رئيس الهيئة االستشارية
د .حمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة والفنون والرتاث
رئيس التحرير
د.علي �أحمد الكبي�سي مدير التحرير
عزت القمحاوي اإلشراف الفني
�سلمان املالك
سكرتير التحرير
نبيل خالد الأغا الهيئة االستشارية
�أ .مبارك بن نا�صر �آل خليفة �أ.د .حممد عبد الرحيم كافود �أ.د .حممد غامن الرميحي د .علي فخرو �أ.د .ر�ضوان ال�سيد �أ .خالد اخلمي�سي جميع امل�شاركات تر�سل با�سم رئي�س التحرير ويف�ضل �أن تر�سل عرب الربيد االلكرتوين للمجلة �أو على قر�ص مدمج يف حدود 1000 كلمة على العنوان الآتي: تليفون )+974( 44022281 : تليفون -فاك�س )+974( 44022690 : �ص.ب - 22404 :.الدوحة -قطر البريد اإللكتروني: aldoha_magazine@yahoo.com
مكتب القاهرة:
� 34ش طلعت حرب ،الدور اخلام�س، �شقة 25ميدان التحرير تليفاك�س5783770 : الربيد الإلكرتوين:
samykamaleldeen@yahoo.com
املواد املن�شورة يف املجلة تعرب عن �آراء كتابها وال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة �أو املجلة وال تلتزم املجلة برد �أ�صول ما ال تن�شره.
النشء العربي
بين تحديات العولمة والحفاظ على الهوية
ه���ذا عنوان قضية مهمة ناقش���ها منتدى اليوم الوطن���ي الذي عقد يومي األربعاء والخميس الموافقين 14و 15ديس���مبر/كانون األول 2011بمركز قط���ر الوطن���ي للمؤتمرات ،وتأت���ي أهميتها من كونها ترب���ط بين حاضر النشء ومستقبله وماضيه في محاولة لزيادة الوعي بما يفرضه الحاضر ويستدعيه المستقبل ويؤسسه الماضي. وخالل جلس���اته األرب���ع عرضت تس���ع أوراق بحثي���ة تناولت جوانب متنوع���ة م���ن القضية :مرتكزات الهوي���ة الوطنية وأهميتها في التماس���ك االجتماعي ،المش���كالت التي تهدد الهوية الثقافية ،دور األسرة في تعزيز الهوي���ة الوطنية ل���دى الطفل ،دور التعلي���م واإلع�ل�ام والتكنولوجيا في إبراز رم���وز الهوية الوطنية .وقدم الباحثون الج���ادون موضوعات غاية في األهمية منها :تعريف الهوية ،مرتكزاتها ،التماس���ك االجتماعي ،سبل حماية الطفل العربي من مخاطر ضياع الهوية ،التركيبة السكانية في قطر وأثرها في الهوية الوطنية ،دور األسرة والتعليم في تعزيز الهوية. والذي تابع جلسات المنتدى واس���تمع إلى المتحدثين فيه والمشاركين في المناقش���ة يستش���عر وجود خطر يهدد هوية النشء العربي وبخاصة في المجتمعات العربية ذات التطور السريع واالنفتاح على آخر مستجدات والمضي قدم ًا في العال���م المتطور ،وما يفرضانه من اس���تيعاب العص���ر ّ التحدي���ث والتنمية مما يش���كل تحديات لتلك المجتمع���ات في الحفاظ على هويته���ا الوطنية ،وهذا بحق ما فطن���ت إليه رؤية قطر 2030حيث جعلت أول تحدياتها الموازنة بين التحدي���ث والمحافظة على التقاليد ،أي الجمع بين المعاصرة واألصالة. لمفهومي الصحي���ح الفهم هو القضي���ة هذه لمعالجة والمدخ���ل األمث���ل َ األصال���ة والمعاص���رة ،فاألصال���ة (الحفاظ عل���ى الهوية) ال تعن���ي أبدًا االنغالق عل���ى الذات ورفض اآلخر ،كما أن المعاصرة ال تعني أبدًا تغريب المجتم���ع بترك قيم���ه العربية والتخلي عن ماضيه كل���ه .وهما بهذا الفهم متكام�ل�ان غير متناقضين ،وال مناص لنا من الجم���ع بينهما ،وهذا الجمع خي���ار يفرضه الواقع العملي الذي نعيش���ه .وبهذا الفه���م نقبل اإلفادة من الغرب فكرًا وثقاف���ة وابتكارًا وعلماً ،ونرفضه حين يكون احتال ًال وعدوان ًا وس���لب ًا لهويتنا الثقافية ،كما أننا نتمس���ك بالتراث ملهم ًا وموجه ًا لنا في حاضرن���ا ومس���تقبلنا ،وال نقبل أن نتخذه مص���در جمودنا وانغالقنا على ذواتنا والتهرب من واقع حياتنا. إن التحدي الذي يواجهنا في تربية نش���ئنا العربي يكمن في مدى قدرتنا على توعية األسرة والمدرس���ة في المقام األول باتباع الطريقة الصحيحة لتطبي���ق هذا الفهم ف���ي التربية والتعلي���م باعتماد خط���ة ثقافية متوازنة لتنش���ئة الطفل العربي تقوم على تأصيل هويت���ه الثقافية وتحصينه ضد حاالت الغزو الثقافي واالغتراب.
رئي�س التحرير
الغالف األول:
العدد
51
مجان ًا مع العدد:
ثـــــقــــــافـــيــة �شــــــــــهـــــريــــــة ال�سنة اخلام�سة -العدد خم�سون �صفر - 1433يناير 2012
ت�صدر عن
وزارة الثقافة والفنون والتراث ال ــدوحـ ــة -قـ ـ ـطـ ــر ���ص��در ال� �ع ��دد الأول يف ن��وف �م�بر ،1969ويف ي �ن��اي��ر � 1976أخ�� ��ذت ت��وج �ه �ه��ا ال �ع��رب��ي وا�ستمرت يف ال� ��� �ص���دور ح� �ت ��ي ي� �ن ��اي ��ر ع � ��ام 1986ل �ت �� �س �ت ��أن��ف ال� ��� �ص���دور جم�� � ��دد ًا يف ن ��وف� �م�ب�ر . 2007 ت��واىل على رئ��ا��س��ة حت��ري��رال��دوح��ة �إب��راه�ي��م �أب��و ن��اب ،د .حممد �إب��راه�ي��م ال�شو�ش و رج��اء النقا�ش.
االشتراكات السنوية
رئيس قسم التوزيع واالشتراكات
داخل دولة قطر
عبد اهلل حممد عبداهلل املرزوقي
الأفراد الدوائر الر�سمية
120ريا ًال 240ريا ًال
خارج دولة قطر 300ريال دول اخلليج العربي باقي الدول العربية 300ريال دول االحتاد األوروبي 75يورو 100دوالر �أمـــــــــيــــركـــــــا كــــــنـــدا وا�ســـتــــرالــــيــــا 150دوالراً
تليفون )+974( 44022338 : فاك�س )+974( 44022343 :
الربيد الإلكرتوين:
al-marzouqi501@hotmail.com doha.distribution@yahoo.com
تر�سل قيمة اال�شرتاك مبوجب حوالة م�صرفية �أو �شيك بالريال القطري با�سم وزارة الثقافة والفنون والرتاث على عنوان املجلة.
الموزعون وكيل التوزيع يف دولة قطر: دار ال�شرق للطباعة والن�شر والتوزيع -الدوحة -ت 44557810 :فاك�س44557819 :
لوحة الغالف
روكني حارزاده � -إيران
�أبو القا�سم ال�شابي
نداء احلياة
متابعات
احتاد �أدباء اليمن يف اختبار الثورة الربيع العربي بعيون �إ�سرائيلية؟ �ضباب احلرب الأهلية وال�شعب يريد الكتاب اخلرطوم -مالمح الدّ ولة الوطنية �أبو ظبي -معر�ض تفاعلي يدق ناقو�س اخلطر القاهرة -من �أجل ال�سيدة ال الثقافة! ميديا
هل نثق بالويكيبيديا؟ حكومة الـ «فلوبي دي�سك» حجاب توكل كرمان غردت فبكاها الآالف مئوية حمفوظية �ضحك وهزل على الطريقة املغربية ن�صائح للرئي�س وما يطلبه امل�ستمعون!
4
12
وكالء التوزيع يف اخلارج:
اململكة العربية ال�سعودية -ال�شركة الوطنية املوحدة للتوزيع -الريا�ض -ت4871414 : فاك�س /4871460 :مملكة البحرين -م�ؤ�س�سة الهالل لتوزيع ال�صحف -املنامة -ت: - 17480800فاك�س/17480818 :دولة الإم��ارات العربية املتحدة -امل�ؤ�س�سة العربية لل�صحافة والإع�لام � -أبو ظبي -ت - 4477999 :فاك�س� /4475668 :سلطنة عُ مان - م�ؤ�س�سة عُ مان لل�صحافة والأنباء والن�شر والإعالن -م�سقط -ت - 24600196 :فاك�س: /24699672دولة الكويت � -شركةاملجموعة الت�سويقية للدعاية والإع�لان -الكويت - ت - 1838281 :فاك�س /24839487 :اجلمهورية اللبنانية -م�ؤ�س�سة نعنوع ال�صحفية للتوزيع -بريوت -ت - 653259 :فاك�س /653260 :اجلمهورية اليمنية -حمالت القائد التجارية � -صنعاء -ت - 240883 :فاك�س / 240883 :جمهورية م�صر العربية -م�ؤ�س�سة الأه��رام -القاهرة -ت - 25796997 :فاك�س /27703196اجلماهريية الليبية -دار الفكر اجلديد ال�سترياد ون�شر وتوزيع املطبوعات -طرابل�س -ت - 925639257 :فاك�س: / 213332610جمهورية ال�سودان -دار الريان للثقافة والن�شر والتوزيع -اخلرطوم -ت: - 466357فاك�س / 466951 :اململكة املغربية -ال�شركة العربية الإفريقية للتوزيع والن�شر وال�صحافة� ،سربي�س -الدار البي�ضاء -ت - 2249200 :فاك�س /2249214:اجلمهورية
العربية ال�سورية -م�ؤ�س�سة الوحدة لل�صحافة والطباعة والن�شر والتوزيع -دم�شق -ت: - 2127797فاك�س2128664:
األسعار دولة قطر مملكة البحرين الإمارات العربية املتحدة �سلطنة عمان دولة الكويت اململكة العربية ال�سعودية جمهورية م�صر العربية اجلماهريية العربية الليبية اجلمهورية التون�سية اجلمهورية اجلزائرية اململكة املغربية اجلمهورية العربية ال�سورية
10رياالت دينار واحد 10دراهم 800بي�سة دينار واحد 10رياالت جنيهان 3دنانري 2دينار 80دينار ًا 15درهم ًا 80لرية
اجلمهورية اللبنانية اجلمهورية العراقية اململكة الأردنية الها�شمية اجلمهورية اليمنية جمهورية ال�سودان موريتانيا فل�سطني ال�صومال بريطانيا دول االحتاد الأوروبي الواليات املتحدة الأمريكية كندا وا�سرتاليا
3000لرية 3000دينار 1.5دينار 150ريا ًال 1.5جنيه � 100أوقية 1دينار �أردين � 1500شلن 4جنيهات 4يورو 4دوالرات 5دوالرات
مه ِلكة البالغة ال ُ
74
قضية العدد
2012
28
نهاية العالم أم نهاية الطغيان؟ العالم
بوتن يقطع الدميوقراطية مبق�ص عتيق نهاية ع�صر اللّوبيات احتلوا وول �سرتيت الفل�سطني رحلة
روما -مدينة الأبد ..جمر و�أح�ضان أدب
الروائي املغربي ح�سن جنمي كاتب يا�سني غنيمة الأدب فات�سالف هافيل ال�شاعر العراقي يو�سف ال�صائغ يف ذكرى رحيله نصوص
موعد يف الربيع (ربيعة ريحان) ثالث ق�صائد (�سنان امل�سلماين) املر�آة (د .عالء عبداملنعم �إبراهيم) ترجمات
من وَحي القُر�آنِ (�ألك�سندر بو�شكني) �أزهار و�سط�شر�شف ال�سرير (زويــــا بــيـــرزاد) م�س�ألة زينون (باتريك لولر) صيد اللؤلؤ
الف�صيحة والعامية(د .حممد عبد املطلب)
20
66 96
108
112
ال�سّ ينما الفرن�سية ...تتحدث بالعربية مترّ د على ال�شا�شة الدورة « »11للمهرجان الدويل للفيلم ال�سينما الإفريقية يف �أح�ضان م�صر مهرجان بريوت الدويل للأفالم الوثائقية فوتوغرافيا
كوكال رفعت ..اجلانب الآخر للوجوه (د� .إينا�س ح�سني)
122
تشكيل
ح�صارات� ..آمنة الن�صريي (جمال جربان)
مقاالت
ذكرى �شي�شانية(خوان جويتي�سلو) نهاية الدنيا (�ستفانو بيني ) نهاية العامل يف مدن امللح ( �إيزابيلال كامريا) الأحزاب الإ�سالمية �..أ�سماء و�أفعال (حيدر �إبراهيم علي) الثقافة والثورات العربية (د .مرزوق ب�شري) بالغة االنتهازية الفكرية (عبد ال�سالم بنعبد العايل) يف البدء كان ال�شعر! (�أجمد نا�صر) الزمن اجلميل(�أمري تاج ال�سر) �إىل ليبيا التي �أعنيها ( !!.فرج بوالع�شة)
سينما
18 39 55 62 73 95 99 103 160
موسيقى
م�صطفى �سعيد ..يف مقامات الثورة عمر فتحي� ..أغنية مل تكتمل دوحة العشاق
�شـفـاء الـحـب (نزار عابدين) علوم
املحمول« ..يطبخ» �أدمغتنا �أ�سرار ع�صري الطماطم مخ املر�أة �أكف�أ و�أكرث �صخب ًا املجمع العلمي ..احرتاق التاريخ
136
142 144 146
149 150
متابعات
اتحاد أدباء اليمن في اختبار الثورة صنعاء -جمال جبران والكتّاب مجددًا يدخ���ل اتحاد األدب���اء ُ اليمنيين اختبارًا قاس���ياً ،وهذه المرة عن طريق ثورة الش���باب الت���ي ماتزال قائمة في البالد منذ بداية العام الماضي ،والتي نجحت حتى اآلن ف���ي إبعاد علي عبد اهلل صالح عن الحكم ،ليصبح رئيس��� ًا شرفي ًا ب�ل�ا صالحي���ات .ويأتي االختب���ار الذي يخوضه اتحاد األدباء مدفوع ًا بذلك اإلرث الضخم الذي يحمل���ه تاريخه ،الذي يقول إن���ه بقي على امت���داده منتص���رًا للوطن ومتخذًا لموقف مناهض للسلطة ،ومواجه ًا لها عبر الش���خصيات األدبية الكبيرة التي تتابعت على قيادته ،كالشعراء الراحلين عبد اهلل البردوني وعم���ر الجاوي ومحمد حس���ين هيثم .كما أن االتحاد هو المنظمة المدنية الوحيدة الت���ي بقي كيانها موحدًا حتى قب���ل إع�ل�ان الوح���دة اليمنية بين الشطرين الجنوبي والشمالي في .1990 لك���ن ،حت���ى اليوم ،يب���دو وضع هذا االتح���اد غامض ًا م���ن غير تحدي���د موقف واضح من «ثورة الش���باب» ،مثلما فعلت كثي���ر من منظمات المجتم���ع المدني التي
4
أعلن���ت منذ وق���ت مبكر موقفه���ا المنحاز لص���ف الثورة ،وضد نظ���ام علي عبد اهلل صال���ح ،وقامت بإص���دار بيانات طالبته فيه���ا بالتنحي عن الحك���م وتجنيب اليمن ويالت وشرور حرب أهلية جديدة. وق���د كان اتح���اد األدب���اء س���ابق ًا مب���ادرًا وبمفرده إلص���دار بيانات التنديد بممارسات السلطة الش���مولية المناهضة لحرية الرأي والفكر وإدانة حمالت القمع التي كان يتعرض لها أصحاب الرأي ،من المثقفين واألكاديميين .لكن يبدو أن األمر قد اختلف اآلن م���ع الثورة وبقيت األمانة العامة التحاد األدباء في موقف المتفرج، لم تقم بإش���ارة واحدة تفيد بموقف محدد من هذه الث���ورة وموقفها من أعمال القتل والعنف التي قام وما ي���زال النظام يقوم بها ضد ش���باب الثورة .ولم يقم بإصدار بي���ان صريح يوضح موقف���ه من كل هذا الحاصل .وبقي األمر محصورًا في مواقف فردي���ة من قبل بعض األدباء المس���تقلين الموجودي���ن ف���ي ق���وام األمان���ة العامة لالتحاد والتي أظهرت موقفها المنحاز مع الثورة بشكل صريح ،ال لبس فيه .إضافة لموقف ظاهر من قبل عدد كبير من األدباء الش���باب الذين يقفون على طول الوقت،
متخذي���ن لموقف مناه���ض لنظام صالح حت���ى من قبل الثورة ،وكان من الطبيعي أن يستمر موقفهم منه بعد انطالقتها. ال ي���رى الش���اعر ماجد زي���دان غرابة في صم���ت األمانة العام���ة التحاد األدباء والكتّاب اليمنيين الحالي من ثورة الشباب ُ السلمية ،وعدم إعالنها عن موقف« ،حيث صارت رئاسته ،منذ االنتخابات األخيرة، في جيب المؤتمر الشعبي العام(حزب علي عب���د اهلل صالح) بعدما نج���ح هذا الحزب وبفضل األم���وال الضخمة التي صبّها في ال ساقيته لش���راء أصوات األدباء ،مستغ ً الحالة المادي���ة الصعبة التي يعاني منها ع���دد كبير منهم» ،قال ماج���د مضيف ًا «إنه من الطبيعي ،وفي ظل الوضع الذي صار إليه االتحاد ،أال يكون قادرًا على مخالفة توجهات الس���لطة أو الخ���روج عن الخط المرس���وم له» .وبحسب ماجد أيضاً« :لقد وصل األمر إلى درجة إصدار اتحاد األدباء لبيانات يندد فيها بالحركات االحتجاجية الشعبية التي كانت في المناطق الجنوبية من اليمن وخرجت محتجة على سياس���ة الفس���اد واإلفس���اد الت���ي انتهجها صالح وعمليات النه���ب المنظمة التي مارس���ها على ث���روات الجن���وب ،وإبع���اد أبنائها وتس���ريحهم من وظائفهم العامة ،وعلى وجه الخصوص من صفوف الجيش». لك���ن الش���اعر محمد عب���ده ،وهو أحد أعض���اء اتح���اد األدباء ،المنتم���ي حزبي ًا للمؤتمر الش���عبي الع���ام الحاكم ،قد نفى أن تك���ون األمانة العام���ة لالتحاد تنكرت لدورها الريادي التاريخي الكبير والمشهود لها طوال عمر االتحاد بموقف منحاز للفرد في مواجهة النظام ،مش���يرًا إلى أن قيادة االتحاد قد أعلنت -ولو عن طريق مواقف فردية تنتمي لقوامها اإلداري -انحيازها لموقف مناهض لممارسات السلطة ،حيث تعذر ألكث���ر من مرة عق���د اجتماع لتحديد موقف واضح يقف في صف الثورة. لكن هل يعقل أن يبقى االتحاد صامت ًا تجاه أعم���ال القتل الصريحة التي قام بها نظام صالح ضد شباب الثورة؟ إن اتحاد األدباء اليمنيين وإن لم يسقط في اختبار الثورة فقد س���قط عندم���ا اكتفى بالصمت ولم يعلن موقف ًا محددًا إزاء كل ما حدث.
ودفع���ه ل�ل�إدالء برأي���ه ف���ي الربيع العرب���ي ،خلفت أيض ًا اس���تغراب ًا لدى الجمه���ور ،ال���ذي تعاطف ج���زء كبير منه مع موقف الش���اعر الفلس���طيني. والمع���روف أن صال���ون الكتاب���ات المتوس���طية عرف ،خ�ل�ال الدورتين الماضيتي���ن ،غياب الكت���اب واألدباء الفلس���طينيين ،الذين رفضوا الجلوس إلى جان���ب كّتاب «دول���ة االحتالل»، وه���ذه الس���نة ش���هدت ،ألول م���رة، مشاركة فلسطينية .وذكر درويش في تصريح له« :اش���ترطت قب���ل المجيء إلى مرس���يليا عدم الجلوس إلى جانب إس���رائيلي في ندوة مش���تركة» .وهو موق���ف مبرر خصوص��� ًا إذا أدركنا أن اإلسرائيلي المقصود هو جندي سابق في جيش االستيطان.
الربيع العربي بعيون إسرائيلية؟
باريس -خاص للدوحة خلّف���ت ال���دورة الثالث���ة م���ن تظاهرة «صالون الكتابات المتوسطية» (4 - 3 ديسمبر/كانون األول) ،المنظم بمدينة مرس���يليا الفرنسية ،جد ًال واسع ًا عقب رف���ض الش���اعر الفلس���طيني نج���وان درويش الس���ماح للكات���ب والصحافي اإلس���رائيلي موش س���كال بالمشاركة في ندوة أدبية ح���ول الربيع العربي. وكان برنام���ج الن���دوة المع���د س���لف ًا
خالي��� ًا من االس���م اإلس���رائيلي ،الذي كان جندي ًا س���ابق ًا ف���ي صفوف جيش الساحل .بحسب البرنامج الذي وزعته الجه���ة المنظمة ،المتمثل���ة في جمعية «ايكريم���اد» ،وال���وارد عل���ى موقعها االلكتروني ،فإن الندوة نفس���ها كانت من المفروض أن تنحصر في الروائيين: المص���ري خالد الخميس���ي ،والمغربي الطاه���ر بنجل���ون ،والليب���ي كمال بن حماده والشاعر نجوان درويش. محاول���ة إقحام الكاتب اإلس���رائيلي،
وع���رف الصال���ون نفس���ه تنظيم عدد من الندوات ،مع طرح أس���ئلة تتعلق بمنطقة البحر األبيض المتوسط ،منها ن���دوة «ه���ل يوجد وعي متوس���طي؟» ش���ارك فيه���ا كل م���ن ع���زة فيالل���ي (تونس) ،مايسة باي (الجزائرّ) ،ماريو ليفي (تركيا) ،ايرسي سوتيروبولس (اليونان) وسرجي بامياس (إسبانيا)، وندوة «الترجمة :لغة مش���تركة حول المتوس���ط» ،بمشاركة س���يلفي كوان وم���وش س���كال (إس���رائيل) ،كوليت فيل���وس (فرنس���ا) وروزات ل���وي (إيطاليا) .وندوة أخرى حول الرواية، مع هدى بركات (لبنان) ،خوزي لويس بيكس���وتو (البرتغال) وف���ؤاد العروي (المغرب). «صال���ون الكتابات المتوس���طية» هو واحد من اللق���اءات األدبية التي تجمع بين أدباء حوض المتوس���ط .يحاول التقريب بين الكّت���اب .مع ذلك ،يبقى عليه الوعي ببعض الحقائق السياسية الدائرة ف���ي المنطقة وعدم الخلط بين الضحية والجالد. 5
ضباب الحرب األهلية والشعب يريد الكتاب بيروت -سحر مندور «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» ( 15 - 2ديس���مبر/كانون األول)2011 ف���ي دورته الخامس���ة والخمس���ين عرف صدور أعم���ال كوكبة من أهم الروائيين. أمثال إلياس خ���وري الذي أصدر روايته الجديدة التي ط���ال انتظارها ،المعنونة بـ«سينالكول». عنوان ع���ام للمعرض، وبينم���ا لم يحّدد ٌ فإن الفتة استقبالية تباغت الزائر ،تقول: «الشعب يريد الكتاب» ،في استعادة ربما حث الجماهير تكون غير موفقة، لش���عار ّ ٍ العربية على مواجهة الموت في الشوارع م���ن أجل تحقيق ما «تري���د» ،على عكس الح���ال التي تعيش���ها أروق���ة المعرض، الخالي���ة ،ف���ي آن ،م���ن الم���وت وم���ن الجماهير. سبقت افتتاح المعرض لهذا العام مقاالت كثيرة نش���رتها الصحف اللبنانية ،نقلت أج���واء القيمين عل���ى دور النش���ر ،كما
6
«الن���ادي الثقاف���ي العربي» ال���ذي ينظم المعرض ،على مس���توى درج���ة اإلقبال والبي���ع المتوقع���ة .معظ���م ردود الفعل أت���ت س���لبية ،إذ ح���ّددت نس���ب تراجع مبي���ع كتبها ،منذ ان���دالع ثورات العرب، بما يتراوح ما بين أربعين وس���بعين في المئة .إال أن تراجع مبيع الكتب لم يبدأ مع يرده بعض الناش���رين هذا العام ،وإنما ّ إلى العام ،2005أي منذ اغتيال الرئيس رفي���ق الحري���ري في بي���روت ،وما تاله توتر مس���تدام في األجواء السياسية من ٍ واألمنية. اعتب���ر إقبال دور النش���ر ف���ي المقاب���لُ ، العربي���ة عل���ى المش���اركة ف���ي معرض ورد القيمون بيروت له���ذا العام إيجابياًّ ، علي���ه ذلك إلى انش���غال عواصم الكتاب العرب���ي بغليانه���ا الداخلي ع���ن تنظيم المع���ارض ،ما رفع عدد الدور والمكتبات العربية المشاركة في معرض بيروت من 33إلى .53 وقد بدت في المعرض الفتة عودة الكثير من أب���رز روائي���ي لبنان إل���ى موضوع
الحرب األهلي���ة .ربما يكون الس���بب في ذل���ك المن���اخ الحاد الدامي الذي يعيش���ه من���اخ ال يأتي لبنان منذ س���نوات ،وهو ٌ حرب أهلية ،وإنما ،دائماً ،في في سياق ٍ س���ياق تفاديها .حيث نشر إلياس خوري الرواي���ة التي ذهب فيها من ُمعاش ومنام فلس���طينية «كأنها نائم���ة» ( - 2007دار اآلداب) إلى حرب لبنان .في «سينالكول» (دار اآلداب) .تنطل���ق الرواي���ة من عودة الدكت���ور كري���م م���ن هجرت���ه وزوجته وعائلته الباريس���ية إلى ذكريات بيروت ون���ار حاضره���ا وراهنه���ا ،واله���دف الواضح من الزيارة هو مشاركة الشقيق نس���يم في تأس���يس مستش���فى .ولكن، في تلك الزيارة نفس���ها ،تتداخل األزمنة واألمكن���ة ،كم���ا هي العادة ف���ي روايات خ���وري ،وتتداخل الوجوه ،وتتسلس���ل وتتركب العالقات ،بهدوء يس���م أحداثها، ّ أش���د اللحظات صخب���اً ،عاطفي ًا وحربي ًا وعقلي���اً .القص���ف ،وانقط���اع الكهرباء، ونس���اء صنع برفقتهن الح���ب ،وزوجة تخاف من زيارة زوجها لماضيه ،تخاف منه���ا عل���ى حاض���ره وأوالده ،وعل���ى نفسها. أما عباس بيضون ،المعروف بشاعريته، فق���د اختار م���رة ثانية الرواي���ة ،ليروي قصص صور من «ألبوم الخس���ارة» (دار ورقة الس���اقي) ،كأنه يزيل مع كل قصة ً أرخت له أربعة وس���تين م���ن روزنام���ة ّ عام���اً .ورقة برفقة االبنة ،وأخرى برفقة المسن ،ما الهر ّ االبن .أكثر من ورقة برفقة ّ بي���ن التماهي والترفّع ،ورمي الموت في ما بينهما ،ككرة نار ،كفدية .أما األوراق الباقي���ة فكلها مخصص���ة للمغامرات مع بعض النس���اء .كأنه يروي عبرها سيرة ٍ من ش���باب ذاك الجي���ل ،وكهوله الحقاً، أحزاب الذي���ن ثاروا على المعتق���دات في ٍ حم���راء انقالبية ،وأوله���ا تابو الجنس، فمارس���وه ،وإن ل���م يبدل���وا الكثي���ر في انطباعاته���م وصوره���م النمطي���ة ع���ن حرب الم���رأة ،وه���م ال يت���رددون أم���ام ٍ صارت أهلية. في الحرب األهلية أيض���اً ،كما في حرب سبقتها وربما راكمت لها ،نشر الروائي ذو العالم الخ���اص ربيع جابر روايتين .هما «دروز بلغراد» (المركز الثقافي العربي)،
التي تسرد حكاية حنا يعقوب المسيحي الذي ُينفى مع مجموعة من الدروز ،عقب أح���داث الع���ام 1860الدامي���ة .و«طيور الهوليداي إن» (دار التنوير) ،التي تتألف م���ن 648صفحة ،تقب���ض على جو من الح���رب األهلية ،وينق���ل ملخص غالفها الخلفي أخبارًا ت���كاد تكون صحافية عن «مفقود غادر منزله» ،فمفقودتان غادرتا منزليهما ،فمفقودة رابعة .ومن المعروف أن واحدًا من أقسى وجوه الحرب األهلية اللبناني���ة هو «خ���رج ولم يع���د» ،وهو ماث�ل�ا حت���ى اليوم ف���ي خيمة ال ي���زال ً مس���تمر منذ أعوام في وس���ط اعتص���ام ٍ بيروت ،يطالب بكشف مصير المفقودين والمخفيين قسرًا خالل تلك الحرب. ومع ع���ودة كل من ربي���ع جابر وإلياس خوري وعباس بيضون إلى الحرب ،تقرر هدى ب���ركات أن تخص���ص «ملكوت هذه األرض» (دار اآلداب) للع���ودة إل���ى ٍ قرية تقع «بي���ن الخرافة الس���حرية والوقائع المدونة بخفة ,في المرتفعات الش���مالية يتحصن هؤالء الموارنة من أعدائهم حيث ّ تمر الحروب على مدى الكثيرين ،وحيث ّ قرن» .بين أديرة الوادي المقدس ،حسبما تكتب بركات ،وسير البطوالت المحلية، «يختلط حب الموطن بغياب الوطن» .من جهتها ،أصدرت أيض ًا حنان الشيخ كتاب ًا حمل عنوان «صاحبة الدار شهرزاد» (دار اآلداب). وق���د كان متوقع ًا ص���دور رواية جديدة للروائ���ي المخض���رم حس���ن داود ،إال أن ضي���ق الوقت لم يتح ذل���ك ،فتبقى حاضرة قصص مجموعته «فيزيك» (دار الس���اقي) ،إلى جانب طبعتين جديدتين من «أيام زائدة» و«غناء البطريق». كما ش���هد المعرض صدور أعمال جديدة أخ���رى ،منه���ا «حي���وات أخ���رى» (دار ال���راوي) إليم���ان حمي���دان ،و«أوهام» (الس���اقي) لنازك س���ابا يارد ،و«علي األميركاني»(الس���اقي) لهالة كوثراني، وباك���ورة س���حر مق���ّدم «أن���ا وكري���م والسوشي» (الساقي) ،و«حانة رقم »2 (اآلداب) لليلى عيد ،و«نس���اء يوسف» (اآلداب) للين���ا كريدي���ة ،و«غ���دًا يزهر نيسان» (دار الفارابي) للميس العبد اهلل فرحات.
الموريتانيون يتغنون بوطنهم كاآلخرين نواكشوط -عبداهلل ولد محمدو أقام اتحاد األدباء والكتاب الموريتانيين برعاي���ة م���ن وزي���ر الدول���ة للتهذيب الوطن���ي ووزيرة الثقاف���ة ،المهرجان األدبي الس���ابع بين 14و16من ش���هر حام�ل�ا في نس���خته نوفمب���ر 2011م، ً الجديدة ش���عار الوالء للوطن ،منفتح ًا على مختلف الثقافات المحلية ،محتفي ًا بالقضايا العربية والعالمية ،فلم تخل فعالياته رغم طابعها المحلي من شعر يالمس الهم���وم العربي���ة ,حيث ألقى الشاعر المختار السالم ولد أحمد سالم ف���ي هذا المهرجان قصي���دة عن الربيع العربي. وقد تميز هذا الحدث بتناغم بين الجهة الحكومي���ة الراعية والق���وى الثقافية المبدع���ة ،ولع���ل م���ن أوجه���ه التزام ه���ذا المهرجان ال���ذي يعد أب���رز تقليد ثقافي س���نوي في البلد يعنى بقضايا الوط���ن وهم���وم األم���ة الموريتانية، حيث اختار منظموه ش���عار « :التغني بأمجاد الوطن» ،هذا الشعار الذي علله األمي���ن العام التحاد األدب���اء والكتاب الموريتانيين قائالً :إن األدباء والكتاب الموريتانيين في اختيارهم هذا الشعار لم يكون���وا بدع ًا من األدب���اء والكّتاب في أنحاء المعم���ورة ،إذ طالما تغنى األدباء والش���عراء بأوطانهم ،س���اردًا بعض روائع الش���عر العربي المتشبثة بالوطن ،ويسترس���ل المنس���ق العام له���ذا المهرجان الش���اعر كابر هاش���م قائالً« :لقد نجح اتحاد األدباء والكتاب الموريتانيين في إرس���اء هذه الس���نة الحمي���دة المتمثل���ة ف���ي ه���ذه الخيمة الش���عرية الت���ي يقصده���ا الش���عراء والكّت���اب من مختلف أطراف الس���احة األدبية والثقافية ؛ حيث يستعرضون
أحالمهم ورؤاهم ،ويعيشون همومهم وآمالهم وآالمهم». وقد عرض���ت النص���وص الفائزة في مسابقات الش���عر الفصيح والشعبي والقص���ة القصيرة والبح���ث العلمي، واحتف���ى اتحاد األدب���اء والكتاب في الختام باثني عش���ر مكرم��� ًا لبعضهم بصم���ات ري���ادة مش���هودة داخلي��� ًا وخارجياً. وكان للجمه���ور موع���د م���ع عروض تمثيلية مس���رحية في (ليلة الختام)، افتتحه���ا الممثل المس���رحي «باب ولد ميني». ويع���د الث���راء والتنوع توجه��� ًا جلي ًا تمثل في مش���اركة شعراء من مختلف األجي���ال ،بل���غ عدده���م زه���اء 120 ن���دوات إلقاءه���م ش���اعراً ،تخلل���ت ٌ َ وح���وارات وبحوث في قضايا ثقافية وطنية ودولية .وكان للشعر الزنجي حضوره في المهرج���ان ،تأكيدًا على لحمة المجتمع الموريتاني.
7
مالمح ال ّدولة الوطنية الخرطوم -طاهر محمد علي في ظل التغيرات السياس���ية التي تعرفها السودان ،خصوص ًا بعد انفصال الجنوب، وم���ا نتج عن���ه م���ن تأثيرات سياس���ية واقتصادية واجتماعية ،ثم امتداد الربيع العربي إلى الجارتين مصر وليبيا ،خرج ،أخيراً ،م���ن دائرة الظل ،وأقام مؤتمره الخامس ( 4 - 3ديس���مبر/كانون األول)، بجامعة الخرطوم ،تحت شعار «مستقبل الدولة الوطنية في السودان» ،تزامن ًا مع الذكرى الخامسة والعشرين لرحيل رئيسه األول جمال محمد أحمد. سلسة األوراق التي قدمها المتداخلون في المؤتمر دلفت إلى محور الثورات العربية، على غ���رار ورقة الش���يخ محمد الش���يخ المعنون���ة «الكائن الجمع���ي يحبط الحل األمني» .الذي اعتبر ثورات الربيع العربي خي���ر نموذج النبث���اق الكائ���ن الجمعي، وتجسيد خصائصه التكوينية ،بعد أن نال من زبانية الطاغي���ة صنوف ًا من التعذيب والتقتيل .وتساءل الشيخ« :ما هو مصير الكائن الجمعي بعد انتص���ار الثورة؟ هل يظل في تماسكه وتعاضده ،أم أن الوعي الجمعي ينحل ويضمح���ل ،ومن ثم يأخذ الكائن الجمعي في التشظي؟» .اإلجابة عن هذا السؤال تكش���ف مآل الثورات العربية الراهن���ة في تمكنها م���ن تحقيق تحوالت جذري���ة في البن���اء االجتماع���ي ،وتحقق مجتمع الحرية والعدالة والمساواة ،الذي يسوده الوعي الخالق .من جانبه ،اعتبر الناقد راش���د مصطفى بخي���ت في ورقته «التع���دد الثقافي في الس���ودان» أن الفكر السياسي السوداني يواجه أزمة حقيقية في قضي���ة التعدد الثقاف���ي ،خاصة بعد انفص���ال جن���وب الس���ودان ،باعتبار أن اإلفراط في التركيز على جنوب الس���ودان لتبرير مش���روعية المطالب���ة بالمواطنة والدول���ة المدني���ة بدرج���ات متفاوتة في ص���ورة غائمة الفكر السياس���ي ،رس���م ً ص���وره كأن���ه للش���مال الجغراف���ي ،إذ ّ «كتلة» جغرافية «متجانسة ثقافياً» تفرقها
8
جمال محمد أحمد
األصول العرقية ،وبالتالي تسقط ضمني ًا دعاوى التعددية الثقافية ويبقي «الدين» أو «الع���رق» اإلط���ار المرجعي بالنس���بة للدولة ودستورها ومؤسساتها المدنية، تك���رس لذلك تجربة اإلس�ل�امويين، كما ِّ باالستناد إلى تراث ما سبقها من تجارب الحك���م .وخلص المتح���دث ال القول« :إذا اعتبرن���ا مفه���وم الدولة القومي���ة في هذا ردة شبه كاملة إلى القرن التاسع العصرّ ، عش���ر ،فإن تجربة اإلس�ل�ام السياس���ي تفوق ردة الدولة القومية بأبعد من ذلك، إذ يخل���و التراث اإلس�ل�امي م���ن مفهوم يقاب���ل فكرة المواطن���ة بصورتها القديمة أو المعاصرة ،كما يؤكد ذلك س���مير أمين ومحمد أركون». وأك���د بخيت أن هذه الرؤي���ة تنهض على خط���أ منهجي يكمن في اعتب���ار الدين هو الثقافة نفس���ها بالنسبة لنظام الحكم ،في عزلة ش���به كاملة عن المفاهيم المتعددة للثقاف���ة في حق���ول اإلنثربولوجيا وعلم االجتماع والسياس���ة ،الت���ي تعتبر الدين نفس���ه ،ليس أكثر من مجرد عنصر واحد فق���ط من عناص���ر الثقافة األخ���رى التي تضم العادات والتقالي���د واللغة والتراث المادي واألدبي. الدكتور الوليد آدم مادبو تناول عبر ورقة «الحكماني���ة :تحكم أم إح���كام؟!» تعليق ًا عل���ى تجربة الحكم المحلي في الس���ودان
علي عثمان محمد صالح
حي���ث خلص إلى افتقاره التام للمنهجية، والتغيي���ب المتعمد للتدابير المؤسس���ية، م���ا أدى إله���دار طاقة حكمي���ة كان يمكن أن توظف ف���ي تعميق مفهوم الحكمانية، وترسيخ مبادئ الحكم الراشد الذي يستلزم وجود الدس���تور كجهة منظمة للعالقات الرأس���ية واألفقي���ة بي���ن المواطني���ن، متتبع ًا مراحل وصفه���ا بالتردي اإلداري والسياسي في السودان. وحفلت ورق���ة البروفيس���ور علي عثمان محمد صالح «الثقافة السودانية الوطنية القومي���ة الجامع���ة وعاديات السياس���ة» بع���رض للموجات الثقافي���ة الوافدة على الثقافة السودانية منذ القرن التاسع عشر حتى عام استقالل السودان .1956وقال صالح« :إن الس���احة الثقافية السودانية الحالية تم���ر بمرحلة حادة من التفاعالت الحضاري���ة والثقافي���ة ،ولن يس���تقر بها المقام إلى مرحلة تأصيل ثقافي قبل وقت طويل جداً ،وهو أم���ر صحي ومرغوب، لك���ن المطل���وب أن تبق���ى الثقاف���ة ه���ي مجمل التجربة اإلنس���انية ،واإلحس���اس بالممارس���ة الحياتية ،وهذا اإلحس���اس يمكن أن يكون من نصيب أي فرد متفاعل مع األحداث الثقافية ،لكن المهم أن يوجه الوجهة الصحيح���ة ،وأن يترك لينفذ في جو من الليبرالي���ة الفكرية وديموقراطية التفكير».
الماء ثقافي ًا
معرض تفاعلي يدق ناقوس الخطر
أبو ظبي -حنان شافعي تنظ���م هيئة أبوظب���ي للثقافة والتراث بالتعاون مع المتحف األميركي للتاريخ الطبيعي معرض��� ًا ضخم ًا ح���ول ثقافة الم���اء ودوره ف���ي مختل���ف حض���ارات العال���م ش���رق ًا وغرب��� ًا ومن ث���م التأكيد على المش���كالت المتصاعدة التي تخص المسطحات المائية والتي تكمن أسبابها بنسبة كبيرة في سوء االستغالل من قبل بعض الدول وعدم ترشيد استهالك الماء في كثير من الدول العربية والمجتمعات األخرى. انطل���ق المعرض تحت عن���وان «المياه: =H2Oالحي���اة» ف���ي قاع���ة ح���ي قصر الحص���ن الثقافي بقلب مدين���ة أبوظبي بتاريخ 19سبتمبر 2011وحتى 5يناير القادم ، 2012طول فترة المعرض يعود إلى رغبة المنظمين في فتح المجال أمام الجمهور وطالب الجامع���ات والمدارس أكب���ر وقت ممك���ن ،ولعله س���بب وجيه لجدوى مثل ه���ذا المعرض ال���ذي تغلب عليه الصفة التقنية من حيث اس���تخدام المجسمات المتعددة األشكال واألحجام بما يميل إلى الجو التعليمي والدراس���ي
أكثر من الجماهيري ،كذلك يضم المعرض أكثر من شاشة عرض كبيرة يشاهد من خاللها الزوار مواد فيلمية وتليفزيونية ثالثي���ة األبعاد وعالي���ة التقنية تتطرق إلى :تاريخ الماء على الكرة األرضية و نسب االس���تهالك في مناطق متفرقة من العالم مثل بريطانيا واإلمارات وإثيوبيا والواليات المتحدة. وعل���ى الرغم م���ن الش���خصية العلمية للمع���رض فإنه يضرب بعمق في األبعاد الثقافي���ة للش���عوب س���واء بص���ورة مث�ل�ا في القس���م الذي مباش���رة تتضح ً يعرض عالق���ة الهنود بالم���اء واألنهار حيث ترتبط ديانات هندية باالغتس���ال واالنغماس في الماء في مناسبات دينية معينة ،أو اس���تجداء لرض���ا اآللهة مما يؤدي بطريقة ما إلى تلويث تلك األنهار وحرمان اآلخرين من االنتفاع بمياهها أو تتحول إلى ناق���ل لألمراض والملوثات. أما الص���ورة غير المباش���رة التي تبرز الجوان���ب الثقافية للم���اء في حياة األمم فترتبط بالجغرافيا ف���ي معظم األحيان ال في حياة حيث تتحكم اآلبار واألفالج مث ً أبناء الصحراء وأماكن اس���تقرارهم كما كان الحال في اإلمارات ومنطقة الخليج
بصف���ة عامة قديماً .كم���ا يبرز المعرض ال���دور الثقافي ف���ي حياة وش���خصية الش���عوب اآلس���يوية من خالل خرائط ومجسمات تعكس النشاط الزراعي الذي تتحكم فيه كمية ومنس���وب المسطحات ال المائية ف���ي تلك الب�ل�اد ،فنجدها مث ً تتجه إلى زراع���ة األرز الذي يأتي على قائمة األطعمة اآلس���يوية ،إضافة إلى أنواع من الخضراوات واألعش���اب التي تعرف بها هذا المناطق وأصبحت جزءًا من تكوينها الجسماني والثقافي. من جانب آخر وبالتوازي مع التقنيات الحديثة المستخدمة في المعرض يمكن للزائر أن يجد أشكا ًال ومجسمات أخرى غاية في العمق من حيث الرسالة .ومن بين هذه المجس���مات صندوق زجاجي مستطيل يمتلئ بعدد ضخم من زجاجات المي���اه الفارغ���ة تمثل حجم اس���تهالك المواطن األميركي للمياه بهدف الشرب، في إحالة على أزمة االستهالك العالمية التي تتجلى مظاهرها بصورة فادحة في الدول الرأسمالية الكبرى نظرًا لرفاهية الحياة وغلبة المواد المجهزة سلف ًا على الطبيعي���ة .في المقاب���ل وتحت عنوان «ال توجد قطرة واحدة للش���رب» يطلب الزوار أن يرفعوا مش���رفو المعرض من ّ أمر تقوم به وه���و وع���اء مليئ ًا بالماء، ً ٌ ماليي���ن النس���اء والفتيات ف���ي البلدان كل ي���وم .كما تظهر معروضات الجافّة َّ أخرى اآلنية القديمة والحبال المصنوعة من سعف النخيل و التي كانت تستخدم في مجتمعات الرعي البسيطة. واستكما ًال للرسالة التعليمية التحذيرية للمع���رض يجد األطف���ال واليافعون من الزوار ألعاب ًا مختلفة تناسب كل مرحلة عمرية تتحدث عن الماء في دول مختلفة وتطلب من المستخدم إدخال اسم دولته لكي ي���دور الحديث حوله���ا ،كما توجد ألعاب المكعبات التي يغرم بها الصغار ال عن المجس���مات الحيوانية كالدب فض ً األبيض وبيئت���ه الجليدية واألس���ماك الن���ادرة المه���ددة باالنق���راض بس���بب مشكالت البيئة المائية ،ويالحظ تطابق تل���ك المجس���مات بق���وة م���ع الصورة الحقيقي���ة للحيوان وهو يلعب دورًا في إبهار الزوار الصغار وتقبلهم.
9
دستور ثقافي للتخلص من المثقف الخامل القاهرة -سامي كمال الدين حركة «دس���تور ثقافي» بع���د ثورة 25 يناي���ر ..هل خ���رج المثق���ف الخامل من حظيرت���ه التي وضع فيه���ا أثناء عصر مبارك؟ كان ه���ذا ه���و الس���ؤال الذي أط���ل بعد تأس���يس ه���ذه الحركة ،الت���ي وضعت أسس��� ًا لها تتضم���ن الحري���ة والعدالة، وعمل إطار للحراك الثقافي مع السلطة والمثقفين والمؤسسات المختلفة ،يضم بن���ود الهوية وحرية التفكير ضمن مواد الدستور المصري. الحركة التي ساهم في تأسيسها الروائي حمدي الجزار والمخرج المس���رحي أحمد إس���ماعيل والش���اعر والمترج���م رفعت س�ل�ام والفن���ان التش���كيلي ع���ز الدين نجي���ب تطال���ب بصع���ود كل التي���ارات السياس���ية والفكري���ة لقي���ادة الب�ل�اد
رفعت سالم
حمدي الجزار
10
«قومية ،ماركسية ،س���لفية ،إخوانية، جهادية ،ليبرالية» لالنتقال عبر مشترك واح���د وهو الوط���ن الكبير الذي يتس���ع للجمي���ع ،و«يؤصل األص���ول ،ويضع حجر األس���اس لرؤية مش���تركة تتعلق بالثواب���ت الثقافية ،المؤسس���ة لحرية الوعي والثقاف���ة واإلبداع ،بال قمع ،بال تحجر أو أسالك شائكة ،بال وصاية أو ُّ اس���تالب ،وخاصة في ضوء حقيقتين موضوعيتين :أولهما ما ش���هدته الحياة الثقافية المصرية طوال السنوات الثالثين األخيرة م���ن قبل مثقفي���ن منتفعين من استمرارية وجود المسؤولين المجرمين على كراسي السلطة ،والثاني ما تشهده الحي���اة المصري���ة منذ قي���ام الثورة من صعود تيارات سياس���ية وفكرية تتبنى أطروح���ات ظالمي���ة قمعي���ة ،مض���ادة لحري���ة الثقاف���ة والعقل واإلب���داع ،بل لحرية اإلنسان ككل».
عز الدين نجيب
أحمد اسماعيل
الراوائي حمدي الجزار صرح لـ «الدوحة» ال في بأن المثقف المص���ري لم يكن خام ً أي وق���ت من األوقات س���واء بعد أو قبل أو أثن���اء ثورة 25يناي���ر ،لم يدخل كل المثقفي���ن إلى حظيرة فاروق حس���ني، والذي���ن دخلوا معروف���ون ،ومنتوجهم اإلبداع���ي ي���دل عل���ى م���ا قدم���وه ،كما أنن���ا يج���ب أن نضع في بالن���ا إغراءات المنصب ،والس���لطة ،ووض���ع المثقف االقتص���ادي واالجتماع���ي ،لكن المثقف المص���ري الحقيقي كان ص���وت الثقافة المصري���ة ،وكان صوت المقاومة بدليل الحركة الثقافية التي كانت موجودة قبل ثورة 25يناير والتي أعاد المثقف بعدها اكتش���اف ذات���ه ،وانضم فعلي��� ًا كأفراد وجماعات إلى ميدان التحرير ،ومازالوا يواصلون نضالهم. كم���ا طالب الج���زار المثقفين بالتمس���ك بأه���داف ومب���ادىء حرك���ة الدس���تور الثقافي حتى الرمق األخير من حياتهم، ألنه���ا كانت حلم ًا منذ رفاعة الطهطاوي، فال أحد يختلف على قيم الحرية والعدالة اإلنس���انية والقيم األساسية للمجتمع، فالمثقف في النهاية هو ضمير أمته. مصر تولد من جديد ،وهذا الميالد الجديد يحت���اج إلى عق���د اجتماع���ي جديد وقيم جديدة يجب أن نتمس���ك به���ا في الثقافة المصري���ة ،وه���ي القي���م الت���ي ناضل طوي�ل�ا ،فال يوجد المثقفون م���ن أجلها ً إبداع دون حرية ،نحن ضد كل أش���كال الرقاب���ة وكل أش���كال الوصاي���ة عل���ى المبدع ،مؤسس���ات الدولة ملك للشعب، والمثقف���ون جزء من الش���عب وجزء من آماله. على النقيض من ذل���ك يرى الناقد رضا عطي���ة أن الفكرة مثالي���ة وأنها طرحت قبل ذلك« ،وإذا أراد المثقف المصري أن يلعب دورًا حقيقي ًا في المجتمع المصري فعليه أن يهتم بتعديل التعليم وتأسيسه بالشكل الصحيح ألن التعليم هو النواة األساس���ية ألي ثقاف���ة حقيقي���ة ،وهو األح���ق باالنتباه له ألنه هو الذي يصنع المثقف الحقيق���ي ،وليس حركة تطالب بوضع مبادىء في الدس���تور المصري، فالمواطن غائب باألساس وال يدرك قيمة المثق���ف ودوره العظيم ف���ي مجتمعه، ولن يدرك ذلك إال إذا نش���أ تعليمي ًا على هذا األمر».
من أجل السيدة ال الثقافة!
يواج���ه مش���روع «مكتبة األس���رة» المصرية أزمة حادة بس���بب انس���حاب جميع الوزارات والهيئ���ات التي كانت تموله.
ميزاني���ة مكتب���ة األس���رة المعتمدة م���ن هيئ���ة الكت���اب كل ع���ام ثماني���ة ماليين جنيه ،كانت تصل إلى عشرين ملي���ون جني���ه ف���ي بع���ض األع���وام بفضل الجهات الداعم���ة وهي :جمعية الرعاي���ة المتكاملة المركزي���ة ،وزارة الثقافة ،وزارة اإلعالم ،وزارة التربية والتعلي���م ،وزارة اإلدارة المحلي���ة، وزارة الش���باب ..بل وهن���اك هيئات عربية وخليجية كانت ترس���ل ماليين الدوالرات كلها توقفت. الدكت���ور أحم���د مجاه���د -رئي���س الهيئ���ة المصرية العام���ة للكتاب أكد لـ «الدوح���ة» أن جميع الهيئ���ات الداعمة لمكتبة األس���رة توقفت بالفعل عن هذا الدع���م ،ولم يأت جني���ه واحد للمكتبة هذا العام من قبل أي جهة. ال تعن���ى ه���ذه الهيئ���ات بالمواطن المص���ري وبخل���ق مكان���ة ثقافي���ة له يستحقها أو بتثقيفه عبر الكتب المهمة الت���ي تصدره���ا مكتب���ة األس���رة .بل
يرى أصالن أن الفلس���فة األساسية لالختي���ارات جودة الكت���اب ثم تلبيته الحتياج القارئ الشغوف بالمعرفة. وعن الدعم الخارجي أضاف إبراهيم أصالن « :ال نعلم شيئ ًا عن هذا الدعم، خاص���ة دعم كتب األطفال ،حيث كانت تأتي ل���ه ماليين ال���دوالرات ،لكن كل هذه الماليين توقفت بعد سقوط نظام مبارك ورحيل «الهانم» لنكتشف نذالة م���ن نوع خ���اص تمارس ض���د القارئ المصري».
القاهرة -مكتب الدوحة
المش���روع ال���ذي تتبن���اه الهيئ���ة المصرية العامة للكتاب كان قد تأسس برعاية السيدة س���وزان مبارك قرينة الرئي���س المخلوع ،وكان���ت صورتها تتصدر الغالف األخير من كل كتاب مع كلمة تحمل توقيعها.
وكمال رمزي ،وطلعت الشايب ،وكان وحيد عبد المجيد ضمن اللجنة واعتذر النشغاله باالنتخابات.
ابراهيم أصالن
أحمد مجاهد
إرضاء السيدة األولى .نحن نعتمد على الميزانية األساسية للمشروع التي تبلغ ثمانية ماليين م���ن الجنيهات ،وحتى نس���تطيع توفير الدعم تم تكوين لجنة برئاسة الكاتب الكبير إبراهيم أصالن الختي���ار الكت���ب المناس���بة ،ونحن ال نتدخل على اإلطالق في اختيارات هذه اللجنة. إبراهيم أصالن رئيس لجنة اختيار النصوص اختار مجموعة لتعاونه في االختي���ارات وهم :د .أحمد ش���وقي، ود .أحم���د زكري���ا الش���لق ،ود .محمد بدوي ،وعبلة الرويني ،وعالء خالد،
الناشر محمد هاشم يذكرنا بأن بداية أن���س الفقي -وزير اإلعالم الس���ابق- غايتها الحقيقية كانت من خالل مكتبة األس���رة ،حين سعى لتأس���يس كيان وهمي اس���مه المجمع الثقافي المصري لطباعة األعمال الكاملة لكبار الكتاب، وقد بدأ باالس���تيالء عل���ى هذه األموال ه���و وس���وزان مبارك ،وال أس���تطيع عراب توزيع انتقاد س���مير س���رحان ّ غنائم س���وزان مبارك من دم الش���عب المصري لرحيله. تم تمويل المش���روع في البداية من الموازن���ة العامة للدولة ،ومن الجهات الداعمة التي اس���تولوا على الدعم الذي كانت تقدمه ،ولك���م أتمنى من الدكتور أحم���د مجاه���د أن يط���رح عل���ى الرأي الع���ام أوراق تلك المرحل���ة المفصلية الس���ابقة للثورة مباشرة من محاوالت تصعيد دور نشر تافهة وإغداق األموال عل���ى أماكن ليس لها أي دور ثقافي أو سياس���ي مميز ،أو مختل���ف بل ومنع الدع���م عن أي دار نش���ر تص���در كتاب ًا يحمل انتقادًا لنظام مبارك. وأطالب الدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة الحالي بالكش���ف ع���ن الميزانية الخاصة بمكتبة األس���رة وأسماء دور النشر واألموال التي كانوا يتقاضونها ليتم تطهير الثقافة كي تخطو خطوات جديدة بعد ثورة قامت في مصر لتمحو القديم وتبدأ ربيع ًا جديداً. 11
ميديا
هل نثق بالويكيبيديا؟ جهاد صعيليك م���ا حصل في بداية ديس���مبر أثار قلق الكثيرين بالنسبة لمساحة المصداقية في أكبر موس���وعة مفتوحة عل���ى اإلنترنت، وه���ي الويكيبيدي���ا ،خاص���ة أنه���ا ف���ي األص���ل عرض���ة لكثي���ر من التس���اؤالت ح���ول محتوياته���ا وم���دى موضوعيتها وسالمتها من حيث المعلومات والحقائق واالستنتاجات. كانت هذه الموس���وعة قد تأسست في 2001عل���ى أنقاض مش���روع النيوبيديا ال���ذي أراد له مؤسس���ها جيم���ي ويلز أن تكون موس���وعة علمية رصينة ،مجانية يكتبه���ا المتخصص���ون ،لكن���ه ل���م يلق تجاوب���اً ،فانتق���ل إل���ى الويكيبيديا التي يكتبه���ا كل الناس .ونظريت���ه التي بنى عليه���ا ه���ذه الفكرة مش���تقة م���ن إحدى نظري���ات االقتصادي األلمان���ي فريدريك هايك ،وتفت���رض أن وجود كل هذا العدد
12
من الناس الذين يمكنه���م تحرير وتنقيح م���ادة معرفية ه���و الضمانة لس�ل�امة ما ف���ي هذه الم���ادة من معلوم���ات وحقائق واستنتاجات. لكن التطبيق خ���ذل الرجل في جوانب ش���تى ،آخرها ما حصل أوائل ديس���مبر حين اتضح أن شركة عالقات عامة كانت ف���ي الواق���ع تتدخ���ل على نطاق واس���ع لتعدي���ل معلومات وأرقام في مقاالت ذات صفة معرفية عامة .فالممارس سابق ًا أن هذه الشركات كانت تتدخل في المواد ذات الصفة التجارية ،مثل توصيف س���يارة، أما في المع���ارف العامة فهن���ا الفضيحة التي ال تغتفر. وما س���مح به���ذا كل���ه ه���و الطبيعة المفتوحة للويكيبيديا التي تسمح لكل من أراد أن يسجل نفسه ثم يكتب أو يعدل ما شاء (وبالطبع فغيره يستطيع تعديل ما يكتب) .وعلى نجاعة النظرية المؤسس���ة له���ذا الوض���ع ،إال أن التطبي���ق ش���ابته درجة من الفوضوية ،وخاصة في اللغة اإلنكليزي���ة ،حي���ث إن عدد م���ن يقومون بالتنقيح (أي مراجعة دقة وسالمة المادة التي تنش���ر) هم في الواقع أقل بكثير من النسبة التي كان ويلز يأمل أن تؤدي إلى التصحيح التلقائي للمعارف .هذا بالطبع عدا عن حقيق���ة أن من يكتبون وينقحون هم في الغالب غير متخصصين. لك���ن أين يقف القارئ من هذا كله؟ بعد ش���كاوى تك���ررت اضط���رت الويكيبيديا إلى اتخاذ ثالثة اجراءات أساسية لضخ المزيد م���ن الصدقية .اإلج���راء األول هو توثيق كام���ل المعلومات الواردة في كل مقال���ة ،لذل���ك تجد بعد كل مق���ال قائمة بالمص���ادر وروابط تل���ك المصادر عل���ى اإلنترن���ت .واإلجراء الثان���ي ه���و توفير نوع م���ن القوال���ب الجاهزة للشكل الذي ينبغي أن تك���ون علي���ه المقاالت
بمواضيعها ،مثل س���يرة حياة ش���اعر، وما ه���ي المعلوم���ات الت���ي يفترض أن تحتويها. أما اإلجراء الثالث فيتمثل في استخدام مؤش���ر لوني حس���ب المصداقية العددية لكل كاتب وعدد التنقيحات التي تمت على المقالة ،وبالتالي فهو يقيس الصدقية كمي ًا ويفس���رها نوعياً ،ما يعيدن���ا إلى نظرية الويكيبيديا التي تفترض أنه كلما زاد عدد التنقيحات زادت مصداقية المقالة. بالنس���بة للويكيبيديا العربية ،ورثنا فيها مجمل مشاكل الويكيبيديا األساسية، لكننا نضي���ف إليها حقيقة الغياب ش���به الكام���ل لعملي���ة التنقيح إال ف���ي أضيق الحدود وفي مجال اإلضافة ال التصحيح، لذلك ف���إن الغالبية العظم���ى من مقاالت الويكيبيدي���ا العربية تعرض في صيغتها األول���ى دون مراجع���ة .لكن ه���ذا ال ينكر مناف���ع توافر كل ه���ذه الم���واد المعرفية باللغة العربية على اتس���اع ه���ذه العمل الموسوعي الجبار. وهنال���ك نقطة مقلقة تس���تحق المزيد من الجه���د ،فالويكيبيديا العربية ليس���ت بالضرورة ترجمة مباش���رة لإلنكليزية، ال باإلنكليزية وما ق���د تقرأه عن القدس مث ً لي���س بالض���رورة مش���ابه ًا لم���ا كت���ب بالعربية ،لذلك من المهم أن تكون هنالك جهود مكثفة لتقدي���م المحتويات والمواد المعرفي���ة الخاصة بالعرب والمس���لمين وقضاياهم باللغات األخرى بشكل يتواءم مع احتياجاتنا جميع���اً ،بد ًال من االكتفاء بتقديمها بالعربية فقط. وفي المنظور العام لصدقية محتويات الموس���وعة المفتوحة األكبر على الشبكة يسعنا هنا القول إن التقييم األساسي ألي مادة ينبغ���ي أن يقوم على المنطق العام أي تقييم المادة بذاتها ،بد ًال من التس���ليم بصدقيتها ال لش���يء إال ألنها نش���رت على الويكيبيديا. لكن النصيح���ة الدائمة واألبرز ،والتي يشترك فيها مؤس���س الويكيبيديا جيمي ويل���ز وخصومه���ا ،مث���ل هيئ���ة تحرير الموسوعة البريطانية ،تقول :ال تعتمد، أب���داً ،عل���ى الويكيبيدي���ا كمص���در وحيد للمعلومات!.
الجيش اليمني اإللكتروني صنعاء -جمال جبران هناك ،في اليمن ثورة يقودها شباب ُعّزل في بلد غارق في غابة من السالح، بشكل سلمي منذ بداية العام الماضي .لكن بالتوازي هن���اك مواجهة أخرى يقودها عدد من ش���باب هذه الثورة على الفضاء االلكتروني تتلخص مهمتهم في الدفاع عن صورة شباب الثورة التي تحاول جهات رسمية تشويهها وتقديمها بشكل مسيء ومغاير للحقيقة .فم���ن المعلوم أن لدى أجهزة األمن اليمنية ُشعبات متخصصة في الجانب االلكتروني وكل ما له عالقة باإلنترن���ت ،مهمته���ا اخت���راق مواق���ع الصحف االلكترونية لألحزاب المعارضة واختراق البريد االلكتروني الش���خصي الخ���اص بالصحافيين وبالش���خصيات المعارضة للنظ���ام .ومع بداية اليمني���ة ُ ثورة الش���باب انتقلت العناصر العاملة الش���عب لمهمة إنش���اء صفحات في تلك ُ على فضاء الفيس���بوك لتمجيد ش���خص الرئيس علي عب���د اهلل صالح بالتوازي
مع إنشاء صفحات أخرى مهمتها تشويه صورة شباب الثورة .وهو ما دفع عدد من شباب هذه الثورة إلنشاء صفحة على الفيس���بوك أطلقوا عليها اس���م «الجيش اليمني االلكتروني» وكتبوا على واجهتها ما يشبه طلب ًا لزمالئهم «دقائق معدودة من وقتك عل���ى الفيس���بوك لنقاتل مع ًا ضد بالطجة الفيسبوك .انضم للصفحة ه���ذه لمهاجم���ة صفح���ات البالطج���ة والمرتزق���ة وإغالقها ،س���ننظم هجمات منظمة ف���ي وقت واحد من قبل عدد كبير من الثوار عبر الفيسبوك إلغالقها وحظر مستخدميها نهائياً». وتترك���ز آلي���ة عم���ل الصفح���ة التي وص���ل عدد معجبيها إل���ى نحو 14400 مش���ترك على تحديد س���اعة معينة من ط���رف القائمي���ن عل���ى إدارة الصفح���ة لتركيز هجوم المش���تركين على صفحة «معادي���ة» ،وم���ن خ�ل�ال ه���ذا الدخول المكثف في توقي���ت واحد يحدث تعطيل لتلك الصفحة المستهدفة ،إضافة إلرسال شكاوى إلدارة الفيسبوك بخصوصها ما
يؤدي الحقا إلغالقها. وعل���ى الرغم من أن هؤالء الش���باب قد حددوا نش���اطهم بش���كل مسبق على مساحة الفيسبوك إال أن ذلك لم يمنعهم من توس���يع نشاطهم ليش���مل فضاء الـ «يوتيوب» حي���ث أعل���ن القائمون على «الجيش االلكتروني اليمني» أنه «يؤلمنا كثوار أن نرى مقاطع الفيديو المس���يئة ّ لن���ا ،ولذا نرجو م���ن الجميع أن يجهزوا أنفس���هم لحملة تنظيف ذلك الموقع من األشرطة المسيئة لنا».
حكومة الـ «فلوبي ديسك» حي���ن رش���ح المجل���س العس���كري د. كم���ال الجنـ���زوري ( )1933لرئاس���ة مجلس ال���وزراء المصري بعد س���حق ق���وات األم���ن المركزي للث���وار في ش���ارع محمد محم���ود ،لم يكن ال من المناس���ب اعتباره رج ً للمرحل���ة االنتقالي���ة ،ال لرئاس���ة ال���وزارة، ل���ذا كان متوقع��� ًا أال يقدم ش���يئ ًا يذك���ر ،وأال تبقى ذكرى
لوزارته« .تويتر» كان حاضرًا بسخرية جامحة خارج الحدود منه ومن وزارته: «ق���رر الدكتور كمال الجنـزوري االعتذار عن الوزارة ألنه كلما يس���أل عن وزير لترشيحه يكتشف أنه مات». «بيقول���وا إن مرتضى منصور ماس���ك على الناس كلها سي دي إال الجنـزوري ماسك عليه فلوبي دسك. لم���اذا اإلص���رار على أن يك���ون رئيس الحكومة الجديدة رئيس مستعمل؟! الجنـ���زوري لمستش���اره :نعي���ن كمال الش���اذلي لش���ؤون مجل���س الش���عب
والشورى المجلسين اتحلوا يا فندم خالص يمسك الزراعة بس ده مات يا فندم.كم���ال الجنـزوري :ش���اء الق���در أرجع لمنصبي بعد مرور 10سنوات. كمال الجن���زوري جاي يصل���ح جنزير عجل���ة اإلنت���اج ..زعالنين من���ه ليه يا جماعة. كم���ال الجنـزوري اختار حس���ن األلفي للداخلية ولما عرف أنه مات بيدور على زكي بدر ..محدش يقول له إنه مات».
13
ميديا
قفطان لطيفة أحرار لطيفة أحرار ممثلة مغربية من مواليد سنة 1971تخرجت في المعهد العالي للفنون المس���رحية ع���ام ،1994لها مشاركات في عدد من األفالم واألعمال المسرحية ،حضورها في التليفزيون لف���ت نظر الجمه���ور إليه���ا من خالل أدوارها الجريئة. «مع��� ًا ضد ج���رأة لطيفة أح���رار على المسرح» صفحة كانت قد أنشئت على الفيس���بوك بعدما ظه���رت الممثلة في عرض مس���رحي ف���ردي «كفر ناعوم» المقتبس���ة من ديوان رصيف القيامة للش���اعر ومق���دم برنامج «مش���ارف» ياس���ين عدنان ،حيث يبرز فيه جسد لطيفة أحرار في دور مثير بشكل غير مس���بوق في المس���رح المغربي .وقد أث���ار عرضها جد ًال واس���ع ًا في مواقع التواص���ل االجتماع���ي واليوتي���وب حينه���ا ،كم���ا تطرق���ت ل���ه الصحافة االلكتروني���ة بش���كل ملفت ،م���ا بين مندد بخرجتها الجس���دية التي وصفت بـ «س���تريبتيز» مجاني بال قيمة فنية ومس���رحية ،ومدافع ع���ن حرية الفن
والتعبير. م���ن جدي���د ،وف���ي ضج���ة إعالمي���ة جدي���دة ،وقفت الممثل���ة لطيفة أحرار في مهرجان مراكش السينمائي األخير عل���ى الس���جاد األحمر أمام عدس���ات المصورين مرتدي���ة القفطان المغربي (الص���ورة) وهي تكش���ف أج���زاء من ساقيها مما أثار ردود فعل كثيرة على الفيس���بوك والتويتر وف���ي تعليقات المواقع اإلخبارية التي نقلت المشهد، خاص���ة أن «قفط���ان لطيف���ة أح���رار المحلول» نس���بة إلى أغني���ة مغربية شعبية «قفطانك محلول يا اللة» ،وهو العنوان الذي استعمله موقع «كيفاش الس���اخر» في نقل���ه للخب���ر ،يتزامن م���ع صعود ح���زب العدال���ة والتنمية اإلس�ل�امي إلى رئاس���ة الحكومة في االنتخاب���ات التش���ريعية األخي���رة، وكان بنكيران رئيس الحكومة المعين مؤخ���رًا قد طلب لها الهداية معلق ًا على عرضها السابق «كفر ناعوم». من التعليقات الت���ي رافقت هذا الخبر في المواق���ع اإلخبارية والتويتر« :ها
ناري تس���تري داب���ا ديري لينا ش���ي مش���كل مع بنكيران»« .أحياني عليك آ لطيفة ،واش بغيتي تفيقي لينا السي عب���د اإلله؟»« ،حرب لطيف���ة وبنكيران اندلعت على ما يبدو ،غير اهلل يدير اللي فيه الخير ،ولكن على ما يبدو بنكيران ما مس���اليش لهاد الشي دابا»« .قفطان لطيفة أحرار محلول ..بنكيران باقي ما قال بسم اهلل».
وحجاب توكل كرمان كان���ت ت���وكل كرمان هي بطل���ة الكثير م���ن فيديوهات اليوتيوب خالل ش���هر ديسمبر ،بعد أن انتشرت على الشبكات االجتماعي���ة مش���اهد لها وهي تتس���لم جائ���زة نوبل ،والخطب���ة التي ألقتها، وتصريحاته���ا للصحافيين على فوزها بالجائ���زة كأول ام���رأة عربية تحصل عليها .وقد اختلفت التعليقات على هذه التصريحات والمشاهد: «عم���اد أمي���ن المغربي :ت���وكل كرمان س���ألها الصحافي���ون مس���تغربينإن لباس���ها ال يعك���س م���دى ثقافته���ا ودراس���تها ظن ًا منه���م أن الحجاب رمز 14
تخلف ورجعية ،فأجابتهم بكل بساطة وذكاء :إن اإلنسان في العصور األولى كان ش���به عار ومع تط���ور فكره عبر الزمن بدأ يرت���دي الثياب وما أنا عليه اليوم وما أرتديه هو قمة الفكر والرقي الذي وصل إليه اإلنسان عبر العصور ولي���س تخلفاً ،أما الع���ري فهو عالمة التخل���ف والرجوع بفكر اإلنس���ان إلى العصور األولى»، أما ملكة بدر فكتب���ت تقول :هي توكل كرمان -اهلل يعمر بيتها -ما قالتش أي حاجة تثير االهتمام في حفل تسليمها نوبل غير الحجاب وأهميته؟! هي توكل
كرمان -اللي عقلها يوزن بلد -ما كنش في نجاحها في ثورة اليمن وحصولها على نوبل للس�ل�ام كأول امرأة عربية ما يهم سوى كونها محجبة؟
هاشتاج « »#Egyptومقتل بن الدن يتصدران الشبكات االجتماعية كش���ف موقع تويتر مؤخرًا عن أش���هر الموضوع���ات والكلم���ات المتداول���ة على الموقع فيما يعرف بـ «الهاش���تاج »Hashtagبين المس���تخدمين ،وأنشأ الموقع صفحة خاصة تحمل اسم«Year »in Reviewتضم أشهر الموضوعات ف���ي مختل���ف التصنيفات بي���ن األخبار العالمي���ة ،األف�ل�ام ،الموس���يقى ،كرة الق���دم ،التقني���ات وغيره���ا .واحت���ل هاشتاج « »#Egyptالصدارة هذا العام حيث دارت العديد من األحداث والوقائع المضاف إليها هذا االسم ،واحتل المركز
الثامن هاشتاج «.»# Jan25 ومن بين أهم الموضوعات في تصنيف تنحي األخبار العالمية عل���ى الترتيبّ : مبارك ،مقتل بن الدن ،زلزال اليابان، ومفاعل فوكوش���يما الن���ووي ،ومقتل القذاف���ي .وفي تصني���ف التقنيات جاء متجر الماك آب س���تور ف���ي المقدمة، ومتصفح فايرفوكس في المركز الرابع، واآليباد في المركز السادس ثم اآليفون في المركز السابع. كم���ا ق���ام الفيس���بوك عل���ى مدونت���ه الخاصة بنش���ر أكثر المواضيع شعبية
غردت فبكاها اآلالف سامية بكري انتهت معاناة الفتاة السعودية ريما نواوي ( 28عاماً) مع سرطان الرئ���ة بوفاته���ا ديس���مبر الفائت م���ن 2011بع���د مقاومتها المرض الخبيث لفترة طويلة بنشرها األمل بي���ن مرضى الس���رطان في العالم العربي م���ن خ�ل�ال تغريداتها في تويتر .وكان���ت آخر تغري���دة لها بتاريخ 19نوفمبر/تشرين الثاني قال���ت فيه���ا« :ادعيلي ..جس���مي ونفس���ي بيكتمني على تنافضَ .. هرجة رحلتي». نش���طت العدي���د م���ن الحمالت على مواقع التواص���ل االجتماعي فيس���بوك وتويتر لمساندتها ،كان أهمه���ا حمل���ة (كلنا نحب���ك) التي س���عت لتقدي���م الدع���م المعن���وي لريما م���ن خالل رس���ائل وكلمات األصدق���اء ..وردت ريما على هذه
لس���نة ،2011حيث حاز خبر مقتل بن الدن على المركز األول بمعدل يناهز 10 في المئة من جمي���ع التحديثات باللغة اإلنكليزي���ة تناقل���ت خب���ر مقتل���ه .أما المرتبة الثاني���ة فكانت لخبر فوز فريق «جرين باي بالس���وبر ب���ول» والثالثة لخبر محاكمة كاس���ي انتون���ي ،المرأة األميركية التي اتهم���ت بقتل ابنتها .أما حادثة وفاة س���تيف جوب���ز فقد حازت على المرتبة الخامسة .وتال ذلك أحداث العمليات العس���كرية في ليبيا وإعصار إيرين.
الحمالت بكلماتها« :لم أكن أش���عر أن تويتر ،س���يجعل بي���ن القلوب يربط هذه العاطفة العميق���ة ..أن َ بين القل���وب ،كأنّها قل���ب واحد.. أتخيل أن رحيل أحدهم -ولو ول���م ّ الجميع لدى خلف سي ً- ا متوقع كان ُ ِ ُ الجس���د كلّه وأن جرح��� ًا غائ���راًّ ، َ سينتفض لهذا الفقد». عندما رحلت ريما ليلة الخميس في العاشرة وخمسين دقيقة بكاها اآلالف من مسانديها في رحلة تحدي المرض ..يقول أحد المشاركين في الصفحة« :وجدتن���ي مع الباكين، إنس���انة عادية.. ألنّه���ا ل���م تك���ن ً كافحون كان���ت من أولئك الذي���ن ُي َ ويمش���ون على ألمهِم في حياتهم، َ المرض لم إن ليعلم���وا اآلخري���نّ ، َ أن خبرنا، لت ّ يكن يوم ًا عائق ًا ألحدُ .. ُ ِ تس���تح ُق أن نعيشها ،ولو حياتنا حس���اب أوجاعن���ا ،وآالمنا، على ِ ٍ فتسع س���نوات من المرض ،كانت ُ ِ تس���تح ّق مغامرة ف���ي حس���ابها، ً وس ّجلت». التسجيلُ ، 15
مئوية محفوظية شهدت طقوس االحتفال بمئوية األديب العالم���ي نجيب محفوظ ه���ذا العام مع تط���ور مواق���ع التواص���ل االجتماع���ي فيسبوك وتويتر احتفاء واسع ًا بذكرى مولده ،كانت هذه هي مالمح االحتفالية االلكترونية الش���بابية كما رصدتها عدة صحف ومواقع إلكترونية. انتش���رت الدعوات إلع���ادة قراءة أعمال نجي���ب محف���وظ ،وتب���ادل مقاطع من كتبه كان من أبرزها ،التي ش���ارك فيها الم���دون أمير زك���ي« :بالح���زن يتقدس اإلنسان ويعّد نفسه للفرح اإللهي» ،من رواية «حضرة المحترم». وتجل���ى االحتفاء بمحف���وظ على موقع فيس���بوك ،في اكتساء صور الصفحات الش���خصية لألعض���اء بص���ور نجي���ب محفوظ وشعارات مئويته. أم���ا عل���ى موقع تويت���ر ،فب���دأ ممدوح صالح -أحد المش���اركين -في مش���اركة
بعض مقاطع من رواية محفوظ «ليالي ألف ليل���ة» ،وانتقد ف���ي تغريدة أخرى اتهام محفوظ بالفسق والرذيلة؛ قائالً: «آخ���ر عالقة من يقول ذلك بأدب نجيب محفوظ هو االس���تمتاع بمشهد اغتصاب سعاد حسني في فيلم الكرنك». ومن بين المقاطع التي تداولها النشطاء م���ن كت���ب محف���وظ« :ها ه���ي ثكناتهم تش���رف على الميدان ..الراي���ة اللعينة ترفرف ..الديدبان تمثال ال يرى ش���يئاً،
أعراض الديكتاتورية في صفحتها على الفيس���بوك نشرت الكاتبة الس���ودانية ميسون النجومي ه���ذا المق���ال المترج���م ع���ن موق���ع بعن���وان sudaneseoptimist «خمس عالم���ات تقول إن ديكتاتورك
16
ال يحبك» ،ومنها: إنه يخونك مع دولة أخرى:ضبطته يرسل هدايا ثمينة بقيمة ميتين أل���ف راس مثالً ،إلى دولة مزة س���اكنة جمبك كنت تشك دوم ًا في إعجابه بيها. عمره ما استمع ليك:عم���ره م���ا كان موجود رغ���م احتياجك ليه (ولو إنو ما عندو حتة يمش���ي ليها بع���د ما أوكامبو عصره وحصره) يعني مفروض يكون وقته كله ليك .لكن دا ما بيحصل ،عمره ما أخد رأيك في أي قرار مصيري أو تافه بيخص مستقبلك.. مخبي فلوسو منك:إنتو على عالقة ليكم أكثر من عش���رين س���نة ،ومع ذل���ك فاتح حس���اب بنكي
لم تقض وس���لطانكم على الثورة»؛ من رواية «بين القصرين». والساخرون أيض ًا تناولوا الحدث فكتب سامح سمير على صفحته: «ك���م كنت أتمنى أن يمت���د العمر بنجيب محف���وظ إلى اليوم ليش���هد بنفس���ه كم اليزال حاضرًا بفك���ره وفنه في أذهاننا ووجداننا جميع��� ًا رغم مرور أكثر من 5 سنوات على وفاته».
منفصل في الخارج ،ومش مس���موح لي���ك تعرف اللي فيه أو حتى تس���أل عنه.. بيعتدي عليك لفظي ًا وجسدياً:باألول احتمل���ت إس���اءاته اللفظية، ألنك حس���يت ساعتها إنو بينفس عن غضبو تجاه آخري���ن ،وأحيان ًا كنت بتحس إن���و بيحاول يحميك .لما قال لن���اس تانيين إنهم «تح���ت مركوبو» ش���كيت في المنو المقصود بالضبط، لك���ن ق���ررت تجللي الموض���وع .ثم تط���ور األمر وبدأ يس���يء ليك لفظي ًا ويقول ليك «الحس كوعك». إذا ديكتاتورك أبدى أي ًا من العالمات الف���وق أو عدد منه���ا .آن األوان إنك تفك���و عك���س اله���وا وتش���وف ليك ش���خص تاني يحبك ..أنت تس���تحق ذلك.
ضحك وهزل على الطريقة المغربية
حول ردود فعل المغاربة على الشبكات االجتماعية إثر فوز حزب العدالة والتنمية في االنتخابات التشريعية األخيرة ،نقل الم���دون المغربي جمال الخنوس���ي في تدوينة يرصد فيها ما تناقلته مجموعات فيسبوكية حول هذا الفوز ،مثل صفحة تحمل اس���م «ضد التحالف مع بيجيدي»
وأخرى تحمل اسم «ضد بيجيدي» .حيث جاءت تعليقات م���ن منخرطي الصفحة تعك���س بش���كل س���اخر التخوف���ات من التحول إل���ى «مجتمع متزمت ومنغلق»، وكتب أح���د «نش���طاء» فيس���بوك خبرًا ال مف���اده أن «ش���ركة جيليت تعلن عاج ً نيتها االنس���حاب من المغرب إن تأكدت األنب���اء حول فوز العدالة والتنمية»! في إش���ارة على إرخاء اللحى الذي سيغدو موضة الغد .وكتب���ت صحافية معروفة على صفحتها التي تتميز بمتابعة كبيرة، أن «شركة براس���ري المغرب (المصنعة للخمور بالمغرب) تقدم تخفيضات كبيرة عل���ى منتوجاته���ا قبل أن تغي���ر طبيعة نش���اطها!» .وورد في الصفحة ذاتها أن «ش���ركة اتصاالت المغرب قررت تغيير رسالتها الصوتية بـ (األخ الذي تطلبونه
نصائح للرئيس وما يطلبه المستمعون! فع�ل�ا أن الس���خرية الج���ادة، يب���دو ً وهي فن على كل ح���ال ،أولى بركات الحرية .من موقف رس���مي إلى آخر، ومن تصريح إلى خ���روج إعالمي ،ال يتوقف الكاريكاتير اللغوي عند شباب الفيس���بوك .في مص���ر ،وبعد صعود األح���زاب الديني���ة ف���ي أول���ى مراحل االنتخابات التشريعية ،لم يمر الحدث دون أن يسجل ردود أفعال طريفة لدى الش���باب عبر صفحاته���م .وقد تداولت تقاري���ر الميدي���ا بش���كل واس���ع هذه الردود ،ومما جاء فيها: لوحة الموناليزا في مصر ألبسها شباب الفيس���بوك حجاب��� ًا ش���رعياً .والرقم ستة باإلنكليزي س���يتم حذفه بدعوى أن كلمة «س���كس» مثي���رة «للفتنة!». أقوى كلمات الس���ب في مصر ستصبح «ثكلتك أمك». حرفها األف�ل�ام المصري���ة المعروف���ة ّ
الظرف���اء الفيس���بوكيون فجعل���وا فيل���م «ج���واز بق���رار جمهوري» يحم���ل عنوان «ن���كاح بق���رار جمه���وري» ،و«همام في أمستردام» ،يحمل «همام في قندهار».. ومثل ذل���ك في األغاني ،ص���ارت أغنية كاظم الس���اهر «قولي أحبك» إلى «قولي أحبك (ف���ي اهلل) ك���ي تزيد وس���امتي»، وعمرو دياب س���يغني ف���ي توزيع جديد «من كم سنة وأنا إخوان إخوان» ،و«كان عندك دقن» ،و«ياريت لبسك يزيد مترين عشان لبسك كدة قصير» .وإيهاب توفيق س���يغني « ش���يخ الحلوي���ن» ،و«إكمني إخوان���ي» .وش���يرين «مش���ربتش م���ن زمزم».. االنتخابات الرئاسية المرتقبة في يونيو/ حزيران القادم ،لم تسلم هي األخرى من الش���غب اللغوي المصري .وه���ذه المرة بش���روط ونصائح فيس���بوكية للرئيس المصري المنتظر:
إم���ا ف���ي الص�ل�اة أو في جلس���ة الذكر، المرجو معاودة االتصال بإذن اهلل». وفك���ر آخرون في «أن الذهاب إلى العلب الليلي���ة (الس���رية) س���يتحول م���ن ليلة الس���بت إلى ليلة الخميس بس���بب تغيير موعد (الويكاند) من الس���بت واألحد إلى الخميس والجمعة». وعب���ر أحده���م ع���ن تفاؤله وس���عادته بف���وز العدال���ة والتنمي���ة ألن «الكريدي حرام» وس���يتم قريب ًا إلغاء جميع ديون المغاربة .فيما أعل���ن آخر عن التغيرات المرتقب���ة ف���ي قواعد م���ادة الرياضيات في عهد العدالة والتنمية« :المس���تقيمان المتوازي���ان ال يلتقيان ب���إذن اهلل ،فإذا التقي���ا فال ح���ول وال قوة إال ب���اهلل ،أما حس���اب االحتماالت فحرام في حرام ألن الغيب ال يعلمه إال اهلل».
يك���ون بيتكلم وبيفه���م إنكليزي منغير ما يطرطق ودانه. يكون عارف إنن���ا انتخبناه هو مشهو ومراته وابنه وجوز خالته وعمه. يك���ون متواض���ع ج���داااا ،بس مشلدرجة إنه يقعد في خيمة زي القذافي. مايكونش عمل أي ضربات جوية والأرضية وال فضائية ،يذل أهلنا بيها. م���ا يعطل���ش المرور عش���ان يروحمش���وار ،عايز يوصل بس���رعة يركب طيارة. مايكون���ش راع���ي الرياض���ةوالرياضيي���ن وال الثقافة وال المثقفين وال الفن وال الفنانين ،ويس���يب الناس دي في حالها. م���ا يضحكش علينا وي���روح يفتتحنفس المكان عشرين مرة. يبطل كلمة نشجب وندين. مايكون���ش بيصل���ي العي���د قب���ل مايبدأ وتنزل صورت���ه وهو بيصلي في األهرام يوم الوقفة.
17
لقاء
خوان جويتيسولو
ذكرى شيشانية قررت الس����فر إل����ى القوقاز ف����ي يوليو/تموز 1996 ُ كمراس����ل لجريدة الباييس لتغطي����ة أحداث الحرب التي ���كر بهيجة داخل الكرملين ،بوريس أعلنها ،في ليلة ُس� ْ يلتس����ين ووزير دفاعه بافل غراتشيف في الحادي عشر من ديسمبر/كانون األول ،1994بهدف «استعادة الحكم الدستوري» وتطهير الفيدرالية الروسية من «العصابات الشيش����انية» ..غير أن س����فري لم يك����ن ألني صحافي بسيط .لقد كانت الشيش����ان ،المتمردة والعصية ،جزءًا م����ن عالمي األدبي واألخالقي بفض����ل قراءتي المنتظمة ألغلب األدب الروسي في القرن التاسع عشر :بوشكين، ليرمونت����وف ،وفوق كل ش����يء رواية ليو تولس����توي «الحاج مراد» التي ُنش����رت بعد موت����ه ،وكانت ممنوعة بأيدي الرقابة القيصرية. قصة رحلة بوش����كين من القوقاز شما ًال إلى كارس، والقصي����دة الجميلة التي ال يمكن أن أنس����اها للش����اعر ليرمونت����وف التي يلع����ن فيها القيص����ر والوطن ألنهما أرس��ل�اه إلى القوقاز لقت����ل أهل الشيش����ان ،كلها كانت دليل����ي الروح����ي لهذا الس����فر لبلد دمرته ح����رب جديدة تستدعي الرعب الذي كانت ضحيته على طول التاريخ. وسمحت لي مشاهدة قوات يلتسين العسكرية ،في نفس األماكن التي وصفها الروائي الروس����ي العظيم ،والتي تشبه قوات القوزاق الخاصة بالقيصر ضد مريدي اإلمام ش����اميل منذ ما يق����رب من قرن ونصف قب��ل�اً ،أن ألتقط بعم����ق بطولية جلد الشيش����انيين الذين لم يستس����لموا لسيطرة موسكو الوحش����ية وال لقياصرتها القدامى وال الجدد. ومنذ ذلك الحين لم تفارقني صورة الش����وك القصير عل����ى قارعة الطريق ،ش����وك ينم����و بقوة ،اس����تلهمه تولس����توي كرم����ز لقوة ومقاومة ش����عب يتج����اوز عدد أرواحه المليون بقليل ،وكانت إحدى الخيوط الرئيسية في روايتي «س����تارة الف����م» ( ،)2003كما كانت قصيدة 18
ليرمونتوف المش����ار إليها سلف ًا نقطة االنطالق لتناولي «دن خوليان» «تدمير إس����بانيا المقدس����ة» ف����ي رواي����ة ُ ( .)1970هكذا صارت الشيشان ،من خالل سبل وطرق خفية كنفق سري ،جزءًا من أعمالي. ل����م تتوق����ف الحرب عل����ى اإلم����ام ش����اميل ومريديه م����ن الجماع����ات الصوفي����ة القوقازية ،والتي عايش����ها ُكّت����اب روس ،بانتص����ار القياصرة ونفي ش����اميل إلى اإلمبراطورية العثمانية .إذ عند عودته من الحج بمكة، تولى القيادة الحاج المرش����د قدي����ري كانتا .فنهضت من جديد الشيش����ان وإنجوشيا وداجيس����تان باسم الحرية واإلس��ل�ام ،ونجم عن قم����ع القوقازيين آالف الضحايا. حينها ُنفي الحاج كانتا في سيبيريا ،حتى وفاته.
في عمله الساطع عن نفس الموضوع «الغزو الروسي للقوقاز» اس����تعرض جيه إي بيديلي المراحل المختلفة للحرب عل����ى الجماعات اإلس��ل�امية منذ الق����رن الثامن عش����ر حتى نيكوالس الثاني ،ويمكن للقارئ أن يرجع إليه .بالنس����بة للفترة التالية ،سيجد المهتم بالموضوع بيبليوجرافيا دقيقة حول فترة الثورة البلشفية ووعود نفذ فيما يخص الش����عوب المس����لمة، ليني����ن التي ل����م ُت َ وصورة السلطان جاليف التراجيدية ،واإلبادة الوحشية بي����د س����تالين للـ «عصاب����ات» ،وتهجير مجمل الش����عب الشيشاني إلى سيبيريا في عام .1945
ومن بي����ن األعمال األخ����رى التي تتن����اول القضية، أعمال هيلين كاريير دي إنكوز( )l impire eclateوعمل أليكس����اندر بينينج����زي (،)les musulmans oublies وحديث ًا كتاب «الشيشان» لتوني وورد ،كذلك صفحات «أرخبي����ل جوالج» لس����وزينتزن ،والت����ي يعبر فيها عن إعجاب����ه ب����روح األس����رى الشيش����انيين الت����ي ال يمكن السيطرة عليها حتى في وسط معسكر االعتقاالت. ال تزال ذاكرتي تحمل رؤية مدينة غروزني المدمرة،
واجه����ات البي����وت ذات النوافذ المفتوح����ة على الفراغ، السكان الرابضين بجبن على األسطح ،الحضور الطاغي ُ للدبابات الروس����ية خالل الغزو اليلتس����يني األول الذي انتهى بنصر االنفصاليين. أما حرب بوتين ( )2002 - 1999الموجهة لغسل عار تلك الهزيمة و«إبادة الشيش����انيين ككالب مسعورة من أجل محوهم من وجه األرض» ،طبق ًا لكلمات أحد وزرائه، فقد انتهت كما نعرف :بانتصار الرعب ،وسياسة األرض المحروق����ة وقائمة ال نهاية لها من االغتياالت المختارة، التي كان����ت قد بدأت ف����ي م����ارس/آذار 1996باغتيال الرئيس المس����تقل دوداييف ،ضحية صاروخ أرض جو بينما كان يتحدث مع وسيط مفترض للكرملين. لنراجع بعض أمثلة هذه السياسة المالئمة والجديرة بمفوضية الشعب للشؤون الداخلية الروسية :سلجيمار ياندربيي����ف ،خليفة دوداييف الداخل����ي ،تم إعدامه عام 2004بأي����دي قتلة الكرملين في دول الخليج حيث كان يعي����ش الجئاً ،بعدها بع����ام ،تم القب����ض على أصالن مسجدوف ،المنتخب كرئيس في االنتخابات الحرة األولى وربما األخيرة في الشيش����ان ،وبعدها هرسته بلطجية «القوات الخاصة» في ضاحية تولتوي( .كل ذلك مجرد رمز!) .ومنذ صعود خان رمزان قديروف إلى الس����لطة، وكان أبوه وسابقه معين ًا من قبل بوتين مقابل خدماته ومات ضحية العتداء ،اش����تدت ح����دة انتهاكات حقوق اإلنسان .هذا الشاب الطاغية ،الذي رسمت صورته التي ال ُتنسى الصحافية الشجاعة أنّا بوليتكوفسكايا قبل أن ُتغتال بفترة قليلة ،فرض في إقطاعيته نظام ًا وحشياً، مزيج ًا م����ن العنف وجنون العظمة والفس����اد في حماية الكرملين المتعالية. لقد كانت التعذيبات التي قام بها القوزاق -نعود إلى زمن بوش����كين وليرمونتوف! -ض����د عصابات مزعومة ومجرمي����ن قوقاز« ،بكس����ر كل ضلوعهم وقطع أصابع
وآذان من طبقوا عليهم فيم����ا بعد «قانون الهرب» إن لم يدفع ذووهم الفدية» ،وجاء ذل����ك موصوف ًا في تقارير مراسلة لي موند صوفي شيباب ،تشغل جزءًا هام ًا في فيلم «غروزني :تاريخ إقصاء» ،وهو الفيلم الذي عرضه س����رًا مانون لويزيه بمس����اعدة مجموعة من الس����يدات الشيش����انيات .في الس����نوات األخيرة ،لم تتوقف قائمة االنفصاليين المغتالين بأمر رمزان قديروف .في يناير/ كانون الثاني :2009مات في فيينا بطلقات نارية عمر إسرائيلوف ،معاونه القديم ،الذي كان قد قدم ضده طلب ًا أمام محكمة حقوق اإلنس����ان بمجلس أوروبا لممارس����ة تعذيبات قام بها بشخصه بأمر من الطاغية نفسه .وطبق ًا أطلعت به الصحف حديثاً ،فإن اصطياد المعارضين لما ْ الشيش����انيين المشتبه في إس��ل�اميتهم ،والمضطلع في تركيا ،قد نجم عنه على األقل سبع ضحايا في العامين األخيري����ن :كانوا جميع ًا مش����تبه ًا في تورطهم مع «أمير القوقاز» دوكو عمروف ،القائد الحالي للتمرد الشيشاني والعدو رقم واحد للكرملين ولقديروف. لكل ذلك يبدو مثيرًا لالس����تفزاز بشكل خاص عرض التفاخر الهائ����ل بحجة افتتاح غروزني س����يتي ،مدينة ناطحات الس����حاب وصاحبة أكبر مس����جد في أوروبا، والذي صممه رمزان قديروف بمساعدة كريمة من بوتين، فوق األط��ل�ال والمقابر الجماعية التي ُمحيت س����ريعاً: عرض ض����م فناني هوليوود ،وألعاب���� ًا نارية ،وفنادق خمسة نجوم ..حيث تطل السخرية على الخطايا. لك����ن الماض����ي ال ُيمح����ى واألدب الروس����ي العظيم وش����هادة الصحافيين األبطال مثل أنّا بوليتكوفسكايا ال يزاالن هناك بنصائحهما .فلنقرأ لتولس����توي« :الشوك الذي تسحقه العربة مرة وراء مرة ،ينمو قوي ًا من جديد. ولعابه ال يستسلم». ترجمة:أحمد عبد اللطيف 19
العامل تفجرت في روسيا الش����هر الماضي احتجاجات على نتائج االنتخابات واألداء السياسي في تلك الدولة التي تحيرنا نحن -العرب -بإنحيازها لألنظمة المستبدة. في هذا التقرير يقدم د .منذر حلوم رؤية من هناك
بوت�ن يقط�ع الديموقراطي�ة بمقص عتيق
موسكو-منذر حلوم بع���ض ال���روس يقولون«:الع���رب.. حتى الع���رب ثاروا ،ونح���ن قاعدون»، وآخرون« :وصلت المؤام���رة األميركية إلين���ا ،لكنها لن تنج���ح ،فهي لن تنطلي على ش���عبنا» ،وثالثون«:يكفي روسيا خضات ،فبالكاد بدأت حياتنا تس���تقر».. ّ ولك���ن ،وأي ًا يكن ما يق���ال هنا وهناك، فالروس بات���وا يخجلون من مس���رحية تبادل الس���لطة الهزلية بي���ن الصديقين القادمين من بطرسبورغ. المثير للس���خرية أن بوتي���ن ومدفيديف يش���كر أحدهما اآلخر على قبول التبادل ويصفّ���ق أعض���اء الح���زب الحاك���م في بزاته���م الالمعة وابتس���اماتهم الوردية. م���ع أن الذل لونه أصف���ر .ويقول الجيل ال���ذي عايش االتحاد الس���وفياتي وفترة البيريس���ترويكا العصيب���ة« :على الرغم م���ن كل ش���يء ،فالدولة القوي���ة أهم.. روس���يا موحدة أه���م» ،مضمرين بذلك أن م���ن ش���أن الديموقراطي���ة أن تف���كك روسيا وتضعفها ،آخذين بعين االعتبار نتائج الثورات الملونة في يوغس�ل�افيا وأوكرانيا وجورجي���ا« .ها هم يوزعون األش���رطة البيضاء عل���ى المتظاهرين- يقول���ون -وس���بق لصن���دوق س���ورس 20
أن جع���ل كل ش���يء برتقالي ًا ف���ي ميدان كييف!!» .ويختلفون على عدد الخارجين في موس���كو بين ثالثين ألف��� ًا وثمانين. فأين طاق���م بوتين من ذل���ك كله ،وإلى أين تسير البالد؟ أن بوتين سيخرج رابح ًا من ثمة من يرى ّ خروج المظاهرات في موس���كو وسواها م���ن م���دن الثل���ج ،وس���تخرج روس���يا رابح���ة معه ،بدعوى أن روس���يا تحتاج إلى عملية عاجلة الس���تئصال الفس���اد. حسابات مؤيدي بوتين تقول إن األخير، مدعوم��� ًا بش���عارات مناهض���ة للفس���اد يرفعها المتظاهرون ،سيتمكن من توجيه ضربة قاس���ية لبعض رؤوس الفس���اد، وسيتخلص في عملية الكنس هذه ممن ال يعجبونه في إدارات الدولة العليا وممن عيونهم على السلطة من رجال األعمال، ومن أولئك الذي���ن عيونهم على الغرب. فهل لبوتين أن يحقق المعادلة الصعبة: توجيه ضربة لمافيا الفس���اد التي طالما تعاق���د معه���ا عل���ى إدارة الب�ل�اد ،وفي الوقت نفس���ه إحياء روح النهوض التي بدأت تخبو لضرورات الدولة األوراسية القوية ؟ العيب الذي يحاول بوتين إصالحه يكمن في غياب جناح ليبرالي في الحكم .يدرك بوتين أنه ال بد من إسكات الغرب وإرضاء
المال ،مضمرًا قطع خيط مفترض يحرك دمى روسية تنظم االحتجاجات. أي���ن الليبراليون؟ روس���يا يحكمها يمين الوسط القومي ،بمساعدة حزب شيوعي ينافسه في الشعارات القومية..مع وجود ق���وى ليبرالي���ة ال تحصد س���وى هزائم متتالي���ة في االنتخاب���ات .ومنه ،فرهان الغرب األطلسي على تحول ديموقراطي ليبرالي عبر صناديق االقتراع ،خاس���ر ف���ي روس���يا .وهن���ا ،يمد ي���ده بوتين، بم���ا يبدو كأن���ه حركة مس���اعدة إلحياء الليبرالية..يمده���ا ص���وب اتحاد القوى اليمينية الليبرالي والذي س���بق أن عرف كي���ف ينهيه ،بدالل���ة نتائ���ج انتخابات الدوما في األعوام السابقة. انتخب���ت أول دوما في روس���يا ،ما بعد االتح���اد الس���وفياتي ،في 12ديس���مبر ،1993لمدة عامين .في هذه االنتخابات حصل الح���زب الليبرال���ي الديموقراطي عل���ى أعلى نس���بة م���ن األص���وات في انتخبت تاريخه ( .)٪22.92وم���ن دوما ُ لعامين ،إلى دوما ألربع س���نوات ،إلى األخيرة المنتخبة لخمس سنوات ،تتالت هزائم الليبراليين وزاد حصاد القوميين اليمينيين الروس. أزيلت في انتخابات 2007عتبة مشاركة الناخبي���ن ،وألغيت خانة التصويت ضد الجميع .ش���ارك ف���ي تل���ك االنتخابات 11حزب���اً ،وبنتيجته���ا حصد (روس���يا مكنه الموحدة) ،٪70م���ن األصوات مما ّ من اتخاذ جميع القرارات في الدوما دون اللجوء إلى اآلخرين .ولم تتمكن األحزاب الليبرالية من اجتياز عتبة الدوما ،فبقيت دون ص���وت فاعل .فماذا عن االنتخابات الحالية التي أعقبها خروج المتظاهرين؟ ش���ارك في انتخابات ( )2011ما نسبته ٪60.2م���ن الناخبي���ن .وف���ازت فيه���ا األح���زاب األربع���ة التي س���بق أن فازت ف���ي ( )2007م���ع تراج���ع في ش���عبية الحزب الحاكم بنحو الثلث ،قياس ًا برقمه الس���ابق .انتفع من ه���ذا التراجع الحزب الشيوعي ،وروسيا العادلة ،والليبرالي الديموقراطي ،دون أن ينعكس ذلك على أرق���ام الليبراليين ودون أن تتغير قواعد اللعبة كثيراً .فاتفاق (روس���يا الموحدة) مع آخرين التخاذ بعض قرارات الدوما،
الربيع الروسي بدأ احتجاج ًا على ديموقراطية بوتن
ل���ن يك���ون عس���يراً ،خاص���ة إذا علمنا أن اآلخري���ن ل���ن يتوافقوا فيم���ا بينهم. بقي���ت مؤش���رات الليبراليي���ن منخفضة ج���دًا ( يابلوكو ،٪3.25ح���زب القضية المحقة.)٪0.5 ما ه���ذه (القضي���ة المحق���ة)؟ إنها قضية الليبراليين .الحظ���وا رمزية التراجع في التسمية من (اتحاد قوى) ،أي من (القوة) يذكرني ذلك بس���ؤال كان إلى (الح���ق)ّ . ش���ائع التدوال في االتحاد الس���وفياتي: هل أملك الحق؟ نعم .إذن ،هات! ال. أدرك بوتي���ن أن الس���لطة الحقيقي���ة، ف���ي عالم اليوم ،ال يمك���ن أن تقوم دون معارضة حقيقية .فراح يس���تنهض على طريقته معارضة مناس���بة للعبة تبادل الكراس���ي .أدرك ذل���ك وأدرك آخ���رون ض���رورة فع���ل ش���يء لتغيي���ر الوضع القائ���م .فف���ي ه���ذه األثن���اء ،وبصرف النظ���ر ع���ن مخطط���ات بوتي���ن ،وربما ف���ي غفلة من اس���تخباراته ،أو في عجز منها ،راحت تظهر في الش���ارع السياسي الشاب ش���خصيات المعة ،مثل أليكسي نافالن���ي ،ويفغيني رويزمان ،ويفغينيا تش���يريكوفا..وغيرهم ،وب���دأ تأثيرهم يالحظ في ش���وارع موس���كو ..ولم يعد بإمكان بوتي���ن إدارة المعارضة العلني منها والكامن بطرائقه الخفية على الرغم
من خبراته الس���ابقة .كان سبق لبوتين أن شتت عائلة يلتس���ين ،بسجن بعض منها وتهجير بعض آخ���ر وإغراء بعض ثال���ث بالمناصب والمال ش���رط االبتعاد عن السياس���ة ..وربما ،لسخرية القدر، وجد بوتين نفس���ه مضطرًا إلعادة إحياء القوة التي س���بق أن قض���ى عليها .فلجأ إلى (القضية المحقة). لم يكن لألحزاب الديموقراطية الليبرالية، بمع���زل ع���ن أالعيب بوتين ،أن تكس���ب ناخبين عانوا ما عانوه في مرحلة التحول العصيبة في روسيا .ثم بات من الصعب عليه���ا أن تكس���ب بع���د تضيي���ق بوتين عليها وتلقينها درس��� ًا عبر سجن رمزها خودركوفس���كي ومالحقة بيريزوفسكي وتهمي���ش نيمتس���وف .ح���اول بوتين، عوض ًا عن ه���ؤالء ،أن يأت���ي بليبرالي ديموقراط���ي على مقاس���ه .كان الرهان على انتص���ار (القضية المحقة) ودخوله الدوما ،وبالتالي س���د الفراغ الناجم عن غياب جناح ليبرالي فيها .ولكن هيهات. بعد اعتذار وزير المال كودرين عن تلبية الطلب وإقالته ،اضطر بوتين إلى الدفع بصديقه بروخوروف األوليغارخي الذي يمل���ك 12.5مليار يورو لرئاس���ة حزب (القضية المحقة) ،ونقلت وقائع انتخابه الباذخة على شاشات التلفزة في حزيران
.2011كان ح���زب (القضي���ة المحقة) قد تأس���س ف���ي نوفمب���ر ،2008من ثالثة أحزاب ذات ميول ليبرالية :حزب روسيا الديموقراط���ي ،وحزب الق���وة المدنية، واتح���اد القوى اليميني���ة (كان في إتحاد الق���وى اليميني���ة 30تنظيم��� ًا ليبرالياً، ش���كلت حلف ًا لخ���وض انتخابات ،1999 ولم تنل س���وى ٪8.52م���ن األصوات، وف���ي 2003تراجعت حصيلتها إلى ،٪4 لتتدهور في انتخابات 2007إلى .٪0.96 تجم���ع في هذا التحال���ف معارضو العهد ّ السوفيتي وإصالحيو عهد يلتسين. وع���د بروخوروف رئيس���ه بأن يش���غل حزبه المكان الثاني في الدوما ،وراودته أح�ل�ام كرس���ي رئاس���ة ال���وزراء .راح بروخوروف ينتقد الح���زب الحاكم دون أن يمس صورة بوتين بسوء .فهذا الرجل مدين لبوتين في كثير من األش���ياء -كما يق���ول العارفون في روس���يا ،-وفي يد الرئيس كثير م���ن الملفات التي يمكن أن تودي بمرش���حه إلى غير م���كان .ولكن ال بروخ���وروف المتحمس ل���م يكن مؤه ً ّ للعب دور سياس���ي ،ففش���ل أيما فشل، وأفش���ل معه مش���روع راعيه .كان حدث انشقاق في (القضية المحقة) في سبتمبر ،2011وص���وت المؤتمرون على تنحية بروخ���وروف م���ن قيادة الح���زب .وفي االنتخابات األخيرة بالكاد لملمت القضية الليبرالي���ة المحقة ( )٪0.5من األصوات. ومع (القضية المحقة) ،فش���لت محاولة بوتين إيهام الغرب بوجود كتلة ليبرالية خيب ف���ي الدوما .وأم���ا كودرين ال���ذي ّ ظن الثنائ���ي مدفيديف -بوتي���ن فبصدد إنشاء حزب جديد ،كما صرح في مؤتمر صحافي نقل���ه راديو (صدى موس���كو) ُبعيد االنتخابات. أن َي ِعَد الحزب الحاكم وهكذا ،فلم يبق إال ْ جماهي���ر المطالبي���ن بديموقراطية على الطريقة الغربية أن يصبح حزب ًا ليبرالياً. لكنه الوع���د المفضوح ،عل���ى الرغم من عالقات قياداته بالقي���م المادية الغربية والمصارف وشركات غسل األموال .وقد تخطئ حس���ابات بوتين مرة أخرى ،إذا رأى ف���ي الخارجين إلى الش���ارع أنصارًا لليبرالي���ة فقط ودمى يحركه���ا الغرب، فيخسر رهانه وربما كرسيه.
21
إيرينا بوكوفا
المديرة العا ّمة لليونيسكو لــــ «الدوحة»
نهاية عصر اللّوبيات باريس :سعيد خطيبي
انضم���ام فلس���طين إل���ى منظم���ة اليونيس���كو ما ي���زال يثير ج���د ًال على الس���احة الدولية .رغم تصويت غالبية أعض���اء المنظمة( 107أص���وات مقابل 14صوت���اً ،مع امتن���اع 52عضوًا عن التصويت) عل���ى خيار قبوله���ا عضوًا كام���ل الحق���وق( 31أكتوبر/تش���رين األول ،)2011ف���إن الوالي���ات المتحدة تصر على عدم اإلقرار بموقف األميركية ّ األغلبية .حيث تباينت ،خالل األسابيع الساس���ة الماضية ،تصريحات بعض ّ األمي���ركان (بمعية نظرائه���م من كندا) حول المس���ألة ،بين الرف���ض المطلق والرفض المشروط .حيث يعتبر سادة البي���ت األبي���ض أن دخ���ول فلس���طين 22
في أي���ة منظمة من المنظم���ات األممية مرهون بالتوصل إلى صيغة سالم مع إسرائيل. وجسدت الواليات المتحدة األميركية ّ موقفه���ا الرافض النضمام فلس���طين، التي صارت العضو رقم ،195باتخاذ من ِحه���ا المالية الس���نوية ق���رار وق���ف َ الموجهة لليونيسكو ،المقدّرة بحوالي ثماني���ن( )80ملي���ون دوالر( ٪22م���ن حرك ميزاني���ة المنظمة العام���ة) .قرار ّ بعض المخاوف حول مستقبل مشاريع المنظم���ة ،المبرمجة خصوص ًا لس���نة .2012وأث���ار قلق��� ًا واضح��� ًا عبّ���رت عن���ه المدي���رة العام���ة لليونيس���كو، البلغارية إيرين���ا بوكوفا ،في حوارها مع «الدوحة» بالق���ول« :قرار الواليات المتح���دة األميركي���ة القاض���ي بتعليق
منحها المالية ترك ،سريعاً ،أثرًا سلبي ًا على ق���درة المنظمة في مواصلة بعض نش���اطاتها» .وبغية تج���اوز تداعيات األزم���ة ،س���ارعت إدارة المنظم���ة إلى اتخاذ بعض التدابير العاجلة« :بإعادة النظر في جدولة النش���اطات ،تخفيض النفق���ات ،إلغ���اء أو تأجي���ل بع���ض الفعاليات ،وتجمي���د التوظيف مؤقتاً» تضيف بوكوفا. مع ذلك ،ف���إن المنظمة س���تحافظ على إيقاع نش���اطاتها األساس���ية ،من خالل االس���تغالل األمث���ل لإلمكانيات المتوافرة لديها ،مع مواصلة مشاريعها في مج���االت التربي���ة والتنمية ،ودعم حرية الصحافة ،والحفاظ على التراث العالمي المادي ،وغير المادي. ليس���ت المرة األول���ى التي تتعرض فيها اليونيس���كو لضغوطات أميركية. لك���ن ،ألول مرة ،يلتم���س الرأي العام حقيقة تالشي اللوبي األميركي ،وذلك ما يب���رز من خالل انضمام فلس���طين، ث���م حمل���ة التضام���ن الدولي���ة وجبهة «المقاومة» الجديدة التي تشكلت داخل اليونيس���كو ،لمواجهة لوبي���ات البيت األبيض .دول كثيرة قررت رفع منحها المالية لتجاوز األزمة .وتواصل المديرة العامة حديثها« :سررنا كثيرًا بالتشجيع ال���ذي بلغن���ا .آالف األش���خاص بعثوا لن���ا ،من مختلف بقاع العالم ،رس���ائل دعم ومس���اعدات عينية .كما أن بعض ال���دول األعضاء رفعت س���قف منحها، على غرار أندونيسيا ،الغابون ،تيمور الش���رقية ،الدانمارك والسويد .إضافة إلى دول���ة قطر التي وقفت إلى جانبنا. بفضل مب���ادرة الش���يخة م���وزا لدعم برامج اليونيس���كو التعليمية» .كل هذه المساعدات االس���تثنائية ،التي جاءت ستوجه إلى ّ في هذه المرحلة الحرجة، الفئ���ات المحرومة في ال���دول النامية، إلتاحة الفرصة أمامها للتعلم .ولتطوير مناهج التعليم في الدول الفقيرة. تش���رف إيرينا بوكوف���ا ،في الوقت الحال���ي ،بمعي���ة مختل���ف رؤس���اء الدوائ���ر ف���ي منظم���ة األم���م المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ،على وضع
فلسطين عضوًا في اليونسكو ..حماية للتراث الفلسطيني وأكثر
الرتوشات األخيرة ،على ميزانية العام ،2012وتسطير أبرز المحاور الواجب التركيز عليها ،لتحاف���ظ المنظمة على دورها ،م���ن جهة ،ولتتمكن من تجاوز انخف���اض أرق���ام الميزاني���ة العام���ة، من جهة أخ���رى« .المجل���س التنفيذي ق���رر ،على غي���ر العادة، لليونيس���كو ّ االجتماع مبكراً ،ش���هر فبراير/ش���باط المقبل ،لدراس���ات اإلج���راءات الواجب اتخاذه���ا والعم���ل بها ،نظ���رًا لتقلص الميزانية» تكشف بوكوفا ،الشيء األكيد الراهنة التي تمر بها المنظمة أن األزمة ّ لن تؤثر على نش���اطاتها في فلسطين، وفي األراضي المحتلة .وتبين المديرة العام���ة أهم المح���اور التي س���تراهن مصرحة: عليها خالل الس���نة الجدي���دة ّ «تنش���ط اليونيس���كو ف���ي فلس���طين بالتعاون مع ش���ركاء؛ كحكومة فنلندا عل���ى س���بيل المث���ال .تهت���م المنظمة بدعم حرية التعبي���ر ،من خالل تنظيم ورش���ات تكوين لصالح الصحافيين،
خصوص ًا النس���اء منهم .حيث ساهمت شهر مارس/آذار المنصرم في مشروع إط�ل�اق أول قن���اة إذاعي���ة خاص���ة بالنس���اء ،هي «نسا إف إم» ،كما عملت السلطة لس���نوات طويلة بالتعاون مع ّ الفلس���طينية ،عل���ى حماي���ة الت���راث
ليست المرة األولى التي تتعرض فيها اليونيسكو لضغوطات أميركية .لكن، ألول مرة ،يلتمس الرأي العام حقيقة تالشي اللوبي األميركي
الثقافي .مثل الحفاظ على موروث قرية بتير (بالقرب من بيت لحم) .والتخطيط ألول متح���ف إيكولوجي ال���ذي ما يزال قيد االنجاز .كما تعمل أيض ًا على إبراز مخ���زون الثقاف���ة المحلي���ة ،من خالل تشييد بناية تقوم على المعمار المحلي، س���يتم افتتاحها في المستقبل القريب، لتحتض���ن مرك���ز الطفول���ة واألمومة. إضاف���ة إل���ى مش���روعات تعليمية في غزة ،يش���رف عليها مكتب اليونيسكو في رام اهلل ،الذي يلقى دعم ًا واسع ًا من الشيخة موزا». المدي���رة العامة لليونيس���كو إيرينا بوكوفا ،التي التحقت بمنصبها الحالي في أكتوبر/تشرين األول ،2009تؤمن بأن التربية والتعليم هما قاعدتا احترام مواثيق حقوق اإلنسان .لذلك ،رغم كل ما يدور من ضغوطات أميركية ،فإنها مصرة عل���ى مواصل���ة العمل، ّ تبق���ى واالستمرار في تنفيذ برامج اليونيسكو السنوي. ّ 23
رغم أن شهرتها تعود إلى حصولها على جائزة البوكر البريطانية للرواية عن روايتها اليتيمة «إله األشياء الصغيرة» ( )1997إال أن أرونداتي روي معروفة في الهند والعالم لكونها تنشط ضد العولمة واإلمبريالية وبناء السدود الضخمة في الهند ،وكذلك ضد التسلح النووي وأخطار القنبلة النووية التي تتباهى كل من الهند والباكستان بامتالكها .وقد كتبت روي عددًا من الكتب ،التي القت رواج ًا كبيرًا في العالم الناطق باإلنجليزية ،وكذلك في بلدها الهند ،وكلها تدور حول السياسات الكونية والعولمة المتوحشة ،والحرب على اإلرهاب ،وعودة االستعمار األمريكي لينتشر على األقدام في بعض المستعمرات الغربية العتيقة.
الروائية والناشطة الهندية أرونداتي روي:
احتلوا وول ستريت الفلسطين ترجمة :فخري �صالح
في هذا الحوار الالمع الذي نشرته صحيفة الغارديان معها في 30تشرين ثاني (نوفمبر) 2011الماضي ،وأجرته معها آرون غوبتا ،Arun Gupta تتأمل روي ظ��اه��رة حركة «احتلوا وول ستريت» ،وتربطها بما يحدث في الهند والعالم وض��رورة إيجاد خيال جديد يتجاوز الخيالين الرأسمالي والشيوعي.
24
§ لماذا رغبت بزيارة حركة «احتلوا وول ستريت»؟ وما هي االنطباعات التي خرجت بها من تلك الزيارة؟ كيف يمكن لي أن ال أرغب في فعلذلك؟ يبدو لي أنه متوقع من واحدة مثلي ،قضت س��ن��وات طويلة تفعل أشياء شبيهة على الصعيدين الثقافي
والنظري ،أن تفعل ما فعلته فتزور معتصمي وول ستريت .لكن رغم ذلك، فإنني ال أستطيع إنكار مشاعر الدهشة واالستغراب والبهجة التي انتابتني. أردت ب��وض��وح ،أن أتبين بنفسي المدى الذي بلغه هذا الفعل ،وحجمه، ونسيجه ،وطبيعته .ففي المرة األولى التي ذهبت فيها إلى هناك ،حيث رأيت كل تلك الخيام منصوبة ،بدا لي األمر أقرب إلى أن يكون نوع ًا من االعتصام منه إلى حركة احتجاج .لكن األمر بدأ يتوضح فيما بعد ويعلن عن نفسه. كان بعض الناس يحتلون األرض فيما ترك موضوع التنظيم والتفكير ألناس آخرين .وكما قلت ،في حديثي أمام جمهور «جامعة الشعب» People’s ،Universityفإن ما يحدث هو بمثابة لغة سياسية جديدة تدخل االستعمال ألول مرة في الواليات المتحدة ،لغة كانت تعد فضائحية منذ فترة قصيرة للغاية.
§ ه��ل تعتقدين أن��ه ينبغي تعرف نفسها لحركة (احتلوا) أن ّ باحتالل فضاء بعينه أم باحتالل فضاءات عديدة؟ ال أظن أن األمر يتعلق باحتاللأراض وأماكن ،بل يتعلق باألحرى ٍ ب��إع��ادة إش��ع��ال الخيال السياسي. وال أظ��ن في الوقت نفسه أن الدولة ستسمح ل��ل��ن��اس ب��اح��ت�لال فضاء محدد ،إال إذا شعرت أن ذلك سيقود إلى نوع من الرضا عن النفس ،وأن الملح فاعلية االح��ت��ج��اج وط��اب��ع��ه ّ سوف يتبخران .إن حقيقة أن الناس في نيويورك ،وف��ي أماكن أخرى، ضربوا وُأخلوا من المكان ،يدل على ُ عصبية المؤسسة الحاكمة وارتباكها. َ أظ��ن أن الحركة س��وف تتحول ،أو أنها ينبغي أن تتحول ،إلى حركة من األفكار قابلة للتغير والتحول بسرعة، وكذلك إلى فعل ،حيث يبقى عنصر
كليهما يذهبان من أجل المشاركة في حملة انتخاب «الشخص األفضل»، وهو في هذه الحالة باراك أوباما الذي يستمر في الحقيقة في نشر الحروب في أنحاء العالم جميعها .ويبدو لي أن الحمالت االنتخابية تعمل على امتصاص طاقة الغضب كلها ،والذكاء السياسي ،وسط استعراض الفودفيل العظيم هذا ،بحيث ننتهي أخيرًا إلى الموضع الذي بدأنا منه.
اإلدهاش والمفاجأة سمة المحتجين. علينا أن نحافظ على طبيعة الكمين الثقافي والمظاهر الفيزيائية الملموسة التي تفاجئ الحكومة والشرطة .على الحركة أن تستمر ف��ي إع���ادة تخيل نفسها ،ألن احتالل األرض قد ال يكون مسموح ًا به في دول��ة قوية وعنيفة مثل الواليات المتحدة.
§ احتالل األماكن العامة يثير خيال الناس .ما سر هذا التأثير من وجهة نظرك؟ أظ��ن أن هناك ع��دم رض��ا ،يرقدتحت الجلد ،تعمل هذه الحركات على التعبير عنه بصورة مفاجئة .حركة (احتلوا) عثرت على أماكن حيث الناس يشعرون بالغضب ويمكن لهم أن يأتوا وي��ش��ارك��وا .وه��ذا مهم للغاية ،كما نعرف جميعاً ،وضروري بالنسبة ألية حركة سياسية .األماكن التي تواجدت فيها حركة «احتلوا» أصبحت مواضع يمكن أن تقيس فيها مستويات الغضب وعدم الرضا.
§ ذك����رت أن��ه��م معرضون للهجوم .هناك عشرات من مواقع االحتجاج منع الوصول إليها ،أو أنها أخليت ،على األقل بصورة مؤقتة ،خالل األسبوع األخير. فما هي الوجهة التي ترين أن الحركة سوف تتخذها مستقبالً؟ ال أدري فيما إذا كنت الشخصالصحيح القادر على اإلجابة على مثل هذا السؤال ،خصوص ًا أنني ال أقضي الكثير من الوقت في الواليات المتحدة. لكنني أتوقع أن تستمر الحركة في إعادة تحشيد نفسها في أشكال مختلفة من الغضب الذي أدى إليه القمع ،ما يجعل الحركة تتوسع وتمتد إلى أماكن أخرى. أخيرًا ،فإن الخطر الداهم الذي يتهدد الحركة ه��و أنها س��وف تتزامن مع حملة انتخابات الرئاسة المقبلة .لقد رأيت ذلك يحدث في الحركة المناهضة للحرب هنا ،وأنا أرى ذلك يحدث على الدوام في الهند. في النهاية ،ف��إن الطاقة والعمل
§ مقاالتك ،مثل« :تحقيق ال��ص��ال��ح ال��ع��ام» و«ال��س��ي��ر مع ال��رف��اق» ،تركز عدستها على الشركات والجيش والدولة التي تحتل أراض��ي الناس في الهند. كيف يمكن مقارنة هذه األشكال من االحتالل ومقاومتها بحركة (احتلوا وول ستريت)؟ آمل أن يكون الناس في حركة(اح��ت��ل��وا) واع��ي��ن سياسي ًا بما فيه الكفاية أن تعرضهم لإلقصاء والحذف من مشهد مراكمة ال��ث��روات الفاحشة في الواليات المتحدة ،بأيدي عدد من الشركات والمؤسسات الضخمة ،هو جزء من نظام الحذف واإلقصاء نفسه، وم��ن الحرب التي تشن من قبل تلك الشركات في أماكن أخ��رى مثل الهند وإفريقيا والشرق األوسط. إننا نعلم تماماً ،منذ حدوث الكساد الكبير ،أن واحدًا من السبل األساسية التي عملت الواليات المتحدة من خاللها لتحفيز اقتصادها ون��م��وه تمثل في تصنيع األسلحة وتصدير الحرب إلى دول أخرى .ولهذا ،وبغض النظر فيما إذا كانت هذه الحركة معنية بتحقيق ال��ع��دال��ة للمحرومين ف��ي ال��والي��ات المتحدة ،أو كانت حركة تهدف إلى مواجهة نظام التمويل الكوني الذي يعمل على إيجاد مستويات من الجوع والفقر إلى حد نعجز عن تخيله ،فعلينا أن نقر بأهمية هذه الحركة.
25
§ ك��ت��ب��ت ع��ن ح��اج��ت��ن��ا إلى خيال مختلف عن ذاك الخاص بالرأسمالية .هل يمكن أن تحدثينا عن ذلك؟ إننا عادة نستعمل ،دون حيطة،مصطلح الرأسمالية ،التي تكون فيها ال��ع�لاق��ة حميمة بين رج���ال األعمال وم��وظ��ف��ي ال���دول���ة ،أو الرأسمالية الليبرالية ،لنتجنب في الحقيقة الحديث عن الرأسمالية ذاتها .لكننا عندما نشهد ما يحدث في الهند والواليات المتحدة حيث يتم تعليب النموذج االقتصادي ف��ي ال��والي��ات المتحدة تحت مسمى «الديموقراطية» ،ويتم فرضه على دول العالم جميعها ،باستخدام القوة العسكرية إن ل��زم األم��ر ،قد أدى في الواليات المتحدة نفسها إلى امتالك أربعمائة شخص ث��روة تقارب نصف ث���روات أم��ري��ك��ا كلها .ه��ن��اك اآلالف يفقدون أعمالهم وبيوتهم ،في الوقت الذي تقوم فيه الدولة بإنقاذ الشركات من خالل ضخ مليارات ال��دوالرات في شرايينها .هناك مائة شخص في الهند يملكون ربع الناتج القومي الهندي. هناك خطأ فادح يحدث .ينبغي أن ال يسمح ألي شخص أو شركة بمراكمة ثروات غير محدودة ،بمن فيهم الكتّاب ذائعو الصيت ،مثلي ،الذين تتدفق إلى حساباتهم أموال كثيرة كل يوم .ينبغي أن ال يكون المال مكافأتنا الوحيدة. فالشركات التي ت��راك��م تلك األرب��اح الضخمة يمكن أن تمتلك كل شيء: اإلع��ل�ام ،وال��ج��ام��ع��ات ،والمناجم، وصناعات األسلحة ،والمستشفيات وشركات التأمين الصحي ،وشركات األدوية ،والمؤسسات غير الحكومية. إن���ه���ا ت��س��ت��ط��ي��ع ش�����راء ال��ق��ض��اة، والصحفيين ،والسياسيين ،ودور النشر ،ومحطات التليفزيون ،ومحالت بيع الكتب ،وحتى الناشطين .هذا النوع من االحتكار ،والملكية العابرة
26
هناك معركة خاصة بالخيال ،معركة إلعادة تعريف معنى الحضارة ،معنى السعادة للمؤسسات ،ينبغي أن يتوقف .إن عملية الخصخصة الشاملة للعناية ال��ص��ح��ي��ة ،وال��ت��ع��ل��ي��م ،وال��م��ص��ادر الطبيعية ،والبنيات التحتية الضرورية كل ذلك هو شيء ملتو ومناقض لمهمة الدولة في وضع مصالح الناس والبيئة في بؤرة عملها وينبغي أن يتوقف .إن مراكمة الثروات غير المقيدة في أيدي األف��راد والشركات ينبغي أن تتوقف. كما أن وراث��ة األبناء آلبائهم األغنياء جدًا ينبغي أن تتوقف كذلك .علينا أن نصادر أموال من صادروا أموال الناس ونعيد توزيعها.
§ ما هو الخيال المختلف الذين تدعين إليه؟ لقد صرح وزير اإلسكان في الهندأنه يريد لسبعين في المائة من الشعب الهندي أن يسكنوا في المدن ،ما يعني نقل حوالي خمسمائة مليون إنسان م��ن أراض��ي��ه��م وبيئاتهم .وال يمكن تحقيق هذا دون تحويل الهند إلى دولة عسكرية .لكن في الغابات في وسط
الهند ،وفي المناطق الريفية ،هناك حرب كبيرة يجري َشنُّها .ماليين من البشر يطردون من أراضيهم من قبل ش��رك��ات المناجم ،وبسبب عمليات بناء الجسور ،والعمليات اإلنشائية للشركات ،وهناك معركة كبرى تخاض ضد السكان .هؤالء أناس لم يتم إقناعهم بالمشاركة والتواطؤ مع ثقافة المجتمع االستهالكي ،من خالل إشاعة المفاهيم الغربية للحضارة والتقدم .إنهم يقاتلون من أجل الحفاظ على أرضهم وأماكن عيشهم ،ويرفضون أن يتم نهبهم لكي يأتي واح��د من بعيد و«يتقدم» على حسابهم .هناك الماليين في الهند ممن جرى تشريدهم داخل بلدهم ،وهم اآلن يضعون أجسادهم على السكة ويقاتلون من أجل استعادة حقوقهم .إنهم ُيَقتلون ويسجنون باآلالف .هناك إذن معركة خاصة بالخيال ،معركة إلعادة تعريف معنى ال��ح��ض��ارة ،معنى السعادة، معنى الرضا والشعور بتحقيق الذات. هذه المعركة تتطلب أن يرى العالم أنه في مرحلة من المراحل ،وبعد أن يتم استنزاف موارد المياه والمعادن الباقية في المرتفعات الجبلية ،سوف نواجه أزم���ة ال ح��ل ل��ه��ا .وم��ن صنعوا تلك األزم��ة ،في المقام األول ،لن يكونوا هم القادرين على حلها .وهذا يتطلب اإلصغاء باهتمام إلى من يملكون خيا ًال مغايرًا :خيا ًال آتي ًا من أرض غير أرض الرأسمالية ،أو الشيوعية .سوف نعترف متأخرين أن ه��ؤالء الناس، مثلهم مثل ماليين السكان األصليين الذين يحاربون احتالل أراضيهم وتدمير بيئاتهم ،أولئك الذين مازالوا يعرفون أسرار العيش المستدام ليسوا آثارًا من الماضي ،بل هم أدالؤنا إلى المستقبل.
§ في الواليات المتحدة ،كما تعلمين ،يبدو الخطاب السياسي مهووس ًا بالطبقة الوسطى ،لكن حركة (احتلوا) ،وألول مرة منذ عقود ،جعلت الفقراء والمشردين
في بؤرة الخطاب العام .هل يمكن أن تعلقي على ذلك؟ إنه عكس ما يمكن أن تريه فيالهند .ففي الهند ينتشر الفقر بصورة هائلة بحيث ال تستطيع الدولة السيطرة عليه .تستطيع ضرب الناس ،ولكنها ال تستطيع منع الفقراء من التدفق في الطرقات ،والمدن ،والحدائق العامة، ومحطات القطارات .أما الفقراء هنا فلم يكونوا ُيرون ألن نموذج النجاح هنا، سوق إلى العالم ،يستدعي الذي كان ُي ّ إخفاء الفقراء وعدم عرض الحالة التي يبدو عليها السود .فقط الناجحون من الشعب األس���ود ،العبو ك��رة السلة، والموسيقيون ،وكوندوليزا رايس، وكولين باول .لكنني متأكدة أنه سيأتي الوقت الذي تصوغ فيه الحركة شيئ ًا أكثر من مجرد التعبير عن الغضب.
§ ككاتبة ،كيف تنظرين إلى كلمة «احتالل» ،التي استعادت معناها اإليجابي اآلن بعد أن ك��ان��ت على ال����دوام واح���دة من أك��ث��ر الكلمات بشاعة ف��ي لغة السياسة؟ ككاتبة ،قلت ،على الدوام ،إنه منبين أشياء أخرى ينبغي استعادتها، إضافة إلى الثروات الضخمة البشعة ألصحاب المليارات ،علينا استعادة اللغة .فقد استخدمت اللغة لتعني عكس ما تعنيه تمام ًا عندما يتحدثون عن الديموقراطية والحرية .لهذا فإنني أظن أننا عندما نقلب كلمة «احتالل» على رأسها فإن ذلك يعد شيئ ًا جيدًا. لكنني أريد أن أقول إن ذلك يحتاج إلى مزيد من العمل .علينا أن نقول«:احتلوا وول ستريت ،ال ال��ع��راق»« ،احتلوا وول ستريت ،ال أفغانستان»« ،احتلوا وول ستريت ،ال فلسطين» .علينا أن نضع الشيئين مقابل بعضهما ،وإال فإن الناس لن يعودوا قادرين على قراءة
اإلشارات.
§ كروائية ،كتبت كثيرًا عن دواف��ع الشخصيات وكيف تقوم بتأويل الواقع .وفي هذا البلد فإن كثيرًا ممن التقيناهم من حركة احتلوا يبدون غير قادرين على توفيق رغباتهم بخصوص أوباما مع ما يمثله أوباما بالفعل .وكلما تحدثت لهم عن سجل أوباما قالوا لي« :آه ،إن يديه مقيدتان؛ علينا أن نلوم الجمهوريين ،فليست غلطته» .لماذا في اعتقادك يكون رد فعل الناس على هذه الشاكلة، حتى ضمن حركة (احتلوا)؟ حتى ف��ي الهند لدينا المشكلةنفسها .لدينا ح��زب يميني شرس، وشرير بصورة شديدة الوضوح ،هو حزب باريتيا جاناتا ( ،)BJPولدينا حزب المؤتمر الذي يفعل أشياء أسوأ، لكنه يفعلها تحت جنح الليل .إن الناس يشعرون أن الخيارات المتاحة أمامهم هي أن يصوتوا لهذا الحزب أو ذاك. النقطة التي أود أن أؤكد عليها ،هي أنه بغض النظر عن الجهة التي تود التصويت لها ،فإن ذلك ال ينبغي أن يستنفد األوكسجين كله م��ن الجدل والحوار السياسيين .إنه مسرح مصطنع مصمم بحيث يمكنهم من تصنيف الغضب وتعريفه وجعلك تشعرين أن هذا ما يفترض بك أن تفكري به وتتحدثي عنه ،في الوقت الذي تكونين فيه في الحقيقة واقعة في أسر استعمال واحد من مسحوقي غسيل تصنعهما الشركة نفسها. ل��م ت��ع��د ال��دي��م��وق��راط��ي��ة تعني ما يفترض أنها كانت تعنيه .لقد أعيدت وف ِّرغت كل مؤسساتها إلى المشغلُ ، من الداخل ،ثم إنهم قاموا بإعادتها إلينا بوصفها وسيلة تمثل حرية السوق، وال��م��ؤس��س��ات وال��ش��رك��ات الكبيرة. ف��ه��ي وج���دت ل��خ��دم��ة ه���ذه الشركات
والمؤسسات ،وتدار من قبلها .وحتى �وت��ن��ا فينبغي أن ال نصرف ص� َّ ل��و َ الكثير من الوقت والطاقة الثقافية على اختياراتنا ،بل أن نبقي أعيننا مفتوحة على الكرة.
§ ه��ذا ي��دل أي��ض� ًا على فشل الخيال؟ _ إنه نوع من السير داخل مصيدة ُم َع َّدة بشكل جيد .لكن هذا يحدث في كل مكان ،وسوف يستمر في الحدوث. إنني أعلم أنني إذا ع��دت إل��ى الهند، وح��ك��م ح��زب باريتيا ج��ان��ات��ا الهند فسوف أواجه مشكالت أكبر بكثير من تلك التي تواجهني في زمن حكم حزب المؤتمر .لكن ،وعلى الصعيد المنهجي، وفيما يتصل بالطريقة التي تحدث فيها األشياء ،ليس هناك اختالف ،ألنهم يتواطؤون فيما بينهم طيلة الوقت. ولذلك لن أضّيع حتى ثالث دقائق من وقتي ألقول للناس :صوتوا لهذا الحزب أو ذاك.
§ ه��ن��اك س���ؤال ط��ل��ب مني كثيرون توجيهه لك :متى تنتهين من روايتك التالية؟ ليس لدي ج��واب لهذا السؤال...ببساطة ال أع���رف .ال��رواي��ات شيء غريب ،غير متبلور ،وه��ش .ولذلك نستمر في التجول وخوذات الوقاية من الحوادث على رؤوسنا ،ونحن نحمل آالتنا الموسيقية معنا.
§ هل تلهمك حركة (احتلوا) كروائية؟ دعينا نقل إنها تريحني .أشعرب��ط��رق ع��دي��دة أن��ن��ي كوفئت على ما عملته ،إل��ى جانب مئات األشخاص مثلي ،حتى لو كان ذلك يبدو عقيم ًا أحياناً.
27
أحمد السوداني -العراق
28
2012
ق�ضية العدد
نهاية العالم أم نهاية الطغيان ؟
2012/12/21هو اليوم الذي سينتهي فيه العالم .هكذا تقول التنبؤات. ومن يتأمل الرقم يجد ذلك االستناد األسطوري إلى سحر األرقام الذي تعرفه كل الشعوب ،هناك لعب على الرقم 12 ومقلوبه .أما إذا تغاضينا عن «الطوطمية» الرقمية فالنبوءة مؤيدة من سحر آخر هو تقويم المايا ومن العلم حيث ُيتوقع دخول كوكب ناييرو إلى المجال المغناطيسي لألرض .وألن الكوكب المعتدي يبلغ ضعف األرض فإنه سوف يدمر الحياة عليها .وهكذا يقترب العلم بشكل مذهل من األسطورة لينسج النبوءة التي تلعب على مشاعر الخوف من الفناء. هذه النهاية المقترحة للعالم ،ليست النهاية األولى. هناك العديد من النبوءات السابقة التي لم تتحقق ،لكننا عشنا لنقرأ تاريخها ،وكان أكبرها توقع نهاية العالم عام ألف ميالدية ،وقد استثمر آباء الكنيسة هذه النبوءة في جمع ما استطاعوا من أموال لقاء صكوك الغفران التي تدافع المسيحيون لشرائها! وليس بالعلم فقط أو بالخرافة فقط ،وليس منهما مع ًا تولد أسطورة النهاية ،هما مجرد القابلة التي يولد على يديها ذلك الرعب الذي تحركه السياسة والتجارة. ونحن نستقبل العام الجديد تعدكم «الدوحة» ببقاء العالم، وإن كان لنا أن نطلق خرافة أخرى في شكل أمنية ،فأمنيتنا أن ينتهي طغاة العالم في .2012
29
هنود المايا وتقويمهم المتشائم
أصل الحكاية مروة رزق -م�صر
تعتمد معظم التكهنات التي تتحدث عن نهاية العالم ديسمبر 2012على كتابات هنود المايا بأميركا الوسطى .وحضارة الماي���ا هي واح���دة من ث�ل�اث حضارات كبرى -إلى جانب اإلنكا واإلزتك -س���كن هنود المايا أميركا الوسطى قبل وصول كريس���توفر كولومبوس إليها .وتمركزوا أساس��� ًا فيم���ا يع���رف حالي��� ًا بوالي���ات تش���ايباس وكامبيتش���ي وتاباس���كو ويوكاتان المكس���يكية وما تس���مى حالي ًا دول جواتيم���اال وبلي���ز وهن���دوراس والسلفادور. عاشت حضارة المايا منذ عام 2000 ق .م إلى ع���ام 1456ميالدي���اً ،ولكنها اندث���رت بس���بب الح���روب بي���ن القبائل والجفاف المتكرر والغزو اإلسباني ،ومع ذلك هن���اك عدة آالف ينتم���ون إلى هذه الحضارة العريقة ما يزالون يعيشون في المكسيك وجواتيماال إلى يومنا هذا.... أه���م ما مي���ز ثقافة هن���ود المايا هو التق���دم المذه���ل ف���ي الحس���اب والفلك. وأخ���ذوا يتعمق���ون ف���ي هذي���ن العلمين لمعرفة تأثير النجوم على مس���ار العالم. وكان «التقويم» أبرز م���ا حققوه في هذا المج���ال ،إلى أن أصبح مح���ور حياتهم
30
كله���ا .وأضحوا يعتق���دون أن كل ما يمر ف���ي الحياة م���ن مواقف إنم���ا يكون لهذا التقويم تأثير عليه.
أغس���طس 3014ق.م الذي اعتقدوا أنه بداي���ة العالم وينتهي يوم 21ديس���مبر 2012أي أن مدته 5125سنة.
وكان تقويم هن���ود المايا-الذي يراه المتخصص���ون أكث���ر دقة م���ن التقويم الذي نس���تخدمه الي���وم -مؤلف ًا من 365 يوماً ،مقسمة على 18شهرًا في كل منها 20يوم ًا وش���هر واحد من خمس���ة أيام. وتتحكم في هذا التقويم دورة الش���مس والقم���ر .يب���دأ هذا التقوي���م الذي يعرف باس���م « »Long Countم���ن ي���وم 13
كان هن���ود المايا يحس���بون الس���نة الشمسية بدقة مذهلة حيث حسبوها عام 2500ق .م بأنه���ا 365.2424يوم���اً. وحالي ًا قامت الناسا بحسابها بأنها كانت 365.2421يوماً ،مع العلم أن الناس���ا مزودة بس���اعة ذرية في حين أن هنود المايا لم يكن معهم سوى مالحظاتهم عن السماء التي يدونونها في مخطوطاتهم.
اكتشف المايا أن النظام الشمسي يتحرك في شكل قطع ناقص مقترب ًا ومبتعد ًا عن مركز مجرة درب التبانة. ويستغرق 25600 سنة ،وهو ما أسموه «اليوم الكوني»
احت���وت ه���ذه المخطوط���ات عل���ى مع���ارف وتاري���خ وتنب���ؤات ولكن مع وصول االستعمار اإلس���باني والتحول إلى المس���يحية ،اعتبر رجال الدين هذه وح���رق معظمها .لم الوثائ���ق خطيرةُ ، يتب���ق منها س���وى أرب���ع مخطوطات: واح���دة في دريس���دن تش���رح تفاصيل التقوي���م ونظامه الرقم���ي ،ومخطوطة بمدريد تش���رح األبراج الفلكية والنجوم, ومخطوطة باري���س والمدون بها بعض الملحوظ���ات التاريخي���ة والمس���ائل التنبؤي���ة ،أم���ا مخطوط���ة جوليير في المكسيك فثمة شكوك في مصداقيتها. وكافة مدن هنود المايا كانت مشيدة
وفق ًا للنظام الشمسي ،وكان يتم تشييد المبان���ي لتعكس ظواهر س���ماوية على األرض ،مثل هرم تشيتشن إتزا الشهير، وهو عب���ارة عن تقويم ثالث���ي األبعاد. ن���رى داخله هب���وط كوكول���كان (اإلله خالق الكون) ،وأفعى مكونة من الظالل تتش���كل في زوايا اله���رم أثناء االنقالب الشمس���ي ( 21أو 22يونيو – 21أو 22 ديسمبر من كل عام) ،كرمز لهبوط اإلله من السماء نحو األرض. اكتشف المايا من خالل دراساتهم أن النظام الشمس���ي يتحرك في شكل قطع ناقص مقترب ًا حين��� ًا ومبتعدًا حين ًا آخر عن مركز مجرة درب التبانة .ويستغرق هذا الشكل ليكتمل 25600سنة ،وهو ما أسموه «اليوم الكوني». قس���موا حرك���ة هذا الش���كل بين ليل ونه���ار كل منها ي���دوم 12800س���نة، النص���ف األقرب م���ن مرك���ز المجرة هو النهار ،والنصف األبعد هو الليل .وقارنوا بين هذا «الي���وم الكوني» وبين الدورات الت���ي تح���دث عل���ى األرض ،فقس���موه إل���ى خم���س دورات كل منها تس���تغرق أق���ل من 5125عاماً :مث���ل الصباح (عند المايا هو المخ���اض) والظهيرة (مرحلة النمو) ،والمس���اء (بدء مرحلة الزوال)، المساء المتأخر (على اإلنسانية أن تبني وعيه���ا) ،والفجر (بداي���ة دورات خمس جديدة).
آخ���رون مث���ل الدكتور المكس���يكي مانوي���ل آريت���ا المتخصص ف���ي تقويم
وقد تنب���أ هنود المايا بس���بع نبوءات :أولها أن الشمس ستتلقى يوم 21ديس���مبر 2012شعاع ًا من مرك���ز المجرة ثم تب���دأ دورة جديدة، والنبوءة الثانية أنه مع كسوف الشمس الذي حدث يوم 11أغسطس 1999سوف ً تبدأ سلس���لة من التحوالت في الش���مس وتحدث النبوءتان ذات تأثير على البشرُ . الثالثة والرابعة عن االنحباس الحراري والتغير المناخي ,والنبوءة الخامسة تكلمت عن إنه لو لم يروض البشر س���لوكياتهم لتتس���ق مع إيق���اع الطبيعة والمج���رة بحل���ول عام ،2012سوف نش���هد انهيار كافة األنظمة التي قامت عليه���ا حضارتن���ا، أما السادسة فتوقعت ظه���ور مذنب يتس���بب في تح���والت كبيرة على كوكبنا .والسابعة نصت على أن���ه انطالق ًا م���ن إرادة تبغي االنسجام والس�ل�ام الداخلي، يمكننا أن ننمي حواس��� ًا جديدة ونتكامل مع نظام المجرة ،وبهذه الطريقة س���وف نولد ف���ي عصر جديد «عصر النور».
روكني حاريذاده -إيران
وينص التقويم على أنه هناك فترة من 20عام��� ًا تدعى «باكتون» ويتم فيها االنتق���ال من دورة إلى أخرى ،وتش���هد خالله���ا تغيرات كبيرة وتتعرض خاللها البش���رية لعدة تطورات .وتؤكد تنبؤات هنود الماي���ا أن النظام الشمس���ي خرج ع���ام 1999م���ن آخر هذه ال���دورات كي يدخ���ل في 21ديس���مبر 2012في دورة جديدة هي (صباح الك���ون) ،مما يدفعنا إل���ى االعتقاد أننا سنش���هد بداية مرحلة جديدة في 21ديسمبر 2012وأال نتوقع نهاية.
هن���ود الماي���ا ي���رون أن ه���ذا التقويم لم يكن ع���دًا لأليام و حس���ب وإنما كان التنبؤ هو و ظيفت���ه األساس���ية. يتحف���ظ كثي���رون على ه���ذا االس���تنباط خاص���ة م���ع الترقب ً الحال���ي واقت���راب ي���وم 21ديس���مبر 2012ونهاي���ة التقويم.
31
مثلما يحدث هذه األيام من حديث متكرر حول نهاية وشيكة للعالم س����جل الع����ام 1000حديث ًا مش����ابهاً ،فقبله بس����نوات ،واعتمادًا على س����فر الرؤية في اإلنجيل ،زادت التفس����يرات التي وضعت رأس سنة العام 1000موعدًا أخيرًا للحياة وبعده تقوم القيامة ،وفي عشية هذا حل اليوم تجمع حشد كبير في روما ينتظر النهاية المحتومة .وعندما ّ منتصف الليل لم يحدث أي ش����يء ،وصرف البابا سيلفس����ترو الحشد بعد أن باركه كالمعتاد.
أشه ُرها في عام 1000 نهايات َ
نب�وءة نقل�ت العال�م إلى عصر التنوير د.ح�سني حممود -م�صر
عل���ى كل األح���وال يقس���م مؤرخو األدب والفكر جميعهم العصور الوسطى (سميت بهذا االسم لتوسطها بين العصور القديمة الكالس���يكية والعصور الحديثة التي ب���دأت بها النهضة اإلنس���انية) إلى عصرين رئيس���يين :العصور الوس���طى العليا (األولى) والعصور الوسطى الدنيا (المتأخ���رة) ،واألول���ى تبدأ ع���ام 476 بسقوط اإلمبراطورية الرومانية الغربية (روم���ا) ،والثانية تبدأ بعد العام .1000 والف���ارق بينهما أن العصور الوس���طى العليا هي عصور ظالم والعصور الدنيا هي عص���ور نور ،وبينهم���ا ليلة واحدة فارقة بين نهاية عالم وبداية عالم جديد، هي ليلة بداية العام .1000 ورغم وف���رة الوثائ���ق ذات الطابع األدبي له���ذا الحدث إال أن علماء التاريخ يعتبرونه أس���طورة ال دليل عليها ،فهم يرون أن الحياة ف���ي العام 1000كانت 32
تس���ير كالمعتاد ،ما بين بيع وش���راء، وعدم تسجيل إقبال غير عادي على كتابة الوصية ،وممارس���ة األنش���طة العادية دون انتظ���ار لنهاية عالم وش���يكة .كما أن أوروبا في ذل���ك الوقت لم يكن لديها تقويم مش���ترك ،فرأس السنة كان يقع بين يوم الميالد المجيد ويوم 25مارس الس���ابق والتالي ،وكانت أوروبا نفسها مقسمة سياس���ياً ،بين ش���رق مسيحي بالكام���ل ومجموعات من اليهود ووجود إسالمي في إسبانيا. لكن تاريخ األدب وتاريخ الفكر يضع ه���ذا العام كعالمة فارق���ة بين عصرين: عصر الظالم ،وبداية عصر النور ،فقبله س���يادة الدين والكنيس���ة عل���ى مقدرات األمور ،وبعده س���يادة العقل حتى على علوم الدي���ن .قبله كان األدب الديني هو
األدب الوحي���د المطروح على الس���احة، وبعده بدأت عصور أدبية أخرى ُت ِّوجت بعصر النزعة اإلنس���انية الذي اس���تعاد التراث اإلنساني اإلغريقي والروماني، والذي ظل طيلة العصور الوسطى تراث ًا «كافراً» ال تنبغي دراسته. نهضة األلفية أو نهضة العام 1000 ه���و مصطلح ت���م نحته لك���ي يعبر عن مرحلة تاريخية في العصور الوس���طى الدنيا ،وقد تمي���زت بنزعة نحو التجديد الدين���ي والتط���ور االقتص���ادي والتغير االجتماع���ي مم���ا دفع بعض الدارس���ين ف���ي تس���ميته «عص���ر نهض���ة العصور الوسطى» ،وهو يتميز عن عصر النهضة المعروف في القرن الخامس عشر والذي يتخذ من اكتشاف القارة األميركية بداية له. للكاتب البريخت دورير بحث بعنوان «فرس���ان نهاية العال���م األربعة :الحرب والجوع والموت والمرض» ،وفيه يؤكد ما ل���م يذهب إلي���ه المؤرخ���ون ،من أن موجة من الرعب لفت شعوب الغرب ،لم يكن مصدرها العلم ،وإنما تفسير لكلمات للمسيح يقول فيها «ألف وليس أكثر من أل���ف» ،أو م���ا ورد في س���فر الرؤية أو رؤي���ا يوحنا الالهوت���ي« :ورأيت مالك ًا ن���از ًال من الس���ماء معه مفت���اح الهاوية وسلس���لة عظيمة على يده .فقبض على التني���ن الحية القديمة ال���ذي هو إبليس والش���يطان وقيده ألف س���نة .وطرحه ف���ي الهاوية وأغلق علي���ه وختم عليه، لك���ي ال يضل األمم ف���ي ما بعد حتى تتم األل���ف س���نة وبعد ذل���ك ال ب���د أن يحل زمان يس���ير» .وفسروا هذا أن األلف عام التي يظل فيها الش���يطان مقيدًا هي التي تلي صلب المس���يح ،ومن ثم تبدأ نهاية العالم بعد مرور األلف سنة المذكورة في اإلنجيل. وس���رى هذا التفس���ير مس���رى النار في الهش���يم ،وس���جل العديد من الكتاب الالتي���ن هذا الخ���وف من نهاي���ة العالم قب���ل العام ،1000واعتب���روا اإلصحاح اإلنجيل���ي نب���وءة ،وانتظ���روا تحققها ونهاية البش���رية .والراه���ب البنديكتي
وكان ه���ذا النوع م���ن الخوف منتش���رًا ج���داً ،ومعه الخوف م���ن العقاب اإللهي ومن الش���يطان ومن الجحيم .ومع هذه المخاوف اجتمعت الشعوذة والدجل من كل نوع .ف���كان هناك إيم���ان بالتنجيم والس���حر ووج���ود األش���باح واألرواح الشريرة.
ناديا عياري -تونس راول جالبر ،والذي ولد في بوروجونيا ع���ام ،985أثبت أنه كانت هناك ظواهر كثيرة تعلن مقدم هذه اللحظة المأساوية الكارثي���ة ،منه���ا الح���روب والش���قاق وس���قوط أج���رام س���ماوية وأوبئ���ة.. وكثير من الكتاب الالحقين رأى في هذه الشهادات انعكاس ًا واضح ًا لحالة نفسية لألوروبيين الذين عاش���وا ح���ول العام ،1000والت���ي صورته���ا أيض ًا لوحات فني���ة ،وإجم���ا ًال يمكن تكوي���ن صورة ذهني���ة تكونت عن اإلنس���ان العادي في أوروبا ،وه���ذا ال يمنع من وجود نماذج أخرى ال تؤمن بالخرافة ،وتأخذ بالعقل، أو ال تؤم���ن باألدي���ان مطلق���اً ،والذين مارس���وا حياتهم العادي���ة دون انتظار لهذا الشبح المجهول .طبق ًا لهذه الصورة الذهنية فإن الليلة الس���ابقة للعام 1000 ص���ورت الناس متكأكئين في الكنائس، ومنهم من يبكي ومنهم من يصلي مخافة أال يشرق غد يوم جديد .الراهب الفرنسي
أبون دي فلوري ذكر في وثيقة له تعود لعام 998أنه س���مع في قداس بكنيسة بباريس قس ًا يتكلم عن نهاية العالم. كانت الطبقات األكثر فقرًا في العصور الوسطى العليا يعيش���ون نهب ًا للخوف فعالً ،ربما ليس من نهاية العالم ،وإنما خوف م���ن الجوع النتش���ار المجاعات، وكان الس���بب في ه���ذه المجاع���ات قلة المحصول الناش���ئة عن الح���روب التي تمنع الحصاد أو تمنع الزرع من أصله، أو تداهم الحق���ول المزروعة .والحروب أخذت أش���كا ًال عدة ،منها حروب الدول، ومنها القرصنة والنهب والسلب في غيبة قوة الدول���ة بعد س���قوط اإلمبراطورية الروماني���ة .كان مبع���ث الخ���وف أيض ًا انتش���ار أمراض ل���م تك���ن معروفة ولم يكن لها ع�ل�اج .وكان الرعب من المرض غالب ًا بسبب انتشار أوبئة الطاعون التي كان���ت تقضي على قرى بأكملها .كل هذه المخاوف أدت إل���ى الخوف من الموت،
ورغم هذه الحالة العامة التي يغلب عليها الخوف ،وعكس ما يريد المؤرخون إثباته ،س���جلت تلك الفترة ( 365يوم ًا قبل حلول العام )1000حوادث انتحار جماعي���ة ،والتب���رع بث���روات طائل���ة، وانتش���ار األنبياء المزيفين ،والس���حرة والقساوس���ة المتطرفين ،وتحولت هذه الس���نة األخيرة من األلفي���ة األولى إلى كاب���وس مزعج ،س���يطر عل���ى الناس التي كانت تعاني من الجهل واألمية وال تستطيع فهم حقيقة األمور ،بل أدى ذلك إلى غلو بعض القساوسة في طلب المال نظي���ر منح الخائفين م���ن عقاب اآلخرة ص���ك ًا بالغف���ران .وكان للرهب���ان دور خاص تس���جله بعض الوثائق في نشر الذعر من نهاية العالم ،ويتم تفسير ذلك ع���ادة بأنهم كانوا يراكم���ون ثروات من الهبات والتبرعات ،ولم تكن نهاية العالم التي يبش���رون بها تعني شيئ ًا بالنسبة لهم .ول���م يض���ع نهاية له���ذه الترهات س���وى جه���ود رج���ال الدين المس���يحي المس���تنيرين مث���ل الباب���ا جريجوري���و والبابا سيلفسترو ،وهم الذين أكدوا أن من يرى في الع���ام 1000نهاية إنما هم أصحاب العقول الضعيفة. لي���س هذا وحس���ب ،بل إن���ه عندما مر العام 1000بس�ل�ام اخت���رع رهبان آخ���رون تاريخ ًا آخر لنهاي���ة العالم هو عام 1033مستش���هدين بأن العام األلف ال يحتسب بميالد المسيح وإنما بتاريخ صلبه .وهكذا اس���تمر رج���ال الدين في إص���دار تفس���ير تلو اآلخ���ر ،على مدى العقود والقرون التالية. ه���ل كان العال���م في الع���ام 1000 واعي��� ًا بمش���اكله الحقيقي���ة؟ وهل كان واعي��� ًا ب���أن عليه أن يبدأ عص���رًا جديدًا بأفكار جديدة؟ 33
الخيال واألسطورة في ثقافات الشعوب
ملح الحضارة �شرف الدين �شكري -اجلزائر
منذ بزوغ فجر البشرية األولى على هذه المعمورة ،بعد ماليين من الس���نين حياة أخرى َغير هذه التي التي ش���هدت ً نحياها اليوم لكائنات ُأخر ،وما ظهر عبر الدراسات األنثروبولوجية العتيدة التي حفرت في مس���الك الحيوات المختلفة، جعل���ت العلوم في حّد ذاتها تختلف فيما تاري���خ بعينه لبداية بينها حول تحديد ٍ اإلنس���ان األول على وجه األرض :فآدم الدراس���ات األنثروبولوجي���ة ،أقدم من الس���ماوية ،وآدم بعض آدم الّديان���ات ّ المعتق���دات الوثني���ة ،أق���دم م���ن آدم الدراسات األنثروبولوجية التي سرعان اطالعه���ا ومعرفتها تأخ���ر ّ ما تكتش���ف ُّ ببعض التصورات والرؤى الغريبة حّق ًا لدى بعض الشعوب البدائية!.. منذ ب���زوغ تل���ك األفج���ار األولى، همة رؤيته على واإلنس���ان بصدد شحذ ّ تخي���ط ذاكرته، أش���كال العال���م الت���ي ُ وتجِبُره على إعطاء تفسيرات لها لوضع رابط بينه وبينها ،عبر الحلم تارة وعبر الحقيقة تارة ُأخرى ،عبر نهج س���لوك الش���ق النفساني الكثير، معين ،فيه من ّ ّ الشق العقالني الشيء الكثير أيض ًا ومن ّ تطور الرؤى واألش���كال والعالقات بعد ُّ الرابطة بينها ،فغدا اإلنسان تباع ًا لتلك
34
لنمو العالق���ات بمثابة الممّه���د الرئيس ّ المعرفة البش���رية وارتقائها من مرحلة إلى أخرى ،حتى وصل إلى ما هو عليه تط���ور افتراضي ،بعدما كان اليوم من ُّ قبل عشرات اآلالف من السنين ،يعيش التصور الميتافيزيقي ،كما أشار مرحلة ّ تطور العلوم».. إلى ذلك «تاريخ ُّ مهم���ة جداً ،ربطت تاريخ ّ إن ثنائية ّ وش���كلت تط���ور العل���وم والمع���ارف، ّ ّ التطور ذل���ك عمق في الحركة دينام���و ُّ ذاته .ه���ذه الثنائية تش���كلت من قطبي (الوسط /الفكرة – )Milieu/Pensée دوم���اً ،وتنازع���ت على ري���ادة التمثيل ،Représentationوامت���ّدت إل���ى ثقافات الش���عوب ،كي تصب���ح اليوم، تصو ٍ رات ح���رب لي���س فقط َ مداخ���ل أو ّ َ منهجية ،وإنما حرب بناء ثقافات بعينها فقب���ل أن تقوم أسس���ة حض���ارات. َ َ وم َ التصورات الش���عوب ،قام���ت حضارات ُّ ّ على اخت�ل�اف درجة الوع���ي فيها وفي مفعليه���ا االجتماعيي���ن ،وربط���ت تلك ّ ِ ِ وموفورات منجزات الشعوب إلى أشكال ِ الحياة القائمة ،فنبت التفاعل بين الفكرة األش���كال ً، ا تباع وتش���كلت والوس���ط، ُ الحضاري���ة المختلف���ة ،وبالتال���ي، والنوامي���س والمخطوطات الدس���اتير ُ ُ
المتعّددة والكتب السماوية والمنطوقات المدون���ة ..إل���خ ،كي المدون���ة وغي���ر ّ ّ تتش���كل تلك اللوائح البش���رية الكثيرة التي َو َخ َط ْت تاريخ المس���ار اإلنس���اني متأملة. وجعلت منه أثرًا قائم ًا بعد عين ِّ وبين ه���ذه الفك���رة وتل���ك ،وبين تداول تمثيل وآخر ،اجتهدت المجتمعات تصوراته���ا التنش���يئية ف���ي إنش���اء ُّ ،Socialisationمس���تعينة ف���ي ذلك االجتهاد بما أصبح يعرف اليوم بالمخيال الجماع���ي Imaginaire collectif يش���ك ُل البنية الذهنية االجتماعية الذي ّ تس���اهم في تسيير حياتنا وتغذّيها التي ُ ثم َة ومن المحلية، نا ت ثقاف بذلك لة مشك ِّ َ َ ّ حضارتن���ا التي تختلف ع���ن حضارات المجتمعات األخرى في درجة إس���هامها حس���ب اس���تعدادات مميزاتها الوسطية درجة الت���ي تحمل ضمن م���ا تحمل���ه، َ قابلية الّتماهي والتجانس مع اآلخر. َ ربما ،لم ُيقابلنا العربية ثقافتنا في ّ جلياً :المخي���ال ،إ ّال في ه���ذا المصطلح ّ العش���رية األخيرة من القرن المنصرم، حيث كانت معاول الحداثيين التي بدأت تش���تغل منذ نهاية الس���بعينات بفضل أعم���ال الجابري وأرك���ون ونصر حامٍد أبي زي���د وأدونيس ،وفرج فودة ..إلخ من طليعة ممثّلي الكتلة السوسيولوجية النقدية للعق���ل العربي ،التي يقف على ربما ،بش���كل ديكارتي ،الدكتور رأسها ّ طه حسين منذ العش���رية الثالثة لنفس القرن ،وحين أشرنا إلى تلك العشرية، فإننا أيض ًا نش���ير اآلن ،إلى أن مخيالنا العربي ،الذي لم يراجع نفسه بعقالنية دقيق���ة كم���ا فعل���ت الحض���ارة الغربية عب���ر ت���راث كان���ط ،كان مربوط��� ًا إلى الخيال واألوهام التي تعود إلى مرحلة الميتافيزيق���ا أكث���ر منها إل���ى المراحل المتطورة – حت���ى الالهوتية منها ،كما ّ عاش���ها ابن رش���د أو الغزال���ي ،اللذان أفضل الذهني���ات النقدية يمثّالن ربم���ا ّ للدراس���ات الالهوتي���ة ف���ي التاري���خ اإلسالمي. وبما أن المخي���ال ،يجمع كل أنواع الس���اذجة منه���ا وحت���ى ّ التص���وراتّ ، اليانعة ،ف���إن الخيال اللصي���ق بثقافة
روكني حاريذاده -إيران أي مجتمع ،من شأنه أن يمنح المعنى التصورات ،كي يتفاعل مع بدوره لتلك ُّ المنطق األسطوري بدوره ،منتج ًا بذلك لنوع من االحت���كاك الدينامي الّداخلي، أو الح���رارة الداخلية التي تحتدم تارة، وته���دأ تارة أخ���رى ،وه���ي تجاهد من أج���ل فبرك���ة المعنى المكتم���ل األخير، كحوصلة بنيوية نهائية. وبين الخيال واألس���طورة ،تربض أيض��� ًا معايير األح���كام العلمي���ة التي تقبلها لمكانة تختلف فيما بينها في درجة ُّ الخيال واألس���طورة في حياة اإلنسان المتطرف الحدي���ث ،والتي يصل جانبها ّ ح���د َنْفي كليهم���ا ،واعتبارهما أحيان��� ًا َّ مجرد عوائق إبستيمولوجية ،كما فعل ّ بعض أنصار الوضعية أو حتى االتجاه الماركس���ي .وبما أن اتجاه إعادة تقييم القيمة ،بدأ يأخ���ذ مكانته في الحضارة الغربية ،بعد األزمات النفسية والمادية التي ضربت س���واحل العق���ل الغربي، وخلّفت جبا ًال من الهزائم اإلنسانية التي لم تفلح فيها الرؤية العالمية في مداواة جراحات إنس���انها ،مم���ا دفع بالعنصر البش���ري إل���ى االنضم���ام إل���ى ن���وع مجتمع���ي جديد ،ضمن ش���بكة جديدة، وفلس���فة عالمية جديدة ،ه���و المجتمع االفتراضي ،ال���ذي يعتبر تجميع ًا مميزًا ألف���راد عال���م العزلة أو االنع���زال ،كي يتشكل بذلك مخيا ًال جديداً. ويبدو من خالل التجمع الش���بكي
العالمي للبش���رية اليوم ،أن المؤهالت تحرك هذا النفس���ية والعقالنية الت���ي ّ المجتمع ،وبخاصة على مستوى فئته الش���ابة الت���ي تعتبر بمثابة اإلس���فنج الممت���ص الكبير لألفكار ف���ي مرحلتها ّع بش���كل ثقافي ّ الخامة ،أصبحت تصن ُ التطور المادي ضخم ،لعلم الغرب بأن ّ ال���ذي ال يصن���ع التماهي فكري���اً ،وال يق���ّد ُم البديل الموضوع���ي الذي يغذّي متطلب���ات الوضعي���ات الجدي���دة التي تأت���ي من المطالب اللّحوحة في مرحلة تط���و ٌر كفي���ل بصناعة االفتق���اد ،هو ُّ االغتراب .ولذلك ف���إن صناعة الثقافة اليوم ،هي صناعة مس���تقبلية للبدائل المستقبل .ومهما الموضوعية لمجتمع َ قيل ويقال عن هذا المجتمع الكبير الذي ُيش���يع لنوع من األنسية ،فإن «تناحر» الهوي���ات أو «اقتتاله���ا» حس���ب تعبير يظ���ل أم���رًا قائم ًا في أمي���ن معل���وف، ُّ ّب دوم ًا تجهيزًا مبدئي ًا ل الصمي���م ،ويتط ُ مراقب من لهذا التماه���ي الذي يبدو غير ٍ قمة ولكنه خالل قش���رته الخارجي���ة، ّ ف���ي الخضوع إل���ى كل أن���واع الرقابة واالستشراف لمساراته، الدين أصبح العلم الي���وم ،بمثابة ِّ الذي يقّدم نفس���ه للجمهور بألف قناع، مرة مثلما كنّا نش���اهد ويتماهى في كل ّ ذلك منذ ربع قرن في أفالم الكوسموس المتنبئة مع الوضعيات ،حس���ب جسد ّ ���ل كبديل موضوعي كي ���ل، المتخي يح َّ ِّ ُ
لكل الحاجيات البشرية ،الروحية منها والمادية .ولذلك فإن الحضارة البشرية العولمية الي���وم ،هي حض���ارة العلم بامتي���از ،وفي رواي���ة أخرى ،وضمن أن ديانة تص���ورات منهجية مغاي���رةّ ، اإلنسان الحديث ،هي العلم ال غير. المركب���ات الذهنية من هن���ا ،تغدو ّ الت���ي تش���كل مخيالن���ا ،بم���ا يحتوي ِ أفعال يص���ر ُف إلى عليه م���ن خيال قد َّ يصر ُف إل���ى أفعال ق���د المس���تقبل كما ّ صر ُف فقط الماضي ،ومن أس���اطيرُ ،ت َّ ٍ أفع���ال ماضية تارة ،أو إلى أفعال إلى أبدية ال تفنى ،مثلما هو الحال عليه في ثقافتنا اإلس�ل�امية ،رغم تع���ذُّر اإلقرار والفهم في أحايين كثيرة بأس���طورية النص المق���ّدس ،لعدم جاهزية العقلية ّ المحلي���ة للتعامل ب���األدوات المنهجية الن���ص المقّدس ذا الحديث���ة ،واعتبار ّ بني���ة خاصة ج���ّداً ،ال تخض���ع لنحت الدراس���ات الالهوتي���ة الوضعية ،كما يوضحه ضمن النسق حاول أركون أن ّ المركبات التاريخي ..قل���ت ،تغدو تلك ّ بمخيالها ،واهن��� ًا كان أم قوياً ،بمثابة المدخل اإلجباري إلى حضارة اإلنسان الحديث ،ونغدو تباع��� ًا لذلك ،ملزمين بتربية هذا المخيال على مداخل منهجية نقدية قوية ،تحفظ الجانب الخيالي في ثقافتنا ،والجانب األس���طوري أيضاً، تهيُئ���ه لكي يحتمل ولكنّه���ا بالمقابلِّ ، ِ الحض���ارات الذي لم ص���دام م���ات ِ صد َ َ عما رآه ّ يتغير في نسقه الداخلي كثيرًا ّ هنتنغتن ،حتى بعد نهاية التاريخ التي تنبأ بها نيتشه وفوكو وأنتونان أرتو، ّ قبل فوكوياما. وإذا كان اإلنسان يعيش حق ًا دونما ٍ مثالي/متعال/اختزال���ي آت، تاري���خ يقر بش���موليته، يمح���و المص���در ،وال ّ فإن الذاك���رة الجماعية ،ال يمكن لها أن التصورات ختز َل رغم كل ش���يء ف���ي ُت َ ّ المس���تقبلية ،وتتناس���ى أن الخيال أو األس���طورة ،في ثقافات الشعوب ،هو مل���ح الطعام الذي يمن���ح ألي حضارة طعمها اللّذيذ في مجلّد تاريخ البشرية، َ ش���رط ع���دم تج���اوز الكمي���ة الالزمة طبعاً! 35
تلتقي الكتب المقّدسة في اليهودية والمسيحية واإلسالم حول رؤية شبه واحدة إزاء قضية نهاية العالم .وتجمع هذه الكتب السماوية على أن اهلل العلي القدير وضع نهاية لهذه الدنيا التي خلقها .وقد أخفى عن ّ ���دل على قرب مجيئها. � ت عالمات لها وضع لكنه القيامة، وقت ���اده � عب ّ هنا قراءة ف����ي مفهوم القيامة كما أجمعت عليه اليهودية والمس����يحية واإلسالم ،انطالق ًا من مقال نشر في مجلة «عالم األديان» (لو موند دي روليجيون) في عددها األخير.
نهاية األزمنة
في األديان التوحيدية الثالثة عبده وازن -بريوت
ناديا عياري -تونس 36
كتب األديب والش���اعر الفرنس���ي بول فاليري في الق���رن الماضي« :نحن أولو الحض���ارات ،بتن���ا نع���رف الي���وم أننا بائ���دون» .هذا ه���و الدرس ال���ذي يلقّننا إياه التاريخ :حّتى أكثر اإلمبراطوريات عظمة ،على غ���رار إمبراطورية اآلزتيك ً أو اإلمبراطورية الرومانية ،لم تس���تطع الصمود ف���ي وجه الزمن .أم���ا الديانات كرس���ت ه���ذه المقولة التوحيدي���ة فق���د ّ الجازم���ة في أوجها :ليس���ت الحضارات وحده���ا الفانية ،بل العالم بحّد ذاته آيل إلى ال���زوال .وفي تعاليمه���ا أن التاريخ س���يتوقّف يوماً .وتدعو الكتب المقّدسة، ف���ي اليهودية والمس���يحية واإلس�ل�ام، اإلنسان إلى االستعداد إلى نهاية األزمنة المحّتمة .ولم ّ يكف المفسرون و«أصحاب الرؤى» المس���تنورون يوم��� ًا عن إطالق التكهن���ات حول قدوم ه���ذا اليوم ،ولكن من دون جدوى .فنهاية العالم ،تمام ًا كما فعل خلقه ،تخرج عن سيطرة اإلنسان. وألن الكون بأسره ُخلق من العدم في يوم من األيام ،على يد إله قدير وعظيم، فهو س���يعود يوم ًا إلى العدم بإرادة هذا اإلله نفس���ه .وهكذا ،أرسى العهد القديم م���ن الكت���اب المقّدس ،وه���و النبع الذي استقى منه الجميع مفهوم ًا جديدًا للزمن، متسلس�ل�ا ومحّددًا فأصبح ه���ذا األخير ً ببداية ونهاية ،بع���د أن كان دوري ًا على غرار نظام الطبيعة ،يشهد فترات تدهور دوامة ال تل���ي العص���ور الذهبي���ة ،ف���ي ّ تنتهي أبداً ،وهو مفهوم كان س���ائدًا في غالبية الديانات القديمة ،كما في البوذية والهندوسية. إال أن اإليمان بنهاية العالم ال يبدو أنه س���بق تحديده كمفهوم ،إذ إن النصوص األقدم في اليهودية ال تأتي على ذكره .بل أتى هذا االعتقاد ثمرة نضج بطيء ظهر ف���ي مطلع القرن الثامن قبل الميالد ،عند واستمر في عهد األنبياء كتابة المزامير، ّ (أش���عيا وإرمي���ا وحزقي���ال ،واألنبياء االثني عش���ر الصغار) ،وبلغ ذروته في س���فر دانيال (الذي ُكتب في القرن الثاني المي�ل�ادي) ،وال���ذي ذكر للم���رة األولى فكرة «نهاية العالم» .وس���وف ُتلهم هذه الرؤى المرعبة نصوص ًا ذات صلة بسفر الرؤيا ،وهي كانت رائجة بش���كل خاص
في الق���رن الثان���ي قبل المي�ل�اد والقرن ولعل أش���هر نصوصها األول للمي�ل�اد، ّ هو س���فر أخنوخ ،النس���خة المعاصرة لسفر دانيال .وسيكون لهذه الرؤى تأثير على كلمة المس���يح ،الذي يقتبس مرات ليبش���ر بـ «رجسة عّدة عن النبي دانيال ّ ال الخ���راب» التي تس���بق النهاي���ة .وفض ً ع���ن األناجيل ،فإن انتظ���ار يوم اآلخرة بارز في ن���ص رؤيا يوحنا ،الذي أثارت قراءته تفسيرات مخيفة بعيدة عن معناه األساس���ي .وب���دوره ،أعاد اإلس�ل�ام، على غرار َس���َلَفْيه الدينين التوحيديين: اليهودية والمسيحية ،الحديث عن نهاية العالم ،وهو أح���د المواضيع الجوهرية ف���ي الق���رآن الكري���م والحدي���ث النبوي الش���ريف .فاليوم اآلخر أو يوم الحساب أو ي���وم الجزاء والدين في اإلس�ل�ام هو ركن م���ن أركان اإليمان .فاهلل كما يش���ير الدارس���ون شاء أن يوجد هذه الدنيا لمدة معينة ثم ينهيها في وقت ال يعلمه إال اهلل سبحانه ،ولكن قبل اقتراب انتهاء الدنيا س���تظهر عالمات صغرى مثل انش���قاق القم���ر وموت النبي محمد صلى اهلل عليه وس���لم وضي���اع األمان���ة وكث���رة القتل وعودة جزي���رة العرب مروج��� ًا وأنهارًا وانحسار نهر الفرات عن جبل من ذهب، وغيرها م���ن مئات العالم���ات التي ظهر بعضها وبقي بعضها اآلخر لم يظهر. وم���ن العالمات الكبرى التي تدل على قرب ي���وم الحس���اب :خ���روج الدجال، ونزول عيسى بن مريم ،وخروج يأجوج ومأجوج ،وخروج الداب���ة ،وغيرها من العالمات التي من أهمها وآخرها أن تطلع الش���مس من مغربها وليس من مش���رقها المعتاد .ام���ا الهالك األكب���ر فيبدأ عندما ينفخ أحد المالئكة في الصور الذي يشبه قرن الحيوان ،فيموت بس���بب صوته كل البش���ر الموجودين في آخ���ر الزمان ،ثم بعد فترة من الزمن ينفخ في الصور مرة الناس من قبورهم أخرى ،ويحي���ي اهلل َ ُ م���رة أخرى .يق���وم الناس م���ن قبورهم عراة حفاة ،ثم تنزل المالئكة صّف ًا صّف ًا ثم يأتي اهلل لفصل القضاء فتنشق السماء وتنطف���ئ الش���مس ،وتتناث���ر النجوم، وتتفجر البحار ،وتصي���ر األرض ممتدة مس���توية ،فيبرز كل الن���اس وال يتخفى
منهم أح���د .ويـُـن���ادى على كل إنس���ان باس���مه ،فيحضر بين ي���دي اهلل ألجل أن يحاسبه اهلل وحده من دون ترجمان ،ولذا في ذلك اليوم سيضع اهلل ميزان األعمال، وتنشر الصحف التي فيها أعمال اإلنسان م���ن خير أو ش���ر وكل صغيرة وكبيرة، فم���ن كان ف���ي الدني���ا يعمل الحس���نات وع���اش حيات���ه مؤمن ًا صالح ًا فس���وف يستلم صحيفته بيمينه ثم يدخل الجنة، ومن كان في دنياه يعمل السيئات وعاش كافرًا فسوف يستلم صحيفته بشماله ثم يدخل النار.
حيث يتمثّلون ف���ي مجيء البرابرة الذين المتحض���ر .وفي إنجيل يدم���رون العالم ّ ّ (مرقس ،)13 ،7حذّر يس���وع المس���يح قائالً« ،فإذا س���معتم بح���روب وبأخبار حروب فال ترتاعوا ،ألنها ال بد أن تكون، الش���ر ولكن لي���س المنتهى بعد» .فقوى ّ لن تس���تكين .وفي المسيحية واإلسالم، ت���دل إليها، ثمة ص���ورة مجازية مماثلة ّ وه���ي ص���ورة «الوحش» (س���فر الرؤيا «الدابة» (القرآن سورة الشورى، )19أو ّ اآلي���ة ،29وس���ورة النمل اآلي���ة ،)82 وهذان الوحش والدابة ينشران الكفر.
«النجوم تسقط من السماء» ليس بمفاجئ ،ف���ي الكتابات الدينية التوحيدية ،أن يجري مس���ار هذا الحدث كل من الديانات بحسب حبكة الدرامي في ّ متش���ابهة بعض الشيء ،تتخلّلها مراحل ع���ّدة متتالية .والح���ال أن نهاية األزمنة س���وف تبدأ بسلس���لة م���ن العالمات أو اإلشارات التمهيدية ،بدت ضئيلة نسبي ًا في اليهودية ،وازدادت في المس���يحية، وتكاث���رت ف���ي اإلس�ل�ام عل���ى وج���ه الخص���وص ،ومنها الظواه���ر الكونية، وغيرها من الهزات األرضية ،التي ذكرها على حّد سواء المسيح («تظلم الشمس، والقمر ال يعطي ضوءه ،والنجوم تسقط م���ن الس���ماء» ،مّت���ى )29 ،24والدين اإلس�ل�امي («وستش���رق الش���مس م���ن مغربها» ،حديث شريف). إن عودة الش���عب اليهودي إلى أرض مرات ج���دوده ،والتي تضع ح���ّدًا لتيهه ّ عّدة ،طبق ًا لنب���وءة حزقيال (،)37 ،25 تبش���ر بالنهايات الت���ي ينتظرها اليهود ّ والمس���يحيون .إال أن ه���ذه الع���ودة واالس���تقرار في أرض الوط���ن لن يكونا س���هلين ،إذ س���وف يتبعهم���ا ص���راع الش���ر (يأجوج بي���ن قوى الخي���ر وقوى ّ ومأج���وج) ،أي ص���راع ال���دول ض���ّد إسرائيل .ويأتي س���فر الرؤيا على ذكر ه���ذه المعارك المانوية(الخير والش���ر)، التي يجمع خاللها الملوك جيش ًا لتحّدي اهلل «ف���ي مكانة هرمج���دون» (،)16 ،16 في حي���ن تهجم جحافل يأجوج ومأجوج بعن���ف ف���ي المعركة الثاني���ة من معركة ويس���تمرون بالدمار اآلخرة (...)20 ،8 ّ
رجاء الخالص تأتي بعض النصوص على ذكر فترة سالم تلي هذا العهد المظلم (سفر الرؤيا ،)20ولكن االنحالل األخالقي واالرتداد عن الدي���ن س���يتضاعفان ف���ي النهاية، تحت تأثير «األنبي���اء الكذبة» الذين حذّر منهم المس���يح ،أو «الدجال» المذكور في الدجال هو الذي أحاديث عّدة .فالمس���يح ّ ثم ،ستندلع معارك جديدة، يسود .ومن ّ ض���راوة ،وتنتهي بحس���ب القرآن أكثر ً كل المخلوقات .إال أن نهاية الكريم بفناء ّ الفوضى قريبة ،فمجيء عدو اهلل بامتياز هذا يتبعه مجيء ش���خص آخر انتظرته الكتب المقّدسة الثالثة ،ليأتي معه الرجاء بالخالص .هذا الش���خص عند اليهود هو المس���يح المنتظر ،وعند المسيحيين هو المسيح بمجيئه الثاني ،وعند المسلمين هو المهدي. اإليمان بالمسيح المخلّص أساسي في ويشكل مجيئه عقيدة ش���عب إس���رائيل، ّ المرحل���ة األخيرة م���ن نهاي���ة األزمنة. أحياناً ،يش���ار إليه على أنه خادم سقيم «محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن»( ،أشعيا .)3 ،53ولكن، مع مرور الوقت ،سيشار إليه أكثر فأكثر في الخيال الجماعي ،على أنه ش���خص مكلّل بالغار ،على صورة «ابن اإلنسان» الذي وصف���ه دانيال عندما ق���ال« :أنعم علي���ه بس���لطان ومجد وملك���وت لتتعبد ل���ه كل الش���عوب واألمم من كل لس���ان. سلطانه س���لطان أبدي ال يفنى ،وملكه ولعل تفسير سفر ال ينقرض.)14 ،7( ». ّ دانيال س���يقود غالبية اليه���ود إلى عدم
37
االعتراف بيسوع المس���يح الذي تحّدثت عنه الكتابات .فالمس���يح ال يموت ،وإن مات فليس كما يموت المستعبدون ،على الصليب. أم���ا المس���يحيون فلهم تحلي���ل آخر لهذا الحدث المؤلم أال وهو صلب يس���وع المس���يح .ال ّ شك أن اهلل سمح بأن يموت ابنه معلّق ًا على خش���بة ،ش���أنه ش���أن اللصوص ،ولكنه أعط���اه الحياة مجددًا وبزخم أكبر في الي���وم الثالث .إن قيامة يسوع المس���يح الفريدة وغير المنتظرة أت���ت لتثبيت إيمانهم :إنه حقّا المس���يح. وبالتالي ،إنه المس���يح نفسه الذي يجب المهمة أن يجيء في نهاية األزمنة إلكمال ّ التي بدأها في مجيئه األول على األرض: الكشف عن ملكوت اهلل .ومجيء المسيح الثاني ،كما أعلنه هو« ،في سحاب بقوة كثيرة ومجد» (مرقس )26 ،13له اس���م في اللغة اليونانية وهو «باروس���يا» أي «المجيء» أو «الظهور اإللهي». يسوع أو عيسى هو شخصية أساسية في الديانة المس���يحية ،ويضطلع أيض ًا بدور هام في المعتقدات اإلس�ل�امية ذات الصل���ة باآلخ���رة .في الواق���ع ،ورد في أكث���ر من حديث أنه س���يعود في األزمنة الغاب���رة ليقضي على المس���يح الدجال، ويكون «الحاكم العادل واإلمام الصالح» (حدي���ث .)186إال أن ه���ذه الصورة عن يس���وع ،ال تمت بصلة إل���ى صورته في المس���يحية ،حيث س���يعود ف���ي مجيء ثان «ليدين األحي���اء واألموات» كما ورد ٍ في قانون اإليمان المس���يحي .بالنس���بة إلى اإلس�ل�ام ،يلعب يسوع دور الخليفة الذي يكفل وح���دة المؤمني���ن .وإذا كان القرآن الكريم يطلق عليه لقب المس���يح، فقد خس���ر المعنى الق���وي المرفق به في اليهودية لمصلحة لقب المهدي. وعلى أي حال ،إن مجيء هذا الشخص المخلّص س���واء أكان المسيح المنتظر، أو يس���وع المسيح في مجيئه الثاني ،أو المه���دي ،يتبعه حتم ًا ح���دث ال مثيل له: قيامة البشرية .فاألرواح المعذّبة الضالّة منذ آالف السنين في الجحيم المظلم كما يصفه العهد القديم ،ستعود إلى الحياة، جس���دًا وروحاً .وف���ي هذا الص���دد ،قال دانيال (« ،)2 ،12كثي���رون من الراقدين
38
وأكد ف���ي ت���راب األرض يس���تيقظون»ّ . يسوع المسيح أن ابن اإلنسان «سيرسل مالئكته ببوق عظيم الصوت عند مجيئه الثاني ليجم���ع مختاريه من األربع رياح من أقصاء الس���موات إلى أقصائها» (متى .)31 ،24وجاء في س���ورة الزمر (اآلية ���م ُنِف َخ ِف ِ ام ُ )68 يه ُأ ْخَرى َف���ِإ َذا ُهم ِقَي ٌ «ث َّ ون» .ه���ذه القيامة العامة ليس���ت ���ر َي ُ نظ ُ َ بنهاي���ة في حّد ذاتها ،ب���ل هي تعلن عن تأليه الحدث :إنه يوم الدينونة. اليوم اآلخر إنه يوم أساس���ي ،تبعاته ثقيلة جدًا كل سكان األرض ،وهو يعرف بيوم على ّ الس���خط عند اليه���ود .إنه ي���وم مرعب، حس���بما تذكره نصوص النبوءات« ،يوم ضيق وشّدة يوم خراب ودمار يوم ظالم وقتام يوم س���حاب وضب���اب»( ،صفنيا .)15 ،1وأخيراً ،س���يتم تحرير الش���عب اليهودي .أما ي���وم الدينونة الذي يذكره بولس في رس���الته إلى أهل رومية (،2 )5فه���و بالخطورة عينها إذ إنه س���وف «تذخر لنفس���ك غضب ًا في ي���وم الغضب واس���تعالن دينون���ة اهلل العادل���ة» .في اإلس�ل�ام ،يمكن أن يمتّد هذا اليوم إلى ما ال نهاية ،إلى خمس���ين ألف سنة (سورة المعارج ،اآلية.)4 األبرار واألشرار يميز بين إذ ً، ا قاطع اهلل سيكون حكم ّ الصالحي���ن والطالحين ،ويكون لألولين الخ�ل�اص ،وللتالي���ن اللعن���ة .ويح���دد األنبياء اليهود أن الخالص سيعطى إلى «نائحي صهيون» (أش���عيا )3 ،61وإلى الذين يخافون اهلل (مالخي ،)2-3 ،3أي إل���ى الذين اتبعوا ناموس موس���ى .غير أن مسألة المكان المخصص لغير اليهود ش���هدت الكثير من النقاش بين المفسرين اليه���ود ،ويعتقد العديد م���ن الحكماء أن الحياة األبدية س���تمنح إل���ى «األبرار من كل الش���عوب» .ويبدو أن يسوع المسيح ّ ال يرهن الخالص س���وى باألعمال فقط، وبن���وع خ���اص ،بالمحبة الت���ي يثبتها الفرد ،أو ال يثبته���ا ،خالل حياته (متى .)31-46 ،25وإذا كانت األعمال تكتسي أهمي���ة الفت���ة ف���ي المفهوم اإلس�ل�امي
ف���إن إيم���ان المؤم���ن يؤدي للخالص، ّ دورًا مصيري��� ًا يت���رك المج���ال لالعتقاد أن وحده���م المس���لمين يمكنهم الوصول إلى الحياة األبدية :فيس���وع المسيح ،إن أصبح مس���لماً ،سيلوم المسيحيين على تأليههم له ،وس���يندد باليهود (س���ورة المائدة ،اآلية .)116 وبع���د نهاية األزمنة ،س���يأتي العالم المقب���ل عند اليهود ،حي���ث يذهب األبرار إلى جنة عدن السمائية .وبفضل الوجود تمر أربعة اإللهي في هذه الحديقة ،حيث ّ أنهر (اللبن والخمر والبلس���ان والعسل)، تعيش المالئكة ذات األصوات الس���احرة وتنم���و األش���جار الذكي���ة العبي���ر .إنه يذكرنا بالجنّة في الدين لوصف شاعري ّ اإلس�ل�امي ،حي���ث ال حدود للس���عادة. إن الجنّة التي وعد بها يس���وع المس���يح ال توص���ف بالص���ور ألنها ليس���ت جنّة ملموس���ة ،بل حالة روحية يش���عر فيها األبرار بالسعادة التامة عبر تأملهم باهلل (رسالة إلى أهل كورنثوس .)12 ،13 أم���ا األش���رار ،فمصيره���م وخيم في جهنّم .وتعود تس���مية «جهنّم» إلى وادي «جيهن���وم» المريع في جن���وب القدس، حي���ث كان الوثني���ون في الق���دم يرمون أضحي���ة آللهتهم ...وإذا األوالد ليكونوا ً كان المعتق���د اليهودي غي���ر موحد في ما يخص وج���ود الم���كان الجهنّمي (بعض ّ أكدوا عدم وجود جهنّم في العلماء اليهود ّ العال���م المقبل) ،فالقرآن حاس���م في هذا الموضوع ،سيذهب األش���رار لالحتراق في نار جهنّم ،هي نفسها النار المذكورة في سفر رؤيا يوحنا (.)15 - 14 ،20 اليوم ،أصب���ح مصي���ر كل الكائنات البشرية مرتبط ًا بعضه ببعض إلى األبد. بالنس���بة إلى بعضهم ،س���يكون النعيم األبدي .وبالنس���بة إل���ى البعض اآلخر، العقاب الدائم .وتحدد سورة هود (اآلية ّار َلُهْم ���قوْا َفِف���ي الَن ِ َ ين َش ُ «:)106فَأَّما اَّلِذ َ ِ ِ ِ يها َما َد َام ِت ف ين د ل ا خ ِيق ه ��� ش و ير ٌ َ َ َ َ ِف َ يها َزِف ٌ َ َ ض ِإ َّال َما َش���اء َرُّب َك ِإ َّن ر أل ا و ات او ���م الس َّ َ َ ُ َ ْ ُ يد» .وفي الخالصة أن َرَّب َك َفَّع ٌ ّم���ا ُيِر ُ ال ِلَ نهاية العالم كما تراها األديان التوحيدية الثالثة ليست بالضرورة نهاية كل شيء، ب���ل هي الدخول إلى عص���ر جديد تماماً، حيث ال قيمة للمكان وللزمان.
�ضحك وجد
ستفانو بيني
نهاية الدنيا ِد جدي فالحاً ،وكان يردد أن نهاية الدنيا هي ش���يء يخص ُولَ األغني���اء ،ويكفي الفقراء الوصول إلى نهاية األس���بوع .ربما ل���م يعد األمر هكذا :فوس���ائل اإلعالم ،بدءًا بالوس���ائل الجادة وانتهاء بالوس���ائل هوليودية الطابع ،زرعت تلك الفكرة عن نهاية العالم في رؤوس البشر أجمعين. ً لنبحث اآلن جميع افتراضات نهاية العالم األكثر انتشارا ولنقرر ما نفضله منها. حدوث كارثة نووية .هذا الس���يناريو َفَقَد مصداقيته بعد نهاية الحرب الباردة بين الواليات المتحدة واالتحاد السوفيتي ولكن العديد من البلدان تمتلك القنبلة الذرية ،وهناك شيء أكثر فتك ًا من القنبلة النووية وهو الغباء العسكري .ولكن حتى في حالة هطول القنابل النووية فلن ينتهي العالم كله ،ألن األميركيين، وربم���ا ليس���وا وحده���م ،لديهم بالفع���ل خط���ة .مجموعة من المركب���ات الفضائية التي تحمل م���ن هم أكثر ثروة وأكثر ذكاء على كوكب األرض في مدار حول األرض لمدة ثالثين عام ًا حتى ينتهي س���قوط اإلش���عاع ويصبح ممكن ًا الهب���وط مرة أخرى. صعوبات هذا الهروب بديهية .إن اختيار األكثر ثراء أمر سهل، ولكن من س���وف يقرر م���ن هم األذكياء؟ المخاب���رات المركزية األميركية ،أم برنامج مسابقات تليفزيونية ،أم معلمة مدرسة ف���ي األباما؟ إضافة إلى هذا ،من تراه يقبل بقضاء ثالثين عام ًا في الفضاء يأكل هامبورجر «بايت» ويشاهد برامج تليفزيونية قديمة؟ الموت أفضل من هذا .فيما يتعلق بنا نحن -اإليطاليين- فلن نستطيع أن ننقذ أنفس���نا .ليس لدينا أموال لبناء مركبات فضائية من الكبر بحيث تس���ع دوري كرة القدم ،وهو الش���يء الوحيد المتوافر توافرًا حقيقي ًا في بلدنا. ً الغزو م���ن الفضاء هو االفت���راض األكثر تأثي���را .تقول إحدى اإلحصائيات إن العالم يش���هد كل يوم عشرة آالف طبق طائر. كما يعلن ألفا شخص كل يوم أنهم تحدثوا مع كائنات فضائية، واثن���ان تزوجا منه���ا بطقوس فلكي���ة مدارية .ولك���ن ما الذي يضط���ر مخلوقات أكثر ذكاء تكنولوجي��� ًا منا للتورط في خلق مشكلة ألنفسهم بغزو األرض؟ ما الذي يمكن أن يجنوه من هذا؟ فإذا أهملنا الفرضي���ة الهوليودية لكائنات الفضاء اإلنس���انية تبقى فرضية واحدة :البحث عن الخامات األولية .ولكن مناجم الخامات األولية تم استغاللها واستنفاذها ،ولن يفيد في شيء الترح���ال من أج���ل حمولة صغيرة .ويس���تحق البترول وحده حديثاً ،ولكن غزو بلد من أجل البترول ليس ش���يئ ًا جديدًا ،وال نحتاج إلى كائن فضائي لعمله.
الخ���وف الحقيقي الوحيد ه���و أن تحتاج الكائن���ات الفضائية لخام���ات أولية هامة له���ا وعادية لنا .لنفت���رض أن الكائنات الفضائية لديها س���فن فض���اء تعمل بغاز األغنام .أس���تراليا هي البلد الت���ي بها أعلى تركيز من فس���اء األغنام في الهواء، وبالتالي فقد تتعرض للغزو .ولكن هذا االحتمال بعيد. لنفكر إذًا في فرضية س���قوط جرم سماوي ضخم علينا .طبقاً لعالم الفضاء الكبير هوكنج فإن هذه االحتمالية هي بالتحديد واحد على 6مليار ،ومن ثم نستطيع أن نطمئن حتى ولو كان المثل يقول إن «الحظ أعمى ولكن النحس قوي النظر». م���ن بين فرضيات نهاية العالم األخرى ما طرحه بعض علماء الحيوان ،بأن أنواع ًا أخرى مثل الفئران أو الصراصير تقرر أن البش���ر يدمرون األرض وأنهم يريدون االستيالء عليها من أجل إنقاذها .الفئران أكثر عددًا من البشر بمائة ضعف .ولكن طالما لم نر فأرًا يخرج من جحره وهو يمسك مدفع ًا رشاش ًا في يده، فإن هذا الخطر ما يزال بعيدًا. يبقى االحتمال األخير ،وهو األكثر مصداقية ومعقولية :نهاية كوك���ب األرض لتغير المناخ .هنا ال يقدم العلماء بيانات مبهمة مث���ل رؤية كائنات فضائية أو عدواني���ة الفئران ،وإنما أرقام ًا دقيق���ة ويمكن مراجع���ة دقته���ا .إذا ما واصلن���ا ذبح األرض بتلوي���ث الغ�ل�اف الجوي والمحيطات ،س���وف تك���ون هناك كارث���ة كونية عاج ً ال أو آجالً .تتح���دث بالد العالم عن هذا في المؤتم���رات الكبرى ،ومن يتكلم أكثر ع���ن هذا هي البالد التي تسمم الكوكب أكثر .االتفاق ممكن ولكنه صعب .تستمر روسيا في تلويث أرضها بالنفايات المشعة ،والواليات المتحدة تذيب وتثقب الجليد في القطب الش���مالي بحث ًا عن البترول والغازات الن���ادرة ،والصي���ن توجه إلى الس���ماء مداف���ع آالف المداخن الصناعية ،والس���فن اليابانية تفرغ البح���ر من جميع كائناته السمكية. وتفس���ر لم���اذا تخرج صناعة حقيقية. المخاوف الم���رة هذه ِّ ً الس���ينما على الدوام أفالما ينتهي فيه���ا العالم ،أو يتم إنقاذه في اللحظة األخيرة بواس���طة ممثل جميل التس���ريحة .يعجب الناس أن تش���اهد من ف���وق مقعد وثير نهاي���ة العالم مصورة تصويرًا جيدًا ومحبوكة حبك ًا درامي ًا محكم ًا كما لو أنه يتحدث عن كوكب آخر ،وليس عن كوكب األرض. نهاية العالم برتوش خاص وأبطال منقذين هي نهاية مثيرة، ولك���ن النهاية الحقيقة للعالم س���وف تكون مختلفة .لس���بب بسيط :ألنها عندما ستقع لن نخرج من دار السينما. 39
وكأنها رغبة في الفناء ،التالش����ي ،ظاه����رة ،كما كانت قبل حلول ع����ام 2000وغيرها م����ن الظواهر التي يبتكره����ا المنجمون ويصدقها الناس ،وكما يقال إن يوم 21ديسمبر/كانون األول 2012هو تاريخ نهاية 5.125دورة سنوية.
الفلكي ..أم مريض البارانويا؟
من الذي يقرر؟ د .خليل فا�ضل -م�صر
لماذا يهتم الناس بحدث لم يحدث؟ بل لماذا حتى المثقفون وبعض الصفوة متأكدون بل وعلى يقين أن نهاية العالم ستكون ف��ي ع��ام ،2012وليس هذا نوع ًا من الميتافور أو السياسة لكن هم ال هذا األمر ،إنهم يعتقدون يصدقون فع ً أننا نعيش نقضي الوقت ونتطور إلى ما ال نهاية ،إذن فالبد أن تكون هناك نهاية. التوقعات ال تنحصر في األذه��ان وال��رؤى ،لكنها تعّدت حدود ذلك إلى تصور القيامة في فيديوهات وصور تنتشر على مواقع اليوتيوب وغيرها. ف��ي ح���وار ل��ع��دد م��ن الصحافيين األم��ي��رك��ان م��ع رس��ام��ي��ن ومثقفين ومختصين بعلم الفلك وما وراء الطبيعة تحدثوا عما يسمى «األزم��ان التي على الحافة» بمعنى عدم اليقين في حضارتنا اإلنسانية ،ألنهم يروا أن وعينا كبشر مهزوز ومتأرجح ،يشوبه الشك وعدم الوضوح. أهم تلك العالمات هو ذلك التحول السريع في العلوم والتكنولوجيا ،مما جعل العالم قرية صغيرة ،تربطها ببعضها البعض شبكات وأقمار ورؤى خفيفة ك��ث��ي��رة ،ظ��ه��رت بنى تحتية
40
كثيرة في التكوين االجتماعي ،نظم جديدة وقيم جديدة أهمها (المرونة) بكل أبعادها :االجتماعية ،واإلنسانية، العلمية وال��ع��س��ك��ري��ة ،والسياسية بالطبع( ،الفهم المتبادل)( ،الكفاية الذاتية) مما يسمح بعدم تمركز القوة في يد دولة كالواليات المتحدة أو غيرها، ويترك للشعوب والناس في تجمعاتهم الحضارية المختلفة ،حرية التصرف في مصيرهم ومستقبلهم. ه��ن��اك أم����ور ط��ب��ي��ع��ي��ة الب���د من مالحظتها على ال��ك��ون مثل تغيرات المناخ ،انقراض بعض األنواع ،سقوط أنظمة مالية كانت تتربع على عرش العالم. لكن هل لإلنسان بكل ما أوتي من علم وقوة وجبروت في مجاالت شتى، أن يدرك المستقبل البعيد جدًا من خالل حاضرنا الذي نعيشه اآلن؟. حل لمشكالت هل يبحث االنسان عن ّ البشرية الكثيرة؟ بعضها ليست له حلول مرتقبة أو محتملة! من الناحية الدينية حل كل مشكالت (اهلل ،الرب ،القادر على ّ اإلنسان) ولهذا فإن الناس يتصورن أن اهلل سمعهم وسيستجيب إلى دعائهم بحل مشكالت الفقر والبطالة ،الشمال ّ
والجنوب ،الحروب ،القتل على الهوية والتعذيب ،إنهم يرون في (القيامة) أمر اهلل وليس دمارًا أو جحيم ًا بل اختياراً. واألمرـ بالطبع ال يخلو من توتر وقلق وعصبية ،فهل نحن -معشر البشر- مستعدون لما سيحدث؟ هل سنحس بكل ذلك ،أم سنذهب لآلخرة ،للجنة أوم للنار؟ يقولون في الغرب أن األمر لديهم أرح���م م��ن ان��ه��ي��ار البيئة مثل األعاصير وال��ك��وارث وال���زالزل التي اجتاحت اليابان وأميركا وإندونيسيا وتركيا وغيرها من البالد العالم ،أو هيمنة العرب على اقتصاد العالم أو الرقص على هرمجدون. وهرمجدون كلمة جاءت من العبرية (هارت – مجدون) أو جبل مجدو ،بحسب المفهوم التوارتي هي المعركة الفاصلة بين الخير والشر أو بين اهلل والشيطان وتكون على إثرها نهاية العالم ،وتقع هضبة «مجيدو» في منطقة فلسطين على بعد 90كم من شمال القدس و 30كم جنوب شرق مدينة حيفا وكانت مسرح ًا ل��ح��روب ض��اري��ة ف��ي الماضي ،وهي عقيدة مسيحية ويهودية مشتركة تؤمن بمجيء يوم يحدث فيه صدام بين قوى الخير وقوى الشر ،وسوف تقوم تلك المعركة في وادي مجدو ،وينخرط فيها مليون جندي لخوض حرب نهائية. وجدير بالذكر أن��ه في ع��ام 1984 أجرت مؤسسة يانكلوفينيش استفتاء ظهر منه أن % 39من الشعب األميركي، أي حوالي 85مليون يعتقدون بحديث اإلنجيل عن تدمير األرض بالنار قبل قيام الساعة ،بحرب نووية فاصلة. وعند المسلمين ف��إن هناك إيمان بمعركة كبرى في آخر الزمان تقع بين المسلمين والكفار دون اإلشارة إلى اسم هرمجدون تحديدًا وينتهي األمر بانتصار المسلمين في المعركة. ي��أت��ي هنا الحديث عما يسمى بـ (ال��ب��اران��وي��ا) أو اإلح��س��اس بالظلم واالض��ط��ه��اد وه��و شعور مرضي في أعمق معانيه وخفيف يستخدم ثقافي ًا للحساسية في أخف ص��ورة ،بمعنى وج���ود منظومة ضاللية( ،تحديدًا
أحمد السوداني -العراق
ف والنشاط البارانويي) ،بمعنى الموق عمق متمي ز في طبيع ة البشر تطور ن من ناحية أخ��رى ،وه��ذا في اإلنسا ح��د ذات��ه يتطلب ض���رور ة اعتمادنا ت خاطئة قاهرة النسبي على معتقدا تدعم وجودنا مرحلي ًا وهذا تقريب ًا ما حدث بشأن مسألة النبوءة 2012. أما ح- طبيعة حياتنا المعاصرة فهي تسم بل وتنمي -أن يعيش اإلنسان وحيداً، ل بمعنى العزل ة ال بمعنى التكامل ،ب الحقيقية ،فكلما زادت عزلة اإلنسان الجوهري ة ع �ن التواصل اإلنساني الحقيقي ،بمعنى افتقاره إلى الرسائل ن إنسان آخر، الحميمية ذات المعنى م ل مثل هذه ن إرس��ا وبالتالي عجزه ع الرسائل،أقولكلماتزايدتهذهالعزلة ن يدعم احتاج اإلنسان أكثر وأكث ر إلى أ كيانهالداخلي. بمعتقد ثابت منظوم ،يتغذى منه غذا ء داخلي ًا خاص ًا ويستند علي ه ضد أي ارتباك مهدد بالتناثر بسبب اختالل المعايير والقيم ()Anomic Suicide األنومية ،الالمعيارية ()anomieوهي كلمة فرنسية أصلها التيني وهي الحالة المقابلة (العكس) للتضامن االجتماعي، فإذا كان التماسك االجتماعي يشير إلى نوع من التكامل األيديولوجي (الفكري) ال��ج��م��اع��ي ،ف��إن األن��وم��ي��ة ه��ي حالة
الفوضى وانعدام األمن وفقدان المعايير والنفور والبغضاء بين أفراد المجتمع وه��و في حد ذات��ه ينقسم إل��ي أربعة مجموعات: (أ) ال��خ��ل��ل ال��م��زم��ن وال���ح���اد في االقتصاد :يتهيأ لي أنه ال بلد أن العالم يمر بما مررنا به من حاالت اقتصادية غ��ري��ب��ة ،إذن ف��ه��ن��اك س��ب��ل وهناك احتياجات وهناك مليارات هاربة، وف��ل��وس وج��ش��ع وط��م��ع ولصوص وإذا اجتمع كل ذلك توافرت الظروف وتجهزت التربة الصالحة للموت: انتحار أو حسرة كمدًا أو أسف ًا أو انتهاء العالم والحياة تمام ًا ..أو هروب ًا من واقع اقتصادي جحيمي متخبط ليس له مثيل!! إذن ف��ه��ن��اك ع���دم ان��ت��ظ��ام وع��دم توازن ،خلل في الحركة الفوضوية مثل الناس السائرين في الشارع الغربي أو الشرقي ،العربي أو األميركي بصرف ال��ن��ظ��ر ،بعضهم يهيم على وجهه، واآلخر له وجهة محدودة ،وهناك من يركب عجلة ،وآخ��رون يهرولون إلى المجهول ،وتسرع السيارات الفارهة، ويمر المشاة ،ويلعب األطفال :حركة ود (تقريباً) على عشوائية .لكن الكل َّ تع َ انتظام الخلل. الحاد ف��ي االق��ت��ص��اد (األن���وم���ي) ّ
تفشل م��ؤس��س��ات ال��دول��ة :الدينية، االجتماعية،والسياسية في التنظيم وم���لء ال��ف��راغ فتمتد الفجوة لتلتهم المكسورين غالبة كانوا أو مليونيرات، أما الحال األنومي االقتصادي المزمن، وهو ما وصل إليه العالم ب��دون شك وبال تردد فهو يعني انخفاض القدرة على التنظيم االجتماعي لفترة طويلة (وكأنها حالة قلق مستمرة في الشركات الصغيرة والمؤسسات الكبيرة) في كل شيء قلق عام يدعو إلى تصور الفناء الشامل. إذن فال بد للتخلص من هذا اإلحساس المقيت كما في حاالت (الفصامين) يؤدي بالضرورة إل��ى وض��ع تصور لنهاية العالم كنهاية لهذا اإلحساس واالعتقاد بصورة قدرية سهلة. من ناحية أخرى فإن فكرة (نهاية العالم) وفكرة (تصديقها) أن نستعد دينياً،إنساني ًا أخالقياً ،روحياً. سيكون ه��ن��اك ت��رق��ب لكل شيء يتعلق بالنهاية ،إذن فعلينا أن ننتظر، فهل هي نهاية العالم؟ من يقرر؟ المريض أو المصاب بضاللة أو بارانويا ،أم عالم الفلك ،أم من لديه استعداد لتصديق كل ذلك بسبب درجة استيعابه ،نمط شخصيته ،احتمال اضطرابها ،أم أنها هيستريا الجموع؟ ك��ت��ب رأي ف��ي��ل�لارد ف���ي أخ��ب��ار االكتشافات (عشرة أسباب – لماذا لن ينتهي العالم في )2012ذكر فيه أن ه��ذا األم��ر (صناعة ،دع��اي��ة ،إعالم، دراسات ،جامعات ،محاضرات تغذي الفكرة وتضعها على المحك). ما يعنينا كأطباء نفسيين وعلماء أن نعالج مرضى موسوسين قهريين لدرجة العذاب حول العبادات والوجود والكون والديانات والطقوس واإلشارات بل وبفكرة نهاية العالم – القدر ،فيصيب البعض توتر شديد واكتئاب وحسرة. يبقى الموضوع ليس تنبؤًا وال مجرد هيستريا جماعية لكنه (موضوع للتسلية) يجعل الكثيرين يترقبون بداية وليس نهاية ربما لعالم جديد يختفي فيه الظلم واستغالل اإلنسان لإلنسان. 41
التق����ى العل����م مع األس����طورة لتأكي����د النبوءة ،واش����تعلت مواقع األنترنت بالجدل بين المؤمنين بأن نهاية العالم اآلن وبين المتمسكين بالحياة.
حقيقة أم مزاح ثقيل؟ موناليزا فريحة -بريوت
تتناف���س مواق���ع التنب���ؤات عل���ى األنترنت على إعالن مسلس���ل المآس���ي التي ستحصل هذا العام ،عام 2012الذي دخلناه للت���و ,ولكن خلف كل التوقعات الت���ي تثير الرعب في النف���وس ،ثمة ما أم�ل�ا غريب ًا بنهاي���ة حقبة وبداية يبعث ً أخرى تحمل معها الخير والسالم. إذا صدق���ت التوقع���ات (أو بعضها) المتراكم���ة عل���ى صفح���ات الش���بكة العنكبوتية ,فلن تكون هذه السنة كغيرها من السنوات :انقالب القطبين ،وشروق الشمس من الغرب ،وتدافع كواكب .ولئن تتفق هذه التنب���ؤات على تاريخ واحد, فإنه���ا تختلف م���ن ناحية آلي���ات تدمير األرض ,وتتنوع بي���ن اصطدام الكوكب األزرق ,بالكوكب االفتراضي «نيبيرو»، واضطرابات في الطاقة المغناطيس���ية وصو ًال إلى س���يناريوات أكثر فظاعة، بما فيها دمار أوس���ع يشمل كل الكوارث الطبيعية الممكنة. منذ القرن الثامن عش���ر ,بدأ العلماء يولون اهتمام ًا بسنة ,2012بعد ترجمة نق���وش عن روزنامة ش���عب المايا الذي بنى حض���ارة قديمة وعظيمة في أميركا الالتينية وكان يتب���ع تقويم ًا ينتهي في ديسمبر -كانون األول .2012ويشير هذا
42
التاريخ إلى نهاية دورة الحياة لدى هذه الحضارة التي تمتد إلى 5126سنة. إال أن االهتمام الحديث بهذه الظاهرة بدأ ف���ي الس���بعينيات والثمانينيات من الق���رن الماض���ي مع انتش���ار ش���ائعة تتحدث عن كوكب غامض في المجموعة الشمس���ية اكتش���فه الس���ومريون قديم ًا وأطلقوا عليه اس���م «نيبيرو» .يدور هذا الكوك���ب حول الش���مس دورة كاملة كل 3600سنة ,وتقول األسطورة إنه سيمر بين الشمس واألرض سنة ,2012وأنه يتس���م بقوة مغناطيسية كبيرة ستسبب زالزل وفيضان���ات هائل���ة وتغيي���رات مفاجئ���ة تقضي على أكثر س���كان الكرة األرضية. وع���زز ه���ذه المعلومات اكتش���اف ���مته الكوكب «ناس���ا» كوكب��� ًا غامض ًا َس َّ «أك���س» وق���ال كثي���رون إن���ه الكوكب نيبيرو الذي اكتشفه السومريون. والتق���ت هذه المعلوم���ات مع تقويم الماي���ا الت���ي كانت من أه���م الحضارات اإلنس���انية التي اش���تهرت بحس���اباتها الفلكي���ة الدقيقة.ول���م تنت���ه القصة عند هذا الحد .فقد أعلنت «الناسا» مطلع عام 2009عن إعصار شمسي قوي سيحصل سنة ,2012وقد يتس���بب بأضرار تقدر
بمليارات الدوالرات. وم���ع ب���دء الع���د العكس���ي للموعد المفترض ,اش���تعلت بورصة التوقعات الس���يما على األنترن���ت ,وحمي وطيس التنب���ؤات وانك���ب مستش���رفو أح���داث 2012على نبش آثار أميركا الوس���طى وروحاني���ات العص���ر الجدي���د وقصص المخلوق���ات الفضائي���ة والعل���وم ,في خليط م���ن األفكار والتصورات الغامضة الذي ينتهي إلى أن ش���يئ ًا كبيرًا وخطيرًا حق ًا س���يحصل في 21ديس���مبر -كانون األول .2012وخصص���ت وكالة الفضاء االميركية «ناس���ا» صفحة على موقعها على االنترنت للرد على التساؤالت التي أثارتها هذه الزوبعة. بالتأكي���د لي���س مثل ه���ذه الظواهر بالجديد تماماً ،إذ سبق أن شهد التاريخ عب���ر العص���ور موج���ات م���ن التنبؤات المتعلق���ة بنهاية العال���م ,ولكن ثمة أمر اس���تثنائي بال ش���ك يحص���ل حالي ًا مع السمة الفريدة لعصر األنترنت الذي تجد فيه األفكار الغريبة والبعيدة من المألوف جمهورًا واسع ًا وتتخذ أبعادًا أكبر وأكثر تنوعاً. ويقول دانيال فويش���يك البروفسور في جامع���ة أوريغ���ون ومؤل���ف كتاب «نهاية العالم كم���ا نعرفها:إيمان ,قضاء وق���در ونهاي���ة العالم في أمي���ركا»« :إن ظاهرة 2012ه���ي أمر جديد على نطاق واس���ع ..إن���ه بمثابة أمر م���روع ،على نقيض موجات التنبؤات الس���ابقة .ومع أنه يرص���د فيها أوجه ش���به كثيرة مع المخاوف التي سادت من األلفية الثانية, ي���رى أنها مميزة ,وتذهب أبعد من كونها مجموعة من المعتقدات التنبؤية الجديدة والقديمة.إضافة إلى أنها مسلية...أشعر أن كثيرين ممن يهتمون بالس���نة 2012 ���ل وغريب, يفعلون ذل���ك ألن األمر ُم َس ٍّ ويشكل زاوية رؤيوية جديدة وبديلة». ويس���تغرب آالن سيرو مؤلف كتاب «نهاي���ة العالم لن تحصل» الذي يش���كل تحقيق��� ًا مض���ادًا للتنب���ؤات الس���ائدة, ه���ذا الك���م الهائ���ل م���ن الس���يناريوات, ويقول«:ف���ي الفوضى التي س���ادت من قبل ,كانت تس���تحضر كارثة واحدة في
كل م���رة ,ولكن هذه الم���رة اختلطت كل األمور ووصلنا إلى فوضى عارمة». وتشرح لور غراس���ياس الصحافية ومؤلف���ة كت���اب «الخ���وف الكبي���ر م���ن »2012أن «ظاه���رة 2012بات���ت جزءًا م���ن االنترنت.بواس���طة هذه الوس���يلة خصوص ًا تطورت هذه الظاهرة واتخذت ه���ذا الحج���م» .وتقول«:ف���ي كل مواقع األنترن���ت والكت���ب المخصص���ة لس���نة ,2012نج���د هذا التأكيد القاطع نفس���ه ال���ذي يفي���د أن األيديولوجيات واألديان والفلسفات األكثر تنوع ًا تتقاطع لتحديد 2012موعدًا لنهاية العالم». هذا التقاطع يقابله «بازار» واسع من األفكار في ما يتعلق بآليات هذه النهاية وتبعاتها .وبالطب���ع ,ثمة تنبؤات ُتجدد أفكارًا قديمة ,وتحديدًا انطالق ًا من أعمال جوزيه أرغول ،مؤلف كتاب عن النهاية المبرمج���ة التي تتحدث عنه���ا روزنامة المايا. ال يمكن لمن يبحر في مواقع الشبكة العنكبوتية المخصصة للتنبؤات ,إال أن
يجد نفسه معني ًا مباشرة بهذه الظاهرة, وس���ط مئات آالف الرسائل التي تظهر، في طريق���ة عجيبة ,خوف أصحابها من الموت ,أو محاوالت لدحض تقويم المايا وصو ًال إلى إبراز آخرين النظرية القائلة إن المغني جاستن بيبر سيكون المسيح الدجال. وف���ي المقاب���ل ,يحم���ل صحافيون وكّتاب وعلماء خبراتهم إلى هذه المواقع لتكذيب الشائعات .وتبرز في هذا المجال مب���ادرة بعض خب���راء وكال���ة الفضاء األميركية «ناس���ا» الذين أعدوا ش���ريط فيدي���و أوردوه على موق���ع «يوتيوب» وش���رحوا في���ه أن ال كوكب يس���تجيب ���ر حت���ى اآلن أم���ام الس���م (نيبي���رو) َم َّ تلسكوباتهم. ولكن ماذا يقول تحديدًا مؤيدو نظرية نهاية العالم؟ تتطرق مقاالت على مواقع التنبؤات على األنترن���ت إلى األح���داث المرتقبة. وبالرج���وع إل���ى الكتاب���ات الباطني���ة (االيزوتيريكي���ة) الرئيس���ية يتوق���ع
خالد حافظ -مصر
الكّتاب عيد ميالد مضطرب ًا سنة ,2012 تواكبه كوارث كبيرة س���ببها خصوص ًا ملغز لتطور كوكبنا.وال تس���هب توق���ف ّ ه���ذه النظري���ة ف���ي ش���رح الظ���روف, مكتفية بالحديث عن عواصف شمس���ية وانفجارات بركانية أو أمواج جليدية. في أح���د المواق���ع ,ترتس���م إحدى الكوارث على ش���كل «طوفان من الطاقة الضوئي���ة يتدف���ق عل���ى األرض بهدف رفع مس���توى الوعي ودفعنا في اتجاه مرحلة من الروحانية العالمية ,أي البعد الخامس». وف���ي موق���ع آخ���ر ,يش���رح مقال عنوانه «العالم لن ينتهي س���نة »2012 أن االنتق���ال من البعد الثال���ث إلى البعد الراب���ع حصل من دون مش���اكل ,وأن ال سبب يدعو إلى الخوف من هذا االنتقال الجديد. وفي موقع يندرج في نطاق نظريات جوزي���ه أرغيل ،يبدو ديس���مبر -كانون االول 2012بمثابة موعد «االنفتاح على الجحيم» .ويقول إن���ه يمكن في البداية التفكي���ر في زل���زال حقيق���ي ,ولكن هذا الجحي���م ليس ف���ي الواق���ع إال جزيئات صغيرة غير مؤذية تتسكع في داخلنا, ومن أجل االنفتاح عليها ,ينصح ببساطة «التنشق» ثم «الزفير». وم���ع أن دور األنترن���ت واض���ح ورئيس���ي في نش���ر ه���ذه الش���ائعات المخيف���ة حين��� ًا والمضحك���ة أحياناً ,ال يمكن تحميل الشبكة العنكبوتية وحدها مس���ؤولية ه���ذه النظري���ات الباطنية. فاالنتشار الواس���ع للمخاوف واألخبار الس���يئة لي���س أم���رًا جدي���داً ,إذ كان���ت المناشير والخطب والتقاويم والرسائل تتي���ح للش���ائعات االنتش���ار واالنتقال قبل اكتش���اف األنترنت.ومع أن سرعة انتش���ار المعلوم���ات وترجمتها هي من خصوصي���ات األنترنت ,فهي تؤدي إلى تغير بسيط في المستوى ال في المبدأ,إذ ال يكفي نش���ر معلومات على موقع لكي تنتش���ر ,وإنما ه���ي تحتاج أيض��� ًا إلى أن تتناقلها وس���ائل اإلع�ل�ام التقليدية كاإلذاع���ة والتليفزي���ون والصحف التي تبقى ناقالت أساسية. 43
يبدو أن الحديث المتكرر عن نهاية العالم ناتج عن ش����عور بالعجز أمام تعاظم قدرة اإلنسان العلمية في مقابل عجز آخر يقابله في قدرته على الس����يطرة على أخالقياته واتزانه ،مما يجعل المعادلة تميل إلى جانب «اإلنس����ان الس����وبر» ال����ذي ال يدخر موضع ًا وال وس����يلة ليزداد تمكين ًا وثراء على حس����اب اإلنس����ان اآلخر المقه����ور ،الذي يمثل ثلثي سكان المعمورة أو يزيد.
ديموقراطية يوم القيامة
ونهاية عالم االستبداد عبد العزيز اخلاطر -قطر
44
انتصرنا
عدم االت���زان يجعل م���ن توقع نهاية وزوال العال���م أم���رًا ال يغي���ب ع���ن بال الطرفي���ن :األول «الس���وبر» لزوال اآلخر المقاب���ل وبالتال���ي ضم���وره وتآكل���ه، واآلخ���ر «المقه���ور» العتق���اده وإيمانه بع���دم اس���تمرار الظل���م وس���رعة زوال الظالمي���ن .التجلي���ات السياس���ية لمثل ه���ذه التص���ورات لنهاية العال���م تتجدد باس���تمرار ،وكلم���ا ازدادت وتيرة العلم وجنوح���ه عانى اإلنس���ان من اس���تبداد المعرفة وتضيقها على مس���احة الخيال الالزمة الحتم���ال الحياة وحصر «األمل» في زاوية تتالشى باستمرار باستحضار الغد قبل أوانه والقيامة ومش���اهدها قبل أن تحين ،هذا ما يفعله العلم اليوم عندما يجنح به السياس���يون أو يس���تثمرونه تعبيرًا عن رغبة اإلنس���ان األعلى بتعبير
«نيتش���ه» للوقوف على قمة العالم وهو يتهاوى تح���ت قدميه .وثم���ة مالحظات هنا البد من اإلش���ارة إليه���ا نحو تحديد الدواف���ع السياس���ية للحديث المس���تمر عن نهاي���ة العالم وتأكي���د العديد أن هذا الع���ام 2012وال���ذي هو عل���ى األبواب س���يكون عام النهاي���ة المتوقعة للعالم، وبذلك ستنقطع األلفية من بعد وتتوقف الروزنامة ،وسيرحل التاريخ إلى مكان آخر غير هذا العالم وسكانه. أوالً :س���بق للمفكر االميركي الياباني األص���ل أن أش���ار إل���ى نهاي���ة التاريخ بانتص���ار النم���وذج الديموقراط���ي الرأس���مالي الغرب���ي قب���ل م���ا يق���ارب العقدي���ن ،وفي ذلك إش���ارة سياس���ية واضح���ة على تف���وق اإلنس���ان الغربي وس���يادته على التاريخ وبذل���ك انتهاء لمسيرة اإلنسان ونضاله في هذا العالم، وهو ما أثبت الوقت عدم مصداقيته حينما انزلق���ت ه���ذه الديموقراطي���ة «القيامية» كم���ا اعتبره���ا فوكوياما -إل���ى العديدم���ن المزالق الالإنس���انية ابتداء بحصار الش���عوب وانتهاء بغزوها وقتل وتشريد مئ���ات األل���وف .من هنا ندرك الرس���الة السياس���ية األولى من فكرة نهاية العالم ومغزاها األساس���ي ،اس���تعباد وإذالل الش���عوب تحت مس���مى وشعار خالصة التاريخ ووص���ول العالم إل���ى نهايته، وم���ن ث���م تبري���ر أس���لوب إدراك ذلك ووسائل تحققه. ثانياً :عندما وصل المحافظون الجدد إل���ى س���دة الحكم ف���ي البي���ت األبيض، وسيطروا بالتالي على اإلدارة االميركية برئاس���ة الرئيس الس���ابق ب���وش االبن والذي ج���رى إيهامه بأن���ه المختار إلهي ًا لتحقيق نهاية العالم اإلنجيلية سياسياً، وذل���ك عن طري���ق االنتصار إلس���رائيل وللش���عب اليهودي حت���ى تتحقق عودة المسيح لألرض ليختتم التاريخ وينتهي العالم ،لذل���ك وضع العالم بين خيارين ال ثالث لهما «إما معن���ا أو ضدنا» ،وعن طريق هذا التصور وهذه األداة السياسية المتمثل���ة ف���ي إدارة ب���وش ،ت���م غ���زو العراق والس���يطرة على خيراته وكذلك
أفغانستان ،ووجدت الشركات األميركية في ذل���ك مرتع ًا خصب ًا للعم���ل واالتجار على حساب الشعوب الضعيفة وبمباركة ديني���ة ُأخروي���ة قيامي���ة يقوده���ا ف���ي األساس طموحان :سياسي ،واقتصادي بالدرجة األولى. ثالث���اً :في عالمن���ا العرب���ي االتجاه ال آخر يربط بين التخلص من يأخذ ش���ك ً االستبداد ونهاية العالم أو أوان القيامة، وبذل���ك يصبح االس���تبداد خي���ارًا الزم ًا الس���تمرار الحياة ،وزوال���ه يعني نهاية العالم. اس���تمعت للتو إلى الرئي���س اليمني عل���ى عب���داهلل صال���ح بع���د توقيعه في السعودية وثيقة انتقال السلطة لنائبه، حينما هاجم الثورات العربية قائالً« :إنها ليس���ت من طبائع شعوبنا» ،وفي ذاكرة العربي التقليدي إذا حصل ش���يء غريب ل���م يتعود عليه قال بق���رب نهاية العالم والقيامة ،فمجيء الحرية في عالم أرخى ال يجعل االستبداد عليه سدوله دهرًا طوي ً من التحول السياس���ي س���بب ًا في بروز مثل ه���ذه الفكرة في الذهني���ة العربية، بينم���ا الذهنية اإلس�ل�امية الدينية تجعل م���ن انتصار اإلس�ل�ام وس���يادته ،وهو انتصار ديني سياس���ي بالطبع ،مؤشرًا على نهاية العالم أو بداية النهاية ،ولعل هناك العدي���د من األحاديث وربما اآليات القرآنية التي تفسر في هذا االتجاه. عل���ى كل حال ،يبدو مش���هد الثورات العربي���ة المطالب���ة بالحري���ة وبامتالك زمام السياسة والس���لطة مشهدًا أخروي ًا أو م���درك ًا لنهاية العالم :أصنام بش���رية تتس���اقط ،جماهير غفي���رة في تجمعات هائلة تنش���د العدالة واإلنصاف وتطالب
في عالمنا العربي ترتبط (نهاية العالم) بالتخلص من االستبداد وبذلك يصبح االستبداد خيار ًا الزم ًا الستمرار الحياة
بهم���ا ،طريقها في ذلك اإلمس���اك بزمام السياسة ،فالدافع هنا سياسي اجتماعي في نفس الوقت ،فه���ي تعلن نهاية عالم الظلم والطغيان وقيامة االستبداد وزوال مؤشراته وأزالمه. ثم���ة اختالف في الدوافع السياس���ية ل���دى الطرفي���ن ف���ي الحديث ع���ن نهاية العالم ،فالغرب يتحدث عنها ألنه امتلك الم���ادة وس���يطر عليه���ا بحي���ث أغوته ودفعت بإنسانه نحو التشكك في جدوى بقائه واس���تمرار حلمه في األفضل ،فلم يعد هناك غٌد ينتظر وقد تحقق اليوم ُجّل ما كان يحلم به ويتمناه ،هذا من جانب، أما من الجانب اآلخر فثمة ش���عور ديني مختلط للصهيونية دور كبير في إذكائه، بأن ربط���ت نهاية العالم المنش���ودة في أذه���ان الغ���رب أو داخل دوائ���ر التأثير فيه بس���يادة إسرائيل وش���عبها المختار كمقدم���ة لتمظهر المس���يح ومجيئه ليمأل الدنيا ع���دالً ،حيث إن الص���راع العربي- اإلس���رائيلي قائم ومستمر ،فثمة فرصة دائم ًا يجري التكرار حول اقتناصها وهي تمكين إس���رائيل حتى تتحق���ق النبوءة اإلنجيلية الصهيونية المفتعلة .في حين أن هذه الس���نة تبدو ف���ي عالمنا العربي وكأنه���ا تجليات لنهاي���ة العالم المرتقبة في ه���ذا العام ال���ذي نش���هد بدايته هذه األيام ،والذي يطل برأس���ه م���ن النافذة ليعلن نهاي���ة العالم كما توق���ع العديد، حيث الثورات التزال تش���تعل والرؤوس التزال تتطاير والش���هداء مواكب متصلة ومهرجان الدم قائم على مدار الساعة. ألول مرة تدفعنا السياس���ة بعيدًا عن الدين في تصورن���ا لنهاية العالم ،كونها الحركة نح���و الحرية والكرام���ة والفعل الميدان���ي ،حيث كن���ا دائم ًا ف���ي انتظار إش���اراتها لتظه���ر وتبدو كم���ا تصورها الش���روحات الدينية دونم���ا مبادرة من جانبنا. اليوم شعوبنا تعلن نهاية العالم الذي عهدن���اه ،نع���م أنا أحد الذي���ن يتوقعون نهاي���ة «عالمنا» هذا الع���ام ،2012عالم االستبداد والطغيان حيث لم نخبر عالم ًا آخر غيره حتى اآلن. 45
سحابة النهايات
د� .أحمد م�صطفى العتيق -القاهرة
ف��ي لعبة االح��ت��م��االت ح��ول نهاية العالم ،وفي ظل أشكال عدة متصورة لهذه النهاية ،ينفتح ب��اب الرهانات على مصراعيه ،بين الرؤية الكوارثية للبعض ،واليقين المطمئن لآلخرين. ليس من السهل أن يحزم المرء أمره، فغالب ًا ما تتعارض على األرجح ،آراء الخبراء ،مما يضاعف من حيرة الرأي الذي يسعى للتحقق من هذه النذر أو أن يتحرر من مخاوفه .فإن يتبدد كوكبنا هباء بفعل اصطدامه بأحد النيازك ،أو أن يتفكك ويتحلل بفعل تزايد خطر آثار الضغط أو من انكماش حتمي لطبقة األوزون ،كل هذه األمور ال تدل في شيء على نظرة عقلية ..فهل يظل الخوف في المطلق ،ماثالً؟ والنظرية البيئية الحديثة هي أحدث تجليات فكرة النهاية واالضمحالل، وتنطلق ح��رك��ة البيئة م��ن مجموعة أص��ول ،وتظهر في ص��ور التشاؤمية التاريخية والتشاؤمية الثقافية ،وتستند في ذل��ك إل��ى االنهيار التاريخي الذي ح��دث لكثير من الحضارات السابقة. وه��ي بذلك تبقي على مخاوف القرن التاسع عشر من التكنولوجيا واالنحالل، باإلضافة إلى عدم الثقة الشديد بالنفس.
46
ومن جانب آخر ،تعتمد على االفتراض بأن التلوث واستنزاف الموارد والتغير المناخي وأشكال التدمير المختلفة التي تحدث للبيئة .كلها مشكالت وعالمات المرحلة النهائية للعالم .في السبعينيات من القرن العشرين ،حصلت البيئة على جرعة قوية م��ن التشاؤمية الثقافية مستمدة من مصادر ،كانت قد أصبحت مألوفة« :هيربرت ماركيوز»« ،مارتن ه��ي��دج��ر»« ،ميشيل ف��وك��و» .وخاصة عندما تنبأ «فوكو» بأن صورة اإلنسان سوف تمحى .إن الغالبية العظمى من البشر يعيشون اآلن في ظروف أقل من أن توصف بأنها إنسانية .ننظر إلى كثافة المدن الكبرى واألحياء الفقيرة وق��ل��ة ال��م��س��اح��ات ال��خ��ال��ي��ة ،والهواء والوقت ،والشوارع الكئيبة واألضواء الشاحبة التي تخلط الليل بالنهار .نفكر في المصانع الالإنسانية وفي اغترابنا ع��ن الطبيعة .الحياة ف��ي بيئة كهذه تتقدم إلى األمام أم تتقدم إلى النهاية؟. األرض مهددة بالدمار على نطاق العالم كله :الجفاف ،والسيول ،واألشعة فوق البنفسجية والضباب الممتزج بالدخان، وال��س��رط��ان ،والمجاعة وكلها نتاج لفرسان نهاية العالم الثالثة :ارتفاع
درجة حرارة األرض ،استنفاد األوزون، الشتاء النووي .ومن الممكن أال تحدث صدمة مفاجئة ،ولكن س��وف يستمر التدهور الجاري ،ال��ذي ستعتاد عليه الشعوب ،وكأنه ُسم تدريجي ،بسبب اإلهمال االجتماعي والبيئي .وفي هذه الحالة األخيرة فإن قضية البيئة ستأخذ سيناريوهات أخ��رى ،فالمتخصصون في التنوع الحيوي هم األكثر حذرًا من العواقب المترتبة على ضياع التنوع الحيوي ألن من وجهة نظرهم سوف تحدث ك���وارث :غ��زو تقوم ب��ه أن��واع أخرى ،استحالة التحكم في األمراض، ظهور أم��راض جديدة ،حتى بالنسبة للنباتات ،خسارة في إنتاجية األنظمة البيئية. ويرى علماء البيئة أن تدمير األنظمة البيئية س��وف يفتح المجال لكائنات ض����ارة ل���ن ي��ك��ب��ح ج��م��اح��ه��ا األع����داء التقليديون ويمكن آنئذ أن نتوقع أوبئة ك��ب��رى .وال ينبغي أن نفهم بصورة مختلفة الخوف ال��ذي أثارته إنفلونزا ال��ط��ي��ور وإن��ف��ل��ون��زا ال��خ��ن��ازي��ر لدى المتخصصين في الصحة العامة ،وأحد ه��ؤالء مارتن ماكس األستاذ بمدرسة لندن للصحة والطب المداري ،حيث يقول بخصوص التهديد بالعدوى« :ال أستطيع على المدى الطويل استبعاد فرضية أن يظهر كائن عضوي مجهول ويؤدي إلى اختفاء اإلنسان المفكر». وفي فيلم اإلث��ارة «يوم ما بعد غد» الذي أنتجته هوليوود ،تجتاح العالم على حين غرة كارثة مناخية .بحجم العصر الجليدي .يهرب ماليين السكان من أميركا الشمالية إلى المكسيك المشمسة، في حين تتربص الذئاب بالقلة الباقية من الناس الرابضين في مدينة نيويورك التي ضربها جو جاف متجمد .كما تدمر األعاصير القمعية والي��ة كاليفورنيا، وت���دك ح��ب��ات ال��ب��رد العمالقة مدينة طوكيو .والسؤال :هل يمكن أن تحدث قريب ًا تغيرات مناخية ساحقة مفاجئة؟ أم أن استوديوهات هوليوود بالغت كثيرًا في فيلمها؟ يبدو أن اإلجابة عن كال السؤالين هي نعم .فمعظم الخبراء
علي بني صدر -إيران
يتفقون على أن ما من داع للخوف من حدوث عصر جليدي مكتمل في العقود القادمة .إال أن تغيرات مناخية كبيرة مفاجئة قد حدثت فع ً ال ع��دة م��رات في الماضي ،ويمكن أن تحدث مرة أخرى، وفي الواقع ربما يكون حدوثها أمرًا ال مناص منه .والواقع أنه لم تصدر تنبؤات ذات مصداقية عن تغيرات مفاجئة للمناخ وال يتوقع ذلك في المستقبل القريب، ألن التغيرات السريعة للمناخ ،بطبيعتها يصعب التنبؤ بها أك��ث��ر م��ن التنبؤ باحترار األرض أو بالتغيرات التدريجية األخ��رى .لكن الفرضية المطروحة في هذا الصدد مؤداها أن التغير المفاجئ والسريع الذي يهدد الكون يحدث عندما تدفع قوة بطيئة ومستديمة ،مثل احترار األرض ،أحد المكونات الحرجة لمنظومة المناخ إلى ما بعد نقطة الالعودة (نقطة االنقالب )Tripping pointومن ثم ف��إن ،وفق ًا للتشاؤمية البيئية ،هذه التغيرات البيئية البطيئة يمكن أن يكون لها فعل تراكمي إلحداث تغيرات سريعة ومفاجئة تهدد هذا الكون وتنذر بنهاية العالم ولكن متى؟ وأين؟ وكيف؟.. إن انتشار هذه الرؤية لنهاية العالم ات��س��ع ع��ل��ى ن��ح��و واض���ح ح��ام� ً لا في
طياته آليات النهاية البطيئة :خطر المواد المسببة للسرطان التي تنتجها الصناعة ،النفايات الذرية السامة ،نقص األوزون ،ارتفاع درجة حرارة األرض.. ذلك كله ليس مجرد أخطار حقيقية على الصحة والسالمة ،ولكنها نتائج أنماط وافتراضات ثقافية سابقة ،يجب أن يعاد التفكير بشأنها أو تالفيها مثل األسلحة النووية التي تمثل تفسخ ًا ثقافي ًا يضعنا على حافة تدمير ال��ذات وينذر بنهاية عالم كان األفضل أن يبقى. ولكن ماذا بعد....؟ إن عالقات البشر بالبيئة الطبيعية وبالتغير المناخي تحديدًا (بوصفه العنصر الرئيسي)على المدى القصير هي عالقات تظل تتقلب دائماً ،لكن إهمال أمر المناخ يعني إهما ًال إلحدى الخلفيات الدينامية ال��م��ؤث��رة للخبرة البشرية وت��وف��ر لنا اآلالف الخمسة عشر من األعوام الماضية أمثلة كثيرة لتغيرات المناخ التي لعبت دورًا تاريخي ًا رئيسياً: «الجفافات الكبرى» في جنوب شرق آسيا التي نتج عنها التعجيل بتجارب زراعة األعشاب البرية والجفاف المتوسع لـ «الصحراء الكبرى» ،ال��ذي جلب رعاة الماشية إلى وادي النيل ومعهم أفكارهم
المبدعة .ثم تأثيرات الموجات المتوسعة لفترة «دفء العصور الوسطى» التي كانت لها تأثيرات مختلفة جدًا في أوروبا واألميركتين ..هذه نماذج وأمثلة قليلة لتغيرات مناخية بقيت زم��ن� ًا طوي ً ال وبقيت معها ميكانيزمات تكيفية تعمل بكفاءة عالية سواء عند البشر أو عند األنظمة البيئية. وف��ي النهاية ،ف��إن ك��ل ج��دل حول «نهاية العالم» ينبغي أن يغذي إدراك البشر ب��أن��ه س��وف ي��ك��ون ع���ارًا على اإلن��س��ان أن تكون نهايته المحتومة على يديه سواء انقرض بهدوء أو بفعل مفاجئ نتيجة تدميره المحموم لبيئته، نهبه لكوكبه بل وكل إسهاماته البطيئة التي تفوق قدرته وقدرة األنظمة البيئية على التكيف. إن اهلل -سبحانه وت��ع��ال��ى -منح اإلن��س��ان والنظم البيئية آلية دقيقة للتكيف ..وماذا بعد لو زاد االعتداء على هذه اآللية فتعطلت ميكانيزمات التكيف. قال تعالىِ« :إ َّن َهَّ اعِة ْم َّ الل ِع َ الس َ ند ُه ِعل ُ لأْ َ ام َو َما ِّل ال َ َوُيَنز ُ ْغْي َث َوَي ْعَل ُم َما فِي ا ْر َح ِ ْ اذا َتْك ِس ُب َغ ًدا َو َما َتْدِري م س ف ن َتْدِري َ ٌ َّ َ هّ وت ِإ َّن ََ ِيم س ِب �َأ ِّي َأْر ٍ الل َعل ٌ َنْف ٌ ض َتُم ُ ير» (( )34سورة لقمان). َخِب ٌ 47
روكني حاريذاده -إيران
وزة نهاية العالم! حممد املخزجني -م�صر تفاقم الذعر العام في مصر من أنفلونزا الطي���ور ف���ي ش���هر فبراير/ش���باط منذ خمس سنوات .ومع أن الندوة التي كنت أحضرها في إح���دى قاعات فندق الواحة بطريق القاهرة االس���كندرية الصحراوي كانت ع���ن «العالج بالتص���ور اإلبداعي» وكانت مرتبة س���لف ًا وقب���ل أن تبرز على الس���طح هذه الحمى العالمية الوافدة ،إال أن الندوة تحولت إلى س���جال عن الوباء المنتظر بعد أن وجهت س���يدة جميلة إلى ُ الحض���ور س���ؤا ًال عم���ا إذا كان «التصور اإلبداعي» يمكن أن يساهم في الوقاية من العدوى بهذه الحمى أم ال. كانت اإلجابة اجتهادية وغير قاطعة، وانفرط عقد الن���دوة فتحولت إلى تفريغ لحالة الهلع الجماع���ي بتبادل الطمأنات 48
وتس���للت م���ع صديق لي والمخ���اوف، ُ ومغادرين الفندق، منصرفي���ن من القاعة ُ وم���ا إن خرجن���ا إلى الطري���ق الذي كان خالي ًا في نحو الثانية ظهراً ،حتى توقفنا كأنم���ا بالتخاط���ر ،مقررين أن نس���تمتع ببعض التمش���ي في دفء شمس شتوية عطوف ،ب���دت صغيرة جدًا في الس���ماء الغائمة ،ولطيفة الشعاع على األرض. بعد أن تمش���ينا كفاية في اتجاه ميدان الرماية بدأنا في استيقاف تاكسي ،وبعد عشر محاوالت فاشلة اكتشفنا أننا ينبغي أن نغير قواعد االنتقاء ،فقد كنا ال نستوقف غير الس���يارات التي تب���دو جيدة ،وكان س���ائقوها ما إن نتفوه بوجهتينا «ميدان المس���احة وبعده الزمالك» حتى يش���وح واحدهم بيده س���اخط ًا ويطير بس���يارته
مبتع���داً .فانتبهن���ا إل���ى أن هذه س���اعة الحيين اللذين نطلب ذروة مروري���ة وأن َّ عتبران من أحكم مصايد التوجه إليهم���ا ُي َ الزحام في هذه الس���اعة التي تتوافق مع خروج عشرات المدارس المتكاثرة فيهما، وأدركنا أنه لن يلتقطنا إال س���ائق بائس في تاكسي يشبهه في البؤس. وجدنا نفسينا أخيرًا داخل هيكل رميم لس���يارة لم يكن فيها من كيان السيارات غي���ر هدير أجش لموتور متحش���رج ،أما الس���ائق فكان بتعبير ي���كاد يكون حرفي ًا «مومي���اء حية» ف���ي أس���مال بالية ،وقد تمليته عن قرب وأن���ا أجلس إلى جواره عل���ى المقعد األمامي بينما جلس صديقي عل���ى المقعد الخلفي .ولم تكن هذه مقاعد س���يارة ب���أي معنى ،فقد كانت كراس���ي خشبية واطئة من ذلك النوع المتواضع المنتش���ر ف���ي ُغ���رز ومقاه���ي الق���رى والعش���وائيات ،وكانت مغطاة بقطع من أكلمة قطنية بالية متسخة. كان الرجل ش���ديد النحافة رث الثياب بدكنة ترابية بدرجة مؤلمة ،غامق البشرة ُ معتمة مشوبة بالخضرة ،مما يشي بأنه كان معطوب الكبد تمام ًا وكذلك الكليتين، وكانت عيناه الغائرت���ان كما عيني ميت
توحي���ان بأنه أقرب م���ا يكون من الموت في أي لحظة ،وقد مألني هذا بالقلق بينما كانت «الس���يارة» المضعضع���ة المخلعة تقعق���ع وتتقاف���ز وتنح���رف بح���دة في ال س���يء الرصف. هم ً الطريق الذي كان ُم َ وحتى أتغلب على قلقي استدرت لمحادثة صديقي في الخلف. استدرجنا الحديث إلى «سيناريوهات َ الكارث���ة» ف���ي ضوء ما كان منتش���رًا من إش���اعات عن تحور الفي���روس واحتمال تحول الوباء إلى جائحة ،حيث ستتراكم الجث���ث في الش���وارع ألنها س���تكون من الكثرة بحي���ث يتعذر تدبير م���ن يدفنها، ألن جم���وع الن���اس س���تفر بعي���دًا ع���ن الم���دن ،وعندما يش���مل الف���رار العاملين ف���ي المستش���فيات والخدم���ة المدني���ة والش���رطة لن تكون هناك فرصة إلنقاذ أي مص���اب بالوباء ،وس���تنقطع المياه والكهرباء ولن تجد الحرائق من يطفئها، ومع انحس���ار الوباء الذي يفقد فيروسه ضراوت���ه مع ارتفاع درج���ة الحرارة في الربي���ع ،س���تخضر األش���جار ف���ي مدن خالي���ة من البش���ر ،التحلق في س���مائها سوى الغربان ،وال تجوب شوارعها غير الكالب الضالة والجرذان التي ستتوحش متضخم���ة بوف���رة الغذاء المت���اح لها من جثث البشر والطيور! كنا ق���د وصلن���ا ف���ي تلك التس���رية الس���وداء إلى مرحلة احتمال أن تنتش���ر الجائحة عبر الق���ارات وتعصف بالعالم ويقِفر كوكب كل���ه ،فتنق���رض البش���رية ُ األرض ،ول���م ننتبه إال والس���يارة تهدئ م���ن س���رعتها وتحيد محاذي���ة الرصيف ث���م تتوقف ،وبمالمح ميت يس���تيقظ من ال فيما موته التفت الس���ائق نحونا س���ائ ً يشبه الرجاء «اللي بتقولوه دا صحيح يا أساتذة ..يعني الدنيا خالص؟» .وسمعت صوت���ي يجيبه نابس��� ًا بوج���ل« :ممكن، احتمال» .وإذا بالرجل يستقيم في جلسته ويرف���ع يديه ووجهه متضرع��� ًا «ياريت. يارب .ياريت». التزمت فيما الحركة إلى السيارة عادت ُ أنا وصديقي الصم���ت ،بينما كان الرجل س���ر بتمتمته يتمت���م في خف���وت كأنما ُي ّ لنفسه« :خلينا نرتاح بقى .خلينا نرتاح»
رددها أكث���ر من مرة ثم انضم بس���كوته لسكوتنا .لكن ما إن دخلنا ميدان الرماية حتى ندت عِنّي وعن صديقي صيحة عدم تصديق مشتركة «مش معقول»! رأينا المي���دان يضطرب بحش���ود من البش���ر البس���ي كمامات مختلفة ،بعضها مجرد مزق من قم���اش المالبس القديمة، أومحتض���رة يحمل���ون دواج���ن ميت���ة ُ يتجهون بها مس���رعين إلى فضاء مالعب الجولف التابعة لفندق أوبروي في سفح الهرم األكبر .وكان الميدان يموج بأسراب من الدج���اج والب���ط واألوز الطليقة كلها والمتخبطة في حركتها .وفهمنا أن الناس الهلعي���ن قد أتوا بدواجنه���م من المناطق العش���وائية والريفية القريبة ليتخلصوا منها في المكان الفاخر الذي لم يكن يعني لهم ف���ي هذه الفوضى غي���ر أرض فضاء متسعة. تح���ول محي���ط الفن���دق التاريخ���ي وس���فح اله���رم األكبر إلى مك���ب للطيور المن���ذرة بالوباء ،وكان���ت الدواجن التي لم تفقد عافيتها تتس���رب خارجة من هذا المك���ب وتفي���ض على المي���دان في هياج وتالطم .وعندما مر سرب من أوز شارد ُ أمام س���يارتنا فوجئنا به���ا تتوقف ،وإذا بالس���ائق المومي���اء قد دبت في���ه عافية بارق���ة فهبط م���ن الس���يارة وراح يطارد األوز الذي يفر أمامه صائح ًا مرفرفاً ،ثم ارتمى الرجل على أقرب وزة ،ونهض بها أسيرة في حضنه! تابعناه بانش���داه وهو يس���تدير بهمة ويودع الوزة في ش���نطة الس���يارة ،ثم ركب وحرك بأصابعه العظمية المسودة عص���ا (الفيتي���س) لننطل���ق ،فيم���ا راح يتح���دث ضاحك ًا دون أن يلتفت كأنه عاد يكلم نفسه« :بقالي أربعين سنة ما دقتش الوز .ووالدي ما يعرفهوش من أساسه. بتموت نعملها مش���وية في الفرن والنار ِّ أجدعها مرض .نتبس���ط شوية في عمرنا وآهو احنا ميتين ميتين» ،وكان انشراحه ال يتناس���ب مع ضحكته الميكانيكة التي كس���رت الجلد المعتم الياب���س حول فمه َّ وتحت عينيه .ضحكة ميت حي! ضحكة مرعبة لم أنسها أبداً ،وهاهي تع���ود إل���ى ذاكرت���ي بكام���ل رعبها مع
تك���رار الحدي���ث ع���ن نهاية العال���م يوم ،2012/12/21فأعي���د التقلي���ب في هذا الشأن مارًا على كثير من المصادر العلمية التي تنفي إمكانية حدوث ذلك ،وأبرزها إجاب���ات كبير علماء وكالة ناس���ا «دافيد موريسون» على أبرز األسئلة المثارة بهذا الخصوص ،حيث نفى تمام ًا صحة كل ما راج أنه سيكون س���بب ًا في انتهاء الحياة على األرض ف���ي هذا الي���وم ،فال وجود لكوكب س���احق الجاذبية اسمه «نيبيرو» س���يقتحم مج���ال األرض ،وال اصطفاف ًا مدمرًا لكواكب المجموعة الشمس���ية على مجرتنا ،وال اصطدام ًا خط واحد في مركز َّ بني���زك عم�ل�اق ،وال انفج���ارًا شمس���ي ًا ال سيخترق بش���واظه غالفنا الجوي هائ ً ويلعقنا .فالمس���ألة كلها ليست إال إشاعة مبنية على ش���طحة لكاتب خيال علمي، وتأويل متعس���ف يربط بين نهاية تقويم ش���عوب المايا ف���ي هذا الي���وم وهاجس نهاية العالم. الذي أميل إليه في كل ذلك ليس النفي وال االثب���ات ،ب���ل االرتياح فيم���ا يوافق العق���ل والعل���م ويتس���ق مع ال���روح في مس���ألة «إنما علمها عند اهلل» و«ال تأتيكم إال بغتة» .لكن الذي يدهش���ني أن هاجس نهاي���ة العالم ارتبط دائم��� ًا بضربة تأتي لألرض من الفض���اء ،بينما النهاية يمكن أن تكون تحت أقدامنا ،فلسنا نحيا حرفي ًا إال على ألواح «تكتونية» رقيقة تعوم على بحر م���ن صهارة ملتهبة تلتف حول نواة قاس���ية جحيمية الحرارة في مركز كوكب ه���ش نعبث ب���ه ونتجبر علي���ه ،ويتكبر بعضن���ا على بعض إل���ى درجة التجويع والترويع واستباحة الحياة والدم. التنب���ؤ بنهاي���ة العالم ال يمك���ن أبدًا أن يك���ون ف���ي مق���دور البش���ر الذين ال يس���تطيعون بأقص���ى معارفه���م وأعتى حواس���يبهم العمالقة التيقن من تنبؤات المناخ ،لمجرد أن ترف فراش���ة بجناحها رف���ة ف���ي جن���وب إفريقي���ا فتتوالد من تضاعفها عاصفة في الصين أو البرتغال أو القطب الش���مالي أو حيث ال يعلم أحد. أم���ا نهاي���ة اإلنس���انية في ه���ذا العالم، فليس���ت في حاجة إلى تنب���ؤ ،وارجعوا إلى تلك الوزة! 49
في «نهاية العالم اآلن» أحد أهم أفالم المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبوال ،يتصادم البشر بصورة مروعة تغذيها أطماع السيطرة ونزعة االستحواذ الشرهة لدى البعض والتي ُتضِّيع اإلنسان وقيمه في أتون معارك دموية رهيبة يصبح خاللها اإلنس����ان مجرد شيء وأداة لقوى شريرة أعماها هوس التسلط والهيمنة.
نهاية العالم
أرصدة في جيوب المحتالين �أحمد ال�سيد النجار -م�صر
في الفيلم تتصدر مشاهد الدمار والموت ومن ورائها تتغذى غيالن التربح من النار والدم والمعارك ،أي ُّ الصناعات العسكرية وشياطين الحروب في الواليات المتحدة األميركية بالذات. ووراء خرافات «نهاية العالم اآلن» التي تم إطالقها عام ،2011تختلط مخاوف اإلنسان الضئيل للغاية في كون عمالق ال تعدو كرتنا األرضية أن تكون مجرد ذرة غير مرئية فيه ،مع الولع الغريزي تقريب ًا الستطالع المستقبل الذي وَلّد المشعوذين والمنجمين إلى جانب علوم الفلك ،مع تقديرات علمية قد تصيب وقد للتربح من مآسي تخطئ ،وعقول نهمة ُّ البشر ومخاوفهم. وقد ارتكزت صرخات نهاية العالم في عام 2011على تقديرات تشير إلى أن أحد المذنبات العمالقة الذي يبلغ حجمه أضعاف حجم األرض سوف يدخل على المسار بين األرض والشمس بحيث يصبح الثالثة على خط مستقيم فيحجب الشمس كلية لمدة ثالثة أيام ويتسبب في زلزال هائل قوته من 16 - 14درجة ليدمر األرض وينهي على مقياس ريختر ِّ الحياة على الكوكب المأهول ،أي أمنا األرض .ومن باب «الدقة» حددت تلك
50
الخرافة غير العلمية يوم ،2011/9/26 موعدًا للحدث الرهيب .ومضى الموعد والكرة األرضية صامدة بيابستها وبحارها وحياة البشر والحيوان والزرع تمضي في مسارها المعتاد الذي ال يخلو من كسوف قصير أو زلزال هنا أو هناك مع موجات مّد بحري عالية ومدمرة أو متوسطة أو حتى منخفضة. وبعد مضي الموعد تم ابتكار مواعيد أخرى لدمار العالم وفناء الجنس البشري في شهر ديسمبر من عام ،2011أو في عام ،2012استنادًا إلى خرافات مصدرها حضارة «المايا» القديمة في المكسيك، رغم تأكيد علماء اآلثار واألجناس القديمة على عدم صحة أو ارتباط تلك التوقعات السوداوية بحضارة المايا القديمة، حتى بالرغم من كل ما هو معروف عن تلك الحضارة من خوف رهيب من قوى الطبيعة وآلهتها القديمة والذي جعل منها واحدة من الحضارات التي ظلت تقدم أضحيات بشرية السترضاء اآللهة بصورة دموية ومرعبة إلى أبعد الحدود. وبدا األمر عبثياً ،وكأن بعض البشر يبحثون في سراديب أرواحهم البائسة والوحيدة والمفعمة بالمعاناة عن كوارث
تنهي العالم والوجود اإلنساني .وطالما كان ذلك بعيدًا عن العلم الحقيقي ،فإنه يبدو أقرب إلى حالة صرعية يحركها هاجس الخلود الضائع أكثر من أي شيء آخر! وإذا كان الجنس البشري في كل الحضارات تقريب ًا وبالذات في الحضارات التي نهضت على أراضي بلداننا العربية، قد تملكه هاجس الخلود على الصعيد الفردي أو على صعيد الجنس البشري في مجموعه كأعلى رتبة بين كل الكائنات المعروفة لنا ،فإن ملحمة جلجامش العراقية (السومرية) ،التي تحكي قصة بحث ذلك اإلنسان عن الخلود على غرار جده (أوتونبشتم) الذي نجا من الطوفان بفلكه الذي بناه وسط استهجان قومه، والذي أنقذ على متنه الجنس البشري ومختلف األنواع من الفناء ،تنتهي بحكمة بالغة العمق ألقتها آلهة العراق القديم في فان ال محالة، وجه جلجامش :اإلنسان ٍ وخلود «أوتو نبشتم» هو استثناء لن يتكرر ،وعلى اإلنسان أن يجد لنفسه مسرة في الرفقة الطيبة والمسكن الجميل والملبس النظيف والمأكل الشهي ،لكنه أبدًا لن يكون خالدًا ،فالخلود قدر اآللهة وحدها. وفي نفس السياق آمن المصريون القدماء بالخلود ليس من خالل حياة مستمرة ودائمة ألنها لم تتحقق وما كانوا يستطيعون إثبات وجود أو إمكانية تحقيق خلود من هذا النوع ،بل كان الخلود الذي سعوا إليه َّ ونظروا له ديني ًا هو من خالل البعث بعد الموت لمن عمل عم ً ال صالح ًا في حياته ،وأبدعوا نظريات للخلق والموت والبعث ،وجعلوا من «عوزير» الذي ُيكتب عادة «أوزوريس» وهو إله الزرع والنماء ،إله عالم الموت الذي يحاسب الموتى ويفتح باب الخلود األبدي للصالحين منهم ،بينما تفنى أرواح األشرار وتلقى في الجحيم .وبقدر ما كان ذلك تجسيدًا للرغبة الهائلة في تحقيق الخلود ،فإنه كان بصورة أو بأخرى تعزيزًا لكل القيم اإليجابية المتعلقة باحترام الحقوق واألرواح وعدم ارتكاب جرائم القتل أو السرقة أو الغدر
أو النميمة والوشاية أو الزنا أو تلويث مياه النيل وسد قنواته ومنع جريانها إلى أرض مصر وزرعها... باختصار َح َّول المصريون القدماء هاجس الخلود لديهم إلى جائزة كبرى ال يحصل عليها بالبعث بعد الموت ،إال من أنجز عم ً ال طيب ًا في األرض لدفع البشر المهووسين في كل زمان ومكان بالخلود إلى السلوك الحميد ومكارم األخالق. وبعيدًا عن األساطير وعن مالبسات إطالق صرخات نهاية العالم في عام ،2011هناك ما يمكن تسميتهم بصيادي اللحظات ،الذين يعرفون كيف يقتنصون لحظات الخوف والهلع ليصنعوا من ورائها ثروات كبيرة بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويعتبر انتعاش كل أعمال السحر والشعوذة وقراءة الطالع ،أمرًا بديهي ًا في مثل هذه الحاالت من التوجس بشأن نهاية العالم .والغريب أن الجمهور الذي يسعى لقراءة الطالع لدى المنجمين والمشعوذين ،لم يعد هو الجمهور التقليدي القديم من الجهلة ،بل هو من الساسة والفنانين والرياضيين، وبعضهم على درجة عالية من العلم
والثقافة ،بما يعني أن سيطرة الخوف من المستقبل ،تلغي أو تعطل إعمال العقل كأساس للسلوك الرشيد ،وتترك أصحابها نهب ًا للدجالين والمشعوذين من مستغلي ضعاف القلوب والنفوس. ومن المنطقي أيض ًا أن تتزايد األمراض النفسية المرتبطة بالخوف الهيستيري من المستقبل بما ينعش صناعات األدوية ومؤسسات العالج النفسي المرتبطة بهذه الحاالت ،كما أن األعمال الفنية التي تعالج مثل هذه األساطير والخزعبالت وتعطيها غطاء «علمياً» ،تحظى أيض ًا بجمهور كبير من المتعطشين لالستغراق في حالة يخافونها ويستبقون أحداثها من خالل العالم االفتراضي في السينما ،بما يكفل لتلك األعمال تحقيق النجاح المالي من جهة ،ورضاء السلطة السياسية من جهة أخرى ،طالما أن تلك األعمال بعيدة عن معالجة المشاكل االقتصادية واالجتماعية والسياسية الحياتية ،التي تعتبرها السلطة تحريض ًا ضدها. وقد يبدو األمر غريب ًا أن تؤثر مثل تلك األوهام على األنشطة االقتصادية ،لكن ذلك ما يحدث بالفعل ،بالذات في أسواق العمالت واألسهم والمعادن النفيسة.
ففي أسواق األسهم تبدو الشركات التي يتم تداول أسهمها عرضة لكارثة الدمار التي يتم «التبشير» بها ،وألن كل فرد يكون لديه أمل أن يكون من الناجين من الكارثة ،فاألفضل له في هذه الحالة أن يسحب أمواله من البورصات بما يؤدي إلى اضطرابات وتراجعات في أسعار األسهم المدرجة فيها ،ويضعها في وعاء آمن مثل المعادن النفيسة كالذهب والفضة والبالتين والمجوهرات المصنوعة منها أو من غيرها من األحجار الكريمة ،أو في األراضي بما يؤدي لتصاعد المضاربة عليها وارتفاع أسعارها بصورة مبالغ فيها وبعيدة عن تكلفتها أو قيمتها االستعمالية الحقيقية. وربما تكون األفكار الخاصة بنهاية العالم في عام ،2011قد ساهمت ولو بجزء ضئيل في ارتفاع أسعار المعادن النفيسة إلى مستويات قياسية لم تبلغها من قبل ليقترب الذهب من حاجز الـ 2000 دوالر لألوقية .كذلك فإن مخاوف الفرد من أن تحل بالعالم كارثة دمار وأمله في أن ينجو ،يمكن أن تدفعه إلى االحتفاظ بأمواله في صورة سيولة مالية بالعملة التي يثق في قوة الدولة التي تنتمي إليها ومنعتها من الكارثة .وهذا األمر ُيخرج قسم ًا من األموال من أوعية االدخار واالستثمار ومن عملية التنمية كلياً ،لتتحول تلك األموال إلى مخزون راكد في صورة معادن نفيسة وأموال مكتنزة .كما أنه من المنطقي في مثل هذه الحاالت أن يرتفع اإلقبال على االستثمار في شراء سندات وأذون الخزانة للدول القوية التي يتوقع المهووسون أنها ستصمد للكارثة .لكن تلك التأثيرات تكون محددة بحجم من تسيطر عليهم أوهام كارثة نهاية العالم .أما العقالء فإنهم يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون أبدًا ،ويعملون صالح ًا كأنهم يموتون غدًا ،أو يتعلمون ويعملون بدأب لبناء حياتهم ومستقبلهم ،ويجدون ألنفسهم مسرة وبهجة ويستمتعون بحياتهم دون إيذاء ألحد أو جور على حقوق عامة أو ِ وليأت الموت وقتما شاء ،فإنه خاصة، حقيقة مؤكدة وقدر لإلنسان ال راد له! 51
التبشير بجهنم
«ما لم يستطع الرب أن يفعله نعمله نحن» ..ه���ذه العبارة نطق بها الرئيس األميركي األس���بق رونال���د ريغان ،في إشارة لمعركة هرمجدون الفاصلة بين الخير والشر ،وهي المعركة التي تعني نهاي���ة التاريخ حس���ب الرؤي���ة األلفية للعهدين القديم والجديد. ما كان لمثل ه���ذه العبارة أن تحتل مكانة بارزة في التاريخ اإلنساني لوال أن م���ن نطق بها كان رئيس أقوى دولة في العالم ولديه ما يكفي من األس���لحة النووي���ة لتدمي���ر الك���رة األرضية عدة م���رات ،وهي عبارة ال تن���م عن إلحاد، بل تعبر عن إيمان بما جاء في «الكتاب المق���دس» م���ن نص���وص ح���ول نهاية العالم ،لكن المشكلة الوحيدة التي كان يعاني منها ريغان هي أن القدر بطيء، فهو أراد أن ينهي العالم سريعاً ،ورغب في أن يكون واحدًا من فرس���ان معركة هرمجدون الفاصل���ة التي يقتل فيها كل الكف���ار ،وهو م���ا َع َّبر عن���ه عندما كان مرشح ًا للرئاسة عام 1980بقوله« :إن نهاية العالم قد تكون في متناول أيدينا..
52
وإن هذا الجيل بالتحديد هو الجيل الذي سيش���هد هرمجدون» ،كما كتبت غريس هالسل في كتابها «النبوءة والسياسة.. اإلنجيليون العسكريون في الطريق إلى الح���رب النووية» ،فق���د كان يريد لهذه الح���رب الفاصل���ة أن تتحقق على يديه أو كما قال ريغ���ان« :يوم هرمجدون لم يعد بعيداً ..كل ش���يء أصبح في مكانه ال يمكن أن يطول األمر اآلن» واستش���هد بنص الكتاب المق���دس في حزقيال «إن النار والكبريت ستمطر على أعداء شعب اهلل وال ب���د أن ه���ذا يعني أن األس���لحة النووية س���تدمرهم »..فق���د كان تواق ًا لصب النار والكبريت والقنابل النووية على أعداء شعب اهلل. في الوالي���ات المتح���دة يؤثر الدين على الق���رار السياس���ي كم���ا ال يحدث ف���ي أي بلد ف���ي العالم ،رغ���م علمانية نظ���ام الحك���م ،فاألميركي���ون ه���م من أكثر الش���عوب تديناً ،وهناك ما يطلق عليه ف���ي الواليات المتح���دة «األحزمة اإلنجيلية» ،وه���ي الواليات الجنوبية، المس���كونة باإليم���ان الكتاب���ي والت���ي
روكني حاريذاده -إيران
�سمري احلجاوي -قطر
تعتب���ر «خزان��� ًا عقائدي��� ًا وأيديولوجي ًا وسياسياً» لليمين الديني ،بل إن بعض األرقام تشير إلى أن 80مليون أميركي م���ن أص���ل 300مليون يعتب���رون من المتديني���ن ،وهؤالء يش���كلون أكثر من رب���ع الش���عب األميركي ،وه���م الحلقة الحالي���ة ألس�ل�افهم الذي���ن «ف���روا من االضطهاد الديني في إنكلترا ليس���تقروا في برية أميركا ويعتقدون أنهم يقومون بالدور األخي���ر في التاريخ البش���ري» كم���ا يقول مايكل نورثك���وث في كتابه «المالك يوجه العاصف���ة» .ويعتبرون أن أميركا ه���ي «كنعان الجديدة ،وعلى ه���ذه األرض األميركية س���تقوم األلفية التي يس���ود فيها السالم» ،وأنهم شعب اهلل المختار إلنش���اء «إسرائيل الجديدة» في أميركا ،و«لقد تغلغل معنى الشعب اإلله���ي المخت���ار في الخي���ال األميركي واتخذ مس���ميات مختلفة مثل «أسلوب الحي���اة األميركي ،والحل���م األميركي، والقدر المبين ،واالستثنائية األميركية» كما يقول نورثكوث .وهو الشعب الذي يعي���ش في «البلدة ف���وق التل» ،والتي تعني إنهم أصح���اب الحضارة والخير
والن���ور ،وإن كل األمم األخرى يجب أن تسعى إليهم للتحضر. ه���ذا المنطل���ق لألفكار المؤسس���ة للمهاجرين الفارين «البروتس���تانت» من أوروب���ا إلى األرض الجدي���دة أو كنعان الجدي���دة «أميركا» ،أثر على س���يرورة البناء الفكري واالجتماعي والسياس���ي للوالي���ات المتح���دة ،وخل���ق حالة من التداخل بين النظام السياس���ي األرضي وبين العقائد السماوية ،وتحول النظام السياس���ي البش���ري ،أو النظام الحاكم إلى آلة لتنفيذ «مش���يئة الرب» حسب ما ورد في أس���فار العهدين القديم والجديد «التوراة واإلنجيل» ،وكان من المدهش أن األس���فار الت���ي تتح���دث ع���ن نهاية التاري���خ وتدمير العال���م كان لها تأثير كبير على الساسة األميركيين قبل وبعد إنش���اء الواليات المتحدة األميركية ،وال يكاد يخلو س���جل أي رئيس أميركي من اقتباس���ات دينية تؤي���د أن أميركا هي من���ارة الحضارة العالمي���ة وأنها «بلدة فوق التل» وصو ًال إل���ى الفصول األكثر إثارة وهي «دمار العالم في هرمجدون»،
وشن الحروب على اآلخرين بوحي من ال���رب ،في محاولة إلنزال المس���يح من الس���ماء اس���تعجا ًال للمعركة الفاصلة.. وإذا كان الرئي���س رونال���د ريغ���ان «مهووس���اً» باأللفية ،وحاول أن يتمتع بشرف خوض المعركة ،ولو حتى بدون المس���يح نفس���ه ،فإن الرئي���س جورج بوش االب���ن كان هو اآلخر «مس���كوناً» باأليديولوجي���ة األلفي���ة والرؤيوي���ة، واعت���رف أنه يعتق���د أن اهلل اس���تدعاه ليخدم وطن���ه في لحظة أزم���ة كبيرة، وقال« :أش���عر كما لو أن اهلل يريدني أن أكون رئيساً».
السياسة األميركية تتكون من عقائد سياسية تدور حول: متى ،وأين يجب التدخل في بالد الشعوب األخرى؟
وف���ي خطاب���ه بمناس���بة تولي���ه منصب الرئاس���ة ع���ام 2001أعرب عن اعتق���اده «أن اهلل يدع���وه ويدعو أميركا لقي���ادة العالم ف���ي معرك���ة حددها اهلل س���لفاً» ..وه���ي معركة رؤيوية أش���ار إليها س���فر الرؤيا في الكت���اب المقدس بين قوى الخير وقوى الش���ر لتش���كيل العال���م وفق القي���م األميركية وهي قيم الحرية والديموقراطية والس���وق الحر، ول���م يت���ردد ب���وش باإلعالن ع���ن أنه «س���يواجه العقائ���د الفاس���دة بتصميم وق���وة وس���نتحدث إل���ى كل األم���م في سبيل القيم التي أدت إلى ميالد أمتنا»، كما يقول كتاب س���فر الرؤيا األميركي، الذي يس���تطرد «هذه السياس���ات ليست بالضبط نت���اج أيديولوجيا حديثة ففيها روح ألفي���ة عميقة ،تمت���د جذورها إلى نش���وء اعتقاد األميركيين ف���ي أنهم امة وقََّدر أن تقود العالم مخلصة قض���ى اهلل َ إل���ى نهاي���ة التاري���خ ..فب���وش اعتقد بحم���اس ش���ديد أن أميركا ه���ي أصدق أنموذج على ظهر األرض للقيم المقدسة، الحرية والديموقراطية ..وعلى هذا يبدو م���ن المعقول جدًا أن يذه���ب إلى الحرب قيمَتي الحري���ة والديموقراطية، لفرض َ وبتعبير آخر تحول الحلم األميركي إلى حرب عالمية مع أولئك الذين يقال إنهم يعارضون المصال���ح األميركية والقيم األميركية ،وكانت تلك االتجاهات التي تن���م بوضوح ع���ن الرغبة ف���ي تكوين إمبراطوري���ة ،ولق���د اس���تخدمت ه���ذه النخب���ة فكرة األلفية لتخفي تأسيس���ها إلمبراطورية يكون فيه���ا الكثيرون في خدمة القوة ،أما الث���روة فتكون للقلة، وتحول���ت أيديولوجيا الرؤي���ا النبوئية أداة تغطي حقيقة العدوان اإلمبراطوري داخل أميركا وخارجها. وقد حرصت الوالي���ات المتحدة منذ نش���أتها ،وباعتبارها مجتمع ًا عسكري ًا صميم��� ًا على التمث���ل دائم��� ًا بالمدنيين وفي نف���س الوقت عل���ى تصدير نزعته العسكرية التقليدية لوكالئه النظاميين في ه���ذا العالم وبدا واضح��� ًا أن بعض القص���ص الكتابية «الت���وراة واإلنجيل»
53
أس���همت في معان���اة أع���داد ال تحصى من المواطني���ن المحليي���ن األصليين.. وش���جعت فعلي ًا كل إش���كال االستعمار العسكري المنبعث من أوروبا عن طريق تزوي���ده زعم��� ًا بالش���رعية الس���ماوية للمس���تعمرين الغربيين في حماس���تهم ل���زرع مراكز تقدم في قلب الظالم ..ومن هنا تعتبر الحرب على أفغانس���تان التي أطلق عليها «الحرب على اإلرهاب» حرب ًا بين ق���وى الخير وقوى الش���ر ،واعتبر بوش االبن أنه يقود حرب ًا صليبية ضد الساعين إلقامة «إمبراطورية الشيطان» من إندونيس���يا إلى المغرب ،في إشارة إل���ى العالم اإلس�ل�امي ،وقد اس���تخدم بوش االبن مصطلح «ح���رب صليبية» للتعبير عن سياسته ،فبوش ومؤيديه م���ن المحافظين الج���دد اعتنقوا عناصر متصل���ة بالعقي���دة األلفي���ة ،خاص���ة محورية إسرائيل في «نهاية التاريخ»، وباإلضافة إلى أفغانس���تان وما أطلقوا عليه «الحرب على اإلرهاب» جاء الهجوم عل���ى الع���راق إلعادة تش���كيل الش���رق األوس���ط ليكون آمن ًا بالنس���بة لـ «األمة اإلس���رائيلية» ،كم���ا يق���رر نورثكوث، وه���م ينطلق���ون م���ن أعم���اق قص���ص التوراة والتاريخ واألساطير ،كما كتب ج���ون كولي ف���ي كتاب���ه «التحالف ضد باب���ل» ،فجورج بوش االبن نظر ،وقدم العراق كبقعة لصناعة الش���ر اس���تنادًا إلى نصوص العهد القديم التي تس���وق أن بابل «العراق» مركز للشرور والفساد والظالم و«دولة معادية هلل» ،وأن تدمير بابل ضروري لنهاية العالم والتاريخ، فه���ي الضل���ع الثالث من أض�ل�اع إنهاء التاريخ وهي إقامة دولة إس���رائيل في فلسطين وتدمير بابل «العراق» ومعركة هرمجدون ،وهي معركة اإلبادة األخيرة للكفار وأع���داء الرب ،التي س���يقودها المسيح الذي سينزل من السماء. وكش���ف الصحافي الفرنس���ي كلود موريس فى كتابه «ال أصدق ما أس���مع» أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك شعر بالفزع ولم يصدق أذنيه عندما اتصل به بوش قبل الحرب على العراق عام 2003
54
إلقناعه بالتراجع عن معارضته الشرسة للحرب مؤكدًا له أن هذه الحرب تستهدف القضاء عل���ى يأجوج ومأج���وج اللذين يعمالن على تش���كيل جيش إسالمي من المتطرفين في الش���رق األوسط لتدمير إس���رائيل والغ���رب ،وقال له« :اس���مع أخ���ذت على ي���ا صديقي الرئي���س :لقد ُ عاتقي تخليص العالم من الدول المارقة والشريرة وسأعمل على خوض معركة «هرمجدون» بكل ما أوتيت من قوة ،من أجل القضاء عل���ى «يأجوج ومأجوج»، وأن شيراك ازداد فزع ًا عندما كرر بوش من جديد اس���م يأجوج ومأجوج في أحد مؤتمراته الصحافية الت���ي كان يتناول فيها سياسته حيال دول «محور الشر»، وكان ريغان قد س���بق بوش في الحديث ع���ن يأج���وج ومأجوج وتنق���ل (كريس هالس���ل) في كتابها «النبؤة والسياسة» أن ريغ���ان كان عل���ى اس���تعداد إلنفاق ملي���ارات ال���دوالرات اس���تعدادًا لحرب نووي���ة مع يأج���وج ومأجوج وخوض معركة هرمجدون إلعادة المسيح ثانية من السماء إلى األرض. إنه انجذاب للموت والدمار والخراب يجعل العنف مكون ًا من مكونات الهوية يزرع األحقاد التي يمكن أن تنتشر كالنار في الهش���يم ويغذي النزاعات واألعمال الوحش���ية في العالم كما يقول (امارتيا صن) في كتابه «الهوية والعنف». لقد وقف الرئيس رونالد ريغان أمام جمع من يه���ود نيوي���ورك ليقول« :إن إس���رائيل هي الديموقراطي���ة الوحيدة التي يمكننا االعتماد عليها في بقعة من
ُق ِّدم العراق كبقعة لصناعة الشر استناد ًا إلى نصوص العهد القديم س ِّوق أن التي ت ُ َ بابل «العراق» مركز للشرور
العالم قد تش���هد مأساة هرمجدون! وإنه لمن المثير هذا الربط بين الديموقراطية وبي���ن الدمار الش���امل المطلوب كمدخل ثانية»! لظهور السيد المسيح ً وكما ذك���رت هالس���ل ف���إن ريغان كان يواص���ل الحديث ع���ن هرمجدون، وقال لإلنجيل���ي جيم بيكر ف���ي مقابلة تليفزيوني���ة« :إننا قد نكون الجيل الذي سيش���هد هرمج���دون» ،وذك���ر المؤلف اإلنجيل���ي (دوغ ويل) إنه س���مع ريغان يردد مرارًا «إن نهاية العالم قد تكون في متناول يدنا» ،وكشف المبشر اإلنجيلي جي���ري فولويل ،أن ريغ���ان أبلغه« :إن تدمير العالم قد يحدث «سريع ًا جداً» وإن التاريخ سيصل إلى ذروته». هذا اله���وس القيامي األلفي للرئيس األميركي أقلق الباحثي���ن واألكاديميين وس���ارع معهد األبحاث المس���يحي إلى بحث َه َوس ريغان بمعركة هرمجدون، وع َّبر عن قلقه من هذا التوجه وأعلن أن َ إيمان رئي���س الواليات المتحدة بأن اهلل قضى بنش���وب حرب نووية من ش���أنه أن يرس���م عالمات استفهام مثيرة ،فهل ال خالل أي أزمة س���يكون متروي ًا وعاق ً نووية؟ أم أنه س���يكون متهافت ًا للضغط على الزر ،وهو يش���عر في قرارة نفسه أنه يساعد اهلل في مخططاته التوراتية - اإلنجيلية المقررة مسبق ًا لنهاية الزمن؟.. وهي أسئلة تحمل في طياتها الكثير من المخاوف. إنه الهوس بالنهاي���ات وهو هوس خطير عندما يمتل���ك المهووس مفاتيح القوة وأزرار إطالق الصواريخ النووية إلبادة اإلنسانية من أجل إنزال الرب من الس���ماء ،وتصوير هذا ال���رب على أنه عاجز وغير قادر على النزول ،وبالتالي ال بد من مساعدته على ما ال يستطيع أن يفعله كما قال الرئيس ريغان ..وذلك ال يكون إال بتدمير األرض وإفناء البشرية وهي أيديولوجية مجنونة جرت المآسي والويالت على البش���رية وال تزال تفعل فعله���ا حت���ى اآلن ،ألنه���ا أيديولوجية مهووس���ة بـ «إحماء التاريخ» والتبشير بجهنم وبأمطار النار والكبريت.
بني ال�ضفتني
إيزابيلال كاميرا
نهاية العالم في مدن الملح يعود الحديث عام 2012أيض ًا عن نهاية كوكبنا ،وهذه المرة تأتي النبوءة من تقويم المايا ،الذي يضع يوم 21ديس���مبر من العام القادم موع���دًا تتوقف فيها أرضنا المحبوبة عن الوجود، وهو ما أطلق العنان لخيال العديد من الكّتاب في العالم والذين أسسوا نظرياتهم على مجموعة كبيرة من العالمات القادمة من العالم الغرائبي وليس من العلم. ف���ي إيطالي���ا أيض ًا ح���دث ازده���ار لمطبوع���ات تعالج هذا الموض���وع المثي���ر والغامض ،واأله���م من هذا أن���ه موضوع متكرر ،خاص���ة إذا عرفنا أنه في الع���ام 1000كان الموضوع نفسه مطروح ًا على اإلنس���انية بإلحاح ،ولكن لحسن الحظ ما زلنا موجودين هنا ،لنشهد على أن كل ذلك كان مجرد ترهات، وأن هذه التوقعات المأساوية لم تحقق أبداً. الي���وم ،وبفضل التليفزيون واإلنترنت ينتش���ر الخبر ويكبر ف���ي غضون ثوان معدودة ،ويزيد بش���كل يثي���ر الدوار عدد من المؤلفي���ن يريدون لنا أن نعيش في حال���ة هلع انتظارًا لتحقق نبوءات أتباع «العصر الجديد» أو األساطير الكمبودية ،أو حتى النبوءات التي تنبأ بها األيرلندي ،ماالتش���يا ،في القرن الثاني عشر ،ونوسترادموس في القرن السادس عشر. كل ي���وم ،في المدونات على ش���بكة اإلنترنت ،يكتب الكثير من الناس ،وهم في حالة ذعر من النهاية الوش���يكة ،ويتمنون أن تكون ه���ذه التوقعات من أعمال الخي���ال وأال تصبح وقائع حقيقية من وقائع األيام التي نعيشها. ومن الكتب التي أثارت الكثير من االهتمام في إيطاليا رواية «نهاية العالم المشوه» للكاتب ماورو كورونا ،والمنشورة عام ،2010ويتنبأ فيها بنهاية العالم عام .2012 المؤل���ف ش���خصية خاصة ،مح���ب للطبيع���ة ،منطو على نفس���ه ،وحيد ،يح���ب الطبيعة وغ���ارق فيها ،وس���ط غابات إيطاليا والشمال ،بين األشجار ،والحيوانات الذين يكن لها حب ًا خاص���اً ،ويمكن وصفه دائم ًا بأن���ه «منثور في الغابات» ،على طريقته الخاصة. وه���و في الواقع ،ينتقد الحداثة علن��� ًا ألنها ،وفقا لما ذكره، س���وف تؤدي إلى تدمير أرضنا الجميلة العزيزة ،ألن اإلنسان، ف���ي س���عيه المحموم نحو التق���دم ،دمر إلى األب���د حياة جميع البشر. تبدأ الرواية بسيطة الحبكة ،بكارثة مفاجئة .تجري األحداث
في بلد من بالد الش���مال ،في عز الش���تاء ،عندما يكون الش���تاء قارس��� ًا بحق ،والريح ثلجية .وذات يوم جميل يستيقظ الناس ليكتش���فوا أن���ه لم يعد هناك بترول ،أو فح���م وال حتى كهرباء بطبيعة الحال .فجأة ،وجدوا أنفس���هم غارقين في حياة أخرى حيث تعيش المدن اآلن في ظالم دامس ،وقد أصبحت صحارى صامتة ،حيث يصمت كل شيء .الحداثة ،بضجيجها الذي يبعث عل���ى الصمم ،وأضواؤها الوامضة التي تزعج العيون ،اختفت في لحظة .بالنسبة للبشر كان الخالص الوحيد هو العودة إلى األصول ،إلى حكم���ة األجداد الذين تعلموا م���ن الطبيعة البقاء عل���ى قيد الحياة .القوي فقط هو من ينجو في هذا العالم الجديد وهو ليس بجديد تماماً ،نظ���رًا ألن الخالص من وجهة نظر هذا المؤلف هو ببس���اطة العودة إلى العصر الحجري .إن التشويه الذي يراه المؤلف في الحي���اة الحديثة ال يتعلق فقط بالكوارث الطبيعية ،ولكن في البحث المتوجس عن إطالة عمر اإلنس���ان، وجنون الربح ،والس���رعة الرهيبة لألش���ياء ،وباقي األخطاء والتش���وهات التي نعيش���ها في العصر الحدي���ث .هي إذا رواية خيال علمي ،ولكنها أيض ًا تنضح بالواقع . ولكن حتى ال ننظر إلى البعيد نجد أيض ًا في األدب العربي أن هناك الكتاب الذين أدانوا تدمير الطبيعة لالس���تغالل المحموم للبت���رول ومصادر الطاق���ة ،يكفي تذكر «مدن المل���ح» الرواية الش���هيرة لعبد الرحمن منيف ،والتي ،لحسن الحظ ،ال تنطوي على وضع حد للعالم ،ولكن مجرد تحذير للبشرية من األضرار الناجمة عن تحديث تسارع جداً. كثي���رون هم الكتاب في إيطاليا الذين يعتمدون في رواياتهم على االقتناع أو الخوف من أن يوم القيامة «على األبواب» ،في نوع من «الخيال العلمي الكارثي» ،الذي يغلب عليه التشاؤم. فالكاتب أنطونيو سكوراتي كتب رواية بعنوان «الطفل الذي كان يحلم بنهاية العالم»(دار نشر بومبياني ،)2009تحكي عن طفل جميل أش���قر عيناه واس���عتان زرقاوان مهووس كل ليلة بنهاية العالم ودائم الحلم بيوم القيامة .يحاول الكاتب في هذه الرواي���ة تحليل عالم الطفل ال���ذي يخضع لعنف قاس ،ويواجه على نحو مكش���وف أزمة المؤسس���ات اإليطالية م���ن الجامعة وحتى عالم السياسة ،ومن الكنيسة إلى األسرة ،والتي تدخلنا في صراع مع أش���باح ،هي ف���ي الواقع مخاوف يت���م بثها منذ الطفولة وتستمر معنا حتى في الكبر.
55
ماذا تفعل إذا كانت القيامة غداً؟
وصايا يوم الرّحيل نهاية العالم القريبة فكرة يؤمن بها البعض ويرفضها البعض اآلخر. ودرامية في آن معاً .نهاية األف����راد هي حتمية متعارف تبدو مغري����ة ّ عليها ،ولكن «نهاية العالم» ما تزال تبعث على التس����اؤل .بين التأويل الّديني وترس����بات موروث البيئة الش����فوية ،يقرأ العرب نهاية العالم وفق زوايا مختلفة.
«الدوحة» التقت مثقفين وأناس���� ًا عاديين ،وطرحت عليهم السؤال الردود التالي« :ماذا س����تفعل لو علمت أن نهاي����ة العالم غداً؟» .تباينت ّ وتعّددت اآلراء.
ا�ستطالع :مرا�سلو الدوحة الروائي عبد الوهاب األسواني يؤمن بأنه ال يعلم الغيب إال اهلل ،لكنه يتوجس ويرد على السؤال: خيفة من الموضوعّ ، «س���أجمع أحبابي وأحفادي وأهلي كلهم وأذهب إلى الني���ل ،ونجلس للعبادة في انتظ���ار الي���وم المعلوم .نش���تري كمية كبيرة من الغالل(ذرة ،قمح وشعير) لكي نطعم العصافير والحمام وبعض الطيور التي أصبحت ضالة». نهايتنا نحن «تختلف نهاية العالم األميركية ،كما تظهره���ا هوليود ،عن نهاي���ة العالم عند دانت���ي الت���ي تتطلب الم���رور بالجحيم، ومن بع���ده المطه���ر ،ومن ث���م االرتقاء إلى الف���ردوس .نهاية العال���م األميركية 56
تتطلب ديك���ورات ضخمة ،لمدن حداثية ومابعد حداثية تنهار دون شفقة» يقول أحمد زغلول الش���يطي .م���ع ذلك ،فهو يرى نهاية أخرى للعالم لدى المصريين تختلف عن أطروحة دانتي ،وعن رؤية المخ���رج س���تيفن س���بيلبرغ« :إنه يوم القيامة ،يوم النفخ في الصور ،وانقضاء الحياة الدنيا ،حيث ليس لإلنسان إال ما سعى ،وإن سعيه س���يرى» .ويضيف: «إن ش���هد العالم نهايته ف���ي 2012كما تج���ري التوقعات الرائج���ة ،أتصور أن يتجمع المصريون ف���ي ميدان التحرير، دون خش���ية من ف���ض تجمعهم بغازات األعص���اب ،وبالقنابل المس���يلة للدموع وبالرص���اص المطاط���ي والخرطوش،
فأنا أتوق���ع أن تأتي نهاية العالم خالية من مشاهد القمع». الراحة من حراسة الغد الش���اعر جم���ال القصاص ي���رى أنه ال ب���أس أن ينتهي العال���م غداً« .ال بأس أن أتصور أنه غدًا س���يختفي الساس���ة وسماس���رة الثورات ،وأنه لن تتحرش بي األسئلة الحائرة :ما الحلم؟ ما الرغبة؟ ما الحب؟ ما اإلنس���ان؟ حينها سيمكنني أن أن���ام بجس���دي كل���ه ،أن أعفي هذه الروح الممزقة من مهمة الحراسة الثقيلة لغ���د لن يأتي .جميل أال أكلم إنس���ياً ،أو ينهرني أحد من تحت القناع :ابتس���م من فضلك أنت في ف���رح ،أو يباغتني ابني صارخاً :الوقت تأخر يا أبي لن نستطيع أتخبى في اللح���اق بالحفل ..جمي���ل أن ّ هذا البي���اض» .ويواص���ل« :ال بأس أن أقفز في الهواء واس���تلقي على قفاي من الضحك وأص���رخ :ألم أقل لك���م إن هذا مرض يصعب العال���م أكذوبة والحري���ة ٌ االستشفاء منه!». ُ مأدبة النسيان «نح���ن ضعف���اء وعاج���زون ونحب الحياة ،حتى ولو كانت صعبة ..نفضل أن نعيش» .هكذا تس���تقبل فرح ن32( . عاماً) فرضيات نهاية العالم .عندما سئل معظم المس���تفتاة آراؤه���م في بيروت، عما يفعلونه في اليوم األخير من الحياة ّ على كوكب األرض ،انحازوا إلى اإلجابة عن س���ؤال آخ���ر« :ماذا أفع���ل لو أنني سأموت غداً؟» .إن نهاية الكوكب ال تعني للفرد ،في لحظ���ة المواجهة العارية مع النهاية ،إال موت ال���ذات التي تدرك هذا الكوكب. س���تدخن ميس���اء ز 34( .عام���اً) ّ سيجارة ،وتجد لنفس���ها موقع ًا يشرف على مش���هد جميل ،وتتف���رج عليه .أما إبراهيم د( .طالب هندس���ة في الجامعة األميركي���ة 22 -عام���اً) فق���د اخت���ار أن يمشي إلى خارج العاصمة بيروت ،إلى غد النهاية. أن يأتي���ه «تاني نه���ار» ،أي ُ وكذلك سيفعل س���امي ش 31( .عام ًا – صحاف���ي) ،لكنه لن يخ���رج من بيروت بالضرورة ،وإنما سيتفرج على النهاية، من الشارع.
أحمد السوداني -العراق
يسرى ن 19( .عاماً ،تقيم في باريس حالياً) ،لن تقدم على ٍ فعل اس���تثنائي، وإنم���ا ستحتس���ي كوب��� ًا م���ن النبي���ذ، وتس���تمع إلى الموسيقى .مايا ش30( . عاماً ،مصممة غرافيكية) ستفعل مثلها، لك���ن برفقة أصدقاء لها ،ألنها ال تريد أن وحيدة عندما يحين موعد النهاية. تكون ً أم���ا س�ل�ام ( 40عاماً) فس���تخبر الناس الذي���ن تحبهم بأنه���ا تحبهم ،ث���م تدعو أوالدها وأحباءها إلى جلسة ،فيها طعام وسجائر وكحول« ،ورح موت سكرانة» تعلّق .أما لين ( 23عاماً) فستنتحر. رش���ا ( 25عاماً) س���ترتكب «جريمة قت���ل» بحق كل من ترى ض���رورة قتلهم
في لبنان« ،وبسبح شوي بعد الجريمة، ويمك���ن يخل���ص العال���م أن���ا والبحر». يواف���ق هالل ( 30عاماً ،روائي) على أن «الواح���د يقتل واحد .وفي���ك كمان ،بعد ما تقتلي حدن ،تقعدي ع الش���ط تنطري العالم ليخلص .دايم��� ًا بحس انو البحر رح يفضى بس العالم يخلص ،وبيهمني ش���وف كيف .خدي مع���ك كتاب ضخم، وال م���رة خلصتيه أو قدرت���ي تخلصيه أو تبلش���ي فيه .اقرئي���ه وانطري البحر ليفضى». من جهتها ،رش���ا الفلس���طينية ابنة الخامسة وثالثين ربيعاً ،تقول« :سأجمع بحبهم ف���ي مكان واحد ّ كل الن���اس اللي ّ بحبه كثير هو القاهرة ..ومنسهر هناك ّ
للصبح ،موس���يقى وأغان���ي وكحول. وبس أموت بك���را ،يبعثون���ي بتابوت على متن قارب من شط إسكندرية لشط عكا» .أما وس���ام ف 20( .عام ًا – عامل ّ في متج���ر لبيع المالبس) فلن يقدم على أي فعل اس���تثنائي ..يقول« :ال شيء.. أكمل حياتي بش���كل عادي» .وكأنها لن تنتهي غداً. إذعان للحظة غالبية الس���ودانيين لم يفكروا فيما س���يفعلونه إذا علموا ب���أن نهاية العالم س���تكون غداً .كثير منهم متشائم ويقول إنه���ا س���اعات مع���دودة ال ينف���ع فيها ش���يء .حيث رفض األستاذ عادل مهدي 57
ال بقوله (50س���نة) الفكرة جملة وتفصي ً إن نهاي���ة العالم من األم���ور التي تدخل في علم الغيب ،وأش���ار له���ا القرآن في قول���ه تعالى( :يس���ألونك عن الس���اعة أيان مرس���اها ،قل إنما علمها عند ربي). وأضاف« :إذا كانت بالفعل نهاية العالم غدًا فأول ما س���أفعله هو مس���امحة كل م���ن خاصمن���ي ،واإلكثار م���ن الصالة واالس���تغفار ،وقراءة الق���رآن ،وأذرف الدم���ع على كل الذكري���ات الجميلة التي عش���تها ،م���رددًا بيت الش���اعر إيليا أبو ماضي:
�إن نف�ساً مل ي�رشق احلب فيها هي نف�س ال تدري ما معناها �أنا باحلب قد عرفت نف�سي وباحلب قد عرفت اهلل
أما مهدي نور الدين ( 55سنة)فيؤكد في رد طريف أنه يتمنى أن تكون نهاية العالم يوم الس���بت ،وليس الجمعة الذي يصادف عطلته األسبوعية وفيها يطهو الملوخية ،ويستمع إلى فواصل غنائية، وموسيقية .وإذا علم بنهاية العالم قبل أربع وعش���رين س���اعة فإنه سيمارس نفس الطقوس لتكون خاتمة لحياته. وتقول حن���ان الطيب ( 30عاماً) إنها لن تخرج من منزلها ،وس���تظل في حالة ص�ل�اة دائم���ة ،ودعاء ممتد ب���أن يغفر اهلل لها وللمس���لمين ،وه���و ذات االتجاه الذي ذهبت إليه الصحافيتان رنا عوض وشريفة بريمة ،بقولهما إنهما ستتعلقان بآخ���ر خي���وط األمل.وس���تتصالن بكل الناس لطلب مسامحتهما. أما هن���ادي اله���ادي (رب���ة منزل)، فتؤكد أنه ال س���بيل لعمل شيء في مهلة ي���وم واحد لذلك س���يكون األم���ر بمثابة تأكي���د للق���ول المأث���ور (رفع���ت األقالم وجفت الصح���ف) ،وليس هناك من مفر إذ يصبح المعيار (العمل الصالح) فقط. أم���ا عوض بابكر (العب ك���رة قدم) فقال إنه سيسترجع شريط حياته للنظر إلى ما قدمه من إيجابيات وسلبيات ،ويلجأ إلى اهلل بأن تكون خاتمته سعيدة. م���ن جانب���ه ،يق���ول األس���تاذ عمر إسماعيل ( 60عاماً) إنه لن يستطيع فعل 58
شيء غير أن ينأى بنفسه في ركن قصي مظلم ،وينتظر ما س���يحدث ،مشيرًا إلى أن حكمة الكون أ ّال يعلم اإلنس���ان بقيام الس���اعة .وأش���ار عماد الح�ل�اوي (40 عاماً) إلى أنه سينتظر المفاجأة ،خاصة أن الس���ودانيين بطبعهم يستعدون لكل المناسبات في اللحظات األخيرة ،لذلك فهو س���ينتظر حتى اللحظ���ات األخيرة ليرى ما س���يفعل ،وسيكون األمر عادي ًا حسب قوله .المصور الفوتوغرافي كرار أحمد ( 65عاماً) أش���ار إلى أنه س���يظل يصلي ويس���تغفر اهلل ،ويس���جد سجدة واح���دة حتى نهاية العالم .وفي س���ؤال للطف���ل عم���ر محم���د علي ( 6س���نوات) تش���اغل عن اإلجابة بموضوع آخر لكنه بعد تفكير أج���اب« :ال أدري ماذا أفعل، وكل الناس س���تموت ،لكن هل س���يدنا إسرافيل سيموت أيضاً؟!». اليوم األبيض حملنا السؤال البس���يط في صيغته إلى أناس من مختل���ف األعمار والفئات االجتماعي���ة ،ف���ي الجزائ���ر ،وتباينت ردوده���م بي���ن التلعثم وع���دم المباالة. عب���د العالي خالد ،وه���و صاحب مقهى انترنت ،تسمرت نظراته نحونا ثم ابتسم قائ�ل�ا« :لم يخطر ببالي ه���ذا ،ولم أفكر ً بنهاي���ة العالم ،لك���ن إذا كان األمر جدي ًا فأول م���ا يمكن أن أقوم ب���ه هو التقرب أكثر هلل والصالة له كثيرًا واس���تغفاره، ألنني س���أكون متأكدًا حينها أن ال حياة دنيوية وأن اآلخ���رة على األبواب» .أما
لو قيل لي إن غد ًا ستحل نهاية العالم حق ًا ،فأول شيء سأفعله هو الذهاب إلى خطيبتي واحتضانها إلى أن تحل نهاية العالم
بش���ير مروان (تاجر) فيجي���ب بنوع من الجدي���ة« :لم أفك���ر بهذا ،لك���ن إذ كانت ال فه���ذا يعني أن ال أمل نهاي���ة العالم فع ً ف���ي حي���اة األرض وأن الوق���ت أضيق مما نتصور ،لهذا أول ما س���أقوم بفعله هو الصالة هلل وطل���ب المغفرة ،وأيض ًا القيام بإخراج أمانة كنت قد دفنتها تحت األرض منذ أكثر من 18س���نة» .حاولنا معرفة نوع ه���ذه األمان���ة التي يتحدث عنه���ا بش���ير ،لكنه رفض بش���دة وقال: «هذه األمانة س���ر بيني وبين اهلل .أعتقد أن كل الناس لهم أسرارهم الخاصة التي ال يبوحون بها إل���ى أي أحد حتى أقرب المقربين وأن اهلل وح���ده يعلم بها» .في حين جاء رد فؤاد غالب ،صاحب مخدع لالتصاالت« :أول ما س���أقوم بفعله هو ش���راء قطع���ة كفن لي ،ونزع مالبس���ي وارت���داء هذا الكف���ن ،أو بمعنى آخر لف هذا الكفن حول جس���مي والجلوس على األريكة في البيت النتظار ساعة النهاية. أريد أن أذهب وأنا موشح بالبياض». لك���ن م���ا س���يفعله صال���ح خالف (صيدل���ي) في���ه الكثي���ر م���ن العاطف���ة والعش���ق ،حيث ق���ال« :لو قي���ل لي إن غدًا س���تحل نهاي���ة العالم حق���اً ،فأول ش���يء سأفعله هو الذهاب إلى خطيبتي واحتضانها إلى أن تح���ل نهاية العالم، نعم سأذهب وأحتضنها كثيرًا وطويالً، أريد أن نذه���ب معاً ،في لحظ���ة التحام جس���دينا ،الع���رس تأخ���ر ف���ي حياتنا وبالتال���ي نهاي���ة العالم ل���ن تجعل هذا الع���رس يت���م في الحي���اة الدني���ا ،لكن س���نذهب مع��� ًا في رحل���ة نهاي���ة العالم وسنكون مع ًا في حياة اآلخرة ..نعم هذا ما س���أفعله» .أم���ا صبرينة خلفي وهي طالب���ة جامعية فتق���ول« :ال أدري كيف س���تكون ردة فعلي حينه���ا ،لكن األكيد أنني س���أصلي ركعتين هلل وأس���تغفره كثيراً ،وربما س���أبكي أيض���اً ،ثم أمكث ف���ي البيت ف���ي انتظار س���اعة النهاية. خالل وقت االنتظار أظن أنه ال بأس من مش���اهدة بعض األف�ل�ام الخيالية ،التي ربما ستس���هل فك���رة تقبل ه���ذا الرحيل وهذه النهاية».
خطاب النهاية عبدالعزيز املقالح -اليمن
-1
لم يع����د ممكن ًا أن نعي����ش على هذه األرض بل لم يعد ممكن ًا أن تعيش وقد فقدت لون أشجارها وعذوبة أنهارها َ وبراءة أزهارها
بع����د أن ص����ار أبناؤها ف����ي الظالم سواسية ً ال يرون مفاتيح أيامهم وأساطير أحالمهم، لم يعد ممكن ًا أن تنام ول����م يع����د البحر وه����و يعيش على حجرها قادرًا أن ينام كل شيء على هذه األرض يشكو، لينام. آخر ويبحث عن عالم ٍ ْ
-2
كل شيء يموت على هذه األرض الحقيقية كانت على ظهرها ُ الميتين أول ِّ فقد سئمت من نباح الوعول وصمت الخراتيت وارتحلت لتنام هناك جوار النبيين والشهداء، البيوت ،الحدائق، الجبال، ُ ُ والطرقات اعتراها ارتعاش النهاية ُ أثر للمساجد لم يبق من ٍ أو للكنائس والبرلمانات ال أحٌد في القرى ..في المدائن.. ٌ مخيف ..مخيف خالء هذا ٌ أنين الجياع اختفى ُ المت َخمين اختفى شبق ُ ْ وسعال السكارى ُ وأدعية المؤمنين. ُ
-3
آه ،وآسفاه: كان لي فوق سجادة األرض ومكتبة أهل، ٌ ٌ شعر ودواوين ٍ ُ وبعض الروايات والحكمة المنتقاة ُ و«البوم» من أغنيات الرعاة، كتاب يدي وكنت أنام وبين ّ ٌ ُ يعلمني، ويداعب أحالم روحي ٍ ٍ احتفاء شفيف ويحملني في إلى ملكوت القراءة.. يومئذ كان لي أصدقاء من الشرق والغرب أعرفهم، وأبادلهم لقمة الكلمات ولكن أجفاننا انطفأت كف النهاية حين أسدل ُ َ عتمته، ُ واختفى جسد األرض تحت غبار الهباء.
59
نهاية العالم ذات صباح ظهرت نحو الس���اعة العاشرة قبضة ضخمة في الس���ماء فوق المدين���ة ،انفتحت بعد ذلك بب���طء كمخلب وظلت بش���ر .كانت تبدو وكأنها هكذا س���اكنة كأنها ستار ضخم ينذر ّ حج���ر ولم تكن حج���راً ،وكانت تبدو من لحم ول���م تكن كذلك، وكانت تبدو أيض ًا من صنع الس���حاب ،ولكنها لم تكن سحابة. إنها نهاية العالم. بدأ ينتش���ر صفير تحول إلى عويل ثم صراخ ،انتش���ر بعد ذلك ف���ي األحياء ،حتى أصبح صوت ًا واحدًا متماس���ك ًا رهيباً، كان يصعد نحو الذروة كأنه نفير. في تلك الس���اعة التي لم تكن الش���مس فيها قد سخنت بعد، كان بيت���رو ولويزا موجودين في س���احة صغيرة ،تحيط بها قصور عجيب���ة وتحيط بجزء منها حدائق .ولكن في الس���ماء، على ارتفاع شاهق ،كانت اليد معلقة. انفتح���ت النواف���ذ عل���ى مصراعيها بي���ن الص���راخ والنداء والرع���ب ،بينما كان���ت الصرخة األولى في المدينة تهدأ ش���يئ ًا فشيئاً ،سيدات شابات شبه عاريات أطللن من النافذة يشاهدن يوم القيام���ة .كانت الناس تخرج من البي���وت ،وهي تركض، كان���ت تحس بالحاجة إلى التحرك ،إلى أن تفعل ش���يئاً ،أي ًا ما كان ،ولم تكن تعرف مع ذلك لمن تلجأ. انفج���رت لويزا في بكاء عنيف« :كنت أع���رف» كانت تتمتم وهي تنشج بالبكاء «إنها سوف تنتهي هكذا ...ليس في الكنيسة وليس وأنا أصلي ...أن���ا ال يهمني ،أنا ال يهمني ،واآلن ..كان قلبي يحس أنها س���وف تنتهي هكذا .»..م���ا الذي كان يمكن أن يقول���ه لها بيترو حت���ى يهدئ من روعه���ا؟ راح يبكي هو أيض ًا كأنه طفل. كذلك كان���ت غالبية الناس تبكي ،وخاصة النس���اء .فقط، كان هناك راهبان ،عجوزان مرحان ،كانا يمضيان بكل سعادة كأنهم���ا في أعي���اد القيام���ة« :انتهى أم���ر الخبث���اء اآلن!» كانا يتعجبان بف���رح ،وهما يتقدمان بخطوات نش���يطة ،متوجهين إلى المارة األعلى مقاماً« :هل أقلعتم عن مكركم ،هاه؟ نحن اآلن الماكرون!» (ويقهقهان)« .نحن الذين طالما س���خرتم منا ،نحن الذين اعتبرتمونا بلهاء ،س���ترون اآلن من كان الماكرون!» كانا يمضيان فرحين بشقاوة تالميذ المدرسة. وس���ط زحام الناس الذين كانوا ينظرون إليهما مس���تاءين 60
دون التج���رؤ على الرد عليها .كانا قد اختفي���ا منذ دقيقتين في إح���دى الحواري عندما ش���رع رجل بحركة عفوي���ة يطاردهما، كأنه ترك فرصة ذهبي���ة تفلت منه« :يا إلهي!» كان يصرخ وقد خبط بيده جبهته «كان يمكننا االعتراف أمامهما« .اللعنة»! عزز كالم���ه رجل آخر «كم كنا حمقى! يأتيان إلينا بأنفس���هما ونحن نتركهم���ا يبتع���دان!» ولكن م���ن بوس���عه اآلن أن يلحق بهذين الراهبين السعيدين؟ نس���اء ورجال متغطرسون ،كانوا عائدين ف���ي تلك األثناء من الكنائس يجرون أذي���ال الخيبة واإلحباط. كان���وا يحكون ما حصل :المعترف���ون الراكعون انصرفوا ،ربما طردتهم السلطات العليا ورجال الصناعة األقوياء. غريب جداً ،ولكن المال ما يزال يحفظ لهم بعض الهيبة رغم نهاية العالم ،من ي���دري ،ربما كانوا يفكرون أنه ال يزال هناك متس���ع من الوق���ت ،بضع دقائق ،أو س���اعات ،أو ربما بضعة أيام. أما فيما يتعلق بالمعترفين الذي���ن ال يزالون موجودين فقد تكونت في الكنائس حشود ال تخطر على البال .كان هناك حديث عن حوادث خطيرة وقعت بسبب التزاحم الزائد ،أو من نصابين يرتدون مالبس القسس الذين يتطوعون لجمع االعترافات ولو من البيوت ،ويطلبون أسعارًا باهظة. وعلى العكس راحت أزواج الشباب والفتيات يهرولون نحو الحدائق ،دون أي ظل من تحفظ ،ويتمددون على عشب الحدائق يتطارحون الغرام ولو لمرة أخيرة .أما اليد فقد تحولت إلى لون التراب رغم سطوع الشمس ،ومن ثم أصبحت تثير خوف ًا أكبر. ثم بدأت تنتش���ر ش���ائعة بأن الكارثة أصبحت وش���يكة ،وأكد البعض بشدة أنها سوف تحل قبل منتصف النهار. ال من مس���توى في تلك األثناء وفي ش���رفة قصر ،أعلى قلي ً الش���ارع (كان يمكن الدخول إليها عبر مدرجين من الساللم على شكل مروحة) ،ش���اهدوا قس ًا شاباً .رأسه بين كتفيه ،ويمشي بعجلة كما لو أنه يخشى االنصراف .كان من الغريب رؤية قس في هذه الس���اعة ،في ذلك البيت الفخم المس���كون بالمحظيات. «قس! قس!» س���معوا صوت ًا يصيح من أحد األنحاء .وبس���رعة البرق نجحوا في إيقافه قبل أن يهرب« .اجعلنا نعترف ،اجعلنا نعترف!» كانوا يصرخون فيه. شحب وجهه ،واقتيد إلى ما يشبه الضريح الجميل الصغير ب���رز من الش���رفة كأنه منبر مغط���ى ،بدا كأنه أقي���م خصيص ًا
ق�صة :دينو بوتزاتي
لهذا الغرض .ش���كل الرجال والنساء بالعش���رات عنقوداً ،وهم يصيح���ون ،يقتحم���ون م���ن القاعدة إل���ى القمة ،ويتس���لقون مس���تندين إلى زخ���ارف القصر الب���ارزة ،متش���بثين باألعمدة الصغيرة وبحافة الدرابزين ،والذي لم يكن شديد االرتفاع. بدأ القس يجمع االعترافات .كان شديد السرعة في استماعه اعتراف���ات المجهولين (والذين لم يعد يهمهم ما إذا كان بوس���ع اآلخرين أن يس���معوهم) .ربما قبل أن ينتهوا كان يرس���م بيده اليمن���ى عالمة صليب صغير ،ويصرفه���م ،وينتقل على الفور إل���ى الخاطئ التالي .ك���م كان عددهم كبي���راً! كان القس يتلفت حوله تائه ًا وه���و يقيس المد المتصاعد م���ن الخطايا المطلوب شطبها .وبجهود ش���اقة استطاعت لويزا وبيترو أن يصال إليه وأن يكس���با دورهما ،ونجحا ف���ي جعله يس���معهما« .ال أذهب للص�ل�اة أبداً ،وأكذب .»..كانت الفتاة تص���رخ بتلهف خوف ًا من أال تستطيع أن تعترف في الوقت المناسب ،في تذلل متهور «ثم جميع الخطايا التي تريدها س���ماحتك ...ضعها كلها ...وليس خوف ًا أنن���ي هنا ،صدقني ،إنها فقط رغب���ة في أن أكون أقرب إلى اهلل ،أقس���م لك .»..وكانت مقتنعة بأنها صادقة« .أنا أحلك م���ن خطاياك .»..تمتم القس وانتقل إلى االس���تماع إلى بيترو. ولكن زاد توتر ال يوصف لدى الناس .س���أل أحدهم« :كم تبقى من الوقت على س���اعة الحس���اب؟» .واحد آخر أكث���ر علم ًا نظر إلى الس���اعة «عش���ر دقائق» أجاب بثقة العارفين .سمعه القس وفجأة حاول االنس���حاب .ولكن الناس التي لم تشبع حاجياتها بعد اس���تبقته .ويبدو أنه أصيب بحمى ،وكان من الواضح أن موجات االعترافات ال تصل إليه أكثر من كونها غمغمة مضطربة ال معنى لها ،وكان يرسم عالمات الصليب واحدة تلو األخرى، وي���ردد« :وأنا أحلك م���ن خطاياك .»..بطريق���ة آلية« .ثماني دقائ���ق!» حذر صوت رجل من بين الحش���د .كان القس يرتعش فعلياً ،وكان���ت قدماه تدقان على رخ���ام األرضية مثل األطفال عندم���ا يتش���بثون بش���يء« .وأنا؟ وأن���ا؟» بدأ يتضرع يائس���اً. كانوا يحرمونه من خالص ال���روح ،هؤالء المالعين ،ليأخذهم الش���يطان كما هم .ولكن كيف يتخلص منهم؟ كيف يعتني بأمره هو نفسه؟ كان على وشك البكاء فعالً« .وأنا؟ وأنا؟» كان يسأل ألف طالب لديه نهم لدخول الجنة .لكن أحدًا لم يسأل فيه. ترجمة :ح�سني حممود 61
مقال
وضع الربيع العربي األحزاب اإلسالمية في مقدمة المشهد السياسي في ثالث دول هي تونس ،المغرب ،وأخيرًا مصر. «النهضة» التونس���ي هو األقدم في البعد عن االس���م الديني، ومثله استغنى اإلخوان المسلمون عن رمزية اسمهم التاريخي ليدخلوا االنتخابات بحزب «العدال���ة والحرية» ،بينما صعد في المغرب حزب «العدالة والتنمية». أسماء مدنية المنطق وال تختلف في الشعار والمطلب مع أي فصيل سياسي آخر ،فماذا عن األفعال؟! هذا ما يحاول أن يقرأه المفكر السوداني حيدر إبراهيم في هذا المقال.
األحزاب اإلسالمية ..أسماء وأفعال حيدر �إبراهيم علي -ال�سودان يمكن االفتراض بأن المسلمين هم أكثر البشر تأثرًا وتفاع ً ال م���ع عملي���ات العولم���ة الجارفة والمتس���ارعة .ويع���ود ذلك لعوامل عديدة مادية ،وأخرى روحية وثقافية تعتمل في عقل ووجدان المس���لم ،فتجعله مواجه ًا بتحديات عظيمة .ومن بين الجيوبوليتكية(س���رة العال���م) ،الموارد ه���ذه العوامل الميزة ّ الطبيعية ،والفوائض المالية .أما التحدي األكبر فهو حضاري، بحيث يمكن ألصح���اب نظرية صراع الحض���ارات أن يضعوا المنطقة في المقدمة ،باعتبار أن الغالبية تعتنق اإلسالم .فمن الواضح أن اإلسالم والمسلمين صاروا مكشوفين أو مهددين، كما يقول البعض ،في مواجهة عواصف العولمة .ويعود سبب المواجهة والصراع الرئيس���ي إلى كون المسلمين يعتقدون في دين ش���امل وكامل ،ومكتف ذاتيا« ،م���ا فرطنا في الكتاب من ش���يء» ،كما يرون أنه صالح لكل زمان ومكان .فالمس���لمون حسب صورتهم وإدراكهم لهويتهم ،كاملون روحياً ،وثقافياً. وبالتالي ،ال يحتاجون -حس���ب لغتهم -الستيراد أي أفكار أو عقائ���د أو ثقافة من الخارج .ومن بين هذه الفجوة بين الواقع والرغائب تتس���رب األزمة الراهنة التي تحيط بهم .وهذه الثقة المفرطة ،هي التي تش���عل صراع األنا واآلخر ،وتطرح أسئلة عملي���ة ولكنه���ا غالب ًا ما تختل���ط باأليديولوجي���ا ،والتعصب والكبري���اء ،مثل :ما الذي ينقصنا لكي نأخذه أو نس���تلفه من الغرب؟ وهل أدواتنا المعرفية والوجودية كافية دون إضافات خارجية ،لك���ي تمكننا من العيش والتقدم وس���ط المتغيرات
62
الكاسحة التي يعيش���ها عالم القرن الحادي والعشرين؟ وعلى حد تعبير حافظ إبراهيم:
�أي �شيء يف الغرب قد بهر النا�س جما ًال ومل يكن منه عندي؟
لكن ،كان مجال السياس���ة والفكر السياسي األكثر انكشاف ًا وهشاش���ة أم���ام العولمة .وذلك ،ألن المس���لمين ل���م يعطوا موضوع الس���لطة والحكم والسياس���ة ،االهتمام المس���تحق، رغم القول إن أكثر الدماء التي س���الت في التاريخ اإلس�ل�امي كانت بسبب الخالف حول الخالفة ،أي في القضايا السياسية. ونالحظ أن الفقه اإلسالمي الذي اهتم بأدق تفاصيل الطهارة ً مث�ل�ا ،لم يلتفت لموض���وع مثل تداول أو الط���واف في الحج الس���لطة وكيفية عزل الحاكم الظال���م .ومن هنا برزت ظاهرة اإلس�ل�ام السياس���ي كحاجة عادية في مرحلة العولمة ،حيث وجد المس���لمون أنفس���هم قد تخلفوا عن أفض���ل النظم إلدارة شؤون الناس. ودخل المس���لمون في س���باق محموم م���ع ذواتهم للحاق بالعالم(وال���ذي هو لح���د كبير الغرب) .ومع الف���ورة النفطية في س���بعينيات القرن الماضي ثم الثورة اإليرانية ،وسقوط حائط برلين ،يضاف إلى ذلك التعولم الكاس���ح الذي أس���قط كل الحدود والمصدات ضد التغيير ،لم يعد المسلمون يطلبون رد القض���اء بل لطفه فقط ،وفي ه���ذا المنعطف بدأ البحث عن وسائل التكيف ،أو المقاومة ،أو اإلذعان .وهذا هو مدخل فهم
يلحظ وجودًا واضح ًا أو اهتمام ًا بمفهوم الديموقراطية بالمعنى المتداول اآلن .مع العلم أن هذه السنوات شهدت قمع ًا ومالحقة صارم���ة تعرض لها اإلس�ل�اميون أنفس���هم .ويع���ود العامل الذات���ي الهتمام اإلس�ل�اميين بالديموقراطية ،إل���ى تزايد عدد المتعلمين تعليم ًا حديث ًا داخل الحركات اإلس�ل�امية ،باإلضافة إلى توس���ع االحتكاك والمثاقفة م���ع اآلخر وبالذات الحضارة الغربية ،والرغبة في التجديد .ومع هذا يعيش اإلس�ل�اميون، خاصة المنش���غلين أكثر بما هو سياس���ي ،أزمة كبرى بسبب صعوبات االندماج في الجسم السياسي القائم بشروط ليست جميعها وفق مرجعيتهم وتصوراتهم .فاإلس�ل�اميون مطالبون باجتهاد جاد يمكنهم من االندراج في أوضاع جديدة على مجمل مجتمعاته���م ،وليس عليهم هم فقط كإس�ل�اميين .وهذا يعني ضبط معادلة الخصوصية اإلس�ل�امية ومقتضيات العصر في القرن الحادي والعش���رين .ومن خالل ه���ذه الوضعية ،يمكن أيض��� ًا فه���م التنازالت والمس���اومات التي تق���وم بها األحزاب اإلسالمية والدينية.
تحوالت األحزاب اإلس�ل�امية من االسم حتى البرنامج ،مرورًا باللغة ونوعية العضوية. لذلك ،تغيير األس���ماء ليس انتهازية بل هو اجتهاد حس���ب ش���روط وض���رورات العولمة ،التخاذ موقف ف���ي نازلة ليس فيه���ا ن���ص أو اجتهاد س���ابق .فاإلس�ل�اميون يلهث���ون خلف العالم للح���اق به ،بعد أن ظلوا خ���ارج التاريخ لزمن طويل. فهذه المفردات مثل:الحرية ،والعدال���ة ،والتنمية ،والنهضة، والمساواة ،ليست أصولها في التراث والنصوص التاريخية. فه���ذه مفردات من مواثيق حقوق اإلنس���ان العالمية ،والثورة الفرنسية ،وبرامج األمم المتحدة .وتبنيها يعني تقديم أوراق اعتماد من اإلسالميين لقبولهم في المجتمع الدولي ،وإدخالهم في العصر. واجه اإلس�ل�اميون س���ؤال الديموقراطية ،وانشغلوا به - تنظيمات ومفكرين -خالل السنوات التي تلت سقوط المعسكر الس���وفياتي في مطلع تس���عينيات القرن الماضي .وقد كانوا جزءًا من ظاه���رة عالمية تزامنت مع نظريات النهايات ،نهاية التاري���خ ونهاية األيديولوجيا ،بل نهاية اإلنس���ان عند بعض البنيويي���ن .وألس���باب ذاتي���ة وموضوعي���ة خارجية ،دخل مفهوم الديموقراطية إلى الخطاب اإلسالمي عموم ًا -رفض ًا أو قبو ًال أو نقدًا أو توفيق ًا -ضمن المش���روع الحضاري اإلسالمي المعاصر .ومن يتابع أدبيات الحركات والتنظيمات اإلسالمية قبل ذلك التاريخ ،خاصة في الس���تينيات والس���بعينيات ،ال
ال يكفي أن تقوم هذه األحزاب بتغيير أسمائها ،وبرامجها، ولغ���ة س���جالها .فالب���د لإلس�ل�اميين والدينويين(أصح���اب المرجعي���ة الديني���ة في السياس���ة) ،خالف ًا للق���وى الليبرالية والعلماني���ة ،من أن يعّدلوا أولوياته���م وأن يحددوا معاركهم الرئيس���ية من الثانوية .ولقد دهش���ت حين اس���تهل مصطفى عبدالجليل رئيس المجل���س االنتقالي الليبي ،خطاب التحرير بالتع���رض لقضيتي تعدد الزوجات والرب���ا .وذكر ذلك كدليل لنيتهم تطبيق الشريعة .و به يسيء إلى الشريعة حين يختزلها في هاتين المسألتين ،رغم أن موضوعي المرأة والمال يحتالن مس���احة معتبرة في عقول اإلسالميين ،ولكن ليس لدرجة أن يطغي على قضايا رئيس���ية في فترات حرج���ة مثل تلك التي تعيش���ها ليبيا .وال أدري أليس في الشريعة اإلسالمية هموم ذات صلة بالديموقراطية وحقوق اإلنس���ان والتنمية والتقدم، لكي يذكرها عبدالجليل في هذه المناسبة الجليلة؟ اختار موض���وع تعدد الزوجات المثي���ر للجدل ،وهو ليس فرضاً ،كما أنه مش���روط بالعدل .وهذا ما يتكرر في نقاش���ات اإلس�ل�اميين بعد االنتخاب���ات في تونس ومص���ر ،وما يمكن تس���ميته :خلل فقه األولويات .فهم يش���غلون الناس بقضايا اللبس والحج���اب ،واالختالط ،والكح���ول ،ولبس المايوه، أكث���ر من الحديث عن بطالة ماليين الش���باب ،وقبوع أكثر من نصف الس���كان تحت خط الفقر ،وكيفية الول���وج في اقتصاد عالمي قوي التنافس .وعلى اإلسالميين أن يدركوا أن معركتهم الحقيقية هي مع القهر والظلم والتخلف والتبعية واالستعمار الجديد والرأس���مالية المستوحشة وليست مع مواطنيهم الذين يصرون على تس���ميتهم بالعلمانيين .وه���ؤالء هم في حقيقة األمر دع���اة حداث���ة ،وتحديث ،وتق���دم ،وعصرن���ة .وهم ال يخشون تطبيق ش���ريعة:عدلت فنمت ياعمر! ولكنهم يخشون الدول���ة الدينية التي تنس���ب القمع والفس���اد إل���ى اهلل .وهم ال 63
يخش���ون «إغالق البارات والمالهي» -كما يردد اإلس�ل�اميون- ولكن يريدون إغ�ل�اق بوابات الجهل ،والتعصب ،والغيبوبة، ثم فت���ح مصان���ع ،وجامعات حديث���ة ومعاه���د بوليتكنيك، ومس���ارح ،ومتاحف .يضاف إلى ذلك ،أن اإلس�ل�ام جاء دين رحمة ،فال داعي للتخويف بالحدود والتقطيع ،وكأن اإلسالم جاء فقط ليعاقب. أخشى أن يتس���بب اإلسالميون والدينويون في وأد الربيع العربي بوقوعهم في س���وء التقدير ،وخلل األولويات ،وعدم معرفة العدو الحقيقي .الجميع في حاجة إلى حوار موضوعي وعقالن���ي بال تناب���ذ باأللق���اب والتصنيفات المس���بقة ،قائم عل���ى حق المواطنة وح���ق االختالف وقبول اآلخ���ر .أعلم أن هذا مطلب مثالي ،إذ يس���تعصي على اإلسالميين والدينويين بعقله���م الحالي أن يدخلوا في مثل ه���ذا الحوار .فهم مطالبون بتغيير انفس���هم من خالل تجديد خطابه���م الديني لكي يرتبط بالمشكالت واالحتياجات الفعلية للوطن واإلنسان .وال يكفي تجديد األس���ماء مع بقاء المضمون .فهم أصحاب أيديولوجية تج���د صعوبة في قب���ول اآلخر بس���بب مرجعيته���ا وخلفيتها المقدس���ة والمطلقة .وهنا معضلة المرونة والقابلية السريعة للتغيير والتطور ،خاصة وأن هذه الجماعات تشعر بقدر كبير من الزهو واالنتش���اء يصل درجة االستعالء اعتمادًا على أنها تمتل���ك الحقيقة المطلق���ة مع وقوف الش���ارع والجماهير إلى جانبها .وفكر االستعالء اإلسالموي هذا متجذر في عقول نخب الحركات اإلسالمية .فهم يستنجدون بالقرآن الكريم واألحاديث لدعم هذا اإلحس���اس المتضخم لذواتهم .ومث���ال ذلك«-:كنتم خير أمة أخرجت للناس»(س���ورة البقرة )110:وينسبون اآلية ألنفس���هم وهم المقصودون بـ«يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون باهلل» .وكما يرى اإلسالميون في وصولهم إلى السلطة ،ما يس���مونه«التمكين» .ويستشهدون باآلية الكريمة: «الذين إن مكناهم في األرض أقاموا الصالة وآتوا الزكاة ونهوا عن المنكر وهلل عاقبة األمور»( .سورة الحج ،)41:ومن اآليات التي كانت تتصدر صحف اإلسالميين« -:وال تهنوا وال تحزنوا وأنتم األعلون إن كنتم مؤمنين»( .آل عمران.)139: ومن تناقضات اإلس�ل�اميين أن هذا الش���عور باالستعالء، يصاحبه توظيف واس���تثمار مس���تمران لعقدة االضطهاد .فهم يقدمون أنفسهم وكأنهم المعارض الوحيد للنظم الديكتاتورية، والذين عانوا من عس���ف وعنت تلك النظ���م .هذه حقيقة ،فقد وق���ع عليه���م النصيب األعظم م���ن القمع وهذا متوقع بس���بب عددهم وتنظيمهم ،ولكنهم ليسوا الوحيدين .وكذلك من العيب أن يمتن اإلنس���ان بنضاله على ش���عبه أو يطل���ب التعويض والمقاب���ل .ومن ناحية أخرى ،تم تحوير عقدة االضطهاد إلى التلوي���ح بوجود خطر عام على اإلس�ل�ام والمس���لمين .وهذا ادع���اء غير متماس���ك منطقي��� ًا ولكنه يخدم أغ���راض التعبئة والتجييش العاطفي .إذ ال يعقل أن نتحدث عن غلبة الصحوة اإلسالمية ،وصعود القوة اإلسالمية ،وعودة الدين اإلسالمي 64
وبعث���ه ،وف���ي نفس الوق���ت ال يتوقف الحدي���ث والعويل عن المؤام���رة ،والحملة الصليبية ،واألي���ادي الخفية .ولكن هذه الوضعية تس���تخدم كإحدى آليات خلق أو صناعة العدو الذي س���وف توجه الجهود لمحاربته من خالل التعبئة المتواصلة واالس���تعداد المس���تمر للتصدي ل���ه .وقد اختار اإلس�ل�اميون العلمانيي���ن والليبراليين في الداخ���ل ،والحضارة الغربية في الخ���ارج كعدو مثالي .وقد نجح اإلس�ل�اميون في صنع العدو من وهم يس���مونه العلمانيين .وأصبح ت���داول المفهوم دارج ًا في أجهزة اإلعالم العربية ،وفي الحياة اليومية ،وفي الدوائر األكاديمية والفكرية ،رغم عدم دقته مفاهيمي ًا وواقعياً. وهن���ا تظه���ر مش���كلة أخ���رى تتعل���ق بدق���ة المفاهي���م والمصطلحات عند اإلسالميين ،خاصة حين تجيء من خارج قاموسهم السياس���ي والديني .وفي بعض األحيان من صالح اإلسالميين استخدام مفاهيم غامضة أو غير دقيقة ،بالذات في هذه المرحلة بقصد عدم االلتزام أو التورط. عج���ز اإلس�ل�اميون عن ح���ل إش���كالية الثنائي���ة :محايثة التقليدي���ة والتحديث ،في العمل السياس���ي .فهم لم يحس���موا موقف الخيار الحداثي ،وبالتالي تتعايش الدعوة في نشاطهم السياسي .وقد تبدو النظرة الدعوية أحيان ًا أقرب إلى التنظير والتفكير وإن غلبت عليها شروط العقيدة والفقه .بينما النزعة السياس���وية تميل للحشد والتعبئة والشعبوية .ومن المالحظ في هذه الحالة انقسام الشعبوية والنخبوية ،فالدعوة تحتاج إلى علم���اء وفقهاء قادرين على إقناع الناس بمختلف أطيافهم
وفئاتهم االجتماعية ،وغالب ًا ما تس���تخدم المس���اجد .ولكن في العمل السياس���ي الحاجة أكثر لخطباء من نوع آخر ،يحركون الجماهير ويثيرون عواطفها وحماس���ها .وق���د اصطدمت هذه الثنائي���ة :الدعوي والسياس���ي بخيار المش���اركة السياس���ية واالندماج في العملية الديموقراطية .وقام اإلسالميون – بالذات في مصر والمغرب – بخلق تعايش بين «الحركة» والحزب. وفي المراحل األولى للمش���اركة ،يخلط اإلس�ل�اميون مهمة االثنين ،أو تتداخل ،حيث يعتبر الحزب أداة من أدوات التغيير االجتماعي ،ويأخذ اس���تقطاب الدعوة مقابل العمل السياسي أبعادًا أخرى ،حين يتحدث البعض عن التربية (الدعوة) مقابل العمل السياس���ي فنحن أم���ام اتجاه دع���وي عقائدي أخالقي في طريق���ه للتحول إلى خطاب سياس���ي اجتماعي .واختلف كثير من اإلس�ل�اميين حول تحديد األولوية :هل الدولة أو ًال ثم المجتم���ع تالي ًا ؟ يعني هذا الوصول إلى الس���لطة السياس���ية لتغيير المجتمع أم يعمل اإلسالميون على بناء مجتمع إسالمي فاضل أو ًال تكون مهمته تأس���يس الدولة اإلس�ل�امية .ويمكن اختصار الخالف حول فكرة« :إن اهلل يزع بالس���لطان ما ال يزع بالقرآن» .ومن هنا يتس���لل كثير م���ن البراغماتية والتبريرية وقد تكون االنتهازية السياس���ية .فهناك غاية نبيلة وس���امية لها القدرة على تبرير كل الوس���ائل وهي تطبيق شرع اهلل كما يعلن اإلسالميون .وهنا قد يتحكم مبدأ:الغاية تبرر الوسيلة، بامتياز .كما يسقط اإلسالميون في فخ محاولة تأسيس دولة حديثة بوسائل وأدوات قديمة. ومن أهم مظاهر براغماتية اإلسالميين اللجوء إلى التعميم أو العمومي���ات في عرض أفكاره���م ومواقفهم .وكان أول تحد فكري – سياس���ي هو موقف اإلس�ل�اميين من الدولة المدنية. فقد تعرضوا في مصر إلى كثير من األس���ئلة لتفسير شعارهم الذي يدمج مدنية الدولة بالمرجعية اإلسالمية بقصد الوصول معه���م إلى تعريف دقي���ق أو جامع مانع – كم���ا يقول الفقهاء – ولك���ن دون جدوى .وأعتقد أن الح���زب قدم تنازالت كبيرة، أهمها االس���م ،فقد تنازل عن اإلخوان المس���لمين بكل رمزيته وتاريخيته وأصالته .وم���ع ذلك ،يالحقه الكثيرون مطالبين بضمان���ات أال يكون حزب ًا دينياً .ويك���ررون القول إنهم حزب مدني ذو مرجعية إس�ل�امية .ولكن طبيع���ة الحزب -الجماعة أقرب إلى الجبهة الواس���عة الدينية التي تضم تيارات عديدة، وبالتال���ي تتكاث���ر وتتع���دد اآلراء وتتباي���ن المواق���ف .ومن الواضح أن في هذه المرحلة ،يس���عى إلى توسيع العضوية، فال يمكن أن يتشدد في شروط العضوية .فالحزب يضم ألوان طيف أصحاب هويات إخوانية ،س���لفية ،جماعات إسالمية، جهادية ،والبعض يقول بإمكانية ضم أقباط في الحزب .لذلك يصعب تحديد رأي الحزب الحاس���م في الدولة المدنية ،وعدم التهرب بوصف اآلراء التي ترش���ح بأنها شخصية وتعبر عن قائليها فقط. يحتاج اإلس�ل�اميون إل���ى جهد فكري أصي���ل بقصد تعميق
مفاهيم الديموقراطية ،ولكي تنعكس في الممارس���ة والحياة، فالديموقراطية ليس���ت مج���رد عملية فنية تتمث���ل في التداول الس���لمي للس���لطة من خ�ل�ال صناديق االنتخاب���ات ،وحرية األح���زاب والصحافة مثالً ،فاإلس�ل�اميون مطالبون-إذا أرادوا ً فع�ل�ا طمأنة الن���اس-أن يرفعوا ويطبقوا ش���عار :الحرية لنا ولس���وانا! فقد الحظت ُبعد اإلسالميين عن المنظمات المدافعة عن حقوق اإلنس���ان إال بمقدار االس���تفادة منها في الدفاع عن حقوقهم الخاصة فقط ،فمن يتابع توقيعات المثقفين للمطالبة بوق���ف منع كتاب ،أو إدانة تكفير مفكرين مثل :صادق العظم أو نص���ر حامد أبوزيد أو حلمي س���الم .فهم ال يش���اركون في هذه الحم�ل�ات المدافعة عن الحريات ،مع أن الحرية ال تتجزأ. ولكنهم لم يحس���موا موقفهم إس�ل�امي ًا باالجتهاد في إشكالية والردة بسبب األفكار. التكفير ّ ولم يحددوا رأيهم في تغول البعض في الحريات الشخصية بس���بب فهم خاطئ لمبدأ :األمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اإليمان . فاإلسالميون ليس���ت لديهم مشكلة تنظيمية ،ولكن تجديد الخطاب ،واألفكار باجتهاد مفتوح بقصد اللحاق بالعصر ،هذا هو جهادهم األكبر الذي بجب العودة إليه بعد نجاحهم في كس���ب حق ممارس���ة السياسة قانونياً. المش���كلة األساسية في مس���تقبل التجربة اإلسالموية هي غي���اب النموذج من الماض���ي أو الحاضر .وف���ي نفس الوقت انع���دام رؤي���ة واضح���ة وصافية تفه���م الواقع وتستش���رف المستقبل بعيدًا عن أحالم األيديولوجيات واليوتوبيات .لذلك، الخط���ورة في اللجوء إل���ى نظرية التجرب���ة والخطأ وإدخال الش���عوب كفئران في معامل التجربة اإلسالمية كما حدث في السودان وإيران .ورغم وجود أعداد كبيرة من الفقهاء ورجال الدين في األخيرة إال أنهم عجزوا عن اس���تنباط أحكام مبتكرة تس���تصحب متغيرات العصر .هناك قضايا عصرية لم تحس���م إس�ل�امي ًا مثل-:قضية المرأة ،وضعية غير المسلمين ،حريات العقيدة والتعبير ،قبول اآلخر المختلف ،االشتراكية أو العدالة االجتماعية .وهذه هي بوابة األحزاب الدينية ألس���لمة الحداثة وتحديث فهم اإلسالم. أخي���رًا ،الس���ؤال الحقيقي ه���ل يمكن أن تك���ون الحركات اإلس�ل�امية قادرة على التحول إلى أحزاب ديموقراطية كاملة اإليم���ان بالديموقراطية كاألح���زاب المس���يحية الديموقراطية األوروبي���ة مثالً؟وهذا يعن���ي أن تتبن���ى الديموقراطية كرؤية للعال���م وثقاف���ة ،وليس مج���رد وس���يلة موس���مية للتداول الس���لمي للس���لطة ،وقبول التعددية الحزبية ،واالنتخابات. فالديموقراطية فلسفة وقيم ومبادئ حديثة ،جاءت في البداية م���ن الغرب ،ولكنه���ا ص���ارت اآلن ثقاقة عالمي���ة ذات طابع إنساني شامل وعام ،وال يمكن أن تحتكرها حضارة أو جماعة بعينها. 65
رحلة
روما
مدينة األبد
جمر وأحضان عزت القمحاوي
روما مدينة الحواس لكل البشر ومدينة الروح لشعوب كثي���رة ،حيث تقع ف���ي قلبها دول���ة الفاتي���كان ،المركز الروحي للكنيسة الكاثوليكية الرومانية .المدينة الوحيدة في العالم التي طوت في قلبها دولة ،مثلما ابتلعت أفعى ال في «األمير الصغير» رواية أنطوان دو س���انت البواء في ً إكزوبري الخالدة. 66
ساحة إسبانيا متزينة ألعياد الميالد
67
ه���ي الكاملة تتواض���ع وتضع قوس الكوليس���يوم الناق���ص رم���زًا لها .وهذه أول مراوغ���ات المدين���ة ذات األلف وجه الحريص���ة عل���ى أال تس���تهلك وجوهها دفع���ة واحدة ،كي تظل عند حس���ن ظن من يس���مونها المدينة األبدية .وحتى إذا كنت من عش���اقها ،لن تطلع���ك روما إال على وجه واحد من وجوهها. كان وصول���ي ف���ي الصب���اح الباكر، بفاصل ساعتين فقط عن الموعد المحدد سلف ًا للقاء الروائي والصحافي ستيفانو بين���ي بصحبة الصديق حس���ين محمود أس���تاذ األدب اإليطال���ي بكافتيريا فندق صغير ف���ي ش���ارع الريش���ة .تصورنا أنه اختيار مناس���ب من الكات���ب ،لكننا وجدن���ا أن ش���ارع الريش���ة متف���رع من ش���ارع األوزة ،ما يعني أن االس���م غير متصل بالكتابة بشكل مباشر ،لكنه مثل أي مكان في روم���ا ،على عالقة وطيدة باإلبداع. كان س���تيفانو في انتظارنا بصحبة مديرة أعمال���ه فيفيانا دومينكي ،تكلمنا عن «الدوحة» وقال س���تيفانو إنه يجعل صديق��� ًا عربي ًا يترجم ل���ه باختصار كل العدد ،سعيدًا بوجوده بين كّتابها. تحدث س���تيفانو عن الجه���ل بالعالم العربي الذي لم ي���زل قائم ًا في أوروبا، لدرج���ة أن البريد أخبره بوجود طرد من الهند في المرة األول���ى التي يتلقى فيها عدد المجلة! س���ألنا ع���ن األوض���اع ف���ي مصر، ال بالتغيي���ر الذي حدث ولم يك���ن متفائ ً ف���ي إيطاليا« :رئي���س ال���وزراء الجديد مصرفي ،وه���ذا يكفي ،وبيرلس���كوني يحاول ترميم تحالفه مع رابطة الشمال اليمينية ليعود مج���دداً ،األمر ال يختلف عن ما يجري في مصر ،استقرار النظام مع بعض المناورات الشكلية».
روما العربية بعد لقاء س���تيفانو وقليل من الراحة أس���فرت روما عن وجهها العربي ،حيث 68
من مؤتمر محفوظ
بدأت جامعتها العريقة سابينزا احتفالها بعي���د مي�ل�اد الروائي نجي���ب محفوظ، فكانت الحركة كلها في الفندق والجامعة وعلى العش���اء مس���اء في محيط يتكلم العربية. كان م���ن حق الروائ���ي أن يفرح بهذا الدفء ،هو الذي لم يسافر في حياته إال مرتين مضطرًا إلى يوغوسالفيا واليمن بتكليف رسمي. ضخام���ة احتف���ال المس���تعربين اإليطاليين بمحف���وظ ،لم يصادف مثله في مصر إال مرة واحدة يوم منحه قالدة الني���ل جري ًا وراء تكري���م نوبل .لكن لم يحدث أن أقيم مؤتمر لدراسة أدب نجيب محفوظ في م���درج جامع���ي يمتلئ عن آخ���ره وتتم االس���تعانة بمقاعد توضع في الممرات! كان من المفترض أن يشارك السفارة المصري���ة والمرك���ز الثقاف���ي بروما في التنظيم ،لكن األحداث السياس���ية ألغت
احتفال جامعة روما بنجيب محفوظ منح المدينة وجه ًا عربي ًا على مدار يومين
تلك المش���اركة ومنعت اس���تقالة وزير الثقاف���ة عم���اد أبو غ���ازي المش���اركين المصريي���ن م���ن الحض���ور ،وكان م���ن المفت���رض أن يحضر الس���فير المصري االفتتاح ،لكنه اعت���ذر وحضر ممثل له، بسبب انش���غاله بفرز نتائج االنتخابات البرلمانية في السفارة! م���ع ذل���ك حض���ر ع���دد م���ن العرب الموجودين في روما أس���اتذة ودارسين في جامعاتها :حس���ين محم���ود ،محمد عبدالقادر (جامع���ة حلوان مصر) ،هيثم الصويلي (جامع���ة الناصريةـ العراق)، ال والتونس���ي ن���ادر محم���د عزي���ز ممث ً لمنظمة البحر المتوس���ط المش���اركة في رعاية المؤتمر. هذا الحضور الرمزي العربي جاء إلى جانب أس���اتذة األدب العربي اإليطاليين من جامعات سابنيسا وميالنو ونابولي وباليرم���و ،باإلضاف���ة إل���ى المترج���م السويس���ري هارتموت فيندريتش الذي ج���اء إل���ى المؤتم���ر بكتابي���ن جديدين أحدهم���ا ترجمت���ه لرواي���ة «القاه���رة الجدي���دة» ،والثاني كتاب من تأليفه عن أدب محفوظ.
العمارة وساكنوها سابينس���ا ،الجامع���ة األم في روما
جانب من الجلسة األولى
واح���دة م���ن أع���رق جامع���ات أوروبا وأكبره���ا عل���ى اإلطالق م���ن حيث عدد الطالب .لم تمر حقبة موس���وليني على الجامعة مرور الكرام ،إذ تش���كل كليات اآلداب والجغرافيا والجيولوجيا ضلعين من مستطيل معماري فاشتي غير متناغم مع قبة الجامعة الرومانية المميزة. لكن العم���ارة بس���اكنيها ،والجهامة على ج���دران المبنى تخص م���ن بناها، وف���ي الداخ���ل كان الدفء حيث ش���هدت القاع���ة الكبرى لكلية اآلداب والفلس���فة الجلسة االفتتاحية للمؤتمر .بدأت كلمات الترحي���ب من نائب رئي���س الجامعة (لم يحضر رئيس الجامعة نظرًا لمش���اركته في اجتم���اع ه���ام يحدد مصي���ر تمويل الجامع���ات اإليطالي���ة ف���ي ظ���ل األزمة المالية الخانقة التي تتعرض لها إيطاليا، ولس���بب بروتوكولي غي���ر معلن ،وهو غياب سفير مصر عن االحتفالية). نائ���ب رئي���س الجامع���ة أنتونيلل���و بياجيني ،المختص بالتعاون والعالقات الدولية ،أش���ار ف���ي كلمته إل���ى أهمية التعاون في نطاق الثقافة المتوس���طية وخاصة بعد الربيع العربي ،كما أش���ار إلى أهمية نجي���ب محفوظ كاتب ًا مرتبط ًا ببيئت���ه ومعب���رًا عن ثقاف���ة تنتمي إلى البحر المتوس���ط .كما ألم���ح إلى اإلقبال المتزايد في جامعته على دراس���ة األدب
العرب���ي وكفاءة أس���اتذة األدب العربي به���ا ،مش���يدا بالبروفيس���ورة إيزابيلال كامي���را دافليتو أس���تاذ كرس���ي األدب العربي بروما ومنظمة المؤتمر. عماد حنا مستشار السفارة المصرية بروما ألقى كلمة مصر نيابة عن السفير فريد منيب حلّل فيها أدب نجيب محفوظ ورافقه بقراءة الترجمة اإليطالية للكلمة محمد عب���د اللطيف المبعوث إلى جامعة ت���ور فيرجاتا لنيل الدكت���وراه في األدب اإليطالي .ق���رأ عماد حنا جزءًا من براءة من���ح جائزة نوب���ل لمحفوظ كم���ا حلّل بعض ًا م���ن أعماله التي تؤكد على التزام األدي���ب المصري الكبي���ر بقضايا وطنه وأمته. نادر محمد عزيزة ،الجزائري ،رئيس المرصد المتوس���طي بروما ،ألقى كلمة رح���ب فيها بعقد هذا المؤتم���ر بالتعاون بي���ن الجامع���ة اإليطالي���ة والمرص���د والس���فارة المصرية بروم���ا ،معززًا ما تناول���ه عماد حنا م���ن االرتباط الوثيق بي���ن الكتابة والواقع ف���ي أعمال نجيب محفوظ ،معتبرًا أنه كاتب عالمي وعربي ف���ي األصل واألس���اس مؤمن��� ًا بقضايا العروبة. وألقت البرفيس���ورة إيزابيلال كاميرا دافليتو المحاض���رة االفتتاحية للمؤتمر
وتناولت فيها وض���ع األدب العربي في إيطالي���ا قبل فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل ،وكيف أن الباحث���ة أمالدي كانت أول من كتب���ت أطروحة علمية في بداية الثمانينيات تحت إش���راف المستش���رق الكبي���ر جابراييلي وقد اعتبرها المجتمع العلم���ي في ذل���ك الوقت مغام���رة نظرًا القتصار الدراس���ات االستش���راقية على موضوع���ات قديم���ة خاص���ة بالت���راث العربي الثقاف���ي .أدانت إيزابيلال كاميرا دافليت���و الجهل المتفش���ي ح���ول األدب العرب���ي في أوروبا عام���ة وفي إيطاليا خاصة. وع���زت إيزابيل�ل�ا ه���ذا الموق���ف من نجيب محفوظ إل���ى المركزية األوروبية التي أعمتهم عن رؤي���ة القيمة الحقيقية لمحف���وظ .وانقل���ب الوض���ع تمام ًا بعد ف���وزه بنوبل ،فقد انقلبت هذه الالمباالة إل���ى اهتمام محموم وانهم���ار للمبادرات التي تخص النش���ر والترجمة .ورصدت إيزابيلال التلقي الصحافي لفوز محفوظ بنوب���ل ،وهي تورد في ه���ذا الرصد أن الصح���ف اإليطالي���ة ،وكم���ا يحدث في الجوائ���ز العالمي���ة الكب���رى ،وخاصة عندما يفوز فيها كاتب من خارج الدائرة، ويكت���ب بلغ���ة ال يفهمه���ا األوروبيون، ال يش���ككون في جدارة هذا الف���وز ،فمث ً قالت إحدى الصحف اإليطالية إن الجائزة 69
ذهب���ت لمحفوظ ألن لجنة التحكيم كانت تحس بالذنب لعدم فوز أي كاتب من هذه المنطق���ة الجغرافي���ة .وتحدثت صحيفة أخرى عن «العدالة الجغرافية» على نحو صريح واعتبرت إيزابيلال فوز محفوظ بنوبل ليس فوزًا ل�ل�أدب العربي فقط، ولكنه فوز لجيل من المستشرقين حارب كثيرًا ضد الرؤية االستش���راقية القديمة التي كشفها إدوارد سعيد.
ثورة ..ثورة إلى األمام! اكتش���فت أنني يج���ب أن أتحدث في الجلس���ة األولى عقب االفتتاح مباشرة، وكنت أنا الذي يخش���ى القتال المتالحم آم���ل ف���ي أن تخس���ر القاع���ة معظ���م حضورها كع���ادة المؤتم���رات ،إال أنها لم تخس���ر سوى ممثل الس���فارة ونائب رئيس الجامعة ،فقل���ت واقتضبت بينما قرأت الترجمة اإليطالية لوسي نابكوف أس���تاذة األدب العربي بجامعة جنوة، وه���ي مصري���ة األصل (م���ن أم مصرية وأب روسي). وتحدث الدكتور حس���ين محمود عن مقدم���ات ث���ورة يناير في أعم���ال نجيب محف���وظ ،وحدد بصفة خاصة الفس���اد والظلم واالستبداد كموضوعات رئيسية في ج���ل أعمال محف���وظ ،وحلل بصفة خاصة «الثالثية» موضح ًا اهتمام محفوظ بالطبق���ة الوس���طى ،وتحليل س���لوك أفرادها ،ومفردات الثورة التي استعملها محفوظ في كتابته ل���ـ «الثالثية» ،حين تتمرد أمينة على اس���تبداد س���ي السيد وتذهب لزيارة الحس���ين ،وتمرد عائشة الجميل���ة على الحظر ال���ذي فرضه األب المس���تبد ونظ���رت من خلف المش���ربية نظرات حب إلى الضابط الشاب ،وتمرد الطال���ب الحقوقي فهمي على طلب والده أال يستمر في مقاومة المحتل اإلنكليزي، وتم���رد ياس���ين على الس���ياج الحديدي لتقاليد الطبق���ة المحنطة واالندفاع وراء طبيعته البش���رية ،وتم���رد الطفل كمال على س���طوة أبيه عندما ينتزع منه حق ال���كالم ويطلب إلي���ه أن يعيد ل���ه أمه،
70
الجهامة على جدران المبنى تخص من بناها، وفي الداخل كان الدفء وكي���ف أن ه���ذه المحددات الت���ي بدأ بها «الثالثي���ة» انتهت في األج���زاء األخيرة منه���ا بانتصار طالبي الحري���ة والعدالة االجتماعي���ة .أش���ار أيض ًا إل���ى صفات الطبقة الوس���طى من حيث إنها ليس���ت طبقة مثالية في ثوراتها وأن هناك دائم ًا من بينها من ينضم إلى الثورة المضادة أو من ينقض على الث���ورة بعد نجاحها لكي يستأثر وحده بثمارها. وانتهت الجلسة االفتتاحية بمحاضرة ألقاه���ا هارتم���وت فنريت���ش ،وكان���ت بعن���وان «النب���وءة والتاري���خ :بعض االعتب���ارات في رواي���ة القاهرة الجديدة ال النس���ق الفكري لنجي���ب محفوظ» محل ً للشخصيات الثالث األصدقاء في الرواية، ومنهم االشتراكي اليساري ،واإلسالمي المحافظ ،والفوض���وي العدمي ،مؤكدًا على غياب فاعلية التواصل بين النماذج الثالثة ،وزيف ادعاءاتهم ما بين اعتبار
حضور كثيف
العل���م أو الدي���ن مفردي���ن قادرين على حل مش���اكل المجتمع ،ملمح ًا إلى دعوة اإلخ���وان المس���لمين الحالي���ة في مصر لشعار «اإلسالم هو الحل» ودعوة القوى األخرى اليسارية على األخص إلى اعتبار العل���م هو الحل ،وأن ص���راع الدعوتين هو الذي يؤدي إل���ى الفوضى والعدمية للشخصية التالية .أشار هارتموت أيض ًا إلى أن نمط الث���ورة ،وهي في رأيه بال ثم���ار حقيقية عل���ى مس���توى التغيير، ه���و أنها عمل فرد ولي���س عمل جماعة، وأن الفرد في الطبق���ة الثائرة في مصر ال بنفس���ه التي يعرضها محفوظ منش���غ ً أكثر م���ن انش���غاله بقضاي���ا الجماعة، معتبرًا أن الثائري���ن في الرواية إنما هم ثائرون من أجل قضاياهم الش���خصية، أو قضايا طبقتهم ،وليس���وا ثائرين من أجل الوطن.
محفوظ وفلسفته عندم���ا انتقلت الجلس���ات ف���ي اليوم الثاني من كلية اآلداب إلى كلية اإلحصاء ظل الحضور الكثيف مستمرًا واإلنصات كام�ل�ا ،حت���ى عندما يطي���ل الباحث أو ً يشط! باتريس���يا زينيلل���ي جامع���ة روم���ا
اختارت الحديث عن القصة القصيرة عند نجيب محفوظ من خالل مجموعة «الفجر ال���كاذب» من زواي���ا اللغ���ة والمضمون اإلنس���اني ،مؤكدة على أن لغة محفوظ في تلك المجموعة تمثل تركيبة مدهشة من القديم والجديد ،جمله بسيطة ومؤدية بشكل ممتاز ،وتكشف القصص عن فهم كام���ل لدقائق النف���س اإلنس���انية ،كما تكشف عن إدراك مختلف لمفهوم الزمن، حيث يختلف اإلحس���اس بإيق���اع الزمن عند الشخص الخائف عنه عند المحتفل، كما يختلف الفائز عن المهزوم. وكان���ت النصوص القصي���رة محورًا لدراسة أخرى من باوال فيفياني جامعة نابولي متحدث���ة عن «الحواريات» وهي 8نصوص نش���رها محفوظ بين 1968 و 1979وهي تعتمد على الحوار بش���كل أساسي ووصفها هو نفسه بأنها تصلح قصص���اً ،ويمك���ن قراءته���ا كنص���وص مسرحية. فيفياني أطلق���ت على هذه النصوص «مس���رح العبث على الطريقة العربية»، وترى فيه���ا مؤثرات من مس���رح العبث والس���وريالية والواقعي���ة الس���حرية. وتعتب���ر أن الحواري���ة جن���س أدبي بال س���ابق وال عقب له ،اخترع���ه محفوظ
ليلب���ي حاجته إل���ى التعبير ع���ن أزمة اإلنسان العربي بعد النكسة. باولو برانكا من الجامعة الكاثوليكية بميالنو ،م���ن دون اتفاق ق���ّدم حوارية أخرى ،هي قصة نجيب محفوظ المكتوبة بش���كل حوار بي���ن طفل���ة وأبيها حول ال جرب أن يجعل طف ً الدي���ن ،ويقول إنه ّ مصري ًا من الجي���ل الثاني من المهاجرين يقرؤها وكان اس���تقبالها حسناً ،باولو ق���رأ القص���ة وكان اس���تقبالها رائع ًا في محاضرته ،متخذًا منها مثا ًال على فلسفة نجيب محفوظ الدينية الجديدة كلي ًا على العالم العربي. ماريا أمينينو جامعة نابولي حاولت قراءة الرؤية الدينية عند نجيب محفوظ التي لم يفصح عنها ،لكنها موجودة في أعمال���ه حتى الواقعية منه���ا مثل «خان الخليل���ي» و«القاهرة الجدي���دة» ،حيث يس���تخدم تقنية الحوار بين ش���خصيات لديها قناعات مختلفة ،بين اإليمان بقدرة الدي���ن واإليمان بق���درة العل���م وبينهما الشعوذة. هيثم الصويل���ي جامع���ة الناصرية قّدم ما يش���به المس���ح التاريخي ألعمال محفوظ وتسلس���لها م���ن التاريخي إلى الواقعي ثم الرمزي ،منوه ًا إلى صعوبة
الفصل الكامل بين المراحل الثالث ،بينما رك���زت إيزادورا دايمو جامعة روما على الرواي���ات التاريخية عند نجيب محفوظ محاولة تلمس الفرق بين التاريخ وبين استخدامه في العمل الروائي ومدى حرية الكاتب في تغيير بعض األحداث أو تقديم شخصية بصورة مغايرة للصورة التي يبدو عليها في كتب التاريخ. الفيرا ديانا تحدثت عن نجيب محفوظ الصحافي محاولة تتبع آرائه في مقاالته التي كان ينش���رها في جري���دة األهرام، مقارنة بين هذا وأعماله األدبية. وأم���ا ليون���اردو كابيزون���ي جامعة روما فتوقف مطو ًال أم���ام رواية «ليالي أل���ف ليل���ة» التي يقول إنه���ا كانت أحب أعمال محفوظ إلى نفسه .ويعتبر الفيرا ال ض���د الفس���اد ،ليس كما الرواي���ة عم ً تتناوله الروايات البس���يطة ،وإنما عبر الحي���ل اإلبداعية ،مؤك���دًا أن قراءة عمل روائي جيد تساوي قراءة عشر سنوات. محف���وظ الث���وري كان مح���ور ثالث مش���اركات بالمؤتم���ر .إليزاني���ا بينيني جامعة روما قرأت وجه الكاتب المحرض في رواي���ة الكرنك .مؤك���دة أن الرواية تحمل رسائل لها تأثيرها على السياسة، محمد عبداللطي���ف جامعة حلوان توقف هو اآلخ���ر أمام رواي���ة الكرنك وربطها بث���ورة 25يناير ،كما تحدث عن التجاء محفوظ للفرعونية والثقافة اإلسالمية، وع���ن آرائه السياس���ية ومنه���ا إعجابه بس���عد زغل���ول وانتقاده لعب���د الناصر واعتباره مستبداً .ومونيكا روكو جامعة باليرمو ق���رأت األمر من خ�ل�ال مقاالته «وجهة نظر» في األهرام كما قدمت قراءة ف���ي رواية أمام العرش الت���ي يقدم فيها محاكمة ل���كل حكام مصر م���ن الفراعنة حتى السادات.
بؤس اإلنسان الكامل م���ن المفارق���ات الطريف���ة أن يتزامن االحتفال بنجيب محفوظ في جامعة روما مع إقامة معرض ضخم للفن التشكيلي
71
السوفياتي يس���تمر حتى الثامن من هذا الش���هر .نجيب محفوظ الذي نال الكثير من التهميش باعتباره كاتب ًا برجوازياً، بينما تم اإلعالء من ش���أن أسماء تلتزم مبادئ «الواقعية االش���تراكية» ،وأهمها تمجي���د الطبق���ة العاملة وه���و ما جلب الكثير من الفنون التحريضية المباشرة التي كنستها رياح الزمن. اختف���ت األس���ماء التي غط���ت على نجي���ب محفوظ في مصر ط���وال عقدي الخمسينيات والستينيات ،وسقط الكثير من الفن السوفياتي ،بل ربما أوذي ذلك الفن بسبب الخطابية التي يتضمنها .لم نعرف الكثير عن التش���كيل الروسي ال نح���ن وال الغرب ،لك���ن المعرض الذي يحتضن���ه قصر الفنون ف���ي روما يضم عددًا ضخم ًا من األعم���ال التي اختبرها الزمن رس���مها فنانون بين عشرينيات وسبعينيات القرن العشرين. احت���ل المع���رض الطاب���ق األول من القصر الضخم كامالً ،مقس���م ًا إلى سبع قاع���ات تض���م كل منه���ا أعم���ال حقبة معين���ة .يبدو المعرض س���احة حرب، حيث أغلبية اللوحات لجنود في معركة أو أم���ام منصة تكري���م أو معلقين بين السماء واألرض ،حيث واقعية اإلسقاط
من الطائرة بمظلة معطلة ال تش���به إال فنتازيا كائنات شاغال الطائرة. تمجي���د المحارب يب���دو واضح ًا من خالل أحجام الجنود ،مقارنة بمفردات اللوحة األخ���رى ،التماثل واالنس���جام بي���ن الش���خصيات يحق���ق واح���دة من األفكار الشيوعية .اللون يقف هو اآلخر في خدمة المذهب ،لك���ن األلوان القوية والضوء الباهر في كثي���ر من اللوحات ال يخف���ي االختالفات بين كل قس���م من أقسام المعرض ،فبينما تبدو التأثيرات الرومانس���ية في لوحات البدايات حيث الشخصيات المميزة والطبيعة المبتهجة نج���د البراجماتي���ة الواضحة في فترات الح���رب ،وخصوص ًا الح���رب العالمية الثانية التي يس���ميها ال���روس «الحرب الوطنية العظم���ى» بتصديهم للنازي، حيث يب���دو التماث���ل واالنس���جام أكبر وتختفي الفردية. وال يخف���ي حجم الجس���د الضخم في لوح���ات كلها كذلك م���ن المقاس الكبير بؤس ذلك اإلنس���ان الكامل الذي تمجده اللوحة. بؤس يتبدى في الهزال الواضح على الكثير من األجساد وفي العيون المطفأة واألخرى الزائغ���ة والمندفعة إلى موت
تتويج البطل/..لوحة من معرض الواقعية االشتراكية
72
بما يشبه الرغبة في االنتحار .هل كان الفنان الس���وفياتي واقعي ًا في تصوير البؤس أم هي ملعنات الفنان الذي يجد دائم ًا الطريقة إلخفاء الذم تحت طبقات من المديح؟! الج���واب ليس مهماً ،فم���ا يخرج به زائر المعرض بعد الجولة في الس���بع قاعات أن الحقبة الس���وفياتية واحدة من حلق���ات التاريخ الت���ي تعذب فيها اإلنس���ان م���ن أج���ل الحص���ول عل���ى الالشيء!
وداع الجمر واألحضان إيطالي���ا ،بلد يختص���ر العالم ،في الكثي���ر م���ن ممي���زات وآثام الش���مال والجنوب.فيه الكثير من الفن والحيوية الثقافي���ة الت���ي ال نع���رف حجمها في العالم العربي ،حيث نركز في معرفتنا عل���ى الغرب وم���ن الغ���رب نركز على الفرنس���ية واإلنكليزي���ة ،بينم���ا لدى اإليطاليين الكثير من األفكار والفنون، ليس اس���تنادًا إلى التاري���خ فقط ،بل إلى الحاضر. أم���ا الوصف الذي ل���ن يختلف عليه اثن���ان إليطالي���ا فهو «بل���د الحواس»، ومنها حاس���ة الت���ذوق ،حي���ث متعة الطعام مهما كان بس���يطاً ،تلك المتعة التي جعل���ت جوليا روبرتس تكس���ب ثماني���ة كيلوغرامات مع الحرص أثناء تصويره���ا فيل���م Eat, Pray, Love وكانت إيطاليا بالطبع محطة األكل في رحلة البطلة الت���ي وجدت الصالة في الهند والحب في إندونيس���يا .من حسن الح���ظ أن المؤتمر لم يس���تغرق المدة التي قضتها جولي���ا في تصوير فيلمها بمحط���ة األكل «إيطاليا» ..ف���ي اليوم األخي���ر أبديت الرغبة في بيتزا الختام. اخت���ار األصدقاء مطعم ًا من عمر نجيب محف���وظ لم يزل يس���تخدم الحطب في أفرانه ،وينام اسمه في الفتة صغيرة عل���ى واجهته« :جم���ر وأحضان» وهو اس���م يص���ح أن يطلق عل���ى المؤتمر والرحلة كلها.
ت�أمالت
د .مرزوق بشير
الثقافة والثورات العربية
ثورات الش���عوب ليس���ت غاية بذاتها ،هي الش���علة التي الممول الذي س���وف يحملها المثقف إلن���ارة الظلمة ،وه���ي ُ سوف يمهد الدروب إلى المستقبل. إن الثورات الت���ي تتوقف مقاصدها عند إس���قاط رؤوس ّ واس���تبدالها ب���رؤوس أخرى ،أو اس���تبدال نظام سياس���ي بآخر ،لن ُيكتب لها التقدم ،فالمفاس���د ليس���ت في قمة الهرم فقط ،إنّم���ا في قاعدته أيض���اً ،فالتعليم المتخل���ف والثقافة إن ما ُيتيح نجاح االس���تهالكية ،هي من تنتج رأس��� ًا فاسداًّ ، الث���ورات واس���تمرارها ه���و أن ُيرفع ش���عار تغيي���ر النظم التعليمية الجامدة والنس���ق الثقافي النمطي واالس���تهالكي، وش���عار رحيلها ،والقضاء على المرتكزات التي قامت عليها الس���لطات العقيمة ،بفرضها ثقافة واح���دة ،وتجييش كافة مرافق الدولة ومنابرها المدنية والدينية ،تبرر لها الفس���اد، بحجة حماية تاريخ األمة وتراثها: وتنشر ثقافات مصطنعة ّ وهي ثقافة تلخص المفاهيم في مفهوم واحد ،والمصطلحات في مصطلح واح���د ،وإبطال التراجيديا في بطل واحد ،ومن يس���تقرئ أش���كال وصور الثقافة العربية سوف يجدها على النحو التالي: جيرة ألهداف وغايات السلطة الواحدة أو وم ّ ثقافة خادمة ُ الحزب الواحد ،وبالتال���ي يتخلى المثقف عن دوره اإلبداعي ودعائي أقرب إلى اإلعالن منه فن رخيص والجمالي إلى إنتاج ّ ّ إلى اإلعالم والتثقيف والتوعية وإشاعة الجمال عند متلقيه، ثقافة تبدو في ظاهرها مبهرة وبراقة ،لكن جوهرها أجوف، ثقافة يصرف عليها الرسميون الماليين من الدوالرات ،إلثارة اإلعجاب والدهش���ة والضجيج ،لكنّها ال َتعب���ر بمتلقيها إلى المستقبل ،وال تحاسب من خاللها فساد الواقع. المس���تورد ،وه���ي ثقافة الن���وع الثاني م���ن الثقافة هو َ
اس���تعالئية غريب���ة على م���ذاق األمة وروحه���ا وضميرها، وهي ثقافة الغاية منها التباه���ي واالدعاء والتصنع بالتقدم والتح���دي ،ثقافة ال تتفاع���ل مع وجدان األمة ومش���اعرها، وبالتالي يتح���ول المواطن إلى مجرد متف���رج متبلد ،وليس جزءًا من المشهد الثقافي المعروض أمامه. والن���وع الثالث ،ه���و الثقافة الجادة ،وه���ي الثقافة التي تتولد بط���رق طبيعية ،وليس والدات قيصرية ،ثقافة يؤلف حكاياتها الناس ويرس���مها الناس ويلونه���ا الناس ويلحنها الناس ويغنيها الناس ،هي ثقافة يعترف الناس فيها بحبهم للحياة ،ويعبرون عن ش���كواهم من خالله���ا ،مرة بالرواية وم���رة باألغنية وم���رة بلوحة فني���ة وم���رة بالرقص ومرة بالقصائد. لن ُتستكمل الثورات وتستقر في غياب ثقافة جادة ،فثقافة األمة هي مرجعيته���ا ومنطلقها إلى صناديق االقتراع لتختار بوعي كامل م���ن يمثلها ،لتجنب وص���ول أولئك المخادعين إلى مواقع السلطة التي يحملهم إليها جهالء األمة المدفوعون بش���عارات براقة ،لم يحاولوا أن يتوقفوا عندها ليتس���اءلوا عن حقيقتها ،وهو أمر لم يكن ليحدث لو أنهم اس���تندوا إلى مرجعية ثقافية ترشدهم إلى حقيقة تلك الشعارات .والثقافة بكل أطيافها هي القادرة على رقابة مسارات التغيير والقادرة على المسألة ،والقادرة على التمييز بين الصحيح والمزيف. فالقصيدة واألغنية واللوحة الفنية والرواية والموسيقى، هي روافد لثقافة األمة الكبرى ،فلو أبقينا جريان هذه الروافد في وجدان األمة وعقلها ومشاعرها ،سوف نضمن في النهاية مواطن��� ًا مثقف ًا وواعي��� ًا بقضايا الوطن وق���ادرًا على مواجهة الفساد والمفسدين ،وسوف نضمن ربيع ًا عربي ًا دائم ًا بفضل الثقافة. 73
ملف
البالغة مه ِلكة ال ُ «ال رئاسة مدى الحياة ،ال رئاسة مدى الحياة». «لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسة قادمة». «لو كنت رئيس ،أو كان عندي منصب لكنت لوحت االستقالة على وجوهكم». «من يتمسك بالسلطة مجنون». العبارات األربع قالها بالترتيب زين العابدين بن علي ،حسني مبارك ،القذافي، وعلي عبداهلل صالح في لحظات الغرق. من قالوها يعرفون أنهم ال يؤمنون بها حقيقة .ومن استمعوا إليها لم يصدقوها. وكانت هذه هي بؤس الختام لحكام استمرأوا العيش في اللغة ،فخلقوا من البالغة الفارغة وطن ًا بدي ً ال تتحقق فيه الديموقراطية بمجرد أن يمتدحها المستبد في خطاب ،ويتحقق العدل االجتماعي بمجرد أن يعلن أمام عدسات التليفزيون أنه يعمل لصالح الفقراء! أطعموا الجياع كالماً ،وتصوروا - Sandro Botticelliإيطاليا
74
أن األوطان األقفاص ستبدو واسعة إذا ما زعموا أنها حدائق .قليل من الحكام يخلقون الوطن اللغوي البديل بأنفسهم ،واألغلبية منهم تعتمد على كتبة الخطابات من الصحافيين والكتاب الذين يتصورونهم أقدر على اصطياد مشاعر الجمهور .وهؤالء الصيادون كانوا أسبق إلى التصويب على رؤوس المواطنين قبل القناصة والبلطجية والبالطجة والشبيحة وعناصر الجيش! تاريخ تزيين الكالم قديم قدم البشرية، وقد عرفت كل أنظمة الحكم وظيفة كاتب الرسائل ،وفي العصر العباسي صار للكالم ديوان كامل -وزارة -حمل اسم «ديوان اإلنشاء» .وفي عصر االحتالل الوطني الذي برك على صدور األوطان ستين عام ًا بالتمام صار ديوان اإلنشاء هو الديوان الوحيد الذي يعمل في الدول المستقيلة من مسؤولياتها ،والغريب أنه آخر ما يموت فيها!
رسوم الملف للبرازيلي:كارلوس التوف 75
في البدء كان ديوان اإلنشاء
الباطل في ثياب الحق
�أ.د� .أحمد يو�سف علي -جامعة قطر
ت���رى ه���ل كان الجاح���ظ على حق عندم���ا اس���تهل كتابه البي���ان والتبيين بقوله «اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول وفتن���ة العمل»؟ يمكن لن���ا أن نفهم فتنة العمل عل���ى نحو اإلعجاب بم���ا أنجزنا ال إعجاب��� ًا يجعلنا ال ن���رى بعد عملنا عم ً يقارب���ه أو يداني���ه ونتوق���ف عن���د هذا العمل ال نفارق���ه بعمل جديد يتخطاه أو يتجاوزه في عالم الجودة واإلتقان .وهذا المعنى -أي التج���اوز -هو ما قصد إليه بشار حين قال« :وال واهلل ما ملك قيادي قط اإلعجاب بشيء مما آتي» ،بالـتأكيد كان الجاحظ على ح���ق ألن فتنة القول تعل عليها ألن تساوي فتنة العمل إن لم ُ القول الفتان أيس���ر إرسا ًال وأكبر تأثيرًا وأخطر من فتنة العمل وأوسع انتشارًا وأق���ل مقاوم���ة ،وم���ن هنا كان���ت فئة الش���عراء في وقت هم أمراء الكالم ،كما قال الخليل بن أحمد عندما كان الش���اعر هو الفارس الوحي���د في مجتمع لم تمتد أطرافه وتتع���دد ثقافاته وتمتزج أعراقه وتتباين بيئاته الجغرافية وتكثر لغاته وعقائده .هذا المجتمع كان هو المجتمع العرب���ي قبل أن ينتقل م���ن حال المفرد إل���ى حال الجم���ع ومن حال المش���افهة إلى حال المكاتبة ومن حال البداوة إلى
76
حال التم���دن والتحضر ومن حال النقاء اللغوي إلى ح���ال الهجنة اللغوية ومن حال البساطة إلى حال التعقيد. عندما حدث كل هذا كان إيذان ًا بظهور ف���ن الكتاب���ة وس���يطرته على س���احة الدواوي���ن لي���س فقط لقض���اء حاجات الن���اس اليومية بل تدعيم ًا ألركان الملك الجدي���د الذي ابتدأ بدول���ة األمويين ولم ينته حتى يومنا هذا وإن لبست الكتابة لباس��� ًا آخر وتعددت ألوانه���ا وتباينت وظائفه���ا وتضارب���ت أحيان��� ًا فقد ظلت الكتاب���ة دعامة من أهم دعائ���م المدنية بتعبيرن���ا المعاصر أو المل���ك بالتعبير الم���وروث ،ول���م يك���ن مصادف���ة قول الرس���ول صلى اهلل عليه وسلم« :قيدوا العلم بالكتابة». وال غضاض���ة أب���دًا م���ن أن تك���ون الكتابة س���ندًا للعمران وبناء اإلنس���ان وحفظ ًا لمنجزاته عب���ر العصور ،ولكن المشكلة أن الكتابة العربية حين نشأت كانت نش���أتها ف���ي مهد الدول���ة الجديدة ذات التوجه العربي الخالص إلى درجة االنحياز الكامل لكل ما هو عربي ثقافي ًا ولغوي ًا وكان عل���ى الكاتب أن يدعم هذا التوج���ه وينميه ويزينه ويروج له مهما كان متهافت ًا وض���د منطق التاريخ الذي
كان مكره أقوى وأش���د .فقد كان الدين الجديد -اإلسالم -معلن ًا مبادئه منذ أول كلم���ة جاء به���ا الوحي وه���ي القراءة، مش���يرًا إلى العلم ودوره ف���ي العمران وقد اقترنت هذه الكلم���ة بكلمة التوحيد الت���ي أعلت من ش���أن الحري���ات العامة والخاصة ،وأقرت مبدأ المس���اواة بين البش���ر جميع ًا وجعلت أساس التفاضل بينهم هو العمل الصالح الذي اقترن بكل ما يصلح الك���ون واإلنس���ان والعمران وأرس���ى الوحي مبدأ المراقب���ة الذاتية للنف���س تحت س���لطان مراقب���ة اهلل لكل الكون ومنه اإلنسان. إن مكر التاريخ جعل كّتاب السلطان يدورون ف���ي فلك الس���لطان مع علمهم بحقيقة التاري���خ ومكره ،ولكنه الهوى واالنحياز وعم���ى البصيرة والطمع في بري���ق النعيم وأبهة الملك ،فاس���تغلوا فتنة القول التي اس���تعاذ منها الجاحظ في مس���تهل كتابه السابق الذكر ليزينوا للناس س���وء المل���ك الذي يه���در كرامة اإلنس���ان ويعل���ي م���ن ش���أن الطغيان بإس���قاط مبدأ الحري���ة والوعي الفعال اللذين أقرهما الوحي المتفق مع المنطق السليم والفطرة األصيلة. في ه���ذا المهاد الثقاف���ي االجتماعي تأس���س المبدأ الخطير للكتابة العربية وهو أن البالغة هي القدرة على تصوير الحق في صورة الباطل وتصوير الباطل في ص���ورة الح���ق .وهو مب���دأ يعني ق���درة الكاتب علي التخيي���ل الذي يعني استخدام ملكة الخيال في اإلقناع والخداع والسيطرة على عقول ما نسميهم اليوم بالجماهير العريضة تحت مس���مى الحق والحقيقة أو الوطن والوطنية. ومما اس���تعان ب���ه كتبة الس���لطان النص���وص النقية أي النص���وص التي لها رصي���د إيجابي في وجدان الجماهير وهي النص���وص الدينية س���واء أكانت نصوص��� ًا قرآني���ة أم نصوص��� ًا م���ن الس���نة واألحادي���ث ،ومنه االس���تعانة بالمنقول على حساب المعقول وإضفاء طابع القداس���ة والمهابة عل���ى األقوال واألشخاص بحيث يكون الفصل بينهما أش���به بالفصل بي���ن الروح والجس���د،
فيتوحد الق���ول بالقائل كما يصنع كتبة السلطان في زماننا اليوم فيوحدون بين الحاكم والوط���ن فمن يمس الحاكم بنقد فقد مس الوطن ووقع في الخيانة. ولم يكن غريب ًا أن يتوارى س���لطان العق���ل ويعم س���لطان القول وينتش���ر ويختف���ي النقد الفعال المتأس���س على مقوالت المنطق والش���ك ف���ي المبادئ األول���ى الت���ي تنه���ض عليها األنس���اق الفكري���ة .وباختف���اء ه���ذا النق���د تروج الخرافة وينس���حب كّتاب كبار من مشهد الكتاب���ة الديواني���ة مث���ل الجاحظ الذي آثر الحرية على أبهة الملك والس���لطان واتجه بكتاباته اتجاه ًا جديدًا كاشف ًا عن زي���ف المدينة والمدني���ة وتهافتها فكتب عن المهمش���ين من العرجان والبرصان والعميان والحوالن كما كتب عن الحمقى والنوكى والس���ودان والبيضان ودخل عالم النس���اء بوصفه عال���م المقهورين الذين يمارس رجال الملك وحاش���يتهم سطوتهم عليه وهم يعتقدون أنهم حراس الفضيلة فكتب عن اإلماء والجواري وعن الحرائر وعن العش���ق وعما ال تستطيع المرأة في ه���ذا العالم القاه���ر أن تعلن عنه وهي تمارس���ه في الخفاء وتتمسك بنقيض���ه في العلن ،كم���ا كتب عن زيف ما هو معلن على ألس���نة األغنياء الذين يدع���ون الفضيلة وهم ع���راة منها .إنهم ه���م البخ�ل�اء الذين يحب���ون أن يحمدوا بما لم يفعلوا .فكان كتابه البخالء الذي رسم فيه أمراض النفس حينما يستحوذ عليها الطمع والجهل ،كما رسم أمراض الجسد لدى فئة ال حول لها وال قوة فيما أصيبت به من العمى والبرص والحول والع���رج وه���ذه الفئ���ة أش���به بالفئ���ة المقهورة من النس���اء واإلماء والجواري والغلمان وما تمارسه من لهو ربما كانت هي أول الرافضين ل���ه لوال لعبة األقدار االجتماعية وإهدار الحقوق. هذا اللون من الكتابة الذي أسس له الجاح���ظ يرصد ثقاف���ات مختلفة تموج به���ا المدينة العربية وقتئذ وال يش���غله الترويج لبقاء الس���لطان وتدعيم ملكه، فيكت���ب ع���ن ثقافة م���ا نس���ميهم اليوم بالس���فلة أو الفئ���ة الدني���ا ،كم���ا يكتب
عن ثقاف���ة الغرباء الذين يعيش���ون في المدينة وهم ليسوا منها مثل البدو وأهل السواد الذين نعرفهم اليوم بأهل القرى. وبين هؤالء فئة وسطى ليست ثقافتهم ثقافة الفئة األولى وال ثقافة الس���لطان وما يتصل بها من كت���اب الدواوين ،إن ثقافتهم هي الثقافة التي يمثلها الجاحظ ثقاف���ة ال ت���روق لثقاف���ة الس���لطان وال لثقافة كّتابه الذين يقاومون ثقافة النقد والعقل ويروجون لثقافة البيان –(وإن يقول���وا تس���مع لقوله���م) -القائم على التضلي���ل وفتنة الق���ول وتزيين الباطل وتش���ويه الحق إن لم يك���ن معهم ،كما يقاوم���ون ثقافة المغموري���ن لما تتمتع به من الوضوح والصراحة والمكاش���فة والجرأة. لقد كان طه حسين على صواب في كتاب���ه حدي���ث األربعاء حي���ن أدرك أن الل���ون الذي يمثله الجاح���ظ في الكتابة يناقض أرباب السلطان .فالجاحظ حين يكتب عن المغمورين يكتب عنهم بلغتهم كما يتحدثون ويتبادلون الكلمات معتمدًا على أس���لوب الحكاية معلن��� ًا اعتدادهم بلغتهم وما فيها من وضوح وانكش���اف وبراءة من التجم���ل والنفاق والبعد عن حيل التستر بالفضيلة باستخدام التكنية واإلخفاء واإلشارة والرمز. ولك���ن مس���ار الكتاب���ة العربي���ة لم
استعان كتبة السلطان بالنصوص النقية التي لها رصيد إيجابي في وجدان الجماهير وهي النصوص الدينية سواء أكانت نصوص ًا قرآنية أم نصوص ًا من السنة واألحاديث
يك���ن هو المس���ار الذي س���لكه الجاحظ وبع���ده المغت���رب األكب���ر أب���و حي���ان التوحيدي ،بل كان المس���ار هو القواعد التي يتعلمها النشء ليتقنوا فن الكتابة الديواني���ة ،وما تعد به م���ن عز ومكانة وجاه وس���لطان على غرار رس���الة عبد الحميد الكات���ب للكت���اب ،وكتاب (أدب الكاتب) البن قتيبة ،و(الرسالة العذراء) البراهيم بن المدب���ر ثم الكتاب الصريح الواض���ح من عنوان���ه لكاتبه أبي هالل العسكري في القرن الرابع الهجري أعني كتابه(الصناعتي���ن الش���عر والكتاب���ة) وبع���ده ص���ار مصطلح الكتاب���ة يعني كتابة اإلنش���اء كما أكد القلقش���ندي في (صبح األعشى) قائالً ....« :وقد خصوا لفظ الكتابة بصناعة اإلنشاء حتى كانت الكتاب���ة إذا أطلقت ال يراد بها غير كتابة اإلنشاء .والكاتب إذا أطلق ال يراد به غير كاتبها وس���مى ابن األثي���ر كتابه «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر». وكما نش���أت الكتابة أو فن اإلنشاء في مهد الدولة والمعتقد ،انتهى مسارها بارتباط وجودها بالسلطان ،فبالكتابة والكت���اب قامت السياس���ة والرياس���ة كما يقول القلقش���ندي الذي أنش���أ كتابه الضخ���م معب���رًا به ع���ن االقت���ران بين الكاتب والسلطان والتسلط على الناس بفتنة القول وس���وء العمل «وما يتطلبه كاتب اإلنشاء من االختصاص بالسلطان وقربه منه وإعظ���ام خواصه .فالكتاب كالجوارح كل جارحة منها ترفد األخرى في عمله���ا بما به يك���ون فعلها .وكاتب اإلنش���اء بمنزلة الروح الممازجة للبدن المدب���رة لجمي���ع جوارحه وحواس���ه. فكاتب اإلنشاء هو حلية المملكة وزينتها لم���ا يصدر عنه م���ن البيان ال���ذي يرفع قدرها ،ويعلي ذكرها ،ويعظم خطرها، ويدل على فضل ملكه���ا وهو المتصرف ع���ن الس���لطان ف���ي الوع���د والوعي���د والترغيب واإلحماد واإلذمام» ،والسؤال اآلن :هل مات كاتب اإلنشاء واختفى من بالدن���ا وزمانها المعاص���ر وانفكت عنه عرى الملك والس���لطان ولم يعد يتسلط على الناس بفتنة القول وتزيين س���وء العمل؟ 77
تسقط الدولة المتلفزة حم�سن العتيقي
يقال عن السياسة إنها فن اإلبقاء على الدول ،لكنها في خطابات الرؤساء العرب خالل هذا العام الثوري أسدلت ستارها البالغي ،فلم يعد خطاب الديكتاتور فن ًا لإلبقاء على كرسي.. وكما هو واقع هذا «الفن» فقد أهمل محرروه منذ البداية ،أنهم يخاطبون جي ً ال لم يترعرع في كنف البالغة الديوانية ،وإنما في وطن مفترض لما أراده واقعي ًا نزل إليه بلغته ،مؤسس ًا إلعالم مواطن أكثر من غيره تحري ًا عن الخراب ،وقد نقل للعالم بأسره مسلسل سقف المطالب السياسية ،وهو يتصاعد في ميادين الربيع العربي عبر شعارات مختصرة ،تكتب للتاريخ عناوين كبيرة ،وثورات لم ينفع معها التنويم المغناطيسي في خطاب رئاسيُ ،ي ّ نظر إلصالح ركيك فات أوانه. فشلت الدولة التليفزيونية ،ومعها الرئيس المتلفز ،والمؤسسات المريضة بعدوى اإلنشاء العسكري ،فشل الجميع في تحديث الخطاب ،ونجح الثائرون في تحيين المواطنة وتعميم أخالق اإلرادة. فشل حسني مبارك في التوفيق بين اقتناعه «الثابت الذي ال يتزعزع بمواصلة
78
اإلصالح السياسي واالقتصادي واالجتماعي ،من أجل مجتمع مصري حر وديموقراطي يحتضن قيم العصر وينفتح على العالم» ،وبين استعمال الجمال والرصاص الحي .وألن الرئيس عول أخيرًا على بالغة المشاعر وعز في نفسه «ما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها» ،ويحز في نفسه ما يالقيه «من بعض أبناء وطنه» ،هتف المصري «أحلف بسماها وبترابها ..مبارك هو اللي خربها». ومن قبل كذّب زين العابدين بنعلي نداءات الكادحين في سيدي بوزيد ووصفها بـ «شعارات اليأس الكاذبة وافتعال أخبار زائفة استغلت بدون أخالق» بل وتخيلها «أعما ًال إرهابية ال يمكن السكوت عنها» ،لكن التونسيين لم يصمتوا فرددوا شعارهم «التشغيل استحقاق ،يا عصابة السراق»« ،خبز وماء ،طرابلسية ال» ،كما لم تنطل على وعي الثائرين تالوة اإلصالح المنسي في رفوف الفساد ،ولم تراوغ فطنته بالغة بورتريه الرئيس على الطريقة الديغولية «أنا فهمتكم ،فهمت الجميع... حزني وألمي كبيران ألني أمضيت أكثر من 50سنة من عمري في خدمة
تونس في مختلف المواقع من الجيش الوطني إلى المسؤوليات المختلفة و 23سنة على رأس الدولة ،كل يوم من حياتي كان وما زال لخدمة البالد وقدمت التضحيات ال داعي لتعدادها»، ثم استمر عداد قمع البالد والعباد ولم يتوقف فكان داعي ًا لشعار «اعتصام اعتصام ،حتى يسقط النظام». أما علي عبد اهلل صالح القائل في قومه بأن من «يحكم اليمن يرقص على رؤوس الثعابين» و«هذا مخطط أجنبي هذا المخطط ما يجري في الوطن العربي ،»..وأنه هو «الذي حقق وحدة ومنجزات اليمن »..يردف حين يدوخه الرقص فوق رؤوس الثعابين!« :الذي طالب علي عبد اهلل صالح أن يرحل، سيرحل على الرحب والسعة ،سيرحل اليوم قبل الغد ما في مشكلة ،بس يترك ديموقراطية» ،ولما يقلب لسانه العربية رأس ًا على عقب ،مثلما قلب اليمن وتركها بال دولة ..يردد اليمنيون شعار «يا علي سلم سلم نشتي رئيس متعلم» .وال شك أن حالة التكرار والتشابه سمة خطابات هذه األنظمة تجاه المتظاهرين ،لذلك لم تجد شعارات كثيرة ما يمنعها من الترديد وانتقال مضمونها من ثورة إلى أخرى، فنجد الشعار المصري «يا جمال قول ألبوك ،الشعب المصري بيكرهوك» يردد في اليمن «احماده قل لبوك الشعب كله يكرهوك» ،وهذا أسقط ،باستيراد الشعار ،واألمثلة كثيرة ،الخطاب المزعوم عن فرادة واختالف هذا النظام عن ذاك ،وما الشعار الجامع «الشعب يريد إسقاط النظام» إال عين األمانة في انتفاء الزعم. والقول في خطابات معمر القذافي فيه من جنون الدال والمدلول ما نزع عنه صفة العقل شك ً ال ومنطوقاً ،كما لم يصح قول العرب قديم ًا «ال تستشيروا كثير القعود مع النساء!» بقدر ما صح فيه ،فهو«المقاتل المجاهد المناضل الثائر ،من الخيمة من البادية ،وتعبت معه القرى والمدن والواحات في ثورة
تاريخية جابت األمجاد للليبيين،».. أما أسطوانة المؤامرات فعلى طريقته: «من هؤالء المأجورين مدفوع لهم الثمن من المخابرات الخارجية.. نحن أجدر بليبيا من أولئك الجرذان والمأجورين »..وكان هجاء ملك ملوك إفريقيا للليبيين يقابله شعار من ذاكرة مجدهم الحقيقي الذي لم تستطع أسطورة العقيد الدامية محوها من عروقهم ال زنقة زنقة وال دار دار، فصاحوا «نحن أبناء عمر المختار ولدنا لنكون أحرار» .ومن الخيمة كذلك خرج سيف اإلسالم أعوج بخطابه «احنا دولة خاصة مش زي الثانيين ليبيا مش تونس ومصر» متوعدًا بحرب أهلية فصح خطاب الخصوصية بتدخل خارجي حين لم ينفع مع خطاب الحمقى شعار سلمي ،ذلك أن األحمق إذا تكلم بالصواب الجيد يجيء بالخطأ الفاحش وهذا ما كان من خطاب الدولة الخاصة! إجما ًال ،لم يكن تطويق الخطاب الرسمي بالشعارات عشوائياً ،وإنما بمواعيد على مقاس الخيبة عند كل خطاب رسمي .ردد كل شعار بيان ًا في جملة تنبع من لغة الرأي العام وآالمه،
فأكسبه انتشارًا آني ًا وقوة تحريضية. وقد عكست المظاهرات وعي ًا حضاري ًا ينم عن تمسك جماهيري بتاريخ البالد ورموزها ووحدتها الوطنية .كلمات رددتها األلسن عالي ًا والفتات رفعت بكل انتشاء لتروي تعطش األفراد لقيم الحق اإلنساني ،مع التأكيد على سلمية السلوك وحياده عن أي انتماء أيديولوجي .كما لم تخل الكلمات من خفة وطرافة ساخرة من خطاب النظام ،وليس أبلغ إسقاط له من: «عفوًا مبارك لقد نفد رصيدكم». ومن إسقاط نظام إلى ترميمه تحت ضغط الشارع ،لدى الشعوب العربية بعد انطالق ثورثها مكتسب لغوي جريء مازال يعمم من يوم آلخر على
بسقوط الخوف أصيب نصف قرن من الكذب السياسي بجلطة أمام صدق شعارات الثائرين
امتداد الشعارات ،التخلص من الخوف أكسب المواطنين مناعة صريحة تؤسس لمضاد حيوي في مواجهة أي خطاب ملتو ،أو سم دستوري؛ فبسقوط الخوف أصيب نصف قرن من الكذب السياسي بجلطة أمام صدق شعارات الثائرين ،ولم يعد بحوزة الشعوب اآلن ومستقبالً ،مزيد من الصبر والسماح بالضجر السرمدي في دواوين الخطابة المدمنة على ذريعة الديموقراطية ،والسالم والتنمية والصالح العام ...في تونس إلى مصر واليمن ،ومن في قاعة االنتظار ،ألقت إرادة الجماهير الخطاب الرسمي أمام هيئة قضائية من عامة الناس توازن قوتها باختصار الخطاب :الشعب يريد إسقاط الفساد ،الشعب يريد إسقاط النظام ..في مقابل خطاب ،بمفرداته األلف ،يحيك فساده ببث الضجر والمناورة كي يقول بدم سياسي ثقيل ودم آخر مسفوك هذا ما يريده النظام. خطاب النظام ..نظام الخطاب ،كما قال محمود درويش ،وجد أفق انتظار الشعب يخاطب الحائك بصريح العبارة ليس عندك صواب في فعال وال مقال ..فارحل.
79
بالغة صالح حبيب عبدالرب �سروري -اليمن
تحليل الخطابات االستطرادية ُ المباشرة للطغاة العرب (السيما بعد أن أجبروا على اإلسفاف المباشر أمام الجماهير العربية بفعل ربيع ثوراتها، ً مرتبكة مما جعلهم يرددون عبارات ً خائفة مدهشة مثل« :زنجة زنجة!»، «فاتكم القطار!»« ،فهمتكم!» أثارت سخرية المواطن العربي من المحيط أمر يهم كثيرًا علماء اللغة إلى الخليج) ٌ والنفس واالجتماع واالنثروبولوجيا. خاصة بعد أن تراكمت ٌ مادة غنّي ٌة تسمح ِّ بفك شيفرات تركيب أولئك الطغاة وسلوكياتهم الخفّية ،شريطة الكشف عن آليات وقواعد نحو لغة الوعيهم المغلّفة ومنطقِها العام ،وما تريد توصيله للناس في كل خطاب. ليس صعب ًا فك شيفرات خطاب الرئيس اليمني علي عبداهلل صالح ،ألن له قاعدة خطابية رئيسية ثابتة منذ 33 ٍ بهدوء ودون خجل: عاماً ،يجيد أداءها الكلي الخالص وقول العكس الدجل ّ الكامل لما يريده أو لما ينوي أن يحدث فعالً!. عبارتان ،قبل توليه السلطة بقليل، وبعد خروجه منها بيومين إن كان قد خرج منها فعالً ،تشرحان ذلك بكل جالء:
80
«أتمنى أن أحكم اليمن أسبوع ًا واحدًا ردد صالح (كما نقل عنه بعض من فقط»ّ ، عرفوه قبل أكثر من 33عاماً) عقب دوره الشهير في قتل الرئيس إبراهيم الحمدي، صاحب مشروع التحديث ،في .1977 تحول إلى أسبوع الزاهد عن السلطة ّ جنوني بها لم تشب ٍث أكثر من 33عام ًا من ُّ ٍّ ِ بعد حتى كتابة هذه السطور. ينته ُ وبعدما اضطر للتوقيع على مبادرة مجلس التعاون الخليجي بيومين فقط يومي ومماطلة فاقت مماطلة تهر ٍب (بعد ّ ّ عادل إمام في مسرحية« :الزعيم») قال في اجتماع لحزبه الحاكم هذه العبارة نظفتها من األخطاء اللغوية): (بعد أن ُ «كان من المفترض أن توقع هذه االتفاقية في وقت مبكر ولكن لألسف الشديد كانت هناك مماطلة من قبل بعض األطراف، حيث كان من المفترض عليهم توقيعها في وقت مبكر لنخرج من األزمة المستفحلة في الوطن والتي ألحقت ضررًا فادح ًا في مجال التنمية ،في المجال االجتماعي والثقافي والسياسي ،وفي شتى المجاالت». لم يكن يمزح! ...يصعب أن يقول اإلنسان كذب ًا خالص ًا أكثر وقاحة!.. غير أن ما يمّيز لغة أكذوبات صالح
بعد اندالع ربيع الثورة اليمنية (التي أجبرته على الحديث شبه اليومي في خطابات مباشرة ،متوترة أحياناً ،كان خاللها أشبه بنصف سكران) أنه صار يصدقه اآلخرون كما ال يبذل جهدًا في أن ِّ كان حال خطاباته القديمة. في الحقيقة ،كانت أكذوبات صالح مخر ً جة بدهاء ،أشبه قبل هذه الثورة َ بشفرات ال يالحظها إال القليلون وال يبدو كذبها جلّي ًا للعامة في الغالب .أجاد على الحرفي لمبدأ «اقتل سبيل المثال التطبيق ّ الخصم وامش في جنازته» الذي مارسه ٍ ومهارة مسرحّية فائقة عند بمكر دوم ًا ٍ تخلصه من أبرز خصومه السياسيين. يسب الفساد ونهب كان يكفي أن ّ بعض خطاب ما ليالحظ األراضي في ُ ٍ ازدياد نهب األراضي اليمنية المراقبين َ من قبل ذويه وعصابته بعد الخطاب سر مباشرة، ّ وكأن هناك شيفرة وكلمة ٍّ تمهيدية بينه وبينهم :اعملوا دوم ًا عكس ما أقول!. كان يكفي ،كمَثٍل آخر ،أن يّدوي في خطاباته منذ « :2006سنولّد ّ كثير ليظل الكهرباء بالطاقة النووّية» ٌ من الساذجين يصّدقون هذا الوعد ،رغم تواتر انقطاع الكهرباء في اليمن أكثر عام لعام .وعندما عاقب الناس فأكثر من ٍ بقطع الكهرباء بعد اندالع ثورتهم، اضطرهم إلى االستضاءة بالشمع ،أو بـ«الشمع النووي» ،كما أطلق ظرفاء الثورة للتذكير بذلك الوعد. كان يكفي أن َي ِعد في خطاباته منذ ٍ سكة حديدية في اليمن 2006ببناء لِيصّدَق ُه البعض ،وليحلموا ليل نهار قطار يعبر اليمن ،قبل أن يسمعوه بأول ٍ ّ يردد أمامهم دون خجل عبارته الشهيرة: ّ «فاتكم القطار! فاتكم القطار!.».. ِ بالغة خطاب صالح أما موضوع حديث ذو شجون، وأسلوبه اللغوي فهو ٌ مثقف يمني يبكي خج ً ٍ ال يجعل أكثر من ِ رئيسه ألدنى قواعد ومرارة من مدى جهل اللغة وأبسط معاني الكلمات. رئيس يصعب في الحقيقة أن يوجد ٌ بالغت ُه كراهيَت ُه المفرطة كصالح تعكس ُ للثقافة والتعليم .لعله الرئيس العربي
الوحيد الذي لم يحرص على تعليم أوالده (جميعهم عسكريون بال مؤهالت يسيطرون بشراسة على أهم قيادت الدفاع واألمن في اليمن) ،ولم يكلف نفسه حتّى منحهم شهادات علمية ملفّقة ً أسوة ببعض أبناء الطغاة العرب ،من فرط احتقاره للتعليم كما يبدو. يكفي اإلصغاء له إلدراك مدى المصيبة .إذ هو الرئيس الوحيد الذي ال يعرف الفرق بين مدلولي كلمتي «لم» و«لن» :يستخدم دوم ًا «لن» ،التي تنفي الفعل المضارع في المستقبل ،بد ًال من «لم» التي تنفيه في الماضي!. أال ُي ِّ رمزي شديِد بشكل كث ُف ذلك، ٍ ٍّ وحَد صالح الماضي التعبيرية ،كيف ّ جمد الزمن كيف أي والمستقبل اليمني، ّ حاضر اليمني ،ماضيه ومستقبله ،في ٍ متخلف دام 33عاماً ،أسماه مع ذلك في حملته االنتخابية في « :2006اليمن الجديد»؟. ٌ حادثة شهيرة يرددها اليمنيون ثمة ّ كثيرً ص عالقة صالح الشهيرة لخ ت ا ِّ ُ ُ بثنائية «لم» و«لن» أفضل تلخيص: ٌ مذيعة عربّي ٌة صالح ،أثناء سألت
مفاوضاته السرّية مع المملكة السعودية حول حدودها مع اليمن ،في ثمانينيات القرن المنصرم: سرًا للسعودية ذهبتم أنكم سمعناّ لمناقشة االختالفات حول الحدود؟ رد صالح... ال ،لن أذهب!ّ ، لم أم لن يا فخامة الرئيس؟ ،سألتهالمذيعة... رد لم ولن (في نفس الوقت)!ّ ،ٍ وبريق في العينين، بابتسامة صالح ٍ وكأنه أفعمها بشطارته... رده األخير هذا ،بتركيز شديد، ُيجلي ُّ طريقته في الحديث الذي يمارسه بنفس «البلطجة» التي يمارس بها سياساته: ال توقفه أية فرامل أثناء الحديث .ال يخطر بباله أن هناك مدلوالت قاموسية وقواعد نحوية بدائية يلزم احترامها عند الكالم ...يعتقد أنه يكفي دوم ًا ممارسة نفس الشطارة حتى في اللغة، أي نفس السطو والفضاضة والمزاحمة والعشوائية واالستغباء في كل االتجاهات!. من يصغي لصالح وهو يلقي خطاباته يالحظ مث ً «يسكِّن لِيسلم» أثناء ال أنه ال ُ
الحديث ،شأن الكثيرين من ناطقي العربية .ينصب غالباً ،واثق ًا من نفسه. ينصب ،ينصب ..ينصب الكلمات ،في كل تعود على النصب والنهب االتجاهات ،من ّ اليومي! ..أما الحديث عن احترامه لقواعد تشكيل «جمع المذكر السالم» وغيرها من نحو اللغة العربية فذلك ٌ ترف أوليات ِ شديٌد في حالة فخامة الرئيس اليمني الذي ال يجهلها فقط ،ولكنه يجهل أنه يجهلها ،وذلك أسوأ المصائب ،كما يقول الحديث الشريف!. إلدراك مدى الفضيحة (التي يتحمل مسؤوليتها الكثير من المثقفين والسياسيين ممن مارسوا حمل المباخر لمخلوق كهذا) يكفي ومسح األحذية ٍ مالحظة أن صالح ،أو «الرئيس المثقف» كما أسماه ذات يوم رئيس تحرير صحيفة ثقافية يمنّية ،نال أكثر من «دكتوراه فخرّية» من جامعة يمنية! ..ال أعرف كيف يمكن أن تكون جامعات كهذه ٌ عالقة ما بنشر العلم والمعرفة!. لها عتبُر صالح شاعرًا يمنّي ًا ي ربما: األسوأ ُ َ تم رسمّي ًا كبيرًا له «معلّقات شعرية» ّ تلحينها وأداؤها كسيمفونيات في األعياد الوطنية ،لم (أو «لن» ،كما يقول الشاعر) يتلكأ أدباء ونقاد يمنّيون معروفون عن مدحها ،وعقد الندوات الفكرية حول قائلها« ،الشاعر المشير الرئيس األب»، يسمونه .شعارهم في ذلك ما قاله كما ّ أحد شعراء الصعاليك وهو يمدح نفسه:
فتى عارف اً وهلل د ّر ً يجاري الزمان على فطرته يوا�سي الفقري ب�إح�سانه ويرق�ص للقرد يف دولته
بين رقصهم في دولة القرد ،على إيقاع رقص القرد «على رؤوس الثعابين» (حسب االستعارة ِ ميِرَّية الح َ القديمة ،التي استخدمها صالح ،بفضل مستشاريه ،لوصف ما يعني حكم اليمن خالل عدة عقود) ماتت اليمن «بصندوق ّ ثمن ،ولم يمت في حشاها اح بال ٍ وض ٍ والطرب» ،كما قال شاعر اليمن العشق ُ ُ العظيم عبداهلل البردوني الذي ال ينتمي رئيس ال لساللة من يجيدون مراقصة ٍ يعرف التمييز بين «لم» و«لن». 81
أنا الرئيس ولست آمر الجند!
بين اللغو والبالغة مايا �شكر اهلل -دم�شق السياسي من طريق اللغة، يتوسل ّ ّ إحكام سيطرته على حضور صورته في َ سواء أتوجه إليهم وجدان من يسوسهم، ٌ متلفز أو عبر مقابلة صحفية. عبر خطاب ٍ السياسي على وفي الحالين ،ال ُيؤخذ ّ ّ حضر كلماته حين غرة ،فهو الذي سؤال واحتاط ألكثر من وراجعها جيدًا، ٍ َ غير متوقع ،قلّب احتماالت األسئلة، وحّدق في مذاهب التأويل والتفسير التي معنى خارج السيطرة قد تعطي كلماته ً وغير مقصود ،كما لو أنّه يقفل باب حرّية السياسي التلقي والفهم .فاألصل أن ّ تدرب على استعمال اللغة بما فيها من ّ وظائف محّددة؛ التعبير ،واإلخبار، والتواصل ،واإلقناع ،وغيرها ،على نحو يكفل له تلميع طلعته البهّية ،في ٍ مرآته أغلب األحيان ،إذ إن مرآة المتلقي لن تعكس الطلعة البهّية لديكتاتور مثالً، لشخص يخال نفسه بليغ ًا بل طلعة مقيتة ٍ وهو أبعد ما يكون من البالغة ،وأدنى ما يكون إلى اللغو. السياسي إن بل فحسب، ليس هذا ّ الذي يدرك جيدًا أن ال سياسة من دون يظن أن طريقته في التعبير وانتقاء لغةّ ، األلفاظ واستدراك الكالم وتصحيحه، تعطي خطابه صدقّي ًة ،إذ إن اإلقناع، 82
سخر من أجل رفع كأحد وظائف اللغةُ ،ي َّ السياسي يقوله مبدأ التصديق؛ فما ّ هو الصدق بعينه ،كالمه هو الحقيقة .وكلما استطاع سبيالً ،يزيد السياسي من ذلك ،حّد إنه ال يتوانى عن رفد خطابه بهالة المقّدس. من هنا يبدو الكالم بتواتر الالمزّين ٍ نهائي -بـ «إلى األبد» في سورّية ،مثا ًال عن التوهم الذي يحيط ّ السياسي: بتفكير ّ بمقارعة الرغبة وإجباره التاريخ، ٍ كلمات على تدوين ً بليغة ،وفي مرتبة ال يظنّها صاحبها يرقى إليها ّ شك ،كأنّها المقّدس الذي ال يفنى. فت للبالغيين تصر ْ بيد أن اللغة ،وإن ّ والشعراء واألدباء وغيرهم ،تتلكأ عند باب الرئيس ،فاألمر أبعد من انتقاء كلمات بعينها ،ألن سياق الكلمات يحمل في طياته مشكلة «بنيوية» لدى السياسي -إن جاز التعبير ،-فالسياق ّ
فكيف بزمن محّدد، يعني عالقة المعنى َ ٍ قرر سلف ًا أن يملي تت ُ َّسق كلمات من ّ يدونها قسرًا كلماته على التاريخ كي ّ ّ تشف ويحفظها؟ هالة المقّدس التي يمر من كلمات السياسيّ ، تتبخر ما إن ّ ّ التاريخ بمكره المعهود :إن أحدًا ال يملي على التاريخ! وثمة فرق واضح بين اللغو والبالغة. أثارت مقابلة الرئيس ،مع بربارا ْ والترز لصالح محطة إي بي سي نيوز
الضجة األميركية مؤخرًا ،كثيرًا من ّ ألسباب متعّددة منها :يحق لإلعالم في سياق الدعاية والسبق الصحفي، أن ينتقي ويختصر ويقتطع من كلمات يبث جزءًا من المقابلة وفق ًا الرئيس ،وأن ّ سريع إيقاعه برنامج للزمن المحّدد في ٌ يناسب عصرنا .ومنها :الضوء مسلّط على خطاب الرئيس ،وبصورة ّ أدق مسلّط على حضور صورته سواء أكان ٌُ ذلك في اإلعالم الغربي – وهو المتلقي المقصود من قبل الرئيس -أم في وجدان شعبه أي المتلقي ْ المقصي. المغَفل ّ ركز اإلعالم الغربي ونقل عنه ّ اإلعالم العربي ،على سؤال بربارا للرئيس «:حسناً ،في بداية تلك التظاهرات خرجت النساء واألطفال يكن أحٌد يحملون أغصان الزيتون ،ولم ْ رت تطو ْ يدعو إلى إسقاطك .األمور قد ّ منذ ذلك الحين .هل تعتقد أن قواتك بالغت بالقمع؟» ،وعلى «تصحيح» ليست قواتي .هذه قوات الرئيس « :هي ْ عسكرّية تابعة للحكومة» .فأجابته أنت الحكومة. والترز «:حسناً ،ولكنك ْ ً ثانية «:أنا ال فـ«صحح» لها الرئيس أمتلكهم ،أنا الرئيس .أنا ال أمتلك الدولة ليست قواتي». وهذه ْ قرأ المحللون السياسيون غرب ًا وعرباً ،كالم الرئيس هذا ،باعتباره تنص ً ال من المسؤولية ،وإنكارًا للواقع، ّ كامن وفسروا كالمه من خالل معنى ٍ ّ يقول إن الرئيس قاب قوسين أو أدنى من التخلّي عن أعوانه في الجريمة، وتقديمهم كبش ٍ فداء ضمن صفقة ما، تضمن له أن ينأى بنفسه عن عواقب شعب والمروع لحياة انتهاكه الفظيع ٍ ّ مسالم خرج إلى الطرقات في ثورة ٍ استثنائية بأكثر المقاييس تحّيزًا. قراءة المحللين السياسيين تأخذ اللغوي قشرته ال لّبه ،إذ من الجانب ّ نيت على الضمير «التائه» بين إنها ُب ْ الصحافية والرئيس؛ يتصل به في سؤال الصحافية (قواتك) ،وينفصل عنه في الجواب (ليست قواتي) .األمر الذي زّين للناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية
(جهاد مقدسي) ،أن األمر يحتاج تدقيق ًا بث الشريط ضمن لغوي ًا فحسب ،فأعاد ّ ولفت االنتباه إلى مؤتمر صحافي، ْ الضمير «التائه» ،واهم ًا أن اجتزاء كالم حضر نفسه جيدًا ٌ - الرئيس –الذي ّ دليل إضافي عن مؤامرة متشعبة األطراف ٌ واألعوان ،تتنزه وتسرح وتمرح في مهمة «تصحيح» فهم سورية .ويبدو أن ّ المتلقي لكالم الرئيس ،احتاجت من الردود الرسمية ثالثة ،وهي كلّها تدور في فلك تفسير الماء بالماء. فما المعنى ِ الكامن وراء كالم الرئيس السياسي؟ لغوياً ،بعيدًا من التحليل ّ وبصورة ّ أدق ما السياق هنا؟ ماذا تستبطن كلمات الرئيس من المعاني؟. ٌ ٌ شعب موصوف : معروف سياق الكالم ٌ ٍ قوات عسكرية وأمنية ،وهو ُيذبح بيد محرك سؤال الصحافية .أما جواب ّ الرئيس فيستبطن إنكارًا ونفّي ًا لصورته عسكري يصدر األوامر للقوات كرجل ٍ ٍ العسكرية بقتل الناس ،األمر الذي يظهر جلي ًا في جوابه الثاني« :أنا الرئيس»، ّ تشف صورة رجل فمن خالل الجواب عسكري ،يشتهي الرئيس إقناع مدني ال ّ المتلقي بها. يكفل يظن الرئيس أن ضمير األنا، ّ ُ يظن أن «مهارته» صدقّي ًة لكالمه ،مثلما ّ في التدقيق اللغوي وإعادة الضمير ينم عن «التائه» إلى جادة الصوابّ ، مهارة وبالغة .لكن اللغة أمكر من أن يقسرها على االمتثال لصورته المدينية المصطنعة« :أنا الرئيس» .ففي سياق ٍ مختلف في المقابلة نفسها ،تسأل الصحافية الرئيس عن مالبسات وجوده في كرسي الحكم ،بعد وفاة والده، حيث ينكر الرئيس أن يكون ذلك تنفيذًا لرغبة والده ،فتسأل والترز« :إذًا ومع كل االحترام أنت طبيب ومختص في طب العيون...كيف أصبحت قائدًا لهذه ّ الدولة؟» .وبكالم آخر ،يبطن النصف األول من سؤال والترز قبو ًال بصورة «المدني» التي رسمها الرئيس لنفسه عما قامت من خالل إنكاره المسؤولية ّ به القوات العسكرية .بيد أن جواب مكرت اللغة الرئيس يجيء مفاجئاً ،فقد ْ
كنت به ورسمت صورته الحقيقية« :أنا ُ كنت في طبيب ًا عسكرّياً ،حتّى عندما ُ كنت طبيب ًا عسكرياً .هم أرسلوني لندنُ ، إلى لندن وليس وزارة التعليم العالي على سبيل المثال أو أي شيء أو أي كنت في الجيش منذ العام جامعة .وأنا ُ كنت طالب ًا في المدرسة، ،1985منذ ُ أناس قليلون يعلمون بهذا .أنا لم أكن طبيب ًا مدنياً» .الرئيس ليس مدني ًا إذًا، انتبهت والترز للمعنى بل عسكرّياً .ولو ْ لوفرت على الكامن في كالم الرئيسّ ، جهاد مقدسي اجتهاده في التدقيق اللغوي وتصحيح كالم الرئيس، ولعرفت من المسؤول عن القتل. قرر مقارعة المفارقة أن الرئيس الذي ّ التاريخ وقسره على تدوين لغو الكالم (سورية بخير ،سورية اهلل حاميها.. الخ) ،من خالل تدريبه على قراءة ٍ بعبارات مماثلة ،لم اليافطات الزاخرة يستطع أن يحافظ على سياق كالمه في مدة زمنية قصيرة كهذه المقابلة الصحافية. ومقابل هذا اللغو ،تبرز بالغة الشعب من خالل الشعارات البسيطة المتناغمة مع الموسيقى الشعبية، الشعارات التي تنبثق من الوجدان الجماعي « :ما في لألبد ،ما في لألبد.. عاشت سورية ويسقط األسد» .فالبالغة ليست في انتقاء لفظ ،وال في تخّير الكلمات المناسبة ،البالغة تكون في انسجام المعاني مع سياقها ،وفي انسجام المعاني مع صورة قائليها ،كي تؤدي اللغة وظيفتها في التعبير عنهم، ّ شيء يلمع وعميق. إنساني هو ا وعم ٌ ّ كنهه إال تحت الشعار البسيط ،ال يدرك َ الذكي الذي يصغي إلى وجدان الشعوب، ّ ّ إلهام ما ،فيقتبس من الناس، ويحف به ٌ ويشكل من كلماتهم ما سيجعله روائي ًا ّ ً ً ألن صيد األدب متمّيزا أو شاعرا عظيماًّ . الرفيع يكون وفيرًا حين ينتبه األديب لب البالغة. إلى الوجدان الجماعي ّ : أما التاريخ ،فيسخر من لغو الكالم، ويدون البليغ منه ،وال مفاجأة في أن ّ يقتبس من الوجدان الجماعي « :ال أحد إلى األبد». 83
جمهوريّة «اهلل غالب» �سعيد خطيبي
84
تقول النكتة إن مواطن ًا بسيط ًا سأل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بوما« :سيدي الرئيس ،إن علم العراق السعودية يحمل عبارة اهلل أكبر وعلم ّ يحمل الش���هادتين ،فم���اذا نكتب نحن عل���ى علم الجزائر؟» .ل���م يجد الرئيس ف���رد مس���تغرباً« :ه���ل لديك جواب���اً، ّ اقتراح؟» .أجاب���ه المواطن«:نعم!نكتب علي���ه عبارة اهلل غال���ب!» .فهذا أصدق تعبي���ر ع���ن الحال���ة الجزائرية حيث يتعمق الشرخ ،سنة بعد األخرى ،بين ّ ضيق أفق الطبق���ة الحاكمة من جهة، واتس���اع تطلعات الطبقات الش���عبية م���ن جهة أخرى .فالواقع ال يس���تجيب مخيلة الش���عب، للوع���ود التي أنهكت ّ وخطابات الرئي���س بوتفليقة صارت غير مقنعة .كما أن منهج اإلصالحات ال بات غير فعال.. التي تغنى بها طوي ً بعد مرور أكثر من اثنتي عش���رة سنة على توليه زمام الحكم ،صارت كلمات الرئي���س بوتفليقة تتيه بحث ًا عن آذان صاغية.
صعوبة الّتحكم ف���ي اللغة العربية وتفرن���س لس���ان كثير من الساس���ة، وكب���ار المس���ؤولين الس���اميين ف���ي طوي�ل�ا مواضيع نكت الدولة ،ش���كال ً يتبادله���ا الجزائري���ون في م���ا بينهم. يتذكر الكثي���رون أخطاء وزير التربية الوطنية أبو بكر بن بوزيد ،الذي يشغل المنصب نفسه منذ حوالي الست عشرة س���نة ،ركاكة وزيرة الثقافة الحالية، وس���قطات وزي���ر الداخلية األس���بق نورالدين يزيد زرهوني .اليوم ،صارت ب�ل�اد المليون ونصف المليون ش���هيد ال تش���تكي فقط مكابدات لغ���ة الضاد على لس���ان بعض الوزراء ،بل تنعي حالها أم���ام تمادي قاضي البالد األول ورئيس الجمهورية الحالي ،الذي نال حظوة إتقان العربية ،في اإلسراف في توظيف المحسنات البديعية ،وإغراق مسامع المواطنين في خطابات تستمد مادتها م���ن لغة الحماس���ة المجانية، المستوردة من قرون العرب الخالية.
أحالمنا وآمالن���ا» فهو يدرك جيدًا أنها عب���ارة وقع���ت س���هوا ف���ي الخطاب. الشباب الجزائري لن يلتفت لقوله ألنه تعب من الكلمات الجوفاء .فالسياس���ة التي يقودها فخامة الرئيس اصطدمت بإقبال الشباب على الهرب من البلد مهما كان الثمن .ففي مرحلته ،عرفت نسبة الهجرة غير الش���رعية صوب شواطئ إيطاليا وإس���بانيا ،وأرقام الش���باب الذي يم���وت في عرض البحر ،ارتفاع ًا محسوس���اً .وفي مرحلته الرئاس���ية أيض��� ًا ص���ار الش���باب يت���داول أمثا ًال مؤلم���ة من قبيل« :روم���ا وال أنتوما!» أو «يأكلون���ي الح���وت وماياكولنيش الدود!» .كلمات الرئيس ،التي تفيض حماس���ة ،والمس���تمدة في ج���زء منها من قاموس خطابات الرئيس األس���بق ه���واري بومدي���ن (،)1978 - 1932 وحقب���ة الحل���م االش���تراكي عش���رية الس���بعينيات ،لم يعد لها من الجمهور ومن المصفقين سوى القليل.
«لغة الخشب لن تساعد على اندمال الج���رح» يق���ول الرئي���س الفرنس���ي األس���بق فاليري جيس���كار .لكنها في تحول���ت ،م���ع الوق���ت ،إلى الجزائ���ر ّ مض���اد حي���وي للغلي���ان االجتماعي، وصارت تزاحم اللّغتي���ن الوطنيتين: العربي���ة واألمازيغي���ة .من���ذ ،1999 صار الجزائري يفقه مفردات «اإلنشاء» ومس���احات «اللع���ب بالكلم���ات» في خطابات بوتفليقة .فلما يشبه الرئيس نفس���ه بالفيلس���وف فولتير (- 1694 )1778ويقول في واحد من خطاباته: «ربما ال أتفق معك ،لكنني س���أدافع، حت���ى آخ���ر قط���رة م���ن دم���ي ،على حريتك في التعبير» فهو يقصد ضمني ًا حرية تعبير وس���ائل اإلعالم الرسمية والجه���ات الحكومي���ة .فالجزائ���ر تعد واح���دًا من آخر البل���دان العربية حيث يمنع فيها إنشاء تليفزيونات وإذاعات مس���تقلة .كما أن الصحاف���ة المكتوبة فيها تعيش «كبت���اً» وتضييق ًا ورقابة. قائ�ل�ا بصوت ولم���ا يخاطب الش���باب ً عال« :يا شباب الجزائر أنتم مستودع
لم���ا دخ���ل بوتفليق���ة معت���رك االنتخاب���ات الرئاس���ية( )1999وع���د الجزائريي���ن باس���تتباب األم���ن ،وما يزال ،لغاية اليوم ،الوضع غير مستقر تمام���اً ،خصوص ًا ف���ي الصحراء وفي منطقة القبائل .كما وعد أيض ًا بتحسين الوضع االقتصادي للبلد ورفع القدرة
صعوبة التّحكم في اللغة العربية وتفرنس لسان كثير من الساسة، وكبار المسؤولين الساميين في الدولة ،شكال طوي ً ال مواضيع نكت يتبادلها الجزائريون في ما بينهم
الش���رائية للفرد ،فانخفض���ت ،بقدرة ق���ادر ،وف���ي وقت قياس���ي ،أس���عار الموز ،على كامل ت���راب الجمهورية، م���ن 800دج( 10دوالر) إلى 80دج، وص���ار الموز متوافرًا عل���ى موائد كل البيوت ،بالموازاة مع تسجيل ارتفاع مضطرب في أسعار المواد االستهالكية األساس���ية ،وفي مس���تويات البطالة والفق���ر .م���ع ذل���ك فق���د ظ���ل فخامة الرئي���س يردد« :الجزائر وما أدراك ما الجزائر». الرئيس بومدين ،الذي يس���تمد منه بوتفليقة كريزما وحضورًا سياس���ياً، صرح في خطاب ل���ه« :من القيم التي ضاع���ت بعد االس���تقالل ه���ي تغليب مصلحة الفرد على مصلحة الش���عب». في إش���ارة من���ه إلى بدايات انتش���ار الفساد في البلد .وهي وضعية عجزت أجه���زة الدول���ة ف���ي صده���ا .وصار الرئيس يتفادى الحديث عنها .فالفساد والرش���وة هما ش���عاران رسميان في يومي���ات الجزائر .وبغية تناس���يهما يخاطب بوتفليقة الش���عب قائال« :أنتم من أكثر الشعوب شجاعة» .ماذا تفعل الش���جاعة في غياب التس���يير الراشد واختالل موازين العدالة االجتماعية؟ ف���ي خطاب���ه األخي���ر( 15إبريل/ نيس���ان )2011ظهر الرئيس بوتفليقة بمالم���ح متعب���ة .حي���ث دارت ،ف���ي األس���ابيع األخيرة ،ش���ائعات كثيرة عن حالته الصحي���ة .الربيع العربي، ثورت���ا الجارتي���ن تون���س وليبي���ا، والحركة االحتجاجية في المغرب ألقت وما تزال تلقي بظالله���ا على الوضع في الداخل ،فبعدما اس���تنفد الرئيس، طيلة العش���رية الماضي���ة ،جزءًا مهم ًا م���ن قاموس اإلنش���اء والحماس���ة في الخطاب���ات السياس���ية العربي���ة ،ما يزال جزائريون كثر ينتظرون خرجته الجديدة ،وكلمت���ه المقبلة ،ليخاطبهم على طريقة الرئيس التونسي األسبق زين العادين ب���ن علي ويقول مودعاً: «لقد فهمتكم!».
85
هذا ليس إنشاء
جهاد بزي -لبنان
إنشاء ،هذا الذي يدلي به ليس ً الساسة اللبنانيون كل يوم. اإلنشاء المدرسي هو أول أشكال تعبيرنا عن أفكارنا ،بطريقة منظمة، بمقدمة وصلب موضوع وخاتمة ،إذا اعتمدت التسميات التي تعلمتها في ُ مدرستي ،والتي قد تختلف من مدرسة إلى أخرى ،ومن بلد عربي إلى آخر. الخلل يبدأ من هنا .من اتهام كل كتابة أو كالم ،بال طائل ،بأنهما مجرد «إنشاء» ،وهو النوع الكتابي األول واألحلى والمظلوم دائم ًا إذ يرمى به كل ما هو لغو. واللغو ،تحديدًا ،هو ما يمكن أن نصف به نشاط السياسيين اللبنانيين اليومي .عند كل غروب لشمس بيروت، يمكن تجميع تصريحات هؤالء التي قالوها ،أو أصدروها في بيانات أو قذفونا بها من فوق المنابر ،ويمكن، تالي ًا ملء كتاب ضخم من عشرات آالف الكلمات التي ،ببساطة ،ال تقول شيئاً. هذه حالنا مع معظم السياسيين اللبنانيين ،بغض النظر عن الطرف الذي ينتمون إليه ،في البلد لم يطور مفاهيم حقيقية للديموقراطية وللحرية، وللحياة السياسية نفسها.
86
ثمة قاموس ضيق حد االختناق، من كلمات وجمل محددة ،يظن قائلوها أنه يمكنهم صوغ أية فكرة من خالل التشكيالت في تركيبها. ليست «المؤامرة» و«المخطط» و«تفتيت المنطقة» و«العميل» ،من األلفاظ التي بطلت موضتها بالطبع .هي ما زالت مستخدمة بنجاح منقطع النظير ،يضاف إليها تعابير استهلكت بسرعة خيالية نتيجة الكثرة المرعبة في االستخدام، أشهرها« :الفوضى الخلاّ قة» ،و«الشرق األوسط الجديد» ،إضافة بالطبع إلى ذاك التعبير الذي بات ُي ّ دق في أي سياق
إذا مـا وجــه لهـم الســؤال عن القراءة ال يستحون من التفاخر بأن «السياسة تأخذ كل وقتهم»
وأي عبارة للداللة على حداثة المتحدث: «العالم بات قرية كونية صغيرة». إنشاء ،بل هو أشبه بتسجيل ليس ً ينطلق عند الضغط على الزر الخفي في طبقة سياسية هي في معظمها من الدمى التي تدار من بضعة نافذين حقيقيين، من الزعماء أنفسهم ،إلى القريبين منهم ،المستشارين األذكياء فعالً، الذين يتفرجون على اللعبة السياسية من زاوية أكثر اتساعاً ،ويجيدون ،بل ويستمتعون باللعب بها. هذه القلّة هي التي تحكي بالسياسة المجردة من كل ما تردده الدمى على ّ مسامعنا .السياسة المصفاة من كل شائبة تتعلق باألخالق وبالمبادئ وبالوطنية وبالحرية وبالديموقراطية، وبالمصلحة العامة ،وبكل ما إلى هنالك مما نسميه اصطالح ًا «اإلنشاء» ،وهو يفرغه مرددوه من كل ما األصل الذي ّ يحيل إليه ،فيصير كالم ًا أجوف .وهذه القلة نفسها تحكي بلغتين :واحدة داخلية صريحة ،وأخرى للعامة ،ال تختلف في مضمونها ،وفي شكلها، عما تقوله البقية ،بل إن الصفوف الثانية وما بعدها تحفظ غيب ًا خطاب الصف األول ،لتوزعه نفسه في كل االتجاهات. والغالبية ،إذ تردد بال كلل السطور نفسها ،يوم ًا بعد يوم ،وعلى مدار السنة ،فألنها عاجزة عن الخروج عن هذا النص البليد الذي ال فكرة تلمع فيه ،وال موسيقى ،وال أدب ،وال شعر بالطبع (على عكس ما تتهم به الكثير من الخطابات) وال جملة يمكن اقتطاعها واالحتفاظ بها لنسبها الحق ًا إلى صاحبها. واألرجح أنهم يعرفون ماذا يقولون. لكن عبورهم إلى لغة جديدة يشبه عبور من ال يجيد السباحة من البر إلى المياه .خروجهم عن هذا النص المبسط التسطيحي الخصم فيه هو الشيطان ،سيرميهم في محيط يعرفون سلف ًا أنهم سيغرقون فيه .كما أنهم ال يثقون بجمهورهم ،ويظنونه أقل ذكاء متدن منهم على أقل تقدير ،وهذا سقف ٍ
بشدة ،يمنعهم عن أي اجتهاد. هم أص ً اء .القراءات قر ً ال ليسوا ّ الجدية ليست هواية السياسيين .ونادرًا ما تجد واحدًا يمكنه أن يعرف أسماء روائيين عالميين وعلماء اجتماع دفعة واحدة .هذا شبه مستحيل .ال يقرأون. وإذا ما ووجهوا بمثل هذا السؤال (عن القراءة) ال يستحون من التفاخر بأن «السياسة تأخذ كل وقتهم» ،وهذه أيض ًا من العبارات التي ال يمكن تفسيرها بأي حال من األحوال .فما المعنى الفعلي لمثل هذا القول؟ ،وأي مدعاة للفخر بأن نائب ًا في البرلمان ال يجد وقت ًا ليقرأ أو ليستمع إلى الموسيقى أو حتى ليتأمل قي شجرة أو في عصفور ،بينما يجد كل الوقت ليرصف كل هذا الحشو، مستعين ًا بنفسه ،أو أنكى ،بكتبة يظنهم موهوبين ،وهم على األرجح أقل منه موهبة ،في السياسة وفي الكتابة معاً. قيل «إن فاقد الشيء ال يعطيه». و«الثبات على الموقف» ،هو موقف يقع في أعلى مرتبة للفخر بالنفس عند السياسيين اللبنانيين ،مع أنه أسهل مالذ كي ال يشغل الواحد منهم باله، وهو موقف ليس من النباهة بشيء.
بالثبات ،ال يدور الكوكب حقاً ،وال تتغير سياسيات الدول وال تتبدل ،وال يتقدم العالم ،وال تتطور المفاهيم ،وتظل السنة كما هي ،فص ً ال واحدًا مستمرًا وأبدي ًا من ترداد منظومة العبارات التي ُي ّ دك بها المواطن دكاً ،حيث الغرب هو الشر المطلق ،وحيث المؤامرة ناجزة، وحيث أيضاً ،وهنا تقع المفارقة العظمى ،االنتصار البد سيتحقق ،وأن على «سايكس بيكو الجديد» ،اآلتي مع الثورات العربية ،ال أحد يعرف كيف، أو على «الفوضى الخلاّ قة» التي ال شك سترتد على مطلقها مضاعفة ..أو على «المؤامرة» التي بات ينبغي ،كلما ُذكرت ،إرفاقها بصوت «بوووو» من ذاك الذي يخيف األطفال ،أو بموسيقى تصويرية من تلك المبتذلة التي تحاول تضخيم عنصري اإلثارة والغموض، في مشهد ال غموض فيه وال إثارة. وبالثبات على األفكار وعلى الموقف وعلى الكلمات نفسها ،نظل ندور في حلقة ال نهائية من المؤامرة المستمرة التي يقضي عليها االنتصار المستمر، وهي حلقة لن تسبب ،لمن يؤمن بها ويتابع تفاصيلها المستديرة هذه ،إال
غثيان ًا إن كان ال يحسد عليه ،فهو بغنى عنه. أما التحديات الحقيقية فأكثر تعقيداً من أن يخوض فيها مستسهلو الكالم هؤالء ،بل على العكس ،يحاولون ما أمكنوا ،طمسها .وهم ،لألسف، ينجحون في مسعاهم ،ألن الكثرة الرديئة تطمس في الغالب الندرة الجيدة. هم ال يملّون طبعاً .وهم ال يخرجون عن النص ،ليس تهذيباً ،بل جبناً ..وإن خرجوا ،فإلى التشاتم والعراك باأليدي، السياسيْين التليفزيوني ما وحادث َّ زال طازجاً ،لم يمل اللبنانيون بعد من التندر بمشاهده المضحكة. وألنهم كثر ،ال قدرة للبنانيين على متابعتهم جميعاً ،يومياً ،ألنهم يحتاجون إلى عدد أكبر من ساعات اليوم .السياسيون يعلمون هذا ،لكنهم على األرجح يلعبون دورًا جماعياً. دعونا ننظر إلى هذه الفكرة على هذا النحو: المطلوب منا ،في موضوع اإلنشاء، وصف شجرة .سنكتب عن شجرة كبيرة جذعها عظيم أغصانها ممتدة إلى السماء وأوراقها خضراء .وهي مألى بالعصافير التي ال تكف عن الزقزقة طوال الوقت ،بحيث أننا ال يمكن إال أن نسمع زقزقتها الرائعة طوال النهار، فإذا سكت عصفور ،لم نلحظ ذلك. وألن التشبيه في اإلنشاء مطلوب، فنحن نقصد بالشجرة وسائل اإلعالم على تنوعها ،وبالعصافير ،ساستنا الذين دورهم الجماعي هو أال يتوفقوا عن الزقزقة كي نظل نتعرض لكالمهم كيفما التفتنا ،وهكذا ،نظل محاصرين أبدًا بتجويف كل معنى وكل مفهوم، وكل فكرة ولون.. لكن علينا ،قبل أن ننهي موضوع اإلنشاء هذا ،أن ننتبه إلى أن تشبيه السياسيين بالعصافير ،ظالم بحق العصافير ،كما نظلم الزقزقة إذ نشبه كالم السياسيين بها .وهذا ليس إنشاء بالطبع ،أو ربما هو كذلك .إنشاء ،وله معنى ،وفي محله المناسب تماماً. 87
مناورات خطاب الثورة المضادة في مصر غايتها خلق وعي زائف، يشوه خبرة الشعوب بماضيها ،ويشوش إدراكها لحاضرها ،ويشل إرادة حلمها بمستقبل أفضل.
أعطوني شاشة ومنصة إلقاء د .عماد عبد اللطيف -م�صر يقول المناضل :أعطوني ميدان ًا فسيحاً ،وبضعة آالف من المحتجين الحالمين ،ووعي ًا نقدياًُ ،أ ِ عطكم ثورة. يقول الحاكم :أعدوا شاشة تلفازي، ومعسول كلماتي ،ومنصة إلقاء الخطب، فها أنا ذا قادم ألغرس في قلوب شعبي الوهن. أدخنة الكلمات والقنابل عام يوشك أن ينصرم منذ فاض ٌ الشباب في الشوارع ،يشكلون بكلماتهم خارطة عالم جديد .وبعد أن فرغت خزائن نظام مبارك من قنابل الدخان منتهية الصالحية ،جاء دور الحرب البالغية بين نظام القمع والثوار .في ساحة تلك الحرب تبادل الطرفان الضربات ،فيما يشبه لعبة تنس طاولة ،كرتها الكالم. فالجماهير المحتجة تطلق مظاهراتها وهتافاتها والفتاتها وشعاراتها وأيقوناتها وصورها في مواجهة النظام القائم ،الذي يرد بخطبة رئاسيةُ ،تذاع في منتصف الليل ،على وقع أزيز الرصاص وهدير اإلشاعات ،وصوت الرعب المتفجر في شوارع وطرقات أصبحت ملك ًا لطوفان المجرمين ،في واحدة من أكبر عمليات غسيل المخ التي تعرض لها شعب بأسره في العالم الحديث.
88
رويدًا رويدًا تحررت نفوس المحتجين من الخوف ،وأجسادهم من الخور، وعقولهم من الشلل ،وردوًا بمزيد من التظاهرات واالعتصامات وبخطاب ثوري ،ال يقبل أنصاف الحلول .فعاود الكرة بخطبة أشد خبث ًا تناور مبارك َّ بسحر معسول الكالم ،وقناع األبوة المستعطفة ،ومدائح الذات .وما إن الخَدر على كالم البشر، ظهرت أمارات َ ونادى البعض بمنح الرئيس-األب تقاعدًا مشرفاً ،حتى برزت المخالب من تحت القناع ،فانزوت البالغة واحتلت وأخفاف الجمال. حوافر الخيل الميادين ُ ُ وإذ يصمد المتخندقون خلف أحالم الحرية أمام وحشية األب العطوف، خطابهم عامرًا بالتنكيت والفكاهة يصبح ُ والمفارقة .فتحاول الخطبة الرئاسية الثالثة واألخيرة خوض معركة جديدة بمناورات قديمة ،فال تحصد سوى الغضب واالستفزاز .ثم ال شيء سوى السقوط. رعب المجهول الثورة رهان عنيف على المستقبل. وفي ساحة الحروب البالغية بين السلطة والقوى الثورية ،تتحول سيناريوهات المستقبل إلى آلة فتك
فعالة .فسيناريوهات المجهول والفوضى واالنزالق واالنتكاس كانت رأس حربة خطب مبارك في محاولة تفتيت إرادة التغيير ،خاصة في خطبة 28يناير. ْإذ كانت استراتيجية التخويف مما يحمله القادم المجهول ،الحجة اإلقناعية األساسية لوقف االحتجاجات .وكانت خطبه الثالث تقوم على ثنائية تقابلية ذات تنويعات مختلفةِّ ، يمثل المستقبل أبرز طرفيها ،هي ثنائية استمرار النظام القائم في مقابل التغيير الجذري .وإزاء كل طرف من طرفي الثنائية وضعت المتعارضة .وفي مجموعة من الصفات ِ رن ْت الخطب استمرار النظام حين َق َ بكلمات مثل االستقرار واألمن واإلنجاز والمكتسبات والحرية والبناء واإلصالح ومصالح الوطن ،قرنت التغيير بكلمات مثل الفوضى والمجهول والخوف والقلق واالنتكاس واالنزعاج والهواجس والخراب والهدم والعنف واألجندات الخاصة .والهدف بالطبع كان خلق هبة التغيير، ارتباطات نفسية سلبية مع َّ وخلق ارتباطات نفسية إيجابية مع استمرار النظام. وألن اللغة ال تعمل في فراغ فقد عزز الخطاب الرسمي -الذي ظل تحت هيمنة السلطة الحاكمة ممثلة في المجلس العسكري -من الدالالت السلبية للثورة، بواسطة ربط مفردات التغيير الجذري بظواهر االنفالت األمني وانتشار البلطجة وغياب القانون وارتفاع األسعار وضعف األداء االقتصادي من ناحية ،وسيناريوهات المستقبل المظلم الذي تنهار فيه الدولة من ناحية أخرى. وعلى الرغم من إدراك قطاع عريض من المصريين بأنهم إزاء خطاب ترهيب لغوي هدفه شل قدرتهم على الفعل ،وأن هذا الخطاب الترهيبي يسانده بشكل مقصود الرعب المادي المنجز بواسطة االنفالت األمني وانتشار البلطجة ،فإن هذا لم يحل دون وصول غالبية المصريين إلى ُ حد التشبع من المعارضة واالحتجاج. وهو نجاح هائل كان له تأثير حاسم في تقييد مدى وعمق انتشار الموجة الثانية من موجات الثورة المصرية.
القلة المندسة لقد كان تشويه صورة المحتجين والتشكيك في دوافعهم وأخالقهم ووطنيتهم ،المناورة الخطابية األبرز استخدمت لوقف زحف الثورة في التي ُ موجتها األولى .وقد استمر استخدام هذه المناورة في الفترة الفاصلة بين الموجتين بذكاء وفاعلية أكبر .فقد تم تفتيت القوى التي قامت بالثورة ،ثم وجهت سهام اإلشاعات المسمومة إلى ِّ الجماعات األكثر راديكالية وتأثيرًا. ولعب المجلس العسكري الدور األبرز في تشويه الثوار ،بواسطة بياناته وتصريحاته التي اتهم فيها قوى سياسية بعينها بالحصول على تمويل أجنبي للقيام بأنشطتها ،مثل حركة 6 إبريل .وحين أثبتت التحقيقات كذب هذه االدعاءات ،كان صمت المجلس العسكري امتدادًا للتشويه المتعمد لقوى الثورة المصرية. في مقابل تشويه الثوار كانت بيانات المجلس العسكري وتصريحات أعضائه وخطبهم ولقاءاتهم التليفزيونية تعزف ببراعة قصيدة مدح في «المواطنين الشرفاء» .هؤالء المواطنون ِ وسموًا في خطاب المجلس العسكري بأنهم ال
يحتجون ،وال يتظاهرون ،ويثقون ثقة عمياء في المجلس األعلى ،ويسلمون له مقاليد أمورهم دون مساءلة أو اعتراض. وهكذا فإن كل من تجرأ على التساؤل أو النقد أو االعتراضُ ،طرد من دائرة «المواطنين الشرفاء» ،ووصم بأنه من غرضة التي ال تبغي االستقرار الم ِ «القلة» ُ للبالد. الصقور والحمائم توزيع األدوار تقنية شائعة في الخطاب السياسي .فعادة ما يقوم أشخاص متعددون -يمثلون وجوه ًا مختلفة لنظام ما -بإنتاج خطابات متفاوتة ،وأحيان ًا متباينة إلى حد التناقض .ويشيع استخدام عبارة «الصقور والحمائم» لإلشارة إلى االختالف الذي قد يوجد في مثل هذه الخطابات ،لكنه ال يعكس تباين ًا حقيقي ًا في المواقف والسياسات ،بل يعبر بدرجة أكبر عن توزيع لألدوار بين أشخاص يقدم كل منهم عزف ًا لغوي ًا خاصاً ،في إطار أوركسترا خطاب واحد. استخدمت هذه التقنية ببراعة فيما ُ بين موجتي الثورة المصرية .ففي حين كان ُيعلن المجلس العسكري التزامه بتنفيذ مطالب الثورة المصرية ،وحرصه
على تحقيقها ،تم توظيف الجيش اإلعالمي لنظام مبارك -ممث ً ال في كتائب من الصحافيين والكتّاب ومقدمي البرامج اإلذاعية والتليفزيونية -ليقوم بدور مهاجمة خطاب الثوار ،ونقده، وتشويهه ،إضافة إلى خلق أسطورة أن المجلس هو «العمود الوحيد الذي تستند إليه الدولة المصرية» ،وأن أي نقد لقراراته أو اختياراته ،يعني انهيار الدولة .وهي أسطورة ُأضفيت عليها قداسة هائلة ،ساهمت في رواجها الشديد ،إلى حد انتقال القداسة من المجلس بوصفه كيان ًا سياسي ًا ذا صالحيات مؤقتة ،إلى أعضائه أنفسهم بوصفهم أفرادًا ،فيما يشبه إعادة خلق عما ألسطورة الحاكم اإلله الذي ال ُيسأل َّ يفعل. بين الحين واآلخر كان خطاب المجلس العسكري ُيساند هذه الكتيبة في مهمتها الخاصة بتشويه الثورة. وفي الموجة الثانية من الثورة المصرية تبنى خطاب المجلس العسكري مناورات مشابهة لتلك التي استخدمها مبارك أثناء الموجة األولى ،مثل االعتماد على خطاب الترهيب من المستقبل، وإعادة تمثيل الماضي القريب ،بهدف تجسيد «إنجازات» المجلس العسكري، والخلط المقصود بين الفئة الحاكمة والدولة ،وهو ما ُأنجز عبر عمليتين األولى :اإليهام بالتطابق بين الجيش والمجلس العسكري ،والثانية :اإليهام بأن تفويض صالحيات المجلس لوزارة إنقاذ وطني يعني انهيار الدولة .وكال األمرين ينطوي على مغالطة حجاجية جلية. لقد أثبتت الشهور الماضية أن بالغة الثورة المضادة ،نجحت في إجهاض كثير من أحالم التغيير وطموحاته لدى المواطن المصري العادي .وإذا كان ثمة درس يمكن أن نتعلمه من هذه الخسارة الكبيرة فهي أن نجاح الثورة ال ُيقاس بتغيير شخصيات النظام ،وإنما بالقدرة على تغيير وعي الجماهير ،ليصبح أكثر نقدية وعقالنية .فدون هذا الوعي سيأتي إثر كل قيصر مخلوع ،قيصر جديد. 89
في النظم المس����تبدة تتحول اللغة إلى أداة سيطرة على الشعوب، ول����م يكن مب����ارك اس����تثناء ،فعلى م����دى ثالثة عقود تك����ون معجمه الدعائ����ي ،ردد مصطلحات����ه وخلفه آلة نظام����ه الدعائية في محطات وصحف الحكومة.
«األخ الكبير»
يفقد قاموسه السحري حممد فتحي يون�س
ف���ي رواية ج���ورج أورويل ،1984 تنتشر ش���عارات صادمة« ،الحرب هي الس�ل�ام»« ،الحري���ة ه���ي العبودي���ة»، «الجه���ل ه���و القوة» ،وف���ي مصر حول مب���ارك المصطلح���ات ع���ن مس���ارها، توزعت الكلم���ات الس���حرية على فئات متنوعة ،كان هدفها جر الشعب بسلسلة االستبداد.
اإلصالح االقتصادي
يقول الباحث المصري سامر سليمان في أطروحت���ه للدكت���وراه إن مصطلح اإلص�ل�اح االقتص���ادي اتخ���ذ معان���ي متباين���ة في خطاب مبارك وس���لطته، فف���ي بداية عهده تنامت م���وارد الدولة، بفعل رواف���د عديدة بينها ارتفاع س���عر البترول ومس���اعدات ال���دول الصناعية، وقن���اة الس���ويس ،وهن���ا اتخ���ذ معنى اإلص�ل�اح االقتص���ادي ش���كل التخطيط المركزي وتنام���ى دور الدولة ،لكن في فترات أخرى مع تناق���ص موارد الدولة الريعي���ة ،ووصول االقتص���اد المصري إلى حاف���ة اإلفالس عام ،1990كان مصطلح اإلصالح االقتصادي يعني تنفيذ توصيات المؤسس���ات الدولية خاصة البنك الدولي. وتن���وع اس���تخدام مب���ارك للمصطل���ح الس���ابق ،لك���ن كان غرض���ه الدعائي غالب ًا مطالب���ة مواطني���ه بالصب���ر وتحمل الظروف المعيش���ية الصعبة ألن الرخاء قادم ،وهو ما يتماس مع أسلوب دعائي شائع هو «األمل في المستقبل».
الصدمة الكهربائية
وه���و يرتب���ط بطريق���ة اإلص�ل�اح االقتصادي ،فمبارك كرر دائم ًا أنه يرفض اإلص�ل�اح المتعجل أو الع�ل�اج بالصدمة الكهربائي���ة ،فيما يس���عى إلى اإلصالح التدريج���ي ،وهو ما يس���اعد على إطالة أم���د س���لطته لينتظر المصري���ون نتاج م���ا يقول إنه إصالحات س���تعود عليهم 90
بالنفع مستقبالً ،وال داعي للحكم اآلن، فيقول الرئيس في مناسبات مختلفة: «الب���د أن نمش���ي به���دوء ونعال���ج مش���اكلنا االقتصادية علش���ان الغالبية والسواد األعظم من هذا الشعب يعيش.. يجد المسكن ..يجد المأكل ..مش حاييجي أبدًا بالطف���رات والصدم���ات الكهربائية إطالقاً.كل واحد يشيلها من مخه».
عنق الزجاجة
واستخدم لإلشارة إلى قرب الخروج م���ن مرحلة التقش���ف وتحمل س���لبيات اإلصالح االقتصادي إل���ى عصر الرخاء المنتظ���ر ،وتس���بب تك���رار المصطل���ح ف���ي نوبات متتالي���ة من الس���خرية من قبل الش���عب المصري المش���هور بحسه الفكاهي ،ترجمت هذه السخرية في شكل نكات أو رس���وم كاريكاتيري���ة ترى أن المصريين محبوس���ون في أكبر زجاجة في التاريخ.
محدودو الدخل
كان مب���ارك يكرر دائم��� ًا أنه نصير الفقراء ،وتراعي إصالحاته االقتصادية ظروفه���م المعيش���ية الصعب���ة ،حتى ال يض���اروا وتصع���ب حياته���م ،ومن هنا تتس���م اإلصالحات االقتصادية بالتدرج والبطء ،ويعد الفقراء بتحس���ن أحوالهم مستقبالً ،فيقول مثالً: كان هدفن���ا وس���وف يظ���ل إيالءاألولوية لألبع���اد االجتماعية لإلصالح والتنمية ودرء انعكاس���اتها عن الفقراء ومحدودي الدخل.
الدعم
وارتب���ط مصطل���ح الدع���م بتعبي���ر مح���دودي الدخ���ل ،ويعن���ي تخصيص جزء م���ن موازنة الدول���ة لعرض بعض السلع األساس���ية بأس���عار يقدر عليها الفق���راء ،واس���تخدم نظام مب���ارك هذا المصطلح بأربع ص���ور ،األولى عندما يظهر للمراقبين أن نظامه يراعي الفقراء ولذل���ك يخصص ج���زءًا م���ن الميزانية لتيسير الحياة عليهم ،والثانية باعتبار الدعم يلتهم ج���زءًا كبيرًا م���ن الميزانية
ومن هنا فالبد من تنظيم النس���ل وتقليل عدد الس���كان حتى ال يزي���د الدعم ويزيد عج���ز الموازن���ة ،ومرة ثالثة كوس���يلة تهدئ���ة عق���ب األزم���ات وظه���ور بوادر االحتق���ان ،فتخرج تصريح���ات بأنه ال مس���اس بالدعم ،ومرة أخي���رة باعتبار الدعم يشكل عبئ ًا على الموازنة ويستفيد منه األغنياء والفقراء مع ًا ومن هنا فالبد من تنظيمه حتى يستفيد الفقراء فقط.
المشكلة السكانية
استخدم مبارك هذا المصطلح بشكل كبير خ�ل�ال الثمانينيات والتس���عينيات بينما تراجع استخدامه في العقد األخير لصال���ح مصطلح���ات أخ���رى ،ووظف خالل الفترة األولى من حكمه في تبرير صعوب���ة األوض���اع االقتصادي���ة وعدم كفاية الموارد لس���د احتياجات السكان، ووقف النمو الس���كاني كعقبة رئيس���ية أم���ام جهود التنمية ،وتش���كل عبئ ًا أمام القطاعات الخدمية في الدولة.
البنية التحتية
تكرر هذا المصطلح في خطاب سلطة مبارك ،وتنوعت أغراض استخدامه إما لبن���اء ص���ورة ذهنية عن إنج���ازات تم تدش���ينها ،خاصة مشروعات اقتصادية كبرى عل���ى غرار ما بناه ناصر كالس���د العالي أو بناء المصانع المملوكة للدولة في مناطق مختلفة ،كما فشلت المحاوالت الش���بيهة كاس���تزراع أراض صحراوية في جنوب مصر بمنطقة توش���كى ،رغم الهالة اإلعالمية الت���ي صاحبت اإلعالن عن بدء هذه المشروعات. وحرص مب���ارك ورؤس���اء وزرائه خالل فت���رة عهده عل���ى التصوير أعلى الكباري العلوية ومواسير المياه ونشر الصور في الصحف ،للداللة على البناء. وم���ن أمثل���ة اس���تخدام مب���ارك للمصطلح: «حج���م الدي���ون الت���ي أس���قطتتتساوى في قيمتها وحجم االستثمارات التي اس���تخدمتها مصر في إع���ادة بناء البنية األساسية خالل الخطتين األولى والثانية».
الشفافية
أص���ر الخط���اب الرس���مي عل���ى أن الس���لطة تم���ارس أعمالها وف���ق قواعد الشفافية ،لكن كان المراقبون يسخرون من ذلك ،ولهم مب���ررات كثيرة ،أبرزها الترتي���ب المتأخ���ر لمص���ر ف���ي إحصاء منظم���ة الش���فافية العالمي���ة ،وظه���ور ح���وادث وفضائح متفرقة تعزز فرضية عدم اتباع الش���فافية في من���اح كثيرة، منها قضاي���ا تخصيص أراض���ي الدولة ألصح���اب نف���وذ باألم���ر المباش���ر من الس���لطات ،واقتصار وظائف الس���لطة العليا على طبقة أق���رب لألوليجاركية، بينها وبين النظام الحاكم روابط مصالح سياس���ية واقتصادية ،وتدخل األجهزة األمنية في تعيينات الوظائف الحكومية وترخيص الش���ركات ،وتك���دس ثروات المسؤولين والوزراء بشكل غير مشروع نتيجة االستفادة من موارد الدولة بشكل غير مشروع.
معركة الحرب والسالم
اعتب���رت س���لطة مب���ارك ماضي���ه العس���كري دعامة أساسية لشرعيته في الحك���م ،وبالمثل كان���ت تحديات مرحلة السالم مع إسرائيل بمثابة معركة أخرى تس���تحق االحتفاء واإلش���ادة خاضتها س���لطة مب���ارك للحفاظ على اس���تقرار مصر ،وهو مصطلح ممتد اس���تخدم مع الرئيس الس���ابق الس���ادات ،وتكرر مع مبارك واستخدمه خالل ثالثة عقود هي مدة حكمه ،وحتى الخطاب األخير ،قبيل تخليه عن منصبه ،عندما ذكر المصريون أنه حارب من أجل وطنه.
الضربة الجوية
كان مب���ارك ف���ي ح���رب أكتوب���ر/ تش���رين األول عام 1973التي خاضتها مصر مع إسرائيل قائدًا للقوات الجوية، وخالل مدة حكمه برز مصطلح الضربة الجوية األولى إل���ى الواجهة ،واعتبرت اآللة الدعائية لس���لطته أن دوره مفتاح الحسم في االنتصار المصري ،وتجاهلت األدوار األخرى للقادة اآلخرين ،وتعدى 91
المصطل���ح خصوصيته العس���كرية إلى آف���اق أخ���رى سياس���ية ،وم���ن أمثلة استخدامه: «أول ضرب���ة جوي���ة ..فتحت بابالحرية» (أغنية دعائية ش���هيرة تكررت للدعاية لمبارك طوال عهده).
الديموقراطية
تك���ررت كثي���رًا الديموقراطي���ة في خطاب السلطة الحاكمة في عهد مبارك، واس���تخدم المصطلح بشكل دعائي ،لم يعكس إيمان ًا حقيقي ًا للس���لطة الحاكمة بجوهره ،فلم تشهد مصر تداو ًال للسلطة ف���ي عص���ر مب���ارك ،وحكم مص���ر عبر برلم���ان ديكوري م���زور يش���هد أغلبية زائف���ة للح���زب الحاك���م ،بينم���ا عانت األحزاب م���ن التضييق عليه���ا بداية من الصدور مرورًا بتنظي���م المؤتمرات ،أو المش���اركة في الحكومة ،وكان استخدام الس���لطة لمصطل���ح الديموقراطية أقرب لما عرف بأس���لوب «التعميم البراق» في عالم الدعاية السياسية ،الذي يستخدمه الداعي���ة عبر حديثه المس���تمر عن القيم اإلنسانية الس���امية وضرورة صيانتها لكن���ه ال يمارس���ها وال يؤم���ن به���ا في الحقيقة.
االستقرار
كان استخدام سلطة مبارك للمصطلح مالئم ًا لفترة توليه الرئاس���ة في الفترة األولى للرئاسة التي بدأت في أكتوبر/ تشرين األول عام ،1981حيث تولى عقب مقتل س���لفه الرئيس الس���ادات ،وتوتر عالقة مصر بمحيطها العربي وقطع كثير من الدول العربية عالقتها الدبلوماس���ية بها ،إضافة إلى توت���ر الوضع الداخلي على خلفي���ة اعتقاالت نظمها الس���ادات ل���كل معارضيه تقريباً ،وظهور خطر ما عرف بالجماع���ات األصولية خاصة في صعيد مصر ،وتراجع األداء االقتصادي، في هذه األج���واء المتوترة كان مصطلح «االس���تقرار» مفتاح��� ًا س���حري ًا لمرحلة انتقالي���ة بقي���ادة مبارك ،لك���ن تحول االستقرار بمرور الس���نوات إلى جمود، وظل مبارك يس���تخدم المصطلح دعائي ًا 92
حتى ف���ي لحظاته األخي���رة ،وهو على وش���ك الس���قوط ،حيث خي���ر الثوار ما بين االس���تقرار أو الفوضى ،كما أرسل رسائل إلى المجتمع الدولي تفيد المعنى ذات���ه ،عندما ألمح أن بديل���ه القادم في الحكم هو جماعات راديكالية أصولية.
السيدة الفاضلة
طوال عهد الرئيس المصري األسبق جمال عب���د الناص���ر كان���ت زوجته بال صالحيات لكن ظهر الدور البارز لزوجة الرئيس في عهد الس���ادات ،في أنش���طة خيرية وفكرية ،ولقبها الخطاب الرسمي ف���ي البداية بلقب «مدام» ،ث���م تغير إلى «السيدة األولى». وفي عه���د مبارك واصل���ت زوجته س���وزان ثابت طريق جيهان الس���ادات، ثم تطور إلى اختيار «كوتة» من الوزراء يتبعون لها ،أصبحت تلقب بـ «الس���يدة الفاضل���ة» ،فالتص���ق لف���ظ «الفاضلة» باس���مها ،في كل المطبوعات الرس���مية في مصر تقريباً ،وفي كواليس الس���لطة والدوائر الحكومية عرفت بلقب «الهانم»، وه���و لقب مؤن���ث عثماني ي���وازي لقب باشا عند الرجل.
المحظورة
وظه���ر المصطل���ح لإلش���ارة إلى جماعة اإلخوان المس���لمين المعارضة
تكررت كثير ًا الديموقراطية في خطاب السلطة الحاكمة في عهد مبارك ،واستخدم المصطلح بشكل دعائي ،لم يعكس إيمان ًا حقيقي ًا بجوهره
لحكم مب���ارك ،ولجأت الس���لطات إلى اس���تخدام أس���لوب التس���مية الدعائي لتش���ويهها ل���دى ال���رأي الع���ام وقصر داللتها على كونها محظورة قانوناً.
مصر أو ًال
حل���م عبد الناص���ر بالوحدة ،وبعد هزيم���ة يونيو/حزي���ران 1967انهار المش���روع الناص���ري ،وبع���د مج���يء الس���ادات تبنى خطاب ًا آخر يركز على متجاه�ل�ا الع���رب، البع���د المص���ري، ً وس���اعد على ذلك موق���ف العرب منه سياس���ي ًا ومقاطعته عل���ى إثر معاهدة «كامب ديفيد» ،في عصر السادات ظهر مصطلح «مصر أوالً» ،ثم امتد مع مبارك وإن كان بش���كل أقل حدة لحرصه على عالق���ات مع الدول العربية والتنس���يق معه���ا ،والقيام بدور وس���يط الس�ل�ام بين اإلس���رائيليين والفلسطينيين لحل قضية الصراع العربي اإلسرائيلي ولم يمد قدمه لخطوة أبعد من ذلك. في تركي���زه على الش���أن المصري فق���ط وتجاهل الدع���وة إل���ى التغلغل في القضاي���ا العربية كان نظام مبارك يسخر من الدعوات ،ومن أمثلة ذلك: تهكمه عل���ى الرئي���س اليمني علي عبد اهلل صال���ح عندما قال إنه «لو كان يمتلك أرض ًا بجوار إسرائيل لحاربها» فق���ال مب���ارك متهكماً« :عل���ي عبد اهلل صالح قال أنا لو عندي حتة أرض جنب إسرائيل هحارب هقوله تعالى يا خويا س���أعطيك حتة األرض وهات الجيش بتاعك وحارب ورينا شطارتك». م���ع «األخ الكبي���ر» كان الجه���از الحكوم���ي يتك���ون من أرب���ع هيئات، واح���دة للحقيقة ل���م تنط���ق إال كذباً، وأخرى للس�ل�ام كانت مهمتها الحرب، وثالث���ة للوف���رة أش���اعت الفق���ر ف���ي أوقياني���ا ،بينما نش���رت وزارة الحب أكب���ر قدر م���ن البغض ،تخط���ى جهاز مبارك السلطوي هيئات رواية ،1984 كان أكث���ر عتادًا وع���دداً ،وربما قمعاً، لكن الثوار هدموه في 18يوماً.
فا�صلة
عبد السالم بنعبد العالي
بالغة االنتهازية الفكرية «لم ن���ر قط ث���ورة بمثل ذل���ك التأكد ،ومثل ذل���ك التوقع كالثورة الروس���ية :فال شيء كان بمقدوره أن يوقفها ،ال أكثر اإلصالحات عمقاً ،وال أنسنة النظام ،وال حسن النية ،وال أكبر التنازالت .لم يكن لها فضل في االنفجار ،مادام أنها كانت ،إن ص���ح القول ،قبل أن تظهر ،وأمكن وصفها في أدق تفاصيلها قبل أن تتجلى (لنذكر رواية الممسوسون)». شيوران
«لم يتنبأ كافكا بش���يء .وإنما رأى ما كان (متواري ًا هناك). لم يكن يعلم أن رؤيته كانت أيض ًا س���بق رؤية .لم يكن ينوي كشف القناع عن نظام اجتماعي .إنه أوضح اآلليات التي كان يعرفها بفضل ممارس���ة اإلنس���ان الحميمية واحتكاكه بالحياة االجتماعي���ة ف���ي أدق تفاصيلها ،من غي���ر أن يخطر بباله أن التط���ور الالح���ق للتاريخ س���يدفع به���ا إلى مقدمة مس���رحه الكبير». م .كونديرا ���رف المثق���ف ألوقات غي���ر قصيرة بأن���ه الواعي بحركة ُع ّ المتبين لدواليب األمور ،وأنه ضمير المستضعفين، التاريخ، ّ المدافع ع���ن المحرومين ،الناطق باس���م المقهوري���ن ،الناقد للس���لطات أنّى وأين اختفت وتقنّعت .فكأنم���ا ُنظر إليه دوم ًا (نبي على أنه (يس���اري بالطبع) ،وأنه ،مبدئي ًا عل���ى األقلّ ، والراعي كل الثورات) ،والممّهد لهاّ ، والس���اهر عل���ى قيامهاّ ، لمصيرها. أي ركون إلى (برج له غفر ي أال هذه، والحالة الطبيعي، من ّ ُ عاجي) أو غياب عن الس���احة ،وعدم (ن���زول إلى الميادين)، (كراسيها)». وباألحرى عناق السلطة واعتالء ّ ربما ألجل كل هذا ش���عر معظم المثقفين ،بعد حلول الربيع العرب���ي ،أن عليه���م أال يظلوا بمعزل عما يج���ري ،وحتى إن تبين كان بعضه���م قد أحس بأنه «أخذ على حين غفلة» إال أنه ّ أن علي���ه ،على األقل ،أن يحاول اللح���اق بما حدث ،وتدارك األمور .لذا سرعان ما وجد نفسه منساق ًا نحو متابعة األحداث وتعليلها ورس���م آفاقها .بل هناك من «انقض» على «الربيع» ليوظفه ش���تى أشكال التوظيف .وقد رأينا من الكّتاب من أخذ التغي���رات التي ينبغي أن تلح���ق الكتابة بداللة يتس���اءل عن ّ
تح���والت وانتفاضات ،ل���ذا مضى يعّد ما تعرفه الس���احة من ّ «وصفات» الكتابة المستقبلية ،وما ينبغي أن تكون عليه «بعد الثورة». وعلى رغم ذلك ،فلم يس���مح «الربيع» له���ؤالء باجترار ما ويرددونه من كانوا فيما قبل يْدع���ون إليه من أيديولوجياتّ ، شعارات .إذ إن ما شكل أهم مستجداته هو ربما كونه لم يعتمد أيديولوجي���ا بعينها ،ولم يحاول تكريس قيم جاهزة ونموذج مت���داول .لق���د كان« ،الربيع» باألولى دعوة إل���ى «االنخراط» في شبكات مقاومة تس���عى جهدها إلى بلورة أسئلة لم يتقدم له���ا مثيل ،وإلى إحداث ش���روخ في عالم ل���م يعد يقوى على االستمرار. ل���ذا قام بعض المثقفين ليس���تنكروا كل «انتهازية فكرية»، التريث ،وعدم وعي ًا منهم بقوة الحدث ،فدعوا إلى ش���يء من ّ الجري وراء األحداث ،والتس���ابق نحو الشاشات .حجتهم في ْ الهين ،وأن الفكر واالبداع ذلك أن بلورة األسئلة ليست باألمر ّ ال يس���تفيق إال «مس���اء» ،وأن الزم���ن الثقاف���ي مخالف للزمن الكرونولوجي ،وأن العمل الفكري واإلبداعي في حاجة دائمة إلى هضم واجترار ،في حاجة إلى مس���افة وابتعاد ،فهو عدو ذكر البعض بمثال المباشرة ،وخصم التلقائية .في هذا الصدد ّ شيخ الرواية العربية بعد ثورة .52 على رغم حس���نات هذا الموقف ال���ذي يحفظ للفكر واإلبداع المادي والمعنوي قدرتهما على أخذ المسافة وعدم «االنغماس» ّ في الحدث ،إال أنه يبدو أنه يغفل ما قد يلعبه العمل الثقافي من تحويل للواقع وفعل في اللغة من شأنهما أن يمّهدا لكل تغيير. ال يعن���ي ذلك بالضرورة أنهما يس���تبقانه ويتنبآن به .األدلة التاريخية على ذلك ليس���ت قليلة ،ولن نقتصر على اإلش���ارة إل���ى فكر األنوار الذي يذك���ر عادة في هذا الب���اب ،وإنما تلزم اإلحال���ة أيض ًا إل���ى مفكرين تابعوا الث���ورة ،وتأملوا نتائجها تبين ومخاضه���ا ،أمثال كانط وهيج���ل ،أو مبدعين ومفكرين ّ فيما بعد أنهم كانوا وراء انعراجات كبيرة ،وثورات أساسية، وأحداث جس���ام أمثال غوركي ودستويوفس���كي وتش���يكوف وكافكا ونيتشه .لن نذهب إلى القول بأن هؤالء كانوا يتمتعون بس���بق رؤية وقدرة تنبؤ ،وإنما يكف���ي أن نقول إنهم ،بفضل ممارسة حميمية واحتكاك بالحياة في أدق تفاصيلها ،تمكنوا تحمله» ،على من أن «يروا أمورًا تفوق ً عظمة ما يقدرون على ّ حد تعبير جيل دولوز. 93
لغة األحذية الثقيلة �أ�شرف عبدال�شايف -م�صر
كان عجيب ًا ومدهش ًا أن تتوجه صحيفة «اليوم السابع» القاهرية إلى أطباء العلم النفسي لتحليل الخطاب الوحيد الذي ألقاه المشير محمد حسين طنطاوي ،فتحدث الدكتور أحمد عكاشة أستاذ علم النفس ورئيس الجمعية العالمية للطب النفسي، عن نظرية «االرتقاء المعرفي» ،مؤكدًا أن اإلنسان يفتقد القدرة على تجديد أفكاره بعد الستين في حين يقف المشير على عتبات الثمانين. واستفاض باقي أطباء علم النفس في وصف التداعيات «الصحية» التي بدت واضحة على الرجل وأعطت انطباع ًا بعدم قدرته على اتخاذ القرارات السياسية !! تمدد «الخطاب السياسي» إذًا على سرير المرض خائرًا بد ًال من تقديم العالج، وبدا األمر وكأننا بصدد حالة «مستعصية» ولسنا بصدد «خطاب سياسي» من المفترض أن يتجمل بفنون اللغة وجماليات التشبيه واقتصاد العبارة ودقتها. كانت اللحظة ساخنة والمشهد في ميدان التحرير يستعيد روح يناير ويحمل رذاذ الموجة الثانية من ثورة يناير، واحتشد الثوار بميدانهم الشهير مطالبين بتنحية المجلس العسكري عن إدارة البالد وتشكيل حكومة إنقاذ وطني ومحاكمة
94
قتلة المتظاهرين بدءًا بأحداث 25يناير, مرورًا بأحداث ماسبيرو وحتى أحداث 19نوفمبر ،وتعالت نبرات الهجوم على «المشير» وخرجت الشعارات واضحة «الشعب يريد إسقاط المشير» ،بينما راحت قوات األمن تطلق األعيرة النارية على عيون الثوار وقلوبهم وتستحدث أنواع ًا جديدة من الغازات المسيلة للدموع استفاض الخبراء في تحليلها وتوضيح مخاطرها. وبعد طول انتظار وتنويهات إعالمية سبقت الخطاب بساعات طويلة ،خرج «المشير» في الثاني والعشرين من نوفمبر بعد مرور ثالثة أيام على بدء األحداث، فأعاد إلى األذهان تباطؤ الرئيس المخلوع وأكد التشابه الكبير ليتجاوز مرحلة االنتماء إلى مؤسسة عسكرية واحدة ويصبح تطابق ًا في المنهج وطريقة معالجة األمور ،فسيطرت على لهجة «اإلنجازات العسكرية ومكانتها مكتفي ًا بإقالة الحكومة!». مثلما انشغل «مبارك» في خطابه الثاني بالدفاع عن نفسه وعن مؤسسات دولته ،انشغل «المشير» بالرد على منتقدي «المجلس العسكري» أو على شخصه سيان متعمدًا الربط بين الجيش
المصري والجنراالت يديرون شؤون البالد في المرحلة االنتقالية ،وهنا ،هنا تحديدًا تحولت «منصة» الخطاب إلى «ساحة» وغى ! وكان طبيعي ًا والحال كذلك أن «تدهس» اللغة وجمالياتها ،فالقائد ُ العسكري كما نعلم يجتز الشجر الوارف إن رآه حائ ً ال بين هدف يسعى إليه ،وما اكتسبت األحذية الثقيلة دالالتها القوية إال لمقدرتها على «الدهس» فال وقت لتوزيع القبالت وحانت ساعة الرد بحسم! وعلى الفور التقطت الجماهير المترقبة في الميدان والشوارع نقاط التشابه المتعددة بين «ركاكة» خطاب مبارك الثالث الذي ألقاه قبيل التنحي بساعات وبين «خطاب المشير» ،فبدا وكأنه يعيد إنتاج اللحظة ببطء أدائها وبالمفردات اللغوية المرتبطة بها ! ،فقد استخدم الثاني نفس التعبير المؤلم في وصف الشهداء «الضحايا»(!) ،من دون اعتراف أو اعتذار عن الدماء التي مازالت طازجة بشارع محمد محمود ساعة الخطاب والتي كانت تدفقت في موقعة «الجمل» قبيل التنحي. وعلى هذا النحو تطابقا في الخطاب، ميز «المشير» بين «المتظاهرين» وكالهما ّ وبقية الشعب المصري المسمى إعالمي ًا بحزب «الكنبة» ،وأعاد إنتاج «خطاب مبارك» «الواقفون في الميدان ليسوا كل الشعب المصري» ،وكذلك أعادا سوي ًا تشويه الدوافع التي تقف وراء المحتجين مع إشارات وتشكيك في بعض القوى السياسية واتهامها بالعمالة وتلقي تمويل خارجي! حتى «التلي سكرين» أو الشاشة اآللية التي تمررالكلمات أمام الشخص بطريقة سلسة وبسيطة لم تنجح في صناعة «اختالف» بين الخطابين ،ولم تمنع من وقوع أخطاء في نطق الكلمات وترتيب العبارات« :المجلس العسكري كان ال يقف موقف الحياد من كل القوى»« ،المجلس العسكري كان يقف موقف الحياد من كل القوى». «لم أطمح يوم ًا في جاه أو سلطة»، عبارة أراد بها مبارك «زهدًا» في الحكم، وتوقع المصريون عدم سماعها ثانية لما
تحمل من «خيال» ورومانسية ال تعكس واقع ًا غارق ًا في الدماء واالنتهاكات ،لكن «المشير» كان حريص ًا على استعارتها بصيغة الجمع «فال نطمح في الحكم وال نبغي إال وجه اهلل والوطن» ! االختالف الوحيد بين الخطابين كان في «الشكل الرسمي» ،فالشعار الذي وقف أمامه مبارك هو «رئاسة الجمهورية» بينما ظهر خلف المشير شعار «المجلس األعلى» فقط مع حذف «القوات المسلحة»، فيما عدا ذلك فقد تطابق الخطابان إال في عبارة االستهالل «األخوة المواطنون» عند األول ،و«شعب مصر العظيم» للثاني، بينما كانت عبارة «أنا أو الفوضى» التي كانت تلخيص ًا لما أراد المخلوع تأكيده هي نفسها التي تسيطر على خطاب «المشير» في اتهام المحتجين بتعطيل االقتصاد وإقالق مضجع «االستقرار» !. انتهى الخطاب بطرح «استفتاء» على بقاء المجلس العسكري أو رحيله ،من دون أن يقدم جديدًا سوى إنتاج فريق «العباسية» الذي وجد الفرصة ليعلن الحرب على فريق «التحرير» فها هو قائد البالد يطرح «االستفتاء» على بقاء المجلس العسكري أو رحيله ،وفي ذلك طلب تأييد مضمر لم يكن خافي ًا على رافضي «إقالق مضجع االستقرار» !
نشطاء الفيس بوك وتويتر لم يكتفوا برصد «التطابق» بين خطاب نوفمبر والخطابات الثالثة التي ألقاها الرئيس المخلوع قبل التنحي ،لكنهم استلهموا روح السخرية الكامنة داخلهم وقضوا ليلة الثالث والعشرين من نوفمبر في ابتكار «الكلمات والعبارات» التي ترد «للغة الخطاب السياسي» اعتبارها ،وتم إطالق صفحات كان منها «هانت فاضل خطابين وموقعة جمل ..وراجل واقف ورا الراجل اللي بيقول خطاب التنحي»، وكان االسم اختصارًا وإيجازًا بليغ ًا لمرحلة سقوط مبارك التي استغرقت 18 يوماً ،وامتالت الصفحة بآالف التعليقات من بينها «خطاب المشير (مبارك سابقاً): تعريف اينشتاين للغباء« :فعل نفس الشيء مرتين بنفس األسلوب مع انتظار نتيجة مختلفة». المشير :لم نطلق رصاصة علىصدر مواطن ..كنا بنَّشن على عينهم بس، «الفرق الوحيد أن مبارك كان بيتصور بكاميرا واحدة والمشير بكاميرتين». «أنباء عن وفاة الرئيس المخلوع حسني مبارك متأثرًا بنوبة من الضحك الهستيري». الجماهير تكون أذكى في أكثر المواقف التباس ًا وسخونة ،وكلما سقط «الخطاب
السياسي» في فخ «الحرب» واستعار روح الدفاع والكر والفر غابت سلطة «اللغة» وحساسيتها كما يقول عبد السالم المسدي في كتاب «السياسة وسلطة اللغة» الدار المصرية اللبنانية 2007 ودروس التاريخ ال تعد وال تحصى في هذا الشأن ،فقد خرج جورج بوش االبن هائج ًا في 2001مطالب ًا باالنتقام من مفجري األبراج معلن ًا عن ترسانة الجتياح أفغانستان ،فسعى المعارضون لصناعة حالة وئام بين «اللغة» و«العقل» وخرجت مظاهرات حاشدة تحمل الفتات «العين بالعين ..جميع ًا سنصبح عمياناً». وهناك قادة وأشخاص ياخذون موعدًا مع التاريخ كما قال األب الروحي لليمين الفرنسي شارل ديجول ،وبعبارة واحدة جلس «مهدي بن بركة» وسط مز َوَلمز الملك الحسن هؤالء حين َغ َ يدي معادلة رياضية الثاني « :إن بين ّ تخص المغرب أريد لها حالً» ،كان الرجل محكوم ًا عليه باإلعدام ( )1963ونجحت االنتفاضة الشعبية وأعلن الملك الحسن الثاني العفو عنه وأرسل من يسترضيه كي يعود للبالد ،فجاءت تلك العبارة تلخيص ًا دقيق ًا من أستاذ الرياضيات الذي تتلمذ الملك على يديه. وسلطة اللغة توازي سلطة السياسة، ومن لم يعرف أن هناك قوانين تنتظم اللغة وتشد أوصالها وتجعل «للكالم» األدبي ترتيباته ،وللقانوني «حيثياته»، وللسياسي «قواعده» وللعلمي «ضوابطه» ،ال يستحق الشفقة ،فقد «دهس» اللغة وسخر من دون أن يدري بعباقرة أفنوا أعمارهم راكعين تحت «عرشها» ،والعزاء لـ «جون أوستين» صاحب كتاب «كيف نصنع األشياء بالكلمات» ،وال لـ «ميشيل فوكو» صاحب «الكلمات واالشياء» ،وكذلك ال وجود لعلم القرائن والعالمات واألمارات المعروف باسم «السيمائيات» الذي أصبح له كرسي في جامعة بولونيا بفضل «أمبرتو إيكو» وقبله «روالن بارت» و«فرديناند دي سوسير».
95
�أدب
الروائي المغربي حسن نجمي:
حين نكتب نلقي بأنفسنا إلى الهاوية حوار � -أني�س الرافعي
األديب المغربي المعروف حسن نجمي ال يكل من البحث عن المساحات الفارغة واألراضي غير المخذولة للكتابة ،لذلك فهو ينجو دائم ًا من ميتافيزيقا الوصول .فمنذ أن غاص كي يستحم في نهر القصيدة ويتجاذب معها أطراف ماء العبارة ،لم يخرج إلى يابسة السرد الروائي سوى مرتين ليطلع علينا سنة 1996بـ «الحجاب» ،ومطلع هاته السنة ( )2011بـ «جيرترود» الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت. طلوع كريم ألنه لم يترك الشعر في أعقابه حسيرًا ،بل آخاه وصهره بالنثر الحكائي .هذا ما يظهر بشكل شاخص في عمله الجديد ،الذي جاء مشوق ًا ومتقن الصياغة لغة وتشخيص ًا ومعمارًا، يستعيد المروق العابر للكاتبة األميركية جيرترود ستاين ( )1946 - 1898بمدينة البوغاز ،طنجة. وقد انطلق صاحب «على انفراد» من واقعة تاريخية حقيقية وردت في سيرة جيرترود التي كتبتها على لسان صديقتها أليس توكالس ،ليشيد متخي ً ال سردي ًا جهنمي ًا ومتشابك ًا محوره األساس شخصية محمد التي تنوس بين كل من طنجة وباريس وتتبادل األدوار
96
واألقنعة مع «مضاعفاتها» و«بدائلها» المجازية داخل متن الرواية. الرواية ذاتها التي تسترجع بشكل استعاري ملفق بين ضلوعها بعض اإلشارات إلى التاريخ الشخصي الموجز لحسن نجمي ،وتفتح مروحة الكالم على حوارية الفنون والنظائر الكونية العليا كما لو أنها جولة متخيلة في غاليري يمكن لك أن تلتقي فيه بماتيس وبيكاسو وأبولينير وهمنغواي وأناييس نين وفيتزجرالد ..وآخرين. عن «جيرترود» وعن كواليس تشكلها ،التقت «الدوحة» حسن نجمي، فكان هذا الحوار:
§ بعد رواية «الحجاب» ()1996 تفرغت لمشاريعك الشعرية والنقدية والترجمية ،لماذا العودة بعد كل هذه السنوات لمغازلة الفن الروائي؟ ولماذا «جيرترود» تحديدًا؟
قد ال ُت َص ْ لك ِإن رواية قلت َ دقني ِإن ُ «جيرترود» ،كفكرة أو كِإرهاص ،سبقت فكرة رواية «الحجاب» سنة .1996ولكن األفكار ال تأتي ِإال في أوانها .ال أذكر من قال ،ولعله هيغو ،بأن ال أحد يمنع فكرة أوان نضجها .وحسن ًا أن «جيرترود» حان ُ
تأخرت قلي ً ال لكي تنضج ،ولكي ينضج الكاتب أيض ًا فيَتمَلّك األسباب الكافية واألدوات الالزمة لكي يغامر بالكتابة في ْ يتداخ ُل فيه التاريخ والمَت َخَّيل، حقٍل َ وتمتد مساحاته في الفضاء والزمان، وتتعدد آفاقه واهتماماته. إن هذا العبور من «الجدول الصغير» للقصيدة إلى فيضان الحكي في الرواية، إنما يتم داخل الكتابة ،داخل تجربة الكتابة تحديدًا .وربما كان هذا التنوع في األجناس ،وفي تجريب األشكال واألنواع ،نوع ًا من البحث المستمر عن الذات المتعددة أو نوع ًا من الَّتَلُّون القَزحي للذات ْ نف ِسها .صحيح أنه عبور ُ ٍ ميثاق آخر ،مختلف كتابة إلى ميثاق من ٍ ِ وسيرورته الخاصة مثلما محدداته له ُ ُ ُ انتظار آخر على مستوى الَتّلقّي له أُف ُق ٍ والتداول ،لكنه مع ذلك -بالنسبة إَل َّي س الروح ،وتقريب ًا على األقل -يتم بَنْف ِ ونْفس اللغة ،داخل ْ س س الرؤية َ نف ِ بَنْف ِ اقد األدبي والجمالي مع القارئ. ّع ُ الَت َ أغ ِّير فقط رصيف ًا برصيف في كأنني ُهَنا َ س القطار. نفس المحطة َ ألرك َب َنْف َ أما لماذا «جيرترود» تحديدًا ،فأعترف عشت هذه الرواية ،فكرة هذه َل َك أنني ُ مؤَّبد .لقد ل ح مثل الحقيقة، في الرواية ْم َ ُ ٍ احَبْتني ْ وظلت لعقَدْين من الزمن، ْ َ ص َ كامنة في قيعان الَنْ ً ّفس ،إلى أن أصبحت قدراتي الذاتية ،الفكرية والتقنية والجمالية ،تسمح بكتابتها .أكاد أقول ِإن «جيرترود» كفكرة وكمشروع كتابة ِ حاالت النسيان هي أحد المؤشرات على أهَملْنا فيها أجزاء أساسية من التي ْ ذاكرتنا الثقافية والتاريخية الوطنية في المغرب .وأظن أن علينا أن نستعيدها.
§ ألمح العديد من النقاد الذين قاربوا الرواية إلى هيمنة بنية الخيبة واإلخفاق على جوها العام .إلى أي حد تتفق مع هذه التخريج؟
لم يكن اإلخفاق أو الخيبة ُمْقَتَر َحعمل في هذه الرواية .لقد ظهرت هذه البنية أو التيمة في «جيرترود» الحقاً. في البداية ،كنت ُمْنَتِبه ًا أكثر إلى شخصية جيرترود بحضورها الكلي،
اهلل العروي أو عابد الجابري مثالً .أظن أن الشخصيات ،ضمن مسارها الخاص، ً فكرة أو مفكرًا ،هي هي التي تستدعي ٍ بمكان معين، بشيء َّما أو التي ُتَذكِّرك ٍ ْ وهي التي تجعلك تفاجئ َنف َس َك ْ وأن َت ُتَفّكر.
«درج § نريدك أن تحدثنا عن ُ الخياط» الذي يدس فيه الروائي جذاذاته وأضابيره وأبحاثه وهو يطارد الموضوع الرئيس الذي انتقاه ليرفع به أعمدة روايته .بالنسبة لـ«جيرترود» هل تطلب منك األمر السفر إلى باريس وطنجة عدة مرات؟ وما هي «المتاعب المعرفية» التي تكبدتها لتنجز هذه الرواية؟
وبالتالي كيف كان يمكنني أن أرى جيرترود وإلى جانبها (محمد)، كمغربي مجهول من ثقافة مختلفة، به ِو ٍ بدأت ية هاربة .ثم شيئ ًا فشيئاً، ْ ُ شخصية (محمد) تتدحرج مثل كرة ورأيته ،وقد كان يمكن أن يكون ثلج. ُ مهم ًا مؤثرًا في مدينته وبالده، شخص ًا ّ ً فجأة ألسباب حيات ُه انكسرت كيف أن َ بعضَها وتهيء ْكر الرواية َ مختلفة َتذ ُ القارئ إلدراك َب ْع ِ ضها اآلخر. ّفوا وقُ أتفق مع النقاد والقراء الذين َت َ عند حضور بنية اإلخفاق والخيبة هذه .لكنني ما زلت ،حتى اآلن ،أنظر إلى ذلك من داخل المحكي الروائي ال من زاوية اللغة الواصفة .لقد كان بإمكان محمد أن يختار اختيارًا آخر، وقد كانت هناك إمكانيات متاحة. حلول علينا أن نالحظ أنه لم يفكر في ٍ «تعبوية» أو فكرية أو ثقافية ،لم يفكر ض َعَمٍل سياسي -مث ً ال -مع في َخ ْو ِ أنه كان يعيش في مركز السياسة، بحكم مهنته ومسار تكوينه ،لم يفكر في واجبه اإلعالمي واالجتماعي. وإذن ،لقد قرر أن يختار ذاتي ًا وفردي ًا وشخصي ًا نوع ًا من الهروب أو المنفى االختياري.
§ استدراج حياة كاتبة أميركية من قيمة جيرترود ستاين إلى لعبة سردية مدارها شاب مغربي مجهول اسمه محمد ،هل هو نوع من «االستشراق المعكوس أو المضاد» كما يسميه الراحل إدوارد سعيد؟
من الصعب أن يزعم كاتب بأنهكَت َب رواية في أفق اهتمامه الفكري باالستشراق «المضاد» أو «المعكوس». أنت كاتب ،مثلي تماماً ،وتفهم حجم تلك الهاوية التي ُنْلقِي بأنفسنا فيها ،تلك التجربة التي نخوضها حين نكتب .في تلك اللحظة من الدهشة والتلذُّذ بالَل ِ ّعب، وأنت تفكر في جملتك القصيرة لكي ال َ رهل ،وتفكر في أن ت ت أو تطول تجعلها َ َ َّ تجعل عبارتك شعرية أكثر ،ووجيزة ٍ ادة ومْقَت َطعة كما لو بآلة َح َّ ومكَّثَفة ُ ( ،)hachéesغالب ًا ما تحرص على عبور هذه اللحظة العمياء الهاربة، المجهولة والكاشفة في آن ،بعيدًا عن ِع ْبِء التفكير الثقيل .قد أفكر في محمود درويش أو سعدي يوسف أو أدونيس، من خالل الجملة أو العبارة أو الكلمة أو طريقة استعمال المعجم ،لكنني ال أفكر، في تلك اللحظة ،في إدوارد سعيد أو عبد
«جيرترود» ،رواية َغَّيَرْتني بعمق.كنت بعد كتابتها، بقيت كما ُ ال أظن أنني ُ َ أن وربما بعد نشرها أيضاً .وأملي اآلن ْ بعض قرائها. ُت َغ ِّير َ ثمة صعوبة في هذا النوع من الكتابة السردية .ومصدر الصعوبة ٍ شخصية حكاية يأتي من كونك تحكي َ لها وجود فعلي سابق على النص ،لها وجود تاريخي معين يعرفه القراء أو بعضهم على األقل .وعليك أن تلعب ُ بهذا المعلوم في أفق مجهول تماماً، أن وتخَتِرَق ُه بخيالِك بل تعمل على ْ َ او َز ُه .وبهذا المعنى ،فأنت تشتغل تَت َج َ (بُي ْ ِ وغرافية) لتؤكد ية ير س جوانب على ِ ْ على احتمالية المتخيل الروائي الذي ِتْقنع قارئك بواقعية ما تحكيه تنتجه ،لُ له فيما ْأن َت ،في الحقيقةُ ،توفّر له متخي ً شئتُ ..توفّر ال تماماً ،وِإن َن ّص ًا َّ َ ْ خيلة .هل تصدق أن له ْبُيوغرافيا مَت َّ شاعرة مغربية صديقة اتصلت بزوجتي لت َع ِّبر لها (الشاعرة عائشة البصري) ُ عن إعجابها بالرواية ،ثم طَلَب ْت منها َأ َّال تقرأ الرواية خوف ًا على مشاعرها؟ صَّدَق ْت األحداث إلى حّد أنها اعتبرت فقد َ أن الراوي هو المؤلف الفعلي للنص! كنت فع ً الراوي َّ لحق لزوجتي (لو ُ ال أنا َّ أن تقتادني إلى دار القاضي! ولو كان ْ الجنس في هذه الرواية واقعي ًا وحقيقياً، لكان الكاتب حارس ًا لبيت دعارة!). 97
صديق روائي مغربي ،سألني عما إذا لم تكن لِيْدَيا ،شخصية الدبلوماسية ً امرأة حقيقية األميركية في الرواية، ولي بها عالقة! ناقد َعَربي محترم ،في تعام َل مع قراءة جيدة للرواية ُ أحببتهاَ ، محمد في النص ّمها «األوراق» التي َسَل َّ اوي (كي يستعين بها على كتابة للر ِ َّ الراوي كان التي و«الشذرات» سيرته)، َّ يجَتِزئها من تلك األوراق (الكاتب الشاب) ْ لي َض ِّمَنها في َم ْحِك ِّيِه أو يستشهد بها ،على ُ أنها أوراق حقيقية ،وشذرات حقيقية، استعان بها المؤلف الحقيقي لتأثيث محض روايته ،والحال أن األوراق ُ خيال ،والشذرات «المجتزأة» لم تكن ِإ َّال ُجَم ً وعبارات اخَت ْ ٍ لقُتها اختالقاً. ال ٍ سيرة إذن ،أو أكثر من اختالق إن َ اختالق ٍ حياة ،هو ما أزعم أن رواية ذلك َ علي أن أقرأ كان لقد . ه ت ّق ق ح «جيرترود» ْ َ َ َ ُ ّ أعيشها وأتمَّثَلها ،أن َ تجربة جيرترودَ ، تقريباً ،وذلك ليكون حضورها وحضور الشخصيات في الرواية حّي ًا وملموساً. ّب بعض ًا من البحث وكل ذلك َت َطَل َ والتحري والتدقيق والتأطير المعرفي. ِّ محد َدات الكتابة الروائية. ذلك ولعل أحُد ِّ َ ْ ِب ْ ول في رواية «لِفيَاَت ْ ان» ( )Liviathanل ُّ ِير ،يقول «الكاتب بيتر آرون» ُأ ْ وست ْ (شخصية في الرواية) «إن الحياة التي أهَّم من حياتك» .كما َت َخَّيلَتها تصبح َ ْ يقول بنجمان َساش (الشخصية األخرى في نفس الرواية) بأنه «ينبغي أن أمضي علي أن أفعل شيئاً». إلى َ العاَلم الواقعيَّ . العاَلم الذي ُأ ِح ُّبه شخصياً، هو وهذا َ عندما أفكر في الرواية التي أحبها كقارئ ،هذا الذهاب من الواقع إلى الخيال ،ومن الخيال إلى الواقع .كما أحب الروايات التي ال تهتم فقط بالبناء أو باللغة على أهميتهما بطبيعة الحال ،وإنما تلك التي بمحكيها ،بموضوعها تكون أيض ًا ممتلئة ِّ (خصوص ًا عندما تكتشفه أو يكتشفه النقاد الحقاً) ،وبالتفاصيل .باألخص، عندما تكون هناك لمسة معرفية أو توثيقية تضيء النص ،وتعمق أفكار ومواقف الشخصيات (ال أفكار المؤلف أو أطروحته) ،وتساعد على َن ْح ِت َهذِ ِه الشخصية أو تلك. 98
ِ اره وبالطبع ،فإن ذكريات الكاتب ْ وأسَف َ ْع ُب ل ت ِه ت ومسموعا ِه ت ا د َ وم َش َ اهَ َ وقراءاتِه ُ دورًا حيوي ًا في ِإغناء النص .وفض ً ال حرصت عن معرفتي بمدينة طنجة ،فقد ُ بالطبع على العودة إلى بعض المصادر والوثائق التاريخية حول بدايات القرن زرت العشرين في هذه المدينة .كما ُ وتَرَّدْد ُت عدة مرات باريس ونيويوركَ ، على بيت جيرترود ستاين بباريس في العنوان الشهير ،27 -زنقة دو فلوريس (غير مسموح -لألسف -بدخوله) ،ونفس الشيء حدث مع متحف الميتروبوليتان في نيويورك .لم أشبع أبدًا هناك من ورْتريه جيرترود الذي َأْن َجَز ُه مشاهدة ُّب ْ ً رأت كثيرا من بيكاسو .والواقع أنني َق ُ ألكت َب األعمال الفكرية والنظرية واألدبية ُ ّمتني الكثير من هذه الرواية .رواية عَل ْ األشياء في الواقع.
§ في اعتقادك ،هل تخلص الرواية المغربية المعاصرة من الطابع المحلي على صعيد الموضوعات ،وانفتاحها على «األفق الكوني للرواية» كما ينعته فيليب روث ،كفيل بحملها إلى آفاق أبعد على صعيد التداول والتلقي والترجمة؟
أقتسم معك هذه النظرة، َد ْعنيْ فأؤكد معك أن الرواية المغربية أصبحت في حاجة إلى َتْه ِوية .أظن أن هناك إحساس ًا بهذا الجانب قد بدأ يتبلور لدى الكَتّاب المغاربة .وما تشير مجموعة من ُ إليه هو ما يقوله لي وأقوله باستمرار للصديق الروائي عبد الكريم جويطي، وما قاله لي ،مؤخرًا فقط ،الروائي ٍ حاجة ِم عن يوسف فاضل بوضوح َينّ إلى تعميم إحساسه الشخصي .وهو ما عّبر عنه الصديق محمد األشعري في أكثر من مناسبة. ال يمكن لكاتب مغربي وافد على الحقل الروائي أن يكرر ُكَتّاب ًا مغاربة سيْقَبُله َسَبُقوه ،وال أن يشبههم .فال ذلك َ هؤالء وال سيخدمه هو أو يخدم أفقه ومستقبلهَ ،ف ْض ً ال عن أنه لن يخدم األدب المغربي الحديث والمعاصر .وال أتحدث هنا من باب المفاضلة بين األجيال،
الّق والترصيد وإنما من جهة التراكم الخ َ الواعي بالجذور وباالمتدادات .ال ينبغي أن نسمح بتكرار التجارب واألصوات والتيمات ،وهذا دور موكول إلى النقاد والبحث الجامعي الرصين .علينا أن نعترف بأن المتن الروائي المغربي، أنهكْته برغم تاريخه َ ِي سرعان ما َ الفت ِّ النمطية ،وربما التقليدية .وهي نمطية بدأنا نلمسها -لألسف -في السينما المغربية كذلك ،وفي المسرح بينما ال نراها -مث ً ال -على مستوى الكتابة الشعرية أو القصة القصيرة أو الفنون التشكيلية. لقد حان الوقت ،ربما ،ليكتب الروائيون المغاربة رواية معاصرة لقراء ٍ ِ حاجة إلى العاَلمِ .بْتَنا في معاصِرين في َ ِب روائي مغربي بالعربية يمتلك كات ٍ رؤية لها َت َطلُّع َك ْوني .وهو تطلع ال يعني االنتشار والعالمية بكيفية آلية ،بل مدى انخراط العمل الروائي ضمن منظور مستقبلي في مخاطبة قراء العالم .وبهذا المعنى ،يمكن للكاتب الذي يمتلك تطلع ًا كوني ًا أن يخاطب قراء مجتمعه وُل َغتِه، بل يمكنه أن يتوغل في َأَناه شريطة أن ً منفتحة ،تتبادل مع اآلخرين. تكون َأنا قيم ُة مشاريع بعض تأتي ا ن ه َ ومن ُ َ العَربية الجديدة األعمال الروائية َ الناجحة ،من مصر ولبنان بالخصوص، أو بعض األعمال الروائية المغربية المكتوبة بالفرنسية التي يفضل البعض وضة» أو كتابة «الم َ أن ينعتها بكتابة ُ وس َط ْ ال» من باب الغيرة «الكارت ُّب ْ ً والتبخيس أو ما ال أعرف ،بدال من استيعاب ميكانيزمات نجاحها وانتشارها وقدرتها على اإلقناع. جيد ،لألسف إال الهزء من هناك َم ْن ال ُي ُ األعمال األدبية عندما تفشل ومحاربتها عندما تنجح وتنتصر .ولكن ،لحسن الحظ وعلى نحو ما أكده ُك ْ ِيرا ،فإن وند َ الهزائم في تاريخ األدب ليست انتصارًا ألحد .كما أن التراكم في تاريخ األدب ليس تراكم أحداث كما عليه األمر في التاريخ اآلخر (السياسي) ،وإنما هو ِيم جمالية ومعرفية وإنسانية َت ُ راك ُم قَ أساساً.
ا�ستدراك
أمجد ناصر
في البدء كان الشعر! عندما يكتب ش���اعر رواي���ة فليس ذلك هروب ًا من الش���عر. فالش���عر بوسعه أن يتخلل أنواع ًا كتابية عدة من بينها الكتابة الروائية أو القصصية ،األمر ،والحال ،يتعلق بتنويع في مدونة الش���اعر الكتابية ،وربما برغبة في توسيع حدود التعبير .لقد ال من دون رواية ولكنه عرف الش���عر باكراً. ع���اش العالم طوي ً أعني روح الش���عر ولي���س بالضرورة ما تواضعن���ا عليه من أشكال صارت خاصة بالشعر وحده .الشعر ،حسب ظني ،هو أص���ل التلفظ األدب���ي .أي في البدء كان الش���عر .الرواية ،كما نعرف ،ج���اءت الحقاً ..ففيما يصعب تحديد بدء للش���عر يمكن رد الرواية إلى زمن ورواد. لنا ،على نحو أو آخرَّ ، هن���اك أمران حدثا في الش���عر والرواية عندن���ا ،وربما عند غيرنا .فقد تغير ش���كل الش���عر وتغيرت صورت���ه وإجراءاته اللغوية والكتابية منذ وق���ت طويل ،تحديدًا منذ مجيء قصيدة النثر ،كما أن الرواية راحت توس���ع حدودها وتنأى عن كونها وعاء حكائي��� ًا فقط .هذا يعني أن القصيدة اقتربت ،مع قصيدة النث���ر تحديداً ،من الس���رد والقص ،كما أن الرواي���ة ،الحديثة خصوص���اً ،مالت إلى فعل الكتابة أكثر من ميلها الس���ابق الى الحكاي���ة أو الحدوت���ة .وفي فع���ل الكتابة يمكن توقع الش���عر والمعرفة والتواريخ الصغيرة والتأمل في مصائر اإلنسان في زمن استفحال القوة والمال والتكنولوجيا والحروب. وأظل ،هنا ،مع الش���اعر الذي يكت���ب رواية ،لكي أقول إنه يس���حب معه لغته إلى النص الروائي ،كما يحدث مع أي شكل كتابي يتصدى له .ليس���ت هناك لغتان للكاتب :واحدة للش���عر وأخرى للنثر ،رغم االختالف اإلجناسي بين الفنين .هذا يعني أن لغة الش���اعر في الرواية مشدودة أكثر ،وربما مكثفة أيضاً. االقتضاب س���مة الشعر عموم ًا فهو يعمل على ضغط العالم في حي���ز لغوي وتعبيري مح���دود .هذا ،في ظن���ي ،يفيد الرواية ِّ التي تعاني عند كثير من الروائيين العرب من الترهل والثرثرة اللغوي���ة إن لم يك���ن من الركاكة .اللغة أس���اس ف���ي الرواية مثلما هي أساس في الشعر .وس���يط الشاعر هو اللغة وكذلك األمر بالنس���بة للروائي .فال يمكن تقديم الم���ادة الحكائية ،أو السردية ،بوسيط آخر غير اللغة .يحدث هذا في السينما التي لها لغة بصرية .ولكني ال أتحدث هنا عن السينما بل عن األدب
الذي هو ابن اللغة .كما أزعم أن الش���اعر يقدم للرواية تصورًا مختلف ًا للعالم .إنه تصور قادم من البعد الحلمي للش���عر .ولكن هذا ال يعني مماهاة الشعر بالرواية .فهناك ،رغم كل محاوالت محو الحدود بين األجن���اس األدبية ،خصائص للجنس األدبي واش���تراطات واعتبارات طالعة منه .فالرواي���ة رغم أنها ابنة اللغة ،وقد تش���ترك مع القصيدة في بعض الش���روط األدبية، غير أنها مختلفة عن القصيدة سواء في البنية أو في اإلجراءات السردية أو في استضافتها الشخوص واألمكنة واألحداث. *** يتهم الش���اعر الذي يكتب رواية (عندنا فق���ط!) أنه يجترح س���يرة ذاتية مقَنّعة .لكن فهمي للس���يرة الذاتي���ة يقول إن هذا العمل األدبي ُيعنى ،على نح���و واضح ،بالحقيقة أو بالواقع الفعلي الشخصي أو العام ،الذي قد يجري عليه مجرى الصدق أو الكذب ،أو قد يحاكم بهما ويقاس بما يملكان من اشتراطات. قد يكون الصدق الواقعي معيارًا للس���يرة الذاتية ،بمعنى أنه ال يجوز لكاتب السيرة الذاتية أن ينسب الى نفسه أدوارًا لم ينهض به���ا في الحياة الواقعية ،ال يجوز أن يكذب في أمر اش���تراكه، مث�ل�ا ،في حادثة ما .هنا يقع الخطاب في حيز الكذب بالمعنى ً الحرفي للكلمة .ولكن هذا ال ينطب���ق على الرواية التي يعنيها ما نس���ميه بـ «الصدق الفني» .أي التصرف اإلبداعي والتخييلي في المادة الواقعية ،أو ما يس���ميه ماركيز «التحويل الش���عري للواق���ع» .ولكن بما أن ليس للرواي���ة وصفة واحدة يحدث أن تكون هناك روايات مبنية على الس���يرة الذاتية أو على شظايا متناثرة منها .هناك كتاب جعلوا حياتهم مدارًا لكتابتهم السردية (الروائية) أمثال مارس���يل بروست ،هنري ميلر ،انسين نين، وفي العربية محمد ش���كري .ينطرح ،هن���ا ،مرة أخرى تداخل الح���دود األدبية ،وبطالن الوصفات الحاس���مة ،فنرى أن تلك األعمال محس���وبة على الس���رد الروائي أكثر مما هي محسوبة على السيرة الذاتية الصرف. أخيراً ،ليس���ت المصادر األول���ى للعمل الروائ���ي مهمة في حد ذاتها .فس���واء كانت قادمة من الش���خص ذاته ،خبرته ،أو المعط���ى ،فالمهم هو أن تحقق مخيلت���ه ،أو حتى من التاريخ ُ حيز جنسها. الرواية نفسها في ّ
99
فضيلة ياسين شقيقة الروائي وكاتمة أسراره:
كاتب ياسين غنيمة األدب
مكي �أم ال�سعد -اجلزائر الكاتب والمسرحي الجزائري كاتب ياسين ( ،)1989 - 1929صاحب مقولة تحول ،بعد «الفرنسية غنيمة حرب» ّ أكثر من عشرين سنة عن رحيله ،إلى السلطة «غنيمة» إعالمية ،تستغلها ّ السياسية ،التي عارضها طويالً ،في تبيض صورتها ،ويختفي وراءها كّتّاب ،أمثال رشيد بوجدرة ،قصد كسب مشروعية لدى القارئ« .الدوحة» زارت شقيقة كاتب ياسين ،كاتمة أسراره، ورفيقته في األوقات الصعبة سنوات الثمانينيات ،وفتحت معها حوارًا يكشف وجه ًا آخر من حياة صاحب «نجمة» ( .)1956تتحدث «فضيلة» شقيقة األديب في هذا الحوار عن مالمح شخصية ياسينية ظلت مطمورة لسنوات.
§ غالب ًا ما ترفضين المش���اركة في الملتقيات المنظمة سنوياً ،من طرف وزارة الثقافة ،حول أعمال وحياة كاتب ياسين .لماذا؟
ما يقام من ملتقيات يبقى دونمستوى أعمال كاتب .يتوجب أن يسند األمر لدارسين وباحثين متخصصين. الالفت أن الدراسات التي تمت بالمراكز الثقافية الفرنسية في الجزائر كان طابعها أكاديمياً ،وجادًا أكثر من الملتقيات الرسمية .أتمنى أن يلتفت مستقب ً ال منظرو الملتقيات إلى أفكار ياسين ومؤلفاته .كما أرجو أن تعود
100
مسرحياته إلى الركح (الخشبة) ،وان تعرض مؤلفاته بالمكتبات .غايته كانت التقرب من الشعب ،وليس شيئ ًا آخر.
§ كيف تفسرين احتفاء وزارة الثقافة ،س���نوياً ،بكاتب ياسين، ال���ذي ع���اش معارض��� ًا ومقاطع ًا للدوائر الرسمية؟
الحاصل اليوم أنهم يرخصونلفسحة ملتقيات ،في وقت يبقى فيه مسرحه مغيب ًا خوف ًا من أفكاره .وقد تنبأ بذلك عندما قال لي يوماً« :يا فضيلة أنا لن أموت ،وحتى لو حدث ذلك فسأكون أكثر خطرًا» .كتاباته التي كانت مفاجئة ومحيرة للفرنسيين ،لم تلق الحفاوة نفسها بالجزائر ،حيث كان مجهو ًال تماماً. لم يتلق أية مساعدة من الوزارة وال من وسائل اإلعالم الحكومية .السلطات كانت تتخوف من انعكاس كتاباته وآرائه على الجماهير .فالرئيس األسبق هواري بومدين طلب منه أن يكتب دون إقامة لقاءات ،خشية انتقاد أداء الحكومة، كما أن انتقاده لحكم الرئيس أحمد بن بلة عرضه لمضايقات ومطاردة ،ودفعه للهجرة مدة سنوات إلى فرنسا .عندما عاد التقى بـبعض المناضلين المثقفين، أمثال علي زعموم ،رضا مالك ومحمد سعيد معزوزي ،وساعدوه على تكوين فرقة مسرحية ،تحمل تكاليفها واستمر عملها لعام .1978وزارة الثقافة لم
تعترف به سابق ًا وال حتى اليوم بدليل إبقاء أعماله في الظل ،لكن أعماله ال تسقط بالتقادم ،وال تفقد صالحيتها، ألنها ذات قيمة إنسانية.
§ كيف كانت عالقته باألوساط األدبي���ة ،وبالكتّ���اب خصوص��� ًا عالقته بالروائي رش���يد بوجدرة الذي يذكر مرارًا بأنه خليفة كاتب ياسين؟
كان ياسين محاط ًا بكثير من األسماءاألدبية المتميزة ،أمثال محمد ديب ومالك حداد ،الذي عاش معه فترة من الزمن وعمل معه في صحيفة «ألجيري ريبيبليكان» اليسارية .بالنسبة للروائي رشيد بوجدرة ،فهو بخالف ياسين، كان يتودد للمسئولين ،وكان يكره شقيقي في حياته وبعد موته .ياسين حذرني منه رغم أنه لم يكره شخص ًا في حياته ،والسبب في ذلك هو «الغيرة» التي أصابت رشيد بوجدرة مع الشهرة التي بلغها ياسين .بعد وفاة ياسين راح الروائي بوجدرة يقارب رواياته برواية «نجمة» ليمنحها نوع ًا من الشهرة .شتان ما بين «نجمة» وروايات بوجدرة.
§ قي���ل الكثي���ر ح���ول حي���اة كات���ب ياس���ين .ما هي األش���ياء غير المعروفة التي من الممكن أن تضيفيها إلى سيرته؟
موهبته وكيفية تشكلها .كاتبياسين اإلنسان .والتناغم الذي مّيز حياته ،الجمع بين عدد من المواهب، واإللمام بفنون المسرح ،األدب نثرًا وشعرًا ،واألهم من ذلك روحه «الوطنية» التي تفجرت في سن السادسة عشرة من عمره وجرته إلى زنزانات االستعمار الفرنسي ،كلها محطات تحتاج إلعادة الدراسة ،ويمكن أن يهتدي الباحثون لها بقراءة جديدة لـ «نجمة» ،دون إغفال أهم عنصر ،وهي العائلة التي ذكت عبقريته ،والتي تتجلى في «األم» التي كانت مسرح ًا قائم ًا بذاته ،وجدي كاتب أحمد بن الغزالي ،الذي كان يعمل كاتب ًا شرعياً ،ويكتب بمجلة «الكواكب» التونسية ومجلة أخرى مصرية، ومكتبته المتفردة في المنطقة ،كل هذا الزخم يضاف إليه جمع أفراد العائلة، منهم جدي ألمي كاتب صالح بين الشعر، الغناء ،المسرح والكتابة ،واألمسيات التي تقيمها العائلة للشعر والغناء األندلسي بين 1910و.1920
§ كثيرون كتبوا عن ياس���ين. على غ���رار بن عمر مدين وأحميده عياش���ي .وصدرت لحد الس���اعة أكث���ر من س���يرة .من ه���و الكاتب ً فع�ل�ا االقتراب من الذي اس���تطاع حياة كاتب ياسين؟
عند المقارنة بين ما كتبه مث ًال بن عمر مدين وأحميدة العياشي أفضل األول .وربما ال وجه شبه بينهما ،ألن بن عمر درس أعمال ياسين جيدًا لكنه لم يعرفه بذات القدر ،فكتابة سيرة تتطلب اإللمام بالشخص وأعماله المسرحية، النثرية والشعر ،وبمؤلفه «نجمة» الذي يحتاج لمختصين في األدب من أجل فهمه .باعتقادي أن ما كتبته الناقدة الفرنسية «جاكلين آرنو» أهم بكثير، ألنها كانت صديقة شقيقي وصديقة العائلة وعالقتنا ممتدة لخمسين سنة. فقد كانت تحوز كل وثائقه وساعدته على العودة إلى التأليف والنشر بعد أن قرر التوقف.
رد على فضيلة كاتب
بوجدرة:لن أتراجع عما قلت نوّارة حلـر�ش -اجلزائر الروائي رشيد بوجدرة المعروف بتصريحاته المثيرة للجدل ،خرج هذه المرة لينبش ويخدش في حياة ومحيط كاتب ياسين ،الذي يرقد في قبره منذ أكثر من عشرين سنة .ما المغزى من إثارة زوبعة عن كاتب ياسين بعد كل هذه السنوات من غيابه؟ هل يريد صاحب «الحلزون العنيد» أن يختلف فقط عن الذين احتفوا بكاتب وذكراه األدبية والنضالية؟ حيث وجه انتقادات الذعة لما أسماه ﺒ «المحيط المتدني لياسين» ووصف األشخاص الذين كانوا ُيحيطون به ﺒ «ذوي المستوى الثقافي المحدود واألميين». كما قال بأن ياسين كان يتردد على الحانات ألنه ،من جهة لم يكن له مأوى ،كما كان ،من جهة ثانية، ان ًدا ومحمي ًا من طرف بعض رموز ُم َس َ وأجنحة السلطة. لكن كيف يمكن لرجل يتردد على الحانات ألنه بال مأوى وفي ذات اندًا من بعض رجاالت الوقت يكون ُم َس َ السلطة وصديق ًا لهم ؟ هذه التصريحات المتناقضة استنكرها بشدة الوسط األدبي واإلعالمي الجزائري ،وكذا الوسط العائلي لكاتب ياسين .وقد كان بوجدرة قد صرح« :كاتب ياسين كان يحظى ويتمتع بالمساندة من بعض أجنحة السلطة آنذاك عكس ما كان يتصوره البعض» .وذكر أنه كان صديق ًا للوزير محمد الصديق بن يحيى والهادي لخذيري ،المدير العام لألمن الوطني .ثم سرد بوجدرة بعض أفضاله على كاتب ياسين باإلشارة مث ً ال إلى أنه هو من اقترحه على
رأس مسرح سيدي بلعباس وأقنع الوزير رضا مالك بقبول االقتراح. لكنه ندم في ما بعد -يضيف بوجدرة ألن ياسين لم يكن يرغب في توليالمنصب. وفي تصريحه ﻠ «الدوحة» قال بوجدرة« :أنا ال أعرف شقيقة كاتب ولم ألتق بها إال شهر أكتوبر/تشرين األول على هامش ملتقى كاتب ياسين، فكيف تقول إن شقيقها حذّرها مني وأنا ال أعرفها أصالً؟» .وأضاف« :هي ال تستحق أن أرد عليها ،فهي تهذي، والجميع يعرف عنها شطحاتها». واستطرد بلهجة هادئة« :أنا لم أسئ لكاتب ياسين ،بل على العكس تماماً، لقد رفعته عالي ًا بإشادتي بأدبه .نعم العكس هو الذي حدث ،لقد حاضرت من أجله و من أجل أدبه بعمق وبحب وأشدت به ككاتب جزائري ومغاربي وعربي ،كما أشدت بكتاباته وبروايته «نجمة» على الخصوص، وما تدعيه شقيقته بأن كاتب ياسين يكرهني أو أنا أكرهه ال أساس له من الصحة» .صاحب «التطليق» قال أيضاً« :واهلل أنا قلت كالم ًا كثيرًا وجمي ً ال عن كاتب ياسين .وال أدري لماذا السيدة فضيلة أخذت فقط بعض انتقاداتي لحياة ياسين وركزت عليها وجعلت منها قضية وأثارت بها ضجة بهذا الشكل» .وختم بوجدرة تصريحه للدوحة بتأكيده أن لجنة ملتقى كاتب ياسين ستقاضي السيدة فضيلة على تصريحاتها األخيرة التي أساءت فيها لشخصه واتهمته فيها بمحاولة تشويه سمعة شقيقها.
101
فاتسالف هافيل «حين يكون للشعراء صوت مسموع مثل صوت أصحاب البنوك»
عام الموت الذي ودعناه ،أسدل ستاره برحيل أيقونة أخرى من دعاة اإلنسانية .إنه المسرحي العبثي فاتسالف هافيل رئيس جمهورية التشيك األسبق ،سليل مرتفعات بوهيميا ،أرض جمهورية التشيك التي شهدت عبور غجر رومانيا ،حاملين معهم البوهيمية إلى فرنسا القرن التاسع عشر .هافيل األديب والمسرحي ولعله بوهيمي في أعماله المصنفة ضمن مسرح العبث «حفلة في الحديقة» ( ،)1963و«المهلة»(،)1968 و«الرحيل» ( ..)2008وهو أيض ًا حاصل على تسع شهادات دكتوراه فخرية .أما هافيل الرئيس فهو المناضل والسياسي المعارض والمعتقل لسنوات في سبيل الحرية والعدالة .وقد بلغ ذروة نشاطه السياسي إبان غزو حلف وارسو لتشكوسلوفاكيا فيما سمي بـ«ربيع براغ» ،وعقب ذلك منعه القادة الشيوعيون عام 1969من ممارسة عمله ككاتب فاضطر لالشتغال عام ً ال يدوي ًا في مصنع بيرة .وكان له إسهام بارز في إعالن «ميثاق »77احتجاج ًا على قمع الحريات ،وكذلك في تأسيس «لجنة الدفاع عن المضطهدين» عام .1979 ومن موقع النضال ضد السلطة الشمولية في التشيكوسلوفاكيا سابقاً، التي دار تاريخها في فلك النازية تارة واالتحاد السوفياتي تارة أخرى، وما قبلهما من ذاكرة حروب النبالء 102
والكنائس ،واضطهاد األقليات التي أثرت على المجتمع التشيكوسلوفاكي، صعد هافيل هرم السلطة في ثورة سلمية وحدت مطالب المضطهدين، عرفت بـ«الثورة المخملية» في تشرين الثاني/نوفمبر من العام .1989وقد تولى رئاسة تشيكوسلوفاكيا في 29 كانون األول/ديسمبر ،1989وبعد اختالف التشيك والسلوفاك أعيد انتخابه رئيس ًا لجمهورية التشيك في 2 فبراير 1993حتى 2فبراير .2003 هافيل ،وهو يخطط إلسقاط الشيوعية التي كان بعد سقوطها فعالً،
عميق األثر في أوروبا ،خطط أيضاً، وهذا ما حصل ،إلطالق الحريات المدنية في الدين والتعبير والصحافة ،وقد سنت في بدايته تشريعات جديدة أدت إلى تغيير النظام ومنح حق التملك وإنشاء نظام االقتصاد الحر في ظل دولة الحق والقانون .ونظرًا لمرجعيته الحقوقية التي كرسها في فترته الرئاسية كما ناضل من أجلها من قبل ميداني ًا وفي أدبه ،نال هافيل جائزة غاندي للسالم الرفيعة اعتراف ًا بمواقفه تجاه السالم العالمي وحقوق اإلنسان .ولعل آخر مواقفه الحقوقية هاته ما قاله في القذافي قبيل تدخل الناتو ،في تصريح لصحيفة «هوسبودارسكي نوفيني التشيكية»: «لفترة طويلة نظر المجتمع الدولي للعقيد معمر القذافي على أنه نوع من المهرجين ولكن في الحقيقة فإن الزعيم الليبي (مجرم مجنون)» .وهافيل كان أيض ًا مريدًا روحيا للزعيم الهندي الراحل المهاتما غاندي. كيف يمكن أن أشرح هذا التغير، الذي لم يكن محتمالً ،في شخصيتي؟ ربما أفكر في الجواب بعمق أكثر عندما ال أصبح رئيساً ،وهذا سيحدث في فبراير 2003عندما يكون عندي وقت بعد انسحابي وابتعادي عن السياسة والحياة العامة ،وأصبح -مرة أخرى إنسان ًا حرًا تماماً .عند ذلك سأكتبشيئ ًا غير الخطب السياسية ..وهكذا أجد االضطراب الروحي والفكري نفسه، الذي أجبرني على تحدي النظام الشمولي السابق ودخول السجن ،يتسبب في أن تكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي ،أو إنجازات األشخاص الذين عينتهم وجعلت لهم نفوذا». فاتسالف هافيل عندما جرب حظه كرئيس جمهورية معروف عن جغرافياتها المحيطة في أوروبا الشرقية التقليد الراسخ بانتقال أهل األدب والفن إلى حلبة السياسة .يحذرنا في النهاية من الظن بأنه من الممكن للعالم عندما يحكمه شعراء أن يتحول إلى قصيدة.
�ضغط الكتابة
أمير تاج السر
الزمن الجميل
في ش���هادته عل���ى العص���ر ،الت���ي ألقاها في س���احة المجل���س القومي لرعاي���ة اآلداب والفن���ون ،بالخرطوم، العام الماضي ،تحدث الدكتور حيدر إبراهيم علي ،أس���تاذ االجتماع المعروف ،ومؤسس مركز الدراسات السودانية، كثيرًا ع���ن الهم السياس���ي والثقافي لبالده ،منذ س���نوات طويلة ،تحدث عن إش���راقات جيله ،وإخفاقاته ،ونظرته الخاصة لمستقبل السودان في ظل المتغيرات الكثيرة التي حدثت في العالم. لق���د تح���دث دكتور حيدر ،عم���ا يصطلح علي���ه بالزمن الجمي���ل ،مس���تغرب ًا من تل���ك اإلحالة ،وعم���ا يقصد بذلك الزمن ،حين يتأس���ى أحد على الزمن الجميل الماضي ،وال ال على اإلطالق .ويرى حيدر إبراهيم ،ش���خصي ًا يكون جمي ً أن السودان لم يمر بزمن جميل قط ،حتى يبكي عليه أحد، واستش���هد بعصر االس���تعمار المس���تبد ،وعدم االستقرار السياسي بعد أن انتهى ذلك العهد ،وما مسألة الزمن الجميل تلك ،سوى اختراع ،مرادف للتأسي بال أي سند واقعي. في هذه المسألة ،أختلف كلي ًا مع الدكتور حيدر إبراهيم. فنحن لس���نا وحدنا ،نتأسى على زمن جميل مضى ،ولكن تشاركنا ذلك ،كل الشعوب تقريباً .الماضي الجميل هنا ،ال يعن���ي رغدًا في العيش أو حياة بال متاعب ،أو بالدًا هادئة مس���تقرة ،تعطي كل ذي حق ،حقه ،ولكن بالقطع يعني، عالق���ة الفرد م���ع مجتمعه ،وخلو ذهنه الش���خصي من كل أنواع القسوة التي سيصادفها فيما بعد .فالذي عاش صغيرًا في فترة الستينيات ،من القرن الماضي ،يرى تلك الفترة،
أخصب أيام حياته ،يبكيها بحرقة ،ويتمنى عودتها ،الذي يعيش صغيرًا في أيامنا هذه ،التي ال نعتبرها زمن ًا جميالً، سيأتيه يوم يبكيها ،باعتبارها أفضل أيام حياته. في رأي���ي أيضاً ،توج���د كثير من الدالئ���ل ،التي تصف زمن��� ًا بالجمي���ل ،وآخر بالقبي���ح ،وتفض���ل أحدهما على اآلخر ،وأقول صراحة فيما يختص بالس���ودان ،إن ماضيه االجتماعي ،أفض���ل آالف المرات من حاض���ره االجتماعي الذي نعيشه اليوم ،هناك توجد سطوة األخالق التي تجعل جاراً ،أب ًا ألي طفل يس���كن في الجوار ،وحامي ًا لكل أس���رة تقطن. س���طوة التقدي���ر ،الت���ي تجعل مدرس��� ًا في المدرس���ة االبتدائية ،مهاباً ،حتى وهو سائر في الطريق ،أو يتسوق من الس���وق ،وأذكر حتى اآلن ،األس���تاذ عط���ا ،الذي كان يطوف أحياء مدينة بورتسودان ،على دراجته ليالً ،يتفقد الحف�ل�ات الضاجة ،حتى إذا ما عثر عل���ى تلميذ من تالميذ المدرس���ة ،اقتنصه ،وعاقبه عقاب ًا ش���ديداً ،ونتيجة لذلك، لم يعد أحد ،يجلس في أي حفل عرس���ي ،حتى لو كان في بيته .واآلن ال نس���تطيع السيطرة على أبنائنا ،ال نستطيع انتزاعهم من س���طوة النوكيا ،والب�ل�اك بيري ،وصفحات الفيس���بوك الت���ي يصادقونه���ا أكثر م���ن مصادقتهم ألفراد العائلة. يوجد زمن جميل بال ش���ك ،توجد أي���ام عذبة لن تعود، ولذلك ال نس���تطيع إال أن نتذكر ،ونردد في كل مناسبة :لو عاد الزمن الجميل!!. 103
الشاعر العراقي يوسف الصائغ في ذكرى رحيله
ما زال غزا ً ال يطارده قاتلوه �إنعام كجه جي -باري�س
كنت طالبة في الثانوية حين كتبت قطعة أدبية وأرسلتها إلى يوسف الصائغ ،شاعري المفضل ،آنذاك ،الذي كان يحرر صفحة في مجلة «ألف باء» البغدادية بعنوان «أفكار بصوت عال». وكنت أتوقع ،في أحسن األحوال ،أن ينوه بها أو يحيلها إلى بريد القراء. لكنه توارى من صفحته وأفسح في المجال لخاطرتي التي نسيت ،اليوم، موضوعها. ذلك كان اللقاء «المعنوي» األول بيننا .وعندما دخلت كلية اآلداب في جامعة بغداد ألدرس الصحافة ،قبل أربعة عقود ،وجدته أمامي طالب ًا كه ً ال يعد ُأطروحة ماجستير في األدب ،يقف في حديقة الكلية محاطاً ،دائماً ،بطالبات تكسرت قلوبهن وهن يقرأن مرثيته البديعة لزوجته« ،سيدة التفاحات األربع» ،التي نزفت دمها وماتت أمام ناظريه في حادث سيارة في جبال الشمال .إن الحزن يليق بالشعراء. وقد عرف الصائغ كيف يوظف أحزانه ومراثيه في أشعاره ،وتبنى ،بجدارة، صورة اإلنسان المقهور أمام الخسارات. كان خسران ًا في الحب .وخسران ًا في السياسة .وخسران ًا في الصداقات .وقد
104
مات في دمشق خاسرًا وطنه الذي احتله األميركان ..الوطن الذي أبى ،في قصيدة شهيرة له ،أن ينظر إليه من ثقب الباب بل من قلب مثقوب. سافرت إلكمال دراستي في باريس ودخل الصائغ المعتقل بعد انهيار ما كان يسمى بالجبهة الوطنية التي شارك فيها حزبه الشيوعي .ولما عدت في زيارة قصيرة سمعت أنهم قد أطلقوا سراحه وهو يقبع وحيدًا في بيته ،صوب الكرخ ،ال يزور وقلما يزار بسبب مراقبة األمن لمن يتردد عليه .وحين اتصلت به صاح حالما سمع صوتي« :تعالي... ولكن أوقفي السيارة في الشارع العام وأكملي سيرًا» .كان صاحب الدكان المقابل لبيته يكتب التقارير ويسجل أرقام السيارات .وحين وصلت متسترة بالمغيب ،فتح الباب قبل أن أرن الجرس ثم أغلقه على عجل وأسدل الستائر .إنه واحد من تلك البيوت البغدادية التي بنيت في خمسينيات القرن الماضي، ليلي تتقدمها حديقة واسعة ذات شذى ّ وتطرز جدرانها تلك السحلية المحلية الشهيرة باسم «أبو بريص» .لكن سقوف يوسف وجدران بيته الداخلية كانت ،كلها ،مرســـــومة بتـــــــهويمات
وأشكال هالمية لكائنات تشبه المالئكة ولحوريات ذوات شعر مسترسل يتطاير بفعل ريح مفترضة. قال لي إنه يضجر كثيرًا وال يجد ما يفعله سوى الرسم ،إحدى الهوايات التي رافقته منذ طفولته الموصلية وكان يجد فيها تخفيف ًا من وحشته .أليس هو الذي رسم سقف كنيسة «الطاهرة» في الموصل على غرار رسوم مايكل أنجلو لسقف كنيسة «سيكتين» في الفاتيكان؟ تذكرت أنني كنت شاهدة ،في مرسم ضياء العزاوي ،على والدة لوحة اشترك يوسف الصائغ في رسمها مع الشاعر شفيق الكمالي ومع العزاوي. ولعلها كانت سذاجة مني ،يومذاك ،أن التقطت صورة للثالثة مع اللوحة غير المكتملة ،المسندة إلى قائمة الرسم الخشبية ،ونشرت موضوع ًا عنها في جريدة «الثورة» ،مع ما قد يسببه ذلك من إحراج لهم بسبب اختالف مشاربهم السياسية والتقائهم كأصدقاء .من منا لم يكن ساذج ًا في تلك الفترة الواعدة من أواسط سبعينيات بغداد ،أيام الجبهة الوطنية؟ لم ُأطل المكوث في بيته ألنه كان علي .وقبل انصرافي أعطاني خائف ًا ّ مجموعة وريقات مربعة صغيرة من النوع الذي يستعمل لتسجيل المالحظات ،وأخبرني أنها قصائد كتبها في المعتقل ويريد إيصالها إلى أصدقائه الذين كان أغلبهم قد هرب من البلد، وطلب مني أن ُأسلمها ،في باريس ،إلى صديقنا المشترك الفنان والشاعر محمد سعيد الصكار .وهكذا كان .وفي تلك القصاصات قرأت: «بابي مفتوح طول الليل مر به اثنان: ّ سري ،وصديق سكران» شرطي ّ ّ وقرأت: «كنت متكئ ًا في سريري وإلى جانبي امرأة عارية فجأة ُفتح الباب جاء رجال ثالثة أخذوا امرأتي وخلوا إلى جانبي امرأة ثانية»...
ثم دارت األيام و«تاب» الصائغ عن شيوعيته وبدأ يحرر صفحة في جريدة «الثورة» ،كما عاد إلى الوظيفة وصار مديرًا عام ًا في وزارة الثقافة واالعالم. وفي إحدى المرات ،زرته في مكتبه في دائرة السينما والمسرح ،وتصادف وجود الصديق والزميل محمد كامل عارف عنده ،وقد أصر على أن يخرج بنا إلى الشرفة العريضة الملحقة بالمكتب وحي «كرادة مريم»، والمطلة على دجلة ّ وهو يسخر معنا من تلك الوجاهة التي ال تناسبه كثيرًا .ثم صرت ألتقيه ،بين سنة وُأخرى ،حين كان يأتي إلى باريس برفقة صديقه الشاعر حميد سعيد لكي ينقال إلى المثقفين والصحافيين العرب واألساتذة الفرنسيين دعوات لحضور مهرجان «المربد» الشعري في بغداد. في باريس ،لم تكن هناك عيون تراقب .وقد زارني الصائغ وصحبه في شقتي وكان نزق ًا في مرارته وهو يحنق على رفاقه الذين «يتسكعون في هذه البالد» بينما يعاني العراق وأهله من ويالت الحرب مع إيران .ثم فوجئت به يهاتفني في وقت مبكر ،بعد
يومين ،ويدعوني لكي نفطر في أحد مقاهي «الشانزليزيه» ،غير بعيد عن الفندق الذي كان يقيم فيه .ولما خرجت من نفق المترو وجدته واقف ًا يدخن بعصبية ،وسار بي ،بدل المقهى ،إلى «بار ألكسندر» الذي كان عند مفرق جادة جورج الخامس ،وبدأ يشرب .وهو تحصيل حاصل ال يزعجني ألنني أعرف أن رجالنا يعاقرونها منذ األزل .لكنني لم أفهم ذلك الهروب الصباحي إلى وخمنت أنه كان محتاج ًا للكالم، الخدرّ . ولالبتعاد ،لبرهة ،عن الصحب الذين ما زالوا نيام ًا بعد سهرة الليلة السابقة. يجيد يوسف الصائغ تقمص عدة أدوار في الجلسة الواحدة ،وهو المحتال الصادق فيها كلها .فهو المريض ،أو المقهور ،أو المظلوم ،أو العاشق المهجور ،أو العدواني ،أو المغرور. فإذا ما شعر أن أداءه بات يقترب من الخزعبالت وأنه يجالس صديقة قديمة تحاصره بالشكوك ،خلع كل أدواره وهدأ منكفئ ًا على قدحه ولفّه حزن عميق. ثم ،كما الصحوة ،يرفع رأسه ويتأمل األغراب السائرين في الشارع المتعالي
ويهمهم مطلع ًا هبط عليه ،فجأة. «هل لديك ورقة؟». لم يكن معي سوى غالف رسالة مهملة في حقيبتي ،فتناوله وراح يكتب، مرتجالً ،على ظهره: «إيه ...إيه يا رج ً ال ضّيع نفسه في بغداد... عبث ًا تبحث عن نفسك في الشانزليزيه ّ كف عن التفتيش وتعلّم آخر عمرك تحب ...وكيف تعيش». كيف ّ ثم وقع األبيات بتوقيعه المتصل وكتب «باريس 4 ،1985تشرين الثاني» ،ودفع بالغالف إلي وهو يؤكد، بلهجة موصلية تجمع بيننا ،أنه لن يغفر لي ،مطلقاً ،أنني ال أهتم بمعاناته خوافة» .هل ذنبي وسأبقى «كلدانية ّ أنني كنت أعتبره ،دائماً ،ذلك الشماس الذي يرتل الصلوات ،بصوته المجروح، ويهز المبخرة وراء الكاهن في القداسّ ، لكي تنشر ضوعها بين المصلين؟ كيف أفصل شماس الكنيسة عن الشاعر الذي يمتهن غواية النساء؟ قال إنه سافر، المرة ،وهو كئيب جدًا ألنه يعرف تلك ّ سر أن السفر لن يقدم له شيئ ًا وأنه لن ُي ّ به ولن يبتهج .ومن مقدمات كالمه، عرفت أن االعتراف سيمتد وأنه يريد مني أن أكون محاميته عند األصدقاء المشتركين .وأخرجت آلة التسجيل الصغيرة التي ال تغادر ،مع الكاميرا، حقيبتي ،وطلبت منه أن نسجل الحوار لكي أنشره في المجلة التي كنت أعمل فيها .كما أخذت له صورة جاهد فيها لكي يبتسم .وحالما دار المسجل تخلى يوسف عن لهجته الموصلية وطلب كأس ًا ُأخرى وراح يتكلم بالفصحى. في الشريط الذي أستعيده ،اليوم، أسمعه يشكو من األصدقاء الذين انفضوا عنه بعد ما اعتبروه «خيانة» للمبادئ. يقول« :في السفرة الماضية ،كان عندي شوق لهم لكن السفر برهن لي أنه شوق باطل .فأنا قد تبدلت وأصدقائي يتبدلون. إن مسافة من الزمن فصلت بيني وبينهم فلم نستطع أن نبدأ من حيث انتهينا. لقد وجدت لديهم مالمح جديدة ،وعندي 105
دمامل جديدة .وعندهم دمامل قديمة وعندي مالمح جديدة .أما اللغة فلم تعد صالحة بحيث أن شوقي لم ينطفئ فحسب ،بل أحسست بأن شوقي لم يكن في محله .ولم يعد السفر يعني لي شيئ ًا ألنني لم أجئ ألبحث عن باريس ،فأنت تعرفين أن األمكنة ال تهمني وال الشوارع وال األسماء ...تلك األسماء التي تبهر الناس لكنها ال تبهرني .وحتى نسوان باريس لم يبهرنني». حاولت أن أستفزه فقلت له إنني رأيت السائحات العربيات ،في هذا الشارع، يهرعن للسالم على محمود درويش أو التقاط صورة مع نزار قباني ،فلماذا لم تلتفت له إحداهن..؟ هل هو شاعر مغبون على صعيد الشهرة واالنتشار بين القراء العرب؟ أجاب أن األمر ال يشغل باله كثيرًا .أما إذا كان مغبون ًا فلذلك أسباب معروفة: «لقد كنت ،منذ بدايتي ،شاعرًا سياسياً، أي محسوب ًا على فئة سياسية .ولم يكن شعري يعجب تلك الفئة .ولو راجعته فلن تجدي فيه ما يشكل إعالم ًا ألي جهة سياسية ،بل على العكس من ذلك ،لم يكن يجاري التيار .كان شعرًا ال ينتقد أو يجرح أو يعاني أو يكشف حال منتم سياسي .ولم يكن في نية أولئك الذين انتميت إليهم أن يجعلوا من شعري حالة أو أن يروجوا له .بل إن كثيرًا من قصائدي ما كانت تسرهم .لقد فتحت السياسة األبواب لكثيرين من الشعراء وروجت المؤسسات السياسية لكثيرين. ّ تروج لي تلك المؤسسات ألن في حين لم ّ شعري لم يكن في الخط اإلعالمي الذي
تريده .أما الفئات ا ُألخرى فلم يرق لها شعري ،أيضاً .ولهذا السبب أنا مغبون قليالً .ثم إن شعري ال يصلح للغناء. فهو ال يشبه شعر نزار قباني بحيث يمكن أن تغنيه نجاة الصغيرة أو ُأم كلثوم .إنه ليس شعرًا للترنيم ،وال هو شعر غزل صاف بحيث يحفظه الشاب ويقوله لصديقته .وشعري ،أخيرًا ،فيه من الخصوصية بحيث ال يتاح إال لمن يعرف التجربة التي عايشت .فمن أين يأتيه الرواج إذا كنت ،أنا نفسي ،ال أسعى إليه سعي اآلخرين له؟ علم ًا أن في شعري من الصدق ما قد يتنافس مع اآلخرين». سيكارة عاشرة وكأس ثالثة وانتفاضة جديدة« :لماذا على الشاعر أن يكون نجماً؟ أنا يحرجني هذا وأخجل منه .وهو قد يرضيني ضمن حدود صغيرة ،كأن أكون شهيرًا بين الذين ُأحبهم ،ويعجبني أن يوصلني شعري إلى الحبيبة وُأريدها أن تحبني لشعري. أن يكون شعري هو البداية .أن يحبني الصديق لشعري .أما عموم الناس فال أطمئن ،أصالً ،إلى قدرتي على أن أكون شهيرًا بهذا المستوى .وال أفهم كيف يحب الناس شاعرًا .إنها حالة اجتماعية غير ثقافية ،مثل هامبرغر «أبو يونان» في بغداد ،هذا المطعم الذي كان رائج ًا جدًا بحيث ال يعرف صاحبه ،ذاته ،لماذا اشتهر .وهناك من الشعراء من يشتهر على الطريقة نفسها ألسباب كثيرة، لست منصرف ًا إلى تأملها». ً كان منفع ً ال وساخرًا ومقهورا في ذلك النهار الخريفي الجميل ،فخجلت
العدد القادم:
د.حجر أحمد حجر البنعلي يكتب: إيليا أبو ماضي قتلته سيجارة وخلدته أشعاره 106
من استفزازي له وقلت له إنه نجم على المنبر ويعرف كيف يجيد اإللقاء وكيف يتألق ويحوز اإلعجاب و ...قاطعني: «إن لم يحسن الشاعر قراءة شعره فأي شيء يحسن؟ إن لم يعرف كيف يقول للحبيبةُ ...أحبك ...فماذا يعرف إذًا؟ إن شعري يصلح لي وقد كتبته لكي أنفعل به .وعندما أقرؤه وسط حالة شعرية تخلقها صالة ،وجمهور ال أعرفه وال ُأمّيز شخص ًا فيه ،وال أنظر إلى عينين مسحورتين تسمعاننيُ ،أحس حمى بأن هناك حالة غريبة ّ في ّ تصعد ّ من نوع خاص ،وكأن القصيدة تخرج مني للمرة ا ُألولى ،وكأني أسمعها مع السامعين ،وأفهم نفسي من جديد .ال، بالتأكيد لست نجم ًا ولست مسؤو ًال عن نجوميتي داخل القاعة .إن المسؤول هو الحالة الشعرية التي ال أفتعلها وال أسعى إليها .وأعترف أنني ،أحياناً، ُأحاول أن أقرأ جيدًا فتكون النتيجة أسوأ القراءات .وإذا توخيت الدقّة فأنا شخص غير جيد اإللقاء ألن نطقي ليس سليماً ،والسين أتلفظها ،بعد أن سقط سنّي ،ثاء ،ومخارج الحروف عندي ليست واضحة ،وصوتي مبحوح. وأذكر أن سيدة جاءتني وأنا أقرأ الشعر في تونس وقالت إنها معجبة بصوتي. فقلت لها إنها المرة ا ُألولى التي أجد فيها من يعجب بمرض وبتعب الحنجرة». نحن اآلن وقت الضحى ،والحركة تتصاعد في الشارع الذي يضم أفخم متاجر باريس ،والعابرات يتمهلن عند الواجهات ،ثم يمضين تاركات نفحات من عطورهن .والشاعر اآلتي من بالد الحرب يتفرج مبتئس ًا مثل يتيم في عيد. هل هي الحرب والمخاطر واإليقاعات المتسارعة ما جعله يطرح الغنائية ويتبنى قصيدة الضربة الموجزة؟ إنه يرى أن قصيدته تغيرت بسبب تبدل خبرته وتجاربه وبفضل التمكن، ويقول« :عندما يملك اإلنسان تجربته يستطيع أن يعبر عنها بأبسط ما يمكن وبأقل الكالم .أما الذين ما زالوا على حافة تجربتهم فإنهم يحتاجون إلى وصفها ألنهم لم يتعمقوا فيها .وقد كنت
خربشات على وريقة في «الشانزليزيه».
أصف مشاعري وال أفتحها ،أي ال أضعها أمام اآلخرين ألني لست ممتلك ًا لها .أما اليوم فأتحدث عن تجربة أعرفها جيدًا وُأصادقها ،وهي نفسي .وعندما أفتح نفسي تخرج الكلمات بسيطة وواضحة. إنها القدرة على كشف جزء كاف من التجربة بحيث يصبح هذا الجزء داللة على حالة كاملة. أين ذهبت ،أيضاً ،استعاراته من التوراة واإلنجيل ونشيد اإلنشاد التي كان بعضهم يسميها سرقات؟ «لماذا يسمونها سرقات؟ لقد كنت متأثرًا بتلك القراءات ثم شحب تأثيرها علي .إن هناك من يتهمني بأنني ّ استعرت جملة من هنا أو صورة من هناك .ولم ال؟ لقد أخذ إليوت نصف اإلنجيل والتوراة في «األرض الخراب» دون أن يتهمه أحد بالسرقة .إن تأثري باإلنجيل لم يعد بتلك الفاعلية .أنا لي، أعب اليوم ،أناجيلي الشخصية التي ّ منها ومن ذاكرتي المليئة بالتراكمات. وإذا عدت إلى قصائدي القصيرة وأعدت قراءتها واحدة تلو ا ُألخرى لوجدت أنها ليست سوى قصيدة واحدة طويلة في مجموعها ولها سياق واحد .إن
كل حالة أعيشها تمنحني سلسلة من الصور ،وهكذا تصبح القصيدة القصيرة مقطع ًا من حالة ،وتستمر هذه الصور وتبدأ بالتراكم وتتحول إلى ما يشبه السيناريو ،صورة مضافة إلى صورة مضافة إلى صورة .وأنا أقوم بالمونتاج المناسب .وإذا صح التعبير فأنا أطمح إلى القصيدة ـ السينما ،أو القصيدة ـ الفيديو التي تشبه خبرتنا مع الفن في أحسن صوره المعاصرة .اسمعي: «الدنيا غائمة وحبيبة روحي نائمة والقهوة فوق النار يختلط اآلن شميم الحب بعطر القهوة وهي تفوح ورائحة األمطار» واسمعي: «يدها دافئة ويدي باردة خلطنا أصابعنا وقطفنا مع ًا زهرة واحدة». وإليك هذه: «نافذة مطفأة تلوح فيها امرأة مشدودة فوق سرير حديد وقطة تشوى على المدفأة وطفلة نيئة ووطن حر وشعب سعيد ونّيتان: نّية طيبة ،ونّية سيئة». وهذه: «أنت اآلن هي الوطن المحتل وأنت القدس المغتصب والمغتصبون صهاينة عرب يا طفلة روحي أعرف أن فلسطين ستعود إلينا يوم تعودين». أسأله ،بعد تردد ،إن كان سعيدًا بمنصبه الوظيفي الرفيع فيأتيني صوته المبحوح ،في شريط التسجيل العتيق، وهو يقول إنه يعيش في دعة لكن الحزن يتسلل إليه ،أحياناً ،ويحاصره فيشعر بالوحدة ألن أصدقاءه بعيدون وألن الحزن هو أشرف الفصول .أليس هو الذي كتب في مسرحية «الباب»« :ال بأس
بالحزن إذا كان ابن أوادم»؟ إن حوصلته ضيقة وهو ال يطيق الالتفاهم ،ويقول إنه يتصور ،في لحظة ما ،أنه قد تفهم، وفي اللحظة التالية يكتشف أن كل ما بناه من التفهم غلط ،فينعزل ويبقى وحده .تصبح لغته وحده .أحالمه وحده .شهواته وحده .ومشاريعه وحده« ..وعند ذلك أجلس وُأحصي دموعي مثل نيرون». «حين أعود إلى بيتي كل مساء يخرج حزني من غرفته مرتدي ًا الشتوي ويسير ورائي معطفه ّ أمشي يمشي أجلس يجلس أبكي يبكي لبكائي حتى ينتصف الليل ونتعب إذاك أرى حزني يدخل للمطبخ ّ يفتح باب الثالجة يخرج قطعة لحم سوداء ويعّد عشائي». تزوج يوسف ،بعد زوجته وحبيبته جولي ،لكن جثتها المدماة في العراء ظلت تسكنه وتتسلل إلى قصائده. ويقول لي إنها عندما ماتت فإنه لم يبحث عنها وراءه بل راح يبحث أمامه ،فربما يصادف الحبيبة هناك« .هي لم تمت مت أنا نفسي كثيرًا.. وحدها فحسب ،بل ّ ثم انتفضت فزال القبر والكفن». ظل السؤال الكبير معلق ًا في نظراتي. ولم أتلق جوابه إال بعدما غادر يوسف الصائغ ،مع وفد المربد ،عائدًا إلى بغداد. لقد ترك لي ،ورقة مستلة من دفترّ ، خط فوقها بالحرف المرسوم ما يلي: «غزال يطارده قاتلوه ...فيهرب عيناه واسعتان وقلبه أخضر حتى إذا حاصرته بنادقهم توقّف محتمي ًا بوداعته وأمال لهم رأسه وحّدق فيهم حزين ًا وقال لهم: تعبت فال أستطيع الفرار افعلوا ما تشاؤون». توفي يوسف الصائغ في الخامس من كانون أول (ديسمبر) ،2005في دمشق ،بعد أن عاش 72عاماً ،وفيها ووري الثرى. 107
ن�صو�ص
موعد في الربيع ربيعة ريحان -املغرب
ال أدري لماذا تكون أمي مصممة على الذهاب مع قريبتها اللة خديجة النحيلة والمحنية الظهر قلي ً ال كل ربيع وأحيان ًا في الصيف إلى هضبة سيدي بوزيد المطلة على البحر والمدينة إطاللة فخمة ،مع أنها ال تحتمل جنون أبنائها السبعة وال عبثهم الممسوخ ،وتعرف أنهم على الطريق كما في البيت سيجرؤون على القيام بأفعال رهيبة ومضحكة ال تخطر ألحد على بال وكأنهم عفاريت مسجونة طلعت للتو من علب مغلقة. أمي تخطط أليام مع قريبتها لتلك (النزاهة) المرتقبة بتنسيق مع زوجيهما ،وكأنهما مغادرتان إلى آخر الدنيا، وأنا أكون صامتة أراقب كل شيء وأبدع في كل لحظة أساليب خاصة لالبتعاد عن طريقهم وعدم الوقوع تحت طائلة تتالي تلك الحركات المليئة بالتفاصيل المفزعة. ورغم جمال اللة خديجة وبياضها المصفر فأطفالها بشعون بأنوفهم المفلطحة الشبيهة بأنف أبيهم وسيقانهم العظمية ،كما أنني ال أدري لماذا تصر أمي وقريبتها على عدم ركوب الحافلة من سيدي بوالدهب إلى محطة سيدي بوزيد مع أننا نصطحب في رحلتنا قفف ًا ثقيلة مليئة بالخبز والكعك واللحم والصحون واألسياخ ومالءات نفترشها فوق العشب ونحن جالسون خلف سور قبة الولي الصالح على يمين المقبرة. قبل أن نصل إلى هناك بساعتين أو أكثر بقليل يكون أوالد قريبتنا قد هشموا أشياء كثيرة على الطريق كمثل القناني الفارغة واللمبات المحروقة ،كما ركلوا العلب الصفيحية من
108
منطلقنا بدرب الصومعة مرورًا بدرب بوجرتيلة ثم الطريق المسفلت العابر بين مقبرة سيدي بوزكري والميناء ،كما قاموا بإيذاء بعضهم البعض باللسع بالحريكة التي ينتزعونها من حواف مجاري المطر أوالوخز بالعيدان وتبادل الرمي بالحجارة والدفع المباغت في الحفر ولكم بعضهم البعض على الوجه أو على األصح فوق األنف ،وطوال ما هم يفعلون ذلك تظل أمهم المسكينة تخبط على خديها من خلف نقاب الموسلين المطرز وقب جالبة الكابردين اللذين يشبهان كثيرًا ما ترتديه أمي وتتوعدهم بالعودة الملفقة إذا هم لم يهمدوا فيهربون منها وهم يسابقون الريح. وحين نصل بعد جهد إلى أعلى الهضبة كنت أتصور أنهم سيكونون أقل عفرتة ألنهم فعلوا الكثير وتقافزوا بما يكفي وأدموا ركبهم وأصابع أقدامهم عبر الحواجز الصخرية في الطريق ،لكن الشروع في مد المالءة ووضع القفف عند قوس قزح األلوان الربيعية الزاهية المختلطة برائحة البحر ال يشكل شيئ ًا بالنسبة لهم وال هم يرغبون في أزيد من البحث عن مصادر جديدة للعب المريع. وبينما أمي وقريبتها تقومان بدورهما بإتقان وهما تتحدثان بلطف وتخرجان األواني وترصانها بعناية كما تطلعان الكعك المدور وتتحققان من طراوة اللحم في السلطانية الخزفية ويناعة النعناع المعاشي تكلف قريبتنا أكبر أوالدها والذي يليه بصنع كانون من الحجر للشواء. ربما كنوع من التحسيس بالمسؤولية تطلب منهما ذلك، لكن لألسف تكون تلك العملية ذاتها مليئة بالمفاجآت الجديدة
التعسة إذ وهم يقلبون الحجر بحماس يسعدون بوجود تلك الحشرات الزاحفة كالعناكب وغيرها التي يلتقطونها ليدسوها في رؤوس بعضهم البعض على وقع صرخاتهم العنيفة المرعبة ،فتهمس لي أمي أال أخاف ألنها تعرف أنني أفزع لمجرد مرأى أي من تلك الحشرات أو الزواحف مهما كانت صغيرة. وأعجب ما في األمر أن أمي المعروفة بدورها الناصح وبصرامتها ال تتدخل إطالق ًا إليقاف جنون هؤالء األوالد وال تعلق على تصرفاتهم أمام قريبتها المسكينة إال حين العودة إلى البيت ،ربما إلدراكها أال مجال إلصالحهم فتكتفي بضمي وطمأنتي وأنا ألتصق بها : ـ عفاريت يأكلون من العينين .يا حفيظ يا ستار.
ثم تدعو ألمهم : ـ اهلل يكون في عونها اللة خديجة. كنت أعجب أيض ًا من استمتاع أمي بحماقة تلك النزهات وعدم تأسفها على شيء ،خصوص ًا حين تصل األمور إلى الذروة عند إشعال النار في الحطب واإلمساك بعناد بأسياخ اللحم المشوية بعد التهام ما بها وتحريكها في كل اتجاه أو التلويح بها للمبارزة ،وكانت تلك إحدى حاالت شلل القريبة وتالشيها من الفزع وهي تحاول اإلمساك بأي واحد من األطفال إليقاف ذلك اللعب المرعب الذي تنقصه فقط عمليات القتل الفعلي ،ولو كانت هناك جراء أو قطط رضيعة أو كتاكيت لدى السكان في الجوار ألتوا بها بال رحمة كالمجرمين وصوبوا ثم قذفوا بها بكل دقة ووحشية في النار مهللين مثلما فعلوا مرة في الفرن عندما ذهب بهم أبوهم إلى قرية غير بعيدة. حصل ذلك كثيرًا قبل أن أكبر قلي ً ال وأتخذ قراري لوحدي بعدم الذهاب بتات ًا إلى تلك النزهات ،ليس فقط بسبب عدم تحملي لمغامرات األوالد المتهورة الرعناء وفوضاهم ،بل أيض ًا من أجل االبتعاد عن البنت الكبرى الكريهة حياة ،التي علي حكايا صارت أكثر أناقة مني وصارت تحاول أن تقص ّ عن حبيبها الجالس خلفها في الفصل ،وهي تستعمل معي ضروب ًا غير مسلية لمحاولة العبث في صدري ،أو تطلب مني أن نتعرى مع ًا لنتفقد أجزاءنا التحتية كنوع من التفحص البريء ،ثم تسألني أسئلة مبهمة عن المضاجعة ،وهي تحاول أن تصعد فوقي بوجهها الناعس من رغبة ما. وحين كبرنا أكثر وأكثر كانت الحصيلة الكارثية مذهلة، فمليكة البنت الوسطى فقدت عينها اليسرى ولألبد ،وأحمد األصغر ظل يعرج من كسر مزدوج في الساق لم يعالج منه بشكل جيد حسب التصوير الشعاعي المتأخر ،وسعاد وليلى وعبدالرحيم وسعيد وحياة انكسرت أسنانهم األمامية أو تفرمت وجرحوا واكتووا بالنار في أطرافهم وفي مواضع أخرى وبدرجات متفاوتة ال تزال آثارها لآلن في حالة جيدة مثل الزخارف.
عصمت داوستاشي -مصر
وحين فاتحت أمي بعد سنين طويلة عن سر تشبثها باقتسام تلك النزهات مع قريبتها المسكينة وأطفالها العجيبين بدت لي وهي ترد كأنها تضفي على كالمها شيئ ًا من الزهو والخصوصية ،فأمي كانت تتشبث بالذهاب مع تلك القريبة إلى (النزاهة) إياها ألنه كان مسموح ًا لهما تقريب ًا هما االثنتان من طرف والدي البحار وزوج اللة خديجة الموظف في الكهرباء من بين كل نساء العائلة(الحاجبات) في أسفي مدينتنا المحصنة العتيقة بأن تنعما بذلك القسط الوافر من الحرية واالنطالق.
109
ثالث قصائد �سنان امل�سلماين -قطر
ما الذي أسرى إليك ؟ ما الذي �أ�رسى �إليك؟ هم ال�سكوت ُّ هم الر�ضا ُّ وال�سكينة التي عر�شت على باب �صحوك �أم يقظة الغايف على �أحالم الوعود ؟ وفر كر ّ و�أنت ما بني ّ يف ليلك الدامي تغني مالَ َّذ البن زبيبة من ع�صف حت ّدر من نب�ض الرعود �أرخيت �سرتك تبتغي ف�ضل املعنَّى ولكن، كنت يف �صمتك جتتبي �رس الوجود ما الذي �أ�رسى �إليك و�أنت للحزن خليلٌ للمزن �سليلٌ �رصخة اجلاثي يف ظل ملك �ضائع �أم خوف ال�سجود ؟ ناحت على باب جفنك دمعة وخرت �آه ٌة َّ و�ألفيت قولك يف �ضيق اللحود. 110
ما الذي أبقاك ؟ ما الذي �أبقاك ؟ ال �شيء يغري بالبقا ْء ال الأهل �أهلٌ يا زماين ال الوجد ظ ٌّل للأماين كم هوى يف ال�صدر مطروحاً ونا ْء ! ما الذي �أبقاك �شيئاً احللم من نثار ِ
يجري يف �رشايني الفنا ْء الهم يف الليل �إذ جت ّلى ُّ نربا�ساً قميئاً ودا ْء ؟ جارح �أي وعدٍ ٍ ني �أبقى احلن َ م�ضغ ًة جمروح ًة وِ ْر َد �أ�سباب ال�شقا ْء ؟ ما الذي � َ أ�صحاب ولّوا أبقاك وال ُ كالنجيمات ال�شوار ْد القلب من ف�ضاء �أ�سود ِ
مقطوع الرجا ْء ِ ترقب الأيا َم مت�ضي ُ جحيم الي� ِأ�س يف ِ نهراً من عنا ْء ؟.
تأ َّم ْ ل املجرة فت�أ َّملْ كلَّ ما � َ أخفيت يف قلب َّ
�سطرت من نزقٍ ،ول ٍه كلَّ ما َ بهي القولِ يف الظلِّ يا ابن َّ للحب ،ح�رس ْة �أو �صو ٍر َّ
لكن وحتينَّ ْ فر�صة ال ِ إفالتْ ، كيف للموهو ِم �أن ي�سلو املبرَ َّةْ؟ �أن َ يغرف احلزنَ امل َذ َّو ّب من غيم امل�رسَّ ْه أبي �شوقاً ملا ْ قد َ فا�ض من نف�س ال ِّ وجوعاً ب َّدل ال ُ إقبال عِ �رسَ ْه من فت�أ َّمل كلَّ ما � َ أخفيت يا ْ غيرَّ َ الإقالل وال ُ إحالل عذ َر ْه وت�شيَّ�أ دمع ًة لل َّزهر حيناً
خفق َة اَلطري امل�ضيِّع �رسَّه وتخي لعبة الإف�صاح والإ�ضمار ُد َّر ْه ابن منطوقِ الر�ؤى �أيا َ ابن الثواين والأماين يا َ والليايل امل�ستع َِّر ْة
املحيطات وال�صور الر ِ ِ حب ُّ يا ابن اخليال ّ
املد َّر ْه ني عن كمدٍ رب� َأت ليلَ الواله َ
ني وال ُّدنا �إ َّرةْ؟ َ فكيف ليلُ العارف َ
المرآة
د .عالء عبداملنعم �إبراهيم -م�صر لم يكن من عادته أن يفعل هذا ،يقف أمام المرآة يتفحص مالمحه ،بدا له وجهه أنحف بكثير مما كان يظن ،والحظ أن شاربه أكثر كثافة من المعتاد، فوجئ بخلو رأسه من الشعر ،اندهش لكتل اللحم المتدلية من بطنه بفعل ضغط الحزام ،انتابته رعشة مؤرقة فور وقوع عينيه على صورتهما المنعكسة على المرآة ،كانا ُمتشابكي األيدي ،هي بفستانها األبيض الذي رفضت أن تؤجره فوافق على شرائه لها عن طيب خاطر ،وهو ببدلته التي أصر على أن تكون مد بيضاء ،الحظ أن ابتسامتها كانت مصطنعة ،لم تكن حينها كذلكَ ،و َّد لو َّ يده ليقرب الشفتين داخل الصورة فتصير االبتسامة أكثر طبيعية. حاول أن يحدد السبب :هل هو الكرش المتدلي ،أم الشعر المتساقط ،أم النظارة التي اضطر أن يرتديها نتيجة عمله اإلضافي ،أم األسنان المسوسة بفعل عشقه للحلويات؟ لماذا اآلن؟ صرخ بحرقة وهو يالحظ مالبسها المبعثرة على السرير وحقيبة السفر ُمعدة الستقبال أكوام المالبس ،كان كل شيء يسير بدقة وألفة كالمعتاد ،استيقظ من النوم بتملل ،وجدها واقفة في المطبخ تعد الفطار كالمتعاد ،تجيد إعداد الفول بالزيت الحار والبيض بالبولوبيف، «انت صحيت؟» قالتها بتلقائية ،ارتدى دخل المطبخ عليها باغتها بقبلة عابرة َ مالبسه ،جلس معها وولدهما على المائدة ،لم يتكلما كالعادة ،نهض مسرع ًا ودعها «أتوبيس حمادة هيعدي عليه وال آخده في ّ سكتي؟»« ،ال خده أحسن»َّ ، تردها إليه كالعادة. بقبلة باردة ،لم ّ عاد من العمل منهكاً« ،هل الغداء جاهز» سأل وهو يدرك اإلجابة ،فعلى مدار سبع سنوات لم تتأخر يوم ًا في إعداده ،بدت على وجهه عالمات السعادة وهو جالس على المائدة ،فاليوم آخر الشهر ومع ذلك فالمائدة تحتوي على حمام محشي بالفريك وبامية باللحم الضاني ،البد أنها تريد منه شيئاً ،صار الحمام مع البامية طقس ًا ال تمارسه إذا كانت ستطلب منه شيئ ًا غالياً :فستان سواريه لحضور زفاف ابنة عمها ،خاتم ًا ذهبي ًا للتباهي به أمام زوجة أخيها، موبايل بكاميرتين وخطين مثل الذي اشترته أمل جارتها ،اعتاد أن يكون نفعي ًا «آكل الحمام والبامية وبعدين يحلها ربنا» ،حاول أن ينفلت منها بعد الغداء ،ولكنها باغتته ،إذن اآلن ستطلب« ،خير عاوزه ايه المرة ده؟» سادت لحظات من الصمت الذي زاد هواجسه من ضخامة المطلوب« ،أوعي تقولي عوزه عربية وال فيال» حاول اصطناع الضحك ليقضي على مخاوفه ،ولكنها بادرته بعبارة مقتضبة «احنا الزم نسيب بعض» كانت الجملة حادة ومكثفة لدرجة جعلته ينسف الحدود بين الحقيقة والحلم ،حاول أن يكذب أذنه ،ولكنها لم تمنحه الفرصة لالستفسار أو التملص ،أسرعت إلى حجرة النوم وبدأت في إخراج المالبس من الدوالب ،فتحت حقيبة السفر وبدأت في حشوها ،لم يهرول خلفها ،لم يطرح األسئلة ،وإنما اندفع تجاه المرآة وظل محملق ًا فيها، إلى أن أيقظه صوت الحقيبة وهي تغلق ،التفت إليها بسرعة وسألها :لماذا. فأجابته وهي تستدير :ألنك صرت بال رائحة.
111
ترجمات
112
- Vincent van Goghهولندا
هناك مؤثرات عربية -إس�ل�امية جلية في قصائد نوابغ الش���عر الروس���ي .نفذت إلى الرؤى الفلس���فية للش���عراء الروس ،والمست أبعادهم النفس���ية والروحانية والمعاني القيمية واإللهام الش���عري والصياغات الفنية وجماليات التصوي���ر .مهدنا بها ألربعين قصيدة روسية فريدة ومبكرة ،تنتسب إلى القرن التاسع عشر -بداية القرن العش���رين ،نظمها عباقرة الشعر الروس���ي الكالسيكي ،في عصريه الذهب���ي والفضي( ،ديرجافين ،بوش���كين ،شيش���كوف ،فيلتمان، تيوتتشييف ،ياكوبوفيتش ،موروفيوف ،ليرمونتوف ،بولونسكي، بالمون���ت ،بونين وغيره���م) .اجتهدن���ا ،بما هو مت���اح وممكن من كتب ودوريات روس���ية نادرة ،في اختيار أش���عارها والكشف عما القرآن الكريم المترجمة إلى اللغة الروس���ية نهاية تكنزه م���ن آيات ُ القرن الثامن عش���ر -القرن التاسع عش���ر .وأهم ميزة لهذه األشعار القرآن الكالسيكية تنحصر في ثراء االقتباسات المباشرة ،من آيات ُ ّبي ُم َحّمد (صلى اهلل عليه وس���لم) ،المستقاة من الكريم وس���يرة الَن ِّ تراجم أنجزها دبلوماسيون ومستشرقون روس منهم :فيريوفكين، كولماكوف ،نيكوالييف ،بوغوسالفسكي ،سابليكوف. وبهاء على موضوعات فرادة وال شك أن هذه االقتباسات أضفت ً ً تلك القصائد وصيغها البالغية وصورها الشعرية ومدها الروحاني والجغراف���ي .كما وهذبت تبليغ ما اهتدى إليه الش���عراء الروس من اإليمان الورع وما فاهوا به من مناجاة وتأمالت ومواعظ مستوحاة م���ن كالم اهلل إلى جمهورهم ،مفصحين وبجالء عن مالمس���ة الوحي القرآني لبابهم وأرواحهم التواقة إلى اإليمان واالطمئنان، ُ وتكش���ف روايات وقصائد الكسندر بوش���كين ،عن أنه استأنس وتأث���ر بقيم وعب���ر كتاب اهلل الس���ميح وقصص األنبي���اء واألقوام، التي تعرف عليها من الترجمات الفرنسية والروسية لمعاني القرآن الكريم وتفاس���يره التي مدت قريحة الشاعر بوشكين ومخيلته بزاد الش���عر اللذيذ .ويب���دو أن هذا اإليناس ،الروح���ي -اإليماني ،المس وأثرى خطاب بوشكين الفلس���في-العقائدي ونحا نحو الشعري .ما تجس���د وبان في إيقاع س���جع القرآن الفريد ،الذي لم يألف له شاعر روس���يا األكبر كفوًا ال في إبداعاته الشعرية والنثرية وال في قراءاته األدبية والدينية .األمر الذي تجلى وس���طع ف���ي قصائد( ،من وحي ّبي) و(أغني���ة تترية)ومقطوعته الش���عرية (المغارة ُ الق���رآن) و(الَن ّ السرية) التي نظمها بوشكين بوحي من سورة الكهف التي قرأها في ِّ الشتاء بمنفاه في قرية ميخائيلوفسكي (في مدينة بسكوف). موسم َّ السورة الكريمة بعثت وبقوة في ذاكرة الشاعر بوشكين مغارة هذه ُّ القرم ،الباردة والمكفهرة والمظلم���ة ،وذكرته بحالة الَنّفي والعزلة التي عانى منها إبان حقبة المالحقة.
من َوحي ال ُ رآن ق ِ ألكسندر بوشكين ترجمة -د .ناظم الديراوي* ق�سم بال�شفع والوتر �أُ ُ احلق ق�سم ِ بال�سيف َو َوقع ِة ِ �أُ ُ بح بنجم ُ ق�سم ِ ال�ص ِ �أُ ُ ق�سم ب�صالة ِامل�ساءِ. �أُ ُ تخليت عنك. كال ،ما ُ ا�صطحب ر� َأ�س �أَلَ ْ�س ُت �أنا الذي َ َم ْن �أَ َح َّب و�آوا ُه ،يف �سكِ ينَة، ع�سف يطارده؟ بعيداً عن ٍ �أَلَ ْ�س ُت �أنا الَّذي َ�سقاك يف يو ِم الظم�أ من ما ِء ال�صحراءِ؟ هب ل َ ِ�سانك �أَلَ ْ�س ُت �أنا الَّذي َو َ ألباب؟ ُ�سلطاناً قديراً على ال ِ مبروء ٍة ازد ِر الباطلَ َ احلق وا�سلك بثق ٍة �رصاط ِ أحبب اليتامى ،وبلغ ُقر�آين و� ْ املخلوقات املرتع�شةَ. َ
2 بي ال ّطاهرات يا زوجات النَّ ِّ وجات جميع ال َّز ِ يا َم ْن ُميِّزتُ َّن عن ِ مري ٌع لَ ُك َّن حتى �شبح الفح�شاء. عِ ْ�ش َن بح�شم ٍة يف ظل الطم�أنينة العذبة وتَ َ�س َرّ ْتنَ بخمار العذراء. ْ واحتفظ َن بالقلوب الوفية
للمتعة ال�رشعي ِة واملُحت�شم ِة وجوهكن ّ نعمْ -لن تَب�رصَ النظر ُة املاكر ُة املُدن�سة. �أ ّما �أنتم ،يا �ضيوف حُمَمد وافدين �إىل �أُم�سيتهِ، يا َ نبي حذار من تعكري مزاج ِّ ببهارج ال ُدنيا. ميقت ،حني يَ�سمو بي ُ فالنَّ ّ ني �إلهامه املُقد�س ،ال َّل ْغوي َ والكلمات املختال َة والفارغ َة ِ �أَجِ ّلوا م�أ َدبَته بخ�شوع وانحنوا ب ِع َف ٍة لن�سائه ال�شابات امللتزمات.
3
بي ،وبَ�رس، عب�س النَّ ُّ �أن �أزلفت منه ُخطى الأعمى، و�سعى كي ال يتجا�رسَ املنكر، وتظهر احلِري ُة عليه. ُ نبي للمعر�ضني ُمن َ ال ُ ِحت يا ّ كتاب ال�سما ِء المُ ُ�صحف َمن ِ باطمِ ئنانٍ بَ�شرِّ بال ُقُر�آن وال تُكره الكفا َر فيهِ. 113
لمِ َ يتغطر�س الإن�سانُ؟ ُ �أَلأنَّ ُه َظهر �إىل احلياة عارياً، ليعي�ش ما ال يُزيد عن قرن، وميوت �ضعيفاً كما ول َد �ضعيفاً؟ ُ الرب يمُ يت ُه �أَل َّأن َّ ويُحييه مبَ�شيئت ِه ؟ ويحميه من ال�سما ِء وال�ضا ِء ؟ ال�سا ِء َرّ يف َرّ الر ُب الثما َر، �أَلهذا وهب ُه َّ مر والزيتونَ واخلبز َوالتَّ َ َ وبارك �أعماله يف التَّ ِل واحلقل والبُ�ستانِ ؟ ِ لكن َ املالك �أَ َذّنَ مرتني َّ يدوي و َرع ُد ال�سما ِء على ال ِ أر�ض ِ يفر من �أخي ِه وال ُأخ ُّ االبن يرت ُد عن �أُ ّمهِ. َو ُ الر ِّب والكلُ ماثلُ �أما َم َّ الرعب، مم�سوخ من ِ ٌ َ والكف ََر ُة يت�ساقطونَ ، تُغطيهم النا ُر والغربة.
4 يف قدمي الزمان� ،شا َء ا ّجلبار امل ُ اجلم، ُ تغطر�س ُ �أن يتبارى معك� ،أيُها القدير، فقهرت كربيا َء ُه، َ لت يا َّر َّب ، �إ َذ ُق َ أمنح العامل َ احليا َة �أنا الذي � ُ باملوت ، أر�ض ِ عاقب ال َ َو�أُ ُ َويدي تطول اجلمي َع. و�أنا �أي�ضاًَ ، أمنح احليا َة قال هوُ � ، 114
رب. عاقب ِ باملوت� .أنا كفواً لك يا َّ َو�أُ ُ رب لكن كلمتك الغا�ضب َة يا َّ َّ ال�شائن، جح � ِ َ أ�صمتت التَبَ َ ال�شم�س �أنا من املَ�رشقِ �أُط ِل ُع َ املغرب! أنت من ِ ف�أطلعها � َ
5 ِباب، ال ُ أر�ض م�ستقر ٌةٌ-ال�سما ُء ق ٌ أنت يا خالق، �سا ِن ُدها � َ أر�ض واملاء �أجلْ لَ ْن تهوي على ال ِ ولن ت�سحقنا. أ�شعلت يف الكونِ أنت � َ نعم � َ ال�سما َء �أنوا َر ِ ال�شم�س ف�أ�ض� َأت َّ �رساج بلو ٍر هج ِ وال َ فتيل ِ أر�ض ،ك َو ِ بالزيت. مغمو ٍر ِ للخالق �صلوا ،فهو القدير ِ الريح ،يف يوم ال�سع ِري ِّ يوج ُه َ ال�سماءِ، ويزجي الغيو َم �إىل َّ ال�شج ِر. أر�ض ظِ َّل َّ ومينح ال َ ُ حيم ،ملحمد الر ُ هو َّ نري فتح القر�آن امل ُ َ �أجل� ،سن�ش ُع بالنور �أي�ضاً، ُ و�ستزول الغ�شاو ُة من العيون.
6 لي�س عبثاً �أن تزوروين يف منامي َ ؤو�س حليقةً، يف معمع ِة القتالِ بِر� ٍ أ�سياف ُم�رضجة بالدماءِ، قاب�ضني على � ٍ الربج ،فوق ال�سورِ. يف اخلنادقِ ،فوق ِ
يا �أبناء ال�صحاري اللظى ال�سار! ا�سمعوا النداء َّ ال�سبايا اليافعات �إىل الأ�رس �سوقوا َّ َوتقا�سموا غنيمة احلرب!. نعم �أنتم الذين انت�رصمت :املجد لكم! �أ ّما املتخاذلون فا ِخل ْزي جزا�ؤهم*! مل يلبوا نداء احلرب، ومل ي�صدقوا الأحالم العجيبة. غنيمة احلرب �أغوتهم، فانربوا يقولون الآن نادمني: خذونا معكم ،غري �أنكم �ستقولون: لن ن�أخذكم معنا. �أما �شهداء املعركة الأبرار، فقد دخلوا الآن جنة عدن. ويف نعيم ال ي�ؤوده �شيء تراهم يغرقون.
7
ُقم �أُيها الوجل يف كهف َ ِك يَظلُ املقد�س ال�رساج ُ ُ ال�صباح. ُمنرياً حتى ِ القلب بدعا ٍء من ِ نبي اطرد يا ّ الهواج�س الكئيب َة َ والأحال َم املاكرةَ! ال�صالح و َرتّلْ �صال َة ِ ال�صباح �إىل ِ ورتّلْ كتاب ال�سما ِء َ طلع الفجر. حتى َم ِ
9 �إىل اهلل ر َف َع الكليل ،ت َذ ُّمر ُه ال�سبيل، عابر ِ ِ ُ ال�صحرا ِء وقد تاه يف فنا ِء َّ وثالث ليايل، ثالث َة �أيا ٍم َ حيث �أ�ضنا ُه الظم�أ ُ ُ الظالل. وال�شوق �إىل ِ
8
تاجر بالذم ِة يا َم ْن تُ ُ
ني الب�ؤ�سا ِء على ِ ح�ساب املت�سول َ ال تُ ِ�ص ْب َع َ طاياك من �أيا ٍد �سخي ٍة ت�أملُ اجلزا َء فتميم الكر ِم ما يُر�ضي ال�سما َء ُ يف يوم امل�ساقِ .
بالطيبات حب بذرت ُه كحقل َر ٍ ِ ٍ
َ أعمالك ب�أعظم العطاء. �سيجزي �
ِقت و�أَن �أ�شفقت مما ُرز َ من �أتعاب الدنيا ني ب�صدقة بخيلة على م�سك ٍ َويدك مغلولة،
فاعلم � َّأن ُك َّل عطاياك تتال�شى مثل غبار على حجر غزير مطر ٌ غ�سله ٌ واللهّ لن يقبل منك تلك املِنَّة.
الهجري والعفر العيونَ . أرهق و� َ ُ يائ�س َ �ساق يف احلولِ ، ٍ وبكرب ٍ حتت نخلةٍ. وما �إن ر�أى نبعاَ َ اجت َه ُم�رسعاً نحو نخل ِة ال�صحرا ِء املتدفق وبنهم من البار ِد ِ ٍ َ ال�شائط والعيونَ ، َر ّط َب ال ِّل�سانَ رب احلمري ِالوفي ِة َو ُق َ ا�ستلقى وغفا، أر�ض ومبَ�شيئة ِ مالك ال�سماوات وال ِ توالت علي ِه �أعوا ٌم ٌ طوال. ْ أزفت �ساع ُة َو�إذ � ْ ال�سبيل، يقظ ِة عاب ِر ِ �سم َع �صوتاً خفياً ُ يقول: زمن بعيدٍ (�أَمِن ٍ غفوت بعمق يف البيداءِ؟) َ ال�سبيل: عابر ِ ف� َ أجاب ُ م�س الآن َّ ال�ش ُ ال�سما ِء يف كبدِ َّ أ�ضاءت َو�أم�س � ْ َ باح. فوق �سما ِء َّ ال�ص ِ بعمق قدت ٍ وقد َر ُ باح. باح �إىل َّ من َّ ال�ص ِ ال�ص ِ
ال�صوت َ قال: لكن َ َّ ال�سبيل (يا عابر ِ منت � َ أطول ، لقد َ ظر:منت �شاباً ، انْ َ حوت عجوزاً، و�ص َ َ لت، والنَّخل ُة بَ ْ �أ ّما النَّب ُع البار ُد ويب�س فقد َ ن�ضب ما�ؤ ُه َ يف ال�صحرا ِء القاحل ِة طويل ومن ُذ �أمدٍ ٍ ُ الرمال ال�سهول طمرت َ حمريك) وابي�ض ْت عظا ُم َّ من هولِ الفجيع ِة النحيب العجو َز تمَ لك ُ املرتع�ش ُمط�أط�أً فبدا ر�أ�س ُه ُ يف فنا ِء ال�صحراءِ، حدثت ُمعجزةٌ. وبغتة ْ انبعث الفاين يف حل ٍة جديد ٍة �إذ َ وعا َد النب ُع مملوءاً بالبرُ و َد ِة وال�سد ِمي بدت النَّخل ُة ومن جديدْ ، تلوح بظاللِ ر�أ�سها. ُ ونه�ضت عظا ُم احلمري البالية ْ ونهقت، واكت�ست اجل�س َد ْ ْ ال�سبيل بالقو ِة عابر ِ و�أح�س ُ ال�شباب يف الدما ِء انبعاث ودب ِ ُ َّ َ مب�رشحات طاهرةٍ، وامتلأ ال�صد ُر ٍ الطريق. الر ِّب انحد َر يف ِ وبرعاي ِة َّ ميخائيلوف�سكي\1824 * ت�صدر الق�صيدة �ضمن كتاب «النبي حممد يف ال�شعر الرو�سي الكال�سيكي» -ي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة درا�سات الثقافة الإ�سالمية-مو�سكو
115
أزهار وسط شرشف السرير
زويــــا بــيـــرزاد
ترجمة � -سمية �آقاجاين -ويداهلل ماليري كانت (روش���نك) في السادس���ة من عمره���ا حين تعلّمت ٍ س���نوات الحياكة .ذات يوم ،قالت لها جّدتها التي تحيك منذ شرشف سرير كبيرًا بألوان مختلفة« :يا بنتي ،بدل المشاكسة َ واللعب ،اجلس���ي واحبك���ي هذه األزه���ار ،لنلصق األزهار بعضها ببعض فننتهي من خياطة الشرشف بسرعة». رمت (روش���نك) األحجار الصغي���رة التي كانت تلعب بها «يك ُقل دو ُقل»( ،)1وجلست إلى جانب الجّدة تحبك األزهار البيضاء والحمراء والزرقاء والصفراء والزهرية. كانت األزهار األولى التي حبكتها عوجاء ال تشي بجمال، لك���ن جدتها تقول «ال ب���أس .نضع هذه األزهار في أس���فل الشرشف كي ال تقع العيون عليها». في المدرس���ة كانت كتابة حرفي «آ» و«ب» بالنس���بة لها س���هلة .كان «آ» خيط ًا مس���تقيم ًا يعبر دائرة نسيج ،و«ب» خي���ط يمتد لتلحق بدائ���رة آتية .كتابة أق���واس «ح» و«خ» و«ج» أسهل من إعداد أوراق األزهار التي تحبكها للشرشف. صارت (روش���نك) من األوليات في تلك الس���نة والسنوات التي ج���اءت بعدها .كانت تحبك أزهارًا جميلة متناس���قة، لك���ن الجّدة تقول « :لم تعد هذه األزهار تصلح بعد لوس���ط الشرش���ف .علينا أن نحبك أجمل األزهار لوس���طه» .كانت الجّدة تحبك أزهارًا تندهش (روشنك) من جمالها. كانت الحفيدة والجّدة تحبكان وتتحدثان ،لكن الجدة هي 116
وحصة (روش���نك) أغلب حصة األس���د في الكالم، ّ التي لها ّ األحيان أن تصغ���ي إليها .كانت العجوز بش���عرها األبيض الطويل الخفيف المتناس���ق الذي تجمعه على قمة رأس���ها، وبطرحته���ا الصوفية في الش���تاء والحريري���ة في الصيف وبجس���دها النحيف ،كانت تأخذ الطفلة معها ،وهي تس���افر إلى الماضي .كانتا تس���افران إلى بيت طفولة الجدة ،حيث الح���وش الكبير المبلّط المحاط بالغرف الكثيرة ،وش���جرة الدل���ب القديمة إلى جانب بركة الماء وس���ط الحوش .تقول إن جدتها زرعت الش���جرة .تتج���ول الجدة في البيت، الجدة ّ وهي تلقي التحية على أهل البيت ،لتكشف لـ (روشنك) عن أش���ياء من خالل س���ردها لقصص الذين عاشوا في البيت. و(روش���نك) ترى الج���دة ،كما كانت ش���ابة خجولة جميلة مغام���رة في ذل���ك الوقت .ويكبر الشرش���ف يوم ًا بعد يوم، والحفيدة والجدة ال تس���أالن عن المقياس الذي يتوقّف عنده الشرشف. حين أنهت (روش���نك) الثانوية ماتت جدتها .قبل موتها، طلب���ت برتقال���ة .كان الفص���ل صيفاً ،فلم يكن في الس���وق برتق���ال ،فأعطوه���ا بطيخاً .أكلت من البطي���خ ،وقالت :ما أحلى هذه البرتقالة .وماتت. ثم أربعون يوم ًا على وفاة الجدة، حين مضى أس���بوعّ ، غطى دخلت (روش���نك) غرفة المرحومة .كان الشرش���ف قد ّ ورقة. نصف مس���احة الغرف���ة ،والزهرة األخي���رة تنقصها ٌ
أكملت (روشنك) الزهرة وبدأت بحبك زهرة أخرى.
«العجوز يريد صبياً؟»
حين كانت تحب���ك الزهرة األربعين بعد المئة ،بعد موت أمها بعد الجدة، ْ سمعت جرس الباب الخارجي .نادت عليها ّ صبي الشاي يا (روشنك) ،عندنا ضيوف». دقائقّ :
«العجوز يريد صبياً».
جاءت (روشنك) بالشاي. صرخ الرجل« :بعد عش���رة أعوام من عملك كربة البيت، لم تعّدي تجيدين صب الش���اي .تصبيه ف���ي الصينية ،مثل اليوم األول». احتضن���ت (روش���نك) الطف���ل وخرج���ت م���ن الغرف���ة، وتالحقها نظرات الصبيتين الخائفة ،وهما تكتبان واجبهما المدرسي. كان الشرش���ف بأزه���اره الملون���ة مطروح ًا ف���ي القبو. وضعت (روش���نك) الطفل على الشرش���ف به���دوء وغطته بجانب منه ،لتبدأ بخرز الصنارة في الشرشف. احتج���ت بناته���ا الثالث في الي���وم الذي طلّقه���ا زوجها ّ قائالت:
لكن (روش���نك) ل���م تصرخ ،ل���م تبك .نزلت م���ن الدرج ودخلت القبو .إحدى أزهار الشرش���ف بقيت ناقصة .أخذت صنارة الحب���ك .ثم رمتها .انتفض���ت الصنارة على األرض عدة انتفاضات فجمدت .بس���طت (روشنك) الشرشف حتى غط���ى أرض القبو كلّها .بدأت تمش���ي بي���ن األزهار .وقعت ّ عيناه���ا على األزه���ار األولى التي حبكته���ا الجدة ،األزهار الت���ي لم تكن جميلة ،ثم رأت تلك الجميلة منها .رأت بعض األزهار المجهولة ،فتذك���رت جدتها حين قالت« :أمك حبكت هذه األزه���ار .لم تكن موهوب���ة أبدًا في الحب���ك» ،ثم رأت األزهار التي حبكتها نفس���ها .كانت األزهار األولى خجولة، لتتحول أخيرًا إلى أزهار كبيرة ثم صارت جميلة وصغيرة، ّ بألوان زاهية متناس���قة ،تشبه أزهار الجدة األخيرة .رفعت (روشنك) الصنارة من األرض. لم تعلّم (روش���نك) بناته���ا الثالث الحب���ك .وحتى بعد مرور س���نوات عدة على موت (روش���نك) ،لم يعرف أحد، ولم يسأل من حبك أزهار وسط الشرشف؟ هي أم الجدة؟
«العجوز يريد صبياً!» ( )1لعبة من لعب األطفال. 117
مسألة زينون *
باتريك لولر ترجمة � -أحمد �شافعي
1
قال���ت آرييل «لم أفعلها في مغس���لة الس���يارات قط» .كانت مثلي ،طالبة في الس���نة الثانية ،ولكن الفارق أن لديها هوندا سيفيك ،وهو ما يجعل الحياة لذة .كنت أحمل كيسين ممتلئين بأرباع الدوالرات أخذت أحش���و بها اآللة وأضغط على األزرار زرًا بعد زر :الغس���يل المزدوج ،الش���طف المثالي ،التش���ميع المزدوج ،التجفيف.
2
لش���ريكي في الغرفة غواية عجيبة .في المحاضرة األولى له في كل صف ،وبعد أن يقرأ األس���تاذ اسمه ضمن األسماء، يطلب منه أن يناديه باسم غير االسم المدرج في القائمة .وكان األساتذة جميع ًا يستجيبون بطبيعة الحال ،ولكنهم لم يعرفوا قط أن له اسم ًا مختلف ًا في كل صف .ففي واحد هو فريد ،وفي اآلخر ألبرت .أما أنا فقال لي إن اس���مه آدم ،وإن لم يكن لدي أي دليل على أن ذلك هو اسمه الحقيقي.
3
حدثتني آرييل عن التقدم لمادة المسرح .قالت إنهم يعرضون دائم ًا مسرحية يونانية في نهاية كل فصل دراسي .رأت أنني س���وف أبرع في دور تيرسياس .وضعت في يدي حجرًا عليه رسمة طائر« .حصلت عليه السنة الماضية ،وأريدك أن تحتفظ به .اكتش���فت فيما بعد أنه نفس الطائر الموشوم على وركها. لم أقل آلرييل أو آدم إنن���ي ال أحب الكلية .كنت أتخصص في الفلسفة.
4
ال معه في جميع صفوفه .قال «اسمع، كان آدم يحمل مسج ً أنا اآلخ���ر أتدرب للحصول على تيرس���ياس ،فال تزعل إذا لم 118
تحصل عليه» .ثم أدار المس���جل ليتدرب على حواره وسمعت كلمات أوديب «قل ما تشاء ،ال معنى لشيء» .حين رأت آرييل ش���ريكي في الغرفة قال���ت «أوه ،فريد س���اكن معك» .فعرفت حينها أنها في صف األدب العالمي ،حيث اسمه فريد.
5
أفت���رض أنه أم���ر بديهي ،ولك���ن أفضل ما ف���ي الكلية هو ممارسة الحب مع آرييل .أن نستلقي في الفراش لنتدرب على دور تيرس���ياس ،وأنا ف���ي بداية األمر أتلعث���م ،إلى أن قالت آرييل «ليس عليك إال أن تقرأ الوشوم».
6
س���ألتني آريي���ل «لماذا تنادي زميلك في الس���كن بآدم في حين أن اسمه فريد»؟ ال تيرس���ياس «لترين اليوم مولدك وفناءك» .قالت قلت ممث ً آريي���ل ممثل���ة أوديب «إن���ك ال تجيد الكالم ما ل���م يكن الكالم ألغازًا وأحاجي» .كانت تساعدني في حفظ الدور .جسم آرييل فسيفساء من الوش���وم .كان يبدو كأنها تجلب ذات ًا أخرى إلى السرير .وكان جسدانا مع ًا ينسربان أسفل وشم الطائر.
7
كانت آلدم ش���ريكي في الغرفة ع���ادة اعتبرتها باعثة على الضيق .كان يس���جل لنفس���ه وهو يمارس الجنس مع النساء. وكنت أجلس إلى مكتبي ،وبطاقات الش���فاء العاجل مصفوفة يشغل هذه التسجيالت .طلبت أمامي والحجر ذو الطائر ،وهو ِّ منه أن يكف عن ذلك ،لكنه لم ير في األمر مشكلة .قال «اسمي ليس آدم» .ثم راح يتكلم بلكنة بريطانية.
8
قلت ألمي على التليفون إنني لس���ت س���عيدًا في المدرسة. قل���ت أيض ًا إنني قابلت امرأة تعجبني كثيراً .قالت إن أس���رتنا «ممي���زة م���ن وجهة النظر اآلن���ا كارنينية» .قلت له���ا إنني لن أتقدم لصف���وف كثيرة ألنني مريض .ومن���ذ ذلك الحين بدأت أتلقى بطاقات الش���فاء العاجل من أفراد عائلتي .قال شريكي في الغرفة إن عنده امتحان��� ًا هائالً .وكانت يداه حذرتين وهو يقول هذا.
9
«الحياة أم المدرسة ..ال فارق .األمر كله يعتمد على الشخص ال���ذي تمارس معه الحب» هك���ذا قالت آريي���ل .كان ينبغي أن أستشعر قدومها.
10
11
آرييل عندها وش���م لطابع بريد .كان ش���ريكي في الغرفة يتكلم عن «جمع الطوابع» و«توصيل الطرود» .قال ش���ريكي ف���ي الغرفة إنها غير طبيعية« .فمنذا الذي يش���م على جس���مه طابع بريد؟» .قالت آرييل إن أمها كانت تعمل في مكتب للبريد، وإنها ماتت وهي طفلة صغيرة« .وهذا الطابع من هذه السنة. ش���وف بكم كانوا يبعثون الرس���الة» .قلت «ش���كله في غاية الغرابة» .قالت «يوناني».
12
كان أستاذنا مصاب ًا بالخرف ،ولكننا لم ندرك األمر إال قرب منتصف العام ،فقد كان أستاذًا للميتافيزيقا .كان في منتصف المحاضرة يغمغم بأشياء عن ترتيب سطح «بيت الكينونة»، مقتطف ًا مقوالت من كانط بصوت أجش ،ومنش���دًا أبيات ًا عن ما قبل السقراطيين.
13
قالت آرييل «جامعني كأنك الش���خصية التي تلعبها» .كان جس���دانا منس���حقين في مقود الس���يارة« .قصدك أن أتحسس كثي���را»« .بل إن تغمض عينيك» .كان آخ���ر ما رأيته صابون ًا مخضرًا على الشبابيك.
14
طابع بريد يوناني
آلرييل ذيل حصان وبش���رة فاتحة وش���عر أس���ود فاحم. قلت لها «أتعرفين أن ش���ريكتك في الغرفة تبعث على االكتئاب بصورة ال أحتملها» .قالت «ال ،ليست كذلك .فقط ألن كاثرين
119
ال تفعل ما تفعله أنت ..إنما أمها طبيبة نفسية متخصصة في مواساة األحزان .وأبوها مدمن كحول .هذا ما تقوله».
17
كانت غرفت���ي مآلنة بزمالء من غرف أخ���رى في الطابق وشريكي في الغرفة يشغل أحد تسجيالته .كان يصدر صوت ًا كأن���ه صوت قطار« .المحطة يالل���ي نازلين ..المحطة ياللي نازلين» بلكنة بريطانية مريعة.
18
15
16
عرفتني لكرستين عينان كشافتان للخطأ بصورة مرعبةّ . بنفس���ها «ش���اعرة س���ابقة ومنتحرة مس���تقبلية» .قررت أن أتظاهر ض���د الحرب إعجاب ًا مني بالفرق���ة التي كانت تعزف على الحلبة.
كلم���ا انغمس���ت في الت���درب على دور تيرس���ياس ،رأيت لمحات من حياة كرس���تين .تناولت دفتره���ا .قرأت :الزمان يحمل نفسه على ظهره.
بمجرد أن تم اختياري للقيام بدور تيرسياس ،بدأت أرى ُن���ُذراً .كانت آرييل س���تلعب دور جوكاس���تا ،ورأيت الطائر الموش���وم على وركها كما لو كان يطير .الطالب الذي اختير للعب دور أوديب لم تكن له غير عين واحدة« .ولذلك لن تكون المسرحية مأسوية بالقدر الكافي» كما قال أستاذ المسرح.
19
كانت الدنيا أكث���ر جما ًال وغموض ًا م���ن أن يحتويها مبنى واحد أو كتاب واحد .بعد امتحانات نصف العام ،أدركت أنني أرس���ب .وفيما عدا محاضرات الفلسفة ،لم أعد أحضر نهائياً. أعتقد أنني كنت متحيرًا فيما يمكن أن يحدث.
20
قالت كرستين «ما الدنيا إال قفص» .صححت لها «مسرح». قالت وهي تش���عر بضيق تام «أال تعرف حتى عن أي ش���يء تدور المسرحية التي تمثل فيها؟».
21
ظللت أتلقى بطاقات الش���فاء العاجل من األس���رة .أصبح على مكتبي الكثير منها .لدرجة أنه لم تتبق مساحة للمذاكرة. غطت البطاق���ات الحج���ر ذا الطائر الذي أعطت���ه لي آرييل. يمكنني أن أقول إن آرييل لم تكن س���عيدة معي بقدر ما كنت س���عيدًا معها .ش���اركت في مظاهرة مناهض���ة العولمة ألنهم وزعوا فيها بيرة .قلت آلرييل إن الوقت غير مناسب بالنسبة لي فيما يتعلق بااللتزام .قالت إنه ال مش���كلة .قلت ش���يئ ًا من قبيل الوشوم البالية ولم يكن قول ذلك الئقاً.
22
التعليمات األساسية في امتحان الفلسفة كانت عبارة عن «حاول وأنت تجيب األس���ئلة الـ 33التالية أن توضح فلسفة زينون».
120
23
سألني شريكي في الغرفة عن حال تيرسياس .قلت إنني أع���رف دائم ًا ما س���وف يقوله الممثل���ون ،ولكنني ال أعرف أي ش���يء عما ينبغي لي أنا أن أقول���ه .نظرت إلى ما كتبته كرستن: «الترحال في الدنيا ذهاب ًا وإياباً ،ذهاب ًا وإياب ًا استزراع الحقل». قل���ت «ذلك يبدو مقبضاً» .قالت كرس���تين «المش���كلة أننا بحاج���ة إل���ى طريقة جدي���دة نتخيل بها ي���أس حياتنا .نحن مرغم���ون على تصور ال���كادح في الحياة بوصفه س���يزيف يدحرج صخرته .واألمر ليس كذلك .األمر هو استزراع باشو للحقل» .يومه���ا عرفت أنها هي األخ���رى تحضر صف األدب العالمي.
24
توقف شريكي في الغرفة عن استخدام اللكنة البريطانية. فجأة اس���تولى عليه الصمت ،وصار مزاجياً ،وطلب مني أن أناديه بـ «راندول» .قالت كرستيل «أوه ،راندول ساكن معك. ال بد أن تكون السكنى رائعة مع شخص يكتب مثل هذا الشعر الرائع» .قلت «ولكنه ال يكتب ش���عراً .واسمه ليس راندول». زعلت كرس���تين« .فما اسمه إذن؟» .ولما لم أستطع أن أجيب قالت إنني مثير للش���فقة .وما كنت ألدخل في جدال حول هذا األمر.
25
قرب نهاية الفصل الدراسي ،بات شريكي في الغرفة يريد أن ينادى بس���وفوكليس .بدأت أفكر في ترك المدرسة .قالت آريي���ل إن النكتة التي أطلقتها عن الخدمة المدنية ال تعجبها. قلت إنني لم أقصد أن تأتي بذلك اإليحاء.
26
قالت آرييل «اكبر بقى» .ولكنني لم أكن مستعدًا بعد.
27
قل���ت آلرييل إن كل ش���يء مربك بص���ورة ال تصدق .كنت أحتاج أن أنهل من الحياة نفس���ها ،ال من تصور أحدهم عنها. كنت أشتهي إلى جرعات ضخمة من التجارب .سألتني آرييل
«فماذا سوف تفعل إذن؟ سترجع لتعيش مع أبويك؟»
28
حينه���ا أدرك���ت أن لدى آرييل أنظف س���يارة ف���ي الحرم الجامعي.
29
لعبت جوكاس���تا رائعة ،وحينما قال���ت «انس خوفك من الزواج بأمك» انبعث في كل فرد من الجمهور خوف جديد .كان سوفوكليس جالس ًا وسط الجمهور ومسجلته في حجره.
30
ب���دون أن تكون وش���وم آرييل أمام عيني ،نس���يت أغلب حواري ،ولكنها لم تكن مأساة.
31
بكى الطالب الذي يلعب أوديب أمر البكاء .بعد المسرحية، ترك س���وفوكليس ش���ريكي في الغرفة مسجله على سريري وبجانبه ورقة كتب فيها «لعلك تود يا تريس���ياس أن تستمع إلى هذا ،وإن كنت بالطبع تعرف بالفعل ما فيه».
32
فيما بعد ،كانت كرستين واقفة أسفل شباك غرفتي وسط الجليد الطازج .كانت ترفع المسجل .صحت فيها عبر الفتحة الت���ي أحدثها المس���جل في زجاج الش���باك «اتركيه» .كنت قد رميت كل ش���يء عبر الزجاج المكسور كتبي ،بطاقات الشفاء العاجل ،هدية آرييل.
33
ظلت كرس���تين واقفة وفي يدها المسجل المكسور ،وظل الجلي���د يتس���اقط .خطر لي أنن���ي لم أر من قب���ل منظرًا بهذا الجمال .تنام���ى البياض من حوله���ا .أردت أن أصيح عليها ولكنن���ي فجأة رأيت كل ش���يء في غاية الوض���وح ولم تعد كلماتي قادرة على عبور الزجاج المكسور. *باتريك لولر Patrick Lawlerكاتب أميركي فاز في عام 2010 بجائزة القص المبتكر من أميركان بوك رفيو .أصدر ثالثة كتب شعرية ال بالقدر الكافي» (« ،)1990قراءة من بينها «وأبدًا ال يكون الغريق طوي ً كتاب محروق» ()1994
121
�صيد الل�ؤل�ؤ
د .محمد عبد المطلب
الفصيحة والعامية من جنايات المجتمع على اللغة العربية ،تلك الدعوة التي تظه���ر ثم تغيب ثم تظهر ،ثم تأخذ في االنتش���ار بين فئة من المثقفي���ن تزع���م أن العامية هي اللغة الرس���مية لكل مجتمع عربي ،ث���م تصعد من هذا الزعم لتكون دعوة لتدريس���ها في معاهد التعليم المختلف���ة ،أي أن تصبح لغة الحديث اليومي هي اللغة الرسمية نطق ًا وكتابة. وخالل هذا الجدل بين الفصيحة والعامية يأتي سؤال دائم: هل من األفض���ل الصعود بالعامية إلى مس���توى الفصيحة، أم الن���زول بالفصيح���ة إلى مس���توى العامي���ة؟ وهنا نطرح س���ؤالنا على هذه الدعوة المزدوجة عن المقصود بالعامية: ه���ل المقصود عامي���ة كل ُقطر من أقطار الوط���ن العربي؟ أم المقص���ود عامية كل إقليم م���ن أقاليم كل وطن؟ هل المقصود عامي���ة الريف أم عامية الحضر؟ بل إن الس���ؤال يس���تمر في تردده عن عامية األحياء داخل المدينة الواحدة. وال ينحصر الس���ؤال في ح���دود البيئ���ة المكانية ،بل إنه يس���تدعي البيئ���ة الزمنية ،ذلك أن من خ���واص العامية أنها سريعة التطور والتغير ،ويمكن -في هذا السياق -أن نقارن بين عامية القرن التاسع عشر الميالدي ،وعامية نهاية القرن العش���رين ،بل إن عامية بداية القرن العش���رين تغاير عامية نهايته ،ويفسر س���رعة التغير ،أن العامية ال تمتلك القواعد التي تضبطها ،بحيث تجعل منها لغة مكتملة تصلح للحديث والكتابة معاً. والالفت أن الجدل حول الفصيحة والعامية موغل في القدم عرض له (الجاحظ) في كتاب���ه (البيان والتبيين) كما عرض له كثير من الدارس���ين القدامى ،ومنهم اب���ن األثير في كتابه (المثل السائر) وربما كان أهم ما الحظه :أن كثيرًا من مفردات العامية فصيح���ة صحيحة ،مثل :األرض والس���ماء والرجل والباب والماء والنار والتراب ،والحق أن الطرح القديم لهذه القضية اتس���م بقدر كبير م���ن الموضوعية في مواجهة ظاهر تعبيرية انتش���رت في المجتمع العربي آنذاك ،أما في الزمن 122
األخير فإن استعادة القضية كانت بهدف إعالء العامية لتكون هي البديل الرسمي للغة الفصيحة. وقد تنبه الرواد األوائل -في العصر الحديث -إلى خطورة الدع���وة للعامية ،ألنها ارتبط���ت باالس���تعمار الغربي الذي سعى جاهدًا إلحالل العامية محل الفصيحة ،ترسيخ ًا للفرقة والتجزئة بين أقطار الوط���ن العربي ،بحيث يكون لكل قطر لغته المستقلة التي تخصه. وال���ذي نحب التأكيد عليه أن هناك ما يش���به اإلجماع بين األم���م قاطبة ،أن العامي���ة ال يمكن أن تحل مح���ل الفصيحة في كل مس���تويات اإلب���داع األدبي ،كما أنه���ا ال تمتلك القدرة عل���ى التعبير عن كل ظواهر الحضارة ،وكل دقيق من ثمرات العقل وال���روح ،إذ كل هذا من ممتلكات الفصيحة ،وبخاصة صياغة القواني���ن واللوائح التش���ريعية والتنفيذية ،ولكي تتمكن العامية من أداء بعض هذه المهام ،فهي في حاجة إلى جه���د علمي يوازي الجهد العلمي الذي بذله علماء اللغة طوال ألف وخمسمئة عام لتنظيم مفرداتها وتراكيبها والعالقة التي تربط بينهما ،ورصد التطور الذي أصاب هذه وتلك. والمؤسف أن للعامية دعاة مجاهرين ،وآخرين مستترين، وقد حقق���وا بعض النجاح ،إذ تس���ربت العامي���ة إلى بعض وسائل اإلعالم والنشر ،وهي أجهزة لها خطورتها في التأثير والتوجيه ،إذ أتاح���ت للعاجزين عن الفصيحة ،والفقراء في الثقافة والفكر أن يكون لهم هذا الحضور الضار. إن إلغ���اء الفصيحة لحس���اب العامي���ة ،يعني ظهور جيل جديد ال صلة له بلغة القدامى والمحدثين من األجداد واآلباء، ومن ثم تنقطع صلته بالتراث ،فليس���ت مفردات اللغة مجرد أصوات لها داللة ،بل إن كل كلمة تمثل نس���ق ًا ثقافي ًا مستمدًا من تج���ارب الحياة وخبراتها ،ومع ضي���اع الذاكرة الثقافية لألم���ة العربية ،يأت���ي ما هو أخطر :غي���اب التراث الديني، وانقط���اع صلة األجيال بكتبها المقدس���ة ،ثم كيف لهؤالء أن يؤدوا فروض دينهم التي ال تؤدى بغير الفصيحة؟
جحيم الخيبات والحكمة
صدر حديث ًا عن دار اآلداب ،النسخة العربي���ة لرواي���ة «تح���ت العريش���ة» للكاتبة اللبنانية هيام يارد ،وقد سبق أن ص���درت الطبعة األصلي���ة للرواية
باللغة الفرنسية عن «منشورات سابين فيسبايس���ر» بفرنس���ا ،وف���ي 2009 نالت عنه���ا الكاتبة جائ���زة «فينيكس» أول جائ���زة أدبي���ة فرانكوفونية تمنح ف���ي لبن���ان ضم���ن «صال���ون الكتاب الفرنكوفوني». رس���الة إلى جدة ٍ «تحت العريش���ة» حكيمة تنحدر من أسرة أرمنية فرت من اس���طنبول نحو لبنان مع بداية مذابح األرمن .الجدة الزمها ش���بح الموت منذ أمها أثناء والدتها، الطفولة ،م���ع وفاة ّ س���ن الواحدة ّ ثم وفاة زوجها وهي في والثالثي���ن ،وهي ش���اهدة على الحرب اللبنانية من منزله���ا البيروتي ،ورغم
هول م���ا رأت من ه���ذه الح���رب إال أن شخصيتها ظلت متفائلة ومؤمنة بقيمة الحياة ،وخالل فت���رة الحرب األهلية، التي تصور الروائية جحيمها ،تتش���بّث الج���دّة بالبقاء في منزلها إلى أن توفيت إبان ح���رب تموز/يولي���و .وعبر هذه تتحول الرواي���ة تدريجي ًا إلى ّ الس���يرة ال حكاية طويلة من أربعة وس���تين فص ً تصور أماكن وحقب ًا مختلفة من تاريخ لبن���ان المعاص���ر ،عبر س���يرة الجدة كمث���ال للحكمة والصبر حاولت الحفيدة ٍ االقتداء بها ،وتكرار نموذجها في الحياة لكنها فشلت في تطبيق ذلك في حياتها، فمارست ،بد ًال من األمل ،خيبته.
كتب ع���ن دار « »Lapاأللماني���ة صدر مؤخ���رًا للكاتب المغربي محم���د الكرافس كتاب جديد باللغة اإلنكليزية تحت عنوانEugene O’neill’s Philosophy In Long Day’s : .Journey Into Nightالكتاب عبارة عن قراءات نقدية في فلسفة الكاتب المسرحي األميرك���ي يوجين أونيل اعتمادًا على مس���رحيته« :رحلة يوم طويل في جنح الليل». ومن خالل ربط مضامين المسرحية بالمقومات الدرامية التي جاءت بها أهم التيارات األدبية والفلس���فية الغربية في النص���ف األول من القرن العش���رين في الغرب ،يقف الكاتب على إسهامات تجربة يوجين أونيل في تحديث المسرح األميركي المعاصر. للكات���ب محم���د الكرافس مجموع���ة من الدراس���ات األدبية ومن إصداراته في الش���عر والرواية(:الظ���ل يتع���رى :ش���عر ( ،)2009حل���م يتلوى في زورق :ش���عر ،)2010 (تضاريس الخبز والوطن :رواية .)2010
123
كتب
قتلة األرض! عمر قدور -دم�شق لم يدخل الوعي اإليكولوجي «البيئي» في حياة شعوبنا ،ولكي نكون منصفين فإن هذا الوعي لم ينتشر عالمي ًا بالقدر الكافي، أو على األقل بالقدر الذي يطمح إليه دعاة حماية البيئ���ة أو علماء اإليكولوجي .في نشرات األخبار نسمع عن مؤتمرات للدول األكثر تصنيعاً ،وعن خالفات بينها حول نس���ب ضئيلة للحد من انبع���اث الكربون مث�ل�ا ،دون الغ���وص في م���ا يعنيه هذا ً الخالف على أرض الواقع ،ودون البحث ف���ي ما يعنينا من���ه؛ نحن الذين نقاس���م أولئ���ك األثري���اء مس���تقبل األرض دون أن نمتل���ك الق���درة على التفكي���ر فيه ،أو المش���اركة في رسم استراتيجياته ،حتى اآلن. ف���ي كت���اب إدوارد ويلس���ون «مس���تقبل الحي���اة» ،الص���ادر ع���ن الهيئ���ة العامة الس���ورية للكتاب ( )2011بترجمة عدنان حسن ،ترتس���م أمامنا الصورة المتكاملة لحيوية كوكب األرض ،فالمؤلف مختص في المجهريات ،أو ما ُيسمى المتعضيات، وهي الكائنات الدقيقة التي تش���كل نسبة عالي���ة من غالفنا الج���وي؛ هذه الكائنات التي تس���بح في كل مكان حولنا دون أن نراه���ا ،أو ندرك وجوده���ا ،أو أن نخمن تأثيرها الكبير في الدورة البيئية ككل .هذه الكائنات الصغيرة ال يراها الرومانسيون أو الش���عراء وإن كانوا يش���يدون بعظمة التنوع الحيوي ،أم���ا علماء اإليكولوجي فإنه���م يقس���مون التن���وع ف���ي كل مكان إل���ى ثالثة مس���تويات؛ ف���ي القمة توجد المنظوم���ات البيئية كالغاب���ات المطرية والصخور المرجاني���ة والبحيرات .تليها األنواع المكونة من المتعضيات الموجودة ف���ي المنظوم���ة البيئية ،من األش���نيات والفراشات السنونوية الذنب إلى أنقليس الموراي والبش���ر .في القاع توجد تشكيلة 124
من األجناس التي تشكل الصفات الوراثية لألف���راد الذين يؤلفون كل نوع من األنواع على حدة. يكون كل نوع من األنواع مرتبط ًا بمشتركه بالطريقة الفريدة التي ُيستهلك بها بشكل ويفت���رس ،وينافس ،ويتعاون مختلفُ ، مع األنواع األخرى .إنه يؤثر أيض ًا بشكل غير مباش���ر عل���ى المجموع���ة بالطريقة الت���ي يبدل فيه���ا التربة والم���اء والهواء. عالم اإليكولوجي ينظر إلى الكل كش���بكة من الطاقة والمادة المتدفقتين باس���تمرار إلى داخل المجموعة من البيئة الفيزيائية المحيطة ،وبالعكس ،وم���ن ثم بالعكس أيض��� ًا لخل���ق دورات المنظوم���ة البيئية األبدي���ة التي يعتمد عليه���ا وجودنا .على س���بيل المث���ال :يحتاج اإلنس���ان الزراعة في عيش���ه ،ونوع الزراعة التي يمارسها له���ا تأثير كبير على الترب���ة ،مثلما لغنى الترب���ة بالكائن���ات الدقيق���ة تأثي���ر على الزراع���ة ،وعندم���ا يف���رط اإلنس���ان في استخدام األس���مدة أو الكيماويات فإنه قد يس���بب ضررًا للكائنات الدقيقة في التربة ويفقده���ا غناها الحيوي الذي س���ينعكس ُ على الزراعة ب���دوره .الملمح األخطر هنا أن القضاء على جزء م���ن الكائنات الحية
وبق���اء الجزء األكث���ر مقاومة قد يس���بب المضرة. ّ خل�ل�ا بنيوي ًا لصالح الكائن���ات ً بحساب بس���يط قد يؤدي االستخدام غير الرش���يد للكيماويات إل���ى الحصول على محص���ول وفير آني���اً ،لكنه ف���ي المقابل يكون قد ضحى بعناصر الغنى الحقيقية المس���تمرة ،وهذا ما قد يستحيل تعويضه أو يقتضي تعويضه دورات بيئية مديدة. بعيدًا عن المثال التقليدي الس���ابق؛ يقول علم���اء اإليكولوجي إن حجم��� ًا متصاعدًا من الكائنات الحية ينقرض قبل اكتش���افه حتى ،وإن حجم ًا آخ���ر مهدد باالنقراض بس���بب صعوب���ة الحف���اظ عل���ى البيئة المناس���بة ل���ه ،والمس���ألة هن���ا تتعدى موضوعة الغن���ى بمفهومها األخالقي إلى اآلثار االقتصادي���ة المترتبة عليها ،فصيد ال قد يؤدي إلى انخفاض بعض الطيور مث ً كبير ف���ي وجوده���ا أو انقراضه���ا ،وإذا كانت هذه الطيور تتغذى على نوع محدد من الديدان فإن انقراض الطيور س���يعني تكاثرًا ضخم ًا جدًا للديدان التي س���تتغذى بدوره���ا عل���ى كائن���ات أخ���رى فتهددها باالنق���راض .ضمن هذه ال���دورة البيئية سيكون من شأن تفصيل صغير أن يهدد، على الم���دى البعيد ،توازن��� ًا بيئي ًا كامالً. حتى إن استحضار بعض الحيوانات إلى غير بيئتها األصلية قد يهدد البيئة الجديدة بس���بب نمط اس���تهالك ه���ذه الحيوانات الطارئ���ة ،لقد ح���دث ذلك في اس���تعمار أميركا ،والمث���ال األنصع عليه هو الخلل البيئي الذي تعرضت له جزر هاواي. لن���ا إذن أن نتخي���ل حج���م الض���رر الذي خلفت���ه الث���ورة الصناعية عل���ى البيئة، وهو ض���رر ينذر بالكارث���ة إن لم يتوقف قريباً ،ومن حسن الحظ أن اإلنسان امتلك تكنولوجيا نظيفة تس���اعده على الحفاظ عل���ى الكوك���ب ،إن هو غلّ���ب االعتبارات اإلنس���انية على الجش���ع الرأس���مالي .ال يدع���و علم���اء اإليكولوجي للع���ودة إلى ال���وراء ،بل يدع���ون إلى ن���وع أرقى من النش���اط التكنولوجي ،وهو نوع تسمح ب���ه الطبيعة نفس���ها دون أن تتأذى ،أما األذى القدي���م فالبيئة تتكفل بترميمه على مر الزمن ،بش���رط أن يتوقف قتلة األرض ّ عن نشاطهم المسعور!.
حين تموت لغة يموت األموات ثانية ربم���ا ستتس���لط األضواء على الش���عر الس���ويدي بع���د ف���وز الش���اعر توماس ترانس���ترومر بجائزة نوبل لآلداب .دار خط���وات للنش���ر والتوزيع ،دمش���ق/ س���ورية ،أص���درت الكت���اب الثالث من «سلسلة الشعر السويدي» التي بدأت بها قبل عام بعن���وان «الضرورة الوحيدة». حس���ب الموقع االلكتروني لدار النش���ر، سلس���لة الش���عر الس���ويدي ب���دأت عام 2009ولي���س قب���ل ع���ام ،والكت���اب الثالث يحم���ل عنوان «رقص���ة القصيدة (آن س���ميث)» ،مختارات من مجموعات الشاعر َشل أسبمارك ،انتقاها المترجم جاسم محمد بالتعاون مع الشاعر ،بدأت تجربة أس���بمارك الش���عرية مع مستهل خمس���ينيات القرن الماض���ي ،وكان قد أصدر بي���ن نهاية الثمانيني���ات ونهاية التس���عينيات س���باعية روائية بعنوان «زمن النسيان».
عموم ًا تنتمي تجربة أسبمارك الشعرية إلى ذلك النوع التأملي من الشعر ،والذي يأخذ مادته من العالم المحيط .اآلخر في شعر أس���بمارك له تجليات كثيرة ،فقد يك���ون اآلخر المي���ت الذي لم يع���د قادرًا عل���ى التعبي���ر عن نفس���ه ،وق���د تكون األش���ياء أو ظاللها ،وفي بلد كالس���ويد يعاني من مشاكل الهجرة قد يكون اآلخر ه���م المهاج���رون الذين يعان���ون الغربة (أكفّن���ا اس���تحالت مفاتيح م���ن أبوابكم
براءة مفتعلة أمام ً المغلقة /ووجوهن���ا هذا الش���ك كله /لقد تخطينا الحواجز/ وحين تس���معون اإلش���ارات في أبواق الس���يارات والطناجر /من أعوام خارج الزمن والعقل /نكون قد عثرنا على قارة جديدة لكم). استنطاق المهمش نجده أيض ًا في قصيدة بعنوان «المخذولة :كفاف واهن فحسب» حي���ث يس���رد مقطع��� ًا من س���يرة امرأة مجهول���ة قد تصلح ألية ام���رأة مجهولة أخ���رى ،س���يرة تنته���ي باألل���م الذي ال ُيفصح عنه (تجلس منحنية حول فراغها الممل /تجته���د في إخفاء فق���ر حالها/ مديرة ظهرها ل���كل الذين يعلمون) .لكن ً ألم االنفصال يتبدى في نص آخر (لماذا تحك���ي عنا كم���ا لو أن وداعن���ا كان في رخام؟ /الوجع في راحة اليد يقول لي/ إن الذي ُخلع م���ن وركك /ما هو بحجر وإنما لحم يقط���ر /وما كانت عيناي من حج���ر /حي���ن ُخلعتا م���ن صورتك عن العالم /إنهما جرحان يحاوالن الرؤيا). في تجربة أس���بمارك نقرأ العالم ،لكننا إن أصغينا جيدًا نقرأ خصوصية السويد عب���ر ذلك الملمح الش���عري ال���ذي يبدو باردًا في البداية لكن جليده س���رعان ما يتكشف عن رقة إنسانية جارحة.
حكاية الحطاب وأميرة القمر �سامي كمال الدين -القاهرة حـــــكايــــ���ات «عقلـــة األصبـــع» الت���ي قرأناه���ا ف���ي المدرس���ة ونحن صغارا،تعود إلى الس���يرة الش���عبية الياباني���ة «الحط���اب وأمي���رة القمر» والتي ترجمها الدكتور أحمد فتحي عن ( جمعية نوافذ للترجمة بالتعاون مع مؤسسة اليابان الثقافية). ربما قب���ل ألف عام ع���اش حطاب عجوز مع زوجت���ه في كوخ متواضع بجبل من جبال اليابان ،وحيدين بين الجب���ال والوهاد وأع���واد الخيزران،
حتى وجد طفلة صغيرة في كوخ ومعها قطع ذهبية ،وعبر 192صفحة نكتشف عالم هذه األميرة الصغيرة التي حلت بها لعنة فهبطت من السماء إلى كوخ الحطاب العجوز ،تتابع الحياة معه ،كلما كبرت عام ًا اكتش���فت جزءًا من حكايتها ..وكلما ث���راء ،من���ذ حلول تلك ً ازداد الحط���اب الطفلة /األمي���رة على الغابة ،والقطع الذهبي���ة المتناثرة تخ���رج للحطاب من أعواد الخيزران. نقف ف���ي الحكاية على قصص لنبالء
وملوك ،وقص���ور هجرها أصحابها، ودخان يصعد م���ن قمة جبل فوجي، لنكتشف أن سيرة «الحطاب و أميرة القمر» سيرة شعبية يابانية حقيقية بال مؤل���ف ،فقد اكتش���ف اليابانيون هذه السيرة من خالل عدة مخطوطات قديم���ة تصحبه���ا رس���وم توضيحية للعالم الذي عاش���ت في���ه أميرة القمر م���ع الحط���اب وزوجه العج���وز ،ثم وقوع اإلمبراط���ور بعد ذلك في هوى األميرة.
125
واقع ومستقبل المشاكل العربية الكبرى عبداهلل احلامدي «كأن الزم���ن ال يم���ر بنا» ..ك���م يبدو هذا التعبي���ر ش���فيف ًا ف���ي توصي���ف الكاتب الكويتي وأستاذ علم االجتماع في جامعة الكويت الدكتور محم���د الرميحي ،للحالة الدائري���ة المفرغة التي ي���دور فيها العرب حتى اآلن ،أو حتى اللحظة التي مثل فيها كتابه الجديد «اضطراب قرب آبار النفط» الصادر حديث��� ًا عن دار الس���اقي للطبع، ذل���ك أن ريح ًا من نس���ائم الربيع العربي اعترت صفحاته ،ولعله���ا منحت الكتاب قس���ط ًا أوفر م���ن التفاؤل وس���ط الحالة العربي���ة المحبطة تاريخي��� ًا وهو يتطلع إلى غد أفضل للعرب. عود الرميحي ف���ي كتابه الجدي���د ،وكما ّ الق���ارئ ،يطل عل���ى موضوع���ه برؤية بانورامية ممتدة إلى نهاية تشعباتها ،مع نظ���رة أخرى فاحص���ة ومدققة في الوقت نفس���ه ،األم���ر ال���ذي يضع الق���ارئ أمام صورة جليّ���ة رغم «الحال���ة المضطربة» التي يتناولها الكتاب ،والتي تداخلت فيها األبعاد المحلية م���ع اإلقليمية ،والعربية م���ع العالمية ،نتيجة لعوامل كثيرة ،لكن الرميحي يجملها في أقل من ذلك ،بمقدمة الكت���اب« :ابتلي���ت منطقتن���ا المش���رقية بعاملي���ن اثنين ،األول أن���ه أنيط بها حل مش���كلة عجز الغرب عن حله���ا ،وهي ما عرف عندهم بـ (المسألة اليهودية) ،حيث أنشئت دولة إسرائيل فأصابت المجتمعات العربي���ة باختالالت عميقة ،والثاني كتب علينا نتيج���ة صدفة الجغرافيا ،أن نغذي هذا العال���م الصناعي الكبي���ر بالطاقة»، وهنا مربط الف���رس ،أو األس الجوهري لما تدور حوله مق���االت الكتاب بعناوينه 126
المتقارب���ة أحيان���اً ،المتباع���دة أحيان��� ًا أخرى. فالكتاب يحتوي مجموع���ة مقاالت كتبت في أوق���ات مختلفة ،لكنها ظلت متجددة، عل�ل�ا مس���تعصية وعقدًا ً كونه���ا تتناول ل���م تح���ل ،إذ ال أحد ينكر المش���اكل التي تواجهها البلدان العربية ،بيد أن الس���ؤال الذي يط���رح نفس���ه بإلحاح :ه���ل تكمن هذه المش���كالت ف���ي الس���يطرة األجنبية عل���ى مقدّرات الع���رب ومفاصل حياتهم، أم في األنظمة العس���كرية ،أم في الهزائم المتكررة؟ يحاول الكاتب البحث عن نقطة ّ بداية لما أصاب دولنا ومجتمعاتنا العربية من مراوحة وتراجع وفقر ومخاطر تحيط المحطات التي أس���همت ّ بها ،ويفنّد بعض ف���ي اضط���راب المنطقة العربي���ة ،وفي الحش���د الجماهيري حول ش���عارات قلّما يتغيّ���ر مضمونها ،لكنّه���ا ال تقدّم الحلول وتس���تمر في تجهي���ل اإلنس���ان العادي، ّ المحطات :ما حدث بعد الحرب ّ ومن ه���ذه العالمية األولى من س���يطرة أجنبية على مق���درات العرب ،وتس���لّط العس���كر على
مقدّرات السياسة العربية ،واالنتكاسات أمام الهجمة الصهيونية. يت���وزع الكتاب على أربع���ة فصول ،تلت المقدم���ة ،ويتطرق الفص���ل األول (نحن والخليج) إل���ى العالقة العضوية الجدلية بين المشكالت الداخلية في الكويت ودول الخلي���ج بصورة عامة ،وبي���ن المصالح الخارجي���ة لل���دول الكب���رى وم���ا تريده ال «ح���رب ودين م���ن المنطقة ،فنق���رأ مث ً وسياس���ة ..على هامش إع�ل�ان حماس كويتي���ة» و«إره���اب ق���رب آب���ار النفط» و«العراق ومعرك���ة العرب الليبراليين».. وكله���ا مقاالت ت���دور حول واق���ع ما بعد االحت�ل�ال العراق���ي للكويت ،وم���ا تبعه ال عن من احت�ل�ال أميركي للع���راق ،فض ً المعضالت العربي���ة المزمنة ،ومن المهم الق���ول هن���ا إن الكات���ب يجت���رح الحلول الموضوعية خالل عملية االس���تعراض، أي أنه يكش���ف الداء ليص���ف الدواء ،ففي مقالة «قراءة في األهداف البعيدة لالحتالل األميرك���ي للعراق» يؤك���د الرميحي أنه ال تستطيع دولة أو مجموعة دول أن تعيش مرفهة نسبي ًا وتترك جيرانها في قاع الفقر، وأن هناك توجه ًا عالمي ًا س���وف يس���ري إقليمياً ،مفاده أن المنطقة يجب أن تعمل بمثل ما تعمل به األواني المستطرقة ،حيث الفائض م���ن هنا يذهب إلى المنخفض من هناك ،مع اإلش���ارة إلى أن الفائض ليس مالي��� ًا فقط ،بل هو قيم���ي أيضاً ،وأخيرًا يشدد الرميحي على أن الديمقراطية ليست وصف���ة تكميلي���ة ومظهرية تس���د ثغرات النقد الدولي المحتمل ،بمعنى أنها ليس���ت انتخاب���ات دوري���ة ،وصناديق انتخاب، ووجاهة ش���خصية ،بل هي أساس��� ًا في مجملها مس���اواة المواطني���ن جميع ًا تحت ظل القانون. في الفصل الثاني (العرب وإيران) طائفة من المق���االت بعناوين جذاب���ة وموحية: «إيران والعودة إلى المستقبل» ،و«العيش في منطقة الدخان» ،و«ماذا تريد إيران من لبنان» ،و«خيار الفرس أم تفاح أوروبا؟»، و«ذيل األسد واللعبة اإليرانية» ،ويستهل الرميحي في ه���ذه المقالة األخيرة بقصة
تتداوله���ا النخب���ة اإليراني���ة لتوصي���ف العالق���ة بين الواليات المتح���دة وإيران، وتقول القصة إن ش���خص ًا اتُّهم بأنه دائم ًا يدوس على ذيل األس���د متعمداً ،فلما قيل مؤذ ويمكن أن تكون لعواقب له إن األسد ٍ دوس���ك ذيله أضرار كبي���رة ،رد الرجل: ماذا أفعل؟ كلم���ا وضعت رجلي في مكان أجد ذيل األسد! أما الفصل الثالث (عاشوراء في األشرفية) فقد خصصه الكاتب لحصيلة مقاالته التي كتبه���ا أثناء زيارته إلى الش���ام ،ويحكي الرميحي في األولى منها« :أن تقضي أيام العي���د بين أقرب مدينتين في بالد الش���ام التاريخي���ة ،بي���روت ودمش���ق ،كمثل ما فعلت ،فأنت أقرب إل���ى األحداث العربية ُ السياس���ية ،في أس���بوع العيد اس���تطاع ح���زب اهلل اللبناني أن يحق���ق حدث ًا غير مسبوق في تبادل األسرى من اللبنانيين والع���رب ،بي���ن لبنان وإس���رائيل ،وهو بذل���ك يضع خط��� ًا واضح ًا لح���دود قوة إس���رائيل العس���كرية ف���ي مقاب���ل العمل السياسي المستنير». ف���ي الفص���ل الراب���ع واألخي���ر (الع���رب يذكرن���ا رئي���س التحري���ر والمس���تقبل) ّ الس���ابق لمجل���ة «العرب���ي» بافتتاحياته له���ا ،خصوص ًا تلك المطول���ة منها ،لكن الشأن هنا مختلف« :جار اهلل عمر وهاشم آغاج���اري» و«قدي���م الع���رب وجديدهم» و«لم���اذا صناعة الكراهي���ة؟» و«أولويات الع���رب ..قراءة ف���ي المعك���وس» و«فكر الس���راديب» و«الم���رأة العربي���ة في قمة العالم» و«قرن عربي في التيه السياسي» عمان» و«احتضان و«يبكون أوطانهم في ّ الحياة والتنمية في الرسالة اإلسالمية». يذكر إن كتاب «اضطراب قرب آبار النفط» يقع في 224صفحة( ،وإن الدكتور محمد الرميحي كاتب وصحافي كويتي ،وأستاذ عل���م االجتماع في جامع���ة الكويت) ،وقد ص���در للدكتور محم���د الرميح���ي عن دار الس���اقي من قبل« :أصداء حرب الكويت» و«س���قوط األوهام» و«عص���ر التطرف» و«الخليج .»2025
الثقافة بين القاهرة وإسطنبول رجب طي���ب أردوغ���ان ينبهن���ا إلى أننا يجب أال ننس���ى الدور التاريخي لتركي���ا خاصة ف���ي عالقتها بمصر، وذل���ك م���ن خ�ل�ال تقديم���ه لكتاب «األت���راك في مصر وتراثهم الثقافي» الص���ادر ع���ن دار الش���روق للمؤلف أكمل الدين احس���ان أوغل���ي األمين الع���ام لمنظمة المؤتمر اإلس�ل�امي، وقد قدم رئيس الوزراء التركي «هذه الدراسة تعد األولى في مجالها تبين لن���ا بوضوح إل���ى أي م���دى يرتبط مصير تركيا بمصير مصر ،وإلى أي مدى يرتبط مصير إسطنبول بمصير القاهرة ..وأران���ي على ثقة بأن هذا العمل الذي بين أيدينا س���وف يسهم بش���كل جاد في دعم تلك العالقات، ويقرب المسافات بين الشعبين أكثر وأكثر». يق���دم الكت���اب دراس���ة ش���املة عن التراث اإلسالمي إبان الحكم التركي العثماني في مصر ،محاو ًال من خالله التعري���ف بكيفية تش���كيل الوجه أو النموذج «المصري العثماني» نتيجة لتط���ور القاه���رة ال���ذي كان يحاكي اس���طنبول في البداية ،ويكشف دور الثقاف���ة التركية وتأثيراتها المختلفة ف���ي المجتم���ع المصري ،م���ن حيث
الم���دارس الحديثة والكت���ب التركية التي كونت الرافد العثماني المصري إل���ى جانب الوجه الثقاف���ي «التركي العثماني» في مصر. ف���ي الفصل األول كش���ف أوغلي عن التأثي���رات التركي���ة ف���ي المجتم���ع المص���ري اعتب���ارًا من مطل���ع القرن الـ 19الميالدي ،مؤكدًا أن هذا التأثير كان أكثر قوة وتشعب ًا في عصر محمد علي باش���ا ( )1848 – 1822مقارنة بالعهد العثماني السابق عليه والذي امتد لثالث���ة قرون ،وش���مل الثأتير طرز الحياة االجتماعية في الملبس، والم���أكل ،والموس���يقى ،والغناء، وأس���اليب التس���لية والتروي���ح وغيرها. أما الفصل الثاني (الطباعة في مصر وما طبع بها من آثار الثقافة التركية) فتن���اول دور الطباع���ة كعنص���ر من عناصر النهضة المتش���عبة الجوانب الت���ي خاضها محمد علي لتأس���يس جيش قوي عل���ى الطراز األوروبي، ول���م يكن اس���تخدام الطباعة قاصرًا عل���ى األغ���راض العس���كرية فقط، بل ش���كل مص���درًا رئيس���يًَا لتخريج الط�ل�اب القادري���ن عل���ى الترجم���ة من اللغ���ات األوروبية ،ث���م طباعة ع���دد كبير من الكتب ف���ي مصر ،بلغ عددها 253كتاب ًا في مطبعة بوالق، ومطابع أخرى مثل ديوان الجهادية، س���راي اإلس���كندرية ،وكانت الكتب الت���ي تطبعها مطبعة ب���والق تالقي استحسان ًا ورواج ًا في تركيا. كما تضمن الكتاب ثالثة مالحق ،األول لألس���ماء التي أطلق���ت على مطبعة بوالق ،والثاني للمصححين والكتب التركي���ة الت���ي قام���وا بتصحيحها، والثال���ث ألس���ماء الملتزمين والكتب التركية التي طبعت على حسابهم.
127
عبوة شعرية على أنقاض العراق حممد غندور -بريوت ف���ي الع���ام ،2002ق���دَّم الروائ���ي اللبناني إلياس خ���وري تحفته األدبية «يالو» وهي رواية تسرد الحرب األهلية اللبنانية ( ،)1990 - 1975من دون دم أو رص���اص أو قتل .نجح في إيصال ما يريد قول���ه من دون أن يس���فك الدماء، روى تاريخ بيروت خ�ل�ال الحرب وما عانته ،ولكنه لم يتطرق إلى بشاعة فعل الرصاص و«هدير» سيارات اإلسعاف. يب���دو الوض���ع مختلف ًا مع الش���اعر قرر أن العراق���ي عبدالزهرة زكي ال���ذي ّ يكت���ب عن الحرب في ب�ل�اده بواقعيتها ووحش���يتها وأهواله���ا .ف���ي ديوان���ه «ش���ريط صامت» الصادر حديث ًا عن دار المدى ،أفلت العنان لقلمه لسرد ما يحلو تح���ول فعل الكتابة ّ له م���ن روايات .إذ لدى زكي إلى حاجة ماس���ة للتعبير عن الغض���ب والرفض والق���رف من أوضاع البل���د .باتت الكتابة متنفس��� ًا للش���اعر، وكأن���ه يريد القول إنه فعل ما كان يجب أن يفعله منذ زم���ن .لم يبحث كثيرًا عن صوره الش���عرية ،بل ح���اول نقلها من ال وأطلق الشارع إلى قصائده ،نمَّقها قلي ً سراحها. انتبه أيه���ا القارئ ،وأن���ت تتصفح الدي���وان ،أخف���ض رأس���ك خوف��� ًا من رصاصة طائشة ،واهرب قبل أن تصلك قذيف���ة ضلت طريقها ،واحتم من قناص ينتظر الفرصة المناس���بة الصطيادك، وح���اذر الرك���وب في س���يارة ال تعرف أصلها وفصلها خوف ًا من عبوة ناسفة، وعد إلى البيت قب���ل حلول الظالم ،كي ال تكون هدف ًا س���هالً ،وإذا كنت من ذوي
128
القلوب الطريّة ،ال تنظر إلى جثة مرميّة على جانب الطريق ،وإذا صادفت قاتالً، ال تنظر مباشرة في عينيه خوف ًا من أن يرميك في أقرب قبر مفتوح. ما يعانيه الع���راق منذ العام ،2003 س���اعد زكي على التمرد والتصميم على تقديم عمل مستوحى من تلك األحداث. ويحتاج ه���ذا الفعل إلى ج���رأة كبيرة، خصوص ًا أن اللغة الواجب اس���تعمالها، س���تقع في ف���خ البس���اطة ف���ي بعض األحيان ،ولن تك���ون على قدر كبير من العمق واإلبداع. ق���راءة الدي���وان أش���به بالتنقل في حق���ل لأللغام ،ال تعرف متى س���تنفجر القصي���دة ،ومت���ى س���يخطف الق���ارئ إل���ى عالم زكي ال���ذي رس���مه بعناية، ليبره���ن أن الش���عر قادر عل���ى محاكاة الواق���ع ،ونقل الصورة ب���كل تفاصيلها بموضوعية (بي���ن القدمين المضرجتين بالدم ،أس���فل المقعد /ل���م ينتبه عمال اإلنقاذ لهاتف يرن /س���يارة اإلس���عاف تنطلق بسرعة بالجسد القتيل ،ويرتفع
الدخان بعيداً /ويمر السائقون ناظرين ال إلى الحطام /ووس���ط الدم أسفل وج ً المقعد الهاتف يرن). ينقل صاحب «اليد تكتشف» ()1993 الوجع والهم اليوم���ي للمواطن الخائف دوم ًا من الموت ال���ذي يرافقه حتى إلى أحالم���ه (س���بقها دمه���ا والحقيبة إلى الرصيف ،قبل أن تترك صرختها تجري وراءه���م بين الهواء والغب���ار والخوف َ وصوت الرصاص الذي م���ا زال يلعلع في قاعات الدرس). يكم���ل زك���ي ف���ي «ش���ريط صامت» مشروعه الشعري الذي بدأه مع قصيدة «ه���ذا خبز» ع���ام ،1990بع���د الحصار األميركي على الع���راق ،والحصار الذي مارسته السلطة فيما بعد على المبدعين. وفي ع���ام ،2011يكتب صاحب «كتاب الي���وم ...كت���اب الس���احر» ()1999 معاناة ش���عبه من االحتالل األميركي، وم���ن الحروب الصغي���رة والكبيرة بين العراقيين أنفس���هم ،ولكنه يكتب أيض ًا ع���ن األل���م ال���ذي يعتصر روح���ه جراء ذلك. لم َي َخ ْف زكي من الكتابة بوحش���ية، ومتفحمة (بين ّ بل أرادها قاس���ية قوية تفحمت الحديد المش���تعل ورائحة النارّ ، تفحم جس���د جثته���ا ،وعل���ى صدره���ا ّ الرضي���ع ...لك���ن ثديها م���ازال حانياً، ورحمة عل���ى فمه الصغير). ً ي���در حليب ًا ُّ وفي أج���واء الخط���ف والقت���ل والذبح وأزي���ز الرصاص وج���د صاحب «كتاب الفردوس» ( )2000مس���احة للحب «من قبو الخطف» (تنفس���ي اله���واء بعمق، أحرسك وأسهر عليك). ِ ستجدينني فيه ه���ذه اللعبة الش���عرية الت���ي أرادها زك���ي وفّ���ق فيه���ا ،خصوص��� ًا ف���ي النص���وص القصيرة المكثف���ة التي أتت معب���رة وواقعية وبليغة ،بيد أن بعض النصوص الطويلة شابها الملل والرتابة وتوق���ع األح���داث قب���ل الوص���ول الى نهاية القصيدة -المج���زرة ،وقد حملت بع���ض قصائد الكتّ���اب عناوين صادمة كـ «برصاص قن���اص» و«بانفجار عبوة ناس���فة» و«الجثة» و«الدم يحفر مجراه» و«الجثة تنتظر».
رغم ش����عريته المحضة كان ،لكي يعرف قيمة أعماله ،يرس����لها إلى أصدقائه فإذا أثنوا عليها قام بإرسالها إلى المجالت لنشرها.
الترجمة العربية أعمال كفافيس الكاملة عاطف حممد عبد املجيد -القاهرة «لعلن���ا لن نعث���ر على ترجم���ة واحدة ألعمال كفافيس الشعرية على مستوى لغات العالم تضم ما تضمه ترجمتنا هذه من ش���مولية لكل ما يعرفه اليونانيون وغير اليونانيين من أعماله الشعرية». فيما اقتصرت الترجمات العربية السابقة على تشكيل مختارات متفاوتة في العدد ومعايير االختي���ار ومناهج المترجمين ال ع���ن رهافة الترجم���ة ذاتها» .هذا فض ً ما قاله الش���اعر والمترجم رفعت سالم ف���ي مقدمت���ه لترجمته ألعمال الش���اعر اليونان���ي الكبير قس���طنطين كفافيس الكاملة والتي صدرت مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة. تضم هذه الترجمة القصائد المنش���ورة والقصائ���د غي���ر المنش���ورة والقصائد األول���ى وقصائ���د النثر (وه���ي قصائد كفافي���س غي���ر المتوفرة ف���ي طبعات األعم���ال الش���عرية لكفافي���س وقد عثر عليها المترجم خالل بحثه في أرش���يف الش���اعر المنش���ور مؤخراً)..وكذل���ك القصائ���د غي���ر المكتملة الت���ي لم يمهل الزمن كفافيس إلنهائها خالل الس���نوات األخيرة من حياته. لقد قضى رفعت س�ل�ام ثالثة عشر عام ًا عاكف��� ًا عل���ى ترجمته لألعم���ال الكاملة لقسطنطين كفافيس أو كفافي المولود في الس���ابع عش���ر من أبريل من العام
1863وقد كانت الس���نوات التي قضاها في صب���اه في لندن س���نوات هامة في ال عن تشكيل حساسيته الش���عرية فض ً قراءته لألدب اإلنجليزي. كان كفافي���س يكتب في الع���ام الواحد حوالي س���بعين قصي���دة لكنه مع ذلك ل���م يكن يحتفظ منها س���وى بأربعة أو خمس���ة قصائد فيما كان يق���وم بتبديد الباقي.وكان ،لكي يعرف قيمة أعماله، يرس���لها إلى أصدقائه فإذا أثنوا عليها قام بإرسالها إلى المجالت لنشرها. نشر كفافيس مجموعته الشعرية األولى في الع���ام 1904وكان حينها في عامه الحادي واألربعين .ومنذ ذلك الوقت بدأ النق���اد في الكتابة عنه وعن أعماله .بل وألقوا المحاضرات عن ش���عره.غير أن كفافيس الذي التقى عددًا كبيرًا من األدباء
اليونانيي���ن خ�ل�ال زيارات���ه المتكررة يلق ما يستحقه من االستقبال ألثينا لم َ األدبي.ويبدو أن أهميته لم يتم تداركها قب���ل وفاته لنفس األس���باب تمام ًا التي جعلت منه اآلن الشاعر اليوناني األكثر أصال���ة وتأثيرًا في ه���ذا القرن ،ومنها نفوره م���ن البالغة التي كانت س���ائدة آنذاك وسط الش���عراء المعاصرين في اليونان إضافة إل���ى نزوعه إلى الكمال الجمال���ي ،وإبداع���ه عالم ًا أس���طوري ًا غني ًا خالل س���نوات نضجه.وفي نهاية مقدمت���ه يق���ول رفعت س�ل�ام« :ما أكثر الدروس الش���عرية والنقدية والثقافية بل حتى األخالقي���ة التي تنطوي عليها هذه األعم���ال الش���عرية والنقدية..وما العبَر!». أكثر وأعمق ِ و.ه���ـ.أودن فيق���ول ف���ي كلمة له ِ أم���ا تصدرت هذه األعم���ال الكاملة« :منذ أن تعرفت على شعره قبل ثالثين عام ًا ظل كفافيس مؤثرًا في كتابتي». وم���ن أق���وال قس���طنطين كفافي���س التأملية« :نحن نعمل باجتهاد..من أجل القادمين..إلع���داد قواع���د حياة..خطة حياة..ربما أكثر فائ���دة ألن حياتهم قد تكون أطول». برع رفعت س�ل�ام في ترجمته ألش���عار كفافيس ونثره مس���تخدم ًا لغة سلس���ة كأنها تقترب من األصل..وقد بذل مجهودًا كبيرًا في إنجاز هذه الترجمة ..يستحق عليه التقدي���ر والثن���اء ،وكانت ثمرته هذه األعمال الكاملة التي سيستفيد منها كوكبة من المبدعين والقراء العرب أينما كتاب كهذا مرجع ًا كانوا..وكذلك سيبقى ٌ مهم ًا في المكتبة العربية يقدم نفسه لكل من يريد االطالع على أش���عار كفافيس ونثره وكتاباته التأملية. يق���ول كفافيس في قصي���دة له عنوانها «أتى إلى هنا للقراءة»: أتى إلى هنا للقراءة كتابان أو ثالثة يرقدون مفتوحين لمؤرخين وشعراء لكنه قرأ بالكاد لمدة عشر دقائق ثم توقف وهو ينعس على األريكة. 129
مذاق الوداعات صدر مؤخرًا عن «دار س���ندباد» للنشر والتوزيع بالقاهرة رواية «يوميات طالبة س���عودية في مانشس���تر» وهي الرواية األولى للشاعرة الس���عودية الشابة ندى الرش���يد .وتس���رد فيها عبر 860صفحة فت���رة إقامتها الدراس���ية في مانشس���تر ببريطاني���ا .وعل���ى ظهر الغ�ل�اف الذي صمم���ه الفنان أحمد طه نقرأ من تقييم د. أسماء أبوبكر لتجربة المؤلفة: «تعم���د الكاتب���ة ف���ي ص���وغ موقفها األيديولوج���ي إلى تقني���ة أدائية توظف فيها شكل الرحلة لتسجل يوميات طالبة س���عودية تنس���رب كروح نقية مسكونة بهاج���س الغرب���ة ،طافح���ة لرواس���بها العميق���ة وملتحف���ة بالرحي���ل ،غادرت لتوها مدينتها التي تعش���قها ،مستسلمة لمستويات متعددة من االغتراب ،أعمقها
اغتراب الذات إل���ى أقصى توجعاتها عبر ثنائي���ه الرحي���ل والع���ودة اإلجباريين، مما يحقق مثاقفة أيديولوجية وجمالية، بي���ن بيئتي���ن وعالمي���ن يتراوح���ان من البص���رة إلى مانشس���تر ثم الع���ودة إلى الري���اض فيما بعد ،لوج���وه تجمع بينها رائح���ة المط���ر وش���بق الم���دن ،ويباعد بينه���ا المذاق المختل���ف للبيئتين ،حينما تك���ون نفس الذات اإلنس���انية هي محور
الفع���ل المتغير بتغير األمكن���ة ،فيتبلور ص���راع ال يخلص النتص���ار إحداها على األخرى ،وإنما يتدفق ويس���تمر ،فتنهزم أمامه ال���ذات حين ًا وتنتص���ر حين ًا آخر، ويبرز الحس االنتظاري لدى الش���خصية ضمن عالقات إنسانية متنوعة ،وما بين الرحيل النفسي واالرتحال الواقعي تنبت اإليح���اءات وتتول���د ال���دالالت الممزوجة بطعم المطر والذكريات األليفة واألليمة، ترافقها مجموعة متنوعة من المتناصات التاريخية والسياس���ية والش���عرية التي تؤس���س لتناغماتها اإليقاعية ،فتتماهى مواج���ع ال���ذات م���ع مواج���ع الوط���ن ويس���كن هاجس الرحيل فضاءات الروح اإلنسانية». والجدير بالذكر أن الشاعرة ندى الرشيد صدر لها من قبل ديوانان شعريان :األول «كل عام وأنت لي» عن دار شمس للنشر بالقاهرة عام ،2009والثاني «رس���ائل الندى» عن دار س���ندباد للنش���ر بالقاهرة ،2010ولها تحت الطبع الجزء الثاني من رواية «يوميات طالبة سعودية».
برلمان نجيب محفوظ صدر حديث ًا للروائي س���عيد س���الم كتاب بعنوان «نجيب محفوظ اإلنسان»، عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن العدد التاسع من السلسلة التي تصدرها الهيئة بعنوان «نجيب محفوظ» .الكتاب يش���تمل عل���ى أبواب متع���ددة توضح جوانب من ش���خصية محفوظ اإلنسان وعالقت���ه الودي���ة باآلخري���ن ورؤيته للكون والخالق واإلنسانية .كما يعرض الكتاب في فصل تحت عنوان «فيض من الذكريات» ،مواق���ف كثيرة نقف عبرها عل���ى الح���س الفكاهي في ش���خصية محفوظ م���ن خالل العديد من قفش���اته المرحة وتعليقاته الساخرة في مجاالت السياسة واألدب والحياة االجتماعية، وكذلك في المواقف الحرجة التي كثيرًا
130
م���ا تعرض لها خاصة في ندوات «س���ان س���تيفانو» التي كانت مفتوحة في وجه الجميع ،والتي يعتبرها الكاتب أنها كانت بمثاب���ة برلمان ديموقراط���ي أطلق عليه برلمان نجيب محفوظ ،من حيث أنه جو مثالي لممارس���ة حرية الفكر والكلمة في جو من الحب والتس���امح واحترام الرأي اآلخر. ويضم الكت���اب كذلك أبواب��� ًا أخرى، تتطرق إلى حص���ول محفوظ على نوبل وموقف���ه م���ن التطبي���ع وع���ن محاولة اغتيال���ه ،كم���ا يس���رد الكات���ب أح���داث اللقاء األول الذي جمع الكاتب باألس���تاذ محف���وظ ،وه���و اللق���اء ال���ذي أس���س لعالقة يأتي هذا الكت���اب ثمرة لذكرياتها وتاريخها ،وهو شهادة من واقع معايشة
الروائي سعيد سالم لألستاذ لسنوات عديدة ،س���واء في لق���اءات الصيف أو م���ن خ�ل�ال الخطاب���ات المتبادلة معه بش���أن موضوعات وقضاي���ا متعددة، مما يضفي عل���ى الكتاب غاية توثيقية اس���تنادًا إلى االحتكاك المباش���ر بهذا الروائي الكبير.
عب����ر نصها الطويل تطلعنا س����وزان علي����وان على حالة م����ن التناغم الشعري مع تجربتها الخاصة.
كل التفاصيل ورطة حب يتشكل الحب «كقوس قزح ،ال يختصره لون واح���د» ..ح���ب أرادته الش���اعرة غصن���اً ،حينا يقف عليه غراب ،وحينا تتفتح في���ه وردة ..على ه���ذه الحالة التأملي���ة تواص���ل الش���اعرة اللبنانية س���وزان علي���وان الكتابة ع���ن الحب، وهو موضوعتها األساس���ية في مجمل تجربته���ا الش���عرية .ويأت���ي ديوانها الثال���ث عش���ر «رش���ق الغ���زال» وهو طبع���ة خاصة ف���ي 70صفحة بغالف من تصميم الش���اعرة ،اس���تكما ًال لهذه التجرب���ة .الديوان عب���ارة عن قصيدة طويلة مقس���مة إلى مقاط���ع ،يبدأ كل منها بجملة مطبوعة باللون األحمر. عن داللة اختيارها لعنوان الديوان، تتحدث الشاعرة ف��ي أح��د حواراتها األخيرة قائلة :للعنوان أكثر من داللة، فـ «ال��رش��ق» حسب لسان العرب هو «الرمي بالسهم» وه��و أيض ًا «الرمي بالنظرة» ،ول��ه دالالت أخ��رى فيما يخص الغزالن« ،المرشق من الظباء: التي تمد عنقها وتنظر ،فهي أحسن ما تكون» .غير أن الشاعرة تترك القراءة مفتوحة وإن كانت تلمح في نصها ترجيح القراءة إلى «كبرياء غزال يمد عنقه نحو السماء» :
«يف املعاناة نواة معنى
كل �صباح يتخطى �صاحبيه وللرياح العاتية ب�صرية �صقر وملم�س �سماء»/ «حني �أرفع رقبتي قلي ً ال لأتفقد الفراغ وما فاتني �أجد الهالل الذي تركنه يتكون م�شنقة مكتملة»/ «يف جوقة الأ�صدقاء على غري هدى يف احل�شا لوعة وفراغ غزالة بدندنة �أتظاهر برفع نخبي ك�إكليل يف دخان».. وعبر نصه���ا الطويل تطلعنا س���وزان عليوان على حالة من التناغم الشعري مع التجربة الخاصة ،و«رشق الغزال»
وإن كان مرآة لفضاء شخصي داخلي، فهو ن���ص يجنح ف���ي انكش���افاته إلى التفاصيل اليومية ومحاورة مكوناتها وشخوصها بكامل الحميمية والعتاب، حت���ى إذا ما انتق���ل النص م���ن الحالة الخاص���ة إل���ى العام���ة ،فهو ف���ي هذا االنتق���ال يض���ع القارئ في س���ياقات صعبة م���ن التج���اذب واالنقطاع ،من تشكيل لغوي شفاف ورومانسي ،إلى انزياح���ات صوفية حس���ية تس���تدعي الت���ذوق والتأمل واإلنص���ات ،خاصة حين يض���اف إلى كل هذا تل���ك الكلفة الشكلية للنص واشتغاله المتقون على عنص���ر اإليق���اع الخارجي حت���ى يكاد يوهمن���ا أحيان��� ًا كثيرة أن���ه قائمة من التفعي�ل�ات الموزونة ،لكن���ه في واقع النص نتاج حرص الفت من الش���اعرة، على تناغم الشكل بانزياحات الصورة الشعرية .وهو تناغم ليس على حساب اإليقاع الداخلي للنص ،فالشاعرة تبرر اعتماده���ا عل���ى الثنائي���ات واألضداد اللغوية التي تش���كل نس���يج االنزياح والتصوير وتش���كيل الص���ورة ،وهذا م���ن صمي���م رؤي���ة علي���وان لمحيطها وانعكاس���اته ش���عري ًا عليها ،ومن ثم تبدو هذه الثنائيات كما تقول الشاعرة: «متناف���رة وهي في جوهرها في ديوان «رشق الغزال» ضفيرة العاشقين .رغم كل الصراع���ات الدائ���رة بينهم���ا ،على امتداد النص ،توحدهما في النهاية دمعة العالم» حيث نقرأ في هذه النهاية:
«على كمنجات خفية على عتب واعتذار وعناق عميق ك�أين لأول مرة �أراك وجهك �ضحكتك عيناك الأجمل من �أن تكونا دمعة من �إذا هذا العامل؟». 131
في لحظة حاس����مة من تاريخ المغرب إبان االس����تعمار ،حيث شرعت الحداث����ة باكتس����اح الم����دن العتيق����ة ،كان����ت القصة المغربية تبس����ط خصوصيتها المحلية.
هموم المحلية في القصة المغربية حممد العناز
في موضوع قلم���ا تناوله الباحثون صدر مؤخرًا للقاص والباحث المغربي د .مصطف���ى يعلى كت���اب تحت عنوان (ظاه���رة المحلية في الس���رد المغربي: حفر عن خصوصيات المجتمع المحلي ف���ي نص���وص القصاصي���ن المغاربة الرواد) ،ضمن سلسلة «األربعة» ،عن مطبعة األمنية بالرباط. الكت���اب يق���ع ف���ي 348صفحة من القط���ع الكبي���ر ،وه���و يتمفص���ل إلى قسمين اثنين يكمل أحدهما اآلخر: القس���م األول ،معن���ون ب���ـ (ظاهرة المحلي���ة) ،وه���و ذو طبيع���ة نظرية، ويتكون من أربعة فصول هي( :المحلية مفهوماً ،المحلية تجلي ًا إبداعياً ،المحلية نزعة ،المحلية دعوة). أما القس���م الثان���ي (محلية الس���رد المغربي) ،فهو قسم تطبيقي ،يستنطق فيه الباحث النصوص السردية لعدد من القصاصين المغاربة الرواد ،المنتمين إلى بع���ض الم���دن المغربي���ة العريقة (فاس ،أصيلة ،تطوان ،س�ل�ا) ،وذلك عبر أربع���ة فصول( :العتاق���ة المهددة بالتح���ول ،أصيل���ة مرتع��� ًا لش���طارة الطفولة المس���تعادة ،الرؤي���ة النقدية
132
اإلصالحية للمجتمع المحلي ،المحلية معبرًا لاللتزام). ينطل���ق الكت���اب من فرضي���ة كون هيمنة ظاه���رة المحلية عل���ى مختلف األنش���طة الثقافي���ة ،ومنه���ا اإلنت���اج الس���ردي في المرحلة المدروس���ة (من أوائل األربعينات إلى نهاية الستينات)، ل���م تكن س���وى نوع م���ن الدف���اع عن ال���ذات وتحصينها أمام تغ���ول الغرب المستعمر. وهكذا حاول الباح���ث تحديد مفهوم المحلي���ة ،مانع��� ًا التداخ���ل بينه وبين
مصطلحات ومفاهي���م أخرى مجاورة، كاإلقليمي���ة والوطني���ة والقومية .كما توقف الباحث على أهم تجليات الظاهرة المحلي���ة في الف���ن واألدب عموماً .مع س���رد الوض���ع التاريخي الع���ام الذي نش���أت وترعرعت في ظله قبيل وبعيد اس���تقالل المغ���رب .فتبي���ن أن له���ذه الظاهرة أس���باب ًا ذات عالقة بش���روط تاريخية موضوعي���ة ،احتضنها مناخ اجتماعي ونفسي وسياسي خاص ساد المغرب في الفترة المدروس���ة« :فتحت حواف���ز معينة ،م���ن عزل���ة تاريخية، وتسلط اس���تعماري ،وتجاهل مشرقي لم���ا أنتجته القرائ���ح المغربية من فكر وأدب ،وإحس���اس بض���رورة االهتمام بكل ما هو مغربي في المجاالت الفكرية، واألدبي���ة ،والفني���ة ،والحضاري���ة. نزوع ًا منهم إلى استكش���اف الشخصية المغربية واس���تعادة الهوية الضائعة، دون أن ينسيهم هذا الحماس انتماءهم العربي اإلس�ل�امي الذي قامت دعوتهم تل���ك بوازع منه وغي���رة على العروبة واإلسالم في هذه الديار» (ص.)330. فوفق م���ا يذهب إلي���ه الباحث،فإن الس���رد كان م���ن الميادي���ن المناس���بة الحتض���ان التجلي���ات المحلية بصورة مجسدة ورحبة ،لما يملكه من إمكانات بليغة في التعبير عن المعاناة الفردية والمعض�ل�ات االجتماعي���ة والقضاي���ا الوطني���ة واإلقليمي���ة والقومي���ة ،بل واإلنسانية .ذلك أن قصاصي المرحلة، المغارب���ة القابعين في مدنهم التقليدية العريقة ،مالوا إلى االهتمام بمجتمعهم المحل���ي والتعبي���ر عنه وع���ن همومه وتطلعات���ه ،ورس���م فضاءاته بصورة تفيض حب ًا واعتزازاً ،لكنها ال تخلو من نقد ومؤاخذة بغاية إصالحه. فمن خالل الحفر في نصوص أشهر القصاصي���ن المغاربة ال���رواد .يخلص الباح���ث إلى كون القصاصين المغاربة من أبن���اء مدينة ف���اس ،كأحمد بناني وعبد الرحمن الفاس���ي وعبد المجيد بن جلون وعبد الكريم غالب ،قد انصرفوا
في س���رودهم بحماس ص���ادق ،نحو رصد حركة مجتمعهم المحلي الفاس���ي في لحظة حاس���مة من تاريخه الحديث والمعاص���ر ،حي���ث ش���رعت الحداث���ة تكتس���حه في عق���ر داره ،فجعل ما هو أصي���ل وعتيق يصط���دم بما هو دخيل وجديد .وقد تمكن أولئك الكتاب من بسط مختلف تجليات المحلية بخصوصياتها المكونة لش���خصية مجتمعه���م الضيق بيئي ًا وحضاري ًا واجتماعي ًا وسياس���ي ًا ونفس���ياً ،لكن في مواجهة مأس���اوية م���ع نقائضه���ا المصاحبة لالس���تعمار الغربي. بعد ذلك ،ينتقل الباحث إلى الكشف عن مدى تمثل أحمد عبد السالم البقالي للظاه���رة المحلية ف���ي أغلب نصوصه السردية ،التي تتخذ من مدينته أصيلة فض���اء حميمي ًا لها ،تتجمع فيه ش���تى المالم���ح المحلي���ة المش���كلة لمجتمع أصيلة األكثر ضيق ًا وتشدداً ،والمكونة جمالي��� ًا عالم��� ًا تخييلي��� ًا ذا مواصفات خاصة ،تتحدد في الصراع بين األجيال ف���ي لحظ���ة تاريخي���ة عانى فيه���ا هذا المجتمع من قس���وة التقاليد والحرمان والفقر والممارسات السلطوية األبوية واالس���تعمارية .وهو ما جعل نصوص البقال���ي تتمي���ز هي األخرى بنس���قين اثني���ن لكنهما مختلف���ان إلى حد ما عما لوحظ في أعم���ال كتاب فاس ،ونعني بهما حركة الش���طارة المتحدية من لدن األطفال والشباب ،مقابل الطرد الصارم الذي مارسه المجتمع المحلي األصيلي على أبنائه النجباء ،وذلك حفاظ ًا على اس���تمرارية وتأبيد ه���ذا المجتمع بكل مواصفاته الماضوية. ومن التنويع���ات المحلية المختلفة لظاه���رة المحلي���ة ف���ي الس���رد اهتدى الكات���ب إلى أن الظاه���رة قد تميزت في مدينة مغربية عريقة أخرى هي تطوان، بن���زوع كتابها وخاص���ة محمد الخضر الريس���وني ،نحو االحتف���اء بالمظاهر االجتماعي���ة وطقوس���ها الراس���خة، كالخطوبة والزواج والشعوذة والدجل
والح���رف التقليدية ،وم���ا إلى ذلك من المظاهر اإلثنوغرافية ،مع االهتمام بما يشغل أصحابها من هموم وطموحات. وق���د تم كل هذا بح���س نقدي إصالحي غايت���ه التوفيق بين القدي���م والجديد، وبوعي «طوباوي» حريص على إعادة الت���وازن إلى المجتمع المحلي المختل، تس���اوق ًا مع ش���عارات حزب اإلصالح ال���ذي كان يتخ���ذ مقره الرئي���س بهذه المدينة. ثم يصل الباحث في الفصل األخير، إل���ى تنوي���ع رابع يتجس���د في قصص أحمد اش���ماعو بالنس���بة لمدينة س�ل�ا العتيقة ،كما تبدت في مختلف أنس���اق الن���ص الس���ردي لهذا الكاتب ،الس���يما ف���ي المقدمة الطويل���ة ،مكونة صورة أصيلة محببة وشيقة للمجتمع المحلي الس�ل�اوي ،تدعمها الرغب���ة في فضح الظلم الممارس من لدن رجال الس���لطة والم���ال المحليين ،وكذا من الس���لطات االس���تعمارية الغاش���مة ،وهو ما ميز ه���ذه الظاه���رة ل���دى اش���ماعو بطابع االلتزام المعبر عن نفس���ه من خالل هذا المجتمع. وينتهي الباح���ث إلى تأكيد اختالف الرؤي���ة المحلي���ة ل���دى كت���اب الم���دن المذك���ورة ،بي���د أنه يع���ود فيقرر بأن تجليات الظاهرة كثيرًا ما تماهت لديهم، فق���د اش���تركوا في معظ���م الخصائص الجمالية بناء وأسلوباً. وال ين���س الدكت���ور مصطفى يعلي تبري���ر نش���ر بحث���ه راهناً ،ف���ي زمن إطالق خراف���ة العولم���ة .فانطالق ًا من وعيه الحاد باالختالف الجذري ما بين العالمي���ة المرتبطة بالتن���وع الخصب والمثاقفة المثم���رة من جهة ،والعولمة العمياء العاب���رة للقارات والكاس���حة لكل ش���يء والمجرفة لثقافات الشعوب المتنوعة رس���مية وش���عبية ،من أجل فرض نموذج قطبي أميركي متوحش، من جه���ة ثاني���ة ،يؤكد أن أن س���ؤال الخصوصي���ة ف���ي حاجة إل���ى إيجاد األجوبة الضرورية من لدن الجميع.
العربية: دالالت وأصوات صدرت عن المنظمة اإلسالمية للتربية والثقافة والعلوم مؤخرًا موس���وعة معجمي���ة بعن���وان: «المستكش���ف» تتضم���ن س���تة معاجم فرعية من تأليف الدكتور إدريس ولد عتيه أس���تاذ مساعد بجامعة قطر. وتتضمن ه���ذه الموس���وعة المعاجم التالية: المعج���م الصوت���ي :وه���وتقديم جديد لنطق الحرف العربي من حيث صفته ومخرجه وكيفية نطقه. المعج���م الدالل���ي :ويعتمدتعري���ف وتصنيف وترتيب 459 حق�ل�ا داللياً ،ه���ي الغالبة على ً المعجم العربي كله. الم َحيا ،وهو تصنيف معجم ُوإحص���اء لبع���ض الثغ���رات االستعمالية للفصحى المعاصرة واقتراح للمناس���ب من التراكيب واأللف���اظ لس���د تل���ك الثغرات، وفيها إضاف���ة تعليمية لما تقوم به المعاجم في إنهاض العربية. المعجم الصرفي والصوتي(المتق���ارب الصوت���ي) ،وفي���ه وصنِّفت أحصي���ت آالف الكلمات ُ ْولت في س���ت عشرة عائلة وجد ِ ُ صوتية مبين ًا فيها أوجه التقارب والتقابل والتضاد صوت ًا وصرف ًا وداللة. معجم المس���تغرب (صوتيودالل���ي وصرف���ي) وفيه صنف كثي���ر م���ن الم���ادة الغريبة في ْول���ت وبينَت أوجه العربيةُ ،جد ِ الغرابة فيها وزن ًا وصوت ًا وسبب غرابة.
133
«دمروا خالل اليمن وفصول الجحيم في معركة بين إخوة ّ أحد عش���ر يوم ًا م���ا لم تدمره الح���رب اللبنانية خالل أحد عشر عام ًا مضت»
قبائل ماركس تتناحر في الجنوب جمال جربان � -صنعاء
يص���ل الش���اعر أرثر رامبو إل���ى ميناء عدن ،فجر الثالث عشر من يناير 1986 متخيل على ظه���ر «المركب في مش���هد ُ النش���وان» ،كئيب ًا وصامت��� ًا ينزل إلى المدينة التي عاش فيها جزءًا من حياته. يصعد إلى تلة ويخاطب سكانها« :إنني أش���تّم اليوم رائحة البارود» ،ويعود من حيث أتى .ما هي إال ساعات قليلة حت���ى تخ���رج الرصاص���ة األولى من بيته���ا ويكون جحيم وبداية القتل على الهوية واللكنة« .إنها الحلقة األولى من مسلس���ل االنتحار الجماعي» .انسحب عقل «رف���اق كارل مارك���س» وتقدمت القبيلة.انقط���ع الح���وار بي���ن اإلخوة األعداء لتخرج الدبابات إلى الش���وارع متحدث���ة بلغتها الخاص���ة ،وفي حين انف���ردت الطائرات بالقص���ف من الجو كانت قطع بحرية ترمي بنارها و«عدن تحترق». يس���جل أحمد الصياد في كتابه «اليمن وفصول الجحيم» (دار رياض الريّس) س���يرة تلك األي���ام الدامي���ة بين رفاق الح���زب االش���تراكي ال���ذي كان حاكم ًا لجنوب اليمن في تلك الفترة وماجرى قبل وأثناء وبعد الثالث عشر من يناير .1986وقد تعمد الصيّ���اد التنويه في بداية كتابه «في هذا العمل من الحقائق 134
قدر ما في���ه من الخيال ،أم���ا تصنيفه فأتركه لتقدير القارئ». ه���ذه الحرية التي يقدمه���ا كاتب العمل لقارئ���ه يمك���ن أن تذهب به���ذا القارئ المحتم���ل للبح���ث فيما وراء الس���طور والقال���ب الروائ���ي التي ج���اء الكتاب في س���ياقها ،بحي���ث يمك���ن اعتبارها قطعة من س���يرة ذاتي���ة طويلة حيث ال يمكن إس���قاط نقط���ة بالغة األهمية تق���ول إن أحم���د الصياد وه���و الرفيق الذي تقاطعت حياته بتلك الفترة التي يرويها كتابه وكان ش���خص ًا محسوب ًا عل���ى الح���زب االش���تراكي اليمني بعد هروبه من شمال اليمن إلى عدن ،حيث تواف���رت له حي���اة فكري���ة وثقافية لم تكن متاحة له في مسقط رأسه قبل أن يتدرج ف���ي مناصب عديدة وصو ًال إلى
منصب األمين العام المس���اعد لمنظمة اليونس���كو وهو المنصب الذي ما يزال يشغله حتى اليوم. فض���ل الكاتب تأطي���ر تفاصيل ما وقد ّ جرى من أح���داث في يناير الدامي ذاك في قالب يروي قصة عائلة من الشمال اليمني لديها ولدان يستقر األول (صادق بن محم���د المنصوري)،ال���راوي ،في مدينة عدن بعد إتمامه دراسة الطب في إحدى الدول االشتراكية وقتها وجاءت منحت���ه الدراس���ية عن طري���ق الحزب االش���تراكي يومها ،بينم���ا يبقى الولد ال البقاء الثاني (عمار) في صنعاء مفض ً هناك والتقرب للس���لطة الحاكمة التي من خاللها سيصبح ش���خص ًا نافذًا في البلد .ومن خالل هاتين الش���خصيتين يمهد الصيّ���اد لرواية تفاصيل ما حدث خ�ل�ال تل���ك «المذبح���ة» الت���ي أودت بحي���اة م���ا يزيد عل���ى 16أل���ف يمني قضوا بنيران اإلخوة المتقاتلين ،لكنه مع ذل���ك لم يرغب في الدخ���ول عميق ًا ف���ي تل���ك التفاصيل ولم يق���م بتحديد األسباب واألسماء التي أدت لوقوع ما كان مكتفي ًا اإلش���ارة من بعيد تارة أو االختباء وراء أسماء وهمية لشخصيات سياسية من قيادات الحزب االشتراكي ما ت���زال تعيش حتى الي���وم وتمارس دورًا عل���ى صعيد الحراك السياس���ي اليمني تارة أخرى،لكن لعل هذا هو ما جعله متهرب ًا من تحديد هوية األس���ماء التي تسببت فيما حدث على اعتبار أنه كان ش���اهدًا على المذبحة التي أظهرت الرفاق عراة من شعارات المدنية التي كان���وا يرفعونها منطلقي���ن من اإلرث الثقافي االش���تراكي الذي درسوا على يدي���ه وصار عنوان ًا عريض��� ًا للجنوب اليمني .وربما من هنا كان حجم الصدمة التي تول���دت في عقول من تابعوا تلك التجربة االش���تراكية في جنوب ش���به الجزي���رة العربي���ة واعتق���دوا أنها قد تكون نواة لمدنية كبرى تتجاوز اليمن الجنوبي لتص���ل إلى خارج جغرافيتها ول���م يتوقعوا أب���دًا أن تنتهي التجربة بذلك الشكل الدامي الذي انتهت إليه.
شاعر يعيش على جسر �أني�س الرافعي -املغرب
بع���د «نوافذ مش���رعة عل���ى الليل» صدر للش���اعر المغربي جواد وحم���و مؤخرًا ديوان «الحياة على جس���ر» (منشورات ﺃنفو برانت .)2011 ،اس���تلهم مظانه من محاورة نيتش���وية وردت بكتاب «العلم المرح» بين الفيلس���وف وروحه الثانية الت���ي كانت تتوق ألن تس���ير في أعقابه عبر جس���ر ضيق هو الحياة ،تعترضه الجبال والس���يول والناس والوحوش، وكثيرًا ما يفرق ويغرب الواحد عن نفسه ليصير شبحاً. ومنذ البدء يكاش���فنا المدخل االفتتاحي له���ذا العمل الجدي���د ،الموش���ى بلوحة غ�ل�اف س���وريالية م���ن توقي���ع الفنان الروس���ي بافيل تشيليتشو ،بأن الشاعر قد وطد العزم والحرفة على أن «ال يسير بالعب���ارة أكثر مما تري���د القصيدة» ،لذا ج���اءت نص���وص الدي���وان مضغوط���ة كالرقائ���ق الزجاجي���ة ومترع���ة ببالغة االختزال كما لو أنها كتبت بحد السكين. غي���ر أن لها تلك الطاق���ة اإليحائية على اإليغال ف���ي تدرجات المعن���ى والمضي بالق���ارئ إلى الجهة المقابل���ة للتأويل، كي يش���ارك «خالق الكلم���ات ،وحافظ وجوه الكائن الالنهائية» على حد تعبير روني شار ،هواية مطاردة الشعر ،الذي يس���تحيل تارة «طريق ًا ضائعة أو قرينة في العتمة» ،وتارة أخرى «نافذة ال تطل
على ﺃحد في البعيد». وهي مطاردة مشروعة في عرف الروح المكلومة بالوجود ،ومن ش���يم ش���اعر بالغ القلق وغير مدخر لليقين من طينة جواد وحمو« ،يبحث عن حصته في كل ش���يء زائل» ،وقص���ارى حلمه هو «أن يقضي ما تبقى من حياته على جسر /ال يعبر وال يصل /يطل على كل ما يختفي في البعيد /وينتحر قبل أن يقترب». الدي���وان جاء ف���ي 78صفحة من القطع الصغي���ر ،ضام ًا بي���ن دفتي���ه للقصائد التالي���ة ( :جس���د ،الغرب���اء ،س���راب، خرائط ،يجيء ويذه���ب ،النبي ،األلم، الح���وذي ،الفق���دان ،أعم���ى ،القلع���ة، جرثومة الليل ،وعش���ب تحجر في يدي كعروة الفانوس) .وهي عناوين تش���ي بالمهيمن���ات الموضوعاتي���ة والعوال���م األسرارية التي تستوطن نسغ القصائد، وتق���ود س���عيها الحثيث ص���وب وعود
اآلتي ،التي يشهرها الشاعر كالعراف في وجه الزم���ن كلما انهارت أمامه البراهين الصلبة ،وفي مواجهة الخوف بحث ًا عن األمل كي يجتاز سالم ًا صحراء الذاكرة. ف���ي «الحياة على جس���ر» يوح���د جواد وحمو بي���ن جناحي اإليق���اع والكتابة، وبي���ن صرام���ة التفعيل���ة وانس���يابية المحكي الشعري ،لترتقي القصيدة بكامل خفقانها أعلى من شراك الحياة ،وفوق ﺃعطاب القل���ب ،وبمح���اذاة البعيد الذي يصقل األفق .وبين فك���ي هذه الجدلية، يبدو الش���اعر طاعن ًا ف���ي عزلته ،وحيدًا «يزحف في اتجاه غابة من المس���امير»، منفردًا في مواجهة العالم ،الذي لم يتبق منه ش���يء ،متحصن ًا فحس���ب بأخيلته مثل فارس دونكيشوتي يجابه طواحين الهواء. إال أنه يعلو ف���ي كل حين على هذا القدر «بغرز أحالمه في ش���تى ما يحيط به»، و«يرحل صوب ضف���ة الوقت كي يجمع أنح���اءه» .إن���ه من���اخ ش���عري ضاغط وس���وداوي يش���هد على عالم كابوسي س���يؤول بعد حين إلى الت���آكل والعدم والف���وات ،وال���ذات ليس أمامه���ا بّد من البحث عن وس���يلة للخ�ل�اص و«اقتفاء المنتهى» ومراودة المس���افات القصية، ألن مس���كن الكائن أضح���ى «بال أهل / والطريق سراب على أول األحجية». عل���ى ظهر الغالف ،نق���رﺃ الكلمة التالية للناق���د مصطف���ى الحس���ناوي« :ج���واد وحمو ،الشاعر القادم من أعالي األسئلة الش���عرية والوجودية العميقة ،مسكون ًا بهواجس الحياة والم���وت والتمظهرات العالئقية المرئية والالمرئية ،عابرًا ليل الكائن الش���عري شأن رامبو ،بنعال من ريح ،وخطى هائلة ،شبيهة بتلك التي اقترفها تمثال السائر لجياكوميتي». واألكي���د ،أن عبور هذا الدي���وان المتميز بناء ورؤية وخياالً ،لن يكون عابرًا في مشهد شعري يعج بالمتشابه والمنمط، ألن النقل���ة النوعي���ة الت���ي حققها جواد وحم���و في «الحي���اة على جس���ر» تنبئ بوالدة ش���اعر «واث���ق الخطى» صوب منابع الشعر.
135
�سينما
السينما الفرنسية... ّ تتحدث بالعربية باري�س -خا�ص بـ «الدوحة» مطلع السنة الجديدة يمثل موعدًا الستعادة شريط األحداث الماضية، وبداية الع���د التنازل���ي لإلعالن عن أهم األس���ماء التي صنع���ت الفرجة السينمائية في فرنسا. تت���وج هولي���وود نجومها ّ بينما باألوس���كار ،تحتفي فرنس���ا ،على طريقتها ،بخي���رة مواهبها وكفاءاتها في الفن الس���ابع ،من خالل تسليمهم جوائز الس���يزار العريقة ،التي تبلغ الس���نة الجاري���ة دورتها السادس���ة والثالثين. 136
لما أس���س جورج كرافان (1914 ،)2009الق���ادم م���ن القي���روانالتونس���ية ،أكاديمية فنون وتقنيات الس���ينما ( )1974كشف ،من البداية، ع���ن نيت���ه ف���ي مزاحم���ة جوائ���ز األوسكار ،وتأس���يس تقليد فرنسي وأوروبي مواز .وأطلق س���نة 1976 الطبعة األول���ى من الجوائ���ز ،التي تستمد اسمها من اسم النحات سيزار ( ،)1998 - 1921ومن اسم شخصية لعبها الممث���ل ريمو ()1946 - 1883 في إحدى مسرحيات مارسيل بانيول
(.)1974 - 1895 انطلقت الس���يزار بتس���ليم ثالث عش���رة جائزة ،قب���ل أن يرتفع عدد جوائزها إلى اثنتين وعش���رين ،بعد إضافة جائ���زة أفضل فيل���م تحريك السنة الماضية. كثي���ر من األس���ماء الس���ينمائية الفرنس���ية العالمي���ة تمنت وحصلت عل���ى الجائ���زة ذاتها ،أمث���ال جون جاك انو ،رومان بولنس���كي ،كلود س���وتيه وغيره���م .ولك���ن المفارقة التاريخية تكش���ف أن أكثر األس���ماء تتويج ًا بالسيزار ،هي ممثلة فرنسية من أص���ول عربية ،جزائرية تحديدا: إيزابيل عجاني .التي حصدت جائزة السيزار ألحس���ن ممثلة خمس مرات. متقدم���ة على الممثل الش���هير جــيرار ديباردي���و الـ���ذي حصـــ���ل عليــــها مرتـي���ن فـــقـ���ط (.)1991 - 1981 وغالب ًا ما ابتس���مت الجائزة للممثلين العرب ،المغتربين في فرنسا ،حيث حق���ق الجزائ���ري طاه���ر رحيم عام 2010ثنائي���ة ،األول م���ن نوعه���ا، بتتويجه بجائزة أفضل ممثل وأفضل نجم واعد ،عن دور البطولة في فيلم «نبي» لجاك أوديار.
م���ع اقت���راب الحس���م ف���ي دورة ،2012أوردت أكاديمي���ة فن���ون وتقنيات السينما أسماء ثالثة ممثلين عرب ش���باب ضمن قائمة ترشيحات الجائزة ،في صنف أفضل نجم واعد في السينما الفرنسية .ويتعلق األمر بكل من التونس���يين ن���ادرة عيادي وأيمن السعيدي والفلسطيني محمود شلبي. ن���ادرة عيادي ب���رزت ،الس���نة الماضي���ة ،بدور ن���ورة ف���ي الفيلم الدرامي «بوليس» للمخرجة مايوين. وال���ذي يتع���رض ليوميات ش���رطة يصور كثيرًا حماية القاصرين .حيث ّ من مشاهد االعتقاالت ،والمتابعات، وحدة التحقيقات واعتراف القاصرين واألولياء باالنح���راف المعيش .فيلم يتضم���ن مش���اهد ومقاط���ع صادمة أحيان���اً ،ولكنه���ا تخت���زن كم��� ًا من الواقعي���ة .وحقق العم���ل نجاح ًا في صاالت العرض ،حيث تعدت مبيعات التذاكر عتبة المليوني تذكرة. ن���ادرة التي انطلق���ت من األدب، وتعلق���ت ببل���زاك وزوال س���نوات المراهقة ،صارت محط اهتمام كثير من مهنيي الفن الس���ابع في فرنس���ا. بالم���وازاة م���ع دراس���تها للحقوق، مارست المسرح ،وفضلت في األخير معانقة الف���ن الرابع ،بدل البحث عن وظيفة إدارية تتناس���ب مع شهادتها الجامعي���ة .متحدي���ة رف���ض والديها الذين لم يقتنعا ،في البداية ،بخيارها
الفني .ولكن ،توالي نجاحات نادرة من الخش���بة إلى شاش���ة الس���ينما، دفعهما إلى تغيير رأيهما. ف���ي فيل���م «بولي���س» تعك���س ن���ادرة (أو ن���ورة) ص���ورة غض���ب الم���رأة العربي���ة .حي���ث تظه���ر في واحد من المش���اهد وه���ي تصرخ في وج���ه والدها ،المتزم���ت والمنضبط بموروث اجتماع���ي تقليدي ،والذي يريد أن يفرض عليها الزواج برجل ال تعرفه .وسبق للشابة نادرة تقمص دور س���عاد في «المحامون ورفاقهم» ( )2008ودور صفي���ة في«زي���م وجماعته» (.)2005 ويراه���ن أيم���ن الس���عيدي على حظوظه كاملة للظفر بأول س���يزار. شخصية يحيى اإلرهابي اإلسالمي، الت���ي جس���دها ف���ي فيل���م «الهجوم» لجولي���ان لوك���راك ،جذب���ت إلي���ه االهتمام .س���يناريو الفيلم ،المصنف ف���ي خانة «األكش» ،يع���ود إلى عام
،1994ليحك���ي بع���ض تفاصي���ل اختطاف طائرة اإليرب���اص التابعة للخط���وط الجوي���ة الفرنس���ية ،في رحلتها رقم 8969من طرف عناصر الجماع���ة اإلس�ل�امية المس���لحة في الجزائ���ر ،بمطار ه���واري بومدين، والتي كانت تحمل على متنها أكثر من مئتي راكب .وهي العملية التي كلفت أرواح ثالث ضحايا. الفيل���م الحاص���ل ،هذه الس���نة، على جائزة مهرجان س���ارالت ،يعيد فتح واحدة من الملفات الحساس���ة، ف���ي العالقات الثنائية بي���ن الجزائر وفرنسا .والمعروف أن أيمن السعيدي اش���تهر س���لف ًا بدور مراد ف���ي الفيلم الكوميدي الجزائري (Beur Rouge »Blanc» (2006وبمش���اركته ف���ي فيلم «ع���دن غرباً» للمخرج غوس���تا غافراس. أما الفلسطيني محمود شلبي فقد وج���د له موطأ قدم بي���ن النجوم بعد مش���اركته الموفقة ف���ي فيلم «رجال أح���رار» للمخ���رج الفرنكو-مغرب���ي إسماعيل فروخي ،وتقمصه شخصية المغني الجزائري س���ليم هالل ،الذي ذاع صيته سنوات الخمسينيات. األكيد أن العرب ليسوا مستعدين للعب دور المتفرج في جوائز السيزار الفرنس���ية ،فهم ،من س���نة ألخرى، ينضمون إل���ى قائمة المتوجين .ففي 2011نال���ت الجزائري���ة ليلى يختي جائ���زة أفضل نجم���ة واع���دة .فمن السنة؟ سيسير على دربها هذه ّ
137
�سينما
تمرّد على الشاشة طاهر حممد علي -اخلرطوم برودة الطقس التي عرفتها مؤخرًا، الخرطوم ال تمنع توافد الجمهور ،بشكل واسع ،على فعاليات مهرجان الفيلم األوروبي ( 27نوفمبر/تشرين الثاني- 4ديسمبر/كانون األول) ،الذي جاء هذا ال بجديد الفن السابع ،ناق ً العام محم ً ال ثقافة عشر دول أوروبية ،قّدمت أفالم ًا مثيرة ،وطرحت موضوعات شدت اهتمام المتتبعين ،على مدار أسبوع كامل. جاء المهرجان في دورته الجديدة مختلف ًا عن الدورات السابقة .حيث ألقى الضوء على تنوع أوجه الثقافة والحياة األوروبية المعاصرة ،واستهدف عبر أفالمه شريحة واسعة من األكاديميين والهواة .مع ذلك ،لم يفلح القائمون على المهرجان في تحقيق ما رموا إليه
138
بغية تحقيق أطر التعاون المشترك بين البلدان األوروبية والسودان في الجوانب الثقافية والفنية ،وتناول قضايا مثل الهجرة والهوية ،اإلسالم وأوروبا، والفن والحياة .حيث أثار جد ًال بسبب عرض الفيلم اإلنكليزي «آم إسليف» أو (أنا مستعبدة) حسب الترجمة ،للمخرج غابريل رينج ،الذي استطاع لفت انتباه العالم إليه بشريطه المتخّيل عن اغتيال الرئيس األميركي األسبق جورج بوش (.)2007 سيناريو فيلم «أنا مستعبدة» (82 دقيقة) استند إلى رواية حقيقية للكاتبة والناشطة في حقوق اإلنسان ذات األصول السودانية «مندي ناظر» .وتتطرق أحداثه لموضوع تجارة الرقيق في لندن في الوقت الحاضر ،ونضال امرأة منفردة من أجل الحرية .وينطلق سيناريو العمل من جبال النوبة غرب السودان ،عندما انتزعت «ماليا» ذات االثني عشر ربيع ًا من بين ذراعي والدها خالل إحدى الغارات، لتنقل عند بلوغها الثامنة إلى الخارج وتلتحق بابن عم سيدها بلندن ،لتجد «ماليا» نفسها محاصرة في بيئة غريبة ال ترحم ،حيث ُتجرد من جواز سفرها وتعيش في رعب دائم مما قد يحدث لعائلتها .عرض الفيلم نفسه في كل من المجلس الثقافي البريطاني ،والثقافي الفرنسي بالخرطوم .وتباينت اآلراء حوله بين القبول والرفض من قبل النقاد الذين اعتبر بعضهم أن عرضه غير موفق في هذا التوقيت وال يمثل محور المهرجان أو فكرة التعايش السلمي لكونه يهدم كل الجهود التي يسعى إليها السودان داخلي ًا لتحقيق السالم .بحسب الناقد السينمائي عباس سيد حداد« :الفيلم يصر على
محطة الرق في التاريخ السوداني وينسى طاقمه الذي حصد جوائز عالمية أن يذكر بمن دعموا الرق في السودان عبر كل العصور .وهو لم يالمس في أي من نواحيه مفهوم الهوية والهجرة التي تعاني منها القارة اإلفريقية» .مشيرًا إلى أن بطلة الفيلم لم تغامر للوصول الى لندن عبر البحر من طنجة ثم من كالي في فرنسا إلى بريطانيا ،بل دخلت إلى عاصمة الضباب شرعي ًا عبر المطار، والتأشيرة على الجواز األخضر سليمة. فالبطلة لم تكن ألبوين مختلفين فى العرق أو الدين .بل هي من منطقة جبال النوبة المسلمة ،ويؤمن والدها بما يسمى (الكجور) وهو طقس يمارس في تلك المناطق .ويؤكد آخرون أن الفيلم لم يجسد أي جزء من محور اإلسالم وأوروبا الذي دعا إليه منظمو المهرجان .ورأوا أن الفيلم يدعم الخوف غير المبرر لدى المواطن األوروبي العادي من المسلم كشخص جديد في الحياة األوروبية. عــــــلى العــكس من ذلك ،النـــــــــاقدة الصحافية مشاعر عبد الكريم ترى أن الفيلم جاء مفعم ًا بالمشاعر اإلنسانية الصادقة والصادمة في آن معاً .حيث ال يصّدق العقل أن المملكة المتحدة بها ما يفوق خمسمئة ألف شخص يعملون كرقيق ـ بحسب تصريح لمخرج الفيلم في مقابلة أجرتها معه القناة الرابعة البريطانية ـ كما أنه يعكس طبيعة أحوال الحياة تحت ظل الحروب والنزوح والتشرد من خالل حياة (ماليا) بطلة الفيلم ،وهروبها من جحيم حرب بالدها إلى حرب أخرى من نوع آخر تتمثل في العنصرية والعبودية. كما أنه يطرح بشكل قوي حقيقة الرق في القرن العشرين ،من وجهة نظر الكاتبة مندي ناظر ،والجمعيات والمنظمات الحقوقية. تم عرضها رغم األفالم العديدة التي ّ ضمن مهرجان الفيلم األوروبي ،مثل الفيلم اإلسباني «مرحب ًا مستر مارشال»، والفرنسي «آلهة وبشر» ،واأللماني «أضواء نائية» ،والسويسري «فيتوس»، إ ّال أن فيلم «أنا مستعبدة» ظل الفيلم األبرز الذي أثار غبار حساسية قديمة ً ومتجددة.
في الدورة الـ « »11للمهرجان الدولي للفيلم
من بوليوود إلى مراكش عبداحلق ميفراين -مراك�ش توج الفيلم الدانماركي «خارج المسموح» لمخرجته فريديريك أسبوك بالجائزة الكبرى للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش ،وعادت جائزة أحسن إخراج للفيلم اإليطالي «أعمال الرحمة السبعة» لمخرجيه جيانلوكا وماسيميليا نودي سيريو .فيما عادت جائزة لجنة التحكيم للفيلم األسترالي «جرائم سنوتاون» لمخرجه جوستين كورزيل ،فيما نال جائزة أفضل ممثل األسترالي دانيال هينشال ،أما جائزة أفضل ممثلة فعادت للممثلة األميركية جوسلين جيينسن عن دورها في فيلم «من دون» لمخرجه «مارك جاكسون» من الدانمارك .كما فاز شريط «من الواد لهيه» لمحمد عواد بالنجمة الذهبية ألفضل فيلم قصير مغربي لـ«سينما المدارس» بمراكش، واحتفت مدينة مراكش في الدورة الحادية عشرة للمهرجان الدولي للفيلم، « 10 - 2ديسمبر »2011بالسينما المكسيكية ،من خالل عرض مجموعة من األفالم المبرمجة ضمن خانة االحتفاء بالفن السابع ،إذ حل وفد سينمائي ضم كبار نجوم السينما المكسيكية .وشكلت الدورة هذه استمرارية لنهج الدورات الماضية ،من خالل استقطاب كبار نجوم الفن السابع في العالم. وضمت لجنة تحكيم الفيلم الطويل إضافة للمخرج الصربي إمير كوستوريكا ،كال من جيسيكا كاستان ممثلة من الواليات المتحدة ،والممثلة الفرنسية نيكول كارسيا ،فض ً ال عن الممثلة اإليرانية ليلى حاثمي ،وعبد القادر لقطع من المغرب ،والمخرج
الفلبيني بريونتي ما مندوزا ،والمخرج والكاتب الروماني رادو ميهانيلينو، والممثلة االيطالية ماياسانسا ،إضافة إلى المخرج والكاتبة الهندية آبار ناسين. أما لجنة تحكيم الفيلم القصير فترأستها الممثلة األميركية سيكورني ويفر ،كما ضمت المخرجة المغربية فريدة بليزيد والممثل البلجيكي مريجيالن ،والممثل الفرنسي باسكال كركوري والمخرج الفرنسي بيير سالفادوري. وكان المهرجان قد افتتح بفيلم «عاشقة من الريف» للسينمائية المغربية نرجس النجار .وهو الفيلم الذي أعاد فتح نقاش قديم /حديث حول اختيارات لجنة االختيار لألفالم المغربية المشاركة في المسابقة الرسمية وهو ما دفع بأحد السينمائيين الفرنسيين للتعبير عن اندهاشه من هذا االختيار الذي ال يراعي ما تنتجه السينما المغربية في السنوات األخيرة من أفالم الفتة .كما كرم المهرجان في دورته الحالية ،العديد من الوجوه السينمائية المغربية والعالمية وهكذا وإلى جانب االحتفاء الخاص بالسينما المكسيكية كضيف شرف، حظي نجم بوليوود الممثل الهندي شاه روخان في افتتاح الدورة الحالية بتكريم خاص والفت ،وقد أكد اعتزازه بالتكريم من طرف مهرجان أصبح عالمة بارزة في خريطة المهرجانات الدولية .وبعد تكريمه في قصر المؤتمرات ،حظي النجم الهندي األكثر شعبية في السينما الهندية باحتفال واستقبال خاصين وفي أجواء احتفالية بساحة جامع الفنا، حيث كانت حشود من عشاق السينما
الهندية في انتظاره كما تم تقديم فيلمه األخير «اسمي خان» . كما كرم المهرجان الممثل والمخرج الفرنسي من والدين مغربيين ،رشيد زم، فض ً ال عن الممثل والمخرج والسيناريست األم��ي��رك��ي ت��ي��ري ك��ي��ل��ي��ام ،والمخرج اإلي��ط��ال��ي م��ارك��و بيلوتشيو «متمرد السينما اإليطالية» صاحب «القبضة في الجيب» الذي أخرجه سنة .1965 وق���د ت��م��ي��زت األم��س��ي��ة للمهرجان بتكريم الممثل وال��م��خ��رج األميركي فوريست ويتيكر الحاصل على جائزة األوس��ك��ار سنة 2007ع��ن دوره في فيلم «آخر ملوك اسكتلندا» الذي يجسد فيه شخصية الرئيس األوغندي األسبق عيدي أمين دادا ،وقبل تسليم النجمة الذهبية لفوريست ويتيكر ،قالت الممثلة األميركية جيسيكا شايستين عضو لجنة تحكيم هذه الدورة ،إن تكريم هذا الفنان هو تتويج لمساره اإلبداعي الرائع ،ومن المكرمين كذلك المخرج والسيناريست األميركي تيري كيليام. كما حظي الممثل المغربي محمد بسطاوي باحتفاء خاص. ومن مميزات هذه الدورة أن المهرجان خصص مساحة من برنامجه لعرض أفالم المكفوفين ،باإلضافة إلى حرص إدارة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش على دعم المواهب ،بحث ًا عن أولى محاوالت الشباب السينمائية وتخصيص جائزة تمكن األفضل منهم من الشروع في إخراج أول فيلم قصير في ظروف تستجيب للشروط المهنية التي يوفرها الدعم. 139
السينما اإلفريقية في أحضان مصر �سامي كمال الدين -القاهرة آن األوان ألن تعود مصر إلى حضن قارتها ،ومن جنوب مصر ،حيث مدينة األقصر تنطلق فعاليات الدورة األولى لمهرجان األقصر للسينما اإلفريقية في الفترة من 21وحتى 28فبراير/شباط المقبل. يسعى المهرجان الذي تنظمه «مؤسسة شباب الفنانين المستقلين» ،بدعم من وزارات الثقافة والخارجية والسياحة، وبالتعاون مع محافظة األقصر إلى شيء مختلف بأن يقدم السينما اإلفريقية التي يجهلها المشاهد المصري. تضم الدورة األولى للمهرجان عدة فعاليات ما بين مسابقة لألفالم الروائية الطويلة وأخرى لألفالم القصيرة (تسجيلي ،روائي ،تحريك) ،وبين ورشة لشباب السينمائيين في القارة
عثمان سمبين
140
اإلفريقية وملتقى لدارسي السينما. ينظم المهرجان كذلك مسابقة لدعم إنتاج سيناريو فيلم روائي طويل. نجم الدورة الرئيسية للمهرجان المخرج السنغالي الراحل عثمان سمبين (- 1923 ،)2007حيث تقام ندوة تتناول تاريخه وأعماله وحياته ورؤيته للسينما ،كما يقيم المهرجان ندوة بعنوان «الشفاهة في الفيلم األفريقي» ..ومن مفاجآت المهرجان فيلم «سائق الكارو» وهو أول فيلم إفريقي لرائد السينما اإلفريقية «عثمان سمبين» الذي عاش طيلة حياته يبحث عن إفريقيا األولى ،وكان دائم الترحال في القارة اإلفريقية ،حاول أن يوجدها بتفكيره وليس بتعليمه ،ألنه لم يستطيع استكمال دراسته التعليمية، لكنه استطاع الذهاب في بعثة إلى
لخضر حمينة
االتحاد السوفياتي لدراسة اإلخراج في معهد موسكو السينمائي ،وكان يعرف أنه سوف يواجه تحدي ًا كبيرًا في أن يكون اإلفريقي نجم ًا سينمائي ًا في ظل العنصرية التي كان يعاني منها البعض. لـ «سمبين» عدة أفالم منها «إمبراطورية سونغهي»« ،بوروم ساريه»« ،بنت سوداء»« ،الحوالة المالية». كذلك يحضر صاحب «وقائع سنوات الجمر» ..المخرج الجزائري (لخضر حمينة) بانوراما مهرجان السينما اإلفريقية ،في محاولة لمعرفة تاريخ تطوير السينما اإلفريقية ..ذلك أن لخضر لم يحصل على السعفة الذهبية من مهرجان كان بسهولة ،فقد أبدت اللجنة دهشتها الكبيرة من مقدرة مخرج عربي على تقديم عمل بهذا التكنيك وطرح أفكاره بطريقة غير صادمة للمجتمع لكنها قادرة على امتصاصه والتعبير عنه. المخرج سمير سيف يعقد لقاء خاص مع دارسي السينما قبل افتتاح المهرجان بيومين ولمدة ثالثة أيام ،وفي اليوم األخير يلتقط أصغر دارس للسينما صورة تذكارية مع أكبر ضيوف المهرجان عمرًا من فناني القارة اإلفريقية. سيد فؤاد مؤسس ورئيس المهرجان أبدى اهتمام ًا كبيرًا بالسينما اإلفريقية ألنه يراها شريان ًا هام ًا لمصر ورابط ًا سياسي ًا وحضاري ًا وإكما ًال للدور الذي لعبته مصر طوال تاريخها وتم تغييبها بقصد وهو أمر يمثل خطورة كبيرة، ونحاول سينمائي ًا استعادة هذا الدور ألن السينما بانوراما متكاملة وكاشفة ومؤرخة لكل ما يحدث في ورابطة ِّ العالم. ي��ش��ارك ضمن فعاليات المهرجان تسع دول إفريقية :أوغ��ن��دا ،روان���دا، فانا ،بوركينا فاسو ،ليبريا ،السودان، تنـزانيا ،إثيوبيا ،كينيا. وأكدت عزة الحسيني المديرة التنفيذية للمهرجان أنها تلقت طلبات من هذه الدول للمشاركة في المهرجان حرص ًا منها على دور مصر اإلفريقية.
مهرجان بيروت الدولي لألفالم الوثائقية
عينك على العالم جهاد بزي -بريوت في «مسرح المدينة» ،وعلى رصيف الحمرا ،أقيمت النسخة العاشرة من «م��ه��رج��ان ب���ي���روت ال���دول���ي لألفالم الوثائقية» ( 15إل��ى 20كانون األول/ ديسمبر).الحمرا ،بما هي مساحة الحوار المديني المتيقظ في ساعات النهار والليل إن في مقاهيها أو حاناتها ،والمفتوح على كل الشؤون ،من السياسة إلى الثقافة وما بينهما ،هي بحسب مدير المهرجان محمد هاشم ،ليست مكان هذا المهرجان ف��ح��س��ب ،ب��ل بمثابة التتمة العادية والمنطقية له ،حيث لم يبتعد النقاش
ناديا الفاني
حول األفالم الوثائقية التي عرضت إال بضع خطوات هي الفاصلة بين ردهة المسرح وبين المقهى األقرب. والنقاش هو ما يجب أن تثيره هذه الصناعة التي باتت عين ًا للعالم على العالم ،من أجل فهم أفضل وأعمق له، يتخطى التنميط االستهالكي ،ويتخطى الخفة واالستسهال. وال شك في أن هذا المهرجان أثبت تخصصه وص���ار ع��ن��وان � ًا للوثائقي بيروتياً ،هو الذي يعاني صعوبات مادية تضاف إلى أنه في األصل يتحرك بشغف القائمين عليه بالفيلم الوثائقي ،يعملون عليه على هامش حيواتهم وانشغاالتهم اليومية التي تلتهم كل الوقت في العادة. وعرض المهرجان هذا العام 43فيلم ًا اختلط فيها العربي بالدولي في غاية مقصودة من اإلدارة التي رأت وضع كل األفالم في سلة واحدة ألن اإلمكانات المادية والتقنية المتاحة للمخرجين العرب أصبحت توازي إمكانات نظرائهم حول العالم ،كذلك التطور في األساليب الفنية التي باتت تنافس دولياً. ن��ظ��رت اإلدارة ع��ل��ى األرج����ح إلى النصف المآلن من الكوب العربي ،وال بأس بذلك إذا أردن��ا أن نرفع من شأن إنتاجنا بالطبع ،مع عدم إغفال الهوة الواسعة بين المحاوالت العربية التي لم تخرج بعد من فرديتها إلى صناعة تتوافر لها كل آلياتها في الغرب. تزامن ًا م��ع الربيع العربي ،هاشم يقول إن من التسرع رفع الثورات العربية عنوان ًا للمهرجان ،خاصة أن الحدث نفسه ما زال يعيش مخاضاته وتعقيدات
ه��ذه ال��م��خ��اض��ات .على أن المهرجان عرض للثورات العربية من خالل ثالثة أفالم هي «تحرير :2011الطيب والشرس والسياسي» ،وهو وثائقي مصري يرى فيه مخرجوه الثالثة ،تامر عزت وآيتن أمين وعمر سالمة ،كل بعينيه ،الثورة بلغته السينمائية الخاصة .الفيلم الثاني «ممنوع» للمخرجة أمل رمسيس ،التقط مصر في األشهر األخيرة قبل يوم الثورة، حيث كل الممنوعات التي ستكون الثورة، في عمقها ،محاولة لتخطيها .أما الفيلم العربي الثالث فهو التونسي «علمانية إن شاء اهلل» ،لمخرجته ناديا الفاني والذي بدأ تصويره قبل الثورة بأشهر ،إضافة إل��ى م��روح��ة واس��ع��ة م��ن األف�ل�ام ،من مختلف أرجاء العالم ،لمجموعة متنوعة من محترفين وهواة عملوا عليها .وإذا كان ال مجال لعرض شامل لهذه األفالم، فإن هذا التنوع بحد ذاته هو مصدر غنى هائل. ضيوف المهرجان ،كما أفالمه كانوا ك��ث��رًا ،وم��ن ح��ول العالم ،وق��د أقيمت على ه��ام��ش ال��ع��روض ورش���ات عمل تعنى ب��األف�لام الوثائقية والتدريب على صناعتها ،وهذا ما يعد به هاشم وال��م��دي��رة التنفيذية للمهرجان عبير هاشم ،باالشتراك مع «سولو فيلم»، التي يديرها هاشم ،وهي الشقيقة التوأم للمهرجان. وتألفت لجنة تحكيم المهرجان لهذا ال��ع��ام م��ن المخرجين المصري خيري ب��ش��ارة ،وال��ص��رب��ي ب��وري��س ميتيك والفلسطينية ساندرا ماضي ،وتنافست األفالم المعروضة ضمن ثالث خانات، بحسب طولها الزمني (أكثر من ستين دقيقة ،وأقل من ستين دقيقة ،وأقل من ثالثين دقيقة). يبقى أن المنظمين قرروا أن يدفعوا تاريخ المهرجان لبضعة أشهر كي ال يتزامن مع ثالثة مهرجانات أخرى تعنى بالوثائقي في الدوحة وأبوظبي ودبي، فال يخسر زخمه اإلعالمي .هكذا ،سينتقل مهرجان بيروت لألفالم الوثائقية في دورته المقبلة الحادية عشرة ،من خريف بيروت العام 2011إل��ى ربيع بيروت .2013
141
فوتوغرافيا
«كوكال» تعنى عروسة باللغة التركية أعتبر نفسي هاوية ولست محترفة ليس كل من أمس���ك الكامي���را أبدع به���ا ..في مجال التصوير الفوتوغرافي.
كوكال رفعت..
الجانب اآلخر للوجوه د� .إينا�س ح�سني -م�صر هناك خيط رفيع فاصل بين اإلبداع والجنون في فن التصوير الفوتوغرافي، ففن التصوير الفوتوغرافي فن ممتلئ باألفكار الثرية القابلة لإلبداع والتطوير واالبتكار ،وللحصول على صورة معبرة البد من ابتكار طرق جديدة القتحام أعماق الشخصية والتغلغل بداخلها من خالل تشغيل الموسيقى مث ً ال أو وضع ماسكات على الوجوه وحين تتصرف كل شخصية بتلقائية. المصورة المصرية الشابة /علياء رفعت الشهيرة بـ «كوكال» ،ولهذا االسم قصة خاصة ،ترويها «فجدتها تركية وعندما جاءت لتزور والدها فور والدتها وجدتها نائمة على السرير وبجوارها دمية ،فقالت لهم من منهما «كوكال» وتعنى عروسة باللغة التركية وحينما قالت جدتها هذه الكلمة أعجبت أمها بهذا 142
االسم وتمنت أن تسميها كوكال ولكن والدها أصر على أن يسميها اسم ًا عربي ًا أصي ً ال في شهادة الميالد ،وبعدها أصبح الكل يناديها بكوكال ،وهو اسمها منذ أن كانت طفلة وليس اسم ًا فني ًا أطلقته على نفسها للشهرة ،كما يعتقد البعض .وعلى مدى األعوام القليلة الماضية ،استطاعت رغم سنوات عمرها أن تكون واحدة من أشهر المصورات الالتي يجبن العالم بحث ًا عن عادات الشعوب ومغامراتها، وبدافع من هذا العشق راحت تطارد اللحظات النادرة والمتميزة في شتى دروب العالم. العدسة بين الهواية والسفر وبرغم التعاطي الفطري لـ «كوكال» مع هذا الفن الذي يتطلب الكثير من المعرفة
والممارسة ،إال أن العمر تدرج بهاوية التصوير الفوتوغرافي وتنقلت الكاميرا في يدها من واحدة ألخرى ،حتى أنتجت آالف الصور المختلفة المستوحاة من الطبيعة ،وعن ذلك تقول« :لم أدرس التصوير الفوتوغرافي دراسة أكاديمية لكنني درست فنون الدعاية واإلعالم، وهو مجال قريب من هوايتي ،خصوص ًا أنني كان لدي التصوير إجباري في الجامعة كمادة أساسية وتفوقت على زمالئي اآلخرين بحصولي على المركز األول ،بسبب تعاملي مع مجال التصوير كهواية قبل أن تكون احترافاً». ومن واقع خبرتها في هذا المجال تؤكد «أنه ليس كل من أمسك الكاميرا أبدع بها في مجال التصوير ،مشيرة إلى أن التصوير الفوتوغرافي مزيج من عين لماحة وذكاء عال وقدرة تقنية ومعرفية تحول الشيء إلى عمل فني محبوس داخل إطار الصورة». وعلى مدى السنين تبذل جهدها للسفر حول العالم اللتقاط لحظة سحرية ألجل الحصول على صور فريدة وقد فاز أسلوبها المتميز وقدرتها على التقاط روح موضوعها من الصورة على العديد من الجوائز. والفنانة كوكال بدأت رحلتها في هذا الفن منذ دراستها الجامعية حتى فازت بلقب الفنانة األولى في مصر للفن الفوتوغرافي/الوثائقي ،نتيجة عملها الملتزم الذي بذلته في هذا المجال والسيما جهدها للحفاظ على الثقافة العالمية عبر عدساتها .من خالل
معارضها المختلفة. ولقد تعددت سفرياتها لدول عدة من أجل توثيق ونقل واالقتناص بعدستها لحظات هاربة من الزمن في محاولة اللتقاطها وتوثيقها كي تبقى شاهدًا على لحظات لن تعود .حيث كانت رحلتها األولى إلى الهند في فبراير/شباط ،2009وقد اختارت الهند ألنها قرأت عنها كثيرًا وبحثت جيدًا في تاريخها وثقافاتها وطوال عمرها وهي تتمنى زيارتها ،لتصوير الصوفيين والضريح الصوفي ،ولتصوير طقوس الكاثاكالي والثيام ،كذلك سافرت في شهر أغسطس/آب 2010إلى جزيرة بالي إندونيسيا ،اللتقاط ولتوثيق احتفاالت إحراق الجثث والمعتقدات الروحية لألحداث الدينية الحقيقية .وإلى جانب سفرياتها المتعددة لتوثيق الوجوه وما هو غريب فهي تعمل كمصورة محترفة بمجال التصوير اإلعالني ومتخصصة أكثر في تصوير الكتالوجات والديكور. عشقت كوكال الكاميرا منذ نعومة أظفارها ،وبدافع من هذا العشق راحت تطارد اللحظات النادرة والمتميزة في شتى دروب العالم .وأثمر هذا العشق حصولها على جوائز كثيرة من بينها المركز األول في مسابقة ساقية الصاوي التصويرية عام ،2006وقبلها فازت بالمركز الثالث في المسابقة نفسها عام .2004 عن بدايتها مع التصوير تقول كوكال: «منذ كنت طفلة وأنا مشغولة بالكاميرا الفوتوغرافية ،وكيف لهذه اآللة الصغيرة
أن تخرج صورًا صامتة لألفراد ،هذا ما كان يشغل بالي حتى وصلت إلى سن السابعة واستطعت أن أمسك الكاميرا بمفردي ثم بدأت أتعلم كيفية التصوير بها ..بدأ مشواري مع الكاميرا بتصوير األفراد القريبين مني ،ولكن في نفس الوقت كانت الطبيعة تجذبني، وخصوص ًا كل ما هو غير مألوف بها.. كنت أخجل أن أطلب من أحد األشخاص تصويره ..في بدايتي خشيت أن أواجه بالرفض أو االستياء ولكني تكيفت مع األمر مع مرور الوقت واكتسبت الجرأة الكافية لطلب ذلك». وكان لدراستها فنون الدعاية واإلعالن والتي كانت مجا ًال قريب ًا من هوايتها ،الفضل في تفوقها ،وأن تكون دوم ًا في مركز الصدارة .وعلى الرغم من ذلك ال تزال تتعامل مع التصوير كهواية قبل أن يكون احترافاً .وتضيف كوكال عن احترافها مجال التصوير اإلعالني: «ال أحب تقييد نفسي بنمط معين أو مجال محدد من مجاالت التصوير، وإن كنت أميل بطبيعة الحال لصور الطبيعة ..أعترف أنني عاشقة للتصوير الفوتوغرافي لكن في الوقت نفسه أنا أجيد جميع مجاالت التصوير وأستخدمها في عملي». سافرت كوكال إلى جنوب الهند، عشقت عدستها طقوس وثقافات الهنود داخل بالدهم ،كما قرأت جيدًا عن عاداتهم وتقاليدهم لتتعرف عليهم عن قرب، وكانت هذه المرحلة هي بداية تخصصها في التصوير الوثائقي ..وقد رصدت كوكال كل هذا بكاميراتها ،وعبرت عن عادات وثقافات قد ال يعرفها الشعب العربي عن الهند ..لكن صور الحواري واألزقة في الهند ،حيث الفقر الشديد، كانت أكثر الصور تأثيرًا بالنسبة لها. الكاميرا تضحك وتبكي تعرف كوكال متى تضحك الكاميرا ومتى تبكي ،لذلك كانت ابتسامتها هي جواز مرورها إلى قلوب الهنود، فباالبتسامة ولغة اإلشارة استطاعت
أن تتواصل معهم بود وحب وتعوض عدم تحدثها اللغة الهندية. وفي معرضها األخير المقام بمركز الجزيرة للفنون ،والتي قضت من أجله رحلة شيقة مع الكاميرا ووجوه ومالمح البشر واألمكنة ،بحيث تميزت أعمالها بالدقة الواضحة في الشكل وفي المالمح التصويرية وحساسية الدرجات اللونية والبورتريهات التعبيرية الصريحة، لتصبح رغم سنوات عمرها واحدة من أشهر المصورات الالتي يجبن العالم بحث ًا عن عادات الشعوب ومغامراتها. هذا المعرض عبارة عن مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي تضعك في آلة الزمن ،لتعود بك للخلف ،حيث األساطير الممزوجة بعادات وتقاليد أهل جزيرة كيرال الهندية ،وجزيرة بالي اإلندونيسية ،من خالل تجسيد روح المرح والخيال لملك األرواح، الذي يطلق عليه في أسطورة بالي «البارونج» ،حيث يحشد الخير ويجلب الحظ ،مصورة العديد من تفاصيل االحتفاالت والطقوس التي كانت تقام من أجل جلب البهجة ،واحتفاالت المعابد المقدسة والتضحيات لآللهة والقرابين وطقوس حرق الجثث ،هذا كله في وحدة ال تتجزأ ،اهتمت فيها بإبراز مفردات الطبيعة الساحرة ،التي ال تخلو من الجمال الخالب وطقوس بشر من أجناس مختلفة .وجاءت اإلندونيسية شخوصها تصاوير باأللوان الزاهية ،فجميع أزيائهم حمراء وخضراء وصفراء ،وأيض ًا المساحيق الخاصة بهم شديدة الجاذبية أللوانها الفاتحة ذات الدرجات الثقيلة والالمعة، وجميع مساحيقهم من الطبيعة ،حيث إنها مصنعة من الورد الطبيعي. ووقفت بعدستها تسجل األحداث وتفاصيل حياة مختلفة لم تعتد عليها من قبل ،فهي صاحبة موهبة وحلم كبيرين ومن أجل إشباع موهبتها وتحقيق حلمها تجوب «كوكال رفعت» العالم بحث ًا عن حضارات مختلفة توثقها من خالل صور فوتوغرافية ،فأصبحت واحدة من أشهر المصورات. 143
ت�شكيل
حصارات آمنة النصيري جمال جربان � -صنعاء
144
قررت الفنان���ة واألكاديمي���ة اليمنية آمنة النصيري أن تنتقل إلى مربع جديد في مش���وار حياتها الفني���ة ،وأن تضع قدم ًا على أرضية تس���مح لها باالشتغال البصري والسمعي والتشكيلي والتصوير الرقمي والنحتي عبر مجس���مات شتى، دفعة واح���دة .في اقتراب جريء باتجاه االشتغال الفني المعاصر. ويبدو من خالل جمع كل هذه األساليب االش���تغالية أن آمنة تعرف جيدًا ماهية المعرك���ة الجديدة الت���ي تتطلب منها كل هذا الحشد كي تكون قادرة على مواجهة تيار حجب الجس���د األصولي الذي نجح في االستيالء على جسد األنثى اليمنية، وحص���ره في العتم���ة .محاولة/معركة جديدة تصب في اشتغال فني ظهر مؤخرًا ف���ي اليم���ن ،يق���ف خلف���ه مجموعة من الفوتوغرافيين والتش���كيليين الشباب، أمثال بش���رى المتوكل وأمين الغابري، اشتغلوا على فكرة الحجب بشكل الفت. كما يأتي هذا في سياق «ثورة» ثقافية، وإن كان���ت محص���ورة في إط���ار النخب اليمنية تسعى القتراح أدوات جديدة لها أن تصب ف���ي إنتاج فعل زحزحة لقواعد
الحي���اة االجتماعي���ة التي تب���دو مصرة على رضوخها لقوى التطرف الس���لفية المعادية ألي محاوالت تحديث يمكن أن تنشأ في بنية المجتمع. عل���ى نفس مس���توى هذه الخس���ارة يأتي عن���وان هذا العمل ال���ذي قامت به آمن���ة النصي���ري« :حص���ارات» .عنوان يوحي بحالة كل ه���ذه الطاقة والقدرات البش���رية الهائلة ،وحصرها في منطقة واحدة ال يحق لها التحرك خارجها ،مع إجباره���ا على اإلقامة ف���ي دائرة محددة بحواج���ز تب���دأ بكت���م الص���وت وحجب الجسد ،الحرمان من التواجد في أشغال مهني���ة بعينها تحت حج���ج تقول بعدم جواز تعريض الجس���د األنثوي وحرمته لالنته���اك واالخت���راق ،وجعل���ه متاح ًا لنظ���رات الغرب���اء الت���ي ل���ن تتركه في حاله. وعليه فإن أش���غال «حصارات» هنا تقوم عل���ى تقدي���م اقتراح���ات من أجل خروج هذا الجسد من الداخل ،من عتمته القسرية تلك ،ومده بحبل وأطواق نجاة تجعله ق���ادرًا على االنتق���ال إلى الضفة
األخرى م���ن الحياة الممكنة في أبس���ط صورها وأشكالها.
المس���وح لها ،غير مكترثة بالقفص الذي يفعل حصاره عليها.
كما أنها ال تغفل ف���ي الوقت ذاته عن تقديم عرضها لقوالب مجسمة على هيئة دمى مجسدة ألشكال القمع الممارس على الجسد واألسباب التي تجعل بقاء الحالة على م���ا هي عليه وع���دم إحراز خطوة واحدة متقدمة تسير إلى األمام ،من أجل تحريك الحاجز الضخم الذي يقف عقبة، ال بين حالتين :العتمة والنور. وفاص ً
لكن ،ومن خالل عدم بيان جنس ذلك الجس���د المحاصر بداخ���ل القفص يصير لن���ا االنتباه إلى فكرة أوس���ع ذهب إليه «حصارات» الممثل عبر األجساد الموزعة عليه إجم���اال والتوقف عن���د نقطة يبدو أنها ،وبشكل يكاد يكون جامعا ،أجساد ال ت���كاد تفص���ح صراح���ة ع���ن هويتها الجنسية وهذا يلقي بنا عند ضفاف فكرة تقول إن القمع الممارس على الجسد في المجتمع اليمني ال يخص جنس��� ًا محددًا بذات���ه ،إن كان ذك���رًا أو أنث���ى .فهو ال يفرق بينهما ،هذا على الرغم من شيوع صورة «الحجاب» و«الحجب» المنتشرة عل���ى الص���ورة العامة للش���غل .لكن قد يبدو هذا التموي���ه المتعمد كحيلة لها أن تمك���ن المعرض وصاحبت���ه من اإلفالت ّ من إش���كالية الدخول في م���أزق تأويل الفرق األصولية ،خصوص ًا أن إشكالية الحج���اب ذاتها ما ت���زال عند مجتمع ،ما يزال محافظ ًا وتقليدي ًا كاليمن ،مس���ألة غير قابلة للنقاش.
وال يك���ون صعب ًا هن���ا ،وعلى ضوء رغب���ة الفنانة النصيري ف���ي إظهار تلك العوامل المساعدة على بقاء تلك الحالة مكانها ،تركيز شغلها على عامل الخوف الذي ن���راه موزع ًا بكثرة على األش���كال المختلف���ة للعم���ل الكلي .وه���و الخوف الذي نراه أيض ًا ظاهرًا على هيئة مجسدة ومنكمش��� ًا على ذاته بداخ���ل قفص كبير لطي���ور تمارس «حريته���ا» بداخله ،في حي���ن ال نلم���س حركة واح���دة من ذلك الجسد الذي يبدو مستسلم ًا لمصيره ،غير ق���ادر حتى على التقاط رس���الة الطيور التي تمارس حريته���ا في حدود الفضاء
145
مو�سيقى
يا مصر هانت وبانت
مصطفى سعيد في مقامات الثورة
التسعينيات وأشرطته كسرت الحدود، فهل كان الهيب هوب غير قادر على عبور القارات مثلما عبرت أغاني الروك والبلوز والكانتري ..في سبعينيات القرن الماضي؟ أم أن األغنية العربية حينها كانت ال تزال مكتفية بنفسها سواء كان الغناء للثورة أو للحب..؟. الذي يحدث اآلن ،على األرجح ،هوية موسيقية عظيمة تركت في مجملها بال ألحان وال كلمات. ثمانية مقامات في الميدان
حم�سن العتيقي -الدوحة
الفراغ ال يملؤه االزدحام من النادر ،إن لم يكن من العسير، أن يطل علينا مطربو هذا الزمان بأغنية تتجاوز مقام ًا موسيقي ًا واحدًا أو مقامين في أقصى الحاالت ،فاألغاني على فيضها أصبحت مذمومة .تقريباً ،وليس تماماً، موضوع الحب ابتذل ولم يعد يدين للكلمة ،وال للنغمة ،وال لوجدان المجتمع في المحصلة ،كما كان في العهد القريب. وفي النهاية ،أمام هذا الفراغ الغنائي المعمم ،يجب القبول ،بحفاوة وتقدير، بثقافة الهيب-هوب ومنشدي الراب، عندما يتعلق األمر بمصلحة ثورية أومجتمعية ،وبالضرورة بحاجة جيلنا اليوم إلى تعبير عاطفي لم يجد اكتفاءه في الشكل الراهن لألغنية العربية. توجد مالحظة في غاية الحساسية تعترض هذا الكالم دائماً ،فالمقارنة التي ال مجال لها موسيقياً ،بين الشكل الغنائي اآلتي من ثقافة الهيب -هوب وغيرها ،وبين األنماط العربية المتخلى عنها ،هي مقارنة أدخلتنا في اعتقاد يكاد يقطع بتات ًا مع المكتسبات الراقية ،في حين أن هذا الشكل الموسيقي المستورد، ليس إال احتكاك ًا بدي ً ال للفراغ التعيس، وحالة الكساد التي طالت شكل األغنية
146
العربية بروافدها الغنية وجغرافياتها المتعددة .هذا االحتكاك البديل ،وإن كان ظاهرة هذا الزمن ،ال مفر منه إن كنا نعترف بحق كل جيل في التعبير عن همومه بالشكل الذي يرتضيه ،بل يجب أن نعترف بأن ما دخل ليمأل الفراغ التعبيري هو اآلن يفيض على األنظمة ويخيفها أكثر من أي جنس فني آخر. لنترك المقارنة بين القديم والجديد، فهي ليست معتدلة ،لكنها تحيل إلى تحصيل حاصل :ثقافة الهيب هوب ظهرت في أميركا بداية السبعينيات، والشيخ إمام مات في منتصف
ترجم مصطفى سعيد مضمون كلمات تميم البرغوتي ،وهي قصيدة درامية متعددة األصوات والحاالت العاطفية
في الرابع والعشرين من يناير/ كانون الثاني ،توجه الشاب الكفيف مصطفى سعيد من بيروت إلى القاهرة للقاء رفاقه في ميدان التحرير ،وهناك مكث ثمانية أيام شاهدًا على ثورة 25 يناير ،2011فأهدته أصواتها ثمانية مقامات في أغنية واحدة .نعم ثمانية مقامات موسيقية أصيلة أهداها للميدان. «يا مصر هانت وبانت كلها كم يوم» أغنية من كلمات الشاعر الفلسطيني تميم البرغوتي ،بمجرد اإلنصات لها يراودك إحساس بأنك أمام ديابوراما صوتية من الشيخ إمام في نغمته المتراوحة بين السخرية واالنهزامية والحماسة ،ومحمد عبد الوهاب في تعبيراته وتجواله األنقى بين المقامات، أو حتى سيد درويش في لحنه الممسرح طبق ًا للمعنى ،كما يبرز فيه أسلوب محمد القصبجي عزف ًا وحضورًا ..ولربما جمع هذا الشاب الموهوب ذو البصيرة الموسيقية كل هؤالء دفعة واحدة، فيصح نعته بالعبقري ،فهو حين يتحدث يتقمص أستاذية عمار الشريعي المستحقة .ومصطفى سعيد بهذا ُمريد موسيقي ،عازف وأستاذ عود مصري من طنطا ،هو اآلن ،في عقده الثاني، يشتغل خبيرًا معتمدًا بمؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بلبنان، حيث يقيم حالياً. في لحظة من لحظات ميدان التحرير التقطت أذن مصطفى سعيد كلمات عبر مكبرات الصوت .وما كاد أحد الرفاق
أحمد فؤاد نجم :فكرتني بالغاليين هات بوسة لشغلك الحلو.
ينهي إلقاءه القصيدة حتى حفظ سعيد جزءًا منها وراح يدندن بما سمعه ممهدًا لوالدة أغنية ميدانية ،راح على وجه االستعجال يحصل على القصيدة كاملة ليتم لحنها ،وبعد ذلك استأذن شاعرها تميم البرغوتي ،وفي غضون أيام أصبحت مكبرات الصوت تنعم بالزمة موسيقية وثورية« :يا مصر بانت وهانت كلها كام يوم /نهارنا نادي ونهار الندل مش باين /الدولة مفضلش منها إال حبة شوم /لو مش مصدق تعالى عالميدان عاين /ياناس مفيش حاكم إال من خيال محكوم /واللي هيقعد في بيته بعدها خاين» ..الزمة تخيط أربعة كوبليهات/ مقاطع غنائية ،متفاوتة الطول ومختلفة اللحن والمقام الموسيقي، ومن الالزمة إلى الكوبليه يتخلص مصطفى سعيد بحسن وعذوبة من مقام إلى آخر ،بل ويداعب بحالوة مخطوفة وعابرة مقامات أخرى ،وبين حسن التخلص والعبور المخطوف في مجمل األغنية احتشدت ثمانية مقامات وربما
تزيد على هذا قياس ًا بانخطاف العزف وتقنياته ..تنويع مقامي يجسد فصول ثورة اختلطت فيها كل األحاسيس، األمل بنقيضه ،الحماس بالخوف، الترقب بالدهشة ..وغير ذلك مما ال يمكن تحسسه إال بأن تكون في معمعة الهتاف وإسقاط نظام. وألن الموسيقى كما نقرأ عند شوبنهاور هي اإلرادة ،وإن كنا لسنا بصدد موسيقى خالصة (دون غناء)، فإن لكل مقام موسيقي عاطفته اإلنسانية الخاصة التي تترجم هذه اإلرادة، االنتقال من نغمة إلى أخرى كاالنتقال من لحظة حزن إلى فرح ،من حلم إلى حقيقة ..وطبق ًا لهذه القاعدة التعبيرية، فأن يختار مصطفى سعيد هذا الكم الهائل من المقامات في أغنية واحدة، فهو يحاكي في الحقيقة تقلبات العاطفة في ميدان التحرير ،مما جنبه تهمة االستعراض المفرط ،وهو في توظيفه لكل هذا ال يترك للنشاز موضع ًا خاصة إذا تعلق األمر بتنقله الفاخر بين مقامات
من عائلة أصيلة تتجانس وتتنافر وتقفل وفق التعبير المطلوب :مقام «الرست» على طريقة السنباطي .هذا المقام جعله سعيد سينوغرافيا موسيقية لألغنية، بنيت عليه الالزمة المتكررة( :يا مصر بانت وهانت كلها كام يوم) ،مقام الحجاز وهو بين الهجر واالنتظار في كوبليه /مقطع( :إللى حايقعد فى بيته كأنه سلم التانيين /إللى حايقعد فى بيته يبقى مش مفهوم) ..وعلى التوالي يتغير المقام الموسيقي من مقطع إلى آخر« :النكريز ،صبا ،بياتي ،كرد، الخماسي :مقام استعمله الفراعنة وظفه في مقطع (ده حكم أسرة وال خوفو وال خفرع /وال وجع بطن يتعالج بزيت خروع) ،النهوند» وهكذا ترجم مصطفى سعيد مضمون كلمات تميم البرغوتي، وهي قصيدة درامية متعددة األصوات والحاالت العاطفية. سبب آخر يبرر تعدد المقامات ،فمن المعروف أن لحن «الطقاطيق» يشترط هذا التعدد أساساً ،وهو مجال في التلحين يتطلب جهدًا ونفس ًا وعبقرية.. لم تتوافر إال في أمثال الشيخ سيد درويش والقصبجى وزكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب والسنباطى ..ومن سار على منوالهم ،ذلك أن الطقطوقة ال يمكن أن تصدر إال من متمكن وعارف بأصول الموسيقى الشرقية ومقاماتها، فض ً ال عن هذا أن يكون ذواق ًا للشعر وحساس ًا لمعانيه حتى يتمسرح النص دون فقدان السلطنة ،ومصطفى سعيد في طقطوقته «يا مصر هانت وبانت كلها كام يوم» سار على درب أساتذته ،وفي بنائه لهذه الطقطوقة المستحدثة ابتدأ هذا الملحن الشاب من حيث انتهى سيد درويش في بعض طقاطيقه المسرحية التي جّدد فيها في هذا القالب الغنائي العامي ،فنجده يلحن نهاية كل كوبليه بمقام مختلف عن سائر اللحن ،ليمهد به إلى المقطع الموالي بد ًال من العودة إلى المذهب /موسيقى الالزمة ،كما جرت العادة ،واعتبر هذا تجديدًا مسبوق ًا حينها الرتباطه بالتعبير المسرحي، ومصطفى سعيد فعل هذا بجدارة. 147
عمر فتحي
أغنية لم تكتمل هدى جعفر حينما تراه م���ن بعيد تظنه المطرب اإلس���باني خولي���و إيغلس���ياس ،ذا القامة األنيقة النحيلة والش���عر الكثيف والوقفة الواثقة على المس���رح.إنه عمر فتحي ،س���معه الجمهور ألول مرة في 1977عندما أس���س الموسيقار الكبير هاني ش���نودة واحدة من أهم وأش���هر الف���رق العربية وهي فرقة (المصريين) التي اقت���رح تكوينها األدي���ب العالمي نجيب محفوظ ،وقد كتبت للفرقة أقالم ألماس���ية مثل صالح جاهين الذي كان م���ن المتحمس���ين لعم���ر فتح���ي وعمر بطيش���ة وعب���د الرحيم منص���ور ،وقد ناسبت فرقة (المصريين) ذائقة الجمهور المتطلعة آنذاك وأشبعت شهيته الفنية بما استحدثته من قوالب غنائية وطرق تلحين غير معهودة ،كما أنها أول فرقة تقدم األغنية االجتماعية ،ومن أش���هر أغانيه���ا( :بحبك ال) الت���ي غناها عمر فتحي و(متحسبوش يا بنات) و(ماشية الس���نيورة) و(مام���ا س���تو) وغيرها، وق���د صرح هاني ش���نودة في برنامج (رمضان بلدنا) بأن عمر فتحي أخبرهم عن���د انضمامه للفرقة بأن اس���مه محمد الهندي بينما كانت البطاقة الش���خصية تق���ول ش���يئ ًا آخ���راً! ،فخش���ي هاني شنودة أن يصبح لقب (الهندي) مدعاة للس���خرية ،فأس���ماه عمر جوهر تيمن ًا بعمر بطيش���ة وجوه���ر الصقلي باني مدينة القاهرة ،علم ًا أن موقع (السينما) يذكر أن اس���م عمر فتح���ي الحقيقي هو محمد عبد المنعم عبد اهلل جوهر!. 148
بعد فترة وجيزة انفصل عمر جوهر وغير اسمه الثاني إلى عن (المصريين) َّ فتح���ي وبدأ الغناء منفرداً ،وفي 1980 اكتش���ف األطب���اء بأن لدي���ه ضيق ًا في الشريان التاجي قد يقتله في أي وقت، ولكن الفنان الطموح اجتهد في فنه رغم المرض ورغ���م نوب���ات االكتئاب التي تداهم مرضى القلب عموماً. أه���م ما يميز عم���ر فتحي هو قدرته عل���ى تحمي���ل أغانيه الخفيف���ة معاني قوية تعلق ف���ي الذاكرة والوجدان ،فال يمكن أال تبتهج وتفتح قلبك على جهاته األربع وهو يقول لك (ابس���ط يا عم)، أو يجتاحك ش���عور بالحنين للدراسة مع أغنية (س���قفة) ،أو تس���رح عميق ًا في مغ���زى حياتك وم���ا وراءها وأنت تس���مع (مواعيد) ،أو (أنا عايش ومش عايش) الت���ي يبدو أن (عمرو دياب) لم يكن صاحب الس���بق في االسم ،وكان صوته صالح ًا لجميع األلوان الغنائية فهناك اللون الصعي���دي في (بتفكرني الغناوي) وكذلك (كل الحاجات اتغيرت) ذات الطابع الرحباني التي غناها وهو يطوق النجمة يس���را بنحولها الش���ديد آنذاك وطلتها األوروبي���ة ،وهو أيض ًا أول أبناء جيله ف���ي الظهور بالقميص والبنطلون وليس البدلة وأولهم كذلك في أداء األغنية االستعراضية ،فقد كان محب ًا للمسرح االستعراضي. تزامن ظهور عم���ر فتحي مع موجة االغتراب والس���فر الت���ي اجتاحت مصر
في الثمانينات مما أضاف ألغانيه مذاق ًا عذب ًا بالنسبة للمغتربين البائسين وما أكثرهم في عهد المخل���وع مبارك ،كما غنى أيضاً( :م���ش قلتلك) و(جرحوني عيون���ه) و(مكتوب لن���ا) و(على إيدك) الت���ي قال ف���ي إحدى المقاب�ل�ات بأنها عزي���زة علي���ه ألنه صوره���ا بعد أزمة مرضية ظ���ن خاللها أنه لن يس���تطيع ���ر في تلك الغن���اء مرة أخرى ،كما َّ فس َ المقابل���ة بدء ع���دد من أغاني���ه بكلمة (عل���ى) بأن���ه نوع م���ن التف���اؤل ألنه بدأ مش���واره الفن���ي منفردًا بـ���ـ (على قلبي) و(على س���هوة) و(عل���ى فكرة) و(عل���ى إي���ه) ،ويق���ال أنه تم س���حب ألبوم (على قلبي) من األس���واق بسبب اعت���راض الرقابة عل���ى المقطع األخير من أغنية قشطة والذي يقول :القشطة س���احت وأنا روحي راحت ،فتم حذف المقط���ع ونزول األلبوم مرة أخرى إلى األس���واق ،علم ًا أن عم���ر فتحي يغنيها كاملة في فيديو على اليوتيوب!. ش���ارك عمر فتحي أيض ًا في فوازير النجمة ش���يريهان في أكث���ر من لوحة غنائي���ة منه���ا (ادلع يا رش���يدي) و(يا مركبي عدي) و(آيسكريم) وبالرغم من أنه كان مع أقوى النجمات حضوراً ،إال أن شيريهان لم تقلل من وهجه الجميل، مثل عمر فتحي أيض ًا في مسلسل (سيدة الفندق) مع كمال الش���ناوي و(حس���ن ونعيمة) و(سفينة العجائب). وبينما كان عمر فتحي يش���يد عرش نجوميته بنجاح ،حصده منجل الموت في 28ديس���مبر/كانون األول ،1986 سكتة قلبية أنهت حياة ابن (المصريين) ورح���ل عن الدنيا ش���اباً ،رح���ل تارك ًا صورته في قلوب محبيه ،وفي 1988 تفكك���ت فرقة (المصريي���ن) ثم عاودت الظهور في 2010مع أصوات ش���بابية وبوجود نجمي الفرقة السابقين :هاني شنودة وإيمان يونس. توفي في الرابع���ة والثالثين ،ففي إحدى أغنياته مع الفنانة يس���را« :آدي الحياة ماش���ية وإحنا معاها ماشيين، العمر فيها رحلة تمضي بغمضة عين».
دوحة الع�شاق
شـفـاء الـحـب نزار عابدين الحديث عن شاعرات األندلس مما أفاض فيه الباحثون والنقاد ،ال عن كثرتهن فحسب ،بل عـن اقـتحامهن معـظم فـنون الشــعر وأبوابه ،وعـن جرأتهن عـلى مـواضـيع لم تكن شـاعرات المشـرق يجرؤن على االقـتراب منها ،فصارت الشـاعرة تـتغزل بالرجل كما يتغزل بها ،وتلح في إغرائه ووصف محاسنها ،وتذهب إليه وتنادمه .فها هي أم الكرم بنت المعتصم بن صمادح ( من شاعرات القرن الخامس الهجري ) تقول في حبيبها الذي كان أحد فتيان قصر أبيها:
ليت �شِ عري هل �سـبيلٌ خللو ٍة �أَال َ راقـب ــم ُع كلِّ ُم ِ يُنـ َ َّزه َعـنها َ�س ْ َويا َعجباً �أ�شـتاقُ خلـْوة َمن غـدا َو َمثـــوا ُه ما بيـن ا َ والتــــرائب حل�شـــــا ِ
ِ الغـرناطية (توفيت نزهـون بنت القِـالعي أما ُ 550هـ1155/م) فتـتجاوز أم الكرم في غزلها بالوزير أبي بكر بن سعيد:
ــ�ســـنَــهـــا لِـلـّــ ِه َد ّر الــلــيــالـي مـا �أُ َح ْـي َ ـــن مِــنـــــــهـا لـيـلـ َة ال َأحــدِ ـ�س َ َومـا �أُ َح ْـي َ َــت ـت حـا�ضرِ َنا فـيهـا وقد غَــفَــل ْ لَـو ُكـ ْن َ ني ِ ــر �إىل � َأحـدِ َعـ ُ الـرقـيـــــــب ْ فـلم تَـ ْن ُـظ ْ قـم ٍر �س ُّ ال�ضحى يف �سـاعِ ـ َد ْي َ �أَبْ�صرَ ْ َت ْ �شم َ بَـل رميَ خــــا ِز َم ٍة يف �ســـــاعِ َدي � َأ�ســـدِ
وتخطو حفصة بنت الحاج الركونية (580 - 530 هـ1184 - 1135/م) خطوة أبعد فنقرأ لها بيتين من أجمل ما قال شعراء الغزل في العصور كلها:
غـار َع َ ـلـيـك من َعـيـني و ِمنّي �أَ ُ ِنــــــــــــــك ومِن زمان َ َ وم ِـــك واملـــكانِ َولـو �أنيّ َخـبَ�أتُ َ ـك يف ُجـفُـوين �إِىل يــــَـو ِم الـقِـيـــــــا َمـ ِة ما كــــــــفـاين
لكن اإلنصاف يـقـتضي أن نذكر أن من الـشاعـرات في
المـشـرق من سـبـقـن شـاعـرات األندلس في تصوير الشوق واالندفاع في تصوير الحب واالشـتياق إلى مدى لم يبلغ كثير من الشعـراء جـرأته إال شـعـراء الـتهـتـك في العـصر العـبـاسـي وما بعـده .لقد جاهرت «عشرقة المحاربية» (مجهولة الوالدة والوفاة) بحبها ،لكنها ظلت عفيفة األلفاظ:
ـ�شاق يف َحلْـب ِة الهوى يت م َع ال ُع ّ َج َر ُ فَـفُـقْـتُـ ُه ُـم َ�س ْـبـقاً َوجِ ْئ ُت َعـلى ر ِْ�ســــــلي َــل ال َهوى لـب�س ال ُع ّ ـ�شـاقُ مِن ُحل ِ فَما َ ـيـاب الـتي �أُبـــْـلي َوال َخـلَـــــ ُعــوا �إلاّ الـثِّ َ ــربوا َك�أ�سـاً مـن ا ُ ـب ُمـ ّز ًة َوال َ�ش ِ حل ّ َـــ�ضــلـي ــم ف ْ َوال ُحـلْـــو ًة �إلاّ َ�شـــــــــرابُـ ُه ُ
لكن ابنة قـبـيـلتها «أم الضحاك المحاربية» كانت أجرأ منها ،بل من جميع الشـاعـرات اللواتي أتين بعدها حتى في األندلس ،وال نعـرف عنها شـيئ ًا سوى أنها كانت تحب زوجها وطلقها ،فأسرفت في تولهها:
ـح َّـمـلُــوا الـمحِ ـبـّيـن الـذيـن تَ َ َ�ســ�ألـْ ُت ُ ــباريح َهـذا ا ُ ـب يف �سالف ال َّد ْه ِـر تَ حل ِّ َ ـب يُـزيـلُــ ُه فـقـالـوا �شــفـاء ُ الـح ِّ ـب ُح ٌّ ـجـرِ من �آخـ ٍر� ،أو ن� ٌأي طـويـلٌ على َه ْ
لكن شفاء الحب ليس دائم ًا هكذا حسب رأي الشاعـرة، إن للحب شـفاء آخر ،وهنا نصل إلى بيتين قالتهـما ،لو أننا نجهل قائلهما لقلنا إنهما ألبي نواس أو بشار بن برد أو أمثالهما من ُم ّجان العصر العباسي:
�شِ ــفـا ُء ا ُ و�ض ٌّـم ـب تَــقْـبـيـل َ حل ِّ بالـمـنـاكِ ِ ــب والـقُــرونِ و� ْأخــ ٌذ َ ور ْهـ ٌز تَـ ْه ُـمـلُ ال َع ْـيـنانِ مِـ ْنـ ُه َ وجــــــــ َ ٌّـر للـبُ ُ ـــطـونِ عــــــــلى البُ ُطـونِ
149
علوم
المحمول «يطبخ» أدمغتنا ح�سن فتحي -القاهرة
إنه���ا ليس���ت دع���وة للتخل���ي عن هواتفنا المحمول���ة ،فذالك أمر محال، بعدم���ا أصب���ح المحم���ول داء لن نبرأ منه ،لكنها دعوة للوعي واالس���تخدام الرش���يد ،فبين الحين واآلخر ،نستمع إلى تقاري���ر وتصريحات تتحدث على اس���تحياء عن أخط���ار المحمول على صحتنا ،لكن الجديد هذه المرة كان في تقرير حديث أصدرته الصحة العالمية، حيث وضعت المنظمة أجهزة المحمول «مسببات السرطان» جنب ًا إلى في قائمة ُ جنب مع الرصاص وعوادم الس���يارات ومركب الكلوروفورم ،وذلك بعد بحث شارك فيه 31عالم ًا من 14دولة. ُتنتج أجه���زة المحمول أو الموبايل موجات أق���رب لتل���ك الت���ي ُيصدرها جهاز الميكروويف ،ويقول العلماء إن الموبايل «يطب���خ» أدمغتنا تماماً ،كما يفعل الميكروويف في الطعام! وال يقتص���ر التأثير عل���ى احتمالية اإلصابة بالس���رطان فقط ،بل قد يمتد ألع���راض كثي���رة له���ا عالق���ة بالمخ واألعص���اب كالتأثير على الذاكرة ألننا نض���ع الموباي���ل حي���ث يوج���د الفص الصدغ���ي من الدماغ ،وهو المس���ؤول عن الذاك���رة واالنفعال ،وت���زداد هذه 150
خط���ورة م���ع األطفال ألن التأثي���رات ً جمجمة الطفل وفروة رأسه أقل سمك ًا ال عن أن معدل انقسام من البالغين ،فض ً خالياه يكون أس���رع ،لذا يكون تأثير اإلشعاعات الصادرة من الموبايل أكبر بكثير على األطفال! لم تصم���ت ش���ركات الموبايل على هذا التقرير ،بل هاجمته على أس���اس أن���ه لم يقدم أي أدل���ة جديدة ،وأن كل ما فعله هو مراجع���ة أبحاث قديمة تم ال عن أن المقصود نشرها بالفعل ،فض ً باألبحاث هو «بعض» أجهزة الموبايل وليس كلها (أو هكذا يزعم صانعوه). وفي المقابل قامت المنظمة األوروبية للبيئة بإطالق مجموعة أبحاث مشابهة للبحث في تأثي���رات أجهزة الموبايل، في الوقت ال���ذي حذرت فيه من أخطار ه���ذه األجهزة عل���ى الصح���ة العامة، لدرجة أنها اعتبرتها كالتدخين! وم���ا ال يعرف���ه الكثي���رون من���ا أن ش���ركات الموباي���ل تنص���ح بص���ورة رس���مية بإبعاد أجهزتها عن أجس���امنا عن���د إج���راء المكالم���ات تجنب��� ًا ألي «أخطار» على صحتنا ،فتنصح شركة آبل بإبعاد جهاز اآلي فون عن جسمك مس���افة 15ملم أثناء إج���راء المكالمة،
وبالنس���بة للبالك بيري فالمسافة هي 25ملم!! وإن كان حم���ل الموبايل ش���رًا البد منه ،إليك بعض النصائح التي أطلقها الخبراء للتقليل من آثاره الضارة: -1اس���تخدم الس���ماعات الس���لكية المرفقة :تأتي أغلب الهواتف بسماعات سلكية ،لذا احرص على استخدامها قدر المستطاع ،إذ ُتقلل من نسبة تعرضك للموجات الصادرة من جهاز الموبايل، وإن كانت ال تقضي عليها تماماً. -2استخدم الس���ماعات الخارجية: صحي���ح أنها فك���رة مزعج���ة للغاية، خاص���ة إن كن���ت في مكان ع���ام ،لكن ً تخي���ل أن إبع���اد جه���از الموبايل عن جسمك 5سنتيمترات يقلل من تعرضك للموجات أربع مرات!! -3ال ترت���دي س���ماعات البلوتوث طوال الوقتُ :تصدر سماعات البلوتوث موجات أقل بكثير من جهاز الموبايل، لكن العلماء ينصحون بعدم إبقائها في فض�ل�ا عن تغيير األذن ط���وال الوقت، ً جهته���ا ما بي���ن األذن اليمن���ى واألذن اليس���رى بين الحي���ن واآلخر ،حتى ال
يتعرض جزء واحد من الدماغ للموجات طوال الوقت! -4ال تتحرك كثيرًا وأنت تتحدث!، فالجهاز ُيصدر موجات أكبر عند تحركك بصورة كبيرة (كحديث���ك أثناء حركة السيارة أو في المصعد وهو يتحرك)، ألن الهات���ف ينتق���ل حينه���ا من محطة موباي���ل إلى أخ���رى حس���ب التغطية المتواف���رة أثناء حركت���ك ،لذا احرص على تقليل حديث���ك فيه أثناء الحركة. وينطبق نفس الش���يء عل���ى األماكن التي تكون فيها الشبكة ضعيفة ،والتي يضطر الهاتف فيها إلى إصدار مزيد من الموجات بحث ًا عن الشبكة! -5ال تتحدث في الموبايل واستخدم الرسائل القصيرة! -6اق���رأ كتي���ب اإلرش���ادات ،إذ يتجاهل���ه أكثرنا ,لكن ل���و قرأت كتيب هاتف���ك س���تالحظ نصائح للس�ل�امة العامة ،وفيها تقترح كل شركة مسافة معين���ة تبقيه���ا بين جس���مك والهاتف للتقليل من أخطاره! وض���ع العلم���اء ج���دو ًال افتراضي ًا لمواعيد عمل األعضاء بجسم االنسان، وكانت النتيجة كالتال���ي ،كما يذكرها الدكت���ور أحم���د مج���دي أس���تاذ القلب بالمعهد القومي للقلب: مس���اء :هذا م���ن الس���اعة 9إلى 11 ً الوق���ت ال���ذي يت���م في���ه التخلص من السموم الزائدة في الجهاز الليمفاوي، لذل���ك فإن هذا الوقت يجب تمضيته في ه���دوء ،فإذا كانت رب���ة المنزل ال زالت تعمل في أعم���ال المنزل أو في متابعة األبناء في أداء واجباتهم المدرس���ية، فإن ذلك س���يكون له تأثير سلبي على صحتها. مس���اء إلى الواحدة 11 الس���اعة من ً صباحاً :ذلك ميع���اد تخلص الكبد من الس���موم ويكون ه���ذا الوق���ت المثالي للنوم العميق. من الساعة 1إلى 3صباحاً ،ميعاد تخل���ص الم���رارة من الس���موم وأيض ًا يكون وقت ًا مثالي ًا للنوم العميق. من الساعة 3إلى 5صباحاً ،ميعاد
تخل���ص الرئة م���ن الس���موم ،ولذلك س���نجد أن المري���ض ال���ذي يعاني من الس���عال فإنه س���وف يعاني أكثر في هذا الوقت ،والسبب في ذلك أن عملية التخلص من السموم قد بدأت في الجهاز التنفسي فال داعي لتناول دواء إليقاف أو تهدئة السعال في هذا الوقت ،وذلك لمنع التدخل في عملي���ة تخلص الرئة من السموم الموجودة بها. الس���اعة 5صباحاً ،ميعاد تخلص القولون من السموم ،لذلك يجب التبول في مث���ل هدا الوق���ت لتفري���غ المثانة لمس���اعدة وتوس���يع ف���راغ للقول���ون للتخلص م���ن الس���موم ،وهنا ننصح األش���خاص الذين يعانون من اإلمساك المزمن أن يواظبوا على االستيقاظ في ه���ذا الوقت ( 5صباحاً) لكي يس���اعدوا القولون على العمل والتصريف ،وفي خ�ل�ال ع���دة أيام س���ينتهي اإلمس���اك المزم���ن مع ض���رورة االلت���زام أيض ًا بالغذاء المتوازن. من الساعة 7إلى 9صباحاً ،ميعاد امتصاص الغذاء ف���ي األمعاء الدقيقة، فيج���ب أن يتم تناول وجبة اإلفطار في هذا الوقت ،أما المرضى الذين يعانون من اإلنيمي���ا ونقص الهيموجلوبين في الدم فيج���ب أن يتناولوا وجبة اإلفطار قب���ل الس���اعة 6.30صباح���اً ،أما من يرغ���ب ف���ي المحافظ���ة على س�ل�امة جسمه وعقله ،فيجب أن يتناول وجبة إفطاره قب���ل الس���اعة 7.30صباحاً، واألش���خاص الذين ال يتناولون وجبة اإلفط���ار وتعودوا على ذل���ك يجب أن يغيروا عاداتهم ألن ذلك من أهم أسباب تلف الكبد ،والتأخ���ر في تناول وجبة اإلفطار حتى الس���اعة 10 – 9صباح ًا أفضل من عدم تناولها على اإلطالق. من منتصف الليل إل���ى 4صباحاً، ه���و الوق���ت الذي ينت���ج في���ه النخاع العظمى خاليا الدم ،لذلك يجب أن ننام مبكراً ،وننام جي���دًا وبعمق ،إن النوم المتأخر واالس���تيقاظ المتأخر يعمالن على تعطيل الجس���م م���ن التخلص من السموم الموجودة فيه.
أسرار عصير الطماطم ينص���ح خب���راء التغذي���ة بتناول الطماطم على شكل عصير بعد طحنها بكامل محتوياتها اي بقشرها وبذورها دون أن نضي���ف إليه���ا الملح .ويمكن تناول العصير إم���ا وحده أو ممزوج ًا مع عصير فاكه���ة أخرى كالبرتقال أو الليم���ون ألن وجود حام���ض الليمون يحف���ظ لعصي���ر الطماط���م ثروته من فيتامي���ن «س» وذلك ف���ي حالة عدم تناوله في حينه. ومن أهم المميزات لتناول الطماطم على شكل عصير سهولة امتصاصه، حيث يدخ���ل الدورة الدموية س���ريع ًا ال معه العناص���ر الالزمة لترميم حام ً الخاليا كالفسفور والحديد ،باإلضافة إلى تناول الطماطم على شكل عصير يجنب اإلصابة بعس���ر الهضم الذي قد ينج���م جراء طبخها م���ع مواد أخرى، باإلضافة إلى تجنب فقدانها ألي عنصر من عناصرها الغذائية أثناء الطهي. ويحت���وي كل 100ج���م من عصير الطماط���م على 23 :س���عرة حرارية، و 93.500م���اء ،و 1ج���م بروتين، كربوهي���درات 4.300ملج���م ،ألياف سليلوزية 1.600جم ،فيتامين (ب)1 0.030ملجم ،فيتامين (س) 15.600 ملج���م ،فيتامين (ه���ـ) 0.030ملجم، حمض الستريك 0.070ملجم ،حديد 0.400ملج���م، صودي���وم 230 ملجم ،بوتاسيوم 230ملجم.
151
علوم
مخ المرأة أكفأ وأكثر صخب ًا هل هن���اك فرق بين م���خ الرجل ومخ الم���رأة؟ اإلجابة تأتي بنع���م وفق نتائج دراسة حديثة أجريت في جامعة بنسلفانيا أثبتت هذه الحقيقة بتصوير نشاط المخ، فالرجل يمكنه أن يقضي ساعات ال يصنع ش���يئ ًا تقريب���اً ،أما المرأة فص���ورة المخ لديها تبدي نشاط ًا وحركة ال تنقطع. وعقل الرجل مكون من صناديق ُمحكمة اإلغالق ،وغير مختلطة ،فهناك صندوق الس���يارة وصن���دوق البي���ت وصن���دوق األهل وصن���دوق العمل وصندوق األوالد وصندوق األصدق���اء وصندوق المقهى.. وإذا أراد الرجل ش���يئ ًا فإنه يذهب إلى هذا الصن���دوق ويفتحه ويركز في���ه ،وعندما يكون داخ���ل هذا الصن���دوق فإنه ال يرى ش���يئ ًا خارجه .وإذا انتهى أغلقه بإحكام ثم شرع في فتح صندوق آخر وهكذا. وه���ذا هو ما يفس���ر أن الرج���ل عندما يكون في عمله ،فإنه ال ينشغل كثيرًا بما تقوله زوجت���ه عما حدث ل�ل�أوالد ،وإذا كان ُيصلح س���يارته فهو أقل اهتمام ًا بما يحدث ألقارب���ه ،وعندما يش���اهد مباراة لكرة الق���دم فهو ال يهتم كثي���رًا بأن األكل على النار يحت���رق ،أو أن عامل الصيانة يقف على الباب من عدة دقائق ينتظر إذن ًا بالدخول. أم���ا عقل المرأة فإنه ش���يء آخر :إنه مجموعة من النقاط الش���بكية المتقاطعة 152
والمتصلة جميع ًا في نفس الوقت والنشطة دائم���اً ..كل نقطة متصل���ة بجميع النقاط األخ���رى ،مث���ل صفحة مليئ���ة بالروابط على شبكة اإلنترنت ،وبالتالي فهي يمكن أن تطبخ وهي ُترضع صغيرها وتتحدث في التليفون وتش���اهد المسلسل في وقت واحد ،ويستحيل على الرجل -في العادة- أن يفعل ذلك.. كما أنها يمك���ن أن نتنقل من حالة إلى حالة بسرعة ودقة ودون خسائر كبيرة، ويبدو هذا واضح ًا في حديثها فهي تتحدث عما فعلته بها جارتها وما قالته لها حماتها ومس���توى األوالد الدراس���ي أو ربما في جملة واحدة بسالسة متناهية ،ودون أي إرهاق عقلي ،وهو ما ال يس���تطيعه أكثر الرجال احتراف ًا وتدريباً. األخط���ر أن ه���ذه الش���بكة المتناهية التعقيد تعمل دائماً ،وال تتوقف عن العمل حتى أثن���اء الن���وم ،ولذلك نج���د أحالم ال من أحالم الرجل.. المرأة أكثر تفصي ً المثي���ر ف���ي صناديق الرج���ل أن لديه صندوق اس���مه « :صندوق الالش���يء»، ففي حاالت اإلجه���اد والضغط العصبي، يفضل الرجل أن يدخل صندوق الالشيء، وتفضل الم���رأة أن تتحدث في الموضوع مع أي أحد وألطول فترة ممكنة .إن المرأة إذا ل���م تتحدث عما يس���بب له���ا الضغط والتوت���ر يمك���ن لعقله���ا أن ينفجر ،مثل
ماكينة السيارة التي تعمل بأقصى طاقتها رغم أن الفرام���ل مكبوحة ،والمرأة عندما تتحدث م���ع زوجها فيما يخص أس���باب عصبيتها ال تطلب من الرجل النصيحة أو الرأي ،ويخطئ الرجل إذا بادر بتقديمها، كل ما تطلب���ه المرأة من الرجل أن يصمت ويستمع فقط. والرج���ل بطبيعت���ه ليس ُمهيئ��� ًا لعقد الكثير من هذه الصفق���ات المعقدة التي ال تس���تند إلى منطق ،والمرأة ال تس���تطيع أن تحدد طلباتها بوضوح ليس���تجيب لها الرجل مباش���رة ،وهذا يرهق الرجل ،وال يرضي المرأة. ووفق��� ًا لتحليل الدراس���ة ،فإن الرجل ُمصمم على األخ���ذ ،والمرأة ُمصممة على العط���اء .ولذلك فعندم���ا تطلب المرأة من الرجل ش���يئ ًا فإنه ينساه ،ألنه لم يتعود وينافس، أن ُيعطي وإنما تعود أن يأخذ ُ يأخذ في العمل ،يأخذ في الطريق ،يأخذ في المطع���م ،بينما اعت���ادت المرأة على العطاء ،ولوال هذه الفطرة لما تمكنت من العناية بأبنائها. إذا س���ألت المرأة الرجل ش���يئاً ،فأول رد يخطر عل���ى باله :ولم���اذا ال تفعلين ذلك بنفسك .وتظن الزوجة أن زوجها لم يلب طلبها ألنه يري���د أن يحرجها أو يريد أن ُيظه���ر تفوقه عليها أو يري���د أن يؤكد احتياجها له أو التش���في فيها أو إهمالها.. ه���ي تظن ذل���ك ألنها ش���خصية مركبة، وهو لم يس���تجب لطلبها ألنه نسيه ،ألنه ش���خصية بسيطة ،وألنها حين طلبت هذا الطلب كان داخل صندوق الالشيء أو أنه عجز عن استقباله في الصندوق المناسب فضاع الطلب ،أو أنه دخل في صندوق لم يفتحه الرجل من فترة طويلة.
أغذية حرق السعرات الحرارية توج���د العدي���د م���ن األطعم���ة الت���ي تس���اهم طبيعي��� ًا في عملية التخس���يس وهي تحتوي على م���واد تجعلها حارقة للس���عرات بامتياز ويرصد تقرير لمعهد التغذية في مصر بعض ًا منها وهي: الفواك���ه الغني���ة بالفيتامي���ن ج :الحمضيات خاصة مثل الليمون الحامض والبرتقال والجريب فروت بصفة خاصة، وتطلق عليها تسمية «مقاتلة الحريرات» نظرًا لل���دور ال���ذي يلعب���ه الفيتامين ج الموج���ود في ه���ذه الغالل في مس���اعدة الجسم في التخلص من الدهون. منتج���ات األلب���ان قليل���ة الدس���م :نظ���رًا الحتوائه���ا على الكالس���يوم الذي يعتبر الحليف األمثل للحمية ألنه يكس���ر الده���ون ويمنع الخاليا م���ن امتصاصها وبالتال���ي تراكمها ،كما أن���ه يمنع إنتاج الكوليسترول الضار. التفاح :البكتين الموجود في التفاحيحد من امتص���اص الخاليا للدهون ،كما يساعد الجس���م على امتصاص الماء من األطعمة وبالتالي التخلص بصفة أسرع م���ن الده���ون المتراكم���ة ،إن مض���ادات األكس���دة الموج���ودة في التفاح تس���اعد بش���كل كبير في تس���هيل عملي���ة الهضم الس���ليم وبالتالي التخلص بصفة أسرع
من اإلضافات غير المرغوب فيها من قبل الجسم. الش���اي األخضر :المش���روب األمثللحرق الس���عرات إذا كان خالي ًا من السكر األبيض الصناعي إضافة على أنه مهدئ جيد لألعصاب ومقاوم للسرطان. المكس���رات :تس���اعد على الش���عوربالشبع مع زيادة قدرة الجسم على حرق الدهون. البروتي���ن :أه���م غ���ذاء لتس���هيلعملية حرق الس���عرات ،ألن عملية هضم البروتين تستوجب استهالك ًا أكثر للطاقة، وبالتالي حرق ًا للس���عرات الحرارية ،كما أنه يس���اهم ف���ي بناء العض�ل�ات وكلما زادت نس���بة العضالت في الجس���م ،زاد حرق الدهون حتى وإن كان الجس���م في حالة استرخاء. التوابل الحارة :بش���رى لكل محبياألطعم���ة المبه���رة جي���داً ،فق���د أثبت���ت الدراس���ات أن األطعم���ة الح���ارة ذات الم���ذاق الحريف تس���اعد أكثر على حرق ال يس���اعد على الدهون ،فالفلفل الحار مث ً زي���ادة عملي���ة التمثيل الغذائ���ي ويرفع درجة حرارة الجس���م مدة 20دقيقة بعد تناوله ،مما ي���ؤدي إلى التعرق وتحفيز دقات القلب.
الرياضة وقاية من الصداع النصفي س���ت���وك���ه���ول���م -رغ�����م إن التمرينات الرياضية توصف ك��ع�لاج ل��ل��ص��داع النصفي في ال��غ��ال��ب ،إال أن��ه ل��م يظهر في الماضي أي دليل علمي يكفي حق ًا إلثبات فعالية هذا العالج، غير أن بحث ًا أجري بأكاديمية س��اه��ل��ج��ري��ن��س��ك��ا بجامعة جوتنبرج السويدية أظهر أن التمرينات الرياضية لها نفس ك��ف��اءة العقاقير الطبية في الوقاية من الصداع النصفي. ونق�ل�ا عن موقع «س���اينس ً ديلي» فإن األطباء يس���تخدمون حالي ًا وس���ائل مختلفة للوقاية من الصداع النصفي .ففيما يتعلق بالع�ل�اج الدوائ���ي ،أثبت عقار مصنوع من م���ادة التوبيراميت فعاليت���ه ،بينم���ا تتضمن طرق الع�ل�اج غي���ر الدوائ���ي ،الت���ي ت���م توثي���ق آثاره���ا ،تماري���ن االسترخاء. ومن خ�ل�ال دراس���ة أجريت على عينات عشوائية ،استطاع باحث���ون من جامع���ة جوتنبرج تحلي���ل مدى فعالي���ة التمرينات الرياضية باعتبارها عالج ًا يقي من اإلصابة بالصداع النصفي، مثله���ا مثل تمارين االس���ترخاء ومادة التوبيراميت. وخلص���ت الدراس���ة إلى أن التمرينات الرياضي���ة يمكن أن ال لتمارين االسترخاء تكون بدي ً وم���ادة التوبيرامي���ت عندم���ا يتعلق األمر بالوقاية من الصداع النصف���ي ،كم���ا أنه���ا تناس���ب بصورة خاص���ة المرضى الذين ال يرغب���ون في تن���اول األدوية الوقائي���ة أو ال يس���تطيعون تناولها.
153
التقاطعوا الملح وال تُسرفوا فيه تفرطوا فيه، التفرط���وا في الملح وال ِّ ألن األمر في كليهم���ا خطر على الحياة، ه���ذا ما انته���ت إليه دراس���تان :إحداهما كندي���ة حذرت من أن االمتناع عن تناوله يح���رم الجس���م م���ن فوائ���ده ،والثانية أميركي���ة اعتبرت أن اإلف���راط فيه يزيد من خطر الوفاة ،ويهدد بارتفاع الضغط ومشاكل القلب والشرايين.. فقد فح���ص الدكتور مارتن أودونيل، األس���تاذ المس���اعد ف���ي جامع���ة «ماك ماس���تر» بمدينة تورنتو الكندية بيانات أكثر م���ن 28ألف ش���خص يعانون من أمراض القلب أو من وجود خطر مرتفع لإلصابة بها ،واكتش���ف أن نسبة كبيرة منهم كانت في األس���اس تستهلك كميات قليل���ة من المل���ح ،واتضح أن النس���بة المتوسطة لكميات الملح المستهلكة لدى األش���خاص الذين قام بمراجعة بياناتهم يوميا ،وأن تص���ل إل���ى 4.8مليج���رام ً
154
خطر الوفاة بس���بب مشاكل القلب يرتفع بنسبة ٪9.7لدى من يستهلكون أكثر من 7مليجرامات يومياً. غير أن المفاجأة تمثلت في أن األرقام أش���ارت إلى أن الذين تقتص���ر الكميات التي يتناولونها م���ن الملح على ما بين 2إلى 3ملليجرامات يومي ًا يرتفع لديهم خطر الوفاة بس���بب مشاكل القلب بواقع . ٪0.8 ورجح أودونيل أن جس���م اإلنسان - وبخالف التقديرات القديمة -بحاجة إلى كميات ال بأس بها من الملح ،وأن خطر نق���ص تلك المادة في الجس���م قد يعادل خطر وجودها بش���كل يف���وق المعدالت المطلوبة. في حين ،حذرت دراسة أميركية من أن اإلفراط ف���ي تناول المل���ح والتقليل الش���ديد من البوتاس���يوم قد يزيدان من خطر الوف���اة ،.وتتعارض النتائج التي
توصل إليها فريق من المراكز األميركية لمكافح���ة األم���راض والوقاي���ة منها مع دراسة أثارت جد ًال حادًا ُنشرت نتائجها ال عل���ى أن التقليل مؤخ���رًا ولم تجد دلي ً من تناول الملح يقلل من خطر اإلصابة بأمراض القلب والوفاة المبكرة. وقال الدكت���ور توم���اس فارلي مدير الصح���ة لمدينة نيوي���ورك والذي يقود حمل���ة للح���د م���ن المل���ح ف���ي المطاعم واألطعم���ة المعلب���ة بنس���بة ٪25خالل خمس س���نوات «م���ا زال المل���ح ضارًا لكم». ويتف���ق غالبي���ة خب���راء الصحة مع فارلي في أن تناول الملح بش���كل مفرط غير مفيد للصحة؛ وأن التقليل من الملح قد يقلل من ارتفاع ضغط الدم الذي يزيد مخاطر النوبات والسكتات القلبية. ورك���زت دراس���ة المراك���ز األميركية لمكافحة االم���راض والوقاية منها والتي نش���رت ف���ي دوري���ة «اركايفي���ز أوف انترنال مديس���ين» على بح���ث يظهر أن النظ���ام الغذائي الذي يق���وم على تناول الملح بنسبة عالية والبوتاسيوم بنسبة منخفضة محفوف بالمخاطر. ووص���ف فارل���ي ال���ذي كت���ب مقا ًال افتتاحي ًا عن الدراسة بأنها أفضل دارسة حتى اآلن لآلث���ار طويلة األجل لإلفراط من تناول الملح. يذكر أن هيئة الغذاء والدواء األميركية FDAتنصح بتناول ما ال يزيد عن 2.3 ملليجرام م���ن الملح يومي���اً ،كما تدعو كبار السن واألطفال والمرضى إلى عدم تن���اول أكثر م���ن 1.5مليج���رام يومياً، في حين تؤكد منظم���ة الصحة العالمية ضرورة أال تزيد كميات الملح يومي ًا عن 2مليجرام.
المجمع العلمي عندما يحترق التاريخ د� .إبراهيم �إ�سماعيل -الدوحة أكتب ه��ذه السطور والقلب مكلوم والعقل مأزوم من جراء إقدام شرذمة منا كمصريين على إحراق المجمع العلمي.. ذلكم الصرح العظيم الذي لن يجود الزمان بمثله ،وال بمثل ما حرق من محتوياته. فماذا يريد الذين ارتكبوا هذا الجرم ؟ ماذا دها بعضنا حتى يحرقوا كينونتنا وهويتنا ؟! أحرقت مكتبة اإلسكندرية قبل الميالد ،وفي هذا تذكر إحدى الروايات أن ديمتريوس اليوناني بناها وعمرها، وشقيق الملكة كليوباترا بحماقته أحرقها من أجل العرش والملك. الخديوي إسماعيل بنى دار األوبراوافتتحها في نوفمبر من ع��ام ،1869 وأحرقتها أياد خفية في أكتوبر من عام .1971 وفي يناير من عام 1952أحرقتال��ق��اه��رة وأت���ت ال��ن��ي��ران على حوالي ألف منشأة ثقافية وتجارية وسياحية ورياضية ال لشيء إال لتصفية حسابات سياسية ،ولم يعرف أحد حقيقة ذلك العار حتى اآلن ،فض ً ال عن حرائق أخرى كثيرة كان وراءه��ا اإلهمال مثل حريق مسرح الهوسابير في تسعينيات القرن الماضي وحريق المركز الثقافي ببني
سويف عام 2005وال��ذي راح ضحيته عشرات المبدعين والمثقفين. قد يقول قائل إن مرتكبي هذه الجرائم مازالوا مجهولين ،وأقول هذا بالضبط ما يطلق عليه «عذر أقبح من ذنب» فإن كنا نعرف فتلك مصيبة وإن كنا ال نعرف فالمصيبة أعظم والخيبة أكبر.. نعود إلى موضوعنا حرق المجمع العلمي ،إنه بكل تأكيد نكسة ،ووكسة، وكارثة تضاهي في نتائجها إتالف التتار محتويات مكتبة بغداد في نهر دجلة مع الفارق الكبير ،فمن أتلف مكتبة بغداد هم األعداء وليس العراقيون ،أما من أتلف مجمع القاهرة العلمي فليس األعداء بل المصريون. ولكي نقف على هول الفاجعة وحجم الكارثة نذكر أن المجمع بناه نابليون بونابرت في مسكنه وس��ط القاهرة - الحظوا ..في مسكنه -وبه أكثر من مائتي ألف كتاب ومخطوط وأث��ر ن��ادر وفريد من نوعه ،حرقت جميعها فلم تعد شيئ ًا مذكورًا وللدقة ذكرت جريدة األهرام في عددها الصادر يوم االثنين التاسع عشر من ديسمبر 2011أنه أمكن انتشال اثنين وعشرين ألف كتاب من وسط النيران كل
منها نصفه تلف ،ومما حرق بشكل تام النسخة األصلية من كتاب وصف مصر باللغة الفرنسية ( 21مجلدًا) والدراسات التي أجريت في عهد محمد علي حول منابع نهر النيل وحق مصر في مياهه، ونتائج أبحاث البعثة األلمانية عن مصر والسودان عام 1844واللوحات الفنية التي تسجل وتؤرخ حياة البشرية قبل اختراع آلة التصوير ،والخرائط التي تثبت ح��ق مصر ف��ي ط��اب��ا ..والقائمة طويلة. النيران ظلت تلتهم محتويات المجمع ألكثر من خمس عشرة ساعة ،وألسنة اللهب تخرج لنا من شبابيكه ،فكيف ع��ج��زت س��ي��ارات المطافئ ع��ن إخماد الحريق وفشل ال��دف��اع المدني ب��وزارة الداخلية عن السيطرة على النيران ؟! ،هل ما زالت وزارة الداخلية برجاالتها تتهاون مع الحقراء وتستقوي على الشرفاء ؟. مع كل ما حدث ،ورغم ما يعتصرنا من ألم فإن شعب مصر باستثناء الشرذمة المجرمة قادر على تجاوز األزمات ،ففي ذروة هذه األج��واء الكئيبة كنت أسري عن نفسي بمتابعة شباب مصر في دورة األلعاب العربية التي أقيمت بالدوحة خالل شهر ديسمبر ،لقد حصدت مصر معظم ميداليات ه��ذه ال���دورة واحتلت المركز األول ب��ف��ارق كبير ع��ن المركز الثاني ،وأق��ول بكل صدق ومن صميم الفؤاد إن األشقاء العرب كانوا فرحين لتفوق مصر ،سمعتهم يقولون لنا «وش الثورة حلو عليكم» فلعلها تكون كذلك وي��ك��ون ح��ري��ق المجلس العلمي آخر الحرائق. 155
�أقالم ب اإلنسان»! « َق ْل ُ
التوزيع باألردن
كمثري الشكل، ْب اإلنسان. ّ َقل ُ في حجم قبضة اليدَ .يزن ما بين 225إلى 340جراماً، وينبض بمعدل 70مرة في الدقيقة أي 4200م��رة في الساعة ،أي 100.800م���رة في اليوم. أي 36.792.000م��رة في السنة ،فإذا كان متوسط ُعْمر اإلنسان 60سنة فإن هذا يعني أن هذا القلب العجيب يكون قد نبض 2.207.000.000 م��رة (أي مليارين ومائتين وسبعة ماليين وخمسمائة وعشرين أل��ف نبضة) دون توقف! «فتبارك اهلل أحسن الخالقين».
ل��م��اذا ال تصل مجلتكم إلى األردن ..حيث تعذر تحميلها ع��ل��ى ال��ن��ت ،أم��ن��ي��ات��ن��ا لها باالستمرار والتقدم.
خيري أبوالروس مصر -كفر الشيخ
شجرة الزيتون تنمو ف��ت��ش��رئ��ب ن��ح��و الشمس والسحب وتخور ُ ف��ت��ل��ت��ح��م م����ع األع����م����اق المحتجبة وتتكاثف ُ ً فتغدو ُمختبأ وسترًا لمن لجأ وتثمر ُ فتمنح لحمها وزي�َت��ه��ا لمن يطلب ونورها للذي يأتنس غير أن الجرافة الماحقة وسيارة الليكسوس الداهية ورس ً ال للصيرورة والتقدم وم��ن��اف��س��ي��ن غ��ي��ره��م في الكوكب النشيد في وجهها شهرون ُي َ أقمارهم فوقها علون وي ُ َ نبيل قاسم -الجيزة -مصر
156
«من صفحتنا على الفيسبوك» ياجماعة ...يا كل المترددين على هذه الصفحة مجلة ال��دوح��ة دول خطيت معاها أول��ى خطواتي في عالم الصحافة وكنت أكثر الناس حزن ًا عندما توقفت عن الصدور دا حتى عم أحمد بتاع الجرايد لما كنت بسأله عليها كان يقولي حبيبتك لسه ما جتش -هذا ليس تملق أو رياء - ...أنا حالي ًا رئيس ًا لقسم االقتصاد بجريدة المصري اليوم القاهرة -سعدت أيما سعادة بعودتها للصدور واليومحالفني الحظ باالطالع على صفحتها على فيسبوك - ناجي عبد العزيز جاد
لماذا تأخرت النسخة اإللكترونية لشهر أكتوبر؟ النسخة الورقية أصبحت شديدة الندرة هذه االيام .نرجو زيادة التوزيع في مصر. محمد السالموني
المحرر األص��دق��اء ،س��ارة أحمد ،ومحمد السالموني ،والقراء األعزاء ،يسرنا في مجلة الدوحة أن نخبركم بأن الزيادة في المطبوع والنسخة اإللكترونية في الطريق إلى متناولكم.
تضيف المجلة ثراء إلى ثرائها ..فع ً ال مجلة مواكبة للتطور الثقافي والفكري. عبد اهلل الباري
أطيب التحيات والتقدير لجهودكم ...هل في نيتكم إنزال كتاب الدوحة مثل ما تفعلون مع المجلة وشكرًا؟. أمير وسيل
كيف؟ ش���ك���رًا ل��ج��ه��ود مجلتكم إلث��راء الثقافة ،ل��دي سؤال ب��خ��ص��وص ت��وف��ر المجلة في أنحاء المملكة فأتمنى الحصول على األعداد السابقة للمجلة ،فهي غير متوفرة في
جدة ،فكيف يمكنني الحصول عليها؟ رحاب سليمان رسالة بالبريد اإللكتروني
* ال��م��ح��رر :ل�لأس��ف األع���داد غير متوفرة وسنعمل على زي��ادة المطروح من المجلة بالمملكة.
* محمد الزعبي رسالة إليكترونية
* ال��دوح��ة :ت��وزي��ع المجلة في األردن متاح ولكن بأعداد قليلة ومستقب ً ال سيتم التغلب على مشكلة التوزيع ،كما يجري حالي ًا إع��داد الموقع اإللكتروني الخاص بالمجلة.
«شاعر الحرية» ال���س���ادة ال���ك���رام القائمون على مجلة الدوحة الثقافية ف���ي دول����ة ق��ط��ر الحبيبة المحترمون.ص كنت قد راسلت إدارة مسابقة شاعر الحرية ،طالب ًا منهم (ديوان شاعر الحرية) والذي يعتبر أحد إص��دارات وزارة الثقافة وال��ف��ن��ون والتراث الموقرة ،فأعلموني بأنه تم طبع الديوان بكمية محدودة وقد وزعت على الحضور في أمسية شاعر الحرية باإلضافة إل��ى توزيع ع��دد من النسخ على الشعراء المشاركين. وال أخفيكم علم ًا بأنني كنت أترقب وأتوقع صدور ديوان شاعر الحرية مرافق ًا لمجلة ال��دوح��ة ال��غ��راء ،ولكن هذا لم يحدث ،لذا اقترح عليكم، بل أرج��و منكم أن تصدروا ال���دي���وان ك���إح���دى ال��ه��داي��ا المجانية ال��م��راف��ق��ة لمجلة الدوحة الشهرية للعدد القادم إن شاء اهلل تعالى ،مقدرًا لكم جهودكم المخلصة في نشر الوعي والثقافة والتنوير في شباب األمة العربية.
نستقبل مساهماتكم في «أقالم» على البريد اإللكتروني aklam_d@yahoo.comأو صندوق البريد 22404:الدوحة-قطر
وت��ق��ب��ل��وا خ���ال���ص الشكر واالمتنان ،وجميل التقدير والعرفان. * الدوحة :لدينا خط اخترناه لكتاب الدوحة وهو استعادة أفكار النهضة ،وهذا ما يمنعنا من تحقيق أمنيتك العزيزة.
تقرير العدد ()49 السادة القائمون على مجلة الغـراء المحترمون الدوحة َّ السالم عليكم ورح��م��ة اهلل وبركاتـــه ق����رأت ال��ع��دد ال��س��اب��ق من مجلتكم ال��ك��ري��م��ة -العدد 49لشهر نوفمبر 2011من الغالف إلى الغالف ،وها أنا ذا أقدم لكم تقريـرًا مختصرًا وموضوعي ًا لمثـقـف وقارئ من الدرجة األولى ،والتقرير كالتالي: صور أعجـبـتـني توماس ترانسترومر -ص 102 الشاعر في شبابه الشاعر في كهولته الشاعر في شيخوخته أو ًال :عـناويــن أعـجـبـتـنـي الـقراءة طعم الحب المرأة نصف الثورة الحلـو جسد المرأة سـاحة للحرب - ص24 ثانياً :عـناوين خـدعـتـني يا ما تحت اللحايا خفايا تاريخ الحرية القارئة اللئيـمة ثالثاً :عناوين أدهـشـتـني أم����ه����ات ال�����ث�����ورة ..ت��ـ��اء الـتـحـريـر آلبرتو مانغويل ..المهنة: قـارئ -ص 68 ق���رأت حتى ُشـفيـت -ص 100 رابعاً :مواضيــع أعجبتني المسلمون في الصين ..تاريخ المعاناة والتسامح -ص 132
م��ا ل��دي��ن��ا م��ن ج��ه��د إلرض���اء القارئ مع مزيد من التقارير الهادفة.
الكلب عندما يغضب تلقينا هذا الرد الغاضب على قصيدة نشرناها وأثارت غيرة «الكلب» على األوزان و«الكلب» مجلة ساخرة يصدرها بخط اليد الكاتب والمترجم غازي أبوعقل من الالذقية، المجلة أسسها الشاعر صدقي سليمان عام .1945
إرادة الشعوب قصيدة كتبها الطيب بن عبيد ،من مكناس في المغرب، ونشرتها الدوحة الثقافية -ألسباب غامضة -في آب َ .2011قرَأ المحرر الثقافي لجريدة «الكلب» تلك القصيدة وهذا هو انطباعه عنها.. فكادت َتبيْد َّرت ما ارتكب الجنجويد بدارفور يوماً. ْ َتذك ُ فظائع تخجل منها الوحوش بأمر البشير ..وه��ذا أكيد بن العبيْد ،هو ولكنها ال تضاهى بتات ًا بما ارتكب الطيب ُ ُ ً وداس الشعر مستهترًا وعاث فسادا ببيت القصيْد انتهك َ َ َ وظ َّن البالغة خبزًا قديد جريدتنا - الفصاحة دون اهتمامَ ، ٍ قرأت من أقصد الكلب طبع ًا -يخيم فيها الذهول الشديد لما ْ َ ٍ ٍ فجٍة ال تفيْد(.)1 برمة وه ركيك بيان َّ َ بفيك تقول لهِ :ك ِ لمنعك من ارتكاب المزيْد ( ،)2فكيف ثك ُث َ اليوم بالفعلْ .. «د ٍ «عقٌد فريْد»؟ هي وحة» َ تمكن من َ َ شعير الثقافة أصبح قمح ًا لديها ..بفضل أديب عتيد َطَر ْحنا نهج جديْد َفَرّد: السؤال على «كلبنا» ففي «الدوحة» اليوم ٌ وغ َّرمهم بالذي سأغفر َهْفواته إذا َحَر َم الشعراء الثريدَ ، َ يفترون على ّ هذيان بليْد.. الشعر ..من ٍ َ «مجلة الكلب» برمة :الثرثرة َ -1 اله َ -2في موقعه ُحنين ،حين َك َّر المسلمون ،قال أبو سفيان: بت واهلل ه��وازن ،فصاح به صفوان بن أمية :بفيك غَل ْ الك ِ ِ ثكث.. الك ِ ِ ثكث :دقائق الحصى وال��رم��ل ..ولعلها أص��ل كلمة كوسكوس المغربية
البركة في اللـوح األكثر مبيـع ًا ضحكة هاجر -ممدوح عبد الستار خامساً :مواضيــع أدهشـتـني وأذهلتني ال أح����د ي��ح��ت��س��ي ال��ق��ه��وة االفتراضيـة -جهاد ب��زي - ص 78 فك المربوط -أمير تاج السر
ص111 -فصل من حصة األلم -محمود قرني يتقعر - والٌد يحتضر ،وولٌد ّ ص 159 وتقبلوا خالص الشكر وجزيل االحترام. زكريا السنباني
* الدوحة :نشكر لك اهتمامك الذي يحفزنا ألن نبذل أقصى
امرأة اليمن اطلعنا باهتمام على العدد ( - 49ن��وف��م��ب��ر 2011م)، وباألخص على ملف (المرأة.. نصف الثورة) وتناوالت أخرى تطرقت إلى دور المرأة اليمنية في الثورة وتضحياتها. وح���رص��� ًا م��ن��ا ع��ل��ى إث���راء تلك المواضيع بالمزيد من ال��م��ع��ل��وم��ات ح���ول الجرائم المرتكبة بحق المرأة والطفل ف��ي اليمن منذ مطلع يناير الماضي ،نرسل إليكم نسخة م��ص��ورة (باللغة العربية) م��ن التقرير ال���ذي أع��ددن��اه في المبادرة ومازلنا نضيف التحديثات عليه أو ًال بأول، ونتابع رصد جميع االنتهاكات والجرائم التي ترتكب ،وذلك ح��رص � ًا م��ن��ا ع��ل��ى إطالعكم على تلك الجرائم وتزويدكم بمعلومات قد تفيدكم في أية ت��ن��اوالت م��وس��ع��ة ف��ي ذات الموضوع. ودمتم ذخ��رًا لوطننا العربي واإلسالمي. * إخ��وان��ك��م ف��ي ال��م��ب��ادرة الوطنية لمناصرة المرأة والطفل في اليمن إشراف الخبير القانوني محمد الحاج الصالحي إعداد الناشطون :أحمد شبح ذكرى الواحدي -محمد عليالحسني. * الدوحة :التقرير جهد كبير ورصد واف وتوثيق متكامل لكل االع���ت���داءات والجرائم المرتكبة بحق المرأة واألطفال اليمنيين ،والتي تعتبر جريمة مستمرة ال يجوز التصالح عليها.
157
�صفحات مطوية
اخللق يف الفن
خالف الأ�صل والفرع أين دخلت اآلف���ة على أصح���اب المذاهب حتى افترقوا ه���ذا االفتراق، م���ن َ وتباينوا هذا التباين ،وخرجوا إلى التكفير والتفسيق وإباحة الدم والمال ورد الشهادة وإطالق اللسان بالجرح وبالقذع والتهاجر والتقاطع! فكان الج���واب :إن المذاهب فروع األديان ،واألدي���ان أصول المذاهب ،فإذا س���اغ االختالف في األديان -وهي األصول -فلم ال يس���وغ في المذاهب وهي الفروع. فقال :وال س���واء ،األديان اختلفت باألنبي���اء ،وهم أرباب الصدق والوحي الموثوق به ،واآليات الدالة على الصدق؛ وليس كذلك المذاهب. أبو حيان التوحيدي
«اإلمتاع والمؤانسة»
يف �صحبة ال�سلطان صفوان :من صحب قال خالد بن َ بالصح���ة والنصيح���ة الس���لطان ّ ���دوا ممن صحب���ه بالغش أكث���ر َع ُ ُ والخيان���ة ،ألن���ه يجتم���ع عل���ى وصديقه الس���لطان عدو ِ ُ الناصح ُّ ي���ق بالع���داوة والحس���د، فصد ُ َ الس���لطان ُينافس���ه ف���ي َمرتبته، وعدو ُه ُيبغضه لنصيحته. ُّ قال ابن المقف���ع :ينبغي لمنَخ���دم الس���لطان أال يغت���ر ب���ه إذا يتغير له إذا َس���خط، رض���ي وال ّ حمله ،وال ُيلحف وال يس���تثقل ما ّ في مس���ألته .وقال أيض���اً :ال تكن صحبتك للسلطان إال بعد رياضة ُ منك لنفس���ك عل���ى طاعتهم ،فإن كن���ت حافظ��� ًا إذا ولّ���وكَ ،ح���ذرًا َ قرب���وك ،أمين��� ًا إذا ائتمنوك، إذا ّ صَرم���وك ،راضي��� ًا إذا ً ذلي�ل�ا إذا َ أسخطوك ،تعلِّمهم وكأنك متعلّم منهم وتؤدبهم وكأنك متأدب بهم، وتشكرهم وال تكلفهم الشكر ،وإال والحذر كل البع���د، فالبع���د منه���م َّ َ َ منهم كل الحذر.
158
ليس الخل���ق أن تخرج من العدم وجوداً ،إنما الخلق في الفن -وربم���ا في غيره أيض ًا أن تنف���خ روح ًا ف���ي مادةموج���ودة .كذلك صنع أعظم الخالقين يوم أوج���د آدم .لم يمد يده العلوي���ة إلى الفضاء قائ�ل�ا« :كن!» فكان .ولكنه مد ً يده إلى الطين -مادة وجدت قب���ل آدم فس���وى من���ه ذلك المخلوق الحي. ال ش���يء يخ���رج م���ن ال شيء .كل شيء يخرج من كل ش���يء .ذلك هو الدرس األول في الخلق ،وق���د تلقيناه عن الخالق األكبر. ولي���س االبتكار ف���ي الفن كذلك أن تط���رق موضوع ًا لم يسبقك إليه سابق ،بل االبتكار ه���و أن تتن���اول الموض���وع ال���ذي كان يبلى ف���ي أصابع السابقين ،فإذا هو يضيء في يديك بروح من عندك ،الكثير م���ن موضوعات «شكس���بير» نقل عن «بوكاشيو» ،وبعض «موليي���ر» عن «س���كارون». و«جوت���ه» ف���ي فاوس���ت عن «مارلو» .ومآس���ي «راسين» ع���ن مآس���ي «ايروبي���د». وايروبيد وس���وفوكل وأشيل ع���ن «هوميروس» وش���عراء الش���عب المجهولين المتنقلين باألساطير. * توفيق الحكيم مجلة «الكاتب المصري»
كثري من الكذب
يف مديح املجنون
���ذب أصح���اب العل���م على َ .. وك ُ الجاهليي���ن كثي���ر ال س���بيل إل���ى إحصائه أو اس���تقصائه .فهو ليس مقصورًا على رجال الدين وأصحاب التأوي���ل والمق���االت ورج���ال اللغة وأه���ل األدب ،وإنما ه���و يجاوزهم إل���ى غيرهم من الذين قالوافي العلم مهما يكن الموضوع الذي تناولوه. ألم���ر م���ا كان البْد ُع ف���ي العصر العباس���ي عن���د فري���ق م���ن الناس أن يرد كل ش���يء إل���ى العرب حتى األش���ياء الت���ي اس���تحدثت أو جاء بها المغلوبون م���ن الفرس والروم وغيرهم .وإذا كان األمر كذلك ،فليس النتحال الشعر على الجاهليين حد. طه حسين «في الشعر الجاهلي»
ف�ضل كلمة ال لم يكن بها قبل نزول القرآن إال ش���عب وم���ن المعلوم أن جزيرة العرب مث ً بدوي يعيش في صح���راء مجدبة يذهب وقته هباء ال ينتفع به ،لذلك فقد كانت العوامل الثالثة :اإلنس���ان ،والتراب ،والوقت ،راك���دة خامدة ،وبعبارة أصح مكدس���ة ال ت���ؤدي دورًا ما في التاريخ حتى إذا ما تجل���ت الروح بغار حراء كما تجلت من قبل بالوادي المقدس أو بمياه األردن -نش���أت من بين هذه العناصر الثالثة المكدس���ة حضارة جديدة فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهش���ت النبي األمي وأث���ارت معه وعليه العالم ،فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ حيث ظلت قرون ًا طوا ًال تحمل للعالم حضارة جديدة وتقوده إلى التمدن والرقي. ومم���ا هو جدير باالعتب���ار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياس���يين وال العلماء الفطاحل بل كانت بين أناس يتس���مون بالبس���اطة ورجال ال يزالون في بداوته���م غير أن أنظاره���م توجهت في تلك اللحظات إلى م���ا وراء أفق األرض فتجلت لهم آيات في أنفسهم ،وتراءت لهم أنوارها في اآلفاق.
كل العيب ،أن ال إن العيب َّ يكون في األم���ة غير مجنون واحد يحّدث الناس عن مآسي األرواح ،وأش���جان األفئدة، وأوطار النفوس. العي���ب كل العي���ب ،أن ُ يصب���ح الحب أس���طورة من األس���اطير ُتمثَّل ف���ي حديث قي���س مع لي�ل�اه ،وهو روح وسر الوجود. الدنيا ُّ إن العص���ر األم���وي كاد يضيع ضيعة أبدي���ة بعد أن قضت مكايد السياس���ة بتبديد ما ظهر فيه من آثار العقول، ولكن اهلل لط���ف بذلك العصر حين أبقى لنا منه ش���خصية ش���رقت تلك المجن���ون ،فقد ّ وغرب���ت حت���ى الش���خصية َّ عطرت أنفاس الش���عراء في َّ المشرقين والمغربين. ه���ل فيكم م���ن ق���رأ كتب الصوفية؟ أحس لهب إن كان فيكم من َّ تل���ك األنفاس الح���رار ،فهو يعرف أن «ليلى» و«المجنون» أصبح���ا رمزي���ن م���ن رموز اللوعة الروحية. ول���و أن قيس���ا وج���د من لعده الن���اس قيثارة ينصف���ه َّ ���دح بأش���واق ص رباني���ة َت ْ ُ المحبي���ن الربانيي���ن إل���ى الجوه���ر المكن���ون في صدر الوجود. د .زكي مبارك
مقدمة ديوان «مجنون ليلى»
مالك بن نبي
«شروط النهضة»
159
فرج بوالعشة
إلى ليبيا التي أعنيها!!. 1 في ليبيا ـ في مضارب البدو،هناك في أدغال الجبل األخضر ـ سقط رأسي .قبل خمسة وخمسين حوالً ،عندما كان االستقالل نصبت الفخ���اخ للحجل حابي ًا ف���ي زم���ن التراكوما والذب���اب. ُ رعيت أشكس الجديان في وديانها. الغبي في نجوع عشيرتي. ُ وأرضعتني أمي حليب الحمير للوقاية من السعال الديكي.. في ليبيا تلك.... عشش���ت في لحية س���يدي عمر البيض���اء كقرية تل���ك التي ْ فاضلة .التي في نصاعة تكوم الثلج على قبة ضريح «س���يدي الحمري» في ش���تاءات البدو القاسية .في مذاق كشكشة مخاض اللبأ. ليبي���ا ،التي روحها من روح ِس���يدي عم���ر ،وهو يقف أمام المشنقة الفاش���ية ،رانيا عبر قفار س���لوق إلى الجبل األخضر البعيد وقد غاب كل الرفاق: ـ ق���م بعمل���ك يا جالد .س���وف أعيش أطول م���ن كل أعمار الجالدي���ن على م���ر كل العصور التي كانت وس���تكون ،ما دام عمري بعمر كل حر. 2 تأخذني سنة من نوم «أركيومعرفي» في تجاويف كهف نبع أبولو 5الرقراق منذ األزل... تمر قرون إلى الوراء (فالش باك).. أفز إذ يهزني الجد الجلجمامي في الهزيع األخير: ّ ـ لدينا ضيوف. ألتحق به وهو يقود وراءه أوائل اإلغريق القادمين من جدب ُ المتحدبة. كريت إلى قمة هضبة شحات ِّ هناك نظر جدي إلى كبد السماء مشيرًا بإصبعه: ـ هنا ثقب الماء. وسوف تنبثق قورينا وفلسفة اللذة وسونسيوس .. 3 ليبيا التي أعنيه���ا ،أمازيغيوها ،الي���وم ،عالقون بنواحي الحية. جبلها الغربي ،بلسان منقرض ال تطاله أبجديات الحروف ّ بدوها متشبثون إلى ما ال نهاية بالرواية الهاللية المكرورة على ألس���نة الجدات أللف عام وعام عن أولئك المنبثقين من صفحة بالد األحقاف... جاءوا من غرب شعاب مرجان الروح الرخوة .من شرق قبائل العلهي���ن وظلمات الظم���أ .من جن���وب أرض العوالق وصغائر 160
األمور .ومن شمال سبل العيش المختنقة .فكان المخرج برقة، عندما نادى بوزيد في قومه: برق���ة برقة ل���وال رجالها .حي���ث األوراق لصيق���ة األوراق والسماء ال ُترى من أجنحة الطيور إال عند هجوعها في الغروب وشباع حباريها والعشب يبتس���م تحت األقدام فيما الماء يقهقه َ وجبات صقورها. إليها عبر بني هالل وبني س���ليم براري األحس���اء وصحراء ش���رق األردن وصعيد مصر الشاسع ،قبل أن تحط أقدامهم في الجبل األخضر العظيم .وكان مرعي قد مات في «الس���لوم» بداء السل الدراج وقتها كالزكام في يومنا. 4 ليبيا التي أعنيها، ليبيا الصفيح والوحل فيما مذيع الراديو الملكي يصيح: ها هو النفط يفيض ويتدفق. ثم إذ بمالزم أول انقالبي (لمعطيات واقعية س���حرية) يقفز على المذياع زاعق ًا باسم الحرية واالشتراكية والوحدة العربية. فتتكاث���ر المش���انق المتدلية بأعناق الفتية االس���تثنائيين ،في الساحات الجامعية والمالعب الرياضية ،ألنهم أحبوا ليبيا على طريقتهم خارج نص «األخ القائد». 5 ليبي���ا التي أعنيها ،ليبي���ا ذات صباح بال عقي���د .وال كتاب أخضر ،وال هم يحزنون ،بحيث أعود ألتنزه ذات عشية ربيعية بي���ن أطالل قورينا ،وأتجرع الماء البارد من مجرى نبع أبولو مباشرة بفمي ،وأسبح على الظهر في خليج رأس الهالل أوان الغروب في أغسطس/آب ،وأستعيد متعة العثور (مرة ثانية) على «جمة (النادرة) في أدغال وادي «الكوف» بعد عناء. في ليبيا غداة سقوط العقيد: أرتشف فنجان قهوة الصباح من يد أمي. س�ل�ام ًا عليك أيتها البرعصية الطيبة .مثل كل أمهات األرض الطيبات .س�ل�ام ًا عليك بعدد فصوص س���بحتك المجلوبة من مكة وهي تنزلق بين سبابتك وإبهامك تسع ًا وتسعين مرة في تكرار بال انقطاع حتى يهزمك النوم جالسة في مكانك. وس�ل�ام على أط�ل�ال قورينا ونبع كيرا الج���اري منذ األزل. س�ل�ام على «جمة الفتاة» ف���ي ندرتها المش���تهاة في تضاعيف المنفي ها صخور نهاية الوادي العظيم .س�ل�ام من ل���دن الفتى ّ هنا ،ف���ي بالد الجرمان ،معاقرًا البورب���ون والعزف بالكلمات على الكيبورد وما أنزل العقل من شكوك.