أصوات السنة الرابعة العدد الرابع
تصوير :محمد معاوية
تصوير :روند عرقاوي
جدتي والنكبة
احملتويات جدتي والنكبة أمل وألم احلياة اجلدار العاري حياة ألم تتحول الى أمل جدتي والنكسة بالدي فلسطني الطريق إلى الهاوية أخبار مسرح احلرية االٔمل يولد من رحم املعاناة على مر الزمان
بانة هاشم عزموطي وئام أحمد خباص رزان عرفات عواد رغد رائد حسني أبو زينه إميان أحمد صالح آيات عالونه زينه كفاح أبو حماد رانيا وصفي عبد العزيز أبو علي أسيل أبو سالمة
بانة هاشم عزموطي
1 2 4 6 8 9 10 13 14 16
العمر 12عام -مدرسة االبراهيميين
تحرير وإشراف :تيسير خطيب تصميم المجلة :محمد معاويه بدعم من مؤسسة:
تصوير :أسماء عبوشي
في عام 1948تعرض الفلسطينيون لإلهانة والتعذيب وشردوا من مساكنهم تاركين وراءهم كل شيء يمتلكونه ،حتى أن بعض األسر الفلسطينية تركوا أبناءهم الصغار الرضع لعدم قدرتهم على حملهم في الطريق الطويلة التي سيقطعونها للتوجه إلى البلدان المجاورة ،ومعظمهم رحلوا دون أن ينتعلوا أحذيتهم حتى ينجوا بحياتهم من العدو الصهيوني الذي اقتحم البيوت اآلمنة وطرد سكانها وقتل منهم كما فعل بدير ياسين. وجدتي هي من المشردين في النكبة وإحدى ضحاياها .كانت تقطن في حيفا ،وتحديداً في قرية عين حوض ،وروت لي جدتي قصتها الطويلة في النكبة حيث كانت صغيرة عندما رحلوا من مدينتهم الجميلة المطلة على البحر ،حيفا .كانت في التاسعة من عمرها عندما دخل اليهود بيتهم من الباب الرئيسي ،وعندما سمع أبوها صوتهم جمع أبناءه وزوجته وهربوا من الباب الخلفي دون أن ينتعلوا أحذيتهم ،وتركوا كل شئ يمتلكونه وراءهم، وركضوا إلى مغارة صغيرة أعلى الجبل واحتموا بها في الليل حتى الصباح .بعد ساعات قليلة شعروا بالجوع ولم يجدوا شيئا ً يأكلونه ،فشرعوا بالتقاط ثمار الشجر المتناثرة على سفح الجبل، واستمروا هكذا أسبوعاً ،ومن شدة الجوع راحوا يعملون معا ً من أجل لقمة العيش ،فجمعوا أغصان األشجار وجعلوها كومة واحدة وغطوها بالتراب وشقوا حفرة صغيرة أسفل الكومة ووضعوا شرارة من النار لتبدأ األغصان باالشتعال ،وعندما تشتعل كلها تخمد النار وتبقى خامدة تحت التراب مدة أسبوع أو أكثر ،ومن ثم يقومون باستخراج القطع السوداء وهي “الفحم”، ومن ثم يقومون بتقطيعها الى قطع متوسطة الحجم وبيعها للناس. استمروا على هذه الحال أكثر من شهرين ،وعندما جمعوا بعض المال انتقلوا للعيش في مخيم جنين ،حيث بنوا هناك غرفة صغيرة تأويهم ،وعندما كبرت جدتي تزوجت ثم انتقلت للعيش مع جدي في (السعودية) ،فأنجبت منه خمسة أوالد وبنتاً ،حيث عملت هناك هي وجدي في مجال التعليم مدة عشرين عاماً ،ثم عادوا الى مدينة جنين حيث عاشوا هناك. عاشت جدتي أوقات عصيبة وصعبة لن تنساها طوال حياتها وال زلنا نأمل بالعودة بعد التهجير! .
1
أمل وألم احلياة وئام أحمد خباص
العمر 22عام -جلقموس
22
كبير عن نتيجة ريم ،فعرفت أن معدلها خمسة وخمسون. فرحت سناء لريم فرحا ً شديداً ،وقالت “صبرت ونالت”. توجهت سناء لبيت ريم وأخبرتها بذلك :حصلت على معدل خمسة وخمسون افرحي يا ريم ،افرحي هذا يوم الفرح بالنسبة لك. لم تفرح ريم ،ألنها تشعر بالعجز قليالً ،وقالت الحمد هلل الذي ال يحمد عل مكروه سواه .وحاولت سناء اقناعها بمتابعة دراستها في الجامعة ،فردت عليها: ريم :ال أفكر في هذا الشئ أبد اً .يكفيني الذي حصل لي في المدرسة. سناء :ال تنظري إلى الماضي ،فكري في المستقبل ،الحياة ال تتوقف ،الحياة مستمرة. لم ترغب ريم بمتابعة الدراسة ولم يكن لديها استعداد للحصول على شهادة جامعية .راحت سناء تفكر في الحل من أجل إقناع ريم بالدخول إلى الجامعة .وطلبت مساعدة أصدقائها بالجامعة فعرضوا عليها ان تلتقي ريم بشخص معاق يدرس في الجامعة .وهكذا كان .فقد حضر هذا الشخص المعاق إلى بيت ريم ،واستقبلته بكل قلب مُحب، وبدأ يتحدث إليها عن الجامعة وعن الدراسة الجامعية بالرغم من أنه كان فاقد السمع :كل بداية تكون صعبة،
خطوة ..خطوة ..ثم الطريق كله ،ثم يسهل األمر عليك .وقال لها جملة أثرت في نفسها كثيراً :المعاق هو الشخص الذي يكون فاقداً العقل! فكرت ريم في كالمه كثيراً ،واتصلت بسناء وقالت لها :تعالي عندي ،لك عندي خبر سيسرك كثيراً .فهمت سناء أن ريم وافقت على الذهاب إلى الجامعة .حيث دخلت ريم الجامعة وهي مفعمة بالتفاؤل ولم تدرك أن الحياة فيها الحلو وفيها المر. بدأت صحة ريم تتحسن يوما ً بعد يوم ،وبدأت بتلقي العالج الطبي ،حيث لم تتركها سناء لحظة واحدة ،وفجأة بدأت ريم بالنهوض عن الكرسي المتحرك ،مما أدخل الفرح الى نفسها. ثابرت ريم ودرس��ت ،وصبرت وآمنت بكل معاني الحب والتفاؤل ،فلم تقف في وجهها المصاعب وصنعت من حياة المرض واإلعاقة ،حياة جديدة مليئة بالحب واألمل والتفاؤل، وما أعظم الصبر فهو نعمة من هللا عز وجل ،ما أجمل الصبر في عيون الذي ينتظرون لحظة الفرج. كانت هذه قصة ريم إلى جميع المعاقين اليائسين الذين يئسوا من حياتهم ،فبالصبر ،وطاعة هللا وتقواه عز وجل ،واألخذ بالعلم ،هم السبل للنجاح والتغلب على الصعاب .فالعلم شئ عظيم ومهم في حياتنا يجب المحافظة عليه.
تصوير :أمير صبيحات
ألم وما أصعبه من ألم! الحياة طويلة والطريق صعب .قصتنا تتحدث عن ألم وقسوة بسالح من الصبر واإليمان الحياة ،لكن علينا أن نواجه الحياة ٍ الذي ال يُقهر. ريم فتاة جميلة بروحها وأخالقها ،جميلة باألمل الذي تحمله بين ضلوعها رغم األلم الذي تعانيه ،ولدت وهي مصابة بالشلل التام، وعرفت أن الحياة صعبة ومليئة بالهموم واألحزان والصعاب. دخلت الى المدرسة وهي في السنة السابعة من عمرها ،ولم تجد أحداً يفهم أحاسيسها ومشاعرها وما يجول في خاطرها من أفكار ،ولم يكن عندها أصدقاء فراحت تفكر في ترك مقاعد الدراسة ،وامتنعت عن الدراسة ،الى أن ظهرت فجأة في حياتها صديقة اسمها سناء ،وعرضت عليها صداقتها .لم ترغب ريم بهذه الصداقة في البداية ألنها شعرت أنها أقل من اآلخرين بكثير .استغربت سناء األمر فقالت لها ريم :أنا أقل منك بكثير ولم أرغب في الدراسة والحياة أبداً. ت فتاة جميلة وجذابة وأجمل من أي طالبة من سناء :لماذا؟ أن ِطالبات المدرسة. ريم :ال أعرف ماذا أريد من هذه الحياة ،يا سناء!بدأت ريم تتقبل صداقة سناء التي خففت عنها بعض الهموم واألح���زان وأشعرتها أنها ق��ادرة على العيش مع اآلخرين ومواجهتهم .ومضت سنوات الدراسة األول��ى ،كبرت ريم ووصلت إلى الصف الحادي عشر أدبي وشعرت أنها قادرة على مواصلة الدراسة والعيش مع الناس ومواجهتهم بوجود سناء معها. ذات يوم توجهت ريم إلى الطبيب ألنها شعرت بالتعب قليالً واصطحبت معها صديقتها لترفع من معنوياتها .فحصها الطبيب وأخبرها أن صحتها جيدة وممتازة .طلب الطبيب من سناء أن تبقى قليال ،فقام بإخبارها أن ريم متعبة جداً وأنه لم يتحدث أمامها بشيء خوفا ً على معنوياتها ومشاعرها من أي صدمة نفسية قاسية .قالت سناء لريم :هيّا بنا إلى البيت وأصرت ريم على سناء أن تتناول الطعام معهم .وبينما هم يتناولون الطعام أصيبت ريم بإغماء شديد ،فصرخت سناء بأعلى صوتها ،ريم ...ريم...
ريم! لم تجب ريم .أحضروا الطبيب مرة أخرى ،فعاينها وخرج من البيت بعد أن طمأن والدتها ،فنامت ريم ولم تستيقظ إال بعد مرور ساعتين .تذكرت ريم ما حصل معها وراحت تتحدث عن إعاقتها وعن عدم قدرتها على مواجهة هذه الحياة الصعبة والقاسية! فقالت لها سناء :لم هذا التشاؤم! هذا شي من عند هللا سبحانه وتعالى .قولي الحمد هلل“ ،إن هللا مع الصابرين”. رفعت سناء من معنويات ريم واستعانت بالقرآن الكريم من أجل أن يخفف عنها بعض الهموم واألحزان .أحضرت سناء لريم كتاب يتحدث عن األمل والتفاؤل بعنوان “ال تحزن” .بعد فترة وجيزة شعرت سناء أن ريم بدأت تتفاءل في حياتها .وصلت ريم إلى مرحلة الثانوية العامة وسناء في السنة األولى من الدراسة. كانت ريم تتعرض لمشكلة السخرية واإلستهزاء من الطالبات كونها مقعدة. سناء :ال تفكري في الفرق ما بينك وبين الطالبات في أي شئ، فالفرق بينكم هو التقوى ،حيث يقول هللا عز وجل“ :إن أكرمكم عند هللا أتقاكم”. ريم :أنا أريد أن أكمل دراستي في البيت ألن هذا الشئ يشعرني بالراحة قليالً. سناء :فكرة جيدة وأنا جاهزة ألي مساعدة تريدينها أ يّا كان نوعها. بقيت ريم في البيت وكانت تدرس ،وكانت سناء تأتي عندها كل يوم تقريبا .اقترب موعد االمتحانات وريم على استعداد تام لالمتحانات ،جاء أول يوم في االمتحانات وهو إمتحان اللغة العربية ،ذهبت ريم إلى قاعة االمتحانات وبها رغبة قوية في النجاح والتفوق. في آخر يوم في االمتحانات تعرضت ريم لصدمة من الطالبات حيث قالوا لها “من المستحيل أن تنجحي” .أصيبت بحالة نفسية سيئه رغبت في عدم الخروج من البيت ألنها ال تريد أن تحمّل نفسها فوق طاقتها. جاء يوم نتائج الثانوية العامة .ذهبت سناء إلى المدرسة من أجل إحضار نتيجة ريم ،حيث قابلت سناء المديرة وسألتها بإهتمام
3
اجلدار العاري رزان عرفات عواد
العمر 19عام -مخيم جنين
4
تصوير :عبير ياسين
راحت تزيل ما علق على جدران بيتها من غبار بقطعة قماش خشنة متينة ،وتنثر الماء في زواياه ،تزيل الحصى من حديقته. وهناك تحت ظل شجرة زيتون اتخذت مقعداً جلست عليه. أخذت تراقب غصنا ً يتراقص مع الرياح قبل أن تعلق نظرها على الطريق الذي يفصل بين حديقتها والشارع .انسابت دمعات من عينيها ،مسحتها بسرعة. اقتربت من الطريق وجلست هناك .تلمست بأصابعها الخشنة ترابه ،وحملت كومة من التراب ضمتها إلى صدرها ،مبللة إياها بسيل من الدموع تساقط من عينيها الحمراوتين. كان قد اقترب منها شاب وحمل بدوره بعض التراب ،وفرك يديه به .أمسك بذراع العجوز وأدخلها للبيت .أخذ ينظر في زوايا البيت ويحدق في جدرانه العارية .ف ّكر في نفسه أنه لو كان هنا لقال أنه يجب تغطية جدران البيت بزينة جميلة ،حتى ال تظهر الشقوق الممتدة من سطح البيت إلى أرضيته ،ولكي ال يأتي أهل خطيبته ،وتكون لهم حجة في أن يضعوا نقطة سوداء في كتابه األبيض .فتنظر أمهما إليه عاقدة حاجبيها ،لم يكن ينقصها إال أن تفعل كل شيء حسب إرادة تلك العائلة .لكنه لم يقصد أبداً ذلك ولم يهمه رأي تلك العائلة. مشى نحو خزانة جلست أمه عندها ،وقد أفرغت أمامها كل محتواها ما عدا صندوق وضعته في حضنها ،وشرعت تفتح قفله الذهبيّ اللون الذي صقله أسيد ذات يوم بعناية ،متباهيا بذلك أمام أخيه محمد وأهداه ألمه. اغتاظ محمد يومها فصنع الصندوق حافراً عليه اسمها واسم أخيه واسمه وخريطة فلسطين ،ليحفظ صورهم داخله .تحسست الصور ومكثت تحدق بكل صورة فينة من الزمن ،بينما وقف هو وراءها ،يراقب الصور ويبتسم إلى أن وصلت بتصفحها الصور إلى تلك الصورة .حمل نفسه وخرج بعدما ارتطم بالباب عدة مرات .خرجت على إثره تجلس تحت الزيتونة تطرز احدي لوحاتها ،لتكون قطعة من رداء جدارها العاري المتشقق .امتزجت الخيوط بدموع خرجت من عينيها ،وتلوثت اإلبرة بدم سال من إصبعها الذي جرح وهي تقص خيوط الحرير. كان محمد يمشي في الشوارع المظلمة عندما أوقفه رجل مستفسرا منه إن كان هو أخو أسيد ،أومأ برأسه أن أجل ،ثم عاد يسير في طريقه ال يعلم أين ينتهي به .لكنه عاد به إلى
المنزل .ال زالت تطرز لوحة تارة وتارة أخرى تحدق في تلك البقعة من الطريق .جلس بجانبها يفتح موضوعا ويغلقه، ويفتح آخر ويغلقه أيضا .ابتسمت شفتاها المرتعشتان ،قالت انه في الغد ستذهب لتزور ابنها .ارتجفت يداها المجعدتان وأحنت قامتها ،ضمت يديها إلى بعضهما ع ّل موجة من الدفء تدخل جسدها وتقضي على موجة البرد التي سبقتها وغزت ضلوعها .قادها محمد إلى البيت وغطاها بغطاء رقيق كان في ما مضى سميكا. ناداها مرارا أمي ،ولمّا لم تجبه قرع الباب مراراً يرجوها أن تفتحه ،أراد أن يخلع الباب إال أنها خرجت تحمل في يدها اسوارة غزلتها بيديها وطرزت عليها بعض األحرف. تشبتت بذراعه وسارت مبتسمة .مضى مدة لم تتفقده فيها. اشتاقت لتكلمه عن أحوالها وعن أحوال أخيه ،أما محمد فقد اشتاق ليكلمه عن أخبار الدنيا ،ويشكو له همومه ،ويخفف عن نفسه عبء نظرة الناس إليه على أنه جبان لم يكمل مسيرة أخيه .وصال هناك .مشيا برفق فوق التربة الحمراء. وعندما وصلت األم جلست تبكي بصمت ،كي ال يسمعها ويؤنبها .وضعت االسوارة فوق التربة ودفنتها ،أمّا محمد فطفق يزرع بعض األزهار بجانبه. أخبره بأن خطيبته السابقة تزوجت من رجل خارج البالد وارتحلت هناك ،أن حماه السابق أقام زفافا مغال فيه داعيا ً جميع من يعرفهم من أصحاب األعمال والرتب العالية، وأردف معلقا ً على ما حدث أنه لطالما أراد البنته أن تتزوج من رجل خارج البلد ،وتبتعد عن هذا المخيم القذر كما قال عندما أخبرته بأنها تريد أن ترتبط برجل من نفس المخيم الذي تعيش فيه. جلست األم بجانبه مشيرة إليه بأن يتوقف عن إزعاج أخيه بكالمه الفارغ ،وبدأت تضع بعض الجبن الذي يحبه أسيد في التراب وتغطيه جيدا؛ العتقادها بأنه سيتذوقه .لطالما اعترض محمد على دفن الطعام عنده ،لكنها تصر دوما على إطعامه مما أعدته بيدها ،فيسكت محمد و يدعها تفعل ما تريد. في الصباح الباكر هرعت كالمجنونة نحو تلك البقعة من الطريق ،وجلست هناك تناديه ـ بعدما رأته في حلمها مضرجا بالدماء ـ وكأنه ال زال يصرخ مناديا إياها وهو
يلفظ أنفاسه األخيرة .جاء يومها ال تحمله قدماه ،واضعا ً يده على جرح خلفته آخر معركة خاضها وزمالؤه ضد جنود االحتالل ،أصابته رصاصة مصقولة من رصاصات المحتل اتخذت مكانها في صدره .لم يستطع التقدم أكثر ومناداة أمه أو أخيه ،فتمدد هناك في تلك البقعة ،وعندما رآه محمد ذي الثالثة عشر من عمره ركض نحوه وبكى ،وناديا مراراً أمهما حتى قدمت ورأته ،وضعت رأسه على حضنها وأخذت تمسح وجهها بدمائه .حاول محمد أن يبعد السالح عن أسيد خائفاً ،إال أنه تمسك به و نهره عنه .التقط آخر أنفاسه وهو ينظر في عينيها ويقول لها أنه يجدر بها أن تغطي جدران البيت المتشققة. نشروا صورة شهيد البالد في كل مكان ،كم خاف محمد من هذه الصورة ألن أسيد كان يحمل سالحا ً وهو يخاف األسلحة، لطالما قال له أسيد أن خوفه من األسلحة هو ما جعله يمتلك أقوى األسلحة ،الذي لم يستطع أسيد أن يحصل عليه قط وهو تعليمه .حاول مراراً حمل سالح بعد وفاة أسيد لكنه لم يستطع، ولم يقدر على أن يكمل طريق أخيه فطفق يكمل تعليمه في جامعة صغيرة. أيقظها محمد من ذكرى اقتلعت فؤادها من مكانه .أمسكت بمطرزاتها و بدأت تطرز من جديد. لقد جاء الجنود بعد وفاة أسيد واقتادوا محمد مراراً إلى سجونهم ،وفي كل مرة يتركوه .قال جارهم لهما بأنه يجب أن يذهبا إلى مكان آخر كما فعلت بعض األسر ،فان الجنود سيظلون يزعجونهم بمساءالتهم وتحقيقاتهم الروتينية ،إال أنها رفضت ،وقالت أنها لن تخرج من هنا إال إلى مكانين: إما قبرها أو بلدها األصلي .وحذا محمد حذوها ولم يسأم من التحقيقات المستمرة معه وتنغيص عيشه. نظر محمد إلى المطرزات أمام أمه ،لم يبق الكثير وينتهي رداء الجدار كما أراد أسيد ،اذ أنه يعتقد بأنه بمجرد إنهاء الرداء سيعود إلى أرضه هو والجميع غيره. طفقت األم تناول مطرزاتها لمحمد الذي كان يعلقها على الحائط العاري .وعندما انتهى كانت خريطة فلسطين المطرزة قد اكتملت نوعا ما ،لم تكن تنقصه سوى قطعة واحدة ستنهيها عما قريب.
5
حياة ألم تتحول الى أمل رغد رائد حسين أبو زينة
العمر 16عام -مدرسة االبراهيميين كانوا ثالثة أخوة يتيمي األب واألم ،يعيشون في بي ٍ ت صغير يتكون من غرفة واحدة وساحة صغيرة جداً .كان األخ الكبير يذهب من ساعات الصباح للعمل لكسب المال من عرق جبينه وتعبه ويرجع الى البيت في ساعات متأخرة من الليل .كان لديه أ ٌخ في السادسة من عمره واسمه علي ،وأخته نادية في الحادية عشرة من عمرها وهو اسمه محمد ،في الثامنة عشرة من عمره. كان حين يرجع للبيت وينظر الى إخته وأخيه بحزن خالل نومهما يشفق عليهما جداً فهما ال يستطيعان انتظار رجوعه، فتدمع عيناه ،أنهما قطعة من لحمه وهو المسؤول عن أي شيء يحدث لهما بعد وفاة والديهم. استلقى إلى جانبهما ونام .عند شروق الشمس وصياح الديك ،قام األخوة الثالثة ليتناولوا الفطور مع بعضهم البعض وفرحوا كثيراً في هذه الجلسة الطيبة ،فتلك كانت أول مرة يجلس األخوة الثالثة مع بعضهم البعض منذ أن بدأ األخ الكبير بالعمل .بعد اإلنتهاء من الفطور ،سأل محمد أخته وأخيه ان كانا بحاجة لشيء ما. فأجابته نادية أنها ال تحتاج شيئا أما علي فطلب منه أن يحضر له القليل من الحليب. جهز محمد نفسه للخروج للعمل ،وبدأ يشق طريقه ويمشي لكي يكسب المال ويحضِ ر الحليب ألخيه .وصل محمد إلى المقهى الذي يعمل فيه في جلي الفناجين وكان يقضي النهار وهو واقفٌ على رجليه وكان دائما ً مشغول البال عليهما. وبينما كان محمد يعمل في المقهى كانت نادية تالعب أخيها علي بحنانها وعطفها عليه لم تشعره بوفاة الوالدين .مضى النهار وبدأت الشمس بالغروب وحل الليل والقمر بجماله نوّ ر القرية بضوئه الساطع .رجع محمد ومعه علبة الحليب ألخيه علي، وعند دخوله البيت لم يسمع أي صوت .ثار القلق في داخله وأسرع الى الغرفة ليرى نادية وعلي ،لكنه لم ير أي أثر لهما، فازداد خوفه وبدأ يرتجف من الخوف .وقعت علبة الحليب من يديه وخرج مسرعا ً ليبحث عنهما ،بدأ يبحث ويبحث وعيناه تذرف الدموع من الخوف عليهما .بقي وقتا ً طويالً وهو يركض في أرجاء القرية ولم يجد بعد أي أثر لهما ،وعندما كان قلبه ينبض بسرع ٍة كبيرة من التعب ورجاله لم تعد قادرتان على حمله خطر في باله أن ينزل الى المدينة ليبحث عنهما ،رغم أنها أكبر من القرية بكثير .لم يفقد األمل بعد وراح يركض باتجاه
6
المدينة واألسئلة تدور في رأسه .عند وصوله بدأ يسأل هذا وذاك عنهما دون فائدة واعتقد أن الليل سيمرّ دون أن يجدهما ،وفجأة رآهما بعينيه المليئتين بالدموع من بعيد ،يجوالن في المدينة وكل واحد منهما يحمل بيديه الدافئتين علب سجائر ويبيعانها للناس. ليكسبا المال ويساعدا أخيهما الكبير في جمع المال لكي تتحسّن حالتهم المادية قليالً! عندما رآهما محمد بدأ يصرخ عليهما من بعيد ويركض مسرعا ً قبل أن تخطفهما زحمة المدينة .سمعا صوت محمد فوقفا وهما خائفين جداً من أخيهما الكبير ،فقال ألخته :نادية ما هذا؟ ماذا تفعلين أنت وعليّ هنا؟ نادية :ما رأيك بأن نذهب الى البيت ونتحدث بهدوء؟ محمد :هذه العلب لن ترجع معنا الى البيت إرمها وال أريد أن أراها بين يديكما مرة أخرى. رمت نادية وعلي العلب من بين يديهما الصغيرتين .أمسك محمد يديّ علي ونادية ورجعوا إلى البيت وثالثتهم منهكين من التعب. عند وصولهم البيت جلس الثالثة وبدأ محمد يسأل نادية سؤاال تلو اآلخر وعينا نادية لم ترتفع عن األرض ،ألنها لم تكن قادرة على النظر الى عينيّ أخيها ،واعترفت له بأنها تعمل في بيع السجائر منذ أشهر ولم تكن قادرة على أن تخبره بذلك ألنها تعرف أنه سيرفض رفضا قطعياً ،ولن يسمح لهما بأن يخرجاخطوة واحدة خارج البيت. بعد صمت طويل ،طلب محمد من نادية أن ترفع رأسها وتنظر بحذر شديد. إليه .رفعت ناديا رأسها وهي تنظر الى أخيها الكبير ٍ فسألها لماذا فعلت هكذا ،فردت عليه :كنا نريد انا وعلي أن نساعدك في مصروف البيت. محمد :وهل ينقصكم شيء في البيت؟ ً مسرعة :ال ..ال يا أخي ال ينقصنا شيء! ردت نادية محمد :ولهذا السبب أنا ال أريد أن تفعال هذا مر ًة ثانية. نادية :حسناً ،أعدك أننا لن نعيد الكرّ ة. نظر محمد ألخيه علي وطلب منه أن يتقدم منه .حضن محمد علي بعد أن وعده عليّ أن ال يفعل ما فعله مرة ثانية .وقام واحتضن أخته نادية .ابتسم محمد ابتسامة خفيفة وسامحهما. ومضت األيام وكبر اإلخوة الثالثة وصاروا شبابا ً يعتمدون على أنفسهم وعاشوا مع بعضهم حيا ًة سعيدة ملؤها المحبة واإلخالص.
تصوير :هيفاء أبو صالح 7
8
جدتي والنكسة
بالدي فلسطني
ايمان أحمد صالح
آيات عالونة
العمر 12عام -مدرسة االبراهيميين
العمر 14عام -جلقموس
في عام 1967حلت على الفلسطينيين النكسة بعد النكبة ،فقد حدثتني جدتي عن المعاناة التي عاشتها في تلك الفترة ،وكانت تبلغ من العمر 51عام ،حيث كانت تعيش في قرية فقوعه الواقعة شمالي جنين .كان الناس في تلك الفترة مشغولين بوقت الحصاد فكانت تذهب جدتي مع مجوعة من نساء القرية لحصاد القمح في أطراف القرية .في ذلك اليوم المشؤوم بينما كان الناس مشغولين بالحصاد سمعوا أصوات نداء وصراخ من أهل القرية يقولون :اليهود وصلوا الى القرى المجاورة لفقوعة ،وأن عليهم العودة فورا الي بيوتهم وتأمين أنفسهم وأوالدهم .دب الرعب في نفوس الجميع وأخذوا يتسارعون في العودة الى بيوتهم ومنهم من اختبأ في مغارات صغيرة قريبة من القرية ،والبعض هرب الى القرى المجاورة .ذهبت جدتي مع إخوتها الصغار الى إحدى المغارات القريبة لبيتهم ،وبعد يومين دخل اليهود قرية فقوعه وراحوا ينادون بالسماعات على أهل القرية ،وكانوا يريدون عمل إحصائيات عن عدد سكان القرية .قالت جدتي أنهم شعروا بالخوف الشديد في ذلك الوقت وكانوا يخافون من تكرار مجزرة دير ياسين التي حدثت سابقا ،ولكن مختار القرية كان برفقة الجنود الصهاينة وكان يقنع الناس بالخروج الى الساحة العامة للقرية حتى يتم إحصاؤهم ،وبعد فترة من الخوف والقلق خرج الناس من بيوتهم وتم إحصاؤهم تحت تهديد السالح .حدثتني جدتي أيضا ،أنه في تلك األيام خرج بعض الشباب من القرية واتجهوا الى األردن مشيا على األقدام مع أطفالهم ونسائهم ومنهم من عاد بعد عدة أشهر الى القرية ومنهم من بقي هناك حتى اآلن ومن بينهم شقيق جدتي. وبعد مرور وقت تحت هذا االحتالل الظالم ،بدأ الشباب ينظمون أنفسهم ويحاولون التخلص من هذا االحتالل البغيض ،بتدبير عمليات مقاومة مختلفة ضد العدو ،بالرغم من إمكانياتهم المحدودة ،ومن بين هؤالء الشباب كان شقيق جدتي الصغير الذي استشهد في تلك الفترة. تقول جدتي أن أمها كانت تخاف جداً عليها وعلى إخوتها، بسبب ما سمعوه عن مجزرة دير ياسين وكفر قاسم التي تم فيها االعتداء على النساء واألطفال ،وها هي جدتي تخبرني بما حصل معها وأنا ال زلت تحت هذا االحتالل رغم المقاومة التي بدأها شعبنا .فمتى ينتهي هذا االحتالل وتعود إلينا بالدنا ويعود الآلجئون ويبدأ نهار الحرية؟
أنت أيتها األرض التي تملؤني بمشاعر الخوف واألمن والحب والكره واالشتياق... أنت أيتها األرض التي تملؤني بمشاعر الفخر ،وعند ذكراك أشعر بان كل الدنيا ال تساوي ذرة االشتياق لترابك. أنت أيتها األرض ،يا من تحاولين إسكات صرخات أآلهات والحزن ،لترسمي بسمة بريئة على عيون أطفالك ولتعطي بعض الصبر واألمل ألمهات وأطفال فلسطين. أر سوى القضبان واألسالك أر كصمودك في حياتي .لم َ لم َ تحوم حولك ،وال أرى في عينيك سوى الغضب والظلم والبؤس، وعينيّ أم عجوز قد طال عليها غياب أبنائها! لم أر سوى الدموع التي تسقط طوال العمر من عينيك ،دموعك تلك التي تعطي األمل والفرح. ترين حزني واشتياقي لسهولك فأنت أيتها األرض الحبيبة يا من َ الخضر وأشجار زيتونك ولوزك وبرتقالك الحزين ،أنت أدرى بحالي! أنت أيتها األرض التي ترتدي الثوب البني واألخضر الممتد من السماء الى األرض ،المجبول بدماء شهداء ودموع األمهات، وليلك المظلم بليل شتاء السجون .أيتها أالم أيتها العظيمة ،من يراك يسحر بجمالك ولكنه يتناسى المنظر الحزين في عينيك! أنت أيتها األرض الجميلة وعروسك األجمل :القدس ،القدس بمساجدها وكنائسها الحزينة ،واشتياق المساجد والكنائس للمصلين ،أفال يسمعون صرخات وآهات المؤذن والكنائس وهي تنادي :أين العرب؟ قال أعداؤنا سننساك بعد بعض السنوات! ولكننا نقول لهم أننا في كل ثانية نذكرك .وأقول ألعدائنا ومغتصبي أرضنا باني كتبت بكل قطرة من دمي أني أعشق فلسطين ،وأن كل نبض في قلبي ينبض باسم فلسطين. فأنت أيتها األرض مهما حاولوا أن يجعلوك أمهم ،فلن تكوني لهم أما ،فاني اعلم أنك ستقولين لهم إنك أ ّم لعرب فلسطين. فأنت أيتها األرض ،أ ّم لفلسطين وأ ّم لجد فلسطين ،وأ ّم ألمهات وأبناء فلسطين ،وأمي أيضا...
تصوير :محمد معاوية 9
الطريق الى الهاوية زينة كفاح أبو حماد العمر 16عام -مدرسة االبراهيميين بدأت حياتها سعيدة مع زوجها الذي كان يعمل رئيسا ًفي شركة مغر ،كانت تشعر بأنها أسعد زوجة في الدنيا، مرموقة براتب ٍ فهو يحبها ويدللها ويفيض العطف عليها وعلى أوالدها .كانت ملكة بيتها .وتمضي األيام وسرعان ما يتحول هذا النعيم إلى جحيم. بدأ مسلسل األحداث المرة بتغيير مفاجئ في حالة زوجها النفسية. مزاج حاد متقلب ،عصبية ألتفه األسباب ،إلى أن بلغ األمر إلى الضرب الذي ترك أثره على صفحات وجهها! هذا ليس زوجها الذي كانت تعرفه ،بل هو إنسان آخر ،الحياة معه ال تطاق .فال حب ،وال عطف ،وال حنان .كان يأتي إلي البيت ورائحته كريهة جداً ،وفي يوم من األيام أخذت ثيابه كالعادة لتغسلها فوقعت يديها على مادة غريبة تبين لها فيما بعد أنها قطعة من الحشيش المخدر! اكتشفت الطامة المفجعة ،وهي أن زوجها غدا مدمنا ً للمخدرات .لم تنجح محاوالتها المتكررة في نصحه فقد كانت كما لو أنها تضرب في حديد بارد. لجأت إلى والديه واستنجدت بهما في نصحه وإرشاده للعالج فاستجابا لطلبها وحضرا وليتهما لم يحضرا .فما أن تحدثوا عن الموضوع ،بدأ بشتمهما ،ثم طردهما من المنزل. ازدادت حالة زوجها سوء يوما ً بعد يوم إلى أن بلغ به الحال إلى سوء الظن وإثارة الشكوك بسلوكها .كانت تصبر أمام هذه االتهامات ،وتقبض على مستقبل هذه األسرة كما لو أنها تقبض على جمرة. ً في أحد األيام طرق الباب غاضبا ،فقامت المسكينة لتفتح له الباب ،فقام وهو في قمة سكره وعربدته ،يكيل لها الشتائم حيث وصل الظن به الى تخيلها برفقة رجال آخرين! انهال عليها بالضرب فهربت المسكينة ،انطلق خلفها كالمسعور ليجدها مختبئة في غرفتها فضربها بزجاجات العطر وشوه جسمها وكسر يدها .صرخت بأعلى صوتها من هول الموقف. اتصلت بأخيها فنقلها هي وابنتها إلى المستشفى وقد دخل الزجاج في عينيها البريئتين فأفقدها النظر ردحا ً من الزمن .وفي يوم آخر من أيام عمرها البائسة دخل زوجها عليها كالثور الهائج وأخذ ولدها الصغير وألقى به في الشارع فتورم رأسه ،ولكن لطف هللا أن حماتها كانت معها في المنزل فأخذت الطفل الصغير إلى المستشفى ليتم إسعافه. كان إدمان زوجها على المخدرات بمثابة إعالن لحالة الطوارئ
10
في المنزل فكل شيء محزن يمكن أن يقع ،ما إن يتناول هذه السموم حتى يتحول إلى مخلوق آخر ،قلب بال رحمة ،جسم بال دماغ! دخل عليها يوما وقد احتد مزاجه بعد أن فقد عقله وألقى إبريق الشاي الساخن على رأس ابنتها الصغيرة فأصيبت بحروق وتشوهات ال تزال حتى اليوم تنطق على صفحات وجهها ببشاعة الموقف! وأما المصيبة الكبرى التي رميت بها فكانت في ابنها األكبر ،وكان عمره حينئذ اثني عشر عاماً .كان ابنها بصيص أملها الذي بقي لها في حياتها المظلمة فقد يئست من زوجها الذي قتل آمالها وحطم كل المعاني الجميلة في داخلها، أثاث البيت ،وحتى األبواب لم تسلم من شراسته .لم يبق لها في البيت سوى غرفة واحدة تتحصن فيها هي وأوالدها من شر الليل المرعب الذي يقضيه زوجها مع رفقة السوء. في ليلة بائسة اجتمع زوجها مع رفاقه في مجلس من مجالسهم، وكان من الطبيعي أن يحدث ما ال يحمد عقباه في نهاية هذا المشهد .أخذت بناتها وولديها إلى الغرفة وأقفلت الباب .مضت الساعات .نام األوالد وبقيت وحدها .مع هزيل الليل الدامس وعند الساعة الثالثة ارتج باب الغرفة وقد حال بينها وبين زوجها الذي يصرخ “افتحي الباب” فتجيبه “لن أفتح”! استيقظ األطفال .لم يصمد الباب كثيراً فقد حطمته ثورة زوجها العارمة .دخل الغرفة وفي عينيه الجاحظتين شعلة من الغضب فانهال عليها وعلى أوالدها بالضرب بكل ما تناولته يداه حتى تمزقت مالبسها .وقعت العصا من يديه وانكسرت على رأس ولدها فالتفت يمينا ً ويساراً ولم يجد سوى الطاولة فهوى بها على رأس الصغيرة فإذا الدماء تنفجر من رأسها صرخت
وف����ي ي����وم من األيام أخذت ثيابه كالعادة لتغسلها
تصوير :محمد معاوية 11
بأعلى صوتها مستنجدة بمن قد يسمعها من الجيران الذين باتوا في بيوتهم هاجعين ،لكن ال مجيب وال معين! أسرعت إلى الثالجة لتخرج قطعا ًمن الثلج لتضعها على رأس ابنتها وتربطه ولكن ال فائدة فال تزال الدماء تسيل من جرحها كسيل عارم. (هللا أكبر .الصالة خير من النوم) تلك النداءات الروحانية التي كانت تتردد من المسجد المجاور في أجواء ذلك الموقف العصيب. خرجت من المنزل تجري من هول المصيبة بال شعور .بال حذاء .بل بال حجاب ،طرقت باب الجيران فخرج جارها بثياب النوم وأخبرته بما جرى فجرى إلى المنزل وجرت وراءه ،وإذ بفلذة كبدها يسبح في دمائه فحمل إلى المستشفى ليبقى تحت العناية لمدة ثالثة أسابيع .وتأتي الفاجعة التي تجرعت مرارتها على مدى األيام إذ يقرر األطباء أن ابنها قد اختل عقله من جراء الضربة .كان هذا الموقف بمثابة السهم الذي أصاب مهجة الفؤاد. بعد شهرين خرج ابنها من المستشفى عالة عليها في المنزل. فكيف عساه أن يكون لها رداء يعينها على مصائب الحياة؟ ماذا تفعل وقد ضاقت عليها الدنيا بما رحبت ،لكنها مع هذا كله لم تزل تسلي نفسها بزوال المحنة وانكشاف الغمة فلكل هم فرج، ولكل ضيق مخرج... دعت هللا تعالى أن يقبض عليه ويسجن .وبعد أسبوع من دعائها المتوسل قبض عليه رجال األمن ليقضي عقوبة السجن لمدة عامين. بدأت معاناة أخرى مع أوالدها الصغار وأسئلتهم المتكررة بال كلل وال ملل :أين أبي؟ لماذا قبضوا عليه؟ لماذا دخل السجن؟ فال تجد لتساؤالتهم جوابا ً إال أن تقول بكل سذاجة :هذا جزاء الذي يطيع الشيطان! كانت تزوره في السجن .وفي أحدى الزيارات طلب أن يرى ولده الصغير في الزيارة القادمة. لبت طلبه وليتها لم تفعل! فها هو ولدها الصغير يسألها بكل براءة وهم في طريق العودة إلى المنزل :لماذا ال يأتينا أبي في المنزل
فتتردى أحوالهم المادية بفصله من وظيفته
12
مثل والد الجيران؟ لماذا يضعون أبي خلف الشباك الحديدية ؟ كانت أسئلته تنزل على قلبها كالسكاكين فال تجد لها جوابا ً إال الصمت بكل ما يحويه من ألم وحزن! في السجن كان زوجها قد ابتعد عن رفاق السوء ومجالستهم وتغيرت أحواله وسبحان مغير األح��وال ،كانت مسرورة برجوع زوجها إلى طريق الصواب ،ورب ضارة نافعة. بعد انقضاء المدة خرج زوجها من السجن ،محافظا ً على الصلوات متمسكا ً بالخلق والفضيلة ولما كان فقد وظيفته األولى بدأ بالبحث عن وظيفة أخرى .وبعد جهد متواصل عثر على وظيفة مناسبة. كانت تظن أن زوجها عاد إلى رشده وأقلع عن المخدرات، لكن حدث ما لم يكن بالحسبان فقد تجمع حوله رفاقه السابقون ولم يبرحوا حتى استدرجوه بأالعيبهم إلى اإلدمان من جديد. وما هي إال أيام ويفصل زوجها من الوظيفة الجديدة فتتردى أحوالهم المادية بفصله من وظيفته الجديدة من جهة وإدمانه المخدرات من جهة أخرى .وقام ببيع معظم أثاث المنزل بل وحتى أدوات المطبخ طمعا ً في الحصول على المخدرات التي اَنسته نفسه وأوالده ومع هذا كله لم تكن هذه األموال لتشبع شراهته في تعاطي المخدرات فكان البد من ثمن أغلى .كان في الواقع في عداد األموات فيا ليته يموت فتستريح. فماذا كان الثمن يا ترى؟ كان الثمن ابنتها الصغيرة ذات األربعة عشر ربيعاً! إذ قام بتزويجها رجالً منبوذاً مصابا بانفصام في الشخصية ،كي يحصل على المهر البالغ بضعة آالف الدنانير. تم له ما أراد فسلب ابنتها مهرها لينفقه على سمومه التي ملكت قلبه ،وقام بتقسيم البيت واستقل بمفرده في قسم وترك لها القسم اآلخر .لم يكن يعيرهم أدنى رعاية أو اهتمام إال إذا نفذ ما بيده فيدخل البيت ويأخذ ما وقعت عليه يده من قوتهم الذي كان يصلهم من المحسنين والجمعيات الخيرية ثم يمضي وقد يغيب أسبوعين مع شياطين اإلنس وهم ال يعلمون عنه شيئاً ،ولم تكن المأساة لتقف عند هذا الحد بل تعدت آثارها إلى األوالد الذين تأثروا بسلوك والدهم السيئ فكان بعضهم يغيب عن المنزل أياما عديدة دون حسيب أو رقيب. هذه هي حياتها البائسة التي ستظل بائسة ألن أوالدها تأثروا بسلوك والدهم وهللا أعلم إذا ما لحق بهم أصدقاء السوء وأصبحوا مدمني مخدرات مثل أبيهم..
أخبارمسرح احلرية مسرحية نغمات سحرية عرض مسرح الحرية في 25كانون ثاني مسرحية نغمات سحرية والتي القت إقباال كثيفا على حضورها من قبل األطفال والعائالت .تحكي المسرحية قصة مدينة جميلة يمضي كل شخص فيها وقته بعزف الموسيقى والرقص .وفي كل سنة يقوم الملك بتنظيم مهرجان موسيقي يدعو فيه الموسيقيين من جميع أنحاء العالم ،في هذه السنة حصل شيء غير متوقع :الناس في هذه المدينة الذين عاشوا حياتهم مستمتعين بعزف الموسيقى والرقص لم يعد لديهم أي عمل للقيام به حتى األطفال لم يذهبوا الى المدارس والمزارعين لم يجنوا أي محصول. أحد وزراء الملك اقترح حال لهذه المشكلة بأن يعمل الرجال والنساء واألطفال في هذه المدينة ليال ونهارا لمدة أسبوع كي يستطيعوا جمع المال الالزم لشراء تذاكر المهرجان .وافق سكان المدينة على هذا الحل النهم يحبون الموسيقى واعترض العازفون ألنه حل غير عادل وبدأوا بعزف نغمات مسرحية للثورة على الملك..
انضموا الى باص الحرية في آذار! سينضم من 17حتى 29آذار 2014طالب ،فنانون ،ناشطون ،وممثلون من داخل فلسطين وخارجها الى المزارعين والرعاة الفلسطينيين الذين يتعرضون لخطر الطرد القسري في ارض أجدادهم .سيتضمن ركب الحرية هذا أعمال إعادة البناء واإلعمار ،نشاطات وفعاليات ثقافية ،جوالت سيرا على األقدام ،ورش عمل تفاعلية ونشاطات ثقافية ،باستخدام المسرح التفاعلي (البالي باك) ،حيث سيقوم أهالي غور األردن وجبال جنوب الخليل بالحديث عن قصصهم وتجاربهم الشخصية في ظل االحتالل والمعاناة والصراع بسبب االحتالل العسكري ونظام الفصل العنصري.
االنتهاء من ورشة التصوير مع األطفال هدفت هذه الورشات الى منح األطفال مساحة للتعبير عن أنفسهم من خالل التقاط الصور واللعب في نفس الوقت. بدأت ورش العمل في الوقت الذي أغلقت مدارس االونروا ولم يكن لألطفال أية أنشطة يقضون وقتهم بها سوى البقاء في المنزل أو الشارع .وعملت الورشات على ملء الفراغ عند األطفال وتعليمهم بعض المعلومات األساسية حول التصوير.
1713
االٔمل يولد من رحم املعاناة عبد العزيز أبو علي العمر 17عام -فقوعه
استيقظت في ذلك الصباح كما في كل يوم ألعيش الواقع المرير، كوني الجئا ً فلسطينيا هجر من موطنه ويعيش في مخيم من مخيمات الالجئين المنتشرة في ربوع الوطن .لكن ذلك اليوم كان أشد وطأة فقد كانت المعركة (االجتياح اإلسرائيلي لمخيم جنين) في أوجها ،فقد اشتقت لنور الشمس الذي لم أره منذ أيام بل أسابيع .استيقظت على صوت الطلقات النارية والمدافع بدال من أصوات العصافير ،وبدال من نسيم الصباح ،لم أشم سوى رائحة المنازل التي أحرقتها األيدي الصهيونية الغاصبة. الكهرباء مقطوعة منذ أيام ،الماء والطعام على وشك النفاذ، والحصار ما زال مستمراً ،ورغم كل ذلك لم أكن وأفراد عائلتي قد فقدنا األمل ،فقد اكتفينا بالجلوس معا ً وسماع قصص أبي وأمي ،حتى أننا كنا نضحك في بعض األحيان ،محاولين إقناع أنفسنا بأنه ليس هناك ما يدعو للقلق ونسينا حقيقة أننا قد نقتل في هذا المنزل في أية لحظة. حلت الظهيرة ،وكما تعودنا في كل يوم يفك الحصار لمدة ساعة يسمح بها للناس بالخروج من منازلهم ليشتروا قوت يومهم، وليتزودوا بما يستطيعون من الماء والطعام ،ولكن ما فائدة هذه الساعة وأبي لم يكن قادراً على الذهاب إلى العمل منذ بداية المعركة ،وال يملك من المال شيئاً ،ولكننا دهشنا ألنهم لم يسمحوا ألحد بالخروج ،حتى أنه بدالً من ذلك اشتد صوت نيران المعركة على نحو غريب ،فشعرنا أن شيئا ما سيحصل ،ومما زاد الطين بلة أننا سمعنا صوت النيران يقترب ،فعلمنا أن جيش االحتالل
انضم أبي وأخوتي االثنين إلينا ،وبدأنا بالدعاء ،فإذا بأمي تدعو هللا بأن يهطل المطر ،فقلت باكيا “لكننا في منتصف الصيف يا أمي” ،تبسمت وقالت “ال تخف فاهلل على كل شيء قدير”. ألسنة اللهب تقترب ،ونحن ننتظر الموت المحتوم ،وإذ بمياه ندر ما مصدرها ،فبدا أن هللا قد استجاب غزيرة تقتحم البيت ،لم ِ لدعواتنا فبدأنا بالصراخ وحمد هللا على نعمته .خمدت النيران التي بدت أنها لن تخمد أبدا .كنا نبكي من شدة الخوف فأصبحنا نبكي من شدة الفرح ،وبعد أن أرهقنا من شدة التعب ،غلبنا النعاس جميعا ونمنا. استيقظنا في اليوم التالي على صوت الجيران ينادونا “إذا ما زلتم على قيد الحياة فاخرجوا ،لقد انتهى الحصار”! “أخيراً” قلت في نفسي .علمت أن معاناتنا قد انتهت وأن ذلك اليوم المرير قد انتهى ،فقد خرجنا من بين براثن الموت المحتوم، شعرت بأن األمل في الحياة قد تجدد ،وأنه هناك فرصة أخرى، فقد انجلى ذلك الليل ،وانكسر الحصار .خرجت ووالدي وإخوتي، لنجد جميع سكان الحي متجمعين حول المنزل وينظرون باستغراب إلينا ،وكأنهم ال يصدقون أننا ما زلنا على قيد الحياة، وإذ برجل يقول “حمد هلل على سالمتكم ،انتم محظوظون ،أحدى الدبابات اإلسرائيلية قد مرت فوق أنبوبة المياه الرئيسية للمخيم فحطمتها عن طريق الخطأ وفاضت مياهها عليكم”! اليوم قد بلغت السادسة عشرة ،مضى عشر سنوات على ذلك اليوم ،وها أنا أعيش وسط عائلتي ،يرسم ك ٌل منا مستقبال له ،فقد كتب لنا عمر جديد وحظينا بفرصة أخرى ،وأصبحت كل تلك اللحظات العصيبة ذكريات ال تنسى!
قد استدرج الفدائيين إلى الحي الذي نعيش فيه. شعرنا بالخوف والهلع ،فقد أيقنا بأنه يمكن في أي لحظة أن تخترق الطلقات النارية جدران المنزل الضعيفة ،أونصاب بإحدى القذائف النارية ،أو أن يهدم المنزل على رؤوسنا .استمر دوي المعركة حتى غروب الشمس وكان الكثير من الرصاص قد أصاب المنزل ،وأتلف بعد قطع األثاث إال أنه لم يصب أيا ً منا .كان أملنا أن تهدأ المعركة بحلول الليل ولكن حتى الظالم الدامس لم يوقف تلك المعركة. بينما كنا جالسين نفكر بما سيحل بنا ،وإذ بالنافذة الخشبية تتحطم، وألسنة اللهب تلتهم الستائر ،لقد كانت قذيفة نارية ملتهبة ،بدأنا بالصراخ والبكاء ،صرخ أبي قائال “أحضروا كل ما لدينا من مياه” لم يكن سهال علي كطفل في السادسة من العمر رؤية كل هذا ،فجلست في زاوية المنزل محدقا ً بهم بينما يعملون بمحاوال ٍ ت بائسة إلخماد الحريق ،علمت أمي بأن قوارير المياه غير كافية إلطفاء السنة اللهب فقامت بسرعة بإحضار مجموعة من البطانيات وغمرها بالمياه ،ثم بسطتها على شكل دائرة فجلسنا داخلها آملين أن تمنع البطانيات المبللة النيران من الوصول إلينا ،ورغم محاوالت أبي وإخوتي إال أن المياه نفذت والنار ما زالت مضرمة ،سار أحد إخوتي باتجاه الباب يود الخروج ،فصاح به أبي “إياك أن تخرج” فرد أخي باكيا “فليقتلوني برصاصهم فذلك أفضل من أن أحرق حياً” ذهب أبي وأحتضنه وقال “ال تخف سنعيش يا بني ،فقط ال تخرج”.
تصوير :براء شرقاوي 14
15
على مر الزمان أسيل أبو سالمة العمر 16عام -فقوعه الشمس تبدأ بالغروب ثانية بعد ثانية ،وتأخذ معها كل اليوم الذي مضى بمره وحلوه ،وكأن شيئا ً لم يكن وها أنا أبدأ بالجلوس مع كتبي وأوراقي ،التي أنشغل بها كل يوم في مثل هذا الوقت عندما يكون البيت ساكنا ،وأستطيع أن أكتب كل ساعة قضيتها في يومي .مع أنني لم أتجاوز الرابعة عشر من عمري إال أنني تعلمت أشيا َء كثيرة من جدي في الحياة .ذهبت اليوم كما في كل يوم الى المدرسة .ال يزال بعض الطالب يكرهونني في الصف ربما لتفوقي في الدراسة ،ال أعرف السبب ولكن ال يوجد شيء آخر أحسد عليه غير ذلك .فأنا من أسرة متوسطة الحال ،نعيش كل يوم بيوم براتب شهري لعائلة مكونة من سبعة أفراد ،لكن طموحي أكبر من هذا كله ،واألهم أن جدي العجوز الذي بلغ السبعين من عمره يساندني في إكمال تعليمي واجتهادي .لدى جدي منجرة صغيرة يعمل بها يستيقظ من السابعة صباحا ً للعمل وكسب الرزق .في يوم من أيام العطلة المدرسية ،طلبت من جدي أن أذهب معه الى المنجرة ألساعده وأجني فائدة ما .وافق جدي وذهبنا في اليوم التالي صباحاً ،فتحنا المنجرة سويا ً ونحن ندعي بالرزق من الصباح في هذا اليوم الفضيل ،بدأ جدي في العمل وهو يعلمني على أنواع الخشب وعن المنجرة وعملها، ورحت أنظر من حولي الى كل األشياء وأميزها عن غيرها. لفت نظري صندوق خشبي قديم فاقتربت عليه وفتحته .وجدت به أشيا َء قديمة قد لفها الغبار ،وكأنها هناك منذ سنين طويلة، فتناولت طائرة كانت موجودة داخل الصندوق ،ألوانها جميلة ولكنها متسخة .أخذتها وذهبت لجدي فعندما نظر إليها ،صمت قليالً وذهب خياله بعيداً فقلت له“ :لقد وجدت هذه الطائرة في هذا الصندوق ،لمن هي؟” فضحك ضحكة خفية ،وقال“ :يا مازن هذه الطائرة لي صنعها أبي عندما كنت في مثل عمرك .أهداني إياها وقال لي حافظ عليها مثل أي شيء غال على قلبك .يا مازن هذه الطائرة لها قيمة كبيرة عندي” .بدأ وهو يتكلم عنها ،يمسح الغبار الذي عليها ويضحك ،وأنا أنظر اليه بتمعن وشعرت أنه رجع طفالً صغيراً مثلي ،يكاد أن يلعب ويفرح كأنه لقي شيئا ً نادراً أن يلقى أحد مثله. حدثني جدي عن قصة هذه الطائرة وكيف صنعها مع أبيه، وعندما انتهى من حديثه عنها ،مدها لي ،وق��ال“ :هي اآلن لك فحافظ عليها كما حافظت عليها أنا ،وأعطها ألوالدك في المستقبل ،هي ليست مجرد طائرة من الورق ،لكن لها في قلبي معزة كبيرة ،فأرجوك أن تصونها” .أخذتها منه ،وعندما ذهبت الى البيت جلست في غرفتي وحضنتها وبدأت أتذكر كالم جدي
16
عنها .دخل أبي على الغرفة ينادي علي ولكني لم أسمعه ،كنت أضحك وكأن أحداً أهداني عمره فهذه المرة األولى التي يهديني أحداً هدية قيمة لهذه الدرجة وأفرح بها ،فحالتنا ال تسمح بأن نقوم بإهداء بعضنا الهدايا فنحن نهدي البعض االبتسامات التي تجدد حياتنا وتجعلنا على قيد الحياة! أخبرت جدي في اليوم التالي أنني أريد أن أطير الطائرة في الهواء وألعب بها ،وأريده أن يكون معي ،فرفض في البداية قائال أنه عجوز وأن علي الذهاب مع أصدقائي لنلهو بها سوية. لم أوافق وأصررت حتى وافق وقال لي“ :في المساء سنذهب معا لجلب الماء من البئر مثل كل يوم يا طفلي العزيز ،فأحضر الطائرة لنلعب بها هناك” .ذهبنا في المساء الى البئر الذي كانت تجلب العائلة الماء منه ،فقال جدي سنعبيء الماء في الدلو ثم تلعب بالطائرة .ساعدته في وضع الماء في الدلو وسحبناه بالحبل المعلق به ،فنحن اعتدنا على الحضور هنا لجلب الماء منه ،ألن كل عائلة في هذه القرية لديها مثل هذا البئر الذي هبّت عليه ماء
ٌ ورزق من هللا ،فيذهبون اليه كل يوم ويحضرون الماء. السماء أذهب مع جدي العجوز ألنه ال يستطيع أن يحمله لوحده وفي بعض األوقات يذهب معه أبي وأخي الصغير محمد. عندما انتهينا من احضار الماء قلت لجدي أني سألعب بالطائرة قليالً ،فقال أنه سينتظرني ويجلس بجانب البئر حتى أنتهي، فذهبت أطير الطائرة وأركض ،وأضحك ،وأنادي على جدي لكي يشاهدني كيف أطيرها ،وجدي يضحك ،ففرحت كثيراً باللعب بها وفجأة وأنا أسحبها وأركض الحظت أنها لم تكن تسحب ،فنظرت اليها من بعيد فكانت قد علقت بعامود الكهرباء. بدأت أسحبها بقوة دون فائدة حتى تمزقت ،فأتى جدي ويقول كيف حدث هذا يا مازن ،فقلت له ما حدث ورحت أبكي وأقول: “لم أحافظ عليها مثلما قلت لي ،أنا طفل فاشل وال أفيد بشيء بهذه الحياة ،فهذه كانت لها قيمة كبيرة عندك واآلن ذهبت وأنا السبب
في ذلك ،سامحني يا جدي أرجوك أن تسامحني”! ضحك وكأنه يضحك من أجل أن ال يشعرني بالذنب ،وقال“ :حسنا ً سنصنع أنا وأنت طائرة أخرى ،تكون هدية مني لك بمناسبة تفوقك في الدراسة وحصولك على المرتبة األولى”. كيف لجدي أن ينسى طائرته؟ ال أعرف في الحقيقة ،لكن أنا ال أنساها في حياتي وسأهدي هذه الطائرة التي قمنا بصنعها ألوالدي في المستقبل كما قال لي ج��دي ،فأنا وعدته بذلك وسأحافظ على وعدي له .بعد شهرين توفي جدي وحزنت عليه كثيراً ،وبكيت ليال طويلة عليه .أذهب أنا والطائرة الى بئر الماء ،ونجلس ونتكلم مع بعضنا ،وصرت أذهب في أيام عطلتي الى المنجرة وأساعد ابن عمي الكبير الذي أستلم المنجرة من بعد جدي ،وأنا وعدت جدي أن أحافظ على دراستي وأن أكون دائما ً من المتفوقين وسأفعل ذلك ،وأعدك يا جدي بالحفاظ على طائرتنا
تصوير :براء شرقاوي 17