مات ستيف جوبز
كاهن التكنولوجيا
حامد عويس
قيمة الجسد
د.عبدالحميد األنصاري أخشى سرقة الثورات
توماس ترانسترومر
جغرافيا الشعر البعيدة
مجان ًا مع العدد كتاب:
شروط النهضة العدد - 49نوفمبر 2011
المرأة
ملتقى اإلبداع العربي والثقافة اإلنسانية
نصف الثورة الحلو
مالك بن نبي
القراءة
طعم الحب
كتاب الدوحة
مجان ًا كل شهر مع العدد
الكتابات الخالدة في اإلبداع والفكر العربيين
وزارة الثقافة والفنون والتراث الدوحة -قطر
رئيس الهيئة االستشارية
د .حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والرتاث
ملتقى دارين الثقافي األول
رئيس التحرير
د.علي �أحمد الكبي�سي مدير التحرير
عزت القمحاوي اإلشراف الفني
�سلمان املالك
سكرتير التحرير
نبيل خالد الأغا الهيئة االستشارية
�أ .مبارك بن نا�صر �آل خليفة �أ.د .حممد عبد الرحيم كافود �أ.د .حممد غامن الرميحي د .علي فخرو �أ.د .ر�ضوان ال�سيد �أ .خالد اخلمي�سي جميع امل�شاركات تر�سل با�سم رئي�س التحرير ويف�ضل �أن تر�سل عرب الربيد االلكرتوين للمجلة �أو على قر�ص مدمج يف حدود 1000 كلمة على العنوان الآتي: تليفون )+974( 44022281 : تليفون -فاك�س )+974( 44022690 : �ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر البريد اإللكتروني: editor@dohamagazine.com aldoha_magazine@yahoo.com
مكتب القاهرة:
� 34ش طلعت حرب ،الدور اخلام�س، �شقة 25ميدان التحرير تليفاك�س5783770 : الربيد الإلكرتوين:
samykamaleldeen@yahoo.com
املواد املن�شورة يف املجلة تعرب عن �آراء كتابها وال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة �أو املجلة وال تلتزم املجلة برد �أ�صول ما ال تن�شره.
ش���اركت مجلة الدوحة في ملتقى دارين الثقافي األول الذي نظمه نادي المنطقة الش���رقية األدبي بالدمام /المملكة العربية السعودية يومي 3و 4أكتوبر 2011 وتناول موضوع المجالت الثقافية في دول الخليج وتنمية المعرفة ،وش���ارك فيه أربعة و عش���رون باحث ًا وباحثة إضافة إلى رؤس���اء تحرير المجالت الثقافية في دول مجلس التعاون الخليجي. لقد كانت مبادرة طيبة من نادي المنطقة الش���رقية األدبي إلتاحة الفرصة لهذا اللق���اء الثقافي المثمر حيث تعارف رؤس���اء التحرير و اس���تمعوا إلى الباحثين و تناقشوا مع المشاركين حول كل ما يهم المجالت الثقافية في دول مجلس التعاون وما يواجهها من تحديات ،وتعددت قضايا المناقشة عبر جلسات ست ناقش الملتقى فيه���ا عددًا من المح���اور منها تعزيز المجالت الثقافية لحركتي الش���عر والس���رد، وامتداد التراث في المجالت الثقافية ،ومواكبة المجالت الثقافية للنظريات النقدية الحديثة ،وحضور أدب اآلخر في المجالت الثقافية عبر الترجمة ،وتجليات المكان في المج�ل�ات الثقافية ،والمج�ل�ات الثقافية بوصفها حاضنة للمع���ارك النقدية، والمس���اجالت الثقافية ،ومستقبل المجالت الثقافية والتحديات في عصر اإلنترنت واإلنفوميدي���ا وطرحت وجهات نظر أفاد منها رؤس���اء التحرير ورؤس���اء األندية الثقافية كذلك. الحديث -وكذا البحث -حين يتناول المجالت الثقافية في الخليج العربي يأخذ جوانب متعددة تتعلق ببدايات النشأة والتطور التاريخي أو المحتوى ومدى تنوعه عبر مس���يرة تلك المجالت مع رصد القضايا الكب���رى التي طرحتها والموضوعات التي ناقشتها أو الوضع الراهن لهذه المجالت والتحديات التي يفرضها عصر التقدم التكنولوجي ومواقع التواصل االجتماعي. ولع���ل البداية الصحيحة لبح���ث كل تلك القضايا وما يترت���ب عليها هي تحديد المقصود من مصطلح «المجالت الثقافية» فهو مصطلح واسع الداللة يضم أصنافا منوعة من المجالت يصعب حصرها بالمعنى الواسع للثقافة وال بد من تخصيص وتصنيف يحددان المصطلح ويقيدانه. وليس المقصود من هذا الملتقى وال غيره أن تس���ير المجالت الثقافية الخليجية على درب واحد أو تأخذ نهج ًا واحدًا فهذا كله خالف األصل إذ إن لكل مجلة طابعها الخاص وسياس���تها التحريرية المميزة وهي تتنافس مع غيرها تنافس���ا ش���ريفا لجذب أكبر عدد من القراء ونيل رضاهم ،ولكن هدف هذا الملتقى وغيره هو تبادل اآلراء والخب���رات من أجل تطوي���ر المجالت والرقي بها إلى مس���توى يغني ثقافة قرائها فيشدهم إليها ويعزز تواصلهم معها. وجرى نقاش طويل متش���عب حول مستقبل هذه المجالت الثقافية ومدى قدرتها على االس���تمرار في ظل انتش���ار المنتديات والمجالت الثقافي���ة اإللكترونية ،وأكد المشاركون أهمية تحديث محتوى هذه المجالت لتكون أكثر تأثيرًا وجذب ًا لقرائها. وعلى هامش الملتقى عقد رؤس���اء التحري���ر اجتماعا تبادلوا فيه وجهات النظر حول أهمية التواصل عبر الملتقيات وندواتها الثقافية ومناقشة السبل التي تمكن هذه المجالت من تفعيل دورها وتحقيق أهدافها المنشودة. لقد كان لقاء مثمرًا أجمع المشاركون على نجاحه واتفقوا على أهمية استمراره ودورية انعقاده.
رئي�س التحرير
الغالف األول:
العدد
49
مجان ًا مع العدد:
ثـــــقــــــافـــيــة �شــــــــــهـــــريــــــة ال�سنة الرابعة -العدد التا�سع والأربعون ذو احلجة - 1432نوفمرب 2011
ت�صدر عن
وزارة الثقافة والفنون والتراث ال ــدوحـ ــة -قـ ـ ـطـ ــر
لوحة الغالف
Edward Hopper 1967 - 1882
���ص��در ال� �ع ��دد الأول يف ن��وف �م�بر ،1969ويف ي �ن��اي��ر � 1976أخ�� ��ذت ت��وج �ه �ه��ا ال �ع��رب��ي وا�ستمرت يف ال� ��� �ص���دور ح� �ت ��ي ي� �ن ��اي ��ر ع � ��ام 1986ل �ت �� �س �ت ��أن��ف ال� ��� �ص���دور جم�� � ��دد ًا يف ن ��وف� �م�ب�ر . 2007 ت��واىل على رئ��ا��س��ة حت��ري��رال��دوح��ة �إب��راه�ي��م �أب��و ن��اب ،د .حممد �إب��راه�ي��م ال�شو�ش و رج��اء النقا�ش.
االشتراكات السنوية
رئيس قسم التوزيع واالشتراكات
داخل دولة قطر
عبد اهلل حممد عبداهلل املرزوقي
الأفراد الدوائر الر�سمية
120ريا ًال 240ريا ًال
خارج دولة قطر 300ريال دول اخلليج العربي باقي الدول العربية 300ريال دول االحتاد األوروبي 75يورو 100دوالر �أمـــــــــيــــركـــــــا كــــــنـــدا وا�ســـتــــرالــــيــــا 150دوالراً
تليفون )+974( 44022338 : فاك�س )+974( 44022343 :
الربيد الإلكرتوين:
al-marzouqi501@hotmail.com doha.distribution@yahoo.com
تر�سل قيمة اال�شرتاك مبوجب حوالة م�صرفية �أو �شيك بالريال القطري با�سم وزارة الثقافة والفنون والرتاث على عنوان املجلة.
�شروط النه�ضة مالك بن نبي
متابعات
4
موريتانيا :متاهات الثورة اجلزائر �شتات الكتّاب �صنعاء :جيفارا مر�شد ًا للإخوان يف كوبا! ال�سودان :املعر�ض الدويل للكتاب ميديا
10
ائتالف فلول القذايف ياما حتت اللحايا ..خفايا اجلميالت الثائرات اتفاقية لتبادل املخلوعني رحلة
الموزعون
58
�آرل :مدينة املاء والريح(خالد النجار)
وكيل التوزيع يف دولة قطر: دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاك�س44557819 :
وكالء التوزيع يف اخلارج:
ستيف جوبز كاهن وادي السيليكون
اململكة العربية ال�سعودية -ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع -الريا�ض -ت4871414 : فاك�س /4871460 :مملكة البحرين -م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف -املنامة -ت: - 17480800فاك�س/17480818 :دولة الإم��ارات العربية املتحدة -امل�ؤ�س�سة العربية لل�صحافة والإع�لام � -أبو ظبي -ت - 4477999 :فاك�س� /4475668 :سلطنة عُ مان - م�ؤ�س�سة عُ مان لل�صحافة والأنباء والن�شر والإعالن -م�سقط -ت - 24600196 :فاك�س: /24699672دولة الكويت � -شركةاملجموعة الت�سويقية للدعاية والإع�لان -الكويت - ت - 1838281 :فاك�س /24839487 :اجلمهورية اللبنانية -م�ؤ�س�سة نعنوع ال�صحفية للتوزيع -بريوت -ت - 653259 :فاك�س /653260 :اجلمهورية اليمنية -حمالت القائد التجارية � -صنعاء -ت - 240883 :فاك�س / 240883 :جمهورية م�صر العربية -م�ؤ�س�سة الأه��رام -القاهرة -ت - 25796997 :فاك�س /27703196اجلماهريية الليبية -دار الفكر اجلديد ال�سترياد ون�شر وتوزيع املطبوعات -طرابل�س -ت - 925639257 :فاك�س: / 213332610جمهورية ال�سودان -دار الريان للثقافة والن�شر والتوزيع -اخلرطوم -ت: - 466357فاك�س / 466951 :اململكة املغربية -ال�شركة العربية الإفريقية للتوزيع والن�شر وال�صحافة� ،سربي�س -الدار البي�ضاء -ت - 2249200 :فاك�س /2249214:اجلمهورية
العربية ال�سورية -م�ؤ�س�سة الوحدة لل�صحافة والطباعة والن�شر والتوزيع -دم�شق -ت: - 2127797فاك�س2128664:
األسعار دولة قطر مملكة البحرين الإمارات العربية املتحدة �سلطنة عمان دولة الكويت اململكة العربية ال�سعودية جمهورية م�صر العربية اجلماهريية العربية الليبية اجلمهورية التون�سية اجلمهورية اجلزائرية اململكة املغربية اجلمهورية العربية ال�سورية
10رياالت دينار واحد 10دراهم 800بي�سة دينار واحد 10رياالت جنيهان 3دنانري 2دينار 80دينار ًا 15درهم ًا 80لرية
اجلمهورية اللبنانية اجلمهورية العراقية اململكة الأردنية الها�شمية اجلمهورية اليمنية جمهورية ال�سودان موريتانيا فل�سطني ال�صومال بريطانيا دول االحتاد الأوروبي الواليات املتحدة الأمريكية كندا وا�سرتاليا
3000لرية 3000دينار 1.5دينار 150ريا ًال 1.5جنيه � 100أوقية 1دينار �أردين � 1500شلن 4جنيهات 4يورو 4دوالرات 5دوالرات
16 نصوص
حممود قرين ممدوح عبدال�ستار لطيفة باقا ندى مهرى حوار
د.عبد احلميد الأن�صاري
115
52
مقاالت
�أيام عرب جديدة ودامية (�أجمد نا�صر) 42 بني الكرامة والكونية (د .حممد الرميحي) 44 القيم �أو ال�سّ لطة(الطاهر بنجلون) 56 ثقــافـة االنـدهـا�ش!(د .مرزوق ب�شري) 100 فك املربوط(�أمري تاج ال�سر) 111 ال�صورة املتوالدة(عبد ال�سالم بنعبد العايل) 114 �سماااااع هووو�س من ف�ضلكم(�صايف ناز كاظم) 138 تربة الكاتبة(منهل ال�سراج) 160 ندوة
�إيطاليا جهة الو�صول حلم الهجرة الذي يتحول �إىل عار بني ال�ضفتني
62
48
القراءة طعم الحب
أدب 102 توما�س تران�سرتومر ..جغرافيا ال�شعر البعيدة بوعالم �صن�صال :يف انتظار الثورة اجلزائرية ف�ضيحة البوكر الإجنليزية صيد اللؤلؤ
الأرقام العربية (د .حممد عبد املطلب) تشكيل
حامد عوي�س قيمة اجل�سد وغريزة البقاء سينما
143
موسيقى
عبد النبي اجلرياري جرح الأغنية املغربية عمرو دياب� ..ألبوم الك�سل
135
دوحة العشاق
تبلغنا العيون مبا �أردنا (نزار عابدين)
139
كثري من املهرجانات قليل من الأفالم مهرجان الإ�سكندرية :دورة الفلول والثوار بغداد :خوف النجوم �أبوظبي :ثورة ال�سينمائيني ..حتى �إ�شعار �آخر بريوت�:أفالم الربيع بدون دعوة! احلرب يف مر�آة اجلنيّات ن�سوة ال�شا�شة
علوم
خوان جويتيسولو
زمن ابن خلدون 20
22
ن�صيحة يف كب�سولة « »8.7مليون كائن على الأر�ض نامو تبدعوا �أطعمة من �أجل املزاج الرائق
148
151 152
صفحات مطوية 158 خم�سون عام ًا على جملة «الكاتب» (�شعبان يو�سف)
قضية العدد
المرأة نصف الثورة الحلو
متابعات
متاهات الثورة الموريتانية موريتانيا -عبداهلل ولد محمدو عجي���ب أم���ر الش���باب الموريتاني، يعيش ربي���ع الث���ورات العربية ،حذق فقه الث���ورة ،وتع���رف أركانها ،فأحرم من المواقيت ،ووقف بالميادين ،وطاف وسعى ،لكن لسان حاله اليوم يقول إن نسكه منتقض. فما السر في هذا الخلل الذي سرى إلى نسكه الثوري رغم استيفائه أركانه؟ ل���م تلبث حماس���ة ث���ورة 25فبراير
الموريتاني���ة أن خمدت جذوتها ،بعد أن أشعلت لهيبها دعوات شباب ،تداعت آالف منه إلى صفحات «الفيس بوك» مطالبة بالتغيير الش���امل واإلص�ل�اح ومكافحة الفساد ،وإن لم تتحمس غالبيتها لدعوة البع���ض إلى تغيي���ر النظام ،ألس���باب كثيرة ،منها تشجيع الرئيس الموريتاني المعل���ن للتح���رك الش���بابي الداع���ي لإلصالح ودعمه الصريح لحزب العصر الذي حمل لواءه ش���باب الثورة المؤلف من تشكيالت سياسية مختلفة وأطياف
ماركات القذافي لي���س غريب ًا أن تصبح عب���ارات ربيع الثورات العربية مصدر إلهام لش���تى المبدعين في مختلف المجاالت ،أو أن يتندر الناس بخطابات بعض ش���خصيات هذه الثورات الغريبة كالقذافي الذي ش���غل الن���اس بعبارته «زنقة زنقة» ،لكن الطريف أن تتحول هذه العبارة من ش���عار قذاف���ي للتحريض على تعقب الثوار إلى زي ملبوس ،وهو ما ش���هده موسم عيد الفطر السابق في موريتانيا ،حيث راج في األس���واق الموريتانية نوع من المالحف «الزي النسائي التقليدي للمرأة الموريتانية» عرف بمالحف زنقة زنقة. ويمتاز الثوب النسائي «الملحفة» بسرعة التجدد والتغير في األسماء واأللوان واألشكال الزخرفية لها ،رغم ثبات ش���كلها التصميمي ،وغالب ًا ما تحمل أسماء أحداث وطنية أو دولية ،تشغل الرأي العام ،دون أن يعني هذا االختيار إعجاب ًا بالحدث ،بل هو نوع من االستغالل التجاري لشهرة الحدث أو الخطاب.
4
اجتماعي���ة عدي���دة ،وكان له���ذا التفاهم مع الرئيس أثر عاصف بثورة الش���باب ووحدة تماسكه في ظل محيط سياسي رافض لحراكه ،فالمعارضة خيب آمالها عرافي الثورة الشبابية المبكر إلى اتجاه ّ القصر ،وتناغم ش���عاراتها مع برنامج الرئيس السياس���ي الداعي إلى «مكافحة الفس���اد» ،والمواالة السياس���ية أغاظها اندفاع الرئيس في تأييد حركة شبابية، توجس���ت خيفة من ولوجها المتكرر إلى القصر ،فليس مس���تبعدًا ف���ي نظرها أن يعرض ه���ذا القصر عن أنص���اره الكبار الحكماء متجه ًا صوب شباب غير مندفع، متناس���ي ًا فضل من رفعوه إلى كرس���ي القصر بمددهم الم���ادي والمعنوي ،فقد س���رت الغي���رة إلى نفوس���هم من ضرة غض���ة حت���ى تمنى ش���يوخ م���ن حزب السلطة الرسمي أن يعودوا شبان ًا مرداً. ومن الطريف أن الشباب الموريتاني اتجه���ت أغل���ب تنظيمات���ه السياس���ية «الثوري���ة» لمغازل���ة القصر ف���ي الوقت ال���ذي تش���يخ في���ه الطبقة السياس���ية المعارضة ،فتب���دو أغلب وجوهها -من زعيم المعارضة وغيره من قادة ورموز أحزابها -في خريف العمر الذابل بعصر ربيع الثورات الزاهر. استوفى األركان ولزمه دم لم يقضه استوفى الشباب الموريتاني األركان األربع���ة ،متمتع ًا بش���عارات عدة لربيع الثورة العربي���ة ،عس���اها تقربه زلفى إلى القص���رِ ، قبلة الث���ورات :فقد أحرم بنية التغيير من ميقات مواقع التواصل االجتماع���ي باعتباره وس���يلة للتنظير والتخطيط للتحركات ،فهو ركن الثورة األول ال���ذي انعقدت عب���ر صفحاته نية اإلصرار الج���ازم وعزيمة الثورة ،ولعل س���ر أهمية هذا الركن في جدته وخفائه عل���ى كثير م���ن مه���رة رقباء الس���لطة التقليديين .وله ب���كل بلد ميقات زماني محدد ،اختار ل���ه الش���باب الموريتاني الخامس والعش���رين من فبراير أس���وة بالثورات العربية 25يناير بمصر ،و17 فبراير بليبيا. ووقف بالمي���دان ،وهو مكان يتنادى إليه الثائرون ،يس���مى «ميداناً» وإن لم
يك���ن في األص���ل معروف بهذا االس���م، اخت���ار له الش���باب الموريتاني س���احة بوس���ط العاصمة ،هدمت عمارات كانت تنتص���ب به���ا ،ليح���ل محلها بن���اء من ن���وع جديد ،يحاول التأس���يس لصروح سياسية جديدة ،والختيار هذه الساحة مغزى سياس���ي ،فق���د بيع���ت عماراتها العمومية لخصوصيي���ن ،فكان التجمع به���ا احتجاج ًا عل���ى خصخصتها لرجال أعم���ال ،تنازل���ت لهم الدول���ة عن أغلى قطعة أرضية في وسط العاصمة. ثم كان الطواف بالميدان لعدة أشواط مستمرة لغاية ولوج ساحة القصر ،وقد ظ���ل حراك ش���باب ث���ورة الفيس بوك ال رغم الموريتاني من���ذ انطالقه متواص ً التباعد النس���بي بين أيامه االحتجاجية من ي���وم الجمع���ة 2/25إل���ى اإلثنين ،4/25والثالث���اء ،5/24وقد اس���تمد هذا الش���باب أس���ماء أيامه من شعارات الثورات العربية التي س���بقته ،كتسمية احتجاجات الثالثاء بيوم الغضب. وأخيرًا الس���عي الحثيث بين الميدان والقص���ر ،لتحقي���ق التغيير المنش���ود، ولعل مما قلل من فاعلية س���عي الشباب الموريتاني الثوري كون المحرم المتمتع بش���عارات الثورة الطامح إل���ى القصر يلزمه دم ،وليس ح���ب إراقة الدماء من طبيع���ة الموريتانيي���ن ،وال التضحي���ة بغير الخراف من سنتهم. لقد حرك الش���باب الموريتاني سفنه وف���ق ضوابط فق���ه الث���ورات العربية، لكن الموج رماه إلى اليم خالي الوفاض إال من حيرة تش���ده مرة إلى تذكر أيامه الخوال���ي الت���ي أق���ام فيه���ا اعتصامات وحرك مظاه���رات -وإن كان���ت خافتة بميادين العاصم���ة ،وتجذبه مره إلىعرض هذا اإلرث الثوري المتعثر بالمزاد العلني بسوق قصر رئاسي ،أعرض عنه ونأى بعد تفككه ،عائدًا إلى حبه األول، متمس���ك ًا بحزب الكبار ،فكيف يشق هذا الش���باب طريقه ،وهو عاجز متردد بين موقفين ،موقف بقصر رئاسي لم يستجب لمطامحه ،وموقف بميدان ثوري لم يقو على الثبات فيه ؟
خمسينيه اتحاد كتاب المغرب المغرب -عبدالحق ميفراني احتف���ى مؤخ���رًا اتحاد كت���اب المغرب بالذكرى الخمسينية لتأسيسه (1961ــ ،)2011حيث ش���مل برنامجه الثقافي بهذه المناس���بة لقاءات ثقافية وفنية، إل���ى جانب حفل موس���يقي ،وذلك في أف���ق تنظيم المكتب التنفي���ذي للمؤتمر الوطن���ي الثامن عش���ر التح���اد كتاب المغرب. كما تمت صياغة بنود اتفاقية التعاون والش���راكة بي���ن اتحاد كت���اب المغرب وبيت الحكمة العراق���ي في أفق توطيد العالقات الثقافية. مض���ى عل���ى تأس���يس اتح���اد كتاب المغرب ما يربو على 50س���نة .وإلى الي���وم ،الزال الره���ان مس���تمرًا في أن يكون االتحاد «صوت ًا للنقد المس���ؤول والخ�ل�اق» ،ويواص���ل تطوي���ر أدائه الثقاف���ي ف���ي اتجاه حضور وإش���عاع أعمق. لكن ،يبدو أن مؤسسة االتحاد «ترهلت» وأمست تستدعي التفكير في آليات عملها واس���تراتيجياتها الثقافي���ة ،خصوص ًا أننا أمام إطار ثقافي يجر وراءه تاريخ ًا ال من االنخراط الفعلي في ترسيخ حاف ً مفهوم الثقافة الوطنية. أي اتحاد كتاب المغ���رب يريده الكتاب المغاربة اليوم في خض���م هذا الحراك الداخل���ي الدائر حالي���اً؟ ،حيث ارتفعت أص���وات تن���ادي بضرورة عق���د ندوة
وطني���ة لمناقش���ة راهن اتح���اد كتاب المغرب ومستقبله ،وهو ما يزكي تلك اإلرادة القوي���ة ف���ي أن تجم���ع الكتاب والمثقفين يجب أن يق���دم نموذج ًا حي ًا للمغرب الي���وم في قدرته عل���ى تدبير اختالفات���ه الجوهرية بالنقد المباش���ر وحتى بالنقد الذاتي. لقد أمس���ى اتحاد كتاب المغرب مطالب ًا بإعادة التفكير في آليات التدبير الثقافي بالمغ���رب .واالنخ���راط بش���كل عميق في أس���ئلة المغرب الثقاف���ي بكتاباته وبمختلف طرائ���ق التعبير ،واالنخراط أيض ًا في إش���كاليات القراءة والكتاب، واأله���م التفكير في سياس���ات المغرب الثقافية .واألهم ف���ي راهنه اليوم ،أن يوازي فعله وحض���وره الثقافي مع ما يش���هده العالم العربي من حراك ثوري ضد االستبداد. من جانب آخر ،أصدر المكتب التنفيذي التحاد كتاب المغرب بيان ًا اس���تنكاري ًا يحتج فيه على «إقصائه كصوت ثقافي وتغييبه من تش���كيلة المجلس الوطني لحقوق اإلنس���ان».حيث يعتبر إقصاءه وتغييب���ه من تش���كيلته المعل���ن عنها: تراجع ًا ع���ن روح ومنطوق الدس���تور الجدي���د الذي أدم���ج المس���ألة الثقافية ف���ي المنظوم���ة الحقوقي���ة الوطنية، واس���تهداف ًا لالتح���اد كمنظم���ة ثقافية وطني���ة عريقة ،انبرت منذ تأسيس���ها لالصطف���اف دائم��� ًا إلى جان���ب قضايا اإلنسان وحريته وحقوقه.
5
شتات الكتّاب نوارة لحـرش الجزائر ّ - خلّف صالون الجزائر الدولي للكتاب ( 23س���بتمبر – 1أكتوب���ر) ف���ي طبعته الـسادس���ة عش���ر زوبعة واس���تياء في الوس���ط األدبي المحلي ،حيث اكتش���ف الم َعّدة أدب���اء الداخل أنهم خارج األجندة ُ المصاحب���ة للنش���اطات والفعالي���ات ُ للصالون .وكان الروائي الحبيب السائح أول م���ن أصدر بيان ًا ين���دد فيه بإقصاء روايت���ه األخي���رة «زه���وة» .مس���تنكرًا
6
بلهجة حادة هذا الفعل التهميش���ي الذي ال تتوانى الجهات الوصية من ممارسته عل���ى بعض المبدعين .وطالب الس���ائح الهيئة المش���رفة التي تتحك���م في المال العمومي ،باالشتغال بشفافية. ول���م يكن صاح���ب «زم���ن النمرود» الكتاب الذين نددوا وحده في ريبرت���وار ُ مارس ضدهم .فالش���اعرة باإلقص���اء ُ الم َ والروائي���ة ربيع���ة جلط���ي س���جلت اس���تنكارها ه���ي أيض��� ًا م���ن اإلقص���اء ال���ذي تتع���رض ل���ه ف���ي كل طبعة من
ربيعة جلطي
بشير مفتي
توفيق عوني
عاشور فني
طبعات الصال���ون وكتبت على صفحتها الشخصية في الفيسبوك« :للعام الرابع ُيقصى اس���مي م���ن برنام���ج المعرض الدول���ي للكت���اب على الرغم م���ن كتبي الجديدة ومنها «بحار ليست تنام»«،حجر حائر» و«الذروة» .وقد استقطب تصريح جلطي تضامن ًا كبيرًا من خالل التعليقات الت���ي تجاوزت 90تعليق ًا ومن الاليكات التي تج���اوزت .120وأكدت جلطي في س���ياق تصريحها وبكثير من المرارة أن العائل���ة األدبية والثقافية ف���ي الجزائر تش���كو الشتات ومرض الكراهية الخبيث الذي ينتج عنه اإلقصاء والتهميش. من جهته ،أعلن الروائي بشير مفتي اس���تياءه من هذه اإلقص���اءات المتتالية والمبرمجة مس���بقاً .وأض���اف المتحدث نفس���ه الذي لم تتم دعوته هو أيض ًا وال مرة لنشاطات الصالون الدولي ِ للكتاب: «أبسط األخالق أن يحضر الكتاب الذين يكتب���ون وليس الذين يطبلون كالعادة، لكن المؤس���ف أن هناك أس���ماء تتكرس مثل الس�ل�اطين في هذا الصالون بالذات وتَه َّم���ش» .ودعا مؤلف وأخرى تلغ���ى ُ الكت���اب إل���ى وقفة الذب���اب» «أرخبي���ل ُ احتجاجي���ة للتعبي���ر عن س���خطهم من التهميش واإلقصاء.كما س���جل الش���اعر توفيق عوني أيض ًا استياءه من اإلقصاء ال���ذي يعاني منه أدباء الهامش من أبناء المدن البعي���دة عن الجزائ���ر العاصمة، وق���ام بتوجيه نداء إلى وزي���رة الثقافة يش���كو فيه���ا اإلهم���ال ال���ذي تمارس���ه المؤسس���ات الثقافي���ة ضده���م .واعتبر يكرس المركزية الش���اعر أن هذا التمييز ِّ ويؤسس للقطيعة الدائمة في كل ش���يء ِّ بين كّتاب الجزائر. من جهته ،الشاعر عاشور فني أصدر بيان ًا ندد فيه باألس���اليب المشينة التي تعتمده���ا إدارة الصالون في التعامل مع الكتاب ،مع العلم أنه كان مدعوًا لتنشيط ُ أمس���ية ش���عرية إال أنه تراجع في آخر لحظة ،وأعلن مقاطعته للصالون .وهو القرار نفسه الذي بادر إليه الروائي عبد العزي���ز غرمول الذي كان اس���مه مدرج ًا لتنشيط أمس���ية الش���اعرين اللبنانيين شوقي بزيع وإسكندر حبش.
جيفارا في ساحات اليمن
جيفارا
مرشد ًا لإلخوان في كوبا! صنعاء-جمال جبران ساهمت ثورة الشباب اليمنية في هدم بعض المس���لمات السياس���ية ،من بينها كس���ر حالة احتكار الص���ورة التي كانت مقتص���رة ،طيل���ة عقود ،عل���ى صورة واحدة. ط���وال ثالثة وثالثين عام���اً ،لم تكن تظه���ر غير ص���ورة الرئي���س علي عبد اهلل صالح ،متس���يدة المشهد برمته على
حس���اب غيرها م���ن صور ش���خصيات يمنية بارزة راحلة صنعت شيئ ًا عظيم ًا لبلده���ا .الرئيس صالح لم يكن يحب أن يرى صورة غي���ر صورته حيثما ذهب. وكان هناك ما يشبه تعميم ًا رسمي ًا غير معلن ُيجب���ر أصحاب المحالت التجارية والمكات���ب الحكومية على الس���واء على رفع صورته ،ومن يخالف هذا فليس له أن يلوم غير نفسه. وجاءت ثورة الش���باب لتكس���ر هذا
التقليد (الرس���مي) وتخرج إلى الواجهة ص���ور ش���خصيات يمني���ة سياس���ية راحلة أنجزت في حياتها الشيء الكثير لبلدها فاس���تحقت أن تبق���ى في ذاكرة اليمنيي���ن ،وعلى وجه الخصوص تلك الشخصيات التي ُعرفت بنزاهتها أثناء تس���لّمها لمناصب رسمية مثال الرئيس الراح���ل إبراهيم الحم���دي (11 – 1943 أكتوب���ر )1977الذي حك���م اليمن لمدة لم تتجاوز األع���وام األربعة لكن عمله وسيرته ما يزاالن حديث الشارع اليمني حت���ى الي���وم ،بفضل م���ا أنجزه خالل فترته الرئاسية .خصوص ًا سعيه لبناء مجتمع مدني حديث يبتعد عن الش���رط القبل���ي وأعرافه .وظه���رت نتائج هذا المشروع سريع ًا وكان بإمكانه المضي بعي���دًا فيه غي���ر أنه قض���ى في حادث اغتيال ما تزال تفاصيله غامضة .وإلى جان���ب ص���ورة الحمدي ظه���رت صور أخرى لش���خصيات يمني���ة راح أغلبها أيض ًا ضحية ح���وادث اغتيال غامضة طوال فترة حكم الرئيس صالح. الكم لك���ن الالفت م���ن بين كل ذل���ك ّ من الصور ،الت���ي ُأعيد لها االعتبار في س���احات التغيير ،ظهور صورة الثائر األرجنتيني إرنس���تو تشي جيفارا على جنبات كثيرة من تلك الساحات وبشكل جعل صورته تحتل المرتبة األولى من حيث كثاف���ة حضورها هن���اك ،وعلى وج���ه الخص���وص في محي���ط جامعة صنعاء ،حيث ال يمكن أن تسير متجو ًال لبضعة أمتار من غير أن يواجه بصرك ص���ورة لجيف���ارا بهيئ���ات وأش���كال مختلفة تتراوح بين صور فوتوغرافية ولوحات تش���كيلية تفنن شباب الثورة في عرضها وتقديمها .ومن الطريف أن تجد شاب ًا ينتمي لجماعة حزب اإلصالح الديني���ة وهو يرفع ف���ي واجهة خيمته الت���ي يقيم فيه���ا في الس���احة صورة لجيف���ارا ،وعندما تس���أله يجيبك على الفور أنه ليس للثورة دين أو جنس���ية كما أن لديه لحية مثلنا ،قبل أن يضيف مازحاً« :يمكننا اعتب���ار الرفيق جيفارا رئيس��� ًا لجماعة اإلخوان المسلمين فرع كوبا!». 7
قصيدة نثر ..إلى إشعار آخر دمشق -سناء عون مقه���ى «قصيدة نثر» ال���ذي حاول منذ انطالقته تحريك الج���و الراكد في مدينة ع���ل أوغاريت الت���ي صدرت الالذقي���ةّ ، األبجدي���ة األول���ى إلى العالم ،تس���تعيد بريقها الثقافي ،قرر تعليق أنشطته إلى إشعار آخر ،فسورية تنزف اليوم. هذا المقهى القابع في أحد أزقة الشيخ ضاه���ر ،وال���ذي افتتح نهاي���ة 2007م تح���ول ف���ي بضعة أس���ابيع إل���ى قبلة للمبدعين. العب���ارات المنتق���اة بعناي���ة، والموضوع���ة ببراوي���ز أنيق���ة عل���ى الج���دران ه���ي أول المؤكدي���ن على أننا أمام مؤسس���ة ثقافية اكتست حلّة مقهى. تلك العبارات التي يستبدلها المسؤوالن بريء خليل ورامي غدير كل أسبوعين، هي ضيافة على شرف الماغوط ،أنسي الح���اج ،أدوني���س ،محم���ود درويش، زي���اد الرحباني ،أمجد ناص���ر ،لوركا، س���ركون ..شعر ،نثر ،س���رد وكلمات، هي ضيافة تجعلك مضطرًا لشرب البيرة دافئة والقهوة باردة ،دونما امتعاض. المقه���ى يأخ���ذك إل���ى أجوائ���ه، بابتس���امة ،وتأمل طوي���ل .ذلك المقهى الذي ولد مثل غلط���ة ،لم تكن والدته إال مزح���ة كما يؤكد بريء خليل« :مش���روع قصيدة نثر كان مزحة بيني وبين صديقي رامي ،وربما كان من المفترض أن يكون المشروع مؤسس���ة ثقافية صغيرة لكن لصعوبة العمل في س���ورية تحول شكل المش���روع لمقهى قصيدة نثر ،حاولنا أن نعمل بنفس نبض مؤسس���ة ثقافية غير ربحية». الداخ���ل إل���ى المقهى ،حت���ى وإن لم يسمع به من قبل ،سيكتشف على الفور خصوصية المكان من خالل صور شعراء قصيدة النثر والتفعيل���ة ،وكبار الكتاب في العالم ،الملصقة على الجدران. 8
مقهى ثقافي ..مقهى متهم
كما يض���م مكتبة مؤثث���ة بنحو ألفي كتاب ،تعتبر وجبة دس���مة لرواد المكان ممن يعش���قون النهل من هذه الفردوس. هذا العاش���ق سيترك الكتاب وحيدًا على الطاولة ،تنفي���ذًا لتعليمة ورقة صغيرة علق���ت بج���وار المكتب���ة «الرج���اء إبقاء الكت���اب وحيدًا عل���ى الطاول���ة ...نحن نعيده لمغارته السحرية». أنش���طة المقهى بدأت بإحياء عدد من األمسيات الشعرية لش���عراء من مختلف األجي���ال منه���م :م���رام المص���ري ،منذر المص���ري ،لقمان ديركي ،محمد مظلوم، سامر إس���ماعيل ،ندى منزلجي ،حسام جيفي ،إيلي عب���دو ...كما أحيا عددًا من األمس���يات القصصي���ة لكت���اب من جيل الش���باب .ول���م تغفل ع���ن إقامة حفالت توقيع الكت���ب ،كان آخرها توقيع رواية «إلى األبد ويوم» للشاعر عادل محمود. كم���ا اس���تضاف المقه���ى ج���زءًا من أنش���طة مهرجان «في رحاب المتوسط» بالتعاون مع المركز الثقافي الفرنس���ي، الذي تضمن معرض��� ًا للتصوير الضوئي لمصورين فرنسيين وسوريين. أما الضي���ف الكبير المقي���م دائم ًا في المقهى ،فهو محمود درويش ،حيث أقيم في الذكرى السنوية األولى لرحيله حفل بعن���وان «لقد مات فقط» اس���تمر ليومين
تضم���ن :غناء بع���ض القصائد للش���اعر بصوت رشا بالل وإلقاء قصائد أخرى. أقام المقهى أيض ًا عددًا من المعارض، كان لألطفال نصيبهم الواسع فيها. قصيدة نثر هو مقهى يعطيك كل شيء تحتاج���ه من أفكار ومعن���ى ،ويولد نوع ًا م���ن دينامي���ة النقاش ،واالنس���يابية في التعامل والطرح ..أدت إلى والدة حقيقية لمؤسس���ة ثقافية أهلية غير ربحية هدفها األول إش���اعة القراءة ،ورعاية التجارب الجديدة ،وخلق ٍ جيل من الشعراء الجدد، وأخيرًا جعل الحياة أجمل ،والناس أكثر فرحاً. أق���ام المقه���ى مؤخ���رًا مجموع���ة من ورش���ات العم���ل ،منه���ا ورش���ة ترجمة استمرت ش���هراً ،أش���رف عليها المترجم الس���وري ثائ���ر دي���ب ،وورش���ة لكتابة الس���يناريو بإش���راف السيناريس���ت الس���وري خالد خليفة .كما أقام والروائي ّ المقه���ى دورات لغوي���ة مجاني���ة لتعليم اإلنكليزية والفرنسية. وتع���رض لكثي���ر م���ن المضايق���ات واالتهامات باليسارية وبفتح تجمع ثقافي غير مرخص أو تجمع ماركس���يين بحسب تعبير عناصر األمن تثير الضحك والكثير م���ن الس���خرية ..التهم���ة الحقيقي���ة هي مشروع أهلي هدفه األول نشر الثقافة.
معرض الخرطوم الدولي للكتاب
إقبال ضعيف رغم الخصم الخرط����وم -طاه����ر محم����د علي من���ذ والدت���ه بمناس���بة «الخرطوم ش���كل عاصمة للثقافة العربية »2005 َّ مع���رض الخرطوم الدول���ي للكتاب أهم إنج���ازات وزارة الثقاف���ة الس���ودانية، وعلى أمل أن تشهد الدورة السابعة هذا العام قوة شرائية أكبر على غرار العام الماض���ي ،حيث بلغت قيم���ة المبيعات حوالي مليون ومئتي ألف دوالر ،اتخذت الوزارة قرارات تلزم الناش���رين بخصم نسبة ( )% 25من سعر الكتاب ،وتعفي الناشرين من الجمارك .لكنه وعلى غير عادته لم يجد اإلقب���ال المتوقع في نظر بعض المراقبين. دورة هذا العام رفعت شعار (الثقافة هي الفائدة والرائدة لهذا المجتمع) .وقد احتفت بدولة قطر ،التي شاركت بعرض حوال���ي ( )90عنوان��� ًا م���ن مطبوعات وزارة الثقاف���ة والفن���ون والت���راث، واإلنت���اج الفكري القطري لمنش���ورات الدوحة عاصم���ة الثقافة القطرية للعام 2010م .فعالي���ات المع���رض تضمن���ت ندوات فكرية وثقافية وأمسيات شعرية وعروض��� ًا فني���ة م���ن الت���راث والغناء القط���ري والس���وداني .البرنامج عرف مشاركة واسعة من دور النشر العربية
بلغت 150دارًا للنش���ر وبمش���اركة 15 دولة. رح���ب فيه بحف���ل المع���رض افتت���ح َّ سعادة وزير الثقافة السوداني السموءل بالوفد القطري الذي ترأس���ه الس���يد عبد اهلل ناصر األنصاري ممثل وزارة الثقافة والفن���ون والتراث ومدير إدارة المكتبات العامة ومدي���ر معرض الدوح���ة الدولي للكت���اب ،وس���فير قطر بالس���ودان علي بن حس���ن الحمادي ،واعتب���ر الوزير أن مش���اركة قطر كضيف شرف مؤشر على نجاح المع���رض ،يمثل ح���رص البلدين على العالقات الثقافي���ة واإلبداعية .كما تكفُّل دولة قط���ر بطباعة أعلن الوزي���ر َ ( )13ديوان ًا لكبار الشعراء السودانيين. عبرت مستش���ارة الرئيس من جانبها َّ الس���وداني رج���اء حس���ن خليف���ة ع���ن س���عادتها بأن تكون قطر ضيف ش���رف مع���رض الخرطوم ،مؤكدة على أن دولة قط���ر دعم���ت الثقافة العربي���ة بكثير من المبادرات والمعارف بطباعة المجلدات، واألطروحات العلمي���ة وتوفيرها مجان ًا للجامع���ات والمؤسس���ات الثقافي���ة السودانية. عرف���ت فعالي���ات المعرض أنش���طة موازية ،حيث تضمن برنامج دولة قطر ندوتين :األولى قدمت فيها الدكتورة كلثم
جبر الكواري ورقة حول المشهد الثقافي القط���ري ،أش���ارت فيه���ا إل���ى انعكاس النمو االقتص���ادي على تط���ور المنتوج اإلبداعي القط���ري ،وكذلك دور الوافدين ومس���اهماتهم م���ن خ�ل�ال المؤسس���ات الحكومية واألهلية ،إضافة إلى البعثات ال عن المؤسسات الخارجية للطالب ،فض ً الثقافي���ة وعمله���ا في التنمي���ة الثقافية. كما نبه���ت الدكتورة كلث���م جبر الكواري إلى أن المنت���وج األدبي القطري لم يجد نصيبه من االهتمام والنقد ،وأن الساحة القطري���ة لم تك���ن بمعزل ع���ن محيطها الثقافي العربي ،بل هي اآلن تنطلق من النطاق المحلي إلى العالمي مع االحتفاظ بخصوصيتها. أم���ا الن���دوة الثانية ،فق���د قدمت فيها الدكتورة ه���دى النعيمي ورق���ة بعنوان «الصحاف���ة الثقافي���ة في قطر :النش���أة والتط���ور» ،تطرقت إلى الدور الذي لعبه اختيار الدوح���ة عاصمة للثقافة العربية 2010في إثراء المنتوج الثقافي القطري، كما تضمنت الورقة سردًا موجزًا لمسيرة المطبوع���ات الثقافي���ة القطري���ة من���ذ سبعينيات القرن الماضي إلى اآلن ،أكدت فيه الدكت���ورة هدى النعيم���ي على دور قطر في نش���ر وتوزيع الكتاب العربي، وإس���هام المطبوع���ات الت���ي تصدره���ا ف���ي تثقيف المتلق���ي العرب���ي وتزويده بالمعلومات والمعارف من خالل مجلتي «العروب���ة» ،و«الدوحة» التي تقدم كتاب ًا هدية مع أعدادها الصادرة شهرياً. وفي ندوة أخرى ق���دم الوفد العراقي محاضرة بعنوان «الفن المسرحي العراقي بعد عام 2003م» ،وفي الشأن السوداني تم تقدي���م ندوة حول «الهوية والمواطنة في ضوء المعطيات الثقافية». كم���ا كان لجمه���ور المع���رض موعد مع أمس���ية فنية تغنت بالتراث والغناء القطري والس���وداني أقيمت على مسرح الفنون الش���عبية بأم درمان ،بمشاركة المطرب القطري علي ش���اهين والفنان سعد حمد ،ومن السودان عمر إحساس. واختتمت األمس���ية بتقديم وزير الثقافة هدايا تذكارية لس���فير قطر في الخرطوم وألفراد الوفد القطري المشارك. 9
ميديا
تشريعات إعالمية جديدة بموريتانيا أبصر النور قانون جديد في موريتانيا، يمثل نقلة نوعية في تاريخها اإلعالمي، فق���د كش���ف مؤخ���رًا وزي���ر االتص���ال والعالق���ات م���ع البرلم���ان حم���دي ولد محج���وب بقصر المؤتم���رات عن قانون يقضي بتحرير القطاع السمعي البصري، وإلغاء االحتكار والمصادرة اإلعالمية، وتحويل وس���ائل اإلعالم التابعة للدولة
إلى مؤسس���ات خدم���ة عمومية ،وفتح اآلفاق أمام التعددية والتنوع ،وإفس���اح المجال أمام إذاعات وتليفزيونات حرة. والمعروف أن الفضاء السمعي البصري ال محتكرًا لجهة في موريتانيا ظ���ل طوي ً واح���دة ه���ي الحكوم���ة ،توج���ه عبره رس���التها الرس���مية بصوتها األحادي، ومن آث���ار هذا االحتكار إع���راض أغلب المواطني���ن عن اس���تقبال ب���ث القنوات الرس���مية بس���بب أحاديثه���ا الرتيب���ة، وعجزه���ا اإلعالمي في خضم منافس���ة فضائي���ة قوي���ة ،ولطالم���ا احتج���ت المعارضة على هذا االستئثار الرسمي باإلعالم المرئي والمسموع. ويجم���ع أه���ل االختصاص عل���ى عظم التحديات التي يطرحها هذا القانون في بلد يحتاج اإلعالم الحر فيه إلى مستوى من المس���ؤولية الواعي���ة للحفاظ على االنس���جام المجتمعي في بلد مش���حون بالتنوع العرقي والثقافي.
احتفاالت مصر الثورة بنصر أكتوبر في مص���ر انش���غل الس���اخرون ومواقع النكتة السياس���ية بالتعليقات الباس���مة احتف���اء بنص���ر أكتوبر عل���ى صفحات الفيسبوك: كتب س���امح سمير :بمناس���بة احتفاالت أكتوبر ,المش���ير طنط���اوي يوفد مندوب ًا لوضع إكليل من الزهور على قبر الرئيس جمال عبد الناصر وآخر على قبر الرئيس أنور السادات ,وإرس���ال عيش وحالوة إلى مقر الرئيس حسني مبارك. الرئي���س مب���ارك يوفد العقي���د أحمد عبد ال���رازق مأم���ور س���جن ط���رة لحضور احتفاالت أكتوبر نيابة عن سيادته.
10
وكتب موقع األدب الساخر: تهنئ���ة واجبة :إلى كوهين وحيدرا وماما راشيل وبابا -شمعون ،وإلى العم ديفيد والخال حايي���م وطنط ناتال ،وإلى الجد ليش���ع والجدة بول ،إلى جميع الطواقي الصغي���رة والذقون الملطخة بالدماء ،كل س���نة وأنتم متعكنن عليكو بمناس���بة 6 أكتوبر وموعدنا قرب جدًا بإذن اهلل. حم���اده أبوزيد :الحمد هلل ال���ذي أحياني حت���ى أرى ذكرى أكتوب���ر العظيم بدون طلع���ة جوي���ة ..المجد للش���هداء ..المجد لجماهي���ر مص���ر العظام الذي���ن خاضوا ملحمة العبور.
بال حدود نوارة لحـرش الجزائرّ - الش���عراء والكت���اب يري���دون فت���ح الحدود بي���ن الجزائر والمغ���رب ،هذا ما برز مؤخ���رًا على موق���ع التواصل االجتماع���ي الفيس���بوك .حي���ث أطلق الش���اعر الجزائ���ري بوزي���د ح���رز اهلل والشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار بيان ًا على صفحتيهما يستنكر استمرار غلق الح���دود البرية بين هذين البلدين العربيين المتجاورين اللذين تجمعهما محب���ة عظيم���ة ،وقد تم غل���ق الحدود منذ عام 1994بس���بب بعض الخالفات السياس���ية بين قي���ادة البلدين .البيان ج���اء مقتضب��� ًا لكن���ه دا ًال عل���ى كل ما يحتويه التاريخ المش���ترك من الجوار والعالقات القوية الت���ي لم يقو الغلق على إضعافها أو قتلها والمس���اس بها يوم���اً ،ألن ه���ذا التاري���خ الجميل بين البلدين والش���عبين أكبر وأقوى وأدوم من أي غلق ومن أي حدود إسمنتية أو حديدية .البيان الق���ى الكثير من الدعم واالستجابة ليس فقط من أدباء الجزائر والمغ���رب ،ولك���ن من ع���دد كبير من المبدعين والكتاب م���ن مختلف البلدان العربي���ة ،وجاء في نصه« :نحن أدباء ومثقفي الوطن العربي مغرب ًا ومشرق ًا نس���تنكر اس���تمرار غلق الح���دود بين البلدين الش���قيقين :المغرب والجزائر، ونخاط���ب الذي���ن دبروا ف���ي الليل هذا االعتداء السافر على الجغرافيا ونسجوا تل���ك المكيدة الطويلة محاولين تمزيق أواص���ر األخوة والتاريخ المش���ترك، ونق���ول لهم :دعوا نهر المحبة والحياة يتدف���ق ح���رًا عميق��� ًا في جس���د هذين البلدي���ن ،وال يحق لك���م وألي جهة أن تغل���ق الح���دود على ش���عبين هما في األصل شعب واحد». وقد وقَّع البيان عدد كبير من المبدعين م���ن الجزائر والمغرب ومختلف البلدان العربية.
خفة دم اليمنيين «لن تستقيم ثورة في اليمن مع وجود نبتة القات» ،عبارة ظهرت على السطح مع األيام األولى الندالع ثورة الش���باب اليمنية ووجدت لها صدى على صفحات نق���اش كثير م���ن الش���باب العربي على «الفيس���بوك» .وقد تكون تل���ك العبارة مصيبة انطالق ًا من ك���ون طبيعة إدمان كثير من الشباب اليمني على تناول تلك النبتة يتطلب ظروف ًا معينة ،كالجلوس في م���كان مريح وهادئ جي���د التدفئة، وذلك وقت التن���اول بعد ظهيرة كل يوم وقد يمت���د حتى وقت متأخر م���ن الليل. هذا إضافة لحالة العبوس والتجهم التي تنت���اب متناول الق���ات .وهي ظروف ال تساعد الش���خص على القيام بأي حراك أو مجه���ود إضافي غير البقاء في التأمل والتخطي���ط لمش���اريع كبيرة س���تذهب لحال س���بيلها مع حلول اليوم .لكن مع صحة كل هذا إال أن عجلة ثورة الشباب
تحركت في اليمن وتقدمت لتصل اليوم تخوم شهرها الثامن. وق���د ح���دث أن ق���ام مجموع���ة من ش���باب الث���ورة بإنش���اء صفحة على «الفيسبوك» هدفها إظهار أن نبتة القات الخض���راء ال يمك���ن أن تكون بأي حال من األحوال عائق ًا أمام قيام ثورة ،كما هدفت الصفحة التي حملت اس���م «خفة دم اليمنيين» إيضاح أن ش���باب اليمن بدورهم وعل���ى الرغم من وجود القات بينهم إال أنهم يتميزون أيض ًا بخفة الدم واس���تلهام روح النكتة في مواجهة ما يح���دث اليوم من عنف وقت���ل لرفاقهم الثوار في الس���احات م���ن قبل عناصر ّ نظام الرئيس علي عبد اهلل صالح. وتعم���ل الصفحة عل���ى جمع أحدث الطرائف المتداولة بداخل الساحات عن األوضاع في البل���د أو المواقف المثيرة للسخرية التي يقع فيها رجال النظام.
المطلوب ..غلق قناة «نسمة» محاولةإحراق قناة «نس���مة» الفضائية المثيرة للجدل في تونس لم يكن مظهر الغضب الوحيد ضد القناة التي أججت مؤخرًا سخط بعض المتتبعين ،بعدما أقدمت على ع���رض الفيل���م الكرتوني اإليران���ي «بيرس���بوليس» ،مدبلج��� ًا بالعامي���ة التونس���ية ،والذي تجس���د واحدة من مشاهده الذات اإللهية. يروي س���يناريو الفيلم السيرة الذاتية للمخرج���ة اإليرانية مرجان س���ترابي التي تش���هد قيام الثورة اإلسالمية في إيران ثم ح���رب العراق ،قبل أن تنتقل إلى المهجر في أوروبا وتعيش ثورتها الثاني���ة م���ع اكتش���اف ل���ذة التحرر، م���ع العل���م أن الفيلم ذاته ن���ال جائزة
خاصة من لجنة تحكيم مهرجان «كان» ( )2007وجائ���زة الس���يزار (.)2008 ول���م يهضم بع���ض التونس���يين إقدام القن���اة على ع���رض «بيرس���بوليس» (بالد فارس) وأنش���أوا مجموعة على
الفيسبوك ،انضم إليها أكثر من 1000 متصفح لإلنترنت ف���ي ظرف يومين، تطالب بغلقها فورًا ومحاسبة القائمين عليها بتهمة اإلس���اءة لإلسالم في بالد المسلمين. وسبق لقناة «نسمة» التي انطلق بثها س���نة 2009أن أثارت حولها كثير من ردود الفع���ل المتضاربة فيما بينها في تونس وف���ي المغرب الكبي���ر إجماالً، بس���بب ميلها إلى االنفتاح وإلى تقديم برام���ج «ت���وك ش���و» عل���ى الطريقة الغربية .مما دفع ببع���ض التنظيمات المحافظة إلى اتهامها بتغريب المجتمع التونسي ومحاولة اقتالعه من جذوره األصيلة.
11
ميديا
القارئ الشعبي ناقد ًا القاهرة -سامية بكري وقالت: ربة الشعر، «ثم ْ ْ لطمت كاليوبيّ ، يصدر هكذا فين���ا»، ظاظا أبلة ش���ماتة يا ِّ مدونة القارئ الش���عبي المجهول صاحب َّ مدونته الس���اخرة التي تقوم على الربط َّ بين مضم���ون األعمال األدبي���ة العالمية وأحداث الواقع ،واستيحاء عناوين جديدة لهذه االعمال تتسم بالطرافة وخفة الظل، ويقوم القارئ الشعبي بعرض أغلفة هذه األعم���ال بعناوينها الجديدة التي وضعها ال ُمَذ َّيل���ة بالعناوي���ن األصلية له���ا ،فمث ً على غالف مسرحية شكسبير «يوليوس قيصر» كتب «:محاوالت شكسبير للوقيعة بين الشعب والجيش» ،وفي ذيل الغالف كتب بخط صغير يوليوس قيصر ،وعلى غالف رواية يوس���ا «حفلة التيس» كتب: «مالحق���ش ي���روح ج���دة» ،وعلى غالف رواية «س���يد الخواتم» ل ج.ر.رتولكين كت���ب « :تفضيل الجان على كثير من بني
اإلنسان» ،وبعنوان «يارجالة إحنا ممكن نفرط في أي حاجة أي حاجة إال الحرية» جاء غالف مس���رحية شكس���بير «هنري الخامس». أم���ا «امبريال���ي عفن ين���دس بين جموع الش���عب العمالية» فهو العن���وان البديل لـ «عناقيد الغضب» لجون شتاينبك ،وتحت عنوان «اللي اختش���وا ماتوا» جاء غالف رواية ساراماجو «العمى». غ�ل�اف «تاريخ الجم���ال» ألمبرت���و ايكو عنوان���ه يقول« :الب���ت بيضا بيضا بيضا الب���ت بيضا وأنا أعمل إي���ه» وهي أغنية شعبية مصرية شهيرة. وم���ن كالس���يكيات األدب الش���هيرة الت���ي طالتها س���خرية القارئ الش���عبي رواي���ة «المقامر» لديستيوفس���كي والتي صارت«:العب العب العب العب» ،و«كيف تؤلف اشتعالة» هو العنوان الذي اختاره ألجاثا كريستي في روايتها «قطار الشرق الس���ريع» ،ول���م يس���لم دانت���ي صاحب
«الحي���اة الجدي���دة» م���ن تس���ميتها «ابن المتشحتفة». عرف بنفسه ،وال يدع صاحب المدونة ال ُي ِّ مجال للتعليق عل���ى صفحته التي نالت إعج���اب ال���زوار بربطها بي���ن المضمون الفعل���ي للعم���ل األدبي ،وبي���ن العنوان الس���اخر ال���ذي يس���توحيه م���ن الواقع العربي.
كوميديا سوداء سورية عن حيرة بعض المواطنين البس���طاء في س���ورية حول األح���داث الجاري���ة كتبت الروائية ابتس���ام تريس���ي على صفحتها بالفيسبوك تقول:
12
جارت���ي عجوز بس���يطة ج���دًا ال تعرف ماذا يح���دث بالبلد ،أحيان ًا تقول لي :اهلل محي���ي الجيش واهلل ل���واله كانت هلكتنا العصابات المس���لحة .وأحيان ًا تقول لي «يعني لك بنتي معقول بش���ار األس���د ما عن���ده تليفزيون.؟ أنا بعرف أنو بس���يط وأكاب���ر وبحب���ه ،ب���س واهلل مال���و حق يش���تري تليفزيون ويش���وف أش���و عم يعرضوا على الجزي���رة ،بلكي بيقلن ال بق���ى يقتل���وا الخلق ،واهلل ح���رام» حين أشرح لها أنّه يعرف ..تستغفر اهلل وتقول «استغفري اهلل يا بنتي ...حرام تظلميه، الرجال أش���و بدو يعمل اهلل يعينو يعني ّ عم يفكر بهموم الخل���ق كلن وين بيروح بحالو؟» وبعد أن تصمت قليالً ،تس���ألني :يعني لك بنتي إذا بعتهم على الجوالن ثم تعود لتقول لي «واهلل عيب ما أحسن؟ ّ
عليهم يقولوا عنه كالم بذيء ،اهلل يرحم جيلنا ما كنا نس���ترجي نرفع وجهنا قدام اآلغا». عندم���ا قطعوا الكهرب���اء والماء وخطوط الهات���ف قالت ل���ي« :ولك يخ���رب ديارن إذا واح���د مريض وب���دو دكتور كيف بدو يتصل فيه؟». قل���ت لها :ي���ا خالتي ،أن���ت بتحبي زمن اآلغ���ا ،وبيعرف���وا إن���ك بتحترميه ،وما كنت تسترجي ترفعي راسك قّدامه ،لهيك رجع���وك لزمن اآلغ���ا ..طلعي جيبي َم ْي من العين واشتري لمبة كاز ،وانسي أمر التليفون.. فيي وقالت بلهجة س���اخرة َ :م ْي طلَّع���ت ّ من العين؟ من امتى ،العين ناشفة ! جيب كاز؟ ليش ضل كاز بالدنيا؟
ائتالف فلول القذافي تحت عنوان «ائتالف ثوار 20أغسطس وما بعدها» كتب صاحب مدونة «أمواج» عبدالدائ���م أكواص طبيب وش���اعر ليبي مقيم في لندن يصف بعض فلول النظام الليبي السابق الذين يسعون لالنقضاض على السلطة مرة أخرى ويقول: بيان رقم :1نبارك نحن -أعضاء إئتالف 20أغسطس (وما بعدها) -لكل الليبيين تحرير طرابلس وسقوط نظام القذافي، ونعل���ن دعمن���ا الالمح���دود لث���ورة 17 ال فبراير ،حيث نعتبر ائتالفنا رافدًا ومكم ً له���ا ،ونظرًا النش���غال ثوارن���ا األبطال ف���ي الجبه���ات ،فإننا نعلن اس���تعدادنا الالمشروط لملء كل المناصب الشاغرة ف���ي المرحل���ة اإلنتقالية (وم���ا بعدها)، س���واء أكانت ه���ذه المناص���ب وزارات أو إدارات عام���ة أو مجال���س محلية أو عس���كرية أو حتى مدراء مدارس ،وذلك لم���ا تقتضيه ه���ذه المرحلة الحساس���ة من اس���تغالل أف���راد ذوي خبرة طويلة في ه���ذه المجاالت ،فأعض���اء االئتالف متمرسون ولهم خبرة طويلة خالل فترة حكم النظام السابق (وماقبله). ونؤك���د على حقيق���ة أن ه���ذا االئتالف يضم نخبة من أبن���اء الوطن المخلصين يتوزعون عل���ى الجهات التالية :أعضاء المغرر بيهم ،اتحاد المجبورين، جمعية َّ والحرك���ة الوطني���ة الجهوي���ة القبلي���ة العس���كرية المتمدنة ،الحرك���ة الوطنية للمتس���لقين والعاملي���ن عليه���ا ،رابطة اإلعالميي���ن والصحافيي���ن التائبي���ن (المطبلي���ن س���ابقاً) ،مجل���س ش���ورى الخب���راء (الواصلي���ن س���ابق ًا ) ،لجان المحلقين حديث ًا (كاسكوات سابق ًا ). كم���ا نؤكد دعمن���ا ومبايعتن���ا للمجلس الوطني االنتقال���ي (وما بعده) كحكومة شرعية لليبيا. وإلى األمام..والكفاح االنتقالي مستمر.
اليوتيوب مشغول بصاحبة نوبل اليمنية بمجرد إعالن فوز الثائرة اليمنية توكل كرمان بجائزة نوبل للس�ل�ام انتش���رت على موقع اليوتيوب فيديوهات عديدة لها في أحاديث ومداخالت تليفزيونية، كما زاد اإلقبال عل���ى فيديوهاتها أثناء التظاه���ر واالعتص���ام ف���ي س���احات التغيير باليمن ،وكان من أبرز تعليقات المشاهدين لفيديوهاتها بعد الفوز: «ألف مبروك لألس���تاذه توكل كرمان»- «ق���ل موت���وا بغيظك���م» ص���دق اهلل
مخاوف تونسية
العظيم. «وعل���ى عي���ن كل حاق���د وكل فاس���د، أيامكم راح���ت ,وما بقائكم وتش���بثكم بالسلطة إلى اآلن إأل ألنكم تريدوا حرق ما تبقى في هذه البالد ،لوال أمثالك من الحاقدين المحاربين لها ما كانت حصلت عل���ى نوب���ل« ،اح���رق في نفس���ك من الغيظ»« ،هلل درك يـ توكل ,بنت تسوى 1000رجال» ،س���عودي ف���ي أميركا: «مبرووووووووك لتوكل كرمان». على صفحات الثورة التونسية انتشرت التحذيرات المصورة الساخرة من تولي فل���ول النظام الس���ابق لمقالي���د األمور ودخول البرلمان ونشرت صورة لـ«بن علي» تحاكي خطابه األخير يقول فيها: «أنا عندي برشة فلوس ..ايه نعم برشة فل���وس ..بش نش���ريكم الكل ..نش���ري البطال ..ونش���ري السياس���ي ..نشري الطال���ب والخدام واللي يساس���ي ..ايه نعم برش���ة فل���وس ..بكل ح���زم ..بكل حزم». وكتب التونس���ي س���امي سنوسي على صفحته متخوف ًا من التيار اإلس�ل�امي: «بن���و خونج وبن���و التج���وع يذهبون بتونس إلى جزائر .1991 إما معنا أو مع..نا! وليس هنالك طريق آخ���ر ثالث.أينك���م ي���ا ثوار م���ا قبل 14 جانفي؟ ،أينكم يا أح���زاب الديمقراطية االجتماعي���ة الحقيقية؟ ،دائم��� ًا الخراج للدكتاتوري���ة القادمة تح���ت أي يافطة كانت». 13
ميديا
ياما تحت اللحايا ..خفايا المدون «أحمد مطر تفوق علينا» هكذا كتب ِّ والكاتب الكويتي عبد اللطيف خالدي في هذا المقال على مدونته والذي صنفه تحت قسم «ياما تحت اللحايا خفايا» عن أحوال الثورات العربية بعد شهور من قيامها: وس���ط هذا الزخم من الث���ورات العربية وم���ا ُيصاحبها من س���قوط أقنعة الكثير من -بياعي���ن الحجي -التي ُيطبلون لها أبحث عن تطور ُيصاحب صباح ًا ومساء، ُ سقوط أنظمتها الغبية التي كانت السبب الرئيسي -كما يقولون -لتراجع مستوى الحريات لديها وتدني فكر المواطن خالل فترة حك���م قراقوش���ها الظال���م ،..كالم جميل ج���دًا جدًا و -يف���رح أوي ،!-لكن تطوره بعد سقوط أين المواطن المزعوم ّ النظام القمعي؟ُ ،ع���ذرًا فالرؤية معدومة
وال أرى من حديثكم األنيق إال س���راب ًا من بالعطاشى!. نار وسط أرض مليئة ُ جميع األراض���ي العربية الت���ي تمت بها الثورات تس���قط على وجهه���ا -بعرقلة - س���لفية بحتة ،فمصر على سبيل المثال
الجميالت الثائرات
وتعود به���ا خياالت من ُته���دم من جدي���د ُ الحكم السابق ،فال يوجد فرق بين مبارك أمل���ط ..-ومبارك صاح���ب لحيه كثةو-مسواك ،!-فلو حاولنا النظر عن كثب بالش���أن المص���ري لرأينا حق��� ًا أن نظام ُمبارك يعود بأوجه سلفية إرهابية ..كما تعود جماعة -حس���ب اهلل -مع مزاميرها بصوت عالي وشكل واضح جدًا !. ويواص���ل معلق��� ًا على ثورة س���ورية: نصب ش���خص األخطر م���ن كل ذلك أن ُي َّ ببش���اعة -العرع���ور -كأب روحي لهذه الحرك���ة ،..فهل تتأملون واقع س���ورية الق���ادم في ظ���ل حكم س���لفي عرعوري لها؟، ويختتم مقال���ه قائالً :أحم���د مطر تفوق علينا بع���د أن اعتقدنا بأنن���ا دحضنا كل أشعاره وخواطره وحروفه التي ُتهاجم المخزي، واقعنا العربي ُ أحمد مطر مرة أخرى: بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب،
«يا أمي���ركا هانت وبان���ت» كلها كام يوم كان ش���عار ظرفاء الفيسبوك في مساندة س���موا جمي�ل�ات الث���ورة األميركية كما ّ االحتجاج���ات األميركية األخي���رة يقول عبدالرحمن ف���ارس أحد أعضاء الصفحة: ظرفاء الفيس���بوك والث���ورة األميركية، «أن���ا أدعم الث���ورة األميركية ضد النظام الرأس���مالي..المتعفن كما أعلن تضامني الكامل م���ع كل الث���وار األمي���ركان ومع الثائرات منهن بشكل خاص!!». «ياكبد أمك يا شابة فين بقى المدعي���ن للحرية لمصر يطلعوا البنية دي؟ يتضامنوا مع ُ آه لو كنت في أمي���ركا مكنتش خليت حد يمسكك كده تس���قط الغطرس���ة األميركي���ة ..المج���د للثائرات أنا عايز أناضل مع مناضالت أميركا»
14
أصداء وفاة العبقري جوبز:
جاجا تأكل التفاح ..والعرب ينتظرون هدية آي باد غي���رت العالم: ي���رددون أن 3تفاح���ات ّ تفاح���ة آدم وتفاح���ة اس���حاق نيوتن، مكتشف قانون الجاذبية ،وتفاحة «آبل» التي أسسها ستيف جوبز ،ونحن صنعنا مصل التفاحتين .كانت هذه أكثر المقوالت انتشارًا على مواقع التواصل االجتماعي تعليق ًا على وفاة مؤس���س «آبل» ستيف جوبز. وكان���ت أخب���ار وف���اة جوبز ق���د غمرت اإلنترنت من فيس���بوك إل���ى تويتر ،من نيويورك إلى أس���تراليا ،حتى أن العديد أطلق مصطلح «آيساد» حزن ًا عليه. العديد من الشركات قدمت التعازي وحتى غوغل وضعت رابط ًا على المحرك يشير إلى صفحة وفاة جوبز على موقع «آبل»، ال مع الحدث المؤس���ف قام مارك وتواص ً زوكربيرج منشئ الفيسبوك بنعي خاص
على حس���ابه الش���خصي بالفيس���بوك، وكان نصه التالي« :ستيف ،شكرًا لكونك بينت صديق ًا ومث ً ال أعلى ،وش���كرًا ألنك ّ يغي���ر العالم.. أن يمك���ن تصنعه أن م���ا ّ سأفتقدك». كماعب���رت المغنية العالمي���ة ليدي جاجا ّ ع���ن بالغ حزنها ،وكتب���ت على صفحتها الش���خصية على تويتر تقول« :ش���عرت بحزن وألم ش���ديدين عندما علمت بوفاة رائد وعبقري التكنولوجيا ستيف جوبز، ال���ذي اس���تفاد العال���م كله م���ن خبراته واختراعات���ه ذات البصم���ة الواضح���ة، فاليوم قمت بتصف���ح اإلنترنت من إحدى اختراعاته التي أمتعنا بها ،سأقوم بأكل التف���اح الي���وم بأكمله» ،أما مس���تخدمو المواق���ع االجتماعية العرب فقد غير كثير منهم صور البروفايل لصورة جوبز ،كما
اتفاقية لتبادل المخلوعين على صفحة س���ورية الحرية نش���رت صورة كاركاتيرية س���اخرة للرئيسين السوري بشار األسد واليمني علي عبد اهلل صالح وصاحبها هذا التعليق: «تلقى الرئيس بش���ار حافظ األس���د عصر الي���وم مكالمة م���ن فخامة الرئيس المخل���وع اليمني علي عب���د اهلل صالح..وقد هنأ كل منهما اآلخر باس���م جمعة اليوم..ه���ذا وقد تم بحث مب���ادرة المّتة مقابل القات ،واقترح الس���يد الرئيس خزن الكثير تنفيذها على وجه الس���رعة..في حين صفن نظيره اليمني بعد أن ّ الكثير من «األفكار» ونطق..فاتنا الغطار ..فات فينا الغطار! وما زال بش���ار يشرح للرئيس اليمني تعريف القطار وأنواعه وفلسفة السكك الخالقة حتى هذه اللحظة..وتلوح في االفق بوادر مد سكة حديدية بين دمشق وصنعاء لتبادل الرؤساء المخلوعين..والذي منه».
نشروا العديد من الصور والمعلومات عن سيرته ومقوالته الشهيرة مثل: االبتكار واإلبداع هو ما يميز بين القائدوالتابع. وقتك محدود ،فال تضيعه وأنت تعيشحياة ش���خص أخر ،ال تدع ضجيج آراء اآلخرين يحجب صوتك الداخلي .واألهم من ذلك ،لتكن لديك الش���جاعة لمالحقة ما يمليهما قلبك وحدسك ،ألنهما بطريقة أو بأخ���رى يعرفان بالضب���ط ما تريد أن تكون ،كل شيء آخر ثانوي. ونش���ر كاريكاتير يوضح ح���زن أجهزة الموبايل والكمبيوتر عليه وصورة لنصب تذكاري له على شكل موبايل كبير. أم���ا الطري���ف فه���و انتش���ار مجموع���ة من الرس���ائل بي���ن مس���تخدمي المواقع االجتماعية خصوص ًا فيس���بوك وتويتر مفاده���ا أن آب���ل ت���وزع آيف���ون وآيباد مجان��� ًا تخلي���دًا لذكرى جوبز ،اإلش���اعة التي انتش���رت كالصاعقة بين مستخدمي اإلنترنت .بل وأكثر من ذلك بعض الهاكرز استغلوا الفرصة للقيام بإنشاء تطبيقات خبيث���ة على الفيس���بوك وإش���هارها في الصفحات وبعض الحسابات المسروقة، مم���ا أدى إلى ازدي���اد ع���دد ضحايا هذا اإلع�ل�ان الوهمي .فيما البعض اآلخر عمد إلى إنشاء صفحات على الفيسبوك تطلب م���ن المس���تخدم القيام بإعج���اب (اليك) لمجموعة من الصفحات لكي يكتشف من بعد أن األمر ال أساس له من الصحة وأنه فقط كان عامل عل���ى زيادة عدد معجبي تلك الصفحات.
15
غياب
16
ستيف جوبز
كاهن وادي السيليكون مات ستيف جوبز ولن يتجلى مرة أخرى على المؤمنين بمنتجاته ،لكن عبادة التفاحة مستمرة ،وقد خرج الجيل الجديد من آي فون في موعده وكأن إطالقه جاء نوع ًا من رحمة ونور على روحه من كهنة المعبد حيث اإلهداء «إلى جوبز» بينما تدفقت جموع المؤمنين بتفاحة جوبز على أبواب المتاجر .مستخدم من اليابان قال إنه وقف مع صديقه ثالثة أيام ليتمكن من الحصول على الجهاز لحظة إطالقه. تفاحة آبل التي ابتدعها جوبز هي الثالثة في التاريخ التي تغير العالم بعد التفاحة التي قضمها أبونا آدم فأخرجتنا من الجنة وتفاحة نيوتن التي سقطت على رأسه فألهمته قانون الجاذبية. كان مدير آبل ،يصر على تقديم انتصاراته بنفسه ،في مشهد يخلط بين كاريزما القائد العسكري والديني. في كل مرة يتـجلـى فيها جوبز علـى خــراف اهلل التكنولوجية ،لعرض منتجه األحدث ،يخرج أحد مساعديه مثل مؤمن جديد يعرض رحلته من الشك إلى اإليمان بآبل ،شارح ًا كيف تسعى مايكروسوفت لتقليدها ،لكنها لألسف تبقى مايكروسوفت في النهاية ،مثيرة للشفقة مثل سمين مترهل يصر على تقليد ألفيس بريسلي! وبعد أن تلتهب أكف المؤمنين بالتصفيق ،ينسحب المساعد ،ويتجلى ستيف النحيف كراهب بلحيته البيضاء، وتي شيرته األسود فوق بنطلون الجينز، خلفه شاشة ضخمة في خلفية مظلمة لفضاء واسع ،الشاشة تضيئها عالمات إصدارات مختلفة من نظام التشغيل، كأيقونات ال يبدو منها سوى الهاالت الذهبية تلمع فوق الرأس في ظالم المذبح.
آبل سبق أن قدمت عند اقتحامها لسوق الكمبيوتر الشخصي عام ١٩٨٤اإلعالن األنجح في تاريخ الدعاية األميركية، والذي يعرض مستخدمي الكمبيوتر حليقي الرؤوس في صورة عبيد لألخ األكبر الشيطان ،IBMفي اللحظة التي تقتحم الفتاة الحيية آبل المكان وتهشم بمطرقتها رأس األخ األكبر وتحرر العبيد! وقد أسست آبل بذلك لتقليد في العداء بين شركات الكمبيوتر ،وأخذ مبشرو مايكروسوفت ينهون مواعظهم بذلك الشعار الظافر والشامت ،خذ هذه يا آبل! في فيلم قراصنة وادي السيليكون تتعايش الديانتان ،حيث يقدم الفيلم قصة المؤسسين الكبيرين ،ستيف جوبز وبيل غيتس عندما كانا صبيين غادرا المهد بقليل من السنوات ،وقليل من المؤمنين، وكثير من الشظف ،وتمكنا من تأسيس شركتيهما في قبوين أو كهفين. والعالمة الفارقة في االثنين التي تميزهما عن البشر العاديين ،ويصران على إبرازها في الحوارات والسير المنشورة، هي أنهما غير جامعيين (أال يساوي هذا أمية األنبياء في األزمنة الغابرة؟). في الفيلم نرى لحظة اإللهام التي أضاءت طريق هجرة جوبز من الجامعة، أثناء مظاهرات الطالب في عام،1971 حيث يحاول االختباء من العنف داخل الحرم الجامعي مع صديقه ستيف وازنيك ،شريكه فيما بعد. دخل ستيف الجامعة لمدة فصل دراسي واحد ،واكتشف أنه لم يخلق لهذه الحياة ،فترك الجامعة وواصل تعليمه الحر ،وبهذا تضاف األمية الجامعية إلى العصامية لتصنعا مع ًا أسطورة كاهن وادي السيليكون. 17
مات نتيجة خلل لم يمكن إصالحه
الرؤيوي المتمرد ّ جهـاد ُ�صعيليك -دبي
18
ها هو ستيف جوبس المفكر المبدع غيرت وجه لكثير من المنتجات التي َّ عالقتنا بالحاسوب ،يمضي نتيجة «خلل لم يمكن إصالحه» ،كما كتب على ٍ شاهد قبره ..لكنه سيبقى ملهم ًا ليس فقط للعاملين في مجال التقنية ،بل وفي تطبيقات إدارية وفنية شتى ،ألن هذا الرجل جعل عنوان أعماله اإلبداع، فأبدع في اإلدارة والقيادة ،وفي التسويق والمبيعات وفي التواصل مع الجمهور ،وأبدع في التصميم الصناعي وبناء المنتجات ،تمام ًا مثلما أبدع في البرمجة وتطوير التقنيات! أدرك هنا أننا استمرأنا في العالم الثالث تغييب توصيف اإلبداع إال عن األعمال األدبية والفنية ،متناسين أن اإلبداع الحسي في العلوم والتقنية أبلغ أثرًا وأكثر فائدة ،خاصة إذا اقترن بالتيسير على الناس وتطوير قدراتهم .كم من أديب ينعم اآلن بما وفرته له فكرة اآلي باد العبقرية من مساحة وآفاق ..أيجوز هنا أن يكون هذا األديب مبدعاً؛ وصاحب اآلي باد ليس كذلك؟ الواقع أن ستيف جوبس تعامل بشكل غير مباشر مع هذه اإلشكالية، إذ كان هو نفسه فنان ًا صمم الكثير من المنتجات التي قدمها ،وأضاف إلى ذلك قدراته التقنية ومعارفه الواسعة، فابتكر ما نعرف اليوم من منتجات عديدة بدءًا من األبل 1ووصو ًال إلى اآلي باد. وإذا أردنا أن نلخص تجربة ستيف جوبس مع التقنية ومنتجاتها في عبارة واحدة ،نقول :إنه جعل سهولة االستخدام تأتي قبل التفوق التقني! وهو أمر مهم لم يساعد على انتشار المنتجات التي صممها فحسب ،بل أسهم كثيرًا في محاربة أمية الحاسوب، وتطوير التعليم من خالل إدخال هذا الحاسوب نفسه إلى الغرف الصفية، وخاصة في البلدان التي استكملت ذلك من خالل منظومة من البرمجيات المنتجة والمفيدة لألغراض التربوية المختلفة أسري ًا ومدرسياً.
لعل أجمل وصف سمعته لستيف «رؤيوي متمرد» ...وتلك جوبس أنه ٌ حقيقة مهمة تتضح إذا تذكرنا أن ستيف لم يكن مجرد قائد إداري لشركة رابحة ،بل كان كبير مديري المنتجات فيها والمسؤول الرئيسي عن تطوير أعمالها ،ثم هو فوق ذلك أصبح أنموذج ًا لتأسيس شركة من ال شيء تنتقل إلى العالمية بفضل أفكاره في أقل من سنة ،وهو ما فعله مع شركة (نكست) مث ً ال التي خصصها لتطوير أجهزة حوسبية متقدمة مخصصة لإلنتاج السينمائي والتليفزيوني قبل أن يبيعها إلى أبل نفسها بعد ذلك. والالفت هنا أن الرجل كان معني ًا بشكل أو بآخر ،بتطويع التقنية لمستويات مختلفة من اإلبداع الفني الذي نعرف ،كأن الفنان في نفس الرجل اجتذب التقني وتمازجت أفكارهما في فكرة واحدة عبقرية ..أجهزته في أبل هي التي فتحت الباب على مصراعيه لكل ما نعرف اليوم من اإلخراج الصحفي للمجالت والمطبوعات على اختالفها ،ورقمنة الموسيقى واألفالم وما سواها ،أما بيكسار فهي التي أدخلت الرسوم المتحركة إلى دور السينما من بوابة الكمبيوتر ،ولكم هنا أن تتذكروا أفالم ًا من مثل توي ستوري، وكارس ,والبحث عن نيمو ،وغيرها. وقد أصبحت بيكسار هذه جزءًا من عالم ديزني منذ نهاية .2006 وقد أتيحت لي الفرصة ربيع ذلك العام أن أعايش جزءًا من هذه الرؤيوية المتمردة خالل زيارة لمقر شركة بيكسار ؛ لاللتقاء بالفريق العامل على فيلم كارس ،ولعبة الفيديو المكملة له ،فما إن وصلنا إلى مبنى الشركة في وادي السيليكون حتى بدأنا نلحظ شيئ ًا مختلفاً ..فالمبنى الضخم (300م عرض ًا في مثلها طو ًال) كان يحوي ملعب ًا للتنس ،ومسبحاً ،وصالة للتمارين الرياضية وغير ذلك من إضافات اعتاد الناس عليها في الوادي .بيد أن أكثر ما استوقفنا أن المبنى على ضخامته لم يكن يحتوي إال على دورة واحدة
للمياه ..وكان الفت ًا طابور الواقفين أمامها ..كما كان الفت ًا أن مرافقنا يؤشر إلى ذلك الخيار متفاخرًا باعتباره من أفكار ستيف جوبس نفسه! لماذا؟ وجهة نظره كانت أنه كلما جعلت الموظفين من أقسام مختلفة يتواصلون مع ًا تمكنوا من ابتكار أفكار جديدة وإبداع أعمال غير مسبوقة .لم تكفنا حقيقة أن التفكير بإنتاج فيلم كارس (وشخصياته من السيارات الناطقة) نفسه بدأ في ذلك الطابور، فأردف مرافقنا ضارب ًا لنا مث ً ال عملياً! قال :إن إحدى األفكار التي تالقي االستحسان في الفيلم تتمثل في أن المشاهد الخلفية تظهر فيها الجبال في األفق تشبه السيارات ،هي من بنات أفكار محاسبة تحادثت مع زميل لها من قسم الرسوم المتحركة أثناء ذلك الطابور ،وسرعان ما اقترحت عليه فكرة مختلفة لخلفيات مشاهد الفيلم.. أن تبدو الجبال للسيارات ،أشباه سيارات! كان ذلك أنموذج ًا إلبداع جوبس كقائد إداري في فن إشراك الموظفين في العملية اإلبداعية ،وهذه مهارة إدارية رفيعة في استثمار كافة الطاقات ،ال تعطيلها ،لهذا نجد أن شركاته هي من األقل خسارة للموظفين. تستوقفني كثيرًا تجربة الرجل مع السرطان ،خاصة حين أستمع إلى خطابه الشهير في إحدى الجامعات األميركية في بدايات معاناته مع المرض الخبيث ..كان يتحدث للطلبة بذهنية متصوف ،يذكرهم أن الموت استمرار للحياة ،ال نهاية لها ،وأن عليهم فهم ذلك بأسلوب منتج يتمثل في تعلم االستفادة من وقتهم وأيامهم بشكل مثمر. لكن األبرز حقيقة أنه واصل العمل إلى ما قبل شهر من الموعد الذي توقعه له أطباؤه! بدا األمر كما لو كان مسافرًا في مهمة ،يواصل العمل في المكتب، ثم عندما يحين الوقت يذهب إلى البيت لالستعداد! ال أعرف كيف تشعرون،
فما أراه أنه كان سلوك رجل يتعايش مع السرطان ،ويخطط للقضاء عليه، ال لالستسالم له! كم من دروس النجاح يمكننا أن نتعلم من مريض مصاب بالسرطان ،حتى وهو في آخر أيامه! أذكركم هنا أن هدية ستيف جوبس األبرز لعالم اإلنسانية ،وهي اآلي باد، صممها وهو في خضم الفترة التي أجريت له فيها عملية خطيرة تتصل بسرطان البنكرياس عام !2009 ينتمي ستيف جوبس إلى جيل غير العالم من جراج العائلة! هو مع َّ ستيف وزنياك زميله يصممان أول أجهزة الماكنتوش في النصف الثاني من السبعينيات ،بينما بيل غايتس وستيف بالمر مشغوالن بتطوير نظام دوس الذي فتح لنا ما فتح من آفاق البرمجة والحوسبة واستخداماتهما المختلفة! لكن تجربة جراج العائلة هذه تمثل تحدي ًا لنا نحن العرب أكثر من غيرنا، لذلك دعوني أستفزكم بمعلومة هنا: فقد كان ستيف جوبس في الحادية والعشرين من عمره فقط حين أسس شركة أبل ،التي تزيد قيمتها اليوم عن 800مليار دوالر أي أكثر بكثير من القيمة اإلجمالية لبعض الدول! ومع ذلك كان للرجل من الجرأة الذاتية ما يكفي ليقول إن سعادته تكون حين يستفيد الناس من منتجاته ال حين بعد أرباحه! ينشغل َّ حين أستذكر ستيف جوبز فإنما أستذكره كإنسان مبدع أجاد استخدام ما منحه اهلل من قدرة على التفكير المختلف ..أما الذين يحلمون أن يكون أبناؤهم على هذا القدر من اإلبداع، فأقول لهمَ :عَِّلموهم أن ال يخافوا من التفكير ،وأال يفكروا مثل بقية الناس، فقد قال رجل حكيم ذات يوم :إذا فكرت مثل بقية الناس فليس من المحتمل أن تأتي بشيء جديد! وهذه هي القاعدة الذهبية للتفكير ...النقدي (وليس اإلبداعي فقط)! 19
لقاء
خوان جويتيسولو
زمن ابن خلدون اآلن ليس مبالغ����ة أن نقول إن الربيع العربي هو أكبر حدث تاريخي في العالم العربي اإلس��ل�امي منذ فترة االضمحالل الت����ي التقطها ابن خلدون بعظم����ة .فبصيرة المؤرخ الكبير المعروضة ف����ي صفحات «المقدمة» (وترجمها لإلس����بانية وكت����ب مقدمتها فرانثيس����كو رويث خي����رال) والتي تناولت تفسخ ممالك الطوائف بشبه الجزيرة األيبيرية ثمرة واقع ال يمك����ن تحمل����ه ،لم تفقد رونقها في ع����ام .2011كان ابن مطلع ًا على عل����وم وفنون عصره ،بمعرفة وخبرة خلدون ّ تراكمت على مدى س����نوات حياته بجانب ملوك ورؤس����اء متش����بثين بسلطة ينهار أساس����ها ،وسمحت له بتشخيص صائب ل����دورات صعود وس����قوط االمبراطوري����ات يمكن تطبيقه ليس فقط على حضارة زمنه بل أيض ًا على حضارة زمننا .وكما يقول أحد أفضل العارفين بالتأثير العربي في الثقافة اإلسبانية ،البروفيس����ور الفخري بجامعة هارفارد جم انشغاله يتركز في فرانثيس����كو ماركيز بييانويبا« :كان ّ مصائر اإلس��ل�ام ،ال����ذي كان يراه ينهار س����واء في الغرب أمام الدفع المس����يحي (غرناطة) أو في الشرق أمام المغول (دمشق)». لقد كانت العصبية التي تأسس����ت عليها األس����ر الملكية األفريقية ،التي أرادت أن تعكر العالم بفورانها ،كما يالحظ اب����ن خلدون ،تقضي على حياة هذه األس����ر وتتس����بب في انحداره����ا .وكان التذبذب بين الجذب والطرد ،بين التكامل والتفسخ يتم عن طريق قمع الشعوب التي تستهلكها سلطة يجزمون بعدم ش����رعيتها ،وبعد فترات طويلة من الخنوع والنعاس ،يخرجون من سباتهم ويدخلون في الغليان. بكل وضوح ،ل����م يكن عالم ابن خلدون هو نفس العالم ال����ذي نعيش فيه اآلن ،غير أن الحقيق����ة البازغة لوجودنا
20
ف����ي نهاي����ة المطاف داخل رأس����مالية ش����رهة ووحش����ية تهددنا بإفالس����ها الكلي ،وانح����دار االمبراطورية األميركية في المج����ال االقتصادي والسياس����ي والعس����كري ،وعجز أوروبا بدولها الس����بع والعش����رين عن ضبط نشاز كورال أصواتها ،وصعود الصين ال����ذي ال يمكن إيقافه وهيمنات أخرى ناشئة ،يدعو لقراءة «المقدمة» التي يمكن من خالل صفحاتها قراءة وتفسير الثورات العربية التي انطلقت في عام .2011 لقد تبخرت ف����ي الحال اآلمال الت����ي أثارها النضال ضد وتحرر الدول العربية االس����تعمار من المحيط إلى الخليج ُّ بالتتابع .وكم����ا تحققت في حالة الجزائ����ر ،فإن الحركات الديمقراطية والداعية للتفتح قد سحقتها بال رحمة األنظمة العس����كرية التابع����ة لحزب أوح����د وأقامت باس����م القومية ال م����ا ارتبطت بالمبادئ والوطن س����لطات ديكتاتورية قلي ً الت����ي كان����وا يعلنونها بالخ����ارج .وكما حدث ف����ي مرحلة الخالف����ة األخي����رة ،أخفقت وس����اوس التوح����د .وانتقال الس����لطة من األب إلى االبن أو إلى العشيرة العائلية سواء ألس����رة األسد أو صدام أو الحكام المصريين أو التونسيين أو اليمنيي����ن تؤكد التحليل الذي أس����س له بصواب المؤرخ الكبير المدفون ف����ي القاهرة .وما الطغيان وجنون العظمة واحتقار الشعوب واستخدام الدين كأداة في خدمة السلطة الموجودة في أغلب الدول العربية إال تالؤم لدورة ُس����جلت من قبل في دورات النظام الكلي الذي أشرت إليه من قبل. لم يهتم إكليش����يه الحتمية الش����هير المترسب في الخيال األوروب����ي وال����ذي كان موضوع ًا آلالف الكت����ب واألبحاث ودراسات المتخصصين األوروبيين واألميركيين الشماليين بمالحظات ابن خلدون الذي ،كم����ا يقول ماركيز بييانويبا
في دراسته المش����ار إليها س����ابقاً ،كان يدرك أن« :الحياة في مجتمع تشبه ظاهرة ثقافية ،خاضعة لقيم ذات توازن غير مستقر ،وتحت قانون عقل بشري غير معصوم ،يمكن بالطبع أن يصيب أو يخطئ». م����ا من ش����يء كان مكتوب���� ًا يحتم على ش����عوب تونس وس����ورية ومص����ر وليبيا واليمن قبول أش����ياء تبرر القمع والفق����ر واالحتقار من جانب أصحاب الس����لطة .هذا الوعاء الذي كان يغلي فوق نار حمراء كان يجب أن ينفجر ،وانفجر أخيرًا مع احتراق بائع الفواكه الشاب محمد بوعزيزي. المتحدث����ون باس����م عقيدة الحتمي����ة العربي����ة ،وجدوا أنفس����هم ،بع����د ثورتي تون����س ومص����ر ،مضطرين لجمع ش����موعهم المتناثرة ليواصلوا تماسكهم ،ويعيدوا صياغة ما قالوه م����ن قبل ،وليتنبأوا بذلك بوجوه مدهوش����ة بأن الفائ����دة الوحيدة من ه����ذه الحركات الش����عبية والتلقائية ستكون صعود اإلسالميين السلفيين. ومن بي����ن ما جمعت����ه عن الربي����ع العرب����ي ،أعتقد أن مجموعة مقاالت عالء األس����واني «الثورة المصرية» والتي بدأ في كتابتها قبل س����قوط مب����ارك ،هي أفضل مثال على بق����اء روح ابن خل����دون المنطقي����ة والبرجماتية في الوقت نفس����ه عن طريق تحليل����ه للتدهور السياس����ي واألخالقي ضه مرس����وم فر َ واالجتماعي الذي ال يمكن أن نلصقه بقدر َ إلهي بل بأنانية وعجز وفس����اد نظام قمعي يس����تغل الدين ليصمت البؤساء. ُ ���تعرت كلمات مؤل����ف «عمارة ليعذرن����ي الق����ارئ إن اس� ُ يعقوبي����ان» الت����ي تعني إن« :مصر تتس����اقط قطعة قطعة بينما ال يش����غل بال الرئيس مب����ارك ،الذي يحكم مصر منذ
أكث����ر من ربع ق����رن وأدى بها إلى الهاوية ،س����وى توريث الحك����م البنه» ،و«لقد وصل الوضع في مصر إلى مداه وما ع����اد من الممكن االس����تمرار في الصمت .هن����اك ماليين من المصريين يعيش����ون في ظروف تحت اإلنس����انية ،في عز الفقر والبطالة واألمراض والقمع والفس����اد الذي لم يسبقه مثيل». نعم ،البؤس والبطالة والقمع وغياب األفق عند شباب بلد % 70من إجمالي 80مليون نس����مة يعيش����ون في فقر وال تزال رواتبهم الشهرية واقفة عند ما يساوي 40يورو، فلم يكن بوسعهم أن يحتملوا .أنا أعرف ما أقول :لقد أقمت فترة قصيرة عام 1985في مدينة الموتى (مقابر البساتين) بالقرب م����ن ضريح عمر ب����ن الفارض ورابع����ة العدوية، وبالقرب من شعب ينال احترامي بال حدود وأحبه كما أحب ش����عبي ،ومنذ ذل����ك الحين رافقني اس����تفزاز أخالقي أمام ظروف معيش����تهم .في زيارتي قبل األخيرة إلى القاهرة، تحققت في عام ،2009وبعد غياب طال لعش����ر س����نوات، ُ اعتقدت ،قد م����ن أن هذا الوضع ،بد ًال من أن يتحس����ن كم����ا ُ س����اء ووصل إلى العواقب التي أش����ار إليها األسواني .في 15يناير/كان����ون األول من ه����ذا العام ،ردًا على أس����ئلة صحافيين في برش����لونة حول الرأس التالية بعد بن علي، قلت بجد:رأس الفرعون. س����تظل الدورة التاريخية الجديدة مفتوحة في مدار دار متحدية اإلسالم ،مع التقدم والتقهقر ،مع القمع والمذابح، ً إرادة الطغاة بإبادة الش����عوب قبل أن يرحلوا عن كرس����ي الرئاس����ة .علين����ا أن نقرأ بتركي����ز «مقدمة اب����ن خلدون»، فإدراكه الشديد لألحداث يشملنا جميعاً. ترجمة :أحمد عبد اللطيف 21
ق�ضية العدد
22
النصف الحلو من الثورة
مثلما أدهشت ثورات العرب العالم وأربكت حسابات دول عظمى ،أدهشت المرأة العربية الدنيا بتقدمها صفوف الثورة في مختلف بالد العرب .وإذا ما حاولت الذاكرة استعراض أسماء المدونين والناشطين في وقفات االحتجاج التي مهدت لهذا الربيع وشاركت في ثوراته ستحضر أسماء شابات مثل إسراء عبدالفتاح ،طل الملوحي ،وتوكل كرمان ،مثلما تحضر أسماء الشباب. وبكل قوة عدم الحياء السياسي التي سدت طريق األمل أمام الشعوب ،قاومت األنظمة المستبدة بشراسة النصف الحلو من الثورة .اغتيال حقيقي ومعنوي وتعذيب ومعتقالت ونفي وتحرش ،إجراءات فظة لم تخف المرأة أو تجعلها تتراجع ،ألن البنت مثل الولد ،كالهما اكتشف طعم الحرية األجمل من طعم الحياة. ومثلما ساهمت المرأة العربية في صنع الثورة ،ساهمت الثورات في خلق صورة جديدة للمرأة ذاتها وللمجتمع العربي ،حيث لم يقتصر خروج المرأة ضد االستبداد على فصيل سياسي أو طبقة اجتماعية واحدة. شاهد العالم الفتاة العصرية المحمولة على أكتاف زمالئها من الشباب والمحجبة والمنقبة بين الثوار .مشهد يربك حسابات من صدقوا أكاذيب عدة قرون من االستشراق صنعت صورة نمطية للمرأة العربية والمسلمة في الغرب الذي سيكتشف مع هذه الثورات أن األزياء تقليد اجتماعي ال يمنع التفكير وال يقتل التوق إلى الحرية. 23
تونس :الحرية الحمراء أنثى ..ال قاعدة وال تطرف
يعول عليه» ،تنسحب يبدو أن مقولة ابن عربي «المكان الذي ال يؤنَّث ال َّ على ميادين التحرير العربية .وهذه الحقيقة تعرفها السلطة بأكثر مما يعرفها الثوار ،لذا فقد جعلت من جسد المرأة ساحة لحربها من أجل البقاء.
الثورة التي ال تُ َؤنّث ال يُ َع َّول عليها
جسد المرأة ساحة للحرب عزت القمحاوي
24
لم يفرق المستبدون بين الرجل والمرأة في القتل .لم يراعوا حرمة لحياة أو حرمة للجسد المنتفض أي ًا كان نوعه، لكنهم خصوا المرأة بتنكيل من نوع فريد، إذ حولوها إلى ساحة حرب إضافية، حرب أيديولوجية تستهدف تشويهها والحط من مكانتها االجتماعية. المستبد يقلد وال يبتكر .والحرب األيديولوجية تستند إلى تاريخ طويل من االستخدام السياسي لجسد المرأة العربية بالذات ،حيث كان تزييف هذا الجسد وإضفاء الغرائبية عليه عبر اللوحة والكلمة أحد أسوأ عمليات التزييف االستشراقية. في لوحات ونصوص المستشرقين كان الجسد األنثوي العربي يتأرجح بين حدين متناقضين :العري الكامل في الحمامات العامة وأسواق الرقيق -حيث يتفحص البائع والمشتري كل تفصيلة في الجسد -وبين التغليف الكامل بألف طبقة من المالبس وألف رتاج على باب الحرملك المفعم باألسرار. وبين حدي الكشف واإلخفاء كان هذا الجسد األنثوي المؤدلج أحد أهم المعابر
الجسد المحجب يثور أيض ًا
سورية :تأنيث السلطة والتأييد
التي مرت من فوقها جيوش الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الحتالل الشرق من أجل تنويره!. هذه األرضية التي تقدم العرب ،ولنقل المسلمين بوصفهم أمة مشوشة ،هي نفسها التي استخدمها اليمين األمريكي عندما قرر اختراع العدو اإلسالمي بدي ً ال للعدو الشيوعي المتهاوي عام ،1989 وهي نفسها حجج إدارة بوش الحتالل
العراق .ومن يتذكر تلك األيام سيرى كيف كانت قناة سي إن إن تركز على كومات النساء المتشحات بالسواد في بغداد ،بينما كانت التقارير الحقوقية تتحدث عن تعرية النساء واغتصابهن أحيان ًا عند االستجواب. ولم يخرج الطغاة عن تناقض الكشف واإلخفاء عند التعامل مع جسد المرأة أثناء الثورات ،أي أنهم لم يفعلوا أكثر
من استعارة بضاعة االستشراق الغربي ثم تسويقها لديه ،لكنهم خصصوا صورة المرأة المتشحة للغرب ،بينما أرادوا ترويج صورة المرأة المتهتكة لدى مجتمعاتهم المحافظة! «إنها ثورات إسالمية ولن تكون مصالحكم مضمونة بعد سقوطي» استراتيجية استخدمها زين العابدين. ومن دون ابتكار أو تجديد استخدمها من بعده مبارك وصالح والقذافي وبشار. كلهم قالوا إن تنظيم القاعدة وراء ما يحدث ببالدهم ،وكانت صورة المرأة المغطاة سالحهم الذي انكشف سريعاً، مثلما انكشف سالح العري أو التعرية بمعنى أدق. لم يكونوا محظوظين في الحالتين، فصورة المجتمع العربي لم تعد تذهب إلى الغرب عبر رسوم أو كتابات عدد قليل من الفنانين والكتاب المغامرين الذين جاءوا إلى الشرق بمبادرتهم الخاصة أو أولئك المحمولين بين جنود الغزو ،كما في حالة حملة نابليون مثالً. اآلن صار هناك البث الحي من الشوارع وساحات الحرية .وفي الوقت نفسه لم تعد السلطة مهيمنة على كل رسائل الداخل ،فهناك الفضائيات األخرى واإلعالم البديل عبر اإلنترنت ،وهناك العدد الكبير من المشاركين في الثورة الذين شهدوا بأنفسهم على كذب ادعاءات الطغاة وخدمهم اإلعالمي. صورة فتاة سمراء ذات رداء أحمر محمولة على أعناق رفاقها الشباب تهتف للحرية أسقطت ادعاءات زين العابدين بن علي حول تطرف الثوار ،وكان انهياره السريع وخروجه أقل خسة من خروج باقي الساقطين حتى اليوم ،ذلك ألن زين العابدين وإن تطابق نظامه مع كل األنظمة األخرى في الكثير من المخازي فإنه كان مخلص ًا لعلمانيته االجتماعية ،ولم يلجأ إلى التشويه األخالقي للمرأة الذي لجأت إليه بقية األنظمة ،بتفوق منقطع النظير للقذافي الذي بلغ الحدود القصوى في التمثيل بجسد المرأة سلم ًا وحرباً. عندما أراد القذافي أن يمد ثورته إلى 25
أنثى مصر المنتفضة :سافرة ..محجبة ومنقبة
26
األبد عمد إلى تأنيثها من خالل ألوان أزيائه الغريبة ومن خالل الحرس األنثوي االستعراضي الذي لم يدخل في تجربة دفاع حقيقية عن العقيد، لكن وجود بين مائتين وثالثمائة امرأة قوية خلف العقيد أعاد التذكير بالخيال الجنسي حول المحاربات األمازونيات الالتي أبدعت السينما الهوليوودية في تقديمهن. حارسات القذافي المجهوالت ظللن مركزًا لالستيهام الخيالي والتصورات حول عالقتهن بالعقيد ،وكما لو كان يستخدمهن كفقرة في سيرك اختفين تمام ًا أثناء الثورة عليه ،وظهر حوله الرجال ،بينما أصبح جسد المرأة الضد مباح ًا لالغتصاب ومصدرًا للتشوش ممث ً ال في إيمان العبيدي التي ظلت قصتها لغزًا حتى اليوم. في مصر تالزمت محاوالت بث الرعب من الغول اإلسالمي مع التشويه األخالقي للثوار .كانت كاميرات القنوات الحكومية والقنوات العربية المساندة للنظام تتسكع بين الزوايا الخالية من ميدان التحرير وتجمعات المحجبات والمنقبات .وفي الوقت نفسه تستضيف تلك القنوات فنانين ونجوم كرة قدم مقربين من النظام يتحدثون عن حفالت جنس وتحشيش جماعية تجري لي ً ال في خيام ميدان التحرير .هذا الزعم ،وإن استهدف ذكور وإناث الثورة إال أنه لن يصيب إال النساء خاصة ،فالعبث الجنسي في المجتمعات العربية سبب لفخر الرجل ال إدانته. وهكذا تضافرت محاولة الضغط على األسر المصرية لحبس بناتها وإفقاد الم َع َّول عليه مع الثورة نصفها الحلو ُ محاولة إضفاء الوجه الديني على الثورة .وكانت المحجبات المسيسات وغير المسيسات جزءًا عزيزًا من مكونات الثورة المصرية ،لكن الزوايا األخرى من الصورة كانت تعج بحضور السافرات من الكاتبات والفنانات وأعداد كبيرة من الشابات ال تريد كاميرات الفلول أن تراهن ،وكان من الصعب إخفاء كل هذا مثلما كشف حضور الماليين على قناة
ليبيا :أنوثة تحرس العقيد وأنوثة تخلعه
الجزيرة زيف الربع الخالي من الميدان المعروض على القنوات المصرية وقناة العربية. التشويه التافه ذاته نالته المرأة اليمنية ومعها السورية على ما بينهما من اختالفات .كان سفور السورية علنياً، وتعرضت لصفاقات أخالقية من نظام لم يخلص لعلمانيته الشكالنية كما أخلص النظام التونسي .إذا قالت ثائرة عن بنات جنسها أنهن يتلقين الرصاص بصدور عارية .ودارت الغمزات التافهة حول عري الصدور ،كما وجدت فنانات وكاتبات أنفسهن بطالت لمغامرات جنسية متخيلة. مغامرات السوريات الجنسية ـ في ادعاءات النظام وأبواقه ـ فردية ،ألن الثورة السورية تجري من شارع إلى شارع لتتفادى جنازير الدبابات ،لكن الثورة اليمنية مقيمة في الميادين مثل نظيرتها المصرية وتليق بالمقيمين والمقيمات حفالت الجنس الجماعي!. وقد جاء حصول اليمنية توكل كرمان على جائزة نوبل السالم التفاتة من لجنة الجائزة العريقة إلى الحضور
األنثوي في الثورات العربية .وكرمان ليست سوى شابة عربية ساهمت في صنع الربيع العربي ،يقل عطاؤها أو يزيد عن غيرها من نساء أخريات في تونس ومصر وسورية ،خصوص ًا سورية التي قدمت عددًا من الشهيدات أكبر من أية ثورة أخرى ،لكن الجوائز تريد اسم ًا مفردًا في النهاية وال تذهب إلى الجموع المجهولة إال رمزًا من خالل التجسد في االسم المختار. قبل أن تتقاسم كرمان الجائزة مع رئيسة ليبيريا إيلين جونسون سيرليف ومواطنتها داعية السالم ليما غبوي، كانت المرأة اليمنية قد كسبت احترام العالم وحققت نجاح ًا مذه ً ال في ضرب القاعدة االستشراقية من أساسها بعد أن عاشت أكثر من ثالثة قرون. المسيرات السوداء لمبرقعات اليمن الثائرات تشبه حضور مبرقعات مصر في ثورة ،1919صورة تؤكد أن اللباس مجرد عادة اجتماعية ،وأن الرأس ذكاء من الرأس السافر المغطى ليس أقل ً والجسد األنثوي المغطى في حشد متجانس ليس أقل توق ًا إلى الحرية
من الجسد األنثوي المنطلق في الحشد المختلط. ولكن األنظمة البليدة لم تع النصر الذي حققه جسد المرأة في معركة الحرية، ولم تزل تستهدفها بشراسة بينما تميز النظام السوري على باقي األنظمة بإجراء إضافي ،حيث عمد إلى تقديم أنثى السلطة ليواجه حضور األنثى الثائرة. النظام السوري يعرف أن عاصمته تضم قبر موالنا محيي الدين صاحب دعوة التيمن بالتأنيث ،ولذلك سعى إلى تأنيث سلطته لتدعيم صورته كنظام علماني، يدافع عن بالده ضد هجمات عصابات دينية مسلحة. ظلت األنثى في مقدمة المتحدثين باسم النظام خصوص ًا لإلعالم األجنبي، وبخالف بثينة شعبان (األنثى الضد األشهر) كانت هناك متحدثات أخريات مثل سميرة مسالمة رئيسة تحرير جريدة تشرين التي أبعدوها عن منصبها بعد ظهورين أو ثالثة على الشاشة ،حيث لم يغفروا لها دمعة لمعت تحت كلماتها حزن ًا على شباب عائلتها وشباب محافظتها درعا.
27
سالي زهران
شهيدات الثورة علي النوي�شي جلست أم الشهيد «محمد البوعزيزي» متكئة على قبره مرددة «اهلل يرحمك يا وليدي محمد ..فتحت لبواب». وبالفعل فتحت أبواب الثورة وانطلقت أنهار الدم في شرق العالم العربي وغربه ،في تونس ،في مصر، في سورية واليمن وليبيا ،ولم يكن الرجل وحده هو بطل المشهد ..بل كانت معه المرأة ،سيدة وطفلة وصبية. وفي تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية تحت عنوان« :مصر تنتفض» عن أعمال القتل واالعتقال والتعذيب خالل ثورة 25يناير ،عن دور المرأة في الثورة وضحاياها .وأن المرأة مثلت ٪ 20من ماليين الناشطين الذين تدفقوا على ميدان التحرير في القاهرة وفي غيرها من المحافظات. 28
خالل 18يوم ًا كانت المرأة جزءًا ال يتجزأ من االنتفاضة وسبب ًا رئيسي ًا لنجاحها .ولقيت العديد من الفتيات والنساء مصرعهن نتيجة الستخدام قوات األمن القوة المفرطة ،وكانت هناك نساء أيض ًا ضمن الجرحى والمصابين من ضحايا قوات األمن والبلطجية ،وضمن من تعرضوا للتعذيب في المعتقالت. من كل محافظات مصر وكل أحياء القاهرة سطرت المرأة تاريخ الثورة بدمائها :رحمة محسن أحمد من روض الفرج ،رشا أحمد جندي من العمرانية جيزة ،أميرة محمد إسماعيل من القاهرة، كريستين من القاهرة ،أميرة سمير شحاتة من اإلسكندرية .وهن لسن مجرد أسماء ،لكنهن شهيدات حفرن أسماءهن في قلوب كل المصريين ،فألول مرة في
تاريخ مصر السياسي يسقط عشرات القتلى والمصابين من النسوة والشابات الصغيرات. ولم يستثن الموت األمهات ،حيث لقيت مهير خليل زكي مصرعها وهي أم ألربعة أطفال وتبلغ من العمر 40عام ًا نتيجة أعيرة نارية أطلقت عليها من قسم شرطة بوالق الدكرور عندما كانت تقف على سقف بيتها مع أوالدها على الناحية األخرى من القسم أمام كوبري ثروت ،ورأت الشرطة تطلق النار على شاب فوق الكوبري ،صرخت األم مهير كي يتركوه حياً ،فما كان من رئيس مباحث القسم إال أن أطلق عليها النار وهي في بيتها ،فأصيبت في صدرها وذراعيها وسقطت شهيدة. أول شهيدة في ثورة 25يناير كانت من سوهاج سالي مجدي زهران أيقونة الثورة وملهمة الشباب .اعتبرها الفنان مصطفى التوني «جان دارك المصرية» ووضعت وكالة ناسا الفضائية اسمها على إحدى المركبات المتجهة إلى المريخ ،وأطلقت بلدية «رام اهلل» اسمها على أحد شوارع المدينة «سالي مجدي زهران شهيدة الحرية». ولدت سالي في القاهرة يوم 6أكتوبر/تشرين األول ،1987 واستشهدت يوم 28يناير/كانون األول في محافظة سوهاج بعد انتقال والدها للتدريس في جامعة سوهاج وتخرجت من قسم األدب اإلنكليزي .وهي طالبة في السنة الثالثة بالجامعة سافرت للعمل في القاهرة كمساعدة مصممة مالبس في فيلم وثائقي. وجدت سالي نفسها في القاهرة مع أصدقاء يحلمون مثلها بتغيير العالم. التحقت بـ «كورال شكاوى القاهرة» الذي أوقفته مباحث أمن الدولة بعد أول عرض ،قدموا شكاوى تخص المواطنين :القمح المسرطن ،والغاز المصدر إلسرائيل ،اإلعالنات الوهمية.. وفي يوم 10يناير 2011عادت سالي إلى سوهاج الستكمال دراستها ..وحين انطلقت الثورة يوم 25يناير انطلقت إليها وكأنها ثورتها وحدها ،وفي جمعة
الغضب 28يناير لحقوا بها وضربوها بالشوم على رأسها فماتت بنزيف حاد في المخ قبل أن يحملوها للمستشفى. في الجمعة نفسها سقطت الطفلة هدير 13سنة وهي تشاهد المظاهرات من شرفة منزلهابالمعادي ،حيث اخترقت الرصاصة رقبتها ،وفارقت الحياة بين أحضان أبيها. أميرة سمير شحاتة شابة من مواليد 1994كانت تحضر درس ًا في بيت صاحبتها يوم 28يناير ،ومن شرفة المنزل تقوم بتصوير المظاهرة بتليفونها المحمول ويلمحها فرد شرطة من فوق سطح القسم المجاور ليوجه لها رصاصة في القلب. آخر شهيدات جمعة الغضب هدى محمد السيد الطنطاوي البالغة من العمر 17عاماً ،وتوفيت مساء 24يوليو/ تموز الماضي بعد معاناة دامت حوالي ستة أشهر إلصابتها بطلق ناري استقر في عنقها أمام مسجد القائد إبراهيم. وهدى فقدت شقيقها إبراهيم صابر يوم 28يناير ،حيث أصيب برصاصة في رأسه ومات في الحال. وكشفت الثورة السورية عن وجوه مشرفة لعشرات الصبايا من الكاتبات واإلعالميات والطبيبات والحقوقيات يتحدين الظلم والقمع والقهر كل يوم مقابل فضح أفعال النظام ،ومنهن من تعرضن لالعتقال والتعذيب والخطف والتقطيع وتهديد العائالت وقطع أرزاقهن وفصلهن عن العمل ،والطعن بشرفهن وسمعتهن وفبركة القصص الدنيئة لهن ،بل أخذت النساء رهائن للمساومة في الوصول لذويهن من إخوة وآباء ناشطين ،أو أن يعتقل ذووها إلجبارها على تسليم نفسها لألمن، ومن منّا ال يعرف قصة الناشطة رزان زيتونة وكيف اعتقل زوجها وأخوه كي تسلم نفسها ..وكانت أول شهيدات الثورة حميدة النطراوي الفياض من مدينة تلبيسة التي صفيت هي وابنها وهما عائدان من مزرعتها بمدينة بانياس ،لتتوالى بعدهما الشهيدات من درعا وريف دمشق وإدلب وجسر
الشغور ودير الزور والرستن. أما الجريمة الدنيئة التي ارتكبت بحق الشهيدة زينب الحصني فقد هزت أركان النظام السوري ومع ذلك لم يرتدع أو يتراجع عن غبائه. بدأت فصول هذه القصة من حي باب السباع أحد أحياء مدينة حمص الثائرة ضد الظلم واالستبداد ،حينها كان الشاب محمد الحصني شقيق زينب أحد أهم الناشطين المعروفين في الحي، ما أثار حفيظة زبانية النظام ضده، فقاموا بعمليات دهم واقتحام لمنزله أكثر من مرة ،مما دفع األسرة لهجر المنزل ،لتذهب إلى منزل آخر أكثر أمان ًا بحي النازحين ..لكن عمليات الدهم طاردتهم ،ومع غياب محمد عن البيت، كانت شقيقته زينب بنت التاسعة عشرة هي التي تجلب احتياجات البيت. لكن كانت عيون الغدر والخيانة تترقب خروج زينب من بيتها في حي النازحين صبيحة اليوم الثاني من شهر رمضان ليتم اختطافها. وبعد مرور خمسة أيام على اختطاف زينب اتصلت فتاة باألسرة لتقول إن زينب موجودة لديهم ومستعدون لتسليمها مقابل تسليم شقيقها محمد، وحددت لهم مكان ًا بأحد األحياء غير اآلمنة ،وعندما طلب األهل التسليم في مكان آمن أغلقت السماعة ،وبقيت األسرة ال تعرف عن ابنتها شيئاً. وفي الثالث عشر من شهر أيلول/ سبتمبر فجعت األسرة بنبأ استشهاد ابنهم محمد على يد رجال المخابرات.. فتوجهت الستالم جثمانه بالمستشفى العسكري بحمص. وأثناء تواجد األسرة في االنتظار علموا بوجود جثة فتاة في التاسعة عشرة من عمرها في ثالجة المستشفى. أرادوا أن يكذبوا ظنونهم ،لكن ذهب البعض ليتعرف على الجثة ،ولم يستطيعوا التعرف عليها في البداية، حتى ذهبت األم وعرفت جثة ابنتها، مقطوعة اليدين من الكتف ،مقطوعة الرأس ،ووجهها محروق ،وعلى ظهرها أثار التعذيب ،والحروق تغطي
جسدها. لم يسمح لتلك األسرة المكلومة باستالم الجثمان إال بعد التوقيع على إقرار يمنع تصوير الجثمان ويمنع إقامة جنازة. وبالفعل حملت األسرة جثمان ابنتها لتدفنها سرًا في مقبرة باب السباع ولكن يذهب من بعدهم بعض الشباب لينبشوا القبر ويصوروا الجثمان ممزق ًا مقطعاً، وتعلن في كل أنحاء سورية جمعة حداد «زينب الحصني» .أرادوا أن يحجبوا جنازتها ،فسار العالم كله في جنازتها! ونتيجة تمسك المرأة التونسية بكلمة واحدة هي «ارحل اآلن» تعرضت المرأة للعنف الشديد من جانب رجال الشرطة، وأصيب في يوم 14يناير اآلالف من النساء خالل االحتجاجات الواسعة التي عمت البالد قبل رحيل زين العابدين بيوم واحد ،حيث كانت النساء والفتيات في مواجهة األمن يتلقين طلقات الرصاص والقنابل المسيلة للدموع. وكشف استشهاد السيدة منال بوعالقي ،عن استخدام عصابات السلطة المسلحة سيارات اإلسعاف كوسيلة غادرة يطلقون منها النار على كل من يصادفهم. وبحسب توثيق الجمعيات الحقوقية لما تعرضت له المرأة ،كان االغتصاب والتحرش الجنسي والعنف اللفظي واالعتداء المتغطرس هو الحال اليومي ألهالي مدن تالة والقصرين والرقاب وسيدي بوزيد وحتى العاصمة نفسها!.. وعرضت الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات فيلم ًا وثائقي ًا عن ضحايا العنف ضد المرأة الذي ذهب ضحيته عدد من النساء باإلضافة لألطفال الرضع الذين ماتوا بتأثير القنابل المسيلة للدموع. وفي ليبيا لم يعرف عدد النساء الشهيدات ..لكن هناك العشرات بل والمئات الذين قضوا تحت نيران القصف العشوائي لكتائب القذافي ،ناهيك عن االعتداء الجنسي واالغتصاب القسري للفتيات. 29
وبس! حريّة ْ رزان نعيم املغربي -طرابل�س
أن تكون ثورتنا سلمية ،كانت هذه حسرتي وغصة كل الشعب الليبي، الذي تحدى نظام ًا سبق له تعليق طلبة الجامعات على حبال المشانق، وساق شباب ًا ورجا ًال إلى صحراء تشاد تنفيذًا ألوامر طاغية ،وأطلق الرصاص على سجناء «بوسليم» ،ألنهم طالبوا بتحسين ظروف اعتقالهم. قبل 17فبراير ،لم يكن البعض يصدق أنهم سيمتلكون يوم ًا الجرأة للقيام بثورة ،ألن النظام عمل طوي ً ال على خديعة نفسية ،تمثلت في الترويج لكذبة أن الشعب الليبي جبان ،وأن صوت الرصاص والسجون التي ترتكب فيها المذابح ،هي خاتمة كل تمرد أو ثورة .مع هذا ،كان اإليمان بأن الوقت حان للخروج ،والتظاهر والمطالبة بالحقوق ،أقوى من صوت المدافع، وعنجهية المرتزقة. أتذكر األيام الثالثة األولى من الثورة وكيف كنا نسمع أصوات الرصاص، أثناء تشييع الشهداء في بنغازي ،من خالل هواتف الصديقات واألصدقاء، ودعوتهم لنا كي نناصرهم ونخرج أيض ًا ليخف الضغط عليهم ،وهو ما حدث فعلياً ،وخرجت طرابلس رجا ًال
30
ونساء ،وامتألت الشوارع بجموعهم تطالب برحيل من ال يصدق أن في ليبيا رجا ًال ..فإذا برصاص المدافع الغادرة يهطل من أعلى السرايا الحمراء على الجموع الهادرة ،ويسقط أكثر من 800 شهيد. هؤالء الشباب والرجال الذين عادوا وبعضهم اختفت جثثهم ،أقسمت أمهاتهم على األخذ بالثأر ،بل نساء ليبيا اللواتي لم يتقبلن العزاء ،أقسمن جميعهن على دفع أبنائهن بشجاعة نادرة ،إلى الخروج وحمل السالح. هجرن حفالت األعراس ،وتبرعن بالحلي والمجوهرات لصالح الثورة. وبرزت أخيرًا المرأة الليبية الحقيقية، التي اختفت طويالً ،وغيبت قسرًا. فجأة أصبحنا نمتلك (شيفرة) خاصة لكل مكالمة هاتفية بين اثنتين من الصديقات دون أي اتفاق سابق، واستخدمنا لغة نسائية مشفرة ،لنقول إن هناك اشتباك ًا في منطقة معينة من طرابلس ،نعبر عنها بالقول« :هناك حفلة صاخبة في صالة األفراح» ،و«تم تعليق زينة ضخمة» ،كناية عن رفع العلم في مكان ما .كانت تنتقل األخبار من خالل الهواتف المراقبة ،وتصل إلى
اإلعالم بشكل سريع وفوري. تازيري امرأة شابة من يفرن ،كانت تلف الذخيرة بغطاء طفلها الرضيع في حجرها ،ووالدة زوجها العجوز تخبئ تحت ردائها األبيض رشاشاً .صديقتي تازيري من أمزيغ الجبل الغربي، صاحبة مشاريع مدارس األطفال، وقارئتي األولى .تلك المرأة الشابة، تحولت، التي تهوى السفر والرفاهيةّ ، بين يوم وليلة ،إلى مهربة للسالح والذخيرة ،بينما شقيقتها األصغر تصر على البقاء وحيدة في (يفرن) كي تطهو للثوار من أقربائها وغيرهم .غير عابئة بصواريخ كتائب القذافي ،وال بإمكانية تعرضها لوحشيتهم لو وقعت بين أيديهم أسيرة. أما تركية عبد الحفيظ ،وهي كاتبة وأستاذة جامعية من بنات تاجوراء في طرابلس ،وزوجها كاتب وباحث من مصراتة ،فكانت تدفع ابنها الشاب إلى تونس ليأخذ مركب ًا بحري ًا صغيرًا ويدخل مدينة مصراتة ويشترك في الدفاع عنها .هذه القاصة الرقيقة كان سالحها قلم ًا ينتقد ويسخر ،ولم يدر في بالها يوماً ،أنها سوف تشجع أكبر أبنائها محمود (سنة أولى جامعة) ليكون مقات ً ال على الجبهات ،وها هي صورته في جبهة سرت حام ً ال رشاش ًا ثقي ً ال منشورة على صفحتها على الفيسبوك. من جهتها ،ظلت سيدة األعمال هند تطارد صفقات وعموالت من بلد إلى آخر .هذه المرة ركبت سيارة أجرة مع أوالدها ،وأقامت في تونس ،من هناك أخذت تجمع التبرعات ،وتسافر إلى مخيمات الالجئين ،ثم تعود إلى العاصمة تونس لتتابع إجراءات شحن الدواء ،ثم تدفع باثنين من أوالدها أصغرهما لم يبلغ العشرين من عمره، ليلتحق بمعسكرات التدريب في الجبل الغربي. فوزية ،سيدة مصراتية ،ذهب ابنها مصطفى ،الذي تخرج في كلية الهندسة المدنية العام الماضي إلى الجبهة، يدافع عن مدينته ،برفقة خمسة من
عالمة النصر الذي جاء
أصدقائه .كان كلما يعود إلى البيت ليغتسل ويرى والدته ،يخبرها بأنهم ودعوا شهيدًا منهم .في المرة األخيرة أخبرها أنه لم يتبق سواه مع ابن خالته .طلب أن ينام ساعة على ركبة والدته ،ليصحو ويلتحق بهم .كان نومه عميقاً ،وبإحساس األم القوي، شعرت أنها المرة األخيرة ،فلم توقظه حتى الفجر ،ولم تتحرك من مكانها، ولم تغير جلستها ،حتى ال يستيقظ. ومع هذا لم تطلب منه البقاء ،بل دفعته نحو مصيره ،ليعود لها شهيدًا. تحول الثورة السلمية إلى ثورة ّ مقاومة وسالح فرض علينا الخوف. والخوف هنا ليس من الموت والقتل، على الجبهات أو برصاص القناصة التي انتشرت على أسطح العمارات العالية الحكومية والسكنية في طرابلس ،إنما خوف من االعتقال ،والمهانة لكرامة اإلنسان .فالنظام الذي تزعمه القذافي، خرج إلينا يسأل« :من أنتم ؟ يا مقملين ياجرذان ،مهلوسين! .»..لم يكتف بذلك
التجريح العلني ،بل مارسه ،وأمر المرتزقة باغتصاب النساء .وقد رأى العالم حالة إيمان العبيدي التي اقتحمت فندق «ريكسوس» وهي تصرخ طالبة أن يشهد اإلعالم الغربي المرهون والمعتقل داخل الفندق على ما وقع لها. عندما قيل عبر وسائل اإلعالم إن العاصمة معتقلة ،لم يتصور أحد في الخارج معنى ذلك ،وكيف كان شكل المعاناة .كيف انتشرت الكتائب زنقة زنقة وبيت بيت .كانوا من داخل حدائق بيوتهم يطلقون الرصاص العشوائي، وفي الليل يصبح أشد وأقوى وهم يطاردون ثوار المدينة ،وينادونهم «يا جرذان!». كانت المقاومة تتخذ أشكا ًال بدائية، في مواجهة سالح قوي ال يرحم ،ويمكن أن أذكر مثا ًال :عندما بدأ اقتحام مدينة بنغازي في 3/19وقبل ساعات من تحليق الطائرات الفرنسية في السماء، كانت الدبابات تدخل إلى بنغازي، وكان الشارع مرتفع ًا قلي ً ال وكأنه على
هضبة صغيرة ،مما جعل رجال وشباب بنغازي ،يفرشون الشارع بالسجاد بعد أن أغرقوه بالزيت والوقود ،وانتظروا وصول الدبابات التي اشتبك جنزيرها بالبساط ،وهنا قاموا بإلقاء زجاجات حارقة ،أعدوها بأنفسهم ،وتم تفجير هذه اآلليات الضخمة الزاحفة لقصف المدينة. كل تلك البطوالت ،كانت وراءها أمهات وزوجات ،يدفعن بالشباب والرجال ،للدفاع عن الوطن .ورغم الوضع الملتهب ،وجدت بعض النساء حرية في التنقل والحركة لنقل المنشورات لخيام الكتائب ،تحثهم على االنشقاق ،وتقوم بنقل السالح من جهة إلى أخرى ،على الرغم من حذر النظام ليكن ضمن نقاط الذي جند حارساته َّ التفتيش على كافة الحواجز ،داخل المدن وخارجها .اليوم ،بعد سقوط نظام القذافي ،ستبقى ذاكرة األمهات والنساء تحفظ صور الشهداء ،ألنهم وحدهم من دفع الضريبة مرتين. 31
حرائر سورية عبداهلل احلامدي
المرأة السورية هي األكثر إحراج ًا للنظام ،فليس من المعقول أن تكون ريما فليحان أو مي سكاف أو مروة الغميان «جماعة مسلحة»! مروة منذ 15مارس/آذار 2011 تاريخ خروجها في أول مظاهرة حرية مع رفقائها الخمسة (فقط) حسمت أمرها، فسورية ُتشترى بالروح ،وترخص لها الدماء ،ودعت أباها وأمها عبر مقطع فيديو مسجل بالموبايل ،وخرجت في الصباح دون أن يرف لها جفن طوال الليل ،متفقة مع صديقتها نورا الرفاعي، وكأنها تستعيد حكاية البطل يوسف العظمة وزير الدفاع السوري حين توجه إلى معركة ميسلون عام ،1920مودع ًا ابنته الوحيدة «ليلى» ،بعد أن أدرك خسارة المعركة مسبقاً ،بسبب قلة العدد والعتاد ،بعبارته الشهيرة« :حتى ال يقولوا إن الفرنسيين دخلوا دمشق بال مقاومة» ،فكانت معركة الكرامة التي استشهد فيها. «الموت وال المذلة» هو التعبير األحدث عن شعب «تحت هودجها/ وتعالجنا /صار سحب سيوف /يا ويل حالي /يا ويل ويلي /يا ويل حالي/ أخذوا حبي /وراحوا شمالي /راحوا لبعيد /لبعيد راحوا /كيف بدي أطير؟/ وجناح ما لي!» ،وغيرها الكثير من
32
األهازيج التي ترددها النسوة وأطفالهن في البيوت ،من تالل الجزيرة إلى سهل حوران ،ومن جبل الزاوية إلى بساتين الغوطة ،أما الشباب األباة فيودعون أهاليهم ويخرجون ،ليصرخوا مطالبين بالحرية ،ويستشهدوا تباعاً. ال يمل النظام من القول :ال ثورة في سورية ،وال يخجل من القول بالمقابل: ثمة مطالب محقة! وكأن قدر المرأة السورية ،عاملة وفالحة وموظفة وربة منزل وطالبة جامعية أن تحمل وزرين ثقيلين معاً :أو ًال أنها امرأة مثل سائر النساء في دكتاتوريات العالم الثالث، ترفع شعار حقوقها الطبيعية ،وثاني ًا أنها ثائرة ضد نظام ال يسمي األشياء بأسمائها ،فعليها أن تثبت أنها امرأة، وعليها أن تثبت أن ما يحدث على طول الوطن وعرضه ،ويستشهد الرجال والنساء واألطفال في سبيله هو ثورة، وليس مزحة. ً ظاهرة تدعو للدهشة أن أليست تتبعثر السورّيات منذ بدء الثورة، ٌ كل منهن في اتجاه :بهية مارديني في القاهرة ،ريما فليحان في عمان ،مي سكاف في موسكو ،سمر يزبك في باريس ،طل الملوحي في السجن، ال ،كانت مودعة في السجن قبل اندالع الثورة بكثير ،وتعرضت لما ال حصر له
من الشائعات والروايات البوليسية التي تفوقت فيها على «رأفت الهجان» ،رغم ّ أن ّ «مدونة» مراهقة لم طل كانت مجرد ِّ تكمل عامها العشرين. الكاتبة الدرامية ريما فليحان التي خبرت تفاصيل الحياة االجتماعية السورية ،وكانت من أوليات الثائرات، تروي حكايتها مع الثورة :صدر بحقي قرار بالمنع من السفر ،وصرت مهددة باالعتقال والتصفية في أية لحظة، وجدت نفسي أمام خيارين :إما الصمت أو الهرب ،وتأتي تتمة الحكاية من العاصمة األردنية :الفكرة تمثلت في ضرورة إيصال صوتنا إلى الشارع، بدأنا تنفيذ الفكرة بإنشاء صفحة على «الفيسبوك» تحت اسم «مثقفون من أجل سورية» ،تضمنت المطالبة بإطالق سراح المعتقلين ووقف أعمال القتل، اخترنا جامع الحسن في منطقة الميدان مكان ًا للتجمع ،وقبل التحرك وجدنا أنفسنا محاطين برجال األمن والشبيحة، أخذونا الى فرع األمن الجنائي ،وهناك فصلوا الشباب عن البنات ،أودعونا في القسم المخصص لقضايا الدعارة، أدركنا اإلهانة التي يحاولون توجيهها إلينا ،رفضنا البقاء هناك ،ونقلونا بعد ثالث ساعات إلى غرف عارية من كل حولونا بعدها شيء لمدة أربعة أيامّ ، الى المحكمة ،ونحن مقيدات بالسالسل كالمجرمين ،وتكمل «صاحبة بيان الحليب» :الطفل الجائع في درعا استفز شعوري بأمومتي ،قمت بكتابة بيان من عدة أسطر أناشد فيه الحكومة السورية السماح بإدخال الحليب ألطفال درعا، ألن طفل درعا ال يمكن أن يكون مندساً، وصل عدد التواقيع على البيان الذي أرسلناه إلى وزارة الصحة إلى 1400 توقيع ،وكان من بين الموقعين منى واصف وريم علي وكاريس بشار ،ثم تسترجع ريما تاريخ عالقتها مع النظام قائلة :عندما كنت طفلة في البكالوريا، نسبونا الى حزب البعث ،وكانوا يعقدون لنا االجتماعات ،لم أستطع االستمرار، قلت لهم أرغب باالستقالة ،وحينما رفضت التراجع قاموا بفصلي ،بمعنى
سهير األتاسي
مي سكاف
أم زينب الحصني
زينب الحصني
مروة الغميان
سمر يزبك
ريما فليحان
طل الملوحي
أنهم نسبوني إلى الحزب وفصلوني، دون أن يتركوا لي حق اختياره أو مغادرته ،وتضيف :في االستفتاء األخير على والية األسد األب ،كانوا يجرحون أصابع المواطنين ليبصموا بالدم، ويعبئون استمارات االستفتاء نيابة عنهم ،لم أحتمل الموقف ،وخرجت من أصوت ،وعندما تولى بشار دون أن ّ الحكم ،توقعنا منه التعددية السياسية واإلصالح ،لكن ذلك لم يحدث ،واستمر الفساد والبيروقراطية والفقر ،وتدخالت الفروع األمنية ،لم نشعر بالتغيير ،يريد بشار أن يبقى مثل أبيه ،وأن يحكم ابنه أبنائي! الناشطة السياسية سهير األتاسي رئيسة منتدى جمال األتاسي للحوار الديموقراطي ،الذي تم إغالقه ،لم يبق لها سوى فضاء الفيسبوك لتواصل فعالياته ،تعرضت للضرب والشتم بألفاظ نابية في الثاني من فبراير 2011حين احتجت بإشعال الشموع مع مجموعة شبابية ،تضامن ًا مع الثورة المصرية بدمشق ،فانقض عليها بلطجية األمن على مرأى ومسمع عناصر الشرطة ،وتلقت سهير أول صفعة في الثورة السورية من ضابط أمن لم يعرف بهويته وهددها بالقتل. ِّ يزبك المولودة سمر الروائية في مدينة جبلة المطلة على الساحل
السوري والتي خرجت من عباءة العائلة والطائفة متخطية المحرمات االجتماعية عبر رواياتها «الصلصال» و«رائحة القرفة» و«طفلة السماء» وكتبت 13فيلم ًا ومسلس ً ال واحدًا أعلنت على صفحتها في الفيسبوك« :لو كان اإلمام علي بن أبي طالب يعيش بيننا ،لكان أول متظاهر فوق األرض السورية الكريمة ،ولرأيتم وجهه دامياً ،أعرف كم سيغضبكم هذا الحديث ،أعرف أنكم تبرأتم مني ،ولكني لست بريئة منكم ،أنتم في صدري مثل سكين ،أعرف كم يلزم من الوقت لتشعروا بالخديعة التي صمتم فيها عن وجه القاتل» .وتتابع :لقد كنا نعيش مع ًا في دوامة الخوف ،اآلن لم يعد هناك من مجال للوقوف بشكل حيادي اتجاه ما يفعله النظام المستبد بكم، بقراكم الفقيرة ،ورجالكم الذين تحولوا إلى مرتزقة ،ومثقفيكم الذي قضوا عمرًا في سجون النظام ،النظام المتمثل بعائلة طاغية تجعل منكم درع ًا بشري ًا لها ،وتستمر في جبروتها وطغيانها، وتحرفكم عن مسار الحق ،مضيفة: «لن يقتلكم أخوتكم في الوطن والسماء واألرض ،زوال العائلة المجرمة الحاكمة ال يعني زوا ًال للطائفة ،الطائفة أبقى وأعز ،يذهبون وتعيشون بين إخوتكم، لهم ما لكم ،ولكم ما لهم». الممثلة مي سكاف التي اختفت مدة
في حواري الشام إثر مالحقتها من قبل «الشبيحة» ،ثم ظهرت في موسكو، على شاشات عدد من الفضائيات منها «الجزيرة» رأت في الثورة السورية بداية جديدة :الحياة اختالف واالستقرار موت ،إنها سورية العظيمة ،وليست سورية األسد ،مضيفة :أنا أحب أبي رحمه اهلل ولم يخطر ببالي أبدًا أن أضع صورته على زجاج سيارتي ،وفي مكتبي وأمام مدخل بنايتي! مروة الغميان ودانا بقدونس وسهير األتاسي وملك النشواني وسارة الطويل ومي سكاف وريم فليحان ويم مشهدي وسوسن العبار وشقيقتها غادة ورغداء حسن ونور جزماتي التي اعتقلت خالل مشاركتها في مظاهرة باب الحديد في حلب وكثيرات جدًا ..حطمن جدار الخوف ،كل واحدة منهن بمائة رجل ،قلن لرجل المخابرات :كفى ،فما عاد الحجز والتوقيف وغرف التحقيق، وال حتى الرصاص يخيف ،ولعل األهم أنهن فضحن المعارضة الفلكلورية التزيينية التي مارسها أربعين عام ًا كثير من المثقفين والفنانين الجبناء بقصد التربح عن طريق الحديث باسم الشعب الذي خرج عن صمته في الشارع ،ولم يعد بحاجة إلى متحدثين و«منفسين» يرعاهم النظام األمني المستبد ضمن جوقته.
33
كانت الناشطة اليمنية توكل كرمان جالسة في خيمتها منذ انطالقة الثورةاليمنية ،كانت هناك عندما تلقت مكالمة هاتفية تخبرها أنها حصلت على جائزة نوبل للسالم .2011
حفيدة بلقيس سيدة السالم جمال جربان � -صنعاء كأن توكل كرمان ُخلقت الجتياز الخطوط الحمراء في مجتمع قبلي تقليدي محافظ ،يحاول االقتراب بحياء من خط المدنية.خرجت من عباءة أبرز األحزاب الدينية األصولية في اليمن وتمردت على رموزه المحافظة ،من أهمها رجل الدين المتشدد عبد المجيد الزنداني. خلعت النقاب مفضلة الحجاب كي تكون قادرة على الحركة بشكل أفضل. تمردها لم يمنعها من التدرج تنظيمي ًا في حزبها واصلة مصاف مجلس الشورى فيه .دخلت جغرافيا الصحافة وصنعت لنفسها نبرة قوية جامحة جعلت منها األولى في كتيبة صحافيين شباب رفعوا شعار «ارحل» في وجه الرئيس اليمني الذي لم يّدخر طريقة تأديبية في حقها إال وفعلها ،بداية من الشتائم عبر الصحف الممولة من القصر الرئاسي، مرروًا بالمحاكمات و انتهاء بالخطف واالعتقال والتهديد بالقتل .لكنه لم يكن يعلم أن كل هذا سيمهد الطريق لها كي تصل إلى نوبل السالم.
من هنا تبدأ الحكاية
لم يكن في بال التلميذة اليمنية توكل كرمان(مواليد )1979وهي تقود مجموعة من زميالتها يوم كانت في الصف الثاني 34
الثانوي في مسيرة احتجاجية باتجاه مكتب مديرة المدرسة ،من أجل إيصال رسالة تقول بعدم رضاهن عن سير العملية التعليمية ،أن هذه الطريق ستطول بها مع السنوات لتصل حد قيادة مسيرة أكبر حجماً ،وتذهب بها باتجاه القصر الرئاسي مطالبة بـإسقاط النظام في اليمن. من المدرسة إذًا ظهرت تلك الروح االحتجاجية عند توكل مفصحة عن بذرة فتاة قيادية ستنمو مع الوقت لتصبح منهج ًا في الحياة ورغبة ال تلين في تغيير األوضاع المغلوطة التي تراها قائمة في كافة نواحي الحياة اليمنية على اختالف مستوياتها. «أنا سُأغّير» ،تقول توكل .وليس «أنا سوف أسعى أن ُأغّير» .الدقة مطلوبة هنا من طرفها وتعني لها المفردات الشيء الكثير ،لهذا تحرص على اختيارها بعناية شديدة لما في هذا من قدرة على تهيئة رسالتها التي تريد إيصالها من غير تشويش أو سوء فهم قد يضران بها .كما كانت تعرف بشكل مسبق أنه ولكونها امرأة في بيئة اجتماعية غير متصالحة تمام ًا مع النساء سيكون عليها بذل جهد مضاعف وإضافي عن أقرانها الذكور وهذا كي تصل لمرتبة معينة من القدرة
على اإلقناع .لكن كل هذا لم يكن متاح ًا من الفراغ أو نزل عليها فجأة من مكان ما حيث هناك من صنع لها أرضية متينة كي تسير عليها بتلك الثقة الظاهرة على خطوتها كما على نبرتها إذ تصرح ﻠ «الدوحة»« :هو أبي( ،عبد السالم كرمان الوزير السابق وعضو مجلس الشورى اليمني حالياً ،الذي يعتبر من أهم المرجعيات الفكرية لحزب التجمع اليمني لإلصالح وهو الحزب الديني في بذرة األبرز في اليمن) ،من زرع ّ ثقة بدأت تتشكل في داخلي فعمل على تنميتها ودعمها حتى صرت أنا توكل كرمان بشخصية مستقلة وبنبرة خاصة بي» .وعليه كان اكتساب الثقة في وقت مبكر والقدرة على الخروج بلسان قادر على الكالم بصوت مرتفع .لهذا كان اختيارها السير في طريق الصحافة ليس غريب ًا وقد طورت وضبطت لهجتها، وتمكنت من مفرداتها بشكل واضح .لكن لم يكن هذا كل شيء! تقول لنا توكل إن الخطوة التي تريدها كانت أكبر من الممر الضيق المتاح الذي كان أمامها« :صار صوتي يضيق من مساحة المقال الواحد وأصبحت بحاجة لجغرافيا أوسع لها أن والهم لم يعد ُتَمكِّني من االنطالق ،كما ّ شخصي ًا بل صار مالمس ًا لمجتمع بحاله يعاني من الكبت وانحسار مساحات الكالم والتعبير» تضيف. وعليه قالت لنفسها :لنطلق منظمة وتعنى بالدفاع عن مدنية مستقلة ُ الحريات والحق في التعبير وامتالك الناس لحق إنشاء قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية خاصة ،والتوقف عن محاكمة الصحافيين والصحف في محاكم جنائية .خطوة سارت في نجاحها بتأسيس منظمة «صحافيات بال حدود» لكن بشكل مؤقت قبل أن يتم قرصنتها عن طريق عناصر تابعة للنظام.
في مواجهة السيستام
بالنسبة لفتاة ال تعرف الهدوء أو االستكانة لمصير ُفرض عليها ،لم يكن هذا نهاية الطريق ،فكانت محاولتها الثانية لتأسيس منظمة بنفس األهداف مع تحوير االسم الذي تمت مصادرته
ليصبح «صحافيات بال قيود». مهمة لم تكن سهلة أمام تعنُّت وإصرار رسمي بعدم منحها الترخيص المطلوب عن طريق اختراع أسوار من الطلبات التعجيزية أمامها .لكنها لم تجنح للراحة وتقول« :لقد فعلت كل ما بوسعي وأرحت ضميري» .لم يكن هذا ما قامت به حيث ذهبت ألبعد من ذلك بأن أعلنت نيتها االعتصام في الجهة الحكومية المخول لها إصدار التراخيص المانحة لحق تأسيس المنظمات األهلية. فأخذت أغراضها الشخصية وجهاز حاسوبها الخاص وأعلنت في وجوههم أنها لن تغادر المكان قبل حصولها على الترخيص.ووجدوا أنفسهم مجبرين على التواصل مع الجهات الرسمية العليا التي لم تجد ح ً ال غير إعطاء أوامرها بمنح توكل الترخيص الذي تريده لتأسيس منظمتها. «ما كان يشغل تفكيري وقتها كان أبعد من أهداف المنظمة نفسها وصو ًال عند طرح فكرة عدم التنازل عن الحق الشخصي البديهي المكفول لكل الناس بعيدًا عن المستويات القبلية واالجتماعية التي ينحدرون منها واعتبارها كحق أصيل وليس هبة أو منحة من الحاكم» تخبرنا توكل التي نجحت في وقت قياسي في تحرير مفهوم عمل المنظمات الحقوقية المدنية مطلقة إياه من محيط مقراته ومن الجداران المحاصرة له في ّ
ساحة المكاتب الروتينية منطلقة إلى الشارع العام وفضائه وعبر منظمة «صحافيات بال قيود» جعل الكلمة متاحة في الشارع العام وفي الساحات .وكان هذا من خالل اتخاذها لفكرة الساحة كشكل من أشكال النضال السلمي من أجل استعادة الحقوق المنهوبة« ،ساحة الحرية» التي سبقت «ساحة التغيير» الحالية التي ساهمت في تأسيسها بأربعة أعوام تقريباً .وكان هذا عن طريق الوقوف كل يوم ثالثاء من كل أسبوع أمام الساحة المقابلة لمقر مجلس الوزراء اليمني ورفع الالفتات المطالبة بالحقوق ودعوة أصحاب المظالم لالنضمام إليها .ساحة استطاعت في وقت قياسي أن تتحول إلى يوم محاكمة علني لحكومة البلد ،هذه الحكومة التي صنعت بينها وبين الناس حواجز عالية جعلتها تعيش في جزيرة معزولة عن الهم اليومي المعيش« ،إذا كان لك حق فعليك أن ُتطالب به» تلخص توكل فكرتها عن طريقة استرداد الحق المنهوب والمستباح. عندما خرج طلبة صنعاء إلى الساحة المواجهة لجامعتهم تحت تأثير ما حصل في تونس ،كان سقف مطالبهم هو إسقاط النظام وال شيء دونه .كانت توكل هناك بينهم وخرجت معهم غير يمسهم رافعين آبهين بشيء أو بخطر قد ّ أصواتهم بمفردة «ارحل» ،وهي نفس
المفردة التي كانت توكل من أوائل من وضعها في قاموس الصحافة اليمنية في بدايات العام ،2005وكانت وقتها ضمن كتيبة صحافية شابة نجحت في رفع سقف الكتابة في البلد عن طريق فتح ملفات كانت في عداد المسكوت عنها مثال ملف توريث السلطة ،وحكم العائلة وسيطرتها على مقدرات اليمن. واليوم ما تزال توكل كرمان، المتزوجة واألم لثالثة أبناء مالزمة لخيمتها المنصوبة في «ساحة التغيير»، لكن هناك شيء إضافي حصل؛ فقد وصلتها جائزة نوبل للسالم كأول يمنية وعربية تنالها. ال تكتم توكل فرحتها بالجائزة، لكنها في الوقت نفسه ال تنسى الرفاق الشباب ،رفاق الثورة الذين سقطوا في الطريق لتهديهم إياها وألقرانهم في ثورات الربيع العربي» .لقد صار الوقت مناسب ًا وضروري ًا للتخلص من هذه األصنام التي ظلت تتحكم في مصير البالد العربية كل هذا الزمن الطويل» تقول توكل كرمان بنبرة عالية مستشهدة بمن سقط منهم وبمن هو واقع اآلن على الطريق ذاته .لكنها مع ذلك ال تستطيع كتم مشاعر تأثرها بالشباب اليمني الذي سارت معهم على طريق الثورة بهدف التخلص من حكم علي صالح وعنهم تقول« :إنهم عندي أهم من أي جائزة في الدنيا». 35
رزان زيتونة
الصرخة مايا �شكر اهلل -دم�شق مر ًة« :من المحزن أن أقول إنه قالت ّ ّ استلمتها لم التي القضايا كل من بين ُ أربح وال واحدة» ،مع ذلك يصعب خسرت ولو القول إن هذه المرأة ْ ً قضية واحدة .على العكس من ذلك تماماً ،إذ إن ّ ٍ ٍ «شكلية» في خسارة كل أروقة المحاكم -حيث كانت تدافع عن المعتقلين السياسيين في بداية حياتها لت فوزًا ممتلئ المعنى في المهنية -مّث ْ ٍ أروقة ٍ مشتهاة ،قِوامها الحرّية في حياة االنحياز إلى الضحية ،والدفاع عنها. ال أظن أن المحامية الشابة رزان فكرت يوم ًا أنها – مثل زيتونة، ْ الكثيرين -تملك االختيار بين مقلبين: األول أن تمارس مهنة المحاماة وفق ًا ّ للحّد األدنى من معنى لفظ المهنة، فتزيد بذلك من أي الشهادة الجامعية. ّ ُ ٍ ِ إحصاءات سنوية، عدد النساء في ٍ وإن إنهن فاعالت في مجتمعهنّ ، تقول ّ التحرر ،تتضح معالمه إلى طريقهن ّ الدارسة ،كلّما ازددن رقم ًا «اقتصادّياً»- ِ أما األحوال. أحسن في يبدو- ما على ّ المقلب الصعب، المقلب الثاني ،فهو ُ إصرار سبق عن ألنه يتجاوز، ٍ وتصور ،الحّد األدنى من المعنى، ّ ويذهب باتجاه ذرا المعاني ،حيث ال 36
درب تتضح طريق معّبدة سلفاً ،بل ٌ معالمه وفق ًا للتجربة التي ستمحو الخاص للحياة رويدًا رويدًا الحّيز ّ العادية أو الطبيعّية المرأة مثقفة ومستقلة ،وتصقل بد ًال منه حّيزًا من نوع مختلف ،المرأة فريدة. ٍ فليس سه ً معتقل ال أن تدافع عن ٍ سياسي في بلٍد مثل سورية ،وأن الحت وتكرره كلّما تصر على ذلك ْ ّ ّ ٌ «فرصة» كهذه .خصوص ًا في األفق أن تعليق ًا بليدًا جاهزًا بالمرصاد من ِ وصف عملك المهني هذا« :هذه أجل طواحين الهواء ،فال تجعل من نفسك دون كيشوت!» .لكن المدافع عن المعتقل السياسي ،يرى أبعد وأعمق ٍ تشبيه من تعليقات جاهزة تستند إلى في غير محله .فال طواحين وال دون كيشوت ،بل معتقل /ضحية. يرى المدافع عن المعتقل – الضحية أبعد ،ألنه يتواصل معها ومع أهلها األم واألب ،الزوجة والزوج، أيضاًّ : ّ واألبناء .فيتبّدد التشبيه البليد ،وتحل قصة الضحية التي ال تنفصل بد ًال منه ّ نحو ِ يمكِّننا من عن قصص أهلها ،على ٍ القول إن وراء ّ معتقل سياسي/ كل ٍ
ضحية ،طائفة من الضحايا .ويرى المدافع أعمق إذ كلّما دافعت رزان وجدت سياسي، معتقل زيتونة عن ٍ ْ ّ ّ وتكشَف ْت صورة وراءه ضحايا جددًا، الوطن :سورية. كانت وفرة القصص الشخصية ربما ْ التي تعرفها هذه المرأة النبيلة ،زادًا روحي ًا وعاطفي ًا لها في ابتداع حّيزها المختلف ،حّيزها الذي ظهر في مقاالتها الصحافية ودراساتها عن أوضاع محّددة ألهالي الضحايا مثالً( :زوجات المعتقلين األصوليين« :مجاهدات»، مهمشات) .مثلما ظهر «فاضالت» ّ الحق ًا في (مذكرات الثورة ،سراقب، دارّيا ،ياسمين وغيرها) ،التي تمّثل جزءًا يسيرًا من مشاهداتها ومشاركاتها وتفاعلها مع الشباب الذين يخرجون إلى الطرقات ،حاملين أرواحهم النضرة ،سالحهم أنامل مرفوعة وحناجر تغني ،يستدرجون الحرية، ٍ بأجنحة ال ُتحصر لوح لهم التي ُت ّ بالمثنى ،أن تأتي إليهم رغم الرصاص والقنابل ،رغم االعتقال والتعذيب، رغم األسلحة المشهرة. فمن يقرأ مقاالت رزان ومذكراتها
على االختباء والتخفي ،فمثلما «اختفى» الزوج وأخوه ،اختفى البيت من حياتها اليومية ،بل إن الحياة اليومية العادية اختفت كلّها .لكن بتفاصيلها الصغيرة ْ النضال السلمي ومفرداته ،لم يختفيا من قاموسها البتة. ُيقال إن رزان تظهر فجأة بين جموع المتظاهرين /الضحايا ،تلمع كالشهاب لتقول كلمتين ،ثم تختفي من جديد وتتوارى .لكنها ال تختفي من وراء وتوثق أسماء شاشة الكمبيوتر :تكتب ّ الضحايا من سجناء وقتلى ومختفين قسرًا ،وتحفظ قصصهم وأحالمهم، ً راجفة أم وتشاركهم نبضات قلوبهم ً متسارعة.لم تفتح رزان قلبها للضحايا ضبطت إيقاع نبضاته على بل فحسب، ْ إيقاع نبضات قلوبهم الكسيرة. هذه ،لن يفوته اإلحساس بالتناغم المطلق بين أفكارها وممارساتها من جهة ،وأفكار الضحايا وممارساتهم من جهة أخرى .ولهذا التناغم اسم وحيد :النضال السلمي .ففي دارّيا تلك المدينة الواقعة أسفل خصر دمشق، آسر: التي خلّدها البحتري بمطلع ٍ ٍ «العيش في ليل دارّيا إذا بردا والراح نمزجها بالماء من بردى» تروي رزان كيف قام الشباب بمبادرة حمل الورود والماء إلى الذين قد ال يتوانون عن تغيير صفة معتقل، الموصوف من متظاهر إلى ٍ انتقلت ثم تروي كيف ْ فمعذ ٍ ّب فشهيدّ . ّ (التل)، تجربة دارّيا إلى مدينة أخرى بالتمر الحلوة، استبدِلت الورود حيث ُ ّ أما الماء فقد بقي سلمّي ًا ّ السكري الحلوّ ، عكرت شفافاً .بيد أن «حالوة الروح» ّ المياه ،فسال األحمر وتغّير الموصوف من متظاهر إلى قتيل. وفي ّ مرة تغّي َر الموصوف، كل ّ وأدركت أن حّيزها حياتها، رت تغّي ْ ْ المختلف يتنفس وينمو كلّما اقترب
توثق انتقالهم من من حّيز الضحاياّ . خانة المتظاهر إلى خانة المعتقل ،أو إلى خانة الشهيد ،وتحصي أعدادهم المتزايدة .ومهما تغّير الموصوف، تشّبثت رزان بأفكارها أكثر ،أفكارها التي تستند إلى النضال الالعنفي. تم في شهر أيار/مايو الماضيّ ، ثم زوجها ،بسبب اعتقال شقيق زوجها ّ نضالها من أجل الديموقراطية ،وبسبب دفاعها عن الضحايا .هي تعرف بدقة أنها المستهدفة من وراء اعتقالهما. وابتدعت توارت رزان عن األنظار، ْ ْ حّيزها المختلف ،القائم في ٍ جزء منه،
وفرة القصص الشخصية التي تعرفها هذه المرأة النبيلة ،زاد روحي لها في ابتداع حيّزها المختلف
وإذ ُتسأل في مقابلة صحافية عن ً نبيلة عملها النبيل هذا ،تأتي إجابتها كذلكّ : «أقل ما يمكنني فعله هو نقل صرخة ثورتهم». نشرت الصحافة المرئية حين ْ خبر والمسموعة، والمكتوبة فوزها بجائزة الصحافية الروسية والناشطة في ميدان حقوق اإلنسان وذكرت اللجنة في آنا بوليتكوفسكايا، ْ بيانها« :إن عزيمة زيتونة وتصميمها دفعا النظام السوري إلى القبض عليها وتعذيبها هي وأفراد أسرتها»، فرح معجبوها الكثر ،ال ألنها تستحق ٍ جدارة فحسب ،بل ألنها الجائزة عن ً صدقية عالية في فوزها هذا تعطي لصواب الخيار :أن نحبها ونتباهى بها. امرأة تظهر وتختفي ،تكتب وتختفي ،تقول رأيها بجرأة وصدق وتختفي ،توصل صوت الضحايا إلى العالم وتختفي ،تروي قصص الضحايا وتخفي قصتها الشخصّية: ابتدعت حّيزها المختلف، المرأة التي ْ امرأة المقلب الصعب من الحياة ،واقفة هناك عند ذرا المعاني.
37
أمهات الثورة تاء التحرير
حين أشرق هذا الفجر ظلت الحاجة عنبة في ميدان التحرير ،لم تغادره حتى اآلن .كيف لها أن تغادره وقد صارت معلم ًا من معالمه .ما إن تسأل أي بائع سميط أو تمر هندي أو كبدة في ميدان التحرير ،إال ويشير إلى تلك الكومة العظيمة والوجه المألوف المجاور لعم رمضان بائع الصحف الشهير في الميدان.
�سامي كمال الدين – القاهرة
«نزلت الميدان بعد يوم 28يناير/ علي دور تجاه كانون الثاني .حسيت أن ّ هذا البلد.لما بدأت أشوف الشباب اللي زي الورد في الميدان على قناة الجزيرة، وهو بيجري وعيونه مليانة خوف وتحدي قلت دول والدي .صرخت :جاية لكم يا والدي» ،تقول الحاجة عنبة. مرت دقيقة صمت ،مغلفة بالحزن، لم يكن مقدرًا لها المرور ،في هذا الحديث عن ذكريات أيام مفعمة بالفرح والفخر. قضتها في ميدان التحرير «ناضورجية» على الميدان ،تتابع بعينين منتبهتين الداخل إليه والخارج منه. بررت «عنبة» ذلك الحزن بما أصاب كبد مصر من ألم في مذبحة ماسبيرو – قبيل منتصف الشهر الفائت – واألحداث التي سبقتها ،والمطالب الفئوية التي كادت توقف الحال« .لم يكن هذا هو الهدف الذي خرج الناس من أجله إلى الميدان .الشعب المصري خرج ألجل الحرية وإسقاط الظلم ،وأن يكون
38
بالنساء الداخالت إلى الميدان جانباً، وتفتيشهن ،وفي آخر الليل تلتحف الحجة عنبة السماء ،تنام منتظرة أن يشرق فجر جديد دون مبارك.
مسلموه وأقباطه يدًا واحدة .خرج وهو خايف على مصر ،ومهموم بهمها ،واآلن إللي خرج الشعب لطردهم من الصورة هما اللي بيبانوا في الصورة». من ناهيا في حي امبابة الشهير تحركت الحاجة عنبة إلى ميدان التحرير. وجدت في بنيتها الضخمة وشخصيتها القوية ما يجعلها تقف على أحد مداخل الميدان بجوار الجامعة األميركية ومطعم هارديز .سرعان ما تآلفت مع حراس الميدان ،وأصبح لها صوت مسموع. تختار فتيات يقفن معها .دورهن االنتحاء
والدة خالد سعيد انتقلت من مسكنها في اإلسكندرية إلى القاهرة .وأقامت في شقة مطلة على الميدان
عم رمضان «حدوتة» تمشي على أرض الميدان ،فمنذ عقود يجلس في الميدان .جاء قبل أن يجيء تمثال عمر مكرم المواجه له .تمنى دائم ًا لو أن البعض تفرغ قلي ً ال لهؤالء النسوة اللواتي قمن بدور عظيم في ثورة 25 يناير .ابنه هاني يقول« :اوعوا حد ينكر دور العواجيز اللي زينا .أنا شفت ستات كبيرة بتتسحل .وشفت اللي كانوا بيتعكزوا وهما بيوزعوا ساندوتشات جبنة والنشون للثوار .اللي معاه يدفع اتنين جنيه ،اللي مش معاه ياخد الساندوتش ياكله ،وال يسألونه عن فلوس .أمهات بجد .شافوا األمل بيتزرع في الميدان». والدة خالد سعيد السيدة ليلى تعد من أمهات الثورة – فقد لعبت دورًا مهم ًا يوازي دور السيدات اللواتي كن في الميدان .انتقلت من مسكنها في اإلسكندرية إلى القاهرة .وفي شقة مطلة على الميدان أقامت ،بل وباتت بعض الليالي في الميدان تتابع الجرحى وتتحدث للفضائيات لتحمس الشباب .بل حتى وإن لم تنطق بحرف ،كان وقوفها في وسط المشهد يفجر طاقات تحٍّد للشباب ،وإلعادة الحق الضائع« .كنت أشاهد الجرحى وأصاب بالهلع خوف ًا من أن يالقوا مصير خالد ابني ،وأنا واحدة من ماليين المصريين اللي كان هدفهم رد الظلم والقهر .ال أعرف إن كنت
سوف أنزل الميدان أم ال إن لم يكن خالد ابني فيه ،لكن كانت لدي رغبة أكيدة في التخلص من الجالدين ،وكنت أتمنى أن يعيش الشعب المصري في حرية». ليلة التنحي شاهد الكثيرون السيدة ليلى وهي تقف على المنصة ،تحمس الشباب وتطالبهم بالثبات وتؤكد لهم أن النصر قادم ،وأن الشمس البد أن تشرق. من األيام التي ال تنساها السيدة ليلى أيضاً ،يوم عيد ميالد خالد سعيد. أغلب من في الميدان أجهش بالبكاء، ولعل وجود هذه السيدة في هذا اليوم 27يناير/كانون ثاني – أعطى دفعةقوية للشباب ،فهي تحتفل بعيد ميالد ابن ال يسكن األرض ،لكنه يسكنها. أرادت استعادته في ذلك اليوم من أيام الميدان ،لتستريح قلي ً ال من همها الدائم، لكنها لم تسترح إال حين سقط مبارك ونظامه ،على الرغم من أسودها الذي ما زال يجلل ملبسها.
فادية الطواف نموذج آخر من نماذج السيدات اللواتي شاركن في ثورة 25 يناير .تخرجت في جامعة األزهر ،وكانت تعظ النساء .وكانت عظاتها تحمل دائم ًا تلميحات سياسية لطرد الظلم وردعه. وحين انفجر بركان الغضب كانت في الميدان ،تؤم النساء للصالة« .كانت العديد من السيدات يرغبن في الصالة جماعة في الميدان ،لذا لم أتوان عن هذه الفرصة العظيمة ،فقد ُوجدت في الميدان منذ األيام األولى للثورة ،وكان في صالتنا جماعة ،إضافة إلى ثوابها العظيم ،أن تحقق لنا التآلف والمحبة واالتحاد ،كنا نجهر بالدعاء بعد كل صالة ألن يسقط اهلل الطاغية وأعوانه» تقول. من جهتها ،الناشطة انتصار بدر ترى أن الثورة قامت بالنساء والرجال ،وأن المرأة لعبت الدور المحفز في هذه الثورة سواء كانت فتاة أو امرأة كبيرة السن. «هتفنا كما الرجال وبتنا في الميدان كما باتوا وعانينا كما عانوا .ال فضل لرجل
على امرأة إال بالمشاركة والبقاء في الميدان». الحاجة فاطمة أحمد والدة الشهيد سامح علي جمال تصرح« :أنا فرحانة جدًا بابني .قال لي يا ماما اذا مت شهيد تفرحي بي .وكان يصلي ويدعو اهلل أن ينوله الشهادة .ابني حاصل على بكالوريوس سياحة وفنادق ،وكان يعمل في فندق في مصر الجديدة، وشارك في أول يومين في الثورة ضد الظلم ،وكان طوال الوقت متضايق ًا ومأزوم ًا ممن يقفون فوق كوبري أكتوبر ويضربون الناس اللي تحت ،وقرر النزول بعد أن أنهى ورديته في اللجان الشعبية .ذهب إلى الميدان في الثالثة والنصف صباح ًا وبعد الفجر أحس قلبي بالنهاية ،ونظرت إلى التليفزيون فجأة، وجدتهم يسحبون شاب ًا على األرض، بكيت ،ثم جاء أخي وأخبرني بموت ابني ،وحيدي على ثالث بنات .كان يحلم بالشهادة ويراها بهجة وسعادة وأم ً ال يرنو إليها». 39
الثورة تسقط النموذج األبوي في شخص الديكتاتور
المرأة التونسية تستكمل المسيرة باوال جاندولفي*
كنت محظوظة بالذهاب إلى تونس في إبريل الماضي بمناسبة مؤتمر دولي شاركت فيه ،متحدثة ،باعتباري من باحثي أنثروبولوجيا المغرب العربي وتخصصت في أبحاثي في الثقافات والممارسات اليومية لهذا الجزء من العالم العربي ،فعرفت تونس ،ودولة بن علي البوليسية ،وكان لقائي مع تونس الجديدة مدهشاً. منذ ذلك الوقت وحتى هذه األيام تابعت بشخصي بعض ًا من الحركات الكثيرة التي تنبع من القاع ،والتي حاولت أن تعمل يوم ًا بيوم حتى تنجح الثورة التونسية في تحقيق مقاصدها ،حتى، وعلى األخص ،بعد سقوط بن علي. كل أولئك الذين قابلتهم من نشطاء على جبهات كثيرة ،والذين التقيتهم بطرق وفي أماكن مختلفة قالوا لي إجما ًال :إن الثورة التونسية حتى تنجح يجب أن تقوم بتعبئة العمل الشعبي ،وإن دور المجتمع المدني دور أساسي .غني عن الذكر ومن نافلة القول أن أضيف أن الثورة نفسها على نحو حتمي لم تكن ممكنة لوال الدور األساسي الذي لعبته في هذه العملية فاعليات المجتمع المدني والشباب وجمعيات حقوق اإلنسان
40
والجمعيات النسائية وغيرها. ولكن الوعي األكبر ،في الشهور التالية ،تمثل في الحاجة الملحة إلى تعبئة التحرك الشعبي في مرحلة ما بعد الثورة .من بين الالتي رددن بألف طريقة وطريقة هذه الفكرة ،واستطعت أن أراقبهن ،وأن أراهن بعيني أثناء تحركهن ،وأعتقد أنهن بدأن يطفين بطاقة واقتناع كاملين ،طالبات الجامعة والنساء الناشطات والمهنيات والمعلمات والفنانات ،والالتي يقمن منذ شهور بحشد الوعي العام وتعبئته ،وتوعيته بأن كل يوم له قيمة في أن يوصلن إلى المواطنين ،والمواطنات التونسيات، حقوقهم ،ويقمن بإذكاء الوعي بأهمية التصويت. كثيرة هي الوجوه واألصوات النشطة تلك التي رأيتها طيلة األسابيع الماضية. وبصفة خاصة ،بين صفوف االتحادات الكثيرة ،التي كانت تقوم بعمل دقيق مثل جمعية «مشاركة المواط ن eEngag ،»ment citoyenوهي جمعية جديدة، أسستها أربع سيدات تونسيات ،من بينهن نادرة بن إسماعيل ،وهي محللة نفسية نشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، بهدف القيام بزيارات دورية للمصانع مع
تركيز عال على العامالت ،لتحفيز وعي المواطنة وأهمية التصويت. إن فكرة أداء عمل مستمر في المصانع والتحدث مع العامالت ،وتحفيز إدراكهن لمسؤولياتهن تجاه بناتهن ،وكما أكدن هن أنفسهن ،تجاه النساء العربيات الالتي يراقبنهن في هذه اللحظة التاريخية الخاصة ،هو أمر في حد ذاته ثوري. وكثيرات من هؤالء الناشطات يعرفن تمام ًا أن عملية التحرر النسائي في تونس مرتبطة ارتباط ًا قوي ًا بالتصنيع، وأن التطور الصناعي قد غير التركيبة العائلية وشجع على الحراك االجتماعي والتحضر العمراني .من الناحية التاريخية ،كما تقول بعضهن ،كان الصراع النسائي متسارع ًا على نحو ما بسبب ظروف الحياة والعمل في المصانع (وليس مصادفة أن بعض األحزاب اإلسالمية اليوم تدعو العامالت إلى العودة إلى األعمال المنزلية حتى ال ينضممن إلى أية حركات نقابية). ولكن المثير الذي يمكن أن نالحظه اليوم ليس فقط في قدر ما يمثله ثقل صورة «أب األسرة» على المستويات السياسية والدينية واالجتماعية والثقافية في العالم العربي بسقوط الديكتاتور ،ولكن ما يمثله أيض ًا رفض النموذج الثقافي والسياسي الذي ظل لقرون عديدة يتمثل في النموذج األبوي العتيق. ال يتعلق األمر فقط بعملية تحول يمكن أن تسمح للمجتمع بالتغيير ،بخوف أقل، ودون تعقيدات (كما ترى ليلى زواولي الناشطة في القطب الديموقراطي الحداثي وجبهة النساء من أجل المساواة) ،وإنما األهم من هذا وهو تطور عمليات المشاركة والوعي من القاع تقوم بها النساء من أجل النساء .إحدى المعارك األولى التي كسبها المجتمع المدني التونسي تمثلت في الحصول على المساواة في قوائم األحزاب السياسية النتخابات المجلس التأسيسي .ليس هذا وحسب، بل تشكلت بعد يوم 14يناير مباشرة «لجنة المساوة» التي أرادها قطب الشعب العلماني ،واألكثر إدهاش ًا بعد ذلك هي تلك الدينامية والتحرك المدني للمرأة،
بالخيال تواصل المرأة التونسية إبداع ثورتها
والتي لم تكتف بالبحث في هذه الشهور عن التوعية وتشجيع الصحوة السياسية بصفة عامة ،ولكنها حاولت طرح طرق ملموسة للوصول إلى أحوال اقتصادية مقبولة ،بطرح نفسها بدي ً ال عن األحزاب التي تشتري األصوات. كل يوم في تونس وفي المدن الرئيسية للبالد تنتشر الندوات والمعارض والمهرجانات الثقافية ومعارض الكتاب. لقد أظهر المجتمع المدني نضج ًا ليس مسبوقاً ،والنساء في هذا السياق الجديد كان لهن دور تزيد أهميته باستمرار. وقد تابعت عن بعد تلك المبادرات الكثيرة للجمعيات النسائية التونسية، وأحيان ًا كان يصعب متابعتها لفرط حيويتها وسرعة إيقاعها .وعندما عدت إلى تونس في أغسطس ،كانت جمعية «تونسيات من أجل الحقوق والمساواة والمواطنة» قد نظمت لتوها لقاء في مركز ثقافي خارج تونس لالحتفال بما يسمى «يوم المرأة» ( 13.8.1956هو تاريخ صدور قانون األحوال الشخصية) .إن ما يدهش في هذه المبادرة وغيرها من
المبادرات هو خليط من النضال السياسي والخيال ،والعزم على االتحاد ،في عملية تأهيل وتوعية جادة ،ومعها جرعة إبداع وإمتاع وحيوية. ومن الوسائل المباشرة واألكثر نجاح ًا كانت المشاهد المسرحية التي أعدتها بعضهن :فعلى خشبة المسرح تم تقديم مشاهد من الحياة اليومية للمرأة العادية، وقد وجدت النسوة الحاضرات أنفسهن في هذه المشاهد المطابقة لحياتهن ،فتوحدن معها واستمتعن بها .فمسرحية «مدام ال شيء» كانت مجرد نموذج من عدة نماذج مبدعة وفعالة :الحدث الذي تم تمثيله على المسرح بأسلوب ساخر كان عن مشوار امرأة تقدمت بطلب عمل ،وجنون الوثائق المطلوب منها تعبئتها ،والتي تعني في النهاية أن أي امرأة تريد وظيفة وهي أم ،تبدو رسمي ًا كما لو أنها مدام «ال شيء» .هذا الواقع اليومي المتحول إلى دراما ،تقدم باللغة العامية ،بمشاهد صغيرة واقعية ،كان من بين الوسائل األكثر فعالية لشرح حقوق النساء للنساء وإضحاكهن وإمتاعهن .وعندما كانت
هذه المشاهد الدرامية تصل إلى وجدان الحاضرات الالتي يتوحدن فيها كن ينفجرن في التصفيق والصفير والتهليل. وبالطريقة نفسها فإن مناخ الحوار غير الثقيل ،والتنفيث ،أدى في النهاية إلى أن تكون لدينا أمسيات احتفالية واقعية مفيدة تشيد وتبني ،وتمتلئ بالتبادل النافع للمعلومات .وهذه ليست إال بعض األمثلة .فما نستطيع أن نحكيه كثير. آالف من المشاهد واألحداث ،إلى جوار الندوات السياسية والثقافية ،واإلعالنات الثقافية (مثل إعالن 13أغسطس/ آب 2011للنساء التونسيات من أجل المساواة والمواطنة) ،ابتدعتها النساء التونسيات ،وأثبتن أنفسهن بطالت لمحاوالت التوعية والتحفيز من القاع، وهذه عالمة على الشجاعة وقوة اإلرادة، فإذا أضفنا إليها اإلبداع والخيال نجد أنها تشجع على ديناميات صغيرة وأساسية للوفاء باالستحقاق االنتخابي األول وإلى عملية تغيير أوسع يمكن أن تبدأ من القاع .مع الوعي بأنه في هذه المرحلة، أكثر من أية مرحلة أخرى ،يلزم الخروج بشجاعة واقتناع من البيوت والذهاب إلى المرأة واألسرة ،إلى الناس .وهذا هو ما يهدف إليه مشروع «ارتقراطية»، الذي علق صورًا ضخمة الحجم لمئة مواطن تونسي غير محددي الهوية – من بينهم نساء – على جدران المدن التونسية ،في بلد ظل لخمسين عام ًا ال يعلق سوى صورة الرئيس ،وهو ما يحمل الفن إلى الناس العادية ويعطيها مالمح ووجها ،وبالطريقة نفسها ،فإن بعض هذه المحاوالت كشف عن محاولة حقيقية للمرأة أن تخرج من البيت ومن مقار الجمعيات النسوية وأن تذهب للقاء النساء األخريات والتعرف على قصص أخرى من الحياة اليومية .قبل كل شيء، لكي يتعارفن ويعلمن ويتواصلن ،وهذه هي الخطوة األولى ألي شيء يمكن أن يعتبر ثوري ًا بحق. *أستاذ السياسات التربوية في البالد العربية اإلسالمية المتوسطية واللغة العربية بجامعة بيرجامو اإليطالية. ترجمة :حسين محمود 41
في 15يناير/كانون الثاني ،2011ساعات قليلة بعد سقوط مدونتها «بنية نظام زين العابدين بن علي ،كتبت لينا بن مهني على ّ تونسية» باللّغتين الفرنسّية واإلنكليزية« :أول ما رأيت صباح اليوم ..هو علم تونس».
اسمي « ْبنية» �سعيد خطيبي أبصرت عيناها مع االستيقاظ النجمة والهالل المحاطين باللّون األحمر كما تمنّت دائم ًا رؤيتهما .بعيدًا عن ديكتاتورية الرئيس المخلوع. «الحجب» و«الغلق» هما مصطلحان مدونو تونس الذين عانوا يعرفهما جيدًا ّ طوي ً ال من تعسف النظام البوليسي السابق .ولينا بن مهني( 28سنة)، ّ تردد اسمها مؤخرًا في مداوالت التي ّ لجنة جائزة نوبل للسالم ،هي واحدة من النساء المناضالت اللواتي تعرضن للتّضييق في ممارسة حقهن الشرعي في التّعبير ،وفي الكشف عن المستور .حيث تمت قرصنة مدونتها التي أطلقتها عام 2007إحدى وأربعين مرة ..وجاءت الثورة التي أطلق شرارتها البوعزيزي، وتحرر كثيرين مثلها ،من لتحررها، ّ سلطة الرقيب. دور لينا في تدويل ثورة تونس بالصورة والتعليق ال يمكن أن يختلف ّ فيه اثنان .حيث ساهمت في تزويد الضمير العالمي بالحقائق التي لم تستطع عدسات وكاالت األنباء والقنوات اإلخبارية بلوغها .تسلّحت أيام القمع البوليسي واعتقال المتظاهرين وتعذيب الناشطين السياسيين ،بداية السنة السلمي. الجارية ،بإيمانها في التغيير ّ وسافرت بوسائلها الخاصة من تونس 42
العاصمة إلى القصرين والرقاب بوالية سيدي بوزيد ،حاملة معها كاميرا، وتتبعت عن قرب مسار نهاية الديكتاتور خطوة بخطوة .شجاعة المناضلة في نقل وقائع الثورة من البؤر األكثر سخونة ساهمت في دفع اسمها إلى واجهة االهتمامات الدولية واإلقليمية. حيث نشرت لها دار «أنديجان» الفرنسّية كتاب ًا تحكي فيه جزءًا من تجربتها في مقاومة نظام بن علي. اليوم ،مع دخول تونس مرحلة جديدة ،ال تبدو لينا بن مهني متفائلة وتقول« :أبقى أحتفظ ببعض األمل، ولكنني أرقب بحذر مستقبل البلد» .تعتقد أن التغيير األهم لم يتأت بعد .الطريق ما تزال محفوفة بالعقبات ،وسقوط طي صفحة الماضي الديكتاتور ال يعني ّ كلية .تعبر عن ثقتها في اإلعالم البديل من أجل نقل المعلومة والمساهمة في البناء. ولكنها تشير أيض ًا إلى ضرورة االنتباه تروج لها أمام مّد «المغالطات» التي ّ مجموعات من الداخل تريد سلب الشعب مكتسبات ثروة مست رياحها مصر وليبيا وسورية ودو ًال عربية أخرى. تشاؤم بن مهني ،التي تعمل مدرسة للغة اإلنجليزية في جامعة 7أكتوبر ،يتجلى في آخر ما كتبته على مدونتها عقب السفارة التونسية منح مدونين رفض ّ
فلسطينيين تأشيرة لحضور فعاليات «الملتقى الثالث للمدونين العرب»« :هاته الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة أن الثورة التونسية أكبر دليل على ّ وأن النظام الزال ضاعت من بين أيادينا ّ قائم ًا ّ وكل ما وقع في تونس الحبيبة هو تغيير وجوه النظام ..ما وقع هو تمييز عنصري مارسته حكومة عربية على أبناء شعب مستضعف ال تفسير وال تبرير له ،ومما زاد من تعميق الجرح الرفض وأي أي تفسير لهذا ّ هو غياب ّ أي تفسير لهاته ّ رد فعل مع أنّي ال أرى ّ الخطوة الخطيرة للجهات التونسية المسؤولة». لينا بن مهني التي تعود بداياتها في النضال ضد نظام الطاغية إلى عام ،2008حيث دونت أحداث الحوض المنجمي ،حصدت هذه السنة كثيرًا من التشريفات ،منها جائزة أفضل مدونة التي تمنحها قناة «دوتشيه فيليه» األلمانية ،وجائزة الصحافة العالمية التي تمنحها جريدة «ألموندو» اإلسبانية .يرى فيها كثير من المتتبعين وجه ًا من أهم الوجوه الفاعلة في الربيع العربي .رمز امرأة شابة اختزلت معاناة نساء عربيات كبرن وسط القمع والمنع ،ولكنهن لم يتخلين يوم ًا عن حلم االنقالب على سياسات المنع.
ا�ستدراك
أمجد ناصر
أيام عرب جديدة ..ودامية ال هذا العام .إنه ،حقاً ،من «أيام العرب»، سيتذكر العرب طوي ً س���جل حاف���ل بالوقائع والغارات وهذه األخيرة ،كما نعرف، ّ الت���ي دارت بين القبائل العربية في «العصر الجاهلي» ،أو بين بعض القبائل العربية والفرس ،واكتس���بت على لس���ان الرواة واإلخباريين طابع الملحمة ،وربما األس���طورة ،وتناقلها عرب ال بعد جيل. لك���ن الفارق أن أيام الحقون ،رواية وش���عراً ،جي ً َّ العرب في عام 2011ل���م تكن بين قبائل تتصارع على الزعامة والمجال الحيوي وإنما بين شعوب ُمهانة وحاكمين جائرين من بني جلدتهم أدخلوهم ،بالسجون والمخابرات والتجويع ،إلى حظائر الصمت والطاعة في «الدولة الوطنية». lll
لم يصّدق العرب أنفسهم .لم يصدقوا أنهم قادرون على خلع نير الطغي���ان من أعناقهم .ما حدث كان أكب���ر من أن يتوقعوه فهالهم أنهم بالحناجر ،باألي���دي المعروقة ،بالصدور العارية، ببضعة ش���عارات قادرون على كس���ر جدار الخ���وف والصمت واالنسحاق الذي ُحبسوا خلفه طويالً. الث���ورات العربي���ة التي اندلعت من جس���د التهمت���ه النيران في بلدة مغم���ورة ونائية في تونس فاجأتن���ا قبل أن تفاجىء غيرنا .هذا الس���يل الهادر من الحناجر واأليدي واألجساد الفتية ح���ط علين���ا ،أربكنا .فقد والتصمي���م ،ال���ذي ال نعرف من أين َّ صدقن���ا أننا اس���ثتناء من الحري���ة والكرامة .مجرد جس���د تبَلّد حي س���وى ما يربطه بحياة ول���م يعد يصدر عنه ما يوحي أنه ٌّ األنعام :البيولوجيا الصرف .هذه هي عالمات الحياة وأماراتها في جس���د أمة تتم���ّدد ،بخنوع وذَلّ���ة ،بين ماءي���ن مالحين .ال شيء ،تقريباً ،غير ذلك .دليلنا على االستثناء المعيب هو هذه انحطت ،في هزيعها األخير ،إلى مستوى األنظمة البائسة التي َّ العصابة .دليلنا هو الخوف الذي سكننا كقرين من ِّ كل من تلوح على كتفه ش���ارة :الجندي ،الشرطي ،جابي المياه والكهرباء، تجرب ساعي البريد إلخ .لكن فجأة يحدث ما لم يحدث من قبلِّ . الجموع التكّتل والّتراص في الشارع والميدان العمومي .تزحف من األزقة والحارات لتصب في النهر البش���ري الذي يكبر ويعلو تجرب الجموع اس���تخدام الحب���ال الصوتية المعطلة ويم���وجِّ . فتطلع الصرخة الحبيسة .تهدر األصوات أكثر وأعلى فيتداعى، تحت عصف هديرها ،هيكل الطغيان ويتبدى خواؤه الفظيع. االنهيار الس���ريع الثنين من أش���رس األنظم���ة العربية أمام أي س�ل�اح سوى اإلرادة ،سوى الشوق قوة الناس العارية من ّ
تحول عدوى انتشرت في الهواء العربي .طلع ّ الممض للحريةَّ ، الناس م���ن الكهوف والمغاور ،من وراء األس���وار العالية ،في غير مكان عربي .في هذه األثن���اء صحت األنظمة العربية التي ش���عرت بالزلزلة تحت أقدامها من طمأنينتها إلى ثبات «طاعة» شعوبها وانصياعها إلى االستبداد فانتضت السالح .بادرت إلى الرصاص الغزير .وعندم���ا لم ينفع رصاص البنادق في إعادة «العبيد» اآلبقين إلى حظائر الطاعة ،دفعت دباباتها ،التي كادت أن تصدأ في المستودعات ،إلى المدن والبلدات العاصية. زمر محولة الش���عب إلى ٍ وم���ع انطالق دبابة النظام العربي ّ م���ن اإلرهابيين والس���لفيين والمتآمرين والج���رذان حامت في أجوائنا أس���ئلة التش���كيك :ه���ل هذه الثورات م���ن صنعنا ،أم من صنع أميركا والصهيوني���ة العالمية؟ هل ما يجري ثورة أم مؤامرة علينا؟ lll
«األجندات الخفِّية»! هذا هو مربط الفرس عند المش���ككين في دغدغة لدى رهط من المثقفين االنتفاضات العربية .وهذا يحدث ً والسياس���يين الع���رب ذوي الخلفي���ات القومية والماركس���ية المبتذلة (غير الماركس���ية الحقيقية) مم���ن وقفوا ،وال يزالون، مع أنظمة الطغيان العربي بحجة تغليب «التناقض الرئيس���ي» (االمبريالية والصهيونية) على «التناقض الفرعي» (ما يسمونه األنظمة الوطنية العربية). لست من السذاجة كي ال أعرف أن مصالح الجماهير العربية قد تتقاطع في لحظ���ة معينة ،من دون تخطيط وال أجندة ،مع مصالح آخرين ،قوى عظمى مثالً .المثال الفلس���في المدرس���ي تغص بالماء وتم���وت ال يعني أن القدي���م ال يزال صالح���اً :أن َّ َّ تكف عن ش���رب الماء .ليس���ت العلة في الم���اء ولن نتوقف عن نغص ب���ه ونموت .نحن في ش���رب الماء ألن هناك احتما ًال أن َّ حاج���ة إلى الماء .إنه أس���اس الحياة .والماء هنا ليس س���وى استعارة للحرية .فلن نتوقف عن طلبها لمجرد أنها قد (أقول قد) تجد ص���دى في نفوس آخرين ،قد تتقاطع مع رؤى وتصورات تخصه���م .فإن لم نس���تطع التعوي���ل على ديناميات ش���عوبنا ورؤيتها الواضحة لمصالحها ووعي ش���رائح من ُنخبنا التي لم ينخرها الفس���اد فهذا يعني أن نقرأ على أنفسنا السالم .ستكون هناك دائم ًا مصالح تتقاطع بين ما هو محلي وما هو خارجي، وال ينبغي أن نصاب بره���اب االرتياب في حاجتنا إلى الحرية رنّة مغايرة في أمكنة أخرى. لمجرد أن لهذه الكلمة َ 43
ربيع العرب بين الكرامة والكونية أو:
نظرية (ك/ك) د.حممد الرميحي-الكويت س���وف نحتاج إل���ى س���نين طويلة لنع���رف األس���باب العميق���ة لم���ا حدث ويحدث ف���ي الفضاء العرب���ي ،انطالق ًا من تونس في نهاي���ة عام 2010وليس انته���اء بما يحدث في س���ورية في بحر عام 2011م���رورًا بمصر واليمن وليبيا. م���ا نحتاجه ه���و التفكير بص���وت عال لتفسير ما حدث. التفس���يرات المتاحة كثيرة ،بعضها قريب إل���ى اله���زل وبعضه���ا قريب إلى الجد .من الهزل ما كتبه توماس فريدمان المعل���ق األميركي المش���هور ،أن العرب (غاروا) من ما حدث لدينا في أميركا وما حدث في إسرائيل ،فقد انتخبنا ألول مرة ال أسود) كرئيس للجمهورية ،وقدم (رج ً رئي���س جمهوري���ة إس���رائيل للمحاكمة بس���بب تح���رش جنس���ي! يق���ول عندما ش���اهد العرب ذل���ك قرروا أن يعيش���وا عصر الديموقراطية! بالطبع ذلك تفسير ساذج لألحداث ،ولكن ال يخلو من نظرة س���لبية للعرب ظهرت بين السطور وإن لم تقل. م���ا يعنينا ه���و توصيف م���ا حدث، الحقائ���ق أمامنا تق���ول إن ربيع العرب 44
انقس���م إلى قس���مين :األول س���باق قفز موانع لمئة متر ،قصير ومثير وس���ريع النتائج ،ذلك حدث في تونس ومصر، والثاني س���باق ماراثوني طويل أنهك األنف���اس وبعث���ر الدم���اء ،كم���ا حدث ويح���دث ف���ي ليبيا واليمن وس���ورية، وربما في بلدان أخرى. العم���ق هناك عام�ل�ان أرى من ف���ي ُ منظور سيكولوجي أنهما أثّرا كثيرًا فيما يح���دث ،األول هو ما أس���ميه الحط من (الحقرة) والثاني كرامة المواطن العربي ُ (تأثي���ر الكوني���ة) أو (تأثير العصرنة)، ومن أج���ل التعرف إل���ى مفاعيل هذين العاملي���ن علين���ا أو ًال أن نقدم ش���رح ًا للمفهومي���ن ،اللذين يمك���ن اختصارهما بتفاعل ك /ك(.كرامة وكونية). الحق���رة ،أو انتف���اء الكرام���ة ُ اإلنسانية،أو احتقار المواطنين من قبل األنظمة ،تظهر في أيقونات الش���رارات التي فجرت – كما هو متفق عليه بشكل واس���ع – انتفاض���ة الع���رب الحالية، وأقصد حادثي البوعزي���زي في تونس وخالد سعيد في مصر .كالهما اختصار ص���ارخ إلهانة الكرامة اإلنس���انية ،فقد
وجد العرب أنه في عالم يعيشون فيه مع آخرين ،كل ش���يء ثمنه يزداد ارتفاعاً، م���ن لقمة الخبز إلى دفتر المدرس���ة ،إال أن م���ا يرخص وبس���رعة ،ه���و كرامة اإلنس���ان العربي .إذًا فالحقرة أو افتقاد الكرامة ه���ي واحد من العوام���ل الهامة التي س���اهمت في تفج���ر ربيع العرب، إال أنه���ا لم تكن (وحدها) قادرة على هذا الفعل الكبير والتاريخ���ي ،هناك عامل كو َن خلفية آخر اشترك معها وأرى أنه َّ الصورة وهو (الكوني���ة أو العصرنة)، وهي الت���ي تعني في بعض مما تعنيه، تل���ك العوامل الت���ي تؤثر ف���ي التغيير االجتماعي ،حيث تتع���رف المجتمعات األقل نموًا (كالمجتمع���ات العربية) إلى الخصائص المشتركة للمجتمعات األكثر نمواً .أي التقدم االقتصادي الس���ريع في زمن قصي���ر مع التش���بيك العولمي من خالل اتس���اع استخدام ثورة المعلومات تفجرت في وج���ه العالم وأصبح الت���ي ّ أكثر التصاق ًا بعض���ه باآلخر وتأثرًا بما يحدث فيه. من مؤش���رات الكوني���ة أو العصرنة (تدف���ق الس���كن ف���ي الم���دن ،انتش���ار
كاف الكرامة لم يرهبها الحرس
التعليم ،انخفاض وفيات الرضع ،طول أعمار الس���كان ،محو األمي���ة ،الخدمات الصحي���ة ،التع���رض لوس���ائل اإلعالم الحديث���ة) وغيرها من المؤش���رات هي محفزة لتس���ريع الص���راع االجتماعي، خاص���ة إذا قوبل���ت بسياس���ات جامدة ال تس���تجيب للمتغي���رات االجتماعي���ة االقتصادية الس���ريعة .يحدث وقتها أن يق���ع ف���ي المجتمع ما يمكن تس���ميته بـ (انسداد في المسارات الطبيعية للتطور) تحتم أن تجد لضغوطها مس���ارات بديلة وجدي���دة .إنها قوى سياس���ية صاعدة تبح���ث ع���ن دور ،يقف أمامه���ا تصلب الجماعات السياسية التقليدية. من هن���ا يظهر ما يس���مى النش���اط السياس���ي االعتراض���ي ،خاص���ة من الش���باب .فالحرمان النسبي بين ما هو متوقع وما هو قائم يترجم إلى مشاركة سياسية متمردة على كل الواقع .فكلما ارتفع مؤشر التغير نحو الحداثة ،ارتفع معدل المطالبات السياسية .هذا يفسر ما احتوت عليه نهض���ة الجماهير العربية من ش���بابية ،صحيح أن شرائح أخرى تبعت الحركة الجماهيرية ،ثم التحق بها
السياس���يون ،إال أن حج���ر الزاوية كان من الش���باب .ومن خالل متوسط أعمار القتلى في معظم دول الربيع ،نعرف أن حطب التغيير هم الشباب. التفاصيل في تفسر كل ذلك كثيرة: الحقرة سبب للثورة! ُ نس���ي العرب وخاصة المش���تغلين بعل���م االجتم���اع النصيح���ة الذهبي���ة الت���ي تركها لنا عالم من مؤسس���ي علم االجتم���اع ،وهو ماكس فيب���ر في بداية الق���رن العش���رين ،حيث ق���ال إن عالم
كلما ارتفع مؤشر التغير نحو الحداثة ،ارتفع معدل المطالبات السياسية .هذا يفسر ما احتوت عليه نهضة الجماهير العربية من شبابية
االجتماع يجب أن يبقى في علم االجتماع وال يميل إلى السياس���ة ،فمتى ما أدلج (أي دخلت األيديولوجية) علم االجتماع فسدت النتائج التي يسعى إلى إثباتها، ألنه حينه���ا يحكم على الظواهر بمنظار السياسي وليس عالم االجتماع .ربما ما عدا قالئل من المشتغلين بعلم االجتماع العربي ،اهتموا بالفص���ل بين االثنين. معظمه���م خلط ما بين ما يريده ويرغبه سياس���ياً ،وبين الظواه���ر االجتماعية تبريرا دون إثبات الشاخصة أمامه ،إما ً أو نقدًا دون دليل. من هن���ا ف���إن معظم ما كت���ب حتى اآلن (أواخ���ر )2011م���ن مالحظ���ات اجتماعي���ة عل���ى ما ح���دث ويحدث في عدد م���ن المجتمعات العربي���ة ،هو في الحقيق���ة مالحظات س���ريعة مخلوطة بأيديولوجي���ا ثقلية تس���تر عين القارئ ع���ن الحقائ���ق .بعضهم فس���ر ما حدث وما يح���دث في كل م���ن تونس ومصر واليمن وس���ورية وليبي���ا ،وربما عدد من الب�ل�اد العربية األخرى ،منذ ش���هر ديس���مبر 2010وحتى الي���وم ،أنه يتم بس���بب الفقر في هذه المجتمعات .ذلك 45
ليس حقيقة مطلقة ،فتونس على سبيل المثال كان متوسط دخل الفرد فيها عند قيام (االنتفاض���ة) أعلى من بعض دول عربي���ة تنت���ج النفط .بعضهم فس���ر ما حدث بأنه عدم رضا الطبقة الوس���طى في تلك الب�ل�اد عن اإلدارة السياس���ية القائم���ة ،إال أن الحقيقة هي أن الطبقة الوسطى ،وإن قدمت ممثلين لها في عدد من (االنتفاضات) إال أنها لم تكن الوحيدة أو القائ���دة ،فق���د قام الجي���ش بدوره، سواء في تونس أو مصر ،كما قام بدور ش���به معاكس في كل م���ن ليبيا واليمن وس���ورية حتى اآلن ،وربما القبيلة في اليم���ن أيض ًا قامت بدور م���ا معاكس أو مواف���ق لالنتفاضة اليمنية .بمعنى آخر ال يوجد سبب تقليدي واحد بعينه يجمع العناص���ر المؤدية إلى ربيع العرب غير بالكونية(.ك/ك). الحقرة ُ تالزم ُ بالد مثل بنغالدش ،أكثر بالد العالم فقراً ،الناس تبيت وتتوالد في الشوارع، ولي���س هناك أكثر من نس���بة العاطلين في إسبانيا اليوم ،وليس أكثر من فساد حكوم���ات تدع���ي الديموقراطية كما في دول اس���تقلت عن االتحاد الس���وفياتي الس���ابق أو حت���ى روس���يا االتحادية. ولكن كل هذا البالد وغيرها لم تلجأ إلى الشارع كي تقوم بانتفاظة تغير النظام ع���ن بكرة أبي���ه! كما ح���دث لدى بعض العرب! م���ا أردت أن أصل إليه أن التس���رع ف���ي تفس���ير تل���ك االنتفاض���ات جعل كثيري���ن يميلون إلى تثبيت كليش���يهات معروفة في علم االجتماع الكالس���يكي، عن طريق التفس���ير ذي العامل الواحد، وهذا يذكرني بعدد من الدراس���ات التي تم���ت بع���د أح���داث 11س���بتمبر 2001 الكارثي���ة .وقتها أيض ًا حصل التس���رع في إطالق األحكام ،كان أكثرها تفسيرًا هو نقص في الممارسة (الديموقراطية) في بلدان األشخاص الذين قاموا بالعمل التدمي���ري ف���ي صباح خريف الس���احل الش���رقي للوالي���ات المتح���دة وكان���وا جميع ًا من الع���رب الذين كان بعضهم قد ذهب إلى أفغانس���تان ،األم���ر الذي بَنت عليه إدارة بوش االبن كل سياس���اتها، 46
والت���ي أدت إلى حرب الحقة وضروس في كل من العراق وأفغانس���تان ما زال بعضه���ا مس���تعراً ،وكلف���ت الكثير من األرواح والكثي���ر من األم���وال .وعندما أفاق الجميع ،تبي���ن أن (دمقرطة) هذه المجتمع���ات ليس���ت هي الحل الس���ريع إلنهاء األزم���ة ،ألن هناك عوامل ثقافية يج���ب أخذه���ا ف���ي الحس���اب تقلل من التحاق هذه المجتمعات بالديموقراطية الغربية ،فال العراق أصبح ديموقراطي ًا على طريقة وس���ت منستر ،وال األفغان أصبح���وا ديموقراطيين عل���ى الطريقة الجفرس���ونية ،نس���بة إل���ى بريطانيا وأميركا ،إال أن الصحوة من الفهم الخطأ جاءت متأخرة بعد أن ُخس���فت األرض، بعد أن تبين أن هناك جماعات إرهابية نبتت على أرض ديموقراطية ،كما حدث ف���ي بريطاني���ا وألمانيا ب���ل والواليات ()1 المتحدة نفسها. بالعودة إلى تفسير ما حدث ويحدث من (انتفاضات عربية) أرى أن الس���بب (الحقرة) كما قلت ممزوجة المباش���ر هو ُ بنتائ���ج العصرنة ،أي فش���ل ذريع في إدارة المجتمعات إدارة حديثة ،تأخذ في الحس���اب الثورة التقنية التي اجتاحت العالم وتتكيف مع متطلباتها. أي غياب الوعي السياسي الذي يوائم بين متطلبات األجي���ال الجديدة ،وبين التعبير السياس���ي المحافظ والتقليدي الس���ائد .هذا الغياب ه���و الذي جعل من ب���ن علي في تونس ومب���ارك في مصر وعلي عبداهلل صالح في اليمن والقذافي ف���ي ليبيا ومن بع���ض زعامات أخرى،
التسرع في تفسير تلك االنتفاضات جعل كثيرين يميلون إلى تثبيت كليشيهات معروفة في علم االجتماع الكالسيكي
تتجاه���ل المتغي���رات وتتجاهل مصالح المواطني���ن ،إلى درجة نف���ي أن تكون موج���ودة .ليس المه���م أن تكون هناك ديموقراطية بمعن���ى صناديق انتخاب ومكان يتخاطب فيه المنتخبون بأشنع األلفاظ يس���مى برلماناً ،المهم أن يكون هناك قانون عقالني سائد في المجتمع، وأن يحت���رم هذا القان���ون بدقة وبحزم ويطب���ق على الجمي���ع ،المه���م معرفة قوانين االجتماع ومالحظ���ة التغير في مصفوفة القيم التي تتأثر بقوة بالعولمة والكوني���ة .تجاهل الناس ما أس���ميه بـ (الحق���رة) هو ما جعل من القذافي يطلق ُ (أكذوبة سياسية) ويصدقها ،فقد اقنتع أن���ه ال رئي���س وال مس���ؤول ،هو فقط قائد ،وترك أبناءه يعيثون فس���ادًا في كل مق���درات ليبيا .إلى درج���ة أنه يثير س أحد أبنائه – زوبعة سياس���ية إن ُم َّ جراء استهتاره – في أي بلد ،كما حدث مع سويسرا ،أو يدفع باليين الدوالرات من المال الليبي عل���ى تعويضات ليس للش���عب الليبي أية يد فيها ،أو أن يدفن آالف الليبيين في المقابر الجماعية دون أن يسأل. أو م���ن جه���ة أخ���رى يقرر حس���ني مبارك ،توري���ث الجمهورية البنه دون أدنى اعتبار للن���اس ،أو حرمان الناس من أق���ل درجة م���ن الحري���ات وإطالق ق���وى األمن المتعدد عليه���م تحت ذرائع مختلفة كما في س���ورية .تلك أمثلة من الحقرة التي تحرم الحرية على الناس، ُ في الوقت الذي يتاح للمواطن العادي – نتيجة التقدم التقن���ي الهائل -الحصول على معلومات في كيفية تعامل البش���ر فيما بينهم بش���كل حض���اري في أماكن أخرى. لذلك نجد أن أوسع تجمع ليبي مثقف هو خارج ليبيا ،وأكبر تجمع إنس���اني متعل���م ومدرب ،هو خ���ارج مصر ،وقد كانت نتيجة الدراسات التي أجريت على ش���باب مصر ،أن أمنيته���م الغالية بعد التخرج ،الهجرة خارج مصر .ليس ألن مصر فقيرة من الموارد ،بل ألن احترام اإلنسان فيها وصل إلى مرحلة ال تطاق من الدونية .الرئيس الس���ابق حس���ني
كاف الكونية أطلعت العرب على معنى الحرية
مبارك ،لما قيل له إن الناس لم تعجبهم نتائ���ج انتخاب���ات مجلس���ي الش���عب والشورى لعام ،2010وإن المعارضة تفكر بإنش���اء (برلمان بديل) قال بكثير من االستخفاف( :خليهم يتسلوا)!. يشل البلد من أقصاه إلى أقصاه ،إذا تحرك الرئيس من مكان إلى آخر ،دون احترام لمصالح الناس ،يتعطل بعضهم على الطرقات لمدة ساعات ألن الرئيس س���وف يمر ،تلك ُحقرة للناس ،وأمثلة أخ���رى تبين م���دى اس���تهتار القيادات بمصال���ح ورغبات الن���اس ،في الوقت الذي يرى فيه الجميع أن اجتماع قيادات أخرى في دول متقدمة ،يجري بسهولة ويس���ر ،دون إرهاق للمواطن ،ويترك المسؤول وظيفته الكبيرة ليكون مواطن ًا عادي ًا بين الناس .كل هذا كان تحت سمع وبص���ر المواطن العربي تنقله وس���ائل اإلعالم الحديثة حتى بيته. نصف الس���ودان ينفصل عن ش���ماله بس���بب هذا الضع���ف الهائل ف���ي إدارة الدول���ة ،وربعه األخير (منطقة دارفور) تجري فيها حرب ش���به ح���رب أهلية،
(حقرة) األحزاب األخرى والنظام يتعمد ُ ومطاردتها وسجن نشطائها. في مذكرات���ه األخي���رة التي صدرت في كتاب ،ينقل اإلمام الصادق المهدي، رئيس ح���زب األم���ة ،ورئي���س وزراء س���ابق ،قول المعارض الرئيس���ي في الجنوب ورئيس حكومتها سلفاكير ،أنه ل���وال الحياء ،ألق���ام الجنوبيون تماثيل ل���كل أعض���اء قي���ادة (ث���ورة اإلنقاذ)، وأشخاص حكومات البشير المتعاقبة، ألنه���م الذي���ن اقنع���وا -بسياس���اتهم المعتم���دة عل���ى الح���رب والتصفي���ة - الجنوبيي���ن بالتوجه إل���ى االنفصال!! وهكذا تم االنفصال بأغلبية بلغت تقريب ًا اإلجم���اع! بعد حروب س���قط فيها مئات ���رد فيها أكثر من اآلالف من البشرُ ، وش ِّ ضعفي العدد! كي���ف ما وجه���ت نظرك ف���ي عالمنا العربي ترى فش���ل (اإلدارة العامة) في وقت يتم التواصل بين أطرف المعمورة في ث���وان ،وف���ي وقت ال يمك���ن إخفاء الحقائ���ق إال لبضع دقائق ،س���رعان ما تع���رف ،وفي زمان ي���رى فيه الناس –
كل ليل���ة – تقريب ًا على شاش���اتهم كيف تق���دم العالم من حولهم !.في زمن يقول لنا فيه المختص���ون باالتصال الحديث، إن تراك���م المعرفة منذ نش���أة الحضارة إلى ع���ام 2003يمكن اختصارها بعمل يومين بسبب وسائل االتصال الحديثة. بع���د أن وقف���ت المطبع���ة ،بع���د اختراعها ،على أبواب المس���لمين 300 عام،دخلت إلى بالدنا ،وكانت المطبعة قد أحدثت ثورة في العالم الذي اخترعت فيه (أوروبا) كما أن اكتشاف البخار غير العالم من جديد ،إال أن المطبعة والبخار بقيا لس���نوات يتراوحان أمام الشعوب العربي���ة ،الي���وم وس���ائل االتص���ال الحديث���ة ،م���ا إن تخرج م���ن مصانعها حت���ى تص���ل إلين���ا ،ذلك ما ل���م يفهمه البعض بعد .اعتقد هذا البعض خطأ ،أن رفع األس���وار هو الحل ،وتفعيل القوى األمني���ة ه���و المالذ ،في حي���ن أن البث الفضائ���ي يأتي من أعل���ى! قوة األفكار فاقت كل قوة ،واألفكار ال تس���تأذن في الدخول. يقابل المواطن العربي بحقران ليس له مثيل في كل شيء تقريباً ،فالكبير ال يقف على طوابير االنتظار ،وال يتفحص في وجهه الش���رطي ف���ي المنافذ ،كونه متهم��� ًا حتى يثبت العك���س ،وال تحترم أقدميت���ه في وظيف���ة يريدها من هو في الس���لطة لقريب غير مؤهل ،وال تعطى له حقوقه في المحكمة ،وال يحترم أحد خصوصيت���ه ،بل آدميته .هو مدان قبل أن يتكلم ،ومتهم قبل أن ينطق! أم���ام كل ذلك فق���د اقتن���ع المواطن العربي ،أمام ش���عور عام وسائد بعدم االحترام ،بأن خس���ارة حيات���ه لم تعد خسارة ،هي خسارة في دنيا ال قيمة له فيها ،لذلك لم يع���د الخوف هو الرادع، فانفجرت الحناجر ،وبدأ التصدع وتجمع الناس في الميادين ،مستعدين للموت، رافعين ش���عار (ارحل) إنه���ا مفاعيل الـ (ك/ك) ،والحبل على الجرار. ( )1تبي���ن من ع���دد من الدراس���ات أن هناك جماع���ات أصولية في الغرب تكون���ت من أبناء الغرب نفسه مثل الجماعة الجهادية األلمانية.
47
ندوة
قوارب هزيلة تخوض البحر نحو إيطاليا وغالب ًا كا تصل إلى اآلخرة!
حلم الهجرة الذي يتحول عار ًا بين الضفتين:
إيطاليا جهة الوصول القاهرة -مكتب الدوحة
عل���م دراس���ة الص���ورة أو اإليماجولوجي���ا ،لي���س منتش���رًا على نط���اق واس���ع ف���ي عالمن���ا العربي، ولكنه علم مقب���ول و«موضة» في إطار عل���وم المقارنة الحديث���ة .ولكن المؤكد أن االش���تباك ظاهر بين أطراف العالم وهوامشه ،وتعقد العالقات العولمية. تأثير الص���ورة الذهنية التي تتكون ع���ن أرض م���ا ،ع���ن ثقاف���ة م���ا ،عن كي���ان ما ،وحت���ى عن س���لعة ما ،هو
48
ما تس���عى اإليماجيولوج���ي أن تبحث فيه ،باعتبارها في األس���اس من علوم االتص���ال ،الذي وجد ل���ه تطبيقات في األدب ،وفي السينما. وه���ي مناس���بة لدراس���ة ظاه���رة الهجرة أو انتقال البش���ر من أرض إلى أرض .الظاهرة الت���ي تخلف الكثير من المآسي اإلنسانية ،الكثير من الشكوك والمخاوف. وله���ذا الس���بب اجتم���ع نخب���ة م���ن
الباحثي���ن م���ن أط���راف العال���م لك���ي يناقش���وا ف���ي القاه���رة (كلي���ة اآلدب بجامع���ة حلوان من 3إل���ى 4أكتوبر/ تش���رين األول )2011دور الصورة في حركات الهج���رة عبر الس���ينما واألدب واإلع�ل�ام ،وعل���ى نح���و خ���اص دار الحدي���ث حول الهجرة إلى إيطاليا ،فهو عنوان المش���روع البحثي الضخم (جهة الوص���ول :إيطاليا) الذي يش���رف عليه البروفيس���ور جويدو بوناسفر ،أستاذ الدراس���ات اإليطالية بجامعة أكسفورد البريطانية ،وتشارك فيه جامعات من أميركا وأستراليا وإيطاليا ومصر. حكاية ورش���ة العم���ل العلمية هذه ب���دأت في ع���ام 2010عندما فاز قس���م الدراس���ات اإليطالية بجامعة أكسفورد ISOبمنح���ة م���ن مؤسس���ة ليفر هولم ترست ،لتكوين ش���بكة دولية لدراسة صور تقديم ظاهرة الهجرة في الرواية واإلعالم الحدي���ث (الس���ينما واألدب). أطل���ق عل���ى هذه الش���بكة اس���م «جهة الوص���ول :إيطالي���ا» ،وهدفه���ا هو أن تجمع علماء ودارسين يعملون من كافة أنح���اء العال���م من خ�ل�ال مجموعة من الفاعليات على مدى 24ش���هرًا بدءًا من سبتمبر عام .2010ويتضمن المشروع أيض��� ًا أن ينش���ئ ISOقاع���دة بيانات ش���املة عن األف�ل�ام الت���ي تتعامل مع موضوع الهجرة إلى إيطاليا .وقد تلقى هذا مزيدًا من التمويل من جانب صندوق جون فيل. ويعتبر الس���بب في اختيار موضوع
الهج���رة ،وإل���ى إيطاليا تحدي���داً ،هو تع���رض إيطالي���ا في األع���وام األخيرة إلى تدفق هجرة ضخمة األبعاد ،أثارت ع���ددًا م���ن المخ���اوف المثي���رة للجدل الساخن ،سياس���ي ًا واجتماعي ًا وثقافياً. ويتصور المش���روع أن بمقدور النقاش العام حول ه���ذه الظاهرة أن يس���تفيد م���ن الرؤية الخارجية له���ا ،خاصة إذا كانت ه���ذه النظرة الخارجي���ة متعددة المناه���ج والعل���وم ،وأنه���ا تحمل إلى ساحة النقاش آراء وخبرات دولية لها ثقلها .تعد الهجرة من القضايا الحاسمة في كيفية تط���ور المجتمع اإليطالي في المس���تقبل ،ولذا فإن من الحيوي بمكان إنجاز فهم مفصل للعوامل المشاركة في مثل هذه العملية العميقة. يستكشف البرنامج المطروح القضايا المرتبط���ة بتصوير اإلع�ل�ام والرواية للهجرة فيم���ا يتعلق بالحالة اإليطالية. وهي تهدف إلى إنتاج دراسة عميقة في منطقتين بينهما يتعلق كل منهما باآلخر: أي كي���ف يت���م تصوي���ر المهاجرين في اإلعالم والس���ينما واألدب في إيطاليا، وكي���ف تم تصوي���ر إيطاليا ف���ي بلدان المهاجري���ن األصلية .ومن خالل البحث يس���تهدف تكوين صورة شاملة سوف تسهم في فهم دور الصورة الذهنية في آليات الهجرة. يجم���ع برنام���ج «جه���ة الوص���ول إيطاليا» علماء يعملون في حقل الهجرة في سياق دولي حقيقي .ستكون شبكة أكس���فورد «بينية الدراسات» هي مركز
المجموع���ة البحثية التي تتخذ من لندن مقرًا له���ا وتضم جامع���ات برمنجهام، وبريس���تول ،وأكس���فورد بروك���س، وريدين���ج ،وي���و س���ي إل ووارويك، أما الش���ركاء الدوليون لهذه الجامعات البريطاني���ة م���ن فلورنس���ا ،وجامعة السابينس���ا بروم���ا ،وجامعة روما ،3 والمرك���ز الجامع���ي مون���اش بمدين���ة براتو ،ومن مصر جامعة حلوان ،ومن فرنس���ا جامعة باري���س الثانية ،وفي أميركا جامعة كوني بنيويورك. وس���وف يتم تقديم العم���ل البحثي الناتج عن هذا المشروع في مؤتمر كبير يقام عام 2012وينش���ر ف���ي مطبوعة دولية .وفي النهاية يهدف إلى الوصول إل���ى تقييم عام ش���امل لتمثي���ل الميديا واألدب للمهاجرين إل���ى إيطاليا والذي س���وف يكون مصدرًا ل���ه قيمته للبحث وللرج���وع إلي���ه م���ن جان���ب صانعي القرار ،ومرجع ًا للباحثين والدارس���ين في هذه المجاالت. تضمن المشروع البحثي أربع ورش للعمل: • أقيم���ت الورش���ة األول���ى ببرات���و بفلورنس���ا اإليطالي���ة يوم���ي 17و18 س���بتمبر/أيلول ،وكان الي���وم األول مخصص ًا ألعضاء الفريق البحثي لتقديم
محمود الشيخ: قراءة الرموز اإلسالمية في المجتمع االيطالي
م���ا وصل���وا إليه م���ن بح���وث ،بينما كان الي���وم التالي يوم��� ًا عام ًا مخصص ًا للمشاركات العامة. • أقيم���ت الورش���ة الثاني���ة بجامعة س���يتي بنيوي���ورك يوم���ي 25و26 فبراير/شباط عام .2011 • الورش���ة الثالثة أقيمت بالقاهرة، يوم���ي 3و 4أكتوبر/تش���رين األول 2011بجامعة حلوان. • الورشة الرابعة تقام بأكسفورد في إبريل/نيسان عام .2012 تأتي مش���اركة باحثين من دول لها خبرات س���ابقة ف���ي الهج���رة وتحليل الظاه���رة مث���ل أس���تراليا وفرنس���ا والواليات المتحدة حتى يمكن االستفادة من الخب���رة المنهجية القيمة التي يمكن تطبيقها في هذا المش���روع .وفي الوقت نفس���ه توفر دراسة دور تصوير الميديا والرواية إليطالي���ا في العديد من الدول التي يأتي منها المهاجرون مثل رومانيا والباني���ا ومص���ر وأثيوبي���ا والمغرب وتون���س واألردن فرص���ة للتعرف عن كثب إل���ى تأثي���ر األفكار الش���ائعة عن بلد الوصول س���واء أكان���ت حقيقية أو خيالية .أما مش���اركة منظمات المجتمع المدن���ي فته���دف إل���ى ضمان أث���ر هذا المش���روع على الرأي الع���ام وصانعي القرار. في حل���وان كان العنوان الرئيس���ي هو استكشاف دور الصورة في حركات الهجرة عبر الس���ينما واألدب واإلعالم، وم���ا بين أف�ل�ام س���ينمائية وتحليالت لمعالج���ة الصحاف���ة وق���راءات أدبي���ة ونقدية قدم المتحدثون صورة متكاملة إليطاليا في المخيلة العربية العامة. ش���ارك في الورش���ة كذلك الروائي ع���زت القمحاوي الذي اهت���م بالظاهرة على نحو مباشر من خالل كتاب «العار بين الضفتي���ن :عبيد األزمن���ة الحديثة والموت في مراكب الظلمات». المداخل���ة الت���ي تحدث فيه���ا عزت القمحاوي جاءت بعن���وان دال« :الحلم والكابوس .سياس���ات عبور البحر من مصر إلى إيطاليا» ،وأكد فيها أن المصري 49
ال يهاج���ر ،وإنما يس���افر ،ألن���ه يحلم دائم��� ًا بالعودة ،كما عال���ج أثر الهجرة على التركيب الطبقي للقرية المصرية، مشيرًا إلى األثر السلبي لسلوك المهاجر العائد الذي ال يش���ارك بماله في عملية اإلنت���اج ،وإنم���ا في البحث ع���ن ترقية وضع���ه االجتماع���ي .وص���ف ع���زت القمح���اوي كتابه بأنه «يكش���ف وقائع العار ،وقائع انهيار العقيدة االجتماعية لش���عب لم يك���ن أبن���اؤه يغادرونه إال مضطرين وأليام مع���دودة» ،والهجرة في رأيه ليست مجرد تحول اقتصادي، وإنم���ا تمث���ل «انهي���ارًا لعقي���دة دينية فرعونية تحورت ف���ي وعي المصريين المعاصري���ن لتس���تقر آالف��� ًا أخرى من السنين كعقيدة اجتماعية». كان ه���ذا أيض��� ًا م���ا تبن���اه جويدو بونس���افر ،ربما اقتباس��� ًا م���ن مقوالت القمح���اوي ،وال���ذي طال���ب باعتب���ار الهجرة حقاً ،إذا تمس���كنا ب���أن الهجرة سفر ،والسفر هو انتقال حر لألشخاص بي���ن األماكن .حل���ل بونس���افر األفالم السينمائية التي قدمها مهرجان البندقية هذا العام ،والتي خص بها الهجرة على وجه التحديد ،ومن أشهرها فيلم المخرج المخضرم إرمانو أولمي ،وجاء بعنوان «القرية الكرت���ون» ،وإن لم يرق الفيلم كثيرًا للبروفيسور بونسافر فيما يتعلق بمعالجت���ه للهجرة ،وه���و نقد منطقي ومفهوم إذا كان الفيلم قد تم تنفيذه من أجل خدمة ظاهرة الهجرة ،وأتصور أن أولمي ،ذلك المخرج ال���ذي أبهر العالم بفيلم «شجرة القبقاب» ،والذي قدم فيه تجربة فريدة ،فكان جميع أبطال الفيلم م���ن األش���خاص الطبيعيين ،وليس���وا ممثلين محترفين ،البد أن���ه يقدم فيلم ًا يهت���م أكثر بمدرس���ته الس���ينمائية في مالمس���تها للواقع عن كث���ب .كذلك قدم بونس���افر رؤيته للفيلم الذي عرض في الورش���ة ،وهو فيلم وثائق���ي بعنوان «البح���ر وحده» ،وال���ذي قدمه بعد ذلك وش���رح كيفية تنفيذه المنتج المشارك للفيل���م ،وهو البروفيس���ور الس���اندرو تريلوتسي أس���تاذ الدراسات اإلفريقية بجامع���ة نابول���ي أورينتالي ،ويرأس 50
إيما بوند: تجليات حركات الهجرة في الفن واإلعالم
ف���ي الوقت نفس���ه مؤسس���ة «التوثيق الس���ينمائي وأرش���فة الهج���رة» ف���ي إيطاليا ،وكان الفيلم ،إضافة إلى الجهد التس���جيلي فيه ،يحلل استقبال مدينة المب���دوزا البحري���ة للمهاجري���ن الذين يقذف بهم البحر إليهم ،وخلص إلى أن المدينة تعاني مشاكل سياسية وإدارية ليست الهجرة طرف ًا فيها. من ناحيته حلل الناقد الدكتور يسري عبد اهلل بنية الس���رد ف���ي رواية الهجرة ال رواية «نساء الريح» السياس���ية محل ً للكاتب���ة الليبية رازان نعي���م قال فيها: «ثم���ة دوافع تضع اإلنس���ان على حافة الفرار من المكان ،ربما يأتي في مقدمتها االستبداد السياسي ،هذا االستبداد الذي يمكن لن���ا أن نتلمس مالمحه في رواية «نساء الريح» ،والذي يشكل بنية خاصة به ،يتجادل فيها السياس���ي مع الديني ف���ي تخليق بيئ���ة موازية م���ن القمع، وبحيث تصبح بيئة االستبداد الطاردة دافع���ة بالش���خوص على حاف���ة الفعل الس���لبي (الفرار) ،عبر البحر المتوسط من ليبيا إلى إيطاليا ،في دراما متوترة تصطخب فيها الحياة مع الموت ،وعبر سرد شفيف به -أحياناً -نزوع شعري، تنفتح مس���احات ضافية م���ن التخييل فض���اء تأويلي ًا خصب ًا الس���ردي خالقة ً
وواعدًا أم���ام المتلقي الذي يجد نفس���ه أمام نص كاشف عن المعاناة اإلنسانية المحضة ،واسترقاق النساء في مجتمع ذك���وري بامتي���از ،غي���ر أن الكاتبة لم تزل تتعاطى م���ع المرأة بوصفها كائن ًا إنسانياً -باألساس -يحيا في ظل واقع خانق ،ومأزوم ،ومرتبك». وتحدث الدكتور حس���ين محمود عن ص���ورة اآلخ���ر األوروبي ف���ي الرواية العربي���ة أك���د فيه���ا أن «هذه الورش���ة إجماالً ،تريد استكشاف أهمية الصورة التي تقدمها وس���ائل اإلعالم ،والسينما باعتبارها وس���يلة إعالمية لها رسالتها الخاص���ة ،والص���ورة الت���ي يقدمه���ا األدب ،ف���ي عملية الهج���رة .وما يجمع بين الس���ينما واألدب ه���و الخيال ،أي أننا لس���نا بصدد تقديم «واقع» حقيقي لظاهرة الهجرة من أرقام وسياس���ات، وربما حكايات ومآس تقدمها صفحات الحوادث في الصحف الس���يارة ،ولكن «واقع» فني لهذه األرقام والسياس���ات وم���ا إلى ذلك .الخيال ه���و الفارق بين التقدي���م والتمثيل ،ومن هنا تهدف هذه الورقة إل���ى البحث عن ص���ورة اآلخر األوروبي في الرواي���ة العربية ..فربما تس���اعدنا الرؤية التمثيلية التصويرية لألدباء العرب ع���ن كيفية تمثل القارئ لهذا النم���وذج ،وربما تقودنا أيض ًا إلى فهم ميل األنا العرب���ي إلى التماهي في نموذج مختلف ،مكتمل ،مثالي». من ناحيتها حللت الدكتورة وفاء عبد الرؤوف رواية «س���ر برهومة» المهاجر المصري إلى إيطاليا ،واعتبرت الهجرة رحلة من الخوف واألمل. ش���ارك أيض ًا من المغ���رب الدكتور محم���د مخطاري نائب عمي���د كلية آداب الرب���اط وتحدث عن أغاني المهاجرين، في إط���ار ثنائي���ة البح���ر والمراكب»، وم���ن األردن ش���ارك الدكت���ور محمود جاران بتحلي���ل رواية يون���س توفيق «األجنبية» ،وه���و من كتاب المهاجرين العراقيي���ن في إيطالي���ا .ومن البحوث الهامة التي قدمت في الورش���ة ما قدمته باحث���ة جامع���ة ويستمنس���تر نعومي صاكر ،والذي حللت فيه تدفق وانحسار
التغطية التليفزيونية المصرية لظاهرة الهجرة إلى إيطاليا ،وخاصة في برامج التوك ش���و ،وف���ي األس���اس تناولت تقدي���م برامج مثل «العاش���رة مس���اء» لمنى الشاذلي في قناة دريم أو برنامج معتز الدمرداش في قناة المحور ،وهي برامج كان���ت تقدم «رس���الة تحذيرية» عن الهجرة ،ووقفت منها موقف ًا معادي ًا ومضادًا لها .القضايا التحذيرية نفس���ها تناوله���ا الباحث اإليطالي ماركو برونو م���ن جامعة روم���ا ،عندما حلل بش���كل إحصائي موق���ف الرأي العام من قضية بناء المس���اجد في إيطالي���ا ،ورغم دقة ط���رح القضية ف���ي البح���ث ،وصرامة المنه���ج العلم���ي ،وما وص���ل إليه من إدان���ة لموقف اإليطاليين من اس���تقبال اإلس�ل�ام في بالدهم ،والذي قدم إليهم مع المهاجرين (نحو 2مليون مسلم في إيطالي���ا) ،ورفضهم للرم���وز البصرية المرئي���ة للدين اإلس�ل�امي ،مثل المآذن واآلذان والحجاب وما إليه ،فقد ش���جع هذا البروفيس���ور محمود سالم الشيخ، عالم فقه اللغات الرومانسية بفلورنسا، لكي يشرح شرح ًا مستفيض ًا القى إعجاب ًا م���ن الحاضرين ،مح���ددات وجود هذه الرموز المرئية اإلس�ل�امية في المجتمع اإليطالي ،وموقف الدس���تور اإليطالي
جويدو بوتسافر: مسافرون ال مهاجرون ..قراءة في األفالم
م���ن التعامل م���ع األدي���ان األخرى غير الكاثوليكية. أما البروفيس���ور كارلو فيتش���ي من جامعة نابولي فقد حلل والدة أسطورة إيطالي���ا ،البل���د الجميل وبل���د الجمال، انطالق ًا من عصر النهضة ،وكان من بين ما طرحه لوحة موناليزا التي رس���مها دافينش���ي ،والتي عولجت في وسائل اإلع�ل�ام بطرق كثيرة مختلفة منها على س���بيل المثال صورة لها استخدمت في وس���ائل اإلع�ل�ام وهي ترت���دي النقاب اإلسالمي. هل توج���د في البحر تماس���يح؟ هذا هو السؤال الذي جاء في عنوان مداخلة إيزادورا دالمو من جامعة سالنتو ،وهي تحاول أن تشرح كيف يمكن التغلب على القيود الت���ي قد تع���وق محاولة تقديم الذات وكذلك المواطنة متعددة الطبقات م���ا بين الهج���رة األولى وم���ا يليها من ظهور أجي���ال ثاني���ة للمهاجرين ،فإذا حاف���ظ المهاج���رون عل���ى هويتهم فإن الجي���ل الثان���ي يق���ل استمس���اكه بهذه الهوية. وبالفيديو كونفرنس شارك باحثون م���ن أمي���ركا وروما وكن���دا ،إلى جانب البريطاني���ة إيم���ا بون���د ،والصحافية اإليطالية غابريال جاكوميلال .وعرضت األمم المتحدة فيلم ًا ترويجي ًا ضد الهجرة عن طريق مكت���ب الهجرة التابع لها في مص���ر ،وه���و فيل���م كان المقصود منه الترويج لكبح ظاه���رة الهجرة ،ولكنه كان يحتاج لمزيد من التدقيق والمراجعة طبق ًا لنقد الدكتورة إيمان عز الدين له. وقدمت ب���اوال جاندوفل���ي بحث ًا عن تخيل الهجرة المؤقتة بواس���طة السرد الروائي المتعدد وتخيل صورة إيطاليا بين ضفتي البحر المتوسط قارنت فيها بي���ن ص���ورة إيطاليا ل���دى اإليطاليين وصورته���ا عند الغرب���اء والمهاجرين، وربم���ا كان م���ن أه���م ما أثبتت���ه باوال جاندوفلي هو أن «الحلم اإليطالي» حل مح���ل «الحلم األميركي» ،ذلك الذي كان يراود كل من كانت الهجرة هدف ًا له ،سواء من الشرق أو من الغرب ،أي أن إيطاليا أصبحت في مخيل���ة المهاجر إليها ،من
باوال جاندوفلي: تخيل صورة إيطاليا في رواية الضفتين
إفريقيا ومن الش���رق األوسط والشرق البعيد ،هو األرض الجديدة التي تسمح لهم بتحقيق الحلم ،في الوقت الذي يرى فيه اإليطاليون المهاجرين شرًا البد من التخلص منه ،ويجهلون ثقافات هؤالء المهاجرين ،ولهذا يعادونها «فاإلنس���ان عدو ما يجه���ل» ،رغم احتياجهم الماس للمهاجرين ،ليس فقط على المس���توى االقتصادي والديموغرافي ،وإنما أيض ًا على المستوى الحضاري والثقافي. الورشة الدولية التي استكشفت دور الص���ورة في توجيه حرك���ة المهاجرين وصل���ت إل���ى نتائج كثي���رة ،يبدو من الظاهر أنها متناقضة ،فالهجرة مقبولة ومرح���ب به���ا ،وهي في الوقت نفس���ه مرفوض���ة و«ع���ار» عل���ى الضفتي���ن، والص���ورة الذهنية في المخيلة العربية ع���ن إيطاليا هي صورة أرض األحالم، وه���ي في الوقت نفس���ه بح���ر الظلمات الذي يبتلع األبن���اء ،هي رمز األمل في مس���تقبل متط���ور ،وهي أيض��� ًا مكمن الخطر على الهوية. ولك���ن كما يق���ول الكاتب والش���اعر والمفك���ر اإليطال���ي الس���كندري المولد مارينيت���ي إن هن���اك س���حر غامض ال يمكن تفس���يره يجذبك دائم ًا ألرض ما، وليس شرط ًا أن تتوافر في هذه األرض الشروط المثالية ألرض األحالم. 51
حوار
إسماعيل عزام -العراق
د.عبدالحمي���د األنصاري عميد كلية الشريعة األسبق في جامعة قطر والمفكر والكاتب الثائر على المجتم���ع وأوضاعه ،والرافض لكل أش���كال المهادن���ة وأنصاف الحلول ،أبى على نفسه أن يكون من بين القاعدين ،ومشى وحده في طريق محفوفة باألش���واك، فأثارالكثي���ر م���ن المع���ارك والعواص���ف ،وتلقى المئات من الطعنات واللعنات
د .عبد الحميد األنصاري
أخشى على الثورات من السرقة حوار :د .ربيعة الكواري 52
كان تكفيره من قبل البعض واتهامه بالزندق���ة أم���رًا يؤلمه ويزعج���ه كثيراً، لكنه ل���م يعبأ به���م ومض���ى وحده في طريقه ،حتى أثمرت كلماته وأتت أكلها، وها هو اليوم ي���رى تحقيق كل ما نادى به من تحرير للمرأة والمجتمع ،وخالل ه���ذا الحوار نعرض للعدي���د من القضايا الحساسة والساخنة التي تهم المجتمعين العربي واإلسالمي مع التعرج لألحداث السياسية المعاصرة مثل :ثورات الربيع العربي ،ومناه���ج التعليم في الخليج، والتعص���ب الدين���ي وقضاي���ا الم���رأة، وثقافة الكراهية والتخوين ،ورده على اتهامه من قبل البعض بالتكفير.
§ يتهم���ك البعض بأنك ليبرالي ومتحرر إل���ى أقصى الح���دود بينما تعي���ش ف���ي مجتم���ع محاف���ظ قد ال يتقبل الثورة على األعراف والتقاليد اإلسالمية ؟
اس���مح لي في أن أتف���ق معك فيإني ليبرالي وأختل���ف معك في (أقصى الح���دود) ،لنقل إني ليبرالي إس�ل�امي، علم��� ًا ب���أن الليبرالية ليس���ت تهمة فهي تعني قب���ول اآلخ���ر واحت���رام وجهات نظ���ره وع���دم تخوين���ه أو تكفي���ره أو تجريح���ه ،أما أني في مجتمع محافظ ال يتقبل الثورة على التقاليد ،فهذا صحيح (نس���بياً) أي أنه كان ف���ي الماضي هكذا تغير كثيرًا وأصبح متس���امح ًا مع لكنه ّ اآلراء النقدية ،على أن من شأن المثقف أن ال يهاب ال���رأي العام وإال لما تغيرت المجتمع���ات ،ألن المثق���ف الحقيقي أو المصل���ح أو الداعية ،هو ذلك اإلنس���ان ال���ذي يظل على خالف دائم مع مجتمعه استشراف ًا لمس���تقبل أفضل ،فإذا خضع لس���لطان الرأي العام -تملق��� ًا أو خوف ًا انتف���ت عن���ه صف���ة المثق���ف ،فالمثقف موقف وليس مجموعة من المعارف التي يحشوا بها رأسه ،والمثقف الحقيقي هو ال عن تأثيرات السلطة الذي يفكر مس���تق ً وع���ن غرائز الجماهير ف���ي الوقت ذاته. ويبقى أن أعترف أني ش���خصية مثيرة للجدل ولكن من أجل أن يتطور المجتمع إلى األفضل.
عندما أيدت تحرير العراق من حاكمه المستبد ولو على يد األميركيين فذلك أيض ًا كان مطلب أغلبية العراقيين § هن���اك اته���ام من آخري���ن بأنك تخ���دم األجندة الغربي���ة فكيف ترد على هؤالء ؟ هؤالء معذورون ألنهم سمعوا أقوا ًالمرس���لة ال س���ند لها ،ولو أنهم عرفوني عن قرب واطلع���وا على ما كتبت لغيّروا نظرتهم ،ه���ؤالء الذين ظنوا بأني أخدم األجندة الغربية التبس عليهم األمر عندما أيّ���دت تطوير المناهج الدينية والخطاب الدين���ي لينفتح عل���ى البعد اإلنس���اني والثقاف���ة المعاصرة ،فقال���وا إنه يؤيد الدعوة األميركية لتغيير المناهج مع أن منطلقاتي وطنية وتربوية ومستقبلية، وعندما أيدت تحري���ر العراق من حاكمه المس���تبد ولو على ي���د األميركيين فذلك أيض��� ًا مطل���ب أغلبي���ة العراقيي���ن ،وال يمك���ن أن نتهمهم ف���ي وطنيتهم وعندما طالب���ت بحق���وق الم���رأة كامل���ة ،فذلك أيض ًا م���ن منطلق ش���رعي صحيح وال عالقة له بالمطال���ب الغربية ،وهكذا في بقية القضايا التي كانت صادمة للثقافة السائدة في المجتمع القطري ،وأتصور أن الزم���ن كفي���ل بتجاوز ه���ذه النظرة السلبية. § كثي���رًا م���ا تهاج���م الح���ركات اإلس�ل�امية ألهداف لم يفهمها الكثير من الناس بعد ،فماذا تريد بالضبط ؟ أن���ا ال أهاج���م الحركات ب���ل أنتقدخطاب ه���ذه الحركات ومس���لكياتها في توظي���ف الدين في الصراع السياس���ي، وأرى في هذا الخط���اب بعدًا عن تعاليم الدين بالدعوة بالحسنى وبالمنطق (ادع إلى س���بيل رب���ك بالحكم���ة والموعظة الحس���نة وجادله���م بالتي هو أحس���ن)
الخطاب العام لمعظم الحركات السياسية اإلسالمية خطاب تعبئة وتحريض ضد األنظمة القائمة وضد الغرب ،خطاب يمأل نفسية الش���باب بكراهية اآلخر ،خطاب يهدم وال يبن���ي ،خطاب غاضب يتالعب بعواطف الش���اب المسلم وقد يدفعه إلى مزالق اله�ل�اك واإلض���رار بالنفس ،أنا أنتقد هذا الخطاب م���ن منطلق إني أريد خطاب��� ًا ديني ًا يحب���ب ش���بابنا بالحياة واإلنت���اج والعم���ل والتعليم والكش���ف واالبتكار واإلبداع والمنافسة في ميادين التنمية من أج���ل نهضة األمة ال من أجل التس���ابق إلى ميادين الهالك بحجة أنه جهاد ،أنا ال ارى في ذلك جهادًا بل إتالف ًا للنفس في غير طائ���ل ،الجهاد الحقيقي جهاد التنمية واإلنتاج والصناعة وبناء الق���وة الذاتي���ة ،الجه���اد الحقيق���ي هو ف���ي إعمار األرض ال ف���ي أهالك الحرث والنس���ل ،الجهاد الحقيق���ي هو(الجهاد الحض���اري) ال (االنتح���ار الحض���اري). كما أنتقد مس���لكيات هذه الحركات ألنها تسعى للتوظيف (النفعي) أو االنتهازي للدي���ن وبه���دف الوصول إلى الس���لطة عبر اس���تخدام العنف ال عبر األس���لوب الديموقراطي ،وألن معظم هذه الحركات أو الجماع���ات تمثل مش���اريع (تفكيكية) للدول���ة الوطنية المعاص���رة ،هدف كل حركة سياسية إس�ل�امية تكوين إمارة إسالمية تطبق فيها الشريعة اإلسالمية بمفهومه���ا الضيق ،وذل���ك بغض النظر عن أن تكوين هذه اإلم���ارة الدينية فيها تهديد لوحدة الدولة وهدم لسيادتها ،ثم إن هذه الحركات له���ا والء عابر للحدود الوطنية إلى أيديولوجية شمولية حالمة باس���تعادة (الخالفة) اإلس�ل�امية ،وهو حلم مس���تحيل تطبيقه ف���ي ظل موازين القوى الدولية. § ه���ل نح���ن بحاج���ة لمصطل���ح «الح���وار بين األديان» رغ���م عدم اتفاق البعض على ضرورة هذا التحاور ومنهم الش���يخ القرضاوي الذي يرفض الحوار مع اليهود بشكل خاص؟ لح ليس بين ثقافة الحوار مطلب ُم ّاألديان فحس���ب بل بين أبن���اء المجتمع 53
الواح���د بكاف���ة طوائف���ه وأطيافه ،لكن ثقاف���ة الحوار ال تعني مجرد إبداء وجهة نظ���ري ،وال تعني أن أداف���ع عن ديني ومعتق���دي المذهبي والسياس���ي ،كما ال تعني أن أح���اول االنتصار على خصمي ورد ش���بهاته وإفحام���ه لنص���رة رأيي ّ ومذهب���ي وبيان أني على حق وخصمي عل���ى باطل ،هذا ليس ح���وارًا منتج ًا بل يؤدي إلى ما يس���مى (حوار الطرشان). إن(ثقاف���ة الحوار) تعني قبول اآلخر كما هو علي���ه ال كما أريده أنا ،وليس معنى أن أقب���ل اآلخر كما هو عليه أني أعترف بصح���ة معتق���ده أو رأيه ،ولك���ن أقبله أخ ًا في اإلنس���انية له كافة الحقوق التي لي ،فال أحج���ب رأيه وال أصادر حريته وال أم���ارس تمييزًا ضده وال أجرحه وال أكفره وال أخون���ه ،كما ال أملك صكوك الجن���ة والنار فتلك بيد اهلل تعالى يفصل بين الناس يوم القيامة. وأحت���رم وجهة الش���يخ القرضاوي في عدم قبول���ه المحاورة م���ع اليهود، لكننا نخالفه ون���رى أن الحوار ضرورة حتى م���ع العدو الغاصب ،رفض الحوار موق���ف إقصائي ال نرتضي���ه مهما كانت المبررات. أخال���ف الش���يخ القرض���اوي ف���ي آرائه السياس���ية فقط فأنا ضد مقاطعة البضائع األميركية وضد ش���حن الناس بكراهية الحضارة الغربية وضد نظريات المؤامرة وال أؤمن بش���يء اسمه (الغزو الثقاف���ي) ومخططات الغرب للس���يطرة عل���ى العال���م اإلس�ل�امي وأعتق���د أن (بروتوك���والت حكماء صهيون) خرافة، كما أنني أس���تنكر توظيف منابر بيوت اهلل لف���رض آراء سياس���ية خالفية ،أنا مؤمن تمام ًا ويقين ًا أن اإلسالم دين ُيعنى بقضاي���ا المس���لمين (وم���ن ال يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) ولكن ليس معنى ذلك أن اس���تغل منصبي كخطيب جمعة ألروج آلراء سياس���ية ه���ي محل خالف ّ بين المس���لمين ،المسجد لنش���ر الهداية والتس���امح والقيم المش���تركة والقضايا المتفق عليه���ا مثل العدال���ة والنهي عن الظلم واالس���تبداد إلخ .ولك���ن تحويل منبر المسجد إلى منبر حزبي خالفي هو 54
انتهاك عظيم لقدس���ية المحراب الديني ومخالفة لتوجيهات الرس���ول صلى اهلل عليه وس���لم بإبعاد الخالفات السياسية واأليديولوجية عن المساجد ،ولو أبحنا ل���كل خطي���ب أن يوظف المنب���ر لخدمة آرائه السياس���ية ،لتحول���ت األمور إلى فوضى !. § يع���رف عن���ك رفض���ك لمناهج التعليم ف���ي الخلي���ج ،وتطال���ب دائما بتغييره���ا وتهذيبها بما يس���اير النظرة الغربية واألميركية تحديدًا ؟ نع���م أطال���ب بتطوي���ر وتنقي���حالمناه���ج يما يتف���ق وثقافة التس���امح وقبول اآلخر ونب���ذ الكراهية والنزعات التعصبي���ة ،وذل���ك من أجل مس���تقبل أوالدن���ا وبه���دف تحصينه���م وتقوي���ة مناعتهم أم���ام غزو األف���كار المتطرفة، ولست أنا أول من دعا لتطوير المناهج، بل ه���م كبار التربويي���ن العرب من قبل ألنهم عانوا كثي���رًا من مخرجات التعليم العربي ،إننا نري���د تعليم ًا متصالح ًا مع العصر ،يس���اعد على تطوير مجتمعاتنا لعبور فجوة التخلف التي تزداد اتساعاً، نريد تعليم ًا يقربنا وال يفرقنا ،ويسعدنا وال يشقينا ،ويحمي أوالدنا ويحببهم في الحياة وال يزرع فيهم الكراهية ويدفعهم للهالك.
(ثقافة الحوار) تعني قبول اآلخر كما هو عليه ال كما أريده أنا ،وليس معنى أن أقبل اآلخر كما هو عليه أني أعترف بصحة معتقده أو رأيه ،ولكن أقبله أخ ًا في اإلنسانية
§ أن���ت نصي���ر للم���رأة ف���ي كل قضاياها ،عل���ى الرغم من وجود بعض النساء ممن يعارضنك الرأي في كتاباتك على طول الخط ؟ الم���رأة إنس���ان له���ا كاف���ة الحقوق التي لإلنس���ان وكونها أنثى ليس مبررًا لالنتقاص من آدميتها أو هضم ًا لحقوقها أو اس���تعالء عليها .هذا ليس من تعاليم وقيم اإلس�ل�ام ،نع���م التقاليد واألعراف جارت على التعاليم وظلمت المرأة على م���ر التاريخ ،وواجبنا اليوم وواجب كل صاحب قلم أو منبر أن يدافع عن المرأة، أن���ا ال أدافع ع���ن المرأة ألنه���ا امرأة بل ألنها إنس���ان يتعرض ألنواع من التمييز والتهميش واالنتق���اص ،أدافع عنها كما أدافع عن كافة المظلومين والمهمش���ين، منطلقي إنس���اني بالدرج���ة األولى ،وال ب���أس أن يعارضني بعض النس���اء فهذا حقه���ن ،لكن من تجرحن���ي فهي ضحية األعراف والثقاف���ة الموروثة التي زينت لها أن تلك الثقافة هي اإلسالم ،وأن الذي يهاجمه���ا يهاجم اإلس�ل�ام ،فهي ضحية مخدوعة لما أسميه (الوعي الزائف). § البعض يكفِّ���رك ويتهمك بالردة واإللحاد وخروجك ع���ن المألوف فكيف ترد على هؤالء ؟ تكفي���ر المس���لم من أكب���ر الكبائر،ش���ق هؤالء ع���ن ص���دري واطلعوا ّ هل عل���ى مكنونات ف���ؤادي ،ال يجوز تكفير من يق���ول :ال إل���ه إال اهلل محمد رس���ول َه���م الجو اهلل ،ولك���ن المكفّري���ن َخ�ل�ا لُ فباضوا وصفروا ،ونحن ال نملك سلطة مقاضاتهم ،ومن هنا فإنهم يستس���هلون تكفي���ر المخالفين لهم في رأي سياس���ي أو اجتهاد فقهي ،علم ًا بأن ديننا العظيم هو الدين الوحيد الذي يكافئ على الخطأ في االجتهاد ،أئذا اختلفت معهم في رأي فقهي أو قضية اجتماعية تتعلق بالمرأة، كفروني ؟! .التكفير عجز عن بيان الحجة ّ ضره���م إذا اختلفت وإف�ل�اس فكري ،ما ّ علي باألحس���ن فلعلي معه���م أن ي���ردوا ّ أقتن���ع بحججهم ؟ لماذا التجريح وفرض الوصاية عل���ى اآلخرين ؟ لماذا ال يثقون في آرائه���م ويخاف���ون أن يقتنع الناس
بآراء المخالفين؟ قال اهلل تعالى لرسوله الكري���م «إنم���ا عليك البالغ» والرس���ول صلى اهلل عليه وسلم لم يفرض وصايته على أح���د ،التكفير نوع من االس���تعالء يرى صاحبه أنه صاحب السلطة الدينية عل���ى الناس ،وال عالج له���ذا المرض إال بتشريع يبيح محاسبة المكفِّرين. § كي���ف تنظ���ر للث���ورات العربية الت���ي انطلقت من تون���س ومصر وليبيا واليمن؟ االس���تبداد وقرينه الفس���اد آفتانحاكمت���ان في الحي���اة العربية منذ قرون طويلة ب���ل منذ تحول الحكم اإلس�ل�امي من نظام الخالفة في عهد الراش���دين إلى الملك العضوض في عهد األمويين نظام ُ وما تاله إلى يومنا هذا ،الثورات العربية بداي���ة انطالق���ة جدي���دة وح���رة لألم���ة العربي���ة ،وكل دع���اة الحري���ة والعدالة وحقوق اإلنس���ان يدعمونها ويأملون أن تحقق أهدافها ف���ي الحياة الحرة الكريمة لإلنسان بعد طول إذالل واستعباد ،لكن هناك محاذير ومخاوف كثيرة في طريق الثورات العربية ،لعل أبرزها: أوالً :انش���غال هذه الثورات بتصفية رموز العهد الس���ابق ومحاكمتهم وطمس كل اإلنج���ازات الس���ابقة وإقصاء كل من عمل أو أيد أو وقف مع النظام الس���ابق، توج���ه انتقامي ،عدم���ي ،ثأري، وه���ذا ُّ ماضوي ،يستنزف الجهود والطاقات عن التفكير والتخطيط للمس���تقبل ،يجب أن تنشغل الثورة بالبناء واإلنتاج والتنمية، وتترك الماضي لحكم التاريخ. وثاني المخ���اوف :خطف الثورة أو سرقتها من قبل الجماعات األيديولوجية المنظمة أو من قبل الزعماء الش���عبويين الذين يحس���نون الخط���اب ،ويتالعبون بالعواط���ف ،تل���ك الجماع���ات وهؤالء تحولوا الزعماء إذا وصلوا إلى الس���لطة ّ إلى فراعنة جدد. وثالث المحاذير :أن ش���باب الثورات الجدي���دة ال يؤمنون بثقافة الحوار بدليل نش���اطهم فيم���ا س���موه بقوائ���م العار، ومقاطعتهم لن���دوات الحوار الوطني في مص���ر بحج���ة اعتراضهم على مش���اركة
أستنكر توظيف منابر بيوت اهلل لفرض آراء سياسية خالفية ،أنا مؤمن تمام ًا ويقين ًا أن اإلسالم دين يُعنى بقضايا المسلمين (ومن ال يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) بعض الش���خصيات ف���ي الحزب الوطني المنحل ،وهذا موقف إقصائي ال يس���اعد على ترس���يخ ثقاف���ة الديموقراطية في التربة المجتمعية. ورابع���اً :نحن نعلم أن البناء أصعب بكثير من الهدم -لذلك على شباب الثورة عدم االنخداع بالش���خصيات التي تحسن التملّق والتزلّف بل عليهم اختيار الكفاءة بر األمان القادرة على قي���ادة الدولة إلى ّ بغض النظر عن رأيهم فيها. ّ وخامساً :نعم لقد سقط جدار الخوف وأثبتت الثورات الشعبية أنها قادرة على التغيير مصداق ًا لقول���ه تعالى «إن اهلل ال يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفس���هم» فمن غير المقبول تعطيل اإلنتاج والعمل واس���تمرار نزيف الخس���ائر واس���تمرار التظاه���رات واالعتصامات بحجة وجود «الث���ورة المض���ادة» و«فل���ول النظ���ام» و«البلطجي���ة» .المطل���وب اليوم التوجه إل���ى اإلص�ل�اح الحقيق���ي والبن���اء على أسس من الديموقراطية وسيادة القانون والعدال���ة وتأمين ف���رص العمل والحياة الكريم���ة للمواط���ن ،المطل���وب تضافر الجه���ود لتعوي���ض الخس���ائر الفادحة وإص�ل�اح االقتص���اد وذلك ل���ن يتحقق إال باالس���تقرار لقد هربت االس���تثمارات وتقلصت السياحة ووصلت الخسائر إلى أكث���ر من 70مليار دوالر خالل 3أش���هر فقط ،السياحة المصرية تخسر يومي ًا 40
مليون دوالر ،المطلوب اليوم سياس���ة رش���يدة تعيد الثقة باالقتصاد المصري، ولن تعود هذه الثقة إال إذا أدرك المواطن أن «منط���ق الثورة» غير «منطق الدولة» وأن الثورة إذا أسقطت النظام السياسي يج���ب أن تفس���ح المجال الي���وم للدولة لتم���ارس دورها المطلوب ،لهذا علينا أن نخشى على مصير الثورة!. § م���ا ه���ي المطال���ب الت���ي تتمنى أن تحق���ق النج���اح والتف���وق للمجتمع القطري؟ لقد حققت القيادة السياسية نجاح ًاخارجي��� ًا مش���هودًا في مج���االت عديدة، أتمن���ى أن ينعكس ه���ذا النج���اح الكبير على األوضاع الداخلية في تحسين أكبر للخدم���ات وف���ي تطوير أعظ���م للمرافق وفي تجويد نوع���ي للتعليم وفي ارتقاء أعلى للخدمات الصحية وفي تش���ريعات سياس���ية واجتماعي���ة أكث���ر توافق��� ًا وتصالح ًا م���ع منطق ومتغيرات العصر. أطم���ح ف���ي بني���ة تحتية أفض���ل ،وفي بيئ���ة صحية أرقى ،وفي مناخ اجتماعي أكث���ر انفتاح��� ًا وتس���امحاً .أطمع في أن تكون (المواطنة) هي العملة الرئيس���ية ف���ي الت���داول االجتماعي والسياس���ي ال الهويات واالنتماءات الضيقة إلى الطائفة والقبيل���ة والمذهب .أطمح في أن تحظى كاف���ة مكونات المجتم���ع القطري بنفس تكافؤ الف���رص واالمتي���ازات القانونية والدس���تورية عل���ى قدم س���واء .أطمح أن نتجاوز الحواج���ز القبلية والطائفية والمذهبية كما تجاوزتها ش���عوب الدول المتقدم���ة .أطم���ح ف���ي تحجي���م دع���اة الكراهية والتعصب الذين دفعوا ش���بابنا إلى بؤر التوتر وتسببوا في هالككم. أطمح في تشريع يتيح مقاضاة الذين يكفِّرون الناس ويشكِّكون في معتقداتهم ويش���وهونهم.أطمح في خط���اب ديني منفتح عل���ى العصر.أطمح في تش���ريع لألس���رة متصالح مع العصر.أطمح في خطاب إعالمي يحبب شبابنا في الحياة ويدفعه���م للتناف���س في ميادي���ن اإلبداع والكشف العلمي والسباق الحضاري بد ًال من إشغالهم بقضايا الماضي. 55
التزام
الطاهر بنجلون
السلطة: القيم أو ّ أوباما يخيّب آمالنا الس���ير باراك أوباما يريد مدة انتخابية ثانية .يريد ّ حق عل���ى خطى كلينت���ون وجورج بوش االب���ن .هذا ّ مشروع! ولكن ،من أجل الحفاظ على كرسي الرئاسة ال بد من االستجابة لمتطلبات األغلبية .كما يجب عليه التن���ازل عن بعض القيم التي س���نحت له بكس���ب ثقة الناخبين في العهدة األولى التاريخية. الس���هل أن تكون رئيس��� ًا للبل���د األول في ليس من ّ العالم (األول على بعض المس���تويات على األقل) .إنه منص���ب يخلق أع���داء أكثر مما يخل���ق أصدقاء .يخلق خصوم��� ًا معروفي���ن وأعداء مجهولي���ن .إنه منصب ال يسمح لصاحبه بالعيش مثل بقية الناس .حياة جميع رؤس���اء الواليات المتحدة األميركي���ة كانت في خطر. يحصل أحيان ًا أن يفاجئ معتوه وسط الحشود الرئيس ويطلق عليه النار .ويفش���ل عادة المحققون في كشف هوية المخططين الفعليين لمثل هذه العمليات .اغتيال ال م���ا يزال لغ���زاً .كل واحد يفترض ج���ون كينيدي مث ً إجاب���ة معينة عليه .لم���ا يموت رئي���س يخلفه آخر. العنف هو سمة متعارف عليها في أميركا .تاريخ البلد يثبت ذلك .ففي أميركا يوجد أكبر سوق لألسلحة ذات االستعمال الفردي .هناك الناس يتسلحون للدفاع عن أنفس���هم .للحفاظ على سالمتهم .كما أن امتالك سالح في أميركا صار تقليدًا اجتماعياً. فكر ملي ًا قبل اتخاذ موقف بش���ان أكي���د أن أوبام���ا ّ اإلقرار بدولة فلس���طين .من المؤكد أنه تس���اءل« :ماذا 56
سأكس���ب من هذه القضية؟ هل تستحق أن أتنازل من تمس ش���عب ًا أجلها عن مدة انتخابية ثانية؟ إنها ّ قضية ّ مش���تت ًا منذ ،1948ش���عب ًا يمكنه مواصلة العيش في المنفى وف���ي مخيمات الالجئي���ن .بالتالي ال داعي أن أدير ظهري إلس���رائيل .فإس���رائيل ه���ي الدولة التي تمتل���ك لوبي���ات في كل م���كان .لو أنني أتخ���ذ موقف ًا معادي ًا لسياستها الكولونيالية فإن اللوبي اإلسرائيلي في أميركا س���يعرقل طموحي في الحفاظ على منصب الرئي���س .س���يتهمني البعض بع���دم تنفي���ذ وعودي خصوص ًا لما صرحت في القاهرة« :الواليات المتحدة ال تقر ببناء المستوطنات االستعمارية» .حاولت حينها أن أثني نتانياهو عما يس���عى إليه .لكنه يواصل بناء أقر مس���توطنات جديدة .كالمي لم يؤثر عليه .بالتالي ّ بأن���ه أقوى مني ،ومن صالح���ي التراجع .لن أتحدث مجددًا عن المس���توطنات .وسأذهب بعيدًا وأؤكد أنني ال أريد دولة فلسطينية في هيئة األمم المتحدة .أميركا حق الفيتو وته���دد الفلس���طينيين بوقف ستس���تخدم ّ المساعدات المادية .من المستحب نيل رضا إسرائيل. سأدعم جيش الس���احل بالسالح .وس���تقوم هيالري لحث األم���م المتحدة على رفض طلب كلينت���ون بعملها ّ االعت���راف بدولة فلس���طين .وإن ح���دث العكس فإننا سنسحب من هذه الهيئة التي فقدت صالحيتها .هذا ما والسلطة». أفكر فيه لما أكون ّ مخيرًا بين القيم ّ حسابات أوباما خاطئة .االستسالم لمنطق إسرائيل
والتنازل عن احترام القيم اإلنسانية يكشف عن ضعفه وع���ن خيبة أملن���ا فيه .أصدق���اؤه س���يتخلون عنه. رئي���س ضعيف لن يس���تطيع ترؤس أمي���ركا مرتين. الرؤس���اء الكبار نتعرف عليهم لما يكشفون قوتهم في اللحظ���ات الصعبة .أوباما باع كل ش���يء ويعتقد أنه س���يفوز في االنتخابات .ليس ل���دي نصائح ألوجهها الظن أننا نتق���دم في الوقت الذي ل���ه .ولكن من الخطأ ّ نتراجع فيه خطوات إلى الوراء .ربما س���تكون وجهة نظري مخطئة ،لكنه لن ينتخب لعهدة رئاسية ثانية. وذلك ليس بس���بب سياس���ته االجتماعية ،وال بسبب األزمة المالية ،ولكنه ل���ن يبقى في الحكم ألن اللوبي اإلس���رائيلي بحاج���ة لرئي���س أميرك���ي يتعامل معه مرة بمكانة إس���رائيل في بليونة أكثر دون تذكيره كل ّ المنطقة .حدث أن ب���ان نتانياهو مغرورًا في التعامل مع أوباما .هذا األخير شعر بإحراج وفضل الذهاب مع زوجته لتناول العش���اء .في اليوم الموالي مباش���رة، قررت الحكومة اإلس���رائيلية بناء 1600وحدة سكنية في قطاع محتل .أوباما فهم كيف تتم معاملة رؤس���اء يريدون إنصاف شعب بال أرض .شعب مظلوم. الس���لطة الّتضحي���ة بالقي���م من أج���ل الحفاظ على ّ تعتبر خطأ .ففي الوقت الذي يعيش فيه العالم العربي ربيع��� ًا يمتد إل���ى ما وراء الحدود .وفي وقت تكتس���ح فيه الش���عوب الش���وارع في مواجهة الجيوش بصدور عارية ،قرر أوباما أن يغمض عينيه ويستسلم إلرادة إس���رائيل .مع أن���ه يدرك أن ه���ذه الدول���ة ال تحترم المواثيق الدولي���ة ،وتتظاهر بالتفاوض من أجل ربح الوقت وتكريس الوضع الراهن :من لقاء مدريد ،1991 اتفاقيات أوس���لو ،1993اجتم���اع كامب ديفيد 2000 إل���ى ندوة أنابوليس ،2007أبان الفلس���طينيون عن نوايا حسنة .لكن إسرائيل تواصل اللجوء إلى العنف الس���لم ،رافضة مجاورة دولة فلس���طينية .يبقى بدل ّ ف���ي األخير أمل ،ربما فكر فيه أوبام���ا ،هو أمل رؤية شعب إسرائيل يخرج إلى الشارع مطالب ًا بإقامة سالم يهمه أكثر مما يهم الساس���ة .فقد تح���دث البعض قبل عبر أكثر من فترة قصيرة عن «ربيع إس���رائيلي» حين ّ أربعمئة ألف مواطن عن رفضه للسياس���ة االجتماعية لحكومة أقصى اليمين. خيبت آمالنا في األخير ،نقول للس���يد أوباما :لق���د ّ وضيعت فرصة تاريخية على نفسك. فيك، ّ
في العدد القادم
امرأة من الضفة األخرى
قصة :محمد البساطي
السينات
شعر :بوزيد حرز اهلل
وقت للرحيل
قصة للتركي بهاء الدين أوزكشي
57
رحلة
- van Goghهولندا
ّتينية المفتوحة على العالم في مواجهة المدن سري يشّدك إلى المدن الال ّ هناك رابط ما ،رابط ّ األنكلوسكسونية ومدن الشمال الّداكنة والمغلقة تمام ًا كغاباته ..أستثني فيينا وأمستردام ّ السعيد وكأنهما مدينتان متوسطيتان زرعتا في الشمال.. إشراقهما في لي اللتين تبدوان ّ األلماني ،وأمستردام فيينا التي تنتمي للعالم الجرماني ولكن بدون تلك الرزانة وذاك الجّد ّ التي هي فينيسيا الشمال برسوم عصر نهضتها التي تلقاها في الرايكس موزيوم ،وقنواتها الراقصة في المياه وقواربها الزاهية.. التي ال تنتهي ،وبنايات شوارعها ّ
آرل :مدينة الماء والريح خالد النجار 58
أول زي���ارة له���ا وكنت أذك���ر ،ف���ي ّ ال أس���مر ف���ي ش���رفة بالدور جالس��� ًا لي ً الثان���ي أو الثالث مع بع���ض األصدقاء، فإذا بي ألمح فجأة باخرة تدخل المدينة، تمر م���ن أمامنا عب���ر البناي���ات ،باخرة ّ بيضاء كبي���رة بأبراجها وصفوف كواها تمر صامتة هادئة المستقيمة المضيئة؛ ّ الهولندي البعيد، تحت نجوم ذل���ك الليل ّ عجائبياً، كأنها تمخر الشارع؛ بدا المشهد ّ مشهد مس���رحي ،فنحن في ظالم الشرفة الرك���ح المضاء.. تمر ف���وق ّ والباخ���رة ّ ث���م ،وبلمح���ة بصر ،أحسس���ت أنّي في ّ بحري���ة ..أو ،كأننّي داخل بطاقة مدينة ّ بريد باألبيض واألسود ألحد المصورين الفوتوغرافيي���ن ..يا إله���ي كيف يرتقي فني���اً؟ أجل ،الواقع الواق���ع ليصير عم ً ال ّ أيض��� ًا مث���ل العم���ل الفنّي ه���و حقيقي وغي���ر حقيقي ف���ي اآلن..آه ،لق���د فقدنا بكارة النظر للعالم مباشرة واإلحساس بحضوره المباشر في النّفس ،صار الفن من فوتوغرافيا ورس���م وسينما ورواية يكيف نظرتنا، يقف بينن���ا وبين العالمّ ، باختص���ار صرنا ن���رى العالم من خالل الفني���ة التي يكتظ به���ا وعينا األعم���ال ّ واللغوية، المرئية وتحتش���د بها ذاكرتنا ّ ّ فنياً ..وم���ن يومها ص���ار العال���م ً عم�ل�ا ّ ارتبط���ت أمس���تردام في ذهن���ي بالبحر المتوسط. ّ س���ري يش���ّدك إلى المدن ثمة رابط ّ ّ جدلية صالبة تحكمه���ا الت���ي ���ة ّتيني ّ الال ّ الحجر وليونة األض���واء؛ وهي ،ال فرق نهرية بينها كبير إن كانت مدن ًا داخلية أو ّ ّ كل المدن التي مررت بها أو على البحرّ .. م���ن روما إلى فيتاربو ،إلى ميالنو ،إلى مرس���يليا ،إلى أفينيون ،إلى أوكسيير، إلى ليون ،إلى باري���س ،إلى مدريد إلى ثمة قاسم يجمع سلمنكة إلى برشلونةّ ، ّتينية وهو احتفاؤها بين هذه الم���دن الال ّ بالحجر وتل���ك العم���ارة المنفتحة على العالم الخارجي ،على أضواء الس���ماء.. وأنت ما تزال تحتفظ في ذاكرتك وروحك ���طية ومانية المتوس ّ الر ّ ّ بتلك األض���واء ّ البرتقالي���ة الناعم���ة ،أض���واء المس���اء ّ والحمراء القانية منعكس���ة على صفحة الرمادية قبل الغروب نهر السين الزرقاء ّ
ثمة رابط سرّي ّ يش ّدك إلى المدن الالّتينيّة التي تحكمها جدليّة صالبة الحجر وليونة األضواء في حي الش���اتلي ،أو فوق زجاج نوافذ الح���ي الالّتيني أواخ���ر الربيع إذ يطول ّ النه���ار حس���ب التوقيت الصيف���ي وتقفر الش���وارع ،هي أض���واء س���لمنكة على نه���ر التورميس ،أض���واء آرل على نهر الرون المنس���اب في البكور أو العش���ايا ّ وأنت تتطل���ع إليه خالل أش���جار الدلب واألوكاليبتوس الكبيرة من س���طح بيت غابي . س���ري يشّدك إلى رابط هناك أجل، ّ الم���دن الالّتينية الصاخب���ة ،تلك المدن الحسية ،السعيدة مشاهد الديونيزوسية ّ ّ العامة في الش���وارع المراقص والحفالت ّ والس���احات وأكشاك الموس���يقى ،التي ال تخلو منها مدينة فرنس���ية ..وفترينات جاجي���ة المض���اءة في مدن المخ���ازن ّ الز ّ أوروب���ا والناس الهائم���ة على األرصفة وف���ي حدائ���ق التويل���ري كم���ا نراه���م ف���ي فوتوغرافي���ا آخ���ر القرن التاس���ع عش���ر بقبعاته���م ومطرياتهم الس���وداء أو ف���ي حديق���ة الليكس���مبورغ ..رجال ونس���اء يدورون ف���رادى أو مع أطفالهم وحيواناتهم األليفة ..تلك المشاهد التي رس���امو آخ���ر القرن التاس���ع صوره���ا ّ عش���ر من التعبيريين :مشاهد مونمارتر وكورني���ش مدين���ة ني���س :رون���وار، وماني ،ومون���ي ،وبرنار دوفي وإدغار ديغ���ا بحس���ية رس���ومه التي تحتش���د بالخي���ول وراقصات البالي���ه ..وموانئ س���يزلي التي تكت���ظ بالق���وارب فتبدو الص���واري ..مش���اهد الناس غاب���ة م���ن ّ في الش���وارع الصاخبة ،وف���ي المقاهي الضاجة باألصوات والمشارب والبارات ّ والدخان المرتفع ..نفس األماكن صورها وفي نف���س الحقبة تقريب��� ًا رافع رفاعة
الطهطاوي في كتابه الديوان النّفيس أو تخليص اإلبريز ف���ي تلخيص باريز وبدا ش���اذًا له ،ه���و اإلمام األزهري المتحفّظ ّ اج في الض ذاك الطبع الفرنسي المنفعلّ ّ ، المقاهي والمشارب ،ذاك الطبع المتقلب بس���رعة كما الحظ هو م���ن الفرح العارم إلى الغض���ب العارم ..الش���ارع في هذه المدن نش���يد دينامي من األلوان الزاهية والصخب :س���تارات المقاهي وأرصفتها ّ برس���اميها الش���وارعيين وعازف���ي األكوردي���ون والح���واة ومطلقي النيران العامة المبلطة من أفواههم ..الس���احات ّ وريثة األغ���ورا Agoraاإلغريقية حيث يلجأ الكلوشارات والعشاق إلى الكراسي العام���ة التي غناه���ا جورج براس���انز، ّ وس���احات الكنائس Les parvisحيث يتلكأ الناس بعد خروجهم من الكنيس���ة ّ أيام اآلحاد. أن ما يش���ّدك إل���ى مدينة آرل، بي���د ّ الري���اح ف���ي إقلي���م البروفانس مدين���ة ّ جنوبي فرنسا شيء يتجاوز هذا الرابط الس���ري ،فقد عشت فيها فترات كثيرة من ّ حياتك ..كان���ت آرل في ذهن���ي قبل أن أزورها مرتبطة بأس���طورة فان خوخ، كان هناك إحس���اس شاعري يهزني كلما فكرت بأني س���أذهب إليه���ا قريب ًا وأنّي س���أقيم فيها في المركز الدولي للترجمة األدبية ،وأنّي سأجول في تلك المغاني التي ج���ال فيها فان خ���وخ ،هناك قطع تحبه ،هكذا أذنه ليقّدمها هدية المرأة لم ّ تق���ول األس���طورة التي ق���رأت وصّدقت مرة أخرى وضع كفه فوق ش���علة وفي ّ ش���معة وترك لحمه يحترق ليبرهن عن حبه الم���رأة كانت معه في أحدى مقاهي ّيلي الذي رس���مه.. آرل ،لعلّه المقهى الل ّ ج���اداً :لن أرفع ي���دي عن النار قايضه���ا ّ بحبك.. حتى تبوحين لي ّ فكن���ت آخذ كتاب رس���ائل فان خوخ وهو عمل أدبي راق من ّ الرف ألقرأ رسالة أو رس���التين إلى شقيقه ثيو يحدثه فيها ع���ن حياته ف���ي آرل ،وفي س���ان ريمي يحّدث���ه ع���ن الفالحي���ن ،وع���ن عذاباته وآالمه واضطراباته النفسية ،ثم أتوقف عن القراءة ألمضي بعيدًا في أحالم يقظة ال تنته���ي ،أغرق في الخي���ال حيث أرى 59
مشاهد الريف الفرنسي ،حياة الفالحين، الغابات والبحيرات الزرقاء والطواحين والجس���ور عل���ى األنه���ار والرع���اة مع الريفية المتناثرة في قطعانه���م والبيوت ّ الزرقاء بقرميدها األحمر والدخان اآلفاق ّ المتصاعد في البعيد من مداخنها. محطة القطار وتمضي في تخرج من ّ اتجاه النهر ،في اتجاه الجسر الذي هدمته الطائ���رات األميركية في الحرب العالمية الثانية ،1944لم يبق من الجسر سوى بوابتي���ه على الضفّتي���ن ،ألمح من بعيد َّ البر في مدخله على الحجريين األس���دين ّ وكأنهما يس���بحان في الس���ماء الزرقاء، ومن الضفة األخرى تلمح أش���جار الدلب والكالتوس والس���رو والمقب���رة الحديثة خط األف���ق ،وبلحظ���ة وأنت تقترب ثم ّ ّ من الميناء النّهري الس���ياحي تلمح تلك النهرية الرابضة على الرصيف، الباخرة ّ بغرفها المض���اءة باألباجورات ومطعمها كل أولئك المجانين على السطح ..تتذكر ّ الت���ي كانت أوروب���ا القرون الوس���طى تتخلص منهم بوضعهم في القوارب ،فقد كانت الناس تعتقد أن مياه البحر مطّهرة من الس���حر والجن الذي يسكنهم .بيد أن هذه الباخرة النهري���ة ال تحمل مجانين، هي عبارة عن فندق عائم يحمل س���ياح ًا من ألمانيا وجينيف وصلوا إلى آرل عبر النهرية ..وبلحظة تحس بنعمة الخطوط ّ الس���عيد ال���ذي يختلط عليك ذاك الضوء ّ فال ت���دري هل ه���و صاعد م���ن الّداخل، األثيرية من أعماق���ك ،أم هو في األجواء ّ تهز أيك الهينة ّ التي تحيط بك؟ :الري���ح ّ الرون الذي القصب النابت على حافة نهر ّ ينس���اب في هدوء عميق ،هدوء راس���خ ثم انعكاس وقديم مثل س���يالن الزمنّ .. أضواء الشمس على زجاج نوافذ البيوت الرصيف حيث دير فرس���ان الت���ي عل���ى ّ مالط���ة الذين كانوا يحلمون باس���تعادة القدس من المسلمين ..دير فرسان مالطة الحجرية الصموت���ة ونوافذها بواجهت���ه ّ العالية المصطفّة ..كلما مررت من هناك مر بآرل تذكرت قصة األمير العربي الذي ّ وترك فيها كنزًا مدفون��� ًا ال يعرف مكانه أح���د ،ومازال الن���اس يبحثون عنه .فقد كان���ت آرل في تل���ك األزمن���ة ومناطق 60
كثيرة من جنوب فرنسا عرضة لهجمات يس���مى فرق الع���رب األندلس���يين أو ما ّ الفرنسية في أدبيات القرون الوس���طى ّ (الس���ارازين).Les Sarrazins .. ب���ـ ّ تذكرت قصص األس���رى المسلمين الذين اقتنصه���م القرصان وقضوا بقية حياتهم هن���ا ..قصص��� ًا كثي���رة مثيرة ..وبع���د الدير هناك القنط���رة التي تربط المدينة بحي تيكت���اي والتي رس���مها فان خوخ ثم تتق���ّدم خطوات لتجد دار آكت س���ود ّ لصاحبه���ا الكات���ب والناش���ر اليه���ودي البلجيكي هيبرت نيسان ..عرفت نيسان ف���ي زيارتي األولى كنت معجب ًا بإنجازه ككات���ب وناش���ر رائد ورج���ل تقّدمي ذي أفق إنس���اني إلى أن قرأت يومياته التي بح���س صهيون���ي يتناف���ى مع تنض���ح ّ كل ه���ذا ..وهذا ش���أن كثير م���ن الكتاب ّ والش���عراء في الغرب تج���د الواحد منهم اليكي��� ًا حداثي ًا وما تقّدمي��� ًا ديموقراطي��� ًا ّ إن ينتقل الحوار إلى الكيان اإلس���رائيلي الصهيوني���ة حتى وإل���ى األيديولوجي���ا ّ كل ينقل���ب ه���ذا الكاتب أو الش���اعر على ّ ليتحول إلى مبادئه في تناق���ض فاضح ّ يؤيد دولة دينية رج���ل من أقصى اليمين ّ نبي ،تمارس اس���تعمارية تتخذ لها اسم ّ األبارتاي���د باختص���ار تم���ارس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين ،تهدم البيوت على أهله���ا وتقتل األطفال بالفوس���فور بأي دون أن ي���رف ل���ه جفن أو يش���عر ّ تناقض ف���ي مواقفه بي���ن درس فولتير والتنوير الذي يريد تس���ويقه لدى تالميذ فرنس���ا من الفرنكوفونيين وبين عقيدته في ه���ذه الدولة الّدينية .وق���د تركوا هذا االزدواج ل���دى كثي���ر م���ن تالميذهم في
كانت آرل في ذهني قبل أن أزورها مرتبطة بأسطورة فان خوخ ،كان هناك إحساس شاعري يهزني كلما فكرت بأني سأذهب إليها
المستعمرات القديمة من الفرانكوفونيين المغاربة واللبنانيين العاجزين عن بناء موقف فكري مس���تقل عن موقف الس���يد المستعمر .بل صار بعضهم يدافع عالنية عن الدولة الصهيونية الدينية !!! ويدعوا إل���ى اليكي���ة كولونيالية داخ���ل بالده، اليكية ه���ي خلطة جاهزة م���ن صيدلية الثورة الفرنسية يعالج بها تاريخه. ف���ي البعي���د تلمح بيت مي���راي الذي يلقاك في زاوية ش���ارع س���افوريان مع كورني���ش الروكيت ،وفي ه���ذه الزاوية بالضب���ط تجل���س األم روزيتا فوق تلك ّ ال عن األرض كما السطيحة المرتفعة قلي ً هو شأنها في العصاري ..روزيّتا إيطالية مهاجرة جاءت إل���ى آرل بعد الحرب مع زوجها البوليت���اري جيوفاني ،إذ كانت آرل قد عرفت موجة مهاجرين من العمال المياومي���ن اإليطاليي���ن واإلس���بان مع حي بدايات السكة الحديد 1850وسكنوا ّ الرون، الروكيت في ط���رف المدينة على ّ ثم ،وفي الخمسينات أعقبتهم موجة من المهاجرين العرب ،من حركيين جزائريين وعم���ال مغاربة وتونس���يين ..يجيئون ّ عادة في الخريف في موسم جني الكروم في الحقول المحيطة ب���آرل ..وفي آخر الس���بعينيات جاء أو ق���ل التجأ إلى آرل من أماكن قصية ف���ي أوروبا وأميركا ما يس���مى بش���باب مايو/أيار 68جاء كان ّ بع���د الثورة آخ���ر الس���بعينيات وأوائل الثمانينيات ،جاء وهو يناهز األربعين، جاء في لحظ���ة إحباطه وضياع حلمه.. فالث���ورة هي الثورة بي���د أن النظام هو النظ���ام أيض���اً .والنظ���ام ه���و القاعدة والثورة استثناء ولكنّه ضروري .شباب ثورة مايو الحال���م والمحبط من الثورة منح المدينة س���مت ًا آخر ..واكتمل البناء الفسيفس���ائي للمدينة :عائ�ل�ات أرليزية عريقة ،مهاج���رون إس���بان وإيطاليون وعرب ش���مال إفريقيا ثم هذا الرهط من بقاي���ا ش���باب 68يليه طلبة المدرس���ة القومية للّتصوير الفوتوغرافي. وروزيّتا م���ن المهاجرين اإليطاليين ا ُأل َول عج���وز تناه���ز الثماني���ن تتكل���م إيطالي���ة وأثناء الكالم الفرنس���ية بلكنة ّ تنتقل إلى لغتها األم دون أن تدري ،وهي
- Paul Gauguinفرنسا
تعتقد أنها ما تزال تتكلم الفرنس���ية ..آه لروزيتا وهي تتذكر بكثير من الحس���رة أي���ام ش���بابها :كن���ت جميلة ج���ّدًا وكان الش���باب يطاردونني ..يحاولون لمسي وتشير بيدها إلى صدرها وتعقّب :آه كم كان رائع ًا ذاك الزمان! لقد مضى ،مضى الش���باب ..آه يا للش���باب! وأسالها :هل لحقت موسليني في إيطاليا أيام الحرب؟ وتقول :آه موس���ولّيني ..موس���ولّيني أحب موسليني ..رأيته رائع ،رائع ..أنا ّ عندما كنت صغيرة في روما في الساحة العامة وهو يطل من شرفة قصر المدينة ّ طيب.. ويحيي الش���عب ..موس���ولّيني ّ طيب جّداً ..كان يحب طيب ،موس���ليني ّ ّ يحب الفقراء. الشعب ،كان ّ وتغوص روزيّتا من بعدها في اللغة اإليطالي���ة وال أس���تطيع متابعتها وأريد تس���تمر في أن أس���ألها عما تقول ولكنها ّ تظن أنّي ما مونولوغ ال ينته���ي ..وهي ّ أزال أتابعه���ا .هكذا هي مش���اعر روزيتا ش���عبية بس���يطة وصادق���ة وال ب���ّد لي كل تل���ك األدبيات أن أن���زع م���ن دماغي ّ السياس���ية الت���ي قّدمت لنا موس���وليني كفاش���ي فق���ط ..وأدركت تل���ك اللحظة كم ه���و الب���ون شاس���ع بي���ن الحقيقة المعاشة ،بين مش���اعر الناس الحقيقية
تاريخية ما وبين التصنيفات في لحظ���ة ّ األيديولوجية وما يكتب المؤرخون. ّ أما جيوفاني زوجها ف�ل�ا تراه ،فهو ومنذ سنين يغادر بيته في الفجر للصيد شتاء ،نادرًا ما ألقاه صيف ًا كان الفصل أم ً ال وه���و يدخل أو يغادر بيته منحني ًا حام ً قصب���ة وأدوات الصي���د ..ظلت صورته لسنوات صورة ذاك الرجل القصير الذي يس���ير في انحناءة كبي���رة إلى أن توفي مسجى ودخلنا بيته للعزاء فإذا بنا وهو ّ في ف���راش الموت نكتش���ف أنّه طويل.. طوي���ل ،ورج�ل�اه ت���كادان تتج���اوزان السرير.. أحب أن أزور آرل في الخريف عندما ّ تكون الش���وارع خالي���ة وزرقاء ،وريح الجو الميس���ترال التي تهب عليه���ا تزيد ّ رومانس���ية ..يأوي األرليزيون وحش���ة ّ إلى بيوتهم؛ ال أحد في الش���وارع سوى بعض من تخلَّف من الس���ياح األوروبيين واألميركان تلقاهم في ساحة الجمهورية أمام بوابة كنيس���ة القديس تروفيم ذات األخروية وكأنها تجسيم حجري النحوت ّ لجحي���م دانتي من قب���ل أن ينحت رودان جحيم دانتي ف���ي بوابته العظيمة ،هكذا كانت كنيس���ة العص���ر الوس���يط ترهب األبدي���ة ..أو تراه���م الن���اس بالني���ران ّ
(هؤالء الس���ياح) يجلس���ون في جماعات على أرصفة مقاهي ش���ارع ديليس الذي يلف آرل القديمة ..يمنحون المدينة شيئ ًا احتفالية الصيف ال���ذي يمضي إلى م���ن ّ االضمحالل وس���ط رياح الميسترال التي ته���ز األش���جار وتدفع ب���أوراق الخريف ّ وتموج الصف���راء في زواي���ا األرصف���ة ّ النيلي. الرون سطح ّ ّ يمتّد ش���ارع ديليس من أمام حديقة المسرح الروماني حيث تمثال فان خوخ وذاك النب���ع الرومانس���ي المختفي بين الحجر وتحت ش���جرة اللبالب المعترشة مرت أجيال من الشعراء في جداره ..هنا ّ والكت���اب ..أش���عار كثيرة أنش���دت في ظالل هذه األش���جار وتحت أقمار فرنسا الباردة منذ القرن الثامن عش���ر ،من أيام روس���و وروايته وهيلويز الجديدة التي الرومانسي ..ال أدري لماذا ّ دشنت العصر ّ يذكرني هذا المشهد كلما مررت به برواية ّ آالم الشاب فارتر لولفغانغ غوتة ،فأرى نحي�ل�ا ضارب ًا إلى صف���رة بذقن ش���اب ًا ً ّ وقبعة سوداء مستطيلة خفيفة س���وداء ّ وعصا في يده تحت شجرة زيزفون وهو بح���ب يائس إل���ى حبيبته التي ال يبوح ّ ب���كل ما يقول ..ويس���يل الدمع في تأبه ّ صمت على وجنتيه.
61
ملف
أستراليا- Olga Lysenko
62
القراءة طعم الحب في 17نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1965نادت اليونسكو بتخصيص يوم عالمي للقراءة والتحصيل ،سرعان ما بدأ االحتفال به للمرة األولى في 8سبتمبر/أيلول ،1966وفي عام 1995قررت اليونسكو تحديد يوم 23إبريل/نيسان يوم ًا عالمي ًا للكتاب وحقوق المؤلف .عيدان للكتاب ،لكنها مصادفة جيدة أن يسبق االحتفال بالقارئ االحتفال بالكاتب الذي يحظى في العادة بالتكريم والشهرة ،على الرغم من أن المتعة والمعرفة شراكة بين الكاتب والقارئ. ال يكتب المؤلف على صفحة خالية ،لكنه يرسل بما يكتب إلى قارئ يضيف إلى النص من خياله ومعارفه السابقة ومزاجه في اللحظة التي يتلقى فيها الكتاب. كاتبنا العربي عمر فاخوري (الذي قدمنا كتابه الفصول األربعة مع عدد سبتمبر من الدوحة) يعتبر الكاتب والقارئ مسافرين على راحلة واحدة ،أما العبقري األرجنتيني بورخيس الذي كان يحلم بجنة على هيئة مكتبة فينقل عن قس فيلسوف من القرن الثاني عشر هو القس بيركلي« :إن طعم التفاحة ليس في التفاحة نفسها، وال في فم آكلها ،وإنما في اجتماع االثنين». هكذا تشبه القراءة متعة السفر ولذة األكل وإشراقة الحب ،فهي فعل يحتاج إلى شريك .ال الكاتب وال القارئ وحده يحدد قيمة الكتابة وطعمها .وهي كذلك فعل يوسع الحياة ويعمقها ،ويجعل من العمر الواحد أعمارًا بإضافة تجارب وخبرات اآلخرين إلى أعمارنا .وعلى الرغم من أننا نقف في ذيل قائمة األمم التي تعرف لذة القراءة ،فقد تأذت المتعة الخجول كثيرًا خالل عام الربيع العربي ،ألن الجائع والخائف والغاضب ال يقرأ. وهذا الملف محاولة من «الدوحة» لالحتفاء بالمتعة المنسية التي إن تمسكنا بها ال يبقى معها على ظهر أرض العرب من مستبد.
63
تاريخ الحرية فالن ناس��� ًا قد اجتمعوا إن في دار ٍ «ق���ال أبو عمرو بن العالءِ :قيل لنا يوماًّ : عليهم فتسورنا ور. َّ ْ على َس���وءة ،وهم ُج ٌ نب ٌ لوس على خميرة لهم ،وعندهم ُط ُ ٍ ِ وأصحابه حوله، الدار، وسط في جالس فتى فإذا ، الحي جماعة من في ٌ رجال ِّ ُ ً ِّحى ،وإذا هو يقرأ عليهم دفترًا فيه ش���عر .فقال الذي س���عى الل يض ب هم وإذا ِْ ُ َ أكشف وإن دخلتموه عَثرتم عليها! فقلت :واهلل ال ُ السوءة في ذلك البيتْ ، بهمَّ : بن ثوبه ف���ي كان ولو علم، دفتر يده وف���ي ش���يوخ، ه أصحاب فتى دم يحيى ِ ُ ُ ً ُ زكرياء». َّ من مقدمة كتاب «الحيوان» للجاحظ
حم�سن العتيقي تضفي القراءة ضوءًا على معارفنا، فيت���راءى لنا أننا قادرون بش���كل أفضل عل���ى التعبير ع���ن أفكارن���ا وعواطفنا، وبشكل تراكمي تشق قراءاتنا طريقها إلى ش���عور بغبطة التكلم .في القراءة أيض ًا نكتش���ف إلى أي حد أنن���ا في تماس مع اآلخرين ،وينتابنا ش���عور غريب عندما نواجه عالم ًا يش���به العالم الذي نكتشفه لحظ���ة القراءة ،نموذج الحياة نفس���ه، رغبات واحدة ،مصير متكرر ،وكثيرًا ما نتس���اءل أين كنا حي���ن نرفع أعيننا عن صفح���ة ،وأحيان ًا بعد ش���رود تعترينا ذروة خاطفة .مجرد كلمات مطبوعة في كتاب قادرة على استنس���اخنا ،فنتمنى لو يطول حلم اليقظة هذا. إننا نؤمن على حياتنا بالمعرفة على حد تعبير نيتشه« :أليست غريزة الخوف م���ا تدفعنا إلى المعرفة؟ أليس���ت البهجة التي يش���عر بها من يحصل على المعرفة بهج���ة الش���عور باألمن؟» .وبن���اء على هذا غ���دا العالم مرآة لتج���ارب وحقائق المعرفة اإلنس���انية ،فنج���د في تجارب اآلخرين حياة مختصرة لحياتنا ،لنتأمل اس���تعارة أندري���ه جيد« :اعرف نفس���ك بنفسك! يا لها من قاعدة قبيحة وضارة! فكل م���ن يبادر بمالحظة نفس���ه يتوقف عن النم���و ،ولو حاول���ت دودة الفراش 64
أن تع���رف نفس���ها جي���دًا لم���ا أصبحت أبدًا فراش���ة» .أن تك���ون لكل قارئ قدوة دودة الف���راش م���ن المؤك���د أن التحليق ينطوي على أجنح���ة بصرية ،في نظر أوغس���طينس العين بوابة الدخول إلى العالم ،الحاس���ة البصري���ة هي األهم، يقول الالهوتي اإليطالي توما األكويني، وبها نستطيع الحصول على المعرفة. في ع���ام 1781وصف الفيلس���وف والكاتب الفرنس���ي دنیس دیدرو الخطة الممتعة التي شفيت بها زوجته نانت من كآبتها« :بدأت أقرأ عليها باالعتماد على الوصفة التالية :تناول ثالثة أقراص من جيل بالس يومي���اً ،وعندما ننتهي نبدأ بـ «الش���يطان على العكازتين» و«أعزب س���االمانكا» ،بعد مرور بضع س���نوات وق���راءة مئ���ات الكت���ب اكتش���فت أخيرًا أنها مفيدة للغاية ض���د الكآبة» .وصفة ديدرو هاته تتماثل مع بلسم هنري كينغ حين كتب بعد وفاة زوجته الش���ابة« :يا للخسارة لقد غادرت باكراً ،وواجبي هو التأم���ل ،تأملك ،تأمل���ك ،إنك الكتاب، غرفة القراءة التي أبحث عنها ،وإن كنت أشرفت على العمى». وهذا فرانسيس بيكون يضع مفهوم ًا جديدًا لألكل« :بع���ض الكتب يجب التلذذ به���ا ،وغيرها يج���ب أن تلتهم ،وأخرى
تمضغ جيدًا وتلتهم» ،الش���هية البصرية نفسها ،نعثر عليها في نص مسرحية «من الحب من أجل الحب» للش���اعر اإلنكليزي ويليام كونكريف ( )1729 - 1670حين يقول الخادم« :تناول الغذاء عبر عينيك، أغل���ق فمك واجتر كت���ل الفهم ،إن المرء يسمن كثيرًا من الحمية الورقية هذه». حي���ن نلته���م الكت���ب بنه���م يتحقق إش���باع تقذف في���ه حياتن���ا ،وكثيرًا ما نك���ون عنوان ًا متك���ررًا لكتبنا المفضلة، وعندئذ فنحن نمتلكها بإصرار وحرص، وهذا جانب من عالقاتنا المريرة بالكتب، يعبر عن���ه هنري ميللر« :أحد األش���ياء الت���ي أربطها بقراءة الكت���ب هو الصراع الذي خضته من أج���ل الحصول عليها». وعلى هذا الحرص هن���اك كتب نحب أن نعينها ناطقة رس���مية باس���منا ،وهذه إحدى الح���االت التي وقع فيها الش���اعر األلمان���ي راينر ماريا ريلك���ه وهو مقبل عل���ى ترجمة أعم���ال لوي���زه البيه ،فقد وج���د فيها س���يرته الطفولية البائس���ة. وقبل اندالع الحرب العالمية األولى كتب في إحدى رسائله «أنا ال أفكر في العمل، بل فقط في اس���تعادة صحتي تدريجي ًا بواسطة القراءة والتأمل». حتم��� ًا ليس في مس���تطاع القارئ إال أن يبح���ث عن مرآته ف���ي كتاب ،إعالن التماه���ي هذا مأثور عند فرجينيا وولف: «الق���راءة فن معق���د ،االمتحان األصعب لحواسنا كما نلمس كقراء ،وفي المجمل فإن الكتاب الذين يمنحوننا جل ما عندهم يس���ببون لنا أزمة مع كبريائنا ..ليبقى الحكم معلق ًا إذ ال نعرف ما الذي سيأتي بع���د ..وعلي���ه ربم���ا يبق���ى البحث عن النهاية مس���تمراً» ،وعلى هذا النحو اتخذ س���يغموند فرويد من فعل القراءة جلسة للتحرر من التوترات داخل أنفسنا ،حيث «ينطلق التلذذ الحقيق���ي الكامل بالعمل األدبي ..إننا نقرأ ألننا نريد العثور على النهاية». وإذ يبدو تاري���خ القراءة هو تاريخ عالقتنا بها ،فهو من الناحية األدق تاريخ البحث ع���ن الحرية ،وهك���ذا بدأ ملكوت الكلم���ات الش���اهدة عل���ى إرادة الحياة. إن م���ا جعل العبيد خالل مئات الس���نين
يعرضون حياته���م للخطر هو تعلم القراءة سراً ،مجرد التفكير في «شعب أس���ود» متعلم كان يبعث في مالكي الرقيق الخوف من احتم���ال عثور عبيدهم على أفكار انقالبي���ة .مثل هذا الحذر مثلته المؤسسات الدينية على مر العصور ،ليس فقط في منع انتش���ار الكتب بين العامة ،بل في فرض نمط واحد من القراءة ال يخرج عن «كالم اهلل». وبش���كل متالزم كان بعض العقائديين يصادرون التطور الذي حصل عند االنتقال من القراءة الجماعية بصوت مرتفع ف���ي األديرة إلى القراءة الصامتة في المنازل وعلى ا َأل ِسّرة؛ إذ إن القراءة الصامتة كانت حس���ب اعتقادهم تشجع على أح�ل�ام اليقظة وأنها مكمن االنزالق في الش���هوات الحس���ية ،واعتبر الكتاب المقروء بصمت في غنى عن االستفس���ار الفوري والمراقبة من قبل مستمع آخر، لذا فإن القراءة بصمت كانت تسمح بقيام اتصاالت بعيدة عن ش���هود العيان ،في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات الدينية تص���ب اللعنة على قراء «الهرطقة» الذين كانوا يعثرون في االنزواء مع الكتب غير الدينية فسحة للتحرر من قيود العصور الوس���طى .ونتيجة لقلة الذين يحسنون الق���راءة في ه���ذه الفترة ف���إن القراءات العام���ة كانت أم���رًا منتش���راً ،حتى أنها ال من أشكال النشر. أصبحت شك ً وكم���ا ارتبط���ت الق���راءة الصامت���ة باالنف�ل�ات من رقابة األدي���رة ،ارتبطت كذلك بتطوير اللغة بعد إضافة التنقيط والفواصل ،ومن داخل الكنيس���ة نفسها كان القدي���س إس���حق الس���وري يمتدح قائ�ل�ا «إنني مناف���ع الق���راءة الصامتة ً أتم���رس على الصمت من أجل أن تمألني النصوص التي أقرأه���ا فرح ًا وحبوراً». وهكذا أصبحت القراءة واالنفراد بالكتب مألوف��� ًا في حياة العامة ،وبش���كل ذائع م���ع اخت���راع الطباع���ة ،حي���ث عمم���ت الكت���ب بعدم���ا كانت محتك���رة في طبقة األرستقراطيين ورجال الدين .وابتداء من ِ واألسّرة القرن 14أصبحت حيازة الكتب
الفاخرة مؤش���رًا على مكانة اجتماعية، وأضحت ِ األسّرة والكتب ترهن ويوصى بها للعائل���ة ،إلى أن أصبح���ت القراءة في التقاليد الفرنس���ية خ�ل�ال القرن 18 نوع ًا من اإلك���رام للضيف في مقابل قلة الذوق لدى العائل���ة التي ال تمارس هذه العادة .كما انتش���رت القراءة في السرير في هذه الفترة إلى الحد الذي جعل القس الفرنس���ي جان بابتيست دوالسال يحذر م���ن الخمول ال���ذي يبعث عل���ى ارتكاب المعصية وأوصى الناس بأن ال يحاكوا «أش���خاص ًا يش���غلون أوقاتهم بالقراءة في الف���راش دون أن يكون ذلك بغرض النوم» .أما معاص���ره األديب اإلنكليزي الس���اخر جوناث���ام س���وفت فق���د اقترح ب���أن الكتب التي تقرأ ف���ي الفراش يجب أن تع���رض للتهوي���ة .في حي���ن أن هذا الموقف ل���م يكن يعني عند الفيلس���وف اإلنكليزي جوفري شوسر سوى حرمان من لذة القراءة التي عبر عنها في مؤلفه «الدوق���ة» بكون القراءة في الفراش أكثر متعة من لعبة الشطرنج. وكما كان للقراءة أعداء باس���م القيم الرسمية ،كان لها أنصارها الذين فتحوا شهية الكتاب للقراء. وم���ن بين أب���رز المحرضي���ن أوائل القرن 19نجد رائد الحركة الترنسندالية الفيلس���وف والش���اعر األميرك���ي والدو إمرسون الذي كان يحث القراء بضرورة تبادل وجهات النظر حول الكتب ،معتبرًا أن الق���راءة مس���ألة خاص���ة وانفرادية محضة «إن الكتب تعبير سام عن ضمير العال���م وتعن���ي بالنس���بة إل���ى حياتنا
اليومية أكثر من مجرد التقويم الس���نوي أو الصحف اليومية، غير أنها يجب أن تقرأ موضوعة على الركبتين وأنت جالس في دورة المي���اه ،وم���ا تتضمن���ه من رس���ائل يجب أن تعطى أو تؤخذ بواسطة الشفاه ونهاية اللسان ،بل من توهج الوجنتين والقل���وب الخفاقة» .وللروائية األرستقراطية األميركية إيديث وارتون حكاية مع غرفة نومها، إذ وجدت فيه���ا المهرب الوحيد من بروتوك���والت القرن ،19حيث كانت تس���تطيع أن تقرأ وتكتب في س���ريرها حتى أنه���ا احتفلت بأعي���اد ميالدها في الفراش ف���ي مراحلها األخي���رة ،وكانت تسمي سريرها بمكان «الوحدة السامية». أما هنري ميلر فكان���ت أفضل انزواءاته بالق���راءة تحدث ف���ي دورة المياه ،هذا المكان الهادئ المخصص الس���تعماالت خاصة ومبتذلة ،هو في الواقع بالنسبة له مكان «لجميع انش���غاالته التي كانت تتطلب وح���دة خالية من التش���ويش». لكن البوح األكثر جنون ًا وخالء ذلك الذي عبرت عنه الكاتبة اإلنكليزية ماري ِشلي «إن عاداتي ه���ي أن أتعرى وأن أجلس عل���ى صخرة جرداء ألق���رأ هيرودوتس إلى أن يتوقف العرق عن التصبب». وف���ي م���كان آخ���ر أكث���ر حميمي���ة وش���اعرية كان الروائ���ي الفرنس���ي مارسيل بروست بمجرد ما تغادر عائلته المنزل في نزهة العطلة الصيفية ،يلجأ إلى المطبخ ،حي���ث أصحابه الوحيدين الذين يحترمون الق���راءة فقط «األطباق الملونة المعلقة على الجدران ،والتقويم ال���ذي اقتطعت منه توًا ورق���ة البارحة، والساعة والموقد ..ساعتان كاملتان قبل أن تظهر الطاهية». بين األمكن���ة األكثر خلوة إلى األكثر غراب���ة أو اعتيادي���ة ،تعي���ش الق���راءة سيرتها بالتماس مع قدرتنا على التحرر والحل���م بحياة أخرى ف���ي روح الكتب، وس���واء قرأنا في هذا الم���كان أو ذاك، يبق���ى فع���ل الق���راءة تكريس��� ًا للحرية والبناء المجتمعي. 65
القراءة حتى الملل المدرس���ة العربية ش���رعت تدريجي ًا في الّتخلي عن دورها في تثقيف مبالية بتجديد مناهجه���ا وتحديث طرائق تلقينها المجتم���ع .صارت غير ّ ال ش���ام ا اس���تطالع أجرت «الدوحة» مجلة ّص. لّذة المطالعة وغواية الن ً ً وسبرت آراء طلبة وأساتذة ومختصين حول واقع المطالعة.
الدوحة -مرا�سلون
الهم يبق���ى واحدًا في كثير من الّدول ّ العربية :كيف نس���تطيع إقناع الطفل أو المراهق بأهمية المطالعة؟ بين ماضوية النصوص المدرجة ف���ي المناهج والتي ال تم���ت للراه���ن بصلة ،وفش���ل بعض المدرس���ين ف���ي التواصل الحس���ن مع التالمي���ذ ،يفقد الفرد العربي ،من س���نة ألخرى ،عالقته بالكتاب. تعود التالمي���ذ على عدم في لبن���ان ّ إتم���ام ق���راءة أي كت���اب يلتقطون���ه، بحس���ب ما تقول كارين ( 16عاماً) التي تتابع تعليمها في مدرسة خاصة« :إلى جانب سريري ،ترقد كتب كثيرة ،أبدأها أي ًا منها ..أراها وأس���أم منها ،فال أنهي ّ في الصباح وأشعر بالذنب» .تلك العادة تحول���ت إلى ظاهرة .أما في صف األدب ّ العربي ،تتيقّ���ظ فقط قلّة م���ن التالميذ وتغف���و األكثري���ة .يعود ذلك ،بحس���ب رامي ،وهو أحد الغف���اة المزمنين ،إلى «ضع���ف الغالبية بالقواع���د» ويضيف: «كرهت القواعد منذ الطفولة ،فبت أسأم في صف���وف األدب ،ألنني أخطئ كثيرًا في القراءة». تحدي���ث المنهج الرس���مي في لبنان يعتبر مس���ألة دائمة الحض���ور .كما أن الظروف السياس���ية المتقلبة واألوضاع
66
االجتماعي���ة الصعبة الت���ي يعرفها البلد ص���ارت تطغى عل���ى تفكير األس���اتذة والمدرس���ين أكثر من التفكير في أهمية ّ تحس���ين أداء التالميذ وتوطيد عالقتهم بالقراءة« .في الجامعة ،الوضع س���يئ جدًا اجتماعياً» تقول األس���تاذة الش���ابة تخرجت من «جامعة القديس مهى ،التي ّ يوس���ف» وقررت أن تعلّم في «الجامعة اللبناني���ة» كج���زء م���ن «النض���ال الذي عل���ي أن أؤديه تج���اه وطني، يتوجب ّ وتج���اه الجي���ل الجدي���د!» .الج���و الذي التعصب السياس���ي ينفرها يتمث���ل في ّ والطائف���ي المستش���ري بي���ن الطالب. أضف إلى ذل���ك «الوضع اإلداري القائم وتذكر عل���ى بيروقراطية غي���ر منتجة»ّ . بأن «األساتذة ،ليسوا كلهم كذلك ..لكن الجو العام يساعد على الفساد ،والسأم من الرسالة».
السياسة على حافة ّ
كان الع���رب يتداولون في الس���ابق عبارة «القاهرة تكت���ب ،بيروت تطبع، وبغ���داد تق���رأ» .أم���ا الي���وم فق���د صار أبناء بغداد يبتعدون ش���يئ ًا فش���يئ ًا عن هم القراءة .ش���غلتهم السياس���ة وحالة ّ الالاس���تقرار الت���ي يعرفه���ا البل���د ،منذ
س���نوات ،عن رغبة التمع���ن في الكتب. كما أن األساتذة في المدارس يبدون غير عابئين بتوطي���د عالقة التلميذ مع متعة اكتشاف النص. سالم مكي ،طالب في كلية التربية- م���ادة المطالعة جامعة باب���ل ،يرى أن ّ غير مرغوب فيها من قبل أس���تاذها ومن قب���ل الطلبة أيضاً ،بالرغ���م من أهميتها م���ادة النحو ،كما الت���ي توازي أهمي���ة ّ أن واضع���ي المنهج الدراس���ي ،جعلوا ّ م���ادة ثانوية ،ويواصل: م���ن المطالعة ّ «األس���تاذ ال يعت���رف بالمطالعة ،فنراه الدراس���ية يأخ���ذ دورها ف���ي الحصص ّ مادة أخرى ..من جانب التلميذ، لحساب ّ تظ���ل المطالع���ة غريبة علي���ه ،ال يفهم راو لبط���والت النظام، منها س���وى أنها ٍ ومج���ال لألق�ل�ام المأج���ورة لصالحه.. بمعنى أن وضع منهج للمطالعة كان له تربوية ،وإال سياسية ،أكثر منها غايات ّ ّ كيف نفه���م اقتصار مواضيعها على أدب خاص؟ حّتى أن النصوص الحرب بشكل ّ التاريخية اختيرت من تلك التي تتالءم ّ وتوجهات الس���لطة» .مكي لفت االنتباه إل���ى مالحظة لم يس���تجب له���ا واضعو المناه���ج الجديدة وه���ي أن «مواضيع المطالعة مازالت تراوح مكانها ،فاألدب كل فترة تطور مستمر ،وفي ّ العالمي في ّ ّ ّ يتم ابتكار أنماط جدي���دة للكتابة ،ومع ّ كل جي���ل ،يظهر أدباء ج���دد ،بينما نجد ّ الكالس���يكي، األدب على ز ترك مناهجنا ّ ّ تارك���ة الحديث منه خل���ف ظهرها» .من جانبها ،ذكرت الطالبة في ثانوية بغداد «مادة المطالعة للبنات س���ارة طاهر أن ّ الم���واد المهمل���ة جّدًا ف���ي المدارس م���ن ّ العراقية بحيث أن طلبة كثيرين سمعوا ّ مجرد كتاب أنها أو سماع د مجر باسمها ّ ّ المدرس���ية، يقتنونه ف���ي خزانة كتبهم ّ وكأنّ���ه أمانة لديهم ..حّت���ى ال يعرفون هم مدرس���ي م���ا فيه من مواضيعّ ، وكل ّ العربي���ة أن يكملوا المنهج مادة اللغ���ة ّ ّ المق���رر لهم وفق���ط» .أما م���درس اللغة ّ العربية في «الغربية المتوسطة» ببغداد نافع مطر ،فيدافع ع���ن مادته« :الطلبة الم���ادة يحترمونها الذين أدرس���هم هذه ّ مادة ويعطونها اعتباراً ،بل إنهم يرونها ّ
مش���وقة فيها قصص وحكم ،إضافة إلى ّ األدبية وم���ا تتضمنه من النص���وص أن ّ ّ ش���عر ونثر وخطابة ومقال���ة يرى فيها مادة ممتعة ومسلية على خالف الطالب ّ أن طريقة تقديم يؤكـد ّ مادة النحو» .لكنّه ّ المادة تختلف من مدرس إلى آخر، هذه ّ فالبعض يوليها اهتمام ًا والبعض اآلخر بمادة ثانية. يستبدلها ّ
اجترار النص
- Ronald Brooks Kitajأميركا
بالتوجه إلى اليمن لن يختلف الحال. ّ أزمة المطالعة تتسبب فيها بعض العوامل المتداخل���ة فيم���ا بينها .ولكن المس���ؤول الرئيس���ي عنها يتجسد في وزارة التربية واضعة المنهج الدراسي. يقول أحمد الماوري ،تلميذ في الصف التاسع األساسي ،إنه غير مرتاح لنوعية النص���وص التي يحمله���ا المنهج الخاص بالمطالعة ،حيث تهيمن عليه نصوص ال تدفع الطالب للتعلق بها ،مش���يرًا إلى أن غلبة طابع الملل عليها هو ما يدفعه لعدم االهتم���ام بها .ويضي���ف« :هي نصوص ال تش���به تلك النصوص التي نجدها في الكت���ب الخارجي���ة والمج�ل�ات الخاصة بالش���باب والتي نجد فيها م���ادة جاذبة ومحف���زة لمتابعتها واالس���تفادة منها». ويعتقد علي محس���ن العكب���ري ،مدرس مادة القراءة في إحدى المدارس الثانوية في صنع���اء ،أن المدرس���ين لهذه المادة يجدون أنفس���هم مجبرين عل���ى التعامل يم���س على نحو جاد رغبات مع كتاب ال ّ التالمي���ذ وميوله���م أو حتى المس���توى الثقاف���ي ال���ذي يتقاطع���ون مع���ه عب���ر وس���ائل الميديا المختلفة والتي تطورت بش���كل كبير .ويصر المتحدث نفسه على ض���رورة أن تتوافق المناه���ج الخاصة بالق���راءة معه���ا .ويضي���ف العكبري أن هناك حالة من القطيعة بينهم كمدرسين لهذه المادة وبين المش���رفين على عملية وض���ع المناهج الخاصة به���ا في وزارة التربية والتعليم. تعتقد وفاء مقبل الشرجبي،أس���تاذة األدب المق���ارن بكلي���ة اآلداب ،جامع���ة صنعاء ،أن إش���كالية الق���راءة والطلبة وعالقة سوء الفهم المتالزمة بينهما تكمن
بدرجة أولى في مسألة عدم وجود تراكم معرفي من المفترض أن قاعدته األساسية تبدأ من المراحل الدراسية األولى .يضاف إل���ى ذلك أن المنهج القائ���م على التلقين ينأى عن طرح النص���وص الثقافية التي باستطاعتها جذب الطالب ودفعه للتعلق بالق���راءة م���ن منطل���ق ذاتي بح���ت غير مرتبط بواجب إلزامي عليه القيام به من أجل اجتياز مرحلة دراسية والدخول إلى مرحلة أعلى.
هواة الخطاب
ال ينحصر إشكال تراجع اإلقبال على المطالعة في الجزائر في نوعية المناهج وفي أساليب تدريسها بقدر ما يتجسد في الم���درس والتلميذ، اله���وة الفاصلة بين ّ والت���ي يتح���دث عنها محمد تحريش���ي، عمي���د كلي���ة اآلداب واللغ���ات بجامع���ة بش���ار« :في الوقت ال���ذي يوظف التالميذ تكنولوجي���ات اإلع�ل�ام واالتصال ما زال المكونون يتمسكون بالوسائل التقليدية ّ للمطالعة» ،ويذهب تحريشي في رأيه إلى أن ما تطرحه كتب المطالعة في المدرسة والجامع���ة ق���د ال تس���تجيب لتطلع���ات التالميذ والطلب���ة ،ومن ثم فإن األنترنت
تت���راءى البديل المفض���ل» ذلك ما يؤكده رائد بلغرب���ي ،تلميذ في الطور الثانوي، حي���ث يقول« :القليل جدًا من يطالع كتباً. طوال الوقت وأنا أم���ام أجهزة الكمبيوتر م���ع رفاقي .نقض���ي الس���اعات إما على الفيسبوك أو في اللعب اإللكتروني أو في الشات .المطالعة ال تعنينا» .وعن كيفية تعاطي األس���اتذة مع المنهج الدراس���ي لم���ادة المطالعة والفوارق الواضحة بين كل واحد منهم ،يجيب تحريشي« :تعامل األستاذ مع مادة المطالعة يأتي في ثالثة أنماط :فهناك من يتلقى المنهج وال يتمكن من االستفادة منه ،ألنه لم يدرك األبعاد الفلسفية والمرتكزات الفكرية والتوجهات الجمالية والفنية للمنهج ،ومن ثم يصبح هو والمنهج خطي���ن متوازيين .والنمط الثاني من يس���لبه المنهج ويسيطر عليه وال يس���تطيع الفكاك من���ه للوصول إلى مرحل���ة اإلنتاج واإلب���داع انطالق ًا من هذا المنهج أو ذاك .ومن ثم يصبح مسلوب اإلرادة .والنم���ط الثال���ث من يس���تطيع اس���تيعاب المنه���ج والس���يطرة علي���ه، فيوظف���ه توظيف ًا مبدع ًا ليس���مو به نحو غايات قرائية تستلهم التراث والمعاصر في آن واحد». 67
بعد الديكتاتور
نور محمد الريطي ،طالبة الثانوية العامة في مصر ،واحدة ممن عانين من ضعف منهج م���ادة المطالعة ،تخبرنا: «نش���أت في بيت يحبذ الق���راءة ويقدر قيمة الكت���ب .لكن في مراحل الدراس���ة المختلفة ،أدرك���ت أن الطريقة الوحيدة المناس���بة لهذه المناهج ه���ي الحفظ، فأغلب المواد الدراسية ال تقدم لي اإلفادة الت���ي أحصل عليه���ا من ق���راءة الكتب واألعمال اإلبداعية الموجودة في بيتنا. أنا أذاكر وأحفظ المنهج عن ظهر قلب ، وأحاول أن أحقق نهم���ي في القراءة ، ولكن خارج المناهج الدراسية». أما علي الدين س���ليمان علي ،الذي يدرس ف���ي األزه���ر الش���ريف صباح ًا ويتعلم عبر مواقع التواصل االجتماعي مس���اء ،فيقول« :أتمن���ى أن تطبق في الثانوية كتب أني���س منصور ورحالته وكذلك أحمد بهجت ومحمود الس���عدني وماركي���ز ونجي���ب محفوظ ،ب���د ًال من المناهج التي ال تفيد التالميذ في شيء. م���واد جافة ،مملة ،ويب���دو أن مؤلفيها ال ينتم���ون إلى عصرنا» .م���ن جانبه، يدافع محم���د عبد المجيد عبد الرس���ول – ناظ���ر مدرس���ة الس�ل�امنة االبتدائية جن���وب مصر -ع���ن المنهج الدراس���ي لمادة المطالعة ،ويشير إلى أن التالميذ ال يلتزم���ون بجدي���ة م���ع الم���واد التي يتلقونها وال يتحمس���ون للمطالعة التي يدفعهم إليها األساتذة. مؤش���رات المطالع���ة ف���ي الوط���ن العرب���ي ج���د متدني���ة مقارن���ة بما هي عليه في أوروبا وفي آس���يا .مع ذلك، البعض يتمس���ك بخيط األم���ل ويعتقد أن التغيي���ر ق���ادم ،وأن الجي���ل ال���ذي صن���ع ربي���ع الث���ورات س���يحمل معه نظرة ورؤى تجديدي���ة ،ومترابطة مع تح���والت الراهن .العرب يحفظون جيدًا مقولة «شعب يقرأ ش���عب ال يجوع وال يستعبد» .فمتى سيطبقونها على أرض الواق���ع ويغيرون عالقته���م مع القراءة نحو األفضل؟.
68
إيمان مالكي -إيران
القراءة بوصفها عادة متأصلة في س���لوك الناس وتقليدًا راسخ ًا في طبعهم ،تسهم في توسيع رؤيتهم للعالم ،وتطوير قدراتهم و مؤهالتهم. وهو ما ينعكس إيجاب ًا على مس���يرة المجتمع وحركيته وأدائه ،ويؤدي إلى تحسين صورته ونمو مرافقه االجتماعية واالقتصادية.
عن التلقين ومآس أخرى ٍ د .حممد الداهي -الرباط تعتب���ر القراءة ،على م���ر األزمان، مطلب��� ًا ملح��� ًا لتكوي���ن المواطني���ن وتثقيفه���م وصق���ل مواهبه���م وتنمية مقرطة مهاراته���م .وهذا ما يس���تدعي َد ْ الثقافة والتعليم حت���ى تصبح القراءة مكسب ًا يتمتع به جميع المواطنين دون تمييز أو إقصاء. تلع���ب المدرس���ة دورًا كبي���رًا ف���ي حف���ز المتعل���م عل���ى الق���راءة وتنمية معارف���ه وقدراته .وفي هذا الصدد نثير المالحظات اآلتية: أ-يعان���ي الوس���ط المدرس���ي من آفات تس���هم ف���ي تفاقم األمي���ة ،ومن ضمنها االنقطاع عن الدراس���ة ،والهدر المدرس���ي ،وإخفاق البرامج التربوية في تحقيق أهدافها واستجالب المردود المتوخ���ى .كم���ا يعان���ي هذا الوس���ط ّ أيض ًا م���ن قلة المكتب���ات الوطنية (10 %على الصعي���د الوطني) والفضاءات الت���ي يمك���ن أن تس���عف المتعلمي���ن بالقراءة والقيام بأنشطة ثقافية وفنية موازي���ة .ومم���ا يؤس���ف ل���ه أن أغلب الخزانات المدرس���ية عبارة عن قاعات غير صالحة وغي���ر مجهزة ،وتتعرض للنهب والس���رقة ،وتسير غالي ًا من لدن قيمين غي���ر أكفاء ،وال تتوصل بالكتب ِّ
الجديدة ،وال تش���ملها حمالت التفتيش إال نادرًا جدًا لتقويم محتوياتها وتعرف أحوالها .و يس���تفحل وض���ع القراءة بالمؤسس���ات التعليمي���ة أكث���ر إذا ما اعتمدنا مؤش���رات جدي���دة لقياس مدى توافر المتعلمين وغيرهم على مؤهالت لغوية ومعرفية ومنهجية وتقنية لبناء مجتمع المعرفة. بُ -يعتمد في أغلب الحصص ،رغم موج���ات التجديد التربوي ،على اإللقاء وهو ما يحرم المتعلم من تطوير قدراته على مختل���ف أنماط القراءة (على نحو القراءة الكلية ()Approche globale والق���راءة التفاعلي���ة (Lecture )interactiveوالنق���د والبح���ث والمس���اءلة ومعالج���ة المعلوم���ات والتحليل والتأويل والتركيب .ويحوله إل���ى آل���ة خامل���ة تكتفي باس���تظهار المحتوي���ات الملقن���ة واجترارها .وفي السياق نفس���ه ،تعتمد نسبة كبيرة من الطلب���ة على المقررات الدراس���ية ،وال تدعمها بالرجوع إلى مراجع أساس���ية يمكن أن تسعفها على توسيع مداركها، وتنمي���ة معارفه���ا ،وصق���ل مؤهالتها المنهجية .ومما ترتب على هذه الوضع ركود السوق الثقافية نتيجة عدم إقبال 69
الطلبة على اقتناء الكتب لعوامل كثيرة نذكر منها ما يلي :غ�ل�اء الكتب ،وعدم التع���ود على الق���راءة ،وعدم إرش���اد الطلبة إلى المراجع األساسية ،وضعف الخدمات المكتبية في الخزانات البلدية والجامعي���ة ،وإقبال الش���باب المتزايد ولفترات طويلة على ش���بكة االنترنيت وإن كانوا ال يستثمرون إال النزر القليل منها «الدردشة ،واللعب ،والتعارف». ج -رغم ص���دور كثير من المذكرات التي تش���جع عل���ى تكوي���ن أندية في المؤسسات التعليمية سعي ًا إلى تحسين ج���ودة الحي���اة المدرس���ية ،وإع���داد المش���روعات البيداغوجي���ة المالئمة؛ فه���ي مازال���ت قليلة وغي���ر مجهزة من الناحية اللوجس���تيكية ( انعدام وسائل العم���ل ،والتجهي���زات ،و فض���اءات االش���تغال ،والموارد المالي���ة ،وعدم وج���ود حوافز مادي���ة ومعنوية) وغير مؤهل���ة ألداء دورها التربوي والثقافي لتبادل الخبرات والتعُلّمات ،واالنفتاح على المحي���ط االجتماعي واالقتصادي والثقافي ،والسعي إلى تزويد المتعلم بمهارات جديدة يك���ون لها الفضل على نمو شخصيته وصقل مواهبه. وفي خضم موجات التجديد التربوي اضط���رت المدرس���ة المغربي���ة إل���ى مراجعة مناهجها التعليمية حتى تغدو منسجمة مع المستحدثات البيداغوجية ،ومواكبة سيرورة التنمية المستديمة. وفي هذا اإلطار تم تعزيز مادة المؤلفات بالتص���ورات البيداغوجية المناس���بة (الكفايات المس���تهدفة ،مراحل القراءة وس���بل تنفيذه���ا ،التقوي���م) واقتراح ما يناس���بها م���ن محتويات تتماش���ى والمس���توى اإلدراك���ي والتعليم���ي للمتعلمين سعي ًا إلى تطوير مؤهالتهم الثقافي���ة والمعرفي���ة والتواصلي���ة ، وتدريبهم على «الق���راءة المنهجية»*، بهدف اكتس���اب عادات ومهارات جديدة ف���ي التعامل م���ع الكتاب س���واء داخل الفصل الدراسي أو خارجه. واختار واضعو البرامج التعليمية المنظورات الس���تة لحف���ز المتعلم على
70
ق���راءة الرواية على س���بيل المثال من زوايا مختلفة ( موضوعاتية ،ونفسية، وسيميائية ،واجتماعية ،وأسلوبية. . ) .وهي ،في مجملها ،عبارة عن مداخل أساسية لتهيئ المتعلم نفسي ًا ومعرفي ًا قصد التغلب على المصاعب التي يمكن أن تعترض س���بيله إن تابع دراس���اته العليا في شعب اآلداب .ومن مزايا هذه تلح ،في بعض المقاربة المتعددة أنها ّ مراح���ل تنفيذها ،على العمل الجماعي( يقس���م الفص���ل الدراس���ي إل���ى س���ت مجموع���ات .تكل���ف كل مجموعة على حدة بمنظور قرائي محدد) بهدف تدريب المتعلمي���ن على ق���راءة النص بطريقة منهجية ،وإع���داد بطاقات القراءة التي تعك���س األداء التواصل���ي والمعرف���ي للمجموعة ،وتبين مدى حصولها على القدرات الالزمة لمنافس���ة المجموعات األخرى وإحراز المراتب األولى. ورغم ما عرفته المدرس���ة المغربية من تطور فيما يخص تدريس المؤلفات والحف���ز عل���ى الق���راءة الح���رة ،فق���د اعترضته���ا كثير م���ن المصاعب حالت دون وصولها إل���ى النتائج المرضية. ومن ضمن هذه المصاعب نذكر أساس ًا ما يلي: أ -يعتم���د أغل���ب المدرس���ين على تلقين محتويات المؤلفات دون مراعاة ما تح���ث عليه المذك���رات الوزارية من توجيهات تهم أساس��� ًا اعتماد الطريقة
يعتمد أغلب المدرسين على التلقين دون مراعاة ما تحث عليه المذكرات الوزارية من اعتماد الطريقة الحوارية في بناء الدرس
الحواري���ة في بن���اء ال���درس .وهو ما يح���رم المتعلم م���ن اكتس���اب مهارات جديدة في مجال القراءة المنهجية ،ومن تحس���ين قدراته على التواصل الكتابي والش���فاهي .ويتذرع الم���درس في عدم االمتثال للمذكرات الوزارية والوصفات البيداغوجية المطلوب���ة بتفاقم ظاهرة اكتظ���اظ الفص���ول الدراس���ية ،وطول البرامج التعليمية وتكدس محتوياتها، وعدم انتظام سيرورة الزمن المدرسي، وتف���اوت المتعلمي���ن في مس���توياتهم وقدراته���م االس���تيعابية واإلدراكي���ة، واس���تفحال ظاهرة تنزي���ل محتويات جاه���زة من ش���بكة اإلنترني���ت ،وعدم انتظام برامج التكوين المستمر لتمكين المدرسين من مهارات مهنية متطورة، وتمكينه���م م���ن مواكبة المس���تحدثات البيداغوجي���ة والمنهجي���ة .وه���ذا م���ا ينعك���س س���لب ًا على تطوي���ر مؤهالت المتعل���م عل���ى النحو األمث���ل ،ويعيق اكتس���ابه للمهارات الضرورية لمتابعة دراس���ته بنجاع���ة وفاعلي���ة ،وتنمية شخصيته وذوقه وإحساسه ،وتأهيله لممارسة مهنة في الحياة. ب -عرفت الجامعة المغربية سلسلة من اإلصالحات حرص ًا على استجالب المتوخَيْين ،وتطوير المردود والجودة َّ مؤهالت الطلبة عل���ى اإلبداع واإلنتاج والبحث .ومن بين المالحظات السلبية التي أدت إلى تعثر كثير من المبادرات اإلصالحي���ة البن���اءة هو ع���دم تحقق المالءمة بين الغايات المنش���ودة وبين إرغام���ات الواقع .وما يهمن���ا ،في هذا الصدد ،هو خيبة أمل كثير من األساتذة بسبب تراجع المحصول القرائي لطلبة اليوم مقارنة بأندادهم فيما سبق .يرشد األستاذ ،على جري عادته ،طلبته إلى ق���راءة مراج���ع معينة بهدف توس���يع محصولهم اإلدراكي ،وتنمية رصيدهم اللغ���وي والمعرفي .لك���ن أغلب الطلبة الميس���ر والجاهز ،و يحبذون يؤثرون َّ استظهار ما ُأملي عليهم خالل مجزوءة دراس���ية( .)Moduleال يطلعون على المراج���ع المطلوب���ة بدع���وى تكلفتها الباهظة ،وكثرة المواد الدراسية ،وعدم
قدرات���ه المنهجي���ة والتواصلي���ة ف���ي مواجه���ة وضعي���ة ش���ائكة وعويصة بالنجاعة والفاعلية المنشودتين. مما تق���دم يتضح حج���م المصاعب مقرط���ة الثقاف���ة الت���ي تح���ول دون َد ْ وتوس���يع قاعدة الق���راءة في المغرب( مقارنة م���ع ال���دول المتقدمة) بس���بب انتش���ار األمية ،وتفاقم مشاكل التعليم والتربية ،وانحس���ار الس���وق الثقافية وضيق بنياتها االس���تيعابية ،وتراجع االس���تثمار في مجال النش���ر ،وضعف نس���ب اقتناء المصنف���ات المطبوعة أو تحمي���ل المصنف���ات المرقمن���ة ،وقلة البني���ات التحتي���ة ( بالنظ���ر إلى عدد الس���اكنة المغربية) وضعف تجهيزاتها باس���تثناء ح���االت مح���دودة . .وه���و م���ا يتطل���ب إصالح��� ًا ش���مولي ًا يمس جمي���ع القطاع���ات لتحس���ين الظروف المعيش���ية للمواطني���ن ،وتمكينهم من الخدمات الضرورية (بما فيها الخدمات الثقافية والمعرفية) ،واالرتقاء بذوقهم ومس���تواهم التعليم���ي والثقافي .كما يس���تدعي من جميع الجه���ات المتدخلة أيض��� ًا إعداد مخط���ط وطن���ي للقراءة يش���خص المش���اكل الكبرى، والثقافة ِّ ويقدم مقترحات عملي���ة للتغلب عليها وتذليلها على نحو يسعف على إنعاش سوق النش���ر والكتاب ،ويدفع الناس، على اختالف مس���توياتهم االجتماعية والثقافي���ة ،إل���ى اقتن���اء المصنفات، بمختلف دعاماتها وأنواعها وأجناسها، وتداولها واالستفادة من محتوياتها. هامش:
توافر المهارات األساس���ية للتعامل مع مرجع ما واالستفادة من محتوياته. ومم���ا يح���رض الطلبة عل���ى عدم قراءتها ه���و تركيز أغل���ب االمتحانات على المحتويات المدرس���ة وليس على مجمل البرنامج الذي ينبغي أن ُتستوفى
جمي���ع عناصره ومكونات���ه خالل مدة زمنية محددة (المج���زوءة) .وقلما ترد االمتحانات في ش���كل أسئلة تركيبية، أو تضع الطالب أمام وضعية-مش���كلة ( .)situation-problèmeوه���و م���ا يس���تدعي من الطالب ،في هذه الحالة، أن يبرز مؤهالته الشخصية ،ويمتحن
* «ه���ي البن���اء التدريج���ي لمعن���ى النص تأكد من انطالق��� ًا من فرضي���ات القراءة الت���ي ُي َّ بت���أن» ص « .9 - 8ال يعن���ى بالقراءة صحتها ٍّ المنهجية استخالص معنى النص بطريقة آلية.. إن القراءة تس���تدعي ،بش���كل أساسي ،نشاط القارئ الذي يحول عناصر النص وجزئياته إلى مؤش���رات دالة» ص .9بالجملة ،تعتمد القراءة المنهجي���ة عل���ى مراحل مضبوط���ة ،وخلفيات واضحة ،وأنش���طة هادفة لحف���ز المتعلم على تمييز النص بالنظر إلى شكله وطبيعته ،وعلى بناء محتوياته وتركيبها واستثمارها .انظر في هذا الصددMichel Descotes et autres, : Lire méthodiquement des textes, .Bertrand-lacoste,1995 71
البركة في الّلوح عبداهلل ولد حممدو -موريتانيا
72
وراء الحف���ظ المذه���ل ال���ذي امت���از ب���ه كثير م���ن العلم���اء الموريتانيين أو الشناقطة أس���رار كثيرة وروايات عدة، من اإلجحاف اختزالها في عامل أحادي، لك���ن ثمة عنص���رًا ب���ارزاً ،كان له األثر العظيم في تنمية قدرة الحفظ لدى طالب الكتاب التقليدي���ة الموريتانية مدرس���ة ُ «المحظرة» ه���و ذلك الرفيق الذي اتخذه الدارسون وس���يلة للقراءة والحفظ في الطرف الغربي من الوطن العربي ،حيث توجد بداوة عالمة ،بخالف المعهود من غلب���ة األمية في العصور الس���ابقة على بادي���ة أغل���ب البلدان العربي���ة ،خاصة قبل انتش���ار المدارس الحديثة ،وال تزال هذه الوسيلة منتشرة في مدن موريتانيا الكبرى وباديتها حت���ى اليوم ،تلك هي
وس���يلة اللوح ال���ذي حمل ف���ي الثقافة الش���عبية الموريتاني���ة دالالت رمزي���ة كثيرة أبرزها استعماله كمرادف للثقافة نفس���ها .وفي العادة يختار الدارس���ون حجم ه���ذا اللوح ،ط���و ًال وعرضاً ،تبع ًا لمستوى نموهم الجس���مي والعقلي ،أو همتهم ف���ي التحصيل،، بناء على ق���در َّ وهو عبارة عن لوح خش���بي سميك ذي شكل مس���تطيل وقاعدة مستوية ،أعاله س���تعمل جهت���اه لكتابة نصف دائريُ ،ت َ درسين :جديد حديث ؛ يسمى «الوجه»، وقديم دارس ،يس���مى «الدرس» ،يكتب فيه كل يوم محتوى دراس���ي ،يتناسب مع ق���درات المتعلم ف���ي الحفظ والفهم، بداي���ة م���ن مس���توى التهجي���ة لمراحل الطفولة األولى إل���ى مراحل التخصص للراش���دين ،وتصنع األقالم المستخدمة في الكتابة على هذه الوس���يلة من أعواد نباتية صلبة ،تبرى بموسى ،لتستعمل كقلم حبري مالئم لأللواح ،ويصنع مداد الحبر من الفح���م والصمغ ممزوجين في ماء بمستوى مركز ،وبعد قراءة الطالب مادته العلمية المناسبة له واستظهارها عن غيب يغس���لها بماء ،ليكت���ب مكانها درس��� ًا جديداً ،وغالب ًا ما يقرأ الطالب في المحظ���رة لوحه في فترتي���ن صباحية ومس���ائية ،أو ثالث فت���رات في أوقات الصباح الباكر والظهيرة وبعد المغرب، متخذًا من وسيلة التكرار القرائي للوحه وصل���ة لحف���ظ مادت���ه ،وتتك���ون بين الطالب القارئ في هذا النظام الدراس���ي وبين لوحه المق���روء ألفة ومحبة تتولد من طول العشرة. ويذهب كثي���ر من ش���يوخ المحاظر الموريتانيي���ن إل���ى أن ف���ي اللوح بركة ليس���ت في س���واه من وس���ائل التعلم، فهو في اعتقادهم الراس���خ ُي َس ِّهل الحفظ والفه���م عل���ى القارئ منه ،ويس���تدلون لأْ اح ِم ْن ْو ِ باآلية الكريمة َ «و َكَتْبَنا َل ُه ِفي ا َ ل َ ُك ِّل َشيٍء َم ْو ِع َظ ًة َوَتْف ِ صيلاً ِلُك ِّل َش ْيٍء». ْ ول���ذا يؤمن كثير م���ن القائمين على الكتاتي���ب أو «المحاظر» -كما يس���ميها
صور ألواح وحبر مستعمل في الكتابة عليها
س���ر كامن في الموريتاني���ون -بوجود ٍّ هذه الوس���يلة الطبيعية ،يساعد القارئ في تمثُّل ما ق���رئ منه ،ويثبت في ذهنه حفظه بيسر وسهولة ،ال يتهيآن لقارئ الدفات���ر أو الكتب الورقية ،ويس���تدلون بتخرج علم���اء حفاظ كبار من مدرس���ة األلواح ،يستظهرون من المتون والكتب ما يسحر األلباب ،فما هو السر وراء هذه المزية ؟ ال شك أن ندرة وس���ائل اإلغراء في البيئة المحظري���ة معين على تفرغ ذهن ال���دارس لمقروئ���ه ،فليس ف���ي مخيلة الق���ارئ فيها م���ن األش���كال واأللوان ما يزاحم ذاكرة بش���رية ترك���ز كل طاقاتها االس���تيعابية للحفظ والفهم ،بعيدًا عن وس���ائل اإلغ���راء الس���معية والبصرية المتواردة على ذاكرة الطالب في الفضاء المدرسي الحضري. لقد تغنى باللوح كثير من الش���عراء الشناقطة كاشفين تأصل الخلة والمودة الناش���ئة من معاش���رة اللوح الذي أبى الشاعر ابن حنبل الحسني الوفي للوحه المغ���رم ب���ه أن يلتف���ت إلى م���ن يلومه في طول االنش���غال ب���ه ،فلديه ظمأ إلى
المعرف���ة ال يطفئه غير طول صحبة هذا الل���وح الحامل صن���وف الثقافة العربية اإلس�ل�امية ،لقد ش���غفه حباً ،ولم يعبأ بص���وارف الرغبة في الث���راء المادي أو الميل إلى االتصال بالغواني الجميالت، يقول هذا الشاعر: عم صبح ًا أفلحت كــل فـالح ْ
فـيـك يا لـــــــوح لم أطع ألف الح
أنت يا لوح صاحبي وأنيسي
ـواحي وشفـائي من غـلتي وُل َّ
الح ومحـيـاك،ال وجـــوه الـمـِ َ
بـك ال بالـثـرا كـلفـت قـديـم ًا
وبالرغم من التطور الذي نال وسائل التعل���م والتعليم ال يزال اللوح وس���يلة قرائية مفضلة ل���دى الموريتانيين حتى يوم الناس هذا ،رغم انتش���ار وس���ائل أخرى كثيرة م���ن دفاتر وكتب وغيرها، غلبت على المدارس النظامية في العصر الحاض���ر ،وإذا كان ابن حنبل قد أفصح باألم���س عن ارتباط وثيق بلوحه صنع من شخصيته العلمية قامة ثقافية سامقة في التراث العربي اإلس�ل�امي لهذا البلد، فهل تقفو األجيال اليوم أثره طلب ًا للتميز والنبوغ ؟
73
خرافة البراءة د� .أحمد يو�سف علي -جامعة قطر
- Pablo Picassoإسبانيا 74
هل هناك قراءة بريئة ؟ وما معنى البراءة؟ وإذا كنا نقصد بالكتابة -وهي تجس���يد القراءة -التعبي���ر عن موقف فك���ري أو أخالق���ي أو استكش���افي، فكيف نتقبل القول الش���ائع في حياتنا الفكري���ة وه���و الكتاب���ة المحايدة أو الق���راءة المحاي���دة بمعن���ى أن الكاتب يقف على مسافة متساوية من األطراف الذي���ن يكتب عنه���م ،أو أنه يتجرد من مخ���زون عقل���ه ووجدانه ومالبس���ات انتماءاته السياسية واالجتماعية حتى وإن لم يكن له انتس���اب معلن لجماعة من جماعات ال���رأي أو الفكر أو العمل السياس���ي؟ .لو تقبلنا ذلك وصدقناه لفتحنا باب ًا واسع ًا من الوهم والضالل ودعونا الناس إلي���ه لتصديقه .فحياد الق���راءة مث���ل حي���اد الكتاب���ة خرافة وه���ذا هو ما نعنيه من التس���اؤل الذي طرحن���اه ف���ي ص���در الس���طر األول. وتاريخ الكتابة /القراءة يؤيد ما نقول ويدحض خرافة الحياد الذي نعيش في ونروج له عندما يتملكنا اإلعجاب ظله ِّ بما يصنعه أحد منا لسبب أو آلخر. إن الق���راءة بمعن���ى أنه���ا انتخاب فردي لما يريد القارئ تفرضه ظروفه في زمن���ه وحاجته إلى المقروء ومدى وعي���ه بالعالقة الفارق���ة بين الماضي والحاض���ر وبي���ن ترتي���ب القي���م في الس���لم االجتماعي ومساحات التوافق واالختالف واألش���باه والنظائر .هذه القراءة فعل إنس���اني يمارس���ه العقل والوج���دان مع ًا وف���ي آن واحد ويؤكد خرافة مقولة الحياد ،ويكش���ف الزيف كما يكش���ف األصالة في المقروء ،كما يبين ع���ن عدالة عين القارئ فيما يرى وفيما يغض الط���رف عنه ،وقد يكون ه���ذا المغض���وض عنه الط���رف أولى بالتركيز عليه واإلعالء من شأنه. ومن طري���ف هذا الفع���ل في عالم الشعراء ما صنعه أبو تمام في قراءته لمن س���بقه من الش���عراءإذ لم يشأ أن
يت���رك نتاج قراءت���ه رهن��� ًا لتقديرات قارئي شعره لكنه لم يذكر كل الشعراء الذين قرأ لهم واكتفى بمن نالوا رضاه واتفقوا مع أس���لوبه في كتابة الشعر وخاصة بناء الصورة الش���عرية التي تضافرت فيها خيوط معرفية عديدة مع اتجاهه الفلس���في ومع يقظة الحواس وصحوة العقل ،فجمع خالصة قراءته في (حماستيه الكبرى والصغرى) ولم يكن موضوع قراءة أبي تمام بعيدًا أو مفارق ًا لهموم أبي تمام الشاعر والمفكر م���ن جهة وأبي تم���ام القريب من بالط صانع القرار السياس���ي واالجتماعي م���ن جهة أخرى .لقد كان أبو تمام قلق ًا مؤرق ًا بس���بب رؤيته النافذة إلى عمق األوضاع اإلنسانية وخوفه من انفالت التعبير الش���عري المصور لمأس���اة ما ي���رى ويعاي���ش ،وفي الوقت نفس���ه يتحرى الصدق فيم���ا يصور ويصوغ. من هنا كانت قراءته للتراث الش���عري ق���راءة محفوف���ة بظالل ه���ذا الموقف الفك���ري والش���عري ومحكوم���ة بما يستجيب لهموم هذا الموقف وقضاياه من نصوص الشعراء السابقين عليه، وه���ذا ما دعاه إل���ى االنتخاب والفرز، واالنتخ���اب والفرز أول خ���رق لفكرة الحياد وهدم لمس���ألة البراءة ودحض لشائعة الموضوعية. وبع���د االنتخ���اب والف���رز يأت���ي تفس���ير المقروء وتوظيفه في س���ياق جديد ليس هو الس���ياق المنتج للنص المقروء بل هو السياق المبشر بموقف مغاير في واقع جديد(.فالدهر المغفل) و(الزمن الحم���ار) كما ي���رى أبو تمام لي���س هو(زمن القرود) كم���ا يرى أبو نواس ،وليس ه���و الزمن المراوغ كما يرى عب���د الصبور .فه���ؤالء جميع ًا لم يفارقهم اإلحساس بوطأة الزمن وثقله على النف���س وإن تباينت صورهم في التعبي���ر عن ه���ذا اإلحس���اس ،لكنهم كان���وا ق���راء كبارًا لما س���بق عصرهم م���ن المفكرين والش���عراء ولم يكونوا
براءة القراءة مثل براءة الكتابة خدعة لها وجهان: وجه سلبي ،ووجه إيجابي أبدًا مثل األطفال -إال في الدهشة وهي أس���اس المعرفة -لهم ذاك���رة بيضاء وعقول محاي���دة كالمرآة ،ب���ل كانوا مثل عين الصقر تلتقط األشياء من بعد وتعرف كيف تضعه���ا في مكان مغاير لمكانها األول. وبراءة الق���راءة مثل براءة الكتابة خدعة لها وجهان :وجه سلبي ،ووجه إيجابي .أما الس���لبي فيتمثل في إهدار اس���تقالل الموضوع المق���روء ظن ًا من القارئ أو الكات���ب أن الذات ال تنفصل عن الموض���وع بمعن���ى أن األثر الذي يق���رؤه ال وجود ل���ه وال تأثير إال عبر الذات القارئة التي تمنحه وجوده كما تمنحه حياته عبر انتشاره من جديد بين الناس .وما أكثر هذا الفعل من القراءة في حياتن���ا المعاصرة.فم���ن يعادون التقدم والتطور ف���ي الواقع المعاصر ال يعترف���ون أبدًا ب���أي إنجاز علمي أو اقتصادي أو اجتماعي ألنهم في حقيقة األمر يمارس���ون القراءة الس���لبية لما يقرؤون من نص���وص التراث العلمي أو الديني وه���م منحازون بالضرورة لفكرة مس���تقرة ف���ي أذهانهم عن زمن س���ابق وال وجود لها في الواقع .هذه الفكرة هي أن السابقين قد أحرزوا كل تقدم وحققوا كل سبق. وهذه األزمنة هي أزمنة المسلمين األوائل .فإذا قرأنا ف���ي مناهج البحث عن أهمية فكرة الش���ك المنهجي التي قدمه���ا ديكارت ،كان ال���رد جاهزًا عند ممثلي القراءة الس���لبية ف���ي أن فكرة
الشك المنهجي ليس���ت جديدة أبدًا فقد تحدث عنها الغزال���ي في كتابه(إحياء علوم الدين) وإذا ما أنجز طه حس���ين قراءت���ه الكاش���فة عن انتحال الش���عر الجاهلي مس���تخدم ًا المنط���ق العلمي القائم على الشك ومناقشة المنقول من األدل���ة والنصوص المنس���وبة للعصر الجاهلي ،وكان ش���جاع ًا في مواجهة الكس���اد العقلي والرض���وخ لمقوالت األس�ل�اف والتصديق المطلق لألبطال من الرواة والش���راح والكتاب كان الرد على هذا اإلنجاز جاهزًا لدى أهل القراءة السلبية الذين يصدقون ما في عقولهم بقوله���م إن هذه الدراس���ة مبنية على مقوالت المستشرقين الذين استخدموا طه حس���ين رأس حربة له���دم التراث الش���عري ،وأن طه حسين لم يراع ما هو مقدس وطعن فيه وأس���قطه .لكن أحدًا من هؤالء لم يقم بدراسة مناقضة لدراسة طه حسين ،ولم يقدم فروض ًا جديدة يمكن أن تؤدي إلى نتائج جديدة تضيف إل���ى هذه القضي���ة وال تنقص منها ،ولم يش���غل نفس���ه بالموضوع المبحوث بل ش���غل نفس���ه بشخصية الباحث وعقيدته وعالقاته وسخر كل طاقته في إس���قاط الش���خصية ،وظل الموضوع المبحوث كما هو وإن أصابه بعض الش���رر والتعتيم والعجيب في األم���ر أن ما ذاع وانتش���ر بين الناس- بس���بب القراءة الس���لبية -ه���و ما قيل ع���ن الباحث وع���ن بحثه .أم���ا البحث ذاته فقد صودر وظل محظورًا نش���ره وتداوله وكأنه عورة من العورات .أما الوجه اإليجاب���ي لخدعة براءة القراءة والكتابة فيتمثل فيم���ا يمكن أن نطلق علي���ه (ص���راع الق���راءات) وتعني أن الموض���وع المقروء هو م���دار التأويل والتفسير .وتظل فكرة براءة الكتابة أو القراءة فكرة ال أس���اس لها من الصحة وأن قيمته���ا رهين���ة بمواقع أصحابها في الس���لم االجتماعي وليس���ت رهينة بقيمة العلم والفكر عبر التاريخ. 75
العاشق والمعشوق د .مرمي النعيمي -جامعة قطر رد الق���راءة هم عربي م���ؤرق ،إليه ُي ّ اتجاهن���ا القهق���رى ف���ي حلبة الس���باق الحضاري المزدح���م بأمم قارئة ،أدارت األرض بتقنيته���ا المهيمن���ة ،وارتق���ت إل���ى الفضاء برؤاها الطامحة ،لتبس���ط س���لطانها على كواكب عدي���دة بطاقاتها القرائي���ة ،تارك���ة خل���ف غباره���ا أمم ًا نب���ذت القراءة وراء ظهره���ا ،لتهبط بما جنت على نفس���ها ف���ي دركات التخلف، ممعنة ف���ي اإلعراض عن مص���در الرقي واالنصراف عن مدار النهوض الذي يمكن تلخيصه ف���ي أزمة مركزي���ة كبرى هي أزمة عالقتها بالقراءة. ولعل الق���راءة في العص���ر الحاضر أصدق معيار للتطور والرقي الحضاري والثقافي ،وإحص���اءات معدلها مصدقة لذلك ،فقد كشفت اليونسكو في بياناتها عن نس���بة مزرية لمقدار مقروء اإلنسان العربي موازنة بنظي���ره الغربي ،حيث ُيق���در متوس���ط م���ا يق���رأه العربي في الس���نة بس���ت دقائق مقابل اثني عش���ر أل���ف دقيقة للغرب���ي! وطبيعي أن تتبع ذل���ك إحصاءات أخ���رى مرتبط���ة بهذه النسبة المنحطة أكثر إزراء وانحطاطاً، كنسب النشر والترجمة والتوزيع للمادة المقروءة.
76
وال ش���ك أن وراء هذه األزمة بواعث بنيوية ف���ي التكوين الثقاف���ي والتفكير الس���ائد ف���ي المجتمع���ات العربية ،وال يمك���ن حصرها في عامل أح���ادي ،وإن حام�ل�ا أوفر نصيب كان المقروء نفس���ه ً من ه���ذه البواعث المثبطة للنمو القرائي الثقافي في وطننا العربي. إن القارئ يقوم بعملية شديدة التعقيد، متش���ابكة األدوار ،متع���ددة األطراف، وحين تنسجم جهاتها األساسية المكونة لها انس���جام ًا تفاعلي ًا قائم ًا على الرغبة الذاتي���ة واإلرواء الفكري لظمأ الش���وق الروحي واالس���تجابة لحاجات ومطالب القارئ تكون ممارس���ة إنس���انية راقية لمعنى من أجل معاني الحياة ،وتحقيق ًا لجوهر وجود البشر في أسمى دالالته. ولعل مكمن الخلل ومناط القصور في األزمة القرائية لدينا راجع الختالل شبكة
العالقة بين القارئ والمقروء تصل إلى مستوى من التالحم يبلغ مرتبة الذوبان في وحدة وجودية
العالقات المؤسسة لنظام القراءة ،فمتى كانت القراءة مجردة من الش���غف الذاتي والتوق الوجدان���ي واالرتباط الروحي، خالية من معنى إنس���اني نبيل ،ضئيلة العائ���دات والمناف���ع المادية لم ينش���ط إليه���ا متحمس ولم يتحرك إليها مندفع، وانطالق ًا من هذا المنظور نس���تطيع أن نقول إن القراءة كحوار وجداني روحي ذي قط���وف مادي���ة لم يبق م���ن مجدها العربي اإلس�ل�امي غير ذم���اء يحتضر، ف�ل�ا المكتب���ات التي ش���يدت في عصور أمة «اقرأ» اإلس�ل�امية الزاه���رة تجد لها في عالمن���ا العربي اليوم امتداداً ،يحفظ لتراثه���ا ألق���ه ،ويعيد إلي���ه مجده ،وال المبدع كان ل���ه من الحضور ما المق���روء َ ينتسب لتلك األيام المضيئة من تاريخنا العربي المجيد. في الن���ص المقروء المبدع مغناطيس جذاب يأس���ر قلب القارئ ،ويملك عقله، لتتح���ول العالقة بي���ن الق���ارئ المحب والمق���روء المعش���وق إلى مس���توى من التالحم واالنسجام ،يصل درجة الهيام، ويبلغ مرتبة الذوبان في وحدة وجودية أقرب إل���ى ما يع���رف بوح���دة الوجود أو الحل���ول ل���دى الصوفية ،وم���ن أراد أن يفه���م هذه العالق���ة الروحية القائمة على العش���ق المتأصل في الذات القارئة لمادته���ا المق���روءة يطالع حي���اة األمم القارئة في مس���ارح حياته���ا المتعددة، فهو واجد فيه���ا من االرتباط بين القارئ العاشق وبين المقروء المحبوب ما يبهر لبه ويثير حاسة االستغراب لديه ،فلوال ه���ذا االرتباط الروحي لم���ا كان المقروء ل���دى األمم القارئة الراقي���ة حاضرًا أمام عيون القراء في حلهم وترحالهم ،فال هم يصب���رون عن وصال النص المقروء في سفرهم وإقامتهم ،وكأن القراءة سياحة يروح فيها اإلنسان عن نفسه في لحظات ّ الخلوة ،ويش���غل بها مواقي���ت الفراغ، لتعمره نفحات اإلش���راقات المتجلية من وراء الس���طور ،ويش���ع ن���ور الحقائق الكونية في حياة هذا اإلنس���ان القارئ، ويتحول م���ن مغ���رم بالمادة الحس���ية إل���ى محب للثقاف���ة بمفهومه���ا المتكامل
- Ignat Bednarikرومانيا
ال���ذي يرق���ى بالنفس إلى حي���اة مثلى، يمت���زج فيها الروح���ي بالم���ادي ،وإذا كانت المراق���ي الصوفية تمر بمراحل من الرياضات الروحية ،تنتهي بالنفس إلى التوحد وفق الرؤية الفلس���فية الصوفية يعب���ر مدارج بي���ن طرفين ف���إن القارئ ُ الرق���ي نحو االندماج بالن���ص المقروء، يش���ده الش���وق إلى نور الكلمة والتعلق بحقيقة المعاني الكامنة وراء السطور، وبقدر ما ينجح ُكتاب الكلمة ومس���طرو النص المقروء في خلق مشوقات آسرة لوجدان القارئ جاذبة لعقله يتم اختصار
المسافات حتى يقترب القارئ من الذوبان الصوفي والفناء العشقي ،في ذات النص المتجلية إش���راقاته في صور من السمو والرقي والتشويق ،يحول عملية القراءة إلى فعل سحري ،يصيب سويداء مرتاد مدارجها ،ليتم تفاني القارئ في مقروئه واإلمح���اء والذوب���ان فيه وف���ي النهاية تتحلى إش���راقات المقروء الساحرة في حياة اإلنسان سموًا ورقياً. م���ا أحوجن���ا إل���ى تغيير فلس���فتنا القرائي���ة وإع���ادة التفكي���ر ف���ي مادتنا المقروءة حتى نرتقي بالقارئ إلى درجة
العشق الصوفي لمادته المقروءة ،ولعل من أخصر الس���بل إلى ذل���ك إحياء روح اإلبداع في نصوصن���ا المقروءة ،وبعث قيم الغن���اء والثراء فيه���ا لخلق جوالب التش���ويق حتى يرجع للقراءة وهجها، وتعود أمتنا إلى الريادة والقيادة قارئة كما كانت في عصورها األولى ،تبدع من المادة المقروءة ما يميل القلوب ،ويأسر العقول ،ويمهد الدروب لصناعة نس���خة من الثقافة والتقانة تضاهي منتوج األمم األخرى الس���باقة في مضمار ركب النماء والتطور في عصرنا الحاضر.
77
ال أحد يحتسي القهوة االفتراضية
جهاد بزي -بريوت الشابة العش���رينية الجالسة وحدها إل���ى طاول���ة مقه���ى الرصي���ف ،تقرأ وتشرب من فنجان قهوتها ببطء ومتعة. هي ليس���ت منفصلة تمام��� ًا عن مكانها. تعلم أنها مرئية .مالمح وجهها وخصلة شعرها التي ترفعها عن جبينها وألوان ثوبها الخريفي وخواتمها وأس���اورها. كل م���ا فيها مرئي ،وهي ،كما معظمنا، تري���د أن تطمئن إلى أنها تترك انطباع ًا ما عند اآلخرين ،ولو كانوا غرباء .تترك أثرًا ما في عابرين لن ترى وجوههم. غالف الكتاب الذي تقرأه يدل إلى ما تريده لصورتها .ما تقرأه هو ما تكون. وإذ تقرأ في هذه في المس���احة العامة، تفعل ما هو أبعد من القراءة .إنها تعلن عن هوية ..هويتها. لنبدأ م���ن هنا :من أنها إذا كانت تقرأ في كتاب إلكتروني ،فقد خس���رت األمل الصغير اللطيف بأن يثني أحدهم ،ولو بنظرة سريعة متبادلة على اختيارها، كتاب ميالن كونديرا« ،خفة الكائن التي ال تحتمل». غير أن الجهاز الذي يبذل جهدًا كبيرًا كي يك���ون كتاباً ،يؤمن لها مزايا كثيرة أخرى .الجهد الذي س���تقوم به البتياع الكتاب بسيط ،ويمكن كل عارف بأمور
78
اإلنترن���ت أن يق���وم به ف���ي دقائق هي الفت���رة الكافية لدفع ثمن���ه وإنزاله من موقع���ه ،ما لم يكن مجاني���اً ،والمكتبة المفتوح���ة المواق���ع عل���ى اإلنترن���ت تض���م ،حرفياً ،ما ال يحصى من الكتب. والنسخة االلكترونية ستظل موجودة، بال حج���م ،ف���ي مكانه���ا ،إل���ى األبد، بانتظارها ،لتعيدها إلى الشاش���ة متى شاءت لتقرأها من جديد. القراءة اإللكترونية س���تكون أسهل: حجم الخط المالئ���م .الترجمة الفورية للكلم���ات .كم���ا إمكانية معرف���ة كل ما يتعل���ق بأي م���كان ،أو زمان ،أو زي، أو حتى ش���خص ،بمجرد نسخ الكلمة المنتقاة من الن���ص ورميها في غوغل. المتخيلة أي هكذا ،ل���ن يبقى لقارئتن���ا ُ غام���ض في النص بين يديها .هذا إن لم تسحبها كلمة «براغ» ،مثالً ،إلى الغرق ف���ي آالف الصفحات والصور ،واألفالم القصي���رة ،وكل م���ا قيل ع���ن المدينة، وتاريخها ..حتى إذا ما عادت إلى حيث تركت الصفحة ،باتت مرهقة وفد تشتت ذهنها ،وشعرت باالكتفاء من «القراءة» له���ذا اليوم ،مع أنها ،عل���ى األرجح لم تقرأ شيئاً. بال أي انتب���اه إلى الحني���ن ،يذهب
القارئ اإللكتروني إلى الهدف مباشرة: الق���راءة .ه���و ال يعي���ر اهتمام���اً( ،وال يس���تطيع أصالً) ل���كل تل���ك الطقوس والع���ادات الت���ي يدمنها محب���و الكتب. القراءة عند هؤالء تب���دأ قبل وقت كثير من الجل���وس إلى المقعد وفتح الكتاب. تبدأ ،ربم���ا ،من المش���ي على رصيف الشارع المفضل ،والدخول إلى المكتبة، وبذل وقت طويل بي���ن الكتب ،حملها، وتحسس أغلفتها وتقليبها بين اليدين، ُّ وفلفش���ة أوراقها ،وفي ح���االت كثيرة ش���م الرائحة الطازجة للكتاب الجديد. االختبارات التي يخضعها كل واحد منا للكتب على طريقته هي جزء أساس���ي حيزها في م���ن متعة الق���راءة ..كذل���ك ّ المكتب���ة ،كذل���ك المالحظ���ات بالخط الصغير عل���ى أطراف الكتب .الصفحات المطوية في أعاله���ا لمن لديه مثل هذه العادات المكروهة عند آخرين .تكويمها في طبق���ات تضيق بها الغ���رف لتترك لدينا ذاك الشعور الغامض بالرضى عن أنفسنا ألننا قرأنا .نس���يانها لسنوات، والتفرج على كل وفْتحها، ثم ُّ تذكره���اَ ، ُّ ما فيه���ا .مالحظ���ات الهوامش ،وصل ش���راء غرض وضعناه هناك كي نعود إلى حيث انقطعنا ع���ن القراءة ،وصل يتبين أنه كان لقميص ما ربما ،أو للعبة أطفال .إهمالها لس���نوات ،ثم فتحها من جديد على توقيع لشاعر كبير راحل على طبعة أولى .كتب ُأهديت إلينا ،وأخرى أهديناها .كتب أعرناها ولم ترجع إلينا. كت���ب ندمنا ألنن���ا اش���تريناها ،لكننا، وبس���بب ولعنا الغري���ب بالحنين على األرجح ،ال نرميها ،كتب مفككة بس���بب صمغها السيئ ،كتب أنيقة بغالف قاس وورق فخ���م .أخرى مجاني���ة ،ثالثة لم تفتح يوم���اً ،إما لخوف من صعوبتها، وإما ألننا لم نتحم���س لها .كتب ننتظر بش���وق أن ينتب���ه إليه���ا أطفالن���ا إذ يكبرون .كتب نشبهها وتشبهنا. العال���م اإللكتروني ُم ِ ���ر على قتل ص ّ الزم���ن .والوق���ت ال يم���ر عل���ى الكتاب اإللكترون���ي ألنه غي���ر موج���ود حقاً. هو مجموعة من اإلش���ارات الكهربائية الت���ي يمكن استنس���اخها بع���دد مرات
- George F. Fishmanالواليات المتحدة
النهائي .كم���ا أن ال ش���كل حقيقي ًا لها: يمكنه���ا أن تكب���ر وأن تصغر بحس���ب الشاشة المستخدمة .يمكننا استعادتها من مخبئها مئات الم���رات ،ولن تصاب أط���راف أوراقها ب���ذاك االهت���راء الذي يترك لنا أثرًا علينا .قد نستطيع وضع مالحظاتنا بقل���م إلكتروني عليها ،وقد ندعي أننا طوينا أعلى الصفحات فيها، َّ لكن هذه مح���اكاة .الكت���ب االلكترونية ستعيش معنا لعش���رات السنين ربما، وننقله���ا من جهاز قراءة إلى آخر ،ولن نرتبط بها وترتبط بنا بأي عالقة ُتذكر. لن تكون لنا حقاً ،وربما لن نشعر بأي خس���ارة ،إذا محوناه���ا عرض���اً ،ألننا ق���ادرون على جلبها ،هي نفس���ها ،بال أي عن���اء .هي موجودة ،لكنها ليس���ت سمي موجودة تماماً ،افتراضية على ما ِّ كل شيء إلكتروني ،لكنها تشق طريقها االفتراضي للسيطرة على سوق الكتب في الغرب على األقل ،والشرق سيلحق بالركب على عادته ،وإن متأخراً. إنها ليس���ت مس���ألة قراءة فقط ،بل
أس���لوب حي���اة .رف���وف المكتب���ة في البيت ،وفضول االصدقاء ،كما فضولنا ف���ي المقابل ،في التف���رج عليها ،وفتح أحادي���ث حوله���ا ،والتعبير ع���ن الود بالتخل���ي عن كت���اب لكس���ب صديق، كل ه���ذا لن يتم بين شاش���تين ،كما أن إهداء نس���خة م���ن كت���اب الكتروني لن تعني شيئ ًا ألحد .كما أن معرض الكتب س���يكون بال جدوى ،وال كتب فيه ،بل شاش���ات .ليس���ت القراءة وحدها .إنها كل م���ا يحيط بها أيضاً ،وال يمكن خلقه افتراضياً. قد ال يخس���ر الكت���اب الورقي حربه مع الكتاب اإللكتروني لهذه األس���باب، ولغيرها .غير أنها حرب صعبة .يكفي أن صار هناك من يش���اركه في اس���مه االول ،وللتعري���ف ع���ن الكت���اب ،بتنا بحاج���ة لتمييزه بأنه «ورقي» .بتنا في عالم جديد. الش���ابة العش���رينية المتخيلة التي ابتدئ بها النص ،جالس���ة في مقهى من ثالثة أبعاد ،وقهوتها ليست افتراضية.
هي تحتس���ي قه���وة طازجة س���اخنة، وه���ا هو الفنج���ان ينقلب بم���ا بقي في قعره عل���ى كتابها .في االحتمال األول، اإللكتروني ،س���تحترق اآللة وتخس���ر الش���ابة ثم���ن الجه���از .لك���ن ال بأس. س���تجلب واح���دًا جديدًا وتنزل نس���خة الكت���اب ،وتتابع من حي���ث توقفت .أو أنها ستمسح الجهاز بفوطة ويعود كما كان .كأن القهوة لم تسكب. في االحتمال الثاني ،س���تتبلل بضع صفح���ات من كت���اب كوندي���را الورقي بالس���ائل األسود .تجفف الشابة الورق م���ا أمكنه���ا ،وتتاب���ع الق���راءة .وبعد س���نوات ،بعد س���نوات بعيدة ،تسحب السيدة األربعينية الكتاب من مكتبتها، وتفلف���ش أوراقه ،وحين ت���رى البقعة تق���رب الكت���اب من الباهت���ة للقه���وةّ ، وجهه���ا وتش���مه .تعيده���ا الرائحة إلى مقهى الرصي���ف ،تجفف أوراق كتابها، ورجل م���ا ينظ���ر إليها ،وعل���ى خّدها عذوبة البرودة الخفيف���ة لهواء المدينة الخريفي ،يحتفل بشبابها. 79
جدل الكتابة والقراءة والتنظير
الجوع للواقع د� .صربي حافظ -جامعة قطر
- Harold Knightالمملكة المتحدة 80
نادرة هي الكتابات النظرية ،أو التنظيرية التي تصل إلى قائمة أكثر الكتب مبيع ًا وخاصة في بلد مثل أميركا مغرم بالسطحية واإلثارة السريعة، ومعاد للتفكير الجاد والتنظير المعمق إلى حّد ما ،حيث تحولت فيه الضحالة إلى فن رفيع .فإضافة أميركا األساسية للفكر الفلسفي هي البراجماتية ،وهي أقصى ما يمكن توقعه من ثقافة «رعاة البقر» التي اليزال لقاموسها وقيمها ورؤاها سحره في المجتمع األميركي حتى اليوم .أقول نادرة وليست غائبة، ألن ثمة كتب نظرية أو حاولت التنظير وصلت في أميركا إلى قائمة أكثر الكتب مبيعاً ،بل وبقي بعضها على هذه القائمة لعدة شهور ،وأحيان ًا أعوام .منها على سبيل المثال كتاب بول كينيدي Paul « Kennedyنشوء وسقوط القوى الكبرىThe Rise and Fall of the Great Powers» ، 1989الذي بقي على قائمة اكثر الكتب مبيع ًا ألكثر من عامين عند نشره .والذي جاء في لحظة حرجة من الحرب الباردة ،وقبل سقوط االتحاد السوفياتي ،يحذِّر أميركا بأن عليها أن تتصرف بسرعة ،وإال فإن إمبراطورتيها على وشك االنهيار. ومنها كتاب (نهاية التاريخThe End of History and the Last Man( 1992لفرانسيس فوكاياما Francis Fukuyamaالذي بدأ كمقالة كتبها عام 1989عقب سقوط وحولها إلى كتاب االتحاد السوفياتي، َّ حظي بشعبية كبيرة ،ألنه بدد هواجس نظرية كبرى أثارها كتاب كينيدي حول مستقبل أميركا ،وهدهد الثقة األميركية الرعناء بانتصارها في الحرب الباردة، وانفرادها بقيادة العالم .ومنها أيض ًا كتاب صامويل هنتنغتون Samuel ( P. Huntingtonصراع الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي Clash of Civilizations and the Re )making of World Orderالذي بدأ هو اآلخر كمقالة عام ،1993 بتكليف من أحد مراكز المحافظين الجدد البحثية« ،المشروع األميرك ي iAmer
»can Enterpriseفي ندوة عن كتاب فوكوياما ،ثم تطور ليصبح كتاب ًا من أوسع الكتب مبيع ًا عام .1996 لكن ما يجمع بين هذه الكتب التنظيرية ليس عمقها أو إضافاتها النظرية المهمة للفكر اإلنساني ،بأي حال من األحوال .فباستثناء كتاب بول كينيدي، وهو باحث بريطاني وليس أميركياً، استقطبته جامعة ييل Yaleاألميركية الشهيرة بسبب كتابه هذا ومنحته كرسي التاريخ والعالقات الدولية فيها ،فليس في الكتابين الباقيين ما يمكن اعتباره إضافة جادة للنظرية في مجاليهما ،بل إن سيرة تأليف كل منهما والتي بدأت كمقالة ثم أدت غواية شغف األميركيين بها إلى تحويلها إلى كتاب ،تكشف لنا بعض أسرار ضعفهما .وكيف أنه لن يكون ألي منهما أهمية خارج فترة الصالحية القصيرة .فنحن في مجتمع الوجبات القرائية السريعة ،والتي تنتهي قدرتها على اإلشباع عادة مع انتهاء فترة الرواج االفتراضي ،وظهور كتاب جديد يستحوذ على االنتباه الذي يتسم هو اآلخر بقصره الزمني. على العكس من كتاب بول كينيدي الذي اليزال قاب ً ال للقراءة والجدل حتى اآلن ،وال تزال كشوفه قادرة على التنبؤ بمصير أميركا الوشيك ،برغم كل الجهود المضنية لتأخير هذا المصير وتأجيله .وإنما ما يجمعها ،وربما سر رواجها في الوقت نفسه، يكشف لنا ّ هو قدرتها على استخدام قدر من العمق والمنهجية والجدية لطرح مقوالت تلمس الوتر األميركي الجمعي الحساس، والذي يتمحور حول نرجسية أميركا، وحرصها على أن تكون األقوى واألهم. وأهم من هذا كله قابلية تلك التنظيرات للتعميم السريع في أجهزة اإلعالم، وإشباع الرغبة السريعة والوقتية للجدل الذي يفضي إلى طمأنة األميركيين على وضعهم المتميز في العالم ،أو يساعد صنّاع القرار على اتخاذ قرارات دولية مرغوبة أو على تسويقها في عالم يقاومها وال يقتنع بها. لذلك يبدو صعود كتاب نظري ،أو
سحر القراءة في عالم تتسارع فيه الحركة ،وتزداد فيه الرغبة في الكبسوالت الصغيرة تنظيري ،مغاير لهذا السياق العام إلى قائمة أكثر الكتب مبيع ًا في أواخر العام الماضي 2010ثم وصوله إلى بريطانيا ليحظى برواج مماثل نسبي ًا فيها هذا العام 2011من األمور النادرة حقاً. ألن كتاب (الجوع للواقع :بينان lRea )ity Hunger: A Manifestoلدافيد شيلدز David Shieldsليس كتاب ًا في السياسة وإنما يمكن اعتباره ،تجاوزًا، كتاب ًا في النظرية األدبية .بل إن بعض من كتب عنه قال عنه «إنه يمكن أن يكون الكتاب المحدد لجماليات مرحلة بدايات القرن الحادي والعشرين والتعريف التعرف الجامع لها» .لذلك يلزمنا ،وقبل ُّ إلى أطروحات هذا الكتاب الذي ال يطرح جماليات مرحلة بدايات القرن الجديد فحسب ،وإنما يضيء لنا بعض جوانب سحر جدلية القراءة والكتابة في عالم تتسارع فيه الحركة ،وتزداد فيه الرغبة في استهالك الكبسوالت الصغيرة المعلبة ،أن نتعرف مسيرة كاتبه ،أو باألحرى أن نقدمه للقارئ العربي الذي غالب ًا لم يسمع به من قبل. فقد بدأ دافيد شيلدز المولود في لوس أنجيلوس عام 1956حياته كأي كاتب أميركي معاصر يتبع الطريقة األميركية التقليدية المعتمدة .فدرس األدب اإلنكليزي واألميركي في إحدى الجامعات المرموقة (جامعة براون) وتخرج فيها عام ،1978ثم حصل على ماجستير من ورشة الكتابة اإلبداعية بجامعة أيوا عام ،1980فقد أصبحت الكتابة اإلبداعية منذ زمن في أميركا موضوع ًا للدراسة الجامعية التي تساعد
على اختصار طريق النجاح ،وتجنيب الكاتب للطرق المسدودة التي ال تفضي لشيء ذي بال .ثم بدأ في كتابة روايته األولى (أبطال) التي نشرت عام ،1984 ثم نشر روايته الثانية (لغات ميتة) عام 1989دون أن تلفت أي منهما األنظار، ولكنه حينما اكتشف طريقة جديدة في الكتابة في روايته الثالثة (دليل عملي للغرق :رواية في قص ص dHan book for Drowning: A Novel in )Storiesعام 1992والتي خرج فيها على طريقة الكتابة السردية التقليدية، واتخذ من «الكوالج» بين صيغ كتابية مختلفة ،وانتهاك الحدود الفاصلة بين السرد والمقال والسيرة والمزج بين تلك األجناس جميعها في توليفة جديدة ،بدأ يلفت األنظار. بحس أميركي استجاب، ما وسرعان ّ خالص ،الستجابة الجمهور لهذا التغيير فأمعن أكثر في االبتعاد عن السرد التقليدي في كتابه التالي (نائياً :تأمالت عن الحياة في ظل شخص مشهو ر eR mote: Reflections on Life in the )Shadow of Celebrityعام ،1996 وأخذ في المزج بين تجربة واقعية، ووقائع وأحداث وتقارير صحفية حول عالم الرياضة ومشاهيرها في الواليات المتحدة األميركية بطريقة تجمع بين التحقيق الصحفي ،والسرد القصصي، والنص الوثائقي والتأمالت الشعرية. ثم واصل نفس النهج في كتبه التالية حتى وصل كتابه األخير ،والسابق على الكتاب الذي نتناوله هنا ،وهو (المؤكد عن الحياة هو أنك ستموت في يوم من األيام The Thing About Life Is )That One Day You’ll Be Dead عام ،2008إلى قائمة أكثر الكتب مبيعاً. وربما كانت مسيرته اإلبداعية تلك، والشغف بمعايير النجاح والتوزيع وهو شغف أو باألحرى استحواذ أميركي ،هي التي قادته لكتابة هذا الكتاب /البيان (الجوع للواقع) الذي يوشك أن يكون منطلقه هو سؤال مضمر البد وأنه طرحه على نفسه 81
كثيرًا :لماذا نجحت كتبي األخيرة ،ولم تنجح رواياتي األولى؟ ألن السؤال الذي ينطلق منه هذا الكتاب الغريب /الفريد في شكله ومنطقة وبنيته هو :هل تستطيع الرواية ،بصورتها التقليدية القديمة ،أن تشبع جوع قارئ القرن الحادي والعشرين الجديد للواقع؟ أو باألحرى ما شكل الرواية القادرة على إشباع هذا الجوع بعد أن تغيرت كل مواضعات اللعبة؟ لعبة الكتابة ولعبة القراءة والتلقي معاً .ألن الكتاب يعي أن الكتابة لعبة لها أصولها ،وقواعد نشرها القانونية ،ولذلك فقد قرر أن ينتهك قواعد تلك اللعبة ويحافظ عليها في الوقت نفسه ،بأن يكتب كتاب ًا % 70 منه كتبها اآلخرون ،وليست له ،ولكن دون أن يقع تحت طائلة دفع حقوق تأليف ألي منهم تحول دون استفادته هو المادية من الكتاب .بمعنى أنه يحرص على أن تكون مقتطفاته قصيرة نسبياً ،قد ال يتجاوز أي منها الصفحة، ولكنها قد تقصر إلى حد عدة أسطر، ولكن تظل في حدود الفقرة الواحدة، حتى ال يقع تحت طائلة دفع أي حقوق تأليف ألصحابها. ومع ذلك فإن الكتاب ،وهو منظم على مستويين :مستوى ترقيم المتن إلى فقرات ،حيث يتكون الكتاب كله من 618فقرة متفاوتة الطول ،منها 415فقرة لكتّاب آخرين وليست له. هذه الفقرات التي تشكل أكثر من ثلثي حجم الكتاب يقدم قائمة بها في نهاية الكتاب ،وينسب كل فقرة لصاحبها، حسب األصول .ثم يقترح على القارئ أن يقطع هذه الصفحات األخيرة من الكتاب ،وقد جعلها قابلة للقطع من الكتاب بتخريمه لها حتى يسهل قطعها، ويلقي بها بعيدًا ،وال يعود إليها كي يستمتع بقراءة الكتاب ،وكأنه عمل واحد متصل. وقد كتب هذه الفقرات كتاب وشعراء ورسامون ومخرجون سينمائيون ومفكرون ومؤرخون ينتمون إلى فترة زمنية عريضة تمتد من المؤرخ اليوناني الروماني بلوتارخ حتى العصر الحديث، 82
وإن كان أغلبهم من العصر الحديث بالطبع ،ومن مختلف الجنسيات وإن غلب عليهم األميركيون بالطبع أيضاً: فالكتاب يعج بأسماء كثيرة شهيرة، مثل إميرسون ،وهيرمان ميلفيل، ولورنس شتيرن ،وجوته ،وفلوبير، وبورخيز ،وثورو ،وإيميلي ديكنسون، وجيفرسون ،وت .س .إليوت ،وعزرا باوند ،وييتس ،وجون كيتس، وميخائيل ليرمينتوف ،وفيتزجيرالد، وجورج أورويل ،وفيرجينيا وولف، وصول بيلو ،وتوماس بينشون، ورالف إليسون ،وأ .م .فورستر ،ود .ه. لورانس ،ودافيد ماميت ،وجون فاولز، وف .س .بريتشيت ،ومايكل مور، وبيكاسو ،وفرانك أوهارا ،ونابوكوف، ونايبول ،وروبرت لويل ،وجور فيدال ،وإليزابيث باوين ،وفريدريك بارثيلميو ،ولورين آدامز ،ومارك ويليس ،وجون دآجاتا ،ووليام جاس، وجوناثان رابان ،وتشاك كلوسترمان، وفيفيان جورنيك ،وكيفين كيلي، وتشارلز سيميك ،وفيليب روث ،وجيم بول ،وجوف داير ،وروبرت وايندر، ووليام جيبسون ،ودوروثي جاالهار، وجوناثان ليثام ،وأوتو بريمينجر، وودي آالن ،وورنر هيرزوج ،وديبورا آيزنبرج ،وأالن روب جرييه ،وجون كوتسيا ،وبيتر بيلي ،وغيرهم .وهناك أيض ًا نقاد ومنظرون وفالسفة من عينة نيتشه وكيركيجارد ،وتوكفيل، ومونتاني ،وروالن بارت ،ووالتر بنيامين ،وأدورنو ،ورايموند وليامز، وليونيل تريلنج ،ووالتر بيتر ،وروبرت ماركوز ،وجون راسكن ،وفيكتور شكلوفسكي ،وغيرهم. أما المستوى الثاني لتنظيم الكتاب فهو تنظيمه في فصول ،بعدد حروف األبجدية أي 26فصالً .حيث أن الفصول مرقمة بالحروف حسب ترتيبها األبجدي، ويحمل كل منها عنوان ًا يبدأ بفصل عنوانه «استهالل» ،ولكنه يستخدم هذه المرة المفردة الخاصة به في الموسيقى Overtureوليس أي من المفردات الخاصة به في الكتابة ،وينتهي مع
حرف Zبفصل معنون هو اآلخر «خاتمة» ،ولكن بالمصطلح الموسيقي أيض ًا ،Codaمما يوحي بحرص الكتاب على أن يوصل لقارئه أنه يقدم له معزوفة شارك فيها الكثيرون، كما ذكرت ،ولم يقم المؤلف بغير دور المايسترو فيها .فما الذي يقدمه المؤلف في معزوفته تلك؟ من البداية البد من االعتراف بأننا بإزاء كتاب يستعصي على التلخيص والتصنيف ،وربما أنه يستعصي على التلخيص بسبب استعصائه على التصنيف .فهو ليس دراسة أدبية ،وإن به منها شيئاً ،وليس نظرية أدبية وإن طرحت استقصاءاته حدوس ًا جمالية مهمة ،وليس مجرد كتاب مقتطفات، وليس مقالة أدبية وإن كان يضمر بنيتها ،ألن له بنيته وموضوعه الموحد. لكننا بإزاء كتاب يعي مؤلفه جدل المبنى والمعنى ،ويدرك أن لشكل الكتاب نفسه محتواه الداللي المهم الذي يعتمد على الكوالج والمزج بين الخطابات واألصوات ليخلق عبر الصوت الجمعي مصداقية مقوالته .وربما كان قدر كبير من سر غواية هذا الكتاب يعود إلى طريقة كتابته ،وإلى هذا المزيج الشيق من «الكوالج» وهو من أبرز تقنيات الفن البصري المعاصر ،وأحد فنون السينما المهمة ،وهو فن «المونتاج» الذكي الذي أحال مقتطفاته العديدة من مئات الكتاب والمصادر إلى سرد شيق سلس يجذب القارئ في شبكته المغوية ،ويخرج به عن جفاف التنظيرات األدبية بالرغم من أن التنظير هو موضوعه األساسي. ِّ ينظر هنا لكنه يعي أيض ًا أنه للرواية ،وهي أكثر األجناس األدبية رواج ًا في العصر الحديث ،ويريد لتنظيره لها أن يكون نفس رواج الفن ينظر له .وأنه ِّ الذي ِّ ينظر لواقع يتسم بالتشظي ،فيجعل من التشظي نفسه بنية لكتابه ولتنظيره معاً .لكن أهم محتويات شكل هذا الكتاب المضمرة، واتخاذه من «الكوالج» و«المونتاج» أداتين لبناء نصه ،هو اإلعالن عن أن كً ال من الفن التشكيلي وفن السينما قد
سبقا فن الرواية في االستجابة للجوع للواقع الذي يرى أن على الرواية أن تشبعه .فمن أهداف الكتاب المعلنة، ال المضمرة هذه المرة ،أن يكون بيان ًا «مانيفيستو» كما يقول عنوانه عن حال الرواية في واقعنا المعاصر .ولذلك فإنه يبدأ بعد فصله االستهاللي بفصل Bعن «المحاكاة »Mimesisيكشف لنا فيه من خالل 29فقرة أن أصل الكتابة منذ أقدم التواريخ هو الحكاية /محاكاة الواقع، ولكنه يكشف لنا في الوقت نفسه أن أصل الرواية مع أنها أكثر األشكال انطالق ًا من مبدأ الحكاية /المحاكاة ،هو التجديد والتملص من أي انصياع لقيود المحاكاة. حيث يقدم لنا تعريف جون كوتسيا (كاتب جنوب إفريقيا الشهير والحائز على نوبل) لها «بأن كلمة رواي ة vNo elكان لها أشد الدالالت غموض ًا حينما دخلت للغات األوروبية ،إذ كانت تدل على نوع من الكتابة ال شكل له ،وال
قواعد تحكمه ،ويقوم باستمرار بصناعة قواعده عبر مسيرة تطوره» .هنا يسعى كوتسيا لتقديم أحدث تعريفات الرواية في واحدة من أكثر نصوصه /رواياته وعي ًا بروائيتها ومناقشة لفن الرواية نفسه (إليزابيث كوستيللو) بالزعم بأنه أقدمها ،وبأنه جنس القواعد المفتوحة والمتحولة .لكن الكتاب يلمس أيض ًا وترًا حساس ًا في مجتمع ما بعد الحداثة، ذلك الذي يقول عنه وين كويتنباوم في مراجعته للكتاب« :إن هذا هو الكتاب الذي يحتاجه مجتمعنا المريض حتى النخاع ،الكتاب الذي يوجه له لكمة كهربائية صادمة كي يفيق». وينطوي هذا الكوالج على هدف أساسي هو نقد األنماط التقليدية في األدب والفن ،وانتهاك الحدود الصارمة التي تفصل بين األجناس األدبية المختلفة ،وخاصة تلك الحدود بين السرد /القص وغيره من األجناس األدبية .ألن شيلدز ينطلق من أنه يجد
أن من المستحيل عليه شخصي ًا أن يقرأ رواية معاصرة تقدم نفسها دون وعي بروائيتها أو نصيتها ،على أنها رواية، حيث ال يستطيع أن يفهم كيف يمكن لمثل هذا النص أن يعكس ما يعيشه اإلنسان المعاصر .لذلك فإنه يدعو في كتابه هذا ،عبر تلك الجوقة الكبيرة من األصوات والتبريرات المختلفة إلى التخلي عن الشكل الروائي التقليدي بدعوى تكلّسه وعدم قدرته على االستجابة لمتطلبات القارئ الحديث، أو باألحرى عدم صالحيته للتعبير عن حساسيته األدبية ،وعن جوعه الشديد للواقع ،في زمن تهتز فيه رواسي هذا الواقع جميعها من تحت قدميه .فالجوع للواقع نابع من التضاؤل المستمر لخبرة اإلنسان الحديث بالواقع ،والذي جعلته الحياة المعاصرة يعيشه بسرعة وسطحية ،وال يجد الوقت الكافي ليسبر تجربته به ،أو لتكون له خبرة حقيقية بتجلياته .وكأن استيعاب الفن ألجزاء متنامية من الواقع في نسيج األعمال الفنية واألدبية هو تعويض ضروري عن نقص تلك الخبرة به .وكأن على الفن أن يوفر له ما حرمته الحياة منه. تحول الشكل الروائي عنده إلى فقد َّ شكل اصطناعي بعد أن عرت الروايات المتتابعة كل استراتيجياته النصية للقارئ ،ولم يعد ثمة جديد يشده فيه. خاصة وأن القارئ الحديث عنده قارئ كلبي ماكر تهكُّمي ،أرهفت الوسائط الحديثة قدراته النقدية على السخرية من كل ما يراه .وزاده إيقاع الواقع وشره مع ًا إحساس ًا بالقلق وعدم الرضا عن كل ما حوله .لذلك يدعو إلى أن يستبدل الكاتب الجديد بالرواية التقليدية هذا المزيج «الكوالج» من المقالة الشعرية، وقصيدة النثر ،وأمشاج السيرة، والمشهد الوثائقي ،والتحقيق الصحفي، والتأمالت .حتى يستطيع النص الجديد أن يستوعب غنى الواقع الجديد وتنوع إيقاعاته ،وأهم من هذا كله تشظي بنيته في عصر مابعد الحداثة .كي تظل الرواية هي الفن القادر دوم ًا على التحول واستيعاب متغيرات الواقع. 83
وجبة من التوابل للقارئ العجول
األكثر مبيع ًا علي النوي�شي
على الغالف األخير لكتب «ستيفن آر. كوف���ي» المؤلف األميركي الش���هير جملة تقول :بيعت أكثر من 20مليون نس���خة من كتبه وترجمت إلى 83لغة مختلفة. أما المؤلف دان براون وهو من مواليد 1964وأش���هر كتبه :ش���فرة دافنش���ي، مالئك���ة وش���ياطين ،الرم���ز الضائ���ع، الحصن الرقمي وقد حققت أعلى المبيعات في العال���م ،ووصفته مجل���ة تايم بأنه واحد من أكثر من 100شخص أثروا في العالم سنة .2004 والس���ؤال :م���ا ه���ي الرواي���ة األكثر مبيعاً؟ ..ولماذا تصبح كذلك؟ ال أدبي ًا مميزاً ،أم هل ألنها تقدم ش���ك ً ألنه���ا تحمل عناصر التش���ويق واإلثارة لما فيها من كس���ر للتابوه���ات المعروفة في السياس���ة والدين والجنس ..أم ألنها كتبت بش���كل جديد فيما يطلق عليه اآلن الكتاب���ة الجديدة ..أم أن هناك أس���باب ًا أخرى وظروف ًا مختلفة تؤدي ألن يصبح هذا الكتاب األكثر مبيعاً؟. في تاريخ الثقافات العالمية ،لم يبع ناش���ر من الكتب مثلما باع الناشرون من روايات أجاثا كريس���تي ع���ن الجريمة.. فمنذ بداياتها وحتى اآلن طبعت مئات بل 84
آالف الطبعات وبيعت بالمليارات ،لكن المفارقة أن المؤلفة نفسها قدمت خمس روايات بعي���دًا عن عال���م الجريمة الذي اشتهرت به ،وباسم مستعار ،فلم توزع من هذه الروايات إال أعداد قليلة. « العراب » صاح���ب الرواية المذهلة للمؤل���ف ماريوبوزو التي كش���فت عالم الجريمة السري ،الذي كان يسيطر على حركة المال واالقتصاد والس���لطة ،بيع منها عشرات الماليين من النسخ. وهناك روايات شديدة الرصانةتباع بشكل مستمر ،وتصل في النهاية لألكثر مبيع ًا مثل رواي���ة «الغريب» أللبيركامو الت���ي تحت���ل دائم��� ًا قائم���ة القص���ص الفرنسية. ربما يكون عنصرا التشويق واإلثارة الفكري���ة هم���ا الل���ذان يدفع���ان بكت���اب م���ا ليحتل قائم���ة الكتب األكث���ر مبيعاً، باإلضاف���ة إلى الخلفية الت���ي يتمتع بها الكاتب ،فالمعلومات والتفاصيل الكثيرة والعمق الذي ال يتنازل عنه الكاتب لحظة واحدة ف���ي كتاباته ،كلها عوامل تجتمع ف���ي النهاي���ة لتعط���ي مؤش���رًا واضح ًا وصريح ًا الحترام الكاتب لعقلية قارئه. فرواية « ش���يفرة دافنشي » ،تعطيك
انطباع ًا بأن الكاتب ال يملي عليك رواية وال يلق���ي إليك بأح���داث ،بل هو يطرح أسئلة ،يطرحها كل قارئ معه. ويق���ول ب���راون« :لم أتوق���ع أبدًا أن يستمتع كل هؤالء الناس بقراءة الرواية، لق���د كتب���ت ه���ذا الكت���اب في األس���اس كمجموعة من الشخصيات المختلفة التي تحاول استكشاف أفكار ،كنت أنا نفسي متشوق ًا الستكشافها». بل اس���تطاع الكات���ب بصدقه وعمق أف���كاره أن يس���اهم ف���ي زلزل���ة كثي���ر م���ن الثوابت األساس���ية ف���ي معتقدات المسيحيين أنفسهم. والكتاب الذي يباع في أميركا ويحقق مبيع���ات أق���ل م���ن 150ألف نس���خة ال يس���مى األكثر مبيع���اً ،لكن ف���ي عالمنا العربي الصورة مختلفة تماماً ..فالكتاب المطب���وع ال ي���وزع أكث���ر م���ن 3آالف نسخة ،بل قد يوزعهم على سنوات ..وال يوجد ما يسمى باألكثر مبيع ًا في عالمنا العرب���ي ،حتى ألكبر الكت���اب وأكثرهم ش���هرة ،ونجيب محفوظ نفس���ه لم يفز باألكثر مبيعاً ،وحسنين هيكل كذلك. ولكن هناك قائمة «األكثر مبيعاً» هي في األس���اس «األكثر شذوذاً» ،فالعمل ال يوزع لقيمته ،بل للظروف المحيطة به.. ولم يحظ األدب العربي بتلك التسميات إال في مرات قليل���ة :أوالها «المصادرة» والثاني���ة« :كس���ر التاب���و» .فعندما تم حظر نشر رواية «أوالد حارتنا» لنجيب محفوظ أنشأ الناشرون لها سوق ًا رائجة للطباع���ة والتهريب وبي���ع منها ماليين النسخ. وعندما تكسر الرواية ثالوث الجنس والدين والسياسة تحقق أعلى المبيعات، ومع ذلك فه���ي مازالت بعيدة عن قائمة األكثر مبيعاً. مرات قليلة فقط هي التي لمست فيها بعض م���ن تلك الرواي���ات حافة «األكثر مبيع���اً» فعندما نش���رت رواي���ة «وليمة ألعشاب البحر» للكاتب حيدر حيدر طبع منها ثالثة آالف نسخة وزع منها 1200
- Marc Chagallبيالروسيا
نسخة وخزنت بقية األعداد إلى أن حدثت األزمة وتمت مصادرة النسخ المطبوعة، وفي ساعات أصبح الكتاب الذي لم يجد من يقبل عليه قبل األزمة بجنيهين يباع بمئة جنيه ،وتس���ابقت دور النشر على طبع���ه في الس���ر ،وكان���ت الوليمة هي «األكثر مبيع ًا س���راً» ،بس���بب المصادرة والضجة التي أثيرت من حولها. أما الرواي���ات الثالث الت���ي طبعتها هيئ���ة قصور الثقافة بمص���ر عام 2001 وكانت تحمل عب���ارات إباحية ،فقد قدم عضو اإلخوان المسلمين بمجلس الشعب
د .جمال حش���مت طلب إحاط���ة للوزير ترتب علي���ه مصادرة الرواي���ات وإقالة ع���دد من قي���ادات الوزارة على رأس���هم علي أبوش���ادي رئي���س الهيئة ،وترتب على مصادرة الوليمة والروايات الثالث أن احتلت قائمة الرواي���ات األكثر مبيع ًا في القراءة العربية.
أم���ا رواي���ة «عزازي���ل» ليوس���ف زيدان فهاجمت ثواب���ت في الفكر الديني المس���يحي ،وفج���رت غضب الكنيس���ة والق���راء لتق���ف في قمة الب���رج العاجي للرواي���ات األكث���ر مبيع���اً ،جنب��� ًا إلى جنب مع رواية «الخب���ز الحافي» لمحمد شكري.
رواي���ة «عم���ارة يعقوبي���ان» لعالء األسواني وطبعت عدة مرات في شهور قليل���ة وأصبح���ت من الرواي���ات األكثر مبيع ًا ألن موضوعها كان فضح فس���اد المسؤولين الكبار.
ولكن ال يغي���ب عن األذهان أن الكتب األكثر مبيع ًا في عالمن���ا العربي ينتمي أكثرها إلى نوع الكتب الدينية السلفية، وكتب الطبخ ..وكذلك الكتب المتخصصة في قراءة الكف. 85
- René Magritteبلجيكا
القارئة اللئيمة هدى بركات -برلني
86
قال���ت أم���ي :ه���ذه البن���ت مريضة! وأجبرتن���ي عل���ى مالزمة الف���راش ،ثم أختي الصغيرتين انصرفت إلى تجهي���ز ّ للذهاب إلى المدرسة. إل���ي وجلس���ت عل���ى حي���ن ع���ادت ّ التحري عن حالتي فراشي ،راحت وقبل ّ تؤكد لي -أنا المجتهدة الخائفة الصحيةّ ، ّ التغيب -أو الخائفة دوم ًا من تبعات من ّ أن للمرض أحكاماً ،وأنّي ال أي ش���يء ّ - ّ ملخص���ات ما فاتني، على س���أحصل بّد َّ كالع���ادة كلما أقعدن���ي التهاب اللوزتين في الفراش.
ثم راحت أمي ،حين رأت أن ال شيء بي من ع���وارض ذلك االلتهاب ،تس���أل قررت أن احمرار بقلق عن مكامن ألمي.ثم ّ عين���ي إنما هو الدليل عل���ى إفراطي في ّ الدرس ليالً..رغم تحذيراتها المتكررة من عدم ثقتي بنفسي (أو ضعف شخصيتي وخوفي من المعلّمات.)...
وتابع���ت كمن ينزلق عل���ى فراش وثير. جنس���ية أو إش���ارات لي���س من مقاطع ّ مستفزة من أي نوع كان .إنه عمل أدبي، ّ على م���ا يصنّ���ف واقع���ي -ريفي وفي أحيان أخ���رى رومنطيقي -ش���اعري. أي كس���ر ولي���س فيه ،ف���ي ّ كل األحوال ّ لمحظور .ولم تلق الرواية إثر صدورها عام - 1913حفاوة تذكر .لكنها ،وهيوحي���دة كاتبه���ا ،بدأت تحقّ���ق مبيعات معقولة بعيد مقتل واضعها أالن فورنييه الش���اب في معارك الحرب األولى..إلى واعتبرت أن انتش���رت بماليين النسخ، ُ إحدى الروايات الفرنسية العشرة األكثر أهمية واألكثر تأثيراً.
ه���ل كان ذهوالً؟ أم غياب���اً؟ أم انتقا ًال بالمعنى الصوفي للكلمة ،ذلك المستعمل ع���ادة في قوامي���س القّديس���ين ،هؤالء الذي���ن يغادرون أجس���ادهم إل���ى أمكنة «أخرى»؟ ال أذكر ش���يئ ًا عن ذلك الصباح أتخيل حكايته .ذلك أني، أرج���ح أو ّ بل ّ وأمي على فراشي،كنت قد غادرت البيت عند الفجر .وغادرت المدرسة أيضاً .اآلن أعرف ذلك.
لك���ن ه���ذا عرفت���ه بع���د س���نوات عديدة...
أعتق���د أن هذا م���ا حصل .ذلك أني، وأنا في فراش���ي ذاك لم أكن أس���مع ما تقول أمي .ولعلّي اآلن ،وأنا أس���ترجع صباح ذل���ك اليوم من ذاكرت���ي ،أؤلّف أتذكره هو حالة تش���به أتذك���ر .م���ا ّ وال ّ الذه���ول ..والحقيقة أني ال أجد لها حتى اليوم اللفظ المالئم أو الدقيق.
أتذكر كيف «سقطت» أحتار اليوم وال ّ يدي .كنت في رواية «مولن الكبير» بين ّ الثانية عشرة .أعرف ذلك الرتباط عمري آنذاك بصفّي ،وببدء اهتزاز خالياي مع تمر بالعالم الصغير .لم تكن كل نس���مة ّ الرواية تلك من الكتب المصنّفة للتكميلي الثاني. ال أعرف من أين أتيت بها؟ ال يعني هذا أنها كانت محظ���ورة علينا .فقط لم تكن ّ الص���ف التكميلي الثاني مخصصات في ّ من المكتبة المدرسية .لم يكن في الكتاب األحم���ر الزوايا ما يمن���ع وصولي إليه بس���هولة .لم يكن من النوع الذي تسعى المتم���ردات على الزمي�ل�ات الجريئات، ّ أعتاب المراهقة ،إلى سرقته والمفاخرة بقراءته ..ذلك أيض ًا ألني لم أكن جريئة متمردة في ش���يء .كنت ش���ديدة الميل ّ ال بأن ينس���اني إلى الطاعة واالمتثال أم ً كل اآلخرين. اآلخرونّ ..
هك���ذا رحت اقرأ «مول���ن الكبير» دون تحسب أو ارتياب من أخطار ما. حذر أو ّ
مرة إلى ق���راءة «مولن وأن���ا لم أع���د ّ الكبي���ر» رغ���م أن���ي اش���تريت الكت���اب مرات عدي���دة .أضع النس���خة في مكان ّ بائ���ن وأقول س���أعود يوم ًا إل���ى قراءة ه���ذه الرواية ،وال أفعل..ثم أنس���اها أو أضيعه���ا .لكن���ي ،وأنا أس���ترجع ليلة ّ أسترد إحساسي، القراءة اليتيمة تلك، ّ طازج ًا كامالً ،في فج���ر يبدو اليوم كأن وأخمن أنه كان - عما س���بقه. ّ مقطوع��� ًا ّ بشكل ما -عتبة خروجي من العمر الطفل إلى غير رجعة. بالتعط���ل. كان إحساس��� ًا فيزيائي��� ًا ّ يشبه الخوف ،أو الذهول.لم يكن صدمة إعج���اب ،ال حزن ًا وال فرح���اً .أقرب إلى السقوط فجأة في مكان شديد الغرابة .أو كمن ينتقل م���ن مكانه إلى مكان مجهول دون سفر ،دون أن يرى الطريق ودون يتفرج على أن يتفقّد عقارب الس���اعة أو ّ المحطات .هكذا -أيض ًا -يصبح المكان ّ األول ،ب���دوره مكان��� ًا ضائع���اً ،يبعث الحاد التوجس وعل���ى الش���عور عل���ى ّ ّ بالوحشة ..وعلى فقدان مفاتيح اإلدراك السابقة. لم أعد إل���ى قراءة «مولن الكبير» ولم أش���اهد الفيلم المأخوذ عن الرواية رغم كل ما قرأت عن نجاحه في «نقل الرواية بإب���داع أكي���د» .نس���يت تمام��� ًا تفاصيل مرة واحدة الحكاية وحبكتها الس���رديةّ .
فتأكدت أع���دت ق���راءة الجملة األخي���رة ّ نهائي��� ًا أني ال أريد قراءة ه���ذه الرواية. (وال أقول إعادة قراءتها). ربما ألني ال أريد كس���ر ذلك السحر، ربما ألني أخاف على «مولن الكبير» من القارئة اللئيمة الت���ي صرت إليها ،وأنا محدودي���ة «عبقرية» هذه أتوجس م���ن ّ ّ الرواية...وربم���ا ألن���ي أح���ب كثيرًا أن أحتفظ في قلبي بتل���ك الفتاة المريضة من القراءة ذات ليلة لم تنم فيها. الليال���ي الت���ي ق���رأت فيها ول���م أنم هزتني تكررت في ما بعد كثيراً .قراءات ّ ّ وغيرت وعيي لنفس���ي وللعالم، ا عميق ً ّ مثل «الغريب» ومثل «الس���اعة الخامسة والعشرون» ومثل «خان الخليلي» ومثل «األي���ام» ومثل «الرحل «هامل���ت» ومثل ّ الب�ل�ا صفات» ومثل «أحد عش���ر كوكباً» ومثل «أفول األصنام» و...الكثير غيرها. لكن���ي كنت دوم ًا أعود إل���ى هذه الكتب، أش���رع لها أبواب روحي وعقلي بقابلية ّ وشهية من يس���تدعي النعمة..ثم برغبة ّ المريد ،ثم بأن���اة وبحث التلميذ ّ���ي وتأن ُ عن مكامن الجمال وأسرار صنعة اإلبداع العجيب���ة ...إ ّال «مولن الكبير» .لن أعود إليها وسأحافظ بإصرار على نسيان ما في داخل دفّتيه���ا .ذلك أن ما أحتفظ به من هذه الرواية هو ما يلزمني. أوغس���تان مولن الذي -في السابعة عش���رة -ويكبرن���ي بخمس���ة أع���وام س���يصطحبني كم���ا يفع���ل دائم��� ًا ف���ي متاهات���ه ،ف���ي غبش المس���اء الخريفي الب���ارد ،إلى التيهان ف���ي غابات موحلة سنستمر في وفي أسرار وخيبات ،حيث ّ بحثنا عن البيت الجمي���ل الذي لن نجده رغم أنن���ا دخلناه وس���معنا في���ه عزف ًا ال لن ننساه.. جمي ً
يمر مرة أجلس إلى الكتابة ّ وف���ي كل ّ يدق خفيف ًا «مولن» على مقربة .وأحيان ًا ّ برؤؤس األصابع على زجاج نافذتي .ثم يغيب كالعادة .كعادته دائماً .يختفي... ه���ل كان تأثير ه���ذه الرواية دافعاً، مفتاح ًا للكتابة؟
األرجح أنها كانت المفتاح الذي أقفل كل األبواب األخرى. 87
لع���ل الكت���اب األول في حياة الكات���ب مثل الحب األول ف���ي حياة أي إنس���ان ،واألولوية هنا ال تقاس بالس���بق الزمني ،ب���ل بحجم التأثير، س���واء في نفس الكاتب أو وجدان المحب .ومن ثم أرى أن رواية «آسيا» للكاتب الروسي «إيفان تورجينيف» هي الكتاب األول عاصف التأثير في حياتي كقارئ صار كاتباً ،وكما أن للحب األول عند العشاق غالب ًا حكاية استثنائية ،فإن لهذا الكتاب عندي حكاية استثنائية.
تمام ًا كالحب األول ! حممد املخزجني -القاهرة كنت في الص���ف الثالث اإلعدادي ،في عمر الخامسة عشرة إال قليالً ،ومنذ وقت أبكر من ذلك كنت ول���دًا «من طبعتين»، طبعة وديعة ومتأملة يمثلها صبي هادئ صم���وت يقرأ قصص المكتب���ة الخضراء طوي�ل�ا على ش���اطئ ويح���ب التمش���ي ً
نيل المنصورة الجميل ،ينس���ج قصص ًا للحب والترحال يعيش���ها بخياله ،وولد ِجنِّي ،يخرج من القمق���م بعد عودته من المدرسة ،ليش���تعل في الشوارع ،عراك ورك���ض وعبث وضحك ومشاكس���ات ال تنتهي حتى يهبط اللي���ل .والتحاق ًا بهذه
الطبعة الجنية كان الفتى الرياضي بطل المحافظة في الجمباز. في فاص���ل من فواص���ل الولد الجني كنت في القاهرة أش���ارك في منافس���ات المقام���ة على أرض بطول���ة الجمهورية ُ نادي الجزيرة ،أو مركز شباب الجزيرة، ال أتذكر بالضبط ،ألنني بتحريض ِجنِّي س���حبت فري���ق محافظتن���ا وجعلت عدة فرق أخرى تلحق بنا ،عندما لمحت سرب ًا من بنات رائع���ات الجمال يمتطين رهط ًا م���ن الخيول البديع���ة ،ويتهادين بها في مضمار قريب ،وهذا ال يمكن أن يكون إال في نادي الجزيرة ،آنذاك! كادت المباري���ات تتوقف عندما الحظ المش���رفون على البطول���ة حالة النزوح الجماعي هذه م���ن المالعب ،وراح مذيع المباري���ات يص���رخ منادي��� ًا الالعبين أن يعودوا وإال تم ش���طبهم م���ن البطولة، ولم يش���طبونا على أية ح���ال ،فقد عدنا سريعاً ،ألن س���رب الفارسات الجميالت روعه���ن الظهور المباغ���ت الصاخب لنا، فأطلقن العنان لخيولهن مبتعدات. كن���ا نع���ود م���ن مباري���ات البطولة ق���رب الغ���روب ،وكان���ت «اللوكان���دة» التي ُينزلوننا به���ا في منطقة «العتبة»، - Henri Matisseفرنسا
88
وهن���اك ح���دث أن الولد الجن���ي تنحى تكشف لي كنز للكتب للولد الحالم ،حيث َّ زهيدة األسعار على «س���ور األزبكية»، وجذبني مجلد عنوانه «آس���يا ،وجداول الربي���ع» تبينت أنه روايت���ان عن الحب لكات���ب روس���ي اس���مه تورجيني���ف، عبارات���ه مرفرفة بأجنحة حب ش���فافة، وح���وار المحبين فيه يذوب حنان ًا ورقة. وأتذكر أنني اشتريت هذا المجلد بـ «تالتة تعريفه» ،أي قرش ونصف ! في أماس���ي البطوالت ،يتوجب على الالعبي���ن أن ينام���وا مبك���رًا حتى يكون تركيزه���م ولياقته���م ف���ي ال���ذروة عند األداء ف���ي النهارات التالي���ة ،لكنني في ذلك المس���اء وجدتني مشتبك ًا مع رواية «آسيا» ،وتسللت من غرف الالعبين في الظالم بعيدًا عن عيني المدرب ومشرفي الفريق ،وانتحيت ركن��� ًا قصي ًا لم يطفئ أن���واره ف���ي اللوكاندة قبع���ت فيه ،ولم أنهض منه إال ق���رب الفجر بعد الوصول إلى خاتم���ة الرواية التي عصفت بكياني الطالع ،وما أن اندسس���ت تحت األغطية حتى انفجرت في بكاء كنت أكتم نشيجه بمش���قة بالغة ،فقد كان بكاء حرقة قلب غض على ح���ب بديع ضيعت���ه كلمة لم يقلها المحب لمحبوبت���ه ،وكانت الجملة الختامي���ة في ه���ذه الرواية على لس���ان المحب المهجور كاوي���ة تماماً ،فالحبيبة س���افرت مجروحة منه ،ول���م يفلح في العث���ور عليها برغ���م محاوالته المضنية للح���اق بها ،لم يع���د يراه���ا وال يعرف حتى إن كانت عل���ى قيد الحياة ،وكل ما بقي منها قصاص���ة ورق بخطها وزهرة جيرانيوم ظلت تفوح بش���ذى خفيف .أما الجملة الختامية على ما أذكر فقد ش���قت قلبي آنذاك ،إذ يتس���اءل الكاتب الراوي عن يد الحبيبة الت���ي أهدته الزهرة ،أين تكون« ،من يدري ،لعلها حفنة تراب في زاوية من قبر مهج���ور»! فبكيتها بالدمع الثخين الكتيم حتى الصباح ! لق���د وقعت في هوى تورجينيف بتلك البداية ،وف���ي المباريات وقعت في خطأ جس���يم بس���بب قلة التركيز وأرق الليلة العاصفة ،فمذي���ع البطولة وقد الحظني عل���ى جهاز «الحلق» ممش���وق ًا في حركة
«باالنس باالنش» ،أي وقوف على اليدين الممس���كتين بالحلقتين بأذرع مفتوحة، حت���ى أذاع ف���ي حم���اس« :أنا ش���ايف الع���ب ممتاز من إس���كندرية في باالنس باالنش عل���ى الحلق» وما أن نطق بذلك حتى اندفع زمالئي الخمس���ة في الفريق يصرخون في نف���س واحد «المنصورة.. المنصورة» ،ولعلي كنت أريد أن أنتصر لمدينتي مثلهم ،فبد ًال من النزول البطيء من ه���ذه الحرك���ة الثابتة ،نزل���ت نزو ًال ِجنِّي ًا س���ريع ًا في «جراند س���يركل» ،أي دورة هوائية واس���عة ،وكان أن انفلتت الحلقتان من قبضتي ،وطرت في الهواء، وسقطت على رأسي في رمال «الفرشة» عل���ى األرض فلم تنكس���ر رقبت���ي ،وإن طارت مني البطولة .لكنني مكثت أحلق في أجواء تورجينيف حتى سنوات قليلة خلت. ق���رأت لتورجيني���ف :الح���ب األول، وأبناء وبنون ،ورودين ،وبيت النبالء، ومكثت أتعقب كتاباته وسيرته على مدى سنوات امتدت عمرًا من القراءة كان األدب الروس���ي في مركزها بفضل هذا الكتاب األول لتورجينيف .كان���ت كتابته متينة السبك والحبكات وذات نفس رومانسي قوي ،جياش���ة العاطف���ة برغم واقعيتها دقيق���ة التقصي ،وصار كل هذا نبراس��� ًا لي وطموح ًا في الكتابة ،وبرغم انتقالي مع الوقت من هذا المربع إلى مس���احات مختلفة ومفتوحة ومغاي���رة فيما أظن، إال أن عب���ق كتاب���ة تورجينيف لم يغادر ذائقتي ،ليس بمعنى المحاكاة المتوهمة أو المزعوم���ة ،فالكاتب الناش���ئ عندما يق���رأ كاتب ًا كبي���رًا ال يك���رره ،بل يتخذه أداة س���حرية ليفت���ح بها نواف���ذ روحه ه���و ،ليطل���ق عصافير روح���ه هو ،في س���ماء اإلبداع ،ومن هنا يحدث التشابه الملتبس ،إلى أن ينتحي الكاتب الش���اب ويأخذ اتجاه ًا واضح��� ًا لغصنه الخاص نح���و شمس���ه الخاصة فيواص���ل النمو واإلثمار. لقد مكثت أتيه بتورجينيف حتى ثالث س���نوات مضت ،خاصة وقد اكتشفت أن جنونه في الحب على أرض الواقع يشفع ٍ مماثل كان عن���دي ،فتورجينيف لجنون ٍ
كان مفتون ًا بمحبوبة لم تكن له ،تزوجت وهاجرت إل���ى باريس ،فهجر حياته في روس���يا ومضى ف���ي أثرها ،س���كن في البناية التي تس���كن فيه���ا ،وكان ال يريد أي ش���يء منها ،وال حتى كلمة ،فقد كان يكفيه أن يحس بها قريبة منه ،وأن يراها صدفة بين الحين والحين ،وال أكثر ! ظل تورجينيف عندي أيقونة الكتابة الكالسيكية العالمية ،خاصة وقد تابعت كتاب���ات نقدي���ة تثبت أس���تاذيته لكّتاب فرنس���يين كبار تأثروا ب���ه أثناء وجوده في باري���س التي ع���اش فيها س���نواته األخيرة حتى رحيله ،منهم فلوبير وزوال وموباس���ان .لك���ن مع قراءت���ي الجديدة لدوستويفس���كي الت���ي ش���ملت س���يرة حياته وس���يرة كتاباته ،وجدتني أرفع أيقونة تورجينيف لتحل بمكانها أيقونة دوستويفس���كي ،فق���د كان���ا نموذجين مفترقين في الصميم ،فتورجينيف يمثل أرستقراطية الكتابة بترف الحياة وتأنق النث���ر والتحليق الس���ابح فوق س���طح الذوات البش���رية ،بينما دوستويفسكي يعبر ع���ن الكدح النفس���ي والروحي في كتابة أعمق وحياة أش���ق وغوص بعيد ف���ي أعماق ظلم���ات األرواح اإلنس���انية المتحرق���ة ش���وق ًا لبصي���ص م���ن النور يواسي عذاباتها ،ولم يكن هذا كله يتيح لدوستويفس���كي أناة الصياغة المتأنقة وال إحكام البناء الروائي ،ومع ذلك أراه األعظم ! أتحيز لعظم���ة دوستويفس���كي اآلن في ق���راءة ش���املة جدي���دة بدأته���ا منذ س���نتين ،بعد خبرة الس���نين والمعرفة المهنية بش���يء من عل���م النفس والطب النفسي التي أرى أن دوستويفسكي كان رائدًا فيها ،ومكتش���ف ًا ألغوار سحيقة لم يس���بر غرائبها أحد مثله وال قبله ،وهذا يجعلني ،بصراحة انقالبية ،أخجل حالي ًا من رومانسية تورجينيف األرستقراطية المتأنق���ة ،وإن كنت أدين له بالفضل في حب الكتاب���ة الجميلة حيثم���ا كانت ،ثم االنتقال إلى االنش���داه بالكتابة الرهيبة عن���د دوستويفس���كي ،وإن ظلت لرواية تورجينيف «آسيا» مكانة الكتاب األول، كما الحب األول :قوة الذكرى ! 89
القراءة في الستينيات طارق الطيب -ڤيينا
- Jean Baptisteفرنسا
90
ال أتذكر متى بدأت القراءة ،لعلي كنت في الخامسة حين أرسلني والدي قبل منتصف الستينيات إلى ُكَتّاب الشيخ علي في عين شمس بالقاهرة. لم يكن في ذاك الوقت أي حضانات مما لألطفال في حّينا أو أي «كي جي» ّ يوجد اآلن .كانت خلفية المسجد في الدور الثاني حيث تصلي النساء هي ُكَتّابنا اليومي. وأتذكر جيدًا حين كان يأتي والدي للبيت حام ً ال معه الجرائد المصرية اليومية :األهرام أو األخبار أو الجمهورية ،ونادرًا ما يأتي بجريدة المساء ،إضافة إلى المجالت األسبوعية والمصور وصباح مثل روز اليوسف ّ الخير وآخر ساعة ،أو الشهرية كالعربي أو منبر اإلسالم .يخلع مالبسه ويستلقي على السرير فاتح ًا الجريدة قارئ ًا إياها بامتداد ذراعيه العمالقتين في انتظار غداء «العصرية» المتأخر .كنت أرمي نفسي إلى جواره مقلدًا شكله وطريقته ،محاو ًال أن أفتح الجريدة ،الجريدة المصرية أيام الستينيات بحجمها الكبير ،فال أستطيع .أجاهد وأثني الجريدة على صفحة واحدة فأستطيع ،ثم أبدأ في تقليده في القراءة بتحريك وجهي من اليمين لليسار ،مزايدًا عليه بإخراج أصوات غريبة كأنها نطق للمكتوب. كان يضحك فأضحك معه حتى ننام لتوقظنا أمي مخرجة إيانا من بين صفحات الجرائد التي تغطينا حتى نجتمع للغداء. ِم الحروف قبل الدخول للكتاب كنت ألّ وُألِم بها بصعوبة ،لكني تمكنت من معرفة رسم اسمي ورسم اسم أبي، وألن أبي كان قد جمع الروايات وجلّدها في مجموعات ورقّمها بتسلسل ،اعتقدت جازم ًا أن أبي كاتب وأنه صاحب كل هذا الكم من الكتب .لم أكن أعرف أنه على ّ غالف كل كتاب توجد أسماء كتّابها. اكتفيت باالسم الموجود على كعب كل مجلد بحروف ذهبية جميلة وأقنعت نفسي بأن أبي هو صاحب وكاتب كل
هذه المؤلفات بكل تأكيد ،وعشت على أمل وأمنية أن أصير مثله يوم ًا من األيام ،بكتب مجلّدة ممهورة باسمي: طارق الطيب. في السابعة كنت أجدت القراءة وأتذكر أنني أمسكت أحد هذه المجلدات واخترت رواية من بينها ،ال أتذكر تماماً ،ربما كانت «شجرة اللبالب» لمحمد عبد الحليم عبد اهلل .ظللت ما يقارب األسابيع الثالثة أنحت في قراءة هذا الكتاب -الضخم على عمري -نهارًا وليالً ،حتى أنهيته .كنت سعيدًا سعادة ال حدود لها أن أنهي رواية كاملة ،فهذا فعل ال يفعله إال الكبار .وقتها لم أفهم ّ وتعطلت مخّيلتي عن شيئ ًا من الرواية علي واستغلق الجمل فهم الكثير من َّ الوصف ،لكنني تابعت للنهاية في مارثون القراءة الذي نويته وأنجزت قراءة أول كتاب ضخم للغاية ،ربما مائتي صفحة« :يا للهول!» .ماذا كانت تحكي الرواية وما أحداثها ،لم يهمني. كل ما أهمني هو معرفة اسم كاتبها وعنوانها وعدد صفحاتها ،ألتحدث أمام أبي عن هذا اإلنجاز غير المسبوق. الجدير بالذكر أنه في فترة الخمسينيات والستينيات كان جهاز التليفزيون شيئ ًا نادرًا ولم يدخل بيتنا إال وأنا -تقريباً -عند العاشرة أو الثانية عشرة ،وهذا ما جعل مجال القراءة لي متاح ًا لوقت أطول .دخولي للمدرسة متأخرًا لعام كامل ألسباب تتعلق لكتّاب بالميالد جعلني أعود صاغرًا ُ الشيخ علي وأعيد قراءة قصار السور وحفظ سور جديدة وتالوتها ،فأصبحت القراءة لي يسيرة جًّدا والكتابة أيضاً، لذا صارت المدرسة االبتدائية في سنتها األولى ُمّملة للغاية .في اليوم األول للمدرسة قرأت كتاب المطالعة كام ً ال بعد أن استلمته من المدرسة .ثم قرأت كل قصص الناشئة التي كانت موجودة في ذلك الحين .كنت أتبادلها مع أقراني بسرعة خيالية وأحاول أن أتبادل مع أختي عزة األكبر مني بسنتين وأستسمحها أن تستبدل قصتها مع
كنت سعيد ًا سعادة ال حدود لها حين أنهي رواية كاملة، فهذا فعل ال يفعله إال الكبار قريناتها ألقرأ أنا .كنت أحب القصص الكتّاب لم تكن هناك المصورة ،ففي ُ َّ «سور» ،وكان الشرح فقط بل «صور» َ مهما فيما بالفعل تصويرًّيا وخلق خيا ًال ًّ بعد ،لكن الترهيب كان شديدًا وحزمة األخالق التي نبتلعها يومًّيا كانت أكثر ثق ً ال على أعمارنا الصغيرة. في المدرسة االبتدائية أعجبني في كتاب القراءة والمطالعة الصور الموجودة فيه ،على الرغم من محتواه الذي بدا لي ضعيفاً ،لم تهمني هذه السطور البسيطة جًّدا( :عادل وسعاد في الحديقة -عادل يزرع الفول- سعاد تسقى الورد) .كنت قد تعلمت كلمات أهم وجم ً ال أصعب وأستطيع شرحها ،وسورًا أجمل أحب أن أشرحها اه «وَق َضى َرُّب َك َأ َّال َت ْعُبُدوْا ِإ َّال ِإَّي ُ مثلَ : ند َك ْوالَ ِدْي ِن ِإ ْح َسان ًا ِإَّما َيْبُل َغَّن ِع َ َوِبال َ َ َ ِ الِ ّهَمآ ل ل ق ت ال ف ا م ه ال ك و أ ا م ه د ح أ َ ْكَبَر َ ُ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ ُ َ ُ ُأ ٍّ ّهَما َق ْو ًال َكِريماً. ف َو َال َتْنَهْر ُهَما َوُقل َلُ اخف ْ الر ْحَمِة َو ْ اح الُذِّ ّل ِم َن َّ ِض َلُهَما َجَن َ ص ِغيرًا». َوُقل َّر ِّب ْار َحْمُهَما َكَما َرَّبَيانِي َ فيما بعد كان أبي يأتي بمجلة العربي وبها ملحق منفصل اسمه «العربي الصغير» شغفت به .كنت أنتظر صدور العدد بفارغ الصبر ألقرأ العربي الصغير وأتصفح العربي «الكبير» مشاهدًا الصور الملونة المصقولة الموجودة به وقراءة القليل ألكون مع الكبار. مرة طلبت من والدي أن يأتي لي بمجلتي «سمير» و«ميكي» األسبوعيتين لألطفال .وعدني بذلك في مقابل أن أنتظم في الصالة .وافقت وكنت أصلي بالفعل .كنت أضاعف
الصلوات حين أراه صاعدًا للبيت ،أهرع وأفرش السجادة فورًا في مكان مرئي له وأنكب في صالة مظهرية جهورية ألبي الداخل فورًا للبيت .تمام ًا مثلما تعودت حين يدخل أبي بحلويات أو بفاكهتي المحببة ،أن أتوقف فورًا عن األكل بكلمة زاعقة« :الحمد هلل!» ،حتى أسرت أمي ألبي لو كنا في بداية األكلَّ . أن يخفي الحلويات أو الفاكهة مستقب ً ال حين يدخل حتى أتم طعامي ،لكن هيهات ،أنفي المدرب كان يساعدني على النطق الفوري السريع بـ «الحمد هلل!» ،وانتظار ملهوف مني حتى تتنهي العائلة من أكلها البطيء ألستمتع بالحلو والفاكهة. أحببت حصة القراءة والمطالعة في السنوات التالية في المدرسة ،بسبب تدريبي المبكر على القراءة وبفضل مساعدة جارنا في الدور الثاني، الدكتور عبد الغفار إبراهيم عميد كلية الحقوق فرع الخرطوم فيما بعد ،الذي تعهدني بشرح الكثير من قواعد اللغة والنحو واالستماع لي في القراءة. كانت موضوعات التعبير واإلنشاء من أجمل ما أحب في المدرسة االبتدائية، خصوص ًا أن أكتب في موضوع بنفسي أنا مؤلفه بالكامل. أعتقد أننا كنا نقرأ كثيرًا في ذاك الزمن ،زمن الستينيات .كانت حوارات الكبار في صالونات البيوت تتناول موضوعات أكثر ثقافة .الرجال كانوا يحكون عادة في السياسة الداخلية وموضوعات عربية مصيرية مثل موضوع فلسطين وحرب اليمن ويعرجون على أحداث عالمية .كانوا يقرؤون جميع ًا ويتواصلون باألحاديث عما قرؤوا .كنت أسمع وال أفهم كثيرًا ّ سوى الرئيس جمال عبد الناصر. موضوعات النساء في هذه الفترة كانت أكثر تشويقاً .قضيت طفولة سعيدة بين الموضوعات الخشنة شكل والموضوعات الناعمة كالهما ّ وجداني ومصيري. 91
بكيت حتى قرأت!
عبد العزيز اخلاطر -قطر
بكيت كما بكى جيلي نكسة حزيران/ يونيو ،67عندها لم أكن أتجاوز الثانية عشرة من عمري ،شكلت لي تلك المرحلة وعي ًا جديدًا بأهمية القراءة على المذياع ،قبل هذه النكسة وأحيان ًا تسمى النكبة إيماء لفداحتها على األمة، وكان المذياع هو مصدر التلقين الرئيسي وبالذات «صوت العرب» و«أحمد سعيد ومن بعده محمد عروق» الذي أصبح فيما بعد مديرًا لها .كما كانت برامج مثل «أكاذيب تكشفها حقائق» ونداء االفتتاح الصباحي لكل العرب المصاحب بأغنية «أمجاد يا عرب أمجاد» لكارم محمود هي زادي الثقافي اليومي .كان المد القومي أوجه وكان خليجنا العربي الناصري في ّ الهادي يتلقى اإلشارات من قلب األمة العربية في القاهرة ،والعزف على لحن القومية وأمجادها كان جمي ً ال في تلك األيام ،في قطر لم نكن نشعر باالستعمار وال نحس بوطأته ،فلم يكن لبريطانيا سوى الشأن الخارجي ،ولكن استطاع المد القومي يومها دمج المشاعر العربية بعضها ببعض حتى كنا نتظاهر من أجل الجزائر وننادي بعروبة «األحواز» على الشاطئ المقابل في خليجنا العربي .كان صوت الزعيم عبدالناصر هو ثقافتنا
92
ومصدر إلهامنا وتطلعاتنا للمستقبل. هذا هو النسق الثقافي السائد والذي عايشته في شبابي األول «ثقافة الصوت الوطني» .ال أستطيع هنا أن أعيب تلك الثقافة اليوم وال ملكة الفكر لدى جيلي في تلك األيام ،فالعصر له خطابه وكانت تلك الثقافة خطاب ذلك العصر وتصور الحكمة عند النظر للماضي من بعيد تصور ساذج ألنه طبيعي وفي سياق الطبيعة اإلنسانية .بعد النكسة اختلف الوضع بالنسبة لي ،فبقدر ما هي نكسة على األمة كانت باإلضافة إلى ذلك صدمة بالنسبة لي ،لم أعد أثق بالمذياع والبالمذيع والباإلذاعات العربية .من هنا بدا لي خيط آخر هو خيط القراءة والبحث في الورق عن الحقائق .كان أخي األكبر «خالد»()1 يأتي بصحف من المملكة العربية السعودية التي كانت على ما أظن توزع مجان ًا في قطر مثل صحيفتي «الندوة» و«البالد» ،لم تكونا صحيفتي رأي ،بل كانتا عبارة عن صور وأخبار للنظام السعودي حينذاك أيام المغفور له الملك «فيصل» ،ولكن أخي بعد ذلك أحدث تطورًا نوعي ًا في مطالعاته عندما أحضر كتاب ًا ألحمد الشقيري رئيس منظمة
التحرير الفلسطينية األسبق واسمه «حوار وأسرار مع الملوك والرؤساء العرب» ،وهو من عدة أجزاء أذكر أنني قرأته كله بأجزائه الثالثة على ما أعتقد ،ثم أطلعني على كتاب آخر اسمه «اإلسالم في وجه الزحف األحمر» وثالث بعنوان «من هنا نعلم» وهما للشيخ محمد الغزالي رحمه اهلل. بعد تلك الفترة حصل تحول نوعي في ذهني ،لم أعد ببساطة المتلقي الصافي الذهن ،بل بذهنية التأجيل حتى يتبين األمر ،أو الشك اإليجابي إذا أمكن التصور .وأذكر أنني كنت أشتري مجلة تصدر من الكويت اسمها على ما أذكر «صوت الخليج» ومحررها على ما أذكر يسمى «باقر خريبط» على األقل أنا متأكد من االسم الثاني وهي أسبوعية، كانت تنشر صورًا لنكسة العرب الكبرى في حينه ولكن بصور مقلوبة ومعنونة بالتالي «هذا ما فعلنا بإسرائيل» وهي مجموعة صور للدمار الذي أصيبت به إسرائيل وهو ال يذكر بما ألحقته بنا. لدي جعل من ردة الفعل الوعي بالقراءة ّ عندي بطيئة وليست فورية كما كانت أيام االعتماد على المذياع ونبرة الصوت .بعد ذلك كنت حريص ًا على إقتناء الصحف المصرية «آخر ساعة» و«المصور» بشكل أسبوعي ،ولم يكن هناك بٌد من نقد الذات والبحث في أسباب الهزيمة، فكنت قارئ ًا نهم ًا لصحوة الشارع المصري من إغواء اإلعالم الزائف ،وكنت متابع ًا لمحاكمة المشير عامر حتى انتحاره أو مقتله ،كم يشار إليه بعد ذلك ،وكنت محايثا لعودة عبد الناصر ولكن بأقل كارزماتية في النفس من ذي قبل مع كل الحب ،ولكن موضوعية القراءة جعلت مني َأميل إلى التصور مني إلى حماسة الخطاب وعاطفيته .لم تكن الدوحة ساعتئذ قبلة للصحافة وال لدور النشر، اللهم سوى عدة مجالت مصرية ولبنانية أذكر منها الحوادث وكويتية وبعض الصحف العربية اليومية التي تصل متأخرة وتفقد بالتالي قيمتها الخبرية، وعيت كذلك من خالل القراءة بوجود ما يسمى معارضة ،وبالخالف السعودي -
إيمان مالكي -إيران
المصري قبل األزمة وأسبابه ،كل هذه األمور لم تكن واضحة لي قبل القراءة بالشكل الموضوعي ،كان خطاب ًا واحدًا موجه ًا نحو مواطن عاطفي أسرته الكاريزما وملك الحلم العربي كل جوانحه .بعد تلك الفترة رجعت أبحث عن كتب قديمة كان لها تأثير لم نشعر به نحن هنا في هذه المنطقة ساعتها مثل كتاب «معالم على الطريق» لسيد قطب. علمتني النكسة أن ال أقرأ باتجاه واحد وال أتخذ موقف ًا من خالل كتاب واحد وال حتى من كتابين ،لم أطلع على لدي الرأي من اآلخر المخالف ليتكون ّ وضوح الطرفين والحجتين ،علمتني
النكسة أن أقرأ مجتمعي قراءة نقدية لذا درست علم االجتماع ،علمتني النكسة أن أقرأ األسباب ال النتائج ،علمتني القراءة كذلك أال أحكم على األمور دائم ًا بالصح أو بالخطأ ،علمتني القراءة أن هناك حكم ًا آخر هو الحكم االجتهادي الذي يؤخذ فردي ًا كاجتهاد فال نتقاتل واألمر ال يتعدى كونه اجتهادًا .بعدها أصبت بداء القراءة فكنت أقرأ حتى صفحة الوفيات واألفراح والمفقودين وأن أبدأ بالصفحة األخيره قبل األولى إليماني بأن األمور بخواتيمها .قرأت ما كان ممنوع ًا في مدارسنا ساعتئذ مثل النظرية الماركسية ووجدت لو أنها ُتركت لتقرأ لقل وربما
اختفى بريقها .ماذا بعد ..هل أشكر النكسة التي جعلت مني قارئ ًا ومن ثم كاتب ًا وهل كان بكائي حينها بداية لمرحلة من الوعي الجديد بالرغم مما فيه من لوعة وألم .تعلمت أن أحترم التاريخ وشخوصه وأن أحكم عليه بظروفه .لقد كانت فترة مصيرية بالنسبة لي على الرغم من تكلفتها الكبيرة على األمة فلذلك أنني ما أزال أعيش وخز الضمير الذي ربط تحول حياتي بجرح األمة الكبير إال أن التاريخ درس لمن يستلهمه في أي ساعة وتحت أي ظرف. :1أخي خالد :نائب رئيس مجلس الشورى السابق
93
ما تبقى
من الدار الكبيرة احلبيب ال�سائح -اجلزائر
أق���ّدر أن كل َمن ج���اءت بهم أقدارهم ووا ،في مراهقتهم إلى الكتابة األدبية َغ ْ خاص���ة ،تعلقوا بأكثر من كتاب قرأوه ف���ي مكتب���ة المدرس���ة اإلكمالي���ة أو الثانوية. أو أعارتهم إياه مكتبة عمومية وتلك كانت حالي مع «البؤساء» بترجمة منير البعلبكي ،قبل أن أشتريه بعد سنين من ذلك ،أو حصلوا عليه من صديق أو من أس���تاذ ،أو سرقوه من مكتبة تجارية، أو اقتنوه من عل���ى رصيف أو من عند بائع كتب مستعملة ،أو أشير عليهم به من جهة تنظيمية أو من شخص تابع لها إلي يوم قدم لي كما كان الشأن بالنسبة ّ أحد األساتذة العراقيين من المتعاونين أعده أهم التقنيين ،وكان شيوعياً ،ما ُ كتاب نقلني إلى قلب الثورة البلشفية، إنه «عشرة أيام هزت العالم». َفِلطريق���ة كتابت���ه المتأرجح���ة بين السرد الصحافي وبين السرد الروائي، إلى حد التماه���ي بينهما فيتحوالن في ذهني ش���ريط ًا أشاهد وقائعه كما على درجة أن أتمثل نفسي بلغت الشاش���ة، َ ُ جون ريد نفس���ه الذي لم يكن فحس���ب
94
يحك���ي ،وعن بعد ،وقائ���ع تلك األيام التي حول���ت العالم إلى قطبين ،ولكنه يعيش���ها في تفاصيلها لينقلها بكلمات الكات���ب وكاميرا الس���ينمائي وريش���ة الفنان. ذل���ك م���ا أدهش���ني ،إنه أس���لوب التداخ���ل بين س���رد الوثيق���ة (مقاالت الصح���ف والمنش���ورات والمراس�ل�ات والصور) وبين سرد الشاهد اليومياتي الذي ينتهي إلى األدبية. وبرغ���م أن الكت���اب ظ���ل خ���ارج التجنيس الروائي فإنه يكفي أن ُتحذف منه المقدم���ات متنه والمؤخرات ليظهر ْ َّ نص ًا أدبياً ،بامتياز! اآلن ،وعلى بعد مسافة تقدر بحوالي ق���رن من ذل���ك ،وفي ظل ه���ذا الحراك الذي يعرفه العالم العربي من الماء إلى ٍ بأم���ل :أيمكن للعبقرية الماء ،أتس���اءل العربي���ة أن تبرهن أن لها من األفذاذ من يحفرون في رخام���ة تاريخنا المعاصر ه���ذا التحول بكلمات س���تقرأها األجيال القادمة بانبهار وإكبار؟ لعل «عشرة أيام هزت العالم» وفيلم المدمرة «بوتامكين» لمخرجه سيرغاي
أنشتاين ،والحق ًا رواية «األم» لمكسيم مجتمعة ،كانت القبس���ات غوركي ،هي ً األولى التي س���تزرع ف���ي داخلي الحلم بأن أكت���ب يوم��� ًا عن فالح���ي الجزائر وعمالها وكان مشروع الخيار االشتراكي قد ب���دأ تنفيذه ف���ي س���بعينيات القرن الماض���ي ـ ونظرًا إل���ى العالقة الوثيقة ج���دًا بي���ن الرواية وبين الس���ينما فإنه ال ب���د من القول إن تأثير الس���ينما على جيلي (الجيل الثان���ي من كتاب الرواية بالعربي���ة في الجزائ���ر) كان له وقع ال يختل���ف عن الرواية ،بل كان أحد روافد ذلك التأثير في مسار التجربة كله. َخ َصص���ت بالذك���ر كتاب ج���ون ريد وفيل���م «بوتامكي���ن» لتأثي���ر خطابهما الفكري والجمالي ،الذي سيتبلور عندي الحق��� ًا خي���ارًا أيديولوجياً ،س���تدعمه األدبيات الماركسية وكتابات الواقعية االش���تراكية .وس���تصبح «البؤساء»، الت���ي كانت من قب���ل أحد اكتش���افاتي لواق���ع الفقر والظلم االجتماعي والقمع والرذيل���ة والفضيلة في فرنس���ا القرن متجاوزة رواية التاسع عشر خاصة، ً َ إذ أقرأ ،من مكتبة جامعة وهران« ،الدار
- Henri Matisseفرنسا
الكبيرة» في نسختها األصلية. كان���ت ،بح���ق ،أول مفصل وأهمه، إلي في ثالثية محمد ديب ،قبل بالنسبة ّ أن أقرأه���ا في ترجمة رائعة لألس���تاذ الكبير س���امي الدروبي .فقد اكتش���فت فيه���ا ،أدبي��� ًا وفني���اً ،واق���ع التفقي���ر والتجويع والظلم والحرمان االجتماعي والثقافي وكل أنواع الميز والفصل التي كانت المؤسسة االستعمارية الفرنسية تمارسه ضد الجزائريين في المنتصف األول من القرن العشرين. فه���ي« ،الدار الكبيرة» ،التي كان لها عل���ي التأثير الس���حري لعبقرية لغتها ّ
الفرنسية كيف تصور ،خالف ًا للفرنسية األخ���رى ،مقاومة الجزائريين الصامتة على بعد خمس���ة عش���ر عام ًا من اندالع حرب التحرير! فش���خصيات مثل الطفل عمر ،الذي المأسوي يكون شاهدًا على ذلك الواقع َ فيعبر ألمه في نهاية الرواية ببس���مته ّ ع���ن أمل الخالص الذي س���يكون جيله هو من يحمل الس�ل�اح لتحقيقه .ومثل حميد السراج المعلم المثقف المناضل، أحد رموز الوعي الوطني .ومثل األم لال عيني في خوض تجربة نضالها الشاقة المختلف���ة ع���ن تجرب���ة «أم» غورك���ي
باعتباره���ا رم���ز الحفاظ عل���ى الهوية والنسيج األسري ،برغم حاالت اليأس التي كانت تبلغها تحت وطأة الفقر. «الدار الكبيرة» هي التي ستسكنني أجواؤه���ا أكثر من غيره���ا في الثالثية نفس���ها أو ف���ي م���ا قرأته م���ن حولها. وس���يكون لتلك األج���واء انبعاثات في قصصي القصيرة ،وفي بعض رواياتي امتدادات رفيعة الخيوط من بناء مكانها ٌ المغلق الفضاء المفتوح الدالالت. وكانت ه���ي إذًا بؤرة هاجس���ي في القي���م التاريخي���ة الت���ي ص���ار يمكن لكتابتي أن تحم���ل بعضها .ومن ثمة، ح���دث اإلغواء الذي تكون قد مارس���ته ال أني عل���ي ،دون أن أك���ون أدرك فع ً ّ ُم ْغوى بها. لذلك ،أعتبر أن هن���اك تضافرًا تم، بفعل تقاطعات «البؤس���اء» و«عش���رة أيام ه���زت العالم» و«األم» م���ع «الدار الكبي���رة» ،ألجد نفس���ي يوم��� ًا دخلت، تح���ت تأثي���ر ذل���ك كل���ه بالتأكيد ،في تجربة الكتابة األدبية التي س���يوجهها في البدء الوعي وااللتزام السياسيان. ث���م ،وبنض���وج التجرب���ة نفس���ها وتطورها وبتتالي االنكسارات النفسية واالنهيارات األيديولوجية ،وعليه هدم بن���اء القناعات المكرس���ة ،مع الحفاظ على ما يغ���ذي الروح بالس���خاء تجاه اإلنسان واإلنس���انية ،سيصبح بحثي عن الفض���اء الخاص واللغ���ة الجديدة واألس���لوب المميز ومغام���رة التجريب من بين أهم انش���غاالتي إلضافة لمسة خاصة إلى ش���كل الرواية التي يوم ًا ما أغوتني .فص���رت كأنما أن���ا ملزم بأن أقول ما كانت س���تقوله «الدار الكبيرة» في زمني ه���ذا ،بعد أكثر من س���بعين عاماً. ذلك مني أهم تعبير عن الوفاء لعهد بعض تل���ك الكتابة .وذلك م���ا يحاول ٌ م���ن كتابتي اليوم أن يح���اور به «الدار الكبي���رة» ،ألنها الرواي���ة التي يوم ًا ما أغوتني. 95
تعلم كيف تقرأ ثقافة القراءة وأولوية الكتاب
د� .صربي م�سلم-نيويورك
تب���دو تلك الكت���ب التي س���بق أن اطلع���ت عليها في مراح���ل مختلفة من حياتي مث���ل إضمامة ش���موع متأللئة أضاءت عالم���ي ،وكان لها األثر الكبير في مسيرة حياتي الخاصة .وأذكر جيدًا أن كتاب ًا اس���تعرته م���ن مكتبة إعدادية قضاء المس���يب التاب���ع لمحافظة بابل احتل مساحة مهمة من اهتمامي وأنا لم أكمل دراس���تي اإلعدادية بعد ،وعنوان ه���ذا الكتاب «كيف تق���رأ كتاباً؟» تأليف مورتايمر أدلر وجارل���س فان دورين. وقد احتفظت في تلك الفترة المبكرة من حياتي بملخص للكت���اب ،وكنت أعود بين حين وآخر لهذا الملخص فأفيد منه كثيراً. كان الكتاب مهتم ًا بالجانب التنظيري لفن القراءة والجان���ب اآلخر التطبيقي أيضاً ،السيما أنه يشير إشارة واضحة إلى أنك يمكن أن تت���درب على القراءة السريعة فتقرأ أربعة أضعاف ما تقرأه قبل التدريب على أن تستوعب ما تقرأه طبع���اً .ويذكر الكتاب نماذج لمش���اهير كانوا يقرأون في الدقيقة الواحدة ما يزيد على ست صفحات من القطع المتوسط 96
ويستوعبونها .وإذا كنت ممن يستطيع أن يقرأ صفحة واحدة بالدقيقة الواحدة فيمكنك إذن أن تزي���د قدرتك إلى أربع صفحات وربم���ا أكثر بالدقيقة الواحدة دون أن تفقد االس���تيعاب ،بمعنى أنك في األصل تستطيع أن تقرأ ما بين 220 250كلمة في الدقيقة الواحدة ،وبعدالتدريب يمكن أن تقرأ مع االس���تيعاب مابي���ن 1000 - 900كلمة في الدقيقة الواحدة .وقد جربت هذا بنفسي وتبين لي أنه صحيح تماماً. ومما أذك���ره أيض ًا أن ه���ذا الكتاب يؤكد على مس���ألة التركيز في القراءة، فقراءة ساعة واحدة مع التركيز تعادل ق���راءة عش���ر س���اعات ب���دون تركيز، بمعن���ى أن ال ينصرف اهتم���ام القارئ إلى س���وى الكت���اب الذي بي���ن يديه، فهو بؤرة اهتمامه ،وليس ثمة ش���يء آخر ينافس���ه .وإن كان بع���ض القراء ومع التدريب والممارسة يمكن أن يقرأ وينصرف تمام ًا إل���ى ما يقرأه دون أن يهمه الم���كان وإن كان يعج بالضجيج والضوضاء ،ف���ي حين يحرص بعض الق���راء عل���ى الهدوء الت���ام وربما على
طقوس معينة أثناء القراءة كالموسيقى الهادئة أو أكواب الش���اي والقهوة .مما يذكرنا بقول أب���ي الطيب المتنبي :لكل ام���رئ من دهره م���ا تع���ودا .وفي كل األح���وال يبرز دور الرغب���ة القوية في القراءة ،فهي التي تش���كل نقطة البدء، وهي مما يمكن أن يحفز القارئ نفس���ه عليها عن طريق تخيل ثمار النجاح. ومن البديه���ي أن الكتب تختلف من حيث طبيعة الم���ادة المقروءة ،فقراءة رواية على س���بيل المث���ال تختلف عن قراءة كتاب فلسفي أو تاريخي ،وتبدو الفج���وة أوس���ع حي���ن يك���ون الكتاب علمي��� ًا كأن يك���ون ف���ي البيولوجيا أو الجيولوجيا أو الرياضيات .إذن فنحن أمام أنماط مختلفة من الكتب ،كما أننا ف���ي الوقت نفس���ه أمام أن���واع مختلفة من القراء أيض���اً ،فهناك القارئ العابر الع���ارض ال���ذي يهم���ه أن يزجي وقته وهو في باص أو قطار أو طائرة وربما في عيادة الطبي���ب ينتظر دوره .وثمة القارئ المتخصص الذي يعرف مايريده من الكتاب .وهن���اك الطالب الذي يهمه أن ي���ؤدي امتحان��� ًا ف���ي م���ادة كتاب ما .بي���د أن ثمة خط ًا عام��� ًا يجمع بين هذه الح���االت ،فهم جميع��� ًا يحتاجون إلى القراءة الس���ريعة وذل���ك بالمرور الس���ريع الخاط���ف فوق الس���طور من أجل أكبر كمي���ة من المعلومات لتكوين االنطب���اع األول عن هذا الكتاب ووضع اليد على المحاور المهمة فيه .وال بأس بإش���ارات خفيفة بقلم الرصاص على هام���ش الكتاب إذا كن���ت تمتلكه ،وفي س���وى ذلك يفضل أن تكتب على ورقة منفصلة رؤوس نقاط مكثفة من وحي القراءة األولى. وتبقى القراءة من أجل االستيعاب والقدرة على اس���ترجاع مادته خطوة الحقة .إذ يمكن أن يكتشف القارئ بعد القراءة الس���ريعة األولى أن هذا الكتاب ال يس���تحق أن يستمر في قراءته أو أنه
ال يدخ���ل ف���ي دائرة اهتمام���ه ،ولكنه ق���د يقتنع تمام ًا بأن���ه وجد ضالته في ه���ذا الكت���اب ،إذن ينبغ���ي أن يقرأه قراءة ثاني���ة متأنية .وفي هذه الحالة اليستغني عن القلم والورقة حيث يثبت األفكار الرئيس���ية للكت���اب باختصار شديد مع االستعانة باألعداد 3 - 2- 1 أو الح���روف أ -ب -ج ..وحين يعود الق���ارئ للكتاب مرة أخ���رى يمكنه أن يقرأ ملخصه الذي أعده بنفسه ويكتفي به. وثم���ة حقيق���ة أخ���رى مهم���ة في ق���راءة كتابك المنش���ود حي���ن تقتنع
بأنه مهم وأنه يمك���ن أن يضيف إليك جديدًا وهي التك���رار إذ ثبت أن التكرار من أش���د أعداء النس���يان ،فإذا كررت األف���كار الرئيس���ية كل ي���وم فإنك لن تنساها وال س���يما في ساعات ما قبل النوم أو بعد أن تس���تيقظ مباش���رة، وفي هذه الحالة تكون قد استعنت بما يس���ميه علماء النفس بـ(الالشعور أو الالوع���ي) ورس���خت المعلومات التي كررتها بوعي من���ك ألهميتها .وهناك قاعدة مهمة أخرى في القراءة تس���تند إلى آلية الربط بين ماتقرأه في الكتاب الذي بي���ن يديك وبين م���ا تعرفه أنت
قب���ل قراءت���ك له ،بمعنى أن���ك ال تدع معلومات الكتاب عائمة في فراغ وإنما هي امتداد لما تعرفه س���ابقاً ،فيس���هل عليك اس���تيعابها .وم���ن الحقائق في هذا الشأن مسألة التعود على ساعات معينة للقراءة حتى أن بعض المؤلفين والكتاب حين يس���افر يح���س بالذنب ألنه لم يقرأ في الساعات التي اعتاد أن يقرأ فيها .وفي لقاء مع الكاتب العربي نجيب محفوظ ذكر أنه في بداياته كان عليه أن يقضي وقت القيلولة -المتاح له بعد ساعات الدوام في الوظيفة -إما في القراءة أو النوم ،ولو أنه اختار أن يقضي قيلولته نائم��� ًا لما عرفنا كاتب ًا رائع ًا مثل نجيب محفوظ. ويؤك���د الكت���اب عل���ى ض���رورة إش���راك أكثر من حاس���ة ف���ي عملية التعلم والس���يما في تعلم اللغات على سبيل المثال ،أو حفظ النصوص التي تحب أن تستشهد بها عند الضرورة أو أن تحفظ القواعد أو األس���س التي في ضوئها تس���تطيع التطبيق .وفي هذه الحالة أن تقرأ هذه القواعد أو األسس وأن تس���معها وأن تكتبها أيض ًا أفضل من أن تقرأها فقط بمعنى أن التقتصر على حاس���ة البصر في عملية التلقي. ومن ه���ذا المنطل���ق ال تخف���ى أهمية وسائل اإليضاح أو الوسائل التعليمية في عمليت���ي التعلم والتعليم كلتيهما، فهي مما ال يستغنى عنه.
- Pablo Picassoإسبانيا
ويبق���ى الكت���اب من���ارًا س���اطع ًا ومعلم��� ًا فذًا على الرغم من منافس���يه. ولع���ل أب���رز منافس���يه هذه الش���بكة السحرية للمعلومات ،وهي مما يمكن أن يؤازر الكتاب ال أن يلغيه إذ ال يمكن االس���تغناء عن الكتاب وال مناص من القراءة الجادة الهادفة ،والسيما ذلك الكتاب الذي تحس بأنك ش���خص آخر بعد قراءته ،وأن���ه أضاف إليك جديدًا مؤثرًا اليمكن أن تنساه ما حييت.
97
آلبرتو مانغويل
المهنة :قارئ حم�سن العتيقي في مكتبة «بيغماليون» ببيونس آيرس ،كان المكفوف خورخي لويس يقرب بورخس رفقة والدته العجوز ّ الكتب من وجهه حتى يالمسها كما لو كان أنفه يستطيع أن يستنشق الكلمات. يذكر آلبرتو مانغويل أنه كان يعمل في هذه المكتبة بعد انتهاء المحاضرات، مكلف ًا بترتيب ونفض الغبار عن الكتب، بل وسرقة ما أحب تملكه منها ،ذات مرة سأله بورخس إن كان يقبل بأن يقرأ له. في كتابه «تاريخ القراءة» يبوح بأنه وافق دون أن يدرك االمتياز الذي حصل عليه« :عندما كنت أقرأ على بورخس لم كنت أقوم بواجب أكن أشعر قط بأنني ُ علي ،بل إن هذه التجربة كانت ملقى ّ تبدو لي بمثابة األسر السعيد» .ممارسة أخرى إلى جانب القراءة لبورخس ،كان مانغويل سارد أفالم ،وفي المهمتين ابتلي بتعليقات لم يفارقه ظلها في معظم ما كتب .مانغويل كاتب مهنته األساسية القراءة التي تلقى رواج ًا في العديد من اللغات التي ترجمت إليها. عاش بجوار كاتب عالي المخيلة، نفذت محصلته إلى ذاكرة عجيبة، لم يشتتها ركام الكتب ،القراءة على بورخس رتبت كتب ًا جنب بعضها
98
البعض في رف الكتب الوهمي الموجود في مخيلة مانغويل منذ الصبا ،ومن غير انقطاع استمرت كاماسوتراه بين الكتب ،حتى لنحسبه ماكينة قراءة تلتذ وتتداعى بين الرفوف .ومن إقامته في المكتبة موطنه األرستقراطي ،إلى سعة اطالعه ِ بسَير صداقاته األدبية الواسعة، وجد مانغويل فجوة لنمط كتابة ،غير مطروقة إال لماماً ،كتابته عن مكتبته اتخذت من القراءة موضوع تأليف موسوعي ،يمزج فيه المخطوطات والنوادر القديمة ،بتاريخ األدب والفن، منفتح ًا على مختلف بقاع المعرفة اإلنسانية ،بأسلوب متراوح بين سرد المقتطفات والموازنة بين أصحابها. يروم مانغويل في تأليفه تذوق مؤلفات الماضي وتحيينها في مقابالت جدلية ،فإذا جازت له فكرة كاتب يطابقها بمرونة مع أخرى ،يقتاد المواقف إلى المفارقات والترادف ،يتهكم بخفة على ما ال يوافق هواه ويترافع على ما يرغبه بتفتيش دقيق يسنده ،مؤرخ مؤلفات ،إذا جاز التعبير ،تتراءى له الطبعات األصلية من الحاملة لتقادم الزمن والمليئة باألخطاء ،والترجمات المزعجة ،فال يفوته النبش في المقروء
لديه كلما دعت الضرورة التهكم أو إدانة المغشوش من الكتب« :وما كان بورخس لينزعج من مثل هذا االعتبار :وهو الذي قال ذات يوم عن النسخة اإلنكليزية لـفاتيك ،Vathekمن تأليف بيكفور، باللغة الفرنسية ،بأن األصل كان غير وفي للترجمة» .وباقتباس إيحائي مرتين في آن ،يقتطف مانغويل ما يوافق هواه ،فيذهب تفكيره «إلى األخالقي المتزمت جوزيف جوبير الذي وصف شاتوبريان عادات المطالعة لديه :عندما يقرأ ،يمزق من الكتب الصفحات التي ال تروق له ،وهكذا أصبحت لديه مكتبة الستخدامه الخاص». أن تكون الكلمات على ورقة يعني أنها العالم .يذكر مانغويل في كتابه غابة المرآة« :يقول بورخس مستشهدا ببيت الشعر لدى تينيسون حول الزهرة في جدار متشقق بأنه ما من واقعة، مهما كان شأنها ضئيالً ،إال وتربط معها التاريخ الكوني» ،يتمم مانغويل ما تعمده نقص ًا مدسوس ًا بين قول بورخس واقتباسه« ،ومن ثم تأتي مكتبة بابل الشهيرة التي يطلق عليها بعضهم اسم الكون» .في سياقات أخرى يدفع مانغويل قراءاته ،تارة نحو تجاوز المعهود من الشروحات« :نحن نقرأ ما نريد أن نقرأ ،ال ما كتب المؤلف .في دون كيخوته ،أنا لست مهتما ،بشكل خاص ،بعالم الفروسية ،بل بأخالق البطل ،وفي عالقة الصداقة الغريبة مع سانشو» ،وتارة أخرى يلقي القناعات في مضمار المواجهة محتفظ ًا بتفضيل شعري أو مذهبي لطرف على آخر مخطط له سلفاً« :يعتقد اللاّ ما أن كل سيزال من تلقاء نفسه، عائق في طريقه ُ بينما ِكيم يؤمن بأنه قادر على إزالته بنفسه ،أو الدوران حوله .قرأت أمس في سيرة حياة ماكس برود أن كافكا مرة إلى كان يكره بلزاك ،وقد انتبه ّ الشعار الذي نقشه بلزاك على عصاه: أنا أحطم كل عائق ،عندئذ أضاف كافكا شعاره الخاص :كل عائق يحطمني». يقصد مانغويل ما ينتقيه ،أو يترك المصادفة للسياق بمراوغة تحيك
الكلمات والمقتطفات دون استطراد، سم كتب يوجز ٍ ويسلّط ّ بمكر خاطف ُ بوخز متقون« :من الممكن بأكمالها ٍ إيجاد عالقة ما بين الباذنجانة وجورج بوش ،وعلى هذا األساس يمكن بالتأكيد إيجاد عالقة بين حرب الخليج ورواية لبوتزاتي -يقصد صحراء التتر -قصة دروغو تروي أن شاب ًا يعين في القلعة في أطراف ما يدعى بسهوب التتر، يستحوذ عليه هاجس أن يبرهن نفسه جندي ًا في معركة مع تتر ال يظهرون أبدًا .دورغو يؤمن أن التتر موجودون، وهم يشكلون تهديدًا .إنه يحتاج أن يؤمن بوجود عدو .ما يحدث في رواية بوتزاتي يمكن تطبيقه على الواقع». أسلوب مانغويل ،في عمومه :توليد إشراقات معرفية وفضح ما بين السطور توأمان لتقنية واحدة ،هي التنقل الفاخر
بين الكتب واألسماء .تنقل ،محسود يؤصل في ويحّين ،كما ّ عليه ،يسترجع ُ غابة المرآة « :لقد أعلن ثورو ،وهذا الفت للنظر ،بأن الفعل القائم على المبادئ، والحصول على الحقوق وتطبيقها ،من شأنه تعديل األشياء والعالقات .فالفعل هو في جوهره ثوري ،وال ينحصر كلي ًا بأي شيء كائن ًا ما كان ،وهو ال يكتفي ّ بشق الدول فحسب ،بل هو يشق األسرة. وحقيقة األمر أنه يشق الفرد ،فاص ً ال في داخله الشيطاني عن الرحماني. وجيفارا الذي هو كما جميع المثقفين األرجنتينيين في عصره ،البد أنه قرأ: (شق عصا الطاعة مدنيا) ،كان على ما هو مفترض متفق ًا مع هذه العبارة المحرفة عن القديس متّى». ّ «طالما أعلنت بأن الغاية الدائمة لألدب هي عرض أقدارنا» ،مقولة
بورخس التي ما فتئ مانغويل يسوغها محرض ًا قارئيه على القراءة في وصايا ال تنضب« :كلما اخترنا كتاب ًا لنقرأه في مساء ،نشق أيض ًا طريق ًا بين السرير، ً تنبؤات الفردوس ووعود الجحيم»، «اقرئي كي تحيا ،رسالة غوستاف فلوبير» فاتحة مانغويل في كتابه «تاريخ القراءة»« ،القراءة مثل التنفس، وظيفة حياتية أساسية» .لكن القراءة كما يريدها مانغويل مذهب ًا لفن العيش مقرونة عنده باإليمان والثقة :إيمان بجهد طقوسي يشترط حس المتعة ً استعارة ،تحويل الكتان إلى المراد بها، خيطان من ذهب :فـ «تساعدنا الكتب التي نقرؤها على تسمية الحجر والشجر، ولحظة الفرح أو القنوط ،ولهاث من نحب أو صفير طائر ،بإلقاء ضوء التجلي على شيء مرئي أو محسوس، وبمخاطبة أنفسنا قائلين هذا قلبنا موضع التأمل ،وتلك أمواج مسحورة، وهذا هو اإلنسان الحزين عند المساء». وأما الثقة فحرص وانتقاء« :كل قراءة فيها تخريب ومعاكسة للتلفيقات، ففي مثل هذه الحاالت ،تقدم القراءة لنا العون لصيانة االنسجام في قلب السديم ،على أال نثق في السطح البراق للكلمات ،بل ننبش بحث ًا في األعماق. من الخطأ أن نعتبر القراءة نشاط ًا قائم ًا على التلقي واالستقبال ال غير ،على العكس :فماالرميه يقول بأن من واجب كل قارئ أن يعطي معنى أصفى وأنقى للكلمات». ال تكاد صفحة واحدة من مؤلفات مانغويل تخلو من عشرات الكتاب والمقتطفات ،إنه بطبيعة ما يسرده غربال ُكتب .في «يوميات القراءة» و«غابة المرآة» و«تاريخ القراءة» تحديدًا ،تصلنا حكاية حب ولهاني بالمكتبة .آلبيرتو مروج ميوالت وزبدة مانغويل يدرك أنه ّ مؤلفات حتى التخمة ،ومهما تكن هذه الميوالت ،يبقى فضله المحمود تمجيد القراءة والتحريض عليها ،وكتبه ،بما تدخره من آالف الكتّاب والكتب ،يمكن وضعها على الطاولة دلي ً ال ال يخيب الباحث والقارئ معاً. 99
«هك���ذا يبدو مظهر ش���خص
يقرأ :مظهر ال أحد». بوثو شتراوس
قرأت حتى ُ شفيت عبدالفتاح كيليطو أح���ب الق���راءة ف���ي الف���راش .عادة ّ لحظة اكتش���اف الطفولة، منذ مكتس���بة َ «ألف ليلة وليلة». كنت أرقد في غرفة جّدتي ،على أريكة موضوعة أسفل س���ريرها .أثناء مرض من أمراضي ـ ال بد أنه كان من الخطورة تتأبد ذكراه عند األس���رة ـ كنت على كي ّ ٍ ���باتي .وفي س رقاد في ا غائص��� الدوام ً ُ ّ أسترد فيها وعيي، اللحظات القليلة التي ّ أسمع أصوات الزائرات المستخبرات عن همسهن حالي .ما إن أدرك أني موضوع ّ حتى أغوص ثانية في النوم. عندم���ا أخذت ف���ي التعاف���ي ،رفعن صوتهن وتكلّمن ع���ن هذا وذاك من م���ن ّ رت األشياء .لم أعد محور ّ أحاديثهن .تكّد ُ أتحس���ر عل���ى المرض، لذل���ك ،فأخذت ّ لكن ال جدوى م���ن التصنّع ،كنت أعرف بالتجرب���ة أن جّدت���ي ال تنخ���دع أب���دًا بأكاذيبي .وف���ي العمق ،ما كنت بحاجة إلى المراوغة ،فما زلت واهن ًا وانتكاسة كل لحظة. قد تطرأ في ّ كتاب انتباهي ج���ذب الظرف في هذا ٌ موض���وع بالق���رب منّ���ي« ،أل���ف ليلة المس���ماة وليل���ة» ،ف���ي طبعة بيروت، ّ أيض ًا بالكاثوليكية .ماذا كان يصنع في يهتم فيه أحد ب���األدب؟ من الذي بي���ت ال ّ 100
جعل���ه قريب ًا م���ن أريكتي ،ف���ي متناول يدي؟ م���ن الظاه���ر أن إح���دى الزائرات قد نس���يته ول���م ترجع الس���ترداده ،لذا ظل قرب فراش���ي ط���وال نقاهتي .كنت ّ أجه���ل ذاك الوقت أن الفقرات الجنس���ية اس���تبعدت منه بعناي���ة ،لكن لم ينل قد ُ وظ���ل جانبها ق���وة الحكايات ّ ذل���ك من ّ الفاضح كامالً .وإ ّال لماذا انتابني شعور مبهم بأنه ال ينبغ���ي لي أن أقرأه؟ إذا ما دخل ش���خص إلى الغرفة ،أخفيه تحت س���يما إذا كان والدي .هكذا األغطية ،ال ّ كنت إذًا أتص���دى للقراءة ،لألدب ،تحت ش���ارة المرض واإلثم .ذلك كان الكتاب األول ال���ذي حاول���ت قراءت���ه ،الكت���اب ّ األول بال زيادة. األول ،الكتاب ّ العربي ّ ّ كن���ت أقرأ ف���ي الف���راش ،على ضوء النهار ..نقيض ش���هرزاد التي تروي في الليل وتس���كت في الصباح .كنت بقطعي الق���راءة في المس���اء ،أخالف إش���ارتها الضمنية وأعكس نظام األشياء. والحال أني بقدر ما كنت أقرأ ويمضي تتحس���ن حال���ي .وعندما بلغت الوقت، ّ الصفحة األخيرةُ ،ش���فيت تماماً .وكأن لألدب فضيلة عالجية .فإن لم يكن يشفي يس���كن آالم النفس، أمراض البدن ،فهو ّ ه���ذه إحدى ثيمات كتاب «الليالي» .أميل
إلى الظن أنني اس���تعدت الصحة بفضل ش���فاعته؛ بفضلها هي أيض���اً ،الزائرة الغامضة التي نسيته عند رأس فراشي. هذا كلّ���ه مؤثّر للغاية ،لكن ش���كوك ًا ال مشوش���ة صفاء اللوحة .أفع ً تنبثقّ ، قرأت هذا الكتاب ف���ي الطبعة البيروتية المهذّبة؟ يروق لي اعتقاد ذلك ،اهلل يعلم لماذا ،لكن ما حقيقة األمر؟ لنذهب أبعد: أقرأته وأنا طفل؟ ربما أكون قد حاولت، وعندم���ا فطنت لثرائه المبه���ظ ،تخلّيت عن قراءته بع���د بضع صفحات ،بضعة زعمت مرة ُ س���طور .الكتاب األول؟ كم ّ ذل���ك ،لكن ألي���س ذلك ألن���ه بالعربية وأنني أش���قى مجتهدًا ألربط نفس���ي بما لست أدري من أصل؟ أم���ا الزعم بأنني كن���ت مريض ًا عندما اكتش���فته ،فذل���ك مح���ض اس���تيهام. اس���تحضار م���ا لس���ت أدري من مرض، استثارة الش���فقة على الذات ،استعادة ال راقدًا على أريكة تحت سرير رؤيتي طف ً جّدتي ..ألست منهمك ًا في تزويق األشياء موحي ًا بأن الحكايات قد اس���ترجعت لي حق، صحتي؟ مماث ً ال نفس���ي م���ن دون ّ بش���هريار ،الملك المجنون الذي ش���فته ثم سيناريو تلك الزائرة شهرزاد ..ومن ّ الغامض���ة ،القارئة الناس���ية للكتاب.. في الواقع ،ال ام���رأة كانت تقرأ في ذلك ربم���ا آيات من الزمان ف���ي من حوليّ ، القرآن ،ال «الليالي» بالتأكيد. أخي���راً ،اإليحاء بأني ببلوغ النهاية، اختالق قد شفيت تماماً ..هذا من جانبي ٌ مغرض .الواقع أنني لن أكون قد ُشفيت، مت .منذ ألفية من السنين، بل سأكون قد ّ يتردد الق���ول إنه ال تنبغ���ي قراءة أل���م ّ «الليال���ي» ،أو أن ال ُيقرأ س���وى ش���طر منه���ا؟ الذين ل���م يتبعوا ه���ذه النصيحة دفع���وا الثمن غالياً .فقد ثبت أنهم ُجنّوا، أو وضع���وا حّدًا لحياته���م ،أو ماتوا من الس���أم ،حرفياً .غاب عنّ���ي هذا في ذلك استش���عرت الزمان ،لك���ن ال بّد كنت قد ُ غريزي ًا الخطر. صفحات من رواي���ة «أنبئوني بالرؤي���ا» الصادرة حديثًا عن دار اآلداب .ترجمة :عبدالكبير الشرقاوي. «أية مكتب���ة هي صورة عن العال���م ،لكنها صورة متفائلة» .ألبرتو مانغويل «يوميات قارئ»
ت�أمالت
د .مرزوق بشير
ثقــافـة االنـدهـاش! الدهش���ة ثقافة ،أو على أقل تقدير نت���اج للثقافة ،ولكل ثقافة مس���ببات لدهشتها ،فاألمر الذي يدهش فردًا من ثقافة إن الدهش���ة مثل معين���ة قد ال يدهش فردًا من ثقافة أخرىّ ، االبتس���امة والغضب والح���زن والف���رح ،جميعها مخرجات إنس���انية لمدخالت ثقافية واجتماعية .والدهشة أيض ًا نعمة إلهية مثل البصر والشم واللمس والتذوق ،فمن يفتقدها فإنه يفتقد إثارة األس���ئلة ،واألسئلة هي مقدمة للتعلم والمعرفة ومقدمة للتغيير والتقدم. تحملن���ا المقدمة اآلنف���ة إلى الحديث ع���ن الحاكم الذي ال ينده���ش ،ففي كل صب���اح ترفع إلى مكاتب رؤس���اء الدول تقارير مخابرتية منتقاة ،يصوغها أش���خاص مدربون على إبعاد ما يكدر صفو المسؤول ومزاجه ،يقرأ الحاكم (هذا إذا كان مزاج���ه رائق ًا للق���راءة) ،أو (إذا كان يفك الخط أصالً)، أن أمور الب�ل�اد والعباد على أفضل ح���ال ،وتبدي له يق���رأ ّ اإلحصائي���ات المفبركة والتحاليل المنمق���ة والمفصلة على وأن وزراءه لب���اةّ ، هواه ّ أن ش���ؤون الن���اس ومطالبه���ا ُم َّ ومندوبي���ه ف���ي الداخ���ل والخ���ارج يعرق���ون ويجاه���دون ويصل���ون الليل بالنهار من أج���ل مصلحة وراحة المجتمع، فالتعليم منتظم ،والمرور في حالة انس���ياب ،واألسعار في متن���اول الجميع بفضل تعاون التجار وتضحياتهم للفقراء، والمستشفيات مجهزة بالكامل من أطباء وممرضين وأجهزة وتس���اوي م���ا بين المرضى ف���ي المواعيد وغرف وأدويةُ ، االستش���فاء ،والحالة الثقافية في قم���ة عطائها وإبداعاتها، فهناك مهرجانات األفالم الدولية ،ومهرجانات المس���رحيات العالمية ،وعشرات الحفالت الموسيقية الكالسيكية .ويقرأ الحاكم أن جميع أفراد شعبه يعملون ،وال بطالة بين شباب األمة ،وال كهولها والجميع على مسافة واحدة. هذا الحاكم لم يحاول لحظ���ة واحدة أن يتوقف ليندهش ال أم المدينة المثالية ألفالطون؟ ويتساءل :هل هذه بلدي مث ً لكن دهش���ته تقع فقط عندم���ا تصله أصوات ش���عبه التي تنادي بإسقاطه ،وإسقاط نظامه .هنا فقط يتساءل (وربما أن ما تعرضه عليه أجهزة مخابراته، يكتشف متأخراً) :هل ّ وتحالي���ل خبرائه هي مجموع���ة من األكاذي���ب والروايات المفبركة تبعده عن حقيقة الواقع ،روايات تفرحه وتس���ليه وتطيب خاطره ،ليعيش في عالمه المتخيل؟. ال يندهش الحاك���م عندما يرفع له وزي���ر التعليم تقريرًا ال بزيارة وردي ًا يشبه رس���ائل العشاق عن حال التعليم مدل ً هيأها له المنافقون ليشاهد طابور الصباح قام بها للمدرسةّ ،
طرياً ،ومقاعد المنتظم ،والفصول التي مازال دهان جدرانها ّ الطلبة التي ُجددت على عجل ،ومكيفاتها التي ُرّكبت خلسة وألن وزير التعليم رجل سياسة وليس في الليلة الس���ابقةّ . ف���إن قضية المناهج الدراس���ية وتطويرها هي رجل تعليم ّ آخر ما يفقه وما يناقش. بأن التعليم في أحس���ن حاالته يختم تقريره إلى حاكمه ّ وإنتاجه ،الحاكم ال يندهش عندما يش���اهد قنواته المحلية، وتكبر بحمده ،تستعرض تسبح ِّ وصحافة بلده اليومية التي ِّ مغادرته وقدومه ووداعه واس���تقباله ،والعناوين البارزة إلنجازاته ومكارمه ،واألغاني الوطنية التي اس���تبدلت اسم الوطن باس���مه لكنه يندهش عندما ي���ذاع البيان األول الذي يعلن رحيله وسقوطه. خالصة كل ذلك أننا في حاجة إلى ثقافة متقدمة ومتطورة في إدارة حكم الش���عوب ،ثقافة تنظ���م العالقة العادلة بين الحاكم والمحكومين ،وتقوم على الشفافية والصراحة دون خ���وف أو تردد أو فزع م���ن العواقب ،ثقافة تثير األس���ئلة وتتلق���ى اإلجابات عليها ،ثقافة تس���اير المتغيرات الكونية ف���ي كافة المجاالت ،ثقافة متفتح���ة على كافة الثقافات غير مؤدلجة أو منحازة لقبيلة أو عش���يرة ،ثقافة تتساوى فيها الفرص لجميع طوائف المجتم���ع (دون تفرقة أو عنصرية) أمام القانون ويش���عر جميع أف���راد المجتمع بأنهم جزء من صنع قراراتهم ومصيرهم ،وليسوا مدفوعين له دفعاً. وأخي���رًا وليس آخراً ،نحن في حاج���ة إلى ثقافة الحاكم الذي يتوق���ف عند التقاري���ر الصباحية الت���ي تعرض عليه ليبح���ث فيها عن األس���ئلة التي تقدم له���ا التقارير اإلجابات الجاه���زة ،وعليه أن يك���ون في موقف المنده���ش أكثر من موقف المتبلد. نحن في حاجة إلى إعادة تأسيس ثقافة مختلفة تأتي من خالل إعادة النظر في مناهج وأساليب التعليم السائدة ،هذا الن���وع من التعليم النمطي الطارد للعقل والمنطق والوعي، الحر وقبول اآلخر ،والمطالبة تعليم ال يجهز تالميذه للحوار ّ بالحقوق الدس���تورية والقانونية وانتقاد السلطة وتوجيه أدائه���ا للصال���ح العام ،وعلين���ا أن نعيد النظ���ر في ثقافة تحول إلى غ���رف مغلقة على نفر اإلنت���اج اإلعالمي ،ال���ذي َّ قليلين ،يحتكرون عقل األمة ويتالعبون به حس���ب أهوائهم وأمزجته���م وما يخدم مصالحه���م الضيقة ،نريد إعالم ًا يعيد لنا ولحكامنا الدهش���ة ،تلك الحاسة السادس���ة التي فقدنا فعاليتها ودورها الهام في تقدم المجتمع. 101
�أدب
توماس ترانسترومر
جغرافيا الشعر البعيدة
عبداحلق ميفراين
حينما تلقى الشاعر السويدي توماس ترانس���ترومر نبأ ف���وزه بجائزة نوبل لآلداب هذه السنة ،قال« :إنني شجرة قديم���ة ذات أوراق ذابل���ة ،لكنها تبقى متشبثة وال تسقط على األرض» ،هكذا ج���اءت عبارات الش���اعر البالغ ثمانين عاماً ،منهي��� ًا ما يقارب 40عام ًا لم يفز فيه���ا أي س���ويدي بهذه الجائ���زة التي
تظل محط أنظار الجميع رغم أن اسمه ظل مطروح ًا في قائمة الترشيحات منذ .1993وأوضحت األكاديمية السويدية أن ترانس���ترومر حاز الجائزة «ألنه من خالل صور مركزة وواضحة ،يعطينا منفذًا جديدًا على الواقع .شاعر يتناول الموت والتاري���خ والذاكرة التي تحدق بنا وتزيد من قيمتنا وأضافت األكاديمية
الشاعر في شبابه
102
أن «غالبي���ة دواوي���ن ترانس���ترومر الش���عرية تتس���م باإليجاز والوضوح واالستعارات المعبرة». يعتبر الش���اعر الس���ويدي ماغنوس وليان أولسون أن توماس ترانسترومر أصبح أكثر الشعراء السويديين شهرة وق���راء في العالم بفض���ل «ميزة الخلق الص���وري لديه» .وقد ولد ترانس���ترمر س���نة 1931في «اس���توكهولم» ،أبدى ولعه بالش���عر والموسيقى باكرًا خالل دراس���ته ف���ي الثانوي���ة ،ف���ي الثالثة والعشرين باشر بدراسة تاريخ األديان وتاريخ األدب وعلم النفس في جامعة اس���توكهولم الت���ي تخ���رج فيها س���نة .1956بدأ كتابة الشعر وهو في الثالثة عش���رة ،ونش���ر أول مجموعة شعرية بعنوان « 17قصيدة» في س���نة ،1954 وله حالي��� ًا 15كتاب ًا ش���عرياً ،قبل أن ينش���ر ش���عره اش���تهر كمترجم لشعر أندريه بريتون السوريالي. وينتم���ي الش���اعر الس���ويدي ترانس���ترومر إل���ى جغرافية ش���عرية قصي���ة ،ل���م يصل منه���ا إل���ى القارئ العربي إال الن���زر القليل من الترجمات. وقد س���بق أن قدم العراقي���ان إبراهيم عبدالملك وجاس���م محم���د ترجمة مهمة للش���عر الس���ويدي من خ�ل�ال كتابهما «أنطولوجي���ا الش���عر الس���ويدي» من س���بعينيات القرن الماضي حتى العقد األول م���ن األلفية الثالث���ة ،إطاللة من حواف النهائي» صدر سنة 2009بدعم من المجلس األعلى للثقافة في السويد، مع تقديم للشاعر سليم بركات .وتختتم األنطولوجيا بورقة للش���اعر ماغنوس وليم أولس���ون تقارب الشعر السويدي من س���بعينيات الق���رن الماضي حتى العق���د األول من األلفي���ة الثالثة ،وهي ورقة أساسية تقدم لقارئ األنطولوجيا سمات أساس���ية حول مسارات تشكل القصي���دة الس���ويدية الحديث���ة والتي اعتبرها الش���اعر العربي سليم بركات «قصائد على حافة النهائي». ويس���عفنا ه���ذا المت���ن المختار من القصائ���د ف���ي التعرف عل���ى «قصيدة»
ظلت توث���ق عزلتها بعي���دًا عن التداول النق���دي العرب���ي ،لذل���ك يمكنن���ا أن نس���توعب دالالت «خاتم���ة» ماغنوس وليم أولسون في دراسته حول الشعر الس���ويدي في س���ؤاله« :كي���ف لي أن أصف ماهية مركبة كالش���عر السويدي لقارئ من المحتمل أنه لم يس���مع اللغة الس���ويدية أبداً؟» ،هذه اللغة «النائية» المتحدة بعالم من التناقضات الشديدة. ظلت القصيدة الس���ويدية تعاني من عق���دة األخ األصغر ارتباط��� ًا بزمالئها ف���ي أوروبا ،رغ���م أن التاريخ يش���ير إلى تقليد أدبي اس���كندنافي متميز تمتد جذوره إلى القرون الوسطى .لقد بحث الشعر السويدي والشعراء السويديون، يش���ير الش���اعر أولس���ون ،ع���ن الذات في الخ���ارج دائماً ،ف���ي تقاليد ولغات أخرى .وفي نفس اآلن ،ناضل الشعراء الس���ويديون للفكاك من تل���ك القبضة األس���لوبية الغربية لغوياً .وثمة أمثلة متف���ردة في ه���ذا الباب كش���اعر القرن 18كارل ميكيائي���ل بيلم���ان أو إيريك يوهان ش���اغنيليوس في القرن ،19إذ ب���دأ منذ ذاك التاريخ ف���ي تجاوز إلزام المقف���ى( »Slutrimm« /أح���د فروع الشعر األوروبية) ،وبحكم افتقاد اللغة السويدية إلى القافية. لهذه االعتبارات ،أتى الش���عر الحر «كمحرر ش���عري» إلى السويد .يبدأ مع بيرالغركفس���ت (1891ـ )1974وإيديت س���ودرغران (1902ــ ،)1923وهاري مارتنس���ون (1904ـ ،)1978وغون���ار ايكيل���وف (1907ـ ،)1968ومع ظهور ش���عراء منهم إيريك ليندغرين (1910ـ )1968وكارل فينبيرغ (1910ــ )1995 وروث هيالرب (1914ـ )2003أمس���ت الحداثة قاعدة واتس���ع توظيف الشعر الموزون على أساليب الكتابة. ف���ي الخمس���ينيات حظي���ت تجربة الش���اعر توماس ترانسترومر بحضور بارز وأصبح أكثر الشعراء السويديين شهرة وقراءة في العالم وكذلك بيرغتا تروتزي���غ ()1929بقصائده���ا النثرية السوداوية.
ترانسترومر..قوة الصورة
ف���ي الس���تينيات ،ول���دت حرك���ة كونكريتي���ة ،وعي جمالي وسياس���ي جديد ،وهو امتداد لحركة الس���وريالية والدادئية وهو اتجاه في الشعر (وقبله في الفن التشكيلي والموسيقى) تتساوى في���ه أهمي���ة الترتي���ب التايبوغراف���ي للكلمات مع أهمية العناصر الش���عرية األخرى ،لذلك س���مي ش���عر الش���كل/ Chape poetryأو ش���عر التصمي���م المرس���وم .Patterm poetry /ه���ي حرك���ة إبداعي���ة أدلجت حدود الش���عر الفاصل���ة بين الص���ورة والنص ،بين الكلمة والصوت والفاصلة بين المسرح والش���عر .لقد فتح ش���عراء جيل بنغت ايميل يونس���ون ،س���ونيا أوكس���ون، إيريك بيكمان ..قيم الحداثة الش���عرية في أوس���ع تجلياتها .الستينيات عرفت أيضاً ،ظهور الش���عر «البسيط الجديد» أدار ظه���ره لنخبوية الحداثة باحث ًا عن ذاته في اليومي الشعبي إلى أن ظهرت تجربة الش���اعر برونوك أوير بشعره الفوضوي المهووس بالصورة. إذا كانت س���نة 1975تؤرخ لظهور مجلة «أزمة» ،فإنها أس���همت في ظهور اس���م ش���اعرة س���ويدية هي كاتارينا فروستنسون التي غيرت التقليد الشعري
السويدي ،ومع حلول ثمانينيات القرن الماضي انطلق العصر الذهبي للش���عر الس���ويدي .ظهر يوهان نوردبك بأدبه المج���ازي ،أولف ايركس���ون بقصائده الحسية المجادلة فلسفياً ،آن يادرلوند بحساس���ية بالغة لمس���تويات معاني اللغة ،آرنه يونس���ون بشعره الحكمي المتدف���ق ،كريس���تيان لوندبي���رغ أحد أعض���اء جماعة «زم���رة مالمو» تنطلق أش���عاره من بيئة مادية لتلج األسئلة الوجودية الكبرى. في منتصف التس���عينيات تم تقديم ظاهرة المباريات الش���عرية في السويد وتق���وم فكرته���ا على ش���كل ش���عري ش���فوي وش���عبي ،يلق���ي أثناءه���ا الشعراء قصائدهم لينالوا بعدها تقييم ًا م���ن الجمهور .في العق���د األول من هذا القرن ظهر العديد من الشعراء المثيرين لالهتمام كآن هالس���تروم شعرها يبدو ال تمام ًا عن متناقضات المعرفة مس���تق ً الش���عرية ،شاعرة أخرى ،يني توندال ش���اعرة وناق���دة أدبي���ة أكثر ش���عراء الجيل الجديد إث���ارة لالهتمام ويمثالن معاً ،إلى جانب الش���اعر دافيد فكغرين مرحلة جديدة للشعر السويدي. 103
أحد آخ����ر الحوارات التي أجريت مع توماس ترانس����ترومر ،صاحب والصحافية لما زارته الشاعرة ّ نوبل لآلداب ،2011تعود إلى عام ّ ،2007 الس����ويدية جين����ي موريلي في بيت����ه وتحدّثت معه عن بع����ض الجوانب ّ الحميمة من يومياته ،تجربته في الشعر ونظرته للحياة .وبما أن الشاعر تعرض لجلطة دماغية( )1990س����ببت له يجد صعوبات في الكالم بعدما ّ ال نصفي ًا فقد جلست بينهما زوجته مونيكا لتسرد هي أيض ًا بعض ما ش����ل ً تعرفه عن خصوصيات رجل عاشرته أكثر من نصف قرن.
حوار مع الشاعر عبر زوجته:
أرخبيل الشعر ترجمة � -سعيد خطيبي لم���ا كن���ت مقيمة ف���ي بي���ت الكتّاب السويديين صيف 2007راودتني فكرة ّ زيارة الش���اعر توماس ترانس���ترومر، خصوص��� ًا لما علمت أنه يس���كن جزيرة قررت قريبة م���ن أرخبيل اس���توكهولمّ . أن أرس���ل إليه أو ًال مجموعتي الشعرية وأنتظر ردًا من���ه .اعتقدت في البدء أنها فك���رة غبي���ة .فل���ن يوليها ش���اعر كبير اهتماماً .مع ذلك ،فقد أرس���لتها وكتبت معها رس���الة أخبره فيها بم���دى تعلُّقي بنصوصه الش���عرية التي أحفظ بعض ًا منها عن ظهر قلب .بعد بضعة أس���ابيع وصلتني رسالة صوتية على الموبايل من طرف مونيكا ترانسترومر ،تشكرني فيها على إرس���ال الكت���اب وتطلب مني مهاتفته���ا .فق���د اطل���ع توم���اس عل���ى وس���جل حولها بعض ّ بعض نصوصي المالحظات اإليجابية. ذات ظهيرة مشرقة من بداية الخريف ركنت دراجتي إلى جانب عمارة آجورية اللّون حيث يس���كن توم���اس ومونيكا. صعدت الس���لم العتي���ق والمظلم بعض الش���يء ،ولما فتحت ل���ي مونيكا الباب أبهرن���ي ض���وء النه���ار المنعكس على س���قف البيت األخضر .في نهاية الرواق كانت توجد قاعة االستقبال حيث يجلس توماس ترانس���ترومر عل���ى كنبة ممددًا 104
يكور ذراعه اليسرى المستند على عصاّ . ي���ده اليمني عل���ى بطن���ه وكأنها رأس يتك���ور حول غصن ش���جرة. ّ عصف���ور كان���ت زهور اللي�ل�اس المائل���ة للزرقة تزيّ���ن ش���رفة البي���ت .توجه���ت مونيكا وحض���رت لنا قهوة وقطع َّ إلى المطبخ بسكويت وشكوالتة للبدء في الحوار.
lتعرض���ت لجلطة دماغية وأنت في س���ن التاس���عة والخمسين .كيف عش���ت تلك المرحل���ة الصعبة ،تلك الصدمة ،ذلك الفقد؟ ال أخف���ي حقيق���ة أنن���ي قضي���توقتها األس���ابيع األولى في المستش���فى في ارتي���اح( .منذ تعرض���ه لتلك األزمة الصحية صار يجد صعوبات في الكالم. صار يس���تمع أكثر مما يتكل���م .مونيكا تسعده في إيصال ما يريد قوله).
lعشت مرحلة جّد قاسية .صارت الموس���يقى رفيقك الوحي���د .تعلّمت العزف عل���ى البيانو باليد اليس���رى بعدما ُشلّت اليمنى.
أعتقد أن ش���خص ًا يستطيع التأقلممع مثل هذه الوضعية العسيرة يستحق كثيرًا من التقدير .تقول مونيكا
lكما تواصل اليوم الكتابة باليد اليسرى .وتقرأ أيضاً؟
نصوصه أخذت توجهات جديدة بعدتلك المرحلة .تضي���ف مونيكا (توماس يحرك رأسه إيجاباً .ويضع يده اليمنى ّ أو رأس العصفور على فخذه)
lكي���ف اس���تطاع الع���ودة إل���ى الكتابة بعد شلل اليد اليمنى؟
ال في األيام األولى. لم يكن األمر سه ًفقد توجب عليه المثابرة لتعلم استخدام اليد اليسرى. في الس���ابق ل���م تكن مونيكا تش���كِّل جزءًا من عمل الش���اعر .ل���م تكن تتخيّل س���تطلع يوم��� ًا ما عل���ى هوامش َّ أنه���ا ومالحظ���ات الش���اعر توم���اس .ولكنها اليوم ص���ارت جزءًا من مس���ار الكتابة. فهي تس���اعد زوجها في كتابة النصوص يطلع عليها في الختام، وفي رقنه���ا .ثم َّ وي���درج عليه���ا التغيي���رات قب���ل بلوغ النسخة النهائية الموجهة للنشر.
lعملت سنوات طويلة كمختص في علم النفس .كيف كنت تجد الوقت للكتابة؟
إنها مس���ألة روتين .خصوص ًا لماننخ���رط في عجلة الكتاب���ة .كنت أقضي ال مع المراس�ل�ات ،السفريات وقت ًا طوي ً واالطالع على مخطوطات اآلخرين .لكن لم أكن أفرط في القراءات اليومية .وبما أنني أعيش في جزيرة فإنني أجد كثيرًا من وقت الفراغ.
lموني���كا ،م���اذا يعن���ي لك أن تكوني زوجة شاعر؟
إن���ه ش���عور اس���تثنائي وش���يءس���ن ّ تزوجت من توماس في مختل���فّ . التاس���عة عش���ر ،بينم���ا كان ه���و يبلغ الس���ابعة والعش���رين .باعتق���ادي إن س���ؤالك يمكن أعيد طرحه بالقول :كيف يمكنن���ا العيش م���ع فن���ان عندما نكون قادمين من خارج الفن؟
lنعم
-باعتق���ادي إن الش���رط األهم يتمثل
lلو أنك حالي ًا في سن العشرين، ماذا ستفعل؟
ماذا س���نصير لو أنن���ا ولدنا نهايةالثمانينيات؟ سننش���أ ف���ي دور حضانة ووف���ق مناه���ج مختلف���ة .أعتق���د أنني ال للفن .ولكنني كنت س���أمتلك دائم ًا مي ً ربما س���أختار مهنة أخرى .أو ربما علم النفس من جديد.
lما هي الوسيلة األفضل من أجل تطهي���ر الكتابة من المغاالة وتقديمها في أفضل أشكالها؟
فقد الكالم يعني فقد القدرة على اإلختباء
في االحترام المتبادل .مما يوفر للطرف اآلخ���ر هام���ش الحرية الذي يس���مح له بمواصلة اإلبداع.
lكيف تع���رَّف كل منكما باآلخر؟ ومتى حصل ذلك؟ صديق مش���ترك جمع بينن���ا يوم ًاصدفة ،في س���توكهولم العتيقة .حدث ذلك عام 1957وتزوجنا في .1958
lهل لواحدة م���ن ابنتيكما ميول فنية؟
كلتاهما تمتلكان ميو ًال فنية ورغبةف���ي التّعبير .البن���ت الكب���رى تفكر في ول���وج عالم الغن���اء ،أم���ا الصغرى فقد صارت ممرض���ة مواصلة ،ف���ي الوقت نفس���ه ،تمارس هوايتها ف���ي التصوير الفوتوغرافي.
lم���اذا برأي���ك سنخس���ر من فقد القدرة على الكالم؟ أن نفقد الكالم يعني فقد القدرة علىاالختف���اء وراءه .ولكن م���ن الممكن أن نضيف ش���يئ ًا مهم ًا هو أن توماس كسب في حالته مع فقد الكالم عالقة وطيدة مع الموس���يقى .فهو ما يزال يشعر بالحرية مادامت ي���ده اليمن���ى ،عين���اه ودماغه ينش���طون بش���كل طبيعي .فهو يقضي ال في العزف على البيانو. وقت ًا طوي ً (لما يعزف توماس على البيانو أظل منصتة إليه .تتحرك يده اليس���رى بيسر
عل���ى اللوح .يعزف مقاطع ًا للفنان رينو غليار .أدركت بفضله أنه توجد خمسمئة مقطوع���ة كتبت للعزف باليد اليس���رى. وخمسون فقط لليد اليمنى)
lمع���روف ع���ن توم���اس حب���ه للغابات ،أليس كذلك مونيكا؟ كان توم���اس يستش���عر كثي���رًا منالحرية و يس���تلهم نصوص��� ًا في جزيرة رونمارو بالقرب من س���توكهولم .أتذكر جيدًا حين كان يقضي ساعات طويلة في التجوال في الغابة قبل أن يعود مس���اء إلى البي���ت بجيوب تملؤه���ا قصاصات ورقية .تعلق توم���اس كثيرًا بالغابات. ولكن الوضع تغيَّر في السنوات األخيرة بسبب الصعوبات الجمة التي يجدها في السير وفي التنقل من مكان آلخر.
lتوم���اس ،هل تعتق���د بأنه من الممك���ن تش���كيل مقاوم���ة ش���عرية اليوم؟
برأي���ي إن دور الش���عر يتمث���ل فيمحاولة تغيير أشكال التفكير التقليدية، ومناهج البحث عن أبع���اد ذواتنا .تلك األبعاد الت���ي تنبذها القوى المادية التي تتحكم في العالم اليوم.
lما هي مشاريعك في المستقبل القريب؟ -بصراحة ،ليست لدي فكرة.
ال بد من من���ح النّص وقت ًا وفرصةلينضج .النّص ال يبلغ ش���كله الختامي من البداية .ال ب���د من الصبر .وأن نتذكر دائم ًا ب���أن ما يربطنا مع القارئ هو عقد ثقة .التلقائية في الكتابة ش���يء جميل. ولكن لن نجد دائم ًا طريق ًا لها.
lهل تفكر فقط في كتابة الشعر، ال شيء آخر غير الشعر؟ -الشعر ال نهاية له.
بالمتص���وف ّ lيش���بهك البع���ض إكه���رت .هل م���ا زلت تعي���ش الطقوس الصوفي���ة نفس���ها كم���ا كن���ت عليه في السابق؟ س���ؤال مه���م .نع���م ،ق���رأت كثيرًاللمعلم إكهرت سنوات الخمسينيات وكذا للقديس أوغس���تين .تأث���رت بكتاباتهما كثي���راً .أعتقد أنهما موج���ودان في مكان ما من نصوصي الش���عرية .لست أدعي متص���وف ،لكنني أحاول أن أكون ّ أنني كذلك .خصوص ًا لما أختلي بنفس���ي في الطبيعة. (صرَّح توماس ترونس���ترومر س���نة «:1972المتصوف هو ش���خص استطاع رؤي���ة اهلل .أم���ا أنا فلم يح���دث معي أن رأيت اهلل») بع���د االنته���اء من الح���وار والخروج م���ن بي���ت ترانس���ترومر ،بقي���ت تراود ذهني صورة يد الشاعر اليمنى النائمة. ومالم���ح وجهه المبتهج���ة .وأفكر كيف ناب���ت الزوج���ة موني���كا ع���ن كثير من مسؤوليات زوجها توماس. 105
قصائد توما�س تران�سرتومر
وسط الشتاء نور �شاحب يلمع من بني مالب�سي. انقالب ال�شم�س ال�شتوي. حلن راق�ص للثلج املطقطق. �أغلق عيني. هناك عامل �أبكم تتجاوز كلماته احلدود خفية. (من ديوان الغندول المشؤوم)1996 ،
حكاية بعض البحارة وجه ًا لوجه يف فرباير ،كانت احلياة متوقفة الع�صافري حتلق ق�رساً والروح حتتك بالطبيعة كمركب تلم�س املر�سى املربوطة �إليه.
lll
�أدارت الأ�شجار ظهرها �إىل هذه الناحية. �سمك الثلج يقا�س بالأع�شاب امليتة. ت�شيخ �آثار اخلطوات على ركام الثلج. وحتت الدفيئة تذوي الكلمة.
lll
يوماً ما� ،شيء ما �أقرتب من النافذة. توقف العمل ،وقفت �أتطلع اليه الألوان تنت�رش .وكل �شيء انقلب ر�أ�ساً على عقب. قفز كل منا ،الأر�ض و�أنا ،نحو الآخر. (شمس غير مكتملة)1962 ،
106
هناك �أيام بال ثلج حيث تنطلق مياه املحيط من بالد اجلبل ،يلبد يف زينته من الري�ش الرمادي، حلظة ق�صرية زرقاء� ،ساعات طويلة ت�صحبها �أمواج كو�شق �شاحب، تبحث بال جدوى عن م�أوى حتت ح�صى ال�شاطئ. هذه الأيام ،هجر ال�ضائعون املحيط بحثاً عن مراراتهم ،ا�ستوطنوا �ضجة املدينة. واملالحون الغرقي يطريون نحو الأر�ض� ،أكرث خفة �أي�ضاً من دخان الغليون... (يف ال�شمال ترك�ض حيوانات الو�شق الأ�صيلة ذات املخالب امل�شخوذة والأعني احلاملة. يف ال�شمال ،حيث ي�سكن اليوم منجماً، نهاراً وليالً. حيث الناجي الوحيد يجل�س قرب مدف�أة الفجر ال�شمايل وي�سمع مو�سيقى من ماتوا متجمدين بردا). ( 17فصيدة)1957 ،
في البعيد عند مدخل املدينة الكبري حينما تكون ال�سماء واطئة. تزيد احلركة ،وتتكثف. كتنني ك�سول ،المع. �أنا حر�شفة من حرا�شف التنني. فج�أة ،ال�شم�س املت�أججة و�سط الزجاج الأمامي وتغمرين. �أنا �شفاف وكتابة تدون يف داخلي كلمات �سطرت باحلرب ال�رسي الذي يتبدى حينما من�سك الورقة �أعلى نور ال�شعلة ! �أعرف �أنه يلزمني �أن �أرحل �إىل البعيد �أجتاز املدينة و�أذهب بعيدا للغاية ،حتى ت�أزف �ساعة الرحيل و�أم�شي طوي ً ال يف الغابة. �أتتبع �أثار الغرير. تهبط العتمة ،ومن ال�صعب ر�ؤيتها. ولكن هناك ،على الزبد� ،أحجار. �أحدها نفي�س. من املمكن �أن يحول كل �شيء: يعرف �أن يجعل العتمة تربق. �أنه عاك�س جلميع البلدان. كل �شيء ات�صل به. ينظر �إليه ،يلم�سه... (دورب)1973 ،
ترجمة � -أ.ع 107
فاز الكاتب والروائي الجزائري الفرانكفوني بوعالم صنصال بجائزة السالم في معرض فرانكفورت للكتاب بألمانيا .وقال صنصال -الذي تس����لم الجائزة منتصف الش����هر الماض����ي بحضور نحو ألف ش����خص في أكبر معرض للكتاب ف����ي العالم -إن "ث����ورة عالمية تجري اآلن ،..وإن الناس يري����دون ديمقراطية أممية صادقة من دون حدود أو محرمات ،وهم ينبذون الطغاة والتطرف وس����لطة األس����واق وهيمنة الدين الخانقة".
بوعالم صنصال يفوز بجائزة فرانكفورت للسالم
في انتظار الثورة الجزائرية حوار :ماريان بايو ترجمة� :أحمد عثمان
108
في ه����ذا الحوار يتح����دث صنصال ع����ن عالمه اإلبداع����ي وروايته األحدث «ش����ارع داروين» الصادرة هذه األيام عن دار غاليمار. يرسم بوعالم بورتريه عائلة وبلد تحت وطأة الخوف .في نهاية يونيو/ حزيران ،في حديقة دار غاليمار الرائعة، من����ح بوعالم صنصال نفس����ه قس����ط ًا من الراحة .بمناس����بة اقت����راب صدور روايته السادس����ة «ش����ارع داروين»، قبل أن يؤوب إل����ى مدينته بومرداس. رواية جميلة ،ذات ش����خصيات مثيرة لالهتمام ،تجتاز نصف قرن من تاريخ الجزائر ،بصورة يصعب معها وصفها «تربطني عالقة به����ذه الحكاية» ،هكذا أس����ر مؤلف «قس����م البراب����رة» ،ولكن كيف أحك����ي ه����ذا دون اغتصاب حياة اآلخري����ن ،دون أن أخونه����ا؟ إنه نوع الرواي����ة بحيث من الممكن أن يكون كل ش����يء مزيف ًا أو أن نس����قط في النزعة االستعراضية» .بعد فترة تردد طويلة دام����ت ثالثة أش����هر إثر وف����اة والدته، انطلق بوعالم صنصال .كل شيء يبدأ م����ن هنا :أش����قاء متفرقون ف����ي أركان الدنيا األربع����ة يتجمعون حول تابوت األم .كان يزي����د ،المس����مى ي����از ،األخ األكبر ،من رعاها حتى أيامها األخيرة، من بقي في البالد بينما هرب اآلخرون من الح����رب والبؤس .ي����از أو بوعالم «يش����بهني كثيراً ،في الواق����ع .مثلي، ع����اش طفولت����ه ،خالل الخمس����ينيات والس����تينيات ،في شارع داروين (على بعد 100متر من بيت آلبير كامو) ،في بلك����ور ،حي جزائري ش����عبي .مثلي، شيئ ًا بعد شيء كبر فيه ،ال يعرف شيئ ًا عن نفس����ه ،عن أخوته ،ع����ن أمه.».. ال ق����در يش����به قدر ي����از ،تتجاذبه جدة ثري����ة يحيا معها داخل نوع من التجمع الس����كني وأمان تركتاه في سن الثامنة
حينما كنت أنقب عن حكايتي ،لم أكن أرى سوى النساء متجهتان نح����و الجزائر العاصمة! إنما عودة ،صحبة صنصال الشجاع ،إلى حياة وبلد خارج المألوف. ولد بوعالم صنصال في عام 1949 ببلدة «ثنية الحد» .درس الهندس����ة في مدرسة البوليتكنيك الوطنية بالجزائر ثم المدرسة الوطنية العليا لالتصاالت بباريس .حائز أيض ًا على دكتوراه في االقتصاد. م����ن روايات����ه« :قس����م البراب����رة» ( ،1999جائزة الرواية األولى وجائزة م����دارات ف����ي نف����س الع����ام)« ،الطفل المجنون بالشجرة المجوفة» (،2000 جائزة ميش����ال دارد)« ،قرية األلماني» (.)2008
lالج���دة االس���تثنائية ،قوادة على نطاق واس���ع تتربع على قمة االمبراطوري���ة ..هل هي ش���خصية من المواقع؟ نعم ،والدي ابنه����ا ،أو باألحرىاب����ن أختها أو اب����ن قريبة له����ا ..كانت
الال س����عدية زعيمة آل ق����ادري ،امرأة ناف����ذة ،له����ا ممتلكات ف����ي كل مكان - وم����ن بينها بيوت دع����ارة -في تونس والمغرب وفرنس����ا .كانت متسلطة ،ال يس����تطيع أحد أن يقاومها ،تدير عالمها بق����وة وبأس ش����ديدين .كان����ت ماهرة إلى حد أنه����ا عرفت التعام����ل مع كافة هذه األنظمة :اإلدارة الفرنس����ية ،جبهة التحرير الوطني وفي زمن االس����تقالل أصبح����ت بطل����ة .وقتما كان����ت تعاني الجزائ����ر من اإلفالس ،ع����رض بن بلة مش����روع التضام����ن الوطني .س����اهم الجمي����ع ،وقدم����ت الج����دة قناطير من الذهب .بغتة ،استقبلت بن بلة وناصر في زيارت����ه للجزائر عل����ى الغداء .كل هذا عرض في نشرة األخبار التلفازية. حتى أن موتها كان مجلجالً :تم اغتيالها في ظروف غامضة..
lكتبت ف���ي الرواية« :جاء زمن النساء» ..ماذا تقصد؟ حينما كنت أنقب عن حكايتي ،لمأكن أرى سوى النساء ،الجدة ،فايزة، فروجة ،كريمة ..في وسطنا التقليدي، ال يتبادل الرجال والنس����اء المواقع ،إذ هما عالمان منفصالن .تجلس النس����اء سوية ،وكن يعرفن الكثير من األشياء الغامض����ة ،وكان عالمهن معقدًا وحياً. بينما لم يكن الرجال س����وى ظالل .منذ ذاك ،عشت هذا الشعور بخواء الرجال. بالنس����بة لي ،كان����وا دوم���� ًا ضعيفي الش����خصية وعديمي الفائدة .باستثناء الجل����وس ،ش����رب القه����وة ،تن����اول الطعام ،النوم ،ماذا يفعلون؟
lتتحس���ر دوماً ،كما قلت ،من صمتك وعدم مجابهتك لفترة طويلة للجماعات اإلسالمية المسلحة.. 109
تحررنا من الكولونيالية بسيفاإلسالم .ولهذا الس���بب وألن اإلسالم دين آبائنا ،لم نتجرأ على مهاجمته، فقد كان مقدس ًا كما الثورة.
lيغ���ذي كثي���ر م���ن الحروب روايتك .فيها ،نقرأ بومدين ،خالل حرب ،1973في خطاب حماسي، يق���ول« :كلما كان هناك ش���هداء، جمي�ل�ا» .هل هذا خيال كان النصر ً أم حقيقة؟ إنها الحقيقة كلمة بكلمة! حينماس���معت مؤخرًا القذاف���ي يقول نفس الخط���اب ،ارتجفت ،اذ رأيت نفس���ي ف���ي الثكن���ة الواقع���ة ف���ي ضواحي الجزائر ،أم���ام بومدين حينما أنش���أ يحدثني والجنود عن «عطش األرض العربية للدماء» .في آخر األمر ،أشعر أنن���ي أمضيت حياتي كلها أتحدث عن الحرب ،وهذا لن يتوقف أبداً.
lفي مع���رض فرانكفورت في أكتوبر القادم ،سوف تحصل على جائزة السالم المقدمة من المكتبات األلمانية .هل يثير األمر دهش���تك ويحميك؟ ف���ي الواق���ع ،ه���ذا ش���رف لي.الفرانكفونيان الوحي���دان اللذان حازا عليه���ا هم���ا آس���يا جب���ار وخورخه سمبرون ..بالتأكيد ،تحمي الكاتب أية جائزة كما الشهرة على وجه العموم. بق���در ما أك���ون تحت الض���وء ،أكون «مصوناً» .الصحف الفرنس���ية تش���يد بهذه المزية ،مع أنن���ي ال أنتقد كثيرًا ألنن���ي أعل���م أن هذا يص���ب في خانة النظ���ام ،ال���ذي ال يخش���ى إال الهبّات الشعبية.
110
lبالضب���ط ،كيف تفس���ر «الال مباالة الجزائرية»؟ هناك أكثر من س���بب .في بادئاألم���ر ،قام الجزائري���ون بثورتهم في عام 1988وفشلت .ظللنا نرزح تحت هذا الفش���ل المؤلم الذي أدى فيما بعد إلى مئتي ألف قتيل ،إلى حرب أهلية، ومدمر .هرس إلى بلد ممزق ،مش���تت ّ النظام الجزائري المتمردين حتى آخر فرد منه���م ،وبفض���ل الديموقراطية، منح جبهة اإلنقاذ اإلس�ل�امية شرعية ال عن ذل���ك ،النظام، وجوده���ا .فض ً الغن���ي بدرج���ة كبي���رة وباحتياطيه النقدي الذي تعدّى المئة والخمس���ين ملي���ارًا من ال���دوالرات ،فت���ح أبواب االس���تيراد .وهكذا ،توفر كل ش���يء، وف���ور أن ترفع النقاب���ات أصواتها، ترتف���ع الروات���ب .آخر األم���ر ،القمع كبير .األلف متظاه���ر الذين تظاهروا ش���هر يوليو/تموز في (مي���دان أول مايو) في وس���ط البلد بالجزائر كانوا
أشعر أنني أمضيت حياتي كلها أتحدث عن الحرب ،وهذا لن يتوقف أبد ًا
محاطي���ن بأكثر من خمس���ة وثالثين ألف متظاهر ،بينما القوات المس���لحة تسد كافة مداخل العاصمة.
lهل تمت مصادرة كتبك؟ نعم ،تقريب ًا كل كتبي ،وتحديدًارواي���ة «الجزائ���ر :بري���د لم يرس���ل» و«قرية األلماني» .واألخيرة استقبلت بصورة س���يئة للغاية في الصحافة، وأثارت السخط :كيف تجاسرت على القول إن نازي ًا اشترك في الثورة .لم يس���اندني أحد .زوجتي ،وهي تعمل أستاذة ،أجبرت على االستقالة .وأنا في عام ،2003ت���م فصلي من عملي في وزارة الصناعة بسبب تصريحاتي عن بوتفليقة والنظام.
lأل���م يدفع���ك كل ه���ذا إل���ى الرحيل؟ كل صب���اح! كل صب���اح ،أقولفي نفس���ي« :انتهى األم���ر ،أنا تعب، الحياة قاس���ية للغاية» .كانت أمامي ف���رص رائعة ،بيد أنني ال أس���تطيع أن أترك أمي بمفرده���ا .الرحيل عمل رائع ،نخرج من مسرح الحرب ،ندخل إلى الحياة العادي���ة ،ولكن بعد طور الس���عادة ،يأتي طور الشعور بالذنب ثم الن���دم .يستش���يط المهاجر غضباً: «اخرج من خنوعك ،ناضل!» .يرجع البعض ،أخيراً ،إل���ى البالد ويصبح جزائري ًا أكثر من الجزائريين ،مس���لم ًا أكثر من المس���لمين ،يعطي الدروس لمن لم يبرح مكانه! اليوم ،أعتقد أنه يجب أن يرحل رجال السلطة .تنازلنا كثيراً ،ولذا يجب أال نتنازل ثانية. (*) Marianne Payot, Entretien avec Boualem Sansal, L’Express, N° 3138- 24 au 30 août 2011.
�ضغط الكتابة
أمير تاج السر
فك المربوط
وصلتني عبر البريد اإللكتروني ،رسالة منمقة ،وتشبه ال في كثيراً ،تلك الس���ير الذاتية التي تقدم لجهات العمل ،أم ً الحصول على وظيفة .كانت الرسالة من واحد اسمه الشيخ زكري���ا ،يقيم ف���ي واحدة م���ن العواصم العربي���ة ..يقول الش���يخ في رس���الته ،إنه متخصص في (ف���ك المربوط)، وإزالة الس���حر بأنواعه ،وتزويج اآلنسات ،وحل المشاكل الزوجية ،وتحسين أداء الطالب في المدارس ،وأيض ًا عالج (القول���ون العصبي) وأمراض المع���دة والحموضة الناتجة عن ضغوط الحي���اة اليومية ،وإنه يقدم تلك الخدمات عبر االتص���ال الهاتفي أو البريد اإللكتروني ،أو اللقاء المباش���ر إن كن���ت أقيم ف���ي منطقة قريبة من مركز نش���اطه ،ويقبل الدفع بالفيزا والماس���تر كارد ،إن تعذر التحويل المصرفي. وفي نهاية الرس���الة أوصاني بتعميم تلك األنباء الس���ارة على أصدقائي ،والرد على رس���الته فورًا حتى يتس���نى له أن يدرج لي موعدًا في دفتر مواعيده المشغول ألشهر عدة.. ولم ينس بالطبع أن يذكر بأنه األفضل واألقل أجرًا في ذلك المجال. جلس���ت لفترة أتأمل تلك الرسالة الزائرة لبريدي ،فهمت ف���ك المرب���وط وإزالة الس���حر ،وتزويج العازب���ات ،ولم أفهم أب���دًا إزالة الحموضة التي هي من اختصاص ش���راب (الموكس���ال) ،وحبوب (الزنتاك) و (اإليمبرزول) ،أو تأخر الطالب في التعلي���م التي يتبناها اختصاصيون في النطق والتخاطب والسلوك النفسي ،وال دخل للتشيخ في حلها. هذه الرسالة أو السنارة الصائدة ،هي بالضبط ما يريده
الن���اس في هذا الزمان ..الكل يح���س بأنه مربوط بحبل ما وبحاجة لمن يفك ربطه ،ال���كل يعاني وال يفهم معاناته.. تزدح���م العيادات والمصح���ات ،ويخرج الناس بعش���رات األصناف من األدوية وال يتغير شيء ،وقد فهم زكريا وغيره ممن يديرون محطات تليفزيونية فضائية لنش���ر الدجل ،أو يستطيعون السباحة في اإلنترنت ،أن هذا هو هوى الناس ومرادهم ،فاستغلوا التكنولوجيا لجني األرباح ..وبالرغم من أن األيام دائم ًا ما تثبت أن هؤالء األش���خاص ليس���وا إال صيادين في الماء العك���ر ،إال أن الناس ال يريدون تصديق ذلك وبالتالي يظل رزق (الهبل) متاح ًا عند المجانين. في مقالة سابقة نش���رتها في عكاظ السعودية ،تحدثت عن السيدة (ميمونة) التي كانت تدير جلسات قراءة الطالع في مدينتي الساحلية ،وتشد إليها العقول حين تدفن ماضي ًا أو تزين مستقبالً ،وتحدثت عن الرجال الذين يشبهونها في علي كثيرون طالبين مني أن أكتب فضائيات الدجل ،وقد رد ّ في مج���ال تخصص���ي ..أي الثقافة بعيدًا ع���ن معتقداتهم، ناسين أن الكاتب يجب أن يظل عين ًا تراقب المجتمع ..تشيد بتط���وره ،وتنبش في التخلف ،س���اعية إل���ى دحره .ولن تكون ثمة قامة لكاتب ال يدلي برأي. تجرعت جرعة كبيرة من ش���راب الموكسال وأنا أفكر في رسالة الشيخ زكريا ..زالت الحموضة على الفور ..لكن كم يائس بحموضة أكبر سيصمد ..قطع ًا هناك آالف االتصاالت تجرى ومئات الرس���ائل اإللكترونية ترسل ..والهوس يظل هوساً ..بال دواء.
111
فضيحة البوكر اإلنجليزية
األصل يحاكي الصورة لندن -سمير نوار ف���ي عملية ما بع���د حداثية بامتياز، حي���ث يس���ود في عال���م مابع���د الحداثة ما يس���ميه بودريار بالس���يموالكرا ،أو الص���ورة الزائفة ،الت���ي تحاكي األصل وتزعم أنه���ا البديل األرقى له ،حدث في مس���اء ليلة الثالثاء 18أكتوبر في لندن أثناء اإلعالن عن نتائ���ج جائزة البوكر األصلية ما يحدث عند اإلعالن عن جائزة بوكر العربية ،الص���ورة الزائفة لها كما زعم البعض من البداي���ة ,وفي مقدمتهم الناقد المص���ري الدكتور صبري حافظ، من فضائح وإشكاليات .تذكرت هجومه عل���ى أول رئيس للجن���ة تحكيم البوكر العربية ،وأنا أشاهد وقائع احتفال منح جائ���زة البوكر المتلفزة في لندن ،والتي رأس���ت لجنة تحكيمها هذا العام ستيلال ريمنجت���ون ،الرئيس���ة الس���ابقة لجهاز المخاب���رات المحل���ي المعروف باس���م ،MI5تميزًا له عن قرينه األش���هر MI6 المختص باالستخبارات الخارجية. فقد وقف���ت تلقي على المش���اهدين، وبينه���م س���تة م���ن المؤلفي���ن الذي���ن ينتظ���رون عل���ى أحر من الجمر س���ماع ال عريض ًا عن حال النتيجة ،خطاب ًا طوي ً الكتابة والقراءة ،وعن ضرورة أن تكون القراءة الس���هلة والتشويق من المعايير المهمة في الحكم عل���ى الروايات ،وعن أن النقاد الذي���ن هاجموا قائمة هذا العام 112
القصي���رة واعتبروها من أس���وأ القوائم في األع���وام األخيرة ،وطرح���وا القيمة األدبي���ة والعمق ف���ي مواجه���ة القراءة السهلة والتش���ويق ،ليسوا إال من النوع ال���ذي هجاه ألكس���اندر ب���وب (- 1688 Alexander Pope )1744في قصيدته الشهيرة «مقال في النقد األدب ي sAn E .» say on Criticismبل وبدأت تلقي على الحضور مقاط���ع تقريعية من هذه الهجائية الشهيرة المكتوبة قبل ثالثمئة ع���ام ،وبالتحدي���د ع���ام ،1711وكأنها تحتفل بمئويتها الثالثة. ويبدو أن ستيلال ريمنجتون ،أرادت تحول اإلعالن عن الجائزة إلى فرصة أن ّ
الرواية الفائزة
لالنتقام من النق���اد ،فبينها وبينهم ثأر قدي���م ،يرجع إل���ى أعق���اب تقاعدها من رئاس���ة هذا الجهاز المخابراتي الش���هير منذ ما يقرب من الس���نوات العشر حينما قررت كتابة (أسرار مفتوحة) الذي روت فيه شيئ ًا من س���يرتها الذاتية ومذكراتها في هذا الجه���از العتيد ،وقوب���ل كتابها برغم نجاحه التجاري النسبي باستهجان النقاد والصحفيين ألنه من غير المقبول أن يكتب رئي���س مثل ه���ذا الجهاز الذي تحيط���ه الس���رية والغم���وض مذكراته، خاصة وأن الناش���ر دفع لها مبلغ ًا كبيرًا في هذا الش���أن .ثم تحولت بعد ذلك إلى كتابة الروايات فاعتب���ر النقاد رواياتها من عيار روايات التسلية الخفيفة .لذلك أرادت أن تس���تغل ه���ذه الفرص���ة التي أتيح���ت لها كي تلقنهم درس��� ًا في أهمية روايات التسلية الخفيفة. فل���م تكت���ف بتقري���ع النق���اد الذين هاجموا اختيارات لجنتها ،واالستشهاد بمقط���ع هجائي الذع من ألكس���ندر بوب بش���أنهم ،ولم تعبأ بظه���ور االمتعاض م���ن خطابها عل���ى وجوه النق���اد الذين امت�ل�أ بهم الحف���ل ،وال بخ���روج أندرو موشن ،شاعر البالط السابق ،ورئيس لجن���ة تحكيم البوكر في العام الماضي، احتجاجا ،وه���و الذي كتب عقب اإلعالن ع���ن القائمة القصيرة التي اعتبرها كثير من النقاد أسوأ قائمة قصيرة في األعوام العشرة األخيرة ،مهاجم ًا اختياراتها .بل ط���رح بد ًال منه���ا قائمته القصي���رة التي لم تتضمن إال كتابين م���ن قائمتها ،كان بينهما لحس���ن الحظ الكت���اب الفائز .لم تكتف ريمنجتون بذل���ك ،وإنما انطلقت إلى تش���بيه عال���م الناش���رين وما يدور في كواليس���ه بعالم المخابرات وخاصة في أس���وأ أش���كاله لدى الـ ،KGBإبان اش���تعال الح���رب الب���اردة واس���تخدام أشكال مما دعته بالبروباجندا السوداء، وزعزعة س���معة اآلخرين ،والمؤامرات والعم�ل�اء المزدوجين ،وغي���ر ذلك من
ستيال ريمنجتون
قاموس الحروب االستخباراتية. لك���ن ما خفف بعض الش���يء من أثر ال هو أنها تلك الصدم���ة أو الفضيحة قلي ً حينما أعلنت اس���م الفائز ،وهو جوليان بارنز (المولود في ليستر ،بانجلترا عام )1946ع���ن روايت���ه القصي���رة (الحس بنهاي���ة )The Sense of an ending التي تعد أقصر رواية فازت بتلك الجائزة حتى اآلن ،حيث ال تتجاوز عدد صفحاتها 150صفح���ة ،لقيت النتيجة ش���يئ ًا من االرتياح .ألن رواية بارنز تلك كانت هي ورواية كارول بيرش Carol Birchمن أفض���ل روايات القائمة القصيرة الس���ت وأكثره���ا أدبية .وكان كثير من النقاد قد عارضوا الجائ���زة هذا العام ،بعد إعالن قائمتها الطويلة في يوليو الماضي ،ثم قائمتها القصيرة في س���بتمبر ،ووجهوا إليه���ا نقدًا الذع ًا ألنه���ا نحت إلى تفضيل األعمال س���هلة القراءة ،والتي تستجيب لهوى القارئ الس���طحي الس���ريع ،على األعم���ال ذات القيمة األدبي���ة الخالصة. فباس���تثناء روايت���ي بارن���ز وبيرش، كان ف���ي قائم���ة ريمنجت���ون القصي���رة كاتب���ان جديدان ينش���ر كل منهما روايته األولى هما س���تيفن كيلمان وأ .د .ميلر، وكاتبان مجهوالن م���ن كندا هما باتريك ديويت وإس���ي إدوجي���ان .وهذا ما دفع النقاد الذين يحبذون طرح القيمة األدبية
جوليان بارنز
في مواجهة القراءات الس���هلة السريعة، والذين تزعمهم أندرو موشن ،إلى طرح أس���ماء ً قائم���ة قصيرة منافس���ة ضمت مرموق���ة من عينة أالن هولينجهيرس���ت ،Alan Hollinghurstوجراي���ام سويفت Graham Swiftوآلي سميث Ali Smith ب���ل إن رواية هولنجهيرس���ت (طفل الغري���ب) التي كان���ت في قائم���ة النقاد المضادة ولم تظهر في القائمة القصيرة للبوكر التي أعلنت في سبتمبر الماضي، حقق���ت أعلى المبيعات بين كل الروايات المطروح���ة في القائمتي���ن ،وتجاوزت مبيعاتها 350ألف استرليني في الشهور القليلة الماضية .ونحن نتحدث هنا عن عائدات البيع في شهور قليلة ،ألنه بعد أن ينقش���ع الغبار عن حومة المنافس���ة تظل أرق���ام البيع في تصاعد ،بالصورة الت���ي تجاوزت فيها أرقام بيع كل رواية وصلت إل���ى القائمة القصي���رة من قبل المليون جنيه استرليني ،ووصل بعضها كما هو الحال مع الرواية الفائزة ببوكر عام 2002وهي (حياة بي) ليان مارتل إلى عشرة ماليين جنيه استرليني. لكن يبدو أن ستيلال ريمنجتون أرادت أيض ًا إفحام هؤالء النق���اد حينما أعلنت أن العمل الفائز ،حصد الجائزة ألسباب أدبية محضة ،إذ يتسم بالتكثيف وتعدد
المستويات والقدرة على تناول القضايا اإلنسانية الجوهرية .والواقع أن جوليان بارنز أحد أهم األسماء البارزة في عالم الرواي���ة االنجليزي���ة المعاص���رة ،لكن الذين أسعدهم فوز بارنز ،الحظوا ،أنه بالرغم م���ن أن روايته جيدة بأي معيار من المعايير ،إال أنها تعد خفيفة نس���بي ًا بالمقارن���ة برواياته األخرى التي لم تفز بالجائزة .وقد قال أحد النقاد العرب في تعليق عل���ى فوز رواي���ة بارنز (الحس بنهاي���ة) بها ،بينما لم تف���ز بها روايات مهمة له مثل (ببغاء فلوبير) التي وصلت للقائمة القصيرة عام 1984و(التحديق في الش���مس) و(تاريخ العالم في عشرة فصول ونص���ف) و(انجلت���را ..انجلترا) التي وصلت للقائمة القصيرة عام 1998 و(آرث���ر وجورج) الت���ي وصلت للقائمة القصي���رة ع���ام ،2005إن األمر يش���به إعطاء نجيب محفوظ جائزة ما عن رواية مثل (حكايات حارتنا) أو حتى (قشتمر) بينما لم تفز بنفس الجائزة روايات أهم له مثل (الثالثية) أو (الحرافيش). لكن المفارقة المثيرة هي أن جوليان بارنز ،ال���ذي فاز بالجائزة ه���ذا العام، وس���بق له أن قال في مناس���بة سابقة وصلت فيها روايته للقائمة القصيرة دون الفوز إن هذه الجائزة ليست إال نوع ًا من اليانصي���ب الراقي « ،»posh bingoهو الذي رد للحفل وقاره ،وبدد خيبة األمل التي أحاطت بالحف���ل كله ،حينما طرح وهو يتح���دث في خطاب قبوله للجائزة استقصاءات مثيرة عن جماليات الكتاب الصغي���ر ،وع���ن أهمي���ة مواجهة زحف الكتاب اإللكتروني على حس���اب الكتاب المطب���وع ،وع���ن ض���رورة أن ينافس الكتاب جمالي ًا جهاز «كينديل» الصغير، الذي تقرأ في���ه الكتب اإللكترونية ،وعن أهمي���ة التركي���ز والتكثيف ف���ي الكتابة الس���ردية المعاصرة ،فرد للحفل طابعه األدبي من جديد.
113
فا�صلة
عبد السالم بنعبد العالي
الصورة المتوالدة أي وزن للعرب ..وأن تتصرف تمام ًا «أناش���دك ..أال تقيم ّ أكن الكراهية لهذه الس�ل�الة إنني وجود. كم���ا لو لم يك���ن لهم ّ طيب ًا يمكن بكامله���ا.. ّ بالكاد يمكن ألحد أن يقنعني أن ش���يئ ًا ّ رجال العلم ،لس���ت فأنتم، ذلك وم���ع هؤالء. عن أن يص���در َ الضعف حت���ى تغدقوا عليهم مدح ًا ال أدري لم���اذا ينتابكم هذا ّ يستحقونه» .بيترارك ()xiv بوادر ليس���ت قليلة تلك التي تش���ير إلى أن الصورة التي أصبحت للعربي لدى الغرب ربما لم تعد هي الصورة نفس���ها تكرست قبل ربيع الثورات العربية .ال نستطيع أن نزعم التي ّ أن الغربيي���ن جميعهم ُيقرون بهذا التب���ّدل ويعترفون به ،إال أننا نكاد نلمس���ه ،إن مباشرة أو بطرق ملتوية متخفية ،هذا يعبر بصريح القول عما شاب فض ً ال عن كون بعض الغربيين ّ تغير. نظرته إلى العرب أخيرًا من ّ وس���واء أق���ر الغربيون بذل���ك ،أم أخف���وه وأنكروه ،فال يمكنن���ا إال أن نؤك���د أن «الربيع» كان له أيض��� ًا وقع ّما على «الخارج» ،وأنه أس���هم إلى حد ما ،في زحزحة المنظور الذي كان الغربيون ينظرون من خالل���ه إلى العرب ،فأخذ العربي أن بإمكانه «يظن» أنه عليه :بدا ّ يب���دو في أعينهم غير ما كان ُ تبي���ن أنه قادر على ه���و أيض ًا أن «يفعل» ف���ي التاريخ ،كما ّ أخذ زمام المبادرة ،وأنه ليس فحس���ب قدرة على االستنساخ واالقتداء ،وانما هو كذلك قوة مبدعة خالقة. كل هذا مخالف أش���د المخالفة بطبيعة الحال للصورة التي تكرست لدى األوروبي ،والتي ما فتئ اإلعالم الغربي ينحتها ّ عن العربي. ال يعن���ي ذلك مطلق ًا أن ه���ذه الصورة الربيعي���ة الجديدة قد أزاح���ت نظيرتها القديمة ومحتها مح���واً .ذلك أن الصورة «الخريفية» لم تكن بس���يطة وال سطحية ،وإنما كانت مركبة متعددة األوجه. فالعربي يحمل في عي���ن األوروبي صفات متناقضة :فهو الش���يء ونقيضه في الوقت ذاته ،إنه كائن «ثانوي» وضيف آخر ،أو اآلخر ثقيل ،لكنه ضرورة و«ش���ر البد من���ه» ،وهو َ ّ على األصح ،لكنه أيض ًا المخالف للذات ،المحّدد لألنا :إنه ما بداللته أصبحت ُت َحدد «الهوية الوطنية». هذه الصورة ،أو الصور على األصح ،لن يكون من السهل 114
اس���تبدالها ،وباألحرى محوها والقض���اء عليها .وهذا ال ألنها متعددة متشعبة فحسب ،وإنما ألنها عريقة متجذرة في الزمن، ال كي تترسخ .أو لنقل على األصح إنها اس���تغرقت وقت ًا طوي ً فعلت فيها الرحالت فعلها، ت: وتراص طبقاتها صور تراكم���ت َّ َ وغذّاها المبشرون ببعثاتهم ،ثم رعتها الحركات االستعمارية تش���كلها هج���رة المهاجرين، وأقام���ت لها األس���س ،وأكملت ّ و«حرائق» المبحرين. ليس من اليسير والحالة هاته ،محو صورة إلحالل أخرى، إذ ال يكفي في ذلك التأثير في أنواع الخطابات المتداولة في هذا الشأن ،وال حتى استبدال قوانين بأخرى ،أو إقامة مؤسسات مغايرة تسهر على وضوح الصورة وصفاء العالقة .فالصورة المركبة ال تتكرس فحسب عن طريق أيديولوجيا يمكن العتيقة ّ مناهضتها ،وال هي تس���كن التش���ريعات والقوانين وحدها، وانم���ا تتغلغل ف���ي األدمغ���ة والعقول ،بل األده���ى من ذلك أنها تتخفّى في الالش���عور ،وتعشعش في المخيال الغربي، وتس���ري في إبداعاته وتتخلل رواياته ومس���رحياته وأفالمه وأغانيه ونكته.. ما يزيد األمر تعقيداً ،والصورة تركيباً :فهاته الصور التي ويرسخها اإلنتاج الفني ،والتي تتغلغل كرسها الكتابة األدبية ّ ُت ّ ف���ي اللغة وتس���كن اليومي ،صور فعال���ة صانعة للهويات، محددة لألنا واآلخر ،وليست منفعلة فحسب عاكسة لها .إذ ال ينبغي أن ننس���ى أن الغربي إذ ينتج صورًا في الرسوم التي يرسمها ،أو الروايات التي يبدعها ،أو األفالم التي يعرضها، أو األغان���ي التي يرددها ،أو النكت التي يتداولها يس���قط هو نفسه في مسلسل االستنساخ وآليات خلق التشابه واالشتباه فالتش���به ،simulationفتغدو تلك الصور التي ابتدعها مرايا ّ خالق���ة تدفعه إلى استنس���اخ نس���خه ،تغدو ص���ورًا مولّدة ألخرى ،صورًا متوالدة. نلمس اآلن تعقّد المسألة وصعوبة تحديد الصورة وضبطها تشكلها وتوالدها ،وباألولى محوها واستبدالها .فحتى ووقف ّ إن كان الربيع إذًا قد أحدث زحزحة ّما ،فإنه لم يعمل إال على المكرسة ،وربما ساهم في التساؤل بشأنها، خلخلة الصورة َّ والتشكك في س�ل�امتها ،وِل َم ال؟ ..في توليدها وفسح المجال لصورة مغايرة.
حممود قرين ممدوح عبدال�ستار م�صر لطيفة باقا املغرب
ن�صو�ص
ندى مهرى اجلزائر رسوم: Sltay Sadigzadeh إيران
115
ص ٌ ل َف ْ * صةِ األَلَم مِ ْ ن حِ َّ
وحاولَ ْت �أن متلأ اللوحة الفارغة ر�س َمت �شجرة ر�س َمت امر�أة ثم ر�س َمت رج ًال ..وقالت: ها هي ال�شجرة التي �أجنبَ ِت اخلطيئة ع َّما قليل �ست�أتي اخلمارة بال�سكارى الذين يقلقون بال النظام �ست�أتي التفاحة وهي تتم�شى يف �صحبة ع�شيقها و�سي�أتي قارب الع�شاق لي�أخذ ِح َّ�صتَه من الأمل.
حممود قرين «يا وجه الأحباب� ،إن �أ�صبهان بالدي،ويل فيها بنت عم كنت �أحبها ،وكنت متولعاً بها،فغزانا قوم �أقوى منا و�أخذوين يف جملة الغنائم كنت �صغرياً فقطعوا �إحليلي ،وها �أنا على حايل ،بعد �أن باعوين خادماً..تقدم يا «�أن�س الوجود» فـ «الورد يف الأكمام» تركت ا�سمك على فم طائر القمري لكن ال تن�س من يريدون �أن يفكوا قيودهم.».. من حكاية �أن�س الوجود مع الورد يف الأكمام «بت�رصف» �ألف ليلة وليلة
1
يف مثل هذه ال�ساعة ْقب َل مئات ال�سنني حتدث َْت «ورد الأكمام» �إىل حيواناتها الأليفة ثم َح َك ْت ق�ص َة الثعلب الذي خدع احلمار وعبرَ النهر فوق ظهره – م�ضطجعاً – وبني يديه ال�سيجار كما حتدث َْت عن الغراب الذي ظل يُلقي باحل�صى امل�سموم يف َ�صحن قائد اجلي�ش معتقداً �أنه �سريث بَ َّزته لذلك َّ فك َر ْت يف القدي�سني والأ�شقياء مروا من هنا الذين َّ و�صاروا جمرد ِنكات تتداولها الذئاب.
116
حتدثت املالكة �إىل حكمائها يف غرفة النوم ِ قال حكيم: تخيي جنماً َرّ نبعث يف َط َلبِه مع امل�سافرين ُ و�س�أدفع له ما يريد قال �آخر: ال تن�شغلي باملوتى الذين انح�رشوا يف جوف ال�سهل جر ٍة فارغة وال به�ؤالء النائمني مثل َّ �إنني �أملك �ضيعتني وقنطاراً من النبيذ وقال الثالث: معذرة �أيتها املالكة ال �أكاد �أ�شعر مبا تقولني لقد �سرُ ِ َق قلبي يف حادث �سطو البد �أن �أ�ست�شري طبيباً. رت املالكة �إىل �إفريزها هكذا ن َظ ِ �ضباب رقيق الذي غ َّلفه ٌ
2
لمَ ْ �أَ ُع ْد �أَذكر ذلك الوجه «ورد الأكمام» تلك الأمرية التي هربت من �إخوتها داه َمهم الآالم َق ْب َل �أن تُ ِ ويَ ِح َّل مبركبهم ال َع َط ْب. كثريون منهم الآن يتعلقون بخ�شب ٍة يف جوف املحيط و�آخرون يرت�أ�سون َ قبائل عميق َة الأث ِر يف حياة �أُممَ ِهم �سمِ عنا عن كثريين منهم يُق ِي ُمون امل�صانع ويدخنون احل�شي�ش ويخرجون يف نُزهات �شاطئية ويقولون �إن ذلك من �أَ ْجل ال�صالح العام وهناك �آخرون يتاجرون يف ال�سالح دفاعاً عن الأغطي ِة ال َو ِثري ِة ل�شعوبهم قات الدعائي ُة متلأُ ال�شوارع وتر�ص ُد امل ُ ْل َ�ص ُ َ الإجنازات رغم �أنهم لي�سوا يف حاجة �إىل ذلك. أم�س َو َ�ص َل ْت برقي ٌة من �إخوتهم بال ِ
املتعلقني بخ�شب ٍة يف جوف املحيط يطلبون امل�ساعدة وقد َو َع َد ال ُق َّوا ُد ببحث الأمر عند عودتهم من الإجازة ال�صيفية.
3
�إىل �أق�صى ال�رشقِ مي�ضي القائ ُد ب�صحب ِة َم َال َك ِت ِه ُ خرائط الفاحتني و ْحت َت �إبط ِه قال بثق ٍة �إنه ي�ض ُع َق َد َماً يف «�سمرقند» و�أخرى يف «تُركمان�ستان» عند �أول جدولٍ �صادفه �أَ ْو َق َف ا ُجلن َد ونظر �إىل اخلرائط ف�أدرك �أنه َ�ض َّل الطريق قالت امل َالكة: �أيها القائد احلافر على احلاف ِر َ�ض ِع َ وال تكن بطيناً و�ص ْل َت �إىل هناك و�إذا َ
أر�ض �أرجوحةً. ال جتعل ال َ ُ قائد مغمور ينظر الرجل بِبَاله ِة ٍ ُ ك�ضبع طريد يئن بينما ُّ ٍ وهاهو يَ ْج َم ُع ا ُجلن َد لريوي حلماً ُمفزعاً ر�آه يف املنام ويت�ساءل: َم ْن منك ُمو يف�رسُ يل �أَ ّن ال�سلطا َن ينق ُل ِني اللحم �إىل باب امل َ َر ْق ؟! من باب ِ
4
املالكة التي �أتت من �آخر الزمان تحُ ُ ادث ال�شم�س والنجوم وتلقي �أ�شعتها الذهبية على انحناءة املكدودين ثم مت�شي كغزالة رعناء تقول للفالح: �أيها الديك �أ�سمعني �صياحك خذين �إىل اجل�رس �أيها الرجل القوي وامنحني لوزة هل تعرف كيف تنزع ع ِنّي جوربي و�إزاري،
وتنقر ب�أ�سنانك بني �أ�صابعي؟ َ الفالح مفتول الزندين يرتك ف�أ�سه ُمنغر�ساً يف العط�ش ويهرع �إليها: يا�سيدتي �أنت �أخت النجوم ورفيقة املالئكة وهذا لَ ْو ُز �أبيك �أنا اخلادم الذي �أتى �إىل هنا بعد �أن فقد �أهله ونام يف العراء ُ الديك �أنا الذي مي�شي على الأ ْع َراف فتقول املالكة: �أيها الديك �أَ�سمعني �صياحك فيقول لها: �سيكون لك ذلك �أمهليني فقط �إىل الغد و�سوف �أح�ضرِ ُ معي ِمنقاري. * المقاط���ع ج���زء من قصيد طويل سينش���ر في دي���وان تحت عن���وان «ورد األكم���ام تتزوج الضوء». 117
رائحة القسوة لطيفة باقا
السماء تمطر فوق مصابيح العيد الوطني ..الليل الذي كان قد انهمر في الخارج بدا غريب ًا تقريب ًا واستثنائي ًا في عتمته. السيارات وأعمدة النور وأضواء المحالت التجارية تساهم أيض ًا في هذا الشعور.. أكاد أبكي في مكاني.. رحمك هذا ينبغي استئصاله.حاولت أن أرى أمرًا آخر خلف نظارتيه الس���ميكتين .كان الطبيب واقف ًا في مواجهتي ،ظل ينظر إلى عينين زجاجيتين باردتين .تذكرت بس���رعة تلك الحفرة القديمة التي ألقي فيها جس���د أبي ذات صباح بعيد في مقبرة سيدي بلعباس وكانت ب���اردة ..فكرت فج���أة أنها كانت ب���اردة .باردة ج���دًا عليه، خصوص ًا في شهر ديسمبر. نحن في ديس���مبر ألي���س كذلك دكتور .يا له من ش���هربارد ..قلت له إنني س���وف أغادر هذه المدينة ..سوف أحمل رحم���ي معي وأرحل .وأنا أتقدم من الباب آلمتني بش���دة في ظهري نظرت���ه الزجاجية التي كنت أعل���م غريزي ًا تقريب ًا أنه يحفر بها جسدي الذي كان ينسحب أمامه.. ف���ي البهو تق���ف الممرضة الت���ي لم تمنحن���ي عيناها أي تعاطف ولو ضئيالً ..ثم تذكرت ثانية أبي في صورته الرائقة وه���و يتبول من النافذة في غرفة الجل���وس بعد ليلة طويلة من الش���رب ..عندما كان الليل ونش���وة النبيذ يتصاعدان في رأسه ،كان ينتصب أمامنا فجأة ..يقف في النافذة ..ويتبول على العالم. أنا لم أس���تطع أب���دًا أن أتبول على العالم( ..لهذا الس���بب بالضب���ط كنت في حاجة إل���ى تعاطفها ،أقص���د اهتمام تلك المرأة الممرضة التي كانت بال أدنى ش���ك س���فاكة دماء مثل باقي الممرضات المجرمات اللواتي يتجولن بكامل الحرية في مستش���فيات ومصحات العالم )..لم أبك بعد ..كنت فقط على حافة االنهيار ،جميع ًا كنا دائم ًا أقل ش���جاعة ،فلم ينتحر منا أحد ..ولم يتبول أحدنا من النافذة أبداً ..بل حتى لم يقذف أي
118
أحد منا بجس���ده التافه عبرها إلى الخواء الفسيح ..الممرضة لم تتابعني بعينيها الممسوحتين تحت المساحيق (كنت أتوقع أمرًا كه���ذا ..طبع ًا كما يمكن المرأة منتهية أن تتوقع من امرأة افترضت فيها الكتب المدرسية الكثير من الرقة المفتعلة.. امرأة تعلمت اإلحساس بالشفقة أمام البؤس اإلنساني.).. ال أدري كي���ف فكرت فجأة في جمع رس���ائلي الفاجرة إلى عش���اقي الكثيرين والمنتش���رين كاأللم في العالم حيث طالما كتبت عن أمور لم أعد أتذكر ،ومنذ زمن بعيد ،الس���ياق الغبي الذي جاءت فيه ..سأجمعها كلها في ظرف كبير وأرسلها إلى إحدى أكثر صديقاتي تكتم ًا (ه���ذه الميزة بالذات ،أقصد ميزة التكتم لم تكن أبدًا من ش���يمي ،ولم تكن أبدًا لتشغلني معرفة سبب ذلك). ألقي بجس���دي المتعب ف���وق األريكة القديمة في الش���رفة وأمض���ي أغني بصوت عال أغني���ة حزينة كان يدندن بها أبي في لحظات انتش���ائه ..تتحدث عن حرب مجنونة بال معنى.. ع���ن جبال عالية جدًا وعن القس���وة التي يش���م أطفال الفقراء رائحتها عن بعد.. في رس���ائلي الكثير من الش���جاعة والجرأة .أفكر اآلن كما ال يليق بس���يدة عاقلة أن تكتب ..منذ س���ن السادس���ة عشرة ب���دأت حربي ضد التش���ابه والخوف ..كتبت م���ا ال ينبغي أن أكتبه وأرس���له إلى رجال ما كانوا ليستحقوا كل ذلك الفجور الراقي ..كنت أشبهه ذلك الرجل الذي يستقر اآلن داخل حفرة ال وكنت أعلم أنه تشابه على الورق باردة ..اعتقدت ذلك طوي ً فقط وليس أبدًا في الحياة.. عندما مات أخيرًا في غرفة طفولتنا ،حيث كانت أمي تحكي الحكاي���ات لتعوضنا بها عن نقص األغطية في ليالي الش���تاء الطويلة ..دخلت ألراه آلخر مرة ..كان س���عيداً .وخيل لي أنه كان يبتسم لي بتواطؤ أفهمه ..اقتربت منه وطبعت قبلة فوق جبينه ..ولم أبك. أنظر إلى الخارج إلى الشارع الضاج باآلخرين واكتشف أن
الحياة ستكون حياة لغيري ..وليست لي ..يمكنني اآلن فقط أن أقتل كل الذين أس���اؤوا إلي خالل وجودي القصير – نسبي ًا – ف���ي هذه الدنيا .معلمتي «ال ميتريس عائش���ة» تلك البدينة الش���ريرة التي كانت تشد شعر رأسي وتس���خر من فساتيني «المين���ي» وهي تلف���ح فخ���ذاي النحيلتين بالس���وط الجلدي الغلي���ظ .مدير الثانوي���ة الذي طردنا أس���بوع ًا بأكمله وأهان أهالينا لتضامننا مع فؤاد زميلنا الموقوف عن الدراسة بسبب قصة ش���عره التي كانت على شكل نخيل الشارع الرئيسي في المدينة. يمكنني اآلن أيض ًا أن أقتل بعض مسؤولي هذه البالد التي ش���اءت إحدى الصدف السيئة أن أولد فوق أرضها ..ثم أخيرًا الجزء األكبر من العش���اق الس���ابقين الذين كان يحلو لهم فيما يبدو عصر قلبي الغبي بين أياديهم الغليظة.. الليل واإلحساس بأن ش���يئ ًا ما قد ال يحدث أبداً ..ال لشيء س���وى ألننا لن نك���ون هن���اك ..األمور تحدث ونح���ن نعتقد أنه���ا حدثت ألننا كنا هناك ..اللي���ل يجعل أزمنة غابرة ومدنا جاحدة تكتسحني مرة واحدة ،وبصفاقة كبيرة غير محتملة. والحاف�ل�ات تمزق ش���وارع المدينة ..س���وف تظ���ل ذاهبة أو تجتث آخر رحم في المدينة ..التاكس���ي عائ���دة هكذا إل���ى أن َّ
مر األحمر الذي كان يحملني من ذلك المكان البارد منذ لحظات ّ أمام الكثير من المس���اجد التي ل���م أدخلها أبدًا ألنها كانت دائم ًا تخصص هامش ًا صغيرًا جدًا في الخلف للنساء المؤمنات .مرت س���نتان اآلن وأنا أجتاز نفس الشوارع ومع ذلك لم تخبطني أية س���يارة أجرة أو حافلة ..ومررت دائم ًا بالمس���توصف.. هناك كان يقف باس���تمرار الرجل ال���ذي كان يضاجع الجدار. رأيت���ه أول مرة عندما وصلت إلى ه���ذه المدينة ..رأيت ظهره ووس���طه يهتزان في اتجاه الجدار القديم .كنت أفضل طبع ًا أن أعتقد أنه يتألم ..ظل «يتألم» بذلك الشكل الخاص كلما مررت من هناك. لس���ت وحدي بعد .قد يرن الهاتف ف���ي الغرفة المجاورة أو جرس الب���اب .لكني أراه من اآلن قادماً ..أراه ش���بح الوحدة الرهي���ب يقترب مني وهو يحرك في الغرفة برأس���ه األس���ود الثقيل في اتجاهي ..ويبتسم. س���ألتها تلك الصديقة التي س���وف تتلقى رسائلي لتتكتم عليها عمرًا بأكمله: أهو قدرنا أن نعيش وحيدات؟كنا نمشي سوية في الطريق الطويلة المعتمة والتي طالما حلمنا بمنزل يشرف عليها..
119
كن���ت أريد أن أقول إذن (م���ن كل هذه الثرثرة التي ال تليق بامرأة س���وف يجتثون منها رحمها ف���ي اليوم الموالي) إنهم سيس���تأصلون رحمي ومن بعده باق���ي أعضائي ..ثدياي.. رجالي ..كليتاي ..عرقوباي ..عمودي الفقري ..إلى آخره.. س���وف أنسحب إذن بالتقس���يط كما الفقراء الش���امخين أمام بائع اللحم يطلبون عشرة دراهم من الكبد (ويلحون أن يكون طرياً) ليتوجهوا بعد ذلك إلى دكان البقال ليطلبوا منه درهم ًا من الش���اي وآخر من السكر ..وسيجارة «ديطاي» بالتقسيط المريح دائماً ..وحدهم األغنياء البشعون ينسحبون بالجملة بحيث تت���وارى جثثهم النتنة بس���منتها المفرط���ة ،وبكل ما ص���رف عليها من أموال في األكل والعطور وكريمات التدليك والمراه���م ..تتوارى خل���ف التراب كاملة غي���ر منقوصة أبدًا ينفج���ر صوت غريب مقهقه ًا بضحكات غريبة داخل حنجرتي في الغرفة المعتمة. س���وف أغادر هذه المهزلة بالتدريج .وليس مرة واحدةكما يحدث لباقي السخفاء الذين انسحبوا قبلي والذين سوف ينسحبون بعدي. المدينة مصابة بالقرف ..وبالعيد الوطني.. يبدو أنني س���وف أفشل تمام ًا في التفكير في شيء جميل من اآلن فصاعداً ..إنج���اب طفلتي ..لن يكون بإمكاني النظر إلى سنها األولى الصغيرة وهي تلمع داخل ثغرها ..كلماتها األول���ى ..حماقاتها ..كنت أحل���م أن يكون «نورس» .ال أملك في واقع األمر س���بب ًا مقنع ًا وحقيقي��� ًا أو حتى متعارف ًا عليه لالبتس���ام في وجه أحد ..ومع ذلك كل ش���يء ممكن في هذه الش���رفة المطلة على الحياة .هذه الحياة التي سوف تستمر بكامل زيفها ومسلسالتها المصرية بعدي.. وجه���ي ..بش���كل عينيه وارتف���اع أنفه ..بمس���حة الغباء الرائق���ة التي طالما كان���ت تعلوه في لحظ���ات بعينها خالل وجوده القديم فوق عنقي ..أنا أعرف ش���كله جيداً ،لست في حاج���ة إلى النظر في م���رآة ألتذكر تقاطيع���ه التي تصيبني بالغض���ب أحياناً ..لقد كان دائما هناك أعلى جس���دي ..غرب ًا ال تقريب ًا وغير واقعي بالمرة ..س���وف يقفون حتماً، ومنفص ً من حي���ن إلى آخر لينظروا ببالدة تليق بصدقهم إلى صوره داخل اإلطارات الباردة ث���م يتأوهون ويتلفظون بكالم كثير لن يغير من أمر ثقب األوزون شيئاً. س���ألتني صديقتي وهي تتلقى مني ظرف الرسائل الكبير إن كان���ت تس���تطيع أن تقبلن���ي ،كانت س���خيفة تمام ًا وهي تس���ألني ذلك ،أما بالنس���بة ل���ي فأنا بالتأكي���د أنفر من هذا الس���لوك أن يحصل تقبيل بين امرأتين أو رجلين .بل أحس أحيان ًا بتقزز حقيقي من تلك المشاهد التي تصفعنا بها بعض القنوات الفضائية ..أمي كانت تندهش عندما تجدني متشنجة وهي تقبلني وتعانقن���ي ..كنت أتراجع إلى الوراء وينتفض جسدي فجأة .أمي لم تستطع أن تفهم ..وال أنا فهمت..
120
صديقتي تريد أن تقبلني ألنني سوف أموت .وأنا ال أريدها أن تفعل ألنني ال أحب ذلك. البرودة س���وف تتفشى يوم ًا عن يوم أكثر في جسدي وفي الغرفة ..وفي عالقتي باآلخرين ..برودة حقيقية ،أرتعش.. من الخوف ومن الوحدة ..أش���عر أن جسدي مصاب بالموت.. وزنه سيستقر قريب ًا داخل حفرة ..باردة. الدم���وع تورطنا في ش���عور ق���وي بالحي���اة ..المصابون بالحي���اة هم فقط الذين يبكون ..أتذكر أم���ورًا كثيرة حدثت.. جميعهم كانوا دائم ًا هناك أو هنا ،لكنهم جميعهم لم يستطيعوا أبدًا فعل ش���يءألجلي ..كما لم أس���تطع أن أفعل ش���يئ ًا ألجل أحد. أس���مع س���عا ًال حادًا مرة أخرى ..يبدو أن الصوت صادر عني ..لم يكن هناك أي شخص ثان غيري في المنزل.. النبت���ة فوق المائدة تك���ون مليئة بالضوء خ�ل�ال نهارات بعينه���ا ..هي مظلم���ة ألنه اللي���ل ،وألن رحمي س���وف يتم استئصاله غداً ..لم أكن شيئ ًا خالل حياة بأكملها.. كن���ت أود أو باألحرى أطمع أن يحضر أح���د ما ،أن يهتف ألخبره أنني في حاجة إل���ى حزن كبير ..حزن راق وأصيل، ألشعر بجسدي أكثر .هذا الجسد الذي أخبرني أحد األطباء هذا يدي أحد الصباح أنه خذلني .أنظر إلى يداي ..إنهما تش���بهان ّ م���ا ..أكثر من أي وقت مضى تش���بهان يدي���ه ..كان يضع يده قرب يدي ويطلب مني أن أتأمل هذا التشابه الغريب.. أنا ال أش���به أحداً ..لس���ت أحدًا آخر غيري ،لذلك س���وف أم���وت وحدي لن يك���ون ألحد ما أن يموت مكان���ي ،أو يتألم عوض��� ًا عني ..صدفة ما قذفت بي ف���ي رحم امرأة ال أعرفها.. أو عل���ى األقل كنت كائن��� ًا حي ًا مثل الذب���اب والماعز والقطط ونبت���ة الدالية في منزلنا ..جميع ًا كن���ا كائنات حية ..تتنفس وتتغ���وط ..لكنني كنت أكثرها تصديق ًا لألوهام .صدقت أنني سأظل بينهم ..أس���تقل الحافالت مثلهم ..أشاهد المسلسالت وأع���د أطباق��� ًا ناجحة من البي���ض والطماط���م ..صدقت ذلك ال حتى أنني س���طرت مثلهم بعض المش���اريع الرائعة من فع ً نوع إعداد بلوفرات دافئة للش���تاء القادم .واالحتفاظ ببعض الرواي���ات التافهة لقراءتها على ش���اطئ البحر خالل الصيف الذي س���يأتي ..واقتناء ثوب جديد للسهر مع الرجل الخارق.. الذي لم أصادفه بعد. صادفت الكثير من الخيبات.. في الغرفة األخرى ال يرن الهاتف.. وال جرس الباب. ك���م صدقت الحياة ،يب���دو بالفعل أنني صدقتها (أكتش���ف ذلك اآلن فقط) ،صدق���ت الهواتف التي ظلت ترن باألكاذيب.. واألج���راس الت���ي دقت ألجل���ي ..صدقت الحاف�ل�ات ،صدقت المصحات ،صدقت النوافذ ،صدقت المدن ..وصدقت جسدي.
ضحكة هاجر ممدوح عبدال�ستار جس���د هاجر مازال ينبض بالبكارة ،ويعطي إشارات مبهمة ل���كل الرج���ال دون أن تعي .هذا الجس���د م���ازال يطلب حقه في اللم���س بلطف ،وأحيان ًا كثيرة بالقس���وة والعنف التي دائم ًا ما كان يحبها .ورغم ذلك ،لم يس���تطع الفكاك من القمع المتعمد، وحش���رته صاحبت���ه في جلباب أس���ود ..واس���ع ال يليق به، وكانت له -الجس���د -حريته النزقة ،ويتحرك كيفما ش���اء دون عوائق ُتذكر .كان يحب االرتطام بأجس���اد أخرى .هذا االرتطام غي���ر المتعمد في الس���وق ،وف���ي المواصالت العام���ة أحياناً، مضت.. يحرك فيه هذه النش���وة التي يطلبه���ا منذ أعوام كثيرة ْ لكنه في نهاية األمر ،استس���لم هادئاً ،ومطيع ًا لصاحبته التي جعلته للصالة ..كانت الصالة هي أكثر األفعال التي تجعله بال رغبة حقيقية .حاول االنفالت مرات عديدة رغم كل القيود التي رضت عليه. ُف ْ النس���وة الالتي يجلس���ن بجانب هاجر مت���وردة خدودهن، ورائحة الليل الفائت ،وزيت الشعر العطرة تزكم أنف هاجر التي فقدت زوجها وهي لم تس���تعد بعد لذل���ك .كن ينظرنها بتوجس ْ ���ت هاجر بالنظرات المتوهجة أحس ومازلن. أعوام، منذ وخيفة ّ ْ تحصني كيفما ِ طأطأت شئت» ْ التي تقول لها «نحن أحسن منكّ . تصب اللعنة على الحياة ،وتلك األشياء رأسها فترة ،ثم ْ راحت ّ القذرة من وجهة نظرها في تل���ك اللحظة الحرجة ،ولم يتركها جس���دها لحالها ،وفقد صبره وإيمانه ال���ذي يتحصن به ..لكن صالحة -المرأة العارفة بتلك األش���ياء الصغيرة -قالت بصوت هام���س ،وهي تنحني عل���ى هاجر التي تنظ���ر لبالطة مهترئة أكلتها األرجل-: .....ووشوش���تها بكلم���ات قليلة كانت كفيلة بقتل هذا الجس���د.. لوال أنه محاصر ومس���جون .كانت كلمات محمومة وموشومة وأشاحت بيديها للجميع. حاولت هاجر القيام، برغبة حقيقية. ْ ْ ابتس���مت صالحة بخبث -كانت ابتس���امة بين الرفض والقبول- ْ وربتت على هاجر في تلك اللحظة ،وقالت: ْ حظوظ !وأفاقت نظرت هاجر للحجرة، وتمادت صالحة في تحسسها. ْ ْ ْ وقبضت المستسلم، الجس���د من نفس���ها ونترت ش���رودها، من ْ ْ وقالت ،وقطرات الدمع مرتعشة: عليه بيديها، ْ حرام ِعليك وقبل أن تخطو هاجر الخطوة األولى معلنة انسحابها ،كانت وتقبلها على خدها األيس���ر الذي تورد صالح���ة تهجم عليه���اّ ،
وابتس���مت منصاعة أحس���ت هاجر أن صالحة تتأس���ف، فجأة. ْ ْ وراحت صالحة تنقل أسفها لتلك االبتسامة المرسومة بعناية، ْ ولمست بتعمد شفتيها اللتين ارتعشتا بسرعة على الخد األيمن، ْ وتركت هاجر جس���دها-رغم ًا عنه���ا -ينتفض مثل فرخة مفرطة. ْ مذبوح���ة .في ه���ذه اللحظة بالذات ،انكش���ف أمر هذا الجس���د.. المغلق على الجميع كبضاعة فاسدة أو نادرة جداً. ُ في الغرفة المفتوحة ،كانت ضحكات النس���وة مكتومة نوع ًا ما .وحكايات الليل أغنية جميلة للقابضين على أزواجهن فقط، حت���ى أن واح���دة منهن قال���ت بصوت هام���س وضاحك في آن واحد-: ......وغمزت لزميلتها التي قالت: ْ وأنا أيضاً.بين الفعل واألمنية مس���افة قصيرة يمك���ن أن تقطعها المرأة بس���هولة في هذه اللحظة إن أرادت ،وجس���د هاجر يريد حياته، والصالة تمنعه ،والسواد المطبق عليه ال يعطيه أي أمل. بعد هذه المحادثة البس���يطة ،انكشف أمر جسد هاجر ،وظل وأخذت صاحبته -حينئذ -تحكي على حال من القلق واالنتظار، ْ حكايته���ا .حكاية ليس به���ا ما يميزها .هي بالتحديد :ش���كوى. والنسوة يستمعن إليها بشغف ،وعيونهن معلّقة على هذا الجسد المستور. وبدأت -دون خوف انزوت هاجر بصالحة، بع���د أيام قليلة، ْ ْ سيطرت عليها منذ مدة قصيرة. التي أحالمها تحكي عنْ ٍآه يا صالحة! وعض ْت على ش���فتيها لت صدره���ا وضرب���ت س���كت القل���بّ ، ْ ْ ُ وابتس���مت ابتس���امة صافية، المتلونتي���ن بلون حلم البارحة، ْ فقدت زوجها. وضحكت ألول مرة منذ أن ْ ْ 121
أحالم حائط ندى مهرى عندم���ا كنت الش���يء وال فرق بين���ي وبين الحائ���ط الذي ترتاده قدمي ،عقدت صفقة انتظار طويل للحصول على عمل وانضممت لقائمة (الحيطيست*) ،كان الجدار صديقي الغالي، كن���ت أتامل حيات���ي المعلقة في نقطة الوق���ت الرتيب األزلي، بأيامه ولياليه وفصوله المتش���ابهة ف���ي القتامة والغارقة في اليأس وهي تهرب مني ،ال بل تس���خر مني ،فتتدفق أنفاس���ي الفائرة في وجوه اآلخرين غضب ًا وتمردًا وحقداً. حاولت اختراع منافذ لتس���ريب الوقت المكدس بأن تصادقت م���ع بع���ض حوائط الجامع���ات بفضل صدي���ق يفوقني بعمر وخبرة في الحوائط السخية ،حيث دلني على طلبة يحضرون رس���ائل التخرج ويحتاج���ون الى مدقق لغ���وي مقابل مكافأة مادية ،وكانت فكرته جيدة فذكائي وبراعتي في اللغة العربية ال من الفاقة وإن كانت غير كافية ،وكنت وقواعدها أنقذاني قلي ً دوم ًا أشعر بالندم لذكائي العاطل عن العمل واألمل تمام ًا مثل م���ا يفتقد فؤادي العاطل عن الحب للحنان ،فحياتي ش���حيحة فم���ن أين يعثر قلبي على تحية عاطفي���ة حتى ،فأنا ال أتعدى كوني محارب ًا مدافع��� ًا بالمخالب تارة وبالتجاهل تارة أخرى،
فنظرات اآلخرين الملوثة بالفضول والشفقة والخليعة بالعداء لوجودي تتناسل حولي وتتلفظني كبقايا إنسان وأدنى. شعوري الدائم بأني ال شيء جعلني أهرب إلى قلبي وألهيه، وكان البد أن أطعمه بأي عاطفة حتى أتباهى بها أمام أقراني، هذا هو قانون الفحولة المفروض في عالم الجدران. كنت أمارس هواية رياضة (المشي*) مع حبيباتي المزعومات وكنت أتعجب لكم المشاة غيري ،هناك ظاهرة «مشي» عامة في الشوارع وعلى كورنيش البحر ،وهناك مشي حتى في صاالت الس���ينما طالما رائحة القبل واألحض���ان تنطلق من كل األماكن الت���ي ذكرتها ،والمدهش أن الجميع اتفق على أن كل ما يحدث من مناظر فهي س���رية للغاية وال تخ���دش الحياء العام ،وكنت ش���ديد اللؤم إذ رويت لرواد المقهى الذي أعاقره كل مس���اء عن الكثير من مغامراتي العش���قية البائسة والتي حولتها بأدواتي الخاصة إلى بطوالت ذكورية حفظ ًا لماء الوجه. وبعد س���نوات عقيمة امتصت رمانة عمري أمضيتها أتجول في أروقة االنتظار ،ومس���افات البحث حصلت على عمل بفضل صديق أسقط جداري وأنقذني من سياطه. كرضي���ع لم يتقن الكالم بعد وممتل���ئ بصدمة اختبار كل ما يق���ع عليه ناظره هكذا كان إحساس���ي وأنا أنظ���ر الى مكتبي بهيئته المهيبة ،وأتلمس زيه الخشبي الناعم اآلسر والمتعالي، وأرقب لمعان سطحه الزجاجي المستطيل والمتناسق الحواف الذي ينتهي بانحراف مغر عند األطراف ،تتوسطه أريكة حانية تس���تدير في كل الجهات وتومئ اس���تقامتها المحببة الى جهاز كومبيوتر يفوقني عصرن���ة وحداثة أنا القادم لتوي من أزمنة الغبار. أما الهاتف بلونه الس���ماوي الشفاف فتنام في حضنه بأمان س���ماعة جاهزة لإلنقضاض على مس���معي لوال رنينها الرخيم كس���يمفونية ،هاتف متواطئ مع أخالقي المزاجية التي دربتها الج���دران ،فما أجم���ل أن تغازل امرأة من مكت���ب يحرض على اإلغ���راء ،حتى نبرات صوتك تتغير ،ومف���ردات لغتك ترتدي الزي الرسمي للفارس النبيل األسطوري الذي تحلم به كل فتاة ولم تتعثر به مطلق ًا إال في أرش���يف أمانيها ،أنت الذي أمضيت أجندة أيامك في دهاليز مجهولة العنوان وتربيت على أحاديث مش���فرة ومبهمة كوجودك ،وألنك قدمت من حوائط النسيان، ها أن���ت اآلن تصدر أوامرك األولى على عام���ل يأتيك بفنجان قهوة يحملها بطريقة تش���ي إلى دوال���ي ماضيك فمعك األوامر تبدأ من قاع حلم موؤود قضيته تدقق في لغة أحالمك. ال من ه���ذا المكتب الممس���وس كمارد حرر في عروقي س���ي ً العنفوان السجين والمفقود لسنوات ،غير أن قلبي لم يتعاف، ال بش���عارات الحوائط الغاضبة والناقمة ،وليست فلقد ظل مبل ً الج���دران وحدها حاج���زًا بل لحوائط ال���روح تجلياتها أمام كل عمل ال يعجب مس���ؤوليك وأمام كل أنثى ال تستجيب لتطلعات مكتبك األنيق المتلبس بذريعة حائط سابق. البطال أو العاطل عن * الحيطيس���ت :كلمة جزائرية تطلق على الش���اب ّ العمل الذي يقضي نهاره متكئ ًا على حائط بحيه. * المش���ي :ه���ي صف���ة بالجزائ���ر تطلق عل���ى عالقة الحب بين الش���اب والفتاة.
122
الضواحي المعتمة فرنسا تدين كثيرًا للجاليات العربية التي رفعت عالي ًا اسمها .تدين لزين الدين ال في كرة القدم ولجمال دبوز في زيدان مث ً الكوميديا .رغم اتساع دائرة المتعاطفين مع خطابات اليمي���ن المتطرف المعادية لألجان���ب ،فإن القليل فقط من ينكر دور المهاجرين في إثراء ثقافة البلد .تجارب أدبية وفنية مهمة برزت خالل السنوات تكرس القليلة الماضية واس���تطاعت أن ّ اس���م ًا لها ،على غرار الكاتبة الجزائرية الشابة فايزة فين ( )1985التي أصدرت، لحّد الساعة ،ثالث روايات ،أوالها «غدًا كيف كي���ف» الت���ي نقلتها إل���ى العربية دار بلومزبري – مؤسس���ة قطر للنش���ر (.)2010 بطلة الرواي���ة «دري���ة» مراهقة في الخامس���ة عش���رة ،تعي���ش ف���ي إحدى الضواح���ي الباريس���ية رفق���ة والدته���ا
بعدما هجرهم���ا والدهما وق���رر العودة إلى المغ���رب وإعادة بناء عالقة زوجية تصور فصول ّ ثاني���ة مع امرأة ش���ابة. «غ���دًا كيف كيف» بع���ض جوانب العيش في الضواحي ،التهمي���ش الممارس في ح���ق الجالي���ات المغاربي���ة ومعاناتهم
المتواصلة مع الشرطة التي تنظر إليهم، بشكل دائم ،بعين الريبة. رغم صغر سنها فإن درية تجد نفسها مضط���رة لتحم���ل بعض المس���ؤوليات االجتماعي���ة .فوالدتها التي تعمل منظفة تقر بعدم قدرته���ا على تحمل في فن���دق ّ المتاعب اليومية .بي���ن البيت والثانوية والمرش���دة االجتماعي���ة ت���دور يوميات دري���ة التي تفتقد حياته���ا لمعاني الحب والطمأنينة وتقول« :الحياة ضربة حظ على الرغم من كل ش���يء» .حياة يمألها القرف من ظلم الوالد ومن تعسف الحياة في باريس ليس���ت تشبه باريس األفالم واألح�ل�ام .باريس أخ���رى يعيش فيها الكثي���رون على الهامش ،تدفع درية إلى مخاطبة الق���ارئ« :كثيرًا م���ا تمنيت أن أكون شخص ًا آخر ،ربما حتى بعيدًا في عصر آخر».
كتب في روايت���ه الجديدة المعنون���ة «حديقة الس���يدة العجوز» يواصل ف���ؤاد العروي التنقيب ع���ن العالق���ات المتناقضة التي تجم���ع بي���ن المغ���رب وفرنس���ا .رواية تسودها نبرة س���اخرة من الحياة ولعب بالكلم���ات .بط�ل�ا الرواية هم���ا زوجان فرنس���يان (فرانسوا وسيس���يل) يقيمان في باري���س ،يقرران فج���أة تغيير نمط عيش���هما وينتق�ل�ان إلى ال���دار البيضاء حيث يشتريان بيتا مرفقا بحديقة .دونما معرفة مسبقة بالثقافة المغربية وبعادات
وتقالي���د البل���د .المؤل���ف يرص���د حياة الزوجين على امتداد س���نة كاملة .حياة يلفها كثير من المفاجآت والتقلبات .حيث يجد الثنائي فرنس���وا وسيس���يل نفسهما تدريجي���ا في صلب حكايات مغربية ،من س���نوات االحتالل بداية الق���رن الماضي إلى االستقالل وصوال إلى الحاضر .كما ال يف���وت الفرص���ة للفت انتب���اه القارئ إل���ى الوضع الم���زري ال���ذي يعيش فيه بعض المغاربة في ظل اتس���اع الشعوذة والخرافات. 123
تشريح المهاجر اللبناني �سحر مندور -بريوت في روايت���ه التاريخي���ة «تبليط البحر» الصادرة حديث ًا ع���ن دار رياض الريّس للكتب والنش���ر ،يس���افر بن���ا اللبناني رشيد الضعيف إلى أواخر القرن التاسع عش���ر ،في حبكة ترصد مرحلة الشباب والتحصيل الجامعي واالرتباط بالوطن ب���كل طوائف���ه ،ويأت���ي زم���ن الرواية شاهدًا على الفترة التي بدأ فيها الشباب اللبناني الهجرة نح���و الغرب ،وموثق ًا مش���اكل الغربة والتمييز العنصري في أميركا ،ثم الص���راع الطائفي في لبنان الذي أبعد فارس هاشم بطل الرواية عن وطنه كفرد منتج وفاعل في بناء وطنه بعد مرحلة الدراسة الجامعية. ومن بلد إلى آخر ،وحدوتة إلى أخرى، ف���ي صورة جريدة يومي���ة صادرة في ذاك الزم���ن ،تقف���ز معلوماتها من غزو الج���راد لبيروت ،فالكولي���را في مدينة زحل���ة ،م���رورًا بمن���ارة اإلس���كندرية المتن���ور ،فباريس التي ّ وقاهرة الزمن «تحب نفسها وتمتّع نفسها» ،ومنها إلى أميركا وحربها مع إس���بانيا في كوبا، عم���ال الصين وحروبهم الدموية في ثم ّ البيرو.
124
مب���رر الس���رد واالس���تحضار يكمن في متابع���ة يوميات فارس هاش���م ،الذي تبنّ���ى حلم والده ،بالنه���وض بالوطن واألمة ،فعاش حياته بهاجس يختصره قس���م تش���اركه مع أصدق���اء الهجرة، ٌ يق���ول :بـ«أنن���ي س���أعود إل���ى بالدي المقدّس���ة ،بعد نيلي ش���هادتي ،ألعمل قاطبة، ً فيه���ا على نهضتها ،ف���ي مدنها وفي كل قراها الطاهرة».. وقد دفعت بف���ارس إلى الهجرة ،محطة «تاريخية» محلية تختص���ر أزمة الفكر الديني التي سدّت منفذ العلوم الحديثة فاس���توجب طلبها ف���ي مواطنها خارج الطب نور الوطن ،حي���ث وجد ط�ل�اب ّ المعرف���ة الحديث���ة كإيم���ان بديل ،في مواجهة «تديّن» فكر البعثة التبشيرية، الذي أدان علوم العالم البريطاني تشارلز «بشر» بها ،وصو ًال إلى دارون ،وكل من ّ طب ،و«محاكمة» الطالب فصل أس���تاذ ّ المعترضين ،ما جعله���م يتفرقون بين مصر وأمي���ركا إلتمام العلم .فتقود تلك األزم���ة جرجي زي���دان (وه���و صديق فارس من���ذ الطفولة المدرس���ية ،وأحد خي���وط البطول���ة ف���ي الرواي���ة) إل���ى الطب ،إال القاهرة ،ليتابع فيها دراس���ة ّ أن عاصمة النور العربية حينها ،قادته باتجاه اللغة واألدب ،فكان له ما أراده لنفسه« :العمل على نهضتها». س الرواية في السرد التاريخي ليس َنَف ُ قصي���راً ،وال هو بطويل ،إنه أقرب إلى آلي���ة التنفّ���س .فما يميّز رواية رش���يد الضعيف على هذا المستوى ،هو المنحى التبسيطي في السرد ،دون التقصير في مّد القارئ بمعلومات حول ذاكرة الوطن والحروب ودول المهجر.
مقدمات الثورة
«أليس الصبح بقريب » ،كتاب جديد للمصري الس���اخر ب�ل�ال فضل صدر ع���ن دار بلومزبري قط���ر .وكعادته حين يص���در كتب���ه يس���تعين فضل بنص شعري مثلما حدث في «قلمين» و«السكان األصليين لمصر» و«ضحك مجروح» ،فوض���ع في المقدمة جزءًا من قصيدة األبن���ودي «المد والجزر» الت���ي كتبها ع���ام 1981قبيل اغتيال السادات بشهرين. الكتاب عبارة ع���ن مجموعة مقاالت نش���رها بالل من ع���ام 2008وحتى عام ،2010حيث أقسم في أولى هذه المق���االت بأن التغيير س���يأتي على مصر ألنها تستحق ذلك. هو كتاب عن السنوات السوداء التي عانت منه���ا مصر في حكم رئيس���ها المخلوع مب���ارك ،فمن فوز مصطفى الفقي – سكرتير الرئيس للمعلومات ذات م���رة – بجائ���زة مب���ارك ف���ي االجتماع ،وعشرات سواه يستحقونها إلى سرقة لوحة الخشخاش ،وحتى الهج���وم المنظم على محمد البرادعي حتى بانجو خالد سعيد. كان الب���د أن تق���وم ث���ورة ف���ي ظل نظام ال يقرأ المقدمات وال ينتبه إلى البدايات.
هانس فيرنر غيردس
حشود مراكش عبداحلق ميفراين -املغرب
إل���ى جان���ب الف���ن التش���كيلي عرف الفن���ان والكاتب األلمان���ي هانس فيرنر غيردس (ولد ،)1925بكتاباته السردية (األوتوبيوغرافي���ة) ،وكانت دار «كراس المتوحد» وراء إخراج إصداراته وترجمتها إل���ى العربية ،من خ�ل�ال كتابيه :يحيى مراكش -بالعربية والفرنسية ،ويوميات متس���كع journal d’un flaneur بالفرنس���ية .كما سبق للدار أن احتضنت معرضا اس���تعاديا لتجربت���ه الفنية من خ�ل�ال تنظيمه���ا لمعرض تش���كيلي أرخ لمسيرة الفنان التشكيلية. عش���ق غي���ردس مدين���ة مراك���ش ومتاهاتها منذ الس���تينيات ،تسكع داخل جام���ع الفنا وجبال األطل���س والدباغين وحدائ���ق أك���دال والمواس���ين وس���وق
الخمي���س ..تع���ود الجل���وس بمقه���ى «ماطيش» المرك���ز العالمي للثقافات كما يس���ميها صديق���ه «المراكش���ي» الكاتب اإلس���باني خوان غويتيس���ولو ،وتعلم أس���اليب التراث الش���فوي ..ساعده هذا الحضور في اكتش���اف طريقة جديدة في الفن والكتابة ابتك���ر عبرها طريقة الفن الحشدي .Foulisme في كت���اب «يحي���ى مراك���ش» يكتب غيردس كما يرس���م ،إذ يشير في عالقته بمراك���ش وبالرس���م «أذهلتني حش���ود مراك���ش بحيث أصبحت أرس���م دون أن أع���ي ما أفعل ،لم أك���ن أتحكم في ذاتي: مشدودًا إلى إيقاع الموسيقى ومحاصرًا بتنقالت الحش���ود ،أرسم مش���اهداتي، كانت الريشة تترك بصاماتها على الورق دون تدخل مني أنا الشاهد» ،وهكذا تأتي أعمال غيردس لتحقق دواره اإليقاعي أو ما يس���ميه لطخ ًا تجسيدي ًا يحول مراكش إلى «بورتريه» مصغر. يكت���ب غي���ردس« :مراكش حش���ود عديدة ،امتالء ،كتل من البش���ر ،حلقات متحرك���ة وكالم مرتج���ل ،جام���ع هكذا أش���ياء ه���ي مراك���ش ..تحث شمس���ها يتوهج الحطام ،مزيج من األلوان شبيه بشبكة من الخيوط تتمدد فوق األرض». وهكذا يصور غيردس المكان بالفرشاة، ويسميها «بوابة العالم» .وفي «يوميات متسكع» نكتشف مع غيردس أن الدخول لمراكش يبدأ بسفر س���حري من مساحة جامع الفنا ،إذ عبر هذا الفضاء الفرجوي ينطلق السفر الداخلي نحو عوالم المكان، بحس جمالي من خالل العين «السائحة» عين «اآلخر» وهي عين غيرتس تمس���ك بالن���اس وتجعلهم حش���ودًا ف���ي عالمه الفنتستيكي.
حذاء يشبهني! ف���ي مجموعتها القصصي���ة «حذاء أزرق» لكندة الس���وادي ،الصادرة عن داري «مح���اكاة» و«النايا»/دمش���ق، نق���رأ نصوص��� ًا أق���رب إلى التس���كع الالمبالي. تش���تبك المؤلفة مع ش���خصياتها بعالقة حميمة ،هي عالقة أق���رب إل���ى المشاكس���ة تقتح���م فيه���ا اآلخ���ر بغرض تخريب سكينته. يتجل���ى ذلك عل���ى نحو واض���ح وناجح في قصة «عصفور السيدة الصغيرة المراه���ق» ،إذ تتع���رف الس���اردة عل���ى ش���ابة رصينة تس���كن وحيدة، فيأب���ى طي���ف الكاتبة إال أن يالحقها لينب���ش فيما وراء هدوئها واستقرارها ،بل إن هذا الطيف يضيّق على الش���ابة فتحس بوجوده الكثيف وال تجد فكاك ًا منه .حتى الحبيب ،في قصة أخرى ،لن يجد مهرب ًا كما سنجد في االقتب���اس التالي ال���ذي يعبر عن لغة الكاتب���ة« :هك���ذا أخرجت جبيني من تحت األغطي���ة ألخرج بالحل الذي اعتقدت���ه ذهبي ًا في فك االش���تباك مع هلوس���اتي ،س���ألتصق بظه���ره .أي سألتصق به .جس���دي ًا أقصد .مثل قرد صغير مذعور ،ماذا س���يفعل؟ نعم لن يقدر على نزعي من���ه مهما حصل .إذا ما التصقت به بهذه الطريقة المحرجة، سيمش���ي بين الناس مطأطئ ًا ومرتبك ًا بالجس���د األنثوي المتعرب���ش به بكل أمومة األدغ���ال ..غدًا س���أذهب إليه، وألتص���ق بص���دره كضم���اد منته���ي الصالحية ...حتى لو هشم وجهي في ذروة استفزازي الماجن له ،لن أبتعد خطوة واح���دة :حبيبي ب�ل�ا حيونة! ال تهجرني أرج���وك .أرجوك ..هذا ما سأقوله له ..هذا هو الحل!!.
125
فيما يش����به الحفريات «األركيولوجية» يعود الناقد األدبي والمس����رحي البحرين����ي الدكت����ور إبراهيم غلوم إلى المرحلة التأسيس����ية للمس����رح ف����ي منطق����ة الخليج العربي ،عب����ر كتابه الجديد «المس����رح الموازي - سوس����يولوجيا البداي����ات المس����رحية والوعي القومي ف����ي مجتمعات الخليج العربي( »1958 – 1925 :االنتشار العربي -بيروت).
التنقيب في المسرح الخليجي عبد اهلل احلامدي
يذكر غل����وم في المقدمة أن دراس����ته هذه تعتب����ر امتدادًا لدراس����ات نقدية انش����غل بها من����ذ بداي����ة الثمانينيات حول البحث عن تقابالت بنيوية بين الفن����ون الدرامية (المس����رح ،القصة، القصيدة ،الرواية) وبين حركة التغير االجتماعي والسياسي في مجتمعات الخليج العرب����ي ،منوه ًا بأن كتابات كثي����رة عالجت الموضوع األساس����ي للكت����اب ،أال وه����و بواكي����ر الحركة المس����رحية في الكوي����ت والبحرين، لكن مش����كلة هذه الكتابات ،حس����بما يرى المؤل����ف ،أنها تفتقر إلى المنهج النقدي الواضح. وال ينك����ر المؤلف أن جهود كل هؤالء مفيدة ،كونها تس����رد وقائع تاريخية جديدة أحياناً ،ويقول :إن هذا النمط م����ن البحث تطلب منه تنقيب ًا واس����ع ًا يتجاوز الكتابات السابقة ،من خالل ع����دة مص����ادر ،تمثلت ف����ي مراجعة مراس��ل�ات المستش����ارين اإلنكليز في المنطق����ة والمحفوظ����ة ف����ي المكتبة الهندي����ة بلن����دن ،ووثائ����ق األندي����ة المحلي����ة ف����ي البحري����ن والكوي����ت، ال وأرش����يف الصحاف����ة المحلية ،فض ً 126
عن التحقيق البحثي في تجربة ثالثة من رواد الحركة المسرحية الخليجية، وهم :إبراهيم العريّض وعبد الرحمن المعاودة وحمد الرجيب. ويرى مؤلف «المس����رح الموازي» أن الوعي القومي ل����دى مثقفي المنطقة ف����ي الربع األول من القرن العش����رين أف����رز حرك����ة تنويري����ة تمثل����ت في التعليم وإنشاء المكتبات والصحف، وأن����ه لم يكن من الصدف����ة أن تتكون أولى بداي����ات المس����رح بالخليج في هذا المناخ النهضوي العربي ،والذي كان أحد تجلياته البارزة على سبيل المث����ال مش����روع الش����يخ عبدالعزيز الرش����يد ف����ي الكويت ،حي����ن وضع مس����رحية قصي����رة ،أو «مح����اورة إصالحية» قدمت عام 1924بمناسبة افتتاح مدرسة األحمدية. ويتضم����ن الكت����اب خمس����ة فصول، حي����ث تن����اول المؤل����ف ف����ي الفصل األول «مس����رحية الوع����ي القوم����ي - الس����ياق الثقافي األول لتلقي الوعي القومي» ،وفي الفصل الثاني «مسرح عبدالرحمن المعاودة – فضاء األندية الوطني����ة» ،وف����ي الفص����ل الثال����ث
«الدرس القوم����ي وبناء الفضاء العام للمس����رح – والدة النص المسرحي»، وفي الفصل الرابع «إبراهيم العريض ومس����رحية الحدث القوم����ي» ،وفي الفصل الخامس «مسرح حمد الرجيب – المنابع الواقعية لمس����رحية الوعي القومي». ويجم����ل د .غلوم النتيجة المباش����رة لهذه الدراس����ة في خاتمة الكتاب بأن الوع����ي القومي يمث����ل أولى الحلقات القومي����ة التي قادت دخول مجتمعات الخلي����ج العرب����ي العص����ر الحديث، مؤكدًا أن هذا الوعي استطاع أن يبتكر بش����كل تلقائ����ي تش����كيالت البواكير المس����رحية العربية ،ث����م ينتهي إلى القول« :إن ذلك ال ينطبق على بواكير المسرح في الخليج فحسب ،وإنما في الوط����ن العربي كل����ه» ،مضيفاً« :لقد حدّد المس����رح مآل عالقت����ه بالتاريخ (الماض����ي) منذ ذلك الحي����ن ،وعلى م����دى أكث����ر من مئ����ة ع����ام» .ويورد المؤلف بعض الوثائق المصورة التي اعتمده����ا في دراس����ته ،عب����ر ثالثين صفحة من نهاية الكتاب ،توكيدًا على ما ذهب إليه في المتن.
حوارات من جبين الثورة ال��م��دون ال��ج��زائ��ري يوسف بعلوج س��اف��ر إل��ى ت��ون��س قبل ال��ث��ورة وفي خضمها وح��اول معايشتها عن قرب، تواصل مع بعض الفاعلين فيها في األدب والسياسة ،وأج���رى ح��وارات تخوض كلها ف��ي م��س��ارات ويوميات ال في وإرهاصات الثورة ،ولم يكن مجام ً «على جبينها ثورة وكتاب» ،وهو عنوان الكتاب الذي أنجزه عن ثورة الياسمين. الكتاب ص��در ع��ن م��ن��ش��ورات فيسيرا بالجزائر وهو أول كتاب جزائري يؤرخ ويوثق لثورة تونس ،وينقسم إلى عدة
أجزاء اختار لها الكاتب بعلوج عناوين مختلفة لكنها تشترك كلها في الجبين: «جبين السياسة»« ،جبين التدوين»، «جبين الكتابة»
الخيال العلمي الناعم النبوءة الت���ي حملتها أبيات «فيرجيل» لزوج���ة «إينياس» الثانية «الفينيا» في «اإللياذة» هي ما اعتمدت عليه الكاتبة األميركية «أورسوالكي لي جوين» في روايتها «الفينيا» الصادرة عن سلسلة الجوائ���ز م���ن الهيئة المصري���ة العامة للكتاب بترجمة لنا عبدالرحمن. في اليوم السابق لنـزول «إينياس» إلى «التينيوم» تمسك نيران غامضة بشعر «الفينيا» ابنة الملك «التينوس» والملكة «أماتا» اللتين كانتا تحكمان «التينيوم» في عصر ما قبل الرومان ،وتفقد «أماتا» طفليها بعد أن يصاب���ا بمرض نادر ثم تص���اب بالجن���ون وتصر عل���ى زواج
«الفينيا» م���ن ابن أخته���ا «تورنوس» ولي عهد «روتاليا» المملكة المجاورة. لك���ن «الفينيا» تت���ردد وتتب���ع كلمات النبوءة ،ويعلن الملك «التينوس» أنها س���وف تتزوج من «إيني���اس» الغريب القادم حديث ًا من «طروادة» لتبدأ الحرب األهلية ،ويكون مقدرًا لبطل «فيرجيل» تأسيس امبراطورية. وم���ن هن���اك عب���ر الميثولوجي���ا غير التاريخي���ة ،بعي���دًا ع���ن ع���دم اليقين لعلماء اآلث���ار في فت���رة تاريخية غير واضح���ة تمام ًا للمؤرخي���ن من تاريخ ما قبل االمبراطوري���ة الرومانية تدور أج���واء رواي���ة «الفيني���ا» حي���ث عالم الفانتازي���ا داخل العل���وم االجتماعية واألنثروبولوجي���ا أو الخي���ال العلمي الناعم في العلوم االجتماعية. وقد حصلت «أورس���والكي لي جوين» على جائزة «ديمون ناي���ت» التذكارية الكبرى ،وهي جائزة س���نوية يمنحها االتحاد األميركي لكتاب الخيال العلمي، كما القت روايتها األولى «اليد اليس���رى للنظام» رواج ًا كبي���راً ،وحصلت على عدة جوائز أخرى.
قصائد باألبيض واألسود صدر مؤخرًا في القاهرة ديوان العامية «أبيض وأس���ود» للش���اعر المصري وسام الدويك عن دار (إيزيس للفنون والنش���ر) .الديوان الذي يقع في مئة صفحة م���ن القطع المتوس���ط كتبت قصائ���ده بين عام���ي 1994و2004 ويحتوي على ثماني عش���رة قصيدة تأرجحت بين التفعيلية والنثرية. يذك���ر أن الدي���وان هو رابع أعم���ال (الدويك) الش���عرية وخام���س كتب���ه ،حيث ص���در له عن هيئة قصور الثقافة المصري���ة ديوان���ان هما« :يرجع العاديون مكبلي���ن بالياس���مين» ،1999و«الخروج في النهار» .2002 ثم قدم الشاعر كتابه البحثي «كافاني الش���اعر والمدين���ة» والذي يؤس���س خالله لكتابة جديدة أس���ماها «تأريخ السيرة» ،يقوم من خاللها «بشخصنة» المبدعين وتقديم تجاربهم اإلنس���انية إلى جانب اإلبداعية -للمتلقي سواءأكان مهتم ًا باإلبداع أم قارئ ًا عاماً. كما ص���در للدوي���ك دي���وان بعنوان «الشرفات» 2009عن سلسلة «كتاب المرس���م» التي يش���رف عليها الفنان التشكيلي «أحمد الجنايني». يذكر أن الش���اعر من موالي���د القاهرة 1971وقد حصل على ليسانس اآلثار المصرية ويعمل باإلعالم منذ تخرجه حتى اليوم.
127
بحر العرب
مرآة العالم حم�سن العتيقي
لي���س جدي���دًا تن���اول منج���زات الع���رب والمس���لمين القدامى ،ولعلن���ا نميل إلى الملل من الدراس���ات التحليلي���ة الفردية التواقة للماضي ،ويحق هنا بعيدًا عن هذا االنغماس أن يع���زى تأخر مؤرخ العلوم والتقنيات عن تدوين ما حفل به التاريخ العربي واإلسالمي في هذا المجال ألسباب ترتب���ط بتقدم العل���وم واالقتصاد ،وهي ميادي���ن تتطلب تراكم ًا يقاس في التأليف التاريخي بقرون عدة .معطى يتوقف عند المحترفين األثريي���ن على توفر حفريات ووثائ���ق تاريخي���ة جذابة .وم���ن ناحية أخ���رى ،ف���إن أي تألي���ف للتاريخ يخلو من العم���ل الجماعي المتخصص مآله في عرف المؤرخين السقوط في لعبة التخيل والظن المطلق. يحيلنا ما س���بق في س���ياق هذا التقديم لكت���اب «التاريخ البحري للمحيط الهندي منذ اإلدريس���ي وص���و ًال إلى اب���ن ماجد ومن يليهما» أن دراس���ة التاريخ وتجديد رؤيتن���ا حوله تبقى الس���ند المس���تقبلي الس���تدراك بع���ض الض�ل�ال التاريخي. الكتاب ص���ادر ضمن منش���ورات وزارة الثقاف���ة والفن���ون والت���راث ف���ي قطر، ترجمة د .نبيلة يوسف الزواوي ،تحرير خال طورابي وأمينة غوريب ،ومراجعة د .محمد لطفي اليوسفي .ويشمل أبحاث ًا علمية تسرد التاريخ العربي واإلسالمي في المحيط الهن���دي اعتمادًا على مصادر موثق���ة ،ق���ام بالتحق���ق منه���ا وتأليفها مجموعة م���ن المتخصصين المعاصرين: 128
عالم الحفريات أنور جانو ،عالم البحرية علي رضا إسبك ،المؤرخ أسعد بوغله، عالم اآلثار هنري دانييل ليسكوفس���كي، المؤرخ���ة مارينا كارتر ،الم���ؤرخ ممتاز إمري���ث ،المفك���ر والمهن���دس مارس���يل ليندساي .هذه البحوث أنجزت بمناسبة احتفاء حكومة موريش���يوس بمس���اهمة الش���ريف اإلدريس���ي وغيره من الرحالة والمالحين في تعزيز علوم الجغرافيا في العالم ،وقد نش���ر العمل ضمن احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربية .2010 ينطل���ق الكت���اب حس���ب ديباجت���ه ،من ضرورة إلغاء مقول���ة إن التاريخ يكتبه المنتص���ر ،ليطرح ضمن م���ا يطرحه من تس���اؤالت ،لماذا ال يخفى عل���ى أحد أن فاسكو دا جاما اكتشف أنه يمكن الوصول إلى الهند عبر الدوران حول رأس الرجاء
الصال���ح ،وال ُيذك���ر أن اب���ن ماج���د أو أحد تالمي���ذه رافقه على متن س���فينته، وأرش���ده إلى الطريق الت���ي نال األمجاد حين اكتشفها. االستنتاجات الواردة في الكتاب تتجاوز نقد حقيقة التأليف االستعماري االنتقائي، إلى تصوير ملحمة باهرة عن فترة هيمنة الع���رب على المحيط الهندي دامت ثمانية قرون ،فترة نم���و تجاري بلغ مداه بعيدًا يرده الدارس���ون إل���ى أدبي���ات التجارة العربية الحرة ومراع���اة حرمة الثقة في الصفق���ات التجارية ،فم���ن الصحراء إلى عباب البح���ار لم يتغير الع���رف العربي الم���وروث من تجارة القواف���ل .واعتمادًا على خرائط وصور ،يسرد الكتاب القصة الكاملة للمراكب الش���راعية العربية التي أبح���رت ألول مرة عكس اتج���اه الرياح، لتؤم���ن التجارة عب���ر الط���رق التجارية البحرية على مدى ش���واطئ آسيا وبحر العرب وجنوب الصين والساحل الشرقي إلفريقيا ،وصو ًال إلى جنوب الموزنبيق. كما يس���تفيض الس���رد والتحليل في ذكر أصن���اف الس���لع والمنتج���ات ،التوابل التي ش���كلت عنص���رًا هام ًا ف���ي التجارة القديمة ،كيف أنها تحررت ،محققة رخاء اقتصادي��� ًا مع مج���يء المالحين العرب، وجعلت التجار أثرياء العالم ،بل كش���فت لألوروبيي���ن عن وجود ق���ارات بأكملها. ويتتبع الكتاب مراحل النش���اط التجاري للبحارة الع���رب وتوس���عهم االجتماعي والثقاف���ي على س���واحل المحيط الهندي حت���ى بات���وا أكب���ر المس���تفيدين م���ن احتياج���ات أوروب���ا ،إل���ى غاية صعود االمبراطوري���ة العثماني���ة ،ث���م الهيمنة األوروبي���ة السياس���ية واالقتصادية بعد رحالت فاس���كو دا جاما االستكشافية في المحيط الهندي ابتداء من ق 15م. الحدي���ث عن الق���رون التي ظ���ل المحيط الهن���دي ش���اهدًا فيها على مه���ارة العرب والعثمانيي���ن ف���ي المالحة ،ه���و حديث يلتص���ق بمعرفتهم المتواصل���ة بالعلوم الجغرافية ورس���م الخرائ���ط وعلم الفلك واألرصاد الجوية وعل���م المالحة وبناء الس���فن ،وفي هذا تتوزع في الكتاب سير أعالم الجغرافيا وعلوم أخرى كانت بالد
اإلس�ل�ام مختب���ر اكتش���افها وتطويرها. ومن خ�ل�ال جرد ألرش���يف الخوارزمي، وابن ماجد ،والش���ريف اإلدريسي ،وابن بطوطة ،وكمال بي���ري ريّس في العصر العثمان���ي ،وكذل���ك مدون���ات الرحالت الموثقة ،وأمثلة كثيرة ،نس���تطيع وفق منجزها األصيل ،أن نتحدث عن حضارة بحرية مزدهرة ،قامت على أسس علمية ط���ورت الرؤي���ة البطليموس���ية للعالم، ّ وأكملت صورة البحر واليابسة. وإلى جانب ذكر سير األعالم يورد الكتاب تعليق���ات اعتمادًا على مؤلفاتهم تش���مل تفصيالت حول تقني���ات المالحة وإدارة طاقم الس���فينة ،ومالحظ���ات حول علم الفلك ،وكذل���ك أماكن الخلجان والموانئ والطرق المالحي���ة ،وتفاصيل عن حياة وثقافة ش���عوب المحي���ط الهندي ،وهي تعليقات تخلص إلى تقدم علمي ،سرعان ما أصبح المرجع الش���امل ع���ن المحيط الهندي وجلب انتباه المالحين األوروبيين والمخططين العسكريين إلى هذه الشبكة التجارية النشطة. يس���تدل هنري دانييل ليسكوفس���كي من خالل حفريات بج���زر القمر ما بين العام 1995و 1998على وجود كش���وفات عن أنواع المقايضات والمنتوجات اإلسالمية في المحي���ط الهندي حيث تم العثور على حج���ر االثم���د والكحل وعمالت فارس���ية وحلق���ات مختلفة من النح���اس والرأس ذي العمام���ة والس���يراميك اإلس�ل�امي، ويعل���ق ليسكوفس���كي «الواضح أن هذه الحفريات تكشف منتجات من أصل عربي وهي تعكس أهمية التجارة النشطة التي مارس���ها التجار العرب والمس���لمون في منطقة المحيط الهندي». ال نختلف في أن التاريخ اإلس�ل�امي بناء أصيل تهاوى منه الكثير ،لذا تبقى الحاجة ألي بن���اء جديد هي كن���س األنقاض .هذا الكتاب «التاريخ البحري للمحيط الهندي منذ اإلدريسي وصو ًال إلى ابن ماجد ومن يليهم���ا» هو عمل ترميمي .ولكن ال يجوز لنا أن نتكلم ع���ن ترميم متواصل حق ًا إال بعد أن ينجز من تجدي���د رؤيتنا للتاريخ قسم كبير.
الهروب نحو الم ّوال هويدا �صالح -القاهرة ال تجد الذات الس���اردة لحالها من ش���فاء سوى سرد خيبات األمل ،فمن الصمت إل���ى الكونش���يرتو واألغاني تتشكل أوجاع النس���اء في رواية مي خالد «تانجو وموال» الصادرة حديثا عن دار العين بالقاهرة. بطلة الرواية فيوال الخيط الرابط بي���ن الصم���ت والصخ���ب ،م���ن فرط افتتانه���ا بالموس���يقى تس���مي باقي شخصيات الرواية بآالت موسيقية، وتحتف���ظ لنفس���ها بالفي���وال كاس���م جريح. فيوال ُتغيِّب عن قصد صوتها وراء طبق���ات من الصم���ت يجعله���ا نزيلة مستش���فى لألمراض النفس���ية ،ومنذ الصفحات األولى تقع ضحية ألطباء ال يعرف���ون كي���ف يلمس���ون وجعها الروح���ي .وجع يتعب روح النس���اء فيخت���رن البح���ث عن وس���يلة أخرى تخلصه���ن م���ن األل���م عل���ى ضربات الدفوف والرقص ف���ي طقوس «الزار البلدي». تحتفي الس���اردة بالموس���يقى، واآلالت وأصواته���ا واس���تخداماتها، وتحتف���ي عل���ى وج���ه الخص���وص بالفي���وال الكمان الصغي���ر ،رغم أنها أهدت روايتها آللة الكونترباص. «رب���اب رفع���ت» مذيع���ة تق���دم برنامجها الموس���يقي تانجو وموال، تتواص���ل م���ع مس���تمعيها بصوته���ا الرقي���ق ،فج���أة تدخل ف���ي حالة من الصمت الشارد بعد أن تخلى عنها كل الرجال الذين تقلبت بين أكفهم ،تختار رباب لكل واح���د من أبطال غرامياتها آلة تناس���به ..رياض يش���به طبلة،
ومروان بيانو ،وحسين سكسافون. وال يتوقف األم���ر في تلك الهزائم والخيبات عند الش���خصيات النسائية فقط ،بل حتى الش���خصيات الذكورية في الرواية مهزومة وغير متحققة. اعتم���دت الكاتب���ة ضمي���ر األن���ا الساردة ليناس���ب حالة الصمت التي تلبس���تها ،كم���ا يناس���ب المونولوج تصوير الصمت. تختم الرواية بس���ردية سينارية «تنساب الموس���يقى الحالمة ،يكون على راقص التانج���و أن يقود امرأته إلى س���احة الرقص ،ينظر في عينيها بثوان ويتبادالن حوارًا هامس���اً ،إلى أن تب���دأ في اإلحس���اس مثله بالنغم. يبدأ ه���و بالعناق الخفيف ت���ارك ًا لها حرية اختيار مدى التصاقه بها ،يثير اإليقاع في ذهنه خطوات ووضعيات للرق���ص ،فيقوده���ا في رق���ة لتغيير موقعها بتلقائية مدروسة ويبحر بها إلى أعماق نفسه ونفسها».
129
شعرية لقاء البجعة بالماء �أني�س الرافعي
يت���وزع المؤلف ،ال���ذي جاء في 304 صفح���ات م���ن القط���ع الكبير وﺃش���رف على تصميمه الفني عب���د العزيز ﺃزغاي انطالق ًا من لوحة تجريدية للفنان سعيد حس���بان ،إلى ثالثة أبواب كبرى ،حمل أولها عنوان« :موس���يقى أف���كار» ،وهو بمثابة فرش نظري تمهيدي ،أو تأشيرة أولي���ة للول���وج إل���ى أراض���ي الش���عر وجغرافيات���ه ،قص���د التع���رف ببوصلة المستكش���ف المغام���ر على تضاريس���ه وإحداثيات���ه الوعرة ،كلم���ا قادتك أقدام المعرفة واس���تقصاءات الفضول صوب م���ا يتخلل ثي���اب القصي���دة أو ما تحيل علي���ه الخيوط المنس���لة من قماش���تها، س���واء أكان طاعناً ف���ي الميثولوجي���ا مثل الن���ار والخلود والصم���ت والهاوية والعمق واﻹيروس���ية والع���ود األبدي، أو منغرس ًا في الحاضر مثل انطولوجيا االنتحار وش���اعرية المس���ودة وشعرية الح���د األدن���ى ،أو قادم ًا من المس���تقبل مثل البحث عن ﺃثر الفراش���ة والقس���وة والسعادة والشقاء واأللم والبقاء والسفر والشجن ،وغيرها من الحدوس واألوراق القديمة التي اس���تخرجها صاحب «أعمال المجه���ول» م���ن أدراج���ه وأضابي���ره، اعتقادًا منه بأن «ال ش���يء يضيع ،وكل ش���يء يتحول .لكننا ،م���ع ذلك ،نأنس ألوراق ،تجع���ل نس���يم ًا خاص���اً ،يه���ب علينا من ماضينا الشخصي ،ليغرقنا في أح�ل�ام يقظة ،نلملم م���ن نثارها صورة عن اإلنسان الذي كناه ،والذي ربما صعد من رفاته هذا الكائن الجديد ،الذي يستمر 130
في مراودة الكتابة عن نفس���ها ،غير واع بحج���م وحقيقة التحوالت واالنجرافات، التي وضعته في هذا الطريق». أما الب���اب الثاني فقد جاء موس���وم ًا فع�ل�ا التفاتة ً ﺑ «التفات���ة ﺃورفي» ،وهو معاصرة على ش���كل مقاربات تمزج بين النق���دي الرصين واالنطباعي العاش���ق لمتون ش���عرية عربية ومغربية لكل من محمود درويش وسعدي يوسف ومحمد بنيس وبول ش���اوول وعب���د اهلل زريقة وعب���ده وازن وحس���ن نجم���ي ومبارك وساط ومحمد الصابر وعائشة البصري وعبد اإلل���ه الصالحي وكم���ال أخالقي، وق���د انصبت عل���ى تحليل «األس���طورة الش���خصية» له���ؤالء المبدعين من خالل متخيلهم ونظرته���م اﻷنطولوجية للعالم وتوس���لهم بالش���عر كطريق���ة ﻹش���فاء الكينونة من لواعج وكدمات الوجود. في حين ركز الباب الثالث واألخير من
والمعمد ﺑ «صوت الغريب» على ّ الكتاب، مجموعة من التجارب الشعرية الكونية ذات المناب���ع والمناب���ت والمرجعي���ات المختلفة ،مع اﻹلماع إلى درجة تأثيرها في الذائقة الشعرية العربية غداة انتقالها عبر جس���ر الترجمة .وهكذا تم التطرق لتج���ارب ألمانية وأميركية وفرنس���ية وبرتغالي���ة وإس���بانية وتش���يكية في ش���خص الش���عراء هولدرلين وويتمان ومالرمي وبيس���وا وباطاي وغامونيدا وﺃنخي���ل فالنت���ي وصوفي���ا دي م���ي ﺃندرسن وياروسالف سيفرست. وق���د اعتمد الدكتور نبي���ل منصر في هندس���ته للمفاصل الثالثة للكتاب على منهجي���ة رمزي���ة قوامها «لق���اء البجعة بالماء» ،هذا اللقاء «المفجر لرهافة عذبة ومعذّب���ة ف���ي آن ،مادام���ت تنوس بين التكتم واإلفش���اء،بين الخفاء والتجلي. وهنا ال يقوم الم���اء مقام اللباس فقط، بل تمتد أعناق أزهار البحيرة وأعشابها المتطاولة ،لتشكل ذلك الخباء الطبيعي الذي يسعف المستحمة على صون السر: نب���ع الحياة .ج���زء من جم���ال البجعة وعريها يغرق في الماء ،فتوكل للخيال مهنة اإلنقاذ». هذا دون إغفال اإلشارة إلى «األخوات» التي تس���تدعيها البجعة وتتقاسم معها خبز «مج���اورة الجمال للخطر ،وتماس الفاتن مع الهالك المحدق باليد الراغبة»، في إحالة مباش���رة إل���ى كل من نرجس المع���ذب بصورت���ه المبه���رة ،وﺃوفيليا المبددة لجمالها كمدا في المياه العكرة، والس���يرينات المس���تدرجات بغوايتهن وأصواته���ن الطروبة للبحارة الس���ذج صوب وليمة القيعان. وف���ي الختام ،لم يف���ت مبدع «مدينة نائم���ة» أن يق���دم على س���بيل التحذير نصيح���ة للق���ارئ المفت���رض لمؤلف���ه بضرورة التوفر على مهارات فن العوم، وإال س���تظل االس���تعارة األدبي���ة التي تم تبئي���ر الكتاب حوله���ا «مغلقة على أس���رارها ،في فضاء المي���اه العميقة». المياه نفس���ها ،الت���ي كلم���ا اهتزت إال واهت���زت دوائ���ر الخي���ال عند الش���اعر ودوائر المتعة عند المتلقي.
تاريخ بأكمله س���رقه القذافي .نس���اء ملغيات ،أحالم مسروقة ،طفولة شاردة، هذا ما تس���رده رواية «س���بع نس���اء من طرابلس» للكاتب والش���اعر الليبي كمال بن حميدة .الرواية صدرت طبعتها األولى بالفرنسية وترجمت مؤخرًا إلى األلمانية، وهي اس���تمرار لمشروع المؤلف المغترب ال���ذي اخت���ار أن يمحوره حول مس���اءلة بنية المجتمع الليبي ،وكش���ف تناقضاته المترسبة في الذاكرة الليبية. مش���روع يقول عنه بن حميدة محاولة لكتاب���ة التاريخ اإلنس���اني الذي طمس���ه القذاف���ي .وبطبيع���ة هذه الح���ال ،ترصد روايته «سبع نس���اء من طرابلس» الظلم والغياب الذي عانت من���ه المرأة الليبية. نس���اء بالكاد يختلس���ن النظر من النوافذ
نصف ليبيا
المفقود
مذكرات « 25يناير» عالء اجلابري «ف���ي مي���دان التحري���ر ،حاصرون���ا، وحاولوا من���ع الماء والغ���ذاء والدواء، ونحن صمدنا معتصمين !..وقفنا كنبتة الصَبّار ف���ي الصحراء ،هذه النبتة األبَيّة َّ الت���ي تعيش رغم انعدام الماء لس���نوات وسنوات !» بهذا التقديم يستعير الشاعر المصري عبد الرحمن يوسف نبتة الصبار عنوان���ا لصورة الث���وار المنعزلين بداية في ميدان التحري���ر« ،ثورة الصبار» هو عبارة ع���ن يوميات عن الثورة المصرية نشرها الشاعر متسلسلة ثم أصدرها في كتاب عن دار الش���اعر باالشتراك مع دار العلوم للنشر والتوزيع. يب���دأ الكت���اب بمقدمات مه���دت للثورة، تزوي���ر انتخاب���ات ،2010الحراك الذي أحدثت���ه «الجمعي���ة الوطني���ة للتغيير» و«كفاي���ة» والحمل���ة الش���عبية لدع���م البرادعي ،والتي كان عبد الرحمن يوسف منسقها العام حتى مطلع .2011ويسهب المؤل���ف في الحكي عن تفاصيل يوم 25
يناير تحدي���داً ،فاحتل حوالي % 25من صفحات الكتاب. يلح المؤلف على أنه كان متنبئ ًا بالثورة متوقع ًا له���ا ،صحيح أنه يحاول توثيق ذلك بمقاالت كتبها قبل الثورة ،وقصائد كان ق���د كتبه���ا م���ن قبل يلم���ح فيها إلى اقت���راب األيام األخيرة لمب���ارك من مثل قصي���دة «الطريدة» ،وغيرها من قصائده الت���ي يتخذه���ا عتبات لفص���ول الكتاب.
كي يطللن على مختلف تفاصيل المجتمع الطرابلس���ي ،ويش���هدن علي���ه ،األطفال يروون أسئلتهم التائهة فيقابلون بردود من الحكايات واألس���اطير أكثر غرابة من أسئلتهم ،أما ذهنية الرجل فيضعها الكاتب بي���ن تماهيه مع البنية الفوقية الس���ائدة وبين محاكاة سادية لهذه البنية. به���ذا يعكس ب���ن حمي���دة ف���ي عمله الروائ���ي غرائبية المجتمع الطرابلس���ي. ليط���رح ف���ي النهاي���ة مس���ألة البحث عن مس���تقبل آخر ،مس���تقبل قد يتحقق جزء منه في ليبيا جديدة ،لكنه لن يوصل إلى حلم كامل بمجتمع مغاير لعهده الس���ابق إال في استيعاب وتأطير مرجعي يتأسس عل���ى تغيير فكري عمي���ق للبنى التحتية والبنى الفوقية. كما اس���تعان الكاتب بالشعر العمودي، في سياق تذكر موقف ما ،أو فيما يتآزر مع ما يس���تعين به من األمثال الشعبية لقيمتها االس���تعارية في االقناع وتكثيف الحكاية دون استطراد ،فالشعب في عين الرئيس الس���ابق (خد متعود على اللطم) وهو الذي لم يعلم قيمة مصر (زبال وفي ايده وردة). معظم الش���خوص الحاضرين في الكتاب من الوجوه المعروفة ،لعل أبرزهم محمد البرادع���ي ،وك���ذا عبد الجلي���ل مصطفى وياس���ر اله���واري ومصطف���ى النجار، والبع���ض يومض ثم يختف���ي مثل بالل فض���ل وعباس أب���و الحس���ن ..في حين غ���اب التركي���ز على بعض الش���خوص، مثل «وائ���ل غنيم» برغم دوره الكبير في تنظيم الثورة في الفضاء االفتراضي. الكتاب مذكرات في س���تة فصول يستعيد فيها الشاعر مش���اهد من ميدان التحرير، منذ انطالق الشرارة األولى يوم 25يناير 2011وما سبقها من تحضيرات ،وحتى إسقاط مبارك .وينقسم الكتاب إلى عدة فصول وهي على التوالي: الصَبّار؟ ،جمعة غضب كيف انطلقت ثورة َّ لكل الش���عب ،معركة الصب���ر ،العنف لن يفيد ،نضال وسياسة ،االنتصــــار.
131
المسلمون في الصين تاريخ المعاناة والتسامح د .عبدالقادر بن حمود القحطاين
*
استغلت الصين انشغال العالم اإلسالمي والعربي بالثورات المشتعلة في كثير من دوله ،وبالمجاعة في القرن اإلفريقي لشن حملة تطهير عرقي جديدة ضد مسلمي اإليغور في إقليم شينجيانغ. في يوليو الماضي وقع هجوم كبير في مدينة كاشغر نتج عنه سقوط 14قتي ً ال وإصابة 42شخصاً ،الرواية الرسمية للصين دائم ًا ما توجه اتهامها لالنفصاليين من إقليم شينجيانغ لسعيهم إلقامة دولة مستقلة تحت اسم تركستان الشرقية. لكن منظمات حقوقية دولية كثيرة اتهمت السلطات الصينية صراحة بقمع األقلية المسلمة في اإلقليم ،منحازة في ذلك إلى أقلية «الهان» من أجل تغيير ديموغرافي لصالحها.
132
للمسلمين في الصين تاريخ عريق، حيث وصلها اإلسالم مع الفتوحات الكبرى على يد قتيبة بن مسلم الباهلي ( 98-96هـ) ،ومنذ ذلك التاريخ لم ينقطع االتصال بين مسلمي الصين والعالم اإلسالمي ،وامتد تأثير المنطقة إلى اإلسالم في فترة حكم ستوف بغراخان خاقان االمبراطورية القراخانية عام (323هـ 943 -م) وأسلم معه ما يقارب مليون نسمة .ذكر عالم التاريخ الصيني (تشن يوان) ،أن اإلسالم دخل الصين في 156م ،في عهد االمبراطور (تانغ) ،وقد بعث عثمان بن عفان (رضي اهلل عنه)، مبعوث ًا إلى االمبراطور الصيني (تانغ)، يوضح له الدين اإلسالمي والمبادئ اإلنسانية التي يقوم عليها .ومنذ ذلك التاريخ بدأ اإلسالم ينشر نوره في الصين. وكان اعتناق أسرة (الهان) لإلسالم من األسباب التي أدت إلى انتشاره في الجهة الغربية من البالد ،كما أن تطور المواصالت بين غرب الصين والعاصمة تشانغ ،وارتباطها بآسيا الوسطى وهضبة األناضول وبالد فارس وأفغانستان وتركستان كان من األسباب التي ساعدت على انتشار اإلسالم. وازداد اإلسالم انتشارًا في القرن الثالث عشر ،بوصول عدد من التجار العرب والمسلمين ،وكذلك غزو (جنكيز خان) ملك سمرقند للصين في 1215م . وازدهر اإلسالم في عهد أسرة (تانغ) الحاكمة ،حيث سمح للمسلمين ببناء المساجد والمدارس والمعاهد اإلسالمية، وطبع الكتب واستيرادها من الخارج. وكان في مقدمة المساجد التي بنيت في الصين مسجد (الشوق) إلى النبي (صلى اهلل عليه وسلم) ،ومسجد الصحابة، ومسجد شيانخة ،ومسجد منغ هوانغ، وهي أقدم أربعة مساجد في الصين. ويصل عدد المساجد حالي ًا في الصين أكثر من 40ألف مسجد. وفي أواخر حكم أسرة (يوان) في منتصف القرن الرابع عشر ،تم تأسيس هيئة إسالمية في الصين لإلشراف على بناء المساجد وإدارة الشؤون اإلسالمية.
ونظرًا للصفات الحميدة التي تميز بها المسلمون عن غيرهم لم يواجهوا صعوبة في الزواج من األسر الصينية. ومن المآثر التي يذكرها الصينيون عن المسلمين أنهم ال يشربون الخمر وال يتعاطون المخدرات،كما أن المسلمين كانوا يقومون بشراء األطفال الذين يبيعهم أهاليهم نتيجة المجاعة ويقومون بتربيتهم على اإلسالم ويعاملونهم معاملة كريمة. ولكن تعرض المسلمون في عهد حكم أسرة (مينغ) إلى االضطهاد والتنكيل، وتدهورت أحوالهم االقتصادية ومكانتهم االجتماعية ،ووضعت قيود على ممارسة عباداتهم ،وبسبب انتشار المسلمين على نطاق واسع داخل الصين ،ظهرت عوائق في االتصال والتواصل بين المناطق التي يقطنها المسلمون ،األمر الذي أدى إلى انقسام المسلمين إلى عشر قوميات وهي:
الويغور
الويغور ،تعني التضامن بين أفراد القومية .وأفراد هذه القومية يتركزون في منطقة (شينجيانغ) ،الذاتية الحكم، ويقطن عدد منها مناطق خنان ،وهونان، وغيرها من المناطق الصينية .ويبلغ عدد أفراد هذه القومية نحو 9ماليين نسمة حالياً. اعتنق الويغور اإلسالم منذ بداية القرن العاشر الميالدي ،وأكبر مسجد في منطقة شينجيانغ مسجد األذكار.
القازاق
قومية القازاق المسلمة يتوزع أفرادها في مناطق ،ييلي وتشنغ ،والتاي. اعتنق القازاق اإلسالم منذ عهد مبكر من تاريخ اإلسالم ،واستطاع القازاق في القرن الخامس عشر تأسيس مملكة (قازاق خان) في شمال الصين ،التي تتمتع بالحكم الذاتي.
القرغيز
تقع القرغيز في منطقة شينجيانغ بوالية كهسيلهسو ،التي تتمتع بالحكم
الذاتي ،اعتنقوا اإلسالم منذ وقت مبكر، واهتموا ببناء المساجد والمدارس اإلسالمية ،وبينهم عدد كبير من العلماء المتخصصين في الدين اإلسالمي والخطباء ،ويعرفون بحبهم لألعمال األدبية التي تجسد البطوالت ،وأهم األعمال األدبية التي ألفها أحد أدبائهم (ملحمة الشعر التاريخية – ماناس).
األوزبك
اعتنق األوزبك اإلسالم في مطلع القرن الخامس عشر ،ويتركز أفراد هذه القومية في شينجيانغ والمناطق المحيطة بها .واللغة األوزبكية تقريب ًا مثل اللغة األفغانية والفارسية ويكتبون بحروف عربية كما هو الحال في أفغانستان وايران.
الطاجيك
اعتنق الطاجيك اإلسالم في القرن الحادي عشر ويتوزعون على مذاهب السنة والشيعة واإلسماعيلية. ويقطنون في المناطق الشمالية الغربية من الصين ،مثل تاشيكور ،ويارقند، ويهتشنغ وتسهبو واكتاو .وهم متأثرون باألدب الفارسي.
التتار
التتار من القبائل البدائية ،ومقرها شمال الصين ،اعتنق أفرادها اإلسالم منذ العصور الوسطى ،وهاجرت إلى منطقة شينجيانغ.
هواي
هناك من يؤكد أن أبناء قومية هواي من أصول عربية وفارسية وأفغانية وتركية ،وأن مالمح وجوههم تدل على ذلك ،وأنهم قدموا من أوطانهم إلى الصين ألجل التجارة ونشر اإلسالم وكان ذلك في القرن الثالث عشر في عهد أسرتي تانغ وسونغ. ومع أن قومية (هواي) تتحدث الصينية غير أن علماءها من المسلمين وأئمة المساجد والقائمين على التعليم يتحدثون اللغة العربية ويستخدمونها
في المجال الديني حتى اليوم .ويبلغ عدد أبناء قومية هواي نحو تسعة ماليين نسمة ،منتشرين في غرب الصين وفي الشمال الغربي من البالد.
ساالر
جاء أسالف هذه القومية من آسيا الوسطى ،واعتنق أبناء هذه القومية اإلسالم مع غزو جنكيز خان للصين في القرن الثالث عشر الميالدي .ويقطن الساالر ،مقاطعة تشيتغهاي. ويحرص أبناء هذه القومية على ترسيخ الوحدة فيما بينهم والعمل على نقل الروايات الشعبية التي تتحدث عن هجرة أسالفهم من آسيا الوسطى إلى الصين ،وكفاح أجدادهم في سبيل تحقيق األمن واألمان لهم.
دونغشيانغ
ينتمي أبناء هذه القومية إلى (السامية) وجاء أسالفهم مع غزو جنكيز خان للصين في القرن الثالث عشر، ومعظم أبناء هذه القومية من أهل السنة ،ويحرصون على تعلم العلوم اإلسالمية وفي مقدمتها القرآن الكريم. وتم ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الصينية ،وكذلك ترجمة معاني القرآن الكريم ومعانيه وبعض الكتب .وتقطن قومية دونغشيانغ مقاطعة (قانسو).
باوان
اعتنق أبناء هذه القومية اإلسالم بعد غزو المغول للصين ،وتقطن هذه القومية جبل جيشي بلينشيا في مقاطعة قانسو. ويتمسك أبناء باوان ،باإلسالم وتعاليمه من صالة وصيام ويحج المستطاع منهم ،ولهم جمعيات خيرية تقوم بمساعدة الفقراء من المسلمين في الصين .ولهم مساجدهم ومعاهدهم الدينية ،ومدارسهم سواء كانت ملحقة بالمساجد أو في أبنية مستقلة.
* أستاذ مشارك – قسم التاريخ -جامعة قطر
133
�صيد الل�ؤل�ؤ
د .محمد عبد المطلب
األرقام العربية الرقم معناه (الكتابة) عموماً ،ورقّمت الكتاب بينته بالنقط والحركات ،و(العدد) :إحصاء األشياء عموماً ،وقد كانت بداية كتاب���ة األرقام بالكلمات( :واحد – اثني���ن – ثالثة) وهكذا ،ثم في مرحلة تالي���ة ،حلت الحروف محل الكلمات ،باس���تخدام (األبجدي���ة) أي :أبج���د هوز ،ف���كل حرف يمثل رقم��� ًا محدداً، (األلف )1 :و(الباء )2وهكذا ،ثم جاء التطور األخير في كتابة هذه األرقام التي بين أيدينا )3 – 2 – 1( :إلى آخرها ،وكانت هذه المرحلة األخيرة في القرن الثاني الهجري في عهد الخليفة العباسي (أبي جعفر المنصور) ،وشاع استخدام هذه األرقام ابتداء من القرن الثالث الهجري حتى يومنا هذا ،ولم تكن هذه األرقام وحدها هي المستعملة في العالم العربي ،بل ظهر لها منافس في القرن السادس الهجرى في المغرب العربي ،هي: (األرق���ام الغبارية) على يد العالم الرياضي (ابن الياس���مين) تـ 601هـ. وقد أدى هذا الظهور المزدوج لألرقام إلى خالف في الرأي، إذ رأى البعض أن األرقام الغبارية ،هي األرقام العربية ،بينما األرقام المش���رقية ،أرقام هندية ،وهو ما حاول المستشرقون ترس���يخه ألهداف ثقافية واس���تعمارية ،وهذا ما يدعونا إلى عقد مقارنة بين هذين النسقين في كتابة األرقام ،ليتضح منها أي النسقين هو األولى أن ينتسب للثقافة العربية. المالح���ظ أن األرقام العربية ( )2 – 1تتميز بحضور حرف األل���ف (أ) في معظمها ،مع إضافة ف���ي قمته تميز كل رقم عن سواه ،باستثناء الرقم ( )4الذي يتشابه مع حرف (ع) ،ورقم ( )5الذي يتشابه مع الهاء المربوطة في مثل (قرأه) ،أما الرقم ( )7فإنه يتداخل ش���كلي ًا مع حرف الم أل���ف (ال) ،والرقم ()8 مقلوب الحرف السابق ،أما (الصفر) فهو النقطة العربية. أما األرقام الغباري���ة ،فإنها تلتحم بالح���روف الالتينية، فالرقم ( )1يتش���ابه م���ع الحرف ( ،)Iوالرقم ( )2يتش���ابه مع الح���رف ( ،)zوالرق���م ( )3مقل���وب الح���رف ( ،)Eوالرقم ()4 134
يتش���ابه مع الحرف ( ،)qوالرقم ( )5يتشابه مع الحرف (،)s والرقم ( )6يتش���ابه مع الحرف ( ،)bوالرقم ( )7يتش���ابه مع مقلوب الح���رف ( ،)fوالرقم ( )8يتش���ابه م���ع الحرف (،)B والرقم ( )9يتش���ابه مع الحرف ( ،)qوالرقم ( )0يتش���ابه مع حرك���ة الضم ( ،)oلكن األخطر في ه���ذه المقارنة ،أن األرقام المش���رقية تس���ير على نمط الكتابة العربي���ة ،أي من اليمين إلى اليس���ار ،بينما األرقام الغبارية تس���ير على نمط الكتابة الالتينية ،من اليسار لليمين. إن اختالف اآلراء جعل البعض يقول إن األرقام المشرقية، هي األرق���ام العربي���ة ،والبعض اآلخر يرى أن ه���ذه األرقام أرقام هندية ،وأن األرقام الغبارية هي األرقام العربية ،وأيد الرأي األخير مثقفو المغرب العربي ،وبعض المستش���رقين، أما ال���رأي األول ،فقد أيدته المجامع اللغوية ،والمؤسس���ات األكاديمية ،فقد أصدر المجمع اللغوي في القاهرة قرارًا بذلك عام ،1986وأيده اتحاد المجامع العربية عام .1987 ونحب اإلشارة إلى بعض المخاطر التي تترتب على اعتبار األرقام الغبارية هي األرقام العربية ،وأول هذه المخاطر كسر النس���ق الثقافي العربي في الكتابة والق���راءة في االتجاه من اليمين إلى اليس���ار ،وهو ما يدخل الن���شء في صدام بين ما تعودوه م���ن الكتابة من اليمين إلى اليس���ار ،وكتابة األرقام الالتيني���ة من اليس���ار إل���ى اليمين ،والخطر األكب���ر أن يتبع النطق الكتابة ،وهو ما الحظته على كثير من الناش���ئة ،إذ ال يعرفون معنى الرقم إذا قيل لهم بالعربية ،ألنهم ال يفهمون إال منطوق ما يكتبون. أما الكارثة المنتظرة من سيادة الكتابة باألرقام الالتينية، فه���ي أن تع���ود إلين���ا الدعوة الت���ي ظهرت في مطل���ع القرن العشرين ،والتي كانت تنادي بإحالل الحروف الالتينية محل الح���روف العربية ،وه���و ما يهدد الهوي���ة العربية في أخص خصائصها (اللغة).
ت�شكيل
جسد الفن عبداحلق ميفراين -مراك�ش في الوق���ت الذي هدد فيه ناش���طون مغارب���ة ،عبر المنتدي���ات اإللكترونية، بـ«قت���ل وتصفية» الفنان الفرنس���ي من أص���ل مغربي «مهدي ج���ورج لحلو» إذا ش���ارك بع���رض فني رس���م في���ه آيات القرآن على جس���ده العاري ،في معرض الفن الحديث والمعاصر الذي استضافته مدين���ة مراكش المغربي���ة ،خالل الفترة من 30س���بتمبر/أيلول إلى 3أكتوبر/ تشرين األول .كان بالغ اللجنة المنظمة ينف���ي مش���اركة أعم���ال مه���دي جورج لحلو ف���ي فعاليات المع���رض .وقد نفى المنظمون (آرت فاي���ر) أن تكون أعماله «الذي يعمد إلى وشم نصوص دينية على الجسد» ،قد وردت ،على اإلطالق ،ضمن برمج���ة دورة 2011لهذه التظاهرة .هذا ف���ي الوقت الذي ظل يص���ر فيه «الفنان» المعني باألمر بحقيقة مشاركته وبرمجة أعماله ضمن األعمال المعروضة. أه���داف التظاهرة تجس���دت في خلق منب���ر للتب���ادل والكتش���اف اإلبداع���ات
الفنية المعاصرة ،المغربية والدولية ، بم���ا يجع���ل من مع���رض مراك���ش للفن الحديث والمعاصر موعدًا هام ًا في قائمة التظاه���رات الفنية الدولية .وعرفت هذه ال���دورة مش���اركة 48رواق���اً ،منها 13 رواق ًا مغربياً ،تمثل 11دولة وما يقارب 800فن���ان ،مع حضور وف���ود دولية وازنة م���ن أوروبا والعالم العربي تمثل مؤسسات مرموقة ومتاحف دولية. وتم تش���كيل لجن���ة فني���ة للصالون العربي للفن المعاصر ضمت تش���كيليين مغارب���ة وعرب��� ًا وأوروبيي���ن تتول���ى إح���داث (األكاديمية العربي���ة للفنون)، وتتوي���ج بع���ض الفناني���ن واالجته���اد للتعري���ف بالف���ن العربي عل���ى الصعيد العالمي ،واإلش���راف الفني على فقرات الصال���ون .وتضم اللجن���ة كال من كلود موران (فرنس���ا) ،وأحمد ن���وار ونظلي مذكور وع���ادل الس���يوي ومحمد طلعة (مصر) ،ونجاة مكي وعبد القادر الرايس (اإلم���ارات العربية المتح���دة) ،وعبد اهلل
نووي (المملك���ة العربية الس���عودية)، وس���امي محمد وعبد الرس���ول س���لمان (الكوي���ت) ،وعب���د المجي���د العروس���ي وس�ل�ال زهرة وحمزة بونوا (الجزائر)، وأمل العاثم ويوسف أحمد (قطر) وغازي نعي���م ومحمد العام���ري(األردن) ،وديما وع���د وحس���ن جوني (لبن���ان) ،وزهرة الزي���راوي وف���ؤاد بالمي���ن (المغرب)، وسناء تامزيني وعلي الزنايدي ومنجي معتوك (تونس) ،وإياد كنعان(ليبيا). يش���ار إلى أن منح ميداليات الشرف للفنانين المتوجين من طرف األكاديمية العربي���ة للفن���ون التش���كيلية .وعرف الي���وم الثاني من هذا الحدث التش���كيلي تنظي���م ث�ل�اث موائ���د مس���تديرة حول «دور الفن���ون التش���كيلية ف���ي التنمية البشرية» و«الصورة في تنمية المجتمع» و«ربيع الفن العربي والهويات الثقافية المتع���ددة» ،أم���ا الي���وم الثال���ث فتميز بتنظيم بيع بالم���زاد العلني ،فيما توج اليوم األخي���ر بمنح جوائ���ز األكاديمية ألحسن األعمال المشاركة في الصالون. وق���د أس���هم ح���دث مش���اركة الفنان المغربي األصل الفرنسي الجنسية مهدي ج���ورج لحل���و 29 ،س���نة ،بالمعرض الدولي للفن المعاصر والحديث بمراكش قبل انعقاده ،في عودة النقاش والجدل حول موضوع الفن والدين؟ وعن «حدود الخلق الفني»؟ رغم تأكيد المنظمين أنهم ال يرغب���ون ف���ي أن «يتح���ول المعرض من م���كان لالحتف���ال إلى م���كان للجدل والبوليميك الديني واالجتماعي». 135
رحل عن عالمنا فنان مصر الكبير حامد عويس عن 92عام ًا بداية شهر أكتوبر/تشرين األول وهو أحد العالمات البارزة والفارقة في مسار الحركة التشكيلية المصرية والعربية طوال الخمسين عام ًا الماضية.
حامد عويس قيمة الجسد وغريزة البقاء فاطمة علي -القاهرة س حياته لقضايا المجتمع واإلنسان َك َّر َ مركِّزًا على قيمة الحياة الكريمة ودافع ًا بصري ًا لقيمة العلم والعمل والبناء.. فكان ُيخاطب المجتمع -خاصة الطبقة الوسطى -من خالل كادحيها من العمال والفالحين ليحقق لهذه الطبقة مكانة
136
أفضل تتسق ودورها في صنع التقدم المادي والروحي للمجتمع ..لذلك اشتهر الفنان عويس بأنه فنان الطبقة الكادحة إلخالصه على مدار حياته بتصوير حاالت العمل والجهد الجسدي المبذول لعمال المصانع وفالحي الحقول وصيادي
السمك والعامالت على ماكينات الخياطة ..كما اهتم بتصوير مشاهد من مظاهر حياة الطبقة الوسطى في المقاهي ومحالت الحالقة واألندية الشعبية ..كما اهتم برسم العديد من اللوحات الدافعة لنهضة األمة في لوحات ِّ تمثل الصمود الفلسطيني بانورامية وأخرى للحشد الشعبي بعد نكسة 67 وأخرى لنصر 73وتحطيم خط بارليف.. البعد االجتماعي ومن الواضح أن ُ والواقعية االشتراكية واضحة في أعماله كأفكار ورؤى جعل تفسيراتها في لوحات وصفية شبه مباشرة بأسلوبه المتفرد الجذاب ..ولكني أراه أكثر تأثيرًا كفنان وكداللة بصرية ألفكاره من خالل شخوص موضوعاته في معالجاته لهم كأجساد أكثر من توصيفات وتفسيرات موضوعاته على الضوء االجتماعي الواقعي .فأراه وقد اتخذ من أجساد شخوصه حتى دون اعتبار لمالمح أو سمات معينة مبررًا الستحضار فكرة حول الجسد تجسيدًا وتضخيم ًا لفكرته قد َّ هؤالء األشخاص صانعي التقدم المادي باستخدام أيديهم وكل قدراتهم الجسدية إلنجاز عملهم اليدوي في غالبه ..فبدت األجساد بحضورها الفيزيائي الضخم هي الرسالة ومضمونها في وقت واحد.. رسالة الحضور اإلنساني الفعال بمجرد وجوده المادي في حالة عمل وطاقة مبذولة وملتزم ًا بمفهوم أوسع من مجرد بذل الطاقة وهو مفهوم البقاء الوجودي اإلنساني كجزء من منظومة كونية غير منعزلة والتزام الجسد - األداة اإلنسانية -بهذا النظام بدافع غريزة البقاء ..فالجسد اإلنساني عبر الحضارات هو المفهوم والفعل ووسيلة البقاء. ونالحظ أن الفنان الراحل لم يهمل بتعبيراته الفتية المبالغة لحجم الجسد الفيزيائي كمادة في تأكيد جمالها الخاص ..ليعمل الجسد في لوحاته أحيان ًا كفنارات موجهة تجاه البقاء.. أو ليعمل الجسد كهيكل ضخم للوجود اإلنساني دون تفسير مباشر مثل قفاز ملفوف من الخارج بالجلد وتجاعيد
الجسد ..أو ليبدو الجسد عنده ُمتبع ًا لموسيقاه الخاصة وأقصد به إيقاعه الخاص الذي هو بالضرورة جزء من إيقاع كوني يشملنا جميع ًا لنرى أجساد شخوصه تتبع موسيقى كونية كالجسد الذي يتبع موسيقى راقصة طوعاً ..فلم يعتمد حامد عويس على الجسد كمادة وشكل حركة لتقديم تفسيراته الفكرية، بل جعل الجسد يولد حركته المتسقة وإيمانه للفكرة يتبعها كاتباع موسيقاه التي تتحكم في قدر طاقته واتجاهاتها والتي ،في كثير منها ،اعتمد على ذكاء الجسد الذي نراه في أعماله الصرحية يعمل كشراع رياح أفكاره في هيكل سفينة ضخمة تخضع لالهتزازات الالمنطقية التي تولد طاقة جديدة في الجسد ..طاقة أكثر غريزية ووعي ًا في األداة البشرية من أجل البقاء ..وأحيان ًا في لوحاته نجد
أن الجسد عبر بحركاته واتجاهاتها في فعل أدائي «بيرفورمانس» ليخلق بيئة نشطة تحيط بالمشاهد حتى إذا جاء إلى نهاية التعبير وجدناه يقف أو يجلس في الصمت كما في لوحته «الراحة» استعدادًا ليصبح جاهزًا إلرسال طاقة جديدة ..فهو يجدد ويشحن نفسه ذاتي ًا في تماثل ونظام العمل الكوني. والجسد عند حامد عويس ُيعّد أداة ُمثلى وجودية ..فنراه يجعل الجسد نفسه كترسانة حربية كما في لوحته
«العبور» ،ومرة نراه أرض ًا كما في لوحته «فلسطين» ومرة نراه كهف ًا كما في لوحته عن «النكسة» ومرة نراه نصب ًا تذكاري ًا كما في لوحته «الراحة». وشخوص حامد عويس بحضورها الجسدي أصبحت لها سمة شبه عالمية بوجودها المادي كأعمال فنية ُمقتناة في أكثر من متحف في أكثر من مكان :ففي متحف درسدن بألمانيا لوحته «صيادين من اإلسكندرية» ..وفي متحف الفن الحديث في برلين لوحة «المطرقة».. وفي متحف بوزنان في بولندا لوحة «الجالسة» ..وفي متحف بوشكين في موسكو لوحات «إحنا الشعب» و«نحو النور» و«السد العالي» ..وفي متحف الفنون الشرقية في موسكو لوحتاه «السد العالي »2و«العمل في الحقل».. وفي متحف الفن المعاصر في برشلونة لوحة «القيلولة» ..وفي متحف الفن المصري الحديث في القاهرة لوحتاه «وردية الليل» و«البطالة» ..وفي متحف الفنون الجميلة في اإلسكندرية لوحة «الحصاد» ..وفي متحف الفن الحديث متحف محمود سعيد لوحتا «النيل»و«التعايش السلمي» ..وفي متحف فنون القاهرة لوحة «التعمير» ..وفي متحف فنون اإلسكندرية لوحاته «القنال لنا» و«الحالق» و«بائع الورد» ..وفي متحف دولة قطر بالدوحة لوحاته «من الريف» و«صالون الحالقة» و«العائلة» و«الورشة» و«على شاطئ القنال» و«السمك والناس». رحل فنان مصر الكبير تارك ًا وراءه فن ًا جادًا له أبعاده الفكرية التي تمثل رصيدًا وتاريخ ًا محفوظ ًا في لوحاته إبداعُا وفي فن تالمذته الذين هم اآلن أساتذة الفن المصري المعاصر ..وقد نال عويس وتعرض تقديرًا داخل مصر وخارجها ّ ألعماله نقاد لهم مكانتهم ومصداقيتهم في المجال الفني منهم النحات األلماني فرتس كريمر ،والناقد اإلسباني كارلوس اريان ،والناقد البريطاني جون بريجر، والناقد الروسي دكتور بجدامون، وأجمعت هذه العيون الغربية على شدة مصريته وعالميته في الوقت ذاته. 137
مقال
صافي ناز كاظم
سماااااع هوووس من فضلكم! صارت الرؤية كأنها مستحيلة وبؤرة اإلبصار معتمة ،لكن م���ن يملك أن يعت���رف بأنه لم يعد يرى؟ م���ن يملك أن يتوقف لحظة عن الكالم ليسمع أو يفهم أو ليستدل ويسير في االتجاه الصحي���ح؟ من ه���ذا الذي لديه الصبر لينتظ���ر حتى تكمل ،من دون أن يندفع ليس���تنتج ما تنوي قوله ،رغم أن استنتاجاته تشطح بعيداً ،ويظل بكل طاقته يرد على ما لم يكن في البال؟ هناك مثل عن���د أهل العراق ،يقولونه عندما يتراكم الخطأ في المنط���ق والقول والس���ياق والمفردات ،يقول���ون إن هذا كالم مثل«:خسان ،خوس���ين ،بنات معاوية!» ،أي أن المتكلم يقع في مجمل أخطاء أولها :نطق «الحسن والحسين» ،ثانياً :أنهما ولدا «علي بن أبي طالب» وليسا «بنتي معاوية» ،ولقد عانينا كثيرًا م���ن الغوص الجاهل في «المس���ألة اإلس�ل�امية» ،حتى ألفناه فقلّ���ت المعاناة« ،تنحنا» ،كما نقول باللهجة المصرية، وأصبحن���ا نم���رر الكالم بهش���ة ي���د ،ونواصل حياتن���ا وفق ًا الختياراتنا التي تمليها علينا عقيدتنا بفقه مذاهبها المتعددة، وبعلم أهل الذكر ،وال نتوقف لنتعجب من أن معظم الخائضين في أمور اإلس�ل�ام ،ال يس���تقيمون معه ،لألسف ،على أمر أو تكلي���ف أو طاع���ة أو التزام ،ولو جادل���ك أحدهم أو إحداهن، يكون الجدل مطابق ًا للنكتة المشهورة« :من قال إن الصالة من دون وضوء ال تنفع؟ أنا صليت من غير وضوء ونفع!». تس���مع الصارخ ،كأنه الغيور على س���معة اإلسالم ،يهتف نافياً :أهذا هو اإلسالم؟ كال! وتنظر فترى الصارخ بعيداً ،بقدر اس���تطاعته ،عن مظهر ومخبر اإلس�ل�ام العزي���ز ،وهو ،الذي يري���د ،أن يلقي في روعنا أنه ،مق���روص بالمرارة حزن ًا على «التش���ويه» .وحين ينطلق ذلك المنطلق بكالم عن اإلس�ل�ام يش���به منطق «خس���ان خوس���ين بنات معاوية» ،ال تملك أن تصده بـ«هون عليك ،كالمك كله عك» ،ألنه حينئذ سوف تعلو عقيرته بما يصم اآلذان« :ال كهنوت في اإلسالم ،ال إغالق لباب وتلوح بما يفهم من التلويح« :أينعم يا س���يداتي االجته���اد»ّ ، سادتي ..لكن كذلك ال تخريف في االسالم ،واالجتهاد هو شأن من يعلم بحق الدراسة والبحث ...و ..و ،»..ولكن إذا كان هذا المنطلق بمنطق «أنا صليت من غير وضوء ونفع» ،ال يس���مع صوتك فهل يمكن أن يرى تلويحاتك؟ وبمناس���بة فت���ح أحادي���ث مناه���ج التعليم يح���ق لنا أن نتس���اءل :هل نريد أن نع���د المواطن المس���لم ،ليكون راضي ًا بعلمنة المجتمع في البالد اإلس�ل�امية ،تحت عنوان «المجتمع المدن���ي» ،المقص���ود به تنحية اإلس�ل�ام تمام ًا ع���ن القوانين 138
المنظمة للمجتمع ،باعتباره عمامة متحفية نبوس���ها ونضعها ج���وار الحائ���ط؟ أال يجب أن نس���عى نحو جعل األم���ور أكثر اس���تقامة بحيث تصبح ش���ريعة «ال إله إال اهلل محمد رس���ول اهلل» ،ه���ي القائد له���ذه األم���ة ،والحاضنة لتي���ارات التطور المعاص���رة المنبثقة منه���ا ،أم أن نخضع لن���داءات المطالبة بتدجين المواطن المس���لم منذ الطفولة ،ليتوافق مع ما يسميه الراطن���ون بـ«العصري���ة» و«الحداثة» و«العولم���ة» ،من دون أن نح���دد إلى أي «عص���ر» تنتمي تلك «العصري���ة» ،المبتغاة والمنش���ودة ،أهي إلى «عصر اإلس�ل�ام» أم إلى «عصر الحقبة األورو أمريصهيوني���ة» ،وعولمته���ا التي أصبحت تفصح عن نفس���ها بإمالء وقح متعجرف ،يتباهى بإهانة اآلخرين ،وهو س���ائر نحو سحقهم بدماره الش���امل؟ هل يجوز تدجين الطفل المس���لم ليتوافق ،فيما بعد ،مع من أعلن���وا بوضوح عداءهم لإلسالم بالقول والفعل؟ أال يجب أن نربي الوعي لدى الطفل المس���لم ،بأنه س���وف ينش���أ في مجتمع به تع���داد جاهل بالعقي���دة ،وآخر معاد له جه���ارًا تحت اإللحاد الس���افر ،أو تحت غط���اء مخاتل ،ال يرى الصالح إال في التبعية للغرب ونبذ «فطرة» المقاومة ،بدعوى أنها ليس���ت غاية ،بل وسيلة أثبتت فش���لها .وال يسألني أحد كيف أثبتت المقاومة فش���لها ،ألن هذا يدخل في منطق «خسان خوسين بنات معاوية»! أال يتحتم أن نربي الطفل بما يسلحه بمهارة المنطق السليم الصحي ،وبقوة الخلفية اإليمانية القادرة على مناظرة األفكار العلمانية المثبطة وفضحها ودحضها ،بأس���لوب غير إنشائي وغير متهافت؟ أال يجب أن ندرج في مناهجنا الدراس���ة النقدية لألف���كار العلمانية العولمية ،ومهاجمتها من نقاط قوتها ال من نقاط ضعفها البدهية؟ أال يمكن أن نس���تفيد من ميراث التربية التي أخرجت ابن سينا والبيروني ،وابن خلدون ،وجمال الدين األفغاني ،وسيد قطب ،إلى آخر سلسلة العظماء في أمتنا من الش���رق والغرب؟ والذي يمكن أن نضيفه حديث ًا هو :ترس���يخ الوعي لدى طالب العلم ،بأنهم يتحركون ويعيشون في عصر ق���وة التحدي���ات العلماني���ة ،وعليهم أن يتخطوه���ا ليحققوا مسؤولية «المعاصرة» التي نراها حقنا وهي :تثبيت المشروع الحضاري اإلس�ل�امي ،وتقديم إنجازاته اإلنس���انية لنس���ترد موقعن���ا الندي مع قوى العالم ،لنملك مصيرنا في السياس���ة الدولية ،ونجلس ،بعلمائنا ،في مقعدنا الش���اغر في الساحة العالمية ،بوجه مؤمن أصيل وضيء ،رحمة للعالمين.
�سينما
كثير من المهرجانات قليل من األفالم مرة أخرى لم يخلف شهر المهرجانات موعده ،على الرغم من الظروف التي تمر بها مصر أقيم مهرجان اإلسكندرية، وعلى الرغم من صدى الثورة السورية في لبنان أقيم مهرجان بيروت ،باإلضافة إلى أبو ظبي ،وبعد مثول المجلة للطبع يتم افتتاح ترايبيكا الدوحة. عبرت الثورة على استحياء المهرجانات بقليل من األفالم هاجسها الحدث والتفاعل معه وليس جماليات الفيلم. ولم تدخل روح الثورة المهرجانات بشكل حقيقي يعطي األولوية لإلنتاج السينمائي قبل الحفل ،وعرض الفيلم على نطاق واسع قبل استعراض أزياء النجمات. التنافس بين المهرجانات العربية ليس على تقديم أكبر عدد من األفالم الجيدة وال التحول إلى ظاهرة مجتمعية تجعل من المهرجان عيدًا للسينما يشارك فيه عشاقها، بل في عدد أسماء نجوم الصف األول عالمي ًا وعربي ًا الذين يستضيفهم المهرجان. ومن المؤاخذات الدائمة التي ترافق ظاهرة المهرجانات السينمائية ولم تزل بال حل تضارب مواعيدها ،مما يزيد من تنافسها حول نجوم ونجمات السينما ،ثم يأتي أخيرًا التنافس على األفالم. وتبقى مشكلة اإلنتاج السينمائي قائمة ،على الرغم من أن المهرجانات السينمائية نفسها تتضمن ندوات تنتهي بتوصيات تتحدث عن أزمة إنتاج ودعم ،لكنها لحد اآلن ،في معظمها على األقل ،مازالت في حدود اإلقرار بأزمة ملقاة على مسؤوليتها أساساً ،مما يجعل وضع آلية متكاملة ومشتركة إلنعاش سوق السينما العربية وتثقيفها حلقة مفقودة بين هذا المهرجان وذاك.
139
مهرجان اإلسكندرية:
دورة الفلول والثوار �سامي كمال الدين-القاهرة
مث���ل «مصر» ف���ي تخبطه���ا وفورانها وبهجتها وحزنها ج���اءت دورة مهرجان اإلس���كندرية الس���ينمائي ف���ي دورت���ه السابعة والعش���رين ،أول مهرجان فني بع���د ث���ورة 25يناير ،فعل���ى الرغم من أن المهرج���ان يق���ام خصيص��� ًا لالحتفاء بسينما البحر المتوسط إال أنه مع تقادم ال لكل شيء الدورات أصبح عام ًا وش���ام ً ولالشيء! فف���ي خض���م األح���داث السياس���ية العصيبة التي تعيش���ها مصر كان الوطن بحاجة إلى استراحة محارب تولد فيه قيم اإلبداع والحرية ،وتجدد نش���اطه ،وكان المتوق���ع أن يكون مهرجان اإلس���كندرية هو ه���ذه االس���تراحة ،لكنه تح���ول إلى صداع مزمن. تم تخفي���ض ميزاني���ة المهرجان إلى 40%مقارنة بدورة العام الماضي نظرًا للظروف االقتصادي���ة الصعبة التي تمر بها مصر ،وتم تقليص األفالم المش���اركة من 100فيلم إلى 11فيلماً ،وتم تخفيض عدد أيام المهرجان إلى خمسة أيام فقط، لكن سوء التخطيط وسوء التنظيم أفسدا كل شيء ،فقد تغير جدول عروض األفالم أكثر من مرة ،بسبب تأخر وصول األفالم من الخارج. بل إن المخرج���ة اإلس���بانية «هيلينا تابرينا» رئيس���ة لجنة تحكيم المهرجان رفضت االستمرار في اللجنة بسبب عرض األفالم عل���ى نس���خ « ،»DVDال تصلح
140
للس���ينما ،بسبب توقيف األفالم في مطار القاهرة لعدم تخليصها جمركياً. حف���ل الخت���ام كان حف���ل الش���عارات السياسية ،وفيه ُش َّن هجوم على المجلس العس���كري «يسقط يسقط حكم العسكر»، وانتق���د أحمد فوزي صال���ح مخرج فيلم «جلد ح���ي» ،واتهم ق���وات الجيش بأنها تقتل األقباط أمام ماسبيرو ،بينما طالب عل���ى الجانب اآلخ���ر عدد م���ن الفنانين: خالد يوسف -خالد صالح -حسن الرداد- جيه���ان فاضل – مجدي أحمد علي – عمر عب���د العزيز -عمرو عابدي���ن – خالد عبد الجليل -إيمان البح���ر درويش ،باإلفراج ع���ن طالب معهد الس���ينما فادي الس���عيد ال���ذي ت���م اعتقاله عقب أحداث الس���فارة من فيلم «حاوي»
اإلسرائيلية ومحاكمته عسكرياً ،وارتدوا «ت���ي ش���يرتات» مطبوع��� ًا عليها صورة فادي س���عيد ُكتب أسفلها «الحرية لفادي س���عيد» و«ال للمحاكمات العسكرية» .بل وخالل كلمته طالب خالد يوسف باإلفراج ووج َه رسالة عن فادي س���عيد ورفاقهَّ ، لوزيري الثقافة واإلع�ل�ام يطالبهما فيها بالوقوف بجوار فادي سعيد. رئيس المهرجان الناقد نادر عدلي أبدى اعتراضه بداية على اس���تخدام الشعارات السياس���ية ،كما احتد على كلمة المخرج أحمد فوزي -الذي ت���رك تكريمه وغادر المهرجان. حصل فيلم «ك���ف القمر» على الجائزة األولى وقيمتها 100أل���ف جنيه ،إخراج خالد يوسف وتأليف ناصر عبد الرحمن، الذي جاء كم���ا أفالمهما الس���ابقة ( حين ميس���رة -هي فوضى – دكان ش���حاتة) حي���ث المواطن المص���ري المطحون ،مع اإلسقاطات السياس���ية على العصر الذي تدور في���ه األحداث ،وهي هن���ا لثالثين عام ًا خلت ،حيث يرنو إلى عودة الشعوب العربية متحدة ،ألن وحدتها هي الش���يء الوحيد الذي يصنع لها مكانة بين األمم. تحضر أيض ًا القصة الشعبية في «كف القم���ر» كما ف���ي أعمالهما الس���ابقة ،لكن الحوار هنا كاد يفسدها لطوله. المباش���رة كادت تفس���د العم���ل لوال حبكة الس���يناريو ،وطريقة خالد يوسف المتمي���زة والمختلف���ة في ط���رح أعماله.
«مفيش حرب من غير الكبير» هذه الجملة ال في أذنك وأن���ت تتأمل دور تط���ن طوي ً مصر السياسي بين الدول العربية مؤخرًا تتبعها جملة «ومفيش تس���ليم رقاب من غير رأي الصغي���ر» ،وهي المطالبة التي طالبت فيها الدول العربية المخلوع مبارك ال بأن يقدر قيمة الدول العربية ،وأال طوي ً يتخذ قرارات���ه ف���ي دول العالم ،خاصة قضية فلس���طين دونها .الفيل���م بطولة: وفاء عام���ر ،غ���ادة عبد ال���رازق ،خالد صالح ،حسن الرداد ،هيثم أحمد زكي. وف���از فيلم «حاوي» بالجائزة الثانية وقيمته���ا 50ألف جنيه إخ���راج إبراهيم البط���وط حيث ت���دور أح���داث الفيلم في مدينة اإلس���كندرية حول «يوسف» الذي أطل���ق س���راحه بعد خمس���ة أع���وام من الس���جن االنفرادي ،ليبحث عن مجموعة من الوثائق الهامة. أما ف���ي أفالم الديجت���ال فحصل فيلم «أن���ا واألجندة» لمخرجته نيفين ش���لبي على جائزة المسابقة ،وحصل فيلم «جلد حي» لمخرجه فوزي صالح على جائزة لجنة التحكيم ،وف���از بمبلغ ثالثة آالف جنيه فيلم «ثورة ش���باب» لمخرجه عماد ماهر. وحصل فيل���م «برد يناي���ر» لمخرجه روماني س���عد على جائ���زة أفضل فيلم وقدرها خمس���ة آالف جني���ه ،أما جائزة التحكيم الخاصة عن الفيلم التس���جيلي فقد حصل عليها «حرق األوبرا» لمخرجه كمال عبدالعزيز. أما جائزة لجنة التحكيم وثالثة آالف جنيه ،فق���د حصل عليها فيلم «الحواس» لمخرجه محم���د عمارة ،أما جائزة أفضل فيلم روائي قصير فق���د كانت من نصيب فيلم «صلصال» لمخرج���ه أحمد النجار، ومعها خمسة آالف جنيه. تس���تحق هذه الدورة أن يطلق عليها اسم دورة الفلول والثوار ،فقد جاء شعار المهرج���ان وأفيش���اته لتوح���ي بالثورة والث���وار ،بينما خلت أفالم المهرجان من أفالم عن الث���ورة ،في نفس الوقت الذي كان في���ه «ف���ل عظيم» من فل���ول النظام البائد يس���يطر على العدي���د من فعاليات المهرجان هو ممدوح الليثي.
بغداد: خوف النجوم ح�سام ال�سراي-بغداد السينمائي العراقية منذ افتتاح مهرجان بغداد بعد سجال طويل شهدته الصحافة ّ ّ الوطني بمشاركة ما يقرب من المس���رح قاعة فعالياته على الدولي الثالث ،اختتمت ّ ّ 160فيلم ًا من 32دولة. عراقية ،هو س���وء التنظيم إعالم ووس���يلة صحيفة من أكثر أه���م م���ا أثير في ّ الذي رافق حفل االفتتاح خصوصاً ،والذي أش���اع حالة من اإلحباط بشأن مستوى الدعائي الذي س���بق انطالقه ،إضافة إلى تقديم فقرات ال كان مأموالً ،وفقر الجانب ّ دولي للسينما. تتناسب ومهرجان ّ الفنية لمدرسة الموسيقى والباليه، النشاطات من عدد تقديم النتائج سبق إعالن ّ عراقي���ون بال حدود» ،ورئيس المهرجان عمار س���ينمائيون «منظمة ليوقـع رئيس ّ ّ ّ ّ والفلسطيني للمشاركة وتبادل الخبرات في المغربي الجانبين مع اتفاقية العرادي، ّ ّ ثم جرى إعالن نتائج المهرجانات ّ الس���ينمائية التي تقيمها الجهت���ان المذكورتانّ .. الرسمية للمهرجان. المسابقات ّ الفعاليات من لغط وعكس���ت الكتابات وردود «إعالم المهرجان» عليها ،ما رافق ّ بأن «هناك محاوالت مس���بقة إلفش���ال المهرجان تصور أفصح عنه ّ المنظمون ّ ومن ّ السينمائي كاظم مرشد السلوم في موقع «كتابات» قبل انطالقه» ،وهنا كتب الناقد ّ «إن المدن التي تقام األخير: الحدث بخصوص كثيرة اإللكتروني ،طارح ًا مالحظات ّ ّ وموسيقية، فنية فيها مهرجانات سينمائية ،ترتدي حل ً ّ ال بهية وتقام فيها كرنفاالت ّ ّ أن مدير ورئيس المهرجان لم وتنش���ر إعالنات المهرجان في ّ كل أرجائها ،ويب���دو ّ ينسقا مع أمانة بغداد أو مجلس محافظتها من أجل دعم المهرجان». ومما جاء في رد «مهرجان بغداد»« :ليكن في علم السلوم أن أحالمه في حضور كبار النج���وم مازالت تصطدم بما خلفه االحتالل م���ن توتر وخوف وعنف ،ومتى مازال���ت هذه العوامل فس���يحضر النجوم ،ومتى أتيح للضي���وف العرب واألجانب التج���وال في ش���وارع العاصمة بغداد لوحده���م من دون خوف عندها س���يحضر الجميع». أما المخرج مالك عبد فقال لـ «الدوحة»« :مهرجان بغداد بدورته الثالثة ،خطوة الس���ينمائية ،لركود الثقافية جي���دة لتحريك عجلة الركود ف���ي صنع االحتفاليات ّ ّ ّ السينمائيين استقبال كيفية ص ألخ أن أس���تطيع ال تجاهها.. ة الحكومي سة المؤس ّ ّ ّ ّ لكن المهرجان استقطب العراقيين لحدثهم هذا ،لعدم حرفية الجميع بهذا الخصوصّ ، ّ عالمية وهذا ما يفرح». جيدة من دول عديدة ّ هذه السنة أفالم ًا ّ يسمون ما أو العراقيين ين السينمائي أن يحزن «ما يس���تدرك: عبد أن مالك ّ غير ّ ّ ّ بسينمائيين من خالل تصريحاتهم التي هي أكثر من منجزهم وثقافتهم ،لم أنفسهم ّ تنظيمي ًا المهرجان افتتاح فشل إلى يعود والسبب ً، ا نادر إال المهرجان إلى يحضروا ّ أدى إليه من خيبة أمل كبيرة ،وبرغم ذلك ه���ذا ال يعني أن نقاطع المهرجان وم���ا ّ جيدة ال نستطيع أن نشاهدها في مكان آخر من بغداد». أفالم ففيه ّ
141
أبوظبي:
ثورة السينمائيين ..حتى إشعار آخر حنان �شافعي�-أبوظبي ج���اءت الدورة الخامس���ة من مهرجان أبوظبي الس���ينمائي هذا العام في خضم الربي���ع العربي ،فالثورات تش���تعل في وطننا الكبير ومعها يتفاعل السينمائيون باألساس وفي طليعة األسرة الفنية لذلك ح���ازت أفالم الثورة على النس���بة األكبر في المشاهدة واالحتفاء خالل المهرجان، كما تصدر الحديث ع���ن تطورات موجات الربي���ع العربي في كل من مصر وتونس وس���ورية قائم���ة النقاش���ات التي دارت في أروق���ة المهرجان خصوص��� ًا الندوة الموس���عة الت���ي أقيمت ي���وم اإلثنين 17 أكتوبر/تش���رين األول تحت عنوان «أثر الربيع العربي على صناعة الس���ينما» إذ ال بين المتحدثين شهدت القاعة نقاش ًا فاع ً وهم :الممثالن خالد أبوالنجا وعمرو واكد من مص���ر ومن س���ورية المخرجان نبيل المال���ح وهال���ة العبد اهلل ،وم���ن تونس تحدث المخرج حبيب عطية. ف���ي ه���ذا اللق���اء تب���ادل المتحدثون الميكروفون في حم���اس يحكي كل منهم ع���ن تجربة ب�ل�اده ف���ي الس���ير باتجاه تحررها م���ن قيود نظام فاس���د ،وبينما ب���دا المصريان (واكد وأب���و النجا) األكثر تألق ًا في س���رد رؤيتهما لم���ا جرى ،كان المالح والعبد اهلل متأرجحين بين اليأس من نجاح الثورة الس���ورية في إس���قاط نظام األسد واألمل في غد أفضل تنعكس فضائله على صناعة الس���ينما في بلد ال يعرف غير مش���روعات إنتاج الدولة ،أما التونس���ي عطيه فقد غل���ب على مداخلته الخوف م���ن المد اإلس�ل�امي وإرهاصات
142
من فيلم « 18يوم» حرية التعبير التي برزت الخالفات حولها ه���ذه األيام .ويمكننا إجما ًال الوقوف على استغراق اللقاء في الحديث عن السياسة والتنظير لحاضر البالد ومس���تقبلها أكثر م���ن الدخول إل���ى صناعة الس���ينما على اخت�ل�اف أطرافه���ا وما يمكن أن تش���هده م���ن تغيير ف���ي موازين الق���وى بعد تلك الثورات ،خصوص ًا ما يتعلق بمش���كالت اإلنت���اج والعملية الصناعية ف���ي العالم العرب���ي حيث يتس���اوى الجميع في تلك
المعاناة بمستويات متفاوتة. أما ع���ن العروض العربية المش���اركة ف���ي المهرجان فقد جاءت أبرزها من رحم الربيع العربي بل يمكننا أن نعتبر الحدث فرص���ة لإلطالع على وثائقي���ات الثورة وأظن أن هذا س���يكون حال المهرجانات التي يتم تنظيمها في المنطقة خالل فترة قد تمتد لسنوات .أبرز هذه العروض كان الفيلمين المصريين « 18يوم» وهو مكون م���ن 10أفالم روائية قصي���رة من توقيع
10م���ن المخرجين المصريين يمثلون كل األجيال ،وشارك في بطولته عدد كبير من نجوم السينما المصريين من بينهم أحمد حلمي ،آسر ياس���ين ،منى ذكي ،يسرا، عمرو واكد ،والفيلم الثاني هو «التحرير :2011الطيب والشرس والسياسي» ،من إخ���راج تامر عزت وآيتي���ن أمين وعمرو س�ل�امة تم عرضه ضمن أفالم مس���ابقة األفالم الوثائقية .وبينما حضرت الثورة المصري���ة غاب���ت ع���ن ص���االت العرض تمام ًا السينما الس���ورية المملوكة للدولة وه���ي نتيج���ة كان���ت متوقعة م���ن قبل معظم المش���اركين وكذلك لم تبرز أي من العروض التونسية. اإلم���ارات وه���ي الدول���ة المضيف���ة والمنظم���ة للمهرج���ان تمثل���ت بالفيل���م الروائي «ظ���ل البح���ر» لإلماراتي نواف الجناح���ي إضاف���ة إلى عدد م���ن األفالم الوثائقي���ة والروائية القصيرة التي تمثل شباب المخرجين .كذلك حضرت المغرب بكثير من أفالم اإلنتاج المش���ترك كما هو معت���اد في الس���ينما المغربي���ة في إطار موضوعات اجتماعي���ة ودراما العالقات الشخصية وإشكاليات الذات واالغتراب. من جانب آخر عرض المهرجان مجموعة كبي���رة م���ن األف�ل�ام العالمية م���ن بينها الفرنسي واإليطالي والصيني واألميركي والبريطان���ي والمكس���يكي حي���ث ضمت المجموع���ة أفالم ًا تع���رض للمرة األولى عالمياً. ولع���ل أب���رز الفعاليات التي ش���ملها برنامج مهرجان أبوظبي الس���ينمائي في نس���خته الخامس���ة االحتفالي���ة الخاصة ب���كل من أدي���ب نوب���ل المص���ري نجيب محف���وظ وذل���ك بع���رض باقة م���ن أهم األفالم المأخوذة ع���ن أعماله مثل «درب المهابي���ل» و«الجوع» و«بداي���ة ونهاية» وغيرها ،كما عقدت ندوة لمناقشة سينما نجيب محفوظ وخصوصيتها التي تعتبر مدرسة سينمائية مس���تقلة بذاتها ،كذلك كان هناك احتفاء بالتجربة الس���ينمائية الخاص���ة بالمخ���رج الس���ويدي إنجم���ار برجم���ان ال���ذي ت���رك بصم���ة أبدية في صناعة السينما العالمية.
بيروت: أفالم الربيع بدون دعوة! ختتم���ت ال���دورة 11م���ن مهرج���ان بيروت الس���ينمائي الدول���ي الذي امتد م���ن 5إل���ى 13أكتوبر/تش���رين األول المنصرم ،بمشاركة 67فيلم ًا لمخرجين م���ن 29دول���ة مختلفة ،م���ن بينها 24 فيلم��� ًا م���ن الع���راق واألردن وتون���س والمغرب ولبنان والبحرين ،باإلضافة إلى س���تة أفالم من إي���ران .وقد ترأس المخ���رج اإليطالي لوكا جوادنينو لجنة التحكيم التي ضمت :الناقدة السينمائية كريس���تينا بيتش���ينو ،ومخرج���ة فيلم «غناء العروسين» كارين البو المتوجة بجائ���زة س���يزار ،ومخرج���ة األف�ل�ام الوثائقية العراقية ميسون باتشاتشي، والكاتبة السعودية رجاء الصانع مؤلفة رواية «بنات الرياض» .المهرجان افتتح بعرض فيلم «ش���جرة الحياة» للمخرج األميرك���ي تيران���س الفائ���ز بالس���عفة الذهبي���ة ألفضل فيلم ف���ي مهرجان كان ه���ذا العام .كم���ا كان للجمه���ور فرصة لمش���اهدة أفالم تألقت في كان وبرلين والبندقية ،منها« :الجس���د الذي أسكنه» للمخرج اإلس���باني بي���درو ألمودوفار، و«نح���ن بحاج���ة للحديث ع���ن كيفين» للبريطانية لين رامسي ،والفيلم المثير للجدل «ميالنكوليا» (االكتئاب) للمخرج الدنماركي الرس فون ترير. تصريح كوليت نوفل مديرة مهرجان بيروت السينمائي الدولي بكون «دورة هذا العام هي األكبر خالل أكثر من عشر س���نوات» ،لم يكن كافي��� ًا لتبرير غياب األعمال الت���ي صورت ح���ول الثورات العربية ،هذا الغي���اب كان أبرز ما ركز علي���ه المراقبون رغ���م الحضور الالفت ألفالم تتناول الواق���ع العراقي وقضايا «الش���رق األوس���ط» ،فيما ردت رئيسة المهرج���ان ه���ذا الغياب حس���ب مصادر متطابقة ،إلى «تزامن وتضارب مواعيد
المهرجان���ات العربي���ة» ،مصرحة أنها «دع���ت مخرجي���ن أنتج���وا أفالم��� ًا عن الثورات العربية إال أنهم فضلوا عرضها في مهرجانات الخليج لدوافع مالية». نتائج المسابقات أسفرت عن تتويج مصر بث�ل�اث جوائز :ذهبية أفضل فيلم روائي «شرق أوسط» ،وذهبية ألفضل س���يناريو ،للمخرج المص���ري إبراهيم البط���وط ع���ن فيل���م «ح���اوي» .ونال الك���ردي العراقي حس���ن عل���ي محمود جائ���زة «ألف» الذهبي���ة ألفضل مخرج، عن فيلمه «حي الفزاعات» .بينما منحت جائزة لجنة التحكي���م الخاصة لألفالم الروائية (جائزة فران���س )24للمخرج الكردي العراقي المقيم في إيران إبراهيم السعيدي عن فيلم «ماندو» .أما جائزة أفضل فيلم وثائقي «شرق أوسط» فنالها فيل���م «ك���وال» للمخرج العراق���ي يحيى الع�ل�اق ،وف���ازت المخرج���ة اإليرانية األسترالية نورا نياساري بجائزة أفضل مخرجة في مس���ابقة األف�ل�ام الوثائقية عن فيلمها «تحت الجسر» ،وحصل فيلم «حياة كل���ب» للمخرج���ة اإليرانية هانا مخملب���اف على جائزة «أل���ف» الذهبية ألفض���ل فيلم «ش���رق أوس���ط قصير»، بينم���ا منح���ت جائ���زة «أل���ف» الفضية في مس���ابقة األفالم «الش���رق أوسطية القصيرة» للتركي غوتش���لو يامان عن فيلم «رحلة الالعودة». يذكر أن فيلم «أحمر ،أبيض وأخضر» للمخرج اإليراني ن���ادر داوودي والذي كان مبرمج��� ًا ضم���ن المهرج���ان ،قد تم س���حبه من المش���اركة ،بع���د تعرضه للرقابة من قبل السلطات اإليرانية ومنع مخرجه من السفر إلى لبنان على خلفية موضوع الفيلم الذي يتناول االنتخابات الرئاسية في إيران 2009والمظاهرات الرافضة لنتائجها.
143
عمر الحريري
موعد مع الحياة �سامي كمال الدين-القاهرة في مش���هد من أفالم األبيض واألسود يمس���ك «الس���يجار» في يده كأحد أبناء باشوات الزمن القديم ،وفي مشاهده في الحياة يمس���ك أيض ًا بسيجاره ال يفارق يده أبداً. هكذا عاش عم���ر الحريري ابن الطبقة الراقية غير س���اع إلى مج���د ،وال بريق، وال أض���واء ،إن اختاره الدور كان بها، يس���ع اليه ال يس���عى ه���و إلى وإن ل���م َ ال���دور ،فقد كان دائم اإليم���ان بأن الدور يختار صاحبه ،وليس العكس .لذا تجده متمكن ًا من األداء ،وهو يلعب دور شقيق فاتن حمامة في فيلم «س���يدة القصر» في مواجهة زوجها الطاغية «زكي رس���تم»، وكذلك دوره في فيلم «موعد مع الحياة» أم���ام ش���ادية وفات���ن حمام���ة وكم���ال الشناوي. ج���اء رحيل���ه بع���د ربي���ع الث���ورات وق���د َر دور العربي���ة ،ال���ذي أش���اد به، َّ ش���باب ثورة 25يناير ،وذكر أن الحلم الذي ط���ال انتظ���اره قد تحق���ق على يد هؤالء الش���باب ،وع���رف أن القذافي لن يستسلم من خبرته ،حيث أقام الحريري لس���نوات خمس في ليبيا بقرار س���يادي عند تحررها في أواخر الستينيات ،حيث طلبت منه القي���ادة المصرية الذهاب إلى ودرب ليبيا ،فأس���س مس���رح ًا هن���اكَّ ، العديد من الليبيين عل���ى التمثيل ،وظل لخمس سنوات يعلم ويدرب،وحين تأكد
144
من وقوف فن المس���رح عل���ى قدميه عاد إلى مصر ،لذا كان يعرف صالبة النظام الليبي وعناده. ولد عم���ر الحريري ف���ي 12فبراير/ ش���باط 1926وتعل���ق بف���ن التمثي���ل وهو في الس���ابعة م���ن عمره ،حيث كان وال���ده يصطحبه معه لمش���اهدة األعمال فك���و َن فرق���ة تمثي���ل ف���ي المس���رحية، َّ المدرس���ة ،ثم التح���ق بمعه���د التمثيل، وتخ���رج في���ه ع���ام ،1947وكان قد بدأ حياته الفنية قب���ل االلتحاق بالمعهد في مش���هد صامت من خالل فيلم «سالمة في خير» عام 1937مع نجيب الريحاني.
بع���د تخرج���ه ف���ي المعه���د -دفع���ة واحدة مع ش���كري سرحان -انضم إلى فرقة المس���رحي الكبير زك���ي طليمات، وش���ارك في عدة مسرحيات في المسرح القوم���ي ،حت���ى تع���رف هو وش���كري س���رحان بيوس���ف وهبي ،وعمال معه في مس���رحية «راس���بوتين» عام ،1951 وق���د أعج���ب يوس���ف وهب���ي بأدائهما فرش���حهما للعمل ف���ي فيل���م «األفوكاتو مديحة» ،تأليف وإخراج يوس���ف وهبي وبطولته مع مديحة يسري وثريا حسن وفردوس محمد وحس���ين رياض وفاخر فاخر وس���امية فهمي .لينتقل إلى مرحلة األضواء من خالل عدة أفالم « :وداع ًا يا غرامي»« ،ابن النيل»« ،الس���بع أفندي». ليش���ارك في عش���رات األفالم بعد ذلك، ويقدم عدة مسلس�ل�ات تليفزيونية ،لعل أشهرها دوره مع عادل إمام في مسلسل «أحالم الفت���ى الطائر» ،وقدم منذ عامين دورًا هام ًا في مسلس���ل «ش���يخ العرب همام» ،حيث لعب دور «يوس���ف همام» الجد األكب���ر لقبائل اله���وارة في جنوب مصر ،ووالد «همام» – يحيى الفخراني- وعلى الرغم من أن ال���دور من العالمات ألي فن���ان ،وكأنه يقدم دروس��� ًا في فن التمثيل ،إال أن الدور سبب أزمات كبيرة لقبائ���ل الهوارة ،حيث ظه���ر جدهم غير مهتم بنظافته الشخصية!.. كما ش���ارك في مسلس�ل�ات« :خالتي صفي���ة والدي���ر»« ،س���اكن قص���ادي»، «الس���يرة الهاللي���ة» .كم���ا ش���ارك ف���ي مسرحيات « :الواد سيد الشغال»« ،شاهد ما شافش حاجة». ما ال يعرفه الكثيرون أن الفنانة ميمي ش���كيب هي عمة الفنان عم���ر الحريري، وقد عرفت هذه المعلومة منه. كان���ت آخ���ر أدوار الفن���ان الراح���ل، الشهر الفائت ،مسرحية لألطفال «حديقة ِ وس���عد كثيرًا به���ا ،اذ تمنى األذكي���اء»، تقدي���م عمل لألطفال ،لينق���ل بعدها إلى مستش���فى الج�ل�اء العس���كري ويغ���ادر الحياة مس���اء األحد 17أكتوبر/تشرين األول 2011حي���ث هجم الس���رطان على كل أجزاء جسده كذئب متوحش ،ليغادر الحياة وهو في التاسعة والثمانين.
الش���ارع في تونس .أثارت لغط ًا وجد ًال واسعين. حركت ّ امرأة واحدة ّ محط اهتمام فالجرأة والحماس���ة اللتان ورثتهما ع���ن والدها جعلتا منها ّ الساسة والمثقفين. ّ
حفيدات لينين �سعيد خطيبي إنه���ا المخرج���ة نادية الفان���ي التي تخطت الطابوهات في الشريط الوثائقي ّ «علمانية إن ش���اء اهلل!» ودافعت بش���ّدة ّ عن مرجعياتها الفكرية والعقائدية وعن رغبتها في رؤية تونس جديدة ،موحّدة، تتعاي���ش مع اآلخر ،تؤم���ن باالختالف وباألقليات. ّ الش���ريط المثير للجدل نزل ،مؤخراً، إلى صاالت العرض في فرنسا ،وحظي بحض���ور مه���م في عرض���ه األول ضمن تم فعالي���ات أيام الس���ينما العربية .كما ّ إدراج���ه ضم���ن برنامج ع���روض قافلة األش���رطة الوثائقية األورو-متوسطية الت���ي تج���وب م���دن فرنس���ية مختلفة. ويب���دو أن الفان���ي ،صاحب���ة «أوالد ليني���ن»( )2008ق���د اجت���ازت بس�ل�ام تعرض���ت إليها الهجم���ة العنيفة الت���ي ّ ش���هر يونيو الماضي بمناس���بة عرض
الش���ريط نفس���ه بصالة «أفريك آر» في تون���س العاصمة .حي���ث اتهمتها حينها بعض الجماعات الّدينية بالمساس بقيم اإلس�ل�ام قبل أن ت���رد عليه���م« :غالبية منتقدي لم يشاهدوا الفيلم .هم يوجهون َّ أحكامه���م لي ش���خصي ًا ولي���س للفيلم. يس���تمدون انتقاداتهم من س���وء تأويل لتصريحات أدليت بها على بالطو إحدى وتصب غالبية القنوات التليفزيوني���ة». ّ االتهامات الموجهة للمخرجة في حنينها إل���ى الش���يوعية وف���ي ميلها إلى نش���ر أف���كار تغريبية في المجتمع التونس���ي. يصور بالد مع العلم أن الش���ريط نفسه ّ الطاهر حداد في مختلف تجلياته .دونما تعص���ب لفكرة معين���ة أو تغليب منطق وتروج فصوله إلى ضرورة على آخ���رّ . الحوار والتواصل بين المس���لمين وغير المس���لمين .من خالل نقل شهادات أفراد
ومواطنين عاديين ،حيث يسرد كل واحد منهم نظرته لطبيع���ة العالقات التي من الواجب أن تجمع بين األفراد فيما بينهم، س���واء تحت مظلّة الدي���ن أو تحت مظلة الوطن الواحد. تزام���ن تصوير ش���ريط «علمانية إن شاء اهلل!» مع األش���هر األخيرة من حكم زي���ن العابدين ب���ن علي .حي���ث انطلق س���رًا (نظرًا للرقاب���ة وللمضايقات التي كان���ت مفروض���ة عل���ى المخرج���ة) في أغس���طس 2010وتواصل لغاية ما بعد 14يناير .2011أكثر من ستة أشهر نقلت خاللها المخرجة صورتي���ن متناقضتين من تونس .وجه���ان من بلد عاش الريبة والخ���وف تحت س���لطة نظ���ام الرئيس المخلوع ،ثم نش���وة االنتصار بعد رحيل المس���تبد ونجاح ثورة انطلقت من مدينة سيدي بوزيد المسالمة. وتصرح نادية الفاني التي س���بق لها ّ العمل مع كثير من المخرجين الكبار أمثال روم���ان بولنس���كي وألكس���ندر أركادي: يمس أي أحد .ليس بروباغندا. «الفيلم ال ّ يداف���ع فقط عن حق األف���راد في التعبير وف���ي التفكير .أتمنى أن يثير النقاش من أجل فتح المجال واسع ًا أمام االختالف ال أمام اللغط والمبارزات اللفظية». عمل الفان���ي األخير هو ش���هادة عن الجرأة .وثيق���ة مهمة من أجل فهم بعض العوامل الداخلية واألسباب الفعلية التي س���اهمت في اندالع الثورة في تونس ثم تحرر كثير من التج���ارب ومن األصوات الت���ي عانت التعتي���م س���نوات طويلة. نادي���ة الفاني ،التي مهدت اليوم الطريق أم���ام كثير من مثيالتها ،ليس���ت س���وى جزء من نضال متعدد ومس���تمر لنس���اء تونس���يات واجهن القمع بالفن وبالكلمة الح���رة .جيل تمثله أس���ماء ش���ابة ،من ّ ال لينا بن مهني( 28س���نة) التي بينها مث ً ورد اسمها ضمن مرشحي نوبل للسالم، بعدما أحرجت نظام الطرابلسية بمدونتها «بنية تونسية» ونقلت وقائع الثورة من سيدي بوزيد إلى تونس العاصمة مرورًا بصفاقس وبقابس بكاميرا هاتفها النقال واتساع رؤيتها وإيمانها بحقها في العيش الكريم ،بعيدًا عن بطش الديكتاتور. 145
الحرب في مرآة الجنيّات �سحر مندور -بريوت يسكن الشاشة، مجموعة من النس���اء ّ ويصنعن من تفاصيلها حفلة مس���تمرة، المتفرج خالله���ا على الضحك يتن���اوب ّ والب���كاء ،ف���ي ٍ قصة أق���رب إلى قصص الجنيات المسحورات ،تروي عن كيفية ّ «إطفاء» الحرب في نفوس الرجال. حظي فيلم نادين لبكي الجديد «وهأل الس���اعة ،بنسبة مشاهدة لوين؟» ،حتى ّ عالي���ة ف���ي دور الع���رض اللبناني���ة، وبعرض أول في «مهرجان كان» ()2011 ٍ للس���ينما ،وبجائزة ثم مهرجان الّدوحة ّ جمهور مهرج���ان «تورنت���و» ،وبتداول اس���مه للمنافسة على «أوس���كار أفضل
146
فيلم أجنبي» (.)2012 سيناريو الفيلم يدور في قرية بدينين، سكانها مس���يحيون ومسلمون ،ينشغل ّ النس���اء بينهم في حياك���ة حياة يومية، بينما يتأرجح الرجال على حافة ما بين اعتداء على الكنيس���ة، األلفة والغضب. ٌ حرب، فاعت���داء على الجامع ،فش���رارة ٍ ٌ فقتال ف���ردي ،فخطط متبادلة للمواجهة بين سكان تلك القرية ،يجتمع لصياغتها رجال دفنوا األسلحة في األرض ،وباتوا ٌ على أهبة الحفر الستخراجها. النس���اء يتابع���ن تل���ك األح���داث بقلق شديد .يس���عين إلى وتس���ارعهاٍ ،
حرب ال تزال صرف انتباه الرج���ال عن ٍ نيرانها مشتعلة في القرى المحيطة ،بينما هن لم يخلعن بعد عنهن اللون األس���ود، ّ ح���دادًا على آب���اء وأزواج وأبناء قضوا حرب حرب س���ابقة .يستمتن ضد ٍ خالل ٍ تبدو لهن غبية ج���داً ،فيقررن مواجهتها بأكثر األساليب ابتكارًا وفكاهة .فيضحى مكونة المتفرج أمام «عصابتين» :واحدة ّ ّ من رجال من الدينين ،ش���ديدي التوتر، يس���تجدون الحياة لكي تمّدهم بمشاجرة مكونة تتط���ور إلى ح���رب ،والثاني���ة ّ من النس���اء ،يراقبن الرج���ال ،وينصبن له���م الفخ تل���و اآلخر به���دف منعهم عن الحرب. النقد األساس���ي للفيلم تمحور حول هذه النقطة :من قال إن النساء يناهضن الح���رب؟ من قال إن النس���اء ال يمتن في الحرب ويستمتن ألجلها؟ التاريخ اللبناني ي���روي الكثير ع���ن النس���اء المقاتالت، والحاض���ر اللبنان���ي يفي���ض بالنس���اء المتعصبات ،كما أن األم اللبنانية قادرة ّ على رف���ع التحّدي ضد «الع���دو» لدرجة
تقدي���م أوالدها وق���ودًا لحرقه .النس���اء اللبنانيات ،كما النس���اء ف���ي كل مكان، يتمتع���ن بغرائز وبردود أفعال ش���بيهة بتلك المتوافرة ل���دى الرجال ..ما يجعل من ق���رار إلب���اس النس���اء رداء «العفّة» الحربية ،ضرب ًا من ضروب التسطيح. ف���ي المقابل ،ل���م تعم���د نادين لبكي في فيلمه���ا ،إلى تطهير النس���اء من كل ذنب ،وإنما إلى تطهيرهن فقط من ذنب الحرب ،كأنهن تعلّمن من تجارب سابقة، لم تعلّم الرجال شيئاً .فخرج الفيلم على الجمهور بمجموعة من النس���اء ،يلتقطن أنفاس المتفرجين من لحظته األولى إلى تلك األخيرة. تقول لبكي ف���ي مقابالتها الصحافية إن فك���رة الفيل���م ول���دت خ�ل�ال حبلها بوحيده���ا وليد ،عندما اش���تعلت حرب شوارع سريعة في لبنان العام ،2008 مكبلة اليدين أمام رعب فوجدت نفس���ها ّ هائل الحج���م ،قادر عل���ى ابتالع طفلها فكرت بما في وسعها فعله وأطفال كثرّ . لحمايتهم .ه���ي ،إذاً ،منذ والدة الفكرة، أطلقت على كل النساء اسم «األم» وعلى كل الرجال اس���م «الح���رب» .وهكذا كان فيلمها. نقطة نقد محورية أخرى كان يمكن أن يواجه بها الفيلم ،وهي أسباب الحروب ودوافعها ،إذ عولجت بطريقة مستعجلة في الفيلم ،على الرغم من تعقّد الواقع، والتركيب الذي يشوب أسباب أي حرب، بدءًا من مس���توى الحي���اة االقتصادي، ال مرورًا بنوعية العصبية التي تتخذ شك ً ديني���اً ،وص���و ًال إلى دور الف���رد ودور اآلخر ف���ي صناعتها ..الفيل���م ال يعالج ذل���ك ،وإنما يختصر «أس���باب الحرب» بنوع من أنواع الغباء الش���رس ،يصيب تمكن الفيلم الرجال، ٍ كفيروس معٍد .وقد ّ من تفادي ذلك المط���ب من خالل مقّدمة تضع���ه ف���ي س���ياق خيالي ،ومش���اهد موس���يقية تجعله أقرب إل���ى الفانتازيا وتطور أح���داث ينأى به عن الراقص���ة، ّ الواقع ،ليكون حلم امرأة تسعى إلبعاد ش���بح الحرب عن عائلتها .فكانت امرأة حمت فيلمها من نقٍد يمكن أن يصيبه في صلبه.
نسوة الشاشة استطاع الفيلم األلماني الطويل «عندما نرحل» للمخرجة فيو أالداك الفوز بالجائزة الكبرى في اختتام المهرجان الدولي الخامس لفيلم المرأة والذي تحتضنه مدينة سال ،وهو الفيلم الذي يعالج إشكالية «الهوية والهجرة» وقد حظي اختيار لجنة التحكيم على هذا الفيلم كي ُيَت َّوج أيض ًا بجائزة أحسن دور نسائي والتي كانت من نصيب الممثلة سيبيل كيكيلي ،وأحسن سيناريو والذي كتبته مخرجة الفيلم الذي أنتج سنة .2008ويحكي الفيلم نفسه «قصة أوماي امرأة شابة من أصل ألماني ،تضطر لمغادرة اسطنبول برفقة ابنها من أجل حمايته من بطش زوجها العنيف ،وتقرر العودة للعيش وسط عائلتها في برلين ،لكن أفراد أسرتها لم يلقوها بالترحاب الذي كانت تنتظره منهم، فاألعراف أقوى من أن يتجاوزوا االتفاقات مما يجعلهم ممزقين بين ِيم مجتمعهم .أمام هذا الوضع ،تجد أوماي الحب الذي يكنّونه لها وقَ نفسها مجبرة مرة أخرى على مغادرة من تحبهم تجنب ًا لالنتقام ،وأال تكون مصدر العار والخزي لهم.».. أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فقد عادت مناصفة إلى الفيلم األميركي «شتاء العظام» ،للمخرجة ديبرا كرانيك ،والفيلم اإليطالي «كوربو سيليست» ،للمخرجة أليس روهراوش ،في حين عادت جائزة أحسن دور رجالي إلى الممثل األسترالي جون هيرت عن دوره في «لو» للمخرجة بليندا شايكو .وقررت لجنة التحكيم -التي ضمت في عضويتها ك ً ال من مورين مازوريك من إنكلترا ،والصحافية والناقدة السينمائية أومي ندور من السينغال ،والممثلة هالة صدقي من مصر، والمخرجة مريم خاكيبور من إيران ،والمخرجة والمنتجة السينمائية لوسيل هادزيها ليلوفيتش من فرنسا ،والمخرجة ليلى التريكي من المغرب -منح «تنويه خاص» للفيلم المصري « »8-7-6للمخرج محمد دياب لـ «شجاعة هذا األخير في التطرق لموضوع التحرش ولدفاعه عن كرامة المرأة». ومن جانب آخر ،عرف الحفل الذي احتضنه المركب السينمائي «هوليوود» في سال تكريم فاطمة العلوي بلحسن (المغرب) ،مصممة الديكور والفنانة التشكيلية ،وناكي سي سافاني من كوت ديفوار، وهي ممثلة وناشطة في مجال حقوق النساء والطفولة في إفريقيا ورئيسة مهرجان المرايا والسينمات اإلفريقية في مارسيليا.
147
مو�سيقى
عبد النبي الجيراري
جرح األغنية المغربية مهم���ا مكثوا ف���ي الظل فظلّه���م يبقى شامخاً ،عبد النبي الجيراري الذي ودعنا أخيرًا ينتمي إلى ساللة هؤالء .كان أول رائد ينتزع الموس���يقى م���ن نعمة التراث األندلسي والملحون واألهازيج الشعبية، وي���ذوب كل ه���ذا في حداث���ة غنائية غير ّ معهودة تركت أجود ما مني به اإلنصات في زمانه ،الجيراري هو األغنية المغربية حين يقترن الحديث بالريادة والعصرنة. ق���اده افتتان���ه المبك���ر بالمقام���ات
148
العربية من حصي���ر معهد متواضع يلقن الصولفيج ،إلى بارع متعدد ،نقّاء ش���عر وصوت ،ذي إحاطة موسوعية باآلالت، يتقم���ص بإتقان :الع���ود والكمنجة ،إلى ّ األكورديون ،وبينه وبين البيانو تجاذب أقحمه في الموسيقى المغربية ألول مرة. وهكذا وض���ع اللبنات األولى ألرش���يف اإلذاعة بأغانيه ومعزوفاته وكان ينتقي أش���عاره بذوق رفيع ،فمن جملة ما غناه قصائد البن زي���دون وجميل بثينة وأبي
القاسم الشابي. قامة في العطاء اس���تؤنفت بتأسيسه ج���وق االتحاد الفن���ي الرباط���ي ،النواة األول���ى للفرق الموس���يقية العصرية في المغرب س���نة ،1945واس���تمر الراحل يك���رس وقت���ه ف���ي بح���ث ال ينقطع عن الخام���ات الصوتي���ة ،ه���و األب الروحي والمستكش���ف األول لنج���وم األغني���ة المغربي���ة :عبد اله���ادي بلخياط ،نعيمة سميح ،سميرة بن سعيد ،عزيزة جالل، الراحل���ة رجاء بلملي���ح ،والملحنين عبد الق���ادر وهبي وعبد اللطيف الس���حنوني وعز الدين المنتصر ،وغيرهم يطول حصر أسمائهم ،مازال الناس يتذكرون دهشتهم األول���ى وه���م خل���ف مكرف���ون برنامج «مواه���ب» مدرس���ة عبدالنب���ي الجيراري التي علم فيها أصول النغم واس���تحقاق التطريب عبر شاشة التليفزيون المغربي ف���ي س���تينيات الق���رن الماض���ي .جهده سيال وال ش���غل له إال الموسيقى ،أنفق ّ في س���بيلها وفي س���بيل الموسيقيين ما يملكه ،ولم تخيبه التضحية في مشروع متكامل جماعي على أسسه تألقت األغنية وذاع صيتها في العالم العربي. ودعنا الجيراري بعدما بس���ط أنغامه خارج الحدود ،وغير محبذ أن تظل أعماله محبوسة في ريبرتوار اإلذاعة الوطنية، وهي تذي���ع منها ما ش���اءت وغيرها من الخالدات الكثير ،لكن الحاجة إلى تعميمها والحدي���ث عنها إنصاف مس���تحق ،ومن االستخفاف والحرقة التذكير برموز كبار وقت رحيلهم أو ف���ي تكريم يتيم ال يرقى إلى المنجزات. منذ أن تس���للت قبض���ة وزير الداخلية واإلعالم األس���بق إدريس البصري على تجرب���ة «مواهب» أواس���ط الثمانينيات، والعق���م ينخ���ر األغاني ،وض���ع أحزن الجيراري ولم يفارقه الحنين الس���توديو ال عن «مواه���ب» ،وقد غاب الراح���ل طوي ً الوسط الفني في السنين األخيرة إلى أن انعزل طريح الفراش وحيدًا في نس���يان مري���ر .رحل عنا الجي���راري في غفلة من حناجر كانت وال تزال مكرسة بفضله ،ال ش���يء يشفع لهم غير موسيقاه وستبقى أغانيه مرثيات سعيدة.
فن الصوت.. األرشيف الضائع �إبراهيم را�شد الدو�سري بعد رحيل المط���رب البحريني الكبير محمد بن فارس ،أشهر من غنّى الصوت ف���ي الخلي���ج العرب���ي ع���ام 1947م، ل���م يتوق���ف تأث���ر ع���دد م���ن المطربين البحرينيي���ن بف���ن الص���وت م���ن الذين عاص���روا محمد بن ف���ارس أو من الذين برزوا ف���ي األربعينيات والخمس���ينيات والستينيات من أمثال المطرب عبدالعزيز بورقبة ومحمد عيس���ى عالي���ة وعبداهلل أحمد وفرحان بش���ير وعلي خالد وأحمد خالد ويوس���ف فوني وعبداهلل بوشيخة وس���بت صالح ومحمد عيس���ى بوشقر ال وأحمد الجميري وإبراهيم حبيب ،فض ً ع���ن الراحلين ضاحي ب���ن وليد ومحمد زوي���د أحد أبرز تالم���ذة محمد بن فارس وغيرهم ،س���واء من داخ���ل البحرين أو الخليج عموماً. وبرغ���م الظ���روف الت���ي أدت إل���ى انحس���ار وانكم���اش ف���ن الص���وت في السنوات األخيرة إال أنني البد وأن أشيد بأهم اإلنجازات الفردية التي س���اهم بها أصحابه���ا من فنانين وكت���اب إلبراز فن الص���وت وتوثيقه ليك���ون معين ًا وذخرًا لألجيال القادمة. ومن هؤالء الفنانين المطرب والملحن أحمد الجميري الذي قام بتس���جيل حديث لع���دد م���ن أص���وات محم���د ب���ن فارس بمصاحبة الفرقة الموسيقية. وكذلك المطرب الكويتي الراحل عوض الدوخي الذي قام بتس���جيل مجموعة من أصوات المطرب محمد بن فارس بصوته الرخيم في أواخر السبعينيات. وكذل���ك تجرب���ة الملح���ن والمطرب البحريني خالد الش���يخ وقيامه بتلحين أغ���ان مس���توحاة م���ن ف���ن الص���وت
وإيقاعاته ،وتل���ك األغاني هي «جروح قلب���ي وت���ر» للش���اعر علي الش���رقاوي وأغني���ة «أحبابنا» وهي موال للش���اعر علي عبداهلل خليفة. وف���ي مج���ال الكتابة والبح���ث يبرز إنجاز الباحث البحريني مبارك العماري ال���ذي أص���در كتاب ًا من جزءي���ن ..األول بعنوان المطرب محمد بن فارس أش���هر من غنّى الصوت في الخليج العربي وهو يتضمن س���يرة حياة المطرب محمد بن فارس ومشواره الفني .أما الجزء الثاني فيتضمن القصائد الت���ي غناها محمد بن فارس والتي سجل عددًا منها. في ظ���ل عص���ر الفضائي���ات ونظام
العولمة وانفت���اح نوافذ الحضارات على بعضها البعض من خالل وسائل االتصال الحديث���ة المختلفة أصبح لزام ًا علينا بل وواجب��� ًا تحتمه المتغيرات الديموغرافية واالجتماعي���ة والسياس���ية أن نحاف���ظ عل���ى المنج���زات التي أنجزه���ا أجدادنا في المجاالت المختلف���ة وأصبحت تراث ًا عزيزًا وقواعد تأسس���ت عليها التطورات الالحقة ،ومثال ذلك ف���ن الصوت وهو الغن���اء الفردي الذي تع���زز في البحرين بفض���ل جهود المط���رب الكبي���ر الراحل محمد بن فارس والمطربين الذين ساروا على نهجه من بعده ،لذلك تبقى صيانة ه���ذا اإلرث وتوثيق���ه بما يجنب���ه التلف والنسيان مسألة في غاية األهمية. إن ما هو موجود في متحف البحرين في قس���م الطرب وفنون الغناء الشعبي ال يعب���ر حقيقة عن تاري���خ هذه الفنون في البحرين ،فالمادة المعروضة فقيرة مقارنة بالفت���رة الزمنية الت���ي قطعتها هذه الفن���ون ،وصو ًال إل���ى فن الصوت الذي ب���رز ف���ي البحرين بفض���ل جهود محمد بن فارس والمطربين الذين ساروا على نهجه من بعده .فلو تم جمع المادة المتعلق���ة بف���ن الصوت فق���ط من صور للمطربين -اآلالت الموسيقية واإليقاعات المس���تخدمة ف���ي الص���وت -ونصوص األغان���ي -واألس���طوانات -والوثائ���ق والمراس�ل�ات والرس���ائل واالتفاقي���ات وعقود التس���جيل -وأجهزة التس���جيل الصوتية القديم���ة -والكتب واألبحاث. وصور الدور والطرب الش���عبي وصور العازفي���ن المصاحبي���ن عل���ى اآلالت الوترية واإليقاعية وأسمائهم والروايات وص���ور وأس���ماء أصحاب ش���ركاتالتسجيل واألسطوانات. نقول لو تم جمع تل���ك المادة الثرية وفرزها وتصنيفها وعرض ما هو مناسب واالحتفاظ بالباقي كأرش���يف ،شريطة أن تعرض المادة بشكل جذاب ومشوق، حينها سوف يجتذب هذا القسم ،أي قسم فن الصوت في المتحف ،انتباه الش���باب خصوص���اً ،والزوار عموم���اً ،ليتعرفوا على ج���زء عزيز من تاريخ فنون الوطن وتراثه األصيل وهو فن الصوت. 149
ألبوم الكسل حممد ه�شام عبيه الحك���م على أي ألبوم جديد لعمرو دياب ال يتم بس���ماعه من أول م���رة ،والحالة الت���ي تصنعها األغنيات الجديدة ،تتس���لل تدريجي ًا إلى األذن ومنها إلى الروح بتكرار االس���تماع إليها ،هذا م���ا تقوله «النظرية العمراوية» .والبد أن مريدي «عمرو» طبقوا ه���ذه النظرية مع ألبوم «بناديك تعال���ى» الذي صدر في أوائل شهر أكتوبر/تشرين األول ،فماذا كانت النتيجة؟ حتى مع سماع أغنيات «بناديك تعالى» مرات متكررة ،يبدو االس���تمتاع باأللبوم عصياً ،فالحالة العام���ة التي تغلف معظم األغنيات هي «الكسل الفني» الذي يتجلى في أن 9أغنيات على األق���ل من أصل 12يضمها األلبوم ،ال تدهش المس���تمع بكلمات مغاي���رة أو جمل لحنية مختلف���ة عن تلك الت���ي يقدمها «عمرو دياب» منذ س���نوات عدة ،وهو أمر منطقي ألن «الهضبة» -كما يطلق عليه مريدوه -الي���زال مخلص ًا لعدد محدد من المؤلفين، دون المغامرة بـ «نفس» جديد باستثناءات قليلة. لك���ن عمرو دياب اس���تنفد جزءًا كبيرًا م���ن طاقته في تلحين أو المش���اركة ف���ي تلحين 10أغنيات كامل���ة باأللبوم من أصل ،12ول���م يظهر في أي من األلحان باس���تثناء «تجربة وعدت»، و«يوم ما اتقابلنا» ،و«ألومك ليه» ،ما يمكن تس���ميته بـ «طاقة
عمرو دي���اب» .والالفت أن األغنيتين األخيرتين م���ن تأليف أيم���ن بهجت قمر ال���ذي ال يرتكن إلى كالم متك���رر في أغنياته قط ،في حين اس���تولى «الكس���ل الفن���ي» عل���ى باقي األلحان ،بل إن الكس���ل ذاته يتجلى في أن أغنية «بناديك تعال���ى» تم تكراره���ا في نهاية الوجه األول م���ن األلبوم حرفي ًا دون أي محاول���ة إلعادة توزيعه���ا مثلما فعل عمرو من قبل في أكثر من ألبوم. تبقى أغنية «مقدرش أنا» هي األكثر تماس��� ًا مع روح وطاقة عمرو دياب ،فيما تبدو «يا ريت س���نك» م���ن تأليف بهاء الدين محم���د هي األغرب ربم���ا في تاريخ عمرو دي���اب كله ،إذ وهي الموجهة لمراهقات إع���دادي وثانوي وتتحدث عن أنه «لو بس م���ش طيب» دون أن يكمل الش���طر مترك ًا العن���ان لخيالك ،في حاجة لمراجعة كلماتها بدقة باعتبار أنها تستهدف من هن دون 18سنة! «السميعة» في مصر -وربما في العالم العربي اختلف مزاج ّ بع���د ثورة 25يناير ب���كل تأكيد ،وم���ا كان يمررونه من قبللمحبيهم ل���ن يفعلوه ثاني���ة ،ربما رصيد عمرو دياب يس���مح ه���ذه المرة ،فق���ط إذ اعتبر أن «بناديك تعال���ى» مجرد «تجربة وع���دت» ،وأن ي���درك على عك���س ما يردده ف���ي نفس األغنية قائالً« :بالعربي ما حدش يس���تاهل» بأنه «بالعربي» هناك من يستاهل ..جمهوره.
وردة تسترد ما ضاع منها وردة الجزائري���ة تع���ود مج���دًا لمالقاة بالش���وق وبلهفة محو محمل���ة ّ الجمه���ورّ ، الطويلة .تعيدنا إلى زمن س���نوات الغياب ّ الطرب الجميل وتكش���ف عن ثقل الس���نين ّ التي ترك أثرًا على صوتها في ألبوم «اللي ضاع من عمري» في حلّة مفرطة شبابية. األلب���وم الجديد إنت���اج «روتانا» تضمن سبعة أغان تنوعت موضوعاتها بين الحب والعت���اب .أم���ا األغنية األهم ف���ي األلبوم والتي حملت عنوان «اللي ضاع من عمري» فتق���ول فيه���ا« :اللي ضاع م���ن عمري ليك الزم ارجع أعيش���ه بع���دك ..روحي كانت بي���ن إيدي���ك وبايديك رجعت ف���ي بعدك» وتواصل« :مبقاش في ش���ي يستاهل أبكي
150
عل���ى أي حاجة أبداً ..حتى اللي خان قلبي وجرحني اهلل يس���امحو شكرا» .كما تمنحنا وردة فرصة للس���ؤال عن مصائر المحبين في «حب مين يش���تري؟»وتحكي بعض ًا من حياتها في «عدت س���نة» قائلة« :عدت سنة حاج���ات كثيرة تغيرت إال أنا» .ومن المقرر أن تص���در وردة ،خ�ل�ال األي���ام المقبلة، فيديو كليب أغنية «أمل» التي كتبها ولحنها مروان خ���وري .في انتظار دائم��� ًا الدويتو ال���ذي س���يجمعها م���ع المطرب التونس���ي صاب���ر الرباع���ي المعنون «الغن���ا حالي» وال���ذي تم اإلعالن عنه قبل أكثر من س���نة ونصف .حيث سنس���مع في مطلع األغنية الت���ي يفتتحها الرباعي « :طول عمرى وأنا بحلم يبقى الغنا حالي ..أفرح أغني أحزن أغن���ي ..راحتي ف���ي موالي قد م���ا اتمنيت وحلمت بيه ولقيت ..إيه أجمل من النهارده جنبك بغنى يا وردة».
دوحة الع�شاق
تبلغنا العيون بما أردنا نزار عابدين يحفل التاريخ الشعري العربي بقصص العشـق والعشـاق ،ونحدد «التاريخ الشعري» ألن المؤرخين لم يهتموا إال بالشـعراء من العشـاق وأهملوا غيرهـم ،فال ّ نجد أخبارهم إال في بعض المصادر التي اهتمت بطرائف القصص واألخبار ،أو التي عنيت بأخبار العشق وقصصه «مصارع العشـاق» للسِّـراج القاري (1106 - 1027م) مثل َ و«تزيين األسـواق في أخبار العشـاق» لداوود األنطاكي (؟ 1600 -م) .حتى هـؤالء العـشـاق الشـعـراء لم يلقـوا القـدر نفـسـه من االهـتـمـام ،فـقـد أصبح بعـضهـم نجوم ًا يردد الناس أســماءهم حتى دون أن يحفظوا بيت ًا واحدًا عزة» و«ذي و«كثيـِّـر ّ من أشـعـارهـم مثل «جميل بثينة» ُ مي) ،بينمـا ال يعـرف معـظـم الرّمـة» (اســم صاحبتـه ّ ُ «عروة عـشـاق الشـعـر شيئ ًا عمن كانوا أئمة العـشــق مثل ُ بن حـِزام» وصاحبتـه عفراء ،و«عبد اهلل بن العجالن النهدي» وصاحبتـه هند ،و«المرقِّـش األكبر» وصاحبته أسماء. ثمة ظلم آخر في قصص العشـق والعشـاق ،وفي بعامة .فإذا اسـتثنينا «الخنسـاء» تاريخ الشعر العربي ّ و«ليـلى األخيلـيـة» فإننا النجـد للـنـسـاء الشـاعـرات إال أبـيـاتـ ًا متـفـرقـة ،وقد ال نجد لـلـشــاعـرة إال بيتين أو ثالثة قالتها في مناســبة ما ،ترتبط في أغلب األحيان بالشاعـر العاشق ،مع أن القراءة المتأنيـة المتفحصة لهذه األبيات تنم عن شـاعرية حقة ،ولذا يصعب تصديق أن هذه المرأة لم تقل شـعـرًا ال قبل المناسـبة وال بعدها .لنقرأ هذا المثال. عز عليه مـ بن جميل حضرت حين عمـر الوفاة في مصرَّ ، َ َ أال تعلـم بثينـة باألمر ،فأعطى رج ً ال راحلتـه وما عليها، حي بثينة: عند حلـته ،وينشد وأوصاه أن يرتدي ّ ّ
ميـل َ�ص َدع النّـع ِّي َوما كـَـنى ب َِج ِ َوثوى بمِ ِ�رصَ ثـَوا َء غـ َ ِري قـَفـولِ َولَقَد �أَ ُج َّر الذَيلَ يف وادي القُرى خيــل نـَ�شـــوان َ بَني َمزار ٍِع َونـ َ ِ ِ�س ذي هِ َّـمــ ٍة كـر النَع ِّي بِفـار ٍ بَ َ ـذيــــل ــم اللِقـــا ُء ُم ِ بَـطـ َ ٍل �إِذا ُح َّ
ويــل قومي بُثـينـة ُ فَانـْ ُدبي ِب َع ِ ـليــــل َوابـْكي َخـليلـ َ ِك دون كُـلِّ َخ ِ
فخرجت إليه بثينة في نساء وقد فرعتهن (فاقتهن) صكـت وجهها وأغمي عليها طو ًال ،فلما تيقنت من صدقه ّ ساعة ،فلما أفاقت قالت:
ميل لـَ�سا َع ٌة َو� َّإن ُ�سلـ ُ ِّوي َع ْن َج ٍ من ال ّده ِر ال حانَت َوال حان حِ ينُها
فكيف نصدق أن من قالت هذين البيتين لم تقل شـعرًا قبلهمـا وال بعدهمـا؟ ولو أننا قرأنا البيتيـن وقد نسبا إلى أحد الشعراء ألعجبنا بهما أيما إعجاب. ونضرب مثـ ً ال آخر ،إذ تـتـكـرر حكايـة رجـل يدعى هجع» في كـتـب كثيـرة منهـا األغاني والفـرج بعد «جـ ْعـد بن ِم َ َ الشــدة للقـاضي التـنـوخي وأخبار النســاء البن الجوزي والتـذكـرة الحمدونيـة البن حـمـدون وغيرها ،وفي نهاية الحكاية تنشــد «أســماء» صاحبة جعد ثم زوجته ثالثـة أبيات ،يمكن أن نعدهـا من عيون شعر الغزل:
كتمت ال َه َوى �إين ر�أيتُ َ ـك جازِعاً ُ ديـق يُ ِريـ ُد ال�ص ِ فتى َ ُ بع�ض ّ فقلت ً ُ تـقـول :فـتـيـَّـة َو�إنْ تَ َّطـ ِر ْحني �أ ْو يُ�ضرِ ُّ بهـا بَ ْـر ُح ال َهــ َوى فـتـعـُو ُد
ومع ذلك ال نجد في كتب التراث بيت ًا واحدًا لهذه الشاعرة غير هذه األبيات .حتى في قصـة مجـنـون ليلى ال نجد له بيت ًا ِ المبادرة واحدًا قبل عـشـقـه ليـلى ،ويلفـت االنتـبــاه أنها كانت إلى البـوح ،وقالت الشــعـر قـبـلـه ،فقد أحبت أن تعـرف ما امـ ُتـقـِع لونه قالت: لهـا عنده ،فاهـتمت بغيره فلمـا ْ
للنا�س بُغ�ضــاً كِ النـا ُمظـْهـ ٌِر ِ ِيــن وكـلٌ عند َ �صـاحـبـ ِه َمـكـ ُ تُبلـِّغـُـنــا العـُيـون بـمـا �أَردنـا دفيــن وى َويف ِ القـلبـيـن ثـ َ ّم َه ً ُ
لسنا نؤرخ للعشق والعشاق فالمجال ال يتسع لهذا ،إنما هي طرائف ومفارقات من هذا العالم الجميل ،عالم الحب والمحبين.
151
علوم
نصيحة في كبسولة ألم األسنان
ظهور ألم عند محاولة القضم أو شرب سوائل باردة أو ساخنة ُيعد عالمة على تص���دع إحدى األس���نان أو وجود كس���ر فيها ،وتش���ير الجمعي���ة األميركية لطب األسنان إلى األس���باب المحتملة لتصدع األسنان في القائمة اآلتية: • مضغ أو محاولة كسر أطعمة صلبة كالج���وز أو الحل���وى أو مكعبات الثلج باستخدام األسنان. • المضغ بشكل غير منتظم. • فقدان جزء من األسنان كالحشو. • عملي���ات حش���و األعص���اب والتي تجعل األسنان أكثر قابلية للكسر. • تعرض األس���نان لدرج���ات حرارة مفرط���ة كتناول ش���راب س���اخن جدًا أو مثلج.
الحروق الطفيفة
معظم الحروق الطفيفة تكون حمراء ومؤلمة ،وقد تحدث انتفاخا تحت الجلد، وقد يتقش���ر الجل���د المح���روق بعد قليل ليتعافى خالل ستة أيام ،ويعتبر عالج الجروح الطفيفة ممكن ًا في المنزل مادامت ال تغطي مساحة كبيرة من الجلد. وتنص���ح األكاديمي���ة األميركية لطب األسرة بعدم وضع الزيت أو الثلج على منطقة الحرق ،كم���ا هو متعارف عليه، وبد ًال م���ن ذلك تغمس منطقة الحرق في ماء بارد ثم تطلى بمرهم مضاد حيوي، 152
وتغطى منطقة اإلصابة بشاش أو قماش نظيف وجاف ،ويتم تغيير الضمادة كل صباح وطالء المنطقة بالمرهم باستمرار منع ًا لاللتهاب .ويمكن اس���تخدام مسكن ألم موضعي لتقليل الش���عور بالحرق، وتش���ير األكاديمية إلى ضرورة الذهاب إلى الطبيب في حالة عدم التئام المنطقة بعد عدة أي���ام أو في حالة ظهور التهاب أو وجود ألم غير محتمل.
الجروح البسيطة
تع���د معظ���م أن���واع الج���روح قابلة للع�ل�اج ف���ي المن���زل دون الحاجة إلى زيارة الطبي���ب ،إال أن الجروح العميقة قد تتطلب عناية سريعة منع ًا لاللتهاب. وتق���ول مؤسس���ة نيم���روس األميركية للصح���ة إنه ف���ي حالة اإلصاب���ة وعدم إمكانية التوجه إلى المستشفى بالسرعة المطلوبة ،فهن���اك إجراءات يمكن عملها للتعام���ل المؤقت مع الموق���ف ومنها ما يلي: • غسل الجرح والضغط عليه بقماش أو شاش نظيف للسيطرة على النزيف. • في حالة تشرب القماش يتم تغييره بقطعة أخرى جافة ونظيفة واالستمرار في الضغط. • يتم رفع مس���توى الج���زء المصاب لتخفيف النزيف. • مراع���اة ع���دم الضغط بش���دة على المنطقة المصابة منع ًا لتهتك الجرح.
نزع الشظايا
معظ���م الش���ظايا كالش���وك وأجزاء الزجاج تعتبر قابل���ة لإلزالة في المنزل دون حاج���ة إلى زيارة الطبيب ،مادامت اإلصابة س���طحية وتقع في منطقة غير حساس���ة من الجلد ،أما ف���ي حالة كون الش���ظية في منطقة حساسة قرب العين أو غي���ر ذلك ،وف���ي حالة م���ا إذا كانت غائ���رة في الجس���م ،فمن المهم س���رعة التوج���ه إل���ى الطبيب إلزالته���ا جراحي ًا ومنع االلتهاب. وتنص���ح الجمعي���ة األميركي���ة لطب األس���رة من يح���اول إزالة ش���ظية في المنزل باتباع الخطوات التالية: • بالنسبة للش���ظايا الكبيرة تستخدم إب���رة أو ملقاط بعد تعقيمها بالكحول أو اللهب. • تغس���ل منطق���ة اإلصاب���ة بالم���اء والصابون مع مراعاة عدم غمرها بالماء حال كون الشظية خشبية. • االس���تعانة بإضاءة جيدة وعدسة مكبرة إن إمكن. • باستخدام الملقاط يتم القبض على طرف الش���ظية بإح���كام والجذب بنفس الزاوية التي اخترقت بها الشظية الجلد. • يت���م تعقي���م المنطقة بع���د إخراج الش���ظية بالصاب���ون والم���اء ويراع���ى خاص���ة إذا ما ً تغطيته���ا بالصق طبي، خلفت العملية جرحاً.
« »8.7مليون نوع من الكائنات تعيش على األرض ح�سن فتحي -القاهرة ف���ي أح���دث تقري���ر إلجمال���ي أنواع الكائن���ات الموجودة على األرض ،أعلن علماء الحي���اة البحرية بكن���دا أن هناك 6.5مليون نوع موجودة على األرض، بجانب 2.2مليون نوع تعيش في أعماق البحار والمحيطات. وذكر العلماء أن ه���ذا التقدير قد بني على تقني���ة تحليلي���ة مبتك���رة ضيقت بدرجة هائلة من مدى التقديرات السابقة، حيث ذكر أن عدد أن���واع الكائنات طبق ًا للتقدي���رات الس���ابقة التي أع���دت حتى اآلن كان يتراوح بي���ن 3ماليين و 100 مليون نوع .وتذكر الدراس���ة أن % 86 من مجموع أنواع الكائنات على األرض، و % 91من أن���واع الكائنات البحرية لم تكتشف بعد ،ويحاول العلماء اكتشافها وتوصيفها ووضع تقديرات لها. وكانت قضي���ة عدد أن���واع الكائنات
الموج���ودة على األرض ،أثارت ش���غف العلماء والباحثين لعدة قرون ،وتركزت اإلجابة مع البحوث األخرى على توزيع األن���واع وم���دى توافرها ،وه���ي قضية بالغة األهمية اليوم ،ألن تأثير األنشطة س���رع من معدل البش���رية السائدة اآلن ُي ّ انقراض العديد من أنواع الكائنات ،حتى أن أنواع��� ًا عديدة من الكائنات قد تختفي قبل أن نتمكن من إدراك تلك الحقيقة. ووفق��� ًا للدكتور بوري���س وورم من جامعة داله���وس ،اإلنس���انية رغم أنها ألزمت نفس���ها بإنق���اذ أن���واع الكائنات المه���ددة باإلنقراض ،إال أنه���ا ال تمتلك حتى اآلن س���وى فكرة حقيقية محدودة عن أعداد تلك األنواع .والحظ وورم أن المعدلة التي القائم���ة الحمراء التحذيرية ُ أصدرها أخيرًا االتح���اد الدولي للحفاظ على الطبيعة ،أكدت على وجود 59508
أنواع من بينها 19625نوع ًا تم تصنيفها على أنها مهددة باالنقراض ،ويعني ذلك أن القائمة الحمراء التي أصدرها االتحاد الدول���ي للحفاظ عل���ى الطبيعة ،والتي تمثل أكثر الدراس���ات الجارية تعقيدًا قد تتبع���ت أقل م���ن % 1فقط م���ن مجموع أنواع الكائنات الموجودة في العالم. وقد نش���ر هذا البح���ث بجانب تعليق للورد روبرت ماي من جامعة أكسفورد الرئي���س الس���ابق للجمعي���ة الملكي���ة البريطانية امت���دح فيه الباحثين ،معلق ًا ال جدي���داً ،وعهدًا بأن البح���ث يمثل مدخ ً مرموق ًا لزهو وفخار اإلنسانية أن نعرف أن أع���داد الكتب في مكتب���ة الكونغرس األميركية ف���ي أول فبراير/ش���باط هذا العام كان قد بلغ نحو 22مليون ًا و195 ألف كتاب ،ولكنها ال تستطيع أن تخبرك بحالة وأعداد أنواع النباتات والحيوانات المنقرضة أو المهددة باالنقراض. وم���ن المعروف أن العالم الس���ويدي كارل ليناي���وس ق���د وض���ع ونش���ر في عام 1758النظام الذي مازال يس���تخدم لتسمية ووصف أنواع الكائنات .وعلى مدى 253سنة منذ هذا التاريخ تم وصف نحو 1.25مليون نوع ،منها مليون على س���طح األرض والباقي في المحيطات، وأدخل���ت قاع���دة البيان���ات المركزية، ويعتقد أن هناك 700ألف نوع أخرى تم وصفها ،ولكن لم يت���م إدخالها بعد إلى قاعدة البيانات المركزية .وقد ُبني أفضل تقدير لمجمل الكائنات على األرض على تخمينات ووجهات نظ���ر وآراء الخبراء الذين اندفعوا في تقديراتهم بشكل متباين من 3إلى 100مليون لعدم وجود طريقة لتحقيق تلك األرقام .ولذلك قام العالمان م���ورا وورم باالش���تراك م���ع زمالئهما من جامعة دالهوس���ي بتنقية التقديرات الموضوع���ة إلجمال���ي أن���واع الكائنات وتوصلوا إل���ى النتيجة الس���ابقة بأنها تبلغ 8.7مليون نوع ،وذلك باستخدام النم���اذج الرقمية الموضوع���ة في إطار النظام المتبع في علم التصنيف .كش���ف علم���اء أ 09ويحم���ل اس���م عال���م الفلك األلماني فريدريش فيلهلم هيرش���ل الذي ولد عام 1738وتوفي عام .1822 153
نامــوا تبـدعوا في كل يوم يكش���ف العلم���اء حقائق جديدة عن أس���رار الن���وم ،وربما يكون أهم اكتش���اف في هذا المجال أن العلماء وجدوا نشاط ًا كبيرًا للدماغ أثناء النوم، وأنه يمكن لإلنسان االستفادة من وقته وهو نائم في تعلم أش���ياء جديدة ،وهذا األمر ربما يكون مهم ًا بالنس���بة للطالب والباحثين والمبدعين. إذ يعك���ف العلم���اء اليوم ف���ي معهد ماك���س بالن���ك بألماني���ا عل���ى تحري الذكري���ات وطرق تخزينه���ا وآلية عمل الذاك���رة ،وقد فوجئ���وا عندما وجدوا أن النوم يمث���ل معجزة عظيم���ة في التذكر والتعلم! والنتائج التي نشرت في مجلة ()Nature Neuroscienceتمثل قفزة ف���ي معرفة كيفي���ة التعل���م والتذكر لدى اإلنس���ان ،حيث وجدوا أن قشرة الدماغ تنشط أثناء النوم!!! وقد تبين بنتيجة هذه الدراس���ات أن المعلومات تخ���زن في منطقة عميقة من الدم���اغ تدع���ى hippocampusلفترة قصي���رة ،ثم تتح���رك خالل ع���دة أيام وبخاصة أثناء النوم العميق إلى قشرة الدماغ ف���ي منطقة تدع���ى neocortex لتصبح في مجال الذاكرة الطويلة األمد. فق���د أكد العلماء توم���اس هان وبرت س���اكمان وماينك ميثا على أهمية النوم في عملية التعلم والتذكر ،حيث الحظوا 154
نش���اط ًا كبي���رًا للخاليا العصبي���ة أثناء النوم. وبين���ت دراس���ة أميركي���ة أن النوم العميق يقلل من مش���كلة زي���ادة الوزن وخاصة عند األطفال .وتقول الدراس���ة الت���ي أجريت ف���ي جامعة إيفانس���تون في والي���ة إلين���وي إن كل س���اعة نوم إضافي���ة تقلل من مش���كلة زيادة الوزن والسمنة .وأكدت إيميلي سنيل ،الخبيرة المسؤولة عن الدراسة أن قلة النوم تؤثر على الهرمونات المس���ؤولة عن الشعور بالجوع وخاصة عند األطفال.
النوم ينمي المواهب يق���ول الباحثون :إن الن���وم المريح والمتراف���ق بمواصل���ة الممارس���ة واس���تمرارها ،يمكن أن ينم���ي ويطور المه���ارات الفردية الخاص���ة والمواهب الشخصية ،وخصوص ًا ما يتعلق بتنشيط الذاكرة وتنش���يط اس���تذكار ما حدث في الماضي ،واستذكار التصورات. يقول الدكتور س���تيفان فيش���ر الذي ت���رأس هذه الدراس���ة :إن النوم مفيد بل ض���روري لتحقي���ق مس���توى أفضل من المهارات ،ويقول رئي���س جمعية النوم البريطانية نيل س���تاندلي :إن الدراس���ة الجديدة تؤكد من جديد على أهمية النوم
في حياة اإلنس���ان ،وأن���ه من الخطأ أن يتص���ور البعض أن النوم مجرد مضيعة للوقت وبال فائدة. وق���د أثبتت سلس���لة من الدراس���ات األلماني���ة وج���ود عالق���ة بي���ن الن���وم والقدرة على اإلبداع ،وأن الدماغ يمارس نش���اطات إبداعية أثناء الن���وم .ويقول الدكت���ور كارل هان���ت ،رئي���س المركز القومي ألبحاث اضطرابات النوم التابع للمعاه���د القومية للصحة في ألمانيا :إن نتائج وانعكاس���ات مثل هذه الدراسات س���تكون بالغة األهمية على أداء األفراد على الصعيدين الدراسي والعملي. وهناك دراس���ة قام بها علماء جامعة لوبي���ك أثبت���وا فيها نظري���ات الكيمياء الحيوية التي تش���ير إل���ى أن المخ يعيد ترتيب الذاك���رة قبيل التخزي���ن ،وترى النظري���ة أن تطوي���ر الق���درات واإلبداع يحدث أثناء هذه المراحل ،ويقول الدكتور بورن :قد تقع عملية إعادة الترتيب هذه بطريقة ما تسهل من عملية حل المشاكل والمصاع���ب .ولكن التفاع�ل�ات الدقيقة التي تؤدي لش���حذ المخ بتلك المقدرات أثناء النوم مازالت غير واضحة. ويهت���م العلم���اء األلم���ان بظاه���رة النوم ويحاولون االس���تفادة من نتائج تجاربهم ،ويقولون :تبدأ التغييرات في المخ الت���ي تؤدي إلى اإلب���داع وتطوير الق���درات في الح���دوث أثناء ما يس���مى بالموج���ات البطيئ���ة slow wavesأو النوم العميق التي تحدث أثناء الساعات األرب���ع األولى م���ن دورة الن���وم ،وقد
تفس���ر الدراس���ة األلمانية أيض��� ًا فقدان الذاك���رة مع التقدم في العمر الذي يرتبط باضطرابات وقلة النوم ،خاصة العميق منه والضروري لعملية شحذ الذاكرة. وكان الباحث���ون قد ربط���وا منذ وقت طوي���ل بين الن���وم وقدرته على ش���حذ الذاكرة وتقوية وترتيب األفكار ،بيد أنهم واجهوا صعوبة في تصميم تجربة تؤكد النظرية الش���ائعة ،وتساهم اضطرابات النوم ف���ي التأثير بصورة س���لبية على شريحة واس���عة من المجتمع األميركي تبلغ 70مليون نس���مة ،وذلك بتراجع حدة الذكاء وارتكاب الحوادث واإلصابة بأنواع مختلفة من األمراض.
الدماغ يسترجع الذكريات ويؤكد الباحثون من جامعة شيكاغو أن الحقائ���ق التي ينس���اها الناس خالل يوم حافل بالعمل ربما يمكن استرجاعها، إذا أعقب ذلك النوم بش���كل جيد .وطلب الباحث���ون م���ن متطوعين تذك���ر كلمات بس���يطة ،ووج���د كثي���رون أن ذاكرتهم تخذلهم في نهاية اليوم ،لكن في صباح اليوم التالي استطاع أولئك الذين ناموا نوم ًا مريح ًا استرجاع المعلومات بشكل أفضل بكثير. وهذا يعني أن المخ يمكن أن يسترجع خ�ل�ال اللي���ل الذكريات الت���ي كادت أن تنس���ى .وعندم���ا يطلب من الم���خ تذكر شيء ألول مرة تكون هذه المعلومة في حالة غير مس���تقرة ،وهو ما يعني أنها ربم���ا تكون قد نس���يت .وف���ي مرحلة ما يضع المخ المعلوم���ات المهمة في حالة أكثر اس���تقرارًا وثباتاً ،لك���ن الباحثين ي���رون أنه من الممكن أن تع���ود الذاكرة المس���تقرة إلى حالة عدم االستقرار مرة أخ���رى عندما يتم اس���ترجاعها ،ويعني ذلك أن الذكريات يمكن تعديلها وحفظها مرة أخرى عن���د مواجهة تجارب جديدة. إن ه���ذه القضية بالفع���ل تحير العقول، فهل الطبيعة هي التي صممت هذا النظام الدقي���ق للنوم؟ وه���ل المصادفة العمياء ه���ي التي جعلت الكائن���ات الحية تنام، وهي تعلم أن النوم مفيد لها؟
أطعمة من أجل المزاج الرائق ف���ي المرة القادمة الت���ي تذهب فيها للتس���وق ال تنس اختيار هذه األطعمة التس���عة التي س���تمنحك الفيتامينات األساس���ية وتحسن من مزاجك العام.. هذه األطعمة تحتوي على مواد طبيعية تخفف من مس���تويات التوتر واإلجهاد في الجسم بشكل طبيعي. البرتقال :فقد وجدت دراسة ألمانية ف���ي Psychopharmacologyأن فيتامي���ن «ج» يس���اعد عل���ى تخفيض الدم و«هرمون اإلجهاد وإعادة ضغ���ط ّ الكورتيزول» إلى المستويات الطبيعية بعد حالة االرهاق ،وفيتامين ج مشهور أيض��� ًا بقدرت���ه عل���ى تحس���ين جهاز المناعة. الحل���وة :تعتب���ر البطاطا ّ البطاط���ا الحلوة من مخففات التوتر ،ألنها تشبع رغبتنا بالنش���ويات والس���كريات مع ًا بطريق���ة طبيعية ،وتحت���وي البطاطا عل���ى البيت���ا كاروتي���ن وفيتامين���ات أخرى ،وتس���اعد األلياف على معالجة الكربوهيدرات بأس���لوب بطيء وثابت وبالتالي تقلل من المزاجية. المش���مش المجفّف :المش���مش غني بالمغنيسيوم ،الذي يقلل من مستويات اإلجه���اد ويرخ���ي العض�ل�ات بش���كل طبيعي أيضاً. اللوز والفستق والجوز :اللوز غني بفيتامين ،B,Eالذي يساعد على رفع نظ���ام المناع���ة ،بينما يس���اعد الجوز والفس���تق على خفض ضغط الدم.
لحم الدي���ك الروم���ي :يحتوي لحم الدي���ك الروم���ي على أحم���اض أمينية تع���رف باس���م tryptophanتس���بب إط�ل�اق هرم���ون ،serotoninوه���ي م���ادة كيماوية يفرزه���ا الدماغ وتبعث على االرتياح. السبانخ :أي نقص في المغنيسيوم يمكن أن يس���بب الصداع الذي قد يؤدي الى داء الش���قيقة «الصداع» والش���عور باإلعياء .يجب تناول كوب من السبانخ للحص���ول عل���ى % 40م���ن حاجاتك اليومية من المغنيسيوم. الس���لمون :الحمي���ات أو «األنظم���ة الغذائية» الغنية باألوميجا 3 -تحميكم من مرض القلب ،ووجدت دراسة حديثة أن األوميجا 3 -يحافظ على مستويات هورمون���ات اإلجه���اد واألدرينالين من بلوغ الذروة. األف���وكادو :تس���اعد الده���ون غير المشبعة والبوتاس���يوم الموجودة في األفوكادو على خفض ضغط الدم .وتعد أحد أفض���ل الطرق لخفض ضغط الدم. (األف���وكادو يحتوي على بوتاس���يوم أكثر من الموز). الخضراوات الخضراء :القرنبيط أو (الزهرة) ،اللفت ،والخضراوات الورقية مصادر قوة من الفيتامينات التي تساعد على إعادة الطاقة والقوة ألجسامنا في أوقات اإلجهاد.
155
�أقالم
بصيص من نور
غزالة المطر
عرفته إذ كان أبوه يقسو عليه قسوة شديدة ،وعلمت بأمره وقت اعتزامه الرحي���ل هرب ًا من تلك القس���وة؛ إال أن القدر يش���اء أن يرتمي ذلك األب في حضن ابنه مطعوناً؛ فلم أر منه إال نحيب ًا ونشيج ًا تتفطر له أكباد الجبال لو أتراه لو كان سيبكي شعراً ،هل كان سيترنم ويقول: كان لها أن تتفطرُ ..
َّ أنفا�س ُه وتقط ْ عت � ُ َ�س َ�س تَبَا َع َد عن نَف ْ نَف ٌ ُت ُ والنب�ض يَ ْخف ُ النب�ضات يف لَ َه ٍف أح�س ُب ِ � ُ �شعاع النور يَ ْب ُزغُ يف �أبغي ب�صي�صاً من ِ َ�س َغل ْ وته ّدجت كلماتُ ُه يف َح ْل ِق ِه فك�أنه ي�شكو �إ َّ يل وما نَبَ ْ�س والنَّ ْز ُف دفّاقٌ ك� َّأن دما َء َه نب ٌع تَ َغا َز َر وانْبَ َج ْ�س غري �ألقى ٍ بج�سم فوق �صدري مل يذق َ الهمو ْم
�ألقى ِب ِه فجعلتُ ُه يف حِ ْ�ض ِن �صدري و�ضممتُ ُه ،و�شممتُ ُه ِ�س ُ وكتمت هذا النَّ ْز َف كيما يحتب ْ لكنه مل يحتب�س و�أطلَّ يرنو وهو يف حِ ْ�ضني �إىل عيني �أنا وحدي �أنا وك�أمنا ي�سرتج ُع الأيا َم والأحال َم يف عيني �أنا َ�س حتى انتهى ذاك النَّف ْ والنب�ض �أي�ضاً يف ح�شا ُه قد احتب�س ُ محمد عبد الرحيم الخطيب كلية دار العلوم -القاهرة
السعادة ..المفهوم شبه الضائع ِ رحلة بحث عن كنز مجهول الخارطة ،لم يدرك يوم ًا واإلنسان في منُذ األزل ُ ُ ومستقر في أعماق قلبه- ،بالتحديد -قريب ًا جدًا من محل كامن عنه يبحث ما أن ٌ ٌ ً إشارة من عقله الباطني ليبعث رسائل تنفسه ،مقيدًا بقفص ضيق ،ومنتظرًا إطالق سراح معتقل طال مدة سجنه .أيها اإلنسان السعادة ليست ضرب ًا من المستحيالت ،وال من نسج الخيال كقصص ألف ليلة وليلة ،بل هي حقيقة طويل حال ْ مفتاح الزنزانة سجدة ودعاء وعزيمة ِك. ليل ٍ ترغب في البزوغ بعد ٍ ُ وإصرار. ٌ جميل أن تستشعر معنى السعادة فتراها تشع في وجهك كالشمس لكم هو ً تزيدك بهاء .أيا مضيئة ابتسامة وجهك على وترسم الشروق، وقت ُ إنسان اسعد لتعمل وتعطي ،اسعد لتكون أنت أنت .ابدأ اآلن واطلق سراحه ،اخرج من دائرة الحزن ،فأمثالك يستحقون أن يجربوا طعم السعادة ،اجعلها تنساب من شرايين قلبك لتغذي روحك نق قلبك ،افتح عقلك ،دع الماضي يصبح ماضي ًا وجسدكِ . وامض نحو مستقبل مشرق وال تنس أن تعيش الحاضر ِ بلحظاته ..فأنت ابن اليوم ،تذكر ذلك. منى محمد -الدوحة -قطر
156
1 وت�رشدين.. مدى القلب ملعبُك.. �أيا ظبية الوريد الأرجواين ال�رشيد.. تط ّهرك ال�سواقي.. يعيد ك ما�ؤها �أمرية الطهر� ..أمرية الغدير.. فيه تغت�سلني.. وت�ستحيلني من ف�ضته.. عقدا ً من عقيق ...و�سحراً من حنني. 2 وت�رشدين.. بهاء التلّ رو�ضك.. ودفرتك بيا�ض القلب... ال�شعر... بيتاً فبيتاً من �سبحات ّ وحلو الق�صيد ..مليكة الربيع واحلياة... خالد عارف عثمان /سورية -جبلة
نستقبل مساهماتكم في «أقالم» على البريد اإللكتروني aklam_d@yahoo.comأو صندوق البريد 22404:الدوحة-قطر
معذرة ..أيتها الشعوب العربية!
األعمال الفنية - tejosh halder :بنغالدش
من بين أعتى األشياء ،التي أسفرت عنها الثورات العربية ،حتى حدود اللحظ���ة ،على األقل .تبرز ،في رأيي مس���ألتان رئيس���يتان ،أكثر تجلي ًا مقارن���ة مع غيرهما .أقصد ،بذلك :تبين بالملموس وبدليل قاطع ال رجعة في���ه ،أن الطغاة الذين يحكموننا ،أكثر ضحالة فكرية ومذهبية وأخالقية مما كنا نعتقد س���ابقاً ،بالتالي قد يصلح أفضلهم إلدارة ش���ؤون مصرف صغير ،أما جهاز دولة بالمفهوم الحديث للكلمة ،فال أظن .إذن ،اكتش���فنا اليوم بالملموس ،سبب تخلفنا المريع عن األمم المتقدمة ،بقرون وقرون، م���ادام مصير العرب انتهى ف���ي هذا الزمان اللعين إل���ى بلهاء ومخادعين ومخاتلين وضعاف النفوس. في المقابل ،وكحقيقة ثانية سطعت مثل الشمس على كهف لم ير النور منذ ماليين السنين ،أن الشعوب العربية ودحض ًا لكل النماذج المرسومة قب�ل�ا ،فاجأت العالم بش���دة ،وأثبت���ت لمن يحتاج إلى إثب���ات أن فطرتها ً وذكاءها وخيالها ومبتغاها ..ال تختلف قيد أنملة عن ما يميز باقي البشر، وبأن الليبي أو المصري أو الس���عودي ..يسكنه نفس التطلع إلى الحرية والكرامة ..فقط ما كان ينق���ص العربي عن غيره ،تلك القيادة التاريخية المؤهلة فعال ألن تستثمر إيجابياته وتهذب سلبياته سعيد بوخليط مراكش -المغرب
العجوز والبحر ليس عجوز همنجواي بل آخر سكندري توطدت عالقته بالحياة حتى غم���رت وجنتيه بتجاعيده���ا الحنون ،ترهل جسده وهجرت األسنان فمه تاركة خلفها خواء صنع مساحة زائدة في ش���فتيه تبرز إلى األمام عند انطباقهما فيبدو دائم االمتعاض ،أهو فعل الخواء بفمه حقا؟ أم فعل السنون بقلبه؟ رأيت���ه ف���ي نه���ار رمضان���ي من نه���ارات أغس���طس/آب الحارة على كورنيش اإلس���كندرية الذي لم ينجح نس���يمه ف���ي تخفي���ف ح���دة الح���ر وال اجت���ذاب العش���اق يومذاك ال البحر بصدره ،مولي ًا ظهره للعالم ،بدأ مناجاته للبحر، مستقب ً ابتدأها بوجه هاجئ االنفعاالت ،يداه لم تكفان عن الحركة هنا وهناك بإشارات الحديث المألوفة لشرح ما تنطق به شفتاه، المارة المتعجلون للهرب من الحر والصيام أخذوا يرمقونه بنظرات الدهش���ة والسخرية ،لم يلمحهم هو ،كان مستغرق ًا في مناجاته للبحر ،كان يسبح في عالم غير عالمهم (حقيقة) ب���دا كم���ا ل���و كان ذل���ك لوم��� ًا ال مج���رد ب���وح أو ثرث���رة فارغ���ة ،فحديث���ه للبح���ر احتد أكث���ر ،وجهه حم���ل غضب ًا رقيق���اً ،وانفع���االت يدي���ه أصبح���ت أكث���ر عصبي���ة.
في���م كان يل���وم البحر؟ هل أجه���ض له البحر حلم��� ًا قديماً؟ أينتظ���ر عزيزًا ط���ال غيابه؟ هل أغ���رق البحر يوم��� ًا ولده الش���اب المهاجر للحياة على الشاطئ اآلخر؟ هل دفن البحر يوم��� ًا بين أعماقه محبوبة قديمة ل���ه؟ أينتظر حورية من حوري���ات البحر؟ ك���م عمر هذه العالقة بين���ه وبين البحر؟ توقفت عن محاولة التأويل حينما لمحت توقفه عن الحديث، وضع يديه على خاصرت���ه وظهر عليه التركيز ،بدا كما لو كان ينصت باهتمام لمحدث ما ،أكان البحر يبادله المناجاة؟ ال أع���رف ،ال يه���م أن أعرف ،ال يه���م إن كان البحر يناجيه حق��� ًا أم ال ،المه���م أن يصدق ه���و ذلك ،أن البح���ر يناجيه فجأة وفي ذلك اليوم الصيفي الملتهب عديم الرياح زام البحر وهاج���ت أمواجه قبل أن يهوي بها على الصخور لتتكس���ر. الم���ارة المتعجلون للهرب من الحر والصيام طفقوا يهربون م���ن رذاذ البح���ر المتناث���ر ويتقون���ه بم���ا ملك���ت أيديهم، وحده الرجل العجوز ،اس���تقبل الرذاذ بابتس���امة عريضة وصدر مفرود ،قبل أن يستدير ليغادر البحر منشرح الصدر والقسمات. أحمد نور الدين -مصر
157
�صفحات مطوية
خم�سون عاما ً على جملة «الكاتب» الطليعية �شعبان يو�سف
مجل���ة «الكاتب» التي ص���در عددها األول في إبريل/نيس���ان عام 1961أي منذ خمس���ين عاماً ،وت���رأس تحريرها أح���د الضب���اط األح���رار المثقفين وهو أحم���د حم���روش ،وكان رئيس مجلس اإلدارة ص�ل�اح س���الم -عض���و مجلس قي���ادة الث���ورة ،-وتص���درت الع���دد األول كلم���ة لجمال عب���د الناصر تقول: (عقيدت���ي الثابت���ة ه���ي أن العل���م على اختالف نواحيه هو الوس���يلة الحقيقية لتطوي���ر مجتمعنا ..والواق���ع أنه بدون العل���م تصبح كل األح�ل�ام التي تجيش في صدورنا كس���راب الصحراء وهم ًا ال وجود له ،)..ثم ص���ورة في الصفحات األولى للرئيس ،وكت���ب تحتها« :حامي الثقاف���ة» ،ورغم أن الرئي���س بصورته وبكلماته وبوصفه حامي��� ًا للثقافة ،إال أن المقدم���ة التي وقعت باس���م «أس���رة الكات���ب» تعترف ب���أن أزم���ة المثقفين الع���رب -وعلينا أن نتذكر أن هذا الوقت 158
كتب محمد حس���نين هيكل كتابه الشهير «أزمة المثقفين» ،وتم تقسيمه وترويجه وتس���ويقه -بصفته���ا الكلمة الفصل في موضوع الثقافة ،ولكن المقدمة تعترف بـ« :لس���نا ندعي أننا نسجل بهذه المجلة أزمتن���ا الثقافي���ة ،ولكننا ننش���ئ منبرًا جدي���دًا متواضع��� ًا لعله يعي���ن المثقفين على رد اعتبار الثقافة» .وكتب في العدد األول نجوم الثقافة الفتية في ذلك الوقت مثل الكت���اب والمبدعين أحمد بهاء الدين وص�ل�اح عبد الصبور ونعمان عاش���ور وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الرحمن الخميس���ي ومحمد مندور وسعد مكاوي ويحي���ى حقي ولويس عوض وس���هير القلماوي وفؤاد دوارة ومفيد الشوباشي وشكري عياد ،وغيرهم ،أي كل المشهد الثقافي الساطع ،وفي العدد الثاني بدأت تتعزز أقدام المجلة في الحياة الثقافية، وراحت تجذب أس���ماء جدي���دة مثل أنور المعداوي وس���عد كامل ورشدي صالح
وس���عد الدين وهبة ،وكتب صالح سالم مقدم���ة طويل���ة تحت عنوان «المش���كلة الجزائري���ة» لتعزيز البع���د العربي الذي كان���ت تتبن���اه وترع���اه الدول���ة ذاتها، وفي العدد الثالث نش���ر يوسف ادريس روايته الش���هيرة والرائعة( :العس���كري األس���ود) ،ومن هنا بدأت المتاعب التي أحاط���ت بالمجلة ،وراحت تمثل الصوت الطليعي ف���ي الحياة الثقافي���ة – آنذاك ،هذا الصوت الذي اتخذ ش���عار( :مجلةالثقافة اإلنسانية) هدف ًا له ،ثم تغير هذا الش���عار إلى( :مجل���ة المثقفين العرب)، وب���دأت الس���لطة تم���ارس نوع��� ًا م���ن التضيي���ق ،فبعد تغيير رئيس التحرير، وتنصيب الكاتب أحمد عباس صالح في أول يناير/كان���ون أول 1964رئيس��� ًا للتحري���ر ،قدم���ت المجلة نوع��� ًا مختلف ًا شكل تغييرا ،وأحدث تطويرًا في المادة الثقافية ،وهذا يعني أنها أفلتت بش���كل نس���بي – أيض ًا – من المتابعة والمرافبة السلطوية ،إال أن السلطة لم تحتمل هذا المنحى ،فعينت الصحفي حلمي س�ل�ام رئيس��� ًا لمجلس اإلدارة ،الذي قام بنقل الكتاب اليساريين العاملين بدار التحرير إل���ى ش���ركات القطاع الع���ام المختلفة، ونقل رئيس التحرير إلى شركة لتجارة األخش���اب ! وأغلقت المجل���ة بقرار من الصحفي حلمي سالم ،وهذا كان يتم في إطار صراع صقور الس���لطة وهذا ما لم يرض جمال عب���د الناصر ،فأصدر قرارًا باس���تعادة المجلة ،ولكن خارج رعاية المؤسس���ة – دار التحرير – وعلى نفقة وبجه���د مصدريه���ا – كما كت���ب إبراهيم منصور -وحاول���ت الدولة عبر رئيس وزرائها الدكتور عبد القادر حاتم استمالة المجلة نحو سياستها ،فطلب من المجلة أن تنضم ل���وزارة الثقافة ،وقبلت هيئة تحرير المجلة في ذلك الوقت – – 1966 برغم أن توزيعها وصل إلى اثني عش���ر ألف���اً ،ولك���ن الص���دام زادت حدته ،ألن المجل���ة كانت تزداد وتتط���ور في تقديم الم���ادة الثقافية والفكرية والسياس���ية المختلفة عن سياسة الدولة ،أي الصدام بي���ن ثقافة مس���تقلة ومتم���ردة وناقدة للوضع العام ،وبين سلطة تريد تثبيت
وتدعي���م قوائمها بثقافة تقليدية ومؤيدة لكل ما تفعله ،وظل ه���ذا الصدام الناعم حتى سبتمبر/أيلول 1971حيث أصدر الدكت���ور عبد الق���ادر حات���م وكان نائب ًا لرئي���س الوزراء ق���رار غاش���م ًا يقضي بإغالق جمي���ع المجالت الص���ادرة عن وزارة الثقافة.ظ���ل ه���ذا الص���راع حتى بلغ ذروته في عام ،1974ودخل وزير الثقافة (الراحل يوسف السباعي) ،طرف ًا شخصي ًا في هذا الصراع ،ودارت معركة على صفحات المجالت والجرائد ،وكانت الحج���ة مقالي���ن ألحمد عب���اس صالح، وصالح عيس���ى ،وكانت ه���ذه الفترة – تحدي���دًا – يتم فيها تصفي���ة كل المالمح الباقية من العهد الناصري ،وكانت مجلة الكاتب إحدى العالمات البارزة لهذا العهد، فتكاثرت س���يوف اليمي���ن الثقافي على المجلة ،فكتب ابراهيم الورداني سلسلة مقاالت ،واستخدم كل أسلحة التسخيف والتزيي���ف ليس���حق بدبابت���ه الرجعية هذه الطيور المغردة في س���ماء الثقافة، وكان���ت مقاالته بمثاب���ة بالغات موجهة ومقدمة إلى الس���لطة ،وكان السادات قد أصدر ف���ي فبراير/كان���ون ثاني 1974 قرارًا برفع الرقاب���ة عن الصحف ،فكتب الوردان���ي ف���ي 1974/4/4مقا ًال تحت عن���وان( :األق�ل�ام ..وما يكتب���ون) يندد فيه بمجلة الكات���ب وبأقالمها ،ويتهمهم بأنهم استغلوا مناخ الحرية ،لكي ينفثوا س���مومهم في جسد األمة ،وكتب يوسف السباعي -وزير الثقافة -بنفسه ،فرأى أن يك���ون معول���ه هو الحاس���م في هذه المعرك���ة ،وحكى حكايات مطولة ،ثبت بع���د ذلك أنه���ا حكايات ليس���ت دقيقة، وبعدها قدمت أس���رة التحرير اس���تقالة جماعية لوزير الثقافة ،وتم اس���تضافة المجل���ة لمدة عددين ف���ي مجلة الطليعة اليس���ارية.أما مجلة الكات���ب األميرية - كما أطل���ق عليها المثقفون بعد ذلك ،أي الحكومية ،فتم إس���ناد رئاسة تحريرها إل���ى الش���اعر ص�ل�اح عب���د الصب���ور، وانقس���مت الحي���اة الثقافية ح���ول هذا التنصيب ،وتعاون م���ع صالح عدد من المثقفين ،وأدانه آخرون.
�ضعف الإ�سناد محدث مس���لم ونصراني اجتم���ع ِّ فص���ب النصراني من ف���ي س���فينة، َّ زق كان مع���ه ف���ي كأس وش���رب، ٍّ ث���م راح يصب ويش���رب .وبعد حين عرض على المحدث كأساً ،فتناولها المحدث من غير تفكير وشرب .فقال له النصراني :ويحك هذا خمر .فقال له المحدث :من أين علمت أنها خمر؟ خمار فأجابه :اش���تراها غالم���ي من ّ
يهودي ،وحل���ف أنها خم���ر معتقة: فق���ال المح���دث :أنت أحم���ق ،فنحن أصحاب الحديث نروي عن الصحابة والتابعين ،فكيف تريدني أن أصدق نصراني��� ًا عن غالم يه���ودي؟ واهلل ما شربتها إال لضعف اإلسناد. * ابن حجة الحموي« ،ثمرات األوراق»، وهو هامش كتاب« :المستطرف في كل
فن مستظرف» لألبشيهي.
والدٌ يحت�رض وولد يتقعر كان لبعضه���م ولٌد نح���وي يتقعر ف���ي كالمه ،فاعتل أبوه علة ش���ديدة أش���رف فيه���ا على الم���وت .فاجتمع أوالده وقال���وا ل���ه :ندع���و ل���ه فالن ًا إن جاءن���ي قتلني. أخانا .ق���ال :الْ ، فقال���وا :نح���ن نوصي���ه أال يتكل���م. فدعوه فلم���ا دخل قال له :يا ِ أبت :قل ال إله إال اهلل تدخ���ل الجنة وتفوز من النار .يا ِ أبت واهلل ما شغلني عنك إال
فالن ،فإنه دعان���ي باألمس فأهرس وأعدس واس���تبذج وسكبج وطهبج وأفرج ودجج وأبصل وأمضر ولوزج وافلوذج .فصاح به أبوه :غمضوني، فقد سبق ابني ملك الموت إلى قبض روحي. * القيرواني« ،جميع الجواهر في الملح والنوادر» ،بيروت :دار الجيل.1987 ،
159
منهل السراج
تربة الكاتبة تسارع الكاتبة من اللهفة: ـ أنا أحرق نفسي !..لعلنا ننقذ ،المندفع والمتحمس والحالم والمفعم أمالً ،وصاحب النخوة ،ونقي السريرة. ال ش���يء متاح ًا لك يا كاتبة ،فأنت ال تس���تطيعين حتى أن تحلمي ،تكلمي وأنت ساكتة! ـ أؤم���ن أن العال���م القادم ،ه���و عالم البط���ات والدجاجات والخرفان واألرانب والقواقع ،وكل مخلوق كان اليوم نافعاً. أؤمن أن العالم القادم س���وف يقصقص أفق الصقور ،وكل من هم ضارية. أن ،لن يكون في العالم القادم من يخسرون في بعضهم. سيكون ،ليس انتصاب ًا وال اقتحاماً. سيكون عالم المخلوقات التي سعت على الدهر وتسعى. العال���م القادم! عال���م المخلوقات ذات ال���رؤوس الصغيرة واألمخاخ الزكية. ولن يكون عالم الفحول ،بعد اآلن. وأم���د اليدين للحزينات في البالد منادية :امضين إلى تربة األبن���اء والبنات ،هاجر ومحمد وم�ل�اك وكل من قضى ناقص ًا عم���راً ،احملن جرة ماء في ذراع ،وف���ي الثانية عرق ًا أخضر، زين المكان باله�ل�ال ،واصرخن اغ���رزن وازرعن واس���قينّ ، بالبكاء ،حتى الشبع ،تحصدن الكثير من العزاء. وامض���ي هنا عصر كل يوم ،حين تكاد الغصة أن تنبق من قدمي، العنق ،امضي إلى مقابر الغرباء ،فال أس���مع إال حفيف ّ وال أرى إال شواهد بأس���ماء غريبة ،آن ماري ،بريت لويس، ستيفان ،أندرش.. لكنني ،اآلن ،أرتجف غضباً. آمني بالجنة! هن���اك في الوديان ،عند منابع األنهار س���وف يعيش���ون، يرتوون ماء زالالً ،وعلى األرائك ..إلخ ـ مطمورون تحت التراب ،الضحايا ،ناسي ،الناس !..أريد عيني ،أحتاج أن أنزل أن ّ أرج العال���م من كتفيه ،كي ينظر في ّ عن كاهلي حمل الضحايا. وأنت! ربما ،تتاح لك بعض الخطايا وبعض الهموم ،لكنك أيض ًا لن تتقني ارتكابها. ِ كتبت الهية :نحن من نعشق الوادي والنهر ،في الظل ،نلتذ 160
ونثمر .يؤنسنا الحب المسروق .وللمليحات منا ،شأن وقيمة، فاتنات حين يعشقن ،وعند الحلو والمر ماجدات ،هن السيدات على األبناء من الرجال ،ولكلمة األم ،قدسية األرباب. حين الضي���ف ننتظر نحن عند العتبة ،ال نفتش عن األصل والفصل ،وال عن الحسب والنسب ،ألن الولد عندنا يسبق أباه، واألب يبتس���م .ال نق���اوم ،وال نمارس رد الفع���ل .نحن نبادر بفعل آخر ،يخصنا والظرف ،وحين يثوب التائه إلى الرشد، بحكمتنا نبدأ تمام ًا عند رشده وبفعلنا نبدأ. ومضي���ت في غيك :لم���اذا نحن هكذا؟ تقولي���ن ،ألن النزاع كان مع القدر ،وم���ن يقدر أن يتعالج مع قدره ،يقدر أن يتدبر صعوبات البش���ر ،وال نعتب على من ال يقدرنا حق القدرـ فهذا أيض ًا نحسبه على صعوبات البشر ،وفي القلب ،الرب الحق، الذي يرجى به ،وال يرجى له. ثم تماديت ،ونبش���ت ،تكتبي���ن عن يوم البل���وغ :ضربوا بالمعول حول الش���جرة ،وربطوها بالبل���دوزر ،واقتلعوها. نصب العيني���ن تركوا لي موطئ اقتالع الش���جر .فورثت عبق الجذور. حين أنهيت كلماتك وفخرك ،وانتشيتُ ،سرق همك! وتساقط الشهداء.. سكوت من الكاتبة. حين ترتجفين غضب ًا وتشعرين أن الحق مغتصب والكفين فارغان إال من المسالك المقطوعة ،بالمختصر ،خالية الوفاض من الهم والغم وكل أسباب الحياة ،اشتري سير الركض! اركض���ي في مكانك! افعل���ي كل يوم ،ال ب���أس عليك بأن تلهث���ي ،أما الدمع الهاطل ،فاحرصي أن تدعس���ي على دمعك الهاطل ،ادعسي على السير الناقل للدمع ،وأعيدي الدعس في كل مرة يرجع إليك مداس الدمع. ـ يقولون ،ليسوا هم من يرتكبون الجريمة ،يقولون ،كانوا شهوداً. ف���إن ل���م ُيج���ِد كل ما س���بق م���ن الوصف���ات والتمرينات والمعززات ،أعدك يا كاتبة ،سيتالشى القهر ،سوف تركنين، يوماً ،حين تش���بعين م���ن التراب ،طبعاً ،كمثل من يس���مونه الش���هيد ،ولك بعض أمل بأنه ربما تشبع بك تربتك ،موطئ نحولك.
�ضد الن�سيان
إيليا أبو ماضي
المجدد كان إيليا أبو ماضي ثالث ثالثة -جبران وميخائيل نعيمة.. أحدثوا تجديدًا في الكلمة الشعرية ،وجعلوها تتسع لمضامين الحياة االجتماعية والفكرية والنفسية ..دون أن تفارقها إمارات البساطة والوضوح ،بل حملوا القصيدة العربية من غيابات العصور الوسطى وعبروا بها المحيط ،وعلى الشاطئ اآلخر في المهجر أسس إيليا أبو ماضي فلسفته الخاصة في الموت والوجود والحياة والحب. ولد إيليا ضاهر أبي ماضي في 1889في قرية المحيدثة في شمال لبنان من عائلة أرثوذكسية فقيرة ..ولكن إصراره وجلده جعال منه واحدًا من رواد الشعر ،وأحد أعالم النهضة األدبية العربية في بدايات القرن العشرين. منذ طفولته واألسئلة الحائرة تشغله ،وهو ال يعلم من أين جاء، وال إلى أين سيؤول مصيره ،وفي أي طريق سيسير ،وبقيت الحيرة تطارده حتى كتب قصيدته الشهيرة (الطالسم): حيئت ال أعلم من أين ،ولكني أتيت ولقد أبصرت أمامي طريق ًا فمشيت وسأبقى ماشي ًا إن شئت هذا أم أبيت كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي ..لست أدري!! وإن أجبره الفقر على أن يترك دراسته ،إال أنه لم ينل من موهبته التي تغنت باألمل الذي بقي معه ولم يفارقه لحظة في حياته أو شعره: «وقال السماء كئيبة وتجهم -قلت ابتسم يكفي التجهم في السماء قال الصبا ولى ،فقلت له ابتسم ،لن يرجع األسف الصبا المتصرما» تقول الشاعرة فدوى طوقان« :إنني أرفع أبوماضي إلى القمة وال أفضل عليه شاعرًا عربي ًا آخر ،ال في القديم وال في الحديث، فالشعر العربي لم يعرف له من نظير». سافر إلى مصر هرب ًا من الفقر والعوز ليعمل في تجارة التبغ، وهناك تعرف على األديب أمين تقي الدين الذي تبناه ونشر أولى قصائده في مجلة «الزهور» وفي مصر أصدر ديوانه األول «تذكار الماضي» عام 1911من مكتبة مصر وكان يبلغ من العمر 22عاماً ،ساند الوطنيين بشعره فألب عليه غضب السلطة واالحتالل ،مع أن معظم شعره كان للتنديد بالظلم الذي يمارسه الطغيان العثماني ضد بالده. هاجر عام 1912إلى أميركا .وفي المهجر أسس مع جبران ونعيمة «الرابطة القلمية» ،التي تعد من أبرز معالم األدب العربي الحديث ،وكانت الرابطة هي أداة أبوماضي لنشر فلسفته الشعرية. وكتب إيليا أبو ماضي أفضل شعره في المهجر ،حتى فاجأته نوبة أوقفت قلبه عن الحب والشعر والكالم المباح في 23 نوفمبر 1957م.
163
اطلب نسختك المجانية من الكتاب مع العدد