قصة آدم نظرات جديدة د عدنان ابراهيم

Page 1

‫قصة آدم‪ ..‬نظرات جديدة‬ ‫العالمة د‪.‬عدنان ابراهيم‬

‫‪PLACE PHOTO HERE,‬‬

‫تفريغ‪ :‬أ‪/‬أنور محمد‬ ‫مراجعة وتدقيق النص‪ :‬د‪/‬منى زيتون‬ ‫تنسيق الكتاب ‪ :‬محمد عدوي‬

‫‪OTHERWISE DELETE BOX‬‬

‫‪0‬‬


‫إن الحمدهلل نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا ومن سيئات‬ ‫أعمالنا‪ .‬من يهده هللا فال مضل له ومن يضلل فال هادي له‪ .‬وأشهد أن ال إله إال هللا وحده‬ ‫ً‬ ‫ال شريك له وال نظير له وال مثال له‪ .‬وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدا عبد هللا‬ ‫ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه ونجيبه من عباده‪ ،‬صلى هللا تعالى عليه وعلى‬ ‫آله الطيبين الطاهرين وصحابته املباركين امليامين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم‬ ‫ً ً‬ ‫تسليما كثيرا‪.‬‬ ‫عباد هللا‪ ،‬أوصيكم ونفس ي الخاطئة بتقوى هللا ولزوم طاعته‪ ،‬كما أحذركم وأحذر‬ ‫َ ْ َ َ َ ً‬ ‫حا َف ِل َن ْف ِس ِه َو َم ْن َأ َساء َف َع َل ْيهاَ‬ ‫نفس ي من عصيانه ومخالفة أمره‪ ،‬لقوله تعالى‪" :‬من ع ِمل ص ِال‬ ‫َو َما َرُّب َك ب َظ ْ َ‬ ‫يد"‪.‬‬ ‫الم ِللع ِب ِ‬ ‫ِ ٍ‬

‫ثم أما بعد‪ ،‬أيها اإلخوة املسلمون األحباب‪ ،‬أيتها األخوات املسلمات الفاضالت‪.‬‬ ‫يقول هللا سبحانه تعالى في كتابه العظيم‪ ،‬بعد أعوذ باهلل من الشيطان الرجيم‪:‬‬ ‫ألرْضِ خَلِيفَ ًة قَالُوا َأَتجْعَ ُل فِيهَا مَنْ يُ ْفسِ ُد‬ ‫ك لِلْمَالِئكَ ِة إِنِّي جَاعِ ٌل فِي ا َ‬ ‫َب َ‬ ‫ذ قَالَ رُّ‬ ‫"وَإِ ْ‬ ‫ك قَا َل إِنِّي أَعْلَ ُ مَا ت تَعْلَمُو َن‬ ‫ك وَنُ َقدِّسُ َل َ‬ ‫ك الدِّمَا َء وَ​َنحْنُ نُ َسبِّحُ ِبحَمْدِ َ‬ ‫فِيهَا وَيَسْفِ ُ‬ ‫) ‪( 30‬وَعَلَّ َ آدَمَ األَسْمَا َء كُلَّهَا ثُ َّ عَرَضَهُ ْ عَلَى الْمَالِئكَ ِة فَقَا َل أَْنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ‬ ‫ َ‬ ‫ك أَنْ َ‬ ‫كنْتُ ْ صَادِقِينَ ) ‪ ( 31‬قَالُوا ُسْبحَاَنكَ ت عِلْ َ َلنَا إِت مَا عَلَّمَْتنَا إَِّن َ‬ ‫هَؤُت ِء إِ ْن ُ‬ ‫حكِي ُ ) ‪ ( 32‬قَالَ يَا آدَ ُم أَْنبِئْهُ ْ بِأَسْمَائِهِ ْ فَلَمَّا أَْنبَأَهُ ْ بِأَسْمَائِهِ ْ قَا َل أَلَ ْ أَقُلْ‬ ‫الْعَلِي ُ الْ َ‬ ‫ض وَأَعْلَ ُ مَا ُتبْدُو َن وَ َما كُْنُت ْ‬ ‫ت وَاألَرْ ِ‬ ‫ب السَّمَاوَا ِ‬ ‫َلكُ ْ إِنِّي أَعْلَ ُ غَيْ َ‬

‫كتُمُو َن) ‪{ "( 33‬البقرة‪. }33-30 :‬‬ ‫تَ ْ‬

‫‪1‬‬


‫صدق هللا العظيم‪ ،‬وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين‪ .‬اللهم اجعلنا من‬ ‫شهداء الحق القائمين بالقسط‪ ،‬آمين اللهم آمين‪.‬‬ ‫أيها اإلخوة األفاضل‪ ،‬أيتها األخوات الفاضالت‪ .‬قصة أبوينا عليهما السالم قصة‬ ‫مأثورة ومطروقة ومكرورة‪ .‬وكم وكم للسادة العلماء في القديم والحديث من وقفات‬ ‫وأنظار واستبصارات حول هذه القصة األساس الرئيسة‪ ،‬إنها قصة مفتاحية لضروب من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوعي‪ ،‬لضروب من االستبصار‪ ،‬ولضروب من إنارة الطريق أيضا‪ ،‬ولنا أيضا ضمن هذه‬ ‫الوقفات‪ ،‬وقفات طويلة من على هذا املنبر‪.‬‬ ‫أما اليوم فنجهد أن نض يء هذه القصة من زوايا مختلفة‪ ،‬أو من زاوية على األقل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فيها ش يء من االختالف‪ .‬طبعا تتمة القصة تعلمونها جميعا‪ ،‬وهي التي يدخل فيها عنصر‬

‫جديد لم يذكر في السياق السابق‪ ،‬إنه إبليس‪ .‬والذي يختار القرآن العظيم بمنتهى الدقة‬ ‫والحذاقة أن يصر على عنونته بهذا االسم أو بهذا العنوان وال يستحيل إلى الشيطان إال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعد أن يغري أبوينا بهذه املعصية‪ ،‬بعد ذلك يؤكد القرآن عنوانا جديدا أو يشترع ويفتجر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عنوانا جديدا له إنه الشيطان‪ .‬قبل ذلك كان إبليس‪ ،‬لكنه بعد ذلك صار الشيطان وهذا‬ ‫من دقة الكتاب الكريم‪.‬‬ ‫ونبدأ القصة من أولها‪ ،‬نبدأ مع هذا االستفهام التعجبي وال نقول االستنكاري‪.‬‬ ‫فليس من خيار املالئكة أن يستنكروا إرادة ومشيئة إلهية‪ .‬لكن يعجبون أتجعل فيها من‬ ‫ً‬ ‫يفسد فيها ويسفك الدماء!!‪ .‬إذا بداية مع السؤال‪ ،‬الذي هو مفتاح املعرفة أو مفتاح من‬ ‫أكبر مفاتيحها على اإلطالق‪ .‬السؤال الذي يعني فيما يعني وضمن ما يعني الحيرة والدهشة‬ ‫والوله والحافز والدافع والتطلع والسلطة‪ ،‬سلطة االعتراض وسلطة االمتحان وسلطة‬ ‫ً‬ ‫الكشف أيضا‪ ،‬كشف الزيف والدجل والتدليس‪ .‬أتحدث عن السؤال بعامة وليس عن‬

‫‪2‬‬


‫سؤال املالئكة‪ .‬إنه السؤال‪ .‬سلطة امتحان عقائدنا وموروثاتنا‪ ،‬واختبار مداركنا‬ ‫ومفهوماتنا‪ ،‬اختبار ما ألقي إلينا ويلقى إلينا ونلقيه إلى غيرنا‪ ،‬إنه السؤال مرة أخرى‪ .‬إنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أيضا عنوان وداللة االنفتاح واالتساع واإلثراء والتخصيب‪ ،‬ولذلك يعتبر السؤال دائما‬ ‫ً‬ ‫دليال للعلم والجهل في وقت واحد‪ .‬إنه ليس بداية الطريق نحو العلم أو نحو الحقيقة بل‬ ‫إنه نصف الطريق حقيقة‪.‬‬ ‫إذا طرح السؤال وتبرر طرحه من ناحية منهجية فإنه يشكل نصف الطريق إلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحقيقة‪ .‬والذين ال يسألون وال يتساءلون هم إدراكيا جماعة من البكم‪ ،‬كما تقريبا كان‬ ‫ً‬ ‫أبوانا في حالة البراءة األصلية‪ ،‬كانا أبكمين‪ .‬وتالحظون أيضا ‪-‬في عجب‪ -‬أن أبوينا في كل‬ ‫هذه القصة الجنائنية التي تمت في العالم العلوي في جنة عدن لم يتأت منهما سؤال وال‬ ‫يحك لنا القرآن أي ش يء أدلى به‬ ‫اعتراض وال أي ش يء حتى حين استزلهما الشيطان لم ِ‬ ‫ً‬ ‫األبوان‪ .‬وإنما الفاعلية كلها إلبليس الذي عاد شيطانا بعد ذلك بفعلته النكر هذه‪ .‬كانا‬ ‫ً‬ ‫أبكمين تقريبا‪ ،‬ليسا أبكمين عن الكالم‪ ،‬كانا يتعاطيان هذه الصناعة‪ ،‬صناعة الكالم‪ .‬لكن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الكالم بال سؤال يقتض ي جوابا يوشك أن يكون بكما‪ ،‬وأكثر الكالم الذي ال يكون جوابا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لسؤال يختصر هما وقلقا وحيرة حقيقية‪ ،‬هو لغو كلغو الطير يجعل اإلنسان آلة للحكي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫وآلة الستحفاظ واستظهار ما يلقى إليه فقط وليس كائنا دراكا ومفكرا‪ .‬لم يبدأ أبوانا إذا‬

‫الكالم الحقيقي هناك في حالة البراءة األصلية التي يحسدهم الكسالى وغير الراغبين في‬ ‫الكمال واالستكمال عليها وكأنها حالة مثالية تطلب!‪ ،‬كال فالتكوين اإلنساني ‪-‬هذه البنية‬ ‫اإلنسانية‪ -‬لم تهيأ ولم تخلق ولم تعد لتبقى في حالة البراءة األصلية‪ ،‬فهذا غير مناسب لها‬ ‫البتة‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫َ َ​َ‬ ‫َ​َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الدماء ونحن نس ِبح‬ ‫ونعود إلى السؤال‪( ،‬أتجعل ِفيها من يف ِسد ِفيها ويس ِفك ِ‬ ‫َ َ َ َ َ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ً‬ ‫َ​َ َ َ‬ ‫ال ِإ ِني أ ْعلم َما ال ت ْعلمون)‪ ،‬وهنا ملحظ عجيب جدا إذ ماهو مبرر‬ ‫ِب َح ْم ِد َك َون َق ِدس لك‪ ،‬ق‬ ‫هذا االستخالف؟ في ظن املالئكة ووهلهم فإن املبرر هو التسبيح والتقديس‪ ،‬إذ ينبغي ملن‬ ‫يسبح‪ ،‬وملن هو مستهتر ومستغرق في التسبيح والتقديس والتمجيد‪ ،‬ينبغي له أن يحظى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بشرف الخالفة وأن يكون الخليفة‪ ،‬لكن هللا تبارك وتعالى أعطى جوابا مخالفا تماما‪ .‬هذا‬ ‫ً‬ ‫الجواب معلوم لديكم ولديكن جميعا‪ .‬ال‪ ،‬إنه ليس التسبيح والتقديس فقط‪ ،‬وليس‬ ‫التسبيح والتقديس كش يء رئيس يراد إرادة أولية‪ ،‬إنه ش يء غير ذلك‪ .‬يقتض ي بعد ذلك‬

‫ً‬ ‫التسبيح والتقديس لكن على أنهما من مقتضياته‪ .‬وحينئذ يصبح التسبيح والتقديس فعال‬ ‫َ َ َّ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األ ْس َماء ك َّل َها ث َّم َع َر َ‬ ‫ضه ْم َعلى‬ ‫واعيا ال فعال مبرمجا‪ .‬إنه املعرفة‪ ،‬إنه العلم‪( ،‬وعلم آدم‬ ‫ً‬ ‫َْ َ‬ ‫املال ِئك ِة‪ )...‬إلى آخر الحكاية‪ .‬إذا بحسب القرآن الكريم نفسه‪ ،‬بحسب إرادة هللا تعالى‪ ،‬ليس‬ ‫ً‬ ‫مبرر االستخالف‪ ،‬وليس جوهره أن تكون مستغرقا في التسبيح والتحميد‪ ،‬هذا يعطيني‬ ‫راحة ضميرية أو ضمائرية من أجل تأكيد أفكارنا التي ننتهي إليها كل حين وحين‪ ،‬من أن‬ ‫ً‬ ‫حقا ٌ‬ ‫فادح‪ ،‬فادح في تفكير املسلمين أو أكثر املسلمين‬ ‫هناك خطأ ما‪ ،‬وهو خطأ‬ ‫املعاصرين‪ ،‬أعني بالذات اإلسالميين‪ ،‬أو كما يحلو للبعض أن ينعتهم اإلسالمويين‪ ،‬أي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذين يتخذون من اإلسالمية والتوجه اإلسالمي حال وتفسيرا وتوصيفا لكل ش يء من حيث‬ ‫أتى كأنهم غائبون أو مغيبون عن هذا العالم بكل كوامنه وبكل طاقاته وبكل أيديولوجياته‬ ‫وأفكاره وتوجهاته ومنازعه ومشاربه‪ ،‬وال ينظرون إال من خالل هذا الثقب أو من خالل‬ ‫هذا املنظور‪ ،‬وهذا إلى حد ما صادق‪ ،‬ليس على إطالقه ولكن إلى حد ما‪ ،‬لألسف‪.‬‬ ‫وهذا الذي يبرر لنا الحديث عن موقف اإلسالم والفكر اإلسالمي من أشياء‬ ‫ً‬ ‫يصعب تبرير طرحها ضمن هذه العنوانات‪ .‬اإلسالم والتكنولوجيا مثال‪ ،‬ش يء عجيب‪،‬‬

‫‪4‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫اإلسالم والعلم الطبيعي‪ ،‬اإلسالم والكون‪ ،‬اإلسالم طبعا أكثر تبريرا والديمقراطية والعوملة‬ ‫والعلمانية أكثر‪ .‬لكن اإلسالم والتكنولوجيا واإلسالم والكون والجيولوجيا‪ ،‬ش يء عجيب‬ ‫ً‬ ‫جدا‪ ،‬ماهذا؟!‪ .‬هناك خطأ ما‪ .‬هذا الخطأ جر املسلمين إلى أن يظنوا أنهم إن استغرقوا‬ ‫ً‬ ‫أوقاتهم ‪-‬ليلهم ونهارهم‪ -‬في شئون طقوسية وعبادية محض‪ ،‬فإنهم يكونون أكثر قربا من‬ ‫ً‬ ‫هللا‪ ،‬وأكثر تحقيقا ملراد هللا من خلق هذا اإلنسان وتهيئته واستخالفه في األرض‪ ،‬وهذا غير‬ ‫ً‬ ‫صحيح باملرة بد ًءا من هذه القصة املفتاحية‪ .‬هذا ليس صحيحا‪ ،‬لو كان هذا املراد‬ ‫الستخلف هللا املالئكة وألنزلهم هنا وانتهى كل ش يء‪ ،‬هي فهمت األمر على هذا النحو ومن‬ ‫هذه الزاوية‪ ،‬نحن نسبح بحمدك‪ ،‬نحن نقدس لك يا هللا‪ ،‬هللا قال ال‪ ،‬ليس هذا ما أريده‪.‬‬ ‫أنتم تسبحون تقدسون في املأل األعلى‪ ،‬في الصفيح األرقى هناك‪ ،‬هذا مطلوب منكم وأنتم‬ ‫ً‬ ‫مهيؤون لذلك‪ ،‬أما هنا في هذا الكوكب‪ ،‬في هذا العالم األرض ي فالوضع مختلف تماما‪ .‬قوى‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان وإمكاناته املذخورة الظاهرة واملستترة تعمل جدليا وبسبيل مباشر مع هذا‬ ‫الكوكب‪ ،‬مع هذا العالم‪ .‬إنه مخلوق لهذا العالم‪ ،‬والعالم مخلوق ومهيأ له‪ ،‬هذا الكوكب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بالذات‪ ،‬فقوى هذا اإلنسان ال تستفز وال تتحرك وال تبدأ بالتفاعل تصارعيا وتقابليا كيما‬ ‫تتناسخ وكيما تتخصب في نفس الوقت إال في هذا العالم بالذات أو ما ييهيء إليه‪ ،‬كأن هذا‬ ‫العالم يستفز هذه القوى في قوى جاذبة لبعضها على حساب بعض فتحدث هذه‬ ‫القفزات وهذه التقابالت وهذه الجدلية املستمرة‪.‬‬ ‫العجيب أن القرآن يتضمن إشارة في منتهى الدقة تخبرنا أن املالئكة تكون موجودة‬ ‫في هذا العالم لكن على سبيل قلقة تنعدم لديها فيه االستقرار‪ ،‬يبدو أنها ال تجلس وال‬

‫ً‬ ‫تطمئن وال تستريح دائما‪ ً،‬وتكون في حالة تحليق وفي حالة إنجاز عمل معين كالكاتبين مثال‪،‬‬ ‫لكنها ال تطمئن في هذا العالم كقطانه‪( ،‬قل لو كان في األرض مالئكة يمشون مطمئنين)‪،‬‬

‫‪5‬‬


‫وتكتمل اإلشارة بأن املالئكة أنفسها لو نزلت إلى هذا العالم لتكون من قاطنيه‪ ،‬لو وجدوا‬ ‫ً‬ ‫هنا ليطمئنوا في هذا العالم‪ ،‬إذا لعملت قوى هذا العالم عملها في طبيعتهم النورانية‬ ‫فاختل التجانس‪ ،‬ولوقعت املعصية ولوقع الخطأ‪ ،‬ولوقع التوتر‪ ،‬لكن ضمن طبيعة‬ ‫واحدية وهذا عجيب إنها طبيعة نورانية (قل لو كان في األرض مالئكة يمشون مطمئنين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسوال)‪ .‬سيحتاجون إلى رسالة ألنهم سيضلون سيحدث لهم‬ ‫توتر وهذا مع كائنات واحدية فكيف بكائن ازدواجي ثانوي كاإلنسان‪ ،‬ثانوي ففيه سماء‬ ‫الروح وفيه أرض البدن‪ ،‬فيه هذه القبضة الطينية األرضية الال متجانسة من كل صنوف‬ ‫طين األرض وتربتها كما قال املصطفى صلى هللا عليه وآله وأصحابه وسلم‪ ،‬وفيه هذه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫النفحة والنفخة اإللهية العلوية‪ .‬إنه كائن يعيش توترا دائما‪ ،‬ويهبط إلى هذا الكوكب!! إذا‬ ‫ال بد أن يبدأ التفاعل والجدلية بشكل مستمر إلى أن يموت هذا اإلنسان‪ ،‬إلى أن ينتهي‪،‬‬ ‫إلى أن يقض ي‪ ،‬هذا مستمر‪ .‬وهكذا أراد هللا عزوجل أن يقف بنا على مراده في قصة الخلق‬ ‫ً‬ ‫واالستخالف‪ ،‬ليست قضية أن نسبح وأن نقدس إنها أكبر من ذلك‪ .‬طبعا ال بد أن يأتي‬ ‫بعد ذلك التسبيح والتقديس وحتى طقوس العبادة لكن من رحم املعرفة‪ ،‬من رحم‬ ‫التبرير‪ ،‬من رحم التجربة‪ ،‬من رحم املعاناة‪ .‬مكتوب على هذا اإلنسان في أكثر شوطه‬ ‫ومراحله أال يفوز إال بما يعاني‪ ،‬من رحم املعاناة تخرج املكاسب أو كما يقول األجانب ‪(No‬‬ ‫)‪ .Pain No Gain‬ال معاناة ال مكسب‪ ،‬هكذا‪ .‬وهذا معنى من معاني قوله جل من قال (لقد‬ ‫خلقنا اإلنسان في كبد)‪ ،‬فمن رحم هذا الكبد‪ ،‬ومن رحم هذه املعاناة تثرى التجربة‬ ‫ً‬ ‫اإلنسانية وتتخصب‪ ،‬مما يعني أنه تتحقق إنسانية اإلنسان قدما إلى أن يبلغ سدرة منتهاه‪.‬‬ ‫هذا هو اإلنسان وهذه هي دراما اإلنسان‪.‬‬

‫‪6‬‬


‫ً‬ ‫إذا في موقف املالئكة ملحظان رئيسان كبيران‪ ،‬ملحظ السؤال الذي لم يقمع ولم‬ ‫ً‬ ‫يتم إدراسه ولم يتم إقصاؤه‪ ،‬وإنما حظي بالجواب أيضا‪ ،‬وأي جواب‪ ،‬جواب في صيغة‬ ‫اختبارية امتحانية في مشهد تمثيلي أكثر من رائع‪( .‬وعلم آدم األسماء كلها‪ )...‬هذا هو‬ ‫الجواب‪ .‬من املسؤول؟ رب العزة والجالل ال إله إال هو‪ .‬من السائل؟ هذه الكائنات‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫أقول املعصومة‪ ،‬ألنها بطبيعتها الواحدية النورانية في عاملها العلوي ليست أصال عرضة‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫للخطأ‪ .‬إذا ال تملك هذه امللكة أصال‪ ،‬إذا ال يصح أن نقول إنها معصومة‪ ،‬إنها مالئكة‬ ‫وحسب‪ ،‬انتهى‪ .‬لو تأتى منها الخطأ أو لو أمكن أن يتأتى منها الخطأ لصح أن توصف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بالعصمة كاإلنسان‪ ،‬اإلنسان يمكن أن يوصف بالعصمة ‪-‬طبعا قطاع يسير منهم جدا‬ ‫ً‬ ‫جدا إنهم األنبياء واملرسلون منهم فقط‪ .-‬السؤال حظي بالجواب على الوصف الذي ذكرنا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فماذا يعني هذا أيضا‪ .‬يعني ضمن ما يعني أن اإليمان ليس من شرطه أن يكون تسليما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫محضا‪ ،‬هذا التسليم يأتي مبررا أيضا‪ .‬وهنا تبرر هذا التسليم طبعا أذعنوا وسلموا‬ ‫ً‬ ‫وسجدوا ملسجودهم بأمر هللا‪ ،‬لقد جعل هللا من آدم مسجودا للمالئكة‪ .‬لكن تسليمهم‬ ‫ً‬ ‫جاء مبررا بعد هذا السؤال العاجب أو املتعجب املندهش (أتجعل فيها؟!!)‪ .‬هكذا يعلمنا‬ ‫رب العزة‪ .‬أين نحن من هذه النغمة املكرورة اململولة التي تسربت إلينا عبر أربعة عشر‬ ‫ً‬ ‫قرنا "ال يجوز طرح مسائل من نوع كذا وكذا‪ ،‬ال يجوز إثارة شبهات من نوع كذا وكذا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حفظا لعقائد الناس‪ ،‬حفظا لطمأنينة املسلمين"‪ .‬ماهذا؟!‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هذا يعد أوال‪ ،‬وقوعا في منطق الوصاية القبيح أو املقبوح‪ .‬بعض الناس إلى اآلن‬ ‫يظن أنه يمارس وصاية حقيقية على الناس‪ .‬لألسف هناك من يقبل أن تمارس عليه هذه‬ ‫الوصاية‪.‬ال وصاية ألحد على أحد‪ .‬قصة أبينا آدم تبين هذا منذ البداية‪ ،‬أنه ال وصاية ألحد‬ ‫على أحد‪ .‬لقد أعطى هللا ال إله إال هو جل في عليائه مخلوقه املستخلف هذا الفرصة ال‬

‫‪7‬‬


‫أقول من أول يوم بل قبل اليوم األول‪ ،‬ألنه خليفة في يومه األول في األرض‪ ،‬قبل هذا اليوم‬ ‫فرصة أن ينتخب وأن يختار وأن يخطئ بأن يتجاوز األمر اإللهي‪ ،‬الذي هو حظر في‬ ‫ً‬ ‫الحقيقة‪ ،‬فتجاوزه وتعداه في الجنة هناك بين يدي هللا‪ .‬هذا معنى أن أكون إنسانا أن لي‬ ‫حريتي‪ ،‬هذه هي األمانة التي حملتها‪ .‬ال يجوز ألحد أن يواصل الوصاية علي الناس وأن يدعي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هذه الوصاية عليهم‪ .‬ثم‪ ،‬يظن هؤالء املنحدرون فعال من أربعة عشر قرنا بتفكيرهم‬ ‫وبغيبتهم عن العالم وعن اآلخر‪ ،‬يظنون أن األبواب موصدة‪ ،‬وأن هذا السائل املسكين‬ ‫املتهم الظنين في عقيدته وإيمانه هو الذي سيشرع هذه األبواب على املصاريع‪ .‬هذا صحيح‪،‬‬ ‫من قال لك إن األبواب موصدة ؟ أنت ال تظن أن األبواب موصدة‪ ،‬إال لتقلص معرفتك‬ ‫بما عند اآلخر‪ .‬األبواب كلها مشرعة‪ .‬وباملناسبة فقد انتهى زمان وحين وصد وصك األبواب‬ ‫ً‬ ‫والشبابيك‪ ،‬فاآلن كل ش يء مفتوح على اإلطالق‪ .‬يستطيع اآلن مراهق صغير جدا بتليفون‬ ‫محمول يدوي أن يدسه في أي مكان من ثيابه وأن يمارس اإلطالع على ما في العاملين من‬

‫ً‬ ‫أفكار ومن مباحات‪ ،‬ومن إباحيات من كل ش يء‪ ،‬في تليفونه!‪ ،‬وال تستطيع أن ترقبه‪ ،‬فضال‬

‫عن أن تراقبه بشكل مستمر‪ .‬انتهى هذا العصر انتهى فانتبهوا‪ ،‬بينما هناك من يمارسون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منطق الوصاية على الناس‪ .‬أظن ثالثا وأخيرا أن هؤالء ال يخافون على عقائد الناس‬ ‫بمقدار ما يخافون على عقائدهم وأفكارهم‪ ،‬وعلى الحالة البسيطة الساذجة من التصالح‬ ‫مع الذات‪ ،‬فهم متصالحون مع أنفسهم ومع أفكارهم ومع موروثاتهم ومع مقوالتهم‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫و َمن ِشطاتهم العريضة ‪-‬عناوين أقوالهم‪ -‬املكرورة دائما في كل مناسبة‪ ،‬هم يخافون عليها‪،‬‬ ‫يخافون حتى من أنفسهم عليها‪ .‬كما يخافون من سلطة السؤال االفتضاحية الكاشفة‬ ‫للزيوف أن تفضح ما عندهم‪ .‬لألسف هذا انتهى‪ .‬القرآن في أول سوره وأول آياته يعلمنا أن‬ ‫السؤال إذا تبرر ال بد أن يحظى بجواب‪ ،‬السؤال ال يخرس‪ ،‬السؤال ال يسكت‪ .‬ولذلك يأتي‬

‫‪8‬‬


‫ً‬ ‫اإليمان بعد ذلك مبررا‪ ،‬ليس على مبدأ التسليم‪ ،‬إنما على مبدأ التبرير الحقيقي‪ ،‬وهذا‬ ‫ً‬ ‫ملحظ كبير جدا‪.‬‬ ‫نعود اآلن إلى آدم عليه الصالة وأفضل السالم‪ .‬ما الذي حدث آلدم؟ يقال إنه كان‬ ‫ً‬ ‫يعيش هو وأمنا املكرمة في حالة ما يعرف بالبراءة‪ ،‬البراءة التامة‪ ،‬البراءة األصلية‪ ،‬فعال‪.‬‬ ‫هذه الحالة غير موجودة في هذا العالم الدنيوي‪ .‬الطفل الصغير لو تم له إدراك ليلتقط‬ ‫التناقضات واملفارقات ألول ساعات شهوده هذا العالم ألدرك ما في العالم من نزاعات‬ ‫ومن خصومات ومن أنانيات ومن صراعات ومن تقابالت وأضداد‪ ،‬ألدرك‪ ،‬لكنه ربما يكون‬ ‫غير مهيأ لذلك في أول ساعات قدومه إلى عاملنا‪ ،‬هناك كل هذا مفقود‪ ،‬كل هذا غير‬ ‫موجود‪ .‬املوجود فقط إمكان لهذا الكائن الذي خلق أصالة من طين األرض‪ ،‬من ترابها من‬ ‫حمأها املسنون وصلصالها الذي هو كالفخار‪ .‬موجود هذا اإلمكان لكنه نائم‪ ،‬لم ينشط‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طبعا هناك أيضا النفخة اإللهية العلوية‪ ،‬كيف تم تحفيزه وتنشيطه وتحريكه؟ وهذا مراد‬ ‫هللا عز وجل‪ .‬هذا اإلمكان النائم الغافي ‪-‬بمنطق جديد‪ -‬ألول مرة يواجهه آدم‪ ،‬إنه منطق‬ ‫الحذر‪ ،‬التحريم‪ ،‬ال تفعل هناك حد‪ .‬وهذا املنطق بداهة وبداءة يتحدى ما متع به هذا‬ ‫الكائن الثانوي من الحرية والتطلع وإرادة التجاوز والذهاب إلى أقص ى مايمكن الذهاب‬ ‫ً‬ ‫إليه‪ .‬هناك إذا تحريك وتنشيط‪.‬‬ ‫يحو إشارة واحدة وال أدنى إشارة إلى تميز هذه‬ ‫العجيب أن الكتاب الكريم لم ِ‬ ‫الشجرة املحظورة‪ ،‬مجرد أنها ذكرت بعنوان أنها شجرة فقط‪ ،‬ما هي هذه الشجرة؟ هل هي‬ ‫متميزة في شكلها في هيئتها في حجمها في ثمرها؟ ال‪ ..‬بل ليست متميزة في ش يء‪ ،‬حتى في لونها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لم يذكر القرآن ليدل أنها ليست متميزة‪ ،‬لم يبق لها ش يء إذا من تميز‪ ،‬إال في محظوريتها‪.‬‬ ‫في كونها محظورة‪ ،‬وهذا تميز‪ ،‬هذا التميز‪ ،‬تميز املحظور هو ما أخل بحالة البراءة األصلية‬

‫‪9‬‬


‫عند اإلنسان األول؛ ذلك أن تميز املحظور هو أخطر التميزات‪ .‬كثير من الوعاظ‬ ‫والتربويين واملشايخ ال يدركون سر هذه املسألة ويظنون أن التربية الحقيقية واإلرشاد‬ ‫السليم والهداية التامة تتم على مزيد من تأكيد املحظورات ومن تهويل املحظورات ومن‬ ‫تشديد العقاب اإللهي عليها في الدنيا وفي اآلخرة بالذات‪ .‬بالعكس‪ ،‬لعل هذا ما يحفز‬ ‫الناس على ويجعلهم مستوفزين الرتكابها والوقوع فيها مزيد حرص وارتكاب‪ .‬واملسلمون‬ ‫حتى من قديم يقولون هذا حتى في الكتب العرفانية‪ ،‬يقولون لو منع الناس فت البعر–‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أكرمكم هللا وأجلكم جميعا‪ -‬لفتوه‪ .‬البعر هل يفت ويؤكل؟‪ ،‬نعم‪ ..‬لو جعل محظورا لبرز‬ ‫له نوع من التميز‪ ،‬والشرأبت إليه أعناق اإلرادة‪ ،‬أعناق الحرية‪ ،‬حرية أن أفعل‪ ،‬حرية أن‬ ‫ً‬ ‫أجرب يا سيدي‪ .‬ش يء خطير جدا‪ ،‬هؤالء الوعاظ ال يدركون هذا املنطق‪ ،‬مع أنهم يكررون‬ ‫في مناسبات أخرى قضية تحريم أمريكا للخمر في فترة الكساد العظيم ‪1933-1919‬‬ ‫)‪ ،(Great Depression‬عندما سن قانون فولستيد في تحريم الخمر‪ .‬بعد سن هذا القانون‬ ‫وتشريع أقس ى وأقوى وأشرس العقوبات ضد من يخرق هذا القانون زادت التجارة‬ ‫السوداء بالخمور بشكل غير مسبوق‪ .‬وزاد حرص الناس حتى على دفع ما ال يملكون من‬ ‫ً‬ ‫املال الزهيد ‪-‬إذ كان الكساد عظيما‪ -‬لقاء هذا املدمر املهلك‪ ،‬وذهب اآلآلف ضحايا‬ ‫ً‬ ‫القانون الجديد‪ .‬ولم تجد الحكومة بدا في النهاية على أن تلغي هذا القانون لتفاجأ أن‬ ‫معدالت استهالك الخمور عادت إلى املنسوب الطبيعي‪ ،‬لكن أيام الفقر والكساد العظيم‬ ‫واملنع والسجون زاد حرص الناس على الخمور‪ .‬هذه بعض تناقضات اإلنسان الكاشفة‬ ‫ً‬ ‫عن حقيقة هذا اإلنسان‪ .‬الجزء الجوهري من حقيقته أنه حر‪ .‬دائما نقول األولوية‬ ‫لإلنسان‪ ،‬وأولوية أولويات اإلنسان الحرية‪ .‬بعد الحرية كل ش يء يأتي‪ ،‬لكن هي في البداية‪،‬‬ ‫ال تقل لي حتى الدين‪ ،‬ال‪ ،‬ألنك باسم الدين سوف تصادر حريتي وال يبقى لي بعد ذلك من‬ ‫حقيقة جوهرية‪ .‬باسم الدين سوف يتم تنميط األفراد وقولبة الناس ليتم بعد ذلك‬

‫‪10‬‬


‫استغنامهم ‪-‬أي معاملتهم كاألغنام‪ -‬كما قال آينشاتين‪ ،‬قال لكي تعامل الناس كغنم ال بد‬ ‫أن تستغنمهم في البداية‪ .‬أن تحور في ثقافتهم‪ ،‬في بنيتهم الثقافية لكي يصدقوا أنهم أغنام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وليسوا بشرا‪ ،‬لتجدهم كفوا عن أن يكونوا بشرا‪ .‬ال‪ ،‬بل األولوية للحرية وهذا ما أعطاه‬ ‫الدين‪ ،‬هذا ما ذكره القرآن بصراحة في أكثر من موضع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫نعود إلى ما كنا فيه‪ .‬إذا التميز في هذا املحظور أنه محظور‪ .‬كل ماهو متميز فيه أنه‬ ‫محظور‪ .‬ولذلك لم يحكي لنا القرآن مقاومة عاتية من آدم إلبليس‪ ،‬بعض العلماء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫استسهل وقال كل ما حصل أن إبليس ضحك على آدم وآدم كان ناسيا‪ .‬ناسيا ماذا؟! قالوا‬ ‫نس ي النهي اإللهي‪ ،‬كيف نس ي وإبليس نفسه يقول له ( َما َن َهاك َما َ ُّبك َما َع ْن َهذه َّ‬ ‫الش َج َر ِة)؟‬ ‫ر‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ً‬ ‫ماذا؟! نس ي ماذا؟! هذه غفلة عظيمة جدا من املفسرين‪ .‬ال‪ ،‬إنما معنى نس ي آدم‪ ،‬أي نس ي‬ ‫الوفاء بالعهد‪ ،‬ولم ْ‬ ‫ينس النهي‪ .‬أو نس ي أي ترك‪ ،‬ألن النس ي يأتي بمعنى الترك‪( ،‬نسوا هللا‬ ‫فنسيهم) أي تركهم‪ .‬وهللا ال ينس ى بمعنى يغفل عن الش يء‪ ،‬أعوذ باهلل (وما كان ربك نسيا)‪.‬‬ ‫فـ (نسوا هللا فنسيهم) أي تركهم‪ .‬وقد ترك آدم الوفاء بعهد هللا‪ ،‬لكن ال يقال أنه نس ي‬ ‫الحظر والنهي‪ ،‬بل لم ينس‪ .‬حتى لو كان فقد نبهه إبليس على ذلك ( َما َن َهاك َما َرُّبك َما) فلم‬ ‫ً‬ ‫يكن ناسيا‪ ،‬وإنما لعب اللعين إبليس على بعض هواه وغرائزه‪ ،‬على بعض نحائزه كما يقول‬ ‫العرب األقحاح‪ ،‬األشياء الجلية املغروسة في الفطرة‪ .‬إنها رغبة التطلع إلى الدوام وإلى‬

‫الخلود‪ .‬وكما قلنا إن هذه الرغبة ضمن رغبات كثيرة‪ ،‬كرغبة التملك ‪-‬أن يتملك كل ش يء‪،-‬‬ ‫ً‬ ‫وكرغبة أن يعلم ‪-‬أن يعلم كل ش يء‪ ،-‬وأيضا رغبة أن يبقى ‪-‬أن يبقى في كل زمان‪ ،‬حتى بال‬ ‫زمان‪ ،-‬أن ال يفنى‪ .‬إنها رغبات مبررة من كائن وجوده عارية‪ ،‬وجوده هدية من هللا‪ ،‬ليس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من ذاته وليس لذاته‪ .‬ليس وجودا حقيقيا بإطالق‪ ،‬ال‪ .‬ولذلك أنا سأجازف اآلن مجتهدا‬ ‫ً‬ ‫بقول ش يء لعله يكون صوابا إن شاء هللا تعالى وإال فالخطأ مني ومن شيطاني‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫هذا الضعف األصيل في اإلنسان وهذه الرغبة في االمتداد واالستكمال‪ ،‬هل تستمر‬ ‫ً‬ ‫معه هناك أيضا في الجنة في الدار اآلخرة؟ وأنا أرى أن نعم‪ ،‬نعم‪ .‬املنطق الفقهي البسيط‬ ‫والعقدي الساذج يقول ال‪ ،‬الدنيا دار تكليف واآلخرة ليست دار تكليف‪ ،‬دار إمتاع وانتهى‬ ‫كل ش يء‪ .‬لكن هل فكرتم في قوله تبارك وتعالى (يوم ال يخزي هللا النبي والذين آمنوا‬ ‫معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا)‪ .‬إنها ال تزال تعمل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الرغبة في االمتداد وفي االستكمال ال تزال تعمل‪ .‬نريد أن نستكمل مزيدا من املعرفة مزيدا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من اإليمان مزيدا من االقتراب من املطلق الذي لن تصل إليه وصوال حقيقيا وإن ادعى‬ ‫الصوفية باملطلق‪ ،‬ألن الهوة بين التراب ورب األرباب ال تردم بالكامل‪ ،‬مستحيل‪ .‬وإال‬ ‫ً‬ ‫الستحال املربوب ربا‪ ،‬ولذلك فالتطلع مستمر حتى في الجنة وإلى األبد‪ .‬وهذه الدعوة دعوة‬ ‫ً‬ ‫ممتدة أيضا‪( ،‬ربنا أتمم لنا نورنا)‪ ،‬يالضعف اإلنسان الذي هو سر عظمته‪ ،‬ضعفه سر‬ ‫ً‬ ‫طلبه للكمال‪ .‬سر طلبه للمزيد‪ ،‬إنه من هو من الكمال ألنه ليس كامال في ذاته‪ ،‬ليس من‬ ‫ً‬ ‫أصل الكمال إنما هو صنعة الكمال املطلق رب العزة ال إله إال هو‪ ،‬وهللا أعلم‪ .‬إذا هذا ما‬ ‫كان من آدم وما كان من بني آدم من بعد‪.‬‬ ‫آدم كان في البراءة األصلية كما يقال‪ ،‬البراءة املطلقة أو التامة حتى اهتزت هذه‬ ‫ً‬ ‫البراءة بمعرفة جديدة‪ ،‬مع أن آدم حاز قصب السبق وجاز االمتحان حاصال الدرجة‬

‫النهائية كما يقال‪ ،‬ومع من؟ مع املالئكة في قضية املعرفة (وعلم آدم األسماء كلها‪)...‬‬ ‫القصة‪ .‬آدم فاز في االمتحان بالدرجة األولى‪ ،‬لكن املالئكة رسبت مباشرة واعترفت وعادت‬ ‫إلى وضع األشياء في نصابها كما يقال‪ .‬هذه املعرفة لم تنقذ آدم؛ إذ لم تمارس أو لم يمارس‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بها آدم دورا استبصاريا‪ ،‬دورا إنقاذيا في أول امتحان عرض له وفشل في االمتحان‪ .‬عجيب‬

‫‪12‬‬


‫املالئكة فشلت في امتحان املعرفة‪ ،‬وآدم فشل في امتحان آخر‪ ،‬إنه ليس إمتحان املعرفة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫إن شئتم هي معرفة من نوع مختلف تماما‪.‬‬ ‫إذا تعلق األمر بأشياء خارجية‪ ،‬أي بالعالم والكون الطبيعي سواء كان هنا أو هناك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فهذه املعرفة ممكنة لإلنسان فردا‪ ،‬وممكنة لإلنسان بارئا البراءة األصلية‪ ،‬ممكن‪ .‬أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يكون بارئا براءة كاملة وأن يحتاز هذه املعرفة ممكن أن يكون فردا وحده‪ ،‬آدم هكذا بفرده‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫بحياله وأن يحتاز هذه املعرفة‪ .‬لكن فكروا معي هل يمكن آلدم أن يكون كائنا أخالقيا فردا‬ ‫ً‬ ‫وحده؟ كال‪ .‬وبالتالي آدم لم يكن كامل اإلنسانية وهو في الجنة‪ .‬آدم شرع أن يكون إنسانا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيقيا حينما أهبط إلى األرض‪ ،‬ألنه بدأ يجرب ويختبر معنى أن يكون موجودا أخالقيا‪.‬‬ ‫هنا‪ ،‬ومع هذه التجربة‪ ،‬بدأ ينبثق السؤال من توترات جديدة حاصلة‪ .‬زايله البكم‪ ،‬وبدأ‬ ‫اإلنسان يطرح األسئلة‪ ،‬ليس األسئلة االستفهامية االستعالمية بل االستنكارية والتقريرية‬ ‫ً‬ ‫والتعجبية‪ ،‬وأحيانا األسئلة املجدفة‪ ،‬حتى على رب األرباب من خالل هذه التوترات‬ ‫الحاصلة التي زايله بسببها وبها اتزانه وطمأنينته األولى التي كانت ثمة‪ .‬واختلف الوضع اآلن‬ ‫بالكامل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إذا آدم لم يكن ليكون كائنا أخالقيا هناك‪ ،‬كان يمكن أن يكون كائنا عاملا‪ ،‬كائنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عارفا عنده معرفة بكل ما هو خارج‪( .‬وعلم آدم األسماء كلها) هذه داللة خطيرة جدا‪ .‬معنى‬ ‫ً‬ ‫ذلك أن هذه القصة تعطينا جوابا عن سؤال صغير صدع آراء زمرة من فالسفة الغرب‬ ‫وعلمائه‪ ،‬هل ينقذنا العلم؟ ويعنون بالعلم أي العلم الطبيعي الذي يتعلق بالخارج‪ .‬وكثير‬ ‫ً‬ ‫منهم إلى اآلن ال يزالون –ومعهم بعض الحق نسبيا‪ -‬في الشك من تسمية علوم اإلنسانيات‬ ‫ً‬ ‫علوما‪ ،‬قالوا ال‪ ،‬العلم الحقيقي ما يقبل التكميم‪ ،‬أما أن تقول أن التاريخ والسياسة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واالقتصاد وعلم النفس‪ ،‬واألنثروبولوجيا علوما‪ ،‬قالوا هذه ليست علوما‪ ،‬لكن العلم مثل‬

‫‪13‬‬


‫الفيزياء‪ ،‬وعلم الفلك‪ ،‬والكيمياء‪ ،‬فهذه علوم‪ .‬إنها تتحدث بلغة الرياضات‪ .‬على كل حال‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فالسؤال هو‪ :‬هل ينقذنا العلم بهذا املعنى؟ والجواب قرآنيا أن مستحيل‪ .‬لو أنقذك ألنقذ‬ ‫أباك من قبل الذي ع ِلم األسماء كلها‪ ،‬وفاز في االمتحان‪ .‬لكنه أمام أول اختبار للذات‪ ،‬أي‬ ‫لالحتفاظ بتوازن القوى في ساحة الذات‪ ،‬فشل املسكين مباشرة‪ .‬نزعة غلبت على نزعة‪،‬‬ ‫جانب شال بجانب‪ ،‬كما يقولون‪ .‬ومن هنا ما يحتاجه آدم هو نوع آخر من املعرفة‪ ،‬أو‬ ‫العلم‪ .‬إنه العلم بالذات‪ .‬هذا العلم غير متاح في ساحة البراءة‪ ،‬فانتبهوا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ولذلك قرآنيا‪ ،‬وانطالقا من هذه القصة‪ ،‬نحن في شك أن الذين يعتزلون العالم‬ ‫ً‬ ‫ليست على طريقة أرنولد توينبي اعتزاال ثم عودة‪ ،‬فهؤالء مصلحون‪ ،‬بل أولئك الذين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يعتزلون العالم اعتزاال حقيقيا كاملتنسكة واملترهبنة‪ ،‬الذين يعتزلون ويظلون معتزلين‪ ،‬نحن‬ ‫ً‬ ‫نشك في كمال هؤالء؛ إذ ال يزالون فطيريين غير ناضجين‪ ،‬وإن نضجوا أسنانا‪ .‬بالرغم من‬ ‫الدعاوى واملزاعم في االتصال والقرب من رب األرباب‪ ،‬ال‪ ..‬هؤالء ليسوا كائنات أخالقية‪.‬‬ ‫ليسوا أناس ي مثلنا‪ ،‬نحن أخالقيون أصبنا أخطأنا نبقى في النهاية أخالقيين‪ .‬ألننا نختبر‬ ‫بمنطق الصواب والخطأ‪ .‬براءة آدم‪ ،‬كانت من نوع براءة الجهل‪ ،‬براءة العمى‪ ،‬براءة الجهل‬ ‫بإمكانات الذات وإمكانات الواقع‪ ،‬وحين برزت له معرفة جديدة من إمكانات الواقع تميز‬

‫ً‬ ‫املحظر بإزاء قوى النفس التي بدأت تتحرك اآلن نحائزها ورغباتها اختلفت القضية تماما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وهنا دخل اختبارا جديدا وخرج منه ببراءة من نوع مختلف‪ .‬إنها براءة ممهورة بمهر التوبة‬ ‫(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)‪.‬‬ ‫ً‬ ‫قرأت لفيلسوف غربي يسأل سؤاال يعترض به على اإلسالم واملسيحية واليهودية‬ ‫جملة واحدة‪ ،‬يقول‪ :‬هذه األديان السماوية التوحيدية تحدثنا عن قصة آدم وحواء وما‬ ‫كان منهما‪ ،‬وأنا أسأل أين الحكمة وأين العدالة اإللهية في أن يبقى الجنس البشري يعاني‬

‫‪14‬‬


‫العذابات واملحن ويتعرض للشقاء العام بذنب أبويه في الجنة؟!! أين الحكمة؟؟ هما أذنبا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ملاذا نتحمل نحن؟؟!!‪ ،‬وهذا سؤال يشكل إثارة وتحديا للمنطق اإلسالمي الصحيح في حد‬ ‫ً‬ ‫ذاته‪ .‬والذي ال يعترف بالخطيئة املوروثة‪ .‬لكن أليس هذا من نتائج الخطيئة املوروثة؟! إذا‬ ‫هذا السؤال واالعتراض يساعد النصارى أكثر مما يساعد علم الالهوت اإلسالمي أو علم‬ ‫العقيدة اإلسالمية‪ .‬والجواب عنه قريب سهل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ :‬نحن –أنا أنت هو هي‪ -‬لم نعاني الفرق بين الحالتين‪ ،‬فالذي عانى الفرق‬ ‫وعذب بالفرق بين الحالتين‪ ،‬بين النعيم الذي ال شقاء فيه وبين العالم األرض ي الدني‪،‬‬ ‫الذي هو عالم معجون بالشقاء والكبد‪ ،‬هما أبوانا‪ ،‬هما هما بذاتيهما‪ .‬لسنا نحن‪ ،‬هذه‬ ‫واحدة‪ .‬تقول لي نحن كأنك اختبرت الحالتين هذا كذب‪ .‬أنت تكذب على نفسك وعلى‬ ‫خبرتك‪ ،‬أنت لم تختبر الحالتين‪ .‬أنت اختبرت حالة واحدة‪ ،‬هي الحالة الوحيدة املرجعية‬ ‫بالنسبة إليك‪ .‬أما هما نعم‪ ،‬فقد عانيا ذلك‪ ،‬وهذا جزاء وفاق‪ .‬هناك خطأ وهناك عقوبة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مع قبول التوبة‪ .‬نحن نفهم أن ما حصل ألبوينا كان تمهيدا لكي تبتديء حكايتنا‪ ،‬وابتدأت‬ ‫ً‬ ‫حكايتنا هنا في هذا العالم‪ ،‬فهل هي فعال محض نكد وكبد وشقاء ومعاناة ومحنة عامة؟‬ ‫ً‬ ‫تحد‬ ‫كال‪ ،‬بالعكس‪ .‬إنها فرصة وتحد‪ ،‬واإلنسان الفاعل يرى في التحديات فرصا‪ .‬يرى في كل ٍ‬ ‫فرصة جديدة يهتبلها ينتهزها‪ ،‬فهذه الحياة فرصة وتحد لننتقل من الكائن إلى الكامل‪ .‬أو‬

‫مما هو بالفعل إلى ما هو بالقوة حتى ننتهي إلى سدرة منتهانا‪ ،‬حتى إبليس أحد أبطال هذه‬ ‫الرواية‪ ،‬هو عنصر رئيس وال بد منه‪ ،‬ألنه عنصر رئيس في توفيز وتحريك هذه القوى‬ ‫ً‬ ‫املتقابلة‪ .‬طبعا على حساب قوى على قوى‪ ،‬ال بد منه‪ .‬في نهاية املطاف وبمنطق مجرد هكذا‬ ‫هو يخدمنا‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫ً‬ ‫وسأشرح لكم كيف أن إبليس يخدمنا‪ .‬نحن ال نرى في الشر شرا يحيرنا ويقلقنا‬ ‫ويدهشنا إال الشر الذي يزلزلنا ويقلقل مواقعنا اإليمانية وقناعاتنا اليقينية‪ .‬أما الشر‬ ‫الذي نهزمه وننزل به هزيمة نكراء فهذا الشر يخدمنا‪ .‬نحن مدينون له‪ ،‬ألن هزيمته ال تعني‬ ‫فقط انتصار منا عليه أو انتصار على ضعفنا‪ ،‬ال‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ .‬إنها تعني تخصيب‬ ‫تجربتنا‪ ،‬وإثراء شخصياتنا من خالل التجربة ذاتها‪ ،‬ألنه لوال هذه التجربة ملا خضنا هذا‬ ‫النزاع‪ ،‬ملا وجدت ساحة لهذا النزاع بين هذه القوى التي تطلب ساحتها‪ .‬في الجنة لم تكن‬ ‫لها ساحة حقيقية ولذلك كان تميز املحظور –تميز الشجرة‪ -‬هو الساحة الوهمية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ونجحت القضية‪ .‬لكن هنا‪ ،‬هنا ساحة حقيقية‪ .‬الشر يعمل فيها جزءا‪ ،‬بهذا املنطق أنت‬ ‫سترى هذا الشر يخدمك ويخدم قضيتك في نهاية املطاف‪ .‬وحينئذ ستفهم بعض الفهم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وليس كل الفهم ملاذا سمح له بالوجود‪ ،‬ملاذا سمح لنا أن نتعاطى معه أيضا‪ .‬إن اإلنسان‬ ‫مخلوق ومركب ومهيأ ليتكامل ويثرى ويعمق هنا في هذا العالم وعبره ومن خالله‪ ،‬ال في‬ ‫عالم متمحض للخير وللنور وللقدس‪ ،‬إنهم املالئكة أو أولئكم املالئكة‪ ،‬أما نحن فمعدون‬ ‫ً‬ ‫ومهيئون لكي نعمق ونثرى هنا في هذا العالم‪ ،‬إذا ما الذي يحصل مع الخطاة من جنس‬ ‫إبليس نفسه‪ ،‬ما الذي يحصل مع الغارقين في اإلثم حتى أذقانهم؟ الذي يحصل أنهم لم‬ ‫ً‬ ‫يفهموا التجربة‪ ،‬إذا لم يستفيدوا منها‪ .‬استهلكتهم التجربة بدل أن يستثمروها‪.‬‬

‫كل تحدي حقيقي لإلنسان‪ ،‬ومن أكبر التحديات تحدي الفناء‪ ،‬تحدي الزمن‪ .‬يود‬ ‫كل أحد منا أن لو يخبط بأنامله أو حتى بكلتا يديه‪ ،‬أو بجمع كفيه على أيامه الذاهبة‪،‬‬ ‫أيام طفولته وشبابه‪ ،‬األيام العذبة‪ .‬لكنه ال يستطيع فكل ش يء يتفلت‪ ،‬وتسري إليه‬ ‫ً‬ ‫الشيخوخة ويدب إليه الضعف والفناء‪ .‬إذا الزمن يعمل فينا وال نعمل فيه‪ .‬ال‪ ،‬من املمكن‬ ‫ً‬ ‫أن نعمل فيه‪ ،‬من املمكن أن نستخدم هذا الزمن‪ ،‬وأن نخدمه نجعله خادما لنا بقوة‬

‫‪16‬‬


‫االلتقاط‪ ،‬بقوة االستذكار بالذاكرة املنتعشة اليقظة‪ ،‬بحيث يغدو أو تغدو ساعاتنا األولى‬ ‫ناس‪ ،‬ينس ى‬ ‫كساعات ال تبارح‪ ،‬إنهم أمامنا لكن بقوة االستذكار‪ .‬مأساة اإلنسان أنه كائن ٍ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كثيرا‪ .‬ولذلك تمارس عليه هذه القوى فعلها بعنف أحيانا‪ ،‬ويرى نفسه ضحية لها لكن أال‬ ‫يمكن أن استنجز اللحظة التي لم تأتي وكأنها ملء كفي اآلن بقوة التخيل مشفوعة بقوة‬ ‫الطموح والعمل‪ .‬واللحظة الهاربة املاضية بقوة التذكر‪ ،‬واللحظة الحاضرة الفاعلة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كاملنشار بقوة الفعل واإلنجاز‪ .‬ال أترك نفس ي همال بين يديها‪ .‬وهكذا أنا سأفعل أيضا في‬ ‫الزمن مقابل فعله هو في‪ ،‬هكذا‪ .‬هذا ممكن لإلنسان‪ ،‬اإلنسان عالم من اإلمكانات وعالم‬ ‫من الطاقة‪.‬‬ ‫نعود إلى موضوع الخطاء‪ ..‬الذي يحصل مع الغارقين إلى أذقانهم في الخطيئة‪ ،‬أنهم لم‬ ‫ً‬ ‫يفهموا التجربة حقا ولم يستثمروها وبالتالي فقدوا قدرة التمييز بين الوهمي والحقيقي‪ ،‬بين‬ ‫الزائف والحقيقي‪ .‬فآدم كما قلنا أغري بوهمية تميز املحظور‪ .‬لكن اتضح له في النهاية أنه ليس‬ ‫ً‬ ‫متميزا‪ ،‬بل أفقده بعض مزاياه (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة)‪ .‬كل أثمار الجنة وكل نبت‬ ‫الجنة الذي كان آدم وحواء يتناوالنه ويتعاطيانه كان يخرج بشكل إفرازات طاهرة جميلة ال تحوج‬ ‫ً‬ ‫إلى التخلي‪ .‬الشجرة هذه بالذات أحوجتهما إلى التخلي مع ما يتعانى اإلنسان من شعور‪ ،‬أحيانا قد‬ ‫ً‬ ‫يكون مؤملا‪ ً،‬وفي كل حين هو شعور مخز ًى‪ ،‬شعور باالفتضاح‪ ،‬شعور بالضعة بال شك‪ ،‬شعور‬

‫التخلي حال من أحوال اإلنسان لألسف‪ .‬هذا هو التميز‪ ،‬يا ابن آدم‪ ،‬يا أنا يا أنت يا هي يا هو يا‬ ‫أولئك يا أولئكم‪ ،‬نحن يا بني آدم‪ ،‬مسموح لنا بل مقدر علينا‪ ،‬مسموح ومقدر علينا أن نخطئ‬ ‫ً‬ ‫لكن دائما يجب أن نستفيد من تجربة الخطأ‪ ،‬واإلمساك بالخيط الذهبي‪ ،‬الخيط الحريري املائز‬ ‫والفارق بين الوهم واألصالة‪ ،‬الزيف والحقيقة‪ .‬سنرى أن هذا املوضوع أو هذه الساحة‪ ،‬ساحة‬ ‫الخطأ وموضوع الخطيئة إنما هي ساحة وهمية للذات ورغبات ال تجد إشباعها هنا وإنما في مجال‬

‫‪17‬‬


‫آخر‪ .‬الخاطئ ال يفهم هذا ومن هنا يمارس في اجترار خطئه أنه يعلق في خطئه‪ ،‬الخطأ بدل أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يصبح فرصة لإلنماء واإلثراء‪ ،‬يصبح فخا‪ ،‬شركا يعلق فيه املسكين ويبدأ يتهالك ويبدأ يزوي‬ ‫ويضعف باستمرار حتى ينتهي‪.‬‬ ‫هل تعرفون قصة أبي نواس الحسن بن هانيء هذا الشاعر الداعر املشهور‪ ،‬هذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لم يكن ليجد أي لذة في إتيانه أهله مع أنها كانت صبيحة الوجه وأصغر منه سنا‪ ،‬أبدا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان يجد هذه اللذة والعياذ باهلل مع الخاطئات الساقطات من أمثاله دائما‪ .‬هذا املسكين‬ ‫استحال الوهم عنده إلى ما أفهمه أنه حقيقة‪ ،‬وإنه ليس بحقيقة إنه استهالك‪ .‬استهالك‬ ‫للفرصة‪ ،‬فرصة االستكمال‪ ،‬فرصة الرقي‪ ،‬لألسف علق املسكين في ذاك الشرك‪ .‬زوجه لم‬ ‫تكن ولم تستطع أن تفهم هذه النفسية؛ إذ كيف يتركها وهي الغادة الخمصانة الجميلة‬ ‫املمتلئة البضة إلى هؤالء الساقطات‪ ،‬العجائز أحيانا؟!!!‪ ،‬وذات مرة –ذهبت إلى إحداهن‬ ‫ليلة وأقنعتها أن ترقد في مضجعها وأن تطفيء السراج‪ .‬ففعلت‪ ،‬فجاء الشقي املعثر –أبو‬ ‫نواس‪ -‬وأتاها على أنها ساقطة‪ ،‬ثم أض يء املصباح فجفل‪ ،‬وقال‪" :‬ما أحسنك زانية وما‬ ‫أقبحك زوجة"‪ ،‬لقد علق املسكين‪ .‬وهذا تحذير أختم به‪ ،‬تحذير لكل الخطاة والخاطئين‪،‬‬ ‫إياكم أن تعلقوا في أفخاخ وأشراك أخطائكم‪ .‬ليس العيب أن نخطئ‪ ،‬كل ابن آدم خطاء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لدينا ال عصمة إنسانية‪ ،‬لنا أخطاؤنا‪ .‬بعض الناس قد يقول‪" :‬أنت بهذا تعطيني جوازا‬

‫وإجازة بممارسة أي خطأ أريد‪ ،‬بعد ذلك سأستأنف توبة!"‪ .‬من رحمة هللا ومن كرمه تبارك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتعالى ومن حكمته أيضا ‪-‬فهي تدخل في باب الحكمة فالش يء في موضعه تماما‪ -‬أنه حين‬ ‫خلق املعاني كاألشياء جعلها متدرجة‪ ،‬فاأللم له درجات‪ ،‬واللذة لها درجات‪ ،‬والجوع له‬ ‫درجات‪ ،‬والعطش له درجات‪ ،‬والعلم والجهل والجمال والقوى‪ ،‬كل ش يء له درجات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫والخطأ والخطيئة واملعاص ي مدرجة أيضا‪ ،‬فمنها الصغائر‪ ،‬ومنها الكبائر‪ ،‬ومنها فواحش‬

‫‪18‬‬


‫ً‬ ‫اإلثم والعياذ باهلل‪ ،‬وأرذلها وأعظمها فحشا الشرك باهلل‪ .‬ومعنى هذا التدريج في كل ش يء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مخلوق ليس نسبيته فقط‪ ،‬وإنما يعني أيضا أن لديك فرصة بدال أن تهلك بممارسة خطأ‬ ‫ً‬ ‫قد تعلق فيه إلى األبد وتنتهي‪ ،‬بعض الناس قد يمارس خطأ ويعلق فيه وينتهي كل ش يء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ال‪ ،‬هناك فرصة أن تمارس هذا الخطأ مخففا –محلول‪ -‬محلول خطأ مخفف درجة‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫بسيطة جدا جدا‪ .‬يعني مثال الخيانة أو الفاحشة‪ ،‬والنبي أشار لهذا في حديث البخاري‪ ،‬قد‬ ‫تكون الخيانة هذه بالعين (يعلم خائنة األعين وما تخفي الصدور)‪ .‬قد تخون أخاك في هللا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أو جارك أو صديقك أو رجال فاضال كريما حافظا ألعراض الناس‪ ،‬قد تخونه في عرضه مع‬ ‫أهله بالعين‪ ،‬فتنظر إليها النظرة الشاهية‪ ،‬وهللا يعلم خائنة األعين‪ ،‬لو نظرت إليها بطرف‬ ‫شاه‪ ،‬هذا معلوم عند هللا‪ ،‬تبارك وتعالى ال إله إال هو‪ ،‬قد تخون بعد ذلك‬ ‫عينك‬ ‫ٍ‬ ‫بقصد ٍ‬ ‫بهذه التجربة املخففة من الفاحشة‪ ،‬هل أنت مرتاح؟ هل تجد هذا يخدم تكاملك؟‬ ‫شخصيتك؟ تصالحك مع ذاتك؟ طمأنينتك؟ إثراءك؟ تعميقك؟ مستحيل‪ .‬كيف أكثر من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذلك؟ مركز قليال‪ ،‬باللمس مثال‪ ،‬بالقبلة‪ ،‬بالضمة‪ ،‬والعياذ باهلل‪ .‬إذا تراجع‪ .‬تعلم أنت من‬ ‫ً‬ ‫خالل هذه املمارسة املخففة أن ما سيكون أشد منها سيكون أشد تحطيما لذاتك‪.‬‬ ‫فالخطيئة تحطيم للذات‪.‬‬ ‫وقد يعترضني البعض ليقول مارست هذا الخطأ وهذه الخطيئة املخففة فجرتني‬

‫إلى ماهو أعظم والعياذ باهلل‪ ،‬إلى ماهو أدون‪ .‬وسأقول مرة أخرى ألنه لم يفهم تجربته‪ ،‬لم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يفهم ولم يستثمر تجربة هذه الخطيئة املخففة‪ ،‬لم يفهمها‪ .‬وقع أيضا أسيرا في يد الوهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مرة جديدة‪ .‬وحتى ما هو أحط وماهو أنزل لن يكون النهاية‪ ،‬سيبقى عالقا أحيانا ويتكرر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إلى أن يشاء هللا ربي شيئا‪ .‬من هنا نعود لنؤكد مرة أخرى على مسألة الخيار لتكن أفعاال‬ ‫منتقاة ومنتخبة تعكس خيارنا‪ .‬بد ًءا من اإليمان (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم‬

‫‪19‬‬


‫ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم‪ ،‬ألست بربكم) هذا سؤال تقريري‪ .‬كل ما له أصل ينحل في‬ ‫ً‬ ‫النهاية إلى أصله‪ ،‬يذكر األصوليون والبيانيون أكثر من عشرين غرضا يمكن أن ينحرف‬ ‫إليها السؤال ألن األصل في السؤال هو االستعالم‪ ،‬لكن يمكن أن ينحرف إلى واحد من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عشرين غرضا آخر‪ .‬هذا صحيح‪ ،‬لكن كل ما ينحرف إليه يمكن وبخطوة بسيطة جدا أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نفسره وأن نحلله‪ ،‬ونجعله منحال إلى أصله أيضا‪ .‬هو يتضمن أيضا األصل (ألست بربكم)‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فهذا مباشرة يتضمن سؤاال للذات‪ .‬أهو ربنا؟ طبعا الدالئل كلها تقول ونحن من صنعة‬ ‫ً‬ ‫يديه‪ ،‬نعم (قالوا بلى)‪ .‬إذا منذ البداية‪ ،‬حتى اإليمان في عالم الذر‪ ،‬في عالم األنفس‬ ‫ً‬ ‫ابتداء‪ ،‬هذا ما‬ ‫املحضة كان البد أن يخضع الختيار والنتخاب‪ .‬ونحن نجحنا في االمتحان‬ ‫تعطيه الفطرة بإلحاحها وسالمتها وحسن توجهها‪ ،‬البوصلة الفطرية‪.‬‬ ‫اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا وتصلحنا وتصلح بنا اللهم اجعلنا مفاتيح‬ ‫ً‬ ‫للخير مغاليق للشر اللهم ال تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا املقام الكريم ذنبا إال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غفرته وال هما إال فرجته وال كربا إال نفسته وال ميتا إال رحمته وال مريضا إال شفيته وال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫غائبا إال رددته وال مدينا إال قضيت عنه دينه بفضلك ومنك إلهنا وموالنا رب العاملين‪.‬‬ ‫وخر لنا في قضائك‬ ‫اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك أسعدنا بتقواك وال تشقنا بمعصيتك ِ‬ ‫وبارك لنا في قدرتك حتى ال نحب تأخير ما عجلت وال تعجيل ما أخرت‪ ،‬واجعل اللهم غنانا‬

‫في أنفسنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعلها الوارث منا واجعل ثأرنا‬ ‫على من ظلمنا اللهم أحسن عاقبتنا في األمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب اآلخرة‪.‬‬ ‫اغفر لنا وملن حضر اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين واملسلمات املؤمنين واملؤمنات‬ ‫األحياء منهم واألموات بفضلك ورحمتك إنك سميع قريب مجيب الدعوات‪ .‬عباد هللا إن‬ ‫هللا يأمر بالعدل واإلحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء واملنكر والبغي يعظكم‬

‫‪20‬‬


‫لعلكم تذكرون‪ .‬اذكروا هللا العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وأسألوه من‬ ‫فضله يعطكم وقوموا إلى صالتكم يرحمني ويرحمكم هللا‪.‬‬

‫=========================‬

‫‪21‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.