصارم لفكرة أن الدولة لن تقوم بفرض أي نظرة دينية على دفع الفائدة والتعامل بها (الربا) يحتاج إلى‬ ‫تأكيد حرية جميع المواطنين في االختيار بين ممارسة أو تجنب الفائدة المصرفية تبعاً لمعتقداتهم الدينية‬ ‫الشخصية”(‪ .)23‬المشكلة هنا هي أن القرارات االقتصادية الحديثة على نسبة الفوائد والحماية القانونية‬ ‫وشروط التجارة إلخ‪ ،‬جميعها تأتي من الدولة‪ .‬وكي تكون أطروحة النعيم صحيحة‪ ،‬فال بد من وجود أنظمة‬ ‫اقتصادية موازية‪ٍّ ،‬‬ ‫لكل منها تشريعات خاصة بها فض ًال عن ضرورة تأمين حمايتها من ِق َبل الدولة‪ .‬كيف يمكن‬ ‫أن يبرر النعيم استخدام الفائدة لتدعيم نظام مصرفي استثماري بشروط محايدة؟ يرى هابرماس ‪Habermas‬‬ ‫وفيبر ‪ Weber‬وبوالنيي ‪ Polanyi‬أن الدولة الحديثة تمثل حماية بنيوية للرأسمالية‪ .‬بطريقة مماثلة في‬ ‫أنظمة شيوعية‪/‬رأسمالية متنافرة‪ ،‬فإن أي نظام اقتصادي ديني‪ ،‬حسب ما يطرحه النعيم‪ ،‬لن يستطيع أن‬ ‫ينافس الرأسمالية بل سيضطر للعمل ضمن نظامها‪ .‬الدور الذي يقوم به مصرف إنكلترا في المملكة المتحدة‬ ‫والمصرف االحتياطي الفيديرالي في الواليات المتحدة هو تحديد نسب الفوائد والتحكم بالعرض النقدي –‬ ‫وهي تناقضات واضحة لما جاء في أطروحة النعيم حيث يسيطر كيان صغير على هذين األمرين معاً‪ .‬من‬ ‫يرفض التعامل بهذا النظام المعتمد على الفائدة سيعاني من انخفاض قيمة أمواله (بسبب التضخم) وبالتالي‬ ‫سيكون عليه التخلي عن كمية أكبر من أمواله‪ ،‬وسيكون عليه تقديم تضحيات أكبر من أجل شراء بيت أو‬ ‫أي نوع آخر من األصول‪ .‬قضية الفائدة هي قضية اقتصادية كبرى (ماكرو) وليست بصغيرة (ميكرو) لذا فإنها‬ ‫مركزية بالنسبة للفكر الذي يبنى على أساسه النظام االقتصادي‪ .‬وببساطة ال يمكن الدفاع عن فكرة حرية‬ ‫اختيار أو تجنب الفائدة بنا ًء على القناعات الشخصية‪.‬‬ ‫يمكن لالنتقاد الواسع لالقتصاد أن يشمل أمورا أخرى غير الفائدة‪ ،‬فكما يشير هيلد ‪“ Held‬توجه‬ ‫الليبرالية نحو إيجاد مراكز قوى متنوعة وعالم يتسم باالنفتاح‪ ،‬كان على حساب الجدل والتعددية التي‬ ‫ستضعف بصورة جذرية من خالل ما يسمى ‘السوق الحر’ – واقع نظام سلطة الشركات والشركات متعددة‬ ‫الجنسيات‪ ،‬ومنطق مجالس التشريع االقتصادية المصرفية والتنافس االقتصادي السياسي لتكتالت القوى”(‪.)24‬‬ ‫تفشل ليبرالية النعيم وبسذاجة في رؤية قوة السوق (الذي يذهب أبعد من ترهيب الدولة بحد ذاتها)‬ ‫وبالتالي تهمل أطروحته الطبيعة المشوهة للقوة االقتصادية فيما يتعلق بالديمقراطية(‪.)25‬‬ ‫على المجتمعات الجماعية أن تصل إلى شكل من أشكال التداخل اإلجماعي‪ :‬من داخل منطقهم‬ ‫‪216‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫الخاص العتماد قانون مشترك للحكم‪ .‬مث ًال ‘حق الحياة’ يمكن أن يكون مبرراً تبعاً لمواقف كانط األخالقية‪،‬‬ ‫خالفات في الرأي حول ما يعتبر‬ ‫وحكم الفقه اإلسالمي‪ ،‬أو وجهة نظر ملحدة ُم َؤن َْس َنة‪ .‬لكن ستكون هناك‬ ‫ٌ‬ ‫المبدأ السياسي المحوري والمبررات الخلفية ‪ ،background justifications‬إذاً فأي من هذه المنظومات‬ ‫األخالقية سيتم استخدامها لتحديد هذه المبادئ؟ عندما تحاول الدولة (باإلجبار) أن تؤسس وتدافع عن‬ ‫‘مبادئ سياسية محورية’‪ ،‬أو عندما تفرض تمييزاً معيناً بين ‘المبادئ المحورية’ و‘المبررات الخلفية’ (بمعنى‬ ‫قانون أخالقي معين وخاص بجماعة معينة) فإن ذلك سيؤدي إلى استياء متراكم وانحالل‪ .‬يدفعنا هذا لنسأل‬ ‫“هل يمكن للدولة العلمانية أن تحافظ على السالم والتسامح الذي تدعيه؟”(‪.)26‬‬ ‫العلمانية مشروع يسعى لنشره وتحقيقه أشخاص ومؤسسات ذات نفوذ‪ ،‬ولكن كي يعمل هذا‬ ‫المشروع يجب علمنة المجتمع المدني‪/‬األهلي‪ .‬خرجت الدولة العلمانية من الشعوب المتدينة تحديداً‪،‬‬ ‫ألن بناء شعوب علمانية ال يحتاج ألشخاص علمانيين‪ ،‬بل على العكس إن الدولة واالقتصاد العلمانيين هما‬ ‫من ينتج أشخاصاً علمانيين(‪ .)27‬وصف دوركهايم ‪ Durkheim‬الدولة بأنها جهاز لالنضباط األخالقي‪ ،‬وبمعتقد‬ ‫مشابه لمعتقد النعيم في أنه يمكن تخطي التعليم الديني الخاص‪ ،‬ناقش دوركهايم أنه يجب منع المدارس‬ ‫الكنسية في فرنسا كون الهدف الحقيقي من التعليم هو إضفاء “توجه أساسي نحو تكوين الشخصية”(‪.)28‬‬ ‫ربما هذه هي الطريقة األفضل لفهم توظيف النعيم لكلمة ‘شخص’ – مواطن علماني (على األقل في العلن)‬ ‫فعال في الدولة الحديثة‪ .‬إن التنظيم األخالقي من خالل آلية الترهيب في الدولة (تعليمي‪ ،‬قانوني‪ ،‬إلخ)‬ ‫هو في الواقع تنحية ثقافية للسيادة التقليدية الدينية (تلك السيادة التي تفرض سلطة معيارية) عبر فرض‬ ‫قواعد عامة للدولة العلمانية(‪ .)29‬أي هو عملية تبديل ألصول التوجه المعياري الديني إلى أصول علمانية‬ ‫للمجتمع(‪.)30‬‬ ‫غياب التعليق على ترهيب الواقع السياسي للدولة الحديثة (واالقتصاد الحديث) هو نقطة ضعف‬ ‫كبيرة عند النعيم –باإلضافة لمعظم الخطابات العلمانية األخرى– ويضع مزيداً من الضغوط على نجاح‬ ‫المشروع العلماني‪ .‬هذا األسلوب من التشريع يفتقر إلى دفاع قوي عن الحيادية فيما يتعلق بنتائجه‬ ‫على هوية المواطنين في ظل هذه الدولة المفترضة‪ .‬العلمانية ليست مجرد جواب عقالني على سؤال‬ ‫تشريع يم ّكن المحيط السياسي ‪political medium‬‬ ‫حول ديمومة السلم والتسامح االجتماعي‪ ،‬بل هي‬ ‫ٌ‬ ‫من إعادة تعريف وتجاوز ممارسات محددة ومتمايزة للذات “يعبر عنها <عادة> من خالل الطبقة والجندر‬ ‫والدين”(‪.)31‬‬ ‫الهوامش‬

‫‪ - 1‬الخليفة هو اللقب املمنوح لقائد املسلمني‪ .‬هو ليس منصباً دينياً‪ ،‬بقدر ما هو مفهوم سيايس يدل عىل الحكم ودعم القانون الديني‪.‬‬ ‫‪ - 2‬ابحث يف النقاش حول الرتهيب يف كتاب آر غيس ‘التاريخ والوهم يف السياسة’‪ ،‬مطبعة جامعة كامربيدج (‪ )2001‬ص‪22‬‬ ‫‪ - 3‬ذات املرجع‬ ‫‪ - 4‬ذات املرجع ص ‪68‬‬ ‫‪ - 5‬أ‪.‬أ‪ .‬النعيم ‘اإلسالم والدولة العلامنية’‪ ،‬هارفرد ( ‪ )2008‬ص ‪33‬‬

‫‪217‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫دراسات‬ ‫‪ - 6‬ذات املرجع ص ‪ + 292‬ص ‪92‬‬ ‫‪ - 7‬ج‪.‬إف غاوس ‘الكاملية والحيادية’‪ ،‬ج‪ .‬كلوسكو وستيفني وول ( محرران )‬ ‫النهام‪ ،‬إم‪ .‬دي ‘رومان وليتلفيلد’ (‪ ) 2003‬صفحة ‪156 137-‬‬ ‫‪ - 8‬آر‪ .‬غيس ‘التاريخ والوهم يف السياسة’ ص ‪101‬‬ ‫‪ - 9‬ذات املرجع ص ‪73‬‬ ‫‪ - 10‬يس‪ .‬كورزمان‪‘ ،‬اإلسالم الليربايل‪ :‬مرجع’‪ ،‬جامعة أوكسفورد‪ )1998( ،‬انظر الفصل ‪ ،6،8‬و‪19‬‬ ‫‪ - 11‬د‪ .‬هيلد ‘مناذج الدميقراطية’‪ ،‬بوليتي بريس (‪)2006‬‬ ‫‪ - 12‬أ‪.‬أ‪ .‬النعيم‪‘ ،‬اإلسالم والدولة العلامنية’‪ ،‬ص ‪23‬‬ ‫‪ - 13‬يجب تحدي املخاوف الدينية من العلمنة ( كالخوف من أن حرص الدين باملجال الخاص يرتبط باإللحاد)‬ ‫‪ - 14‬جي‪ .‬هابرماس‪‘ ،‬الخطابات الفلسفية للحداثة’‪ ،‬بوليتي بريس‪ )1985( ،‬ص‪2‬‬ ‫‪ - 15‬منطقة محررة مأهولة بأناس بنظرات عاملية خالية من التفسريات الدينية‪ .‬إم‪ .‬ناندا‪‘ ،‬العلامنية بدون علمنة‪ :‬انعكاسات الله والسياسة يف الواليات‬ ‫املتحدة والهند’‪ ،‬الصحيفة األسبوعية االقتصادية والسياسية‪ ،‬املجلد ‪ ،42‬رقم ‪( 1‬كانون الثاين ‪ )2007 ،12-6‬صفحة ‪40‬‬ ‫‪ - 16‬إتش‪ .‬جي‪ .‬كوكس‪ ،‬جي‪ .‬سوينغدو ‘أسطورة القرن العرشين‪ :‬صعود وسقوط العلمنة’‪ ،‬املجلة اليابانية للدراسات الدينية‪ ،‬املجلد ‪ ،27‬رقم ‪2/ 1‬‬ ‫( ربيع ‪ ) 2000‬ص ‪9‬‬ ‫‪ - 17‬اقتباس من إتش‪ .‬اقتدار‪‘ ،‬علمنة اإلسالم؟’ شيكاغو ( ‪ ) 2010‬ص ‪19‬‬ ‫‪ - 18‬ذات املرجع‬ ‫‪ - 19‬ذات املرجع‬ ‫‪ - 20‬ذات املرجع ص‪21‬‬ ‫‪ - 21‬أ‪ .‬نورية ‘العالقة بني الدولة والدين‪ :‬تناقضات العلامنية السلبية’‪ ،‬الصحيفة األسبوعية االقتصادية السياسية‪ ،‬املجلد ‪ ،24‬رقم ‪ ( 8‬شباط ‪)1989 ،25‬‬ ‫ص ‪406 405-‬‬ ‫‪ - 22‬ط‪.‬أسد‪‘ ،‬تك ّون العلامين’‪ ،‬ستانفورد ( ‪ )2003‬ص ‪3‬‬ ‫‪ - 23‬أ‪.‬أ‪ .‬النعيم‪ ،‬اإلسالم والدولة العلامنية‪ ،‬ص ‪35‬‬ ‫‪ - 24‬د‪ .‬هيلد‪‘ ،‬النظرية السياسية والدولة الحديثة’‪ ،‬بوليتي ( ‪ ) 1984‬ص ‪166‬‬ ‫‪ - 25‬آر‪ .‬غيس‪‘ ،‬التاريخ والوهم يف السياسة’‪ ،‬ص‪109‬‬ ‫‪ - 26‬ذات املرجع‬ ‫‪ - 26‬ذات املرجع‬ ‫‪ - 26‬ذات املرجع ص ‪21‬‬ ‫‪ - 26‬أ‪ .‬نورية ‘العالقة بني الدولة والدين‪ :‬تناقضات العلامنية السلبية’‪ ،‬املجلة األسبوعية االقتصادية السياسية‪ ،‬املجلد ‪ ،24‬رم ‪ ( 8‬شباط‪)1989 25-‬‬ ‫ص ‪406 405-‬‬ ‫‪ - 26‬ط‪ .‬أسد ‘تك ّون العلامين’ ص ‪3‬‬ ‫‪ - 26‬أ‪.‬أ‪.‬النعيم‪‘ ،‬اإلسالم والدولة العلامنية’‪ ،‬ص‪35‬‬ ‫‪ - 26‬د‪ .‬هيلد‪ ،‬ط‪ .‬أسد ‘تك ّون العلامين’‪ ،‬ص ‪7‬‬ ‫‪ - 27‬ذات املرجع ص‪40‬‬ ‫‪ - 28‬أ‪.‬غيدينز‪‘ ،‬دوركهايم’‪ ،‬مطبعة فونتانا ( ‪ )1978‬ص ‪78‬‬ ‫‪ - 29‬ك‪ .‬تومبسون‪ ،‬أ‪ .‬شارما ‘العلمنة‪ ،‬النظام األخالقي ووسائل اإلعالم’ املجلة الربيطانية لعلم االجتامع‪ ،‬املجلد ‪ ،49‬رقم ‪ ( ،3‬أيلول – ‪ )1998‬ص‬ ‫‪455 – 434‬‬ ‫‪ - 30‬آر‪ .‬ك‪ .‬فني ‘علمنة القيم‪ :‬إطار تحلييل لدراسة العلمنة’‪ ،‬مجلة الدراسة العلمية يف الدين‪ ،‬املجلد ‪ ،8‬رقم ‪ ( 1‬ربيع ‪ )1969‬ص ‪124 112-‬‬ ‫‪ - 31‬ط‪ .‬أسد‪‘ ،‬تك ّون العلامين’‪ ،‬ص ‪5‬‬

‫‪218‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬


‫املشهد البصري‬

‫إميان نوايا ❊‬

‫❊ خريجة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة حلب ‪ .2012‬لها مشاركات فنية عديدة يف سوريا وبريوت‬ ‫“لوحايت ترسح بفضاء التجريدية التعبريية‪ .‬أعرب من خاللها عن األنثى وعالقتها مع املجتمع بالعموم‪ ،‬ومع الذكر بالتحديد‪ .‬ذاكريت‬ ‫تحمل الحرب وتوظفها بأنثى‪ :‬جسد‪ ،‬ألوان‪ ،‬خطوط‪ ،‬فراغات‪ ،‬ثم لوحة”‪.‬‬ ‫‪220‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫‘نصف امرأة’‬ ‫آالء حميدي ❊‬

‫❊ طالبة أدب فرنيس يف جامعة دمشق‪ ،‬ومقيمة حالياً يف اإلمارات العربية املتحدة‪ .‬عملت محررة ومصورة فوتوغرافية يف عدة منابر‬ ‫إعالمية‪ ،‬وشاركت يف عدة معارض فنية منها معرض بعنوان ‘بصمة’ يف سوريا ‪ ،2009‬ومعرض بعنوان ‘نساء يف العامل العريب والثورة’‬ ‫يف بلجيكا ‪.2013‬‬ ‫‪221‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫سكيتش‬

‫روان التكريتي ❊‬

‫❊ خريجة املعهد العايل للفنون املرسحية بجامعة دمشق‪ ،‬قسم السينوغرافيا ‪ ،2012‬وخريجة معهد أدهم اسامعيل للفنون التشكيلية‬ ‫‪ .2014‬شاركت بالعديد من املعارض الجامعية أهمها معرض ‘نحن توغيذر’ الذي أقيم يف خان أسعد باشا بدمشق ‪ .2008‬حالياً‬ ‫تعمل كمسؤولة عن ‘منتدى البناء الثقايف’ بدمشق‪ ،‬ومعيدة يف املعهد العايل للفنون املرسحي بجامعة دمشق‪.‬‬ ‫‪222‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫هاين عباس ❊‬ ‫❊ هاين عباس‪ ،‬من مواليد مخيم الريموك‪ ،‬دمشق‪ .‬خريج دار املعلمني دمشق ‪ .1999‬توقف عند السنة الثالثة يف كلية الرتبية جامعة‬ ‫دمشق‪ .‬عضو نقابة الفنون الجميلة السورية منذ ‪ .1999‬أقام أول معرض فردي عام ‪ 1998‬يف جامعة دمشق‪ ،‬إضافة إىل عدة‬ ‫معارض فردية ومشرتكة يف سوريا والعامل‪ .‬حاصل عىل املركز األول للرسامني املحرتفني يف سوريا ثالث مرات‪ ،‬حاصل عىل املركز الثاين‬ ‫يف ‘مسابقة حرية الصحافة العاملية’ ‪ ،2013‬وعدة جوائز رشفية وتقديرية عربية ودولية‪ .‬عضو لجنة تحكيم يف عدد من املهرجانات‬ ‫منها ‘مهرجان سوريا الدويل للكاريكاتو’‪ ،‬و‘مهرجان ناجي العيل األول للكاريكاتري’ بدمشق ‪ ،2007‬وعضو لجنة تحكيم جائزة مركز‬ ‫‘بديل’ رام الله‪ .‬له ثالثة أفالم كرتون قصرية منجزة وقيد املونتاج‪ .‬يرسم يف عدد من الصحف واملواقع اإللكرتونية العربية‪.‬‬ ‫‪223‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫املشهد البصري‬

‫‘نحت باألسالك’‬ ‫علي دوبا ❊‬

‫❊ خريج كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق‪ ،‬قسم النحت ‪ .2013‬بدأ النحت باألسالك عام ‪ ،2012‬واستخدم هذه التقنية يف‬ ‫مرشوع تخرجه من الجامعة معتمدا ً عىل السكيتش كأساس ألعامله‪ .‬شارك يف عدة معارض جامعية وورشات العمل يف مجايل‬ ‫النحت والتصوير‪.‬‬ ‫‪224‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫‪225‬‬

‫العدد ‪2‬‬ ‫كانون األول ‪ /‬ديسمرب ـ ‪2014‬‬


‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ‪ -‬لندن‬


‫حول جملة ِدلْـــ َتا نُــون‬

‫مجلة ِدلْـــتَا نُــون مجلة يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام (دمشق ‪ -‬لندن)‪.‬‬ ‫تسعى املجلة إىل دراسة العالقة بني الفكر والشأن العام يف منطقة غرب آسيا وشامل‬ ‫إفريقيا (الرشق األوسط) عموماً‪ ،‬ويف سوريا خصوصاً‪ .‬تعمل املجلة عىل نرش مواد ترتاوح‬ ‫بني املقاالت والدراسات والريبورتاجات الصحفية ومراجعات الكتب‪ ،‬إضافة إىل قسم‬ ‫خاص بالصور الفوتوغرافية والرسومات والكاريكاتور‪ .‬وتهتم املجلة بنرش املواد التي‬ ‫تناقش‪ ،‬يف صور ٍة مرتابط ٍة ومنهجية‪ ،‬ما ينضوي تحت املحاور الثالثة التالية‪:‬‬

‫• الفكر‪ :‬مبا يشمله هذا العنوان العريض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من أفرا ٍد (كاملثقفني‬ ‫ٍ‬ ‫ومؤسسات (املراكز بحثية‪ ،‬والجامعات‪،‬‬ ‫واألكادمييني والخرباء وال ُكتّاب واإلعالميني)‪،‬‬ ‫والصحافة‪ ،‬ودور النرش)‪ ،‬و ُم ْخ َر َج ٍ‬ ‫ات (كالكتب‪ ،‬واألفكار‪ ،‬والحركات الفكرية)‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫• الشأن العام‪ :‬مبا يشمله هذا العنوان العريض‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من أعر ٍ‬ ‫وثقافات‬ ‫اف‬ ‫سائدة و ُم َه َّمشة‪ ،‬وقضايا االقتصاد والتنمية والخدمات‪ ،‬واملجتمع املدين‪ ،‬والصحة‬ ‫والرتبية والتعليم‪ ،‬وتطبيق القانون والترشيعات والحقوق األساسية‪ ،‬واملامرسات‬ ‫السياسة‪ ،‬وغريها‪.‬‬ ‫• العالقة بني املح َو َريْن السابقني‪ ،‬أي بني الفكر والشأن العام‪ :‬سواء عىل مستوى التأثر‬ ‫والتأثري‪ ،‬والتقاطع‪ ،‬والسببية‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬واالستقاللية‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫دعوة للكتابة يف ‘جملة ِدلْـــ َتا نُــون’‬

‫بعد إصدار العدد الثاين يف كانون األول‪/‬ديسمرب ‪ ،2014‬تسعى ‘مجلة دلتا نون’ إىل إصدار‬ ‫عددها الثالث يف ربيع ‪ .2015‬وعليه ندعوكم إىل إغناء املجلة مبساهامتكم الفكرية‬ ‫والنقدية واملستقلة‪ ،‬بعد االطّالع عىل رشوط وتعليامت النرش يف املوقع اإللكرتوين للمجلة‪:‬‬ ‫‪ .delta-n.c-tpa.org‬وميكن إرسال مساهامتكم عىل الربيد اإللكرتوين‪editors@c-tpa. :‬‬ ‫‪ ،org‬علامً أن آخر ٍ‬ ‫موعد الستقبال املساهامت هو نهاية آب‪/‬أغسطس ‪.2014‬‬

‫رسائل القراء‬

‫ترحب مجلة ِدلْـــتَا نُــون برسائل القراء سواء كانت تعليقات أو تعقيبات أو ردود عىل‬ ‫املواد املنشورة يف املجلة‪ ،‬أو اقرتاحات وانتقادات تسهم يف االرتقاء بعملها‪ .‬ميكن للقراء‬ ‫توجيه كافة الرسائل إىل هيئة التحرير عىل الربيد اإللكرتوين‪editors@c-tpa.org :‬‬


‫ •‬ ‫• ‬ ‫ •‬ ‫• ‬ ‫ •‬ ‫• ‬

‫مقاالت‬

‫اإللحاد‬ ‪‭‬والبحث‬ ‪‭‬عن‬ ‪‭‬رب‬ ‪‭‬غري‬ ‪‭‬سخيف – نرسين عالء الدين‬ ‫املقبلون‬ ‪‭‬عىل‬ ‪‭‬الزواج – أحمد حاج حمدو‬ ‫الفصائل‪‬ ‭‬املسلحة‪‬ ‭‬يف‪‬ ‭‬سوريا‪ - ‭‬طارق العبد‬ ‫عن‬ ‪‭‬الحرب‬ ‪‭‬والتعايش‪ :‬القصة‬ ‪‭‬الحمصيّة‬ ‪‭‬الكاملة – سومر العيل‬ ‫بني‪‬ ‭‬أمل‪‬ ‭‬املعتقل‪‬ ‭‬وترصيح‪‬ ‭‬الوزير‪ – ‭‬قيص عاممة‬ ‫ني‬الداخل‪‬‭‬والخارج – مليس الجاسم‬ ‫أحال ٌم‪‬‭‬سورية‪ ‬:‭‬ب ‪‭‬‬

‫• قراءة‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬التنظري‬ ‪‭‬الثوري ‬يف‬ ‪‭‬السياق‬ ‪‭‬السوري – طالل املَيْ َهني‮‬ ‫• الشــرق – من ّور الش ّوا‬ ‫• الفساد‪ :‬مقاربة‬ ‪‭‬منظومية‬ ‪‭‬نحو‬ ‪‭‬التحديث – مازن عيل‬ ‫• مظاهر‬ ‪‭‬العلمنة‬ ‪‭‬يف‬ ‪‭‬املامرسات‬ ‪‭‬اإلسالمية‬ ‪‭‬األوىل – مبارك أباعزي‬ ‫• مرثية‬ ‪‭‬لربي ‬عٍ ‪‭‬ضائع – هوزان خداج‬ ‫ت ‪‭‬تاريخي ‬ة ‪‭‬وفكرية – وسيم السلطي‬ ‫ • تنظي ‬م ‪‭‬الدول ‬ة ‪‭‬اإلسالمي ‬ة‪ ‭:‬تساؤال ‬‬ ‫• فيلم‬ ‪‘‭‬املرآة’‬ ‪‭‬ألندريه‬ ‪‭‬تاركوفسيك‪ :‬قراءة‬ ‪‭‬نقدية – عالء الدين العاملدراسات‬ ‫• أسباب‬ ‪‭‬عجز‬ ‪‭‬املثقف عن‬ ‪‭‬إنتاج‬ ‪‭‬معرفة‬ ‪‭‬سورية – محمد ديبو‬ ‫• مفهوم‬ ‪‭‬الهوية‬ ‪‭‬الرسدية من‬ ‪‭‬منظور‬ ‪‭‬بول‬ ‪‭‬ريكور – زهري الخويلدي‬ ‫مراجعات كتب‬ ‫• كل‬ ‪‭‬الطرق‬ ‪‭‬تؤدي‬ ‪‭‬إىل‬ ‪‭‬العوملة‪ :‬روما‬ ‪‭‬الجديدة – إبراهيم النفره‬ ‫• تقاطع‬ ‪‭‬نريان – محمد حجو‬ ‫• الخطاب‪‬ ‭‬اإلعالمي‪‬ ‭‬االرسائييل املوجه‪‬ ‭‬للعرب‪ – ‭ ‭‬حيان الضلع‬ ‫• ُمح ّمد‬ ‪‭‬إقبال‪ :‬نحو‬ ِ‪‭‬سري ٍ ‬ة ‪‭‬صوف ّية – خالد محمد عبده‬ ‫• إشكالي ‬ة ‪‭‬التدخ ‬ل ‪‭‬الدو ‬يل ‪‬ ‭‬يف ‪‭‬سوريا – محمد زيكار‬ ‫• إعادة‬ ‪‭‬قراءة‬ ‪‭‬لرواية‬ ‪‘‭‬مزرعة‬ ‪‭‬الحيوانات’‬ ‪ –‭‬أحمد مصطفى الغر‬ ‫• محددات‬ ‪‭‬تشكيل‬ ‪‭‬الهوية‬ ‪‭‬الثقافية للطفل السوري – ياسمني‬ ‫حسني عيود‬ ‫ريبورتاجات‬ ‫يس ‪‭‬فريزر – رشيد العلوي‬ ‫س ‪‭‬إ ‬ىل ‪‭‬نان ‬‬ ‫• الفضا ‬ء ‪‭‬العموم ‬ي ‪‭‬م ‬ن ‪‭‬هابرما ‬‬ ‫• مبادئ‪‬‭‬العدالة‪‬‭‬االنتقالية‪ – ‭‬سليامن عيل سليامن‬ ‫ب ‪‭‬والعلمنة – تحسني بايازيوراك‬ ‫ني ‪‭‬الرتهي ‬‬ ‫• ‬يف ‪‭‬الدول ‬ة ‪‭‬الليربالي ‬ة‪ ‭:‬ب ‬‬

‫مركز دراسات الفكر والشأن العام‬

‫مجلة دلتا نون‬

‫‪Centre for Thought and Public Affairs‬‬ ‫‪email: info@c-tpa.org‬‬ ‫‪www.c-tpa.org‬‬

‫يصدرها مركز دراسات الفكر والشأن العام‪ .‬دمشق ـ لندن‬

‫‪@CTPA_Arabic‬‏‬

‫‪@DeltaN_Arabic‬‏‬

‫‪CTPA.Arabic‬‏‬

‫‪email: editors@c-tpa.org‬‏‬ ‫‪www.delta-n.c-tpa.org‬‏‬ ‫‪DeltaN.Arabic‬‏‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.