نصف شهرية ،سياسية ،ثقافية ،مستقلة
ملحق خاص قضايا المرأة الوجه اآلخر ..الخفي ..للحكايات الجميلة قضية املرأة بني الحقيقة والزيف “معركة الحجاب” مرة أخرى طريق الحرية وعرة لكنها تنتهي بينبوعها “مريانا مراش” أول امرأة عربية متتهن الصحافة لسجن عدرا للنساء حكايات وحكايات يدي أعطني حر ّيتي ..أطلق ّ أمل وزواجها الثالث والرابع
ملحق العدد 84
2017 / 1 / 16
الوجه اآلخر ..الخفي.. للحكايــات الجميلة
2
افتتاحية بقلم :يارا بدر العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
اثنا عرش عدداً أصدرتها مجلة “طلعنا عالحر ّية” خصصت أربع صفحات يف كل منها لقضايا املرأة، ّ حاولنا خاللها عرض قضايا إشكال ّية متن ّوعة تعاين خطتها نساء ّ منها املرأة ..مقاالت ّ وخطها رجال داعمون لقضايا املرأة ،وال ينظرون إليها كمفعولٍ به يف العالقة مع الرجل ،بل كرشيك فاعل وعىل قدر املسؤولية ،كام تدل بعض األمثال الشعبية يف ثقافتنا ،وهي األمثال التي اختارت األكرث ّية الشعب ّية تجاهلها وإهالة الرتاب فوقها من طراز: وإنت بنّى). (أنا جنّى ِ ويك ال نشارك يف عمل ّية التجاهل للرواد يف نظرتهم للمرأة كرشيك درب ،أو صاحبة مرشوع، ال ككائن ال يصلح سوى ألن يكون محكوماً من اآلخر ،مسلوباً ح ّقه اإللهي واأل ّويل يف االختيار، بل كائن يجني ويبني أيضاً ،ويف ذات الوقت مث ّله مثل الرجل ،ويتشارك معه يف هذه الحياة بكل أوجهها. وإنصافاً ّ فإن الحديث عن املرأة السورية لن أشجع يكتمل دون الحديث عن رجال هم ّ الرجال ،وأكرثهم نب ًال ،رجال مثل “وائل حامدة” الناشط السيايس السلمي لسنوات طويلة ،والذي ال يعرفه ُك ٌرث رمبا إ ّال مع حادثة اختطافه هو وزوجته املحام ّية واملدافعة عن حقوق اإلنسان البارزة “رزان زيتونة” وزميلهام الشاعر واملحامي “ناظم حامدي” واملعتقلة السياس ّية السابقة “سمرية الخليل” قبل ثالث سنوات يف دوما التي
تسيطر عليها فصائل عسكر ّية مقاتلة. وائل ،الذي ّ رشفني بلقائه والتع ّرف عليه حني وجدت نفيس وحيدة ..أهيل مسافرون وزوجي معتقل .عرض بكل أناقة استضافتي يف منزلهم يك ال أبقى وحيدة. وائل صامت معظم الوقت ،هادئ كالبحر الذي تكون مغ ّف ًال جداً إن ّ استخفيت بهدوئه الظاهريّ ُ ،مح ّبب وط ّيب ،كريم وبسيط ،ال يخىش القول ّ بأن زوجته ال تحب الطبخ ،وال يخىش أن يدع لها مساحة الكالم األعظم أو تتوسط شاشات حتى أن يقف جانباً وهي تظهر ّ التلفزة لتتحدّث ّ عم يجري يف الشارع السوري. أشك ّأن هناك مظاهرة شاركت فيها رزان والرفاق ومل يكن معهم وائل ،أشك ّأن هناك عمل انهمكت فيه رزان ومل يكن وائل داعمها وسندها األ ّول ،رشيكاً وزمي ًال يف العمل ،وسنداً يف الحياة اليوم ّية ،يف حياة التخ ّفي ،يف تجربة العيش يف املناطق الخارجة عن سيطرة الق ّوات الحكوم ّية ،يف األفراح الصغرية واألوجاع الكبرية. وائل ،ملن ال يعرفه ،امتلك دوماً نشاطه السيايس الخاص ،ورأيه ا ُملستقل ،الذي مل يخش اإلفصاح عنه والدفاع عنه .لكن وائل ببساطة رجل قليل الكالم ،يحرتم الصمت الذي وصفه “محمود درويش”“ :يكون الصمت فأساً /أو براويز نجوم”. ووائل قد يكون -بحسب معرفتي -األمنوذج السوري الوحيد لرجل اعتقل عىل اسم زوجته www.freedomraise.net
وبسبب نشاطها الحقوقي املعارض ،إذ يف خريف العام 2011اعتقل وائل وأخوه ملدّة ثالثة أشهر لدى املخابرات الجو ّية للضغط عىل رزان لتسليم نفسها ،عىل العكس من سياسة النظام منذ الثامنينات باعتقال النساء للضغط عىل أزواجهنّ وأبنائهنّ وأخوتهنّ ليسلموا أنفسهم ،وهي السياسية ذاتها التي اتبعها منذ آذار .2011 كم ميتلك من شجاعة ذاك الرجل الفخور بزوجته، بوطن أجمل وأكرث الرشيك يف مغامرتهام بالحلم ٍ احرتاماً للكرامة اإلنسان ّية .وكم ميتلك من ُح ٍّب تؤسس ُيجابه به منظومة ُمجتمع ّية متخ ّلفة مل ّ سوى ملجموعة ال ُمتناه ّية من االنطباعات السلب ّية ا ُملسيئة لرجل مبثل هذا النبل. انطباعات نحن املراقبون الجانبيون ال منلك سوى ٍ خفيفة كفالشات كامريا ،لكنّ املواقف والواقع يتحدّث عن استثنائ ّية هذه التجربة ،ووحدهام رزان ووائل من سيتحدّث عنها يوماً ما بكل ما نشتهي من معرفة ..يف انتظار ذاك اليوم ،نعيد لهام ما قال “درويش”: “أنا شاهدة القرب الذي يكرب يا ريتا أنا من تحفر األغالل يف جلدي شك ًال للوطن.. نلتقي بعد قليلٍ ،بعد عام بعد عامني ،وجيل…”!
تفاعل معنا عبر صفحاتنا على اإلنترنت
املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير
مجلة نصف شهرية تعنى بشؤون الثورة تطبع وتوزع داخل املدن والقرى السورية ويف بعض مخيامت اللجوء معاون رئيس التحرير قسم حقوق اإلنسان نصار أنور البني أسامة ّ
قسم املرأة يارا بدر
املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد
رئيس التحرير ليىل الصفدي املحرر االقتصادي وائل موىس
الغالف سمري خلييل
facebook.com/freeraise twitter.com/freedomraise info@freedomraise.net
كاريكاتري سمري خلييل
زمالء مختطفون يف الغوطة الرشقية رزان زيتونة -ناظم حامدي
قضية المرأة بيــن الحقيقة والزيف
3
يوسف المنجد
وكذلك املرأة حني تتامهى مع العقلية الذكورية تلك ،وتدافع عنها وتغذي بها أبناءها ،فإنها متارس نفس ما ميارسه الرجل تجاه جنسها ،ولعل يف هذه الفقرة األخرية خري دليل عىل أن معالجة قضية املرأة ال يكون باملطالبة بحقوقها ،أو إظهار أنها ممتهنة ومستلبة ،ألنها ال تكون ضحية هذه األفكار دامئا ،وإمنا تقوم بدور الجالد يف كثري من األحيان ،بل رمبا يكون لها الباع األطول يف امتهان املرأة عرب توريثها ثقافة االمتهان هذه ألبنائها . هل يعني هذا أخرياً أن نتوقف عن طرح قضية املرأة ؟ ال إطالقا ،ولكنه دعوة إىل تغيري زاوية الرؤية لتلك القضية ،وتوجيه األنظار اىل األعامق بدل السطح ،والنظر إليها من زاوية أن الرجل ليس خصام ،وإمنا هو ضحية ،يحتاج إىل إنقاذ مثل املرأة متاما ،فلعل يف تغيري زاوية الرؤية أن يأيت بنتائج مغايرة .
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
يعالج الكثري من املفكرين والكتاب عىل اختالف انتامءاتهم قضية املرأة،ويعتربها معظم هذا الكثري – وهو محق -قضية نهضوية وحضارية محورية،أي أن عدم معالجتها يعوق النهضة ويحول دون اللحاق بركب الحضارة.ويعزون بالتايل قسام كبريا من التخلف واالنحطاط الذي يلف أمتنا العربية واإلسالمية ،إىل تردي وضع املرأة ،والذي يربطونه بالعقلية الذكورية املهيمنة التي متتد جذورها عميقا يف ثقافتنا وتراثنا ،وأنه مامل تتم معالجة قضية املرأة أسوة مبا فعلته الحضارة الغربية ،التي حررت املرأة وساوتها بالرجل يف شتى املجاالت، فلن تعرف أمتنا نهضة تذكر ،وسنبقى نراوح يف مكاننا متخبطني بوحول الجهل والتخلف . هذه املعالجة املجتزأة ،التي تسلخ قضية املرأة عن قضية اإلنسان الكربى ،تجري منذ قرن تقريبا، منذ هدى شعراوي وقاسم أمني ،وهي ال تزال تجري عىل نفس النسق ،ومع ذلك ال تزال القضية ساخنة مع نتائج هزيلة .فهل يعود السبب يف ذلك اىل سوء املعالجة أم إىل صالدة القضية؟ أم إىل أن القضية برمتها زائفة وغري حقيقة؟ وأن ما تعانيه املرأة ليس مشكلة أساسية ،وإمنا هو عرض أو مفرز لقضية أخرى؟ وأنه مبحرد عالج أصل الداء أو املشكلة ستتبدد قضية املرأة من تلقاء ذاتها؟ وهو ما منيل اىل تأييده يف هذه العجالة. بل نذهب إىل أبعد من القول بأن قضية املرأة زائفة وغري حقيقية فنقول :بأن معالجة قضية املرأة بهذا الشكل ،هو أحد أسباب تجذر هذه القضية وتضخمها وتكريسها والفشل يف معالجتها. أي أن معالجة قضية املرأة بهذا الشكل هو سبب رئيس يف وجودها ،ذلك أن أصل املشكلة هو مشكلة إنسان بغض النظر عن جنسه ،وأن تخصيص املرأة بقضية منفصلة عن قضية اإلنسان بشكل عام ،هو يف حد ذاته حط من قيمة املرأة، أو رفع لها اىل مرتبة أعىل من مرتبة اإلنسانية، وهذا ما ال نعتقد أن املرأة تريده . وهو كذلك كرس لدى قسم كبري من النساء شعورا اضطهادياً ،يؤدي يف الغالب إىل ردة فعل
عدائية تجاه الرجل بشكل خاص باعتباره مامرسا لالضطهاد والقهر ،وتجاه املجتمع بشكل عام باعتبار أن قوانينه وعاداته وتقاليده ومعتقداته هي السبب رواء الوضع املزري الذي تعيشه ،وهي استجابة سلبية ال ُتحدث فارقا أو زحزحة يف الثقافة املنتجة لهذا الوضع ،بقدر ما تؤدي اىل نتيجة عكسية تتمثل يف ازدياد التشبث بتلك العادات والتقاليد ورسوخ القناعة بصوابها كون هذا القسم من النساء غالبا ما يتمرد بفجاجة عىل املجتمع، الذي ينتج بدوره استجابة مضادة (دفاعية) فينظر اىل هذا القسم من النساء نظرة ريبة واحتقار بسبب مروقهن عىل ثقافته وتقاليده ،وبالتايل ال تشكل النساء من هذا الصنف قدوة ألترابهن ،بل مثال لوصمة العار التي يفررن منها. ـ ويكرس كذلك شعورا بالدونية لدى القسم اآلخر من النساء ،وهو القسم األكرب ،حيث تنظر املرأة اىل نفسها – عن اقتناع -نظرة احتقار ،وترى نفسها أقل من الرجل يف كل يشء ،لدرجة الخجل من كونها امرأة . ال أحد ميكنه أن ينكر الوضع املرتدي للمرأة ،وأنها تعرضت وال تزال اىل الكثري من الظلم واملهانة والتمييز والتحيز ،ولكن الذي نود قوله هو أن هذا األمر يعترب نتيجة طبيعية لظلم ومهانة اإلنسان بشكل عام .وظهوره عىل املرأة بشكل أوضح، يرجع اىل كونها الطرف األضعف يف املعادلة، فالقضية ليست قضية مرأة بقدر ما هي قضية إنسانية معطوبة ،ولعل أفضل من نبه إىل هذا األمر هو الدكتور مصطفى حجازي يف كتابه (سيكولوجيا اإلنسان املقهور) حني بني أن القهر الذي يتلقاه الضعيف من القوي ،ميارسه عىل من هم أضعف منه ،ممن يخضعون لسلطته املبارشة (أرسته وزوجته بشكل خاص) ،وهكذا من قمة الهرم وحتى قاعدته ،وبالتايل فإن معالجة قضية املرأة مبعزل عن معالجة قضية اإلنسان بشكل عام هو يف الواقع تزييف ألصل املشكلة ،وعامل يف استمرارها كام أسلفنا ،ومن ثم فإن جوهر املسألة هو أنه إذا صلح اإلنسان صلحت املرأة ،وإذا
تقهقر اإلنسان تقهقر وضع املرأة ،وهذا بالطبع ليس ألن املرأة شيئاً مختلفاً عن الرجل ،وإمنا ألنها إنسان كام الرجل متاما ،وأنه إذا كانت املرأة بخري فإن الرجل حتام بخري ،وأن العكس صحيح متاما. وإذا كانت قضية املرأة مفرز ثقايف ،فإن حلها ال يكون باملطالبة باملساواة لها مع الرجل ،املنتهكة حقوقه باملثل ،ألن هذا لن يقدم يف األمر شيئا، وإمنا يكون بالذهاب اىل الجذور الثقافية التي تنتج هذا الواقع املرتدي ،والتي تجعل من بعض السلوكيات الذكورية ضد املرأة ،واجبا اجتامعيا أو دينيا ،وتعريتها والحفر حولها ،واقتالعها من األعامق ،وعندها ستتوقف شجرة املجتمع عن طرح تلك الثامر الخبيثة . إن الرجل أو لنقل الذكر مبعنى أدق ،حني ميتهن املرأة ويسلبها حقوقها ،ال يكون يف موقف يحسد عليه ،أو يف مكانة متفوقة عن مكانتها ،وإن بدا يف الظاهر كذلك ،ألنه يف هذه املامرسات ضحية مثله مثل املرأة ،فهذه املامرسات تنبئ عن أن روحه مسحوقة ،وإنسانيته جافة ،وأن عقله مضطرب ال أكرث .
“معركــة الحجاب” مرة أخرى 4 ليلى الصفدي
حرية شخصية أم وســيلة إضافية للوصاية على النســاء؟
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
تربد األحداث واملآيس وتندمل الجراح الكربى عىل الساحات االفرتاضية للسوريني ،فيام يعود موضوع الحجاب ولباس املرأة إىل الصدارة ساخناً كل مرة. ورغم البداهة التي تقتيض أن يكون األمر حرية اختيار شخصية ،إال أنه يعود ليثبت نفسه كامدة للحوار العام ،وكأداة للسيطرة والوصاية ،أو يف حاالت كثرية كذريعة للتحرش والنتهاك كرامة النساء اللوايت اخرتن إظهار مالمحهن لآلخر مبحض إرادتهن. وال يندر أن ُتشن الحمالت الفضائحية السياسية التي تستخدم سالح “عورة املرأة” ض ّد سياسيات أو ناشطات بهدف اإلسقاط ،ويتم هذا األمر غالباً عىل شكل مهرجانات عامة تقام عىل صفحات معارضني ومثقفني يدّعون التحرر والعلامنية يف دعوة مفتوحة لعموم الجمهور للمشاركة يف الطعن واإلهانة واإلسفاف بحق املستهدفات ،وذلك دون أدىن حد من احرتام إنسانيتهن ،وال أدىن محاولة لنقاش أو نقد أفكارهن وطروحاتهن. وبالطبع ال يقترص األمر عىل الساحات االفرتاضية، فحياة النساء يف املناطق السورية “املحررة” باتت تخضع يف كل تفصيالتها لقيود التطرف ،ومن املرجح أن الحجاب مبا يستتبعه من قيود قد أصبح هو القاعدة يف حياة النساء السوريات يف تلك املناطق. ولقد شهدنا منذ سنوات اختطاف آخر امرأتني سافرتني يف الغوطة الرشقية عىل يد من يفرتض أن يحميهن من بطش النظام ،ومل يشفع لهام عند خاطفيهام كل تاريخهام وتضحياتهام يف مقاومة النظام وقيادة جانب هام من الثورة السلمية السورية ،ونعني هنا املغيبتني قرسياً “رزان زيتونة” و”سمرية الخليل” .وال يفوتني هنا أن أذ ّكر بحرق املئات من نسخ مجلتنا “طلعنا عالحرية” عىل حواجز الفصائل املتطرفة يف الشامل بحجة صور “املتربجات” :رزان وسمرية! لكن وقبل القفز إىل التعميامت واألحكام والنتائج ،قمنا بطرح السؤال عىل عدد من الكتاب والصحفيني واملهتمني ،وكان هناك العديد من اآلراء الجديرة بالتفكري واملراجعة ،نستعرضها مبا تسمح لنا املساحة يف هذا التقرير. كان سؤالنا األول: ملاذا ارتبط تعميم الحجاب يف سوريا بتمدد الثورة السورية ،سواء يف مظاهرها السلمية أو العسكرية؟ الطبيب والكاتب “عامد العبار” ال يرى ّأن املس ّلمة صحة املطروحة يف السؤال صحيحة ،ويقول“ :ال ّ
بتصوري ملا يشاع عن ظاهرة “تعميم الحجاب” يف سوريا .ال أرى ّأن ظاهرة الحجاب انترشت بصورة واسعة خالل الثورة السورية .وألفت انتباهكم إىل وجود رأي مقابل يف األوساط املتد ّينة يدّعي العكس متاماً ،أي يقول بعضهم بوجود ظاهرة “خلع الحجاب” ،بل مثة من يتحدث عن انتشار ظاهرة اإللحاد أيضاً كنتيجة لحدوث تصدع يف املجتمع وتضاؤل الرقابة ،وتزعزع اليقينيات الدينية واملجتمعية عىل إثر تصاعد القتل والعنف”.. إذاً ،ما الذي حدث؟ “الذي حدث بتصوري هو خروج املحجبات وانخراطهن يف العمل الثوري األول عىل نطاق واسع جداً ،من خالل املشاركة يف املظاهرات، ثم اشرتاكهن يف جميع األنشطة امللحقة كاإلغاثة والتعليم واإلعالم” يضيف العبار مؤكداً بحق“ :أن املشاركة مل تكن واردة قبل قيام الثورة لوجود معوقات كثرية ،منها السيايس ومنها املجتمعي والديني ..وهذا ما جعلنا ننتبه إىل وجود هذا العدد الكبري من املحجبات يف مجتمعنا ،وقد كانت غالب ّيتهن بعيدات عن العمل يف الشأن العام”. لكن العبار يعود ليقول“ :ميكن الحديث عن ظاهرة فرض الحجاب ،والنقاب أحياناً ،يف بعض املناطق التي سيطرت عليها بعض التنظيامت املتشددة ،وهنا ترافقت هذه الظاهرة مع ضعف نشاط النساء وقلة انخراطهن يف الشأن العام، بسبب الضغط الذي مورس عليهن من قبل تلك التنظيامت ..وهنا املسألة ال تقترص عىل الحجاب وحسب ،بل ساد جو استبدادي أثر عىل حياة الرجال والنساء يف بعض املناطق”. يف املقابل يعتقد الكاتب ماهر مسعود أن “تعميم الحجاب مل يرتبط بتمدد الثورة باملعنى الجغرايف، بل بامتدادها باملعنى الزمني ،وتحوالتها نحو العنف املس ّلح كرد فعل عفوي وطبيعي عىل عنف النظام وإجرامه بحق الناس الثائرين” مضيفاً أنه “علينا التمييز بني املظاهرات السلمية أثناء املراحل السلمية ،أي يف بدايات الثورة األوىل ،واملظاهرات السلمية املحمية عسكرياً فيام بعد ،أو يف املناطق “املحررة” التي تآكل تحريرها عىل يد اإلسالميني. ويف هذا املقام البد أن ندرك أن العنف والعنف املضاد ال يولد مظاهر تحرر حقيقية موجبة ،ال يف مسألة الحجاب وال يف غريها ،وبالتايل كان تعميم الحجاب هو تأقلم اجتامعي من قبل النساء مع سيطرة اإلسالميني وسيطرة الرجال حقيقة عىل
مشهد الثورة ،فمعروف أن أكرب ما خرسته الثورة نتيجة العنف املسلح هو مشاركة املرأة الفاعلة يف الثورة ،إضافة لسيطرة اإلسالميني رويداً رويداً عىل الثورة ،وأنا أتحدث هنا عن سوريا الداخل بشكل أسايس”. الصحفية والناشطة يارا بدر ال ترى ّأن املد اإلسالموي ارتبط بالثورة ،ورغم عدم وجود إحصائ ّيات أو أرقام دقيقة كام تقول إال أن مشاهداتها وهي التي كانت تعيش يف سوريا ،متيل إىل القول إن “فتيات كثريات خلعن الحجاب عام 2011مع انطالقة الثورة السورية ،وال يعني هذا بالرضورة أي ارتباط عض ّوي بني الفعلني” .وتتابع بدر“ :ما أريد قوله ّإن املد اإلسالموي انترش يف سوريا منذ ما بعد عام ,2000 أذكر أنني أ ّنا الفتاة التي سكنت يف منطقة “القدم” املالصقة ملنطقة “باب مصىل” وكالهام من املناطق الشعبية ألكرث من ثالث سنوات وجدت نفيس بعد فرتة من مغادريت للمنطقة تقارب الخمس سنوات أسمع عنها ما ُيثري عجبي وخويف يف آنٍ معاً؛ مثل ّأن فتاة ترتدي تنورة ال تستطيع العبور يف املنطقة دون أن تسمع كلامت تزعجها ،وفجأة بدأت أشعر ّأن منطقة “باب توما” و”باب رشقي” ح ّيز خاص ال يشبه باقي دمشق! غريب ومرغوب ّ ألن فيه “املسيحيون” ومناطق السهر ،وفيه الفتاة تستطيع أن ترتدي ما تشاء من مالبس سبور .قبل 2010 حقيقة مل أسمع عن “القبيسيات” عىل سبيل املثال، ومل أسمع عن متدّدهنّ بفعل الثورة السورية .بل خص لهنّ بفعل مامرسات هنّ انترشن وظهرن و ُر ّ حكوم ّية مدروسة”. ً الكاتب جالل مراد أيضا مييل إىل املوافقة عىل هذا الكالم حيث يقول“ :شعارات الثورة وروحية 2011مل تكن تحمل معها التعصب الديني ،لقد كان هناك مترد عىل مركزية خانقة عربت عن نفسها بالشعارات التي تبنتها وصدحت بها حناجر السوريني .ولعل املشرتك بني كل تلك الشعارات “الشعب يريد” .الشعب يريد إحساس وتعبري ُحرم منه السوريون حينام كان هناك دوماً من يريد عنهم ويفكر عنهم”. ويضيف مراد“ :كانت السلسلة تنترش من تونس ملرص لليبيا ،وقد تنبهت واستنفرت الدول العربية لخوف حقيقي من انتقال الثورة .القوة الضاربة كانت دول الخليج بزعامة السعودية فكان مفعول الجزرة أقوى من مفعول العىص ،وما تم فع ًال هو فصل إدارة الكتائب عن اإلدارة السياسية واملدنية،
قررت وضع غطاء الرأس ،مام يجعل كثريات منهنّ يرفضن الفكرة من أساسها ،بل ويحاربنها ايضاً، واع من ليس بسبب قناعة وإمنا بسبب خوف غري ٍ نظرة جاهزة ومسبقة ..هنا يتوجب علينا إذاً الكالم عن زي مفروض عىل املرأة ،سواء كان حجاباً أو كان عكس ذلك متاماً .فإذا كان الزيّ ،مهام كانت صفته، ناتجاً عن قناعة حقيقية واختيار حر ،فال يحق ألي كان أن يجعل االختيار معاكساً ملبدأ الحرية.”.. أما الكاتب ماهر مسعود فيجيب بنعم عىل ذات السؤال“ :نعم ،يتناقض تعميم الحجاب مع مطلب الحرية ،ولكن هذا ليس باملطلق ،بل إذا فهمنا أن ارتداء الحجاب وتعميمه كان قرسياً مبعنى من املعاين ،لعدم وجود خيارات حرة أمام النساء وال سيام نساء الداخل السوري” .ويضيف مسعود“ :إن هزمية املجتمع السوري أمام عنف النظام الالمعقول ،خ ّفضت من مساحة الحرية االجتامعية بشكل عام ،وتزايد املظاهر الدينية (والحجاب ليس استثناء هنا) كان عاماً يف سوريا وهو سيبقى طاملا بقي املجتمع معنّفاً ،والعنف هو سيد املوقف .وطاملا أن الحرية السياسية ،وهي أبسط أنواع الحرية ،مل تتحقق بعد ،فإن الحريات األعقد االجتامعية والدينية ستبقى تجارب فردية ومحدودة وخاضعة للتجارب الشخصية ،ولن تتحول إىل ظواهر عامة تسود املجتمع يف كل فئاته”. الصحفية يارا بدر تربط األمر بغياب القانون ،حيث تقول“ :حني يكون القانون هو الحاكم بني الناس فال تناقض طبعاً ،حني يكون القانون الذي يحرتم اإلنسان والكرامة اإلنسان ّية وال ّ يفضل مسل ًام عىل غري املسلم حتّى ،فالله من يحاسب الناس جميعاً وليس نحن البرش الفانون .لكن حني تكون الدولة
يف مرحلة تبدّل يف أنظمتها املجتمع ّية والدستور ّية والقانون ّية ..أقول إ ّنني ال ميكنني أن أخرج من خويف بأن يقتنص َمنْ خ ّول لنفسه محاكمة البرش باسم التغي وأن يلغيه و ُيقيم بدالً عنه الدين وراياته هذا ّ ديكتاتورية دينية كام حدث يف أفغانستان وإيران وبعض دول الخليج” .وتتابع“ :ذات الديكتاتورية التي يخىش املسلم من قيامها لتلغي له حر ّياته الدينية كام حدث يف أمنوذج الديكتاتور ّيات الستالينية ،لكن اليوم أعتقد أ ّنه عىل هذا املسلم أن يتف ّهم خوف املؤمنني بالله واملؤمنني بح ّريتهم الفرد ّية وخياراتهم وأفكار القانون والدولة واملواطنة”. أما الصحفية ياسمني مرعي فتختم بالقول“ :إذا كان ما يحدث يف سوريا هو تصاعد وتعميم فعليني الرتداء الحجاب ،فهو بصيغة ما يتناقض مع مطلب الحرية يف مساحتيها الشخصية واالجتامعية. الخطري يف األمر هو محاوالت قرص الثورة عىل طيف واحد من الشعب السوري من وجهة نظر الفصائل اإلسالمية التي تتبنى هذا النوع من التوجه ،وتتغاىض عن الكثري من األولويات أمام ادعاء تطبيق الرشع مبالحقة النساء ،من تحجبت ومن تنقبت ،ومن جهة أخرى الخطر كامن يف تصديقنا كعلامنيني ملتالزمة متدد الثورة -األسلمة، هناك رغبة عارمة لدى السوريني والسوريات تحديداً بالتحرر من أشكال القيود كافة ،ما يحدث يف سوريا اليوم هو نتيجة فوىض السالح ،وهو كذلك ردود فعل عىل فصل الشعب السوري طائفياً ،لكنه عارض سيزول بزوال السالح من سوريا كعامل أسايس لتخويف الناس وفرض قوانني وأحكام سيأيت وقت ينتفض عليها السوريون ليعودوا إىل طبيعتهم”
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
حيث وضعت الدول الخليجية بشكل أسايس اليد عىل الكتائب ،وغذت الفكر التكفريي .ذلك الفكر الذي امتلك القوة وبالتايل الجربية لتحقيق نفسه بالحجاب وغريه من مظاهر الحياة التي تعرب عن هذا الفكر”. ويربط مراد هذا الرتاجع بالرتاجع عىل مستوى العامل“ :نالحظ أن أزمة الرأساملية ومنط الحياة االستهاليك وتحلل القيم اإلنسانية لصالح قيم االستهالك ،أدت لردة الجامعات اإلنسانية للتحلق حول هوياتها الجزئية؛ فاليمني بدأ بالتشكل يف أوروبا ،وأصبحت املصلحة اإلمريكية املجردة من أي أخالق إنسانية سافرة عن نفسها ،واإلسالميون أيضاً ارتدوا ملكوناتهم الدينية ،والكرد للقومية واألقباط للقبطية واألقليات املذهبية وهلم جرا.”.. ويلخص مراد رأيه مبوضوع الحجاب كظاهرة يف سوريا ببعدين أساسيني: “بعد خاص يتجىل باستثامر الخليج بالسنة والتوجه الوهايب إليقاف املد الشيعي .وبعد عام يتجىل بانكفاء الهويات الجزئية عىل نفسها نتيجة فشل النظام املدين -الرأساميل يف تلبية التوجهات الروحية اإلنسانية”. الصحفية والناشطة ياسمني مرعي ،والتي كانت لها تجربتها الخاصة مع الحجاب ال تعتقد أن القضية هي قضية تعميم الحجاب ،بقدر ما هي املساحة التي أتيحت لتسليط الضوء عىل املجتمعات السورية املتدينة التي كانت خارج دائرة الضوء قبل الثورة السورية” ،مضيفة“ :هذه اإلتاحة ارتبطت مبا عرف باملناطق املحررة التي يسود أغلبها الطابع السني من جهة ،وترتكز فيها قوى املعارضة املسلحة ذات الطابع اإلسالمي بدورها من جهة أخرى”. كان ال بد لنا هنا من طرح سؤال آخر أكرث جذرية، ويرتبط مبنطلقات الثورة وأهدافها ،ومبطالب الحرية والتمدن التي رفعت شعاراتها الثورة السورية منذ البداية ،أال يتناقض تصاعد وتعميم االلتزام بارتداء الحجاب وانتشاره مع مطلب الحرية؟ يجيب الدكتور عامد العبار“ :ال يوجد تعارض باألساس بني تح ّرر اإلنسان وبني الزيّ الذي يختاره .أعتقد ّأن السؤال ينطلق من مس ّلمة أخرى خاطئة ،ومفادها ّأن الحجاب مفروض عىل املرأة ،وهو مفروض عليها يف حاالت ولكنّ كثريات اخرتنه عن طواعية .األمر نفسه يحدث مع غري املحجبة ،فكثريات من غري املحجبات محارصات ّ ضمن أوساطهنّ بأفكار وتصورات تجعل من غطاء الرأس عالمة عىل التخلف ،وبالتايل مثة نظرة جاهزة واتهام مسبق للمرأة تجعل نفسها عرضة له فيام لو
5
ّ يدي حريتي ..أطلق أعطنــي ّ 6 بشرى البشوات
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
لن نجانب الصواب إذ قلنا ّ بأن مشكلة الطالق هي مشكلة عاد ّية متاماً .والقول بأ ّنها عاد ّية يعني أ ّنها ُمتك ّررة و ُمنترشة يف كافة املجتمعات البرشية ،رشقها وغربها .كذلك ّ فأن هذه الصفة ﻻ تعني إضفاء طابع القيمة عىل الظاهرة ،هي فقط إحالة إىل ما هو شائع و ُمتك ّرر. وإىل ذلك ميكن اعتبار الطالق مبا هو كذلك صفة لصيقة باالجتامع البرشي ،عىل التحديد اجتامع الرجل واملرأة ،فهو باملعنى التاريخي ُمالزم لهذه العالقة بوصفه أحد مآﻻتها .بهذا املعنى ميكننا الحديث عن الطالق مبثابته أحد قوانني الطبيعة االجتامعية. ولثقافات الشعوب مواقف متباينة من هذا األمر؛ ففي الوقت الذي نعتربه نحن يف مجتمعاتنا العربية ظاهرة بغيضة ومذمومة باعتبارها “أبغض الحالل عند الله”ّ ، فإن مجتمعات أخرى تعتربها حقاً شخص ّياً لطريف العالقة. تحاول هذه السطور مقاربة مشكلة الطالق من منظور تحلييل يذهب إىل األسباب الكامنة فيام وراء الظاهرة التي ينبغي النظر إليها بوصفها أحد أكرث املشكالت االجتامعية التي تضع األرسة عىل محك التفكك والتاليش ،ما يعني تأ ّثر أفراد األرسة بنتائجها النفسية واالجتامع ّية واألخالق ّية املختلفة. نتحدث هنا عن الزواج ألنه ﻻ طالق بال زواج، حيث ّأن الزواج والطالق لحظتان جدليتان يف العالقة بني الرجل واملرأة .وبالتايل فمقدمات الطالق كامنة يف مقدمات الزواج .ونحن ندرك أ ّنه يف السياق التحلييل للظاهرة أ ّنها نتيجة كامنة يف املقدمات ،وهنا فاملقدمات تسبق حتّى فعل الزواج ذي الطبيعة االجتامعية؛ طبيعة ترى يف هذا الفعل وسيلة بيولوجية رضور ّية وﻻ غنى عنها من أجل استمرار النوع اإلنساين ،أق ّرتها جميع الرشائع الساموية واألرضية ،ليس بوصفها
حقاً بل بوصفها واجب اجتامعي وواجب ديني أيضاً (يف املوروث الشعبي لدينا يعترب الزواج نصف الدين ،وﻻ يكتمل الدين ّإﻻ به) ،ويرى بعض الفالسفة واملف ّكرين ّ بأن األرسة أي الزواج كمؤسسة هي لحظة موضوع ّية للروح أو العقل. شح يف أملانيا عىل سبيل املثال ،وبالرغم من ّ املعطيات واإلحصائيات الدقيقة حول ملفات الالجئني ،أشار اإلعالم أكرث من م ّرة إىل انتشار ظاهرة الطالق بني الوافدين الجدد .نساء يطلنب الطالق مبج ّرد وصولهنّ إىل أملانيا ،أو زوجات ترفضن االلتحاق بأزواجهنّ ،وحتّى أزواج يرفضون القيام بإجراءات مل الشمل. فهل تتو ّفر البيئة الفرد ّية املناسبة التي تجعل قرار الزواج مبن ّياً عىل حر ّية االختيار وموضوع ّية اإلرادة ووعي الرضورة الذاتية بأبعادها النفس ّية والعاطف ّية والجسد ّية؟ عل ًام ّأن هذه البيئة الفردية ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببيئة أوسع هي البيئة ا ُملجتمع ّية التي يجري فيها نظام للقيم والعادات
اإلشارة مث ًال إىل عامل القرابة أو إرادات اآلخرين وتدخالتهم ،سواء قبل الزواج أو بعده ،فض ًال عن قيود تفرضها موروثات وعادات وقيم اجتامعية أوسع تتعلق بتوصيات مقدسة بالزواج من داخل الجامعة الدينية أو املذهبية أو العرقية حتى، وهذا ما يق ّلل حر ّية اختيار الرشيك. لقد استق ّرت هذه األمناط يف الوعي والالوعي، الفردي والجمعي ،بوصفها توصيات ُمل ٍزمة؛ ما يعني ّأن ّمثة أجواء ومناخات تقليدية هي التي تحكم يف الغالب االختيارات الفردية يف مرشوع الزواج وتكوين األرسة. السيدة “عال .ط” طبيبة أطفال قدمت من سورية مع زوجها وثالثة أوالد إىل أملانيا ،وبعد وصولها طلبت الطالق .تقول السيدة عال بأ ّنها عاشت معه خمسة عرش عاماً مشحونة ومذ ّلة، وبسبب وضعها االجتامعي ووضع عائلتها مل تجد من ينارصها للطالق سابقاً ،ولخوفها من أن يأخذ منها األوالد .تقول بأ ّنها تح ّررت هنا من كل هذه القيود ،وقامت السلطات األملانية بنقلها إىل مخيم خاص أنشئ خصيصاً لحاالت الطالق حيث تعيش مع أوالدها. لكن ﻻ بد من االعرتاف ّ بأن كثرياً من الزيجات التي تصدر عن حرية االختيار واإلرادة انتهت إىل الفشل بالنتيجة،
والتقاليد ا ُملق ّيدة للبيئة الفردية املنتجة لقرار إمتام الزواج ،وبالتايل هل تنبني معظم الزيجات بنا ًء صحيحاً ُيفيض إىل استقرار ونجاح التجربة؟ نكاد نجزم ّأن معظم قرارات الزواج مرتبطة بعموم البيئة االجتامعية ،وبالتايل ّمثة رواسب اجتامعية ُمتعدّدة يف قرار الزواج ،وميكن
وليست جميع الزيجات التقليد ّية تنتهي بالطالق، فهناك الكثري من الحاﻻت املتّسمة باالستقرار والنجاح عىل أقل تقدير. حب تقول السيدة “مناهل .ف”“ :تزوجت عن ّ وقناعة ،وأنجبت منه بنتاً ،لكن بعد وصولنا إىل أملانيا أخذ زوجي يرتدّد عىل املالهي الليلة
لســجن عدرا للنساء حكايــات وحكايات
7
روعة الشامي
لذات السبب حيناً ،وخش ّية اعتقاله هو اآلخر حيناً آخر!
أكرث من نصف املعتقالت السوريات هنّ أمهات، أمهات ال تفارق مخيلة الواحدة منهنّ صورة أطفالها :ماذا يفعلون؟ ماذا يأكلون؟ من يعتني
معتقلة مطلوبة لتلك املبادلة؟ لتتجدّد األحالم وتبدأ من جديد.
ّ الترضع والدعاء لله ع ّز وجل يف سجن عدرا للنساء، هو سالح املعتقالت األقوى؛ فال تنتهي ليلة من ليايل بفرج قريب وحر ّية السجن املظلمة إ ّال بالصالة والدعاء ٍ ُمنتظرة ،دون أن أنىس عبارتهنّ الشهرية“ :تصبحن عىل إخالء سبيل”. سنبقى بانتظارهنّ ُ ،مطالبني بح ّريتهنّ حتى خروج آخر شعلة أمل من بني قضبان سجون الظلم والظالم.
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
ويعارش نساء أخريات .احتملت هذا الوضع لعام كامل ،وهو يعود مخموراً وينفق كل مستحقاتنا املالية خالل النصف األ ّول من الشهر ،لنميض بق ّية الشهر يف االقرتاض وضيق الحيلة. مل أستطع االستمرار فطلبت الطالق وتم نقل زوجي خارج وحصلت عليهّ ، البيت”. يف اعتقادنا ّأن املقاربة السابقة هي مربط الرهان يف تفسري ظاهرة الطالق، ّ وإن حر ّية االختيار هي رشط يجب تحريره من ضواغط البيئة االجتامعية والثقافية ليك نصل إىل اختيار مبني عىل الوعي واإلرادة الحرة ،هذا ﻻ يعني عدم وجود أسباب أخرى ذاتية أو شخصية أو مادية تقف خلف الطالق ،لكن يف الغالب األعم ﻻ ترقى إىل أهمية العوامل السابقة. حني يوجد خلل يف عملية الزواج ّ فإن ذلك يقود منطقياً إىل ظهور النقيض الذي هو الطالق ،وحني تتوافر البيئة اآلمنة والضامنات القانون ّية للتخ ّلص ّ مم أصبح عبئاً خنق املرأة السورية التي عانت من ضواغط يف عالقتها الزوجية ،عالقة رمبا كانت غري متكافئة، ورمبا سادها الكثري من التس ّلط واالستبداد والعنف حتّى ،فبالتأكيد حني تتوافر ضامنات قانون ّية وتح ّرر من الرشط املادي وضواغط البيئة االجتامعيةّ ، فإن ذلك سيقود إىل تحطم جدار الخوف والقلق ،وسيكون الطالق هو الخيار يف هذه الحالة .وﻻيهم أن يكون بعد ذلك املكان هو سوريا أو املانياّ ، ألن قرار الطالق لن يكون سوى إجابة منطق ّية لخللٍ أصاب املقدمات.
من حملة #املعتقالت_هن_الجميالت التي أطلقتها “حلقة سالم عنتاب -شبكة أنا هي” تداولت منذ بداية الثورة السورية قصص التعذيب واالنتهاكات الجسيمة التي تع ّرض ويتعرض لها املعتقلون واملعتقالت داخل أقبية وسجون النظام السوري ،لكننا غفلنا عن ذكر أوضاعهم وحاالتهم اإلنسان ّية يف تلك املراحل ،والتي هي أش ّد وقعاً يف نفوسهم من حاالت التعذيب الجسدي أو حتّى التعذيب النفيس الذي تعرضوا له. سأخص بالذكر املعتقالت السوريات ،تلكم وهنا ّ النسوة اللوايت قدمن الكثري خالل الثورة السورية، وكنّ ن ّداً قو ّياً إىل جانب الرجال يف عملهن اإلغا ّيث اإلعالمي .وهنا لن نتحدّث عن األفرع الطبي أو أو ّ ّ األمن ّية والوحش ّية التي تشهدها املعتقالت فيها، وإ ّمنا عن مرحلة السجن املدين. تبدأ مرحلة السجن املدين بعد أن يتم تحويل املعتقلة من أحد األفرع األمنية إىل “سجن عدرا املركزي -سجن دمشق” وهو مكان تج ّمع املعتقالت من كافة األفرع يف املدن السورية .مرحلة السجن املدين أشبه ما تكون برحلة عذاب قاسية تبدأ بفقدان األمل .فبعد عرضها عىل قايض محكمة اإلرهاب وتوقيفها من قبله ،هنا تستعد املعتقلة لحياة جديدة مختلفة وقاسية بني جدران الزنزانة العفنة ،بانتظار معجزة ساموية أو مبادلة قريبة تخرجها إىل نور الحر ّية من جديد. ال يوجد داخل مهاجع السجن إ ّال منط حياة واحدة، طعام ورشاب ونوم ،أ ّما زيارات األهل أيام األحد واألربعاء من كل أسبوع فهي وجع آخ .واألكرث إيالماً هنّ تلك النس ّوة والصبايا اللوايت ال زيارة لهنّ ؛ ويالِ حالها املأساوي تلك التي ال زيارة لها ،تلك املنس ّية من أهلها وأصحابها ،من هجر أهلها أو مات تحت القصف ،من تخ ّلت عائلتها عنها أل ّنها ُمعتقلة بتهمة اإلرهاب ،أو من ط ّلقها زوجها عىل شباك السجن
بهم يف غيايب؟ هل يذهبون للمدرسة؟ وال تنتهي األسئلة حتّى بانتهاء دقائق وساعات اليوم .ويف الوقت ذاته ال يغيب يف حديثها ذكرهم أو التحدث عنهم ،ووصفهم بأجمل األوصاف والدعاء لهم. حالة ال أقىس منها سوى حالة أم اعتقلت مع طفلها، فام ذنب ذلك الطفل أن يعيش طفولة مأسورة ،طفولة معتقلة مرتني؛ م ّرة باعتقال أ ّمه التي تحمله وتعتني به، وم ّرة باعتقاله إىل جانبها وسجن طفولته! ما ذنب تلك األم التي ولدت داخل السجن دون طبيب أو مشفى، وال حاضنة متنح ابنتها حقّ الحياة؟ لتموت الطفلة بعد أيام وأ ّمها ال ترى قربها حتّى! أ ّما تلك التي تشتاق أمها وأباها وأخوتها ،تبيك ك ّلام رأت سيدة بعمر أمها أو سمعت باسم يشبه اسم أختها.. ال يفارقها هاجس الخوف عليهم ،ومنهم أحياناً! فهي تخاف من ردّة فعلهم حني عودتها :هل سينفرون منها خشية املجتمع الذي يعتربها معتقلة إرهاب؟ أم سيظنون أ ّنها قد تع ّرضت لالغتصاب ،فتكون عاراً عليهم ويتربؤون منها؟ يف سجن عدرا للنساء تعيش املعتقالت تخيالت يوم عظيم وعذابات ..يعشنها بحلم وأمل بانتظار فجر ٍ يسجل فيه الحلم خروجهنّ من قفص الظلم والضيم؛ ّ فآمالهنّ بسيطة كتلك الحياة التي يعشنها ،بحلم وردي بصارة من بني املعتقالت عشقن كذبها عليهنّ أو بتنجيم ّ ّ ألن الكذب بح ّد ذاته كان بالنسبة لهنّ أم ًال. رسبة من الزيارات حديث آخر ،وهو عل ًام ّأن لألخبار ا ُمل ّ دامئاً ما يكون عن مبادلة قريبة منتظرة ،وتبدأ الوعود بزج أسامء بناتهن .وتشغل التكهنات حال من األهل ّ املعتقالت يف املهاجع ،مبن تلك التي ستخرج قريباً؟ وكم
أمل وزواجها الثالث
8 مريم الحالق
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
استقبلت األرسة عودة أمل بالحزن والدموع والندب عىل حظها ،فقد أصبحت أرملة للم ّرة الثانية ومل تكمل ربيعها الرابع عرش ،ومل تسلم من ألسنة نسوة القرية وثرثرتهن ،وبدأن بالبحث عن عريس يرىض بالزواج من أرملة مات عنها زوجان! (كعبها مد ّور) عبارة تطلق عىل من ميوت عنها متض أكرث من زوج ،وهكذا ُصنّفت أمل التي مل ِ بضعة أسابيع إ ّال ودخلت حامتها السابقة طالبة يد أمل البنها الثاين عبد القادر .فرحت األم وأخفت أمل فرحتها ،فهي وأل ّول م ّرة تعرف عريسها قبل الزواج وترتاح له .يف هذه امل ّرة الثالثة للزواج مل تكن بحاجة إىل (جهاز) وأثواب جديدة ،وبالرغم أرصت أ ّمها أن تخيط لها ثوباً وألبسة من هذا فقد ّ داخلية جديدة ،عدّة أيام ّ وتزف أمل من جديد، للم ّرة الثالثة ،وقد بدأت عامها الخامس عرش بأمل وفرح. أل ّول م ّرة تشعر أمل أ ّنها عروس حقيق ّية ،وتقبل عىل زوجها بحب ولهفة ،فهو شاب وقريب من عمرها وتعرفه من قبل ،وليس له لحية كثيفة بيضاء متي ّبسة عجوز. بدأت أمل حياة زوجية سعيدة ،تجالس زوجها تحادثه ومتازحه ،تضحك معه ،تستمع إىل قصصه التي يرسدها عن أحداث جرت يف القرية وعن أشياء تشغله وواجب تنفيذها. “مربوك حامل” هذه العبارة أدخلت الفرح عىل الدار وأهلها ،فعلت زغاريد أ ّمها وحامتها لتعلن بداية أرسة جديدة؛ أرسة عبد القادر وأمل وولدهام .م ّرت شهور الحمل ،وبدأ املخاض، ودعت حامة أمل النسوة من أقرباء وجريان لحضور الوالدة. بدأت جميع النسوة بتالوة ما حفظنه من سور القرآن الكريم همساً ،ويشرتكن بالدعاء لها جهراً.
ّمتت الوالدة ،وكان املولود ذكراًّ ، مم زاد الفرح واالرتباط بني أمل وعبد القادر ،وأطلقت عليه جدته اسم أحمد ،الجدة التي مل تحرض حفل طهوره حني كان يف الثالثة من عمره ،فقد توفاها الله قبل ذلك بعام. بدأت مسؤوليات أمل تكرب؛ فقد أصبحت سيدة البيت منذ وفاة حامتها ،وكانت رفيقة زوجها يف رعاية األرض من زرع وحصد ،باإلضافة لالهتامم بابنها أحمد. ست سنوات م ّرت وأمل سعيدة ،وقد ظنّت ّأن ّ الحظ العاثر قد تركها ،لكنه كان يرتبص بها .إذ دعي زوجها عبد القادر لاللتحاق بالجيش العثامين أثناء الحرب العاملية األوىل ،كان الخرب صاعقاً؛ فهي الحرب ،ومن يذهب يف “السفربرلك” ال يعود. م ّرت سنتان وأمل وولدها ينتظران سامع أيّ خرب عن عائ ٍد من الحرب ،لع ّله رأى عبد القادر ويطمئنها عنه ،وجاء من يخربها أنه شوهد يف مشفى الغربا (الوطني) يف دمشق. أرسعت أمل إىل أهلها لتدبري أمر سفرها إىل الشام، استعاروا بغ ًال من جار لهم ،ووضعوا عليه الرسج الذي مألت والدتها جيبيه بالخبز والدبس وبضع قطع من البطاطا املسلوقة .ركبت أمل البغل وخلفها ولدها أحمد الذي أصبح يف الخامسة من عمره ،واتجها جنوباً إىل دمشق. ثالثة أيام قضتها أمل وولدها عىل الطريق تسري نهاراً وتنام يف الخان لي ًال. استطاعت الوصول إىل املشفى ،ولكن الوقت كان متأخراً فلم يسمحوا لها بالدخول لرؤية زوجها وحبيبها ووالد ابنها .جلست عىل الرصيف ،وبكت كثرياً جداً فهي مل تره منذ عامني ،وها هو عىل بعد خطوات منها وال تستطيع رؤيته ..أشفق عليها الحارس الذي يقف عىل باب املشفى وأخذها
بالقرب من نافذة ّ تطل عىل رسير زوجها ،وقفت بعد أن متالكت نفسها ونادته :يا عبد القادر أنا أمل ومعي أحمد. كانت فرحة عبد القادر ال توصف ،فهو مل يتوقع رؤية زوجته وولده ،وأل ّنه كان مصاباً وضعيفاً وال يستطيع النهوض ،فقد أرسع املرىض من حوله وحركوا الرسير بحيث يستطيع رؤيتهام ،ولكن قامة أحمد كانت قصرية فحملته أمه ليتمسك بقضبان النافذة الحديدية ،وليشاهد والده املريض ،وكانت هذه املشاهدة هي كل ما يذكره عن والده! سألته أمل عن صحته وإصابته ،ووعدته بالعناية به حتى يشفى ،فهي ستعود يف الغد وتصطحبه إىل القرية ووعدها بانتظارها. تركته قاصدة بيت خال لها يف منطقة الشاغور، لتنام عندهم ،وتذهب يف الغد لتن ّفذ وعدها لزوجها عبد القادر ،ولكن القدر أىب إ ّال أن يفجعها مبوته يف تلك الليلة! اصطحبت جثته إىل مقربة “باب الصغري” حيث ض ّمه ثرى دمشق ،ولتعود إىل قريتها مع ولدها أحمد البسة ثوبها األسود ،للم ّرة الثالثة.
أمل وزواجها الرابع
9
مريم الحالق
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
استكانت أمل يف بيت زوجها املرحوم ترعى ولدها اض وكروم ،إىل أن أصبح عمر أحمد وما آل إليها من أر ٍ تسع سنوات .حينها فوجئت بأبناء عم املرحوم يطالبنها بالعودة إىل دار أهلها ،وترك أحمد يف رعايتهم ،فقد تجاوز مرحلة رعاية أ ّمه وهم أ ّوىل برعايته ومبردود رزقه الذي ورثه عن أبيه!! ووافق كبار القرية عىل هذا االقرتاح ،فهذا هو العرف ،وهذه هي العادات ،وأحمد وفق العرف -ينتمي لعائلته من أبيه.عادت أمل لبيت أهلها حزينة ُمستسلمة لقدرها ونصيبها ،وكان قرب بيت ابنها أحمد من سكنها يخ ّفف عليها لوعة البعد عنه ،فقد كانت تراه يف كل يوم. بضعة أشهر م ّرت عىل أمل تذهب فيها ّ كل يوم لرتعى ّ وتنظف داره ،وتعود لرعاية والدها املريض ولدها ومساعدة والدتها يف شؤون الدار .إىل أن فوجئت أمل عند عودتها يف أحد األيام بابن خالها األرمل الذي توفيت زوجته وتركت له ولدين بأ ّنه يطلب يدها من والدها، ووالدها يأخذ رأيها يف ذلك! أسئلة كثرية دارت يف خلدها ،هل تتزوج للم ّرة الرابعة؟ هل تستطيع تربية أوالد زوجها وترتك ولدها ألهله؟ هل؟ وهل..؟ وأخرياً ق ّررت املوافقة ،وانتقلت لبيت زوجها الرابع ،وهي يف السادسة والعرشين من عمرها .هناك ،يف ذاك املنزل أنجبت أمل من زوجها الشيخ محمد صب ّيان وبنت ربتهم مع أخوتهم ألبيهم مصطفى وخديجة. لكن ّ حظ أمل البائس مل يفارقها أبداً؛ فها هو زوجها مرض أنهك قواه الرابع الشيخ محمد يفارق الحياة بعد ٍ وجسده ،ليرتكها وحيدة مع أوالده الخمسة ،وهي يف الخامسة والثالثني من عمرها. ّ لكن أ ّمل التي ع ّذبتها الحياة منذ نعومة أظافرها تعلمت كيف تعيش وفق األعراف والتقاليد ،صمتت وعاشت بصمت تر ّيب األوالد الذين كربوا مع الوقت وأصبحوا شباباً ،وتزوجت البنتان ،وسبقهم إىل الزواج أخاهم الكبري أحمد. ً املوت الذي كان مرافقا لحياة أمل مل ميهلها فرصة
اللتقاط أنفاسها؛ فبعد وفاة أزواجها األربعة فقدت أمل الحزينة أبناءها الشباب واحداً تلو اآلخر .أحمد ،ولدها البكر من زوجها الثالث ،وحبيبها عبد القادر تو ّيف عند سقوطه من الطابق الرابع أثناء عمله يف السعودية، وكان شاباً يف الثامنة والثالثني من عمره. بعده بعامني تو ّيف ولدها عبده حني تلقى رضبة من أشعة الشمس الحارقة حني كان يف املدينة املنورة ،ووريّ ثراها الطاهر ،وكان شاباً كذلك ،حتّى أصغر من أخيه أحمد ،إذ تويف يف الثالثني من عمره .أ ّما أصغر أوالدها محمود فقد لقي حتفه حني طلبت منه قريبة له أن يجلب لها سوارها الذهبي الذي سقط منها يف برئ الدار .نزل محمود إىل البرئ وكان املاء فيه مرتفعاً ،والظالم حالك ،طلب من األهل املتحلقني حول فتحة البرئ إنزال إنارة فناوله أحدهم مصباحاً متص ًال بالكهرباء وحني أمسكه رست الكهرباء يف جسده .رصخ وسمع الناس صوت سقوط جسده يف البرئ! كان يف السابعة والعرشين من عمره حني تويف. هكذا توالت أيام أمل ،وصبغ املوت عالمته
يف مفارق حياتها ،حتى مل يرتك لها سوى ابنتها زينة ،التي احتضنتها وقضت معها سبع سنوات يف لباس أسود ،منذ وفاة االبن األكرب أحمد. ومبكراً بدأ املرض يفتك بأمل ،التي أصيبت مبرض أقعدها عن الحركةّ ، مم اضط ّر زينة ٍ لبيع ممتلكاتهم يف القرية واالنتقال إىل الشام .هناك ،يف الشام ،وكام عبد القادر وافت أمل املن ّية بعد عامني من انتقالها إليها مع زينة. ماتت أمل يف الستني من عمرها ،بعد أن رافقها املوت ألحبائها منذ سنتها الثانية عرشة. كثريون يتساءلون يف قريتنا حني يتذكرون ويقصون حكاية أمل :هل كان لحياتها أن ّ تكون عىل غري تلك الشاكلة؛ أن ال يحكمها املوت بهذه القسوة ،لو مل تز ّوج وهي يف لشيخ عجوز؟ هل قدّمها أهلها الثانية عرش ٍ إىل بوابة املوت بتزويجها ا ُملبكر من ذاك الشيخ الجليل؟! وكيف كانت حياتها لتكون لو أمهلت فرص ًة لحياة أخرى ..فرصة للحياة ذاتها؟!
10
طريق الحرية وعرة لكنها تنتهي بينبوعها هيفاء الحاج حسين
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
أطل من غربتي عىل املشهد العام للعامل ،فأرى خراباً ّ ننج منه حتى كبرياً يف املنظومة األخالق ّية والقيم ّية ،مل ُ نحن طالب الحرية .كان صادماً جداً بالنسبة يل موقف العامل من ثورتنا ،وصادماً أكرث التع ّرف عىل تش ّوهاتنا كشعب خضع ألكرث من أربعني عاماً ل ّلذل ،وقد أزاحت ٍ الثورة النقاب عنها. خرست حيايت التي كانت ُمتم ّثل ًة بعميل ،وبيتي وأهيل ووطني ،واألكرث إيالماً خساريت لزوجي ،حبيبي ،بعد حربنا الطاحنة مع الحياة ،متس ّلحني بالحب واإلميان بغ ٍد مرشق ،واقرتاب موعد قطافنا بشيخوخ ٍة هن ّية يف كوخ ومزرع ٍة صغرية تكون امتداداً لرؤيتنا عن الجامل والعشق والحرية. نادته الثورة فل ّبى النداء ،وابتلعه صوتها الهادر شهيداً تحت التعذيب. ٌ عالقة مع ابنتي ،وهي عازفة غيتار وها إ ّنني اليوم وصديقتها فنانة تشكيلية ..ال عمل ،وال أهل ،وال حقوق ،يف غرف ٍة ال تصلح للسكن اآلدمي ،تسب ّبت يل رس يف الركبة ألننّي أساساً أعاين من شلل يف الرجل بك ٍ ذاتها .أحتاج لرعاي ٍة صحية ال يوفرها يل ظرف السكن وال البلد ،لكأنني مل أدرس يوماً يف كلية الفنون الجميلة، ال مناخ موائم للرسم وال لتأليف األغنيات ،وال للميض قدماً يف الكتاب الذي كان حلم حيايت أن أنجزه وأقدمه هدية عرفانٍ لوطني. ّ مع ذلك فأنا أدفع القليل مم يدفعه الكثري من السوريني من أمثانٍ باهظة ،لقاء حلمنا املرشوع بحيا ٍة تليق بإنسانيتنا. يوم ،وكلام سمعت عن سقوط املدن واحد ًة إثر يف كل ٍ أخرى أف ّكر :هل كان األمر يستحق؟ قبل الثورة كنت أرقب اإلذالل الذي ميا َرس عىل الناس، واستسالمهم له بكل خنوع ،وأتساءل :هل يأيت اليوم فتتجسد أمامي مبارش ًة صورة الذي ينتفض فيه هؤالء؟ ّ واضحة ملا سوف يحدث: ٌ وغياب للنخبة التي وتضحيات هائلة، اب كبري ٌ خر ٌ ينبغي أن ّ غياب تأ ّكد تنظم التحرك وترسم ملا بعده، ٌ متاس املبارش مع املثقفني يف مكان عميل يل من خالل ّ باملركز الثقايف ،ومالمستي لسلبيتهم وعجزهم عن أن يكونوا صوت وضمري الناس. وحني انطلقت أوائل األصوات من درعا ودمشق متلكني شعو ٌر مزدوج بفرح الوالدة وبالهلع من اآليت .كنت أمنّي النفس بأنه أمام سطوع الحقيقة ،سوف تقف إىل جانبنا ّ كل الدول التي تدعي الدميقراط ّية ،وسوف تخجل من
دمائنا وهول ما يحدث يف معتقالتنا. لست أنىس روعة صوت املظاهرة األوىل التي خرجت يف بلديت تنادي بالحرية ،لقد خرج فيها جميع من أعرف، والكثري ممن ال أعرف ،وكان األمر كام لو أنها معجز ٌة تتحقق. وتم تأديبنا ّمتت مالحقة الكثريين ممن خرجوا فيهاّ ، الحقاً بحوادث قتل مختلفة الظروف واألسباب ،أوصلوا من خاللها رسالة للجميع مفادها :أنتم يف ّ فك السبع، نحيط بكم من كل الجهات ،وليس أسهل من سحقكم جميعاً واحتالل بيوتكم. كان زوجي من أوائل املعتقلني يف البدايات ،وحني خرج من اعتقاله األول يف حامه ،2011ق ّرر أن يغادر مصياف ليعمل يف دمشق مسقط رأسه ،ويدعم الثورة
من هناك ،لكني حني سمعت باعتقاله الثاين 2013يف دمشق أيقنت بأ ّنه لن يعود هذه املرةّ ، ألن ظروف املعتقالت صارت أقىس ،والضوء األخرض ُأعطي للنظام يك يفعل ما يشاء بشعبه ،واالنتهاكات أفشيت عىل العلن دومنا استحياء ،واملقابر الجامعية ذاع صيتها دون أن يستطيع أحدٌ إيقافها أو محاسبة مرتكبيها. شهدت عىل محرق ٍة ُيرمى فيها ّ ُ كل الشباب من لقد املؤيدين واملعارضني ،وأ ّولهم الرافضني حمل السالح. كان ينبغي أن أنجو بولديّ . شاب بولندي رائع ،عىل تع ّرفت يف اسطنبول عىل ٍ هامش دعويت ملشارك ٍة فاشلة يف حفلٍ لفعاليات املجتمع املدين يف املدينة ،ت ّربع أن يرسل البني فيزا عمل يف بولندا ،وفعل ،وكان أحد بقع الضوء القليلة التي
شهدتها عىل املستوى الخاص منذ اندلعت الثورة؛ فأنا مل أتلقَّ أي مساعد ٍة من أي جه ٍة أو منظمة رغم أنني أحمل مرشوعاً فنياً فقدت حامستي له بعد الكثري من الخيبات. لقد حمل الكثري من السوريني معهم إىل بالد اللجوء كل مساوئ النظام الذي خرجوا ضدّه :األنان ّية ،االدعاء، االنتهاز ّية ،حب الظهور ،الفوىض ،وحب الزعامة ورفض اآلخر .وبالرغم من ّأن فقدت ثقتي بكل املنظامت والجهات الحقوقية ،لكنّي مل أفقد إمياين باإلنسان ،ما للتغي والتط ّور ،مهام بدا األمر زلت أؤمن بأنه قابل ّ مستحي ًال. الطريق ما تزال يف بدايتها ،وسوف تكون شاقة وطويلة، ّ ونضل، لكنها خيارنا الوحيد ،سوف نرتنح ،ونخطئ، وسوف تكون أخطاؤنا هي العالمات للدرب ،هي دليلنا للوصول ،سوف نكفر بالكثري من الثوابت ،ونؤمن بالكثري من األوهام ،ونتعرث بني خطأ وصواب .لكنها طريقنا الوحيدة ،والبد سوف تؤدي بنا يف نهاية املطاف إىل الينبوع. وسوف يعيش شهيدي يف حكاية البطولة التي سوف يقصها ابني عىل ابنه أو عىل حفيده رمبا. ّ شهيدي الذي أعشق ،وأفتقد ،وأداري حزين عليه بكل ما علمتنيه الحياة من حيلٍ ومناورات ،رفضاً مني لحالة اإلشفاق عىل الذات ،وحرصاً مني عىل مهابة وجالل هذا الحزن ،سوف تحييه شمس الحرية ُمجدداً قص ًة ناصع ًة شعب واجه وحش ّية عاملٍ بأرسه. عن بطولة ٍ “حسام يوسف الظفري” الفنان الذي كان يصنع من قطعة الخشب تحف ًة تكاد تتكلم عن ماضيها الحميم يف الغابة ،واملص ّور الذي كان يلتقط الجامل يف دعسوق ٍة متهالك من بيت جده الدمشقي، عتيق ٍ تطري ،ويف حج ٍر ٍ هب أو من قالع مصياف العريقة ..الفدا ّيئ الذي ّ ملساندة فتح خالل االجتياح “اإلرسائييل” لبريوت ،1982 والذي التهب حامس ًة يف “حرب متوز” وحاول التط ّوع لدى املقاومة ورفضوه ،والذي خرج بأ ّول مظاهر ٍة من الجامع األمويّ يف دمشق ،أدرك بفطرته األصيلة ّأن الطريق إىل القدس مير عرب الخالص من األنظمة االستبدادية التي تدعم “إرسائيل” بادعاء الوقوف ضدّها. السالم لروحك يا حبيبي! وها أنني أهتف لك من ِعظم عجزي وقهري: أشتاقك جداً ،وأحتاجك ،والدرب ما تزال طويلةً.. طويلة..
بورتريه:
“مريانا مراش” أول امرأة عربية تمتهن الصحافة
11
المحامية منى أسعد
عىل صالونها ،مبن فيهم وايل حلب العثامين. إ ّال أ ّنها يف باب املقاالت كانت ناقدة و ُمجدّدة معاً، خاصة وأ ّنها سافرت كثرياً إىل أوروبا ،حيث اطلعت ّ ووسعت آفاق معارفها، عىل تجارب التمدّن والحداثةّ ، فانتقدت الحال املزري لوضع املرأة يف مجتمعاتنا ،كام انتقدت العادات الشائعة لبنات جيلها ،وبدأت تبث فيهنّ روح التحدّي وتدعوهنّ إىل املطالبة بحقوقهنّ . من خالل “التزين بالعلم والتحيل باملعرفة ،والتح ّرر من التقاليد والخرافات” ،كام يقول الكيايل. ومل يكن اهتاممها بالقضايا النسوية ُمج ّرد مشاعر ذات ّية واهتامم ثقايف ،بقدر ما هو انتامء ونضال حقيقي إن صح التعبري ،حيث عملت مع لفيف من نساء تلك املرحلة الرائدات عىل تأسيس جمعية علمية أدب ّية نسائ ّية عام 1880م ،باسم “باكورة سورية” ،كانت تهدف ،إىل تنوير نساء جيلها مبفاهيم املساواة بالرجل وتحسني وضعهن يف املجتمع“ ،حتى تقاسم املرأة الرجل أشغاله عل ًام وأدباً ،ويسعيان بيد واحدة نحو إصالح املعيشة العائلية ،وتحسني الهيئة االجتامعية”، وقد استطاعت هذه الجمعية بعد عام واحد عىل انطالقتها أن تجمع ست ُخطب للسيداتُ ،ألقيت باسم الجمعية ،وموضوعاتها ،هي :الغاية التي خلق اإلنسان ألجلها ،وتهذيب العقل ،والكتب ومطالعتها ،واالرتقاء، وحياة اإلنسان وواجباته ،وحقوق النساء ،وقامت بطباعته وتوزيعه. كام سعت امل ّراش إىل نسج شبكة من العالقات املتميزة لها يف مستوى االهتامم بالقضايا النسوية مع رائدات
العدد 2017 / 1 / 16 - 84 -
كتب “الفيكونت فيليب دي طرازي” وهو أشهر مؤرخي الصحافة العربية ،يف كتابه “تاريخ الصحافة العربية” املنشور عام 1913م ترجمة كاملة عن”مريانا م ّراش” يؤكد فيها أ ّنها كانت أ ّول سيدة عربية كتبت يف الصحف “السيارة” ،أي إنها الرائدة الحقيقية يف هذا املجال. ويتابع الفيكونت يف كتابه ّأن“ :مريانا بنت فتح الله م ّراش” ولدت يف حلب شهر آب /أغسطس من سنة 1848م ،وكان أبوها “فتح الله م ّراش” رج ًال أديباً عُ ني باملطالعة واقتناء الكتب ،وجمع مكتبة نفيسة ،وله كتابات عديدة مختلفة مل تطبع”. ّ ولعل الباحث والصحفي “سامي الكيايل” كان أكرث من أحاط بشخصية “مريانا مراش” وعرصها ،يف دراسة له متأخرة تعود لسنة 1957يف صحيفة “الحديث” الحلبية التي كان قد أصدرها قبل ثالثني عاماً من ذلك التاريخ، حيث يضيف“ :كان بيت أبيها من البيوت العريقة التي لها مشاركة بحياة الفكر واألدب ،وكان ألخويها فرانسيس وعبد الله -واألول شاعر طبيب ،والثاين تاجر أديب -أثرهام املهم يف توجيهها نحو حياة الفكر”. و ُتجمع املصادر أنها دخلت املدرسة املارونية يف ثم انتقلت إىل املدرسة اإلنجيل ّية الخامسة من عمرهاّ ، يف بريوت ،فدرست فيها مبادئ اللغة العربية والحساب وبعض العلوم ،إضافة إىل اللغة الفرنسية ،لكن والدها أعاد تعليمها الفرنسية ،وقواعد الرصف والنحو والعروض يف اللغة العربية منذ الخامسة عرشة من عمرها ،كام تتلمذت عىل يد أخويها يف األدب واملعرفة. كذلك درست فن املوسيقا وأتقنته جيداً بجهد شخيص. سن مبكرة، بدأت مراش كتابة الشعر واملقاالت يف ٍ حيث نرشت أوىل مقاالتها “شامة الجنان” يف مجلة “الجنان” سنة 1870م .كذلك نرشت مبكراً يف جريدة “لسان الحال” ،وإذا كانت املراش يف شعرها ذهبت مذاهب تقليدية يف املديح والغزل والحكم والوصف، إضافة للرثاء ،فإ ّنها مت ّيزت بغزلها الرقيق ،كام أشتهر رثاؤها لشقيقها فرنسيس ،وقد جمعت أشعارها التي تعود ألعوام 1874وحتى 1888يف ديوان صغري بعنوان “بنت فكر” صدر عن “املطبعة األدبية” يف بريوت عام 1893م ،ويؤخذ عليها مديح بعض رجال الدولة وبعض رجال السلك القنصيل والسيايس م ّمن كانوا يرتددون
عرصها ،كعائشة التيمورية ( )1840-1902ووردة اليازجي ( )1838-1924ووردة الرتك (؟ ،)-1873وصوالً إىل مي زيادة (.)1886-1941 والميكن النظر ألهم ّية هذه الشخص ّية وما فعلته ّإل يف السياق الزمني لتلك املرحلة ،حيث ُيظهر ذلك جرأتها وريادتها يف مجاالت شتى ،وبشكل خاص ما يتعلق بحقوق املرأة وقضايا التعليم ،التي انتقلت بها من مستوى األحالم إىل مستوى الربامج والتحريض الدعوي، ومل تكن مراش أ ّول سيدة عربية تكتب يف الصحف مقاالت متنوعة فقط ،بل افتتحت يف منزلها أ ّول صالون أديب ،وكانت سابقة يف ذلك عىل صالون “مي زيادة” يف مرص ،بل اعترب أول صالون أديب مبفهومه الحديث يف الرشق العريب. مل مينعها من ذلك وضعها االجتامعي كإمرأة متزوجة، وال منعها عسف الحكم العثامين وظالمية تلك الفرتة التي اتسمت بانغالق الحياة االجتامعية ،بل وعىل العكس من ذلك نجحت م ّراش يف استقطاب خرية أدباء حلب ومثقفيها يف تلك املرحلة ،حيث تردّد إىل صالونها األديب كل من :رزق الله حسون ،القسطايك الحميص ،كامل الغزي ،جربائيل دالل وأخويها فرنسيس وعبد الله م ّراش ،وآخرين ُكرث ،إضافة للفيف من السفراء والقناصل الغربيني والساسة وصوالً إىل الوايل العثامين ،حيث يسمعون املوسيقى ويتنادمون بالشعر ويبحثون شؤون زمانهم وشجون بالدهم ،وقد وصف ذلك الصالون القسطايك الحميص بقوله“ :كان منزلها يف حلب مثابة الفضالء وملتقى الظرفاء والنبهاء وعشاق األدب”. وأ ّول تعريف مبريانا مراش كتبته “لبيبة هاشم” يف صحيفتها “فتاة الرشق” ،حيث كانت مراش يف أخريات سنيها تعاين من مرض “العصاب” الذي أودى بحياتها يف حزيران من عام 1919عن عمر يناهز 71سنة. وبعد وفاة املراش قامت “هاشم” باستكتاب الباحث “إسكندر املعلوف” لباب “شهريات النساء” يف ذات الصحيفة ،لكن البعض يعترب ّأن أ ّول من كتب عنها بعد وفاتها هو األديب الشهري “جرجي نقوال باز” يف كانون األول /يناير من العام ،1919ملجلة “الخدر” النسائية لصاحبتها عفيفة صعب.