قصة آدم ..نظرات جديدة العالمة د.عدنان ابراهيم
PLACE PHOTO HERE,
تفريغ :أ/أنور محمد مراجعة وتدقيق النص :د/منى زيتون تنسيق الكتاب :محمد عدوي
OTHERWISE DELETE BOX
0
إن الحمدهلل نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .من يهده هللا فال مضل له ومن يضلل فال هادي له .وأشهد أن ال إله إال هللا وحده ً ال شريك له وال نظير له وال مثال له .وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبد هللا ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه ونجيبه من عباده ،صلى هللا تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته املباركين امليامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم ً ً تسليما كثيرا. عباد هللا ،أوصيكم ونفس ي الخاطئة بتقوى هللا ولزوم طاعته ،كما أحذركم وأحذر َ ْ َ َ َ ً حا َف ِل َن ْف ِس ِه َو َم ْن َأ َساء َف َع َل ْيهاَ نفس ي من عصيانه ومخالفة أمره ،لقوله تعالى" :من ع ِمل ص ِال َو َما َرُّب َك ب َظ ْ َ يد". الم ِللع ِب ِ ِ ٍ
ثم أما بعد ،أيها اإلخوة املسلمون األحباب ،أيتها األخوات املسلمات الفاضالت. يقول هللا سبحانه تعالى في كتابه العظيم ،بعد أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم: ألرْضِ خَلِيفَ ًة قَالُوا َأَتجْعَ ُل فِيهَا مَنْ يُ ْفسِ ُد ك لِلْمَالِئكَ ِة إِنِّي جَاعِ ٌل فِي ا َ َب َ ذ قَالَ رُّ "وَإِ ْ ك قَا َل إِنِّي أَعْلَ ُ مَا ت تَعْلَمُو َن ك وَنُ َقدِّسُ َل َ ك الدِّمَا َء وََنحْنُ نُ َسبِّحُ ِبحَمْدِ َ فِيهَا وَيَسْفِ ُ ) ( 30وَعَلَّ َ آدَمَ األَسْمَا َء كُلَّهَا ثُ َّ عَرَضَهُ ْ عَلَى الْمَالِئكَ ِة فَقَا َل أَْنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ َ ك أَنْ َ كنْتُ ْ صَادِقِينَ ) ( 31قَالُوا ُسْبحَاَنكَ ت عِلْ َ َلنَا إِت مَا عَلَّمَْتنَا إَِّن َ هَؤُت ِء إِ ْن ُ حكِي ُ ) ( 32قَالَ يَا آدَ ُم أَْنبِئْهُ ْ بِأَسْمَائِهِ ْ فَلَمَّا أَْنبَأَهُ ْ بِأَسْمَائِهِ ْ قَا َل أَلَ ْ أَقُلْ الْعَلِي ُ الْ َ ض وَأَعْلَ ُ مَا ُتبْدُو َن وَ َما كُْنُت ْ ت وَاألَرْ ِ ب السَّمَاوَا ِ َلكُ ْ إِنِّي أَعْلَ ُ غَيْ َ
كتُمُو َن) { "( 33البقرة. }33-30 : تَ ْ
1
صدق هللا العظيم ،وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين .اللهم اجعلنا من شهداء الحق القائمين بالقسط ،آمين اللهم آمين. أيها اإلخوة األفاضل ،أيتها األخوات الفاضالت .قصة أبوينا عليهما السالم قصة مأثورة ومطروقة ومكرورة .وكم وكم للسادة العلماء في القديم والحديث من وقفات وأنظار واستبصارات حول هذه القصة األساس الرئيسة ،إنها قصة مفتاحية لضروب من ً ً الوعي ،لضروب من االستبصار ،ولضروب من إنارة الطريق أيضا ،ولنا أيضا ضمن هذه الوقفات ،وقفات طويلة من على هذا املنبر. أما اليوم فنجهد أن نض يء هذه القصة من زوايا مختلفة ،أو من زاوية على األقل ً ً فيها ش يء من االختالف .طبعا تتمة القصة تعلمونها جميعا ،وهي التي يدخل فيها عنصر
جديد لم يذكر في السياق السابق ،إنه إبليس .والذي يختار القرآن العظيم بمنتهى الدقة والحذاقة أن يصر على عنونته بهذا االسم أو بهذا العنوان وال يستحيل إلى الشيطان إال ً ً بعد أن يغري أبوينا بهذه املعصية ،بعد ذلك يؤكد القرآن عنوانا جديدا أو يشترع ويفتجر ً ً عنوانا جديدا له إنه الشيطان .قبل ذلك كان إبليس ،لكنه بعد ذلك صار الشيطان وهذا من دقة الكتاب الكريم. ونبدأ القصة من أولها ،نبدأ مع هذا االستفهام التعجبي وال نقول االستنكاري. فليس من خيار املالئكة أن يستنكروا إرادة ومشيئة إلهية .لكن يعجبون أتجعل فيها من ً يفسد فيها ويسفك الدماء!! .إذا بداية مع السؤال ،الذي هو مفتاح املعرفة أو مفتاح من أكبر مفاتيحها على اإلطالق .السؤال الذي يعني فيما يعني وضمن ما يعني الحيرة والدهشة والوله والحافز والدافع والتطلع والسلطة ،سلطة االعتراض وسلطة االمتحان وسلطة ً الكشف أيضا ،كشف الزيف والدجل والتدليس .أتحدث عن السؤال بعامة وليس عن
2
سؤال املالئكة .إنه السؤال .سلطة امتحان عقائدنا وموروثاتنا ،واختبار مداركنا ومفهوماتنا ،اختبار ما ألقي إلينا ويلقى إلينا ونلقيه إلى غيرنا ،إنه السؤال مرة أخرى .إنه ً ً أيضا عنوان وداللة االنفتاح واالتساع واإلثراء والتخصيب ،ولذلك يعتبر السؤال دائما ً دليال للعلم والجهل في وقت واحد .إنه ليس بداية الطريق نحو العلم أو نحو الحقيقة بل إنه نصف الطريق حقيقة. إذا طرح السؤال وتبرر طرحه من ناحية منهجية فإنه يشكل نصف الطريق إلى ً ً الحقيقة .والذين ال يسألون وال يتساءلون هم إدراكيا جماعة من البكم ،كما تقريبا كان ً أبوانا في حالة البراءة األصلية ،كانا أبكمين .وتالحظون أيضا -في عجب -أن أبوينا في كل هذه القصة الجنائنية التي تمت في العالم العلوي في جنة عدن لم يتأت منهما سؤال وال يحك لنا القرآن أي ش يء أدلى به اعتراض وال أي ش يء حتى حين استزلهما الشيطان لم ِ ً األبوان .وإنما الفاعلية كلها إلبليس الذي عاد شيطانا بعد ذلك بفعلته النكر هذه .كانا ً أبكمين تقريبا ،ليسا أبكمين عن الكالم ،كانا يتعاطيان هذه الصناعة ،صناعة الكالم .لكن ً ً ً الكالم بال سؤال يقتض ي جوابا يوشك أن يكون بكما ،وأكثر الكالم الذي ال يكون جوابا ً ً لسؤال يختصر هما وقلقا وحيرة حقيقية ،هو لغو كلغو الطير يجعل اإلنسان آلة للحكي ً ً ً ً وآلة الستحفاظ واستظهار ما يلقى إليه فقط وليس كائنا دراكا ومفكرا .لم يبدأ أبوانا إذا
الكالم الحقيقي هناك في حالة البراءة األصلية التي يحسدهم الكسالى وغير الراغبين في الكمال واالستكمال عليها وكأنها حالة مثالية تطلب! ،كال فالتكوين اإلنساني -هذه البنية اإلنسانية -لم تهيأ ولم تخلق ولم تعد لتبقى في حالة البراءة األصلية ،فهذا غير مناسب لها البتة.
3
َ ََ ََ ْ َ ْ ْ َ َ َ ْ َ َ َ الدماء ونحن نس ِبح ونعود إلى السؤال( ،أتجعل ِفيها من يف ِسد ِفيها ويس ِفك ِ َ َ َ َ َ َ ٌ ً ََ َ َ ال ِإ ِني أ ْعلم َما ال ت ْعلمون) ،وهنا ملحظ عجيب جدا إذ ماهو مبرر ِب َح ْم ِد َك َون َق ِدس لك ،ق هذا االستخالف؟ في ظن املالئكة ووهلهم فإن املبرر هو التسبيح والتقديس ،إذ ينبغي ملن يسبح ،وملن هو مستهتر ومستغرق في التسبيح والتقديس والتمجيد ،ينبغي له أن يحظى ً ً ً بشرف الخالفة وأن يكون الخليفة ،لكن هللا تبارك وتعالى أعطى جوابا مخالفا تماما .هذا ً الجواب معلوم لديكم ولديكن جميعا .ال ،إنه ليس التسبيح والتقديس فقط ،وليس التسبيح والتقديس كش يء رئيس يراد إرادة أولية ،إنه ش يء غير ذلك .يقتض ي بعد ذلك
ً التسبيح والتقديس لكن على أنهما من مقتضياته .وحينئذ يصبح التسبيح والتقديس فعال َ َ َّ َ َ َ َ َ ً ً ً األ ْس َماء ك َّل َها ث َّم َع َر َ ضه ْم َعلى واعيا ال فعال مبرمجا .إنه املعرفة ،إنه العلم( ،وعلم آدم ً َْ َ املال ِئك ِة )...إلى آخر الحكاية .إذا بحسب القرآن الكريم نفسه ،بحسب إرادة هللا تعالى ،ليس ً مبرر االستخالف ،وليس جوهره أن تكون مستغرقا في التسبيح والتحميد ،هذا يعطيني راحة ضميرية أو ضمائرية من أجل تأكيد أفكارنا التي ننتهي إليها كل حين وحين ،من أن ً حقا ٌ فادح ،فادح في تفكير املسلمين أو أكثر املسلمين هناك خطأ ما ،وهو خطأ املعاصرين ،أعني بالذات اإلسالميين ،أو كما يحلو للبعض أن ينعتهم اإلسالمويين ،أي ً ً ً الذين يتخذون من اإلسالمية والتوجه اإلسالمي حال وتفسيرا وتوصيفا لكل ش يء من حيث أتى كأنهم غائبون أو مغيبون عن هذا العالم بكل كوامنه وبكل طاقاته وبكل أيديولوجياته وأفكاره وتوجهاته ومنازعه ومشاربه ،وال ينظرون إال من خالل هذا الثقب أو من خالل هذا املنظور ،وهذا إلى حد ما صادق ،ليس على إطالقه ولكن إلى حد ما ،لألسف. وهذا الذي يبرر لنا الحديث عن موقف اإلسالم والفكر اإلسالمي من أشياء ً يصعب تبرير طرحها ضمن هذه العنوانات .اإلسالم والتكنولوجيا مثال ،ش يء عجيب،
4
ً ً اإلسالم والعلم الطبيعي ،اإلسالم والكون ،اإلسالم طبعا أكثر تبريرا والديمقراطية والعوملة والعلمانية أكثر .لكن اإلسالم والتكنولوجيا واإلسالم والكون والجيولوجيا ،ش يء عجيب ً جدا ،ماهذا؟! .هناك خطأ ما .هذا الخطأ جر املسلمين إلى أن يظنوا أنهم إن استغرقوا ً أوقاتهم -ليلهم ونهارهم -في شئون طقوسية وعبادية محض ،فإنهم يكونون أكثر قربا من ً هللا ،وأكثر تحقيقا ملراد هللا من خلق هذا اإلنسان وتهيئته واستخالفه في األرض ،وهذا غير ً صحيح باملرة بد ًءا من هذه القصة املفتاحية .هذا ليس صحيحا ،لو كان هذا املراد الستخلف هللا املالئكة وألنزلهم هنا وانتهى كل ش يء ،هي فهمت األمر على هذا النحو ومن هذه الزاوية ،نحن نسبح بحمدك ،نحن نقدس لك يا هللا ،هللا قال ال ،ليس هذا ما أريده. أنتم تسبحون تقدسون في املأل األعلى ،في الصفيح األرقى هناك ،هذا مطلوب منكم وأنتم ً مهيؤون لذلك ،أما هنا في هذا الكوكب ،في هذا العالم األرض ي فالوضع مختلف تماما .قوى ً اإلنسان وإمكاناته املذخورة الظاهرة واملستترة تعمل جدليا وبسبيل مباشر مع هذا الكوكب ،مع هذا العالم .إنه مخلوق لهذا العالم ،والعالم مخلوق ومهيأ له ،هذا الكوكب ً ً بالذات ،فقوى هذا اإلنسان ال تستفز وال تتحرك وال تبدأ بالتفاعل تصارعيا وتقابليا كيما تتناسخ وكيما تتخصب في نفس الوقت إال في هذا العالم بالذات أو ما ييهيء إليه ،كأن هذا العالم يستفز هذه القوى في قوى جاذبة لبعضها على حساب بعض فتحدث هذه القفزات وهذه التقابالت وهذه الجدلية املستمرة. العجيب أن القرآن يتضمن إشارة في منتهى الدقة تخبرنا أن املالئكة تكون موجودة في هذا العالم لكن على سبيل قلقة تنعدم لديها فيه االستقرار ،يبدو أنها ال تجلس وال
ً تطمئن وال تستريح دائما ً،وتكون في حالة تحليق وفي حالة إنجاز عمل معين كالكاتبين مثال، لكنها ال تطمئن في هذا العالم كقطانه( ،قل لو كان في األرض مالئكة يمشون مطمئنين)،
5
وتكتمل اإلشارة بأن املالئكة أنفسها لو نزلت إلى هذا العالم لتكون من قاطنيه ،لو وجدوا ً هنا ليطمئنوا في هذا العالم ،إذا لعملت قوى هذا العالم عملها في طبيعتهم النورانية فاختل التجانس ،ولوقعت املعصية ولوقع الخطأ ،ولوقع التوتر ،لكن ضمن طبيعة واحدية وهذا عجيب إنها طبيعة نورانية (قل لو كان في األرض مالئكة يمشون مطمئنين ً ً لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسوال) .سيحتاجون إلى رسالة ألنهم سيضلون سيحدث لهم توتر وهذا مع كائنات واحدية فكيف بكائن ازدواجي ثانوي كاإلنسان ،ثانوي ففيه سماء الروح وفيه أرض البدن ،فيه هذه القبضة الطينية األرضية الال متجانسة من كل صنوف طين األرض وتربتها كما قال املصطفى صلى هللا عليه وآله وأصحابه وسلم ،وفيه هذه ً ً ً النفحة والنفخة اإللهية العلوية .إنه كائن يعيش توترا دائما ،ويهبط إلى هذا الكوكب!! إذا ال بد أن يبدأ التفاعل والجدلية بشكل مستمر إلى أن يموت هذا اإلنسان ،إلى أن ينتهي، إلى أن يقض ي ،هذا مستمر .وهكذا أراد هللا عزوجل أن يقف بنا على مراده في قصة الخلق ً واالستخالف ،ليست قضية أن نسبح وأن نقدس إنها أكبر من ذلك .طبعا ال بد أن يأتي بعد ذلك التسبيح والتقديس وحتى طقوس العبادة لكن من رحم املعرفة ،من رحم التبرير ،من رحم التجربة ،من رحم املعاناة .مكتوب على هذا اإلنسان في أكثر شوطه ومراحله أال يفوز إال بما يعاني ،من رحم املعاناة تخرج املكاسب أو كما يقول األجانب (No ) .Pain No Gainال معاناة ال مكسب ،هكذا .وهذا معنى من معاني قوله جل من قال (لقد خلقنا اإلنسان في كبد) ،فمن رحم هذا الكبد ،ومن رحم هذه املعاناة تثرى التجربة ً اإلنسانية وتتخصب ،مما يعني أنه تتحقق إنسانية اإلنسان قدما إلى أن يبلغ سدرة منتهاه. هذا هو اإلنسان وهذه هي دراما اإلنسان.
6
ً إذا في موقف املالئكة ملحظان رئيسان كبيران ،ملحظ السؤال الذي لم يقمع ولم ً يتم إدراسه ولم يتم إقصاؤه ،وإنما حظي بالجواب أيضا ،وأي جواب ،جواب في صيغة اختبارية امتحانية في مشهد تمثيلي أكثر من رائع( .وعلم آدم األسماء كلها )...هذا هو الجواب .من املسؤول؟ رب العزة والجالل ال إله إال هو .من السائل؟ هذه الكائنات ،ال ً أقول املعصومة ،ألنها بطبيعتها الواحدية النورانية في عاملها العلوي ليست أصال عرضة ً ً ً للخطأ .إذا ال تملك هذه امللكة أصال ،إذا ال يصح أن نقول إنها معصومة ،إنها مالئكة وحسب ،انتهى .لو تأتى منها الخطأ أو لو أمكن أن يتأتى منها الخطأ لصح أن توصف ً ً بالعصمة كاإلنسان ،اإلنسان يمكن أن يوصف بالعصمة -طبعا قطاع يسير منهم جدا ً جدا إنهم األنبياء واملرسلون منهم فقط .-السؤال حظي بالجواب على الوصف الذي ذكرنا، ً ً فماذا يعني هذا أيضا .يعني ضمن ما يعني أن اإليمان ليس من شرطه أن يكون تسليما ً ً ً ً محضا ،هذا التسليم يأتي مبررا أيضا .وهنا تبرر هذا التسليم طبعا أذعنوا وسلموا ً وسجدوا ملسجودهم بأمر هللا ،لقد جعل هللا من آدم مسجودا للمالئكة .لكن تسليمهم ً جاء مبررا بعد هذا السؤال العاجب أو املتعجب املندهش (أتجعل فيها؟!!) .هكذا يعلمنا رب العزة .أين نحن من هذه النغمة املكرورة اململولة التي تسربت إلينا عبر أربعة عشر ً قرنا "ال يجوز طرح مسائل من نوع كذا وكذا ،ال يجوز إثارة شبهات من نوع كذا وكذا، ً ً حفظا لعقائد الناس ،حفظا لطمأنينة املسلمين" .ماهذا؟! ً ً هذا يعد أوال ،وقوعا في منطق الوصاية القبيح أو املقبوح .بعض الناس إلى اآلن يظن أنه يمارس وصاية حقيقية على الناس .لألسف هناك من يقبل أن تمارس عليه هذه الوصاية.ال وصاية ألحد على أحد .قصة أبينا آدم تبين هذا منذ البداية ،أنه ال وصاية ألحد على أحد .لقد أعطى هللا ال إله إال هو جل في عليائه مخلوقه املستخلف هذا الفرصة ال
7
أقول من أول يوم بل قبل اليوم األول ،ألنه خليفة في يومه األول في األرض ،قبل هذا اليوم فرصة أن ينتخب وأن يختار وأن يخطئ بأن يتجاوز األمر اإللهي ،الذي هو حظر في ً الحقيقة ،فتجاوزه وتعداه في الجنة هناك بين يدي هللا .هذا معنى أن أكون إنسانا أن لي حريتي ،هذه هي األمانة التي حملتها .ال يجوز ألحد أن يواصل الوصاية علي الناس وأن يدعي ً ً هذه الوصاية عليهم .ثم ،يظن هؤالء املنحدرون فعال من أربعة عشر قرنا بتفكيرهم وبغيبتهم عن العالم وعن اآلخر ،يظنون أن األبواب موصدة ،وأن هذا السائل املسكين املتهم الظنين في عقيدته وإيمانه هو الذي سيشرع هذه األبواب على املصاريع .هذا صحيح، من قال لك إن األبواب موصدة ؟ أنت ال تظن أن األبواب موصدة ،إال لتقلص معرفتك بما عند اآلخر .األبواب كلها مشرعة .وباملناسبة فقد انتهى زمان وحين وصد وصك األبواب ً والشبابيك ،فاآلن كل ش يء مفتوح على اإلطالق .يستطيع اآلن مراهق صغير جدا بتليفون محمول يدوي أن يدسه في أي مكان من ثيابه وأن يمارس اإلطالع على ما في العاملين من
ً أفكار ومن مباحات ،ومن إباحيات من كل ش يء ،في تليفونه! ،وال تستطيع أن ترقبه ،فضال
عن أن تراقبه بشكل مستمر .انتهى هذا العصر انتهى فانتبهوا ،بينما هناك من يمارسون ً ً منطق الوصاية على الناس .أظن ثالثا وأخيرا أن هؤالء ال يخافون على عقائد الناس بمقدار ما يخافون على عقائدهم وأفكارهم ،وعلى الحالة البسيطة الساذجة من التصالح مع الذات ،فهم متصالحون مع أنفسهم ومع أفكارهم ومع موروثاتهم ومع مقوالتهم ً ْ و َمن ِشطاتهم العريضة -عناوين أقوالهم -املكرورة دائما في كل مناسبة ،هم يخافون عليها، يخافون حتى من أنفسهم عليها .كما يخافون من سلطة السؤال االفتضاحية الكاشفة للزيوف أن تفضح ما عندهم .لألسف هذا انتهى .القرآن في أول سوره وأول آياته يعلمنا أن السؤال إذا تبرر ال بد أن يحظى بجواب ،السؤال ال يخرس ،السؤال ال يسكت .ولذلك يأتي
8
ً اإليمان بعد ذلك مبررا ،ليس على مبدأ التسليم ،إنما على مبدأ التبرير الحقيقي ،وهذا ً ملحظ كبير جدا. نعود اآلن إلى آدم عليه الصالة وأفضل السالم .ما الذي حدث آلدم؟ يقال إنه كان ً يعيش هو وأمنا املكرمة في حالة ما يعرف بالبراءة ،البراءة التامة ،البراءة األصلية ،فعال. هذه الحالة غير موجودة في هذا العالم الدنيوي .الطفل الصغير لو تم له إدراك ليلتقط التناقضات واملفارقات ألول ساعات شهوده هذا العالم ألدرك ما في العالم من نزاعات ومن خصومات ومن أنانيات ومن صراعات ومن تقابالت وأضداد ،ألدرك ،لكنه ربما يكون غير مهيأ لذلك في أول ساعات قدومه إلى عاملنا ،هناك كل هذا مفقود ،كل هذا غير موجود .املوجود فقط إمكان لهذا الكائن الذي خلق أصالة من طين األرض ،من ترابها من حمأها املسنون وصلصالها الذي هو كالفخار .موجود هذا اإلمكان لكنه نائم ،لم ينشط. ً ً طبعا هناك أيضا النفخة اإللهية العلوية ،كيف تم تحفيزه وتنشيطه وتحريكه؟ وهذا مراد هللا عز وجل .هذا اإلمكان النائم الغافي -بمنطق جديد -ألول مرة يواجهه آدم ،إنه منطق الحذر ،التحريم ،ال تفعل هناك حد .وهذا املنطق بداهة وبداءة يتحدى ما متع به هذا الكائن الثانوي من الحرية والتطلع وإرادة التجاوز والذهاب إلى أقص ى مايمكن الذهاب ً إليه .هناك إذا تحريك وتنشيط. يحو إشارة واحدة وال أدنى إشارة إلى تميز هذه العجيب أن الكتاب الكريم لم ِ الشجرة املحظورة ،مجرد أنها ذكرت بعنوان أنها شجرة فقط ،ما هي هذه الشجرة؟ هل هي متميزة في شكلها في هيئتها في حجمها في ثمرها؟ ال ..بل ليست متميزة في ش يء ،حتى في لونها. ً لم يذكر القرآن ليدل أنها ليست متميزة ،لم يبق لها ش يء إذا من تميز ،إال في محظوريتها. في كونها محظورة ،وهذا تميز ،هذا التميز ،تميز املحظور هو ما أخل بحالة البراءة األصلية
9
عند اإلنسان األول؛ ذلك أن تميز املحظور هو أخطر التميزات .كثير من الوعاظ والتربويين واملشايخ ال يدركون سر هذه املسألة ويظنون أن التربية الحقيقية واإلرشاد السليم والهداية التامة تتم على مزيد من تأكيد املحظورات ومن تهويل املحظورات ومن تشديد العقاب اإللهي عليها في الدنيا وفي اآلخرة بالذات .بالعكس ،لعل هذا ما يحفز الناس على ويجعلهم مستوفزين الرتكابها والوقوع فيها مزيد حرص وارتكاب .واملسلمون حتى من قديم يقولون هذا حتى في الكتب العرفانية ،يقولون لو منع الناس فت البعر– ً ً أكرمكم هللا وأجلكم جميعا -لفتوه .البعر هل يفت ويؤكل؟ ،نعم ..لو جعل محظورا لبرز له نوع من التميز ،والشرأبت إليه أعناق اإلرادة ،أعناق الحرية ،حرية أن أفعل ،حرية أن ً أجرب يا سيدي .ش يء خطير جدا ،هؤالء الوعاظ ال يدركون هذا املنطق ،مع أنهم يكررون في مناسبات أخرى قضية تحريم أمريكا للخمر في فترة الكساد العظيم 1933-1919 ) ،(Great Depressionعندما سن قانون فولستيد في تحريم الخمر .بعد سن هذا القانون وتشريع أقس ى وأقوى وأشرس العقوبات ضد من يخرق هذا القانون زادت التجارة السوداء بالخمور بشكل غير مسبوق .وزاد حرص الناس حتى على دفع ما ال يملكون من ً املال الزهيد -إذ كان الكساد عظيما -لقاء هذا املدمر املهلك ،وذهب اآلآلف ضحايا ً القانون الجديد .ولم تجد الحكومة بدا في النهاية على أن تلغي هذا القانون لتفاجأ أن معدالت استهالك الخمور عادت إلى املنسوب الطبيعي ،لكن أيام الفقر والكساد العظيم واملنع والسجون زاد حرص الناس على الخمور .هذه بعض تناقضات اإلنسان الكاشفة ً عن حقيقة هذا اإلنسان .الجزء الجوهري من حقيقته أنه حر .دائما نقول األولوية لإلنسان ،وأولوية أولويات اإلنسان الحرية .بعد الحرية كل ش يء يأتي ،لكن هي في البداية، ال تقل لي حتى الدين ،ال ،ألنك باسم الدين سوف تصادر حريتي وال يبقى لي بعد ذلك من حقيقة جوهرية .باسم الدين سوف يتم تنميط األفراد وقولبة الناس ليتم بعد ذلك
10
استغنامهم -أي معاملتهم كاألغنام -كما قال آينشاتين ،قال لكي تعامل الناس كغنم ال بد أن تستغنمهم في البداية .أن تحور في ثقافتهم ،في بنيتهم الثقافية لكي يصدقوا أنهم أغنام ً ً وليسوا بشرا ،لتجدهم كفوا عن أن يكونوا بشرا .ال ،بل األولوية للحرية وهذا ما أعطاه الدين ،هذا ما ذكره القرآن بصراحة في أكثر من موضع. ً نعود إلى ما كنا فيه .إذا التميز في هذا املحظور أنه محظور .كل ماهو متميز فيه أنه محظور .ولذلك لم يحكي لنا القرآن مقاومة عاتية من آدم إلبليس ،بعض العلماء ً ً استسهل وقال كل ما حصل أن إبليس ضحك على آدم وآدم كان ناسيا .ناسيا ماذا؟! قالوا نس ي النهي اإللهي ،كيف نس ي وإبليس نفسه يقول له ( َما َن َهاك َما َ ُّبك َما َع ْن َهذه َّ الش َج َر ِة)؟ ر ِِ ً ماذا؟! نس ي ماذا؟! هذه غفلة عظيمة جدا من املفسرين .ال ،إنما معنى نس ي آدم ،أي نس ي الوفاء بالعهد ،ولم ْ ينس النهي .أو نس ي أي ترك ،ألن النس ي يأتي بمعنى الترك( ،نسوا هللا فنسيهم) أي تركهم .وهللا ال ينس ى بمعنى يغفل عن الش يء ،أعوذ باهلل (وما كان ربك نسيا). فـ (نسوا هللا فنسيهم) أي تركهم .وقد ترك آدم الوفاء بعهد هللا ،لكن ال يقال أنه نس ي الحظر والنهي ،بل لم ينس .حتى لو كان فقد نبهه إبليس على ذلك ( َما َن َهاك َما َرُّبك َما) فلم ً يكن ناسيا ،وإنما لعب اللعين إبليس على بعض هواه وغرائزه ،على بعض نحائزه كما يقول العرب األقحاح ،األشياء الجلية املغروسة في الفطرة .إنها رغبة التطلع إلى الدوام وإلى
الخلود .وكما قلنا إن هذه الرغبة ضمن رغبات كثيرة ،كرغبة التملك -أن يتملك كل ش يء،- ً وكرغبة أن يعلم -أن يعلم كل ش يء ،-وأيضا رغبة أن يبقى -أن يبقى في كل زمان ،حتى بال زمان ،-أن ال يفنى .إنها رغبات مبررة من كائن وجوده عارية ،وجوده هدية من هللا ،ليس ً ً ً من ذاته وليس لذاته .ليس وجودا حقيقيا بإطالق ،ال .ولذلك أنا سأجازف اآلن مجتهدا ً بقول ش يء لعله يكون صوابا إن شاء هللا تعالى وإال فالخطأ مني ومن شيطاني.
11
هذا الضعف األصيل في اإلنسان وهذه الرغبة في االمتداد واالستكمال ،هل تستمر ً معه هناك أيضا في الجنة في الدار اآلخرة؟ وأنا أرى أن نعم ،نعم .املنطق الفقهي البسيط والعقدي الساذج يقول ال ،الدنيا دار تكليف واآلخرة ليست دار تكليف ،دار إمتاع وانتهى كل ش يء .لكن هل فكرتم في قوله تبارك وتعالى (يوم ال يخزي هللا النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) .إنها ال تزال تعمل، ً ً الرغبة في االمتداد وفي االستكمال ال تزال تعمل .نريد أن نستكمل مزيدا من املعرفة مزيدا ً ً ً من اإليمان مزيدا من االقتراب من املطلق الذي لن تصل إليه وصوال حقيقيا وإن ادعى الصوفية باملطلق ،ألن الهوة بين التراب ورب األرباب ال تردم بالكامل ،مستحيل .وإال ً الستحال املربوب ربا ،ولذلك فالتطلع مستمر حتى في الجنة وإلى األبد .وهذه الدعوة دعوة ً ممتدة أيضا( ،ربنا أتمم لنا نورنا) ،يالضعف اإلنسان الذي هو سر عظمته ،ضعفه سر ً طلبه للكمال .سر طلبه للمزيد ،إنه من هو من الكمال ألنه ليس كامال في ذاته ،ليس من ً أصل الكمال إنما هو صنعة الكمال املطلق رب العزة ال إله إال هو ،وهللا أعلم .إذا هذا ما كان من آدم وما كان من بني آدم من بعد. آدم كان في البراءة األصلية كما يقال ،البراءة املطلقة أو التامة حتى اهتزت هذه ً البراءة بمعرفة جديدة ،مع أن آدم حاز قصب السبق وجاز االمتحان حاصال الدرجة
النهائية كما يقال ،ومع من؟ مع املالئكة في قضية املعرفة (وعلم آدم األسماء كلها)... القصة .آدم فاز في االمتحان بالدرجة األولى ،لكن املالئكة رسبت مباشرة واعترفت وعادت إلى وضع األشياء في نصابها كما يقال .هذه املعرفة لم تنقذ آدم؛ إذ لم تمارس أو لم يمارس ً ً ً ً بها آدم دورا استبصاريا ،دورا إنقاذيا في أول امتحان عرض له وفشل في االمتحان .عجيب
12
املالئكة فشلت في امتحان املعرفة ،وآدم فشل في امتحان آخر ،إنه ليس إمتحان املعرفة، ً إن شئتم هي معرفة من نوع مختلف تماما. إذا تعلق األمر بأشياء خارجية ،أي بالعالم والكون الطبيعي سواء كان هنا أو هناك ً ً فهذه املعرفة ممكنة لإلنسان فردا ،وممكنة لإلنسان بارئا البراءة األصلية ،ممكن .أن ً ً يكون بارئا براءة كاملة وأن يحتاز هذه املعرفة ممكن أن يكون فردا وحده ،آدم هكذا بفرده ً ً ً بحياله وأن يحتاز هذه املعرفة .لكن فكروا معي هل يمكن آلدم أن يكون كائنا أخالقيا فردا ً وحده؟ كال .وبالتالي آدم لم يكن كامل اإلنسانية وهو في الجنة .آدم شرع أن يكون إنسانا ً ً ً حقيقيا حينما أهبط إلى األرض ،ألنه بدأ يجرب ويختبر معنى أن يكون موجودا أخالقيا. هنا ،ومع هذه التجربة ،بدأ ينبثق السؤال من توترات جديدة حاصلة .زايله البكم ،وبدأ اإلنسان يطرح األسئلة ،ليس األسئلة االستفهامية االستعالمية بل االستنكارية والتقريرية ً والتعجبية ،وأحيانا األسئلة املجدفة ،حتى على رب األرباب من خالل هذه التوترات الحاصلة التي زايله بسببها وبها اتزانه وطمأنينته األولى التي كانت ثمة .واختلف الوضع اآلن بالكامل. ً ً ً ً ً ً إذا آدم لم يكن ليكون كائنا أخالقيا هناك ،كان يمكن أن يكون كائنا عاملا ،كائنا ً ً عارفا عنده معرفة بكل ما هو خارج( .وعلم آدم األسماء كلها) هذه داللة خطيرة جدا .معنى ً ذلك أن هذه القصة تعطينا جوابا عن سؤال صغير صدع آراء زمرة من فالسفة الغرب وعلمائه ،هل ينقذنا العلم؟ ويعنون بالعلم أي العلم الطبيعي الذي يتعلق بالخارج .وكثير ً منهم إلى اآلن ال يزالون –ومعهم بعض الحق نسبيا -في الشك من تسمية علوم اإلنسانيات ً علوما ،قالوا ال ،العلم الحقيقي ما يقبل التكميم ،أما أن تقول أن التاريخ والسياسة ً ً واالقتصاد وعلم النفس ،واألنثروبولوجيا علوما ،قالوا هذه ليست علوما ،لكن العلم مثل
13
الفيزياء ،وعلم الفلك ،والكيمياء ،فهذه علوم .إنها تتحدث بلغة الرياضات .على كل حال، ً فالسؤال هو :هل ينقذنا العلم بهذا املعنى؟ والجواب قرآنيا أن مستحيل .لو أنقذك ألنقذ أباك من قبل الذي ع ِلم األسماء كلها ،وفاز في االمتحان .لكنه أمام أول اختبار للذات ،أي لالحتفاظ بتوازن القوى في ساحة الذات ،فشل املسكين مباشرة .نزعة غلبت على نزعة، جانب شال بجانب ،كما يقولون .ومن هنا ما يحتاجه آدم هو نوع آخر من املعرفة ،أو العلم .إنه العلم بالذات .هذا العلم غير متاح في ساحة البراءة ،فانتبهوا. ً ً ولذلك قرآنيا ،وانطالقا من هذه القصة ،نحن في شك أن الذين يعتزلون العالم ً ليست على طريقة أرنولد توينبي اعتزاال ثم عودة ،فهؤالء مصلحون ،بل أولئك الذين ً ً يعتزلون العالم اعتزاال حقيقيا كاملتنسكة واملترهبنة ،الذين يعتزلون ويظلون معتزلين ،نحن ً نشك في كمال هؤالء؛ إذ ال يزالون فطيريين غير ناضجين ،وإن نضجوا أسنانا .بالرغم من الدعاوى واملزاعم في االتصال والقرب من رب األرباب ،ال ..هؤالء ليسوا كائنات أخالقية. ليسوا أناس ي مثلنا ،نحن أخالقيون أصبنا أخطأنا نبقى في النهاية أخالقيين .ألننا نختبر بمنطق الصواب والخطأ .براءة آدم ،كانت من نوع براءة الجهل ،براءة العمى ،براءة الجهل بإمكانات الذات وإمكانات الواقع ،وحين برزت له معرفة جديدة من إمكانات الواقع تميز
ً املحظر بإزاء قوى النفس التي بدأت تتحرك اآلن نحائزها ورغباتها اختلفت القضية تماما. ً ً وهنا دخل اختبارا جديدا وخرج منه ببراءة من نوع مختلف .إنها براءة ممهورة بمهر التوبة (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم). ً قرأت لفيلسوف غربي يسأل سؤاال يعترض به على اإلسالم واملسيحية واليهودية جملة واحدة ،يقول :هذه األديان السماوية التوحيدية تحدثنا عن قصة آدم وحواء وما كان منهما ،وأنا أسأل أين الحكمة وأين العدالة اإللهية في أن يبقى الجنس البشري يعاني
14
العذابات واملحن ويتعرض للشقاء العام بذنب أبويه في الجنة؟!! أين الحكمة؟؟ هما أذنبا، ً ملاذا نتحمل نحن؟؟!! ،وهذا سؤال يشكل إثارة وتحديا للمنطق اإلسالمي الصحيح في حد ً ذاته .والذي ال يعترف بالخطيئة املوروثة .لكن أليس هذا من نتائج الخطيئة املوروثة؟! إذا هذا السؤال واالعتراض يساعد النصارى أكثر مما يساعد علم الالهوت اإلسالمي أو علم العقيدة اإلسالمية .والجواب عنه قريب سهل. ً أوال :نحن –أنا أنت هو هي -لم نعاني الفرق بين الحالتين ،فالذي عانى الفرق وعذب بالفرق بين الحالتين ،بين النعيم الذي ال شقاء فيه وبين العالم األرض ي الدني، الذي هو عالم معجون بالشقاء والكبد ،هما أبوانا ،هما هما بذاتيهما .لسنا نحن ،هذه واحدة .تقول لي نحن كأنك اختبرت الحالتين هذا كذب .أنت تكذب على نفسك وعلى خبرتك ،أنت لم تختبر الحالتين .أنت اختبرت حالة واحدة ،هي الحالة الوحيدة املرجعية بالنسبة إليك .أما هما نعم ،فقد عانيا ذلك ،وهذا جزاء وفاق .هناك خطأ وهناك عقوبة، ً مع قبول التوبة .نحن نفهم أن ما حصل ألبوينا كان تمهيدا لكي تبتديء حكايتنا ،وابتدأت ً حكايتنا هنا في هذا العالم ،فهل هي فعال محض نكد وكبد وشقاء ومعاناة ومحنة عامة؟ ً تحد كال ،بالعكس .إنها فرصة وتحد ،واإلنسان الفاعل يرى في التحديات فرصا .يرى في كل ٍ فرصة جديدة يهتبلها ينتهزها ،فهذه الحياة فرصة وتحد لننتقل من الكائن إلى الكامل .أو
مما هو بالفعل إلى ما هو بالقوة حتى ننتهي إلى سدرة منتهانا ،حتى إبليس أحد أبطال هذه الرواية ،هو عنصر رئيس وال بد منه ،ألنه عنصر رئيس في توفيز وتحريك هذه القوى ً املتقابلة .طبعا على حساب قوى على قوى ،ال بد منه .في نهاية املطاف وبمنطق مجرد هكذا هو يخدمنا.
15
ً وسأشرح لكم كيف أن إبليس يخدمنا .نحن ال نرى في الشر شرا يحيرنا ويقلقنا ويدهشنا إال الشر الذي يزلزلنا ويقلقل مواقعنا اإليمانية وقناعاتنا اليقينية .أما الشر الذي نهزمه وننزل به هزيمة نكراء فهذا الشر يخدمنا .نحن مدينون له ،ألن هزيمته ال تعني فقط انتصار منا عليه أو انتصار على ضعفنا ،ال ،بل أكثر من ذلك .إنها تعني تخصيب تجربتنا ،وإثراء شخصياتنا من خالل التجربة ذاتها ،ألنه لوال هذه التجربة ملا خضنا هذا النزاع ،ملا وجدت ساحة لهذا النزاع بين هذه القوى التي تطلب ساحتها .في الجنة لم تكن لها ساحة حقيقية ولذلك كان تميز املحظور –تميز الشجرة -هو الساحة الوهمية، ً ونجحت القضية .لكن هنا ،هنا ساحة حقيقية .الشر يعمل فيها جزءا ،بهذا املنطق أنت سترى هذا الشر يخدمك ويخدم قضيتك في نهاية املطاف .وحينئذ ستفهم بعض الفهم، ً وليس كل الفهم ملاذا سمح له بالوجود ،ملاذا سمح لنا أن نتعاطى معه أيضا .إن اإلنسان مخلوق ومركب ومهيأ ليتكامل ويثرى ويعمق هنا في هذا العالم وعبره ومن خالله ،ال في عالم متمحض للخير وللنور وللقدس ،إنهم املالئكة أو أولئكم املالئكة ،أما نحن فمعدون ً ومهيئون لكي نعمق ونثرى هنا في هذا العالم ،إذا ما الذي يحصل مع الخطاة من جنس إبليس نفسه ،ما الذي يحصل مع الغارقين في اإلثم حتى أذقانهم؟ الذي يحصل أنهم لم ً يفهموا التجربة ،إذا لم يستفيدوا منها .استهلكتهم التجربة بدل أن يستثمروها.
كل تحدي حقيقي لإلنسان ،ومن أكبر التحديات تحدي الفناء ،تحدي الزمن .يود كل أحد منا أن لو يخبط بأنامله أو حتى بكلتا يديه ،أو بجمع كفيه على أيامه الذاهبة، أيام طفولته وشبابه ،األيام العذبة .لكنه ال يستطيع فكل ش يء يتفلت ،وتسري إليه ً الشيخوخة ويدب إليه الضعف والفناء .إذا الزمن يعمل فينا وال نعمل فيه .ال ،من املمكن ً أن نعمل فيه ،من املمكن أن نستخدم هذا الزمن ،وأن نخدمه نجعله خادما لنا بقوة
16
االلتقاط ،بقوة االستذكار بالذاكرة املنتعشة اليقظة ،بحيث يغدو أو تغدو ساعاتنا األولى ناس ،ينس ى كساعات ال تبارح ،إنهم أمامنا لكن بقوة االستذكار .مأساة اإلنسان أنه كائن ٍ ً ً كثيرا .ولذلك تمارس عليه هذه القوى فعلها بعنف أحيانا ،ويرى نفسه ضحية لها لكن أال يمكن أن استنجز اللحظة التي لم تأتي وكأنها ملء كفي اآلن بقوة التخيل مشفوعة بقوة الطموح والعمل .واللحظة الهاربة املاضية بقوة التذكر ،واللحظة الحاضرة الفاعلة ً ً كاملنشار بقوة الفعل واإلنجاز .ال أترك نفس ي همال بين يديها .وهكذا أنا سأفعل أيضا في الزمن مقابل فعله هو في ،هكذا .هذا ممكن لإلنسان ،اإلنسان عالم من اإلمكانات وعالم من الطاقة. نعود إلى موضوع الخطاء ..الذي يحصل مع الغارقين إلى أذقانهم في الخطيئة ،أنهم لم ً يفهموا التجربة حقا ولم يستثمروها وبالتالي فقدوا قدرة التمييز بين الوهمي والحقيقي ،بين الزائف والحقيقي .فآدم كما قلنا أغري بوهمية تميز املحظور .لكن اتضح له في النهاية أنه ليس ً متميزا ،بل أفقده بعض مزاياه (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) .كل أثمار الجنة وكل نبت الجنة الذي كان آدم وحواء يتناوالنه ويتعاطيانه كان يخرج بشكل إفرازات طاهرة جميلة ال تحوج ً إلى التخلي .الشجرة هذه بالذات أحوجتهما إلى التخلي مع ما يتعانى اإلنسان من شعور ،أحيانا قد ً يكون مؤملا ً،وفي كل حين هو شعور مخز ًى ،شعور باالفتضاح ،شعور بالضعة بال شك ،شعور
التخلي حال من أحوال اإلنسان لألسف .هذا هو التميز ،يا ابن آدم ،يا أنا يا أنت يا هي يا هو يا أولئك يا أولئكم ،نحن يا بني آدم ،مسموح لنا بل مقدر علينا ،مسموح ومقدر علينا أن نخطئ ً لكن دائما يجب أن نستفيد من تجربة الخطأ ،واإلمساك بالخيط الذهبي ،الخيط الحريري املائز والفارق بين الوهم واألصالة ،الزيف والحقيقة .سنرى أن هذا املوضوع أو هذه الساحة ،ساحة الخطأ وموضوع الخطيئة إنما هي ساحة وهمية للذات ورغبات ال تجد إشباعها هنا وإنما في مجال
17
آخر .الخاطئ ال يفهم هذا ومن هنا يمارس في اجترار خطئه أنه يعلق في خطئه ،الخطأ بدل أن ً ً يصبح فرصة لإلنماء واإلثراء ،يصبح فخا ،شركا يعلق فيه املسكين ويبدأ يتهالك ويبدأ يزوي ويضعف باستمرار حتى ينتهي. هل تعرفون قصة أبي نواس الحسن بن هانيء هذا الشاعر الداعر املشهور ،هذا ً ً لم يكن ليجد أي لذة في إتيانه أهله مع أنها كانت صبيحة الوجه وأصغر منه سنا ،أبدا، ً كان يجد هذه اللذة والعياذ باهلل مع الخاطئات الساقطات من أمثاله دائما .هذا املسكين استحال الوهم عنده إلى ما أفهمه أنه حقيقة ،وإنه ليس بحقيقة إنه استهالك .استهالك للفرصة ،فرصة االستكمال ،فرصة الرقي ،لألسف علق املسكين في ذاك الشرك .زوجه لم تكن ولم تستطع أن تفهم هذه النفسية؛ إذ كيف يتركها وهي الغادة الخمصانة الجميلة املمتلئة البضة إلى هؤالء الساقطات ،العجائز أحيانا؟!!! ،وذات مرة –ذهبت إلى إحداهن ليلة وأقنعتها أن ترقد في مضجعها وأن تطفيء السراج .ففعلت ،فجاء الشقي املعثر –أبو نواس -وأتاها على أنها ساقطة ،ثم أض يء املصباح فجفل ،وقال" :ما أحسنك زانية وما أقبحك زوجة" ،لقد علق املسكين .وهذا تحذير أختم به ،تحذير لكل الخطاة والخاطئين، إياكم أن تعلقوا في أفخاخ وأشراك أخطائكم .ليس العيب أن نخطئ ،كل ابن آدم خطاء، ً لدينا ال عصمة إنسانية ،لنا أخطاؤنا .بعض الناس قد يقول" :أنت بهذا تعطيني جوازا
وإجازة بممارسة أي خطأ أريد ،بعد ذلك سأستأنف توبة!" .من رحمة هللا ومن كرمه تبارك ً ً وتعالى ومن حكمته أيضا -فهي تدخل في باب الحكمة فالش يء في موضعه تماما -أنه حين خلق املعاني كاألشياء جعلها متدرجة ،فاأللم له درجات ،واللذة لها درجات ،والجوع له درجات ،والعطش له درجات ،والعلم والجهل والجمال والقوى ،كل ش يء له درجات. ً والخطأ والخطيئة واملعاص ي مدرجة أيضا ،فمنها الصغائر ،ومنها الكبائر ،ومنها فواحش
18
ً اإلثم والعياذ باهلل ،وأرذلها وأعظمها فحشا الشرك باهلل .ومعنى هذا التدريج في كل ش يء ً ً مخلوق ليس نسبيته فقط ،وإنما يعني أيضا أن لديك فرصة بدال أن تهلك بممارسة خطأ ً قد تعلق فيه إلى األبد وتنتهي ،بعض الناس قد يمارس خطأ ويعلق فيه وينتهي كل ش يء. ً ال ،هناك فرصة أن تمارس هذا الخطأ مخففا –محلول -محلول خطأ مخفف درجة ً ً ً بسيطة جدا جدا .يعني مثال الخيانة أو الفاحشة ،والنبي أشار لهذا في حديث البخاري ،قد تكون الخيانة هذه بالعين (يعلم خائنة األعين وما تخفي الصدور) .قد تخون أخاك في هللا ً ً ً ً أو جارك أو صديقك أو رجال فاضال كريما حافظا ألعراض الناس ،قد تخونه في عرضه مع أهله بالعين ،فتنظر إليها النظرة الشاهية ،وهللا يعلم خائنة األعين ،لو نظرت إليها بطرف شاه ،هذا معلوم عند هللا ،تبارك وتعالى ال إله إال هو ،قد تخون بعد ذلك عينك ٍ بقصد ٍ بهذه التجربة املخففة من الفاحشة ،هل أنت مرتاح؟ هل تجد هذا يخدم تكاملك؟ شخصيتك؟ تصالحك مع ذاتك؟ طمأنينتك؟ إثراءك؟ تعميقك؟ مستحيل .كيف أكثر من ً ً ً ذلك؟ مركز قليال ،باللمس مثال ،بالقبلة ،بالضمة ،والعياذ باهلل .إذا تراجع .تعلم أنت من ً خالل هذه املمارسة املخففة أن ما سيكون أشد منها سيكون أشد تحطيما لذاتك. فالخطيئة تحطيم للذات. وقد يعترضني البعض ليقول مارست هذا الخطأ وهذه الخطيئة املخففة فجرتني
إلى ماهو أعظم والعياذ باهلل ،إلى ماهو أدون .وسأقول مرة أخرى ألنه لم يفهم تجربته ،لم ً ً يفهم ولم يستثمر تجربة هذه الخطيئة املخففة ،لم يفهمها .وقع أيضا أسيرا في يد الوهم ً ً مرة جديدة .وحتى ما هو أحط وماهو أنزل لن يكون النهاية ،سيبقى عالقا أحيانا ويتكرر ً ً إلى أن يشاء هللا ربي شيئا .من هنا نعود لنؤكد مرة أخرى على مسألة الخيار لتكن أفعاال منتقاة ومنتخبة تعكس خيارنا .بد ًءا من اإليمان (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
19
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ،ألست بربكم) هذا سؤال تقريري .كل ما له أصل ينحل في ً النهاية إلى أصله ،يذكر األصوليون والبيانيون أكثر من عشرين غرضا يمكن أن ينحرف إليها السؤال ألن األصل في السؤال هو االستعالم ،لكن يمكن أن ينحرف إلى واحد من ً ً عشرين غرضا آخر .هذا صحيح ،لكن كل ما ينحرف إليه يمكن وبخطوة بسيطة جدا أن ً ً ً نفسره وأن نحلله ،ونجعله منحال إلى أصله أيضا .هو يتضمن أيضا األصل (ألست بربكم) ً ً فهذا مباشرة يتضمن سؤاال للذات .أهو ربنا؟ طبعا الدالئل كلها تقول ونحن من صنعة ً يديه ،نعم (قالوا بلى) .إذا منذ البداية ،حتى اإليمان في عالم الذر ،في عالم األنفس ً ابتداء ،هذا ما املحضة كان البد أن يخضع الختيار والنتخاب .ونحن نجحنا في االمتحان تعطيه الفطرة بإلحاحها وسالمتها وحسن توجهها ،البوصلة الفطرية. اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا وتصلحنا وتصلح بنا اللهم اجعلنا مفاتيح ً للخير مغاليق للشر اللهم ال تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا املقام الكريم ذنبا إال ً ً ً ً غفرته وال هما إال فرجته وال كربا إال نفسته وال ميتا إال رحمته وال مريضا إال شفيته وال ً ً غائبا إال رددته وال مدينا إال قضيت عنه دينه بفضلك ومنك إلهنا وموالنا رب العاملين. وخر لنا في قضائك اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك أسعدنا بتقواك وال تشقنا بمعصيتك ِ وبارك لنا في قدرتك حتى ال نحب تأخير ما عجلت وال تعجيل ما أخرت ،واجعل اللهم غنانا
في أنفسنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعلها الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا اللهم أحسن عاقبتنا في األمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب اآلخرة. اغفر لنا وملن حضر اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين واملسلمات املؤمنين واملؤمنات األحياء منهم واألموات بفضلك ورحمتك إنك سميع قريب مجيب الدعوات .عباد هللا إن هللا يأمر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء واملنكر والبغي يعظكم
20
لعلكم تذكرون .اذكروا هللا العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وأسألوه من فضله يعطكم وقوموا إلى صالتكم يرحمني ويرحمكم هللا.
=========================
21