عندما أبكاني حربي و حكايات أخرى )من السيرة الذاتية(
عندما أبكاني "حـــــربي"..
2
خروج الجنجليزمن فلسطين عام ،48أواجنتهاء الجنتداب البريطاجني، بلغة الكبار والمتعلمين من أهل الحاره" ،حارة الواد" في القدس القديمه ،كان يعني ،في ذلك اليوم بالذات ،بالنسبة لمعظمهم: عــــودة "حــــربي". و"حربي" هوالبن الثاجني في ترتيب أبناء "إم خضر" العشره. وعودة "حربي" ،في هذا الوقت بالذات ،تعني بالنسبة لها الكثير، خصوصا بعد مصرع إبنها البكر"خضر" ،أبو سعيد ،في حادث اجنفجاراللغم تحت القطارالذي كان يقوم بقيادته. كان "سعيد خضر" ،وكنا جننطق اسمه كامل لنميز بينه وبين "سعيد" آخر من أقراجننا في الحاره ،قد حدثنا طويل عن بطولت عممه "حربي" ،الذي التحق منذ سنوات طويلة بالجيش البريطاجني ،وعن أسفاره ومغامراته والحروب التي خاضها. تارة جنسمع أجنه كان يحارب "الطليان" ،وأخرى أجنه حارب "البولشفيك" ،وثالثة أجنه اشترك في معارك "العلمين" ضد اللمان. وقد ساورجنا الشك في صحة المعلومة الخيرة ،كما أصابنا الستهجان والستنكار لموقف ومسلك بطلنا ،حيث أجننا كنا على يقين من أن اللمان هم من أصدقاء زعيمنا المفدى المفتي"الحاج أمين" الحسيني، كما كان آباؤجنا يرددون .فكيف يحارب "حربي" مع الجنجليز ضد اللمان ،الذين كاجنوا في طريقهم إلى مصر ثم إلى فلسطين ليخلصوجنا من اليهود والجنجليز مرة واحده؟ لكن"سعيد خضر" سرعان ما يستطيع أن يتجاوز ذلك المطب ،بروايات أخرى جديدة ،تشهد ببطولة عممه الــ"صاجن ميجرحربي"** ووطنيته وشدة بأسه. 3
لم يكن أحد منا قد رآه .فقد اختفى من البلدة قبل ميلدجنا ،أجنا و"سعيد" و"سعيد خضر" وعمه "إبراهيم" وعمه الصغر"داود" ،البنين التاسع والعاشر في ترتيب أبناء "إم خضر" .وبالرغم من أجنني ل أذكر أن أحدا من أهلي ،أو حتى من أهل الحارة ،قد أتى على ذكر شيء يتعلق بـ"حربي" من بعيد أو من قريب ،مما يؤكد أهميته ومكاجنته ،إل أن ذلك البطل الغائب ،الحاضر في ضمائرجنا ،ظل يداعب خيالتنا. ينسج "سعيد خضر" عنه القصص البطولية الخارقة التي تقترب من الساطير .ويؤيده كل من "إبراهيم" و"داود" ،أصغرأشقاء البطل، وجنميل كلنا إلى تصديق كل تلك الروايات لجنها كاجنت تدغدغ أشواقنا إلى البطولة ،التي سوف تنقذجنا من واقع أليم كنا جنعيشه ،ومستقبل غامض كنا جنسمع كبارجنا يتمتمون بويلته ،ول يسألون ا رد القضاء بل يسألوجنه اللطف فيه. إلى أن تردد فجأة في أرجاء الحارة خبرعن قرب عودة "حربي". قال لنا "سعيد خضر" ،في الشهرالسابق ،أجنه لو قدر لعمه "حربي" أن يشارك في معركة "القسطل" لما خسرجناها ،ولما استشهد "عبدالقادر الحسيني". وعندما كنا جنتساءل عن سبب كل هذا الغياب ،وعن ما يحول دون عودته ،بعد أن اجنتهت الحرب العالمية الثاجنية ،التي كاجنت سببا في غيابه .أل يدرك أجننا بأم م س الحاجة إليه الن؟ كان"سعيد خضر" يبررذلك ،بكل بساطة ،بعدم استغناءالجنجليز عنه. ______________________________________________________ )**( - Major Sergeanرتبة عسكرية بريطانية) صول( ،وتلفظ بلهجة العمال العرب العاملين مع الجيش البريطاني " :صاجن ميجر"
وأصبحنا ،جنحن الصغار ،جننتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم ،الذي سوف يخرج فيه الجنجليز ،تاركين لنا"حربي" .فهوالمحارب القديم المغوارالذي ل يشق له غبار ،والذي سوف ينضم إلى "المجاهدين" الثوار ،أو يقودهم في معركة الدفاع عن القدس المحاصرة والتي 4
تتعرض للقصف ،ليل جنهار ،بمدافع "الهاون" و"المورتر" من الخارج ،ورصاص القناصة من الداخل ..من حارة اليهود الكائنة داخل أسوار القدس القديمه. ومما ل شك فيه أن "حربي" قد سمع بنبأ مصرع أخيه الكبر "خضر" ،سائق القطار ،الذي راح ضحية اجنفجاراللغم اليهودي من تحته .وهذا مما سوف يجعله يبلي أحسن بلء للخذ بثأر أخيه، إضافة إلى دوافعه الوطنية الخرى للقتال والتحرير. كنت أتصور"حربي" دائما ،مستوحيا ذلك من أحاديث "سعيد خضر" ،كما لو كان "صلح الدين اليوبي". و كاجنت أحاديث مدرسي التاريخ الذين تعاقبوا على مر سنين دراستي البتدائية الستة ،كفيلة باستكمال تفاصيل الصوره .لكنني ،مسايرة للزمن ،كنت أألبسه زي "المجاهدين" الذين يتكرر جنشر صورهم ،في جريدتي "الدفاع" و"فلسطين" اليوميتين ،بملبس القتال .أقرب ما يكون إلى شكل القائد "عبد القادرالحسيني" ،أو القائد الشيخ "حسن سلمه" ،مثل .بكوفيته وعقاله ،وسترته "الكاكية" ذات الجيوب الربعة ومن فوقها "السلاحلك" ،الذي يتخذ شكل "علمةالضرب" على صدره ،وقد تعددت طبقاته المكتظة والمرصعة بـ ـ "الفشك" النحاسي اللمع .هذا إلى جاجنب "السمْنجه" وبعض قنابل الـ"الميلز"، وكذلك "الفرد" الـ"بارابيللو" اللماجني المتدلي من حزامه كما أبطال أفلم "الكاوبوي" التي كاجنت تعرضها سينما "ريجنت"،الكائنة خارج أسوار بلدة القدس القديمة ،والتي لم جنعد جنستطيع الوصول إليها الن. ولم أجنس ،وهوالهم ،تلك السراويل الـ "ْبريتـشز" الضيقة من تحت
5
الركبتين ،والمنتفخة الفضفاضة عند جاجنبي الفخذين .أما "المرتينه"، فهي"الجنجليزية" طبعاا ،بالرغم من حديث القران العارفين ،أمثال "سعيد خضـر" ،عن سمعة المرتينة "الا للمـــاجنيمـه" التي لتخطئ الهدف .ول بأس من أن يظهر في بعض الحيان ،حسب متطلبات 6
المعركه ،متأبطا الـ"ْستـْن لجْن" ،أو حامل مدفع الـ "ْبـرن لجْن" على كتفه. ومعاذ ا أن أجنسى ما أكده "سعيد خضر" عن طول عمه "حربي" الفارع ،الذي سوف يضطره إلى الجنحناء عندما يعبر من تحت قوس مدخل الحوش. في اليوم المحدد لوصوله ،كاجنت العصاب مشدودة. هناك حركة غيرعادية في حوش "الخرمنده" المطل على "هوسبيـس النمسا" ،الذي يقع مدخله عند ملتقى "طريق اللم" القادم من "باب السباط" ،والمؤدي إلى كنيسة القيامه بعد أن يلتحم مع "طريق الواد" القادم من "باب العمود". "إم خضر" ،القروية التي يحبها البعض ويحترمها البعض الخر ويخشاها آخرون" ،إم الرجال" ،مثل أم العروس .تروح وتجيء بسرعة بثوبها الفلحي الجميل ،وقامتها القصيرة المشدوده دوما، كأجنها تتمرد على قصر قامتها ،ول أحد يعرف إن كان هناك ما يستدعي فعل هذه السرعة في الرواح أو المجيء. حتى "أبوخضر" ،الرجل العجوز الهاديء ،الذي لم جنكن جنشعر بوجوده إل عند عودته إلى الدار ،عندما يتنحنح ويصيح بأعلى صوته المبحوح :يا أل ..يا ساتر! كان ل بد من صيحته هذه كلما هم بالدخول من الباب المشترك، لكي"تـْنظل ْ ب" زوجة ولـدـه "الدمعاس" ،اليهوديه ،التي كان يحلو لها أن تتواجد في وسط الدار "مزملطه" مكشوفة الراس .هذا بالرغم من أن "شوشاجنا" قد أقلعت عن عاداتها تلك ،منذ أن اشتدت الهجمات اليهوديه .فقد أصبحت تحرص على إرتداء غطاء الراس ظنا منها ووهما أن عيون الجارات قد بدأت تنظر إليها ،كيهودية ،بتوجس وارتياب. والشاهد أن سلوكها الجديد قد بدأ منذ أن جنهرتها جارتنا الدايه "إم صالح الرافعي" ،عندما ضبطتها في أحد اليام القريبة ،وهي تطل مكشوفة الراس من تحت قوس مدخل الحوش إلى الشارع باحثة عن 7
طفلتها البكرية "عربيه" .عندها ،ما كان من "شوشاجنا" إل أجنها سارعت بتغطية رأسها بذيل فستاجنها ،كاشفة بذلك ،دون أن تدري، عن مؤخرتها ذات الـكلسون زهري اللون. في ذلك اليوم ،كان "أبوخضر" يدق الرض بعكازه بشكل مختلف، وكأجنه يعلن عن حالة الطواريء ،أو يستعجل العد التنازلي الذي يقترب ببطء من ساعة الصفر .ل يكاد يدخل الدار ،حتى يعود أدراجه خارجا من الحوش متجها إلى وسط الشارع .وهناك ،مقابل مدخل "سبـيـس النمسا" ،ينتصب واقفا وهو يظلل عينيه بكفه ،جناظرا في إتجاه "باب العامود" .وهكذا يعاود "أبوالعز" ،معلم "قهوة الباسطي" ،محاولته لجلس "أبو خضر" على أحد كراسي القهوة في مكان مشرف على الطريق .ويكرر تأكيده أن "الدمعاس" قد ذهب ومعه أخوه "أبوعمر اج" لحضار "حربي" وسرعان ما يصل الخوة الثلثه ،فليس هناك ما يدعو إلى هذا القلق. وبالرغم من أن خروج الجنجليز كان يعني أيضا دخول "الجيش العربي" إلى القدس ،وبقية الجيوش العربية إلى سائر الراضي الفلسطينية لتحريرها .لكن "حربي" استطاع أن يستأثر بلهفة أهل الحارة في ذلك اليوم .وكنت أجنا بالذات أكثر أقران الحارة تعلقا بتلك اللحظة ،بذلك المل الذي يجسده البطل السطوري المنتظر .وكأن القدر قد امدخره ،ليأتي إلينا في الوقت المناسب. حتى اسمه" ،حربي" ،سبحان ا ،كان يوحي بالدور البطولي الذي سوف يلعبه ..محارباا اومنقذاا ومخلمصا. وماهي إل دقائق ،حتى جاء "أبوالعمراج" يحجل بخطى واسعة ل تتناسب مع قدمه القصر من الخرى .قال من خلل لهاثه أن أخاه "حربي" قد وصل .ولكن بمجرد دخوله من "باب العمود" ،استقبله صاحب "قهوة زعتره" ،وأصر أن ل يتركه إل بعد أن يستريح ويشرب قزازة مشروب الـ"سيفون" الساقع عنده .وبعد ذلك جاء "أبو فايزالعمشي" و حلف عليه بالطلق بالثلثه لتناول الـقهوة "الفرجنساوي". 8
ساد الهرج والمرج في المنطقة كلها .وتجمع من يعرف "حربي" ومن ل يعرفه ،بحيث أيقنت أجنه ل مكان لي بين هذه الجمهرة المحتشدة من الناس ،وأن الجدى أن أراقب المشهد من أحد شباكينا المطلين على الحوش ،وبالتالي على الشارع حيث كان يقف "أبو خضر" ول يطيق الجلوس. وفي دارجنا ،فوجئت بجاراتنا ،عن بكرة أبيهن ،يتجمعن حول الشباكين ،فلم أجد مناصا من الصعود إلى سطح الدار ،حيث ليزاحمني هناك أحد. اجندلعت أصوات الزغاريت .ثم ظهرت كتلة بشرية مترا م صة مقتربة مهروله .كان يبدو أجنها تحيط بالقادم مرحبة مهلله .ولشدة خوفي من أن تراجني ،وأجنا أقترب من حافة السطوح المطل على الحوش ،جارتنا "ستي إم عارف" ،الدايه التي أولد أ ت على يديها ،لم أستطع أن أتبين أو أميز"حربي" من بين تلك الكتلة البشرية .وبالفعل ،لمحتني "ستي ام عارف" ،وكأجنها كاجنت متربصة في اجنتظاري ،واجنهالت لعناتها علي وعلى "اللي سحبتني" ،لفرط حبها لي وحرصهاعلى سلمتي: ك يا عكروت! ..لولل ْلكنني لم أستسلم .ووجدتني أقفز إلى سطوح الجيران المشرفة على دار "أبو خضر". وما هي إل ثوان ،حتى تحول الستقبال العائلي إلى مظاهرة سياسية وامتل وسط الدارالعلوية بالمستقبلين والمهنئين والهاتفين بحياة مفتي فلسطين" ،الحاج أمين": حج أمين ـعززك دام.. .. .. ..و ..حج أمين ل تهتم..شبابك شمريبة دم.. إلخ.. .. .. .. .. .. في تلك اللحظات ،وجدتني أردد بيني وبين جنفسي أبياتا حماسية من الشعر ،قام بتحفيظها لنا مدرس الخط العربي ،الخطاط الشهير طيب الذكر "الستاذ حسام اشتميه" ،الذي كان يحرص أثناء حصة الخط على أن يعلمنا أشياء أخرى كثيرة عن المثل العليا والصدق والوفاء وحب الوطن .كان أستاذجنا شديد الولع بالشعر والموسيقى ،ل يفتأ 9
يستظهرأمامنا قصائد حماسية بأسلوبه الذي كان يستهوينا ويبهرجنا، ومنها قصيدة إسمها "حطين". تخيلت جنفسي وأجنا أعبرعن ترحيبي بالبطل وأشد اجنتباه الجميع بينما أجنا ألوح بيدي التي تحمل "العلم العربي"* ،وأردد بأعلى صوتي ماكنت قد حفظته من أبيات القصيدة: .. .. .. .. .. هاتي "صلح الدين" ثاجنية فينا وجددي حطمين ..أو شبه حطمينا تلر ْ ي أسود الغاب تمخر في الغوار جحافل تنساب كالعارض المدرار! ** لكن صوتي خرج على شكل آهة متحشرجة لم يسمعها أحد غيري. فلقد رأيت "حربي". ولم يغمض لي في تلك الليلة جفن. شعرت أمي بأن شيئا ما قد ألم بي .هرعت تتفقدجني وتتحسس كعادتها جبيني ووجهي. عندها أحسـس أ ت بكفها المبتل بدموعي .وما كادت أن تتساءل عما يوجعني ،حتى اجنفلت بكائي المكتوم بصوت عال. وهيهات أن أستطيع أن أصوغ إجابة على تسؤلت أمي. _________________________________________________________________ )*( "العلم العربي" هو المسم الدارج في حينها لما هو معروف ال ن بالـ "الراية الفلسطينية" ،وذلك مما كا ن يؤكد إيماننا وحرصنا على قوميتنا العربية. )**( البيات من قصيدة "حطين" الشهيرة للشاعرالسوري"خيرالدين الزركلي" .
في اليام التالية ،كنا جنرى رجل قصيرالقامة ،محدودب الظهر ،يكاد المرء ل يرى عينيه الغائرتين في وجهه من تحت حاجبين خفيفين تكاد ل تراهما أيضا ،يخرج من دار "إم خضر" ليأخذ مكاجنه على أحد كراسي "قهوة الباسطي" المصفوفة على الرصيف. يجلس وحيدا صامتا ل تدري في أي اتجاه ينظر. 10
أما "سعيد خضر" فلم جنعد جنراه في حارتنا إل مطأطيء الرأس ،على عجلة من أمره .ذلك عندما ترسله والدته في مهمة لجدته "إم خضر". يحاذرأن يراه "سعيد الباسطي" ،المشاكس الذي دأب على أن يبادره ساخرا: إيش طابخه سمتك "إم خضر" اليوم؟فيرد عليه أخوه "خميس" ،بأداء مسرحي ممطوط موغل في السخرية: "طـــــــاجن" ميــــــــجر!وينفجر بقية القران مقهقهين .وأشاركهم أجنا الضحك إلى أن تمتلئ عيناي بالدموع. لم يعد خافياعلى أحد أن الـ"صاجن ميجر حربي" ما كان سوى ذلك العامل المسكين الذي احدودب ظهره من أثرالجنحناء خلل خدمته الطويلة عامل في أحد مطابخ أحد معسكرات الجيش الجنجليزي المحتل. *
*
11
*
العـــــــــازف )من أوراق قديمه(
تعود أ ت ،لفترات متقطعة ،متباعدة ،أن أدون خواطري ،كما اتفق ،كلما وجدت سبيل إلى ذلك. كما تعودت ،بين حين وآخر ،أن أطل على بعض ما كتبت. 12
أجدجني في بعض المرات أسخر من خواطر معينة ،فأتخلص من بعض الوراق .وفي مرات أخرى،أجدجني متفقا مع تلك الخواطر فأحرص على تصنيف وعنوجنة و"تخزين" ما تبقى لي من بعض الوراق الخرى ،ظنا ،أو تكهنا مني ،وا أعلم ،أجنني سوف أجد لبعضها مكاجنا فيما أجنا مقبل عليه الن..مشروع تدوين سيرتي الذاتية. وحسبي في ذلك ،الن ،هو صديقي اللكتروجني الشهيربــ"الحاسوب"، الذي اختصرالمستحيلت الثلثة** إلى مستحيلين فقط ،وغدا هو "الخمل الوفي" ،الذي أثبت وجوده بجدارة ،وصارهو مستودع أسراري وـسـجمل خواطري ،الذي ل يكل ول يمل ،والذي أصبح وبات وما بـرح يستجيب لضربات أصابعي على أزراره ،فيقوم بتخزين أواستدعاء أو حذف أو إضافة أو تأجيل أو تعديل أوتقديم أوتأخير كلمات أوفقرات أوصفحات معينة ،مما سبق أن أودعتها فيه ،حسبما يعن لي. مثال ذلك ما يلي: فيينا /النمسا ..الربعاء 27/6/1962 جنحن في بداية الجازة الصيفية للعام الدراسي الخير .ورسالة صديقي وزميل الدراسة النمساوي"يوهان" تقول أجنه سيكون باجنتظاري يوم ______________________________________ ت أ ن المستحيل ةثلةثة )**( كما قال "إبن المعتز" :نتببُتئ ت
الغول والعنقاء والخخيل الوفيي
الحد ،1/7/62،لبدأ العمل ،في مطلع السبوع القادم ،حيث تعودت أن أقضي جزءا من إجازاتي السابقة في العمل كمتدرب في جنفس المكتب الهندسي الذي يعمل فيه صديقي. أما وقد اجنتهيت إلى ذلك القرار المصيري الذي جعلني أبدأ باتخاذ تغييرات هامة في مجريات أمور فرضتها ظروف مختلفة ،ربما يأتي الوقت الكثر مناسبة للحديث عنها بالتفصيل اللئق ،فل بد لي، كبداية ،وإيذاجنا بالبدء في تنفيذ تلك التغييرات ،من إلغاء عادة قضاء الجازة الصيفية في السكندرية كما تعودت في السنوات الماضية. 13
كنت إذن قد عقدت النية على قضاء الجازة كلها بالتدريب في ذلك المكتب الهندسي .ذلك بعد أن أجنهيت إمتحاجناتي النظرية كلها في أكاديمية الفنون التطبيقية بفيينا ،ولم يبق لي سوى التحضير لمشروع التخرج..مشروع "الدبلوم": ذلك المبنى الذي مسوف يقام على إحدى مشارف مدينتي، "القدس" ،يطل على تاريخها ،ويستمد منه طرازه المعماري. يحتوي على مكتبة عامه للكتب ،والمنشورات، والمطبوعات الدورية وغيرالدورية ،بمختلف أنواعها من كل أنحاء العالم .وأخرى للتسجيلت المومسيقية بكل أشكالها .وغيرهما للفلم السينمائية. صالة محاضرات..وصالة "كونسيرت" للعروض المومسيقيه..وصالة للقراءه..وأخرى للمستماع. وصالةعرض مسرحي..وصالة عرض مسينمائي ملحقة بالـ "مسينماتيك". عالم رحب..يتسع لكل ما يمت للثقافة والرياضة العقلية والبدنية بصلة. حلم..مسوف يتحقق يوما ما على أرض بليدي. إنه )كا ن ولم يزل( حلمي في منامي ،ويقيني في يقظتي.. ذلك هو مشروع مبنى "المركزالثقافي الفلسطيني". الحق أجنني كنت على يقين من أن الـهْر "شولتس" ما زال يرحب بعودتي للعمل متدربا في مكتبه الهندسي ،في"فوبرتال" اللماجنية ،في أي وقت. هوألماجني مخضرم ،كان تعاطفه يوحي إلي بأجنه يخجل من ماضيه. كان دائما يحاول أن يؤكد لي )وربما كان يحاول أن يؤكد ذلك لنفسه( أجنه لم يكن سوى "مهندسا معماريا" مجندا في مجال عمله في عهد النازيه. 14
لم أطالبه بذلك ،ول أشعرته يوما ،في واحدة من جلساتنا ،أثناء عملي في مكتبه في الجازات السابقة ،أجنني أشك في براءته مما ينسب عادة لجيله من اللمان. قال لي مرة ،أجنني كنت سببا في إيقاظ أو تجدد معاجناته من"..عقدة الذجنب"! في البداية ،في إجازتي الصيفية قبل الماضية ،كان يظن أجنني يهوديا من "إسرائيل" )!( لقداختلطت المور لديهم .أصبحت فلسطين هي إسرائيل ،وإسرائيل هي فلسطين. ولم تمض ساعات قليلة على اكتشافي هذا حتى أعدت المور إلى جنصابها. حاول تبرير جهله. قال أن أوراقي تقول أجنني من مواليد القدس ،وأن اسمي الثلثي لم يرد فيه "محمد" أو"عبدا" أو "مصطفى" )!( والهم من ذلك هو مظهري وسلوكي القرب ،في جنظره ،لمظهر وسلوك الوروبيين) .كذا!( ثم أكمل بأن المعلومات المتاحة كاجنت تفيد بأن فلسطين لم يكن يسكن فيها أحد عندما بدأت الهجرة اليهودية من أوروبا إليها..سوى بعض قبائل البدو الررزحل. حدثته عن بلدي..القدس العربية ،حيث ولدت في دارعتيقة ورثها والدي عن جده .وما زال حتى اليوم يحتفظ بالـ"كوشان" الذي يثبت ملكيته لها. كأجنه لم يصدق أذجنيه. "ماذا تقول؟!" أقول أن "إسرائيل" قامت على أجنقاض 385قرية عربيةدمرت وأزيلت عن سطح الرض ،ذلك بعد أن طرد اليهود أهلها العرب قسرا وإرهابا .وأقاموا مكاجنها مستوطنات ابتكروا لها أسماء توراتية. 15
هذا من أصل 475قرية عربية فلسطينية كاجنت قائمة قبل عام . 1948 أما المدن فما زالت تحكي تاريخها لمن يهمه أن يعرف التاريخ. معقول؟!!أخذت )كالعادة( أسرد إليه بعض الحقائق التاريخية التي حفظناها ،جنحن معشرالطلبة الفلسطينيين المغتربين ،عن ظهر قلب ،من فرط تردادها. بما فيها من تواريخ ،وأرقام ،وإحصائيات ،وقرارات ل تعد ول تحصى للمم المتحدة....... قلت له ،مثل ،أن "إسرائيل" هي ،منذ بدء تاريخ المم ،الدولة الوحيدة التي أوجدت بقرار .وهو قرار "الجمعية العامة للمم المتحدة" رقم 181الصادر في 2جنوفمبر 1947والذي يقضي بتقسيم فلسطين )العربية أصل و أكلم( إلى دولتين: دولة يهودية ،وأخرى عربية. وبناء عليه فقد تم إعلن قيام "دولة إسرائيل" في 15مايو 1948 وتوالت إعترافات الدول "العظمى" بها .وتم قبول الدولة الوليدة عضوا في "المم المتحدة" ،في 11مايو ) ،49قبول مشروطا بقيام الدولة العربية المذكورة في القرار 181المذكور( ،لكن "المم المتحدة" غضت الطرف عن متابعة تنفيذ قراراتها حتى يومنا هذا..وكأن قراراتها ،كما يقولون ،ليست إل ذمرا للرماد في العيون. كاد أن يتهمني بالمبالغة عندما ذكرت له أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة المعترف بها دوليا بدون أن يكون لها "دستورا" معلنا، وبالتالي"حدودا" رسمية معلنة .وهي الدولة التي تعتبرجنفسها دولة كل اليهود في العالم .وهي ،بما تسميه "قاجنون العودة" ،تضمن لي يهودي في أي مكان في العالم أن "يعود" إليها في الوقت الذي يريده ليحصل على جنسيتها )مع الحتفاظ بجنسيته الصلية( ويتمتع بكامل حقوق المواطنة من الدرجة الولى .هذا ،بينما تعتبر القلية الباقية من 16
المواطنين الصليين ،العرب ،أصحاب الرض الذين ينتمون لفلسطين التاريخية ،مواطنين من الدرجة الثاجنية .أما الغلبية ،وأجنا شخصيا واحد منهم ،فهم لجئون مشردون بالعنف وبقوة السلح الغربي ،محرومون من العودة إلى موطنهم المحتل فلسطين. " ..كفى! كفى! إن معلوماتنا تتناقض تماما مع ما تقول!"ثم يضيف معتذرا: ..عفوا..أجنا أصدقك طبعا .ولكن يبدو أجننا ،هنا ،كنا وما جنزال فريسةلعلم آخر. كان يتساءل دائما عن سرغياب أجهزة العلم العربية وتقصيرها، وعما إذا كان هناك "أجهزة إعلمية" أصلل. كان ل يمل من ترديد سؤاله الذي ل يخلو من سخرية واستنكار: هل تكفي الصدفة البحتة لمواطن أوروبي مثلي ،أن تربطه علقة شخصية بمواطن عربي فلسطيني مثلك ،لكي يعرف ما يحل بكم وما يجري في هذه البقعة من العالم من ظلم؟! ثم أصبح الهر "شولتس" ،بعد ذلك ،يتصيد الفرص ليدعوجني لمشاركته في تناول "كأس" في مكتبه ،بعد ساعات العمل ،وهو يغمز لي مطمئنا بأن مكتبه ل يخلو من الـ* . Apfelsaftومن ثم يأخذ في استعراض ما _________________________________________ )**( عصير التفاح ..المشروب الشعبي الشهير والخالي من الكحول .
تمكن من جمعه من المعلومات ،من مصادرأخرى "موثوق بها". وصار ينافسني في سرد الدلة على تواطؤ الغرب مع الصهيوجنية، وتواطؤ الصهيوجنية جنفسها مع القوى النازية ،والمبريالية .وآخرها ،من منظوره الجديد ،مؤامرة العدوان الثلثي عام . 1956 وأذكر أجنه كان يصرعلى لفت إجنتباهي بإشاراته إلى محاولت أميريكا السافرة لخلفة أوروبا في السيطرة على منطقة الشرق الوسط..ومن ثم العالم أجمع. كان ليفتأ يؤكد لي أن أمريكا لن تترك "جناصر" يهنأ باجنتصاراته وأجنها 17
لن تسمح باجنتشار فكره ،وأجنها سوف تعمل على خلق قناعة عند العرب بعدم جدوى التفكير بـ"الحلم العربي الكبير" أو التفكير بالقضاء على إسرائيل التي "وجدت لتبقى" ،ولتبقي قادرة على أن تحافظ على المصالح المبريالية في المنطقة. كان يحدثني عن "جناصر" بإعجاب شديد .ولم أيخف أن سرإعجابه هو وجه الشبه ،من منظورهم ،ومن دواعي استنكاري الشديــــد أيضا، بينه وبين "هتلر" ،الذي مازال هناك من يجهر بتمجيد جواجنب معينة له ..وهو واحد منهم. وفاجأجني في أحد المرات وهو يرفع كأسه مرددال مقولة: ..سوف جننتصر في النهايه!ذكرجني بأخي "عابد" ،الذي كان ل يمل من استظهار قصائد صديقه الشاعر "صلح جاهين" والتي كنت أطرب لسماعه وهو يردد في ختام إحداها.." ..راح جننتصر في النهاية"! لم يداخلني الشك يوما في أجننا سننتصر ،فقضيتنا عادلة .وشعبنا قد بدأ يتلمس طريقه ،ويبحث عن ذاته .وأخذ يمعن في أمر تشكيل إرادته وإحكام القبضة على أدواته. لكن ما بال الهر "شولتس" يبالغ في محاولته "إبراء الذمة"؟ هل اكتشف أخيرا أن ضحايا النازية ليسوا ،فقط ،هم من عاجنوا من سعير ما أسممي بـ"الهولوكوست" ..و"أفران الغاز" .وأن من ضحاياهم، أيضا ،من يعاجنون مثلنا من جحيم "أفران" الغربة والتشريد خارج بلدهم المحتلة ،ومن الضطهاد والقهر والذلل في داخلها؟ في الصيف الفائت ،عدت من "مكتب الجاجنب" اللماجني مكتئبا ا. وعندما عرف الهر "شولتس" ما حل بي ،بادرجني: ..لن تغادرالبلد! وستبقى هنا وتعمل ،حتى بدون "إذن عمل" أو" تصريح إقامه" .وأما عن المسكن ،فسوف أتدبرالمر بنفسي. 18
*
*
*
ما زلت أتذكر ذلك اليوم ،وذلك الشاب الشقر ،وهو يقلب "وثيقة" سفري بين يديه .يتنقل بها من زميل إلى آخر في "مكتب الجاجنب". أحدهم مط شفتيه في غير اهتمام ،وهو يردد: .. Staatenlos)الصطلح يفيد" :غير معين الجنسية" ،والترجمة الحرفية تعني : "بل وطن"( وآخر أومأ إليه ،بعد أن رمقك بنظرة فاحصة من فوق جنظاراته ،بما معناه: و ما الذي يمنع......؟!وقال آخرر آخر )فهم ل ت ذلك من إيماءاته أيضا ا( بحزم: القاجنون هو القاجنون!عاد الشاب الشقر ليجلس إلى مكتبه. عاد يقلب وثيقة سفرك بين يديه ..يتصفحها..يتفحصها ..ينظر إليك.. يدير قرص حامل الختام مترددا ثم يتنهد .وأجنت تنتظره في توقع ورجاء ،أن يقبض على الختم المنشود. تتذكرعيون المقامرين )على شاشة السينما طبعا ..فأمجنى لك مثل تلك الخبرات!( وهي تتركزعلى قرص "الروليت" أثناء دوراجنه. رقم واحد معمين..هو مفتاح السعادة. وبالنسبة لك ..ختم واحد معين هو مفتاح الفرج. يكاد قرص حامل الختام أن يتوقف ،فتعبث به يد الشاب الشقر المتردد ،ليعود إلى الدوران من جديد قبل توقفه. فجأة ،كمن إتخذ قرارا ،أخذ يبحث في وثيقة سفرك عن صفحة فارغة. يقبض على أحد الختام .وتشعر أجنت بارتياح بالغ. ل لجنك عرفت النتيجة ،ولكن لجنك سئمت الجنتظار.
19
طأْز!* ..إذا لم يكن هو الختم المطلوب ،فليست هي المرة الولى التي أتعرض فيها لمشاكل بالنسبة للسفر أو للقامة في هذا البلد أو ذاك. فما أجنا غير ذلك ..الفلسطيني المشرد. صوت ارتطام الختم بصفحة الوثيقه يعيدجني من شرودي .أصوب جنظري إلى الصفحة .ما زالت فارغه. ينظر إلي الشاب بعينين ل تخلوان من العتذار ،مع شبح ابتسامة فيها قدرغير قليل من السخريه ) في مثل هذه الحالت يعفى المحكوم عليه بالعدام من تنفيذ الحكم(. لكن الشاب يفتح "خمتامة" حمراء اللون ،ويلون الختم بحبرها. وسرعان ما تتلوث صفحة الوثيقة بختم أحمر. قرأت العبارة من بعيد ،في اللحظة ما بين ارتفاع الختم عن الصفحة وتغطيتها باليد الخرى بالنشافه: "يغادر ألماجنيا التحاديه خلل 24ساعه" وشيعني الشاب الشقر بنظرة ل تخلو من الرقة..أو قل العطف..أو الشفقة .وعد ل ت إلى مقرعملي مكتئبا ا .وكاجنت فرصة العمر بالنسبة للهر"شولتس" لكي يظهر تعاطفه مع الشعب الفلسطيني المشرد.. ممثل في شخصي. * * * _________________________________________
)*( "طأْز" ،أو "أتز" ،تعني باللغة التركية "ملح" ،حيث كان الملح ،في وقت ما ،يستوجب أقل قدر من القيمة الضرائبية التركية ،وفي رواية أخرى معفي تماما من الضرائب الجمركية .وقد أصبحت الكلمة تستعمل للستخفاف بالشيء.
اليوم الربعاء ،وغدا الخميس ،وبعد غد الجمعة .ثم يأتي يوم السبت ومن بعده يوم الحد .للم كل هذا الجنتظار؟ وفوق هذا وذاك ،فلقد رتبت صديقتي أمورها لتقضي عطلة "جنهاية السبوع" مع عائلتها في بيتهم الريفي،علما منها بأجنني على سفر.
20
مررت عليها في مقر عملها .طلبت منها أن تتصل بـ"يوهان" لتخبره بأجنني سأستقل قطار "فيينا -فوبرتال" الليلي في ذلك اليوم.. الربعاء ،بدل من يوم الحد المتفق عليه. فوبرتال /ألماجنيا الغربيه ..الخميس 28/6/62 تعودجنا ،أو تعلمنا أن جنعبرالحدود التي ل يجوز لنا عبورها -جنحن معشر الفلسطينيين الـ"غير معميني الجنسيه" -بطريقة أو بأخرى. ومنها قطارالليل ،بما يقتضيه المر من ـحـليل )!( واستقبلني صديقي "يوهان" مضطربا ،محاول أن يخفي استياءه .فقد استأجرلي جنفس الغرفة التي كنت أسكنها في الصيف الفائت ،في بيت أحد معارف الهر "شولتس" ،ولكن إبتداء من يوم الحد المقبل ،حسب اتفاقنا .وعندما فوجيء بنبأ قدومي قبل موعدي ،قضى جنهاره في البحث لي عن مسكن مؤقت لليام الثلثة التي لم تكن في حسباجنه. ولم يكن هناك من حل سوى أن أقتسم المسكن مع ذلك الرجل.. "فولكر". بادرجني بلكنة ألماجنية شمالية ريفيه ،وبصوت عريض ل يتناسب مع حجمه الضئيل: أجنا مغترب مثلك....لم أدرك في البداية أن بلدته "بوتسدام" تقع في ألماجنيا "الشرقية". وحرت في أمرهذا المغترب في بلده .كنت حتى ذلك الوقت أظن أن شعورالمرء بالغتراب في وطنه يقتصرعلينا..جنحن معشرالعرب. ثم قلت لنفسي: مالي أجنا وماله! ثلثة أيام ،أوعلى الصح ،ثلث ليال ثم تكون لي غرفتي..وغربتي. هناك أشخاص تشعر برغبة في التحدث إليهم أو بإجنشاء صداقة معهم إذا ما التقيت بأحدهم في قطار أو رحلة أو أي ظرف عابر .لم يكن هو 21
أحدهم .وإن كان يبدو لي مهذبا ا طيبا ا .إل أجنه أيقظ في داخلي ،دون أن يقصد ،تلك المشاعر المرهقة..التي كنت أتحايل لطالة غفوتها. كان الوقت مناسبا لن يتمنى كل منا للخر ليلة سعيده. بدأت أجنا متعللا برحلة القطار الطويلة المتعبه. صب لنفسه كأسا من النبيذ ،ولوح لي بالزجاجة: جنبيذ فرجنسي فاخر..معتق من كروم الجزائر..من عندكم.ثم أردف: ..كنت أسمع دائما أجنه من أجود أجنواع النبيذ في العالم .والن تحققتمن ذلك بالتجربة .وسمعت أيضا أجنه ل يباع في الجزائر .جمرب! ثم استدرك: "آخ..سو" ..* (Ach so ) ..فأجنت إذن "محمداجني"**!تناول جرعة شرهة ثم أكمل: ضحكواعليكم باسم الدين..وعلينا باسم الشيوعيه .فعندجنا ،هناك،مثلكم تماما ،خيراتنا ليست لنا .جنعمل وجنكدح من أجل الغير .لقد وملى ذلك الزمن بالنسبة لي .أجنا الن أجنعم بنتيجة عملي ..وبحريتي. هل تعرف معنى الحريه؟ طبعا تعرف .لن الفرجنسيين يتمتعون بالحرية في بلدكم...... سامحك ا يا صديقي "يوهان" .أل يكفيني ،عقابا لي على عدم احترامي للمواعيد ،تلك الليالي الثلثة التي سأقضيها في ذلك القبو؟! ______________________________________ )*( تعبير سائد عن الدهشة. )**( لفظ Mohamedanerيراد به تعريف المسلم ..وينطوي على شئ من الستخفاف والتعالي .
ل بأس في جنقاش أو حديث حول معنى الحرية بين حين وآخر .ولكن ليس في مثل هذا الوقت ،وبعد رحلة قطار استغرقت وقتا طويل، قضيت منه جزءا ل بأس به ،حبيساا ،على كرسي "التواليت". تلك هي الحيلة التي تفتق عنها ذهن الكثيرين من زملئي في"وثيقة السفر" .فقبل أن يقترب القطار من مدينة "سالتزبورج" ،التي تقع على 22
الحدود في الطريق من النمسا إلى ألماجنيا التحادية )الغربيه( ،ل بد من الختفاء عن أعين رجال بوليس الحدود .فعندما يتهيأ القطار للوقوف، لتغييرالقاطرة ،والجراءات الحدودية وما إلى ذلك ،تبدأ أطول ربع ساعة في التاريخ ،لما فيها من اضطراب ،وتوتر ،وخوف. الحقيقة أن الجراءات المذكورة ل تعني شيئا بالنسبة للوروبيين .فهي إجراءات شكلية .أما الجنبي ،فل بد من حصوله على تأشيرة دخول، أو أن يحتوي "جواز سفره" على تصريح للقامة في إحدى الدول الوروبيه. صحيح أجنه ،في بعض الحيان ،يختلط المر على رجل الحدود اللماجني فيتعامل مع "الوثيقة" التي أحملها وكـأجنها "جواز سفر" حقيقي .خصوصا بعد أن اشتريت من القاهرة حافظة جلدية ،خضراء اللون ،أودعتها وثيقتي ) ذات الغلف المميز بلوجنه الزرق( مصنوعة خصيصا لجوازات السفرالمصرية ،الخضراء اللون، ومطبوع عليها بماء الذهب ما يفيد بأجنها تحتوي على "جواز سفر مصري". لكن هيهات أن "تسلم الجره في كل مره". لم يلبث مضيفي أن أقر بأجنني أبدو متلعباا ،ويحسن أن أخلد للراحة والنوم. ألم أقل أجنه يبدو..طيبـا؟ا لقد أطلق سراحي بالرغم من أجنه كان تواقا للحديث ،ولمستمع جيد مثلي .لكنه حين أضاف أن للحديث بقية ،وأجنه يعرف أجنني سأمكث معه في جنفس المكان ليال ثلث ،عرفت أجنه لم يتركني رأفة بحالي ،فهو يريدجني في الغد يقظا غير متعب. وبالرغم من أجنني احتجت لبعض الوقت لكي أتكيف مع سريري الغريب -كما هو الحال مع الكثيرين في مثل هذه الحالت -وأجنني، بينما كان النعاس يغالبني ،كنت أشعر بالسيد الهارب من "بوتسدام"- الشرقية ،لينعم بالحرية في "فوبرتال" -الغربية ،ما زال في أوج 23
جنشاطه ،يفتح زجاجة جديدة ،يروح ويجيء ،يعبث بآلة موسيقية ثم ل يلبث أن يتركها ،ليعبث في محتويات أدراج الدولب. بالرغم من ذلك ،استيقظ الرجل مبكرا .وبالرغم من أجنه كان يتحرك بمنتهى الحرص والهدوء ،إل أجنني صحوت من جنومي أجنا الخر .ولم يهدأ لي بال حتى سمعته يضع المفتاح في قفل الباب من الخارج ليقفله بحرص ،بدل من أن يصفقه فيزعجني .وجنمت جنوما عميقا. فوبرتال ..الجمعه 29/6/62 عندما صحوت..استغرقت وقتا امتد لبضع لحظات حتى عرفت أين أجنا. واسترعى اجنتباهي أن البيت القبو -على ـقدمه -كان جنظيفا ومرتبا .كما استرعى اجنتباهي -أيضا -شئ آخر ،آلة موسيقية" ،أكورديون"، بحجم لم أر له مثيل من قبل .جديدة ..براقة ..لها أجزاء معدجنية مذهبة مفضضة بريقها يخطف البصار. إن من يحرص على امتلك آلة كهذه ل بد أن يكون عازفا بارعا. خطر لي أيضا ،وأيقنت ،أن العازف الذي يمتلك مثل هذه اللة ول يستعملها حرصا على راحة شريكه في المسكن ل بد وأن يكون إجنساجنا مهذبا. شيء آخر شد اجنتباهي في ذلك الصباح ،قبل أن أغادر البيت القبو.. صورة فوتوغرافية لفتاة ل تخلو من حسن ،في الرابعة أو الخامسة عشر من عمرها ،في إطار معدجني براق يخطف البصار أيضا. لم أتعجل .استغرقت وقتا في الستعداد للخروج .فاليوم الجمعة ،ومن الطبيعي أن ل أبدأ عملي إل في بداية السبوع القادم ،يوم الثنين. كان ترحيب المهندس اللماجني بي كما توقعته .وأكثر من ذلك ،أجنه أصرعلى أن أبدأ عملي في الحال .وهذه تضحية ل يقوم بها أرباب العمل عادة .فمعنى ذلك أجنني سأتمتع بإجازة أسبوعية مدفوعة الجر بالكامل ،لقاء عمل جنصف يومي الجمعة والسبت فقط من السبوع كله. وكان ذلك مبعث دهشة صديقي "يوهان" ،الذي يعمل في جنفس المكتب 24
منذ سنتين ،بصفة دائمة .فلقد تعود على أن أيخصم من راتبه أجر مجموع الدقائق التي تنقص من ساعات عمله إذا تأخر لسبب أو لخر. قال لي الهر "شولتس" مرة: لقد دفعنا دم قلوبنا ،وما زلنا جندفع مئات المليين سنويا ثمنالصكوك الغفران ،أو ما يقال له "التعويضات اللماجنيه" لليهود. ولم جنكن جنعرف أجننا جندفع هذه المليين لتساهم في تدمير شعب آخر. كدت أوقن أن ألماجنيا التحادية )الغربية( ،ممثلة في شخص الهْر "شولتس" ،قد ثابت إلى رشدها ،وأجنها ربما تفكر في تحويل التعويضات إلى الشعب الفلسطيني..ممثل في شخصي. أليكفي ،دليل على ذلك ،إعفائي من قبل السيد الكريم -كما كنت أتوقع -من مشقة المحاولة اليائسة للحصول على تصريح القامة والعمل منذ البداية .وهذا ما راهنت عليه بتسللي إلى ألماجنيا ،فوثيقة سفري ما زالت ،منذ الصيف الفائت ،مزداجنة بالختم الحمر ذو القامة المحددة بالربع وعشرين ساعه. هل تعرف؟قالها وهو يقترب مني بقدر ما تسمح المسافة بين مقعدينا ،ليتخذ وضعا يكون فيه الكلم ،كما يبدو له ،أكثر جدية .وأكمل بما يشبه الهمس، ليوهمني بأجنه سيدلي بسرخطيرل يليق بأحدغيرجنا أن يسمعه: تلك الكذوبة التاريخية الكبرى"..الهولوكوست"..والستة مليين يهودي..وأفران الغاز... ثم اعتدل في جلسته وأكمل مزهوا واثقا من معلوماته: أول..هناك مبالغة هائلة في الرقم .وحسب تقارير المنظمات اليهودية جنفسها ،كان عدد يهود أوروبا كلها في زمن الرايخ الثالث ل يتجاوز المليين الثلثة. 25
ثاجنيا ..قمدرعدد ضحايا الحرب العالمية الثاجنية كلها في حينه بحوالي الخمسين مليون ،منهم ما ل يزيد عن المليون الواحد من اليهود .فكيف تقوم الدجنيا ول تقعد من أجل هذا المليون!؟ ول يستفيق الضمير العالمي إل من أجل الضحايا اليهود! أليست هذه هي "العنصرية" بعينها؟ ثالثا ..معسكرات العتقال .لم تكن سوى مرحلة لتنفيذ خطة "ترحيل" اليهود إلى "أماكن أخرى". لم تغب عن فطنته ما تضمنته ابتسامتي من مرارة إزاء ذكر كلمتي الـ "تراجنسفير" و"الماكن الخرى" .أطرق برهة كأجنه يعبرعن إعتذاره، ثم واصل حديثه: ..رابعا..وهذا هو الهم .لم يكن هناك ما يسموجنه بغرف الغازبالمعنى الذي يرموجوجنه .بل كاجنت الظروف الناتجة عن الحرب الطويلة تستدعي وجود محارق لجثث الموتى بشكل عام جنتيجة الغارات ،و"التيفوس" ،وغيره من المراض التي تفشت في معسكرات العتقال بالذات ،وبشكل خاص. ثم إجنني قبل كل شيء أحب أن أتساءل: لماذا لم يسمع العالم شيئا عن "الهولوكوست" طوال سنوات الحرب الستة؟! أم أن إبادة "المليين الستة" قد تمت في اليام الخيرة للحرب؟! "الهولوكوست" ،يا عزيزي ،هو السلح المبتكرلصرف النقد عن إسرائيل وأغراضها وجنواياها .إجنه أداة لبتزازجنا **. ولم ينس أن يهمس لي مؤكدا أن ماقاله هي الحقيقة التي ليجرؤ الكثيرين على ذكرها ،ويحسن أن أحتفظ لنفسي بمصدرها )!( وفي مرة أخرى ،حكى لي ،بتفصيل ينم عن قراءة طازجة ،كيف تورطت ألماجنيا بقصة التعويضات .فبعد إعلن دولة إسرائيل عام 1948وتدفق المهاجرين الجدد إليها ،مما أصاب ميزاجنية الدولة الجديدة 26
بالعجز ،بالرغم مما تلقوه من مساعدات مالية من يهود العالم، أوغيراليهود ،أبرق رئيس الوزراء السرائيلي"،بن جوريون"، لـرئيس المؤتمراليهودي العالمي والحركة الصهيوجنية العالمية في ألماجنيا آجنذاك" ،جناحوم جولدمان" ،الذي كان يتابع محاكمات "جنورجنبيرج" لمجرمي الحرب ،يرجوه أن يقوم بتدبير أي مبلغ على وجه السرعة للحاجة الماسة إليه. عندها طرأت لـ"جولدمان" فكرة أن يطالب "أديناور" ،المستشار اللماجني في ذلك الوقت ،أن تغ م طي ألماجنيا مصاريف إعادة توطين اليهود اللمان في إسرائيل ،فوافق "أديناور" على أن تدفع ألماجنيا مبلغ ثلثة آلف دولر عن كل رأس )!( ________________________________________ )**( هناك شخصيات هامة مؤثرة قد قامت بتدوين شهادتها و تجربتها في الحرب العالمية الثاجنية ،وتم جنشرها )من عام (59 -1948مثل: البريطاجني " تشيرتشل" في موسوعته "الحرب العالمية الثاجنية" بأجزاءها الستة وصفحاتها الـ ، 4448و.. الفرجنسي"ديجول" في"ذكريات الحرب" بأجزاءه الثلثة وصفحاتها الـ ، 2054و.. الميريكي "أيزجنهاور" في في كتابه "حملة أوروبا" ذو الـ 559صفحة.. هذه الوثائق التي تبلغ في مجموعها 7061صفحة لم يرد فيها شيئا عن "غرف الغاز النازية" ،أو "جرائم القتل الجماعي لليهود" ،أو ضحايا "الهولوكوست" التي أشاعوا أجنها بلغت المليين الستة !!!!!
ثم اكتشف "أديناور" بعدها أن ألماجنيا ،بذلك ،قد التزمت بدفع مبلغ وقدره 1,5بليون دولر )بالباء( .فقد جناهز عدد اليهود اللمان في إسرائيل ،في حينها ،حوالي جنصف المليون*. في المساء ،عدت إلى البيت القبو بعد أن أجنجزت من العمل ما لم يكن أحد يتوقع مني إجنجازه ،كي أثبت للسيد الكريم أجنني أهل لكرمه وثقته بي .رآجني "فولكر" مجهداا .فأراد أن يخفف عني بطريقته الخاصه. وأصر على أن يسقيني كأسا من النبيذ الفرجنسي الفاخر..المعتق ،كما قال ،من كروم الجزائر. 27
تنحنحت آمل أن أمسك بدفة الحديث ،قبل أن يبدأ هو باستكمال حديثه عن الحريه ..قلت له: ..أجنا فلسطيني ،ولم أحظ بعد بزيارة الجزائر..لم يبد عليه أي اهتمام بما قلت .بل أردف بسرعه: ..لبأس!)واصطلح آخرمعناه بالتقريب..كلكم في الهمم شرق (** آثرت أن أرجيء سرد "حكايتي" لحين آخرأكثر ملءمة ،فابتسمت له مجامل ،فإذا به قد رفع كأسه في وجهي وأجنشأ يقول: كأسك يا صديقي ،فلنشرب جنخب الحرية و....قاطعته بضجر مغلف بمحاولة يائسة لن أبدو مرحا: ..عن أي حرية تتحدث يا رجل؟!قال وكأجنه كان ينتظر سؤالي منذ دهر: ..عن حرية الجنسان في أن يختار العمل الذي يريده ،وأن يعيش فيالمكان الذي يختاره.. _______________________________ )*( عندما حاول "أيديناور" ،عام ،1952عقد إتفاقية بين ألمانيا وإمسرائيل وذلك بهدف تنظيم وتقنين عملية يدفع التعويضات اللمانية لليهويد ،تعرض المستشار اللماني لمحاولة إغتيال من تدبير "مناحيم بيجين" الذي كا ن يتزعم حزب"حيروت" .وظلت "إمسرائيل" ،نتيجة لذلك ،تبتز التعويضات بدو ن أي قيويد أو معايير. )**( الصطلح اللماني المشار إليه هو Alles Seifeومعناه الحرفي" :كيله صابو ن"!
ثم أضاف باستدراك: ..ل داعي لن جنتحدث عن حرية الرأي..ولنترك ذلك للمثقفين!)كأجنما أصابت تلك الضافة كبريائي في مقتل .أخذت أتساءل بيني وبين جنفسي عن ذلك الشيء الذي يميزالمثقفين في مظهرهم ويفتقر مظهري إليه ..مما جعلني أتعرض لمثل هذه الهاجنة التي لم يقصدها صاحبنا(. لحظ "فولكر" شرودي واجنقباضي ،فلكزجني بيده التي تحمل الكأس 28
وتابع حديثه: خذ مثلا..أجنت! ألم تأت إلى ألماجنيا التحادية لتعمل؟ألم تأت في الوقت الذي حددته أجنت ،وإلى المكان الذي تريده أجنت ..و.. حاولت بيني وبين جنفسي أن أترجم المثل الفلسطيني المعروف "اللي يعرف يعرف ..واللي ما يعرف يقول كف عدس" إلى اللغة اللماجنية فباءت محاولتي بالفشل. ثم فكرت أن أسبقه وأتشبث بدفة الحديث ،وأروي له "حكايتي" التي أحفظها عن ظهر قلب ،كما أحفظ جنشيد "موطني" الجميل الذي كنا جننشده صغاراا كل صباح قبل أن جندخل إلى "الصفوف" في مدرستنا في القدس ،التي تركتها صبيا مهاجرا ،برفقة أخي "عابد" ،على ظهر حمار من خلل طرق جاجنبية جبلية وعرة إلى "بيت لحم" ومنها إلى"الخليل" ثم إلى "غزه" .ثم كيف ساقتني الظروف ،بعد أن أجنهيت دراستي الثاجنوية ،إلى السعودية للعمل فيها -شأن الكثيرين -لكي أتيح لنفسي فرصة التعليم العالي .لكنني ترددت ،و رأيت أن أبدأ -مسبقاا- بالجابة على السئلة التقليدية ،التي تدورعادة في خلد أهل هذه القارة النائية،عن وسائل المواصلت في بلدجنا..غير الجمال والحمير..وأن أوضح له -على سبيل المثال -أن سبب استعمالنا للحمار كوسيلة للجنتقال هو قطع الطرق الرئيسية ،التي تسير فيها السيارات ،بواسطة العصابات الصهيوجنية المدججة بأجنواع السلح البريطاجني والتشيكي و الميريكي ،والمسددة فواتيرها بالمارك اللماجني. ثم عدلت عن تلك الفكرة ،و رأيت أن أجنتقل مباشرة إلى الحديث الذي تفرضه ثقافة غالبيتهم ومعلوماتهم عن ذلك "الشرق" الذي ابتكروه وأضفوا عليه ما يروق لهم أن يروه ،والمستقاة من ترجمات بعض "المستشرقين الوروبيين" المحرفة لـ ـ"ألف ليله وليله" ،أو مشاهداتهم للفلم المفبركة عن أمراء الصحراء أو شيوخ البترول أو"الليالي العربيه" ،أو من إقبالهم على قراءة سلسلة روايات الكاتب اللماجني 29
الفاق "كارل ماي" Karl Mayالشهيرة ،التي تصف رحلته المتعددة إلى الشرق ،والتي قام بتأليفها خلل السنوات الطويلة التي قضاها في السجن لسباب أخلقية** . ثم ل بد ،بعد ذلك أو قبله ،من الجابة على السؤال عن زوجات أبي الربعه..غير الجواري والحريم .وعن تاريخ البنطال الذي أرتديه. ول بأس من أن أؤكد أن أبي كان يرتدي بنطال هوالخر .وأن أختي كاجنت تذهب إلى المدرسة ..وبدون حجاب. وعندما تزوجت ..لم يتقاض أبي ثمنها .وما إلى ذلك من المعلومات التي عادة ما يحرصون على معرفتها. إل أجنني وجدت في جنفسي ميلا لن أترك لمضيفي الحرية في الحديث حتى ل يتهمني أجنا الخر باضطهاده ،كما اضطهده زعيمه ___________________________________________________ )**( بلغ عدد مؤلفات "كارل ماي" عن رحلته 74كتابا! هذا علما بأن سجلته تقول بأجنه لم يغادر بلده قط .شأجنه في ذلك شأن الكثير من "المستشرقين". جدير بالذكرأجنه ،في بداية الخمسينات ،كاجنت خمسون عاما قد مرت على وفاة "كارل ماي" حيث تكون حقوق المؤلف وورثته قد سقطت ومن حيث تصبح مؤلفاته كلها مشاعا تستثمره دور النشر المختلفة وتجني من جنشرها الرباح. على أجنه،إحقاقا للحقيقة ،ل بد من ذكر ما تميز به "الستشراق اللماجني" من ابتعاد عن الهداف السياسية أو الستعمارية في الشرق ،حيث أجنه لم يكن للماجنيا مستعمرات في العالم العربي )أم كان ذلك ،يا ترى ،لن الفرجنسيين والجنجليز لم يتركوا لهم مجال لذلك( .ول بد أيضا من ذكر ما تميزت به كتابات بعض المستشرقين اللمان )"جوته" و"سيغريد هوجنكه" على سبيل المثال ل الحصر( من إجنصاف يصل إلى حد الشادة بالحضارة العربية الرائدة.. ذات يوم .
"فالترأولبريخت" من قبل ،حسب روايته هو .فأجنا أرى كيف يحرقه الشوق إلى اللحظة التي يمارس فيها حريته في الحديث ،أو حديثه عن الحريه. ثلث سنوات مرت ،منذ أن تمكن صاحبنا " فولكر" من الهروب من ألماجنيا الشرقية إلى ألماجنيا الغربيه ،قضاها عامل في مصنع كبير ،يتيح له العمل لساعات إضافية ،فيحقق كسبا أكبر .وهو يسكن في هذا القبو ليحقق وفراا أكثر .ويبدو أجنه قضى تلك السنوات الثلث يعمل بدون اجنقطاع ،فلم يجد في وقته متسعا لن يجد له صديقا يتحدث إليه. 30
وربما لم يجد الخرون في وقتهم متسعا لن يتحدثوا إليه .فالوقت من ذهب ،كما يقول اللمان أجنفسهم .لكن الفرصة جاءته -كما يبدو -إلى عقر داره. وها هو يتشبث بها ويمضي في حديثه إلي: أكثر من عشرسنوات ،وأجنا أعمل في المصنع في "بوتسدام".زوجتي تعمل أيضا .ولم جنستطع توفير "مارك" واحد. لم أجرؤ حتى على التفكير في شراء دراجة لبنتي .ظلت تحلم بها منذ أن كان عمرها ثلث سنوات .واليوم أصبح عمرها ثلثة عشرعاما. البنات في عمرها،هنا ،يملكن سيارات .وجنحن،هناك ،ما زلنا في عصر القطاع .الفارق الوحيد أن القطاعي هو الدوله .وجنحن عبيد عندها .جنعمل لكي جنمل بطوجننا فقط .هذا هو الطموح الوحيد المتاح لنا .أما هم ،فيملون جيوبهم.... استوقفه شرودي. كان يبدو لي أجنه طيب مهذب ،فهل يتعارض ذلك مع الجنطباع الجديد بأجنه..أفاق؟ ربما لحظ أيضا عدم إكتراثي بل واستنكاري الصامت لما يحكيه .فالبلدان الشتراكية تتمتع في عالمنا بمكاجنة محترمة .وهي التي كاجنت مثلنا العلى لما جنصبو إليه من جنظم تضمن لنا العدالة الجتماعية والتقدم والرفاهية. تذكرت بعض الذين بذلوا حياتهم دفاعا عن الشتراكية في بلدجنا. وآخرين دفعوا ،وما زالوا )حتى هذا الحين( يدفعون سنوات من شبابهم في السجون لنفس السبب .وعدت لتذكر شقيقي ومعلمي "عابد" وهو ل يكف عن ترديد قصائد صديقه "صلح جاهين" التي كان يحفظها عن ظهر قلب: يا "معين" يا صوت الضحايا.. إرعد بصوتك معايا.. إرعب عدوي وعدوك.. 31
راح جننتصر في النهايه(**) .. أفقت من شرودي على حركة فجائية لصاحبنا "فولكر"،عندما جنهض بسرعة وفتح "الثلجة" التي لم تسترع اجنتباهي قبل ذلك لسبب ل أعرفه ،بالرغم من أن لها أجزاء معدجنية بريقها يخطف البصار .ثم أخذ ،بطريقة ل تخلو من جنوايا الستعراض ،يقملب ما في جوفها من أشياء مغلفة بورق القصديرالبراق ،وأخرى بأكياس شفافة ،وغيرها محفوظة في علب معدجنية ملوجنة أجنيقه .ثم ،كمن اتخذ قرارا هاما ،أخرج )وبمهارة لم أرها من قبل إل على شاشة السينما( زجاجة "شمباجنيا" ألماجنية -كما أفاد -وقام بفتحها باستمتاع بالغ .كل ذلك وهو يواصل حديثا غير مترابط ،يقارن به في النهاية بين "هنــــا".. و"هنـــــــــاك". صحيح أجنني أتمتع بما يسموجنه "فضيلة" القدرة على الستماع .ولكن هل يتناقض ذلك مع احتمال اختلفي معه في الرأي؟ ثم ،ألم يحن الوقت الذي أجاهر فيه برأيي فيه وبأقواله ،حتى لو أدى ذلك إلى إغضابه؟ لكنني تذكرت تعليمات رئيسي الهر "شولتس" المشددة لي ،وهو الذي يتحمل مسئولية عملي في مكتبه بدون "تصريح العمل" ،أو"تصريح ________________________________________ )**(
الشاعر الفلسطيني "معين بسيسو" هو القائل أيضا: "فالقول ليس ما يقوله السلطان والمير /وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير.. للمهرج الصغير /فأجنت إن جنطقت مت /وإن سكت مت /قلها ومت".
القامه" من السلطات اللماجنيه ،بأن "أمشي بجوار الحائط" ،ول أعرض جنفسي لما قد يستوجب مساءلتي عن أوراقي الثبوتية..إلخ ،إن مجرد "وجودي" في البلد هو وجود غير شرعي ،وغيرمصرح به .فما بالك لو اتـهم أ ت في "ألماجنيا الغربية" بمحاولة إقناع لجئ من "ألماجنيا الشرقية" بالعودة إلى موطنه الصلي ،أو بالمشاجرة مع ذلك المواطن دفاعا عن الشتراكيه. وسرعان ما طرقت ذهني أقوال أجدادجنا الحكماء عن كلم الفضة وسكوت الذهب .فالتزمت السكوت لفترة. 32
ثم خرجت عن طوري وتناسيت أجدادي ،وتنحنحت عدة مرات معلنا رغبتي في المشاركة في الحديث أو إبداء الرأي فيما يقوله صاحبنا. لكن "فولكر" كان ل يتورع عن قمعي بأدب .يمهلني لكي يصب لنفسه كأسا أو ليتفقد كأسي ،أو يقدم لي"الكافياراللماجني" المشهور ،والذي يأتي -حسب روايته وتواضعا منه -مباشرة بعد الكافيار الروسي ،أو يريني صورته بين أفراد عائلته بالمعطف الوحيد الذي كان يمتلكه .ثم يفتح لي دولب ملبسه -باجنفعال شديد -ويأخذ في عد البدل التي يمتلكها الن ،ثم يعيد الشارة إلى المعاطف الربعة الجديدة. معطف لكل فصل من فصول السنة الربعة ،كما يبدو! لحظ "فولكر" شرودي مرة أخرى .كنت في هذه المرة أتساءل، بيني وبين جنفسي ،عن المناسبات التي تستدعي إمتلكه لكل هذه الملبس ،وهوالذي ل يخرج من قبوه إل لمقرعمله .وهاهو يقضي يوم السبت ،وليلة الحد ،وحيدا مع زجاجاته. لكزجني بيده التي تحمل الكأس وجنهض ،وهو يمهلني ،ليريني شيئا لم يلبث أن جنسيه عندما استوقفته الصورة ذات الطار اللمع. تأمل الصورة .تناولها واحتضنها بحنان. كان أكثر صدقا عندما تحولت ثرثرته إلى الحديث عن ابنته ،وشوقه إليها. لقد تركها طفلة في العاشرة ،وهي الن صبية في الثالثة عشره .ولو أجنها تبدو في الصورة أكبر سمنا بقليل. أخذ -ولول مرة -يحدثني عن ذكريات جميله. تأسرجني حكايات الوطن..أي وطن. تمنيت أن يستمر في حديثه عن الهل ،والبيت وحديقته ،وأزهاره وأشجاره وطيوره. )لحت لي صور بيتنا في القدس..أزهاره وشجيراته التي كاجنت تنمو في البراميل الخشبية والصص المنتشرة في "وسط الدار".. وأسراب طيور السنوجنو وهي تحلق بحرية في سمائه(. 33
جنهض مرة أخرى -وهو يمهلني -ليريني صورة كبيرة الحجم لكل أفراد عائلته ،في حديقة البيت ،وهو يتوسطهم محتضنا آلة "أكورديون" قديمه ،قال أجنه ورثها عن أبيه. لكنه عاد ،وأخرجني عن طوري عندما تفوه بجملة تحمل معنى حرماجنه من إبنته. قلت بسرعة أذهلته: وما الذي أرغمك على...؟قاطعني بسرعة أذهلتني ،وكأجنما كان ينتظر سؤالي هذا ،ليفصح عما كان يرى أجنه سر معاجناته: بل هربت من أجل ابنتي .من أجل أن أستطيع أن أحقق لها بعضالمنيات .فأجنا أرسل لها ولمها -كلما أمكنني ذلك -ألبسة.. وهدايا ..وأشياء أخرى كاجنت ل تجرؤ أن تحلم بها مجرد حلم. وأخذ يعدد لي مرة أخرى ما استطاع امتلكه خلل ثلث سنوات أو أقل .وهو ،والحق يقال ،كثير وفير .وعدت أتساءل بيني وبين جنفسي عن موطن الخلل .أهو "فولكر" جنفسه ،أم النظام الذي لم يستطع، حسب قوله ،خلل عشر سنوات أن يكفل لبنته دراجة ،أو "بنطلون جينز"؟! فكرت..هل يمكن لجنسان ان يؤمن حقا أن بمقدوره أن يكون حرا وهو في الحقيقة سجينا داخل جنفسه؟! أسكتني مرة أخرى قبل أن أجنطق .بالرغم من أجنه لم يكن في جنيتي العتراض أو الرد أو السؤال .كنت أريده فقط أن يمل لي كأسي الفارغه ،عملي أن أجنسى وصايا رئيسي في العمل. أعترف بأجنني ،في لحظة ما ،قد استملحت فكرة اللجوء إلى بلد مثل ألماجنيا لكي أجنعم بالحرية فيها .لكنني تذكرت ،وإن لم أكن قد جنسيت تماما ،أجنني لكي يتسنى لي أن أفعل ذلك ،لبد من أن أجنتظر حتى تتحرر بلدي من الحتلل أول .عندها سأتحول إلى مواطن عادي 34
يحمل"جواز سفر" عادي ،يتيح لي الخيارات في السفر إلى المكان الذي أراه .وليس "وثيقة سفر" ،تهمة إسمها "عديم الجنسية" ،تكاد بالكاد أن تكفل له القامة في هذا البلد أو ذاك بحجة الدراسة العليا فقط ،ول يجوز له ،بعد إجنهاء دراسته ،أن يبقى فيها يوما واحدا! *
*
*
فوبرتال ..السبت 30/6/62 قبل الجنتهاء من العمل ،قال لي صديقي"يوهان" أن زوجته "إيفا" سوف تكون باجنتظارجنا لتناول طعام الغذاء معاا ،ثم جنرى ماذا سنفعل في أمسية جنهاية السبوع .ولم أكن بحاجة إلى إلحاح صديقي .قلت بسرعة: هناك حكمة صينية تقول أن "الكريم" هو صاحب الدعوة ،وأن منل يقبلها هو "البخيل"! الحقيقة أجنني لم أسمع بحكمة كهذه ل من قريب ول من بعيد .كل ما هنالك أجنني تعلمت من صديق لي أن أجنسب ما أقوله -أحياجنا -إلى مصادر أجنبية لتزيده أهمية ومصداقية )!( أردت التشبث باقتراح صديقي "يوهان" من أجل الخلص من الرجل القابع باجنتظاري ليسوق لي مبررات جديدة لهروبه من بلده ،ويبرهن لي بالدلة على فشل أفكار "ماركس" و"لينين" ،ومن بعدهم "فالتر أولبريخت" ،في تحقيق العدالة الجتماعيه في ألماجنيا الشرقية. حاولت أن أقنع صديقي بتأجيل الدعوة إلى المساء ،وبعد ذلك جنسهر ما طاب لنا السهر .وذلك لكي يتسنى لي أن أعمل في المكتب أطول وقت ممكن ،فأجنجز قدرا أكبر من العمل ،فأرد شيئا من جميل السيد الكريم الذي رضي بأن أبدأ عملي قبيل جنهاية السبوع ،علوة على تحمله مسئولية عملي في مكتبه بدون حصولي على التصاريح اللزمه. صديقي "يوهان" زودجني -باسما -بمعلومةهامة ،وهي أن كوجني غيرمسجل في مكتب العمل ل يتيح لي الحق بأي ضمان صحي أواجتماعي أوأي مكافأة أو تعويض .علوة على أجنني أتقاضى أجراا 35
يساوي جنصف ما يتقاضاه المتدرب العادي .أي أن السيد الكريم هو المستفيد من وضعي ،ول حاجة بي للتضحية من أجله! وكاجنت سهرة ممتعة. عدت بعد ذلك -في وقت متأخر -إلى القبو متلصصاا ،كي ل أزعج صاحبنا .لكنه كان في الجنتظار. وجدته مكوما في جنفس المقعد الذي تركته عليه بالمس ،كأجنه لم يغادره، والكأس في يده ،وأمامه أكثر من زجاجة فارغة ،وصحنا تتكوم عليه أعقاب السجائر كأجنه لم يتوقف عن الشرب والتدخين .إلى جاجنبه تبعثرت أكثر من علبة من علب السجائر الميريكية الفاخرة ،و أكثرمن رسالة مفتوحة ،وبعض الصور الفوتوجرافيه ،كأجنه كان يتحدى بها وحدته .وجرائد قديمة يرجع تاريخ بعضها إلى ما يزيد عن العام، ماجنشيتاتها تتحدث عن إقامة سور برلين )!( ** أشفقت أن أكون قد خدشت مشاعره لجني تركته ينتظر .وهو الذي أعد العدة لكي يحتفل بضيفه في الليلة الثالثة..الخيره. بادرته باعتذاراتي ،مدعيا ومؤكدا أجنني لم أستمتع بسهرتي .اجنفرجت أساريره بعض الشيء.أضفت )كاذبا( بأجنني حاولت،عبثا ،العودة مبكرا لشاركه السهرة والشراب ،والستماع إلى حديثه الممتع. __________________________________________________ ** يعويد بناء مسور برلين إلى 31أغسطس عام 1961بعد أ ن ازيدايدت موجات الهروب والتسلل بين شرقيي برلين و غربييها.
قال ،وهو يصب لي كأسا ا من عصيرالتفاح ،بصوت ل يخلو من جنبرة حزينة: إما أجنك تسخر مني ،أو أجنك رجل طيب.الحقيقة أجنني لم أدخر جهدا لخفاء خواطري الساخرة من سلوكه منذ أن قابلته .رفعت يدي بالكأس ،وحاولت أن أبدو مرحا .قلت: كأسك يا صديقي ،فلنشرب جنخب الوطن!شربنا ..وساد الصمت. 36
الرسائل المبعثرة على المقعد إلى جواره تنم عن حنينه ،وبؤسه المتراكم .جندمت أجنني ذكرت الوطن في تلك اللحظة .خفت أن يتأجج بركان أحزاجنه. كان يتجنب اللتفات جنحوي .عيناه كاجنتا تتللن بدموع محبوسة مكتومة .أجفاجنه المحمرة كاجنت تتلقى بتواتر متقارب وكأجنها بذلك تعلن رفضها للستسلم ،وإطلق الدموع من أسرها. أعرف أن الخمر قد تعمق الحساس بالحزن. اعتراجني شعور بأجنني القوى .كأجنما قد أكسبتني سنوات التشرد واللجوء والحرمان من الوطن حصاجنة ضد توابع الحساس بالغربة. اللة الموسيقية ترسل بريقا يوحي ،أو يوهم ،بالفرح .توسمت فيها أن تكون المنقذ لنا مما جنحن فيه .قلت: ألم تعدجني يا صديقي بأن تسمعني عزفك على اللة الجديدة؟مرت بخاطري أغنية ألماجنية قديمه،آسرة ،كان يردد لحنها الجميل في ذلك الوقت المغني المريكي "إلفيس بريسلي" ،يبدأها بمطلع الغنية، بكلماتها اللماجنية ،ثم يواصل الغناء بكلمات إجنجليزية قيل لي أن معناها ل يمت إلى الصل بأي صله .سألته أن يعزف لحنها ،ورجوته أن يسمعني الكلمات الصلية للغنية التي لم أكن أعرف منها سوى مطلعها. أحسست أجني داعبت أوتار الشجن المشدودة على صدره. داعب أصابع الله. خرجت منها ألحان ل تشبه اللحن الصلي إل من بعيد. أعاد المحاولة مرة..وأخرى..وأجنا أتصنع الستحسان. غزنى بصوت مشروخ ،حبسته الوحدة مع ما توفر له من السجائر والخمور "المستوردة". فإذا بالكلمات -يا ويلي! -تتغنى بالحنين إلى الوطن البعيد. الوطن يطاردجنا يا صديقي ،يتسلل إلينا. ل .إجنه يعيش فينا .ل سبيل إلى الهروب منه. 37
الوطن قدر محتوم على الجنسان ،مثل الجنتساب إلى الب والم. الوطن يختارجنا ..ول جنختاره. لم يعد بإمكان صاحبنا التحكم بعواطفه ول السيطرة على عضلت وجهه وغدده التي خاجنته وتمردت على كبريائه فاجنهمرت الدموع تسبق كفه الذي اجتهد ليمسحها قبل أن تفضحه. بكى الرجل .استمر في البكاء. لكنه لم يتوقف عن محاولة استخراج اللحن من اللة. كأجنما كان يرى في الماضي خلصا من وطأة أحزاجنه. وترك العنان لدموعه تجري وتنهمرعلى وجهه. كأجنه كان يغتسل بها من أدران حاضره ،واللحن يعصاه. تذكرت الصورة الفوتوجرافية لفراد عائلته في الحديقة ،وهو يتوسطهم محتضنا آلة الكورديون القديمة التي ورثها عن أبيه ،الذي كان عازفا بارعا كما قال لي ،والذي كاجنت الطيور المهاجرة تتريث فوق الشجار المحيطة بالبيت إذا ما سمعت عزفه الشجي .هذه كاجنت كلماته. هل بكى صاحبنا لجنه تذكر أجنه عازفا ا ماهراا ..كان..ل يقل مهارة في العزف عن أبيه؟ اللة الجديدة بريقها يخطف البصار ،لكنها ل تشاركه فرحا ول حزجنا. تصدر أصواتا كأجنها تهزأ به .هذه كاجنت كلماته. إبنته أيضا سخرت منه في رسالتها الخيره. تريده هو ،ول تحتاج إلى هداياه. علب الـ"تشيكليتس" ،و بنطلوجنات الـ"جينز" الميريكاجني. أخذ يردد كلمات إبنته وهو يمسح دموعه. وتحدث عن أشياء أخرى كثيرة .لم أعد أفهم ما يقول. كنت "ألمس" أحزاجنه ..في صوته. "أسمع" أجنين أشواقه ..في عينيه. "أرى" حديثه وآهاته ..في صفحة وجهه. أحزان الغربة ،وأشواق العودة ،والحديث عن الوطن. 38
و"الحرية" التي تكبلنا خارج الوطن. فوبرتال ..الحد 1/7/62 الحقيقة أن ظروفي في الليالي الثلثة الماضية لم تمكنني من مواصلة ممارسة عادتي المنقرضة )والتي كنت أتشبث بها أثناء أسفاري بالذات( في كتابة مذكراتي ،أوعلى الصح خواطري وإجنطباعاتي. وكان ل بد من الجنتظار حتى أجنتقل إلى مسكني المحجوز إبتداء من اليوم..الحد. وهكذا اضطررت لن أسجل اليوم -بأثر رجعي -ما فاتني تسجيله عن أهم وقائع تلك اليام الثلثة الماضيه .وأرى أن أكتفي بالصفحات التي دبجتها اليوم. فوبرتال ..الخميس 5/7/1962 صباحا ،فوجئت بالهر "شولتس" يدعوجني إلى غرفته ،ويستقبلني بابتسامة عريضة ،وهو يمد لي جريدة “ " ،”Die Weltالعالم"، اللماجنيه بيد ويشير بالخرى إلى "ماجنشيت" خبر كنت قد قرأته ضمن ماجنشتات أخرى لصحف أخرى محلية تعودت أن أقرأها في واجهة كشك الصحافة في محطة المترو كل صباح : ) يوم الخميس 5/7/1962يوم إعل ن امستقلل الجزائر ( * إجنه النصر الثاجني لــ"جناصر" على فرجنسا..هتف الهر "شولتس" بشماتة ذكرتني بإشاراته للموقف اللماجني من فرجنسا ،وموقفه هو من العدوان الثلثي على مصر العربية) ،بريطاجنيا وفرجنسا وإسرائيل( عام .1956 فرجنســـا..؟واصل تساؤله مؤكدا ومستنكرا بحماس. 39
..ألم تتجه إلى دعم إسرائيل ردا على دعم "جناصر" لثورةالجزائر؟من الذي قام بإهداء المفاعل الذري ،المسمى "مفاعل ديموجنه"، لسرائيل في ذلك العام بالذات؟ وروى لي ،فيما روى ،عن"مجازر سطيف" التي ارتكبتها قوات الحتلل الفرجنسي في الجزائر ،في يوم 8من مايو ،1945ومالم أسمعه من قبل عن "فرجنسا الباغية" ،يوم تجمع الجزائريون مع عائلتهم في مظاهرة مسالمة في العام المنصرم على جسر "ميرابو" في باريس ،في يوم 17من أكتوبر ،1961يعلنون عن إحتجاجهم على حظرالتجول المفروض عليهم ،فأمر"بابون" ،مسئول المن في حينها، البوليس الفرجنسي بإلقاء العشرات منهم من جسر"ميرابو"** في جنهرالسين. ولم ينس أن يقارن بين "بابون" وبين "أيخمان" ،الذي تم إعدامه قبل شهور ،في يوم 31من مايو ،1962والذي تواطأ مع النظام النازي لخلق حالة الفزع عند اليهويد وإجبارهم على الهجرة إلى فلسطين. وكأجنما شجعتني حفاوته هذه ،بأن أستأذجنه في الغياب عن المكتب في _________________________________________
تحتفل الجزائر بعيد الستقلل في يوم 5يوليو رغم أن الجزائريين قد اجنتزعوا استقللهم )*( يوم 3يوليو .1962ولقد وقع اختيار اليوم الخامس من يوليو لتجسيد هدف سياسي ،إذ أن فرجنسا كاجنت قد احتلت الجزائر يوم 5يوليو 1830 )**( جنسبة إلى "ميرابو " ..خطيب الثورة الفرجنسية الذي ارتبط اسمه بحريتها
ذلك اليوم ،و ذلك لسبب آخر غيرالذي تبادرإلى ذهنه ،وهو التحتفال بمناسبة الستقلل .فقد كنت أجنوي السفر إلى مدينة "كولون"
القريبة لزيارة صديق فلسطيني يقيم فيها ،كان قد زودجني بعنوان إحدى المكتبات القليلة ،في ألماجنيا ،المتخصصة في بيع الكتب والسطواجنات الموسيقية العربية .هذا بالضافة إلى جنيتي في شراء جهاز تسجيل "ريكوردر" من جنوع "جروجنديـــــج" اللماجني ذائع الشهرة ،والذي طالما تمنيت أن أقتنيه .فلقد حدثني صديقي المقيم في"كولون" ،أجنه 40
يعرف مكاجنا يبيع أحدث الجهزة بأسعارمخفضة ،بالضافة إلى خصم "ضريبة الستهلك" للجهزة التي ينوي مشتروها من الجاجنب الخروج بها من الراضي اللماجنيه. طلبت من صديقي "يوهان" أن يعتذر بالنيابة عني لعدم تلبية دعوة "إيفا" ..زوجته .وعرفت منه أجنني سأكون في "كولون" في أقل من ساعة ،لو أجنني توجهت في الحال إلى محطة القطار. في الميدان الرئيسي للمدينة ،الذي ل يبعد عن محطة القطار غير بضع عشرات من الخطوات ،كنت أتلفت حولي باحثا عن شخص أتوسم فيه الستعداد للجابة عن سؤالي عن طريقة الوصول إلى الشارع الذي تقع فيه المكتبة. مر شاب ممتليء الجسم متجاوزا إياي من خلفي .وبالرغم من أجنني لم أر وجهه ،إل أن ملبسه وسمرة قفاه كاجنا ينمان عن إجنتمائه لبلد شرقي. مددت يدي لربت على كتفه من خلفه: من فضلك!التفت بشيء من التساؤل الذي سرعان ما تبدد وتحول إلى دهشة مذهولة: مين…؟! مين…؟! مش معقول!كاجنت المرة الخيرة التي افترقنا فيها ،ولم جنلتق بعدها أبدا ،عندما اجنتقل والده من القدس ،للعمل في عممان ،عام .1945كنا في العاشرة من عمرينا. أ بالرغم من مرور ما يقرب من خمس قرن من الزمان ،لم يتغير من ملمحه الشيء الكثير .وجهه المستدير ،سمرته ،شفته العليا المتدلية، عيناه الذكيتان ،جبينه العريض الذي كان أيضا أحد سمات ذكائه .كل ما هنالك أن حجمه قد تضخم بشكل ملحوظ ذكرجني بوالده الذي كان صديقا 41
لوالدي .كما ازداد وجهه استدارة ،واخشوشن صوته ،وامتد عرض جبينه حتى يكاد أن يصل إلى قفاه! يظهر أن هناك الكثير من الشياء الغير معقولة في اجنتظارجنا.قالها وهو يشدجني من ذراعي في إتجاه لم أجد ما يستدعي أن أستوضحه .فهو يبدو واثـقا مما يفعل .كأجنه قد أدرك أجنني أزور هذه المدينة للمرة الولى ،فاجنطلق يتصرف كالمضيف العارف .يقودجني عبر الشارع بدون أن يعبأ باعتراضي على مخالفة قواعد مرور المشاة، وهو يوميء لي بأن آخذ المور ببساطة. قال وهو يمسح بكفه رغوة البيرة التي كللت شفته العليا التي تضخمت هي الخرى وازداد تدمليها ،بالرغم من أجنه لجأ إلى ترميم العيب بأن مل المساحة بينها وبين منخريه بشوارب عريضة: ل تقلق .مشاويرك كلها ل تحتاج لكثر من ساعة ،فاترك بقيةاليوم لي أجنا .أما عن صديقك المقيم هنا في "كولون" فيمكنك زيارته في يوم آخر ما دمت لم تتفق معه على موعد محدد .وما دمت تتدرب في مدينة "فوبرتال" القريبة .فهناك أشياء كثيرة أرى أن جنتحدث عنها ،خصوصا بعدما عرفت منك أن هناك في "فيينا" هذا العدد من الطلب الفلسطينيين ،وأجنه قد تم اجنتخابك رئيسا لفرع إتحاد الطلبة هناك. قلت لك أجنه مجرد تجمع طلبي فلسطيني في إطار رابطةالطلبة العرب .القاجنون ل يسمح بإقامة فرع لتحادجنا في النمسا. مش مهم..عندي ما هو أهم.وأكمل وهو يرتفق مائدة المقهى ،وينقرعليها محددا بسبابته: جنذهب إلى المكتبة أول ،وهي ل تبعد كثيرا عن الميدان. جنشتري "الأمسمجل" ،فأجنا أعرف ذلك المكان الذي يعنيه صديقك. جنتصل بصديقك إن شئت وجندعوه لينضم إلينا. جنذهب إلى مسكني ،بعد أن جنمرعلى البقال المجاور لنا وجنتزود بما يلزمنا للطعام ..والشراب ..لنحتفل بإعلن الستقلل. 42
لم أجد أمامي خيارا آخرغيرالمتثال لرفيق الطفولة الذي ظهر لي فجأة ،ويبدو أجنه سوف يختفي أيضا بدون مقدمات. إجنه يتكلم بسرعة ،ولكن بتركيز واختصار واضحين .واثق مما يقول، كأجنما يعرف مسبقا جنتيجة وقع حديثه. حديثه ذكرجني بسائق التاكسي اللبناجني الذي أبى ،في العام المنصرم ،أن يتقاضى أجره مني يوم أن اجنطلق بي من بيروت إلى الجبل ،للبحث عن أقارب لي. قال لي ذلك السائق ،أيضا ،أجننا ل بد أن جنتفق ،كفلسطينيين أول ،وأن جنأخذ زمام أمرجنا بأيدينا ،وأن ل جننسى أن أميريكا هي عدوجنا المختفي وراء "إسرائيل " والمتواطيء معها .وتحدث ،كذلك ،عن "تنظيمات سرية" ذات "أجنحة عسكرية" ،وعن "العمل الفدائي" ،والضرب في العمق ،والكفاح المسلح طويل المد ،والمسيرة الطويلة و"ما يحرث الرض إل عجولها"..واختفى! عرفت من رفيق الطفولة أجنه قد شارك بالقتال في الجزائر ،بعد أن جنال قسطا من التدريب العسكري اللزم مع مجموعات أخرى من الفلسطينيين. رأيت بريقا يتلل في عينيه وهو يقول أن جنجاح ثورة الجزائر هو بمثابة بلسم للجرح العميق الذي سببه اجنكسار حلم الوحدة العربية باجنفصال سوريا عن مصر )**( في سبتمبرعام ،61وأجننا يجب أن ل جنتوقف عن الحلم. قال أجنه قد آن لنا أن جنتدارك كل أخطاءجنا وجنلملم شتاتنا وجنتبنى فكرة "التنظيم" ،استعدادا لخوض حرب شعبية طويلة المد .وأكد ،فيما أكده ،أجنه ل يحبذ العودة إلى الرأي القائل بتوريط الدول العربية بحرب جنظامية مع إسرائيل مرة أخرى .و ،كمن يقلب الصفحة ويبدأ في تلوة صفحة جديدة ،قال باستمتاع وتحد شديدين: ..اليوم جنحتفل باستقلل الجزائر ،وغدا بتحرير فلسطين!وإذا كان الحتلل الفرجنسي للجزائر قد امتد لـ 130عاما ،فإن غدا لناظره قريب! 43
كان يتحدث وأصابعه تعبث بأزرار الريكودر الـ"جروجنديج" الجديد، الذي ما زال حتى الن من ضمن مقتنياتي مع الكثير من الشرطة المسجلة التي تزخر بالذكريات. ولقد جنجحت إحدى محاولتي المتكررة في تحديد الشريط الذي تم تسجيل صوت "محمد الوكيل"عليه ،مع صوتي وأجنا أردد من بعده: أقسم بال العظيم.. أقسم بشرفي ومعتقداتي.. أقسم أ ن أكو ن مخلصا لفلسطين.. وأ ن أعمل على تحريرها باذل كل ما أمستطيع.. وأقسم أ ن ل أبوح بسرية حركة فتح ..وما أعرف من أمورها.. وهذا قسم حق ..وا شاهد.
*
*
*
____________________________________________________________ )** ( أعلنت الوحدة بين مصر ومسوريا في ..25/2/1958ولم تستمرأكثر من 44شهرا
لم يكن "القلـ للسـم" المشار إليه التزاما بالتمسك بمشروعي الوطني فقط ، بل الحرص أيضا على العمل من أجله في صمت وسرية .ولذلك حرصت على أن أكتم جنواياي حتى عن أقرب الناس إلي. إل أجني لم أجد غضاضة في أن أشرك أخي "عابد" فيما اجنتهيت إليه ،فهو مرشدي ودليلب في كل خطواتي. وكان ل بد لي من أن أخلو إلى جنفسي لكي أزن المور ..على ضوء ماسمعته من رفيق الطفولة. 44
كما كان ل بد من أن يشاركني ذلك رفاقك الذين تركتهم في "فيينا" دون أن يشفى غليلهم بردود على تساؤلتهم التي كاجنت تساؤلتي أجنا أيضا. كنت ،وكأجنما كنت أهرب منهم ومن جنفسي إلى شفافية "يوهان" وجنقاءه ،ورقة "إيفا" وابتسامتها البهية وأطباقها الشهية ،أو مشاكل "فولكر" وعقده وتبريراته ،وجنظريات "شولتس" وظنوجنه وحساباته.
*
*
أقول : للمنفى مساويء كثيرة ل تحصى..وفضيلة واحدة ل تنسى.. إجنه يذكرجنا دائما بحاجتنا إلى الوطن..ويؤكد صلتنا بأصولنا .
*
*
45
*
*
"إم سـمــــــــاعين"..
كثيرات كن المهات اللواتي كان يعج ويشتهر بهن حوشنا ،حوش "الخرمنده"* في حارة الواد ،في القدس القديمة. "إم خضر" ..و"إم لطفي" ..و"إم صالح الكبيره"" ،القابلة القاجنوجنية"، )الدايه اللي سحبتني ،حسب تعبيرها هي( .وهناك كزنتها "إم صالح الزغيره" ،زوجة إبنها "أبو صالح الرافعي" صاحب "مقهى الرافعي" الشهير أو "قهوة السبيس" التي أخذت إسمها من مبنى "هوسبيس النمسا" الضخم المجاور بحديقته المدرجة الواسعة، وسوره الشاهق العلو الممتد شرقا وشمال ،ومدخله المهيب المرتفع بالدرجات الحجرية المؤدية إليه. وهناك "إم مصطفى" التي اشتهرت ،إلى جاجنب لكنتها الحيفاوية وكلماتها "إمسا" و"خايتاه" ** ،بلقب "إم أبوالنوم" بعد أن اجنكشفت حيلتها التي لجأت إليها لتتخلص من مضايقات وحيدها وتتفرغ 46
لثرثراتها مع بقية أمهات الحوش بأن أرضعته مشروبا يقال له "أبو النوم"*** ،فأدمن الرضيع عليه. ولأجنسى"إم علي" المفترية ،التي اشتهرت بين الجارات بعينيها الوقحتين الواسعتين "مثل قرص الجبنه" ،كما وصفتها "إم مصطفى" مرة ،وهي التي اتهمتني يوما بالتحرش بإبنتها البيضاء الملظلظة "كوكب" مؤكدة لوالدتي أجنها رأتني رؤيا العين أثناء أحتضاجني لها و .. و ، ..بينما أجنا أذوب استحياء وخجل من سماع إتهاماتها الباطلة. ________________________________________________ ) * ( إسم الحوش كما هو مدون في الكوشان ..وثيقة ملكية الدار. )**( إمسا > همسا > همسْع > هالساعه > هذه الساعة > الن ! خايتاه > أختاه ! )***( مغلي أوراق الخشخاش .
أما "إم سماعين" ،الخليلية ،فهي أقرب جيراجننا إلينا ،حيث كاجنت تسكن مع زوجها ،الذي ل أذكرالكثير من ملمحه ،في غرفتين استقطعهما والدي من دارجنا الوسيعة. وهي صاحبة البتسامة العريضة التي جندر ما كاجنت تفارقها ،والتي كاجنت تكشف عن جنابين صغيرين من ذهب ،يتخللن أسناجنها البيضاء التي ل تختفي ،حتى وهي تنطق بحرفي "الميم" و"الفاء" ،عندما تتحدث عن "حممام الشفا" الذي يتعهده زوجها ،والكائن بالممرالمعتم المؤدي إلى "باب القطاجنين" ،أحد أبواب الحرم الشريف. كاجنت "إم سماعين" ،ذات الصول المصرية التي تتجلى في خفة دمها وحضور بديهتا وجنكاتها )التي كاجنت الجارات تصفنها بأجنها "من الزجنار وتحت"( ،مغرمة بحضور أفلم السينما المصرية .وكنت م بدوري مغرما بسماع روايتها لقصص تلك الفلم بأسلوب سردها المشوق لدق تفاصيلها وحذافيرها .وكاجنت سعادتي تبلغ ذروتها عند عودتها من مدينة"بلبيس" المصرية لزيارة أهل زوجها ذوي الجذور الفلسطينية ،ومن ثم "قاهرة المعز"" ،المحروسة" و"السيدة زينب" و "باب الشعريه" ،حيث جنشأ وترعرع إبن جيراجنهم مطرب الملوك 47
والمراء" ،محمدعبدالوهاب" ،الذي أكدت لي أجنا بعد إلحاحي بالسؤال أجنها رأته "شخصي" لعدد ل يحصى من المرات ،وحيث يمتلك عمها دارا للعرض السينمائي كاجنت تصرعلى تسميتها "سيلـ لما" ،والتي كان جمهورها يستمتع بالفرجة على الفلم وهو متربع على الحصيرة .عندها كاجنت تفسح لي مكاجنا إلى جوارها فأصغي إليها مبهورا بينما هي منهمكة في وصف القاهرة ولياليها، وحدائقها ،وملهيها ،وشوارعها ،وترامها ،ومسارحها، و"سيلـ لماتها" ..وحذافير قصص أفلمها ..وتفاصيلها. أرادت إحدى الجارات ،ذات مرة ،أن تجاريها في رواية تفاصيل ذلك المشهد المثير في فيلم "رصاصة في القلب" ،حينما كان عبد الوهاب يردد أغنية "المميه تروي العطشان" بينما هو) ،من غير ـخشا ول حيا قدام الناس( ،يستحم في الباجنيو! سألتها "إم سماعين" بغتة: وين كنتي قاعده يوميتها يام علي ..قدام واْلل ورا ..بل قافيه؟ردت "إم علي" بعظمة تجزلت واضحة على أوداجها التي اجنتفخت فجأة: على سلمته "أبوعلي"..عمره ما قلـ لطلـ لع لي إل في اللوج.فما كان من "إم سماعين" إل أن أسكتتها بإشارة استخفاف من يدها مصحوبة بصوت مصمصة شفتيها ،أسفا لجهل "إم علي" ،قبل أن تفصح: إيش أقول أجنا اللي كنت قاعده ،إسم ا على قيمتك،في"البلكون" ..وا وكيلك ..شايفه من فوق ..كل المسـائل؟! ثم تعقب بسرعة ،وبلهجتها المصرية: هو اجنتي ياختي شفتي حاجه؟ 48
فتنطلق عاصفة من الضحكات المكبوتة ،التي كاجنت تنتظر"إم سماعين" لتفرج عنها. وكثيرا ما كنت أسترق السمع لحاديثها عن قصص زبوجنات الحمام الذي خصص يومي الخميس والثنين للنساء فقط )وهي في معظمها ،كما كاجنوا يكررون ،قصص "من الزجنار وتحت"(. لم أكن في البداية أدرك لماذا تثير تلك القصص ضحك الجارات حتى تدمع عيوجنهن .وكثيرا ما كنت ألحظ أمي وهي تغمز لها أو تكز بأسناجنها على شفتها السفلى ،في الخفاء ،لكي تكف عن الحديث أمامي في هذه المور .لكن سرعان ما كاجنت "إم سماعين" تمد يدها إلى أسفل بطني وهي تقول ضاحكة بلهجتها الخليلية: ..ما هو لأْخري هيكْ هيكْ لزم ـيعـرف.وتمرالسنوات سراعا. وتبتسم أمي ،ابتسامة ذات معنى ،وهي تجففني بمنشفة الحمام قائلة، بعدأن دققت النظر في شعيرات يميل لوجنها إلى السواد بدأت تغزو ذلك المكان ،أجنه قد آن الوان للقيام ،بمفردي ،بمهمة الستحمام. وبدأت أسمع أقراجني يتحدثون عن تلك الشعيرات وعن ظواهر أخرى أثارت فضولي .بل إن اجنفرادي في غرفة الحمام ،حسب تعليمات أمي ،أتاح لي فرصة محاولة "تجربة"الصابون التي ازدادت وشوشة القران عنها إلى درجة التباهي بنتائجها التي تشير إلى العبور إلى .. الرجولة. وظلت "إم سماعين" تحكي قفشاتها ول تتحرج من وجودي .بل أصرت في أحد المرات على أن تعاود إصطحابي معها ،يوم خميس، إلى "حمام الشفا" ،وهو اليوم المخصص للنساء بالرغم من تحفظ والدتي التي حاولت أن تلمح لها بأن " الولد أْبللْغ". لكنها قهقهت حتى استلقت على ظهرها وهي تقول: 49
..حرام عليكي يا مستوره ..لـمساأته لطفـْل! *
*
*
غيوم من البخار ،كالغللت ،تلتحف بها النساء والصبايا ،والفتيات الصغيرات اللواتي ينافسن الكبار في الحرص على إخفاء أجزائهن عن أعين ذكور الطفال الدخلء أمثالي .لكن سرعان ما تعيدهن رغاوي الصابون و فقاعاته إلى أصولهن البريئة ولهوهن ،فتنطلق الصرخات ويتزايد ارتفاع "صوتيات" الحممام العام التقليدية المشهوره. خليط من الجناث من مختلف العمار .بعضهن عاريات تماما. وأخريات أبى حياؤهن إل أن تحتفظ الواحدة منهن بقطعة ملبس داخلية أو اثنتين ،أو بقميص ابتل والتصق باللحم ،وغدا كما يقول الشاعر ،كثوب الرياء ..يشف عما تحته. العجائز منهن غير مباليات .منهن من يستظرفن بمداعبة بناتهن أو حفيداتهن ،دعابات ما كنت أظنها مباحة إل في ذلك المكان فقط. ومنهن من يحاولن لفت أجنظار الطائشات إلى التمسك بأهداب الصول. وصبية تتشبه بفتيات المجلت الجنبية في إبرازعريها في أحسن حالته. وأخريات يمصمصن شفاههن ويلوين أعناقهن ويتبادلن جنظرات تفيض بالغيرة والحسد. إحداهن تطارد الخرى لتثأر لنفسها من دعابة بريئة أو غير بريئة، فتنزلق على بلط الحمام الذي لم يكف لمعاجنه وابتلله عن التحذير من مغبة المطاردات .تنطلق الضحكات ويعلو الصراخ تعليقا على أوضاع الجسد المتزحلق الذي فقد اتزاجنه وقدرته على الحتشام، فأهتدي إلى أسباب أخرى لرتفاع أصوات رواد الحممام..غير اجنقطاع المياه. 50
وهنا أرم اجنتبذت مع صبيتها مكاجنا قصيا لـتمارس عمل ل يليق أن تمارسه ،هكذا ،أمام الجميع ،وتهمس في أذجنها ما ل يليق أن يسمعه أحد. وعجوز تستعرض مهارتها في التكبـيس ،وأخرى تتفنن في التليـيف والتكيـيس. وكاعب أخذت تغطي جنهديها النافرين بخصلت شعرها المبتل المرسل ،وهي بذلك إجنما تستلفت الجنظار إليهما باعتداد واعتزاز. وامرأة تروح وتجيء وهي تضم صدرها الخذ في الترهل بيد، كأجنما هي تخشى أن يسقط منها ،وبكف يدها الخرى تجاهد أن تخفي ملتقى أسفل بطنها بساقيها. وصبية أخرى تتباهى بشعرها الذي ينسدل على ظهرها حتى يكاد يغطي كرتي مؤخرتها المتأرجحتين بإيقاع مدروس وخبرة متوارثة، وأمها تتابعها بابتسامة راضية فخورة. وأجنا ،كالملح الحديث العهد بأمواج العماق ،تائه في بحرالجنوثة. أحاول ،هذه المرة ،أن أقرأ السطورالمبهمة أو أن أفك الرموز المختلطة علمي ،وأتعرف إلى مفردات لغة جديدة ،لغة العري ،تتغنى بها قبيلة الجناث تلك. أتظاهر بالبحث عن "إم سماعين" ،فإذا وجدتها أبادلها البتسام مع افتعال البراءة ،لن ابتسامتها الشقية ترميني بما يشبه التهام. ثم أواصل رحلتي في عالم جديد متجدد .فقد سبق أن أتاحت لي "إم سماعين" خوض التجربة في مرات عديدة لم يكن لها ذلك المذاق، بعيون لم يكن لها تلك القدرة الجديدة على الكتشاف والولوج والختراق. كل ما كان يشدجني إلى "حمام الشفا" في الماضي هو صحبة "إم سماعين" التي كاجنت تجيد رسم البسمات على الوجوه ،والحساس الغامربالحرية ،حرية أن تمعن النظر في عري الخرين بمحض 51
إرادتهم ،وبمتعة النظافة ،واستنشاق عبق صابون "الشكعه" النابلسي الذي تفوح رائحته وتمل المكان ،بل تخرج لتستقبل زبائن الحمام عند مدخله في ممر "باب القطاجنين". فما بالي الن أدقق النظر في هذه وتلك. هذه سمينة أو ممتلئة أو هيفاء ،وتلك جنحيفة أو مترهلة أو عجفاء. هذه صبية ،وتلك طفلة شقية. وهذه جميلة ،وتلك ممشوقة وطويلة. هذه كاملة العري جريئة تتباهى بعريها ،وتلك مابرحت تحاول أن تواريه بكفيها ورغاوي الصابون ،خجوله. أتذكر أقراجني وادعاءاتهم ،والصابون ،ومحاولتي اليائسة. خدر مبهم لذيذ ،مازلت حديث العهد به ،يغمرجني وينتشر في عروقي. "لباسي" ،الذي لم أتنازل عنه لسباب خاصة ،تعرفها أمي جيدا، يضيق علي فجأة. بقايا امرأة تحدجنـــي بنظرات متفحصة ،مستنكرة ،ثم تألوْتـوت مع عجوز بيدها كوز. تنضم إليهما مستاءة ثالثة. يتجهن جنحوي مشيرات ،وتتبعهن أخريات ثائرات. وترشقني العجوز بمحتويات الكوز ،ليلتصق لباسي المبتل بجسدي. تعلو الصيحات الغاضبة المستعيذة بال رب العالمين. ول ينقذجني من ويلت غضب الغاضبات سوى ..خالتي "إم سماعين". *
*
52
*
حمار "فارس" 53
ذات صباح باكر ،والشمس ترسل أوائل خيوطها الذهبية لتبدد عتمه"باب السباط" ،البوابة الشرقية لسور القدس القديمة ،كنت أقف هناك أجنا وأخي "عابد" ووالدي باجنتظار اللحزمار الشاب"فارس" ،إبن جارجنا "أبو فارس". لم يطل الجنتظار .وسرعان ما لوحنا لوالدجنا مودعين. كنت ،في حينها ،أظن أجنني أودع القدس لمدة أسبوع أو أسبوعين، ريثما ينظف الجيش العربي المنطقة كلها من دجنس الصهاينة ،كما كاجنوا يشيعون. وتناوبـنا صهوة الحمار ،بينما كان الحممار الشاب ل يكف عن لسع مؤخرته بخيزراجنته ،في الطريق الجبلي الملتف الوعر وصول إلى "بيت لحم" .فقد كاجنت "العصابات الصهيوجنية" قد قطعت واستولت على الطريق الرئيسي. *
*
*
هناك في حياتنا لحظات جندرك فيها معاجني الكلمات أو الصطلحات بدون جهد ،حيث جنراها مجسدة ،فتنحفر في ذاكرتنا إلى البد،على شكل موسوعة "حاسوبية" ،جنسبة إلى " الحاسوب" ،وهوذلك الكائن العجيب المجيب"..الكومبيوتر" .ما تكاد تضغط على أحد أزراره حتى تنهمرالمعلومات على شاشته بوضوح! بعضها على شكل كلمات ،وبعضهاعلى شكل صور ثابتة ،والبعض الخر في صور متحركة ،وربما جناطقه أيضا. ألسنا ،بل عجب ،جنعيش الن في عصر الـ "مالتي ميديا"؟ مثال ذلك "أحــــــرون" الحمار: 54
صورة حمار تصنع قوائمه الربعة مع الرض زوايا حادة ،رقبته مشدودة بالزرلسن ،رأسه منكسة بعناد ،ومنخراه يقتربان من أديم الرض بينما ينطلق منهما ،على دفعات متقاربة ،مخروطان من الهواء يثيران عواصف من التراب .وهو) الـحمار( يتشبث بالرض، ويأبى أن يتزحزح قيد أجنملة ،بالرغم من السياط الموجعة ،إل بعد استعمال مختلف الحيل ،التي يعرفها صاحبه "اللحزمار" ،بحكم تجربته مع أمثاله من الحميرالغرار. في ذلك الوقت كنت أفسر ذلك العصيان بالعجزعن مواصلة السير في الطريق الوعرالهابط الصاعد .لكنني ،بعد ذلك ،وكلما عادت تلك الصورة إلى مخيلتي ،ازددت يقينا بأن الـ"حمار" كان "يتشبث" بالرض ،ويأبى ،ببساطة ،أن يترك "موطنه الصلي" الذي ولد وجنشأ فيه وينتمي إليه. أتيحت لي في صباي المبكر ،قبل الهجرة ،وبشكل تلقائي عابر، بفضل خالتي "آمنه" ،الفناجنة التشكيلية ،ممارسة أشكال من الفنون، فيماعدا فن"النحت" الذي كاجنت تشدجني وتبهرجني"تماثيــــله" كلما مررت بكنائس وأديرة القدس القديمة .وكم تمنيت ،في صباي، بعدالهجرة ،لو تمكنت من هذا الفن وأدواته .ولم تتوقف أمنتياتي عند هذا الحد ،بل حاولت ،وعندما باءت محاولتي بالفشل ،تخيلت جنفسي وقد صنعت تمثال ليوضع على قاعدة مرتفعة في ميدان "باب العامود" في القدس .تمثال ضخما لذلك "الحمار" ،في تلك اللحظة، لحظة حروجنه وإصراره على الرفض ،ولم أستطع كبح جماح خيالي الذي أخذ يزين ميادين مختلف المدن والقرى ،في كل مكان ،بذلك التمثال الذي يجسد حمار "فارس". وبمرورالسنوات ،عندما كبرت وجنمى في رأسي ،كما يفترض ،شيء يسموجنه الوعي ،تخليت عن أحلم التماثيل هذه خصوصا بعد أن قرأت قول برجناردشو: "تصنع المم تماثيل كبيرة للشياء التي تفتقدها أكثر". 55
صرت أبحث عن أشياء جنفتقدها أكثر من حمار "فارس". ل أستطيع أن أتذكر تاريخ ذلك اليوم ،يوم الهجرة من القدس، بالضبط .ولم يعدأمامي سوى التخمين .ولم يكن ذلك ،على أي حال، إل بعد اجنتهاء السنة الدراسية بأيام معدوده .ربما في شهريوجنيـو من عام .48فمازلت أذكر قيظ الرحله .ومن بعدها قيظ "غزه" الشهير، الذي استقبلتنا به ،والذي عرفته قبل ذلك في أشأهر الجازات الصيفيه. بل أذكرأجننا غادرجنا القدس أثناء الهدجنة الولى التي فرضتها المم المتحدة .ويمكن التدقيق في تاريخ بدايتها وجنهايتها*. بالضافة إلى قصة حمار إبن "أبو فارس" اللحرون ،التي لم تنته بعد ،هناك ذلك المشهد الذي ظل يحتل جزءا من ذاكرتي ،والذي أكاد أراه بكل تفاصيله كلما تداعت أمامي ذكريات الهجرة. كنت فيما مضى أرى المصريين وأسمع لهجتهم المحببة بلسان جارتنا "إم سماعين" وفي الفلم السينمائية فقط .ولكنني على يقين من أن "المشهد" الذي يتراءى لي الن قد حدث بالفعل. لم جنكن بعد قد قطعنا سوى بضعة كيلومترات ،في طريقنا جنوبا إلى مدينة "بيت لحم" ،عندما استوقفنا جنود يتحدثون اللهجة المصرية، طالبين منا أن جنساعدهم ،مع بعض الذين قاموا باحتجازهم من القرويين ،في حفرالخنادق ،وتعبئة أكياس الستحكامات بالتراب. وهيهات أن يسمح الجنود المصريون لنا بمواصلة السير .هذا بالرغم من ادعاء أخي بأن الولد ،أجنا ،مريض وأجنه يجب أن يسارع في توصيله إلى "بيت لحم" ،وبالرغم من أدائي المتقن لدور المريض. وهنا ينبري اللحممار الشهم لجنقاذجنا بأن يتطوع بالبقاء معهم للقيام
____________________________________________ )*( أعلنت الهدنه الولى في ، 1948 /11/6ولمدة 28يوما .
بالمهمة المطلوبة مقابل أن يتركوا أخي ليواصل الرحله معي ،على أن يعود بالحماربعد أن يودعني عند أقارب لنا هناك في "بيت لحم". 56
وبعد أقل من جنصف ساعة كان الحزمار قد غافل الجنود ،وفر منهم هاربا ،ليلحق بنا. وهكذا قدر لي أن أكون شاهد عيان لحد الحقائق التاريخيه. الجيش المصري على مشارف القدس الجنوبيه. عجبت ،في حينها ،لمر هذه الجيوش .وتساءلت: ما الذي أتى بهم إلى تلك البقعه؟ هل ضلوا طريقهم؟ أم أجنهم وصلوها حسب خطة مرسومه؟! ثم يأتي مشهد النهاية. فقبيل وصولنا إلى مشارف مدينة "بيت لحم" ،فوجئنا بالحمار يسقط على الرض إعياء وعبثا حاول اللح زلمار "،فارس" ،مساعدته على النهوض ثاجنية. لم يلبث جارجنا "فارس" أن رأى أن يلجأ ،لتخفيف الحمل ،إلى أن يفك وثاق الحقيبة والبردعة عن ظهر الحمار .ولم يكد يفعل ذلك حتى قفز الخير ،مثل الجندب ،وفمر هاربا في إتجاه الشمال..عائدا من حيث أتينا ..إلى موطنه الصلي)!( ألم يستحق ذلك )الحمار( تمثال يخلد عبقريته؟
*
*
أوهــام الحب .. 57
*
عندما تقودجني التداعيات للتوغل في الماضي والتأمل في معنى ما يسموجنه الحب الول ،فل بد من أن يستدعيني من "القدس" طيف "ست رباب" التي عرفت معها أول ماعرفت معنى الشواق والجنتظار. ربما كاجنت في الثامنة عشرة من عمرها ،صديقة حميمة لشقيقتي الكبرى "أحسن" ،التي تكبرجني بأكثر من عشر سنوات. كاجنت بيضاء ذات عينين سوداوين ،حوراء ،لها شفتان دقيقتان ،أرقأ الفنجان** ،تنفرجان عن صفين من الللي ،كما كاجنوا يصفوجنها. فارعة الطول تشتهر بأجناقتها التي يتيحها لها اجنتسابها إلى عائلة غنية من عائلت القدس العريقة .أما عطرها الخاذ الذي كان ينم عن حضورها عن بعد حينما أحس به يدغدغ خياشيمي فحدث ول حرج. خطرلها ذات يوم أن تساهم في حل مشكلتي ،التي أعيت أمي وإخواتي ،بأن ترافقني إلى المدرسة التي أدمنت على إعلن إضرابي عن الذهاب إليها .وعندما أمعنت في رفضي ،ذات يوم وتشبثت بالرض ،عند الطاحوجنة ،قبل الوصول إلى "باب العامود" ،حملتني بين يديها ظنا منها أجنها قد اهتدت إلى الحل المثل ،فما كان مني إل أن جنزعت عن وجهها "المنديل" ،الذي كان ل يفارق رأسها ووجهها في الطريق العام حتى تلك اللحظة .وذلك إمعاجنا في احتجاجي على تدخلها في شؤوجني ،والمساس بحريتي. __________________________________________________________ )**( مقاييس الجمال عند ذلك الجيل كانت تؤكدها الغنية الشعبية الغزلية القائلة: ق الفنجا ن"! " شفايفها تر ق
لم تجد يومها مفرا من إجنزالي إلى الرض ،بعد أن اجنكشف رأسها ووجها للمارة الذين أخذوا يستنكرون "سفورها" ،لمحاولة تخليص "المنديل" من قبضتي ،مما سهل لي الهروب والعودة إلى البيت. كل ما أتذكره بعد ذلك أن "ست رباب" اجنقطعت عن زيارة أخواتي مدة طالت كثيرا. 58
*
*
*
في أحد أيام الجمعة ،بعد عيدين من أعياد الفطر مباشرة ،هرعت إلى باب الدار إثر سماعي لطرقات خفيفة جناعمة متميزة .فتحت الباب فإذا أجنا أمام واحدة تشبه الجميلت اللواتي يظهرن على أغلفة المجلت وفي أفلم السينما .أول ما لفت جناظر م ي هي تلك القبعة السوداء المائلة فوق جبينها ميل خفيفا ،والتي ينسدل من حافتها العريضة غللة من الداجنتيل السود بثقوبها الدقيقة لتغطي جنصف وجهها العلى ول تخفيه. أزاحت الغللة ،بحركة رشيقة من يدها ،عن وجه أبيض وعينين سوداوين ،واجنفرجت شفتاها الدقيقتان عن صفي الللي باسمة. أيقنت ،ربما بفضل عطرها ،من أجنها "ست رباب" ،قبل أن تنحني لتقبلني. كنت أجنظر إليها مشدوها ،أخطو الهوينا إلى الخلف مبتعدا عنها لكي أرى قوامها الفارع الذي بات يذكرجني بـالممثلة "راقيه إبراهيم"، التي رأيتها في أول أيام العيد في فيلم سينمائي مع "عبد الوهاب" .ثم اجنطلقت أطوف أجنحاء الدار ،وقد أطلقت عقيرتي مكررا أحدث أغنية، "دويتو" ،لمطربي المفضل ،معلنا بذلك عن ذلك الحدث الجلل: حكيم عيون أفهم في العين..وافهم كمان في رموش العين.. * * * في البداية كنت أسمع أخواتي وأمي وهن يتبادلن الحديث والتساؤل عن سبب غياب "ست رباب" .لكن خالتي الفناجنة التشكيلية "ست آمنه" ،التي دأبت على الحديث عن الجمعيات النسائية والتباهي بمعرفة "هدى هاجنم شعراوي" و "سيزا جنبراوي" أو "ملك حفني جناصف" ،باحثة الوادي ،أوغيرهن من رموز حركات تحررالمرأة في ذلك الوقت ،معرفة شخصية ،قد أوضحت لهن مؤخرا أن سبب غياب 59
"ست رباب" لم يكن هو وفاة والدها فقط ،ولكنها قد أصبحت عضوا جنشيطا في إحدى الجمعيات النسائية ،تقود حملة تنادي بـ "سفورالمرأة"! وهذا مما جعل أخي "عابد" يردد ويكرر دائما وهو يشيرإلى حكايتي السابقة مع "المنديل" في "طريق الواد" ،عند الطاحوجنه ،قبل الوصول إلى "باب العامود" ،ضاحكا: لقد لقنها هذا المفعوص درسا في "التمررد".*
*
*
قلت لمي في ذلك اليوم )وكنت قد جناهزت التاسعة من عمري( أجنني، عندما أكبر ،لن أتزوج إل واحدة في مثل رشاقة وجمال وأجناقة "ست رباب". وعندما سربلت شقيقتي لها الخبر ،احتضنتني برقة وحنان آسرين وهي تؤكد لي أجنها سوف تنتظرجني إلى أن أكبر. وكأجنما أعلمنا خطوبتنا في ذلك اليوم )!( كنت أعشق وجودها ،ويكدرجني غيابها ،وأطير فرحا عندما تكلفني شقيقتي "أحسن" بتوصيل رسالة لها ،وأجنتظر بفارغ الصبر زياراتها لنا .أعمد اللحظات في اجنتظار موعد حضورها .وعندها ،كنت أجتهد في أن أسبسب شعري بعد اجنتقاء أجمل حلة لستقبلها بها وفي يدي ضمة زهور ،أو قلدة ياسمين أعددتها لها من شجيرات والدي التي تنبت في البراميل والصص المنتشرة في أجنحاء وسط الدار. لشدما كاجنت تثيرجني همزات وغمزات أخواتي المتدارية والتي كنت أشعرأجنها تحمل سخرية من حبي المعلن ،وأشواقي ولهفتي للقاء حبيبتي. 60
كل ما كان يدور في خلدي عن الحب هوأجنه ذلك الشيء اللذيذ الممتع الذي يتمتع به المحبون ،وأن المحبين إجنما هم فئة ل تختلف كثيرا عن أبطال التاريخ أو الرسل والجنبياء ،الذين يرسلهم ا ليكوجنوا قدوة حسنة .جنراهم )المحبين( في أفلم السينما ،في أحسن حالتهم تارة، وفي أسوأها تارة أخرى ،لنتعلم منهم عدم جدوى المال والجاه في غياب الصدق والماجنة. كدت أتوهم أحياجنا أن قصص الحب ل تحدث إل بين شاب أجنيق يتمتع بصوت جميل ،وفتاة جميلة ل بأس في أن تحسن الغناء أيضا. وهو،البطل ،ل بد له من أن يحفظ عن ظهر قلب عددا كبيرا من الغاجني ،لكل منالسبة أغنية مناـسبة .وهو إبن الناس الغنياء ،الذي يصر ،رغم معارضة أهله ،على التضحية بميراثه من أجل حبيبته بنت الفقراء .أو إبن الفقراء الشجاع الشهم ،الذي تقع في حبه بنت الغنياء ،وبالرغم من معارضة أبيها الباشا ،إل أجنه في النهاية ينجح في تذليل العقبات ،ويتزوجها ليخلفا صبياجنا وبنات. وكثيرا ما كنت أتساءل بيني وبين جنفسي ،لماذا يقتصر وجود هذا "الحب" ،هذا الشيء الرائع ،على قصص الروايات والفلم وكلمات الغاجني فقط ،ول وجود له بيننا؟ لماذا يتحدثون عن أبطال قصص الحب بإعجاب ،ويطربون لغاجني الحب ،ول يجاهرون به ،بل ينكروجنه أو يتنكرون له ،إن لمستهم عصاه السحرية؟ ولماذا ،قبل كل شيء ،كل هذا الهمز واللمز الذي أتعرض له عندما أجاهر بحبي لـ "ست رباب" ،خطيبتي؟ غدوت أردد أغاجني الحب التي كان "عبد الوهاب" يلقنها لي من خلل راديو "قهوة الباسطي" المجاورة: "سهرت منه الليالي" و" إيه اجنكتب لي يا روحي معاكي" و"طول عمري عايش لوحدي" و"لست أدري" و"يا دجنيا يا غرامي" و 61
"حياتي إجنت " و"عشقت روحك" و"أحب عيشة الحرية" و"طال اجنتظاري"..وغيرها..وغيرها. أحببت الممثلة "راقيه إبراهيم" من أجل سواد عيون "ست رباب". قالوا لي" :راقيه إبراهيم" يهوديه. قلت :مش مهم! وبت أحلم بيوم أصبح فيه في عمر "محمدعبد الوهاب" وأجناقته التي لم أكن أمتلك من مقوماتها سوى ذلك الطربوش الذي تزعفلت ،في سق" ،في بيروت ،إيام فرح طفولتي المبكرة،على أرض"سوق سأرْ أ خالي "علي" ،وصول إلى الحصول عليه. وكأجنما كنت أعد العدة لذلك اليوم البعيد بأن أتزود بأغاجنيه ،وأحفظ كلماتها إن فاتني بعضها بأن أصيخ السمع لخي "عابد" وهو يرددها بينه وبين جنفسه .وكثيرا ما كنت أبحث عن كلمات الغنيات في كتب أخي ومن بينها دواوين "أحمد شوقي" أوغيره من الشعراء. أسترسل في الغناء ،ول يعنيني من ينصت لغنائي أو يطرب له أو يعرض عن سماعه أو يثني عليه ،أو يثنيني عنه .المهم أجنني استمتع به .وكان خفوت صوتي بطبيعته هو ما كان يحول دون سماع غيري له أو اجنزعاجهم منه أو استنكارهم له ،فأتمادى في مواصلة الستمتاع. ض ،مما كان يجعل يبدو أجنني كنت أؤدي تلك الغنيات على جنحو مر ض خالتي آمنة تزيدجني ثقة بنفسي وتعطيني شعورا بالتميز .الشيء الذي كنت أفتقده بين أخواتي ووالد م ي اللهين عني بمشاكلهم التي لم أكن أدرك كنهها. ويبدوأجنني ،في ذلك الوقت ،قد عقدت العزم على أن أصبح ممثل سينمائيا .ربما كان ذلك أملا في أن يتاح لي عندها أن أستمتع بهذا الشيء الجميل الممتنع ،و وللللها ا في ولوج عالم الحب الساحر. بات كياجني مسكوجنا بذلك المعنى اللهي الغامض السر. وظل مثلي العلى هو"محمد عبد الوهاب". 62
وأصبحت أحلمي ،في يقظتي ومنامي ،ل تخلو من طيف "ست رباب". و "طال اجنتظاري".. *
*
*
"نهـــــــــــــــــاد"..
ويحي! أليست"جنهاد"هي تلك الحورية التي يحلولي أن أتذكرها ،وأذكرها، كلما جاء ذكر حوريات الجنه؟ ألم أقل مرة أجنها آية من آيات ا ،خلقها على مهل ،ولم يخلق لها شبيها. 63
وإن هي إل تجسيد حي لدهشة الطفولة الجميلة البريئة. هل كن حقا أحبها؟ كنت قد بلغت الثالثة عشر من عمري ،وإن كنت أبدو أصغر سنا من ذلك ،حينما جمعت دار عمي "غزال" ،في بداية الهجرة ،عام ،1948ذلك العدد الوفير من أفراد العائلة اللجئين إلى "غزه" ،من أماكن فلسطينية مختلفة. كنت أصغرالولد ،وكاجنت أصغرالبنات .تصغرجني بسنة ،أو أكثر بقليل. وكاجنت امرأة عمي ،جدتها ،تردد دائما أجننا "لبقين لبعض" .وكثيرا ما كاجنت تخصنا باهتمام يلفت اجنتباه الخرين ويثير تعليقاتهم .بل كاجنت ل تطيق أن تراجني لوحدي ،فتبادر بسؤالي: وين "جنهاد" عمنك؟ شوفها راحت فين ،ودير بالك عليها!*
*
*
كاجنت دار عمي "غزال" تقع في أطراف المنطقة ،تحدها من الشمال سوافي الرمال البكرالذهبية الناعمة التي كاجنت حباتها أشبه بكرات دقيقة مصقولة من الزجاج. كنا ،في أوقات العصر ،جنتراكض عليها ،حفاة القدام ،صعودا وهبوطا من فوق سوافي الرمل باتجاه الغابة البعيدة .بحيث كاجنت دار عمي تتوارى تارة ،ثم تظهرمن خلفنا تارة أخرى فيروق لنا ذلك الظهور والختفاء ،فنوغل في البعد والصعود والهبوط. جنتسابق تارة ،أو يسابق كل منا ظله ،تارة أخرى .ول جنتوقف إل عندما يدركنا التعب ،أوعندما تميل الشمس إلى الغروب ،فنجلس لنلتقط أجنفاسنا .ثم جنسارع بالعودة خوفا من أن يدركنا الظلم ،بينما يجتهد كلجنا في جنفض حبات الرمل الزجاجيةعن سيقان الخر. 64
رقيقة كاجنت ،سمراء ،بعينين عسليتين غائرتين في وجه ل أمرل من النظرإليه والتأمل فيه. لها شعركستنائي طويل منسدل ،مطواع ،تعرف كيف تعيده إلى مكاجنه بحركات رشيقة من رأسها ،كلما اجنزلقت خصلته لتغطي جنصف وجهها. جناعمة،هائمة ،دائمة البتسام .تتلل في عينيها ومضات من البراءة الساحره .وما أن تبتسم لي ،بشفتيها ،وغمازتي خديها اللتان تضفيان على جمالها خصوصية سابية ،حتى تبتسم لي الدجنيا. وعندما تضحك ،فلها ضحكة لم أجد لها شبيها سوى صوت الصينية الفضية الرقيقة عندما تدحرجت على بلط وسط دراجنا الحجري في القدس ذات مرة. ذراعاها ،وكذلك ساقاها اللذان لم تكن تشعر بأي حرج عندما تطمير الريح تنورتها عنهما ،يكسو سمرتهما الخاذة زغب حريري أشقر لمع من كثرة تعرضها للشمس. كنت أحب براءتها التي كاجنت تتجلى في إيماءاتها ،وأسئلتها الكثيرة. "ليش في جنجوم كتير في السما؟" "ليش العصافير بس هي اللي بتطير؟" "ليش ما بنشوف المليكه؟" "كيف الشياء بتتلون وكيف اللوان بتصير؟" " ليش خيالك صار أطول منك؟" "ليش ما بدك ترسمني؟" " قال إجنت بتعرف تغني؟" " ليش الرمل عامل هيك ..كأجنه بساط حرير؟" ثم تنطلق راكضة حولي في دوائر تتسع تدريجيا ،وهي تطلق ضحكتها فضية النبرات ،لترسم بأثار قدميها على أديم سوافي الرمل المتماوج شكل حلزوجنيا يظل يكبر ويتسع إلى أن ينهكها التعب 65
فترتمي على الرمال الزجاجية الناعمة الجافة .ثم تضع يدها على قلبها: "يا أل كيف قلبي بيدق بسرعه ..تعال هات إيدك ..ـحسْ! " وفي اليوم التالي تتساءل في دهشة بريئة عن مصير الدوائر الحلزوجنية ،إن محتها الريح. ول جنمل من تكرار ما فعلناه بالمس. ول تمل هي من تكرار طلبها بأن أصطحب "الفلوت" الذي سمعت ثنااء على عزفي عليه ،فإن فعلت ،فهي ل تمل من سماع عزفي لغنية "سجى الليل" ،أو"آ يا زين العابدين" ،أو مقدمة أغنية "طول عمري عايش لوحدي" ،أو الرتجالت الموغلة في الحزن التي كاجنت تنفلت من اللة بعفوية ،فل ألبث أن أتوقف عن العزف عندما أرى إبتسامتها تكاد أن تذوي. لم أعرف تفسيرا محددا لمشاعري تجاهها ،وهي التي أجنستني كل أوهامي السابقة. لم أكن أطيق البعد عنها لحظات. كاجنت هي شاغلي الوحيد في تلك الظروف الطارئة الثقيلة الظل، التي حرمتني من دارجنا التي أحبها في القدس ..من حوشنا ..من أولد جيراجننا ..من صوت أخي"عابد" مغنيا ..من صوت والدي يتردد في وسط الدار مرتل ليات من القرآن الكريم ..من صوت راديو قهوة "الرافعي" وهو يصدح بأغاجني جميلة لم أعد أسمعها. اشتقت لسماع جنشرات الخبارالتي كان "أبو صالح الرافعي" يتعمد رفع صوتها ليسمعها كل الجيران وهي تتحدث عن اجنتصارات ل معارك "باب الواد" ،وصمود "يافا" وقراها" ،أبو كبير" ،و"لسللمه" الباسله ..إلخ لم أعد أسمع سوى تعليقات يائسة حول الجنسحاب من "اللد" و "الرمله" ..أو سقوط هذه المدينة أو تلك القرية. أتساءل عن مصير "جيوشنا العربية". 66
أين هي ،وما الذي جرى لها؟! وتطرق ذهني ذكرى جارجنا "الصاجن ميجر حربي" ،وليلة بكيت فيها من حيث ل أعرف السبب. ثم تنتهي الهدجنة ،التي أشيع أجنه باجنتهائها ستكون المور قد سويت سلميا بمعرفة رجل مهم إسمه "الكوجنت برجنادوت" ،إن لم يكن بالتدخل الحاسم للجيوش العربية ،ولن جنلبث أن يعود كل منا من حيث أتى. لكن اليهود اغتالوا ذلك المل .قتلوا الوسيط الدولي في أحد شوارع القدس الجديدة*. واجندلع القتال بأشرس مما كان عليه من ـقبلهم .وكاجنت تلك الظاهرة التي باتت موضع تعليق الجميع ،فكأن الهدجنة ما كاجنت إل لعادة تسليح اليهود ،وبأسلحة أكثر تقدما .كالطائرات مثل. وعرفنا ،في"غزة" ،الغارات الجويه. عرفنا الرعب الجماعي ،والتكدس في الماكن الكثر أماجنا. ______________________________________________________________ )*( اغتالت عصابة "شتير ن" ،بقيايدة إمسحق شامير ،الكونت برنايدوت في القدس في 17يوليو 1948
عندما جنسمع صوت الطائرة ،أو زامورالخطر ،كنا جنسارع للختباء في"البدروم" .بل كثيرا ما كنا جنقضي بعض الليالي متكومين. متراصين في ذلك المكان المين. كنت أبحث عن "جنهاد" فأجدها تلتصق بجدتها التي كاجنت تفسح لي مكاجنا إلى جاجنبها .ثم أصبحت الجدة تحرص على أن تفصل بيننا ليكون كل منا على أحد جاجنبيها. وبعد أسابيع اجنضم إلينا ،في"غزة" ،والد م ي وأخي "عابد". لم يستطيعوا الصمود تحت وابل القذائف .أصيبت والدتي في رأسها إصابة خفيفة مما جعل والدي يقرر الرحيل .حتى إذا جاءت الهدجنة الثاجنية ،جمعوا كل ما في بيت الخزين من مؤن .رز وسكر وزيت وزيتون وطحين ومختلف الحبوب الخرى وبعض الملبس والحرامات لزوم الشتاء المقبل .ولم ينسوا برميل الكاز. 67
وعندما وصلت السيارة الشاحنة باب دار عمي "غزال" وأخذجنا بإجنزال الغراض والحقائب والكياس الخيش والسلل فاحت رائحة الكاز الذي حرص رجال "الهاجاجناه" البواسل ،الذين اعترضوا طريق الشاحنة ،لسباب أمنية ،على صبه على كافة محتوياتها من مؤن. وقيل لنا أن بقية ضواحي القدس الجديدة ،الغربية منها ،قد سقطت بدون مقاومة تذكر .إذ شاع أن الجيش العربي كان معنيا بالدفاع عن الماكن المقدسة في البلدة القديمه ،وشرقها فقط .وقيل أن الجزء المخصص للدولة العربية ،حسب قرارالتقسيم ،هوما كان يسترعي إهتمام الملك عبد ا بالدرجة الولى. )ذلك ما اتضح عندما قررالملك عبد ا ضم "الضفة الغربية" إلى "شرقي الردن" وظهور المملكة الردجنية الهاشمية في عام (1950 ولما طال اجنتظار عودتنا كل إلى بلده ،تقرر أن جننتقل لنسكن في شبه بيت مقام في أرض حديقة واسعة لبيت العم الثالث ،عمي"أحمد". وذلك مما اقتضى سفر والدي وبصحبته أخي إلى القدس ،مغامرة، لحضار ما تيسر من الفراش وومزيدا من الملبس الشتويه. مع جنهاية الجنتداب البريطاجني ،كان من الطبيعي أن تنتهي علقة والدي الوظيفية ببلدية القدس .وكان من الطبيعي أيضا أن تأخذ مدخراته المتواضعة بعد ذلك في الضمحلل مما اضطرأخي"عابد" ،بعد طول اجنتظار في غزة ،إلى السفر إلى "السكندرية" بحثا عن عمل بمساعدة خاله "علي" ،الذي كان يشغل وظيفة مدير المؤسسة الفلسطينية ،البنك العربي ،هناك منذ عام .47 وبذلك حرمت من وصاية أخي ورعايته لي ،التي لم تكد تبدأ ولم أكد أهنأ بها ،والتي كنت في أمس الحاجة إليها في تلك المرحلة من عمري. واجنضمت شقيقتاي "أحسن" و "إكتمال" إلى "شفاء" ،إبنة عمي "سليم" الكبرى ،للعمل بالتفصيل والخياطة للمساعدة في مواجهة أعباء الحياة ،وتوفير مكان أفضل للسكن. 68
واجنتقلت أسرة "جنهاد" للسكن في منطقة بعيدة أقرب إلى قلب البلد. ومع ذلك ،فقد كاجنت تأتي لزيارة جدتها وتحرص على العودة قبل الغروب .فأحرص أجنا على مرافقتها في طريق عودتها .وتحرص هي على أن تستدرجني أثناء سيرجنا لنغني سويا تلك الغنية السباجنية التي تعلمتها من"هنيه" بنت "روزاليا" ،إحدى جاراتنا في القدس. تعودجنا أن جنسلك طريقا رمليا مختصرا ،يخترق أرضا مهجورة*، ليصل بنا إلى الطريق العام المنحدر إلى سينما "السامر" ،مرورا بمنتزه البلدية ،حيث تكون دار "جنهاد" الجديده. كاجنت الشمس تميل إلى الغروب عند مرورجنا ،في ذلك اليوم ،من خلل ذلك الطريق المختصر ،الخالي عادة من المارة. كنت أثناء سيري إلى جاجنبها أضع يدي اليمنى على كتفها اليمن، بينما هي تستدرجني لمشاركتها الغناء. ول أدري كيف خطرت لي ،ولول مرة ،تلك الفكرة في تلك اللحظة. ____________________________________ )*( يطلقو ن عليها ال ن إمسم ..أرض " أبو خضرا"
فبعد تردد طال ،وأجنا أحسب للعواقب ألف حساب ،اختطفت من خدها قبلة سريعة خلتني بعدها قد اقتطفت تفاحة الجنة ،وارتكبت بذلك الثم الذي ل يغتفر. تركتها غارقة في دهشتها ولذت بالفرار. الحقيقة أجنني ل أدري كيف واتتني تلك الرغبة ،في ذلك الوقت وذلك المكان .فلم أكن أفتقر إلى لحظات عزلة معها .فكثيرا ما قضينا الساعات الطوال منفردين ،بعيدين عن أي رقابة ،جنمرح وجنتقلب على سوافي الرمال المجاورة لبيت عمي "غزال" ،بدون أن يخطر لي تقبيلها على بال .ظللت بعدها أضرب أخماس بأسداس ،محاول أن أتنبأ بالحتمالت كلها. في اليوم التالي ،لم تحضر "جنهاد" لزيارة جدتها التي سألتني باستنكار إن كنت قد "ززعلتها".
69
وفي اليوم الذي تله حضرت "جنهاد" كعادتها .ولكنها قابلتني ،بالفعل، متجهمة. ولم أدر كيف أبدأ بالعتذار والمصالحة ،خصوصا وأجنني لم أر منها غير النفور والدبار. وغادرتنا "جنهاد" عائدة في وقت مبكر من ذلك اليوم .خشيت ،بل أيقنت ،أجنها قد حكت لمها عن ما بدر مني. في اليوم الثالث ،رأتني ابنة عمي ،أمها ،فما كان منها إل أن رسمت الجد والغضب على وجهها ،وهي تقول لي: ..مش عيب عليك؟في حدا عاقل يعمل عملتك السودة هاي؟ وتتسع حدقتاعيناي ،وتتزايد ضربات قلبي رعبا ،وهي تكمل لومها وتأجنيبها: ..تتركها في جنص الطريق ،وتخليها تمشي لحالها ،والدجنياالمغرب! واجنتهت قصة "جنهاد". ولكن صورتها ظلت تأخذ حيزها في ذاكرتي .تلوح كلما خطرت لي صور وأفكارالطفولة والبراءة ..أو كلما جاء ذكر ..حوريات الجنه. هل كاجنت "جنهاد" هي حبي الول؟ هل كنت أحبها حقا؟ * * * هكذا كاجنت تمدعي "جنعيمه" ،البنت الفايره ،بنت العرايشي ،التي ظلت تلحقني إلى أن أوقعتني في حبائلها ،ساخرة من ما كاجنت تسميه "لعب العيال". م وبالرغم من أجنني اجنسقت إلى ما كاجنت "جنعيمه" تتيحه لي من لـذات عابرة ،غير مكتملة ،إل أن "القبلة الولى" ،المخطوفة من خد "جنهاد" ،ظلت إلى وقت طويل ،هي محور أحلمي ،وقمة لذاتي. 70
*
*
*
"موتشاتشا"..
ماللي؟ هل يمكن أن أكون قد جنسيت قصتي التي دأب على التندر بها الجيران والجارات ،وصبايا حارتنا في القدس القديمة ،وما جاورها في البلدة من حارات؟ هل جنسيت"هنميه" ،وذلك الشعور الغامض بالمتعة و الجنشراح،عندما كاجنت تلفحني أجنفاسها الدافئة التي يتيحها القتراب والتلمس البكر الغير مفتعل؟ كيف أجنسى تلك اليام التي استنشقت فيها حواسي بواكير ذلك الفوح الجنثوي الغامض؟ 71
ما كادت عائلة الجارة "إم سماعين" تلملم عزالها وترحل عائدة من"القدس" إلى "الخليل" ،بعد أن جنضبت مياه "حمام الشفا"، واستعرت جنيران القذائف العشوائية في كل أركان البلدة القديمة ،حتى استقبلت الدار مكاجنها جيراجنا جددا. كان"أبو فايز" صديقا قديما لوالدي .كثر ما سمعتهما يسترجعان ذكريات أيام الصبا ،أيام "السفر برْـلك". وتهرربا من "الجهادية" التي لم تكن تستهوي شباب ذلك الزمن بالرغم من ما يحمله ذلك السم من معان جنبيلة ،تمكن والده من ترحيله ،بعد أن زموجه بإبنة عمه ،إلى بلد لم تسمع به من قبل "..جنيكاراجوا"، المهجر ،حيث يعيش أعمامه في أمريكا الوسطى. هناك ولدت له إبنة عمه الشباب الخمسة ثم توفيت بعد أن وضعت له طفيه" ..السمراء. "ل م أ وهذا مما اضطره ،كما قال ،أن يتزوج من "روزاليا" التي جاءت له بــ"هنيمه" ..الشقراء. وعاد "أبوفايز" ،عام قرارالتقسيم ،1947،مع عائلته إلى قريته "المالحه" ،في الجنوب الغربي للقدس الجديدة ،ليرعى أرض العائلة، حسب وصية والده. لكن الظروف ،في العام التالي ،اقتضت أن يبحث "أبو فايز" لزوجته "السباجنيولية" ،كما دأبوا على تسميتها لجنها لم تكن تتكلم سوى و"هنيه"،عن مكان أكثر أمنا .فقد م اللغة السباجنية ،وابنتيه "لطفيمه".. كاجنت تلك المنطقة من ضواحي القدس الغربية مستهدفة منذ البداية. *
*
*
صديقان لدودان كنا ،و جنمدان ل يطيق أحدهما البعد عن الخر لحظة. "ْدويْتو" ..كما كان يحلو لمها "روزاليا" أن تطلق علينا. 72
في العصريات ،ما يكاد والدي "يضهر" ليلتحق بأصدقائه ،ومنهم "أبو فايز" ،في"قهوة الباسطي" ،حتى تطل علينا "روزاليا" بوجهها الضاحك دوما. أستقبلها بلهفة وترحاب ،فتعبث مازحة بشعري الذي استغرق مني تسريحه وقتا ليس بالقصير ،وترطن بما أفهم منه أن "هنية".. باجنتظاري. كان يحلو لي أن أجناديها ،كما سمعت أمها تفعل مرة"،موتشاتشا". وكاجنت تحتج بعصبية ،بينما هي تدق بكلتي قبضتيهاعلى صدري، وبينما ترقبها أختها "لطفيه" ذات الربعة عشرعام ،والتي تكبرها بعامين اثنين وتفوقها معرفة باللغة العربية ،مقهقهة بتلذذ ملحوظ. كاجنت تجتهد لتقول بلغة عربية مكسرة: أجنا ل بنت ..أجنا "هنــيــــــه" ..إجنت "موتشاتشو"!*كاجنت "لطفيه" تلقنني بعض الكلمات السباجنية لقولها لـ"هنيه"، فتسعد الخيرة بها. وفي اليوم التالي ،تلقـنني"لطفيه" ،بعد رجاء وإلحاح مني ،مزيدا من الكلمات أو الجمل القصيرة التي ،لدهشتي الشديدة ،كاجنت تثيرغضب الشقراء وتجعلها تعرض عني ،أوتهاجمني في غفلة مني ،فتكاد أن تطرحني أرضا متظاهرة بمحاولة كتم أجنفاسي ،وتعرضني بذلك لسخرية "لطفيه" ،مما يجعلها تدرك أجنها مكيدة مدبرة من أختها الكبرى ،فتتركني لتنقض على أختها بشراسة. ولم أعرف كيف أتجنب الوقوع تحت طائلة مكائد "لطفيه" ،لجنها كاجنت بين حين وآخر تعود لتلقـنني بما يتهلل وجه شقرائي له فرحا وسعادة .وعندها تستجيب لي وتغني لي أغان إسباجنية تقطر رقة وعذوبة ،حفظت بعضا منها بدون أن أعرف معاجنيها.
73
وغدوجنا ،بتشجيع من "روزاليا" التي كاجنت تحظى بمحبة الجارات، "الدويتـو" ،الثنـائي الغنائي ،الذي يشيع البسمة على الوجوه الخائفة المتوترة من أهل الحاره في ذلك الوقت العصيب. لم أكن بعد أدرك معنى الغيرة في الحب .ولذلك لم أدرك ما سوف تسفرعنه تلك الكلمات الثلث التي حفرتها "لطفيه" خفية بمسمار حديدي على أحد أكبر أحجارالجدار في وسط الدار. أول تلك الكلمات الثلث كان إسم "هنيه" وآخرها إسمي أجنا .وعندما اكتشفت "هنيه" ذلك بادرت وعلى وجهها أمارات التحدي بحفر تلك الكلمات الثلث معكوسة على جنفس الحجر .كاجنت الكلمة الوسطى باللغة السباجنية .ولم تنجح توسلتي لكل من الطرفين من أجل التأكد من معناها الذي بدا وكأجنه سر تحتفظ به الختان ،لول ذلك التشابه بين بعض كلمات اللغتين السباجنية واللتينية ,التي تعلمها أخي _________________________________________________ )*( "موتـشاتشو" و "موتشاتشا" ،بالمسبانية ،تعني "ولد" و "بنت".
"عابد" في صفوفه الثاجنوية الخيرة ،والذي أوحى لي بأن الكلمة الوسطى في الجملة تحمل ذلك"السرالخطير". وظل الحجر المحفور بالمسمار الحديدي شاهدا يحتفظ به. قلت أن أخي "عابد" كان هو الذي أماط اللثام عن ذلك السرالخطير الذي حرصت كل من "لطفيه" و"هنيه" على حجبه عني .وكان يبدو سعيدا بعلقتي النامية بالشقراء ،يهدهدها بغبطة ،ويرقبها عن بعد، وهويردد مغنيا ،مع إيماءات وغمزات ذات معان يسمربها للخرين، أغنية "عبدالوهاب" القديمة"..عصفورتان تتناجيان .".. وفي أحد اليام جاءجني بكتاب بعنوان "علم جنفسك اللغة السباجنية". *
74
*
*
أخذت كل من "روزاليا" و"لطفيه" و"هنيه" يتناوبن على مساعدتي على تعلم اللفظ الصحيح للحروف والكلمات. لكن سرعان ما كاجنت تلك الرحــــــــــلة إلى غزة. ولم أجنس أن أصطحب معي كتاب تعليم السباجنية في رحلتي،آمل أن أعود في القريب ،كما بات الكل يعتقد ،إلى جارتب الشقراء التي وعدتها أن أتعلم لغتها ،لأشاركها الغناء بعد أن أعرف معاجني أغاجنيها الجميله. تلك الرحلة التي باتت رحيــــــــــــــــــل. *
*
*
"صليب مالطا"..
لم يأت اختياري لدراسة السينما إعتباطا ،أو من فراغ .لقد ظلت رغبتي دفينة الظروف الجتماعية المحافظة إلى حد الرجعية، والقتصادية المتدهورة إلى حد ل يمكن إل أخذها بعين العتبار. لكن ،في الوقت المناسب ،ولسبب ما ،وإن طال المد ،تستيقظ تلك الرغبة وتنفض عن جنفسها تراب تلك الظروف ،وتملي إرادتها
75
علي .ل سيما بعد أن أدركت وتيقنت أن لغة السينما لغة عالمية ل بد من أن أتزود بها كسلح تفتقر إليه "القضية". إن الكتابة عن تجربتي السينمائية )وذلك هو المنطلق لما أجنا بصدده الن من تدوين لسيرتي الذاتية ،أو ما يشبه ذلك( لن تكتمل إن لم يتصدرها ،أو يتخللها الحديث عن بدايات علقتي بالسينما في مراحل مختلفة من الطفولة والصبا والشباب. في أحد كتاباتي ،بينما كنت أتحدث عن لغة الصورة، والصورالمتحركة بالذات ،ودخولها إلى عالم الطفولة ،ساقتني التداعيات إلى ذكريات عن طفولتي في القدس. وليس هناك الن من حرج في أن أجري تعديل في ترتيب الصفحات ،وأن أستدعي تلك الذكريات في تسلسل جديد .فمن جنعم ا أجني واكبت ذلك الختراع المسمى "الحاسوب" ،والذي يسهل إعادة ترتيب الوراق بمجرد لمسات محسوبة لزرار معينة فيه، وبعدها تتدفق الكلمات والسطورفي المكان الذي تختاره: قد يكون "جيل التلفزيون" ،ومن بعده "جيل الفضائيات" ،أسعد حظا من الجيال التي سبقته .فهو قد تعلم كيف "يحبو" متجها الى "الجهاز" ،الذي أرغم الكبارعلى الرضوخ لرغبة الصغارعلى حضور مجالسهم ،ليدير مفتاحه )أو أن يعبث في مرحلة متقدمة بـ "الريموت كوجنترول"( بثقة مذهلة ،قبل أن يتعلم المشي ،ثم يختار مكاجنا قريبا ليراقب منه الشاشة الصغيرة ،أو ليرى ردود فعله لدى الحاضرين .أو يظل ،بدون أن يتمكن من أن يصوغ تساؤلته، يطل من خلل تلك النافذة الى عوالم غريبة ،وكأجنه على يقين من أن الفرصة ما زالت أمامه ،وأن مغاليق السرار سوف تتفتح شيئا فشيئا ،لن الزمن يعمل لصالحه .فالصورة المتحركة ،الناطقة، يتسلل مفعولها بالتدريج ،لتصبح جزءا من واقعنا ،ووسيلة للتواصل مع العالم ،وكأجنها ،كما يقولون ،تحصيل حاصل .ول مكان هناك للدهشة. 76
لكننا ،الجيال السابقه ،مازلنا جنذكر ذلك الحساس الجميل بدهشه المشاهدة الولى ،لجنها جاءت في سن تكون الذاكرة فيه على قدر من النضوج .وبعد ذلك يأتي الحساس الكثرإمتاعا،عندما تأخذ تساؤلتنا التي كنا جنطلقها ،بكل ما فيها من سذاجة ،في تبديد تلك الدهشة .ففي سن الطفولة تنمو وتترعرع "ذاكرة الحفظ" ،ثم تبدأ "ذاكرة الفهم" في الظهور في سنوات المراهقة المبكرة ،حيث يجري إكتشاف الشياء في ضوء جديد. من منا ،الجيال السابقه ،ل يتذكرأحاديث الكبارعن"أفلم السينما"، ذلك الشئ الذي لم يحن الوقت بعد لمشاركتهم الحديث فيه ،لجننا كنا صغارا .وعندما يحين الوقت ،يصبح لكل منا ،جنحن الصغار، حصيلة من المشاهدات جنتباهى بها أمام القران. كاجنت دورالسينما تتواجد خارج أسوار "القدس" القديمه .وذلك يعني أن "حضور" الفلم يتطلب الجنتقال الى خارج البلده ،وركوب "الباص" برفقة أحد الكبار للوصول الى دار السينما ،التي كان اختيارها من اختصاص الكبار أيضا .وكاجنت المواسم والعياد هي الفرصة الوحيدة المتاحة لنا ،جنحن الصغار .ولم يكن أمامنا سوى القبول بما هو متاح .هذا ،وليجب أن جننسى المظهر الحتفالي الذي يتجلى بارتداءجنا حملة العيد ،وحصولنا على العيدية. وكاجنت سينما "ريجنت" هي القرب ،كما يبدو .بالرغم من أجنها تقع في حي"البقعه" ،في القدس الجديده .ولهذا السبب ،ربما ،كاجنت معظم الفلم الولى التي شاهدتها أفلما "إجنجليزيه". "زورو"" ،سيسكو"" ،فلش جوردن"" ،طرزان"" ،كينج كوجنج". سبق ذلك أوتخلله مشاهدة "يوم سعيد" و"ممنوع الحب" أو غيرهما. وهي جنفس السماء التي كان يرددها القران .كل يتباهى بكمية الفلم التي شاهدها ،والتفاصيل التي يحفظها عن القصص المثيرة أوعن المعارك التي خاضها البطال. 77
ولسبب ما كنت أقل أقراجني حظا من حيث عدد الفلم التي "حضرتها" .ربما لكوجني أصغرإخوتي .أما أخي الوحيد ،فكان يكبرجني بستة أعوام ،ربما ل يليق معها اصطحابي مع أصدقائه الى خارج السوار. إل أجنني كنت كثيرا ما أجدجني مضطرا لختلق اسم "فيلم" ل يعرفه القران ،ورواية قصص ومغامرات تفوق قصصهم إثارة وغرابه. كلها مستوحاة من ثرثرات أخواتي حول كتب أو قصص كن يواظبن على قراءتها ،مثل "جين إير" و"تحت ظلل الزيزفون" و "ووذرينج هايتس" و"جوليوس سيزر" و"الغاجني لبي الفرج الصبهاجني" ،وغير ذلك من مقررات الصفوف الثاجنوية في ذلك الوقت ،أو حتى فيلم "ذهب مع الريح" الذي لم تتح لي فرصة لمشاهدته ،والذي كدت أحفظ تسلسل مشاهده من كثرة استماعي إلى روايتها من خالتي "آمنه" وشقيقاتي وصديقاتهن. جناهيك عن "إلياذة هوميروس" وبطلها "أخيلوس" الذي ل يشق له غبار ،وينافس "الفاجنتوم" الذي يتباهى بمعرفته أقراجني العزاء. ثم يطرأ ذلك التغييرعلى حصيلتي من الفلم ،كمما وجنوعا ،ذات صيف .ذلك عندما تقرر أن تقضي العائلة جزءا من العطلة الصيفية في مدينة "يافا" ،حيث يقيم أقارب لنا ،ومن أقربهم وأحبهم لي خالي "علي" .وحيث اختلفت السماء التي يرددها القران الجدد هناك. "عبدالوهاب"" ،رصاصة في القلب"" ،ليلى مراد"" ،اجنتصار الشباب"" ،رجاء عبده"" ،عنتر وعبله"" ،رابحه"" ،بدرلما"" ،قبله في الصحراء"" ،ليلى بنت الفقراء" و"ليلى بنت الغنياء" و "ليلى بنت مدارس" .وإن أجنس ل أجنسى آخر سلسلة أفلم "ليلى "..وهو فيلم " ..ليله ممطره"! أعداد لحصر لها من السماء .كأجنهم ،في"يافا" ،يعيشون في مواسم وأعياد متصلة ل تنتهي .أو لن مدينتهم ليس لها أسوار تفصلها عن الحياء الجديدة ،حيث تكثر دورالسينما. 78
هذا ،وقد تناهى الى علمي ،بعد ذلك ،أن هناك في"يافا" أحياء بعيدة يسكنها اليهود ،وتكثر فيها دورالسينما المختلفة ،وأماكن أخرى عرفت فيما بعد أجنها تلك الماكن التي يرتادها عادة أبطال الفلم العربية حينما ..يزعلون. لم تكن تلك هي المرة الولى التي جنزور فيها مدينة "يافا" ،التي كنت أجد فيها من المزايا ما يجعلني أفضلها ،في بعض الحيان ،وفي بعض الجواجنب،عن مدينتي"القدس" .ول أدري أهوالبحر وشواطئه الرملية الناعمة الممتدة؟ أم هي بيارات البرتقال المترامية الطراف التي يمتلكها بعض القارب ،مما كان يتيح لي قدرا من اللهو والجنطلق في تلك الماكن التي تتميز بآفاقها الرحبة؟ ذلك الشئ الذي كنت أفتقده في القدس القديمة ،ذات السوار ،والحارات الضيقه. أم هم القارب أجنفسهم ،وأولهم "خالي علي" بالذات ،ومن بعده ذلك العدد الكبير من القران الذين يتميزون بحرية أكثر ..وأفق أوسع؟ كان "خالي علي" رجل أجنيقا مهيب الطلعة ،مرحا خفيف الظل، يشيع البهجة في مجالسه بالرغم من حفاظه دوما على صرامة ملمحه و كأجنه يخشى أن ينسى أحدجنا للحظة أجنه "مدير المدرسة العامرية الثاجنوية" .وعندما كان يزورجنا في القدس ،كاجنت الحارة كلها تقف على قدم وساق. كنت أتباهى به أمام أقراجني ،وكم كنت أشعر بالفخرعندما يسألني أحد أساتذتي أو مديرالمدرسة في مختلف مراحل التعليم البتدائي أوالثاجنوي ،وكثيرا ما تكرر ذلك ،عن مدى قرابتي لذلك "المربي الفاضل" الذي كاجنت تنهال علي أوصافه الجليلة من أفواه أساتذتي.. تلميذه. كنت أعتبره مثلي العلى في كل صفاته ومواصفاته ،وأحلم بأن يصبح لي في يوم من اليام بيت مثل بيته ،وزوجة محبة مثل زوجته ،وأولد وبنات مثل أولده وبناته. وكثيرا ما كنت أقوم بتقليد طريقته في الحديث ،حيث يكثر في عباراته من استعمال الكلمات العربية الفصحى. 79
أشد ما كان يبهرجني هو صالون بيته ،وآلة "البياجنو" التي تتصدر المكان ،وإلى جاجنبه "الفوجنوجراف" واسطواجناته بمختلف أجنواعها، والجدران المكدسة بخزائن تحتشد رفوفها بكتب مختلفة الحجام. كان يبالغ في المحافظة على كتبه بحيث يوصي بتجليدها بأغلفة جلدية داكنة اللون يلمع في أعقابها إسمه المطبوع بماء الذهب ،مما جعلني أتوهم في البداية أجنه المؤلف لكل تلك الكتب. ذلك ،خصوصا ،بعد أن ذاع صيته كمؤلف لكتابمي "من طرائف العلماء" و"من البنسلين إلى القنبلة الذرية " ،اللذان صدرا عن "سلسلة الثقافة العامة" في يافا ،في أعقاب الحرب العالمية. لم يبهرجني إبن "خالي علي" ،الذي كان يصغرجني بما يقرب من سنوات ثلث ،والذي تعود أن يقف على كرسي أمام ضيوف والده ليلقي جنشيد "النمجادة" الوطني: في حالكات الرنلوب ل تلهل ْ ب ..واهتف بلد العرب للعرب ... ...إلخ أو ليجيب بدون أن يتلعثم عن أسئلة تتعلق بعواصم بلدان العالم .ذلك، لجنني كنت أحفظ الكثير من الجناشيد والغاجني ،ولن أخي "عابد" كان يتباهى أمام أصدقائه بمقدرتي على حفظ أسماء عواصم بلدان بعيدة مثل "تشيكوسلوفاكيا" و"هنغاريا" و"بولندا" و"التحاد السوفييتي" و"الصين" وغيرها! هذا بالضافة إلى"تسميع" منطوق جنظرية "فيثاغورس": "مربع الوتر في المثلث القائم الزاوية ..إلخ". أو تصريف بعض أفعال اللغة اللتينية ،أو رسم خارطة فلسطين والعالم العربي من الذاكرة. لكن ما كان يبهرجني ويثير دهشتي ،وربماغيرتي أيضا ،هو تلك الجابات التي كاجنت تتعلق بأفلم السينما وممثليها .وذلك الشيء الآخرالذي لم أسمع به قبل ،وهو أسماء "مخرجي الفلم".
80
من أين لي أن أعرف ،في ذلك الوقت ،أن هناك لكل فيلم "مخرجا" يشرف على إخراجه؟ وأن مخرج فيلم "قبلة في الصحراء" هو "إبراهيم لما" ،الفلسطيني؟ أو أن مخرج فيلم "سلفني تلته جنيه" ،بطولةعلي الكسار ،هو "توجو مزراحي" ،اليهودي ،كما كان إبن خالي يفعل؟ في ذلك الصيف ،بلغ إعجابي بمدينة "يافا" أشده .وصرت أشعر بأجنه ل وجه للمقارجنة بينها وبين "القدس" ،مدينتي .فهناك ،غير بحرها الذي أسرجني سحره ،ميزة جديدة اكتشفتها في مدينة "يافا" .فقد سمح لي الهل بمرافقة أقراجني الجدد لحضور أحد الفلم ،بدون مرافقة الكبار .وتوالت بعد ذلك المفاجآت. مشينا ،وركضنا ،وبرطعنا ،وقفزجنا ومارسنا كل أساليب الجنتقال التي تعتمد على القدام .وكنت أتصور أن ذلك كان من قبيل الستعجال للحاق بطابور قطع التذاكر ،الذي ينطبع طوله في مخيلتي ،والذي يعتبر من الطقوس الضرورية لحضور الفلم .الى أن وصلنا سينما "الحمرا"! تذكرت عندها أن السينما التى شاهدت فيها الفلم الولى كان اسمها سينما "ريجنت" ،وأخرى كان اسمها "ركس" ،وثالثة كنت أسمع بعض القران يرددون اسمها "زيون" ،ورابعة اسمها "أوريون". وكاجنت المفاجأة الولى..أن أكتشف أجنه يمكن أن يكون لدور السينما أسماء عربية. أما المفاجأة الثاجنية فكاجنت أكثرغرابة .فقد كان علينا ،بعد أن وصلنا سينما "الحمرا"،أن جنسلك ،بدون أن أعرف السبب ،بقيادة رجل ل أعرفه ولكنه كان يعرف جميع أفراد المجموعه ويناديهم بأسمائهم، طريقا خلفيا عبر ممرات وأبواب عديدة ،الى أن وجدت جنفسي أجلس معهم في"..اللوج"! ولم يتركنا الرجل العندما تأكد أجننا ل جنحتاج الى أي شئ آخر .كأجنه موصى علينا من قبل شخص مهم. 81
ول أعرف لماذا شعرت بالحباط ،بدل من الشعور بالسعادة جنتيجة لذلك المتياز .صحيح أجنني رأيت إبن خالي وهو يتلقى مبلغا ل بأس به من القروش من والدته مع تعليمات ووصايا تجعل مني شريكا له، ومما قد يتيح لنا تلك الرفاهية .لكن هذه الحقيقة لم تستطع أن تبدد حيرتي. الشئ الذي حيرجني هو أجننا لم جنقف في الطابور ،أمام شباك التذاكر، حيث تعودجنا ،في القدس ،أن جنقف طويل ،وجنصبر ،وجنتدافع وجنناضل الى أن جنصل ،جنحن الصغار ،الى ما تحت الشباك ،وجنرى كبيرجنا وهو يعد النقود ويعطيها لشخص ل جنراه ،ليتناول منه تذاكرا يختلف لوجنها عن تذاكر بعض الخرين .وجنسعد أشد السعادة لجننا بذلك جنكون قد قطعنا شوطا من المسيرة الكبرى في طريقنا الى الصفوف الولى أمام الشاشه. أما الشوط التالي من المسيرة ،فهوالوقوف في طابورآخر ،في اجنتظارأن ينفتح باب الدخول .وما أن ينفرج الباب حتى جنتنفس الصعداء ،وتعلوالصيحات ،ثم جنبدأ بالتدافع والنضال مرة أخرى للوصول الى ذلك الرجل الذي كنت أتصور دائما أجنه صاحب الدار. فهوالمرالناهي ،وهو الذي يقرر أي اتجاه علينا أن جنتخذه ،بعد أن يدقق النظر في "البوليت" ،ويجتزئ لنفسه قطعة منها ،يحتفظ بها في صندوق كبيرأمامه يسنده بكرشه ،أو يسند به كرشه. ثم تغمرجنا النشوة وجنحن جنهرول في اتجاه الصف الول والمقاعد المكتوبة أرقامها على ظهرالجزء المتبقي لنا من "البوليت" ،بين أصوات طرقعة الكراسي ،وضجيج الناس ،وجنداءات الباعة، وأصوات فتح زجاجات "السيفون" ومن ثم صوت ارتطام الغطاء المعدجني وتدحرجه على أرضية الصالة المنحدرة. لم يكن هناك وقت كاف للتساؤل ،فسرعان ما ساد الظلم .ويبدو أن أقربائي ،لكثرة ترددهم على هذه الدار ،قد عرفوا بالضبط الزمن الذي يحتاج اليه الوصول في الوقت المناسب. 82
وأجنشغلت أجنا ،كعادتي ريثما تنتهي "العناوين" ويبدأ الفيلم ،في متابعة ذلك الشكل المخروطي الهائل من الدخان والغبارالمضئ .قاعدته تستقرعلى الشاشة البيضاء ،ورأسه ينبع من ثقب في أعلى الحائط الخلفي للصالة .أحاول أحياجنا الربط بين ما يجري على الشاشة وبين التقلبات التي تطرأ على المخروط الضوئي .وأعترف أن ذلك كان يشد اجنتباهي ويلهيني في بعض الحيان عن "كينج كوجنج" جنفسه .وفي أحد المرات ،صادف أن رأيت رأس المخروط وهو ينتقل من الثقب في أعلى الحائط الخلفي الى ثقب مجاور له .وظللت أرقب رأس المخروط الى أن عاد الى الثقب الول .وهيهات أن أعرف كيف ولماذا؟ بالرغم من أجنني سألت من هم أكبر مني سنا. عندما مددت بصري لعد الثقوب التي يخرج منها رأس المخروط في سينما "الحمرا" بيافا ،اصطدم بصري بسقف "اللوج" الذي كنا جنجلس فيه. ما أكثر ما تقف الرفاهية حائل دون المعرفه! ل بأس ،فربما أستطيع أن أقنعهم ،في مرة أخرى ،أن جنجلس في مكان آخر. في اليوم التالي ،وفي جنفس الوقت ،وكأجنما أخذت على حين غرة من أمري ،وجدت جنفسي أجلس في جنفس المكان ،أشاهد جنفس الفيلم ،مع جنفس المجموعة من القران. وسرعان ما اكتشفت سرالسرار ،وهوأن سينما "الحمرا" يمتلكها "عمو أبوعمر" ،وآخرون من القرباء. وحينما أبديت رغبتي في تغيير المكان ،لغرض في جنفسي .اقترح أحدهم أن جنصعد لنزور"عمو أبوعصام" .وفي الحال ،وكأجنما هم على اتفاق مسبق ،هرول جميعهم ،وأجنا معهم ،سالكين ممرات ،صاعدين أدراجا معدجنية ضيقة ،لتتسع لكثر من شخص واحد ،يقودجنا "عمر" الذي فتح باب غرفة مكتوب عليه كلمة قرأتها ولم أفهم معناها .ثم سمعت صوتا مميزا أعرف اسم صاحبه ،يرحب بنا جميعا. يتميز "عموأبوعصام" أيضا بطوله الغيرعادي ،وبشاشته الدائمه. 83
وكم أسعدجني أجنه رحب بي وكأجنه يعرفني منذ زمن بعيد .بل إجنه سألني ليتأكد من أجنني ابن "أبوالعابد" ،وازداد ترحيبه عندما أكدت له ذلك .وأخذ يحدثني عن دارجنا في القدس ،وعن "قهوة الباسطي" التي تقع تحت الدار ،وعن "طريق اللم" التي تمر من أمام القهوة ويمتد صعودا الى اليمين ليؤدي الى كنيسة القيامه .وإذا لم جنتجه الى اليمين، وأكملنا سيرجنا جنزول فإجننا جنكون في طريقنا إلى "الحرم الشريف" و"المسجد القصى". كان يحدثنا وعيناه ل تغيبان عن آلة ضخمة ،تقف الى جوارآلة أخرى مشابهة لها تماما .ينبعث من الولى جنور يخرج من ثقب في الحائط .ولها صوت يكركر بنعومة مع دوران بكرتين أحدهما فوق مصدر النور والخرى من تحته ،والشريط اللمع الجذاب ينساب بينهما. فجأة أشارالينا "عمو أبوعصام" بيده أن جنلزم الهدوء .فإذا باللة الولى تتوقف عن الدوران ،وينطفئ جنورها في الوقت الذي تبدأ اللة الثاجنية بالدوران ،وينبعث منها جنور يخرج من ثقب في الحائط، مجاور للثقب الول .وتذكرت في الحال "كينج كوجنج" الذي كاد أن يشد اجنتباهي و يلهيني عن مراقبة رأس المخروط الضوئي الضخم، الذي يخرج من ثقب في أعلى الحائط الخلفي لصالة سينما "ريجنت" بالقدس. عندما ينتهي عرض "الفصل الول" من الفيلم ،تبدأ اللة الثاجنية بالدوران لعرض"الفصل الثاجني" منه .هكذا أخبرجني"عموأبوعصام"، بعدأن رأى الدهشة المتسائلة تقفز من عينمي لتتشبث به ،بينماهو يقوم بتركيب "الفصل الثالث" من الفيلم على اللة الولى ،في مكان "الفصل الول" الذي اكتمل عرضه. كنت أجنظر حولي ،وأجنا أكاد ل أصدق أجنني موجود في المكان الذي ينبعث منه ذلك الشعاع السحري ،الذي ينتظره الناس في صالة العرض بفارغ الصبر. 84
هل سيصدقني أقراجني في القدس ،عندما أقول لهم أجنني كنت في ذلك المكان؟ ثم وجدتني ابتسم وأجنا أتذكر ابن الجيران "فاروق" ،الذي كان يعرف أشياء كثيرة ل جنعرفها ،وكاد أن يقنعني بأن الصورة التي جنراها على الشاشة تنبعث من خلف الشاشه ،ل من أمامها كما أرى بأم عيني الن .وأتأمل كل ما في تلك الغرفة ،محاول أن أحفظ تفاصيل صورتها في ذاكرتي ،لكي أشرح لفاروق وغيره ما ل يعرفوجنه، وأعرفه أجنا عن يقين وتجربه. فجأة أفيق من تأملتي على صوت "أبوعصام" العريض وهو يطلب من"عمر" أن يسلمم على أمه وأبيه وأخوته .ويخرج آخرالقران وهو يشير لي باللحاق بهم ،فأأصمغر أكتافي معلنا أجنني أريد البقاء ،جناظرا الى "عمو أبوعصام" في رجاء يشبه الستعطاف .فيلحق بهم ليطلب منهم أن يمروا ليأخذوجنني معهم قبل العودة الى البيت ،والسعادة تنضح من وجهه لجنني ،كما قال" ،فـتـْح" وأحب المعرفه. ومنذ تلك اللحظة ،أخذ على عاتقه مهمة الشرح المفصل ،الذي لم أستوعبه ،لشياء لم أشك في أهميتها. كنت أشعر بقوة ما تشدجني الى ذلك المكان .تدور في رأسي دوامة من السئلة التي ل أعرف كيف أصوغها .وكاجنت الغرفة تتسم بشئ من الفوضى ،مكدسة بعلب مستديره من الصفيح ،بعضها يعلوه الصدأ، والبعض الخر مازال يحتقظ ببريق جذاب .ولكنها ،الغرفة ،كاجنت جنظيفة تفوح منها رائحة خاصة ،مميزة ،أليفه ،ملت خياشيمي منذ أن دخلتها. ذكرتني تلك الرائحة بـ"خالتي آمنه" ،الفناجنه التشكيلية ،أو"الرسامه"، كما كاجنوا يلقبوجنها أحياجنا. كاجنت ،في ذلك الوقت ،تربطني بها صلة تتجاوز كثيرا صلة ابن الخت بخالته .شئ ما كان يشدجني لتكرار زيارتها ،في مرسمها في"داراليتام" بالقدس ،كلما لحت لي فرصة لذلك .كنت أحب الرسم .وكنت ل أمل من مراقبتها وهي تمارس عملها .وأسعد 85
اللحظات كاجنت هي تلك التي تضع فيها أمامي أصيص الزهور ،أو أي شيء من هذا القبيل لقوم برسمه .ثم تبدأ بدجندجنة أغنية لعبدالوهاب ،وأجنا على يقين بأجنها تفعل ذلك لتستدرجني للغناء .فقد كنت أحفظ ،عن ظهرقلب ،الكثير من الغاجني التي كان يصدح بها "راديو" أو "جراموفون" قهوة الباسطي ،ليل جنهار ،منذ رأت عيناي النور. وكثيرا ما كاجنت تطلب مني أن أقوم بتنظيف أفرش الرسم ،فأفعل ذلك بترحاب شديد .ول أتذكر تماما ،هل كنت مغرما بعملية التنظيف جنفسها،أم بتلك "الرائحة" التي تنبعث من سائل التنظيف؟ أم أجنني كنت مغرما بكل ما له علقة بخالتي "آمنه" الفناجنه ،التي كنت أتمنى أن أصبح فناجنا مثلها .بينما هي تتنبأ لي بأجني سأكون شاعرا مشهورا، لمجرد أجنني ،ذات مرة ،كتبت لها رسالة أعبر بها عن شوقي لها، وعن قلقي لمرضها. تكررت زيارتي لصومعة العم أبوعصام ،وشجعني على ذلك بشاشته الدائمه ،وابتسامته التي ل تعرف الملل. في المرة الثاجنية التي زرت فيها "الصومعه" ،حدث ما تعودجنا أن يكون سببا لهياج الجمهور في صالة العرض .مرة لهتزاز الصورة على الشاشة ،وأخرى لجنقطاع الصوت ،وغيرها لجنقطاع الصوت والصورة معا ،مع توقف التقلبات التي تجري في جسم مخروط الدخان والغبارالمضيء ،وظهورالشاشة بيضاء من غير سوء ،ما عدا بعض البقع الكبيرة الباهته من تأثيرالرطوبة ،فيعلوالصياح والصفير والتعليقات التي تثير ،أحياجنا ،عاصفة من ضحك الجمهور. وكم كاجنت سعادتي وأجنا أشهد مثل تلك اللحظات ،في المكان الذي تتجه اليه الجنظار مبتهلة ،وأرى ما الذي يجري لكي تعود المياه الى مجاريها. ضك"! صدمتني ،لول وهلة ،شتيمة العم أبوعصام" ،يلعن عر ـ بكسرالضاد .قالها وهو يقتطع جزءا من كضل من طرفي شريط الفيلم، 86
ويلقى به على أرض الغرفة بعصبية ل تليق به ،وكأجنه أحد الممثلين المحترفين السيئين. بعد أن عرفت أجنها المرة الثالثة ،التي تقوم فيه اللة بفعلتها الشنعاء في جنفس اليوم ،وهوما يفسر وجود شرائط يتراوح طول كل منها ما بين متر الى جنصف متر ،من الفيلم ،مبعثرة على أرض الغرفة، وجدت أجنه من الطبيعي أن يتعرض سلوك "آلة العرض" للعنة العم "أبوعصام" .وعندما تأكدت أن ما صدمني هو مجرد تشابه لفظي بين ما قاله وبين الشتيمة السوقية المعروفه ،اشتد تعاطفي مع"عمي أبوعصام" ،وعبرت عن ذلك بمبادرتي بجمع قطع الفلم المبعثرة، بينما هو منهمك في لصق طرفي الفيلم المقطوع .يبسمل ويحوقل بصوت عال ،ردا على شتائم الجمهور وصفيرهم الذى كان يعلو ويتزايد .ورائحة خالتي "آمنه" تعبق في المكان أكثر من ذي قبل. وما هي ال ثوان معدودة ،حتى يعود الهدوء ،وتعود اللة لتكركر بنعومة محببه الى جنفسي .كما تعود البتسامة الى وجه الرجل .وكأن شيئا لم يكن .و يؤكد لي ،وهو يربت على آلته بحب وحنان بالغين ،أن العيب يكمن في جنسخة الفيلم القديمة المهترئه ،وأن اللة ل عيب فيها أبدا. كنت واقفا أرقبه وأجنا أحمل قطع "الفلم" ،بعد أن قمت بجمعها وترتيبها بحرص شديد حسب أطوالها ،متسائل أين أضعها ،بينما كاجنت جنفسي تحدثني أن أطلب منه ،على القل ،أن أحتفظ بأصغر قطعة منها .وأتخيل جنفسي ،وأجنا في "القدس" ،أفاجيء أقراجني ،ومعي الدليل المادي ،على خبرتي الواسعة في مجال السينما .خصوصا "فاروق" ،أكثرهم علما ،والذي ظل يؤكد أن الصورة تأتي من خلف الشاشة ،بالرغم من إشارتي إلى المخروط الضوئي الذي ينبع من الحائط الخلفي لصالة العرض في دار السينما .وأكثر ما كان يحز في جنفسي ،أجنني لم أستطع إل أن أسلم بما يقول ،خوفا ل اقتناعا. فبالرغم من أجنه لم يكن أكبرجنا حجما ،إل أجنه كان أكثرجنا قوة وشراسه. كان يستمد هيبته من أبيه "الومباشي" ،الذي ما يكاد يهل عند عودته 87
من عمله ،حتى يتركنا "فاروق" راكضا جنحو أبيه ،ليعود متعلقا بحزامه ،ينظر إلينا وهو يتحسس "الفرد" المتدلي منه ،فننفض لنوسع لهما الطريق ،وجنحن جنرتعد خوفا. أجنقذجني الصوت المميز من الذكرى المؤلمة لـ"القتله" التي أكلتها من "فاروق" ذات يوم .فقد كان العم "أبوعصام" يطلب مني أن أجناوله قطع "الفيلم" التي أحملها بحرص .أخذها وأخذ يقص أطرافها، ويشذبها ،ويكحتها ،ثم يبلل الطراف بريشة دقيقه ،بعد أن يغمسها في زجاجة صغيرة شدت اجنتباهي ،لجنني أدركت أجنها مصدرالرائحة الخاصة المألوفه. كان يمارس عمله بتلذذ واستعراض واضحين ،بينما هو ينظرالي، بين الحين والخر ،مبتسما ابتسامة الماهر العارف .وكان يتمتم، وكأجنه يحدث جنفسه بصوت مسموع ،أو كأجنه يريد أن يسمعني صوته يصف خطوات العمل الذي كان يؤديه باستمتاع فائق. ثم جنطق بكلمة كدت أقفز من الفرح وأجنا أسمعها"..أسيتون"! مرحى! لقد تذكرت إسم السائل الذي كنت أقوم بتنظيف فراشي الرسم به ،في مرسم خالتي "آمنه". هل كان يقرأ أفكاري؟ تكررت زياراتي للعم "أبوعصام" .وتحولت قطع "الفيلم" الى بكرة كان قطرها يزيد في كل مرة .خصوصا بعد أن تعلمت كيف أكحت أطراف الفيلم وأقوم بلصقها بسائل "السيتون" ،بنفسي .إلى أن وصل حجم البكرة من الكبر ،بحيث أصبحت أزهد في المزيد .وعدت الى الصالة أمتع جنفسي بمشاهدة الفلم. شــاهدت فيلــم "دمــوع الحــب" ،لعبــد الوهــاب ،بعــدد أيــام الســبوع .وحفظــت أغاجنيه"..كـروان حيـران""..مـا أحلـى الحـبيب""..يـا مـا بنيـت قص ر المـاجني".. و"سهرت منه الليالي". )وقد عرفت بعدها أن الفيلم عن قصة "ماجدولين" لكاتبها "ألفوجنس كار" وترجمة المنفلوطي(.
88
وزادت حصيلتي من أسماء الممثلين والفلم ،بالضافة إلى معلوماتي عن "كابينة" العرض ،بحيث أصبحت أستعجل العودة الى القدس. كنت في كل مرة أعود فيها من "يافا" ،أو من "غزه" ،أحمل معي مجموعة من أجنواع مختلفة من أصداف البحر والمحار والودع جمعتها من الشاطيء ،تثير إعجاب واجنبهارأقراجني في الحارة وفي المدرسه. كم كنت أتباهى بامتلك تلك الشياء التي ل يعرفها أقراجني، وخصوصا تلك المحارة الكبيرة التي أدهشتهم عندما كاجنوا يضعوجنها على آذاجنهم ليسمعوا هديرالبحر كما كنت أدعي! فما بالهم وأجنا أعود إليهم ،هذه المرة ،بما لا يمكن أن يتوقعه أحد؟ وكان ما توقعت .فلقد سرت أجنباء "البكره" بينهم ،كما يقولون ،مسرى النار في الهشيم .وكان أيضا ما لم أكن أتوقعه ،وهو اجنتقال خدمة الومباشي "أبو فاروق" ،الى بلد آخر .فأصبحت ،بين عشية وضحاها ،مرجعا لولد الجيران في كل ما يختص بأسرارالسينما. ل يساورجني خوف من أن أتعرض لتهديدات "فاروق" وجبروته. ثم جاء الوقت الذي اضطررت فيه ،لكي أحتفظ بمكاجنتي المتميزة بين أقراجني ،أن أعمل الفكر ،وأكررالمحاولت والتجارب ،للوصول الى ماهو أكثر من مجرد امتلك "البكره" ،والمعلومات التي مللت من تكرار ترديدها عن صومعة العم "ابوعصام". كاجنت الستارة البيضاء التي تغطي "ركسة الفراش" الموجودة في صدر"أوضة الضيوف" في بيتنا في القدس ،هي التي ألهمتني باستعمال "مصباح اليد" الكهربائي كمصدر للضوء ،الذي يخترق الفيلم ويلقي بصورة مكبرة على الشاشة..الستارة. أخيرا ،وبعد تجارب عديدة ،ها هي الشاشة وعليها صورة عربة "كارو" يجرها بغل ،محملة بكومة من القش .يجلس فوقها الستاذ "محمد عبدالوهاب" متأجنقا ،أكاد أسمعه وهو يغني أغنية "إجري..إجري..إجري..وديني قوام وصلني". 89
وهكذا تطور جنبأ "البكره" ،ليصبح إشاعة يتناقلها القران في كل مكان ،بلسان شهود عيان ،تؤكد أن"..غالب اخترع سينما" ..وفي قول آخر"..صندوق العجب"! لم يبق سوى أن أقوم بتطوير ذلك الصندوق الكرتوجني بأن أجعل له جنافذة صغيرة مستطيلة ،بحجم صورة الفيلم ،ذات مجرى يمر فيه شريط الفيلم ،لينساب من "البكرة" في أعلى النافذة الى بكرة أخرى في أسفلها ،أديرها بيدي ،بينما تمر حزمة الشعة الصادرة من المصباح الكهربائي من خلل النافذة المستطيلة ،لكي تتحرك العربه الكارو على الستاره .جناهيك عن جنيتي المبيتة ،لصنع قرطاس كرتوجني ضخم ،كمكبر للصوت ،ليسمعهم أغنية "إجري..إجري ،"..بصوتي، وأكون بذلك قد عرضت جزءا من فيلم "يوم سعيد". لكن ،هيهات أن تنجح التجربه. فما أن تدور يدي بالبكرة ،حتى تنطمس الصور في بعضها البعض على ستارة "ركسة الفراش". ولم تنفعني الستغاثة بخبرة أخي الكبر ،أو خالتي "آمنه" ،ول حتى أستاذ الرسم والشغال اليدوية في المدرسه .حاولت الستعاجنة بكل من كنت أتوسم فيه المعرفه .وكنت بمحاولتي ،التي ذهبت كلها أدراج الرياح ،كمن يؤذن في "مالطا". وظلت المسألة لغزا لم أعرف له حل. إلى أن التحقت بأكاديمية الفنون لدراسة "السينما" .وعرفت أن هذه المشكلة بالذات قد ظلت تؤرق رواد صناعة "السينماتوجراف" في أوروبا وأمريكا في جنهايات القرن الماضي .ولم تتحرك الصورة بوضوح على الشاشة إل عندما أضاف المخترع "أوسكار ميستر"، في عام ،1895الى آلة العرض ،قطعة معدجنية تشبه في شكلها الصليب. 90
وتعرف هذه القطعة حتى اليوم ،ول أدري لماذا ،بإسم"..صليب مالطا". *
*
*
خارج الســـــــوار
أحياء "البقعة التحتا" ،و"البقعة الفوقا" ،و"الطالبية" ،من الحياء العربية الراقية في "القدس الجديده" ،الممتدة على جنبات السهل المجاور لجبل "القطمون". ول أعرف الظروف التي أحاطت بخالتي "آمنه" ،الفناجنه التشكيليه القادمة من "غزه" ،والتي مكنتها من السكنى في ذلك الحي .كل ما أذكره أجنها كاجنت تقيم في غرفة ،لها مدخل مستقل ،في"فيلل" محاطة بأشجاراللوز وغيرها من أشجارالمنطقه .تمتلك تلك الفيلل وتسكنها عائلة "النممري" ،المكوجنه من أم وبناتها الثلث .إحداهن ،الكبرى، كاجنت من تلميذات خالتي"آمنه" في معهد داراليتام للبنات للرسم والتطريز ،في القدس. وهكذا اتسع المجال المتاح لي خارج أسوارالقدس القديمه .فكنت غالبا ماأقضي أيام الجازة السبوعية ،وهما يومي الجمعة والحد ،في زيارة خالتي "آمنه" .ولم يكن حبها لي هوالمشجع الوحيد على ذلك. 91
بل كاجنت البشاشة التي تقابلني بها عائلة "النمري" ،أيضا ،حافزاا لي على تكرار الزيارة اسبوعا بعد أسبوع. أضف إلى ذلك متعة الخروج من البيت والحاره ،والجنطلق في رحلة تتخطى السوار إلى أطراف القدس الجديدة ،حيث الطبيعة والمتداد والبراح والشجار والزهار. من أكثر ما كان يشد اجنتباهي ،بل ويؤخرجني أحياجنا عن الوصول إلى خالتي "آمنه" ،كان ملعب "التنس" الذي يقع في بداية الطريق الصاعد إلى "الفيلل" .خصوصا في أيام الحد ،عندما يكون الملعب مكتظا باللعبين واللعبات والمتفرجين والمتفرجات ،والذين أو اللواتي ينتظرن أن يحين دورهن لممارسة اللعبه ،ومعظمهم من الجاجنب. كنت أجد متعة شديدة بمراقبتهن ،وهن يتقافزن بحركات رشيقة، جريا وراء الكرة ،بملبسهن المختصرة التي تكشف عن سيقان بضة في لون الورد ،وخدود تضاهيها حمرة .وتبلغ سعادتي قمتها عندما تضل الكرة طريقها لتقترب من المكان الذي أقف فيه ،فأبادر بالمساك بها لـ "أجناولها" للعبة يدا بيد ،مما يمكنني من القتراب منها أكثر وأكثر .فيكون جنصيبي ابتسامة وكلمة "ثاجنك يو" المنمغمة بصوت رقيق يظل يرن في أذجني ويطربني وأشتاق إليه طوال السبوع .يضاهيه صوت ارتطام "الطابه" ،الكرة ،بمضرب التنس واليقاع الخاذ الناجم عن توالي ذلك الرتطام ،وصدى ذلك الصوت يتردد في أرجاء المنطقة الجبلية الهادئة .ذلك الصوت الذي مازال يعود بذاكرتي إلى القدس كلما وأينما صافح أذجناي. وبمرورالوقت ،وتكرارالتجربة ،أصبح دوري هذامن الهمية بمكان، بحيث كاجنت هذه أو تلك ترجوجني ،إذا أجنا قررت مواصلة رحلتي إلى خالتي"آمنه" ،أن أبقى إلى أن تنتهي من اللعب .ويصبح جنصيبي، علوة على البتسامة والشكر ،مصافحة ،وتربيت على خدي .هذا بالضافة إلى بعض القروش ،التي كنت أرفضها بشدة في بداية المر .لكن خالتي"آمنه" أحلمت لي تلك القروش ،وبررت قبولي لها 92
بأجنها مقابل شغلي وتعبي ،وأن هذه هي طبيعة الجاجنب .كل شيء بحسابه .والعمل ليس عيبا .والوقت والجهد لهما ثمنهما. في كل مرة ،وقد تقاضيت أجري ،كنت أمرأثناءعودتي إلى البلدة القديمه ،بمكتبة عمي"سلمه" ،التي كاجنت الكتب ،القديمة ،المعروضة في واجهتها والمفروشة على البسطات تستوقفني دائما وأجنا في طريقي إلى المدرسة العمرية أوفي طريق عودتي إلى البيت. صحيح أجنني كنت أوفر ثمن ركوب الباص ،ذهابا إلى المدرسة وإيابا منها ،بأن أرافق بعض القران مشياعلى القدام .لكن شرهي المتزايد للقراءة ،كان يقضي على"المصروف" كله .خصوصا عندما بدأت أتطلع إلى معرفة ما تحتويه سلسلة كتب "روايات الجيب". شدجني عنوان "اللص الظريف أرسين لوبين" المتكررعلى عدد كبير من روايات "موريس لبلن". كيف يكون اللص ظريفا ؟! والكثر جاذبية ،كاجنت تلك الروايات التي تحولت إلى أفلم سينمائية، والتي كنت أجد أسماءها على إعلجنات سينما "ريجنت" ،القريبة من ملعب "التنس". عندما حكيت قصة ملعب "التنس" لرفيق المدرسة ،وجاري في القدس القديمه" ،خلدون" ،اشرأب عنقه وجحظت عيناه ،وجنظر يمينا ويسارا ،وابتلع ريقه ثم قال بصوت خفيض: ..وين ..وين؟ قول لي وين! وإوعى حدا غيرجنا يعرف!وأصبحنا جنعمل سويا ،أيام الحد ،في تلك المهنة المبتكره" ،للْم الطابات". وازدادت أواصر الصداقة بيني وبين "خلدون" ،الذي كنت قبل ذلك أتردد في القتراب منه ،لما كان يشاع عنه من أجنه "ابن عيله" ومتكبر و"شايف حاله" .لكنني اكتشفت معه جنوعا جديدا من الصداقة. وهو ،إلى جاجنب كوجنه "إبن جناس" ،كما كان والدي يقول ،فهو أيضا من "أوائل الصف". 93
ثم أصبح مجرد ذكر اسمه أمام والد م ي يتيح لي التغيب ،في حدود المعقول ،عن البيت .فقد كان "خلدون" ينتمي إلى جنفس العائلة التي ينتمي إليها رئيس والدي في العمل. وهكذا أصبحت ،بمرافقة "خلدون" ،من الرواد الدائمين لسينما "ريجنت" ،بعد أن كان ذهابي إليها مرهوجنا بتنازل أخي "عابد"، وسماحه لي بمرافقته إليها .ساعد على ذلك ،طبعا ،وجود دار السينما في منطقة تتوسط المسافة بين مكان سكن خالتي "آمنه" وبين مدرستي" ،المدرسة العمرية". كان صديقي "خلدون" يتمتع بموهبة البحث عن مصادرالكسب .وقد أتاح لي معرفة إحداها،عرفاجنا منه لي بتعريفه على ملعب التنس. في أحد اليام سقط منى"قلم الحبر" واجنكسرت ريشته. تعودجنا في مثل هذه الحالت أن جنلجأ إحدى المكتبات لتقوم بتغييرالريشة أو الـ "عضمه" ،أو الـ "جلده" .لكن صديقي"خلدون" كان يعرف طريقة أخرى .ففي سوق الهنود ،في طريقنا اليومي إلى باب الخليل ،كاجنوا يبيعون قطع غيارالقلم تلك وأجزاءها المختلفة بثمن بخس ،مما جعلني أحاول إصلح قلمي بنفسي هذه المره. ولما جنجحت التجربة ،لجأ لي زميل ،وآخر ،ومن بعده آخرون .إلى أن ذاعت شهرة خبرتي وبراعتي في تصليح أقلم الحبر في المدرسه. وكاجنت هذه "الحادثة" بداية لمرحلة جديدة من مراحل العمل المربح، بعد"لمم الطابات" ،التي زادت من دخلنا وأتاحت لي إمكاجنية المزيد من شراء بعض الكتب أوالمجلت ،ومشاهدة الفلم السينمائيه. ولم يبخل علي صديقي بالبوح بالمزيد من أسراره ،أسرار المهنه، حينما رضي أن يأخذجني معه لرى بعيني كيف ومن أين يشتري "جروس" الشاي بسعرالجملة من القدس الجديدة وبيعه لحد أصحاب الدكاكين في البلدة القديمة .وشاركني في ذلك اليوم بالرباح.
94
تطور المر بعد ذلك ،عام ،48إلى شراء علب "الفللشك" ،ذخيرة بالحبه .إلى أن توقف ذلك كله بعد أن م المسدسات والبنادق ،وبيعها.. ش تسبب لي بـ "قتلة" ل أجنساها من والدي. وشى بي وا ض كان ذلك أحد أسباب التعجيل بترحيلي إلى غزة .حيث رافقني أخي "عابد" في تلك الرحلة التي ل تنسى .والتي أثبت فيها "الحمار"، بتمرده وعودته هاربا إلى موطنه الصلي ،أجنه أكثر حكمة مما كان كاتبنا "توفيق الحكيم" يظن. *
*
*
"كاريــــــــــــــوكا".. الزهارالمتنوعة ،المختلفة اللوان ،المنتشرة في وسط الدار ،تبعث في جنفسي مشاعر ذات مذاق خاص ،وتوحي لي بالأشكال الجديدة والألوان المتناسقة للطيارات الورقية في موسمها..فصل الربيع .حيث تعود أشعة الشمس الدافئة لتحتوي ساعات النهار ،وتقوم "إم العابد" بفتق الملحف والجنابي والفرشات ليتكوم صوفها المتلبد على بلط وسط الدار .وفي ذلك اليوم ،يأتي إبن الجيران "حموده" ،أبوالسبع صنايع ،في ثوب "المنمجـاـد" هذه المرة ،بآلته التي تشبه آلة موسيقية رأيت صورتها على الجدران الفرعوجنية في أحد كتب أخي "عابد". أغلب الظن أجنه كتاب "بريستد"** الشهير لتاريخ العالم القديم. يضرب"أبوالسبع صنايع" بمطرقته الخشبية البدينة ،التي تشبه"إيد الهاون" ،الوترالمشدود فيهتزعن دجندجنات قصار لها إيقاعات راقصة تشيع في جنفسي الفرح والبهجة .ويتفنن"حموده" في إعادة تواترها، فتتطاير كتل الصوف المتلبدة بعدأن جنفشتها الخلخلة الناتجةعن إهتزازات الوتر المدروسة ،وتتسلق الهواء متراقصة على ايقاعاته 95
ثم تهبط متهادية لتتكوم في الجاجنب الخر لللة الفرعوجنية .ويظل كوم"العهن المنفوش" يكبر ويكبر ،فيصل بي إلى ذروة الفرح والنشوة ،فأقفز إليه من آخر الدرجات المؤدية إلى أوضة"عابد" ،من علو أمتار )كنت أراها كذلك ،ثم تحققتل في رحلتي إلى القدس مؤخرا أجنها ليست بذلك القدر من العلو( ،إلى أرضية وسط الدار، ليستقبلني الكوم ويحتويني بحضن طري .وأعيد الكرة بدون أن أكترث لصيحات أمي"،ـكْن يا بنيي ـكْن" ،الغير جادة ،كي أكف، __________________________________ )**( James Henry Breasted
وهي جنفسها ل تكترث بالتالي لعصياجني لوامرها بل تجد لذة في متابعتي وأجنا أجنقض من عضل مع صيحاتي المنتشية الجذلى .يكاد الكوم أن يوارييني وهي تضحك وتضحك حتى تدمع عيناها ،وتنظر إليك كأجنما كاجنت تتمنى أن تعود مثلي طفلة لتشاركني لهوي. هكذا كنت أظنها .ثم عرفت القصة. *
*
*
كاجنت أمي ،أيام كنت وإخوتي مازلنا بريقا في عينيها ،شديدة التعلق بإبن عمها "يوسف" ،أبي ،الغائب في "الجهاديه" .اجنتظرته ما يربو عن السنتين .ظلت فيها أسيرة حبه حتى عاد إليها من السر. كاجنت ،وهي البيضاء الجميلة ،حسب شهادة جميع من عرفها ،ذات الخ م طاب". العينين المائلتين إلى الخضرة ،تتوارى دوما من " أ في أحد المرات ،ذات ربيع ،بحثت عنها جدتي طويل ،أثناء زيارة فوج منهم ،فوجدتها أخيرا وقد دفنت جنفسها في كوم الصوف المندوف. * * * 96
وهكذا يحين موسم الطيران ،حين تغدق علي أمي بالخيطان المستعملة التي تجمعت لديها أثناء فك الملحف والجنابي والفرشات. ألفها ،بعد أن أعقد أكثرها طول ببعضها البعض لضيفها إلى م عشرات المتارالتي أحتفظ بها من العام السبق. وأما القطع القصيرة فلي فيها مآرب أخرى .فعندما تنتقل أكوام الصوف إلى أكياسها ،وتعود سيرتها الولى ،جنابي وفرشات ازدادت طراوة وحجما ،حتى تكاد "الركسة" أن تطاول سقف أوضة الضيوف ،عندها يأتي دوري لفترش الرض الحجرية الملساء، ذات البلطات المربعة أو المستطيلة المتباينة الحجام واللوان، بعدأن تكون أمي قد قامت ،بمساعدة شقيقاتي ،بعملية "قش" شاملة. أحيط جنفسي بمعداتي من أعواد القصب الجاف الذهبي اللون مختلف الطوال ،والورق الشفاف مختلف اللوان ،والمقص ،والسكين، والخيطان ،وعلبة النشا المطبوخ الذي كنت أستعيض به عن العجين، لجنه أخف وزجنا ،للصق أجزاء الطيارات الورقية متباينة الحجام. أغدق ببعضها على بعض أقراجني من الجيران ،أو أبادلها بما يوفروجنه لي من فروخ الورق الملون أوغير ذلك ،بعد أن أحتفظ لنفسي بأكبرها حجما .طائرة تكاد تطاولني طول ،ويكاد عرضها يضاهي مسافة ذراعي المفرودتين .جديرة بنظرات العجاب والجنبهار من الجميع ،بل استثناء. وأما قمة القمم في دراما موسم الطيارات ،فهي عندما أحمل طيارتي العملقة ،بألواجنها الزاهية ،وشراشيبها المتهدلة ،وذيلها الطويل المزين ،ويتبعني أقراجني من الجيران إلى ساحة "القصى" الواسعة والتي تمتد لبضع عشرات من المتار طول ،تفصل بيني )أجنا الطيار( وبين سعيد الحظ الذي وقع عليه الختيار ليكون مساعدي ،إذ يعتمد مكان إطلق الطيارة عادة على حجمها أول ،ومن ثم على كمية الخيطان التي سوف تبتعد بها في الهواء الطلق. أصيح :ياملل! 97
فيترك مساعدي الطيارة وقد أحس بها تنشد منه عندما أجنطلق راكضا بعكس اتجاه الريح .وتتهادى الطيارة متسلقة الهواء وهي تتمايل برفق وثقة ذات اليمين وذات اليسار ،ويتلوى ذجنبها المدجندش ويتراقص ويتأود ،فيتصايح القران هاتفين باسمها الذي اتفقوا عليه بأعلى صوتهم وهم يصفقون: ..كاريوكا ..كاريوكا!بينما تعلو صيحات الخرين الذين يبدأون بمناداتي ومناشدتي: " ..أعطيها خيط" ..كمان و كمان.تبتعدالطيارة ،وتعلو ،وتبتعد فتعلو أكثر وأكثر .وأجنا أقف على أرض ساحة البراق ،ما بين مسجد القصى والحائط الغربي ،حائط البراق، ممسكا بآخر شبرمن الخيط .تكاد تأكلني الحسرة وأجنا أتمنى لوكان لدي المزيد .أشدها وتشدجني .أركض عكس اتجاه الريح فتزدادعلوا، حاملة معها أحلمي لتسبح في الفضاء ،وتحلق في حرية. فجأة ..أفقد سيطرتي على الطيارة التي أخذت بالتقهقر والهبوط البطيء ،ل يجدي معها شدا ول ركضا ،بينما صفحتها تهتز يمينا ويسارا وكأجنها تعبرعن أسفها ،أو كأجنها تعاتبني ،أو تلقي علي باللئمة لرتكاب خطأ ما كان يجب أن أقع فيه. ثم تختفي في أحد الركان البعيدة خلف البنيان المجاورة. ويصيح بعض القران: حارة اليهود ،حارة اليهود. ل ،حارة المغاربه ،حارة المغاربه.يخيم علينا الوجوم لحظة .ويبدو الخوف على بعضنا ،والحيرة على البعض الخر .ول يلبث أحدجنا أن يبدد ذلك كله بأن ينبري زاعما أجنه يعرف الوصول إلى مكان سقوطها ،فيتولى هو القيادة ،وجنجري خلفه صاغرين لهثين متظاهرين بالشجاعة ،فنصل إلى مكان ما تكون الطيارة فيه قد تشعلقت بشجرة أو سقف أو عامود. 98
وأجد جنفسي في مكان لم تطأه قدماي من قبل ،فتكون الطيارة أحياجنا سببا في التعرف لول مرة على أحد الزقة أو الحارات. و يقابلنا صاحب الدارالتي سقطت الطيارة ،هذه المرة ،على سطحها ببشاشة وهو يسألني: إبن مين يا شاطر؟فيسارع أحد أقراجني بالجابة بشيء من الفخر: إبن جارجنا "أبوالعابد الغزاوي".وهنا يصادف أن تزداد بشاشة صاحب الدار ،ربما لجنه عرف والدي ،فيعاودجني الزهو ،وهو يساعدجنا على تسليك ذجنب الطيارة وتخليصها سليمة بقدرالمكان من الشرك الذي وقعت فيه ،وهو يقول في شبه تأجنيب: دير بالك عممي ،هيك طياره بهالحجم هادا بدها خيط ماكـن ،ايرضى عليك ،مش خيط ملحف ،فاهم علمي عممي؟ ثم يشيعنا قائل لي: سلم لي على أبوك ،قول له عممي "بو داود" ،تبع البويا.*
*
*
99
100
شالــــوم أخــــــــي! صديقي"إسماعيل بكري" وزوجته "ساميه" ،المسرحية المعروفة ،من عرب ،** 48يقيمان في مدينة "عكا" ويحملن الجنسية السرائيلية. وسيارتهما تحمل ،بطبيعة الحال ،اللوحة المعدجنية الصفراء المميزة ذات الرقام السرائيلية. كان صديقي "إسماعيل" ،الذي تطوع بتحقيق حلم كاتب السيناريو المصري "فايزغالي" بزيارة "كنيسة المهد" ،يقود سيارته بنا في الطريق إلى مدينة "بيت لحم". وكنت أتظاهر بالشجاعة لكي أساعد ضيفنا "فايز" على التغلب على اضطرابه ومخاوفه من تلك المغامرة .فلم جنكن -فايز وأجنا -جنمتلك أي وثيقة تؤهلنا للمرور في تلك المنطقة التي تسيطرعليها قوات "المن السرائيلي" .لكن"إسماعيل" كان واثقا من أن أحدا لن يعترض طريقنا طالما كاجنت سيارته تحمل أرقاما إسرائيلية. وكنت أجنا أستمد شجاعتي من ثقته هذه ،استنادا إلى تجارب مشتركة سابقة. وهنا ل بد من تسجيل ملحظتي ،أثناء سفرجنا ،لنموالقدس واجنتشار المباجني الجديدة طوال الطريق ،وكأجنه ليس هناك حدود بين القدس و 101
بيت لحم ،أوكأن "بيت لحم" قد أصبحت إحدى ضواحي مدينة القدس! وهذا مما يؤكد ما يقال عن جنوايا التوسع للوصول إلى ما يسمى "القدس الكبرى" ،السرائيلية ،التي تبلغ مساحتها ربع الضفة الغربية. _________________________________________ ضل تداول هذا الوصف للفلسطينيين الذين صمدوا أمام عمليات التهجير بالقوة و لم يغايدروا )**( تيف ض أماكن مدنهم وقراهم عام ، 48ذلك لتدارك الوصف المراوغ بأنهم "عرب إمسرائيل" أمسوة بـ "روس إمسرائيل" ..و"ألما ن إمسرائيل" ..و"بولنديو إمسرائيل" وغيرهم من المستوطنين الذين جاءوا محتلين لفلسطين من كل أنحاء العالم.
وصلنا المدينة العربية التي كاجنت تخضع في ذلك الوقت لعمليات إجنشاءاتض استعدادا للظهور بمظهر عصري لئق في مطلع القرن الحادي والعشرين ،حسب ما يمليه مشروع "بيت لحم ."2000 زرجنا "كنيسةالمهد" ،واستغرقنا وقتا طويل في التجول في سراديبها، والتقاط الصور لصديقنا "فايز" الذي كان يعتبرأن هذه الزيارة كاجنت، بشكل أو بآخر ،ل تقل أهمية عن باقي لقاءاته. عندما شارفت الشمس على الغروب سارعنا بالعودة ،خصوصا بعد سماعنا لصوت زخات من الرصاص تخترق سكون المدينة. أخذ "إسماعيل" يحاول أن يهديء من روعنا بعد أن لحظ أمارات القلق التي تطل من وجوهنا ،وتتسلل من تعليقاتنا .ولم جنكد جنمر من خلل أحد الحواجزالعسكرية بسلم ،حتى وصلنا إلى حاجز آخر، حيث فوجئنا بجنديين إسرائيليين ،من طائفة "الفلشا" الفريقية الذين ل تخطئهم العين ،يعترضان طريقنا بأسلحتهم المشرعة. حبست أجنفاسي وأجنا أتظاهر بأن المورطبيعية. أطل أحد الجنديين عابسا إلى داخل السيارة ،من الجهة اليمنى التي احتل أجنا مقعدها المامي .ولم يكد يفعل ذلك حتى بادره إسماعيل: شالوم أخي!فجأة ..اجنفرجت أسارير الرجل العابس ،وغمره إحساس فاض على ملمحه الفريقية ليشي بسعادة غامرة .وضحك عن أسنان بيضاء 102
وهو يردالتحية بأحسن منها ،ويشير إلى زميله أن يفسح لنا الطريق، ويلوح لنا مودعا بمودة: شالوم!اجنطلقت السيارة .وأخذ إسماعيل يرمقنا بنظرة العارف وهو يبتسم بثقة شديدة. لم جنكن في حاجة إلى أي تفسير لما جرى. لم جنبذل جهدا لفهم الجملة العبرية القصيرة التي جنطق بها إسماعيل. "سلم يا أخي "! كان لها وقع السحرعلى الجندي. بعد فترة من الصمت الذي ران علينا ،علق "إسماعيل" قائل: ..ببساطة ،هذا الجندي "السرائيلي" لم يتعود على سماع كلمة"أخي" من مواطن إسرائيلي آخر! فالتفرقة العنصرية تتجلى في معاملة اليهود الغربيين لليهود الشرقيين .فما بالك عندما يكون المواطن السرائيلي ..شرقي من أفريقيا السوداء. أكملت بيني وبين جنفسي: ..كأجنما كان يذوب شوقا لسماع هذه الكلمة التي أشعرته بدونشك بأجنه مواطن له قيمته.
*
*
*
قرأت فيما قرأت أجنه قد تقدم عدد كبير من "الفلشا" ،الفارقة)الذين قامت إسرائيل بترغيبهم وتهريبهم إلى الراضي الفلسطينية( مع غيرهم للتبرع بالدم .وغادر ذلك العدد الكبيرمن"الفلشا" مكان التبرع وهم راضون وعلى قناعة تامة بأجنهم قد قاموا بأداء واجبهم تجاه وطنهم الجديد إسرائيل.
103
ولم يعرف أحد منهم أن دماءهم قد ألقيت في القمامة دوجنما تحليل أو اختبار .ل لسبب سوى أجنها دماء زجنجية ،مكاجنها القمامة ،حفاظا على جنقاء الدولة اليهودية )!(
*
*
104
*
قطــــاع الطــــرق " في قديم الزما ن ،كا ن للتجار شأ ن وجاه .ولم يكن من قبيل الصدفة أ ن كرمهم ا ،واختار من بينهم رمسول ،كا ن الناس يلقبونه بالمين. ةثم جاءت عصور "النفتاح" الولى .وصارت التجارة مهنة من ل مهنة له. ولما وجد "التجـيـار" الجديد أ ن المر ليس بالسهولة التي كانوا يرجونها ،وأ ن وراء تلك المهنة أمسرارا وعلما والتزاما وأخلقا ،هي السبب في رواج بضاعة التجار الشرفاء ،كا ن ل بد من أ ن يلجأوا الى حيلة تزيح هؤلء التجار من طريقهم .وهكذا ظهرت فُتئة أخرى ممن ل مهنة لهم ،هم "ق ي طاع الطرق"*. وبعد أ ن كا ن الناس ينعمو ن بالرخاء والمن ،نتيجة للمنافسة الشريفة بين التجار الذين كانوا بدورهم ينعمو ن برواج بضاعتهم، فإذا ببضاعة التاجر الفلني تتأخر عن موعدها للوصول الى الناس، ل ن رجال "التاجر" الخر قد "قطعوا الطريق" على قافلته. 105
في البداية كا ن "قطع الطريق" هو مجريد إجراء لـ "تأخير" وصول القوافل المنافسه .لكن "قطاع الطرق" طمعوا في البضائع التي تحملها القوافل ،فامستولوا عليها ،وظهروا بعد ذلك في السوق.. "تجــيـارا"! وكا ن ل بد للتجار الجديد أ ن يبتكروا المساليب في "قطع الطرق"، خوفا من وقوعهم في نفس الخطأ .فصاروا يرصدو ن الموال ويغدقو ن بها على أصحاب "الفكار الجديدة" .وهكذا كانت ،كما يبدو ،وا أعلم ،أوائل بدايات ما يسمى ال ن بخـ"وكالت الدعاية والعل ن"! ولم يقتصر "قطع الطرق" على التجارة والتجار .بل أصبح "منهاجا" ينتشر في كل مظاهر الحياه .ففي عصور النفتاح الحديثة ،حيث يرى البعض أنه ل بد من تعديد ومسائل الكسب ،وهو ما يسمونه في أيامنا هذه بخـ"الكسب السريع" ،أصبحت مجالت الثقافة واليدب والفن مرتعا خصبا لنصاف المثقفين وأرباع الموهوبين. ومنذ قديم الزما ن ،أيضا ،كا ن بلط "السلطة" مرتعا لهؤلء النصاف والرباع الذين ،بطبيعة الحال ،يشعرو ن بالخطر يهديد وجويدهم ،متمثل في أشخاص آخرين يثيرو ن فيهم الحساس بالنقص .ولذلك فهم يرو ن أ ن أفضل وأقصر الومسائل للدفاع عن أنفسهم وعن بقائهم ،هي "قطع الطريق" أمام احتمال وجويد أي فرصة للمنافسة. هكذا ،وا أعلم ،وجد تعبير "قطيــاع الطرق" طريقه الى القاموس المجازي.
106
هذا ..وتروي كتب الميثولوجيا القديمه ،أ ن قدماء الغريق كانوا يجعلو ن لكل مهنة إلها. وفي بعض الحقب ،كانوا يعانو ن ،كما يبدو ،من"أزمة" في من يتويلى مهام اللهه .فكا ن هذا مما يجعلهم ،في بعض الحيا ن ،يكلفو ن إلها واحدا بحقيبتين .فكا ن الله "ميركوري" ،مثل ،يحمل حقيبتي "التجار" ..و"قطاع الطرق".
"أبــــــو "..
و"أبو ،"..لم يتمكن كعب حذائه العالي من إضافة أكثرمن ثلثة أو أربعة سنتيمترات إلى طوله .وظل بالرغم من ذلك يعاجني من الحساس بقصر قامته. )هذا ،مع العلم بأجني عرفت "عمالقة" يتميزون بقصرالقامه(. وهو يرى أن الحل يكمن في أن يتعــــــــــــــالى على الخرين بشتى الطرق الخرى ،كأن يلوذ بعبوسه هربا من احتمالت تعرضه للسئلة المحرجة ،فيزداد جبينه ضيقا على ضيقه. ل أتذكر منه ،أيام بيروت ،سوى تلك النظرة الكسيرة والصرار على الوقوف والجنتظار حتى يمر من يمر من أمامه وهو في طريقه إلى مكتب رئيس المؤسسة ،ثم الوقوف مرة أخرى والجنتظارعند مغادرتهم للمكتب. 107
كان تصرفه هذا يثير شفقتي إلى درجة الغيظ .لكنني كنت أجد أن تجاهل تصرفه هذا أقل حرجا له بكثير مما لو جناقشته فيه. ويشاء القدرأن يصل ،بحكم ولئه العمى ،إلــى مركــز هــام فــي إحــدى الوزارات ،حيث يتجلى تطبيق القاعدة التي تحبذ إلى "تفضيل أهل الثقة على أهل الخبرة والمعرفة". وتدوراليام .وتقضي الظروف أن ألجأ إليه لستعادة حقوقي المالية التي ضلت طريقها إلي ،بحكم التغيرات "الجيوسلطوية" .هكذا جنصحني أحد أصدقائي بعد أكد لي أن "أبو "..قد أصبح "متنفذا" هاما في تلك الوزاره. كنت ل أزال في القاهرة ،باجنتظار "رقم الكومبيوتر" ،والتصريح لي بالعودة إلى الوطن .وصادف أن عرفت ،عن طريق صديق لي ،أن "أبو "..قد وصل إلى القاهرة في إحدى "المهمات" .وشجعني صديقي على التصال به تلفوجنيا مؤكدا لي أجنه أبدى استعدادا هائل لجنهاء مشكلتي .بل إجنه ألح عليه أن يبلغني رجاءه بالتصال به تلفوجنيا. فعلت .وشرحت له الموضوع بتفاصيله المملة ،فجاء رده: ..بسيطه ..ول تـْهـكل هم ..أول ما توصل غزه كلمني بالتلفون..وخودعندك رقمي“المباشر” ..وخود عندك كمان..رقم"البيلي فون"! )لم أكن بعد قد عرفت ما هو ذلك الشيء الذي شاعت له بعد ذلك مسميات أخرى مثل "الخلوي" ..و "المحمول" ..و"الجوال" و"الموبايل"( . سامحك ا يا صديقي .ألم تكن تعرف أن مشكلتي في الصل تكمن في أجنني ل أستطيع الوصول إلى غزه؟ ما علينا. دارت عجلة اليام مرة أخرى ،ووصلت إلى غزة. 108
ولم أجد حرجا في التصال به ،ل سيما وأجنني حظيت بشرف حوزة "الرقم المباشر" ..ورقم "البيلي فون" كمان! فكان أن منحني شرفا على شرف ،وطلب مني زيارته في مكتبه في "الوزاره" ،بعد أن أسهبت في شرح الموضوع له مرة أخرى ،لكي أكسب الوقت وأجد مشكلتي قد اجنحلت عند زيارتي له في الموعد الذي حدده لي. كنت حريصا ،كما هي عادتي ،على أن أصل إلى المكان قبل موعدي. وفي الوقت المحدد ،أدخلوجني إلى غرفته ،حيث كان غارقا مستغرقا بين الضابير المكومة على مكتبه الكبير .لم أطمع منه بالوقوف للترحيب بي ،فذلك ،عفى ا عن أيام زمان ،مما ل يتناسب مع ما وصل إليه من شأن .رضيت بإيماءته التي أراد بها أن يستمهلني ريثما يستكمل فحص الضبارة التي بين يديه. وجهه يكتسي بجدية يغلب عليها العبوس .لكنه ،بل أدجنى شك ،يختلف عن العبوس الذي تميز به "صلح الدين اليوبي"! كما أجنه ل يمت بصلة إلى جنظرات المواطنين العابسة التي طالعتني منذ اللحظة الولى التي وطئت بها أرض الوطن أول مرة. حاولت ،بيني وبين جنفسي ،أن أجد له مبررا .إذ ربما كان يعاجني من وعكة عارضة ،فنحن في فصل الشتاء ،حيث يصاب الكثيرين بنزلته .يؤكد حدسي ذلك المعطف الذي حرص على ارتداءه ولم يخلعه .معطف ذو قبة فرائية بلون فراء القرود. *
*
*
حاولت أن أشغل جنفسي بأي شيء يصرفني عن مراقبته ،أو إحراجه بما قد ل أستطيع أن أخفيه من ضيق بمثل هذه المواقف التي تعيدجني إلى المعاجناة من حالت الجنتظار البغيضة. م تشاغلت بتأمل الكنبات الجلدية الباذخة تارة ،أو عد أرفف الضابير والملفات تارة أخرى. 109
كثيرا ما أبحث ،في مثل تلك اللحظات ،عن خاطرة مرت في ذهني ولم تكتمل ،أو تأخذ ما تستحقه من التفكير لسبب أو لخر. و ما أكثر الخواطر التي تفرضها الوضاع المقلوبة. يكفي أن تنظر حولك لتتسابق المتناقضات وتتقافز من حولك .فتتزاحم الخواطر ،القديمة منها والجديدة ،كل منها يحاول أن يحظى بلحظاتك تلك. أوغلت بي أفكاري في البعد. الصمت المطبق أتاح لي أن أسمع دقات ساعة الحائط ،التي ذكرتك بساعة يد صديق صباي "حسين غيث" ،التي كنت أسمع دقاتها بوضوح أثناء صمت حصة المتحان في مدرسة المام الشافعي في غزة. كان صديقي "حسين" ،الواسع الطلع ،أول من حدثني عن "جنظرية داروين". قرد! فاجأجني في حينها بأن الجنسان أصله" ".. ومنذ ذلك الوقت وأجنا أتساءل: لو أن ما قاله "داروين" صحيحا ،وأن الجنسان هو جنتيجة التطور الذي جرى على القرد ،فلماذا ل يزال هناك قرود يعيثون في الرض تقليدا؟ ولماذا ل يكون العكس هو الصحيح؟ إجنسان! القرد أصله" ".. أي أن سللة معينة من هذا الجنسان ظلت "تتخلف" -عكس تتطور- ول تساير الزمن ول البيئة .فصار أن جرت عليها تلك التغيرات التي أشار إليها أستاذجنا "داروين" في جنظريتة "التطور والرتقاء" ،والتي ادعى أجنها جرت على القرد ليصبح إجنساجنا ..ولكن بشكل عكسي. وهكذا ،وبتعاقب الزمن ،تحول ذلك الجنسان ،بفضل تخلفه المضطرد، وخنوعه وتعوده على الجنحناء ،إلى "جنوع" من الكائنات ..هو ما يسموجنه الن..القرد. أتذكر أن القرود العادية مشهورة بتقليد الجنسان .ربما كان تفسير ذلك هو التعبير الغريزي عن الحنين إلى الماضي ،حسب جنظرية 110
"داروين" .أما جنظرية التطور الحديثة التي أشرجنا إليها آجنفا ،فهي تدعي أن ذلك إن هوإل جنتيجة لتقلص مهمات"العقل" ،وتلشي ملكاته وقدراته على البتكار و البداع ،بسبب "قلـة استخدامـه" و"عدم الحاجة إليه" ،و "الكتفاء لذلك بالتقليد". أما أن يصل الحال في البعض لدرجة التباهي بتقليد القرود ،فذلك هو الدليل القاطع الذي يؤكد لك صحة النظرية المعكوسة أعله. *
*
*
رجنين التليفوجنات المتعددة ،التي دأب صوتها على ملحقته من ذات اليمين وذات الشمال ،كان يقطع تأملته وتركيزه .فما يكاد يعيد سماعة التليفون إلى مكاجنها و يعود إلى "البــوز" الجاد الذي اتخذه ،حتى ينتزعه دخيل آخر يعكر صفو خلوته مع أرقامه ..وجنواياه الغامضة. وعندها يخصني بنظرة ملؤها التأفف والضجر مما يعاجنيه .وشيء من العتذار لي لما أعاجنيه. ثم يعود ليلوذ بعبوسه تحسبا وهربا من الجابة على تساؤلتي التي قرأها واضحة على وجهي منذ لحظة دخولي. تتلون وتتباين تعبيرات وجهه حسب مكاجنة المتحدث على الطرف الخر من الخط ،تتغير ملمحه ،فيبدو عليه المتثال لما يتلقى من أوامر فيخفت صوته ويستكين ،أو ترتسم على وجهه أمارات الصرامة التي يحدث بها أحد مرؤوسيه ،أو أحد السائلين عن مصير حقوقهم، فيعلو زعيقه ويستأسد. ثم يعود إلى المتثال والستكاجنة. ول يخلو المر ،بين هذا وذاك من المتحدثين ،من زميل يمطره بوابل من المديح فتبدو على وجهه علمات الرضى والجنشكاح ،أو آخر يستوجب منه الشخط والبستفه ،أو آخر يتحفه بآخر جنكتة فأفاجأ بنوبة من القهقهات تستولي عليه حتى تكاد تفقده سيطرته على وقاره المفتعل ،فيعود إلى سجيته ليصدرعنه ،خلل قهقهاته ،رغماعنه ،تلك 111
الشخرات الغزاوية المميزة .ثم يستفيق فجأة ليتدارك الحالة التي وصل إليها بأن ينهي المكالمة ويسارع إلى استدعاء أحد السعاة عن طريق "الجنترفون" ليستدعي له بدوره موظفا آخر ومعه "الضبارة" الفلجنية. ول يفوته أن يرمقني بنظرة تطلب مني أن أراقبه وهو يتحدث مع الساعي بمنتهى الذوق والرقة إعلجنا عن مدى كياسته ودهائه، وإلمامه بأصول الدارة. ثم يعود بعد هذا كله ليخصني بنظرة ملفقة كأجنما يريد بها أن يبثني شكواه من ثقل المسئولية الملقاة على عاتقه. وأجنا أتعمد ،بين الفينة والخرى ،أن ألقي بنظرة إلى ساعة يدي بطريقة فيها شيء من الستعراض لكي أجنقل إليه أجنا الخر مدى تأففي وضجري من تلك التمثيلية الرديئة التي جاهد في تأديتها. وبعد مرور ما يقرب من عشرين دقيقة من ذلك الستعراض المتواصل الملح المتكرر لما هو عليه الن من عظيم الشأن ،اعتدل في جلسته ليتخذ "بوزا" جديا ،مقلدا أحد المقلدين ،ويسأل بود مفتعل: جنعم ..إيش بقدر أعمل لك؟كنت ،في تلك اللحظة ،على يقين بأن ا لن يعاقبني لجنني سأتركه وأتخلى عنه بينما جنظراته المريضة ما زالت متشبثة بي تتوسل بقائي. تمنيت لو أن حذائي لم يطأ عتبة مكتبه أو يقف أمامه. جنهضت .إعتذرت عن زيارتي "المفاجئة" له. وغادرت المكان ،وأجنا أترحم على شاعرجنا امرؤ القيس الذي اكتفى من الغنيمة بالياب. *
*
112
*
وزارة "أبو فل"ن".. كثيرا ما يتداول الناس النكات السياسية التي تتشابه في كثيرمن الحيان ،بالرغم من اختلف اللغة ،والزمان ،والمكان ،بحيث جنسمع النكتة الواحدة منسوبة إلى "تشيرتشل" مرة ،ثم إلى "بولجاجنين" مرة ثاجنية ،أو إلى "فيديل كاسترو" مرة ثالثة ..وهكذا! وفي هذا السياق تحضرجني ،وجنحن جنتتبع أخبارتكوين أول وزارة للسلطة الوطنية ،جنكتة أجنبية قديمة كنت قد قرأتها .وهي ل تحتاج إل إلى بعض الرتوش لكي تصبح جنكتة "محليه" ..تنطبق على أحوالنا. النكتة الصلية رويت عن دولة إسرائيل! وقد وردت في كتاب اسمه "حكايات المس ،تاريخ اليوم" .وهو لكاتب جنمساوي إسمه "جوتفريد هايندل" Gottfried Heindlيسرد فيه "طرائف" ساخرة جرت عبر القرن العشرين يغلب عليها طابع النقد السياسي ،وجنجد ترجمتها الحرفية فيما يلي ،فيما عدا بعض التعديلت المشار إليها: بينما كا ن رئيس وزارة إحدى الدول الحديثة الوليدة منشغل في تكوين وزارته ،جاءه أحد أصدقائه يطالبه بإلحاح ،وعشم ،أ ن تتسند إليه وزارة" ..المناجم"! أجابه الرئيس: 113
ولكن بليدنا يا صديقي ل تحتوي على أي نوع من المناجم،ولن يكو ن لدينا ،لذلك ،مثل هذه الوزارة ،فكيف مستكو ن وزيرا فلن؟! لشيء غير موجويد ..يا "أبو " فيرمد عليه الصديق العشمان: ولو ،يا " أبو ،"...مش صار عندك وزارة "سقافه وإعلم"ياماحلها ..وإلها وزير ياما هنا ياما هناك؟!
*
*
*
114
مال القافله ..والج م
مالم يحـكـه "بلْيـدبا" الحكيم للطاغية "دبشليم" ،فلم يترجمه "بن المقفع": يحكى أ ن جيمال احتار في أمر قافلته التي حر ن إبلها وأوغلوا في حرونهم بحيث أبوا أ ن يتحركوا من موقعهم بالرغم من كل محاولت الجيمال التي اعتمدت على خبراته السابقة في قيايدتهم ،مما جعل القافلة كلها تتوقف عن المسير. حاول الجيمال أ ن يخفف من حمل "الجمل الول" ،فما أيدى ذلك إلى أي نتيجة. حاول أ ن يطعمه ويسقيه ..وأ ن يغريه ،يدو ن غيره ،بشتى الومسائل، فما زايده ذلك إل عنايدا وإصرارا على موقفه الرافض. حاول أ ن يشده بكل ما أوتي من قوة ،ليحثه على مواصلة الســير، حتى إذا ما بلغ منه الجهد مسقط الجيمال من العياء ،فجلس ليستريح وهو يحدث نفسه ،وقد أيدركته الحيرة ،مسائل عن مسبب حرو ن الجمل هو ورفاقه من الإبل .وبينما هو كــذلك ،إذا بالجمــل يقــترب منــه كــأنه يريد أ ن يهمس في أذنه: 115
..أما وقد أعيتك الحيل ،التي طال ما انطلت علينا نحن العاملينمعك بدو ن كلل ،بكامل إرايدتنا ،فامسمح لي ،بالصالة عن نفسي وبالنيابة عن رفاقي جمال القافلة ،أ ن أهمس في أذنك عتابي وعتابهم على ما بدر منك ،وما حاولنا يدائما تجاوزه ح يببا وكرامة لك. كم من السنين قضيناها في خدمتك ،وما من مرة عصينا لك فيها أمرا؟ كم من المرات غدربك الزما ن وبارت فيها تجارتك ،وما تركناك في محنتك؟ ف التراب في كنفك ،لكي كنا ،وما زلنا ،مستعدين ل ن نس ي تحقق ما تصبو إليه ،لنك راعينا ورمزنا ..عيزنا من عيزتك. صبرنا كثيرا وتحملنا الكثير ،وما أنت بغافل عن مدى قدرتنا نحن معشرالجمال على تحمل الجوع والعطش ،وما زلنا. مسأقولها ..وليس لك بعدها عندنا من عتاب. وهنا التقط راعي القافلة نفففسه وهتف بلهفة: قلها برببك وأرحني ،فإنني مصغغ إليك! أومأ الجمل برأمسه مشيرا إلى حمارالجيمال الذي يسيرعايدة في مقدمة القافلة ،والذي امستملح انقيايد القافلة إليه ،فطغى وبغى.. وتجبر وتكبر! ةثم هز الجمل رأمســه بأمســبى ذات اليميــن وذات اليســار ،وأضــاف وهــو يريديد محذرا بإصرار: ..أقول وما زلنا مستعدين لتحمل كل الصعاب ،إل واحدة:وهي أ ن تعويد إلى ربطنا بذيل ذاك الحمار!
* 116
*
*
تلك هي يا صديقي ..
إحدى "القواعد" في جنوب لبنان ،في ذلك الشريط الحدودي المسمى "فتح لجند" ،عالم آخر ،خليط من شباب في عمرالورود ،مع كهول في أوج الشباب .وكلهم في جنقاء وبراءة الطفال. يضحكون ،يمرحون ،يتحدثون عن الحياة في أمل ،وعن الموت في حيوية ،وعن القادة في إحترام ومودة ،وعن السياسة في وعي ،وهم يحتضنون أسلحتهم في غير تظاهرأو ادعاء. وصديقي"مطيع" يستدرج هذا أو ذاك ليحكي على مسمع مني حكايات بطولية شارك فيها ،فيحكي هذاعن بطولة أحد زملئه الحاضرين في غير ملق .ويرى ذاك ،الذي يتكلم بلهجة مصرية ،أن أستمع إلى تفاصيل قصة الشبل "عيسى" التي تصلح لعمل فيلم سينمائي "يكمسر الدجنيا" ،حسب تعبيره ،وياخد الوسكار! ثم يجمع الجميع على أن جنستمع من زميلهم المصري ،الذي لم يدهشني وجوده بينهم في تلك القاعدة ،إلى أغنية الشيخ إمام الشهيرة"..واه يا عبدالودود ..يا رابص عالحدود" .ولم يلبث أن استدرج صاحبنا رفاقه لترديد الغنية الشهيرة الخرى"..الرض بتتكلم عربي". وإن أجنس ل أجنسى "كاسترو" ،ذلك الشاب الملتحي ،الذي كان يدور علينا بأكواب "الشاي بالنعنع" ،وهو يعرج على قدم خشبيه .ظل 117
"مطيع" يحاوره ويداوره إلى أن أخذ يروى ،بعفوية وجدية شديدتين، قصة إصابته في إحدى العمليات الفدائية. ... ...وما لقيت حالي إل وأجنا مبطوح عالرظ .دمورت على"الكلشن" لقيته هناك ..مثل هان والشجره هاذيك .جيت أروح له ،لقيت رجلي مش معاي ..رايحه ..زحفت تمني وصلت له.. قلت له وين بدك تروح مني؟ بعدين قعدت أدمور على فردة "البسطار" ..لـمساته جديد يازلمه ..يا دوبني استلمته قبلها بيومين ثلث..أعهده..أماجنه في رقبتي! وين ..ووين لما لقيتها ..فردة البسطار الشمال.. ثم أكمل وهو يربت على قدمه الخشبية: ..هناك في اليممه الثاجنيه..ا وكيلك مثل ماهي ..ما صارلهاشسـاتها فيها! إشي ..والمرحومه رجلي لخ ي كنت أمسك خاصرتمي بيد م ي ،ودموعي تكاد تمل وجهي من شدة الضحك ،وكأجنما فقدت قدرتي للحفاظ على وقاري.بينما يستلقي "مطيع"على ظهره يحاول أن يقول من خلل جنوبات ضحكـه: ..منعول ديكه ..ول ممره بـبحكيها مثل اللي قبلها!بينما "كاسترو" ما زال يضيف إلى روايته ،بقسماته الجاده، تفصيلت أخرى ،وكأجنه "كوميديان" قديرعلى خشبة المسرح ،يغريه تجاوب جمهوره معه على "الخروج عن النص" ،والرتجال. في طريق عودتنا ،كان "مطيع" يستعيد "جنوادر" الشباب ،ويروي لي المزيد منها .وكان يتجنب سؤالي عن اجنطباعاتي ،أوالتعليق على أثر الرحلة في جنفسي. لكن عيناه كاجنتا تحملن لي الرساله: تلك هي "الثورة" يا صديقي! وأردد أجنا في خاطري: 118
"يعانقو ن الموت من أجل البقاء".. "يربطو ن الرض والوطن المقدس بالسماء"** _____________________________ ** الشاعرة الفلسطينية "فدوى طوقا ن"
عالم في قمة الثراء ،وشخصيات غنية استدعت إلى ذاكرتي الكاتب اليطالي القريب إلى جنفسي "لويجي بيراجنديللو" ،وعنوان مسرحيتة الشهيرة" ..شخصيات التي تبحث عن مؤلف". لم يخطر ببالي في حينها أجنه سيأتي ذلك اليوم الذي سوف أتمكن فيه من أن أستدرج أحد كبارمؤلفي السيناريو في العالم"،فراجنكو سوليناس"، ليتواجد بين مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين في الجنوب اللبناجني، ليستوحي فكرة الفيلم السينمائي "حمنا ..ك" ،ليخرجه المخرج اليوجناجني الشهر"كوستا جافراس". ربما أجد مكاجنا آخر لرواية تفاصيل تلك الحكاية. * * * وكما تعودت على القضاء على جنزلت البرد ،بحكم تجربتي الطويلة معها خلل ما يزيد عن عشرة أعوام في شتاء أوروبا القارس ،بدون اللجوء إلى الطبيب ،كذلك عودت جنفسي أن أقضي على "جنزلت الحباط" ،أو"وعكات اليأس" ،كلما حاول ْ ت الطاحة بروحي المعنوية .كان ملجأي هو"مطيع" ووصفته الشافية التي ل تخيب.. جنزهة في الجنوب. ولعلي قد جنسيت قراري بالعودة إلى القاهره. لكنني عدت إليها في مهمة رسميه. * * * أما ما لم أستطع جنسياجنه فهو ذلك الوجه المعروق لكهل صامت يطل على سنوات شيخوخته ،يقبض على سلحه مطرقا .ولكن عيناه 119
الثاقبتان لم تتحول عني إل عندما كنت أعاود النظر إليه محاول أن أتذكر قسمات وجهه التي بدت لي وكأجني قد رأيتها في مكان آخر.. وزمان آخر. ظلت قسمات ذلك الرجل تتراوح أمام عينمي .خصوصا ذلك "البروفيل" المميز الذي ظل يطرق ذاكرتي كلما أشاح الرجل بوجهه عندما كنت أضبطه وهو يتأملني. ولم يهدأ بالي إل عندما كررت الزيارة في السبوع التالي ،بإلحاح أثار دهشة صديقي "مطيع". استقبلني الرجل باسما فاتحا ذراعيه .ويبدو أجنه قد قضى السبوع، مثلي ،يشحذ ذاكرته إلى أن اهتدى ،مثلي أيضا ،إلى الحتمال الكثر احتمال. لم يكن سوى سائق سيارة الجرة ،الذي صعد بي إلى الجبل آخذا على عاتقه مهمة البحث عن ذلك الفندق المجهول ،حيث كاجنت "جنهى" تقيم مع والدتها ،والذي حكى مطول عن الوحدةالعربية ،وجمال عبد الناصر ،وفلسطين التي "لن يفلح أرظها إل رجالها" ،حسب كلماته. كان يحدثني أثناء قيادته للسيارة بدون أن يلتفت إليب ،فكان "بروفيل" وجهه هو ما علق بذاكرتي. سألني بلهفة: ..لقيت جماعتك يوميتها؟قلت له ،واجنا أبادله العناق ،وبتلقائية: ..لقيتهم كما ترى ..ولن أتركهم أبدا!* * * عندما كنت أقوم ،بين حين وآخر ،برحلة إلى جنوب لبنان -فتح لجند- كان حلم الوطن ،وحلم الدولة ،يلوح لي واضح المعالم والتفاصيل .ثم يخبو ذلك النور ليعود مرة أخرى بزيارة أخرى. كنت أرى الحلم في أعين المقاتلين واضحا مفصل .كاجنت أعينهم مستعدة لكل السئلة. 120
وكاجنت أجوبتهم تشع منها الحياة .بعيدة كل البعد عن الرطاجنات السياسية المراوغة. * * *
"حبيبه" ..و"القديسه نينا"
..
لم تكن اليام العشرة ،التي قضيتها في موسكو ،كلها مشاهدة أفلم وحضور جندوات وجنقاشات يغلب عليها الطابع السياسي الذي يميز المهرجان .ولم أقض المسيات كلها بتدوين مشاهداتك وملحظاتك أو الستمتاع ببرامج المهرجان الجاجنبية مثل زيارة مسرح "البولشوي"، ومسرح "الكريملين" ،ومسرح وكوجنسيرفاتوار "تشايكوفسكي" ..أو غير ذلك .بل كان هناك جاجنب آخر ،على جاجنب لبأس به من الطرافة. بل ربما كان ذلك الجاجنب ،بين حين وآخر ،عند بعض الخرين، يشكل الهمية الكبر والهم لتلك المهرجاجنات )!( فبعد أن تنتهي العروض والندوات ،تبدأ برامج النشاطات "الجتماعية" وحفلت التعارف بين مختلف جماعات "الوفود"، يعقبها تعارف وتآلف بين "الفراد" منها. 121
وفندق "راـسميا" الضخم،ذوالنجوم العديدة ،مقر جنشاطات المهرجان، الذي كان آجنذاك يعتبر من أكبر وأشهر فنادق العالم ،والكائن بالقرب من أهم ميادين موسكو ..الميدان الحمر ،الشهير بكاتدرائيته"ساجنت باسيل" ذات القباب المميزة المتمايزة ،يحتوي على صالت للحتفالت بمختلف متطلباتها .هناك،غير صالت العروض السينمائية ،صالت للطعام وأخرى للشراب وأخرى للثرثرة وغيرها للموسيقى والرقص .صالت تستطيع فيها أن تأكل وتشرب وتراقص فتيات روسيات جميلت يتكلمن كل اللغات ،هن في الغالب ممن يعملن مع الوفود الجنبية كمرافقات. ول يحتاج المرء إلى كثير من الدهاء لكي يدرك المآرب الخرى وراء وجود بعضهن. * * * لم تتطلب مني مسايرة الجواء كثير من الجهد .فقد تولى الرفيق "سهيل راشد" كما أسلفت القيام بمهمة تقديمي بشكل لئق إلى مختلف الوفود. كما أجنني لم أجد صعوبة في التعرف إلى هذه أو تلك ،أو مراقصة ما تيسر من الحسناوات اللواتي تزخر بهن المكنة ،ممن يتمتعن بالجود وكرم الضيافة علوة على ما جاد به عليهن المولى من الحسن والجمال. واحدة فقط ،من ضيوف المهرجان ،هي التي كاجنت تستلفت إجنتباهي وتستحوذ على إهتمامي .وظلت عالقة بذلك الركن الغامض من ذاكرتي حتى الن. كأجنها المهرة الشاردة بقوامها السمهري ،أو "أفروديت" الهاربة لتموها من قصائد "هومير" ،بقسماتها الغريقية التي ل تخطئها العين. ذكرتني عيناها النجلوين بجارتي "ألكساجندرا" ،إحدى عرائس الماضي ،حينما اجنتظمت لبضعة شهور طالبا في كلية الهندسة بجامعة السكندرية .ذلك قبل سفري للعمل في السعودية عام .54وذلك قبيل سفري للدراسة في "فيينا". 122
التقت جنظراتنا أكثرمن مرة في حلبة الرقص .وابتسمت لي أكثر من مرة لجنني ،كما يبدو ،أوحيت إليها بلفتاتي التي كاجنت تلحقها ،رغما عني ،أجنني أطلب تلك البتسامة وأتوق إليها. حاولت ،عبثا ،أن أعرف مكان جلوسها فيما بين الرقصات. كان من السهل أن تختفي في خضم ذلك البحرالصاخب المتماوج الزاخر بالخلق من كل مكان ،وكل اللوان .لكنني سرعان ما كنت ألمحها ،بمجرد أن تصدح الموسيقى لتعلن العودة إلى الحلبة ،وهي تراقص آخرا لم تتكرر مراقصتها له من قبل ول من بعد. وتنقضي السهرة ،وتنفض الجموع ،وتختفي المهرة ،ويتكرر المشهد في المسية التالية .وتتسارع لفتاتي بحثا عن فتاتي الغريقية حتى خيل إلى أجنني مقبل على مفاجأة تؤكد لي أجنني كنت أعيش وهما ل وجود له إل في مخيلتي. إلى أن كاجنت الليلة الخيرة. ما كدت ألتهم عشائي ،بعد أن اجنتهيت من تدوين ملحظاتي على فعاليات ذلك اليوم الحافل ،حتى التهمتني الجموع المحتشدة الجائعة للهو والسهر ،ووجدتني أدورحول الواقفين والجالسين والراقصين وحول جنفسي باحثا لهثا وراء ضالتي ،إلى أن داخلني الشك في أجنني سوف أراها ثاجنية. وكدت أوقن أجنها لم تكن سوى طيف من أطياف ذكرياتي الغابرة، استجاب إلى آهات أشواق مكتومة ،وعمن له أن يشاغلني ويتسلى بمداعبتي ،فجاءجني على أجنحة الجنغام الغربية المختلفة التي اجتهدت الفرقة الموسيقية أن تغازل بها آذان القادمين من كل أصقاع الدجنيا. فجأة ،لمحتها وهي توزع لفتاتها العاجلة ،المتفحصة ،الباحثة ،ذات اليمين وذات اليسار. لهفتها كادت أن تجعلني أصرف النظرعن مسايرة أمنياتي .فهي بكل يقين تبحث عن شخص معين ،استبعدت أن أكوجنه. لم أكد أعلن لنفسي عن يأسي ،وأسجل هزيمة أخرى إلى هزائمي، وأستسلم للعودة من حيث أتيت حتى أفلتت منها إلتفاتة استقرت في 123
إتجاهي ،ذكرتني بالنظرات التي وصفها "إبن الرومي" بأن لها وقع السهام .حيث قال: " ويله إن جنظرت وإن هي أعرضت.. وقع السهام وجنزعهن أليم". وسرعان ما تهلل وجهها بالبتسامة التي سبق وأن أوحت لي بالكثير، وهي متجهة جنحوي كأجنها تؤكد لي أجنها كاجنت منهمكة فيما كنت أجنا منهمك فيه. مدت يديها الثنتين .لم أدركيف تلشت المسافة بيننا .تناولتهما بلهفة. اتجهنا وكأجننا متفقان مسبقا على التجاه إلى قلب حلبة الرقص التي التقينا على حافتها. وتسللنا خلل الزحام الذي تفرضه ظروف الليلة الخيرة التي اجنتصفت لتوها ،حتى كادت خطواتنا أن تتعثر بخطوات الخرين وأكتافنا تلتحم بأكتافهم ،وحتى تحول الرقص إلى مجرد عناق علني مباح ،على أجنغام تلك الغنية الحالمة ..الكثر شهرة في ذلك الوقت: ..… To know him is to love him بالرغم من ذلك فقد كنا ،كلجنا ،وكأجننا ل جننتمي إلى تلك اللجة من الكتل الدمية المحيطة بنا ،ول جنعبأ بوجودها. قالت لي ،بما هو بين السؤال والتقرير ،بعد فترة ليست قصيرة من الصمت: ..فلسطيني.قالتها وهي تنظر مبتسمة إلى"الحطة" التي كنا جنحرص على الحتفاظ بها على أكتافنا ،وكأجننا جنريد أن جنعلن وجنؤكد للجميع وجودجنا ومدى تشبثنا بفلسطينيتنا. ثم أكملت بدون أن تنتظر ردي ،وبلغة إجنجليزية متعثرة ولكنها واضحة: 124
أجنا أحب فلسطين وأقف إلى جاجنب الشعب الفلسطيني ،شأنالكثيرين في بلدي. اليوجنان؟أومأت بنعم .كاجنت إيماءتها مشوبة بتساؤل ل تخطئه العين .أضفت مفسرا ومداعبا .أقدم جنفسي بادعاء مبالغ فيه لكي أبدو مرحا: ربما كان لمهنتي الفضل في "اكتشافي" هذا .فأجنا كأي مخرجسينمائي آخر ،من دأبه مراقبة وإستشفاف وتصنيف وتخزين صور النماذج والجنماط البشرية. ضحكت وقالت وهي تنتقي كلماتها لتقدم جنفسها بشكل أكثر بساطة: أما أجنا فممثلة مسرح ،مازالت في بداية الطريق .أسعدها الحظأكثر من مرة حين وقع عليها الختيار ،في بعض الحتفاليات، لكي تقرأ أمام الجمهور اليوجناجني ترجمات لمختارات من الشعرالفلسطيني الحديث ،شعرالثورة والمقاومة" ..محمود درويش" مثل. بذللت مجهودا محمودا لكي تنطق السم كما يجب ،ممــا جعلنــي أبــدي إعجابي إيمااء قبل أن أسأل: ومن أين جاء اهتمامك بالثورة الفلسطينية ،أو بشعر "محموددرويش" ،أو بالقضايا السياسية بشكل عام؟ من معلمتي و مثلي العلى ،إبنة عمي "ميلينا ميركوري"** هلتعرف من هي؟ ومن ل يعرف الممثلة العالمية "ميلينا ميركوري" صاحبةالدورالذي ل ينسى وكذلك الغنية الخالدة في فيلم"أبدا..الحد"؟! أليست هي الفناجنة المناضلة المثقفة التي كان لها دورها في مقاومة النظام العسكري الدكتاتوري في اليوجنان ،والذي تمكنتم من إجنهاء وجوده في أواخرالعام الماضي )(1974؟ إذن لماذا تستغرب معرفتي بـ "الثورة الفلسطينية" أو بالشاعر125
___________________________________________________ )**( "ميلينا ميركوري" الفنانة التي أصبحت بعد ذلك وزيرة للثقافة في اليونا ن )) .. (1989-81ومن عام 93حتى توفيت عام (1994وهي القائلة" :إذا كانت هناك في اليونا ن صناعة ةثقيلة ..فهي الثقافة اليونانية"! وهي التي امستشهدت أةثناء إلقاء كلمتها في"المؤتمرالدولي لسيامسات الثقافة" المنعقد في مدينة "نيو ماكسيكو" تحت إشراف اليونيسكو ،عام ، 82بالمثل العربي قائلة: "هناك مثل عربي قديم يذكرنا بأ ن من ل قديم له ..ل جديد له !"
"محمود درويش" الذي ليقل شهرة عن "ميلينا ميركوري"؟ أل تستغرب أيضا من وجودي في مهرجان سينمائي ..أجنا المسرحية؟ عفوا يا.. ..وبعد أن ألقيت جنظرة سريعة إلى أصابع يدها التي تمسك بيدي ،حسب مقتضيات المراقصة ،أكملت قائل: يا سيدتي!كلنا جنعرف أن المسرح هو أبوالفنون ،وما السينما إل وعاء يحتوي هذه الفنون كلها ..أليس كذلك يا سيدتي....؟ "جنينا"" ..جنينا ميركوري" ..احتفظت بإسمي لجنني أحبه وأفضلهبالرغم من أجنني أحب زوجي أيضا. فاجأجني ذلك الحضور المفاجيء لزوجها. قلت معقبا: أعتقد أجنني ،أيضا ،سوف ل أتوقف عن حب المرأة التي ستصبحزوجة لي. ْ أدرك ْ ت مقصدي ،وابتسمت وهي ترمقني بنظرة ذات معنى. ثم سألت وهي تتمايل وكأجنها توميء إلى المغنية الروسية التي كاجنت ما تزال تردد الكلمات الجنجليزية لشهرأغنيات ذلك الوقت: To know.. know.. know him love.. love.. love him to is هل عرفتها؟ كاجنت وما زالت من أحب الغنيات إلى قلبي.ضحكت وهي تصحح: أقصد هل "عرفت" الزوجة التي سوف لن تتوقف عن حبها؟126
قلت وأجنا أواصل محاولتي بأن أبدو مرحا ،وبدون أن يفوتني التعليق الذكي الذي استوحته من كلمات الغنية: أعتقد ذلك ،ولم يبق سوى أن أعرف أجنها "عرفتني" ،وأن تعرفهي أجنني عرفت أجنها عرفتني! أما أجنا فقد عرفت سبب كل هذا الحزن الذي يحمله وجهك ،بالرغممن محاولتك لخفاءه ،والتظاهر بعكس ذلك. قسمات وجهها هي التي حملت لي ذلك المعنى العميق ،الذي يتجاوز قدرة الكلمات الجنجليزية التي كاجنت تعثرعليها بصعوبة. الحق أقول ،كنت ،في تلك اللحظة من ذلك الوقت ،أتوق إلى صدر يحملني على البوح. "البوح" ،كما تؤكد الحكمة الصينية ،هو لهل الغربة " ..وطن". وليس هناك أوقع بردا وسلما على جنفسك الحيرى من مثل ذلك البوح العابر ،حيث تكون موقنا أجنك تودع سمرك في بئر قراره يبعد آلف الميال ،مثل اللف التي تفصل "موسكو" عن "بيروت". "بيروت" التي ودعتني بابتسامة تحمل الكثير من المعاجني التي حرت في استيعابها ،والتي جعلتني أردد بيني وبين جنفسي ،متوجسا ،أجنه ربما كان عشقنا للشياء هو ما يجعلنا جنراها كما جنريدها جنحن وجنهواها ،ل كما هي في الحقيقة. ماذا لو حكيت لهذه الصديقة العابرة قصة حيرتي وأسبابها لستمع إلى رأيها الذي سيكون قطعا على قدر من الموضوعية والحياد؟ لح لي وجه "أديل" المريح .تلك الفتاة التركية ،طالبة الجامعة ،التي جمعتني بها الصدفة لبضع ساعات في استاجنبول ،عندما مرر ل ت بها في طريقي من "فيينا" إلى "بيروت" ذات صيف ،عام ،61بحثا عن الفندق الجبلي الذي كاجنت تقيم فيه حبيبة صباي وخطيبتي مع والدتها. بح ل ت يومها لـ "عديله" بكل ما كان ينوء به صدري من هموم .أعطتني الجابة عن سؤال كنت أبحث له عن إجابة شافية .زودتني بطاقة 127
روحية بحيث أيقنت بعدها من سحر وقع ذلك "البوح العابر" الذي يشبه ،في كثيرمن الحيان ،لحظة ولدة جديدة. قلت لـ "جنينا" ،آمل أن أحملها على أن تخطو جنحوي خطوة أخرى، وتقترب مني أكثر: يبدو أن حديثنا سوف يطول.قالت وهي تحتضنني بعينين تفيضان رقة ومودة ،وكأجنها قد أدركت ما يجول في خاطري: كنت أتمنى أن أستمع إليك ولكن ،بكل أسف ،لن يسمح وقتي بذلكو يبدو أجنني سوف أتركك في الحال لعداد حقيبتي ،فلقد تمنيت اليوم أن أراك قبل مغادرتي لقول لك وداعا وأتمنى لك ولشعبك، الفلسطيني ،كل التوفيق والحظ السعيد .وها هي أمنيتي قد تحققت. صدمتني بقرارها السريع المفاجيء .فكان مني ،كرد فعل تلقائي لم أفتعله ،أن تشبثت لحظة بيدها التي تمسك بيدي ،وخاصرتها التي تحيط بها يدي الخرى. رمقتني في صمت ،وكأجنها تقرأ في عيني رغبة مستحيلة. تراخت يداي ،وارتفع كفاهما مفتوحان بمستوى الكتفين ،معلنا استسلمي. ابتسمت ،وقالت وهي تحرص على اجنتقاء كلماتها ،أن طائرتها ستقلع بعد ساعات قليلة ،وأجنها تفضل أن تستريح بعض الوقت قبل أن تستحم ،ثم تتزين لزوجها الذي ينتظرها في مطار"أثينا" .ثم عادت تنظر في عيني كمن ترجوجني أن أتقبل أمرا واقعا ل مفر منه. وبعد تردد طال لبضع ثوان حزمت أمرها وقالت بلهجة تفيض مودة وصدقا: كل ما أستطيع أن أعطيه لك هو..ابتعدت عني قليل ،وأمسكت بأصابع يدها خاتما فضيا ذو حجر فيروزي كان يزين أحد أصابع يدها الخرى .وسرعان ما طوق خاتمها بنصري اليسر وهي تكمل: 128
هذا الخاتم ،الذي أرجو أن ل تخلعه من إصبعك لجنه سوف يجلبلك الحظ السعيد. شدت على يدي ،ثم اختفت وتركتني غارق في ذهولي. أتحسس الخاتم ،وأجنظر إليه ثم أحكم قبضتي عليه خوفا من أن يتسرب من يدي الدليل الوحيد الشاهد على سلمة قواي العقلية. *
*
*
عندما عدت إلى بيروت ،بدأل ْ ت ،كما بدا لي ،بشائر "الحظ السعيد" الذي يعدجني به خاتم القديسه "جنينا" الفضي ذو الحجر الفيروزي )!( سوف يكون هناك متسع من الوقت للحديث عن المشروع الجديد للفيلم الروائي "المجموعة "778للكاتب الفلسطيني "توفيق فياض" ،إضافة إلى موافقة مؤسسة السينما السورية على إخراجي لفيلم "سرالبمري "، عن قصة صديقي الكاتب "زين العابدين الحسيني". هذا إلى جاجنب المظاهر الخرى التي بدأت تزمين لي "بيروت" ،التي لم أكن أأـكن لها في الصل حبا ما ..ول كراهية. فلقد شهدت هذه المدينة ،منذ أكثر من عشر سنوات ،وقائع الفصل ت من الحب ،الول ،ما زالت تحتل حيزا من الختامي لقصة سنوا ض وجداجني ل سبيل إلى تجاهله أو تناسيه. تشبثت في ذلك الزمن ،في سنوات الدراسة الباقية لي في "فيينا"، وفي سنوات العمل التي قضيتها بعد ذلك في "القاهرة" ،بمقولة "الحب الول وهم كبير ..وحبك الول هو حبك الخير". وكنت أخرج من كل تجربة جديدة ،أتوسم فيها أن تكون هي الخيرة، لكتشف أجنها -أيضا -لم تكن سوى "وهما كبيرا". لكن عشقي لعملي ،واستغراقي فيه ،أو في العداد له ،كان لي دائما هو الخلص والعزاء الثير ..وحبي الول والخير.
129
وهاهي ذي "بيروت" تميط اللثام عن وجه آخر لها ،وتوحي لي بأجنها تستعد لتشهد بداية لقصة بديلة ،بعد سنوات عجاف طويلة ،كان يسودها القحط العاطفي .أعقبها في الوجنة الخيرة إحساس مؤلم برفض الخرين لي ،في مجال عملي الذي أحبه ،كان له أثره البالغ في تعميق شعوري بالوحدة ،وحاجتي )بالعربي الفصيح( للجنساجنة التي أستطيع أن أمارس معها الصدق ،إجنساجنة أسكن إليها ،تنتشلني من وحدتي الموحشة ،أسلمها رأسي المتعب،لسمع دقات قلبها تسألني: "ماللْك"؟غربتي في بيروت كاجنت غربتان. *
*
*
أدركت "حبيبه" ذلك ،وعرفت كيف تجمع بيننا ،بعد أن تأكدت من ميل كل منا ،على حدة ،إلى الخر .كاجنت تعرف أن لكل منا مخاوفه و محاذيره. فتحت قلبها وبيتها للصدقاء المشتركين لكي تطرد وتطارد مخاوفنا ومحاذيرجنا ،وتفسح الطريق أمام عواطف ،تأكلدت هي من صدقها، لكي تلتقي وتنمو. داعبتني "حبيبه" مرة بقولها: ..متى سوف تستبدل هذا الخاتم الذي أراه حول إصبعك منذ عودتكمن موسكو ..ول تتخلى عنه؟ ..إجنه تميمتي .أل تلحظين بوادر مفعولها؟فغرت لي فاها لعملي أزيدها إيضاحا .كدت أن أحكي لهاعن تلك القديسة الغريقية التي صرت أكاد أومن ببركاتها .لكن سرعان ما تغيرمجرى الحديث. كان إيمان "حبيبه" بما تفعل ينبع من جنبل ل يخطئه الوجدان ،ومن رغبة في تعويض ما تفتقده هي بإعطائه بصورة أو بأخرى للخرين. 130
يكاد المرء أن يلمس ذلك في حزجنها الموشى بابتسامتها النبيلة حينما كاجنت تلمح طائرالسعادة يرفرف حولنا" ،أ" و أجنا ،في أركان بيتها. عندما تضيق بي الدجنيا ،أذكر حكايات "حبيبه" الطريفة معي ،فتتسلل إلي جوارحي البتسامة تلو الخرى .ثم أجدجني أكاد أن أضحك بصوت مسموع. و"حبيبه" هوالسم الفني لـتلك الفتاة اللبناجنية التي حصلت على قدرمن الثقافة والمكاجنة بفضل اجنتمائها إلى أوساط لبناجنية وطنيه .هذا إلى جاجنب حصولهاعلى لقب "ملكة جمال" ذات مرة ،مما أتاح لصورها الظهور على أغلفة المجلت ومن ثم ترشيحها للتمثيل في بعض الفلم اللبناجنيه ،تموجت أخيرا بظهورها البارز في فيلم "العصفور" لـ "يوسف شاهين". في ذلك الوقت كان لي معها لقاءعابرا في"حوش قدم" في القاهرة، في واحدة من زياراتي التي أدمنتها لبيت الثنائي الشهير "الشيخ إمام" المغني و"أحمد فؤاد جنجم" الشاعر .ولقد ظل وجهها يتراءى لي كلما فكرت في عمل سينمائي ،ولكم تمنيت بعد ذلك أن تلعب دور"ماريا" في فيلمي "حكاية أعلمر" .ذلك قبل أن يفاجئني صديقي الجندلسي"ضيف ا" بخبر كدت أن ل أصدقه ،وهو موافقة "جين فوجندا" المبدأية على القيام به. ولم يتم تعارفنا إل في بيروت ،عن طريق الزميلة والصديقة المخرجة اللبناجنية "جنبيهه لطفي" المقيمة في القاهرة ،والعضوالمؤسس معنا في "جماعةالسينما الجديدة" .وذلك أثناء قيام صديقتها "حبيبة" بملزمتها ومساعدتها أثناء القيام بتصوير فيلم تسجيلي عن مخيم "تل الزعتر".. أظنه فيلم "لن الجذورل تموت". هناك أيضا ،في "تل الزعتر" ،عرفت " أ " ،التي كاجنت مسئولة عن أحد اللجان الشعبية ،المنبثقةعن إتحاد المرأة الفلسطينية ،والمكلفة ببعض مهام التوعية في المخيم ،والتي كاجنت تشرف على تسهيل العمل في الفيلم. 131
استمرت صداقتنا" ،حبيبه" وأجنا ،وشهدت تطورات هامة في علقاتي العامة ..والخاصة ،وما كان بعدها من ترشيح لكلينا للعمل معا في فيلم روائي باكستاجني عن القضية الفلسطينية. هي ..كبطلة للفيلم ،وأجنا ..كمديرفني له ،ومشرف على الجنتاج الذي كاجنت منظمة التحرير تشارك فيه من خلل مؤسسة "صامد" ،التي كنت في ذلك الحين مرشحا للقيام بإدارة قطاعها السينمائي. كاجنت "حبيبه" هي البتسامة على ثغرالوجه المأساوي للشهورالتي قضيتها هناك في "لهور". في أحد اليام ،بينما هي من حيث ل تدري تتحدث بما يوحي بعدم قناعتها أو استمتاعها بمهنة التمثيل التي ساقتها الظروف إليها بمحض الصدفة ،وبدون مقدمات ،مدت يديها واجنتزعت الخاتم الفضي ذو الحجرالفيروزي من إصبعي لتتفحصه .وجنسيت أن أسترده في غمرة الحديث ،كما جنسيت أن أحكي لها تفاصيل قصته .وظلت هي بعد ذلك ترجيء إعادته لي مرة بعد مرة ،وتتعلل بحرصها على مشاعر"أ" التي أصبحت بعد ذلك زوجتي ،والتي ،حسب ما كاجنت تراه "حبيبـه"، مابرح إصراري على الحتفاظ بالخاتم في إصبعي يثيرغيرتها. ومرت اليام ،أكثرمن عام ،كاجنت كفيلة بأن تجعلني أعترف لنفسي أجنني أخطأت حينما اجنسقت وراءعواطفي اللهثة اشتياقا لرفيقة تؤجنس وحدتي في بيروت ،فاجنزلقت في هوة الوهم العميقة. ومرة أخرى أتيقن من أن عشقنا للشياء هوالذي يجعلنا جنراها كما جنريدها جنحن ..ل كما هي. فكان أن تم اجنفصالي عن "أ" .وتفرقت بنا السبل. أما صديقتنا "حبيبه " ،فقد تناهى إلى علمي بعد ذلك أجنها تعيش وتنعم باستقرارها منذ ذلك الوقت في "باريس" مع زوجها الموسر ..يحبها وتحبه. 132
قالوا لي،ايضا ،أجنهاكـاجنت ومـا زالـت تحتفـظ بـــ"خــاتم فضــي بحــجر فيروزي" ..ل يفارق إصبعها وتحرص عليه أشد الحرص. *
*
133
*
"كارولين"..
والضرورة الفنية
كثيرا ماكان صديقي"حسين"يحاول أن يحملني على تكرار محاولتي الولى في كتابة ما كان يصر على تسميته "قصه قصيرة". إلى أن قدر لنا أن جنخوض ،حسين وأجنا ،تجربة مع سيدة أجنبية شابة جميلة كان له في بدايتها دورا أساسيا .ثم شاءت الظروف أن ل يشاركني بقية التجربة. أذكرأجني رويت لصديقي ،بعد ذلك ،كتابة ،ما حدث مع تلك السيدة الجميله ،محاول تحقيق غرضين من تلك المحاوله. الول ،هوالوفاء بوعدي له برواية التفــاصيــل التي أرادها. والثاجني ،استجابة مني للحاحه علمي بتكرار محاولة الكتابة القصصية. وهكذا اتخذت روايتي لحداث التجربة شكل القصة التي كان "حسين" يلح في طلبها مني. لم أكن بحاجة إلى الستعاجنة بالخيال لضفاء التشويق الذي تتطلبه القصة التي كنت بصدد تدوينها .فلقد عشت مع تلك المرأة لحظات فاقت كل ما يمكن أن تصل إليه مداركي ،وخيالي ،وأحلمي. فالتجارب الولى متنوعة ،غالبا ما تشارك فيها حواسنا كل منهاعلى اجنفراد ،كالمشاهدة..والسمع..واللمس ..والحساس ..إلخ 134
ثم ل تلبث بعد ذلك أن تأتي تلك التجارب المركبة ،التي يكتنف لحظاتها رهبة غامضة ،ممتعة آسرة .ذلك عندما تشترك الحواس كلها في تجربة واحدة.
*
*
*
أذكرأجنني بدأت القصة حينئذ بقولي: كاجنت هناك حديقة غناء ،يتوسطها بيت أجنيق ،يسكنه.. .. .. .. .. وكاجنت "كارولين" الجميلة .. .. .. ..إلخ وعندما واجهني صديقي "حسين" بعد قراءته لما كتبت ،رأيت في عينيه ما يشبه التهام بالخياجنة .كيف "أستفرد" بهذه المرأة التي كان له الفضل بتعرفنا بها؟! وهكذا اجنتابني شعور غريب يحثني على إصلح الموقف .ولم أتخلص من هذا الشعور إلعندما أضفت في جنهاية المخطوطة ،في يوم تال، السطورا التية: نعم ،كانت هناك حديقة غناء ،يتومسطها بيت أنيق ،يسكنه .. .. .. .. و كانت "كارولين" الجميلة .. .. .. ..إلخ ولكن ما كا ن بيني وبينها ،لم يكن إل حلما من أحلم اليقظة ،نسجه خيالي المراهق. واختفت جنظرة التهام من عيني صديقي "حسين" .وأخذ يشيد بموهبتي في التأليف القصصي. كأجنما كنت أشعر ،بالفطرة ،أن هناك "ضرورة فنية" لتلك الكلمات الخيرة. *
*
*
ول يخفى على أحد أن"الضرورة الفنية" ،هذه المرة ،هي التي جعلتك تعيد كتابة أحداث حكايتك مع "كارولين" ،بحيث تبدو وكأجنها قصة مستقلة. 135
*
*
*
"كاروليـــــــــــــــــــــــــــــــــن" كوجنشيرتو من خمس حركات
136
الحـــــــــــــــــركه الولى أحد معالم الطريق الذي كنا جنسلكه ،مشياعلى القدام من بيوتنا إلى المدرسة وبالعكس ،كان ذلك البيت الجنيق ،المحاط بحديقة مليئة بأجنواع مختلفة من الزهور .ولم تكن الزهور وحدها هي ما يتميز به البيت. كاجنت هناك راية زرقاء ترفرف من فوقه ،عليها شعار المم المتحده. وفي بعض أيام السبوع كنا جنرى سيارة"جيب" تقف عند باب البيت، فنعرف أن "الميجور ريتشارد لوريون" قدعاد من إحدى جولته الكثيرة ،التي يتطلبها عمله ضمن الفريق الكندي لمراقبي الهدجنه الدوليين. كان"الميجور لوريون" رجل وسيما طويل القامة ،يشبه إلى حد كبير ممثل السينما الشهير "جريجوري بيك" .ل تفارق البتسامة وجهه. ول يترددعن المبادرة بإلقاء التحية ،إذا صادفناه ،داخل أو خارجا، أثناء مرورجنا من أمام البيت. حديثنا في ذلك اليوم" ،حسين" وأجنا ،كان يدور حول سفر صديقنا "حسن قليلت" إلى أمريكا للدراسة هناك في جنهاية هذا العام الدراسي ،أي بعد حصولناعلى شهادة "الثقافة العامة"" .حسين" يؤكد أجنها "فشره" من فشرات"حسن" .وأجنا أحاول أن أؤكد له أجنني سمعت والد "حسن" بأم أذجني ،كما رأيته بأم عيني ،وهو يتحدث عن ذلك بجدية مع والدته .وبالتالي عدت للدفاع عن "حسن" ،محاول جنفي صفة "الفشر" التي يتهمه بها "حسين" ،الذي عاد ليتهمني بالتحيز لــ"حسن" والدفاع عنه دائما لمجرد أجنه إبن بلدي ،القدس. ل أدري بالضبط سبب الغيره التي يشعر بها "حسين" تجاه "حسن" المسكين ،علما بأجنه متقد الذكاء .ويظهر ذلك بوضوح في تفوقه على طلب شهادة "الثقافه" قاطبة .هذا مع علمي ويقيني بأن ساعات مذاكرته ،في أقصى حالت الستنفار للمتحاجنات ،لتتجاوزالساعتين 137
في اليوم .وباقي وقته يقضيه في المطالعة والقراءة .وهذا مما يجعله على درجة كبيرة من الثقافة وسعة الطلع .ول ينافسه "حسن" في شيء إل في مادة اللغة الجنجليزية. حاولت مراراا أن أبين لـ"حسين" قناعتي بأن المسألة لعلقة لها بتفاوت الذكاء .كما أجنه ل وجه للمقارجنة في هذا المضمار بينه وبين "حسن" الذي تربى منذ طفولته المبكرة في مدرسة الـ"تيراساجنتا" في القدس .وشتان بين مستوى تدريس اللغات فيها ،وبينه في مدارس الحكومة في قرية حسين" ،بيت إكسا" ،إحدى قرى القدس. إل أن رد "حسين" كان دائما بعناد: ولو!كان عناد "حسين" يخرجه عن طوره في بعض الحيان ،حتى يكاد أن يمحو كل صفاته الحميدة النادره .وجنتيجة لذلك ل يتورع عن ارتكاب مواقف تتجاوز الحماقة والسخف لتصل إلى الوقاحه .ول أجنكرأجنني كنت أجد جنفسي حائرا بين شخصيتين مختلفتين متناقضتين. كما أجنني ل أجنكر أجنني كنت ،في بعض الحيان ،أجد لذة في استفزاز "حسين" الخر ،الذي يحمر وجهه ،وتنتفخ أوداجه ،وتبرزعروق رقبته ،إذا ما فعلت أجنا ذلك. ثم ل يلبث أن يتواضع ويعترف ،مثل ،بأن "حسن" ،بحكم اجنتمائه إلى مدرسة الـ"تيراساجنتا" ،ربما "يتحدث" الجنجليزية بطلقة أكثر منه .أما إتقان اللغة فهذا شيء آخر. كنا قد قطعنا ثلثة أرباع الطريق ،و وصلنا إلى بداية منطقة "الرمال" التي جنسكن فيها ،حيث جنعرج ،بعد منتزه البلدية ،في طريق رملي مختصر يؤدي في جنهايته إلى ذلك البيت المميز برايته الزرقاء ،وحديقته الغــمناء. الحديقة إلى يميني .و"حسين" إلى يساري .وأجنا أرقب اجنفعالته جنتيجة استفزازي له .وفجأة ،تنفرج أساريره ،وتتثاقل خطاه ،وتكاد عيناه أن تخرجان من محجريهما ،وهو يمصمص شفتيه الغليظتين ،وتتسع ابتسامته عن سنه المامية المفقوده. 138
أخذت أتابع الخيط اللمرئي الذي يشد بصره حتى وصلت إلى طرفه الخر ..ويا لهول ما رأيت! لو كان "الميجور لوريون" هو"جريجوري بيك" ،فمن تكون هذه الهيفاء؟ إجنها بدون شك "جينيفر جوجنز"! وتمسمر كلجنا عند مدخل الحديقة. كاجنت منهمكة في الحديث ،بالجنجليزية ،مع البستاجني العجوزالذي كان ينظرإليها بوجه كالقناع ،ل تتغير ملمحه .ثم ل يلبث أن ينظر حوله مستجيرا بأزهارالحديقة التي تشهد بأجنه قد قام بواجبه خير قيام، وأجاد عمله بتفوق وامتياز واضحين. أخذت أستحث "حسين" على مواصلة السير ،بعد أن طال وقوفنا، خشية من أن تراجنا فيزعجها فضولنا. لكن هيهات أن يتزحزح .تركته ومضيت .وبعد عدة خطوات، جنظرت خلفي فوجدته ما زال واقفا يراقب الغريبة الجميله. حاولت أن أستعجله ،فأشار بيده أن أجنتظر .لم يطل وقوفه أكثر من ذلك .تحرك داخل إلى الحديقة. في مثل هذه الحالت ،عندما يصادف أن ينشغل عني صديقي أو رفيق طريقي ،لم أكن أتردد في تركه ومواصلة السير ،إلى أن يلحق بي ذلك الصديق معتذرا .لكنني في هذه الحالة الفريدة ،المختلفة تماما ،وجدتني ل أرى أن هناك ما يضيرجني ،لوأجنني راقبت عن كثب ذلك الحدث الفريد ،المختلف تماما. "حسين" يتبادل الحديث مع "جينيفر جوجنز" ،بعد أن عرف منه البستاجني ما كاجنت تريده سيدته فاجنصرف. "حسين" يضحك. "جينيفر جوجنز" تضحك. "حسين" يواصل حديثه بطلقه تثير دهشتي ،بدون أن أسمع ما يقول. 139
تمد له يدها .يتصافحان .تدعوه للدخول بإلحاح .يتذكرجني فجأة .تنظر جناحيتي .تطلب منه أن يناديني. أتعثر في مشيتي وأجنا أتجه جنحوهما. تمد يدها لي بينما هي تحاول عبثا أن تلفظ إسمي .ثم تقدم جنفسها: كارولين.تضيع مني الكلمات الجنجليزية التي كنت أحسب أجنني أعرفها جيدا . أتلعثم .يحمرمني الوجه. تضع يدها الخرى على كتفي: صديقك خجول جدما.تحتوينا الصالة الجنيقة البسيطه" .حسين" يكمل حديثه: جنادينا ،حتى الن ،ليس به أعضاء من كندا .فهل يمكن أنتساعدينا على توسيع جنطاق جنشاطنا؟ تأوهت برقة وعذوبه: أعرف في بلدي من أظن أجنه سيسعدهم أن ينضموا إلى جناديكم.سرى في جسدي ما يشبه التيارالكهربائي ،عندما لمست يدها خدي وهي تسأل: ما رأيك في صديقة جميلة من "كندا"؟ابتسمت ،وتلعثمت مرة أخرى وأجنا أتلفظ بما تيسرمن كلمات الشكر، باللغة الجنجليزية التي جندر ما جنطقت بها خارج جنطاق المدرسه. حدثت جنفسي ،وأجنا أتحسس وجهي الملتهب .صحيح ،كما يدعي كل من يعرفوجنني ،أجنني أبدو أصغرمن عمري الحقيقي بأكثر من تلك السنة التي أضيفت إلى عمري في شهادة ميلدي ،لكي "أدخل المدرسة" وأجنا في السادسة بدل من السابعة من عمري. لكن ،أن يصل المرإلى أن تربت هذه الغريبة ،حتى لو كاجنت على هذا القدر من الجمال ،على خدي كما لو كنت طفل غريرا ،فهذا ما ل أتقبله. 140
آه لو تسعفني الكلمات الملئمة للرد عليها. طلبت منا الجلوس ريثما تحضر لنا الشاي .وغابت بخفة ورشاقة "جينيفر جوجنز". وأجنظر أجنا إلى "حسين" كأجنما لتساءل عن مدى علقة ما يحدث بالحقيقه أو الواقع .فيوضح لي بثقة: زوجة "الميجور" ،تقول أجنها هنا منذ أسبوع .وسوف تقيم فيغزه بضعة أيام أخرى. كيف لم جنشعر بوجودها ،بالرغم من أجننا جنمر يوميا من أمامالبيت؟ يبدو أن شعورها بالوحده ،في غربتها هذه ،قد جعلتها تخرجلتتجاذب أطراف الحديث مع البستاجني. ثم أضاف بنزق: أجنا شخصيا في خدمتها.قال جملته الخيرة ،وهويحرك يده في جيبه في شيء من البتذال. جنهرته ،خوفا من أن تعود مضيفتنا فجأة وتلحظ حركاته فتطردجنا شر طرده. لكننا سمعنا صوتها قبل ظهورها وهي تحمل صينية عليها بعض أجنواع "البسكويت" وأكواب الشاي الفارغه: شقيقتي الصغرى في الخامسة عشر ،في مثل عمريكما تقريبا.سوف أكتب لها ،فربما تكون المراسلة من اهتماماتها ،هي أو بعض زميلتها في المدرسه. حدثتنا أحاديث قصيرة متقطعة ،أثناء تحركاتها المتكررة لحضار الشاي ومن ثم صبه لنا ،وسؤالنا عن عدد قطع السكر ،وذهابها لحضار أجندتها لكتابة إسم كل منا وعنواجنه ،وتكرار دعوتها لتجربة هذا النوع أو ذاك من البسكويت ،علما بأن "حسين" لم يكن بحاجة لتكرار الدعوه. 141
ثم سألتنا عن هواياتنا الخرى .فكان "حسين" يتولى الجابة عن كل السئلة ،مما جعلها تخصني ببعض اهتمامها لكي تحملني على التخلص من خجلي ومشاركتهما الحديث. وعندماعرفت أن كلجنا مهتم بالقراءة والطلع ومشاهدة أفلم السينما ،أبدت استعدادها لعطائنا بعض المجلت التي تصل "ريك" تباعا ا لكي جنزيد من حصيلتنا ،باللغة الجنجليزية. ثم ،قامت بإعلن اجنتهاء الزيارة وهي تبتسم معتذرة بلطف .وحددت لنا موعدا لزيارتها بعد أسبوع ،أو أسبوعين ،ريثما يصلها ردّ من شقيقتها الصغرى. بذل صديقي كل ما أوتي من حصافة وشطارة و"تناحة" لطالة مدة الزيارة .إل أن مضيفتنا الجميلة الرقيقة استطاعت بكل تهذيب أن تستدرجنا إلى باب الحديقه. لوحت لنا بيدها مودعة ،ثم عادت ل تلوي على شيء. وجدجنا أجنفسنا على قارعة الطريق ،جنتحسس أجنفسنا ،كما لو كنا لتموجنا في أرض الحلم ،وأعادجنا الجمتي خادم المصباح السحري إلى أرض الواقع ،بعد أن أثبت أجنه قادرعلى تحقيق المعجزات. إذن ،علينا أن جننتظر حتى يوم الخميس القادم. *
*
*
الحــــــــــــــــــركة الثاجنيه في اليام الثلثة الولى لم جنكف عن استرجاع تفاصيل تلك "المغامرة" الفريده .وبعد ذلك أصبحنا ل جنكف عن التنبؤ لما سوف يكون بعد أن يأتي رد شقيقتها بالرفض أو القبول .هل ستستمرعلقتنا بها ؟ وما جنوع هذه العلقه؟ صديقي ،الذي أعترف بأجنني ل أستطيع أحياجنا أن أميز بين جده وهزله ،يصرعلى أن "جينيفر جوجنز" قد وقعت في غرامه )!( 142
هيهات أن أتمكن من إقناعه بأجنه ل مجال للمنافسة بينه وبين "جريجوري بيك" .وأن كلجنا ،بالنسبة لها ،مجرد معرفه عابره لـ ـ "طفلين" مراهقين محبين للستطلع ،متطلعين للمعرفه .ل أكثر ول أقل. ألم تركيف كاجنت تربت على خدي وكأجنني إبن أختها الصغرى؟يضحك "حسين" ضحكته الوقحه ،ويأتي دوره للتلذذ باستفزازي. أجنت لم تقرأ رواية الكاتب الفرجنسي المعروف" ،جان لويمارسو" ،عن تلك المرأة التي كاجنت تعشق اليقاع بالمراهقين والستمتاع بتجربتهم الولى .لقد كاجنت أيضا في منتصف العقد الثالث من عمرها. ويعترف لي ،في يوم آخر ،أجنه ل وجود لكاتب فرجنسي إسمه "جان لوي مارسو". ثم يعود لـــ"يعترف" لي ،مرة أخرى ،بأجنه في اليوم الرابع لتلك الزيارة ،يوم الحد ،وهواليوم الذي اختفى فيه بالفعل ،ولم يحضر إلى المدرسه ،فاجأها بزيارته لوحده ،فرحبت به .وقضى عندها أكثر من ساعتين .ول ينسى خلل حديثه أن يخطيء ثم يتدارك خطأه ،موحيا ا بذلك بأن هناك سرا يخفيه ،وأن "ما خفي كان أعظم" .ولكي يثبت صحة روايته ،يفاجئني بمجموعة من المجلت الجنبية التي أعطته إياها ،ووعدته بمزيد منها إن هو قام بزيارتها مرات أخرى بمفرده. وأتأرجح أجنا ،للحظات ،بين تصديق روايته ،وبين الصورة المثالية التي رسمتها لها في مخيلتي ،والعلقة البريئة ،والصداقة الجميلة التي يمكن أن تربط بيننا .وأؤكد ذلك لنفسي بقولي مبررا إهتمامها بنا: وما حاجتها لنا،غيرذلك ،وهي زوجة "جريجوري بيك"؟ وأعترف هنا أجنه خطرلي القيام بزيارة لها ،بمفردي ،ل لشيء سوى إكتشاف مدى صدقه. لكنني لم أجد في جنفسي الشجاعة لتنفيذ ذلك الخاطر .واكتفيت بالتمسك بالصورة المثالية التي رسمتها لها. 143
في اليوم الذي يوافق مرور أسبوع على زيارتنا للسيدة الجميله، وهو موعد الزيارة الموعوده ،ظهر"حسين" وقفاه ينم عن آخر زياراته ،المتباعدة ،للحلق .كما اختفت الشعيرات التي كان يتركها متناثرة في أجنحاء مختلفة من ذقنه .ولم ينس أن يحذرجني مما من شأجنه أن ينم عن معرفتي بأمر زيارته للسيده .فهي قد ألحت عليه بكتمان أمرها. إستقبلتنا بترحاب ما بعده ترحاب. قالت أجنها كاجنت في اجنتظارجنا ،فهي تحمل لنا أجنباء سارة من شقيقتها التي صادف أن اتصلت بها تلفوجنيا في اليوم التالي لزيارتنا الولى لها .فلقد أبدت إهتمامها بالجنضمام إلى جنادينا .كما أكدت أجنها سوف تجد من بين صديقاتها وزميلتها من تستهويهن المراسله. جنظرت إلى"حسين" مبتسما .لم يخنه ذكاؤه ،فهم معنى ابتسامتي. ولكنه آثر تجاهل ملحظتي .واغتنمت أول لحظة تغيب فيها السيدة لكي أعلق: هل جنسيت السيدة أن تزف إليك بالخبرالسار يوم زيارتك لها،ويوم أعطتك المجلت الجنبيه؟ حاول "حسين" ،أيضاا ،أن يتجاهل تعليقي. عادت السيدة ومعها سلة من القش مليئة بأجنواع الفواكه التي لم جنعتد على رؤية معظمها في غزه .وعقبت: التفاح والكرز من بيروت .أجنتما تعرفان أن "ريك" كثيرالتنقل،بحكم عمله ،بين غزه وقبرص وبيروت .ولقد رافقته إلى بيروت في زيارته القصيرة الخيره ،حيث تعود أن يقضي الـ "ويك إجند" هناك. وكأجنما اجنحلت العقدة من لساجني في تلك اللحظة بالذات .فوجدتني أعلق بطلقة أدهشتها:
144
أوه! إذن فقد قضيت الـ"ويك إجند" في بيروت .إجنها مدينة جميله،كما يقولون .تصوري أن صديقي "حسين" قد جاء لزيارتك بمفرده يوم الحد.. وجنظرت إلى "حسين" متشفياا ،تاركا ا له الفرصة لكي يتدبر أمر الـورطة التي أوقع جنفسه فيها .جنظرت إليه السيدة: هل فعلت ذلك حقا؟ ولكنني أتذكر أجننا اتفقنا أن جنلتقي اليوم ،أوالخميس القادم. وأسقط في يده كما يقولون. وأخذت مضيفتنا تحاول أن تنقلنا من موضوع لخر ،وتطرح مختلف التساؤلت ،وهي بذلك تستحثنا وتشجعنا على الحديث باللغة الجنجليزيه .ول تتردد في تصحيح أخطاءجنا اللغوية والستطراد في شرح الفروق بين معاجني الكلمة الواحدة ،حسب موقعها .قالت أجنها تعمل بمهنة التعليم ،وتعشق مهنتها جدا ،ولكنها أيضا تحب السفر، ولذلك فهي ل تترك الفرصة تفوتها عندما يتنقل "ريك" ،بحكم عمله، فتأتي لتقضي معه بعض الوقت هنا أو هناك. ثم جنهضت معلنة جنهاية الزيارة .ولكنها استمهلتنا للحظة ريثما تحضر لنا ما وعدتنا به في المرة السابقه .فإذا بها تعود ومعها كومة من المجلت الجنجليزية ،مؤكدة أجننا سوف جنحصل على مثلها في يوم الخميس القادم. لم أقصد مضايقة "حسين" عندما اقترحت إشراك صديقنا "حسن" في زيارتنا المقبلة للسيدة الجميله .قلت ربما تستطيع أن تقدم له جنصيحة مفيدة بشأن دراسته التي يخطط لها في جامعات أمريكا .هذا من جناحية ،ومن جناحية أخرى فهو أيضا جنموذج مشرف من تلميذ مدرستنا ،بالضافة إلى أجنه عضو في جنادينا. لم يجادلني "حسين" كثيراا في هذا الشأن ،كما توقعت. 145
ويبدو أجنه آثر السكوت آملا وطامعا في سكوتي بعد افتضاح أمر "الزياره" المزعومه ،بما اجنطوت عليه من إيحاءات. أضفت: أجنت قد اعترفت أخيرا بأجنه يتكلم الجنجليزية بطلقة أكثر منك.وأجنا أعترف لك بأجنك تتفوق عليه في مضمار آخر وهو الـفـشـ .. قاطعني: طيب ..طيب ..خلص!*
*
*
لشدما كاجنت دهشتي ،وصدمة "حسين" ،حينما اجنطلق "حسن" فجأة في الحديث باللغة الفرجنسية مع السيده "لوريون" ،التي تبين أجنها من مدينة "كيوبيك" ،عاصمة المقاطعة التي تحمل جنفس السم ،والتي ما زالت ترتبط بفرجنسا الم وتميل إلى الجنفصال عن كندا. وماهي إل أيام أخرى حتى وصلتني رسالة من الشقيقة الصغرى، "لوسيل" .كاجنت الرسالة مشفوعة بصورة تؤكد علقة العائلة الوثيقة بـ "جينيفر جوجنز" وباقي جميلت هوليوود. أثارت تلك الرسالة حفيظة "حسين" الذي كان يعتقد أجنه صاحب الحق في "لوسيل" ،الجميلة ،لجنه كان صاحب الفضل في تلك العلقة أص ا ل. ولكن سرعان ماهدأ باله عندما وصلته رسالة من "سابينا" ،التي تفوق الجميع حسنا وجمال ،والتي قال فيها زميلنا الشويعر"عيسى فرح" قصيدته العصماء ،ومطلعها: جمــالك هز أعطاف الديـار وعيناك الجميلة يا"سابيـنا"
وفتنتك البريئة قد سبتـني بسهم الحب رميـا ا قد رمتـني 146
*
*
*
الحـــــــــــــــــركة الثالثه تكررت زياراتنا ،جنحن الثلثة ،للسيدة الجميله .وكأجنما أصبحنا جزءاا من حياتها .تستقبلنا بترحاب وحب شديدين .ول تمل أبدا من تصحيح أخطائنا اللغوية ،أو طريقة جنطقنا لبعض الكلمات ،أو الشادة بالجمل الصحيحة أو إجادة النطق بها .ول تنسى أن تسألنا عن رسائل "لوسيل" و"سابينا" و"هيلي". صادفنا الـميجور " لوريون" أكثر من مرة في بيته .كان يرحب بنا بأن يربت على أكتافنا ،ثم يعتذر عن عدم مشاركتنا لجنشغاله بكتابة بعض التقارير .فتنفرد هي بالحديث إلينا في جو حميم .وتغدق علينا من خيرات "بيروت" التي دأبت على قضاء الـ "ويك إجند" فيها. وأما عن المجلت الجنجليزية أو الميركية فقد كادت أن تصبح مصدرا لدخل إضافي لنا ،إذ كنا جنتقاسم ثمنها بعد بيعها بالكيلو، وذلك بعد قراءتها أو تصفحها ،والحتفاظ بما قد يلزم من صفحاتها الغنية بالصور الجميلة. من الشياء التي استرعت اجنتباهي ،دون "حسين" ،أو "حسن" ،الذي سرعان ما زهد في مشاركتنا تلك الزيارات ،تلك الموسيقى التي كاجنت السيدة الجميلة تحرص على أن تغلف بها أجواء البيت .كاجنت تلك الموسيقى تشدجني .لحظت هي شرودي في بعض الحيان. وأدركت أن الموسيقى كاجنت تستهوينيي .فابتدأت تمدجني ببعض الملحظات والمعلومات عن إسم هذه المقطوعة أو تلك ،أوعن المؤلف وجنسيته .حفظت إسم "رافيل" الفرجنسي ،وأصبحت أميز مقطوعتة " بوليرو" ذات النغم "الشرقي" القريب إلى القلب. 147
ينافسه في ذلك "خاتشاتوريان" الروسي وزميله الذي أثار اسمه دهشتي" ..رحماجنينوف". وعرفت المزيد عن العبقري النمساوي "موتسارت" الذي بدأ العزف على "البياجنو" وهو في الخامسة ،والتأليف الموسيقي في السابعة من عمره .وازدادت معرفتي بالموسيقار اللماجني "بيتهوفن" الذي واصل التأليف بالرغم من إصابته بالصمم ،وهوالسم الوحيد الذي كنا جنسمعه مقترجنا بالموسقى الجنبية ،التي درج متثقفوجنا على تسميتها ،بغير تمييز ،بالـ"سيمفوجنيات". وسمعت لول مرة موسيقى الـ"جاز" الزجنجية ،وعرفت شيئا عن "بول روبسون" المقهور وأغاجنيه الحزينه. وزاد إهتمامي بملحظاتها خصوصا بعد أن أخذت تقرأ وتفسر ما هو مكتوب على ظهرغلف هذه السطواجنة أو تلك. دأبت ،كما ذكرت ،منذ البداية على أن تخصني باهتمامها وتوجيه الحديث لي ،محاولة منها لمساعدتي على التغلب على خجلي وتشجيعا لي على المشاركة في الحديث .وتزايد ذلك الهتمام بعد أن أثمرت محاولتها تلك ،وأصبحت بالفعل أكثر جرأة وتجاوبا ،وأقل خوفا من الوقوع في الخطاء اللغويه. كاجنت تقول دائما ما معناه أجننا ل بد أن جنخطيء لكي جنتعلم .وهو ما يتناقض مع ما درج عليه آباؤجنا في البيت ،وأساتذتنا في المدرسة، كمنهج للتربيه .وكثيرا ما كاجنت تردد مقولة حفظتها باللغة الجنجليزية تقول: " الخطأ الكبر..هو أن تخاف من الوقوع في الخطأ .والكبر منه هو عدم العتراف بالوقوع في الخطأ". كان اهتمامها بي يأخذ أشكال مختلفة ،منها الجلوس إلى جاجنبي، والقتراب مني بشكل لم أتعوده من أجنثى غريبة عني ،إمعاجنا منها في 148
حملي على الجنتباه لما تقول .وكثيرا ما كان سلوكها هذا يسبب لي الرتباك والحرج. في أحد المرات ،فاجأتني بأجنها قد حصلت على أسطواجنة معينة كاجنت قد طلبت من "ريك" أن يحضرها من بيروت ،كما قالت ،خصيصا من أجلي ،بعد أن لاحظت مدى إهتمامي بنوع الموسيقى التي تعشقها. أحاطت كتفي بذراعها التي تمسك بغلف السطواجنة الجديده، وأخذت تشير بإصبع يدها الخرى إلى بعض السطور وتحثني على قراءتها. Concierto de Aranjuez Joaquin Rodrigo مازلت أذكر ذلك اليوم ،وتلك اللحظات. كاجنت ،كما يبدو ،تتوقع أن أخطيء في لفظ إسم المقطوعة ومؤلفها السباجني .وأخذت ،وهي تقرب رأسها من رأسي ،تعيد القراءة وتطلب مني تكرارها .لكنني في كل مرة كنت أصر على ما كاجنت تعتبره خطأ ،وأقوم بلفظ السم بطريقة أخرى: "كوجنشيرتو دو أراجنخيـــــــــــز" "خواكــــــــين رودريــــــــــجو" شتان بين ما كاجنت تقوله وبين ما كنت أصر على تكراره. وذلك مما كان يجعلها تستغرق في الضحك ،ثم تعيد الكمرة ،دون أن تترك لي فرصة لتفسير سبب إصراري على هذا "الخطأ" .إلى أن تمكنت من أن أحكي لها قصة كتاب "علم جنفسك اللغة السباجنية" ودور جارتي "هنيه" إبنة "جنيكاراجوا" وأمها "روزاليا" في تعليمي اللفظ الصحيح للحرف والكلمات السباجنية. وهنا ..أخذت تكرر اعتذارها طالبة مني أن ألقنها ما كاجنت تعتبره خطأ .واجنقلب الموقف إلى مشهد فيه من المفارقة أو "الكوميديا" ما جعلها تستلقي على ظهرها مستغرقة في الضحك. 149
لقد تبادلنا الدوار. الحقيقة أجنني لم أجنتبه لما بدر من"حسين" من ردود فعل أو تعليقات. لكن الذي لحظته هوالستياء الذي بدا عليها فجأة ،والذي كان جنتيجته أجنها سارعت في إجنهاء الزيارة بجملة وجهتها له فألجمته .ثم قالت بحزم قاطع ما معناه أجنها لن تكون ،في اليام القادمة ،قادرة على استقبالنا. وبما أن صيغة المخاطب باللغة الجنجليزية ل تفرق بين المخاطب المفرد أو المثنى أوالجمع ،كما هو الحال في لغتنا العربيه ،فقد اختلط علي المر .وبت غارقا في بحر من الدهشة والحيرة ،غير مدرك لما كان أو ما سيكون. هل يمكن أن يكون هذا الكلم موجه لكلينا؟ وما سر هذا الجنقلب المفاجيء؟ أم هو مجرد إحساسها بوعكة مفاجئة جعلتها تؤثرالوحده. خيم علينا صمت كئيب وجنحن جنتجه إلى مدخل البيت .كان "حسين" يسبقني منكس الرأس ،على غير عادته. جنظرت إليها جنظرة أخيرة وكأجني أستحلفها أن تنقذجني من حيرتي. مدت يدها وأمسكت ذراعي لتستبقيني ريثما ابتعد "حسين" قليل. همست لي: يمكنك أن تزورجني في أي وقت تريده.ثم أضافت بسرعة: بعد ظهر الغد.كاجنت لهجتها تحمل صيغة المر ،كما تحتمل صيغة العتذار .أما عيناها فقد خيل إلي أجنهما تحملن قدرا من الرجاء. لم يجبني "حسين" على أسئلتي المتكرره .لعله آثر السكوت لشعوره بذجنب ما .مشينا في صمت حتى وصلنا إلى مفترق طريقينا .قال بدون أن يرفع رأسه: ول يهمك!150
ثم مضى. في مثل هذه الحالت ،التي تلرفني فيها الحيرة ،أسارع للتخلص مما قد يربطني بالخرين ،حيث أجنفرد بنفسي لسترجع ما فات ،وأحاول أن أجد تفسيرا لما أجنا فيه ،أو مخرجا مما أجنا مقبل عليه .وكثيرا ما أجدجني قد وصلت إلى ما يبدد حيرتي .إل أجنني ،في هذه المرة ،بقيت غارقا فيما يشبه القلق المشوب بالحزن. ولول مرة أفكر في مدى صحة معنى تلك الحكمة التي تقول "إن غداا لناظره قريب". الوقت يمر ببطء ل عهد لي به .وليس هناك ما يشير إلى اقتراب الغد إل بمقدار ما يتحرك عقرب الدقائق في ساعة يدي ،التي لم أكف عن إعادة ملئها إحساسا مني بتوقفها عن الدوران. لجأت إلى واجباتي المدرسية التي عادة ما تلتهم الوقت التهاما .لكن صورة "كارولين" ،في اللحظة التي ماتت فيها الضحكة على شفتيها، كاجنت تنطبع أمامي على كل الصفحات ،فيوغل الوقت في عناده وفي توقفه .ثم يتسلل إلى أذجني صوت همساتها لي ،فأفاجأ بأن الزمن يعود إلى الوراء .ويعود شريط الحداث الذي يؤكد لي أن صداقتنا مع السيدة الجميلة قد باتت مهددة ،أو ربما في حكم المنتهيه. وأسائل جنفسي :ما لي أجنا؟ فقد بيزنل ْ ت لي أجنها ل تحمل لي بغضا أو جفاء. ولكنه صديقي .وعلقتي به أقوى وأهم منها ألف مره. أم أجنني أمام أحد الخيارين؟ هو ..أم هي؟ طبعا ا هو .ولتذهب هي إلى الجحيم. ما هذا الجحود؟ ساءلت جنفسي باستنكار .وأخذت أشحذ ذاكرتي لسترجع المرة الخيرة التي ربتت فيها أمي على شعري ،كما كاجنت تفعل "كارولين" .أوآخر مرة لمفت إحدى أخواتي ،اللواتي يكبرجنني، 151
ذراعها حول كتفي فأشعر بمثل ذلك القدر من الحنان الذي كنت أشعر به عندما كاجنت "كارولين" تفعل ذلك. ل أشك أبدا في مقدار عواطف أمي جنحوي أوعناية أخواتي بي. ولكن! كل منهن مشغول في تدبيرأمورالبيت ومسئولياته المختلفه .ل أيقمن، بحكم العادات والتقاليد ،وزجنا لظهارعواطفهن ..وكأجنها عورات. هل تحملت أجنثاجنا فعل بصفة "البخل" التي كان أجدادجنا العرب قديما يستملحوجنها في المرأة ،كما كان شعراؤجنا يفاخرون بصفة البخل التي تتحلى بها المحبوبة ،بحجة أن المرأة الكريمة قد تجود بعواطفها لمن حولها ..بدون حساب؟ ما قيمة العواطف إن لم جنستطع التعبيرعنها؟ أحبت فينا "كارولين" شيئا ما ،فلم تتردد في التعبيرعن هذا الحب. قدمتنا لزوجها ،كأصدقاء لها ،من غير ما حرج ول مواربه. في لحظة ما اتخذت من "حسين" موقفا ،فلم تتردد من التعبيرعن جنفسها بصراحه. لم تأخذجني بجريرة صديقي ،فهمست لي بما يوحي بأجنها تستثنيني من غضبها. غدا سوف تأخذ الحياة بالنسبة لها مجراها الطبيعي ،بدون أحقاد ول هم يحزجنون .ربما تفصح لي عما يزعجها ،وربما تكون قد جنسيت أو تناست ما كان. ما أجمل أن يتحلى الجنسان بمثل هذه الشمائل! *
152
*
*
الحـــــــــــــــــركة الرابعه وبالفعل ،استقبلتني وكأن شيئا لم يكن .جاءت بسلة الفاكهة ،وقالت أن"ريك" لم يتمكن من العودة وربما يضطر لقضاء الـ "ويك إجند" في "قبرص" .وأحضرت مجموعة المجلت التي فاتنا أن جنأخذها بالمس كماعودتنا .ثم تذكرت السطواجنة التي ما زال غلفها ملقى على المنضده ،فنهضت لتشغيل الـ "بيك أب" ،لينبعث منه صوت الـ "جيتار" ،اللة الرئيسية في"كوجنشيرتو أراجنخيز" ،وعادت تستكمل قراءة البياجنات المكتوبة على ظهرالغلف. وعندما اجنتهت من القراءة ،جنهضت وأعادت إبرة الجهاز إلى بداية السطواجنة معلنة أجنها سوف تتركني أستمتع بها كاملة .وجلست أمامي تقرأ في كتاب. لم أكن قبل معرفتي بها ،قد استمعت إلى ذلك النوع من الموسيقى إل لماما. ولم أستطع أن أحدد السبب ،أو أن أعرف سر إعجابي واجنجذابي لتلك الموسيقى. في ذلك اليوم بالذات ،كان لها مذاق آخر ،مميز ،له مفعول السحر. غمرجني دفء من جنوع لم أعرفه من قبل ،بالرغم من برودة الجو في أواخر شتاء تلك السنة. استرقت جنظرة ،فوجدتها مستغرقة في القراءه .كاجنت هذه فرصتي لطالة النظر إليها. كم هي جميله! والجمل ،هو ذلك الحساس الذي تشيعه في الخرين .مزيج من اللفة ،والحب ،والمومه ،والصداقه ،والحنان. خدر لذيذ تسرب إلى أجنحاء جسدي ،وعرفت ذلك الشعور الذي يقال له اجنعدام الوزن. هل هي الموسيقى؟ أم هي "كارولين"؟ أم هما معا؟ا 153
أتمتع الن بصفاء ذهني لم أعهده من قبل. خطر لي أجنني ،في تلك اللحطة ،أستطيع أن أقوم بـلحمل أصعب "مسائل الجبر" التي تستعصي علي في الحوال العاديه. رمقتني فوجدتني متلبسا بالنظر إليها .اضطلرْب أ ت .ابتلسلمت. جاهدتأ لترجم إليها خاطري .اتسعت إبتسامتها وأردفت: أهلا بك مرات أخرى ،أجنت ودفاترك.راقت لي هذه الفكره .وفضحتني أساريري .قالت: أجنا أعني ما أقول .فمعلوماتي تقول أجنك تعودت أن تذهب فيبعض الحيان عند صديقك ،أو يأتيك هو للمذاكرة عندك..أليس كذلك؟ وفي أوقات المتحاجنات ،يبيت أحدجنا عند الخر.ضحكت وهي تقول ببساطه: وفي الوقات التي يكون فيها "ريك" على سفر ،يمكنك أن تبيتفي غرفة المكتبة الخاصة به. ضحكنا في اللحظة التي أعلن فيها الـ"بيك أب"عن إجنتهاء الوجه ضت بتلقائية ،وسارعت في وضع الول من السطواجنه .جنه ل السطواجنة على وجهها الخر بينما هي تقول: الوجه الخر للسطواجنة يحتوي على الحركتين ،الرابعةوالخامسه ،فاستمع إليهما باجنتباه. وعادت للقراءة ،بعد أن أضاءت "لمبة" قريبة منها .فلقد بدأت الشمس تميل إلى الغروب. حاولت العودة للستماع .لكنني لم أجنجح في التركيز .ولم يشد اجنتباهي شيئا مميزا في الـ"حركتين" الخيرتين من الـ "كوجنشيرتو" ،سوى أجنها موسيقى جميله. تمنيت لو لم تنته موسيقى الوجه الول من السطواجنة. كيف يمكنني أن أعيدها إلى الحديث الذي اجنقطع؟ 154
أضافت الضاءة الجاجنبية إلى وجهها سحراا..وجاذبية ل تقاوم. حرص أ ت أن ل تضبطني متلبسا باستراق النظر إليها .لكنها فعلت ذلك أكثر من مره .وكاجنت البتسامة التي ترتسم على شفتيها تزداد إتساعا في كل مرة .ثم فاجأتني بسؤالها: لماذا تنظر إلمي هكذا؟تلعثمت وأجنا أحاول عبثا أن أجد رداا مناسبا .رأيت أن أحممل لغتي الجنجليزية مسئولية ذلك. صحيح أن قدرتي على الحديث باللغة الجنجليزية قد تحسنتقليل ..ولكن.. قاطعتني: بل كثيرا .بحيث أصبحت أجد صعوبة وأجنا أتصيد لك الخطاء. ربما ،ولكن ،فقط ،عندما جنتحدث حديثا عاديا .أعني أجنني ل أجدصعوبة في التعبيرعن الخواطر العاديه .لكن .. أغلقت دفتي الكتاب ،ورفعت حاجبيها ،ومالت برأسها قليل إلى الخلف متصنعة الجد بشكل مبالغ فيه ،واجنتظرت أن أكمل جملتي. لكنني تلعثمت مرة أخرى وضاعت مني الكلمات. حاوللت أن تساعدجني: هل تقصد أن ما يدور في رأسك الن هي خواطرغيرعاديه؟ بالنسبة لي أجنا .فأجنا لم أتعود ..لم أكن ..لم أعرف...وضعت الكتاب جاجنبا ومالت إلى المام وهي تؤكد متابعتها: أكمل ..أجنا مهتمة بحديثك كما ترى!استغرقت وقتا ليس بالقصير حتى استطعت أن أمسك بطرف الجملة: أعني ..أجنني ..أقصد ..أجنه ..عندما أقول لك أجنك جميلة ..فهذهعبارة عاديه .ولكن... وفجأة ضاعت مني البقيه. 155
جنهضت من مكاجنها ،وجلست إلى جاجنبي وهي تحاول أن تستنطقني وتشجعني ،كعادتها ،على المضي في الحديث ،وشفتاها مزمومتان على ابتسامة غامضة. يا إلهي! ما الذي جعلني أبدأ بجملة كهذه؟ إجنني أكاد ل أجد بقيتها بلغتي العربية التي أدعي بأجني أأحسن التعبير بها .وكلما طالت مدة البحث عن الكلمات تصبح المهمة أكثر صعوبة ،ويزداد الحرص في البحث والجنتقاء ،خوفا من أن تأتي النتيجة أقل مما أقصد أجنا ،أو دون توقعات الطرف المتلقي. جنعم كنت أريد أن أقول لها أجنها جميله .ولكن ،كما قلت ،بعبارة غيرعادية ،تتناسب مع جمالها الغير عادي ،وإحساسي الغيرعادي أيضا. وجدت مخرجي بأن جنظرت إلى الساعة ،وقررت أجنني ل أستطيع البقاء أكثر من ذلك .فقد أمعنت الشمس فى الغروب .ولم أتعود على البقاء خارج المنزل ،بعد ذلك ،بدون إذن مسبق من والد م ي. ض ْ ت متفهمة .وقالت وهي ترافقني إلى المدخل ،والبتسامة فنه ل الغامضة ل تفارق شفتيها: قلت لك أن "ريك" متغيب في الغد .وهذا يعني أجنك تستطيع أنتحضر كتبك ودفاترك ،وأن تبيت ،إن شئت ،في غرفة المكتب. وسوف أتركك مع الموسيقى و"مسائل الجبر" ،ولكن بعد أن تكمل حديثك الذي اجنقطع .أمامك أربع وعشرون ساعة.. تستطيع خللها أن تستعين بالقواميس ،وتبحث عن الكلمات ما استطعت. * * *
الحـــــــــــــــركة الخامسه 156
مشيت وأجنا أدمبج ردودا على أسئلتها المتوقعة تارة ،أو أفكر في أعذار لغيابي عن البيت لما بعد غروب الشمس تارة أخرى ،أو أدمبر حيلة تتيح لي الغياب في الغد ،لما بعد شروقها ،تارة ثالثه .تقابلت عند باب الدار مع والدي العائد لتوه من الجامع القريب منها ،حيث يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها .عاتبني بصمته .وعندما سمع أعذاري، أخذ يتمتم بدعوات الرضى وسداد الخطى .وفعلت ذلك والدتي، داعية إلى ا ،كعادتها ،أن يجعل لي في كل طريق صديق ،وفي كل خطوة سلم. وقالت لي إحدى شقيقاتي باقتضاب أن"حسين" قد حضر وسأل عني. أول ما داهم خاطري هو أن "حسين" ،بعد أن تفقدجني ولم يجدجني ،قد راقبني ورآجني وأجنا أغادر بيتها .ولذلك قررت أن أقول له الحقيقة، التي أخفيتها عنه أثناء لقاءجنا اليوم في المدرسه .وهذه خطوة ضرورية لكي أحظى بدعمه لي في الغد .فل بد أن "يعرف" والدي أجنني سوف أقضي ليلة الغد في بيتهم .وعلى كل حال ،مازال في الوقت متسع لتدبر المر. تناولت عشائي بصمت وجنهم .ثم جلست إلى طاولتي .أجنهيت كل واجباتي المدرسية بسرعة قياسية ،بل وأتبعتها بواجبات الغد .وبعد فترة من التفكير والتأمل ،وجدتني أمسك بالقلم وأكتب: أردت أن أقول لك.. أن ا ،سبحاجنه ،قد جعل من خلقه من هم على قدرته ،دلئل و آيـــــــات.. أو .. كأجني ،وأجنا أتأمل وجهك ،إجنما أقرأ فيه التسبيح والصلوات.. أو .. 157
أن ما كان يجول في خاطري ،وأجنا أجنظر إليك ،هو جنغم إلهي..أغنية بل كلمات ..أو.. وقبل أن أسترسل فيما كنت أتوهم أجنه ينتمي إلى الشعر المنثور الذي كنت أميل إليه ،حاولت أن أترجم تلك الكلمات إلى اللغة الجنجليزية، فلم أقتنع بنتيجة ما بذلت من محاولت. خطر لي أن ألجأ للستاذ "سعيد" ،أول من طرح فكرة استعمال اللغة الجنجليزية خارج جنطاق المدرسة .لكنني سرعان ما استبعدت هذا الحل. هل ألجأ لصديقي "حسين"؟ ربما ..ولكن.. فجأة تذكرت رأي "حسين" فيها ،والرواية التي أملفها وجنسبها للكاتب الفرجنسي "جان لوي مارسو" ،الذي تبين أجنه ل وجود له .تلك اللعبة التي كان يتقنها ،وكثيرا ما كان يمارسها مع بعض المدرسين. يستشهد بأقوال وحكم من وحي قراءاته أو من تأليفه ،بعد أن ينسبها لحد الكتاب الكبار أو لكاتب أجنبي ،يسميه كما اتفق .ول يجد المدرس أمامه سوى إلتزام الصمت خوفا من اجنكشاف جهله. وبالرغم من أجنني استبعدت ،وما زلت أستبعد ،هذا الرأي جملة وتفصي ا ل ،إل أجنني لم أستطع الهروب من ذلك التساؤل: ماذا بعد؟ وأطلقت لمخيلتي العنان .وتزاحمت وتصارعت الفكار. ثم غلبني النوم.
الحــــــــــــــــــركة السادسه ْ ل كأن البتسامة الغامضة لم تفارق شفتيها منذ المس .تناولت دفاتري وألقت بها جاجنبا. لول مرة يشد إجنتباهي شيء آخر ،غير وجهها وعينيها الشهلوين. كأجني أرى قوامها للمرة الولى .لحظل ْ ت ذلك. 158
-
لماذا تنظر لي هكذا؟
وكأجنما أدركت فجأة أجنه السؤال الذي أربكني بالمس .غطت وجهها بيديها واجنحنت في ضحكة قصيرة ،ثم اعتدلت وأكملت: ل ،ليس بهذه السرعه .إسترح أول! أمامنا متسع من الوقت.لم أستطع أن أكف عن النظر إليها وهي تتحرك بحيوية ومرح. كاجنت ترتدي جنفس الرداء الذي ظهرت به في اليوم الول لتعارفنا. وكذلك لم أستطع أن أكتم رغبتي في أن أبوح لها باللقب الذي اخترته لها منذ الوهلة الولى" ..جينيفر جوجنز". تمايلت طربا ،وتأودت في مشيتها بما يتناسب مع الموسيقى الناعمة التي كاجنت تغمر المكان. قالت: أل تخشى أن يملجني الغرور؟أضفت بصدق: "جينيفر جوجنز" التي أعرفها ليست سوى صوره ،بدون روح،بل حراره. اقتربت ،وجلست إلى جاجنبي ،وعادت إلى شفتيها تلك البتسامة الغامضة: مادمت قد بدأت ..فلنكمل حديث المس.وهيهات أن أتذكر كلمة واحدة مما دوجنت بالمس .تصبب العرق من جبيني .اجتاحتني همبة لفحة من الحر. ظننت أن السبب هو تلك "الكنزة" الصوفية التي أصرت والدتي أن أرتديها إتقاء لنسمات ليالي أواخر فبراير البارده. ساعدتني "كارولين" على التخلص منها .لكن موجات أخرى كاجنت تلفحني كلما اقتربت مني لتستدرجني في الحديث. جنهضت وهي تقول: دقيقة واحده ..سأعد لك شرابا مرطبا.159
تمنيت أن تطول غيبتها ريثما أستعيد بعض هدوئي ،أو أتدبر إجابة لسؤالها. ساءلت جنفسي عما إذا كاجنت تريد أن تعرف ما يجول في خاطري بالذات ،أم أجنها ،فقط ،تريد أن تسمع مني المزيد من كلمات العجاب التي لتمل النساء سماعها ،حسب ما أعرفه من قراءاتي .ول أدري لماذا كنت أميل إلى الفتراض الول ،بالرغم من العقبات التي تجعل ذلك في عداد المهمات الصعبة. عادت تحمل كأسين يختلف لون محتويات أحدهما عن الخر .قالت وهي تقدم أحدهما لي: "كوكتيل" ،عصير فواكه مع قطع من الثلج.ثم رفعت كأسها ،المختلف لون محتوياته ،وهي تقول: كأسي فيه خليط " ،كوكتيل" ،يحتوي على الـ"كامباري" .قال ليالطبيب أن قليل من الكحول يفتح شرايين القلب .وأجد متعة في شربه أحياجنا. ل أظنك ترغب في مثل هذا المشروب.أم أجنك تحب أن تجربه؟ كأجنما أجفلت لمجرد سماع عرضها ،وإن كنت لم أسمع بذلك السم من قبل: ل ..ل ..شكراا!ضحكت وقالت بشيء من الدلل: هل تماجنع في شربي أجنا؟ سأتوقف عن ذلك إن أردت. طبعا ل.قالت وهي تقرع كأسها بكأسي: إذن ،في صحتك.هأجنا ،أخيرالا ،أمارس "قرع الكؤوس" كما كنت أراه في الفلم السينمائيه. 160
قلت لها ذلك فأغرقت في ضحكة يشوبها بعض المجون ،مما أصابني بما يشبه الصدمه .تذكرت فجأة صديقي "حسين" .لكن سرعان ما اجنتزعتني هي من صديقي وأفكاره الشاذه. جنظرت إلى ساعة يدها ،ثم قالت: مارأيك في الموسيقى؟ هل تريدجني أن أستبدل السطواجنه بواحدةأخرى تختارها أجنت؟ كاجنت أغنية حالمة تتردد فيها كلمة إسباجنية استرعت اجنتباهي.. " موتشو ..موتشو ..موتشو". أجبتها بسرعة: ل ..أبدا! إجنها تروق لي .هل تعرفين معنى كلمة "موتشو"؟هزت رأسها ،ورمقتني بنظرة استنكار فيها شيء من الدلع والعتاب وهي تجيب: "بوي"!ثم أضافت وهي تمد لي يدها: تعال لريك غرفة المكتبه ،حيث سأتركك مع "مسائل الجبر"للمدة التي تراها كافية .أما الموسيقى فسيصلك صوتها عن طريق السماعة المعلقة على حائط الـ"كوريدور". كنا قد دخلنا الغرفة ،فأكملت وهي تشير إلى الريكة التي تحتل جزءا كبيرا منها ،وعليها "بيجامة" مطوية ومنشفه: أظنك ستجد كل إحتياجاتك هنا ،ول ينقصك كما أرى سوى فرشاةالسنان. ثم شدتني من يدي ،وأضافت ،بينما أجنا منقاد إليها بشيء من الذهول: وهذا هو باب الحمام ،وهذا هو مفتاح النور..هل من أسئلة؟استدارت عائدة إلى الصالة ،ثم التفتت جنحوي وهي تبتعد قائله: 161
لو احتجت إلى أي شيء ،فأجنا في الصالة..أقرأ .وعندما تشعربالجوع ،عليك أن تخبرجني بذلك بدون تردد .فلقد أعددت لنا عشاء خفيفا .أما أجنا فأعتقد أجنني سأشعر بالجوع ..بعد مدة ساعه أو تزيد قليل. تأملت قوامها وهي تبتعد بخطوات رشيقة متناسقة تكاد تتوافق مع إيقاع الموسيقى الخفيفة المرحه .شيء ما كان يدفعني إلى إطالة النظر إليها. لم يعد وجهها أو عيناها هما مركز الجاذبيه بالنسبة لي. عندما اختفت ،وجدتني أقف بباب غرفة المكتبه ،ومن أمامي غرفة أخرى ،يبدو أجنها غرفة النوم ،ظل بابها مواربا بالرغم من محاولتها غلقه وهي في طريقها إلى الصاله. عندما تركتني في المرة الولى لتحضير شراب الفواكه ،كنت أرجو أن تطول غيبتها لكي أخلو إلى جنفسي ريثما يزول اضطرابي .أما الن ،فلست أدري ما الذي أجنا فاعله ريثما تشعر هي بالجوع. هل أعترف لها بأجنني لم آت من أجل "مسائل الجبر" ،ول من أجل "كوجنشيرتو أراجنخيز"؟ أعترف؟! وهل هي من السذاجة بحيث تكون قد اجنطلت عليها حيلتي ،ووقعت في شراكها؟ أم أجنني أجنا الذي وقعت في الشرك الذي تحدث عنه صديقي"حسين"؟ مازلت أتمنى أن يكون هو المخطيء .ولوأجنني ،أيضا ،أتمنى أن أجنعم بالمزيد من قربها. وماذا بعد؟ هل هناك أقرب مما كنا فيه قبل قليل؟ أخذت أستعيد وقائع زيارة المس ،والزيارات السابقة ،واليوم الول. ثم عدت بالتسلسل الزمني إلى أن وصلت إلى اللحظة التي فتحت لي فيها الباب ،اليوم .إبتسامتها الغامضه ،وقوامها .وحرارة جسدها التي لفحتني. 162
شعرت بجفاف في حلقي .تذكرت كوب الشراب .أظنني تركته بدون أن أكمل شربه .لم أتردد في النهوض والتوجه إلى الصاله. تنحنح أ ت .رفلعت عينيها عن الكتاب في تساؤل .أشرت إلى الكوب. وضعت الكتاب جاجنبا وجنهضت قائله: اجنتظر قليل! ل بد أن الثلج قد ذاب وأصبح الشراب مخففا .ظننتأجنه لم يعجبك .سأحضر لك غيره في الحال. كنت قد سبقتها في الوصول إلى الكوب .حاولت أن تأخذه من يدي، فتمسكت به وأجنا أبين لها أن الشراب المخفف سوف يؤدي الغرض في إطفاء عطشي .ول أدري من منا هو الذي كان يسعى إلى إطالة فترة تلمس أيدينا. ل أظنني كنت أمتلك مثل هذه الجرأه .ول أدري كم طالت تلك الفتره .لكن الذي أعرفه تماما هو أجنني كنت أريد لها أن تطول أكثر. عادت بالكوب المملوء ،وأثلجت صدري بمحاولتها تجاوز ما جرى. كنت أخشى أن تكون قد لحظت مظاهر التوترالتي اجنتابتني .قالت بمرح يخلو من الفتعال: جنصف ساعة ،وأكون قد اجنتهيت من قراءة الفصل الخير منالكتاب ،وبعدها أتفرغ لعداد العشاء .ولن يستغرق ذلك سوى دقائق أخرى .هل بدأت تشعر بالجوع مثلي؟ أومأت برأسي وشكرتها وعدت إلى غرفة المكتب .شربت الكأس حتى الثماله .وحمدت ا أجنها لم تعرأي اهتمام لما كنت أحسب له ألف حساب. شعرت بحاجة لدخول الحمام .كان ل بد من اللجوء إلى ما يعيد لي بعض هدوئي. لدى خروجي لمحت صورة وجهي في المرآة .اقتربت منها عندما لحظ أ ت شحوبي الزائد .فجأة تذكرت زوجها" ،جريجوري بيك". تأملـأتني .الشيء الوحيد الذي يميزجني عن الطفال هو ذلك الزغب 163
الكثيف المائل لوجنه إلى السواد فوق شفتي العليا .ابتسمت ،في سخرية من جنفسي. خرجت من الحمام أكثر واقعية ،وبل أوهام. استلقيت على الريكة ،ورحت فيما هو بين الغفاءة والغماءة. سمعت صوتا يأتيني من بعيد .تمكنت بالكاد من تمييزه: ..يا صديقي العزيز!لأستطيع أن أحدد كم مرة تكررالنداء .المهم أجنني صحوت من النوم . جنهضت ،وأصلحت من شأجني ،وخرجت إلى الصالة وأجنا أتظاهر بأن شيئا لم يكن .قالت وهي توميء لي بالجلوس إلى المائدة: ..تسللت إلى غرفتك ،فوجدتك مستغرقا في النوم .هل أجنت "أو..كيه"؟ صبت لنفسها كأسا ،وسألتني عن رغبتي بتناول كأس من "النبيذ الحمر" .أجفلت ،فأجنا أعرف ،هذه المرة ،ما هوالنبيذ .قالت من خلل ضحكتها المميزه: ل تجزع! فأجنا أعرف وأحترم التقاليد والديان ،وما سؤالي إلمن قبيل اللتزام بآداب المائده ،أو الـ"إيتيكيت" .وعلى أي حال فأجنا من أجنصار أن يجرب الجنسان كل شيء ،فيقبل عليه ،أو يمتنع ،عن وعي وباقتناع. تذكرت الستاذ "سعيد" وجنصائحه وتعاليمه التي كاجنت تجد في جنفسي قبول في بعض الحيان .ثم تذكرت قولها بأجننا يجب أن ل جنخاف من الخطأ لكي جنتعلم من أخطائنا .وتمنيت أن تكررعرضها لي .لكنها لم تفعل .ولم أجد في جنفسي الجرأة للتراجع بدون إلحاح منها. لم أخجل من جوعي ،خصوصا وأجنها كاجنت تأكل بشهية واستمتاع. وعندما اجنتهينا من تناول العشاء ،ملت كأسها مرة أخرى وهي تقول: 164
الموسيقى الراقصة تساعد على الهضم .ما رأيك؟هل أختارها أجنا ،أم أترك لك حرية الختيار؟ اخترت أغنية لمغن زجنجي ،حفظت لحنها وبعض كلماتها لكثرة ما سمعتها في زياراتنا الولى لها .صرخت فـرحه. هرعت للركن الذي يقع فيه الـ"بيك أب" والسطواجنات .لم يطل ل بحثها .اجنطلقت موسيقى الغنية. أقبلت علي وهي تتمايل على إيقاع الموسيقى الهاديء فاتحة ذراعيها ،ثم اجنحنت أمامي بطريقة مسرحية ،وتمتمت بكلمات لم أفهمها .ثم عرفت أجنها تطلب مني ،باللغة الفرجنسية ،أن أراقصها. ولما رأت اضطرابي وحيرتي قالت ،وقد عادت إلى تمايلها: سوف تتعلم الرقص بسرعة .أذجنك الموسيقية كفيلة بذلك.ورأيت جنفسي أمام أمر واقع ،ل مجال إزاءه للتردد أو التراجع. أخذت يدي اليمنى ،وأحاطت بها خصرها ووضعت يدها اليسرى على كتفي ،بينما ظلت اليدان الخريان ،يدها ويدي ،متماسكتان ممدودتان ،وقالت وهي تكاد أن تلتصق بي: هذا هو الوضع الصحيح لرقصة الـ "فوكس تروت".ثم ابتعدت عنى بما يسمح لكلينا أن يرى خطوات الخر ،وأكملت على إيقاع الموسيقى: واحد ..واحد إثنين .خطوه ..خطوتين .واحد ..واحد إثنين..ثم أخذت المسافة بيننا تضمحل بالتدريج .ومدت يدها لتثبت يدي، المتراخية رهبة وخجل ،حول خصرها: هكذا يا صديقي العزيز! هذا من مقتضيات الرقصه .كف عنخجلك!
165
تيار كهربائي يدغدغ جسدي ،فيسري دم ساخن في عروقي ..وكل أعضائي. جنشوة عارمة تغمرجني .وأشعر بالحرج الشديد من ذلك النموالمتزايد الذي يضطرجني للبتعاد عنها خشية أن تشعر به ،فأفسد تلك اللحظات التي لم أحظ بمثلها حتى في أحلمي التي كاجنت تثيرها قراءاتي ،أو ثرثرات الصدقاء ،أو مشاهداتي في الفلم السينمائيه ،أو ربما تجاربي المخطوفه المرتعده مع قريبات أو جارات لي ممن يصغرجنني أو من هن في مثل سني ،أو أكبر بقليل. تميل بي إلى اليمين فأميل معها .تقودجني إلى اليسار فأجنقاد إليها. وتفكيري يتركز في تجنب الحتكاك بها ،وفي متابعة الغنية مستعجل جنهايتها .وقبل أن يتلفظ المغني الزجنجي ذو الصوت الرخيم بكلماته الخيرة ،أكون قد تركت خصرها ويدها ،وأخذت بالتصفيق، حسب ما تمليه مشاهداتي في الفلم السينمائيه .ثم أسارع بالجلوس لكي ل تكتشف ما جاهدت لخفاءه. صفقت هي الخرى ،وأثنت على سرعة تعلمي لرقصة الـ "فوكس تروت" قائلة ليت وقتها يسمح بأن تدربني على بقية الرقصات في مرات قادمة .في كل مرة رقصه أخرى" .هذا طالما كنت لم أزل في هذا البلد" .وهذا ،كما تقول ،من متطلبات الحياة العصرية الجديدة التي سوف أخوضها في المستقبل القريب ،عندما أسافر إلى أمريكا لدراسة الخراج السينمائي. ..أليست هذه أحلمك للمستقبل؟ ألم تقل لي أجنك تنوي دراسةالسينما؟ رشفت من كأسها بتلذذ وأعادته إلى مكاجنه ،ثم أضافت وهي تمسك بذراع الـ "بيك أب" ،وتعيد وضع إبرته على بداية السطواجنه: ..ثم إن المخرج السينمائي ل بد وأن يكون ملامما بمختلف مظاهرالحياه .والهم من هذا وذاك..أن ل يكون خجول! 166
قالتها بشيء من العتاب أو التأجنيب ،وهي تشدجني من مكاجني وتحملني على مواصلة الرقص ،وتضطر لن تقوم بنفسها بتثبيت ذراعي اليمنى ليحتوي طراوة خصرها ودفئه. إذن ،فقد كاجنت كل مخاوفي وهما .فهي لم تشعر بالتغيرات التي اعترتني في الجولة الولى. وضعت ذراعها ،هذه المرة ،على كتفي .وأخذت تدجندن بلحن المقدمة الموسيقية وهي تقودجني بخطوات ضيقة بحيث لم أستطع تجنب ملمسة ساقي لساقها. وعندما بدأ المغني الزجنجي ذو الصوت الرخيم في الغناء ،أخذت تهمس معه بكلمات الغنيه: ..الشمس مشرقه ..يا له من يوم سعيد ..ويا لله ما أسعدجني!واستمرت بالهمس بكلمات أخرى مرتجلة ،مع اللتزام بلحن الغنيه: عليك أجنت أن تقودجني ..فهذه هي قواعد الرقصه ..المرأة تنقادللرجل..أليس كذلك؟ وهأجنا سأترك لك جنفسي من الن. ثم فطنت فجأة لشيء هام .خلعت حذاءها ،لنصبح بنفس الطول تقريبا. أسندت ذقنهاعلى كتفي ،واستمرت بالهمس ببقية كلمات الغنيه: _ The Moon is shining .. O happy Night .. .. O, O lucky me أما أجنا فقد كنت أجناضل في عدة جبهات .أتابع إيقاع الموسيقى، وأحرص على ضبط الخطوات ،وأتحاشى أن تصطدم ساقاجنا ،أو أن أتعثر بقدميها ،وأتوخى حفظ مسافة معينة بيننا. لكن هيهات! يدي تمسك بيد "جينيفر جوجنز" ،تلك الغادة الفاتنة التي اقتتل من أجلها الشقيقان "جريجوري بيك" و "جوزيف كوتون" حتى الموت، في فيلم "صراع تحت الشمس". 167
وذراعي يحيط بخصرها اللين المتأود ،تلك التي جسدت شخصية "إيمما" ،والتي أذعن لسحرها سادة القوم في فيلم "مدام بوفاري"، رائعة "جوستاف فلوبير". وصدرها الجريء يزيد قربه مني في سرعة ضربات قلبي واضطرابي ،وشعرها يداعب وجهي ،وأريجه يمل خياشيمي. فأتمنى أن تقف المور عند هذا الحد ،لجنفرد بنفسي فأحاول أن أستوعب ما يحدث. كنت أشعرأن التجربة أكبر مني ،وأن ما يجري أكثر حتى من قدرة مخيلتي بمراحل. والحق أجنني لم أتذكر صديقي "حسين" ،لجنني لم أشعر بأي افتعال لما حدث .كل شيء كان يتطور بشكل طبيعي وتلقائي .وكاجنت ،بعد كل رقصة ،تسألني إن كنت أفضل أن أخلد للراحة أو النوم .فأجنفي ذلك وأكتفي بالجلوس وتجفيف عرقي والتقاط أجنفاسي .تأخذ خللها رشفات من كأسها أو تمله بدون أن تحاول إستدراجي لمشاركتها في ذلك .ثم تعبث في مجموعة السطواجنات ،وجنواصل الرقص من جديد. تبدأ بالتعريف باسم المغني أو المغنيه أو المؤلف الموسيقي. وأشاركها الحديث بأن أسال عما يستعصي علي فهمه ،فتفسر لي الكلمات أو الجمل بدون كلل ،أو تبادر بترجمة ما تختاره من الغاجني الفرجنسية. ثم تموت على شفتينا الكلمات. ويلفحني صهد حرارتها ،ويعود جسدي للحساس باستدارة فخذيها، أو تكومر جنهديها. وتسترق عيناي النظر ،رغما عني ،إلى تلك المساحة من العري المتاح للصدر ،وأكاد ل أستطيع أن ألجم جنظراتي المتسللة .ثم أعود لمحاولتي اليائسة لتجنب ما قد يثير اجنزعاجها ،كما كنت أتخيل. وما أن تنتهي الغنية ،أوالقطعة الموسيقية ،حتى ألقي بنفسي على أقرب كنبة ،وأجنا أدارى إجنتصابي ،مبالغا بالتظاهر بالتعب والجهاد. 168
*
*
*
كاجنت لي "مغامرات" يحسدجني عليها أصدقائي ،وتجعلني ،في جنظرهم" ،دون جوان" يشار إليه بالبنان .لكنها لم تكن تتجاوز النظرات ،أو البتسامات المتبادلة ،أو لمسة يد ،أو"بوسه" مخطوفة. وأكثر مغامراتي "فجوراا" كاجنت مع تلك الصبيه "الفايره""..جنعيمه"، التي عوضها ا عن وجهها المائل إلى القبح ،بجسد يحسدها عليه كل من رآها من فتيات أو جنساء منطقة "الرمال" بكاملها. كاجنت تكبرجني بسنتين أو ثلثة ،وكاجنت تدرك أجنها تمتلك تلك "المواهب" ،ول تترك فرصة تفوت دون أن تتعمد إبرازها، والتباهي بها ،أمامي. ظلت تتحرش بي منذ أن استقر بنا المقام في "غزة" ،إثر الهجرة إليها من القدس ،بدون أن تجد استجابة مني ،إلى أن كان ذلك الشتاء ،فلم أستطع منها فكاكا. كان والدها يعمل "عتا ا ل" في متجر الحبوب الذي يمتلكه أحد أقربائي في يافا .وكاجنت وحيدة أباها الرمل .وبعد الهجرة إلى "غزة" ،لم يجد بديل عن ترك الصبية في بيت قريبي ليسافر باحثاعن الرزق. وبعد عامين أرسل والدها ما يفيد بأجنه قد "كتب كتابها" على صديق له عائد إلى "غزة" ليستقر فيها. زفت لي الخبر وهي تكاد تفقد صوابها من الفرحه .وأخذت تعدجني بأجنها ،بعد ذلك ،سوف تمتعني بعلقة كاملة .كاجنت ،في الشهورالخيرة ،تقول لي ،بالحرف الواحد ،أن الـ"ترين" ،حسب تعبيرها السوقي ،الذي كنت أجنفر منه ،سوف يتمكن من دخول المحطه )!( لكن زوجها قرر أن يعمل في الخليج. * * *
169
أما أن أراقص "جينيفر جوجنز" ،في خلوة امتدت حتى قارب الليل على الجنتصاف ،فهذا ما لم يكن ليتسع له خيالي. لكنها الحقيقة التي ما برحت أراها بعيني ،وألمسها بيدي ،وأسمعها بأذجني ،وأستشعرها بجسدي. هناك ،من بين أحلم منامي ،حلم كثيرا ما كان يتكرر بنفس تفاصيله .كنت أراجني فيه أتنقل من مكان إلى آخر طائرا ،أحلق في الهواء مثل الطيور. أطير صعودا في العالي أو أغوص هابطا في الفضاء .ثم أراجني وقد صحوت من جنومي ،ول أكاد أتبين ذلك حتى أعود لواصل الطيران كأجنما لثبت لنفسي أن قدرتي على الطيران حقيقة ،وليست مجرد أضغاث أحلم. حلم في داخل حلم. وكأجني ،في تلك الليلة ،مازلت أواصل شيئا من هذا القبيل .أصحو من حلمي الراقص ،ثم أعود للرقص لثبت لنفسي أن "جينيفر جوجنز" حقيقة شاخصة أمامي ،وأستطيع احتضاجنها ومراقصتها مرة إثر الخرى. اعترى جسدي خدر لذيذ ،بينما كاجنت تدور في رأسي فكرة الكتفاء بهذا القدر و الستسلم للنوم ،على أن أواصل الحلم في يوم آخر، ربما في الغد. ثم فوجئت بموسيقى "كوجنشيرتو أراجنخيز" تتسلل إلى مسامعي، وصوتها يقترب: ..والن ..وقبل أن أتركك مع هذه الموسيقى الهادئة..اقتربت تحمل كأسي مجددا ،وجلست إلى جاجنبي وأكملت ،وقد عادت إلى شفتيها ابتسامتها الغامضة: ..أحب أن أستمع إليك في الحديث الذي اجنقطع بالمس .أم أجنك قدجنسيت؟ 170
ولول مرة أرى أن في وجهها ما يخطف البصرغير العينين. شفتـــــــــــاها. حكيت لها ،على أجنغام "رودريجو" ،قصة حلمي الطائر الذي أثبتت في أحلمي أجنه حقيقه .وأشرت إلى الحلم الخر ،الذي ما زال يفتقر إلى إثبات حقيقته. اتسعت إبتسامتها .شربت ما تبقى في كأسها وشردت بأفكارها برهة ثم جنهضت. وبدون مقدمات ،تمنت لي ،بثغر يفترعن "إبتسامة ما" ،جنوما هادئا، واختفت في غرفة النوم. ل أدري كم من الوقت قد مضى وأجنا أحاول التخلص من رعشة البرد التي أصابتني منذ أن استبدلت ملبسي لخلد إلى النوم .لكن الموسيقى الناعمة كاجنت تؤكد أجنه لم يمض الكثير. عبثا حاولت أن أجد ما أتدثر به .لقد تذكلر ْ ت كل شيء ..ما عدا الغطاء .وعبثا حاول أ ت الستغناء عنه. وقفت بباب غرفة المكتب أفكر فيما عساي أن أفعل .كان باب غرفة النوم مواربا ،وجنور خافت يتسلل منها ،وهو الشيء الذي ربما ينم عن إحتمال عدم استغراقها في النوم. طرقت الباب طرقا خفيفا .لم أسمع رد اا .طرقته مرة أخرى .اجنتظرت قليل ثم دفعته بحرص. فوجئت بها تنظر لي متسائله .وتراءت لي تلك الـ"ابتسامة ما" التي ارتسمت على كل وجهها. خيم الصمت برهة. كنت أرتعش من البرد .اتسعت ابتسامتها بشكل ملحوظ ،ثم ضحكت. كان شكلي بمنامة "جريجوري بيك" الفضفاضة ،التي تتسع لشخصين آخرين من مثلي ،مما يثيرالضحك فعل.
171
ازداد إحساسي بالبرد واشتدت إرتعاشة بدجني .فتحت فمي لتكلم فاصطكت أسناجني .كدت من شدة إرتباكي أن أقفل عائدا .لكنني فوجئت بخلجاتها تتغير: تعال يا طفلي المسكين!قالت هذا وهي ترفع الغطاء عنها بملء ذراعها. كاجنت عارية. كررت دعوتها مرة وثاجنية وثالثة ،وأجنا اقف مذهول ،ل أدري ماذا أجنا فاعل .كاجنت هذه هي المرة الولى التي أرى فيها ،عن قرب ،جسد إمرأة كاملة العري في سريرها ..وأي إمراه! لماذا تقف هكذا ..هيا اقترب!اقتربت متردداا مرتعدا .تحركت ومدت يدها الخرى وجذبتني إليها بلهفة ،ثم احتوتني بالغطاء .ومازالت تدلك جسمي بيديها برفق حتى بدأ الدفء يغمر أجنحائي .جست جبيني و جفني ووجنتي ورقبتي بشفتيها .جندت عنها تنهيدة راحة قبل أن تقول وهي تحتضنني: الحمد ل! ظننت أن مكروها أصابك.ثم أبعدت وجهها عني ،وأخذت تتأملني .عادت إليها بالتدريج ابتسامتها الغامضة. الحرارة تتسرب منها إلى جسدي المتلهف إلى الدفء ..وأي دفء! أرهلفت السمع برهة ،ثم رمقـتني متسائلة: هل تسمع شيئا؟قلت بعد أن أرهفت سمعي فترة أطول: ل..قالت بابتسامة ذات معنى: وأجنا أيضا ..ل أسمع شيئا!ثم أضافت مداعبة: 172
ألم جنتفق أن الحركتين الرابعة والخامسة ل تقلن روعة عنالحركات الثلث الولى؟ مرت لحظات ،وأجنا أحاول أن أستوعب ما قالته .أضافت برقة شديدة وهي تشير بإصبعها إلى خارج الغرفه: السيد "رودريجو" ..يتساءل من سيقلب السطواجنة على وجههاالخر؟ قبل أن تكمل جنطقها للسم ،كنت قد أدركت ما تعنيه .لكنني لم أشأ أن أتحرك قبل أن تكمل جملتها .كنت أرى منها شفتيها فقط. لم أكن أعرف كم يمكن أن تكون الشفاه ..شهيه. شدت الغطاء عنى ،وهي ترجنو إلي برجاء. كأجنما كنت أخشى إن عدت إليها أن ل يكون هناك ما يبرر وجودي في سريرها بعد أن ذهبت عني قشعريرة البرد ،واختفت مظاهر المرض التي دفعتها لتمنحني تلك العناية الفائقه. حاولت أن أقرأ في وجهها ما يؤكد لي عكس ذلك ،أو ما يضمن لي عودتي. اجنتظرت أن تنطق بكلمة تبدد مخاوفي .فاجأتني بسؤالها المعهود: لماذا تنظر لي هكذا؟قلت وأجنا اقفز من مكاجني: سأقول لك.لم أستغرق وقتا يذكر حتى اجنسابت الموسيقى .وقطعت مسافة العودة في قفزات معدوده. وجدتها تحكم حول جنفسها الغطاء ،وتهز رأسها هزات خفيفة ذات اليمين وذات اليسار بما يعني اجنها تمتنع .لكن ابتسامتها الخفيفة ،وهي ترمقني من أعلى إلى أسفل وبالعكس ،جعلتني أفهم أجنها تضع شروطا لعودتي .وقفت حائرا مترددا ،محاول أن أفك رموز الرسالة التي وصلتني. 173
حاولت أن تبدد حيرتي بأن قالت بشيء من الدلل: أظن أجنه ليس من العدل.. ..وجدتني أقف أكثر حيرة وترددا. كدت أسمعها تصرخ بي أن أكف عن خجلي .لكنها لم تفعل .كاجنت جنظراتها لي تنطق بذلك. ل بد إذن مما ليس منه بد .خلعت الجزء العلى من المنامة .توقفت قليل كأجنما كنت أتوقع أن تكتفي بذلك. ثم تخلصت من قميصي الداخلي بسرعة ،ووقفت أمامها برهة عاري الصدر .لكنها كاجنت تصرعلى موقفها. درت حول السرير لتجنب جنظراتها ،فأغرقت في الضحك. خلعت سراويل المنامة بسرعة وقفزت إلى السرير. كفت عن الضحك .احتوتني تحت الغطاء .كنت ألهث .احتضنت وجهي بكفيها برفق: إلتقط أجنفاسك أول ،ثم أجبني عن سؤالي .أم أجنك قد جنسيت؟كادت خصلة من شعرها السود أن تغطي إحدى عينيها المتسائلتين. مددت يدي لعيدها إلى مكاجنها .حركت كتفها ،الذي اجنحسرعنه الغطاء ،وضغطت به على يدي لتستبقيها في مكاجنها. استجمعت أفكاري وأجنا أتأمل وجهها ،وسرعان ما أخذت الكلمات تتدحرج وتتعثر. في البداية ،كنت أراك ككل .أعني..أجنني لم أكن أرى التفاصيل.هزت رأسها وهي ترهف السمع .ودار لساجنها يبلل شفتيها. وجدت البقيه: ..شفتاك ..مثل ...هزت رأسها مرات أخرى وهي تبتسم مشجعة ،كأجنما كاجنت تخشى أن تضيع مني ،كعادتي ،الكلمات .أكملت: 174
..لم أكن أعرف أن الشفاه ..ممكن..أن تكون...وتعصاجني الكلمة الجنجليزيه ،مع أجنها من المفردات التي كنت أعرفها. ولكن سرعان ما بدر منها ما ذكرجني بعجز بيت الشعرالغزلي الذي يقول"..وعضت على العمناب بالبرد" .ولم أتردد باستبدال العناب بالكرز ،لجهلي بمعنى كلمة "العناب" باللغة الجنجليزية ،وأكملت: في لغتنا العربية ،يتغزل شعراؤجنا بشفاه المرأة ويشبهوجنهابالكرز ،تلك الفاكهة الـ ...ل أعني الـ"حلوه" ..هناك كلمة أخرى تعني أجنها تغري على التذوق. لذيذه؟ تقريبا ..ولكن هناك كلمة أخرى..أعني قبل أن يكتشف المرءأجنها لذيذه ..إجنها الصفة التي توحي بأجنها لذيذة شهيه؟ جنعم ،شهيه..هذا ما أقصده. وبعد؟ هذا ما كنت أريد أن أقوله. مالذي كنت تريد أن تقوله؟ ما قلته لك. قله مرة أخرى.ترددت قليل .مازالت شفتاها الرطبتان ترسلن جنداءهما .استجمعت شجاعتي وقلت: شفتاك شهيتان.أخذت تتأمل وجهي وكفاها ما زال يحتضناجنه .مرت بإبهامها على شفتمي .أصابتني قشعريرة لذيذه .أغمضت عينمي.
175
أحسست بأجنفاسها تلهب وجهي ،ثم بشفتيها وهما تغمران جفنمي بالقبلت .ضربات قلبي تتزايد سرعتها .كدت أغيب عن الوعي. سمعت همسات ،كأجنها تأتيني من بعد .لم أستطع أن أدرك ما تعنيه. ماذا؟همست مرة أخرى .كرر أ ت سؤالي: ماذا؟أبعدت وجههاعني شيئا .فتحت عينمي .أعادت: أسألك ..هل قزبل لك إحداهن؟ ت أو قبلْت ل أظنني فعلت ..بعض المرات. قبلة حقيقيه؟ طبعا! وهل هناك قبلة حقيقية وأخرى غير حقيقيه؟أغلقت عينيها وهي تقول ،بينما اجنزلق أحد كفيها ليستقرعلى ظهري: إذن ،قبلني!قبلت شفتيها عدة مرات .ثم قلت: ..لكن ..لشفتيك طعم آخر.كدت أرى الرثاء يرتسم على وجهها .ثم ابتسم ْ ت وقالت بما يشبه العتاب: ما هكذا يقبل الرجل امرأة تحبه ،وهي عارية في أحضاجنه.كاجنت كلماتها مبطنة بشيء من السخريه .قررت أن أدافع عن رجولتي. لم أجنجح في احتضاجنها بذراعيم إل بعد أن رأت هي أجنه ل بد من مساعدتي. ْ ل وكأجنما قد أشفقت علي من ذلك المتحان الصعب .أو كأجنها خشيت أن أشعرأجنها اكتشفت جهلي الذي حاولت أن أداريه. بدأت يدها تعبث بشعري بحنان ،والخرى تنزلق فوق ظهري جنزول وصعودلا. 176
اجنفرجت شفتاها ،ثم أطبقـتا برفق على شفتي السفلى .فأحسست بمتعة في الطباق بشفتمي على شفتها العليا. بدأت النشوة تتسرب إلى أجنحاء جسدي من جديد ،خصوصا عندما بدأت شفتاها تعبثان بشفتمي .ثم زاد إحساسي بالمتعة وأجنا أشاركها ما تفعل. شعرت بطرف لساجنها يلمس شفتي ،يداعبها .أصابتني قشعريرة أمتع وألذ من تلك التي شعرت بها عندما مرت بإبهامها على شفتمي قبل لحظات .وعادت أجنفاسها تلفح وجهي .وأخذت أصابعها تدلك ظهري، بينما أصابع اليد الخرى تتخلل شعر مؤخرة رأسي .جندت عني تنهيدة طويله ،كأجنما خارت قواي ،فضمتني بقوة .تمنيت أن أحظى بثوان ألتقط فيها أجنفاسي. كأجنما أحست بي .ابتعدت برفق .أخذت ترمقني بنظرات حاجنيه. قلت بصدق: هذه هي قبلتي الولى! سعيد؟ ..ل توصف. أما أجنا فقد ذكرتني بقبلتي الولى .كنت في مثل عمرك أو أقل. وهو؟ابتسمت وقالت: ل ،كان يكبرجني بثلث سنوات فقط.قلت متسائل ببراءه: "ريك"؟أجابت بسرعة ،مستنكرة ،متداركة: "ريك"!ما هذا الهراء؟ "ريك" هو أخي..أخي..ألم تعرف ذلك؟! ثم أكملت بما يشبه الهمس ،بينما كاجنت عيناها تبحثان عن شيء في فضاء الغرفة وجنورها الخافت: 177
كان صديقا لـ ـ "ريك" .ومات منذ عام مضى .و"ريك " ،الخ..والصديق الوفي ،يحاول أن يجد لي عزاء بدعوتي إلى الماكن التي يتنقل بينها بحكم عمله.. ثم ،كمن يطوي صفحة بدون أن يكمل قراءتها ،ويواصل القراءة في فصل آخر ،قالت ساءلة: ..لم تقل لي رأيك في القبلة الولى ..كيف كاجنت؟ابتسمت وأجنا أتذكر الستاذ "عابدين" مدرس اللغة العربية الذي أخذ يلف ويدور حول الجابة على سؤالي الذي وجهته له أثناء الحصة، وهوعن معنى كلمة "الررضاب" ،ووصفه بالعذوبة ،ووصف الشعراء للحبيب بأجنه "عذب اللمى". ها قد اكتشفت ذلك بنفسي ،وذقت حلوة شهد الرضاب ،وعرفت، ب لماها. عن تجربضة ،معنى أن تكون الشفاه ..شهيه..عذ ر لست على يقين إن كنت قد وفقت في ترجمة خواطري لها. لكن الذي أذكره جيدا ،أجنني لم أتردد في التعبيرعن رغبتي في مواصلة التجربة والكتشاف. وعدت أرتشف ،بنهم وبدون توقف ،عساي أن أرتوي من عذوبة لماها ..وشهد رضابها. ثم عرفت يداي طريقهما لكتشاف معالم جسدها اللميس. وأخذت أجناملي تتلمس طريقها ،كأجنها تلملم اللذات المبعثرة على أديمه. وعرفت هي كيف تجعلني أتنقل بشفتي على أجنحاء وجهها ،وجيدها، وكتفها .. و.................................................................................. . .................................... هكذا تعلمت من بعض من كنت أقرأ لهم ،في ذلك الوقت ،أن أترك سطوراا ل تحتوي على أكثر من جنقط.
178
فأجنت ،إن لم تكن قادراا على مواصلة السرد والوصف ،أو إن شئت الحتفاظ بتلك التفاصيل أو كتماجنها ،فما عليك إل أن تترك ذلك للمخيلة وفنوجنها. * * * في الصباح الباكر ،أفقت من جنومي فلم أجدها إلى جاجنبي. إكتشفت أجنني أرقد تحت الغطاء ،عاريا ،بالرغم من يقيني بأجني قد احتفظت بآخر قطعة من ملبسي الداخليه. لن أفكر بالتفاصيل الن .سوف أعود لستذكار تلك التفاصيل آج ا ل، وسوف يكون أمامي من الوقت ما يكفي لذلك .المهم أن الوقت هو وقت صحوي للذهاب إلى المدرسه. سمعت صوت تنقلتها خارج الغرفه .وقبل أن أجنتهي إلى قراري بتجميع قطع ملبسي من هنا وهناك ،بعد أن تمكنت من تحديد أماكنها ،كاجنت سيدتي الجميلة تدخل الغرفة وهي تدفع أمامها عربة عليها ما أعرفه وما ل أعرفه من الطيبات. * * * كان "حسين" في اجنتظاري عند أول منعطف للطريق .فمه ينفرج عن السن الماميه المفقوده ،وهو يسأل بإلحاح عن سبب تأخري. لم يتمالك جنفسه من إتهامي بـ"الفشر" ،وأجنا لم أبدأ بعد برواية ما يستدعي ،بحق ،التهام بهذه التهمه .تظاهرت بالغضب ،وقاطعته طوال اليوم .لكنه في النهاية لم يحتمل مقاطعتي له .قبلت اعتذاره بشرط أن يأتيني في المساء ليدعوجني لستكمال المذاكرة سويا في بيتهم لليلة الثاجنيه )!( قبل هو شروطي بعد أن وعدته بأن أقص عليه ما جرى في الزيارتين الخيرتين للسيدة الجميله ،حسب طلبه ،بالتفصيل المفصل. ليس هناك أي أهمية لما جرى أو ما دار من الحديث بيني وبين "حسين" منذ أن وصلنا إلى دارجنا حتى مغادرتنا لها سويا ،قبيل الغروب. 179
كنت ،فقط ،أشعر بشيء من تأجنيب الضمير لرتكابي الكذب على والدي للمرة الثاجنية .أما ارتكابي للمعصية الخرى ،فقد كنت أردد بيني وبين جنفسي أن أل أراد أن يكافئني على إلتزامي ،قبل ذلك ،بكل ما يرضي الوالدين)!( عند مفترق طريقنا اليومي ،اجنتظرت حتى اختفى "حسين" في المنعطف المؤدي إلى دارهم . وعندما شارفت على الوصول ،كاجنت الشمس قد مالت إلى الغروب. وأول ما جذب اجنتباهي هو الظلم الذي يكتنف البيت .فقد سبق أن لحظت أجنها تضيء الجنوار بمجرد جنوح الشمس للمغيب. ل بأس ،فكثيرا ما كنا جنتعرض لجنقطاع التيار الكهربائي في تلك المنطقه ،لبعض الوقت. تراءى لي ،عن بعد ،شخص يجلس على الدرجات المؤدية إلى المدخل .وعندما وصلت إلى مدخل الحديقة ،جنهض الرجل واقترب مني على عجل .و بادرجني البستاجني العجوز ،وهو يناولني مظروفا: مساء النور يا ولدي .هل هذه الرسالة لك؟استطعت أن أتبين ،على بقايا جنور الشفق ،إسمي مكتوبا باللغة الجنجليزية .لم أكد أجيبه باليجاب حتى تركني وهو يستمهلني راجيا أن أجنتظره. عاد الرجل وفي يده شيء سرعان ما عرفته.. أسطواجنة "كوجنشيرتو أراجنخيز". أضاف ببساطة أن "الضابط" حضر مستعجل ،وأن السيدة قد سافرت معه ..وتركت لي هذا الغرض. في دار صديقي "حسين" ،قرأجنا في الرسالة ما يلي: " أتمنى لك أ ن تحقق كل أحلمك .ويداعا!" كارولين 180
May all your Dreams come true . Adieus! Caroline Gaza , 24.2.1951
181
فهرس -1عندما أبكاجني "حربي"5.......................... -2العـــــازف15....................................... -3إم سماعين49........................................ 182
-4حمار "فارس"57................................... -5أوهام الحب61...................................... -6جنهاد67................................................ " -7موتشاتشا"75 ...................................... -8صليب مالطا79 ..................................... -9خارج السوار 95 .................................. -10كاريوكا99............................................ " -11شالوم أخي"105..................................... -12ق م طاع الطرق109..................................... -13أبــــو "118......................................."... -14وزارة "أبو فلن"117............................... -15القافله والجممال120................................... -16تلك هي ياصديقي122................................ -17حبيبه والقديسه "جنينا"128........................... -18كارولين 141.......................................... -19كارولين..كوجنشيرتو144............................. -20فهرس 189............................................
183