طلعنا عالحرية / العدد 59

Page 1

‫شهرية ثقافية مستقلة‬

‫العدد ‪59‬‬

‫مجزرة باريس‪..‬‬ ‫وتعقيدات المبادئ والسياسة‬

‫‪2015 / 11 / 17‬‬

‫تحمل كل مأساة معها فرصة الستعادة اإلنسان ّية‬ ‫املخطوفة لصالح السياسة‪ ..‬يحدث ذلك فقط عندما‬ ‫يكون املوقف من اإلرهاب موقفاً مبدئ ّياً متحرراً من‬ ‫الحسابات‪ .‬نحتاج اليوم إىل إدانة القتل‪ ..‬كل القتل‪ ،‬كل‬ ‫العنف‪ ،‬كل اإلرهاب‪..‬‬

‫مجلة مستقلة‪ ،‬تعنى بشؤون الثورة السورية‪ ،‬نصف شهرية‪ ،‬تطبع وتوزع‬ ‫داخل سوريا ويف عدد من مخيامت اللجوء والتجمعات السورية يف الخارج‬

‫ملف العدد‬ ‫السورية‬ ‫منظمات المجتمع المدني‬ ‫ّ‬

‫محور العدد‬


‫مجزرة باريس‪..‬‬ ‫وتعقيدات المبادئ والسياسة‬

‫‪2‬‬

‫افتتاحية بقلم عماد العبار‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫عام ثقيل م ّر عىل الفرنس ّيني‪ .‬بدأ بهجوم إرها ٍّيب‬ ‫ٌ‬ ‫عىل موقع صحيفة شاريل إيبدو وراح ضح ّيته‬ ‫‪ 12‬ضح ّية‪ ،‬وها هو ينتهي مبجزرة رهيبة ته ّز‬ ‫املجتمع الفرنيس ومل تعرف الحصيلة النهائ ّية‬ ‫لعدد ضحاياها حتّى اللحظة‪ ..‬املجزرة املر ّوعة‬ ‫يرى فيها كثريون حدثاً يعادل اعتداءات أيلول‬ ‫التي رضبت الواليات املتّحدة‪ ،‬فاألسلوب الذي‬ ‫ّمتت به العمل ّية والتنسيق عايل املستوى‪،‬‬ ‫واألسلحة املستخدمة‪ ،‬ومحاولة استهداف ملعب‬ ‫املشجعني بحضور‬ ‫يجمع عرشات اآلالف من‬ ‫ّ‬ ‫الرئيس الفرنيس مع شخصيات سياسية‪ ،‬كل‬ ‫هذه العوامل تجعل من املجزرة حدثاً استثنائ ّياً‬ ‫ّ‬ ‫بكل املقاييس‪ ..‬س ّيام ّ‬ ‫وأن املجتمعات األوروب ّية‪،‬‬ ‫املجتمع الفرنيس عىل وجه الخصوص‪ ،‬تغيل‬ ‫بحوارات عىل املستوى السيايس واالجتامعي‬ ‫حول مشاكل االندماج والهو ّية‪ ،‬وحول اآلثار‬ ‫االقتصاد ّية لظاهرة الهجرة‪ ..‬يف ّ‬ ‫ظل هذه األجواء‬ ‫التي كان فيها الوجود اإلسالمي يف فرنسا ما ّد ًة‬ ‫رئيس ّية يف الربامج االنتخاب ّية لألحزاب املتنافسة‪،‬‬ ‫تأيت املجزرة املر ّوعة لتعطي دفعاً هائ ًال لألحزاب‬ ‫اليمين ّية املتط ّرفة التي ح ّققت تقدماً كبرياً يف‬ ‫االنتخابات اإلقليم ّية األخرية‪..‬‬ ‫عىل املستوى الدويل‪ ،‬جاءت املجزرة يف ظرف‬ ‫بالغ التعقيد لتزيد من خلط األوراق عىل‬ ‫الساحة السور ّية بشكل خاص‪ .‬تقف فرنسا‬ ‫موقفاً واضحاً ض ّد تنظيم الدولة وتخوض مع‬ ‫الواليات املتحدة حرباً ضدّه يف سوريا‪ ،‬وض ّد‬ ‫فصائل السلف ّية الجهاد ّية يف عدّة مناطق من‬ ‫إفريقيا‪ ،‬وهنا ميكن القول إ ّنها كانت منذ فرتة‬ ‫طويلة مستهدفة من قبل هذه التنظيامت‬

‫وأنصارها يف أورو ّبا‪ ،‬سيام ّ‬ ‫وأن نسبة الجهاد ّيني‬ ‫من أصول فرنس ّية يف صفوف تنظيم الدولة هي‬ ‫األعىل من بني جميع الجنس ّيات الغرب ّية‪ ،‬ويبدو‬ ‫ّأن ازدياد الضغط عىل التنظيم وتل ّقيه رضبات‬ ‫يتوجه إىل هذه‬ ‫موجعة يف الفرتة األخرية جعله ّ‬ ‫النوعية من العمل ّيات يف العمق األورويبّ‪ ،‬األمر‬ ‫الذي يعيد الثقة بقدراته بني صفوف أتباعه‪،‬‬ ‫وهذا ما سيؤدّي أيضاً إىل زيادة عدد أتباعه‬ ‫يف دول أورو ّبا‪ ،‬وال يستبعد أن يؤدي ر ّد الفعل‬ ‫الخاطئ تجاه املتشدّدين يف أوروبا إىل زيادة‬ ‫والتوحش عند أتباع التنظيم‪ ،‬وبالتايل‬ ‫العصب ّية‬ ‫ّ‬ ‫ارتفاع منسوب العنف واإلرهاب‪..‬‬ ‫من جهة ثانية‪ ،‬تقف فرنسا موقفاً حازماً يف وجه‬ ‫نظام بشار األسد‪ ،‬وهي متّهمة من قبل رأس‬ ‫النظام بدعمها للمعارضة والعمل عىل إسقاطه‪،‬‬ ‫وليس ّ‬ ‫أدل عىل ذلك من الخروج الشامت لألسد‬ ‫بعد ساعات من حدوث املجزرة‪ ،‬وقد عمل األسد‬ ‫عىل الربط بني سياسة فرنسا يف دعمها ما أسامه‬ ‫اإلرهاب وبني تع ّرضها للعمل ّيات اإلرهاب ّية‪..‬‬ ‫األحداث األخرية أعطت األسد ونظامه أم ًال جديداً‬ ‫بالنجاة‪ ،‬فقد رأى مؤ ّيدوه أن هذا سيدفع فرنسا‬ ‫للتحالف مع الروس إلعطاء األولو ّية ملكافحة‬ ‫اإلرهاب وإعادة اإلعتبار لنظام األسد لكون‬ ‫وجوده رضورة يف هذه املرحلة‪ ..‬تتالقى إذاً‬ ‫مصالح األسد مع مصالح تنظيم الدولة يف املجزرة‬ ‫األخرية‪ ،‬وهي ليست امل ّرة األوىل التي تتالقى فيها‬ ‫مصالح الطرفني مبا يخدم متدّد التنظيم واستمرار‬ ‫النظام‪ ..‬ويكاد غالبية املراقبني ُيجمعون عىل ّأن‬ ‫مصلحة السور ّيني تل ّقت رضبة جديدة بفعل‬ ‫هذا الجنون‪ ..‬ليس يف الداخل فحسب‪ ،‬بل يف ّ‬ ‫كل‬ ‫مكان‪ ،‬ومعها مصلحة جميع املسلمني املقيمني يف‬ ‫أورو ّبا‪..‬‬ ‫يف ظل كل هذه التعقيدات ظهرت تعقيدات‬ ‫جديدة س ّببتها املواقف الحادّة من الجرمية‬

‫كلمة‬

‫للنشر أو مراسلة فريق التحرير‬

‫مقارنة باملواقف الهزيلة من الجرائم التي ترتكب‬ ‫يف مناطق أخرى من العامل‪ ،‬ويف مقدمتها جرمية‬ ‫اإلبادة التي يتع ّرض لها الشعب السوري من‬ ‫قبل أطراف عديدة‪ ..‬الالفت كان حجم التضامن‬ ‫العاملي مع الضحايا وعائالتهم ومع املجتمع‬ ‫الفرنيس ككل‪ ،‬دول عديدة ز ّينت ساحاتها بالعلم‬ ‫الفرنيس‪ ،‬من أمريكا إىل املكسيك إىل أسرتاليا‬ ‫ومعظم دول أوروبا والعامل‪ ..‬وهو تفاعل إنساين‬ ‫إيجايب وال ّ‬ ‫شك‪ .‬الالفت أيضاً تفاعل كثريين يف عاملنا‬ ‫العريب مع الحدث‪ ،‬يف الوقت الذي مل يحصل فيه‬ ‫عرشات اآلالف من الضحايا يف سوريا عىل معشار‬ ‫هذا التأييد‪ ،‬وهنا أذكر بكثري من األىس مجزرة‬ ‫الكياموي التي اكتفى العامل الغريب مبعاقبة الفاعل‬ ‫من خالل سحب أداة الجرمية من يده وإطالقه‬ ‫الستكامل مه ّمته الدمو ّية باستخدام الرباميل! ويف‬ ‫سوريا نفسها هناك من ش ّكك مبسؤول ّية النظام‬ ‫يسجل تعاطفه مع‬ ‫عن مجزرة الكياموي‪ ،‬ومل ّ‬ ‫الضحايا العتبارات عدّة تتعلق بانتامءات سياس ّية‬ ‫أو طائفية أو إثن ّية‪ ..‬وهناك من يف ّرق بني ضحايا‬ ‫إرهاب وإرهاب!‬ ‫وضحايا وبني‬ ‫ٍ‬ ‫تحمل كل مأساة معها فرصة الستعادة اإلنسان ّية‬ ‫املخطوفة لصالح السياسة‪ ..‬يحدث ذلك فقط‬ ‫عندما يكون املوقف من اإلرهاب موقفاً مبدئ ّياً‬ ‫متحرراً من الحسابات‪ .‬نحتاج اليوم إىل إدانة‬ ‫القتل‪ ..‬كل القتل‪ ،‬كل العنف‪ ،‬كل اإلرهاب‪..‬‬ ‫العنف باسم اإلسالم‪ ..‬العنف باسم الدميقراطية‪..‬‬ ‫العنف باسم القومية العربية‪ ..‬العنف باسم‬ ‫القومية الكرد ّية‪ ..‬العنف باسم العلامن ّية‪ ..‬باسم‬ ‫اإللحاد‪ ..‬باسم الحسني وزينب‪ ..‬باسم اليهودية‬ ‫واملسيحية‪ ..‬باسم البوذية‪ ..‬باسم الشيوعية‪..‬‬ ‫باسم أو بدون اسم‪ ..‬أو العنف ملج ّرد العنف‪..‬‬ ‫من يرتدّد يف إدانة العنف العتبارات تتع ّلق‬ ‫بانتامئه للجامعة املدانة فهو بحاجة إىل عالج‬ ‫نفيس‪ ..‬هو مرشوع إرهايب ببساطة‪..‬‬ ‫تفاعل معنا عبر صفحاتنا على اإلنترنت‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫‪facebook.com/freeraise‬‬

‫مجلة نصف شهرية تعنى بشؤون الثورة‬ ‫تطبع وتوزع داخل املدن والقرى السورية‬ ‫ويف بعض مخيامت اللجوء‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫ليىل الصفدي‬

‫معاون رئيس التحرير‬ ‫نصار‬ ‫أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫املحرر الثقايف‬ ‫رامي العاشق‬

‫محرر القسم الكوردي‬ ‫مريال بريوردا‬

‫زمالء مختطفون يف الغوطة الرشقية‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫منظمات المجتمع المدني‪ ..‬الثورة الهادئة‬

‫‪3‬‬

‫العمار‬ ‫محمد‬ ‫د‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫العدد ‪- 59 -‬‬ ‫‪2015 / 11 / 17‬‬

‫منظامت املجتمع املدين‪:‬‬ ‫شبكة من املنظامت التطوعية املستقلة التي متأل‬ ‫املجال العام بني األرسة والدولة‪ ،‬وتعمل عىل تحقيق‬ ‫املصالح املادية واملعنوية ألفرادها‪ ،‬والدفاع عن هذه‬

‫‪- 2‬التعريف من خالل الوظيفة‪:‬‬ ‫فبحسب الوظيفة التي تقوم بها منظامت املجتمع‬ ‫املدين من خالل التعريف‪ ،‬نستطيع أن نقول‪ :‬إن‬ ‫منظامت املجتمع املدين هي فرق مجتمعية متطوعة‬ ‫تقوم بحراسة الفضاء العام من استبداد ذوي السلطان‬ ‫وأصحاب النفوذ‪ ..‬إنها صوت الجمهور يف مواجهة نفوذ‬ ‫السلطة‪ ،‬إنها حالة من الثورة الهادئة الدامئة؛ فهي‬ ‫منظامت تطوعية‪ ،‬مستقلة‪ ،‬غري إرثية‪ ،‬وظيفتها رقابية‪،‬‬ ‫رصدية‪ ،‬اقرتاحية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬ال تطمح للسلطة‪ ،‬وبذلك‬ ‫تخرج األحزاب من عدادها‪ ،‬ألنها معنية بالسلطة‪.‬‬ ‫وبحسب معرفتنا بتاريخ املجتمع اإلسالمي فإن الفضاء‬ ‫العام فيه كان محروساً بالفريضة السادسة‪ ،‬فريضة األمر‬ ‫باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬التي صنفها الفقهاء يف‬ ‫فروض الكفاية‪ ،‬واعتربوها فريضة اجتامعية مجتمعية‪،‬‬ ‫وقد كان املجتمع النبوي مجتمعاً مدنياً حياً‪ ،‬يقوم‬ ‫بهذه الوظيفة بكليته‪ ،‬وكان الفضاء العام متاحاً‪ ،‬ال‬ ‫يحول دونه حائل وال يتهيبه متهيب‪ .‬فمعركة بدر حدد‬ ‫موقعها رجل من املسلمني‪ ،‬ومعركة أحد حدد مكانها‬ ‫الشباب املتحمس‪ ،‬وصلح غطفان يوم الخندق كان‬ ‫أصحاب الفصل فيه هم أهل املدينة‪ .‬بينام معاهدات‬

‫البقية في صفحة ‪15‬‬

‫ملف العدد‬

‫نحن أبناء ثقافة تتعامل مع املفاهيم واملصطلحات‬ ‫واألحداث من خالل اإلسمية أو الشعاراتية‪ ،‬والشائعة‪،‬‬ ‫والرعب أو هوس االضطهاد وروح الهزمية‪ ،‬وهذا يشوه‬ ‫صورة األشياء واألفكار يف أذهاننا ويعيق تواصلنا مع‬ ‫العامل‪.‬‬ ‫ولذلك معظم املفاهيم املعارصة إشكالية مشوشة‪،‬‬ ‫ومفهوم منظامت املجتمع املدين له من ذلك نصيب‬ ‫كبري‪ ،‬ولذلك سنقاربه‪ ،‬من ناحيتني‪ ،‬ناحية املفهوم أو‬ ‫املبنى‪ ،‬وناحية املضمون أو املعنى‪.‬‬ ‫‪- 1‬التعريف من خالل املصطلحات‪:‬‬ ‫املنظمة مجموعة من األفراد لهم هدف معني‪،‬‬ ‫يستخدمون طريقاً أو أكرث للوصول إليه‪ .‬فمث ًال هناك‬ ‫منظامت إنسانية‪ ،‬منظامت بيئية‪ ،‬منظامت عاملية‪،‬‬ ‫الخ‪ .‬نحن يف سوريا ال نعرف إال منظمتي الطالئع‬ ‫والشبيبة!!‪ .‬املنظمة شخصية اعتبارية مستقلة عن‬ ‫مكونيها‪ ،‬ويديرها مجلس منتخب‪ .‬وتنقسم املنظامت‬ ‫إىل نوعني حكومية وغري حكومية بالنظر إىل األعضاء‬ ‫املكونني للمنظمة‪.‬‬ ‫املجتمع‪ :‬وهو مجموعة من األفراد يعيشون يف موقع‬ ‫معني تربط بينهم شبكة عالقات ثقافية واجتامعية‪،‬‬ ‫يسعى كل منهم عربها لتحقيق مصالحه واحتياجاته‪.‬‬ ‫ويتشارك مع اآلخرين همومهم واهتامماتهم مبا‬ ‫يساهم يف تطوير ثقافة ووعي مشرتك يطبع املجتمع‬ ‫وأفراده بصفات مشرتكة تشكل شخصية هذا املجتمع‬ ‫وهويته‪.‬‬ ‫املجتمع (املدين)‪ :‬أو مجتمع املدينة‪ ،‬يجمع العرب‬ ‫الباحثون يف مفهوم املجتمع املدين عىل أصوله الغربية‪،‬‬ ‫وهذا اإلجامع سببه غياب البحث وغلبة النقل ووحدة‬ ‫املنقول عنه‪ .‬بينام تظهر مراجعة متبرصة للتاريخ‬ ‫القريب للحضارة اإلسالمية‪ ،‬أن مصطلح مدينة ومدين‬ ‫ولد يف تاريخ الحضارة العربية اإلسالمية‪ ،‬بعيد هجرة‬ ‫النبي وتأسيس دولته الحديثة يف املدينة‪ ،‬فدولة املدينة‬ ‫أنشئت يف حارضة تسمى يرثب‪ ،‬النبي سامها املدينة‪،‬‬ ‫ذلك أنه أسس يف هذه الحارضة مدينة حديثة بدستور‬ ‫مكتوب قائم عىل التعدد واالختالف والتعايش وقد‬ ‫كانت هذه املفاهيم بكرا يف ذلك التاريخ؛ فاملجتمع‬ ‫املدين بحسب تجربة املدينة‪ :‬هو مجتمع قائم عىل‬ ‫الحرية والعدالة والتعدد وقبول االختالف وإدارته‪،‬‬ ‫واملساواة بني أفراده بغض النظر عن انتامءاتهم‬ ‫العقائدية والفكرية‪ .‬مجتمع محكوم باإلقناع والقانون‪،‬‬ ‫فهو تعبري طوعي عن إرادة الناس الحرة‪.‬‬ ‫فدولة املدينة أسست ببيعتني‪ ،‬ووضعت أسس الحكم‬ ‫بعقد مكتوب عميل هو دستور املدينة الذي وصفه‬ ‫أحدهم‪ ،‬بأنه أول دستور مدين يف التاريخ‪ ،‬وتجد أحدنا‬

‫من غري فهم وال بصرية‪ ،‬يتحدث عن جاك روسو والعقد‬ ‫االجتامعي (النظري) بني األمة والحاكم!‬ ‫وحيث أننا ال نستطيع أن نعرف قيمة ما عندنا حتى‬ ‫يتحدث عنه الغربيون‪( ،‬فابن خلدون القامة الفارعة‬ ‫يف علم االجتامع مل نتعرف عليه إال عندما تحدث‬ ‫الغربيون عن عظمة انجازه)‪ ،‬مل يخطر يف بالنا معنى‬ ‫مدينة وعالقة ذلك باملجتمع املدين‪ ،‬أو املديني‪.‬‬ ‫املدينة أو املدنية كانت لحظة فارقة بني حارضة‬ ‫محكومة بالقانون‪ ،‬متارس التعدد وتعيش التسامح مع‬ ‫املختلف‪ ،‬وتوزع الحقوق والواجبات بغض النظر عن‬ ‫االنتامء الديني‪ ،‬وبني فضاء فوضوي تحكمه رشيعة‬ ‫القوة وقانون الغاب‪ .‬إننا نؤكد اليوم من خالل معرفتنا‬ ‫بالتاريخ اإلنساين‪ ،‬أن الحضارة اإلسالمية دُشنت‬ ‫مبجتمع مدين‪ ،‬بينام كان املجتمع املدين يف الحضارات‬ ‫األخرى مثرة معاناة وآالم مريرة‪ ،‬فاملجتمع املدين هو‬ ‫املجتمع الذي يكون فيه الجمهور صاحب الكلمة يف‬ ‫كل ما يتعلق باألمة ومصائرها‪ ،‬وهذا كان امللمح األهم‬ ‫يف دولة املدينة التي كانت محكومة باملجتمع املدين‪،‬‬ ‫معني بأمر هذه األمة‪،‬‬ ‫الذي كان كل فرد من أفراده ُّ‬ ‫وكانت لحظة تكليف الحاكم هي لحظة الحقيقة يف‬ ‫الصدّيق والفاروق‪.‬‬ ‫هذا السياق كام عرب عنها ّ‬

‫املصالح يف إطار االلتزام بقيم ومعايري االحرتام والرتايض‬ ‫والتسامح الفكري والسيايس‪ ،‬والقبول بالتعددية‬ ‫واالختالف‪ ،‬واإلدارة السلمية للرصاعات واالختالفات‪.‬‬


‫‪44‬‬

‫السورية‬ ‫منظمات المجتمع المدني‬ ‫ّ‬ ‫بين الكثرة والفاعلية‬ ‫بسام األحمد‬

‫العدد ‪53 -‬‬ ‫‪2015‬‬ ‫‪2015/ /11‬‬ ‫‪8 // 217 - 59‬‬

‫العدد‬ ‫ملف‬ ‫لقاءات‬

‫قيل يف إحدى تعريفات املجتمع املدين ّبأنه يشري إىل‬ ‫“مجموع املبادرات واملجموعات الناشطة خارج إطار‬ ‫الحكومة”‪ ،‬وبطيبعة الحال تعترب منظامت املجتمع‬ ‫املدين واحدة من هذه املجموعات أو الفعاليات التي‬ ‫ُتبنى عىل رشط مهم يتمثل يف تعبريه عن تطلعات أو‬ ‫اهتاممات مجموعات أو مكونات اجتامعية يف بلد‬ ‫ما‪ ،‬بغض النظر عن الظروف التي مير به ذلك البلد‪.‬‬ ‫ويف أحيان كثرية قد تقوم تلك املنظامت باملشاركة‬ ‫يف تحديد مسار سياسات عا ّمة سواء عىل املستوى‬ ‫الوطني واملحيل ‪ ،‬أو عىل املستوى اإلقليمي ‪ ،‬وحتى‬ ‫عىل املستوى الدويل؛ وذلك عن طريق أدوات عديدة‬ ‫تلجأ إليها تلك املنظامت ‪ ،‬سواء كانت حمالت منارصة‬ ‫ودعم ‪ ،‬أو حشد رأي عام وتسخري موارد من أجل‬ ‫أهداف محددة‪.‬‬ ‫من الصعب النظر يف طبيعة وبدايات فاعلية املجتمع‬ ‫املدين السوري بصورته العامة ‪ ،‬أو من خالل املنظامت‬ ‫والجمعيات واملبادرات التي أفرزها بعد آذار ‪، 2011‬‬ ‫دون األخذ بعني االعتبار البيئة القمعية التي كانت‬ ‫تسود الساحة السورية العا ّمة قبل ذلك التاريخ‪،‬‬ ‫أو القمع الذي رافق االنتفاضة الشعبية من قبل‬ ‫األجهزة األمنية بعد هذا التاريخ‪ ،‬والتي تحولت فيام‬ ‫بعد إىل حرب شاملة أدّت إىل خلق ظروف جديدة‬ ‫تتميز بصعوبة أكرب يف العمل املنظم املستقل أو‬ ‫املحايد أو املوضوعي‪ .‬فأصبحنا يف مواجهة ظرفني‬ ‫مه ّمني وأساسيني كان لهام األثر األكرب يف رسم مالمح‬ ‫معظم منظامت املجتمع املدين السورية‪ ،‬أولهام ق ّلة‬ ‫الخربة واملامرسة بعد سنني طويلة من حكم الدولة‬ ‫السورية “الحديثة”‪ ،‬التي كانت محكومة بعقلية‬ ‫الحزب الواحد‪ ،‬حزب البعث العريب االشرتايك‪ .‬وثانيهام‬ ‫ وهواألكرث قساوة ‪ -‬أن البدء مبامرسة العمل املدين‬‫كان ضمن ظروف أقرب إىل االستثنائية‪ ،‬وهي ظروف‬ ‫الحرب والنزاع يف سوريا ‪ ،‬والتي أدت إىل كارثة‬ ‫إنسانية تعترب األسوأ منذ عقود‪.‬‬ ‫لكن وبالرغم من ذلك كان باإلمكان‪ ،‬واستناداً إىل‬ ‫حجم التمويل املتدفق عىل املنظامت السورية‪ ،‬أن‬ ‫يكون املجتمع املدين أكرث قو ًة ومتانة وفعالية مام‬ ‫هو عليه‪ ،‬وأكرث إرتقا ًء بعمله ‪ ،‬وأكرث تنفيذاً وتطبيقاً‬ ‫لألهداف والرؤى والخطط التي نشأ من أجلها‪.‬‬ ‫بقليل من التجاوز ميكن تشبيه ظهور معظم‬ ‫املنظامت السورية التي بدأت يف العام ‪2011‬بكونها‬

‫بدأت عىل شاكلة مبادرات فردية أو من عدّة أفراد‬ ‫(التنسيقيات مثاالً) نتيجة حاجة مجتمعية فرضتها‬ ‫االحتجاجات واملظاهرات اليومية ‪ .‬ومن نافلِ‬ ‫القول أن مقتضيات العمل الثوري برمتها وتحديداً‬ ‫يف ش ّقه األمني ‪ ،‬فرض عىل مؤسيس تلك املبادرات‬ ‫واملجموعات االعتامد عىل الدائرة املقربة منهم‬ ‫لغايات أمنية (األخ والصديق واملعارف وغريهم)‪ ،‬فلم‬ ‫يتم األخذ بعني االعتبار ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬الكفاءة‬ ‫أو املقدرة أو حتى التف ّرغ للعمل يف ج ّو مؤسسايت‬ ‫تم االكتفاء‬ ‫لدى معظم املبادرات‪ ،‬ويف أحايني كثرية ّ‬ ‫باالعتامد عىل مبدأ الوالء كسبيل وحيد يف سبيل‬ ‫الحفاظ عىل مكتسبات عىل مستويات مختلفة‪ ،‬سواء‬ ‫الشخصية منها أو “املنظامتية الض ّيقة”‪ .‬ورسعان ما‬ ‫بدأت سلبيات هذا الجانب بالظهور بعد بضعة أشهر‬ ‫من العمل اليومي واملضني يف سوريا وتحت الرشوط‬ ‫االستثنائية املشار إليها آنفاً‪.‬‬ ‫وحتى أواخر العام ‪2011‬كانت معظم املبادرات‬ ‫واملجموعات الناشئة تنشط يف الداخل السوري‬ ‫بشكل أسايس‪ ،‬إ ّال ّأن املوجة األوىل من املواطنني‬ ‫السوريني الذين اضطروا للنزوح من منازلهم واللجوء‬ ‫إىل دول مجاورة‪ ،‬إضافة إىل عدد ال بأس به من‬ ‫النشطاء‪ ،‬سمح شيئاً فشيئاً ملعظم املبادرات بتغيري‬ ‫كبري يف بعض التكتيكات‪ ،‬فمث ًال بدؤوا بتكليف أناس‬ ‫للحديث باسمهم يف الخارج‪ ،‬واالختالط مع املنظامت‬ ‫الدولية األخرى والحكومات املختلفة التي أعلنت‬ ‫دعمها للحراك يف سوريا‪ ،‬ويبدو أ ّنها كانت إحدى‬ ‫مراحل بدء طلب التمويل ّ‬ ‫املنظم من مصادر مختلفة‪،‬‬ ‫حيث بزغت تزامناً مع هذا املنعطف تحدّيات‬ ‫جديدة متعلقة برشوط االستدامة والرؤية الواضحة‬ ‫واألهداف التي تتعلق بسبب نشوء معظم املبادرات‬ ‫أو املنظامت‪ .‬وأيضاً كان لهذا األمر آثار إيجابية‬ ‫أخرى عديدة متثلت يف جزء كبرية منها باإلحتكاك‬ ‫وتم اإلطالع عىل‬ ‫مع أناس وفعاليات من دول أخرى ّ‬ ‫تجارب عديدة‪ ،‬حيث تلقفت العديد من املنظامت‬ ‫هذه الفرص من أجل تطوير نفسها سواء عىل صعيد‬ ‫الهيكلية والعمل أو عىل صعيد الرؤية واالستدامة‪،‬‬ ‫عىل عكس منظامت أخرى كثرية ترسخت فيها سلطة‬ ‫فرد أو بعض أفراد متنفذين (واألمثلة هنا بالعرشات)‪،‬‬ ‫وبدأت (االنشقاقات) فيها بشكل عامودي ‪ ،‬متناسني‬ ‫الهدف األول واألسمى من نشأتها ‪.‬‬ ‫يف معرض الحديث عن املعوقات التي تواجهها‬ ‫منظامت املجتمع املدين السورية عشية دخول‬

‫االنتفاضة الشعبية عامها الخامس‪ ،‬ال بد من‬ ‫االعرتاف ّأن قيوداً ثقيلة جداً تثقل كاهل العرشات‬ ‫من املنظامت ورمبا املئات‪ ،‬وذلك مقارنة مع حجم‬ ‫العمل والواجبات أو الدور املنوط بها يف هذه الفرتة‪،‬‬ ‫أخص بعد مغادرة أكرث من نصف السوريني‬ ‫وبشكل ّ‬ ‫لبالدهم‪ ،‬وتدمري البنى التحتية يف الدولة بشكل شبه‬ ‫كامل‪ ،‬وانتشار نقاط االشتباك والقتال بشكل غري‬ ‫قابل للحرص ما بني النظام ومجموعات املعارضة‬ ‫املس ّلحة‪ ،‬وتنظميات مختلفة االنتامء واألهداف‪،‬‬ ‫والتي بلغت بحسب إحصائية ألحد لجان التحقيق‬ ‫أكرث من ‪1400‬مجموعة منذ بدء النزاع‪ ..‬اندثر بعضها‬ ‫‪ ،‬واندمج بعضها اآلخر وفق اعتبارات عديدة ال يتسع‬ ‫الوقت للحديث عنها‪.‬‬ ‫ولكن وبرغم تلك املعوقات أو الظروف املوضوعية‬ ‫التي وقفت حائال دون تشكيل منظامت مدنية‬ ‫قو ّية‪ ،‬ميكن القول إن العوامل الذاتية ال تقل دوراً يف‬ ‫إضعاف املنظامت السورية؛ فام الذي مينع عىل سبيل‬ ‫املثال أن تتمتع جميع املنظامت السورية املدنية‬ ‫وتتخصص يف مواضيع محددة ‪ ،‬وما‬ ‫بأهداف واضحة‬ ‫ّ‬ ‫الذي مينعها من كتابة تخطيطات اسرتاتيجية لتنفيذ‬ ‫حقيقي لرؤاها وأهدافها‪ ،‬وما الذي مينع من خضوعها‬ ‫ألنظمة داخلية واضحة وتو ّزع واضح يف املهام ومراقبة‬ ‫للعمل اليومي أواالستعانة بخربات يف هذا املجال؟!‬ ‫مع العلم أن آالف الدورات التدريبية عقدت خالل‬ ‫السنوات املاضية آلالف السوريني وخاصة يف دول‬ ‫الجوار‪ .‬وقد يقول قائل ههنا مرة أخرى إن ظروفاً‬ ‫استثنائية أخرى أضيفت عىل واقع هذه املنظامت‪،‬‬ ‫فمن عدم االستقرار وصعوبة التسجيل‪ ،‬إىل صعوبات‬ ‫جديدة برزت مؤخراً منها عمليات التحويل املالية‬ ‫للسوريني‪ ،‬والتي لعبت وما زالت تلعب دوراً يف‬ ‫ضعف املنظامت السورية‪.‬‬ ‫إ ّال أن املراقب املوضوعي لعمل الكثري من املنظامت‬ ‫عن كثب‪ ،‬سوف يدرك فداحة واقع العرشات من‬ ‫املنظامت السورية متمثال يف حاالت الهدر والفساد‬ ‫املايل واإلداري التي تعصف بها ‪ ،‬ويف حاالت الركود‬ ‫والعقم وعدم القدرة عىل تطوير حقيقي يف عملها‬ ‫وآلياتها‪ ..‬لتتحول تلك املنظامت من وسائل لتحقيق‬ ‫(أهداف نبيلة)إىل غايات ُتقصد لذاتها‪ ..‬فتجد‬ ‫عرشات املنظامت التي تعمل يف منطقة واحدة عىل‬ ‫املوضوع ذاته‪ ،‬لتصبح وسائل ومنابر أشبه باألحزاب‬ ‫السياسية يف فرتة ما قبل الثورة ولتتحول إىل عبء‬ ‫يجب التخلص منه أو تطويره عاج ًال أم آج ًال‪.‬‬


‫األدلجة الفكرية وخطورتها على‬ ‫مفاهيم المجتمع المدني‬ ‫سردار مال درويش‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫ملف العدد‬

‫يتخذ املجتمع املدين اعتيادياً التوازن بني السلطة من‬ ‫طرف واملؤسسات الخاصة من طرف أخر‪ ،‬كام يساهم‬ ‫يف تقدم وتطور وازدهار املجتمع‪ ،‬هذا الظاهر يف دولٍ‬ ‫تحرتم الفرد وحقوق اإلنسان‪ ،‬ولديها فضاء واسع أو‬ ‫أقل من الحريات واحرتام املواطن‪ ،‬لكن يف ظل حكم‬ ‫شمويل مثل النظام السوري‪ ،‬لن يرى املجتمع املدين‬ ‫النور‪ ،‬األمر الذي كان واقعاً عىل مر عقود‪.‬‬ ‫مع بداية الحراك الثوري يف آذار ‪ 2011‬خلق‬ ‫السوريون املتضامنون مع الثورة خاصة من فئة‬ ‫الشباب‪ ،‬تجمعات متفرقة االختصاصات ملواكبة‬ ‫الحراك‪ ،‬وتنوعت بني أعامل مختلفة ملجاراة الواقع‪،‬‬ ‫مثلت شيئاً أشبه مبؤسسات أو تجمعات ستنتقل تباعاً‬ ‫لشكل جامعات مدنية لخدمة الواقع‪.‬‬ ‫مع انهيار الشكل الحقيقي للدولة السورية‪ ،‬ونقص‬ ‫احتياجات السوريني وانقسام املجتمع عىل الجغرافية‬ ‫السورية بني مناطق خاضعة لجهات متعددة‬ ‫التسميات واألفكار‪ ،‬كان تنظيم عمل تلك التجمعات‬ ‫املشتتة وبداية مأسستها واجباً‪ ،‬للعمل عىل خلق‬ ‫أرضية مجتمع مدين بسيط قادر عىل مواكبة‬ ‫التطورات املتسارعة‪ ،‬واإلعداد لبيئة مجتمعية تساهم‬ ‫أيضاً يف بناء سوريا املستقبل‪ ،‬كام كان األمل كبرياً بأن‬ ‫تبقى قيادة تلك التجمعات يف يد الشباب الذين هم‬ ‫العمود الفقري ألي مجتمع‪.‬‬ ‫ألن الحديث يتعلق بواقع منظامت املجتمع املدين‬ ‫السورية القامئة‪ ،‬ولعدم وصول السوريني لثامر ما‬ ‫خرجوا من أجله‪ ،‬وجب التطرق والحديث عن عدم‬ ‫فهم كثري من الشباب السوري للمعنى الحقيقي‬ ‫لجوهر فكرة املجتمع املدين‪ ،‬الذي اختلط لديهم‬ ‫مبفاهيم سياسية أكرث من املاهية‪ .‬األمر الذي شكل‬ ‫تأثرياً سلبياً يف منط املجريات‪ ،‬وانعكست نتائجه‬ ‫السلبية عىل ظروف الناس املحتاجني يف نهاية األمر‪،‬‬ ‫الناس الذين ما انفكوا يترضرون من تناقضات الواقع‬ ‫والظرف السوري ومتغرياته عرب الكيانات الحاكمة‬ ‫املختلفة واملتغرية بعض اليشء‪ ،‬والتي اتبعت سياسة‬ ‫الوالء مقابل العيش‪.‬‬ ‫ليس خافياً أن آلة القمع التي استُخدمت ضد‬ ‫السوريني لعبت دوراً كبرياً يف عدم إيجاد فسحة‬ ‫قياسية المتحان واختبار العمل الحقيقي للسوريني‪،‬‬ ‫لكن بعد خمسة أعوام من الحراك‪ ،‬وما أفرز عن‬ ‫مؤسسات وإدارات وتجمعات‪ ،‬كان كافياً إلدراك‬ ‫مفهوم املجتمع املدين مبفاهيمه النظرية عىل األقل‪،‬‬ ‫وعزله عن اإليديولوجية الفردية املزروعة يف العقول‪.‬‬ ‫ليس من الغرابة كل ما ذكر آنفاً داخل املؤسسات‬ ‫السورية الحديثة‪ ،‬فيكفي أن تكون حارضاً يف لقا ٍء‬

‫يجمع عدة منظامت سورية تعمل يف مجال املجتمع‬ ‫املدين باختصاصات مختلفة (إنسانية وإغاثية وتنموية‬ ‫ومجتمعية) يك تصل لنتيجة أن السياسة والفكر‬ ‫يسيطران عىل العقل الجمعي لدى السوريني؛ فربغم‬ ‫قيام تلك الجهات مبجهودات كبرية لخدمة السوريني‬ ‫مقارنة مبعادلة الصفر أوعدم الوجود السابقة ما‬ ‫قبل الحراك‪ ،‬إال أن غالبية ممثيل تلك املنظامت‬ ‫عىل األقل ال تخلو أحاديثهم من إظهار طابع سيايس‬ ‫مؤدلج‪ ،‬ليس بعيدا عن االرتباط بالثورة فحسب بل‬ ‫مشحون بروح منافية لعمل املجتمع املدين‪ ،‬متناسني‬ ‫املسؤولية الفردية تجاه املجتمع وهو ما يتطلبه‬ ‫عمل املتطوعني يف مجال املجتمع املدين‪ ،‬حتى إن‬ ‫املشاورات مل تتجنب إضفاء الطابع الفكري والتشنج‬ ‫عىل النقاشات وتحويرها‪ ،‬يف محاوالت تعترب سلبية‬ ‫بتحييد جهات تتضامن مع أفكارهم حتى لو كانت‬ ‫األخرية ال تعمل لصالح حاجات املجتمع األساسية‪،‬‬ ‫األمر الذي ينايف صلب العمل‪ ،‬وبدل توجيه مدخراته‬ ‫أي العمل‪ -‬نحو اإلنسان قبل املوقف والفكرة‪ ،‬تراهم‬‫يترسعون بالتميز عىل أي صعيد كان‪ ،‬دون النظر إىل‬ ‫أن أكرث املترضرين من الحرب السورية القامئة هم‬ ‫األهايل أنفسهم‪ ،‬الذين تسريهم التغريات السياسية‬ ‫واإليدولوجية بحسب الجهات املسيطرة عىل األرض‪.‬‬ ‫مل يدرك غالبية العاملني ضمن مجال املجتمع املدين‬ ‫حتى اليوم‪ ،‬أن فردية العمل ال تشكل أساساً لبناء‬ ‫مجتمع سليم خاص ًة يف حال كان األمر متعلقاً بشكل‬ ‫الدولة‪ ،‬ما يتطلب العمل بفكر جمعي وإزالة انعدام‬ ‫الثقة بني تلك املؤسسات‪ ،‬فربغم وجود املئات من‬ ‫منظامت املجتمع املدين التي تعمل من أجل املجتمع‬ ‫السوري مع األخذ بعني االعتبار أن الدعم الحاصل‬ ‫لتلك املنظامت ال يؤمن لها استمرارية أبدية يف العمل‪،‬‬ ‫ويف حال إزالة مفهوم األنانية بعض اليشء‪ ،‬والعودة‬ ‫لتجارب واقع دول تعرضت لكوارث‪ ،‬سنالحظ أن‬ ‫فردانية العمل زادت من عبء املجتمع أكرث من‬ ‫نفعه‪ ،‬وهذا ما سارت غالبية منظامت املجتمع املدين‬ ‫السورية عليه يف الوقت الحايل عىل األقل‪.‬‬ ‫يالحظ عىل مدى أيام يف لقاءات تلك املنظامت غياب‬ ‫أو افتقاد الدراية والوعي مبتغريات الواقع السوري يف‬ ‫كافة نواحيه‪ ،‬وهذا رمبا يعود لعدم وجود ثقافة صلبة‬ ‫بني السوريني أنفسهم‪ ،‬بل هناك وجهات نظر مبنية‬ ‫مسبقاً ال تختلف عن رؤية السياسيني الذين تبنوا منذ‬ ‫اليوم األول آلية «التناظر التاريخي»‪ ،‬حتى إن مفهوم‬ ‫الحرية الشخصية يف عمل منظامت املجتمع املدين مل‬ ‫يظهر يف العمل عىل أنه تطوع اختياري تجاه خدمة‬ ‫الناس والعطاء لهم‪ ،‬وكأن منظامت املجتمع املدين‬ ‫السورية مل تت َّنب الفهم الليربايل ملعنى املجتمع املدين‪،‬‬ ‫بل طبقت النظرة املاركسية برغم عدم وجود سلطة‬

‫شيوعية‪ ،‬فهم أنفسهم أفرغوا مضمونه باأليديولوجية‬ ‫التي ال يستطيع السوريون الخروج منها والعمل‬ ‫مبنطق مع الواقع أو التمييز بني مهنية العمل والفكر‬ ‫الذي يحملونه‪ ،‬األمر الذي ال يبرش بالخري ملستقبل‬ ‫املجتمع‪ ،‬املطلوب من تلك املنظامت العمل لهدف‬ ‫سام يف خدمة السوريني ككل‪ ،‬ال النظر أن تلك الجهة‬ ‫ٍ‬ ‫موالية واألخرى معارضة أو رمادية أو تلك تتفق مع‬ ‫رؤيتنا واألخرى ال تتفق‪ ،‬فال أحد يستطيع اليوم فرز‬ ‫الواقع السوري بحسب الفكر‪ ،‬لكرثة الجهات التي‬ ‫تدير الجغرافية السورية‪ ،‬كام ال يجب الحكم عىل‬ ‫البقعة الجغرافية بسبب الجهة التي تدير تلك البقعة‪.‬‬ ‫إن إضفاء الفكر الفردي عىل العمل الجمعي‪ ،‬مبحاولة‬ ‫دس األفكار من قبل جهات من املفرتض أن تلعب‬ ‫ّ‬ ‫دوراً مؤثراً لتطوير املجتمع‪ ،‬يشكل عدا ًء مجتمعياً‬ ‫أكرث من دمج املجتمع داخل أطر توصلها ملفاهيم‬ ‫الحرية والكرامة والدميقراطية‪ ،‬ويف الحالة السورية‬ ‫بدل العمل عىل لعب دور الريادة يف إزالة الشوائب‬ ‫التي تراكمت عىل مر العقود‪ ،‬ستشكل هذه التفرقة‬ ‫جداراً من الصعب إزالته‪ ،‬خاصة يف ظل الرصاع‬ ‫الطائفي واملذهبي والقومي القائم‪ ،‬األمر الذي يؤدي‬ ‫لتخوف مكونات املجتمع من املجهول القادم‪ ،‬وإظهار‬ ‫ديكتاتورية جديدة ليست بأفضل من السابقة‪.‬‬ ‫برغم أن الثورة السورية استطاعت أن تشكل وحدة‬ ‫حال بني السوريني‪ ،‬إال أنها مل تستطع شمل كافة‬ ‫السوريني برؤى واحدة‪ ،‬لرمبا وحدها أزمة الالجئني‬ ‫السوريني األخرية بالنزوح تجاه أوربا استطاعت إثبات‬ ‫بعض وحدة الحال‪ ،‬فتلك األزمة ألغت بعض اليشء‬ ‫املناكفات والتضادات القامئة‪ ،‬وأنست التفرقة بني‬ ‫موالٍ ومؤيد بعض اليشء يف طبيعة الواقع‪ ،‬وهذا ما‬ ‫كان كافياً لينذر منظامت املجتمع املدين أن العمل‬ ‫للسوريني ككل هو صلب املطلوب‪.‬‬ ‫إن عمل املجتمع املدين ال يقترص عىل التطوع الفردي‬ ‫بغرض تحقيق فائدة مجتمعية‪ ،‬أو تكوين اتحادات‬ ‫مشرتكة تعمل يف حلقة دائرية مفرغة‪ ،‬بل تشمل‬ ‫التفكري ‪-‬بعد خمس سنوات من الحراك‪ -‬بالعمل عىل‬ ‫تأسيس إسهامات تزيد من فرص السوريني وتقلل‬ ‫املخاطر املجتمعية كالحامية وتقليل األمية ومحاربة‬ ‫البطالة مبرافقة تنمية العقل والفكر لدى السوريني‬ ‫وتشجيع األخرين عىل العمل‪ .‬فاملجتمع املدين ينمو‬ ‫مبقدار استعداد أفراده للعطاء بدون مقابل إلفادة‬ ‫الجامعة‪ ،‬رشيطة أن يتم زرع قيم أخالقية وثقافية‬ ‫وسياسية وعلمية وخريية‪ ،‬تساهم يف نرصة قضايا‬ ‫مشرتكة للجميع‪ ،‬ليكون بالفعل عمل تلك املنظامت‬ ‫مؤثراً عىل السياسات العامة مستقب ًال‪ ،‬ويكون دورها‬ ‫يشبه القطاع الثالث لخلق ما أطلق عليه إدموند بريك‬ ‫األرسة الكبرية يف املجتمع‬

‫‪5‬‬


‫منظمات المجتمع المدني في الغوطة الشرقية‬

‫‪6‬‬

‫نقاط يجب التوقف عندها‬

‫أبو القاسم السوري‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫ملف العدد‬

‫إن الثورة يف أحد أهم أشكالها هي عملية تفكيك‬ ‫وإعادة بناء وهيكلة للبنى والوحدات املؤسسة‬ ‫للمجتمع بشكله العام‪ ،‬وال تقترص عملية إعادة‬ ‫البناء عىل عدد الوحدات وأنواعها وأشكالها بل‬ ‫تتعداه لتشمل الدور الوظيفي لهذه الوحدات‪،‬‬ ‫وال يقصد هنا بالوحدات الوحدات املشكلة‬ ‫للمجتمع السيايس القائم عىل مفهوم السلطة وما‬ ‫يرتبط بها فقط‪ ،‬بل يتعداه ليشمل املجتمع املدين‬ ‫من حيث املفهوم والوحدات واألدوار املناط‬ ‫باملجتمع املدين ومنظامته القيام بها‪.‬‬ ‫والجميع يدرك أن املجتمع املدين يف مرحلة ما‬ ‫قبل الثورة كان مغيباً بشكل كامل‪ ،‬وما كان ميكن‬ ‫أن يصنف باعتباره منظامت مجتمع مدين مل تكن‬ ‫أكرث من منظامت كرتونية تسري يف بحر رشعنة‬ ‫نظام ديكتاتوري قائم بحكم األمر الواقع‪ .‬ومع‬ ‫تفجر الثورة وانكسار الحدود املقيدة للمجتمع‬ ‫السوري أصبح املجال أوسع للقوى الفاعلة ضمن‬ ‫املجتمع أن تطرح رؤى لتشكيل منظامت تطوعية‬ ‫هدفها تقديم الخدمة العامة غري الربحية التي‬ ‫تستهدف تنمية املجتمع بأحد قطاعاته؛ أي‬ ‫العمل عىل تشكيل منظامت مجتمع مدين وفق‬ ‫املفهوم الحديث‪ ،‬وقد انطلق ذلك بوعي يف بعض‬ ‫الحاالت ويف أخرى نتيجة الحاجة لتلبية الحاجات‬ ‫املجتمعية التي ولدتها الظروف‪ ،‬وطبعاً كانت‬ ‫الغوطة الرشقية يف خضم هذه التغريات‪ ،‬ولكن‬ ‫هذه الحالة مل يرافقها دامئاً الثقافة املجتمعية‬ ‫الرضورية القادرة عىل إنجاح التجربة ووضعها‬ ‫يف مكانها املجتمعي الصحيح‪ ،‬وقد تجىل ذلك‬ ‫من خالل بعض اآلثار املجتمعية السلبية التي‬ ‫بدأ يفرزها وجود بعض هذه املنظامت يف بعض‬ ‫املراحل والذي ظهر بشكل كبري بعد تحرر الغوطة‬ ‫وغياب السلطة البديلة الحاكمة‪.‬‬ ‫فالناظر اليوم إىل واقع منظامت املجتمع املدين‬ ‫يف الغوطة الرشقية منذ عام ‪ 2012‬إىل عام ‪2015‬‬ ‫يرى ازدحاما هائ ًال يف عدد املنظامت التي ميكن‬ ‫إدراجها تحت يافطة منظامت املجتمع املدين‬ ‫والتي تتنوع اختصاصاتها واهتاممات عملها ما‬ ‫بني تقديم الخدمات الصحية والتعليمية واإلغاثية‬ ‫والزراعية والتنموية وخدمات ذوي االحتياجات‬ ‫الخاصة أو املنظامت القامئة عىل أسس تنظيمية‬ ‫كتجمع املعوقني أو رابطة املعلمني أو رابطة‬ ‫األكادمييني وما شابهها‪ ،‬أو بعض التجمعات‬ ‫السياسية غري الحزبية أو امللتقيات الفكرية‬ ‫ومراكز دراسات و مراكز إحصاء‪ ،‬ومجالت وجرائد‬

‫ومراكز تأهيل نفيس ومهني وغريها العديد‬ ‫العديد من املنظامت التي ميكن أن تصنف تحت‬ ‫يافطة منظامت املجتمع املدين‪.‬‬ ‫وطبعا فإن هذا االزدحام يعطي مؤرشاً إيجابياً‬ ‫عن مدى ازدياد فاعلية املجتمع السوري عموماً‬ ‫ومجتمع الغوطة الرشقية خصوصاً‪ ،‬ولكن هذا‬ ‫ال يلغي وجود العديد من النقاط التي يجب‬ ‫التوقف عندها يف العموم يف دراسة تجربة‬ ‫منظامت املجتمع املدين يف الغوطة ولعل أهمها‪:‬‬ ‫‪ - 1‬غياب الناظم القانوين الضابط لعمل هذه‬ ‫املنظامت سواء من جهة اإلشهار أو التخصص‬ ‫أو اإلفصاح عن مصادر التمويل‪ ،‬ونتيجة هذا‬ ‫الغياب وجدت بعض املنظامت نفسها يف حل‬ ‫من أي مساءلة أو مراقبة‪ ،‬وبذلك انطلقت‬ ‫هذه املنظامت دون أي ضابط لعملها سوى‬ ‫توجهات وعقلية األفراد القامئني عليها‪ ،‬خاصة أن‬ ‫هذه املنظامت مل ُتشكل عىل ُأسس مؤسساتية‬ ‫صحيحة‪ ،‬بل مببادرات فردية ولذلك فقد صبغ‬ ‫عمل هذه املنظامت باملجمل بالصبغة الفردية‪.‬‬ ‫‪ - 2‬بسبب غياب املنظامت الحكومية التي يجب‬ ‫أن تفرزها الثورة كبديل عميل عىل األرض وجدت‬ ‫منظامت املجتمع املدين الساحة أمامها متاحة‬ ‫لالدعاء بأنها هي املؤسسات الحكومية‪ ،‬فأصبحت‬ ‫بعض منظامت املجتمع املدين املختصة بالعمل‬ ‫التعليمي أو الطبي تدعي أنها هي املؤسسات‬ ‫املسؤولة عن هذا االختصاص يف الدولة الجديدة‪.‬‬ ‫‪ - 3‬شيوع ظاهرة االرتهان إىل املال املقدم من‬ ‫الجهات الداعمة‪ ،‬فبعض املنظامت تغري العديد‬ ‫من أهدافها ونطاق عملها يف سبيل استحصال‬ ‫أموال؛ فرتى منظمة مختصة باألعامل اإلغاثية من‬ ‫خالل تقديم السلة اإلغاثية تقحم نفسها بالعمل‬ ‫الطبي وتنشئ مركزاً صحياً فقط بسبب توفر‬ ‫مورد مايل لهذا البند‪ ،‬مع أنها تكون غري مؤهلة‬ ‫للقيام بهذا النوع من النشاطات‪.‬‬ ‫‪ - 4‬انتشار حمى الحفاظ عىل الذات والتنافس‬ ‫يف التضخم واستجالب األموال‪ ،‬ولو كان ذلك فيه‬ ‫مضار للمجتمع ضمن الغوطة الرشقية‪ ،‬ويظهر‬ ‫ذلك بشكل جيل يف الفرتات التي يزداد فيها الدعم‬ ‫املخصص؛ مثل مرشوع املطبخ الخريي يف رمضان‬ ‫حيث انترشت يف رمضان املايض عرشات املطابخ‬ ‫الخريية يف الغوطة‪ ،‬ووصل الناس إىل حالة تخمة‬ ‫من اإلطعام حتى أصبحت ترى الطعام مرمياً يف‬ ‫القاممة‪ ،‬مع أن املواطن يف الغوطة كان يفضل‬ ‫أن تقدم له وجبة من املواد غري املطبوخة‪ ،‬والتي‬

‫ميكن االحتفاظ بها عىل مدى طويل بدل املواد‬ ‫الجاهزة‪ ،‬وليك تستطيع هذه الجمعيات تغطية‬ ‫هذه املشاريع قامت بسحب املواد الغذائية‬ ‫من األسواق وبأسعار خيالية‪ ،‬وبعد انتهاء شهر‬ ‫رمضان توقفت هذه الجمعيات عن تقديم هذه‬ ‫الخدمة‪ ،‬فوجد املواطن نفسه يف العراء ال يوجد‬ ‫مواد غذائية يف األسواق وال يوجد مطابخ تقدم‬ ‫له الطعام‪ .‬وجميع الجمعيات تدرك ولو بشكل‬ ‫متفاوت أن عملها يف رمضان كان فيه رضر عىل‬ ‫الغوطة الرشقية‪ ،‬ولكن املحدد الرئييس لعملها‬ ‫مل يكن تغطية حاجات املجتمع‪ ،‬بل كان تغطية‬ ‫رغبات الجهة الداعمة!‬ ‫‪ - 5‬غياب االستقاللية والحيادية لدى العديد من‬ ‫منظامت املجتمع املدين‪ ،‬وارتباط العديد منها‬ ‫مبشاريع سياسية فصائلية‪ ،‬ومن خالل الخدمات‬ ‫التي تقدمها هذه املنظامت تحاول الرتويج لهذا‬ ‫الفصيل أو ذلك التيار‪.‬‬ ‫‪ - 6‬ضعف املؤسساتية بشكل عام لدى هذه‬ ‫املنظامت سواء لجهة التنظيم والهيكل اإلداري أو‬ ‫لجهة ترسيخ مبادئ الشفافية واملساءلة والعدالة‪.‬‬ ‫‪ - 7‬ضعف املنظامت التي تختص بالتوعية‬ ‫والنشاطات املجتمعية األكرث دميومة‪ ،‬والتي تعمل‬ ‫عىل تنمية املوارد البرشية وتوعية املواطنني‬ ‫بحقوقهم‪ ،‬فمث ًال غابت عن الغوطة منظامت‬ ‫تهتم بفئات معينة كمنظامت عمل للمرأة‬ ‫والطفل وما إىل ذلك‪.‬‬ ‫‪ - 8‬غياب املنظامت الحقوقية أو التي تهدف إىل‬ ‫احرتام حقوق اإلنسان‪ ،‬األنسب القول ‪ :‬ولعل‬ ‫السبب الرئييس الذي منع العديد من الناشطني‬ ‫من القيام بذلك هو تخوفهم من بعض الفصائل‬ ‫ذات التوجهات املعارضة لهذه القضايا‪.‬‬ ‫إن النقاط السابقة ال تهدف إىل رسم صورة‬ ‫سلبية عن واقع منظامت العمل املدين يف الغوطة‬ ‫الرشقية‪ ،‬فال يوجد أحد يختلف عىل أن منظامت‬ ‫العمل املدين يف املناطق املحررة قفزت قفزة‬ ‫كبرية‪ ،‬وأصبح لها أثراً واضحاً عىل املجتمعات‬ ‫املحلية‪ ،‬ولكن تسليط الضوء عىل هذه النقاط‬ ‫السلبية يستهدف أساساً تحديد السلبيات للعمل‬ ‫عىل تجاوزها‪ ،‬فجميعنا يدرك أهمية تفعيل دور‬ ‫منظامت املجتمع املدين كوسيلة للوصول إىل‬ ‫مجتمع أكرث تقدماً وحضارية ويحمل فكر قبول‬ ‫اآلخر واملبادرة والرشاكة املجتمعية مبا يدفع‬ ‫للوصول إىل الدولة الحديثة العرصية‪.‬‬


‫الدفاع المدني السوري خطوة‬ ‫على طريق سوريا الجديدة‬ ‫رامي العاشق‬

‫نقاط إجرائية‬

‫‪ .1‬أال يقل عمر املمثل عن ‪ 25‬سنة‪.‬‬ ‫‪ .2‬أال تقل مدة تطوعه يف الدفاع املدين عن سنة‪.‬‬ ‫‪ .3‬أن يكون حاص ًال عىل الشهادة اإلعدادية عىل‬ ‫أقل تقدير‪.‬‬ ‫‪ .4‬أن يكون مشهود له يف الحراك الثوري منذ ‪4‬‬ ‫سنوات عىل األقل‪.‬‬ ‫وبعد اعتامد نسبة ‪ 2%‬من عدد املتطوعني يف‬ ‫كل محافظة أصبح عدد ممثيل املحافظات عىل‬ ‫الشكل التايل‪ :‬إدلب (‪ ،)14‬حلب (‪ ،)11‬حامه‬ ‫(‪ ،)6‬الالذقية (‪ ،)2‬حمص (‪ ،)4‬دمشق (‪ ،)4‬ريف‬ ‫دمشق (‪ ،)8‬درعا (‪.)7‬‬ ‫واعترب د‪ .‬جهاد محاميد ممثل الدفاع املدين يف‬

‫دورات وتدريب‬

‫يسعى الدفاع املدين إىل إقامة دورات تدريبية‬ ‫قادمة يف تركيا وسوريا واألردن حيث سيتم‬ ‫تدريب متطوعي املناطق الشاملية يف تركيا‪ ،‬بينام‬ ‫سيتم إنشاء مراكز خاصة داخلية يف دمشق وريفها‬ ‫وحمص‪ ،‬أما بالنسبة للمنطقة الجنوبية فسوف‬ ‫يتم إقامة ‪ 4‬دورات طب ّية و‪ 5‬دورات بحث وإنقاذ‬ ‫يف األردن‪ ،‬ويتم اآلن تجهيز مركز تدريب يف درعا‬ ‫سيصبح جاهزًا خالل شهر ونصف‪.‬‬

‫ملف العدد‬

‫تضمنت آلية متثيل املتطوعني يف الدفاع املدين‬ ‫آليات إجرائية من قبل اإلدراة ّ‬ ‫تتلخص بـ‪:‬‬ ‫‪ .1‬إجراء انتخابات يف املراكز‪ ،‬يرشف عليها مدير‬ ‫املديرية املسؤولة عن هذه املراكز‪ ،‬وعليه التأكد‬ ‫من تفويض املتطوعني للشخص املنتخب أو الذي‬ ‫تم تجديد الثقة به‪.‬‬ ‫‪ .2‬بعد فرز النتائج والحصول عىل كتاب‬ ‫التفويض‪ ،‬يتم اعتامد نسبة ‪ 2%‬من العدد الكيل‬ ‫لكل مديرية للمشاركة يف االجتامع السنوي العام‬ ‫والذي سيعقد يف تركيا نهاية الشهر الحايل‪.‬‬ ‫‪ .3‬يجتمع يف كل مديرية مدراء املراكز املنتخبني‬ ‫وقادة القطاعات بإرشاف مدير املديرية يف اللقاء‬

‫رشوط متثيل املحافظة‪:‬‬

‫برنامج اللقاء السنوي‬

‫ذكر د‪ .‬محاميد أن “اللقاء سيضع عىل جدول‬ ‫أعامله انتخاب مجلس ادارة جديد‪ ،‬ورسم‬ ‫السياسة املالية الخاصة بالدفاع املدين‪ ،‬وكذلك‬ ‫رسم الخطة االسرتاتيجية املستقبلية‪ ،‬والحاجيات‬ ‫والفرص واملخاطر‪ ،‬واليات التطوير واملشاركة‬ ‫يف إعادة اإلعامر” واختتم حديثه بالقول‪ “ :‬من‬ ‫الصعب العمل كمؤسسة بدون ترخيص لذلك‬ ‫سيتم ترخيص الدفاع املدين يف تركيا‪ ،‬كام سيتم‬ ‫ترخيصه يف هولندا تحت اسم “أصدقاء الخوذ‬ ‫البيضاء”‪.‬‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫دعت إدارة الدفاع املدين السوري جميع‬ ‫مديريات الدفاع املدين يف املحافظات السورية‬ ‫لعقد اللقاء الداخيل العام‪ ،‬اللقاء الذي سيعقد‬ ‫استثنائ ًيا هذا العام وملرة واحدة النتخاب أو‬ ‫اختيار ممثيل املديريات يف الهيئة العامة‪ ،‬وكانت‬ ‫هذه اإلدارة قد تشكلت يف ترشين األول‪ /‬أكتوبر‬ ‫وجهت اإلدراة‬ ‫‪ 2014‬وأ ّمتت عامها األول لذلك ّ‬ ‫إىل مديريات الدفاع املدين داخل سوريا تقول‪:‬‬ ‫“من حرصنا عىل املساهمة يف بناء املؤسسات‬ ‫الوطنية ورضورة تطوير العمل املؤسسايت املهني‪،‬‬ ‫ومبا أن املتط ّوع هو اللبنة األساسية املساهمة‬ ‫يف بناء هذه املؤسسات‪ ،‬وعمله الشجاع يف‬ ‫مناطق الخطر تحت الرباميل يعد هو الرشعية‬ ‫الواقعية يف األرض وامليدان‪ ،‬فإننا ندعو مديريات‬ ‫الدفاع املدين يف املحافظات السورية لعقد اللقاء‬ ‫الداخيل العام”‪ .‬ومع اشتداد القصف الرويس عىل‬ ‫املناطق السورية وتزامنه مع الرباميل املتفجرة‬ ‫التي يلقيها نظام األسد‪ ،‬تصبح امله ّمة امليدانية‬ ‫أخطر‪ ،‬ويصبح العمل اإلنقاذي أكرث صعوب ًة‪،‬‬ ‫لذلك يصبح متط ّوعو ومتط ّوعات الدفاع املدين‬ ‫تحت ضغط أكرب‪ ،‬وتصبح حيا ُة املن ِقذ يف خطر‪،‬‬ ‫وتصبح املشاهد املنشورة هنا أو هناك مر ّوعة‬ ‫وغري قابلة للتصديق وتذ ّكر مبا حدث يف الحرب‬ ‫يرص عىل‬ ‫العامل ّية‪ّ ،‬‬ ‫وربا أكرث‪ّ ،‬إل أن الدفاع املدين ّ‬ ‫العمل كمؤسسة ال كمبادرة‪ ،‬ويك ّرس جهده اليوم‬ ‫للذهاب نحو مأسسة هذه املنظمة بشكل أفضل‬ ‫مبا يليق بسوريا وما ميكن أن يقدّم فائدة أكرب يف‬ ‫ظل انحسار للعمل املدين لحساب العسكرة!‬

‫الداخيل العام ملرة واحدة هذه السنة الختيار‬ ‫ممثيل املحافظة‪.‬‬ ‫يقول مدير مديرية محافظة درعا عبد الله‬ ‫الرسحان‪“ :‬لدينا يف محافظة درعا ثالثة قطاعات‪:‬‬ ‫قطاع املدينة‪ ،‬قطاع الريف الرشقي‪ ،‬وقطاع‬ ‫الريف الغريب‪ ،‬وضمن هذه القطاعات يوجد ‪14‬‬ ‫مركزًا تتوزع عىل الشكل التايل‪ :‬مركزان يف املدينة‪،‬‬ ‫ستة مراكز يف الريف الرشقي‪ ،‬وستة مراكز يف‬ ‫الريف الغريب” وعن سري عملية االنتخابات يقول‬ ‫الرسحان‪“ :‬لقد تم تشكيل لجنة انتخابات مؤلفة‬ ‫من القطاعات الثالثة‪ ،‬وتم إبالغ رؤساء املراكز‬ ‫يوم من االنتخابات لجمع املتطوعني‪ ،‬ومتت‬ ‫قبل ٍ‬ ‫زيارة املراكز من قبل اللجنة وإخبارهم بأحق ّية‬ ‫أي شخص ّ‬ ‫للرتشح‪ ،‬ويف حال عدم ترشح أي‬ ‫شخص‪ ،‬يعترب األمر تجديد ثقة باملدير الحايل”‪.‬‬

‫درعا أن “االنتخابات كانت ناجحة وتم قبول‬ ‫اعرتاض أحد املراكز بشكل دميقراطي‪ ،‬وهذا أمر‬ ‫صح ّي‪ ،‬ولو مل يكن هناك اعرتاضات ملا كانت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االنتخابات حقيقية” وأكد محاميد عىل أهم ّية‬ ‫دور املرأة يف الدفاع املدين وعىل أحقيتها يف‬ ‫ّ‬ ‫الرتشح والقيادة والتمثيل‪ ،‬وذكر أن “محافظة‬ ‫درعا ستكون املحافظة الوحيدة التي ستكون‬ ‫املرأة من ممثليها يف اللقاء السنوي”‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫الصــورة الذاتيــة واالكتئــاب‬ ‫‪8‬‬

‫عروة مقداد‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫مقاالت‬

‫أثناء تنقيل بني مدن الجوار السوري (عامن‪،‬‬ ‫بريوت‪ ،‬غازي عنتاب)‪ ،‬حيث املجتمعات املؤقتة‬ ‫التي بناها السوريون‪ ،‬الهاربون من القمع‬ ‫والقصف أو املستفيدون واملعتاشون من الحرب‪،‬‬ ‫متنق ًال بينها وبني املناطق املحررة‪ ،‬كانت السمة‬ ‫املشرتكة يف هذه املجتمعات‪ :‬املزاجية العالية‪،‬‬ ‫والتقلبات النفسية الكبرية بني حزن وفرح شديد‪،‬‬ ‫وعدم مباالة‪ ،‬ونوبات من العنف املفرط تجاه‬ ‫الذات وتجاه اآلخر‪.‬‬ ‫الشعور القديم الذي كان ينتابني قبل خمسة‬ ‫أعوام يف سورية هو ذات الشعور الذي انتابني‬ ‫قرب األسقف املنهارة‪ ،‬حيث يرتسم خط أسود‬ ‫رفيع ميتزج باألدخنة املرتاقصة التي ترسمها‬ ‫رؤوس الرباميل‪ .‬حينها كنت أمارس عملية إيهام‬ ‫تلت السنة األوىل للثورة‪ ،‬تغليف شعور األمل‬ ‫واملرارة بانتشاء ثبات وانتصار “القيمة”‪ .‬يف‬ ‫املشهد العريض ملدينة تحرتق من السامء واألرض‬ ‫داهمتني كلمة مكتئب من (ع‪.‬م)‪ .‬مل أفهم يف‬ ‫البداية سبب توصيفه‪ ،‬لكن اكتشفت الحقاً‬ ‫أنه حقيقة اإلحساس الذي انتابني‪ :‬ال بد أنه‬ ‫اكتئاب حاد‪ .‬فام هو املفرح يف سقوط الصواريخ‬ ‫والرباميل؟ ما هو املفرح يف أبنية تنهار عىل رؤس‬ ‫أصحابها‪ ،‬ومعارك طاحنة تصل الليل بالنهار؟ ما‬ ‫هو السبب لنوبات الضحك الهستريية التي منر‬ ‫بها؟ انتبهت! وتسألت‪ ،‬متى بدأ ذلك االكتئاب؟‬ ‫املرة األوىل التي أصابني فيها تقلب مزاجي حاد‬ ‫وحالة من القنوط واليأس* يف مخيم الالجئني يف‬ ‫مدينة الرمثا قبل أن يستحدث مخيم الزعرتي‪.‬‬ ‫يف القبو املحشورين فيه كإسطبل تعرفت عىل‬ ‫مجموعة كبرية من السوريني علت نظرات‬ ‫االنكسار رموشهم املخذولة‪ .‬ويف محاولة لرتميم‬ ‫ّ‬ ‫نسل أنفسنا بالغناء‬ ‫صورتنا الداخلية كنا‬ ‫للثورة‪ .‬قطع الغناء رجل يف األربعني من عمره‬ ‫تنهد بصوت عال ثم قال‪“ :‬طلعنا نهتف املوت‬ ‫وال املذلة‪ ،‬هربنا من املوت وإجينا عىل املذلة‬ ‫بإجرينا”‪...‬‬ ‫يتحدث الكثري من علامء النفس عن االكتئاب‪،‬‬ ‫ومثة أبحاث كثرية تناولت موضوع االكتئاب‬ ‫بوصفه أحد أمراض العرص‪ ،‬ويف محارضة للعامل‬ ‫جاك فريسكو نرشت عىل اليوتوب* يضع تعريفاً‬ ‫بسيطاً ملرض االكتئاب يوصف تعقيد الحالة التي‬ ‫نعيشها‪ :‬هو فقدان الهوية والخلل يف الصورة‬ ‫الذاتية لإلنسان‪ .‬وهذا التعريف بوابة ملقاربة‬

‫الحالة السورية‪ ،‬ليس عىل‬ ‫اعتبار أن توصيف ما يحدث‬ ‫بأنه “اكتئاب” هو اإلستثنايئ‪،‬‬ ‫بل عىل اعتبار أن الثورة‬ ‫كانت مبثابة عالج جامعي‬ ‫من حالة اكتئاب عامة كان‬ ‫يعيشها املجتمع السوري‬ ‫وهذه النقطة االستثنائية يف‬ ‫املقاربة‪.‬‬ ‫قبل بدء الثورة السورية‪،‬‬ ‫تعرضت أجيال متتابعة لتدمري ممنهج يف‬ ‫البنية النفسية خالل األربعني سنة املنرصمة‪.‬‬ ‫سعى النظام خاللها إىل تحطيم الصورة الذاتية‬ ‫لإلنسان السوري‪ ،‬من خالل مامرسة القهر الدائم‬ ‫عىل طبقات املجتمع مبا فيها الطبقات الغنية‪،‬‬ ‫“فاإلنسان املعرض لكل مفاجأة قد تحمل املصيبة‬ ‫أو الخري ليس أكيد البتة من أي ضامنات فعلية‬ ‫لذويه”‪ .‬رمبا تعد هذه النقطة واحدة من أهم‬ ‫العناصرى التي تدفع اإلنسان إىل حالة من االكتئاب‬ ‫التي تجعله غري فاعل‪ ،‬ومنزو‪ ،‬وغري قادر عىل‬ ‫اإلبداع*‪ .‬رافق ذلك يف سورية حالة من اإلحباط‬ ‫الواسعة التي كانت تبحث عن تنفيسات إما عن‬ ‫طريق السفر أو عن طريق األشكال املتعددة‬ ‫لإلدمان* أو توجيه اإلحباط نحو قضايا كربى مثل‬ ‫القضية الفلسطينية‪.‬‬ ‫قرب الحدود املمتدة التي عرب منها آالف‬ ‫املهاجرين الذين حملوا معهم‪ ،‬فلسفة التوحش*‬ ‫جلست مع شاب يف الخامسة والعرشين من‬ ‫عمره يدعى أبو قتيبة‪ :‬كان يصف يل وهو‬ ‫يراقب الرايات السوداء التي تكلل السيارات‬ ‫الجبلية روعة الخروج يف مظاهرة‪ ،‬قال يل‪“ :‬كانت‬ ‫املظاهرة نافذة كبرية فتحت يف حيايت‪ .‬كنت‬ ‫أستطيع من خاللها أن أشعر”‪ ..‬يقول ذلك ثم‬ ‫مييض وهو يكرب بني الجموع‪.‬‬ ‫إن الجزء األسايس واملهم يف الثورة أنها رممت‬ ‫الصورة الذاتية لإلنسان السوري‪ ،‬وجعلته يخرج‬ ‫من حالة إحباط واسعة‪ ،‬ترافقت بفرحة عامة‬ ‫أدت اىل مظاهر الرقص والفرح والغناء بالدرجة‬ ‫األوىل‪ ،‬وبالدرجة الثانية محاولة رشيحة واسعة‬ ‫للعمل يف مجالت إعالمية وفنية للتعبري عن‬ ‫الهوية والذات‪ .‬فالصورة الذاتية هي جزء من‬ ‫الصورة العامة للمجتع‪ .‬إنها صورة األفراد تجاه‬ ‫بعضهم البعض التي تنتج الثقافة العامة‪ .‬وخالل‬

‫مصدر الصورة‪ :‬إنرتنت‬

‫حكم النظام أنتج يف أرضيته نوعاً من الرصاع بني‬ ‫صورة الفرد تجاه نفسه وصورته تجاه اآلخرين‪.‬‬ ‫إن الكلامت التي كانت تصنف السوريني تجاه‬ ‫بعضهم البعض هي جزء من الصورة العاملة‬ ‫الناتجة عن الصورة الذاتية املتصدعة أو املفقودة‪.‬‬ ‫ولقد أصبحت املدن الجغرافية والثقافة بحد‬ ‫ذاتها منوذجاً منقوصاً “غريياً” يستحقّ السخرية‬ ‫واالستخفاف وحتى نفي املدنية عنه واتهامه‬ ‫بالدونية‪.‬‬ ‫كثرياً ما تذكرين مدينة عنتاب مبنايف سيبرييا التي‬ ‫كان ينفي إليها قيرص معارضيه‪ .‬املدينة مرتبة‬ ‫وهادئة بطريقة ّ‬ ‫فظة كام أنها ال تحمل أي‬ ‫طابع من املمكن أن يجد السوري فيه أي ترميم‬ ‫لصورته الداخلية أو انتامء ما يحقق له نوعاً من‬ ‫التوازن‪ .‬وعىل الرغم من وجود رشيحة كبرية‬ ‫من الناشطني امليسوري الحال بحكم عملهم‬ ‫مع منظامت أجنبية‪ ،‬إال أن اإلحباط الناتج عن‬ ‫قرب املدينة من سورية يولد حالة شديدة من‬ ‫اإلكتئاب‪ .‬يف أحد املقاهي يف مدينة عنتاب اجتمع‬ ‫شابان أحدهام يف الجيش الحر واآلخر يعمل لدى‬ ‫منظمة أجنبية‪ ،‬كالهام تشاركا ذات الكآبة التي‬ ‫يعرب عنها بأمزجة متقلبة حادة‪ ،‬فكالهام يعاين‬ ‫من اهتزاز يف الصورة الذاتية وشعور باإلحباط‬ ‫والدونية تجاه اآلخر‪ .‬يعود ذلك تبعاً للتصنيفات‬ ‫التي خلقتها الحرب‪ ،‬واالصطفافات واالختالفات‬ ‫العقائدية والسياسية ‪ ..‬الخ‪.‬‬ ‫بالعودة للثورة السورية‪ ،‬شكلت املضاهرات أوىل‬ ‫الخطوات نحو كرس التنميطات التي تساهم يف‬ ‫االكتئاب والتي مل تشمل فقط مؤيدي الثورة‬ ‫إمنا تشمل أيضاً مؤيدي النظام؛ فقد خلقت‬ ‫املظاهرات يف بدايتها هامشاً من الحرية الذي‬ ‫وضع مسألة الهوية ضمن النقاش‪ ،‬وعاد سؤال‬

‫البقية في صفحة ‪11‬‬


‫ً‬ ‫فتنة‬ ‫االختالف بوصفه‬

‫‪9‬‬

‫نوار عقل‬

‫العدد ‪- 59 -‬‬ ‫‪2015 / 11 / 17‬‬

‫مقاالت‬

‫عب بعض املفاهيم املستقرة يف الثقافة العربية‬ ‫ُت ّ‬ ‫عن حالة من التناقض الصارخ بني منوذجني من‬ ‫مستبطن‪ ،‬يأخذ شكل ثقافة‬ ‫الوعي؛ وعي أصيل‬ ‫ِ‬ ‫مستوطنة يف البنية الثقافية للمجتمع‪ ،‬يعمل‬ ‫فيها عمل األفكار املسبقة‪ ،‬من اختزال وفهم‬ ‫للظواهر‪ ،‬وتوجيه للسلوك‪ .‬ووعي آخر سطحي‬ ‫زائف قد يناقض متاماً هذا املفهوم (األصيل)‬ ‫حتى اآلن‪ .-‬وليس مفهوم االختالف إال منوذجاً‬‫الفتاً لهذا الحال‪ ،‬حيث ال تخفى عىل أحد قيمة‬ ‫االختالف وأهميته‪ ،‬والدعوة إليه‪ .‬يف حني أن نظرة‬ ‫فاحصة لإلرث الثقايف‪ ،‬وللبنية الفكرية ملجتمعاتنا‬ ‫الحالية تدعونا إىل وقفة تأمل يف آفاق االختالف‪،‬‬ ‫وإمكانيته الحقيقية‪ ،‬السيام ضمن ثقافة متتاز‬ ‫بصناعة التقية‪ ،‬وقد اعتادت اعتبار االختالف‬ ‫فتن ًة‪.‬‬ ‫ومام الشك فيه أن ارتباط املفهومني‪ :‬النفيس‬ ‫املعريف والثقايف‪ :‬االختالف بوصفه فتنة‪ ،‬والتقية‪،‬‬ ‫ذو داللة واضح ٍة من حيث السبب والنتيجة‬ ‫املتبادلة أو املتعاضدة بينهام‪ .‬فحيث أننا ال‬ ‫نستطيع البت بالقول إن التق ّية نتيجة منطقية‬ ‫العتبار االختالف فتنة بني الناس‪ ،‬بإمكاننا‬ ‫ُ‬ ‫تعمل كسبب إضايف يف‬ ‫القول أيضاً إن التقية‪،‬‬ ‫تأصيل ثقافة نفي االختالف‪ ،‬والحذر منه كرش‬ ‫مستخف‪ ،‬قد يظهر يف أي لحظة سانحة فينرش‬ ‫الفتنة والخراب‪ ،‬وذلك طاملا أن التق ّية تعني‬ ‫إخفاء ما نبطن خوفاً من إظهاره‪ .‬وعليه فإن كل‬ ‫اختالف يحمل يف وعينا عنه رشاً وتقية وخفاءاً‪.‬‬ ‫والذي بدوره يؤسس لثقافة األحادية واملركزية‬ ‫والتنميط‪ ،‬تلك الثقافة التي ابتليت بها مجتمعاتنا‬ ‫العربية واإلسالمية‪ ،‬عىل الرغم من أن االختالف مل‬ ‫يزل واقعاً موضوعياً تاريخياً واجتامعياً ليس من‬ ‫املمكن تجاهله‪ ،‬بل هو واقع صلب يف طبيعته‪،‬‬ ‫يعاند محاولة اختزله أو نكرانه‪.‬‬ ‫غري أن هذا االختالف مل يتحول قط إىل حيز‬ ‫الوجود يف الوعي الثقايف العريب كعامل إيجايب‬ ‫أو مقبول عىل أقل تقدير‪ ،‬بل ما فتئ يرفض‬ ‫ويقاوم يف ّ‬ ‫كل أشكاله العقائدية والفكرية‪،‬‬ ‫لصالح املركزية الدينية أو السياسية‪ ،‬أو كالهام‬ ‫معاً بشكل متعاضد‪ .‬وقد اخرتق مثل هذا الوعي‬ ‫كل أنواع وعنارص االختالفات الجزئية‪ ،‬فامتدت‬ ‫التق ّية‪ ،‬إىل داخل التقية‪ ،‬كام رفض االختالف‬

‫ضمن حيز االختالف‪ .‬أي أن املجتمعات املغلقة‬ ‫أصبحت متارس ثقافة التق ّية داخل منظومتها‬ ‫الفكرية النمطية السائدة‪ ،‬كام أن االختالف‬ ‫ترصح بأحقيته كل التيارات عىل اختالف‬ ‫الذي ّ‬ ‫مشاربها‪ ،‬ترفضه ضمن منظومتها أيضاً‪.‬‬ ‫لقد درجت العادة عىل اعتبار االختالف ش ّقاً‬ ‫لعىص الطاعة‪ ،‬ولهذا املعنى أبعاد سحيقة يف‬ ‫اللغة والثقافة‪ ،‬فالطاعة من العبودية‪ ،‬والطاعة‬ ‫لله يف الدين‪ ،‬واختالف الناس يعني االنشقاق‬ ‫واالنقسام وتشتيت اآلراء‪ .‬إذاً‪ ،‬فشقُ عىص الطاعة‬ ‫للخليفة أو الحاكم‪ ،‬يتم باالختالف عنه بالرأي‪،‬‬ ‫وذلك يفرض أن الرأي السديد أو الرأي بح ّد‬ ‫ذاته ملك للحاكم‪ .‬والذي مازال يظهر إىل اآلن‬ ‫عىل شكل (خليفة) أو قائد (أسد) مفدّى ال بديل‬ ‫عنه‪ .‬وهكذا يتحتّم عىل املجتمعات (القطيعية)‬ ‫أن يتبنوا آراء الحاكم‪ ،‬ويعيشوا حياتهم وفقاً‬ ‫لتصوراته‪ .‬كام يتوجب عليهم باملقابل أن ال يكون‬ ‫لهم مثل هذا الحق؛ الرأي‪ .‬كل ذلك منعاً للفتنة‪،‬‬ ‫والفتنة أشدُّ من القتل! وهنا قد يح ّمل الرأي‬ ‫تبعات التجريم العظيم‪ ،‬وارتكاب الكبرية‪ ،‬وبالتايل‬ ‫الفسق‪ ،‬أو حتى الكفر‪ ،‬ومبعايري أخرى الخيانة‬ ‫والعاملة؛ ليس مثة فرق‪.‬‬ ‫ليست املشكلة محصورة فقط يف املركزية القارة‬ ‫يف عقول الناس‪ ،‬بل تتعداها إىل منط الوعي التي‬ ‫أنتجته‪ ،‬وتنتجه باستمرار‪ .‬إذ ليس هناك اختالف‬ ‫دون وعي كامل بأهمية االختالف‪.‬‬ ‫ولعل مرياثنا الثقايف غزير بالتصورات (املعرفية)‬ ‫التي وإن كانت تؤكد عىل وجود االختالف‪ ،‬إال‬ ‫تبي أن الحق مع فئة ناجية‬ ‫أنها من جهة أخرى ّ‬

‫من بني الفرق املختلفة الضا ّلة‪ ،‬هذا ما نجده عىل‬ ‫سبيل املثال يف كتاب (امللل والنحل) للشهرستاين‪.‬‬ ‫وهنا ال بد من القول إن نقداً جذرياً للمجتمع‬ ‫وللمرياث الثقايف الب ّد من خوض أتونه؛ فالدعامة‬ ‫الفكرية لهذه الدعوى تجد سنداً لها يف الرتاث ويف‬ ‫الالشعور الجمعي‪ .‬فالحقيقة أحادية‪ ،‬تقوم عليها‬ ‫سلطة واحدة‪ ،‬مطلقة‪ .‬وهذا ما ال ميكن أن نستند‬ ‫إليه ونحن ندعو إىل مرشوعية التعدد وإرساء‬ ‫مبدأ الحق يف االختالف‪ ،‬وما يرتتب عىل ذلك من‬ ‫تعاقدية النظام السيايس‪ ،‬وتداول السلطة‪ ،‬إىل غري‬ ‫ذلك من املبادئ والقيم التي نسعى اليوم إلقرارها‬ ‫لتتنزل فينا منزلة التقاليد املستحدثة‪ .‬إنها قضية‬ ‫نضال دميقراطي‪ ،‬إال أنها أيضاً‪ ،‬وقبل ذلك‪ ،‬قض ّية‬ ‫نضال ثقايف‪ ،‬أي نقد جذري للدعامة الفكرية التي‬ ‫يرتكز إليها أي نظام استبدادي ويجد لها سنداً يف‬ ‫املرياث الثقايف‪ :‬أي ادعاء ملكية مزدوجة للسلطة‬ ‫والحقيقة‪ ،‬وبالتايل إلغاء كل مرشوعية لالختالف‪.‬‬ ‫إن الثورات اليوم ال تقف حدودها عند تغيري‬ ‫نظام سيايس‪ ،‬أو اجتامعي‪ ،‬بل هي كفيلة بنقد‬ ‫عام وجذري للثقافة السائدة‪ ،‬ما خفي منها‪،‬‬ ‫وما هو ظاهر‪ .‬بل إنها تعمل عىل إخراج البنية‬ ‫القدمية بكل تناقضاتها إىل السطح‪ ،‬وعىل التاريخ‬ ‫أثناء سريورته مهمة االنتصار للواقع‪ ،‬وللطبيعة‬ ‫البرشية‪ّ ،‬‬ ‫كل ذلك يف سبيل الوصول إىل بناء‬ ‫اإلنسان‪ ،‬الذات‪ ،‬املتميز‪ ،‬ومراعات كل أنواع‬ ‫االختالفات بني األفراد‪ ،‬ابتداء من الرتبية واملناهج‬ ‫يف التعليم وانتهاء بالشكل السيايس للمجتمع‪.‬‬ ‫يغدو هذا محصلة وعي جامعي ونتيجة تجربة‬ ‫مريرة ال بد ملجتمعاتنا من اعتناقها‪.‬‬

‫مصدر الصورة‪ :‬إنرتنت‬


‫“الحرية”‪ :‬ما الجديد؟‬ ‫قراءة في كتاب‬ ‫ّ‬

‫‪10‬‬

‫شوكت غرزالدين‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫مقاالت ‪ -‬كتاب‬

‫صدر مؤخراً عن (بيت املواطن للنرش والتوزيع)‬ ‫من ضمن سلسلة (الرتبية املدن ّية)‪ ،‬كتاب بعنوان‬ ‫(الحر ّية‪ :‬من سامء الفلسفة إىل أرض السياسة)‪،‬‬ ‫للكاتب السوري (ماهر مسعود)‪ .‬وعىل اعتبار أن‬ ‫التناصت والتجابه واملتابعة من أفضل الوسائل‬ ‫للتعامل مع الكتب واإلشكاليات املعرف ّية‪ ،‬للتقدم‬ ‫يف العمل ّية املعرف ّية؛ أقدِّم رأيي فيه ويف إشكالية‬ ‫الحر ّية كإشكالية معرف ّية‪ -‬وجود ّية يف آنٍ ‪.‬‬ ‫إنه كتاب صغري نسبياً من حيث الحجم؛ فعدد‬ ‫صفحاته ‪ 95‬صفحة من القطع املتوسط‪ ،‬ولكنه‬ ‫كبري من حيث املدلول واإلشكالية ومستوى‬ ‫النقاش‪ .‬ويصدق فيه املثل القائل‪“ :‬خري الكالم‬ ‫قل ّ‬ ‫ما ّ‬ ‫ودل”‪ .‬ويهدف إلثراء النقاش يف إشكالية‬ ‫الحر ّية وتوظيف الحر ّية يف النهضة والتقدم‪ ،‬وذلك‬ ‫من خالل نقاش نقدي ّ‬ ‫يتوخى تفكيك الخطاب‬ ‫السائد والفعل املرتبط به‪.‬‬ ‫ينقسم الكتاب إىل محورين ومقدمة‪ :‬األول منهام‬ ‫“يف مفهوم الحر ّية وسامئها الفلسفي”؛ ويناقش‬ ‫فيه الكاتب “معنى الحر ّية وتع ّينات املعنى”‬ ‫أوالً‪ ،‬و”الحر ّية ومشكلة الوعي” ثانياً‪ ،‬ثم “الحر ّية‬ ‫والفرد ّية” ثالثاً‪ .‬أ ّما املحور الثاين فيتحدث عن‬ ‫“أرض الحر ّية”؛ تلك األرض املرتبطة بالسياسة من‬ ‫جهة‪ ،‬والدولة من جهة ثانية‪ ،‬والدين من جهة‬ ‫ثالثة‪.‬‬ ‫يحاول الكاتب االلتصاق بالحالة املأسوية التي مي ُّر‬ ‫بها السوريون؛ ليف ِّكر يف الحر ّية بحر ّية‪ ،‬وليقول ما‬ ‫الحر ّية؟ وما “الخوف من الحر ّية”؟ فيعيد بأسئلته‬ ‫القدمية‪ -‬الجديدة طرح البدهيات مجدداً‪ ،‬وتحليل‬ ‫مفاعيلها تحلي ًال نفسياً‪ ،‬ومن ثم إلباسها إجابات‬ ‫وظيف ّية تناسب حاجات الواقع‪ .‬فريبط بني سامء‬ ‫الفلسفة وأرض السياسة من جديد نقيضاً للفصل‬ ‫الدارج بينهام‪ .‬وذلك مبناهج متعددة ‪-‬كام هو‬ ‫مألوف يف التفكري الحديث‪ -‬فينتقل من املنهج‬ ‫الجديل إىل املقارن إىل الوظيفي إىل التحليل النفيس‬ ‫بيرس وسهولة‪ .‬والجديد الذي يقدّمه الكاتب‬ ‫يتمثل يف التأكيد عىل “الحر ّية من ‪ ”...‬واالنتقال‬ ‫إىل “الحر ّية لـ ‪ .”...‬والتقاط سلبية “النسب ّية‬ ‫والخصوص ّية” يف تأسيس الوعي العر ّيب ‪-‬والس ّيام‬ ‫السوريّ منه‪ -‬بالحر ّية‪ .‬واستخدام “التحليل‬ ‫ّ‬ ‫النفيس” لتسليط الضوء عىل الالشعور الفردي‬ ‫السوري يف قرفه وخجله وخوفه من‬ ‫والجمعي ّ‬ ‫الحر ّية‪ .‬واالنتقال بالحرية من السؤال األكادميي‬ ‫إىل الرضورة الحياتية‪ ،‬إىل اآلن‪ ،‬وهنا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تم تداولها سوريا بشكل‬ ‫الحر ّية من املفردات التي ّ‬

‫كبري نسبياً عىل مدار ما يزيد عىل أربع سنني‪ .‬ورغم‬ ‫عدم وجود “ميتافيزيقا الحر ّية” عربياً وسورياً إال‬ ‫َّأن الثورة السور ّية ٌسميت بثورة الحر ّية والكرامة‪.‬‬ ‫فنجد من السوريني من قدّس املفردة وافتخر‬ ‫بها‪ ،‬ومنهم من د ّنسها واستهزأ بها وهزئ منها‪.‬‬ ‫أما الكاتب فريصد هذه الوقائع بالتحليل النفيس‬ ‫ويقارن بني الحضارة الغربية وبني الحالة الراهنة‬ ‫عندنا ويخضع األفكار لقراءة جدلية ويوظفها‬ ‫لصالح الخروج من حالة العبود ّية والخروج من‬ ‫حالة الخوف من الحر ّية؛ ليتسامى بالحر ّية إىل‬ ‫مستوى املفهوم الفلسفي ويقيم العالقات ذهاباً‬ ‫وإياباً فيام بينها وبني واقعنا الراهن‪.‬‬ ‫يتكئ الكاتب عىل عدد من الفالسفة الذين تناولوا‬ ‫مشكلة الحر ّية من أمثال هيغل ونيتشه وماركس‬ ‫وسارتر وكامو وماركوز‪ ،‬وعىل مفكرين عرب من‬ ‫أمثال عبدالله العروي وياسني الحاج صالح وبرهان‬ ‫غليون‪ .‬ويقدِّم جديداً يف خطاب الحر ّية يتجاوز‬ ‫أنها “وعي الحرية” عند هيغل لرياها “حرية‬ ‫الوعي” أوالً‪ .‬أو أنها الرضورة املفهومة جيداً‬ ‫ويخرجها من اإلطار الديني بعد نقد هذا اإلطار‬ ‫ليقدِّم رأيه مبعنى الحر ّية ضمن املأساة السور ّية‪.‬‬ ‫ينظر الكاتب للحر ّية بوصفها “مفهوماً مثالياً‬ ‫مطلقاً” يتحدد بالواقع والنسبي؛ أي بفعل التحرر‬ ‫عرب التاريخ‪ .‬ويؤكد عىل أنها مفهوم تاريخي‬ ‫يتعلق بالزمان واملكان وفاعلية البرش ونوع القيود‬ ‫والحتميات السائدة يف حينه‪ .‬وهي أيضاً مفهوم‬ ‫إنساين ال معنى له خارج الوجود اإلنساين‪.‬‬ ‫مييز الكاتب بني “التحرر من” وبني “التحرير لـ”؛‬ ‫أي بني املفروض الخارجي عىل الفعل اإلنساين‬ ‫كاالستبداد‪ ،‬وبني املفروض الداخيل الذي يفرضه‬ ‫اإلنسان بإرادته عىل تلك الرضورات ويكون مضاداً‬ ‫لطبيعة هذه الرضورات الخارجية‪ ،‬كخلق قيم‬ ‫مضادة لالستبداد؛ وذلك َّ‬ ‫ألن الحر ّية كمفهوم مطلق‬ ‫َتستبطن و ُتد ِمج الرضورات املختلفة التي تنقلها‬ ‫من مجال سلبي إىل آخر إيجايب‪ .‬يقول الكاتب‪ :‬إ َّنه‬ ‫“االنتقال مام تفرضه تلك القيود والرضورات عىل‬ ‫الحياة والفعل اإلنساين‪ ،‬إىل ما يفرضه هو بإرادته‬ ‫الح ّرة عىل تلك الرضورات من فعل تحريري جديد‬ ‫ومضا ّد لطبيعتها‪ .‬وهنا تصبح الحر ّية فع ًال مسؤوالً‬ ‫أكمل انفالته من قيد الرضورة بإنتاج املعنى لذلك‬ ‫االنفالت وللرضورة عينها‪ ،‬وإنتاج قيمة للفعل‬ ‫التحرري تضبطه وتنضبط به بوصفها قيمة عليا‬ ‫تحررية” ص‪.13‬‬ ‫الحر ّية إذاً هي سريورة فعل التحرر الناقص دامئاً‪.‬‬

‫يقول‪“ :‬الحر ّية مبعناها املجرد ليست قالباً جاهزاً‬ ‫ميكن تطبيقه خارج رشوط املوضوعية وخارج‬ ‫الزمان واملكان‪ ،‬بل هي نوع من الرتاكم الكمي‬ ‫والنوعي لتجربة الحر ّية والتحرر عىل املستويني‬ ‫الفردي والجامعي‪ ،‬ومنو لطاقات األفراد العيانيني‪،‬‬ ‫وتنمية لقدراتهم وإرادتهم يف مواجهة للمعيقات‬ ‫والصعوبات املتنوعة يف الحياة‪ .‬ولذلك أيضاً َّ‬ ‫فإن‬ ‫التحرر هو فعل ناقص دامئاً ويسعى سعياً مستمراُ‬ ‫نحو الكامل دون ْأن يصل”ص‪.18-19‬‬ ‫يرفض الكاتب التضاد بني معنى الحر ّية وبني‬ ‫تعيناته ويعتربه تضاداً شكلياً‪ .‬فعىل الرغم من َّأن‬ ‫األصل يف األشياء هو اإلباحة‪ ،‬إال أننا نجد العبودية‬ ‫كرشط مالزم للوجود اإلنساين واقعياً‪ ،‬وتنمو‬ ‫الحر ّية بكرس الحواجز يف ذاته وعامله الطبيعي‬ ‫ويبي كيف استغل النظام‬ ‫واالجتامعي والسيايس‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫السوري النقص املالزم للحرية عيانيا إلشاعة‬ ‫“النسبية والخصوصية” يف الر ّد عىل دعوة الحرية‬ ‫لنقضها‪ ،‬وكيف اعترب هذا النظام أن السوريني‬ ‫ينقصهم الوعي ويدينون باإلسالم وعندهم ُأم ّية‬ ‫وبالتايل ال تلزمهم الحرية بل يلزمهم االستبداد‬ ‫والتوريث‪.‬‬ ‫يخلص الكاتب إىل أننا نفتقد الحر ّية مبعنييها‬ ‫املفهومي والعياين ويقف النظام السيايس‬ ‫االستبدادي سداً منيعاً أمام تطلعات الحر ّية‪ .‬ولهذا‬ ‫ُيح ّيي “الربيع العريب” الذي افتتح حياة عرب ّية‬ ‫قابلة للحياة راجياً ْأن يخلق العرب حريتهم من‬ ‫جديد‪.‬‬


‫كيف يستقبل أهالي درعا الشتاء‬ ‫بين حصار النظام الذي يمنع ادخال المحروقات للمناطق‬ ‫المحررة وبين الغالء الفاحش للمحروقات والحطب‬

‫لبنى صالح‬

‫هوامش‪.‬‬ ‫* تعريف عامل النفس أنجرام لالكتئاب‪ :‬إضطراب مزاجي‬ ‫وجداين يتسم بانحرافات مزاجية تفوق التقلبات املزاجية‬ ‫األخرى‪.‬‬ ‫* الكثري من الباحثني وعلامء النفس ومنهم إريك فروم‬ ‫يرون اإلبداع والتميز ال يتعلقان مبيزات فزيولوجية إمنا هو‬ ‫نتاج للبيئة االجتامعية‪.‬‬ ‫* مدخل إىل سكولوجيا اإلنسان املقهور “مصطفى حجازي”‬ ‫* اإلدمان هنا ال يعني فقط إدمان املخدرات وإمنا إدمان‬ ‫عادات معينة تدفع اإلنسان أن يغيب عن الواقع‬

‫تقارير‬

‫الهوية سؤاالً جوهرياً يف حياة الكثري من السوريني‪.‬‬ ‫رشيحة كبرية من موايل النظام يشعرون بالحنني‬ ‫إىل بدايات الثورة‪ .‬يف أحد النقاشات الدائرة عىل‬ ‫صفحات التواصل االجتامعي “فيس بوك” يعلق‬ ‫أحد املوالني يف نقاش مع آخر معارض‪“ :‬ما حدا‬ ‫كان ضد املظاهرات كنا كالتنا مبسوطني بس‬ ‫بعدين قلبتوها إرهاب”‪.‬‬ ‫ال ميكننا الحديث عن االكتئاب دون اإلشارة إىل‬ ‫أنه مرتبط يف العمق بالعبودية التي ينتجها‬ ‫النظام العاملي الذي يسعى لسيطرة حكم النخبة‬ ‫واالستفادة من األكرثية العاملة لرفاهه واستعباد‬ ‫الطبقات الفقرية‪ .‬إن املسألة برمتها وبأبسط‬ ‫التعابري تتعلق بخلق إنسان منعزل عن اآلخر‪،‬‬ ‫ميلء بالعقد واألمراض النفسية والجسدية من‬ ‫أجل القدرة عىل استعباده‪ .‬وبهذا املعنى فإن‬ ‫الثورة وتحرير اإلنسان من عبوديته هي العالج‬ ‫الحقيقي لحاالت االكتئاب‪ ،‬ووفقاً لذلك كان البد‬ ‫من تحويل الثورة إىل حرب من أجل تصديع‬ ‫صورة السوري عن نفسه وتركه عرضة لنهش‬ ‫الذات وتدمريها سواء بالطريقة املبارشة وهي‬ ‫االقتتال أو عن طريق إنتاج أجيال محبطة ليس‬ ‫لديها ثقة بصورتها وثقافتها وماضيها ومستقبلها‪.‬‬ ‫تسحرين البحرية املمتدة يف عمق الشاشة‪ ،‬أتخيلها‬ ‫مكاناً مناسباً لكتابة رواية ساخرة تتمحور عن‬ ‫االكتئاب‪ .‬عالقة حبيبني يتخللها مواقف وانهيارات‬ ‫تراجيدية‪ ،‬يف حني تبدو لصديقهام الثالث شيئاً من‬ ‫التهريج يبعث عىل الضحك‪ .‬لكن سحنة صديقي‬ ‫الهارب من الغوطة‪ ،‬الواصل حديثاً ألملانيا تعيدين‬ ‫إىل الواقع‪ .‬نتحدث طوي ًال عن الثورة واملعارك‬ ‫والخيانات‪ .‬يصمت ومن ثم يقول يل‪“ :‬هل رأيت‬ ‫صور املجزرة اليوم؟” نصمت مرة أخرى ومن ثم‬ ‫يقول‪“ :‬مىض أسبوع كامل ومل أخرج من املنزل‪.‬‬ ‫أنا مكتئب”‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫ّ‬ ‫حل فصل الشتاء عىل محافظة درعا هذا العام‬ ‫محمال معه أعباء كثرية‪ ،‬فالنظام يفرض عىل‬ ‫املناطق املحررة من هذه املحافظة حصارا منذ‬ ‫أكرث من عامني ونصف ومينع دخول املحروقات‬ ‫والغاز إليها‪ ،‬األمر الذي ساعد تجار الدم حسب‬ ‫ما وصف األهايل لتهريب املحروقات والغاز‬ ‫من حواجز النظام مقابل مبالغ ماليه مرتفعة‪،‬‬ ‫بدوره يقوم التجار برفع أسعار هذه املواد إذ‬ ‫يصل سعر جرة الغاز يف مناطق درعا املحررة إىل‬ ‫‪ 7000‬لرية سورية‪ ،‬بينام وصل سعر لرت البنزين‬ ‫إىل ‪ 400‬لرية‪ ،‬وسعر لرت املازوت يصل إىل ‪350‬‬ ‫لرية‪ ،‬ويستمر التجار يف التالعب باألسعار يف ظل‬ ‫غياب أي جهة رقابية‪.‬‬ ‫أبو خالد من سكان بلدة النعيمة يقول بأن‬ ‫الدفء يف شتاء هذا العام أشبه بالحلم‪ ،‬مربرا‬ ‫ذلك بأن سعر لرت املازوت ‪ 350‬لرية سورية وكل‬ ‫أرسة ستحتاج كحد أدىن إىل ‪ 6‬لرتات يوميا‪ ،‬أي‬ ‫مبعدل ‪ 2100‬لرية كل يوم‪ ،‬أي ما يقارب ‪63000‬‬ ‫ألف شهريا‪ ،‬باإلضافة إىل غالء املعيشة وارتفاع‬ ‫أسعار السلع التجارية فمن الصعب وأشبه‬ ‫بالحلم أن نشعر بالدفء هذا الشتاء‪.‬‬ ‫أبو محمد (اسم مستعار) تاجر محروقات ينتقل‬ ‫بني مناطق سيطرة النظام واملناطق املحررة‬ ‫يقول بأن الغالء يف سعر املحروقات هذا العام‬ ‫ناتج عن صعوبة ادخال هذه املواد من مناطق‬

‫النظام إىل املناطق املحررة‪ ،‬فعند كل حاجر تعرب‬ ‫منه سيارة املحروقات يجب دفع مبالغ مالية‬ ‫مرتفعة يك ميكن تهريبها‪ ،‬وقد يصل املبلغ الذي‬ ‫يطلبه الحاجز عىل كل شحنة إىل ‪ 200‬ألف لرية‬ ‫سورية‪ ،‬وهذا ما يسبب ارتفاع أسعار املحروقات‬ ‫عند وصولها للمناطق املحررة‪.‬‬ ‫أبو حسام من سكان مدينة درعا البلد يقول بأن‬ ‫غالبية الناس يف درعا من العام املايض اعتمدت‬ ‫عىل الحطب يف التدفئة‪ ،‬ألن سعره أقل من سعر‬ ‫املحروقات حيث يصل سعر طن الحطب إىل‬ ‫‪ 45‬ألف لرية سورية‪ ،‬وكل عائلة تحتاج إىل أكرث‬ ‫من ‪ 3‬طن لتكفيهم فصل الشتاء‪ ،‬أي ما يقارب‬ ‫‪ 135‬ألف لرية‪ ،‬ولكن أسعار الحطب غري مستقرة‬ ‫وتشهد ارتفاعا يوميا‪ ،‬ومن ال ميلك مثن الحطب‬ ‫يعتمد عىل قطع أشجاره لتدفئة عائلته عىل حد‬ ‫قوله‪.‬‬ ‫الناشط مهند الحوراين يقول يجب عىل مجلس‬ ‫محافظة درعا الحر تشكيل مكاتب خدمية‬ ‫تشمل مكتب التموين واملخالفات‪ ،‬وفرض‬ ‫الرقابة عىل األسعار ويجب تحديد أسعار‬ ‫للمحروقات وغريها من وسائل التدفئة مام‬ ‫يتناسب مع الظروف املعيشية‪ ،‬والحزم يف تنفيذ‬ ‫االجراءات املطلوبة للحد من انتشار طمع تجار‬ ‫الدم الذين يستغلون ظروف املواطنني لتحقيق‬ ‫أرباح طائلة‪.‬‬

‫تتمة من صفحة ‪8‬‬


‫يا هوى الناس‬ ‫‪12‬‬

‫لينة عطفة‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫ثقافة‬

‫أنزل رجليه عن طاولة املكتب‪ّ ،‬‬ ‫متطى ً‬ ‫قليل اعتدل‬ ‫يف جلوسه‪ ،‬خبط بكلتي يديه عىل الطاولة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫شامخا بشاربيه العسليني‪ ،‬ورصخ بصوته‬ ‫وقف‬ ‫ّ‬ ‫الجبيل‪“ :‬يا أبا أزدشري الغايل‪ ،‬أحرض يل العنارص‬ ‫عىل الفور”‪.‬‬ ‫حان اآلن بتوقيت امللل موعد إيقاظ العنارص‬ ‫من قيلولتهم والنزول إىل األقبية يف جولة عىل‬ ‫املهاجع والزنازين‪ ،‬ال ليشء؛ بل ألن الضابط يريد‬ ‫مناظر تصيبه بنوبات ضحك هستريي وترفع‬ ‫رصيد ذاكرته وخياله من الحكايا لينافس أقرانه‬ ‫يف السهرات‪ .‬تج ّمع العنارص‪ ،‬البداية كانت صفعة‬ ‫عىل نقرة أحدهم‪“ :‬يا بني ب ّكل أزرار البدلة”‪،‬‬ ‫التفت إىل عنارصه التفاتة العارف‪“ :‬انزلوا…”‬ ‫بدأت الجولة‪ ،‬العتم‪ ،‬الربد‪ ،‬الرطوبة‪ ،‬رائحة عفنة‪،‬‬ ‫رائحة القامش املبلل العطن‪ ،‬الدم‪ ،‬الوسخ‪ ،‬رائحة‬ ‫البول والرباز‪ ،‬كل تلك الروائح مجتمعة ال تش ّكل‬ ‫إزعاجا ألنف الضابط‪ ،‬ال يشء يش ّكل فار ًقا ال‬ ‫ً‬ ‫الروائح ال العتمة ال أصوات األنني وال الرصاخ وال‬ ‫أصوات الرضب‪ ،‬بدا األمر اعتياد ًيا متا ًما إىل أن‬ ‫تناهى صوت من بعيد صوت عود‪ ..‬صوت أغنية؛‬ ‫إنه سعدون الجابر يغني يا هوى الناس‪ ،‬تس ّمر‬ ‫الضابط يف مكانه تس ّمر شعره ً‬ ‫أيضا وشعريات‬ ‫ّ‬ ‫وتضخم وصار خرطو ًما‪ ،‬همس‬ ‫أذنيه‪ ،‬اصف ّر أنفه‬ ‫أليب أزدشري‪“ :‬إما أننا نستضيف سعدون جابر يف‬ ‫الفرع أو أن كل ًبا ه ّرب راديو للمحابيس؟! من‬ ‫ه ّرب راديو للمحابيس والااااك؟؟!”‬ ‫التفت إىل العنارص بحقد‪ ،‬تج ّمد العنارص‪،‬‬ ‫تلعثموا‪ ،‬اختنقوا بالهواء‪ ،‬وأنكروا‪ ،‬واستنكروا‪،‬‬ ‫والضابط يرتجف غض ًبا‪ ،‬أشار لهم بالصمت‬ ‫ومىش كأمنا مييش عىل أذنيه‪ ،‬لحق الصوت تبعه‬ ‫كسلوقي وصل إىل الزنزانة الجامعية وبهدوء‬ ‫تراجع قلي ًال إىل الخلف‪ ،‬ابتلع ن َف ًسا ضاعف حجم‬ ‫صدره‪ ،‬ونفخ خديه من الداخل‪ ،‬ته ّيأ… وبلبطة‬ ‫ٌ‬ ‫صمت مطبق‪ ،‬تج ّمد‬ ‫واحدة خلع باب الزنزانة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الهواء‪ ،‬انقطع التنفس‪ُ ،‬‬ ‫وشلت األجساد املتك ّورة‬ ‫عىل الرعب ً‬ ‫أصل‪ ،‬ال راديو وال مسجلة وال من‬ ‫يحزنون‪ ،‬كل الحكاية أن سجينًا كان يعزف عىل‬ ‫العود ويغني األغنية‪.‬‬ ‫“يا هوى الناس‪ ..‬يا ديوث! من ه ّرب لك العود‬ ‫يا كلب؟” التفت إىل العنارص‪“ :‬فتّشوا الزنزانة‬ ‫واشحطوا الكلب وعوده إىل مكتبي”‪ .‬اقتحم‬ ‫العنارص الزنزانة وسط سيلٍ من الشتائم والرضب‬

‫املربح‪ ،‬خ ّربوا ومزّقوا كل يشء‪ ،‬فتّشوا الجدران‬ ‫والبالط والبطانيات العسكرية‪ ،‬صادروا املسابح‬ ‫التي صنعها السجناء من عجو الزيتون‪ ،‬صادروا‬ ‫ً‬ ‫ومتثال من‬ ‫وزوجا من الجوارب‬ ‫كيسني من التبغ ً‬ ‫الخبز‪ ،‬ورماد السجائر وشحطوا السجني املسكني‬ ‫مع العود إىل مكتب الضابط ورموه عىل بالط‬ ‫الغرفة‪ .‬مل يق َو عىل الوقوف عىل قدميه‪ ،‬كان‬ ‫غار ًقا يف الرعب ويف رسد احتامالت املوت بني يديّ‬ ‫الضابط وأنه سيقتله أو يعطبه ويصادر العود‪.‬‬ ‫مرسحي وجهه إىل‬ ‫وقف الضابط بشكلٍ هتلريٍّ‬ ‫ّ‬ ‫الش ّباك‪ ،‬بقي خمس دقائق يتأمل الفراغ اإلسمنتي‬ ‫ثم استدار فجأة وركض إىل السجني الذي مل يجرؤ‬ ‫أن ينبس بحرف‪ ،‬أمسكه من رقبته بلؤم وغضب‬ ‫ورصخ‪“ :‬أستطيع اآلن أن أدفنك يف هذه الغرفة‬ ‫تحت قدمي‪ ،‬لكن سأمنحك فرص ًة لالعرتاف‪:‬‬ ‫من الذي ه ّرب لك العود؟” عرف السجني حقّ‬ ‫بدم بارد‪ ،‬قال له‪:‬‬ ‫املعرفة أن ذاك املعتوه سيقتله ٍ‬ ‫“سأخربك بكل يش بكل يشء يا سيدي لكن أرجوك‬ ‫أن متنحني الوقت واألمان”‪.‬‬ ‫نظر الضابط بتوعّد وأفلت رقبة السجني وقال‪:‬‬ ‫“عليك األمان لكن أريد كل يشء بالتفصيل‬ ‫اململ”‪ .‬احتضن الضابط العود برفق وجلس‬ ‫إىل املكتب وضع العود أمامه وأمر السجني‬ ‫بالجلوس قبالته وبدأ السجني‪“ :‬يا سيدي مل يه ّرب‬ ‫أحد محدّد يل العود‪ ،‬ه ّربه الجميع يل”‪ .‬انفعل‬ ‫الضابط‪“ :‬الجميع هنا رشيك يف الجرمية؟ كيف‬ ‫الجميع؟” أجاب السجني‪“ :‬أنا صنعت العود‬ ‫بنفيس”‪ .‬فضحك الضابط باستخفاف وقال‪:‬‬ ‫“أنت يا ملعون الوالدين؟ كيف؟” ردّ‪“ :‬املواد‬ ‫ك ّلها متو ّفرة‪ ،‬أنتم تجلبون لنا الطعام بسحارات‬ ‫خشبية‪ ،‬كنت أرسق أضل ًعا من السحارة وأح ّفها‬

‫بشفرة الحالقة أنقعها باملاء‪ ،‬وأشويها بلهب والعة‬ ‫السجائر لتنحني يك أصنع قفص العود وألصقت‬ ‫األضلع ببعضها بالخبز والسكر املذابني باملاء‪،‬‬ ‫وم ّرة رسقت أرجل سحارتني ألصنع زند العود‬ ‫ّ‬ ‫ونحت مفاتيحه من أربعة أقالم رصاص‪،‬‬ ‫وفرسه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫خيوطا من جوارب النايلون وجمعتها‬ ‫نسلت‬ ‫ألصنع األوتار‪ ،‬أما الريشة فقد صنعتها من ياقة‬ ‫قمييص‪ ،‬انظر يا سيدي قمييص مبتور الياقة”‪.‬‬ ‫كان الضابط يكتم دهشته وذهوله مع كل كلمة‬ ‫تخرج من فم السجني‪ ،‬أمسك العود‪ ،‬ق ّلبه بهدوء‪،‬‬ ‫حدّق بالسجني بجحوظ‪“ :‬كيف ز ّينت العود”؟ ر ّد‬ ‫السجني‪“ :‬ز ّينته بالقامش‪ ،‬مثة قامش متآكل عندي‬ ‫زينت به العود‪ ،‬إنه عود حقيقي و صوته بديع‬ ‫يا سيدي‪ ،‬صوته حنون وأنا والعنارص بريئون‪،‬‬ ‫مل يه ّربه أحد يل يا سيدي”‪ .‬وهنا نظر السجني‬ ‫يف عيني الضابط الشاردتني بالعود‪ ،‬شعر بغصة‬ ‫كبرية‪ ،‬كل ذاك الجهد الذي بذله سيع ّلق يف بيت‬ ‫الوحش الذي سيوسعه رض ًبا اآلن‪ ،‬سيز ّين به بيته‬ ‫سيعرضه عىل ضيوفه ويباهي به أقرانه‪ ،‬وسيتعلم‬ ‫أوالده العزف عليه ورمبا يهديه ألحد رؤسائه أو‬ ‫يبيعه مببلغ هائل من املال ورمبا… “سأتحمل‬ ‫أيامي املقبلة يف املنفردة لكن املهم‪ :‬نجا العود”‪.‬‬ ‫رن الضابط الجرس دون أن ينظر إىل السجني‪،‬‬ ‫استدعى العنارص ليأخذوه‪ ،‬وقف عنرصان عند‬ ‫الباب‪ ،‬تهدّج صوت الضابط‪“ :‬خذوا هذا الكلب‬ ‫إىل املنفردة”‪ .‬رفعاه من تحت إبطيه وما إن‬ ‫أداروا ظهورهم ومضوا إىل الباب حتى سمعوا‬ ‫خط ًوا ملته ًبا ودويّ رضبة هائلة عىل ظهر السجني‬ ‫أوقعته ً‬ ‫أرضا‪ ،‬وتناثرت شظايا العود يف املكان‬ ‫وطنني ّ‬ ‫تحطمه‪“ ،‬أنت صنعت العود؟” رصخ‬ ‫الضابط “أنت صنعت؟! يا حرشة‪ ،‬يا تافه‪ ،‬أنت‬ ‫تحتقر عقيل وترسق وتستغل ما أمنحه لك‪ ،‬من‬ ‫سمح لك أن تصنع عودًا؟ من سمح لك بالغناء‬ ‫ً‬ ‫أصل؟! سوف أصنع من جلدك عودًا وأعزف عليه‬ ‫يا حقري يا سافل”‪ .‬وأمسك ما تبقى من جسم‬ ‫العود ورصخ‪“ :‬انظر إليه‪ ،‬هذا هو عودك يا بخش‬ ‫الفن” وهوى به عىل رأس السجني وبدأ يدوس‬ ‫بشكل هستريي الشظايا وهو يشتم ويرغي‬ ‫ويزبد‪ ،‬انسحب العنرصان مع السجني املدمى‬ ‫باتجاه املنفردة‪ ..‬وكان كل ما بقي من العود؛‬ ‫الطنني األخري يف رأس السجني من أثر الرضبة التي‬ ‫قصمت العود عىل ظهره‪.‬‬


‫نشرة ثقافية‬

‫نشاطات وجوائز لمبدعين سوريين‬ ‫‪13‬‬

‫طلعنا عالحرية – القسم الثقافي‬

‫خاصة‬ ‫جلنار حاجو تفوز بأكرب جائزة عربية ّ‬ ‫بأدب األطفال‬ ‫تدمر الجديدة يف باريس‬

‫أطلقت مجموعة من السوريني مع مجموعة‬ ‫متعددة الجنسيات “فلسطني‪ ،‬لبنان‪ ،‬فرنسا‪،‬‬ ‫بريطانيا‪ ،‬أمريكا” مرشوع معرض سوريّ بعنوان‬ ‫“تدمر الجديدة” من ضمنهم املعتقل يف سجون‬ ‫النظام السوري (باسل الصفدي) أحد مؤسيس‬ ‫املرشوع منذ ‪ ،2005‬ويعنى املرشوع بالحفاظ عىل‬ ‫الرتاث الحضاري واملشاع اإلبداعي‪ ،‬ويهدف إىل‬ ‫جمع كل ما يخص تدمر‪ ،‬عامرتها‪ ،‬تراثها‪ ،‬وفنها‪،‬‬ ‫وقام املرشوع ببناء مدينة تدمر رقم ًيا باستخدام‬ ‫الصور والبيانات املتوفرة عنها لدى زوارها ولدى‬ ‫املتاحف والبعثات التنقيبية ومعاهد اآلثار يف‬ ‫جامعات العامل‪.‬‬

‫“شهادات سورية” وينطلق الكتاب من تشابه‬ ‫أسامء بني املؤلف وأحد الضحايا الذين قتلوا يف‬ ‫سوريا‪ ،‬ويتابع منها لالنتفاضة السورية وآمالها‬ ‫وأحزانها وقلقها‪ ،‬يف مجموعة نصوص متسلسلة‬ ‫تجمع بني اللغة الشعرية والتحليل السيايس‪.‬‬

‫أيام الكرز يف مهرجان ديب السيناميئ‬

‫أعلن املمثالن السوريان التوأم ملص عن مشاركة‬ ‫فيلمهام “أيام الكرز” يف مهرجان ديب السيناميئ‪،‬‬ ‫الفيلم الذي ميتد لساعة وربع الساعة‪ ،‬وتم‬ ‫إنتاجه بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية‬ ‫وجمعية “‪ ”POUR UNE SYRIE LIBRE‬وقد‬ ‫تم تصويره يف مدينة مع ّرة النعامن شامل سوريا‪،‬‬ ‫ويتحدث عن اليوميات الجميلة عىل هامش‬ ‫رمضان وكأس العامل‪ ،‬ويص ّور حياة الناس هناك‬ ‫وتفاصيلها التي مل يس ّلط الضوء عليها‪.‬‬

‫فازت الرسامة والكاتبة السورية بجائزة أفضل‬ ‫القصة” يف‬ ‫رسوم عن كتاب “نور تهرب من ّ‬ ‫مسابقة اتصاالت وهي أكرب جائزة عربية خاصة‬ ‫بأدب الطفل تصدر عن املجلس اإلمارايت لكتب‬ ‫اليافعني‪ ،‬ويذكر أن الكتاب من تأليف عبري عيل‬ ‫ومن إصدارات دار األصابع الذكية – سوريا‪.‬‬

‫فادي عزّام يقرأ “رسمدة” يف سويرسا‬

‫خاصة بعنوان “أمسية سور ّية” أقيمت‬ ‫يف مناسبة ّ‬ ‫يف زيورخ‪ ،‬قرأ الكاتب السوري فادي عزّام من‬ ‫روايته “رسمدة” وناقشها مع الجمهور السويرسي‪،‬‬ ‫وناقش مجريات األمور يف سوريا ودور املثقف‬ ‫السوري يف الثورة وتأثريه‪ ،‬كام عُ رض بعد األمسية‬ ‫فيلم “اللجاة” للمخرج السوري رياض شيا‪.‬‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫‪ ،”AWARDS‬وكان مخرج الفيلم زياد كلثوم‬ ‫قد أعلن عن مشاركة الفيلم هذا الشهر يف ثالثة‬ ‫مهرجانات وهي‪ :‬أيام قرطاج السيناميئ يف تونس‪،‬‬ ‫ومهرجان يب يب يس يف لندن‪ ،‬ومهرجان إيطاليا‬ ‫قصة الرقيب املجند زياد‬ ‫يف روما‪ ،‬ويص ّور الفيلم ّ‬ ‫كلثوم حني وجد نفسه مجندًا يف واحدة من أكرث‬ ‫ً‬ ‫اشتعال “املليحة – الغوطة الرشقية”‪.‬‬ ‫الجبهات‬

‫محمد املطرود يناقش الصورة النمطية بني‬ ‫النقد واإلساءة يف أملانيا‬

‫أعلن الكاتب السوري محمد ديبو عن صدور‬ ‫النسخة اإليطالية من كتابه “كمن يشهد موته”‬ ‫وإطالقها يف املكتبات‪ ،‬الكتاب الذي صدر بنسخته‬ ‫العربية عن بيت املواطن السوري والرابطة‬ ‫السورية للمواطنة عام ‪ 2014‬ضمن سلسلة‬

‫فاز فيلم “الرقيب الخالد” للمخرج السوري زياد‬ ‫كلثوم بجائزة أفضل فيلم تسجييل طويل يف‬ ‫مهرجان يب يب يس “‪BBC ARAB FESTIVAL‬‬

‫ثقافة‬

‫“كمن يشهد موته” يف إيطاليا‬

‫الرقيب الخالد يحصد جائزة مهرجان يب يب‬ ‫يس للفيلم التسجييل الطويل‬

‫ضمن ندوة بحثية أقامتها املنظمة اإلسالمية‬ ‫للرتبية والعلوم والثقافة بالتعاون مع املؤسسة‬ ‫املغاربية األملانية للثقافة واإلعالم بعنوان‬ ‫“الصورة النمطية بني النقد واإلساءة لآلخر – من‬ ‫منظور الحقوق األساسية وثقافة الحوار”‪ ،‬شارك‬ ‫الشاعر والناقد السوري محمد املطرود من سوريا‬ ‫مع مجموعة كبرية من اإلعالميني واملثقفني وخرباء‬ ‫القانون الدويل وحقوق اإلنسان وشؤون الهجرة‬ ‫ومنظامت مدنية من أملانيا وأوروبا واملغرب‬ ‫وتونس‪ ،‬وخرجت الندوة بتوصيات ها ّمة فيام‬ ‫يتعلق مبعالجة الصورة النمطية وتعزيز ثقافة‬ ‫الحوار‪.‬‬


‫والدة متعســرة‬

‫‪14‬‬ ‫وافي بيرم‬ ‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫مل أولد صغ ًريا أبدًا‪ ،‬ومل أتك ّون من خالل جنني بأصابع‬ ‫رسيّ متّصل بعامل‬ ‫طر ّية وعيون مغمضة‪ ،‬وحبل ّ‬ ‫آخر‪ .‬ق ِد ُ‬ ‫مت إىل العامل هكذا بشكيل الحايل‪ ،‬وكريش‬ ‫املتقدم ع ّ‬ ‫يل بهدفني‪ ،‬وشع ٍر أجعد‪ ،‬وشامة أسفل‬ ‫الشفة ينبت فيها رهط من الشعريات السوداوات‬ ‫أخ ّبئ تحتهنّ خبثي‪.‬‬ ‫ق ِد ُ‬ ‫مت هكذا بحقدي وغضبي بدون أي براءة تذكر‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صارخا‬ ‫أو رصاخ بريء لحظة الخروج‪ ،‬بل خرجت‬ ‫بالشتائم‪ ،‬أتيت كام أنا؛ طويل يالحق النساء ويكرس‬ ‫مصابيح الرشفات ويشتم الجدّات وحكاياتهنّ ‪،‬‬ ‫أعمل “عت ًّال” براتب زهيد عند القهر‪ ،‬وأقوم بأعامل‬ ‫مسائ ّية بدوام إضايف تحت رحمة الجنون ‪-‬جنون‬ ‫ُ‬ ‫قدمت يف زمن الحرب‪ ،‬يف زمن الجربوت‪،‬‬ ‫هذا العامل‪-‬‬ ‫يف زمن رفع الرؤوس عىل أسوار حدائق األطفال‪ ،‬يف‬ ‫زمن تفتيت األجساد‪ ،‬يف زمن عجن اللحم بالحديد‪،‬‬ ‫قالوا يل إنه يف يوم مىض كانت هناك إنسانية‪ ،‬قدُّ ها‬ ‫مرمر وثدياها كوكبان دريان ُتس ِكر الناظرين‪ّ ،‬إل‬

‫أن ً‬ ‫وحشا عمال ًقا أعجبته فاغتصبها‪ ،‬ورشب نخبها‬ ‫ً‬ ‫مخلوطا بدماء بكارتها برفقة رجال دين وطاغية‪.‬‬ ‫يدهشني البعض بفرحهم بتذ ّكر أيام الطفولة‬ ‫والرباءة كام يسمونها‪ ،‬مل أجد مرب ًرا واحدًا لسعادة‬ ‫حازم ترتبع عقدة تش ّكلت‬ ‫طفل‪ ،‬يف ٍ‬ ‫أب ٌ‬ ‫بيت ر ُّبه ٌ‬ ‫منذ زمن األحفوريات أعىل جبينه‪ ،‬يجلس بني‬ ‫أصدقائه واض ًعا قد ًما فوق أخرى ليقول‪ :‬أنا أدخل‬ ‫البيت ألج ّمد الهواء يف حناجر أهله‪ ،‬ثم ينفض رماد‬ ‫سيجارته وهو يرتجف ويتطلع خو ًفا من جدار قد‬ ‫وجه أذنه باتجاهه‪ ،‬أو أستاذ بعصا قدّها من الجنة‬ ‫كام يدّعي؛ يهوي بها عىل من يفتخرون بتلك الرباءة‪،‬‬ ‫أو ٍأم خلقت يف مه ّمة لتلقي الشتائم والرضب يوم ًيا‬ ‫بحجة جنحها املكسور‪ ،‬كرسوا لها جنحها‪ ،‬ثم نعتوها‬ ‫بذات الجنح املكسور!‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال مل أكن ً‬ ‫ّ‬ ‫طفل أبدًا‪ ،‬كل ما أتذكره هو أنني أتيت‬ ‫هكذا بلسان بذيء‪ ،‬وحقد وكره وغضب‪ ،‬وأسنان‬ ‫حادّة ّ‬ ‫قطعت بها ّ‬ ‫كل الحبال الرس ّية املتّصلة بتلك‬ ‫الرباءة الغب ّية‪.‬‬

‫بيدق‬ ‫سرى علوش‬ ‫مصدر الصورة‪ :‬إنرتنت‬

‫ثقافة‬

‫طعنة يف الظهر! وجهك القديم املغمور‬ ‫بابتسامات النسيان‪ ،‬ووجهك الجديد‬ ‫الغريب الذي مل أتعرف عليه‪ ،‬والذي يبتكر‬ ‫ألف فكرة وفكرة لقطع حباله الصوتية‪.‬‬ ‫وجهك املتقدم عىل خط الزمن دون أن‬ ‫يتعرث باألغاين واالقتباسات‪ ،‬ودون أن تفقده‬ ‫محنة الغفران صوابه فتختلط الصور يف‬ ‫ذاكرته وينتبه‪ .‬وجهك الجديد خيانة فاجرة‬ ‫لبنت كنتُها قبل عامني ومازالت تنتظرك‬ ‫هناك يف محطة القطار ليك تفرتقا أخ ًريا‬ ‫بحرفة عاشقني عارفني أمل الفراق وقادرين‬

‫عىل التعايش معه‪ .‬وجهك خرق لغوي طغى ضعفه البالغي‬ ‫عىل السالم املبتذل والكف التي انقطعت أخبارها عن‬ ‫العرافة مذ انقطع إميانك بكذبة األبدية‪ .‬كان ذلك كاف ًيا‬ ‫لكلينا ليك نعرتف أن فكرة الوقت غري كفيلة بشفاء الجروح‬ ‫التي نفتحها كلام التقينا أو بإيقاظ النسيان النائم من رشوده‬ ‫عن مصرينا؛ مصرينا الذي ليست لديه أدىن فكرة عام ينتظرنا‬ ‫من ندم يفرتس أسامءنا كمجرم متمرس‪ .‬طعنة يف الظهر‬ ‫صوتك! صوتك الغائب اليابس كغريب ال مييز قلبه التاريخ‬ ‫وال يحركه مرب ًعا زمن ًيا واحدًا‪.‬‬ ‫غريتنا الحرب‪ .‬أكلت وساوسنا وألق الكذبات الكثرية التي‬ ‫رميتها يف وجهي كذبة وراء أخرى حتى مل أعد قادرة عىل‬

‫هزمية الوقت وترتيبها والنظر فيها أو‬ ‫اكتشافها‪ .‬غريتك الحرب؛ أخذت قلبك‬ ‫ووضعت مكانه لعبة بالستيكية قدمية‬ ‫تنكرس داخلك كلام تقلبت يف نومك دون‬ ‫أن تدري أو تصدق احتامل أن ينكرس‬ ‫داخلك يشء دون أن يؤملك! مل تغريك‬ ‫الحرب‪ ،‬رمبا ال تغري الحرب أحدًا؛ هي‬ ‫تكتفي بخلع األقنعة عن وجوه الجميع‬ ‫ومنحهم من املوت ما يكفي للتخلص من‬ ‫نعمة الخجل واالمتثال للكوابيس التي‬ ‫يعيشون فيها ويسمونها حياة‪.‬‬ ‫طعنة يف الظهر يدك؛ يدك التي ابتسمت‬ ‫لكتفي مرات عديدة وغطت جسدي‬ ‫بضحكاتها امللفوفة باملوج‪ ،‬ثم أطلقت النار‬ ‫عليه حني استدار نحو الفرح ليربر غفرانه‬ ‫لك‪ ،‬ويقنع الله بحبك الذي ال دليل عليه‬ ‫سوى غيابه‪ .‬الطعنات ال تقتل‪ .‬الطعنات‬ ‫تغري اتجاه الريح فقط‪ ،‬وتجعلنا نسلك‬ ‫طري ًقا آخر ال مرايا ُتز ّورنا يف نهايته‪ ،‬وال‬ ‫ظالل تنام عىل أرصفة املدينة التي أضعت‬ ‫نفسك بني فتيات ليلها‪ ،‬ومل تجد بدالً عنها‬ ‫سوى بيدق أكرث جبنًا من أن يدخل حر ًبا‪.‬‬


‫منظمات المجتمع المدني‪ ..‬الثورة الهادئة‬

‫‪15‬‬

‫تتمة من صفحة ‪3‬‬

‫الخامتة‪ :‬إن كل ما قيل يتلخص يف أمرين‪:‬‬ ‫‪ - 1‬إن املجتمع اإلسالمي كام تثبته وقائع التاريخ‪،‬‬ ‫هو مجتمع مدين قبل أن يغتاله الطغاة‪ ،‬وإن النظام‬ ‫اإلسالمي يحافظ عىل مدنية املجتمع‪ ،‬من خالل‬ ‫فريضة املشاركة يف الشأن العام‪ .‬لكن الطغاة زوروا‬ ‫هذه الفريضة‪ ،‬فحولوها ألداة يف خدمتهم‪ ،‬بدل أن‬

‫العدد ‪2015 / 11 / 17 - 59 -‬‬

‫السالم مع “إرسائيل” مل تعرض لألمة بعد أربعني‬ ‫عاماً‪ ،‬وعقود استئجار الحكام الذي فضحتهم ثورات‬ ‫الربيع العريب ال يعرف أحد عنها شيئاً‪ .‬والشواهد أكرث‬ ‫من أن تحىص‪ ،‬وبقي األمر عىل هذه الحال‪ ،‬حتى‬ ‫استحالت الخالفة الراشدة ملكاً عضوداً‪ ،‬استوىل فيه‬ ‫املستبدون عىل الفضاء العام‪ ،‬وحجروه عىل األمة‪،‬‬ ‫وسد‬ ‫وصارت األمة دهامء ال تستشار‪ ،‬وال تستأمر‪ ،‬بل ِّ‬ ‫األمر إىل من تجرأ عىل األمة وقال‪ :‬والله ال يأمرين‬ ‫أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إال رضبت عنقه‪.‬‬ ‫وفع ًال طارت أعناق كثرية مبربرات مختلفة‪ ،‬وحيل بني‬ ‫األمة وبني املشاركة يف إدارة شؤونها‪ ،‬حتى وصلت‬ ‫األمة إىل ما وصلت إليه‪ ،‬وتوىل السلطة فيها خلفاء‬ ‫الغرب امللوك اآللهة‪ ، ،‬فهم ال يسألون عام يفعلون‪ ،‬ال‬ ‫مبدل ألمرهم‪ ،‬وال معقب لكلمتهم‪ ،‬وال راد لحكمهم‪،‬‬ ‫وبقينا يف هبوط والعامل يف صعود‪ ،‬حتى اكتشف‬ ‫األوربيون يف رصاعهم مع الطغاة قيمة املجتمع املدين‬ ‫فنظموا حركته‪ ،‬وقننوا وجوده‪ ،‬وجعلوه من ثوابت‬ ‫النظام السيايس عندهم‪ ،‬ثم كانت عودة املجتمع‬ ‫املدين ومنظامته سبباً يف خالص األوربيني الرشقيني‬ ‫من طغيان الشيوعية‪ ،‬الذي دشنته حركة تضامن‪،‬‬ ‫فنبتت نابتة املجتمع املدين يف بالدنا بسحر قوته يف‬ ‫مواجهة الطغاة‪ ،‬وأحس هؤالء بخطورته‪ ،‬فلفقوا له‬ ‫كل تهمة‪ ،‬واستعملوا يف وجهه كل سالح‪ ،‬فادعوا أنه‬

‫صنيعة املستعمر ودسيسته‪ ،‬ورأس حربته‪ ،‬وأنه حرب‬ ‫عىل الدين‪ ،‬وملا مل يجد ذلك‪ ،‬حظروا حركته‪ ،‬وسجنوا‬ ‫رموزه‪ ،‬وأمكنهم ذلك ألن الحركة كانت حركة نخب‬ ‫محدودة‪ ،‬وحسب الطغاة أن األمر دان لهم‪ ،‬حتى‬ ‫دقت ساعة الحقيقة فقامت األمة بقضها وقضيضها‪،‬‬ ‫من مرشقها إىل مغربها وإن بتفاوت‪ ،‬ومتكنت الثورات‬ ‫من إزاحة الطغاة‪ ،‬وساهمت قوة املجتمع املدين‬ ‫كثرياً يف سياق التطورات يف كل ثورة‪ ،‬فسارع بعض‬ ‫الطغاة لتقديم إصالحات يحارص بها عودة املجتمع‬ ‫املدين أو عودة الروح لألمة‪ ،‬وجرفت قوى املجتمع‬ ‫آخرين‪ ،‬واختلفت سياقات الثورات بحسب قوة‬ ‫املجتمع املدين فيها وطبيعته‪ ،‬ففي املجتمعات التي‬ ‫دمر الطغاة فيها املجتمع املدين تحولت الثورات إىل‬ ‫حروب مدمرة كام يف سوريا حيث مل نعرف سوى‬ ‫منظمتي الطالئع والشبيبة! ويف املجتمعات التي فيها‬ ‫بقية مجتمع مدين اتخذت األمور مساراً أقل تدمرياً‪.‬‬

‫تكون يف مواجهتهم‪ ،‬وانطىل األمر عىل كثريين‪ ،‬فصار‬ ‫اآلمر باملعروف يتكيف‪ ،‬مع استباحة األمة‪ ،‬وخرم‬ ‫التوحيد من امللوك اآللهة‪ ،‬ويالحق فتاة لزيها أو شاباً‬ ‫حليقاً‪ ..‬وهذا غاية التزوير وقمة الضياع‪.‬‬ ‫‪ - 2‬لقد أعادت ثورات الربيع العريب الحياة للمجتمع‬ ‫املدين‪ ،‬واآلن منلك الفرصة ألن نجعل عودته نهائية‬ ‫ودامئة‪ ،‬وذلك من خالل ما ييل‪:‬‬ ‫تحرير معنى املجتمع املدين من تشويه أنظمة الجرب‬ ‫وامللك العضود‪ ،‬وإعادة االعتبار ملجتمع املدينة‪،‬‬ ‫وإحياء معانيه ومضامينه‪.‬‬ ‫تنظيم قوى املجتمع املدين يف منظامت تعرف دورها‬ ‫وتقوم بواجبها يف خدمة األمة وصيانة املجتمع‪ ،‬وال‬ ‫عاصم من عودة أنظمة الطغيان من غري مجتمع مدين‬ ‫حي قوي يعرب عن ذاته من خالل منظامت رشعية‬ ‫تستطيع أن تجسد قوة الجمهور بصورة ثابتة ودامئة‪.‬‬ ‫تحرير الفضاء اإلسالمي‪ ،‬بالقطع بني مجتمع املدينة‬ ‫مجتمع األمة‪ ،‬ومجتمعات امللك العضود التالية‪،‬‬ ‫حيث حيل بني األمة ومامرسة دورها‪ ،‬والتخلص من‬ ‫كل تزويرات فقهاء السلطان‪ ،‬وسدنة الطغيان‪.‬‬ ‫أعادة الروح لفريضة األمر باملعروف والنهي عن‬ ‫املنكر لتكون وظيفة الجمهور يف مواجهة جور‬ ‫الطاغية‪ ،‬وليس أداة الطاغية لقمع الجمهور‪ ،‬كام هي‬ ‫مامرسة يف بعض كاركاتريات الدول اإلسالمية‪.‬‬

‫مقاالت‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.