Henri Zoghaib - هنري زغيب - في البدء كانت الحروف

Page 1


‫النُ�صو�ص‬ ‫ في عبقرية الحروف‬‫"�أزرار" ‪ 708‬‬ ‫ لكل كلمة تاريخ‬‫‪ 20‬ت�شرين الأول ‪ 2010‬‬ ‫"�أزرار" ‪ 672‬‬ ‫ في عبقرية اللغة‬‫‪� 13‬آب ‪ 2011‬‬ ‫"�أزرار" ‪ 706‬‬ ‫ الأ�سلوب هو الرجل‬‫‪� 8‬أيلول ‪ 2010‬‬ ‫"نقطة على الحرف" ‪ 938‬‬ ‫ كلمات‬‫‪� 7‬آب ‪ 2010‬‬ ‫"�أزرار" ‪ 658‬‬ ‫ اللغة ج�سر توا�صل‬‫"نقطة على الحرف" ‪ 24 951‬ت�شرين الأول ‪ 2010‬‬ ‫ من مو�سيقى الكلمات ِ�إلى مو�سيقى ال�صورة‬‫‪� 20‬شباط ‪ 2010‬‬ ‫"�أزرار" ‪ 636‬‬ ‫ بالغ ُة الكلمة �أَبقى من بالغة الرقم‬‫‪ 9‬كانون الثاني ‪ 2016‬‬ ‫"�أزرار" ‪ 922‬‬ ‫ تدمير المجتمع من تدمير لغته‬‫‪ 10‬تموز ‪ 2016‬‬ ‫"نقطة على الحرف" ‪ 1264‬‬ ‫ ?‪Hi, Kifak, ça va‬‬‫‪ 17‬تموز ‪ 2016‬‬ ‫"نقطة على الحرف" ‪ 1265‬‬ ‫ هذه اللغة المخلوطة‬‫‪ 24‬تموز ‪ 2016‬‬ ‫"نقطة على الحرف" ‪ 1266‬‬

‫‪4‬‬

‫‪� 27‬آب ‪ 2011‬‬

‫‪6‬‬ ‫‪8‬‬ ‫‪10‬‬ ‫‪12‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪16‬‬ ‫‪18‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪22‬‬ ‫‪24‬‬

‫*) �أزرار‪ :‬عمو ٌد �أ ُ‬ ‫�سبوعي يكتبه الم�ؤَ ِّلف في عدد ال�سبت من جريدة النهار اللبنانية‪.‬‬ ‫ٌّ‬ ‫*) نقطة على الحرف‪:‬‬ ‫تعلي ٌق �إِذاعي �أ ُ‬ ‫�صباح الأَحد من �إذاعة �صوت لبنان‪.‬‬ ‫ب�صوته‬ ‫ويذيعه‬ ‫ؤلف‬ ‫�‬ ‫الم‬ ‫يكتبه‬ ‫�سبوعي‬ ‫َ‬ ‫ّ‬


‫لوحة الغالف‬

‫بري�شة وجيه نحلة‬

‫الطبعة ال أولى‬ ‫‪2017‬‬


‫هذا �أَم ٌر خَ ِط ٌر ج ًدا على �سالمة اللغة ال أ ُ ّم ِ� إذا خ�س َرت قواعدها الأَ�صلية ب�سبب‬ ‫هذه الفو�ضى في كتابة كلماتها كما هي ملفوظة‪ .‬فكيف يجوز �أَن نكتب "�أَلْبي" ع َو�ض‬ ‫"قلبي" (كما في بع�ض الإِعالنات) �أَو "تِم�سال" ع َو�ض "تِمثال"‪ ،‬حتى يتلقَّفها الجيل‬ ‫الجديد فيروح يكت ُبها مغلوط ًة هكذا وي�ستطرد الحقًا �إِلى كتابة لغته كما يلف ُظها‪،‬‬ ‫وفي هذا انتحار المنطق والعقل و�سالمة التفكير‪.‬‬ ‫ومن َف َق َد ِ‬ ‫يكتب اللغة‬ ‫منطقه في كتابة اللغة‪ ،‬وف َق َد عقلَه في ا�ستذكار القواعد كي َ‬ ‫�شي ٍء ال في الكتابة وحدها‪ .‬فحتى اللغا ُت‬ ‫ال�سليمة‪ ،‬يكون َف َق َد �سال َمة تفكيره في ك ّل ْ‬ ‫الأَجنبية‪ ،‬حين نتكلَّمها ونَخت�صر �أَو نَختزل �أَو نَحذف حرو ًفا منها‪ ،‬نعو ُد عند كتابتها‬ ‫�إِلى االلتزام بقواعدها المكتوبة الأَ�صلية‪.‬‬ ‫لغةُ ال�شارع وال ِإعالنات غي ُر لغة الكتابة‪ .‬بل هي تُفْ�سد قواع َد الكتابة‪.‬‬ ‫"�أُكت ُْب كما تَلْ ُفظ"‪ ...‬معادلةٌ �سيِّـئَة جِ ًّدا وقاعدةٌ ِ‬ ‫خطرة ال على اللغة فقط بل على‬ ‫العقْل والمنطق‪.‬‬ ‫ومن يَخ ّرب في كتابة اللغة يُخ ّرب في العقل والمنطق‪.‬‬ ‫وال �ضرور َة ل�شرح ما يَح ُدث عند خرا ِبهِما‪.‬‬

‫‪5‬‬


‫في عبقرية الحروف‬ ‫منذ فتر ٍة يَجري التداوُ ُل في ر�سائ َل ق�صير ٍة على الهاتف الخلوي‪ ،‬وفي ر�سائ َل‬ ‫متو�سل ًة �أَحر ًفا التيني ًة با�ستعما ِل بع�ضها في‬ ‫ِ� إلكتروني ٍة على ا ِل إنترنت‪ ،‬باللغة المحكي ِة ِّ‬ ‫غير مكانه تعوي�ضً ا عن حرف عربي ال مقابل له في الالتينية (‪ 3‬للعين‪ 7 ،‬للحاء‪،‬‬ ‫‪ 2‬للهمزة‪ 5 ،‬للخاء)‪.‬‬ ‫قارب "عبقرية‬ ‫في مقا ٍل �سابق (�أَزرار ‪ )706‬عالَ ُ‬ ‫جت "عبقرية اللغة"‪ .‬اليوم � أُ ُ‬ ‫الحروف"‪ .‬فـ"الكلمةُ كرةٌ �أَر�ضيةٌ كاملةٌ حروفُها القارات‪ .‬وللحروف‪ ،‬كما للكلمات‪،‬‬ ‫تَ َنف ٌُّ�س وم ًدى‪ .‬ك ُّل ٍ‬ ‫حرف زهرةٌ‪ ،‬والكلمةُ باقة زهر‪ ،‬فال يح ُّق للكاتب �أَن يده�س حر ًفا‬ ‫�أَو يهملَه" (من كتابي "لُغا ُت اللغة")‪.‬‬ ‫الذي يجري اليوم َ‬ ‫خط ٌر داه ٌم على الحرف والكلمة واللغة م ًعا‪ .‬ففي الكتابةُ كما‬ ‫في اللفظ‪ :‬ت�أْخذ الكلمة َ�شكل ن ُ ْط ِقها ال َ�شكل كتابتها ولو كان النُّطق غي َر كتابتها‪.‬‬ ‫خ�صو�صا‬ ‫هذا يجوز في ال�شفوي لكنه يُخ ّرب الكتابي‪ ،‬وتاليًا ي ُ ْو ِدي �إِلى تخريب اللغة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫لدى جي ٍل جدي ٍد لم يمتلك اللغ َة بع ُد فيكت�سبُها كاتبًا � ِإياها ِبـ�صيغتها الـ َمحكيّة ويَفقد‬ ‫كتابتَها الأَ�صليّ َة ال�صحيحة التي هي‪ ،‬منذ ع�صو ٍر‪ ،‬نتا ُج العقل والنُطق والجمال‪.‬‬ ‫هكذا تَ ُروج في الفرن�سية مثلاً عبارة "‪ "j’ve‬ع َو�ض "‪� ،"je veux‬أَو في‬ ‫ا ِل إنكليزية عبارة "‪ "4 u‬عو�ض "‪ "for you‬حتى ل�سوف يجيءُ يو ٌم يفقد فيه‬ ‫الجي ُل الجدي ُد ا�ستعمال اللغة المكتوبة ال�صحيحة ويَ ْنف َِ�سد بكتابتها خَ ًّطا كما اعتاد‬ ‫يكتبُها ً‬ ‫لفظا ونُطقًا‪ ،‬وهنا اندثارُ لغ ٍة عم ُرها �أَجيا ٌل مثمرةٌ نا�ضجةٌ من قواع َد تقوم‬ ‫ٍ‬ ‫اخت�صارات‬ ‫عليها اللغة‪ ،‬يكون خَ َّربَها ا�ستخدا ُمها بالحروف َمحكي ًة ملفوظ ًة في‬ ‫ٍ‬ ‫وا�ستعماالت يُتيحها النُطق وال تتيحها القواعد ال�سليمة‪.‬‬ ‫‪4‬‬


‫بعد تَداوُ ِله طويلاً بالحركات ال�صامتة �أَو الت�صويتية ثم بالر�سوم على ال�صخور‬ ‫تعبي ًرا عن حاجاته؟ ما كانت الحاجةُ الأَكث ُر �إِلْحا ًحا حتى َولَّ َد ْت � أَ َّول كلمة َ‬ ‫نطق‬ ‫بها الإِن�سان؟ كم عد ُد ال�شرايين التي في الدماغ تتعلَّق بالنُ ْطق؟ �أَين مكا ُن تخزين‬ ‫الكلمات في الدماغ؟ هل للحروف �أَلوا ٌن كما ل�سائر الموجودات؟ كيف تَموت كلما ُت‬ ‫�صحيحا َ� أ ّن ك ّل ما نعطيه ا�س ًما ال يعو ُد يموت ل أن ا�س َمه‬ ‫اللغة فـتَموت بها اللغة؟ �أَلي�س‬ ‫ً‬ ‫يُكمِل حيًّا بعد غيابه َفتَتَ َنا َقلُه الأَجيال وت�سير به �إِلى الال َم َوات؟‬ ‫من هذه الأَ�سئلة و�سواها يتَّ�ضح � أَ ّن "في اللغة التي نتكلَّم بها �أَ�صدا َء ل أَ ِ‬ ‫�صوات‬ ‫� ُش ٍ‬ ‫عوب غابت قبل � آالف ال�سنين"‪ .‬ففي كل كلمة نل ُف ُظها تاري ُخ َمن اكت�ش ُفوها َ‬ ‫ونط ُقوا‬ ‫بها وط َّوروها و�أَورثُوها � أَ اً‬ ‫جيال بع َدهم حتى بَلَغتْنا‪ .‬هكذا تتداخل الكلما ُت في اللغات‪،‬‬ ‫م�شت َرك ًة �أَحيانًا بين لغ ٍة و�أُخرى بتقارُ ٍب �أَو ت َ​َ�شاب ُ ٍه ذي دالل ٍة واحدة‪.‬‬ ‫ول أَ ّن الكلمة الأُولى هي البح ُث الأَوّل‪ ،‬ا�سته ّل يوحنا �إِنجيلَه بعبارة "في البدء كان‬ ‫الكلمة‪ .‬والكلمةُ كان عند اهلل‪ ،‬وكان الكلمةُ اهلل"‪ .‬ول أَ ّن اهلل هو الكلمةُ الأُولى‪ ،‬جاء‬ ‫ِا�س ِم‬ ‫ال�سيا ُق نف�سه مع �أُولى � آيات القر� آن الكريم في ال� ُسورة الأُولى (ال َعلَق)‪ �" :‬إ ِ ْق َر� أْ ب ْ‬ ‫ن�سا َن من َعلَق‪ � .‬إ ْق َر� أْ َو َربّ َك الأَك َرم‪ ،‬الذي َعل َّ َم بال َقلَم‪َ ،‬عل َّ َم‬ ‫َربِّ َك الَّ ِذي خَ لَق‪ .‬خَ ل َ َق ال ِإ َ‬ ‫ن�سا َن َما لَم يعلَم"‪.‬‬ ‫ال إِ َ‬ ‫هي الكلمةُ � إِ ًذا‪َ ،‬فلْنُ َح ِّ�صن ُهويّـتَها و َهيـبتَها وهالَـتَها‪� .‬إِنها المرجع والم� آل‪ِ ،‬ح ْرز‬ ‫الم�صلَت على ر�أْ�سه‪َ .‬فلْي ُ ْح ِ�س ْن‬ ‫الإِن�سان قائلاً وكاتبًا‪� ،‬سي ُفه الممت َ​َ�شق في كفِّه‪ ،‬و�سي ُفه ْ‬ ‫وِفادتَها وبَثَّها‪ ،‬ولْيجعلْها فاتح َة ط ْبعه وخاتم َة �سلو ِكه‪ .‬بها يَخْ لُ�ص وفيها يهلَك‪.‬‬ ‫الكلمة هي الوحدة الأُولى الأَ�سا�سية‪ .‬وهي المنطلَق‪ :‬البيا ُن ُج َمل‪ ،‬والجملةُ‬ ‫عبارات‪ ،‬والعبارةُ كلمات‪ ،‬والكلمةُ‬ ‫ٌ‬ ‫حروف تت َكوّن لتَ ُكون الكلمةُ هي الأَ�صل‪ ،‬هي‬ ‫الأَ�سا�س‪ .‬فلننطل ْق من احترام الأَ�صل‪ ،‬من الجذْع‪ ،‬من الكلمة‪ .‬ولنحتر ْمها ا�ستخدا ًما‬ ‫ومعاطاةً‪.‬‬ ‫في الب ْدء هي‪ ،‬وفي الختام‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫لكل كلمة تاريخ‬ ‫في فرن�سا روايةٌ ت ُحدِثُ اليو َم َر ًّجا‪" :‬الكلمة الأُولى" (من�شورات "�ستوك")‬ ‫للكاتب الفرن�سي اليوناني ڤا�سيلي � أَ ِل ْك َ�ساكي�س (مولود في �أَثينا �سنة ‪،)1943‬‬ ‫ّ‬ ‫مر�شحة لجائزة غونكور ‪ ،2010‬وكان كاتبُها نال جائزة الأَكاديميا الفرن�سية‬ ‫للرواية �سنة‪ 2007 ‬عن روايته "بَعد الم�سيح"‪.‬‬ ‫ا�شتغا ُل � أَ ِل ْك�ساكي�س على الكلمة واللغة لي�س حديثًا‪ .‬فهو �صاح ُب كتاب "اللغة ال أُ ّم"‬ ‫(من�شورات "فايار" ‪ 1995‬ونال عليه �سنتَئ ٍذ جائزة ِمدِيتْ�شي) وكتاب "الكلمات الأَجنبية"‬ ‫(من�شورات "�ستوك" ‪ .)2002‬هو � إِ ًذا �ضالعٌ في البحث عن اللغة � أُ اً‬ ‫�صول وكلمات‪.‬‬ ‫�أَهميةُ روايته الجديدة‪ :‬بَـحثُه فيها عن "�أَوّل كلمة لف َ​َظها الإِن�سان"‪ :‬ما كانت؟ ما‬ ‫ِ�س ُّر �أُ�صولها الغابرة في التاريخ؟ ولع ّل ت�سا� ؤُالته نابعةٌ من كونه اب َن ح�ضارتَين ولغتَين‬ ‫المكت�سبة‪.‬‬ ‫يكت ُب بهما م ًعا‪ :‬اليونانية لغته الأُم‪ ،‬والفرن�سية لغته‬ ‫َ‬ ‫اً‬ ‫ومدلول‪ .‬فال كلم َة‬ ‫هكذا نحن � إِ ًذا وج ًها لوج ٍه �أَمام الكلمة‪ :‬تاريخً ا وم�ضمونًا‬ ‫مولودة من عبث‪ ،‬من ع َدم‪ ،‬من المكان‪ ،‬من الظرف وال ُمنا�سبة‪ .‬لكل كلم ٍة تاري ٌخ‬ ‫و ُهوية ومب ّرر ومفهوم وم�ضمون ومعنى و�سياق‪.‬‬ ‫رُ ّب كلمة قالها �أَح ُدهم في �سيا ٍق مكا ِنـ ّي معيَّن تذهب اً‬ ‫مدلول ال �ضرور َة ل�شرحه‪،‬‬ ‫وج ْدت ُها" للداللة على اكت�شاف ما كان يدور عليه ال َبحث‪ .‬ورُ َّب‬ ‫ككلمة �أَرخميد�س " َ‬ ‫ا�س ٍم لأَحدِهم في �سيا ٍق زمن ٍّي معيَّن يذهب اً‬ ‫كا�سم "نيرون"‬ ‫مدلول ال �ضرور َة ل�شرحه ْ‬ ‫للداللة على َمن يُـح ِرق ك ّل ما �أَمامه وي�ض ّحي بكل َمن حولَه بلو ًغا �إِلى غايته التي قد‬ ‫تكون �شريرة‪ .‬ورُ ّب كلم ٍة واحدة‪� ،‬أَو عبار ٍة واحدة‪ ،‬تَخت�صر �شعبًا �أَو ح�ضار ًة �أَو تاريخًا‬ ‫كاملاً من المعاني �أَو الأَحداث كعبارة "الحرب العالمية" (الأُولى �أَو الثانية)‪.‬‬ ‫�إِنها الكلمة � إِ ًذا‪� :‬أَ�ص ٌل وتاريخ‪.‬‬ ‫بنت ربة‬ ‫عن هيزيود (�شاعر يوناني من القرن الثامن قبل الميالد) � أن الكلمة " ُ‬ ‫الوحي"‪ .‬وعن �أَفالطون �أَنها "بن ُْت فْك ٍر متفوّق خارج هذا العالم"‪ .‬فهل ترقى � ِإلى‬ ‫دت الحقًا مع حاجة الإِن�سان �إِلى التعبير ال�صوتي‬ ‫فجر الإِن�سانية ال أَ َّول؟ �أَم هي وُ ِل ْ‬ ‫‪6‬‬


‫�أَو �شاع ٌر خلاّ ٌق يُعنى بالـ"كيف" عنايتَه بالـ"ماذا"‪ ،‬ف�إِذا تَ َنا َولها مترج ٌم ربما نَ َق َل‬ ‫الـ"ماذا" ب�أَمان ٍة عالي ٍة � ِإنما �أَنّى له �أَن ينْقل التركيب العبقري؟‬ ‫تلك الناقدةُ الفرن�سية التي "ا�ستكث َرت" الغنائية في ن�ص الروائية اللبنانية‪ ،‬لو‬ ‫المترجم �أَمامها‪،‬‬ ‫�أُعط َي لها �أَن تعرف ن�سيج اللغة ال أُ ّم لل�سرد الروائي في الن�ص‬ ‫َ‬ ‫لربما كانت �أَ�شاحت عن ر�أْيها ذاك‪ ،‬ل أَ ّن ما هو "حدي ٌث" في الأَدب ال يُمكن �أَن يكون‬ ‫ِط ْر ًحا بل هو مولو ٌد من �أَعراق لغ ٍة مبدع ٍة لها‬ ‫ُ‬ ‫خ�صائ�ص عاليةٌ في عبقري ِة الـ"كيف"‬ ‫وبراع ِة الـ"ماذا"‪.‬‬

‫‪9‬‬


‫في عبقرية اللغة‬ ‫مترجمة عن العربية ل�صديقتها‬ ‫َف ِر َغت الناقدةُ الفرن�سيةُ من قراءة رواي ٍة َ‬ ‫الكاتبة اللبنانية‪ ،‬فاتَّ�صلت بها ُمعلِّقة � أَ ْن لو كانت الـ ُمترجِ ـمة لَ َـح َذفَت من الن�ص‬ ‫الأَ�صل ّي عبارات العواطف المتق ِّدمة والرو َمن�سية الفائ�ضة لأَن "الع�صر تَغيَّر‪ ،‬وهذا‬ ‫النوع من الكتابة لم يعُد يَ ُه ُّم اليوم َ‬ ‫قارئ الأَدب الحديث"‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫كتابات � آليَّ ًة �أَو‬ ‫لن �أُناق�ش ر�أْي هذه الناقدة‪ .‬قد تكون �شخ�صي ًة ذاتي ًة في نقدها‬ ‫ن�ص ي�أْرج في‬ ‫�إِلكتروني ًة من "مو�ضة الع�صر"‪� ،‬أَو قد تكو ُن مو�ضوعي ًة في النظر �إِلى ٍّ‬ ‫ْ‬ ‫تنقر�ض"‬ ‫لغته العربية الأَ�صلية عاطف ًة ناب�ض ًة تَـه ُّز قارئها العربي برو َمن�سيات لم "‬ ‫بع ُد من �شرقنا القائم على العاطفة والحنين والحنان‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وحوارات ومواقف‪،‬‬ ‫ومع � أَ ّن في الأَدب الفرن�سي روائ َع خالد ًة غني ًة بالعاطف ِة و�صفًا‬ ‫�أَفهم �أَن يكون في الن�صو�ص "الحديثة" ما يتما�شى و"مو�ضة الع�صر" من اختزا ٍل‬ ‫واخت�صا ٍر بُلو ًغا �سري ًعا �إِلى الحبكة بدون تطريز الحبكة في � أُ ٍ‬ ‫�سلوب غنائي هاد ٍل‬ ‫ب�أَجمل �أَبيات ال�شعر �أَو �أَحلى مقاطع الو�صف النثري‪.‬‬ ‫ي� أْ ُخذني هذا الأَمر �إِلى "عبقرية اللغة"‪ :‬مفتاح نقْل الن�ص‪�ِ ،‬شعريِّه �َ أو نَثْريِّه‪ ،‬من‬ ‫الحرفي يُخ ِرج الن�ص ٍ‬ ‫مرات �سخيفًا‪ ،‬والنق ُل االفترا�ضي يُخر ُجهُ‬ ‫لغ ٍة �إِلى لغة‪ .‬فالنقْل َ‬ ‫�أَبع َد من الأَ�صل �أَو دونه‪ .‬وهنا جدارة المترجم‪ :‬ال �أَن "يُترجم" بل �أَن "يَنقل" في‬ ‫لغته �سيا َق الن�ص الأَ�صلي‪ .‬وهذه موهبةٌ ال ت ُعطى لكل مترجم‪ .‬فكيف نترجم مثلاً‬ ‫"�أَلوان" ق�صيدة رِمبو "حروف العلة" )‪� (Les voyelles‬أَو �أَبيات هوغو في رثاء‬ ‫ابنته ليوپولدين وفيها تعابي ُر ال يمكن ِب َن ْقلِها الإِبقاءُ على نب�ضها الفرن�سي؟‬ ‫� إِ ًذا‪ :‬لكل لغ ٍة "عبقريةٌ" خا�صة قد "ت ُقاربها" الترجمة �إِنما ال "تَنقلها" بكامل‬ ‫بها ِئها الأَ�صلي‪ .‬وما يقال في النقل �إِلى العربية يقال �أَي�ضً ا في النقل من العربية‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫كيف يُمكن ترجمةُ‬ ‫تركيب عربي قد ال ي�ضارع جمالَه تركي ٌب في لغة �أُخرى‪ ،‬هو‬ ‫الطال ُع من "عبقري ٍة" للعربية ُمـميَّز ٍة‪،‬‬ ‫فار�سها ناث ٌر مبدعٌ‬ ‫ً‬ ‫خ�صو�صا حين يكو ُن َ‬ ‫‪8‬‬


‫بينما كلما ٌت �أُخرى ب�سيطة من الحياة اليومية يعالجها كات ٌب �صادق‪ ،‬ت� ؤ ّدي معه‬ ‫ديب‪ ،‬حين يكتب �أَو يخطب‪،‬‬ ‫معانيها وتبلغ‬ ‫َ‬ ‫القلوب قبل العيون والأَ�سماع‪ .‬ذلك �أَن ال أَ َ‬ ‫ال يرمي �إِلى االبهار اللفظي الفارغ بل الى َ�ش ّع الجمال في العيون‪ ،‬جمالُه كلما ٌت‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫بكلمات ب�سيط ٍة‬ ‫و�شعُّها ي�ش ِّكل غالبًا ت ُحف ًة �أَدبي ًة �أَو فني ًة َ� أو فل�سفي ًة �أَو فكري ًة عميق ًة‬ ‫ناعم ٍة هادئ ٍة ِ‬ ‫مبا�شر ٍة بدون تكل ُّ ٍف وال ت َ​َ�صنُّع‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ون�شرات‬ ‫وبيانات‬ ‫�ساليب في ت�صاري َح‬ ‫الأُ�سلوب هو الرجل؟ �صحيح‪ .‬وكم من � أَ َ‬ ‫�سلوب‬ ‫�سلوب االقناع و� أُ َ‬ ‫�أَخبار تطالعنا يوميًا ب�أَ�صوات ُمخَ �شَّ َب ٍة ُم َكلَّ�س ٍة ف َق َدت ُ� أ َ‬ ‫�سلوب قائلها‪.‬‬ ‫المخاطبة و� أُ َ‬ ‫تع�س �أُ�سلوبَ ُهم و�أَق َّل �صدقيَّتَهم‪ ،‬ه� ؤُالء الذين‬ ‫ال أُ ُ‬ ‫�سلوب هو الرجل؟ نعم‪ .‬وما � أَ َ‬ ‫�أَفرغوا الكلمات من معانيها ف َ​َ�سقَطوا َق ْبلها في فراغ الكالم‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫الأُ�سلوب هو الرجل‬ ‫عن الكاتب الفرن�سي جورج لوي�س لوكلير [المعروف بـ"الكونت دو بُفُّون"‬ ‫)‪ ](Compte de Buffon‬عبارت ُه ال�شهيرة "الأُ�سلوب هو الرجل" قالها في خطاب‬

‫ِ‬ ‫تكري�سه ع�ض ًوا في الأَكاديميا الفرن�سية (‪ � 25‬آب ‪ .)1753‬ما يعني � أَ ّن الكلمات تتعلّق‬ ‫غالبًا بقائلِها فتفقد م�ضمونها وت�صبح طنينًا � أَ َ‬ ‫�سلوب قائلها ال‬ ‫جوف فار ًغا حين � أُ ُ‬ ‫يوحي بالثقة‪ ،‬فيقع الم�ضمون ال �ضحية الكلمات نف�سها بل �ضحية قائلها‪.‬‬

‫والكلما ُت البليغة لي�ست بال�ضرورة تلك المعقّد َة الم�ستع�صية بل الب�سيطة‬ ‫الهادئة التي تو�صل م�ضمونها بدون جهد قائلها لأَن م�ضمونها َ‬ ‫مبا�شر وب�سيط‪.‬‬ ‫بينما الم�ستهلَك من الكلمات يَفقد م�ضمونه لكثرة تكراره على �أَلْ ِ�س َنة من ك َّرروه‬ ‫حتى �أَفرغوه من م�ضمونه ف َف ِرغوا ُهم معه من م�صداقية كالمهم الطنّان من‬ ‫دون م�ضمون‪.‬‬ ‫�أَ�سو ُق هذا المو�ضوع بعدما باتت ُم َك َّرر ًة معلوك ًة ُم َر َّدد ًة ُم ْ�ستَهل َ َك ًة بارد ًة ق�صديري ًة‬ ‫َممجوج ًة كلما ٌت ن�سمعُها يوميًا من �سيا�سيين يلو ُكونها في ك ّل منا�سبة‪ ،‬و�أَمام كل‬ ‫�شا�شة‪ ،‬وورا َء كل مذياع‪ ،‬وعند ك ّل َو ْ�ضع ِ‬ ‫ومو�ضع ومو�ضُ وع‪ ،‬حتى باتت تثير ا�شمئزا َز‬ ‫النا�س ِم ّمن يقولونَها وال يَعُون �أَنها لم تَعُد ت ْق ِنع �أَح ًدا من النا�س‪.‬‬ ‫المذهبية‪ ،‬الطائفية‪ ،‬الديمقراطية‪ ،‬الحوار‪ ،‬التفاهم‪ ،‬اللقاء‪ ،‬الإِخوة‪ ،‬ال أُ ُخوّة‪،‬‬ ‫ال�صف الواحد‪ ،‬الوطنية‪ ،‬القومية‪ ،‬الم�صلحة الوطنية‪ ،‬الوحدة الوطنية‪ ،‬م�صلحة‬ ‫ٍ‬ ‫كلمات َف ِر َغ ْت من معناها وم�ضمونها لكثرة‬ ‫هذا البلد‪ ... ،‬و�سواها و�سواها من‬ ‫فراغ قائليها من �صدقيّتهم‪.‬‬ ‫َخا�صم‪ ،‬كلما ُت تَحا ُطم‪ ،‬كلما ُت تَ�شات ُم‪ ،‬كلما ُت تنا ُغم‪،‬‬ ‫كلما ُت تَال ُطم‪ ،‬كلما ُت ت ُ‬ ‫ِ‬ ‫والكلي�شيَات المت�شابهة‪...‬‬ ‫كلما ُت تعا ُظم‪ ،‬ولَ ِع ٌب على الأَلفاظ والكلمات والمعاني‬ ‫ينقلب الل ِعب على الالعبين فيقعوا في الف�ضيحة‪.‬‬ ‫حتى َ‬ ‫‪10‬‬


‫وعك�سه‪� ،‬أَو المعنى‬ ‫من هنا � أَ ّن كلم ًة واحدةً‪َ ،‬وفْق تَـ َمو�ضُ ِعها‪ ،‬قد تعني المعنى َ‬ ‫و�شبي َهه‪� ،‬أَو المعنى وتو�سي َعه‪ ،‬وقد تكون مفْرغ ًة من معناها لو انها جاءت في �سيا ٍق‬ ‫� آخر مثل‪" :‬كلمات‪ ...‬كلمات‪ ...‬كلمات‪ "...‬كما ي�صرخ ها ْملت‪ ،‬وكما في �أُغنية‬ ‫داليدا‪.‬‬ ‫هنا قدرة الإِبداع لدى الكاتب‪ � :‬أَ اّل تعو َد الكلما ُت و�سيل ًة لديه وال � أَ ٍ‬ ‫دوات وال ُج�سو ًرا‬ ‫بل تكون غاي ًة في ذاتها‪ ،‬تتح َّول على قلمِه كلم ًة ت ُ ْـحيـي‪� ،‬أَو كلم ًة ت ُ َد ِّمر‪� ،‬أَو كلم ًة ت� ؤْذي‪،‬‬ ‫�أَو كلم ًة تَ�شفي من ك� آبة‪� ،‬أَو كلم ًة ت ُ ْـحدِثُ انقالبًا‪.‬‬ ‫الكلما ُت � ِإ ًذا ت�أْخذ الم�ضمون الذي يريد كاتبُها �أَن يح ّملها � ِإياه‪ .‬فال معنى واح ًدا‬ ‫للكلمة الواحدة‪ .‬وا�ستخدام الكلمات ذو ثالث ِة موا�ض َع لمعانيها‪:‬‬ ‫‪ )1‬معنًى حقيق ٌّي ّ‬ ‫حب مبا�شرةٌ‬ ‫م�سطح بدون ا�ستعارات وال مواربات (ق�صيدةُ ٍّ‬ ‫ذات ٍ‬ ‫كلمات مبا�شرة)‪.‬‬ ‫‪ )2‬معنًى يريد م�ستخد ُمها �أَن يُ� ؤَ ِّديه في ظرف معيّن لإِعالن موقف معين (ظرف‬ ‫ُعر�س ل ِإعالن نذور الوفاء)‪.‬‬ ‫ذات ٍ‬ ‫‪ )3‬معنًى َّ‬ ‫وقت معيّن‬ ‫مبط ٌن لكلمات مكتوبة في منا�سبة معينة لـمه ّمة معيّنة َ‬ ‫لـ َهدف معيّن (كلمات تبدو عادية في ن�ص ر�سالة �أَو في ق�صيدة حب ت ُتلى في‬ ‫عر�س‪ ،‬بينما �أَ�سا� ُسها "�شيفرة" لـمهمة �سرية)‪.‬‬ ‫�إِنها قُدرة الكلمة!‬ ‫وهي قُدرةٌ �أُعجوبيّةٌ ال َمحدودة‪ ،‬فار� ُسها َمن يـَمت�شقها فيرمي بها �شيفر ًة‬ ‫جا�سو�سي ًة غام�ضة‪� ،‬أَو ورد ًة حمرا َء ال �شيفر َة لها � ِإ اَّل � ِإعالن و ْعد وفا ٍء ونذر نهائي‬ ‫ِلـ ُحب كبير‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫كـلـمـات‬ ‫العرو�س ِ‬ ‫ت�شلْ ِ�سيا (ابنةُ الرئي�س الأَميركي ال�سابق بِل كلنتون) تقول‬ ‫وقفَت‬ ‫ُ‬ ‫عري�سها‪ ،‬ويقول هو "نَ َعم" القتبا ِله �إِياها زَوج ًة له‪ .‬ثم �أَ�صغى‬ ‫"نَ َعم" القتبالها َ‬ ‫الج ْمع �إِلى الـ ُمكلِّل يَخت ُم ِ‬ ‫مرا�سم الزواج بـ"ق�صيدة ُح ّب" جاء فيها على ل�سان‬ ‫العرو�س ما ترج َمتُهُ‪:‬‬ ‫"الحياةُ التي لي هي ك ُّل ما لي‪ .‬والحياةُ التي لي هي َ‬ ‫لك‪.‬‬ ‫لك‪َ ،‬‬ ‫لك‪َ ،‬‬ ‫الحب الذي لي في الحياة التي لي‪ ،‬هي َ‬ ‫لك‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫لك‪َ ،‬‬ ‫لك‪َ ،‬‬ ‫النومُ الذي لي‪ ،‬الراح ُة التي لي‪َ ،‬‬ ‫لك‪.‬‬ ‫حتى المو ُت �سيتو َّقف بَعي ًدا عني‬ ‫لك‪َ ،‬‬ ‫لك‪َ ،‬‬ ‫لأَن � َسالم �سنواتي �سيكون َ‬ ‫لك"‪.‬‬ ‫وما َج الج ْم ُع في العر�س مع كلمات هذه "الق�صيدة" ِلما فيها من ْ‬ ‫دف ٍء رو َمن�س ٍّي‬ ‫عذ ٍْب‪ ،‬ووع ٍد بالوفاء والحب وااللتزام‪ ،‬وذ َوبا ِن الـ"�أَنا" في ال آخَ ر حين يغ ُمر الح ُّب‬ ‫اث َنين في ِع�ش ٍق كبير‪ ،‬وهما ذاهبان �إِلى حيا ٍة زوجي ٍة �سعيدة‪.‬‬ ‫لك ّن العرو�س‪ ،‬وهي �أَرا َدت هذه المقطوعة �أَح َد نُذورها ِلـحبيبها‪ ،‬لم تَ ُك ْن تعرف‬ ‫� أَ ّن كلمات هذه "الق�صيدة" بالذات هي في الأَ�صل "�شيفرة" للعُمالء والجوا�سي�س‪.‬‬ ‫وحين �صدر خب ُر العر�س في و�سائ ُل الإِعالم‪ ،‬ومعه "الق�صيدة"‪َ ،‬‬ ‫ن�شر بع�ضُ ها � أَ ّن هذه‬ ‫المقطوعة هي في الأَ�صل للكاتب الإِنكليزي ِلـيُـو مار ْك�س‪ ،‬مف ِّك ِك ال�شيفرة في جهاز‬ ‫المخابرات ال�سرية التابع ِل ِون�ستون ت�شر�شل �إِبَّان الحرب العالمية الثانية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫خلفيات �أُخرى مغاير ًة ُكلِّيًا ظاه َرها العا�شق‪.‬‬ ‫يعني � أَ ّن لهذه المقطوعة‬ ‫ويعني �أَي�ضً ا‪ :‬فيما ظاه ُر الكلمات رو َمن�س ٌّي حالـ ٌم‪ ،‬يمكن باطن الكلمة �أَن يحتم َل‬ ‫م�ضامي َن �أُخرى غي َر ظاهرة‪ ،‬ومعانـ َي خفيّ ًة تتع ّدى ب ُ ْع َدها الأَول‪ � .‬إِ ًذا ال معنى للكلمة‬ ‫في ذاتها من دون موق ِعها في العبارة‪� ،‬أَو موق ِع العبارة في الجملة‪� ،‬أَو موق ِع الجملة‬ ‫في ال�سياق‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫مثا ٌل �ساطعٌ � آخر‪� :‬أَن يكو َن لبنان‪ ،‬بين الدول الم�شارِكة ال�سبعين‪� ،‬أَو َل دول ٍة و َّقعت‬ ‫على "ميثاق الفرن�سية اللُغوي" بينه وبين َّ‬ ‫المنظمات الفرنكوفونيّة الدوليّة‪.‬‬ ‫الفرنكوفونيا ولبنان عالقةُ لغ ٍة عريقة وح�ضار ٍة عريقة‪ .‬لم ين�ض َّم � ِإليها لبنان‬ ‫ٌ‬ ‫ونا�شط ومبدِع‪.‬‬ ‫ُع ْ�ض ًوا حياديًّا بل هو فيها فاع ٌل‬ ‫وهي هذه ر�سالت ُه مذ كانت الح�ضارة‪� :‬أَن يكو َن عنوانًا من �ضَ و ٍء على ال�صفحة‬ ‫الأُولى من كتاب الح�ضارة‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫اللغ ُة ج� ْس ُر التوا�صل‬ ‫م�شاركةُ لبنان في قمة الد َول الناطقة باللغة الفرن�سية (قمة الفرنكوفونيا في‬ ‫"مونترو" ‪� -‬سوي�سرا) لي�ست رق ًما ِ� إ�ضافيًّا في عد ِد م�شاركين‪ ،‬بل هي ح�ضورُ لبنا َن‬ ‫الح�ضارة في قم ٍة لبلدا ِن قي ٍم وح�ضارات‪ ،‬تعقدها َّ‬ ‫منظمةُ دو ِل الفرنكوفونيا التي‬ ‫ت� أَ َّ�س�ست قبل ‪� 40‬سن ًة في النيجر‪ ،‬وت�ض ُّم اليوم ‪ 70‬بل ًدا (ثلث �أَع�ضاء الأُمم المتحدة)‬ ‫وتمثِّل ‪ 200‬مليون ن�سمة من القارات الخم�س‪.‬‬ ‫وهي لي�ست َّ‬ ‫منظم ًة لـ ُمج ّرد ن�شْ ِر اللغة الفرن�سية �أَو الدفاع عنها‪ ،‬كما قد يتبادر‬ ‫للكثيرين‪ ،‬بل لن�شْ ر ِقيَ ٍم م�شتَ َرك ٍة كالت�ضا ُمن والديمقراطية والتع ُّددية الثقافية‬ ‫وحقوق الإِن�سان والح ِّق في التعلُّم‪ .‬وت� ؤَ ِّكد َّ‬ ‫المنظمة �أَن دفا َعها عن اللغة الفرن�سية‬ ‫لي�س تَحديًا اللّغ َة الإِنكليزية بل تَ َوا ٍز لها لتبا ُدل تلك ال ِقيَ ِم بين الفرنكوفونيين كلّيًّا‬ ‫ج�سد تلك ال ِقيَ َم‪ ،‬وهو في قلب ُم ِه ّمتَي الفرنكوفونيا الأَ�سا�سيَّتين‪:‬‬ ‫�أَو ُجزئيًّا‪ .‬ولبنان ي ُ ِّ‬ ‫الم ِه َّمة ال�سيا�سية وم ِه َّمة التعاون المتع ِّدد الجوانب‪ ،‬يَجتمع لتفعيلهما ك َّل �سنتَين‬ ‫ر� ؤَ�ساءُ الدول الأَع�ضاء لبحث � ُش� ؤُون ال�سالم والديمقراطية والتعاوُن والتربية‬ ‫والتنمية الم�ستدامة‪.‬‬ ‫ك�أَنما لبنان‪ ،‬بتكوينه الثقافي والح�ضاري‪ ،‬يج� ّسد هذه القيَم الفرنكوفونيّة‬ ‫قبل �أَن تن�ش� أَ َّ‬ ‫رئي�س‬ ‫المنظمة‪ ،‬وقبل �أَن يكون ع�ض ًوا فيها‪ ،‬وقبل �أَن يتر� َّأ�سها يو ًما ُ‬ ‫جمهورية لبنانـ ِ ٌّي �سابق (�شارل حلو)‪ .‬الفرن�سيةُ في لبنان لي�ست ُمج ّر َد لغ ٍة ِ� إ�ضافي ٍة‬ ‫ا�صل بين لبنان والعالم‪ .‬ف ُك ّل لغ ٍة‬ ‫ينطق بها ويكتبها اللبنانيون بل هي ج�سر تَ َو ُ‬ ‫�إِ�ضافية في ٍ‬ ‫�شعب انفتا ُح هذا ال�شعب على ال�سوى وما لدى هذا ال�سوى من ِقيَ ٍم‬ ‫وف�ضائ َل تتالقح م ًعا لت ُ َك ِّو َن غنًى لل�شَّ عب وغنًى لل� ُشعوب المجاورة وغنًى ل� ُشعوب‬ ‫العالم في ما بينها‪ .‬ولبنا ُن غن ٌّي في ذاته وفي قيَمِه‪ ،‬وتاليًا ح�ضوره ُ غنًى ل�سواه‬ ‫واغتناءٌ له من �سواه‪ .‬ولنا في ٍ‬ ‫ومدار�س فرن�سي ٍة ت َ� أ�س�ست في لبنان‪ ،‬كما في‬ ‫بعثات‬ ‫َ‬ ‫النتاج الأَدبي الفرنكوفوني و�أَعالمه اللبنانيين في لبنان وفرن�سا‪ ،‬مثا ٌل �ساطعٌ على‬ ‫ٍ‬ ‫�ضافات ح َّققَها ويُح ِّق ُقها لبنان للفرنكوفونيا‪ ،‬وتاليًا لي�ست ع�ضويّـته في المنظمة‬ ‫� إِ‬ ‫العالَميّة ُمج َّر َد انت�سابِ رق ٍم � إلى عدد‪.‬‬ ‫‪14‬‬


‫ها هي الكلما ُت وال�ص َور في عالَـم افترا�ضي يُعيد ن�سج الواقع‪.‬‬ ‫كيف تنتقل الكلمة من �صفحة الكتاب �إِلى �صفحة ال�شا�شة؟‬ ‫كيف ال�شا�شةُ االفترا�ضية تنقل الكلمة من ال�شعر �إِلى الْ َم�شاعر عبر المرئي من‬ ‫التعبير؟‬ ‫هنا قوّة ال�شعر في �إِ�سداء ما ّدته �إِلى ال�شا�شة‪ ،‬وهي �أَ�صعب من �إِ�سدائه �إِلى‬ ‫ال�صوت‪� :‬صوت �شاع ِره َ� أو �صوت ُملْقيه على منبر �أَو م�سرح �أَو خلف ميكروفون � ِإذاعة‬ ‫�أَو �ستوديو �أَو كتاب �صوتي‪.‬‬ ‫وفي م ًدى افترا�ضي � آخر‪ :‬هل ك ُّل ق�صيدة �أَو ر�سال ِة حب قابلةٌ للترجمة بال�صورة؟‬ ‫هل ال�صورة لغةٌ جديدةٌ للق�صيدة‪ ،‬كما نقلُها � ِإلى لغة �أُخرى غي ِر �أَ�صليّتها؟‬ ‫هل ال�صورة ال�سينمائية فعلاً "ترجمةٌ" � ِإلى كتابة جديدة في لغ ٍة جديدة؟ �أَم هي‬ ‫ب�صريًّا �أَيًّا تكن لغته‬ ‫نق ٌل �إِلى لغة اللغات التي ال تحتاج ترجم ًة لأَن الْ ُم�شاهد يتلقّاها َ‬ ‫الخا�صة؟‬ ‫�أَال تكون ال�صورة هنا ِ‬ ‫لغات اللغة التي "يقر�أُها" كل ابن لغة؟‬ ‫هنا �أَهميةُ �إِدخال ال�شعر في تكنولوجيا الع�صر كي ال يَظ ّل مقت�ص ًرا على "عتي ِق"‬ ‫تقديمه في �شك ٍل جام ٍد تقليد ٍّي يُبقيه "عتيقًا" ال يَد ُخل ع�ص َر �صاحبه‪.‬‬ ‫ومن هنا محاوال ُت �إِخراج الأَبيات من بيوتها‪ ،‬وج ْعلُها �إِلى "ق�صيدة متحركة"‪� ،‬أَو‬ ‫�إِلى " ٍ‬ ‫كتاب �صوتـ ٍّي"‪� ،‬أَو �إِلى ال�سينما كما في فيلم "النجمة الم�ش ّعة" َّ‬ ‫المر�شح في قو ٍة‬ ‫ُ‬ ‫لـجائزة ال أو�سكار هذا العام‪.‬‬ ‫هوذا كيت�س ال�شاع ُر العا�ش ُق يَـخل ُ ُد مرتين‪ :‬معه بكتابا ِته‪ ،‬واليو َم بهذا الفيلم‬ ‫البيوغرافي الم�ستوحى من ق�صيدته "النجمة الم�ش ّعة"‪.‬‬ ‫وهوذا الإِبدا ُع الإِن�ساني الخ ّالق يفتح � آفاق االلتقاء‪ :‬ال�سينما لغةُ تعبير‪ ،‬وال�شعر‬ ‫�شك ُل تعبير‪ .‬والإِبداع يتيح االلتقاء دائ ًما بين لغ ٍة و�شك ٍل ولو متباي َنين من �أَ�شكال‬ ‫التعبير‪.‬‬ ‫وهذا هو معيارُ المبدعين‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫من مو�سيقى الكلمات � إلى مو�سيقى ال�صورة‬ ‫في حوا ٍر مع المخرجة النيوزيلندية جين كامـپـيون (عدد هذا ال�شهر من مجلة‬ ‫"�سينما") حول فيلمها الجديد "النجمة الـ ُم ِ�ش َّعة" )‪ (Bright Star‬الـ ُم�ستَقْطبِ‬ ‫� َ‬ ‫آالف الرواد في مد ٍن وعوا�ص َم عالَـمية ع ّدة‪ ،‬قالت كامـپـيـون‪�" :‬صوّر ُت هذا الفيلم‬ ‫ك�أَنني �أَكت ُب ق�صيدة"‪.‬‬ ‫الجواب يَ ْ�ص ُدق م َّرتين‪ :‬ل أَ ّن كامـپـيـون هي كاتبةُ �سيناريو الفيلم‪ ،‬ولأَنّه فيلم‬ ‫هذا‬ ‫ُ‬ ‫ق�صة الحب العا�صف بين ال�شاعر الإِنكليزي الرو َمن�سي جون كيت�س‬ ‫بيوغرافي ي�صوّر ّ‬ ‫(‪ )1821-1795‬وحبيبته فانـي براون‪.‬‬ ‫وكان كيت�س‪ � ،‬آخ َر ثالث �سنوات من حياته‪ ،‬عا�ش حبًا كبي ًرا مع فاني‪ ،‬وتوُفّـ َي‬ ‫تار ًكا لها ر�سائ َل رقيق ًة وق�صائ َد دافئ ًة (بينها "النجمة الـ ُم�ش ّعة") هي بين الأَر ّق‬ ‫والأَجمل في ِ�شعر القرن التا�سع ع�شر‪ ،‬جعلَـتْـهُ (رغم �صغر �س ِّنه و�ض� آلة كتاباته‬ ‫ن�سبيًا) في م�ست ًوى �شعر ٍّي عا ٍل مع �شيلي واللورد بايرون‪.‬‬ ‫في �سياق الحوار ت� ؤَ ّكد كامـپـيـون‪" :‬ال�شاعر �أَعطاني مو�سيقى الكلمات‪ ،‬و�أَنا‬ ‫وتو�س َع ْت‪" :‬كان كيت�س �شريكي في كتابة ال�سيناريو‪.‬‬ ‫� أَ ُ‬ ‫�ضفت ِ� إليها مو�سيقى ال�صورة"‪َّ .‬‬ ‫وبنيت عليها‬ ‫�صو�ص ق�صائدِه ور�سائلِه �إِلى فاني‪،‬‬ ‫ا�ستَ ْم َد ْد ُت �سينايو فيلمي من ن ُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫حوا�سه � ِإلى عالَـم كيت�س عبر‬ ‫ق�صيد ًة �سينمائي ًة‬ ‫ُ‬ ‫حاولت فيها � ِإدخا َل الْ ُم�شاهد بِجميع ّ‬ ‫َّفت ا�شتغالي على‬ ‫روح كتاباته ال من َ�س ْرد حياته بيوغرافيًّا وق�صة حبّه فاني‪ .‬خف ُ‬ ‫تركت لهم حرية التعبير عن‬ ‫خليت المدى وا�س ًعا لـم�شاعر ُممثّلين ُ‬ ‫حركة الكاميرا و� أَ ُ‬ ‫حر�صت على � ِإبراز‬ ‫�شعورهم الداخلي بالحوار الدافئ بين ال�شاعر وحبيبته التي‬ ‫ُ‬ ‫م�شاعرها‪ ،‬لفُ�ضُ ولي في اكت�شاف هذه المر�أَة التي �أَلْه َمت �شاع ًرا ك ّل هذا ِ‬ ‫ال�شعر‬ ‫الحامل حبًّا عا�صفًا غير عاد ّي"‪.‬‬ ‫هذا الكال ُم ي� ؤَ ّدي بنا �إِلى قوّة ال�صورة في ترجمة ال�شعر بعدما كان ُ‬ ‫عر�ش ال�شعر‬ ‫َ‬ ‫مقت�ص ًرا على المقروء والم�سموع‪� .‬إِنها مقاربةٌ جديدة لل�شعر عبر الكاميرا‪ � ،‬أن تفتح‬ ‫كامپيون بفيلمها � آفا ًقا جديدة‪ ،‬باني ًة ج�سو ًرا بين عالَمين افترا�ضيين‪ :‬عالَـم الكلمة‬ ‫وعالَـم ال�صورة‪ .‬وهذا ب ُ ْع ٌد لل�شعر جدي ٌد‪ :‬قدرةُ الكلمة ال�شعرية على �إِيحاء التعبير‬ ‫�أَمام قدرة ال�صورة على رئاية تقا�سيم هذا التعبير‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫الأَمر ذات ُه ينطبق على الإِنجازات‪ :‬ال ِعلْميةُ ال ت ُع ِّمر � إِ اّل في ومي�ض زمانها‪ ،‬بينما‬ ‫الأَدبيةُ والفنيةُ تع ِّمر في � ُسطوع زمانها وفي طويل م�ستقبلها‪ ،‬ويبقى ع�ص ُرها زاهيًا‬ ‫في ك ّل ع�صر وال يخبو بانطواء زمانها‪.‬‬ ‫� آ ُخ ُذ مثلاً ‪ :‬اخترا ُع ال آلة البخارية على الفحم الحجري زالت �أَدوات ُها اليوم �أَمام‬ ‫ال آالت ال�صناعية الجديدة مع � أَ ّن الفحم الحجري لم يَـزُل‪ .‬بينما لوحةُ "الجوكوندا"‬ ‫(‪� )1506‬أَو ال�سمفونيا التا�سعة (‪ )1824‬لبيتهوﭬـن كانت ن�ضر ًة بالأَم�س وال تـزال‬ ‫اليوم ن�ضر ًة و�ستبقى‪ ،‬مع �أَن ع�صرها زال‪ ،‬وزال داﭬـنت�شي وزال بيتهوﭬـن‪.‬‬ ‫� إِ ًذا‪ :‬و ْه ُج العلْ ُم م َو َّق ٌت رغْم م� آثره ومنافعه و�ضروراته اليومية‪ ،‬بينما َمج ُد ال آدابِ‬ ‫والفنو ِن دائ ٌم مع �أَنها لي�ست في �ضرورات النا�س اليومية‪.‬‬ ‫عالمةُ الأُمم الخالدة �أَن ت ُحافظ على الديمومة في تراثها كي َ‬ ‫تحفظ لأَجيالها‬ ‫� ُس ُطو َع الح�ضور طويلاً في ذاكرة التاريخ‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫بالغ ُة الكلمة �أَبقى من بالغة الرقم‬ ‫في ال�سائد العام �أَ ّن "الرق َم َ�أبلغُ من الكلمة"‪.‬‬ ‫ي�ص ُّح في ال آداب والفنون‪.‬‬ ‫هذا �صحي ٌح في العُلوم‪ ،‬وال ُ‬ ‫الرقم عر�ضةٌ للتغيُّر زياد ًة �أَو نق�صانًا وحتى � ِإلغا ًء‪ ،‬وتاليًا تبقى "بالغت ُه" عر�ض ًة‬ ‫للزوال‪ ،‬عك�س الكلمة التي ال �إِلى زوال‪.‬‬ ‫"الرق ُم الأَبلغ من الكلمة" يظ ُّل ُم َو َّقتًا حتى يَليه رق ٌم يُلغيه �أَو يع ِّدله وتاليًا يع ِّدل‬ ‫"بالغته"‪ ،‬بينما الكلمةُ منذ البدء را�سخةٌ ثابتةٌ ببالغتها الم�ستدامة‪.‬‬ ‫هذا لأَقول �إِن العلوم‪ ،‬وهي �سيّدةُ الرقم ورائدةُ العالَـم‪ ،‬بائدةُ الما�ضي‪ ،‬راهنةُ‬ ‫الحا�ضر ب�أَه ِّميتها و�ضرورتها‪ ،‬تل ُد قواع َد و� ُسننًا عابر ًة حتى تَل َد �أُخرى جديد ًة‬ ‫تَـخْ ـل ُ ُفها وتَـمحوها‪ .‬هكذا ال م�ستقب َل لرق ٍم قيمت ُه في حا�ضره‪ِ � ،‬إزاء ال آداب والفنون‬ ‫التي تَل ُد روائ َع يو ًما‪ ،‬يكون لها ٍ‬ ‫ما�ض �ساطع‪ ،‬تتجلّى في ك ّل حا�ضر‪ ،‬وتظ ُّل خالد ًة على‬ ‫ال َدهر ك ّل يوم‪.‬‬ ‫كتاب في الطب �أَو الهند�سة �أَو الفيزياء �أَو الكيمياء �أَو � أَ ِّي حقل � آخَ ر‬ ‫� آ ُخ ُذ مثلاً ‪ٌ :‬‬ ‫من العلوم‪� ،‬ص َدر ذات �سن ٍة قبل �سنوات بعيدة �أَو و�سيطة‪ ،‬هل ي�صلُح �أَن يكون مرج ًعا‬ ‫لطلاّ ب اليوم في �أَحد تلك الحقول العلمية؟ طب ًعا ال‪ .‬يَدخل في رفوف المحفوظات‬ ‫فال يعو ُد يُراجعه طالب �أَو باحث �إِالَّ في مجال التوثيق �إِن كان يحتاج توثيقًا لبحثه‬ ‫الحالي‪.‬‬ ‫ن�ص م�سرحي ٍة‬ ‫في المقابل‪ � :‬آ ُخ ُذ َ‬ ‫كتاب ِ�شع ٍر لدانتِه �أَو غوته �أَو ﭬـيكتور هوغو‪� ،‬أَو َّ‬ ‫ل�شك�سبير‪ ،‬هل ال يزال ي�صلح مرج ًعا لطلاّ ب اليوم في �أَحد الحقول الأَدبية �أَو الفنية؟‬ ‫�صالحا لكل َغـ ٍد � ٍآت‪.‬‬ ‫�صالحا بالأَم�س وكما �سيبقى ً‬ ‫طب ًعا ال يزال ي�صلح اليوم كما كان ً‬ ‫هكذا بالغةُ الكلمة �أَبقى من بالغة الرقم‪ .‬وهكذا يثبُ ُت �أَن الثابت هو الإِبداع‪،‬‬ ‫والمتغيِّر هو العلْم‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫فلماذا � إِ ًذا هذه الـخَ ـ ْرعةُ ِ‬ ‫الب�شعة‪ ،‬هذه الـ َهر َقةُ التافهة‪ ،‬هذه المو�ضةُ ال�سخيفة‪،‬‬ ‫هذه الظاهرةُ اال�ستعرا�ضية البائخة في ال ِإعالن عن المهرجانات في لبنان‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ت�سجيالت م�سموع ًة في‬ ‫الفتات ال ُط ُرق‪� ،‬أَو‬ ‫ن�صو�صا مقرو َء ًة على‬ ‫باللغة الإِنكليزية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الإِذاعات �أَو م�ص َّور ًة في التلـﭭـزيونات؟‬ ‫ٍ‬ ‫وحركات‬ ‫ولماذا هذا التق ُّرب من الأَجانب بعقدة النق�ص ال ُدونيَّة تجاههم‪ :‬لف ًْظا‬ ‫وتقلي ًدا كحركات ال ِق َر َدة في ال�سيرك‪.‬‬ ‫لبنا ُن ال�سياحة لن يزداد �سياحيَّ ًة لأَن �شعبه يتكلَّم ٍ‬ ‫لغات ع َّدةً‪ ،‬فهو �أَ�صلاً بل ٌد‬ ‫�سياح ٌّي غن ٌّي ِبـمواق َع تاريخي ٍة و�أَثري ٍة وطبيعي ٍة يعت ُّز بها لبنان‪ ،‬وطبيع ٌّي هنا �أَن‬ ‫وجهٌ للأَجانب كي يزُوروا لبنان‪� .‬أَما‬ ‫يكون التروي ُج ال�سياح ُّي ِبلُغ ٍة �أَجنبي ٍة لأَنه ُم َّ‬ ‫التروي ُج بال ِإنكليزية لجمهو ٍر لبنانـ ٍّي عن مهرجان لبنا ِنـ ٍّي ي ُ ْـحـيـيه مغنُّون لبنانيون‪،‬‬ ‫ف ِم َن النافل المجانـ ّي كتابةُ �أَ�سمائهم بالأَجنبية والإِعال ُن بالأَجنبية عن حفَالتهم‬ ‫لجمهو ٍر لبنانـ ٍّي مقي ٍم �أَو عربـ ٍّي �ضيف‪.‬‬ ‫�إِنها موجةٌ مري�ضةٌ ت ُ�سهم �أَكثر ف�أَكثر في تدمير بُـ ْنـي ِة مـجتم ٍع يكا ُد يُ�صبح هجينًا‬ ‫في بال ِده لكثْر ِة ما دخَ ـل َ ْت عليه ريا ٌح هجينةٌ ال هي من ترا ِثه وال هي من ِ‬ ‫تاريخه وال‬ ‫ٍ‬ ‫كلمات‬ ‫من ثقاف ِة �أَبنائه الذين لن يَـزدادوا ثقاف ًة � ِإذا "�أَظهروا براعتَهم" بـخَ ـلْط‬ ‫�أَجنبية متع ِّدد ِة اللغات في الجملة الواحدة يُخاطبون بها �أَبنا َء بالدهم‪.‬‬ ‫بلى‪ُ :‬‬ ‫بع�ض تدمير المجتمع يبد� أُ من تدمير لُـغَـتِـه‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫تدمير المجتمع من تدمير لُغَـتِـه‬ ‫انطلقَت مع هذا الأُ�سبوع مهرجانا ُت ال�صيف داعي ًة جمهورها � ِإلى الح�ضور‬ ‫وحجز التذاكر‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ـحفالت غنائية‬ ‫المهرجانات �أَق ُّل من ن�سخ ٍة عادية ل‬ ‫مع قناعتي � أَ ّن معظم هذه‬ ‫ِ‬ ‫حفالت زوا ٍج‬ ‫فردية يُـحيـيها مغنُّون ومغ ِّنيات في مطع ٍم �أَو فند ٍق �أَو مق ًهى �أَو‬ ‫ٍ‬ ‫منا�سبات خا�صة في لبنان �أَو الخليج‪ ،‬ومع قناعتي �أَن معظم الأُغنيات التي‬ ‫�أَو‬ ‫َ�س ـ"يُـتحفنا" بها �أَ�صحابها في المهرجانات لي�ست �سوى عنديا ِتهم الم�أْلوفة التي‬ ‫يك ِّررونها في حفالتهم المطعمية �أَو التلـﭭـزيونية وال جديد فيها �سوى تكرارها‬ ‫الـ ُم ِم ّل‪� ،‬أَتو َّقف عند �س� ؤَا ٍل َجل ّي‪ :‬في ال ِإعالنات ال ُطـ ُرقية وال ِإذاعية والتلـﭭـزيونية عن‬ ‫هذه المهرجانات‪ ،‬ما الحكمةُ من الترويج لها باللغة الإِنكليزية‪ ،‬وبِل ْكن ٍة َرخْ َوة ولف ٍْظ‬ ‫�أَعوج �أَع َرج حتى لَيَع�صى فه ُم ما يقول المذيع لكثرة ما يُرخي ل�سانَه وهو يُعلن عن‬ ‫المهرجانات ونجومها وتواريخها؟‬ ‫يتوجه �إِلى الأَجانب وال�سيَّاح‪ ،‬فالأَجان ُب وال�سيَّا ُح لن‬ ‫�إِذا كان الإِعال ُن بالإِنكليزية َّ‬ ‫ٍ‬ ‫حفالت لن يَف َهموا منها ما ي ُ َغ ِّنـي ُم َ� ؤ ُّدوها‪.‬‬ ‫يت�سابقوا ملهوفين �إِلى ح�ضو ِر‬ ‫و� ِإذا كان ال ِإعال ُن لح�ضرة المغتربين الأَعزّاء‪ ،‬فلن يُغْريَهم ال ِإعال ُن بال ِإنكليزية‬ ‫كي يَح�ضروا � ِإن لم ي ُكونوا راغبين في الح�ضور‪.‬‬ ‫و�إِذا كان الإِعال ُن للُّبنانيين المقيمين‪ ،‬فمِن َ‬ ‫البطر الإِعال ُن لهم بالإِنكليزية على‬ ‫الفتات الط ُرق مع ُ�ص َور فنانيهم المحبوبين وتحتَها �أَ�سما� ؤُهم بالأَجنبية ومواعي ُدها‬ ‫بالأَجنبية‪ .‬فمِن الظواهر الم�ستغ َربَة ‪-‬كي ال �أَقول المرفو�ضَ ة ‪� -‬أَن يَــقر� أَ الفرن�س ُّي‬ ‫�إِعالنًا بال�صينية للفرن�سيين عن مهرجان في ﭘــاري�س‪� ،‬أَو �أَن يَــقر�َ أ الإِنكليز ُّي �إِعالنًا‬ ‫باليابانية للبريطانيين عن مهرجا ٍن في لندن‪� ،‬أَو �أَن يَــقر� أَ الأَميركي � ِإعالنًا بالعربية‬ ‫ٍ‬ ‫للأَميركيين عن مهرجا ٍن في وا�شنطن‪� ،‬أَو �أَن يَــقر� أَ � أَ ُّي‬ ‫مواطن في العالم � ِإعالنًا في‬ ‫غير لغة بالده عن مهرجا ٍن في بالده‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫و�إِنني �أَعرف‪ ،‬والكثيرون ممن �سافروا وعايَنوا يعرفون‪ � ،‬أَ ّن ا ِل إنكليزي ال ين�سى‬ ‫والفرن�سي ال ين�سى تعابي َر فرن�سي ًة في�ستعين‬ ‫تعابي َر � ِإنكليزي ًة في�ستعين لها باليابانية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫لها بالإِ�سـﭙـانية‪ ،‬وال�سويد َّي ال ين�سى تعابي َر �سويدي ًة في�ستعين لها بالعربية‪.‬‬ ‫�إِن وط َن الإِن�سان لغت ُه‪ ،‬يحملُها معه �أَينما ارتحل‪ .‬وك ُّل لغة �أَجنبية يكت�سبُها‪ ،‬غنًى‬ ‫�إِ�ضافـ ٌّي ال يَ ِـح ّل مكان اللغة الأُم‪ ،‬كما ال تعوّ ُ‬ ‫�ض �أَيَّةُ بقع ٍة في الأَر�ض عن الأَر�ض الأُم‪.‬‬ ‫يغترب عن لغته لي�ستعي َر لغ ًة �أُخرى‪ ،‬ي�صبح خارج‬ ‫والمواط ُن العاد ُّي الذي في بالده‬ ‫ُ‬ ‫لغته وال يدخل وطن اللغة الأُخرى فيم�سي ً‬ ‫لقيطا في الالمكان‪.‬‬ ‫وما دام في لبنان َمن ينطقون ِبل ُ َغ ٍة لقيط ٍة مقتنعين ب�أَنها لغةُ الع�صر ال�سليمة‬ ‫ فيما هي مزيج من الفرنكولبنانية والأَنكلولبنانية وال َع َربُولبنانية ‪ -‬فتركيزُهم‬‫الذهن ّي لن يكون بعي ًدا عن االنتماء يو ًما � ِإلى التَ ـيَــهان في مجاهل الالمكان‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫?‪Hi… Kifaq? Ça va‬‬ ‫ٍ‬ ‫مهرجانات‬ ‫حلقةُ الأَحد الما�ضي عن ا�ستخدام اللغة الإِنكليزية للإِعالن عن‬ ‫ٍ‬ ‫ح�س ْب َ� أنها �ست�أْخذ‬ ‫لبنانية‬ ‫وحفالت لبنانية في �أَماك َن لبنانية لجماهير لبنانية‪ ،‬لم � أَ َ‬ ‫هذا ال َـح ـيِّــز من االهتمام بظاهر ٍة عوجا َء تـتـنـامى في مجتمعنا بطريقة عـرجاء‪،‬‬ ‫لغات ٍ‬ ‫هي ظاهرةُ ا�ستخدام ٍ‬ ‫ثالث في جملة واحدة تَـخرج فرنكولبنانية و�أَنكلولبنانية‬ ‫و َع َربُولبنانية‪ ،‬وتنتهي ال لبنانية وال فرن�سية وال �إِنكليزية وال عربية‪.‬‬ ‫ينت�شر هذا النه ُج بين النا�س وينتقل �إِلى �شا�شات التلـﭭـزيون‪ ،‬فال ت ُكمل المذيعةُ‬ ‫ٍ‬ ‫بكلمات �أَجنبية‪ .‬وحتى‬ ‫حديثَها وال يَطرح المذيع ال�س� ؤَا َل �أَو الكالم � ِإ اَّل ُم�ض َّر ًجا‬ ‫ُ‬ ‫�ضيوف البرامج واال�ستفتاءات يتل َّك�أُون عن الجواب بلُغ ٍة �سليم ٍة فيلج�أُون ع ْم ًدا‬ ‫وباعتزا ٍز �إِلى ٍ‬ ‫كلمات �أَجنبية يُـلْقونها على الم�شاهدين الأَعزاء ِب ـ َرطان ٍة �أَجنبية‪.‬‬ ‫لي�س دلي َل ِعلْ ٍم وال ثقافة وال ح�ضارة‪ ،‬بل هي ُعقدةُ ٍ‬ ‫نق�ص دونيةٌ‬ ‫و�أَرى �أَن هذا َ‬ ‫في�ستعي�ض عنها بالأَجنبية‬ ‫حيال الأَجانب �أَن يبحث � أَ ُّي لبنانـ ٍّي عن كلم ٍة في لغته‬ ‫َ‬ ‫بينما ال �أَ�سه َل من � ِإي�صال المعنى في جمل ٍة متّ�صل ٍة متوا�صل ٍة مو�صول ٍة ِبـلُـغَـ ٍة‬ ‫ب�سيط ٍة واحدة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الت�شوهات اللغوي ِة ظاهرةُ و�سائط التوا�صل االجتماعي فتختلط في‬ ‫تزي ُد من هذه‬ ‫كالم م�ستخدميها جمي ُع اللغات بتعابي َر هجين ٍة ي ُ َـحـ ِّملونها ل أَ ٍ‬ ‫حرف التيني ٍة طوّعوها‬ ‫ليُزاولوا درد�شاتهم في لغة َغري َب ٍة �أَين منها اللغةُ الخليطةُ ‪ -‬المعروفة بالـ"�سابير" ‪-‬‬ ‫كان التجار في القرون الو�سطى يُ�ضط ُّرون �إِلى ا�ستخدامها للتبادل التجاري مع ت ّجار‬ ‫جن�سيات ول ُ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫غات �أُخرى‪.‬‬ ‫من‬ ‫ل�ست �ض ّد اللغات الأَجنبية منفرد ًة والتكلُّم بها في لغ ٍة واحدة‪ � ،‬إنما �ضد خلْطها‬ ‫�أَنا ُ‬ ‫هجين ًة ثالثَ لغات في جملة واحدة كالقول ال�سائر‪Hi… Kifaq? Ça va? :‬‬ ‫يعي ُدنا ا�ستخدا ُمها � ِإلى لغة التجار ال ُر َّحل في القرون الو�سطى فنعود � ِإلى ع�صو ٍر‬ ‫ظالمية من اللغة والتعبير‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫حظـ ٍر ٍ‬ ‫�أَو يك َبر الولد على ْ‬ ‫قا�س في المدر�سة من التكلُّم باللغة الـمحكية الـمحلية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫لبنانيات تَـم َنعُ ُه ّن ربةُ ِ‬ ‫البيت اللبنانيةُ من‬ ‫حا�ضنات‬ ‫�أَو يك َبر الولد على لغة‬ ‫ويفر�ضن على الحا�ضنات مخاطب َة الولد‬ ‫ُمـخاطبة الولد بالـمحكية اللبنانية‬ ‫ْ‬ ‫باللغة الأَجنبية‪.‬‬ ‫�أَو يك َبر الولد على �أَهله يخاطبونه دائ ًما بالأَجنبية ك�أَنما عي ٌب �أَن ينمو على لغته‬ ‫الـمحكية ال أُ ّم‪.‬‬ ‫�أَو يك َبر الولد على لغة الإِذاعة والتلـﭭـزيون يَ�سمع فيها مذي ًعا يَطرح ال�س� ؤَال‬ ‫ـخلوطا بل ُ ٍ‬ ‫غات �أَجنبية‪� ،‬أَو مذيع ًة تَـ ُم ُّد حديثًا م ً‬ ‫َم ً‬ ‫ـخلوطا بكلمات �أَجنبية‪ ،‬وين�سحب‬ ‫ٍ‬ ‫بكلمات من لغات ع ّدة‪.‬‬ ‫الأَمر على �إِجابات �ضيوف البرنامج �أَو اال�ستفتاء َمـخلوط ًة‬ ‫وتنتقل ظاهرة الخلْط اللغوي من المجتمع �إِلى الإِعالم‪ ،‬ومنه �إِلى �إِعالنات‬ ‫الطرقات الـمخلوط ِة الكلمات‪ ،‬و�إِلى �إِعالنات الحفالت المخلوطة اللغات‪ ،‬و�إِلى‬ ‫" َمخلوطة" لُغوية ِ‬ ‫بك�سل ل�سا ِنه‬ ‫خطرة ت ُن ِذر بتف ُّك ِك ُمـجتم ٍع يبد� أُ انهيارُه ُ الح�ضار ُّي َ‬ ‫الذي ي�ستجيب لعقله ال َك�سول‪.‬‬ ‫و�أَخت ُ ُم ُمك ِّر ًرا ما قلت ُه في الحلقتَين الما�ضيَتين‪� :‬إِن تدمير المجتمع يبد� أُ‬ ‫بتدمير لُغته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بكلمات من‬ ‫ك�سلاً‪- ‬‬ ‫اللغةُ وط ٌن كامل‪ ،‬متى انخلَطت لغتُهُ الـمحكية ‪ -‬تَـر ًفا �أَو َ‬ ‫�سواها غريب ٍة‪ ،‬ينخلط الوط ُن الأَ�صلي ِ‬ ‫ذات مرحل ٍة‬ ‫بال�سوى الغريب‪ ،‬فيكو ُن ما كان َ‬ ‫من �أَمر روما حي َن َق ـتَ ـل َ ـتْــها الفو�ضى لأَنها غر َقت م�شلول ًة بين جحافل الغرباء‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫هذه اللغة "المخلوطة"‬ ‫�أَخت ُ ُم اليوم ثالثي ًة بد�أْت ُها الأَحد الما�ضي والأَحد الأَ�سبق حول هذا الخليط‬ ‫الهجين الخَ ِطر بـم ْزج ٍ‬ ‫لغات ع ّدة في جملة واحدة عند التكلُّم �أَو المخاطبة �أَو عند‬ ‫ال ِإجابات في ال ِإعالم المرئي والم�سموع �أَو في المجال�س الخا�صة‪.‬‬ ‫وكلمة " ِ‬ ‫الخطر" هنا لم �أَ�ستعملْها اتّفا ًقا بل ع ْم ًدا‪ ،‬ليقيني � أَ ّن في خلْط الكلمات‬ ‫َ‬ ‫الـمحلّية بالأَجنبية َ‬ ‫بنت العقل‪ ،‬والل�سا َن اب ُن اللغة‪،‬‬ ‫خطـ ًرا على العقل‪ ،‬ل أن اللغ َة ُ‬ ‫الل�سان يعك�س‬ ‫ك�س ٍل في َ‬ ‫وتاليًا ك ُّل خلْ ٍط في الـمحك ّي الـمحل ّي بالكالم الأَجنب ّي دلي ُل َ‬ ‫يتكا�سل العقل في �إِيجاد‬ ‫ك�سلاً في العقل‪ .‬فعند اال�ست�سهال با�ستخدام كلم ٍة َ� أجنبية َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُمرا ِدفها باللغة الـمحكية الـمحلية‪ ،‬وهو ما ال يح�صل عند الكتابة � أو التكلُّم منبريًّا‬ ‫بالعربية الف�صحى التي ال تَ�سمح بهذا الخلْط العجيب الهجين‪.‬‬ ‫يتكا�سل العق ُل ِ‬ ‫ويتكا�سل المنطق‪ .‬وهذا‬ ‫يتكا�سل التفكير‬ ‫َ‬ ‫الناظ ُم الكال َم َ‬ ‫حين َ‬ ‫التكا� ُس ُل الـ ُم ِ‬ ‫ـتنا�س ُل يـج ُّر رخاو ًة في �سائر ال ُد َرب الـمعرفية‪ ،‬ما ي� ؤَ ِّدي‪ :‬فرديًّا �إِلى‬ ‫الفو�ضى‪َ ،‬جـماعيًّا � ِإلى الميوعة‪ ،‬واجتماعيًّا � ِإلى التف ُّكك‪.‬‬ ‫ال �أَقول هذا ت َع ُّ�صبًا للمحكية اللبنانية �أَو رف�ضً ا اللُّغ َة الأَجنبية‪� .‬أَحتر ُم َمن‬ ‫يخاطبني بلُغ ٍة �أَجنبي ٍة كامل ٍة ف�أُجيبُه بها‪� ،‬أَو َمن يخاطبني بلُغ ٍة مـحليّ ٍة َمـحكي ٍة‬ ‫كامل ٍة ف�أُجيبه بها‪ ،‬ذلك �أَنه ي�ستخدم عقله ب�إِيجاد المرا ِدفات الأَجنبية في لغتها‪،‬‬ ‫�أَو الـمحكية اللبنانية في لغتها‪� .‬أَما �أَن يَفوتَه م�صطل ٌح في الـمحكية اللبنانية‬ ‫في�ستبدلَه بم�صطلح �أَجنب ّي من لُغة �أُخرى �أَو ِبـم�صطلحات ع ّدة في لغات �أُخرى‬ ‫(ك�أَن يمزج محك ـيّــته اللبنانية بالفرن�سية‪� ،‬أَو بالإِنكليزية‪� ،‬أَو بكليتهما م ًعا في‬ ‫ك�س ٍل عقل ٍّي ذي �أَخطا ٍر‪ ،‬ولي�س �أَب ًدا دلي َل ثقاف ٍة لُغوي ٍة وا�سعة‪.‬‬ ‫جملة واحدة) فدلي ُل َ‬ ‫من هذه الأَخطار‪ ،‬مثلاً ‪:‬‬ ‫المك�سرة‬ ‫�أَن يك َب َر الولد على لُغة الخادمات الأَجنبيات في البيت بعبارا ِته ّن‬ ‫َّ‬ ‫الهجينة ٍ‬ ‫ل�سبب منطق ٍّي ج ًّدا‪� :‬أَنه ّن ال يُت ِق َّن لغتَنا فيك َبر الولد ال يُتقن لغتَ ُه ّن وال‬ ‫يُتقن لغتَه‪.‬‬ ‫‪24‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.