شهرية ثقافية مستقلة
العدد 59
مجزرة باريس.. وتعقيدات المبادئ والسياسة
2015 / 11 / 17
تحمل كل مأساة معها فرصة الستعادة اإلنسان ّية املخطوفة لصالح السياسة ..يحدث ذلك فقط عندما يكون املوقف من اإلرهاب موقفاً مبدئ ّياً متحرراً من الحسابات .نحتاج اليوم إىل إدانة القتل ..كل القتل ،كل العنف ،كل اإلرهاب..
مجلة مستقلة ،تعنى بشؤون الثورة السورية ،نصف شهرية ،تطبع وتوزع داخل سوريا ويف عدد من مخيامت اللجوء والتجمعات السورية يف الخارج
ملف العدد السورية منظمات المجتمع المدني ّ
محور العدد
مجزرة باريس.. وتعقيدات المبادئ والسياسة
2
افتتاحية بقلم عماد العبار
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
عام ثقيل م ّر عىل الفرنس ّيني .بدأ بهجوم إرها ٍّيب ٌ عىل موقع صحيفة شاريل إيبدو وراح ضح ّيته 12ضح ّية ،وها هو ينتهي مبجزرة رهيبة ته ّز املجتمع الفرنيس ومل تعرف الحصيلة النهائ ّية لعدد ضحاياها حتّى اللحظة ..املجزرة املر ّوعة يرى فيها كثريون حدثاً يعادل اعتداءات أيلول التي رضبت الواليات املتّحدة ،فاألسلوب الذي ّمتت به العمل ّية والتنسيق عايل املستوى، واألسلحة املستخدمة ،ومحاولة استهداف ملعب املشجعني بحضور يجمع عرشات اآلالف من ّ الرئيس الفرنيس مع شخصيات سياسية ،كل هذه العوامل تجعل من املجزرة حدثاً استثنائ ّياً ّ بكل املقاييس ..س ّيام ّ وأن املجتمعات األوروب ّية، املجتمع الفرنيس عىل وجه الخصوص ،تغيل بحوارات عىل املستوى السيايس واالجتامعي حول مشاكل االندماج والهو ّية ،وحول اآلثار االقتصاد ّية لظاهرة الهجرة ..يف ّ ظل هذه األجواء التي كان فيها الوجود اإلسالمي يف فرنسا ما ّد ًة رئيس ّية يف الربامج االنتخاب ّية لألحزاب املتنافسة، تأيت املجزرة املر ّوعة لتعطي دفعاً هائ ًال لألحزاب اليمين ّية املتط ّرفة التي ح ّققت تقدماً كبرياً يف االنتخابات اإلقليم ّية األخرية.. عىل املستوى الدويل ،جاءت املجزرة يف ظرف بالغ التعقيد لتزيد من خلط األوراق عىل الساحة السور ّية بشكل خاص .تقف فرنسا موقفاً واضحاً ض ّد تنظيم الدولة وتخوض مع الواليات املتحدة حرباً ضدّه يف سوريا ،وض ّد فصائل السلف ّية الجهاد ّية يف عدّة مناطق من إفريقيا ،وهنا ميكن القول إ ّنها كانت منذ فرتة طويلة مستهدفة من قبل هذه التنظيامت
وأنصارها يف أورو ّبا ،سيام ّ وأن نسبة الجهاد ّيني من أصول فرنس ّية يف صفوف تنظيم الدولة هي األعىل من بني جميع الجنس ّيات الغرب ّية ،ويبدو ّأن ازدياد الضغط عىل التنظيم وتل ّقيه رضبات يتوجه إىل هذه موجعة يف الفرتة األخرية جعله ّ النوعية من العمل ّيات يف العمق األورويبّ ،األمر الذي يعيد الثقة بقدراته بني صفوف أتباعه، وهذا ما سيؤدّي أيضاً إىل زيادة عدد أتباعه يف دول أورو ّبا ،وال يستبعد أن يؤدي ر ّد الفعل الخاطئ تجاه املتشدّدين يف أوروبا إىل زيادة والتوحش عند أتباع التنظيم ،وبالتايل العصب ّية ّ ارتفاع منسوب العنف واإلرهاب.. من جهة ثانية ،تقف فرنسا موقفاً حازماً يف وجه نظام بشار األسد ،وهي متّهمة من قبل رأس النظام بدعمها للمعارضة والعمل عىل إسقاطه، وليس ّ أدل عىل ذلك من الخروج الشامت لألسد بعد ساعات من حدوث املجزرة ،وقد عمل األسد عىل الربط بني سياسة فرنسا يف دعمها ما أسامه اإلرهاب وبني تع ّرضها للعمل ّيات اإلرهاب ّية.. األحداث األخرية أعطت األسد ونظامه أم ًال جديداً بالنجاة ،فقد رأى مؤ ّيدوه أن هذا سيدفع فرنسا للتحالف مع الروس إلعطاء األولو ّية ملكافحة اإلرهاب وإعادة اإلعتبار لنظام األسد لكون وجوده رضورة يف هذه املرحلة ..تتالقى إذاً مصالح األسد مع مصالح تنظيم الدولة يف املجزرة األخرية ،وهي ليست امل ّرة األوىل التي تتالقى فيها مصالح الطرفني مبا يخدم متدّد التنظيم واستمرار النظام ..ويكاد غالبية املراقبني ُيجمعون عىل ّأن مصلحة السور ّيني تل ّقت رضبة جديدة بفعل هذا الجنون ..ليس يف الداخل فحسب ،بل يف ّ كل مكان ،ومعها مصلحة جميع املسلمني املقيمني يف أورو ّبا.. يف ظل كل هذه التعقيدات ظهرت تعقيدات جديدة س ّببتها املواقف الحادّة من الجرمية
كلمة
للنشر أو مراسلة فريق التحرير
مقارنة باملواقف الهزيلة من الجرائم التي ترتكب يف مناطق أخرى من العامل ،ويف مقدمتها جرمية اإلبادة التي يتع ّرض لها الشعب السوري من قبل أطراف عديدة ..الالفت كان حجم التضامن العاملي مع الضحايا وعائالتهم ومع املجتمع الفرنيس ككل ،دول عديدة ز ّينت ساحاتها بالعلم الفرنيس ،من أمريكا إىل املكسيك إىل أسرتاليا ومعظم دول أوروبا والعامل ..وهو تفاعل إنساين إيجايب وال ّ شك .الالفت أيضاً تفاعل كثريين يف عاملنا العريب مع الحدث ،يف الوقت الذي مل يحصل فيه عرشات اآلالف من الضحايا يف سوريا عىل معشار هذا التأييد ،وهنا أذكر بكثري من األىس مجزرة الكياموي التي اكتفى العامل الغريب مبعاقبة الفاعل من خالل سحب أداة الجرمية من يده وإطالقه الستكامل مه ّمته الدمو ّية باستخدام الرباميل! ويف سوريا نفسها هناك من ش ّكك مبسؤول ّية النظام يسجل تعاطفه مع عن مجزرة الكياموي ،ومل ّ الضحايا العتبارات عدّة تتعلق بانتامءات سياس ّية أو طائفية أو إثن ّية ..وهناك من يف ّرق بني ضحايا إرهاب وإرهاب! وضحايا وبني ٍ تحمل كل مأساة معها فرصة الستعادة اإلنسان ّية املخطوفة لصالح السياسة ..يحدث ذلك فقط عندما يكون املوقف من اإلرهاب موقفاً مبدئ ّياً متحرراً من الحسابات .نحتاج اليوم إىل إدانة القتل ..كل القتل ،كل العنف ،كل اإلرهاب.. العنف باسم اإلسالم ..العنف باسم الدميقراطية.. العنف باسم القومية العربية ..العنف باسم القومية الكرد ّية ..العنف باسم العلامن ّية ..باسم اإللحاد ..باسم الحسني وزينب ..باسم اليهودية واملسيحية ..باسم البوذية ..باسم الشيوعية.. باسم أو بدون اسم ..أو العنف ملج ّرد العنف.. من يرتدّد يف إدانة العنف العتبارات تتع ّلق بانتامئه للجامعة املدانة فهو بحاجة إىل عالج نفيس ..هو مرشوع إرهايب ببساطة.. تفاعل معنا عبر صفحاتنا على اإلنترنت www.freedomraise.net
freedomraise@gmail.com
facebook.com/freeraise
مجلة نصف شهرية تعنى بشؤون الثورة تطبع وتوزع داخل املدن والقرى السورية ويف بعض مخيامت اللجوء رئيس التحرير ليىل الصفدي
معاون رئيس التحرير نصار أسامة ّ
twitter.com/freedomraise
املحرر الثقايف رامي العاشق
محرر القسم الكوردي مريال بريوردا
زمالء مختطفون يف الغوطة الرشقية رزان زيتونة -ناظم حامدي
منظمات المجتمع المدني ..الثورة الهادئة
3
العمار محمد د. ّ ّ
العدد - 59 - 2015 / 11 / 17
منظامت املجتمع املدين: شبكة من املنظامت التطوعية املستقلة التي متأل املجال العام بني األرسة والدولة ،وتعمل عىل تحقيق املصالح املادية واملعنوية ألفرادها ،والدفاع عن هذه
- 2التعريف من خالل الوظيفة: فبحسب الوظيفة التي تقوم بها منظامت املجتمع املدين من خالل التعريف ،نستطيع أن نقول :إن منظامت املجتمع املدين هي فرق مجتمعية متطوعة تقوم بحراسة الفضاء العام من استبداد ذوي السلطان وأصحاب النفوذ ..إنها صوت الجمهور يف مواجهة نفوذ السلطة ،إنها حالة من الثورة الهادئة الدامئة؛ فهي منظامت تطوعية ،مستقلة ،غري إرثية ،وظيفتها رقابية، رصدية ،اقرتاحية ،اجتامعية ،ال تطمح للسلطة ،وبذلك تخرج األحزاب من عدادها ،ألنها معنية بالسلطة. وبحسب معرفتنا بتاريخ املجتمع اإلسالمي فإن الفضاء العام فيه كان محروساً بالفريضة السادسة ،فريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر ،التي صنفها الفقهاء يف فروض الكفاية ،واعتربوها فريضة اجتامعية مجتمعية، وقد كان املجتمع النبوي مجتمعاً مدنياً حياً ،يقوم بهذه الوظيفة بكليته ،وكان الفضاء العام متاحاً ،ال يحول دونه حائل وال يتهيبه متهيب .فمعركة بدر حدد موقعها رجل من املسلمني ،ومعركة أحد حدد مكانها الشباب املتحمس ،وصلح غطفان يوم الخندق كان أصحاب الفصل فيه هم أهل املدينة .بينام معاهدات
البقية في صفحة 15
ملف العدد
نحن أبناء ثقافة تتعامل مع املفاهيم واملصطلحات واألحداث من خالل اإلسمية أو الشعاراتية ،والشائعة، والرعب أو هوس االضطهاد وروح الهزمية ،وهذا يشوه صورة األشياء واألفكار يف أذهاننا ويعيق تواصلنا مع العامل. ولذلك معظم املفاهيم املعارصة إشكالية مشوشة، ومفهوم منظامت املجتمع املدين له من ذلك نصيب كبري ،ولذلك سنقاربه ،من ناحيتني ،ناحية املفهوم أو املبنى ،وناحية املضمون أو املعنى. - 1التعريف من خالل املصطلحات: املنظمة مجموعة من األفراد لهم هدف معني، يستخدمون طريقاً أو أكرث للوصول إليه .فمث ًال هناك منظامت إنسانية ،منظامت بيئية ،منظامت عاملية، الخ .نحن يف سوريا ال نعرف إال منظمتي الطالئع والشبيبة!! .املنظمة شخصية اعتبارية مستقلة عن مكونيها ،ويديرها مجلس منتخب .وتنقسم املنظامت إىل نوعني حكومية وغري حكومية بالنظر إىل األعضاء املكونني للمنظمة. املجتمع :وهو مجموعة من األفراد يعيشون يف موقع معني تربط بينهم شبكة عالقات ثقافية واجتامعية، يسعى كل منهم عربها لتحقيق مصالحه واحتياجاته. ويتشارك مع اآلخرين همومهم واهتامماتهم مبا يساهم يف تطوير ثقافة ووعي مشرتك يطبع املجتمع وأفراده بصفات مشرتكة تشكل شخصية هذا املجتمع وهويته. املجتمع (املدين) :أو مجتمع املدينة ،يجمع العرب الباحثون يف مفهوم املجتمع املدين عىل أصوله الغربية، وهذا اإلجامع سببه غياب البحث وغلبة النقل ووحدة املنقول عنه .بينام تظهر مراجعة متبرصة للتاريخ القريب للحضارة اإلسالمية ،أن مصطلح مدينة ومدين ولد يف تاريخ الحضارة العربية اإلسالمية ،بعيد هجرة النبي وتأسيس دولته الحديثة يف املدينة ،فدولة املدينة أنشئت يف حارضة تسمى يرثب ،النبي سامها املدينة، ذلك أنه أسس يف هذه الحارضة مدينة حديثة بدستور مكتوب قائم عىل التعدد واالختالف والتعايش وقد كانت هذه املفاهيم بكرا يف ذلك التاريخ؛ فاملجتمع املدين بحسب تجربة املدينة :هو مجتمع قائم عىل الحرية والعدالة والتعدد وقبول االختالف وإدارته، واملساواة بني أفراده بغض النظر عن انتامءاتهم العقائدية والفكرية .مجتمع محكوم باإلقناع والقانون، فهو تعبري طوعي عن إرادة الناس الحرة. فدولة املدينة أسست ببيعتني ،ووضعت أسس الحكم بعقد مكتوب عميل هو دستور املدينة الذي وصفه أحدهم ،بأنه أول دستور مدين يف التاريخ ،وتجد أحدنا
من غري فهم وال بصرية ،يتحدث عن جاك روسو والعقد االجتامعي (النظري) بني األمة والحاكم! وحيث أننا ال نستطيع أن نعرف قيمة ما عندنا حتى يتحدث عنه الغربيون( ،فابن خلدون القامة الفارعة يف علم االجتامع مل نتعرف عليه إال عندما تحدث الغربيون عن عظمة انجازه) ،مل يخطر يف بالنا معنى مدينة وعالقة ذلك باملجتمع املدين ،أو املديني. املدينة أو املدنية كانت لحظة فارقة بني حارضة محكومة بالقانون ،متارس التعدد وتعيش التسامح مع املختلف ،وتوزع الحقوق والواجبات بغض النظر عن االنتامء الديني ،وبني فضاء فوضوي تحكمه رشيعة القوة وقانون الغاب .إننا نؤكد اليوم من خالل معرفتنا بالتاريخ اإلنساين ،أن الحضارة اإلسالمية دُشنت مبجتمع مدين ،بينام كان املجتمع املدين يف الحضارات األخرى مثرة معاناة وآالم مريرة ،فاملجتمع املدين هو املجتمع الذي يكون فيه الجمهور صاحب الكلمة يف كل ما يتعلق باألمة ومصائرها ،وهذا كان امللمح األهم يف دولة املدينة التي كانت محكومة باملجتمع املدين، معني بأمر هذه األمة، الذي كان كل فرد من أفراده ُّ وكانت لحظة تكليف الحاكم هي لحظة الحقيقة يف الصدّيق والفاروق. هذا السياق كام عرب عنها ّ
املصالح يف إطار االلتزام بقيم ومعايري االحرتام والرتايض والتسامح الفكري والسيايس ،والقبول بالتعددية واالختالف ،واإلدارة السلمية للرصاعات واالختالفات.
44
السورية منظمات المجتمع المدني ّ بين الكثرة والفاعلية بسام األحمد
العدد 53 - 2015 2015/ /11 8 // 217 - 59
العدد ملف لقاءات
قيل يف إحدى تعريفات املجتمع املدين ّبأنه يشري إىل “مجموع املبادرات واملجموعات الناشطة خارج إطار الحكومة” ،وبطيبعة الحال تعترب منظامت املجتمع املدين واحدة من هذه املجموعات أو الفعاليات التي ُتبنى عىل رشط مهم يتمثل يف تعبريه عن تطلعات أو اهتاممات مجموعات أو مكونات اجتامعية يف بلد ما ،بغض النظر عن الظروف التي مير به ذلك البلد. ويف أحيان كثرية قد تقوم تلك املنظامت باملشاركة يف تحديد مسار سياسات عا ّمة سواء عىل املستوى الوطني واملحيل ،أو عىل املستوى اإلقليمي ،وحتى عىل املستوى الدويل؛ وذلك عن طريق أدوات عديدة تلجأ إليها تلك املنظامت ،سواء كانت حمالت منارصة ودعم ،أو حشد رأي عام وتسخري موارد من أجل أهداف محددة. من الصعب النظر يف طبيعة وبدايات فاعلية املجتمع املدين السوري بصورته العامة ،أو من خالل املنظامت والجمعيات واملبادرات التي أفرزها بعد آذار ، 2011 دون األخذ بعني االعتبار البيئة القمعية التي كانت تسود الساحة السورية العا ّمة قبل ذلك التاريخ، أو القمع الذي رافق االنتفاضة الشعبية من قبل األجهزة األمنية بعد هذا التاريخ ،والتي تحولت فيام بعد إىل حرب شاملة أدّت إىل خلق ظروف جديدة تتميز بصعوبة أكرب يف العمل املنظم املستقل أو املحايد أو املوضوعي .فأصبحنا يف مواجهة ظرفني مه ّمني وأساسيني كان لهام األثر األكرب يف رسم مالمح معظم منظامت املجتمع املدين السورية ،أولهام ق ّلة الخربة واملامرسة بعد سنني طويلة من حكم الدولة السورية “الحديثة” ،التي كانت محكومة بعقلية الحزب الواحد ،حزب البعث العريب االشرتايك .وثانيهام وهواألكرث قساوة -أن البدء مبامرسة العمل املدينكان ضمن ظروف أقرب إىل االستثنائية ،وهي ظروف الحرب والنزاع يف سوريا ،والتي أدت إىل كارثة إنسانية تعترب األسوأ منذ عقود. لكن وبالرغم من ذلك كان باإلمكان ،واستناداً إىل حجم التمويل املتدفق عىل املنظامت السورية ،أن يكون املجتمع املدين أكرث قو ًة ومتانة وفعالية مام هو عليه ،وأكرث إرتقا ًء بعمله ،وأكرث تنفيذاً وتطبيقاً لألهداف والرؤى والخطط التي نشأ من أجلها. بقليل من التجاوز ميكن تشبيه ظهور معظم املنظامت السورية التي بدأت يف العام 2011بكونها
بدأت عىل شاكلة مبادرات فردية أو من عدّة أفراد (التنسيقيات مثاالً) نتيجة حاجة مجتمعية فرضتها االحتجاجات واملظاهرات اليومية .ومن نافلِ القول أن مقتضيات العمل الثوري برمتها وتحديداً يف ش ّقه األمني ،فرض عىل مؤسيس تلك املبادرات واملجموعات االعتامد عىل الدائرة املقربة منهم لغايات أمنية (األخ والصديق واملعارف وغريهم) ،فلم يتم األخذ بعني االعتبار -عىل سبيل املثال -الكفاءة أو املقدرة أو حتى التف ّرغ للعمل يف ج ّو مؤسسايت تم االكتفاء لدى معظم املبادرات ،ويف أحايني كثرية ّ باالعتامد عىل مبدأ الوالء كسبيل وحيد يف سبيل الحفاظ عىل مكتسبات عىل مستويات مختلفة ،سواء الشخصية منها أو “املنظامتية الض ّيقة” .ورسعان ما بدأت سلبيات هذا الجانب بالظهور بعد بضعة أشهر من العمل اليومي واملضني يف سوريا وتحت الرشوط االستثنائية املشار إليها آنفاً. وحتى أواخر العام 2011كانت معظم املبادرات واملجموعات الناشئة تنشط يف الداخل السوري بشكل أسايس ،إ ّال ّأن املوجة األوىل من املواطنني السوريني الذين اضطروا للنزوح من منازلهم واللجوء إىل دول مجاورة ،إضافة إىل عدد ال بأس به من النشطاء ،سمح شيئاً فشيئاً ملعظم املبادرات بتغيري كبري يف بعض التكتيكات ،فمث ًال بدؤوا بتكليف أناس للحديث باسمهم يف الخارج ،واالختالط مع املنظامت الدولية األخرى والحكومات املختلفة التي أعلنت دعمها للحراك يف سوريا ،ويبدو أ ّنها كانت إحدى مراحل بدء طلب التمويل ّ املنظم من مصادر مختلفة، حيث بزغت تزامناً مع هذا املنعطف تحدّيات جديدة متعلقة برشوط االستدامة والرؤية الواضحة واألهداف التي تتعلق بسبب نشوء معظم املبادرات أو املنظامت .وأيضاً كان لهذا األمر آثار إيجابية أخرى عديدة متثلت يف جزء كبرية منها باإلحتكاك وتم اإلطالع عىل مع أناس وفعاليات من دول أخرى ّ تجارب عديدة ،حيث تلقفت العديد من املنظامت هذه الفرص من أجل تطوير نفسها سواء عىل صعيد الهيكلية والعمل أو عىل صعيد الرؤية واالستدامة، عىل عكس منظامت أخرى كثرية ترسخت فيها سلطة فرد أو بعض أفراد متنفذين (واألمثلة هنا بالعرشات)، وبدأت (االنشقاقات) فيها بشكل عامودي ،متناسني الهدف األول واألسمى من نشأتها . يف معرض الحديث عن املعوقات التي تواجهها منظامت املجتمع املدين السورية عشية دخول
االنتفاضة الشعبية عامها الخامس ،ال بد من االعرتاف ّأن قيوداً ثقيلة جداً تثقل كاهل العرشات من املنظامت ورمبا املئات ،وذلك مقارنة مع حجم العمل والواجبات أو الدور املنوط بها يف هذه الفرتة، أخص بعد مغادرة أكرث من نصف السوريني وبشكل ّ لبالدهم ،وتدمري البنى التحتية يف الدولة بشكل شبه كامل ،وانتشار نقاط االشتباك والقتال بشكل غري قابل للحرص ما بني النظام ومجموعات املعارضة املس ّلحة ،وتنظميات مختلفة االنتامء واألهداف، والتي بلغت بحسب إحصائية ألحد لجان التحقيق أكرث من 1400مجموعة منذ بدء النزاع ..اندثر بعضها ،واندمج بعضها اآلخر وفق اعتبارات عديدة ال يتسع الوقت للحديث عنها. ولكن وبرغم تلك املعوقات أو الظروف املوضوعية التي وقفت حائال دون تشكيل منظامت مدنية قو ّية ،ميكن القول إن العوامل الذاتية ال تقل دوراً يف إضعاف املنظامت السورية؛ فام الذي مينع عىل سبيل املثال أن تتمتع جميع املنظامت السورية املدنية وتتخصص يف مواضيع محددة ،وما بأهداف واضحة ّ الذي مينعها من كتابة تخطيطات اسرتاتيجية لتنفيذ حقيقي لرؤاها وأهدافها ،وما الذي مينع من خضوعها ألنظمة داخلية واضحة وتو ّزع واضح يف املهام ومراقبة للعمل اليومي أواالستعانة بخربات يف هذا املجال؟! مع العلم أن آالف الدورات التدريبية عقدت خالل السنوات املاضية آلالف السوريني وخاصة يف دول الجوار .وقد يقول قائل ههنا مرة أخرى إن ظروفاً استثنائية أخرى أضيفت عىل واقع هذه املنظامت، فمن عدم االستقرار وصعوبة التسجيل ،إىل صعوبات جديدة برزت مؤخراً منها عمليات التحويل املالية للسوريني ،والتي لعبت وما زالت تلعب دوراً يف ضعف املنظامت السورية. إ ّال أن املراقب املوضوعي لعمل الكثري من املنظامت عن كثب ،سوف يدرك فداحة واقع العرشات من املنظامت السورية متمثال يف حاالت الهدر والفساد املايل واإلداري التي تعصف بها ،ويف حاالت الركود والعقم وعدم القدرة عىل تطوير حقيقي يف عملها وآلياتها ..لتتحول تلك املنظامت من وسائل لتحقيق (أهداف نبيلة)إىل غايات ُتقصد لذاتها ..فتجد عرشات املنظامت التي تعمل يف منطقة واحدة عىل املوضوع ذاته ،لتصبح وسائل ومنابر أشبه باألحزاب السياسية يف فرتة ما قبل الثورة ولتتحول إىل عبء يجب التخلص منه أو تطويره عاج ًال أم آج ًال.
األدلجة الفكرية وخطورتها على مفاهيم المجتمع المدني سردار مال درويش
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
ملف العدد
يتخذ املجتمع املدين اعتيادياً التوازن بني السلطة من طرف واملؤسسات الخاصة من طرف أخر ،كام يساهم يف تقدم وتطور وازدهار املجتمع ،هذا الظاهر يف دولٍ تحرتم الفرد وحقوق اإلنسان ،ولديها فضاء واسع أو أقل من الحريات واحرتام املواطن ،لكن يف ظل حكم شمويل مثل النظام السوري ،لن يرى املجتمع املدين النور ،األمر الذي كان واقعاً عىل مر عقود. مع بداية الحراك الثوري يف آذار 2011خلق السوريون املتضامنون مع الثورة خاصة من فئة الشباب ،تجمعات متفرقة االختصاصات ملواكبة الحراك ،وتنوعت بني أعامل مختلفة ملجاراة الواقع، مثلت شيئاً أشبه مبؤسسات أو تجمعات ستنتقل تباعاً لشكل جامعات مدنية لخدمة الواقع. مع انهيار الشكل الحقيقي للدولة السورية ،ونقص احتياجات السوريني وانقسام املجتمع عىل الجغرافية السورية بني مناطق خاضعة لجهات متعددة التسميات واألفكار ،كان تنظيم عمل تلك التجمعات املشتتة وبداية مأسستها واجباً ،للعمل عىل خلق أرضية مجتمع مدين بسيط قادر عىل مواكبة التطورات املتسارعة ،واإلعداد لبيئة مجتمعية تساهم أيضاً يف بناء سوريا املستقبل ،كام كان األمل كبرياً بأن تبقى قيادة تلك التجمعات يف يد الشباب الذين هم العمود الفقري ألي مجتمع. ألن الحديث يتعلق بواقع منظامت املجتمع املدين السورية القامئة ،ولعدم وصول السوريني لثامر ما خرجوا من أجله ،وجب التطرق والحديث عن عدم فهم كثري من الشباب السوري للمعنى الحقيقي لجوهر فكرة املجتمع املدين ،الذي اختلط لديهم مبفاهيم سياسية أكرث من املاهية .األمر الذي شكل تأثرياً سلبياً يف منط املجريات ،وانعكست نتائجه السلبية عىل ظروف الناس املحتاجني يف نهاية األمر، الناس الذين ما انفكوا يترضرون من تناقضات الواقع والظرف السوري ومتغرياته عرب الكيانات الحاكمة املختلفة واملتغرية بعض اليشء ،والتي اتبعت سياسة الوالء مقابل العيش. ليس خافياً أن آلة القمع التي استُخدمت ضد السوريني لعبت دوراً كبرياً يف عدم إيجاد فسحة قياسية المتحان واختبار العمل الحقيقي للسوريني، لكن بعد خمسة أعوام من الحراك ،وما أفرز عن مؤسسات وإدارات وتجمعات ،كان كافياً إلدراك مفهوم املجتمع املدين مبفاهيمه النظرية عىل األقل، وعزله عن اإليديولوجية الفردية املزروعة يف العقول. ليس من الغرابة كل ما ذكر آنفاً داخل املؤسسات السورية الحديثة ،فيكفي أن تكون حارضاً يف لقا ٍء
يجمع عدة منظامت سورية تعمل يف مجال املجتمع املدين باختصاصات مختلفة (إنسانية وإغاثية وتنموية ومجتمعية) يك تصل لنتيجة أن السياسة والفكر يسيطران عىل العقل الجمعي لدى السوريني؛ فربغم قيام تلك الجهات مبجهودات كبرية لخدمة السوريني مقارنة مبعادلة الصفر أوعدم الوجود السابقة ما قبل الحراك ،إال أن غالبية ممثيل تلك املنظامت عىل األقل ال تخلو أحاديثهم من إظهار طابع سيايس مؤدلج ،ليس بعيدا عن االرتباط بالثورة فحسب بل مشحون بروح منافية لعمل املجتمع املدين ،متناسني املسؤولية الفردية تجاه املجتمع وهو ما يتطلبه عمل املتطوعني يف مجال املجتمع املدين ،حتى إن املشاورات مل تتجنب إضفاء الطابع الفكري والتشنج عىل النقاشات وتحويرها ،يف محاوالت تعترب سلبية بتحييد جهات تتضامن مع أفكارهم حتى لو كانت األخرية ال تعمل لصالح حاجات املجتمع األساسية، األمر الذي ينايف صلب العمل ،وبدل توجيه مدخراته أي العمل -نحو اإلنسان قبل املوقف والفكرة ،تراهميترسعون بالتميز عىل أي صعيد كان ،دون النظر إىل أن أكرث املترضرين من الحرب السورية القامئة هم األهايل أنفسهم ،الذين تسريهم التغريات السياسية واإليدولوجية بحسب الجهات املسيطرة عىل األرض. مل يدرك غالبية العاملني ضمن مجال املجتمع املدين حتى اليوم ،أن فردية العمل ال تشكل أساساً لبناء مجتمع سليم خاص ًة يف حال كان األمر متعلقاً بشكل الدولة ،ما يتطلب العمل بفكر جمعي وإزالة انعدام الثقة بني تلك املؤسسات ،فربغم وجود املئات من منظامت املجتمع املدين التي تعمل من أجل املجتمع السوري مع األخذ بعني االعتبار أن الدعم الحاصل لتلك املنظامت ال يؤمن لها استمرارية أبدية يف العمل، ويف حال إزالة مفهوم األنانية بعض اليشء ،والعودة لتجارب واقع دول تعرضت لكوارث ،سنالحظ أن فردانية العمل زادت من عبء املجتمع أكرث من نفعه ،وهذا ما سارت غالبية منظامت املجتمع املدين السورية عليه يف الوقت الحايل عىل األقل. يالحظ عىل مدى أيام يف لقاءات تلك املنظامت غياب أو افتقاد الدراية والوعي مبتغريات الواقع السوري يف كافة نواحيه ،وهذا رمبا يعود لعدم وجود ثقافة صلبة بني السوريني أنفسهم ،بل هناك وجهات نظر مبنية مسبقاً ال تختلف عن رؤية السياسيني الذين تبنوا منذ اليوم األول آلية «التناظر التاريخي» ،حتى إن مفهوم الحرية الشخصية يف عمل منظامت املجتمع املدين مل يظهر يف العمل عىل أنه تطوع اختياري تجاه خدمة الناس والعطاء لهم ،وكأن منظامت املجتمع املدين السورية مل تت َّنب الفهم الليربايل ملعنى املجتمع املدين، بل طبقت النظرة املاركسية برغم عدم وجود سلطة
شيوعية ،فهم أنفسهم أفرغوا مضمونه باأليديولوجية التي ال يستطيع السوريون الخروج منها والعمل مبنطق مع الواقع أو التمييز بني مهنية العمل والفكر الذي يحملونه ،األمر الذي ال يبرش بالخري ملستقبل املجتمع ،املطلوب من تلك املنظامت العمل لهدف سام يف خدمة السوريني ككل ،ال النظر أن تلك الجهة ٍ موالية واألخرى معارضة أو رمادية أو تلك تتفق مع رؤيتنا واألخرى ال تتفق ،فال أحد يستطيع اليوم فرز الواقع السوري بحسب الفكر ،لكرثة الجهات التي تدير الجغرافية السورية ،كام ال يجب الحكم عىل البقعة الجغرافية بسبب الجهة التي تدير تلك البقعة. إن إضفاء الفكر الفردي عىل العمل الجمعي ،مبحاولة دس األفكار من قبل جهات من املفرتض أن تلعب ّ دوراً مؤثراً لتطوير املجتمع ،يشكل عدا ًء مجتمعياً أكرث من دمج املجتمع داخل أطر توصلها ملفاهيم الحرية والكرامة والدميقراطية ،ويف الحالة السورية بدل العمل عىل لعب دور الريادة يف إزالة الشوائب التي تراكمت عىل مر العقود ،ستشكل هذه التفرقة جداراً من الصعب إزالته ،خاصة يف ظل الرصاع الطائفي واملذهبي والقومي القائم ،األمر الذي يؤدي لتخوف مكونات املجتمع من املجهول القادم ،وإظهار ديكتاتورية جديدة ليست بأفضل من السابقة. برغم أن الثورة السورية استطاعت أن تشكل وحدة حال بني السوريني ،إال أنها مل تستطع شمل كافة السوريني برؤى واحدة ،لرمبا وحدها أزمة الالجئني السوريني األخرية بالنزوح تجاه أوربا استطاعت إثبات بعض وحدة الحال ،فتلك األزمة ألغت بعض اليشء املناكفات والتضادات القامئة ،وأنست التفرقة بني موالٍ ومؤيد بعض اليشء يف طبيعة الواقع ،وهذا ما كان كافياً لينذر منظامت املجتمع املدين أن العمل للسوريني ككل هو صلب املطلوب. إن عمل املجتمع املدين ال يقترص عىل التطوع الفردي بغرض تحقيق فائدة مجتمعية ،أو تكوين اتحادات مشرتكة تعمل يف حلقة دائرية مفرغة ،بل تشمل التفكري -بعد خمس سنوات من الحراك -بالعمل عىل تأسيس إسهامات تزيد من فرص السوريني وتقلل املخاطر املجتمعية كالحامية وتقليل األمية ومحاربة البطالة مبرافقة تنمية العقل والفكر لدى السوريني وتشجيع األخرين عىل العمل .فاملجتمع املدين ينمو مبقدار استعداد أفراده للعطاء بدون مقابل إلفادة الجامعة ،رشيطة أن يتم زرع قيم أخالقية وثقافية وسياسية وعلمية وخريية ،تساهم يف نرصة قضايا مشرتكة للجميع ،ليكون بالفعل عمل تلك املنظامت مؤثراً عىل السياسات العامة مستقب ًال ،ويكون دورها يشبه القطاع الثالث لخلق ما أطلق عليه إدموند بريك األرسة الكبرية يف املجتمع
5
منظمات المجتمع المدني في الغوطة الشرقية
6
نقاط يجب التوقف عندها
أبو القاسم السوري
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
ملف العدد
إن الثورة يف أحد أهم أشكالها هي عملية تفكيك وإعادة بناء وهيكلة للبنى والوحدات املؤسسة للمجتمع بشكله العام ،وال تقترص عملية إعادة البناء عىل عدد الوحدات وأنواعها وأشكالها بل تتعداه لتشمل الدور الوظيفي لهذه الوحدات، وال يقصد هنا بالوحدات الوحدات املشكلة للمجتمع السيايس القائم عىل مفهوم السلطة وما يرتبط بها فقط ،بل يتعداه ليشمل املجتمع املدين من حيث املفهوم والوحدات واألدوار املناط باملجتمع املدين ومنظامته القيام بها. والجميع يدرك أن املجتمع املدين يف مرحلة ما قبل الثورة كان مغيباً بشكل كامل ،وما كان ميكن أن يصنف باعتباره منظامت مجتمع مدين مل تكن أكرث من منظامت كرتونية تسري يف بحر رشعنة نظام ديكتاتوري قائم بحكم األمر الواقع .ومع تفجر الثورة وانكسار الحدود املقيدة للمجتمع السوري أصبح املجال أوسع للقوى الفاعلة ضمن املجتمع أن تطرح رؤى لتشكيل منظامت تطوعية هدفها تقديم الخدمة العامة غري الربحية التي تستهدف تنمية املجتمع بأحد قطاعاته؛ أي العمل عىل تشكيل منظامت مجتمع مدين وفق املفهوم الحديث ،وقد انطلق ذلك بوعي يف بعض الحاالت ويف أخرى نتيجة الحاجة لتلبية الحاجات املجتمعية التي ولدتها الظروف ،وطبعاً كانت الغوطة الرشقية يف خضم هذه التغريات ،ولكن هذه الحالة مل يرافقها دامئاً الثقافة املجتمعية الرضورية القادرة عىل إنجاح التجربة ووضعها يف مكانها املجتمعي الصحيح ،وقد تجىل ذلك من خالل بعض اآلثار املجتمعية السلبية التي بدأ يفرزها وجود بعض هذه املنظامت يف بعض املراحل والذي ظهر بشكل كبري بعد تحرر الغوطة وغياب السلطة البديلة الحاكمة. فالناظر اليوم إىل واقع منظامت املجتمع املدين يف الغوطة الرشقية منذ عام 2012إىل عام 2015 يرى ازدحاما هائ ًال يف عدد املنظامت التي ميكن إدراجها تحت يافطة منظامت املجتمع املدين والتي تتنوع اختصاصاتها واهتاممات عملها ما بني تقديم الخدمات الصحية والتعليمية واإلغاثية والزراعية والتنموية وخدمات ذوي االحتياجات الخاصة أو املنظامت القامئة عىل أسس تنظيمية كتجمع املعوقني أو رابطة املعلمني أو رابطة األكادمييني وما شابهها ،أو بعض التجمعات السياسية غري الحزبية أو امللتقيات الفكرية ومراكز دراسات و مراكز إحصاء ،ومجالت وجرائد
ومراكز تأهيل نفيس ومهني وغريها العديد العديد من املنظامت التي ميكن أن تصنف تحت يافطة منظامت املجتمع املدين. وطبعا فإن هذا االزدحام يعطي مؤرشاً إيجابياً عن مدى ازدياد فاعلية املجتمع السوري عموماً ومجتمع الغوطة الرشقية خصوصاً ،ولكن هذا ال يلغي وجود العديد من النقاط التي يجب التوقف عندها يف العموم يف دراسة تجربة منظامت املجتمع املدين يف الغوطة ولعل أهمها: - 1غياب الناظم القانوين الضابط لعمل هذه املنظامت سواء من جهة اإلشهار أو التخصص أو اإلفصاح عن مصادر التمويل ،ونتيجة هذا الغياب وجدت بعض املنظامت نفسها يف حل من أي مساءلة أو مراقبة ،وبذلك انطلقت هذه املنظامت دون أي ضابط لعملها سوى توجهات وعقلية األفراد القامئني عليها ،خاصة أن هذه املنظامت مل ُتشكل عىل ُأسس مؤسساتية صحيحة ،بل مببادرات فردية ولذلك فقد صبغ عمل هذه املنظامت باملجمل بالصبغة الفردية. - 2بسبب غياب املنظامت الحكومية التي يجب أن تفرزها الثورة كبديل عميل عىل األرض وجدت منظامت املجتمع املدين الساحة أمامها متاحة لالدعاء بأنها هي املؤسسات الحكومية ،فأصبحت بعض منظامت املجتمع املدين املختصة بالعمل التعليمي أو الطبي تدعي أنها هي املؤسسات املسؤولة عن هذا االختصاص يف الدولة الجديدة. - 3شيوع ظاهرة االرتهان إىل املال املقدم من الجهات الداعمة ،فبعض املنظامت تغري العديد من أهدافها ونطاق عملها يف سبيل استحصال أموال؛ فرتى منظمة مختصة باألعامل اإلغاثية من خالل تقديم السلة اإلغاثية تقحم نفسها بالعمل الطبي وتنشئ مركزاً صحياً فقط بسبب توفر مورد مايل لهذا البند ،مع أنها تكون غري مؤهلة للقيام بهذا النوع من النشاطات. - 4انتشار حمى الحفاظ عىل الذات والتنافس يف التضخم واستجالب األموال ،ولو كان ذلك فيه مضار للمجتمع ضمن الغوطة الرشقية ،ويظهر ذلك بشكل جيل يف الفرتات التي يزداد فيها الدعم املخصص؛ مثل مرشوع املطبخ الخريي يف رمضان حيث انترشت يف رمضان املايض عرشات املطابخ الخريية يف الغوطة ،ووصل الناس إىل حالة تخمة من اإلطعام حتى أصبحت ترى الطعام مرمياً يف القاممة ،مع أن املواطن يف الغوطة كان يفضل أن تقدم له وجبة من املواد غري املطبوخة ،والتي
ميكن االحتفاظ بها عىل مدى طويل بدل املواد الجاهزة ،وليك تستطيع هذه الجمعيات تغطية هذه املشاريع قامت بسحب املواد الغذائية من األسواق وبأسعار خيالية ،وبعد انتهاء شهر رمضان توقفت هذه الجمعيات عن تقديم هذه الخدمة ،فوجد املواطن نفسه يف العراء ال يوجد مواد غذائية يف األسواق وال يوجد مطابخ تقدم له الطعام .وجميع الجمعيات تدرك ولو بشكل متفاوت أن عملها يف رمضان كان فيه رضر عىل الغوطة الرشقية ،ولكن املحدد الرئييس لعملها مل يكن تغطية حاجات املجتمع ،بل كان تغطية رغبات الجهة الداعمة! - 5غياب االستقاللية والحيادية لدى العديد من منظامت املجتمع املدين ،وارتباط العديد منها مبشاريع سياسية فصائلية ،ومن خالل الخدمات التي تقدمها هذه املنظامت تحاول الرتويج لهذا الفصيل أو ذلك التيار. - 6ضعف املؤسساتية بشكل عام لدى هذه املنظامت سواء لجهة التنظيم والهيكل اإلداري أو لجهة ترسيخ مبادئ الشفافية واملساءلة والعدالة. - 7ضعف املنظامت التي تختص بالتوعية والنشاطات املجتمعية األكرث دميومة ،والتي تعمل عىل تنمية املوارد البرشية وتوعية املواطنني بحقوقهم ،فمث ًال غابت عن الغوطة منظامت تهتم بفئات معينة كمنظامت عمل للمرأة والطفل وما إىل ذلك. - 8غياب املنظامت الحقوقية أو التي تهدف إىل احرتام حقوق اإلنسان ،األنسب القول :ولعل السبب الرئييس الذي منع العديد من الناشطني من القيام بذلك هو تخوفهم من بعض الفصائل ذات التوجهات املعارضة لهذه القضايا. إن النقاط السابقة ال تهدف إىل رسم صورة سلبية عن واقع منظامت العمل املدين يف الغوطة الرشقية ،فال يوجد أحد يختلف عىل أن منظامت العمل املدين يف املناطق املحررة قفزت قفزة كبرية ،وأصبح لها أثراً واضحاً عىل املجتمعات املحلية ،ولكن تسليط الضوء عىل هذه النقاط السلبية يستهدف أساساً تحديد السلبيات للعمل عىل تجاوزها ،فجميعنا يدرك أهمية تفعيل دور منظامت املجتمع املدين كوسيلة للوصول إىل مجتمع أكرث تقدماً وحضارية ويحمل فكر قبول اآلخر واملبادرة والرشاكة املجتمعية مبا يدفع للوصول إىل الدولة الحديثة العرصية.
الدفاع المدني السوري خطوة على طريق سوريا الجديدة رامي العاشق
نقاط إجرائية
.1أال يقل عمر املمثل عن 25سنة. .2أال تقل مدة تطوعه يف الدفاع املدين عن سنة. .3أن يكون حاص ًال عىل الشهادة اإلعدادية عىل أقل تقدير. .4أن يكون مشهود له يف الحراك الثوري منذ 4 سنوات عىل األقل. وبعد اعتامد نسبة 2%من عدد املتطوعني يف كل محافظة أصبح عدد ممثيل املحافظات عىل الشكل التايل :إدلب ( ،)14حلب ( ،)11حامه ( ،)6الالذقية ( ،)2حمص ( ،)4دمشق ( ،)4ريف دمشق ( ،)8درعا (.)7 واعترب د .جهاد محاميد ممثل الدفاع املدين يف
دورات وتدريب
يسعى الدفاع املدين إىل إقامة دورات تدريبية قادمة يف تركيا وسوريا واألردن حيث سيتم تدريب متطوعي املناطق الشاملية يف تركيا ،بينام سيتم إنشاء مراكز خاصة داخلية يف دمشق وريفها وحمص ،أما بالنسبة للمنطقة الجنوبية فسوف يتم إقامة 4دورات طب ّية و 5دورات بحث وإنقاذ يف األردن ،ويتم اآلن تجهيز مركز تدريب يف درعا سيصبح جاهزًا خالل شهر ونصف.
ملف العدد
تضمنت آلية متثيل املتطوعني يف الدفاع املدين آليات إجرائية من قبل اإلدراة ّ تتلخص بـ: .1إجراء انتخابات يف املراكز ،يرشف عليها مدير املديرية املسؤولة عن هذه املراكز ،وعليه التأكد من تفويض املتطوعني للشخص املنتخب أو الذي تم تجديد الثقة به. .2بعد فرز النتائج والحصول عىل كتاب التفويض ،يتم اعتامد نسبة 2%من العدد الكيل لكل مديرية للمشاركة يف االجتامع السنوي العام والذي سيعقد يف تركيا نهاية الشهر الحايل. .3يجتمع يف كل مديرية مدراء املراكز املنتخبني وقادة القطاعات بإرشاف مدير املديرية يف اللقاء
رشوط متثيل املحافظة:
برنامج اللقاء السنوي
ذكر د .محاميد أن “اللقاء سيضع عىل جدول أعامله انتخاب مجلس ادارة جديد ،ورسم السياسة املالية الخاصة بالدفاع املدين ،وكذلك رسم الخطة االسرتاتيجية املستقبلية ،والحاجيات والفرص واملخاطر ،واليات التطوير واملشاركة يف إعادة اإلعامر” واختتم حديثه بالقول “ :من الصعب العمل كمؤسسة بدون ترخيص لذلك سيتم ترخيص الدفاع املدين يف تركيا ،كام سيتم ترخيصه يف هولندا تحت اسم “أصدقاء الخوذ البيضاء”.
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
دعت إدارة الدفاع املدين السوري جميع مديريات الدفاع املدين يف املحافظات السورية لعقد اللقاء الداخيل العام ،اللقاء الذي سيعقد استثنائ ًيا هذا العام وملرة واحدة النتخاب أو اختيار ممثيل املديريات يف الهيئة العامة ،وكانت هذه اإلدارة قد تشكلت يف ترشين األول /أكتوبر وجهت اإلدراة 2014وأ ّمتت عامها األول لذلك ّ إىل مديريات الدفاع املدين داخل سوريا تقول: “من حرصنا عىل املساهمة يف بناء املؤسسات الوطنية ورضورة تطوير العمل املؤسسايت املهني، ومبا أن املتط ّوع هو اللبنة األساسية املساهمة يف بناء هذه املؤسسات ،وعمله الشجاع يف مناطق الخطر تحت الرباميل يعد هو الرشعية الواقعية يف األرض وامليدان ،فإننا ندعو مديريات الدفاع املدين يف املحافظات السورية لعقد اللقاء الداخيل العام” .ومع اشتداد القصف الرويس عىل املناطق السورية وتزامنه مع الرباميل املتفجرة التي يلقيها نظام األسد ،تصبح امله ّمة امليدانية أخطر ،ويصبح العمل اإلنقاذي أكرث صعوب ًة، لذلك يصبح متط ّوعو ومتط ّوعات الدفاع املدين تحت ضغط أكرب ،وتصبح حيا ُة املن ِقذ يف خطر، وتصبح املشاهد املنشورة هنا أو هناك مر ّوعة وغري قابلة للتصديق وتذ ّكر مبا حدث يف الحرب يرص عىل العامل ّيةّ ، وربا أكرثّ ،إل أن الدفاع املدين ّ العمل كمؤسسة ال كمبادرة ،ويك ّرس جهده اليوم للذهاب نحو مأسسة هذه املنظمة بشكل أفضل مبا يليق بسوريا وما ميكن أن يقدّم فائدة أكرب يف ظل انحسار للعمل املدين لحساب العسكرة!
الداخيل العام ملرة واحدة هذه السنة الختيار ممثيل املحافظة. يقول مدير مديرية محافظة درعا عبد الله الرسحان“ :لدينا يف محافظة درعا ثالثة قطاعات: قطاع املدينة ،قطاع الريف الرشقي ،وقطاع الريف الغريب ،وضمن هذه القطاعات يوجد 14 مركزًا تتوزع عىل الشكل التايل :مركزان يف املدينة، ستة مراكز يف الريف الرشقي ،وستة مراكز يف الريف الغريب” وعن سري عملية االنتخابات يقول الرسحان“ :لقد تم تشكيل لجنة انتخابات مؤلفة من القطاعات الثالثة ،وتم إبالغ رؤساء املراكز يوم من االنتخابات لجمع املتطوعني ،ومتت قبل ٍ زيارة املراكز من قبل اللجنة وإخبارهم بأحق ّية أي شخص ّ للرتشح ،ويف حال عدم ترشح أي شخص ،يعترب األمر تجديد ثقة باملدير الحايل”.
درعا أن “االنتخابات كانت ناجحة وتم قبول اعرتاض أحد املراكز بشكل دميقراطي ،وهذا أمر صح ّي ،ولو مل يكن هناك اعرتاضات ملا كانت ّ ّ االنتخابات حقيقية” وأكد محاميد عىل أهم ّية دور املرأة يف الدفاع املدين وعىل أحقيتها يف ّ الرتشح والقيادة والتمثيل ،وذكر أن “محافظة درعا ستكون املحافظة الوحيدة التي ستكون املرأة من ممثليها يف اللقاء السنوي”.
7
الصــورة الذاتيــة واالكتئــاب 8
عروة مقداد
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
مقاالت
أثناء تنقيل بني مدن الجوار السوري (عامن، بريوت ،غازي عنتاب) ،حيث املجتمعات املؤقتة التي بناها السوريون ،الهاربون من القمع والقصف أو املستفيدون واملعتاشون من الحرب، متنق ًال بينها وبني املناطق املحررة ،كانت السمة املشرتكة يف هذه املجتمعات :املزاجية العالية، والتقلبات النفسية الكبرية بني حزن وفرح شديد، وعدم مباالة ،ونوبات من العنف املفرط تجاه الذات وتجاه اآلخر. الشعور القديم الذي كان ينتابني قبل خمسة أعوام يف سورية هو ذات الشعور الذي انتابني قرب األسقف املنهارة ،حيث يرتسم خط أسود رفيع ميتزج باألدخنة املرتاقصة التي ترسمها رؤوس الرباميل .حينها كنت أمارس عملية إيهام تلت السنة األوىل للثورة ،تغليف شعور األمل واملرارة بانتشاء ثبات وانتصار “القيمة” .يف املشهد العريض ملدينة تحرتق من السامء واألرض داهمتني كلمة مكتئب من (ع.م) .مل أفهم يف البداية سبب توصيفه ،لكن اكتشفت الحقاً أنه حقيقة اإلحساس الذي انتابني :ال بد أنه اكتئاب حاد .فام هو املفرح يف سقوط الصواريخ والرباميل؟ ما هو املفرح يف أبنية تنهار عىل رؤس أصحابها ،ومعارك طاحنة تصل الليل بالنهار؟ ما هو السبب لنوبات الضحك الهستريية التي منر بها؟ انتبهت! وتسألت ،متى بدأ ذلك االكتئاب؟ املرة األوىل التي أصابني فيها تقلب مزاجي حاد وحالة من القنوط واليأس* يف مخيم الالجئني يف مدينة الرمثا قبل أن يستحدث مخيم الزعرتي. يف القبو املحشورين فيه كإسطبل تعرفت عىل مجموعة كبرية من السوريني علت نظرات االنكسار رموشهم املخذولة .ويف محاولة لرتميم ّ نسل أنفسنا بالغناء صورتنا الداخلية كنا للثورة .قطع الغناء رجل يف األربعني من عمره تنهد بصوت عال ثم قال“ :طلعنا نهتف املوت وال املذلة ،هربنا من املوت وإجينا عىل املذلة بإجرينا”... يتحدث الكثري من علامء النفس عن االكتئاب، ومثة أبحاث كثرية تناولت موضوع االكتئاب بوصفه أحد أمراض العرص ،ويف محارضة للعامل جاك فريسكو نرشت عىل اليوتوب* يضع تعريفاً بسيطاً ملرض االكتئاب يوصف تعقيد الحالة التي نعيشها :هو فقدان الهوية والخلل يف الصورة الذاتية لإلنسان .وهذا التعريف بوابة ملقاربة
الحالة السورية ،ليس عىل اعتبار أن توصيف ما يحدث بأنه “اكتئاب” هو اإلستثنايئ، بل عىل اعتبار أن الثورة كانت مبثابة عالج جامعي من حالة اكتئاب عامة كان يعيشها املجتمع السوري وهذه النقطة االستثنائية يف املقاربة. قبل بدء الثورة السورية، تعرضت أجيال متتابعة لتدمري ممنهج يف البنية النفسية خالل األربعني سنة املنرصمة. سعى النظام خاللها إىل تحطيم الصورة الذاتية لإلنسان السوري ،من خالل مامرسة القهر الدائم عىل طبقات املجتمع مبا فيها الطبقات الغنية، “فاإلنسان املعرض لكل مفاجأة قد تحمل املصيبة أو الخري ليس أكيد البتة من أي ضامنات فعلية لذويه” .رمبا تعد هذه النقطة واحدة من أهم العناصرى التي تدفع اإلنسان إىل حالة من االكتئاب التي تجعله غري فاعل ،ومنزو ،وغري قادر عىل اإلبداع* .رافق ذلك يف سورية حالة من اإلحباط الواسعة التي كانت تبحث عن تنفيسات إما عن طريق السفر أو عن طريق األشكال املتعددة لإلدمان* أو توجيه اإلحباط نحو قضايا كربى مثل القضية الفلسطينية. قرب الحدود املمتدة التي عرب منها آالف املهاجرين الذين حملوا معهم ،فلسفة التوحش* جلست مع شاب يف الخامسة والعرشين من عمره يدعى أبو قتيبة :كان يصف يل وهو يراقب الرايات السوداء التي تكلل السيارات الجبلية روعة الخروج يف مظاهرة ،قال يل“ :كانت املظاهرة نافذة كبرية فتحت يف حيايت .كنت أستطيع من خاللها أن أشعر” ..يقول ذلك ثم مييض وهو يكرب بني الجموع. إن الجزء األسايس واملهم يف الثورة أنها رممت الصورة الذاتية لإلنسان السوري ،وجعلته يخرج من حالة إحباط واسعة ،ترافقت بفرحة عامة أدت اىل مظاهر الرقص والفرح والغناء بالدرجة األوىل ،وبالدرجة الثانية محاولة رشيحة واسعة للعمل يف مجالت إعالمية وفنية للتعبري عن الهوية والذات .فالصورة الذاتية هي جزء من الصورة العامة للمجتع .إنها صورة األفراد تجاه بعضهم البعض التي تنتج الثقافة العامة .وخالل
مصدر الصورة :إنرتنت
حكم النظام أنتج يف أرضيته نوعاً من الرصاع بني صورة الفرد تجاه نفسه وصورته تجاه اآلخرين. إن الكلامت التي كانت تصنف السوريني تجاه بعضهم البعض هي جزء من الصورة العاملة الناتجة عن الصورة الذاتية املتصدعة أو املفقودة. ولقد أصبحت املدن الجغرافية والثقافة بحد ذاتها منوذجاً منقوصاً “غريياً” يستحقّ السخرية واالستخفاف وحتى نفي املدنية عنه واتهامه بالدونية. كثرياً ما تذكرين مدينة عنتاب مبنايف سيبرييا التي كان ينفي إليها قيرص معارضيه .املدينة مرتبة وهادئة بطريقة ّ فظة كام أنها ال تحمل أي طابع من املمكن أن يجد السوري فيه أي ترميم لصورته الداخلية أو انتامء ما يحقق له نوعاً من التوازن .وعىل الرغم من وجود رشيحة كبرية من الناشطني امليسوري الحال بحكم عملهم مع منظامت أجنبية ،إال أن اإلحباط الناتج عن قرب املدينة من سورية يولد حالة شديدة من اإلكتئاب .يف أحد املقاهي يف مدينة عنتاب اجتمع شابان أحدهام يف الجيش الحر واآلخر يعمل لدى منظمة أجنبية ،كالهام تشاركا ذات الكآبة التي يعرب عنها بأمزجة متقلبة حادة ،فكالهام يعاين من اهتزاز يف الصورة الذاتية وشعور باإلحباط والدونية تجاه اآلخر .يعود ذلك تبعاً للتصنيفات التي خلقتها الحرب ،واالصطفافات واالختالفات العقائدية والسياسية ..الخ. بالعودة للثورة السورية ،شكلت املضاهرات أوىل الخطوات نحو كرس التنميطات التي تساهم يف االكتئاب والتي مل تشمل فقط مؤيدي الثورة إمنا تشمل أيضاً مؤيدي النظام؛ فقد خلقت املظاهرات يف بدايتها هامشاً من الحرية الذي وضع مسألة الهوية ضمن النقاش ،وعاد سؤال
البقية في صفحة 11
ً فتنة االختالف بوصفه
9
نوار عقل
العدد - 59 - 2015 / 11 / 17
مقاالت
عب بعض املفاهيم املستقرة يف الثقافة العربية ُت ّ عن حالة من التناقض الصارخ بني منوذجني من مستبطن ،يأخذ شكل ثقافة الوعي؛ وعي أصيل ِ مستوطنة يف البنية الثقافية للمجتمع ،يعمل فيها عمل األفكار املسبقة ،من اختزال وفهم للظواهر ،وتوجيه للسلوك .ووعي آخر سطحي زائف قد يناقض متاماً هذا املفهوم (األصيل) حتى اآلن .-وليس مفهوم االختالف إال منوذجاًالفتاً لهذا الحال ،حيث ال تخفى عىل أحد قيمة االختالف وأهميته ،والدعوة إليه .يف حني أن نظرة فاحصة لإلرث الثقايف ،وللبنية الفكرية ملجتمعاتنا الحالية تدعونا إىل وقفة تأمل يف آفاق االختالف، وإمكانيته الحقيقية ،السيام ضمن ثقافة متتاز بصناعة التقية ،وقد اعتادت اعتبار االختالف فتن ًة. ومام الشك فيه أن ارتباط املفهومني :النفيس املعريف والثقايف :االختالف بوصفه فتنة ،والتقية، ذو داللة واضح ٍة من حيث السبب والنتيجة املتبادلة أو املتعاضدة بينهام .فحيث أننا ال نستطيع البت بالقول إن التق ّية نتيجة منطقية العتبار االختالف فتنة بني الناس ،بإمكاننا ُ تعمل كسبب إضايف يف القول أيضاً إن التقية، تأصيل ثقافة نفي االختالف ،والحذر منه كرش مستخف ،قد يظهر يف أي لحظة سانحة فينرش الفتنة والخراب ،وذلك طاملا أن التق ّية تعني إخفاء ما نبطن خوفاً من إظهاره .وعليه فإن كل اختالف يحمل يف وعينا عنه رشاً وتقية وخفاءاً. والذي بدوره يؤسس لثقافة األحادية واملركزية والتنميط ،تلك الثقافة التي ابتليت بها مجتمعاتنا العربية واإلسالمية ،عىل الرغم من أن االختالف مل يزل واقعاً موضوعياً تاريخياً واجتامعياً ليس من املمكن تجاهله ،بل هو واقع صلب يف طبيعته، يعاند محاولة اختزله أو نكرانه. غري أن هذا االختالف مل يتحول قط إىل حيز الوجود يف الوعي الثقايف العريب كعامل إيجايب أو مقبول عىل أقل تقدير ،بل ما فتئ يرفض ويقاوم يف ّ كل أشكاله العقائدية والفكرية، لصالح املركزية الدينية أو السياسية ،أو كالهام معاً بشكل متعاضد .وقد اخرتق مثل هذا الوعي كل أنواع وعنارص االختالفات الجزئية ،فامتدت التق ّية ،إىل داخل التقية ،كام رفض االختالف
ضمن حيز االختالف .أي أن املجتمعات املغلقة أصبحت متارس ثقافة التق ّية داخل منظومتها الفكرية النمطية السائدة ،كام أن االختالف ترصح بأحقيته كل التيارات عىل اختالف الذي ّ مشاربها ،ترفضه ضمن منظومتها أيضاً. لقد درجت العادة عىل اعتبار االختالف ش ّقاً لعىص الطاعة ،ولهذا املعنى أبعاد سحيقة يف اللغة والثقافة ،فالطاعة من العبودية ،والطاعة لله يف الدين ،واختالف الناس يعني االنشقاق واالنقسام وتشتيت اآلراء .إذاً ،فشقُ عىص الطاعة للخليفة أو الحاكم ،يتم باالختالف عنه بالرأي، وذلك يفرض أن الرأي السديد أو الرأي بح ّد ذاته ملك للحاكم .والذي مازال يظهر إىل اآلن عىل شكل (خليفة) أو قائد (أسد) مفدّى ال بديل عنه .وهكذا يتحتّم عىل املجتمعات (القطيعية) أن يتبنوا آراء الحاكم ،ويعيشوا حياتهم وفقاً لتصوراته .كام يتوجب عليهم باملقابل أن ال يكون لهم مثل هذا الحق؛ الرأي .كل ذلك منعاً للفتنة، والفتنة أشدُّ من القتل! وهنا قد يح ّمل الرأي تبعات التجريم العظيم ،وارتكاب الكبرية ،وبالتايل الفسق ،أو حتى الكفر ،ومبعايري أخرى الخيانة والعاملة؛ ليس مثة فرق. ليست املشكلة محصورة فقط يف املركزية القارة يف عقول الناس ،بل تتعداها إىل منط الوعي التي أنتجته ،وتنتجه باستمرار .إذ ليس هناك اختالف دون وعي كامل بأهمية االختالف. ولعل مرياثنا الثقايف غزير بالتصورات (املعرفية) التي وإن كانت تؤكد عىل وجود االختالف ،إال تبي أن الحق مع فئة ناجية أنها من جهة أخرى ّ
من بني الفرق املختلفة الضا ّلة ،هذا ما نجده عىل سبيل املثال يف كتاب (امللل والنحل) للشهرستاين. وهنا ال بد من القول إن نقداً جذرياً للمجتمع وللمرياث الثقايف الب ّد من خوض أتونه؛ فالدعامة الفكرية لهذه الدعوى تجد سنداً لها يف الرتاث ويف الالشعور الجمعي .فالحقيقة أحادية ،تقوم عليها سلطة واحدة ،مطلقة .وهذا ما ال ميكن أن نستند إليه ونحن ندعو إىل مرشوعية التعدد وإرساء مبدأ الحق يف االختالف ،وما يرتتب عىل ذلك من تعاقدية النظام السيايس ،وتداول السلطة ،إىل غري ذلك من املبادئ والقيم التي نسعى اليوم إلقرارها لتتنزل فينا منزلة التقاليد املستحدثة .إنها قضية نضال دميقراطي ،إال أنها أيضاً ،وقبل ذلك ،قض ّية نضال ثقايف ،أي نقد جذري للدعامة الفكرية التي يرتكز إليها أي نظام استبدادي ويجد لها سنداً يف املرياث الثقايف :أي ادعاء ملكية مزدوجة للسلطة والحقيقة ،وبالتايل إلغاء كل مرشوعية لالختالف. إن الثورات اليوم ال تقف حدودها عند تغيري نظام سيايس ،أو اجتامعي ،بل هي كفيلة بنقد عام وجذري للثقافة السائدة ،ما خفي منها، وما هو ظاهر .بل إنها تعمل عىل إخراج البنية القدمية بكل تناقضاتها إىل السطح ،وعىل التاريخ أثناء سريورته مهمة االنتصار للواقع ،وللطبيعة البرشيةّ ، كل ذلك يف سبيل الوصول إىل بناء اإلنسان ،الذات ،املتميز ،ومراعات كل أنواع االختالفات بني األفراد ،ابتداء من الرتبية واملناهج يف التعليم وانتهاء بالشكل السيايس للمجتمع. يغدو هذا محصلة وعي جامعي ونتيجة تجربة مريرة ال بد ملجتمعاتنا من اعتناقها.
مصدر الصورة :إنرتنت
“الحرية” :ما الجديد؟ قراءة في كتاب ّ
10
شوكت غرزالدين
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
مقاالت -كتاب
صدر مؤخراً عن (بيت املواطن للنرش والتوزيع) من ضمن سلسلة (الرتبية املدن ّية) ،كتاب بعنوان (الحر ّية :من سامء الفلسفة إىل أرض السياسة)، للكاتب السوري (ماهر مسعود) .وعىل اعتبار أن التناصت والتجابه واملتابعة من أفضل الوسائل للتعامل مع الكتب واإلشكاليات املعرف ّية ،للتقدم يف العمل ّية املعرف ّية؛ أقدِّم رأيي فيه ويف إشكالية الحر ّية كإشكالية معرف ّية -وجود ّية يف آنٍ . إنه كتاب صغري نسبياً من حيث الحجم؛ فعدد صفحاته 95صفحة من القطع املتوسط ،ولكنه كبري من حيث املدلول واإلشكالية ومستوى النقاش .ويصدق فيه املثل القائل“ :خري الكالم قل ّ ما ّ ودل” .ويهدف إلثراء النقاش يف إشكالية الحر ّية وتوظيف الحر ّية يف النهضة والتقدم ،وذلك من خالل نقاش نقدي ّ يتوخى تفكيك الخطاب السائد والفعل املرتبط به. ينقسم الكتاب إىل محورين ومقدمة :األول منهام “يف مفهوم الحر ّية وسامئها الفلسفي”؛ ويناقش فيه الكاتب “معنى الحر ّية وتع ّينات املعنى” أوالً ،و”الحر ّية ومشكلة الوعي” ثانياً ،ثم “الحر ّية والفرد ّية” ثالثاً .أ ّما املحور الثاين فيتحدث عن “أرض الحر ّية”؛ تلك األرض املرتبطة بالسياسة من جهة ،والدولة من جهة ثانية ،والدين من جهة ثالثة. يحاول الكاتب االلتصاق بالحالة املأسوية التي مي ُّر بها السوريون؛ ليف ِّكر يف الحر ّية بحر ّية ،وليقول ما الحر ّية؟ وما “الخوف من الحر ّية”؟ فيعيد بأسئلته القدمية -الجديدة طرح البدهيات مجدداً ،وتحليل مفاعيلها تحلي ًال نفسياً ،ومن ثم إلباسها إجابات وظيف ّية تناسب حاجات الواقع .فريبط بني سامء الفلسفة وأرض السياسة من جديد نقيضاً للفصل الدارج بينهام .وذلك مبناهج متعددة -كام هو مألوف يف التفكري الحديث -فينتقل من املنهج الجديل إىل املقارن إىل الوظيفي إىل التحليل النفيس بيرس وسهولة .والجديد الذي يقدّمه الكاتب يتمثل يف التأكيد عىل “الحر ّية من ”...واالنتقال إىل “الحر ّية لـ .”...والتقاط سلبية “النسب ّية والخصوص ّية” يف تأسيس الوعي العر ّيب -والس ّيام السوريّ منه -بالحر ّية .واستخدام “التحليل ّ النفيس” لتسليط الضوء عىل الالشعور الفردي السوري يف قرفه وخجله وخوفه من والجمعي ّ الحر ّية .واالنتقال بالحرية من السؤال األكادميي إىل الرضورة الحياتية ،إىل اآلن ،وهنا. ً تم تداولها سوريا بشكل الحر ّية من املفردات التي ّ
كبري نسبياً عىل مدار ما يزيد عىل أربع سنني .ورغم عدم وجود “ميتافيزيقا الحر ّية” عربياً وسورياً إال َّأن الثورة السور ّية ٌسميت بثورة الحر ّية والكرامة. فنجد من السوريني من قدّس املفردة وافتخر بها ،ومنهم من د ّنسها واستهزأ بها وهزئ منها. أما الكاتب فريصد هذه الوقائع بالتحليل النفيس ويقارن بني الحضارة الغربية وبني الحالة الراهنة عندنا ويخضع األفكار لقراءة جدلية ويوظفها لصالح الخروج من حالة العبود ّية والخروج من حالة الخوف من الحر ّية؛ ليتسامى بالحر ّية إىل مستوى املفهوم الفلسفي ويقيم العالقات ذهاباً وإياباً فيام بينها وبني واقعنا الراهن. يتكئ الكاتب عىل عدد من الفالسفة الذين تناولوا مشكلة الحر ّية من أمثال هيغل ونيتشه وماركس وسارتر وكامو وماركوز ،وعىل مفكرين عرب من أمثال عبدالله العروي وياسني الحاج صالح وبرهان غليون .ويقدِّم جديداً يف خطاب الحر ّية يتجاوز أنها “وعي الحرية” عند هيغل لرياها “حرية الوعي” أوالً .أو أنها الرضورة املفهومة جيداً ويخرجها من اإلطار الديني بعد نقد هذا اإلطار ليقدِّم رأيه مبعنى الحر ّية ضمن املأساة السور ّية. ينظر الكاتب للحر ّية بوصفها “مفهوماً مثالياً مطلقاً” يتحدد بالواقع والنسبي؛ أي بفعل التحرر عرب التاريخ .ويؤكد عىل أنها مفهوم تاريخي يتعلق بالزمان واملكان وفاعلية البرش ونوع القيود والحتميات السائدة يف حينه .وهي أيضاً مفهوم إنساين ال معنى له خارج الوجود اإلنساين. مييز الكاتب بني “التحرر من” وبني “التحرير لـ”؛ أي بني املفروض الخارجي عىل الفعل اإلنساين كاالستبداد ،وبني املفروض الداخيل الذي يفرضه اإلنسان بإرادته عىل تلك الرضورات ويكون مضاداً لطبيعة هذه الرضورات الخارجية ،كخلق قيم مضادة لالستبداد؛ وذلك َّ ألن الحر ّية كمفهوم مطلق َتستبطن و ُتد ِمج الرضورات املختلفة التي تنقلها من مجال سلبي إىل آخر إيجايب .يقول الكاتب :إ َّنه “االنتقال مام تفرضه تلك القيود والرضورات عىل الحياة والفعل اإلنساين ،إىل ما يفرضه هو بإرادته الح ّرة عىل تلك الرضورات من فعل تحريري جديد ومضا ّد لطبيعتها .وهنا تصبح الحر ّية فع ًال مسؤوالً أكمل انفالته من قيد الرضورة بإنتاج املعنى لذلك االنفالت وللرضورة عينها ،وإنتاج قيمة للفعل التحرري تضبطه وتنضبط به بوصفها قيمة عليا تحررية” ص.13 الحر ّية إذاً هي سريورة فعل التحرر الناقص دامئاً.
يقول“ :الحر ّية مبعناها املجرد ليست قالباً جاهزاً ميكن تطبيقه خارج رشوط املوضوعية وخارج الزمان واملكان ،بل هي نوع من الرتاكم الكمي والنوعي لتجربة الحر ّية والتحرر عىل املستويني الفردي والجامعي ،ومنو لطاقات األفراد العيانيني، وتنمية لقدراتهم وإرادتهم يف مواجهة للمعيقات والصعوبات املتنوعة يف الحياة .ولذلك أيضاً َّ فإن التحرر هو فعل ناقص دامئاً ويسعى سعياً مستمراُ نحو الكامل دون ْأن يصل”ص.18-19 يرفض الكاتب التضاد بني معنى الحر ّية وبني تعيناته ويعتربه تضاداً شكلياً .فعىل الرغم من َّأن األصل يف األشياء هو اإلباحة ،إال أننا نجد العبودية كرشط مالزم للوجود اإلنساين واقعياً ،وتنمو الحر ّية بكرس الحواجز يف ذاته وعامله الطبيعي ويبي كيف استغل النظام واالجتامعي والسيايسّ . ً السوري النقص املالزم للحرية عيانيا إلشاعة “النسبية والخصوصية” يف الر ّد عىل دعوة الحرية لنقضها ،وكيف اعترب هذا النظام أن السوريني ينقصهم الوعي ويدينون باإلسالم وعندهم ُأم ّية وبالتايل ال تلزمهم الحرية بل يلزمهم االستبداد والتوريث. يخلص الكاتب إىل أننا نفتقد الحر ّية مبعنييها املفهومي والعياين ويقف النظام السيايس االستبدادي سداً منيعاً أمام تطلعات الحر ّية .ولهذا ُيح ّيي “الربيع العريب” الذي افتتح حياة عرب ّية قابلة للحياة راجياً ْأن يخلق العرب حريتهم من جديد.
كيف يستقبل أهالي درعا الشتاء بين حصار النظام الذي يمنع ادخال المحروقات للمناطق المحررة وبين الغالء الفاحش للمحروقات والحطب
لبنى صالح
هوامش. * تعريف عامل النفس أنجرام لالكتئاب :إضطراب مزاجي وجداين يتسم بانحرافات مزاجية تفوق التقلبات املزاجية األخرى. * الكثري من الباحثني وعلامء النفس ومنهم إريك فروم يرون اإلبداع والتميز ال يتعلقان مبيزات فزيولوجية إمنا هو نتاج للبيئة االجتامعية. * مدخل إىل سكولوجيا اإلنسان املقهور “مصطفى حجازي” * اإلدمان هنا ال يعني فقط إدمان املخدرات وإمنا إدمان عادات معينة تدفع اإلنسان أن يغيب عن الواقع
تقارير
الهوية سؤاالً جوهرياً يف حياة الكثري من السوريني. رشيحة كبرية من موايل النظام يشعرون بالحنني إىل بدايات الثورة .يف أحد النقاشات الدائرة عىل صفحات التواصل االجتامعي “فيس بوك” يعلق أحد املوالني يف نقاش مع آخر معارض“ :ما حدا كان ضد املظاهرات كنا كالتنا مبسوطني بس بعدين قلبتوها إرهاب”. ال ميكننا الحديث عن االكتئاب دون اإلشارة إىل أنه مرتبط يف العمق بالعبودية التي ينتجها النظام العاملي الذي يسعى لسيطرة حكم النخبة واالستفادة من األكرثية العاملة لرفاهه واستعباد الطبقات الفقرية .إن املسألة برمتها وبأبسط التعابري تتعلق بخلق إنسان منعزل عن اآلخر، ميلء بالعقد واألمراض النفسية والجسدية من أجل القدرة عىل استعباده .وبهذا املعنى فإن الثورة وتحرير اإلنسان من عبوديته هي العالج الحقيقي لحاالت االكتئاب ،ووفقاً لذلك كان البد من تحويل الثورة إىل حرب من أجل تصديع صورة السوري عن نفسه وتركه عرضة لنهش الذات وتدمريها سواء بالطريقة املبارشة وهي االقتتال أو عن طريق إنتاج أجيال محبطة ليس لديها ثقة بصورتها وثقافتها وماضيها ومستقبلها. تسحرين البحرية املمتدة يف عمق الشاشة ،أتخيلها مكاناً مناسباً لكتابة رواية ساخرة تتمحور عن االكتئاب .عالقة حبيبني يتخللها مواقف وانهيارات تراجيدية ،يف حني تبدو لصديقهام الثالث شيئاً من التهريج يبعث عىل الضحك .لكن سحنة صديقي الهارب من الغوطة ،الواصل حديثاً ألملانيا تعيدين إىل الواقع .نتحدث طوي ًال عن الثورة واملعارك والخيانات .يصمت ومن ثم يقول يل“ :هل رأيت صور املجزرة اليوم؟” نصمت مرة أخرى ومن ثم يقول“ :مىض أسبوع كامل ومل أخرج من املنزل. أنا مكتئب”.
11
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
ّ حل فصل الشتاء عىل محافظة درعا هذا العام محمال معه أعباء كثرية ،فالنظام يفرض عىل املناطق املحررة من هذه املحافظة حصارا منذ أكرث من عامني ونصف ومينع دخول املحروقات والغاز إليها ،األمر الذي ساعد تجار الدم حسب ما وصف األهايل لتهريب املحروقات والغاز من حواجز النظام مقابل مبالغ ماليه مرتفعة، بدوره يقوم التجار برفع أسعار هذه املواد إذ يصل سعر جرة الغاز يف مناطق درعا املحررة إىل 7000لرية سورية ،بينام وصل سعر لرت البنزين إىل 400لرية ،وسعر لرت املازوت يصل إىل 350 لرية ،ويستمر التجار يف التالعب باألسعار يف ظل غياب أي جهة رقابية. أبو خالد من سكان بلدة النعيمة يقول بأن الدفء يف شتاء هذا العام أشبه بالحلم ،مربرا ذلك بأن سعر لرت املازوت 350لرية سورية وكل أرسة ستحتاج كحد أدىن إىل 6لرتات يوميا ،أي مبعدل 2100لرية كل يوم ،أي ما يقارب 63000 ألف شهريا ،باإلضافة إىل غالء املعيشة وارتفاع أسعار السلع التجارية فمن الصعب وأشبه بالحلم أن نشعر بالدفء هذا الشتاء. أبو محمد (اسم مستعار) تاجر محروقات ينتقل بني مناطق سيطرة النظام واملناطق املحررة يقول بأن الغالء يف سعر املحروقات هذا العام ناتج عن صعوبة ادخال هذه املواد من مناطق
النظام إىل املناطق املحررة ،فعند كل حاجر تعرب منه سيارة املحروقات يجب دفع مبالغ مالية مرتفعة يك ميكن تهريبها ،وقد يصل املبلغ الذي يطلبه الحاجز عىل كل شحنة إىل 200ألف لرية سورية ،وهذا ما يسبب ارتفاع أسعار املحروقات عند وصولها للمناطق املحررة. أبو حسام من سكان مدينة درعا البلد يقول بأن غالبية الناس يف درعا من العام املايض اعتمدت عىل الحطب يف التدفئة ،ألن سعره أقل من سعر املحروقات حيث يصل سعر طن الحطب إىل 45ألف لرية سورية ،وكل عائلة تحتاج إىل أكرث من 3طن لتكفيهم فصل الشتاء ،أي ما يقارب 135ألف لرية ،ولكن أسعار الحطب غري مستقرة وتشهد ارتفاعا يوميا ،ومن ال ميلك مثن الحطب يعتمد عىل قطع أشجاره لتدفئة عائلته عىل حد قوله. الناشط مهند الحوراين يقول يجب عىل مجلس محافظة درعا الحر تشكيل مكاتب خدمية تشمل مكتب التموين واملخالفات ،وفرض الرقابة عىل األسعار ويجب تحديد أسعار للمحروقات وغريها من وسائل التدفئة مام يتناسب مع الظروف املعيشية ،والحزم يف تنفيذ االجراءات املطلوبة للحد من انتشار طمع تجار الدم الذين يستغلون ظروف املواطنني لتحقيق أرباح طائلة.
تتمة من صفحة 8
يا هوى الناس 12
لينة عطفة
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
ثقافة
أنزل رجليه عن طاولة املكتبّ ، متطى ً قليل اعتدل يف جلوسه ،خبط بكلتي يديه عىل الطاولة، ً شامخا بشاربيه العسليني ،ورصخ بصوته وقف ّ الجبيل“ :يا أبا أزدشري الغايل ،أحرض يل العنارص عىل الفور”. حان اآلن بتوقيت امللل موعد إيقاظ العنارص من قيلولتهم والنزول إىل األقبية يف جولة عىل املهاجع والزنازين ،ال ليشء؛ بل ألن الضابط يريد مناظر تصيبه بنوبات ضحك هستريي وترفع رصيد ذاكرته وخياله من الحكايا لينافس أقرانه يف السهرات .تج ّمع العنارص ،البداية كانت صفعة عىل نقرة أحدهم“ :يا بني ب ّكل أزرار البدلة”، التفت إىل عنارصه التفاتة العارف“ :انزلوا…” بدأت الجولة ،العتم ،الربد ،الرطوبة ،رائحة عفنة، رائحة القامش املبلل العطن ،الدم ،الوسخ ،رائحة البول والرباز ،كل تلك الروائح مجتمعة ال تش ّكل إزعاجا ألنف الضابط ،ال يشء يش ّكل فار ًقا ال ً الروائح ال العتمة ال أصوات األنني وال الرصاخ وال أصوات الرضب ،بدا األمر اعتياد ًيا متا ًما إىل أن تناهى صوت من بعيد صوت عود ..صوت أغنية؛ إنه سعدون الجابر يغني يا هوى الناس ،تس ّمر الضابط يف مكانه تس ّمر شعره ً أيضا وشعريات ّ وتضخم وصار خرطو ًما ،همس أذنيه ،اصف ّر أنفه أليب أزدشري“ :إما أننا نستضيف سعدون جابر يف الفرع أو أن كل ًبا ه ّرب راديو للمحابيس؟! من ه ّرب راديو للمحابيس والااااك؟؟!” التفت إىل العنارص بحقد ،تج ّمد العنارص، تلعثموا ،اختنقوا بالهواء ،وأنكروا ،واستنكروا، والضابط يرتجف غض ًبا ،أشار لهم بالصمت ومىش كأمنا مييش عىل أذنيه ،لحق الصوت تبعه كسلوقي وصل إىل الزنزانة الجامعية وبهدوء تراجع قلي ًال إىل الخلف ،ابتلع ن َف ًسا ضاعف حجم صدره ،ونفخ خديه من الداخل ،ته ّيأ… وبلبطة ٌ صمت مطبق ،تج ّمد واحدة خلع باب الزنزانة. ّ الهواء ،انقطع التنفسُ ، وشلت األجساد املتك ّورة عىل الرعب ً أصل ،ال راديو وال مسجلة وال من يحزنون ،كل الحكاية أن سجينًا كان يعزف عىل العود ويغني األغنية. “يا هوى الناس ..يا ديوث! من ه ّرب لك العود يا كلب؟” التفت إىل العنارص“ :فتّشوا الزنزانة واشحطوا الكلب وعوده إىل مكتبي” .اقتحم العنارص الزنزانة وسط سيلٍ من الشتائم والرضب
املربح ،خ ّربوا ومزّقوا كل يشء ،فتّشوا الجدران والبالط والبطانيات العسكرية ،صادروا املسابح التي صنعها السجناء من عجو الزيتون ،صادروا ً ومتثال من وزوجا من الجوارب كيسني من التبغ ً الخبز ،ورماد السجائر وشحطوا السجني املسكني مع العود إىل مكتب الضابط ورموه عىل بالط الغرفة .مل يق َو عىل الوقوف عىل قدميه ،كان غار ًقا يف الرعب ويف رسد احتامالت املوت بني يديّ الضابط وأنه سيقتله أو يعطبه ويصادر العود. مرسحي وجهه إىل وقف الضابط بشكلٍ هتلريٍّ ّ الش ّباك ،بقي خمس دقائق يتأمل الفراغ اإلسمنتي ثم استدار فجأة وركض إىل السجني الذي مل يجرؤ أن ينبس بحرف ،أمسكه من رقبته بلؤم وغضب ورصخ“ :أستطيع اآلن أن أدفنك يف هذه الغرفة تحت قدمي ،لكن سأمنحك فرص ًة لالعرتاف: من الذي ه ّرب لك العود؟” عرف السجني حقّ بدم بارد ،قال له: املعرفة أن ذاك املعتوه سيقتله ٍ “سأخربك بكل يش بكل يشء يا سيدي لكن أرجوك أن متنحني الوقت واألمان”. نظر الضابط بتوعّد وأفلت رقبة السجني وقال: “عليك األمان لكن أريد كل يشء بالتفصيل اململ” .احتضن الضابط العود برفق وجلس إىل املكتب وضع العود أمامه وأمر السجني بالجلوس قبالته وبدأ السجني“ :يا سيدي مل يه ّرب أحد محدّد يل العود ،ه ّربه الجميع يل” .انفعل الضابط“ :الجميع هنا رشيك يف الجرمية؟ كيف الجميع؟” أجاب السجني“ :أنا صنعت العود بنفيس” .فضحك الضابط باستخفاف وقال: “أنت يا ملعون الوالدين؟ كيف؟” ردّ“ :املواد ك ّلها متو ّفرة ،أنتم تجلبون لنا الطعام بسحارات خشبية ،كنت أرسق أضل ًعا من السحارة وأح ّفها
بشفرة الحالقة أنقعها باملاء ،وأشويها بلهب والعة السجائر لتنحني يك أصنع قفص العود وألصقت األضلع ببعضها بالخبز والسكر املذابني باملاء، وم ّرة رسقت أرجل سحارتني ألصنع زند العود ّ ونحت مفاتيحه من أربعة أقالم رصاص، وفرسه، ً خيوطا من جوارب النايلون وجمعتها نسلت ألصنع األوتار ،أما الريشة فقد صنعتها من ياقة قمييص ،انظر يا سيدي قمييص مبتور الياقة”. كان الضابط يكتم دهشته وذهوله مع كل كلمة تخرج من فم السجني ،أمسك العود ،ق ّلبه بهدوء، حدّق بالسجني بجحوظ“ :كيف ز ّينت العود”؟ ر ّد السجني“ :ز ّينته بالقامش ،مثة قامش متآكل عندي زينت به العود ،إنه عود حقيقي و صوته بديع يا سيدي ،صوته حنون وأنا والعنارص بريئون، مل يه ّربه أحد يل يا سيدي” .وهنا نظر السجني يف عيني الضابط الشاردتني بالعود ،شعر بغصة كبرية ،كل ذاك الجهد الذي بذله سيع ّلق يف بيت الوحش الذي سيوسعه رض ًبا اآلن ،سيز ّين به بيته سيعرضه عىل ضيوفه ويباهي به أقرانه ،وسيتعلم أوالده العزف عليه ورمبا يهديه ألحد رؤسائه أو يبيعه مببلغ هائل من املال ورمبا… “سأتحمل أيامي املقبلة يف املنفردة لكن املهم :نجا العود”. رن الضابط الجرس دون أن ينظر إىل السجني، استدعى العنارص ليأخذوه ،وقف عنرصان عند الباب ،تهدّج صوت الضابط“ :خذوا هذا الكلب إىل املنفردة” .رفعاه من تحت إبطيه وما إن أداروا ظهورهم ومضوا إىل الباب حتى سمعوا خط ًوا ملته ًبا ودويّ رضبة هائلة عىل ظهر السجني أوقعته ً أرضا ،وتناثرت شظايا العود يف املكان وطنني ّ تحطمه“ ،أنت صنعت العود؟” رصخ الضابط “أنت صنعت؟! يا حرشة ،يا تافه ،أنت تحتقر عقيل وترسق وتستغل ما أمنحه لك ،من سمح لك أن تصنع عودًا؟ من سمح لك بالغناء ً أصل؟! سوف أصنع من جلدك عودًا وأعزف عليه يا حقري يا سافل” .وأمسك ما تبقى من جسم العود ورصخ“ :انظر إليه ،هذا هو عودك يا بخش الفن” وهوى به عىل رأس السجني وبدأ يدوس بشكل هستريي الشظايا وهو يشتم ويرغي ويزبد ،انسحب العنرصان مع السجني املدمى باتجاه املنفردة ..وكان كل ما بقي من العود؛ الطنني األخري يف رأس السجني من أثر الرضبة التي قصمت العود عىل ظهره.
نشرة ثقافية
نشاطات وجوائز لمبدعين سوريين 13
طلعنا عالحرية – القسم الثقافي
خاصة جلنار حاجو تفوز بأكرب جائزة عربية ّ بأدب األطفال تدمر الجديدة يف باريس
أطلقت مجموعة من السوريني مع مجموعة متعددة الجنسيات “فلسطني ،لبنان ،فرنسا، بريطانيا ،أمريكا” مرشوع معرض سوريّ بعنوان “تدمر الجديدة” من ضمنهم املعتقل يف سجون النظام السوري (باسل الصفدي) أحد مؤسيس املرشوع منذ ،2005ويعنى املرشوع بالحفاظ عىل الرتاث الحضاري واملشاع اإلبداعي ،ويهدف إىل جمع كل ما يخص تدمر ،عامرتها ،تراثها ،وفنها، وقام املرشوع ببناء مدينة تدمر رقم ًيا باستخدام الصور والبيانات املتوفرة عنها لدى زوارها ولدى املتاحف والبعثات التنقيبية ومعاهد اآلثار يف جامعات العامل.
“شهادات سورية” وينطلق الكتاب من تشابه أسامء بني املؤلف وأحد الضحايا الذين قتلوا يف سوريا ،ويتابع منها لالنتفاضة السورية وآمالها وأحزانها وقلقها ،يف مجموعة نصوص متسلسلة تجمع بني اللغة الشعرية والتحليل السيايس.
أيام الكرز يف مهرجان ديب السيناميئ
أعلن املمثالن السوريان التوأم ملص عن مشاركة فيلمهام “أيام الكرز” يف مهرجان ديب السيناميئ، الفيلم الذي ميتد لساعة وربع الساعة ،وتم إنتاجه بالتعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية وجمعية “ ”POUR UNE SYRIE LIBREوقد تم تصويره يف مدينة مع ّرة النعامن شامل سوريا، ويتحدث عن اليوميات الجميلة عىل هامش رمضان وكأس العامل ،ويص ّور حياة الناس هناك وتفاصيلها التي مل يس ّلط الضوء عليها.
فازت الرسامة والكاتبة السورية بجائزة أفضل القصة” يف رسوم عن كتاب “نور تهرب من ّ مسابقة اتصاالت وهي أكرب جائزة عربية خاصة بأدب الطفل تصدر عن املجلس اإلمارايت لكتب اليافعني ،ويذكر أن الكتاب من تأليف عبري عيل ومن إصدارات دار األصابع الذكية – سوريا.
فادي عزّام يقرأ “رسمدة” يف سويرسا
خاصة بعنوان “أمسية سور ّية” أقيمت يف مناسبة ّ يف زيورخ ،قرأ الكاتب السوري فادي عزّام من روايته “رسمدة” وناقشها مع الجمهور السويرسي، وناقش مجريات األمور يف سوريا ودور املثقف السوري يف الثورة وتأثريه ،كام عُ رض بعد األمسية فيلم “اللجاة” للمخرج السوري رياض شيا.
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
،”AWARDSوكان مخرج الفيلم زياد كلثوم قد أعلن عن مشاركة الفيلم هذا الشهر يف ثالثة مهرجانات وهي :أيام قرطاج السيناميئ يف تونس، ومهرجان يب يب يس يف لندن ،ومهرجان إيطاليا قصة الرقيب املجند زياد يف روما ،ويص ّور الفيلم ّ كلثوم حني وجد نفسه مجندًا يف واحدة من أكرث ً اشتعال “املليحة – الغوطة الرشقية”. الجبهات
محمد املطرود يناقش الصورة النمطية بني النقد واإلساءة يف أملانيا
أعلن الكاتب السوري محمد ديبو عن صدور النسخة اإليطالية من كتابه “كمن يشهد موته” وإطالقها يف املكتبات ،الكتاب الذي صدر بنسخته العربية عن بيت املواطن السوري والرابطة السورية للمواطنة عام 2014ضمن سلسلة
فاز فيلم “الرقيب الخالد” للمخرج السوري زياد كلثوم بجائزة أفضل فيلم تسجييل طويل يف مهرجان يب يب يس “BBC ARAB FESTIVAL
ثقافة
“كمن يشهد موته” يف إيطاليا
الرقيب الخالد يحصد جائزة مهرجان يب يب يس للفيلم التسجييل الطويل
ضمن ندوة بحثية أقامتها املنظمة اإلسالمية للرتبية والعلوم والثقافة بالتعاون مع املؤسسة املغاربية األملانية للثقافة واإلعالم بعنوان “الصورة النمطية بني النقد واإلساءة لآلخر – من منظور الحقوق األساسية وثقافة الحوار” ،شارك الشاعر والناقد السوري محمد املطرود من سوريا مع مجموعة كبرية من اإلعالميني واملثقفني وخرباء القانون الدويل وحقوق اإلنسان وشؤون الهجرة ومنظامت مدنية من أملانيا وأوروبا واملغرب وتونس ،وخرجت الندوة بتوصيات ها ّمة فيام يتعلق مبعالجة الصورة النمطية وتعزيز ثقافة الحوار.
والدة متعســرة
14 وافي بيرم العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
مل أولد صغ ًريا أبدًا ،ومل أتك ّون من خالل جنني بأصابع رسيّ متّصل بعامل طر ّية وعيون مغمضة ،وحبل ّ آخر .ق ِد ُ مت إىل العامل هكذا بشكيل الحايل ،وكريش املتقدم ع ّ يل بهدفني ،وشع ٍر أجعد ،وشامة أسفل الشفة ينبت فيها رهط من الشعريات السوداوات أخ ّبئ تحتهنّ خبثي. ق ِد ُ مت هكذا بحقدي وغضبي بدون أي براءة تذكر، ً صارخا أو رصاخ بريء لحظة الخروج ،بل خرجت بالشتائم ،أتيت كام أنا؛ طويل يالحق النساء ويكرس مصابيح الرشفات ويشتم الجدّات وحكاياتهنّ ، أعمل “عت ًّال” براتب زهيد عند القهر ،وأقوم بأعامل مسائ ّية بدوام إضايف تحت رحمة الجنون -جنون ُ قدمت يف زمن الحرب ،يف زمن الجربوت، هذا العامل- يف زمن رفع الرؤوس عىل أسوار حدائق األطفال ،يف زمن تفتيت األجساد ،يف زمن عجن اللحم بالحديد، قالوا يل إنه يف يوم مىض كانت هناك إنسانية ،قدُّ ها مرمر وثدياها كوكبان دريان ُتس ِكر الناظرينّ ،إل
أن ً وحشا عمال ًقا أعجبته فاغتصبها ،ورشب نخبها ً مخلوطا بدماء بكارتها برفقة رجال دين وطاغية. يدهشني البعض بفرحهم بتذ ّكر أيام الطفولة والرباءة كام يسمونها ،مل أجد مرب ًرا واحدًا لسعادة حازم ترتبع عقدة تش ّكلت طفل ،يف ٍ أب ٌ بيت ر ُّبه ٌ منذ زمن األحفوريات أعىل جبينه ،يجلس بني أصدقائه واض ًعا قد ًما فوق أخرى ليقول :أنا أدخل البيت ألج ّمد الهواء يف حناجر أهله ،ثم ينفض رماد سيجارته وهو يرتجف ويتطلع خو ًفا من جدار قد وجه أذنه باتجاهه ،أو أستاذ بعصا قدّها من الجنة كام يدّعي؛ يهوي بها عىل من يفتخرون بتلك الرباءة، أو ٍأم خلقت يف مه ّمة لتلقي الشتائم والرضب يوم ًيا بحجة جنحها املكسور ،كرسوا لها جنحها ،ثم نعتوها بذات الجنح املكسور!. ّ ال مل أكن ً ّ طفل أبدًا ،كل ما أتذكره هو أنني أتيت هكذا بلسان بذيء ،وحقد وكره وغضب ،وأسنان حادّة ّ قطعت بها ّ كل الحبال الرس ّية املتّصلة بتلك الرباءة الغب ّية.
بيدق سرى علوش مصدر الصورة :إنرتنت
ثقافة
طعنة يف الظهر! وجهك القديم املغمور بابتسامات النسيان ،ووجهك الجديد الغريب الذي مل أتعرف عليه ،والذي يبتكر ألف فكرة وفكرة لقطع حباله الصوتية. وجهك املتقدم عىل خط الزمن دون أن يتعرث باألغاين واالقتباسات ،ودون أن تفقده محنة الغفران صوابه فتختلط الصور يف ذاكرته وينتبه .وجهك الجديد خيانة فاجرة لبنت كنتُها قبل عامني ومازالت تنتظرك هناك يف محطة القطار ليك تفرتقا أخ ًريا بحرفة عاشقني عارفني أمل الفراق وقادرين
عىل التعايش معه .وجهك خرق لغوي طغى ضعفه البالغي عىل السالم املبتذل والكف التي انقطعت أخبارها عن العرافة مذ انقطع إميانك بكذبة األبدية .كان ذلك كاف ًيا لكلينا ليك نعرتف أن فكرة الوقت غري كفيلة بشفاء الجروح التي نفتحها كلام التقينا أو بإيقاظ النسيان النائم من رشوده عن مصرينا؛ مصرينا الذي ليست لديه أدىن فكرة عام ينتظرنا من ندم يفرتس أسامءنا كمجرم متمرس .طعنة يف الظهر صوتك! صوتك الغائب اليابس كغريب ال مييز قلبه التاريخ وال يحركه مرب ًعا زمن ًيا واحدًا. غريتنا الحرب .أكلت وساوسنا وألق الكذبات الكثرية التي رميتها يف وجهي كذبة وراء أخرى حتى مل أعد قادرة عىل
هزمية الوقت وترتيبها والنظر فيها أو اكتشافها .غريتك الحرب؛ أخذت قلبك ووضعت مكانه لعبة بالستيكية قدمية تنكرس داخلك كلام تقلبت يف نومك دون أن تدري أو تصدق احتامل أن ينكرس داخلك يشء دون أن يؤملك! مل تغريك الحرب ،رمبا ال تغري الحرب أحدًا؛ هي تكتفي بخلع األقنعة عن وجوه الجميع ومنحهم من املوت ما يكفي للتخلص من نعمة الخجل واالمتثال للكوابيس التي يعيشون فيها ويسمونها حياة. طعنة يف الظهر يدك؛ يدك التي ابتسمت لكتفي مرات عديدة وغطت جسدي بضحكاتها امللفوفة باملوج ،ثم أطلقت النار عليه حني استدار نحو الفرح ليربر غفرانه لك ،ويقنع الله بحبك الذي ال دليل عليه سوى غيابه .الطعنات ال تقتل .الطعنات تغري اتجاه الريح فقط ،وتجعلنا نسلك طري ًقا آخر ال مرايا ُتز ّورنا يف نهايته ،وال ظالل تنام عىل أرصفة املدينة التي أضعت نفسك بني فتيات ليلها ،ومل تجد بدالً عنها سوى بيدق أكرث جبنًا من أن يدخل حر ًبا.
منظمات المجتمع المدني ..الثورة الهادئة
15
تتمة من صفحة 3
الخامتة :إن كل ما قيل يتلخص يف أمرين: - 1إن املجتمع اإلسالمي كام تثبته وقائع التاريخ، هو مجتمع مدين قبل أن يغتاله الطغاة ،وإن النظام اإلسالمي يحافظ عىل مدنية املجتمع ،من خالل فريضة املشاركة يف الشأن العام .لكن الطغاة زوروا هذه الفريضة ،فحولوها ألداة يف خدمتهم ،بدل أن
العدد 2015 / 11 / 17 - 59 -
السالم مع “إرسائيل” مل تعرض لألمة بعد أربعني عاماً ،وعقود استئجار الحكام الذي فضحتهم ثورات الربيع العريب ال يعرف أحد عنها شيئاً .والشواهد أكرث من أن تحىص ،وبقي األمر عىل هذه الحال ،حتى استحالت الخالفة الراشدة ملكاً عضوداً ،استوىل فيه املستبدون عىل الفضاء العام ،وحجروه عىل األمة، وسد وصارت األمة دهامء ال تستشار ،وال تستأمر ،بل ِّ األمر إىل من تجرأ عىل األمة وقال :والله ال يأمرين أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إال رضبت عنقه. وفع ًال طارت أعناق كثرية مبربرات مختلفة ،وحيل بني األمة وبني املشاركة يف إدارة شؤونها ،حتى وصلت األمة إىل ما وصلت إليه ،وتوىل السلطة فيها خلفاء الغرب امللوك اآللهة ، ،فهم ال يسألون عام يفعلون ،ال مبدل ألمرهم ،وال معقب لكلمتهم ،وال راد لحكمهم، وبقينا يف هبوط والعامل يف صعود ،حتى اكتشف األوربيون يف رصاعهم مع الطغاة قيمة املجتمع املدين فنظموا حركته ،وقننوا وجوده ،وجعلوه من ثوابت النظام السيايس عندهم ،ثم كانت عودة املجتمع املدين ومنظامته سبباً يف خالص األوربيني الرشقيني من طغيان الشيوعية ،الذي دشنته حركة تضامن، فنبتت نابتة املجتمع املدين يف بالدنا بسحر قوته يف مواجهة الطغاة ،وأحس هؤالء بخطورته ،فلفقوا له كل تهمة ،واستعملوا يف وجهه كل سالح ،فادعوا أنه
صنيعة املستعمر ودسيسته ،ورأس حربته ،وأنه حرب عىل الدين ،وملا مل يجد ذلك ،حظروا حركته ،وسجنوا رموزه ،وأمكنهم ذلك ألن الحركة كانت حركة نخب محدودة ،وحسب الطغاة أن األمر دان لهم ،حتى دقت ساعة الحقيقة فقامت األمة بقضها وقضيضها، من مرشقها إىل مغربها وإن بتفاوت ،ومتكنت الثورات من إزاحة الطغاة ،وساهمت قوة املجتمع املدين كثرياً يف سياق التطورات يف كل ثورة ،فسارع بعض الطغاة لتقديم إصالحات يحارص بها عودة املجتمع املدين أو عودة الروح لألمة ،وجرفت قوى املجتمع آخرين ،واختلفت سياقات الثورات بحسب قوة املجتمع املدين فيها وطبيعته ،ففي املجتمعات التي دمر الطغاة فيها املجتمع املدين تحولت الثورات إىل حروب مدمرة كام يف سوريا حيث مل نعرف سوى منظمتي الطالئع والشبيبة! ويف املجتمعات التي فيها بقية مجتمع مدين اتخذت األمور مساراً أقل تدمرياً.
تكون يف مواجهتهم ،وانطىل األمر عىل كثريين ،فصار اآلمر باملعروف يتكيف ،مع استباحة األمة ،وخرم التوحيد من امللوك اآللهة ،ويالحق فتاة لزيها أو شاباً حليقاً ..وهذا غاية التزوير وقمة الضياع. - 2لقد أعادت ثورات الربيع العريب الحياة للمجتمع املدين ،واآلن منلك الفرصة ألن نجعل عودته نهائية ودامئة ،وذلك من خالل ما ييل: تحرير معنى املجتمع املدين من تشويه أنظمة الجرب وامللك العضود ،وإعادة االعتبار ملجتمع املدينة، وإحياء معانيه ومضامينه. تنظيم قوى املجتمع املدين يف منظامت تعرف دورها وتقوم بواجبها يف خدمة األمة وصيانة املجتمع ،وال عاصم من عودة أنظمة الطغيان من غري مجتمع مدين حي قوي يعرب عن ذاته من خالل منظامت رشعية تستطيع أن تجسد قوة الجمهور بصورة ثابتة ودامئة. تحرير الفضاء اإلسالمي ،بالقطع بني مجتمع املدينة مجتمع األمة ،ومجتمعات امللك العضود التالية، حيث حيل بني األمة ومامرسة دورها ،والتخلص من كل تزويرات فقهاء السلطان ،وسدنة الطغيان. أعادة الروح لفريضة األمر باملعروف والنهي عن املنكر لتكون وظيفة الجمهور يف مواجهة جور الطاغية ،وليس أداة الطاغية لقمع الجمهور ،كام هي مامرسة يف بعض كاركاتريات الدول اإلسالمية.
مقاالت