اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﳌﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﳌﺎﻧﻴﺔ ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻗﺼرية ﺟﺪٍّا
ﺗﺄﻟﻴﻒ أﻧﺪرو ﺑﻮوي
ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﺳﻼﻣﺔ ﻣﺮاﺟﻌﺔ ﻫﺒﺔ ﻋﺒﺪ املﻮﱃ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
German Philosophy
أﻧﺪرو ﺑﻮوي
Andrew Bowie
اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﱃ ٢٠١٥م رﻗﻢ إﻳﺪاع ٢٠١٤ / ١٤٤٤٩ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﺤﻘﻮق ﻣﺤﻔﻮﻇﺔ ﻟﻠﻨﺎﴍ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ املﺸﻬﺮة ﺑﺮﻗﻢ ٨٨٦٢ﺑﺘﺎرﻳﺦ ٢٠١٢ / ٨ / ٢٦ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ إن ﻣﺆﺳﺴﺔ ﻫﻨﺪاوي ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻏري ﻣﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ آراء املﺆﻟﻒ وأﻓﻜﺎره وإﻧﻤﺎ ﱢ ﻳﻌﱪ اﻟﻜﺘﺎب ﻋﻦ آراء ﻣﺆﻟﻔﻪ ٥٤ﻋﻤﺎرات اﻟﻔﺘﺢ ،ﺣﻲ اﻟﺴﻔﺎرات ،ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻧﴫ ،١١٤٧١اﻟﻘﺎﻫﺮة ﺟﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻣﴫ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﻓﺎﻛﺲ+ ٢٠٢ ٣٥٣٦٥٨٥٣ : ﺗﻠﻴﻔﻮن+ ٢٠٢ ٢٢٧٠٦٣٥٢ : اﻟﱪﻳﺪ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhindawi@hindawi.org : املﻮﻗﻊ اﻹﻟﻜﱰوﻧﻲhttp://www.hindawi.org : ﺑﻮوي ،أﻧﺪرو. اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ :ﻣﻘﺪﻣﺔ ﻗﺼرية ﺟﺪٍّا /ﺗﺄﻟﻴﻒ أﻧﺪرو ﺑﻮوي. ﺗﺪﻣﻚ٩٧٨ ٩٧٧ ٧٦٨ ٠٠٩ ٧ : -١اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ أ -اﻟﻌﻨﻮان ١٩٠ ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﻼف :إﻳﻬﺎب ﺳﺎﻟﻢ. ﻳُﻤﻨَﻊ ﻧﺴﺦ أو اﺳﺘﻌﻤﺎل أي ﺟﺰء ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﺑﺄﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﺗﺼﻮﻳﺮﻳﺔ أو إﻟﻜﱰوﻧﻴﺔ أو ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻴﺔ، وﻳﺸﻤﻞ ذﻟﻚ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﰲ واﻟﺘﺴﺠﻴﻞ ﻋﲆ أﴍﻃﺔ أو أﻗﺮاص ﻣﻀﻐﻮﻃﺔ أو اﺳﺘﺨﺪام أﻳﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻧﴩ أﺧﺮى ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺣﻔﻆ املﻌﻠﻮﻣﺎت واﺳﱰﺟﺎﻋﻬﺎ ،دون إذن ﺧﻄﻲ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﴍ. ﻧُﴩ ﻛﺘﺎب اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ً أوﻻ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ ﻋﺎم .٢٠١٠ﻧُﴩت ﻫﺬه اﻟﱰﺟﻤﺔ ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق ﻣﻊ اﻟﻨﺎﴍ اﻷﺻﲇ. Arabic Language Translation Copyright © 2015 Hindawi Foundation for Education and Culture. German Philosophy Copyright © Andrew Bowie 2010. German Philosophy was originally published in English in 2010. This translation is published by arrangement with Oxford University Press. All rights reserved.
اﳌﺤﺘﻮﻳﺎت
ﻣﻘﺪﻣﺔ :ملﺎذا اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ؟ -١ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ -٢املﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي -٣املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ -٤اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ املﺒﻜﺮة« -٥ﻣﺎرﻛﺲ -٦ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ« -٧اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ -٨ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ -٩اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ املﺮاﺟﻊ ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ
7 11 25 35 51 59 69 81 93 105 121 125
ﻣﻘﺪﻣﺔ :ﳌﺎذا اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﳌﺎﻧﻴﺔ؟
ﺗﺸﺘﻬﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻋﻦ ﺟﺪارة أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺒﻬﻤﺔ وﻧﻈﺮﻳﺔ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﺑﻌﻴﺪ ،وﻛﺜري ﻣﻨﻬﺎ ﻏﺎب ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﰲ اﻟﻔﱰة ﻣﺎ ﺑني ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت إﱃ ﺳﺒﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،وﻳﺮﺟﻊ ﻫﺬا اﻟﻐﻴﺎب ﰲ ﺟﺰءٍ ﻣﻨﻪ إﱃ اﻻرﺗﻴﺎب ﰲ أن ﻫﻨﺎك ﺗﻮاﻃ ًﺆا ﺑﺼﻮرة أو ﺑﺄﺧﺮى ﺑني اﻟﻨﺎزﻳﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ .وﻣﺆﺧ ًﺮا ﻓﺤﺴﺐ ﺗﺠﺪﱠد اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺑﺸﺨﺼﻴﺎت ﻣﺜﻞ ﺟﻮرج ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ وﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻫﻴﺠﻞ وﻣﺎرﺗﻦ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ. ﻧﺤﻮ ﻟﻢ ﻳﻘﺘﴫ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺗﺮﺟﻊ زﻳﺎدة اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ — ﻋﲆ ٍ ِ املﻌﺎﴏ .وﺗﺮﺗﺒﻂ ﻫﺬه اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ — إﱃ ﺷﻌﻮر ﻋﺎ ﱟم ﺑﺎﻷزﻣﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺘﻮﺟﱡ ﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷزﻣﺔ ﺑﺎﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ﻏﺎﻟﺒًﺎ »اﻟﺤﺪاﺛﺔ« .وﺗﻈﻬﺮ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻌﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ أوﻗﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﻼﻣﺢ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺗﻤﻴﱢﺰﻫﺎ .وﺗﻤﻴﻞ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺪاﺛﺔ إﱃ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﺻﻮرة ﺗﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﲆ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﺗﻠﻚ اﻟﺼﻮرة ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﴏاﻋﺎت ﺗﺆدﱢي أﺣﻴﺎﻧًﺎ إﱃ اﻟﻌﻨﻒ ً ﺧﻠﻔﻴﺔ ﻣﺴﺘﻘﺮ ًة إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻛﺒري ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﺗﺠﺎوُب واﻟﺘﻤ ﱡﺰق املﺠﺘﻤﻌﻲ ،ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﺰال ﺗﺸ ﱢﻜﻞ اﻟﻨﺎس ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ .أﻣﺎ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ،ﰲ املﻘﺎﺑﻞ ،ﻓﺘﺠﱪ اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت ﻋﲆ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻧﺸﺄة اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ وأﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج واﻟﺘﺒﺎدل اﻟﺠﺪﻳﺪة .وﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،ﻓﺈن اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﻟﻴﻘﻴﻨﻴﱠﺎت اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻘﺪﻳﻢ ﻟﻪ ﺗﺄﺛريات ﺻﺎدﻣﺔ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻜﺜريَ ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻳﺘﻤﺴﻜﻮن ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺘﻐريات اﻟﺘﻲ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺣﺘﻰ ُ ﱡ وﻫ ْﻢ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻮن اﻟﺠﺎﻣﺪة ،ﻓﻬﻢ ﻳﻌﺎرﺿﻮن ﱡ اﻟﺘﻐريات .وﻻ ﺗﺘﺄﻛﺪ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎل إﱃ ﻧﻈﺎم ﺟﺪﻳﺪ أﻛﺜﺮ اﺳﺘﻘﺮا ًرا ﻛﺜريًا ﻣﻤﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﻪ ﺗﻠﻚ ً إﻻ ﺑﻌﺪ وﻗﻮع أﺣﺪاث ﻛﺎرﺛﻴﺔ ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻻﻧﺘﻘﺎل ﴐورة ﻻ ﻣﻔ ﱠﺮ ﻣﻨﻬﺎ. ﻗﺪ ﺗﻨﻄﺒﻖ ﺑﻌﺾ ﺟﻮاﻧﺐ ﻫﺬه اﻟﻘﺼﺔ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ أوﺟﻪ ازدواﺟﻴﺔ ﻣﺸﺎﻋﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ املﻌﺎﴏ ﺗﺠﺎه اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .إﻻ أن املﻨﺤﻰ املﺄﺳﺎوي ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻷملﺎﻧﻲ ﺑَﺪءًا ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ وﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ وأﺧريًا ﺳﻘﻮط ﺟﺪار ﺑﺮﻟني ﻋﺎم ١٩٨٩رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﻨﻤﻮذجَ اﻷﻛﺜﺮ وﺿﻮﺣً ﺎ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﺣﺪوث اﻟﺘﺤﻮل إﱃ اﻟﺤﺪاﺛﺔ .وﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻬﺬا اﻟﺘﺤﻮل ،ﻓﺈن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺗُﻔﻬَ ﻢ ﻋﲆ وﺟﻬني؛ ﻓﻬﻲ ﻣﺆﴍ ﻣ ُْﺸﻜِﻞ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ اﻷملﺎﻧﻲ ،وﻫﻲ ً أﻳﻀﺎ ﻣﺼﺪر ﺣﻴﻮي ملﺤﺎوﻟﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء ﺑﻬﺎ أن ﻳﺘﻘﺒﱠﻞ ﻋﺎ ًملﺎ ﻓﻴﻪ — ﻋﲆ ﺣ ﱢﺪ ﺗﻌﺒري ﻛﺎرل ﻣﺎرﻛﺲ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﺑﻴﺎن اﻟﺤﺰب اﻟﺸﻴﻮﻋﻲ« ﻋﺎم » — ١٨٤٨ﻛ ﱡﻞ راﺳﺦ وﺻﻠﺐ ﻳﺘﺒﺨﺮ ﰲ اﻟﻬﻮاء ،وﻛﻞ ﻣﻘﺪﱠس ﻳُﺴﺘﺒﺎح ،وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻳ َ ُﺠﱪ اﻟﺒﴩ ﻋﲆ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻇﺮوﻓﻬﻢ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة وﻋﻼﻗﺎﺗﻬﻢ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﺒﻌﺾ ﰲ ﺗﺠﺮد وﺣﻴﺎدﻳﺔ«. وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ املﺰدوﺟﺔ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﰲ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ اﻷزﻣﺎت ﰲ ِ ﺗﺨﺘﻒ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻌﺎﴏ .وﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ اﻷﺣﺪاث اﻷﺧرية أن اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺪﱢﻳﻦ ﻟﻢ اﻷوﺳﺎط ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻌﻠﻢ ﻗﺪ ﻗﻮ َ ﱠض ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺣﺎﻓﻈﺖ ﻋﲆ اﻟﺪﱢﻳﻦ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺗﻘﻠﻴﺪي ،ﻛﻤﺎ ﻗﻮﱠﺿﺖ اﻟﻨﺰﻋﺔ اﻻﺳﺘﻬﻼﻛﻴﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ اﻟﻌﺪﻳ َﺪ ﻣﻦ اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ واﻵﺛﺎر ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن اﻟﴫاع ﺑني اﻻﺣﺘﻴﺎﺟﺎت اﻟﺘﻲ ﻟﺒﱠﺎﻫﺎ اﻟﺪﱢﻳﻦ ري ﻣﻦ ﻣﺒﺎدئ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ. اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ واﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻫﻮ ﻣﻔﺘﺎح ﻛﺜ ٍ رﺑﻤﺎ ﻳﻈﻦ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ اﻋﺘﺎدوا ﻋﲆ اﺧﺘﺼﺎﺻﺎت »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ« اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ أن ﺗﻠﻚ املﺰاﻋﻢ ﻏري ذات ﺻﻠﺔ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻬﻢ .ﱠ ﻟﻜﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ — ﻛﻤﺎ ﻳﻮﺣﻲ اﺳﻤﻬﺎ — ﺗﺠﺴﻴ ٌﺪ ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ .وأﺣﺪ ﻣﺼﺎدر ﻧﺠﺎح اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻫﻮ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﺗﺤﻠﻴﻞ املﻮﺿﻮﻋﺎت إﱃ ﻋﻨﺎﴏﻫﺎ املﻜﻮﱢﻧﺔ ،وﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﻌﻨﺎﴏ .وﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻨﺤﻮ ﻧﻔﺴﻪ ،ﺑﺪأ ﻧﻬﺞ ﺗﺤﻠﻴﲇ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ ﻋﺰل ﻋﻨﺎﴏ اﻟﻠﻐﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺠﺮﻳﺪﻫﺎ ﻣﻦ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻷﺧﺮى وﻣﺤﺎوﻟﺔ إرﺳﺎء ﻗﻮاﻋﺪ ﻋﺎﻣﺔ ﺗﺤﻜﻤﻬﺎ. وﻛﺎن اﻟﻬﺪف ﻫﻮ وﺿ َﻊ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ واملﻌﻨﻰ ﺗﻘﻮم ﻋﲆ ﺑﻴﺎن ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺗﺼﺎل اﻟﻜﻠﻤﺎت واﻟﺠﻤﻞ ﺑﺄﺟﺰاء اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﻟﻴﻬﺎ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﱠ ﺗﻌني اﺷﺘﻘﺎق وﺻﻒ ﻋﺎ ﱟم ﻵﻟﻴﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﻠﻐﺔ ﻣﻦ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﻋﻨﺎﴏﻫﺎ اﻟﺨﺎﺻﺔ .وﻛﺎن اﻟﻬﺪف ﻫﻮ ﺣ ﱠﻞ ﻛﺜري ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ َ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻧﻌﺪام اﻟﻜﻔﺎﻳﺔ املﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻛﻴﻒ أن ﻫﺬه املﺸﻜﻼت ﻛﺎﻧﺖ ﻷﺷﻜﺎل اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ. ﻳ َ ُﻌﺘﻘﺪ اﻵن ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ أن ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ ﻟﻦ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻏﺎﻳﺘﻪ؛ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺰﻳﺌﻲ ،وﻓﻜﺮة اﻟﻠﻐﺔ ﱠ ُ املﻨﻘﺎة ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ ﻧﺤﻮ ﱟ اﻓﱰاض أن املﻌﻨﻰ ﻗﺎﺑ ٌﻞ ﻟﻠﺘﺤﻠﻴﻞ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ ٍ ﻟﻠﻐﺎت ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ »ﻏري ﱠ ﻣﻨﻘﺎة« .ﻓﺎﻟ ﱡ ٍ ﻄ ُﺮق اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﻬﺎ ﻋﻨﺎﴏ ﺗﻌﺘﻤﺪ دوﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ ﺳﺎﺑﻖ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﻀﻬﺎ واملﻤﺎرﺳﺎت ﻏري اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ واملﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻏري املﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ ﻋﻨﺎﴏ 8
ﻣﻘﺪﻣﺔ :ملﺎذا اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ؟
اﻟﻠﻐﺔ ﻋﻮاﻣﻞ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ ﺗﻔﺴري املﻌﻨﻰ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻳﺘﺤﻮﱠل ﺗﺮﻛﻴﺰ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﺗﺮﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﻛﻴﻒ ُ ُ َ »ﺗﻌﱪ« أو ﱢ ﱢ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻬﺎ »ﺗﺒني« اﻟﻠﻐﺔ اﻷﺷﻴﺎءَ إﱃ ﺗﺮﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﻛﻞ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ »ﺗﻤﺜﱢﻞ« اﺗﺼﺎﻟﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﱰاوح ﻫﺬا اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻷﺧري ﺑني ﻋﺒﺎرات ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ وﺗﻌﺒريات ﻋﻦ وﺟﻮدﻧﺎ ﰲ أﺷﻜﺎل ﻟﻔﻈﻴﺔ وﻏري ﻟﻔﻈﻴﺔ ،ﻣﺜﻞ املﻮﺳﻴﻘﻰ أو اﻟﺮﺳﻢ .وﻗﺪ ﺷ ﱠﻜ َﻞ ﻫﺬا املﻔﻬﻮم »اﻟﺸﻤﻮﱄ« ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻣﻨﺬ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ً ُ ري ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﺋﻞ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﻤﻨﻬﺞ ووﻓﻘﺎ ﻟﻠﻤﻮروث اﻷملﺎﻧﻲ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﴩ. اﻟﺘﻤﺎس ﻛﺜ ٍ اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ .ﻓﺎﻟﺘﻀﺎد ﺑني املﻔﻬﻮﻣني اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ واﻟﺸﻤﻮﱄ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ً أﻳﻀﺎ ﺑﻤﻮاﻗﻒ ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ ﻣﺘﻀﺎدة؛ ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﻴﻞ ﺗﻮﺟﱡ ﻪ املﻮروث اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻧﺤﻮ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،ﻳﻌ ﱢﻠﻖ ً أﻫﻤﻴﺔ ﻛﺒرية ﻋﲆ اﻟﻔﻦ واﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ. املﻮروث اﻷملﺎﻧﻲ ﺑﴫاع ﺣﺎ ٍم داﺧﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻤﻴﻴﺰ اﻟﴫاع وﻳﻮﺣﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﻀﺎد ٍ ﺑﻄﺮق ﻣﺘﻌﺪدة؛ ﻛﺎﻟﴫاع ﺑني »اﻟﺘﻔﺴري« و»اﻟﻔﻬﻢ« ،أو »اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ« و»اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ« ،أو »ﺛﻘﺎﻓﺘَﻲ« اﻟﻌﻠﻮم واﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت .ﻓﻜﻴﻒ ﻧﺘﻌﺎﻣﻞ — ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻮﺟﱠ ﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ املﻮاﻗﻒ — ﻣﻊ ﱢ اﻟﺼﺪَاﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﺑني اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺨﱪﻧﺎ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻦ ﻛﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻌﺎ َﻟﻢ ،واﻟﻄﺮق اﻷﺧﺮى اﻟﺘﻲ ﱢ ﻳﻔﴪ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺎ ﻋﺎملﻬﻢ وﻳﺸﻌﺮون ﺑﻪ؟ ﺗﺒﺪأ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺨﺎﻟﺞ اﻟﺸ ﱡﻚ ﻓﻜﺮ َة أن اﻟﺒﴩ »ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ« ﰲ ﻋﺎ َﻟ ٍﻢ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻤﻪ ﻣﻜﻔﻮﻟﺔ ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ اﻹﻟﻪ. ﱡ اﻟﺘﻐري أن اﻟﻄﺮق املﺘﻨﺎﻓﺴﺔ ﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﺎ َﻟﻢ ﺗﺼﺒﺢ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ وﻣﻦ ﺗﻮاﺑﻊ ﻫﺬا ﻟﻠﺘﻮﻓﻴﻖ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ﻇﻬﻮر اﻟﴫاﻋﺎت املﻤﻴﱢﺰة ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ. ِ ﻳﺨﺘﻒ ﻫﺬا اﻟﺨﻼف ،ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺘﻀﺢ ﻣﻤﺎ ﻳﲇ .ﻓﻔﻲ اﻟﺜﻼﺛني ﻋﺎﻣً ﺎ اﻷﺧرية ،أو ﻧﺤﻮ وﻟﻢ ذﻟﻚ ،ﺷﻬﺪت دراﺳﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت ﻇﻬﻮ َر ﻋﺪد ﻣﺘﻨﺎ ٍم ﻣﻦ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﺤﻞ ﻧﺰاع ً اﺳﺘﻨﻄﺎﻗﺎ ﻟﻸﻓﻜﺎر املﺘﻌﺎرف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺣﻮل ﻛﺒري ،وﻗﺪ ﺗﻀﻤﻨﺖ ﻫﺬه املﻨﺎﻫﺞ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ املﻌﻨﻰ واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﺷﺎع ﻫﺬا اﻻﺳﺘﻨﻄﺎق ﺟﺰﺋﻴٍّﺎ ﺑﺴﺒﺐ أن اﻻﻓﱰاﺿﺎت ﻣﺤﺪودة اﻟﻨﻄﺎق ذات اﻟﻨﺰﻋﺔ اﻟﻌِ ﺮﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻋﺘُ ِﻤﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﺜريًا ﰲ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻗﺪ ﺗﺰﻋﺰﻋﺖ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺗﺄﺛريات اﻟﻌﻮملﺔ واﻧﺤﺴﺎر اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر .واﻟﻮﻋﻲ ﺑﺄن اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﺗﺮﺗﺒﻂ دوﻣً ﺎ ﺑﺂﻟﻴﺎت ﻋﻤﻞ اﻟﻘﻮة ،وﺑﺄن ﻣﺎ ﻳ َ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻳﺘﺄﺛﱠﺮ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﺎﻟﻈﺮف اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،ﻳﻌﻨﻲ أن ﻓﻬﻢ ُﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﱞ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻳﺘﻄ ﱠﻠﺐ ﺗﺄﻣﱡ ًﻼ ﻣﺴﺘﻨريًا ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻟﻢ ﺗﻨﺰع املﻨﺎﻫﺞُ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﱠ ﻏريت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت ﺑﻄﺮق ﻣﺜرية ﻟﻠﺠﺪل — وأﺷﻬﺮﻫﺎ :اﻟﺒﻨﻴﻮﻳﺔ ،وﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺒﻨﻴﻮﻳﺔ، وﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻮع اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ،واﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ،واﻟﻬﺮﻣﻨﻴﻮﻃﻴﻘﺎ ،واﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻨﻔﴘ — إﱃ ُﻨﴗ أو ﻳ َُﻐ ﱡﺾ اﻟ ﱠ ﺗﻀﻤني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ .وﻣﺎ ﻳ َ ﻄ ْﺮف ﻋﻨﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أن أﻛﺜﺮ ﻫﺬه املﻨﺎﻫﺞ 9
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻈﺮﻳﻦ اﻟﻔﺮﻧﺴﻴني أﻣﺜﺎل :ﺟﺎك درﻳﺪا وﻣﻴﺸﻴﻞ ﻓﻮﻛﻮ َ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ — املﺮﺗﺒﻄﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﺎملﻨ ﱢ وآﺧﺮﻳﻦ — ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ أﻋﻼم اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ وأﺷﻬﺮﻫﻢ :ﻫﻴﺠﻞ وﻧﻴﺘﺸﻪ وﻫﺎﻳﺪﺟﺮ .واﻵن ،ﻓﺈن أﻓﻜﺎر أﻋﻼم اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻫﺆﻻء ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻳُﺴﺘﻌَ ﺎن ﺑﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻟﻠﺮد ﻋﲆ ﺑﻌﺾ ﻓﺮﺿﻴﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﱢ ﻳﻮﻓﺮ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ً ً ﺳﺎﺑﻘﺎ. ﻓﺮﺻﺎ ﻟﺤﺪوث ﺗﻔﺎﻋﻼت ﺟﺪﻳﺪة ﺑني املﻨﺎﻫﺞ املﺘﻌﺎرﺿﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻟﻐﺎﻳﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻫﻨﺎ ﻫﻲ اﺳﺘﻜﺸﺎف ﻣﺎ ﺗﺨﱪﻧﺎ ﺑﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ املﺸﻜﻼت اﻟﻜﱪى ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ .وﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺴﻬﱢ ﻞ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ ﻋﲆ اﻟﻘﺮاء اﻻﻟﺘﻔﺎت إﱃ ً ﻣﻬﻤﺔ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﻟﻮﺿﻊ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﻜﱪى املﻌﱰَف ﺑﺼﻌﻮﺑﺘﻬﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺰال املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻓﻬ ُﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .ﻟﻠﻤﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻒ اﻟﺘﻔﺼﻴﲇ ﻟﻠﺤﺠﺞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻳﻤﻜﻨﻚ اﻟﺮﺟﻮع إﱃ ﻛﺘﺎﺑﻲ »ﻣﻘﺪﻣﺔ إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ إﱃ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس« )ﻛﺎﻣﱪﻳﺪج :ﺑﻮﻟﻴﺘﻲ.(٢٠٠٣ ،
10
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول
ﻛﺎﻧﻂ واﳊﺪاﺛﺔ
أﻫﻤﻴﺔ ﻛﺎﻧﻂ وإﺳﻬﺎﻣﺎﺗﻪ ﺑﻮاﺑﻞ ﻣﻦ املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺘﻘﻨﻴﺔ، ﻣﻦ ﻳﻘﺮأ أﻋﻤﺎل إﻳﻤﺎﻧﻮﻳﻞ ﻛﺎﻧﻂ ) (١٨٠٤–١٧٢٤ﻳُﻮاﺟَ ﻪ ٍ ﻣﺜﻞ» :اﻷﺣﻜﺎم اﻟﱰﻛﻴﺒﻴﺔ َ ﱠ ﻳﺘﻮﺻﻞ املﺮء ﻣﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻘﺒْ ِﻠﻴﱠﺔ« و»وﺣﺪة اﻹدراك املﺘﻌﺎﱄ« .ﻛﻴﻒ ﻓﻬﻢ ﻫﺬه املﺼﻄﻠﺤﺎت إﱃ دور ﻛﺎﻧﻂ املﺤﻮري ﰲ أي وﺻﻒ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ ﱡ ﺗﻐري اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،واﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﻐﻴري ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ؟ وﻟﻜﻲ ﻳﺪرك املﺮء ﻫﺬا اﻟﺪور ،ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻔﻬﻢ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﻜﱪى اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺗﻌﺒري ﻋﻨﻬﺎ .وﺣﺘﻰ إذا ﻛﻨﱠﺎ ﻏري ﻣﻮﻗﻨني ﺑﺼﺤﺔ أﻓﻜﺎره أو ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ،ﻓﻼ ﻳﺰال ً ﱡ ﻟﻠﺘﻐريات اﻟﺠﺬرﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﺷﻬﺪﻫﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﻋﴫه. اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻗﺮاءة ﻋﻤﻠﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره وﻗﺪ أﺻﺒﺢ اﻟﴫاع اﻟﻀﻤﻨﻲ ﻫﻨﺎ — ﺑني ﻓﻜﺮة أﻧﻨﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺮﳼ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺸﺄن ﻓﻠﺴﻔﺔ ً ﻗﻀﻴﺔ ﻛﺎﻧﻂ ،وﻓﻜﺮة أﻧﻨﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﻔﻬﻢ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻌﺒري ﻋﻦ ﻋﴫه — ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ﰲ اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻛﺎﻧﻂ ﻳﻜﺘﺐ ﻓﻴﻬﺎ .واﻟﺴﺒﺐ ﰲ ذﻟﻚ أن ﺗﺮﻛﻴ ًﺰا ﻓﻠﺴﻔﻴٍّﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻋﲆ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗﺄﺛري املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻋﲆ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳُﻔﻬَ ﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﺷﻜﻚ ﰲ اﻻﻓﱰاض اﻟﻘﺎﺋﻞ :إن ﻟﻸﺷﻴﺎء ﺟﻮﻫ ًﺮا ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ أﺑﺪﻳٍّﺎ .وﻗﺪ ﺗﺄﺛﱠﺮ اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﺑﺎﻟﺘﺤﻮﻻت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ واﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﴪﻳﻌﺔ ﰲ اﻟﻔﱰة ﻣﻦ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﻓﻤﺎ ﻳﻠﻴﻬﺎ ﰲ أوروﺑﺎ ،وأﺛ ﱠ َﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ. ِ ﻣﺒﺎﴍ ًة — ﻓﻘﺪ ﻗﴣ ﻣﻌﻈﻢ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ إن ﻋﻼﻗﺔ ﻛﺎﻧﻂ ﺑﻬﺬه اﻟﺘﺤﻮﱡﻻت ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺮﻛﺰ اﻷﺣﺪاث ﰲ ﻛﻮﻧﺠﺴﱪج ﰲ ﴍق ﺑﺮوﺳﻴﺎ — ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺷﻚ ﺗﺮ َﻛ ْﺖ أﺛﺮﻫﺎ ﻋﲆ ﻋﻤﻠﻪ. وإذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﺘﺄﻣﻼﺗﻪ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،د ْ َﺧﻞ ﺑﺎﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ َﻟﻜﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﻧﻌﺮف ﻛﻴﻒ ﻧﻔ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎدﻳﺔ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺎﻷﺣﻜﺎم
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺄﻣﻼت ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺴﻴﺎﻗﺎت اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﻓﻴﻬﺎ ﻓﺤﺴﺐ؛ وﻫﺬا ﻣﻌﻨﺎه ﻧﺤﺎول ﺑﺎﻟﴬورة أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﺒﺪو ﻣﻨﻄﻮﻳﺔ ﻋﲆ ﻣﻄﺎﻟﺐ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ،إﻻ أﻧﻨﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ِ اﺳﺘﺒﻌﺎ َد ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺗﻌﺒريًا ﻋﻦ اﻟﴫاﻋﺎت املﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،واﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺣﻠﻬﺎ .وﰲ ﺳﻌﻲ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﺤ ﱢﻞ ﺑﻌﺾ أﻫ ﱢﻢ املﻌﻀﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻌﴫه ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﺠﺎوز ﺑﻨﺎ ﺗﻠﻚ املﻌﻀﻼت إﱃ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻷﺷﻤﻞ. اﻟﺴﻴﺎق اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ إن املﻮاﻗِ ﻒ اﻟﺘﻲ ﻳﺮ ﱡد ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﺎﻧﻂ ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﻌﺒريات ﻋﻦ ﻋﻮاﻣﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻣﺤﻮرﻳﺔ ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ، ﻓ »ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ« ﺟﻮﺗﻔﺮﻳﺪ ﻻﻳﺒﻨﺘﺰ ) (١٧١٦–١٦٤٦وﺑﺎروخ إﺳﺒﻴﻨﻮزا ) ،(١٦٧٧–١٦٣٢اﻟﺘﻲ ﺣﻤﻠﻬﺎ ﻛﺮﻳﺴﺘﻴﺎن ﻓﻮﻟﻒ )َ (١٧٥٤–١٦٧٩ وآﺧﺮون إﱃ ﻋﻬﺪ ﻛﺎﻧﻂ ،ﺗﻔﱰض أن اﻟﻨﺠﺎح ﱢ ﻣﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. أﺳﺎس رﻳﺎﴈﱟ ﻳﻘﻮم ﻋﲆ ﺗﺮﻛﻴﺒﺎت اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﻠﻌﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ املﺮﺗﻜﺰ ﻋﲆ ٍ وﻷن اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﺗﺘﺄﻟﻒ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﴐورﻳﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻐﻴريﻫﺎ ﺑﺎﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ،ﻓﻤﻦ املﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﺗﺄﺳﻴﺴﻴﺔ ﻳﻔﺘﻘﺮ إﻟﻴﻬﺎ أي ﺷﻜﻞ َ آﺧﺮ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل املﻌﺮﻓﺔ. ﻛﻤﺎ أن ﻣﻨﺰﻟﺘﻬﺎ املﻄﻠﻘﺔ ﺗﺮﺑﻄﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﺑﻌﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ،ﻓﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻋﺮﺿﺔ ﻟﻠﺨﻄﺄ ﺑﺎﻟﴬورة؛ ﻟﺬا ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻋﺼﻤﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻋﻦ اﻟﺨﻄﺄ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻣﺘﻼك ملﺼﺪر ﻳﻔﻮق اﻟﺒﴩ .ﻟﻜﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ — ﻛﻤﺎ أﺷﺎر اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻻﺳﻜﺘﻠﻨﺪي دﻳﻔﻴﺪ ﻫﻴﻮم ) — (١٧٧٦–١٧١١ﺗﻌﺘﻤﺪ ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ اﻫﺘﻤﺎم ﺟﺪﻳﺪ ودﻗﻴﻖ ﺑﺎملﻌﻄﻴﺎت اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ،وﻫﺬه املﻌﻄﻴﺎت ﺗُ َ ﺆﺧﺬ ﻣﻦ اﻹدراﻛﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﺎ ﺣﺘﻤﻴﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت .وﻗﺪ ﺗﻤﺜ ﱠ َﻞ أﺛﺮ دﻋﺎوى ﻫﻴﻮم ﻋﲆ ﻛﺎﻧﻂ ﰲ إﻳﻘﺎﻇﻪ ﻣﻦ إﻳﻤﺎﻧﻪ »اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻲ« ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻜﻮﻧﻲ املﻀﻤﻦ؛ ﻓ »اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ« ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﺎﻧﻂ ﻫﻲ اﻹﻳﻤﺎن ﺑﺎملﺒﺎدئ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﺒﺤﺚ اﻟﻨﻘﺪي ،وﻫﻮ اﻋﺘﻘﺎد ﻗﺎﺋﻢ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﺬ أﻓﻼﻃﻮن ﻋﲆ اﻷﻗﻞ .أﻣﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻴﻮم ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺎل إن ﻣﺒﺪأ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﻣُﻀﻤﱠ ﻦ ﰲ اﻟﻜﻮن؛ ﻷن ﺟﻤﻴﻊ اﻷدﻟﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﺗُ َ ﺴﺘﻘﻰ ﻣﻦ إدراﻛﻨﺎ ﻟﻠﺰوم ﳾء ﻋﻦ َ آﺧﺮ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺄي ﻳﻘني ﻇﺎﻫِ ﺮ ﺗﻮ ﱢﻟﺪه اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻣﺼﺤﻮب ﺑﺸ ﱟﻚ ﺣﻮل ﻣﺎ ﻳﻀﻔﻲ اﻟﴩﻋﻴﺔ ﻋﲆ ذﻟﻚ اﻟﻴﻘني .وﻳُﺤﺘﻤَ ﻞ أن ﺗﻜﻮن ﺗﺪاﻋﻴﺎت وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻫﻴﻮم ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺪﻳﻦ ﻛﺎرﺛﻴﺔ؛ ﻓﻨﻈﺎم اﻷﺷﻴﺎء اﻵن ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺪرﻛﻪ اﻟﺒﴩ ﻛﺄﻓﺮاد ،وﻟﻴﺲ ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻹﻟﻬﻴﺔ. 12
ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ
ﺷﻜﻞ :1-1إﻳﻤﺎﻧﻮﻳﻞ ﻛﺎﻧﻂ ،ﻋﺎم ١٧٩٠ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ.
1
ﻳﺴﻌﻰ ﻛﺎﻧﻂ إﱃ إﻳﺠﺎد ﺣ ﱟﻞ ﻟﻠﺼﺪام ﺑني اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻋﺎدة اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ واﻹدراﻛﺎت املﺤﺘﻤَ ﻠﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻻ ﻳﻨﺼﺐﱡ اﻫﺘﻤﺎﻣُﻪ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﻧﻈﺮﻳﺔ املﻌﺮﻓﺔ؛ ﻓﺄول أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻟﻜﱪى »ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻘﻞ املﺤﺾ« ) ،١٧٨١اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ َ ﱢ ﺳﻴﻮﺿﺤﻪ ﺑﺎﻟﺘﻔﺼﻴﻞ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ »اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺤﻮرﻳٍّﺎ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي (١٧٨٧ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ«؛ أﻋﻨﻲ» :ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻌﻤﲇ« )) (١٧٨٨وﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »أﺳﺎس ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻷﺧﻼق« ) .((١٧٨٥وﰲ ﻋﺎم ،١٧٩٠ﻧﴩ ﻛﺎﻧﻂ »اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺜﺎﻟﺚ« ﻟﻪ؛ أﻻ وﻫﻮ »ﻧﻘﺪ اﻟﺤُ ﻜﻢ« )،(١٧٩٠ ٍ ﺗﺨﻄﻴﻂ أو ﻗﺼ ٍﺪ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ( واﻟﺠﻤﺎل اﻟﺬي ﻳﻌﺎﻟﺞ ﻗﻀﻴﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ )ﻓﻜﺮة وﺟﻮد اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ واﻟﻔﻨﻲ. ﻛﻴﻒ إذن ﺗﺘﺼﻞ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ املﺨﺘﻠﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺼﺪﱠى ﻟﻬﺎ ﻛﺎﻧﻂ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ؟ ﻳﻤﻴﻞ ﱡ اﻟﺘﺨﺼﺺ ،وﻣﻦ ﺗﻮاﺑﻊ ﻫﺬا اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ اﻟﺘﺤﻮل ملﺤﻤﻴﺔ ﻣﻦ ﻓﺮوع ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ آﺧِ ﺬة ﰲ اﻷﻣﺮ أن ﺗﺤﻠﻴ َﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ إﱃ ﻣﻜﻮﻧﺎت ﻣﻌﻴﱠﻨﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺤﺪِث ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻟﺘﻔ ﱡﻜﻚ .وﻗﺪ اﻓﱰﺿﺖ ُ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ وﺣﺪ ًة ﺿﻤﻨﻴﺔ ﰲ ﺗﻨﻮﱡع اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻗﺪ ﺣﻮﱠل 13
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
َ ﺗﺄﺳﻴﺲ أﺷﻜﺎل ﻫﻴﻮم ﻣﺼﺪ َر ﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪة إﱃ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻛﱪى؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺤﺎول ﻛﺎﻧﻂ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻮﺣﺪة ﻟﺘﺤ ﱠﻞ ﻣﺤ ﱠﻞ ﺗﻠﻚ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﺑﻘﺎؤﻫﺎ ﻣﻤﻜﻨًﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻬﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﻓﻘﻂ ﺑﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،ﺑﻞ ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻷﺳﺎس اﻷﺧﻼﻗﻲ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ وﺑﺎﻟﻌﻼﻗﺎت ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻘﻮاﻧني اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺗﻔﺴريﻫﺎ .وﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻻﻧﺘﻘﺎدات اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﻌﺒريات ﻋﻦ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼري ﺑﻬﺎ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻘﺎﻧﻮن واﻷﺧﻼق واﻟﻔﻦ أﻛﺜﺮ ً اﻧﻔﺼﺎﻻ ﻋﻦ ﺑﻌﻀﻬﺎ اﻟﺒﻌﺾ ﰲ اﻟﺤﻘﺒﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﻣﻊ أن ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ أﺣﺪ اﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ. املﺜﺎﻟﻴﺔ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ً ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻔﻜﺮة اﻷﺳﻘﻒ ﺑريﻛﲇ ﻋﻦ أن »اﻟﻮﺟﻮد إدراك« :إذا ﻛﺎﻧﺖ »املﺜﺎﻟﻴﺔ« ﰲ زﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻢ ﻳُﺪ َرك اﻟﴚء ﻓﻜﻴﻒ ﻟﻨﺎ أن ﻧﺆ ﱢﻛﺪ أﻧﻪ ﻣﻮﺟﻮد ﻣﻦ اﻷﺳﺎس؟ ﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﻂ ﻳﴫﱡ ﻋﲆ أن ﻣﺜﺎﻟﻴﺘﻪ »املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ« ﻫﻲ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻧﻮع ﻣﻦ »اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ«؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻔﱰض أن اﻷﺷﻴﺎء ﺗﻮﺟﺪ ﺑﴫف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ إدراﻛﻨﺎ ﻟﻬﺎ ،وﻟﺬﻟﻚ رﺑﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻣﻌﻨﻴٍّﺎ ﺑﻤﻮاﻗﻒ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺔ أو ﻣﺘﻌﺎرﺿﺔ .وﻫﺬا اﻻﻧﻄﺒﺎع أﺳﺎس »ﻟﻠﻤﻮﺿﻮﻋﻴﺔ« ِ ﺑﻠﻐﺔ »اﻟﺬاﺗﻴﺔ«، ﺗﻌ ﱢﺰزه ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻏﺎﻳﺔ املﺜﺎﻟﻴﺔ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﻫﻲ إﻋﻄﺎء ٍ ِ إﻣﻜﺎن« ذاﺗﻴ ٍﺔ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ،ﻫﺬه »ﴍوط ﻓﺎﻟﺤﺘﻤﻴﺎت املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ٍ ٌ ذاﺗﻴﺔ؛ اﻟﴩوط ﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ اﻟﺠﺎﻧﺐ »املﺘﻌﺎﱄ« ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻪ .ﻓﺎﻟﴩوط ﻷﻧﻬﺎ ﻧﺘﺎج ﺗﻔﻜريﻧﺎ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ،ﻻ أن ﺗﻜﻮن اﻋﺘﺒﺎﻃﻴﺔ ﻋﲆ ﻏﺮار اﻵراء اﻟﺬاﺗﻴﺔ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻳﺮﻳﺪ ﻛﺎﻧﻂ أن ﻳﴩح ﻛﻴﻒ ﺗﻌﺘﻤﺪ املﻌﺮﻓﺔ ﻋﲆ أﺛﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ وﻋﲆ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﻨ ﱢ ﻈﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ ذﻟﻚ اﻷﺛﺮ ،ﻣﺴﺘﺸﻬﺪًا ﰲ ذﻟﻚ ﺑﻘﻮاﻧني اﻟﺤﺮﻛﺔ ﻟﻨﻴﻮﺗﻦ. إن املﺸﻜﻠﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ أن ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺬاﺗﻲ وﻣﺎ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ اﻟﺠﺎﻧﺐ املﻮﺿﻮﻋﻲ ً ﺟﺪﻻ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻻ ﻳﺰال ﻛﺬﻟﻚ .ﻓﺒﻌﺾ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻛﺎن إﺣﺪى اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻷﻛﺜﺮ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻫﺬه اﻷﻳﺎم ﻳﻈﻨﻮن ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،أن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﺟﻬﺎ ٌز ﻳﺸﻐﻞ اﻟﱪﻧﺎﻣﺞ اﻟﻼزم ﻟﻠﺘﻔﻜري ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ً أﻳﻀﺎ إﻧﺸﺎء ﻣﺜﻴﻞ ﻟﻠﱪﻧﺎﻣﺞ ﺑﻮاﺳﻄﺔ آﻟﻴﺎت اﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ؛ وﺑﺬﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ اﻵﺧﺮ ،ﻳﻮﺣﻲ َ ُﻔﴪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺳﺒﺒﻴﺔ .وﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ َ ﻟﻠﺠﺎﻧﺐ اﻟﺬاﺗﻲ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ أن ﻳ ﱠ »اﻟﻘ ْ ﺼﺪُ« ُﺪر ُك ﻋﺎ َﻟﻤً ﺎ ﻣﻦ — اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺘﻔﻜري ﻳﻜﻮن »ﰲ« أﺷﻴﺎء ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ — ﺑﺄن اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳ ِ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ﻛﺎملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻳُﺪرﻛﻬﺎ ،وﻫﺬا أﻣﺮ ﻓﺎﺻﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﺎﻧﻂ .ﻓﺎﻟﺠﺎﻧﺐ َ اﻟﻘ ْ ﺼﺪي ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻨﺎ ﺑﺈﻧﺘﺎج أﺣﻜﺎم ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻋﻦ ﳾء ﻣﺎ، اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻗﺪ »ﻳُﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره« ﻋﺪدًا رﺑﻤﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء .وﻣﻬﻤﺎ ﺗﻜﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ 14
ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ
اﻟﺤﺠﺞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻫﻨﺎ ،ﻓﺈن املﻮاﻗﻒ املﺘﺨﺬة ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻔﻜري اﻟﺒﴩ ﰲ أﻧﻔﺴﻬﻢ. ﻓﻠﻤﺎذا إذن ِﺳﻴﻖ ﻛﺎﻧﻂ إﱃ ﻣﺬﻫﺐ املﺜﺎﻟﻴﺔ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس؟ اﻟﺴﺒﺐ ﻣُﻀﻤﱠ ﻦ ﰲ ﻗﻮﻟﺘﻪ املﺄﺛﻮرة :إن »اﻷﻓﻜﺎر دون ﻣﻀﻤﻮن ﻓﺎرﻏﺔ ،واﻷﺣﺪاس دون ﺗﺼﻮرات ﻋﻤﻴﺎء« ،ﻓﺎﻷوﱃ ﻫﻲ اﻷﻓﻜﺎر )»اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ«( ﻛﺘﻠﻚ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻹﻟﻪ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﻣﺠﺮد ﺗﺼﻮﱡرات اﺳﺘُﺨﺪِﻣَ ْﺖ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ اﻹﻟﻪ ﻣﺜﻞ »اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺤﺘﻤﻲ« و»اﻟﻜﻤﺎل« وﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ» .واﻷﺣﺪاس« — وﻫﻲ ﺑﺎﻷملﺎﻧﻴﺔ Anschauungenاملﺸﺘﻘﺔ ﻣﻦ anschauenﺑﻤﻌﻨﻰ »ﻳﻨﻈﺮ إﱃ« — ﻫﻲ ﻃﺮق ﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﻦ ﻣﺎد ُة إدراﻛﺎﺗِﻨﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻛﺪﻟﻴﻞ ﺗﺴﻮﻳﻐﻲ .ودون ٍ ً ﻓﻮﺿﻮﻳﺔ ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ؛ ﻓﻤﺎ ﻧﺪرﻛﻪ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﺑﻪ ﺑﻠﻐﺔ اﻟﺘﺼﻮرات ﺳﻴﻮاﺟﻪ املﺮءُ ﺗﻔﺎﺻﻴ َﻞ ً ﺿﺌﻴﻼ ،وﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎن ﺟﺎﻧﺐ ﻣﺎ ﻣﻬﻤﺎ ﻳﻜﻦ ﻳﺨﺘﻠﻒ دوﻣً ﺎ ﻣﻦ ﻟﺤﻈﺔ إﱃ ﻟﺤﻈﺔ ﰲ ٍ ِ ﻣﻨﻔﺼ ًﻼ ﻣﺘﻄﺎﺑﻘﺎن ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻗﺎﻃﻊ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻛﺎﻧﻂ ﻳﺮﻳﺪ اﻻﺣﺘﻔﺎظ ﺑﻤﺎ ﻳﻘﱰﺣﻪ ﻋﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ ،ﻓﺈن اﻷﺑﺤﺎث اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﰲ اﻹدراك ﺗﺜﺒﺖ أن ﻣﺎ ﻧﺮاه ﻳﺘﺸ ﱠﻜﻞ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺮاﻛﻴﺐ ﺗﺼﻮﱡرﻳﺔ ﻧﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ املﺸﻜﻼت املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﻣﻌﻄﻴﺎت اﻹدراك وﺗﻔﻜريﻧﺎ ،ﻓﺈن ﻛﺎﻧﻂ ﻻ ﻳﺸﻚ ﰲ أن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻣﻤﻜﻨﺔ؛ وﻟﺬا ﻓﺎملﻬﻤﺔ ﻫﻲ اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ ً ﻣﻤﻜﻨﺔ .إن اﻟﺘﻤﺎﺛُﻞ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻷﻣﺮ اﻟﻮارد ﰲ ﻋﺎﻟﻢ املﻌﻄﻴﺎت اﻹدراﻛﻴﺔ ،اﻟﺬي ﻻ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أﺑﺪًا إﻇﻬﺎ ُره ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺘﻄﺎ ِﺑﻖ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ وﻳﻘﻊ ﰲ أﻣﺎﻛﻦ وأوﻗﺎت ﻣﺤﺪﱠدة؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎملﺜﺎﻟﻴﺔ ﱠ ﻳﺘﻌني أن ﺗﺴري املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﺗﺰﻋﻢ أﻧﻪ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻮﺟﺪ ﻗﻮاﻋﺪ ﻋﻘﻠﻴﺔ ﻹدراك اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﺑﺤﻴﺚ املﻮﺿﻮﻋﺎت ً ﱡ اﻟﺘﻐري ﰲ املﻨﻈﻮر ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره وﻓﻘﺎ ﻟﻄﺮق ﺗﻔﻜريﻧﺎ ﻻ اﻟﻌﻜﺲ .وﻗﺪ رأى ﻛﺎﻧﻂ ﻫﺬا »ﺗﺤﻮ ًﱡﻻ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻴٍّﺎ«؛ ﻣﻤﺎﺛ ًِﻼ ملﺎ ﻓﻌﻠﻪ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻗﻠﺐ ﻋﻠﻢ اﻟﻜﻮﻧﻴﺎت اﻟﺒﻄﻠﻤﻲ ً رأﺳﺎ ﻋﲆ ﻋﻘﺐ وﻗﺎل :إن اﻷرض ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻜﻮن. ٍ »ﻣﻘﻮﻻت« ،وﻫﻮ ﻣﺼﻄﻠﺢ أﺧﺬه ﻋﻦ وﻳﺴﻤﱢ ﻲ ﻛﺎﻧﻂ اﻟﻘﻮاﻋ َﺪ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻟﻔﻬﻢ املﻮﺿﻮﻋﺎت أرﺳﻄﻮ اﻟﺬي ﻧﻈﺮ إﱃ املﻘﻮﻻت ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺗﺤﺪﱢد اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳ ﱠ ُﻌﱪ ﺑﻬﺎ ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء. ُ ِ ﻣﻮﺿﻮع ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم« ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ »ﺗﺼﻮرات أي املﻘﻮﻻت وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﺎﻧﻂ ﺗﺤﺪﱢد ٍ اﺳﺘﻤﺪاده ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻣﻘﻮﻻت اﻟﻮﺣﺪاﻧﻴﺔ واﻟﺘﻌﺪدﻳﺔ ﻫﻲ أﺳﺎس ﻣﺎ ﻳﺼﻄﻠﺢ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ ﺗﺴﻤﻴﺘﻪ »اﻷﺣﻜﺎم اﻟﱰﻛﻴﺒﻴﺔ َ اﻟﻘﺒْﻠﻴﺔ« ،وﻫﺬه ﻫﻲ اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳُ َ ﻈﻦ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ أﻧﻬﺎ ﺑﺪﻳﻬﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻳﺮى ﻛﺎﻧﻂ أﻧﻬﺎ ﺗﺜﺒﺖ ﻛﻴﻒ اﺳﺘﻄﺎع اﻟﻌﻘﻞ أن ﻳﻨﻤﻲ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻔﻜري املﺤﺾ .ﻓﺎﻟﻌﺪد ٤ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻌﺮﻳﻔﻪ ً ﻣﺜﻼ ﻋﲆ أﻧﻪ ٢ + ٢ﻓﻘﻂ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ 15
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ً أﻳﻀﺎ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺮ ﱠﻛﺒًﺎ ﻣﻦ ١ + ٣و ٠ + ٤وﻣﺠﻤﻮﻋﺎت أﺧﺮى ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ،ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ٣٫٣٣٣٣ ،٠٫٦٦٦٧ +وﻛﻠﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺰﻳﺪ ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺪد ) .٤وﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺰال ﻣﺤ ﱠﻞ ﻧﺰاع ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻳﺠﺐ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻫﺬه اﻟﱰاﻛﻴﺐ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ »ﻣﻀﻤﱠ ﻨﺔ ﰲ« ،٤ ٍ ﺣﺘﻰ إذا ﻟﻢ ﻧﻜﻦ ﻧﺤﺴﺒﻬﺎ (.وﺗﻘﺪﱢم ﻣﻘﻮﻟﺔ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻔﻬﻢ ﺣﺠﺘﻪ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم؛ أن ﺷﻴﺌًﺎ ﻋ ﱠﻠ ُﺔ ﳾءٍ َ أﻇﻦ ﱠ ﻛﻨﺖ ﱡ ﻓﺈذا ُ آﺧﺮ ،ﻓﺴﻮف أﺣﻜﻢ ﺑﺄن اﻟﺤﺪث )ب( ﻳﺘﺒﻊ ﺑﺎﻟﴬورة ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺤﺪث )أ( ،وﻣﺎ أدرﻛﻪ أﻧﺎ ﻫﻮ )أ( ﺛﻢ )ب( :واﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﻤﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺎن ﺳﺒﺒﻴ ٍﺔ ﻳﺘﻄ ﱠﻠﺐ أﻛﺜ َﺮ ﻣﻦ ﺗﻌﺎﻗﺐ ﺣﺪث ﻋﲆ َ آﺧﺮ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﻄﻠﺐ ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ ﻣﻘﻮﻟﺔ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ واﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻢ ﺑﺄن ارﺗﺒﺎط اﻟﺤﺪث )ب( ﻣﻊ اﻟﺤﺪث )أ( اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻠﻴﻪ ارﺗﺒﺎط ﴐوري .وﻳﺮ ﱢﻛﺐ ٍ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻊ ﺑﻌﺾ. ﻓﺎﻋﻞ اﻷﺟﺰاءَ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﺘﺠﺮﺑﺔ اﻹدراﻛﻴﺔ ﰲ ﻧﺤﻮ ٍ اﻟﺤﻜ ُﻢ ﻋﲆ ٍ ً ﺧﻼﻓﺎ ﻟﻜﻞ ﳾء ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﻳﺮى ﻛﺎﻧﻂ اﻷﺣﻜﺎم ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ« :ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻬﺎ — — ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺴﺒﱠﺒﺔ ﻋﻦ ﳾءٍ َ ﺑﺸﺄن إن ﻛﺎن ﳾء آﺧﺮ .واﻷﺣﻜﺎم ﺗﻘﺘﴤ ﻣﻨﱠﺎ اﺗﺨﺎذ ﻣﻮﻗﻒ ِ ﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﻘﺎﺋﻢ أم ﻻ؛ ﻓﻤﺎدة اﻹدراك ﺗﻌﻄﻴﻬﺎ ﻟﻨﺎ »اﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻟﻠﺘﻠﻘﻲ« ،واملﻌﺮﻓﺔ ﺗﻨﺘﺞ ﻣﻦ اﻟﺘﻄﺒﻴﻖ اﻟﻔﺎﻋﻞ ﻟﻠﻤﻘﻮﻻت واﻟﺘﺼﻮرات ﻋﲆ ﺗﻠﻚ املﺎدة .وﻟﻌﻞ ﻛﺎﻧﻂ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺬﻫﻠﺔ )وﻣﺤﻞ ﺗﺴﺎؤل( ﻳﴫﱡ ﻋﲆ أن املﻜﺎن واﻟﺰﻣﺎن ﻫﻤﺎ إﻃﺎر ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﺗﻔﻜريﻧﺎ ،وﻟﻴﺴﺎ ﺧﺎﺻﻴﺘني ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ املﻮﺿﻮﻋﻲ؛ وﻫﺬا ﻷﻧﻨﺎ إﻧﻤﺎ ﻧﺪرك اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﻣﻜﺎن وزﻣﺎن ﻣﺤﺪﱠدﻳﻦ ،ﺣﻴﺚ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ٌ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻹدراك اﻷﺷﻴﺎء »ﻛﻠﻬﺎ دﻓﻌﺔ واﺣﺪة« .واﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﱰﻛﻴﺐ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﺴﺒﺐ أن اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺗﻘﻊ داﺧﻞ ﻫﺬا اﻹﻃﺎر املﺤﺪد ،وﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري أن ﻳﺮﺑﻂ اﻟﻠﺤﻈﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﺘﺠﺮﺑﺔ ﻟﻴﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ. اﻟﺬات اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻳﻌﺘﻤﺪ اﻟﺒﻨﺎء اﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﺘﻮﺻﻴﻒ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ »اﻟﻮﺣﺪة اﻟﱰﻛﻴﺒﻴﺔ ﻟﻺدراك اﻟﻮاﻋﻲ« .و»اﻹدراك اﻟﻮاﻋﻲ« ﻫﻮ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ املﺮء ﰲ أﺣﻜﺎﻣﻪ :ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻨﻲ ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ َ ﺣﻘﻴﻘﺔ أﻧﻨﻲ ﻓ ﱠﻜ ْﺮ ُت ﻫﺬا اﻟﺼﺒﺎح ﰲ أﻳﺎم ﻋﻄﻠﺘﻲ؛ وﻣِﻦ أن أدرك ﻋﻦ وﻋﻲ ﺑﻌﺪ ﻇﻬرية اﻟﻴﻮم ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻘﺪ ُ ﻛﻨﺖ ﺣﺘﻤً ﺎ ﻣﻮﺟﻮدًا ﰲ ﻟﺤﻈﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺸﺄن أﻳﺎم ﻋﻄﻠﺘﻲ ،وﰲ ﻟﺤﻈﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺸﺄن اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻬﺎ .وﻫﺬا اﻟﺘﺘﺎﺑﻊ »اﻟﱰﻛﻴﺒﻲ« ﻟﺬاﺗﻲ ﻫﻮ أﺳﺎس اﻟﺬاﻛﺮة .ودون وﺟﻮد ﻣﺎ ﻳﺮﺑﻂ ِ ﻟﺤﻈﺎت اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ — واﻟﺬي ﻳﺠﺐ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ املﻨﻄﻘﻴﺔ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻮ اﻟﴚءَ َ ﻧﻔﺴﻪ ﰲ ٌ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﻠﺤﻈﺘني — ﻟﻦ ﺗﻮﺟﺪ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﺠﻤﻊ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻣﻌً ﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻘﻮل ﻛﺎﻧﻂ إﻧﻪ »ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن »أﻧﺎ أﻓ ﱢﻜﺮ« ﻗﺎدر ًة ﻋﲆ ﻣﺼﺎﺣﺒﺔ ﺟﻤﻴﻊ ﺗﻤﺜﻴﻼﺗﻲ «.وﻟﻜﻦ اﻟﺸﻖ املﻨﻄﻘﻲ 16
ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ
ِ ﻣﻌﺘﻤﺪة ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﳾء أﻛﺜﺮ ﺗﺄﻛﻴﺪًا؛ ﻓﻔﻜﺮة اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺘﺴﻖ اﻵن ﺗﺒﺪو ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻋﲆ وﺣﺪة اﻟﺬات ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ﻫﺬه اﻟﻮﺣﺪة ﺑﻄﺮﻳﻘﺘني :اﻷوﱃ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻓﻘﻂ ﱠ اﻟﺸﻖ املﻨﻄﻘﻲ ﱠ املﺒني ﺗﻮٍّا ،أﻣﺎ ﰲ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻴﻤﻜﻦ ﺗﻀﺨﻴﻢ اﻟﻮﺣﺪة إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﻨﻔﺲ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ »اﻟﻨﻮر« اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ .وﺳﺘﺤﻈﻰ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻻزدواﺟﻴﺔ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﻼﺣﻘﺔ. ﺗﻨﻄﻮي اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻋﲆ زﻳﺎدة ﻫﺎﺋﻠﺔ ﰲ ﻗﺪرة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﲆ ﺗﺤﺼﻴﻞ املﻌﺮﻓﺔ واﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وإذا ﻛﺎن أﺳﺎس ﻫﺬه اﻟﻘﺪرة ﻫﻮ ٍّ ﺣﻘﺎ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﺬات ،ﻓﻤﻦ املﻤﻜﻦ إذن َرﺑْﻂ ﱡ اﻟﺘﻐريات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﺘﻘﻨﻴﺔ ﺑﺎﻟﺘﻔﺴريات املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﺬاﺗﻴﺔ .وﻷن اﻟﺬات املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻠﺒﻬﺎ ً ً ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ وﻓﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻋﲆ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎ ﻃﺒﻴﻌﻴٍّﺎ ،وﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أﻳﻀﺎ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ أﻛﺜﺮ ﻓﺄﻛﺜﺮ ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺨﺎرﺟﻴﺔ واﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﺗﺆدي اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ إﱃ ﻣﺤﺎوﻻت ﻛﺎرﺛﻴﺔ ﻟﻠﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻋﺘﻤﺎد اﻟﺬات ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻟﺬات ﺗﺒﺪو ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ،وﻟﻜﻨﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺘﻤﺘﻊ ﺑﺤﺮﻳﺔ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﰲ ﻣﻘﺎوﻣﺔ دواﻓﻊ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻳﺘﺼﺪى ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻺﺷﻜﺎﻟﻴﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻮﺿﻊ اﻟﺜﻨﺎﺋﻲ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﻘ َﺮأ اﻟ ﱡ ﻄ ُﺮق املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ٌ ﺗﻌﺒريات ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﻨﻘﺴﻤﺔ ﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺒﴩ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ اﻟﺘﻲ ُﻓ ﱢﴪت ﺑﻬﺎ أﻗﻮال ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ. اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ إن اﻻﻧﻘﺴﺎﻣﺎت ﰲ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺒﴩي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻫﻲ اﻟﻌﻨﴫ اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺠﻠﻴٍّﺎ ﰲ ﺗﺄﻣﻼت ﻛﺎﻧﻂ ﻋﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ ،وﺗﻌﺘﻤﺪ ﻫﺬه اﻻﻧﻘﺴﺎﻣﺎت ﻋﲆ ﺗﻤﻴﻴﺰه ﺑني اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻈﻬﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ وﻛﻴﻨﻮﻧﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ »ﰲ ذاﺗﻪ« ،وﺑني اﻟﻌﺎ َﻟﻢ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره »ﻇﺎﻫﺮ ًة« واﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره »ﺷﻴﺌًﺎ ﰲ ذاﺗﻪ«؛ ﻓﻜﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻈﺎﻫﺮ ﺧﺎﺿﻊ ﻟﻠﻘﻮاﻧني اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ وﺳﺎﺋﺮ أﺟﺴﺎدﻧﺎ .وﰲ ﻧﻘﺎوم ﻧﺰﻏﺎت ﻏﺮاﺋﺰﻧﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريﻫﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺳﺒﺒﻲ ،ﻓﻨﺤﻦ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ِ ﻧﺘﴫﱠف وﻓﻖ »ﺳﺒﺒﻴﺔ ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ«؛ ﻓﻨﺤﻦ ﻧﻤﻨﻊ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﻦ ﻓﻌﻞ ﳾء ﻷﻧﻨﺎ ﻧﻈﻦ أﻧﻪ ﺧﻄﺄ .وﻳﻨﻌﻜﺲ اﻟﺠﺎﻧﺐ ﻏري املﻌﻘﻮل ﻣﻦ رؤﻳﺔ ﻛﺎﻧﻂ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺮارات ﻻ ﺗﻘﻊ ﰲ ﻣﻜﺎن وزﻣﺎن؛ ﱠ ﻷن ﻛ ﱠﻞ ﳾء ﻳﻘﻊ ِ ﺧﺎﺿ ٌﻊ ﻟﻠﻘﻮاﻧني اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ .أﻣﺎ اﻟﺠﺎﻧﺐ املﻌﻘﻮل ﰲ ﻫﺬه َ ﻣﺴﺌﻮﻟﻴﺔ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻮن ،ﻣﺎ ﻟﻢ اﻟﺮؤﻳﺔ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﻌﻜﺲ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن املﺠﺘﻤﻌﺎت ﺗُﺤﻤﱢ ﻞ أﻓﺮادَﻫﺎ ﱠ ﻛﺮﻫﻮا ﻋﲆ ﻓﻌﻠﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﻮًى ﺧﺎرﺟﺔ ﻋﻦ ﻧﻄﺎق ﺳﻴﻄﺮﺗﻬﻢ. ﻳﺘﺄت إﻇﻬﺎر أﻧﻬﻢ أ ُ ِ 17
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
وﻳﺮاﻧﺎ ﻛﺎﻧﻂ أﺣﺮا ًرا »ﰲ ذواﺗﻨﺎ« ،ﻟﻜﻦ ً وﻓﻘﺎ ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱢدﻧﺎ ﺑﻬﺎ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ٌ ﻋﲆ أﻧﻨﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻇﺎﻫِ ﺮ ٌة ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻤﻌﻨﻰ »اﻟﴚء ﰲ ذاﺗﻪ« ﻣﺸﺎ ٌع ﻋﻨﻪ ً دﻓﻌﺔ واﺣﺪة ،وﻟﺬا رﺑﻤﺎ ﻳﻌﻨﻲ ﺑﻤﻮﺿﻮع ﻣﺎ اﻟﻐﻤﻮض؛ ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺪرك ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ٍ ٌ َ َ إﺟﻤﺎﱄ أوﺟﻪ املﻮﺿﻮع ،وﻟﻜﻨﻪ ﻳﻤﻜﻦ ً ﻣﺨﻔﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أﻳﻀﺎ أن ﻳﻌﻨﻲ أن ٍ ﺣﺪﻳﺚ ﺑﺸﻌﻮر ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ؛ ﻷﻧﻨﺎ إﻧﻤﺎ ﻧﺼﻞ إﱃ اﻷﺷﻴﺎء »ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﻟﻴﻨﺎ« .وﻳﻮﺣﻲ ﻫﺬا اﻟﻐﻤﻮض ٍ ﺑﻌﺪم اﻻرﺗﻴﺎح ﺑﺸﺄن ﻣﻜﺎن اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .ورﺑﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ً ﻓﻌﻠﻴﺔ — ﰲ ﺟﻤﻴﻊ ﺟﻮاﻧﺒﻬﺎ ،إﻻ أﻧﻪ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺼﻮرة اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ — إن ﻟﻢ ﺗﻜﻦ أﻳﻀﺎ أن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺗﺤﺠﺐ أو ﺗُﺤﺪِث ُ ﻳُﺤﺘﻤَ ﻞ ً ﻃ ُﺮ ًﻗﺎ ﻧﺨﻔﻖ ﺑﻬﺎ ﰲ ﻓﻬﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﺗﻮﺟﺪ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ، وﻟﻜﻦ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺻﻠﺔ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﺑﺎﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻠﺘﺠﺪﻳﺪ اﻟﺮوﺣﻲ ،أو أن ﺗﻜﻮن ﺷﻴﺌًﺎ ﻳ َ ُﺼﺎن ﺿﺪ ﴏوف اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﺳﻠﺒﻴﺎﺗﻬﺎ .وﻳﺮﺟﻊ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻧﺸﺄة ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر إﱃ أن ﺛَﻤﱠ َﺔ ﻋﻼﻗﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﺑني ﺣﺮﻳﺔ اﻹﻧﺴﺎن واﻟﺸﻌﻮر ﺑﺠﺎﻧﺐ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ :ﻓﻼ اﻟﺤﺮﻳﺔ وﻻ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ ﺟﺰءٌ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻈﻮاﻫﺮ. اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺤﺮﻳﺔ ﻳﺪرك ﻛﺎﻧﻂ أن املﺮء ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ أن ﻳﺴﺘﺒﻌﺪ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺜريﻫﺎ »املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ«؛ أيْ و ْ َﺿﻊ ﺻﻮرة ﻋﺎﻣﺔ ﻋﻦ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺸ ﱠﻜﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻣﻬﻤﺔ »اﻟﻌﻘﻞ« ،ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ ً ﻣﱰاﺑﻄﺔ .واﻛﺘﺸﺎف املﺰﻳﺪ دوﻣً ﺎ ﻣﻬﻤﺔ »اﻟﻔﻬﻢ« املﻌﺮﰲ ،ﻫﻲ إرﺳﺎء ﻣﺒﺎدئ ﺗﺠﻌﻞ أﻓﻜﺎرﻧﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﻳﺨﱪﻧﺎ ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ ارﺗﺒﺎط ﻫﺬه اﻟﻘﻮاﻧني ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ؛ ٌ ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﻘﻮاﻧني وﺗﺆ ﱢﻟﻒ وﻷﺟﻞ ذﻟﻚ ﻳﺤﺘﺎج املﺮء إﱃ »ﻓﻜﺮة« أن ﺟﻤﻴ َﻊ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻛﻠﻴٍّﺎ ،وﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺘﺄ ﱡﻛﺪ ﻣﻨﻪ .وﻟﻸﻓﻜﺎر ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺗﻨﻈﻴﻤﻴﺔ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﻧﺤﺘﺎج إﻟﻴﻬﺎ ﻟﱰﺗﻴﺐ اﻷﻓﻜﺎر ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم ،ﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﺗﺰﻋﻤﻪ ﻟﻴﺲ »ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ«؛ ﻷن ذﻟﻚ ﺳﻴﺘﻀﻤﻦ زﻋﻤً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻳﺮﻓﻀﻪ ﻛﺎﻧﻂ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره »دوﺟﻤﺎﺗﻴٍّﺎ« .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺠﻤﻴﻊ َ ﻣﺴﺘﻌﺼﻴﺔ اﻹﺟﺎﺑﺔ ،ﱠ ﻟﻜﻦ ﻫﺬا — ﻛﻤﺎ اﻟﺘﺴﺎؤﻻت املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﺗﺼﺒﺢ ﻳﴫﱡ ﻛﺎﻧﻂ ﻧﻔﺴﻪ — ﻻ ﻳﺘﺨ ﱠﻠﺺ ﻣﻦ اﻟﺪاﻓﻊ ﻟﻄﺮﺣﻬﺎ. ﻧﺤﻮ ﻫﺎدِ م أن ﰲ اﻟﻨﻘﺪ اﻷول ،ﻳُﺜ ِﺒﺖ ﻛﺎﻧﻂ — اﻟﺬي ﻛﺎن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺆﻣﻨًﺎ — ﻋﲆ ٍ َ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﱪاﻫني اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻮد اﻹﻟﻪ ﻏري ﺻﺤﻴﺤﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎﻟﺪﱢﻳﻦ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن 18
ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ
ٍ ﻣﻌﺮﻓﺔ .ﻓﺄﻳﻦ ﻳﺪع ذﻟﻚ اﻷﺳﺌﻠﺔ »اﻟﻜﺒرية« ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﻴﺎة؟ ﺗﺮﺟﻊ ﴏاﻣﺔ ﺑﻌﺾ إﻳﻤﺎن ﻻ ٍ ﻣﺎ ﺗﻮﺟﱠ ﺐَ ﻋﲆ ﻛﺎﻧﻂ أن ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﻫﻨﺎ إﱃ اﻟﻘﻴﻮد اﻟﺘﻲ ﻻﺣﻈﻨﺎﻫﺎ ،وﻳُﻌَ ﱡﺪ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺜﺎﻧﻲ وﻛﺘﺎب »أﺳﺎس ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻷﺧﻼق« ﻣﺤﺎوﻟﺘني ﻹﻋﻄﺎء أﺳﺎس ﻟﻸﺧﻼق دون اﻻﺣﺘﻜﺎم إﱃ اﻟﺴﻠﻄﺔ ً أﺳﺎﺳﺎ اﻹﻟﻬﻴﺔ .وﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﴬورة أن ﻳﻜﻮن اﻻﻋﺘﻘﺎ ُد اﻟﺬي ﻻ ﻳﺰال ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﺑﺄن اﻷﺧﻼق ﺗﺤﺘﺎج ً ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت؛ ﻣﻘﻨﻌً ﺎ .وﻟﻌﻞ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎج إﻟﻴﻪ املﺮء ﻣﻦ داﻓﻊ ﻟﻠﺘﴫﱡف ﺑﺄﺧﻼﻗﻴﺔ ﻫﻮ إدراك أن َ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻌﺎﻧﻮا ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﻌﺎﻧﻲ .ورﻏﻢ ذﻟﻚ ،ﻳﻈﻞ ﻛﺎﻧﻂ ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺈﻋﻄﺎء ﺗﱪﻳﺮ ِ ﺣﺎﺳﻢ ﻟﻠﻤﻌﺎﻳري اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ املﺮء ﻟﻠﺤُ ْﻜﻢ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻷﺳﺒﺎب أﻫﻤﻬﺎ أﻧﻪ ﻳﺮى ﴐورة اﻟﺤﺼﻮل ﻋﲆ ﻃﺮق ﻟﺘﱪﻳﺮ اﻟﻌﻘﻮﺑﺎت اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﻋﲆ ﻳﻔﻌﻠﻪ؛ ٍ ﻧﺤﻮ أﺧﻼﻗﻲ .واﻟﴚء املﺬﻫﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﱰﺣﻪ ﻫﻮ أﻧﻪ ﻻ اﻟﺬﻳﻦ ﻻ ﻳﻄﻴﻌﻮن أﻣﺮ اﻟﺘﴫﱡف ﻋﲆ ٍ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ وﺻﺎﻳﺎ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ. ﻣﻦ املﻌﺮوف ﻋﻦ ﻛﺎﻧﻂ أﻧﻪ ﻳﺮى أن »اﻹرادة ﱢ اﻟﺨرية« وﺣﺪﻫﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺧريًا دون ﻗﻴﺪ؛ ﻓﺄي ﳾء ﻧﻌﺘﱪه ﺧريًا ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﰲ ﻇﺮوف أﺧﺮى أن ﻳﺘﺤﻮﱠل إﱃ ﴍﱟ ، أﻣﺎ اﻹرادة ﻓﺘﻘﻊ ﺧﺎرج اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻛ ﱡﻞ ﳾء ﻣُﺴﺒﱠﺐٌ ﻋﻦ ﳾء وﺳﺒﺐٌ ﻟﴚء َ آﺧﺮ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺨريﻳﺔ اﻹرادة ﱢ اﻟﺨرية ﻻ ﺗﻌﻄﻲ أيﱠ ﺗﻮﺟﻴ ٍﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ أن ﻧﻔﻌﻠﻪ، وﻣﺎ ﻧﻔﻌﻠﻪ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ »أواﻣﺮ« ،ﻓﺈذا ﻛﻨﱠﺎ ﻧﺮﻏﺐ ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺪف ،ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ أن ﻧَﻨ ْ ُﺸ َﺪ اﻟﻮﺳﺎﺋ َﻞ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ اﻟﻬﺪف ،وﻫﺬا ﻳﻘﺘﴤ أواﻣﺮ »اﻓﱰاﺿﻴﺔ« ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬه ﻟﻴﺲ ﻟﻬﺎ ﻣﻀﻤﻮن أﺧﻼﻗﻲ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ .وﺗﻌﺘﻤﺪ اﻷﺧﻼق ً ﺑﺪﻻ ﺑﺎﻟﴬورة؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺘﻀﻤﻦ إراد َة اﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻘﺘﻞ ٍ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻋﲆ »اﻷﻣﺮ املﻄ َﻠﻖ«» :ﻋﲇ ﱠ ﱠأﻻ أﺗﴫﱠف إﻻ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻨﻨﻲ ً أﻳﻀﺎ أن أرﻳﺪ ﺑﻪ ملﺒﺪﺋﻲ أن ﻳﺼري ﻗﺎﻧﻮﻧًﺎ ﻋﺎملﻴٍّﺎ «.ﻻ ﻳُﻤﲇ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ املﺮء ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺒﺪأ ُ َ أﺳﺎس ﺗﴫﱡﻓﺎﺗﻬﻢ ،ﻻ أن ﻳﱰﻛﻮﻫﺎ ﺗﴫﱡ ﻓِﻪ ،وﻫﺬا ﻫﻮ ﺻﻠﺐ املﻮﺿﻮع؛ ﻓﻌﲆ اﻷﻓﺮاد أن ﻳﻘ ﱢﺮروا ﺗُﻔ َﺮض ﻋﻠﻴﻬﻢ ،ﱠ وإﻻ ﻓﻬﻢ ﻓﺎﻗﺪون ملﺎ ﻳﻤﻴﱢﺰ ﻣﺎ ﻧﻔﻌﻠﻪ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﺤﺪث ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .واﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺬاﺗﻲ ﻻ ﻳﻜﻤﻦ ﰲ ﻗﺪرة املﺮء ﻋﲆ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺸﺘﻬﻲ )وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻜﻮن ﻋﺒﺪًا ﻟﺸﻬﻮاﺗﻪ ﻛﻤﺎ رأى روﺳﻮ(؛ ﺑﻞ ﰲ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﴫﱡ ف ﺣﺴﺐ املﺒﺎدئ املﺨﺘﺎرة ﻋﲆ اﻓﱰاض أﻧﻨﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ﻧﻤﻨﺢ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻣﺎ ﻻ ﻧﻤﻨﺤﻪ َ ﻟﻶﺧﺮﻳﻦ. إن اﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ ﻛﺎﻧﻂ ﻫﻲ اﻹﺷﺎرة إﱃ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻧﻘ ﱡﺮ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﺑﺈﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻨﺎ املﺸﱰﻛﺔ، ﻣﺜﻞ ﻣﺸﺎرﻛﺔ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺿﺒﻂ اﻟﻨﻔﺲ وﻓﻖ ﻣﺒﺎدئ ﻻ ﺗُﻤﻠِﻴﻬﺎ املﺼﻠﺤﺔ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ .ورﺑﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا ﺳﺎذﺟً ﺎ :ﻓﻜﻴﻒ ﻧﻌﺮف ﻣﺎ إذا ﻛﻨﱠﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﺘﴫف ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺴﺘﻘ ﱟﻞ أم ﻻ، إذا ﻧﻈﺮﻧﺎ ﺑﻌني اﻻﻋﺘﺒﺎر إﱃ ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ ﺧﺪاع اﻟﻨﻔﺲ؟ ﻳﻮاﻓِ ﻖ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ 19
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻫﺬا ،وﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺣﺘﻜﺎم إﻟﻴﻪ ﻫﻮ ﺷﻌﻮر ﺑﺄن ﻟﺪﻳﻨﺎ »ﻓﻜﺮة ﻏﺮض َ آﺧﺮ أﻛﺜﺮ ً ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد« ﻣﻤﺎ ﺗﺤﻜﻤﻪ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻘﻮدﻧﺎ إﱃ إدراك أن اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ اﻷﺧﺮى ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ﺗﻜﻮن ﻣﺠﺮد وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻐﺎﻳﺎﺗﻨﺎ؛ ﻓﺎﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻗﻴﻤﺔ أﺻﻴﻠﺔ ،وﻫﻲ »اﻟﻜﺮاﻣﺔ« ،واﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﻣﺮ ﻻ ﻳُﻘﺪﱠر ﺑ »ﺛﻤﻦ«؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻏري ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻤﺒﺎدﻟﺔ ﺑﴚء َ آﺧﺮ. ﱠ إن اﺣﺘﻜﺎم ﻛﺎﻧﻂ ﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻣﺸﱰﻛﺔ ﻳﺒﺪو ﺳﺎذﺟً ﺎ ﰲ ﺿﻮء ﻣﺎ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﻪ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻐﻼل واﻟﺤﺮب ﺷﺒﻪ املﺘﻮاﺻﻠﺔ واﻟﻘﺘﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ املﺴﺘﻨﺪ إﱃ دواﻓﻊ ﻋِ ﺮﻗﻴﺔ ،وﺳﻮف ﻳﻨﺘﻘﺪ ﻫﻴﺠﻞ ﻣﺒﺪأ »اﻷﻣﺮ املﻄﻠﻖ«؛ ﻻﻓﺘﻘﺎده أيﱠ ﺟﺬور ﰲ اﻟﻌﺎدات واملﻤﺎرﺳﺎت اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻄﻮﱠر ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن ﺗﻠﻚ اﻻﻧﺘﻘﺎدات ﻟﻢ ﺗﺠﻌﻞ ﻣﻄﺎﻟﺒﺎت ﻛﺎﻧﻂ ﺑﺎﻟﻌﺎملﻴﺔ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﻜﺮار؛ ﻓﺪون املﻄﺎﻟﺒﺔ ﺑﻔﻜﺮة ﻋﺎملﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،ﻳﻜﻮن اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﺪوﱄ ﻣﻔﺘﻘ ًﺮا ﻟﻮﺟﻮد ﻣﺒﺪأ ﱢ ﻣﺆﺳﺲ .وﰲ أﻋﻘﺎب اﻟﻨﺎزﻳﺔ ،ﺻﺎرت ﻓﻜﺮة »اﻟﺠﺮﻳﻤﺔ ً ﴐورﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﺪوﱄ ،وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺗﻨﻔﻴﺬ اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﺪوﱄ ﺿﺪ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ« ﻧﺤﻮ ﺑﺎﻋﺚ ﻋﲆ اﻟﻴﺄس ،إﻻ أن ﺟﺰءًا ﻣﻦ ﻏﺮض ﻛﺎﻧﻂ ﻣﻦ ﻓﺼﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ﺻﻌﺒًﺎ ﻋﲆ ٍ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﺮﻳﺔ ،ﻫﻮ اﻹﺑﻘﺎء ﻋﲆ ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أﺑﺪًا اﺧﺘﺰال اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﻜﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ وﻻ ﺗﺰال ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳ َ ُﻨﺘﻘﺪ ﻣﻮﻗﻔﻪ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ؛ ﻷن ﻫﺬا اﻟﻔﺼﻞ ﻳﺘﻄ ﱠﻠﺐ ﻓﻜﺮة ﻋﺎﻟﻢ »ﻣﻌﻘﻮل« ﻣﻦ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﺧﺎرج املﻜﺎن واﻟﺰﻣﺎن .ﻟﻜﻦ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣ َ ُﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺸﺄن ﺗﻠﻚ اﻷﻣﻮر ﻟﻢ ﺗُﺪﻣﱢ ﺮ ً ﺣﻘﻮﻗﺎ ﻣﺘﺴﺎوﻳﺔ؛ وذﻟﻚ اﺳﺘﻨﺎدًا إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﻘﺪرة اﻟﻜﺎﻣﻨﺔ ﻓﻜﺮة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺗﻤﺘﻠﻚ ﻟﻠﺒﴩ ﻋﲆ اﻻﺳﺘﻘﻼل. اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﺠﻤﺎل واﻟﺤﺮﻳﺔ ﻳﻜﺸﻒ ﻛﺎﻧﻂ اﻟﺼﻌﻮﺑﺎت وﻳﻄﺮح اﺣﺘﻤﺎﻻت ﺟﺪﻳﺪة ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ اﺗﺼﺎل اﻟﺒﴩ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ، ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻲ َﺧ ْﻠ َﻖ اﻹﻟﻪ ،ﻓﺈن ﻣﺤﺪودﻳﺔ ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ ﺑﻬﺎ ﺗﺮﺟﻊ إﱃ ﻣﺤﺪودﻳﺔ ﻗﺪرات اﻹﻧﺴﺎن وﻋﺪم ﻣﻌﺼﻮﻣﻴﺘﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ ،أﻣﺎ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺘﺎم ﻓﻴُﻔﱰَض أﻧﻪ ﻟﺪى اﻹﻟﻪ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻌﺘﻤﺪ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺎت اﻷﺧﺮى ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻛﺎﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺎت اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﻋﲆ ﻓﻜﺮة أن ﻋﺠﺎﺋﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وأﴎارﻫﺎ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﺻﻞ اﻹﻟﻬﻲ ﻟﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻄﺮوح ﰲ ﻓﻜﺮة »ﻛﺘﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ،وإذا ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻟﺘﻠﻚ اﻟﺘﺼﻮرات اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ أيﱡ دﻋﻢ ﻓﻠﺴﻔﻲ؛ ﻓﺈن ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺒﴩ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗُﺼ ِﺒﺢ ً ﻣﺸﻜﻠﺔ .ﰲ »اﻟﻨﻘﺪ« اﻷول ،اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻲ ﻣﺠﺮد ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺤﺘﻤﻴﺔ ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن 20
ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ
ﺗُﻄ َﺮح ﻫﻨﺎ ﺗﺴﺎؤﻻت ﻋﻦ اﻟﺪﻻﻻت اﻷﺧﺮى ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻷن ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻗﻮﻟﻪ ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﺗﻄﺒﻴﻖ املﻘﻮﻻت واﻟﺘﺼﻮرات ﻋﲆ اﻷﺣﺪاس .وﺑﺎملﺜﻞ ،ﻓﺈن اﻟﺘﺼﻮرات »املﺎدﻳﺔ« أو »اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ« اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺤﴫ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺼﺤﻴﺤﺔ ﰲ اﻟﺘﻔﺴريات اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﱢﻣﻬﺎ اﻟﻌﻠﻮم ،أﻣﺎ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪو ﺧﺎرج ﻧﻄﺎق اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﻲ ،ﻣﺜﻞ اﻟﻮﻋﻲ أو املﺘﻌﺔ اﻟﺤﺴﻴﺔ، ﻓﺴﺘﺤﻈﻰ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﺘﻔﺴريات ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن. َ َ اﻻﺧﺘﺰاﻟﻴﺔ إﱃ أﻧﻪ ﺣﺘﻰ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ اﻟﺮؤﻳﺔ وﻳﺮﺟﻊ أﺣﺪ أﺳﺒﺎب ﻋﺪم ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻛﺎﻧﻂ ﻫﺬه ﻧﻈﺮﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﱢ ﺗﺆﺳﺲ »ﻏﺮض« ﻫﺬه املﻌﺮﻓﺔ .ﻓﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﻐﺮض ﻣﻦ رؤﻳ ٍﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻟﺒﴩ واﻗﻌﻴﱢني ﰲ املﻮاﻗﻒ اﻟﺤﻴﺎﺗﻴﺔ املﻠﻤﻮﺳﺔ؟ وﰲ اﻟﻨﻘﺪﻳﻦ اﻷوﻟني، ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ ﻟﻠﻮﺟﻮد ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ٍ ﻳﻔﺼﻞ ﻛﺎﻧﻂ ﺟﺬرﻳٍّﺎ املﻌﺮﰲ ﻋﻦ اﻷﺧﻼﻗﻲ؛ وﻫﺬا ﻳﺆدي إﱃ اﻟﻘﻠﻖ ﻣﻦ أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻲ ٍّ ﺣﻘﺎ ﻣﺠﺮد آﻟﺔ ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن .وﻫﻨﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﻓﻜﺮة »اﻟﻌَ ﺪَﻣﻴﺔ« اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻧﺘﺎج ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻗﻴﻤﺔ ﰲ أي ﳾء ﻳﺤﺪث ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻷن اﻷﻣﺮ ﻟﻴﺲ ﺳﻮى ﺳﻼﺳﻞ ﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب ﻷﺳﺒﺎب أﺧﺮى .وﻗﺒﻞ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻬﻤﻮم ُﻣﻠِﺤﱠ ًﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻳُﻔﱰض أن اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ٍ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻬﺎ ﻏﺎﻳﺔ — »ﻋﻠﺔ ﻏﺎﺋﻴﺔ« — ﺗﺘﻄﻮر ﺑﺎﺗﺠﺎﻫﻬﺎ .واملﺰاﻋﻢ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﺑﺸﺄن اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ »دوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ«؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﻨﻴﻨﻬﺎ ﻛﻤﻌﺮﻓﺔ .ﻟﻜﻦ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻳﺮﻏﺐ ﰲ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ،وﻃﺮﻳﻘﺘﻪ ملﺤﺎوﻟﺔ اﻹﺑﻘﺎء ﻋﻠﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻻ ﺗﺰال ﻣﺤﻞ ﺧﻼف؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺮﺑﻂ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ واﻟﻔﻨﻲ. وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻣﻮﻗﻔﻪ ﻫﻨﺎ ﻣ ُْﺸﻜِﻞ ﺟﺪٍّا ،ﻓﻬﻮ ﺗﻌﺒري ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﻣﻬﻢ َ آﺧﺮ ﻋﻦ ﱡ ﺗﻐري اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﻳﻔﴪ اﻟﻨﺎس ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وأﺛﻨﺎء اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ،ﻣ ﱠﺮ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﺟﻤﺎل اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺘﺤﻮﱡل ﺟﺬري ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻐﺮﺑﻲ؛ ﻓﺒﻌﺪ رؤﻳﺘﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻬﺪﻳﺪ ،ﺻﺎرت اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﱪﻳﺔ — ﻣﺜﻞ ﺟﺒﺎل اﻷﻟﺐ — ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﻮرد ذو ﻗﻴﻤﺔ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺼﻮرة ﺗﺎﻣﺔ .ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أﺻﺒﺤﺖ ذات ﻗﻴﻤﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ ،واﻟﻌﻼﻗﺎت اﻷﺧﺮى ﱡ اﻟﺘﻐري ﻫﻮ ﺟﺰء ﻣﻤﺎ ﻳُﻤﻬﱢ ﺪ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺧﻼف املﻌﺮﻓﻴﺔ أو اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻬﻤﺔ ،وﻫﺬا ﻟﻨﺸﺄة ﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل اﻟﺤﺪﻳﺚ .وﻳﺮﺑﻂ ﻛﺎﻧﻂ اﻟﺠﻤﺎل اﻟﻔﻄﺮي ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺑﺎﻟﺠﻤﺎل اﻟﻔﻨﻲ وﺑﺎﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺎت ﻏري املﻌﺮﻓﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻓﺸﻜﻞ املﻮﺿﻮع اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﱢ ﺗﻔﴪه اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ واﻟﻜﻴﻤﻴﺎﺋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻤﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﺘﺒﺎدﻟﻴﺔ ﻟﻠﻤﻜﻮﻧﺎت املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﴚء .وﻳﺰﻋﻢ ﻛﺎﻧﻂ أن اﻟﺘﻤﺎﺳﻚ اﻟﻌﻀﻮي ﻟﻸﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻷﻣﺮ »ﻛﻤﺎ ﻟﻮ أن ً أﺳﺎس وﺣﺪ ِة ﺗﻌﺪﱡدﻳﺔ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ]ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ[« .وﻫﺬه ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻋﻘﻼ ﻗﺪ اﺷﺘﻤﻞ ﻋﲆ ِ ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ ﻏري ﻣﺒﺎﴍة ﻟﻺﺑﻘﺎء ﻋﲆ اﻟﻐﺎﺋﻴﺔ ،رﻏﻢ أن ﻛﺎﻧﻂ ﻳﻘ ﱡﺮ ﺑﺄن املﺮء ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻌﺮﻓﺔ إن 21
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ً ﺧﻼﻓﺎ ﻫﻮ اﻗﱰاﺣﻪ أن املﺘﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻛﺎن ذﻟﻚ »اﻟﻔﻬﻢ« ﻣﻮﺟﻮدًا أم ﻻ .واﻟﴚء اﻷﻗﻞ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ ﺷﻜﻞ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺠﱪﻧﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰاﻟﻬﺎ ﰲ ﻗﻮاﻧني ﻋﻠﻤﻴﺔ. إن اﻟﻬﺪف ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »ﻧﻘﺪ اﻟﺤﻜﻢ« ﻫﻮ اﻟﺒﺤﺚ ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻋﻤﻞ اﻟﺤﻜﻢ »وﻓﻖ ﻣﺒﺪأ ﻣﻼءﻣﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻘﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ املﻌﺮﻓﺔ«؛ وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺎملﻘﺼﻮد ﻣﻦ اﻟﻨﻘﺪ ﻫﻮ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻣﺒﺪأ وﺣﺪة اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ا ُمل َ ﻔﺘﻘﺪ ﰲ اﻟﻨﻘﺪﻳﻦ اﻷو َﻟني .وﻳﺘﻴﺢ ﻟﻨﺎ ﻫﺬا املﺒﺪأ ﻓﻬﻢ املﻮﺿﻮع اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻛﻜ ﱟﻞً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد ﺗﺤﻠﻴﻞ أﺟﺰاﺋﻪ ،وﻳﺘﻀﺢ ﰲ ﺗﻤﺘﻌﻨﺎ ﺑﺸﻜﻞ املﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﺠﺰﺋﻴﺎت إﱃ ﺻﻴﺎﻏﺔ اﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻜﻢ ﺗﻠﻚ اﻟﺠﺰﺋﻴﺎت ،وﺑﻔﻜﺮة أن ﺗﻘﺪﻳﺮ اﻟﻔﻦ ﻟﻴﺲ ذاﺗﻴٍّﺎ ﻓﺤﺴﺐ؛ ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻳﺌﻮل ﺗﻔﻀﻴ ُﻞ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺨﻤﺮ ﻋﲆ َ آﺧﺮ إﱃ ﻣﺎ ﻫﻮ »ﻣﻼﺋﻢ« ﱄ أو ﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻷﺣﻜﺎم ﻋﲆ اﻟﺠﻤﺎل ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﺰﻋﻢ ﺑﺄن َ اﻵﺧﺮﻳﻦ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻮاﻓِ ﻘﻮا ﻋﲆ اﻟﺤﻜﻢ ﻧﻔﺴﻪ .وﻳﻌﺘﻘﺪ ﻛﺎﻧﻂ أن ذﻟﻚ اﻻﺗﻔﺎق ﺿﻤﻨﻲ ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ ﻣﺸﺎرﻛﺔ ﻋﺎﻟﻢ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ إدراﻛﻪ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ »ﺷﻌﻮر ﻋﺎمﱟ« اﻟﻀﻤﻨﻲ ﻳﺸري إﱃ ﱟ ٍ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،وﻫﻨﺎ ﻳﺼﺒﺢ املﻌﺮﰲ واﻟﺠﻤﺎﱄ ﻣﺘﻼزﻣني. ﻣﻦ اﻷﻣﻮر املﺤﻮرﻳﺔ ﰲ ﺗﺼﻮﱡر ﻛﺎﻧﻂ ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ« ،وﻫﻲ» :ﺗﻤﺜﻴﻞ ﻟﻠﺨﻴﺎل ﻳﻌﻄﻲ املﺮءَ اﻟﻜﺜريَ ﻟﻠﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ ،ﻟﻜﻦ دون وﺟﻮد أﻓﻜﺎر ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﺴﺒﻘﺔ؛ أي »ﺗﺼﻮﱡر« ﻗﺎدر ﻋﲆ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻼﺋﻤً ﺎ ﻟﻪ «.وﺗﺮﻣﺰ ﺗﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر إﱃ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى ،ﻣﺜﻞ ﻓﻜﺮة اﻟﺤُ ْﺴﻦ ،ﻓﺎﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻌﻠﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﺸري إﱃ ﺷﻌﻮر إﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﺸﱰك ﺑﺎﻟﻘﻴﻤﺔ ﻻ ﺗﺼﻮﱡري؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻗﺎﻋﺪة ﻋﲆ ﺣﺪس .وﺑﺎملﺜﻞ ﰲ ﺗﺠﺮﺑﺘﻨﺎ ﻣﻊ »اﻟﺴﺎﻣﻲ« ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺘﺄﻣﻞ ﻇﻮاﻫﺮ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣُﻬﺪﱢدة ،ﻣﺜﻞ اﻟﱪق واﻟﱪاﻛني واﻷﻋﺎﺻري ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻊ أﻣﺎن ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺪرك ﻃﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى ﻟﻼرﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﻳﺤﺪﱢدﻫﺎ ﻣﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ. واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻨﺎ ﺗﻘﻬﺮ ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ ﻓﻬﻤﻬﺎ ،وﻳﺮى ﻛﺎﻧﻂ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺮﻳﺔ واﺿﺤﺔ ﰲ ﺷﻌﻮرﻧﺎ ﺑﺤﺪود ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻓﻬﻤﻪ ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ وﺗﺠﺮﻳﺒﻴٍّﺎ. ً ً ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﺟﺪٍّا ﻟﻼﻫﺘﻤﺎﻣﺎت ﻓﻴﻠﺴﻮﻓﺎ ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﻔﺮط ،ﻳﱰك ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﻛﺎﻧﻂ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻄﻲ ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﺤﻴﺎة اﻟﻨﺎس ،ﻟﻜﻦ ﰲ ﺗﻌﻴﻴﻨﻪ ﻟﺤﺪو ِد ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ أن ﺗﺰﻋﻤﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﱪرة ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮن ﻣﺪﻓﻮﻋً ﺎ ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎﺗﺠﺎ ٍه ﻳﺘﺠﺎوز ﺗﻠﻚ اﻟﺤﺪود .وﺗﻜﻤﻦ أﻫﻤﻴﺔ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ً أﻫﺪاﻓﺎ ﻳُﻌﺘ َﺰم ﺗﻨﺎ ُوﻟُﻬﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﰲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺎﻋﺪﻧﺎ ﺑﻬﺎ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﺻﺎر ﻣﻬﻴﻤِ ً ﻨﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وأُﻓﻮل ﻓﻜﺮة أن اﻷﻫﺪاف اﻷﻫﻢ ﻣﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ ﻧﻈﺎم اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻳﻌﻨﻲ ً ﴏاﺣﺔ ﻋﻠﻴﻨﺎ .ﻓﺎملﻌﺎرك اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻜﺒرية إﺑﱠﺎن اﻟﺜﻮرة أن ﻣﻬﻤﺔ ﺗﺄﺳﻴﺲ اﻷﻫﺪاف ﺗﻘﻊ 22
ﻛﺎﻧﻂ واﻟﺤﺪاﺛﺔ
اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ أدﱠت إﱃ ﺗﻄﻮر اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وإﱃ ﻛﻮارث اﻟﺤﺪاﺛﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﱢﻠﻬﺎ ً اﻟﻨﺎزﻳﺔ واﻟﺴﺘﺎﻟﻴﻨﻴﺔ؛ ﺗﺮﺗﺒﻂ ارﺗﺒﺎ ً وﺛﻴﻘﺎ ﺑﺎﻟﻘﺼﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ رأﻳﻨﺎﻫﺎ ﺗﺒﺪأ ﺑﺈﴏار ﻃﺎ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﲆ اﺳﺘﻘﻼل اﻟﺒﴩ. ﻫﻮاﻣﺶ (1) © akg-images.
23
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ
اﳌﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي
اﻟﺒُﻌْ ﺪ املﻔﻘﻮد اﻟﺠﺪﱠة واﻟﻌﻤﻖ ،ﺣﺘﻰ إﻧﻪ ﻣﻦ املﺬﻫﻞ إدراك أﻧﻪ ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ ﻳﻘﺪﱢم ﻛﺎﻧﻂ رؤﻳﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻏﺎﻳﺔ ﰲ ِ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻛﺒري أﺣﺪ اﻟﻬﻤﻮم اﻟﻜﱪى ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .ﻓﻔﻲ ﻋﺎم ،١٨١٢ﻻﺣَ َ ﻆ ﻛﺎرل ﻟﻴﻮﻧﺎرد ً ﻣﺴﺌﻮﻻ ﻋﻦ ﺗﺰاﻳﺪ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻧﻂ راﻳﻨﻬﻮﻟﺪ ) (١٨٢٣–١٧٥٧اﻟﺬي ﻛﺎن اﻟﺬي أدﱠى إﱃ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ(؛ أن »ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﺎﻟﻜﻼم ،وأﺳﻠﻮب ً َ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻟﻠﺘﺪﻗﻴﻖ واﻟﺼﻴﺎﻏﺔ« ﻟﺪى ﻛﺎﻧﻂ واملﺜﺎﻟﻴﺔ ﻳﺨﻀﻌَ ﺎ اﻟﺘﻮﻇﻴﻒ اﻟﻠﻐﻮي ﰲ اﻟﺘﻔﻠﺴﻒ ﻟﻢ ُ اﻟﻠﻐﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ .ﻟﻜﻦ ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻜﺘﺐ ﻛﺎﻧﻂ أﻫ ﱠﻢ ﻧﺼﻮﺻﻪ و ُِﺟ َﺪ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﻛﺎﻧﺖ ً ﻓﺎﺻﻼ .ﻓﻤﺎ اﻟﺬي ﺟﻌﻞ ﻫﺆﻻء املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻳﺮ ﱢﻛﺰون ﻋﲆ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻢ أﻣ ًﺮا أن َ آﺧﺮﻳﻦ ﻟﻢ ﻳﻌﺘﱪوا اﻟﻠﻐﺔ أﻣ ًﺮا ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق؟ رأى ﻛﺎﻧﻂ أن ﻧﻈﺎم اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﻨﺸﺎط املﻌﺮﰲ ﻟﻠﺬات، واﻟﺘﻔﺴريات املﺘﻀﺎرﺑﺔ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻨﺸﺎط ﺗﺰداد ﺗﻌﻘﻴﺪًا ﺣﺎملﺎ ﺗُ َ ﺆﺧﺬ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻟﺬات .ﻓﻌﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﺬوات ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻠﻐﺔ ﻓﻬﻲ ﻻ ﺗﺨﱰﻋﻬﺎ ،وﺑﻤﻌﻨًﻰ ﻻ ﻳﺰال ﻣﺤ ﱠﻞ ﻧﺰاع ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﻠﻐﺔ؛ ﻟﻜﻲ ﺗﺼﺒﺢ ذواﺗًﺎ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل .ﻓﻤﺎ ﻫﻮ أﺻﻞ اﻟﻠﻐﺔ؟ ﻟﻘﺪ ٍ اﻓﱰض ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم أن أﺻﻞ اﻟﻠﻐﺔ — ﻣﺜﻞ ﻧﻈﺎم اﻟﻌﺎﻟﻢ — إﻟﻬﻲ ،وﻫﺬا اﻻﻓﱰاض رﺑﻂ ُِ ﻓﻜﺮة اﻟﻠﻐﺔ ﻛﺠﺰء ﻣﻦ ﺧﻠﻖ اﻹﻟﻪ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ إذ ﺗﺸري اﻟﻠﻔﻈﺔ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ logos إﱃ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ »اﻟﻜﻠﻤﺔ« ﺑﻤﻌﻨﻰ اﻟﻜﻼم ،وإﱃ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ ﻟﻸﺷﻴﺎء .وأﻣﺎ ﺑﺪاﻳﺔ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻓﻴﻤﻜﻦ ﺗﻤﻴﻴﺰﻫﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﺰاﻣﻦ اﻟﻘﺮﻳﺐ ﻟﻸﺳﺌﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻟﺪى ﻫﻴﻮم وﻛﺎﻧﻂ ﻣﻊ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﺑﺎﻷﺻﻞ اﻹﻟﻬﻲ ﻟﻠﻐﺔ .ﻓﺎﻷول ﻳﻘﻮد إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﺬات ﻛﻤﺮﻛﺰ َ واﻵﺧﺮ ﻳﻜﺸﻒ ﰲ املﻘﺎﺑﻞ ﻋﻦ اﻋﺘﻤﺎد اﻟﺬات ﻋﲆ ﳾء ﻟﻢ ﺗُ ِ ﻨﺸﺌﻪ ،وﺗﺼﺒﺢ اﻟﻠﻐﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ،
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
»اﻵﺧﺮ« اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻤﺮ أﺻﻠﻪ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﰲ ﻃﺮح ﻣﺸﻜﻼت ﻣﻬﻤﺔَ . َ )ﻓ ﱢﻜ ْﺮ ﰲ اﻟﺨﻼﻓﺎت ﻫﻲ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺪى إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺗﻔﺴري اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻼﺋﻤﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺠﻴﻨﺎت (.ﺗﺘﺴﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ٍ ﺑﴫاﻋﺎت ﺑني ﻣﻨﺎﻫﺞ وﺿﻌَ ِﺖ اﻟﺬات ﰲ ﻣﺮﻛﺰ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻣﻨﺎﻫﺞ ﺗﺸري إﱃ أن اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﺬات ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﳾء ﻣﻐﺎ ِﻳﺮ ﻟﺬاﺗﻬﺎ ،وﺗﺸري ﻓﻜﺮة ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻤﺎد إﱃ ﺳﺒﺐ ﺗﻄﻮﱡر ﻓﻜﺮة »اﻟﻼوﻋﻲ« ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ،واﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻫﻨﺎ ﻫﻲ ﻣﺠ ﱠﺪدًا إﺷﺎرات ﱡ ﻟﺘﻐريات ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ. وﻣﺰﺟﺖ ﻓﻜﺮة »اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« ﺑني ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﻠﻐﺔ وﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﻼوﻋﻲ؛ ﻓﻘﺪ ﻇﻬﺮت أﺛﻨﺎء اﻟﺜﻮرة ً ﻣﻨﻈﻮﻣﺔ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر ،وﻟﻜﻦ ﴎﻋﺎن ﻣﺎ ﺗﻄ ﱠﻮ َر ِت اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ،وﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺗﻌﻨﻲ ﻓﻘﻂ ﻣﺼﻄﻠﺢ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻋﺘﻘﺎد »اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« ،ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺎرﻛﺲ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ،إﱃ ٍ وﻋﻲ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ﰲ أن أﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ﺗﺤﺪﱢدﻫﺎ اﻹرادة اﻟﺤﺮة ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻌﺘﻤﺪون ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ دون ﱟ اﻟﻄﺮق اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻟﻠﺘﺤﺪﱡث واﻟﻌﻤﻞ ﰲ ﻃﺒﻘﺘﻬﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ. ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻇﻬﻮر ﻓﺮع »اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ إﺷﺎر ًة أﺧﺮى ملﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ ﻧﻘﺎش ﻫﻨﺎ؛ ﻓﺠﺰء ﻣﻤﺎ أدﱠى إﱃ ﻧﺸﺄة اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻮ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺄن ٍ ﻟﻘﻮل اﻷﺷﻴﺎء ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻮﻟﻬﺎ ﺑﻠﻐﺔ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﺸﻌﺐ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮد اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ِ ٍ أﺧﺮى ،ﻓﻠﻐﺔ اﻟﺸﻌﺐ ﻫﻲ ً أﻳﻀﺎ ﻧﺘﺎج ﻣﻮاﺟﻬﺎﺗﻪ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳﺆدﱢي َﻓﻬْ ﻢ ﻫﺬه املﻮاﺟﻬﺎت إﱃ وﻋﻲ ﺟﺪﻳﺪ ﺑﺤﺠﻢ اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺜﻘﺎﻓﺎت أﺧﺮى .وﻳُﺴﺘﺪَل ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﺤﺎﻻت اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻴﻬﺎ أن ﺗﺼﺒﺢ ُ ﻟﻐﺔ أﻗﻠﻴ ٍﺔ ﻋِ ﺮﻗﻴ ٍﺔ ً ﱠ وﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﻬﻮﻳﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ذا ﻓﺎﺻﻼ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻮﻳﺘﻬﺎ، أﻣ ًﺮا ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎس ﺑﺒﻌﺾ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺎ ﻳﻔﺼﻠﻬﻢ ﻋﻦ َ ﺣﺪﱠﻳﻦ؛ ﻓﻤﺎ ﻳﺮﺑﻂ ُ آﺧﺮﻳﻦ َ »اﻵﺧ َﺮ« اﻟﻐﺮﻳﺐَ .وﺗﺘﻌﻠﻖ أﺳﺌﻠﺔ اﻟﻬﻮﻳﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﻣَ ْﻦ ﻟﻴﺴﻮا أﻋﻀﺎءً ﰲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻟﻐﻮيﱟ ٍ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ً ري ﻣﻦ إراﻗﺔ اﻟﺪﻣﺎء ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﺪﻳﺚ، أﻳﻀﺎ ﺑﻈﻬﻮر اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﺼﺪ ٌر ﻟﻜﺜ ٍ وﻟﻌﻠﻪ ﻟﻬﺬا اﻟﺴﺒﺐ ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﱃ ﻳﻮﻫﺎن ﺟﻮﺗﻔﺮﻳﺪ ﻫريدر ) (١٨٠٣–١٧٤٤أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺑﺎرﺗﻴﺎب — ﻏري ﻣﱪﱠر — إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻛﺒري؛ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﺮﻛﻴﺰه ﻋﲆ دور اﻟﻠﻐﺔ ﰲ ﺗﺸﻜﻴﻞ اﻟﻬﻮﻳﺔ. اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ واﻟﺘﻌﺒري ﱠ ﻣﻔﻀ ًﻼ ﻟﻜﺎﻧﻂ ﺣﺘﻰ ﺗﻨﺎ َزﻋَ ﺎ ﰲ ﺛﻤﺎﻧﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻳﻜﺸﻒ ﻫريدر — اﻟﺬي ﻛﺎن ﺗﻠﻤﻴﺬًا وﻣﻌﺎﴏُه وﺻﺪﻳﻘﻪ ﻳﻮﻫﺎن ﺟﻮرج ﻫﺎﻣﺎن ) ،(١٧٨٨–١٧٣٠ﻋﻦ ﻣﻔﺎ َر ٍ ِ ﻗﺔ ﰲ ﻋﴩ — املﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟ ﱡﻠ َﻐﺔ .ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ،ﻓﺈن اﻟﻨﺠﺎح اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻟﻠﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﺼﺤﻮبٌ ﺑﺸﻜﻮك ﺣﻮل أﺳﺎس ذﻟﻚ اﻟﻨﺠﺎح .وﺑﺮؤﻳﺔ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ،ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﺎوز اﻟﻔﻮارق ﺑني اﻟﻠﻐﺎت؛ ﻷن ﺣﻘﺎﺋﻖ 26
املﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي
اﻟﻌﻠﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺻﻴﺎﻏﺘﻬﺎ ﺑﺄﻳﺔ ﻟﻐﺔ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻗﺪ ﺗﺒﺪو اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻣﺘﻮاﻓِ ً ﻘﺔ ﻣﻊ ﺗﺼﻮﱡرات ﻧﻈﺎم اﻟﻜﻮن املﻤﻨﻮح ﻣﻦ اﻹﻟﻪ .إﻻ أن اﺣﺘﻜﺎم ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ إﱃ ﻓﻜﺮة »ﻟﻐﺔ ﻋﺎملﻴﺔ« ﺗُ َ ﱠ املﺆﺳﺲ ﻋﲆ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت اﻟﺬي ﻳﺴﺎﻋﺪ ﰲ ﻮﺿﻊ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻏﺮار اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ،ﻳﻘﻮﱢض ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻷ ُ ُﺳﺲ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻌﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت .وﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ َ ِ ِ اﻟﻨﻘﺎش ﻫﻨﺎ ،ﰲ ﻓﻜﺮة أن ﺟﻤﻴﻊ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﻠﻐﺔ، آﺧﺮ ،ﺗﺸ ﱢﻜﻚ املﻨﺎﻫﺞُ اﻟﺠﺪﻳﺪ ُة ﰲ ِ ً ﻟﻘﻴﺎس واﺣﺪٍ. ﻗﺎﺑﻠﺔ اﻟﻠﻐﺎت ﻳﻤﻜﻦ — أو ﻳﻨﺒﻐﻲ — أن ﺗﻜﻮن ٍ ﺗﻨﺰع اﻟﺮؤى اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ إﱃ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻷﺳﺎس ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ »ﺗﻤﺜﱢﻞ« ﺑﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻓﻬﺪف اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻮ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﻮﺻﻮ ُل إﱃ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻄﻲ إﻋﺎدة ﻋﺮض ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ — ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻲ »ﺗﻌﺮض ﻣﺠ ﱠﺪدًا ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻮﺟﻮد ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ« .وﻳﺮى ﻫﺎﻣﺎن وﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ،ﰲ أﻋﻘﺎب ﺟﺎن ﺟﺎك روﺳﻮ َ وآﺧﺮﻳﻦ ،أن ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ أﺧﻔﻖ ﰲ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﻛﻴﻔﻴﺔ أن اﻟﻠﻐﺔ ﺗﻌﺒري ﺟﻮﻫﺮي ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ أن ﺗﻜﻮن إﻧﺴﺎﻧًﺎ ،ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﻟﻬﺎ دور أﺑﻌﺪ ﻈﻬﺮ ﺟﻮاﻧﺐ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ أﻧﻔﺴﻨﺎ وﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻢ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ إذ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗُ ِ ﺗﻜﻦ ﻟﺘﻈﻬﺮ دوﻧﻬﺎ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻢ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺮﻣﺰﻳﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﺎ املﻮﺳﻴﻘﻰ واﻟﻔﻦ املﺮﺋﻲ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »ﻟﻐﺔ«. اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻌﻘﻞ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻋﻦ اﻷدب اﻷملﺎﻧﻲ اﻟﺤﺪﻳﺚ :ﻣﻘﺘﻄﻔﺎت« ﻋﺎم ،١٧٦٨–١٧٦٦ﻳﻌﻠﻦ ﻫريدر ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ َ َ املﻨﻄﻘﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻟﻠﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ» :ﻓﻠﻮ ﺻﺢﱠ املﻘﺪﻣﺔ ﻣﺎ ﺳﻮف ﻳﻜﻮن أﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺘﻔﻜري دون أﻓﻜﺎر ،وأﻧﻨﺎ ﻧﺘﻌﻠﻢ اﻟﺘﻔﻜري ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻜﻠﻤﺎت ،ﻓﺈن اﻟﻠﻐﺔ ﺗﻌﻄﻲ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻛﻠﻬﺎ ﺣﺪودَﻫﺎ وإﻃﺎ َرﻫﺎ« ،وﻫﻲ »أداة اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺒﴩﻳﺔ وﻣﻀﻤﻮﻧﻬﺎ وﺷﻜﻠﻬﺎ« .واﻟﺴﺆال ﻫﻮ :ﻛﻴﻒ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ ﻧﻔﻬﻢ اﻟﻠﻐﺔ؟ ﻓﺎﻟﻔﻮارق ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ و»اﻟﻘﺎرﻳﺔ/اﻷوروﺑﻴﺔ« ﻗﺎﺋﻤﺔ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻋﲆ ﺗﺄوﻳﻼت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ملﺎﻫﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ .وﰲ ﻧﻘﻠﺔ ﻧﺒﻮﺋﻴﺔ ،ﻳﻘﱰح ﻫﺎﻣﺎن أن اﻟﻠﻐﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﺗﻘﻴﻴﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﻟﻜﺎﻧﻂ ،ﻓﻬﻮ ﻳﺘﺴﺎءل ﻛﻴﻒ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﻣﻘﻮﻻت ﻛﺎﻧﻂ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﻣﻘﱰﺣً ﺎ أن »اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻫﻲ »أﺣﺪاس« ﻣﺤﻀﺔ ً وأﻳﻀﺎ »ﺗﺼﻮﱡرات« ﻣﺤﻀﺔ وﺗﺠﺮﻳﺒﻴﺔ« ،وﺗﺸﻜﻴﻜﻪ ﰲ ﻓﺼﻞ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻸﺣﺪاس وﺗﺠﺮﻳﺒﻴﺔ اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ واﻟﺘﺼﻮرات اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ﻫﻮ ﺟﺰء ﻣﻤﺎ ﻳُﻤﻬﱢ ﺪ ﻟﻨﺸﺄة املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ. ﻣﻦ اﻷﻫﺪاف املﺤﻮرﻳﺔ ﻟﻠﻤﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐُ ﻋﲆ ﻣﻘﺎﺑﻼت ﻛﺎﻧﻂ ﺑني املﻈﺎﻫﺮ واﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ،وﺑني اﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ واﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ .وﺗﺘﻤﺜﻞ ﻓﻜﺮة ﻫﺎﻣﺎن ﰲ أﻧﻨﺎ ﻧﻜﺘﺴﺐ 27
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻜﻠﻤﺎت ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ اﺳﺘﻘﺒﺎﻟﻴﺔ ﻛﻀﻮﺿﺎء أو ﻋﻼﻣﺎت ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻮﺿﻮﻋﻲ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮد ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت؛ ﻓﺎﻟﻜﻠﻤﺎت ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن إﻻ ﻛﻠﻤﺎت ،ﻻ ﻣﺠﺮد ﻋﻼﻣﺎت أو ﺿﻮﺿﺎء، إذا ﻛﺎن ﻟﻬﺎ ﻣﻌﻨًﻰ ﻳﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ،وﻗﺪ ﻳﺒﺪو واﺿﺤً ﺎ أن اﻟﴚء اﻟﺘﺎﱄ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﺑﺤﺖ ،وﺗﻠﻚ اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻓﻌﻠﻪ ﻫﻮ ﻓﺼﻞ اﻟﻠﻐﺔ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻷﺟﺰاء اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﻣﻐ ًﺰى ﱞ اﻷﺟﺰاء اﻟﺘﻲ ﻫﻲ »ذاﺗﻴﺔ« .إﻻ أﻧﻪ ﻗﺪ ﺛﺒﺖ ﺣﺘﻰ اﻵن ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ رﺳﻢ ﻫﺬا اﻟﺨﻂ اﻟﻔﺎﺻﻞ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺘﻔﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ ﻷﺳﺒﺎب أﻫﻤﻬﺎ :أن اﻟﻠﻐﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻻزﻣﺔ ﻟﺮﺳﻢ اﻟﺨﻂ. وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻠﻐﺔ ﺗﻘﺎوم اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺤﺎﺳﻢ ﺑني اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ ،ﻓﻴﻤﻜﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﻧﻮع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺎول ﺑﻴﺎن اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻜﺲ أو ﻳﻤﺜﱢﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺬاﺗﻲ ﺑﻨﺠﺎح — ﻳﻜﺜﺮ َ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻮﺿﻮﻋﻲ؛ ﻓﺎﻟﺪﻋﺎوى املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎملﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪام أو ﻳﻘﻞ — اﻟﻠﻐﺔ ،واﻟﻠﻐﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻘﻮل ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻣﺤﻀﺔ أو ذاﺗﻴﺔ ﻣﺤﻀﺔ. وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﺪﻋﺎوى املﺘﻜﺮرة ﺑﻌﻜﺲ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن اﻟﺸﻌﻮر اﻟﻴﻮﻣﻲ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﺠﺐ ﻋﺠﺰ اﻟﻠﻐﺔ ﻋﻦ ﱠأﻻ ﻳﺘﺄﺛﱠﺮ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﺘﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر؛ ﻓﺎملﺘﺸﻜﻜﻮن ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ اﻻﺣﺘﺠﺎجُ ﻋﲆ ِ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ دون اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻣﻘﺪﱠﻣً ﺎ ﺑﺄن ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺰاﻋﻤﻬﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﻧﻘﻠﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ً ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﺗﻄﺮح اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻟﻠﻐﺔ. أﺳﺌﻠﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ اﻟﺘﻌﺒريُ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﻣﺤﺾ ﺳﻮف ﻳﺘﻄﻠﺐ ﻣﻨﻈﻮ ًرا ﻓﻮﻗﻴٍّﺎ ،ﺧﺎرج ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺎﻟﻘﻮل ﺑﺄن ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎ ﱞ اﻟﻠﻐﺔ — »رؤﻳﺔ ﻣﻦ ﻻ ﻣﻜﺎن« — واﻟﻔﻜﺮة ﻫﻲ أن اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ وﺻﻒ ذﻟﻚ املﻨﻈﻮر ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻳﻀﻊ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﺴﺎؤل .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ً ﻫﺪﻓﺎ ﺗﺼﻮرﻳٍّﺎ ﻳﺤﻔﺰ ﻗﺎﻃﻊ أﻧﻨﺎ ﻗﺪ ﻓﻬﻤﻨﺎه .وﺳﻮف ﺗﻨﻄﻮي ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻧﺤﻮ ﻋﲆ اﻟﺒﺤﺚ ،ﻻ ﳾء ﻧﻌﺮف دوﻣً ﺎ ﻋﲆ ٍ ٍ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻋﲆ ﻧﺰاﻋﺎت ﺳﻜﻮﻻﺳﺘﻴﺔ ﺑني ﻣﻨﺎﻫﺞ ﺗﺴﻌﻰ إﱃ ﻗﴫ ﻧﻄﺎق اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ﱡ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻮﺳﻴﻠﺔ ملﺤﺎوﻟﺔ ﺿﻤﺎن املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ،وﻣﻨﺎﻫﺞ ﱢ ﺗﻮﺳﻊ ﻋﺒﺎرات ﻳﻤﻜﻦ َ ﱢ ﻳﺠﺴﺪ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﰲ املﻨﻬﺞ اﻷﺧري ،ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻦ ري ﻧﻄﺎق اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻴﺸﻤﻞ أيﱠ ﺗﻌﺒ ٍ ملﻨﻈﻮر ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ. أن ﻳﻜﻮن أدا ًة ﻟﻨﻘﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﺸﻒ أو ﻳﻌﻄﻲ ﻣﻌﻨًﻰ ﺟﺪﻳﺪًا ٍ وﺗﺤﻤﻞ املﻨﺎﻫﺞ اﻷﺧرية ﻛﺜريًا ﻣﻤﺎ اﺑﺘﺪأه ﻫﺎﻣﺎن وﻫريدر. ُ ﺗﺠﺎﻫﻞ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻷﺳﻠﻮﺑﻴﺔ ﰲ ﻧﺼﻮص وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء ﺼﻞ اﻷﺳﻠﻮب املﻌﻘﺪﱠ َ ﻛﺎﻧﻂ وﻳﻈﻞ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﻌﺎﴏة ،ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓ ْ واﻹﻳﻤﺎﺋﻲ ﻟﻨﺼﻮص ﻫﺎﻣﺎن ﻋﻦ ﻣﻀﻤﻮﻧﻬﺎ؛ إذ ﺗﺨﻠﻖ ﻧﺼﻮﺻﻪ ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﱰاﺑﻄﺎت اﻟﺘﻲ ﱠ ﻣﺘﻮﻗﻌﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ .ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺎﻣﺎن ،اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺗﺮﺑﻂ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻄﺮق ﻏري ﺗﺤﺪد ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟﻜﻠﻤﺎت ،ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺜﲆ ﻟﻠﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ؛ ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﻫﻲ اﺣﺘﻔﺎل ﺑﺘﻨﻮﱡع 28
املﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي
اﻟﺨﻠﻖ اﻹﻟﻬﻲ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻔﺘﺢ اﻟﺒﺎب ﻟﻮﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮ ﺟﺪﻳﺪة .وﻫﻨﺎك ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ »ﻣﻦ ﻟﻐﺔ املﻼﺋﻜﺔ إﱃ ﻟﻐﺔ اﻟﺒﴩ؛ أي ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر إﱃ اﻟﻜﻠﻤﺎت — ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء إﱃ اﻷﺳﻤﺎء ً إﺿﺎﻓﺔ ﻋﺎرﺿﺔ — ﻣﻦ اﻟﺼﻮر إﱃ اﻟﻌﻼﻣﺎت« .وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن اﻟﺠﺎﻧﺐ »اﻷدﺑﻲ« ﻟ ﱠﻠﻐﺔ ﻟﻴﺲ ً ﻓﻤﺜﻼ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﺘﻘﺪ ﻫﺎﻣﺎن ﻛﺎﻧﻂ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺑﻼﻏﻴﺔ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ ،ﺑﻞ ﻫﻮ ﻟُﺒﱡﻬﺎ؛ ً ﻣﻤﻜﻨﺔ ،ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﺟﺪٍّا .وﻗﺒﻞ أن ﻧﺼﻞ إﱃ اﻟﺴﺆال اﻟﻜﺎﻧﻄﻲ ﻋﻦ ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن املﻌﺮﻓﺔ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻫﺎﻣﺎن: ً ﻳﺒﻘﻰ ﺳﺆال رﺋﻴﴘ َ ﻣﻤﻜﻨﺔ؛ أي اﻟﻘﺪرة آﺧﺮ :ﻛﻴﻒ ﺗﻜﻮن اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري »ﻳﻤني اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ وﺷﻤﺎﻟﻬﺎ ،ﻗﺒﻠﻬﺎ ودوﻧﻬﺎ ،ﻣﻌﻬﺎ وﺑﻌﺪﻫﺎ«؟ إن املﺮء ﻻ ﻳﺤﺘﺎج إﱃ اﺳﺘﺪﻻل ﻹﺛﺒﺎت اﻷوﻟﻮﻳﺔ اﻟﻨ ﱠ َﺴ ِﺒﻴﺔ ﻟﻠﻐﺔ ﻗﺒﻞ اﻟﻮﻇﺎﺋﻒ املﻘﺪﺳﺔ »اﻟﺴﺒﻌﺔ« ﻟﻼﻓﱰاﺿﺎت واﻻﺳﺘﻨﺘﺎﺟﺎت املﻨﻄﻘﻴﺔ وﺷﻌﺎراﺗﻬﺎ. إن ﻣﺎ ﺗﻌﻨﻴﻪ ﻫﺬه اﻟﻔﻘﺮة ﻏﺮﻳﺒﺔ اﻷﺳﻠﻮب ﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺎﻫﺘﻤﺎم ﻫﺎﻣﺎن ﺑﺄﺧﻄﺎر اﻟﺘﺠﺮﻳﺪ. ﻻ ﻳﺰال ﻗﺪر ﻛﺒري ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻣﻨﺬ دﻳﻜﺎرت ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﻨﻤﻮذج ﻣﻌني ﻣﻦ ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻚ؛ إذ ﻳﻔﺼﻞ دﻳﻜﺎرت اﻟﻌﻘﻞ ﻋﻦ اﻟﺠﺴﺪ ﺑﺪﻋﻮاه أن اﻟﻴﻘني املﻌﺮﰲ اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻫﻮ وﻋﻲ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﻨﻔﺴﻪ .وﻣﻌﺮﻓﺔ ﻋﺎﻟﻢ املﻮﺿﻮﻋﺎت ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺟﺴﺪ املﺮء ﻧﻔﺴﻪ ،ﻣﺸﻜﻮك ﻓﻴﻪ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻪ .وﻻ ﻳﻘﺒﻞ ﻫﺎﻣﺎن اﻟﺼﻮرة اﻟﺪﻳﻜﺎرﺗﻴﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﻔﱰض أن ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن »اﻻﻋﺘﻘﺎد ً ﺗﱪﻳﺮ ﻋﻘﲇ ﻫﻲ اﻷﺳﺎس اﻟﺠﻮﻫﺮي ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﻈﻦ ً ﻗﻠﻴﻼ ﴘ« .وﻳﻨﺒﻐﻲ ﻣﺎ ﻳﻘﻊ ﺑﻠﻐﺔ اﻷﺳﺒﺎب ﻛﺎﻟﺘﺬوﱡق واﻟﺸﻢﱢ« ،واﺗﺼﺎﻟﻨﺎ اﻟﺠﻮﻫﺮي ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ »ﺣِ ﱢ ﱞ ﱠأﻻ ﻳُﻔﻬَ ﻢ ﻫﺬا اﻻﺗﺼﺎل ﺑﺎﺻﻄﻼﺣﺎت »املﺬﻫﺐ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ« ِﻟﻠُﻮك َ وآﺧﺮﻳﻦ )ﻣﻤﱠ ْﻦ أﺛﱠﺮوا ﻋﻠﻴﻪ ً ﻋﻮﺿﺎ رﻏﻢ ذﻟﻚ(؛ ﺣﻴﺚ إن »ﻣﻌﻄﻴﺎت اﻟﺤﺲ« ﻫﻲ املﺼﺪر اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ .واﻫﺘﻢ ﻫﺎﻣﺎن ﻋﻦ ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺼﻞ ﺑﻬﺎ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﻣﻔﻬﻮم .واﻟﺒﺪء ﺑﻮﺻﻒ ﻧﻘﺪي ﻟﻠ »ﻋﻘﻞ« — ﻋﲆ ﻏﺮار ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻧﻂ — ﻻ ﱢ ﻳﻔﴪ ﻛﻴﻒ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﻘﻞ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺴﺆال ﻋﻦ أﺻﻞ اﻟﻠﻐﺔ. ﻳﺴﻌﻰ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻫﺎﻣﺎن وﻫريدر إﱃ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﺳﺆال :ملﺎذا ﻧﺤﺘﺎج اﻟﻌﻘﻞ ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻠﻐﺔ، أﻳﻀﺎ اﻟﻠﻐﺔ ﻟﻨﻌﻘﻞ؟ ﺑَﻴْ َﺪ أن أﺣﺪًا ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻟﻢ ﻳ ﱠ ﺑﻞ وﻧﺤﺘﺎج ً ُﻮﻓﻖ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻺﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ اﻟﺴﺆال ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣُﻘﻨﻌﺔ .وﻳﺤﺎول ﻫﺎﻣﺎن اﺳﺘﺨﺪام ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﻛﻤَ ْﺨ َﺮج ﻣﻦ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ، ُ ٍ ﻛﻠﻤﺔ اﻹﻟﻪ اﻟﴚءَ اﻟﺬي ﺗُﻌﻴﱢﻨﻪ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﻛﻠﻐﺔ ﺗَﺨﻠﻖ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ رؤﻳﺔ اﻟﺨﻠﻖ ﻧﻔﺴﻪ 29
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻳﺴري وﻓﻖ ﻣﻮروث اﻟﻘﺒﺎﻻ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ .وﻳُﺴﺘﻤَ ﺪ َﺷ ﱡﻜﻪ ﰲ اﻟﺘﺠﺮﻳﺪ ﻣﻦ ﻓﻜﺮﺗﻪ اﻟﺘﻲ ﻣﻔﺎدﻫﺎ أن اﻟﻠﻐﺔ ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻦ اﺗﺼﺎﻟﻨﺎ اﻟﻌﻤﲇ واﻟﺤﴘ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ؛ وﻫﻮ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺮﻓﺾ ﻗﺒﻮل اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻛﺄﺳﺎس ﻟﻠﻌﻘﻞ ،وﻳﺮى ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ أن »اﻷﺳﺎس واملﻌﻴﺎر اﻷول واﻷﺧري اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻠﻌﻘﻞ« ﻫﻮ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺴﺘﻨﺪ ﻟﴚء ﺳﻮى اﻟﻌُ ﺮف واﻻﺳﺘﺨﺪام ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ »املﻮﺛﻮﻗﻴﺔ اﻟﻌﺎﻣﺔ واﻟﴬورﻳﺔ«. وﺳﻴﻜﻮن ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﺣﻴﻮﻳٍّﺎ ﰲ ﻇﻬﻮر املﻔﻬﻮم اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻠ »ﻫﺮﻣﻨﻴﻮﻃﻴﻘﺎ«؛ أي ﻓﻦ أو ﻋﻠﻢ اﻟﺘﺄوﻳﻞ .ﻓﺎﻟﻬﺮﻣﻨﻴﻮﻃﻴﻘﺎ ﻣﻬﻤﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺘﺴﺎؤل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻋﻦ اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻠﻐﺔ ،وﻟﻨﻘﺪﻫﺎ ملﺬﻫﺐ »اﻟﻌﻠﻤﻮﻳﺔ«؛ أي اﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﺄن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺴﺎﺋﻐﺔ اﻟﻮﺣﻴﺪة ﻫﻲ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻬﺮﻣﻨﻴﻮﻃﻴﻘﺎ ،ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻨﺸﺄ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ﻣﺎ ﻟﻢ ﻧﻔﻬﻢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ اﻟﻌﺎ َﻟﻢ ﻣﻦ ﺧﻼل اﺳﺘﺨﺪاﻣﻨﺎ اﻟﻌﻤﲇ ﻟ ﱡﻠﻐﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري املﺪرﻛﺎت َ ٍ ﺑﻮﺻﻒ ﻋﻠﻤﻲ؛ ﻷن ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻓﻬﻢ ﻫﺬا اﻟﻘﺒْﻠﻴﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ املﺘﻀﻤﻨﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺮأي اﻟﻮﺻﻒ ﺳﺘﻌﺘﻤﺪ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﺛﻤﺔ ﻓﻜﺮة ﺣﺎﺳﻤﺔ ﻟﻮ ﺻﺤﱠ ﺖ ﺳﻴﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺗﻮاﺑﻊ ﻣﺪﻣﱢ ﺮة ﻟﻠﻤﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،وﻫﻲ أن اﻟﻔﻬﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰاﻟﻪ ﰲ اﻟﺘﻔﺴري؛ ﻷن اﻟﺘﻔﺴري دوﻣً ﺎ ً ﺷﻜﻼ ﻣﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻬﻢ املﺴﺒﻖ. ﻳﻔﱰض ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻻ ﻳﺸﺎرك ﻫريدر اﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ﻟﻬﺎﻣﺎن ،ﻟﻜﻨﻪ ﻣﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﺪرﺟﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺘﻨ ﱡﻮع اﻟﻠﻐﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ .وﻋﺪم ﺗﺄﻳﻴﺪه ﻟﻔﻜﺮة أن اﻟﻠﻐﺔ ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﺗﻤﺜﻴﻞ ﻟﻸﺷﻴﺎء واﺿﺢ ري أﺗﻴﻤﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ وﺗﺤﺪﻳﺪه ﺗﺤﻠﻴﻠﻴٍّﺎ ،ﺑﻞ ﻛﻴﻒ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ» ،ﻟﻴﺲ اﻟﺴﺆال ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ اﺷﺘﻘﺎق ﺗﻌﺒ ٍ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم؟ ﻓﺎﻷﺻﻞ واﻻﺳﺘﺨﺪام ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎن ﺟﺪٍّا «.وﰲ ﻣﻘﺎﻟﻪ املﻬﻢ »ﻣﻘﺎل ﰲ أﺻﻞ ً إﺟﺎﺑﺔ ﻣﻘﻨِﻌﺔ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ وﺻﻮﻟﻨﺎ إﱃ ٍ ﻟﻐﺔ اﻟﻠﻐﺔ« ﻋﺎم ،١٧٧٢ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻫريدر أن ﻳﻌﻄﻲ ﻋﻘﻞ وإﱃ ﻋﻘﻞ دون ٍ ﻟﻐﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ اﻗﱰح ﺟﺎﻧﺒًﺎ رﺋﻴﺴﻴٍّﺎ ﻟﻠﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺑﻬﺎ ﺗﻤﻴﻴﺰ دون ٍ اﻟﻠﻐﻮي ﻋﻦ اﻟﻼﻟﻐﻮي .وﻓﻜﺮة ﻫريدر أﻧﻨﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ ﺻﻔﺎء اﻟﺬﻫﻦ ،Besonnenheit اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻤ ﱢﻜﻦ املﺮء ﻣﻦ اﻧﺘﻘﺎء ﺧﺼﺎﺋﺺ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻣﺜﻞ ﺛُﻐﺎء اﻟﺸﺎة ،وﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء اﺳﺘﺨﺪام ﻋﺪد ﻏري ﻣﺤﺪﱠد ﻣﻦ اﻷﻟﻔﺎظ اﻷﺧﺮى ﻟﺘﻤﻴﻴﺰ اﻟﺸﺎة؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﻈﻞ اﻟﺨﺎﺻﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟ ﱡﻠﻐﺔ ﻫﻲ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺪﻗﺔ ﻗﺪرﺗﻬﺎ اﻷﺑﺪﻳﺔ ﻋﲆ ﺗﻤﻜني ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰات .ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻗﺎدرﻳﻦ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ أن اﻟﺸﺎة ﻣﻦ اﻟﺜﺪﻳﻴﺎت ،وأﻧﻬﺎ ﻏﺬاء ،وأﻧﻬﺎ رﻣﺰ ﻟﻠﻤﺴﻴﺢ ،وأﻧﻬﺎ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﺞ أﺻﻮاﺗًﺎ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﺎﻟﺮﻳﻒ … وﻫﻜﺬا .إن رؤﻳﺘَ ْﻲ ﻫريدر وﻫﺎﻣﺎن » ُﻛﻠﻴﱠﺘَﺎن« :ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻤﺎ ﻻ ﻳﺘﺄﻟﻒ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺴﻤﻴﺘﻬﺎ ،وإﻧﻤﺎ ﺗﺘﺤﺪﱠد ﱢ ﺗﺠﺴﺪ ﺑﻬﺎ اﻟﻠﻐﺔ وﻏريﻫﺎ ﻣﻦ أوﺟﻪ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﺒﴩي ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ 30
املﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي
اﻷﺷﻴﺎءَ اﻷﺧﺮى .ﻓﻤﺎ ﺗُ َﺮى ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺸﺎة ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﰲ ﻋﺎﻟ ٍﻢ ﻣﻦ اﻟﺪﻻﻻت اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ً ﺷﺒﻜﺔ ﻣﻦ اﻟﺪﻻﻻت اﻟﺘﻲ ﱠ ﺗﺘﻐري ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻤﺎرﺳﺎت ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺧﺼﺎﺋﺼﻬﺎ ﱡ ُ ﺑﺘﻐري ﻋﻼﻗﺎت اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ. ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻧﺤﻮ ﻣﻠﺤﻮظ، إن اﻟﺘﺄﻣﻼت اﻟﺮاﺋﺪة ﻟﻬريدر ﻋﻦ اﻟﻠﻐﺔ ﻣﺒﻌﺜ َ َﺮة ﰲ ُﻛﺘُﺒﻪ ،وﻏري ﻣﺘﱠ ِﺴﻘﺔ ﻋﲆ ٍ وﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ داﻧﻴﺎل أرﻧﺴﺖ ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ) (١٨٣٤–١٧٦٨ﻫﻮ ﻣَ ْﻦ ﺳﻴﻄﻮﱢر اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗ ﱠﻢ اﺳﺘﻌﺮاﺿﻬﺎ ﻫﻨﺎ إﱃ ﻣﻔﻬﻮم أﻛﺜﺮ ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ وﺗﻤﺎﺳ ًﻜﺎ .ﻓﻜﺜري ﻣﻦ آراء ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻗﺪ ﺑﺪأت إﺧﻔﺎق ﺑﻌﺾ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﰲ إﻳﻼء ﻣﺎ ﻳﻜﻔﻲ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺗﻌﺎود اﻟﻈﻬﻮ َر ﰲ ﺿﻮء ِ ِ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟ ﱡﻠﻐﺔ .وﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﻳُﻘﺪﱠم ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣُﻨ ﱢ ﻈﺮ اﻟﺘﻔﺴري »اﻟﺘﻘﻤﱡ ﴢ«، َ ً ﱠ ﻓﺒﺪﻻ ﻃﺮﻳﻘﻪ« إﱃ ﻋﻘﻞ املﺆﻟﻒ .وﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮة ﺧﺎﻃﺌﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ »ﻳﺘﺤﺴﺲ املﺮءُ ﻓﻴﻪ اﻟﺬي ً ﺷﻜﻞ وﺻﻔﺎ ﻣﺘﻄﻮ ًرا ﻟ ﱡﻠﻐﺔ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﺗَﻌﺮض ﻫﺮﻣﻨﻴﻮﻃﻴﻘﻴﺘﻪ وﻧﺼﻮص أﺧﺮى ٍ ﻣﻦ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﺳﻨﻘﺎﺑﻠﻪ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ )وﻫﻮ ﻻ ﻳﺴﺘﺨﺪم اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠ »ﺗﻘﻤﱡ ﺺ«( .وﻳﺘﺼﺪﱠى ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻟﻠﴫاع ﺑني ﻧﻈﺮة أن املﻌﻨﻰ واﻟﻠﻐﺔ ﺗﺘﺤﻜﻢ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻧﻮاﻳﺎ اﻟﺬات ،وﻧﻈﺮة أن اﻟﻠﻐﺔ ﻣﻮﺟﻮدة ﻗﺒﻞ اﻟﺬات ﰲ ﺷﻜﻞ ﺗﺮاﻛﻴﺐ وﻗﻮاﻋﺪ ﻣﺸﱰﻛﺔ. ﻳﺸﺘﻬﺮ ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﺑﺄﻧﻪ اﻟﻼﻫﻮﺗﻲ اﻟﺬي ﻟﻌﺐ دو ًرا ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ﰲ ﺗﻄﻮﱡر اﻟﱪوﺗﺴﺘﺎﻧﺘﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وأوﺿﺢَ ﻻﻫﻮﺗُﻪ اﻟﺴﺒﺐَ ﰲ أن اﻟﻠﻐﺔ أﺻﺒﺤَ ْﺖ ﻣﺤﻮرﻳﺔ ﺟﺪٍّا ﻟﺘﻔﻜريه .وﻣﺎ أوﺿﺤﻪ ﻛﺎﻧﻂ ﻋﻦ ﻛﻮن اﻟﱪاﻫني اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻮﺟﻮد اﻹﻟﻪ ﻏري ﺻﺤﻴﺤﺔ ،ﻛﺎن ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻋﲆ ﻋﻠﻢ ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﱪﻫﺎن اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ .أﻣﺎ ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ، اﻟﻼﻫﻮت أن ﻳُﻌِ ﻴﺪ ﺑﻨﺎءَ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ٍ ﱢ ﻓﻴﺆﺳﺲ ﻻﻫﻮﺗﻪ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ »ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻻﻓﺘﻘﺎر املﻄﻠﻖ« ﻟﻠﺬات؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺮى اﻟﺬات — ً ً ﻋﲆ ﻧﻬﺞ ﻛﺎﻧﻂ — ﻗﺎﺑﻠﺔ وﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﺎرق أﺳﺎﳼ ﺑني اﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ واﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ،ﻓﻜﻠﺘﺎﻫﻤﺎ ﺗﺸﻤﻞ اﻟﺬات واﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺪرﺟﺎت ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺸﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ،ﻓﺈن ٍ ﱢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ﻳﺘﻌﺬﱠر ﺗﻔﺴريﻫﺎ وﻧﻔﴪه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺤﻀﺔ ﰲ ﻛﻮﻧﻨﺎ ﻧﻔﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻤﺼﻄﻠﺤﺎت ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ .ورﻏﻢ أﻧﻨﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺗﻮﺟﻴﻪ ﻓﺎﻋﻠﻴﺘﻨﺎ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻟﺴﻨﺎ ﻣﺼﺪ َر ﻛﻮﻧﻨﺎ ﻓﺎﻋﻠني ،ﻓﻬﺬا ﻣﻤﻨﻮح ﻛﺠﺰء ﻣﻦ ﻃﺒﻴﻌﺘﻨﺎ ،وﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﻬﺬا اﻻﻓﺘﻘﺎر ﺑﻄﺮق ﻏري ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ؛ ﻷن ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ً أﻳﻀﺎ ،واﻟﺸﻌﻮر ﺑﺄن ﻓﺎﻋﻠﻴﺘﻨﺎ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻔﺎﻋﻠﻴﺔ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻜﻮن اﻟﺤﻲ ﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻘﻮد إﱃ اﻟﺪﻳﻦ .ﻓﺎﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻹﻟﻪ إذن ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻻرﺗﺒﺎط ﺑ ُﻜ ٍﻞ أﻛﱪ ﻟﻴﺲ ﰲ ﻧﻄﺎق ﻗﺪرﺗﻨﺎ. 31
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
أﻳﻀﺎ ﻋﲆ اﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ واﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ،وﻫﻲ ﺗﺴﺘﻠﺰم ﻧﻮﻋً ﺎ َ ﺗﻨﻄﻮي اﻟﻠﻐﺔ ً آﺧﺮ ﻣﻦ اﻋﺘﻤﺎد اﻟﺬات ﻋﲆ ﳾء ﻻ ﺗُ ِ ﻨﺸﺌﻪ .وﺗﻨﻄﻮي اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﺘﺄﺻﻠﺔ ﻟ ﱡﻠﻐﺔ ﻋﲆ ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻋﺘﻤﺎد اﻟﺬات َ »اﻵﺧﺮ« ،ﺑﻞ ً أﻳﻀﺎ ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻟﱰاﺑﻂ اﻟﺒﴩي اﻟﺬي ﻳﺄﺧﺬ اﻟﺬات إﱃ ﻣﺎ وراء ﻧﻔﺴﻬﺎ. ﻋﲆ إن ﺗﺮﻛﻴﺰ ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻋﲆ اﻟﻠﻐﺔ ﻳﻘﻮده ﰲ ﻧﺼﻮﺻﻪ ﻋﻦ اﻟﻬﺮﻣﻴﻨﻮﻃﻴﻘﺎ ﻣﻦ ﻋﺎم ١٨٠٥ ﻓﺼﺎﻋﺪًا إﱃ ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﻣﺆﺛﱢﺮة ﰲ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﺘﺄوﻳﻞ .وﻫﻮ ﱢ ﻳﺆﺳﺲ ﻫﺬه اﻟﺘﺄﻣﻼت ﻋﲆ اﻟﴫاع ﺑني اﻟﻠﻐﺔ ﻛﴚء ﺳﺎﺑﻖ اﻟﻮﺟﻮد ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻛﴚء ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﺬوات اﻟﻔﺮدﻳﺔ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻪ ﻟﻠﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻓﺮدﻳﺘﻬﺎ؛ واﻟﻬﺪف ﻫﻮ ﻓﻬﻢ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺠﺎﻧﺒني ﰲ اﻟﻨﺺ أو اﻟﻘﻮل املﺮاد ﺗﺄوﻳﻠﻪ .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أﺑﺪًا ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻫﺬه املﻬﻤﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺣﺎﺳﻤﺔ؛ ﻷن املﺮء ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أﺑﺪًا اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﺟﻤﻴﻊ ﺳﻴﺎﻗﺎت اﻟﻘﻮل ،وﻻ ﻛﻞ اﻟﺪواﻓﻊ ﻟﻪ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ أن اﻟﺘﺄوﻳﻞ ﻣﺤﺪود ﺑﺎﻟﴬورة ،وﻫﻮ ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻗﻮاﻋﺪ ﺣﺎﺳﻤﺔ. وﻳﻘﻮده ﻫﺬا املﻮﻗﻒ إﱃ أﻓﻜﺎر ﻣ ﱢ ُﺘﺒﴫة ﺗﺸري إﱃ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ أن ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ً اﻷﺳﺎس املﺒﺪﺋﻲ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺨﻄﺌﺔ )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ( .ﻓﻘﺪ ﻓ ﱠﺮ َق ﻛﺎﻧﻂ ﺑني اﻷﺣﻜﺎم »اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ« اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﻔﻀﻞ ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻓﻴﻬﺎ ،ﻣﺜﻞ» :اﻷﻋﺰب ﻫﻮ ً ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﺜﻞ» :ﻓﺮﻳﺪ ﺳﻤﻴﺚ رﺟﻞ ﻏري ﻣﺘﺰوج« ،واﻷﺣﻜﺎم »اﻟﱰﻛﻴﺒﻴﺔ« اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻄﻠﺐ أﻋﺰب «.وﻋﲆ أﺳﺎس ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ،ﺣﺎ َو َل ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻣﺜﻞ ﺟﻮﺗﻠﻮب ﻓﺮﻳﺠﻪ وﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ ﰲ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ و ْ َﺿ َﻊ أ ُ ُﺳﺲ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻠﻐﺔ ﺗﻜﻮن ﻣﺴﺘﻘِ ﱠﻠ ًﺔ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻤﻜﻨﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﺴﺘﻤَ ﺪﱠة ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ .و ُﻛ ﱢﺮس ﻛﺜريٌ ﻣﻦ اﻟﺠﻬﺪ اﻟﺬي ﺗﻼ ذﻟﻚ ملﺤﺎوﻟﺔ إﻧﺠﺎح ﻫﺬا املﴩوع؛ ﻓﻔﻲ ﺧﻤﺴﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،رأى اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷﻣﺮﻳﻜﻲ »دﺑﻠﻴﻮ ﰲ أوه ﻛﻮاﻳﻦ« أن ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻷن ﻓﻬﻤﻨﺎ ﻷﻳﺔ ﻋﺒﺎرة ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻌﺪﻳﻠﻪ ﰲ ﺿﻮء ﻋﺒﺎرات ﺻﺤﻴﺤﺔ أﺧﺮى ،ﺣﻴﺚ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻛﻠﻤﺎت ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻘﺎل إﻧﻬﺎ ﻣﱰادﻓﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ .وﻫﺬه اﻟﺮؤﻳﺔ ﺗﻌﻜﺲ اﻟﺸﻤﻮﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ رأﻳﻨﺎﻫﺎ ﻟﺪى ﻫريدر وﻫﺎﻣﺎن ،وﰲ ﺣﺎل ﻗﺒﻮﻟﻬﺎ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﺆذن ﺑﻨﻬﺎﻳﺔ ﻣﴩوع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺗﺤﻠﻴﻞ اﻟﺘﺼﻮرات اﻟﺘﺄﺳﻴﺴﻴﺔ .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﺜرية ﻟﻼﻫﺘﻤﺎم أن ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻗﺪ أوﺿﺢ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﺟﻴﺪًا ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ أن ﺗﻮﺟﺪ »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﴩ ﺑﻌﺪ وﻓﺎﺗﻪ ﻳﻘﻮل: اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ«؛ ﻓﻔﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺠﺪل« اﻟﺬي ﻧ ُ ِ َ ﱠ ﻧﺘﺤﺼﻞ ﻣﻨﻪ ﻋﲆ ﻗﻴﻤﺔ … إن اﻟﻔﺎرق ﺑني اﻷﺣﻜﺎم اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ واﻟﱰﻛﻴﺒﻴﺔ ﻣﺎﺋﻊ ﻻ وﻫﺬا اﻟﻔﺎرق … ﱢ ﻳﻌﱪ ﻓﻘﻂ ﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺻﻴﺎﻏﺔ املﻔﺎﻫﻴﻢ. ٍ ﺳﻴﺎﻗﺎت أﺧﺮى؛ ﺣﻴﺚ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ ﺗﺄﺳﻴﺴﻴﺔ وﻣﺎ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺗﺤﻠﻴﻠﻴٍّﺎ ﻟﻦ ﻳُﻌَ ﱠﺪ ﻛﺬﻟﻚ ﰲ راﺳﺨﺔ ﺧﺎرج اﻟﺸﺒﻜﺔ املﺘﻐرية ﻟ ﱡﻠﻐﺔ .وﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﻘﺎرﺑﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻠﻐﺔ 32
املﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي
ُ ﺗﺠﺎﻫﻠُﻪ ﰲ ﺗﻨﺎول اﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﺑﻌﺪ ﻛﺎﻧﻂ ،ﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻋﲆ ﻣﻘﺪار ﻣﺎ ﺗ ﱠﻢ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ .وﻳﺘﻌﻠﻖ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﺗﺠﺎﻫﻞ املﻘﺎرﺑﺎت اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺑﺎﻟﺮﻏﺒﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻣﻨﺎﻓﺴﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺑﺸﺪة ،وﺳﻴﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻫﻮ ﺑﻴﺎن إن ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ املﺴﺎر اﻷﻓﻀﻞ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ أم ﻻ.
33
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ
اﳌﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷﳌﺎﻧﻴﺔ
ﻣﺎ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ؟ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري اﻟﺬات اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ — ﺣﺴﺐ ﻋﺒﺎرة ﻛﺎﻧﻂ — »ﺗﻤﻨﺢ اﻟﺘﴩﻳﻊ« ﻟﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ ً ً ً وأﻳﻀﺎ ﻋﲆ )ﻣﻤﺜﻠﺔ ﰲ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ(، )ﻣﻤﺜﻠﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم( واﻟﺬات ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أﻧﻬﺎ ﻣ َ ﺑﺈﺣﺴﺎس ﺑ »اﻟﻀﻴﺎع« ﻧﺎﺗﺞ ﻋﻦ ارﺗﻴﺎﺑﻬﺎ ﰲ اﻟﻼﻫﻮت وﰲ اﻷدوار واﻟﻬﻮﻳﺎت ُﺒﺘﻼة ٍ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻗﺪ ﺳﻌﻰ ﻛﺎﻧﻂ إﱃ إﺛﺒﺎت ﻓﻜﺮة ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ وﺿﻊ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﰲ ﻣﺠﺎل ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺧﺎﺿﻌً ﺎ ﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻛﺎن ﻳﺘﻌﺬﱠر ﻋﲆ املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺑﻠﻮغ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ »ﰲ ذاﺗﻬﺎ«؛ ﻓﻜﻴﻒ إذن ﺗﺘﺼﻞ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻬﺎ ﺑﺤﺮﻳﺔ اﻹﻧﺴﺎن؟ ﺗﻬﺪف »املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ« ،اﻟﺘﻲ ﻇﻬﺮت ﰲ ﺗﺴﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ،إﱃ إﻋﺎدة اﻟﺘﻔﻜري ﰲ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ ﰲ ﺿﻮء دﻋﺎوى ﻛﺎﻧﻂ .ﻛﻴﻒ ﺗﺘﺼﻞ ﻗﺪرﺗﻨﺎ »اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ« ﻋﲆ »ﻣﻨﺢ اﻟﺘﴩﻳﻊ« ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻤﻨَﺢ ﻟﻬﺎ اﻟﺘﴩﻳﻊ؟ إن ﻫﺬه اﻟﻘﺪرة ﻳﺠﺐ — ُ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ .ﻟﻜﻦ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ — أن ﺗﻤﻨﺤﻬﺎ ﻟﻨﺎ ﻋﲆ ٍ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ ﻋﻨﺎﴏ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻘﺪرة أن ﺗﻈﻬﺮ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﺘﻔﻜري ﰲ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ »ﻛﻤﻈﻬﺮ« ﻣﻤﻜﻨًﺎ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل .وﻣﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻟﻪ اﻷﺷﻴﺎء ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أن ﻳﻜﻮن ﺷﻴﺌًﺎ ﻛﺎﻟﺬي ﻳﻈﻬﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺪﻋﺎوى ﺑﺸﺄن ﻗﺪرﺗﻨﺎ اﻟﺘﴩﻳﻌﻴﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺮﺗﻜﺰ ﻋﲆ دﻟﻴﻞ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻞ ،ﻛﺎﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺤﺼﻮل ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ؛ ﻷن ذﻟﻚ اﻟﻌﻠﻢ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻌﺘﻤﺪ ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﻘﺪرة .وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ً ﺿﻤﻨﻴﺔ ﻟﺪى ﻛﺎﻧﻂ ،ﻫﻲ أن املﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ اﻟﺤﻜﻢ ﺗﺮاﻫﺎ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ واﻟﻔﻌﻞ اﻹرادي اﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﻤﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﻤﺎ ﻳﺸﱰﻛﺎن ﰲ املﺼﺪر ﻧﻔﺴﻪ ،وﻳﺘﻌﺬﱠر
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻫﺬا املﺼﺪر ﺑﻨﻮع اﻟﺒﺤﺚ املﺘﱠﺒَﻊ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم ،وﺗﻘﻮد ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة إﱃ اﺣﺘﻤﺎﻟني أﺳﺎﺳﻴني ﻳﺸﱰﻛﺎن ﰲ ﻧﻘﺎط ﻣﻌﻴﻨﺔ. ﻳﺮى أﺣﺪ اﻻﺣﺘﻤﺎﻟني »اﻟﺬاﺗﻴﺔ« — »اﻷﻧﺎ« ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﻮاﺳﻊ ﺟﺪٍّا ﻟﻬﺎ ﰲ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ َ وﻟﻴﺴ ِﺖ اﻟﻔﻮﴇ اﻟﻼﻣﺘﱠ ِﺴ َﻘﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ — ﻋﲆ أﻧﻬﺎ أﺳﺎس وﺟﻮد »ﻋﺎﻟﻢ« ﰲ املﻘﺎم اﻷول، ً أﺷﻜﺎﻻ ﻗﺎدرة ﻋﲆ اﻟﺒﻘﺎء ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﺣﻴٍّﺎ ﻓﺈن »اﻟﺬاﺗﻴﺔ« ﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻮ ﱢﻟﺪ وﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ،ودون »اﻟﻀﻮء« اﻟﺬي ﻳُﻀﻔِ ﻴﻪ اﻟﺘﻔﻜري ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﺳﺘﻜﻮن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﺼﻴ ًﱠﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ .وﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ املﻘﺎ َرﺑﺔ ﺑﻔﻜﺮة أن املﺎدة ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ. اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺄ ﱠﻟﻒ ﻣﻨﻬﺎ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗُﺴﺘﺒﺪَل أﺛﻨﺎء ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ،دون أن ﺗﺼﺒﺢ ﺷﻴﺌًﺎ واﻟﻔﻜﺮة ﻫﻲ أن ﻫﺬا ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺴﻴﺎدة ﻧﻮع ﻣﻌني ﻣﻦ ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﻌﻘﻞ« — ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻳﻨﺸﺊ ً أﺷﻜﺎﻻ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ — ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؛ ﻓﺪون ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﻻ ﳾء ﻣﺤ ﱠﺪدًا ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻈﻬﺮ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس .وﻫﻜﺬا ﻳﺼﺒﺢ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﺬات ،وﻟﻴﺲ ﺗﻔﺴري اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ املﻮﺿﻮﻋﻲ. واﻻﺣﺘﻤﺎل َ اﻵﺧﺮ ﻫﻮ أن ٍّ ﱢ ﻣﺘﺄﺻﻞ ﰲ »إﻧﺘﺎﺟﻴﺔ« اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ. ﻛﻼ ﻣﻦ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺤﺮﻳﺔ ﻓﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﺮة أﺧﺮى ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮد ﻧﻈﺎ ٍم ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني؛ ﻷﻧﻬﺎ »ﺗﻨﺘﺞ« اﻟﺬاﺗﻴﺔ، ً اﻟﺘﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﺗﻌﺮف ﻧﻔﺴﻬﺎ وﺗﺼﺒﺢ ﻣﺘﻤﺘﻌﺔ ﺑﺤﺮﻳﺔ اﻹرادةً ، ﻣﻨﻐﻠﻘﺔ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺒﻘﺎء ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈﻧﺘﺎﺟﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﺗﻘﻊ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ ﻧﻄﺎق ﺳﻴﻄﺮﺗﻨﺎ ،ﺣﺘﻰ َ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﻋﻦ وﻋﻲ إﱃ اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻪ .وﻣﺎ إن ﺗﻔﻜريﻧﺎ »ﻳﺤﺪث« ،وﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﴚء اﻟﺬي ﻧﺪﻓﻊ إن ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺘﻔﻜري ﺣﺘﻰ ﺗﻮﺟﺪ درﺟﺔ ﻣﻦ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﰲ اﻟﺘﻔﻜري .واﻟﺴﺆال ﻫﻮ :ﻣﺎ ﻣﺪى ً ﺷﻔﺎﻓﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ اﻟﺤَ ْﺴ ِﻢ اﻟﺬي ﺗﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﻫﺬه؟ ﻓﺎﻟﺬات املﻔ ﱢﻜﺮة ﻫﻨﺎ ﻟﻴﺴﺖ واع«. ﻟﺬاﺗﻬﺎ ،وﺗﻌﺘﻤﺪ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﻋﲆ ﳾء »ﻏري ٍ ﱡ اﻟﺘﻐريات ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﺤﺪﱢدﻫﺎ ﻳﺸﱰك ﻛﻼ اﻻﺣﺘﻤﺎﻟني ﰲ ﻓﻜﺮة أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻘﻮاﻧني ،ﻓﺈن ﻓﻜﺮة أن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣُﻬَ ﻴْ َﻜ ٌﻠﺔ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ،ودﻳﻨﺎﻣﻴﻜﻴﺔ ﻻ ﺛﺎﺑﺘﺔ ،ﻻ ﺗﺘﺤﺪﱠد ﻋﲆ ﻫﺬا املﻨﻮال ﻧﻔﺴﻪ .ﺗﺘﻌﻠﻖ اﻷﻓﻜﺎر املﺘﺼﻠﺔ ﺑﺎﻟﺒﺪﻳﻞ اﻷول ﺑﺴﺎﻟﻮﻣﻮن ﻣﻴﻤﻮن )–١٧٥٤ (١٨٠٠وﻳﻮﻫﺎن ﺟﻮﺗﻠﻴﺐ ﻓﻴﺸﺘﻪ ) ،(١٨١٤–١٧٦٢ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ اﻷﻓﻜﺎر ﰲ اﻟﺒﺪﻳﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺑ »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻟﻔﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ ﺟﻮزﻳﻒ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ) .(١٨٥٤–١٧٧٥وﻳﺤﺎول اﻟﻔﺮوق ﺑني ﻫﺬﻳﻦ اﻟﺒﺪﻳﻠني ﻋﻦ ﺟﻮرج ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻫﻴﺠﻞ ) (١٨٣١–١٧٧٠ﺗﺠﺎ ُو َز ِ ﻃﺮﻳﻖ وﺻﻒ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﺟﺪﻳﺪة ،ﻛﻤﺎ ﺳﻨﺮى .وﻣﻨﺬ ﻧﻬﺎﻳﺔ 36
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،ﺳﻴﱪﻫﻦ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻋﲆ أن وﺻﻒ ﻫﻴﺠﻞ ﻟﻠﻤﺜﺎﻟﻴﺔ ﻋﺎﺟﺰ ﻋﻦ ﻓﻬﻢ املﻼﻣﺢ املﺤﻮرﻳﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ.
ﺷﻜﻞ :1-3ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ ﺟﻮزﻳﻒ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ،ﻋﺎم .١٨٤٨
1
ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ،ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ أن ﺗﺼﻤﺪ ﻓﻜﺮة اﻻﻧﺘﻤﺎء إﱃ ﻛ ﱢﻞ ذي ﻣﻌﻨﻰ ،وﻳﻌﻨﻲ اﻟﺘﻤﺪﱡن ِ املﺒﺎﴍ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻳﻤﻴﻞ إﱃ اﻻﻧﺤﺴﺎر ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﴍاﺋﺢ ﻛﺒرية ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺎن. أن اﻻﺗﺼﺎل وﻳﺘﺰاﻳﺪ ً أﻳﻀﺎ ﺧﻀﻮع اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻵﺛﺎر ﺗﺤﻠﻴﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﻟﻌﻨﺎﴏﻫﺎ ،وﻫﺬا اﻟﺨﻀﻮع ﻳﻌﻄﻲ ً أوﻟﻮﻳﺔ َملﻮ َ ْﺿﻌَ ﺔ املﻨﺎﻫﺞ ﻋﲆ اﻟﻄﺮق اﻷﺧﺮى ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ .واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻛﺒﺘًﺎ ﻟﺠﻮاﻧﺐ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ ذواﺗﻨﺎ ،ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ أﻧﻪ ذو ﻣﻐ ًﺰى ﰲ ﺟﻮﻫﺮه؛ وﺳﻴﺴﻤﻲ ﻋﺎﻟﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع ﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﱪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞَ ﰲ ﺗﻔﺮﻳﻎ املﻌﻨﻰ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑ »اﻟﺘﺤ ﱡﺮر ﻣﻦ أوﻫﺎم« اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻟﻜﻦ — ﻛﻤﺎ ﻳﺘﻀﺢ اﻵن ﻣﻦ اﻷزﻣﺔ اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ — ﺗﻮﺟﺪ ٍ ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ ﺣﺪو ٌد ﻟﻘﺪرة اﻟﺒﴩ ﻋﲆ إﺧﻀﺎع اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻳﺒﺪي ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ً ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻋﻦ اﻵﺛﺎر املﺪﻣﺮة ﻻﻋﺘﺒﺎر اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻣﺠ ﱠﺮد ﻣﻮﺿﻮع ﻟﻸﻫﺪاف اﻟﺒﴩﻳﺔ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ .وﺑﺎملﺜﻞ ،ﻳﻄﺎﻟِﺐ ﺑﻴﺎ ٌن رﺳﻤﻲ ﻣﻮﺟَ ﺰ — ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳ َُﺸﺎر إﻟﻴﻪ ﺑ »اﻟﱪﻧﺎﻣﺞ 37
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻷﻗﺪم ﻟﻨﻈﺎم املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ« ﻋﺎم ) ١٧٩٦ﻣﺆ ﱢﻟﻔﻪ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ أو ﻫﻴﺠﻞ أو ﺻﺪﻳﻘﻬﻤﺎ اﻟﺸﺎﻋﺮ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻫﻮﻟﺪرﻟني — (١٨٤٣–١٧٧٠ﺑ »ﻣﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ« ،وﺳﻴﻌﻤﻞ ﻫﺬا ﻋﲆ ﻣﻮاءﻣﺔ رؤﻳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻣﻊ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺮﻣﺰﻳﺔ املﻮ ﱠ ﻇﻔﺔ ﰲ ﺣﻴﺎة اﻟﻨﺎس اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ .ﻓﻤﺎ ﻳﺨﱪﻧﺎ ﺑﻪ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺼﺎﺣِ ﺒﻪ ﻗﺮارات ﺑﺸﺄن ﻣﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻓﻌﻠﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻳﺠﺎد ﴩك اﻟﺘﺨﻴﱡﻞ اﻟﺠﻤﺎﱄ واﻷﺧﻼﻗﻲ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﻣﺴﺘﻮﻳﺎت املﺠﺘﻤﻊ، ﻃﺮق ﻹﻳﺼﺎل وﺗﻘﻴﻴﻢ املﻌﺮﻓﺔ ﺗُ ِ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺬي ﻗﺪ اﻧﺘﻬﺠﻪ ﻋﻠﻢ اﻷﺳﺎﻃري ﰲ املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﺳﻴُﻨ َ ﻈﺮ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺮؤﻳﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺘﻌﺬﱢرة اﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ،ﻓﺈن اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻟﺘﻲ أﺣﺪﺛﺘﻬﺎ ﻻ ﺗﺰال ﻇﺎﻫﺮ ًة ﰲ إﺧﻔﺎق اﻟﻘﺪرة اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺘﺰاﻳﺪة ﻟﻠﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻋﲆ إﻳﺠﺎد ﻋﺎﻟﻢ أﻛﺜﺮ ً ﻋﺪﻻ وإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ. ُ ﺗﺤﺎول ً املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺣ ﱠﻞ اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ ﺗﺂ ُﻛﻞ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺬي أﻳﻀﺎ ِ ُ ﺗﻤﺜﱢﻠﻪ ﻓﻜﺮة أن ﺳﻠﻄﺔ املﻠﻚ ﻣﺴﺘﻤَ ﺪﱠة ﻣﻦ اﻹﻟﻪ ،ﻓﴬب ﻋﻨﻖ املﻠﻚ ﰲ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻟﺜﻮرﺗني اﻹﻧﺠﻠﻴﺰﻳﺔ واﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﱢ ﻳﻠﺨﺺ ﱡ ﺗﻐري ٍ ات وﻗﻌﺖ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﴩﻋﻴﺔ املﻤﻴﱢﺰة ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ؛ إذ ﻳﺠﺐ أن ﻳ ﱠ ُﺆﺳﺲ اﻟﻨﻈﺎم اﻵن ﺑﺤﺮﻳﺔ ﺑﻤﻌﺮﻓﺔ اﻟﺒﴩ ،ﻣﻦ دون اﺣﺘﻜﺎﻣﺎت إﱃ ﺳﻠﻄﺔ أﻋﲆ .وﻟﻜﻦ ﻛﻨﺘﺎج املﺼﺎﻟﺢ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻣﺘﺸﻌﺒﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ،وﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺰداد اﻟﺤِ ﺮاك اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ٍ ﻟﻈﻬﻮر اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﻓﻜﻴﻒ إذن ﻳﻤﻜﻦ ﴍﻋﻨﺔ اﻟﺴﻠﻄﺔ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم؟ ﻓﺎﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﺗﻤﺎرس اﻹرﻫﺎب ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻌﻘﻞ ،وﺗﴚ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﻤﺒﺎدئ اﻟﻌﺎملﻴﺔ أن ﺗﺆدي إﱃ اﻟﻼإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﻣﻨﺎﻫﺞ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﺘﺼﺎﻟﺢ اﻟﻔﺮد واملﺠﺘﻤﻊ .وﺗﺘﻀﺢ اﻟﺼﻌﻮﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﺘﺼﺎﻟﺢ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻋﻤﻞ ﻫﻴﺠﻞ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﰲ »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﻖ« ) (١٨٢٠ﻗﺪ ُﻗ ِﺮئ ﻋﲆ أﻧﻪ أول دﻓﺎع ﺷﻤﻮﱄ ﻋﻦ ﺳﻠﻄﺔ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﻠﻮ ﻋﲆ اﻟﻔﺮد .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺎﻷﻣﻮر ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻬﺬه اﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ،وﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻫﻴﺠﻞ ﻓﺪون ﻧﻈﺎم اﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻳﺤﻜﻤﻪ اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻟﻦ ﺗﻜﻮن ﻟﻠﻔﺮد ﺣﻘﻮق ﻣﻦ اﻷﺳﺎس؛ ﻓﺎﻟﺤﻘﻮق ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻹﻗﺮار ﺑﺄن اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻳُﻄﺒﱠﻖ ﻋﲆ اﻟﻨﻔﺲ وﻋﲆ َ اﻵﺧﺮﻳﻦ .وﻳﺄﺗﻲ ﻓﻬﻢ اﻋﺘﻤﺎد املﺼﻄﻠﺤﺎت املﺘﻌﺎرﺿﺔ ﻋﲆ ﺑﻌﻀﻬﺎ — ﻛﺎﻟﺤﺎل ﺑني »اﻹرادة اﻟﻌﺎﻣﺔ« ﻟﻠﺪوﻟﺔ وإرادة اﻟﻔﺮد — ﰲ ﺻﻤﻴﻢ اﻟﻔﻜﺮ املﺜﺎﱄ اﻷملﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻳﺴﻌﻰ إﱃ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﺘﻨﺎﻗﻀﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺸﺄت ﻣﻦ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻹﻗﻄﺎﻋﻲ.
38
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻣﺼﺎدر املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ إن املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺸﺎ ِﺑﻬﺔ ملﺜﺎﻟﻴﺔ ﺑريﻛﲇ اﻟﺘﻲ ﻓﻴﻬﺎ »اﻟﻮﺟﻮد إدراك« .وﻣﻊ ذﻟﻚ، ﻓﺈن أﺣﺪ ﻣﺼﺎدرﻫﺎ ﻫﻮ اﻟﺘﺴﺎؤل ﻋﻤﱠ ﺎ إن ﻛﺎن ﻛﺎﻧﻂ — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻨﻪ — ﻣﺜﺎﻟﻴٍّﺎ ﺑﺮﻛﻠﻴﺎﻧﻴٍّﺎ. ﻳﺮﻓﺾ ﻛﺎﻧﻂ املﺜﺎﻟﻴﺔ؛ إذ إﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻨﺎ ﻧﻌﺮف اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺪرﻛﻬﺎ ﺑﻬﺎ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺰال ﻣﻮﺟﻮدة »ﰲ ذواﺗﻬﺎ« ،ﻓﻜﻴﻒ ﻣﻊ ذﻟﻚ ﺗﺮﺗﺒﻂ املﻈﺎﻫﺮ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ؟ ﰲ ﻋﺎم ١٧٨٩ﺷ ﱠﻜ َﻚ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻫﺎﻳﻨﺮﻳﺶ ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ) (١٨١٩–١٧٤٣ﰲ دﻋﻮى ﻛﺎﻧﻂ أن اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ ﺗﺴﺒﱢﺐ املﻈﺎﻫﺮ .ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻜﺎﻧﻂ ،ﻳﺮﺑﻂ اﻟﺴﺒﺐ ﻣﻈﻬ ًﺮا َ ﺑﺂﺧﺮ ﻳﺨﻠﻔﻪ ﺑﺎﻟﴬورة ،واﻷﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ؛ وﻟﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ — ﺣﺴﺐ ﻛﺎﻧﻂ ﻧﻔﺴﻪ — أن ﻳﻘﺎل ﻋﻨﻬﺎ إﻧﻬﺎ ﺗﺴﺒﱢﺐ املﻈﺎﻫﺮ .وﻫﺬا ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﻳﻄﺮح اﻻﺧﺘﻴﺎر ﺑني ﺑﺪﻳﻠني :إﻣﺎ اﻟﺘﺨﻠﺺ ﱢ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ،وإﻣﺎ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ،ﻣﻊ ﺧﻄﺮ اﻟﻌﻮدة إﱃ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ »اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ« اﻟﺘﻲ اﻧﺘﻘﺪﻫﺎ ﻛﺎﻧﻂ .وﻳﺸ ﱢﻜﻞ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺤﻞ ﻧﺰاع ﰲ ﻫﺬا اﻟﺒﺪﻳﻞ إﺣﺪى املﻬﺎم اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻤﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ. ﱢ ﺗﻮﺿﺢ ﺗﺴﺎؤﻻت ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﻋﻦ اﺗﺠﺎه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺴﺒﺐَ ﰲ أن اﻫﺘﻤﺎﻣﺎت املﺜﺎﻟﻴني اﻷملﺎن أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮد اﻫﺘﻤﺎﻣﺎت إﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .وﻗﺪ ﻧﺸﺄ ﻣﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ »ﺟﺪل وﺣﺪة اﻟﻮﺟﻮد« ،اﻟﺬي ﺑﺪأ ﻋﺎم ،١٧٨٣ﺣﻮل دﻋﻮى ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﻋﻦ أن ﻛﺎﺗﺐ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﺟﻲ إي ﻟﻴﺴﻴﻨﺞ ﻗﺪ أﻗ ﱠﺮ ﺑﻜﻮﻧﻪ إﺳﺒﻴﻨﻮزﻳٍّﺎ ،وﻛﺎن إﺳﺒﻴﻨﻮزا ﻗﺪ ﺣُ ﺮم ﻛﻨﺴﻴٍّﺎ ﻣﻦ ﻗِ ﺒﻞ اﻟﻜﻨﻴﺴﺔ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ اﻟﻬﻮﻟﻨﺪﻳﺔ ﺑﺴﺒﺐ اﻹﻟﺤﺎد ﻋﺎم ،١٦٥٦وﻛﺎن اﻹﻟﺤﺎد ﻻ ﻳﺰال ﻏري ﻣﻘﺒﻮل ﻟﻠﺴﻠﻄﺎت اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ .وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮنَ ، ﻓﻘ َﺪ ﻓﻴﺸﺘﻪ ﻋﻤ َﻠﻪ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ ﻧﻈ ًﺮا ﻻﻋﺘﺒﺎره ﻣﻠﺤﺪًا؛ ﻓﺈﻟﻪ إﺳﺒﻴﻨﻮزا ﻟﻴﺲ ﻫﻮ ﺧﺎﻟﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ واملﴩﱢ ع ﻟﻪ ،ﺑﻞ ﻣﺠﻤﻮع اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﻨﻈﻢ :ﻓﺎﻹﻟﻪ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺳﻮاء .وﰲ ﻧﻈﺎم إﺳﺒﻴﻨﻮزا ،ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ ٍ ﱢ ﺑﴩوط« اﻷﺷﻴﺎءَ ﻣﺘﺄﺻﻞ ﰲ ذواﺗﻬﺎ .وﻛﻞ ﳾء »ﻳﻘﻴﱢﺪ ﻋﺪم ﻛﻮﻧﻬﺎ أﺷﻴﺎءَ أﺧﺮى ،ﻻ ﻋﲆ ﳾء ُ ﺗﺴﻠﺴﻞ ﻣﻦ »ﴍوط اﻷﺧﺮى ،وﻫﻲ ﺑﺪورﻫﺎ ﺗﻘﻴﱢﺪه .وﻳﺮى ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ أن ﻫﺬا ﻳﺆدﱢي إﱃ َ ﻧﺤﻮ ﻗﺎﻃﻊ؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺎملﻌﺮﻓﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﴩوط« ،ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮ أيﱢ ﺗﻔﺴري ﻓﻴﻪ ﻋﲆ ٍ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺷﻴﺌًﺎ »ﻏري ﻣﴩوط« .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺠﺎﻛﻮﺑﻲ ،ﻫﺬا ﻫﻮ اﻹﻟﻪ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ أﺟﺰاءً ذات ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﻌﺎﻟ ٍﻢ ﻧﺴﺘﺜﻤﺮ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﺮﻓﻴٍّﺎ وأﺧﻼﻗﻴٍّﺎ وﻋﺎﻃﻔﻴٍّﺎ ،ﻻ ﻣﺠﺮد أﺟﺰاء ﻣﻦ ﻧﻈﺎم ُ ﺗﺴﻠﺴﻞ اﻟﺘﻔﺴريات — ﰲ رأي ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ — ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إدراك أن ﻣﻴﻜﺎﻧﻴﻜﻲ .وﻳﺘﻮﻗﻒ »إﻳﻤﺎﻧﻨﺎ/اﻋﺘﻘﺎدﻧﺎ« ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮه ﺑﻤﺼﻄﻠﺤﺎت ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ )واﻟﺘﻲ ﺗﺆدﱢي إﱃ ُ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ املﻮﺻﻮف ﺗﻮٍّا(؛ وﻟﺬا ﻳﺘﻮﺟﱠ ﺐ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻠﺠﻮءُ إﱃ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت .وﻟﻜﻦ إذا ﻛﺎن ﻏري 39
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
املﴩوط ﺳﻴﻜﻮن ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﺗﻔﺴري ﻓﻠﺴﻔﻲ )أي ﺗﻔﺴري ﻻ ﻳﺮى اﻹﻟﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻔﺴريٌ ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﴩوط( ،ﻓﺎملﺮء ﻳﻨﺘﻬﻲ إﱃ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﺘﻨﺎﻗﺾ ﻣﻦ »ﺗﺤﺘﻢ اﻛﺘﺸﺎف ﴍوط ﻟﻐري املﴩوط«؛ ﻷن اﻟﺘﻔﺴري ﻫﻮ ﺑﺪﻗﺔ إﻳﺠﺎد ﴍوط اﻟﴚء. وﻟﺬﻟﻚ ،ﻓﺎملﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺗﺤﺎول إﻳﺠﺎد ﻃﺮق ﺟﺪﻳﺪة ﻟﺘﻔﺴري »ﻏري املﴩوط« أو »املﻄﻠﻖ«؛ ﻓﻔﻲ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﺗُ ﱠ ﻔﴪ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻃﻠﺐ ﴍوط ﻟﻠﴩوط .وﰲ اﻋﺘﻘﺎد ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ أن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﴍﻋﻴﺔ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﻢ؛ ﻓﺎملﺮء ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻪ دوﻣً ﺎ أن ﻳﺴﻌﻰ وراء ﺗﻔﺴريات ﺳﺒﺒﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ ﺳﺒﺐ ﻧﻬﺎﺋﻲ ﻟﻔﻌﻞ ﻫﺬا .ﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ، ﻓﺎﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺆدﱢي وﻇﻴﻔﺘَﻪ إﻻ ﰲ ﻋﺎ َﻟ ٍﻢ ﻗﺪ ﻛﺸﻒ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺴﺘﺴﺎغ ً ً ﻓﻜﺮ أوﺻﺎﻓﺎ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻟﻪ) .وﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺳﺘﺸ ﱢﻜﻞ وﻣﻔﻬﻮم »ﻗﺒﻞ« أن ﻧﻄﻠﺐ ﻻﺣﻘﺎ ﺟﻮﻫ َﺮ ِ ً وﺻﻔﺎ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ (.وﻳﻌﺘﱪ ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﻣﺎ ﻳﻨﺸﺄ ﻋﻦ ﻣﺬﻫﺐ إﺳﺒﻴﻨﻮزا »ﻋﺪﻣﻴﺔ«؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺪﱢم ﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﻔﻬﻢ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ،ﻓﻴﺠﺐ أن ﻳ َ ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮن ﺑﻬﺎ اﻟﻮﺟﻮد ً ُﻮﺿﻊ ﺳﺒﺐ اﻻﻧﺨﺮاط ﰲ اﻟﻨﺸﺎط اﻟﻌﻠﻤﻲ ﰲ ﻧﻄﺎق اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺒﴩي .ﻟﻜﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﻫﻲ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﴍﻋﻨﺔ اﻟﻔﻌﻞ، وﻫﺬه ﻫﻲ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻴﻜﻮن ﺣﻠﻬﺎ ﻫﻮ ﻓﻬﻢ »املﻄﻠﻖ«. وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻢ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﺳﺘﻜﺸﺎف ﻟﻔﻜﺮة أن اﻟﺬاﺗﻴﺔ »ﻏري ﻣﴩوﻃﺔ« .وﰲ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ ﺧﻼل اﻟﻔﱰة ﻣﺎ ﺑني ١٧٨٩و ١٧٩٠ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﻟﺠﻌﻞ ﻛﺎﻧﻂ أﻛﺜﺮ إﻗﻨﺎﻋً ﺎ ﻟﺠﻤﻬﻮر أﻋﺮض ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ،أﴏﱠ ﻛﺎرل ﻟﻴﻮﻧﻬﺎرد راﻳﻨﻬﻮﻟﺪ ﻋﲆ أن اﻟﻔﻜﺮ ﰲ ﺣﺎﺟﺔ ﻷﺳﺎس إذا ﻛﺎن ﱠ ُ ﺗﺴﻠﺴ ٍﻞ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي وﺻﻔﻪ ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ،ورأى أن »ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻳﺘﻌني ﺗﺠﻨﱡﺐ ً ُﺪرﻛني اﻟﻮﻋﻲ« ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﴩوﻃﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ أﺳﺎﺳﺎ ﻫﻲ ﻣﺎ ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ أن ﻧﻜﻮن ﻣ ِ ﻟﻠﴩوط .وأ ﱠﻛﺪ ﻣﻴﻤﻮن ﻋﲆ أن ﺗﻤﻴﻴﺰ ﻛﺎﻧﻂ ﺑني اﻟﻘﺎﺑﻞ واﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻲ ﺗﺘﻌﺬﱠر اﺳﺘﻤﺮارﻳﺘﻪ، ﻓﻮﺟﻮد اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻮﺿﻮﻋﻲ ﻣﺴﺘﻨﺒَﻂ ﻣﻦ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ املﻔﱰﺿﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ؛ ﱠ ﻟﻜﻦ ﻣﻘﻮﻟﺔ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺬات وﻟﻴﺲ ﻋﲆ املﻮﺿﻮع ،وﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺴﺒﱠﺐ ﻫﻮ إدراﻛﺎت »اﻟﺬات«. وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺬات-املﻮﺿﻮع ﺗﺴﺘﻠﺰم ﻓﻘﻂ ﻧﻮﻋني ﻣﻦ اﻟﻮﻋﻲ :ﻻوﻋﻴًﺎ ذاﺗﻴٍّﺎ وﻋﺎ ًملﺎ ً ﻣﻨﻔﺼﻼ ،وﻳﻈﻬﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴٍّﺎ؛ ﻷن ﻣﺎ ﻳﻨﺘﺞ إدراﻛﺎت »اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ« ﻣﻮﺿﻮﻋﻴٍّﺎ ﻫﻮ اﻟﺠﺎﻧﺐ »اﻟﻼواﻋﻲ« ﻣﻦ اﻟﺬات .إن ﻓﻜﺮة ﻫﺎﻣﺎن أن اﻟﻘﺎﺑﻞ واﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮﻧَﺎ ﻣﻨﻔﺼﻠني ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ ﻓﻜﺮ ٌة ﻓﺎﺻﻠﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ .وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ واﻟﺘﻠﻘﺎﺋﻴﺔ اﻟﻔﺎﻋﻠﺔ ﰲ اﻟﻈﺎﻫﺮ درﺟﺘني ﻣﺨﺘﻠﻔﺘني ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻨﻔﺲ »اﻟﻔﺎﻋﻠﻴﺔ«، ﻓﺈن اﻟﻔﺠﻮة ﺑني اﻟﺬات واﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺳﺪﱡﻫﺎ ،وﻋﻨﺪﺋ ٍﺬ ﺳﻴُﻨ َ ﻈﺮ إﱃ اﻟﻮﻋﻲ ﻋﲆ أﻧﻪ وﻋﻲ »ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ« ﺑﻤﻌﻨﻴني :ﻓﻬﻮ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﴚء ﻳﻨﺒﺜﻖ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻮﺿﻮ َع املﻌﺮﻓﺔ واﻟﻔﻌﻞ .واﻟﺴﺆال ﻫﻮ :ﻛﻴﻒ ﻳ ﱠ ُﻔﴪ ﻫﺬان املﻌﻨﻴﺎن؟ 40
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻴﺸﺘﻪ ﱠ إن اﻟﻔﺮض املﺤﻮري ﻟﻔﻴﺸﺘﻪ ﻫﻮ أن ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ اﻹرادة اﻟﺤﺮة ﻟﻠﺬات ﻫﻲ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ، ﻓﻴﻤﻜﻦ ﻟﻠﺬات ﻓﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻔﻴﺸﺘﻪ ،ﻓﺈن اﻟﺬات ﺣﺮة اﻹرادة ﻳﺠﺐ ﱠأﻻ ﺗُﻘﻴﱠﺪ ﺑﺄي ﳾء ﺧﺎرج ﻋﻨﻬﺎ؛ ً ﻣﻮﺿﻮع ﺗﺤﺪﱢده اﻟﻘﻮاﻧني ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻔﺴري ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺎ ﻳﻘﻴﱢﺪﻫﺎ َﻟﻜﺎﻧﺖ ﻣﺠﺮد ﻓﻠﻮ ﻛﺎﻧﺖ ٍ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﺼﻮﱡر اﻟﺬوات اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻣﺠﺮد روﺑﻮﺗﺎت ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ — ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻓﻴﺸﺘﻪ — ﻓﻘﺪرة اﻟﺬوات ﻋﲆ »اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ« ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺆ ﱢﻛﺪ ﻋﲆ أن ﻫﺬا ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن واﻗ َﻊ اﻷﻣﺮ؛ ﻓﻤﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ وﻓﻌﻠﻨﺎ ﻟﻴﺲ أﻳﺔ ﻋﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻧﻘﺎﺑﻠﻪ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﺑﻞ ﺣﺮﻳﺘﻨﺎ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﺗﻨﻄﻮي »اﻷﻧﺎ« اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﻋﲆ ﳾء ُﻈﻬﺮ اﻟﺬاﺗﻲ ﺟﺰءًا ﻣﻦ »ﻧﻔﺴﻪ« »ﻣﻄ َﻠﻖ« ،ﻏري ﻣﻘﻴﱠﺪ ﺑﺄي ﳾء ﺧﺎرج ذاﺗﻪ .وﰲ اﻟﺘﺄﻣﻞ ،ﻳ ِ ﰲ ﳾء ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻻ ﻳﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻣﺪﻓﻮﻋً ﺎ ﺑﴚء ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ .واملﻮﻗﻒ اﻟﺬي ﻳﻘ ﱢﺮر ﻓﻴﻪ املﺮء أن ﻳﻜﻮن ﻧﺎﻗﺪًا ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺎملﺮاد ﻫﻨﺎ ،ﻓﺎملﺮء ﺑﻔﻌﻠﻪ ذﻟﻚ »ﻳﺮدع« ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ أﺟﻞ إﻋﻼء ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺪﻻﻟﺔ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ملﺎ ﻳﺘﺤﺘﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻌﻠﻪ ،وﺑﻌﺒﺎرة ﻓﻴﺸﺘﻪ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »اﻷﻧﺎ املﻄﻠﻖ« اﻟﺬي ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﳾء ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﳾء ﱢ وﻣﺆﺳ ًﺴﺎ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ ،اﻷﻧﺎ واﻟﻼأﻧﺎ. ﻏريه ،ﻣﻘﺴﻤً ﺎ ﻧﻔﺴﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﺑ ُ وﻷن املﺮء ﻳﻤﻜﻨﻪ أن ﻳﺮى اﻟﻜﻮن َ ﻄ ُﺮ ٍق ﻣﻤﺎﺛِﻠﺔ — ﺣﻴﺚ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮﻋً ﺎ ً ﻣﻨﻔﺼﻼ ﻋﻦ اﻟﺬات ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻨﺸﺄ اﻟﻮﻋﻲ — ﻓﻠﻴﺲ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ دوﻣً ﺎ ﻛﻴﻒ أﻋَ ﱠﺪ ﻓﻴﺸﺘﻪ ﺗﺼﻮﱡره؛ ﻓﻘﺒﻞ أن ﻳﻮﺟﺪ اﻟﻮﻋﻲ ﻛﺎن اﻟﻜﻮن ﻣﻮﺟﻮدًا »ﰲ ذاﺗﻪ« ،ﺛﻢ أﺻﺒﺢ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﻣﻮﺟﻮدًا »ﻣﻦ أﺟﻞ ذاﺗﻪ« — وﻫﻲ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﺳﻮف ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺟﺎن ﺑﻮل ﺳﺎرﺗﺮ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل، ً ﻻﺣﻘﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﺬات اﻟﻔﺮدﻳﺔ .وﺗﻌﻨﻲ ﻛﻠﻤﺔ — Gegenstandأي املﻮﺿﻮع — اﻟﴚءَ »ﻳﻌﺎرض« ﺷﻴﺌًﺎ َ آﺧﺮ ،واﻟﺬي ﻫﻮ ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷﻧﺎ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻔﻴﺸﺘﻪ ،ﱢ ﻳﻘﺴﻢ »اﻷﻧﺎ اﻟﺬي ِ املﻄﻠﻖ« إﱃ ذات ﻧﺴﺒﻴﺔ وﻣﻮﺿﻮع ،ﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻈﻞ اﻟﺬاﺗﻲ ﻣﺴﻴﻄ ًﺮا ﻋﲆ املﻮﺿﻮﻋﻲ، ﻛﻤﻮﺿﻮﻋﻲ إﻻ ﻋﻦ وإﻻ ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻦ ﻳﺘﻄﻮﱠر أﺑﺪًا .ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ املﻮﺿﻮﻋﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺎﻳﺸﺘﻪ ﱟ ﻃﺮﻳﻖ ذات؛ وﻟﺬا ﻓﺎﻟﺬات ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﺳﺎﺑﻘﺔ .وإذن ،ﻓﺎﻟﻐﺮض ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد إﻧﻤﺎ ﻳﻮﺟﺪ ﰲ ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﺬات ،ﰲ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻌﻤﲇ ﻻ اﻟﻨﻈﺮي. ﻻ ﻳﺰال املﻌﻠﻘﻮن ﻋﲆ ﻓﻴﺸﺘﻪ ﻏري ﻣﺘﻔﻘني ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ؛ ﻓﻜﻴﻒ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ ﺗﻤﺎرس ﺣﺮﻳﺘﻬﺎ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ — املﺜﺎل ﺗﺮﺗﺒﻂ اﻟﺬوات اﻟﺒﴩﻳﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ — اﻟﺘﻲ رﺑﻤﺎ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ِ ﺑﺎملﺒﺪأ اﻟﺘﻮﻟﻴﺪي ﻟﻠﺬاﺗﻴﺔ املﻀﻤﻦ ﰲ »اﻷﻧﺎ املﻄﻠﻖ«؟ ﻳﺼﻒ ﻓﻴﺸﺘﻪ »اﻷﻧﺎ« ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﻋﻤﻞ-ﻓﻌﻞ«، 41
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ »ﺣﻘﻴﻘﺔ« .ﻓ »اﻷﻧﺎ« ﻫﻲ ﺑﺪاﻳﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗُﺴﺘﻤَ ﺪ ﻣﻦ ﳾء ﺳﻮى ﻧﻔﺴﻬﺎ، وإﻻ ﻓﺤﺮﻳﺔ اﻹرادة و َْﻫﻢ .ﻟﻜﻨﻪ ﰲ دﻋﻮاه أن »اﻟﻮﻋﻲ ﺑﴚء ﺧﺎرﺟﻨﺎ ﻟﻴﺲ ﻗﻄﻌً ﺎ ﺳﻮى ﻧﺘﺎج ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﻜري« ،ﻳﺠﻌﻞ »اﻟﻮﻋﻲ« ﺑﺎﻟﴚء ﺧﺎرﺟﻨﺎ ﻫﻮ وﺣﺪه ﻧﺘﺎج ﻗﺪرﺗﻨﺎ ﻋﲆ ً ﺷﻜﻼ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري ،وﻟﻴﺲ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ؛ وﻟﺬا ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﻘﺪﱢم املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﻟﻜﺎﻧﻂ .ﻟﻜﻦ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻔﻬﻢ »اﻷﻧﺎ« ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ دون ﺗﺤﻮﻳﻠﻬﺎ إﱃ ﻣﻮﺿﻮع؟ وﺟﻮاب ﻓﻴﺸﺘﻪ أن ﻫﺬا ﻳﺤﺪث ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ »ﺣﺪس ﻋﻘﲇ«» ،أﻋﺮف ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ اﻟﴚء؛ ﻷﻧﻨﻲ أﻗﻮم ﺑﻪ«ً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻛﴚء ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ .وﻳﺪور ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﺎﱄ ﻟﻠﻤﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺣﻮل ﺗﺪاﻋﻴﺎت ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ. واﻟﺴﺒﺐ ﻫﻮ أن ذﻟﻚ اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﻒ ﺑﻬﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﺗﺼﺎ َل اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﻘﺪ رأى ﻛﺎﻧﻂ اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ املﻤﻴﱢﺰ ﻟﻺﻟﻪ ،اﻟﺬي ِ َ إﻣﻜﺎن وﺟﻮ ِد ﻳﺨﻠﻖ املﻮﺿﻮع اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ؛ وﻛﺎن ﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻪ أﻧ َﻜ َﺮ ذﻟﻚ اﻟﺤﺪس ﻟﺪى ﻋﻘﻮل ﻣﺤﺪودة ﻣﺜﻞ ﻋﻘﻮﻟﻨﺎ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻔﻴﺸﺘﻪ ،ﻓﺈن اﻟﺘﺰاﻣﻦ ﰲ اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻔﻌﻞ اﻟﺘﻔﻜري ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳُﻔ ﱠﻜﺮ ﻓﻴﻪ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺘﻐ ﱠﻠﺐ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﻔﺠﻮة ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﺎﻟﻢ. وﻟﻜﻦ أﻟﻴﺲ ﻫﺬا — ﻛﻤﺎ ﺳﻴﻌﱰض ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ — ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺮﺟﺴﻴﺔ ﻳﻌﻜﺲ ﻓﻴﻪ اﻟﺘﻔﻜري ً َ ﻣﺠﺎﻻ ﻧﻔﺴﻪ أﻣﺎم ﻧﻔﺴﻪ ﻓﺤﺴﺐ؟ ﻳﺒﺪو أن اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ وﺿﻌﻬﺎ ﻓﻴﺸﺘﻪ ﻋﲆ اﻟﺬات ﻻ ﺗﱰك ﻷي اﺳﺘﻘﻼل ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،اﻟﺬي ﻳﺼﺒﺢ ﻣﺠﺮد ﻣﻮﺿﻮع ﻟﻠﻔﺎﻋﻠﻴﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ .وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن ﺗﱪﻳﺮ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ »اﻷﻧﺎ« ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻓﻌﻞ اﻟﺤﺪس اﻟﺒﴩي اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻓﻘﻂ ﻋﱪ ﻓﻌﻞ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺘﺼﻞ ﺗﺄﻣﱡ ﻞ ذات واﺣﺪة ﺑﺘﺄﻣﱡ ﻞ ذات أﺧﺮى؟ إن ﺗﺄﻛﻴﺪ ﱡ اﻟﺘﻐريات اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ ﰲ ﻓﻴﺸﺘﻪ ﻋﲆ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﻳﻌﻜﺲ أﻳﻀﺎ ﻳُﻮﺣﻲ ﺑﺎﻷﺧﻄﺎر .وﻣﻦ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ إﱃ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ وﻣﺎ وراءﻫﻤﺎ ،ﻳُﻨ َ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻟﻜﻨﻪ ً ﻈﺮ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ إﱃ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺪاﻓﻊ اﻟﺬات إﱃ اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﻌﺎرﺿﻬﺎ. ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ً ﻣﻮﻗﻔﺎ ﻗﺮﻳﺒًﺎ ﻣﻦ ﻣﻮﻗﻒ ﻓﻴﺸﺘﻪ ،ﻳﺨﻠﺺ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ إﱃ اﺗﻬﺎم ﻓﻴﺸﺘﻪ ﺑﻌﺪ أن ﻃﺮح ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺑﺎﺧﺘﺰال اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﻐﺎﻳﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻓﻬﻤﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺼﺪر ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ واﻟﻐﺎﻳﺔ .وﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩُ ،ر ِﺑﻂ ﺗﻄﻮﻳﺮ إﻋﻼء ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻘﻴﻤﺔ ﺟﻤﺎل وﻋﻈﻤﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻏري اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ اﻻﻫﺘﺪاء ﰲ ﻋﺎ َﻟ ٍﻢ ﻳﺘﺰاﻳﺪ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ 42
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
َ وﺛﻴﻖ أﻧﻪ ﻳﻔﺘﻘﺮ إﱃ اﻷﺳﺲ اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ ،وﻛﺎن ﻇﻬﻮر ﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل ﰲ اﻟﻨﻘﺪ اﻟﺜﺎﻟﺚ ﻟﻜﺎﻧﻂ ً اﻟﺼﻠﺔ ً ﻣﺼﺎدﻓﺔ إذن أن أﻳﻀﺎ ﺑﺈﻋﺎدة ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ،ﻓﻠﻴﺲ ﻳﺤﺎول ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ أن ﻳﻄ ﱢﻮ َر ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،وﻳﺮى اﻟﻔﻦ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻃﺮﻳﻘﺔ ِ ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﺎﻟﻢ. إن أﻓﻀﻞ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﺘﻨﺎول »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ« ﻟﺪى ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ إﻧﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل ﻓﻜﺮة »اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ اﻟﺬاﺗﻲ«؛ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻄﻮر ﻧﻈﺎم ﻋﻀﻮي ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻔﺎﻋُ ﻞ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻪ ﻳﺼﺒﺢ أﻛﱪ ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮع أﺟﺰاﺋﻪ املﺎدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺤﻜﻤﻬﺎ اﻟﻘﺎﻧﻮن .وﻳﺮى ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻌﻀﻮي ﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑﺤﺮﻳﺔ اﻹرادة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؛ ﻷن ﻛﻠﻴﻬﻤﺎ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ أﻛﱪ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺮﻳﺮ ﻋﻦ ً ﻣﻼءﻣﺔ ﻧﺤﻮ أﻛﺜﺮ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .وﺗﺘﻀﺢ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﺮﺑﻂ أﻧﻔﺴﻨﺎ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﲆ ٍ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺪﻳﻜﺎرﺗﻲ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ» :ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء أن ﻳﺪﻓﻊ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺎء ﻣﻦ املﻮاد اﻟﻌﺎﺑﺮة اﻟﻜﺜرية … ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة ،ﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ أﺣﻴﺎﻧًﺎ أن ﺗﺄﺗﻲ املﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮن َ ﺗﻔﺮﻗﺔ إﺳﺒﻴﻨﻮزا ﺑني اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ »املﻨﺘﺠﺔ« ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﻘﻞ واملﺎدة ﻛﻴﺎﻧًﺎ واﺣﺪًا «.وﻳﺘﻨﺎول ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ و»املﻨﺘﺠﺎت« املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻴﻤﺎ أﺳﻤﺎه .natura naturataﻓﺎﻷوﱃ ﺗﺸري إﱃ ﻣﻔﻬﻮم ﺑﺪﻳﻞ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻧﺠﺪه ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺑﺸﺄن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻨﺎ أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ اﻟﺤﻴﺎة وﺗﺘﻄﻮر إﱃ أﺷﻜﺎل ﺟﺪﻳﺪة؛ ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﺗﻌﺘﻤﺪ اﻟﻌﻠﻮم ﻋﲆ ﺗﺤﻠﻴﻞ اﻷﺟﺰاء ،ﺗﻬﺘﻢ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎﻟﺮواﺑﻂ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﺑني ﺗﻠﻚ اﻷﺟﺰاء .وﰲ ﺿﻮء اﻷزﻣﺔ اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ ،ﻓﺈن ذﻟﻚ اﻟﻨﻬﺞ ﻳﺒﺪو ذا ﺑﺼرية؛ ﻓﻬﻮ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ أن اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﺘﺠﺰﻳﺌﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻏري ﻗﺎدر ﻋﲆ ﻓﻬﻢ ﺗﻔﺎﻋﻞ اﻟﺠﻮاﻧﺐ املﻨﻔﺼﻠﺔ — وإن ﻛﺎﻧﺖ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻣﺘﺼﻠﺔ — ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻛﻜﻞ .وﺗﻬﺪف ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﺪى ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ إﱃ رﺑﻂ »اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻏري اﻟﻮاﻋﻴﺔ« ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑ »اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ اﻟﻮاﻋﻴﺔ« ﻟﻠﻌﻘﻞ .واﻟﻔﻜﺮ ﻫﻮ اﻟﻨﻘﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻨﺪﻫﺎ »ﺗﻌﻮد اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ إﱃ ﻧﻔﺴﻬﺎ« ،وﻫﻮ ﻳﻜﺸﻒ أن »اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﺘﻄﺎ ِﺑﻘﺔ ﰲ اﻷﺳﺎس ﻣﻊ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﺮوف ﻓﻴﻨﺎ وواع «.ﻓﺪون ﻓﻜﺮ ﺗﻜﻮن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻣﺒﻬﻤﺔ ،وﺑﺪون اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻻ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ اﻟﻔﻜﺮ ﻋﲆ أﻧﻪ ذﻛﻲ ٍ ً إﻃﻼﻗﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎملﻬﻤﺔ ﻫﻲ ﻓﻬﻢ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ اﻟﻼواﻋﻴﺔ إﱃ اﻟﻮاﻋﻴﺔ. ﻣﻦ اﻟﺤﺪوث وﻫﻨﺎ ﻳﻈﻬﺮ اﻧﻘﺴﺎم ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺑني اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻌﻰ إﱃ وﺻﻒ ﺗﺼﻮﱡري ﻛﺎﻣﻞ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﺗﺼﺎل اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ واملﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺘﻜﻢ إﱃ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﻼﺗﺼﻮرﻳﺔ ﻣﻦ »اﻟﺤﺪس« ،وﺧﻄﻮرة اﻷﺧرية أﻧﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺆدﱢي إﱃ إﻫﻤﺎل اﻟﺤﺠﺔ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﺗﻮﺟﺪ أﺳﺒﺎب ِﺟ ﱢﺪﻳﱠﺔ ﻷﻧﻮاع ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻻﺣﺘﻜﺎم إﱃ »اﻟﺤﺪس« .وﻳﺆﻛﺪ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻧﻈﺎم املﺜﺎﻟﻴﺔ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ« ) (١٨٠٠أن اﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻨﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﺠﺴﻴﺪ املﻮﺿﻮﻋﻲ ﻟ »اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ«. 43
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
وإذا ﻛﺎن اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ واﻗﻌً ﺎ داﺧﻞ اﻟﺬات ،ﻛﺤﺎل املﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻔﻌﻞ ﻟﺪى ﻓﻴﺸﺘﻪ، ﻓﻤﻦ ﻏري اﻟﻮاﺿﺢ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻠﻌﺐ دو ًرا ﺗﺴﻮﻳﻐﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺸﻴﻠﻴﻨﺞ، ً إﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻏري واﻋﻴﺔ ﺗﺄﺧﺬ اﻟﻔﻨﺎن إﱃ وراء ﻣﺎ ﺗﺤﻜﻤﻪ ﻗﻮاﻋ ُﺪ اﻟﻮﺳﻴﻂ ﻳﺘﻄ ﱠﻠﺐ إﻧﺘﺎج اﻟﻔﻦ اﻟﻔﻨﻲ املﻮﺟﻮدة .وﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻇﻬﺎر ﻫﺬه اﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ اﻟﻼواﻋﻴﺔ ﰲ ﳾء ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﻳﻤﻜﻦ ُﻈﻬﺮ اﻟﻔﻦ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ أن ﺗﻘﻮﻟﻪ؛ وﻣِﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن اﻟﻔﻦ ﻫﻮ واع ،ﻳ ِ إدراﻛﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ٍ »أداة« اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻫﻮ وﺳﻴﻂ ﺳﻬﻞ املﻨﺎل ﻟﻠﻌﺎﻣﺔ ﱢ ﻳﻌﱪ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺗﺼﺎل اﻟﻮاﻋﻲ ﺑﺎﻟﻼواﻋﻲ. وإذا ﻧﻈﺮﻧﺎ إﱃ ﻋﻤﻞ ﻓﻨﻲ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻮﺿﻮع ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺤﺪﱢده اﻟﺘﺼﻮﱡرات ،ﻓﻠﻦ ﻧﻔﻬﻢ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﻐﻴريُ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺬات ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ؛ ﻓﺎﻟﻔﻦ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻓﻌﻞ ﻫﺬا ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ دوﻣً ﺎ ﺗﻔﺴريه ﻧﺤﻮ ﻣﺎ؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻘﺮﻳﺮه ﺑﻄﺮق ﺟﺪﻳﺪة ،وﻫﺬا ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻔﻦ »ﻻ ﻣُﺘﻌﻴﱠﻨًﺎ« ﻋﲆ ٍ ً ﺑﺼﻮرة ﻗﺎﻃﻌﺔ .وﻟﻜﻦ ً ﱡ اﻟﻼﺗﻌني — اﻟﺬي ُﻈﻬﺮ ﻫﺬا ﺑﺪﻻ ﻣﻦ أن ﻳﻜﻮن إﺧﻔﺎﻗﺎ ﻓﻠﺴﻔﻴٍّﺎ ،ﻳ ِ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ — ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺴﻤﻮ ﻓﻮق ﻋﺎﻟﻢ املﻌﺮﻓﺔ املﺘﻨﺎﻫﻴﺔ، ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻌﻤﻞ »ﻻ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴًﺎ« ﻋﲆ ٍ دون إﻃﻼق دﻋﺎوى ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ »دوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ«. ﻛﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ ،وﻳﺮى أﻧﻪ ﻟﻮ و ُِﺟﺪ ﺗﻨﺎﻏﻢ ﻻ ﻳﺆﻳﱢﺪ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻓﻜﺮة اﻟﻔﻦ ٍ ﺑني اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ ﻓﺈن اﻟﺤﺮﻳﺔ ﺳﺘﻜﻮن ﻣﺠﺮد ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻐﺮض اﻟﻌﺎم ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ، وﺳﻴﻜﻮن ﻛﻞ ﳾء ﻣﻘ ﱠﺮ ًرا ً ﺳﻠﻔﺎ .وﻣﻦ ﺣﻮاﱄ ﻋﺎم ١٨٠٩ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،ﻳﺨﻠﻊ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻋﲆ َ ﺻﻔﺔ اﻟﺮادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ رؤﻳﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﻓﻌﻞ اﻟﴩ ،ﻣﻦ ﺧﻼل ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻧﺤﻮ ﻻ ﺗﺤﻜﻤﻪ اﻷﻋﺮاف املﻮﺟﻮدة .ودون ﻫﺬه اﻹﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﺈن اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﲆ إرادة املﺮء ﻋﲆ ٍ »ﺟﻮﻫﺮ« اﻟﺤﺮﻳﺔ — اﻟﺬي ﻳﺘﻄ ﱠﻠﺐ ﺷﻌﻮ ًرا ﺑﺎﻧﻔﺘﺎح ﻣﺤﺘﻤﻞ — ﻳﻜﻮن ﻣﻔﺘﻘﺪًا .ﻻ ﻳﻨﻜﺮ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ اﻟﴬورﻳﺎت ﰲ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ وﻻ ﱠ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ، ً اﺣﺘﻤﺎﻻ وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﻮ ﻳﺸ ﱢﻜﻚ ﰲ ﻓﻜﺮة أن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﻔﺴري وﺟﻮد ذاﺗﻪ؛ وﻟﺬا ﻳﻘﺪﱢم ٍ ﺧﻼف ﻣﻊ ﻣﴩوع املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﺎﻟﻢ. أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺬي ﻫﻮ ﻋﲆ وﺗﺼﺒﺢ ﻣﻬﻤﺔ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻫﻲ ﻓﻬﻢ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻇﻬﻮر اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻔﻬﻮم أﺻﻼً ﻣﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﻗﺒﻞ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ .ﻓﻤﻨﺬ ﺣﻮاﱄ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﺣﺘﻰ وﻓﺎﺗﻪ ﻋﺎم ،١٨٥٤ﻳﺸ ﱢﻜﻚ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﰲ ﻧﻔﺲ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ إدراك أﻫﺪاف املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ: ﺑﻌﻴﺪًا … ﻋﻦ اﻹﻧﺴﺎن وﻓﺎﻋﻠﻴﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ً ﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﻔﻬﻢ ،ﻓﺈن اﻹﻧﺴﺎن ﻧﻔﺴﻪ ﻫﻮ اﻷﻛﺜﺮ اﺳﺘﻌﺼﺎءً ﻋﲆ اﻟﻔﻬﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار إﱃ اﻟﻘﻮل ﺑﺘﻌﺎﺳﺔ ﻛﻞ اﻟﻮﺟﻮد … إﻧﻪ — أي اﻹﻧﺴﺎن — ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ ﺑﺪﻗﺔ إﱃ اﻟﺴﺆال اﻟﻴﺎﺋﺲ اﻷﺧري :ملﺎذا ﻳﻮﺟﺪ أي ﳾء ﻣﻦ اﻷﺳﺎس؟ وملﺎذا ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻋﺪم؟ 44
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
إﻧﻪ ﻳﻈﻦ أن ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻫﻴﺠﻞ ﻟﺤ ﱢﻞ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﻬﺎ ﻳﺘﻤ ﱠﻜﻦ »اﻹﻧﺴﺎن وﻓﺎﻋﻠﻴﺘﻪ ﻣﻦ ﺟﻌﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ« ﺗﺨﻔﻖ ﰲ ﻣﺠﺎﺑﻬﺔ اﻟﺘﻨﺎﻓﺮ ﺑني اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻮﺟﻮد اﻟﺬي ﻳﻤﺘ ﱡﺪ إﱃ ﺻﻤﻴﻢ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻨﺎ ﻟﻔﻬﻢ أﻧﻔﺴﻨﺎ .وﻫﺬا اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﺘﻨﺎﻓﺮ ﻳﻘﻮد ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ إﱃ ﺗﺄﻣﱡ ﻼت ﺟﺪﻳﺪة ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺗﺼﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺄﺷﻜﺎل اﻟﺘﻔﻜري املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻲ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻋﻦ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ. ﻫﻴﺠﻞ
ﺷﻜﻞ :2-3ﺟﻮرج ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻫﻴﺠﻞ.
2
ﻳﺸﺘﻬﺮ ﻫﻴﺠﻞ ﺑﺪﻋﺎوى ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ »اﻟﻮاﻗﻌﻲ ﻫﻮ اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ« ،واﻟﺘﻲ ﻳﺒﺪو أﻧﻬﺎ ﺗﻮﺣﻲ ﻧﺤﻮ ﻋﻘﻼﻧﻲ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﺗﺨﺎﻟﻒ ﺑﻌﺪم وﺟﻮد أﺳﺎس ﻓﻠﺴﻔﻲ ﻟﻠﺸﻚ ﰲ ﻣﺪى ﺗﺸ ﱡﻜﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ ٍ ﻧﺤﻮ ﺻﺎدم اﻟﺘﺄﻛﻴﺪات املﻘﺘﺒ ََﺴﺔ ﺗﻮٍّا ﻣﻦ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ .وﻗﺎدت ﻫﺬه اﻟﺪﻋﺎوى ﻛﺎرل ﻣﺎرﻛﺲ ﻋﲆ ٍ َ وآﺧﺮﻳﻦ إﱃ رؤﻳﺔ ﻫﻴﺠﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺪاﻓﻊ ﻋﻦ واﻗﻊ ﺳﻴﺎﳼ ﻏري ﻋﺎدل ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ 45
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻻ ﺗﺰال إﻗﻄﺎﻋﻴﺔ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ وﻫﻴﺠﻞ ﺻﺪﻳﻘني ﺣﺘﻰ اﺧﺘ َﻠ َﻔﺎ ﻗﺒﻴﻞ وﻗﺖ ﻧﴩ ﻫﻴﺠﻞ ﻟﻜﺘﺎﺑﻪ »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح« )ﺣﻴﺚ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺮﺟﻤﺔ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ Geistﻋﲆ ﻛﻼ اﻟﻮﺟﻬني ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ اﻟﺴﻴﺎق( ﻋﺎم .١٨٠٧ﻓﻜﻴﻒ اﺧﺘ َﻠ َﻔﺎ ﰲ ﺗﻘﻴﻴﻤﺎﺗﻬﻤﺎ ﻟﻘﺪرة اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ؟ إﺣﺪى اﻟﻄﺮق ﻟﻺﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﻫﺬا ﺗﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺴﺆال ﻋﻦ »اﻟﺤﺪس« وﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﻤﺬﻫﺐ اﻟﺸﻚ؛ ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻳﺴﻌﻰ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ إﱃ ﺗﺮﺳﻴﺦ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻳﺘﻀﺢ ﺟﺎز ٍم ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻨﻬﺎ. أن ﻛﺜريًا ﺟﺪٍّا ﻣﻦ اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ املﻌﺘﻨ َ َﻘﺔ ﻋﲆ ٍ ﻧﺤﻮ ِ ﻣﺘﺴﺎو إﱃ اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة، ﻧﺤﻮ ٍ وﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﻀﻤﻦ ﱠأﻻ ﻳﺘﻄ ﱠﺮق اﻟﺸ ﱡﻚ ﻋﲆ ٍ ﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ وأن اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺤﻴﺎ ﻋﲆ ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻧﻈﺮﻳﺎت وإﺣﻼل أﻓﻀﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻣﺤﻠﻬﺎ؟ ﻳ َ ُﻘﺼﺪ ُ إﻗﺎﻣﺔ ٍ ﺻﻠﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﺑني اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻮاﻗﻊ ﺗﺘﻔﺎدى ﻣﺬﻫﺐ اﻟﺸﻚ، ﺑﺎﻻﺣﺘﻜﺎم إﱃ اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ ﻟﻜﻦ ﻓﻴﺸﺘﻪ وﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻳﺸﱰﻛﺎن ﰲ ﻣﺴﺄﻟﺔ أن ﻓﻜﺮة اﻟﺤﺪس ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻨﻬﺎ ﰲ ﺗﺼﻮرات؛ ﻓﻬﻲ إﻣﺎ ﳾء اﻷﻓﺮاد اﻷﺣﺮار ﻓﻘﻂ ﻫﻢ اﻟﻘﺎدرون ﻋﻠﻴﻪ )ﻓﻴﺸﺘﻪ( ،وإﻣﺎ ُﻈﻬﺮه اﻟﻔﻦ ﻣﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎط اﻟﺬاﺗﻲ واملﻮﺿﻮﻋﻲ )ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﰲ ﳾء ﻧﻔﻬﻤﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺎ ﻳ ِ اﻟﺒﺪاﻳﺔ(. ً ﺟﺪﻻ ﺑﺎﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ ﰲ ﺑﺪاﻳﺔ ﻧﻈﺎم ﻓﻠﺴﻔﻲ ﻳﺮى ﻫﻴﺠﻞ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻛﺄﺳﺎس ﺗﺒﻨﻰ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺒﻘﻴﺔ ،وإﻧﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻓﻘﻂ ﺑﻌﺪ أن ﺗﻜﻮن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻗﺪ ﻋﺎﻳ ََﺸ ِﺖ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻔﺎﻋﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻮاﻗﻊ ﱠ وﻋﱪت ﻋﻨﻬﺎ ،وﻫﺬه اﻟﻄﺮق ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﱰاوح ﺑني ردود اﻷﻓﻌﺎل اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗﺠﺎه ﺑﻴﺌﺘﻬﺎ وأﻋﲆ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺘﺼﻮري ،اﻟﺬي ﺗﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ أﺻﺒﺤﺖ ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻤﻜﻨﺔ .وﻳﺘﻤﺜﱠﻞ اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻟﻔﺎﺻﻞ ﰲ ﺗﻘﻴﻴﻢ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﻴﺠﻞ ﻫﻨﺎ ﰲ ﺑﻴﺎن ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا ردٍّا ﻛﺎﻓﻴًﺎ ﻋﲆ ﻣﺎ ﺗﺘﻀﻤﻨﻪ ﻗﻀﻴﺔ اﻟﺤﺪس. ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻫﻴﺠﻞ ،ﻓﺈن ﻓﻬﻢ »اﻟﺴﺒﺐ« ﰲ أن دﻋﺎوى ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﱠ ﻳﺘﺒني زﻳﻔﻬﺎ أﻣ ٌﺮ ِ »ﻣﺒﺎﴍ«، ﻳﻘﻠﺐ املﺬﻫﺐ اﻟﺸﻜﻲ ﺿﺪ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻫﺬا ﻷن املﻌﺮﻓﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أﺑﺪًا أن ﺗﺒﺪأ ﻣﻦ ﳾء ﺑﻤﻌﻨﻰ ﳾء ﻻ ﻳﺤﺘﺎج أن ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﺄي ﳾء َ آﺧﺮ ﻟﻴﻜﻮن ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻋﻠﻴﻪ .ﻓﺘﻮﺻﻴﻔﺎت اﻟﻨﻈﺎم »ﻣﺒﺎﴍة« ﺗُ ﱠ ِ ﻔﴪ ﺑﻌﺪ ذﻟﻚ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ ،ﺑﻞ ﺗﺒﺪأ اﻟﺸﻤﴘ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻻ ﺗﺒﺪأ ﺑﻤﻌﻄﻴﺎت ﺑﺘﻔﺴري ﻣﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻲ »ﻣﺘﻮﺳﻂ« ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻷﺟﺮام اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ .واﻛﺘﺴﺐ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ً ً ﺗﻐري ﻣﺠﺪدًا ﻋﻨﺪﻣﺎ أوﺿﺢ ﻛﻮﺑﺮﻧﻴﻜﻮس ﺻﺒﻐﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻔﻠﻚ اﻟﺒﻄﻠﻤﻲ ،ﺛﻢ ﱠ َ ً ﻣﻌﻘﻮﻟﻴﺔ ﺗﻨﺸﺄ وﺟﺎﻟﻴﻠﻴﻮ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺸﻤﴘ املﺘﻤﺮﻛﺰة ﺣﻮل اﻟﺸﻤﺲ .ﻓﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻷﻛﺜﺮ ِ املﺒﺎﴍ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ. ﻋﻦ ﻛﺸﻒ اﻟﻨﻘﺎﺋﺺ ﰲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ،وﻟﻴﺲ ﻋﻦ اﻟﻮﺻﻮل 46
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
وﻳﺴﻤﱢ ﻲ ﻫﻴﺠﻞ ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ »اﻟﻨﻔﻲ ﱠ املﻌني«؛ ﻓﺎﻟﻨﻈﺮﻳﺎت املﻔﻨﺪة ﻻ ﺗُﻄ َﺮح ﺟﺎﻧﺒًﺎ ،ﺑﻞ ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻮﺿﻊ ﻧﻈﺮﻳﺎت أﻓﻀﻞ .ﻓﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﱢ ﺗﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ أن ﻛ ﱠﻞ ﻓﻬﻢ ﻣﻌني ﻟﴚء ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻗﺼﻮر ﻳﻘﻮد إﱃ وﺻﻒ أﻛﻤﻞ .وﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،ﻳﺆدﱢي إﻇﻬﺎر أوﺟﻪ اﻟﻘﺼﻮر ﺗﻠﻚ إﱃ اﻟﺘﻌﺒري ﰲ ﻧﻈﺎم ﻓﻠﺴﻔﻲ ﻋﻦ ﻛﻞ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻸﺷﻴﺎء أن ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ .وﻳﺒﻠﻎ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ذروﺗﻪ ﰲ »اﻟﻔﻜﺮة املﻄﻠﻘﺔ«؛ أي ﺑﻴﺎن اﻟﺴﺒﺐ ﰲ أن ﻛ ﱠﻞ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﺑﺤﻘﺎﺋﻖ أﺧﺮى ﻟﺘﱪﻳﺮﻫﺎ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ دﻋﺎوى إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﺣﺎﺳﻤﺔ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻢ إﻇﻬﺎر أوﺟﻪ اﻟﻘﺼﻮر ﰲ ﻛﻞ اﻟﺪﻋﺎوى اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ. ﱠ ﻳﺘﻌﻘﺐ ﻛﺘﺎب »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح« اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ املﺘﻀﻤﻨﺔ ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ »ﻇﻬﻮر« اﻟﻌﻘﻞ .وﺗﺘﻀﺢ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة أن اﻟﻌﻘﻞ ﻳَﻈﻬﺮ ،ﻻ ﻛﻮﻧﻪ اﻟﴚء اﻟﺬي ﻳﻈﻬﺮ ﻟﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻟﻌﻞ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﺬات أن ﺗﻜﻮن ﻋﲆ اﺗﺼﺎل ﺣﻘﻴﻘﻲ ﺑﺎملﻮﺿﻮع ﻫﻮ اﻷﺳﻠﻮب اﻟﺨﻄﺄ ﻟﺘﻨﺎول ﻧﻈﺮﻳﺔ املﻌﺮﻓﺔ .وﻳﺴﺘﺨﺪم ﻫﻴﺠﻞ ﻣﺠﺎ ًزا ﺗﻌ ﱡﻠﻢ اﻟﺴﺒﺎﺣﺔ؛ ﻓﺈذا ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻞ املﺮء إﱃ املﺎء ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺗﻌﻠﻢ اﻟﺴﺒﺎﺣﺔ ،وﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻻ ﺗﺘﺴﻨﻰ ﻟﻠﻤﺮء املﻌﺮﻓﺔ دون اﻻﻧﻐﻤﺎس ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ .وﻳﻌﻄﻲ ﻛﺘﺎب ً وﺻﻔﺎ ﺗﺘﺒﻌﻴٍّﺎ ﻟﻠﻌﻼﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺑني اﻟﺬات واملﻮﺿﻮع، »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح« اﻷﻣﺮ اﻟﺬي رآه ﻛﺎﻧﻂ ﰲ ﺻﻮرة ﻣﻘﻮﻻت ﴎﻣﺪﻳﺔ ﻟﻠﻔﻜﺮ؛ ﻓﻠﻜﻲ ﻳﺘﻄﻮر اﻟﻔﻜﺮ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ﻳﺘﺤﺘﻢ أن ﻳﻜﻮن ﳾء ﻣﺎ ﻣﻔﻘﻮدًا .وﺣﺘﻰ ﻋﲆ املﺴﺘﻮى اﻟﻐﺮﻳﺰي ،ﻳﻜﻮن ﺟﻮﻫﺮ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﴚء املﻔﺘﻘِ ﺪ ﻟ »ﻏريه« ﺣﺎﴐً ا ،ﻓﺎﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺤﻴﺔ ﺗﺤﺘﺎج ﻃﻌﺎﻣً ﺎ وﺗﺤﺘﺎج إﱃ اﻟﺘﻜﺎﺛُﺮ ،ودون وﺟﻮد َ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻨﻪ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ وﻟﻴﺲ ﻧﻔﺴﻪ »اﻵﺧﺮ« ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ اﻟﻮﺟﻮد؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻜﻮن ﻛﻞ ﳾء ﰲ ٍ اﺣﺘﻴﺎج ﻣﺎ ﰲ ذات اﻟﻮﻗﺖ :ﻓﺎﻟﻄﻌﺎم اﻟﺬي ﺗﺄﻛﻠﻪ ﻟﻴﺲ أﻧﺖ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳُﺼ ِﺒﺢ أﻧﺖ .واﻟﺘﻐﻠﺐ ﻋﲆ ٍ َ أﺳﺎس ﻣﺰﻳ ٍﺪ ﻣﻦ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺬات ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ املﻮﺿﻮع ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻟﻴﺲ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ اﻟﺘﻄﻮﱡر .وﻟﻜﻦ ،ﻓﻘﻂ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻄﻮر وﻋﻲ ﻣﺴﺘﺪام ﺑﺎﻻﻋﺘﻤﺎدﻳﺔ ﺗﻨﺸﺄ اﻟﻔﻜﺮة ﰲ ﺷﻜﻞ — ً ﻣﺜﻼ — ذﻛﺮى ﻣﺎ ﻳﻠﺒﻲ اﻟﺤﺎﺟﺔ. وﻗﺪ أﺷﺎر ﺗريي ﺑﻴﻨﻜﺮد إﱃ ﺗﺼﻮﱡر ﻫﻴﺠﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ وﺻﻒ ﻟ »اﻟﺴﻠﻮك اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻟﻠﻌﻘﻞ«؛ إذ ﻳﴩح ﻛﺘﺎب »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح« ﻛﻴﻒ ﻳﺴﻤﺢ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﺑﺄﻧﻮاع ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني اﻟﻨﺎس واﻷﺷﻴﺎء .وﻣﻦ ﻣﻨﻄﻠﻖ املﻮﻗﻒ اﻟﺬي ﺗﺮى ﻓﻴﻪ اﻟﻨﻔﺲ َ اﻵﺧﺮ دوﻣً ﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻬﺪﻳﺪ — ﻳﻘﺼﺪ ﻫﻴﺠﻞ ﻫﻨﺎ ﻣﻘﻮﻟﺔ ﻫﻮﺑﺰ »ﺣﺮب اﻟﺠﻤﻴﻊ ﺿﺪ اﻟﺠﻤﻴﻊ« اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺒﻖ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﻘﺎﻧﻮﻧﻴﺔ — ﺗﻨﺸﺄ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻓﱰاض أن َ اﻵﺧﺮ ﻟﻪ ﺣﻘﻮق ﻛﻤﺎ ﱄ َ واﻵﺧﺮ ،ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﻟﻠﺤﻘﻮق أي ﺣﻘﻮق .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻓﻤﻦ دون اﻹﻗﺮار املﺘﺒﺎدَل ﺑني اﻟﻨﻔﺲ 47
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
وﺟﻮد ﻣﻠﻤﻮس ﻣﻦ اﻷﺳﺎس .وﰲ ﻓﻘﺮة ﺷﻬرية ﻣﻦ ﻛﺘﺎب »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح« ﻋﻦ »اﻟﺴﻴﺎدة واﻟﻌﺒﻮدﻳﺔ« ،ﻳﺴﺘﻬﻠﻚ اﻟﺴﻴﺪ ﻣﻨﺘﺠﺎت اﻟﻌﺒﺪ اﻟﺬي ﻗﺪ أﺧﻀﻌﻪ ﻟﻨﻔﺴﻪ؛ ﻓﺎﻻﻋﺘﻤﺎد اﻟﻨﺎﺗﺞ ﻟﻠﺴﻴﺪ ﻋﲆ اﻟﻌﺒﺪ ﻳﻤ ﱢﻜﻦ اﻷﺧري ﻣﻦ ﺗﻄﻮﻳﺮ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،إﱃ اﻟﺤﺪ اﻟﺬي ُ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻪ أﻗﻮى ﻣﻦ اﻟﺴﻴﺪ .ﻓﺎﻟﻔﻘﺮة ﻧﻤﻮذج ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻘﻮة ﺗﻐري ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس وﻋﻼﻗﺎﺗﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ ﺗﺄﻣﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﺗَ ﱢ َ ﺠﲇ ﻫﺬا اﻟﻨﻤﻮذج ﺑني اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﰲ زوال اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴﺔ اﻹﻗﻄﺎﻋﻴﺔ ﰲ اﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ. ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ﻫﺬا املﺰﻳﺞ ﻣﻦ اﻟﺘﺠﺮﻳﺪ اﻟﻨﻈﺮي واﻹﺣﺎﻟﺔ املﺎدﻳﺔ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ ﻓﻜﺮ َة ﻫﻴﺠﻞ ﰲ ً ﺗﻤﺜﻴﻼ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﺧﺎﻟﺪًا ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ .ﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻲ »ﺗﺠﺴﻴ ٌﺪ ﻟﻔﻜﺮ ﻋﴫﻫﺎ« ،وﻟﻴﺴﺖ دواﻓﻊ ﻣﺘﺼﺎرﻋﺔ ﻟﺪى ﻫﻴﺠﻞ ﺑني )أ( ﻓﻜﺮة أن اﻟﻔﻜﺮ ﺗﻮ ﱢﻟﺪه ﺗﻔﺎﻋﻼت ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﺑني اﻟﻨﺎس واﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻫﻲ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻘﺮاءة ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح« ،و)ب( ﻫﺪف إﻋﻄﺎء وﺻﻒ ﻓﻠﺴﻔﻲ ﺣﺎﺳﻢ ﻟﻬﻴﺎﻛﻞ ﻛﻞ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﻔﺎﻋﻼت ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﰲ »ﻋﻠﻢ املﻨﻄﻖ« ً وﺻﻔﺎ ) .(١٨١٦–١٨١٢ﻓﺎﻷول رﺑﻤﺎ ﻳﺸري إﱃ »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ«؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء ،واﻷﺧري ﻳﴫﱡ ﻋﲆ ﴐورة أن ﻳﻜﻮن اﻟﻮﺻﻒ ﻧﻔﺴﻪ املﺴﺠﱢ ﻞ ً ﱡ ﻟﻠﺘﻐري اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ .وﺗﻌﺘﻤﺪ اﻟﺘﻔﺴريات ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳﺨﻀﻊ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﲆ ﻣﺪى اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺻﺎدﻗﺎ ﻋﲆ ٍ املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻬﻴﺠﻞ ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺬي ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺟﻮﻫﺮي ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ. ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳُﻨ َ ُ ﺗﺠﺎﻫﻠﻪ ﰲ ﻈﺮ إﱃ ﻫﻴﺠﻞ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻔ ﱢﻜﺮ ﻧﻈﺮي ﺟﺪٍّا؛ وﻫﻮ ﻣﺎ أدﱠى إﱃ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﺣﺘﻰ وﻗﺖ ﻗﺮﻳﺐ ،ﻟﻜﻦ ﻗﻀﻴﺔ »املﺒﺎﴍﻳﺔ« ﺗﻌﻄﻲ ﺻﻮر ًة ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﻓﻜﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴني اﻋﺘﱪوا أن »ﻣﻌﻄﻴﺎت اﻟﺤﺲ« ﻫﻲ أﺳﺎس املﻌﺮﻓﺔ؛ ﻷن اﻟﺪﻟﻴﻞ اﻟﺸﻬﻮدي ﴐوري ﻟﻠﻌﻠﻢ اﻟﺴﻠﻴﻢ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﺗُﻌَ ﱡﺪ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮة ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ »املﺒﺎﴍﻳﺔ« .وﰲ »ﻓﻴﻨﻮﻣﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻌﻘﻞ/اﻟﺮوح«، اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ملﻌﻄﻴﺎت اﻟﺤﺲ ِ »املﺒﺎﴍة« اﻷوﺿﺢ ﻇﺎﻫﺮﻳٍّﺎ أﻣﺎم املﺮء ﰲ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻳﺴﺘﻌني ﻫﻴﺠﻞ ﺑﺎﻟﺒﻴﺎﻧﺎت اﻟﻴﻘﻴﻨﻴﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ ،وﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﻫﺬا )ﰲ ﺣﺎﻟﺘﻲ( ﰲ ﻫﺬا اﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ املﻮﺟﻮد ﻫﻨﺎ اﻵن ،وﻟﻜﻦ ﻧﻈ ًﺮا ﻷﻧﻪ ﱠ ٍ إدراﻛﺎت ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺼﻮرات اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻳﺘﻌني دوﻣً ﺎ ﺗﻮﺳﻴﻂ ﱢ وﻳﻮﺿﺢ ﻟﻠﺘﻌ ﱡﺮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﻓﻼ ﻳﻮﺟﺪ ﳾء ﻣﻔﻬﻮم ﰲ اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت ﻏري املﺘﺼﻮﱠرة ﻣﻦ اﻷﺳﺎس. ﻫﻴﺠﻞ أن اﻷﻟﻔﺎظ »اﻟﺪﻻﻟﻴﺔ« — »ﻫﺬا«» ،ﻫﻨﺎ«» ،اﻵن« — ﻫﻲ ﻛﻠﻴﺎت ﺗﺘﻮﺳﻂ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ملﻀﻤﻮن إدراﻛﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻤﻜﻴﻨﻲ ﻣﻦ اﻟﱰﻛﻴﺰ ﻋﲆ ﳾء ﻣﻌني ،وﺗﺼﺒﺢ »ﻫﻨﺎ« ﻫﻲ ﻫﺬه اﻟﻨﺎﻓﺬة إذا ﻧﻈﺮت ﺧﺎرﺟﻬﺎ اﻵنً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﺎﺑﺔ .وﺗﻨﻄﻮي ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ﻋﲆ ﺷﻜﻞ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻣﻦ اﻟﱰﻛﻴﺐ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻠﻔﻜﺮ اﻟﻬﻴﺠﲇ؛ ﻓﻜﻞ ورود ﻟﻸﻟﻔﺎظ »ﻫﺬا« و»ﻫﻨﺎ« و»اﻵن« ﻳﻨﻔﻲ 48
املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﺴﺎﺑﻖ واﻟﻼﺣﻖ ﻣﻦ »ﻫﺬا« و»ﻫﻨﺎ« و»اﻵن«؛ وﻟﺬا ﺗﻔﺘﻘﺮ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ إﱃ ﳾء ﻣﺎ ،ﻟﻜﻦ ﻣﺠﻤﻮع ُ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺮات ورود »ﻫﺬا« و»ﻫﻨﺎ« و»اﻵن« ﻫﻮ املﺠﻤﻮع اﻹﻳﺠﺎﺑﻲ ﻟﻠﻤﻜﺎن واﻟﺰﻣﺎن .وﺗَﻈﻬَ ﺮ اﻟﺠﺰﺋﻲ ﻣﻦ ﺧﻼل ﱡ ﺗﻮﺳﻄﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺼﻮرات ﻋﺎﻣﺔ ،وإﻻ ﻓﻬﻮ ﻏري ﻣﺤﺪد .وﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﺤﺎل ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻧﻂ ،ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻮﺟﺪ أﺣﺪاس َﻟﻜﺎﻧﺖ اﻟﺘﺼﻮرات ﺧﺎوﻳﺔ ،ودون اﻟﺘﺼﻮرات َﻟﻜﺎﻧﺖ اﻷﺣﺪاس ﻋﻤﻴﺎء. ﱠ ﱠ ﺗﺘﻐري ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺎد ُة ﻋﻼﻗﺎﺗﻨﺎ وﺷﻜﻠُﻬﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ إن »ﺟﺪﻟﻴﺔ« ﻫﻴﺠﻞ ﻫﻲ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻮﺿﻮع ﻟﻴﺲ )ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻴﺠﻞ ،ﻓﺈن »ﺗﺼ ﱡﻮ َر« ٍ اﻟﺤﺎل ﻟﺪى ﻛﺎﻧﻂ( ﻣﺠﺮد ﻗﺎﻋﺪة ﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﳾء ،ﺑﻞ ﻳﺸﻤﻞ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻛﻞ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳُﻔﻬَ ﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﴚء ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻧﺨﺮاﻃﻨﺎ ﻓﻴﻪ .وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ »ﳾء ﰲ ذاﺗﻪ«؛ ﻷن اﻟﴚء إﻧﻤﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻛﻮﻧﻪ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻨﺎ .وﻳﺮى ﻫﻴﺠﻞ أن »اﻟﴚء ﰲ ذاﺗﻪ« ﻟﺪى ﻛﺎﻧﻂ ﻫﻮ ﻧﺘﺎج ﻟﺘﺠﺮﻳﺪ اﻟﴚء ﻋﻦ ﻛﻞ ﳾء ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻨﻪ ،وﻫﺬا ﻳﱰﻛﻨﺎ ﺑﻼ ﳾء ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﻓﻘﻂ ﻓﻜﺮة ﻋﺎﻣﺔ ﻻ ﻣُﺘﻌﻴﱠﻨﺔ .ﻓﺎملﺒﺎﴍﻳﺔ اﻟﻈﺎﻫﺮة ﻟﻠﴚء ﻳﺘﻢ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﱡ اﻟﺘﻮﺳﻂ؛ أي ﻧ َ ْﻔﻲ ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻨﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﻫﻴﺠﻞ ﻫﺬه اﻷﻧﻤﺎط ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮ ﻟﻮﺻﻒ ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺑﻌﺎد اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ إﱃ اﻟﻘﺎﻧﻮن واﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،إﱃ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،وإﱃ اﻟﻔﻦ .ﻓﺎﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ املﺒﺎﴍﻳﺔ ﻧﺤﻮ أﻛﺜﺮ ﱡ ﱡ ﺗﻮﺳﻌً ﺎ ﺑﻤﺎ َ ﻟﻴﺴ ْﺖ ﻋﻠﻴﻪ. اﻟﻼﻣُﺘﻌﻴﱠﻨﺔ إﱃ اﻟﺘﻮﺳﻂ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ رﺑﻂ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﲆ ٍ وﰲ »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﻖ« ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﻜﺘﺴﺐ اﻟﻔﺮد »املﺒﺎﴍ« ﻫﻮﻳﺘﻪ املﺒﺪﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﱠ ﻳﺘﻌني ﺗﻮﻓﻴﻘﻬﺎ ﻣﻊ اﻷﴎة ،ﻟﻜﻦ ﻣﻄﺎﻟﺐ اﻷﴎة ﺟﺰﺋﻴﺔ وﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻗﺎﻧﻮن اﻟﺪوﻟﺔ إذا ﻛﺎن ﻣﻄﺎﻟﺐ اﻷ ُ َﴎ اﻷﺧﺮى .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺎملﺸﻜﻠﺔ ﻫﻨﺎ أن اﻟﴩﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺗﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻴﺠﻞ ﰲ املﺴﺘﻮى اﻷﻋﲆ ﻳﻤﻜﻦ ﰲ املﻮاﻗﻒ املﻠﻤﻮﺳﺔ أن ﺗﺆدي إﱃ َﻛﺒْﺖ املﺴﺘﻮى اﻷدﻧﻰ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳُﻔﱰَض. ﱠ إن اﻧﺘﻘﺎدات ﻫﻴﺠﻞ ﻟﻼﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ املﺒﺎﴍﻳﺔ ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ،وﻫﻲ ﺗﻠﻌﺐ دو ًرا ﰲ اﻟﺘﺤﺪﻳﺎت املﻌﺎﴏة ﻻﻓﱰاﺿﺎت ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ،ملﺎذا و ُِﺟﺪ رد ﻓﻌﻞ ﻣﻨﺎﻫﺾ ﻟﻬﻴﺠﻞ ﻣﻨﺬ ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،وﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻣﻨﺬ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﺣﺘﻰ وﻗﺖ ﻗﺮﻳﺐ ﺟﺪٍّا؟ أﺣﺪ اﻷﺳﺒﺎب ﻟﺮ ﱢد اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺬي ﺣﺪث ﰲ ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻫﻮ اﺻﻄﺪام دﻋﺎوى ﻫﻴﺠﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺴﻠﻄﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﻣﻊ ﻣﻔﻬﻮم أن اﻟﻘﺪرات اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ أﺣﺪﺛﺖ ﱡ ﺗﻐريات ﻛﱪى ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ أن ﺗﺆدي إﱃ أﺷﻜﺎل ﻻ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺘﻨﻈﻴﻢ املﺠﺘﻤﻌﻲ؛ 49
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻓﺈرﺳﺎل اﻷﻃﻔﺎل إﱃ املﻨﺎﺟﻢ ﻳﻜﺎد ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻻ ﻋﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻮاﻗﻊ .وﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌﺪُ ،ﺳﻴﺘﻌﺎرض ﻋﻤﻞ ﻫﻴﺠﻞ اﻟﺒﻼﻏﻲ ،اﻟﺬي ﻳﺘﻌﺎﻣَ ﻞ ﻣﻊ ﻣﺼﻄﻠﺤﺎت ﻣﺜﻞ »ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺮوح« ،ﻣﻊ اﻻﻫﺘﻤﺎم املﺘﻨﺎﻣﻲ ﺑﺎﻟﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،واﻟﺘﻲ ﻫﻲ وﺟﻬﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ. ُ ﺗﺠﺎﻫﻞ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻇﻬﻮر ﻣﻨﻬﺞ ﺑﺪﻳﻞ ملﻨﻬﺞ ﻫﻴﺠﻞ اﻟﺬي ﻇﻬﺮ ﰲ ﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻳﺘﻢ ﻏﺎﻟﺒًﺎ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ املﺒﻜﺮة« اﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪأ ﰲ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺗﺴﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ،وﻫﻮ ﻳﻔﺎرق اﻟﻌﻨﺎﴏ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻤﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ. ﻣﻨﻬﺞ ﻳﺸﺎرك ﻫﻴﺠﻞ ﺑﻌﺾ أﻓﻜﺎره ،ﻟﻜﻨﻪ ِ ﻳﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ أن اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﱢ اﻟﻬﻴﺠَ ِﲇ ﱡ ﻳﻤﻜﻦ أن ﱢ ﺗﺤﻘﻖ إﻧﺠﺎزات ﻳﺘﻌﺬﱠر ﺗﺤﻘﻴﻘﻬﺎ، ﻓﺎملﻮﻗﻒ ِ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻧﺠﺪه ﰲ إدراﻛﺎت ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ أن ﱠ اﻟﺮق ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻨﻪ ،وأن اﻟﻨﺴﺎء ً ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل .أﻣﺎ املﻮﻗﻒ اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ،ﻓﻠﻦ ﻳﻨﻜﺮ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﱠأﻻ ﻳُﻌﺎﻣَ ﻠﻦ ﻋﲆ أﻧﻬﻦ أدﻧﻰ ﺑﺎﻟﴬورة أن ﺗﻠﻚ اﻹﻧﺠﺎزات ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻪ ﺳﻴﺸ ﱢﻜﻚ ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻘﺼﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﻜﺒرية ً ﻗﺼﺔ وَﺣْ ﺪ َِوﻳ ًﱠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻣﺆﻳﺪو اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻬﻴﺠﲇ ﻟﺘﻔﺴري ذﻟﻚ ،وذﻟﻚ ﻋﲆ أﺳﺎس أن ﻟﺘﻘﺪﱡم اﻟﻌﻘﻞ رﺑﻤﺎ ﺗﺤﺠﺐ ﻣﺼﺎدر أﺧﺮى ﻟﺘﻮﻟﻴﺪ املﻌﻨﻰ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ﻫﻮاﻣﺶ (1) © akg-images. (2) © Dietmar Katz/bpk, Berlin.
50
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ اﳌﺒﻜﺮة«
اﻟﺘﻬ ﱡﻜﻢ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو واﺿﺤً ﺎ أن ﻫﺪف اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ اﻛﺘﺸﺎف اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،إﻻ أن ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﺷﻠﻴﺠﻞ ) ،(١٨٢٩–١٧٧٢اﻟﺬي ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻊ ﻧﻮﻓﺎﻟﻴﺲ )ﺟﻮرج ﻓﻴﻠﻴﺐ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻓﻮن ﻫﺎردﻧﱪج( ) (١٨٠١–١٧٧٢أﻫﻢ ﻋﻀﻮ ﰲ املﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﺘﻲ ﻳ َُﺸﺎر إﻟﻴﻬﺎ ﻋﺎد ًة ﺑ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ املﺒﻜﺮة« ،ﻳﺮى أن ﻫﺬا اﻟﻬﺪف رﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﻜﻮن واﺿﺤً ﺎ ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية؛ ﻓﻔﻲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ »إﻧﻚ ﺳﺘﺼﺎب ﺑﺎﻟﻜﺂﺑﺔ ﻟﻮ ﻛﺎن ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻠﻪ — ﻛﻤﺎ ﺗﻄﻠﺐ — أن ﻧﺤﻮ ِﺟﺪﱢيﱟ «.ﻓﻤﻦ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﺼﺒﺢ ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،وﻟﻮ ملﺮة واﺣﺪة ﻋﲆ ٍ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ املﺒﻜﺮة — اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻧﺘﺎج ﻓﱰة وﺟﻴﺰة ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﰲ ﻳﻴﻨﺎ — أﻧﻬﺎ ﺗﻄﺮح أﺳﺌﻠﺔ رادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ املﻬﻤﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ .وإذا ﻛﻨﱠﺎ ﻧﻔ ﱢﻜﺮ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ املﻌﺮﻓﺔ. ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﻓﺎملﻬﻤﺔ ﻫﻲ اﻛﺘﺸﺎف ﻛﻴﻔﻴﺔ ﱡ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ إﺟﺎﺑﺔ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻠﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﺳﻴﺸ ﱢﻜﻞ أيﱠ ﻓﺎرق وﻟﻜﻦ ،ﻣﻦ ﻏري املﺆ ﱠﻛﺪ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻟﻌﻼﻗﺔ ﻣﻌﻈﻢ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻫﻴﺠﻞ ﻳﺮى اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻣﻌﺘﻤﺪًا ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳُﺴﺒﱢﺐ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ؛ أي ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺗُ َ ﻨﻔﻰ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار .وﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻣﻨﻬﺠﻪ ﻳﺮ ﱢﻛﺰ ُ ﻋﲆ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﺗﻔﻜريﻧﺎ ﻳﺨﻔﻖ ﰲ اﻻﺗﺼﺎل ﺑ »اﻟﻮاﻗﻊ«؛ ﻷن »اﻟﻮاﻗﻊ« ﻫﻮ — ٍ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺑﺪﻗﺔ — ﻧﻔﻲ ﻳُﺤﺪِﺛﻬﺎ ﺗﻔﺎﻋُ ﻞ اﻟﺬات واملﻮﺿﻮع ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ وﺻﻔﻪ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻓﻮق دﻧﻴﻮي. وﺗﻨﻄﻮي »اﻟﺮؤﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻼﻣﻜﺎن« ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﻴﺠﻞ ﻋﲆ ﻧﻔﺲ ﻣﺸﻜﻠﺔ »اﻟﴚء ﰲ ذاﺗﻪ« ﻟﺪى ﻛﺎﻧﻂ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﺘﻄﻠﺐ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﺠﺮﻳﺪﻳﺔ ﻻﺳﺘﺒﻌﺎد أي ﳾء ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻦ املﻮﺿﻮع. وﰲ ﻣﺤﺎﴐة ﻋﺎم ،١٨٠١ﻳﻄﺮح ﺷﻠﻴﺠﻞ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﲆ اﻻﺗﺠﺎه اﻟﺬي ﺳﻮف ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ ﻫﻴﺠﻞ »اﻟﻨﻔﻲ ا ُمل ﱠ ﺘﻌني«؛ إذ »ﺗﻨﺸﺄ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﺤﻴﱢﺪ اﻷﺧﻄﺎء املﺘﻌﺎرﺿﺔ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ« .وﻣﻨﻬﺞ ﺷﻠﻴﺠﻞ »ﺗﻬ ﱡﻜﻤﻲ«؛ إذ إﻧﻪ ﻣﻦ املﺮﺟﺢ دوﻣً ﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻪ إﺑﻄﺎ ُل اﻟﺘﺄﻛﻴﺪات ا ُملﺜْﺒَﺘﺔ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺑﺎﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُ ِ ﺒﻄﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺒﺎرة اﻟﺘﻬ ﱡﻜﻤﻴﺔ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ اﻟﺤﺮﰲ، وﺟﻮاب ﻫﻴﺠﻞ ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﻬ ﱡﻜﻢ ﻫﻮ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ املﻮﺿﻊ اﻟﺬي ﻳﺼري ﻓﻴﻪ املﻨﻔﻲ ﻫﻮ ا ُملﺜْﺒَﺖ .وﰲ املﻘﺎﺑﻞ ،ﺗﺮى اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ أﻧﻪ رﺑﻤﺎ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻏﺎﻳﺔ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻠﺘﻬﻜﻢ، وﻗﺪ ﻳﺆدي ﻫﺬا ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو إﱃ ﻣﺸﻜﻠﺔ أن اﻟﺪﻋﺎوى املﺰﻋﻮﻣﺔ ﺑﺸﺄن ﻧﺴﺒﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛ ﱢﻠﻬﺎ ﻳﺠﺐ أن ﺗﻜﻮن ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻄﻠﻘﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻳﺪرك ﺷﻠﻴﺠﻞ ﻫﺬا اﻻﻋﱰاض» :إذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻛ ﱡﻠﻬﺎ ﻧﺴﺒﻴﺔ ،ﻓﻘﻀﻴﺔ أن ﻛﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﺴﺒﻴﺔ ﻫﻲ ً أﻳﻀﺎ ﻧﺴﺒﻴﺔ «.ﻟﺬا ،ﻛﻴﻒ إذن ﻳﺤﺘﻔﻆ املﺮء ﺑﺎﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎملﻄﻠﻖ اﻟﺬي ﺳﻴﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﺗﺠﻨﱡﺐ ﻫﺬه املﻔﺎرﻗﺔ؟ ﱠ إن املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺸﻔﺘﻬﺎ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ﻫﻲ أن املﺮء ﻟﻜﻲ ﻳﻌﺮف أﻧﻪ وﺻﻞ إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ،ﻓﺎﻷﻣﺮ ﻳﺴﺘﻠﺰم أن ﻳﻜﻮن ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﺑﺘﻠﻚ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،وإﻻ ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ إدرا ُك أﻧﻬﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ .وﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﺪراﻳﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻓﺴﻴﻜﻮن ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺪس اﻟﻌﻘﲇ ﻟﺪى ﻓﻴﺸﺘﻪ ،اﻟﺬي ﺷ ﱠﻜﻚ ﻓﻴﻪ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﻮن ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ ﺗﺴﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ ﻓﺼﺎﻋﺪًا .وﻳﻘﻮل ﻧﻮﻓﺎﻟﻴﺲ» :ﻧﺤﻦ ﰲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎن ﻧﺒﺘﻐﻲ ﻏري املﴩوط ،ودوﻣً ﺎ ﻻ ﻧﺠﺪ ﺳﻮى اﻷﺷﻴﺎء «.وﻳﺆدي ﻋﺪم اﻟﺮﺿﺎ ﺑﺤﺪود املﻌﺮﻓﺔ املﺘﻨﺎﻫﻴﺔ إﱃ ﺷﻌﻮر ﺑﺎﻟﻼﻣﺘﻨﺎﻫﻲً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ وﺟﻮد ﻣﻌﺮﻓﺔ ُﻣﺜْﺒَﺘﺔ ﻣﺆﺳﺴﺔ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻼﻣﺘﻨﺎﻫﻲ. ٍ وﻟﻜﻦ ،ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺨ ﱡﻠﺺ ﻣﻦ ﻋﺪم اﻟﺮﺿﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻮﺻﻮل اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ إﱃ اﻟﻼﻣﺘﻨﺎﻫﻲ. وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻨﻮﻓﺎﻟﻴﺲ ،ﻓﺈن »املﻄﻠﻖ املﻤﻨﻮح ﻟﻨﺎ إﻧﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻟﻨﻔﻲ ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻓﻌﻠﻨﺎ واﻛﺘﺸﺎﻓﻨﺎ أﻧﻪ ﻻ ﻓﻌﻞ ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺎ ﻧﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ«؛ ﻓﻤﺎ ﺗﺴﻌﻰ إﻟﻴﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ »أﺳﺎس« ﻣﻄﻠﻖ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺳﺘﻜﻤﺎل ﻧﻔﺴﻬﺎ ،ﻟﻜﻦ »إذا ﻟﻢ ﻳُﻤﻨَﺢ ﻫﺬا ،وإذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺘﺼﻮر ﻳﺘﻀﻤﻦ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ ،ﻓﺈن اﻟﺪاﻓﻊ ﻟﻠﺘﻔﻠﺴﻒ ﺳﻴﻜﻮن ﻧﺸﺎ ً ﻃﺎ ﻻﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ« .وﻣﻦ ً ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ،ﺗﻘﱰب ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﻗﺎﺋﻢ ﰲ ﺗﺠﺮﺑﺔ اﻟﻔﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﺘﺨﺬ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،ﺣﻴﺚ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﺗﻔﺴريات ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ،ﺑﻞ وﺟﻬﺎت ﻧﻈﺮ ﺟﺪﻳﺪة ﻓﺤﺴﺐ. ﱡ اﻟﺘﻮﺳﻂ و»اﻟﺘﺸﻮﱡف« ﻳﺸﱰك ﻫﻴﺠﻞ واﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﻮن اﻷواﺋﻞ ﰲ أﻓﻜﺎر ﺗﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﻮﺿﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،اﻟﺬي ﺗﺒﺪو ﻓﻴﻪ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﻋﺎﺑﺮ ًة ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ .ﻟﻜﻦ اﺧﺘﻼﻓﺎﺗﻬﻢ ﺗﻮﺣﻲ ﺑﺎﻧﻘﺴﺎم ﻧﻤﻮذﺟﻲ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻫﻮ اﻧﻘﺴﺎم ﺑني ﻣﺬاﻫﺐ ﺗﺘﻐﻠﺐ اﻟﺬات ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺘﻨﺎﻗﻀﺔ ﻟﻠﻮاﻗﻊ 52
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ املﺒﻜﺮة«
اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻣﺬاﻫﺐ ﺗﺮﺗﺎب ﰲ أﻧﻪ ﺑﻔﻌﻞ ذﻟﻚ ﻓﺈن اﻟﺬات ﻟﻦ ﺗﺠﺪ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺳﻮى ً ﺷﻔﺎﻓﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻣﺎ ﻳﻌﻜﺲ ﺻﻮرة ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺮة أﺧﺮى إﻟﻴﻬﺎ .وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن ﻫﺪف ﺟﻌﻞ اﻟﺘﻔﻜري ﻟﻨﻔﺴﻪ — اﻟﺬي ﻫﻮ أﺳﺎس ﺗﺼﻮﱡر املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻟﺤﺮﻳﺔ اﻹرادة — رﺑﻤﺎ ﱠ ﻳﺘﺒني أﻧﻪ وﻫﻢ. وﻗﺪ اﻋﱰض ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ وﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻋﲆ ﻓﻴﺸﺘﻪ ﻣﻦ ﻫﺬا املﻨﻄﻠﻖ؛ ﻓﻔﻲ ﻋﺎم ،١٧٩٩ ر ﱠد ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﰲ رأي ﻣﻨﺎﻫﺾ ﻟﻔﻴﺸﺘﻪ ﺑﺄن »أﺻﻞ اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻹﺻﻐﺎء ،ﻓﺎﻟﻌﻘﻞ املﺤﺾ ﻫﻮ إﺻﻐﺎء ﻻ ﻳﺼﻐﻲ إﻻ ﻟﻨﻔﺴﻪ «.وﻳﺰﻋﻢ ﻫﻴﺠﻞ أن ﻧﻈﺎﻣﻪ ﻧﻬﺎﺋﻲ ،ﺣﺘﻰ إن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺼﺒﺢ ً ﺷﻔﺎﻓﺎ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺄﻣﻞ ﰲ ﻋﻼﻗﺎﺗﻪ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻫﻨﺎ ً أﻳﻀﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﻌﻘﻞ ﰲ ﺧﻄﺮ اﻹﺻﻐﺎء ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻓﻘﻂ. ﱠ إن ﻗﻮة دﻋﺎوى ﻫﻴﺠﻞ ﺗﻜﻤﻦ — ﻛﻤﺎ أ ﱠﻛ َﺪ ﻣﻌ ﱢﻠﻘﻮن ﻣُﺤﺪَﺛﻮن — ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن إﻧﻜﺎرﻫﺎ ِ ﻣﺒﺎﴍ .وﺳﻮف ﻳﺰﻋﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ أن اﻟﺤﺎﻓﺰ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻠﻔﻜﺮ ﻫﻮ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﺣﺘﻜﺎ ٍم إﱃ ﳾء اﻟﺪواﻓﻊ اﻟﻼواﻋﻴﺔ ﻟﻠﺬات ،وﻟﻴﺲ اﻟﺒﺤﺚ املﺤﺾ ﻋﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻳﺠﺐ أن ﻳُﱪﱠر ﺗﻮﺳ ً ﻫﺬا اﻟﺰﻋﻢ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻳﺘﻄﻠﺐ اﻟﺘﱪﻳﺮ ﱡ ﻄﺎ .ﻓﻴﻜﻒ »ﻧﻌﺮف« أن اﻟﻔﻜﺮ ﻣﺴﺘﻨِﺪ إﱃ اﻟﻼوﻋﻲ؟ وإذا اﻗﺘﺒﺴﻨﺎ ً دﻟﻴﻼ ﻣﺜﻞ زﻻت ﻓﺮوﻳﺪ اﻟﺘﻲ ﻧﺴﺘﻨﺒﻂ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ أن ﻣﺼﺪر ﻗﻮل ﺷﺨﺺ ﱡ اﻟﺘﻮﺳﻂ .وﻫﺬا ﻳُﺪﺧِ ﻞ اﻟﻘﻀﻴﺔ أو ﻓﻌﻠﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻈﻨﻪ ،ﻓﻨﺤﻦ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻨﺨﺮﻃﻮن ﰲ ﻓﻴﻤﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ اﻵن ﺑ »ﻓﻀﺎء اﻷﺳﺒﺎب« ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻔﺴري آﻟﻴﺔ اﻟﻜﺒﺖ اﻟﺬي ﻳﺆدﱢي إﱃ اﻟﺰﻻت. وﻳﺘﺼﻞ املﺬﻫﺐ اﻟﻬﻴﺠﲇ ﻫﻨﺎ ﺑﺤﺠﺠﻪ ﻋﻦ ﻳﻘني اﻟﺤﻮاس ،ﻓﻴﺠﺐ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﺪﻟﻴﻞ ِ املﺒﺎﴍ املﻔﱰض ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻌﺎﻳري ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﻣﺸﱰﻛﺔ ،وأﻳﺔ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﺘﺤﺎﻳﻞ ﻋﲆ ﻣﺜﻞ ﺗﻠﻚ املﻌﺎﻳري ﺗﺘﻄﻠﺐ ﴍﻋﻨﺔ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﺣﺘﻜﺎ ٍم إﱃ ﻣﻌﺎﻳري أﺧﺮى ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﴍﻋﻨﺔ. ً ﻣﻌﻘﻮﻻ ﺟﺪٍّا ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻤﺎ ﺗﻄﺮﺣﻪ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻛﻮن املﻌﺎﻳري وﻳﺒﺪو ﻧﻬﺞ ﻫﻴﺠﻞ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ دوﻣً ﺎ ﻣﺤﻞ ﻧﺰاع ﺷﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺻﻌﻮﺑ ٍﺔ واﺿﺤﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺼﻌﻮﺑﺔ ﻻ ﺗﻌﻨﻲ أﻧﻪ آﺧﺮ ﻟﺘﱪﻳﺮ ﳾءٍ ﻣﺎ .وﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ َ ﻃﺮﻳﻖ َ ٌ اﻵﺧﺮ ،ﻓﺈن املﻨﻬﺞ اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ﻣﻬﺘﻢ ﺑﺄن ﺛﻤﺔ اﻟﻜﻤﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ املﻨﻬﺠﻲ — ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻳﺮوﻧﻪ ﻟﺪى ﻓﻴﺸﺘﻪ — رﺑﻤﺎ ﻳُﻘﴢ اﻟﻜﺜري ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﴐوري ﻟﻌﻼﻗﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻻ ﻳﻨﻜﺮ ﺷﻠﻴﺠﻞ وﻧﻮﻓﺎﻟﻴﺲ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﱰاﺑﻂ املﻨﻬﺠﻲ، ﻟﻜﻨﻬﻤﺎ ﻳﺮﻳﺎﻧﻪ وﻛﺄﻧﻪ »اﻟﻼﻧﻈﺎم املﺠﻠﻮب إﱃ ﻧﻈﺎم« .وﻣﺜﺎل ذﻟﻚ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﻧﻮﻓﺎﻟﻴﺲ أن »ﻛﻞ ﺧﺮاﻓﺔ وﺧﻄﺄ ﻟﺪى ﺟﻤﻴﻊ اﻷزﻣﻨﺔ واﻟﺸﻌﻮب واﻷﻓﺮاد ﺗﻘﻮم ﻋﲆ ﺧﻠﻂ »اﻟﺮﻣﺰ« ﺑﺎملﺮﻣﻮز ﻟﻪ — ﻋﲆ ﺟﻌﻠﻬﻤﺎ ﻣﺘﻄﺎﺑﻘني — وﻋﲆ اﻻﻋﺘﻘﺎد ﰲ اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ اﻟﺘﺎم «.وﺗﻜﻤﻦ ﺟﺎذﺑﻴﺔ املﺬﻫﺐ اﻟﻬﻴﺠﲇ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﰲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺤﺎﳽ ﺑﻬﺎ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ دﻟﻴﻞ ﺗﺄﺳﻴﴘ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ﻛﻴﻒ ﻳﺮﺗﺒﻂ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻟﻜﻦ ﻫﻴﺠﻞ ﻳﻬﺪف إﱃ ﺟﻌﻞ اﻟﺮﻣﺰ )اﻟﻨﻈﺎم( 53
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
وﻣﺎ ﻳﺮﻣﺰ ﻟﻪ )اﻟﻮﺟﻮد ،اﻟﻌﺎﻟﻢ( ﻣﺘﻄﺎﺑﻘني .ﻓﺈذا ﻗﺒﻞ اﻣﺮؤ ﻋﺪم اﻻﺣﺘﻜﺎم إﱃ دﻟﻴﻞ ﺗﺄﺳﻴﴘ ﰲ اﻷﻣﻮر املﻌﺮﻓﻴﺔ ،ﻓﺈن املﺬﻫﺐ اﻟﻬﻴﺠﲇ ﻳﻘﺪﱢم ً ﺑﺪﻳﻼ ﻣﻘﻨﻌً ﺎ؛ ﻓﺄي ﳾء ﻳُﺰﻋَ ﻢ ﻛﻮﻧﻪ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﱡ اﻟﺘﻮﺳﻂ ،وﻳﺒﺪو ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﻮﺻﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ املﻨﻬﺠﻲ ﻟﻠﱰاﻛﻴﺐ ﻳﺠﺐ إﺧﻀﺎﻋﻪ إﱃ ﱡ ﻟﻠﺘﻮﺳﻂ ،ﺣﺘﻰ إن ﻟﻢ ﻳﻨﺠﺢ ﻫﻴﺠﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ. اﻟﺪﻳﻨﺎﻣﻴﻜﻴﺔ وﻟﻌ ﱠﻞ اﻟﺴﺆال اﻟﺮﺋﻴﴘ اﻟﺬي ﻳﻨﺒﺜﻖ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ،ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻀﻊ ﻫﻴﺠﻞ ﻧﻈﺎﻣﻪ ،ﻫﻮ :ملﺎذا ﻗﺪ ﻻ ﻳﺘﻐﻠﺐ ﻫﺬا اﻟﻮﺻﻒ ﻟﱰاﻛﻴﺐ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ — اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﺼﺎﻟﺤﻨﺎ ﻣﻊ ﴐورة اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ واملﻌﺎﻧﺎة — ﻋﲆ اﻟﺸﻌﻮر اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑ »اﻟﻀﻴﺎع«؟ وﻳﺮى ﺷﻠﻴﺠﻞ أﻧﻪ »إذا و ُِﺟﺪت اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﻌﻤﻞ اﻟﺮوح ﺳﻴﻜﺘﻤﻞ وﺳﻴﺘﺤﺘﻢ ﱡ ﺗﻮﻗﻔﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻮﺟﻮد؛ إذ إﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ إﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻧﺸﺎط «.وﻧﻈ ًﺮا ﻷن ﺷﻠﻴﺠﻞ ﻻ ﻳﺆﻣﻦ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺑﻠﻮغ ﺗﻠﻚ املﺮﺣﻠﺔ، ﻓﺈن ﺟﻮﻫﺮ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ »اﻟﺘﺸﻮﱡف« ،وﻫﻮ املﺼﻄﻠﺢ اﻟﺬي وﺿﻌﻪ ﱡف ٍّ املﺘﺄﺻﻞ ﺑني ذواﺗﻨﺎ واﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳﺴﺒﱢﺐ اﻟﺘﺸﻮ ُ ﱢ ﻛﻼ ﻣﻦ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ املﻌﺮﻓﺔ واﻟﺸﻌﻮر ﻟﻠﺘﻨﺎﻓﺮ ﺑﺄن املﻌﺮﻓﺔ ﻻ ﺗﺴﺎﻋﺪ دوﻣً ﺎ ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﻨﻘﺴﻤﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد؛ ﻟﺬﻟﻚ رﺑﻤﺎ ﻧﺤﺘﺎج ً أﺷﻜﺎﻻ ﻣﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻓﻬﻤً ﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ﺑﻠﻐﺔ املﻌﺮﻓﺔ ،ﻓﻘﺪ ﻻ ﺗﻜﻔﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ً ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ وﻣﺼﺪر املﺸﻜﻠﺔ اﻟﻨﻔﺴﻴﺔ ﻟﻠﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ املﺸﻜﻠﺔ ،ورﺑﻤﺎ ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ املﺸﻜﻠﺔ ً ﺗﻌﺒريﻳﺔ ﱢ ﺗﻐري ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﺗﻌﺪ اﻷﻫﻤﻴﺔ املﺘﺰاﻳﺪة ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﻮﻗﺖ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﱢ ﻣﺆﴍًا ملﺎ ﻫﻮ ﻣﺤﻞ ﻧﻘﺎش ﻫﻨﺎ؛ ﻓﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻔﻌﻠﻪ املﻮﺳﻴﻘﻰ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰاﻟﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻤﱠ ﺎ ﺗﻘﻮم ﻫﻲ ﺑﻪ. اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ واﻟﻔﻦ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »ﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل« ،ﻳﻌﻠﻦ ﻫﻴﺠﻞ »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻦ« ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره وﺳﻴ ً ﻄﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ ﱡ اﻟﺘﺒﴫات اﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻮﺟﺪ ﺑﺪﻳﻞ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻠﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺎﻋَ ﺪ ْ َت ﺑﻬﺎ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺗﻜﻮﻳﻦ املﺠﺘﻤﻊ ﰲ أﺛﻴﻨﺎ .وﻫﻴﺠﻞ ﻣﺼﻴﺐٌ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد؛ ﻓﺎملﻮارد اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱢد اﻟﻌﺎ َﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻫﻲ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﻋﻼﻗﺎت ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ وﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﺗﻨﻈﻢ اﻟﻔﻌﻞ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،وﻗﺪرة اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﲆ ﱠ ﺣ ﱢﻞ املﺸﻜﻼت .ﱠ ﺗﺘﻮﱃ ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻦ واﻟﻔﻦ دور اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻟﻜﻦ دﻋﻮى ﻫﻴﺠﻞ ﻫﻲ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﱡ اﻟﺘﺒﴫات اﻟﻌﻠﻴﺎ ،ﻓﺎﻟﻌﻠﻮم إﻧﻤﺎ ﺗﻨﺘﺞ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﺗﺤﺘﺎج إﱃ أن ﺗُﺮﺑَﻂ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﰲ اﻟﻨﻈﺎم اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ .وﻟﻜﻦ ﻣﻨﺬ ﻋﴫ ﻫﻴﺠﻞ ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻟﻌﺒﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ دو ًرا ﺷﺪﻳﺪ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﰲ اﻷداء اﻟﻔﻌﲇ ﻟﻠﻌﻠﻮم؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺈن ارﺗﻘﺎء ﻫﻴﺠﻞ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ رﺑﻤﺎ ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ 54
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ املﺒﻜﺮة«
أﻧﻪ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ إﺷﺎرة إﱃ »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« .ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻻ ﺗﺆدﱢي دور اﻟﺤَ َﻜﻢ َ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ رﺑﻤﺎ ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ،ﻓﺈن اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱢد ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ً ﺗﺮﻓﺎ .وﻳﺮى ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ أن اﻟﻌﻠﻮم ﻫﻲ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي اﻧﺘﻬﺖ إﻟﻴﻪ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﺘﻲ ﻋُ ِﺮﻓﺖ ﻣﻨﺬ أﻳﺎم اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴني )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ(؛ ﻷن ﻫﺪف املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻛﺎن ﺗﻘﺪﻳﻢ اﻟﺼﻮرة اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺒﺤﺚ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻋﻦ دور ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺑﻄﻬﺎ — ﻣﺜﻠﻪ ﰲ ذﻟﻚ ﻣﺜﻞ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴني — ﺑﺎﻟﻔﻦ. ﻟﻜﻦ أﻻ ﺗﺰال أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻔﻦ ﻟﻬﺆﻻء املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻣﺤﻞ اﻫﺘﻤﺎم ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻴﻮم؟ ﺗﺘﻀﺢ املﺸﻜﻠﺔ ﻫﻨﺎ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻔﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺸ ﱢﻜﻚ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﰲ وﺟﻮد ﻧﻔﺴﻪ؛ ً وﻓﻘﺎ ملﺎ ﻳﺸري إﻟﻴﻪ ر ﱡد اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺬي ﻳُﻘﺎﺑﻞ ﻣﺮا ًرا ﺗﺠﺎه اﻟﻔﻦ اﻟﻄﻠﻴﻌﻲ ﺑﻜﻮﻧﻪ »ﻟﻴﺲ ﻓﻨٍّﺎ« .وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻨﺎول ﻫﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺬي ﺗُﻘﺪﱠم ﺑﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ،ﻓﺈذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن ﻓﺼﻞ رﺳﺎﻟﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ »وﺳﻴﻄﻬﺎ« ،ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ً ﻛﻠﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻔﻦ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻜﻮن اﻟﺸﻜﻞ ﻋﻨﴫًا ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﰲ املﻌﻨﻰ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ً ﻧﺼﻮﺻﺎ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﻌﺰزة ﺑﺎﻟﱪاﻫني ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ،ﻓﻬﻮ — ﻣﺜﻞ ﻧﻮﻓﺎﻟﻴﺲ — ﺷﻠﻴﺠﻞ ﻗﺪﱠم ﻣﺸﻬﻮر ﺑﻜﺘﺎﺑﺔ املﻘﺘﻄﻔﺎت ،واملﻘﺘﻄﻔﺎت ﻫﻲ ﻣﻘﺘﻄﻔﺎت وﺣﺴﺐ ،وﻟﻴﺴﺖ أﺟﺰاءً ﻏري ﻣﺘﺼﻠﺔ ﻣﻦ املﺎدة ،إذا ﻛﺎﻧﺖ أﺟﺰاءً ﻣﻘﺘﻄﻌﺔ ﻣﻦ ﻛ ﱟﻞ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺎﻟﻜﻞ ﻫﻮ املﻔﻘﻮد ﰲ »اﻟﺘﺸﻮﱡف«، وﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ املﻌﺮوف أﻧﻪ ﻣﻮﺟﻮد ﻛﻬﺪف اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﰲ املﻘﺘﻄﻒ رﻗﻢ ١١٦ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ املﻘﺘﻄﻔﺎت املﺄﺧﻮذة ﻣﻦ ﻣﺠﻠﺔ »أﺛﻴﻨﻴَﻢ« ،اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺼﺪر ﻣﻦ ١٧٩٨إﱃ ،١٨٠٠ﻳﺘﺤﺪث ً اﻧﻌﻜﺎﺳﺎ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي »ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار أن ﻳﺠﻌﻞ ﺷﻠﻴﺠﻞ ﻋﻦ اﻟﻔﻦ اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻫﺬا اﻻﻧﻌﻜﺎس ﻣﺤﺘﻤَ ًﻼ ،وﻳﻀﺎﻋﻔﻪ ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﻛﺎن ٍّ ﺻﻔﺎ ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ املﺮاﻳﺎ «.وﻳﺬ ﱢﻛﺮﻧﺎ اﻟﻔﻦ اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ﺑﺄن اﻟﻌﺎﻟﻢ دوﻣً ﺎ أﻛﺜﺮ ﻣﻤﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ اﻟﺘﺤﺪﱡث ﻋﻨﻪ ،وأن اﻟﻮﺟﻮد ﻳﻔﻮق اﻹدراك: اﻛﺘﻤﻠﺖ أﺷﻜﺎل أﺧﺮى ﻣﻦ اﻷدب ]»اﻟﻘﺼﺎﺋﺪ« اﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻞ ﻃﺎﺑﻊ اﻟﻔﻦ اﻹﺑﺪاﻋﻲ[ ً ﺗﺤﻠﻴﻼ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ .وﻻ ﻳﺰال اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ ﻟﻸدب ﰲ ﻋﻤﻠﻴﺔ وﻳﻤﻜﻦ اﻵن ﺗﺤﻠﻴﻠُﻬﺎ ﺗﺤﻮﱡل؛ وذﻟﻚ ً ﻓﻌﻼ ﻫﻮ ﺟﻮﻫﺮه اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،ﻓﻬﻮ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﺗﺤﻮﱡل ﻋﲆ اﻟﺪوام ،وﻟﻦ ً ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺗﺎﻣﺔ. ﻳﻜﺘﻤﻞ أﺑﺪًا ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻷﻳﺔ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻪ ٍ ٍ ﻗﺎﻃﻌﺔ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء ،ﻳﺒﺤﺚ »اﻷدب« ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ وﰲ ﺣني أن اﻟﻌﻠﻮم رﺑﻤﺎ ﺗﻬﺪف إﱃ ﱠ ﻣﺘﻮﻗﻌﺔ — رﺑﻤﺎ ﺗﺘﻤﺨﺾ ﻋﻨﻪ آراء أن رﺑﻂ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﺄﺷﻴﺎء أﺧﺮى — ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﺑﻄﺮق ﻏري ﺗﻨﻜﺮﻫﺎ اﻟﻌﻠﻮم. 55
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﺷﻜﻞ :1-4ﻟﻮﺣﺔ »ﻣﻨﻈﺮ ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻣﺴﺎﺋﻲ ﻟﺮﺟﻠني« ١٨٣٥–١٨٣٠ ،ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﺑﺮﻳﺸﺔ اﻟﻔﻨﺎن 1 ﻛﺎﺳﺒﺎر دﻳﻔﻴﺪ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ.
ﻧﺤﻮ أﻛﺜﺮ وﻫﻨﺎ ﻳﻨﺸﺄ ﴏاع ﻣﻬﻢ ﺑني ﻓﻜﺮة أن اﻟﻬﺪف ﻫﻮ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ ٍ ً ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ ،واﻟﺨﻮف ﻣﻦ أن ﻫﺬا رﺑﻤﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ أﺟﻮف ﺑﻼ ﻣﻌﻨًﻰ .وﻣﻦ املﻨﻈﻮر اﻷﺧري، ﻓﺈن املﻬﻤﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻫﻲ إﺿﻔﺎء ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ املﻌﻨﻰ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻓﻌﻠﻪ ﺑﺄي ﻣﺼﺎدر ﻣﺘﺎﺣﺔ .وﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﺷﻠﻴﺠﻞ أن »اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺒﺪأ ﺑﻌﺪدٍ ﻻ ﻣﺘﻨﺎ ٍه ﻣﻦ اﻻﻓﱰاﺿﺎت ،ﺑﺤﺴﺐ ﺗﻜﻮﻳﻨﻬﺎ )ﻻ ﺑﺎﻓﱰاض واﺣﺪ(« ،وأﻧﻪ ﰲ ﻣﺴﺤﺔ ﺑﺮاﺟﻤﺎﺗﻴﺔ أوﻟﻴﺔ »ﻻ ﺗﻮﺟﺪ اﻓﱰاﺿﺎت ً رﻓﻴﻘﺎ ﻣﻨﺎﺳﺒًﺎ أو ﻗﺎﺋﺪًا إﱃ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ «.وﻟﻴﺲ اﻷﻣﺮ أن أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم ﺷﻠﻴﺠﻞ وﻧﻮﻓﺎﻟﻴﺲ ﻳﻨﺒﺬان اﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻟﻌﻠﻢ؛ ﻓﻨﻮﻓﺎﻟﻴﺲ ﻛﺎن ﻣﻬﺘﻤٍّ ﺎ ﺑﺎﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ،وﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻳﻘﺪﱢﻣﺎﻧﻪ ﻫﻮ ﺗﺤﺬﻳ ٌﺮ َﻓ ِﻄﻦ ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﻠﻮم ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺼﺎد َر اﻟﺼﺤﺔ واﻟﺜﺒﻮت اﻟﻮﺣﻴﺪة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ﱢ ﻳﻌﱪ ﻋﻤﻞ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴني اﻷواﺋﻞ ﻋﻦ ﳾءٍ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻗﺔ املﻜﺒﻮﺗﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻗﺮاﺑﺔ اﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ،واﻟﺘﻲ ﺑﺴﺒﺒﻬﺎ ﺣ ﱠﻞ اﻹﺑﺪا ُع اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ واﻟﺠﻤﺎﱄ ﻣﺤ ﱠﻞ اﻟﺜﻮرة 56
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ املﺒﻜﺮة«
ِ املﺒﺎﴍة ﻟﻌﻤﻠﻬﻢ ﻣﻬﻤَ َﻠ ًﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﻛﺎن اﻟﻜﺜريون — ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻬﻢ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ .وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺘﺄﺛريات اﻟﺠﺪﻳﱠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎملﺜري ﰲ اﻷﻣﺮ ﻫﻴﺠﻞ — ﻳﻨﻈﺮون إﻟﻴﻬﻢ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﻳﻔﺘﻘﺪون ِ ﻫﻮ ﻛﻴﻒ ﻗﺪﱠم اﻫﺘﻤﺎﻣﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﻴﺶ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ إﺑﺪاﻋﻴﺔ ﻣﻊ ﻋﺪم اﻟﻴﻘني واﻟﺘﻨﻮﱡع ﺗﺼ ﱡﻮ ًرا ﻣُﺴﺒ ًَﻘﺎ ﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺘﻔﻜﻴﻜﻲ واﻟﱪاﺟﻤﺎﺗﻲ ،اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻌﺐ دو ًرا ﰲ ﺟﻬﻮد إﻋﺎدة اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ املﻌﺎﴏة ﱡ اﻟﺘﻐريات املﺤرية املﻤﻴﱢﺰة ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ ،ﺗُﻔ ﱢﻜﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ ﻣﻠﻴٍّﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ .وﰲ ﻣﻮاﺟﻬﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺤﺪث إذا ﻟﻢ ﻳَﻌُ ِﺪ املﺮءُ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺣﻠﻮل ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ .وﻫﺬا ﻣﻮﻗﻒ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺳﻮداوﻳٍّﺎ وﺗﺤﺮرﻳٍّﺎ ﻋﲆ اﻟﺴﻮاء ،وﻗﺪ ﺗﻤﴤ ﻓﱰة ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﻗﺒﻞ أن ﻳُﺘﺒﻨﱠﻰ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ؛ ﻓﺎﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﺣﻠﻮل ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﻋﲆ ٍ اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻲ ﺑﺎﻟﻜﺎد ﺗﻼﺷﺖ ﻛﻤﺎ ﻧﻌﻠﻢ. ﻫﻮاﻣﺶ (1) State Hermitage Museum/© akg-images.
57
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ
ﻣﺎرﻛﺲ
ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻨﻘﺎﺷﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ ﺳﻴﺎق أﻋﻤﺎل ﻛﺎرل ﻣﺎرﻛﺲ ) ،(١٨٨٣–١٨١٨ﻳﺒﺪأ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻷول ﻣﺮة ﻋﻦ »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« .ﻟﻜﻦ ﻣﺎذا ﻳﻌﻨﻲ ذﻟﻚ؟ إن ﺣ ﱠﻞ املﺸﻜﻼت اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻮ أﺣﺪ أﺳﺎﻟﻴﺐ إﻧﻬﺎء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وﻳﺤﺎول ﻫﻴﺠﻞ ﻓﻌﻞ ﻫﺬا ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻋﻄﺎء إﺟﺎﺑﺔ ﻣﻤﻨﻬﺠﺔ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻻﻧﻘﺴﺎﻣﺎت ﺑني اﻟﺬات واملﻮﺿﻮع .وﻟﻜﻦ ،ﻣﺎ دور اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إذا ﻛﺎن رأي ﻫﻴﺠﻞ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ؟ ﻓﻤﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن أن ﻫﻴﺠﻞ ﻛﺎن ﻳُ َﺮى ﻋﲆ أﻧﻪ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ املﻄﻠﻖ ،وﻣﺆﺧ ًﺮا أﺻﺒﺢ ﻳُ َﺮى ﻋﲆ أﻧﻪ ﺷﺨﺺ ﻳﻘﺪﱢم ﻣﺨﺮﺟً ﺎ ﻣﻦ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ. وﻫﻮ ﻳﻘﻮم ﺑﻬﺬا ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﺑﺪﻳﻞ ﻟﻔﻜﺮة »املﻨﻈﻮر اﻹﻟﻬﻲ« ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ ﻣﺠﺮد ﻧﺘﺎج ﻟﻠﻌﻼﻗﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ .وﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺄوﻳﻞ ﻛﻼ اﻟﻮﺟﻬني ﻟﻬﻴﺠﻞ ﻋﲆ أﻧﻬﻤﺎ إﻧﻬﺎءٌ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ،إﻣﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻓﻬﻢ اﻟﺸﻜﻞ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﻤﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻓﻬﻤً ﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ ،وإﻣﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻇﻬﺎر أن املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﺮاﺳﺨﺔ ﻗﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ ﺳﻮء ﻓﻬﻢ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ. ﺛﻤﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى ﻹﻧﻬﺎء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ وﻫﻲ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻫﺪﻓﻬﺎ، اﻷﻣﺮ اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺤﻘﻴﻖ املﻨﺸﻮد ﰲ ﻓﻜﺮة »اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻄﻴﺒﺔ«، وﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼل ذﻟﻚ ﺗﻔﺎدي أﺳﺒﺎب اﻟﺘﺴﺎؤل ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﻋﻦ إﺿﻌﺎف اﻻﻋﺘﻘﺎدات اﻟﻼﻫﻮﺗﻴﺔ؛ ﻓﺈﻧﺠﺎزات اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻄﻴﺒﺔ ﺳﺘﻌﻮض ﻫﻨﺎ اﻷﻟﻢ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺼﻠﻪ ﻋﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ .وﻣﻦ زاوﻳﺔ أﺧﺮى ،إذا ﻓ ﱠﻜﺮ أﺣﺪ — ﻛﻤﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻣﺎرﻛﺲ وﻧﻴﺘﺸﻪ — أن املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻫﻲ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺷﻜﻞ ﻣﻘﻨﱠﻊ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ،ﻓﺈن اﻟﻬﺠﻮم ﻋﲆ ٍ وﺻﻒ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﺳﻴﻜﻮن ﻫﺠﻮﻣً ﺎ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .واﻟﻬﺪف ﻫﻨﺎ ﻫﻮ ﻓﻜﺮة ﺗﻘﺪﻳﻢ ﻳﺘﺠﺎوز ﻣﺠﺮد املﻨﻈﻮر اﻟﺒﴩي ،وﺳﻴﻈﻬﺮ ﻣﻨﻬﺞ ذو ﺻﻠﺔ ﺑﻬﺬا املﻮﺿﻮع ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﺗﺤﺎول ﻓﻴﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ إﻇﻬﺎ َر أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ املﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻫﻲ »ﻣﺸﻜﻼت
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
زاﺋﻔﺔ« أﺣ َﺪﺛَﺘْﻬﺎ إﺧﻔﺎﻗﺎت ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﰲ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻠﻐﺔ .واﻟﺴﺒﻴﻞ إﱃ إﻧﻬﺎء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻨﺎ ﻫﻮ ٍ أﺳﺌﻠﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ أﺟﻮﺑﺔ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻏري ﺻﺤﻴﺤﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴٍّﺎ. ﺑﻴﺎن أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻜﻮﱠن ﻣﻦ
ﺷﻜﻞ :1-5ﻛﺎرل ﻣﺎرﻛﺲ وﻛﺘﺎﺑﻪ »رأس املﺎل«.
1
ﻟﻜﻦ ،ملﺎذا ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻸوﺻﺎف املﻘﺪﱠﻣَ ﺔ ملﻌﻈﻢ ﻫﺬه اﻷﻓﻜﺎر أن ﺗﺼﺒﺢ ﻣﻠﻤﺤً ﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﺑﺪءًا ﻣﻦ اﻟﻬﺠﻤﺎت ﻋﲆ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﻴﺠﻞ ﰲ ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻓﺼﺎﻋﺪًا؟ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻳﺘﻤﺜﱠﻞ ﰲ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أﺻﺒﺤﺖ اﻵن ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ارﺗﺒﺎ ً ﻃﺎ واﺿﺤً ﺎ ﺟﺪٍّا ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ .وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻛﺎﻧﻂ واملﺜﺎﻟﻴﻮن واﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﻮن اﻷواﺋﻞ ﺑﻤﻨﺄًى ﻋﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ؛ ﻓﻘﺪ أﻳﱠﺪوا ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﺑﻌﺾ ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﺜﻮرة اﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ،وﻛﺘﺒﻮا ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ،ﻟﻜﻨﻬﻢ رﺑﻤﺎ ﻟﻢ ﻳﻨﻘﻠﻮا ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ﴏﻳﺤً ﺎ ﺑﺄن اﻟﻨﺸﺎط اﻟﺴﻴﺎﳼ ﻳﻘﻊ ﺑﺎﻟﴬورة ﰲ ﺻﻤﻴﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،وذﻟﻚ ﺑﺴﺒﺐ اﻟﻜﺒﺖ اﻟﺬي أ ُ ِ ﺧﻀﻌﺖ ﻟﻪ اﻟﺮؤى اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺮادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ اﻟﺪول اﻷملﺎﻧﻴﺔ .وﻣﻦ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﺆ ﱢﻛﺪ ﻋﲆ أﻫﻤﻴﺔ أن ﻳﻮﺟﺪ ﻧﻮع ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺮﺑﻂ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ،ذﻟﻚ اﻟﻮﻋﻲ اﻟﺬي اﺳﺘﻬ ﱠﻠﻪ ﻫريدر وﺷﻠﻴﺠﻞ وﻫﻴﺠﻞ ﺑﺄن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ 60
ﻣﺎرﻛﺲ
ﺑﻄﺮق ﻟﻢ ﺗُ َ ﱡ اﻟﺘﻐريات املﺮﺑﻜﺔ اﻟﺘﻲ ﻮﺿﻊ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﻘﺪﻳﺮ ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ .وﺗﺆ ﱢﻛﺪ ﺗﺨﻀﻊ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ ٍ أﺣ َﺪﺛَﺘْﻬﺎ اﻟﺜﻮرة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﺘﺼﻨﻴﻊ واﻟﺘﻤﺪﱡن ،ﻋﲆ أن ﻓﻜﺮة وﺟﻮد ﻧﻈﺎم ﻋﺎملﻲ ﻣﺴﺘﻘ ﱟﺮ ً ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻟﻀﻐﻮط اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ .وﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠﻮﺣﺸﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼﺎﺣِ ﺐ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ﻗﺪ وﻗﻌﺖ اﻟﻮﻟﻴﺪة ،ﻓﻤﻦ ﻏري املﺴﺘﻐﺮب أن ﻳﺼﺒﺢ اﻟﺸﻚ ﰲ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻣﺮﺗﺒ ً ﻄﺎ ﺑﻔﻜﺮة أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ِ ﻣﺘﻮاﻃﺌﺔ ﻣﻊ اﻟﻈﻠﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ. رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻳﻨﺘﻘﺪ »اﻟﻬﻴﺠﻠﻴﻮن اﻟﺸﺒﺎب« — وﻫﻢ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻳﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻴﺴﺎري ،ﺷﻤﻠﺖ ﻟﻮدﻓﻴﺞ ﻓﻮﻳﺮﺑﺎخ ) (١٨٧٢–١٨٠٤وﻣﺎرﻛﺲ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎﺗﻪ — ﻫﻴﺠﻞ، ً رﻓﻀﺎ ﺗﺎﻣٍّ ﺎ .وﻳﻨﺼﺐﱡ ﺗﺮﻛﻴﺰﻫﻢ املﺒﺪﺋﻲ ﻋﲆ اﻟﺪﱢﻳﻦ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻻ ﻳﺮﻓﻀﻮن أﻓﻜﺎره ﻣﻦ أن ﻫﺪﻓﻬﻢ اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻫﻮ اﻟﺘﺤﻮﱡل اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ؛ ﺣﻴﺚ ﻛﺎن دﺧﻮل ﻣﻘﺎرﺑﺎت ﺟﺪﻳﺪة ﻋﻦ ﱡ اﻟﺘﻐريات اﻟﺤﺎﺳﻤﺔ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ اﻟﺘﺎرﻳﺦ إﱃ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﻫﻮ أﺣﺪ ﻋﴩ .وﻳﺜري ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﺗﺴﺎؤﻻت ﻋﻦ اﻷﺳﺎس اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻟﻸﻧﺎﺟﻴﻞ ،اﻟﺬي ﱠ َ ﺗﺒني ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺘﺰﻋﺰﻋً ﺎ ﺑﺸﺪة؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﺗﺼﺒﺢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷوﺳﻊ ﻟﻠﺪﻳﻦ ﻣﻮﺿﻊ ﺷ ﱟﻚ أﻛﱪ .وأﺣﺪ اﻟﺮدود ﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻫﻮ ﻓﻜﺮة أن ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺪﻳﻦ رﺑﻤﺎ ﻻ ﺗﻜﻤﻦ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺤﺮﻓﻴﺔ ﻟﻠﻜﺘﺐ املﻘﺪﺳﺔ؛ إذ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺪﻳﻦ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻫﺪﱠام َ وآﺧﺮ ﺑﻨﱠﺎء .ﻓﻤﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﻮﻧﻪ وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺴﻴﻄﺮة ﺗﻌ ﱢﺰز ﻣﻦ اﻟﺘﺴﻠﺴﻼت اﻟﻬﺮﻣﻴﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ،ﺗﻜﻮن ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺪﻳﻦ ﴐﺑًﺎ ﻣﻦ »اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ« ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ً ً اﺣﺘﻤﺎﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺒﺪو وﺳﻴﻠﺔ ﻟﺠﻌﻞ اﻟﺤﻴﺎة أﻛﺜﺮ اﻟﻄﺒﻘﺎت اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ،وﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﻮﻧﻪ ُ ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ ،ﻓﺈن اﻟﺪﻳﻦ ﻳُﺒﻘِﻲ ﻋﲆ اﻷﻣﻞ ﺑني املﻀﻄﻬَ ﺪﻳﻦ .وﻻ ﻳﻌﻨﻲ ﺗﻌﻠﻴﻖ ﻣﺎرﻛﺲ اﻟﺘﻐﻴري ﻋﻦ اﻟﺪﻳﻦ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره »أﻓﻴﻮن اﻟﺸﻌﻮب« أن اﻟﺪﻳﻦ ﳾء ﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﻣﺠﺮد ﻧﻴﺎم؛ ﺑﻞ إﻧﻪ ﻳﺠﻌﻞ أملﻬﻢ ﻣﺤﺘﻤَ ًﻼ .وﻟﻜﻦ دون اﻟﺪﻳﻦ ﺗﻔﻘﺪ ﻛﺜري ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺴﻠﻄﺔ رﻛﻴﺰﺗﻬﺎ ﻣ ِ ُﻔﺴﺤﺔ املﺠﺎل ﻟﺘﻐريات اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ رادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ .وﻟﻜﻦ ،ﻳﺠﺐ أن ﻳﻘﺪﱢم ﻫﺬا اﻟﺘﻐﻴري ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻧﻤﻮذجَ اﻷﻣﻞ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﰲ اﻟﺨﻴﺎل. اﻟﺬي ﻛﺎن ﻳُﻘﺪﱠم ﰲ ﻓﱰة ﻣﺎرﻛﺲ ،ﻧﺸﺐ ﴏاع ﻣﺘﺰاﻳ ُﺪ اﻟﻮﺿﻮح ﺑني إﻳﻤﺎن ﺣﺮﻛﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﺑﻘﺪرة اﻟﻌﻘﻞ ﻋﲆ ﺣ ﱢﻞ املﺸﻜﻼت ،واﻟﺸﻌﻮر اﻟﻔﺎﺟﻊ ﺑﺄن اﻟﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻋﺎﺑﺮ ٌة ﺑﺎﻟﴬورة وﻣﺆملﺔ .وإذا ﻟﻢ ﻳﻜﻦ أﻣﻞ ﻟﻠﺨﻼص اﻟﻔﺮدي دون اﻟﺪﻳﻦ ،ﻓﻴﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن اﻷﻣﻞ ﰲ اﺳﺘﻄﺎﻋﺔ اﻟﻔﺮد أن ﻳﻘﺪﱢم إﺳﻬﺎﻣﺎت ﰲ ﺣﻴﺎة اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺻﻨﻊ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ أﻓﻀﻞ ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ .وﻟﻜﻦ، ﻣﻦ ﻏري املﺆ ﱠﻛﺪ أﺑﺪًا إن ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة ذﻟﻚ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﺳﺘﻘﺪﱢم ﻋﺰاءً ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﻟﻠﻔﺮد ﰲ اﻟﻈﺮوف املﺆملﺔ .وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﻔﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ )وﻣﻨﺬ ﻳﻮﻣﺌﺬٍ( ،ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﻫﺪف اﻟﻔﺮد ﰲ اﻟﺘﻔﻮق اﻟﺬاﺗﻲ إﱃ اﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﺑﺎﻟﺬات ﰲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻐﺎﻳﺎت اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻟﻸﻣﺔ. 61
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
إن اﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ ﻓﻮﻳﺮﺑﺎخ ﻫﻲ إﻧﻘﺎذ ﻣﻀﻤﻮن اﻟﺪﻳﻦ اﻟﺬي ﺗُ ِﺮك ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺻﺎرت اﻻﻋﺘﻘﺎدات ﻧﺤﻮ ﺳريدﱢده ﻓﺮوﻳﺪ ً ً ﻻﺣﻘﺎ — أن ﻣﻀﻤﻮن ﻓﻜﺮة »اﻟﺪوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ« واﻫﻴﺔ .وﻫﻮ ﻳﺮى — ﻋﲆ ٍ اﻹﻟﻪ ﻫﻮ »إﺳﻘﺎط« ،وﺳﻮف ﻳﻜﺸﻒ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺬﻟﻚ ﻛﻴﻒ »اﻏﱰَبَ « اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻋﻦ أﻓﻀﻞ ﺻﻔﺎﺗﻪ ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﺳﻘﺎﻃﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﺼﺪر ﺧﺎرﺟﻲ؛ ﻓ »اﻹﻟﻪ املﺴﻴﺤﻲ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺠﺮد ﺗﺠﺮﻳﺪ ﻟﻠﺤﺐ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ« ،و»ﴎ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت ﻫﻮ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،واﻟﻮﺟﻮد اﻟﺒﴩي ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد اﻹﻟﻬﻲ« .إن ﻧﻘﺪ اﻟﺪﻳﻦ »ﻫﻮ ﻫﺪ ٌم ﻟ »وﻫﻢ« … ﻟﻪ … أﺛﺮ ﻣﺪﻣﱢ ﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﲆ ﻣﻌﺎﻛﺴﺎ ُ ً ﻃ ِﺮح ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي «.وﻳﻮﻇﻒ ﻓﻮﻳﺮﺑﺎخ رأﻳًﺎ ُ املﺒﻜﺮة ،واﻟﺬي ﻳﻮﺟﺪ ً املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻟﻌﻘ َﻞ ﻫﻮ أﻳﻀﺎ ﰲ ﻧﻘﺪ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻟﻬﻴﺠﻞ ،وﰲ ﻫﺬا اﻟﺮأي ﺗﺠﻌﻞ »املﻮﺿﻮع« واﻟﻮاﻗﻊ ﻫﻮ »املﺤﻤﻮل« .ﻓﻔﻲ املﺜﺎﻟﻴﺔ ،ﻳُﻔﱰَض أن اﻷﻓﻜﺎر املﺠﺮدة اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻮاﻗﻊ اﻷﺳﺎﳼ) .وﻛﻮن ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴري ﻣ ِ ُﻨﺼ ًﻔﺎ ﻟﻬﻴﺠﻞ ﻫﻮ أﻣ ٌﺮ ﻣﺸﻜﻮك ﻓﻴﻪ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺮض ﺑﻬﺎ ﻫﻴﺠﻞ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﻗﺪ ﺗﻤﻴﻞ إﱃ ﺗﺸﺠﻴﻌﻪ (.وﺗﺘﻀﺢ أﻫﻤﻴﺔ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم أﻓﻜﺎر ﻳ ﱠ ُﺘﻮﻫﻢ ﻧﺴﺒﺘﻬﺎ إﱃ ﻫﻴﺠﻞ — ﻛﺘﻠﻚ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑ »اﻟﺪوﻟﺔ« ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ املﻮﺿﻮع اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ،واﻷﻓﺮاد ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﻢ املﺤﻤﻮﻻت ﻟﻪ — ﻹﺿﻔﺎء اﻟﴩﻋﻴﺔ ﻋﲆ واﻗﻊ إﻗﻄﺎﻋﻲ ﻇﺎﻟﻢ .ﱠ ﻟﻜﻦ إﴏار ﻓﻮﻳﺮﺑﺎخ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻮد اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ اﻟﺤﴘ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎر أﻧﻪ اﻟﻮاﻗﻊ ً اﻟﺴﺎﺑﻖ ،اﻟﺬي ﺗﻮ ﱠﻟﺪ ْ ِ ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻻﻧﺘﻘﺎدات ﻧﺨﺎﻃﺮ ﺑﺎﻟﻮﻗﻮع َت ﻣﻨﻪ اﻷﻓﻜﺎر املﺠﺮدة ،ﻳﺠﻌﻠﻨﺎ ﻫﻴﺠﻞ ﻟﻠﻤﺒﺎﴍﻳﺔ؛ ﻓﻜﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻘﻮق اﻟﻔﺮد دون ﱡ ﺗﻮﺳ ٍﻂ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺸﻜﻞ اﻟﺠﻤﻌﻲ ﻟﻠﺪوﻟﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻬﺬه ﺣﺎﻟﺔ أﺧﺮى رﺑﻤﺎ ﻳﻌﻤﻞ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻘﻀﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺜﻴﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﺤﻀﺔ ﻋﲆ ﺣﺠﺐ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠﺘﺼﻮر اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ .وﻣﺎرﻛﺲ ﻫﻮ أول ﻣَ ﻦ اﻛﺘﺸﻒ ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺮ. اﻻﻏﱰاب ً ﻗﻀﻴﺔ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﻓﻜﺮة أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﻘﺪﱢم اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﻜﻮﺳﺔ ُ ُ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﻓﺄﺣﺪ ﻣﻼﻣﺢ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻫﻮ — ٍ ﺑﺪﻗﺔ — ﺗﻮﻟﻴ ُﺪ ﻧﻈ ٍﻢ ﻣﺠﺮدة ﻟﻬﺎ آﺛﺎر ﻣﺮﻏﻮﺑﺔ وﻛﺎرﺛﻴﺔ ﻋﲆ ﺣ ﱟﺪ ﺳﻮاء ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻮاﻗﻌﻲ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﺑﻌﻜﺲ املﻮﺿﻮع واملﺤﻤﻮل ﺗﺠﺴﻴﺪًا ﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ .وﻋﲆ ﻏﺮار اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ« ،ﻛﺎﻋﺘﻘﺎد ﺑﻌﺾ اﻷﺛﺮﻳﺎء أن اﻟﻔﻘﺮاء ﻛﺴﺎﱃ ،ﻳﻤﻜﻦ إﻇﻬﺎر أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗُﺴﺘﻤَ ﺪ ﻣﻦ ﳾء ﻏري ﻇﺎﻫﺮ ﰲ ﻣﻔﻬﻮﻣﻬﺎ ﻟﻨﻔﺴﻬﺎ. وﻳُﻌَ ﱡﺪ املﺎل ﻣﻦ املﺠﺎﻻت اﻟﻮاﺿﺤﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ اﺳﺘﻘﻼل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ﻓﺎملﺎل 62
ﻣﺎرﻛﺲ
ﻧﺤﻮ ﻣﺸﺎ ِﺑﻪ ﻟﻠﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺮﻳﺪ ﻟﻸﺷﻴﺎء املﻠﻤﻮﺳﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﴍاؤﻫﺎ ﺑﻪ ،وذﻟﻚ ﻋﲆ ٍ ﺗﻜﻮن ﺑﻬﺎ اﻟﻜﻠﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﲆ ﳾء ﺗﺠﺮﻳﺪًا ﻟﺠﺰﺋﻴﺔ اﻟﴚء ﻟﺠﻌﻠﻪ ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ ﻣﻦ اﻟﺘﺼﻮر. وﺗﻌﺘﻤﺪ اﻟﺼﻠﺔ ﺑني املﺎل واﻟﴚء ،واﻟﻜﻠﻤﺔ واﻟﴚء ،ﻋﲆ اﻟﱰﻛﻴﺐ املﻨﻬﺠﻲ ﻟﻠﻌﻨﺎﴏ ا ُملﺘﻜ ﱠﻠﻢ ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻓﻘﻴﻤﺔ اﻟﴚء ﺗُﺴﺘﻤَ ﺪ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﻨﺪﻣﺠً ﺎ ﰲ ﻧﻈﺎم ﻣﻦ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰات ،ﻻ ﻣﻦ أي ﳾء ﱢ ﻣﺘﺄﺻﻞ ﻓﻴﻪ .وﻣﺪﻋﺎة اﻟﻘﻠﻖ اﻷﺳﺎﳼ ﻟﺪى ﻣﺎرﻛﺲ أن ﺗﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر املﺠﺮدة رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﺗﻮاﺑﻊ ﻣﺪﻣﱢ ﺮة ﻋﲆ اﻷﻓﺮاد اﻟﺤﻘﻴﻘﻴني ،اﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺟﺰﺋﻴﻮن ﺑﺎﻷﺳﺎس ﺑﻴﻨﻤﺎ اﻷﻧﻈﻤﺔ ﻋﺎﻣﺔ، ُ وﻳ ِ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ ﺑني اﻟﻔﺮد واﻟﻨﻈﺎم املﺠﺎ َل ﻟﻸﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﺠﺎوز ﻣﻄﺎﻟﺐ ُﻔﺴﺢ ﻫﺬا اﻟﻨﻈﺎم ﺣﺎﺟﺎت اﻟﻔﺮد. إن ﻓﻜﺮة ﻣﺎرﻛﺲ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻫﻲ أن ﻣﺠﻤﻮع اﻷﻓﻌﺎل اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻔﺮد ﻳﺆدﱢي إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ ﻏري ﻣﻘﺼﻮدة؛ ﻓﻌﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ املﻘﺎﻳ ََﻀﺔ إﱃ اﻟﺘﺒﺎدُل اﻟﻨﻘﺪي ،ﺗﺤ ﱠﻮ َﻟ ْﺖ ﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﺘﺒﺎدل ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ أي ﳾء َ ﻃﺒﻴﻌﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﺑﺎﻟﻜﺎﻣﻞ؛ ﻷن ﻛﻞ ﳾء أﺻﺒﺢ ً آﺧﺮ .وﻋﲆ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻨﺎﻗﺪ أن ﻳﻔﻬﻢ ﻛﻴﻒ ﺗﻨﺸﺄ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ؛ ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﻐﻴريﻫﺎ ﻟﻸﻓﻀﻞ ،وﰲ أﻋﻤﺎل ﻣﺎرﻛﺲ اﻷوﱃ ﰲ أرﺑﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،ﻛﺎن ﻳُﻨ َ ﻈﺮ إﱃ ﻫﺬه اﻟﺘﻮاﺑﻊ ﺑﻤﻔﻬﻮم »اﻻﻏﱰاب« .وﻗﺪ اﺳﺘﺨﺪم ﻫﻴﺠﻞ ﻫﺬا املﺼﻄﻠﺢ ﻣﻦ ﻗﺒ ُﻞ ﻟﻠﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺪاﺛﺔ، واﺳﺘﺨﺪم ﻓﻮﻳﺮﺑﺎخ املﺼﻄﻠﺢ ﻟﻴﺼﻒ ﻛﻴﻒ ﻳﺘﻢ إﺳﻘﺎط اﻟﺼﻔﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻋﲆ اﻹﻟﻪ .ﻟﻘﺪ َ ملﻨﺎﻗ َﺸﺔ ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻌﴫ اﺳﺘﺨﺪِم ﻣﺼﻄﻠﺢ »اﻻﻏﱰاب« ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﻣﻦ اﻟﺘﻤﺪﱡن إﱃ اﻟﺘﺼﻨﻴﻊ ،ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻟﻺﺷﺎرة إﱃ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﻌﺪم اﻻﻧﺘﻤﺎء إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،وﻋﲆ ﻣﺪار ﻣﻌﻈﻢ ﻓﱰات اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ — ً وﻓﻘﺎ ﻟﻌﺒﺎرة ﻫﻮﺑﺰ — »ﺑﻐﻴﻀﺔ ،ووﺣﺸﻴﺔ ،وﻗﺼرية« ،ﻓﻠﻤﺎذا إذن ﻳﺒﺪو اﻻﻏﱰاب ﻇﺎﻫﺮ ًة ﺣﺪﻳﺜﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص؟ أﺣﺪ اﻷﺟﻮﺑﺔ ﻫﻲ أﻧﻪ ﻣﺘﺼ ٌﻞ ﺑﺰﻳﺎدات ﰲ اﻟﺤﺮاك اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ؛ ﻓﺎﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺸﻌﺮوا ﺑﻤﻨﻌﻬﻢ ﻋﻦ إدراك ﺣﻘﻴﻘﺔ ذواﺗﻬﻢ إﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻮﺟﺪ اﺣﺘﻤﺎل ﰲ أن ﻳﺼريوا ﺷﻴﺌًﺎ ً ﻣﺨﺘﻠﻔﺎ .وﺛﻤﺔ إﺟﺎﺑﺔ أﺧﺮى ﻧﺠﺪﻫﺎ ﰲ اﻟﻌﻼﻗﺔ املﺘﻐرية ﻟﻠﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وﻣﻊ ِ املﺒﺎﴍ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ أﺻﺒﺢ أﻗ ﱠﻞ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ ذﻟﻚ ﻓﺎﻟﺘﻐريات املﺘﻀﻤﱠ ﻨﺔ ﻫﻨﺎ ذات ﺣﺪﻳﻦ ،ﻓﺎﻟﺘﺄﺛري ﻣﻌﺎﻟﺠﺘﻬﺎ ﻟﺼﺎﻟﺢ اﻹﻧﺴﺎن ،ﻟﻜﻦ ا َملﻮ َ ْﺿﻌَ ﺔ املﻄﻠﻮﺑﺔ ﻟﻬﺬه املﻌﺎﻟﺠﺔ ﺗﺨﻠﻖ ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﺠﻮة ﺑني اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﺎرت اﻫﺘﻤﺎم اﻟﻨﺎس ﺑﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻧﻂ. ﻓﻤﺎ ﻫﻮ إذن املﺼﺪر اﻟﺤﺎﺳﻢ ﻟﻠﻔﺼﺎم ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ؟ ﻳﻮﺟﺪ ﻫﻨﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﴏاع ﻧﺒﻮﺋﻲ ﺑني اﻫﺘﻤﺎم »وﺟﻮدي« ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ وﺟﻮد »ﻣﻐﱰﺑﺔ« أﺳﺎﺳﻴﺔ ،ﺗﺠﻌﻞ اﻟﻔﺼﺎم ﺷﻴﺌًﺎ ﱢ ﻣﺘﺄﺻ ًﻼ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺒﴩﻳﺔ ،واﻫﺘﻤﺎم ﺗﺎرﻳﺨﻲ ﺑﺄن اﻟﻨﺸﺎط اﻟﺒﴩي ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺆدﱢي إﱃ وﻗﻮع 63
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻔﺼﺎم ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ املﺼﺎﻟﺤﺔ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﻇﺮوف أﺧﺮى. ً ﻃﺮﻗﺎ ﻟﺘﻘﺒﻞ ﴐورة ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ردﻋﻬﺎ ،ﺗُ ِ ﻔﴤ ﻏﺎﻟﺒًﺎ إﱃ ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻷول ً ً رﻣﺰﻳﺔ ﻟﻼﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻼﻏﱰاب ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﻄﻠﺐ اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺜﺎﻧﻲ وﺳﻴﻠﺔ رؤﻳﺔ اﻟﻔﻦ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ً ﱡ ً اﻟﺘﺪﺧﻞ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺷﻜﻼ ﻣﻦ اﻟﺨﻼص اﻟﻌﻠﻤﺎﻧﻲ ،ﺗﺼﺒﺢ ﻓﻴﻪ ﻋﻼﻗﺘﻨﺎ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺒﴩي. إن ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻻﻏﱰاب املﺒ ﱢﻜ َﺮة ﻟﺪى ﻣﺎرﻛﺲ ﰲ »ﻣﺨﻄﻮﻃﺎت اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ« ﻋﺎم ﱢ ﻣﺘﺄﺻ ًﻼ ١٨٤٤أﻛﺜﺮ ﺗﺤﺪﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﺘﺼﻮر اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ ﻟﻔﻮﻳﺮﺑﺎخ ،ﻓﻤﺎرﻛﺲ ﻳﺮى اﻻﻏﱰاب ﰲ آﻟﻴﺔ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺰﻋﻢ أن ﻛﻞ »ﺗﺨﺎ ُرج« ﻟﻘﻮة اﻟﻌﻤﻞ ﻟﺪى اﻟﻌﺎﻣﻞ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻏﱰاب؛ ﻓ »املﻮﺿﻮع اﻟﺬي ﻳﻨﺘﺠﻪ اﻟﻌﻤﻞ — أي ﻧﺎﺗﺞ اﻟﻌﻤﻞ — ﻳﻈﻬﺮ ﺑﺎملﻘﺎﺑَ َﻠﺔ ﻣﻊ اﻟﻌﻤﻞ ﻛﻜﺎﺋﻦ ﻣﻐﱰب ،ﻛﻘﻮة ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﻋﻦ املﻨﺘِﺞ «.وﻳﺴري ﻫﺬا املﻔﻬﻮم ﰲ ﻣﻨﺤً ﻰ »وﺟﻮدي« ﻟﺸﺨﺺ َ آﺧﺮ ﻣﻐﱰبٌ ﻧﺤﻮ ﻻ ﻧﺠﺪه ﰲ أﻫﻢ أﻋﻤﺎل ﻣﺎرﻛﺲ؛ ﻓﻬﻞ ﻛ ﱡﻞ ﻣَ ْﻦ ﻳﻨﺘﺞ ﺷﻴﺌًﺎ ٍ ﻋﲆ ٍ ﺑﺎﻟﴬورة؟ وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن أﻋﻤﺎل ﻣﺎرﻛﺲ املﺒﻜﺮة )اﻟﺘﻲ ﻇ ﱠﻞ ﻛﺜريٌ ﻣﻨﻬﺎ ﻏري ﻣﻌﺮوف ﺣﺘﻰ ﻣﻄﻠﻊ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ( ﺗﺤﻮي آراءً ﺑﺎرزة ﰲ اﻵﺛﺎر اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﻷﺷﻜﺎل اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔَ .ﻓ ﱢﻜ ْﺮ ﻛﻴﻒ ٌ ٍ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﺗﻌﺪ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ املﺼﺪر اﻟﺴﺎﺋﺪ ﻟﻠﺜﺮوة ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻮ ﺗﺼﻨﻴﻊ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ املﺎدﻳﺔ ﻋﻦ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﱢ املﺘﺄﺧﺮة — ﻋﲆ ﻧﻬﺞ املﻌﻠﻮﻣﺎت ﻓﻴﻬﺎ ﻫﻲ ذﻟﻚ املﺼﺪر؟ وﺗﺴري أﻋﻤﺎﻟﻪ املﺒﻜﺮة — ﺑﺨﻼف ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﻣﻨﺎﺳﺐ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﺑﻤﻔﻬﻮم ﻛﻮﻧﻪ ﻳﺘﻀﻤﻦ »اﻟﺒﻌﺚ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ،واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ املﺘﻄﻮرة ﻟﻺﻧﺴﺎن ،واﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ املﺘﻄﻮرة ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ« .وﻳﻮﺣﻲ ﻫﺬا ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ ﻣﻮازﻧﺔ اﺳﺘﻐﻼل املﻮارد اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﴬورة ﻋﺪم إﺧﻀﺎع اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﻟﻠﺤﺎﺟﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻓﻘﻂ .أﻣﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﻣﺎرﻛﺲ املﺘﺄﺧﺮة ،ﻓﺈن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺗﻤﻴﻞ إﱃ اﻟﻌﻤﻞ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،وﻟﻢ ﻳﺴﻬﻢ ﻫﺬا املﻨﻈﻮر اﻷﺧري إﻻ ﺑﺎﻟﻘﻠﻴﻞ ملﻨﻊ أن ﺗﺼﺒﺢ ﻓﻘﻂ ﻣﻮﺿﻮ َع ِ اﻟﺪول املﻔﱰَض أﻧﻬﺎ ﻣﺎرﻛﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،ﻣﺜﻞ اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ ،ﻣﻦ إﻧﺘﺎج ﻛﺎرﺛﺔ ﺑﻴﺌﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع املﻤﻴﱢﺰ ً ُ اﻟﺘﺠﺎﻫﻞ اﻟﻜﲇ أﻳﻀﺎ ﻟﻼﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺠﺸﻌﺔ ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻟﻠﺘﻜﺎﻣﻞ املﺴﺘﻘﻞ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ؛ ﻣﻦ أﺟﻞ إﺷﺒﺎع اﻟﺤﺎﺟﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﻐﺮﻳﺰﻳﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ. اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻟﺴﻠﻌﺔ ﻳﺴﻌﻰ ﻋﻤﻞ ﻣﺎرﻛﺲ اﻟﻮاﰲ ﰲ »رأس املﺎل« )املﻨﺸﻮر ﻣﺠﻠﺪه اﻷول ﻋﺎم (١٨٦٧إﱃ ﺗﺤﻠﻴﻞ آﻟﻴﺎت رأﺳﻤﺎﻟﻴ ِﺔ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،اﻟﺘﻲ أد ْ ﱠت إﱃ إﻓﻘﺎر اﻟﻜﺜريﻳﻦ ﰲ اﻗﺘﺼﺎدﻳﺎت ﺗﻨﺘﺞ 64
ﻣﺎرﻛﺲ
املﺰﻳ َﺪ ﻣﻦ اﻟﻐﻨﻰ واﻟﺜﺮوات دوﻣً ﺎ ﻟﻔﺌﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ .وﻳﻨﻄﻮي ﻫﺬا اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻋﲆ ﻣﻮﻗﻒ ﻧﻘﺪي ﺗﺠﺎه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ﻓﺎﻷﺷﻜﺎل اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻣﺎرﻛﺲ ﻟﻬﺎ وﻇﻴﻔﺔ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،واﻹﻧﺘﺎج اﻟﻔﻜﺮي ﻣُﻜﺒﱠﻞ ﺑﻤﻠﻜﻴﺔ وﺳﺎﺋﻞ اﻹﻧﺘﺎج ،وﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﺘﻘﺴﻴﻤﺎت اﻟﻄﺒﻘﻴﺔ املﻤﻴﱢﺰة ﻟﻠﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ،و»اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ« ﻫﻲ — ﻛﻤﺎ ﺻﺎﻏﻬﺎ ﰲ »اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻷملﺎﻧﻴﺔ« ﻋﺎم — ١٨٤٥أﻓﻜﺎر »اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ« .وﻟﻜﻦ ،ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﴬورة أن ﻳﺘﻀﻤﱠ َﻦ ﻫﺬا ﺧﺪاﻋً ﺎ واﻋﻴًﺎ ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ أوﻟﺌﻚ اﻟﺬي ﻳﻨﴩون اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﱪﱢر ﻣﺼﺎﻟﺤﻬﻢ ،ﻓﺎﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺆدﱢي دو َرﻫﺎ ﺑﻼ وﻋﻲ. َ َ وﻟﻮ أن ﻣﺎرﻛﺲ ﻧﻈ َﺮ إﱃ ﻧﻘﺪه ﻟﻸﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﺤﻀﺔ ،ﻟﻜﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﺗﻔﺴري اﻟﺮؤى اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﺑﺮﻣﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻘﻮى وأﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج .وﻳﺒﺪو ﻣﺎرﻛﺲ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺘﺤ ﱢﺮ ًﻛﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻻﺗﺠﺎه ،وﻳﻮﺣﻲ ﻫﺬا ﺑﻤﺸﻜﻠﺔ ﻣﻬﻤﺔ؛ ﻓ »رأس املﺎل« ﻳﻌﺮض ﻧﻔﺴﻪ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻛﻮﺻﻒ ﻋﻠﻤﻲ ﻟﻠﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ،وﻣﺎرﻛﺲ ﻣﻴﱠﺎل إﱃ ﺗﺒﻨﱢﻲ ﻓﻜﺮ ِة أن ﻣﻌﺮﻓﺔ ِ املﺒﺎﴍ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﻬﺪف اﻟﺴﻴﺎﳼ اﻟﻌﻤﲇ ﻟﺘﻐﻴريﻫﺎ. اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻟﻠﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻄﺮﻳﻖ وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻻ ﻳﺘﻌﺎرض ﻫﺬا ﻣﻊ اﻟﻘﻮل ﺑﺄن املﺠﺘﻤﻊ واﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻳﺨﻀﻌﺎن ﻟﻠﻘﻮاﻧني اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺷﻜﻞ أﻓﻀﻞ واﻻﻧﻄﻼق إﱃ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﱪﻳﺮ أي أﻓﻌﺎل ﻳُ َﺮى أﻧﻬﺎ ﴐورﻳﺔ ﻟﻠﻮﺻﻮل إﱃ ٍ ﻟﻠﻤﺠﺘﻤﻊ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﴐور ًة ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ .وﻻ ﺷﻚ أن اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ﺗﺨﻠﻖ ﴐورات ﻻ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ ﻣﺎرﻛﺲ ،ﻳﺘﻢ ﺗﺒﻨﱢﻲ أي ﺷﻜﻞ ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺑﻮﺟﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺠﻨﱡﺒُﻬﺎ؛ ﻓﻜﻤﺎ َ َ ﺑﺎﻫﻈﺔ اﻟﺘﻜﻠﻔﺔ وﻏري اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻔﻌﻞ اﻷﺷﻴﺎء ﻋﺎم ﺑﻤﺠﺮد أن ﻳﺠﻌﻞ ﻫﺬا اﻟﺸﻜﻞ ﱢ ﻓﻌﱠ ﺎﻟﺔ .واملﺴﺎﻓﺔ ﺑني ﻫﺬه اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻟﻄﺮق اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻋﲆ املﺠﺘﻤﻊ — واﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ أﺑﻌﺎد أﺧﻼﻗﻴﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ — ﻣﻬﻤﺔ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺘﺠﺎﻫﻠﻬﺎ ﻣﺎرﻛﺲ. وﻫﻮ ﻳﻘﺪﱢم ﻣﻘﺎرﺑﺘﻪ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻧﻤﻮذج »اﻟﻘﺎﻋﺪة« اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،اﻟﺬي ﻳُﺤﺪِث ﱡ ﺗﻐريات ﰲ »اﻟﺒﻨﻴﺔ« اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ،وﻳﻤﻜﻦ ﺗﻮﺿﻴﺢ املﻘﺎ َرﺑﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ آﺛﺎر اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺰراﻋﻲ إﱃ اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ،اﻟﺬي ﺳﺎﻋَ َﺪ ﰲ إﻧﻬﺎء اﻟﻨﻈﺎم اﻹﻗﻄﺎﻋﻲ .وﺗﺘﻀﺢ اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﰲ و ْ َﺻﻔﻪ ﻟ »ﺷﻜﻞ اﻟﺴﻠﻌﺔ«. ﱡ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﻟﻠﻘﻴﻤﺔ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻪ ﺑﺎدﻋﺎء ﻣﻜﺎﻧﺔ ﻣﻘﻴﺎس اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻳﺤﺎول ﻣﺎرﻛﺲ ٍ ﱟ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻟﻨﻈﺮﻳﺘﻪ ،ﻟﻜﻦ ﻣﻔﺘﺎح ﻧﻈﺮﻳﺘﻪ ﻋﻦ اﻟﻘﻴﻤﺔ ﻳﻘﻮﱢض ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻫﺬه املﻜﺎﻧﺔ ،وﻳﻔﺘﺘﺢ ﻣﺎ ﺳﻴﻜﻮن أﺣ َﺪ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ اﻟﻼﺣﻘﺔ .وﰲ ﻣﻘﺪﻣﺔ »ﻧﻘﺪ اﻻﻗﺘﺼﺎد اﻟﺴﻴﺎﳼ« ﻋﺎم ،١٨٥٩ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻣﺎرﻛﺲ ﻋﲆ أﻧﻪ »ﻟﻴﺲ وﻋﻲ اﻟﻨﺎس ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﻴﱢﺪ وﺟﻮدﻫﻢ ،ﺑﻞ ﻋﲆ اﻟﻌﻜﺲ وﺟﻮدُﻫﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻘﻴﱢﺪ وﻋﻴﻬﻢ «.وﻳﺘﻀﺢ اﻟﴫاع ﰲ 65
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻧﺤﻮ ﻟﻔﻈﺔ »ﻳﻘﻴﱢﺪ« ،واﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ »ﻳﺤﺪﱢد« ،ﺑﻤﻌﻨﻰ أﻧﻪ ﻳﺘﻢ ﺗﺤﺪﻳﺪ اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻋﲆ ٍ ﺮﺟﻤَ ِﺖ اﻟﻜﻠﻤﺔ ﺑﻤﻌﻨﻰ »ﻳﻘﻴﱢﺪ« ﻓﻴﻤﻜﻦ أن ﺗﻌﻨﻲ ﱟ ﺳﺒﺒﻲ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﺎﻧﻮن ﻋﻠﻤﻲ ،وﻟﻜﻦ إذا ﺗُ ِ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺜﻞ »ﻳﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ«؛ وﻫﺬا ﻳﻮﺣﻲ ﺑﺄن ﻟﺪﻳﻨﺎ درﺟﺔ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺬاﺗﻲ ،ﺣﺘﻰ وﻧﺤﻦ ﻣﺘﺄﺛﺮون ﺑﺎﻟﴬورة ﺑﻨﻮع املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺬي ﻧﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ .وﻳﺘﺤﺪث ﻣﺎرﻛﺲ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻋﻦ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ »وﻋﻴٍّﺎ ﻋﻤﻠﻴٍّﺎ«؛ ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﺗﻘﻴﱢﺪ وﻋﻴﻨﺎ )اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻲ أﻧﻬﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻌﻤﻞ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ أﺻﺤﺎبَ إراد ٍة ﺣﺮةٍ .واﻟﻌﺎﻣﻞ َ اﻵﺧﺮ اﻟﺬي ﻛﺄﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ( ،وﺗﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ أن ﻧﺼﺒﺢ ٍ ﻳﺤﺪﱢد/ﻳﻘﻴﱢﺪ وﻋﻴﻨﺎ ﻫﻮ ﺷﻜﻞ اﻟﺴﻠﻌﺔ ،اﻟﺬي — ﻣﺜﻠﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﻠﻐﺔ — ﻳﺨﺘﺰل اﻟﺨﺎص ﰲ اﻟﻌﺎم. ُ ﻗﻴﺎس ﻗﻴﻤﺔ اﻟﴚء ﻣﻦ ﺣﻴﺚ أﻫﻤﻴﺘﻪ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ،وﻫﺬا ﻣﺎ ﰲ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻳﺴﻤﻴﻪ ﻣﺎرﻛﺲ ﰲ أﺧﺮﻳﺎﺗﻪ» :ﻗﻴﻤﺔ اﻻﺳﺘﺨﺪام«؛ ﻓﺎﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ املﺤﻤﻮل اﻟﺬي أﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﻟﻪ ُ ﻣﻜﺎن أﺳﺘﻄﻴﻊ اﻟﻌﻤﻞ ﻗﻴﻤﺔ اﺳﺘﺨﺪا ٍم ﺗﺘﻤﺜﻞ ﰲ أﻧﻪ ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻨﻲ ﻣﻦ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﰲ أيﱢ ٍ ﻓﻴﻪ ،وﺗﺘﻀﺢ »ﻗﻴﻤﺘﻪ اﻟﺘﺒﺎدﻟﻴﺔ« ﰲ ﻛ ﱢﻢ املﺒﻠﻎ اﻟﺬي َ دﻓﻌْ ﺘُﻪ ﻟﴩاﺋﻪ ،أو ﻛ ﱢﻢ املﺒﻠﻎ املﺘﺤﻘﻖ ﰲ ﺣﺎل ﺑﻴﻌﻪ» ،وﻛﻤﺎ ﺗﺨﺘﻠﻒ اﻟﺴﻠﻊ ذات ﻗِ ﻴَﻢ اﻻﺳﺘﺨﺪام ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻨﻮﻋﻴﺔ ،ﺗﺨﺘﻠﻒ ً أﻳﻀﺎ اﻟﻘِ ﻴَﻢ اﻟﺘﺒﺎدﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﻜﻤﻴﺔ«؛ ﻓﺎﻟﻘﻴﻤﺔ اﻷﺧرية ﻋﻼﺋﻘﻴﺔ ،وﺗﺠﻌﻞ ﻗﻴﻤﺔ اﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ ﻣﺴﺎوﻳﺔ ﻷي ﳾء َ آﺧﺮ ﻟﻪ ﻧﻔﺲ اﻟﺴﻌﺮ .وﻳﺒﺤﺚ ﻣﺎرﻛﺲ ﻋﻦ اﻷﺳﺎس اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻠﻘﻴﻤﺔ ﰲ ﻣﺘﻮﺳﻂ »وﻗﺖ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﴬوري ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ« املﻄﻠﻮب ﻹﻧﺘﺎج ﳾء .وإذا ﻛﺎن املﺎﻟﻚ ﻟﻮﺳﺎﺋﻞ إﻧﺘﺎج ﳾءٍ ﻣﺎ ﱢ ﻳﺤﻘﻖ رﺑﺤً ﺎ ،ﻓﺈن وﻗﺖ اﻟﻌﻤﻞ املﺴﺘﻐ َﺮق ﻹﻧﺘﺎج اﻟﴚء ﻳﺰﻳﺪ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳ َ ُﺪﻓﻊ ﻟﻠﻌﺎﻣﻞ ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ املﺎﻟﻚ اﻟﺬي ﻳﺤﺼﻞ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻋﲆ »ﻗﻴﻤﺔ ﻓﺎﺋﻀﺔ« ﻏري ﻣﺪﻓﻮﻋﺔ .وﻣﻊ ً ﻧﺎﺟﺤﺔ ﻛﺄداة اﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ ،وﻫﻲ دﻋﻮى أﺧﻼﻗﻴﺔ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻸﺧﺬ ذﻟﻚ ،ﻓﻬﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ واﻟﺮ ﱢد ﻋﻦ اﻟﺘﻮزﻳﻊ ﻏري اﻟﻌﺎدل ﻟﻠﺜﺮوة. وﻣﺎ ﻳﺠﻌﻞ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺴﻠﻌﺔ ُﻣﻠِﺤﱠ ﺔ ﺟﺪٍّا ﻟﻠﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﻼﺣﻘني ،ﻣﺜﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ وأدورﻧﻮ واملﺎرﻛﴘ املﺠَ ِﺮيﱢ ﺟﻮرج ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ ،ﻫﻮ ﺻﻠﺘﻬﺎ ﺑﻤﺼري املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .ﻓﺈذا ﱢ ُ ﻫﺪف املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻫﻮ ﻧﻈﺎم ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺪﻣﺞ ﻛﻞ ﳾء ﰲ ﴍوﻃﻪ ،ﻓﻤﻦ املﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ ﻛﺎن إﱃ ﺳﻮق اﻟﺴﻠﻌﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻨﻈﺎم؛ ﻓﺄي ﻣﻮﺿﻮع ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻤﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻗﻴﻤﺘﻪ َ اﻟﺘﻜﻮﻳﻦ اﻟﴪﻳﻊ ﻟﻠﺜﺮوة واﻹﺑﺪاع اﻟﺘﻘﻨﻲ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺴﻬﻴﻞ ﺗﺒﺎدُل اﻟﺘﺒﺎدﻟﻴﺔ .وﻳﺘﻴﺢ اﻟﻨﻈﺎ ُم ﺗﺴﺎؤل ﻋﲆ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ؛ ﻓﻬﻮ ﻣﺜﻞ ﻛﻠﺒﻴﱠﺔ أوﺳﻜﺎر واﻳﻠﺪ اﻟﺒﻀﺎﺋﻊ وﻧﻘﻠﻬﺎ ،ﻛﻤﺎ أن ﻟﻪ آﺛﺎ ًرا ﻣﺤ ﱠﻞ ٍ »ﻳﻌﺮف ﺛﻤﻦ ﻛﻞ ﳾء وﻻ ﻳﻌﺮف ﻗﻴﻤﺔ أي ﳾء «.وﻫﻮ ﻳﺠﺴﺪ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺬي ﺟﻌﻞ ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﻳﺮى ﻣﺬﻫﺐ إﺳﺒﻴﻨﻮزا ﻋﲆ أﻧﻪ ﻋﺪﻣﻴﺔ؛ أﻋﻨﻲ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺬي ﺗﻜﻮن ﺑﻪ اﻷﺷﻴﺎءُ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﺤﺴﺐ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ »ﻗﻴﻮدﻫﺎ« .وﻳﻬﺘﻢ ﻣﺎرﻛﺲ ﺑﺎﻟﻘﻮة اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ ﻟﻠﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ 66
ﻣﺎرﻛﺲ
ً ﻣﺮﺣﻠﺔ ﴐورﻳﺔ ﻣﻦ ﺗﻄﻮﱡر اﻹﻧﺘﺎج اﻟﺒﴩي ،وﻟﻴﺲ ﻋﲆ ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ؛ إذ ﻳﺮى اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ﻫﻨﺎك ﳾءٌ ﻳﺠﺐ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﻬﺪﻳﺪي .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﻬﺘﻢ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻤﺎ ﻻﻫﻮﺗﻲ ﻟﻠﻘﻴﻤﺔ ﻳﺘﺠﺎوَز ﻋﺎﻟﻢ »اﻟﴩوط أﺳﺎس وراء ﺷﻜﻞ اﻟﺴﻠﻌﺔ .وﻗﺪ ﺑﺤﺚ ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﻋﻦ ٍ ﱟ املﻘﻴﺪة« ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﻨﺎول ﻣﺎرﻛﺲ اﻻﻧﺘﻘﺎل إﱃ ﻣﺎ وراء ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻤﻔﻬﻮم اﻟﺜﻮرة اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ُ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻌﻤﱠ ﺎل اﻟﻜﺎدﺣني )اﻟﱪوﻟﻴﺘﺎرﻳﺎ( اﻟﻨﻈﺎ َم اﻟﺬي ﻳﻈﻠﻤﻬﻢ. واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺤﻮ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﺤﻮ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ أو ﻋﺪﻣﻪ ﻋﲆ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﻳﻔﴪ ﺑﻬﺎ املﺮءُ وﻳﻌﺘﻤﺪ ﻣﺎ ﺳﻴﺼﺎﺣﺐ ذﻟﻚ ﻣﻦ ٍ َ ِ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﱄ ،ﺳﻮف ﻧﺪرس ﻧﻴﺘﺸﻪ؛ ﻓﺎﺧﺘﻼف ﺗﻔﺴري ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻹﺧﻀﺎع ﻫﺪف اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ ﺗﻔﺴري ﻣﺎرﻛﺲ ﻫﻮ إﺷﺎر ٌة إﱃ اﻟﴫاﻋﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﺘﻬﻴﱢﺊ اﻷﺟﻮاءَ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ. ﻫﻮاﻣﺶ (1) © PRISMA/VWPICS/TopFoto.
67
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس
ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ«
ﻋﻮدة اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﺗﺘﺄ ﱠﻛﺪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻻزدواﺟﻴﺔ ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺸﻚ ﰲ أن ﻣﺎ رآه ﻛﺎﻧﻂ واملﺜﺎﻟﻴﻮن اﻷملﺎن ﻋﲆ أﻧﻪ ﺣﺮﻳﺔ إرادة ﻟﻴﺲ ﺳﻮى اﻟﻐﺮﻳﺰة املﻘﻨﱠﻌَ ﺔ ﻟﻠﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻟﺬات .وﻫﻨﺎ ،ﻳﺤ ﱡﻞ ﻧﻮ ٌع ﻣﺨﺘﻠ ٌ ِﻒ ﻣﻦ »اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ« — ﻳ َ ُﻌﺘﱪ اﻟﴫاع ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﻮﺟﻮد ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﻘﻮة اﻟﺪاﻓﻌﺔ اﻟﺨﻔﻴﺔ ﻟﻠﻌﻘﻞ — ﻣﺤ ﱠﻞ إﻋﺎد ِة اﻟﺘﻘﻴﻴﻢ اﻹﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﺪى ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ وﻣﺎرﻛﺲ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎﺗﻪ .وﻗﺪ ﺟﺮﻳﺖ دراﺳﺎت أﺑﻠﻎ ﺗﺄﺛريًا ﻋﻦ ﺗﺪاﻋﻴﺎت ﻫﺬا اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﺣﺮﻳﺔ اﻹرادة ﰲ أﻋﻤﺎل آرﺛﺮ أُ ِ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ) (١٨٦٠–١٧٨٨وﻓﺮﻳﺪرﻳﻚ ﻧﻴﺘﺸﻪ ).(١٩٠٠–١٨٤٤ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻟﻌﻤﻞ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور اﻟﺮﺋﻴﴘ »اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺈرادة وﺗﻤﺜﻴﻞ« )ﻧ ُ ِﴩ ﻟﻠﻤﺮة اﻷوﱃ ﻋﺎم ري ﻓﻌﻠﻴٍّﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻇﻬﺮ ﻟﻠﻤﺮة اﻷوﱃ. ،١٨١٨ﺛﻢ ﰲ ﻧﺴﺨﺔ ﻣﺰﻳﺪة ﻋﺎم ،(١٨٤٤أيﱡ ﺗﺄﺛ ٍ وﻛﺎن دﻓﺎع رﻳﺘﺸﺎرد ﻓﺎﺟﻨﺮ اﻟﺤﻤﺎﳼ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎب وﻇﻬﻮر ﻛﺘﺎب دارون ﻋﻦ أﺻﻞ اﻷﻧﻮاع ﻋﺎم ،١٨٥٩ﺑﺘﺪاﻋﻴﺎﺗﻪ املﺪﻣﺮة ﻟﻠﺼﻮرة اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﻟﻠﺒﴩﻳﺔ ،ﻫﻮ ﻣﺎ ﺳﺎﻋَ َﺪ ﰲ أن ﻳﺼﺒﺢ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻷﻋﻈﻢ أﺛ ًﺮا ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎن ﻟﻪ ً أﻳﻀﺎ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ اﻷﺛﺮ اﻷﻛﱪ ﻋﲆ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﰲ ﻣﻄﻠﻊ ﻗﺎﺑﻞ ﻧﺤﻮ ٍ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،ﺣﻴﺚ أﺛﱠﺮ ﻋﲆ ﺗﻮﻣﺎس ﻣﺎن وﺟﻮﺳﺘﺎف ﻣﺎﻳﻠﺮ وآﺧﺮﻳﻦ .وﻋﲆ ٍ ﻟﻠﺠﺪل ،ﻓﺈن راﺋﻌﺔ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻟﻴﺴﺖ ً ﻋﻤﻼ ﻓﻠﺴﻔﻴٍّﺎ ﻣﻘﻨﻌً ﺎ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ،ﻟﻜﻦ اﻹﺷﺎرة إﱃ ﻋﻴﻮب ﰲ ً أﻫﻤﻴﺔ ﻋﲆ ﻋﻤﻞ اﻟﺤﺠﺞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺨﻔﻖ — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ — ﰲ اﻟﻜﺸﻒ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻀﻔﻲ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف .واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻷوﺿﺢ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎب أﻧﻪ ﻋﻤﻞ ﻣﻦ اﻹﻟﺤﺎد واﻟﺘﺸﺎؤم اﻟﺘﺎمَ ، أدﺧ َﻞ ً ﺗﺮاﺟﻴﺪﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪ ًة ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ. ﺳﻤﺔ ﻣﻤﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﻧﻜﺎره أﻧﻪ ﻻ ﻣﺠﺎل ﻟﻠﺘﻔﻜري ﰲ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ أو ﺗﺼﻮﱡرﻫﺎ دون اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ،ﺑَﻴْ َﺪ أﻧﻪ ﰲ املﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ أﺻﺒﺤﺖ اﻟﴬورة اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ أﻣ ًﺮا ﻣﺤﺘﻤَ ًﻼ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﴐورة اﻟﺘﻐﻴري .ﻓﺮﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻣَ ْﺴ ً ﻠﺨﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻌﻘﻞ ﻳﺒﻠﻎ ُ ﻧﻬﺎﻳﺔ »أورﻳﺴﺘﻴﺎ« ﻷﺳﺨﻠﻴﻮس ﻣﺮاﺣﻞ أﻋﲆ ﻣﻦ اﻟﺘﻄﻮر ﻣﻦ ﺧﻼل إراﻗﺔ اﻟﺪﻣﺎء .وﺗُﻌَ ﱡﺪ — اﻟﺘﻲ ﻳﻨﺒﺜﻖ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻈﺎم ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻠﻌﺪاﻟﺔ ﻣﻦ وﻃﻴﺲ اﻟﺮﻋﺐ اﻟﺬي ﻳﺴﺒﻘﻪ — ﻧﻤﻮذﺟً ﺎ اﺳﺘﺪﻻﻟﻴٍّﺎ ﻫﻨﺎ .وﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻻ ﻳﺤﻤﻞ اﻟﺘﺄوﻳﻞ اﻟﻼﻣﺜﺎﱄ ﻟﻠﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ — املﻮﺟﻮد َ »اﻵﺧﺮ« ﻋﲆ ﻟﺪى ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﰲ أﺧﺮﻳﺎﺗﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور وﻧﻴﺘﺸﻪ — ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﺧﻼﺻﻴٍّﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﻄﻐﻰ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻟﻠﻨﻈﺎم ،وﻣﺜﺎل ذﻟﻚ ﻋﻘﺪة أودﻳﺐ اﻟﺬي ﻳﺼﺒﺢ ﻋﻦ ﻏري ﻗﺼﺪ ً ﻗﺎﺗﻼ ﻷﺑﻴﻪ وزوﺟً ﺎ ﻷﻣﻪ ،أو دﻣﺎر املﺪﻳﻨﺔ ﺑﻘﻮى ﻣﻦ ﺧﺎرﺟﻬﺎ ﰲ »اﻟﺒﺎﺧﻮﺳﻴﺎت« .إن اﻟﺒﺪﻳﻞ اﻟﱰاﺟﻴﺪي املﺘﺸﺎﺋﻢ ﻟﻠﻨﻈﺮة املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻣﻀﻤﻦ ﰲ ﴍح ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻟﻜﺎﻧﻂ؛ إذ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﻧ ُ ُ ﻈﻢ اﻟﻘﺮاﺑﺔ ،وﻫﻲ أﺑﺴﻂ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻨﻈﺎم اﻟﺒﴩي ،ﻧﻮﻋً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻬﻮﻳﺎت ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﱠ ً ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل املﺘﻠﻘﺎة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻻ ﺗﺼري املﻌﺮﻓﺔ .وﻳﺮى ﻛﺎﻧﻂ أن املﺎدة اﻹدراﻛﻴﺔ ٍ ﻣﻘﻮﻻت وﺗﺼﻮرات ﰲ أﺣﻜﺎم ﺗﺘﻴﺢ اﻟﺘﻌ ﱡﺮف ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻮاﺳﻄﺔ املﺎدة اﻷﺧﺮى. ﺗﺼﻨﻴﻔﻬﺎ ﺿﻤﻦ وﰲ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ،ﺗﻜﻮن اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻟﻠﺘﻌ ﱡﺮف ﻣﻬﺪﱠدة ﺑﺎﻻﻧﻬﻴﺎر ﻟﻜﻮن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺘﺠﺎوز ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻋﻨﻪ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻫﺬا ﻋﲆ أﻧﻪ أﺳﻠﻮب َ آﺧﺮ ﻟﺘﻔﺴري »اﻟﴚء ﰲ ذاﺗﻪ« ﻋﻨﺪ ﻛﺎﻧﻂ؛ ﺣﻴﺚ ﻳﺆدي »ﺗﺠﺎوز« اﻟﻌﺎﻟﻢ ملﻌﺮﻓﺘﻨﺎ إﱃ ﻣﻮاﻗﻒ ﺗﺮاﺟﻴﺪﻳﺔ، ﻳﺘﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﺗﺨ ﱢ ﻄﻲ ﻧﻈﺎ ِم اﻟﻘﺮاﺑﺔ ﺑﻤﺎ ﻳﺆدي إﱃ ِﺳ َﻔﺎح املﺤﺎرم وﻗﺘﻞ اﻷم وﻗﺘﻞ اﻷب وﻗﺘﻞ اﻷخ أو اﻷﺧﺖ … إﱃ ﻏري ذﻟﻚ .وﻻ ﻳﻔﺼﻞ ﻓﻜﺮة »اﻟﺘﺠﺎوز« ﻋﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻼوﻋﻲ ﻟﻔﺮوﻳﺪ، اﻟﺘﻲ ﺗﺄﺛﱠﺮت ﺑﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ،ﺳﻮى ﺟﺰﺋﻴﺔ ﺻﻐرية؛ ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ،ﻣﺎ ﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮ — أﺳﺎس ﻣﻦ اﻟﻼوﻋﻲ ،وﺑﺬﻟﻚ ﺗﺼﺒﺢ ﺗﻔﺮﻗﺔ ﻛﺎﻧﻂ ﺑني ﻛﺄﻓﻜﺎر اﻷﻧﺎ ﻟﺪى ﻓﺮوﻳﺪ — ﻳُﻬﺪَم ﻋﲆ ٍ ً »املﻈﺎﻫﺮ« و»اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ذواﺗﻬﺎ« ﺗﻔﺮﻗﺔ ﺑني اﻟﻌﺎﻟﻢ ﮐ »ﺗﻤﺜﻴﻞ« واﻟﻌﺎﻟﻢ ﮐ »إرادة«. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺮى ﻛﺎﻧﻂ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ وﺻﻮ ٌل إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﺣ ﱢﺪ ذاﺗﻪ ،ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺤﻈﻰ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴﺔ وﺻﻮل إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﺈرادة ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﺠﺎرب ﻧﻤﻠﻚ اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﻣﺜﻞ اﻟﺠﻮع واﻟﺪواﻓﻊ اﻟﺠﻨﺴﻴﺔ .واﻟﺘﻤﺜﻴﻼت ﻫﻲ ﻣَ ﻮ َ ْﺿﻌَ ﺔ ﻟ »اﻹرادة« اﻟﻼﻇﺎﻫﺮة ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﺳﺎﺳﻬﺎ؛ »ﻓﺎﻷﺳﻨﺎن واملﺮيء واﻷﻣﻌﺎء ﻫﻲ ﺟﻮع ﻣُﻤَ ﻮ َ ْﺿﻊ ،واﻷﻋﻀﺎء اﻟﺘﻨﺎﺳﻠﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺪاﻓﻊ اﻟﺠﻨﴘ ا ُملﻤَ ﻮ َ ْﺿﻊ« ،وﻳﻄﻠﻖ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻋﲆ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس ﻣﺴﻤﱠ ﻰ »اﻹرادة« ﻷﻧﻬﺎ — ﻣﺜﻞ اﻷﺳﺎس »املﻌﻘﻮل« ﻟﺤﺮﻳﺔ اﻹرادة اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ — ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺰءًا ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺰﻣﻜﺎﻧﻲ ،ﻟﻜﻦ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻳﻌﺎرض ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ ٍ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ أﺧﻼﻗﻴﺔ ﰲ اﻹرادة؛ ﻓﻬﻲ داﻓﻊ أﻋﻤﻰ ِ ﱢ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻷﺷﻜﺎل املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ َ وﻫﺪْﻣﻬﺎ .واﻟﻮﺻﻮل إﱃ اﻹرادة ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻌﺮﻓﻴٍّﺎ؛ ﻷن ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ »اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ« ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﺬه ﺣﺎﻟﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ »اﻟﺤﺪس« ،وﻫﻲ ﺗﻄﺮح 70
ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ«
ﻣﺠ ﱠﺪدًا اﻟﺴﺆا َل ﻋﻦ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﴍﻋﻨﺔ اﻟﺪﻋﺎوى املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﺤﺪس. ﻓﻜﻴﻒ »ﻋﺮف« ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور أن ﺻﻮرﺗﻪ ﻫﻲ اﻟﺼﻮرة املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ اﻟﺤﻘﺔ ﻟﻠﻜﻮن؟ وﻟﻜﻦ ﱠ ُ إﺛﺒﺎت وﺟﻬﺔ اﻟﻨﻈﺮ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻓﺈن رؤﻳﺘﻪ ﺗﻜﺸﻒ ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﻳﺘﺴﻦ ﻣﺮة أﺧﺮى ﺣﺘﻰ إذا ﻟﻢ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻬﺎ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ اﺧﺘﺰال اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻓﻤﻦ املﺬﻫﻞ رﻏﻢ ذﻟﻚ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﻧﺘﴩت ﺑﻬﺎ ر ًؤى ﻋﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ املﻌﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻮاﻗﻊ — ﻣﻦ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور إﱃ دارون إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ — ﰲ ٍ وﻗﺖ ﺗﻨﺘﺞ ﻓﻴﻪ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻋﺎ ًملﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﺳﻴﺎﺳﻴٍّﺎ ﻣﺘﺰا ِﻳﺪ اﻟﻌﺪاء ،ﻳﺘﺤﺮك ﺻﻮب اﻟﺤﺮوب اﻟﻌﺎملﻴﺔ واﻟﻬﻮﻟﻮﻛﻮﺳﺖ. ً وﻟﻌﻠﻪ ﻣﻦ املﻔﺎﺟﺊ أن ﻳﻘﱰح ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور رؤﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﺠﻮﻫﺮ اﻟﻼزﻣﺎﻧﻲ ملﻮﺿﻮﻋﺎت اﻟﻌﺎ َﻟﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ اﻟﻌﺎﺑﺮة املﺘﻨﺎﻓﺴﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺎﻟﺠﻮﻫﺮ املﺆﺛﱢﺮ ﻟﺮؤﻳﺔ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ﻳﻜﻤﻦ ٍّ إﺣﺴﺎس ﺑﺎﻟﻐﺎﺋﻴﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ أو اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻫﻮ »ﻋﻠﻢ ﺣﻘﺎ ﰲ ﻣﻌﺎرﺿﺘﻪ ﻷيﱢ ٍ اﻟﺤﻴﻮان« ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺠﻨﺲ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﻌﺎﻗﻞ ،وﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﻤﴤ ﺑﺎﺗﺠﺎه ﻫﺪف .وﺛﻤﺔ ﻃﺮﻳﻘﺔ واﺣﺪة ﻓﻘﻂ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي أن ﻳﻔ ﱠﺮ ﻣﻦ ﻋﺎﻟ ٍﻢ ﻳﺄﻛﻞ ﻓﻴﻪ أو ﻳُﺆ َﻛﻞ ،وﻫﺬه اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﱢ املﺘﺄﺻﻞ ﰲ اﻹرادة إﻧﻤﺎ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻨﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎت ﻣﺘﻔ ﱢﺮدة. ﻫﻲ إدراك أن وَﻋْ ﻴَﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺬاب وﻧﺤﻦ ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺑﻀﻌﻔﻨﺎ وﻓﻨﺎﺋﻨﺎ ﻷن اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﺬات ﻳﻔﺼﻠﻨﺎ ﻋﻦ ﺑﻘﻴﺔ اﻟﻮاﻗﻊ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻘﻮدﻧﺎ ﻫﺬا اﻟﻮﻋﻲ إﱃ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ وﺳﺎﺋﻞ ﻟﻠﻔﺮار ﻣﻦ اﻟﺘﻔﺮدﻳﺔ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور اﻟﺠﺪ؛ ﻓﻬﻮ ﻳﺴﺘﻌني ﻣﻦ أواﺋﻞ اﻟﻨﺎس ﰲ أوروﺑﺎ اﻟﺬﻳﻦ أﺧﺬوا اﻟﻔﻠﺴﻔﺎت ﻏري اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣَ ﺄ ْ َﺧﺬ ِ ِ ﻃﺮﻳﻘﺔ اﻟﻔﺮار ﻣﻦ اﻟﺴﺠﻦ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﺗﺴﻮﻗﻪ اﻹرادة. ﺑﻔﻜﺮة اﻟﻨﺮﻓﺎﻧﺎ اﻟﺒﻮذﻳﺔ ﻻﻗﱰاح وﻳَﻌﺘﱪ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور اﻟﺘﺄﻣﱡ َﻞ اﻟﺠﻤﺎﱄ ﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﺜﲆ ﻟﻠﻔﺮار — وإن ﻛﺎﻧﺖ ﻣﺆﻗﺘﺔ — ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد ،واملﻮﺳﻴﻘﻰ ﻫﻲ اﻟﻔﻦ اﻟﺬي ﻳﺘﻴﺢ ﻫﺬا اﻟﻔﺮا َر ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ ِ ﻣﺒﺎﴍ ﻟﺤﺮﻛﺔ اﻹرادة، اﻷﻣﺜﻞ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻤﺜﻴﻠﻴﺔ ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية .ﻓﺎملﻮﺳﻴﻘﻰ ﻫﻲ ﺗﺠﺴﻴﺪ وﻧﻤﻮذﺟﻪ ﻫﻮ اﺑﺘﻌﺎد اﻟﻠﺤﻦ ﻋﻦ اﻟﻘﺮار املﻮﺳﻴﻘﻲ وﻋﻮدﺗﻪ إﻟﻴﻪ؛ ﻓﺘﻠﻚ املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﻌﻜﺲ ِ ﺳﺨﻄﻨﺎ ﻛﻴﻒ ﺗﺘﺤﺮك اﻹرادة ﻣﻦ اﻹﺷﺒﺎع إﱃ اﻟﺴﺨﻂ ،ﺛﻢ ﻋﻮدًا .وﺗﺴﺘﺨﺪم املﻮﺳﻴﻘﻰ ﻣﺼﺪ َر ٍ راﺣﺔ ﻣﻨﻪ؛ ﻓﻬﻲ »ﻻ ﺗﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻷﺷﻴﺎء ،ﺑﻞ ﻋﻦ ﻻ ﳾء ﺳﻮى اﻟﻌﺎﻓﻴﺔ ﻹﻋﻄﺎﺋﻨﺎ ﻓﱰ َة واملﺤﻨﺔ ،اﻟﻠﺘني ﻫﻤﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺘﺎن اﻟﻮﺣﻴﺪﺗﺎن ﻟﻺرادة «.وﻫﺬه ﻫﻲ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺘﻲ أﺛﱠﺮت ﻋﲆ ﻓﺎﺟﻨﺮ ،وﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﰲ »ﺗﺮﻳﺴﺘﺎن وإﻳﺰوﻟﺪه« واﻷﺟﺰاء اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻣﻦ »ﺣﻠﻘﺔ اﻟﻨﻴ ِﺒﻠُﻨﻐني« .وﺗﻘﺪم ﻫﺬه اﻷﻋﻤﺎل اﻷوﺑﺮاﻟﻴﺔ رؤى اﻟﻌﺒﺜﻴﺔ املﻄﻠﻘﺔ ﻟﻠﺘﻄﻠﻌﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻌﺎرض 71
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻣﻊ اﻟﺘﻌ ﱡﻠﻖ املﺒ ﱢﻜﺮ ﻟﻔﺎﺟﻨﺮ ﰲ أرﺑﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﺑﻔﻜﺮة اﻟﺜﻮرة املﺨ ﱢﻠﺼﺔ اﻟﻘﺎﺋﻤﺔ ﻋﲆ اﻟﺤﺐ ،واﻟﺘﻲ اﺳﺘﻤﺪﱠﻫﺎ ﻣﻦ ﻓﻮﻳﺮﺑﺎخ. أﺑﻮﻟﻮ ودﻳﻮﻧﻴﺴﻮس اﺳﺘﻬﻮى ﺗﺸﺎؤم ﻓﺎﺟﻨﺮ اﻷوﺑﺮاﱄ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ِﺻ َﻐﺮه ،ورأى أن املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﻌﻜﺲ ﻋﺮض ﻣﻈﻬﺮ ﺟﻤﺎﱄ ﱟ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﺈن ﻋﻤﻠﻪ ﻛﻜ ﱟﻞ ﻳﻤﺜﱢﻞ ازدواﺟﻴﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻷﺳﻮأ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺷﻜﻞ ٍ ﰲ ﺗﻘﻮﻳﺾ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻟﻌﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت؛ ﻓﻬﻮ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﺗﺸﺎؤم ﻛﺘﺸﺎؤم ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور أو ﺗﺸﺎؤم ﻓﺎﺟﻨﺮ ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ اﻷﺧرية ،إﱃ ﻓﻜﺮة أن اﻟﺮؤﻳﺔ املﺘﺸﺎﺋﻤﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة ﻫﻲ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﻘﻴﺔ اﻋﺘﻘﺎدات ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ وﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ ﻣﺨﻴﱢﺒﺔ ﻟﻶﻣﺎل؛ ﻓﻔﻜﺮة اﻟﻨﻈﺮ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﻜﺎن ﻣﺮﻳﻊ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻣﻌﻨًﻰ إﻻ إذا ﻛﺎن املﺮء ﻳﻈﻦ ﰲ وﺟﻮد ﻋﺎﻟﻢ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻏري ﻣﺮﻳﻊ ،ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺧﻼﻟﻪ اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وإذا ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻜﺮة ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ وﻫﻤً ﺎ ،ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻤﺮء أن ﻳﻘ ﱠﺮ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻧﺤﻴﺎ ﻓﻴﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .واﻟﺒﺪﻳﻞ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﻌﻨﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑ »اﻟﻌﺪﻣﻴﺔ« ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻔﻘﺪان اﻻﻋﺘﻘﺎدات املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ واﻹﺧﻔﺎق ﰲ ﻗﺒﻮل اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ؛ ﻓﺎﻹﺧﻔﺎق ﰲ ﻗﺒﻮل أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻣﺪﻋﺎة ﻟﻠﺠﻮاﻧﺐ املﺮﻳﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ ﻳﻮ ﱢﻟﺪ »اﻻﺳﺘﻴﺎء« ،وﻫﻮ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ إﻟﻘﺎء اﻟﻠﻮم ﻋﲆ ﳾء ﺧﺎرﺟﻲ َ »أﺧﻼق اﻟﻌﺒﺪِ« املﺴﻴﺤﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺑﺴﺒﺐ ﻣﻮﻗﻒ املﺮء ،واﻻﺳﺘﻴﺎء ﻫﻮ ﺳﻤﺔ ﻣﻤﻴﱢﺰة ملﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ اﻟﺨﻼص ﻣﻦ املﻌﺎﻧﺎة ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻇﻬﺎر أن ﻟﻠﻤﻌﺎﻧﺎة ً َ ﻏﺎﻳﺔ. ﺗﺒﻐﻲ ﻳﻌﺘﻤﺪ أول ﻋﻤﻞ ﺑﺎرز ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ »ﻣﻮﻟﺪ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻣﻦ روح املﻮﺳﻴﻘﻰ« ) (١٨٧١ﻋﲆ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور ،اﻟﺘﻲ ﻳﱰﺟﻤﻬﺎ إﱃ ﺣﺒﻜﺔ ﻣﺴﺘﻤَ ﱠﺪ ًة ﻣﻦ املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ اﺳﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﺷﻠﻴﺠﻞ وﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻟﻠﺮﻣﺰ إﱃ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ املﻨﻘﺴﻤﺔ .ﻳﺮﻣﺰ »أﺑﻮﻟﻮ« إﱃ ﻋﺎﻟﻢ »اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ« ،وإﱃ أي ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﺷﻜﻞ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌ ﱡﺮف ﻋﻠﻴﻪ ،أﻣﺎ »دﻳﻮﻧﻴﺴﻮس« ﻓﻴﻤﺜﻞ اﻹرادة اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻼﳽ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺘﻔ ﱡﺮ ُ دﻳﺔ »وﻳﻔﻘﺪ ﻧﻔﺴﻪ« .وﺗﺘﻄﻠﺐ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑني أﺑﻮﻟﻮ ودﻳﻮﻧﻴﺴﻮس ،ﻣﻊ ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ ﱢ املﺮءُ َ ﺗﻌﱪ ﻋﻦ اﻟﻌﻨﴫ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻮﳼ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻜﻠﻤﺎت ﻧﻘﻠﻪ؛ ﻓﺎﻟﻌﻨﴫ اﻟﺪﻳﻮﻧﻴﺴﻮﳼ ﻳﺆدﱢي إﱃ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﻣﺘﻐرية ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻻ ﻳﻈﻬﺮ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ،وﻟﻴﺲ ﻟﺪﻳﻪ ﻫﺪف .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻘﺪ أُملِ ﺢَ ً وﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﻔﺮار ﻣﻦ إﱃ رﻓﺾ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻼﺣﻖ ﻟﺸﻮﺑﻨﻬﺎور ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻔﻦ اﻟﱰاﺟﻴﺪي ﻟﻴﺲ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻫﻮ ﺗﺠﺴﻴﺪ ﻟﻺﺑﺪاع اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺤﻴﺎة ﺟﺪﻳﺮ ًة ﺑﺄن ﺗُﻌَ ﺎش، وﺟﻮ ٍد ﺗﺪﻓﻌﻪ اﻹراد ُة ِ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺑﻼ ﻣﻌﻨﻰ؛ »ﻷن اﻟﻮﺟﻮد واﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺘﻢ ﺗﱪﻳﺮه دوﻣً ﺎ ﻛﻈﺎﻫﺮة 72
ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ«
ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻓﺤﺴﺐ «.وﻣﻦ املﻼﺣَ ﻆ أن ﻫﺬه اﻟﺬروة ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺘﻘﻴﻴﻢ ﺗﺮاﺟﻴﺪي ﻏري ﻻﻫﻮﺗﻲ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس ملﻌﻨﻰ اﻟﻮﺟﻮد اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. وﻗﺪ أﺷﺎر ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ إﱃ أن رؤﻳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻋﻠﻤﻲ ،ﻣﻦ ﺧﻼل »ﻣﺒﺪأ ً ًﺎ/ﻋﻠﺔ/أﺳﺎﺳﺎ« — ﻗﺎد إﱃ »اﻟﻬﺎوﻳﺔ«؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻮ ﱢﻟﺪ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﻜﺎﰲ« — أي أن »ﻟﻜ ﱢﻞ ﳾء ﺳﺒﺒ َ ً ٍ ﻛﻄﺮﻳﻘﺔ ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻚ رؤﻳﺔ ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ﺗﺴﻠﺴﻼ ﻻ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﻣﻦ أﺳﺒﺎب اﻷﺳﺒﺎب .وﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ اﻟﺘﻔﺎؤل اﻟﻌﻠﻤﻲ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣَ ﻠﻤﺤً ﺎ ﻟﻠﻨﺼﻒ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،وﻛﺎن ﻟﺪى أوﻟﺌﻚ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﺘﺸﺎرﻛﻮن ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺎؤل »اﻋﺘﻘﺎ ٌد ﻻ ﻳﺘﺰﻋﺰع ﺑﺄن اﻟﺘﻔﻜري إﻧﻤﺎ ﻳﺼﻞ إﱃ أﻋﻤﻖ َ اﻹﻳﻤﺎن ﻫﺎوﻳﺎت اﻟﻮﺟﻮد ،ﻣﻦ ﺧﻼل ﺧﻴﻂ اﻟﺴﺒﺒﻴﺔ اﻻﺳﺘﺪﻻﱄ« .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺴﺘﺨﺪم ﺟﺎﻛﻮﺑﻲ ٍ ُ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ اﻟﺬي ﻳﻮ ﱢﻟﺪه ﻫﺬا اﻟﺨﻴﻂ ،ﻳﻈﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ أن اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻫﻲ ﻛﻄﺮﻳﻘﺔ ﻟﻠﻔﺮار ﻣﻦ ﺑﺎﻹﻟﻪ اﻹﻗﺮار ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﳾء ﻳﻘﺪﱢم ﺳﺒﺒًﺎ ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ ﻟﻠﻮﺟﻮد؛ ﻓﻘﺪ زﻋﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ زﻋﻤً ﺎ ﻏﺮﻳﺒًﺎ ﰲ ﻇﺎﻫِ ﺮه، أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮ اﻟﻮﺟﻮد أو اﺣﺘﻤﺎﻟﻪ ﻣﻦ دون »ﴐب أو َ آﺧﺮ ﻣﻦ ﴐوب اﻟﻔﻦ ،ﻛﺎﻟﺪﻳﻦ واﻟﻌﻠﻢ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص« ،وﻫﺬا ﻣﻌﻨﺎه أن ﺟﻤﻴﻊ أﺷﻜﺎل اﻹﻧﺘﺎج اﻟﻌﻘﲇ ﻫﻲ »ﻓﻦ«؛ ﻷﻧﻬﺎ ً ﺷﻜﻼ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺸﻜﻴﻠﻪ دوﻧﻬﺎ. ﺗُﻀﻔِ ﻲ وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،ﻓﺈن إﻃﻼق ﻣﺴﻤﱠ ﻰ »ﻓﻦ« ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻢ اﺳﺘﻔﺰاز ﻣﺘﻌﻤﱠ ﺪ؛ ﻓﻔﻲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﺘﺼﻒ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،ﻳﻤﻴﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ إﻣﺎ إﱃ اﻋﺘﺒﺎر اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت أدﻧﻰ ﻣﻨﺰﻟﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وإﻣﺎ إﱃ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﻨﻬﺞ ﻟﻠﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻋﲆ َ ً اﻟﻘﺪْر ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ اﻟﺪﻗﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻔﱰَض أن ﺗﻜﻮن ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ )اﻧﻈﺮ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ(. وﻳﺤﺎول ﻧﻴﺘﺸﻪ إﺑﻄﺎ َل اﻟﺘﻔﺮﻗﺔ ﺑني اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻔﻦ ﺑﺮﻓﺾ إﻋﻄﺎء أوﻟﻮﻳﺔ ﻷي ﺗﺼﻮﱡر ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ ﻃﺮق ﺑﴩﻳ ٍﺔ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣُﻞ ﻣﻊ اﻟﻮﺟﻮد .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺠﻤﻴﻊ اﻟﺘﺼﻮرات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻓﻬﻲ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺠﺮد ٍ ً ﻗﺒﻮﻻ ﻫﻲ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺨﺮاﻓﺔ ،وﻳﻌﻜﺲ إﺣﻴﺎء ﻓﺎﺟﻨﺮ ﻟﻠﺨﺮاﻓﺔ ﰲ ﻣﴪﺣﻴﺎﺗﻪ املﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺗﺮاﺟﻴﺪﻳٍّﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻟﺤﺪود اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻮد ،واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ أن ﺑﺮاﻋﺔ املﻮﺳﻴﻘﻰ َ ﺑﺮاﻋﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﺗﻘﺪﻳﻢ ﱡ ِ املﻌﺎﴏ ﺗﺒﴫات ﰲ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻮﺟﻮد .وﻳﻨﻄﻮي اﻟﻌﺎﻟﻢ رﺑﻤﺎ ﺗﻤﺎﺛِﻞ ٍ ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إﺷﺒﺎﻋﻪ، ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻛﺔ — ﻛﻤﺎ ﻳﺰﻋﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ — ﺑني »املﻌﺮﻓﺔ املﺘﻔﺎﺋﻠﺔ ﻋﲆ ٍ واﻟﺤﺎﺟﺔ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺔ ﻟﻠﻔﻦ« ،وﻣﺎ ﻳﻬﻢ ﻫﻮ ﻣﻌﺮﻓﺔ إن ﻛﺎﻧﺖ أﻋﻤﺎ ُل املﺮء ﺗﺠﻌﻞ وﺟﻮده ذا ﻣﻌﻨﻰ ،ﺣﺘﻰ وﻫﻮ ﻳﻮاﺟﻪ املﺨﺎوف اﻟﺘﻲ ﻣﻦ املﺤﺘﻤَ ﻞ داﺋﻤً ﺎ أن ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﻷن املﻮﺳﻴﻘﻰ ﺗﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد — ﺣﻴﺚ ﻳُﺮوَى ﻋﻦ ﺷﻮﺑﺮت أﻧﻪ ﻗﺎل ذات ﻣﺮ ٍة إﻧﻪ ﻟﻢ ﺗﻮﺟﺪ ٍّ ﺣﻘﺎ ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ ﺳﻌﻴﺪة — ﻓﺈن ﻟﻠﻤﻮﺳﻴﻘﻰ ﻣﺼﺪر اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ً أﻳﻀﺎ أن ﺗﻜﻮن ﺣﺎﻓ ًﺰا ﻳﻌﺎش ﻋﻠﻴﻪ. 73
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
َﻫﺪْم اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﱠ ﻳﺘﺨﲆ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ ارﺗﺒﺎﻃﻪ ﺑﻔﻜﺮة دﻳﻮﻧﻴﺴﻮس؛ ﻓﺒﻮﺻﻔﻪ اﻹﻟﻪ املﻤ ﱠﺰق واملﻌﺎد ﺻﻨﻌﻪ، ﻻ دﻳﻮﻧﻴﺴﻮس ﻫﻮ رﻣﺰ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﻠﻬَ ﺪْم ﻣﻦ أﺟﻞ ُ ﺻﻨْﻊ ﳾء ﺟﺪﻳﺪ ،وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ »ﻣﻮﻟﺪ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ« ﻳﺒﺪأ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺎﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ أﻫﺪاف وﻓﺮﺿﻴﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻘﻮده إﱃ ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ ﻟﻠﻬﺪم واﻟﺘﺠﺪﻳﺪ .وﻫﻮ ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻣﺒﺪﺋﻴٍّﺎ ﰲ أﻋﻤﺎل ﻣﺜﻞ »إﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« )(١٨٧٨ ً اﺗﺴﺎﻗﺎ ﻣﻊ اﻟﺘﻔﺎؤل »اﻟﻮﺿﻌﻲ« ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﺑﺸﺄن ﻗﺪرة اﻟﻌﻠﻢ إﱃ ﻣﻮﻗﻒ أﻛﺜﺮ ﻋﲆ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ ،وأﺻﺒﺤﺖ ﻣﺜﻞ ﻫﺬه اﻟﺘﺤﻮﻻت اﻟﺮادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ﰲ املﻮﻗﻒ أﻣ ًﺮا ﻧﻤﻄﻴٍّﺎ؛ ﺣﻴﺚ ﻧﺠﺪه ﰲ »ﻣﻮﻟﺪ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ« ﻳﺮى اﻟﻌﻠﻢ ﻛﻨﻮع َ آﺧﺮ ﻣﻦ اﻟﺨﺮاﻓﺔ ،وﻫﻮ ﻳُﺤﺪِث أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺗﻠﻚ اﻟﺘﺤﻮﻻت داﺧﻞ اﻟﻨﺺ ﻧﻔﺴﻪ .وﻳﻄﺮح ﻋﺰوف ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﻦ أن ﻳﻜﻮن َ ً ً اﻟﻔﻀﻴﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﻘﺼﻮى ،أو إن ﻛﺎن ﺗﺴﺎؤﻻ ﻋﻤﺎ إن ﻛﺎن اﻻﺗﺴﺎق املﻨﻄﻘﻲ ﻫﻮ ﻣﺘﺴﻘﺎ ﻫﺪف اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻜﻮن أﺛ ًﺮا »أداﺋﻴٍّﺎ« ،ﻳﺆﺛﱢﺮ ﻋﲆ ﺗﻮﺟﱡ ﻪ اﻟﻘﺎرئ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة ﺑﻄﺮق ً رادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ،وأﺧﺮج ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ .وﺧﻼل ﺛﻤﺎﻧﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،أﺻﺒﺢ ﺗﺸ ﱡﻜﻜﻪ أﻛﺜ َﺮ أﻫﻢ أﻋﻤﺎﻟﻪ ﻣﺜﻞ» :اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺠﺬل« )ﻧ ُ ِﴩ ﻋﺎم ،١٨٨٢ﺛﻢ ﰲ ﻧﺴﺨﺔ ﻣﺰﻳﺪة ﻋﺎم (١٨٨٧ و»ﻣﺎ وراء اﻟﺨري واﻟﴩ« ) (١٨٨٦و»أﺻﻞ اﻷﺧﻼق وﻓﺼﻠﻬﺎ« ) (١٨٨٧و»املﺴﻴﺢ اﻟﺪﺟﱠ ﺎل« )ﻧ ُ ِﴩ ﻟﻠﻤﺮة اﻷوﱃ ﻋﺎم .(١٨٩٤ﺛﻢ ﻳﻬﻮي إﱃ ﺣﺎﻓﺔ اﻟﺠﻨﻮن ﻋﺎم ،١٨٨٩وﻳﺒﻘﻰ اﻟﺴﺒﺐ اﻟﺪﻗﻴﻖ ﻟﻬﺬا اﻟﺠﻨﻮن ﻣﺜﺎر ﺟﺪل. إن اﺳﺘﺨﺪام ﻓﺮﺿﻴﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻟﺘﻘﻴﻴﻢ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺨﻄﺊ ﻣﻘﺼﺪ ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ ،إﻻ أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ ً أﻳﻀﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺎع ﻃﺮحُ أﺳﺌﻠﺔ رادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ﻋﻦ أﻫﺪاف اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗُﻤﺎ َرس ﻋﲆ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ ،دون اﻻﻓﱰاض ﻣﻘﺪﻣً ﺎ ﺑﺮﻏﺒﺔ املﺮء ﰲ ﻣﻌﺎرﺿﺘﻪ؛ ﻓﻔﻲ اﻟﻨﻘﺎﺷﺎت اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻋﻦ »اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ« ﰲ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳ َ ُﻮﺻﻢ »أﻧﺼﺎر ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺪاﺛﺔ« املﺘﺄﺛﱢﺮون ﺑﻨﻴﺘﺸﻪ ﺑﺄﻧﻬﻢ »ﻳﻨﻜﺮون اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ،ﻓﻬﻢ ﻳﺮون َ ﻣﺎ ﻳُﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺣﻖ — ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻧﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ املﺆ ﱠﻛﺪة ﺗﻤﺎﻣً ﺎ — ﻋﲆ أﻧﻪ ﻧﺘﺎج ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻘﻮة ﰲ املﺠﺘﻤﻊ .وﻣﻦ اﻟﺴﻬﻞ إذن اﻟﺘﺴﺎؤل ﻋﻦ إن ﻛﺎن ﻣﻦ اﻟﺼﻮاب اﻟﺰﻋﻢ ﺑﺄن ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻘﻮة ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱢد ﻣﺎ ﻳ َ ُﻌﺘﻘﺪ أﻧﻪ ﺣﻖ .وﻳﺘﺠﻪ أﻧﺼﺎر ﻣﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺪاﺛﺔ إﱃ ﺗﻘﻮﻳﺾ أﻧﻔﺴﻬﻢ أو ﻣﻨﺎﻗﻀﺘﻬﺎ؛ ﻷن ﺗﺄﻛﻴﺪاﺗﻬﻢ ﺑﺸﺄن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺳﺘﻜﻮن وﻟﻴﺪ َة اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ اﻟﻘﻮة )اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳ ِ ُﺒﻄﻞ ﺑﺎﻟﴬورة ﺗﺄﻛﻴﺪاﺗﻬﻢ( .وﻳﻤﻜﻦ ﻟﻬﺬا اﻟﻄﺮح اﻟﺬي ﻳﺴﺘﻮﺟﺐ َ اﻓﱰاض اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻘﺪﱠﻣً ﺎ أﺛﻨﺎءَ ﻓﻌﻞ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻳ ِ ُﺒﻄﻞ املﻘﺎرﺑﺎت ردﻳﺌﺔ اﻟﺼﻴﺎﻏﺔ ﰲ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﺤﻖ واﻟﻘﻮة .ﻟﻜﻦ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺠﺎدل 74
ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ«
ﻣﺸﻜﻮكٍ ﻓﻴﻬﺎ — ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻃﻠﻖ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻣﺰاﻋﻢ إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ أن »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﳾء ﻣﺒﻬﻢ« ،ﻣﺜﻞ »ﺟﻴﺶ ﻣﺘﺤﺮك ﻣﻦ املﺠﺎزات اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ« اﻟﺘﻲ ﻧﺠﺪﻫﺎ ﻣﻔﻴﺪ ًة ﻟﻠﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ اﻟﻌﺎﻟﻢ )وﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻫﻲ ﻣﺠﺮد ﻣﺠﺎز ﻟﻐﻮي َ آﺧﺮ؟( — ﻓﻼ ﻳﺰال ﻣﻦ املﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺗﺸ ﱡﻜﻜﻪ ﻣﻮﺣﻴًﺎ. ُ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﴍﻋﻴﺘَﻬﺎ ،ﻓﺈن ﻗﻀﻴﺔ اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﺗﺼﺒﺢ أﻣ ًﺮا ﻻ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗَﻔﻘِ ﺪ ﻣﻔ ﱠﺮ ﻣﻨﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﻨﺎس ﻣﺤﺎوﻟﺔ إرﺳﺎء أﺷﻜﺎل ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﻹﺿﻔﺎء ﴍﻋﻴﺔ ﻋﲆ أﻓﻌﺎﻟﻬﻢ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﻨﺰاﻋﺎت ﺣﻮل اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻟﻘﻴﻤﺔ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﺗﺘﺼﻞ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﻗﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﻠﻤﻮﺳﺔ ﺑﺘﻠﻚ املﺤﺎوﻻت ﰲ إﺿﻔﺎء اﻟﴩﻋﻴﺔ ،ﺣﺘﻰ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰال ﻣﻀﻤﻮن املﺰاﻋﻢ ﺑﺸﺄن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻟﻘﻴﻤﺔ ﰲ ﻣﺤﻔﺰات ﺗﻠﻚ املﺰاﻋﻢ .وﻟﻌﻞ اﻻدﻋﺎء اﻷﻛﺜﺮ ﺗﻤﻴﻴ ًﺰا ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ ﻫﻮ أن اﻟﺘﺼﻮﱡرات اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ ﻣﺎ ﻫﻲ إﻻ ﺗﻌﺒريات ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺎت اﻟﻘﻮة ﱢ املﺘﻐرية ﰲ املﺠﺘﻤﻊ ،وﻫﻮ ﻳﻘﱰح إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ إﺑﻄﺎل املﺤﺎوﻻت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﺨري واﻟﴩ ،ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ إﻇﻬﺎر ﻣﺪى اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺬي ﺗُﻄﺒﱠﻖ ﺑﻪ املﺼﻄﻠﺤﺎت ﰲ اﻟﺴﻴﺎﻗﺎت اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﺨﺘﻠﻔﺔ .ﻟﻜﻦ ﻣﺰاﻋﻤﻪ أﻧﻪ ﱢ ﻳﺪﺷﻦ ﻟ »إﻋﺎدة ﺗﻘﻴﻴﻢ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻘِ ﻴَﻢ« ﻋﻦ ري؛ ﻓﺎﻟﻘِ ﻴَﻢ املﺴﻴﺤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻌﻰ ﻟﺘﻘﻮﻳﻀﻬﺎ ﺗﺒﺪو — ﻃﺮﻳﻖ ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ ﻫﻲ ﻣﺤﻞ ﺷ ﱟﻚ ﻛﺒ ٍ ً ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﺎﻟﺒﺪاﺋﻞ اﻟﺘﻲ ﻗﺪﱠﻣَ ﻬﺎ. ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺪﻓﺎع ﻋﻨﻬﺎ ﻣﻦ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻼﺣﻖ — أﻛﺜﺮ ﱡ ﻳﺨﺺ ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻟﻘﻴﻤﺔ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻣﺎ ﺗﺆدﱢي إﱃ اﻟﺸﻌﻮر إن ﻣﻘﺎرﺑﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻓﻴﻤﺎ َ »اﻵﺧﺮ« ،ﺳﻮاء ﻛﺎن ذﻟﻚ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﳾء أﻗﺮب إﱃ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻘﻮة ﻋﲆ َ اﻵﺧﺮ ﻫﻮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ أم اﻵﺧﺮون .وﺑﻮﺻﻔﻬﺎ دﻋﻮى ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﴏﻳﺤﺔ ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻫﺬا اﻟﺰﻋﻢ ،إﻻ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ — ﻻ ﻳﻘﺪﱢم ﺑﺎﻟﴬورة ﻣﺠﺮد دﻋﺎوى ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ؛ ﻓﻔﻲ ﻓﱰات ﻻﺣﻘﺔ ،ﺳﺎﻋَ َﺪ ﻣﻴﺸﻴﻞ ﻓﻮﻛﻮ ﰲ إﺣﺪاث ﺛﻮر ٍة ﰲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻨﺪﻣﺎ أﻇﻬﺮ — ﰲ ٍ ﱠ ﻣﻔﺼ ٍﻠﺔ — أن اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﻫﻲ ﰲ اﻷﻏﻠﺐ »ملﺎذا« ﻳﻌﺘﻘﺪ اﻟﻨﺎس ﰲ أﺑﺤﺎث ﺗﺎرﻳﺨﻴ ٍﺔ َ ﺻﺤﺔ اﻷﻓﻜﺎر ،وﻟﻴﺲ ﻣﺎ ﻳُﻌﺘﻘﺪ ﰲ ﺻﺤﺘﻪ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ .وأوﺿﺢ اﻟﺘﺎرﻳﺦ أن اﻷﺧري ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻟﻪ ﻋُ ﻤْ ﺮ اﻓﱰاﴈ ﻣﺤﺪود ،ﺣﺘﻰ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ. إن أﺑﺤﺎث ﻓﻮﻛﻮ ﻫﻲ ﺗﻄ ﱡﻮ ٌر ﻷﺣﺪ اﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎت اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻨﻴﺘﺸﻪ ،وﻫﻲ »ﻗﻴﻤﺔ« اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .وﻳﻮﺣﻲ اﻟﺠﺎﻧﺐ املﺘﺠﻬﱢ ﻢ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﺴﺒﺐ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﺴﺆال ﻋﻦ ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻫﻞ ﺗﺮﻳﺪ ٍّ َ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ إذا ﻛﺎن ﻟﺪﻳﻚ ﻣﺮض ﺣﻘﺎ أن ﺗﻌﺮف ﻋﻀﺎل ﻻ ﻳُﺮﺟَ ﻰ ﺷﻔﺎؤه؟ ﻗﺪ ﻳﺒﺪو ﺷﻐﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺑﺎﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ واﻟﺮد ﻋﲆ املﺘﺸ ﱢﻜﻜني ﻣﺤﻞ ﺷﻚ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻬﻤﻞ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻜﻮن املﻌﺮﻓﺔ ﻓﻴﻬﺎ دوﻣً ﺎ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻷﻛﺜﺮ 75
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ً ﻓﺎﻋﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﺠﺎوُب ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﺠﺪﻳﺪ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﺑﺸﺄن اﻟﺘﺸ ﱡﻜﻚ ﰲ اﻟﻘﻴﻤﺔ َ اﻟﻜﺎرﺛﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ؟ ﰲ اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ،ﻳﻤﻜﻦ ملﻌﺮﻓﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن ﺗﻮ ﱢﻟﺪ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﺠﻨﱡﺒﻬﺎ ،وﻳﻤﻜﻦ اﻻﺳﺘﺪﻻل ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑﺄودﻳﺐ .وﺗﺸري اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﱠﺎﻫﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ ﺑﺪاﻳﺎﺗﻪ ﻋﻦ إﺣﻴﺎء اﻟﱰاﺟﻴﺪﻳﺎ إﱃ ﺳﺒﺐ ﺗﺒﻨﱢﻴﻪ ﻫﺬا اﻟﺮأي؛ ﻓﻬﻮ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻛﺎن ﻳﻨﺎﻫِ ﺾ اﻵراءَ اﻟﺨﻼﺻﻴﺔ اﻷﻓﻼﻃﻮﻧﻴﺔ واملﺴﻴﺤﻴﺔ ﺗﺠﺎه املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ واﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﺮى أن املﻌﺎﻧﺎة ﱢ ﺳﺘﺤﻘﻖ ﻣﻘﺼﺪَﻫﺎ ﰲ اﻟﺴﻤﺎء ،وأن اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ اﻟﻬﺪف ﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة اﻷﻗﴡ ﻟﻠﻤﻌﺮﻓﺔ. إن ﻣﻘﺎرﺑﺔ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﱠ ٍ ﻣﻠﺨ َ ﺑﱪاﻋﺔ ﰲ ﺟﺰءٍ ﻣﻦ »أﻓﻮل اﻷﺻﻨﺎم« ﺼﺔ ً ﺣﺠﺔ ﺗﻨﺘﻘﻞ ﻣﻦ ﻣﻘﺪﱢﻣﺎت )املﻨﺸﻮر ﻋﺎم ،(١٨٨٩وﻻ ﻳﻔﻀﻞ أن ﻧﻨﻈﺮ ﻟﻬﺬا اﻟﺠﺰء ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره إﱃ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺑﺸﺄن »اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ«؛ ﻓﻬﻮ ﻣﻬﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ »ﺻﻴﺎﻏﺘﻪ« اﻷدﺑﻴﺔ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻬﻢ ﰲ »ﻣﻀﻤﻮﻧﻪ« اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ: ﻛﻴﻒ ﻏﺪا »اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« ﺧﺮاﻓﺔ ﺗﺎرﻳﺦ ﺧﻄﺄ ) (١اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ :اﻟﺬي ﻳ َْﺴﻬُ ﻞ ُ ﺑﻠﻮﻏﻪ ﻋﲆ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻜﻴﻢ ،اﻟﻮ َِرع ،اﻟﻔﺎﺿﻞ ،ﻳﺤﻴﺎ ﻓﻴﻪ ،إﻧﻪ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ. َ )أﻗﺪم ﺷﻜﻞ ﻟﻠﻔﻜﺮة ،أﻧﻬﺎ ﻓ ِﻄﻨﺔ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ ،ﺳﺎذﺟﺔ ،ﻣُﻘﻨِﻌﺔ ﻧﺴﺒﻴٍّﺎ .ﺗﻔﺴري اﻟﻌﺒﺎرة» :أﻧﺎ، أﻓﻼﻃﻮن ﻫﻮ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ«(. ) (٢اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ :املﻨﻴﻊ اﻵن ،ﻟﻜﻨﻪ املﻮﻋﻮد ﺑﻪ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺤﻜﻴﻢ ،اﻟﻮ َِرع ،اﻟﻔﺎﺿﻞ )»املﺬﻧﺐ اﻟﺬي ﻳﺘﻮب«(. )ﺗﻄﻮﱡر اﻟﻔﻜﺮة :ﺗﱰﻗﻰ ،ﺗﻤﴘ أﻛﺜﺮ اﺳﺘﻬﻮاءً ،أﻛﺜﺮ اﻧﻔﻼﺗًﺎ؛ ﺗﺼﺒﺢ اﻣﺮأ ًة ،ﺗﺼﺒﺢ ً ﻣﺴﻴﺤﻴﺔ …( ) (٣اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ :املﻨﻴﻊ ،اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إدراﻛﻪ ،وﻻ إﻗﺎﻣﺔ اﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﻠﻴﻪ ،وﻻ اﻟﻮﻋﺪ ﺑﻪ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺬي ﻳﻜﻮن ﻣﺠﺮد اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ ﻋﺰاءً ،اﻟﺘﺰاﻣً ﺎ ،أﻣ ًﺮا ﻗﻄﻌﻴٍّﺎ. )اﻟﺸﻤﺲ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﰲ اﻟﻘﻌﺮ ﻟﻜﻦ املﺨﱰﻗﺔ ﻟﻠﻀﺒﺎب واﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ :اﻟﻔﻜﺮة وﻗﺪ أﺿﺤﺖ راﺋﻌﺔ ،ﺷﻔﺎﻓﺔ ،ﺷﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﻛﻮﻧﻴﺠﺴﱪﺟﻴﺔ(. ) (٤اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ :ﻣﻨﻴﻊٌ ،ﻏري ﻣُﺪ َرك ﺑﻌ ُﺪ ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل .وﺑﻤﺎ أﻧﻪ ﻏري ﻣﺪرك ،ﻓﻬﻮ ً ﺧﻼﺻﺎ وﻻ اﻟﺘﺰاﻣً ﺎ :ﻓﻴ َﻢ ﺳﻨ ُ ْﻠ َﺰم ﻣﻦ ﻃﺮف ﳾءٍ ﻧﺠﻬﻠﻪ؟! ﻣﺠﻬﻮل ،ﻻ ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻋﺰاءً وﻻ 76
ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ«
)ﻓﺠﺮ رﻣﺎدي ،أول ﺗﺜﺎؤب ﻟﻠﻌﻘﻞ ،ﺻﻴﺤﺔ دﻳﻚ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ(. ً َ ﺻﺎﻟﺤﺔ ﻷي ﳾء ،ﻟﻢ ﺗﻌُ ْﺪ ﺗﺪﻋﻮ ﻷي ﳾء؛ )» (٥اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« :ﻓﻜﺮة ﻟﻢ ﺗَﻌُ ْﺪ ﻓﻜﺮة ﻏري ﻧﺎﻓﻌﺔ ،ﻏري ﻣﺠﺪﻳﺔ ،إذن ﻓﻜﺮة ﻣﺮﻓﻮﺿﺔ :ﻟﻨﺒﻄﻠﻬﺎ! )ﻃﻠﻊ اﻟﻨﻬﺎر ،ﻓﻄﻮر ،ﻋﻮدة اﻟﺤﺲ اﻟﺴﻠﻴﻢ واملﺮح ،ﺣﻤﺮة ﺧﺠﻞ ﺗﻌﻠﻮ ﺟﺒني أﻓﻼﻃﻮن، ﻛﻞ اﻟﻌﻘﻮل اﻟﺤﺮة ﺗُﺤﺪِث ﺿﺠﻴﺠً ﺎ ﻓﻈﻴﻌً ﺎ(. ) (٦ﻟﻘﺪ أﺑﻄﻠﻨﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ :أي ﻋﺎﻟﻢ ﱠ ﺗﺒﻘﻰ؟ ﻟﻌﻠﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻈﺎﻫﺮ؟! ﻟﻜﻦ ﻻ! ﻟﻘﺪ أﺑﻄﻠﻨﺎ ﻋﺎﻟﻢ املﻈﺎﻫﺮ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﰲ اﻵن ذاﺗﻪ! )اﻟﻈﻬرية ،ﻟﺤﻈﺔ اﻟﻈﻞ اﻷﻗﴫ ،ﻧﻬﺎﻳﺔ أﻃﻮل ﺧﻄﺄ ،ذروة اﻟﺒﴩﻳﺔ ،ﻣﺴﺘﻬﻞ زرادﺷﺖ(. ]زرادﺷﺖ ﻫﻮ اﻟﺸﺨﺼﻴﺔ اﻟﺘﻲ و ﱠ ﻇﻔﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻨﻘﻞ ﻓﻜﺮة »اﻟﺴﻮﺑﺮﻣﺎن« اﻟﺬي ﻳﺘﻔﻮﱠق ﻋﲆ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ املﺴﻴﺤﻴﺔ[. ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺣﺴﺎن ﺑﻮرﻗﻴﺔ وﻣﺤﻤﺪ اﻟﻨﺎﺟﻲ ،أﻓﺮﻳﻘﻴﺎ اﻟﴩق١٩٩٦ ، ﻣﻔﺼﻞ ﻋﲆ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﻘﺮة أﻣﺮ أﺷﺒﻪ ً ﱠ ﻗﻠﻴﻼ ﺑﴩح ﻣﺰﺣﺔ؛ إذ ﻳﻤﻜﻦ إن إﻋﻄﺎء ﺗﻌﻠﻴﻖ ﱢ وﻳﻮﺿﺢ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ وﺟﻬﺔ أن ﻳﺤﺠﺐ آﺛﺎر اﻟﺼﻴﺎﻏﺔ ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ ﴍح املﻀﻤﻮن. ﻧﻈﺮ أﻓﻼﻃﻮن ﰲ أن ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺗﻜﻤﻦ ﰲ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺨﺎﻟﺪة ﻟﻸﺷﻴﺎء ،وﻟﻴﺲ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻬﺎ ،إﱃ اﻟﱰﺟﻤﺔ املﺴﻴﺤﻴﺔ ﻟﺮؤﻳﺔ أﻓﻼﻃﻮن إﱃ ﻓﻜﺮة اﻟﺴﻤﺎء واﻟﺤﻴﺎة اﻵﺧِ ﺮة ﻛﺘﻌﻮﻳﻀﺎت ﻋﻦ ﻧﻘﺎﺋﺺ ﻫﺬه اﻟﺤﻴﺎة ،إﱃ وﺿﻊ ﻛﺎﻧﻂ ﻟﻸﺧﻼق ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ املﻌﻘﻮل اﻟﺨﺎﻟﺪ، إﱃ ﻫﺠﻤﺎت اﻟﻮﺿﻌﻴني ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻋﲆ املﺰاﻋﻢ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﻌﻠﻢ ﱡ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻨﻪ ،إﱃ إدراك أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻗﻔﺖ ﺣﺠﺮ ﻋﺜﺮة ﰲ ﺳﺒﻴﻞ »اﻟﻮﺿﻌﻲ« اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻌﻴﺶ ﰲ اﻟﺤﺎﴐ ،إﱃ ﻧﻬﺎﻳﺔ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻛﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﺣﻘﻴﻘﻲ واﺣﺪ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻬﻞ ﻣﻦ اﻟﴬوري أو ا ُملﺴﺘﺤَ ﺐ أن ﺗُﻬﺠَ ﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ُ ﻃ ُﺮق ﻓﻬﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﱢﺿﻬﺎ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺴﺨﺮﻳ ٍﺔ ﻫﻨﺎ؟ ﺛﻤﺔ ﺗﻔﺴريان أﺳﺎﺳﻴﺎن ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻣﻘﺎرﺑﺔ ﻣﻮاﻗﻒ ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﻼﺣﻘﺔ. ﻳﻘﱰح أﺣﺪ اﻟﺘﻔﺴريات أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﻌﺮض ﺗﺤﻮ ًﱡﻻ أﺑﻮﻛﺎﻟﻴﺒﺘﻴﻜﻴٍّﺎ ﻣﺮوﱢﻋً ﺎ ﻟﻠﻔﺮﺿﻴﺎت ﺳﻴﻐري اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺟﺬرﻳٍّﺎ ،وﻫﻮ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﻌﻄﻲ ً ﱢ ﺛﻘﻼ ﻟﻬﺬا املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﺎﻟﻢ ،واﻟﺬي ﱢ ﺗﻔﻀﻞ اﻟﻘﻮي ﻋﲆ اﻟﻀﻌﻴﻒ .وﻣﻦ اﻟﺘﻔﺴري ﺑﺒﻼﻏﺘﻪ املﻔﺮﻃﺔ ،وﺳﻴﺎﺳﺎﺗﻪ اﻟﺮﺟﻌﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻣﻨﻈﻮر اﻟﺤﻘﺒﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﻼﺣﻘﺔ ،ﻣﻦ اﻟﺤﺮوب اﻟﻌﺎملﻴﺔ إﱃ اﻟﻬﻮﻟﻮﻛﻮﺳﺖ ،ﻳﺪﻓﻊ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺴريُ املﺮءَ إﱃ اﻟﺴﺆال ﻋﻦ إن ﻛﺎن ﻋﻤﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻮ ﻋﺎﻣﻞ ﺳﺒﺒﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻷﺣﺪاث املﺘﻼﻃﻤﺔ .ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ إﻳﺠﺎد ﺻﻠﺔ ﻣﺘﺴﻘﺔ ﺑني اﻷﺣﺪاث اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ورﻏﺒﺘﻪ ﰲ »إﻋﺎدة ﺗﻘﻴﻴﻢ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻘِ ﻴَﻢ« وﰲ »اﻟﺴﻮﺑﺮﻣﺎن« اﻟﺬي ﻳﻤﺤﻮ »أﺧﻼق اﻟﻌﺒﺪ« ﰲ املﺴﻴﺤﻴﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﺛﻤﺔ 77
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
أوﻗﺎت ﻳﺠﺐ أن ﱠ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻨﺪ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻨﺎزﻳني اﺳﺘﺨﺪﻣﻮا أﺟﺰاءً ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻪ ﻷﻏﺮاﺿﻬﻢ؛ ﻓﺎملﺮء ﻻ ﻳﻤﻠﻚ أﻣﺎم »اﻧﺘﺼﺎر اﻹرادة« إﻻ أن ﻳﺘﺬ ﱠﻛﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ. أﻣﺎ اﻟﺘﻔﺴري َ ِ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻟﻠﺘﻤ ﱡﻜﻦ اﻵﺧﺮ ،ﻓﻴﻨﻈﺮ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ ﺗﺠﺎوُز ﱢ وﺗﺠﲇ »ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« .وﺳﻮف ﻣﻦ ﺗﻘﻴﻴﻢ »املﻌﻬﻮد« — ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺳﻄﻮع اﻟﻨﻬﺎر ٌ ﻣﻮﻗﻒ ذو ﺻﻠﺔ ﰲ ﻓﻜﺮة ﻓﻴﺘﺠﻨﺸﺘﺎﻳﻦ أن املﻬﻤﺔ ﻫﻲ ﻋﻼج اﻟﻨﻔﺲ ﻣﻦ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ املﺨﺎوف اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔً ، ﺣﻠﻮل ﻟﻠﻤﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ .وﺗُﻌَ ﱡﺪ »املﻨﻈﻮرﻳﺔ« ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺴﻌﻲ إﱃ ٍ ﻋﻨﴫًا أﺳﺎﺳﻴٍّﺎ ﰲ ﺗﻔﺴريات ﻧﻴﺘﺸﻪ اﻟﺘﻲ ﺗﻌﺎرض ﻓﻜﺮة ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻫﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﻧَﺒْﺬَ ﻓﻜﺮة »اﻟﺮؤﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻼﻣﻜﺎن« اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮدﻧﺎ إﱃ املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ .ﻟﻜﻦ اﻟﺰﻋﻢ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ رؤﻳﺔ ﻣﻦ ﻻ ﻣﻜﺎن ﻳﻔﱰض ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﻳﻨﻜﺮ املﺮء ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ وﺟﻮده .وﻳﻤﻜﻦ ﺑﻴﺎن ُ »ﺗﻮاﻓﻖ« ﻣﻮﻗﻒ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﻧﻈﺮﻳﺔ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ اﻟﻔﻜﺮ أو اﻟﻌﺒﺎرة ﻣﻊ »اﻟﻮﺿﻊ اﻟﻘﺎﺋﻢ« أو »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« أو »املﻮﺿﻮع« أو ﻣﺎ إﱃ ذﻟﻚ .ﻟﻜﻦ رﻓﺾ ﻫﺬه اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ً )ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻗﱰاح أﻧﻬﺎ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻏري ﻣﺘﺴﻘﺔ أو ﻏري ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ( ﻳﺴﺘﻠﺰم َ ِ اﻟﺒﺤﺚ ﻓﻴﻤﺎ ﺳﻴﺜﺒﺖ ﺻﺤﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﺒﺪﻳﻠﺔ ﻣﺸﻜﻠﺔ املﻄﺎ َﻟﺒﺔ ﺑﻨﻈﺮﻳﺔ ﺑﺪﻳﻠﺔ ،وﻳﺜري ﻫﺬا ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﻓﺄﻳﺔ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺪور ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو ﰲ ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻔﺮﻏﺔ؛ وﻟﺬا ﻳﺠﺐ اﻧﺘﻬﺎج اﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﰲ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻧﻤﻮذج ﻣُﻘﻨِﻊ ﻣﻤﺎ ﻳُﺤﺘﻤَ ﻞ أن ﻳﻜﻮن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺑﺼﺪد ﻋﺮﺿﻪ. َ ﺗﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻌﻪ ﻧﻈﺮﻳﺔ وﺛﻤﺔ أﺳﻠﻮب أﻛﺜﺮ ﻣﻌﻘﻮﻟﻴﺔ ﰲ ﺗﻨﺎوُل ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ،وﻫﻮ اﻟﺴﺆال ﻋﻤﱠ ﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺤﺪﻳﺪًا؟ إذا ﻗﻠﻨﺎ» :اﻟﻮاﻗﻊ« ،ﻓﻬﺬا ﺑﻤﻔﺮده ﻻ ﻳﺤﺘﻮي ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ؛ إﻧﻨﺎ ﻧﺮﻳﺪ أن َ ﻳﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻌﻪ ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬا املﻀﻤﻮن ﻳﻨﻄﻮي ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﻋﲆ ﻧﻌﺮف ﺷﻴﺌًﺎ ﻋﻦ ﻣﻀﻤﻮن ﻣﺎ ُ ري ﻟﻠﺠﺪل ﻓﻜﺮة اﻟﺘﻮاﻓﻖ ﻧﻔﺴﻬﺎ .وﻗﺪ أُدﺧِ ﻠﺖ ﻓﻜﺮة »اﻟﺘﻮاﻓﻖ« ﻏري املﻔﻬﻮﻣﺔ ﻋﲆ ٍ ﻧﺤﻮ ﻣﺜ ٍ اﻟﻴﻮﻣﻲ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﺟﻤﻴﻌً ﺎ ﻋﲆ دراﻳ ٍﺔ ﺑﻤﺎ ﰲ ﳾء ﻣﻔﻬﻮم ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،أﻋﻨﻲ اﻟﺸﻌﻮ َر ﱠ ﺗﻌﻨﻴﻪ »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ« ،ﺣﺘﻰ إن ﻛﻨﱠﺎ ﻻ ﻧﺘﻔﻖ ﻋﲆ »ﻣﺎ« ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﻲ؛ ﻓﻠﻮ ﻟﻢ ﻧﻜﻦ ﻋﲆ دراﻳﺔ ﺑﻤﻌﻨﻰ »اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« ،ﻣﺎ وﺻﻠﻨﺎ إﱃ ﻧﻘﻄﺔ اﻻﺧﺘﻼف .واﻟﺪراﻳﺔ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﻨﻘﺎش ﻫﻨﺎ ﻫﻲ ﺣﺎﻟﺔ أﺧﺮى ﻣﻦ »اﻟﺤﺪْس«؛ ﻓﻤﺤﺎوﻟﺔ اﺳﺘﺜﻤﺎر ﻫﺬه اﻟﺪراﻳﺔ وﺗﺤﻮﻳﻠﻬﺎ إﱃ دﻋﻮى ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ داﺋﻤً ﺎ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻗﺎﻃﻊ ،وﺳﺘﻜﻮن ﻫﺬه اﻟﻨﻘﻄﺔ ﺣﺎﺳﻤﺔ ﻣﺎ ﺗﻔﱰض ﻓﻬﻤً ﺎ ﻟﺪى ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ،وﻻ ﻳﺒﺪو داﺋﻤً ﺎ أن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺪ ﻓﻬﻤﻬﺎ .واﻟﻘﻀﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻫﻨﺎ ﻫﻮ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ملﺎ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﺧﺎرج ﺣﺪود ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ أو اﻟﻌﻠﻢ ﺗﻔﺴريه .وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ،ﻓﺈن َ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻷوﺿﺢ ﻟﻬﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻫﻲ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت. 78
ﻧﻴﺘﺸﻪ وﺷﻮﺑﻨﻬﺎور و»ﻣﻮت اﻹﻟﻪ«
ﺑﻌﺪ اﻹﻟﻪ؟ ﻳﻀﻊ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻳﺪَه ﻋﲆ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت واﻟﺤﺪاﺛﺔ ﰲ ﻫﺬا املﻘﻄﻊ اﻟﺼﻐري ا ُملﺤْ َﻜﻢ ﻣﻦ »اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺠﺬل«» :ﴏاﻋﺎت ﺟﺪﻳﺪة«: ً ٍ ﻣﺨﻴﻔﺎ. ﻛﻬﻒ — ﻇ ﱠﻞ ﺿﺨﻢ ﺑﻌﺪ أن ﻣﺎت ﺑﻮذا اﺳﺘﻤﺮوا ﰲ إﻇﻬﺎر ﻇ ﱢﻠﻪ ﻟﻘﺮون ﰲ ﻣﺎت اﻹﻟﻪْ ، ﻟﻜﻦ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺟُ ِﺒﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﺒﴩ رﺑﻤﺎ ﺳﺘﻈﻞ ﺗﻮﺟﺪ ﻛﻬﻮف ﻵﻻف اﻟﺴﻨني ﻳُﻌﺮض ﻓﻴﻬﺎ ﻇﻠﻪ ،وﻋﻠﻴﻨﺎ ﻧﺤﻦ ً أﻳﻀﺎ اﻻﻧﺘﺼﺎر ﻋﲆ ﻇﻠﻪ! إن اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻛﺎن وﻻ ﻳﺰال ﻳﻌﻨﻴﻪ »اﻹﻟﻪ« ﻟﻦ ﻳﺘﺄﺗﱠﻰ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻣﻦ ﺧﻼل ﺣﺠﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻗﺎﻃﻌﺔ ،وﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻘﺪﱡم اﻟﻌﻠﻢ؛ ﻓ »ﻇﻞ اﻹﻟﻪ« ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﺣﺎﴐً ا ُ اﻟﻮﺻﻒ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ إﻻ ﰲ »ﻋﻠﻤﻮﻳﺔ« إﻟﺤﺎدﻳﺔ ﻏري ﻧﺎﻗﺪة ،ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳُﺨﺘ َﺰل ﻓﻴﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻟﻜ ﱢﻞ ﳾء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ — ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ اﻟﻔﻦ واﻷﺧﻼق — ﰲ ﻗﻮاﻧني ﻋﻠﻤﻴﺔ ،ﻋﲆ ﻏﺮار ﻣﺎ ﰲ ﻋﻠﻢ اﻟﻼﻫﻮت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي .واﻟﻔﺮﺿﻴﺔ ﰲ ﻛﻠﺘﺎ اﻟﺤﺎﻟﺘني أﻧﻪ ﺛﻤﺔ ﻣﻨﻈﻮر ﻣﻄﻠﻖ ﻳﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﺮار ﻣﻦ املﺼﺎدﻓﺔ واملﺤﺪودﻳﺔ. أﺧﻔﻖ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا ﺣﺘﻰ ﰲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻧﻀﺠﻪ اﻟﻔﻜﺮي ﰲ إﻳﺼﺎل ﻓﻜﺮﺗﻪ ﻫﻨﺎ؛ ﻓﻔﻜﺮﺗﻪ ﻋﻦ »إرادة اﻟﻘﻮة« ،اﻟﺘﻲ ﺗﺮى أﻧﻪ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ٌ ذات ﺣﺮ ُة اﻹرادة ،وإﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻣﺠﺮد ﺗﺠﺴﻴﺪات ﻟﻠﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻴﻄﺮ ﺑﻬﺎ ﻛ ﱞﻢ ﻣﻦ اﻟﻘﻮة ﻋﲆ ﻛ ﱟﻢ َ آﺧﺮ ﰲ ﺟﺰء ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ، ﻫﻲ ﰲ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺠﺮد رؤﻳﺔ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ ﻗﺮﻳﺒﺔ اﻟﺼﻠﺔ ﺑﺎﻹرادة ﻟﺪى ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور .وﻳﻨﻄﺒﻖ اﻷﻣﺮ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ ﻓﻜﺮﺗﻪ ﻋﻦ »اﻟﺘﻜﺮار اﻷﺑﺪي« ،اﻟﺘﻲ ﺗﻘﱰح أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺳﻴﻈ ﱡﻞ ﻳﺘﻜ ﱠﺮر ﻋﲆ املﻨﻮال ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ — واﻟﻔﻜﺮة أﻧﻪ ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﲆ املﺮء إﻗﺮار اﻟﺤﻴﺎة ﻛﻤﺎ ﻫﻲ ﻋﻦ ٍ ٍ ﱡ ﻗﺎﻃﻌﺔ ﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﺘﻮﺻﻞ إﱃ ﻃﺮﻳﻖ اﺑﺘﻐﺎء ﻫﺬا اﻟﺘﻜﺮار .وﺗﻨﻄﻮي ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ﻋﲆ رﻏﺒ ٍﺔ ﰲ َ اﺣﺘﻤﺎﻟﻴﺔ ملﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﻔﻬَ ﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي واﻟﻌﺎﻟﻢ .وﺗﺤﺠﺐ ﻫﺬه اﻟﺮﻏﺒﺔ ً أن ﻳﻜﻮن ﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻋﻠﻴﻪ ﻫﻮ ً ﻋﺮﺿﺔ أﻳﻀﺎ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻧﺼري ﻋﻠﻴﻪ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﱰﻛﻨﺎ ﻟﻠﻤﺼﺎدﻓﺔ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮﻳﻦ اﻹﻳﺠﺎﺑﻲ واﻟﺴﻠﺒﻲ .وﺗُﻌَ ﱡﺪ اﺳﺘﺠﺎﺑﺎت ﻧﻴﺘﺸﻪ املﺒﺘ َﻜﺮة ﻟﻠﻤﺼﺎدﻓﺔ ﰲ ﻣﻮاﺿﻊ أﺧﺮى ﰲ أﻋﻤﺎﻟﻪ أﺣ َﺪ اﻷﺳﺒﺎب اﻟﺘﻲ ﺗﻌ ﱢﻠﻞ ملﺎذا ﻗﺪ ﻳﻌﺘﺎد ﺷﺨﺺ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ ً وﻛﺎرﻫﺎ ﻟﻠﻨﺴﺎء وﻣﻌﺎدﻳٍّﺎ املﺜﺎل ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ — رﺑﻤﺎ ﻛﺎن ﰲ ﺑﻌﺾ اﻷوﻗﺎت رﺟﻌﻴٍّﺎ ً ً دﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ ﻟﺨﻠﻖ اﻟﺬات ،وأن ﻳﺸ ﱢﻜﻚ ﻓﻴﻤﺎ إذا ﻛﺎن ﻟﺪى ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻟﻠﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ — أن ﻳﺆﻳﱢﺪ اﻟﻨﺎس ﻫﻮﻳﺔ ﺟﻨﺴﻴﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ .وﻋﻠﻴﻪ ،ﻓﺈن اﻷزﻣﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ املﺸﺎر إﻟﻴﻬﺎ ﰲ ﻋﻤﻞ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻫﻲ أن ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻹﻋﺮاب ﰲ ﻧﻈﺮﻳ ٍﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴ ٍﺔ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﺳﻴﺒﺪو ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻮ ﺧﺮﺟﻨﺎ 79
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﻇ ﱢﻞ اﻹﻟﻪ ،ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻌﻨﻲ ﰲ ذاﺗﻪ اﻟﻮﻗﻮع ﻣﺠ ﱠﺪدًا ﺗﺤﺖ ذﻟﻚ اﻟﻈﻞ ،وﺳﻮف ﻳﺘﻜﺮر وﻗﻮ ُع ﻫﺬه اﻷزﻣﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ.
ﺷﻜﻞ :1-6ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ ﻓﺮاش املﺮض ﻋﺎم ١٨٩٩ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ،ﺑﺮﻳﺸﺔ ﻫﺎﻧﺰ أوﻟﺪ.
1
ﻫﻮاﻣﺶ (1) Goethe-Nationalmuseum, Weimar/© akg-images.
80
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﳉﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻻ وﺟﻮد ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ﻟﻼﻧﻘﺴﺎم اﻟﻘﺎﺋﻢ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﻌﺎﴏة ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻷوروﺑﻴﺔ/اﻟﻘﺎرﻳﺔ« واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ »اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ« ،وﻟﻜﻦ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻫﺬا اﻻﻧﻘﺴﺎم ﻏري واﺿﺤﺔ ﻋﲆ اﻹﻃﻼق ،ﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء ﻣﺎ ﻧﺠﺪه ﻣﻦ إﺧﻔﺎق ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ — وﻟﻴﺲ ﻛﻞ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ — ﻣﻦ ﻛ َِﻼ »اﻟﺠﺎﻧﺒني« ﰲ ﻣﻨﺎﻗﺸﺔ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ ﻣﻦ »اﻟﺠﺎﻧﺐ« َ اﻵﺧﺮ .وﻟﻌﻞ أﻓﻀﻞ أﺳﻠﻮب ﻟﺪراﺳﺔ ً املﺘﻌﺎرﺿﺔ ﰲ ﺗﻨﺎوُل اﻷﺳﺌﻠﺔ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ املﻨﺎﻫﺞ ﻫﺬا اﻻﻧﻘﺴﺎم ﻫﻮ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ِ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﻟﻴﺲ ﻣﺠﺮد ﻗﻀﻴﺔ واﺣﺪة ،وﻳﺘﻀﺢ ﻫﺬا اﻟﺘﻌﺎ ُرض ﰲ ﻣﺸﻬﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻣﻦ زﻣﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﺗﻘﺮﻳﺒًﺎ ﺣﺘﻰ اﻻﺣﺘﻼل اﻟﻨﺎزي ﻋﺎم .١٩٣٣وﺗﺘﺒﺎﻳﻦ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ ﻟﻠﻤﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ اﻟﺬﻳﻦ درﺳﻨﺎﻫﻢ ﺣﺘﻰ اﻵن؛ ﻓﺒﻌﻀﻬﻢ ﻛﺎﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ املﺒﻜﺮة وﻣﺎرﻛﺲ وﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ أﺧﺮﻳﺎﺗﻪ ،ﻟﻢ ﻳﺘﻘ ﱠﻠﺪ ﻣﻨﺎﺻﺐ ﺟﺎﻣﻌﻴﺔَ ، وآﺧﺮون ﻣﺜﻞ ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ وﻫﻴﺠﻞ ﺗﻘ ﱠﻠﺪوا .وﺧﻼل أواﺧﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ ،أﺻﺒﺢ اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺠﺎﻣﻌﻲ — وﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﱡ وﺗﺨﺼ ً ﺼﺎ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ املﻨﻬﺠﻴﺔ ،واﺿﻄﺮ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ — أﻛﺜﺮ ﺗﻨﻈﻴﻤً ﺎ ﱠ ٍ ﻛﻔﺮع ﻣﻦ ﻓﺮوع اﻟﻌﻠﻢ .ﻫﻞ أﺳﺌﻠﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻤﻜﺎﻧﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳﺪ إﱃ اﻟﺮ ﱢد ﻋﲆ ﻋﲆ ٍ ٍ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻫﻲ ﻣﻔﺘﺎح اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،أم اﻟﻌﻜﺲ؟ ﻫﻞ اﻟﻔﻦ أم اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻮ املﺤ ﱡ ﻂ اﻷﺳﺎﳼ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻻﻧﻘﺴﺎﻣﺎت اﻟﺘﻲ ﻟﻠﺮؤﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ؟ وأد ِﱠت اﻟﺮدود املﺘﻀﺎرﺑﺔ ﻋﲆ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ إﱃ ٍ ﺗﻤﻴﱢﺰ اﻵن اﻻﻧﻘﺴﺎ َم اﻷوروﺑﻲ/اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ املﻌﺎﴏ. إن اﻷﺷﻜﺎل اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻔﱰة اﻟﺘﻲ ﻧﺤﻦ ﺑﺼﺪدﻫﺎ ﻫﻲ اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة وﺑﺪاﻳﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ .وﻛﻞ ﻫﺬه اﻷﺷﻜﺎل
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﺑﻄﺮق ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺣﻴﺔ اﻟﺘﻌﻠﻴﻤﻴﺔ إﱃ ﺗﺮﺳﻴﺦ دور اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﻌﻠﻮم ﺗﺴﻌﻰ ٍ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ؛ ﻓﻠﻤﺎذا ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻫﺬا ﻣﺤﻮر ﺗﺮﻛﻴﺰﻫﻢ اﻟﺮﺋﻴﴘ؟ ﻟﻘﺪ اﻧﻄﻮى ﻋﻤﻞ ﻫﻴﺠﻞ ﻋﲆ ﴏاع ﺑني رؤﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »ﺗﺠﺴﻴ ٌﺪ ﻟﻔﻜﺮ ﻋﴫﻫﺎ« ،ورؤﻳﺘﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻟﻮﺻﻒ املﻨﻬﺠﻲ اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻟﻌﻼﻗﺔ اﻟﻌﻘﻞ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ .ﺗﺜري اﻟﺮؤﻳﺔ اﻷوﱃ ﻗﻀﻴﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ وأن ﻣﺎ ﻫﻮ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻟﻴﺲ ﺳﻮى إﺟﻤﺎع ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ؛ إذا ﻛﺎن ﻫﺬا ﻫﻮ اﻟﻮﺿﻊ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻀﻊ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻮﺿﻊ ﺷ ﱟﻚ .أﻣﺎ اﻟﺮؤﻳﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﺘﻨﻄﻮي ﻋﲆ دﻋﻮى ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﺳﺘُﺒﻘِﻲ ﻋﲆ ﺻﺪارة ﻧﺤﻮ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻌﻠﻮم ،ﻟﻜﻦ ﻳﺒﺪو أﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ﻋﲆ ٍ ري ﰲ ﻣﻮاﺟَ ِ ﻬﺔ اﻟﻨﺠﺎح املﺘﺰاﻳﺪ ﻟﻠﻤﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،وﻗﺪ ﻛﺎن ﻣﻦ ﻛﺒ ٍ ﻣﻼﻣﺢ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﰲ ﻫﺬه اﻟﻔﱰة ﻟﻠﻌﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني ،أﻣﺜﺎل ﻫريﻣﺎن ﻓﻮن ﻫﻴﻠﻤﻬﻮﻟﺘﺰ ) ،(١٨٩٤–١٨٢١أﻧﻬﻢ رﻓﻀﻮا اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻟﺸﻴﻠﻴﻨﺞ وﻫﻴﺠﻞ. وﻋﲆ ﺿﻮءِ اﻟﻨﺠﺎح ﱢ اﻟﺒني ﻟﻠﻌﻠﻮم ،رﺑﻤﺎ ﻳﺒﺪو أن ﺛﻤﺔ ﺳﺒﺒًﺎ ﻣﺤﺪودًا ﻟﻠﻤﺒﺎﻟﻐﺔ ﰲ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎملﻌﻀﻼت اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ؛ وﻫﻨﺎ ﻳﺘﻀﺢ أﺣﺪ ﻣﺼﺎدر اﻻﻧﻘﺴﺎم ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻟﻴﻢ .ﻳﺸﱰك ﻧﻴﺘﺸﻪ واﻟﱪاﺟﻤﺎﺗﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﰲ ﻓﻜﺮة أن اﻟﺘﺴﺎؤﻻت ﻋﻦ ﻗﻴﻤﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ أن ﺗﺘﺨ ﱠ ﻄﻰ اﻟﻬﻤﻮ َم اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ .وﻳﻘﱰح وﻳﻠﻴﺎم ﺟﻴﻤﺲ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ »املﺴﻤﻰ اﻟﺬي ﻧﻄﻠﻘﻪ ﻋﲆ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻧﺆﻣﻦ أﻧﻪ ﻳُﺜ ِﺒﺖ ﺻﺤﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ «.وﺳﻴﺨﺘﻠﻒ ﻣﻌﻴﺎر ﻣﺎ ﻳُﺜ ِﺒﺖ ﺻﺤﺘﻪ ﺣﺴﺐ اﻟﻈﺮوف اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ املﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ،وﻫﺬا ﻳﻨﺤﻮ ﺑﻤﻼﺣﻈﺔ ﺟﻴﻤﺲ ﻣﻨﺤﻰ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن إﺟﻤﺎع اﻵراء ﻋﲆ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺜﺒﺖ ﺧﻄﺆه ،وﻫﺬا اﻹﺟﻤﺎع ﻧﺎد ًرا ﻣﺎ ﻳﻜﻮن ﻋﲆ أﻳﺔ ﺣﺎل ﻋﺎملﻴٍّﺎ .ﻓﻔﻲ اﻟﺴﻴﺎق اﻟﺠﺎﻣﻌﻲ اﻷملﺎﻧﻲ ،ﺻﺎر ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻳﻨﻈﺮون إﱃ اﻻﻓﺘﻘﺎر ﻟﻮﺻﻒ ﻓﻠﺴﻔﻲ ﻧﻬﺎﺋﻲ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﺸري إﱃ »أزﻣﺔ أﺳﺲ« ﰲ اﻟﻌﻠﻮم، ﻓﺈذا أﻣﻜﻦ إﻇﻬﺎر أن اﻟﻌﻠﻮم ﺗﺤﺘﺎج إﱃ إﺟﺎزة ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻓﺈن املﻜﺎﻧﺔ املﻌﺮﻓﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ً ﻣﺼﻮﻧﺔ ،ﻟﻜﻦ ﺛﻤﺔ ﻏﻤﻮض ﻫﻨﺎ ،وﻫﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻟﻬﺎ ﻋﻮاﻗﺐ ﻫﺎﺋﻠﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺳﺘﻜﻮن ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﺑﺎﻻﻧﻘﺴﺎم اﻷوروﺑﻲ/اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ .ﻫﻞ املﺸﻜﻠﺔ ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻫﻲ اﻟﺘﻌﺰﻳﺰ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﻘﻮﻻت ﻛﺎﻧﻂ أو »ﻣﻨﻄﻖ اﻟﻜﺸﻒ اﻟﻌﻠﻤﻲ« ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،أم ﻫﻲ ﺑﺎﻷﺣﺮى ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﺎﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺎت اﻷﺧﺮى ﻟﻠﻮاﻗﻊ؟ اﻷوﱃ ﻫﻲ أزﻣﺔ أ ُ ُﺳﺲ إﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ أزﻣﺔ أ ُ ُﺳﺲ أﻫﺪاف اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ،اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني ﻫﺎﺗني اﻷزﻣﺘني ﻟﻴﺴﺖ واﺿﺤﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ.
82
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﺗﻈﻬﺮ ازدواﺟﻴﺔ اﻷزﻣﺔ ﰲ ﻛﻴﻔﻴﺔ إﺣﻴﺎء ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻛﺎﻧﻂ ﰲ »اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة« ،وﻳﺼﺒﺢ ﺳﺆال اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻫﻮ ﻣﺤﻮر اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻷﺳﺎﳼ ملﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ أﻣﺜﺎل ﻫريﻣﺎن ﻛﻮﻫني )–١٨٤٢ (١٩١٨وﺑﻮل ﻧﺎﺗﻮرب ) (١٩٢٤–١٨٥٤وأرﻧﺴﺖ ﻛﺎﺳرير ) ،(١٩٤٥–١٨٧٤اﻟﺬﻳﻦ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳُﻄ َﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻣﺴﻤﱠ ﻰ »ﻣﺪرﺳﺔ ﻣﺎرﺑﻮرج« ،وﻛﺎن ﻫﻤﻬﻢ اﻷﺳﺎﳼ ﻫﻮ إﻋﺎدة ﺗﻔﺴري اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني رؤﻳﺔ ﻛﺎﻧﻂ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ واﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﰲ ﺿﻮء اﻻﻛﺘﺸﺎﻓﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ،ﻣﺜﻞ ﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﻷﻳﻨﺸﺘﺎﻳﻦ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻛﺎﺳرير ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺨﺼﻮص ﺳﻮف ﻳﺘﻨﺎول ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎ أوﺳﻊ ،ﰲ أﻋﻤﺎل ﻣﺜﻞ »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻷﺷﻜﺎل اﻟﺮﻣﺰﻳﺔ« ) .(١٩٢٩–١٩٢٣وﻗﺪ اﻫﺘ ﱠﻢ ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ املﻤﺜﻠﻮن اﻷﺳﺎﺳﻴﻮن ﻟﻠﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ »اﻟﺠﻨﻮب اﻟﻐﺮﺑﻲ«، وﻫﻢ ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ ﻓﻴﻨﺪﻟﺒﺎﻧﺪ ) (١٩١٥–١٨٤٨وﻫﺎﻳﻨﺮﻳﺶ رﻳﻜﺮت ) (١٩٣٦–١٨٦٣وإﻳﻤﻴﻞ ﻻﺳﻚ ) ،(١٩١٥–١٨٧٥ﻟﻜﻨﻬﻢ رأوا ﻣﻘﻮﻻت ﻛﺎﻧﻂ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﻮﻧﻬﺎ »املﻌﺎﻳري« اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻟﺼﺤﺔ اﻟﺪﻋﺎوى املﻌﺮﻓﻴﺔ وﻏريﻫﺎ .وﺗﻈﻬﺮ املﺸﻜﻠﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﺑﺮو ًزا ﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﰲ ﺗﻔﺮﻗﺔ ﻓﻴﻨﺪﻟﺒﻮﻟﺪ ﺑني اﻟﺒﺤﺚ اﻟﺘﻔﺴريي »اﻟﻨﺎﻣﻮﳼ« ﰲ اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺎﻟﻘﻮاﻧني، واﻟﺒﺤﺚ »اﻹﻳﺪﻳﻮﺟﺮاﰲ« ﰲ ﻓﻬﻢ اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﻔﺮدﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ إدراﺟﻬﺎ ﺗﺤﺖ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻌﺎﻣﺔ. إذا ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ٍّ ً وﺻﻔﺎ ﻟﴩوط إﻣﻜﺎن املﻌﺮﻓﺔ ،ﻓﺴﺘﻜﻮن ﻓﺮﻋً ﺎ ﺣﻘﺎ أن ﺗﻘﺪﱢم ﻣﻌﺮﻓﻴٍّﺎ ﻣﺘﺼﺪ ًرا املﺮﺗﺒﺔ اﻷوﱃ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﺘﻜﻮن اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻓﺮوﻋً ﺎ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ ﰲ املﺮﺗﺒﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ .وﻣﻦ ﺛﻢ ،ﺗﺤﺎول اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة إرﺳﺎءَ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ ﰲ ﻗﻀﻴﺔ »ﴍوط اﻹﻣﻜﺎن« .وﻣﻔﻬﻮم أن اﻟﺘﻔﻜري ﻳﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﴬورة ﺑﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻟﻴﺲ اﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴٍّﺎ ،ﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﻫﺬه اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ اﻟﻼزﻣﻨﻴﺔ ﺗﺨﺺ ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻜﺎﺋﻨﺎت اﻟﻌﺎﻗﻠﺔ ،أم ﻫﻲ ﺗﻘﻴﻴﻤﺎت ﱡ ﺑﺘﻐري اﻟﻈﺮوف؟ وﻛﻴﻒ ﻣُﻮ ﱠﻟﺪة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ؟ وإذا ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ،ﻓﻬﻞ ﺗﻈﻞ ﺛﺎﺑﺘﺔ ،أم ﺗﺘﻐري ﻳﺘﺼﻞ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺬي ﻳﺤﺪﱢد اﻟﴩوط املﺴﺒﻘﺔ ﺑﺎﻟﴩوط املﺴﺒﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ،دون إﻃﻼق دﻋﺎوى ُ ﺗﺴﻠﺴﻞ ﻣﻦ اﻟﴩوط املﺴﺒﻘﺔ؟ وملﺎذا ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ، دوﺟﻤﺎﺗﻴﺔ ودون اﻻﻧﺘﻬﺎء إﱃ ﻻ ﻧُﺴﻘِ ﻂ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺒﺎﻟﻴﺔ وﻧﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻋﻠ ٍﻢ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮه؟ ﻫﺬه اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻛﺎﻧﺖ َ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ،ﺳﻮاء ﻛﺎن ﻫﺬا اﻷﺳﺎس ﺑﺠﻮاب ﻟﻮ ﻛﺎن ﺛﻤﺔ أﺳﺎس ﻳﺤﺪﱢد ﺳﺘﺤﻈﻰ ٍ ﻫﻮ اﻟﺬات املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ أم ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻟﻌﻠﻢ املﺆ ﱠﻛﺪة ﻋﲆ أﻓﻀﻞ وﺟﻪ) .ﻳﻘﻮد اﻟﺘﺴﺎؤل اﻷﺧري ﺑﻌﺾ املﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ إﱃ اﻟﻔﻜﺮة املﺨﺘَ َﻠﻒ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﺜريًا ﰲ ﴐورة اﻛﺘﺸﺎف ﴍوط املﻌﺮﻓﺔ ﻋﻦ ﻛﺄﺳﺎس ،ﰲ ﺣني ﻳﺒﺪأ َ اﻵﺧﺮ ﻃﺮﻳﻖ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ (.وﻳﺒﺪأ أﺣﺪ ﺟﻮاﻧﺐ ﻫﺬا اﻻﻧﻔﺼﺎم ﺑﺎﻟﺬات ٍ 83
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﺑﺎملﻮﺿﻮع .وﻳﻌﻜﺲ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ اﻟﺬي أدﱠى ﺑﻬﻴﺠﻞ إﱃ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻔﺎدِي أيﱢ أﺳﺎس ذاﺗﻲ أو ِ وﻟﺴﺒﺐ ﻣﺎ اﺗﺠﻪ ﻓﻴﻨﺪﻟﺒﺎﻧﺪ ﰲ ﺣﻴﺎﺗﻪ املﻬﻨﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻧﺤﻮ اﻟﻬﻴﺠﻠﻴﺔ »ﻣﺒﺎﴍ«، ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ٍ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ. اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳﺰدرﻳﻬﺎ وﻷن اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻴﺔ ﺗﻘﺪﱢم ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻹﺟﺎﺑﺎت اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﺧﺘﺒﺎر ملﺎ ﻛﺎﻧﺖ وﻻ ﺗﺰال أﺳﺌﻠﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ،ﻓﺈن اﻟﻌﻠﻮم اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ »اﻹﻳﺪﻳﻮﺟﺮاﻓﻴﺔ« ﻗﺪ ﺗﺒﺪو ﻓﺎﻗﺪ ًة ﻟﻠﺪﻗﺔ »اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ«؛ ﱢ ﺳﻴﺆﺳﺲ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﻄﺎﻟﺐ ﻓﻴﻠﻬﻴﻠﻢ دﻟﺘﺎي ) (١٩١١–١٨٣٣ﺑ »ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ« ،اﻟﺬي ﻣﻨﺎﻫﺞ ﻹﻧﺼﺎف ﺗﻔ ﱡﺮد اﻟﻈﻮاﻫﺮ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ذﻫﺐ َ آﺧﺮون إﱃ رؤﻳﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻓﻘﻂ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎت ﺻﺤﺘﻪ ﺗﺠﺮﻳﺒﻴٍّﺎ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم ،ﻣﺴﺘﺜﻨني ﻋﻠﻢ اﻷﺧﻼق وﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ ،وﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﱠ ﻰ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ ﰲ اﻟﺴﻴﺎق اﻷملﺎﻧﻲ ﺑ »اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ«. وﻳﻮﺣﻲ ﺗﺰاﻣُﻦ ﻫﺬه اﻟﺮؤﻳﺔ املﺘﻄ ﱢﺮﻓﺔ ﻣﻊ اﻟﻘﺪرة اﻟﺘﺪﻣريﻳﺔ اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ ﻟﺘﻄﺒﻴﻖ اﻟﻌﻠﻮم ،اﻟﺘﻲ ﺗﺠ ﱠﻠ ْﺖ أﺛﻨﺎء اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻷوﱃ وﺑﻌﺪﻫﺎ؛ ﺑﺎﻟﺴﺒﺐ ﰲ أن ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن ﺳﻮف ً ري ﺑﺎﻟﺠﺎﻧﺐ املﻈﻠﻢ ﻣﻦ اﻟﺤﺪاﺛﺔ .ﻟﺬﻟﻚ، ﻳﺮون اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﻋﲆ ٍ ﻧﺤﻮ ﺧﻄ ٍ ﻓﺈن اﻟﻔﺠﻮة ﺑني ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻔﻌﻠﻪ اﻟﻌﻠﻮم وﻗﺪرة اﻟﺒﴩ ﻋﲆ اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﻟﻠﺼﺎﻟﺢ اﻟﻌﺎم، َ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺧﻼل اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ. ﻫﻮ أﻣﺮ ﴐوري ﻟﻔﻬﻢ اﻟﴫاﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﺷﺎﺑ َِﺖ »املﻨﺤﻰ اﻟ ﱡﻠﻐﻮي« اﻟﺜﺎﻧﻲ ﱠ ٍ ﻋﺠﺎﻟﺔ ﺗﻤﺜﱢﻞ اﻟﺘﻄﻮرات اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ املﻬﻤﺔ ﰲ إن اﻟﻨﻘﺎط اﻟﺘﻲ ﺳﻮف ﻧﺴﺘﻌﺮﺿﻬﺎ ﻫﻨﺎ ﰲ ري ﻣﻦ أﻧﺼﺎر أملﺎﻧﻴﺎ ﰲ أواﺧﺮ اﻟﻘﺮﻧني اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ واﻟﻌﴩﻳﻦ ،وذﻟﻚ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒ ٍ ٍ ْ وﻟﻜﻦ ،ﺛﻤﺔ أﺳﺒﺎب ﻟﻠﺘﺸ ﱡﻜﻚ ﰲ املﻨﻈﻮر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ. اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻲ ﺗﺸري إﻟﻴﻬﺎ دﻋﻮى اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﻨﻤﺴﺎوي ﻣﻮرﻳﺘﺲ ﺷﻠﻴﻚ ﻋﺎم ١٩٣٢أن: ﻣﺼري »املﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ« ﻛﺎﻵﺗﻲ :ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺳﻮف ﻳﺨﺘﻔﻲ ﺑﺒﻴﺎن ﻛﻮﻧﻪ أﺧﻄﺎ ًء ً َ أﺳﺌﻠﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻋﺎدﻳﺔ واﻵﺧﺮ ﺳﻮف ﻳﺨﺘﻔﻲ ﺑﺒﻴﺎن ﻛﻮﻧﻪ وﺳﻮءَ ﻓﻬ ٍﻢ ﻟﻠﻐﺘﻨﺎ، ﻣﺘﺨﻔ ً ﱢ ﻴﺔ ،وﻫﺬه املﻼﺣﻈﺎت — ﻋﲆ ﻣﺎ أﻋﺘﻘﺪ — ﺗﺤﺪﱢد ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﻜ ﱟﻞ. ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳُﻨ َﻜﺮ أن ﻳﻜﻮن ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻗﺪ أﺑﺪاﻫﺎ ﰲ »إﻧﺴﺎﻧﻲ إن ﻫﺬه املﻼﺣﻈﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﻋﲆ ٍ ﻣﻔﺮط ﰲ إﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ« ،واﻟﻔﺎرق ﻫﻮ أن ﺷﻠﻴﻚ ﺟﺰءٌ ﻣﻦ ﺣﺮﻛﺔ ﻣﺪﻓﻮﻋﺔ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴٍّﺎ اﻓﺘﻘﺮت ﻧﺤﻮ ﻻ ﻳُﻨ َﻜﺮ ﻟﺪى ﻧﻴﺘﺸﻪ ﰲ أﺧﺮﻳﺎﺗﻪ؛ ﻟﻜﻮن املﺮء رﺑﻤﺎ ﻻ إﱃ اﻹدراك املﺸﺘﺖ ﻋﲆ ٍ 84
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ
ﺑﻄﺮق ﻧﻬﺎﺋﻴ ٍﺔ ﻟﺘﻔﺎدي »املﺸﻜﻼت ﻳﺰال ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﰲ »ﻇﻞ اﻹﻟﻪ« ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻹﺗﻴﺎن ٍ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ« .وﺣﺘﻰ اﻵن ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ »ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﻜ ﱟﻞ« ﺷﻴﺌًﺎ ﺳﻮى ﺗﺄﻛﻴﺪ ﻧﺒﻮءة ﺷﻠﻴﻚ؛ ﻓﺒﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴني املﻌﺎﴏﻳﻦ ،ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﺤﺎوﻟﻮن ﻣﺠ ﱠﺪدًا ﺗﻘﺪﻳ َﻢ أﺟﻮﺑ ٍﺔ ﻏري ﻣﺠﺮﻳﺎت اﻷﻣﻮر إذن؟ ﻟﻠﻤﺸﻜﻼت املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ .ﻓﻤﺎ اﻟﺬي ﱠ َ ﱢ ﻣﺆﺳ ِﴘ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ري ﻣﻦ ﻳﺒﺪو أن اﻷﻫﺪاف املﻌﺎدﻳﺔ ﻟﻠﻤﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻟﺪى ﻛﺜ ٍ املﺘﺤﺪﺛني ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻗﺪ وﺿﻌﺘﻬﻢ ﰲ ﻣﻌﺴﻜﺮ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻛﻤﺎ أن ﺑﻌﺾ ﻣﻌﺎﴏي ﺷﻠﻴﻚ ،ﻣﻦ أﻣﺜﺎل أوﺗﻮ ﻧﻴﻮرات ،ﻛﺎﻧﻮا ﻣﺘﺄﺛﱢﺮﻳﻦ ﺑﻨﻴﺘﺸﻪ )وﻣﺎرﻛﺲ( .وﻗﺒﻴﻞ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،ﻛﺎن ﻣﻦ املﻔﻬﻮم ﺗﻤﺎﻣً ﺎ اﻟﺸﻌﻮر ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ إﱃ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺨﺪم اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻘﺎﺑﻞ ﻟﻼﺧﺘﺒﺎر ﻟﻠﺮ ﱢد ﻋﲆ اﻷﻓﻜﺎر اﻟﻼﻋﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻤﻴﱢﺰة ﻟﻠﻔﺎﺷﻴﺔ .وﻣﻊ ذﻟﻚ، ﻻ داﻋﻲ ﻟﻠﺮﺑﻂ ﺑني ﺟﻮﻫﺮ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺮى أن ﻣﺸﻜﻼت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﺠﺐ أن ﺗُﺪ َرس ﻣﻦ ﺣﻴﺚ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻠﻐﻮي ،واملﻮﻗﻒ اﻟﻌﻠﻤﻲ املﻌﺎدي ﻟﻠﻤﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ .وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﻔﻜﺮة اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ أن ﻓﻬﻢ اﻟﻠﻐﺔ ﻣﺤﻮري ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ املﻄﺮوﺣﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻣﻦ ﻗِ ﺒَﻞ ﻫﺎﻣﺎن وﻫريدر ،وﻫﻨﺎ ﺗﱪز ﻗﻀﻴﺔ ﺣﻴﻮﻳﺔ؛ ﻷن ﻣﻔ ﱢﻜﺮي »املﻨﺤﻰ اﻟﻠﻐﻮي« اﻷ ُ َو َل ﻟﺪﻳﻬﻢ رؤﻳﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﺟﺪٍّا ﻋﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ؛ ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ ﻫﺎﻣﺎن وﻫريدر ﻫﻲ ﺷﻜﻞ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻳُﻔﱰَض أن ﻳﻜﻮن إﻧﺴﺎﻧﻴٍّﺎ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﺘﻌﺒريات اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﰲ أﻫﻤﻴﺔ اﻹﻓﺎدات اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ .وﻳﺘﻀﺢ اﺧﺘﻼف ﻣﻘﺎرﺑﺘﻬﻢ ﻋﻦ املﻘﺎرﺑﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ إذا ﻧﻈﺮ املﺮء إﱃ ﻣﺎ ﺳﻴﺼﺒﺢ ﻫﻮ اﻟﻔﻜﺮ َة اﻟﺤﺎﺳﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ. ﱠ ﻋﱪ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻟﻠﻤﺮة اﻷوﱃ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻟﺘﺸﻴﻜﻲ ﺑﺮﻧﺎرد ﺑﻮﻟﺰاﻧﻮ )–١٧٨١ ،(١٨٤٨وﻳﻈﻬﺮ ﰲ دﻋﻮاه أن »اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ املﻮﺿﻮﻋﻲ اﻟﺬي ﺗﺪل ﻋﻠﻴﻪ أﻳﺔ »ﻛﻠﻤﺔ« ﻳﻜﻮن ﻣﻔﺮدًا ﻣﺎ داﻣﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻏري ﻏﺎﻣﻀﺔ« ،وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن اﻷﺣﺪاث اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ٍ َ وﺻﻒ ﻟﻔﻜﺮ وﻣﻌﻨًﻰ؛ ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﻌﺒري ﻋﻦ أﺳﺎس ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﻷي ﻓﺮد ﺗﺠﺮﻳﺒﻲ ﻫﻲ َ املﻌﺎﻧﻲ دون اﻟﻠﻐﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻫﻲ اﻟﻮﺳﻴﻂ اﻟﻌﺎم ملﺸﺎرﻛﺔ اﻷﻓﻜﺎر ﺑني اﻷﻓﺮاد؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻳﺠﺐ ٍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﺎ »ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ« .واﻟﺴﺆال اﻷﻫﻢ ﻫﻮ :ﻛﻴﻒ ﺳﻴُﻔﻬﻢ ذﻟﻚ؟ أن ﺗﻜﻮن املﻌﺎﻧﻲ ﻣﻮﺟﻮد ًة ﻓﻔﻜﺮة أن املﻌﺎﻧﻲ ﻣﻮﺟﻮدة ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻗﺪ ﺗﺠﻌﻞ املﻌﺎﻧﻲ ﻣﻮﺿﻮ َع ﻧﻈﺮﻳ ٍﺔ ﻣﻤﺎﺛ ٍِﻠﺔ ﻟﻠﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﻓﻜﺮة ﺑﻮﻟﺰاﻧﻮ أن املﻌﺎﻧﻲ ﻫﻲ »ﺗﻤﺜﻴﻼت ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ« ﺗﺪل ﻋﻠﻴﻬﺎ ً ً ﻋﺎرﺿﺎ وذاﺗﻴٍّﺎ. ﺷﻜﻼ اﻟﻜﻠﻤﺎت ،وﻟﻴﺴﺖ إن ﻣﺼري ﻫﺬا املﻨﻬﺞ »اﻟﺪﻻﱄ« ،واﻟﺬي ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ﻟﺐﱠ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺴﻤﻴﺘﻪ ﺑﺪﻗﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ،ﻣﺮﻫﻮن ﺑﴩط »ﻣﺎ داﻣﺖ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻏﺎﻣﻀﺔ« .ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻌﺮف املﺮء أن 85
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻜﻠﻤﺔ ﻏري ﻏﺎﻣﻀﺔ؟ ﻣﻦ املﻔﱰض أن ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻳﺠﺐ إﺛﺒﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻌﺮﻳﻒ املﻌﻨﻰ اﻟﺤﺮﰲ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ ،وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻓﻤﻦ اﻟﺠﺎﺋﺰ ﻗﻮل :إن ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻳﺘﻀﻤﻦ ً ٌ ﺷﺨﺺ املﻌﻨﻰ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﺨﺪام ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻣﻦ اﻹﺧﻔﺎﻗﺎت ﰲ ﺗﺤﻘﻴﻖ ذﻟﻚ .وإذا ﺣﺪﱠد ﻛﻠﻤﺎت أﺧﺮى ،ﻓﻴﺠﺐ ﺗﻌﺮﻳﻒ ﻫﺬه اﻟﻜﻠﻤﺎت ﺑﺪورﻫﺎ ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام ﻛﻠﻤﺎت أﺧﺮى ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ُ ﺑﺘﺴﻠﺴ ٍﻞ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻤﺎت املﻌ ﱢﺮﻓﺔ ﻟﻜﻠﻤﺎت .وﻗﺪ أﺷﺎر ﻛﺎﻧﻂ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ إﱃ ﻫﻴﻜﻞ املﺸﻜﻠﺔ ﻳﻨﺬر ﻫﻨﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ذﻛﺮ أن اﻟﺤﻜﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ،وإذا أراد ﺷﺨﺺ أن »ﻳﻤﻴﱢﺰ إن ﻛﺎن ﳾء ﻣﺎ ﻳﻨﺪرج ﺗﺤﺖ اﻟﻘﺎﻋﺪة أم ﻻ ،ﻓﻬﺬا ﻻ ﻳﺘﺄﺗﻰ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻗﺎﻋﺪة ُ ﺗﺴﻠﺴﻞ ﻣﻦ ﻗﻮاﻋﺪ اﻟﻘﻮاﻋﺪ .وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،إذا ﻛﺎﻧﺖ أﺧﺮى« ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺆدﱢي إﱃ ً ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﲆ اﻷﻃﻔﺎل — ﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﻣﻄﻠﻮﺑﺔ ملﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎﻫﻴﺔ املﻌﺎﻧﻲ ،ﻓﺴﻮف اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻷوﱃ ﻃﻮﻳﻞ — أن ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻗﺎدرﻳﻦ ﻋﲆ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﺣﺘﻰ ﻗﺒﻞ أن ﻳﻌﺮﻓﻮا ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ ﻣﻨﺬ أﻣ ٍﺪ ٍ أي ﻛﻠﻤﺎت ،وإذا أﺧﺬﻧﺎ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر أن اﻷﻃﻔﺎل ﻳﺘﻌﻠﻤﻮن اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻠﺤﻮﻇﺔ ،ﻓﺈن ﻓﻜﺮة أن املﻌﻨﻰ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪه ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ ﻗﻮاﻋﺪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﺻﺤﻴﺤﺔ؛ وﻫﺬا ﻳﻘﻮدﻧﺎ ﻧﺤﻮ »ﺑﺮاﺟﻤﺎﺗﻴﺔ« اﻟﻠﻐﺔ ،ﻓﻜﺮة أﻧﻨﺎ ﻧﺘﻌ ﱠﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﻧﺴﺘﺨﺪم اﻟﻀﺠﻴﺞ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ أﻫﺪاﻓﻨﺎً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻌ ﱡﻠﻢ ﻗﻮاﻋﺪ املﻌﻨﻰ. اﻟﺤﻞ املﻔﱰض َ اﻵﺧﺮ ﻟﻠﻤﺸﻜﻠﺔ اﻟﺪﻻﻟﻴﺔ ﻫﻮ أن ﺗﻜﻮن ﻟﺪﻳﻚ ﻓﺌﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻤﺎت أو اﻷﻟﻔﺎظ اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮن ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ »ﻣﺤ ﱠﺪدًا« إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ .وﻣﺜﺎل ذﻟﻚ اﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﻣﺮادﻓﺎت ِ ﻣﺒﺎﴍة إﱃ ﻣﺎ ﺗﺪل ﻋﻠﻴﻪ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ ﻣﺘﻄﺎ ِﺑﻘﺔ ،واﻟﻌﺒﺎرات اﻟﺘﻲ ﺗﺸري ﺑﺼﻮرة اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ،ﻓﺎﻷوﱃ ﻫﻲ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻀﻤﻦ ﰲ اﻟﺠﻤﻞ »اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ« ،ﻣﺜﻞ» :اﻷﻋﺰب ﻫﻮ رﺟﻞ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ، ﻏري ﻣﺘﺰوج« ،املﺘﻤﻴﱢﺰة ﻋﻦ اﻟﺠﻤﻞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ »املﺮ ﱠﻛﺒﺔ« .وﻛﻤﺎ اﻗﱰح ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ وﻃﺮﺣﻪ ﻛﻮاﻳﻦ ﻣﺮ ًة ﺛﺎﻧﻴﺔ ﰲ ﺧﻤﺴﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،إذا ﻛﺎن ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺪﻓﺎع ﻋﻦ املﻜﺎﻧﺔ املﻨﻄﻘﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ املﻨﺴﻮﺑﺔ ﻟﻠﺠﻤﻞ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ،ﻓﺈن املﴩوع اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ املﺒﻜﺮ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ إرﺳﺎء ﻧﻈﺮﻳ ٍﺔ ﻟﻠﻤﻌﻨﻰ ﺗﺴﺘﻨﺪ ﻓﻘﻂ إﱃ اﻟﺤﻘﺎﺋﻖ املﻨﻄﻘﻴﺔ واﻟﻌﺒﺎرات اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ؛ ُ اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻣﺤﻜﻮم ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻟﻔﺸﻞ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻠﻐﺔ ﻛﻠﻴٍّﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﻜﺘﺴﺐ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻋﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎملﻤﺎرﺳﺎت اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻟﻌﻼﻗﺎت إﱃ ﱢ وﻳﻠﺨﺺ ﺷﻠﻴﻚ اﻟﺒﺪﻳﻞ اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ اﻟﺜﺎﻧﻲ» :ﻳﺠﺐ أن ﻧﺮﺑﻂ اﻟﻜﻠﻤﺎت رﺑ ً ﻄﺎ ﻛﻠﻤﺎت أﺧﺮى. ﻣﺒﺎﴍا ﺑﺎﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﰲ ﺷﻜﻞ إﺷﺎرات ،وﻳﻘﺒﻊ املﻌﻨﻰ ﻛﻠﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﰲ املﻌﻄﻰ «.وﻟﻜﻦ ﻫﺬا ِ ً اﻷﻣﺮ ﻻ ﻳﺠﺪي ،وذﻟﻚ ﻟﻠﺴﺒﺐ اﻟﺬي أﺷﺎ َر ْت إﻟﻴﻪ ﻓﻜﺮة »اﻟﺘﺄﻣﱡ ﻞ« ﻟﺪى ﻫريدر؛ ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﺗﻤ ﱢﻜﻨﻨﺎ ﻣﻦ رؤﻳﺔ اﻟﴚء ﻛﻌﺪدٍ ﻏري ﻣﺤﺪﱠدٍ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء .وﻣﺠﺮد اﻹﺷﺎرة إﱃ ﳾء ﻻ ﻳﻮﺻﻞ املﻌﻨﻰ اﻟﺬي ﻳﻘﺼﺪه اﻟﺸﺨﺺ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﺑﺎﻹﺷﺎرة. 86
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ
ﻻ ﺗﻠﻌﺐ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ اﻟﺪور اﻟﺮﺋﻴﴘ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻟﻠﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ، إﻻ أن ﺟﻮﺗﻠﻮب ﻓﺮﻳﺠﻪ ) (١٩٢٥–١٨٤٨ﻛﺎن ﻟﻪ إﺳﻬﺎم ﺟﻮﻫﺮي ﰲ ﺗﻄﻮﱡرﻫﺎ؛ ﻓﻘﺪ ﱠ ﺣﻘﻖ ﻓﺮﻳﺠﻪ إﻧﺠﺎزات راﺋﺪة ﰲ املﻨﻄﻖ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺤﻮﱡﻟﻪ ﻋﻦ اﻷﺷﻜﺎل اﻷرﺳﻄﻴﺔ ملﻨﻄﻖ املﻮﺿﻮع-املﺤﻤﻮل ،إﱃ ﻣﻨﻄﻖ »ﻗﻀﻮي« )ﺣﺴﺐ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ( .ﻓﺎﻷول ﻳﺒﺪو ﻋﺎﺟ ًﺰا ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﻋﺒﺎرات ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ» :أﺣﺎدﻳﻮ اﻟﻘﺮن ﻻ وﺟﻮد ﻟﻬﻢ«؛ ﻷن ﻫﺬه اﻟﻌﺒﺎرات ﻳﺠﺐ أن ﺗُﺤ ﱠﻠﻞ ﺣﺘﻰ ﻻ ﻳﻨﺘﻤﻲ اﻟﻮﺟﻮد املﺤﻤﻮل إﱃ »أﺣﺎدي اﻟﻘﺮن« املﻮﺿﻮع .وﰲ ﻫﺬه اﻟﺤﺎﻟﺔ» ،ﻣﺎ« ﻫﻮ اﻟﺬي ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﻣﺤﻤﻮل ،إذا أﺧﺬﻧﺎ ﰲ اﻻﻋﺘﺒﺎر أﻧﻪ ﻏري ﻣﻮﺟﻮد؟ أﻣﺎ ﻣﻨﻬﺞ ﻓﺮﻳﺠﻪ اﻟﻘﻀﻮي ،ﻓﻴﻌﻴﺪ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻫﺬا ﺑﻠﻐﺔ »ﻳﻮﺟﺪ »س« ﺑﺤﻴﺚ إن »س« ﻫﻮ/ﻟﻴﺲ ﻫﻮ أﺣﺎدي ً ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ أﺣﺎدي اﻟﻘﺮن ﻟﻠﻨﻈﺮ ﻓﻴﻤﺎ إذا ﻛﺎن ﻳﻤﻜﻦ إﻋﻄﺎؤه املﺤﻤﻮل اﻟﻘﺮن«. »اﻟﻮﺟﻮد« ،ﻳﻨﻈﺮ املﺮء — ﻛﻤﺎ ﻗﺪ اﻗﱰح أرﻧﺴﺖ ﺗﻮﺟﻨﺪﻫﺎت — إﱃ اﻷﺷﻴﺎء املﻮﺟﻮدة ﻟريى إن ﻛﺎن اﻟﻮﺻﻒ »أﺣﺎدي اﻟﻘﺮن« ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﻄﺒﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﺗﻜﻤﻦ ﻗﻴﻤﺔ ﻫﺬا املﻨﻬﺞ ﰲ ﱡ اﻟﺘﻐريات ﰲ املﻌﺮﻓﺔ ،ﻋﻨﺪﻣﺎ — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻳﺘﻮﻗﻊ ﻣﺎ ﻳﺤﺮق ﻋﻦ ﻗﺪرﺗﻪ ﻋﲆ ﺑﻴﺎن ً ً ﻛﻮﻧﻪ ﻓﻠﻮﺟﻴﺴﺘﻮن ،وﻳﺼﺒﺢ أﻛﺴﺠﻴﻨﺎ .وﻳﻘﺪم ﻓﺮﻳﺠﻪ أﻳﻀﺎ ﺗﻔﺮﻗﺔ ﻻ ﺗﺰال ﻣﻮﺿﻊ ﻧﺰاع ﺑني »املﻌﻨﻰ« و»املﺮﺟﻌﻴﺔ« واﻟﺘﻲ ﱢ ﻳﻮﺿﺤﻬﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﺜﺎل ﻛﻮﻛﺐ اﻟﺰﻫﺮة؛ ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻸﻗﺪﻣني ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﻜﻮﻛﺐ ﻧﺠﻤني ،ﻧﺠﻢ اﻟﻨﻬﺎر وﻧﺠﻢ اﻟﻠﻴﻞ ،وﻣﺮﺟﻌﻴﺔ ﻫﺬﻳﻦ اﻟﻠﻔﻈني واﺣﺪة ،ﻟﻜﻦ ﻣﻌﻨﻴﻬﻤﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺎن .وﺗﻜﻤﻦ املﺸﻜﻠﺔ ﻫﻨﺎ ﰲ ﺗﻮﺿﻴﺢ ﻓﻜﺮة »املﻌﻨﻰ« اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺘﻐﻠﺐ ﻋﲆ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ رأﻳﻨﺎﻫﺎ ﻣﻊ »اﻟﺘﻤﺜﻴﻞ املﻮﺿﻮﻋﻲ« ﻟﺪى ﺑﻮﻟﺰاﻧﻮ ،واﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻜﺎﻓﺌﺔ ﻟﻪ ووﺟﻬَ ﺖ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﺗﻌﺮﻳﻒ املﻌﻨﻰ ﺑﻤﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﺴﻠﺴﻞ املﺸﺎر إﻟﻴﻬﺎ ً آﻧﻔﺎ، ﺑﺪرﺟﺔ ﻛﺒرية؛ ﻓﻘﺪ ِ اﻷﻣﺮ اﻟﺬي أدﱠى إﱃ اﻟﺮﻏﺒﺔ ﰲ ﻓﺌﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻣﻦ اﻟﻜﻠﻤﺎت ﻳﻜﻮن ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ﻏري ﻏﺎﻣﺾ. ﻳﻈﻬﺮ اﻟﺘﻄﻮر َ اﻵﺧﺮ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﰲ اﻟﻨﺼﻒ اﻷول ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﰲ ﺑﺮﻳﻄﺎﻧﻴﺎ واﻟﻨﻤﺴﺎ ،وﻻ ﺳﻴﱠﻤﺎ ﰲ ﻋﻤﻞ ﺑﺮﺗﺮاﻧﺪ راﺳﻞ وﺟﻲ إي ﻣﻮر وﻟﻮدﻓﻴﺞ ﻓﻴﺘﺠﻨﺸﺘﺎﻳﻦ و»ﺣﻠﻘﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ« — وﻫﻲ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ واﻟﻌﻠﻤﺎء اﻟﻄﺒﻴﻌﻴني اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺪءوا اﻻﺟﺘﻤﺎع ﰲ ﻓﻴﻴﻨﺎ ﰲ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،وﺛﻤﺔ ﺣﻠﻘﺔ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﰲ ﺑﺮﻟني ﺳﻴﺼﺒﺢ ﺑﻌﺾ أﻋﻀﺎﺋﻬﺎ ،أﻣﺜﺎل ﻫﺎﻧﺰ راﻳﺸﻨﺒﺎخ ،ذوي ﺷﺄن ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،وﻗﺪ أﺻﺒﺤﺖ أﻓﻜﺎرﻫﻢ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﺳﺎﺋﺪ ًة ﰲ ﻛﺜري ﻣﻦ أﻧﺤﺎء اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻳُﻌ َﺰى ﻫﺬا ﰲ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻨﻪ إﱃ أن ﻛﺜريًا ﻣﻦ أﻋﻀﺎء اﻟﺤﻠﻘﺔ ﻧﻔﺎﻫﻢ اﻟﻨﺎزﻳﻮن ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳُﻌ َﺰى ﰲ ﺟﺎﻧﺐ َ آﺧﺮ إﱃ اﻓﱰاﺿﻬﻢ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﺗﻜﻮن ُ ﺗﻮاﻓﻘﺎت ﻋﻠﻤﻴﺔ؛ ﻧﻈ ًﺮا ﻟﻠﻬﻴﻤﻨﺔ املﺘﺰاﻳﺪة ﻟﻠﻌﻠﻮم ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﻓﻠﻢ ﻳَﻌُ ِﺪ اﻵن ﻣﴩوع ﺣﻠﻘﺔ ﻓﻴﻴﻨﺎ ملﺰاوﺟﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ 87
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻣﻦ ﺧﻼل ﻧﻈﺮﻳﺔ املﻌﻨﻰ ﻫﻮ ﻣﺤﻮر اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻷﻛﱪ ﻟﻠﻨﻘﺎش ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻧﺠﻠﻮ-أﻣﺮﻳﻜﻴﺔ. )ﺣﺎﻟﺔ ﻓﻴﺘﺠﻨﺸﺘﺎﻳﻦ ﱠ ﻣﻌﻘﺪَة ،وﻟﻢ ﻳﻠﻌﺐ ﻋﻤﻠﻪ دو ًرا ﻛﺒريًا ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻋﲆ وﺟﻪ اﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺣﺘﻰ ﺳﺒﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ (.وﻟﻢ ﺗﺼﺒﺢ املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻣﻬﻤﺔ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ إﻻ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﻤﻞ أرﻧﺴﺖ ﺗﻮﺟﻨﺪﻫﺎت وﻛﺎرل أوﺗﻮ أﺑﻞ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﻣﻨﺬ ﺳﺒﻌﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ .وﺣﺘﻰ ذﻟﻚ اﻟﻮﻗﺖ ،ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ ﻣﻊ اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻣﺤﻮ َر اﻟﱰﻛﻴﺰ اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ. ﻫﻮﴎل وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ُ أﻫﻤﻴﺔ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﰲ ﺗﺤﺪﻳﺎﺗﻬﺎ ﻟﻔﺮﺿﻴﺔ أن اﻟﺘﻔﺴري اﻟﺴﺒﺒﻲ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﺗﻜﻤﻦ ﻟﻦ ﻳﱰك ﺷﻴﺌًﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ﻟﺘﻘﻮم ﺑﻪ ،وﻻ ﺷﻚ أن املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﺗﺤ ﱡﺪ ﻣﻦ ﻧﻄﺎق ﺗﺮﻛﻴﺰ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺗﺴﺘﺒﻌﺪ ﻛﺜريًا ﻣﻦ ﺗﻌﻘﻴﺪ ﺧﱪﺗﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،رﺑﻤﺎ ﺗﺴﻌﻰ ﻧﻈﺮﻳﺎت اﻟﺰﻣﻦ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إﱃ ﴍح اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﺰﻣﻦ أو ﴍح ﻛﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎﻃﻪ ﺑﺎملﻜﺎن ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﻔﺴريات ﻟﻦ ﺗﻜﻮن ﺑﺎﻟﴬورة ﻣﻼﺋ ً ِﻤﺔ ﻟﻠﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺎﻳﺶ ﺑﻬﺎ اﻟﺰﻣﻦ .وﻳﺆﺳﺲ إدﻣﻮﻧﺪ ﻫﻮﴎل ) (١٩٣٨–١٨٥٩ﻋﻤﻠﻪ ﻋﲆ ﻓﻜﺮة أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻟﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻼﺋ ٍ ٍ ﱢ ِﻤﺔ ﻋﻦ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻳﻘﺪﱢم ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻧﻔﺴﻪ إﻟﻴﻨﺎ ،ﻓﻬﺬه اﻟﻄﺮق ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺗﻌﱪ َ ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﱢ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻌﺎﻳﺶ ﺑﻬﺎ اﻟﻮﻗﺖ ،ﻟﻴﺲ ﻛﺘﺘﺎﺑ ٍُﻊ ﻣﻦ »اﻵﻧﺎت« املﻨﻔﺼﻠﺔ ،ﺑﻞ ﻳﻮﺿﺢ ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت واﻟﺨﱪات املﺤﻔﻮﻇﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ »ﻣﻌﻨﻰ« اﻟﻮﻗﺖ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻨﺎ. ﻛﺒﻨﻴ ٍﺔ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ ﻫﻮﴎل ﰲ ﻓﱰة ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ »املﺬﻫﺐ اﻟﺤﻴﻮي« — ﻓﻜﺮة أن اﻟﺤﻴﺎة إﻣﺎ ﺗَ ُﻔﻮق ِ اﻟﺘﺼﻮرات اﻟﺘﻲ ﻧﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﻟﻔﻬﻤﻬﺎ ،وإﻣﺎ ﻫﻲ ﻣﻘﺎوﻣﺔ ﺑﻄﺒﻌﻬﺎ ﻟﻠﺘﺼﻮر — ﻳﻠﻌﺐ دو ًرا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ،وﻫﺬا ﻷﺳﺒﺎب أﻫﻤﻬﺎ أﺣﺪاث ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻷوﱃ، َ إﺧﻔﺎق اﻟﻔﻜﺮ ﰲ ﻓﻬﻢ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ﻈﻬﺮ ﻃﺒﻴﻌﺘُﻬﺎ اﻟﻜﺎرﺛﻴﺔ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻳﺒﺪو اﻟﺘﻲ ﺗُ ِ وﻳﻜﻤﻦ ﺟﻮﻫﺮ املﺬﻫﺐ اﻟﺤﻴﻮي ﰲ ﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺤَ ﺪْس ﻟﺪى ﺷﻮﺑﻨﻬﺎور وﻧﻴﺘﺸﻪ ،وﺗﻈﻬﺮ ﻣﻼﻣﺢ ﻣﻦ اﻟﻔﻜﺮة ﻟﺪى دﻟﺘﺎي ،وﻟﺪى ﻣﻔ ﱢﻜﺮﻳﻦ أﻣﺜﺎل ﻟﻮدﻓﻴﺞ ﻛﻼﺟﻴﺰ ) .(١٩٥٦–١٨٧٢وﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ ﺑﻤﻜﺎن أن اﻧﺘﻘﺎدات اﻷﺧري ﻟﻠﻌﻘﻼﻧﻴﺔ واﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺗﺄﺛرياﺗﻬﻤﺎ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻋﲆ »اﻟﺤﻴﺎة« ﺗﺼﺎﺣِ ﺒﻬﺎ ُ ﻧﻔﺲ اﻻﻧﺘﻤﺎءات اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ املﺸﻜﻮك ﻓﻴﻬﺎ .وﺗﺴﻌﻰ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ ﻟﺪى ﻫﻮﴎل — ﻋﲆ ﻋﻜﺲ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﻘﺎرﺑﺎت املﺬﻫﺐ اﻟﺤﻴﻮي ﻟﻌﺪدٍ ﻣﻦ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ — إﱃ إﻳﺠﺎد ﻃﺮق ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻮﺻﻒ اﻟﺨﱪة ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﱪﻳﺮﻫﺎ ﻋﻘﻼﻧﻴٍّﺎ ،ﺛﻢ 88
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ
ً ﻧﻄﺎﻗﺎ ملﻨﻬﺠﻪ ﰲ ﻣﻘﺎﺑﻞ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻜﺎرﺛﻲ املﺘﺰا ِﻳﺪ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ ﻳﺪرك اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ اﻷوﺳﻊ اﻷوروﺑﻲ ﰲ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت وﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ. وﺛﻤﺔ ﴏاع ﺑﺎﻟِﻎ ﻟﺪى ﻫﻮﴎل ﺑني املﻘﺎرﺑﺔ املﺘﻌﺎﻟﻴﺔ ﻟﻸﺷﻜﺎل اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺨﱪة َ ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺘﻮﺟﱡ ﻪ ﰲ ﻋﻤﻠﻪ اﻟﻼﺣﻖ .وﻳﺒﺪأ ﻧﺤﻮ ﻣﺘﺰاﻳ ٍﺪ واملﻘﺎرﺑﺔ اﻟﻮﺻﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺼري ﻋﲆ ٍ اﻟﴫاع ﰲ اﻟﻈﻬﻮر ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻘﺘﻨﻊ ﻫﻮﴎل ﺑﺄن ﻣﺤﺎوﻻﺗﻪ املﺒﺪﺋﻴﺔ ﻻﺳﺘﻘﺎء املﻨﻄﻖ واﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﻟﻌﻤﻞ اﻟﻌﻘﻞ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ »ﺳﻜﻠﺠﻴﺔ« — أي اﻟﺨﻠﻂ ﺑني ﻣﺎ ﻫﻮ راﺳﺦ ﰲ ﻓﺮع ﻋﻠﻢ ﺗﺠﺮﻳﺒﻲ واﻟﴩوط املﻨﻄﻘﻴﺔ ﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ أي ﻋﻠﻢ ﻟﻠﻔﻬﻢ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ ذاﺗﻪ .وﻳُﻘ ﱢﺮﺑﻪ َر ْﻓﺾ اﻟﺴﻜﻠﺠﻴﺔ ﻣﻦ ﻓﺮﻳﺠﻪ وأﻓﻜﺎر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﺑﺪ ﻣﻦ وﺟﻮد ﻗﻮاﻧني ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻜﻲ ﺗﻜﻮن اﻻﻋﱰاﺿﺎت ﻋﲆ اﻟﺴﻜﻠﺠﻴﺔ ﻻ َ ﻟﺒﺲ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﺗﻮﺣﻲ ﺣﺠﺞ ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ وﻛﻮاﻳﻦ ﺑﺸﺄن اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ أﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﻓﻴﻪ .وﻳﺰداد ﺗﻌﻘﻴﺪ ﻣﻨﻬﺞ ﻫﻮﴎل ﺑﺎﻋﺘﻤﺎده ﻋﲆ ﻓﻜﺮة »املﻮﻗﻒ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« ،اﻟﺬي ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺧﱪات ً ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ؛ ﻷن »ﺑﺪﻳﻬﻴﺔ« ،أو »ﻣﻤﻨﻮﺣﺔ ﺑﺎﻷﺻﻞ« ،واﻟﺘﻲ دوﻧﻬﺎ ﺳﺘﻜﻮن اﻟﺨﻼﻓﺎت اﻟﻬﺎدﻓﺔ ﻫﺬه ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺒﺪو ﻣﻨﺘﻤﻴﺔ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﻋﻠﻢ اﻟﻨﻔﺲ. ﱠ ﱠ ﻳﺘﻌني ﻋﲆ ﻫﻮﴎل أن ﻳﺘﺤﻘ َﻖ اﺳﺘﻘﻼل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،ﻛﺎن ﻟﻜﻲ ﻳﺴﺘﺒﻌِ َﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛ ﱠﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﴍﺣﻪ ﺑﺄﻟﻔﺎظ ﻣﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻋﻨﻮان ﻋﻤﻠﻪ اﻟﺬي رﺑﻤﺎ ﻛﺎن اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺄﺛريًا »أﻓﻜﺎر ﺗﺠﺎه ﻋﻠﻢ ﻇﻮاﻫﺮ ﺧﺎﻟﺺ وﻓﻠﺴﻔﺔ ﻇﻮاﻫﺮﻳﺔ« ) .(١٩١٣وﻧﻘﻄﺔ اﻧﻄﻼﻗﻪ ﻫﻲ »اﻟﻘﺼﺪﻳﺔ«؛ أي »دوران« اﻟﻔﻜﺮ ،اﻟﺬي ﻳﺤ ﱢﻠﻠﻪ ﺑﻄﺮق ﺟﺪﻳﺪة ﱡ اﻟﺘﻮﻗﻒ ﻋﻦ اﻟﺤﻜﻢ ﻣﺆﺛﱢﺮة .وﻫﻮ ﻳﺮى أﻧﻨﺎ ﻳﺠﺐ أن »ﻧﻌﻠﻖ« )ﻓﻴﻤﺎ أﺳﻤﺎه »اﻹﺑﻮﺧﻴﻪ«؛ أي وﺗﻌﻠﻴﻘﻪ( ﻣﺎ ﻧﻌﺮﻓﻪ ﻋﻦ ﻣﻮﺿﻮع اﻟﺒﺤﺚ ﻣﻦ أﺟﻞ أن ﻧﺼﻒ اﻟﺒﻨﻰ املﺤﻀﺔ ﻟﻠﻮﻋﻲ املﺘﻀﻤﻨﺔ ﰲ ذﻟﻚ املﻮﺿﻮع .وﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﻛﺜريون — ﻣﻦ ﺟﺎك درﻳﺪا ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻷوروﺑﻲ إﱃ ﻣﺎﻳﻜﻞ دوﻣﻴﺖ وأرﻧﺴﺖ ﺗﻮﺟﻨﺪﻫﺎت ﻋﲆ اﻟﺠﺎﻧﺐ اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ — ﺗﻮاﺟﻪ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻣﺸﻜﻠﺔ ﺧﻄرية ً وﺻﻔﺎ ﻟﻠﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ املﺤﻀﺔ ﻣﻦ اﻟﻮﻋﻲ ،ﻓﻠﻜﻲ ﺗﻜﻮن اﻟﻔﻜﺮة ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ، ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻳﺘﻌني إﻳﺼﺎﻟﻬﺎ ٍ ﱠ ﺑﻠﻐﺔ ﺑني ذاﺗﻴﺔ ﻻ داﺧﻞ اﻟﺬات. ً رﺳﻮﺧﺎ ،اﻟﺘﻲ أﺛﱠﺮت ﰲ ﻟﻜﻦ ﺗﻠﻚ اﻻﻧﺘﻘﺎدات أﺧﻔﺖ أﺣﻴﺎﻧًﺎ ﺟﻮاﻧﺐ ﻫﻮﴎل اﻷﻛﺜﺮ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ وﺳﺎرﺗﺮ وﻏريﻫﻤﺎ ﻛﺜري ،وﻟﻴﺲ ﻓﻘﻂ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وأﺣﺪ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﻗﺪﱠﻣﻪ ﻣﻦ ﺑﺪﻳﻞ ﻟﻠﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﻴﻤﻨﺖ ﻋﲆ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﺣﺘﻰ وﻗﺖ ﻗﺮﻳﺐ، ُ اﻷﺳﺎﳼ ،وﻣﻨﻬﺎ ﻳُﻔﱰَض أن ﺗُﺒﻨَﻰ »ﻣﻌﻄﻴﺎت اﻟﺤﺲ« ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺎ »ا ُملﻌﻄﻰ« واﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﱢﻞ ﱠ َ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﺨﱪة املﻌﺮﻓﺔ .وﺗﺆ ﱢﻛﺪ أوﺻﺎف ﻫﻮﴎل ﻟﻺدراك )ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﻧﻤﻮذج واﺣﺪ ﻧﻬﺎﺋﻲ( 89
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻳﺠﺐ أن ﺗُﻔﻬَ ﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ؛ ﻓﻜﻞ ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻮﻋﻲ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻋﻼﻗﺔ ﺑني ﻧﻤﻂ أو أﻧﻤﺎط ﻣﻦ اﻻﻧﺘﺒﺎه ،وﻣﺎدة ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ .واﻟﺜﺎﻧﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰاﻟﻪ ﰲ اﻷول ،ﻟﻜﻦ دون اﻷول ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻛﻤﺎ ﻳُﻨ َ ﻣﺒﺎﴍةً ، ِ ﻈﺮ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﺘﻔﺴري ﻛﻴﻒ ﻧﺤﻴﺎ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻟﻪ دﻻﻻت إﻟﻴﻪ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ؛ ﻓﺎﻟﺮؤﻳﺔ ﺗﻨﻄﻮي ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻋﲆ ﻓﻮﺗﻮﻧﺎت ﺗﺴﻘﻂ ﻋﲆ اﻟﺸﺒﻜﻴﺔ، اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴريه ﺑﻠﻐﺔ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﻔﺴري ﺧﱪة رؤﻳﺔ ﳾء ﺑﺘﻠﻚ اﻟﻠﻐﺔ ،وﻫﻲ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﻲ وﴐورﻳﺔ ﻟﻪ .وﺗﻌﻨﻲ رؤﻳﺔ ﳾء أن ﻣﺎ ﻳُ َﺮى ﻳﻘﺪﱢم َ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﴚء ﻟﻪ دﻻﻟﺔ؛ ﻷﻧﻨﺎ ﻧﺪرك ﺳﺒﺐ ﺣﺎﺟﺘﻨﺎ إﻟﻴﻪ أو ﻣﺎ ﻳﺬﻛﺮﻧﺎ ﺑﻪ وﻫﻜﺬا ،وﻻ ﳾء ﻣﻦ ذﻟﻚ ﻳُﻤﻨَﺢ ﰲ ﺷﻜﻞ ﻓﻮﺗﻮﻧﺎت وﺷﺒﻜﻴﺎت. ﺗﺘﻀﺢ أﻫﻤﻴﺔ اﺳﺘﻘﺮاء ﻫﻮﴎل ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ أن املﻌﻨﻰ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﺼﻠﻪ ﻋﻦ اﻹدراك ﰲ ﻋﻤﻠﻪ »أزﻣﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻷوروﺑﻴﺔ وﻋﻠﻢ اﻟﻈﻮاﻫﺮ املﺘﻌﺎﱄ« ﻋﺎم ١٩٣٦؛ ﻓﻔﻲ ﻫﺬا اﻟﻨﺺ املﺘﺄﺛﱢﺮ ﺑﺘﻠﻤﻴﺬه ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ،ﻳﻨﺘﻘﻞ ﻫﻮﴎل ﻣﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻣﻘﺎرﺑﺔ إﺑﺘﺴﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﰲ اﻷﻏﻠﺐ ﻷزﻣﺔ اﻷﺳﺲ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ إﱃ ﻣﻘﺎرﺑ ٍﺔ ﺗﺮى اﻷزﻣﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﺘﻀﻤﻦ أﻫﺪاف اﻟﺤﻴﺎة اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ. وﺗﻨﻌﻜﺲ اﻷزﻣﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم ﰲ إﺧﻔﺎق اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﰲ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ »أﺳﺌﻠﺔ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ أو ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺒﴩي ﻛﻜ ﱟﻞ« ،وﻳﺆدي ﻫﺬا اﻹﺧﻔﺎق إﱃ ﺗﻀﻴﻴﻖ ﻧﻄﺎق اﻟﱰﻛﻴﺰ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺬي ﻳﻈﻬﺮ ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻦ ﻧﺰوع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ﻧﺤﻮ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ. وﻫﻨﺎ ﺗﺘﻀﺢ اﻟﺠﺬور املﻬﻤﺔ ﻟﻼﻧﻘﺴﺎﻣﺎت املﻌﺎﴏة ﺑني املﻨﺎﻫﺞ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ واﻷوروﺑﻴﺔ. ﱢ وﻳﻮﺳﻊ ﻫﻮﴎل ﻧﻄﺎق ﻓﻜﺮة »املﻮﻗﻒ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ« ﻟﻴﺸﻤﻞ ﻓﻜﺮة »ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة ﻗﺒﻞ وﺑﻌﺪ اﻟﻌﻠﻤﻲ« ،وﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة »ﻳﻀﻢ ﰲ داﺧﻠﻪ ﻛﻞ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ،ﺑﻤﺎ ﰲ ذﻟﻚ ﺣﻴﺎة اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ« ،وﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻦ املﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﻮﻗﻒ اﻟﻨﻈﺮي اﻟﺬي ﻳﻤﻴﱢﺰ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ أن ﻳﺘﻄﻮﱠر دون »ﻣﺎ ﻫﻮ ﻃﺒﻴﻌﻲ … اﻟﺬي ﻳﻔﱰﺿﻪ ﻛﻞ ﺗﻔﻜري ،وﻛﻞ ﻧﺸﺎط ﻣﻦ أﻧﺸﻄﺔ اﻟﺤﻴﺎة ﰲ ﺟﻤﻴﻊ أﻏﺮاﺿﻬﺎ وﻣﻨﺠﺰاﺗﻬﺎ« .و»املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ« ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻫﻲ ﺷﻜﻞ ﻣﻦ املﻤﺎرﺳﺔ »ﻣﺘﺄﺧﺮ ﺗﺎرﻳﺨﻴٍّﺎ« .وﺗﻜﻤﻦ اﻷزﻣﺔ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻫﺬه املﻤﺎرﺳﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﺗﻬﻴﻤﻦ ﻋﲆ ﻛ ﱢﻞ ﻣﺎ ﻋﺪاﻫﺎ؛ ﻓﺎﻟﺤﺪاﺛﺔ ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ »ﺗﺮﻳﻴﺾ اﻟﻜﻮن« ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺮاه ﻫﻮﴎل ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﻋﲆ ﺗﻐريات ﰲ ٍ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻋﻤﲇ ﻳُﺴﺘﺨﺪَم ﻷﻏﺮاض ﺗﻘﻨﻴﺔ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة ﻳﻨﺸﺄ ﻓﺮ ُع ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ،ﻓﻤﻦ ﻓﺮع ﱢ وﻳﻐري ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺪوره ﻋﻠ ٍﻢ ﻣﻬﺘﻢ ﺑ »ﻋﺎﻟﻢ ﻣﻨﻐﻠﻖ ﻋﲆ ذاﺗﻪ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﻴﺎت املﺜﺎﻟﻴﺔ«. اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ املﻬﻴﻤِ َ َ ِ ﻨﺔ ﻟﻼﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﺪﻗﺔ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴ ِﺔ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺘﻲ أﺣﺪﺛﺘﻪ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺟﻌﻞ ً ً ﻟﻠﻤﻮﺿﻮﻋﺎت ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻳُﻨ َ ﻧﻮﻋﻴﺔ؛ وﻫﻜﺬا ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺜﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﺗﺼﺒﺢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ »رﻳﺎﺿﻴﺎت ﺗُﻄﺒﱠﻖ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺨﺎﻟﻒ ﻟﻠﻌﺎدة« ،وﺗﺆدي »ﺣﺴﺒﻨﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ« 90
اﻟﻜﺎﻧﻄﻴﺔ اﻟﺠﺪﻳﺪة واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ وﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻈﻮاﻫﺮ
إﱃ »ﺗﻔﺮﻳﻐﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ« .واملﻌﻨﻰ املﻔ ﱠﺮغ ﻟﻴﺲ ﻫﻮ املﻌﻨﻰ ﻛﻤﺎ ﻳُﻔﻬَ ﻢ ﰲ املﴩوع اﻟﺪﻻﱄ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ ،ﺑﻞ ﻫﻮ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻧ ُ ِﺴﺠَ ْﺖ ﺑﻬﺎ ﻣﻤﺎرﺳﺔ اﻟﻬﻨﺪﺳﺔ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة ﱠ املﻌﻘﺪ اﻟﺬي ﻳﺴﻜﻨﻪ اﻟﻨﺎس .وﻫﻨﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء اﻟﻮﻗﻮف ﻋﲆ املﻀﻤﻮن املﻬﻢ ﻻﻧﻘﺴﺎم اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ/اﻷوروﺑﻴﺔ؛ ﻓﺎﻷﺧرية ﺗﺮى املﴩوع اﻟﺪﻻﱄ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺠﺮد ﺟﺰء ﺻﻐري ﻣﻦ ﻋﻼﻗﺔ ً وﺻﻔﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺴﻠﻴﻤﺔ ﺑﺎﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻻ ﻳﺰال ﻫﻮﴎل ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺤﺎول أن ﻳﻌﻄﻲ ً وﺻﻔﺎ ﻟﻠﺒﻨﻰ اﻟﴬورﻳﺔ ﻟﻪ ﻟﻜﻲ ﻳﺘﺸ ﱠﻜﻞ ﻋﲆ اﻟﻨﺤﻮ اﻟﺬي ﻫﻮ ﻣﺘﻌﺎﻟﻴًﺎ ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة )أي ﻋﻠﻴﻪ( ،ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﻗﺪﱠﻣﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎملﻮﻗﻒ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺰداد إدرا ًﻛﺎ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻮﺻﻒ اﻟﻨﻈﺮي اﻟﺨﺎﻟﺺ اﻟﺬي ﻳﺒﻐﻴﻪ ﻳﻬﺪﱢده اﻟﺤﺪوث اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ،وأن ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻫﻮ اﻟﺬي ﻳﻜﺸﻒ اﻟﺘﺒﻌﺎت اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ملﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﺘﺼﺪى ﻵﺛﺎر اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﲆ ﺗﻮﺻﻴﻔﻨﺎ ﻷﻧﻔﺴﻨﺎ وﻟﻠﻌﺎﻟﻢ.
91
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ
ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ
ﻣﺴﺄﻟﺔ »اﻟﻮﺟﻮد« إن ﻓﻜﺮة اﻷزﻣﺔ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳُﺸ ﱠﻜﻚ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﺳﺎس أﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن ﻫريوﺷﻴﻤﺎ وﻣﻌﺴﻜﺮ أوﺷﻔﻴﺘﺰ وﻏريﻫﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﻜﻮارث اﻟﺘﻲ و ﱠﻟﺪﺗﻬﺎ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺘﺤﺪث دون اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ؛ ﻓﻬﻲ ﻧﺘﺎج ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﻌﻠﻢ وﻟﻴﺴﺖ ﻧﺘﺎج »اﻟﻌﻠﻢ ﻧﻔﺴﻪ« ،وﻋﺎد ًة ﻣﺎ ﻳﺼﺎﺣﺐ ﻫﺬه اﻟﺪﻋﻮى ا ُملﺤﺎﺟﱠ ُﺔ ﺑﺄن »اﻟﻘِ ﻴَﻢ« — أي ﻣﻌﺎﻳري اﻟﻔﻌﻞ — ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻣﺴﺘﻤَ ﺪة ﻣﻦ »ﺣﻘﺎﺋﻖ« .وﺗﺮﺟﻊ أﻫﻤﻴﺔ وﺻﻒ ﻫﻮﴎل ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﱰﻳﻴﺾ اﻟﻜﻮن إﱃ ﻣﺎ ﻳﻘﱰﺣﻪ ﻣﻦ ﻃﺮق ﻟﺘﺠﺎوز اﻟﺒﺪﻳﻞ املﺠﺮد اﻟﻨﺎﺗﺞ ﻟﴚء »ﺧﺎﻃﺊ« ،ﺳﻮاء ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ أو ﺑﺘﻄﺒﻴﻘﻪ، ﺣﻴﺚ ﻳﺆدي اﻟﺪﻓﺎع اﻟﺤﴫي ﻋﻦ أيﱟ ﻣﻦ اﻟﺒﺪﻳﻠني إﱃ وﺻﻒ ﻏري ﻣﻌﻘﻮل ملﻜﺎن اﻟﻌﻠﻢ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .واﻟﻔﻜﺮة ﻫﻲ أن اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻤﺎرﺳﺎت ﻣﺘﺼﻠﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﱠ ﻣﻌﻘﺪ ﺑﺄﻧﻮاع أﺧﺮى ﱡ »ﻳﺴﺘﺤﻖ« اﻟﻘﻴﺎم ﺑﻪ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ — ﻛﻤﺎ ﻣﻦ املﻤﺎرﺳﺔ ،واﻟﺘﻲ ﺗﺘﻄﻠﺐ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﺗﻘﻴﻴﻤً ﺎ ملﺎ ذﻛﺮ ﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﱪ — أن اﻟﻌﻠﻮم ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻣﴩﻋﻨﺔ ﻟﺬاﺗﻬﺎ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻘﺪﱢم ﻣﻌﺎﻳري ً اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻏري ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﻟﺘﻄﺒﻴﻘﻬﺎ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﺎﻟﺘﱪﺋﺔ ﻏري املﺘﺄﻣﻠﺔ ﻟ »اﻟﻌﻠﻢ« رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﻼﺋﻤﺔ ﻟﻔﻬﻢ دور اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .وﻓﻜﺮة أن اﻟﻌﻠﻮم ﻟﻬﺎ ﻗﻴﻤﺔ ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺘﻴﺢ ﻣﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻐريﻫﺎ أن ﻳﺘﻴﺤﻪ ﻫﻲ أﻣﺮ ﻻ ﻳﺮﻗﻰ إﻟﻴﻪ اﻟﺸﻚ ،ﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﺗﺘﻴﺤﻪ اﻟﻌﻠﻮم ﻳﻤﻜﻦ ً أﻳﻀﺎ أن ﻳﻜﻮن ﺿﺎ ٍّرا ً وﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻻﻓﱰاض ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ أن اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﻌﻠﻮم ﻫﻲ أﻧﻬﺎ ﺗﻘﺪﱢم »رؤﻳﺔ وﻣﺪﻣﱢ ًﺮا. ﻣﻦ ﻻ ﻣﻜﺎن« ،وﻫﻮ وﺻﻒ ﻧﻈﺮي ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﺑﺤﺖ ،ﻓﺈن اﻟﺴﺆال اﻷوﱃ ﻫﻮ :ملﺎذا ﻳﺠﺐ اﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﺗﻠﻚ اﻟﺮؤﻳﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ اﻟﻬﺪف اﻟﺠﻮﻫﺮي ﻟﻠﻌﻠﻮم؟ وﻛﻤﺎ ﻳﺮى ﻫﻮﴎل ،ﻓﺈن ﻫﻴﻤﻨﺔ ﻧﻤﻮذج املﻮﺿﻮﻋﻴﺔ اﻟﺨﺎﻟﺼﺔ اﻟﻘﺎﺋﻢ ﻋﲆ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت ﻫﻮ ﻇﺎﻫﺮة ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺣﺪﻳﺜﺔ.
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﺷﻜﻞ :1-8ﻣﺎرﺗﻦ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ.
1
ﱡ ﺗﺨﺼ ً ﺼﺎ ﻋﻦ املﻨﻄﻖ واﻹدراك إﱃ ﺗﺴﺎؤﻻﺗﻪ ﻋﻦ إن اﻧﺘﻘﺎل ﻫﻮﴎل ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻪ اﻷﻛﺜﺮ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻫﻮ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﺘﺄﺛري أﻓﻜﺎر ﺗﻠﻤﻴﺬه ﻣﺎرﺗﻦ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ) ،(١٩٧٦–١٨٨٩وﻣﺎ ﻛﺎن ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺑﺪوره ﻟﻴﺼﻞ إﱃ أﻓﻜﺎره ﻣﻦ دون ﻫﻮﴎل، ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺤﻮﱢل اﻷﻓﻜﺎ َر اﻟﺘﻲ ﻳﺘﺒﻨﱠﺎﻫﺎ ﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ ﻣﻬﻤﺔ وﻣﺜرية ﻟﻠﺠﺪل .وﻳﺘﻀﺢ ﱡ ﺗﻌﻘﺪ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ أﻛﱪ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ؛ ﻓﻘﺪ اﻧﻀ ﱠﻢ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ إﱃ اﻟﺤﺰب اﻟﻨﺎزي ﻋﺎم ،١٩٣٣ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻳﻨﻈﺮ إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﻘﺪﱢم ﻧُﻬُ ﺠً ﺎ ﺟﺪﻳﺪة ﰲ ﺗﻨﺎول ﺗﺤﺪﻳﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ً ﴏاﺣﺔ َﻗ ﱡ ﻂ ﻻ ﻋﻦ ﻋﻀﻮﻳﺘﻪ وﻻ ﻋﻦ ﺑﻌﺾ املﻌﺎﴏ ﻷملﺎﻧﻴﺎ ،وﺗﺮﻛﻪ ﻋﺎم ،١٩٤٥وﻟﻢ ﻳﻌﺘﺬر ﻣﺎ ﻗﺎم ﺑﻪ ﰲ ﻓﱰة اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻨﺎزي ،ﻣﺜﻞ اﻹﺑﻼغ ﻋﻦ زﻣﻼﺋﻪ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎت .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ، ﻓﺈن ﻋﻤﻠﻪ ﻳﻘﺪﱢم ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ وﺳﺎﺋﻞ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻣﻬﻤﺔ ﻟﻔﻬﻢ ﻛﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎط اﻟﻔﻈﺎﺋﻊ اﻟﺘﻲ ارﺗ َﻜﺒَﻬﺎ اﻟﻨﺎزﻳﻮن ﺑﺪور اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ. ملﺎذا إذن ﻻ ﺗﺰال ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺗﺤﻈﻰ ﺑﻬﺬه اﻟﺪرﺟﺔ ﻣﻦ اﻷﻫﻤﻴﺔ رﻏﻢ اﻟﺴﻘﻮط ً اﻷﺧﻼﻗﻲ واﻟﺴﻴﺎﳼ اﻟﻔﺞﱢ ِ ﻣﺘﺴﺎﺋﻼ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻟﻮاﺿﻌﻬﺎ؟ ﻗﴣ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺟﺎﻧﺒًﺎ ﻛﺒريًا ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ 94
ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ
ﺷﻜﻞ :2-8ﻣﻌﺴﻜﺮ أوﺷﻔﻴﺘﺰ.
2
ﻳﻌﻨﻴﻪ »اﻟﻮﺟﻮد« ،وﻟﻢ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ إﻋﻄﺎء إﺟﺎﺑﺔ ﻓﺎﺻﻠﺔ ،وﻳﺮﺟﻊ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﰲ ﺟﺰءٍ ﻣﻨﻪ إﱃ ﻋﺪم وﺿﻮح اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺳﻴُﻔﻬَ ﻢ ﺑﻬﺎ اﻟﺴﺆال ،وﺻﻌﻮﺑﺔ إﻳﻀﺎح اﻟﺴﺆال ﺟﺰءٌ ﻣﻦ ﻣﻐﺰاه. ﻓﺎﻷﺳﺌﻠﺔ ﻋﻦ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻮﺟﻮد Sinn des Seinsﻳﺠﺐ أن ﺗﺠﻴﺐ ً أوﻻ ﻋﲆ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻷﻟﻔﺎظ ﰲ ﺗﻠﻚ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﺪﻳﻬﻴﺔ أو واﺿﺤﺔ ﰲ ذاﺗﻬﺎ؛ ﻓﻜﻠﻤﺔ Sinnﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺪل ﻋﲆ »ﻣﻌﻨﻰ« ﻛﻤﺎ ﰲ »ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺤﻴﺎة« ،واﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ دﻻﻟﺔ »اﻟﺘﻮﺟﻪ« أو »اﻟﻬﺪف« أو »اﻟﻐﺮض«، أو ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺪل ﻓﻘﻂ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﺸري إﻟﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﺸري إﱃ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻠﻤﺔ .و Seinﰲ ﻋﻨﻮان ﻛﺘﺎب ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻷﻗﻮى ﺗﺄﺛريًا »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« Sein und Zeitﻋﺎم ،١٩٢٧ﻳﻤﻜﻦ أن ً ِ ﻣﺒﺎﴍ ًة؛ وﻓﻌﻼ ﻋﲆ ﺣ ﱟﺪ ﺳﻮاء .وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن ﻣﻌﺎﻧﻲ »اﻟﻮﺟﻮد« ﻟﻴﺴﺖ ﺗﻜﻮن اﺳﻤً ﺎ ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل :اﻟﻘﻮل ﺑﺄﻧﻪ »ﺗﻮﺟﺪ ﺣﻴﺎة ﻋﲆ اﻷرض« ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﻌﻨًﻰ ﻣﺨﺘﻠﻒ ً ﻣﺤﻤﻮﻻ ﻳﺨﺺ ﺷﻴﺌًﺎ ،ﻛﻤﺎ ﰲ» :ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻟﻠﻮﺟﻮد ﻋﻦ ذﻟﻚ اﻟﺬي ﻳﻨﻄﻮي ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻘﻮل ﺑﺄن أزرق« ،أو اﻟﻘﻮل ﺑﺄن ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﳾء َ آﺧﺮ ،ﻛﻤﺎ ﰲ» :ﻧﺠﻢ اﻟﺼﺒﺎح ﻫﻮ ﻧﺠﻢ اﻟﻠﻴﻞ«،
95
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻓﻬﻞ ﻫﺬه املﻌﺎﻧﻲ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﻗﺎﺳﻢ ﻣﺸﱰك ﻳﻤﻜﻦ إدراﺟﻪ ﺗﺤﺖ اﻟﻌﻨﻮان اﻟﻮﺣﺪوي »اﻟﻮﺟﻮد«، أم ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳُﻔﻬَ ﻢ اﻟﻮﺟﻮد ﺑﺪﻗﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻣﺘﺸﻌﱢ ﺐ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻪ؟ ﺗﺄﺛﱠﺮت اﺳﺘﻜﺸﺎﻓﺎت ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺑﻔﻜﺮة أن »اﻟﻮﺟﻮد« ﻳﻌﻨﻲ ﺷﻴﺌًﺎ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ »ﻛﻮﻧﻪ ً ﺧﺎل ﻣﻦ ﻣﻌﻘﻮﻻ« ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن اﻷﺷﻴﺎء ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ ﺑﻄﺮق ﻛﺜرية .وﻧﺤﻦ ﻻ ﻧﻨﺸﺄ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ٍ املﻌﻨﻰ ﻧﺨﻠﻊ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻌ ُﺪ ﻣﻌﻨًﻰ ،ﻓﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻧﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ﻫﻮ دوﻣً ﺎ ذو ﻣﻌﻨًﻰ ﺑﻤﻔﻬﻮم ﻷﺳﺒﺎب أﻫﻤﻬﺎ أﻧﻨﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ أن ﻧﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻌﻪ ﻟﻨﻈﻞ ﻋﲆ ﻗﻴﺪ اﻟﺤﻴﺎة .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ،وذﻟﻚ ٍ ﻷﺳﺌﻠﺔ ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﺳﺆال ﻻﻳﺒﻨﺘﺰ» :ملﺎذا ﻳﻮﺟﺪ ﳾء ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻻ ﳾء؟« واﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ ﻗﺪ ﺑﺪأ ﻳﻄﻮﱢرﻫﺎ إﱃ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﻮﺟﻮدﻳﺔ ﺑﺤﺪوث ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻮﺟﻮد؛ أن ﺗﻨﺸﺄ إﻻ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ وﺟﻮد ﳾء ﻣﻦ اﻟﻔﻬﻢ ملﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻣﻦ ﺛَﻢﱠ ،ﻓﺎملﻬﻤﺔ املﺒﺪﺋﻴﺔ ﻫﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻼﻣﺢ ذﻟﻚ اﻟﻔﻬﻢ ،اﻟﺬي ﻳﻈﻦ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻗﺪ ﻧﺴﻴﺘﻪ .وﺗﺘﻀﺢ أﻫﻤﻴﺔ ﻓﻌﻞ ذﻟﻚ إذا أﻣﻌﻦ املﺮء اﻟﻨﻈﺮ ﰲ ﻣﺜﺎل ﻟﻸﺳﺎﻟﻴﺐ املﺘﻌﺎرﺿﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺮى ﺑﻬﺎ ﻣﺎﻫﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء؛ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻧﻌﺠﺐ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎء اﻟﺰرﻗﺎء ﰲ ﻳﻮم ﺻﻴﻒ ﺻﺤﻮ ،ﺳﻮف ﻳﺨﺘﻠﻒ إدراﻛﻨﺎ ﻟ ُﺰرﻗﺔ اﻟﺴﻤﺎء ﻋﻦ إدراك اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻲ اﻟﺬي ﻳﴩح اﻟﺴﺒﺐ ﰲ ﻇﻬﻮر اﻟﺴﻤﺎء زرﻗﺎء ،وﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﺒﺪو ﺗﻔﺴري اﻟﻔﻴﺰﻳﺎﺋﻲ ﻋﲆ أﻧﻪ اﻷﺳﺎس اﻟﻮاﻗﻌﻲ ملﺎ ﻧﺪرﻛﻪ ،وﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ،إذا ﻛﺎن ﻫﺪﻓﻨﺎ ﻫﻮ ﻓﻬ َﻢ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻧﻈﺎﻣً ﺎ ﻣﻦ اﻟﻘﻮاﻧني اﻟﺘﻔﺴريﻳﺔ .ﻟﻜﻦ ﻳﺘﻀﺢ ﻣﻦ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺒﺴﻴﻄﺔ، اﻟﺘﻲ ﻣﻔﺎدﻫﺎ أن اﻟﻨﺎس ﻋﺎﺷﻮا ﻷﻟﻒ ﺳﻨﺔ دون ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﱪﱠرة ﻟﺴﺒﺐ ُزرﻗﺔ اﻟﺴﻤﺎء ،أن ﻓﻬﻢ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺬي ﻳﻘﺪﱢم ﺗﻔﺴريًا ﻟﻴﺲ ﻫﻮ اﻟﻨﻮع اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻬﻢ؛ ﻓﻠﻤﺎذا ً ﻣﺜﻼ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﻘ ﱠﺮ ﺑﺠﻤﺎل اﻟﺴﻤﺎء اﻟﺰرﻗﺎء ،أو ﻧﱰﺟﻢ ﺗﺠﺎوﺑﻨﺎ ﻣﻌﻬﺎ ﰲ ﻟﻮﺣﺔ ﺗﺴﻌﻰ إﱃ ﺗﺴﺠﻴﻞ ُزرﻗﺘﻬﺎ، وﻫﻲ ُزرﻗﺔ ﻻ ﻳﺘﻀﻤﻨﻬﺎ اﻟﻠﻮن ﻛﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ،ﺑﻞ ﺑﺎﻷﺣﺮى ﰲ ﻣﻮﺿﻊ اﻟ ﱡﺰرﻗﺔ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺪﻻﻻت؟ ﺗﺘﺠﲆ ﺗﺪاﻋﻴﺎت ﺗﻠﻚ املﻮاﻗﻒ املﺘﻐﺎﻳﺮة ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺤﺬر املﻔﻜﺮون اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﻮن ﻣﻦ ﺗﺪاﻋﻴﺎت اﺧﺘﺰال اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﰲ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮد ﻣﻮﺿﻮع ﻳﴩﺣﻪ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .وﻋﲆ ﻏﺮار ً ﻓﺎرﻗﺎ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﺎ ذﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﻫﻮﴎل ﰲ »أزﻣﺔ اﻟﻌﻠﻮم اﻷوروﺑﻴﺔ« ،ﻳﺮى ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ دو ًرا ﰲ ﻓﺤﺺ اﻻﻓﱰاﺿﺎت واملﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ اﻟﺘﻲ دوﻧﻬﺎ ﺳﺘﻜﻮن ﻣﺤﺎوﻻت املﻮﺿﻌﺔ اﻟﺘﻲ ً ً ﻣﻮﻗﻔﺎ »ﻣﻀﺎدٍّا ﻟﻠﻌﻠﻢ« ،ﻓﻬﻲ إﻧﻤﺎ ﺗﺤﺎول ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ ،وﻻ أﺣﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﺘﺒﻨﻰ ﺗﺠﻠﺒﻬﺎ اﻟﻌﻠﻮم ﺗﻔﺴري اﻟﻌﻠﻮم ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﻘﺪﱢم أﺳﻠﻮﺑًﺎ واﺣﺪًا ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻮﺟﻮد ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﺑﺎﻟﴬورة اﻷﺳﺎس اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ ﻟﺠﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﻔﻬﻢ اﻷﺧﺮى .وﻫﺬه املﻘﺎرﺑﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﻜﻨﺖ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﻦ اﺑﺘﻜﺎر أﺳﺌﻠﺔ ﺣﻴﻮﻳﺔ ﺑﺸﺄن اﻟﺤﺪاﺛﺔ ،ﺣﺘﻰ وﻫﻮ ﻳﴘء اﻟﺤﻜﻢ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻛﺎرﺛﻲ ﻋﲆ ﺑﻌﺾ ﺗﺠﺴﻴﺪاﺗﻬﺎ اﻷﻛﺜﺮ َﻫﺪﻣً ﺎ. 96
ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ
ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« واﻟﺘﻔﺴري ﺗﻨﻄﻮي ﻓﻜﺮة أﺷﻜﺎل اﻟﻔﻬﻢ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺠﺐ أن ﺗﺴﺒﻖ اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻋﲆ ﻧﻮع َ آﺧﺮ ﻣﻦ »اﻟﺤَ ﺪْس« .وﺗﻮﺿﺢ ﻓﻜﺮة ﻫﻮﴎل ﻋﻦ »اﻟﺤَ ﺪْس املﻘﻮﱄ« ﻣﻦ ﻋﻤﻠﻪ »أﺑﺤﺎث ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ« ) (١٩٠١-١٩٠٠ملﺎذا ﻳﻠﻌﺐ اﻟﺤَ ﺪْس دو ًرا ﻣﻬﻤٍّ ﺎ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق ،ﻓﻤﺎ ﻛﻨﱠﺎ ﻟﻨﺴﺘﻄﻴﻊ ﺑﺤﺚ املﻮﺿﻮﻋﺎت ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻮ ﻟﻢ ﻧﻔﻬﻢ ﻃﺮق اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻤﻬﺎ ﻛﺈدراﻛﺎت ﻟﻠﻤﻮﺿﻮﻋﺎت ،ﻓﺎملﺮء ﻻ ﻳﻤﻴﱢﺰ اﻟﻔﺮق ﺑني )أ( و)ب( ،ﺑﻞ ﻳﻤﻴﱢﺰ )أ( ﺛﻢ )ب( .ﰲ »اﻟﺤَ ﺪْس اﻟﺤﴘ« ﻳﺮى اﻟﻮرق اﻷﺑﻴﺾ ،و)أ( و)ب( ،وﰲ »اﻟﺤَ ﺪْس املﻘﻮﱄ« ﻳﻔﻬﻢ املﺮء اﻟﻮرق »ﻋﲆ أﻧﻪ« أﺑﻴﺾ ،وﻳﺴﺘﻮﻋﺐ اﻟﻌﻼﻗﺔ أو »اﻟﻮﺿﻊ« »)أ( و)ب(« .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ إدراك ﻣﺎ ﺗﻨﻘﻠﻪ ﻛﻠﻤﺎت ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ »واﺣﺪ« و»اﻟ« و»و« و»أو« و»ﻟﻮ« و»ﺛﻢ« و»ﻫﻜﺬا« و»ﺟﻤﻴﻊ« و»ﻻ ﳾء« ،إﻻ أﻧﻨﺎ دوﻧﻬﺎ ﻻ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﻧﺪرﻛﻪ .وﻳﻨﻄﺒﻖ اﻟﴚء ﻧﻔﺴﻪ ﻋﲆ »اﻟﻮﺟﻮد« اﻟﺬي »ﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﰲ املﻮﺿﻮع ،وﻟﻴﺲ ﺟﺰءًا ﻣﻨﻪ«؛ ﻓﻬﻮ »ﻗﻄﻌً ﺎ ﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﻳﻤﻜﻦ إدراﻛﻪ« .وﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺄوﻳﻞ ﻣﺘﻌﺎل ﰲ ﴍوط إﻣﻜﺎن ﻣﻌﺮﻓﺔ املﻮﺿﻮﻋﺎت ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺆ ﱢﻛﺪ وﺻﻒ ﻫﻮﴎل ﻋﲆ أﻧﻪ ﺗﺄﻣﻞ ٍ ﻋﲆ اﻟﺬات ﻛﻤﺎ ﰲ ﺣﺎﻟﺔ ﻛﺎﻧﻂ وﻓﻴﺸﺘﻪ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻓﺈن ﻫﺪﻓﻪ ﻫﻮ اﻟﻬﺮوب ﻣﻦ ٍ وﺻﻒ ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺤﺪﱢد ﻣﻌﻘﻮﻟﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء وﻣﻔﻬﻮﻣﻴﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﻓﻜﺮة ﻋﻘﻞ ﻳﺸ ﱢﻜﻞ ﻋﺎ ًملﺎ إﱃ اﻷﺳﺎس؛ واﻟﻠﻐﺔ ﴐورﻳﺔ ﻟﻬﺬا اﻟﻬﺪف. ﻳﺘﻔﻖ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﻊ أﻫﺪاف ﻫﻮﴎل ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺮى أن ﻣﻨﻬﺞ ﻫﻮﴎل ﻻ ﻳﺰال ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ اﻟﻔﺼﻞ ﺑني اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻳﺆدي ﺑﺎﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ إﱃ اﻻﻧﺸﻐﺎل ﺑﻤﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻛﺘﺎب »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« ً ﺟﺪﻻ ﴏﻳﺤً ﺎ ﺿﺪ اﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ،ﻟﻜﻦ داﻓﻊ اﻟﻜﺘﺎب أﻧﻪ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻟﻀﻐﻂ اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ أﻛﺜﺮ ﻣﻨﻪ ﺗﻤ ﱡﺮ ًﺳﺎ ﰲ اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ؛ ﻓﺎﻟﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ اﻷوﻫﺎم اﻟﺘﻲ ﺟﻠﺒﺘﻬﺎ اﻟﺤﺮب اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ ،واﻻﻧﺤﻼل اﻻﻗﺘﺼﺎدي واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ أﺛﻨﺎء اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻷوﱃ وﺑﻌﺪﻫﺎ ،ﻳﺘﻄﻠﺐ ﻧﻮﻋً ﺎ ﺟﺪﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .وﻟﻴﺲ اﻷﻣﺮ أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻵن اﺑﺘﻜﺮت ﺣﺠﺠً ﺎ أﻓﻀﻞ ﺿﺪ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ،ﺑﻘﺪر ﻣﺎ أن اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻳﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﺪﱢم ﻓﻜﺮة اﻟﺼﻮرة اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﻼزﻣﻨﻴﺔ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻳﺴﻌﻰ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ إﱃ ُ ﻃ ُﺮ ٍق ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻮﺻﻒ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء ،وﻟﻔﻌﻞ ﻫﺬا ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺤﺎول ﺗﺠﻨﱡﺐ اﺳﺘﺨﺪام ﻣﻔﺮدات ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻣﺘﻠﻘﺎة؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻌﺘﱪﻫﺎ ﺷﺪﻳﺪة اﻟﺘﺪاﺧﻞ ﻣﻊ ﻓﺮﺿﻴﺎت ﻳﺮﻳﺪ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﻓﻴﻬﺎ ،وﻫﻮ ﺑﺬﻟﻚ ﱢ ﻟﺠﺎﻧﺐ ﻣﻦ اﻻﻧﻘﺴﺎم ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷوروﺑﻴﺔ/اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ، ﻳﺆﺳﺲ ٍ ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي رأﻳﻨﺎه ﻟﺪى ﻫﺎﻣﺎن؛ ﻓﻠﻐﺔ »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« ﻏري ﻣﻨﻔﺼﻠﺔ ﻋﻦ ﻣﻀﻤﻮﻧﻪ، 97
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﺎ ﺳﻴﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻮﺿﻊ ﻟﺪى ﺟﺎك درﻳﺪا وﻏريه ﻣﻤﱠ ﻦ ﻳﺴﻌﻮن إﱃ اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ اﻷﻫﺪاف اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ. إن أﻓﻀﻞ ﻣﻘﺎ َرﺑﺔ ﻟﻜﺘﺎب »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« ﻫﻲ ﺗﻨﺎوﻟﻪ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﺼﻄﻠﺤﻪ اﻟﺮﺋﻴﴘ »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻲ ﺣﺮﻓﻴٍّﺎ »اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺔ« ﺑﻤﻌﻨﻰ »اﻟﻮﺟﻮد ﻫﻨﺎك/ﻫﻨﺎ« .ﻓﻤﻔﻬﻮم »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ﻳﻌﻨﻲ ﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻋﻠﻴﻪ ،ﻟﻜﻦ إذا اﻓﱰض املﺮء أن املﺼﻄﻠﺢ ﻳﻌﻨﻲ »اﻹﻧﺴﺎن« ،ﻓﻌﲆ املﺮء إذن أن ﻳُﻌ ﱢﺮف اﻹﻧﺴﺎن ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻳﺜري أﺳﺌﻠﺔ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺧﻼﻓﻴﺔ ﺛﺎﻧﻮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻸﺳﺌﻠﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ .وﺑﺎﺳﺘﺒﻌﺎد اﻟﻔﺮﺿﻴﺎت املﺴﻠﻢ ﺑﻬﺎ ﺑﺸﺄن اﻹﻧﺴﺎن ،ﻳﺼﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ إﱃ ٍ »ﻣﻌﻨﻲ ﰲ وﺟﻮده« ﺑ »ﻫﺬا اﻟﻮﺟﻮد«. ﺑﺎرع ،وﻫﻮ أن اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ ﻧﺤﻮ ﺗﻮﺻﻴﻒ ﱟ ﱞ ﺗﻘﻠﻴﴢ ﻋﲆ ٍ ٍ ً ٍ ﺗﻮاﺟﻪ ﻋﺎ َﻟﻤً ﺎ ﻣﻦ املﻮﺿﻮﻋﺎت — ﻣﻤﺎ ﻳﺜري أﺳﺌﻠﺔ ﺑﺬات واﻋﻴ ٍﺔ وﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ِ إﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎط اﻻﺛﻨني — ﻳﺸري ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ إﱃ »اﻟﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ« ﺑﻮﺻﻔﻪ ﻧﻤ ً ﻄﺎ ﻟﻮﺟﻮد »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« .واﻫﺘﻤﺎﻣﻨﺎ ﻳﻜﻮن ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﰲ ﻋﺎملﻨﺎ وﻧﺪرك ﻣﻦ ﻧﺤﻮ ﺧﻼﻟﻬﺎ ﻣﺸﺎرﻳﻌﻨﺎ؛ ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ أﻛﺘﺐ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻠﺔ ﻋﲆ اﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ ،أﻓ ﱢﻜﺮ ﰲ اﻟﻜﻤﺒﻴﻮﺗﺮ ﻋﲆ ٍ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ ﺑﻘﺪر ﻣﺎ أﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﻓﻘﻂ ﻛﻤﺜﺎل ﻟﺘﻔﺴري ﻣﻨﻬﺞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ،وﻟﻴﺲ ﻛﴚء أﺳﺘﺨﺪﻣﻪ ﱟ ﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﻫﺬه اﻟﺠﻤﻠﺔ .وﻳﻨﻄﻮي اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﻌﻤﲇ اﻷﺧري ﻋﲆ وﻗﺘﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﺗﻮﺟﱡ ﻬً ﺎ إﱃ املﺴﺘﻘﺒﻞ ،وﻻ داﻋﻲ إذن أن ﻳﻜﻮن ارﺗﺒﺎﻃﻨﺎ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء ﻗﺎﺋﻤً ﺎ ﰲ اﻷﺳﺎس ﻋﲆ ﻓﻜﺮة ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﺷﻴﺎء ﰲ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ،ﺑﻞ ﻋﲆ ﻣﺎ ﻧﻬﺪف ﻧﺤﻦ إﱃ أن ﻧﻔﻌﻠﻪ ﺑﻬﺎ .وﻳﺴﺘﺨﺪم ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﺜﺎل املﻄﺮﻗﺔ ،ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻧﺴﺘﺨﺪم ﻣﻄﺮﻗﺔ ﻓﻬﻲ ﺗﻨﺘﻤﻲ إﱃ ﻋﺎﻟﻢ ﻋﻤﲇ ﻧﻀﻊ ﻓﻴﻪ ً أرﻓﻔﺎ ،وﻧﺤﻮ ذﻟﻚ .وﻻ ﻧﻔﻬﻢ املﻄﺮﻗﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺜﻴﺔ ﻣﻤﻮﺿﻌﺔً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻣﺠﺮد اﺳﺘﺨﺪاﻣﻬﺎ ﺑﻼ روﻳﺔ ،إﻻ َ املﻄﺮﻗﺔ ﻏريَ املﻨﺎﺳﺒﺔ ﻹﻧﺠﺎز املﻬﻤﺔ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻤﻮﺿﻌﻬﺎ، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﻜﴪ املﻄﺮﻗﺔ أو ﺗﻜﻮن ﺳﻴﺎﻗﺎت ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻻ ﺗﺘﻀﺢ إﻻ ﻋﻨﺪ ﺗﻌ ﱡ ٍ ﻄﻠﻬﺎ؛ ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺪرك ﻣﺎ ﺳﻴﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ اﻧﺘﻤﺎء املﻄﺮﻗﺔ ﰲ ً وﺑﺄﻟﻔﺎظ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺗﻨﺘﻘﻞ املﻄﺮﻗﺔ ﻣﻦ ﻛﻮﻧﻬﺎ »ﺟﺎﻫﺰة ﻟﻼﺳﺘﺨﺪام« zuhandenإﱃ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﻮﺿﻮﻋﻲ« .vorhandenوﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻮﱡل ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﻧﺤﻮ ﱟ »ﺣﺎﴐ ًة ﻋﲆ ٍ اﻟﺘﻲ ﻧﻀﻊ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﻬﺞ املﻤﻮﺿﻊ ﻟﻠﻌﺎﻟﻢ املﻄﻠﻮب ﻟﻠﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ. وﺑﺈﻋﻄﺎء »أﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻇﻮاﻫﺮﻳﺔ« ﻟ »اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ املﺘﻮﺳﻄﺔ« ﱢ ﻳﺒني ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻛﻴﻒ ﻃﺮق ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺴﻤﱢ ﻴﻪ »ﻫريﻣﻮﻧﻴﻄﻴﻘﺎ ﺗُﺴﺘﻤَ ﱡﺪ أﺷﻜﺎل اﻟﻔﻜﺮ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻦ ٍ اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« .وﻃﺮﻳﻘﺘﻨﺎ ﰲ اﻟﻮﺟﻮد ﺗﻔﺴريﻳﺔ؛ ﻓﺒﻤﺠﺮد أن ﻧﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﳾء ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻧﻮ ﱢ ﻇﻒ »ﻫﻴﻜﻞ اﻟﻔﻬﻢ« .وﻳﺸ ﱢﻜﻚ ﻫﺬا اﻟﻬﻴﻜﻞ ﰲ ﻓﻜﺮة أن اﻷﺷﻴﺎء ﻟﻬﺎ ﻣﺎﻫﻴﺎت ﺣﺎﴐة داﺋﻤً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﻮن اﻟﴚء ﺣﺎﴐً ا ،ﻓﻤﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﻋﻠﻴﻪ اﻷﺷﻴﺎء إﻧﻤﺎ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ اﻟﺴﻴﺎﻗﺎت 98
ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ
واملﻤﺎرﺳﺎت املﺘﻐرية اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻊ ﻓﻴﻬﺎ .واﻟﻘﻀﻴﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻫﻲ اﻷوﻟﻮﻳﺔ اﻟﻨﺴﺒﻴﺔ املﻌﻄﺎة ﻷﻧﻮاع اﻟﻔﻬﻢ املﺨﺘﻠﻔﺔ .وﻳﺘﻌﺎﻣﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﻊ ﻫﺬه اﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑﻠﻐﺔ اﻟﻔﺮق ﺑني »اﻟﻮﺟﻮد« Sein و»اﻟﻜﻴﻨﻮﻧﺎت« ،Seiendesواﻟﺬي ﻳﺸري إﻟﻴﻪ ﻋﲆ أﻧﻪ »اﻟﻔﺎرق اﻷﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻲ« ،وﻳﻤﻜﻦ ملﻔﻬﻮم »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ﻛﻜﻴﻨﻮﻧﺔ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻮﺿﻮع ﺑﺤﺚ أﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻲ وﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻲ وﺗﺎرﻳﺨﻲ وﻏري ذﻟﻚ ﻣﻦ أﻧﻮاع ﺑﺤﺚ أﺧﺮى »ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ اﻟﻮﺟﻮد« ،ﻟﻜﻦ ﻫﺬه اﻟﺘﻮﺻﻴﻔﺎت ﻛﻠﻬﺎ ﻣﺴﺘﻤﺪة ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ »أﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻴﺔ« ﻣﻔﺎدﻫﺎ أن وﺟﻮد »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺤﻞ ﺷﻚ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ، ﻓﺪون ﺗﺤﻮﱡل »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« إﱃ ﻗﻀﻴﺔ ﰲ ذاﺗﻪ ﰲ املﻘﺎم اﻷول ،ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺘﻈﻬﺮ ﻓﻜﺮة أن ﻋﻠﻢ اﻟﻮراﺛﺔ — ﺑﻮﺻﻔﻪ ً ﻣﺜﺎﻻ ﺷﺎﺋﻌً ﺎ ﺣﺎﻟﻴٍّﺎ — ﻳﻨﺒﻐﻲ أن ﻳﻜﻮن املﺼﺪر اﻷﺳﺎﳼ ﻟﻔﻬﻢ ذواﺗﻨﺎ. وﻻ ﻳ َ ُﻘﺼﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﺤﺚ اﻷﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻲ إﺑﻄﺎل ﻧﺘﺎﺋﺞ اﻟﻌﻠﻮم ،ﺑﻞ اﻛﺘﺸﺎف »ﴍوط إﻣﻜﺎﻧﻴﺘﻬﺎ« اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ وﻏريﻫﺎ. وﻳﺒﺪو »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« أﻗﻞ إﻗﻨﺎﻋً ﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺴﻌﻰ إﱃ إﻋﻄﺎء ﺗﺼﺎﻧﻴﻒ ﻧﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﻄﺮق وﺟﻮد »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ،ﻣﺜﻞ »اﻟﺨﻮف« و»اﻟﻮﺟﻮد ﻣﻦ أﺟﻞ املﻮت« .وﻫﻨﺎ ﻳُﺨﻔِ ﻖ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﰲ إﻳﻼء اﻫﺘﻤﺎم ٍ ﻛﺎف ﻟﻠﺘﻨﻮﻋﺎت ﰲ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺎت اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد واﻟﻔﻨﺎء اﻟﺒﴩي، وﻳﺘﺒﻨﱠﻰ ﻣﻮاﻗﻒ ﻳﻤﻜﻦ اﻟﻨﻈﺮ إﻟﻴﻬﺎ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺧﺎﺻﺔ ﺑﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ ﻓﺎﻳﻤﺎر املﻀﻄﺮﺑﺔ ،ﻻ ً إﻧﺘﺎﺟﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻃﺮق ﻛﻠﻴﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد .وﻳﻘﺪﱢم »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« ﻣﻮار َد أﻛﺜﺮ اﺳﺘﻜﺸﺎﻓﺎﺗﻪ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ارﺗﺒﺎط ﻓﻬﻢ اﻟﻮﺟﻮد ﺑﺎﻟﺰﻣﻦ ،وﺗﺘﻌﻠﻖ أﻓﻜﺎره اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻷﺷﺪ ﺧﻼﻓﻴﺔً ﻫﻨﺎ ﺑﻤﻔﻬﻮم اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ .ﻓﻬﻞ ﺗﺴﺘﻠﺰم اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﰲ وﻗﺖ ﻣﻌني ﻋﻦ ﳾء ﻣﺎ ،ﱠ أن ﻣﺎ ﻳُ َﺮى اﻵن ﻋﲆ أﻧﻪ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻛﺎن دوﻣً ﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ،ﺣﺘﻰ ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻪ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻤﻜﻨًﺎ ﰲ اﻟﺴﺎﺑﻖ؟ وﺑﻘﺪر ﻣﺎ أن »اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ« ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺪﻻﱄ ﻻ ﻳﻌﻨﻲ »ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻟﻶن ،ﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺣﻘﻴﻘﻴٍّﺎ ﻗﺒﻞ اﻵن ،ورﺑﻤﺎ ﻳُﺮاﺟَ ﻊ ً ﻻﺣﻘﺎ« ،ﻓﻤﻦ ﻏري املﻌﻘﻮل اﻟﻘﻮل ﺑﺄن ﻗﻮاﻧني ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻟﻢ ً ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻗﺒﻞ اﻛﺘﺸﺎﻓﻬﺎ ،ﻟﻜﻦ إﴏار ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ أن اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺤﺪث ﰲ اﻟﺰﻣﻦ ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻜﻦ ﺗﻔﺎﻋﻼﺗﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﻓﱰاض َﻛﻮْﻧﻬﺎ ﺷﻴﺌًﺎ ﻻزﻣﺎﻧﻴٍّﺎ ﺗﺘﻮاﻓﻖ ﻋﺒﺎراﺗﻨﺎ ﻣﻌﻪ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ ،ﻳﺜري ﻗﻀﺎﻳﺎ ﺣﻴﻮﻳﺔ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻜﻴﻔﻴﺔ »وﻗﻮع« اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ .وﻛﻤﺎ َ ﻳﻘﱰح اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷملﺎﻧﻲ املﻌﺎﴏ أﻟﱪﻳﺸﺖ ﻓﻴﻠﻤﺮ ،ﻓﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو ﺗُ ﺴﺘﻜﺸﻒ )ﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮدة ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ( وﺗُﻨﺘَﺞ )ﻣﻤﺎ ﻳﺪل ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻮﺟﺪ ﺣﺘﻰ ﺗُﻨﺘَﺞ( .وﺗﺨﺎﻃﺮ املﺤﺎوﻟﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﺤ ﱢﻞ ﻫﺬا اﻟﺘﻀﺎرب وﺣﺴﻤﻪ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎح ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺤﺠﺐ اﺳﺘﺤﺎﻟﺔ اﺧﺘﺰال ﻣﻔﺎﻫﻴﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻳﺘﻐري ﺑﴪﻋﺔ إﱃ ﻣﻨﻈﻮر دﻻﱄ ﻣﺤﺾ. وﻳﻜﻤﻦ ﻣﻐﺰى ﻫﺬا اﻟﺴﺆال ﻋﻦ اﻟﻮﺟﻮد ﰲ ﻓﻜﺮة أن اﻟﺪﻋﺎوى اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ 99
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻣﻮاﻓﻘﺔ ﻣﻤﻨﻮﺣﺔ أو ﻣﺠﺤﻮدة ﻻ ﻳﻜﻮن ﻟﻬﺎ ﻣﻌﻨًﻰ إﻻ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺨﻠﻔﻴﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ ﻣﻦ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ وﻏريﻫﺎ ،واﻟﺘﻲ »ﺗﻜﺸﻒ« ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ودون ﺗﺼﺎﻧﻴﻒ ﻣﻮﻟﺪة اﺟﺘﻤﺎﻋﻴٍّﺎ ﻣﻦ اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﺣﻮل اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻟﺘﻲ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ً ﺗﺠﺮﻳﺪﻳﺔ ﻓﺤﺴﺐ. ﺑﺼﻮرة ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ ،ﺗﺒﻘﻰ املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻟﻌﺮض اﻷﺳﺒﺎب وﺗﻘﻴﻴﻤﻬﺎ »اﻟﺘﺤﻮﱡل« ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮم »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ﻣﺒﺪﺋﻴٍّﺎ إن أﻓﻀﻞ ﻣﻘﺎ َرﺑَ ٍﺔ ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ وﺿﻊ ﺑﻬﺎ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﺑﻌﺪ »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« ً أﺳﺎﺳﺎ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ إﻧﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻘﺎل »أﺻﻞ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻔﻨﻲ« ﻋﺎم .١٩٣٥ﻳﻌﻨﻰ املﻘﺎل ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻔﻦ ،وﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻌﻠﻢ ،وﻫﻮ أﻣﺮ ﻳﻮﺿﺢ ﺳﺒﺐ اﻻﻧﻘﺴﺎم ا ُملﻌﻤﻖ ﺑني ﻫﺬا اﻟﻨﻮع ﻣﻦ ﻣﻨﺎﻫﺞ ﺗﻨﺎول اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺪث ﺣﻴﻨﺬاك ﰲ املﻮروث اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ؛ ﻓﻔﻲ »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« اﺳﺘُ ِﻤ ﱠﺪ » َﻛ ْﺸﻒ اﻟﻌﺎﻟﻢ« ﰲ اﻷﻏﻠﺐ ﻣﻦ ﻃﺮق »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« ﻟﻠﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ ﻳﺠﺴﺪ اﻷﺷﻴﺎء؛ ً اﻟﻌﺎﻟﻢ ،أﻣﺎ ﰲ ﻣﻘﺎل اﻟﻔﻦ ،ﻓﺈن اﻟﻌﻤﻞ اﻟﻔﻨﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻫﻮ اﻟﺬي ﱢ ﻓﺒﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،ﻳﻀﻔﻲ اﻟﻔﻦ ﻣﻌﻘﻮﻟﻴﺔ ﻋﲆ اﻷﺷﻴﺎء ﺑﻄﺮق ﺟﺪﻳﺪة ،وﻟﻨﺄﺧﺬ ً ﻣﺜﺎﻻ ﻋﲆ ذﻟﻚ ﺑﺎﻟﻜﻴﻔﻴﺔ َ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﻟﻠﺮﺳﻮم اﻻﻧﻄﺒﺎﻋﻴﺔ أن ﱢ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮى ﺑﻬﺎ املﺮء اﻻﻧﻌﻜﺎﺳﺎت ﰲ ﺗﻐري املﺎء ،أو اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻴﻒ ﺑﻬﺎ رواﻳﺔ ﺑﺮوﺳﺖ أﺑﻌﺎدًا ﺟﺪﻳﺪة إﱃ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﺗﻌﺎﻳﺶ املﺮء ﻣﻊ اﻟﺰﻣﻦ .وإذا ﻓ ﱠﻜﺮ املﺮء ﰲ ﻓﻜﺮة ﺗﺠﺴﻴﺪ اﻟﻔﻦ ﻟﻸﺷﻴﺎء ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻋﻼﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ ،ﻓﺴﺘﺒﺪأ ﻣﻌﺎﻟﻢ املﻮﻗﻒ اﻷﺧري ﻟﻬﺎﻳﺪﺟﺮ ﰲ اﻟﻮﺿﻮح. ﻳﺠﻴﺐ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻋﻦ اﻟﺴﺆال اﻟﺤﺪﻳﺚ املﺄﻟﻮف ﺣﻮل ﻛﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﺄﺳﻴﺲ ﻟﻜﻮن اﻟﴚء ﻓﻨٍّﺎ أو ﻻ ،ﺑﺄن اﻟﻔﻦ »ﻳﻘﻊ« ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﻜﺸﻒ ﻋﻤﻞ ﻣﺎ ﻋﻦ ﻋﺎ َﻟﻢ أو ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﻋﺎ َﻟﻢ .وﻳﺴﺘﺨﺪم ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﺜﺎل املﻌﺒﺪ اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ اﻟﺬي ﻳﻌﻄﻲ ﻣﻌﻨًﻰ ﻟﻌﺎﻟﻢ املﺠﺘﻤﻊ اﻟﺬي ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ؛ ﻓﺎملﻌﺒﺪ ﻧﺤﻮ ﻳﺴﻤﻮ ﻋﲆ أي ﻧﻮاﻳﺎ ﻳﺆﺳﺲ ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺗﺮﻛﻴﺰ أﻧﺸﻄﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ ٍ ﻓﺮدﻳﺔ ﻟِﺒﻨﱠﺎﺋِﻴﻪ .وﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻤﺎﺛﻞ ،ﻳﺮى ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻟﻠﻐﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ »ﺑﻴﺖ اﻟﻮﺟﻮد«؛ ﻓﻼ ﺑﺪ أن ﺗﺆوي اﻟﻠﻐﺔ اﻷﺷﻴﺎء وﺗﻌﻄﻴﻬﺎ ﻣﻜﺎﻧًﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺴﻤﺢ ﻟﻬﺎ أن ﺗﻜﻮن ﻇﺎﻫﺮ ًة ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ .ﻟﻜﻦ ﻣﺎ اﻟﺬي ﻳﻤﻴﱢﺰ ﻛﺸﻒ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻦ اﻹﺧﻔﺎق ﰲ ﻛﺸﻒ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﰲ ﺿﻮء اﻟﻄﺮق املﺘﻐﺎﻳﺮة اﻟﻜﺜرية اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ﺑﻬﺎ اﻟﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء؟ وﻳﺘﻀﺢ ً أﺻﻴﻼ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ،ﺑﻞ إﻧﻪ ﰲ ﻛﻞ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﻜﻤﻦ اﻟﺨﻄﺮ ﻫﻨﺎ ﰲ ﻣﻼﺣﻈﺘﻪ أن »اﻟﻌﻠﻢ ﻟﻴﺲ وﻗﻮﻋً ﺎ اﻣﺘﺪاد ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ املﻜﺸﻮف ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ «.واﻟﺴﺆال ﻫﻮ :ﻛﻴﻒ ﱢ ﻧﻔﴪ ﻓﻜﺮة ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؟ 100
ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ
ﺗﻈﻬﺮ اﻟﻔﻜﺮة املﺒﺪﺋﻴﺔ ﻟﻬﺎﻳﺪﺟﺮ ﰲ إﴏار ﺷﻼﻳﺮﻣﺎﺧﺮ أن اﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻜﻮن ﻣﻤﻜﻨًﺎ إﻻ ﻋﲆ أﺳﺎس اﻟﻔﻬﻢ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﲆ اﻟﻌﻠﻢ ﻟﻠﻐﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .ﻟﻜﻦ ﻫﻞ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﺸﻒ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ ً أﻓﻘﺎ ﺛﺎﺑﺘًﺎ ﻟﻠﻤﻤﻜﻨﺎت ،أم ﻫﻲ ﳾء ﻳﻤﻜﻦ أن ﱢ ﺗﻐريه املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺒﴩﻳﺔ واﻟﺘﻘﻴﻴﻤﺎت اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ؟ وﻳﺘﺤﺪث ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﰲ أﺧﺮﻳﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﺗﺎرﻳﺦ ﻛﺒﺎر اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻦ أﻓﻼﻃﻮن إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﻳﻮ ﱢ ﻇﻔﻮن »ﻛﻠﻤﺎت اﻟﻮﺟﻮد« ،ﺑﺎملﻌﻨﻰ اﻟﺜﻨﺎﺋﻲ ﻟﻠﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻜﺸﻒ اﻟﻮﺟﻮد واﻟﻜﻠﻤﺎت اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺸﺄ ﻣﻦ اﻟﻮﺟﻮد ﻧﻔﺴﻪ .وﻟﻴﺴﺖ اﻟﻨﻮاﻳﺎ اﻟﻌﺎرﺿﺔ )اﻟﺘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻏﺎﻟﺒًﺎ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻴﻬﺎ اﻵن( ﻟﻬﺆﻻء اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺸ ﱢﻜﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻠﻨﺼﻮص، ﺑﻞ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﱢ ﻳﻮﺿﺤﻮن ﺑﻬﺎ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳ ﱠ ُﻔﴪ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﻋﴫ ﻣﺎ .ﻛﻤﺎ أﻧﻪ ﻳﻨﻈﺮ إﱃ ﻋﻤﻞ ﺑﻌﺾ اﻟﺸﻌﺮاء اﻟﺮﺋﻴﺴﻴني ،أﻣﺜﺎل ﻓﺮﻳﺪرﻳﺶ ﻫﻮﻟﺪرﻟني ﺻﺪﻳﻖ ﻫﻴﺠﻞ ،ﻋﲆ أﻧﻬﻢ ﻳﺘﻜﻠﻤﻮن ﺑﻜﻠﻤﺎت اﻟﻮﺟﻮد .وﻳﻨﻄﻮي ﻋﻤﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻟﻼﺣﻖ ﻋﲆ »ﺗﺤﻮﱡل« ﻣﻦ »اﻟﻜﺎﺋﻦ ﻫﻨﺎ« َ املﻨﺎﻗﺶ ﻫﻨﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ذﻟﻚ املﺤﻞ ،وﺑﻘﺪر ﻛﻤﺤﻞ ﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻟﻠﻔﻬﻢ إﱃ اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎملﻌﻨﻰ ﻣﺎ أﻧﻨﺎ ﻻ ﻧﺨﱰع اﻟﻠﻐﺔ — اﻟﺘﻲ »ﺗﻘﻊ« ﻟﻨﺎ وﻧﺤﻦ ﻧﺨﺮج إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ — ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء أن ﻳﻌﺮف ﻣﺎ ﻗﺪ ﻳﻘﺼﺪه .وﻳﺘﺤﺪث ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ً أﻳﻀﺎ ﻋﻦ »اﻻﻧﻔﺮاج« — ﺑﻤﻌﻨﻰ اﻟﻔﺮﺟﺔ أو املﻤﺮ ً ﻧﺤﻮ ﻳﻔﻮق ﺳﻴﻄﺮﺗﻨﺎ ﰲ اﻟﻐﺎﺑﺔ — ﻟﻴﻨﻘﻞ ﻓﻜﺮة أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺠﺐ أن ﻳﻜﻮن ﻣﻜﺸﻮﻓﺎ ﻟﻨﺎ ﻋﲆ ٍ ﻗﺒﻞ أن ﻧﺘﻤ ﱠﻜ َﻦ ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻜري ﻓﻴﻪ وﻣﻦ ﻣَ ﻮ َ ْﺿﻌَ ﺘِﻪ .وﺑﺎﻟﺮﺟﻮع إﱃ املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ رأﻳﻨﺎﻫﺎ ﰲ ً ﻛﺎﻣﻼ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺳﺘﺘﻄﻠﺐ ﻣﻨﻈﻮ ًرا اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻣﻦ أن أﻳﺔ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻔﻬﻢ اﻟﻠﻐﺔ ﻓﻬﻤً ﺎ ﻣﺴﺘﺤﻴﻼ ﺧﺎرج ﻧﻄﺎق اﻟﻠﻐﺔ ،ﻳﺘﻀﺢ ً ً أﻳﻀﺎ اﻟﺴﺒﺐ ﰲ أن ﻳﻀﻊ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﻨﻬﺠً ﺎ ﻻ ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ﰲ ﻧﻄﺎق ﻗﺪرة اﻟﺬات ،واملﺸﻜﻠﺔ ﻫﻲ أن ﻓﻜﺮﺗﻪ ﰲ »وﻗﻮع« ٍ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﻣﻮﺣﱠ ﺪ ٍة — ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺎوي اﻟﻠﻐﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻛﻠﻤﺎت اﻟﻮﺟﻮد ﺗﻤﻴﻞ إﱃ أن ﺗﺼﺒﺢ ذات ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺑﻮﺟﻪ ﻋﺎم — وﻳﺒﺪو أن اﻟﻮاﺳﻄﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻻ ﺗﻠﻌﺐ دو ًرا ﺟﻮﻫﺮﻳٍّﺎ ﻓﻴﻬﺎ .وﻳﺸﺘﻬﺮ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺑﺄﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺪث ﻋﻦ اﻷﺧﻼق إﻻ ً ﻗﻠﻴﻼ ،وأﺣﻴﺎﻧًﺎ ﻳﺼﻌﺐ درء اﻟﺸﻚ ً ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻹﺑﻌﺎد اﻟﻠﻮم ﻋﻦ إﺧﻔﺎﻗﺎﺗﻪ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ. ﰲ أن ﻣﻮﻗﻔﻪ اﻷﺧري رﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﻟﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﺨﻄﺄ أن ﻧﺸﻄﺐ ﻋﻤﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ املﺘﺄﺧﺮ ،رﻏﻢ أوﺟﻪ ﻗﺼﻮره اﻟﻮاﺿﺤﺔ؛ ﻷﻧﻪ ً أﺳﺌﻠﺔ ﺟﺎد ًة ﻋﻦ اﺗﺠﺎه اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﻗﺪ ﺗﺤﺪﺛﻨﺎ ﻋﻦ ﻓﻜﺮة »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ﻳﻄﺮح ﻧﺤﻮ ﻳﺮﺑﻂ اﻟﻜﺜري ﻣﻦ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت ﻋﻨﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻣﺎرﻛﺲ .وﻳﻄﻮر ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻟﻔﻜﺮة ﻋﲆ ٍ اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ .واﻷﺳﺎس ﻣﺮة أﺧﺮى ﻫﻮ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ واﻟﻌﻠﻮم؛ »ﻓﺘﻄﻮﱡر اﻟﻌﻠﻮم ﻳﻌﻨﻲ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ َﻓ ْ ﺼﻠﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﺗﺄﺳﻴﺲ اﺳﺘﻘﻼﻟﻬﺎ .وﺗﺨﺺ ﻫﺬه اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻧﻬﺎﻳﺔ/ﻛﻤﺎل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ« ،واﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدي ﺑﻬﺎ اﻷﺳﺌﻠﺔ املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﺎملﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ إﱃ ﻫﺬه 101
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت املﺘﻌﺎرﺿﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻫﻲ أﺣﺪ اﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﺒﺎرزة ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ؛ ﻓﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺪاﺋﺮة ﻓﻴﻴﻨﺎ ﻳﻜﺸﻒ ﺗﻘﺪﱡم اﻟﺘﻔﺴري اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻋﻦ ﺗﻔﺎﻫﺔ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ وﺧﻠﻮﱢﻫﺎ ﻣﻦ املﻌﻨﻰ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺘﻔﻖ ﻣﻊ ﻣﻼﺣﻈﺎت ﻣﻮرﻳﺘﺲ ﺷﻠﻴﻚ اﻟﻮارد ذﻛﺮﻫﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ، اﻟﺘﻲ ﻳﺮى ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻌﻠﻢ ﻋﲆ أﻧﻪ ﻳﻤﺤﻮ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ .وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺎﻳﺪﺟﺮ ،ﻓﺎﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ ذروة املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ،وﻟﻠﻤﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ املﻌﻨﻰ املﻘﺎﺑﻞ ﺑﺎﻟﻀﺒﻂ. ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء أن ﻳﺨﺮج ﺑﻤﻌﻨًﻰ ﻣﻦ ذﻟﻚ اﻻﺧﺘﻼف؟ ﱠ وﻳﺘﺤﻘﻖ ﻫﺬا اﻟﻬﺪف ﰲ إن ﻫﺪف املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻫﻮ ﺗﻔﺴري اﻟﻮﺟﻮد، اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻠﻮم ،ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺆﺛﱢﺮ ﻫﺬا ﻋﲆ ﻣﻜﺎﻧﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ إذن؟ ﺗﺘﻀﻤﻦ اﻹﺟﺎﺑﺔ آﺧﺮ ﰲ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﻤﻮﺿﻮع َ ﻋﻨﴫًا َ آﺧﺮ ﺗﻜ ﱠﺮ َر ذِ ْﻛ ُﺮه ﰲ اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ؛ وﻫﻮ اﻟﺘﻀﺎرب ﰲ ﺗﻔﺴري اﻟﺬاﺗﻴﺔ ،واﻟﺬي ﻛﺎن واﺿﺤً ﺎ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ ﻟﺪى ﻛﺎﻧﻂ وﻓﻴﺸﺘﻪ ،ﺑني ً ﻓﺎﻧﻴﺔ وﻣﻔﺘﻘﺮ ًة ﻟﻐريﻫﺎ ،واﻟﺬات ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ اﻟﴩط املﻄﻠﻖ ﻟﻜﻮن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬات ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ً ﻗﺎﺑﻼ ﻟﻠﻔﻬﻢ ﻣﻦ اﻷﺳﺎس .ﻳﺮى ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺗﺎرﻳﺦ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻋﲆ أﻧﻪ اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ املﺘﺰاﻳﺪة ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻮد ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺬات ،وﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺟﺎءت ﻓﻜﺮة أن اﻟﺴﻴﻄﺮة اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ املﺘﺰاﻳﺪة ﻟﻠﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﰲ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻫﻲ ذروة املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ ،واﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﻫﻲ أﻧﻪ ﻳﻈﻦ أن ﻣﺎ ﻳﻘﺪﱢﻣﻪ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻓﻠﺴﻔﺔ؛ ﻧﻈ ًﺮا ملﺎ ﻛﺸﻔﺘﻪ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻋﻦ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺎ »ﻳُﻤَ ِ ﻮﺿﻊ اﻟﻮﺟﻮد« .وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻹﻳﺠﺎد أﺳﺎس ﻟﻠﺬاﺗﻴﺔ )وﻫﺬا ﻣﺎ ﻳﺸري إﻟﻴﻪ ﻧﻴﺘﺸﻪ ً ﻣﺜﻼ ﺑ »إرادة اﻟﻘﻮة«( ،ﻳﺒﺤﺚ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻋﻦ ﺑﺪﻳﻞ ﻻ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻟﻠﻬﻴﻤﻨﺔ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻮد. إن ﺑﺪﻳﻞ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻏري ﻣ ﱠ ُﻌني إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ،ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻋﲆ رؤﻳﺔ ﻣﺘﻜﻠﻔﺔ ﻻﺣﺘﻤﺎﻻت اﻟﻠﻐﺔ اﻟﺸﻌﺮﻳﺔ اﻟﻼذراﺋﻌﻴﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ ﻛﺸﻒ ﻓﻬﻢ ﺟﺪﻳﺪ ﻟﻠﻮﺟﻮد »ﻳﺘﻴﺢ ﻟﻸﺷﻴﺎء أن ﺗﻮﺟﺪ« ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﺤﺪﻳﺪﻫﺎ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﻣﻔﺎﻫﻴﻤﻲ ،ﻟﻜﻨﻪ ﻳﻤﻜﻦ ً ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ »اﻻﺳﺘﻤﺎع« إﻟﻴﻬﺎً ، أﻳﻀﺎ أن ً ﻛﺎﺷﻔﺎ .وﻳﻠﺨﺺ ﻋﻨﻮان املﻘﺎل »ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ وﻣﻬﻤﺔ اﻟﺘﻔﻜري« )(١٩٦٩ ﻳﻜﻮن ﺗﻮﺿﻴﺤﻴٍّﺎ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮى ﺑﻬﺎ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻟﺒﺪﻳﻞ؛ ﻓﺈذا ﻛﺎﻧﺖ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﺎ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻗﺪ ﺻﺎرﺗﺎ ﻋﻠﻤً ﺎ ﺣﺪﻳﺜًﺎ ،ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﻧﻮع اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻔﻬﻢ ﻣﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﻌﻠﻮ ُم ﺗﻔﺴريَه؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻔﻮق ﻣﺎ ﺗﺴﻤﺢ ﺑﻪ ﻣﻨﺎﻫﺠﻬﺎ؟ إن اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﺗﻨﺘﺠﻪ اﻟﻌﻠﻮم ﻣﻦ ﺧﻼل ﺗﻄﺒﻴﻖ اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ )اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻔﻬﺎ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﺑﺄﻧﻬﺎ »ﺗﺆ ﱢ ﱡ ﺗﺨﺼﺺ داﺋﻢ اﻟﺘﺰاﻳﺪ .وﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻃﺮ« اﻟﻮﺟﻮد( ﻫﻮ ﻧﺘﺎج ﱡ ﻟﻠﺘﺨﺼﺺ؛ أي ﻣﻬﻤﺔ »اﻟﺘﻔﻜري« اﻟﺘﻲ ﻣﻦ املﺴﺘﺤﻴﻞ ﻓﻬﻢ ﻣﺎ ﺳﺘﻜﻮن ﻋﻠﻴﻪ اﻵﺛﺎر املﱰاﻛﻤﺔ ً ﻧﺤﻮ ﺟﺪﱄ ﱟ أن »اﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ« ،وﻫﻮ ﻳﻌﻨﻲ رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ﻣﺴﺘﺤﻴﻠﺔ .وﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻋﲆ ٍ 102
ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ
ﺑﻬﺬا أن اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء — ﻋﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل — ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ أن ﺗﺨﱪﻧﺎ ﺑﻤﺎﻫﻴﺔ اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء؛ ﻓﺎﻟﻔﻴﺰﻳﺎء ﺗﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ ﻓﻬﻢ ﺟﺰﺋﻲ ﻟﻠﻮﺟﻮد ،ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﴍﻋﻨﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻤﺼﻄﻠﺤﺎﺗﻪ ﻫﻮ ،ﺣﻴﺚ ﺗﻮﺟﺪ ﻃﺮق ﻛﺜرية أﺧﺮى ﻟﻼرﺗﺒﺎط ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ .وإزاء اﻷزﻣﺔ اﻟﺒﻴﺌﻴﺔ املﺘﺰاﻳﺪة وإدراك ﺣﺪود ً ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ ﻟﻠﺸﻚ ،وﻫﻮ ﻳﺠﱪﻧﺎ ﻋﲆ رؤﻳﺔ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﻮارد اﻷرض ،ﻳﺒﺪو ﻫﺬا املﻨﻈﻮر أﻗﻞ ﺗﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻔﻬﻮم املﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﻮﺟﻮد ﻹﻧﺘﺎج ﳾء ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻨﻮع واﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻔﻬﻢ إدراﻛﻪ. وﺣﺘﻰ إذا ﻛﺎن ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻳﻘﺪﱢم اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ اﻟﺪﻻﻻت اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ ﺗﻐﻴري اﻷﺷﻴﺎء ﻟﻸﻓﻀﻞ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻘﺪﱢم ﺑﺪاﺋﻞ ﻟﻨﻮع اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ املﺪﻳﻦ ﺑﺸﺪة ﻟﻠﻌﻠﻮم ﻟﺪرﺟﺔ أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳَﻌُ ْﺪ ﻳﻄﺮح أﺳﺌﻠﺔ ﻋﻦ ﺣﺪود اﻟﻔﻬﻢ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻟﻠﻮﺟﻮد. ﻫﻮاﻣﺶ (1) © Abisag Tüllmann/bpk, Berlin. (2) © Ira Nowinski/Corbis.
103
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ اﻟﻜﻠﻴﺔ ﱢ ﻳﻮﺿﺢ اﻻﻧﻬﻴﺎر اﻻﻗﺘﺼﺎدي ٢٠٠٩-٢٠٠٨ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺑﺎرز ﻗﻀﻴﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﰲ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ املﺎرﻛﺴﻴﺔ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،وﻫﻲ ﻗﻀﻴﺔ ﻣﺤﻮرﻳﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳُﻌ َﺮف ﺑﺎﺳﻢ »اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ«؛ ﻓﻘﺪ أوﺿﺢ اﻻﻧﻬﻴﺎر أﻧﻪ ﻛﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎن اﻷﻓﺮاد أو اﻟﺠﻤﺎﻋﺎت أن ﺗﻌﺘﱪ أﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ﻣﱪﱠرة وﻋﻘﻼﻧﻴﺔ ً ﻛﺎرﺛﻴﺔ .وﻟﻢ ﻳﺴﺘﻐﺮق اﻷﻣﺮ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ،ﰲ ﺣني أن اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ اﻟﺠَ ﻤْ ﻌﻴﺔ اﻟﻔﻌﻠﻴﺔ ﻷﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ٍ ﻧﻘﻄﺔ ﻣﺎ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺔ ﻛﺜريًا ﻟﻠﺸﻚ ﰲ أن ﻓﻜﺮة ﴍاء املﺰﻳﺪ واملﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺪﱠﻳﻦ رﺑﻤﺎ ﺗﺼﻄﺪم ﰲ إﱃ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻼﺋﺘﻤﺎن )وﺑﺎﻟﻄﺒﻊ »ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد« ﺑﺼﺤﺘﻪ( أﺳﺎس ﻣﻦ اﻷﺻﻮل املﻠﻤﻮﺳﺔ ،ﻓﻠﻤﺎذا أد َر َك اﻟﻘﻠﻴﻞ ﺟﺪٍّا ﻣﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺪث؟ وﻛﺎﻧﺖ اﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻷوﱃ وﻣﺎ أﻋﻘﺒﻬﺎ ﻫﻲ اﻟﺤﺪث املﻤﺎﺛﻞ اﻟﺬي ﻛﺎن ﺣﺎﺳﻤً ﺎ ﰲ ﻧﺸﻮء اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ؛ ﻓﻘﺪ ﻻﻗﺖ اﻟﺤﺮب ﰲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﺗﺮﺣﻴﺒًﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ املﻔﻜﺮﻳﻦ ،أﻣﺜﺎل ﻋﺎﻟﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎع واﻟﻔﻴﻠﺴﻮف ﺻﺎﺣﺐ املﻮﻫﺒﺔ اﻟﻔﺬة َ ﻣﺴﺘﺤﺴﻨًﺎ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ ﺟﻮرج ﺳﻴﻤﻞ ) ،(١٩١٨–١٨٥٨وﻏريه ﻛﺜري ،ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ ﻣﺨﺮﺟً ﺎ املﺘﻔﺴﺦ ﺣﺴﺐ ﻣﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ ،ﻟﻜﻨﻬﺎ أﻧﺘﺠﺖ أﻫﻮال اﻟﺨﻨﺎدق واﻻﻧﻬﻴﺎر اﻻﻗﺘﺼﺎدي واﻟﺴﻴﺎﳼ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ املﺼﺎﺣﺐ. وﻗﺪ رأﻳﻨﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻛﻴﻒ ﻛﺎن ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻣﺘﺄﺛ ًﺮا ﰲ »اﻟﻮﺟﻮد واﻟﺰﻣﻦ« ﺑﺎﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺟﻌﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻛﺜريًا ﻣﻦ املﻘﺎرﺑﺎت اﻷﻛﺎدﻳﻤﻴﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﺒﺪو إﺳﻬﺎﺑًﺎ ﻻ ﻃﺎﺋﻞ ﻣﻨﻪ .وﻣﻦ املﺮﺟﺢ أن ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻛﺎن ﻋﲆ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻜﺘﺎب »اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﻮﻋﻲ اﻟﻄﺒﻘﻲ« ) (١٩٢٣ﻟﻠﻔﻴﻠﺴﻮف املﺠﺮي ﺟﻮرج ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ )(١٩٧١–١٨٨٥؛ ﻓﻔﻲ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ،ﻋﺎ َﻟﺞَ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ اﻟﻔﺠﻮة ﺑني اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﰲ اﻟﻮاﻗﻊ وﻣﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﺪث ٍّ ﺣﻘﺎ ﻟﻸزﻣﺎت اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻠﻌﻼﻗﺔ ﺑني اﻟﺬات واملﻮﺿﻮع ،وﺳﻌﻰ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ إﱃ ﻓﻬﻢ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆدﱢي
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﺑﻬﺎ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ إﱃ اﻧﻔﺼﺎم اﻟﺬات/املﻮﺿﻮع ،وذﻟﻚ ﻣﻦ ﺧﻼل دﻣﺠﻪ ﺑني ﺟﻮاﻧﺐ اﻟﺘﺴﺎؤل ﻟﺪى ﻫﻴﺠﻞ ﻋﻦ ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ اﻟﺬات واملﻮﺿﻮع وﻧﻈﺮﻳﺔ اﻟﺴﻠﻌﺔ ﻟﺪى ﻣﺎرﻛﺲ. وﻳﻔﱰض أﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ — ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻷﻣﺮ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻬﺎﻳﺪﺟﺮ — أن ﻧﻮع املﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﺸ ﱡﻜﻜﻴﺔ املﺘﻌ ﱢﻠﻘﺔ ﺑﻮاﻗﻊ »اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺨﺎرﺟﻲ« ،املﺄﻟﻮﻓﺔ ﻣﻦ دﻳﻜﺎرت واﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺰال ﺗُﺪ ﱠرس ﰲ ﻓﺼﻮل اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻴﻮم ،ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻷﺳﺎس ﻣﻮﺿﻊ اﻟﻨﻘﺎش ﻫﻨﺎ؛ ﻓﻠﻤﺎذا إذن ﻳﺮﺑﻂ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ ﻣﺎ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ ﺑﺎملﻮروث اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻲ ﺑﺎﻷﺳﺎس؟ )ﻳَﻌﺘﱪ اﻟﻜﺘﱠﺎب ٍّ ﻛﻼ ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ ً أﺳﺎﺳﺎ ﻻﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ (.وﺑﺄﻟﻔﺎظ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ ،ﻓﺎﻟﺴﺆال املﻬﻢ ﻫﻮ :ملﺎذا ﻳﻈﻬﺮ واملﺜﺎﻟﻴﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﱠ اﻻﻫﺘﻤﺎم اﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﺎﻟﺸﻜﻮﻛﻴﺔ ﻣﻊ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ؟ وﻳﺘﻤﺜﻞ اﻻﻋﱰاض اﻷﺳﺎﳼ ﻫﻨﺎ ﰲ ﱡ اﻟﺘﻐري ﰲ أن املﺮء ﻳﺨﺎﻃﺮ ﺑﺎﺧﺘﺰال اﻟﻘﻀﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﰲ اﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﰲ ﻧﺸﺄﺗﻬﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻟﻌﻼﻗﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ املﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﻈﻬﻮر اﻟﺘﻔﺮدﻳﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ واﻷﻓﻜﺎر اﻟﺠﺪﻳﺪة ﻋﻦ اﻻﺳﺘﻘﻼل َ واﺿﺢ؛ ﻷﻧﻬﺎ ﻧﺤﻮ اﻟﺒﴩي ﻳﺠﻌﻞ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﻨﺎس ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ واﻵﺧﺮﻳﻦ أﻛﺜﺮ ﺗﻌﻘﻴﺪًا واﻟﺘﻮاءً ﻋﲆ ٍ ٍ ً ﻓﻤﺜﻼ ،ﺗﻬﺘﻢ ﻣﴪﺣﻴﺎت ﺗﻌﺘﻤﺪ ﺑﺪرﺟﺔ أﻗﻞ ﻋﲆ اﻟﺴﻠﻄﺔ املﺘﻠﻘﺎة ﻛﺈﻃﺎر ﻣﺴﺘﻘﺮ ﻟﻠﺤﻜﻢ. ﺷﻜﺴﺒري ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ ﺑﺸﺒﻬﺎت املﺘﺸ ﱢﻜﻜني اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮد اﻟﻨﺎس إﱃ ﻛﺎرﺛﺔ ،ﺣﻴﺚ ﺗﺘﻼﳽ ﺛﻘﺘﻬﻢ َ واﻵﺧﺮﻳﻦ .وﰲ ﺿﻮء ﺣﻘﻴﻘﺔ أن املﺸﻜﻼت املﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﻮﺛﻮﻗﻴﺔ املﻌﺮﻓﺔ ﻟﻢ ﺗﺼﺒﺢ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ً ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﻋﲆ ﻧﻄﺎق واﺳﻊ ﺑﺎﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺎﻟﻮﻋﻲ اﻟﺬاﺗﻲ إﻻ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﻀﺢ — ﻛﻤﺎ ﺳﻴﺬﻛﺮ املﻨ ﱢ ﻈﺮون اﻟﻨﻘﺪﻳﻮن — ﻋﺪم إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻔﺼﻞ ﺑني اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺪﻗﺔ. ﱠ إن املﺼﻄﻠﺤﺎت اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ اﻟﻔﺎﺻﻠﺔ ﰲ ﻫﺬا اﻟﺴﻴﺎق ﰲ ﻧﺸﺄة اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ﻫﻲ »اﻟﺘﺸﻴﱡﺆ«؛ أي ﺗﺤﻮﻳﻞ اﻟﻌﻼﻗﺎت ﺑني اﻟﺒﴩ إﱃ ﻋﻼﻗﺎت ﺑني اﻷﺷﻴﺎء ،وﻓﻜﺮة »اﻟﻜﻠﻴﺔ«. وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻮﻛﺎﺗﺶ ،ﻓﺈن اﻟﺤ ﱠﻞ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ ﺗﺠﻨﱡﺐ ﺣﺪث ﻣﺜﻞ اﻟﺤﺮب ﰲ املﺴﺘﻘﺒﻞ ﻫﻮ ﺗﺠﺎوز املﻮﻗﻒ اﻟﺬي ﺗُﻨﺘِﺞ ﻓﻴﻪ أﻓﻌﺎ ُل اﻟﻨﺎس اﻟﻔﺮدﻳﺔ ﺷﻴﺌًﺎ ﻻ ﺳﺒﻴﻞ ﻟﻬﻢ إﱃ ﻓﻬﻤﻪ .وﺗﺘﻤﺜﻞ ﻓﻜﺮﺗﻪ — ﻋﲆ ﻏﺮار ﻣﺎ ذﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﻣﺎرﻛﺲ — ﰲ أن اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ اﻹﻗﻄﺎﻋﻴﺔ إﱃ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ﻣﻬﱠ َﺪ ً ﺳﺎﺑﻘﺎ ﺟﻮاﻧﺐ ﻏري ﻣﺘﺼﻠﺔ ﻣﻦ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﺴﺒﻴﻞ إﱃ اﻧﺪﻣﺎج ﻣﺎ ﻛﺎن ﰲ ﻛﻠﻴﺔ واﺣﺪة ،وﻳﺤﺪث ﻫﺬا اﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﻴﻜﻞ اﻟﺴﻠﻌﺔ اﻟﺬي ﻣﻦ املﺤﺘﻤﻞ أن ﻳﺤﻴﻞ — ﻛﻤﺎ رأﻳﻨﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس — ﺟﻤﻴﻊ اﻷﺷﻴﺎء إﱃ ﻗِ ﻴَﻢ ﺗﺒﺎدﻟﻴﺔ ﻣﺘﻄﺎﺑﻘﺔ .وﺗﺆدي اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻣﺤ ﱠﻞ اﻟﻨﻘﺎش ﻫﻨﺎ إﱃ اﻟﺘﺸﻴﱡﺆ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺠﻌﻞ اﻟﻨﺎس ﻻ ﻳﺴﺘﻮﻋﺒﻮن أﺛﺮ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻮن ﻋﲆ ﻣَ ْﻦ ﺳﻮاﻫﻢ ﻣﻦ اﻟﺒﴩ .وﻳﺮى ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ أن ﻣﻔﺘﺎح ﻓﻬﻢ اﻟﻜﻠﻴﺔ ﻫﻮ اﻟﱪوﻟﻴﺘﺎرﻳﺎ )اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﻌﺎﻣﻠﺔ( ،وﻫﻲ اﻟﻄﺒﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﺪﻳﻬﺎ أﻗﻞ ﺳﺒﺐ ﻟﻼﻧﺨﺪاع ﺑﺎﻟﻨﻈﺎم اﻟﺬي ﺗﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ﻧﻈ ًﺮا ملﺎ 106
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
ﺗﻌﺎﻧﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﺮﻣﺎن .وﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻻﻧﺨﺮاط ﰲ املﻤﺎرﺳﺔ اﻟﺜﻮرﻳﺔ ،ﻳﻜﻮن ﻟﺪى اﻟﱪوﻟﻴﺘﺎرﻳﺎ اﻟﻘﺪرة ﻋﲆ اﻟﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﺗﴬﱡ ﺑﺎﻟﺠﻮاﻧﺐ اﻟﻨﻮﻋﻴﺔ ﻟﻌﻼﻗﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ً إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ،وﻟﻜﻦ ﰲ ﺿﻮء ﻣﺎ أﻋﻘﺐ ذﻟﻚ ﻣﻦ أﺣﺪاث ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻻﺣﻘﺔ، إﻳﺠﺎد ﻇﺮوف أﻛﺜﺮ ﻳﺘﻀﺢ أﻧﻪ رﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺣ ﱞﻞ ﺳﻬﻞ ﻟﻠﻤﻌﻀﻼت اﻟﺘﻲ ﻳﺴﻌﻰ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ إﱃ ﺣ ﱢﻠﻬﺎ ،ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻪ ﺑﺄن اﻟﱪوﻟﻴﺘﺎرﻳﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ ﻣﺴﺎﻋﺪة اﻟﺤﺰب اﻟﺸﻴﻮﻋﻲ ﻛﻲ ﺗﺼﻞ إﱃ ﻗﺮارﻫﺎ ﰲ ﺣﻞ اﻧﻔﺼﺎم اﻟﺬات/املﻮﺿﻮع. إﻧﻘﺎذ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺮادﻳﻜﺎﱄ ﺗﻄﻮرت اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ إزاء إﺧﻔﺎق ﻧﻮع اﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ اﻟﺜﻮرﻳﺔ ﻟﻜﻮارث اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺬي اﻗﱰﺣﻪ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ ،وﻗﺪ ﺳﻌﻰ »ﻣﻌﻬﺪ اﻟﺒﺤﻮث اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ« اﻟﺬي ﱠ أﺳﺴﻪ رﺟﻞ اﻷﻋﻤﺎل املﺎرﻛﴘ ﻓﻴﻠﻜﺲ ﻓﺎﻳﻞ ﰲ ﻓﺮاﻧﻜﻔﻮرت ﻋﺎم ١٩٢٣ﰲ ذروة اﻷزﻣﺔ اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺮب ،واﻟﺬي ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﺎ ﻳُﺴﻤﱠ ﻰ »ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﺮاﻧﻜﻔﻮرت«؛ إﱃ ﺗﺸﺠﻴﻊ اﻟﺒﺤﺚ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻟﺮادﻳﻜﺎﱄ .وﻣﻊ ﻣﺎ أﺣﺪﺛﺘﻪ اﻟﺘﻄﻮرات ﰲ اﻻﺗﺤﺎد اﻟﺴﻮﻓﻴﺘﻲ وﻇﻬﻮر اﻟﻨﺎزﻳﺔ ﻣﻦ ﻫﺪ ٍم ﻟﻶﻣﺎل ﰲ ﺗﻐﻴري ﺛﻮري ،أﺻﺒﺤﺖ اﻟﺤﺎﺟﺔ أﻛﺜﺮ إﻟﺤﺎﺣً ﺎ ﻟﻺﺑﻘﺎء ﻋﲆ ﺟﺬوة اﻷﻓﻜﺎر اﻟﺘﻘﺪﱡﻣﻴﺔ ً ً ﺻﻌﻮﺑﺔ .وﺗﺒﻨﱠﻰ ﺗﻴﻮدور أدورﻧﻮ ) (١٩٦٩–١٩٠٣وﻣﺎﻛﺲ ﻣﺸﺘﻌﻠﺔ ،وإن ﻛﺎﻧﺖ أﻛﺜﺮ ﻫﻮﻛﺎﻳﻤﺮ ) — (١٩٧٣–١٨٩٥وﻫﻤﺎ أﻫﻢ ﻣﻤﺜﲇ ﻫﺬه املﺪرﺳﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ — ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ املﺄﺧﻮذ ﻣﻦ وﺻﻒ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ ﻟﻠﺴﻠﻌﺔ واﻟﺘﺸﻴﱡﺆ ﺣﻮل اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﺛﱢﺮ ﺑﻬﺎ اﻟﺮأﺳﻤﺎﻟﻴﺔ ﻋﲆ ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻔﻜﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ،وﻟﻜﻨﻬﻤﺎ اﺿ ُ ﻄ ﱠﺮا — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ — إﱃ ُ املﺤﺎوﻻت اﻟﺮادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﺘﺤﻮل اﻟﺴﻴﺎﳼ إﻳﺠﺎد ﻃﺮق ﻟﺘﻔﺴري اﻟﺴﺒﺐ ﰲ اﺣﺘﻤﺎل أن ﺗﺰﻳﺪ اﻷﺷﻴﺎءَ ﺳﻮءًا .وﻟﻔﻌﻞ ﻫﺬا ،ﻓﻘﺪ ﺗﺒﻨﱠﻴَﺎ أﻓﻜﺎ ًرا ﻣﻦ ﻓﺮوﻳﺪ ﻟﺘﻔﺴري ﻗﺎﺑﻠﻴﺔ اﻟﻨﺎس ﻟﻠﺘﺄﺛﱡﺮ ﺑﺎﻟﺸﻤﻮﻟﻴﺔ ،وﻣﻦ ﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﱪ ﻟﻔﻬﻢ اﻵﻟﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻋﻘﻠﻨﺔ املﻤﺎرﺳﺎت اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ ﰲ أﺷﻜﺎل ﺑريوﻗﺮاﻃﻴﺔ وﺗﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻣﻌﻴﺎرﻳﺔ ،وﻣﻦ ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻨﻘﺪ ﻗﺼﻮر اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪﻳﺔ .وﻳﺘﻤﺜﱠﻞ اﻷﺛﺮ اﻟﺮﺋﻴﴘ َ اﻵﺧﺮ ﻋﲆ أدورﻧﻮ — ﺣﻴﺚ ﻛﺎن ﻫﻮﻛﺎﻳﻤﺮ أﻗﺮب إﱃ اﻟﺘﺸ ﱡﻜﻜﻴﺔ — ﰲ ﻋﻤﻞ ﺻﺪﻳﻘﻪ ﻓﺎﻟﱰ ﺑﻨﻴﺎﻣني ).(١٩٤٠–١٨٩٢ ً ﻣﻘﺎرﻧﺔ ﺑﻌﻤﻞ أﻳﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻋﻤﻞ ﺑﻨﻴﺎﻣني ﻣﻦ اﻷﻋﻤﺎل اﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻌﴢ ﺗﻠﺨﻴﺼﻬﺎ أﺧﺮى ﻗﺎﺑﻠﻨﺎﻫﺎ ﺣﺘﻰ اﻵن ،ﻓﻌﻤﻠﻪ ﻳﻌﺘﻤﺪ — ﻣﻦ ﺑني ﻣﺼﺎدر ﻛﺜرية أﺧﺮى — ﻋﲆ أﻓﻜﺎر ﻣﻦ ﻫﺎﻣﺎن واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺮوﻣﺎﻧﺴﻴﺔ املﺒﻜﺮة واﻟﺼﻮﻓﻴﺔ اﻟﻴﻬﻮدﻳﺔ واملﺎرﻛﺴﻴﺔ ،وﻫﻮ ﻏﺰﻳﺮ اﻟﻌﻠﻢ ﻧﺤﻮ ُﻣﺒ ِْﻬ ٍﺮ .وﻗﺪ ﺷ ﱠﻜﻞ ﻋﻤ َﻠﻪ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎن رﺋﻴﺴﻴﺎن ﻣﺘﺼﻼن :ﻃﺒﻴﻌﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ ﻋﲆ ٍ 107
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
وﻣﺸﻜﻠﺔ اﻟﻮﻗﺘﻴﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ؛ ﻓﻠﺪﻳﻪ ﺷﻌﻮر رادﻳﻜﺎﱄ ﺑﻜ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻋﺘﺒﺎﻃﻴﺔ اﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ُ ﺗﺨﻠﻴﺺ ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ وﻋَ ﺮﺿﻴﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺤﺪﻳﺚ ،وﻟﻜﻨﻪ ﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻛﺎن ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻤﱠ ﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﺰﻣﻦ .وﰲ ﻣﺴﺘﻬ ﱢﻞ ﻋﻤﻠﻪ وﺣﺘﻰ ﺗﺒﻨﱢﻴﻪ ﻟﻌﻨﺎﴏ ﻣﺎرﻛﺴﻴﺔ ﻟﻮﻛﺎﺗﺶ وﺑﺮﻳﺸﺖ وﻏريﻫﻤﺎ ﰲ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻋﴩﻳﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ،ﺗﻤﺜﱠﻞ أﻣﻠﻪ ﰲ إﻳﺠﺎد ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻠﺘﻮاﻓﻖ ﻣﻊ »اﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ اﻷوﻫﺎم« اﻟﺬي ﻳﺮاه ﻣﺎﻛﺲ ﻓﻴﱪ ﺟﻮﻫﺮ اﻟﺤﺪاﺛﺔ .وﺳﻴﺤﺪث ﻫﺬا ﻣﻦ ﺧﻼل ﻣﻘﺎرﺑﺔ ﻟﻠﻐﺔ ﺗﺴﺘﻌﻴﺪ ﻗﺪرﺗﻬﺎ ﻋﲆ اﻻﺗﺼﺎل ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻟﻸﺷﻴﺎء )واﻟﺘﻲ ﻳﻔ ﱢﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺑﻨﻴﺎﻣني ﺑﻠﻐﺔ ﻻﻫﻮﺗﻴﺔ ﻣﱰوﻛﺔ( .وﻳﱰدد ﺻﺪى أﻓﻜﺎره ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻦ ُﻛﺘﱠﺎب ﻣﺜﻞ ﻫﻮﻓﻤﺎﻧﺴﺘﺎل ورﻳﻠﻜﻪ، وﰲ رؤﻳﺔ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﰲ أﺧﺮﻳﺎﺗﻪ ﻟﻠﻐﺔ اﻟﺸﻌﺮ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﺗﺴﻤﺢ ﻷﺷﻴﺎء ﺟﺰﺋﻴﺔ أن ﺗﻮﺟﺪ ﰲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﺗﺼﻨﻴﻔﻬﺎ ﻛﺄﻣﺜﻠﺔ ﻟﺘﺼﻮﱡرات ﻋﺎﻣﺔ.
ﺷﻜﻞ :1-9ﺗﻴﻮدور أدورﻧﻮ ،ﻋﺎم .١٩٦٠
1
أدى اﻟﺮﺑﻂ اﻟﺬي أﻗﺎﻣﻪ ﺑﻨﻴﺎﻣني ﺑني ﻧﻈﺎم اﻟﺴﻠﻌﺔ وﻣﺎ ﱠ ﻓﴪه ﻫﻮ — ﰲ »أﺻﻞ ﻣﴪﺣﻴﺔ اﻟﺤﺪاد اﻷملﺎﻧﻴﺔ« ) — (١٩٢٨ﻋﲆ أﻧﻪ »ﺳﻘﻮط« اﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﻟﺤﺪاﺛﺔ إﱃ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻧﺘﻘﺎﻟﻪ ﻣﻦ رؤﻳﺘﻪ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻟﻠﻐﺔ إﱃ رؤﻳﺔ ﺗﻐﺬﱢﻳﻬﺎ املﺎرﻛﺴﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻠﻐﺔ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﺎ أﻳﺔ 108
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
ﻋﻼﻗﺔ ﺟﻮﻫﺮﻳﺔ ﺑﺎﻷﺷﻴﺎء اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﻠﻴﻬﺎ ،ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﻤﺎ ﺗﺠﺮد اﻟﻘﻴﻤﺔ اﻟﺘﺒﺎدﻟﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ اﻟﻔﺮﻳﺪة ﻟﻸﺷﻴﺎء .وﰲ ﻋﻤﻠﻪ ﰲ ﺛﻼﺛﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻋﻦ ﺷﺎﻋﺮ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ اﻟﻔﺮﻧﴘ ﺷﺎرل ﺑﻮدﻟري ،ﻳﻘﻮل ﺑﻨﻴﺎﻣني :إن »اﻟﺨﻔﺾ املﻤﻴﱢﺰ ﻟﻘﻴﻤﺔ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﺷﻴﺎء املﻮﺟﻮد ﰲ اﻟﺴﻠﻌﺔ ﻫﻮ أﺳﺎس َ اﻟﻘ ْ ﺼﺪ املﺠﺎزي ﻟﺪى ﺑﻮدﻟري «.ﻓﺎملﺠﺎز ﻫﻮ اﻟﺘﺠﺴﻴﺪ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻻﻧﺴﺤﺎب اﻟﻠﻐﺔ ﺑﻌﻴﺪًا ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻫﻮ ﻳﻨﻌﻜﺲ ﰲ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺨﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺴﻠﻊ »ﺳﻠﺴﻠﺔ ً ﻣﺘﻤﺜﻼ ﰲ اﻷروﻗﺔ اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ املﺒﻨﻴﺔ ﰲ ﺑﺎرﻳﺲ ﰲ اﻟﻘﺮن اﻷوﻫﺎم« — ﻳﺮى ﺑﻨﻴﺎﻣني ﻫﺬا ﱢ املﺆﺳﺲ ﻟﺬﻟﻚ اﻟﻌﺎﻟﻢ .ورﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮن ﺣﻜﻤﻪ اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﴩ — اﻟﺘﻲ ﺗﺨﻔﻲ اﻟﻮاﻗﻊ اﻟﻮﺣﴚ ً ﻃﻠﺐ داﺋ ِﻢ اﻟﺘﺠﺪﱡد ﻋﻦ ﻣﺘﻄﺮﻓﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻟﺘﻄﻮر اﻟﻼﺣﻖ ﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺴﻠﻊ ،اﻟﺬي ﻳﻌﺘﻤﺪ ﻋﲆ إﻳﺠﺎد ٍ ﻃﺮﻳﻖ رﺑﻂ ﺻﻮر ﺧﻴﺎﻟﻴﺔ ﺑﺄﺑﺴﻂ املﻮﺿﻮﻋﺎت ا ُملﻨﺘَﺠﺔ ﰲ ﻇﺮوف ﻏري إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ،ﻟﻢ ﻳﻔﻌﻞ ﺳﻮى اﻟﻘﻠﻴﻞ ﻟﺪﻣﻎ ﻣﺎ ذﻫﺐ إﻟﻴﻪ ﺑﻨﻴﺎﻣني ﰲ اﻧﺘﻘﺎداﺗﻪ.
ﺷﻜﻞ :2-9ﻗ ﱠﺮاء ﻳﺨﺘﺎرون اﻟﻜﺘﺐ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺰال ﺳﻠﻴﻤﺔ ﺑني اﻷﺧﺸﺎب املﺤﱰﻗﺔ ملﻜﺘﺒﺔ ﻫﻮﻻﻧﺪ 2 ﻫﺎوس ﺑﻠﻨﺪن ﻋﺎم .١٩٤٠
109
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻳﻨﻄﻮي اﻫﺘﻤﺎم ﺑﻨﻴﺎﻣني ﺑﺎﻟﺰﻣﻦ واﻟﺘﺎرﻳﺦ ﻋﲆ اﺳﺘﺒﻴﺎن اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ رﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﻜﻮن ﺑﻬﺎ املﺎﴈ ﻣﺠﺮد ﺳﻠﺔ ﻣﻬﻤﻼت ﻳ َ ُﻔﻘﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﳾء وﻳﺼﺒﺢ ﺑﻼ ﻣﻌﻨًﻰ .وﺗﻈﻬﺮ أﻓﻜﺎره ﻋﻦ ﻧﺤﻮ ﻣﺮ ﱠﻛ ٍﺰ ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻷﺧري ﻋﻦ ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺘﺎرﻳﺦ ) ،(١٩٣٩واﻟﻜﺘﺎب ﻣﺘﺄﺛﱢﺮ ﻫﺬا اﻟﺼﺪد ﻋﲆ ٍ ﺑﻤﺤﺎوﻻت ﻓﺮوﻳﺪ اﻟﻌﻼﺟﻴﺔ ﻟﺘﻤﻜني ﺿﺤﺎﻳﺎ اﻷﺣﺪاث اﻟﺼﺎدﻣﺔ ﻣﻦ ﺗﺨﻠﻴﺺ املﺎﴈ اﻟﺬي ﻳﺪﻣﱢ ﺮ ﻗﺪراﺗﻬﻢ ﻋﲆ اﻟﻌﻴﺶ ﰲ اﻟﺤﺎﴐ .ﻟﻜﻦ ﺑﻨﻴﺎﻣني ﻳﺮﻏﺐ ﰲ ﻧﻘﻞ ﻧﻤﻮذﺟﻪ ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﻔﺮد إﱃ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ املﻀﻄﻬﺪة؛ ﻓﺎﻟﺘﺄرﻳﺦ اﻟﺘﻘﻠﻴﺪي ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺒﻨﻴﺎﻣني ﻫﻮ ﺗﺎرﻳﺦ املﻨﺘﴫﻳﻦ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻓﻘﻂ ﺗﻌﺰﻳﺰ ﻋﺒﺜﻴﺔ املﺎﴈ ﻟﻠﻀﺤﺎﻳﺎ .وﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء أن ﻳﻠﻤﺢ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﺠﻮاﻧﺐ املﺎﴈ ﺗﺨﻠﻴﺺ اﻟﺤﺎﴐ إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻣﻘﺎ َرﺑﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻟﻠﺰﻣﻦ ً أﺷﻜﺎﻻ ﺟﺪﻳﺪة ﻟﻌﺮض اﻟﺘﺎرﻳﺦ ،ﻛﺎملﻮﻧﺘﺎج اﻟﺬي ﻳﺘﻢ ملﺎدة ﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﺗﺒﺪو اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﺗﺘﺒﻨﱠﻰ ﻣﺘﻔﺎوﺗﺔ وﺗﺎﻓﻬﺔ ،ﻣﻦ اﻟﻨﻮع اﻟﺬي ﺟﻤﻌﻪ ﺑﻨﻴﺎﻣني ﰲ ﻣﴩوﻋﻪ ﻋﻦ أروﻗﺔ ﺑﺎرﻳﺲ .إن اﻟﺘﺎرﻳﺦ — ﻛﻤﺎ ﻳﺆ ﱢﻛﺪ ﺑﻨﻴﺎﻣني — ﻫﻮ ﻛﺎرﺛﺔ ﻣﱰاﻛﻤﺔ ،ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﻜﺎﺑﻮس ﻻ ﻳﻔﻴﻖ ﻣﻨﻪ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي إﻻ ﱡ ﺑﺘﻐري ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺎﻟﻈﻠﻢ واﻻﺿﻄﻬﺎد املﺎﺿﻴني ،وﺑﺘﻐﻴري ﻃﺒﻴﻌﺔ املﺠﺘﻤﻊ ﻋﲆ ﻧﺤﻮ ﺟﺬري .وﻳﻘﻮده ﻫﺬا املﻮﻗﻒ إﱃ ﻧﺒﺬ أي ﺷﻌﻮر ﺧﻄﻲ ﺑﺎﻟﺘﻄﻮر اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎره ﻳﻀﻴﻒ إﱃ اﻟﻜﺎرﺛﺔ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺄوﻳﻠﻪ إﻻ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﻓﻬﻢ ﺑﺪاﺋﻞ ﻣﻜﺒﻮﺗﺔ ﻣﻦ املﺎﴈ ورﺑﻄﻬﺎ ﺑﴫاﻋﺎت ﺛﻮرﻳﺔ ﰲ اﻟﺤﺎﴐ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻫﺬا اﻟﺒﺤﺚ اﻟﻴﺎﺋﺲ ﻋﻦ ﻣﺼﺎدر أﻣﻞ ﺟﺪﻳﺪة ﻣﻔﻬﻮﻣً ﺎ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﰲ ﺿﻮء اﻷوﻗﺎت اﻟﻜﺌﻴﺒﺔ اﻟﺘﻲ ﻳُﻜﺘﺐ ﻓﻴﻬﺎ ،ﻟﻜﻦ اﻻﻋﺘﻤﺎد ﻋﲆ ﻓﻜﺮة اﻟﺘﺤﻮل ً اﻋﺘﺪاﻻ ،ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ اﻟﺜﻮري اﻟﺸﺎﻣﻞ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ ﻳﻤﻴﻞ ﰲ ﻇﺮوف أﺧﺮى إﱃ ﺣﺠﺐ ﻃﺮق أﻛﺜﺮ ﺗﺤﻘﻴﻖ اﻟﺘﻘﺪﱡم اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ رﻏﻢ ﻛﻞ ﳾء .وأوﺿﺢ املﻮت اﻟﱰاﺟﻴﺪي ﻟﺒﻨﻴﺎﻣني ،أﺛﻨﺎء ﻫﺮوﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎزﻳني ،أﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺴﺘﻄﻊ ﻗ ﱡ ﻂ أن ﻳﺼﻞ إﱃ ﻧﻘﻄﺔ ﺗﻄﻮﻳﺮ اﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻨﻔﻴﺬ اﺳﺘﻨﺎدًا إﱃ أﻓﻜﺎره. ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ واﻟﺠﺪﻟﻴﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ ﻣﺎت ﺑﻨﻴﺎﻣني ﻗﺒﻞ أن ﺗﻨﺘﻬﻲ اﻟﻜﺎرﺛﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻷﺳﻮأ ﰲ أوروﺑﺎ ،وﺣﻤﻞ أدورﻧﻮ وﻫﻮﻛﺎﻳﻤﺮ ﻋﺐء ﻣﺤﺎوﻟﺔ إﻧﺘﺎج ردود ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻠﺸﻤﻮﻟﻴﺔ واﻟﺤﺮب اﻟﻌﺎملﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ واﻟﻬﻮﻟﻮﻛﻮﺳﺖ .ﻓﻘﺒﻴﻞ اﻧﺘﻬﺎء اﻟﺤﺮب ،ﰲ املﻨﻔﻰ ﺑﺎﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة ،ﻛﺘَﺐَ اﻻﺛﻨﺎن »ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« املﻨﺸﻮر ﻋﺎم ،١٩٤٧وﻛﺎﻧﺖ املﻬﻤﺔ اﻟﺘﻲ ﱠ ﻧﺼﺒَﺎ أﻧﻔﺴﻬﻤﺎ ﻟﻬﺎ ﻫﻲ »ﻣﺠﺮد اﻛﺘﺸﺎف اﻟﺴﺒﺐ ﰲ اﻧﻐﻤﺎس اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﰲ ﻧﻮع ﺟﺪﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﱪﺑﺮﻳﺔ ً ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻟﺪﺧﻮل ﰲ ﺣﺎﻟﺔ إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ«. وأﻳٍّﺎ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ أﺧﻄﺎؤه ،ﻓﺎملﻮروث اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ — ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ وﻫﻴﺠﻞ إﱃ ﻧﻴﺘﺸﻪ — اﻟﺬي أدﱠى 110
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
إﱃ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﺗﻠﻚ اﻷﺳﺌﻠﺔ ﻫﻲ املﻬﻤﺔ اﻟﺠﻮﻫﺮﻳﺔ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔً ، ﺑﺪﻻ ﻣﻦ اﻷﺳﺌﻠﺔ اﻟﻔﻨﻴﺔ املﺤﺪودة ﻟﻜﺜري ﻣﻦ املﻮروث اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ. ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﺑﻨﻴﺎﻣني اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ أن اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﱪﺑﺮﻳﺔ ﺗﺴريان ﻣﻌً ﺎ ،وأن أﺣﺪث اﻟﺘﻄﻮرات اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺎﻟﻔﻌﻞ أن ﺗﻜﻮن ﻣﻈﻬ ًﺮا ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ »اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺒﺪاﺋﻲ« ،ﻓﺎﻟﺴﺆال ﻫﻮ :ﻛﻴﻒ ﺗُﺴﺘﺨﺪَم ﺗﻠﻚ اﻷﻓﻜﺎر ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﺎﻷﺣﺪاث اﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ؟ وإﺣﺪى املﻌﻀﻼت ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ أﺳﻮأ ﻛﻮارث اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻫﻲ أن اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ املﻌﺮوﻓﺔ ﻟﻠﺘﻔﺴري اﻷﺧﻼﻗﻲ أو اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﺗﺒﺪو ﺑﺒﺴﺎﻃﺔ ﻏري ﻣﻼﺋﻤﺔ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻣﺨﺎﻃﺮ اﻟﺘﻘﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻣﺪى ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ اﻹﻧﺴﺎن ﻣﻦ ﺳﻮءٍ ،ﺗﺸري ﻋﺒﺎرة ﺣﻨﺎ آرﻧﺖ املﺜرية ﻟﻠﺠﺪل ﻋﻦ »ﺗﻔﺎﻫﺔ اﻟﴩ« ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺄودوﻟﻒ آﻳﺸﻤﺎن ،إﱃ أن اﻹداﻧﺔ اﻷﺧﻼﻗﻴﺔ املﱪﱠرة ﻟﻺﻧﺴﺎن ﻻ ﺗﺴﺘﻘﴢ اﻷﺣﺪاث اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ ﻣﻦ ﺧﻼل أﻓﻌﺎﻟﻪ؛ ﻓﺎﻟﻈﺮوف اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﻜﻨﺖ ﻣﻦ اﻹﺑﺎدة اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﻨﺎزﻳﺔ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻛﺜريًا ﻣﻦ اﻟﻌﻨﺎﴏ ،ﻛﺎﻟﻘﻮاﻋﺪ اﻟﺒريوﻗﺮاﻃﻴﺔ أو اﻷﻣﻮر اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻛﺄﻧﻈﻤﺔ اﻟﻨﻘﻞ ،اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﺒﺪو ﻣﺤﺎ ِﻳﺪة أﺧﻼﻗﻴٍّﺎ ﻟﻠﻤﻨﺨﺮﻃني ﻓﻴﻬﺎ .وﻳﺤﺎول ﻛﺘﺎب »ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« أن ﱢ ﻳﺒني أن »اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« — اﻟﺬي ﻫﻮ ﻣﺼﺪر اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ واﻟﺘﻨﻈﻴﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣ ﱠﻜﻨﺖ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻣﻦ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﲆ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﺒري ﺟﺪٍّا ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ واﻟﻄﺒﻴﻌﻲ — ﻳﺘﺤﻮل ﺑﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﺤﺎل إﱃ ﺿﺪه؛ أي املﻴﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ .ﻓﺎﻟﺘﻨﻮﻳﺮ — اﻟﺬي ﻻ ﻳﻤﺜﱢﻞ ﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻣﺠﺮد اﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ اﻟﺘﻲ ﺑﺪأت ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎﺑﻊ ﻋﴩ أو اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﴩ؛ ﺑﻞ ﻋﻨﴫًا ﴐورﻳٍّﺎ ﻟﻠﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺒﴩﻳﺔ ﻛﻠﻬﺎ — ﻫﻮ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﻟﻠﺘﻐ ﱡﻠﺐ ﻋﲆ اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ اﻟﺬي ﺗﻔﺮﺿﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻟﻠﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﻧﻔﺴﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ َ ﱠﻢ ﻓﻬﻮ ﴐورة ﻻ ﻣﺤﻴﺪ ﻋﻨﻬﺎ ،وﻫﻮ ً أﻳﻀﺎ ﻣﺼﺪر ُ َ اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ اﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ ﻟﻠﺘﻨﻮﻳﺮ ﺗﻬﺪﻳﺪات أﻋﻈﻢ ﻟﻬﺪف اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ اﻟﻨﻔﺲ .وﺗﻤﺜﱢﻞ ﻫﺬه اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻟﺬي ﻳﺘﺼﺪى ﻟﻪ اﻟﻜﺘﺎب؛ إذ ﻳﻜﺸﻒ ﻛﻴﻔﻴﺔ اﺳﺘﺨﺪام املﺮء اﻟﻌﻘﻞ ﻟﺘﻘﻴﻴﻢ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻧﻮاح أن اﻟﻌﻘﻞ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺼﺪر اﻻﺿﻄﻬﺎدات اﻟﺘﻲ ﻳﺤﺎول املﺮء اﻟﺘﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ .وﰲ ٍ ﻣﻌﻴﻨﺔ ،ﻳﺮدﱢد اﻟﻜﺘﺎب وﺻﻒ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻟﻠﺤﺪاﺛﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ إﺿﻔﺎء ﻃﺎﺑﻊ اﻟﺬاﺗﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﻮﺟﻮد، ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺘﻜﻠﻢ ﻋﻦ »إﺧﻀﺎع ﻛﻞ ﳾء ﻃﺒﻴﻌﻲ ﻟﻠﺬات املﺘﻐﻄﺮﺳﺔ« .وﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﺒﺪو ﻫﺬا اﻟﺤﻜﻢ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻣﻼﺋﻤً ﺎ ﻟﻠﺘﻌﻘﻴﺪ اﻟﺬي ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ. ﻳﻨﻈﺮ ﻛﺘﺎب »ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« وﻋﻤﻞ أدورﻧﻮ اﻟﻼﺣﻖ إﱃ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ ،ﰲ ﺿﻮء إﺧﻔﺎق زﻳﺎدة املﻌﺮﻓﺔ وﺳﻴﻄﺮة اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﰲ ﺗﻘﻠﻴﻞ ﺗﻬﺪﻳﺪ اﻟﱪﺑﺮﻳﺔ ،ﻋﲆ أﻧﻪ »ﺳﻴﺎق ﻋﺎملﻲ ﻣﻦ اﻟﺨﺪاع« .وﻫﺬا ﻳﻄﺮح اﻟﺴﺆال :ﻛﻴﻒ ﻟﻬﺬا اﻟﻮﺻﻒ ﻧﻔﺴﻪ — إذا ﻛﺎن اﻟﺨﺪاع ً ﻣﻀﻠﻼ؟ وﻻ ﻳﺴﻌﻰ أدورﻧﻮ إﱃ ﺗﺠﻨﱡﺐ ﻫﺬا اﻟﺘﻨﺎﻗﺾ :ﻋﲆ ﻋﺎملﻴٍّﺎ — ﱠأﻻ ﻳﻜﻮن ﻫﻮ ﻧﻔﺴﻪ 111
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﱠ ﻣﺠﺴﻢ ملﺪﻳﻨﺔ ﺑﺮﻟني. ﺷﻜﻞ :3-9أﻟﱪت ﺷﺒري وﻧﻤﻮذج
3
ً ﻟﻠﻴﻘني ﱠ ﻣﻀﻠﻼ أن ﻳﺆدي إﱃ اﻟﺨﺪاع .وﺗﺘﻤﺜﻞ ﺑﺄن ﺗﺤﻠﻴ َﻞ املﺮءِ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻟﻴﺲ اﻷرﺟﺢ ﻳﻤﻜﻦ ِ اﻟﻔﻜﺮة اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ ﰲ وﺟﻮب اﻟﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ ﻧﻔﺴﻪ؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻤﻜﻦ رﺑﻂ اﻟﺘﺼﻮﻳﺮ املﺠﺮد ﺑﺂﺛﺎر ﺗﺠﺮﻳﺪ ﻫﻴﻜﻞ اﻟﺴﻠﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ املﺤﺪد ﻟﻸﺷﻴﺎء ،وﻳﻌﻨﻲ ﻫﺬا أن ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ املﺮء ﻓﻌ َﻠﻪ ﻫﻮ اﻻﻧﺨﺮاط ﰲ ﺗﺤﻠﻴﻞ ﻧﻘﺪي ﺧﺎص ﻟﻨﻄﺎﻗﺎت ﻣﻬﻤﺔ ﻣﻦ املﺠﺘﻤﻊ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ. إن املﻬﻢ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ إﱃ أدورﻧﻮ ﻫﻮ إﺑﺮاز ﻣﺪى ﺗﻨﺎﻗﺾ اﻟﺨﱪة اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ،وﺗﺄﻣﻼﺗُﻪ ﻋﻦ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻓﻬﻢ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﰲ ﻣﺤﺎﴐاﺗﻪ ﰲ اﻟﻔﱰة ١٩٦٥-١٩٦٤ﻋﻦ اﻟﺘﺎرﻳﺦ واﻟﺤﺮﻳﺔ ﺗﻤﺜﱢﻞ ﺑﺄﻓﻀﻞ ﺣﺎل ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞَ .واﻟﻬﺪف ﻟﻴﺲ اﻟﺨﺮوج ﺑﺤﻜﻢ ﻓﻠﺴﻔﻲ ﺑني اﻹرادة اﻟﺤﺮة واﻟﺤﺘﻤﻴﺔ؛ ﺑﻞ ﺑﻴﺎن اﻟﺴﺒﺐ ﰲ أن ﻗﻀﻴﺔ اﻟﺤﺮﻳﺔ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ اﺧﺘﺰاﻟﻬﺎ ﰲ إﺟﺎﺑﺔ ﻟﺴﺆال ﻓﻠﺴﻔﻲ ﺑﻨﻌﻢ/ﻻ. ﻟﻜﻦ ﻫﺬا املﻮﻗﻒ اﻟﻨﻘﺪي اﻟﺬاﺗﻲ ،اﻟﺬي أﺳﻤﺎه أدورﻧﻮ »اﻟﺠﺪﻟﻴﺔ اﻟﺴﻠﺒﻴﺔ« )وﻧﴩ ﻋﻨﻪ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻋﺎم — (١٩٦٦ﻷﻧﻪ ﻋﲆ اﻟﻨﻘﻴﺾ ﻣﻦ ﺟﺪﻟﻴﺔ ﻫﻴﺠﻞ ﻻ ﻳﻘﺪﱢم ﺣﻜﻤً ﺎ ﻧﻬﺎﺋﻴٍّﺎ — ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻧﺤﻮ ٍ ﺛﺎﺑﺖ .ﻓﻌﲆ ﺳﺒﻴﻞ املﺜﺎل ،ﻳﺒﺤﺚ ﻛﺘﺎب »ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« ﰲ ﺗﺤﻠﻴﻠﻪ إﻗﺮاره دوﻣً ﺎ ﻋﲆ ٍ 112
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
املﻤﻴﺰ ﻟﻜﺘﺎب »ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ« ،اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻞ اﻟﻌﻨﻮان اﻟﻔﺮﻋﻲ »اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﻛﺨﺪاع ﻟﻠﺠﻤﺎﻫري«، ً ﻣﺨﻨﻮﻗﺎ ﺑﻀﻐﻮط اﻟﺴﻮق .وﻓﻴﻤﺎ ﰲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ أن ﻳﻜﻮن اﻹﺑﺪاع ﰲ اﻟﻔﻨﻮن ﻳﺨﺺ اﻟﻘﺪر اﻟﻜﺒري ﻣﻦ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ اﻟﺘﻲ أُﻧﺘِﺠﺖ ﻣﻦ أﺟﻞ أن ﺗُﺮوﱠج ﺑﻜﻤﻴﺎت ﻛﺒرية ً ﺻﻼﺣﻴﺔ اﻵن ﻋﻤﱠ ﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ُﻛﺘِﺐَ ، ﻗﺪر اﻹﻣﻜﺎن ،ﻓﺈن اﻟﺘﺤﻠﻴﻞ ﻋﲆ اﻷرﺟﺢ أﻛﺜﺮ ﱠ ﻟﻜﻦ دﻋﻮى أن ﺗﻠﻚ »اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺠﻤﺎﻫريﻳﺔ« ﺧﺪﱠاﻋﺔ ﺑﻄﺒﻴﻌﺘﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎج إﱃ أن ﻳﺪﻋﻤﻬﺎ ﺑﺤﺚ ً ﻣﻔﺼﻞ .وﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗُﻄﺒﱠﻖ اﻟﻔﻜﺮة ﻋﲆ ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺠﺎزً ، ﱠ ﻣﺨﻄﺌﺔ ﻣﺜﻼ ،ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗﻜﻮن ﺗﺠﺮﻳﺒﻲ ﺑﻮﺿﻮح ،ﻓﻼ ﺟﺪال ﰲ أن ﻣﻮﺳﻴﻘﻰ اﻟﺠﺎز — ﻣﺜﻠﻬﺎ ﻣﺜﻞ أﺷﻜﺎل اﻟﻔﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ اﻷﺧﺮى ٍ ُ اﻻﻋﺘﺒﺎرات اﻟﺘﺠﺎرﻳﺔ ،ﻟﻜﻦ ﻗﺪرﺗﻬﺎ ﻋﲆ ﻣﻨﺎﻫﻀﺔ اﻟﻌﺎدات اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ — دﻣﱠ َﺮﺗْﻬﺎ ﰲ اﻟﻐﺎﻟﺐ اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻻ ﺗﺰال ﻏري ﻣﻨﻘﻮﺻﺔ ﺣﺘﻰ اﻟﻴﻮم. ً ﻳﺒﺪو أن أدورﻧﻮ ﻧﻔﺴﻪ ﻗﺪ وﻗﻊ ﰲ ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻓﺮﻳﺴﺔ ﻟﻔﻜﺮة اﻟﻜﻠﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺮاﻫﺎ ﻣﺼﺪ ًرا ﻟﻜﺜري ﻣﻦ أﻣﺮاض اﻟﺤﺪاﺛﺔ .وﺗﺘﻀﺢ ﺑﺬﻟﻚ أﻫﻤﻴﺔ اﻟﻬﺪف ﻣﻦ ﻓﻬﻢ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮن ﺑﻬﺎ اﻟﻬﻴﺎﻛ ُﻞ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ — اﻟﺘﻲ ﺗﻘ ﱢﻠﻞ ﻣﻦ ﺧﺼﻮﺻﻴﺔ اﻷﺷﻴﺎء واﻷﺷﺨﺎص ﻣﻦ أﺟﻞ إﺣﻜﺎم اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ — ﻣﺼﺪ َر ﻛ ﱟﻞ ﻣﻦ اﻟﺨﺪﻣﺎت اﻟﻌﺎﻣﺔ املﻘﺪﱠﻣﺔ ﺑﺴﻼﺳﺔ وإﻣﻜﺎﻧﻴﺔ اﻟﻘﺘﻞ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ اﻟﻔﻌﱠ ﺎل ﰲ ﻣﻌﺴﻜﺮات اﻹﺑﺎدة .وﻟﻜﻦ ﻳﻤﻜﻦ ﻓﻘﺪان اﻟﻜﺜري ﺟﺪٍّا ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳُﺨﺘ َﺰل ﻫﺬا اﻟﻨﻬﺞ ﰲ ﻓﻜﺮة أن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﻬﻴﻤﻦ ﻋﻠﻴﻪ »ﺗﻔﻜري اﻟﻬﻮﻳﺔ« اﻟﺬي ﻟﻪ ﺟﺬوره ٍ ﺗﻌﺎدﻻت أوﺟﺪﻫﺎ ﻫﻴﻜﻞ اﻟﺴﻠﻌﺔ .وﻳُﻌَ ﱡﺪ ﻣﻮﻗﻔﻪ املﺘﻄﺮف ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌ ﱠﻠﻖ ﺑﺄﺳﺌﻠﺔ اﻟﻬﻮﻳﺔ ﻫﻮ ﰲ ﻣﺎ ﻗﺎد أدورﻧﻮ إﱃ ﺗﻀﺨﻴﻤﻪ اﻟﻼﻣﻌﻘﻮل ﻟﻸﻫﻤﻴﺔ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻷﻧﻮاع ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻣﻦ اﻟﻔﻦ اﻟﺤﺪﻳﺚ. ﱢ وﺗﻮﺿﺢ أﻓﻀ ُﻞ ﺗﺄﻣﻼت أدورﻧﻮ ﰲ »ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻠﻢ اﻟﺠﻤﺎل« ) (١٩٧٠ﻣﺪى اﻷﻫﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ً ٍ ٍ ﻗﺎﻃﻌﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻌﺮوﻓﺎ ﺗﻤﺜﱢﻠﻬﺎ ﻣﻘﺎوﻣﺔ اﻟﻔﻦ ﻟﻼﺧﺘﺰال ﰲ ﳾءٍ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻓﺈن إﴏاره ﻋﲆ أن اﻟﺤﺪاﺛﺔ اﻟﺮادﻳﻜﺎﻟﻴﺔ وﺣﺪﻫﺎ اﻟﺘﻲ أوﺟﺰﻫﺎ ﻟﻪ ﺷﻮﻧﱪج وﺑﻴﻜﻴﺖ وﻛﺎﻓﻜﺎ ﺗﺘﺠﻨﱠﺐ ﴍاك ﺻﻨﺎﻋﺔ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ وﺗﺨﱪ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻋﻦ ً ﻳﻌﺎرﺿﻪ. اﻟﺤﺪاﺛﺔ؛ ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻜﻮن ﻣﺨﺘﺰﻻ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻛﺎﻟﺬي ِ اﻟﻠﻐﺔ واﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ أﺗﺎﺣﺖ »املﻌﺠﺰة اﻻﻗﺘﺼﺎدﻳﺔ« اﻟﺘﻲ أدرﻛﺖ أن أملﺎﻧﻴﺎ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﺗﺘﻌﺎﰱ ﻣﻦ اﻟﺪﻣﺎر اﻷﺧﻼﻗﻲ واﻟﺴﻴﺎﳼ واﻻﻗﺘﺼﺎدي أﺛﻨﺎء ﺧﻤﺴﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻗﺪ ًرا ﻛﺒريًا ﻣﻦ َﻛﺒْﺖ املﺎﴈ، وﺣﺘﻰ اﻻﻧﺘﻘﺎدات اﻟﺘﻲ وﺟﱠ ﻬﺘﻬﺎ اﻟﺤﺮﻛﺔ اﻟﻄﻼﺑﻴﺔ ُﻗﺒَﻴْﻞ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﺳﺘﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ 113
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻷوﺟﻪ اﻟﱰاﺑﻂ ﺑني ﻓﱰة اﻟﻨﺎزﻳﺔ واﻟﺠﻤﻬﻮرﻳﺔ اﻟﻔﻴﺪراﻟﻴﺔ ،ﻟﻢ ﻳَ ُﻜ ْﻦ اﻹﴏار اﻟﻌﻨﻴﺪ ﻷدورﻧﻮ ﻋﲆ اﻟﺤﺎﺟﺔ ﻟﻠﻤﺼﺎ َﻟﺤَ ﺔ ﻣﻊ املﺎﴈ اﻟﻨﺎزي ﻫﻮ اﻟﻘﺎﻋﺪة ﺑﺄﻳﺔ ﺣﺎل .وﻣﻊ ذﻟﻚ ،ﺑﺪا أن املﻮﻗﻒ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ املﺘﺼﻠﺐ ﻷدورﻧﻮ ﻟﻢ ﻳﻔﺮد ﻣﺴﺎﺣﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻔﻜري ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻣﻠﻤﻮﺳﺔ ﰲ اﻹﺻﻼﺣﺎت اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ اﻟﴬورﻳﺔ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻏري ﻣﻬﺪﱠد ﺑﻜﺎرﺛﺔ وﺷﻴﻜﺔ؛ وﻟﺬﻟﻚ ﺳﻌﻰ ﺗﻠﻤﻴﺬه ﻳﻮرﺟﻦ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس )املﻮﻟﻮد ﻋﺎم ،(١٩٢٩وﻫﻮ اﻟﻔﻴﻠﺴﻮف اﻷملﺎﻧﻲ واملﻨ ﱢ ﻈﺮ ً إﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻣﻤﺎ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ اﻷﻋﻈﻢ أﺛ ًﺮا ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺮب ،إﱃ وﺿﻊ ﺗﺼﻮﱡر أﻛﺜﺮ ﺗﺘﻴﺤﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺒﺪو اﻓﱰاﺿﺎت »ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« .وﻛﺎﻧﺖ دﻋﻮاه أن ﻛﺘﺎب »ﺟﺪﻟﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ« ﻳﺘﻨﺎول ﺗﺼ ﱡﻮ ًرا ﺗُ َﺮى ﻓﻴﻪ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻋﲆ أﻧﻬﺎ ﳾء ذراﺋﻌﻲ ﺑﺤﺖ ،اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺴﺘﺒﻌﺪ اﻟﺘﻮاﺻﲇ .وﰲ ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻷﻣﺮ ،ﻳﺮﻳﺪ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس أن ﱢ ُ ﻳﺒني أن ﺗﺼﻮﱡر ﻧﻴﺘﺸﻪ ﻟﻠﻌﻘﻼﻧﻴﺔ أﺳﺎﺳﻬﺎ ُ اﻟﺘﻮاﺻﻞ ﺑني — ﺑﻨﺎءً ﻋﲆ داﻓﻊ اﻟﺬات ﻟﻠﻬﻴﻤﻨﺔ ﻋﲆ املﻮﺿﻮع — ﻻ ﻣﺠﺎل ﻓﻴﻪ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ أن اﻷﺷﺨﺎص ﻳﻤﻜﻦ أن ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﻧﻜﺮان اﻟﻘﻮة ،ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺼﻄﺪم ذات ﺑ »ﻗﻮة اﻟﺤﺠﺔ اﻟﻔﻀﲆ اﻟﺘﻲ ﺗﻔﺮض ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻦ دون إﻛﺮاه« ،واﻟﺘﻲ ﻳﺴﻮﻗﻬﺎ املﺤﺎور. ﻳﺤﺎول ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس أن ﻳﺴﺘﻌني ﺑﻔﻬﻢ ﺟﺪﻳﺪ ﻟ »اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺘﻮاﺻﲇ« ﻹﻋﻄﺎء اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ دو ًرا ﰲ ﻣﺤﺮﻛﺎت املﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺔ .وﻟﻠﻘﻴﺎم ﺑﻬﺬا ،ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺘﺒﻨﱠﻰ — ﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻧﺸﻐﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ — ﺟﻮاﻧﺐ ﻣﻦ اﻟﱪاﺟﻤﺎﺗﻴﺔ اﻷﻣﺮﻳﻜﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺴﺘﻬﺪف وﺻﻒ ٍ ﻛﻄﺮﻳﻘﺔ أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻟﻼﺗﺼﺎل ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺗﻤﺜﻴﻞ اﻟﻔﻜﺮ ﻟﻠﻮاﻗﻊ ،ﺑﻞ وﺻﻒ اﻟﻔﻌﻞ اﻟﺒﴩي وﻳﺴﺘﻌﺮض ﻣﺎ ﻳﺴﻤﻴﻪ »ﺑﺮاﺟﻤﺎﺗﻴﺔ ﻣﺘﻌﺎﻟﻴﺔ« ﺳريًا ﻋﲆ ﻣﻨﻮال زﻣﻴﻠﻪ ﻛﺎرل أوﺗﻮ أﺑﻞ )املﻮﻟﻮد ً ﻋﺎم (١٩٢٢؛ ﻓ »ﴍوط اﻹﻣﻜﺎن« اﻟﱪاﺟﻤﺎﺗﻴﺔ َ أﺷﻜﺎﻻ ﻟﻠﻔﻜﺮ ،ﺑﻞ ﻫﻲ »ﻫﻴﺎﻛﻞ ﻟﻠﺨﱪة ﻟﻴﺴ ْﺖ واﻟﻔﻌﻞ« .وﺗُﻄ َﺮح اﻟﺤﺠﺞ ﺑﺸﺄن ﺻﺤﺔ ﺟﻤﻴﻊ أﻧﻮاع اﻟﺨﱪة واﻟﻔﻌﻞ ،املﻌﺮﻓﻴﺔ واﻷﺧﻼﻗﻴﺔ واﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ،ﰲ اﻟﺤﻴﺎة اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل ﻫﺬه اﻟﻬﻴﺎﻛﻞ ،ودوﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﺘﻀﺢ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ً إﻃﻼﻗﺎ .ﻓﺎﻟﻬﻴﺎﻛﻞ ﻻ ﺗﻌﻄﻲ أوﻟﻮﻳﺔ ﻟﻠﻌﻠﻮم ﻗﺪ ﺗﻨﺸﺄ ﺑﻬﺎ ﻧﺰاﻋﺎت ﺑﺸﺄن ﺻﺤﺔ ﺗﻠﻚ اﻷﻧﻮاع ُ اﻟﺘﻮاﺻﻞ ﺑﺸﺄن املﻮﺿﻮﻋﺎت ﻻ ﻳﻮﺟﺪ ﺷﻜﻞ ﻣﻤﻴﱠﺰ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ؛ ﻷﻧﻪ ﻓﻴﻤﺎ ﻋﺪا َ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﻮﺿﻮﻋﺎت املﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ إﺛﺒﺎت ﺻﺤﺘﻬﺎ؛ وﻣﻦ ﺛ ﱠﻢ ﻓﺈن ﻋﻤﻠﻴﺔ اﻟﻨﻘﺎش املﺠﺘﻤﻌﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﻌﺎﻣﻞ اﻟﻔﺎﺻﻞ ﰲ ﺟﻤﻴﻊ دﻋﺎوى اﻟﺼﺤﺔ. وﻛﺎن ﻣﻦ ﺑني ﻣَ ْﻦ أﺛﱠﺮوا ﺑﺼﻮرة أﺳﺎﺳﻴﺔ ﻋﲆ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ﻫﺎﻧﺰ ﺟﻮرج ﺟﺎداﻣﺮ ،ﺗﻠﻤﻴﺬ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻟﺬي اﺳﺘﻬﺪف ﰲ ﻛﺘﺎﺑﻪ »اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واملﻨﻬﺞ« )» (١٩٦٠اﻟﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺧﱪة اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﺠﺎوز ﻋﺎﻟﻢ ﺳﻴﻄﺮة املﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ … واﺳﺘﺠﻮاﺑﻬﺎ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﴩﻋﻨﺘﻬﺎ «.واﻧﻄﻮى ﺗﻮﺳﻴﻊ ﻟﺮؤﻳﺔ ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ﻟﻠﻬريﻣﻮﻧﻴﻄﻴﻘﺎ ،اﻟﺘﻲ ﻳﻜﻮن ﻓﻴﻬﺎ ﻃﺮﻳﻘﻨﺎ اﻟﺮﺋﻴﴘ ﻫﺬا اﻟﺮأي ﻋﲆ ٍ 114
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
ﺷﻜﻞ :4-9ﻳﻮرﺟﻦ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس وﺟﻮزﻳﻒ راﺗﺰﻳﻨﺠﺮ ،ﻳﻨﺎﻳﺮ .٢٠٠٤
4
ﻟﻠﻮﺟﻮد ﺗﻔﺴريﻳٍّﺎ ،ﻻ ﻣﻌﺮﻓﻴٍّﺎ .وﻳﻌﺘﻘﺪ ﺟﺎداﻣﺮ أن ﻋﲆ املﺮء إﺣﻴﺎءَ ﻓﻜﺮة »اﻟﺤﻜﻢ املﺴﺒﻖ«؛ ﻷﻧﻪ دون »اﻷﺣﻜﺎم املﺴﺒﻘﺔ« — اﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﱢﻠﻬﺎ ﻛ ﱞﻞ ﻣﻦ اﻟﻠﻐﺔ وﺟﻤﻴﻊ اﻟﻄﺮق اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺄﺛﱠﺮ ﻓﻴﻬﺎ دوﻣً ﺎ دون وﻋﻲ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ وﻧﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻌﻪ — ﻣﺎ ﻛﻨﱠﺎ ﻟﻨﺘﻤ ﱠﻜﻦ ﻣﻦ اﻟﻮﺻﻮل إﱃ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺘﺄﻣﻞ املﻤﻮﺿﻊ ﰲ اﻟﻌﻠﻮم .وﻋﲆ ﻧﻬﺞ املﻮروث اﻟﺮوﻣﺎﻧﴘ وآراء ﻫﺎﻳﺪﺟﺮ اﻷﺧرية ،ﻳﻌﻄﻲ ﺟﺎداﻣﺮ ﻟﻠﻔﻦ دو ًرا رﺋﻴﺴﻴٍّﺎ ﻟﻠﺘﺸﻜﻴﻚ ﰲ ﻫﻴﻤﻨﺔ ﻣﻨﺎﻫﺞ اﻟﻌﻠﻮم اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ .ﻓﺎﻟﻌﻤﻞ اﻟﻔﻨﻲ ﻟﻴﺲ ﺷﻴﺌًﺎ ﺗﺤﺪﱢده اﻟﺘﺼﻮرات ،ﺑﻞ ﳾء »ﻳﺤﺪث« ﻣﻦ ﺧﻼل اﺳﺘﻘﺒﺎﻟﻪ ﰲ ﺳﻴﺎﻗﺎت اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ واﻗﻌﻴﺔ؛ »ﻓﺎﻟﻔﻬﻢ ﻟﻴﺲ أﺑﺪًا ﻋﻼﻗﺔ ذاﺗﻴﺔ ﺗﺠﺎه »ﻣﻮﺿﻮع« ﻣُﻌ ً ﻄﻰ ،ﺑﻞ ﻳﻨﺘﻤﻲ إﱃ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻌﲇ ،وﻫﺬا ﻳﻌﻨﻲ :إﱃ وﺟﻮد ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﻔﻬﻮم «.وﻷﻧﻨﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أﺑﺪًا ﰲ اﻟﻨﻬﺎﻳﺔ اﻟﺨﺮوج َ املﺘﻨﺎﻗﻞ ﻋﱪ اﻟﺰﻣﻦ — اﻟﺬي ﻧﻮﺟﺪ ﻓﻴﻪ — ﻳﺮى ﺟﺎداﻣﺮ اﻟﻬﺪف ﻋﻦ »املﻮروﺛﺎت« ﺑﺎملﻌﻨﻰ املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ ﻟﻔﻜﺮة »اﻟﺮؤﻳﺔ ﻣﻦ ﻻ ﻣﻜﺎن« ﻋﲆ أﻧﻪ وﻫﻢ ﻣﺸﻜﻮك ﻓﻴﻪ وﻳﻤﻜﻦ أن ﺗﻜﻮن ﻟﻪ ﺗﻮاﺑﻊ ﻣﺪﻣﱢ ﺮة ﻋﲆ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ .ﻓﺎﻟﻔﻜﺮة ﻟﻴﺴﺖ أن املﻨﺎﻫﺞ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺧﺎﻃﺌﺔ — ﻓﻬﻮ ﻳﺮى أن
115
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻌﻠﻮم ﺗﻨﻄﻮي ﻋﲆ دﻳﻨﺎﻣﻴﻜﻴﺔ ﻻ ﺗﻘﺒﻞ اﻟﺘﻮﻗﻒ وﻻ ﻳﻤﻜﻦ أن ﺗُﻮﻗِﻔﻬﺎ اﻻﻋﱰاﺿﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ أو ﻏريﻫﺎ — ﻟﻜﻦ: ﻫﺬا ﻻ ﻳﻌﻨﻲ أن اﻟﻨﺎس ﺳﺘﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺣﻞ املﺸﻜﻼت اﻟﺘﻲ ﺗﻮاﺟﻬﻨﺎ — اﻟﺘﻌﺎﻳﺶ اﻟﺴﻠﻤﻲ ﻟﻠﺸﻌﻮب واﻟﺤﻔﺎظ ﻋﲆ ﺗﻮازن اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ — ﺑﺎﺳﺘﺨﺪام اﻟﻌﻠﻢ ﰲ ﺣﺪ ذاﺗﻪ؛ ﻓﻤﻦ اﻟﻮاﺿﺢ أن أﺳﺎس اﻟﺤﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻫﻮ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ اﻟﻠﻐﻮﻳﺔ ﻟﻠﻨﺎس وﻟﻴﺴﺖ اﻟﺮﻳﺎﺿﻴﺎت.
ﺷﻜﻞ :5-9ﻫﺎﻧﺰ ﺟﻮرج ﺟﺎداﻣﺮ.
5
ﻳﺮﻓﺾ ﺟﺎداﻣﺮ اﻟﺪﻋﺎوى املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﺑﺎﺳﻢ ﺣﺘﻤﻴﺔ اﻟﺤﻮار ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﱠ ﻳﺘﺨﲆ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ﻋﻦ آﻣﺎﻟﻪ املﺒﺪﺋﻴﺔ ﻗﻀﺎﻳﺎ اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ واﻟﺼﺤﺔ ،وﰲ ﺿﻮء ﻣﺰاﻋﻢ ﺟﺎداﻣﺮ ﰲ ﻧﻈﺮﻳ ٍﺔ ﱢ ُ اﻟﺘﻮاﺻﻞ وﺗﺆدﱢي إﱃ »وﻋﻲ ﺗﺒني ﺑﺼﻮرة ﻗﺎﻃﻌﺔ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻘﻮة أن ﺗﺸ ﱢﻮ َه ﱠ ﻧﺘﻮﺻ َﻞ إﱃ وﺟﻬﺔ ﻧﻈﺮ ﻣﻮﺿﻮﻋﻴﺔ ﺗﻤﺎﻣً ﺎ ﻋﻦ املﻤﺎرﺳﺎت زاﺋﻒ« ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أﺑﺪًا أن ٍ ﻟﺜﻘﺎﻓﺔ ﻣﺎ ،وﻫﺬا ﻻ اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ وأﺷﻜﺎل اﻟﺘﻮاﺻﻞ؛ ﻷﻧﻨﺎ دوﻣً ﺎ واﻗﻌﻮن داﺧﻞ أﺣﻜﺎم ﻣﺴﺒﻘﺔ ﻳﻌﻨﻲ أن ﻳﻨﻜﺮ املﺮء ﻓﻜﺮ َة وﺿﻊ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﻧﻘﺪﻳﺔ ﻟﻨﺴﺒﻴﺔ ﺿﻌﻴﻔﺔ اﻟﺘﻤﻴﻴﺰ ،ﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ أن ﺗُ َ ﻮﺿﻊ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻵن ﰲ ﺻﻮرة ﺣﻮار »ﺑﻌﺪ ﻣﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻲ« ﺑني اﻟﺜﻘﺎﻓﺎت. 116
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
َ أﺣﺪث إﱃ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن ﻋﻤﻞ إن املﺸﻜﻠﺔ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻗﺎدت ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ﰲ ٍ اﻟﺪوﱄ ﻫﻲ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺼﻞ ﺑﻬﺎ — ﰲ ﻋﺎﻟﻢ ﻋﺎملﻲ اﻟﻄﺎﺑﻊ — إﱃ ﻣﻌﺎﻳري ﻗﺎﻧﻮﻧﻴﺔ ﻋﺎملﻴﺔ وﻏريﻫﺎ ،ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﻮﰲ املﻌﺎﻳري اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ املﻮﺿﻮﻋﺔ ﻣﺤﻠﻴٍّﺎ ﱠ ﺣﻘﻬﺎ .ﻓﻬﻮ ﻳﺒﺤﺚ ﻣﺒﺪﺋﻴٍّﺎ ﻋﻦ ﻛﻠﻴﺎت ُ اﻟﺘﻮاﺻﻞ ،ﻛﻤﺎ أوﺣﺖ ﻓﻜﺮﺗﻪ ﻋﻦ »ﻣﻮﻗﻒ اﻟﺨﻄﺎب املﺜﺎﱄ« .وﺗﻨﻄﻮي ﺣﻘﻴﻘﺔ ﰲ أﺷﻜﺎل اﻟﺠﺪل اﻟﻘﺎﺋﻢ ﺣﻮل اﻟﺼﺤﺔ ﻋﲆ »ﻏﺎﺋﻴﺔ اﻻﺗﻔﺎق« ،وإﻻ ﻓﺴﺘﻜﻮن ﻣﺠﺮد ﻣﻤﺎرﺳﺔ ﻟﻠﻘﻮة ُ اﻟﺘﻮاﺻﻞ اﻟﺤﻘﻴﻘﻲ داﺋﻤً ﺎ ﻣﺎ ﻳﻨﻄﻮي ﻋﲆ ﺑﻌﺾ املﻤﺎرﺳﺔ ﻋﲆ املﺤﺎور .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ أن اﻻﺳﱰاﺗﻴﺠﻴﺔ ﻟﻠﻘﻮة ،ﺗﻮﺣﻲ ﻓﻜﺮة ﺳﻤﺎح املﺮء ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺑﺎﻻﻗﺘﻨﺎع ﺑﺎﻟﺤﺠﺔ اﻟﻔﻀﲆ ﺑﺄﻧﻪ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ُ ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ .وﻟﻜﻦ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ﻳﻨﺄى ﺑﻨﻔﺴﻪ ﻋﻦ ﻫﺬه اﻟﻔﻜﺮة ﻷﻧﻬﺎ ﰲ ﺗﺨﻴﱡﻞ ﴍوط ﻣﺜﺎﻟﻴﺔ ﺟﻮﻫﺮﻫﺎ ﻣﺠﺮدة ،ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻤﺮء أﺑﺪًا ﻣﻌﺮﻓﺔ إن ﻛﺎن ﻣﻨﺨﺮ ً ﻃﺎ ﰲ اﻟﴩوط املﺜﺎﻟﻴﺔ ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ أم ﻻ؛ ﻷن ﻫﺬه املﻌﺮﻓﺔ ﺗﺘﻄﻠﺐ — ﻛﻤﺎ ﺗﻀﻤﱠ ﻨﺖ ﺣﺠﺞ ﺟﺎداﻣﺮ — ﻣﻮﺿﻌً ﺎ ﺧﺎرج املﻤﺎرﺳﺔ ُ ﻟﻠﺘﻮاﺻﻞ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ذﻟﻚ ،ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻌﺰف ﻋﻦ ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻹﺑﻘﺎء ﻋﲆ ﺗﺼﻮ ٍﱡر اﻟﻮاﻗﻌﻴﺔ ﻗﻮي ﻟﻠﻌﻘﻼﻧﻴﺔ ﻗﺎﺋﻢ ﻋﲆ أﺷﻜﺎل اﻟﺼﺤﺔ املﺘﺄﺻﻠﺔ ﰲ اﻟﺘﻮاﺻﻞ اﻟﻴﻮﻣﻲ ﰲ ﻋﺎﻟﻢ اﻟﺤﻴﺎة. واﻟﺴﺆال ﻫﻮ :ﻣﺎ اﻟﺪور اﻟﺬي ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ أن ﺗﻠﻌﺒﻪ ،ﺑﺎﻟﻨﻈﺮ إﱃ ﻣﺎ اﻓﱰﺿﻪ ﱢ اﻟﺘﺨﲇ ﻋﻦ اﻷﻫﺪاف املﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ اﻷﻛﺜﺮ ﺗﺄﻛﻴﺪًا ﻟﻠﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ﻣﻦ ﴐورة ﱢ ﰲ ﺿﻮء اﻹﺧﻔﺎﻗﺎت املﺎﺿﻴﺔ؟ ﻓﻬﻮ ﻳﻘﱰح — ﻣﺘﺒﻨﻴًﺎ ﺗﻘﺴﻴﻢ ﻛﺎﻧﻂ ملﺠﺎﻻت اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺤﺪﻳﺜﺔ واﻟﻘﺎﻧﻮن واﻷﺧﻼق واﻟﻔﻦ — أن اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻵن رﺑﻤﺎ »ﺗﺴﺎﻋﺪ ﻋﲆ اﻷﻗﻞ ﰲ إﻃﻼق اﻟﻌِ ﻨﺎن ﻣﺮ ًة أﺧﺮى ﻟﻠﺘﻔﺎﻋﻞ املﺠﻤﺪ ﺑني املﻌﺮﰲ-اﻟﺬراﺋﻌﻲ واﻷﺧﻼﻗﻲ-اﻟﻌﻤﲇ واﻟﺠﻤﺎﱄ-اﻟﺘﻌﺒريي، اﻷﻣﺮ اﻟﺬي ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻬﺎﺗﻒ املﺤﻤﻮل اﻟﺬي أﺻﺒﺢ ﻣﻌﻘﺪًا ﺑﺪرﺟﺔ ﻣﺴﺘﻌﺼﻴﺔ «.وﻗﺪ أ ُ ِ ﺧﻀﻊ ﻛﻞ ﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﺗﺼﻮر ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ﻟﻨﻘﺪ ﻓﻠﺴﻔﻲ ﻣﱪﱠر ﻏﺎﻟﺒًﺎ ،ﻟﻜﻦ ﺻﻤﻮد رؤﻳﺘﻪ ﻳﻜﻤﻦ ﰲ ﻣﻼءﻣﺔ ردﱢﻫﺎ اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻲ ﻋﲆ ﻛﻮاﺑﻴﺲ املﺎﴈ اﻷملﺎﻧﻲ .وﻋﲆ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ اﻷﺧﻄﺎء اﻟﺘﻲ وﻗﻌﺖ ﻓﻴﻬﺎ أملﺎﻧﻴﺎ ،ﻓﻬﻲ اﻵن إﺣﺪى اﻟﺪﻳﻤﻘﺮاﻃﻴﺎت اﻷﻛﺜﺮ اﻧﻔﺘﺎﺣً ﺎ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ،وﻛﺎن ﻟﻬﺎﺑﺮﻣﺎس اﻹﺳﻬﺎم اﻷﺳﺎﳼ ﰲ إﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺣﺪوث ذﻟﻚ. اﻟﺘﻨﺎزع ﺑﺸﺄن اﻟﱰاث اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻧﻄﻮى املﺸﻬﺪ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ اﻷملﺎﻧﻲ ﺑﻌﺪ اﻟﺤﺮب ﻋﲆ ﻧﻤﺎذج ﻟﺠﻤﻴﻊ اﻻﺗﺠﺎﻫﺎت ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎوﻟﻨﺎﻫﺎ ﰲ اﻟﻔﺼﻮل اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ .وﻳﺴﺘﻨﺪ اﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻫﻨﺎ ﻋﲆ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ وﻫريﻣﻮﻧﻴﻄﻴﻘﺎ ﺟﺎداﻣﺮ إﱃ ﺣﻘﻴﻘﺔ أن اﻟﻨﻘﺎﺷﺎت اﻟﺘﻲ أﺛﺎرﺗﺎﻫﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻬﻤﺔ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ أوﺳﻊ ﰲ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺤﺪﻳﺚ .وﻗﺪ ﻛﺎن ﻋﲆ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن ﻋﻤﻮﻣً ﺎ أن 117
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
ﻳﻮاﺟﻬﻮا ﴏاﻋً ﺎ ﺑني ﺗﻮﺳﻴﻊ املﻮروث وﺗﻘﻴﻴﻤﻪ ﻧﻘﺪﻳٍّﺎ ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ ﻓﺼﺎﻋﺪًا ،وﻣﻌﺮﻓﺔ اﻟﻜﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺑﻬﺎ اﺳﺘﺨﺪام اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ملﻌﺎﻟﺠﺔ أﻣﻮر اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ُﻣﻠِﺤﱠ ﺔ .ﻓﺎﻷوﱃ ﻟﺪﻳﻬﺎ ﻧﺰﻋﺔ ﻷن ﺗﺆدي إﱃ اﻫﺘﻤﺎم ﺳﻜﻮﻻﺳﺘﻲ ﺑﺘﻔﺎﺻﻴﻞ اﻟﻨﺼﻮص اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ،واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺗُﻮاﺟَ ﻪ دوﻣً ﺎ ﺑﺄﺣﺪاث ﻋﺎرﺿﺔ ﻣﺘﻀﻤﱠ ﻨﺔ ﰲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ وﻗﺎﺋﻊ اﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ وﺗﺎرﻳﺨﻴﺔ ﱠ ﻣﻌﻘﺪَة .وﻋﲆ ﻏﺮﻳﺐ إﱃ ﺣ ﱟﺪ ﻣﺎ ،ﻟﻢ ﺗﺸﻬﺪ اﻟﻔﱰة اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﲆ اﻟﺘﻐريات اﻟﻜﱪى ﻋﺎم ١٩٨٩واﻟﻼﺣﻘﺔ ﻧﺤﻮ ٍ ٍ ﻟﻬﺎ ردودًا ﻛﺜرية ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن. وﺑﺎﺳﺘﺜﻨﺎء اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻷﻛﱪ ﺳﻨٍّﺎ املﻌﺮوﻓﺔ ،أﻣﺜﺎل ﻫﺎﺑﺮﻣﺎس ودﻳﱰ ﻫﻨﺮﻳﺶ )املﻮﻟﻮد ﻋﺎم — (١٩٢٧اﻟﺬي ﻳﺘﻤﻴﱠﺰ ﺑﻤﺰﺟﻪ ﺑني املﻌﺮﻓﺔ املﺮﻣﻮﻗﺔ واﻫﺘﻤﺎم اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﻤﻌﺎﻟﺠﺔ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ املﻌﺎﴏة اﻟﺤﻴﻮﻳﺔ — ﻣﺎل اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن إﱃ اﻻﻧﺴﺤﺎب ﻣﻦ »اﻻﻧﺪﻣﺎج« اﻟﺴﻴﺎﳼ. وﻋﻼوة ﻋﲆ ذﻟﻚ ،ﻓﻔﻲ اﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ اﻟﺘﻲ ﻛﺎن ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺜري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻟﺮوﱠاد ﰲ اﻟﻮﻻﻳﺎت املﺘﺤﺪة أﻣﺜﺎل :رﻳﺘﺸﺎرد رورﺗﻲ وﺟﻮن ﻣﺎﻛﺪول وروﺑﺮت ﺑﺮاﻧﺪوم ،ﻳﻘﱰﺣﻮن أن املﻮروث ٍ ﺣﺎﺟﺔ إﱃ ﻣﻮارد ﻣﻦ ﻛﺎﻧﻂ وﻫﻴﺠﻞ وﻫﺎﻳﺪﺟﺮ ،إذا ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﺄﺗﻲ اﻟﺘﺤﻠﻴﲇ ﻛﺎن ﰲ ﺑﺮدود ﺟﺪﻳﺪة ﻋﲆ اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺮﺋﻴﺴﻴﺔ وﻳﻠﻌﺐ دو ًرا أوﺳﻊ ﰲ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ؛ ﻛﺎن ﺑﻌﺾ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن اﻷﺻﻐﺮ ﺳﻨٍّﺎ ﻳﻨﺒﺬون املﻮروث اﻷملﺎﻧﻲ ﺑﺪﻋﻮى أﻧﻪ ﻧﻤﺎذج ﺿﻴﻘﺔ ﱢ وﻣﺘﺨﺼﺼﺔ ﻏﺎﻟﺒًﺎ ﻣﻦ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﺤﻠﻴﻠﻴﺔ. وﻛﻤﺎ أوﺿﺢ املﻮروث اﻷملﺎﻧﻲ ﻣﺮا ًرا وﺗﻜﺮا ًرا ،ﻓﺈن ﻓﻬﻢ اﻟﺤﺮﻛﺎت اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ ﻟﻴﺲ ً ﻣﺤﻀﺎ ﰲ اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ؛ ﻓﺎﻟﺤﺎﻟﺔ اﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻣﻦ ﻓﻘﺪان اﻟﺘﻮﺟﱡ ﻪ ﺑﺎﻟﴬورة أﻣ ًﺮا داﺧﻠﻴٍّﺎ اﻟﺴﻴﺎﳼ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ ﰲ أملﺎﻧﻴﺎ ﰲ أﻋﻘﺎب ﻋﺎم ،١٩٨٩وإدراك أن اﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ املﺘﺰاﻳﺪة اﻟﺘﻲ ارﺗﺒﻄﺖ ﺑﻨﺸﺄة اﻟﺘﻔﻜري اﻟﺮادﻳﻜﺎﱄ ﻣﻦ أواﺧﺮ ﺳﺘﻴﻨﻴﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﻌﴩﻳﻦ ﻓﺼﺎﻋﺪًا رﺑﻤﺎ ﺗﻜﻮن ري ﻣﻦ اﻟﻔﻼﺳﻔﺔ اﻷملﺎن اﻷﺻﻐﺮ ﺳﻨٍّﺎ ﰲ أﻣ ًﺮا ﻋَ َﻔﺎ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺰﻣ ُﻦ ،ﻛﺎن ﻟﻪ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺎﻧﺰواء ﻛﺜ ٍ ﱡ اﻟﺘﺨﺼﺺ ،إﻻ أن ﻣﺎﻫﻴﺔ ﻫﺬه اﻟﻌﻼﻗﺔ ﻟﻢ ﺗﺘﻀﺢ ﺑﺪﻗﺔ ﺑﻌﺪُ .وﰲ اﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ،ﻳﻘﺪﱢم املﻮروث ٍ اﺣﺘﻤﺎﻻت ﻗﺎﺑﻠﻨﺎﻫﺎ ﻟﺪى ﺷﻴﻠﻴﻨﺞ وﻫﺎﻳﺪﺟﺮ وأدورﻧﻮ اﻟﺬي ﻳﻨﻈﺮون إﻟﻴﻪ اﻵن ﺑﻌني اﻟﺮﻳﺒﺔ وﻫﺎﺑﺮﻣﺎس َ ري ﻣﻦ ﺗﺤﺪﻳﺎت املﺴﺘﻘﺒﻞ اﻟﻌﺎملﻴﺔ .وﻻ ﻳﺰال ﻣﻦ املﻤﻜﻦ وآﺧﺮﻳﻦ ﻟﻠﺮد ﻋﲆ ﻛﺜ ٍ ُ اﻻﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﻤﻮارد اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ ﻟﺘﻮﺿﻴﺢ ﻋﻼﻗﺔ اﻟﺠﻨﺲ اﻟﺒﴩي ﺑﺎﻟﺒﻴﺌﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ،اﻟﺘﻲ أﺻﺒﺢ ﻣﻦ اﻟﻮاﺿﺢ ﺟﺪٍّا اﻵن أﻧﻬﺎ ﻣﺘﻨﺎﻫﻴﺔ وﻣﺤﺪودة ،وﻋﻼﻗﺘﻪ ً أﻳﻀﺎ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ َ ﱡ َ ﻣﻀﻤﻮن ذﻟﻚ ﻳﺨﺺ ﻳﺘﻮاﺻﻞ ﺑﴪﻋﺔ ﻣﺘﺰاﻳﺪة ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻮ ﱢﻟﺪ ﻣﺰﻳﺪًا ﻣﻦ اﻟﴫاﻋﺎت ﻓﻴﻤﺎ اﻟﺬي ُ اﻟﺘﻮاﺻﻞ. 118
اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ
ﻫﻮاﻣﺶ (1) © ullsteinbild/TopFoto. (2) © Hulton Archive/Getty Images. (3) © S. M./Süddeutsche Zeitung Photo. (4) © 2009 KNA-Bild, all rights reserved. (5) © Regina Schmeken/Süddeutsche Zeitung.
119
اﳌﺮاﺟﻊ
املﻘﺪﻣﺔ K. Marx and F. Engels, Werke, Vol. 4 (Berlin: Dietz, 1956).
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول Quotations from I. Kant are according to the standard A B pagination from the Akademie Edition, given in most editions: Critique of Pure Reason, B p. 132; Foundation of the Metaphysics of Morals, BA p. 17, BA p. 7; Critique of Judgement, B p. 193, A p. 190.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ K. Reinhold, cited in M. Bauer and D. Dahlstrom, The Emergence of German Idealism (Washington, DC: Catholic University of America Press, 1999), p. 62. J. G. Herder, Über die neuere deutsche Literatur: Fragmente (Berlin: Aufbau, 1985), p. 373. J. G. Hamann, Schriften zur Sprache, ed. Josef Simon (Frankfurt: Suhrkamp, 1967), p. 224, p. 109; Sämtliche Werke, 6 vols. (Vienna: Herder, 1950), Vol. 2, p. 74; Vol. 3, p. 284.
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ J. G. Herder, Sprachphilosophische Schriften (Hamburg: Meiner, 1964), p. 153. F. D. E. Schleiermacher, Dialektik, ed. L. Jonas (Berlin: Reimer, 1839), p. 563.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ F. H. Jacobi, in H. Scholz (ed.), Die Hauptschriften zum Pantheismusstreit zwischen Jacobi und Mendelssohn (Berlin: Reuther and Reichard, 1916), p. 51. J. G. Fichte, Werke I (Berlin: de Gruyter, 1971), p. 463; Werke II, p. 239. F. W. J. Schelling, Sämmtliche Werke, ed. K. F. A. Schelling, I Abtheilung Vols. 1–10, II Abtheilung Bde. 1–4 (Stuttgart: Cotta, 1856–61), I/2 p. 53, I/3 p. 341, II/3 p. 7.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ F. Schlegel, Kritische Schriften und Fragmente, Studienausgabe Vols. 1– 6, ed. Ernst Behler and Hans Eichner (Paderborn, Munich, Vienna, Zürich: Schöningh, 1988), Vol. 2, p. 240, p. 115; Vol. 5, p. 12; Transcendentalphilosophie, ed. Michael Elsässer (Hamburg: Meiner, 1991), pp. 92-3, p. 95, p. 93. Novalis, Werke (Munich: Beck, 1981), p. 226, p. 181, p. 637. F. H. Jacobi, Jacobi an Fichte (Hamburg: Friedrich Perthes, 1799), p. 14. F. Schlegel, Philosophische Lehrjahre (1796–1828) (Kritische Friedrich Schlegel Ausgabe, Vol. 18) (Munich, Paderborn, Vienna: Ferdinand Schöningh, 1963), p. 518.
122
املﺮاﺟﻊ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ L. Feuerbach, Das Wesen des Christentums (Stuttgart: Reclam, 1969), p. 400, p. 406. K. Marx, Ökonomisch-philosophische Manuskripte (Leipzig: Reclam, 1970), p. 151, p. 186. K. Marx and F. Engels, Werke, Vol. 13 (Berlin: Dietz, 1956 ff), pp. 8-9. K. Marx, Das Kapital, Vol. 1 (Berlin: Dietz, 1975), p. 52.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس A. Schopenhauer, Die Welt als Wille und Vorstellung, in Sämtliche Werke, Vol. I, ed. Wolfgang Frhr. von Löhneysen (Frankfurt: Suhrkamp, 1986), p. 168; Vol. V, p. 507. F. Nietzsche, Sämtliche Werke. Kritische Studienausgabe in 15 Bänden, ed. Giorgio Colli and Mazzino Montinari (Munich, Berlin, New York: de Gruyter, 1980), Vol. 1, p. 47, p. 99, p. 100, p. 880; Vol. 6, pp. 80-1; Vol. 3, p. 467.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ M. Schlick, in R. Rorty (ed.), The Linguistic Turn (Chicago: University of Chicago Press, 1992), p. 51; cited in M. Friedman, Reconsidering Logical Positivism (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), p. 29. B. Bolzano, Grundlegung der Logik (Hamburg: Meiner, 1963), p. 66. I. Kant, Critique of Pure Reason, B p. 172, A p. 133. E. Husserl, Gesammelte Schriften, 9 vols. (Hamburg: Meiner, 1992), Vol. 8, p. 4, p. 60, p. 115, p. 36, p. 23, p. 44.
123
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ E. Husserl, Gesammelte Schriften, 9 vols. (Hamburg: Meiner, 1992), Vol. 4, p. 666. M. Heidegger, Sein und Zeit (Tübingen: Niemeyer, 1979), p. 12, p. 38; M. Heidegger, Ursprung des Kunstwerks (Stuttgart: Reclam, 1960), p. 62; M. Heidegger, Zur Sache des Denkens (Tübingen: Niemeyer, 1969), p. 63.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ W. Benjamin, Gesammelte Schriften (Frankfurt: Suhrkamp, 1980), Vol. I/3, p. 1151. M. Horkheimer and T. Adorno, Dialektik der Aufklärung (Frankfurt: Fischer, 1971), p. 1, p. 5. H.-G. Gadamer, Wahrheit und Methode (Tübingen: J. C. B. Mohr, 1975), p. XXVII; H.-G. Gadamer, Ästhetik und Poetik I. Kunst als Aussage (Tübingen: J. C. B. Mohr, 1993), p. 342. J. Habermas, MoralbewuBtsein und kommunikatives Handeln (Frankfurt: Suhrkamp, 1983), p. 26.
124
ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ
Only English-language secondary literature on German philosophy is cited here. The basic primary texts are those discussed in each chapter: a general list would be too extensive to be useful.
ﻣﺮاﺟﻊ ﻋﺎﻣﺔ A. Bowie, From Romanticism to Critical Theory: The Philosophy of German Literary Theory (London: Routledge, 1997). Presentation of ideas concerning literature and truth from Kant and the Romantics to the Frankfurt School. A. Bowie, Aesthetics and Subjectivity: From Kant to Nietzsche, 2nd edn. (Manchester: Manchester University Press, 2003). Considers the central role of aesthetics in the development of German philosophy. A. Bowie, Introduction to German Philosophy: From Kant to Habermas (Cambridge: Polity, 2003). More extensive account of the issues covered in this book. P. Gorner, Twentieth Century German Philosophy (Oxford: Oxford University Press, 2000). Examination of Husserl, Heidegger, Gadamer, Habermas, and Apel.
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ J. Habermas, The Philosophical Discourse of Modernity (Cambridge: Polity, 1987). Critical overview of modern philosophy by leading German philosopher. A. O’Hear (ed.), German Philosophy After Kant (Cambridge: Cambridge University Press, 1999). Essays on individual philosophers and on central themes in German philosophy. T. Pinkard, German Philosophy 1760–1860: The Legacy of Idealism (Cambridge: Cambridge University Press, 2002). Account of connections between philosophy and history in the period in question. H. Schnädelbach, Philosophy in Germany 1831–1933 (Cambridge: Cambridge University Press, 1984). Account which includes much material on lesser-known academic philosophers.
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول H. E. Allison, Kant’s Transcendental Idealism (New Haven, CT: Yale University Press, 1983). Defence of Kant’s contentions in the Critique of Pure Reason. K. Ameriks, Interpreting Kant’s Critiques (Oxford: Clarendon Press, 2003). Essays on new approaches to the interpretation of Kant. E. Cassirer, Kant’s Life and Thought (New Haven, CT: Yale University Press, 1982). Biographical and philosophical account of Kant by neoKantian philosopher. S. Gardner, Routledge Philosophy Guidebook to Kant and the Critique of Pure Reason (London: Routledge, 1999). Detailed introductory account of the first Critique. R. Scruton, Kant: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2001). General introduction to Kant.
126
ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ P. F. Strawson, The Bounds of Sense: An Essay on Kant’s Critique of Pure Reason (London: Routledge, 1966). Influential analytical account of Kant, which is not reliable in its interpretations of some key issues.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ H. Adler and W. Koepke, A Companion to the Works of Johann Gottfried Herder (Columbia, SC: Camden House, 2009). Essays on the main aspects of Herder’s work. I. Berlin, The Magus of the North: J. G. Hamann and the Origins of Modern Irrationalism (London: John Murray, 1993). Readable, but unreliable, interpretation of Hamann. T. German, Hamann on Language and Religion (Oxford: Oxford University Press, 1981). Account by Hamann scholar. J. H. Zammito, Kant, Herder, and the Birth of Anthropology (Chicago, IL: Chicago University Press, 2001). Contextualization of the thought of Kant and Herder in relation to often ignored issues.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ K. Ameriks (ed.), The Cambridge Companion to German Idealism (Cambridge: Cambridge University Press, 2000). Essays on the main themes and figures in German Idealism. F. C. Beiser, Hegel (London: Routledge, 2005). Accessible and scholarly introduction. F. C. Beiser, The Fate of Reason: German Philosophy from Kant to Fichte (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1987). Study of the immediate reactions to Kant, dealing with many unjustly ignored philosophers.
127
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ A. Bowie, Schelling and Modern European Philosophy (London: Routledge, 1993). Schelling considered as a major thinker in his own right, rather than as a prelude to Hegel. F. Neuhouser, Fichte’s Theory of Subjectivity (Cambridge: Cambridge University Press, 1989). Lucid analytical account of Fichte’s arguments. R. B. Pippin, Idealism as Modernism: Hegelian Variations (Cambridge: Cambridge University Press, 1997). Philosophical essays based on the most productive contemporary interpretation of Hegel. C. Taylor, Hegel (Cambridge: Cambridge University Press, 1975). Influential traditional account of Hegel’s philosophy. S. Žižek, The Indivisible Remainder: On Schelling and Related Matters (London: Verso, 2007). Relates Schelling to Žižek’s concerns deriving from Hegel and Lacan.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ F. C. Beiser, The Romantic Imperative: The Concept of Early German Romanticism (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2006). Scholarly but interpretatively questionable account of Romantic philosophy. M. Frank, The Philosophical Foundations of Early German Romanticism (Albany, NY: SUNY Press, 2008). Reliable account by the leading scholar of early Romantic philosophy. N. Saul, Cambridge Companion to German Romanticism (Cambridge: Cambridge University Press, 2009). Essays on the various philosophical and other dimensions of German Romanticism.
128
ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺨﺎﻣﺲ W. Breckman, Marx, the Young Hegelians, and the Origins of Radical Social Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 1999). Historical reinterpretation of the thought of the Young Hegelians. T. Eagleton, Marx (London: Routledge, 1999). Assessment of Marx’s philosophy from a contemporary perspective. J. Elster, An Introduction to Karl Marx (Cambridge: Cambridge University Press, 1986). Analytical account of Marx. J. Habermas, Knowledge and Human Interests (Cambridge: Polity, 1986). Situates Marx in a wider context of critical social theory. K. Korsch, Marxism and Philosophy (London: Pluto, 1970). Influential text by leading Marxist which helped change the image of Marx’s philosophy in the 1920s. A. Schmidt, The Concept of Nature in Marx (New York: Schocken, 1978). Account of Marx’s approaches to the question of nature.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس A. Bowie, Music, Philosophy, and Modernity (Cambridge: Cambridge University Press, 2007). Examines the importance of music for Nietzsche and other modern philosophers. M. Clark, Nietzsche on Truth and Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 1991). Analytical account of Nietzsche. G. Deleuze, Nietzsche and Philosophy (London: Athlone, 1985). Study by major French philosopher. C. Janaway, Schopenhauer: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2002). Accessible historical and philosophical account of Schopenhauer.
129
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ W. Kaufmann, Nietzsche: Philosopher, Psychologist, Antichrist (Princeton: Princeton University Press, 1974). Clear, if uncritical, presentation of Nietzsche’s ideas. B. Magnus and K. M. Higgins (eds.), The Cambridge Companion to Nietzsche (Cambridge: Cambridge University Press, 1996). Collection of essays on major themes. A. Nehamas, Nietzsche: Life as Literature (Cambridge: Cambridge University Press, 1987). Reinterpretation of the significance of Nietzsche. R. Schacht, Nietzsche (London: Routledge, 1985). Reliable work on major themes in Nietzsche.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ D. Bell, Husserl (London: Routledge, 1990). Analytical account of Husserl. J. A. Coffa, The Semantic Tradition from Kant to Carnap (Cambridge: Cambridge University Press, 1991). Historical account of the sources and early development of analytical philosophy. M. Friedman, Reconsidering Logical Positivism (Cambridge: Cambridge University Press, 1999). Reinterpretations of the work of the Vienna Circle. M. Friedman, A Parting of the Ways: Carnap, Cassirer, and Heidegger (Chicago, IL: Open Court, 2000). Philosophical and historical account of the contrasting analytical, neo-Kantian, and phenomenological tendencies of German philosophy. H. Sluga, Gottlob Frege (London: Routledge, 1980). Historically informed study of the work of Frege. B. Smith and D. Woodruff Smith (eds.), The Cambridge Companion to Husserl (Cambridge: Cambridge University Press, 1995). Volume of essays on many aspects of Husserl’s work.
130
ﻗﺮاءات إﺿﺎﻓﻴﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻣﻦ H. L. Dreyfus, Being-in-the-World: A Commentary on Heidegger’s “Being and Time,” Division I (Cambridge, MA: MIT Press, 1991). Commentary on Heidegger’s most influential work. M. Inwood, Heidegger: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2000). The best initial point of access to Heidegger. C. Lafont, Heidegger, Language, and World-Disclosure (Cambridge: Cambridge University Press, 2000). Critical account of Heidegger on language. S. Mulhall, Routledge Philosophy Guidebook to Heidegger and Being and Time (London: Routledge, 1996). Detailed introduction to Being and Time. R. Safranski, Martin Heidegger: Between Good and Evil (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1998). Intellectual and philosophical biography of Heidegger.
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺘﺎﺳﻊ S. Benhabib, Critique, Norm and Utopia: A Study of the Foundations of Critical Theory (New York: Columbia University Press, 1986). Philosophical study of Critical Theory. R. Bernstein (ed.), Habermas and Modernity (Cambridge, MA: MIT Press, 1985). Collection of critical essays. P. Connerton, The Tragedy of Enlightenment: An Essay on the Frankfurt School (Cambridge: Cambridge University Press, 1980). Study of core ideas in Critical Theory. P. Dews (ed.), Habermas: A Critical Reader (Oxford: Blackwell, 1999). Collection of critical essays that approach Habermas from less familiar angles.
131
اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻷملﺎﻧﻴﺔ D. Ferris, The Cambridge Companion to Walter Benjamin (Cambridge: Cambridge University Press, 2004). Essays on aspects of Benjamin’s thought. R. Geuss, The Idea of a Critical Theory (Cambridge: Cambridge University Press, 1981). Examination of the possibility of a ‘Critical Theory’. D. Held, Introduction to Critical Theory: Horkheimer to Habermas (Berkeley, CA: University of California Press, 1980). Historical and theoretical account of Critical Theory. R. Holub, Jürgen Habermas (London: Routledge, 1991). Study of Habermas as social critic. M. Jay, The Dialectical Imagination: A History of the Frankfurt School and the Institute of Social Research, 1923–1950 (Boston, MA: Little, Brown, 1973). Historical study of the development of the Frankfurt School. G. Rose, The Melancholy Science: An Introduction to the Thought of Theodor W. Adorno (London: Macmillan, 1978). Study of Adorno’s work. G. Warnke, Gadamer: Hermeneutics, Tradition and Reason (Stanford, CA: Stanford University Press, 1987). Account of the major aspects of Gadamer’s work.
132