مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس 2015

Page 1

‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫رداء العواصم‬ ‫يليق بأمّ‬ ‫الحواضر‬ ‫قسنطينة‬

‫‪ 25‬قرنا فوق‬ ‫قمة الصخر‬ ‫اليوم العالمي للمرأة‬

‫جميالت الجزائر‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫الطفل معتز ميخابة‬ ‫إخراج فوتوغرافي وليد حميدة‬ ‫بمساهمة جمعية جسور للفن‬ ‫و التراث الشعبي‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬ ‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫االفتتاحية‬

‫قلعة الجرأة و التحدي‬ ‫ملــا اســتقر االختيــار عــى مدينــة قســنطينة و تــم اإلعــان الرســمي عــن تتويجهــا‬ ‫مــن طــرف املنظمــة العربيــة للرتبيــة و الثقافــة و العلــوم كعاصمــة للثقافــة العربيــة‬ ‫‪ ، 2015‬ارتفعــت كثــر مــن األصــوات التــي كنــا نظــن بأنهــا قــد انقطعــت ‪ ،‬و تعــاىل‬ ‫رصاخهــا تنديــدا و ســخطا عــى هــذا التنصيــب ‪ .‬فمنهــم مــن مل يقبــل بأحقيــة‬ ‫هــذه املدينــة العتيقــة باســتضافة تظاهــرة عنوانهــا و محتواهــا عربيــان‪ ،‬ح ّجتــه‬ ‫يف ذلــك أن ســرتا صاحبــة ‪ 25‬قرنــا تفتقــر إىل تــراث عــريب مبنــي جديــر بالذكــر‬ ‫و االحتفــاء‪ .‬و منهــم مــن اختــار النعيــق و املــكاء للتعبــر عــن اســتيائه املفتعــل‬ ‫مــررا موقفــه الرافــض تحــت غطــاء النع ـرات العرقيــة‪ ،‬ناك ـرا عــى قســنطينة متنهــا‬ ‫العــريب منــذ اســتقبالها للمواكــب األوىل للفاتحــن املســلمني‪ .‬وألن املقــام أســمى مــن‬ ‫الخــوض يف بحــر لنزاعــات نتنــة صــادرة عــن عقــول لعبــت بهــا العصبيــة إىل مســتوى‬ ‫ال يليــق حتــى بالوصــف‪ ،‬و احرتامــا لقرائنــا األفاضــل‪ ،‬فضلنــا االبتعــاد عــن كل الســبل‬ ‫التــي تفــرق و التمســك بــأوارص اإلتــاف الوجــداين الــذي يجمعنــا‪ .‬ائتــاف صهرتــه‬ ‫عــر القــرون أمــال و أالم أجيــال مــن النســاء و الرجــال عاهــدوا فبلغــوا عهدهــم‪.‬‬ ‫إن احتضــان قســنطينة لتظاهــرة مــن هــذا العيــار و توليهــا دور مل الشــمل وتضميــد‬ ‫جـراح كيــان عــريب أنهكتــه املؤامـرات و الدســائس الداخليــة و الخارجيــة لــن ينســيها‬ ‫بالــكاد ماضيهــا الضــارب يف أعــاق التاريــخ و لــن يجعلهــا تتجلبــب لبــاس النك ـران‬ ‫لتعــرض عــن جذورهــا الثقافيــة الغابــرة و الحــارضة‪ .‬إن املســألة هنــا ال تتعلــق بروابــط‬ ‫رســخه‬ ‫تعــود إىل مــا قبــل امليــاد بقــدر مــا تخــص واقــع لغــوي جــاء بــه اإلســام و ّ‬ ‫القــران يف الضامئــر و القلــوب منــذ ‪14‬قــرن‪ ،‬عــر عنــه العالمــة عبــد الحميــد بــن‬ ‫باديــس ب «ومضــات» مضيئــة ال زال نورهــا يشــع حتــى اليــوم‪ « :‬شــعب الجزائــر‬ ‫أي اســتدراج‬ ‫مســلم و إىل العروبــة ينتســب»‪ .‬وال ّنســب هنــا لــه داللــة قاطعــة ال تبغــي ّ‬ ‫ـوي خارجــا عــن نطاقــه‪ ،‬بــل تكمــن داللتــه داخــل إطــار أالحتضــان الروحــي و‬ ‫لغـ ّ‬ ‫العقائــدي دون االنتــاء العرقــي االنطــوايئ الــذي أصبــح اليــوم «ماركــة» تجاريــة يجري‬ ‫تســويقها ألغـراض ال تخــدم العبــاد و ال البــاد‪« .‬نحــن أمــا زيــغ عربنــا اإلســام» قالهــا‬ ‫رائــد النهضــة الجزائريــة و اقتنعــت بهــا األمــة مــن دون أي تــردّد أو خــوف عــى‬ ‫انتامئهــا‪ .‬إن «عاصمــة الثقافــة العربيــة» تظاهــرة ســنوية أدرجتهــا األلســكو ضمــن‬ ‫نشــاطاتها املســتمرة مــن أجــل تشــجيع اإلبــداع الفكــري‪ ،‬تتــوىل قســنطينة اســتضافتها‬ ‫يف ظــرف صعــب و خطــر بالنســبة لكثــر مــن الشــعوب و الــدول العربيــة املهــددة‬ ‫يف كيانهــا و مصريهــا‪ .‬فبــرف النظــر عــن كل الرتهــات مزدوجــة الغبــاء الســيايس و‬ ‫الفكــري‪ ،‬ال يســع مدينــة العلــم و العلــاء إال أن تتضامــن مــع بغــداد و دمشــق و‬ ‫صنعــاء و القاهــرة وطرابلــس و مقديشــو و تونــس يف منتــدى نأمــل أن ترفــع فيــه‬ ‫منابــر للمفكريــن و األدبــاء و الفنانــن للتنديــد بالهجمــة الهمجيــة التــي يتعــرض لهــا‬ ‫اإلنســان و ت ـراث اإلنســان يف كل مــن الع ـراق و ســوريا و اليمــن ومــر و تونــس‪.‬‬

‫محمد مباركي‬

‫مجلة صادرة عن‬ ‫المحافظة المكلفة بتنظيم‬ ‫تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة‬ ‫العربية ‪2015‬‬

‫مدير النشر‬ ‫سامي بن الشيخ الحسين‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫محمد مباركي‬ ‫سكرتارية التحرير‬ ‫فريدة حمادو‬ ‫االدارة الفنية‬ ‫وليد حميدة‬ ‫التحرير‬ ‫جمال الدين بلقاضي‬ ‫إكرام غيوة‬ ‫إلهام تير‬ ‫رنيدة مراز‬ ‫حفيزة تاوريت‬ ‫سلمى قويدر‬ ‫عبد السالم يخلف‬ ‫سامية خليل‬ ‫رسم و كاريكاتري‬ ‫توفيق دردور‬ ‫فوتوغرافيا‬ ‫محمد لمين حميدة‬ ‫عبد القادر عبد النوري‬

‫‪www.advercorp.dz‬‬ ‫‪031.97.26.54‬‬ ‫‪hello@advercorp.dz‬‬

‫‪ 119‬أ تحصيص الرياض‬ ‫عين سمارة‪ .‬قسنطينة‬ ‫الجزائر‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫الربيد اإللكرتوني‬ ‫‪maqam@qasantina2015.org‬‬


‫المحتويات‬

‫‪12.‬‬

‫ص‬

‫‪8.‬‬

‫ص‬

‫قسنطينة تحظى‬ ‫بعدة مشاريع‬ ‫بمناسبة عاصمة‬ ‫الثقافة العربية‬ ‫انجازات‬

‫«األلسكو» أطلقت‬ ‫تظاهرة عاصمة الثقافة‬ ‫لتنشيط المبادرات الخالقة‬ ‫ص‪14.‬‬

‫ذاكرة المدينة‬

‫‪ 25‬قرنا‬ ‫فوق قمة‬ ‫الصخر‬ ‫ص ‪11.‬‬

‫ص‪18.‬‬

‫ص ‪ 16.‬الثقافة الفلسطينية‬ ‫تدخل العالمية‬ ‫بخطابي الحق والجمال‬

‫رداء العواصم‬ ‫يليق ّ‬ ‫بأم الحواضر‬

‫ص ‪ 22.‬قسنطينة مدينة‬ ‫ّ‬ ‫تحرض على حب الحياة‬ ‫‪4‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫يف الصميم‬

‫ص ‪17.‬‬

‫‪Palestine‬‬ ‫وجوه‬

‫استدراج قسنطينة‬ ‫إلى مهبات اللون‬

‫هنا القدس‬

‫أن تكون مقدسيا‬


‫اليوم العالمي للمرأة‬

‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫جميالت الجزائر‬ ‫ص ‪28.‬‬

‫‪24.‬‬

‫ص‬

‫قيــــــم‬

‫رحيل‬

‫آسيا جبار‬ ‫بين نساء‬ ‫جبل شنوة‬

‫ص ‪31.‬‬

‫حياة موهوبة‬ ‫للفن ‪...‬‬ ‫‪30.‬‬ ‫ص‬ ‫ص ‪.‬‬

‫‪22‬‬

‫ص‬ ‫ص ‪26.8.‬‬

‫نساء من قسنطينة‬

‫نساء من قسنطينة‬

‫القسنطينية التي‬ ‫أما لجميع‬ ‫أصبحت ّ‬ ‫الجزائريين‬

‫أول وزيرة‬ ‫في تاريخ‬ ‫الجزائر‬

‫أتمنى أن أرى صباي‬ ‫من خالل التظاهرات‬ ‫الثقافية بقسنطينة‬

‫‪5‬‬


‫اليوم العالمي للمرأة‬ ‫لقد كانت املرأة الجزائرية عىل الدوام وكلام جد الجد مثاال لنكران الذات‬ ‫والوطنية‪ .‬وبذلت نفسها شأنها يف ذلك شأن إخوانها يف سبيل الثورة وبناء‬ ‫الجزائر الجديدة‪ .‬وقد كان التزامها نتيجة لذلكم التفاين الذي وطنت نفسها‬ ‫عليه يف سعيها املتجدد من أجل مواكبة جهود بالدها ومؤازرتها‪..‬‬

‫يوم العلم‬ ‫لقد جمع عبد الحميد بن باديس بني العلم والجهاد فأحسن الجمع‪ ،‬وكان‬ ‫خري قدوة لطالبه ومريديه يف مختلف جهات القطر الجزائري‪ .‬لقد عرف كيف‬ ‫يواجه املستعمر‪ ،‬فعمل عىل نرش أسباب الوعي بني أفراد شعبه يف املساجد‪،‬‬ ‫ويف املدارس الخاصة التي أنشأها يف كل مكان من الجزائر‪ ،‬ووجه رضبة قاصمة‬ ‫للمشعوذين والعمالء وأصحاب املامرسات الضالة وأعد أبناء شعبه ليك يدخلوا‬ ‫هذا العرص بكل جدارة‪ ،‬ويتمكنوا من أن يقفوا الند للند يف وجه الغزاة ومن‬ ‫كان يسري يف ركابهم‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فقد سعى تالميذه ومريدوه إىل اكتساب العلوم‬ ‫والبحث عنها يف مضانها من أجل وضعها يف متناول كل جزائري وجزائرية‬

‫‪6‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫كلمة السيد المحافظ‬

‫من أجل‬ ‫مقام بهيج‬ ‫سنة ترحل وأخرى تحط رحالها‪ .‬عام يمضي تاركا لنا‬ ‫دفاتره للذكرى وآخر يطل علينا‪ ،‬حامال صفحاته البيضاء‬ ‫والتي نأمل في أن تتصدر فيها قسنطينة مقاما بهيجا‬ ‫تشع أنواره بجواهر اإلبداعات الفنية المقترحة في إطار‬ ‫تظاهرة قسنطينة عاصمة للثقافة العربية ‪.2015‬‬ ‫أملي أن تساهم هذه التظاهرة في إعادة بعث ثقافي من‬ ‫قسنطينة « أم الحواضر»‪ .‬أملي تنسجه أيام سنة ‪2015‬‬ ‫بخيوط ذهبية أصيلة‪ ،‬مصدرها المدينة العتيقة وما‬ ‫تحمله من إيحاءات عمقها األزلي‪.‬‬ ‫سامي ابن الشيخ الحسين‬

‫أملي ويقيني في سنة يتجدد فيها اإللهام الفني والفكري‪،‬‬ ‫وتمتزج فيها مختلف الطبوع لترسم لوحة فنية تمتد‬ ‫أبعادها من المحيط إلى الخليج‪ ،‬تحتضنها مدينة العلم‬ ‫والعلماء‪.‬‬ ‫أملي في أبنائي وبناتي وقدراتهم الالمتناهية على أن‬ ‫يجعلوا من هذا المهرجان الثقافي أعراسا شبابية تحيي‬ ‫النفوس التي طالت إليها أيادي اليأس‪.‬‬ ‫أملي يغذيه الشموخ القسنطيني‪ ،‬وتجليه عظمة وكبرياء‬ ‫الجزائر المستمدة من تقاليدها في نشر روح التضامن‬ ‫العربي‪ ،‬والتفتح اإلرادي نحو الثقافات األخرى‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫ذاكرة المدينة‬ ‫قسنطينة أم الحواضر معقل العلم والثقافات‬

‫‪ 25‬قرنا فوق‬ ‫قمة الصخر‬

‫تتهيأ قسنطينة للمستقبل مسنودة بتاريخ يزيد عن ‪2500‬‬ ‫سنة لم يتعبها ولم تتعب منه‪ ،‬إذ ال تزال شامخة تصارع‬ ‫الزمن‪ ،‬تحتضن طبقات حضارية مختلفة أثرت في مجتمعاتها‬ ‫المتعاقبة ‪ .‬ففيها أقام النوميديون والفينيقيون والرومان‬ ‫والوندال والبيزنطيون ‪ ،‬ثم جاءت الحضارة اإلسالمية ليتوالى‬ ‫على حكم المدينة األغالبة‪ ،‬الفاطميون‪ ،‬الزيريون‪ ،‬الحماديون‪،‬‬ ‫الموحدون‪ ،‬الحفصيون والعثمانيون‪ ،‬وابتليت المدينة على‬ ‫غرار باقي مدن الجزائر باالحتالل الفرنسي أكثر من قرن وربع‬ ‫القرن من الزمن‪.‬‬

‫تعاقبــت عــى قســنطينة حضــارات عديــدة مــن قبــل امليالد‪،‬‬ ‫حملــت معهــا إىل املدينــة مختلــف الثقافــات العــادات‬ ‫واملعــارف‪ ،‬حيــث ســاعدها موقعهــا املميــز بــأن تكــون‬ ‫نقطــة عبــور وهمــزة وصــل بــن الشــال والجنــوب املــرق‬ ‫واملغــرب وكعبــة أخــرى يحــج إليهــا طــاب العلــم مــن‬ ‫مختلــف األمصــار‪.‬‬ ‫ولعــل أول حضــارة شــهدتها ســرتا القدميــة هــي الحضــارة‬ ‫النوميديــة التــي كانــت أول مــن خــط تاريــخ قســنطينة قبــل‬ ‫‪ 2500‬ســنة‪.‬‬ ‫أطلــق اإلغريــق اســم الليبيــن عــى أهــايل املدينــة األصليــن‬ ‫مــن الرببــر حيــث كانــت كلمــة ليبيــا قدميــا تطلــق عــى‬ ‫كل شــال أفريقيــا مبــا فيهــا مــر وكان االســم القديــم‬ ‫لقســنطينة هــو «ســرتا» أو «قريتــا»‪ .‬وقــد عرفــت املدينــة‬ ‫بعــد ملــك نوميديــا ماسينيســا الــذي يوجــد رضيحــه‬ ‫بصومعــة الخــروب‪ ،‬مجــدا ً جديــدا ً مــع يوغرطــة امللــك‬ ‫الجديــد للدولــة النوميديــة الــذي رفــض تقســيم مملكــة‬ ‫أبيــه إىل ثالثــة أقســام والــذي اســتطاع توحيدهــا يف حــدود‬ ‫ســنة ‪ 800‬قبــل امليــاد‪ ،‬وقــد اختــرت قســنطينة لتكــون‬ ‫عاصمــة لهــذه اململكــة بســبب موقعهــا وحصانتهــا وســهولة‬ ‫الدفــاع عنهــا‪.‬‬ ‫وشــهدت قســنطينة يف هــذه الفــرة مــن التاريــخ دخــول‬

‫‪8‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫الفينيقيــن مــن أجــل التجــارة يف حــدود ‪ 880‬إىل غايــة‬ ‫‪ 146‬قبــل امليــاد‪ ،‬لكــن العيــش طــاب لهــم فنقلــوا‬ ‫الصناعــة والتجــارة ونظــام األســواق‪ ،‬وتأقلمــوا مــع‬ ‫الســكان األصليــن‪.‬‬ ‫ثــم دخلــت املدينــة بعدهــا تحــت ســلطة الرومــان‬ ‫مــا بــن ‪ 146‬قبــل امليــاد إىل غايــة ‪ 431‬ميــادي عــى‬ ‫فــرات‪.‬‬ ‫وأثنــاء العهــد البيزنطــي متــردت قســنطينة ســنة‬ ‫‪ 311‬م‪ ،‬عــى الســلطة املركزيــة فاجتاحتهــا القــوات‬ ‫الرومانيــة مــن جديــد‪ ،‬وأمــر اإلمرباطــور ماكســينوس‬ ‫آنــذاك بتخريبهــا‪ ،‬غــر أن اإلمرباطــور قســنطنطني أعــاد‬ ‫بناءهــا عــام ‪ 313‬م‪ .‬واتخــذت «ســرتا» اســمه منــذ ذلــك‬ ‫الوقــت وصــارت تســمى القســطنطينة أو قســنطينة‪.‬‬ ‫وعرفــت قســنطينة ابتــداء مــن ســنة ‪ 429‬م غــزوات‬ ‫الونــدال‪ ،‬الذيــن اســتقروا بهــا مــن ســنة ‪ 431‬إىل غايــة‬ ‫‪ 534‬م‪ ،‬ومل يتيــر يف كتــب التاريــخ يشء عــا مــا خلفــه‬ ‫الونداليــون بــل جميعهــا تؤكــد أنهــم مــن تأثــر بســكان‬ ‫املنطقــة‪ ،‬ثــم اســتعاد البيزنطيــون الســيطرة عليهــا‪ ،‬إىل‬ ‫غايــة دخــول املســلمني إىل شــال إفريقيــا واســتقرارهم‬ ‫باملدينــة ســنة ‪ 715‬م‪ ،‬وعاشــت املدينــة تحــت حكــم‬ ‫الــدول االســامية املتعاقبــة بــدءا بالدولــة األغلبيــة التــي‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫تصوير وليد حميدة‬

‫دام حكمهــا مــن ‪ 800‬إىل ‪909‬م‪ ،‬وكان لهــا الفضــل يف‬ ‫مواصلــة نــر اإلســام بإفريقيــا‪ ،‬حيــث امتــدت حدودها‬ ‫مــن ليبيــا إىل غايــة منطقــة املديــة‪ ،‬وقــد خلــف األغالبــة‬ ‫يف قســنطينة عــادات االحتفــال بالطــواف عــى األوليــاء‪،‬‬ ‫موســيقى العباســيني وصناعــة الكاغــظ‪.‬‬ ‫تلتهــا الدولــة الفاطميــة التــي حكمــت مــن ‪ 909‬إىل‬ ‫‪972‬م مبنطقــة إفريقيــا‪ ،‬وهــي التــي كانــت تشــمل‬ ‫تونــس وشــال الجزائــر‪ ،‬وقــد ازدهــرت يف عهــد املعــز‬ ‫لديــن اللــه الفاطمــي‪ .‬وقــد خلــف الفاطميــون يف‬ ‫قســنطينة عــادات االحتفــال بعاشــوراء‪ ،‬ثقافــة املالحــم‬ ‫ورسد القصــص كألــف ليلــة وليلــة‪.‬‬ ‫ويف القــرن الثــاين عــر عرفــت املنطقــة قــدوم القبائــل‬ ‫الهالليــة‪ .‬وعــادت املدينــة لألمازيــغ عــن طريــق‬ ‫اإلمــارات األمازيغيــة اإلســامية ومنهــا ثــم جــاءت‬ ‫الدولــة الزيريــة أو الصنهاجيــة (نســبة إىل زيــري بــن‬ ‫منــاد الصنهاجــي) التــي حكمــت املنطقــة من ســنة ‪972‬‬ ‫إىل ‪1014‬م‪ ،‬حيــث اســتخلفهم الفاطميــون يف املنطقــة‪،‬‬ ‫وقــد ازدهــر يف عهدهــم األدب الراقــي‪ ،‬التصويــر الزيتــي‬ ‫واملوســيقى األندلســية‪.‬‬ ‫أمــا عــر الدولــة الحامديــة‪ ،‬وهــي فــرع مــن دولــة‬ ‫آل زيــري‪ ،‬والتــي حكمــت مــن ســنة ‪ 1014‬إىل ‪1153‬م‪،‬‬

‫وحدودهــا مل تتع ـ َّد واليتــي الجزائــر و قســنطينة‪ ،‬فقــد‬ ‫ازدهــرت بــه العــارة يف قســنطينة كان أعظــم إنجازاتهــا‬ ‫بنــاء الجامــع الكبــر‪ .‬كــا بــرزت يف تلــك الفــرة صناعــة‬ ‫الزليــج وأواين النحــاس‪.‬‬ ‫وتلتهــا الدولــة املوحديــة التــي حكمــت مابــن ‪ 1153‬إىل‬ ‫‪1269‬م‪ ،‬والتــي اهتــم حكامهــا أيضــا بتطويــر العم ـران‬ ‫ونشــاط األســواق‪ ،‬حيــث شــهدت قســنطينة خلــق‬ ‫العديــد مــن األســواق والرحبــات‪.‬‬ ‫وشــهدت قســنطينة بعدهــا حكــم الدولــة الحفصيــة‬ ‫التــي دام حكمهــا مــن ســنة ‪ 1229‬إىل ‪1536‬م‪ ،‬وأسســها‬ ‫بربــر مصمــودة مــن املغــرب األقــى حيــث جلبــوا‬ ‫معهــم عــادات املغــرب وعــادات األندلــس‪ ،‬وانتــرت يف‬ ‫عهدهــم الزوايــا وبلغــت قصتــا املولــد النبــوي واإلرساء‬ ‫واملعـراج كاملهــا الفنــي‪ ،‬وبــدأ طــاب العلــم يف إنشــاد‬ ‫الهمزيــة والــردة يف الكتاتيــب‪ ،‬حيــث أن الحفصيــن‬ ‫هــم أول مــن أســس الكتاتيــب واملــدارس بقســنطينة‪.‬‬ ‫وأخـرا قــرر القســنطينيون االنضــواء تحــت رايــة الدولــة‬ ‫العثامنيــة الرتكيــة مــن ســنة ‪ 1556‬إىل ‪1837‬م‪ ،‬حيــث‬ ‫بعــد ســقوط األندلــس اســتوطن املدينــة األندلســيون‬ ‫كباقــي مناطــق شــال أفريقيــا‪ ،‬كــا اســتقرت‬ ‫بهــا جاليــة يهوديــة‪ ،‬وتعامــل معهــم أهــل املدينــة‬

‫‪9‬‬


‫بالتســامح‪ .‬حــاول العثامنيــون فتــح املدينــة مــرات‬ ‫عــدة‪ ،‬وكانــوا دومــاً يصطدمــون مبقاومــة الحفصيــن‬ ‫إىل أن ســقطت بــن أيديهــم‪ ،‬وتــم اختيــار قســنطينة‬ ‫لتكــون عاصمــة بايليــك الــرق‪ .‬وقــد قــام صالــح بــاي‬ ‫(‪ 1792-1771‬م‪ ).‬بتهيئــة املدينــة وإعطائهــا طابعهــا‬ ‫الدينــي والعلمــي املميــز‪ .‬ومــن أهــم أعاملــه‪ ،‬بنــاء‬ ‫جامــع ومدرســة القطانيــة أو الكتانيــة‪ ،‬ومدرســة ســيدي‬ ‫لخــر والتــي عنــي فيهــا بتدريــس اللغــة العربيــة‪ .‬كــا‬ ‫قــام بإنشــاء حــي خــاص لليهــود بعــد كانــوا متوزعــن‬ ‫يف أنحــاء املدينــة‪ .‬وقــد جلــب العثامنيــون معهــم كل‬ ‫مــا كان متعلقــا بالحضــارة الرتكيــة مــن نقــش وتطريــز‬ ‫وفــن راق يف العــارة‪ ،‬التــي كانــت مزيجــا مــن الفنــون‬ ‫املعامريــة العامليــة حيــث أخــذوا الباحــة العاليــة التــي‬ ‫تتوســطها بركــة مــن العــارة العربيــة‪ ،‬الزليــج مــن‬ ‫األندلــس‪ ،‬األســقف القرميديــة مــن املغــرب‪ ،‬رؤوس‬ ‫األعمــدة الرخاميــة‪ ،‬شــكل الغــرف وزخــرف األبــواب‬ ‫مــن اإليطاليــن‪ ،‬الرخــام‪ ،‬القراميــد‪ ،‬بعــض القبــاب‬ ‫والدرابزيــن مــن األتــراك وهــو مــا يتجســد جليــا يف‬ ‫طريقــة بنــاء قــر البــاي بوســط مدينــة قســنطينة‪.‬‬

‫ويف ســنة ‪ 1830‬م‪ ،‬ومــع احتــال الجزائــر مــن طــرف‬ ‫الفرنســيني رفــض أهــايل املدينــة االعــراف بســلطة‬ ‫الفرنســيني‪ ،‬غــر أنهــم اســتقروا يف املدينــة بعــد ‪7‬‬ ‫ســنوات مــن املحــاوالت الفاشــلة القتحامهــا‪ .‬وبخــاف‬ ‫مــن ســبقوهم مــن الــدول حــاول املســتعمرون‬ ‫وبشــتى الطــرق طمــس الشــخصية العربيــة اإلســامية‬ ‫للقســنطينيني‪ ،‬الذيــن وبفضــل علــاء املدينــة‪،‬‬ ‫مســاجدها وزواياهــا متكنــوا مــن الحفــاظ عــى هــذه‬ ‫الهويــة وخلــق جيــل جديــد مــن العلــاء واملثقفــن مــن‬ ‫أبنــاء هــذه املدينــة‪.‬‬

‫س‪ .‬ب‬

‫‪10‬‬ ‫تصوير عبد القادر‬ ‫عبد النوري‬ ‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫تصوير لمين حميدة‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫تتويج‬

‫رداء العواصم‬ ‫يليق بأمّ‬ ‫الحواضر‬ ‫ثمــة ســحر اختصــت قســنطينة فــي إشــاعته‪ ،‬مــن يســقط فــي‬ ‫شــباك هــذه المدينــة يصعــب عليــه أن يخــرج منهــا‪ .‬صحيــح أنهــا‬ ‫تبــدو ألوّل وهلــة منغلقــة علــى نفســها منصرفــة عــن الوافديــن‬ ‫إليهــا‪ ،‬لكنهــا تُغــري بتمنّعهــا وتدفــع الزائــر إلــى الذهــاب فــي‬ ‫ســرّها‪.‬‬ ‫ليــس التاريــخ وحــده مــا يمنــح قســنطينة فرادتهــا بيــن المــدن‬ ‫فثمــة أيضــا الجغرافيــا العجيبــة التــي جعلــت البشــر يعيشــون‬ ‫مــع النســور فــوق صخرتيــن وثمــة هــذا الخليــط بيــن أجنــاس‬ ‫الســاكنة الــذي كان يمكــن أن يجعــل مــن قســنطينة مدينــة‬ ‫ميتروبولويــة‪ ،‬لكــن األزمــة التــي عاشــتها البــاد فــي تســعينيات‬ ‫القــرن الماضــي نالــت مــن مدنيّــة قســنطينة التــي تحــاول اليــوم‬ ‫النهــوض والذهــاب إلــى المســتقبل‪.‬‬ ‫وكمــا كل الحواضــر الكبــرى كانــت قســنطينة دائمــا مقصــد طالبــي‬ ‫العلــم وهــي اليــوم تحتضــن أكبــر مجمــع جامعــي فــي إفريقيــا‬ ‫إلــى جانــب جامعــة للعلــوم االســامية يأتيهــا طلبــة العلــم مــن‬ ‫مختلــف أنحــاء العالــم‪ ،‬ولعــل ذلــك مــا يعــزز مكانتهــا ويجعلهــا‬ ‫تســتحق اســمها‪ :‬مدينــة العلــم‪.‬‬ ‫وتطمــح قســنطينة إلــى االســتفادة مــن جغرافيتهــا والهيــاكل‬ ‫التــي اســتفادت منهــا بمناســبة احتضانهــا تظاهــرة عاصمــة‬ ‫الثقافــة العربيــة لتتحــول إلــى وجهــة ســياحية‪ ،‬وهــي إلــى جانــب‬ ‫كل ذلــك منطقــة فالحيــة وعاصمــة للصناعــة الميكانيكيــة حيــث‬ ‫تحصــي مركبيــن ضخميــن لصناعــة الجــرارات والمحــركات واآلليــات‬ ‫الضخمــة‪ .‬أي أن قســنطينة تشــهد تنوعــا فــي نشــاطها واقتصادهــا‬ ‫جعــل منهــا عاصمــة للشــرق الجزائــري‪ ،‬قبــل أن ترتــدي رداء عاصمة‬ ‫الثقافــة العربيــة وهــو رداء يليــق بهــا بــكل تأكيــد‪.‬‬

‫مقام‬

‫‪11‬‬


‫انجازات‬

‫قسنطينة تحظى‬ ‫بعدة مشاريع بمناسبة‬ ‫عاصمة الثقافة العربية‬ ‫حظيت قسنطينة التي تم اختيارها الحتضان تظاهرة‬ ‫قسنطينة عاصمة العربية ‪ 2015‬بعشرات المشاريع‬ ‫الهيكلية التي ستزيد من مكانة عاصمة الشرق كقطب‬ ‫ثقافي و منارة للعلم‪.‬‬

‫القاعة الكبرى للعروض‬ ‫على هضبة عين الباي‬ ‫مــن بــن ‪ 25‬مرشوعــا مســجال لإلنجــاز خــال‬ ‫التظاهــرة كانــت تشــييد القاعــة الكــرى للعــروض‬ ‫بهضبــة عــن البــاي أهــم املنجـزات التــي تجســدت‬ ‫عــى أرض الواقــع و التــي ســتحتضن فعاليــات‬ ‫افتتــاح التظاهــرة يــوم ‪ 16‬أفريــل القــادم‪.‬‬ ‫القاعــة الكــرى للعــروض التــي تولــت رشكــة‬ ‫صينيــة إنجازهــا بتصميــم مبتكــر‪ ،‬تتســع لثالثــة‬ ‫آالف مقعــد‪ .‬بلغــت تكلفتهــا ‪ 10‬ماليــر دينــار‪ ،‬و‬ ‫يجــري حاليــا تجهيــز القاعــة و إعدادهــا لتكــون‬ ‫منطلــق فعاليــات التظاهــرة‪ ،‬و تضــم قاعــة‬ ‫للســينام و قاعــة للمحــارضات‪.‬‬ ‫غــر بعيــد عــن موقــع القاعــة الكــرى يتواجــد‬ ‫مــروع مهــم كبــر آخــر كســبته قســنطينة يف‬ ‫إطــار التظاهــرة و هــو املتعلــق بقــر املعــارض‪ ،‬و‬ ‫الــذي مــن املنتظــر أن يحتضــن تظاهـرات ثقافيــة‬ ‫كبــرة يف قســنطينة ملرحلــة مــا بعــد التظاهــرة‬ ‫مثــل تنظيــم معــرض الجزائــر الــدويل للكتــاب‬ ‫خــارج العاصمــة‪.‬‬

‫‪12‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫تصوير لمين حميدة‬

‫وجه جديد لمالك حداد و آل خليفة‬ ‫و مركز فنون بالقصبة‬ ‫مشــاريع تظاهــرة قســنطينة عاصمــة الثقافــة العربيــة‬ ‫ليســت فقــط املنجـزات الجديــدة التــي يتــم تشــييدها‪،‬‬ ‫بــل تتضمــن ترميــم و إعــادة تأهيــل العديــد مــن‬ ‫الهيــاكل و البنايــات الثقافيــة يف مدينــة قســنطينة‪ ،‬مــن‬ ‫أبرزهــا ترميــم بنايــة املــرح الجهــوي بقلــب املدينــة و‬ ‫هــو تحفــة معامريــة مــن الطـراز املعــاري الكولونيــايل‪،‬‬ ‫و ســيتم االنتهــاء مــن العمليــة قبيــل افتتــاح التظاهــرة‪،‬‬ ‫ليكــون مــع قــر الثقافــة مالــك حــداد جاهـزا الحتضان‬ ‫النشــاطات املربمجــة بــه‪ ،‬و كــذا ترميــم مبنــى واليــة‬ ‫قســنطينة ســابقا بحــي القصبــة املجــاور لــدار البلديــة‬ ‫و الــذي يحتــوي هــو اآلخــر عــى فــن معــاري و ثقــايف‬ ‫زاخــر و هــو املبنــى الــذي ســيحتضن مركــز الفنــون‪ ،‬و‬ ‫قــد بــدأت األشــغال بــه قبــل عــام‪ .‬و ينتظــر أن يتــم‬ ‫تســليمه قبــل انطــاق التظاهــرة‪.‬‬ ‫و يالحــظ الزائــر لقســنطينة التــي تحولــت إىل ورشــة‬ ‫مفتوحــة عمليتــا ترميــم و إعــادة اعتبــار كبريتــن‪ ،‬مســتا‬ ‫قــر الثقافــة مالــك حــداد و دار الثقافــة محمــد العيــد‬ ‫آل خليفــة‪ ،‬و كال املرشوعــن تشــارف األشــغال بهــا‬ ‫عــى نهايتهــا‪.‬‬

‫و تجــري بشــكل متســارع أيضــا عمليــة ترميــم املدرســة‬ ‫املتواجــدة بشــارع العــريب بــن مهيــدي التــي ســتحتضن‬ ‫متحفــا للشــخصيات التاريخيــة‪.‬‬ ‫و يف شــتى أرجــاء مدينــة قســنطينة تتواصــل أشــغال‬ ‫التهيئــة و الرتميــم لتكــون العاصمــة الثقافــة العربيــة‬ ‫جاهــزة للحــدث‪ ،‬مثــل تهيئــة ســاحة أحمــد بــاي و‬ ‫مســجد األمــر عبــد القــادر‪ ،‬كــا مســت عمليــات‬ ‫كبــرة وواســعة ترميــم واجهــات ‪ 434‬بنايــة يف مدينــة‬ ‫قســنطينة‪ ،‬مــا ســيعطي عاصمــة الثقافــة وجهــا جديــدا‬ ‫و الئقــا تســتقبل بــه ضيوفهــا‪.‬‬ ‫لكــن تظاهــرة قســنطينة عاصمــة الثقافــة العربيــة مل‬ ‫تعــد بالفائــدة عــى مدينــة قســنطينة لوحدهــا فقــد‬ ‫اســتفادت البلديــات مقــرات الداوئــر الســتة التابعــة‬ ‫لهــا إداريــا مــن مشــاريع بنــاء دور للثقافــة يف كل بلديــة‬ ‫مقــر الدائــرة و هــي املشــاريع الســتة التــي تجــري بهــا‬ ‫األشــغال منــذ أكــر مــن عــام‪.‬‬ ‫‪13‬‬


‫يف الصميم‬ ‫من القاهرة إلى قسنطينة‬

‫«األلسكو» أطلقت‬ ‫تظاهرة عاصمة الثقافة‬ ‫لتنشيط المبادرات الخالقة‬ ‫تظاهرة عاصمة الثقافة العربية هي مبادرة للمنظمة العربية للتربية و‬ ‫الثقافة و العلوم «األلكسو»على غرار تظاهرة عاصمة الثقافة األوروبية‬ ‫التي يقوم بها اإلتحاد األوروبي منذ ‪ ،1983‬و شرع في تطبيق فكرة عاصمة‬ ‫الثقافية العربية عام ‪ 1996‬باختيار القاهرة تلك السنة عاصمة للثقافة‬ ‫العربية‪ ،‬وجاءت فكرة تنظيم تظاهرات سنوية بعنوان عاصمة الثقافة‬ ‫العربية بنا ًء على اقتراح للمجموعة العربية في اليونسكو خالل اجتماع‬ ‫اللجنة الدولية الحكومية العشرية العالمية للتنمية الثقافية بباريس ما‬ ‫بين ‪ 3‬و‪ 7‬جانفي ‪.1995‬‬ ‫بلقاسم‪ ٠‬ع‬

‫تســتند الفكــرة إىل كــون الثقافــة عنــر مهــم يف حيــاة‬ ‫املجتمــع ومحــور مــن محــاور التنميــة الشــاملة‪ .‬وتهــدف‬ ‫إىل تنشــيط املبــادرات الخالقــة وتنميــة الرصيــد الثقــايف‬ ‫واملخــزون الفكــري والحضــاري‪ ،‬وذلــك عــر إبـراز القيمــة‬ ‫الحضاريــة للمدينــة املســتضيفة لفعاليــات تظاهــرة‬ ‫عاصمــة الثقافيــة وتنميــة مــا تقــوم بــه مــن دور رئيــي‬ ‫يف دعــم االبــداع الفكــري والثقــايف‪ ،‬تعميقـاً للحــوار الثقايف‬ ‫واالنفتــاح عــى ثقافــات وحضــارات الشــعوب وتعزيــز‬ ‫القيــم‪ ،‬التفاهــم والتآخــي‪ ،‬التســامح واحـرام الخصوصيــة‬ ‫الثقافيــة‪.‬‬ ‫و قــد احتضنــت عواصــم عربيــة مختلفــة التظاهــرة عــى‬ ‫مــدة قرابــة عرشيــن عامــا‪ ،‬أغلبهــا كانــت عواصــم البلدان‬ ‫العربيــة األعضــاء يف منظمــة األلكســو‪ ،‬و يف حــاالت قليلــة‬ ‫جــرت التظاهــرات خــارج العاصمــة مثلــا هــو حــال‬ ‫مدينــة قســنطينة لســنة ‪ ،2015‬و قــد ســبق و أن كانــت‬ ‫الجزائــر العاصمــة عاصمــة للثقافــة العربيــة ســنة ‪،2007‬‬ ‫و مدينــة رست الليبيــة ســنة ‪ 2011‬و بعدهــا العاصمــة‬ ‫طرابلــس ‪ 2014‬و كــذا مدينــة الشــارقة يف دولــة اإلمــارات‬ ‫العربيــة املتحــدة ســنة ‪.1998‬‬

‫‪14‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫و قــد تقــرر يف اجتــاع اللجنــة الدامئــة للثقافــة العربيــة‬ ‫التابعــة للمنظمــة العربيــة للرتبيــة والثقافــة والعلــوم‬ ‫(ألكســو)‪ ،‬والــذي التــأم يومــي ‪ 13‬و‪ 14‬جــوان ‪2014‬‬ ‫بالعاصمــة التونســية‪ ،‬حيــث مقــر األلكســو اعتــاد‬ ‫عواصــم للثقافــة العربيــة‪ ،‬يف مدينــة قســنطينة عــام‬ ‫‪ ،2015‬ثــم صفاقــس (تونــس ) عــام ‪ ،2016‬بعدهــا البرصة‬ ‫(العــراق) عــام ‪.2018‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫املنظمــة العربيــة للرتبيــة والثقافــة والعلــوم (األلكســو)‬ ‫هــي منظمــة متخصصــة‪ ،‬تعمــل يف نطــاق جامعــة الــدول‬ ‫العربيــة وتعنــى أساســا بالنهــوض بالثقافــة العربيــة‪،‬‬ ‫و بتطويــر مجــاالت الرتبيــة والثقافــة والعلــوم عــى‬ ‫مســتويني اإلقليمــي والقومــي والتنســيق فيــا بــن الدول‬ ‫العربيــة األعضــاء‪.‬‬

‫الوطــن العــريب وخارجــه‪ ،‬ومــد جســور الحــوار والتعــاون‬ ‫بــن هــذه الثقافــة والثقافــات األخــرى يف العــامل‪.‬‬ ‫تعمــل املنظمــة يف قطــاع الثقافــة عــى بلــورة خطــاب‬ ‫ثقــايف جديــد تتعايــش فيــه مقتضيــات تأصيــل الهويــة‬ ‫مــع مطالــب مواكبــة العــر‪ .‬ويف هــذا اإلطــار تعتنــي‬ ‫املنظمــة باملحافظــة عــى الــراث العــريب اإلســامي‬ ‫وصيانتــه وتوظيفــه‪ ،‬مــن خــال جهــود معهــد‬ ‫املخطوطــات العربيــة بالقاهــرة وأعــال مؤمتــرات‬ ‫الــوزراء املســؤولني عــن الشــؤون الثقافيــة يف الوطــن‬ ‫العــريب و املؤمتــر الــدوري لآلثــار‪ ،‬واملواثيــق الدوليــة‬ ‫والرشاكــة والتعــاون يف هــذا املجــال‪ ،‬وتهت ـ ّم يف الوقــت‬ ‫نفســه بتشــجيع اإلبداعــات العربيــة املعــارصة يف‬ ‫مختلــف مجــاالت الفكــر واألدب والفــن عــن طريــق‬ ‫التعريــف بهــذه اإلبداعــات وإقامــة املعــارض وتنظيــم‬ ‫املســابقا‪.‬‬

‫وقــد أنشــئت املنظمــة مبوجــب املــادة الثالثــة مــن‬ ‫ميثــاق الوحــدة الثقافيــة العربيــة وتــم اإلعــان رســميا‬ ‫عــن قيامهــا بالقاهــرة يــوم ‪ 25‬جويليــة ‪ .1970‬و تضــم‬ ‫األلكســو يف عضويتهــا اثنتــن وعرشيــن دولــة‪.‬‬ ‫الغايــة مــن إنشــاء «األلكســو» كــا وردت يف املــادة‬ ‫األوىل مــن دســتورها‪ ،‬هــي التمكــن للوحــدة الفكريــة‬ ‫بــن أجـزاء الوطــن العــريب عــن طريــق الرتبيــة والثقافــة‬ ‫والعلــوم‪ ،‬ورفــع املســتوى الثقــايف حتــى يقــوم بواجبــه‬ ‫يف متابعــة الحضــارة العامليــة واملشــاركة اإليجابيــة فيهــا‪.‬‬ ‫ويف إطــار هــذا الهــدف العــام‪ ،‬تنهــض املنظمــة العربيــة و قــد قامــت املنظمــة بــإدراج مــروع صيانــة ال ـراث‬ ‫للرتبيــة والثقافــة والعلــوم بجملــة مــن املهــام‪ ،‬مــن واملحافظــة عليــه يف صلــب عملهــا قصــد إبـراز اهتــام‬ ‫أبرزهــا العمــل عــى رفــع مســتوى املــوارد البرشيــة يف املنظمــة بهــذا املــوروث الثقــايف والحضــاري الــذي تزخــر‬ ‫البــاد العربيــة والنهــوض بأســباب التطويــر الرتبــوي بــه البلــدان العربيــة‪ .‬وذلــك تنفيــذا ملــا تــم التنصيــص‬ ‫والثقــايف والعلمــي والبيئــي واالتصــايل فيهــا‪ ،‬وتنميــة عليــه يف خطــة العمــل املســتقبيل للمنظمــة ‪-2011‬‬ ‫اللغــة العربيــة والثقافــة العربيــة اإلســامية داخــل ‪.2016‬‬ ‫ب‪ ٠‬ع‬

‫‪15‬‬


‫نقطة االلتقاء‬ ‫إدوارد سعيد ومحمود درويش يحققان االخرتاق الرمزي‬

‫الثقافة الفلسطينية‬ ‫تدخل العالمية بخطابي‬ ‫الحق والجمال‬ ‫منذ أطلق إدوارد سعيد عبارته المذهلة عن «مواجهة القوة‬ ‫بخطاب الحق» اتضح الطريق أمام الثقافة الفلسطينية وما‬ ‫يجب أن تفعله‪ ،‬بعيدا عن الخطب الحماسية و الفلكورية‪.‬‬

‫إدوارد سعيد‬

‫محمود درويش‬

‫املرمــوق باإلرهــايب‪ .‬لكــن تفوقــه العلمــي و نزاهتــه‬ ‫ودقــة تحليالتــه مكنتــه مــن الصمــود أمــام الحمــات‬ ‫اإلعالميــة‪ ،‬بــل أنــه نجــح يف اســتقطاب متعاطفــن مــع‬ ‫فلســطني بــن اليهــود أنفســهم‪ .‬ومــن الطرائــف التــي‬ ‫يرويهــا ســعيد نفســه أن مرشوعــه هــذا أيسء فهمــه‬ ‫عربيــا‪ ،‬وترجــم بقــدح يف الغــرب أو بدفــاع عــن االســام‬ ‫ووجــد بــن الفلســطينيني بــن مــن يصفــه باملســترشق‪.‬‬ ‫صحيــح أن ســعيد انتســب إىل املجلــس الوطنــي‬ ‫الفلســطيني‪ ،‬ومــارس السياســة لكــن نجاعتــه كانــت يف‬ ‫ميدانــه كرجــل فكــر اســتطاع أن يرجــح الكفــة إىل جهــة‬ ‫املظلــوم‪.‬‬

‫انــرى الفتــى املقــديس إىل تفكيــك حمولــة الثقافــة‬ ‫الغربيــة كاشــفا عــن توجــه امربيــايل يف الخطــاب‬ ‫الثقــايف‪ ،‬بــل عــن ســقوط إبداعــات فنيــة يف الرتجمــة‬ ‫الفنيــة لالمربياليــة‪ .‬فيــا ذهــب محمــود درويــش إىل‬ ‫صياغــة مــروع شــعري ملحمــي وضعــه عــى بــاب‬ ‫نوبــل‪ .‬واهتــدى درويــش متأخ ـرا إىل أن الشــعر الــذي‬ ‫يســتهدف الحيــاة بعفويــة هــو األبقــى وأن أحســن‬ ‫مقاومــة هــي الكتابــة عــن الحــب‪ ،‬وعــن الهــم اإلنســاين‪.‬‬ ‫لقــد نجــح إدوارد ســعيد يف إحــداث زلــزال هائــل يف‬ ‫األوســاط الثقافيــة واألكادمييــة وحتــى السياســية‬ ‫الغربيــة ليــس بكتابيــه األشــهر «االســترشاق» و‬ ‫«الثقافــة واالمربياليــة» فقــط ولكــن مبجمــل أعاملــه‬ ‫ومقاالتــه ومحارضاتــه يف مختلــف أنحــاء العــامل‪ ،‬وبالطبع وقــد رفعــه انســحابه مــن املجلــس يف أعقــاب اتفاقيــة‬ ‫فــإن ذلــك أحــرج إرسائيــل واألوســاط الداعمــة لهــا أوســلو‪ ،‬التــي ســيصفها بالســام الــكاذب واملغشــوش‬ ‫يف الغــرب‪ ،‬ووصــل األمــر إىل حــد نعــت األكادميــي ألنــه ال يقــدم أي ضــان لتوقــف املؤسســة القمعيــة‬

‫‪16‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام العدد التجريبي مارس ‪2015‬‬

‫هنا القدس‬

‫أن تكون مقدسيا‬ ‫عــن تدمــر الشــعب الفلســطيني‪ .‬وبالطبــع فــإن املفكــر‬ ‫الفلســطيني التــزم باملواقــف اإلنســانية رغــم أن الظلــم‬ ‫يدفــع نحــو التطــرف يف أغلــب األحيــان‪ ،‬وكذلــك فعــل‬ ‫درويــش الــذي انتســب إىل اليســار اإلرسائيــي يف شــبابه‪،‬‬ ‫قبــل أن يغــادر إىل جهــات الريــح‪ ،‬حيــث أكمــل عمــره‬ ‫الرسيــع هنــاك‪ ،‬وحتــى وإن أثــار خروجــه مــن األرض‬ ‫اســتياء الذيــن أرادوا بقــاءه هنــاك‪ ،‬كــا فعــل ســميح‬ ‫القاســم وإميــل حبيبــي الــذي أوىص بــأن يكتــب عــى‬ ‫قــره «بقــي يف حيفــا»‪ ،‬إال أن الشــاعر متكــن يف فــرة‬ ‫قصــرة مــن التحــول إىل أيقونــة ورمــز‪ ،‬وضــع مل يســرح له‬ ‫درويــش الــذي طالــب بإعفائــه مــن الحــب الكبــر‪ ،‬قبــل‬ ‫أن ينــرف إىل تطويــر تجربتــه الشــعرية التــي ســارت‬ ‫يف ارتفــاع متخليــة عــن الحامســة والغنائيــة لحســاب‬ ‫الشــعرية والحــس اإلنســاين‪ ،‬ذهــب الشــاعر إىل الحــب‬ ‫وذهــب إىل األســاطري وتاريــخ الشــعوب وســرى كيــف‬ ‫يوظــف مأســاة الهنــود الحمــر تلميحــا إىل إبــادة أخــرى‬ ‫يف قصيدتــه «خطبــة الهنــدي األحمــر األخــرة أمــام الرجــل‬ ‫األبيــض» يف إشــارة إىل أن املأســاة واحــدة حتــى و إن تغـ ّـر‬ ‫الجــادون والضحايــا‪.‬‬ ‫وقــد اســتطاع كل مــن ســعيد ودرويــش اخ ـراق جــدار‬ ‫الصمــت ووضــع الثقافــة الفلســطينية بــن ثقافــات العــامل‬ ‫كقيمــة غــر قابلــة لالنق ـراض حتــى وإن عمــدت القــوة‬ ‫املحتلــة إىل محــو شــواهدها عــى األرض‪.‬‬ ‫وإىل جانــب الجهــر بخطــاب الحــق أبــان الكاتبــان عــن‬ ‫قيمــة إنســانية بتجنــب «الخطــاب العنــري» ورمبــا‬ ‫تكــون الرشاكــة بــن املفكــر الفلســطيني وموســيقار‬ ‫إرسائيــي وانتســاب الشــاعر إىل اليســار اإلرسائيــي‬ ‫ومحاوراتــه مــع مثقفيــه‪ ،‬بــل وقصــة حبــه املســتحيل مــع‬ ‫فتــاة إرسائيليــة (رثــا) خــر دليــل عــى النزعــة اإلنســانية‬ ‫للكاتبــن‪ .‬وحــن تلتقــي هــذه النزعــة مــع القيمــة فــإن‬ ‫كيانــا رمزيــا ســيولد وسـ ُيكتب يف ريربتــوار اإلرث اإلنســاين‬ ‫بحــر غــر قابــل للمحــو‪.‬‬ ‫ودون إغفــال اإلســهامات األخــرى ملثقفــن فلســطينيني‪،‬‬ ‫يبقــى االخــراق الــذي حققــه درويــش وســعيد أجمــل‬ ‫مــا حــدث للثقافــة الفلســطينية‪ ،‬بــل لفلســطني التــي‬ ‫انتــرت رمزيــا عــى أرض الثقافــة نكايــة يف واقــع ظــل‬ ‫يؤجــل نرصهــا‪.‬‬

‫س‪ .‬ب‬

‫القدس ‪ -‬سعيد عموري‬

‫في القدس‪ ،‬هذه المدينة‬ ‫المفعمة بالعراقة والتاريخ‬ ‫والعمران‪ ،‬قصص كثيرة‬ ‫تحكى‪ ..‬عن حب األرض‪،‬‬ ‫عن مكنونٍ الرتباط روحاني‬ ‫بين أهلها األصليين‪ ..‬أهل‬ ‫القدس «الكنعانيين» وبين‬ ‫هذه الرقعة بكل ما تُبرزه‬ ‫من حضارة وتراث وأصالة‪.‬‬

‫يف القــدس‪ ،‬كأن مبــاين املدينــة تقــول هامس ـةً‪ :‬لــن أخضــع لقهــر‬ ‫الصهاينــة‪ ،‬لــن اغــر جلــدي مهــا حفــروا أحجــاري بـــ «نجــات‬ ‫داهــود» وأعالمهــم الزائفــة‪ ،‬ســأبقى عربيــة كــا أنــا‪.‬‬ ‫أن تكــون مقدســيا‪ ،‬معنــاه أن تكــون أحــد جنــود معركــة «وجــدان‬ ‫وبقــاء» مجــرا‪ ،‬معركــة ضاريــة تطــال املــاء والكهربــاء والتعليــم‬ ‫وحتــى الســكن‪ ،‬معركــة تاريــخ وهويــة وصمــود‪ ،‬يحاولــون فيهــا‬ ‫أن يزيحــوك عــن عرشــك ومملكــة أجــدادك‪ ،‬أن يقتلعــوا جســدك‬ ‫املعجــون يف هــذا ال ـراب املقــدس‪ ،‬أن يطــردوك ويرحلــوك‪.‬‬ ‫ســلطات اإلحتــال اإلرسائيليــة ‪-‬بطبيعــة الحــال‪ -‬ال تنفــك عــن‬ ‫محاوالتهــا املتكــررة برسقــة تاريــخ يكتنــز فيــه آالف الســنني‪،‬‬ ‫وتحــاول مــن خاللــه صنــع حضــارة مــن ال يشء‪.‬‬ ‫وعــل مــن أبــرز مــا يجســد تلــك الرسقــات الصهيونيــة يف القــدس‪،‬‬ ‫اســتيالء ســلطات االحتــال عــى اآلثــار الكنعانيــة التــي وجــدت‬ ‫عــى مــر الســنني يف كافــة بقــاع أرض فلســطني‪ ،‬حيــث تحتكرهــا‬ ‫هــذه الســلطات يف متحفــن كبرييــن باملدينــة‪ ،‬تحــوي مكتشــفات‬ ‫تعــود للكنعانيــن عمــر بعضهــا تجــاوز املليــون ونصــف املليــون‬ ‫عــام‪ ،‬تعــرض وكأنهــا جــزء مــن التاريــخ اإلرسائيــي!‬ ‫تشــعر حــن تنقلــك بــن أقســام مــا يســمى بـــ «متحــف إرسائيــل»‬ ‫ أحــد املتحفــن اللذيــن أرشت لهــا يف الفقــرة الســابقة‪ -‬بأنــك يف‬‫مخــزن لغنائــم لصــوص‪ ..‬فتتعــرج كلــا مشــيت يف املتحــف عــى‬ ‫الرسقــات بالعصــور املختلفــة‪ ،‬فيثقــل قلبــك بالحــزن حــن تــرى‬ ‫آثــار العــرب واملســلمني وكأنهــا محنطــة يف قــر الصهينــة‪ ،‬نعــم هــو‬ ‫ســفور يفــوق اغتصــاب األرض‪.‬‬ ‫أمــا عمـران املدينــة الحزينــة‪ ،‬فحــدث عــن اغتصابهــا وتهويدهــا وال‬ ‫حــرج! مــن املبنــى التاريخــي للمجلــس اإلســامي يف قلــب املدينــة‬ ‫الــذي يســعى االحتــال لتحويلــه لـــ «فنــدق ضخــم» بذريعــة‬ ‫الســياحة‪ ،‬إىل مبنــى «بريــد فلســطني» الــذي أصبــح تحــت حكــم‬ ‫اليهــود يعــرف باســم «بريــد إرسائيــل»‪ ،‬وغريهــا الكثــر مــن املبــاين‬ ‫التــي تبــي تهويدهــا‪ ،‬دون رأفــة بأهلهــا وتاريخهــا‪.‬‬ ‫أن تكــون مقدســياً‪ ،‬هــو أن تعيــش رصاعــا آخــر داخــل الــراع‬ ‫األكــر وهــو القضيــة الفلســطينية‪ ،‬فأهــل مدينــة القــدس يف‬ ‫معظمهــم «غــر مجنســن» ال يحملــون أي جنســية أو جــواز ســفر‬ ‫دائــم‪ ،‬فــكل مــا ميلكونــه بطاقــة «إقامــة إرسائيليــة مؤقتــة» قــد‬ ‫تصــادر ألي ســبب صغــر ويف أي وقــت‪ ،‬ويف حــال حصــل ذلــك‪،‬‬ ‫فأنــك لــن تســتطيع أن تعيــش يف مدينتــك أو حتــى دخولهــا إال‬ ‫مــن وراء جــدار‪.‬‬ ‫هــذه ملحــة عامــة ومختــرة عــا يجــري يف زهــرة املدائــن‬ ‫وســكانها‪ ،‬ومــا يواجهونــه مــن محــاوالت االقتــاع والتهجــر‪،‬‬ ‫ينتفضــون وحدهــم ويهــدأون وحدهــم‪ ،‬ولســان حالهــم يقــول‪:‬‬ ‫الحــرب ســجال‪ ،‬ونحــن باقــون مــا بقــي التــن والزيتــون‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫وجوه‬ ‫الفنان التشكيلي بشري بوشريحة‬

‫استدراج قسنطينة‬ ‫إلى مهبات اللون‬ ‫هل من المفيد للقارئ ومن واجب المعرفة أن نسأل أين ولد الفنان بشير‬ ‫بوشريحة؟ في حالة هذا الفنان يتوجب ذكر مكان الوالدة ألن الحكاية تبدأ‬ ‫من جميع األمكنة لكنها تنتهي هنا في قسنطينة‪ .‬عاش في هذه المدينة‬ ‫ودرج في شوارعها الضيقة واشتغل بها وهام في دروبها وصاباطاتها وجلس‬ ‫الساعات الطوال يتأمل في أحجارها وسمائها الزرقاء (والسماء ال تكون زرقاء إال‬ ‫في قسنطينة كما يقول ابنها الشاعر مالك حداد) جاعال من كل قطعة في‬ ‫رقعتها أغنية يلحنها اللون وتنحت نوتاتها الريشة العازفة ‪ /‬العارفة بما‬ ‫قد يختلج في البال ويسعد اآلخرين‪.‬‬ ‫عبد السالم يخلف‬

‫كان دومــا مولعــا بالرســم وهــذا منــذ كان صغــرا‪.‬‬ ‫وحيــد والديــه يعــرف كيــف يفرحهــا ويغــدو أمامهــا‬ ‫طائـرا متفــردا يشــبه متامــا طائــر الســيمورغ‪ ،‬ال يســكن‬ ‫يف العــش‪ ،‬يتغــذى بالعنــر والعطــور ويعيــش مئــات‬ ‫الســنني‪ .‬هــذا هــو حلــم الفنــان منــذ البدايــة‪.‬‬ ‫يجلــس الســاعات الطــوال يخربــش فــوق لــوح‬ ‫بالطباشــر أو عــى أوراق يح ّملهــا هواجســه الصغــرة‬ ‫التــي تســكن نهاراتــه البســيطة‪ .‬يعشــق الحريــة التــي‬ ‫مــن دون حــدود‪ .‬يقــاوم الكســل ويــريب نفســه عــى‬ ‫مداعبــة األقــام امللونــة‪ .‬قــد يرســم كــرة القــدم املــد ّورة‬ ‫جاهــدا يك يجعلهــا يف النهايــة مــد ّورة أو قــوس قــزح‬ ‫ر عــى أن تكــون األلــوان كــا يف الســاء‪ .‬كان‬ ‫وهــو يـ ّ‬ ‫منــذ البدايــات األوىل يكــره الزيــف ورســم مــا هــو غــر‬ ‫موجــود‪ .‬رغــم أنــه يحلــم بالهــروب إىل عــوامل غريبــة‬ ‫(عــوامل األطفــال دومــا غريبــة)‪ .‬تســتهويه املســاحات‬ ‫الواســعة والطبيعــة وحركــة النــاس‪ .‬يراقــب‪ ،‬يتأمــل‪،‬‬ ‫يفكــر‪ ،‬يرســم‪ .‬حــن كــر بشــر مــا فكــر يف أن يكــون‬ ‫شــيئا آخــر غــر فنــان‪ .‬هــي مغامــرة تشــبه متامــا متابعــة‬ ‫الطائــر الــذي نســميه يف الصغــر (طـ ّـاع الــدراري) ألنــه‬ ‫كان يســتدرجهم بقفزاتــه الرشــيقة أمــام مــرح اللعــب‬ ‫فيتبعــه األطفــال ظنــا منهــم أنهــم سيمســكون بــه ال‬ ‫محالــة‪ .‬مل يســأل األطفــال أنفســهم آنــذاك‪ ،‬وكنــت‬ ‫واحــدا منهــم‪ ،‬إذا مــا كانــت الطيــور تحــس بالتعــب‪.‬‬

‫‪18‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫يتبعونــه ويتعبــون ويضيّعــون طريــق العــودة إىل‬ ‫املنــازل‪ .‬كذلــك حــدث للبشــر‪ .‬مل يســتطع العــودة‬ ‫وظــل يرســم ويرســم منــذ أكــر مــن ســتني ســنة‪ .‬كــم‬ ‫ميــر الزمــن والعمــر برسعــة‪.‬‬ ‫مــن صابــاط بوشــايبي (كــا يحلــو لــه أن يكــرر دامئــا‬ ‫و ال أمـ ّـل أنــا مــن اإلصغــاء ألن الرجــل يحســن الــكالم‬ ‫العــذب العامــر باملحبــة) يف قلــب املدينــة القدميــة إىل‬ ‫شــوارع قســنطينة املفتوحــة عــى األبهــة والواجهــات‬ ‫البيضــاء الواســعة‪ .‬درس كــا يــدرس األطفــال‪ ،‬مــن‬ ‫املدرســة االبتدائيــة واملتوســطة إىل الثانويــة لكنــه كان‬ ‫يحلــم دومــا بلقــاء الريشــة واملرســم وذاك مــا تحقــق‬ ‫لــه مبســاعدة أســتاذ مــادة الرســم بدخولــه إىل مدرســة‬ ‫الفنــون الجميلــة بقســنطينة‪ .‬هنــاك التقــى األســاتذة‬ ‫األفــذاذ الذيــن بذلــوا قصــارى جهدهــم يف دعــم تكويــن‬ ‫الشــاب بشــر الــذي مل يكــن يتخلــف عــن حلمــه وهــو‬ ‫الجلــوس كــا الكبــار‪ ،‬رامربنــت‪ ،‬بيكاســو‪ ،‬بيســارو‬ ‫وغريهــم أمــام لوحــة بيضــاء تنتظــر بشــغف ملســات‬ ‫خالقهــا‪ .‬كانــت مالحظــات األســتاذين «روجــي ماريــوس‬ ‫دوبــا» مديــر املدرســة و «ألفونــس إيــي جــوج» تحفــز‬ ‫أكــر فأكــر ذاك الشــغوف باللــون‪ ،‬املهــووس بالواقعيــة‬ ‫ورســاميها‪ .‬حتــى نــدرك تأثــر إيــي جــوج عــى بشــر‬ ‫مــا علينــا ســوى املقارنــة بــن اللوحــة املوجــودة يف‬ ‫متحــف ســرتا بقســنطينة ولوحــات رســامنا‪ .‬وكأنهــا‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫تك ـ ّرم األســتاذ يف غيابــه‪ .‬لكــن التلميــذ مل يكــن نســخة‬ ‫طبــق األصــل بــل أضــاف الــيء الكثــر لطريقــة عملــه‬ ‫واملواضيــع التــي يختارهــا‪.‬‬ ‫مكنتــه نجاحاتــه مــن االلتحــاق مبدرســة الفنــون‬ ‫الجميلــة بالجزائــر العاصمــة‪ .‬تحقــق نصــف الحلــم أو‬ ‫لنقــل كل الحلــم الــذي راوده وهــو يجــري‪ ،‬طفــا صغـرا‬ ‫يف الســويقة‪ ،‬شــابا يصبــو إىل نقــل قســنطينة بكامــل‬ ‫بهائهــا إىل لوحــات ســوف تتناقلهــا األجيــال‪ .‬هــذا حلمــه‬ ‫األول‪.‬‬ ‫يف ســنة ‪ 1971‬تخــرج بشــر كمهنــدس مــن مدرســة‬ ‫مســح األرايض وذاك مــا ســاعده يف كســب قوتــه مــن‬ ‫جهــة ومواصلــة الركــض خلــف الرســم مــن جهــة أخــرى‪.‬‬ ‫يقولــون أن املــال ال يصنــع الســعادة لكنــه يســاعد يف‬ ‫ذلــك‪.‬‬ ‫تأثــر بالكثــر مــن الرســامني العامليــن منــذ أن بــدأ‬ ‫يكتشــف مختلــف املــدارس والتيــارات واملذاهــب‬ ‫ويتفــرج عــى منتجــات عباقرتهــا‪ .‬كانــت النهضــة‬ ‫اإليطاليــة محطــة هامــة نهــل منهــا بشــر الكثــر وأدرك‬ ‫يف نفــس الوقــت أنــه يك يكــون مثــل هــؤالء‪ ،‬عليــه‬ ‫العمــل ليــل نهــار والتعلــم حتــى مــع غيــاب الرغبــة‬ ‫يف بعــض األحيــان‪ .‬الفــن ليــس باألمــر الســهل وخاصــة‬ ‫الرســم الــذي يتطلــب الكثــر مــن العمــل والذهــاب يف‬ ‫التفاصيــل التــي قــد تجعــل الواحــد ميـ ّـل‪ .‬لكــن بشــر‬

‫ال ميـ ّـل مــا دام قــد رســم هدفــا يف األفــق وراح يعــدو‬ ‫للوصــول‪ .‬الوصــول بالنســبة إليــه هــو دامئــا محطــة‬ ‫لالنطــاق مــن جديــد‪.‬‬ ‫رأى لوحــات الفنانــن املســترشقني والحــظ املجهــود‬ ‫املبــذول يف ســبيل رســم لوحــة واحــدة‪ .‬الســفر‬ ‫واملســافات‪ ،‬الجهــد والوقــت‪ .‬تركــوا التحــف لإلنســانية‪.‬‬ ‫هــل كان بشــر يحلــم بــأن يــرك خلفــه شــيئا ألحفــاده‪،‬‬ ‫للجزائريــن؟ يدفعــه حلمــه دومــا إىل األمــام‪ .‬رأى مــا رأى‬ ‫يف متاحــف باريــس وغريهــا مــن لوحــات االنطباعيــن‬ ‫والتعبرييــن والتجريديــن‪ .‬اندهــش مــن كــرة التيــارات‬ ‫واللوحــات والــزوار واملهتمــن وتوصــل إىل نتيجــة‬ ‫مفادهــا أن مــن يحــب فعــا الرســم عليــه بزيــارة‬ ‫املتاحــف‪ .‬املتحــف تحفــة النظــر ومهــاز العقــل‪.‬‬ ‫قــى بشــر عــر ســنوات مــن عمــره يشــاهد ماريــوس‬ ‫دوبــا وهــو يرســم‪ .‬إنــه كبريهــم الــذي علمــه الســحر‪،‬‬ ‫ســحر الفــن وقواعــد الهبــوب‪ .‬تعلــم عــى يديــه األبعــاد‬ ‫وقواعــد الرســم الســليم وكيفيــة بنــاء اللوحــة وقواعــد‬ ‫اللــون وتحــوالت املــادة وانســجام األلــوان وتناســق‬ ‫األجســام وتقاطــع الخطــوط‪ .‬علمــه النظــر إىل األشــياء‬ ‫وتفتيــت املشــهد ثــم إعــادة بنائــه‪ .‬إعــادة تركيــب العــامل‬ ‫بســحره وانســجامه عــى لوحــة هــو نــوع مــن الخلــق‬ ‫يقــال لــه اإلبــداع‪ .‬ذاك الــذي مل يكــن يومــا بدعــة‪ .‬أن‬ ‫تقــف أمــام واحــد مــن جســور قســنطينة أو جبــل مــن‬

‫‪19‬‬


‫جبالهــا أو زنقــة مــن زنقاتهــا هــو التحــدي بعينــه ألن‬ ‫املدينــة تغمــرك بالضــوء وبالبهــاء وباأللــوان الصارخــة‪.‬‬ ‫الســحر هــو اإلمســاك بالضــوء وجعلــه أسـرا بــن لونــن‪.‬‬ ‫راح بشــر ينمــي موهبتــه ويصقــل أدواتــه املتعــددة‪.‬‬ ‫الــردد يف البدايــة هــو فاتحــة الجــرأة التــي تصاحــب‬ ‫الفنــان طــول حياتــه ومتكنــه مــن بلــوغ الكــال‪ .‬تــويف‬ ‫ماريــوس دوبــا عــام ‪ 1966‬بفرنســا لكنــه مل ميــت متامــا‬ ‫ألنــه تــرك تلميــذا يبقــي عــى الريشــة دومــا حيــة‪،‬‬ ‫عامــرة بالوفــاء واملغامــرة‪.‬‬ ‫ال ميكــن الحديــث عــن بشــر دون الحديــث عــن‬ ‫قســنطينة‪ .‬يــرى أنهــا ملهمتــه الكــرى وأنــه يف حالــة‬ ‫انســجام وتناغــم تامــن معهــا‪ .‬يتوحــد معهــا كــا يفعــل‬ ‫املتصوفــة‪ ،‬هــي التــي شــاركت يف بنــاء الحضــارات‪ .‬إنهــا‬ ‫ســرتا أم الحــوارض وعاصمــة الزعــاء األمازيــغ الذيــن‬ ‫قهــروا رومــا‪ .‬ســاهمت يف إثـراء الـراث البــري بكامــل‬ ‫أدوارهــا الحضاريــة وعمقهــا التاريخــي‪ .‬ألنهــا املدينــة‬ ‫املتفــردة التــي تجلــس عــى صخرتهــا مثــل عــش‬ ‫النــر‪ ،‬تتفــرج عــى وهادهــا وتاللهــا ومتــدح الصخــرة‬ ‫العاتيــة التــي بنتهــا يــد اإللــه يك تصاحــب مــا تبقــى مــن‬ ‫الحضــارات التــي تعاقبــت‪ .‬مل تكــن بالقليلــة‪ .‬يــرى بشــر‬ ‫أنهــا متنحــه الســكينة‪ .‬أح ـراش جنبــات جبالهــا‪ ،‬عمــق‬ ‫أخاديدهــا‪ ،‬صــوت املــاء وهــو يســافر يف أعــاق واد‬ ‫الرمــال‪ ،‬حاممئهــا املســافرة نحــو الشــفق وهــي تعــر‬ ‫تحــت جــر ســيدي مســيد ملتحقــة بأعشاشــها‪ ،‬تاركــة‬ ‫حــواف النوافــذ وأشــجار الصنوبــر إىل امللتقــى يف اليــوم‬ ‫املــوايل‪ .‬هــذه هــي املواضيــع التــي يتصيدهــا بشــر‬ ‫حــن يتصيــد األطفــال الحــام‪ .‬الضــوء املســافر‪ ،‬الفــار‪،‬‬ ‫الهــارب واملــاء املزمجــر أو الكســول‪ ،‬الســاء املتوهجــة‬

‫‪20‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫أو الغاضبــة‪ ،‬الصخــور النافــرة الصلــدة‪ :‬هــذا مــا نجــد‬ ‫يف لوحاتــه‪.‬‬ ‫تقنيــات بشــر متعــددة‪ .‬إنــه ال يتــورع يف اســتعامل‬ ‫كل مــا يقــع تحــت اليــد‪ .‬يبــدأ بأقــام الرصــاص‪ ،‬هــو‬ ‫العــارف بــكل أرقامهــا ومهامهــا‪ ،‬وكــذا باأللــوان املائيــة‬ ‫التــي يحســن التالعــب بهــا بشــكل رهيــب‪ .‬قطـرات مــن‬ ‫املــاء وبعــض اللــون وهــا يطلــع أمامــك مشــهد طبيعــي‬ ‫أو بنايــة‪ .‬مــن الــايشء‪ ،‬مــن العــدم‪ .‬ليــس ذلــك متامــا‪،‬‬ ‫إنــه يطلــع مــا تخمــر يف الذاكــرة ومــا تعــودت عــى‬ ‫مداعبتــه األصابــع أمــام طبيعــة قســنطينة‪ .‬يــرى بشــر‬ ‫أنــه حــن يجلــس متأمــا جــال املــدى وكأنــه يســتمع‬ ‫إىل موســيقى روحيــة متعاليــة للفنــان جــون سيباســتيان‬ ‫بــاخ‪ .‬يف املرســم يتحــول الســحر إىل مــادة يعجنهــا بشــر‬ ‫يك يصنــع منهــا شــيئا مــن التوهــج‪ .‬الخطــوط والكتــل‬ ‫وتعرجــات الصخــور وامتــدادات الجســور ودهشــة‬ ‫الفــراغ ومتــدد األفــق يف املــدى كلهــا توابــل للوحــة‬ ‫التــي ســتولد بعــد قليــل‪ .‬ألــوان براقــة أو غــر براقــة‪،‬‬ ‫مــادة ملســاء أو حرشــاء‪ ،‬اللــون األزرق الــذي يجمــع يف‬ ‫تفاصيلــه العالقــة بــن األشــياء يف توحشــها وانســجامها‪،‬‬ ‫يف تنافرهــا وتكاملهــا‪ .‬يف كل مــا تبتغيــه اللوحــة مــن‬ ‫دهشــة‪ .‬أليســت وظيفــة الرســم األوىل هــي اإلدهــاش‬ ‫كــا قــال دوالكــروا؟‬ ‫أن تصــل إىل رســم لوحــة جميلــة يعنــي أن ترســم كثـرا‪.‬‬ ‫تجهــد نفســك يف الرســم يقــول بشــر‪ .‬أن تشــحذ أدواتــك‬ ‫وتذهــب نحــو الف ـراغ‪ .‬املســاحة البيضــاء مخيفــة ألنهــا‬ ‫تتحــداك‪ .‬تتأملــك‪ .‬تســتنزفك‪ .‬إنهــا يف النهايــة تذعــن‬ ‫وتنحنــي وتبتســم حــن تــرى أنــك تداعبهــا بالشــكل‬ ‫املرجــو وتضــع النقــاط دون الحــروف‪ :‬نقطــة بيضــاء‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫أو صفـراء أو خـراء‪ .‬مــا أجـ ّـل اللــون حــن يسـ ّمي مــا‬ ‫تذهــب إليــه األصابــع‪ .‬مــن منظــر طبيعــي يف قســنطينة‬ ‫إىل جبــال الطاســييل إىل عنــزات يف األوراس إىل تارقــي‬ ‫يصــب الشــاي إىل شــيخ فــوق ظهــر حــاره إىل الغــروب‬ ‫عــى مســجد األمــر عبــد القــادر إىل قــر الحمــراء‬ ‫إىل مزهريــة تخبــئ الضــوء والعطــر‪ .‬ينتقــل بشــر مــن‬ ‫موضــوع إىل آخــر وكلــه ســيطرة وتحكــم يف اللــون‬ ‫واألبعــاد‪ .‬كل حركــة تقــوم بهــا أصابعــه ال تنطــق عــن‬ ‫الهــوى‪.‬‬ ‫الوقــت؟ مــا الوقــت أمــام املســاحة البيضــاء؟ قــد يقــي‬ ‫بشــر األشــهر يف إنجــاز لوحــة واحــدة غــر مأخــوذ‬ ‫بالســحر هــا هنــا بــل بالتفاصيــل التــي يــود وضعهــا‪،‬‬ ‫تتبعهــا‪ ،‬صياغتهــا‪ ،‬محوهــا‪ ،‬إعــادة بنائهــا مــن جديــد‪.‬‬ ‫رأيتــه وهــو يســتعمل العدســة املكــرة ألنــه يهتــم‬ ‫بالتفاصيــل‪ ،‬التفاصيــل الدقيقــة‪ .‬التفاصيــل مهمــة جــدا‬ ‫يف هــذه الحالــة متامــا كــا بيتهوفــن الــذي ســئل مــرة‪:‬‬ ‫كيــف تســتطيع كتابــة هــذه الســنفونيات الرائعــة‬ ‫الكبــرة؟ فــرد قائــا‪ :‬الســنفونيات الكبــرة تصنعهــا‬ ‫النوتــات الصغــرة‪.‬‬ ‫ال ميــل بشــر مــن الجلــوس أمــام اللوحــة لســاعات‬ ‫طويلــة‪ .‬الجلــوس متعــة ألنــه يســمع األلــوان وهــي‬ ‫تجــف وتلتصــق بقــاش الرســم‪ ،‬يســمع اللــون األزرق‬

‫وهــو يتحــول إىل جــدول أو بحــرة‪ ،‬يشــم القطــرات‬ ‫الخــراء وهــي تلــد األشــجار والصبــار‪ .‬بشــر صبــور‪.‬‬ ‫إنــه فنــان عــارف ومتواضــع‪ .‬عــارف بقواعــد الرســم‬ ‫وكيميــاء األلــوان (مــن القالئــل يف قســنطينة‬ ‫الذيــن يعرفــون علميــا تشــكل األلــوان وخصائصهــا‬ ‫الكيميائيــة)‪ ،‬متواضــع أمــام اللوحــة البيضــاء وال يهمــه‬ ‫كالم اآلخريــن‪ .‬اآلخــرون هــم اللغــو (هــم الجحيــم يف‬ ‫لغــة ســارتر)‪ .‬اختــار طريقــه ومذهبــه‪ ،‬الواقعيــة هــي‬ ‫مــا يبتغيــه لكنــه يحــرم مــن كان تجريديــا أو غــر ذلــك‪.‬‬ ‫الواقعيــة ليــس كــا يف املدرســة ‪ :‬بشــر يأخــذ قاعــدة‬ ‫ثــم يبنــي منهــا شــيئا آخــر‪ ،‬يح ّولهــا مــن شــكل إىل شــكل‬ ‫جديــد يكــون دامئــا أجمــل وأعمــق‪ .‬إنــه يعــرف قواعــد‬ ‫التدمــر الــذايت ‪ :‬متــوت اللوحــة حــن تتــآكل ألوانهــا‬ ‫بفعــل األكســدة فيتحــول األزرق إىل أخــر واألحمــر‬ ‫إىل برتقــايل واألبيــض إىل أصفــر‪ .‬تنتحــر اللوحــة حــن ال‬ ‫نحرتمهــا‪ :‬الدخــان والرطوبــة والعفونــة والبخــار‪...‬‬ ‫كان الفنــان بشــر بورشيحــة ميلــك كنـزا كبـرا يتمثــل يف‬ ‫عـرات اللوحــات التــي تحتفــي مبدينــة قســنطينة لكنها‬ ‫اختفــت كلهــا‪ .‬هــل لنــا أن نســأله إىل أيــن ذهبــت ثروتنا‬ ‫التــي مــن واجبنــا اآلن أن نبــي عليهــا كــا النســاء ألننــا‬ ‫مل نســتطع الدفــاع عنهــا كــا الرجــال‪ .‬وتلــك حكايــة‬ ‫أخــرى‪.‬‬

‫ع‪ .‬ي‬

‫‪21‬‬


‫حــــــــــوار‬ ‫»الشاعر التونسي صالح السويسي أول ضيوف عاصمة الثقافة العربية ل «مقام‬

‫قسنطينة مدينة‬ ‫تحرض على حب الحياة‬ ‫ّ‬

‫من يزور قسنطينة يتحول إلى شاعر أو عاشق‬ ‫على الحكومات العربية فتح الحدود أمام المبدعين واإلبداع‬ ‫كان الشاعر التونسي صالح سويسي أول ضيوف قسنطينة عاصمة الثقافة‬ ‫العربية‪ ،‬حيث زار سيرتا في جانفي الفارط و أقام أمسية شعرية بقصر الباي‪،‬‬ ‫مرفوقا بالفنان خالد عيمر في تزاوج بديع بين الشعر والعزف على العود‬ ‫و تغنى الشاعر التونسي بجمال قسنطينة تحت الثلج الذي استقبله لدى‬ ‫وصوله إليها‪،‬‬ ‫«مقام» استغلت المناسبة لمحاورة ضيف قسنطينة‪.‬‬

‫سلمى قويدر‬

‫لو حاولنا التعرف على صالح‬ ‫السويسي‪ ،‬أي الطرق تؤدي إليه؟‬

‫أنت اآلن في قسنطينة ‪ ،‬كيف‬ ‫كانت انطباعاتك األولى عنها‪،‬‬ ‫و ما سر السعادة التي نقرؤها في‬ ‫عينيك و أنت تجوب شوارعها؟‬

‫هي مدينة تدعوك ألن تغوص فيها بكل تأ ٍّن وهوادة‪،‬‬ ‫أنا كائن حر ّيف أحاول أن أنتج شيئا مختلفا عن باقي‬ ‫تدعوك أن ت ُعمل الفكر وتدعوك أيضا ألن تشغّل كل‬ ‫الكائنات‪ ،‬أسعى جاهدا يك أكتبني يف كل حااليت‪ ،‬فرحي‪ ،‬ملكات اإلحساس لديك حتى تتمكّن من فهم كنهها‬ ‫حزين‪ ،‬اِنفعااليت‪ ،‬حامقايت أيضا‪...‬‬ ‫وتفسري طالسمها وتفكيك شفرات السحر والوله التي‬ ‫أسافر يف عمق املعنى يك أظفر بكلامت قد تصبح بعد‬ ‫تنتاب كل من يزورها‪.‬‬ ‫حني صورة شعرية جميلة أو قراءة عاشقة ألغنية مثال‬ ‫اِكتشتف خالل زياريت القصرية لهذه املدينة أ ّن فيها‬ ‫أو عمل مرسحي أو فيلم سيناميئ أو رقصة رمبا‪ ...‬ولكن ما يجعلك تحب الحياة‪ ،‬وتبارش فورا يف رسم مالمح‬ ‫ما كل مرة أعود ميلء الوفاض‪ ،‬حيث تخاتلني الحروف قصة بديعة املالمح تكون املدينة فيها البداية والهدف‪،‬‬ ‫واملعاين أو تهرب بعيدا حيث ال ميكنني اللحاق بها أو‬ ‫وتكون أنت زائرها‪ /‬عاشقها بطال من زمن قديم جدا‬ ‫حتى قنصها‪ ،‬ومع ذلك أعيد الكرة مرات ومرات وأمارس عاد من جديد ليحارب حتى املوت من أجل حبيبته‪.‬‬ ‫يف ذلك شتّى الطقوس وأحيطني بكل ما ميكن أن يصنع يف قسنطينة مث ّة أكرث من سبب لتعشق هذه الحياة‪،‬‬ ‫مناخا مناسبا ليك ألتقط تلك اللحظة العصية الشه ّية‬ ‫ومث ّة أكرث من سبب لتكون عاشقا أو شاعرا ويف رأيي‬ ‫التي تتامزج فيها رغبتي برغبة الحرف فأكتب دون أن‬ ‫ال وجود الِحتامل ثالث بينهام‪ ،‬هنا أنت اإلله الذي‬ ‫ال‬ ‫حيث‬ ‫أحسب أو أن أقيس عمق املاء‪ ،‬تأخذين الحروف‬ ‫وهبته املدينة ثلجها وخصبها وأفراحها‪ ...‬وأن تكون يف‬ ‫حدود للمكن وال هدف غري القول الجميل‪...‬‬ ‫قسنطينة أمامك اِحتامالن فقط‪ :‬إما أن تكون عاشقا أو‬ ‫يبدو أنّه أخذنا لفضاء سريحل بنا عن الواقع ويحلّق‬ ‫شاعرا‪...‬‬

‫‪22‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫حدثنا عن األمسية الشعرية التي‬ ‫أقمتها في قصر الباي‪ ،‬ما رأيك في‬ ‫المكان‪ ،‬و في مواهب قسنطينة‬ ‫الشابة التي التقيت بها؟‬ ‫وسعدت أكرث باِختيار‬ ‫ُسعدت جدا بدعويت لقسنطينة‪ُ ،‬‬ ‫قرص أحمد باي ألقدم فيه قراءايت الشعرية مرفوقا بعدد‬ ‫من األصوات التي أذهلتني بجامل قولها وبهاء حضورها‪،‬‬ ‫هذا املكان جعلني أعيش أوقاتا من املتعة الحالل‪ ،‬قرص‬ ‫فسيح بحدائق بديعة وهندسة معامرية فريدة‪ ...‬ألوان‬ ‫وأشكال وأضواء وشعر‪...‬‬ ‫الروايئ مراد بوكرزازة الذي اِختار املكان ونشّ ط فقرات‬ ‫األمسية‪ ،‬كان محقّا يف اختياره بل كانت له رؤية بعيدة‬ ‫املنال‪ ،‬حيث كان يعمل مسبقا عىل ما يبدو أنّه أخذنا‬ ‫لفضاء سريحل بنا عن الواقع ويحلّق بنا بعيدا حذو‬ ‫السامء لنعانق شمس قسنطينة يف ذلك اليوم الغائم‬ ‫البارد‪ ،‬والذي تحول فيه قرص الباي إىل صالون وثري دافئ‬ ‫بحرارة املشاعر وشقاوة الكلامت‪.‬‬

‫هل هذه هي زيارتك األولى‬ ‫للجزائر؟ ما الذكريات التي تحملها‬ ‫في قلبك من خالل زيارتك‬ ‫الخاطفة إلى قسنطينة؟ ما‬ ‫رسالتك إلى أهلها؟‬ ‫سبق أن زرت الجزائر العاصمة وزرت وهران أيقونة‬ ‫الغرب الجزائري والتي تسمونها «الباهية» وهي باهية‬ ‫فعال‪ ،‬ودون أدىن شك أنا أحب هذا البلد كثريا وال‬ ‫أحس بغربة كلام زرته‪ ،‬وهو إحساس أعلم أنه لدى كل‬ ‫التونسيني والجزائريني‪ ،‬فالتاريخ واحد والدم واحد‪.‬‬ ‫شكرا ألهل قسنطينة عىل كرم الضيافة وك ّم املحبة التي‬ ‫وجدتها لدى جميع من التقيتهم هناك‪.‬‬

‫ما رأيك في التحضيرات القائمة‬ ‫لتظاهرة قسنطينة؟ وهل لديك‬ ‫نشاط ما أو عودة إلى قسنطينة‬ ‫في القريب العاجل؟‬ ‫قسنطينة اليوم أشبه بورشة كبرية‪ ،‬ترميامت وتزويقات‬ ‫وإنجازات هنا وهناك‪ ،‬خلية نحل ال تهدأ حتى يف أيام‬ ‫الربد والثلج التي رافقت زيايت لها‪ ،‬كنت أرى الحركة يف‬ ‫كل مكان‪ ،‬إحساس بالحميمية ينتابك وأنت تتجول يف‬ ‫املدينة وتتخيّل ما سوف تكون عليها بعد أسابيع من‬ ‫اِنتهاء األشغال والتحضريات‪ ،‬واالِنطالق الرسمي لتظاهرة‬ ‫عاصمة الثقافة العربية‪ .‬أرجو أن تكون يل زيارات أخرى‬ ‫لهذه املدينة الفاتنة‪.‬‬ ‫س‪ .‬ق‬

‫جميالت‬ ‫الجزائر‬ ‫جميلة بوحريد‪ .‬جميلة بوعزة‪ .‬جميلة بوباشة‪ .‬ثالث أسامء‬ ‫لجميالت جزائريات سجلها التاريخ بأحرف من نار أحرقت‬ ‫كربياء املستعمر الفرنيس يف حمم بركان الغضب الجزائري‬ ‫و لقنته درسا ال زال محفوظا يف ذاكرة األيام الخالدة‪.‬ثالث‬ ‫أسامء لنامذج بطولية خطّتها حرائر الجزائر بأياد ظاهرها‬ ‫ناعم و باطنها من فوالذ سقته دماء طاهرة تف َّجرت من‬ ‫قلوب عشقت التحرر و األنعتاق‪ .‬ثالث أسامء لنساء قررن‬ ‫رفع الحجز الرتجيل عن البطولة التي هي يف األساس و‬ ‫العمق كلمة مؤنثة نحوا و بالغة‪ .‬ثالثة عناوين للتضحية‬ ‫توارثتها أجيال من النساء مل تنجح يف الدفاع عن األنوثة‬ ‫فحسب بل استطاعت أثناء أحلك أيام الجزائر أن تحفظ‬ ‫ماء وجه الرجولة‪ .‬ال يسعنا عرب هده املقدمة املتواضعة‬ ‫ذكر كل األسامء ألن هذا يتطلب منا الرجوع إىل الجدات‬ ‫و األمهات و الحفيدات و لكن بإمكاننا إمضاء شهادة حق‬ ‫ال نبغي من ورائها التنطع بل عرفانا و تقديرا للرفيقة‬ ‫بكينونتها و عبقها العابر لألجيال‪.‬‬ ‫ميم‪ .‬ميم‬

‫جميلة بوباشة بريشة‬ ‫بابلو بيكاسو‬

‫‪23‬‬


‫رحيل‬ ‫كاتبة الجزائر األولى غائبة‬

‫آسيا جبار‬ ‫بين نساء جبل‬ ‫شنوة‬ ‫غابت الكاتبة الجزائرية الكبيرة آسيا جبار‬ ‫بباريس في السادس فيفري الماضي عن‬ ‫ثمانية وسبعين عاما‪ .‬واختارت أن ترقد‬ ‫في شرشال قرب والدها‪ ،‬لتؤكد بجسدها‬ ‫ما برهنت عليه كتابة‪ :‬ذهبتُ إلى العالم‬ ‫وذهبت أرض الكتابة معي‪.‬‬ ‫وربما أرادت بذلك أن تمرّر رسالة‪ ،‬لكل‬ ‫الذين أحبوها ولكل الذين هاجموها‪.‬‬ ‫وكان التجاوب معها جزائريا حيث حظيت‬ ‫بجنازة «رسمية» لم يحظ بها إال القليل‬ ‫من أهل الفن والثقافة‪.‬‬

‫‪24‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫وباختفــاء جبــار يفقــد األدب الجزائــري كاتبتــه األوىل‬ ‫التــي كانــت أيضــا أول شــخصية مغاربيــة تدخــل‬ ‫األكادمييــة الفرنســية‪ ،‬دون أن ينــال هــذا املجــد املتأخــر‬ ‫مــن وفائهــا لنفســها‪ ،‬لنســاء شــنوة ولجزائرهــا التــي‬ ‫طبعتهــا كامــرأة وككاتبــة‪ ،‬فعملــت عــى توثيقهــا فنيــا‪،‬‬ ‫ضــد النســيان وضــد الفقــدان‪ .‬وكأنهــا مل تغــادر أبــدا‬ ‫أرض طفولتهــا‪ ،‬طفولــة ستســتعيدها يف الســبعني مــن‬ ‫عمرهــا الحافــل وهــي تســرجع بيــت والدهــا وتســتعيد‬ ‫الطفلــة التــي كانــت تقــود أمهــا يف شــوارع رششــال‬ ‫تشــد يدهــا لتحميهــا مــن نظ ـرات الرجــال‪ ،‬وتســتعيد‬ ‫األب املصعــوق والبيــت ‪ /‬العــامل املغلــق الــذي دفعهــا‬ ‫إىل البحــث عــن الخــاص يف «نســوية» مل تكــن ابنــة‬ ‫ايديولوجيــة وثقافــة بقــدر مــا كانــت نتيجــة ملعايشــة‬ ‫الحيــف الــذي تعــاين منــه النســاء الجزائريــات اللــوايت‬ ‫ال مــكان لهــن يف بيــت آبائهــن‪.‬‬ ‫ومل تكــن نســوية جبــار مــن األنــواع الشــائعة الصادمــة‬ ‫كــا هــو شــأن الكثــر مــن الكاتبــات والناشــطات‪،‬‬ ‫و لكنهــا نتيجــة موقــف إنســاين يشــبه متامــا التزامهــا‬ ‫بالنضــال مــن أجــل اســتقالل الجزائــر‪.‬‬ ‫آســيا جبــار الــذي ظــل اســمها يــردد يف العرشيــة‬ ‫األخــرة يف مواســم نوبــل والتــي كانــت أول شــخصية‬ ‫مســلمة تدخــل األكادمييــة الفرنســية (‪ )2005‬مــن‬ ‫مواليــد ‪ 30‬جــوان ‪ 1936‬برششــال واســمها الحقيقــي‬ ‫فاطمــة الزه ـراء اميلحايــن مــن أرسة مــن البورجوازيــة‬ ‫الصغــرة املحافظــة ألب مــدرس وأم صغــرة الســن‪،‬‬ ‫وولــدت أدبيــا ســنة ‪ 1957‬بروايــة «الظــأ» لتنــر‬ ‫ســنة بعــد ذلــك روايــة «املتلهفــون» أو «فاقــدو الصــر»‬ ‫تبعتهــا بروايــة أطفــال «العــامل الجديــد» ســنة ‪ 1962‬و‬ ‫«الق ـرات الســاذجة» ‪ .1967‬الكاتبــة التــي اختصــت يف‬ ‫التاريــخ د ّرســت بجامعــة الجزائــر مــن ‪ 1962‬إىل ‪1965‬‬ ‫ويف ذات الجامعــة درســت يف منتصــف الســبعينيات‬ ‫األدب الفرنــي والســينام‪ ،‬وبعــد ذلــك ظهــرت آســيا‬ ‫جبــار بوجــه جديــد يف روايــة «نســاء الجزائــر يف‬ ‫شــقتهن» ‪ 1980‬و»الحــب‪ ،‬الفنطازيــا» ‪ ،1985‬لتذهــب‬ ‫أبعــد مــن الجزائــر يف «بعيــدا عــن مديــن»‪ 1991‬أيــن‬ ‫قــرأت التاريــخ اإلســامي مــن خــال النســاء املقربــات‬ ‫مــن الرســول‪.‬‬ ‫ومل تــرك األحــداث الدمويــة التــي عاشــتها الجزائــر يف‬ ‫تســعينيات القــرن املــايض الكاتبــة عــى الحيــاد‪ ،‬حيــث‬ ‫تناولــت الرتاجيديــا يف «أبيض الجزائــر» ‪ 1996‬و «وهران‪،‬‬ ‫لغــة ميتــة» ســنة بعــد ذلــك و «هــذه األصــوات التــي‬ ‫تحــارصين» ‪ 1999‬و «املــرأة دون جثــان» ‪ .2002‬وبعــد‬ ‫نرشهــا «اندثــار اللغــة الفرنســية» ‪ 2003‬نرشتهــا روايــة‬ ‫البيوغرافيــة «ال مــكان يف بيــت أيب»‪.‬‬ ‫وإىل جانــب نشــاطها يف التدريــس بــن الجزائــر وفرنســا‬

‫ونيويــورك وكتابتهــا األدبيــة‪ ،‬أخرجــت آســيا جبــار‬ ‫فيلمــن «نوبــة نســاء جبــل شــنوة» و «الــزردة أو أغــاين‬ ‫النســيان»‪.‬‬ ‫فقــدت آســيا جبــار والدهــا ســنة ‪ 1995‬يف حــن ال‬ ‫ت ـزال والدتهــا بايــة عــى قيــد الحيــاة وكانــت مــن بــن‬ ‫أف ـراد العائلــة الذيــن وقعــوا عــى بيــان الوفــاة أمــس‪،‬‬ ‫وتزوجــت مرتــن مــن ‪ 1968‬إىل ‪ 1975‬مــن الكاتــب‬ ‫أحمــد ولــد رويــس املعــروف باســم وليــد كارن ثــم‬ ‫تزوجــت مبالــك علولــة ســنة ‪.1981‬‬ ‫وعرفــت الكاتبــة الراحلــة بانرصافهــا الــكيل للكتابــة‬ ‫وعــدم انخراطهــا يف النشــاطات واملؤمتــرات الثقافيــة‬ ‫خصوصــا بالجزائــر‪ ،‬إىل جانــب عــدم ظهورهــا يف وســائل‬ ‫اإلعــام كــا يفعــل غريهــا مــن الكتــاب‪ ،‬ويف الســنوات‬ ‫األخــرة بــات اســمها يــردد يف مطلــع أكتوبــر مــن كل‬ ‫عــام بــن أبــرز املرشــحني لجائــزة نوبــل‪ ،‬خصوصــا بعــد‬ ‫فوزهــا بجائــزة النارشيــن األملــان‪.‬‬ ‫وحتــى وإن صنفــت جبــار مــن بــن الكتاب الكالســيكيني‬ ‫للروايــة‪ ،‬إال أنهــا ظلــت ولعقــود طويلــة قيمــة ثابتــة يف‬ ‫األدب املغــاريب املكتــوب بالفرنســية‪ ،‬وظلــت موضوعاتها‬ ‫لصيقــة ببيئتهــا األوىل‪ ،‬وكانــت تؤكــد دامئــا أنهــا وإن‬ ‫عــرت بالفرنســية فهــي تبقــى جزائريــة ومســلمة‪.‬‬ ‫وقــد تســبب دخولهــا األكادميية الفرنســية ســنة ‪ 2005‬يف‬ ‫عاصفــة مــن النقــد بالجزائــر‪ ،‬حتــى بــن الكتــاب الذيــن‬ ‫يكتبــون بالفرنســية يف صــورة رشــيد بوجــدرة‪ ،‬الــذي‬ ‫اعتــر ذلــك اختيــارا مــن الكاتبــة لفرنســا وانســاخها‬ ‫عــن الجزائــر‪ .‬وملــح الكثــر مــن الكتــاب إىل «عــدم‬ ‫بــراءة» قــرار دخولهــا إىل محفــل الخالديــن‪.‬‬ ‫لكــن جبــار اســتبقت منتقديهــا يف خطبــة االنتســاب‬ ‫إىل األكادمييــة‪ ،‬بالتأكيــد عــى أن االســتعامر جــرح مــؤمل‬ ‫يســعى البعــض إلعــادة فتحــه لــدواع انتخابيــة‪ ،‬بــل‬ ‫انهــا اســتعادت عبــارة قدميــة للشــاعر إميــي ســيزار‬ ‫يقــول فيهــا فيهــا غــن حــروب االســتعامر «و ّحشــت»‬ ‫أوروبــا ‪.‬‬ ‫وبرحيــل آســيا جبــار تفقــد الجزائــر آخــر «اآلبــاء‬ ‫املؤسســن» لــأدب‪ ،‬ويفقــد املغــرب العــريب آخــر‬ ‫وجوهــه البــارزة يف فرنســا والذيــن كانــوا يحدثــون‬ ‫التــوازن الثقــايف بــن الضفتــن ويتمتعــون باالحــرام‬ ‫و»الهيبــة»‪.‬‬ ‫ولعــل مــا يؤســف لــه أن آســيا جبــار تــكاد تكــون‬ ‫مجهولــة يف الجزائــر والعــامل العــريب‪ ،‬ورمبــا كان موتهــا‬ ‫مناســبة إلعــادة طبــع أعاملهــا وترجمتهــا إىل العربيــة‪،‬‬ ‫ليتعــرف القـراء العــرب عــى الكاتبــة العربيــة الوحيــدة‬ ‫التــي اقرتبــت مــن نوبــل‪ ،‬حتــى وإن أخطاتهــا جائــزة‬ ‫الجوائــز‪.‬‬ ‫س‪ .‬ب‬

‫‪25‬‬


‫نساء من المدينة‬ ‫الفنانة شافية بوذراع‬

‫القسنطينية التي أصبحت‬ ‫أما لجميع الجزائريين‬ ‫ّ‬ ‫سيدة اعتبرها الجزائريون أمّا لهم‪ ،‬جسدت‬ ‫المرأة الجزائرية بتفاصيلها بيومياتها‬ ‫ومعاناتها قبل وبعد االستقالل‪ .‬شافية‬ ‫بوذراع زوجة الشهيد بوذراع صالح أو‬ ‫«اللة عيني» كما يحلو للجميع مناداتها‪.‬‬

‫ابنــة قســنطينة املعطــاءة فنانــة وممثلــة ســنامئية داخــل وخــارج الوطــن حيــث ســجل يف رصيدهــا‬ ‫ومرسحيــة ولــدت يف ‪ 22‬أبريــل ‪ ،1930‬أم لـــخمسة ‪ 30‬فيلــا صورتــه يف فرنســا‪.‬‬ ‫أبنــاء لهــا تســعة أحفــاد و‪ 14‬مــن أبنــاء أحفادهــا‬ ‫أصغرهــم زكريــاء وآدم‪.‬عاشــت «اللــة عينــي» و مؤخ ـرا كان لهــا أعــال معتــرة يف الســينام عــى‬ ‫صباهــا محاطــة بعائلــة العالمــة عبــد الحميــد ابــن غــرار «مــال وطنــي» للمخرجــة فاطمــة بلحــاج‬ ‫باديــس‪ ،‬حيــث كان منزلهــا يف دار بلحــاج بكــر ســنة ‪« ،2008‬اللــة الباتــو» اقتبســته املخرجــة‬ ‫يجــاور كل مــن منــزل عائلــة بــن باديــس ودار بــن فاطمــة بلحــاج عــن النــص العاملــي لغارســيا لــوركا‬ ‫بــارود يف املمــر الــذي أطلــق عليــه فيــا بعــد اســم ســنة ‪« ،2008‬خارجــون عــن القانــون «للمخــرج‬ ‫مــي بــن باديــس‪ ،‬حيــث درســت يف ســيدي قمــوش رشــيد بوشــارب ســنة ‪ 2010‬والــذي نــال الجائــزة‬ ‫وتابعــت تعليمهــا يف الرتبيــة والتعليــم‪ ،‬إىل غايــة األوىل ألحســن فيــل يف مهرجــان دمشــق الــدويل‪.‬‬ ‫ســن الثالثــة عــرة حــن تــوىف والدهــا وتوالهــا‬ ‫رشيكــه الــذي زوجهــا بابنــه صالــح عندمــا بلغــت أمــا يف التلفزيــون فهنــاك «الحريــق» وهــو مسلســل‬ ‫الرابعــة عــرة‪ ،‬وعاشــت معــه إىل أن استشــهد وكان تلفزيــوين جزائــري يتنــاول مرحلــة مــن مراحــل‬ ‫االحتــال الفرنــي للجزائر‪،‬وقــد صــور هــذا‬ ‫عمرهــا ‪ 32‬ســنة‪.‬‬ ‫املسلســل يف عــام ‪ 1974‬مــن قبــل املخــرج مصطفــى‬ ‫اشــتهرت بــأداء أدوار اجتامعيــة جديــة‪ ،‬معروفــة بديــع‪ ،‬ومسلســل «امتحــان صعــب»‪.‬‬ ‫بشــخصية اللــة عينــي يف مسلســل الحريــق وفيلــم‬ ‫خارجــون عــن القانــون وفيلــم بلديــون للمخــرج شــافية بــوذراع ملقــام‪ :‬هــديف يف الحيــاة هــو‬ ‫جمهــوري‪ ،‬والهــواء الــذي أتنفســه هــو فنــي فــإذا‬ ‫العاملــي رشــيد بوشــارب‪.‬‬ ‫غــاب فنــي بقــي جمهــوري‪ ،‬وأن أجــد كل يــوم‬ ‫تقمصــت عــدة أدوار عــر مســرتها الفنيــة يف مرسح جمهــورا يهــرول ملصافحتــي وتقبيــي بــكل عفويــة‬ ‫قســنطينة الجهــوي أو عــر التلفزيــون الجزائــري‪ ،‬ودون اســتئذان فهــذا هــو األوســكار بالنســبة يل‪.‬‬

‫‪26‬‬

‫سامية خليل‬ ‫‪www.qasantina2015.org‬‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫نساء من المدينة‬ ‫حسيبة بولمرقة‬

‫غزالة قسنطينة‬ ‫التي طارت على‬ ‫المضامير العالمية‬ ‫حسيبة بولمرقة أشهر عداءة عربية ولدت في ‪ 10‬جويلية ‪ 1968‬بمدينة‬ ‫قسنطينة تفوقت في سباقات الجري للمسافات المتوسطة والطويلة‪،‬‬ ‫ونجحت في الوصول إلى أن تصبح بطلة رياضية على المستويين العالمي‬ ‫واألولمبي‪ ،‬فهي أول امرأة عربية تفوز بلقب عالمي عندما حققت المركز‬ ‫األول في سباق ‪1500‬م وفازت بالميدالية الذهبية في بطولة العالم الثالثة‬ ‫أللعاب القوى التي أقيمت عام ‪ 1991‬في طوكيو باليابان‪ ،‬حيث سجلت‬ ‫زمنًا قدره ‪ 4,02,21‬دقائق‪.‬‬ ‫بدأت حسيبة مشوارها الريايض يف الخامسة عرشة‬ ‫من عمرها يف الجزائر وكانت ترتدي الرسوال‬ ‫الريايض الطويل بالنظر إىل محيطها املحافظ‪،‬‬ ‫حيث كانت تعاين صعوبات ومشكالت تحول دون‬ ‫انتظامها يف التدريب بحرية‪ ،‬غري أنها متكنت من‬ ‫إحراز الكثري من االنتصارات الرياضية يف سباقات‬ ‫الجري‪ ،‬فقد فازت مبيداليتني ذهبيتني يف دورة‬ ‫ألعاب البحر املتوسط الحادية عرشة التي أقيمت‬ ‫عام ‪ 1991‬يف أثينا باليونان حينام حققت املركز‬ ‫األول يف كل من سباقي الجري ملسافة ‪800‬م إذ‬ ‫سجلت زم ًنا قدره ‪ 2,1,27‬دقيقة‪ ،‬ويف مسافة‬ ‫‪1500‬م حيث سجلت زم ًنا قدره ‪ 4,08,17‬دقائق‪.‬‬ ‫وحققت حسيبة املركز األول يف سباق جري ‪1500‬م‬ ‫وفازت بامليدالية الذهبية يف الدورة األوليمبية‬ ‫الخامسة والعرشين التي أقيمت يف برشلونة‬ ‫بأسبانيا عام ‪1992‬م‪ ،‬حيث سجلت زم ًنا قدره‬ ‫‪ 3,55,40‬دقائق‪ .‬ويف عام ‪ ،1993‬فازت هذه البطلة‬ ‫بثالث ميداليات متنوعة «ذهبية حينام حققت‬ ‫املركز األول يف سباق جري ملسافة ‪800‬م بتسجيلها‬ ‫زم ًنا قدره ‪ 2,03,86‬دقيقة‪ ،‬وفضية حينام حققت‬

‫املركز الثاين يف سباق جري ملسافة ‪1500‬م حيث‬ ‫سجلت زم ًنا قدره ‪ 4,11,09‬دقائق يف دورة ألعاب‬ ‫البحر املتوسط الثانية عرشة التي أقيمت يف ناربون‪،‬‬ ‫وبرونزية حينام حققت املركز الثالث يف سباق جري‬ ‫مسافة ‪1500‬م حيث سجلت زم ًنا قدره ‪4,04,29‬‬ ‫دقائق يف بطولة العامل الرابعة أللعاب القوى التي‬ ‫أقيمت يف شتوتغارت بأملانيا‪ .‬وحققت حسيبة‬ ‫املركز األول يف سباق جري ‪1500‬م وفازت بامليدالية‬ ‫الذهبية يف بطولة كأس العامل السابعة التي أقيمت‬ ‫يف لندن بربيطانيا عام ‪1994‬م حيث سجلت زم ًنا‬ ‫قدره ‪ 4,01,05‬دقائق وحققت املركز األول يف‬ ‫سباق جري ‪1500‬م وفازت بامليدالية الذهبية يف‬ ‫بطولة العامل الخامسة أللعاب القوى التي أقيمت‬ ‫يف غوتربغ بالسويد عام ‪1995‬م حيث سجلت زم ًنا‬ ‫قدره ‪ 4,02,42‬دقائق‪ .‬ويف الرتتيب العاملي السنوي‬ ‫لالعبي ألعاب القوى حققت حسيبة املركز األول‬ ‫لسباق جري مسافة ‪1500‬م يف عام ‪1992‬م بزمن‬ ‫قدره ‪ 3,55,30‬دقائق واملركز الثاين للسباق نفسه‬ ‫عام ‪1991‬م بزمن قدره ‪ 4,00,00‬دقائق‪.‬‬ ‫س‪ .‬خ‬

‫‪27‬‬


‫قيم‬ ‫ميمية ليشاني فنانة تشكيلية‬

‫حياة موهوبة‬ ‫للفن ‪...‬‬ ‫ميمية ليشاني تنتمي إلى تلك األقلية من الجزائريات اللواتي استجبن إلى نداء‬ ‫الفن المحرق‪ .‬ذلك الفن الذي تضمهن في أحشائهن كجنين موعود‪.‬‬ ‫بالرغم من معاناتها الشديدة لكونها امرأة و باإلضافة إلى ذلك مبدعة‪،‬‬ ‫برهنت الفنانة على قدراتها الهائلة للسعي المتواصل في استخراج الشاق‪،‬‬ ‫و لو أنه متاعا روحيا خالصا‪ ،‬ذلك العالم العجيب الذي يمكث في صميم‬ ‫أعماقها مثل ذلك الطائر الذي يغذي أوالده من ذات لحمه‪.‬‬ ‫فريدة حمادو‬

‫قامــت بتضحيــات كبــرة و ســهرت ليــايل طويلــة‬ ‫حتــى متكنــت مــن فتــح صالــة خاصــة لعــرض املئــات‬ ‫مــن لوحاتهــا الفنيــة‪ ،‬و يــا لهــا مــن صالــة عــرض إنهــا‬ ‫حقيقــة متحــف يف غايــة الروعــة والجــال‪ ،‬وصــارت‬ ‫الفنانــة كامللكــة يف عرشــها‪.‬‬ ‫إحســاس غريــب يقبــض القلــب ملــا نقبــل عــى عتبــة‬ ‫بــاب الصالــة‪ ،‬هــا نحــن و كأننــا نحــط الرحــال عــى‬ ‫كوكــب عجيــب تنبثــق منــه آالف األلــوان و الربيــق‬ ‫املفاجــئ مثــل النجــوم املتتلتلــة يف ليــل ســاء صيفيــة‪.‬‬ ‫فاأللــوان تتهاطــل مــن أصفــر‪ ،‬أزرق‪ ،‬بنفســجي‪ ،‬أحمــر‬ ‫نــاري و زهــري‪ ،...‬خرجــت كلهــا مــن صميــم خيالهــا‬ ‫الواســع اململــوء بالغرائــب‪ :‬نســاء حوامــل‪ ،‬وجــوه‬ ‫غريبــة املالمــح‪ ،‬أعــن تنظــر إلينــا بعمــق‪ ،‬أيــادي‬ ‫ممــدودة و أرجــل ذات أجنحــة‪ ،‬نباتــات تخــرج عــن‬ ‫العــادة‪ ،‬حيوانــات أســطورية‪ ،‬ســموات ملتهبــة‪ ،...‬و‬ ‫الــكل كأنــه انبعــث مــن حلــم غريــب واســع‪.‬‬ ‫ترســم ميميــة ليشــاين ألــواح زيتيــة و األكواريــل و‬ ‫تســتعمل أيضــا كل مــا تجــد أمامهــا مــن قــاش‪ ،‬حطــب‬ ‫و حتــى العظــم‪. ...‬‬ ‫كل يشء صالــح لــي تصنــع منــه تحفــة فنيــة‪ ،‬تشــبه‬ ‫بذلــك «بيكاســو» الــذي كان يــكاد أن يجــن إذا رمــى‬ ‫أحــد شــيئا حتــى و لــو كان علبــة كربيــت‪.‬‬

‫‪28‬‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫نقلع األحذية و كأننا‬ ‫في معبد‪:‬‬ ‫كل الجــدران مرصعــة بلوحاتهــا الجميلــة‪ ،‬التــي نعجــز‬ ‫عــن إحصائهــا‪ ،‬واحساســك يقــول لــك بــأن هنــاك أكــر‬ ‫مــن ألــف لوحــة عــى األقــل‪ ،‬البعــض تغطــي األرض إىل‬ ‫جانــب وســادات مــن الحريــر املرســوم ذات األلــوان‬ ‫الناصعــة و أغ ـراض أخــرى تتحــدى الخيــال‪.‬‬ ‫ميميــة تســتهلك كل يشء‪ ،‬كل مــا تقــدم لهــا الطبيعــة و‬ ‫املحيــط‪ ،‬الــكل يجعــل منهــا امــرأة ســعيدة ‪.‬‬ ‫منــي حفــاة فــوق تلــك الــزرايب التــي تغطــي مســاحة‬ ‫الصالــة‪ ،‬و نــرع يف االكتشــاف املتواصــل الــذي يــكاد‬ ‫أن يكــون بــا نهايــة‪.‬‬ ‫و هــا هــي ميميــة جميلــة و مبتســمة ترتــدي قبعــة و‬ ‫تتكلــم بصوتهــا الطفــويل قائلــة‪ « :‬أنــا لســت جــد ثرثــارة‬ ‫و ال أتكلــم كث ـرا مــع اآلخريــن‪ ،‬و لكــن أكلــم لوحــايت‬ ‫و هــي تــرد عــي‪ ،‬لقــد يحــدث أن أتــرك لوحــة غــر‬ ‫مكتملــة ليــس ألننــي مل أعــد أحبهــا‪ ،‬بــل هــي تطلــب‬ ‫منــي ذلــك‪ ،...‬فأتركهــا حتــى تجهــز أكــر يف ذهنــي‪،‬‬ ‫ويحــدث أيضــا أن أكمــل واحــدة برسعــة فائقــة‪ ،‬كــا‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫وكأننــي أكــون يف حالــة غريبــة‪ ،‬أي يف عــامل آخــر‪.‬‬ ‫تخربنــا ميميــة أن األلــوان تجذبهــا منــذ الطفولــة‪ ،‬تقــر‬ ‫لنــا يف هــذا املجــال أن أبويهــا رحمهــا اللــه‪ ،‬كانــا‬ ‫يفهامنهــا رغــم أنهــا كانــا أميــان وكانــا يكنــان اح ـرام‬ ‫مميــز وعظيــم لفنهــا‪ ،‬قالــت‪ « :‬أمــي كانــت تعفينــي‬ ‫مــن األشــغال املنزليــة‪ ،‬وكانــت تقــول ألخــوايت أن اللــه‬ ‫أهــداين موهبــة‪ ،‬ال يليــق أن أتركهــا تضيــع‪.»..‬‬ ‫كــم هــي حساســة ميميــة يف أعامقهــا وكيانهــا‪ ،‬وبكــت‬ ‫وســالت دموعهــا عــى خدودهــا حينــا تذكــرت‬ ‫شــقيقها الــذي انتحــر‪ ،‬أبويهــا املتوفيــن‪ ،‬وأختهــا التــي‬ ‫أخذهــا املــرض الخبيــث‪ ،...‬وصارحتنــا بتلــك العبــارة ‪« :‬‬ ‫الوجــع يخلــق عنــدي حــب العمــل‪ ،‬ال أكــف عــن الرســم‬ ‫ملــا أكــون موجوعــة‪ ،‬حتــى أن بعــض النــاس يلوموننــي‪،‬‬ ‫معتقديــن أننــي ال أحــس بــيء‪ ،‬يظنــون أن الرســم‬ ‫كالعــرس‪ ،‬ويجــب أن أكــف عــن الرســم‪ ،‬ويجــب أن‬ ‫اكــف عنــه يف مرحلــة الحــداد‪ .‬ولكــن آه لــو يعرفــوا بــأن‬ ‫رســمي هــو رد اعتبــار ألمــوايت‪ ،‬وطريقتــي يف محبتهــم»‪.‬‬ ‫وتقــول أيضــا بــأن الوقــت يداهمهــا‪ ،‬وبــأن األيــام قصــرة‬ ‫وأنهــا خائفــة أن ال تقــدر أن تنهــي كل األشــغال التــي‬ ‫تحلــم بهــا‪ « ،‬أحــس بنقــص رهيــب‪ ،‬األشــياء تزدحــم‬ ‫بداخــي وكأنهــا تريــد الخــروج الفــوري»‪.‬‬

‫لوحــات ميميــة تعــر عــن أحاســيس وخواطــر عميقــة‪،‬‬ ‫تــكاد أن تكــون روحانيــة‪ ،‬يف غابــة الجــال واالبتــكار‪،‬‬ ‫وتحــب الفنانــن الكبــار العامليــن ‪ ،‬مثــل «جوزيــف‬ ‫فــرن» ولوحاتــه اللامعــة‪ ،‬و»رمربنــت» وعاملــه اململــوء‬ ‫بالــدفء و» دوالكــروا» وبالطبــع الكثــر مــن الفنانــن‬ ‫اآلخريــن‪.‬‬ ‫وبالنســبة للفنانــة ميميــة‪ ،‬كل يشء عنــده روح‪ ،‬وبالتــايل‬ ‫هــي تحــب األشــياء القدميــة‪ ،‬التــي تــرك عليهــا الزمــن‬ ‫بصمتــه العتيقــة املميــزة‪ ،‬وأيضــا األماكــن التــي تحــي‬ ‫الحيــاة العميقــة الفــن بالنســبة إليهــا ينبــع مــن‬ ‫اإلنســانية‪. ...‬‬

‫‪29‬‬


‫أتمنى أن أرى صباي‬ ‫من خالل التظاهرات‬ ‫الثقافية بقسنطينة‬ ‫فتيحة سلطان واحدة من سيدات‬ ‫هذه المدينة التي كانت لها بصمتها‬ ‫الخاصة في عالم التلفزيون والمسرح‬ ‫الجزائري‪.‬‬

‫الفن النميري‪:‬‬ ‫اكتشاف مدهش‬

‫(‪)numérique‬‬

‫اكتشــفت ميميــة طريقــة جديــدة يف الفــن النمــري‪ ،‬أو‬ ‫الفرشــاة االفرتاضيــة‪ ،‬ورشعــت يف االبتــكار بهــذه التقنيــة‬ ‫العرصيــة‪ ،‬مــع املــزج بالصــورة الفوتوغرافيــة والرســم‬ ‫باأللــوان و»امليديــا ميكســت»‪.‬‬ ‫وصــارت هــذه التقنيــة ترسهــا جــدا‪ ،‬مثــل الطفلــة‬ ‫الصغــرة التــي تكتشــف لعبــة جديــدة‪ ،‬وهكــذا أبدعــت‬ ‫يف رســم لوحــات كثــرة بهــذه الطريقــة‪ ،‬حتــى أن هــذه‬ ‫الرغبــة الرهيبــة التــي متلؤهــا يف كل لحظــة وتحثهــا عــى‬ ‫العمــل طــوال الليــايل‪ ،‬تذكرهــا بــكالم مضحــك كانــت‬ ‫تقولــه لهــا املرحومــة والدتهــا‪ « :‬لــو مل تجــد مســاحة‬ ‫للرســم‪ ،‬فهاهــو ظهــري‪ ،‬ارســمي فوقــه مــا شــئت»‪،‬‬ ‫وتلــك هــي عظمــة الحــب الــذي يجعــل مــن أحبائنــا‬ ‫رشكاء جنوننــا‪ ،‬أهوالنــا وابتكاراتنــا‪ ،‬ورد أحــد الشــعراء‬ ‫ملــا طــرح عليــه هــذا الســؤال ‪:‬‬

‫‪30‬‬

‫ما هي السعادة ؟‬ ‫«السعادة هي أن يفهمك‬ ‫الغير»‪.‬‬ ‫‪www.qasantina2015.org‬‬

‫ف‪٠‬ح‬

‫مــن مواليــد ‪ 1953‬مبدينــة الجســور املعلقــة ترعرعــت يف حي‬ ‫الكلــم الرابــع‪ ،‬وزاولــت دراســتها االبتدائيــة بــذات الحــي يف‬ ‫مدرســة ابــن ســينا‪ ،‬والتــي تعتربهــا الفنانــة املدرســة التــي‬ ‫ألهبــت داخلهــا شــعلة الفــن‪ .‬واصلــت دراســتها ‪ 3‬ســنوات‬ ‫باملعهــد التقنــي املتواجــد يف شــارع العــريب بــن مهيــدي‬ ‫وســط مدينــة قســنطينة‪ ،‬ثــم درســت يف مدرســة الكتانيــة‬ ‫القرآنيــة ملــدة ســنة‪.‬‬ ‫وكانــت ضمــن أفــواج الكشــافة اإلســامية آنــذاك‪ .‬ويف‬ ‫ســنة ‪ 1969‬انضمــت إىل املعهــد املوســيقي لتعلــم الرقــص‬ ‫واملوســيقى‪ ،‬لتلتحــق بعدهــا يف حــدود ‪ 1971‬باملــرح‬ ‫وتشــارك مــع ثلــة مــن فنــاين قســنطينة املعروفني يف نشــاطات‬ ‫ثقافيــة متنوعــة منهــا الغنــاء ضمــن كــورال اإلذاعــة الوطنيــة‬ ‫املشــاركة يف حصــة منكــم وإليكــم وغريهــا‪ .‬ويف عــام ‪1976‬‬ ‫وبعــد مشــاركتها يف أول عمــل مرسحــي عــى ركــح مــرح‬ ‫قســنطينة والــذي وســم بـــ «خويــا عدويــا» مــن إخـراج عبــد‬ ‫الحميــد حباطــي ومبســاعدة حســان بــن زراري‪ ،‬اقــرح عليهــا‬ ‫الفنــان أحمــد أقومــي أن تذهــب إىل عنابــة لتفتــح لهــا‬ ‫بذلــك آفاقــا مرسحيــة أخــرى‪ ،‬ويصبــح يف رصيدهــا الفنــي ‪13‬‬ ‫مرسحيــة‪ .‬يف عنابــة أصبحــت الفنانــة فتيحــة ســلطان موظفــة‬ ‫كممثلــة دامئــة باملــرح‪ .‬خــال مشــوارها الفنــي مثلــت يف‬ ‫عــدة أعــال تلفزيونيــة مــن مسلســات وســيتكومات عــى‬ ‫غــرار «أعصــاب وأوتــار‪ ،‬شــاري دالــة‪ ،‬رمضانيــات‪ ،‬عيــى‬ ‫ســطوري وغريهــا»‪.‬‬ ‫تقاعــدت الفنانــة منــذ ســنتني مــن الوظيفــة العموميــة‬ ‫وشــكلت تعاونيــة فنيــة بــدأت مــن خاللهــا بإنتــاج‬ ‫مرسحياتهــا الخاصــة أولهــا مرسحيــة يف الحــدود التــي قامــت‬ ‫مــن خاللهــا بجولــة فنيــة داخــل وخــارج الوطــن‪.‬‬ ‫س‪ .‬خ‬


‫مجلة مقـــــام عدد إفتتاحي مارس ‪2015‬‬

‫نساء من المدينة‬ ‫الكاتبة زهور ونيسي‬

‫أول وزيرة‬ ‫في تاريخ الجزائر‬ ‫أهدت قسنطينة للجزائر الكاتبة و السياسية زهور ونيسي‬ ‫التي تعد سيرتها درسا يمكن أن تستلهمه كل النساء‬ ‫العربيات‪ ،‬سيدة تقلّبت بين النضال والكتابة والممارسة‬ ‫السياسية لكنها ظلت وفيّة لبساطتها وعفويتها وحماسها‬ ‫الدائم‪ ،‬ال تتردّد في القول بأنها مثقفة السلطة وناقدتها في‬ ‫نفس الوقت‪ ،‬ألنها حين قبلت بأداء دور سياسي إنما أكملت‬ ‫مسار الجهاد الذي بدأته صغيرة وهي تلميذة أو مدرّسة في‬ ‫المدارس الحرة‪.‬‬ ‫منــذ عقــود طويلــة وهــي تكتــب قصــة بعــد قصــة‬ ‫وروايــة بعــد روايــة ومقــال بعــد مقــال كأنهــا‬ ‫تكتــب للمــرة األوىل‪ .‬القســنطينية املحافظــة التــي‬ ‫ظهــرت مبظهــر عــري كانــت منوذجــا للمــرأة‬ ‫الجزائريــة املتم ّدنــة‪ ،‬انتســبت خــال الثــورة إىل‬ ‫املدرســة الحــرة تلميــذة ثــم طالبــة ويف الحالتــن‬ ‫كانــت مجاهــدة‪ ،‬والزالــت إىل اليــوم تعــر عــن‬ ‫امتنانهــا ألب دفعهــا نحــو طلــب العلــم رغــم أنــه‬ ‫مل ينــل منــه الحــظ الكثــر‪ .‬أذيعــت قصصهــا األوىل‬ ‫يف إذاعــة صــوت العــرب كــا نــرت بعضهــا إىل‬ ‫جانــب مقاالتهــا يف صحــف ومجــات عربيــة‪ ،‬وقــد‬ ‫ســاهمت وأدارت أول مجلــة نســائية يف الجزائــر‬ ‫وهــي مجلــة «الجزائريــة»‪.‬‬ ‫الكاتبــة التــي شــغلت عضويــة الربملــان ســنة‬ ‫‪ 1977‬دخلــت الحكومــة كأول وزيــرة يف تاريــخ‬ ‫الجزائــر ســنة ‪ 1982‬حيــث تولــت حقيبــة الشــؤون‬ ‫االجتامعيــة تحــت تســميتني (الشــؤون االجتامعيــة‬ ‫ثــم الحاميــة االجتامعيــة) قبــل أن تتــوىل حقيبــة‬ ‫الرتبيــة ســنة ‪.1986‬‬

‫لكــن املســار األديب لزهــور ونيــي هــو مســارها‬ ‫األبــرز‪ ،‬وكانــت أول إصدارتهــا القصصيــة ســنة‬ ‫‪ 1967‬مببــادرة مــن الناقــدة املرصيــة الشــهرية‬ ‫ســهري القلــاوي التــي جمعــت‪ ،‬خــال زيــارة لهــا‬ ‫للجزائــر‪ ،‬قصاصــات قصــص الكاتبــة لتنرشهــا يف‬ ‫أول مجموعــة ‪ ،‬لتصــدر بعــد ذلــك مجموعــة عــى‬ ‫الشــاطئ اآلخــر‪ ،‬قبــل أن تدشــن تجربتهــا الروائيــة‬ ‫بروايــة «يوميــات مدرســة حــرة» وهــي روايــة‬ ‫أقــرب إىل الســرة الذاتيــة اســتلهمت أحداثهــا مــن‬ ‫تجربتهــا يف املــدارس الحــرة كان ســنة ‪ 1978‬ويف‬ ‫‪ 1996‬أصــدرت روايــة لونجــا والغــول‪ ،‬ثــم عــادت‬ ‫إىل القصــة مبجموعتــي عجائــز القمر و روســيكادا‪..‬‬ ‫زهــور ونيــي التــي تعتــر عبــد الحميــد بــن باديس‬ ‫معلمهــا ظلــت تؤكــد أن أعاملهــا كلهــا مســتلهمة‬ ‫مــن الواقــع‪ ،‬وأن أغلــب شــخوصها «ينحــدرون»‬ ‫مــن محيطهــا املبــارش‪.‬‬ ‫وحتــى وإن ظلــت وفيــة ألســلوبها الكالســييك يف‬ ‫الكاتبــة‪ ،‬لكــن يكفيهــا أنهــا تصنــف نقديــا بــن‬ ‫مؤســي األدب الجزائــري املكتــوب بالعربيــة‪.‬‬ ‫س‪ .‬خ‬

‫‪31‬‬


‫الكاتبة زهور ونيسي‬

‫‪32‬‬

‫رسم توفيق دردور‬

‫‪www.qasantina2015.org‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.