أسرار تاريخية خبيئة في أسماء - جعفر المهاجر

Page 1

‫‪1‬‬

‫يخية‬ ‫أسـرٌار تار ّ‬ ‫خبيئةٌ في أسماء‬

‫جعفر المهاجر‬


‫‪2‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫املؤلف ‪ :‬الشيخ د‪ .‬جعفر املهاجر‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫أرسار تارخي ّي ٌة خبيئ ٌة يف أسامء‬ ‫الكتاب ‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫إعــداد مركز هباء الدين العاميل لألبحاث والدراسات‬ ‫‪www. mobdie.org‬‬ ‫هاتف ‪110903810900 :‬‬ ‫هاتف وفاكس ‪110903811109 :‬‬ ‫‪dr.jaafarmohajer@gmail.com‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬ ‫نشر ‪ :‬دار بهاء الدين العاملي للنشر ‪,‬‬


‫‪3‬‬

‫الـفـهــرســـــــــــت‬


‫‪4‬‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫عيل )‬ ‫( ِّ‬ ‫رب انفعني بام ع ّلمتني ‪ ،‬واجعله يل ‪ ،‬وال جتعله ّ‬


‫‪5‬‬

‫الـــــمــــقــــــــــــــدمــــــــة‬ ‫(‪)1‬‬ ‫مامن ٍ‬ ‫أمر أرضى لقلب الباحث من أن يكشف منبع‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫بنحو ّما ‪ .‬فيرى عبرها الطريقة التي تعم ُل بها‬ ‫حقيقة الحظها‬ ‫المالحظة ‪ ،‬التي تكون أحيانًا‬ ‫الم ِبدع ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ابتداء من ُ‬ ‫األشياء عملها ُ‬

‫المالحظة‬ ‫ه ّـين ًة ‪ .‬و ً‬ ‫انتهاء بكشف ّ‬ ‫سرها المكتوم ‪ ،‬األكبر دائمًا من ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يكف عن طرح‬ ‫حيًا ‪ ،‬ال‬ ‫لكن كالهما يقتضي فُضو ً‬ ‫ال ّ‬ ‫نفسها ‪ّ .‬‬ ‫المحيطة بالسؤال ‪،‬‬ ‫المعطيات ُ‬ ‫األسئلة ‪ .‬باإلضافة إلى استيعاب ُ‬ ‫حركه باتجاه الجواب ‪.‬‬ ‫مر عليه غيره ‪ ،‬دون أن ُيقلقه ُ‬ ‫وي ّ‬ ‫الذي ّ‬

‫اليصح على ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫صحته على سعي التاريخ‪.‬‬ ‫هذاالكالم‬ ‫بحث ّ‬ ‫غي ُر مقادير البشر‪ ،‬ثم‬ ‫وي ّ‬ ‫المراوغ ‪ ،‬الذي يعم ُل ُ‬ ‫وهو ذلك العامل ُ‬

‫ذكي‬ ‫أن عمله ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫اليلبث أن يختفي ‪ ،‬تاركاً حينًا أث ًار ضئيالً ‪ .‬مع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الرّباني الخفـ ّي (التّ ـداول)‬ ‫انسجام‬ ‫ليس يخلو من‬ ‫وتكامل ‪ .‬عنوانه ّ‬ ‫ُ‬

‫(وتلك األيام ُنداولها بين الناس) (آل عمران ‪ . )141 /‬با ّلنظر‬ ‫اني بمعنى ‪.‬‬ ‫إلى ّ‬ ‫أن ( التداول ) عم ٌل رّب ّ‬ ‫ً‬ ‫(‪)2‬‬

‫ت قـ ــد انتخبتُه مـ ـن‬ ‫م ـا بيـن دفّ ـتـي الكتـاب هــو ما كــن ـ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫دور على‬ ‫لدي ‪.‬‬ ‫تسـجيـ ـالت عـ ـديدة ّ‬ ‫األمر الجامع بينها ‪ّ ،‬أنها تـ ـ ـ ُ‬ ‫ُ‬


‫‪6‬‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جماعات أو أفراد ‪ ،‬ولمواقع على األرض ‪.‬‬ ‫أسماء ُمتداول ٍة لبشر‪،‬‬ ‫ابتغاء كشف ما و ارءها من خفايا ‪.‬‬

‫أهميتها‬ ‫أما االعـتبار في انتخابها دون غيرها ‪ ،‬فليس هو ّ‬ ‫ّ‬ ‫وصلت‬ ‫مما حوته تسجيالتي ‪ .‬بل ألنني قد‬ ‫ُ‬ ‫بالقياس إلى غيرها ّ‬

‫ٍ‬ ‫تفسير تاريخاني إلى وجه العالقة بين االسم‬ ‫عبرها بالبحث إلى‬

‫مما هو‬ ‫سمى ‪ ،‬حيث اختبأ سـٌّر من أسرار التاريخ ‪ّ .‬‬ ‫الم ّ‬ ‫وبين ُ‬ ‫لكنه يتنافى مع الحقيقة ‪.‬‬ ‫مما هو معروف‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫منكور اليؤبهُ به ‪ .‬أو ّ‬ ‫كل حال ‪ ،‬دائمًا كانت دراستُنا على االس ـم الباب الذي‬ ‫وعلى ّ‬ ‫ـر كشفناه أو خطأً صوبناه ‪ .‬وذلك ُّ‬ ‫يدل‬ ‫ولجنا منه إلى ما رأيناه س ّاً‬ ‫ّ‬ ‫لكنه ُّ‬ ‫يدل‬ ‫على الطاقة العجيبة التي تختزنها‬ ‫االسماء داخلها ‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫أيضًا على أن توظيف هذه الطاقة في البحث التاريخي ليس‬

‫انيًا ‪.‬‬ ‫سه ً‬ ‫مج ّ‬ ‫ال أو ّ‬

‫ئ‬ ‫أرجو أن يجـد القار ُ‬ ‫يخية‬ ‫المسبوقة في الكتابة التأر ّ‬ ‫في تركيبها ‪.‬‬

‫الحصيف في هذه التجربة غير‬ ‫عادل ما بذله الكاتب من ج ٍ‬ ‫هد‬ ‫ماي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الحمد هلل‬ ‫و ُ‬

‫بعلبك ‪ 12‬رجب ‪1441‬هـ ‪ .‬ذكرى دخول اإلمام أمير المؤمنين‬ ‫الكوفة واتخاذها عاصمةً له ‪.‬‬

‫‪ 7‬آذار‪ /‬فبراير ‪ 2121‬م‬


‫‪7‬‬

‫تـــــوطــــئـــــة‬ ‫(‪)1‬‬ ‫المؤرخ كتابته أو‬ ‫المادة األ ّو ّلية ‪ ،‬التي يبني منها‬ ‫إن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلشكاليات التي عـليه أن‬ ‫يصوغ منظوره التاريخاني ‪ ،‬هي أُولى‬ ‫ّ‬ ‫أن عليه أيضاً أن ُي ّبينه للقارئ ‪ .‬ألنها‬ ‫يقطع عـليها برأي ‪ .‬ثم ّ‬ ‫المستندات التي يعتمدها المؤرخ ‪ ،‬وسيكون لها أبعد‬ ‫تُ ّبين له قيمة ُ‬ ‫األثر على البناء الذي سيشيده منها ‪ .‬كما سيكون عليه أن يأخذ‬

‫اد التي بين يديه ‪،‬‬ ‫ورتبتها في سلسلة المو ّ‬ ‫بعين االعـتبار وجاهـتها ُ‬ ‫لكل منها موقعه ووظيفته بين ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫وثانوية ‪ٍّ .‬‬ ‫مستقل‬ ‫دليل‬ ‫بين أُولى‬ ‫ّ‬

‫مؤي ٍد له ‪ ،‬أو قد يكون أحيانًا دليل نفي وتـفـنيد ‪.‬‬ ‫وبين ّ‬ ‫األو ّلية األُولى ‪ ،‬من حيث الرتبة ‪ ،‬روايات‬ ‫فمن المو ّ‬ ‫اد ّ‬ ‫الشهود ‪ ،‬عن م ٍ‬ ‫ماع مباشر‪ .‬ومن وثائق من الدرجة‬ ‫عاينة أو س ٍ‬ ‫ُ‬ ‫الت ‪ ،‬نقـوش ‪ ،‬رقائم ‪ُ ،‬مذ ّكرات ‪ ،‬سيرة‬ ‫دونات ‪ ،‬سج ّ‬ ‫نفسها ( ُم ّ‬ ‫ذاتية ‪ . . .‬الخ‪. ).‬‬ ‫ّ‬ ‫المتأخرة‬ ‫ومن‬ ‫ّ‬ ‫دونات ُ‬ ‫الثانوية األدنى رتب ًة الروايات و ُ‬ ‫الم ّ‬ ‫هي ًة كانت أم كت ّبية ‪،‬‬ ‫عن زمن الحدث أو عن صاحب السيرة‪ ،‬شفا ّ‬

‫المتداولة غير المنسوبة ‪ ،‬وان ت ُكن هـذه قـ ـد‬ ‫والمرويات الشفـ ّ‬ ‫وية ُ‬ ‫تكـون أحياناً ذات قـ ـيمة عظيمة التُبارى ‪ ،‬ال س ـّيما في التأريخـات‬


‫‪8‬‬

‫البعيدة في الزمان ‪ ،‬التي ترتفع إلى ما قـبل زمن التدوين ‪.‬‬ ‫األولية‬ ‫اد‬ ‫وعلى ّ‬ ‫فإن من المعلوم أن قيمة المو ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل حال ‪ّ ،‬‬ ‫لكن هذه‬ ‫من الرتبة األُولى تفوق من حيث المبدأ‬ ‫الثانوية منها ‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫مؤيدات أو ُم ّفندات لِما‬ ‫قد تكون عظيمة النفع أحياناً ‪ ،‬بوصفها ّ‬ ‫األولية ‪ .‬خصوصاً حيث تختلف هذه‬ ‫قـد أتت به بعض المصادر‬ ‫ّ‬ ‫في معطياتها أو في بعـضها ‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫األولية التي يأخذ عنها المؤرخ‬ ‫مهما تكن قيمة المصادر‬ ‫ّ‬ ‫فإن عليه أن يأخذ بعين االعتبار دائماً موقع‬ ‫من حيث المبدأ ‪ّ ،‬‬

‫موضوعيته وحياده وكفايته في فهم االحداث‬ ‫الراوي أو الكاتب و‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جدًا‬ ‫وروايتها‪ .‬ومن‬ ‫أن علينا أن نكون حذرين ّ‬ ‫الغني عن البيان ّ‬ ‫ّ‬ ‫نعرف ّأنه يولي التزامه السياسي أو‬ ‫فيما يأتينا به رٍاو أو كاتب ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫النسبي أو الشخصي اعتبا ًار غالبًا على مادة وأُسلوب‬ ‫المذهبي أو ّ‬ ‫عمله ‪ .‬وما أكثر هذا األُنموذج في تاريخنا الرسمي ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫التقدم الكبير ‪ ،‬وارتفاع درجة االهتمام ‪،‬‬ ‫ث ـم أنه بفـضل ّ‬ ‫المادية القديمة ‪ ،‬حصل عندنا تق ّد ٌم‬ ‫واتساع العمل على اآلثار‬ ‫ّ‬

‫سيما في‬ ‫المندثرة ‪ ،‬ال ّ‬ ‫ُمو ٍاز في درجة معرفتنا بالحضارات القـديمة ُ‬


‫‪9‬‬

‫محل اهتمام‬ ‫"الشام" و "مصر" و"العراق" وغيرها ‪ ،‬التي لم ت ُكن ّ‬

‫مؤرخينا من قبل ‪ .‬مع اإلشارة إلى أن هذا النمط من االهـتمام لم‬

‫ٍ‬ ‫دينية) مزعـومة ‪.‬‬ ‫يحصل في "شبه الجزيرة العربية"‬ ‫ألسباب ( ّ‬ ‫(‪)4‬‬

‫ٍ‬ ‫األو ّلية للكتابة التاريخّي ة‬ ‫آخر‬ ‫إضافة إلى تلك المو ّ‬ ‫اد ّ‬ ‫التقدم الكبير الذي‬ ‫بدأت في العقود األخيرة باستفادة المؤرخين من ّ‬ ‫حصل في تقنيات تحليل الحمض النووي للبشر في معرفة‬ ‫ٍ‬ ‫وية‬ ‫األُصول البشرّية ‪ .‬حيث قـ ّدمت‬ ‫جمة وقـ ّ‬ ‫للمؤرخين معلومات ّ‬ ‫ّ‬ ‫على وجوه اندماج الجماعات البشرية وتشعباتها وهجراتها منذ‬ ‫أقدم العصور‪.‬‬ ‫فهذه على نحو اإلجمال ماعليه العمل بين المؤرخين‬

‫المؤرُخ رؤيته‬ ‫ب منها‬ ‫سميناه ّ‬ ‫األو ّلية التي ُيرّك ُ‬ ‫ّ‬ ‫اليوم على ما ّ‬ ‫المادة ّ‬ ‫أو منظوره التاريخاني ‪ .‬أوردناها على سبيل التمهيد للتعـريف بما‬

‫كل ماذكرناه ‪ ،‬نرى ّأنها لم تحظ‬ ‫مادةً أولّية‬ ‫إضافيةً على ّ‬ ‫نرى فيه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ماد ًة ّأو ّلي ًة موثوق ًة أو مقبولة على‬ ‫باالهتمام الذي تستح ّقه بوصفها ّ‬ ‫األقل لكتابة التاريخ ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫(‪)5‬‬

‫عملياً االسماء ‪ ،‬أسماء‬ ‫نعني بهذه ّ‬ ‫األو ّلية المنكورة ّ‬ ‫المادة ّ‬


‫‪11‬‬

‫افية ‪،‬‬ ‫افية والطوبوغر ّ‬ ‫األشخاص والجماعات‪ ،‬وأسماء المواقع الجغر ّ‬ ‫يخية ‪.‬‬ ‫بالنظر لِما قد يكون فيها من دالالت تار ّ‬

‫مبدئيًا ابتغاء‬ ‫ال إنما توضع‬ ‫أن هذه االسماء إجما ً‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ّ‬ ‫أن اختيارها يخضع‬ ‫تمييز موضوعاتها بعضها عن بعض ‪ .‬بيـد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫العتبار ٍ‬ ‫السائدة ‪ ،‬أو من الحالة‬ ‫ات ّ‬ ‫ثقافية كامنة ‪ ،‬آتية من الثقافة ّ‬ ‫التاريخية التي كانت عليه موضوعاتها آن وضع تلك االسماء ‪.‬‬ ‫الناس‬ ‫األولية منها‪ .‬لتغدو أوعي ًة يودع فيها‬ ‫وبذلك تتجاوز الغاية‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫هويتهم أو‬ ‫جانبًا أوعنص ًار أو أكثر من جوانب أو عناصر ّ‬ ‫تاريخهم ‪ .‬ستظهر قيمتُها بعد أن تضيع هذه أو تُنسى ‪ ،‬وال يبقى‬ ‫منها إال ما هو مودعٌ في بعض هاتيك االسماء ‪.‬‬ ‫لمؤرخ‬ ‫هو ذا ما قد يمنحها فيما بعد قيمةً خاصةً لدى ا ّ‬

‫اإلنساني ‪.‬‬

‫(‪)6‬‬

‫أن هذا البحث ما هو إال نتيجةٌ لِما تراكم لدينا‬ ‫والحقيقة ّ‬ ‫جم ٍة في هذا النطاق ‪ .‬ولطالما وصلنا عبر أسماء‬ ‫من تجاريب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫افية‬ ‫بعض البشر أفراداً وجماعات‪ ،‬أو أسماء بعض المواقع الجغر ّ‬ ‫والطوبوغرافية إلى نتائج تأريخية طريفة ‪ ،‬ماكان يمكن أن ن ِ‬ ‫صل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫إليها ع ـن أي طري ٍق آخـر ‪ ،‬لالفتقـار إلى النصـوص التي تتج ـه‬


‫‪11‬‬

‫وسنقف عليها أدناه ‪.‬‬ ‫مباشرةً إلى إشكالية البحث الذي نعالجه ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سجلوا‬ ‫عناية أو‬ ‫غالبًا ألنها لم ت ُكن موضع‬ ‫مالحظة من الذين ّ‬ ‫لطوية ‪ .‬وبذلك يبتعد مساف ًة‬ ‫الس ّ‬ ‫تاريخنا‪ ،‬الذي تغلُ ُ‬ ‫ب عليه الصفة ُ‬

‫اإلنسانية ‪ ،‬التي منها تلك االس ـماء وما ق ـد‬ ‫مناسبةً ع ـن الصفة‬ ‫ّ‬ ‫يكون فيها من دالالت ‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫اء كانت للبشر أفرادًا وجماعات ‪ ،‬أم‬ ‫إن االسماء‪ ،‬سو ٌ‬ ‫خصوصية‬ ‫خصوصي ٌة بشرّي ٌة قادمةٌ من‬ ‫لألماكن والمواقع ‪ ،‬هي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ياضيات) بهذا االنسان‪( ،‬أوالد آدم) بحسب‬ ‫اللغة (ومن ضمنها الر ّ‬ ‫المسماة (‪)homosapiens‬‬ ‫االنثروبولوجيا‬ ‫ّ‬ ‫اإليمانية ‪ ،‬واألُخرى ُ‬ ‫كل مانعرفه من‬ ‫لمية‪ ،‬دون ّ‬ ‫بحسب االنثروبولوجيا الموصوفة بـ العـ ّ‬ ‫سميات‬ ‫مخلوقات ‪ .‬وجه‬ ‫ّ‬ ‫الم ّ‬ ‫المطلقة ّأنها تستحضر ُ‬ ‫أهميتها ُ‬ ‫ٍ‬ ‫حاجة إلى حضورها أو استحضارها‬ ‫استحضا ًار رمزّيًا ‪ ،‬أي دونما‬ ‫أهميتها‬ ‫موضوعياً ‪ّ .‬‬ ‫لكنها‪ ،‬باإلضافة إلى ذلك ‪ ،‬وذلك هو وجه ّ‬ ‫ّ‬ ‫عندنا اآلن ‪ ،‬أوعيةٌ يودع فيها الناس عفوًا ودون قصد جانبًا من‬

‫يخية ‪.‬‬ ‫خصوصيتهم‬ ‫الثقافية ‪ ،‬أو ملمحاً من مالمح حالتهم التار ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فنحن حين نسمع اسم أي إنسان‪ ،‬فإننا ق ــد نعـرف عفوًا‬

‫خصوصياته ‪ :‬منبتـه‪ ،‬أي البيئـة الثق ـافي ـة أو الجغ ـرافـّي ـة أو‬ ‫بعـض‬ ‫ّ‬


‫‪12‬‬

‫االجتماعية التي ينتمي إليها ‪ ،‬من حيث النسب أو اللغة أو الدين‬ ‫والمذهب ‪ . .‬الخ ‪ .‬وكلما كانت معلوماتنا بأحد هذه الشؤون‬

‫أغنى‪ ،‬كانت استفادتنا من االسماء أوسع وأوفى د ّقـ ًة وكفاي ًة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ال ‪ ،‬عبد‬ ‫فإن نحن عـرفنا من‬ ‫أن اسمه ‪ ،‬مث ً‬ ‫شخص ّ‬ ‫فإننا فسنعرف عـفـوًا ‪ ،‬على نحو الترجيح القـوي ‪ ،‬أنه‬ ‫الحسين ‪ّ ،‬‬ ‫مسلم‬ ‫شيعي‪ .‬واذا كان اسمه عبد القادر فهو على األرجح‬ ‫مسلم‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫فإن األرجح أنه مسيحي كاثوليكي‪،‬‬ ‫ُسّن ّي ‪ .‬واذا كان اسـمه ّ‬ ‫حنـا‪ّ ،‬‬ ‫وأنطوان مسيحي أرثوذكسي‪ ،‬وهكذا‪ .‬واألمثال على ذلك التتناهى‪،‬‬

‫داع إليراد‬ ‫اء في أسماء البشر أم في أسماء المواقع ‪ .‬وما من ٍ‬ ‫سو ٌ‬ ‫يخص المواقع واألماكن‪ ،‬اعتمادًا على ما‬ ‫ُّ‬ ‫المزيد من األمثال فيما‬ ‫سنأتي عليه منها في عـمود البحث اآلتي ‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫القوية بين أسماء‬ ‫ّ‬ ‫ولعل من أطرف الشواهد على العالقة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫العملية ‪ ،‬ماقــد الحظناه من‬ ‫جانب من مواصفاتهم‬ ‫البشر وبين‬ ‫ّ‬ ‫اختالف ِّ‬ ‫الملحقـ ـة بأسماء االشخاص فـي منطقـتـين‬ ‫النسـب ُ‬

‫الفارسية (إيران ‪ ،‬بلدان‬ ‫ثـقـافـّيـتـيـن عـريقـتـيــن‪ .‬هما المنطقة الثقافية‬ ‫ّ‬ ‫القارة‬ ‫آسية الوسطى‪ ،‬آذربايجان‪ ،‬المناطق اإلسالمية من شبه ّ‬ ‫الشامية ‪.‬‬ ‫الهندية ) والمنطقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫‪13‬‬

‫تغلب عليها نسب ُة‬ ‫أن األُولى منهما‬ ‫ذلك أننا الحظنا ّ‬ ‫ُ‬ ‫سمون أو نشأوا أو‬ ‫الم َّ‬ ‫االشخاص واألُسرات إلى البلدان التي ُولد ُ‬

‫عاشوا فيها ‪ :‬قُ ّمي ‪ ،‬طهراني ‪ ،‬قزويني ‪ ،‬تبريزي ‪ ،‬خويي ‪،‬‬ ‫أن من النادر أن‬ ‫لكهنوي ‪ ،‬هروي ‪ ،‬الهوري ‪ . . .‬الخ ‪ .‬بحيث ّ‬

‫تجد هناك من ُينسب إلى غيرها ‪.‬‬ ‫امية فالغالب عليها النسبة إلى ِ‬ ‫المهن ‪:‬‬ ‫أما المنطقة ال ّش ّ‬ ‫ّ‬ ‫لحام ‪ ،‬صابونجي ‪ ،‬قهوجي ‪،‬‬ ‫فحام ‪ّ ،‬‬ ‫نجار ‪ ،‬حداد ‪ ،‬صائغ ‪ّ ،‬‬ ‫ميقاتي ‪ ،‬طرابيشي ‪ ....‬الخ‪.‬‬

‫النسبة إلى البلدان قـد توج ـد في هذه ناد ًار جـدًا ‪ .‬هنا‬ ‫الحظنا أنها في هذه المنطقة خصوصاً ّإنما تـ ـ ُّ‬ ‫أن‬ ‫دل على ّ‬ ‫المنتقـلين إلى البلـد الذي يعيش فيه من بل ـ ٍد غيره‪.‬‬ ‫المنسوب من ُ‬ ‫فعنـدما ِ‬ ‫ال ‪ ،‬أُس ـرًة منسوب ًة إلى بعلبك‬ ‫نج ُـد في دمشق ‪ ،‬مث ً‬ ‫قويةٌ على األقـ ّل ‪ُّ ،‬‬ ‫تدل على‬ ‫(البعلبكي) ‪ .‬فهذه إمارةٌ قاطعةٌ ‪ ،‬أو ّ‬ ‫تحولت في الماضي إلى ُسكنى‬ ‫ّأنها‬ ‫ّ‬ ‫بعلبكية األصل ‪ .‬كانت قد ّ‬ ‫موطنها الحالي ‪.‬‬ ‫أهمي ٍة كبيرٍة للمـؤرخ‬ ‫هـ ـذه المالحظة ق ـد تكون أحياناً ذات ّ‬ ‫كانية‬ ‫الس ّ‬ ‫االنساني ‪ ،‬الذي من جملة اهتماماته رصد الحركات ُ‬

‫الحالية ‪ ،‬وعلى مادتها‬ ‫بين البلدان ‪ ،‬وتأثيرها على صورة المجتمع‬ ‫ّ‬


‫‪14‬‬

‫أن هـ ـذا القبيل‬ ‫التي كانت قد تش ّكلت في الماضي ‪ .‬ومن البيِّن ّ‬ ‫ٍ‬ ‫من ِّ‬ ‫ضمني ٍة لحركة‬ ‫سجيالت‬ ‫النسب وماشابهها قـد تنطوي على ت‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫انية ‪ .‬شرط أن تكون من ٍ‬ ‫حركة‬ ‫عبر عن‬ ‫حجم يصلح ألن ُي ّ‬ ‫ُس ّك ّ‬ ‫فردية صغيرة ‪ ،‬قد تكون خاضع ًة‬ ‫حقيقية ‪ ،‬أي ّأنها ليست حالةً ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫شخصية‬ ‫شخصي ٍة بحتة‪ .‬إن هي نفعت فبكتابة سيرٍة‬ ‫ألسباب‬ ‫ّ‬

‫لصاحبها عند اللزوم وليس أكثر ‪.‬‬

‫(‪)9‬‬

‫مهما ي ُكن ‪ ،‬فإن عـلينا ‪ ،‬مادمنا نبحـث عـن األس ـ ـرار‬

‫الخفي‬ ‫الخبيئة في بعض االسماء‪ ،‬أن نتساءل ‪ :‬ما هـو السـ ّر‬ ‫ّ‬ ‫الكامن وراء تلك الظاهرة بوجهيها ؟‬

‫الفارسي ة‬ ‫الثقافية‬ ‫ما هو السبب الذي جعل أهل المنطقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يؤثرون أو باألحرى يدرجون على االنتساب إلى بلدانهم ‪ .‬في‬ ‫الشاميون أو درجوا على االنتساب إلى مهنهم ؟‬ ‫حين آثر‬ ‫ّ‬ ‫في الجواب نقـول ‪:‬‬

‫أن األمر الجامع بين‬ ‫مما هو‬ ‫بغنى عن البيان ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الشامية ‪ ،‬والحاف ـز ال ـ ّداعـي‬ ‫المهنية‬ ‫البلدية‬ ‫الطريقـتـين ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفارسية و ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫عام ٍة ما ‪ ،‬بعد األوصاف‬ ‫لتذييل أسماء الناس إجما ً‬ ‫ال بصفة ّ‬ ‫ال ) ‪ّ ،‬إنما ه ـو الحاجة‬ ‫الشخصية الخاصة ( االسم واسم األب مث ً‬ ‫ّ‬


‫‪15‬‬

‫كل وجوه شبكة عالقاته‪،‬‬ ‫إلى التعريف تعـريفاً وافيًا بالشخص‪ ،‬في ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أدق بكثير‬ ‫تؤديه اليوم‬ ‫بنحو ّ‬ ‫أمني ٍة غالبًا ‪ .‬األمر الذي ّ‬ ‫ألسباب ّ‬

‫البطاقات‬ ‫قات المصارف ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ات السفر‪ ،‬بطا ُ‬ ‫وية ‪ ،‬جواز ُ‬ ‫ُ‬ ‫بطاقات الهُ ّ‬ ‫أحدنا اليوم عن حملها في‬ ‫المهنية ‪ . . .‬الخ ‪ .‬التي اليستغني ُ‬ ‫ّ‬ ‫حلّه وترحاله ‪.‬‬

‫ومن ذلك في تاريخنا القديم ‪ّ ،‬أنه كان من دأب أسالفنا‬ ‫األعراب ‪ ،‬حين يلتقي أحدهم بآخر اليعرفه ‪ ،‬أن ال يكتفي منه ‪،‬‬

‫يهتم بالدرجة األُولى بمعرفة اسمه الشخصي ‪،‬‬ ‫أو باألحرى قـد ال ّ‬ ‫بل يطلب منه ّأو ُل ‪ ،‬وقبل أي حديث ‪ ،‬أن ينتسب له بذكر اسم‬ ‫قبيلته ‪ .‬وعلى ضوء ما ق ـد يعـرفه كال االثنين من نسب صاحبه‬ ‫حيادية ‪ ،‬أو ِ‬ ‫حذرة ‪.‬‬ ‫ودّية ‪ ،‬أو‬ ‫تنبني العالقة بين االثنين ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪)11‬‬

‫أن الفارق الثقافي في هذا الشأن بين‬ ‫والذي يلوح لنا عفوًا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫سياسي في‬ ‫عامل فار ٍق‬ ‫االثنين الفارسي والشامي ّإنما يرجع إلى‬ ‫ّ‬

‫األساس ‪.‬‬

‫الشامية منهما كانت ‪ ،‬بعد انهيار الدولة‬ ‫ذلك أن المنطقة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫صفة مركزّية حاضرتها مدينة "دمشق"‪.‬‬ ‫اإلسالمية الجامعة ‪ ،‬ذات‬ ‫ّ‬ ‫فلم ي ُكـن ثمة من فائ ـ ٍ‬ ‫دة أو فار ٍ‬ ‫ق مفيـ ٍد بتعـريف الشخص ببلـ ـده ‪،‬‬ ‫ّ‬


‫‪16‬‬

‫كل أهلها سواء باالعتبار السياسي ـ ـ ـ ـ ـ االجتماعي‪ .‬في حين‬ ‫ألن ّ‬

‫صن ـفـ ٌة مهنيًا ‪:‬‬ ‫ويـ ـ ًة ‪ .‬األس ـواق ُم ّ‬ ‫كانت تنظيمات الس ـوق فيها ق ـ ـ ّ‬ ‫المناخلية ‪ ،‬سوق الهال ‪،‬‬ ‫الحدادين‪ ،‬سوق‬ ‫س ـ ـوق الصاغة ‪ ،‬سوق ّ‬ ‫ّ‬

‫السروج) ‪ . . .‬الخ‪ .‬كما التزال بعض‬ ‫السروجية (صانعي ُّ‬ ‫سوق‬ ‫ّ‬ ‫أسمائها في "دمشق" اليوم ‪ ،‬حتى بعد أن زالت مقتضياتها (مثاله‬

‫روجية) ‪ .‬بل وكان لكل سوق منها مرجعٌ مهني يحمل‬ ‫سوق ال ّس ّ‬ ‫افيةٌ مطلقةٌ على‬ ‫لقب (شيخ السوق) ‪ .‬له ُسلطةٌ‬ ‫مرجعيةٌ احتر ّ‬ ‫ّ‬ ‫أقرانه المهنيين ‪.‬‬ ‫فمن هنا كان تذييل اسم الشخص بذكر مهنته ينطوي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫سمى ‪ ،‬بل‬ ‫بالم ّ‬ ‫على تعريف ‪ ،‬أو على األقـ ـ ّل مقدمة تعريف كاف ُ‬ ‫محل‬ ‫وبمرجعيته حين اللزوم ‪ ،‬وبل قد يساعـد أيضاً على معرفة ّ‬ ‫ّ‬ ‫األمنية ‪.‬‬ ‫وكل هذه من اللوازم‬ ‫عمله ‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫الفارسية ‪ ،‬فكانت في الفترة‬ ‫أما في إيران ‪ ،‬قلب الثقافة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫الساسانية الجامعة ‪ ،‬تـفـتـق ـر إلى‬ ‫نفسها ‪ ،‬أي بعد انهيار الدولة‬ ‫ّ‬ ‫استمرت‬ ‫سياسيًا ‪ .‬بل مضت عليها فترةٌ طويلةٌ ‪،‬‬ ‫الصفة المركزّية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الهوية الجامعة انحدا ًار عنيفاً ‪،‬‬ ‫قروناً من الزمان ‪ ،‬انحدرت فيها‬ ‫ّ‬ ‫لتمنح محّلها إلى ال ُدول ـ ـ ـ ـ الم ُـدن ‪ .‬حيث ُّ‬ ‫كل مدينة كبيرة كانـت‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫السائـد فيها‪،‬‬ ‫حاضرة دول ـة قائمة بنفسها ‪ ،‬مـن حـيـث نظـام الحكم ّ‬


‫‪17‬‬

‫المتغـّلبة عليها وعلى نطاقها‪ .‬فكان االنتساب‬ ‫أو من حيث الدولة ُ‬

‫األقل تساعد على‬ ‫إلى المدينة وسيل ًة ممتازًة كافية ‪ ،‬أو على‬ ‫ّ‬ ‫سمى‪ .‬بل وسرى هـ ـذا التقلي ـد حيثما وصلت الثقافة‬ ‫بالم ّ‬ ‫التعريف ُ‬ ‫الفارسية من ثالث جهاتها‪( :‬آذربايجان ‪ ،‬آسية الوسطى ‪ /‬ما‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمية من الهند ) ربما على سبيل تقليد‬ ‫وراء النهر‪ ،‬المناطق‬ ‫ّ‬ ‫بمعنى أو بغيره من معاني الغلبة‪ .‬ثم استمر ذلك في‬ ‫الغالب ‪،‬‬ ‫ً‬

‫ثقافيًا ‪ ،‬حتى بعد أن زالت‬ ‫المتأثّرة بها‬ ‫ّ‬ ‫"إيران" وفي المناطق ُ‬ ‫وية‪،‬‬ ‫مقتضياته‬ ‫الموضوعية في بلد المنشأ‪ ،‬منذ قيام النهضة الصفـ ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي أعادت توحيد"إيران" ‪ ،‬وألغت ُدول الطوائف‪ ،‬ومنحتها حكمًا‬ ‫سيد التاريخ ‪ .‬وكم‬ ‫مركزياً قويًا حتى اليوم ‪ .‬ألن االستمرار هو ّ‬ ‫لذلك من أمثال ‪.‬‬ ‫***‬

‫فذلك مثال ُسقناه أمام متن البحث ‪ ،‬برسم القارئ ‪ ،‬على‬ ‫العمالنية‬ ‫سبيل بيان قـ ّوة العالقة بين االسماء وبين المواصفات‬ ‫ّ‬ ‫لذواتها ‪ .‬تحضي ًار لذهن القارئ اللبيب للدخول في عمود ٍ‬ ‫بحث‬

‫ُّ‬ ‫نظن أنه غير مسبوق ‪ .‬وقديما قيل ‪ :‬الناس أصحاب ما عـرفوه‬

‫وألفوه وأعداء ماجهلوه ‪.‬‬

‫ـر ما‪ .‬قد يكون هـّينًا‬ ‫والحقيقة أن ما من اسـٍم إال ُيخفي س ـ ًّا‬


‫‪18‬‬

‫ولكنه دائماً يحكي جانباً من‬ ‫الشأن له ‪ ،‬كما قد يكون جليالً ‪ّ .‬‬

‫ثقافة من اختاروه دون غيره ‪ ،‬أو جزءًا من تاريخهم ‪ ،‬أودعوه‬ ‫الدائرة بينهم ‪.‬‬ ‫عفوًا وبكامل‬ ‫التلقائية في األسماء ّ‬ ‫ّ‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬


‫‪19‬‬

‫الفصل األول‬ ‫" أبي" ال ُكنية الفـريدة‬ ‫(‪)1‬‬ ‫مما يتبادله الناس اليوم في مخاطباتهم‬ ‫ال ُكنية ( أبو‪ّ ). . .‬‬ ‫عادة من كلمة "أبو "‬ ‫التودد ‪ .‬وهي تترّكب‬ ‫على سبيل التحبُّب و ّ‬ ‫ً‬

‫ُمضاف ًة إلى اسم ابن المخاطب البكر‪ .‬هكذا فعندما ُنخاطب‬ ‫شخصًا بكنيته فهذا ي ِ‬ ‫لم ُح ضمناً إلى أننا نعـرفه ونعرف عنه ما‬ ‫ُ‬ ‫خصوصياته األُسرّية التي‬ ‫يكفي ‪ .‬كما ونعرف خصوصاً من‬ ‫ّ‬

‫التُحتشم أسم أكبر أبنائه ‪ .‬بخالف اللقب الذي يأتي للتعظيم أو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مناسب‬ ‫موقف‬ ‫لعكسه ‪ .‬واستعماله في المخاطبات ينطوي على‬ ‫للقب من الشخص المخاطب ‪.‬‬ ‫وال ُكنية بـ ( أبو ) الشائعة في أسماء األُسرات هي من‬ ‫الشامية ‪" /‬الشام" ‪ ،‬شائعةٌ جداً فيها‪ .‬يبدو‬ ‫خصوصيات المنطقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫لشخص‪ ،‬ثم ّأنها قد تسري وتبقى من بعده في‬ ‫أن أصلها كنيةٌ‬ ‫ّ‬ ‫ال بعد جيل ‪ .‬وهي تُعام ُل عندهم ُمعاملة المبني على‬ ‫نسله جي ً‬ ‫الضم دائمًا ‪ ( :‬أبو ) ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫(‪)2‬‬

‫موضع المالحظة هنا ‪ ،‬أن منطقة "جبل لبنان الشمالي"‬


‫‪21‬‬

‫امية إجماالً ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫حص ًار‬ ‫تختص ‪ ،‬من بين ّ‬ ‫كل أنحاء المنطقة ال ّش ّ‬ ‫بأن الجزء األول من الكنية (أبـ ‪ ). . .‬تُعامل أيضًا فيها معاملة‬ ‫ّ‬ ‫نجد‬ ‫المبني ‪ ،‬ولكن غالبًا جدًا على الكسـر( أبي ) ‪ .‬بحيث أننا ُ‬ ‫فيها مئات األُسرات التي تحمل في اسمها كلمة (أبي) ‪ُ ،‬مضاف ًة‬

‫إلى اسم شخص‪.‬‬

‫لكننا ماإن نعبر الطريق القديم ‪ ،‬الفاصل بين "جبل‬

‫لبنان الشمالي" وبين "جبل لبنان الجنوبي" ‪ ،‬المعروف قديمًا‬

‫وحديثًا باسم "طريق الشام" ‪ ،‬فإننا لن نجد هذه الـ (أبي) إال ناد ًار‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫فالمالحظة هنا من شقـّين ‪:‬‬ ‫إذن ُ‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ األول ‪ :‬كثرة الكنى كثرةً فاحشةً في أسماء األُسرات‬

‫الشامي ة‬ ‫لكل مانعرفه من المنطقة‬ ‫في "جبل لبنان الشمالي"‪ .‬خالفًا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال‪ ،‬التي تشيع فيها النسبة إلى ِ‬ ‫المهن ‪.‬‬ ‫إجما ً‬

‫ـ ـ ـ ـ الثاني ‪ :‬أن هذه ال ُكنى في أسماء األُسرات فيها تأتي‬

‫غالباً جداً بصيغة ( أبي ‪.) . . .‬‬

‫لكننا قد نجد كلمة ( أبي ) ناد اًر جداً أيضاً في غير‬ ‫ّ‬ ‫"جبل لبنان الشمالي"‪ .‬مثال ذلك أُسرة ( أبي رعد ) ‪ ،‬التي نجـ ُدها‬ ‫في بل ـدة " بـزيـ از "مـن قضاء "الكورة" في الشـمال ‪ ،‬وأيضًا فـي بل ـدة‬


‫‪21‬‬

‫نجدها في بلدة‬ ‫الساحلية الجنوبية‬ ‫الدامور"‬ ‫" ّ‬ ‫مسيحيتـين ‪ ،‬لكننا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شيعية ‪.‬‬ ‫"شمسطار" في "سه ـل البقاع"‬ ‫ّ‬

‫ومنها أيضًا أُسرة (أبي راشد) التي نجدها في بلدة‬ ‫"بجدرِفل" بقضاء "البترون" الشمالي ‪ ،‬وأيضًا في بلدة " ِبسري"‬

‫جزين" في "جبل عامل" ‪.‬‬ ‫بقضاء " ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حاالت ُمشابهة ‪ .‬ومع ذلك ‪،‬‬ ‫وبمز ٍيد من البحث قـد نجـ ُد‬ ‫جدا بالقياس إلى المئات المنسوبين‬ ‫فإن هذه الحالة تبقى نادرةً ّ‬

‫إلى ( أبي ‪ ) . . .‬في "جبل لبنان الشمالي" ‪ .‬لذلك فإنه ما من‬ ‫فائدة من البحث عـن ٍ‬ ‫إضافية ‪.‬‬ ‫أمثلة‬ ‫ّ‬ ‫(‪)4‬‬

‫وتفسير تينك الحالتين الشاذتين سه ٌل جدًا ‪ .‬وذلك‬

‫ال من "الكورة" و"البترون" ‪ ،‬نزحتا‬ ‫أن األُسرتين هما أص ً‬ ‫بافتراض ّ‬ ‫كانية بين أنحاء ما‬ ‫إلى منطقتي " ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫جزين" و"البقاع"‪ .‬والحركة ُ‬ ‫نفية غالبًا‪.‬‬ ‫الع ّ‬ ‫أمر معروف ‪ ،‬له أسبابه ُ‬ ‫هو اليوم لبنان السياسي ٌ‬ ‫تحول النازحون إلى ما يتناسب مع الوعاء‬ ‫حيث سرعان ما قد ي ّ‬

‫مثال على‬ ‫الديني لوطنهم الجديد ‪.‬‬ ‫ولعل أنموذج أُسرة أبي رعد ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ‪.‬‬ ‫بهذا البيان ِ‬ ‫إشكالية البحث بالسؤال التالي ‪:‬‬ ‫نص ُل إلى تحديد‬ ‫ّ‬


‫‪22‬‬

‫الخصوصية العجيبة ؟‬ ‫الس ـ ّر الكامن في هذه‬ ‫ّ‬ ‫ما هو ّ‬ ‫نجد كلمة ( أبي ) غالب ًة في أسماء األُسرات إال‬ ‫لماذا لسـنا‬ ‫ُ‬

‫في "جبل لبنان الشمالي" ؟‬

‫(‪)5‬‬ ‫خبيء ‪ ،‬وال ريب في ذلك عندنا ‪ ،‬في التاريخ‬ ‫الجواب‬ ‫ٌ‬ ‫كانية الجذرّية التي‬ ‫الخاص للمنطقة ‪ ،‬وبالتحديد في‬ ‫ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫التبدالت ُ‬

‫خضعت لها المنطقة غير ّ ٍ‬ ‫مرة في ماضيها البعيد واألقرب ‪ .‬فنقـلتها‬ ‫حال إلى ٍ‬ ‫مرةً بعد مرة من ٍ‬ ‫حال غيره ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سكاني ُمماثلة ‪،‬‬ ‫تبدل‬ ‫فمن المعلوم ‪ ،‬أوالً‪ ،‬وكما في ّ‬ ‫كل حالة ّ‬ ‫ّ‬ ‫التبدل) ال تضيع نها ّئياً من صفحة الجماعة ‪ ،‬بل‬ ‫أن بصماته ‪( :‬أي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بهيئة أو بغيرها‪ .‬حيث سيكون على المؤرخ االنساني‬ ‫تبقى‪ ،‬وان ُمتن ّكرة‬ ‫الداللي المناسب ‪.‬‬ ‫الحاذق أن يقرأها ‪ ،‬ثـم أن يضعها في موضعها ّ‬ ‫كانية المتوالية ‪،‬‬ ‫فإن علينا أن ُنلِـ ـ ـ ّم بتل ـك ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫من هنا ّ‬ ‫التبدالت ُ‬ ‫لثقتنا بأننا س ِ‬ ‫إشكالية البحث ‪.‬‬ ‫حل‬ ‫نج ـد بينها ما سوف يهدينا إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫التبدالت ‪:‬‬ ‫وعليه نق ـول على سبيل تحقيب تلك ّ‬ ‫(‪)6‬‬

‫إن هذه المنطقة " جبل لبنان الشمالي " كان ـت ‪،‬‬ ‫‪ 1‬ـــــ ّ‬ ‫قـبـل إدخالهـا في "دار اإلسـالم" بالـفـتح ‪ ،‬عـلى حالـ ٍة ممت ـا ٍزة م ـن‬


‫‪23‬‬

‫الساحلي ـة منهـ ـا ‪ ،‬ح ـيث ظهـ ـرت‬ ‫االزده ـار ‪ .‬خصوصاً المنطق ـ ـة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حرف‬ ‫المثّلثة ‪ ، Tripolis‬التي تُعرف اليوم باسم ُم ّ‬ ‫المدينة ُ‬ ‫"طرابلس" ‪ ،‬ومدينة ‪ُ " Biblos‬جبيل" اليوم ‪ ،‬التي تُع ّد من أقدم‬

‫ات حضارّية ‪،‬‬ ‫نسب إليها إنجاز ٌ‬ ‫الم ُدن المسكونة في العالم ‪ ،‬وتُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ى وبلدان‬ ‫صفة‬ ‫بعضها ذا‬ ‫بات‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عالمية فيما ُيقال ‪ .‬إلى جانب قُ ـر ً‬

‫المسامتة ‪.‬‬ ‫كثيرٍة منتشرٍة على الساحل والهضاب ُ‬ ‫أدى ‪ ،‬تدريجًا أحيانًا ‪ ،‬إلى‬ ‫أن الفتح اإلسالمي ّ‬ ‫‪ 2‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ ثم ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ومية‬ ‫الر ّ‬ ‫حالة هروب جماعي لسكانها األصيلين باتجاه المنطقة ّ‬ ‫لكن‬ ‫البر الشامي إجماالً‪ّ .‬‬ ‫عامة أنحاء ّ‬ ‫المجاورة ‪ .‬شهدنا مثلها في ّ‬ ‫ُ‬ ‫السـفُـن‪،‬‬ ‫سكان منطقة "لبنان"الجبل وساحله لجأوا في ُهـروبهم إلى ُ‬ ‫الرومية القريبة ‪ .‬مستفيدين من خبرتهم في‬ ‫قاصدين السواحل‬ ‫ّ‬

‫اإلبحار‪ ،‬التي كان الفاتحون يفـتقـرون إليها‪.‬‬

‫هكـذا خلـت المنطقة من السكان أو كادت ‪ ،‬بينما بقيت‬

‫المـ ُدن والقُـرى ) سالم ًة تماماً ‪ .‬األمـر ال ـذي‬ ‫معالمها‬ ‫ّ‬ ‫المادية ( ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل ماضيها‪ ،‬قطعًا‬ ‫انتهى إلى حالة قط ٍع تاريخي كاملة باتّـة مع ّ‬

‫ٍ‬ ‫مسار ومسرٍح تاريخي ‪،‬‬ ‫باب على‬ ‫أُنموذجيًا شامالً‪ .‬بحيث انغلق ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مختلف ع ـن سابقه كـ ّل‬ ‫مسار ومسرٍح‬ ‫باب آخر على‬ ‫لينفتح ٌ‬ ‫غائب لدى اللبنانويين ( ‪ ) libanist‬الذين‬ ‫االخت ـالف‪ .‬وذلك أم ـٌر‬ ‫ٌ‬


‫‪24‬‬

‫لم ينف ّكوا ع ـن العمل على االرتفـاع بت ـاريخ مشـ ـروعهم الس ـياس ـ ي‬

‫حضارّيًا إلى بعض الشعوب التي سبقت الفـتح اإلسالمي‪.‬‬

‫قلب "جبل لبنان الشمالي" ‪ ،‬أي‬ ‫في هذا السياق خال ُ‬ ‫ماهو اليوم قضائي "كسروان" و"جبيل" ‪ ،‬من السكان تماماً ‪.‬‬

‫اليعمره إال ُّ‬ ‫الزهاد وأهل العرفان ‪ .‬بحيث اتخذ منه شعراء‬ ‫الن ّساك و ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫خالصة‬ ‫لحياة‬ ‫البعد عن الخلق ‪ ،‬وطلبًا‬ ‫نسك و ُ‬ ‫التصوف رم ًاز للتّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫نجد آثاره في‬ ‫مما ال نزال ُ‬ ‫للعبادة ‪ ،‬مقطوعة العالئق بالخالئق ‪ّ .‬‬

‫صوفة ‪ ،‬من ابن الفارض إلى بهاء الدين العاملي ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أدبيات ُ‬ ‫المت ّ‬ ‫كاني ًة كبرى ‪ ،‬كانت قد خرجت من‬ ‫لكن هجرًة ُس ّ‬ ‫‪ 3‬ــــ ّ‬ ‫"الكوفة" حوالي السنة ‪ 51‬هـ‪ 671/‬م ‪ ،‬لتنـزل ‪ ،‬فيما نزلته ‪" ،‬جبل‬

‫الظنيين" في أقصى ش ـمال الجبل ‪ ،‬هي نفسها المعروفـة اليوم‬ ‫باسم " ِ‬ ‫الضّنّية" ‪ ،‬على الهضاب المواجهة لمدينة "طرابلس" من‬ ‫كاني ًة معاكس ًة باتجاه‬ ‫شرقيها ‪ ،‬ـ ـ ـ ـ هذه الهجرة بدأت حرك ًة ُس ّ‬ ‫ّ‬ ‫الهمدانية الكبرى (نسب ًة إلى شعب‬ ‫االمتالء ‪ .‬تلك هي الهجرة‬ ‫ّ‬

‫همدان اليماني الحضرمي) ‪ ،‬التي نزلت نواحي عـ ّدة من بالد‬ ‫الدمشقية ونواحي"بعلبك" ‪ .‬وكان‬ ‫"الشام"‪:‬مدينة "حمص"و"الغوطة"‬ ‫ّ‬ ‫منها من نزل منطقة البحث‪،‬أي "جبل لبنان الشمالي" ‪ .‬لتبدأ منها‬

‫سكانية متدحرجة ‪ .‬استول ـدت وما ت ـزال تاريخ ـًا‪،‬استم ـ ّر ُينتج‬ ‫حال ـةٌ‬ ‫ّ‬


‫‪25‬‬

‫فصلنا عليه الكالم تفصيالً في كتابنا‬ ‫مما ّ‬ ‫ويتفاع ـل حتى اليوم ‪ّ .‬‬

‫التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسوريّا ‪.‬‬

‫أن أُولئك الهمدانيين الحضارمة ما لبثوا أن‬ ‫‪ 4‬ـ ـ ـ ـ ـ ذلك ّ‬ ‫السالمة‬ ‫هبطوا من األعالي إلى مدينة "طرابلس" الخالية ‪ ،‬لكن ّ‬

‫ماديًا ‪ ،‬كغيرها من بلدان الساحل ‪ ،‬بعد أن ارتفع عنها التهديد‬ ‫قوية ‪ ،‬عطّلت تأثير‬ ‫الرومي البحري ‪ ،‬بنهوض بحرّي ٍة‬ ‫إسالمي ٍة ّ‬ ‫ّ‬

‫ومية ‪ .‬ومع الوقت نهضت المدينة بإمارة أُسرٍة من‬ ‫البحرّية ُّ‬ ‫الر ّ‬ ‫الطائيين (‪434‬ـ ـ ـ‪494‬هـ‪1142/‬‬ ‫عمار‬ ‫ّ‬ ‫األُمراء العلماء من بني ّ‬ ‫ـ ـ ـ‪1111‬م) ‪ .‬حيث باتت موطناً لجملة إنجاز ٍ‬ ‫ثقافية‬ ‫ات حضارّية ـ ـ ـ ـ ّ‬ ‫درة‬ ‫تنموية‪،‬‬ ‫سياسية‪،‬‬ ‫متكاملة (‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثقافية) ‪ .‬بحيث يمكن ُحسبانها ّ‬ ‫الزمان في ذلك األوان ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ ـ ـ ـ في آخرالقرن السادس هـ‪/‬أوائل القرن الثاني عشر م‬

‫جماعيًا ‪ ،‬فلجأوا بجموعهم‬ ‫الصليبيون أهل "طرابلس"‬ ‫الغزاةُ‬ ‫هجـر ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلى أقرب الجبال إليهم ‪ .‬وهكذا امتأل "جبل لبنان الشمالي"‬

‫بالسكان كما لم يمتلئ من قبل ‪ .‬حيث حاولوا إحياء ما قـصمته‬ ‫الس ّكاني الجديد‬ ‫الم ّ‬ ‫تغير ُ‬ ‫صروف الزمان ‪ .‬وفي هذا السياق من ُ‬ ‫دد من العلماء‬ ‫برز في نواحي"كسروان"و"جبيل" وماواالهما عـ ٌ‬

‫القلم‪،‬ممن يمكن اعتبارهم استم ار ًار لنهضة "طرابلس"‪.‬‬ ‫واألدباءوأهل‬ ‫ّ‬


‫‪26‬‬

‫‪ 6‬ـ ـ ـ ـ ف ـي أوائ ـل القـ ـرن الثام ـن هـ ‪ /‬الرابع عش ـر م ش ـ ـ ّن‬ ‫العسكر المملوكي‪ ،‬والذين تحالفوا معه‪ ،‬حمل ًة عسكرّي ًة هائل ًة على‬

‫أهل "كسروان" و"جبيل" ونطاقهما ‪ ،‬انتهت إلى تهجيـ ـر أكثــر‬ ‫الناجين من أه ـلهما إلى المناطق المجـاورة ش ـرقًا وجنوبـاً ‪ .‬ولم‬ ‫يب ـق منه ـم غـير باقـ ٍ‬ ‫نسبيًا ‪ ،‬منحتهم الدولة األمان بعد‬ ‫ية كبيرٍة ّ‬ ‫أن حال أمرهم وانكسرت شوكتهم ‪.‬‬

‫من بعد تقـّلبت االحوال بـ"جبل لبنان الشمالي"‪.‬فـسيطر‬

‫عليه التركمان فترًة قصيرة ‪ُ .‬ليغادروه سريعًا باتجاه المناطق‬ ‫الساحلّية الدافئة ‪ .‬وعلى األثر بدأت هجرةٌ واسعةٌ إليه من أعاليه‬ ‫ٍ‬ ‫مسيحية ‪ ،‬كانت قد لجأت في‬ ‫جماعات‬ ‫الشمالّية ‪ ،‬حاملةً‬ ‫ّ‬ ‫ستفيدة من‬ ‫الماضي إلى ماهو اليوم قضائي "زغـرتا" و "إهدن" ‪ُ .‬م‬ ‫ً‬ ‫السكاني التي نشأت بتأثير التهجير القسري ألهليه‬ ‫حالة الفراغ ُ‬

‫الشيعة الحضارمة األصل ‪.‬‬

‫(‪)7‬‬ ‫اني ة‬ ‫نفي‬ ‫المتحرك بدأت حالةٌ ُس ّك ّ‬ ‫في ختام هذا السياق ُ‬ ‫ّ‬ ‫الع ّ‬ ‫المسيحية تتكاثر بمز ٍيد من الهجرة إلى منطقتي‬ ‫جديدة‪ :‬الجماعات‬ ‫ّ‬

‫"كسروان" و "جبيل"‪ ،‬وطبعًا بالتكاثر الطبيعي أيضًا‪ .‬في حين أن‬

‫الس ـكان األصليين تتناقص ‪ ،‬بالتأثير العمالني‬ ‫البقيـة الباقـية مـن ُّ‬ ‫ّ‬


‫‪27‬‬

‫داد كبيرة من‬ ‫المتمادي لنكبتهم ‪ ،‬حيث سـقـطـت فيها أعـ ـ ٌ‬ ‫والمعنوي ُ‬ ‫الرجال‪ ،‬باإلضافة إلى الذين ُه ّجروا على أثر المعركة ‪ ،‬أو‬

‫بعد ‪ ،‬بتأثي ـر انهيار‬ ‫الذين اضطروا اضط ار اُر إلى الهجرة منهم ُ‬ ‫يتنصرون شيئًا فشيئًا ‪ .‬وهم‬ ‫وضعهم السياسي ـ ـ ـ ـ االجتماعي ‪ .‬أو‬ ‫ّ‬ ‫األكثر فيما ُّ‬ ‫تدل عليه الدالئل ‪ .‬ومع ذلك بقي الشيعة األكثر‬ ‫عدداً في الجبل حتى القـرن الثامن عشر الميالدي ‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫طات‬ ‫بعد هذا البيان الضافي‪ ،‬الذي وقفـنا فيه على المح ّ‬

‫السكانية الجذرّية في منطقة البحث ‪،‬‬ ‫التبدالت‬ ‫األساسية من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وحيث خضنا في تحو ٍ‬ ‫عميقة علقـت فيها بالتوالي أثناء ثماني‬ ‫الت‬ ‫ّ‬ ‫قرون من الزمان ‪ ،‬ـ ـ ـ بعد ذلك أظن أن القارئ اللبيب قد بات‬

‫إشكالية البحث‪ .‬فتبين له عّل ُة‬ ‫ال ألن يلمس مالمح ح ِّـل‬ ‫آه ً‬ ‫ّ‬ ‫انتشار"أبي" حص ًار بين أسماء األُسرات في "جبل لبنان الشمالي"‬ ‫دون غيرها ‪.‬‬

‫أن في قلب تلك‬ ‫ذلك ّأنه بات في وسعه أن يرى ‪ّ ،‬‬ ‫أساسياً لها ‪ ،‬أم حيث‬ ‫حركاً‬ ‫ّ‬ ‫المتوالية‪ ،‬سو ٌ‬ ‫اء حيث كانوا ُم ّ‬ ‫التحوالت ُ‬ ‫كانوا موضوعًا ألعمال ومساعي غيرهم ‪ ،‬ـ ـ ـ ـ في قلبها تلك‬

‫الحضرمية ‪ ،‬الـتي نزلت ُمب ّكـ ًار األعالي الشمالية لـ "جبل‬ ‫الجماعة‬ ‫ّ‬


‫‪28‬‬

‫المسامت للجبل قروناً‪ ،‬ثم‬ ‫لبنان الشمالي"‪ ،‬ثم عمرت ساحله ُ‬ ‫ِ‬ ‫متفرق ًة في أنحاء‬ ‫أُلجئت‬ ‫ً‬ ‫إلجاء إلى قلب الجبل نفسه‪ ،‬لتنتهي مزقًا ّ‬ ‫بقي ٍة غير ٍ‬ ‫قليلة منهم بقيت في‬ ‫ما هـ ـو اليوم "لبنان" السياسي‪ .‬مع ّ‬ ‫الجبل ‪.‬‬

‫كما ّأن ه ‪ ،‬بعد أن عرف أن في قلب التحوالت كافة تلك‬ ‫أن (أبي) الشائعة‬ ‫الجماعة‬ ‫الحضرمية ‪ ،‬بات في وسعه أن يرى ّ‬ ‫ّ‬ ‫في أسماء أُسرات الجبل نفسه ‪ ،‬التي ُمنحت األمان وبقيت في‬ ‫الحضرمية ‪،‬‬ ‫الجبل ‪ ،‬ليست إال ( أبا ) ‪ ،‬أو اختصا ًار ( با )‬ ‫ّ‬

‫الذائعة حتى اليوم في أسماء أُسرات "حضرموت" ‪ ،‬لكن بعـد أن‬

‫تكيفـ ـت مع مواصفات اللهجة المحّلّية ‪ ،‬التي تنحو إلى إمال ـة‬ ‫ّ‬ ‫ح ــرف األلف في النطق ‪ .‬وهي حركةٌ ال وجود لها في الفصيح ‪.‬‬ ‫فح ّـل‬ ‫ُ‬ ‫اليوم‬

‫المتفاصحة على ما هي عليه‬ ‫اإلشكال بكتبها في اللغة ُ‬ ‫‪ ،‬أي (أبي) ‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫ٍ‬ ‫هكذا ِ‬ ‫قوية من ش ّق ـين ‪:‬‬ ‫نص ُل إلى‬ ‫نتيجة واضحة ّ‬ ‫إن االتساق التام بين جغرافيا انتشار‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ال ّشـق األول ‪ّ :‬‬

‫يتمزق‬ ‫الحضرميين األخير في "جبل لبنان الشمالي" ‪ ،‬قبل أن ّ‬ ‫السكاني في مختلف أنحاء " لبنان" السياسي ‪ ،‬مع بق ـّيـ ٍة‬ ‫ُ‬ ‫نسيجهم ُ‬


‫‪29‬‬

‫ٍ‬ ‫كانية ‪ ،‬ـ ـ ـ ـ ـ‬ ‫كبيرٍة منهم ثبتت فيه ‪ ،‬مثلما يحصل في ّ‬ ‫كل حركة ُس ـ ّ‬ ‫وبين جغرافيا االنتشار الحصري لــكلمة (أبي) في أسماء األُسرات‬

‫جدًا على أن الظاهرتين كلتاهما‬ ‫قوي ّ‬ ‫في الجبل نفسه ‪ ،‬لدلي ٌل ّ‬ ‫يخي ٍة واحدة ‪ .‬ومؤ ّش ٌـر في غاية الجالء‬ ‫وجه ـان لجغرافيا ـ ـ ـ ـ تار ّ‬ ‫على أن من بقي منهم في الجبل لم ي ُكن بالقليل ‪ .‬بعد أن‬ ‫طمأنت إلى ّأنها قد كسرت شوكتهم ‪،‬‬ ‫منحتهم الدولة األمان ‪ ،‬وا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ولكنها‪ ،‬طبعًا ‪ ،‬لم تنتزع‬ ‫خشية‬ ‫ثمة من‬ ‫سياسيًا منهم ‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫ولم يبق ّ‬

‫خصوصيتهم باتخاذ (أبي) في أسماء اُسراتهم ‪.‬‬ ‫منهم‬ ‫ّ‬ ‫إن الكلمة (أبي) ‪ ،‬حيث تكون في اسم‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ ال ّش ّ‬ ‫ق الثاني‪ّ :‬‬

‫لدليل ال يقـ ُّل قـ ّـوةً على أصلها الهمداني الحضرمي ‪.‬‬ ‫األُسرة ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫(‪)11‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مغلوبة على أمرها ‪ ،‬بدأ‬ ‫جماعة‬ ‫وكما يكون حال كل‬ ‫أولئك الشيعة ‪ ،‬الحضرميوا األصل ‪ ،‬يتحولون شيئًا فشيئًا إلى‬

‫أن األسماء‬ ‫دين الغالب سكانيًا‪ .‬ومن اإلمارات الباقية من ذلك ‪ّ ،‬‬ ‫المسيحية الطّابع نادرةٌ جداً في األسرات التي تحمل في اسمها‬ ‫ّ‬ ‫طنوس) (أبي غنطوس)‬ ‫كلمة (أبي)‪ .‬أحصينا منها ُعجال ًة ‪( :‬أبي ّ‬

‫حنا) (أبي ضومط) )أبي أنطون( فقط ‪ .‬األمر الذي من‬ ‫(أبي ّ‬ ‫نجد‬ ‫الممكن تفسيره بسهولة ‪ ،‬فاألس ـماء ليست دائما ثابتة ‪ .‬بينما ُ‬


‫‪31‬‬

‫ال ‪ ،‬أُسرة ( أبي حيدر ) ‪ .‬وهو اسـ ٌم ذو مغزى غير‬ ‫بالمقابل ‪ ،‬مث ً‬ ‫ُ‬ ‫خفي ‪ُّ ،‬‬ ‫تحول إلى‬ ‫يدل على ُه ـويتها‬ ‫الدينية التار ّ‬ ‫ّ‬ ‫يخية ‪ .‬فرعٌ منها ّ‬ ‫ّ‬

‫ُسكنى قرية "طليا" في "سهل البقاع"‪ .‬يحمل اس ـم (أبو حيدر) ‪.‬‬ ‫فكأن (أبي) تأبى أن تستوطن غير "جبل لبنان الشمالي" ‪.‬‬ ‫الحيادية على األقل‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫وفي المقابل عشرات األسماء‬ ‫ّ‬ ‫أبي نعمة‪ ،‬أبي رزق‪ ،‬أبي سمرا‪ ،‬أبي ياغي‪ ،‬أبي موسى‪ ،‬أبي‬ ‫تامر‪ ،‬أبي شاهين‪ ،‬أبي سعد‪ ،‬أبي عبداهلل ‪ ،‬أبي خليل‪ ،‬أبي‬ ‫عيسى ‪ ،‬أبي سعد‪ ،‬أبي خليل‪ ،‬أبي راشد‪ ،‬أبي منصور‪ ،‬أبي‬ ‫نعمة‪ ،‬أبي نادر‪ ،‬أبي فاضل ‪...‬الخ الخ ‪ .‬وهي إجماالً عـر ّبيةٌ‬ ‫أصيلة ‪ ،‬أو شائعةٌ بين العـرب ‪ُّ .‬‬ ‫تدل على أصلها البعيد ‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫يستبعدن القارئُ ثبات (أبي) حيث هي على م ّـر‬ ‫وال‬ ‫ّ‬ ‫الدارجة اليوم في األقطار الع ـر ّبية من‬ ‫األزمان‪ .‬فكم في اللغات ّ‬ ‫كلمات ٍ‬ ‫ونية‬ ‫آتية من تاريخها البائ ـد البعيد ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫قبطية ‪ /‬فرعـ ّ‬ ‫كلمات ّ‬

‫الشرقية أو الغـر ّبية في "الشام "‬ ‫يانية‬ ‫ّ‬ ‫في "مصر"‪ ،‬وأُخرى من السر ّ‬ ‫امية واألشورّية الباقيتين‬ ‫و "العراق" ‪ .‬فض ً‬ ‫ال عن اللغتين اآلر ّ‬

‫محكيتين حتى اليوم في بعض ال ُق ـرى السورّية‪ .‬واألمثلة على ذلك‬ ‫ّ‬ ‫أهل االختصاص ‪.‬‬ ‫جيـدًا ويعمل عليها ُ‬ ‫كثيرة‪ .‬يعرفها ّ‬


‫‪31‬‬

‫الفصل الثاني‬ ‫أسماء غـير مألوفة ألُسرا في سهل البقاع‬ ‫( توطئة )‬ ‫ثمة ظاهرةٌ نادرةٌ في أسماء أُسر ٍ‬ ‫ات كثيرة تنتشر اليوم في‬ ‫أواسط "سهل البقاع" دون سواه ‪ ،‬حيث بلدان كثيرة أبرزها ‪:‬‬ ‫"شمسطار" "بيت شاما" "بدنايل" "تمنين الفوقا" "تمنين التحتا"‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وحيد ب ّأنه خارج السهل‪،‬‬ ‫استثناء‬ ‫"رياق" "علي النهري" ‪ .‬مع‬ ‫سنقف عليه في مطاوي البحث اآلتي ‪.‬‬

‫تلك الظاهرة هي ندرة النسبة إلى المهنة فيها ‪ ،‬مع ّأنها‬

‫مما‬ ‫األكثر في أسماء األُسرات بأنحاء بالد "الشام" ‪ ،‬كما عرفنا ّ‬

‫فات آنفاً ‪ .‬وفي المقابل كثرةٌ غير مألوفة وحصرّيةٌ في أسماء‬ ‫أُسراتها لِما هي في األصل من أسماء األفراد ‪( :‬حيدر) (حاج‬ ‫السيد قاسم) (الحاج دياب) (الحاج‬ ‫سليمان) (حيدر أحمد) ( ّ‬ ‫أحمد) (الحاج حسن) (ملحم) (منذر) (سلمان) (زين) (شحاده)‬ ‫(حسن قاسم) (علي حسن) (علي قاسم) (علي حسن) (علي‬ ‫جر‪.‬‬ ‫ابراهيم) وهلم ّا‬

‫السر الكامن وراء هذه‬ ‫ُبغيتنا في هذا البحث أن نكشف ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لسبب خاص ‪.‬‬ ‫يحصل بهذا النحو إال‬ ‫شيء‬ ‫الظاهرة ‪.‬أل ّن ما من‬ ‫ُ‬


‫‪32‬‬

‫(‪)1‬‬ ‫عادية باعـتبارين ‪:‬‬ ‫هذه ظاهرةٌ غير ّ‬ ‫بخلوها تمامـ ـًا من النسبة إلى المهنة ‪ ،‬مع ّأنه ـا‬ ‫األول‪ّ :‬‬ ‫ــــ ّ‬ ‫الشامية إجماالً ‪.‬‬ ‫هي الغالبة عـلى أس ـماء األُسـ ـرات في المنطقـة‬ ‫ّ‬ ‫أسماء‬ ‫ال من‬ ‫بأن األسرات تحمل ما هو أص ً‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ الثاني‪ّ :‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫لكننا هنا‬ ‫ألفراد ‪ .‬األمر الذي قد يحصل حيناً‬ ‫لسبب أو غيره ‪ّ .‬‬

‫عامة ‪ ،‬لسنا نعرف لها مثيال في‬ ‫عامة أو شبه ّ‬ ‫أمام ظاهرة ّ‬ ‫حددة بد ّقة ‪( :‬علي‬ ‫مناطق أخرى ‪ ،‬خصوصًا أنها تحمل أسماء ُم ّ‬

‫السيد قاسم) (حسن قاسم) ‪ . .‬الخ ‪،‬‬ ‫حسن) (علي إبراهيم) ( ّ‬ ‫األمر الذي ُّ‬ ‫يدل على ّأنها بأصلها كانت أسماء أفراد ‪ .‬مامن ريب‬ ‫في أن الظاهرة ترجع إلى ٍ‬ ‫سبب ما ‪ .‬ثم ما من ريب أيضاً في أن‬

‫الخاص ألهل المنطقة‪.‬األمرالذي‬ ‫كامن في التاريخ‬ ‫السبب المكتوم‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫يدعو المؤرخ اإلنساني إلى أن يبحث عن خبيئها حيث كامنة ‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬ ‫الوقوف عنده من عناصر تاريخها ‪ ،‬بل‬ ‫و ّأول ما يجب ُ‬ ‫أن المنطقة التي باتت من بع ـد‬ ‫هو باألحرى عندنا مفتاحه ‪ّ ،‬‬ ‫منازل تلك األُسرات ( ع ـدا بلـدة "شمسطار" في السفح الشرقي‬ ‫ٍ‬ ‫السـهـل من جنوبه‬ ‫لجبل "لبنان" ‪ ،‬باإلضافة إلى بلدة أُخرى خارج ّ‬


‫‪33‬‬

‫اسمها"جديدة يابوس"‪ ،‬باتت اليوم من بلدان"الجمهورّية السورّية" ‪،‬‬ ‫لكن أهـلها هم من أُس ـرة (حيدر أحمد) الشـيعة اللبنانيي الجنسية )‬ ‫ّ‬

‫قبل ‪ ،‬منذ قديم األزمان ‪ُ ،‬بحيرةً واسع ًة‬ ‫ـ ـ ـ ـ تلك المنطق ـة كانت من ُ‬ ‫‪ ،‬تمتـ ـ ُّد غـرباً من ُبعيد مدينة "بعلبك" شرق السهل ‪ ،‬إلى منطقة‬ ‫الجر" في جنوبه ‪،‬‬ ‫عميق" في غـربه ‪ ،‬وبل ـدة "عنجر" ‪" /‬عين ُ‬ ‫" ّ‬ ‫أن صحن "سهل البقاع" كلّ ه‬ ‫وسفوح جبل "لبنان" في شماله ‪ .‬أي ّ‬

‫كثر فيها األقصاب‬ ‫كان منطق ًة واسع ًة غامرًة خالي ًة من السكان ‪ ،‬ت ُ‬ ‫صر وبعض‬ ‫‪ /‬منابت القصب ‪ ،‬التي ُيستفاد منها في نسج ُ‬ ‫الح ُ‬ ‫األواني المنز ّلية وما إليها ‪ .‬وحتى ٍ‬ ‫وقت قريب كانت المهارات‬ ‫ذات العالقة بهذا االنتاج شائعةً بين رّبات البيوت في المنطقة ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫التغيير في صورة المنطقة بدأت بـأن أقدم الوالي في‬

‫"دمشق" ‪ /‬نائب السلطان المملوكي على ال ّشطر األسيوي من‬ ‫الحسامي (ولي‪:‬‬ ‫الـدولة‬ ‫ّ‬ ‫المملوكيـة ‪ ،‬األمير سيف الدين تنكـز ُ‬ ‫‪ 712‬ـ ـ ـ‪ 741‬هـ‪ 1312/‬ـ ـ ـ ـ ‪ )1341‬على استصالح البحيرة ‪ .‬بأن‬ ‫اشترى أراضيها من بيت المال ‪ ،‬ثم حف ـر فيها أنه ًار كثيرةً ترمي‬ ‫عمر قرايا‬ ‫إلى نهـر"الليطاني"‪،‬حتى ص ّفى الماء من أراضيها‪ .‬و" ُ‬

‫ماينيف عـلى عشرين قـرية‪ .‬وحصل للناس بذلـك نفع عـظيم" ‪.‬‬


‫‪34‬‬

‫بلداني المعاصر أبو الفدا في‬ ‫افي ‪ /‬ال‬ ‫ٌّ‬ ‫حد ما قال الجغر ٌّ‬ ‫على ّ‬ ‫عمر‬ ‫ومذ ذاك بدأ وسط السهل ي ُ‬ ‫كتابه الشهير (تقويم البلدان) ‪ُ .‬‬ ‫بسرعة بالقُرى والبلدان‪ .‬ومنها طبعًا تلك البلدان التي باتت من‬ ‫منازل تلك األُسرات ‪ ،‬ذات األسماء التي رأينا فيها تلك الظاهرة‬

‫التي استحثّت الباحث ابتغاء تفسيرها ‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫هذه القطعة ـ ـ ـ ـ المفتاح من تاريخ المنطقة البعيد تطرح‬ ‫سؤالين ‪:‬‬ ‫الدفق السكاني الكبير الذي‬ ‫ـ ـ ـ ـ األول ‪ :‬من أين أتى ذلك ّ‬ ‫مصر وعمر بسرعة بالناس تلك المجموعة الجديدة من القُرى‬ ‫ّ‬ ‫ذات العدد ؟‬ ‫ترض في صيغة هذا السؤال أنه ّإنما "أتى"‬ ‫ونحن نفـ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫أن‬ ‫لسبب‬ ‫إتيانًا إلى المنطقة ‪ ،‬يعني من خارجها‪،‬‬ ‫موضوعي هو ّ‬ ‫ّ‬

‫التكاثر السكاني الطبيعي‪ ،‬الذي هو حصيلة زيادة نسبة المواليد‬

‫المادة‬ ‫على الوفيات‪ ،‬لم ي ُكن آنذاك بالحجم الذي يكفي لظهور‬ ‫ّ‬

‫البشرّية ‪ ،‬التي أنشأت وعمرت تلك المجموعة العديدة من القرى‬ ‫في الزمن القصير ‪.‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ الثاني‪ :‬وبالتّبع ‪ ،‬ماهي عـّلة تلك الظاهـ ـرة ال ّشـ ـا ّذة‬ ‫غ ـي ـر المألوفة في أسماء أُسراتها ‪.‬‬


‫‪35‬‬

‫(‪)5‬‬ ‫في الجواب نقول ‪:‬‬

‫ما من ر ٍ‬ ‫ظاهرتين‬ ‫يب عندنا في أن السبب في كلتا ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كانية كبيرة ‪ ،‬حصلت في الزمان والمكان‬ ‫إنما يرجعُ إلى‬ ‫حركة ُس ّ‬ ‫المناسبين ‪ .‬بحيث قادت إلى نتيجتين ُمتالزمتين ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫مجموعة كبيرٍة من البشر‬ ‫ـ ـ ـ ـ األُولى ‪ :‬هجرٍة جماعـّي ٍة ل‬ ‫من وطنهم األصلي ‪ ،‬ومن ثـ ّـم نزولهم منطقة البحث دون سواها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نمط ٍّ‬ ‫البات‬ ‫حاد من القطع التاريخي‬ ‫ـ ـ ـ ـ الثانية ‪:‬‬ ‫ّ‬

‫االجتماعية التي كانت قائم ًة في أوطانهم‬ ‫البنى‬ ‫ّ‬ ‫للمهاجرين مع ُ‬ ‫نى‬ ‫ّ‬ ‫األصلية ‪ ،‬نال ُ‬ ‫البنية األُسرّية الجامعة ‪ .‬واستلزم ظهور ُب ً‬ ‫اجتماعية بديلة ‪ .‬نقرأها اليوم في تلك المجموعة من االسماء‬

‫ٍ‬ ‫سبيل‬ ‫الحاد ‪ ،‬ما من‬ ‫غير المألوفة ‪ .‬بدون فرض ذلك القطع‬ ‫ّ‬ ‫إلى ُحدوث تلك الظاهرة الغـريبة ‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫أن قطع البشر مع الوطن‪/‬‬ ‫أن من المعلوم للعارف ّ‬ ‫ذلك ّ‬ ‫االجتماعية‬ ‫وبناهم‬ ‫ّ‬ ‫بالقوة نفسها مع تاريخهم ُ‬ ‫األرض‪ ،‬هو قطعٌ ّ‬

‫ٍ‬ ‫ضمون اجتماعي وسياسي ‪ ،‬بل حتى‬ ‫الخاصة ‪ ،‬بما فيها من م‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي أحيانًا أو جـز ّئيًا ‪ .‬فاألرض ـ ـ ـ ـ الوطن هي الوعاء التاريخي‬


‫‪36‬‬

‫ٍ‬ ‫جماعة بشرّية ‪ .‬ما أن ينكفئ الوعاء ‪ ،‬بالقطع مع‬ ‫ألي‬ ‫الخاص ّ‬ ‫ّ‬ ‫الوطن ـ ـ ـ ـ األرض ‪ ،‬حتى يندلق ما فيه ‪ ،‬ويخسر صفته وطاقته‬

‫الجامعة ‪.‬‬

‫(‪)7‬‬ ‫أن القارئ العارف اللبيب‪ ،‬الذي رافقنا في الفصل‬ ‫أظن ّ‬ ‫ّ‬ ‫سيتحرك ذهنه فـو اًر باتجاه اجتياح منطقتي "كسروان"‬ ‫السابق ‪،‬‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫تقتيل‬ ‫و"جبيل" المجاورتين وما واالهما ‪ ،‬وما أودى إليه من‬ ‫ٍ‬ ‫وتهجير واسعين ‪ ،‬نال القسم األكبر من سكانهما ‪ .‬ذلك الحدث‬ ‫الذي بدأت فصوله تتوالى منذ السنة‬

‫‪715‬ه ـ‪1315/‬م ‪،‬‬

‫ال في السنة ‪712‬هـ ‪1312/‬م بالهزيمة الكاملة‬ ‫استتمت فصو ً‬ ‫و ّ‬ ‫ٍ‬ ‫اهية التي نالت‬ ‫مقاومة‬ ‫ألهليه بعد‬ ‫بطولية ‪ ،‬ومن ثـ ّـم بالهجرة اإلكر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الناجين منهم ‪ .‬أي في السنة نفسها التي ولي فيها األمير تنكز‬ ‫منصب نائب السلطان‪/‬الكافل على القسم األسيوي من الدولة في‬

‫"دمشق" ‪ .‬ومن ث ّـم تدفُّق المهاجرين من المنطقة التي أصابها‬ ‫االجتياح ‪ .‬حيث نال "سهل البقاع" النصيب األكبر منهم كما‬ ‫األمير تنكز مشروعه التنموي ال ّذكي ـ ـ ـــ‬ ‫قُلنا آنفاً ‪ .‬وعلى األثر بدأ‬ ‫ُ‬ ‫السياسي (بالمعنى النبيل للكلمة) باستصالح وسط "سهل البقاع"‬ ‫كما عرفنا ‪ .‬ومن ث ّـم عمرانه السريع بعشـرين قـريـة دفع ًة واحدة أو‬


‫‪37‬‬

‫ب ٍ‬ ‫دفعات متقاربة‪ .‬مامن ر ٍ‬ ‫أن ُع ّمارها كانوا حص اًر ‪،‬‬ ‫يب عندنا في ّ‬ ‫ُ‬ ‫األقل غالبًا ‪ ،‬من الذين هبطوا "سهل البقاع" هاربين من‬ ‫وعلى‬ ‫ّ‬ ‫أهوال االجتياح الذي نزل بهم وبأوطانهم ‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬ ‫جدًا على ماأُثر‬ ‫يب ّ‬ ‫فلنالحظ أن ماأقدم عليه األمير غـر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫المملوكية‪ ،‬التي لم يؤثـر عن أُمرائها سوى البطش‬ ‫السلوكيات‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫اعية‪.‬‬ ‫واالستيالءال ّشره على الثروة ومصادرها‪،‬خصوصًااألرض الزر ّ‬ ‫البحيرة‬ ‫فلماذا أنفق تلك النفقات الكبيرة على شراء بقعة ُ‬ ‫الواسعة واستصالحها‪ ،‬ليضعها في خدمة الناس دون مقابل ؟‬

‫السؤال الذي يطرُح نفسه هنا ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫مختلف ٍ‬ ‫نادر من أنماط أُمراء‬ ‫ُنموذج‬ ‫هل نحن أمام أ‬ ‫ٍ‬

‫الحكم المملوكي‪ ،‬ميزتُها العقل السياسي بما ينفع الناس ؟‬ ‫هم ُة‬ ‫يخية ‪ ،‬التقت فيها ّ‬ ‫صدفة تار ّ‬ ‫أم هل نحن أمام ُ‬ ‫زمنيًا ّ‬ ‫األمير النبيل باستصالح المنطقة ‪ ،‬مع الهجرة الكبرى ألهل‬ ‫"كسروان" و "جبيل" ؟‬ ‫همته كانت يقظة ضمير عـلى الفظائع المهولة‬ ‫أم أن ّ‬ ‫بحق أُولئك الضحايا دون ٍ‬ ‫ذنب ارتكبوه ؟ فعمل‬ ‫التي ارتكبها قـومه ّ‬

‫هو على جبر كسرهم ‪ ،‬والتعويض عليهم‪ ،‬باستصالح تلـك البقعة‬


‫‪38‬‬

‫المناسب عن‬ ‫الشاسعة ‪ ،‬ومن ث ّـم إباحتها لهم ‪ ،‬لتكون البديل ُ‬ ‫وطنهم المفـقود؟‬ ‫نقول في الجواب ‪ :‬اهلل تعالى أعلم ! ألن السؤال عن‬

‫النوايا ‪ .‬وما عالم النوايا من شأن المؤرخ ‪.‬‬

‫لكننا ما ُّ‬ ‫نشك في أن األمير تنكز كان أُنموذجًا مختلفًا‬ ‫ّ‬ ‫المملوكية في "مصر "‬ ‫كل الذين نعرفهم من رجاالت الدولة‬ ‫عن ّ‬ ‫ّ‬ ‫و"الشام" في ذلك األوان ‪ .‬ومن هنا وصفه المؤرخ الصف ـدي ‪،‬‬

‫حيث ترجم له في كتابه ( أعالم العصر وأعوان النّصر) ‪ ،‬ب ـــ‬

‫المهيب العادل الفـريد " ( الحظ ‪" :‬الفريد" = الذي ال‬ ‫"األمير ُ‬ ‫انية الكثيرة في أنحاء‬ ‫مثيل له ) ‪ .‬كمـ ـا وعـ ّرف بإنجازاته العمر ّ‬ ‫منطقة حكمه ال ّشاسعة ‪ .‬فأنشأ فيها المدارس والجوامع والمآذن‬ ‫والخانات والحمامات واألسواق ‪.‬‬

‫(‪)9‬‬

‫ٍ‬ ‫أن المؤرخ الصفدي‬ ‫ّ‬ ‫لكننا نالحظ بشيء من االستغراب ‪ّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫الرائد الباقي في منطقة بحثنا ‪،‬‬ ‫لم يأت على ذكر عمل األمير ّ‬

‫بإضافته مسجداً إلى المقام التاريخي للنبي نوح‬

‫عليه السالم‬

‫في بلدة‬

‫المستصلحة ‪ ،‬ما يزال على ما‬ ‫المطّلة على المنطقة ُ‬ ‫"كرك نوح" ُ‬ ‫ي عـلى أح ـد ج ـدران‬ ‫أنه ـاه حتى الي ـوم ‪ .‬كما ما يـ ـزال رقـيـ ٌم حجـر ٌّ‬


‫‪39‬‬

‫مما أُنزل‬ ‫المسجد شاهداً على مبادرته الحسنة ‪ ،‬على الرغم ّ‬ ‫تعمدًا ‪ ،‬ارتكبه من ارتكبه بعد وفاة‬ ‫بالرقيم من تشويه ‪ ،‬يبدو لنا ُم ّ‬ ‫صاحبه ‪ ،‬فيما يبدو ‪ ،‬ابتغاء التّعمية على عمله ‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫أن فكرة استصالح ُبحيرة "سهل‬ ‫بقوٍة ّ‬ ‫لذلك فإننا نرجح ّ‬ ‫هجرين ‪ ،‬ليبنوا‬ ‫للم ّ‬ ‫المستصلحة ُ‬ ‫البقاع" ‪ ،‬ومن ثـ ّـم إباحة أرضه ُ‬ ‫فيها القـرى ويسكنوها‪،‬ولتغدو وطنهم الجديد‪ّ ،‬إنما خطرت له وع ـمل‬ ‫ع ـليها معون ًة ألولئك المنكوبين عـلى االس ـتق ـرار فيها آمنين‪،‬بعـ ـ د‬

‫األقل‪،‬لقطع الطريق على التفاعالت‬ ‫كل شيء‪.‬أو‪،‬على‬ ‫ّ‬ ‫أن خسروا ّ‬ ‫السياسية التي يمكن أن تنشأ جراء التنكيل الوحشي بالسكان ‪،‬‬ ‫أن إقدامه ‪،‬‬ ‫ولن تكون في صالح الدولة ‪ .‬بل ونحن نرجح أيضاً ّ‬ ‫مع ّأنه ُيمثّل بمنصبه الرفيع رأس الدولة التي أقدمت على قتل‬

‫وتهجير أهل "كسروان" الشيعة ال لسبب إال ألنهم شيعة ‪ ،‬ـ ـ ـ ـ‬ ‫إقدامه على بناء مسـج ٍـد لهم في قر ٍ‬ ‫شيعية السكان‪ ،‬هو ّأول‬ ‫ية‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫كمل ويندرُج فيما‬ ‫مسجد‬ ‫ٍ‬ ‫جامع للشيعة في ّ‬ ‫كل السهل ‪ّ ،‬إنما ُي ُ‬

‫ويؤيده ‪ .‬ولعلّه لذلك‬ ‫رجحناه من مقصده الحسن من االستصالح ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولِما ُيشبهه من أعمال وصفه المؤرخ الصفدي بـ"العادل الـفـريد" ‪.‬‬ ‫حق ـًا لقـ ـد كان األمي ـر تنكز رحمه اهلل حالـ ًة نبيلـ ًة فـري ـدةً‬


‫‪41‬‬

‫بيـن أقرانه من األُمراء المماليك في ذلك األوان ‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫إشكالية البحث نقول ‪:‬‬ ‫بالعودة إلى‬ ‫ّ‬ ‫ما من ر ٍ‬ ‫يب في ّأنه حين وقعت الهزيمة الماحقة بأهل‬

‫البطولية الطويلة الجتياح‬ ‫"كسروان" وما واالها‪ ،‬بعد المقاومة‬ ‫ّ‬ ‫ات كثيرةٌ منهم هائمةً على وجوههـا ‪،‬‬ ‫وطنهم ‪ ،‬قـ ـد خرجت جماع ـ ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫الساحلية‪،‬‬ ‫تسعهُم‪ .‬فكان منهم من سلك الطريق‬ ‫أي‬ ‫تطلب َّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أرض ُ‬ ‫ُمتجنبين نزول أو عبور أنحاء "جبل لبنان الجنوبي" ‪ ،‬أي ما هو‬

‫معروف اليوم باسم " ُّ‬ ‫ألن من أهله من كانوا ضمن‬ ‫ٌ‬ ‫الشوف" ‪ّ ،‬‬ ‫شن عليهم الحمالت في"كسروان" و"جبيل"‪ ،‬وضلع‬ ‫العسكر الذي ّ‬

‫ٍ‬ ‫تقتيل وتهجير‪ .‬إلى أن استقر بهم المقام‬ ‫فيما ارتُكـب فيهما من‬ ‫في أنحاء "جبل عامل" ‪ ،‬واألكثر في نطاق مدينتي"صيدا" و‬

‫افيتهما‪ ،‬بإنشائهم قُرى‬ ‫" ّ‬ ‫جزين"‪ .‬حيث تركوا آثارهم على طوبوغـر ّ‬

‫ف عليها عن قريب‬ ‫وبلدان ‪ ،‬س ـ ّموها بأسماء بلدانهـم الفقيدة ‪ .‬سنقـ ُ‬ ‫إن شاء اهلل ‪ .‬ومنهم ‪ ،‬وهم األكثر عديداً فيما يبدو ‪ ،‬انطلقوا‬ ‫المجاور‪.‬‬ ‫هابطين باتجاه "سهل البقاع" ُ‬

‫ثم ما من ر ٍ‬ ‫أن هؤالء الهاربين باتجاه‬ ‫يب أيضًا في ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مجموعات صغيرة ‪ ،‬بقيادة ورعاية كبير األُسرة ‪،‬‬ ‫السهل كانوا من‬


‫‪41‬‬

‫جيـدًا‪.‬‬ ‫الممرات‬ ‫تسهيالً لحـركتهم في‬ ‫الجبلية الكثيرة التي يعرفونها ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبهذه الصفة نزلوا منازلهم الجديدة في وسط "سهل البقاع" ‪.‬‬

‫وبها ُعـرفوا بين أهله ‪.‬‬

‫(‪)12‬‬

‫فذلك‪،‬باإلضافة إلى انفراط ِعقدهم االجتماعي ‪ ،‬بال ُمباينة‬

‫عية ألوطانهم ‪ ،‬وما قد ترتّــب على ذلك من خسـ ـارة الجامع‬ ‫الجم ّ‬ ‫العشائري أو األُسري األصيل الكبير‪ ،‬هو الذي ق ـاد وأودى إلى‬

‫تغليب اسم كبير المجموعة ‪ ،‬أو ٍ‬ ‫كبير من المجموعة القادمة ‪،‬‬

‫بين السكان األصليين ‪ .‬وبات مالزماً لهم بعد أن تكاثروا فيما‬

‫بعد بالنمو الطبيعي‪ ،‬وغـدوا أُسرات كبيرة كما هي عليه اليوم ‪،‬‬

‫عمرت حص ًار وسط "سهل البقاع" في الظرف الذي عـرفناه ‪ .‬وما‬

‫تزال حتى اليوم تحمل اسماء كبار تلك األُسرات‪ ،‬الذين كانوا على‬

‫رأسهم يوم نزلوا منازلهم الجديدة ‪ ،‬حتى بعد ُزهاء سبعة قرون ‪.‬‬ ‫(‪)13‬‬

‫أن الظاهـرة موضوع‬ ‫من هنا نعـرف‪ ،‬بما‬ ‫ُ‬ ‫الريـب ‪ّ ،‬‬ ‫اليقبل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫قطعة‬ ‫الدالّة على‬ ‫إشكالية البحث ‪ ،‬ماهي إال من اآلثار الباقية ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫األهمية من تاريخنا ‪ .‬الذي يكتم الكثـير مـ ن‬ ‫ضائعة وفي منتهى‬ ‫ّ‬ ‫المتن ّكـ ـرة تحـت مختل ـف العناوين واألشـكال ‪.‬‬ ‫الخفـايـا ‪ُ ،‬‬


‫‪42‬‬

‫لكن هذه الظاهرة ومثلها ل ـن تُـفـصح عن خبيئها إال‬ ‫ّ‬ ‫السلطوي‬ ‫للمؤرخ المسكون‬ ‫ّ‬ ‫بالحس االنساني‪ .‬بينما ال تبـدو للمؤرخ ُ‬

‫تستحق أن يوليها ش ـرف عنايته ‪ .‬اللسبب‬ ‫إال أُمو ًار تافه ًة‪ ،‬ليست‬ ‫ّ‬ ‫األهلية‬ ‫الحس التاريخي الحقيقي ‪ .‬فاقد‬ ‫بشدة إلى‬ ‫إال ألنه يفتقـر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أن‬ ‫الصانع الحقيقي للتاريخ‪ .‬و ّ‬ ‫ألن ُي ـدرك أن االنسان العادي هو ّ‬ ‫المنفصلة ماهي إال كائن طفيلي على حركته ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫السلطة ُ‬ ‫(‪)14‬‬

‫واذن فما السبب في ظاهرة تلك المجموعة من االسماء‬ ‫غير المألوفة ‪ ،‬التي ألفـتت نظرنا بغرابتها ‪ ،‬حيث مجموعةٌ كبيرة‬ ‫ٍ‬ ‫منطقة بعينها حص اًر ‪ ،‬تمتاز جميعها بأنها‬ ‫من األُسرات ‪ ،‬في‬

‫تحمل ماهو بأصله من أسماء األفراد ‪ ،‬األمر الذي ال نعرف‬ ‫ٍ‬ ‫أن أُصولها‬ ‫مثيله في أي‬ ‫منطقة سواها ‪ ،‬ـ ـ ـ ـ ـ ما السبب إال ّ‬

‫يخي‬ ‫تعرضت في ماضيها إلى حالة ٍ‬ ‫البشرّية كانت قد ّ‬ ‫قطع تار ّ‬ ‫الخاصة ‪،‬‬ ‫عية‬ ‫نموذجية باتّـة ‪ ،‬فصلتها نهائياً عـن ذاكرتها الجم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االجتماعية التي كانـت قائمة ‪.‬‬ ‫البنى‬ ‫ّ‬ ‫وبالتالي أنهت إلى األبــد ُ‬

‫النموذجيـة التي تلجأ فـيه ـا جماعةٌ إلى ترميم‬ ‫وهـذه هي الحالة‬ ‫ّ‬ ‫ذاتيتها باعـتماد آلي ٍ‬ ‫ات جديدة ‪ ،‬تتناولها من وضعها الجديد ‪ .‬الذي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تشكيالت صغيرة برآسة كبيرها ‪ .‬وهكذا‬ ‫عرفنا أنه كان عبارة عن‬ ‫درجت‬


‫‪43‬‬

‫أو درج الناس من حولها على تمييزها عن غيرها باسم كبيرها ‪،‬‬ ‫أو كبير منها ‪ ،‬حين قـ ِدمت وطنها الجديد ‪ .‬ومع الزمن تنامت‬ ‫وباتـت أُسر ٍ‬ ‫الناس من‬ ‫لكنها احتفـظـت ‪ ،‬أو احتفظ لها‬ ‫ات كبيرة ‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫حولها ‪ ،‬باسمها الجديد كما التزال ‪ .‬وكم لذلك من أمثال ‪.‬‬ ‫(‪)15‬‬

‫يبقى الوقوف عند حال ٍة نراها شا ّذةً أيضاً ‪ ،‬بالنظر إلى‬ ‫عادي ًة ‪،‬‬ ‫يخية سنرى أنها حال ٌة ّ‬ ‫نتيجة البحث ‪ .‬بيد أننا بالقراءة التار ّ‬ ‫ٍ‬ ‫وتأمـل ‪ ،‬عسى‬ ‫تندرج في‬ ‫ّ‬ ‫اإلشكالية نفسها‪ .‬وتستدعي مزيد بحث ّ‬ ‫أن تكشف لنا المزيد من الخبايا ‪.‬‬ ‫نعني بهذه اإلشارة أُسرة (حيدر أحمد) التي ينزل أكثر‬

‫ُّ‬ ‫تحتل بقع ًة‬ ‫أبنائها اليوم في "جديدة يابوس" ‪ .‬وهي قـرية صغيرة‬

‫امية ‪ :‬يابس ‪.‬‬ ‫فقيرة بمواردها الطبيعية‬ ‫األساسية ( "يابوس" ‪ ،‬آر ّ‬ ‫ّ‬ ‫إشارًة إلى أنها ماحلة‪ .‬وللمقارنة‪" :‬كفير يابوس"‪ :‬الق ـرية اليابسة) ‪،‬‬

‫هي اليوم ضمن أرض "الجمهورية السورّية" ‪ ،‬عند المعبر‬ ‫الحدودي بين "لبنان" و"سوريا" لمن يسلك الطريق إلى "دمشق"‪،‬‬ ‫يبلغ عدد سكانها األلف نسمة تقـريبًا‪ ،‬كلهم من أُسـرة (حيدر‬

‫اللبناني ـة ‪ .‬مع ضرورة مالحظـة‬ ‫الجنسية‬ ‫أحمد) ‪ ،‬وكلهم يحملون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وج ـود عائـ ٍ‬ ‫الت متف ـ ّرقـ ٍة من األُس ـرة نفسها في الضاحيـة الجنوبيـة‬


‫‪44‬‬

‫اللبنانية وسط "سهل البقاع" ‪.‬‬ ‫لـ "بيروت" ‪ ،‬وفي بعض القــرى‬ ‫ّ‬ ‫عمري أبناء‬ ‫حري الشخصي من ُم ّ‬ ‫والحقيقة ّأننا بعد التّ ّ‬ ‫األُسرة ‪ ،‬لم نظفر بمعلومات عن تاريخ وسبب نزولها هذه البقعة‬ ‫دون غيرها ‪ ،‬مع مواصفاتها التي التُغري ب ٍ‬ ‫طيب ‪ .‬لكن‬ ‫عيش ّ‬ ‫المقطع األول السم منزلهم الحالي "جـديدة" ‪ ،‬باإلضافة إلى‬

‫أن القـ ـرية حديثة التمصير‬ ‫جنسية سكانها‬ ‫اللبنانية ‪ّ ،‬‬ ‫يدالن على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نسبيًا ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن األُسرة‬ ‫التأمل ‪ّ ،‬‬ ‫والذي يخطر بالبال بعد البحث و ّ‬ ‫أول منطقة وسط "سهل البقاع" ‪ ،‬شأن غيرها من‬ ‫ممن نزل ُ‬ ‫كانت ّ‬ ‫بقي ٍة‬ ‫األُسرات الكثيرة النازحة من "كسروان" وجواره ‪ .‬بشهادة وجود ّ‬

‫منهم حتى اليوم في قرى سهل" البقاع " االوسط ‪ .‬ثم كان أن نزح‬ ‫يخ اليـ ـرقى إلى‬ ‫القسم األكبر منها إلى منطقة "جديدة يابوس" بتار ٍ‬

‫أعلى من تأسيس دولة " لبنان الكبير" سنة ‪1918‬م ‪ .‬حيث ُمنح‬

‫اللبنانية التي ما تزال األُسرة تحملها ‪.‬‬ ‫الجنسية‬ ‫سكان السهل نفسه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عنفي‬ ‫أن سبب نزوحها‬ ‫ٌّ‬ ‫شأن غيرهم من سكان الدولة الجديدة ‪ .‬و ّ‬

‫على األرجح ‪ ،‬بحيث ألجأها إلى التخلّي عن ُسكنى السهل‬ ‫الخصيب الغني بالمياه ‪ ،‬لتنزل تلك المنطق ًة الفقـيرةً بكل المعاني‪،‬‬

‫مصر فـيها ق ـرية "جديدة يابوس" حيث ما تزال ‪.‬‬ ‫ولتُ ّ‬


‫‪45‬‬

‫(‪)16‬‬ ‫المعطى التاريخي ‪ ،‬أُسرة‬ ‫نذكر أيضًا ‪ ،‬بمناسبة وحدة ُ‬ ‫ٍ‬ ‫منطقة تابعة‬ ‫(الحاج حسين) في قـرية " زغرين " في أعالي جرود‬ ‫لقضاء مدينة "الهرمل" شمال "لبنان"‪ .‬كان ع ـدد سكانها ‪ ،‬حتى‬ ‫ٍ‬ ‫وقت قريب ‪ ،‬يـزي ـد قـليالً على األلف نسمة ‪ .‬أغلبهم من أُسرة‬

‫(الحاج حسين) ‪ ،‬والباقون من أُسرة ( ُس ُجـد) ‪.‬‬ ‫الطبيعية ‪ ،‬تُـذ ّكـرنـا بمواصفات‬ ‫والقرية ‪ ،‬بمواصفاتها‬ ‫ّ‬ ‫لكن "زغرين" تمتاز عن "جديدة يابوس "‬ ‫"جديدة يابوس" إجما ً‬ ‫ال‪ّ .‬‬ ‫بمساحة نطاقها العقاري الشاسعة ‪ ،‬بما فيها من وديان عديدة‬ ‫ٍ‬ ‫شيء من الخصوبة ‪ُ .‬يستفاد من‬ ‫غـ ّني ٍة بمصادر المياه ‪ ،‬وعلى‬ ‫الجبلية الشاسعة التي‬ ‫زراعتها بالحبوب ‪ .‬باإلضافة إلى المراعي‬ ‫ّ‬ ‫تسرح فيها قطعان المواشي ‪.‬‬

‫ولقد شهدت القـرية في العقود األخيرة حركة هجرة واسعة‬

‫الجنوبية لـ‬ ‫آخر إلى الضاحية‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،‬اتجه ٌ‬ ‫قسم منها إلى "بعلبك" و ُ‬ ‫"بيروت" ‪.‬‬ ‫كبير من أُسرة (الحاج حسين)‪،‬‬ ‫تجمعٌ ٌ‬ ‫وفي "بعلبك" اليوم ّ‬ ‫تحتل ثكن ًة عسكرّي ًة مهجورة ‪ ،‬كان الفرنسيون قد أنشأوها أثناء‬ ‫حياة بائس ًة ‪.‬‬ ‫االنتداب ‪ .‬حيث يعيشون ً‬


‫‪46‬‬

‫(‪)17‬‬ ‫نسبيًا ‪ ،‬ألننا ال‬ ‫رجح أن "زغرين" قري ٌة حديثة التمصير ّ‬ ‫ُن ّ‬ ‫نج ُـد لها ذك ًار في المصادر القديمة كافة ‪ .‬وأن سكانها هم أيضًا‬ ‫من النازحين من "جبل لبنان" في الظرف نفسه الذي يدور حوله‬ ‫هذا البحث ‪ .‬وبالتحديد من قرية "زغرين" في قضاء "المتن" ‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫لسبب ما النعرفه ‪ ،‬اختاروا في هجرتهم الصعود باتجاه‬ ‫وأنهم ‪،‬‬ ‫ال عن الهبوط إلى "سهل البقاع"‪ ،‬أو‬ ‫األعالي في الشمال ‪ ،‬بد ً‬

‫باتجاه الجنوب سالكين الطريق الساحلي ‪ .‬وفي منازلهم الجدي ـ ـدة‬

‫سلوك‬ ‫مصروا ق ـ ـري ًة س ـ ّموها عـلى اسـ ـم قريتهم الفقيدة ‪ .‬وذلك‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ممن ينزحون من أوطانهم ‪ ،‬تعبي ًار عـن تعّلقهم بها ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مألوف ّ‬

‫ٍ‬ ‫بنحو أجلى‬ ‫عاطفيًا عن فق ـدانهم إياها ‪ .‬سنرى نظيره‬ ‫وتعويضًا‬ ‫ّ‬ ‫وأشمل في مطاوي الفصل التالي ‪.‬‬ ‫وفي إقليم "الريحان" ‪ ،‬من "جبل عامل" قريةٌ تحمل اسم‬

‫مصروها هم أيضًا من النازحين من‬ ‫"زغرين" أيضًا ‪ّ ،‬‬ ‫لعل الذين ّ‬ ‫رصيفتها التي في "المتن" ‪.‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬


‫‪47‬‬

‫الفصل الثالث‬ ‫باريش‪ ،Paris/‬طلّوسه‪Toulouse/‬‬ ‫طيردبا‪Tyr de bay/‬‬ ‫ّ‬ ‫(‪)1‬‬

‫إن موقع "جبل عامل" في جنوب "لبنان" بين "الجليل‬ ‫ُردن" و"جبل لبنان‬ ‫األعلى" شمال "فلسطين" ‪ ،‬وبين وادي "األ ّ‬ ‫جمة ‪ ،‬كان‬ ‫سياسية‬ ‫مصبًا لمؤثرات‬ ‫الجنوبي" ‪ ،‬جعل منه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وسكانية ّ‬ ‫لها أكبر األثر على تاريخه ‪.‬‬

‫ما يهمنا منها اآلن ما نقـرأه في أسماء بلدانه المنسوبة‬ ‫إلى الـلغات المسماة (سامية) ‪ ،‬بين عبرية وآر ٍ‬ ‫امية وعـر ّبية ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫أثر با ٍ‬ ‫ق من‬ ‫باإلضافة إلى أسماء‬ ‫ّ‬ ‫أوروبية األصل منها‪ .‬كل منها ٌ‬ ‫حقبة من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫الحقب التي توالت على الجبل أثناء القرون الخالية ‪.‬‬ ‫ذلك ما أغـرى الباحثين ومايزال بوضع مختلف‬ ‫التسجيالت والمصنفات على أسماء بلدانه ومواقعه ‪ ،‬مشفوع ًة‬ ‫ٍ‬ ‫شيء من تاريخها وأعالمها ‪.‬‬ ‫أحيانًا بوصفها وبذكر‬ ‫(‪)2‬‬

‫سماة عنـد الغـربيـيـن‬ ‫لسنا نملك تحقـيباً دقيق ـاً للشـعوب ال ُم ّ‬


‫‪48‬‬

‫امية) (وهي باألح ـرى من شع ـ ٍ‬ ‫وب أصلُها‬ ‫ومن تأثّر بهم بـ الـ (س ّ‬ ‫من " شبه الجزيرة العـربية " ‪ ،‬تف ـ ـ ّرقـ ـت فيما حولهـ ـا ‪ ،‬قـبل هـ ـ ـذه‬

‫اللغة العـر ّبية الحجازّية) ‪ ،‬توالت على "جبل عامل" وساحله ‪.‬‬ ‫فرعٌ من الكنعانيين ‪ُ ،‬عرفوا بالفينيقيين ‪ ،‬بسطوا سلطانهم‬ ‫على الساحل الغـربي لـ"البحر األبيض المتوسط "‪ ،‬حيث ازدهــرت‬

‫ُم ـ ُد ٌن عــديدةٌ ‪ ،‬تعاطت التجارة البحـ ـرّية ‪ .‬ومن هـ ـذا الط ـريق بنـت‬ ‫ٍ‬ ‫صالت واسع ًة مع الساحل االف ـريقي المقابل ‪.‬‬

‫قسم منه مؤقتًا تحت ٍ‬ ‫تأثير سكاني‬ ‫أ ّما الجبل فقد وقع ٌ‬ ‫يهودية ضئيلة‬ ‫قادم من "الجليل األعلى" ‪ ،‬من ضمنه عناصر‬ ‫ّ‬

‫نسبيًا ‪.‬‬ ‫ّ‬

‫حقيقي له حصل في ٍ‬ ‫أن ّأول عمر ٍ‬ ‫وقت من‬ ‫ان‬ ‫ٍّ‬ ‫على ّ‬ ‫اليمانية الكثيرة إلى "الشام" ‪ ،‬هي‬ ‫األوقات بفضل إحدى الهجرات‬ ‫ّ‬

‫هجرة شعب (عاملة) اليماني ‪ .‬كان من بديع حضورها وأثره أن‬ ‫منحته اسمه الباقي حتى اليوم ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬ ‫يخية أن شعب (عاملة) اليماني‪،‬‬ ‫من المفارقات التار ّ‬ ‫الذي كان له الفضل ‪ ،‬بهج ـرته الكثيفة إلى "جبل عامل" ‪ ،‬في‬ ‫ٍ‬ ‫معاكسة السـبب‬ ‫سكانية‬ ‫امتالئـه سكانيًا‪ ،‬لم يلبث أن غ ـدا بحـرك ـ ٍة‬ ‫ّ‬


‫‪49‬‬

‫في فراغه ‪.‬‬ ‫ال ‪ ،‬حيث‬ ‫ذلك ما حصل بالفتح اإلسالمي لـ "الشام" إجما ً‬

‫تنصرة ‪ ،‬ومنها (عاملة) ‪ ،‬تبعت ُخطى سادتها‬ ‫الم ّ‬ ‫القبائل العـر ّبية ُ‬ ‫كل المعارك‬ ‫الروم المهزومين باتجاه "األناضول"‪ ،‬بعد أن خسروا ّ‬

‫األساسية التي خاضوها مع الفاتحين المسلمين ‪ ،‬وسقطت ُد ّرة‬ ‫ّ‬ ‫ال من سكانها‪.‬‬ ‫اضر "الشام" إجما ً‬ ‫دولتهم "دمشق"‪ .‬هكذا فرغت حو ُ‬ ‫ولم يبق فيه إال بعض‬

‫الشعوب التي كانت قد‬

‫سكان القُـ ـرى المعمورة بمزارعين من‬ ‫عمرته في الماضي ‪ ،‬من آراميين‬ ‫آثار بعضهم في أسماءغير قر ٍ‬ ‫ية من‬

‫نجد‬ ‫وأشوريين ‪ .‬ما نزال ُ‬ ‫قُرى "سورية"الجمهورّية ‪ ،‬بل مازال أهلها يتكلمون إحدى اللغتين ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫في هذا السياق التاريخي الجديد ‪ ،‬وبسبب الهجرة شبه‬

‫الشاملة لشعب (عاملة) ‪ ،‬عانى "جبل عامل" من حالة شبه فراغ‬ ‫مدة خمسة قرون تقـريباً ‪ .‬إلى درجة‬ ‫سكاني ‪،‬‬ ‫بعد ّ‬ ‫استمرت من ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫المعنية بالبلدان‪ ،‬حتى القرن ‪6‬هـ‪12/‬م ‪،‬‬ ‫نجد في كل ال ُكتُب‬ ‫ّأننا ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ذك اًر لقر ٍ‬ ‫بلداني ‪،‬‬ ‫منسوبة إليه ‪ .‬إال قريتين أتى على ذكرهما‬ ‫ية‬ ‫ٌّ‬ ‫عاش في القرن ‪4‬هـ‪11/‬م قـريبًا من المنطقة وعرفها جيدًا ‪،‬‬

‫يدل على عراقتهما ‪ ،‬هما "كفركيال" و"مجدل‬ ‫اميًا ّ‬ ‫تحمالن اسما آر ّ‬


‫‪51‬‬

‫ٍ‬ ‫مجموعة كبيرٍة ُغفل االسماء من المزارع‬ ‫ِسلِم" ‪ .‬باالضافة إلى‬

‫الصغيرة ‪(.‬المقدسي‪:‬أحسن التقاسيم‪. )188/‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫تغير السـكاني الثاني باتجاه االمتالء‪ ،‬حصل في‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬ ‫"جبل عامل" بـ (فضل) الصليبيين ‪ .‬الذين كان الجتياحهم‬ ‫"القدس" ‪ ،‬وما ارتكبوا فيه من فظائع مهولة ‪ ،‬تأثي اًر هائالً على‬

‫األردن"‬ ‫فهجت الناس مرعوبين من أنحاء "‬ ‫ّ‬ ‫برمتها ‪ّ .‬‬ ‫المنطقة ّ‬ ‫و"فلسطين" ‪ ،‬باتجاه أقرب الجبال إليهم ‪ .‬هكذا امتأل "جبل عامل "‬ ‫امتالء يفوق بكثير سابقه قبالً بهجرة (عاملة) إليه ‪ .‬ومع‬ ‫بالسكان‬ ‫ً‬ ‫أن الصليبيين لحقوهم إلى موطنهم الجديد ‪ ،‬وبسطوا سلطانهم‬ ‫ّ‬ ‫عليه وعليهم ‪ .‬لكنهم إذ ذاك كانوا قد تخلّوا عن السياسة‬ ‫ٍ‬ ‫بحاجة لمن يعمل‬ ‫التطهيرّية التي أعملوها في "القـدس" ‪ ،‬وباتوا‬

‫ويس ـ ّدد الضرائب لحسابهم ‪ ،‬إلى ماهنالك‬ ‫لهم ‪ ،‬فيستثمر األرض ُ‬ ‫السلطة بالناس ‪.‬‬ ‫من وجوه عالقة ُ‬ ‫(‪)5‬‬

‫المحت ـلّي ـن وبيـن‬ ‫في هـ ـذا السياق حصل شـ ُ‬ ‫به سـباق بين ُ‬ ‫التجمع الظرفي من الناس ‪ ،‬الذين حملتهم الحـرب وأهوالهـا‬ ‫ذلك‬ ‫ّ‬

‫سباق على إنشاء وتمصير‬ ‫يخية‪،‬ـ ـ ـ ـ ـ ٌ‬ ‫على الهجرة من أوطانهم التار ّ‬


‫‪51‬‬

‫أن الرحالة ابن‬ ‫البلدان والقُرى في أوطانهم الجديدة ‪ .‬بحيث ّ‬ ‫ُجبير ‪ ،‬الذي اجتاز "جبل عامل" من جنوبه إلى غـربه ‪ ،‬من‬ ‫"تبنين" إلى "ع ّكا"‪ ،‬سنة ‪579‬هـ‪1183/‬م ‪ ،‬أي بعد ُزهاء نصف‬ ‫قرن من احتالل الصليبيين إياه ‪ ،‬ـ ـ ـ وصف طريقه بأنه " كلّ ه‬

‫أن‬ ‫على ضياع متصلة وعمائر ُمنتظمة " (الرحلة‪ . )273/‬أي ّ‬ ‫كل تلك الـ" ضياع المتصلة" قد أُنشئت في ٍ‬ ‫نسبياً ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مدة قصيرٍة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ال على نصف قرن ‪.‬‬ ‫التزيد إال قلي ً‬ ‫وطبعًا‬

‫نسية‬ ‫لغتهم الفـر ّ‬

‫ٍ‬ ‫بأسماء من‬ ‫سمون مايشيدونه‬ ‫كان المحتّلون ُي ّ‬ ‫األصلية‪.‬‬ ‫الغالبة بينهم‪ ،‬ومن ذاكرتهم على بلدانهم‬ ‫ّ‬

‫امية القديمة على‬ ‫الج ُدد األسماء اآلر ّ‬ ‫بينما ُي ّثبت السكان المسلمون ُ‬ ‫ٍ‬ ‫بأسماء‬ ‫يسمونها‬ ‫تجمعات‬ ‫ّ‬ ‫سكنية ‪ ،‬أو ّ‬ ‫نمونه من ّ‬ ‫ما ُينش ـؤنه أو ُي ّ‬ ‫عـر ّبية ‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫من هنا يجب أن يتوّقع القارئ اللبيب ماهو واقعٌ بالفعل‪،‬‬ ‫العاملية ‪ ،‬التي كانت اللغة‬ ‫نسية في القرى‬ ‫ّ‬ ‫من كثرة األسماء الفر ّ‬

‫الغالبة بين الصليبيين ‪ ،‬مع أنهم كان بينهم إنكليز واسكوتالنديون‬ ‫ٍ‬ ‫غالبة من‬ ‫وألمان وهنغاريون وغيرهم ‪ ،‬باإلضافة إلى أكثرّي ٍة‬ ‫سم ى‬ ‫الفرنسيين ‪.‬لقد كان أُولئك ُ‬ ‫الغزاة يعملون على ما ُي ّ‬

‫االستعمار‬


‫‪52‬‬

‫التجمعات‬ ‫االستيطاني ‪ ،‬الذي يقتضي أن ُي ّثبتوا وجودهم بإنش ـاء‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة بهم ‪ .‬بحيث تكون لهم بلدانهم وحصونهم التي‬ ‫السكانية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫لكنها تضمن لهم السيطرة‬ ‫تحول دون االختالط بالمسلمين ‪ .‬و ّ‬ ‫عليهم ‪.‬‬ ‫أما المسلمون فكانوا بين الذين ّثبتوا األسماء القديمة ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مناسبة أو غيرها ‪.‬‬ ‫أسماء عر ّبية ‪ .‬ل‬ ‫وبين من وضعوا لِما أنشأوه‬ ‫ً‬ ‫وسنرى ذلك في اآلتي من البحث‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬ ‫روف إجماالً ‪،‬‬ ‫ومع ّ‬ ‫ت ومعـ ٌ‬ ‫مما ه ـو أم ـٌر ثابـ ٌ‬ ‫كل ذلك ‪ّ ،‬‬ ‫صنف كتابًا على أسماء البلدان والقرى اللبنانية (ومنها‬ ‫فإن باحثًا ّ‬ ‫طبعاً قرى وبلدان "جبل عامل") ‪ ،‬أصاب ُشهرةً بين الناس وما‬

‫يزال ‪ ،‬ربما لفرادته من حيث موضوعه ‪ ،‬بنى كتابه كّله على‬ ‫ٍ‬ ‫أن أسماء القرى والبلدان التي سردها في‬ ‫فرضية خالصتها ‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أن عمله في كتابه يقتصر‬ ‫كتابه هي كلّها من‬ ‫أصل سرياني ‪ .‬و ّ‬ ‫على تفسير االسم ‪ ،‬بإرجاعه دائمًا إلى أصله السرياني المزعوم ‪.‬‬ ‫تشابه لفظي بين اسم القـرية اليوم وبين ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صر ِ‬ ‫استناداً إلى ِ‬ ‫كلمة‬ ‫ف‬

‫أو ٍ‬ ‫يانية مهما ت ُكن أو يكون ‪ .‬أي دون‬ ‫جذر ما من اللغة السر ّ‬ ‫أدنى اكتراث أواعتبار لمعنى الكلمتين في تلك العالقة المزعـومة‬ ‫‪.‬‬


‫‪53‬‬

‫حتى حيث يكون على غير نمط أسماء القرى والبلدان ‪.‬‬ ‫الدائر (معجم أسماء‬ ‫ذلك هو أنيس فريحه وكتابه ّ‬ ‫اللبنانية)‪.‬‬ ‫الم ُدن والقرى‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫عجمية للكتاب واضحةٌ ال لبـس فـيها ‪ ،‬وهي‬ ‫الم ّ‬ ‫الصفة ُ‬ ‫في عـنوانه أمينـةٌ على المنهج الذي التزمه في كتابه ‪ .‬كما أنها‬

‫التام للعامل التاريخي في خطّة الكتاب ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تفسر الغياب ّ‬ ‫لكن ذلك اليعني أبدًا أن المنهج الذي التزمه فـريحة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بأمانة في كتابه صحيح ‪ .‬وذلك لسببين ‪:‬‬ ‫األلسني‪،‬هي حالةٌ تاريخية‪،‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ األول‪:‬إ ّن اللغة‪،‬باالعتبار‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫سبيل إلى شرحها وبيان‬ ‫أو حالةٌ حصلت في التاريخ ‪ .‬ما من‬

‫ٍ‬ ‫ألسني‪ ،‬يأخذ باالعـتبار‬ ‫نسب كلماتها إال من‬ ‫منظور وب ٍ‬ ‫منهج ُ‬ ‫حاالت الكلمة في أطوارها‪ ،‬كما يأخذ باالعتبار ظروف نشأتها‪.‬‬ ‫هكذا فإن اقتصار فـريحه على البحث عن األصل السرياني في‬

‫فرضية خاطئة ‪،‬‬ ‫كل االسماء التي عالجها بكتابه ‪ ،‬ينطوي على‬ ‫ّ‬ ‫كل الذين جعلوا تلك االسماء هم حص ًار من المتكلمين‬ ‫أن ّ‬ ‫هي ّ‬ ‫فرضيةٌ غـلط ‪ ،‬كما بات واضحاً للقارئ ‪.‬‬ ‫يانية‪ .‬وهي‬ ‫ّ‬ ‫باللغة السر ّ‬

‫ٍ‬ ‫بمسرد تاريخي لـ "جبل عامل"‪ ،‬ابتغاء التوطئة‬ ‫قدمنـا للبحث‬ ‫ونحن ّ‬ ‫بتنوعها البالغ ‪.‬‬ ‫لبيان العالقة بين تاريخه وبين أسماء بلدانه وقُراه ّ‬


‫‪54‬‬

‫سامية) استناداً إلى‬ ‫سماة ( ّ‬ ‫الم ّ‬ ‫ـ ـ ـ ـ الثاني ‪ :‬إن اللغات ُ‬ ‫ٍ‬ ‫تصنيف توراتي ‪ ،‬وهي في الحقيقة ترجع إلى اللغة أو اللغات‬

‫سائدة قديمًا في "شبه الجزيرة العر ّبية" ‪ ،‬قبل أن ينتشر‬ ‫التي كانت‬ ‫ً‬ ‫أهلها في االقطار من حولها ‪ ،‬ـ ـ ـ ـ هذه اللغات تتشابه كلماتها في‬ ‫جذورها لوحدة أصلها ما قبل اللغة العـر ّبية الحجازّية ‪ .‬إلى درجة‬ ‫ٍ‬ ‫ّأنه يصعب‪ ،‬وقد يستحيل ‪ ،‬إرجاع ٍ‬ ‫هجينة ‪ ،‬من نوع أسماء‬ ‫كلمة‬ ‫البلدان التي عالجها فريحة ‪ ،‬إلى ٍ‬ ‫لغة منها بعينها استنادًا إلى‬

‫أن العامل التاريخي‬ ‫تشابه لفظي ‪ .‬والحقيقة التي غابت عـليه ‪ّ ،‬‬ ‫في وطن الكلمة ‪ ،‬في حال استيعابه ‪ ،‬ه ـو أقـرب طري ٍ‬ ‫ق وأج ـدى‬ ‫ٍ‬ ‫فيلولوجية ُمقـنِعة ‪.‬‬ ‫وسيلة إلى دراسة الكلمة دراسةً‬ ‫ّ‬ ‫والحقيقة أن فريحه ُيثير استغرابنا إحياناً في إص ارره‬ ‫العاملية إلى‬ ‫كل كلمة في أسماء القرى‬ ‫العنيد على محاولة نسبة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أصل‬ ‫أصل سرياني ‪ ،‬حتى في حاالت تكون فيها الكلمة من‬

‫عـربي أو فـرنسي صريح الريب فيه ‪.‬‬ ‫يخص األسماء من‬ ‫ُّ‬ ‫ومن األمثلة النافرة لذلك ‪ ،‬فيما‬

‫ٍ‬ ‫السياد"‬ ‫أصل عـربي صريح ‪ ،‬تعليقه على اسم قـرية "كوثرية ّ‬

‫يانية ‪ Sayyada‬معناها ‪:‬‬ ‫السّياد قد تكون سر ّ‬ ‫ّ‬ ‫العاملية بالق ـول ‪ّ " :‬‬ ‫أن الكلمة ع ـر ّبية صريحة‬ ‫طين من ‪ : sada‬طين " (!) ‪ .‬مع ّ‬ ‫الم ّ‬ ‫ُ‬


‫‪55‬‬

‫سيد) ‪ ،‬أُضيفت‬ ‫دون ريب ‪ ،‬هي جم ٌع على غير قياس لكلمة ( ّ‬ ‫السادة‬ ‫إلى اسم البلدة بمناسبة ّ‬ ‫أن من سكانها بضع أُسرات من ّ‬ ‫االشراف ‪ .‬كما أنه يعّلق على كلمة (مارون) في ٍ‬ ‫عدد من أسماء‬

‫يانية ‪ . "Maruna‬مع أن‬ ‫القرى‬ ‫العاملية ‪ ،‬بالقول إنها "من السر ّ‬ ‫ّ‬ ‫نسية دون أدنى ريب ‪.‬‬ ‫الكلمة فر ّ‬ ‫واالمثلة على مثل ذلك كثيرةٌ جداً في الكتاب ‪.‬‬

‫شديدة أن يكون الرجل قد ارتكب‬ ‫وانني ألخشى خشي ًة‬ ‫ً‬ ‫هذا المركب الغلط متأثّ ًار بمؤثر ديني ـ ـ ـ ـ ـ سياسي ‪ ،‬يميل إلى‬

‫بأية وسيلة ‪ ،‬وبيان حضور كلماتها الدائ ـم‬ ‫يانية ّ‬ ‫تمجيد اللغة السر ّ‬ ‫التام من الخطاب‬ ‫الباقي على‬ ‫ُ‬ ‫األلس ـن ‪ ،‬على الرغــم من انحسارها ّ‬ ‫المسيحية‬ ‫الدينية‬ ‫اليومي ‪ ،‬وانحصارها بالفعل في بعض الطقوس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشامية‪.‬‬ ‫العامية‬ ‫حيح في ألوان‬ ‫المحلية‪ .‬وذلك‬ ‫مطلب مشروعٌ وص ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن الطريق الذي سلكه فـريحه إلى بيانه هو الغلط ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫صم ‪.‬‬ ‫إن‬ ‫حقاً ّ‬ ‫الحب ُيعمي ُ‬ ‫وي ّ‬ ‫(‪)8‬‬

‫كل ماسبق نق ـول ‪:‬‬ ‫بناء على ّ‬ ‫ً‬ ‫الدائرة اليوم لبلدان وقرى‬ ‫من الممكن تحقيب األسماء ّ‬ ‫عدة مجموعات ‪:‬‬ ‫في "جبل عامل" وساحله في ّ‬


‫‪56‬‬

‫ـ ـ ـ ـ المجموعة األُولى ترجع إلى ماقبل التاريخ المكتوب‪.‬‬ ‫السحيق‬ ‫ومنها مدينة "صور"‬ ‫ّ‬ ‫الفينيقية ذات التاريخ ّ‬ ‫المجيد ‪ .‬كانت أيامهم جزيرة تحمل اسم "صر" التي تعني‬ ‫بالفينيقية الصخرة ‪ ،‬لمكان الطبيعة الصخرّية التي ُبنيت عليها‬ ‫ّ‬ ‫المدينة‪ .‬ومنها بلدتان تحمالن اسم "برعشيت" ‪ ،‬وبلدةٌ ثالثةٌ اسمها‬ ‫"جبشيت" ‪ ،‬والبلدات الثالث منسوبة إلى شيث بن نوح عليه السالم ‪،‬‬

‫مثلها في ذلك مثل خمسة بلدان أُخريات ‪ ،‬تنتشر على الهضاب‬ ‫الممتدة على طول الساحل الغـربي للبحر المتوسط ‪ ،‬كّلها ملحوقةٌ‬

‫أسماؤها بـ "شيت"‪ُّ .‬‬ ‫نظن أنها جميعها من أعمال النبي شيث بن‬

‫بحث‬ ‫نوح عليه السالم الحضارّية بعـ د الطوفان ‪ .‬ولنا على ذلـك‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫ضاف ‪ ،‬في كتابنا الماثل للطبع ( كرك نوح والقصة الحقيقيّة‬ ‫للطوفان ) ‪.‬‬

‫(‪)9‬‬

‫ـ ـ ـ ـ المجموعة الثانية ترجع إلى الفترة التي س ـادت فـيها‬ ‫إمارتها أن يبدأ اسمها‬ ‫امية ‪ .‬وهي قُرى ومزارع كثيرة ‪ .‬من ا‬ ‫اآلر ّ‬ ‫بـكلمة "كـف ـر" وهي كلمةٌ من ٍ‬ ‫جذر سامي تعني مزرعة ‪ ،‬موجودة‬ ‫سامية) ‪ .‬أو بـ ـ "مجدل" وتركيباتها ‪:‬‬ ‫سماة ( ّ‬ ‫الم ّ‬ ‫في أكثر اللغات ُ‬ ‫"مجدليون" "مجيدل"‪ .‬وهي كلم ٌة من جذر سامي أيضًا ‪ ،‬توجد في‬


‫‪57‬‬

‫مكان ٍ‬ ‫عال ُمشرف‪.‬‬ ‫يانية والع ـر ّبية ‪ ،‬بمعنى قصر‪ ،‬برج ‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫السر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫امي ٍة واضحة ‪" :‬عيناتا" ‪،‬‬ ‫باالضافة إلى ما كان منها‬ ‫بصيغة آر ّ‬

‫امية ‪:‬‬ ‫"تفاحتا" ‪ّ " ،‬‬ ‫حرفة عن "بابيال" باآلر ّ‬ ‫جناتا" ‪ّ " ،‬‬ ‫الم ّ‬ ‫البابلية" ُ‬ ‫سمى "بابيال" ‪.‬‬ ‫باب اهلل ‪ .‬وفي غـوطة "دمشق" ٌ‬ ‫ُ‬ ‫بلد ُي ّ‬ ‫(‪)11‬‬ ‫زمنيًا ‪ ،‬ثمة بضع قرى‬ ‫امية‬ ‫ّ‬ ‫وبموازاة المجموعة اآلر ّ‬ ‫انيًا ‪.‬‬ ‫تحمل اسمًاعبر ّ‬ ‫منها كل ما تكون البادئة في االسم ـ كلمة "آبل" ‪" :‬آبل‬ ‫السقي" " آبل القمح" ‪ . . .‬الخ‪ .‬وهي أيضًا كلمة من جذر‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫يانية‬ ‫سامي‪ .‬نجدها‬ ‫بمعان متقاربة في العر ّبية والعبرّية والسر ّ‬

‫معنى من ج ـذر ( زرع ) في العـر ّبية ‪.‬‬ ‫واألمهرّية ‪ ،‬تعني مايقـرب‬ ‫ً‬ ‫وثمة اليوم في إقـليـم‬ ‫باإلضافـة إلى " ُجبع" بمعنى التّ ـ ّل ‪ّ .‬‬

‫بلد اسمه " ُجبع الشوف" ‪ ،‬تميي ًاز‬ ‫"الشوف"بـ "جبل لبنان" الجنوبي ٌ‬ ‫له عن "جبع" العاملية ‪ .‬كما جاء في التوراة ذكر ٍ‬ ‫بلد بـ " فلسطين‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫" اس ـمه " ُجبع بنيامين" ‪.‬‬ ‫ومنها "قـدس" في أطراف "جبل عامل" ‪ ،‬وكانت قبل‬ ‫الصليبيين حاضرته ‪ .‬وعرفت قديمًا بـ ٍ‬ ‫اسم آرامي أو عبراني ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫"قادس" أو "قادش" باختالف اللغات ‪ .‬وباالس ـ ـم نفسه ع ـ ـ ّدة بلدان‬


‫‪58‬‬

‫أن اسمها ي ِـرُد كثي ًار‬ ‫في "فلسطين" و "الجمهورّية السورّية" ‪ .‬كما ّ‬ ‫في تاريخ الكنعانيين واالسرائيليين ‪ .‬وكانت " قدس" قديمًا من‬

‫أعمال "صور" ‪ ،‬ثم أُلحقـت بـ "فلسطين" ‪ .‬وسنة ‪1948‬م غـدت‬ ‫تحت االحتالل االسرائيلي وما تزال ‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫ـ ـ ـ ـ المجموعة الثالثة ترجع إلى فترة االحتالل الصليبي‬

‫(‪514‬ـ ـ ـ ـ‪ 688‬هـ‪1111/‬ـ ـ ـ ـ ـ ‪1289‬م) التي قلنا أنها الفترةُ التي‬ ‫انتفض فيها "جبل عامل" ُس ّكانيًا ‪ .‬وحيث حصل ما قد ُيشبه‬ ‫السباق على إنشاء وتمصير القُرى والبلدان ‪ ،‬بين الذين التجأوا‬ ‫المحتلّين الصليبييين ‪ .‬أثناءها جرى‬ ‫إلى الجبل من حوله وبين ُ‬ ‫كانية القائمة اليوم في الجبل ‪ .‬وطبعًا‬ ‫الس ّ‬ ‫تمصير أكثر التجمعات ُ‬ ‫كان المسلمون يسمون مايس ـتحدثونه بأسـ ٍ‬ ‫ماء ع ـر ّبية غالبًا‪،‬األمـر‬ ‫ُ ّ‬ ‫سميها‬ ‫ال ـذي‬ ‫استمر حتى بعـد انجالء االحتالل ‪ .‬بينما ُي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫نسية ‪ ،‬اللغةُ الغالبةُ بين الصليبيين ‪.‬‬ ‫الصليبيون بأسماء فـر ّ‬ ‫ّ‬ ‫(‪)12‬‬ ‫األسماء العر ّبية التخفى ‪.‬‬ ‫فمنها المجموعة المنسوبة إلى أسماء أشخاص من مثل‪:‬‬ ‫انية" "المنصوري" "المحار ّبية"‬ ‫المالكية""‬ ‫اسية""‬ ‫المحمودية" "المرو ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العب ّ‬ ‫" ّ‬


‫‪59‬‬

‫الداودية"‪ . . . .‬الخ‪.‬‬ ‫ادية" "‬ ‫ّ‬ ‫حم ّ‬ ‫"النجارّية" "الحارثية" "ح ّس ّ‬ ‫انية" " ّ‬ ‫وهي كثيرة ‪.‬‬

‫كل مايبدأ اسمها بـ "مراح" (حظيرة المواشي)‬ ‫ومنها ّ‬

‫"مراح أبو شديد" ‪" ،‬مراح الجاموس" ‪" ،‬مراحةالحباس" ‪ .‬أو ب ـــ‬ ‫"مزرعة" أو ب ـ ـ "مقسم" (جزء من مزرعة بعد تقسيمه بين الورثة)‬ ‫أو بـ ـ "مرج" أو " ِخربة" ‪" /‬الخرايب" ‪ " /‬الخريبة" أو "عين" أو "برج "‬ ‫أو "بستان" ‪ .‬وهي كثيرة أيضًا ‪.‬‬

‫افية أوغيرها لمكان‬ ‫ومنها ماتعكس المواصفات الطوبوغر ّ‬ ‫البياضة "‬ ‫البياضة" "ضهر ّ‬ ‫الق ـرية الناشئة منها‪" :‬المطلّة" "المنارة" " ّ‬ ‫"أبو األسود" "المطمورة" ‪ .....‬الخ ‪.‬‬

‫فإن االسماء العر ّبية التخفى كما قلنا‪.‬‬ ‫وعلى ّ‬ ‫كل حال ‪ّ ،‬‬ ‫على الرغم م ـن صاحبنا أنيس فريحة ‪ ،‬الذي لم يعترف بعـر ّبي ة‬

‫ٍ‬ ‫ياني‬ ‫أي منها ‪،‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫وظل ُي ّ‬ ‫صر دائمًا على البحث عن جذر سر ّ‬ ‫م ٍ‬ ‫يح ال لبس فيه (!) ‪.‬‬ ‫شابه السم البلد‪ ،‬حتى لِما هو عـربي صر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫(‪)13‬‬

‫السياق من البحث ‪ ،‬ألفـت نظـرنا مجموعـةٌ من‬ ‫في ه ـذا ّ‬ ‫العاملية ‪ ،‬تنتشر ع ـلـى التالل المجـ ـاورة لمدين ـة‬ ‫أس ـ ـماء البلدان‬ ‫ّ‬

‫جزين " ‪ .‬موضع المالحظة هـنا أنها تُزاوج‬ ‫"صيدا" صعودًا حتى " ّ‬


‫‪61‬‬

‫أسماء قرى ماتزال في "كسروان" و"جبيل" وما واالهما ‪ .‬هي‬ ‫الص ّوانة" "قـتالة" "القرية" "القصيبة" "القطين"‬ ‫"دارّيا" "صربا" " ّ‬ ‫الهاللية" "يانوح" ‪ .‬ومنها ربما "بنت جبيل" ‪ ،‬التي يبدو‬ ‫"كفرحتّى" "‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بي‬ ‫ّأنها ُسميت بهذا االسم‬ ‫اسم عر ٌّ‬ ‫لمناسبة غير ّ‬ ‫خفية ‪ .‬وهو ٌ‬ ‫مصروها من المهاجرين من "جبيل" ‪.‬‬ ‫صريح ‪ .‬يبدو ّ‬ ‫أن الذين ّ‬ ‫صدف ًة ‪ .‬بل‬ ‫من المؤ ّكد أن هذا التشابه الواسع لم يحدث ُ‬ ‫أن تلك القُرى هي‬ ‫يخية ‪ .‬نرى ّأنها كامنة في ّ‬ ‫ّإنه ُيخبئ حقيق ًة تار ّ‬ ‫هجرون من "كسروان" و "جبيل" وما واالهما ‪.‬‬ ‫الم ّ‬ ‫ّ‬ ‫مما أنشأه ُ‬

‫سموها بأسماء أوطانهم الفقيدة تعبي ًار عن الحنين إليها ‪ .‬ونحن‬ ‫ّ‬ ‫هجرين قد سلك الطريق‬ ‫الم ّ‬ ‫مما فات ّ‬ ‫عرفنا ّ‬ ‫أن قسماً من أولئك ُ‬

‫جزين" وما واالها ‪ .‬حيث‬ ‫الساحلية ‪ ،‬وانتهى بهم المسير إلى " ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنشأوا تلك القرى ‪.‬‬ ‫(‪)14‬‬

‫نسية منها ‪ ،‬فليس من العسير عـلى‬ ‫أمـا االسماء الـفـر ّ‬ ‫ّ‬ ‫نسية ‪.‬‬ ‫إما بشبهها بأسماء بلدان فر ّ‬ ‫المدقّق أن يميزها‪ّ .‬‬ ‫العارف ُ‬

‫تك قد جرى تحريفها‬ ‫نسية في االسم ‪ ،‬وان ُ‬ ‫وا ّما بوجود كلمة فـر ّ‬ ‫لتُناسب النطق بالعر ّبية ‪ .‬واما ِ‬ ‫بجرسها الفرنسي ‪ ،‬الذي ال‬ ‫ّ‬ ‫يخفي على العارف بهذه اللغة ‪.‬‬


‫‪61‬‬

‫فمن األول ‪ ،‬أي التشابه بين اسم ٍ‬ ‫عاملي وآخر‬ ‫بلد‬ ‫ّ‬ ‫عبر عن الحنين إلى‬ ‫فرنسي ‪ ،‬وهو من باب ميل ّ‬ ‫النازح إلى أن ُي ّ‬

‫وطنه بهذه الوسيلة ‪.‬‬

‫من أصرحه‪" :‬باريش" ‪ Paris‬و"طلّوسة" ‪، Toulouse‬‬

‫الرغم من أنيس‬ ‫نسية المشهورة ‪ .‬على ُّ‬ ‫الم ُدن الفر ّ‬ ‫وكلتاهما من ُ‬ ‫فريحة ‪ ،‬حيث قال أن اسم "طلّوسه" تحريف ‪ ،Talyuse‬معناها‪:‬‬ ‫صغار‪ ،‬أحداث‪ .‬وقد يكون تحريف ‪ :Tallusha‬لزج ‪ ،‬طيني‪،‬‬

‫مبني‬ ‫صبي صغير‪ .‬كما قال على "باريش" كالمًا مشابهًا ‪ .‬وكّله ّ‬ ‫وبينا خطلها فيما فات ‪ .‬وفي‬ ‫على تشابهات‬ ‫لفظية ‪ ،‬نقدناها ّ‬ ‫ّ‬ ‫"فلسطين" بلدةٌ اسمها "طلّوزة" ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫أسماء كثيرٍة جداً من هذا‬ ‫شك لدينا بوجود‬ ‫ونحن ما من ّ‬

‫نسية األصل ‪ ،‬في "جبل عامل" ‪.‬‬ ‫القبيل ‪ ،‬أي الفر ّ‬ ‫تامـا ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن متابعة البحث باتجاه استقرائها استقر ً‬ ‫اء ّ‬ ‫مفصل ًة بأسماء عشرات آالف البلدان والقـرى في‬ ‫يقتضي معرف ًة‬ ‫ّ‬ ‫عاملية عامرة‬ ‫"فرنسا" ‪ .‬ومن ثـ ّـم مقارنتها اسماً اسمًا بأسماء بلدان‬ ‫ّ‬ ‫يستحق بذل مثل هذا‬ ‫مطلب ال‬ ‫أن ذلك‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫أو دارسة ‪ .‬ومن الواضح ّ‬ ‫أساسي ًة إلى نتائج‬ ‫الجهد الكبير ‪ ،‬ما دام لن ُيضيف إضاف ًة‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬

‫البحث ‪.‬‬


‫‪62‬‬

‫نسية في اسم البلد‬ ‫ومن الثاني ‪ ،‬أي وجود كلمة فر ّ‬ ‫العاملي ‪ ،‬حتى وان ي ُكن قد حـال أو ج ـرى تح ـريفه ليناسب‬ ‫الدارجة ‪.‬‬ ‫النطق بالعر ّبية ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بلدان عاملية ‪" :‬طير‬ ‫فمنه كلمة "طير" في اسماء ثماني‬ ‫فلساي" " طيرحرفا" "طير ِدّبا" "طير زبنا" ( بات اسمها اليوم‬

‫الشهابية" ) " طير سمحات" "طيرعديس " "تربيخا" (اصل اسمها‬ ‫"‬ ‫ّ‬ ‫"طير بيخا") طرشيحا (اصل اسمها "طير شيحا")‪ .‬وكّلها ال نشـ ّك‬ ‫في أن أصل كلمة "طير" فيها جميعها هو " ‪ ،" tyr‬وهـو االس ـم‬

‫الدائ ـر بين األوروبيين لمدينة "صور" ‪ .‬وربما منها أيضًا "طو ار"‪.‬‬

‫وليالح ـظ القارئ العارف هنا أن كل هاتيك الق ـُـرى كانت أيام‬ ‫ُ‬ ‫الصليبية ‪.‬‬ ‫الصليبيين في نطاق إمارة "صور"‬ ‫ّ‬ ‫الالذقية"‬ ‫أن في نطاق مدينة "‬ ‫ّ‬ ‫ولتنظير المثال نقول ‪ّ ،‬‬ ‫صليبيًا صريحا ‪ .‬إحداهما "سنجوان" ‪ ،‬أصل‬ ‫قريتان تحمالن اسمًا‬ ‫ّ‬

‫المقاتلين المعروفة‬ ‫اسمها ‪ Saint jean‬وهو اسم ُمنظّمة الرهبان ُ‬ ‫الشبطلية" ‪ ،‬أصل‬ ‫الصليبية ‪ .‬والثانية "‬ ‫لمون بالحركة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لدى من ُي ّ‬

‫المنظّمة نفسها ‪ُ ،‬يعنى‬ ‫اسمها ‪ Hospitallier‬وهو ٌ‬ ‫اسم لفرٍع من ُ‬ ‫المقاتلين ومرضى الحجاج ‪.‬‬ ‫بتمريض جرحى ُ‬ ‫ومن غـرائب أنيس فريحة التي ال نهاية له ـا ‪ّ ،‬أنـه قـ ـال‬


‫‪63‬‬

‫على البادئة " طر" ‪ ،‬في أسماء هاتيك البلدان السبعة ‪ ،‬أنها من‬ ‫ال ذريعًا في تقديم أي‬ ‫يانية ‪ ،‬بمعنى حظيرة‪ .‬مع أنه فشل فش ً‬ ‫السر ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تفسير لالحقة بأسمائها على قاعدته العجيبة ‪ .‬ألنه لم يلتفت إلى‬ ‫ٍ‬ ‫أصل فرنسي ‪.‬‬ ‫ّأنها من‬ ‫ومن أمثلة األنموذج الثالث ‪ ،‬أي الكلمات ذات ِ‬ ‫الجـرس‬

‫الفرنسي في أسماء ٍ‬ ‫بلدان‬ ‫عاملية ‪ ،‬وهي األكثر واالسهل مالحظةً‬ ‫ّ‬ ‫نسية ‪.‬‬ ‫للعارف باللغة الفـر ّ‬ ‫خصوصيات‬ ‫فمنه الصوت األنفي (‪ ، )on‬وهو من‬ ‫ّ‬

‫نسية ‪.‬‬ ‫اللغة الفـر ّ‬ ‫ومن أمثلته‪" :‬أرزون" ‪" ، Arzon‬أرنون" ‪، "Arnon‬‬ ‫عنقون" ‪" ، Ankon‬عيترون" ‪" ، Ytaron‬مارون" ‪، Maron‬‬ ‫"فرون" ‪" ، Phron‬يارون" ‪.Yaron‬‬

‫ومنه الصوت الممت ّـد آخر االسم ‪ .‬من أمثلته ‪" :‬دوبيه"‬ ‫‪" ، Dubay‬حيتوله" ‪" ، Ytulay‬باتوليه" ‪" ، Batulay‬رقلية"‬

‫‪" ، Riklay‬سينيه" ‪. Synay‬‬ ‫هنا من الضروري تنبيه القارئ الحصيف‪ ،‬إلى أن‬

‫نسية ‪ ،‬التي زاوجنا بها أعاله االسماء‬ ‫االسماء المكتوبة بالفـر ّ‬ ‫منا ‪ ،‬استنادًا فقط إلى‬ ‫الحالية للبلدان بالعربية ‪ ،‬ليست إال تقـديرّي ًة ّ‬ ‫ّ‬


‫‪64‬‬

‫ِ‬ ‫نسية ‪.‬‬ ‫المشابه للكلمة كما تُنطق باللغة الف ـر ّ‬ ‫الجرس ّ‬ ‫(‪)15‬‬ ‫ال للبحث نقــول ‪:‬‬ ‫تسهي ً‬

‫امية أو العر ّبية أو العبرّية‬ ‫إن كل األسماء غير اآلر ّ‬ ‫ّ‬ ‫األصل ‪ ،‬في بلدان "جبل عامل" ‪ ،‬هي على األرجح ج ّـداً ‪،‬‬ ‫نسية األصل ‪.‬‬ ‫وباألحرى على نحـو الحصر‪ ،‬فر ّ‬ ‫منها "رشكنانيه" " "شدغيت" "شلفيت" "إرمت" " إقرط "‬

‫دردغيا"‬ ‫جويا" "‬ ‫ّ‬ ‫"باصين " "برتي" "بسري" "بطيشيه" "جنسنايا" " ّ‬ ‫وباب‬ ‫اخية" "جميجيم" "شبريحا" ‪ . . .‬الخ ‪ .‬وهي كثيرةٌ ج ّـدًا ‪.‬‬ ‫"ن ّف ّ‬ ‫ُ‬ ‫البحث عليها مفتو ٌح لمن يرغب ‪.‬‬

‫أن هاتيك االسماء ذات ِجـر ٍ‬ ‫س فـرنسي غير‬ ‫ولنالحظ ّ‬ ‫خفي ‪ .‬من السهـل جــدًا على العارف أن يكتب أسماءها باللغة‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫النطق بهذه اللغة ‪ .‬فض ً‬ ‫نسية ‪ ،‬لـتأتي مناسب ًة تمامًا لقواعد ُ‬ ‫الفـر ّ‬ ‫ظل أهلها على المسيحية حتى ٍ‬ ‫وقت قريب ‪.‬‬ ‫أن بعضها ّ‬ ‫ّ‬ ‫عن ّ‬

‫نفاخية" ‪.‬‬ ‫ومنها "‬ ‫دردغيا" و " ّ‬ ‫ّ‬

‫(‪)16‬‬

‫المساعدة أيضًا في هذا البحث‬ ‫ّ‬ ‫ولعل من اإلمارات ُ‬ ‫ِ‬ ‫الدارسة في "جبل عامل"‪،‬‬ ‫العسـر‪ ،‬أن ظاهرة ُ‬ ‫القـرى الكثيرة الخراب ّ‬


‫‪65‬‬

‫التي قد ِ‬ ‫نج ُـد ذكرها في ال ُكتُب ‪ ،‬ونفتق ـد أعيانها على األرض ‪،‬‬ ‫إال‬

‫عادية في أنحائه‬ ‫من بعض اآلثار أحيانًا ‪ ،‬وهي كثيرةٌ كثرًة غير ّ‬ ‫مما نزحـ ـت‬ ‫‪ ،‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ تل ـك القـُـرى إنما ترجع ‪ ،‬فيما ُن ـ ّ‬ ‫رجـح ‪ ،‬إلى أنها ّ‬ ‫عنه أخالف وبقاي ـا الصليبيين إث ـر التحرير‪ ،‬وهج ـرة مـ ن استطاع‬

‫الهجرة منهم عائدين إلى وطن آبائهم ‪ .‬ولم ي ُكن في وسع نسبة‬

‫التكاثر السكاني الضئيلة ‪ ،‬بين أهل "جبل عامل" الفقراء‪،‬أن تفي‬ ‫بعمرانها ‪ ،‬وأن تغطي الف ـراغ السكاني الكبير ‪ ،‬الحاصـل بهجرة‬ ‫المفاجئة ‪ .‬فكان أن خـربت قُ ـراهم وبلدانهم‬ ‫جموع الصليبيين ُ‬ ‫واندرست ‪ ،‬ولم يبق منها إال أسماؤها الضائعة وآثارها ‪ ،‬التي ُّ‬ ‫تدل‬ ‫على تاريخها العمراني ‪.‬‬ ‫منها ‪:‬‬

‫"ادمت" قري ٌة خـربة من قرى ِّ‬ ‫الشعب ‪.‬‬

‫"راج" قريةٌ خـ ـربة قـُـرب "يارون" ‪.‬‬ ‫" رندا " خـ ـراب في أرض" عـيثا ِّ‬ ‫الشعب " ‪.‬‬

‫وعمران ‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫اب غرب قلعة "دوبيه" ‪ .‬فيها آثار ٍ‬ ‫عميقة‬ ‫آبار‬ ‫"زّنار" خر ٌ‬ ‫سموخه" قريةٌ خراب قُـرب "بنت جبيل" ‪.‬‬ ‫" ّ‬ ‫النبطيـة " ‪.‬‬ ‫" طهـ ّرة " خراب قُـرب "‬ ‫ّ‬


‫‪66‬‬

‫"أطـ ار" قـري ٌة لسنا نعرف أين كانـت ‪ّ .‬إنما ُيذك ـر اسمها‬ ‫لمدة قصيرة‬ ‫في بعـض المصادر‪ ،‬بمـا ُيـفه ـم منه أنها كانت عامرةً ُ‬

‫بعد الصليبيين ‪.‬‬

‫" دابل " قـريةٌ خراب قُـرب "طير ِدّبا" ‪.‬‬ ‫"شلعبون" قريةٌ خراب بين "بنت جبيل" و "عين ابل" ‪.‬‬ ‫جزين" ‪.‬‬ ‫"رمشاي" قريةٌ خراب تتبع قضاء " ّ‬ ‫"رويس" خرائب جنوب بلدة "حوال" ‪.‬‬

‫"ريشا" قريةٌ من قرى "ال ّشعب" ‪ ،‬هي اليوم خراب ‪.‬‬

‫أسماء كثيرةً غيرها ‪.‬‬ ‫وبمزيد بحث يمكن أن ُنضيف‬ ‫ً‬ ‫طيردبا" ‪ ، Tyr de bay‬على الساحل‬ ‫والظاهر أن بلدة "‬ ‫ّ‬

‫المجاور لمدينة "صور" ‪ ،‬ومنها اشتُ ّق اسمها ‪ ،‬من القرى التي‬ ‫ُ‬ ‫بقيت خرابًا بعد النزوح الصليبي ‪ ،‬إلى أن نزلتها أُسـ ٌـر ُمسلمةٌ ‪،‬‬ ‫غنية) التي قدمت من "الجزائر" ‪ ،‬ف ار ًار من ُمعاناتهم‬ ‫منها آل ( ُم ّ‬ ‫باالستعمار الفرنسي ‪ ،‬فعمرتها ‪ .‬ثم مالبثـت أن أنجبـت فـقهاء‬ ‫ٍ‬ ‫ومجاهدين معارف ‪ .‬من كبار العلماء منهم‬ ‫أجـالّء وأهل قـل ـم ُ‬ ‫المنيف في‬ ‫الفقيه الجليل الشيخ حسين‬ ‫مغنية ‪ ،‬صاحب ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدور ُ‬ ‫طى تحت اسم‬ ‫المغ ّ‬ ‫ُمقارعة االحتالل الفرنسي لـ "جبل عامل" ‪ُ ،‬‬ ‫االنتداب المعسول ‪ .‬وصاحب التصانيف الشيخ محمد جواد‬

‫غنية‪.‬‬ ‫ُم ّ‬


‫‪67‬‬

‫تغمدهم اهلل تعالى جميعًا‬ ‫ومن المجاه ـدين الشهيد عماد ُم ّ‬ ‫غنية ‪ّ ،‬‬ ‫برحمته ‪.‬‬ ‫(‪)17‬‬

‫يحس ُن بنا أن ُنضي ف إلى أسماء تلك‬ ‫في ختام الفصل‬ ‫ُ‬ ‫الدارسة ‪ ،‬ما قـد تُشير إليه أسماء أُسر ٍ‬ ‫عاملي ٍة اليوم‪.‬‬ ‫ات‬ ‫القُرى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫جوز‪ّ ،‬أنها (دارسة) ه ـي‬ ‫يمكن وصفها (االسماء) ‪ ،‬بشيء من التّ ّ‬

‫صليبية األصل ‪ .‬لك ـ ّن أبناءها كان ـوا قـ ـد‬ ‫األُخرى ‪ .‬بمعنى ّأنها‬ ‫ّ‬ ‫العمالني ـة بأوطا ن أجدادهم‬ ‫الثقافي ـة و‬ ‫المعنوية ‪/‬‬ ‫انقطع ـت صلتهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫األصلية منذ أجيال‪ .‬واألرجح أنهم طفقوا يتكلمون العـر ّبية بلهجتها‬ ‫ّ‬ ‫المحلّ​ّية ‪ .‬بحيث أنهم بالنتيجة لم يعودوا يعرفون غير "جبل‬ ‫عامل" لهم موطناً ‪.‬‬

‫تحرر "جبل عامل" من االحتالل الصليبي ‪،‬‬ ‫هؤالء عندما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫احتالل دام قرنين من الزمان إال قليال ‪ ،‬لم يجـدوا سببًا أو‬ ‫بعد‬ ‫وسيل ًة للعودة إلى أوطان أجـداده ـم البعيـدين ‪ .‬بل ربما لم يعودوا‬

‫بالضبط ‪.‬‬ ‫يعرفون ما هي وأين هي أُصولهم‬ ‫ّ‬ ‫لذلك فإنهم بقوا حيث هم ‪ ،‬واندمجوا بأهله ‪ .‬ونسوا كل‬

‫يتحولون‬ ‫ما يتعلق بتاريخهم الشخصي ‪ .‬ثم أنهم طفقوا بعد التحرير ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أسماء‬ ‫سالمية‪ .‬وحـدها‬ ‫بأسماء إ‬ ‫يتسمون‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫شيئًا فشيئًا إلى اإلسالم‪ ،‬و ّ‬


‫‪68‬‬

‫حرف ُليناسب‬ ‫الم ّ‬ ‫أُسراتهم ‪ ،‬التي احتفظت ‪ ،‬وماتزال ‪ ،‬بلفظها ُ‬ ‫نطقها بالعر ّبية ولكن ب ِجرسها الفرنسي ‪ ،‬هي الدليل الوحيد الباقي‬ ‫حتى اليوم على أصلهم البعيد ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــ‬


‫‪69‬‬

‫الفصل الرابع‬

‫تــتــار ‪ /‬مغــول‬ ‫(‪)1‬‬ ‫من هم أولئك الذين لم يكونوا شيئًا مذكو ار ‪ ،‬ليسوا في‬

‫ُحسبان أحد ‪ .‬ثم إذا بهم ينهالون وعلى كل من حولهم وعلينا‬ ‫فجأةً من أقصى الشرق ‪ ،‬أواسط القرن السابع للهجرة ‪ /‬الثالث‬

‫عشر للميالد ‪ ،‬قوةً عسكرّي ًة مهولة ‪ .‬اجتاحت دار اإلسالم من‬ ‫الشامية وأبواب "مصر" ‪.‬‬ ‫ال إلى آخر المنطقة‬ ‫مشرقها ‪ ،‬وصو ً‬ ‫ّ‬

‫ُمنزلين حيثما حّلوا من التقتيل والتدمير ماال تزال آثاره وتداعياته‬ ‫ماثلةً حتى اليوم بمختلف األشكال ‪ ،‬لمن ُيحسن قراءتها ؟‬ ‫(‪)2‬‬

‫أخص الغربيين منهم ‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫أن من المؤرخين‪،‬‬ ‫مسوغ السؤال ّ‬ ‫ّ‬ ‫أما‬ ‫من يسمونهم (المغول) ‪ّ . Mongols Mongolians‬‬

‫المسلمون منهم فيسمونهم (التتر) أو (التتار) ‪ .‬وذلك بنفسه‬

‫إشكاليةٌ تستدعي البحث عن سببه ‪ ،‬ثم عن وجه‬ ‫إشكال أو‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الصواب فيه ‪ ،‬ومن ثـ ّـم مفاد ذلك على مستوى العملية التأريخية ‪.‬‬

‫خصوصًا وأننا قد ابتُلينا بهم‪ ،‬وباتوا بالرغم عـّنا جزءًا من تاريخنا‬ ‫ودم ـروا ‪ ،‬أم بوصفهم أرباب‬ ‫المكتوب ‪ .‬سو ٌ‬ ‫اء بوصفهم ُغـ ـزاة قـتّـلوا ّ‬


‫‪71‬‬

‫ُدول في غير ٍ‬ ‫اإلسالمية ‪ ،‬تحت مختلف‬ ‫قطر من أقطارنا‬ ‫ّ‬ ‫االسماء والعناوين ‪( :‬إيلخانات) في "فارس" (‪654‬ـ ـ ـ ـ‪741‬ه ‪/‬‬ ‫‪ 1256‬ـ ـ ـ ـ ـ ‪( ، 1339‬خاقانات) في "الهند" (‪932‬ـ ـ ـ ـ ـ ـ‪ 1174‬ه‪/‬‬

‫‪ 1525‬ـ ـ ـ ـ‪1761‬م) ‪( ،‬خانات) في شبه جزيرة "القُـرم" (‪823‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ‪ 1191‬هـ ـ ‪1421/‬ـ ـ ـ ـ ـ‪1777‬م) ‪.‬‬ ‫كل حال ‪ ،‬فلنبدأ بالتعـريف ٍّ‬ ‫بكل من الفريقين ‪:‬‬ ‫وعلى ّ‬ ‫(‪)3‬‬

‫المنغـول) فهم القوم الذين تجمع بينهم‬ ‫ّ‬ ‫أما (المغول) أو ( ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫طويل بين أهل‬ ‫المغولية ‪ .‬على كالم‬ ‫أنهم الذين يتكلمون اللغة‬ ‫ّ‬ ‫اإلثنية ‪.‬‬ ‫الر ّسـّية ‪/‬‬ ‫وتنوع أُصولهم ِّ‬ ‫ّ‬ ‫االختصاص في اختالف ّ‬ ‫كان (المغول) قبائل صغيرة متناثرة ُمتنازعة ‪ ،‬قبل أن‬

‫يوحدها تيموجين‪ /‬جنكيز خان(‪ 1216‬ـ ـ ـ ـ‪1227‬م) تحت إمرته ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويمنحها وضعًا امبراطوريًا عاصمته "قراقورم" في"منغوليا" ‪ ،‬ثم‬ ‫لكن‬ ‫"خان بالق"(هي نفسها "بكين" عاصمة "الصين" اليوم)‪ّ .‬‬ ‫ال(‪1216‬ـ ـ ـ ـ‪ 1261‬م)‪ .‬بل انقسمت بعده ثالثة‬ ‫عمر طوي ً‬ ‫دولته لم تُ ّ‬

‫أقسام ‪ .‬القسم الذي ابتُلينا به منهاهو القسم الجنوب غربي الذي‬ ‫وجـه جيوشه إلى دار اإلسالم ‪ ،‬واحتـ ّل‬ ‫بإمرة ابنه ( هوالكو )‪ .‬إذ ّ‬ ‫اسية ‪ ،‬ث ـم أنه‬ ‫"بغداد" حيث قضى‬ ‫العب ّ‬ ‫قضاء ُمبرمًا على الخالفة ّ‬ ‫ً‬


‫‪71‬‬

‫اجتاح بالد"الشام" واحتـ ّل"دمشـق"‪.‬وفـيها بلغته وفـاة أخـيه الخاقان‬ ‫االعظم للمغول (مونكوخان) ‪ .‬فرجع بمعظم جيشه المؤلف من‬ ‫المغول إلى عاصمتهم "قراقورم" في "منغوليا"‪ ،‬ل ُيشارك في انتخاب‬ ‫الخاقان الجديد‪ .‬تاركاً مابقي من جيشه بقيادة أحد ضباطه‬

‫المدعو (كيتوبوقا)‪ ،‬المعروف بين مؤرخينا بـاسم (كتبغا)‪ .‬هو‬ ‫الذي هزمه المماليك في مع ـركة "عين جالوت" الفاصلة ‪.‬‬

‫ال ‪،‬‬ ‫سياسي جديد في المنطقة إجما ً‬ ‫ٌّ‬ ‫بالنتيجة نش ـ ـأ وضعٌ‬ ‫حدوده نهر"الفرات"‪ .‬حيث بات منه وشرقًا تحت الحكم المغولي‪.‬‬

‫ومنه وغربًا دولة المماليك ‪ ،‬بعد أن صعدوا على قاعدة انتصارهم‬ ‫العظيم في "عين جالوت" ‪.‬‬

‫واليوم يعيش المغول في جهورية"منغوليا"‪،‬حيث يش ّكلون‬

‫الداخلية) ‪ ،‬حيث‬ ‫أغلب سكانها ‪ ،‬وفي "روسيا"و"الصين" (منغوليا‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫الية ‪ ،‬وفي بعض‬ ‫يتمتّعون بنمط من الحكم ال ّذاتي ضمن الفيدر ّ‬

‫أنحاء المنطقة المعروفة تاريخياً بـ "خراسان الكبرى" أو "ماوراء‬ ‫النهـر" ( ُيسميها الغربيون ومن تبعهم "آسية الوسطى") ‪ .‬ومنهم‬ ‫مي ـز في‬ ‫أقلّ​ّية ( اله ازرة )‬ ‫الشيعية الشهيرة في "أفغانستان"‪ ،‬ذات التّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أقلية في شرق "أُوروبة"‬ ‫حضورها الثقافي والعملي ‪ .‬كما أن منهم ّ‬

‫تُعرف باسم (الكماليك) ‪.‬‬


‫‪72‬‬

‫(‪)4‬‬ ‫أما (التّتر) أو (التتار) فهم من جملة الشعوب الـتـركـّيـة‬ ‫ّ‬ ‫التركية المتعددة ‪.‬‬ ‫الطورخانية) ‪ .‬تتكّلم لهج ًة من اللهجات‬ ‫(‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫وبذلك تمتاز عن المغول الذين يجمع بينهم أنهم يتكلمون اللغة‬ ‫المغولية كما عرفنا ‪ .‬لغتهم الخاصة تنتمي للمجموعة اللغوية‬ ‫تضم اللهجات‬ ‫الم ّ‬ ‫سماة بـ (الكيبجاك) (عندالعـرب‪ :‬القفجاق)‪ ،‬التي ّ‬ ‫ُ‬ ‫بايجانية والقرغـيزّية والتركمانية ‪.‬‬ ‫اخية واألذر‬ ‫ّ‬ ‫بكية والكاز ّ‬ ‫األوز ّ‬

‫أن ابن خلدون ُيسمي التتار بـ‬ ‫ُنشير بالمناسبة إلى ّ‬ ‫نظن أنه ليس إال‬ ‫اسم غر ٌ‬ ‫يب غير معروف‪ّ .‬‬ ‫(التّغزعز)‪ .‬وهو ٌ‬ ‫تصحيفًا ‪ ،‬منه أو من ُّ‬ ‫الن ّساخ ‪ ،‬لـكلمة (القرغيز) ‪ ،‬وهؤالء من‬

‫التركية كما سنعرف ‪.‬‬ ‫القوميات التترّية ‪/‬‬ ‫جملة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كانت قبائل (التتر) التُّرك ‪ ،‬التي كانت قد دخلت في‬ ‫ٍ‬ ‫حروب طويلة مع الفاتحين المسلمين ‪،‬‬ ‫اإلسالم قبل قرون ‪ ،‬بعد‬

‫ـ ـ ـ ـ ـ كانت تنتشر في سهوب "خراسان الكبرى" الواسعة ‪ .‬بين‬ ‫الهضبة اإليرانية و"روسيا" و"الصين" ‪ ،‬كما التزال أخالفُها ‪ .‬لكن‬ ‫امية‬ ‫بعد أن باتت اليوم ُدوالً تحمل بأمانة أسماءها القب ّلية ‪ /‬األقـ ـو ّ‬

‫‪ " :‬أوزبكستان" ‪" ،‬كازاخستان " ‪" ،‬قيرغيزستان" ‪" ،‬طاجيكستان" ‪،‬‬ ‫جر ‪.‬‬ ‫وهلم ّا‬ ‫"تركمانستان" ّ‬


‫‪73‬‬

‫(‪)5‬‬ ‫وعندما ظهر (تيموجين)‪ /‬جنكيز خان‪ ،‬ونجح في توحيد‬

‫المغول‪ ،‬لم تجد األقوام التترّية أدنى صعوب ًة في االنضمام‬ ‫لمشروعه السياس ـ ـ ـ ـ عسكري ‪ .‬بل لعلّها تل ّقته بكامل الغبطة‬

‫جيدا الثروات الهائلة التي‬ ‫والرضى ‪ ،‬وهي التي كانت تعرف ّ‬ ‫تنتظرها إلى الغرب منها في بالد "فارس" و"العراق"‪ .‬ولم يكونوا‬ ‫يستفيدون منها إال ببيع أبنائهم وبناتهم ألهـلها ‪ ،‬ليكونوا غلمانًا‬

‫لكنهم‬ ‫وجواري في خدمتهم ‪ ،‬أو عسك ًار في خدمة النظام الحاكم ‪ّ .‬‬

‫كانوا‪،‬إذ يبيعونهم‪،‬يحصلون على األقـ ّل على أثمانهم من ُّ‬ ‫الن ّخاس‪،‬‬ ‫ال عن أنهم ببيعهم‬ ‫كما ويتخلّصون من عبء إعالتهم ‪ .‬فض ً‬

‫ٍ‬ ‫لعيش رغيد ‪ ،‬وان بصفتهم مملوكين ‪،‬‬ ‫جيدة‬ ‫يمنحونهم فرص ًة ّ‬ ‫بالقياس إلى الفقر الذي ُيعانونه في ربوعهم ‪.‬‬

‫والحقيقة أن جنكيز خان ‪ ،‬بالنظر إلـى طموحاته ذات‬

‫ي ‪ ،‬وبالقياس إلى عديد قومه الضئيل نسبيًا ‪،‬‬ ‫الطابع االمبراطور ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ماس ٍة إلى العديد الهائل لجيرانه ( التتر) ‪ .‬وما ن ـدري‬ ‫كان بحاجة ّ‬

‫السياسية ‪ ،‬ذات الطابع العسكريتاري ‪ ،‬التي‬ ‫ما هي التسويات‬ ‫ّ‬ ‫ج ـرت وراء السـّت ـار بين جنكيز خان ‪ ،‬وبين القيادات القـبـلـّي ـة ‪/‬‬ ‫امية التترّية ‪ .‬ولكن من المؤ ّكد ‪ ،‬أنها انتهـت بانضمام جموع‬ ‫األقو ّ‬


‫‪74‬‬

‫أن‬ ‫العـليا‬ ‫المغولية ‪ .‬كما ّ‬ ‫ّ‬ ‫(التتر) الهائلة إلى الجيـش ذي القـيادة ُ‬ ‫ضّباط الجيش اّللجب أعدا ٌد‬ ‫من المؤ ّكد أيضًا ّأنه كان بين كبار ُ‬

‫اإلسالمية أحيان ـًا‬ ‫ممن ق ـد تلمع أسماؤهم‬ ‫ّ‬ ‫غير قليلة من (التتر) ‪ّ .‬‬ ‫يخية للفترة ‪.‬‬ ‫في نصوصنا التار ّ‬ ‫(‪)6‬‬

‫ُّ‬ ‫ئ معنا‬ ‫أظن أننا بهذا البيان الواضح قد بتنا ‪ ،‬وبات القار ُ‬ ‫تصوٍر يسمح لنا بأن نقول ماخالصته ‪:‬‬ ‫‪ ،‬مالكين لعناصر ّ‬

‫الغالبية األعظ ـم في‬ ‫ـ ـ ـ ـ ـ إ ّن (التتر) المسـلمين كانوا‬ ‫ّ‬ ‫الجرار الذي اجـتـاح (دار اإلسالم) من مشرقها ‪ُ ،‬م ِ‬ ‫نزالً به‬ ‫الجي ـش ّ‬ ‫مانعـرفه من تقـت ٍ‬ ‫ـيل وتدمير‪.‬‬

‫الممسكين بناصية الق ـرار السياسي‪،‬‬ ‫ـ ـ ـ ـ إن(المغول) كانوا ُ‬ ‫الكامن خلف الخطط واألعمال العسكرّية ‪ ،‬بوصفهم أصحاب‬

‫السياسية‬ ‫المتقـ ّدمة في رؤيتها‬ ‫ّ‬ ‫المبادرة ‪ ،‬وبصفتهم الكتلة البشرّية ُ‬ ‫ُ‬ ‫الصارم ‪ .‬بالقياس إلى جموع (التتر)‬ ‫ونظامها الملكي االنتخابي ّ‬ ‫البداة ‪ ،‬الذين التحقوا ‪ ،‬أو باألحرى أُلحقوا إلحاقاً ‪ ،‬بقرٍار من‬ ‫شبه ُ‬ ‫القيادة المغولية ‪ ،‬العتبار ٍ‬ ‫ات لوجستـّي ٍة بحتة ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هكـذا ‪ ،‬فنحن عـنـدما نرى المؤرخين المسلمين بالعـ ـر ّبية‬ ‫سمون الذين اجتاحوا عاصمة الخالفة "بغداد" وغيرها بـ(التتر) ‪،‬‬ ‫ُي ّ‬ ‫فألنهم هم الذين رأوهم رأي العين يفعلون األفاعيل فيها ‪.‬‬


‫‪75‬‬

‫أما الغـر ّبيون منهم ‪ ،‬فإنهم نظروا إلى أن الذين اجتاحوا‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مغولية ‪.‬‬ ‫بقيادة‬ ‫الشرقية " وغيرها كانوا‬ ‫مااجتاحوه من " أُوروبا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫دون أن يكون في وسعهم التمييز بين (المغول) و(التتر)‪ ،‬لِما بين‬ ‫ٍ‬ ‫الجثمانية ‪.‬‬ ‫تشابه في الصفات‬ ‫االثنين من‬ ‫ّ‬

‫ثم أنهم لم يروهم يرتكبون مثل ذلك الذي ارتكبه (التتر)‬

‫ٍ‬ ‫الوحشية ‪.‬‬ ‫أعمال في الغاية من القسوة‬ ‫في"بغداد" وغيرها ‪ ،‬من‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫بكلمات نادبة ‪.‬‬ ‫سجلها مؤرخون مسلمون‬ ‫ّ‬ ‫(‪)7‬‬

‫صور لدينا عن تركيبة القُوى الغازية‬ ‫ومما ُيكم ُل هذا التّ ُّ‬ ‫ّ‬ ‫المغولية‪ ،‬أن هوالكو‪ ،‬إذ كان ُيحاصر "بغداد" ‪،‬‬ ‫تحت القيادة‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫المحاصر المستعصم باهلل ‪ ،‬عارضًا‬ ‫اتصل بوسيلة ما بالخليفة ُ‬ ‫عليه الخروج للتفاوض ‪ ،‬آمنًا على نفسه ‪.‬‬ ‫ولدى خـروج الخليفة ِقـيـد إلى خ ـركاه (خيمةٌ تترّية من‬ ‫التقليدية‬ ‫جلود)‪ ،‬حيث وجد بانتظاره عدداً من فقهاء التتر باألزياء‬ ‫ّ‬ ‫للفقهاء ‪ ،‬طفقوا ُيجادلونه بالكتاب والسُّّنة ‪ ،‬بما هو أشبه بجلسة‬ ‫علنية للخليفة‪ .‬تحاسبه على سلوكه ونمط حيات ـه الالهية‪،‬‬ ‫ُمحاكمة ّ‬ ‫المحدقة بالمسلمين ‪ ،‬ولم ُي ِع ّـد‬ ‫دون أن يكت ـرث بالُّنـ ُذر بالمخاطر ُ‬ ‫للدفاع عنهم ُع ـ ّدته ‪ .‬بل مضى في حياته الالهية ‪ُ ،‬منصرفًا إلى‬


‫‪76‬‬

‫ملـ ّذاته‪ ،‬مع الحرص الشديد على أمواله ‪ ،‬فال ُينفقها على شؤون‬ ‫المالية الكبيرة ‪.‬‬ ‫الدفاع ‪ ،‬كما يقتضي منصبه الرفيع وموارده‬ ‫ّ‬ ‫األمر الذي يوجب عزله ‪ ،‬حتى لو اقتضى األمر اللجوء إلى‬

‫كأن أُولئك الفقهاء التتر بهذه األُطروحة كانوا‬ ‫القوة القاهرة ‪ .‬ف ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعملون على منح ٍ‬ ‫عية النضمامهم إلى المغول في‬ ‫نمط من ال ّشر ّ‬

‫حربهم عـلى المسلمين‪ .‬بل‪ ،‬ربما ‪ ،‬حـتى يمنح ش ـرع ـّي ًة ّما للمغول‬ ‫الوثنيين ‪ .‬باعتبارهم عـقوب ًة من اهلل تعالى ‪ ،‬سّلطها على الخليفة‬ ‫المنحرف‪ ،‬وعلى ِّ‬ ‫يتمسكون بشرعيته ‪.‬‬ ‫كل الذين ّ‬ ‫ُ‬ ‫وطبعاً كان ذلك المشهد إنما تـ ّـم بالرضى والرعاية‬ ‫امين من هوالكو نفسه‪.‬بشهادة أنه هو الذي منح الخليفة‬ ‫التّ ّ‬ ‫أن‬ ‫المسكين األمان‪ ،‬ثـم وفى له بما وعـد‪ .‬ومن‬ ‫الغني عن البيان‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬

‫السياسية العليا للجيش ‪ ،‬كان‬ ‫هوالكو ‪ ،‬بوصفه القيادة العسكرّية و‬ ‫ّ‬ ‫الحية في الجبهة لهذا اإلجراء‬ ‫الص ّ‬ ‫السلطة و ّ‬ ‫الذي يملك حص ًار ُ‬ ‫ومثـله ‪.‬‬

‫ملي ـًا في عناصـ ـر‬ ‫يتأمل ّ‬ ‫بل ّ‬ ‫إن القارئ اللبيب ‪ ،‬إذ هـ ـو ّ‬ ‫ال‪،‬‬ ‫ذلك السيناريو‪ ،‬ق ـد يكتشف بسهولة ‪ّ ،‬أنه كان ‪ ،‬جمل ًة وتفصي ً‬

‫من ُبنات أفكار هوالكو‪ .‬ال ـذي الب ـ ّد ّأنه كان يضع في ُحس ـبانه‬ ‫اجتياح دار الخالفة مع ضمير القسم األكبر‬ ‫احتمال أن يتعارض‬ ‫ُ‬


‫‪77‬‬

‫من عسكره المسلم ‪ .‬األمر الذي ‪ ،‬إن حصل ‪ ،‬سيكون له أســوأ‬ ‫األثر على الحافز القتالي المعنوي لألكثرّية المسلمة من عسكره ‪.‬‬ ‫يوجه أذهانهم وضمائرهم باالتجاه‬ ‫فلجأ إلى ذلك التدبير البارع ل ّ‬ ‫يدل على ٍ‬ ‫الذي ُيناسبه ‪ .‬وذلك ُّ‬ ‫دهاء ما بعده دهاء ‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬ ‫ٍ‬ ‫إضافيـة ‪،‬‬ ‫حصيلة‬ ‫الس ـرد أراه قـ ـد أوصلناعـف ـواً إلى‬ ‫ّ‬ ‫هذا ّ‬ ‫يح وهمًا شائعًا ‪ ،‬موضوعها االنتصار التاريخي للمسلمين في‬ ‫تُز ُ‬ ‫معركة "عين جالوت" ‪.‬‬

‫قدم الحدث بوصفه معرك ًة‬ ‫الصورة الشائعة في األذهان تُ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫نتيجة غير مسبوقة‪ ،‬حيث‬ ‫بين المسلمين والمغـول ‪ .‬انتهت إلى‬ ‫مرة ‪.‬‬ ‫ألول ّ‬ ‫ذاق المغـول طعم الهزيمة ّ‬ ‫يخية للمعـركة ‪ ،‬فإننا نرى‬ ‫التام بالقيمة التار ّ‬ ‫مع تسليمنا ّ‬

‫أن من التبسيط وفق ـرالمعلومات أن ُيقال ّأنها كانت بين مسلمين‬ ‫خل بالحقيقة ‪ .‬بل الحقيقة ّأنها كانت بين فريقين‪،‬‬ ‫ومغول ‪ .‬ذلك ُم ّ‬

‫كالهما لألسف من( التت ـر) المسلمين‪ .‬المماليك الذين ترجع‬

‫عامته ـم من‬ ‫أُصولُهم إلى "خراسان الكبرى" ‪" /‬ماوراء النهر"كان ّ‬ ‫(التتر)‪ ،‬وان هم ُس ّموا على لسان المسلمين بـ(التُّرك)‪ .‬وال ُم َّ‬ ‫شاحة‬ ‫مابيّنا‬ ‫أن (التتر) هم من(التُّرك) ‪ ،‬على ّ‬ ‫في األمر‪ ،‬فمن المعلوم ّ‬ ‫قبل قليل ‪.‬‬


‫‪78‬‬

‫ُّ‬ ‫يدل على ذلك ما هو معروف أن الجمهوريين األتراك ‪،‬‬ ‫العثمانية ‪ ،‬طفقوا يتداولون عناصر‬ ‫بعد أن قضوا على الخالفة‬ ‫ّ‬ ‫دستور دولتهم الجمهورّية الجديدة ‪ ،‬ومنها طبعًا اسم الدولة ‪ ،‬ـ ـ ـــ‬

‫فكان من الطروحات اسمًا لها ُيرجعها إلى األصل العـريق لشعبهم‬ ‫ال ‪( ،‬الجمهورية التترّية) ‪ .‬لكنهم ‪ ،‬بنهاية‬ ‫التتري ‪ .‬كأن ُيقال ‪ ،‬مث ً‬

‫تجم ٍع‬ ‫التداول‪ ،‬آثروا اسم "الجمهورّية‬ ‫ّ‬ ‫التركية "‪ ،‬ربما بسبب وجود ّ‬ ‫سكاني تتاري كبير في "القفقاز" ‪ .‬هو الذي بات اليوم من‬ ‫الية الروسية ‪ ،‬تحمل اسم "جمهورّية‬ ‫الجمهورّيات‬ ‫المكونة للفيدر ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتارستان" ‪ ،‬عاصمتها "قازان" ‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫نقول َّ‬ ‫كل ذلك ‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار أن قيادة‬ ‫الغزاة يوم "عين جالوت" كانت بالفعل من (المغول) ‪ُ ،‬ممثّـلين‬ ‫ُ‬ ‫بالضابط المغولي (كيتا بوقا) ‪( /‬كتبغا) ‪ .‬الذي أوكل إليه‬

‫(هوالكو) قي ـادة م ـن بق ـي من جيشه في " دمشق " ‪ ،‬ق ـبل أن يشـ ـ َّد‬

‫ولية " قراقورم " ‪ .‬ليشارك في‬ ‫الـ ِّرحال ُمسـرعاً إلى العاصمة المغ ـ ّ‬ ‫انتخ ـاب الخاقان األعظم الجديد‪ ،‬بوصفه أحـد المر ّشحين للمنصب‬ ‫الكبير ال ّشاغر‪.‬‬

‫لذلك فإنه اصطحب معه أكثر عـسكره المغـولي ‪ ،‬ربمـا‬


‫‪79‬‬

‫ألنه لم يكـن يعـرف على أي مستـوى سيجـري حـ ّل قضية خالفة‬

‫الخاقـان المتوفى‪ .‬مع األخذ بعين االعتبار احتمال الحاجة إلى‬ ‫حل عسكري ‪ ،‬أو إلى ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫حل سياسي ُمسـتـنـ ٍد إلى ميزان القُ ـوى‬ ‫ي بين المتنافسين‪ ،‬كما سيحصل بالفعل بع ـد قليل‪.‬وذلك‬ ‫العسكر ّ‬ ‫إثر وصول آخر الخاقانات المغول العظام المسمى(قوبالي خان)‬ ‫إلى السلطة العليا ‪ .‬لكنه لم يستمر في منصبه سوى أربع سنوات‬

‫(‪1261‬ـ ـ ـ ‪1264‬م)‪.‬من بعده انقسمت االمبراطورّيةُ إلى أربعة‬ ‫أقسام‪.‬‬

‫ما من ر ٍ‬ ‫أن(هوالكو) لم يترك خليفته في "دمشق"‬ ‫يب في ّ‬

‫وحيداً بين جموع (التتر) الغفيرة ‪ .‬بل استبقى عدداً مناسبًا من‬ ‫الضباط والعسكرالمغولي‪،‬حفاظاً على الحضور المغولي المعنوي‬

‫لكن‬ ‫الممسكين بالقرار السياسي ـ ـ ـ ـ العسكري‪ّ .‬‬ ‫‪ ،‬بوصفهم المالكين و ُ‬ ‫القوة الغازية ‪ ،‬التي قاتلت فيما بعـد العسكر المملوكي في‬ ‫عماد ّ‬ ‫"عين جالوت" ‪ ،‬كانت ‪ ،‬وال ريب أيضًا‪ ،‬من (التتر) المسلمين ‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫ُّ‬ ‫تستحق‬ ‫ورد معلومة طريفة جداً‪ ،‬نراها‬ ‫في ختام الفصل ُن ُ‬ ‫التسجيل لطرافتها ‪ .‬وان لم ت ُكن ذات عالقة بعمود البحث‬

‫لكنها تُضيف معلوم ًة نادرةً لبعض ذيول الغزو‬ ‫واشكاليته ‪ّ .‬‬ ‫المغولي لبالدنا‪ .‬وهي من أوائل تسجيالتي الكثيرة ‪ .‬يرجع تاريـ ُخ‬


‫‪81‬‬

‫كنت قد تل ّقيتُها من‬ ‫تسجيلها إلى زهاءنصف قرن من الزمان ‪ُ .‬‬ ‫كنت أُع ُّـد فيها‬ ‫أحد أساتذتي في "جامعة بيروت العر ّبية"‪ ،‬يوم ُ‬

‫إلجا ٍزة في علمي االجتماع والس ّكان‪ .‬رواها لي يوم ّلبى دعوتي‬ ‫عت ف ــو ًرا‬ ‫إياه لزيارة "بعلبك" ‪ ،‬والتّمتّع برؤية قـلعتها العظيمة‪ .‬فسار ُ‬ ‫إلى تسجيلها لطرافتها ‪ ،‬كي التضيع من الذاكرة ‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫أن األستاذ رحمه اهلل كان قد أُعير من‬ ‫خالصة‬ ‫القصة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫جامعة في المنطقة المعروفة اليوم بـ‬ ‫جامعة "اإلسكندرّية" إلى‬ ‫يخية ‪ .‬لكنها‬ ‫"منغوليا‬ ‫الداخلية" ‪ .‬وهي جزٌء من "منغوليا" التار ّ‬ ‫ّ‬ ‫اليوم مقاطعةٌ ذات ٍ‬ ‫الية ‪.‬‬ ‫حكم ذاتي في "الجمهورية‬ ‫الصينية" الفيدر ّ‬ ‫ّ‬ ‫سكانها من المغول ‪ .‬وفيها قبر (جنكيز خان) ‪ .‬وفي غـر ّبي ها‬

‫ـليةٌ كبيرةٌ من المسلمين ‪ ،‬تبلغ نسبتهم فيها إلى مجموع السكان‬ ‫أق ّ‬ ‫األقل من الشيعة ‪ .‬تنتشر فيها المساجد ‪.‬‬ ‫‪ %17‬تقريبًا ‪ ،‬بعضهم‬ ‫ّ‬ ‫ودّيـةٌ بين األس ـتاذ‬ ‫وكما هو متوّقع ‪ ،‬قامت‬ ‫صالت ّ‬ ‫ٌ‬ ‫المسلم وبين بعض المسلمين هناك ‪ ،‬من تالميذه وغيرهم ‪ .‬حيث‬

‫عـرف منهم ّأنهم‪ ،‬وان يكونوا معدوديـن اليوم م ـن جملـة(المغول)‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫تضرب‬ ‫وليـ ٍة كاملـة األوصـاف‪ ،‬لـكـ ّن أُصولهم البعيدة‬ ‫بس ـحنة مغـ ّ‬ ‫ُ‬ ‫إلى أجدادهم العـرب المسلمين‪ ،‬الذين قدموا من البالد العـر ّبية ‪.‬‬


‫‪81‬‬

‫وطبعاً كان هذا الكالم موضع ُّ‬ ‫تعجب وريبة األستاذ ‪.‬‬

‫في سبيل تأكيد دعـواهم ‪ ،‬قالوا لألستاذ إّنهم يحتفظـون‬ ‫ٍ‬ ‫بكنز تاريخي ثمين يتصل بأصلهم العـربي البعيد‪ ،‬هو عبارةٌ عن‬

‫شواهد قبور أجدادهم األولين العـرب ‪ ،‬الذين قدموا من بالدهم ‪.‬‬

‫اضطروا أخي اًر إلى‬ ‫مهمة حفظها مدة قرون‪ .‬لكنهم‬ ‫ّ‬ ‫توالى أسالفهم ّ‬ ‫الثقافية في "الصين"‪،‬‬ ‫نزع الشواهد عن قبور األجداد‪ ،‬أثناء الثورة‬ ‫ّ‬ ‫الصينيـة إلى إتالفها ‪ ،‬فـيمـا أتلفـته م ـن‬ ‫خشـية أن تعم ـد السلطات‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مكان‬ ‫التراث الصيني العـريق ‪ .‬ومن ثـ ّـم عمدوا إلى إخفائها في‬ ‫حـر ٍ‬ ‫اليمانعون في‬ ‫يز مكتوم ‪ .‬لكنهم ‪ ،‬ثق ًة منهم بشخصه ‪ُ ،‬‬ ‫إطالعه عليها إن رغب ‪.‬‬ ‫قال األستاذ ‪ ،‬إّنه ُذهل عندما رأى أمامه عشرات شواه ـد‬ ‫ٍ‬ ‫أشخاص‪ ،‬مشفوع ًة‬ ‫القبورالحجرّية‪،‬المرقـومة باللغة العـر ّبية بأسماء‬

‫بتواريخ وفياتهم ‪ ،‬ترجعُ جميعه ـا إلى القـ ـرن السابع الهج ـري ‪/‬‬ ‫أن تلك القبـور هي من‬ ‫الثالث عشر الميالدي ‪ .‬فعرف من ف ـوره ّ‬

‫أن‬ ‫فترة الغزو المغولي ‪ّ .‬‬ ‫وقدر‪ ،‬بما لـديه من خب ـ ٍرة ومعرفة ‪ّ ،‬‬ ‫ممن اصطحبهم (هوالكو) إذ‬ ‫أولئك ّ‬ ‫الدفينين ما ُه ــم إال أُسارى ‪ّ ،‬‬ ‫ال‬ ‫رجع إلى"منغوليا"‪ .‬ليتوفوا هناك بعد أن أنجبوا وتنامى نسلهم جي ً‬ ‫القصية ‪،‬‬ ‫بعـ ـد جيل ‪ .‬وهم أصل انتشار اإلسالم في تلك البقعة‬ ‫ّ‬


‫‪82‬‬

‫لكنهم ل ـم ينسوا أصلهم البعيد ‪،‬‬ ‫إسالميةً ‪ّ .‬‬ ‫التي لم تعرف دع ـوةً‬ ‫ّ‬ ‫بل وثبتوا على دينهم ‪ ،‬وأنشأوا المساجد وعمروها ‪ .‬كما أنهم‬

‫احتفظوا بقبور أجدادهم طوال سبعة قرون ‪ ،‬إمارًة على ُه ـويتهم‬ ‫الفقيدة ‪ .‬ولعلّها ما تزال هناك حتى اليوم ‪.‬‬ ‫ـــــــــــــــــــــــــ‬


‫‪83‬‬

‫الـفـصــل الخامس‬ ‫أيــال ‪ /‬إيـلـيّـا ‪ /‬إلـيــاس‬ ‫(‪) 0‬‬ ‫الكلمات الثالث ّ‬ ‫هن أسما ٌء ل ُمس ّمى واحد ‪ .‬ل ّكنها أثناء‬ ‫ت ثقافيّة ‪ ،‬لغـويّة ‪/‬‬ ‫حراكها في الزمان الطويل ‪ ،‬خضعت لمؤثّرا ٍ‬ ‫فيلولوجيّة بالتحديد ‪ ،‬نالت بعض االسم فب ّدلته ‪ .‬وبذلك آل أم ُرها‬ ‫عندنا إلى أن باتـت إشكاليّة بحث ‪.‬‬ ‫وسنُفصّ ل وجه األمر‪ ،‬الذي جعـل منها إشكاليّة تحت‬ ‫العنوان العا ّم لبحثنا بعد قـليل ‪.‬‬ ‫االسمان الثاني والثالث من مقطعين ‪ ،‬أولهما ثابت هو‬ ‫(إيل) بمعنى (ربّ ) أو (إله)‪( .‬ليس دقيقا ما قـيل أن معناها(هللا) ‪،‬‬ ‫ألن هذا اسم عل ٍم هلل الواحد ّ‬ ‫عزوجلّ وحده) ‪ .‬أ ّما ال ُمتغيّر فهو ‪ ،‬في‬ ‫(إيليّا)‪( ،‬يا) ‪ .‬وفي (إلياس) ‪ ،‬التي أصلها (إيل ياس) ‪( ،‬ياس) ‪.‬‬ ‫األول من األسماء الثالثة فله ٌ‬ ‫شأن مختلف ‪ .‬سنقفُ عليه‬ ‫أ ّما االسم ّ‬ ‫عن قريب ‪ .‬بعد اإلشارة إلى ّ‬ ‫أن التركيب نجده مقلوبا في اسم‬ ‫ج ّدنا (إسماعـيل) ‪ /‬اسماع إيل ‪ :‬ربٌّ سميع ‪.‬‬ ‫على أن الالحقتين كلتاهما بمعنى ‪ .‬تعنى المنسوب إليه ‪.‬‬ ‫أي أن المعنى فيهما ‪ ،‬ال ُمر ّكب من الكلمتين ‪ ،‬يُشبه كلمة ( ربي )‬


‫‪84‬‬

‫بالعـربيّة‪ .‬غاية األمر أن األُولى منهما باللغة العبريّة ‪ ،‬أ ّما الثانية‬ ‫فهي باليونانيّة ‪.‬‬ ‫فمن هنا نعرفُ أن كلمة (الياس) القرآنيّة ‪ ،‬إسما للنبي أو‬ ‫الرسول المعروف ‪ ،‬الذي يتكرّر ذكره في التنزيل الحكيم ‪ ،‬هي‬ ‫ت كثير ٍة غيرها ‪ .‬أكثرها دورانا على‬ ‫أصل‬ ‫من‬ ‫يوناني ‪ .‬شأن كلما ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫األلسُن (درهم) (باليونانيّة ‪ :‬دراخما) ‪ ،‬و(دينار) (باليونانيّة ‪:‬‬ ‫ت ثقافيّ ٍة عـريق ٍة ج ّدا بين العـربيّة‬ ‫ديناريوس) ‪ .‬ما يدلُّ على صال ٍ‬ ‫واليونانيّة ‪ ،‬ترقى إلى عهو ٍد سحيقةٍ غير مؤرّ خة ‪ .‬ذلك ّ‬ ‫ألن لوال‬ ‫شيوع النّقدين بين السكان العرب في شبه الجزيرة ‪ ،‬لما دخلت‬ ‫الكلمتان بسهول ٍة إلى لغتهم ‪ ،‬كما التزاالن ‪.‬‬ ‫(‪) 2‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن هذا ال ّدرس اللغوي‪/‬الفيلولوجي سيطرح‬ ‫حسنا ‪،‬‬ ‫السؤال الذي بات تقليديّا في بحثنا ‪:‬‬ ‫كيف ولماذا دخل االسمان تحت عنوان بحثنا ؟‬ ‫التاريخي الخبيء فيهما ؟‬ ‫ما هو السّـرُّ‬ ‫ّ‬ ‫في الجواب نقول ‪ :‬إ ّن في "سهل البقاع" قـريةٌ تحم ُل اسم‬ ‫مقام لهذا النبي فيها ‪ ،‬أيّا ي ُكن‬ ‫"النبي أيال" ‪ .‬اسمها قاد ٌم من وجود ٍ‬ ‫اسمه من الثالثة االسماء ‪ ،‬شأن غير قـري ٍة من قُرى المنطقة ‪.‬‬


‫‪85‬‬

‫ب في ّ‬ ‫أن المقطع الثاني من اسم القرية ــ المقام‪:‬‬ ‫ما من ري ٍ‬ ‫"أيال" هو ُمحرّ ٌ‬ ‫ف من (إيليّا) ‪ ،‬طلبا لسهولة اللفظ ‪ ،‬كما هو شأنُ‬ ‫العا ّميّة غالبا ‪ .‬أي ّ‬ ‫أن اسمها األصلي ‪ ،‬واسم دفين المقام ‪ ،‬هو‬ ‫"النبي إيليّا" ‪ .‬ولذلك ضربنا صفحا عن ض ّم كلمة (أيال) إلى‬ ‫ال ّدرس اللغوي الذي بسطناه أعاله ‪ ،‬مع أنها جز ٌء من عنوان‬ ‫ّ‬ ‫الفصل ‪ .‬وذلك بالنظر إلى ّ‬ ‫مستقال ‪،‬‬ ‫أن كلمة "أيال" ليست اسما‬ ‫يستدعي بحثا خاصّا ‪ .‬وأن ما قلناه وسنقوله على أصلِها (إيليّا)‬ ‫سيفي بالمطلوب ‪.‬‬ ‫ق الذكر بل التنويه‪ .‬هي ّ‬ ‫ثمة ظاهرةٌ تستح ُّ‬ ‫أن المقام‬ ‫مقصو ٌد بكثاف ٍة من س ّكان الوسط ال ُمحيط بالقرية ب ُمسلميه‬ ‫ومسيحييه على حـ ٍّد سواء ‪ .‬ولهم جميعا فيه عـقيدةٌ قويّة ‪ .‬بحيث‬ ‫يحتكمون إليه في نزاعاتهم وخصوماتهم ‪ .‬العتقادهم الرّ اسخ بأن‬ ‫ما من أحـ ٍد يجروء على حلّف اليمين الفاصلة عند القبر ‪ ،‬ما لم‬ ‫ي ُكن صادقا في قوله ‪.‬‬ ‫من هنا ّ‬ ‫فإن من يدخل المقام ‪ ،‬خصوصا في أيام نهاية‬ ‫يجـ ُد فيه مجموعة‬ ‫األُسبوع ‪ ،‬ما بين يومي الجمعة واألحد ‪ ،‬قد ِ‬ ‫من المسلمين ‪ ،‬إلى جنب أُخرى من المسيحيين ‪ ،‬يزورون نبيهم‬ ‫جو من االنسجام‬ ‫ال ُمشترك أو يُصلّون ‪ ،‬كلٌّ على طريقته ‪ .‬في ٍّ‬


‫‪86‬‬

‫والتّلقائيّة ‪ُّ .‬‬ ‫أظن أنّها حالةٌ فريدةٌ ال ثاني لها ‪ ،‬في كلِّ ما نعرفه من‬ ‫المقامات الدينيّة في الدنيا ‪.‬‬ ‫ليس هذا فقط ‪ .‬بل ّ‬ ‫إن من العجائب ذات العالقة بالمقام ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أن المسيحيين يُس ّمون صاحبه باسمه القرآني ‪( :‬إلياس) ‪ .‬في حين‬ ‫ّ‬ ‫أن المسلمين يُسمونه باسمه اليوناني ‪ ،‬والمسيحي ضمنا ‪( :‬إيليّا) ‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫وإن بصيغته ال ُمحرّ فة (أيال) ‪.‬‬ ‫م ّما الريب فيه عندنا‪ّ ،‬‬ ‫أن هذه الحالة بكامل مواصفاتها ‪،‬‬ ‫وبالخصوص تقديره ال ُمشترك من مسلمي ومسيحيي المنطقة ‪ ،‬لم‬ ‫تتج ّمع وتتكامل على هذا النحوباألمس القـريب ‪ .‬بل إنّها ‪ ،‬دون‬ ‫ريب ‪ُ ،‬منغرسةٌ في أعماق التاريخ البعيد للمنطقة وأهلها ‪ ،‬الذي‬ ‫ُّ‬ ‫نظن أنّه يرقى إلى آالف السنين ‪ .‬األمر الذي يستدعي المؤرّ خ‬ ‫االنساني أن يُعمل فيه آليّاته البحثيّة ‪ ،‬ابتغاء ك ْشف ما يكتمه من‬ ‫أسرار خبيئة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وعليه فسنبدأ بالوقوف على صورة صاحب المقام في‬ ‫النّصّ ين اإلسالمي والمسيحي ‪ .‬ألننا نرى فيهما المفتاح الوحيد‬ ‫للبحث ‪ ،‬مهما يبعُـ ُد في الزمان ‪ .‬فيه ومنه تأسّست السلوكيّات‬ ‫ال ُمشتركة التي وصفناها ‪ .‬وكم لهذا في تاريخ البشر من أمثال ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن أكثر الناس ال يعـلمون ‪.‬‬


‫‪87‬‬

‫وسنُبيّن أو ُل الصورة اإلسالميّة ــ القرآنيّة ‪ ،‬ألنّها األقـربُ‬ ‫زمانا والمؤ ّكدة نصّ ا ‪ .‬ونُغنيها بالمرويّات التاريخيّة وال ّشفويّة ‪ .‬ثم‬ ‫نُثنّي بالصورة المسيحيّة ــ اإلنجيليّة ‪ُ ،‬معتمدين أوثقها عندنا ‪ .‬مع‬ ‫االستفادة من النصوص التوراتيّة ‪.‬‬ ‫(‪) 8‬‬ ‫ورد ذك ُر صاحب المقام في القرآن العزيزمرتين باسم‬ ‫(إلياس) ‪.‬‬ ‫األُولى في سياق إحصاء الذين توالوا بناء حـركة اإليمان ‪.‬‬ ‫فذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ‪ ،‬ومن قبلهم نوح ‪ .‬ثم داود‬ ‫وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون ‪ .‬إلى ‪ ":‬وزكريا‬ ‫ويحي وعيسى وإلياس كلٌّ من الصالحين " (األنعام‪ . )30/‬ويختم‬ ‫بذكر إسماعـيل واليسع ويونس ولوط ‪.‬‬ ‫ق ُمشابه ‪ ،‬حيث أتى ذكره بنح ٍو أكثر‬ ‫الثانية في سيا ٍ‬ ‫تفصيال ‪ّ ":‬‬ ‫وإن إلياس لمن المرسلين ‪ .‬إذ قال لقومه أفال تتقون ‪.‬‬ ‫اتدعون بعال وتذرون أحسن الخالقين ‪ .‬هللا ربكم ورب آبائكم‬ ‫األولين" ( الصافات ‪ 028 /‬ـــ ‪. )029‬‬ ‫والذي نستفيده من ُمجمل هذه النصوص ‪ّ ،‬‬ ‫أن (إلياس) كان‬ ‫النبوة‪.‬‬ ‫نبيّا ‪ .‬ألن ذكره في اآليات األُولى أتى في جملة ثالث ٍة ثابتي ّ‬


‫‪88‬‬

‫وإن اقتصر وصفهم في ختام اآلية بـ "الصالحين"‪.‬‬ ‫لكنّه هو من بينهم ُخصّ في اآلية األُولى من المجموعة‬ ‫الثانية بأنّه "من المرسلين"‪.‬‬ ‫نستفيد من مجموع هاتيك النصوص أمرين ‪:‬‬ ‫ـــ األول‪ّ :‬‬ ‫أن (إلياس) كان نبيّا صاحب رسالة‪ .‬أي أنّه في‬ ‫الدرجة ال ُوسطى بين األنبياء المبعوثين برسال ٍة جديد ٍة ‪ .‬أي بين‬ ‫مرتبة (أُولى العزم) ‪ ،‬الذين بدأوا بـ (نوح) عليه السالم ‪ .‬ويختصّ ون‬ ‫بأنهم ُح ّملوا رسالة وشريعة أصيلتين جديدتين ‪ .‬ومرتبة من يُس ّمون‬ ‫(أنبياء الفترة) ‪ ،‬الذين تقتص ُر بعثتهم على التذكيروالتأكيد واإلحياء‬ ‫لِما كان قد بلّغه الرسول السابق صاحب الشريعة‪.‬‬ ‫ــ الثاني‪ :‬أنّه عمل ‪ ،‬فيما عمل عليه ‪ ،‬على هداية الوثنيين‬ ‫الذي يؤلّهون الوثن ال ُمس ّمى (بعل) ‪ .‬ومن هنا المهم القرآن العزيز‬ ‫على أنّهم يدعون بعال ويذرون أحسن الخالقين ‪.‬‬ ‫(‪) 4‬‬ ‫والـ (بعل) هذا من اآللهة الوثنيّة ‪ ،‬التي كانت معبودة في‬ ‫منطق ٍة شاسعة ‪ ،‬حيث امت ّدت الحضارة الكنعانيّة آنذاك ‪ .‬ومنها ‪،‬‬ ‫طبعا‪ ،‬بالدنا‪.‬التي كانت من (أرض كنعان) ‪ .‬ومن المعلوم أن‬ ‫أول الرُّ سُل من أُولي العزم نوح عليه السالم‪ ،‬قد عملت‬ ‫الرساالت‪ ،‬منذ ّ‬


‫‪89‬‬

‫على هداية هؤالء الكنعانيين الوثنيين ‪.‬‬ ‫في أوان النبي (إلياس)‬

‫عليه السالم‬

‫‪ ،‬الذي عاش ‪ ،‬على قول‬

‫المسعودي في مروج الذهب ‪ ،‬بين سليمان بن داود (ت‪ 088:‬قبل‬ ‫الميالد ) وبين المسيح عليهما السالم ‪ ،‬ــ في ذلك األوان ‪ ،‬يبدو ّ‬ ‫أن مدينة‬ ‫أول ُمدُن الدنيا ‪ ،‬كانت من‬ ‫"بعلبك" العريقة ‪ ،‬التي يُقا ُل أنّها ّ‬ ‫المراكز الكبرى لعبادة الـ (بعل) ‪ .‬ومن ذلك أتى اسمها ‪" :‬بعل‬ ‫بك" أي مقرّ أو محل أو موقع وثن الـ (بعل) ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫أدبيات تاريخيّةٌ ‪ ،‬أن (إلياس) عاش في "بعلبك" ‪،‬‬ ‫وتقول‬ ‫و ّ‬ ‫أن دعوته كانت بين أهـلها ‪ .‬ومن تلك األدبيّات ما ذكره ابن كثير‬ ‫في البداية والنهاية‪ ،‬حيث قال‪ " :‬رسالته [يعني إلياس] كانت ألهل‬ ‫بعلبك غـربي دمشق ‪ .‬وأنهم كان لهم صن ٌم يعبدونه يُس ّمى بعالا" ‪.‬‬ ‫ويقول الطبري ما خالصته ‪ّ ،‬‬ ‫أن دولة بني إسرائيل تشتّت‬ ‫بعد سليمان ‪ .‬وشاعت بينهم عبادة األوثان ‪ .‬وعبدوا الصنم الذي‬ ‫ذكره القرآن ‪ ،‬واسمه بعل ‪ .‬فأرسل هللاُ إليهم إلياس عليه السالم ‪.‬‬ ‫وم ّما يجدر بنا ذكره في هذا السياق‪ ،‬أنّه كان في أطراف‬ ‫"بعلبك" من غربيّها بنا ٌء مشي ٌد تعلوه قبّة ‪ ،‬منسوبٌ فيما يتداوله‬ ‫أهلُها إلى النبي إلياس‪ ،‬ظلّ قائما حتى السنة ‪ 0021‬ميالديّة على‬ ‫األقلّ ‪ .‬إلى أن اجتاحته المقبرة المسيحيّة ال ُمجاورة في توسّعها‬ ‫ال ُم ّ‬ ‫طرد ‪ .‬فجرى هـدمه واإلعفاء على أثره ‪.‬‬


‫‪91‬‬

‫وهذه هي صورة البناء ‪ ،‬يبدو فيها مقام النبي إلياس أعلى‬ ‫الصورة ‪ ،‬كما كان بتاريخ تصوير المقام على يد سائح فرنسي‬ ‫سنة ‪. 0021‬‬

‫زمان سحيق ‪ ،‬على ما كان‬ ‫فذلك دلي ٌل ما ّديٌّ ‪ ،‬قاد ٌم من‬ ‫ٍ‬ ‫ب في‬ ‫من‬ ‫حضور للنبي إلياس في ُوجدان أهل "بعلبك" ‪ .‬ما من ري ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أنّه يرجع إلى فترة غلبة المسيحيّة على المنطقة ‪ ،‬أي ماقـبل‬ ‫انتشاراإلسالم ‪ .‬خصوصا ّ‬ ‫وأن موقع المقام أو المشهـد هو في‬ ‫المنطقة الغربيّة ـــ الشمالـيّـة من المدينة ‪ ،‬التي كانـت منذ ال ِقــدم ‪،‬‬


‫‪91‬‬

‫ت قريب ‪ ،‬معمورة بالمسيحيين ‪ .‬وما تزال تحمل االسم‬ ‫وحتى وق ٍ‬ ‫المناسب ‪ .‬وفيها معالمهم ومدارسهم وكنائسهم ‪ .‬وفي غربيّها مقبرة‬ ‫موتاهم ‪ ،‬حيث هي اليوم من قديم الزمان ‪ .‬ولكن الخلف نسوا أو لم‬ ‫يُق ّدروا القيمة التاريخيّة ‪ ،‬بالنسبة إليهم قبل غـيرهم ‪ ،‬لهذا المعلم‬ ‫التاريخي الفريد ‪ .‬فأقـ دموا في زماننا على هدمه واإلعفاء على‬ ‫أثره ‪ ،‬لحساب امتداد مقبرتهم ‪.‬‬ ‫يُذك ُر أيضا ّ‬ ‫أن شيخ االسالم العثماني أبو السعود أفندي‬ ‫كان م ّما أخذه على علويي "األناضول" ذكرهم اسم النبي إلياس‬ ‫في بعض شعائرهم الدينية ‪.‬‬ ‫فذلك ما لدينا في شأن (إلياس) ‪ ،‬بعـثته ومحلّ دعوته‬ ‫وحضوره المعنوي بين الناس ‪ .‬م ّما مصدره نصُّ القرآن العزيز ‪،‬‬ ‫ت‬ ‫باإلضافة إلى ما استفدناه من وقائع عمالنيّة ‪ /‬ما ّديّة ومرويّا ٍ‬ ‫أصل شـفويّ ‪ ،‬شأن أكثر الما ّدة التاريخيّة‬ ‫تاريخيّة ‪ .‬وإن ت ُكن من‬ ‫ٍ‬ ‫القديمة‪.‬وهي ما ّدةٌ نُق ّدرها لبُعدها عن االختالق المقصود ‪.‬‬ ‫وسيكون علينا في الفقرة التالية أن نُ ِلـ َّم بما ورد في شأنه‬ ‫في العهدين القديم والجديد ‪ ،‬تحت اسم (إليياهو‪ /‬إيليّا ) ‪.‬‬ ‫(‪)0‬‬ ‫صورة (إيليّاهو) ‪ :‬إلهي يهوه في التوراة ُمبتسرةٌ ‪ ،‬حافلةٌ‬


‫‪92‬‬

‫بالغرائب وصنوف الكرامات والمعجزات ‪.‬‬ ‫فيما يخصُّ سيرته تقول في سفر الملوك ماخالصته ‪ ،‬أنّه‬ ‫عاش في "جلعاد" ‪" ،‬عجلون" اليوم ‪ .‬وأنّه على أثر انحراف‬ ‫بعض بني إسرائيل إلى عبادة البعل وعشتاروت ‪ ،‬تركهم إلى أن‬ ‫انتهى به التطواف إلى "صرفه"‪ .‬لعلها مدينة "الصرفند" ‪ ،‬من‬ ‫ُمدُن السّاحل اللبناني اليوم ‪ .‬وال تُشير إطالقا إلى أنّه ألـ ّم بمدينة‬ ‫ب أو بعيد ‪ .‬كما تقول أنّه في نهاية أيامه على‬ ‫"بعلبك" من قري ٍ‬ ‫األرض ‪ ،‬جاءت مركبةٌ ناريّةٌ وفُرسان ‪ ،‬حملته إلى السماء ‪ّ .‬‬ ‫لكن‬ ‫الرّ بّ سيُرسله قبل يوم القيامة ‪ .‬ولذلك ّ‬ ‫فإن بعض اليهود يتركون له‬ ‫مقعدا خاليا على مائدة عيد الفصح ‪ ،‬توقُّعا لعودته ‪.‬‬ ‫الحي وينتظرون عودته قبل‬ ‫المسيحيون يسمونه إلياس‬ ‫ّ‬ ‫المجئ الثاني للمسيح ‪ .‬وما تزال الكنيسة الشرقيّة تحتفل بعيد‬ ‫مارالياس في ‪ 21‬تموز‪ /‬جوالي ‪ .‬كما شيدت أديرةٌ وكنائس كثيرةٌ‬ ‫تحمل اسمه في مختلف البلدان ‪ .‬أشهرها "ديرمار الياس" في‬ ‫"معرّ ة صيدنايا"في "سوريا" ‪ .‬وله ذك ٌر جمي ٌل في إنجيل برنابا ‪،‬‬ ‫اإلنجيل األقرب إلى الصحّ ة عندنا ‪ .‬حيث السيّد المسيح‬

‫عليه السالم‬

‫طول ٍة جرت على لسان إيليّا ‪ ،‬خاطب فيها‬ ‫يُح ّدث تالميذه بموعظ ٍة ُم ّ‬ ‫رجال ضريرا ‪ .‬هي من أجمل المواعظ وأعمقها معاني ‪.‬‬


‫‪93‬‬

‫ٌ‬ ‫لمحات على ألوان وأنماط صورة "النبي أيال" ‪/‬‬ ‫فتلك‬ ‫إيليّا ‪ /‬إلياس في األديان الثالثة ‪ .‬نراها كافية لبيان وتفسير‬ ‫حضوره الباهر لديهم جميعا ‪ .‬وبالخصوص الظاهرة الفريدة التي‬ ‫جعلت مقامه في قرية "النبي أيال" مقصودا من مسلمي ومسيحيي‬ ‫ونوهنا به آنفا ‪.‬‬ ‫المنطقة ‪ ،‬على ماوصفنا ّ‬ ‫(‪) 9‬‬ ‫يبقى أن نعالج سؤاال‪،‬البُ ّد أنّه قد خطر للقارئ الحصيف ‪.‬‬ ‫ما الذي يدلُّ ‪ ،‬أو يؤيّـ ُد على األقل ‪ ،‬صحّة نسبة المقام ‪/‬‬ ‫المدفن المزور في قـرية "النبي أيال" إلى النبي إيليّا ‪ /‬إلياس ؟‬ ‫في الجواب نقـول ‪ :‬الجواب القطعي على ذلك ومثله غير‬ ‫وارد ‪ .‬بل هو في مرتبة االستحالة عمليّا ‪ .‬ومن المعلوم أن شأن‬ ‫العملـيّة التأريخيّة إجماال ‪ ،‬هو شأن كافة العلوم اإلنسانيّة ‪ ،‬من‬ ‫حيث درجة اليقين التي تمنحها لمن يُصغي إليها ‪ .‬غاية ما تمنحه‬ ‫درجة كافية من اطمئنان النفس إليها ‪ .‬وبالدرجة األُولى من حيث‬ ‫انسجامها مع مواصفات المرحلة أو المراحل التاريخيّة التي‬ ‫حصلت فيها أو التي عبرتها ‪.‬‬ ‫بذلك االعتبار نقول ‪:‬‬ ‫واسع بيـن‬ ‫ق‬ ‫أوال ‪ :‬ثمة نقوالت شفـويّة ُمتداولةٌ على نطا ٍ‬ ‫ٍ‬


‫‪94‬‬

‫أهل المنطقة ‪ ،‬تقول ّ‬ ‫أن إلياس خرج من "بعلبك" ليأسه من أهلها‪،‬‬ ‫فلوحق من وثنييها‪ ،‬إلى أن أدركوه في البقعة التي هي اليوم مقامه‪،‬‬ ‫حيث قتلوه ‪ .‬هذه النقوالت قويّة ‪ ،‬بعيدةٌ عـن الكذب واالختالق ‪.‬‬ ‫الثانية ‪ :‬إن وجود المقام حيث هـو ‪ ،‬وإقبال أبناء المنطقة‬ ‫كافة عليه ‪ ،‬ينسجم تماما مع المراحل التي عبروها بج ْمعهم ‪ ،‬أثناء‬ ‫القرون ال ُمتعاقبة ‪ ،‬من الوثنيّة إلى المسيحيّة إلى اإلسالم ‪.‬‬ ‫هنا نُالحظ ‪ ،‬استنادا إلى المقولتين أعاله ‪ّ ،‬‬ ‫أن مايقوله‬ ‫ويعمل به التراث الشعبي لم ينشأ باألمس القريب ‪ .‬بل هما ثمرة‬ ‫قرون بعيدة‪ .‬األمرالذي ي ّ‬ ‫ُعزز النقوالت الشفـويّة‪.‬‬ ‫حال ِة ُمستمرّة منذ‬ ‫ٍ‬ ‫أن مايدلُّ على أصالة التراث والسلوك الشعبييّن ‪ّ ،‬‬ ‫ثم ّ‬ ‫أن‬ ‫زائري المقام المسيحيين لم يكترثوا عمليّا باألسطورة التوراتيّة ‪،‬‬ ‫القائلة أن إيليّا رُفع إلى السماء ‪ ،‬وباعتقادهم أنّه سيأتي قبل المجيء‬ ‫الثاني للمسيح ‪ .‬وعملوا بمقتضى ذاكرتهم التاريخيّة الجماعيّة‪،‬‬ ‫القائلة أنه مات ودُفن حيث مقامه ‪ .‬ألن تراثهم يستن ُد إلى وقائع‬ ‫ثابتة سجّ لتها ذاكرتهم الج ْمعيّة‪ .‬أ ّما ُاألسطورة فلها مستواها الخاصّ‬ ‫ت كهنوتيّة ‪ .‬هذا الفارق في المستوى يحلّ‬ ‫الخاضع العتبارا ٍ‬ ‫التناقض بين من يُسميه (إلياس الحي) خضوعا للتأثير الكهنوتي ‪،‬‬ ‫ومع ذلك فإنّه يزور مدفنه لخبرته التاريخيّة الموروثة ‪.‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.