ملحق طلعنا عالحرية - قضايا المرأة / العدد 84

Page 1

‫نصف شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬

‫ملحق خاص‬ ‫قضايا المرأة‬ ‫الوجه اآلخر‪ ..‬الخفي‪ ..‬للحكايات الجميلة‬ ‫قضية املرأة بني الحقيقة والزيف‬ ‫“معركة الحجاب” مرة أخرى‬ ‫طريق الحرية وعرة لكنها تنتهي بينبوعها‬ ‫“مريانا مراش” أول امرأة عربية متتهن الصحافة‬ ‫لسجن عدرا للنساء حكايات وحكايات‬ ‫يدي‬ ‫أعطني حر ّيتي‪ ..‬أطلق ّ‬ ‫أمل وزواجها الثالث والرابع‬

‫ملحق العدد ‪84‬‬

‫‪2017 / 1 / 16‬‬


‫الوجه اآلخر‪ ..‬الخفي‪..‬‬ ‫للحكايــات الجميلة‬

‫‪2‬‬

‫افتتاحية بقلم ‪:‬يارا بدر‬ ‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫اثنا عرش عدداً أصدرتها مجلة “طلعنا عالحر ّية”‬ ‫خصصت أربع صفحات يف كل منها لقضايا املرأة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫حاولنا خاللها عرض قضايا إشكال ّية متن ّوعة تعاين‬ ‫خطتها نساء ّ‬ ‫منها املرأة‪ ..‬مقاالت ّ‬ ‫وخطها رجال‬ ‫داعمون لقضايا املرأة‪ ،‬وال ينظرون إليها كمفعولٍ‬ ‫به يف العالقة مع الرجل‪ ،‬بل كرشيك فاعل وعىل‬ ‫قدر املسؤولية‪ ،‬كام تدل بعض األمثال الشعبية‬ ‫يف ثقافتنا‪ ،‬وهي األمثال التي اختارت األكرث ّية‬ ‫الشعب ّية تجاهلها وإهالة الرتاب فوقها من طراز‪:‬‬ ‫وإنت بنّى)‪.‬‬ ‫(أنا جنّى ِ‬ ‫ويك ال نشارك يف عمل ّية التجاهل للرواد يف‬ ‫نظرتهم للمرأة كرشيك درب‪ ،‬أو صاحبة مرشوع‪،‬‬ ‫ال ككائن ال يصلح سوى ألن يكون محكوماً من‬ ‫اآلخر‪ ،‬مسلوباً ح ّقه اإللهي واأل ّويل يف االختيار‪،‬‬ ‫بل كائن يجني ويبني أيضاً‪ ،‬ويف ذات الوقت‬ ‫مث ّله مثل الرجل‪ ،‬ويتشارك معه يف هذه الحياة‬ ‫بكل أوجهها‪.‬‬ ‫وإنصافاً ّ‬ ‫فإن الحديث عن املرأة السورية لن‬ ‫أشجع‬ ‫يكتمل دون الحديث عن رجال هم ّ‬ ‫الرجال‪ ،‬وأكرثهم نب ًال‪ ،‬رجال مثل “وائل حامدة”‬ ‫الناشط السيايس السلمي لسنوات طويلة‪ ،‬والذي‬ ‫ال يعرفه ُك ٌرث رمبا إ ّال مع حادثة اختطافه هو‬ ‫وزوجته املحام ّية واملدافعة عن حقوق اإلنسان‬ ‫البارزة “رزان زيتونة” وزميلهام الشاعر واملحامي‬ ‫“ناظم حامدي” واملعتقلة السياس ّية السابقة‬ ‫“سمرية الخليل” قبل ثالث سنوات يف دوما التي‬

‫تسيطر عليها فصائل عسكر ّية مقاتلة‪.‬‬ ‫وائل‪ ،‬الذي ّ‬ ‫رشفني بلقائه والتع ّرف عليه حني‬ ‫وجدت نفيس وحيدة‪ ..‬أهيل مسافرون وزوجي‬ ‫معتقل‪ .‬عرض بكل أناقة استضافتي يف منزلهم يك‬ ‫ال أبقى وحيدة‪.‬‬ ‫وائل صامت معظم الوقت‪ ،‬هادئ كالبحر‬ ‫الذي تكون مغ ّف ًال جداً إن ّ‬ ‫استخفيت بهدوئه‬ ‫الظاهريّ ‪ُ ،‬مح ّبب وط ّيب‪ ،‬كريم وبسيط‪ ،‬ال‬ ‫يخىش القول ّ‬ ‫بأن زوجته ال تحب الطبخ‪ ،‬وال‬ ‫يخىش أن يدع لها مساحة الكالم األعظم أو‬ ‫تتوسط شاشات‬ ‫حتى أن يقف جانباً وهي تظهر ّ‬ ‫التلفزة لتتحدّث ّ‬ ‫عم يجري يف الشارع السوري‪.‬‬ ‫أشك ّأن هناك مظاهرة شاركت فيها رزان‬ ‫والرفاق ومل يكن معهم وائل‪ ،‬أشك ّأن هناك‬ ‫عمل انهمكت فيه رزان ومل يكن وائل داعمها‬ ‫وسندها األ ّول‪ ،‬رشيكاً وزمي ًال يف العمل‪ ،‬وسنداً‬ ‫يف الحياة اليوم ّية‪ ،‬يف حياة التخ ّفي‪ ،‬يف تجربة‬ ‫العيش يف املناطق الخارجة عن سيطرة الق ّوات‬ ‫الحكوم ّية‪ ،‬يف األفراح الصغرية واألوجاع الكبرية‪.‬‬ ‫وائل‪ ،‬ملن ال يعرفه‪ ،‬امتلك دوماً نشاطه السيايس‬ ‫الخاص‪ ،‬ورأيه ا ُملستقل‪ ،‬الذي مل يخش اإلفصاح‬ ‫عنه والدفاع عنه‪ .‬لكن وائل ببساطة رجل قليل‬ ‫الكالم‪ ،‬يحرتم الصمت الذي وصفه “محمود‬ ‫درويش”‪“ :‬يكون الصمت فأساً‪ /‬أو براويز نجوم”‪.‬‬ ‫ووائل قد يكون‪ -‬بحسب معرفتي‪ -‬األمنوذج‬ ‫السوري الوحيد لرجل اعتقل عىل اسم زوجته‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫وبسبب نشاطها الحقوقي املعارض‪ ،‬إذ يف خريف‬ ‫العام ‪ 2011‬اعتقل وائل وأخوه ملدّة ثالثة أشهر‬ ‫لدى املخابرات الجو ّية للضغط عىل رزان لتسليم‬ ‫نفسها‪ ،‬عىل العكس من سياسة النظام منذ‬ ‫الثامنينات باعتقال النساء للضغط عىل أزواجهنّ‬ ‫وأبنائهنّ وأخوتهنّ ليسلموا أنفسهم‪ ،‬وهي‬ ‫السياسية ذاتها التي اتبعها منذ آذار ‪.2011‬‬ ‫كم ميتلك من شجاعة ذاك الرجل الفخور بزوجته‪،‬‬ ‫بوطن أجمل وأكرث‬ ‫الرشيك يف مغامرتهام بالحلم‬ ‫ٍ‬ ‫احرتاماً للكرامة اإلنسان ّية‪ .‬وكم ميتلك من ُح ٍّب‬ ‫تؤسس‬ ‫ُيجابه به منظومة ُمجتمع ّية متخ ّلفة مل ّ‬ ‫سوى ملجموعة ال ُمتناه ّية من االنطباعات‬ ‫السلب ّية ا ُملسيئة لرجل مبثل هذا النبل‪.‬‬ ‫انطباعات‬ ‫نحن املراقبون الجانبيون ال منلك سوى‬ ‫ٍ‬ ‫خفيفة كفالشات كامريا‪ ،‬لكنّ املواقف والواقع‬ ‫يتحدّث عن استثنائ ّية هذه التجربة‪ ،‬ووحدهام‬ ‫رزان ووائل من سيتحدّث عنها يوماً ما بكل ما‬ ‫نشتهي من معرفة‪ ..‬يف انتظار ذاك اليوم‪ ،‬نعيد‬ ‫لهام ما قال “درويش”‪:‬‬ ‫“أنا شاهدة القرب الذي يكرب‬ ‫يا ريتا‬ ‫أنا من تحفر األغالل يف جلدي‬ ‫شك ًال للوطن‪..‬‬ ‫نلتقي بعد قليلٍ ‪ ،‬بعد عام‬ ‫بعد عامني‪ ،‬وجيل…”!‬

‫تفاعل معنا عبر صفحاتنا على اإلنترنت‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬

‫مجلة نصف شهرية تعنى بشؤون الثورة‬ ‫تطبع وتوزع داخل املدن والقرى السورية‬ ‫ويف بعض مخيامت اللجوء‬ ‫معاون رئيس التحرير قسم حقوق اإلنسان‬ ‫نصار‬ ‫أنور البني‬ ‫أسامة ّ‬

‫قسم املرأة‬ ‫يارا بدر‬

‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫رئيس التحرير ليىل الصفدي‬ ‫املحرر االقتصادي‬ ‫وائل موىس‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫‪facebook.com/freeraise‬‬ ‫‪twitter.com/freedomraise‬‬ ‫‪info@freedomraise.net‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل‬

‫زمالء مختطفون يف الغوطة الرشقية‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫قضية المرأة‬ ‫بيــن الحقيقة والزيف‬

‫‪3‬‬

‫يوسف المنجد‬

‫وكذلك املرأة حني تتامهى مع العقلية الذكورية‬ ‫تلك‪ ،‬وتدافع عنها وتغذي بها أبناءها‪ ،‬فإنها‬ ‫متارس نفس ما ميارسه الرجل تجاه جنسها‪ ،‬ولعل‬ ‫يف هذه الفقرة األخرية خري دليل عىل أن معالجة‬ ‫قضية املرأة ال يكون باملطالبة بحقوقها‪ ،‬أو إظهار‬ ‫أنها ممتهنة ومستلبة ‪،‬ألنها ال تكون ضحية هذه‬ ‫األفكار دامئا ‪ ،‬وإمنا تقوم بدور الجالد يف كثري من‬ ‫األحيان‪ ،‬بل رمبا يكون لها الباع األطول يف امتهان‬ ‫املرأة عرب توريثها ثقافة االمتهان هذه ألبنائها ‪.‬‬ ‫هل يعني هذا أخرياً أن نتوقف عن طرح قضية‬ ‫املرأة ؟ ال إطالقا ‪ ،‬ولكنه دعوة إىل تغيري زاوية‬ ‫الرؤية لتلك القضية ‪ ،‬وتوجيه األنظار اىل األعامق‬ ‫بدل السطح ‪ ،‬والنظر إليها من زاوية أن الرجل‬ ‫ليس خصام ‪ ،‬وإمنا هو ضحية ‪ ،‬يحتاج إىل إنقاذ‬ ‫مثل املرأة متاما ‪ ،‬فلعل يف تغيري زاوية الرؤية أن‬ ‫يأيت بنتائج مغايرة ‪.‬‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫يعالج الكثري من املفكرين والكتاب عىل اختالف‬ ‫انتامءاتهم قضية املرأة‪،‬ويعتربها معظم هذا الكثري‬ ‫– وهو محق ‪ -‬قضية نهضوية وحضارية محورية‪،‬أي‬ ‫أن عدم معالجتها يعوق النهضة ويحول دون‬ ‫اللحاق بركب الحضارة‪.‬ويعزون بالتايل قسام كبريا‬ ‫من التخلف واالنحطاط الذي يلف أمتنا العربية‬ ‫واإلسالمية‪ ،‬إىل تردي وضع املرأة ‪ ،‬والذي يربطونه‬ ‫بالعقلية الذكورية املهيمنة التي متتد جذورها‬ ‫عميقا يف ثقافتنا وتراثنا‪ ،‬وأنه مامل تتم معالجة‬ ‫قضية املرأة أسوة مبا فعلته الحضارة الغربية‪ ،‬التي‬ ‫حررت املرأة وساوتها بالرجل يف شتى املجاالت‪،‬‬ ‫فلن تعرف أمتنا نهضة تذكر‪ ،‬وسنبقى نراوح يف‬ ‫مكاننا متخبطني بوحول الجهل والتخلف ‪.‬‬ ‫هذه املعالجة املجتزأة ‪ ،‬التي تسلخ قضية املرأة‬ ‫عن قضية اإلنسان الكربى‪ ،‬تجري منذ قرن تقريبا‪،‬‬ ‫منذ هدى شعراوي وقاسم أمني‪ ،‬وهي ال تزال‬ ‫تجري عىل نفس النسق‪ ،‬ومع ذلك ال تزال القضية‬ ‫ساخنة مع نتائج هزيلة‪ .‬فهل يعود السبب يف‬ ‫ذلك اىل سوء املعالجة أم إىل صالدة القضية؟ أم‬ ‫إىل أن القضية برمتها زائفة وغري حقيقة؟ وأن ما‬ ‫تعانيه املرأة ليس مشكلة أساسية‪ ،‬وإمنا هو عرض‬ ‫أو مفرز لقضية أخرى؟ وأنه مبحرد عالج أصل الداء‬ ‫أو املشكلة ستتبدد قضية املرأة من تلقاء ذاتها؟‬ ‫وهو ما منيل اىل تأييده يف هذه العجالة‪.‬‬ ‫بل نذهب إىل أبعد من القول بأن قضية املرأة‬ ‫زائفة وغري حقيقية فنقول‪ :‬بأن معالجة قضية‬ ‫املرأة بهذا الشكل‪ ،‬هو أحد أسباب تجذر هذه‬ ‫القضية وتضخمها وتكريسها والفشل يف معالجتها‪.‬‬ ‫أي أن معالجة قضية املرأة بهذا الشكل هو‬ ‫سبب رئيس يف وجودها‪ ،‬ذلك أن أصل املشكلة‬ ‫هو مشكلة إنسان بغض النظر عن جنسه‪ ،‬وأن‬ ‫تخصيص املرأة بقضية منفصلة عن قضية اإلنسان‬ ‫بشكل عام‪ ،‬هو يف حد ذاته حط من قيمة املرأة‪،‬‬ ‫أو رفع لها اىل مرتبة أعىل من مرتبة اإلنسانية‪،‬‬ ‫وهذا ما ال نعتقد أن املرأة تريده ‪.‬‬ ‫وهو كذلك كرس لدى قسم كبري من النساء‬ ‫شعورا اضطهادياً‪ ،‬يؤدي يف الغالب إىل ردة فعل‬

‫عدائية تجاه الرجل بشكل خاص باعتباره مامرسا‬ ‫لالضطهاد والقهر‪ ،‬وتجاه املجتمع بشكل عام‬ ‫باعتبار أن قوانينه وعاداته وتقاليده ومعتقداته‬ ‫هي السبب رواء الوضع املزري الذي تعيشه‪ ،‬وهي‬ ‫استجابة سلبية ال ُتحدث فارقا أو زحزحة يف الثقافة‬ ‫املنتجة لهذا الوضع‪ ،‬بقدر ما تؤدي اىل نتيجة‬ ‫عكسية تتمثل يف ازدياد التشبث بتلك العادات‬ ‫والتقاليد ورسوخ القناعة بصوابها كون هذا القسم‬ ‫من النساء غالبا ما يتمرد بفجاجة عىل املجتمع‪،‬‬ ‫الذي ينتج بدوره استجابة مضادة (دفاعية) فينظر‬ ‫اىل هذا القسم من النساء نظرة ريبة واحتقار‬ ‫بسبب مروقهن عىل ثقافته وتقاليده‪ ،‬وبالتايل ال‬ ‫تشكل النساء من هذا الصنف قدوة ألترابهن‪ ،‬بل‬ ‫مثال لوصمة العار التي يفررن منها‪.‬‬ ‫ـ ويكرس كذلك شعورا بالدونية لدى القسم اآلخر‬ ‫من النساء‪ ،‬وهو القسم األكرب‪ ،‬حيث تنظر املرأة‬ ‫اىل نفسها – عن اقتناع‪ -‬نظرة احتقار‪ ،‬وترى نفسها‬ ‫أقل من الرجل يف كل يشء‪ ،‬لدرجة الخجل من‬ ‫كونها امرأة ‪.‬‬ ‫ال أحد ميكنه أن ينكر الوضع املرتدي للمرأة‪ ،‬وأنها‬ ‫تعرضت وال تزال اىل الكثري من الظلم واملهانة‬ ‫والتمييز والتحيز‪ ،‬ولكن الذي نود قوله هو أن هذا‬ ‫األمر يعترب نتيجة طبيعية لظلم ومهانة اإلنسان‬ ‫بشكل عام‪ .‬وظهوره عىل املرأة بشكل أوضح‪،‬‬ ‫يرجع اىل كونها الطرف األضعف يف املعادلة‪،‬‬ ‫فالقضية ليست قضية مرأة بقدر ما هي قضية‬ ‫إنسانية معطوبة‪ ،‬ولعل أفضل من نبه إىل هذا‬ ‫األمر هو الدكتور مصطفى حجازي يف كتابه‬ ‫(سيكولوجيا اإلنسان املقهور) حني بني أن القهر‬ ‫الذي يتلقاه الضعيف من القوي‪ ،‬ميارسه عىل من‬ ‫هم أضعف منه‪ ،‬ممن يخضعون لسلطته املبارشة‬ ‫(أرسته وزوجته بشكل خاص)‪ ،‬وهكذا من قمة‬ ‫الهرم وحتى قاعدته‪ ،‬وبالتايل فإن معالجة قضية‬ ‫املرأة مبعزل عن معالجة قضية اإلنسان بشكل عام‬ ‫هو يف الواقع تزييف ألصل املشكلة‪ ،‬وعامل يف‬ ‫استمرارها كام أسلفنا‪ ،‬ومن ثم فإن جوهر املسألة‬ ‫هو أنه إذا صلح اإلنسان صلحت املرأة‪ ،‬وإذا‬

‫تقهقر اإلنسان تقهقر وضع املرأة‪ ،‬وهذا بالطبع‬ ‫ليس ألن املرأة شيئاً مختلفاً عن الرجل‪ ،‬وإمنا ألنها‬ ‫إنسان كام الرجل متاما‪ ،‬وأنه إذا كانت املرأة بخري‬ ‫فإن الرجل حتام بخري‪ ،‬وأن العكس صحيح متاما‪.‬‬ ‫وإذا كانت قضية املرأة مفرز ثقايف‪ ،‬فإن حلها ال‬ ‫يكون باملطالبة باملساواة لها مع الرجل‪ ،‬املنتهكة‬ ‫حقوقه باملثل‪ ،‬ألن هذا لن يقدم يف األمر شيئا‪،‬‬ ‫وإمنا يكون بالذهاب اىل الجذور الثقافية التي‬ ‫تنتج هذا الواقع املرتدي‪ ،‬والتي تجعل من بعض‬ ‫السلوكيات الذكورية ضد املرأة‪ ،‬واجبا اجتامعيا‬ ‫أو دينيا‪ ،‬وتعريتها والحفر حولها‪ ،‬واقتالعها من‬ ‫األعامق‪ ،‬وعندها ستتوقف شجرة املجتمع عن‬ ‫طرح تلك الثامر الخبيثة ‪.‬‬ ‫إن الرجل أو لنقل الذكر مبعنى أدق‪ ،‬حني ميتهن‬ ‫املرأة ويسلبها حقوقها‪ ،‬ال يكون يف موقف يحسد‬ ‫عليه ‪ ،‬أو يف مكانة متفوقة عن مكانتها‪ ،‬وإن بدا يف‬ ‫الظاهر كذلك‪ ،‬ألنه يف هذه املامرسات ضحية مثله‬ ‫مثل املرأة‪ ،‬فهذه املامرسات تنبئ عن أن روحه‬ ‫مسحوقة‪ ،‬وإنسانيته جافة‪ ،‬وأن عقله مضطرب ال‬ ‫أكرث ‪.‬‬


‫“معركــة الحجاب” مرة أخرى‬ ‫‪4‬‬ ‫ليلى الصفدي‬

‫حرية شخصية أم وســيلة إضافية‬ ‫للوصاية على النســاء؟‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫تربد األحداث واملآيس وتندمل الجراح الكربى عىل‬ ‫الساحات االفرتاضية للسوريني‪ ،‬فيام يعود موضوع‬ ‫الحجاب ولباس املرأة إىل الصدارة ساخناً كل مرة‪.‬‬ ‫ورغم البداهة التي تقتيض أن يكون األمر حرية‬ ‫اختيار شخصية‪ ،‬إال أنه يعود ليثبت نفسه كامدة‬ ‫للحوار العام‪ ،‬وكأداة للسيطرة والوصاية‪ ،‬أو يف‬ ‫حاالت كثرية كذريعة للتحرش والنتهاك كرامة‬ ‫النساء اللوايت اخرتن إظهار مالمحهن لآلخر مبحض‬ ‫إرادتهن‪.‬‬ ‫وال يندر أن ُتشن الحمالت الفضائحية السياسية‬ ‫التي تستخدم سالح “عورة املرأة” ض ّد سياسيات‬ ‫أو ناشطات بهدف اإلسقاط‪ ،‬ويتم هذا األمر غالباً‬ ‫عىل شكل مهرجانات عامة تقام عىل صفحات‬ ‫معارضني ومثقفني يدّعون التحرر والعلامنية يف‬ ‫دعوة مفتوحة لعموم الجمهور للمشاركة يف الطعن‬ ‫واإلهانة واإلسفاف بحق املستهدفات‪ ،‬وذلك دون‬ ‫أدىن حد من احرتام إنسانيتهن‪ ،‬وال أدىن محاولة‬ ‫لنقاش أو نقد أفكارهن وطروحاتهن‪.‬‬ ‫وبالطبع ال يقترص األمر عىل الساحات االفرتاضية‪،‬‬ ‫فحياة النساء يف املناطق السورية “املحررة” باتت‬ ‫تخضع يف كل تفصيالتها لقيود التطرف‪ ،‬ومن املرجح‬ ‫أن الحجاب مبا يستتبعه من قيود قد أصبح هو‬ ‫القاعدة يف حياة النساء السوريات يف تلك املناطق‪.‬‬ ‫ولقد شهدنا منذ سنوات اختطاف آخر امرأتني‬ ‫سافرتني يف الغوطة الرشقية عىل يد من يفرتض‬ ‫أن يحميهن من بطش النظام‪ ،‬ومل يشفع لهام عند‬ ‫خاطفيهام كل تاريخهام وتضحياتهام يف مقاومة‬ ‫النظام وقيادة جانب هام من الثورة السلمية‬ ‫السورية‪ ،‬ونعني هنا املغيبتني قرسياً “رزان زيتونة”‬ ‫و”سمرية الخليل”‪ .‬وال يفوتني هنا أن أذ ّكر بحرق‬ ‫املئات من نسخ مجلتنا “طلعنا عالحرية” عىل‬ ‫حواجز الفصائل املتطرفة يف الشامل بحجة صور‬ ‫“املتربجات”‪ :‬رزان وسمرية!‬ ‫لكن وقبل القفز إىل التعميامت واألحكام‬ ‫والنتائج‪ ،‬قمنا بطرح السؤال عىل عدد من الكتاب‬ ‫والصحفيني واملهتمني‪ ،‬وكان هناك العديد من اآلراء‬ ‫الجديرة بالتفكري واملراجعة‪ ،‬نستعرضها مبا تسمح‬ ‫لنا املساحة يف هذا التقرير‪.‬‬ ‫كان سؤالنا األول‪:‬‬ ‫ملاذا ارتبط تعميم الحجاب يف سوريا بتمدد الثورة‬ ‫السورية‪ ،‬سواء يف مظاهرها السلمية أو العسكرية؟‬ ‫الطبيب والكاتب “عامد العبار” ال يرى ّأن املس ّلمة‬ ‫صحة‬ ‫املطروحة يف السؤال صحيحة‪ ،‬ويقول‪“ :‬ال ّ‬

‫بتصوري ملا يشاع عن ظاهرة “تعميم الحجاب” يف‬ ‫سوريا‪ .‬ال أرى ّأن ظاهرة الحجاب انترشت بصورة‬ ‫واسعة خالل الثورة السورية‪ .‬وألفت انتباهكم‬ ‫إىل وجود رأي مقابل يف األوساط املتد ّينة يدّعي‬ ‫العكس متاماً‪ ،‬أي يقول بعضهم بوجود ظاهرة‬ ‫“خلع الحجاب”‪ ،‬بل مثة من يتحدث عن انتشار‬ ‫ظاهرة اإللحاد أيضاً كنتيجة لحدوث تصدع يف‬ ‫املجتمع وتضاؤل الرقابة‪ ،‬وتزعزع اليقينيات الدينية‬ ‫واملجتمعية عىل إثر تصاعد القتل والعنف”‪..‬‬ ‫إذاً‪ ،‬ما الذي حدث؟‬ ‫“الذي حدث بتصوري هو خروج املحجبات‬ ‫وانخراطهن يف العمل الثوري األول عىل نطاق‬ ‫واسع جداً‪ ،‬من خالل املشاركة يف املظاهرات‪،‬‬ ‫ثم اشرتاكهن يف جميع األنشطة امللحقة كاإلغاثة‬ ‫والتعليم واإلعالم” يضيف العبار مؤكداً بحق‪“ :‬أن‬ ‫املشاركة مل تكن واردة قبل قيام الثورة لوجود‬ ‫معوقات كثرية‪ ،‬منها السيايس ومنها املجتمعي‬ ‫والديني‪ ..‬وهذا ما جعلنا ننتبه إىل وجود هذا‬ ‫العدد الكبري من املحجبات يف مجتمعنا‪ ،‬وقد كانت‬ ‫غالب ّيتهن بعيدات عن العمل يف الشأن العام”‪.‬‬ ‫لكن العبار يعود ليقول‪“ :‬ميكن الحديث عن‬ ‫ظاهرة فرض الحجاب‪ ،‬والنقاب أحياناً‪ ،‬يف بعض‬ ‫املناطق التي سيطرت عليها بعض التنظيامت‬ ‫املتشددة‪ ،‬وهنا ترافقت هذه الظاهرة مع ضعف‬ ‫نشاط النساء وقلة انخراطهن يف الشأن العام‪،‬‬ ‫بسبب الضغط الذي مورس عليهن من قبل تلك‬ ‫التنظيامت‪ ..‬وهنا املسألة ال تقترص عىل الحجاب‬ ‫وحسب‪ ،‬بل ساد جو استبدادي أثر عىل حياة‬ ‫الرجال والنساء يف بعض املناطق”‪.‬‬ ‫يف املقابل يعتقد الكاتب ماهر مسعود أن “تعميم‬ ‫الحجاب مل يرتبط بتمدد الثورة باملعنى الجغرايف‪،‬‬ ‫بل بامتدادها باملعنى الزمني‪ ،‬وتحوالتها نحو‬ ‫العنف املس ّلح كرد فعل عفوي وطبيعي عىل عنف‬ ‫النظام وإجرامه بحق الناس الثائرين” مضيفاً أنه‬ ‫“علينا التمييز بني املظاهرات السلمية أثناء املراحل‬ ‫السلمية‪ ،‬أي يف بدايات الثورة األوىل‪ ،‬واملظاهرات‬ ‫السلمية املحمية عسكرياً فيام بعد‪ ،‬أو يف املناطق‬ ‫“املحررة” التي تآكل تحريرها عىل يد اإلسالميني‪.‬‬ ‫ويف هذا املقام البد أن ندرك أن العنف والعنف‬ ‫املضاد ال يولد مظاهر تحرر حقيقية موجبة‪ ،‬ال يف‬ ‫مسألة الحجاب وال يف غريها‪ ،‬وبالتايل كان تعميم‬ ‫الحجاب هو تأقلم اجتامعي من قبل النساء مع‬ ‫سيطرة اإلسالميني وسيطرة الرجال حقيقة عىل‬

‫مشهد الثورة‪ ،‬فمعروف أن أكرب ما خرسته الثورة‬ ‫نتيجة العنف املسلح هو مشاركة املرأة الفاعلة يف‬ ‫الثورة‪ ،‬إضافة لسيطرة اإلسالميني رويداً رويداً عىل‬ ‫الثورة‪ ،‬وأنا أتحدث هنا عن سوريا الداخل بشكل‬ ‫أسايس”‪.‬‬ ‫الصحفية والناشطة يارا بدر ال ترى ّأن املد اإلسالموي‬ ‫ارتبط بالثورة‪ ،‬ورغم عدم وجود إحصائ ّيات أو أرقام‬ ‫دقيقة كام تقول إال أن مشاهداتها وهي التي كانت‬ ‫تعيش يف سوريا‪ ،‬متيل إىل القول إن “فتيات كثريات‬ ‫خلعن الحجاب عام ‪ 2011‬مع انطالقة الثورة‬ ‫السورية‪ ،‬وال يعني هذا بالرضورة أي ارتباط عض ّوي‬ ‫بني الفعلني”‪ .‬وتتابع بدر‪“ :‬ما أريد قوله ّإن املد‬ ‫اإلسالموي انترش يف سوريا منذ ما بعد عام ‪,2000‬‬ ‫أذكر أنني أ ّنا الفتاة التي سكنت يف منطقة “القدم”‬ ‫املالصقة ملنطقة “باب مصىل” وكالهام من املناطق‬ ‫الشعبية ألكرث من ثالث سنوات وجدت نفيس بعد‬ ‫فرتة من مغادريت للمنطقة تقارب الخمس سنوات‬ ‫أسمع عنها ما ُيثري عجبي وخويف يف آنٍ معاً؛ مثل‬ ‫ّأن فتاة ترتدي تنورة ال تستطيع العبور يف املنطقة‬ ‫دون أن تسمع كلامت تزعجها‪ ،‬وفجأة بدأت أشعر‬ ‫ّأن منطقة “باب توما” و”باب رشقي” ح ّيز خاص‬ ‫ال يشبه باقي دمشق! غريب ومرغوب ّ‬ ‫ألن فيه‬ ‫“املسيحيون” ومناطق السهر‪ ،‬وفيه الفتاة تستطيع‬ ‫أن ترتدي ما تشاء من مالبس سبور‪ .‬قبل ‪2010‬‬ ‫حقيقة مل أسمع عن “القبيسيات” عىل سبيل املثال‪،‬‬ ‫ومل أسمع عن متدّدهنّ بفعل الثورة السورية‪ .‬بل‬ ‫خص لهنّ بفعل مامرسات‬ ‫هنّ انترشن وظهرن و ُر ّ‬ ‫حكوم ّية مدروسة”‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الكاتب جالل مراد أيضا مييل إىل املوافقة عىل‬ ‫هذا الكالم حيث يقول‪“ :‬شعارات الثورة وروحية‬ ‫‪ 2011‬مل تكن تحمل معها التعصب الديني‪ ،‬لقد‬ ‫كان هناك مترد عىل مركزية خانقة عربت عن‬ ‫نفسها بالشعارات التي تبنتها وصدحت بها حناجر‬ ‫السوريني‪ .‬ولعل املشرتك بني كل تلك الشعارات‬ ‫“الشعب يريد”‪ .‬الشعب يريد إحساس وتعبري ُحرم‬ ‫منه السوريون حينام كان هناك دوماً من يريد‬ ‫عنهم ويفكر عنهم”‪.‬‬ ‫ويضيف مراد‪“ :‬كانت السلسلة تنترش من تونس‬ ‫ملرص لليبيا‪ ،‬وقد تنبهت واستنفرت الدول العربية‬ ‫لخوف حقيقي من انتقال الثورة‪ .‬القوة الضاربة‬ ‫كانت دول الخليج بزعامة السعودية فكان مفعول‬ ‫الجزرة أقوى من مفعول العىص‪ ،‬وما تم فع ًال هو‬ ‫فصل إدارة الكتائب عن اإلدارة السياسية واملدنية‪،‬‬


‫قررت وضع غطاء الرأس‪ ،‬مام يجعل كثريات منهنّ‬ ‫يرفضن الفكرة من أساسها‪ ،‬بل ويحاربنها ايضاً‪،‬‬ ‫واع من‬ ‫ليس بسبب قناعة وإمنا بسبب خوف غري ٍ‬ ‫نظرة جاهزة ومسبقة‪ ..‬هنا يتوجب علينا إذاً الكالم‬ ‫عن زي مفروض عىل املرأة‪ ،‬سواء كان حجاباً أو كان‬ ‫عكس ذلك متاماً‪ .‬فإذا كان الزيّ ‪ ،‬مهام كانت صفته‪،‬‬ ‫ناتجاً عن قناعة حقيقية واختيار حر‪ ،‬فال يحق ألي‬ ‫كان أن يجعل االختيار معاكساً ملبدأ الحرية‪.”..‬‬ ‫أما الكاتب ماهر مسعود فيجيب بنعم عىل‬ ‫ذات السؤال‪“ :‬نعم‪ ،‬يتناقض تعميم الحجاب مع‬ ‫مطلب الحرية‪ ،‬ولكن هذا ليس باملطلق‪ ،‬بل إذا‬ ‫فهمنا أن ارتداء الحجاب وتعميمه كان قرسياً‬ ‫مبعنى من املعاين‪ ،‬لعدم وجود خيارات حرة أمام‬ ‫النساء وال سيام نساء الداخل السوري”‪ .‬ويضيف‬ ‫مسعود‪“ :‬إن هزمية املجتمع السوري أمام عنف‬ ‫النظام الالمعقول‪ ،‬خ ّفضت من مساحة الحرية‬ ‫االجتامعية بشكل عام‪ ،‬وتزايد املظاهر الدينية‬ ‫(والحجاب ليس استثناء هنا) كان عاماً يف سوريا‬ ‫وهو سيبقى طاملا بقي املجتمع معنّفاً‪ ،‬والعنف‬ ‫هو سيد املوقف‪ .‬وطاملا أن الحرية السياسية‪ ،‬وهي‬ ‫أبسط أنواع الحرية‪ ،‬مل تتحقق بعد‪ ،‬فإن الحريات‬ ‫األعقد االجتامعية والدينية ستبقى تجارب فردية‬ ‫ومحدودة وخاضعة للتجارب الشخصية‪ ،‬ولن تتحول‬ ‫إىل ظواهر عامة تسود املجتمع يف كل فئاته”‪.‬‬ ‫الصحفية يارا بدر تربط األمر بغياب القانون‪ ،‬حيث‬ ‫تقول‪“ :‬حني يكون القانون هو الحاكم بني الناس‬ ‫فال تناقض طبعاً‪ ،‬حني يكون القانون الذي يحرتم‬ ‫اإلنسان والكرامة اإلنسان ّية وال ّ‬ ‫يفضل مسل ًام عىل‬ ‫غري املسلم حتّى‪ ،‬فالله من يحاسب الناس جميعاً‬ ‫وليس نحن البرش الفانون‪ .‬لكن حني تكون الدولة‬

‫يف مرحلة تبدّل يف أنظمتها املجتمع ّية والدستور ّية‬ ‫والقانون ّية‪ ..‬أقول إ ّنني ال ميكنني أن أخرج من خويف‬ ‫بأن يقتنص َمنْ خ ّول لنفسه محاكمة البرش باسم‬ ‫التغي وأن يلغيه و ُيقيم بدالً عنه‬ ‫الدين وراياته هذا ّ‬ ‫ديكتاتورية دينية كام حدث يف أفغانستان وإيران‬ ‫وبعض دول الخليج”‪ .‬وتتابع‪“ :‬ذات الديكتاتورية‬ ‫التي يخىش املسلم من قيامها لتلغي له حر ّياته‬ ‫الدينية كام حدث يف أمنوذج الديكتاتور ّيات‬ ‫الستالينية‪ ،‬لكن اليوم أعتقد أ ّنه عىل هذا املسلم‬ ‫أن يتف ّهم خوف املؤمنني بالله واملؤمنني بح ّريتهم‬ ‫الفرد ّية وخياراتهم وأفكار القانون والدولة‬ ‫واملواطنة”‪.‬‬ ‫أما الصحفية ياسمني مرعي فتختم بالقول‪“ :‬إذا‬ ‫كان ما يحدث يف سوريا هو تصاعد وتعميم فعليني‬ ‫الرتداء الحجاب‪ ،‬فهو بصيغة ما يتناقض مع مطلب‬ ‫الحرية يف مساحتيها الشخصية واالجتامعية‪.‬‬ ‫الخطري يف األمر هو محاوالت قرص الثورة عىل‬ ‫طيف واحد من الشعب السوري من وجهة نظر‬ ‫الفصائل اإلسالمية التي تتبنى هذا النوع من‬ ‫التوجه‪ ،‬وتتغاىض عن الكثري من األولويات أمام‬ ‫ادعاء تطبيق الرشع مبالحقة النساء‪ ،‬من تحجبت‬ ‫ومن تنقبت‪ ،‬ومن جهة أخرى الخطر كامن يف‬ ‫تصديقنا كعلامنيني ملتالزمة متدد الثورة‪ -‬األسلمة‪،‬‬ ‫هناك رغبة عارمة لدى السوريني والسوريات‬ ‫تحديداً بالتحرر من أشكال القيود كافة‪ ،‬ما يحدث‬ ‫يف سوريا اليوم هو نتيجة فوىض السالح‪ ،‬وهو كذلك‬ ‫ردود فعل عىل فصل الشعب السوري طائفياً‪ ،‬لكنه‬ ‫عارض سيزول بزوال السالح من سوريا كعامل‬ ‫أسايس لتخويف الناس وفرض قوانني وأحكام سيأيت‬ ‫وقت ينتفض عليها السوريون ليعودوا إىل طبيعتهم”‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫حيث وضعت الدول الخليجية بشكل أسايس اليد‬ ‫عىل الكتائب‪ ،‬وغذت الفكر التكفريي‪ .‬ذلك الفكر‬ ‫الذي امتلك القوة وبالتايل الجربية لتحقيق نفسه‬ ‫بالحجاب وغريه من مظاهر الحياة التي تعرب عن‬ ‫هذا الفكر”‪.‬‬ ‫ويربط مراد هذا الرتاجع بالرتاجع عىل مستوى‬ ‫العامل‪“ :‬نالحظ أن أزمة الرأساملية ومنط الحياة‬ ‫االستهاليك وتحلل القيم اإلنسانية لصالح قيم‬ ‫االستهالك‪ ،‬أدت لردة الجامعات اإلنسانية للتحلق‬ ‫حول هوياتها الجزئية؛ فاليمني بدأ بالتشكل يف‬ ‫أوروبا‪ ،‬وأصبحت املصلحة اإلمريكية املجردة من‬ ‫أي أخالق إنسانية سافرة عن نفسها‪ ،‬واإلسالميون‬ ‫أيضاً ارتدوا ملكوناتهم الدينية‪ ،‬والكرد للقومية‬ ‫واألقباط للقبطية واألقليات املذهبية وهلم جرا‪.”..‬‬ ‫ويلخص مراد رأيه مبوضوع الحجاب كظاهرة يف‬ ‫سوريا ببعدين أساسيني‪:‬‬ ‫“بعد خاص يتجىل باستثامر الخليج بالسنة والتوجه‬ ‫الوهايب إليقاف املد الشيعي‪ .‬وبعد عام يتجىل‬ ‫بانكفاء الهويات الجزئية عىل نفسها نتيجة فشل‬ ‫النظام املدين‪ -‬الرأساميل يف تلبية التوجهات الروحية‬ ‫اإلنسانية”‪.‬‬ ‫الصحفية والناشطة ياسمني مرعي‪ ،‬والتي كانت لها‬ ‫تجربتها الخاصة مع الحجاب ال تعتقد أن القضية‬ ‫هي قضية تعميم الحجاب‪ ،‬بقدر ما هي املساحة‬ ‫التي أتيحت لتسليط الضوء عىل املجتمعات‬ ‫السورية املتدينة التي كانت خارج دائرة الضوء قبل‬ ‫الثورة السورية”‪ ،‬مضيفة‪“ :‬هذه اإلتاحة ارتبطت‬ ‫مبا عرف باملناطق املحررة التي يسود أغلبها الطابع‬ ‫السني من جهة‪ ،‬وترتكز فيها قوى املعارضة املسلحة‬ ‫ذات الطابع اإلسالمي بدورها من جهة أخرى”‪.‬‬ ‫كان ال بد لنا هنا من طرح سؤال آخر أكرث جذرية‪،‬‬ ‫ويرتبط مبنطلقات الثورة وأهدافها‪ ،‬ومبطالب‬ ‫الحرية والتمدن التي رفعت شعاراتها الثورة‬ ‫السورية منذ البداية‪ ،‬أال يتناقض تصاعد وتعميم‬ ‫االلتزام بارتداء الحجاب وانتشاره مع مطلب‬ ‫الحرية؟‬ ‫يجيب الدكتور عامد العبار‪“ :‬ال يوجد تعارض‬ ‫باألساس بني تح ّرر اإلنسان وبني الزيّ الذي‬ ‫يختاره‪ .‬أعتقد ّأن السؤال ينطلق من مس ّلمة‬ ‫أخرى خاطئة‪ ،‬ومفادها ّأن الحجاب مفروض عىل‬ ‫املرأة‪ ،‬وهو مفروض عليها يف حاالت ولكنّ كثريات‬ ‫اخرتنه عن طواعية‪ .‬األمر نفسه يحدث مع غري‬ ‫املحجبة‪ ،‬فكثريات من غري املحجبات محارصات‬ ‫ّ‬ ‫ضمن أوساطهنّ بأفكار وتصورات تجعل من غطاء‬ ‫الرأس عالمة عىل التخلف‪ ،‬وبالتايل مثة نظرة جاهزة‬ ‫واتهام مسبق للمرأة تجعل نفسها عرضة له فيام لو‬

‫‪5‬‬


‫ّ‬ ‫يدي‬ ‫حريتي‪ ..‬أطلق‬ ‫أعطنــي ّ‬ ‫‪6‬‬ ‫بشرى البشوات‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫لن نجانب الصواب إذ قلنا ّ‬ ‫بأن مشكلة الطالق‬ ‫هي مشكلة عاد ّية متاماً‪ .‬والقول بأ ّنها عاد ّية‬ ‫يعني أ ّنها ُمتك ّررة و ُمنترشة يف كافة املجتمعات‬ ‫البرشية‪ ،‬رشقها وغربها‪ .‬كذلك ّ‬ ‫فأن هذه الصفة ﻻ‬ ‫تعني إضفاء طابع القيمة عىل الظاهرة‪ ،‬هي فقط‬ ‫إحالة إىل ما هو شائع و ُمتك ّرر‪.‬‬ ‫وإىل ذلك ميكن اعتبار الطالق مبا هو كذلك صفة‬ ‫لصيقة باالجتامع البرشي‪ ،‬عىل التحديد اجتامع‬ ‫الرجل واملرأة‪ ،‬فهو باملعنى التاريخي ُمالزم لهذه‬ ‫العالقة بوصفه أحد مآﻻتها‪ .‬بهذا املعنى ميكننا‬ ‫الحديث عن الطالق مبثابته أحد قوانني الطبيعة‬ ‫االجتامعية‪.‬‬ ‫ولثقافات الشعوب مواقف متباينة من هذا األمر؛‬ ‫ففي الوقت الذي نعتربه نحن يف مجتمعاتنا‬ ‫العربية ظاهرة بغيضة ومذمومة باعتبارها‬ ‫“أبغض الحالل عند الله”‪ّ ،‬‬ ‫فإن مجتمعات أخرى‬ ‫تعتربها حقاً شخص ّياً لطريف العالقة‪.‬‬ ‫تحاول هذه السطور مقاربة مشكلة الطالق من‬ ‫منظور تحلييل يذهب إىل األسباب الكامنة فيام‬ ‫وراء الظاهرة التي ينبغي النظر إليها بوصفها‬ ‫أحد أكرث املشكالت االجتامعية التي تضع األرسة‬ ‫عىل محك التفكك والتاليش‪ ،‬ما يعني تأ ّثر أفراد‬ ‫األرسة بنتائجها النفسية واالجتامع ّية واألخالق ّية‬ ‫املختلفة‪.‬‬ ‫نتحدث هنا عن الزواج ألنه ﻻ طالق بال زواج‪،‬‬ ‫حيث ّأن الزواج والطالق لحظتان جدليتان يف‬ ‫العالقة بني الرجل واملرأة‪ .‬وبالتايل فمقدمات‬ ‫الطالق كامنة يف مقدمات الزواج‪ .‬ونحن ندرك‬ ‫أ ّنه يف السياق التحلييل للظاهرة أ ّنها نتيجة كامنة‬ ‫يف املقدمات‪ ،‬وهنا فاملقدمات تسبق حتّى فعل‬ ‫الزواج ذي الطبيعة االجتامعية؛ طبيعة ترى يف‬ ‫هذا الفعل وسيلة بيولوجية رضور ّية وﻻ غنى‬ ‫عنها من أجل استمرار النوع اإلنساين‪ ،‬أق ّرتها‬ ‫جميع الرشائع الساموية واألرضية‪ ،‬ليس بوصفها‬

‫حقاً بل بوصفها واجب اجتامعي وواجب ديني‬ ‫أيضاً (يف املوروث الشعبي لدينا يعترب الزواج‬ ‫نصف الدين‪ ،‬وﻻ يكتمل الدين ّإﻻ به)‪ ،‬ويرى‬ ‫بعض الفالسفة واملف ّكرين ّ‬ ‫بأن األرسة أي الزواج‬ ‫كمؤسسة هي لحظة موضوع ّية للروح أو العقل‪.‬‬ ‫شح‬ ‫يف أملانيا عىل سبيل املثال‪ ،‬وبالرغم من ّ‬ ‫املعطيات واإلحصائيات الدقيقة حول ملفات‬ ‫الالجئني‪ ،‬أشار اإلعالم أكرث من م ّرة إىل انتشار‬ ‫ظاهرة الطالق بني الوافدين الجدد‪ .‬نساء يطلنب‬ ‫الطالق مبج ّرد وصولهنّ إىل أملانيا‪ ،‬أو زوجات‬ ‫ترفضن االلتحاق بأزواجهنّ ‪ ،‬وحتّى أزواج يرفضون‬ ‫القيام بإجراءات مل الشمل‪.‬‬ ‫فهل تتو ّفر البيئة الفرد ّية املناسبة التي تجعل‬ ‫قرار الزواج مبن ّياً عىل حر ّية االختيار وموضوع ّية‬ ‫اإلرادة ووعي الرضورة الذاتية بأبعادها النفس ّية‬ ‫والعاطف ّية والجسد ّية؟ عل ًام ّأن هذه البيئة‬ ‫الفردية ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببيئة أوسع هي البيئة‬ ‫ا ُملجتمع ّية التي يجري فيها نظام للقيم والعادات‬

‫اإلشارة مث ًال إىل عامل القرابة أو إرادات اآلخرين‬ ‫وتدخالتهم‪ ،‬سواء قبل الزواج أو بعده‪ ،‬فض ًال عن‬ ‫قيود تفرضها موروثات وعادات وقيم اجتامعية‬ ‫أوسع تتعلق بتوصيات مقدسة بالزواج من داخل‬ ‫الجامعة الدينية أو املذهبية أو العرقية حتى‪،‬‬ ‫وهذا ما يق ّلل حر ّية اختيار الرشيك‪.‬‬ ‫لقد استق ّرت هذه األمناط يف الوعي والالوعي‪،‬‬ ‫الفردي والجمعي‪ ،‬بوصفها توصيات ُمل ٍزمة؛ ما‬ ‫يعني ّأن ّمثة أجواء ومناخات تقليدية هي التي‬ ‫تحكم يف الغالب االختيارات الفردية يف مرشوع‬ ‫الزواج وتكوين األرسة‪.‬‬ ‫السيدة “عال‪ .‬ط” طبيبة أطفال قدمت من‬ ‫سورية مع زوجها وثالثة أوالد إىل أملانيا‪ ،‬وبعد‬ ‫وصولها طلبت الطالق‪ .‬تقول السيدة عال بأ ّنها‬ ‫عاشت معه خمسة عرش عاماً مشحونة ومذ ّلة‪،‬‬ ‫وبسبب وضعها االجتامعي ووضع عائلتها مل‬ ‫تجد من ينارصها للطالق سابقاً‪ ،‬ولخوفها من‬ ‫أن يأخذ منها األوالد‪ .‬تقول بأ ّنها تح ّررت هنا‬ ‫من كل هذه القيود‪ ،‬وقامت‬ ‫السلطات األملانية بنقلها إىل‬ ‫مخيم خاص أنشئ خصيصاً‬ ‫لحاالت الطالق حيث تعيش‬ ‫مع أوالدها‪.‬‬ ‫لكن ﻻ بد من االعرتاف ّ‬ ‫بأن‬ ‫كثرياً من الزيجات التي تصدر‬ ‫عن حرية االختيار واإلرادة‬ ‫انتهت إىل الفشل بالنتيجة‪،‬‬

‫والتقاليد ا ُملق ّيدة للبيئة الفردية املنتجة لقرار‬ ‫إمتام الزواج‪ ،‬وبالتايل هل تنبني معظم الزيجات‬ ‫بنا ًء صحيحاً ُيفيض إىل استقرار ونجاح التجربة؟‬ ‫نكاد نجزم ّأن معظم قرارات الزواج مرتبطة‬ ‫بعموم البيئة االجتامعية‪ ،‬وبالتايل ّمثة رواسب‬ ‫اجتامعية ُمتعدّدة يف قرار الزواج‪ ،‬وميكن‬

‫وليست جميع الزيجات التقليد ّية تنتهي بالطالق‪،‬‬ ‫فهناك الكثري من الحاﻻت املتّسمة باالستقرار‬ ‫والنجاح عىل أقل تقدير‪.‬‬ ‫حب‬ ‫تقول السيدة “مناهل‪ .‬ف”‪“ :‬تزوجت عن ّ‬ ‫وقناعة‪ ،‬وأنجبت منه بنتاً‪ ،‬لكن بعد وصولنا‬ ‫إىل أملانيا أخذ زوجي يرتدّد عىل املالهي الليلة‬


‫لســجن عدرا للنساء‬ ‫حكايــات وحكايات‬

‫‪7‬‬

‫روعة الشامي‬

‫لذات السبب حيناً‪ ،‬وخش ّية اعتقاله هو اآلخر حيناً آخر!‬

‫أكرث من نصف املعتقالت السوريات هنّ أمهات‪،‬‬ ‫أمهات ال تفارق مخيلة الواحدة منهنّ صورة‬ ‫أطفالها‪ :‬ماذا يفعلون؟ ماذا يأكلون؟ من يعتني‬

‫معتقلة مطلوبة لتلك املبادلة؟ لتتجدّد األحالم وتبدأ من‬ ‫جديد‪.‬‬

‫ّ‬ ‫الترضع والدعاء لله ع ّز وجل‬ ‫يف سجن عدرا للنساء‪،‬‬ ‫هو سالح املعتقالت األقوى؛ فال تنتهي ليلة من ليايل‬ ‫بفرج قريب وحر ّية‬ ‫السجن املظلمة إ ّال بالصالة والدعاء ٍ‬ ‫ُمنتظرة‪ ،‬دون أن أنىس عبارتهنّ الشهرية‪“ :‬تصبحن عىل‬ ‫إخالء سبيل”‪.‬‬ ‫سنبقى بانتظارهنّ ‪ُ ،‬مطالبني بح ّريتهنّ حتى خروج آخر‬ ‫شعلة أمل من بني قضبان سجون الظلم والظالم‪.‬‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫ويعارش نساء أخريات‪ .‬احتملت هذا‬ ‫الوضع لعام كامل‪ ،‬وهو يعود مخموراً‬ ‫وينفق كل مستحقاتنا املالية خالل‬ ‫النصف األ ّول من الشهر‪ ،‬لنميض بق ّية‬ ‫الشهر يف االقرتاض وضيق الحيلة‪.‬‬ ‫مل أستطع االستمرار فطلبت الطالق‬ ‫وتم نقل زوجي خارج‬ ‫وحصلت عليه‪ّ ،‬‬ ‫البيت”‪.‬‬ ‫يف اعتقادنا ّأن املقاربة السابقة هي‬ ‫مربط الرهان يف تفسري ظاهرة الطالق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وإن حر ّية االختيار هي رشط يجب‬ ‫تحريره من ضواغط البيئة االجتامعية‬ ‫والثقافية ليك نصل إىل اختيار مبني‬ ‫عىل الوعي واإلرادة الحرة‪ ،‬هذا ﻻ‬ ‫يعني عدم وجود أسباب أخرى ذاتية‬ ‫أو شخصية أو مادية تقف خلف‬ ‫الطالق‪ ،‬لكن يف الغالب األعم ﻻ ترقى‬ ‫إىل أهمية العوامل السابقة‪.‬‬ ‫حني يوجد خلل يف عملية الزواج ّ‬ ‫فإن‬ ‫ذلك يقود منطقياً إىل ظهور النقيض‬ ‫الذي هو الطالق‪ ،‬وحني تتوافر البيئة‬ ‫اآلمنة والضامنات القانون ّية للتخ ّلص‬ ‫ّ‬ ‫مم أصبح عبئاً خنق املرأة السورية‬ ‫التي عانت من ضواغط يف عالقتها‬ ‫الزوجية‪ ،‬عالقة رمبا كانت غري متكافئة‪،‬‬ ‫ورمبا سادها الكثري من التس ّلط‬ ‫واالستبداد والعنف حتّى‪ ،‬فبالتأكيد‬ ‫حني تتوافر ضامنات قانون ّية وتح ّرر‬ ‫من الرشط املادي وضواغط البيئة‬ ‫االجتامعية‪ّ ،‬‬ ‫فإن ذلك سيقود إىل تحطم‬ ‫جدار الخوف والقلق‪ ،‬وسيكون الطالق‬ ‫هو الخيار يف هذه الحالة‪ .‬وﻻيهم أن‬ ‫يكون بعد ذلك املكان هو سوريا أو‬ ‫املانيا‪ّ ،‬‬ ‫ألن قرار الطالق لن يكون سوى‬ ‫إجابة منطق ّية لخللٍ أصاب املقدمات‪.‬‬

‫من حملة ‪#‬املعتقالت_هن_الجميالت التي أطلقتها‬ ‫“حلقة سالم عنتاب‪ -‬شبكة أنا هي”‬ ‫تداولت منذ بداية الثورة السورية قصص التعذيب‬ ‫واالنتهاكات الجسيمة التي تع ّرض ويتعرض لها‬ ‫املعتقلون واملعتقالت داخل أقبية وسجون النظام‬ ‫السوري‪ ،‬لكننا غفلنا عن ذكر أوضاعهم وحاالتهم‬ ‫اإلنسان ّية يف تلك املراحل‪ ،‬والتي هي أش ّد وقعاً يف‬ ‫نفوسهم من حاالت التعذيب الجسدي أو حتّى‬ ‫التعذيب النفيس الذي تعرضوا له‪.‬‬ ‫سأخص بالذكر املعتقالت السوريات‪ ،‬تلكم‬ ‫وهنا‬ ‫ّ‬ ‫النسوة اللوايت قدمن الكثري خالل الثورة السورية‪،‬‬ ‫وكنّ ن ّداً قو ّياً إىل جانب الرجال يف عملهن اإلغا ّيث‬ ‫اإلعالمي‪ .‬وهنا لن نتحدّث عن األفرع‬ ‫الطبي أو‬ ‫أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األمن ّية والوحش ّية التي تشهدها املعتقالت فيها‪،‬‬ ‫وإ ّمنا عن مرحلة السجن املدين‪.‬‬ ‫تبدأ مرحلة السجن املدين بعد أن يتم تحويل‬ ‫املعتقلة من أحد األفرع األمنية إىل “سجن عدرا‬ ‫املركزي‪ -‬سجن دمشق” وهو مكان تج ّمع املعتقالت‬ ‫من كافة األفرع يف املدن السورية‪ .‬مرحلة السجن‬ ‫املدين أشبه ما تكون برحلة عذاب قاسية تبدأ‬ ‫بفقدان األمل‪ .‬فبعد عرضها عىل قايض محكمة‬ ‫اإلرهاب وتوقيفها من قبله‪ ،‬هنا تستعد املعتقلة‬ ‫لحياة جديدة مختلفة وقاسية بني جدران الزنزانة‬ ‫العفنة‪ ،‬بانتظار معجزة ساموية أو مبادلة قريبة‬ ‫تخرجها إىل نور الحر ّية من جديد‪.‬‬ ‫ال يوجد داخل مهاجع السجن إ ّال منط حياة واحدة‪،‬‬ ‫طعام ورشاب ونوم‪ ،‬أ ّما زيارات األهل أيام األحد‬ ‫واألربعاء من كل أسبوع فهي وجع آخ‪ .‬واألكرث إيالماً‬ ‫هنّ تلك النس ّوة والصبايا اللوايت ال زيارة لهنّ ؛ ويالِ‬ ‫حالها املأساوي تلك التي ال زيارة لها‪ ،‬تلك املنس ّية‬ ‫من أهلها وأصحابها‪ ،‬من هجر أهلها أو مات تحت‬ ‫القصف‪ ،‬من تخ ّلت عائلتها عنها أل ّنها ُمعتقلة بتهمة‬ ‫اإلرهاب‪ ،‬أو من ط ّلقها زوجها عىل شباك السجن‬

‫بهم يف غيايب؟ هل يذهبون للمدرسة؟ وال تنتهي األسئلة‬ ‫حتّى بانتهاء دقائق وساعات اليوم‪ .‬ويف الوقت ذاته ال‬ ‫يغيب يف حديثها ذكرهم أو التحدث عنهم‪ ،‬ووصفهم‬ ‫بأجمل األوصاف والدعاء لهم‪.‬‬ ‫حالة ال أقىس منها سوى حالة أم اعتقلت مع طفلها‪،‬‬ ‫فام ذنب ذلك الطفل أن يعيش طفولة مأسورة‪ ،‬طفولة‬ ‫معتقلة مرتني؛ م ّرة باعتقال أ ّمه التي تحمله وتعتني به‪،‬‬ ‫وم ّرة باعتقاله إىل جانبها وسجن طفولته! ما ذنب تلك‬ ‫األم التي ولدت داخل السجن دون طبيب أو مشفى‪،‬‬ ‫وال حاضنة متنح ابنتها حقّ الحياة؟ لتموت الطفلة بعد‬ ‫أيام وأ ّمها ال ترى قربها حتّى!‬ ‫أ ّما تلك التي تشتاق أمها وأباها وأخوتها‪ ،‬تبيك ك ّلام رأت‬ ‫سيدة بعمر أمها أو سمعت باسم يشبه اسم أختها‪..‬‬ ‫ال يفارقها هاجس الخوف عليهم‪ ،‬ومنهم أحياناً! فهي‬ ‫تخاف من ردّة فعلهم حني عودتها‪ :‬هل سينفرون‬ ‫منها خشية املجتمع الذي يعتربها معتقلة إرهاب؟ أم‬ ‫سيظنون أ ّنها قد تع ّرضت لالغتصاب‪ ،‬فتكون عاراً عليهم‬ ‫ويتربؤون منها؟‬ ‫يف سجن عدرا للنساء تعيش املعتقالت تخيالت‬ ‫يوم عظيم‬ ‫وعذابات‪ ..‬يعشنها بحلم وأمل بانتظار فجر ٍ‬ ‫يسجل فيه الحلم خروجهنّ من قفص الظلم والضيم؛‬ ‫ّ‬ ‫فآمالهنّ بسيطة كتلك الحياة التي يعشنها‪ ،‬بحلم وردي‬ ‫بصارة من بني املعتقالت عشقن كذبها عليهنّ‬ ‫أو بتنجيم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألن الكذب بح ّد ذاته كان بالنسبة لهنّ أم ًال‪.‬‬ ‫رسبة من الزيارات حديث آخر‪ ،‬وهو‬ ‫عل ًام ّأن لألخبار ا ُمل ّ‬ ‫دامئاً ما يكون عن مبادلة قريبة منتظرة‪ ،‬وتبدأ الوعود‬ ‫بزج أسامء بناتهن‪ .‬وتشغل التكهنات حال‬ ‫من األهل ّ‬ ‫املعتقالت يف املهاجع‪ ،‬مبن تلك التي ستخرج قريباً؟ وكم‬


‫أمل وزواجها الثالث‬

‫‪8‬‬ ‫مريم الحالق‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫استقبلت األرسة عودة أمل بالحزن والدموع‬ ‫والندب عىل حظها‪ ،‬فقد أصبحت أرملة للم ّرة‬ ‫الثانية ومل تكمل ربيعها الرابع عرش‪ ،‬ومل تسلم من‬ ‫ألسنة نسوة القرية وثرثرتهن‪ ،‬وبدأن بالبحث عن‬ ‫عريس يرىض بالزواج من أرملة مات عنها زوجان!‬ ‫(كعبها مد ّور) عبارة تطلق عىل من ميوت عنها‬ ‫متض‬ ‫أكرث من زوج‪ ،‬وهكذا ُصنّفت أمل التي مل ِ‬ ‫بضعة أسابيع إ ّال ودخلت حامتها السابقة طالبة يد‬ ‫أمل البنها الثاين عبد القادر‪ .‬فرحت األم وأخفت‬ ‫أمل فرحتها‪ ،‬فهي وأل ّول م ّرة تعرف عريسها قبل‬ ‫الزواج وترتاح له‪ .‬يف هذه امل ّرة الثالثة للزواج مل‬ ‫تكن بحاجة إىل (جهاز) وأثواب جديدة‪ ،‬وبالرغم‬ ‫أرصت أ ّمها أن تخيط لها ثوباً وألبسة‬ ‫من هذا فقد ّ‬ ‫داخلية جديدة‪ ،‬عدّة أيام ّ‬ ‫وتزف أمل من جديد‪،‬‬ ‫للم ّرة الثالثة‪ ،‬وقد بدأت عامها الخامس عرش بأمل‬ ‫وفرح‪.‬‬ ‫أل ّول م ّرة تشعر أمل أ ّنها عروس حقيق ّية‪ ،‬وتقبل‬ ‫عىل زوجها بحب ولهفة‪ ،‬فهو شاب وقريب من‬ ‫عمرها وتعرفه من قبل‪ ،‬وليس له لحية كثيفة‬ ‫بيضاء متي ّبسة عجوز‪.‬‬ ‫بدأت أمل حياة زوجية سعيدة‪ ،‬تجالس زوجها‬ ‫تحادثه ومتازحه‪ ،‬تضحك معه‪ ،‬تستمع إىل قصصه‬ ‫التي يرسدها عن أحداث جرت يف القرية وعن‬ ‫أشياء تشغله وواجب تنفيذها‪.‬‬ ‫“مربوك حامل” هذه العبارة أدخلت الفرح عىل‬ ‫الدار وأهلها‪ ،‬فعلت زغاريد أ ّمها وحامتها لتعلن‬ ‫بداية أرسة جديدة؛ أرسة عبد القادر وأمل‬ ‫وولدهام‪ .‬م ّرت شهور الحمل‪ ،‬وبدأ املخاض‪،‬‬ ‫ودعت حامة أمل النسوة من أقرباء وجريان‬ ‫لحضور الوالدة‪.‬‬ ‫بدأت جميع النسوة بتالوة ما حفظنه من سور‬ ‫القرآن الكريم همساً‪ ،‬ويشرتكن بالدعاء لها جهراً‪.‬‬

‫ّمتت الوالدة‪ ،‬وكان املولود ذكراً‪ّ ،‬‬ ‫مم زاد الفرح‬ ‫واالرتباط بني أمل وعبد القادر‪ ،‬وأطلقت عليه‬ ‫جدته اسم أحمد‪ ،‬الجدة التي مل تحرض حفل‬ ‫طهوره حني كان يف الثالثة من عمره‪ ،‬فقد توفاها‬ ‫الله قبل ذلك بعام‪.‬‬ ‫بدأت مسؤوليات أمل تكرب؛ فقد أصبحت سيدة‬ ‫البيت منذ وفاة حامتها‪ ،‬وكانت رفيقة زوجها يف‬ ‫رعاية األرض من زرع وحصد‪ ،‬باإلضافة لالهتامم‬ ‫بابنها أحمد‪.‬‬ ‫ست سنوات م ّرت وأمل سعيدة‪ ،‬وقد ظنّت ّأن‬ ‫ّ‬ ‫الحظ العاثر قد تركها‪ ،‬لكنه كان يرتبص بها‪ .‬إذ‬ ‫دعي زوجها عبد القادر لاللتحاق بالجيش العثامين‬ ‫أثناء الحرب العاملية األوىل‪ ،‬كان الخرب صاعقاً؛ فهي‬ ‫الحرب‪ ،‬ومن يذهب يف “السفربرلك” ال يعود‪.‬‬ ‫م ّرت سنتان وأمل وولدها ينتظران سامع أيّ‬ ‫خرب عن عائ ٍد من الحرب‪ ،‬لع ّله رأى عبد القادر‬ ‫ويطمئنها عنه‪ ،‬وجاء من يخربها أنه شوهد يف‬ ‫مشفى الغربا (الوطني) يف دمشق‪.‬‬ ‫أرسعت أمل إىل أهلها لتدبري أمر سفرها إىل الشام‪،‬‬ ‫استعاروا بغ ًال من جار لهم‪ ،‬ووضعوا عليه الرسج‬ ‫الذي مألت والدتها جيبيه بالخبز والدبس وبضع‬ ‫قطع من البطاطا املسلوقة‪ .‬ركبت أمل البغل‬ ‫وخلفها ولدها أحمد الذي أصبح يف الخامسة من‬ ‫عمره‪ ،‬واتجها جنوباً إىل دمشق‪.‬‬ ‫ثالثة أيام قضتها أمل وولدها عىل الطريق تسري‬ ‫نهاراً وتنام يف الخان لي ًال‪.‬‬ ‫استطاعت الوصول إىل املشفى‪ ،‬ولكن الوقت كان‬ ‫متأخراً فلم يسمحوا لها بالدخول لرؤية زوجها‬ ‫وحبيبها ووالد ابنها‪ .‬جلست عىل الرصيف‪ ،‬وبكت‬ ‫كثرياً جداً فهي مل تره منذ عامني‪ ،‬وها هو عىل بعد‬ ‫خطوات منها وال تستطيع رؤيته‪ ..‬أشفق عليها‬ ‫الحارس الذي يقف عىل باب املشفى وأخذها‬

‫بالقرب من نافذة ّ‬ ‫تطل عىل رسير زوجها‪ ،‬وقفت‬ ‫بعد أن متالكت نفسها ونادته‪ :‬يا عبد القادر أنا‬ ‫أمل ومعي أحمد‪.‬‬ ‫كانت فرحة عبد القادر ال توصف‪ ،‬فهو مل يتوقع‬ ‫رؤية زوجته وولده‪ ،‬وأل ّنه كان مصاباً وضعيفاً وال‬ ‫يستطيع النهوض‪ ،‬فقد أرسع املرىض من حوله‬ ‫وحركوا الرسير بحيث يستطيع رؤيتهام‪ ،‬ولكن‬ ‫قامة أحمد كانت قصرية فحملته أمه ليتمسك‬ ‫بقضبان النافذة الحديدية‪ ،‬وليشاهد والده‬ ‫املريض‪ ،‬وكانت هذه املشاهدة هي كل ما يذكره‬ ‫عن والده!‬ ‫سألته أمل عن صحته وإصابته‪ ،‬ووعدته بالعناية‬ ‫به حتى يشفى‪ ،‬فهي ستعود يف الغد وتصطحبه‬ ‫إىل القرية ووعدها بانتظارها‪.‬‬ ‫تركته قاصدة بيت خال لها يف منطقة الشاغور‪،‬‬ ‫لتنام عندهم‪ ،‬وتذهب يف الغد لتن ّفذ وعدها‬ ‫لزوجها عبد القادر‪ ،‬ولكن القدر أىب إ ّال أن يفجعها‬ ‫مبوته يف تلك الليلة!‬ ‫اصطحبت جثته إىل مقربة “باب الصغري” حيث‬ ‫ض ّمه ثرى دمشق‪ ،‬ولتعود إىل قريتها مع ولدها‬ ‫أحمد البسة ثوبها األسود‪ ،‬للم ّرة الثالثة‪.‬‬


‫أمل وزواجها الرابع‬

‫‪9‬‬

‫مريم الحالق‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫استكانت أمل يف بيت زوجها املرحوم ترعى ولدها‬ ‫اض وكروم‪ ،‬إىل أن أصبح عمر أحمد‬ ‫وما آل إليها من أر ٍ‬ ‫تسع سنوات‪ .‬حينها فوجئت بأبناء عم املرحوم يطالبنها‬ ‫بالعودة إىل دار أهلها‪ ،‬وترك أحمد يف رعايتهم‪ ،‬فقد‬ ‫تجاوز مرحلة رعاية أ ّمه وهم أ ّوىل برعايته ومبردود‬ ‫رزقه الذي ورثه عن أبيه!! ووافق كبار القرية عىل هذا‬ ‫االقرتاح‪ ،‬فهذا هو العرف‪ ،‬وهذه هي العادات‪ ،‬وأحمد‬ ‫وفق العرف‪ -‬ينتمي لعائلته من أبيه‪.‬‬‫عادت أمل لبيت أهلها حزينة ُمستسلمة لقدرها‬ ‫ونصيبها‪ ،‬وكان قرب بيت ابنها أحمد من سكنها يخ ّفف‬ ‫عليها لوعة البعد عنه‪ ،‬فقد كانت تراه يف كل يوم‪.‬‬ ‫بضعة أشهر م ّرت عىل أمل تذهب فيها ّ‬ ‫كل يوم لرتعى‬ ‫ّ‬ ‫وتنظف داره‪ ،‬وتعود لرعاية والدها املريض‬ ‫ولدها‬ ‫ومساعدة والدتها يف شؤون الدار‪ .‬إىل أن فوجئت أمل‬ ‫عند عودتها يف أحد األيام بابن خالها األرمل الذي توفيت‬ ‫زوجته وتركت له ولدين بأ ّنه يطلب يدها من والدها‪،‬‬ ‫ووالدها يأخذ رأيها يف ذلك!‬ ‫أسئلة كثرية دارت يف خلدها‪ ،‬هل تتزوج للم ّرة الرابعة؟‬ ‫هل تستطيع تربية أوالد زوجها وترتك ولدها ألهله؟ هل؟‬ ‫وهل‪..‬؟ وأخرياً ق ّررت املوافقة‪ ،‬وانتقلت لبيت زوجها‬ ‫الرابع‪ ،‬وهي يف السادسة والعرشين من عمرها‪ .‬هناك‪ ،‬يف‬ ‫ذاك املنزل أنجبت أمل من زوجها الشيخ محمد صب ّيان‬ ‫وبنت ربتهم مع أخوتهم ألبيهم مصطفى وخديجة‪.‬‬ ‫لكن ّ‬ ‫حظ أمل البائس مل يفارقها أبداً؛ فها هو زوجها‬ ‫مرض أنهك قواه‬ ‫الرابع الشيخ محمد يفارق الحياة بعد ٍ‬ ‫وجسده‪ ،‬ليرتكها وحيدة مع أوالده الخمسة‪ ،‬وهي يف‬ ‫الخامسة والثالثني من عمرها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن أ ّمل التي ع ّذبتها الحياة منذ نعومة أظافرها تعلمت‬ ‫كيف تعيش وفق األعراف والتقاليد‪ ،‬صمتت وعاشت‬ ‫بصمت تر ّيب األوالد الذين كربوا مع الوقت وأصبحوا‬ ‫شباباً‪ ،‬وتزوجت البنتان‪ ،‬وسبقهم إىل الزواج أخاهم‬ ‫الكبري أحمد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫املوت الذي كان مرافقا لحياة أمل مل ميهلها فرصة‬

‫اللتقاط أنفاسها؛ فبعد وفاة أزواجها األربعة‬ ‫فقدت أمل الحزينة أبناءها الشباب واحداً‬ ‫تلو اآلخر‪ .‬أحمد‪ ،‬ولدها البكر من زوجها‬ ‫الثالث‪ ،‬وحبيبها عبد القادر تو ّيف عند سقوطه‬ ‫من الطابق الرابع أثناء عمله يف السعودية‪،‬‬ ‫وكان شاباً يف الثامنة والثالثني من عمره‪.‬‬ ‫بعده بعامني تو ّيف ولدها عبده حني تلقى‬ ‫رضبة من أشعة الشمس الحارقة حني كان‬ ‫يف املدينة املنورة‪ ،‬ووريّ ثراها الطاهر‪ ،‬وكان‬ ‫شاباً كذلك‪ ،‬حتّى أصغر من أخيه أحمد‪ ،‬إذ‬ ‫تويف يف الثالثني من عمره‪ .‬أ ّما أصغر أوالدها‬ ‫محمود فقد لقي حتفه حني طلبت منه‬ ‫قريبة له أن يجلب لها سوارها الذهبي الذي‬ ‫سقط منها يف برئ الدار‪ .‬نزل محمود إىل البرئ‬ ‫وكان املاء فيه مرتفعاً‪ ،‬والظالم حالك‪ ،‬طلب‬ ‫من األهل املتحلقني حول فتحة البرئ إنزال‬ ‫إنارة فناوله أحدهم مصباحاً متص ًال بالكهرباء‬ ‫وحني أمسكه رست الكهرباء يف جسده‪ .‬رصخ‬ ‫وسمع الناس صوت سقوط جسده يف البرئ!‬ ‫كان يف السابعة والعرشين من عمره حني‬ ‫تويف‪.‬‬ ‫هكذا توالت أيام أمل‪ ،‬وصبغ املوت عالمته‬

‫يف مفارق حياتها‪ ،‬حتى مل يرتك لها سوى‬ ‫ابنتها زينة‪ ،‬التي احتضنتها وقضت معها سبع‬ ‫سنوات يف لباس أسود‪ ،‬منذ وفاة االبن األكرب‬ ‫أحمد‪.‬‬ ‫ومبكراً بدأ املرض يفتك بأمل‪ ،‬التي أصيبت‬ ‫مبرض أقعدها عن الحركة‪ّ ،‬‬ ‫مم اضط ّر زينة‬ ‫ٍ‬ ‫لبيع ممتلكاتهم يف القرية واالنتقال إىل‬ ‫الشام‪ .‬هناك‪ ،‬يف الشام‪ ،‬وكام عبد القادر‬ ‫وافت أمل املن ّية بعد عامني من انتقالها إليها‬ ‫مع زينة‪.‬‬ ‫ماتت أمل يف الستني من عمرها‪ ،‬بعد أن‬ ‫رافقها املوت ألحبائها منذ سنتها الثانية‬ ‫عرشة‪.‬‬ ‫كثريون يتساءلون يف قريتنا حني يتذكرون‬ ‫ويقصون حكاية أمل‪ :‬هل كان لحياتها أن‬ ‫ّ‬ ‫تكون عىل غري تلك الشاكلة؛ أن ال يحكمها‬ ‫املوت بهذه القسوة‪ ،‬لو مل تز ّوج وهي يف‬ ‫لشيخ عجوز؟ هل قدّمها أهلها‬ ‫الثانية عرش ٍ‬ ‫إىل بوابة املوت بتزويجها ا ُملبكر من ذاك‬ ‫الشيخ الجليل؟!‬ ‫وكيف كانت حياتها لتكون لو أمهلت فرص ًة‬ ‫لحياة أخرى‪ ..‬فرصة للحياة ذاتها؟!‬


‫‪10‬‬

‫طريق الحرية وعرة‬ ‫لكنها تنتهي بينبوعها‬ ‫هيفاء الحاج حسين‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫أطل من غربتي عىل املشهد العام للعامل‪ ،‬فأرى خراباً‬ ‫ّ‬ ‫ننج منه حتى‬ ‫كبرياً يف املنظومة األخالق ّية والقيم ّية‪ ،‬مل ُ‬ ‫نحن طالب الحرية‪ .‬كان صادماً جداً بالنسبة يل موقف‬ ‫العامل من ثورتنا‪ ،‬وصادماً أكرث التع ّرف عىل تش ّوهاتنا‬ ‫كشعب خضع ألكرث من أربعني عاماً ل ّلذل‪ ،‬وقد أزاحت‬ ‫ٍ‬ ‫الثورة النقاب عنها‪.‬‬ ‫خرست حيايت التي كانت ُمتم ّثل ًة بعميل‪ ،‬وبيتي وأهيل‬ ‫ووطني‪ ،‬واألكرث إيالماً خساريت لزوجي‪ ،‬حبيبي‪ ،‬بعد‬ ‫حربنا الطاحنة مع الحياة‪ ،‬متس ّلحني بالحب واإلميان‬ ‫بغ ٍد مرشق‪ ،‬واقرتاب موعد قطافنا بشيخوخ ٍة هن ّية يف‬ ‫كوخ ومزرع ٍة صغرية تكون امتداداً لرؤيتنا عن الجامل‬ ‫والعشق والحرية‪.‬‬ ‫نادته الثورة فل ّبى النداء‪ ،‬وابتلعه صوتها الهادر شهيداً‬ ‫تحت التعذيب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫عالقة مع ابنتي‪ ،‬وهي عازفة غيتار‬ ‫وها إ ّنني اليوم‬ ‫وصديقتها فنانة تشكيلية‪ ..‬ال عمل‪ ،‬وال أهل‪ ،‬وال‬ ‫حقوق‪ ،‬يف غرف ٍة ال تصلح للسكن اآلدمي‪ ،‬تسب ّبت يل‬ ‫رس يف الركبة ألننّي أساساً أعاين من شلل يف الرجل‬ ‫بك ٍ‬ ‫ذاتها‪ .‬أحتاج لرعاي ٍة صحية ال يوفرها يل ظرف السكن‬ ‫وال البلد‪ ،‬لكأنني مل أدرس يوماً يف كلية الفنون الجميلة‪،‬‬ ‫ال مناخ موائم للرسم وال لتأليف األغنيات‪ ،‬وال للميض‬ ‫قدماً يف الكتاب الذي كان حلم حيايت أن أنجزه وأقدمه‬ ‫هدية عرفانٍ لوطني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مع ذلك فأنا أدفع القليل مم يدفعه الكثري من‬ ‫السوريني من أمثانٍ باهظة‪ ،‬لقاء حلمنا املرشوع بحيا ٍة‬ ‫تليق بإنسانيتنا‪.‬‬ ‫يوم‪ ،‬وكلام سمعت عن سقوط املدن واحد ًة إثر‬ ‫يف كل ٍ‬ ‫أخرى أف ّكر‪ :‬هل كان األمر يستحق؟‬ ‫قبل الثورة كنت أرقب اإلذالل الذي ميا َرس عىل الناس‪،‬‬ ‫واستسالمهم له بكل خنوع‪ ،‬وأتساءل‪ :‬هل يأيت اليوم‬ ‫فتتجسد أمامي مبارش ًة صورة‬ ‫الذي ينتفض فيه هؤالء؟‬ ‫ّ‬ ‫واضحة ملا سوف يحدث‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫وغياب للنخبة التي‬ ‫وتضحيات هائلة‪،‬‬ ‫اب كبري‬ ‫ٌ‬ ‫خر ٌ‬ ‫ينبغي أن ّ‬ ‫غياب تأ ّكد‬ ‫تنظم التحرك وترسم ملا بعده‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫متاس املبارش مع املثقفني يف مكان عميل‬ ‫يل من خالل ّ‬ ‫باملركز الثقايف‪ ،‬ومالمستي لسلبيتهم وعجزهم عن أن‬ ‫يكونوا صوت وضمري الناس‪.‬‬ ‫وحني انطلقت أوائل األصوات من درعا ودمشق متلكني‬ ‫شعو ٌر مزدوج بفرح الوالدة وبالهلع من اآليت‪ .‬كنت أمنّي‬ ‫النفس بأنه أمام سطوع الحقيقة‪ ،‬سوف تقف إىل جانبنا‬ ‫ّ‬ ‫كل الدول التي تدعي الدميقراط ّية‪ ،‬وسوف تخجل من‬

‫دمائنا وهول ما يحدث يف معتقالتنا‪.‬‬ ‫لست أنىس روعة صوت املظاهرة األوىل التي خرجت يف‬ ‫بلديت تنادي بالحرية‪ ،‬لقد خرج فيها جميع من أعرف‪،‬‬ ‫والكثري ممن ال أعرف‪ ،‬وكان األمر كام لو أنها معجز ٌة‬ ‫تتحقق‪.‬‬ ‫وتم تأديبنا‬ ‫ّمتت مالحقة الكثريين ممن خرجوا فيها‪ّ ،‬‬ ‫الحقاً بحوادث قتل مختلفة الظروف واألسباب‪ ،‬أوصلوا‬ ‫من خاللها رسالة للجميع مفادها‪ :‬أنتم يف ّ‬ ‫فك السبع‪،‬‬ ‫نحيط بكم من كل الجهات‪ ،‬وليس أسهل من سحقكم‬ ‫جميعاً واحتالل بيوتكم‪.‬‬ ‫كان زوجي من أوائل املعتقلني يف البدايات‪ ،‬وحني‬ ‫خرج من اعتقاله األول يف حامه ‪ ،2011‬ق ّرر أن يغادر‬ ‫مصياف ليعمل يف دمشق مسقط رأسه‪ ،‬ويدعم الثورة‬

‫من هناك‪ ،‬لكني حني سمعت باعتقاله الثاين ‪ 2013‬يف‬ ‫دمشق أيقنت بأ ّنه لن يعود هذه املرة‪ّ ،‬‬ ‫ألن ظروف‬ ‫املعتقالت صارت أقىس‪ ،‬والضوء األخرض ُأعطي للنظام‬ ‫يك يفعل ما يشاء بشعبه‪ ،‬واالنتهاكات أفشيت عىل‬ ‫العلن دومنا استحياء‪ ،‬واملقابر الجامعية ذاع صيتها دون‬ ‫أن يستطيع أحدٌ إيقافها أو محاسبة مرتكبيها‪.‬‬ ‫شهدت عىل محرق ٍة ُيرمى فيها ّ‬ ‫ُ‬ ‫كل الشباب من‬ ‫لقد‬ ‫املؤيدين واملعارضني‪ ،‬وأ ّولهم الرافضني حمل السالح‪.‬‬ ‫كان ينبغي أن أنجو بولديّ ‪.‬‬ ‫شاب بولندي رائع‪ ،‬عىل‬ ‫تع ّرفت يف اسطنبول عىل ٍ‬ ‫هامش دعويت ملشارك ٍة فاشلة يف حفلٍ لفعاليات‬ ‫املجتمع املدين يف املدينة‪ ،‬ت ّربع أن يرسل البني فيزا عمل‬ ‫يف بولندا‪ ،‬وفعل‪ ،‬وكان أحد بقع الضوء القليلة التي‬

‫شهدتها عىل املستوى الخاص منذ اندلعت الثورة؛ فأنا‬ ‫مل أتلقَّ أي مساعد ٍة من أي جه ٍة أو منظمة رغم أنني‬ ‫أحمل مرشوعاً فنياً فقدت حامستي له بعد الكثري من‬ ‫الخيبات‪.‬‬ ‫لقد حمل الكثري من السوريني معهم إىل بالد اللجوء‬ ‫كل مساوئ النظام الذي خرجوا ضدّه‪ :‬األنان ّية‪ ،‬االدعاء‪،‬‬ ‫االنتهاز ّية‪ ،‬حب الظهور‪ ،‬الفوىض‪ ،‬وحب الزعامة ورفض‬ ‫اآلخر‪ .‬وبالرغم من ّأن فقدت ثقتي بكل املنظامت‬ ‫والجهات الحقوقية‪ ،‬لكنّي مل أفقد إمياين باإلنسان‪ ،‬ما‬ ‫للتغي والتط ّور‪ ،‬مهام بدا األمر‬ ‫زلت أؤمن بأنه قابل ّ‬ ‫مستحي ًال‪.‬‬ ‫الطريق ما تزال يف بدايتها‪ ،‬وسوف تكون شاقة وطويلة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونضل‪،‬‬ ‫لكنها خيارنا الوحيد‪ ،‬سوف نرتنح‪ ،‬ونخطئ‪،‬‬ ‫وسوف تكون أخطاؤنا هي العالمات للدرب‪ ،‬هي‬ ‫دليلنا للوصول‪ ،‬سوف نكفر بالكثري من الثوابت‪ ،‬ونؤمن‬ ‫بالكثري من األوهام‪ ،‬ونتعرث بني خطأ وصواب‪ .‬لكنها‬ ‫طريقنا الوحيدة‪ ،‬والبد سوف تؤدي بنا يف نهاية املطاف‬ ‫إىل الينبوع‪.‬‬ ‫وسوف يعيش شهيدي يف حكاية البطولة التي سوف‬ ‫يقصها ابني عىل ابنه أو عىل حفيده رمبا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شهيدي الذي أعشق‪ ،‬وأفتقد‪ ،‬وأداري حزين عليه بكل‬ ‫ما علمتنيه الحياة من حيلٍ ومناورات‪ ،‬رفضاً مني لحالة‬ ‫اإلشفاق عىل الذات‪ ،‬وحرصاً مني عىل مهابة وجالل هذا‬ ‫الحزن‪ ،‬سوف تحييه شمس الحرية ُمجدداً قص ًة ناصع ًة‬ ‫شعب واجه وحش ّية عاملٍ بأرسه‪.‬‬ ‫عن بطولة ٍ‬ ‫“حسام يوسف الظفري” الفنان الذي كان يصنع من‬ ‫قطعة الخشب تحف ًة تكاد تتكلم عن ماضيها الحميم يف‬ ‫الغابة‪ ،‬واملص ّور الذي كان يلتقط الجامل يف دعسوق ٍة‬ ‫متهالك من بيت جده الدمشقي‪،‬‬ ‫عتيق‬ ‫ٍ‬ ‫تطري‪ ،‬ويف حج ٍر ٍ‬ ‫هب‬ ‫أو من قالع مصياف العريقة‪ ..‬الفدا ّيئ الذي ّ‬ ‫ملساندة فتح خالل االجتياح “اإلرسائييل” لبريوت ‪،1982‬‬ ‫والذي التهب حامس ًة يف “حرب متوز” وحاول التط ّوع‬ ‫لدى املقاومة ورفضوه‪ ،‬والذي خرج بأ ّول مظاهر ٍة‬ ‫من الجامع األمويّ يف دمشق‪ ،‬أدرك بفطرته األصيلة‬ ‫ّأن الطريق إىل القدس مير عرب الخالص من األنظمة‬ ‫االستبدادية التي تدعم “إرسائيل” بادعاء الوقوف‬ ‫ضدّها‪.‬‬ ‫السالم لروحك يا حبيبي!‬ ‫وها أنني أهتف لك من ِعظم عجزي وقهري‪:‬‬ ‫أشتاقك جداً‪ ،‬وأحتاجك‪ ،‬والدرب ما تزال طويلة‪ً..‬‬ ‫طويلة‪..‬‬


‫بورتريه‪:‬‬

‫“مريانا مراش” أول امرأة‬ ‫عربية تمتهن الصحافة‬

‫‪11‬‬

‫المحامية منى أسعد‬

‫عىل صالونها‪ ،‬مبن فيهم وايل حلب العثامين‪.‬‬ ‫إ ّال أ ّنها يف باب املقاالت كانت ناقدة و ُمجدّدة معا‪ً،‬‬ ‫خاصة وأ ّنها سافرت كثرياً إىل أوروبا‪ ،‬حيث اطلعت‬ ‫ّ‬ ‫ووسعت آفاق معارفها‪،‬‬ ‫عىل تجارب التمدّن والحداثة‪ّ ،‬‬ ‫فانتقدت الحال املزري لوضع املرأة يف مجتمعاتنا‪ ،‬كام‬ ‫انتقدت العادات الشائعة لبنات جيلها‪ ،‬وبدأت تبث‬ ‫فيهنّ روح التحدّي وتدعوهنّ إىل املطالبة بحقوقهنّ ‪.‬‬ ‫من خالل “التزين بالعلم والتحيل باملعرفة‪ ،‬والتح ّرر من‬ ‫التقاليد والخرافات”‪ ،‬كام يقول الكيايل‪.‬‬ ‫ومل يكن اهتاممها بالقضايا النسوية ُمج ّرد مشاعر ذات ّية‬ ‫واهتامم ثقايف‪ ،‬بقدر ما هو انتامء ونضال حقيقي إن‬ ‫صح التعبري‪ ،‬حيث عملت مع لفيف من نساء تلك‬ ‫املرحلة الرائدات عىل تأسيس جمعية علمية أدب ّية‬ ‫نسائ ّية عام ‪1880‬م‪ ،‬باسم “باكورة سورية”‪ ،‬كانت‬ ‫تهدف‪ ،‬إىل تنوير نساء جيلها مبفاهيم املساواة بالرجل‬ ‫وتحسني وضعهن يف املجتمع‪“ ،‬حتى تقاسم املرأة‬ ‫الرجل أشغاله عل ًام وأدباً‪ ،‬ويسعيان بيد واحدة نحو‬ ‫إصالح املعيشة العائلية‪ ،‬وتحسني الهيئة االجتامعية”‪،‬‬ ‫وقد استطاعت هذه الجمعية بعد عام واحد عىل‬ ‫انطالقتها أن تجمع ست ُخطب للسيدات‪ُ ،‬ألقيت باسم‬ ‫الجمعية‪ ،‬وموضوعاتها‪ ،‬هي‪ :‬الغاية التي خلق اإلنسان‬ ‫ألجلها‪ ،‬وتهذيب العقل‪ ،‬والكتب ومطالعتها‪ ،‬واالرتقاء‪،‬‬ ‫وحياة اإلنسان وواجباته‪ ،‬وحقوق النساء‪ ،‬وقامت‬ ‫بطباعته وتوزيعه‪.‬‬ ‫كام سعت امل ّراش إىل نسج شبكة من العالقات املتميزة‬ ‫لها يف مستوى االهتامم بالقضايا النسوية مع رائدات‬

‫العدد ‪2017 / 1 / 16 - 84 -‬‬

‫كتب “الفيكونت فيليب دي طرازي” وهو أشهر‬ ‫مؤرخي الصحافة العربية‪ ،‬يف كتابه “تاريخ الصحافة‬ ‫العربية” املنشور عام ‪1913‬م ترجمة كاملة عن”مريانا‬ ‫م ّراش” يؤكد فيها أ ّنها كانت أ ّول سيدة عربية كتبت يف‬ ‫الصحف “السيارة”‪ ،‬أي إنها الرائدة الحقيقية يف هذا‬ ‫املجال‪.‬‬ ‫ويتابع الفيكونت يف كتابه ّأن‪“ :‬مريانا بنت فتح الله‬ ‫م ّراش” ولدت يف حلب شهر آب‪ /‬أغسطس من سنة‬ ‫‪1848‬م‪ ،‬وكان أبوها “فتح الله م ّراش” رج ًال أديباً عُ ني‬ ‫باملطالعة واقتناء الكتب‪ ،‬وجمع مكتبة نفيسة‪ ،‬وله‬ ‫كتابات عديدة مختلفة مل تطبع”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ولعل الباحث والصحفي “سامي الكيايل” كان أكرث من‬ ‫أحاط بشخصية “مريانا مراش” وعرصها‪ ،‬يف دراسة له‬ ‫متأخرة تعود لسنة ‪ 1957‬يف صحيفة “الحديث” الحلبية‬ ‫التي كان قد أصدرها قبل ثالثني عاماً من ذلك التاريخ‪،‬‬ ‫حيث يضيف‪“ :‬كان بيت أبيها من البيوت العريقة‬ ‫التي لها مشاركة بحياة الفكر واألدب‪ ،‬وكان ألخويها‬ ‫فرانسيس وعبد الله ‪-‬واألول شاعر طبيب‪ ،‬والثاين تاجر‬ ‫أديب‪ -‬أثرهام املهم يف توجيهها نحو حياة الفكر”‪.‬‬ ‫و ُتجمع املصادر أنها دخلت املدرسة املارونية يف‬ ‫ثم انتقلت إىل املدرسة اإلنجيل ّية‬ ‫الخامسة من عمرها‪ّ ،‬‬ ‫يف بريوت‪ ،‬فدرست فيها مبادئ اللغة العربية والحساب‬ ‫وبعض العلوم‪ ،‬إضافة إىل اللغة الفرنسية‪ ،‬لكن والدها‬ ‫أعاد تعليمها الفرنسية‪ ،‬وقواعد الرصف والنحو‬ ‫والعروض يف اللغة العربية منذ الخامسة عرشة من‬ ‫عمرها‪ ،‬كام تتلمذت عىل يد أخويها يف األدب واملعرفة‪.‬‬ ‫كذلك درست فن املوسيقا وأتقنته جيداً بجهد شخيص‪.‬‬ ‫سن مبكرة‪،‬‬ ‫بدأت مراش كتابة الشعر واملقاالت يف ٍ‬ ‫حيث نرشت أوىل مقاالتها “شامة الجنان” يف مجلة‬ ‫“الجنان” سنة ‪1870‬م‪ .‬كذلك نرشت مبكراً يف جريدة‬ ‫“لسان الحال”‪ ،‬وإذا كانت املراش يف شعرها ذهبت‬ ‫مذاهب تقليدية يف املديح والغزل والحكم والوصف‪،‬‬ ‫إضافة للرثاء‪ ،‬فإ ّنها مت ّيزت بغزلها الرقيق‪ ،‬كام أشتهر‬ ‫رثاؤها لشقيقها فرنسيس‪ ،‬وقد جمعت أشعارها التي‬ ‫تعود ألعوام ‪ 1874‬وحتى ‪ 1888‬يف ديوان صغري بعنوان‬ ‫“بنت فكر” صدر عن “املطبعة األدبية” يف بريوت عام‬ ‫‪1893‬م‪ ،‬ويؤخذ عليها مديح بعض رجال الدولة وبعض‬ ‫رجال السلك القنصيل والسيايس م ّمن كانوا يرتددون‬

‫عرصها‪ ،‬كعائشة التيمورية (‪ )1840-1902‬ووردة‬ ‫اليازجي (‪ )1838-1924‬ووردة الرتك (؟‪ ،)-1873‬وصوالً‬ ‫إىل مي زيادة (‪.)1886-1941‬‬ ‫والميكن النظر ألهم ّية هذه الشخص ّية وما فعلته ّإل يف‬ ‫السياق الزمني لتلك املرحلة‪ ،‬حيث ُيظهر ذلك جرأتها‬ ‫وريادتها يف مجاالت شتى‪ ،‬وبشكل خاص ما يتعلق‬ ‫بحقوق املرأة وقضايا التعليم‪ ،‬التي انتقلت بها من‬ ‫مستوى األحالم إىل مستوى الربامج والتحريض الدعوي‪،‬‬ ‫ومل تكن مراش أ ّول سيدة عربية تكتب يف الصحف‬ ‫مقاالت متنوعة فقط‪ ،‬بل افتتحت يف منزلها أ ّول صالون‬ ‫أديب‪ ،‬وكانت سابقة يف ذلك عىل صالون “مي زيادة” يف‬ ‫مرص‪ ،‬بل اعترب أول صالون أديب مبفهومه الحديث يف‬ ‫الرشق العريب‪.‬‬ ‫مل مينعها من ذلك وضعها االجتامعي كإمرأة متزوجة‪،‬‬ ‫وال منعها عسف الحكم العثامين وظالمية تلك الفرتة‬ ‫التي اتسمت بانغالق الحياة االجتامعية‪ ،‬بل وعىل‬ ‫العكس من ذلك نجحت م ّراش يف استقطاب خرية‬ ‫أدباء حلب ومثقفيها يف تلك املرحلة‪ ،‬حيث تردّد إىل‬ ‫صالونها األديب كل من‪ :‬رزق الله حسون‪ ،‬القسطايك‬ ‫الحميص‪ ،‬كامل الغزي‪ ،‬جربائيل دالل وأخويها فرنسيس‬ ‫وعبد الله م ّراش‪ ،‬وآخرين ُكرث‪ ،‬إضافة للفيف من‬ ‫السفراء والقناصل الغربيني والساسة وصوالً إىل الوايل‬ ‫العثامين‪ ،‬حيث يسمعون املوسيقى ويتنادمون بالشعر‬ ‫ويبحثون شؤون زمانهم وشجون بالدهم‪ ،‬وقد وصف‬ ‫ذلك الصالون القسطايك الحميص بقوله‪“ :‬كان منزلها يف‬ ‫حلب مثابة الفضالء وملتقى الظرفاء والنبهاء وعشاق‬ ‫األدب”‪.‬‬ ‫وأ ّول تعريف مبريانا مراش كتبته “لبيبة هاشم” يف‬ ‫صحيفتها “فتاة الرشق”‪ ،‬حيث كانت مراش يف أخريات‬ ‫سنيها تعاين من مرض “العصاب” الذي أودى بحياتها‬ ‫يف حزيران من عام ‪ 1919‬عن عمر يناهز ‪ 71‬سنة‪.‬‬ ‫وبعد وفاة املراش قامت “هاشم” باستكتاب الباحث‬ ‫“إسكندر املعلوف” لباب “شهريات النساء” يف ذات‬ ‫الصحيفة‪ ،‬لكن البعض يعترب ّأن أ ّول من كتب عنها بعد‬ ‫وفاتها هو األديب الشهري “جرجي نقوال باز” يف كانون‬ ‫األول‪ /‬يناير من العام ‪ ،1919‬ملجلة “الخدر” النسائية‬ ‫لصاحبتها عفيفة صعب‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.