طلعنا عالحرية / العدد 97

Page 1

‫حرية ‪ ،‬كرامة‪ ،‬مواطنة‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫مجلة شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬

‫ً‬ ‫يوما‪..‬‬ ‫إذا الشعب‬


‫ً‬ ‫إذا الشعب يوما‪..‬‬ ‫‪2‬‬

‫نصار‬ ‫افتتاحية بقلم أسامة ّ‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫من الخطاب الشهري للرئيس التونيس قيس سع ّيد‪،‬‬ ‫الذي أعلن فيه ّ‬ ‫حل الربملان املنتخب‪ ،‬وإعفاء‬ ‫الحكومة والسيطرة عىل مفاصل الحكم ومنها‬ ‫القضاء‪ ،‬إىل إعالن الجرنال حفرت رفضه ألي إدارة‬ ‫مدنية للبالد‪ ،‬إىل إعالن حركة طالبان سيطرتها‬ ‫عىل باقي املدن األفغانية املفصلية بعد انسحاب‬ ‫األمريكان‪ ،‬تتعزز لدى الشعوب املستضعفة عوامل‬ ‫التطرف والعدمية‪ .‬فال يشء يجدي‪ ،‬ال الثورات‬ ‫السلمية وال حركات التحرر الوطنية املس ّلحة‪ .‬وكل‬ ‫ما يقوله الغرب عن نرش الدميقراطية وحقوق‬ ‫اإلنسان كذب‪ ،‬وال أصدقاء لنا نحن املستضعفني‬ ‫املقهورين‪.‬‬ ‫…‬ ‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪ ..‬فستنبت يف أرضه‬ ‫فطريات مس ّلحة‪ ،‬بشعارات إميانية وبنادق كافرة‪،‬‬ ‫ترى الحياة بقتل املغاير‪ ،‬أو إكراهه يف كل تفاصيل‬ ‫حياته‪ ..‬ومامته!‬ ‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪ ..‬ستتمسكن له‬ ‫جرناالته حمالناً وادعة حتى يعطيها األمان‪ ،‬لتنقلب‬ ‫عليه ذئاباً كارسة‪ ،‬وتعيده تحت البسطار‪ ،‬أو حوله‪،‬‬ ‫وتؤمن له كل حقوقه‪ ..‬يف تلميع البسطار!‬ ‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪ ..‬تتقاطر عىل أرضه‬ ‫الجيوش‪ ،‬لتصبح مهمة تحرره تابعاً لوغاريتمياً من‬ ‫الدرجة العارشة‪.‬‬

‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪ ..‬ميوت بعضه‪ ،‬و ُيسجن‬ ‫ويهجره بعضه‪ ،‬وينسحق‬ ‫بعضه‪ ،‬و ُيحارص بعضه‪َّ ،‬‬ ‫الباقون منه يف سعيهم وراء اللقمة‪..‬‬ ‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪ ..‬تنعقد عىل اسمه‬ ‫مؤمترات وجلسات ملجلس األمن؛ تقول إن الحق‬ ‫معه‪ ،‬لكننا سندعم الباطل‪ ..‬ضدّه!‬ ‫…‪.‬‬ ‫كل ذلك حصل‪ ..‬وأكرث‪.‬‬ ‫والواقع يقول بوضوح إن الحياة الكرمية مطلب‬ ‫عيص عىل التحقيق‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫ولكن‪..‬‬ ‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪..‬‬ ‫عليه أن يعرف ‪-‬أو يتع ّلم‪-‬‬ ‫أن التغيري هو مسرية حياة‪،‬‬ ‫وليس لحظة حامسية عابرة‪..‬‬ ‫إن كانت دراسة التجارب‬ ‫الفاشلة أو غري املكتملة‬ ‫من موجبات التغيري فهي‬ ‫وملحة‪ .‬وإن كان بناء‬ ‫واجبة‪ّ ،‬‬ ‫العالقات الصح ّية مع القوى‬ ‫املؤثرة من أسباب التغيري‬ ‫ملح‪ .‬وإن‬ ‫فهو أيضاً واجب ّ‬ ‫كان طريق التغيري صعباً‬ ‫وفيه مط ّبات وحفر وأفخاخ‪،‬‬ ‫فعليه أن يخوضه بحفره‬ ‫ومطباته ورياحه املعاكسة‪..‬‬ ‫إذا الشعب يوماً أراد الحياة‪..‬‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫افتتاحية‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬ ‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫شهرية ثقافية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬سياسية‪،‬‬ ‫تعنى بالشأن السوري‬ ‫املدير اإلداري‬ ‫معتصم أبو الشامات‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫لتكن تتمة الشطر أي تتمة‪ ..‬سيئة أو متفائلة‪..‬‬ ‫ولرتسل قوى الظالم يف األرض كل رسائل التط ّرف‬ ‫والجنون والعدم‪ ..‬غري إن البقاء عىل ذ ّمة االنحياز‬ ‫للحياة والتحرر والكرامة‪ ،‬أفضل ألف مرة من‬ ‫الركون لقوانني الظلم واالستعالء يف األرض‪ ..‬وإن‬ ‫تأخرت استجابة القدر‪..‬‬ ‫إذا الشعب يوماً‪..‬‬ ‫سيبقى منه ولو فرد واحدٌ ‪ ،‬يكافح عىل قيد الحياة‪..‬‬ ‫عىل قيد الرشف!‬

‫تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت‬ ‫‪facebook.com/rising4freedom‬‬

‫نصار‬ ‫رئيس التحرير أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل ‪ /‬هاين ع ّباس‬

‫أمن رقمي ومحاسبة‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف سوريا‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫السويداء تكرر‪“ :‬اهلل من جهد البالء”‬ ‫‪3‬‬ ‫جمال الشوفي‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫مقاالت‬

‫أكدت األيام املاضية‪ ،‬ومن خالل أحداثها املتتالية يف‬ ‫منطقتي شهبا والرحى‪ ،‬رفض ونبذ أهايل السويداء‬ ‫لقامئة من املفردات‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ املشاريع الفئوية الضيقة التي تقرص أبناء هذه‬‫املحافظة عىل قدر طائفي أقلوي‪ ،‬مل يكونوا يوماً‬ ‫من رعاته بقدر ما أنهم رعاة وطنية وانتامء سوري‪.‬‬ ‫ التصعيد باتجاه االقتتال الداخيل‪ ،‬أو االنجرار‬‫للغة الحرب‪ ..‬ما مل ُتفرض عليهم‪.‬‬ ‫ رفض ميليشيات الخطف والسلب والنهب‬‫وتجارة املخدرات‪ ،‬والتي أثبتت أحداث شهبا فيها‬ ‫حيازة أفرادها ال عىل املخدرات وحسب‪ ،‬بل عىل‬ ‫املنفجرات املحظورة كـ ‪ TNT‬والـ ‪ ،C4‬والتي‬ ‫عرضها أصحابها عىل املأل! وأثبتت أيضاً تبعية‬ ‫أفراد هذه العصابات مبا ال شك فيه ألجهزة أمنية‬ ‫متعددة‪ ،‬من خالل البطاقات األمنية التي وجدت‬ ‫بحوزتهم‪ ،‬هذا عدا عن السيارات املرسوقة أو‬ ‫املعروفة بـ “اللفة”‪.‬‬ ‫ رفض الفلتان األمني املمنهج‪ ،‬وسياسة إفقار‬‫وتجويع الناس والفساد الحكومي القائم‪ ،‬وما ينتح‬ ‫عنه من تضييق عىل سبل الحياة ومعاش الناس‪،‬‬ ‫دون أي حلول ترجى‪.‬‬ ‫ كام أثبت الواقع األهيل رفضه للوجود‬‫امليليشوي العسكري بني املدنيني‪ ،‬ورفض االنجرار‬ ‫خلف املشاريع املشبوهة لها‪ ،‬فقد أثبتت أحداث‬ ‫الرحى عدم قبول املجتمع املحيل لكل من كتائب‬ ‫الدفاع الوطني املرعية من األجهزة األمنية والداعم‬ ‫اإليراين‪ ،‬وأيضاً ما ُسمي أخرياً بقوة مكافحة اإلرهاب‬ ‫غري متضح املعامل والهوية بعد‪ ،‬والتي كاد التصعيد‬ ‫بينهام يؤدي القتتال تذهب نتيجته األبرياء‪ ،‬وتزيد‬ ‫يف تفكيك النسيج املجتمعي‪ ،‬وتغليب سياسة‬ ‫املشاريع واألجندات الخارجية‪.‬‬ ‫يف هذا السياق‪ ،‬برز خطايب ليث البلعوس‪ ،‬نجل‬ ‫املرحوم وحيد البلعوس‪ ،‬والشيخ سليامن عبد‬ ‫ليعبا عن البعد األهيل للمحافظة ورفضهم‬ ‫الباقي ّ‬ ‫بشكل أسايس املرشوع اإليراين وتبعاته يف الجنوب‬ ‫السوري عامة والسويداء خاصة‪ ،‬والتمسك بالهوية‬

‫الوطنية السورية ورفض االنجرار ملقتلة داخلية‪.‬‬ ‫ويضاف إليها طرح أفكار تتعلق بحرية التفكري‬ ‫وتأسيس األحزاب السياسية‪ ،‬وعدم احتكارها من‬ ‫قبل حزب البعث وجبهته الوطنية‪ ،‬وهذه عندما‬ ‫تأيت عىل لسان رجال دين وقادة فصائل فلها‬ ‫معنى إيجايب وإشارة هامة يف التقدم باتجاه البعد‬ ‫السيايس للعمل الوطني‪.‬‬ ‫السويداء‪ ،‬كأي رقعة يف سوريا‪ ،‬تجدها تغرق‬ ‫يف مشاكلها الداخلية ومفارقات الحياة اليومية‪،‬‬ ‫فتجد بها كل صنوف البرش ومناذج وطباع حياتهم‪.‬‬ ‫السويداء املوسومة باألقلية الدينية‪ ،‬ما يجعلها‬ ‫ترتاب إزاء املختلف عنها دينياً وسياسياً‪ ،‬ويجعل‬ ‫سياق أحداثها أكرث إشهاراً من غريها؛ فتبدو وكأنها‬ ‫ذات سامت خاصة‪ .‬فقد عانت هذه األقلية‬ ‫التهميش الوظيفي والسيايس واالقتصادي التاريخي‬ ‫منذ العام ‪ ،1966‬وزادت يف اآلونة األخرية الضغوط‬ ‫االقتصادية عليها‪ ،‬خاصة وأنها ال متلك معرباَ حدودياً‬ ‫وال مشاريع تنموية محلية‪ ،‬ويعتمد سكانها عىل‬ ‫الراتب الوظيفي والزراعة البعلية‪ .‬ولوال وجود‬ ‫أبنائها املغرتبني الذين وصلت نسبتهم ملا يقرب‬ ‫‪ 50%‬ليساعدوا أهاليهم بالداخل‪ ،‬لفرغت املحافظة‬ ‫من سكانها‪ .‬هذا إضافة ملحاوالت عدة لجرها‬ ‫للدخول يف معرتك املقتلة السورية‪ ،‬أو االقتتال‬ ‫الداخيل فيام بينها‪ ،‬لكنها برهنت طوال السنوات‬ ‫العرش املاضية أن لها طريقتها املختلفة يف عالج‬ ‫أحداثها‪ ،‬فهل ميكنها الثبات واالستمرار؟‬ ‫لليوم السويداء‪ ،‬ال زالت غنية بإمكانيات سياسية‬ ‫وفكرية‪ ،‬وقوى محلية قادرة عىل الثبات كخطوط‬ ‫دفاع خلفية‪ .‬فرغم كل املخاوف التي تحيق بها‪،‬‬ ‫واملشاريع ذات الشبهة الخارجية خاصة اإليرانية‬ ‫وغريها‪ ،‬تثبت متسكها بالثوابت الوطنية العامة‪:‬‬ ‫السلم واألمان‪ ،‬رفض الدم ولغة الحرب والقوة‪،‬‬ ‫تغليب سياسة العقل والحكمة وعدم االنجرار‬ ‫خلف املشاريع الطائفية‪ ،‬التأكيد عىل الفصل بني‬ ‫الدولة ومؤسساتها وبني جهاز السلطة القائم‪،‬‬ ‫الذي بات مته ًام من كل األطراف باملحافظة‪ ،‬رساً‬ ‫وعالنية‪ ،‬بالفساد والخراب ورعاية الفنت وسبب‬ ‫النكبة والكوارث السورية والسويداء منها‪ .‬وينتظر‬

‫عمقها األهيل أدوات التغيري السيايس املمكنة‪ ،‬دون‬ ‫أن ينجروا ملواجهة عسكرية ما‪ ،‬يعلمون جيداً أنها‬ ‫خارسة مجتمعياً ووطنياً‪.‬‬ ‫“الله من جهد البالء”‪ ،‬جملة تلخص تاريخ وحارض‬ ‫يعاش‪ ،‬تاريخ يحتكم للعقل وتأخري مفاعيل القوة‪،‬‬ ‫وتستلزم عالجاً حكي ًام لكل أشكال الشدة واملشقة‬ ‫التي ال طاقة عليها‪ .‬جملة كرث ترديدها يف السنوات‬ ‫املاضية من أهايل السويداء‪ ،‬وهم املعروفون بأنهم‬ ‫أقلية دينية تدين لطائفة املسلمني املوحدين‬ ‫املعروفني بالدروز دينياً‪ ،‬وبالبعد الوطني يف االنتامء‬ ‫لسوريا منذ أرىس سلطان األطرش قيادة ثورة الـ‬ ‫‪ 1925‬تحت “شعار الدين لله والوطن للجميع”‪،‬‬ ‫وذلك حني التقى بالكتلة الوطنية الدمشقية‬ ‫ممثلة بعبد الرحمن الشهبندر‪ .‬وهذا تاريخ تبدو‬ ‫إمكانية استعادته اليوم مرة أخرى إذا ما أخذت‬ ‫بعني االعتبار ثوابتهم العامة من بوابة السلم ورفض‬ ‫القتل وتحقيق خطوات التغيري الوطني التي تقود‬ ‫لالستقرار واألمان‪ .‬ما يستلزم فع ًال سياسياً وطنياً‬ ‫متكامل األبعاد‪ ،‬سواء عىل صعيد املحافظة أو عىل‬ ‫صعيد متكني صالتها بأقرانها السوريني‪ ،‬فوجود‬ ‫قوى عسكرية متعددة األهداف يف رقعة ضيقة‬ ‫كالسويداء لن يجعل املنطقة مستقرة‪ ،‬ما مل ترتبط‬ ‫بفعل اجتامعي وطني ذي عمق سيايس ومدين‪،‬‬ ‫يرفض لغة الحرب‪ ،‬ويعمل بالتنسيق والتوازي مع‬ ‫الحوامل املجتمعية املحلية التي أعلنت اتفاقها عىل‬ ‫هذه األسس‪ ،‬وبذات الوقت مع السوريني الراغبني‬ ‫بتقصري عمر هذه الفرتة املستعصية سياسياً وأمنياً‬ ‫واقتصادياً وحياتياً أيضاً‪ .‬ما يجعل التغري السيايس‬ ‫الدميقراطي ليس هدفاً سياسياً للمعارضة وحسب‪،‬‬ ‫كام هو مشاع‪ ،‬بل حاجة عامة ورضورة واقعية‬ ‫تنعكس بنتائجها عىل الجميع‪.‬‬ ‫فهل تجيب األيام القادمة عن استمرار قدرة أهايل‬ ‫السويداء الذاتية عىل درء البالء وتحقيق السلم‬ ‫واألمان؟ وهل تستجيب معها القوى الوطنية‬ ‫السياسية السورية؟ أم أن هناك جوالت للموت‬ ‫والحرب بسوريا مل تنته بعد‪ ،‬وال زالت أدواتها متتلك‬ ‫القدرة عىل جر أبناء املحافظة ملشاريع مشبوهة‬ ‫واقتتال مفتعل؟‬


‫‪4‬‬

‫ّ‬ ‫العربية املأمولة مشروطة بإصالح‬ ‫النهضة‬ ‫ديين ـ ثقايف ّ‬ ‫يقدم العقل على النص!‬ ‫طلعنا عاحلرية حتاور الكاتب مرزوق احلليب‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫لقاءات‬

‫عىل ضوء أحداث تونس األخرية‪ ،‬وما سبقها من‬ ‫انهيارات كارثية لثورات الربيع العريب خالل السنوات‬ ‫العرش األخرية‪ ،‬وعىل ضوء انتعاش الثورات املضادة‬ ‫يف كل مكان وخفوت اآلمال بالتغيري املنشود‪ ،‬كان‬ ‫ملجلة طلعنا عالحرية هذا الحوار مع الكاتب مرزوق‬ ‫الحلبي من فلسطني املحتلة‪ ،‬والذي امتد إىل مسائل‬ ‫النهضة العربية واخفاقاتها وإمكاناتها املستقبلية‪.‬‬ ‫الحلبي مث ّقف نقديّ يأيت من مجاالت الحقوق والعلوم‬ ‫السياس ّية واالسترشاف‪ .‬شاعر وناقد ثقايف‪ .‬يد ّرس العلوم‬ ‫السياسية واألدب‪ .‬له إسهامات يف مقاربة موضوعات‬ ‫العوملة والهو ّية واللغة واألخالق وما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫فيام ييل الحوار كام ًال‪:‬‬ ‫‪ .1‬ها هي تونس ُتعيدنا ّربا إىل املربّع األ ّول‪ ،‬عشية‬ ‫الربيع العريب‪ ،‬كيف تنظر إىل هذه التجربة املمتدة من‬ ‫مسافة عقد عىل بدايتها‪ ،‬ما هي مالمح هذه التجربة التي‬ ‫يبدو أنها مل تكتمل بعد‪ ،‬هل من استنتاجات‪ ،‬من دروس؟‬ ‫مرزوق الحلبي‪“ :‬إن ما حدث يف تونس ليس مفاجئًا‪،‬‬ ‫يتم عىل دفعة واحدة بل من‬ ‫ألن كل ربيع للشعوب ال ّ‬ ‫خالل ما أس ّميه “أثر األرجوحة”؛ أي أن األمور ستتأرجح‬ ‫من جهة إىل أخرى إىل أن تستق ّر عىل صيغة ما لالجتامع‬ ‫وللسياسة والدولة‪ .‬هذا يف رؤية من بعيد‪ .‬أما إذا دخلنا إىل‬ ‫حيثيات الحالة التونسية‪ ،‬خاصة عدم قيام الرئيس ا ُملنتخب‬ ‫سيايس سوى مواجهة‬ ‫بطرح أي بديل إداريّ دستوري‬ ‫ّ‬ ‫الحكم تنفذ‬ ‫الفساد ومالحقة الفاسدين‪ .‬وضعية فراغ يف ُ‬ ‫صح التعبري‪ .‬قد تدخل قوى إقليم ّية‬ ‫منه “الشياطني” إذا ّ‬ ‫التونيس أو تعبث‬ ‫الشعب‬ ‫ادة‬ ‫ر‬ ‫إ‬ ‫لتحرف‬ ‫ودولية إىل تونس‬ ‫ّ‬ ‫تتجسد عىل‬ ‫بها‪ّ .‬مثة مصالح ال ِق َبل لنا بتبيانها أو تتبعها قد ّ‬ ‫أرض تونس كام حصل يف مواقع شتّى يف اإلقليم‪ .‬خطوة‬ ‫الرئيس اسع ّيد ناقصة األمر الجوهريّ وهو هيكلة النظام‬ ‫االجتامعي من جديد‪ ،‬وطرح مسار أو خارطة‬ ‫السيايس و‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫طريق‪ُ .‬يذكرنا األمر مبا حصل يف دول املنظومة االشرتاكية‬ ‫حني تفكك النظام هناك‪ ،‬وتبدّلت القوى يف إدارة البالد‬ ‫تب ًعا إىل أن رست عىل صيغة ال تزال تعمل‪ .‬سنشهد املزيد‬ ‫من هذه التطورات مع الوقت يف كل البلدان العربية‬ ‫التي طالها الربيع العريب‪ .‬لكن علينا أن نحذر من فائض‬ ‫األمل‪ ،‬ألن التاريخ ال يتح ّرك عىل ّ‬ ‫خط تصاعديّ من أدىن‬ ‫إىل أرقى‪ ،‬بل قد ينكرس يف الشعوب التي تسري عليها‪.‬‬ ‫ثورات ُمضادة ومصالح لجهات أقوى من الشعوب و ُنخبها‪.‬‬

‫“أ ّما بالنسبة للدروس‪ ،‬فال ب ّد من مواصلة تطوير‬ ‫صيغة حداثية للحكم واالجتامع‪ ،‬ال تنحرص يف دستور‬ ‫أو انتخابات دورية‪ ،‬أو يف مبدأ التداول عىل السلطة‬ ‫والفصل بني السلطات‪ ،‬بل يف توزيع الرثوات ‪-‬القليلة‬ ‫أص ًال يف تونس‪ -‬من جديد عىل نحو أكرث عدالً‪ .‬تحدّيان‬ ‫كبريان ينبغي عىل النُخب والشعوب أن تخوضهام؛ يف‬ ‫األ ّول‪ :‬أن ُتنتج صيغة الجتامع معقول‪ ،‬يف أساسه آليات‬ ‫لترصيف التوترات والرصاعات‪ ،‬من خالل تطوير (موديلها)‬ ‫وطريقتها يف إدارة البالد والخري العام وعملية التنافس بني‬ ‫قوى املجتمع‪ .‬ويف الثاين‪ :‬أن تعرف كيف تح ّيد الضغوط‬ ‫و ّ‬ ‫التدخالت الخارجية‪ ،‬مبا فيها بحجة تقويم االقتصاد‪ .‬وهو‬ ‫عادة الباب املرشع التي تنفذ منه قوى العوملة إىل وضع‬ ‫يدها عىل مقدرات البلدان املأزومة وعىل مصري شعوبها”‪.‬‬ ‫السيايس كان واضحاً يف األحداث‬ ‫‪ .2‬دور اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫يف كل األقطار التي شهدت مواسم الربيع العريب‪،‬‬ ‫ويف تونس أيضاً‪ ،‬وقد ُأتيح لها أن تتس ّلم مقاليد‬ ‫الحُ كم يف بعض املواقع ‪-‬كام يف مرص وتونس‪ -‬لنشهد‬ ‫تفجراً يف عالقتها مع املجتمع والدولة‪ ،‬ما‬ ‫فيام بعد ّ‬ ‫الذي يُعيق املصالحة بينها وبني الدولة واملجتمع؟‬ ‫مرزوق الحلبي‪ :‬ظهور “داعش” ومتدّد اإلسالم الراديكا ّيل‬ ‫السيايس أن‬ ‫العدمي فسح املجال دولياً لقوى اإلسالم‬ ‫و‪/‬أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العدمي‪ ،‬وأقصد‬ ‫تنتعش ألنها صارت ‪-‬مع ظهور اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫املجاهر مبوقفه ضد الدولة ال ُقطرية وضد النظام العاملي‬ ‫م ًعا سع ًيا إىل دولة الخالفة العادلة‪ ،‬وما رافقها من تنظريات‬ ‫نكوص ّية غيب ّية‪ .‬لكنّها ‪-‬كام النهضة يف تونس مث ًال‪ -‬عدّلت‬ ‫موقفها لتبدو غري عدمية وغري متط ّرفة‪ ،‬أي حيال التط ّرف‪،‬‬ ‫ومل تعدّله حيال املجتمع والدولة‪ .‬ا ّتضح من سلوك حركة‬ ‫النهضة أنها تقبل اللعبة تكتيكياً وليس كخيار اسرتاتيجي‪.‬‬ ‫مبقتلي بنيو ًيا يجهضان‬ ‫السيايس ُمصابة‬ ‫حركات اإلسالم‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫إمكانية أن تصبح قوى سياسية فاعلة إىل جانب القوى‬ ‫األخرة يف املجتمعات العربية اإلسالم ّية‪ ،‬تش ّد نحو العيش‬ ‫املعقول واملد ّين‪ .‬املقتل األ ّول أنها مل تتصالح مع التاريخ‬ ‫أي مع الحارض ومع ا ُملستقبل‪ -‬ألنها ال تزال أسرية النص‬‫املتقادم‪ ،‬واملد ّونة القارصة عن اإلحاطة بحركة التاريخ‬ ‫والتموضع فيها بأمان كقوة ُتنتج و ُتسهم بقسطها يف‬ ‫إدارة عجلته‪ .‬لننتبه إىل الخطاب االستعاليئ الذي ُتنشئه‬ ‫هذه الحركات يف مقابل التحديث وقوى العوملة والعلوم‬ ‫تؤصل لها يف‬ ‫وا ُملنجزات‪ .‬فإما أنها ال تع ّول عليها‪ ،‬أو أنها ّ‬

‫* "أخطأ اإلسالمويون حيث أخطأ‬ ‫القوميون ـ يف االعتقاد أن الهوية كافية‬ ‫لحل مآزق الحداثة والدولة واالجتامع"‬ ‫ّ‬ ‫املد ّونة اإلسالمية‪ ،‬وتدّعي أن أساسها يف اإلسالم مسترتاً‬ ‫النص القرآين! وجهان لعملة واحدة؛‬ ‫ومتواف ًرا لنا يف ّ‬ ‫التشاوف وعدم اإلقرار بالهزمية‪ ،‬والوهن والنكوص كمدخلٍ‬ ‫للفعل الجامعي السيايس وسواه‪ .‬يف هذه الحالة ال أتو ّقع‬ ‫من أصحاب هذا الخطاب سوى أن ُيراوحوا يف أماكنهم‪،‬‬ ‫يك ّررون وينقلون ويتّبعون‪ ،‬وال ُينتجون شيئاً‪ ،‬ألنهم‬ ‫مرتاحون إىل ما كانوا أنتجوه‪ ..‬بالفرضية طب ًعا من قبل!‬ ‫أما املقتل الثاين هو أن هذه الحركات عىل تفاوت مشاربها‪،‬‬ ‫مل تط ّور أي معادلة إلدارة االجتامع الحديث‪ .‬ليس لديها‬ ‫يف مدونتها أو نصوصها ما ّ‬ ‫يحل مشكلة الفقر‪ ،‬أو غياب‬ ‫التصحر والرتييف‪ ،‬وما إىل ذلك من‬ ‫املساواة‪ ،‬أو سريورات‬ ‫ّ‬ ‫مشاكل الدولة ال ُقطرية‪ّ .‬ربا ألن هذه الحركات ال تقبل‬ ‫بالحداثة نظاماً لالجتامع والدولة‪ ،‬وال تقبل مببدأ الفصل‬ ‫بني السلطات وبني الدين والدولة‪ .‬فهي مسكونة بوهم‬ ‫كاف إلدارة الحارض واقتحام ا ُملستقبل‪ .‬لكنها‬ ‫أن املايض ٍ‬ ‫تعدم يف واقع األمر الحلول العلمية العملية ملشاكل‬ ‫املجتمع العريب أو اإلسالمي‪ ،‬إذا شاءت‪ ،‬يف الراهن الحدا ّيث‪.‬‬ ‫خاصة أن الكون ميلء بالتحديات املفروضة عليها‪ .‬فهي‬ ‫ليست ضمن إمرباطورية إسالمية ممتدة “من‪ ..‬إىل‪،”..‬‬ ‫بل هي قوى سياسية من مجموعة موديالت وقوى‬ ‫نافذة سياسية واقتصادية عىل مستوى الكون ُتريد هي‪،‬‬ ‫أيضاً‪ ،‬أن تهندس الكون و ُتديره و ُتدير االجتامع يف هذا‬ ‫ال ُقطر أو ذاك‪ .‬مبعنى آخر؛ إن الهوية بوصفها وع ًيا مبن‬ ‫كاف لحصول‬ ‫أنت‪ ،‬كجامعة ورواية وتاريخ‪ ،‬رشط غري ٍ‬ ‫االقتدار والنهضة وبناء مجتمع عاقل ودولة معقولة‪.‬‬ ‫اإلسالميون يعتقدون أن الهوية اإلسالم ّية بوصفها ثقافة‬ ‫وأمناطوأنساقوروايةوتجربةكافية ّ‬ ‫لكليشء‪،‬مبافيهاللحكم‬ ‫وإدارة عملية االجتامع‪ .‬وهذا رضب من الغيب والتدليس‬ ‫سيايس ال متارسه بهذا القدر أو ذاك‪.‬‬ ‫ال أعرف حركة إسالم‬ ‫ّ‬ ‫السيايس مل يتع ّلم من أخطاء‬ ‫يبدو يل جل ًّيا أن اإلسالم‬ ‫ّ‬ ‫األحزاب القومية العربية التي انزلقت إىل فاشية أو استبداد‬


‫‪.....‬‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫متن ّقل نشهد آثاره ومتثيالته يف اإلقليم العريب عىل نحو‬ ‫يجعل من فرضياتنا عن انتصار الشعوب مج ّرد إرث تقادم‪.‬‬ ‫أما ثورة االتصاالت‪ ،‬وإن بدت لنا سالحاً يف أيدي الشعوب‬ ‫(انظر ما أشيع من خطاب بهذه الروح بعد ثورة الشعب‬ ‫املرصي ضد حكم مبارك) لكن لديها وجه آخر؛ وهو‬ ‫خصوصا عىل‬ ‫أنها وسائل نافذة للسيطرة واالستحواذ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الوعي وتصميمه عىل نحو ُيتيح ملراكز القوى “صناعة‬ ‫الرأي” و” ّيك الوعي” العام للناس وللجامعات عىل نحو‬ ‫يخدم قوى اإلنتاج ومراكز إنتاج العوملة وسريوراتها‪..‬‬ ‫أمر الفت أيضاً يف هذه السريورات هو أنه إذا كانت‬ ‫الحركة القومية العاملية مح ّر ًكا لبناء مجتمعات وتسوية‬ ‫رصاعاتها وتوتراتها الداخلية لضامن نوع من التجانس‬ ‫ّ‬ ‫وتشظي‬ ‫يف الدولة القومية‪ ،‬جاءت العوملة لتفكك‬ ‫املجتمعات يف إطار إضعاف الدولة القومية والقرار‬ ‫ليتيس لها تحقيق مصالحها وأهدافها‬ ‫الوطني واالجتامع ّ‬ ‫داخل الدول وعربها‪ .‬مبعنى أن سريورات العوملة املتعدّدة‬ ‫املستويات تعمل بشكل تلقايئ وبشكل مدروس عىل‬ ‫تفتيت الكيانات الدوالنية والتعامل معها كقطاعات‬ ‫ومجموعات استهالكية أو كمجموعات تستثمرها يف‬ ‫مشاريعها الكونية أو اإلقليمية‪ .‬فلننتبه إىل ظاهرة جيوش‬ ‫املرتزقة أو استعامل مجموعات ُمعدمة ‪-‬السوريني مث ًال‪ -‬يف‬ ‫حروب تركيا يف ليبيا أو يف حروب الروس يف مواقع أخرى‪.‬‬ ‫ما أريد قوله بناء عىل االستعراض آنف الذكر إن عوامل‬ ‫تفتيت الشعوب يف كل مكان أكرث من عوامل توحيدها‪.‬‬ ‫ال تنترص الشعوب بدون أن تط ّور وتف ّعل نوعًا من‬ ‫اإلرادة السياس ّية الجامعة‪ ،‬وهو ما تستهدفه مراكز القوى‬ ‫وتنجح كام نرى يف رضبه أو إبقائه تحت السيطرة‪.‬‬ ‫يف كل هذه السريورات تتبدّى الشعوب واملجتمعات‬ ‫العرب ّية ّ‬ ‫هشة ولقمة سائغة خاصة وأنها مستهدفة‬ ‫ألن أراضيها ُمرتعة باملوارد واملصالح كالتي أرشنا إليها‪.‬‬ ‫أشري بناء عىل دراستي وتأماليت يف فكرة الدولة إىل أنني يف‬ ‫سبيل االستنتاج بأن سريورات العوملة لن ترتدد يف شطب‬ ‫دول وتغيري خرائطها وحدودها‪ ،‬ألنها متلك القدرة عىل ذلك‪.‬‬ ‫صارت الدولة يف كثري من األحيان ظاهرة اسمية ال فعلية؛‬ ‫سورياوالصومالوالعراقوليبياواليمنولبنان‪،‬مث ًال‪.‬نحنعىل‬

‫العدد‬

‫* “علينا االنتباه أن سريورات العوملة‬ ‫تحمل كل عوامل تفكيك نسيج القوميات‬ ‫والجامعات عكس الفكرة القومية التي‬ ‫حملت عوامل الوحدة والتجميع‪ ،‬وعليه‬ ‫فإن مهامت الشعوب واملجتمعات ال‬ ‫سيام امل ُستضعفة صارت أصعب”‬

‫لقاءات‬

‫منصة الفكرة القومية‬ ‫توحش كام يف سوريا اآلن‪ ،‬من ّ‬ ‫أو ّ‬ ‫ماض مجيد‪ .‬وهو كحركات‬ ‫والتعويل عىل التاريخ بوصفه ٍ‬ ‫سياسيةاليش ّذعنالقاعدةاملعروفةعندالفوضوينيالثوريني‬ ‫الذين قالوا‪ ،‬ونقول معهم‪ ،‬إن السلطة ُمفسدة وكذلك املال‬ ‫طاغ‪ .‬فكيف إذا اجتمعا معا؟ وهو ما‬ ‫ألن فيهام إغراء ٍ‬ ‫حصل يف تونس وغريها‪ .‬فاإلسالمويون برش مثلنا؛ ُتغريهم‬ ‫السلطة واملال وال ِنعم األخرى‪ .‬هم من طينة البرش ولو‬ ‫تل ّفعوا بعباءات الشيوخ وعاممئهم وكرروا العظات ُ‬ ‫وخطب‬ ‫الجمعة عىل مدار الكرة األرضية‪ .‬وتونس تجربة ُتثبت ذلك‪.‬‬ ‫وقد رأى الناس ما رأوا فعادوا إىل االحتجاجات والشوارع‪.‬‬ ‫للتلخيص أقول‪ :‬ال ُيكن لهذه القوى أن ُتدير مجتمعاتها‬ ‫بنص الهو ّيت‪ .‬ستفشل يف ّ‬ ‫كل مرة ُتحاول ذلك‪ .‬ال مناص‬ ‫من مصالحة تاريخية مع الذات املوجودة اآلن “خارج‬ ‫التاريخ”؛ مبعنى أنها مفعول بها غري فاعلة فيه‪ُ ،‬مستهلكة‬ ‫للتحوالت وال ُتنتجها‪ ،‬يقع عليها الفعل ف ُينهكها أو يحرشها‬ ‫أو يستغ ّلها‪ .‬إذا مل تعرتف بهذا الواقع فمن املستحيل أن‬ ‫تغادره إىل موقع أفضل‪ .‬وهذا يعني بقاء املجتمعات التي‬ ‫ُتديرها أو ُتشارك يف إدارتها يف مواقع متأخرة فيحرض سؤال‬ ‫شكيب أرسالن من مطلع القرن الفائت‪ ،‬من جديد‪ :‬ملاذا‬ ‫ّ‬ ‫تأخر املسلمون وتقدّم غريهم؟ ال ب ّد من الخوض يف تجربة‬ ‫إدارة االجتامع والدولة من خالل العقل البرشيّ واملوديالت‬ ‫التي أنتجتها الحركات املدن ّية يف العامل‪ .‬والتجارب الناجحة‬ ‫ليست قليلة يك نتع ّلم منها‪ ،‬أو يك نقتبسها‪ .‬أما نظريات‬ ‫املالءمة وتعريب هذه النامذج فقد ثبت لنا أن القوميني‬ ‫العرب واإلسالميني العرب ُي ّ‬ ‫فضلونها يك ّ‬ ‫يتستوا عىل الهروب‬ ‫من استحقاقات الدميقراطية مث ًال أو تبعات الفكرة الليربالية‪.‬‬ ‫هل ستختار هذه الحركات بوعي وإرادة‬ ‫الخروج من مد ّونتها والرشوع برؤية العامل بعقل‬ ‫بارد ومنهجية اسرتاتيجية ُتح ّررنا وتح ّررها؟‬ ‫‪ .3‬كربنا عىل فرضيات تقول بانتصار الشعوب وإراداتها‪..‬‬ ‫لكننا حيال محنة حقيقية دموية‪ ،‬ماحقة للشعوب‬ ‫العرب ّية التي انتفضت وخرجت من الجوع شاهرة‬ ‫سيفها‪ ،‬مجتمعات ّ‬ ‫التوحش‬ ‫تشظت ودول تف ّككت و ّ‬ ‫ُرص التاريخ العريب عىل تزويدنا‬ ‫هو سيد املوقف‪ ..‬ملاذا ي ّ‬ ‫مبشاهد املوت والتهجري‪ ،‬ما الذي يشدّنا إىل هناك؟‬ ‫مرزوق الحلبي‪ :‬هذه فرضيات تغذت من عوامل‬ ‫تاريخية كانت فاعلة بقوة‪ .‬حركات تح ّرر الشعوب من‬ ‫االستعامر وقبلها الثورات السياسية االجتامعية الكربى‬ ‫(الثورة الفرنسية وتلك الروسية وتلك األمريكية) والفكرة‬ ‫الدميقراطية الليربالية والحركات القومية التي نشأت ومنت‬ ‫منذ القرن السابع عرش وأقامت أقطارها ودولها واجتامعها‪،‬‬ ‫رغم املصاعب والحروب والرصاعات املريرة‪ .‬يف هذه‬ ‫العوامل ما ُينتج آماالً وأحالماً وفرضيات “إن الشعوب‬ ‫إذا ه ّبت ستنترص”‪ّ .‬إل أن هذا اإلرث من الفرضيات وإن‬

‫بقي ّ‬ ‫غي من طبيعته مع الشعوب‪.‬‬ ‫وظل معنا لكن التاريخ ّ‬ ‫فنحن لسنا بصدد حقبة الثورات والتحوالت التي قادتها‬ ‫الربجوازية يف مواجهة الرأساملية ضمن ما اعتربناه الحداثة‪،‬‬ ‫هذه الحقبة انتهت‪ .‬لقد دخلنا من عقود يف حقبة العوملة‬ ‫املتسارعة‪ ،‬وانتقلنا من الحداثة إىل ما بعدها أو إىل ما‬ ‫ّ‬ ‫سمها زيغموند باومن بـ “الحداثة السائلة” ‪-‬ولديه أسبابه‪-‬‬ ‫حداثة زئبق ّية ّ‬ ‫تنسل من املكان وتهرب خارج الحدود‪ .‬إننا‬ ‫ُ‬ ‫حيال ما بعد القومية والدولة القطرية‪ ،‬وسيكون عىل‬ ‫تغي من فرضياتها يف حركتها املتط ّلعة إىل‬ ‫الشعوب أن ّ‬ ‫النسبي واملساواة النسب ّية‪ .‬يعني إننا ال نستطيع‬ ‫العدل‬ ‫ّ‬ ‫أن نراهن عىل تحويالت تفرضها الطبقة الربجوازية عىل‬ ‫الطبقة الرأساملية ألننا حيال هيكلية جديدة للطبقات‪.‬‬ ‫“يك ال ُننهك القارئ باملصطلحات سأكتفي مبحاولة لتفسري‬ ‫العوملة‪ .‬وهو املصطلح املفتاح لفهم التاريخ بوصفه رصاعًا‬ ‫بني قوى‪ .‬العوملة يف جوهرها هي حركة بدون معوقات‬ ‫السلع والخدمات وخطوط‬ ‫وأنظمة حامية وطنية لكل من ِ‬ ‫اإلنتاج والعاملة واملهارات ورأس املال (انظر البورصات)‬ ‫واألفكار واألمناط وال ِق َيم‪ .‬هذه الشبكة من التقاطعات‬ ‫الصغر‪،‬‬ ‫والعمليات االقتصادية الهائلة ال ِك َب واملتناهية ِ‬ ‫التي توازيها يف الحجم عمليات سياسية تخلق أمام أعيننا‬ ‫عاملاً جديداً تفعل فيه فعلها ثورة االتصاالت والتكنولوجيا‬ ‫العالية‪ .‬هذه السريورة التي اندفعت بقوة بعد انتهاء‬ ‫ونحفت مفهوم‬ ‫الحرب الباردة أضعفت الشعوب والدول ّ‬ ‫السيادة الوطن ّية ونفاذ القرار الوطني وكادت ُتفرغه‬ ‫من مضمونه (وهو ادّعاء يورغن هربماس آخر ّ‬ ‫منظري‬ ‫مدرسة فرانكفورت) بل أفرغته متا ًما يف املجتمعات‬ ‫ا ُملستضعفة‪ .‬القوى املتن ّفذة يف زمن العوملة وفكرة العوملة‬ ‫ذاتها وقوى الدفع فيها تش ّد العامل شدًّا إىل استغالل‬ ‫مواطن الضعف والهشاشة عىل مدار الكرة األرضية‪.‬‬ ‫حركة أخرى موازية وناتجة عن العوملة ح ّررت العامل من‬ ‫كوابحه ومواثيقه ومعاهداته الكابحة للعنف واالستغالل‬ ‫والعدوان‪ .‬فقد انتهت حربان كونيتان إىل سلسلة من‬ ‫القوانني والقواعد واملواثيق التي بدا العامل عىل قواه وأقطاره‬ ‫تم استخالصه‪.‬‬ ‫قاب ًال بها كجزء من الدرس اإلنساين الذي ّ‬ ‫سلسلة من الفظائع وحروب اإلبادة والجرائم ضد اإلنسانية‬ ‫استم ّرت حتى ُمنتصف القرن العرشين‪ ،‬األمر الذي دفع‬ ‫الفكر السيايس واالجتامعي إىل ابتداع املواثيق والقوانني‬ ‫وسلسلة ال نهائية من النُظم املتفق عليها للح ّد من كل‬ ‫هذا‪ .‬وأرانا اآلن ما بعد هذه الكوابح وهذه الضوابط‪ ،‬وأن‬ ‫العامل ّ‬ ‫فك أرس نفسه منها واندفع بفعل العوملة إىل مرحلة‬ ‫جديدة من الرصاع عىل املوارد واملواقع وخطوط املالحة‬ ‫والتجارة والبحار واملضائق واملمرات البحرية ومصادر‬ ‫الطاقة واألسواق‪ ..‬وهذا ك ّله يف صلب سريورة العوملة‪.‬‬ ‫انتقلنا إىل رصاع مكشوف حول ما ذكرت‪ ،‬وهو رصاع‬

‫‪5‬‬


‫طلعنا عاحلرية حتاور الكاتب مرزوق احلليب‪:‬‬

‫‪6‬‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 7 / 17‬‬ ‫لقاءات‬

‫بعد مئة عام وأكرث عن اتفاقيات سايكس ‪ -‬بيكو (‪،)1916‬‬ ‫وقد رأينا أنه مل يبقَ منها سوى الخطوط عىل الخريطة‪.‬‬ ‫إثبات عىل أننا يف حقبة أخرى يحدث فيها كل يشء‪،‬‬ ‫ويتح ّرك التاريخ عىل حساب الشعوب وبهزميتها ‪ -‬مؤ ّقتا‪.‬‬ ‫‪ .4‬كيف تنظر إىل العالقة بني “املوضوعي” و”الذايت”‬ ‫وبني “الداخ ّ‬ ‫“الخارجي” فيام حصل‪ ،‬أو هل‬ ‫يل” و‬ ‫ّ‬ ‫أمكننا الفصل بني العوامل الذاتية ‪-‬الثقافية السياس ّية‬ ‫االقتصادية واملعرفية‪ -‬وبني العوامل الوافدة من الخارج؟‬ ‫تم فهو‬ ‫مرزوق الحلبي‪“ :‬الفصل بني هذه العوامل إذا ّ‬ ‫اصطناعي ولغرض النقاش‪ .‬ألن ّ‬ ‫كل هذه العوامل‬ ‫فصل‬ ‫ّ‬ ‫تتداخل أكرث وأكرث مع سريورات العوملة وتقاطعاتها‬ ‫الالنهائ ّية‪ .‬مع هذا علينا كعرب أن نسأل أنفسنا أسئلة‬ ‫صعبة‪ .‬أن ننقد ذاتنا الجامعية وثقافتنا ونع ّرضهام للحفر‬ ‫الذي ال ُيحايب‪ .‬لقد فشلت النُخب العرب ّية يف العموم يف‬ ‫إدارة الدولة واالجتامع املد ّين ألسباب تتصل بها وأخرى‬ ‫برشوطها÷ وهي رشوط اإلقليم أو السياسات الدولية‪.‬‬ ‫فشلت ألسباب تتصل بها وبثقافتها‪ :‬عوامل ذاتية‪ .‬فشلت‬ ‫يف عملية بناء الحياة املدن ّية التي ال تقوم ّإل بتكريس‬ ‫املدينة والحارضة‪ .‬ورأينا أن العكس هو الذي حصل‪ .‬فقد‬ ‫تر ّيفت ا ُملدن العربية بسبب من الهجرة إليها من األرياف‬ ‫واملناطق النائية‪ .‬صحيح أن الحركة حصلت يف نيويورك‬ ‫ولندن وباريس وطوكيو‪ ..‬لكنها توازت مع سياسات وطنية‬ ‫متعددة املستويات ملعالجتها تالفت انعكاساتها‪ ،‬وهو‬ ‫ما مل يحصل يف الحالة العربية‪ .‬إن حاالت الهدر للموارد‬ ‫يف املجتمعات العربية ظ ّلت عالية بكل املعايري‪ ،‬وهو ما‬ ‫يعني أن املال العام الذي من املفروض أن ُيستثمر يف‬ ‫الدولة وصيانتها وتطوير خدماتها و ُبنيتها‪ ،‬مل يصل إىل‬ ‫تم تهريبه إىل‬ ‫غاياته‪ ،‬بل دخل إىل حسابات شخصية أو ّ‬ ‫الخارج‪ .‬كام أن املوارد البرش ّية العربية تم هدرها كجزء‬ ‫من إهدار اإلنسان العر ّيب وجعله رهينة االستبداد أو‬ ‫مشاريع شمولية أو قهرية قابضة أو قاتلة‪ ،‬كام يف سوريا‪.‬‬ ‫أمر آخر هو اإلرادات السياسية التي ذهبت يف اتجاهات‬ ‫ال ّ‬ ‫متت بصلة إىل مفهوم دولة املواطنني واملؤسسات‬ ‫والحداثة‪ .‬أجزم أن اإلرادات السياسية مل تص ّوب عىل بناء‬ ‫الدولة وتطويرها بقدر ما ص ّوبت إىل تحقيق مصالحها‬ ‫هي ولو عىل حساب شعوبها ومقدرات هذه الشعوب‪ .‬يف‬ ‫يتم تطوير الصناعات التقليدية وال تحديثها‪.‬‬ ‫سوريا مث ًال‪ ،‬مل ّ‬ ‫تتم حركة التمدين ّإل عىل مقاسات الطغمة الحاكمة‬ ‫ومل ّ‬ ‫وهي طغمة طائفية وإن قالت بالعروبة والقومية‪.‬‬ ‫األنظمة العربية عىل العموم بدل أن توضح غاياتها‬ ‫ومناهجها التحديثية املدن ّية؛ املواطنة واملساواة أمام‬ ‫القانون والحقوق الدستورية للناس وتكافؤ الفرص‬ ‫للجميع‪ ،‬فقد م ّوهتها وجعلتها ُمبهمة بارتكازها م ّرة عىل‬

‫التد ّين الشعبوي‪ ،‬وم ّرة عىل العشرية والطائفة والهو ّيات‬ ‫املناطق ّية والعرق ّية والدين ّية‪ ..‬هذه ال ُبنى التقليدية تعززت‬ ‫وازدهرت‪ ،‬األمر الذي أفىض إىل والءات متعددة للفرد؛‬ ‫فلم تعد الدولة أ ّمه وأباه سوى كهدف لقمعها ومباحثها‪.‬‬ ‫راعني من قراءايت اآلخرية وتأماليت أن أكتشف أن كثرياً‬ ‫مام ُقلناه عن “النهضة العربية” و”مطالعها” يف نهايات‬ ‫صح‬ ‫القرن التاسع عرش كان غري دقيق وغري علمي إذا ّ‬ ‫التعبري‪ .‬لقد حصل تضخيم لهذه الحالة فوق حقيقتها‬ ‫التاريخية‪ .‬فخطاب النهضة طال فئات محدودة جداً يف‬ ‫املراكز العربية خاصة ألن انتشار الكتب والجرائد كان‬ ‫محدوداً؛ بضع آالف نسخة من أوسع الجرائد انتشا ًرا يف‬ ‫مرص‪ ،‬وأن معظم الناس كانت أ ّمية ال تتداول الخطاب‬ ‫وال مفرداته‪ .‬وخاصة أن املجتمعات العربية برمتها كانت‬ ‫يف غالبيتها الساحقة مجتمعات زراعية وريف ّية‪ .‬وال يزال‬ ‫بعضها كذلك أو هي انتقلت إىل مجتمعات تعيش من‬ ‫يغي من ال ُبنى االجتامعية‬ ‫اقتصاد ريعي غري منتج وال ّ‬ ‫التقليدية‪ .‬ما دامت النُخب قرأت تاريخها وأوضاعها‬ ‫قراءة خاطئة أو منقوصة‪ ،‬فإننا لو س ّلمنا مبشاريعها‬ ‫النهضوية فإنها سوف ّ‬ ‫تضل التطريق إىل ُسدرة املنتهى‪.‬‬ ‫يف مستوى آخر‪ ،‬مل تستطع األنظمة واملجتمعات العربية‬ ‫من إدارة عالقاتها بالعامل بشكل نافع كنتيجة مبارشة‬ ‫لعدم ُقدرتها عىل إدارة نفسها يف الداخل‪ .‬أي أن الخلل‬ ‫الداخيل هو يف نظر القوى الخارجية فرصة ُيكن النفاذ‬ ‫منها إىل تحقيق مصالح تجارية واقتصادية واسرتاتيجية‪.‬‬ ‫ألن جوهر املجتمعات العربية يف ّ‬ ‫ظل اإلسالم كخطاب‬ ‫ومد ّونة وعقلية وموديل‪ ،‬ظ ّلت املجتمعات العربية‬ ‫متخ ّلفة عن الركب‪ .‬فقد أدت هذه العوامل إىل فقر‬ ‫معريف‪ ،‬ال س ّيام يف العلوم االجتامعية العملية التي مل‬ ‫تتط ّور ّإل قلي ًال‪ .‬باملقابل‪ ،‬وخال ًفا لحركة النقل عن الغرب‬ ‫يف بداية النهضة العربية‪ ،‬امتنع العرب عمو ًما واإلسالميون‬ ‫تحديداً عن التع ّلم من املركزية الغربية ألسباب هويتية‬ ‫وتاريخية ممتدّة منذ الحمالت الصليبية‪ .‬وهو أمر‬ ‫أفىض إىل فقر يف هذه العلوم واملعارف‪ ،‬وإىل نقص‬ ‫شديد يف املوديالت واآلليات الرضورية لهيكلة املجتمع‬ ‫واالقتصاد وإدارة االجتامع‪ .‬فكان النكوص إىل استعامل‬ ‫محصلة حاصل‪.‬‬ ‫العنف أو موديل “األنظمة الشمولية” ّ‬ ‫تصح الرؤية علينا أن نشري إىل أن النُخب العربية هي‬ ‫يك ّ‬ ‫املسؤول األول واألخري ّ‬ ‫عم ّ‬ ‫حل بشعوبها خاصة بعد‬ ‫االستقالل‪ .‬إن صانع السياسات يف العامل العر ّيب فشل وأخفق‬ ‫وع ّلق األسباب عىل شامعة الغرب أو القوى الخارج ّية‪.‬‬ ‫فشل الخيار الدميقراطي هو فشل عر ّيب يف سياقنا هذا‪،‬‬ ‫ألن الدميقراطية ظ ّلت بعيدة عن ذهنية هذه النُخب التي‬ ‫واجهت االستعامر بعقلية ثورية انقالبية ال تحويلية‪ .‬قوامها‬

‫* “ال ُنخب العرب ّية عىل مشاربها أخفقت يف‬ ‫استثامر حقبة االستقالل وما بعد االستعامر‬ ‫ال س ّيام يف التأسيس لبنية اقتصادية تحمل‬ ‫املجتمعات إىل مواضع األمن واالستقرار”‬ ‫العنف أو حرق املراحل‪ .‬إقامة كل هذه املسالخ البرش ّية‬ ‫متوحشة ض ّد الناس من درعا‬ ‫يف سوريا وشنّ حروب إبادة ّ‬ ‫حتى إدلب‪ ،‬هو يف األساس من طبيعة النظام الشمويل‪ .‬أو‬ ‫هي من طبيعة نظام أق ّلوي يحرق البلد وأهلها ك ّلام الحت‬ ‫بارقة تغيري يف سلطته‪ .‬وهذه الظواهر تستعملها الدول‬ ‫الخارجية وقوى العوملة لتحقيق مصالحها‪ .‬وهي تستثمر‬ ‫الفرص إذا نشأت وقد تلجأ إىل خلقها إذا استطاعت‪.‬‬ ‫مبعنى أنها ليست بريئة من دم الشعوب العربية ومآسيها‪.‬‬ ‫لقد اعتادت الدول العربية بعد االستقالل عىل اعتامد‬ ‫خطط خمسية ورباعية وعرشية وما إىل ذلك يف إطار‬ ‫مناهج وموديالت اجتاحت العامل بعد االستعامر‪ .‬إال‬ ‫أنها يف غالبيتها ظ ّلت بدون بنية اقتصادية متينة أو قابلة‬ ‫لحمل املجتمع بأمان‪ .‬مل يحصل التحويل االقتصادي‬ ‫املأمول الذي يضمن مستوى معيشة معقول وتوزيع‬ ‫الرثوات‪ ،‬التي قد تكون محدودة‪ ،‬عىل نحو عادل ولو‬ ‫بشكل نسبي‪ .‬لقد أرادت النُخب الحاكمة أن تضمن‬ ‫مصالحها وسؤددها وأن ُتخفي فشلها وإخفاقاتها‬ ‫التاريخية بالقهر والعنف‪ .‬وهو ما نحصده إىل اآلن‪.‬‬ ‫‪ .5‬ينحو البعض يف العامل العريب ويف خارجه إىل اتهام‬ ‫الثقافة العربية بقصورها‪ ،‬إىل الحفر فيها لكشف أسباب‬ ‫العطب‪ .‬يذهب آخرون أبعد من ذلك إىل نوع من جلد‬ ‫الذات وتحقريها وتبخيسها وإنهاء كل نقاش بالقول‪:‬‬ ‫“ألننا عرب”‪“ ،‬ألننا مسلمون” لن تقوم لنا قامئة!‬ ‫مرزوق الحلبي‪ :‬أنا شخص ًّيا أمقت لعن الذات وأعتربه‬ ‫مقت ًال من مقاتل العر ّيب ا ُملنفعل بسبب من التخ ّلف‬ ‫والقهر‪ .‬وأرى ذلك من نتائج الشعور بالقهر حيال العامل‬ ‫واآلخر‪ .‬من األنساق الذهنية القابضة يف حاالت القهر‪.‬‬ ‫هي نتيجة أن تفقد الثقة بأنك برش كباقي البرش‪ ،‬وأنك‬ ‫قادر مثلهم‪ ،‬وأن ال يشء ينقصك‪ ،‬وأن مجتمعي يستحق‬ ‫وجدير وقادر‪ .‬حالة هي نتيجة قرون من الشعور بالقهر‪.‬‬ ‫وجه آخر من هذه النسق الذهني الفكري العميل هو‬ ‫تلك النزعة االستعالئية تجاه الغرب أو تجاه كل ما هو‬ ‫إسالمي‪ .‬لعن الذات ُيعفي صاحبه من أي‬ ‫ليس عر ّيب أو‬ ‫ّ‬ ‫واجب وفعل‪ .‬واالستعالء‪ً ،‬‬ ‫أيضا‪ُ ،‬يعفيه من بذل الجهد‬ ‫إلحداث تغيري‪ .‬فاالستعالء مينحه شعوراً بالتوازن حيال‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫نناقش من خالل علم اجتامع وعلوم سياسة حقبة العوملة‪.‬‬ ‫لفت نظري يف عالقايت الشخصية مع مثقفني عرب‪ ،‬ويف‬ ‫الخطاب الثقايف العريب‪ ،‬أن مثقفني غري إسالميني علقوا يف‬ ‫التوجهات اإلسالموية القائلة إن املسلمني أفضل من‬ ‫فخ ّ‬ ‫سواهم‪ ،‬ألنهم مسلمون فقط‪ .‬أل ّنهم يدينون بدين اإلسالم‪،‬‬ ‫يحجون ويصومون ويؤدون الفرائض! من فهم كهذا‬ ‫وألنهم ّ‬ ‫للذات والوجود لن نتقدّم سوى إىل نكبة بعدها نكسة‪.‬‬ ‫أنت لست أفضل ّ‬ ‫ألنك مسلم‪ ،‬وألن طابع املجتمع إسالمي‪،‬‬ ‫وال هذا االعتبار ُيح ّررك من واجب بذل الجهد الواعي‬ ‫واملدروس إلنتاج العيش اآلمن واالجتامع املعقول‪ .‬وبالقدر‬ ‫نفسه أنت لست عاجزاً وال مقهو ًرا أل ّنك مسلم‪ ،‬ويف مجتمع‬ ‫إسالمي الطابع وتدين باإلسالم كام ُيحاول إقناعنا البعض‪.‬‬ ‫ال مناص للعريب كجامعة من مواجهة جرحه الرنجيس‪،‬‬ ‫كام وصفه الصديق الراحل جورج طرابييش‪ .‬ال ُيكنه ّإل‬ ‫أن يخضع طوعًا ملقاربات فرويد وثورته يف فهم اإلنسان‬ ‫لذاته‪ .‬وكام أرشت ساب ًقا‪ ،‬العريب كباقي البرش ال ّ‬ ‫أقل وال‬ ‫أكرث‪ .‬من هنا تبدأ املسرية‪ .‬وح ّبذا لو طالت حقول حياته‬ ‫ك ّلها ال س ّيام لغته وثقافته القارص ْتي يف كل ما يتّصل‬ ‫مبعارف الحداثة واالجتامع الحديث املع ْومل‪ ،‬وما بعدها ال‬ ‫س ّيام ما يتّصل منها باالجتامع الحديث والدولة الحديثة‪.‬‬

‫‪97‬‬

‫* “فرضية أننا خري أ ّمة أُخرجت للناس‬ ‫تشبه فرضية أننا األفضل ألننا مسلمون‬ ‫وكالهام رضب من الغيب والهرطقة”‬

‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫اآلخر‪ ،‬وبأن األمور عىل أفضل ما يكون‪ .‬ولننتبه كيف‬ ‫تتحول نقائص العريب ك ّلها إىل فضائل ضمن هذا الخطاب‪.‬‬ ‫ما يبقى هو فعل حفر جاد يف ثقافة العريب وهويته وإرثه‬ ‫ومد ّونته‪ .‬عليه أن يتخ ّلص من شعور القهر أوالً‪ .‬وهي‬ ‫عملية لن تحصل بفعل خارجي بل بفعل ذا ّيت‪ .‬أن يعرتف‬ ‫بنواقصه وإخفاقاته كشعب ومجتمع وديانة وثقافة‪ .‬أن‬ ‫يتصالح مع ذاته ويرممها ويحميها من الوقوع يف رشك‬ ‫التأرجح بني نقيض ونقيض‪ .‬هذا لن يحصل دون مواجهة‬ ‫بني الفكرة العلامنية والدين أو بدون إصالح ديني شامل‪.‬‬ ‫صحيح أن فالسفة مسلمني وعر ًبا حاولوا واقرتحوا وج ّربوا‪..‬‬ ‫لكن املؤسسة العربية ظ ّلت مؤمتتة بنظام العقلية اإلسالمية‬ ‫والتاريخ العريب املجيد‪ .‬ما حصل للفكر اإلسالمي حصل‬ ‫أيضا‪ .‬هناك وهنا ّ‬ ‫للفكر القومي العريب‪ً ،‬‬ ‫ظل الخطاب‬ ‫ا ُملهيمن خطابا سلف ًّيا ماضوياً‪ .‬من هنا دعويت الرصيحة إىل‬ ‫القطيعة التامة مع الرتاث ولو لحقبة زمنية‪ .‬فهذا االشتغال‬ ‫امل َريض بالرتاث وهذا االنغامس باملد ّونة كمصدر إلنتاج‬ ‫الحلول واملخارج كار ّيث‪ ،‬ألنني ال أرى أي طائل من هذا‬ ‫االنشغال ّإل إذا متحور يف تبيان املعوقات وأسباب الفشل‪.‬‬ ‫التعامل مع الرتاث كسبب للهزائم ُيفيدنا‪ ،‬أما غري ذلك فهو‬ ‫تكريس للتخ ّلف والقهر‪ ،‬وتكريس العرب مضحكة العرص‪.‬‬ ‫علينا أن نعرتف أن العطب يف الجذر‪ .‬يف الثقافة التي مل‬ ‫العبايس‪.‬‬ ‫تتجدّد معارفها وال علومها ومعارفها منذ العرص‬ ‫ّ‬ ‫أكرث من ألف عام من التكرار والنقل واال ّتباع‪ .‬لنأخذ مثالً‬ ‫اللغة العربية كم هي جامدة لدى املؤسسة الرسمية‬ ‫اللغوية والسياسية‪ .‬كم هي مغلقة أمام أهلها‪ .‬كم هو‬ ‫معجمها فقري ومحدود األفق‪ .‬كم هو التعامل معها ُيشبه‬ ‫تعامل املجتمعات العربية مع املرأة؟ هناك رضورة لتجديد‬ ‫املعارف العربية من خالل اعتبار معرفة اإلنسان معرفة‬ ‫للعرب‪ ،‬أيضاً‪ ،‬وال ضري يف استخدامها يف إدارة االجتامع‬ ‫وليس فقط يف تحقيق رفاهية األمراء والطواغيت كام‬ ‫هو حاصل‪ .‬عىل العرب أن يدخلوا التاريخ من جديد عىل‬ ‫أنهم كباقي شعوب األرض ال ّ‬ ‫أقل وال أكرث‪ .‬ليسوا “خري‬ ‫أ ّمة ُأخرجت للناس” لكنهم ليسوا ّ‬ ‫أقل من أي أ ّمة أخرى”‬ ‫‪ .6‬املخرج‪ ..‬سؤال املليون دوالر‪ ،‬أو السؤال الذي يج ّره‬ ‫العرب منذ مطالع النهضة يف أواخر القرن التاسع عرش‪،‬‬ ‫أي منذ ظهرت مالمح أ ّمة ومجتمعات عىل عتبة الحداثة؟‬

‫مرزوق الحلبي‪ :‬هي محاولة منّي لقول ما ال ُيقال يف‬ ‫ُ‬ ‫خضت يف السنوات األخرية يف تجربة شخص ّية جدًا‬ ‫العادة‪.‬‬ ‫ومع ّلمة جدًا‪ .‬مت ّثلت يف التعاون مع مؤسسة بريطانية‬ ‫ّ‬ ‫بالتدخل يف مناطق النزاعات تعتمد منهجيات‬ ‫متخصصة‬ ‫االسترشاف ودراسة املستقبالت‪ .‬استكملت عندها يف‬ ‫محاولة إلطالق مرشوع تجريبي يف فلسطني الداخل‪.‬‬ ‫عندما أردت تطبيق ما درست وجدت أن خرية أبناء‬ ‫مجتمعي تعارض قبول لعب تخطيط املستقبل ودراسته‬ ‫ورسم سيناريوهاته‪ ،‬عىل اعتبار أنهم جميعاً ‪-‬وأنا معهم‪-‬‬ ‫كنّا مص ّوبني عىل ّ‬ ‫حل الدولتني كمنظومة سياسية وفكرية‬ ‫وذهنية‪ .‬مل نستطع تجاوز حدود هذا النسق‪ّ ،‬‬ ‫غل يف‬ ‫اللقاءات الخامسة والسادسة‪ .‬يومها‪ ،‬أدركت كم هي‬ ‫األنساق السياسية‪ ،‬وفرضيات العمل املتقادمة تعيق مج ّرد‬ ‫التفكري يف ا ُملغاير ويف املمكن املختلف ويف املستقبل‪ .‬مبعنى‬ ‫أن النُخب العربية أسرية فرضيات تقادمت وأن عقائدها‬ ‫وأيديولوجياتها صارت كومة من الخردة تربض عىل صدرها‬ ‫وفكرها ولغتها‪ ،‬ينبغي التخ ّلص منها يك تتح ّرر من وهمها‪.‬‬ ‫يف ختام تجربتي ا ُملشار إليها انتهينا إىل تقرير اسرتاتيجي‬ ‫يقوم عىل رسم سيناريوهات ممكنة للرصاع اإلرسائييل‪-‬‬ ‫الفلسطيني (العريب)‪ .‬نتبناه بلغة اسرتاتيجية باردة تأيت‬ ‫من فوق العقائد واإليديولوجيات‪ ،‬وتعتمد العقل العلمي‬ ‫املف ّكر‪ ،‬وقاعدة بيانات جافة تتجاوز خطاب األمنيات‬ ‫والرغائب‪ .‬حدّدنا نقاط الضعف ومكامن القوة‪ ،‬وخارطة‬ ‫ميسة وأخرى معيقة إىل آخر‬ ‫األعداء واألصدقاء‪ ،‬وعوامل ّ‬ ‫التفاصيل‪ .‬عندما قرأنا ما وضعناه شعرنا شعو ًرا جامع ًيا‬ ‫نصنا العقالين مح ّرراً لنا بامتياز‪ .‬وخلصت‬ ‫بالتح ّرر‪ .‬كان ّ‬ ‫إىل كتابة مقال بعنوان مشابه هو “النص االسرتاتيجي‬ ‫نصا تحرير ًيا بامتياز”‪ .‬للقول إن إعامل العقل‬ ‫بوصفه ًّ‬ ‫صح التعبري‪ -‬ح ّررنا من االنفعاالت واعتبارات‪:‬‬ ‫الجاف ‪-‬إذا ّ‬ ‫نحب ونكره ونتمنى‪ ،‬وجعلنا نعرف ما ُنريد وما نستطيع‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكيف نفعل ذلك‪ .‬باملناسبة‪ ،‬عندما أردت تحضري مواد‬ ‫مساعدة ملجموعتي باللغة العربية وجدت مقاالً واحداً‬ ‫مرتج ًام عن اإلنكليزية يتحدّث عن علم االسترشاف‪.‬‬ ‫رسين كثرياً أن أكتشف قبل عامني مجلة “االسترشاف”‬ ‫و ّ‬ ‫الصادرة عن معهد الدوحة‪ .‬أعرتف أنني قرأت ثالث‬ ‫مجالت كاملة منها يف أسبوع واحد‪ .‬لقد و ّلدت لدي ً‬ ‫أمل‬

‫خاصة‪ ،‬وأنني أعرف مناذج إلبداعات عرب ّية يف ّ‬ ‫كل مجال‬ ‫ومجال مبا فيها علم االجتامع‪ ،‬لكنها إبداعات ال تزال فردية‬ ‫متباعدة ومل تتح ّول إىل “ثقافة” و”خطاب” معتمد ْين‪.‬‬ ‫“ال مناص من إعادة العقل العريب إىل الواجهة كمح ّرك‬ ‫أساس؛ وال أقصد العقل الذي تحدّث عنه الجابري‪ ،‬بل ذاك‬ ‫العقل البديل للغيب والشعوذة‪ ،‬العقل املد ّبر والفاعل‬ ‫والقادر‪ ،‬البديل للنصوص واملقدّس واملد ّونة‪ ،‬العقل البرشي‬ ‫البديل للخالص اإللهي الساموي‪ ،‬العقل العلمي العم ّ‬ ‫يل‪،‬‬ ‫البديل لعقل أسري النص والقصص والخرافة‪ .‬العر ّيب يف نهاية‬ ‫املطاف بحاجة إىل السؤال وليس إىل اإلميان‪ .‬كأن ثورة الشك‬ ‫قفزت فوق العريب ّ‬ ‫فظل عىل إميانه‪ .‬ولفت انتباهي أن‬ ‫الثقافة العربية يف العرص الحديث تو ّقفت عند الحداثة ومل‬ ‫تعتمد نقد الحداثة‪ .‬تو ّقفت عند الدولة القطرية ومل تخض‬ ‫يف تجربة نقدها وتطويرها‪ .‬حتى اآلن ناقشنا من داخل‬ ‫علم اجتامع وسياسة الدولة ال ُقطرية‪ .‬وقد يكون علينا أن‬

‫لقاءات‬

‫* “االشتغال بالرتاث والتاريخ ينبغي أن‬ ‫ينحرص يف تبيان أسباب الهزمية والتخلّف‪،‬‬ ‫ليس يف مايض العرب وال اإلسالم ما‬ ‫يحل أبسط مشاكل املجتمعات‬ ‫ُيكنه أن ّ‬ ‫الحديثة‪ ،‬ال معرف ًيا وال عمليا”‬

‫“* شهدت الثقافة العربية آخر تحديثاتها‬ ‫العبايس و”النهضة” حقبة قصرية‬ ‫يف العرص‬ ‫ّ‬ ‫كانت محصورة يف نُخبة محدودة جدا يف‬ ‫مجتمعات زراعية وأ ّمية يف غالبيتها”‬

‫‪7‬‬


‫الدميقراطية‪ :‬احلاجة الغائبة‬

‫‪8‬‬ ‫أوس المبارك‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫مقاالت‬

‫مع اإلجراءات االستثنائية التي أعلن‬ ‫ ‬ ‫عنها الرئيس التونيس الشهر املايض يف اجتامعه مع‬ ‫القيادات العسكرية واألمنية‪ ،‬وهو مام ال تخطئ‬ ‫قراء َته ع ٌني دميقراطية‪ ،‬بدا واضحاً أن تجربة آخر‬ ‫بلد عريب من بلدان الربيع العريب تم تقويضها‬ ‫لصالح عودة العسكر والقوى األمنية للسيطرة عىل‬ ‫الحياة السياسية‪ .‬لينتهي بذلك املسار الدميقراطي‬ ‫الوحيد الذي صمد عرش سنوات وأعطى أم ًال لبقية‬ ‫املنحازين للثورات عىل األنظمة املستبدة بقابليته‬ ‫عىل التحقق يف بلدانهم أيضاً‪ ،‬برغم ما عانوه من‬ ‫سحق عسكري‪ ،‬سواء تحقق لديهم شعار (إسقاط‬ ‫النظام) أم مل يتحقق‪.‬‬ ‫ذلك الشعار الذي تف ّرد باالتفاق عليه‬ ‫ ‬ ‫من جميع املنحازين للثورات‪ ،‬واختلفوا عىل‬ ‫جميع ما دونه‪ ،‬بدا عامل قوة يف ثورات وعامل‬ ‫ضعف يف أخرى بتأثري عوامل س ِرن ُد عليها‪ .‬املقصود‬ ‫هو أن التمحور حول (إسقاط النظام) الذي بدا‬ ‫مس ِّبباً إلنجازات اتضح أنها مؤقتة‪ ،‬كان جلياً يف‬ ‫حاالت أخرى عىل عدم كفايته إلنجازها‪ ،‬عدا عن‬ ‫إنجاز نظام قادر عىل تحقيق سبل الحياة الكرمية‬ ‫والعادلة يف الحالتني‪.‬‬ ‫والحال أن الشعوب التي انتفضت ضد‬ ‫ ‬ ‫واقع الرتدي السيايس واملعييش‪ ،‬يائس ًة من قدرة‬ ‫األنظمة الحاكمة عىل نقلها إىل أحوال أفضل‪،‬‬ ‫عالو ًة عىل توغلها يف الفساد واملامرسات التمييزية‬ ‫ْ‬ ‫والتقت‬ ‫وقمع أي صوت يعلو ضد مامرساتها‪،‬‬ ‫بذلك مع أحزاب سياسية وحركات ونشطاء عىل‬ ‫رغبة يف املشاركة السياسية والتأثري يف الشأن العام‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫واجهت مع الوقت قصور الشعار وحده يف إنتاج‬

‫تجاوز للواقع الذي قامت ضده الثورات‪ .‬ودخلت‬ ‫القوى السياسية يف مسألة (كيف نحكم؟) من‬ ‫أجل تحديد (من يحكم؟)‪ ،‬ال من أجل الكيفية‬ ‫ذاتها‪ .‬وانخفضت عتبة الرصاعات اإليديولوجية‬ ‫بني التوجهات السياسية‪ ،‬إسالمية كانت بكل‬ ‫تفرعاتها أو علامنية من أقىص اليسار إىل الليربالية‪،‬‬ ‫يف وجه ارتفاع عتبة التامس ما قد يفيض إليه‬ ‫واقع زيادة تدهور األوضاع االقتصادية واألمنية‬ ‫التي ال مف ّر منها وتفرضها الصدمات الكربى مثل‬ ‫الثورات بأي حال‪ .‬هذا ما جعل ما يسمى بقوى‬ ‫“الثورة املضادة”‪ ،‬مدعوم ًة من املحور (اإلمارايت –‬ ‫السعودي)‪ ،‬تستغل الرصاع اإليديولوجي لتنترص‬ ‫إلحداها وتكسب تأييدها‪ ،‬ولتنفذ من هموم‬ ‫املعيشة التي تتثاقل يومياً عىل عموم السكان‪،‬‬ ‫اقتصادياً وأمنياً‪ ،‬فتفيض إىل العودة للسيطرة عىل‬ ‫الدولة‪ .‬وبالطبع‪ ،‬فالغائب األكرب عن ذلك املسار‬ ‫هو الدميقراطية‪.‬‬ ‫والحال أنه برغم ظهور اإلسالميني‬ ‫ ‬ ‫كمدافعني عن الدميقراطية يف الحالتني التونسية‬ ‫واملرصية يف وجه القوى العلامنية التي هللت‬ ‫إلزاحتهم عن الحكم دون استشعار واضح‬ ‫لخطر هذا املسار “الثوري املضاد” بسبب أولوية‬ ‫الرصاع اإليديولوجي عىل ترسيخ الدميقراطية‬ ‫كام ُذ ِكر‪ ،‬فقد كانوا يف دول أخرى أول املنقضني‬ ‫عليها‪ ،‬كسوريا وليبيا‪ .‬عالوة عىل أنهم اتخذوا من‬ ‫الدميقراطية مساراً إجرائياً ال مبادئ دميقراطية فيه‬ ‫سوى صندوق االقرتاع‪ ،‬فسمحوا ألنفسهم بتجيري‬ ‫املؤسسات اإلدارية والقضائية لنفوذهم السيايس‪،‬‬ ‫متجاهلني املبادئ الدميقراطية التي ال تبيح ذلك‪،‬‬

‫وأنشؤوا إدارات ومؤسسات وأذرع لتضمن والءها‪،‬‬ ‫و ّ‬ ‫رشعت القوانني لتجذير وجودها وتهميش غريها‪،‬‬ ‫أو َ‬ ‫رشعت يف ذلك يف بعض الحاالت دون أن‬ ‫تحققه ودون أن يخفى التشابه النوعي بني القوى‬ ‫اإلسالمية جميعاً‪ ،‬وإن اختلف كمياً يف تحقيقها‬ ‫ملرشوعها الساعي للتحول إىل “حزب قائد للدولة‬ ‫واملجتمع”‪ ،‬مدعوم ًة كذلك من املحور (القطري –‬ ‫الرتيك) املدعي الدفاع عن الدميقراطية‪.‬‬ ‫وقد ظهر من خالل السنوات العرش‬ ‫ ‬ ‫الغابرة وما جرى فيهام يف االتجاهني (الثوري –‬ ‫الثوري املضاد)‪ ،‬محاطني بالقوى اإلقليمية والدولية‬ ‫املتدخلة‪ ،‬أن تل ّمس الحاجة لرتسيخ دميقراطيات‬ ‫لالنتقال إىل أوطان حرة وكرمية وعادلة ته ّمش‬ ‫أو غاب فيها الفعل السيايس‪ .‬وإن كانت هناك‬ ‫قوى دميقراطية تدرك أهمية ترسيخها ونتائجها‬ ‫عىل املدى البعيد‪ ،‬إال أنها بقيت أصغر الفئات‬ ‫بني املتصارعني (إسالمياً – علامنياً) والدول الراغبة‬ ‫بإيجاد أنظمة موالية لها‪ ،‬وعموم السكان الذين‬ ‫تقع همومهم يف الحال اليومي املرتدي ويريدون‬ ‫حلوالً رسيع ًة تؤثر يف واقعهم‪ .‬وإن كان املسار‬ ‫الدميقراطي الذي يفيض إىل الحرية واملساواة‬ ‫والعدالة االجتامعية وفصل السلطات ومكافحة‬ ‫الفساد وترسيخ املبادئ الدميقراطية غري اإلجرائية‬ ‫أو ما يصطلح بتسميتها املبادئ فوق الدستورية‪-‬‬‫تتطلب االنطالق يف املسار اإلجرايئ وإنتاجها مع‬ ‫الوقت ومع التطور الحر للمجتمعات‪ ،‬إال أنه ال‬ ‫ميكن يف أي وقت تحييد العنارص املضادة لها يف‬ ‫االتجاهني (الثوري – الثوري املضاد)‪.‬‬ ‫لذا‪ ،‬وبعد هذه السنني العرش التي انتهت‬


‫‪9‬‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫كاركاتري‬

‫فيها كل تجارب الدميقراطية يف بلدان‬ ‫الربيع العريب‪ ،‬يبدو أن توسعة القاعدة‬ ‫الدميقراطية بني القوى السياسية والفئات‬ ‫االجتامعية لتشمل املبادئ غري اإلجرائية‬ ‫التي تضمن فصل القوى السياسية عن‬ ‫التغول املؤسسايت‪ ،‬وفصل السلطات عن‬ ‫بعضها‪ ،‬ووضع قاعدة مواجهة املشاكل‬ ‫بأدوات دستورية وقانونية فوق الحلول‬ ‫االقتالعية واالنقالبية‪ ،‬وكون كرامة‬ ‫اإلنسان وحقوقه فوق التفسريات الغيبية‬ ‫ألح ما يجب‬ ‫واملاضوية والرباغامتية‪ ،‬هي ّ‬ ‫أن تعمل القوى الدميقراطية عىل خوض‬ ‫النضال من أجله‪.‬‬ ‫وإن كان ذلك النضال يتشابك مع قضايا‬ ‫كاإلصالح الديني ومواجهة الثورات‬ ‫املضادة واقرتاب أكرب من حاجات‬ ‫املواطنني وهمومهم‪ ،‬التي قد ال تبدو عىل‬ ‫ارتباط مبارش برغم أنها تقع يف صلب‬ ‫الهدف الدميقراطي‪ ،‬ما يجعله يبدو حم ًال‬ ‫أكرب من قدرتها‪ ،‬إال أن االنشغال املعريف‬ ‫فيه والنشاط باتجاهه يبقى املجال الوحيد‬ ‫املمكن يف واقع استيالء “الثورات املضادة”‬ ‫عىل السلطة‪ ،‬وجنوح معظم القوى‬ ‫العلامنية لتأييد إجراءات غري دميقراطية يف‬ ‫مواجهة قوى غري دميقراطية‪ ...‬مثلها‪.‬‬ ‫وعىس أن تنتج السنوات أو العقود القادمة‬ ‫تحوالت دميقراطية‪ ،‬رمبا ال نكون من‬ ‫أبنائها‪.‬‬


‫‪96‬‬

‫ٌ‬ ‫رحلة يف اخلراب‪:‬‬ ‫مع حممد ّ‬ ‫برو يف سجن تدمر‬

‫‪10‬‬ ‫مصعب الحمادي‬

‫العدد‬ ‫‪97‬‬

‫عندما أدرك رئيس الفرع “غازي كنعان” أن‬ ‫هناك خطأً ما‪ ،‬سحب السجني “محمد ب ّرو”‬ ‫من أذنه بشدة وعاد به إىل حجرة القايض عام‬ ‫‪ 1980‬ليقول‪:‬‬ ‫“ابن القحبة هذا ما يزال َحدَثاً‪ ،‬وال يجوز عليه‬ ‫حكم اإلعدام ألنه مل يبلغ الثامنة عرشة”‪.‬‬

‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫تم تخفيف الحكم من اإلعدام إىل عرش سنوات‬ ‫ّ‬ ‫مع األشغال الشاقة‪ ،‬وعاش محمد ب ّرو ابن‬ ‫السابعة عرش عاماً إىل اليوم‪ ،‬ولكن ليس قبل‬ ‫ّ‬ ‫األريض يف سجن‬ ‫أن مي ّر بثامن سنني من الجحيم‬ ‫تدمر يف الصحراء السورية‪.‬‬ ‫محمد ب ّرو اليوم من أملع وأجمل املثقفني‬ ‫السوريني املقيمني يف اسطنبول‪ ،‬كاتب غزير يف‬ ‫العديد من املواقع‪ ،‬ومو ّثقٌ أمني سيدخل التاريخ‬ ‫سجل فيه يوميات من انتهى بهم‬ ‫بكتابه الذي ّ‬ ‫الحظ للعيش أو املوت يف سجن تدمر‪ ،‬الذي‬ ‫ٌ‬ ‫وأعوان لهام‬ ‫أرشف عليه حافظ ورفعت األسد‪،‬‬ ‫من عصاب ٍة عائل ّي ٍة وطائفية مت ّكنت من رقاب‬ ‫السور ّيني باسم الدولة‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫“ناج من املقصلة”‬ ‫السفر عرب صفحات كتاب ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫رحلة يف‬ ‫ملحمد ب ّرو الصادر عام ‪ 2020‬هو‬ ‫واسع‬ ‫صحيح أن الخراب يف سوريا‬ ‫الخراب‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مكانياً‪ ،‬من القامشيل للجوالن‪ ،‬وزمانياً‪ ،‬منذ‬ ‫عام ‪ 1963‬وحتى اليوم‪ ،‬لكن تجربة محمد ب ّرو‬ ‫اب مك ّثف‪ ،‬هي‬ ‫ورفاقه يف سجن تدمر هي خر ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫إنسان‬ ‫ظلم وقهر ماليني السوريني يتجرعهام‬ ‫واحدٌ دفع ًة واحدة ويف مكانٍ واحد‪.‬‬ ‫مل يشفع ملحمد برو أنه كان ما يزال طالباً يف‬ ‫الثانوية يوم تداول مع رفاقه جريد ًة ممنوعة؛‬

‫فعصابة حافظ األسد كانت يف معرك ٍة دامية مع‬ ‫عصاب ٍة أخرى هي جامعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬وما‬ ‫برحت العصابة األوىل تبحث عن أفرا ٍد ممن ميكن‬ ‫حسبانهم عىل العصابة الثانية (حتى وإن زوراً) حتى‬ ‫تسومهم سوء العذاب وتنتقم منهم وتجعلهم عرب ًة‬ ‫ملن وراءهم‪ .‬وقع املسكني محمد ب ّرو ضحية تلك‬ ‫الدوامة من الكراهية الطائفية املتبادلة‪ ،‬مع أنه مل‬ ‫ينتم لإلخوان املسلمني‪ ،‬ومل يحمل فكرهم‪ ،‬ومل يكن‬ ‫ِ‬ ‫يعرف يوم التقط جريدتهم‪ ،‬جريدة “النذير” من‬ ‫مدخل بنايته أنها أخطر من قنبلة‪ ،‬وأنها ستسوقه‬ ‫ذنب وال خطيئة‪.‬‬ ‫إىل عرش سنني من السجن بال ٍ‬ ‫انتقام تنزله عليه‬ ‫يف سجن تدمر‪ ،‬وقع محمد ضحية‬ ‫ٍ‬ ‫سياط مجرمني وحاقدين ال يرون الوطن واملواطنني‬ ‫إال من خالل طاق ٍة طائفية ض ّيقة‪ .‬مل يكن يفهم‬ ‫بداية األمر؛ ملاذا صار اسمه عند الجالدين “أبو بكر”‬ ‫تار ًة‪ ،‬و”عمر” تار ًة أخرى! احتاج األمر منه شهوراً‬ ‫ليدرك أن القضية بالنسبة ّ‬ ‫للجلدين ومن وراءهم مل‬ ‫تكن جرمي ًة سياسية ارتكبها يف حقّ الوطن‪ ،‬بل قصة‬ ‫كراهي ٍة طائفية كان عىل الغالم أن يحمل تبعاتها‬ ‫كام حمل املسيح صليبه‪ .‬تلقى محمد حفالت‬

‫تعذيب يومية عىل مدى مثان سنوات‪ ،‬واسرتق‬ ‫النظر إىل مشاهد اإلعدام الشهرية يف ساحات السجن‬ ‫الصحراوي النايئ عن العامل‪.‬‬ ‫جسد محمد من خالل تجربته محنة كل إنسانٍ‬ ‫لقد ّ‬ ‫قدّر له أن يولد يف سوريا يف ظل حكم األسد األب‬ ‫أو االبن؛ فالوالدة يف بل ٍد تحكمه عصابة هي رأس‬ ‫املحنة ومبتدؤها بالنسبة ألي إنسانٍ له نوازع‬ ‫طبيعية نحو العدالة والحر ّية‪ .‬وما كل نجاة من‬ ‫تعذيب أو قهر إال من طوالع الحظ التي‬ ‫حبس أو‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عب تدمر‪ ،‬وعاد لنا بالحكايات؛‬ ‫مل ينلها محمد‪ ،‬الذي َ‬ ‫لع ّلنا ن ّذكر فال ننىس أننا نعيش كلنا يف الخراب‪ ،‬حتى‬ ‫ْ‬ ‫ولدت‬ ‫وإن مل ندخل السجن‪ ،‬وأن يف سوريا التي‬ ‫ٌ‬ ‫عصابة‬ ‫مريض ًة قبل مئة عام ال توجد دولة‪ ،‬وإمنا‬ ‫متارس الجرمية ّ‬ ‫املنظمة‪.‬‬ ‫وما أحداث ثورة الكرامة منذ عام ‪ 2011‬حتى اليوم‪،‬‬ ‫وما تالها من تدم ٍري شاملٍ لألرض واإلنسان يف سوريا‪،‬‬ ‫إال تصديق عىل تجربة محمد ب ّرو‪ ،‬وتأكيد عىل أن‬ ‫املقصلة ما تزال ترتبص ّ‬ ‫بكل السوريني ما مل يحصل‬ ‫التغيري املطلوب يف بلدهم‪.‬‬


‫ّ‬ ‫سوريون‪ ..‬بني االستهالك واجلمال‬ ‫‪11‬‬

‫يوسف صادق‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫مقاالت‬

‫يف قصة العيون املرشعة إلبراهيم صموئيل‪ ،‬يقع‬ ‫املعتقل بني حدّين بال نهاية‪ ،‬إ ّما أن يحتفظ‬ ‫بالخمسني لرية التي أودعته إ ّياها زوجته تعويذ ًة‬ ‫السجان‪ ،‬أو أن‬ ‫للحظ وأم ًال تعينه عىل قهره إزاء ّ‬ ‫يضحي بتلك الورقة لصالح املعتقلني‪ ،‬وقد تبقي‬ ‫رمق لدى أحدهم‪.‬‬ ‫عىل آخر ٍ‬ ‫هذه صورة عيانية ملا يحدث يف مجتمعاتنا حينام‬ ‫تتح ّول ملعتقلٍ كب ٍري‪ ،‬هل بتنا نتعامل مع أشيائنا‬ ‫وقيم استهالكية؟ وهل يفقد‬ ‫واآلخرين‬ ‫ٍ‬ ‫بدوافع ٍ‬ ‫املقهور كل قيمة جاملية؟‬ ‫تسود القيم االستهالكية حينام يصبح املتاح‬ ‫بعيداً عن متناول األيدي‪ ،‬قريباً من خيالٍ يحاول‬ ‫ّ‬ ‫والترشد‬ ‫احتضانها لتبقى منه دماً للحياة‪ .‬الفقر‬ ‫ليس جديداً عىل مجتمعاتنا‪ ،‬عمره بعمر اغتناء‬ ‫سلط ٍة داست عىل كل جميلٍ بدواخلنا‪.‬‬ ‫االستهالك صفة مشرتكة للطغاة واإلنسان املقهور‪.‬‬ ‫الطاغي ك ّلام زاد خوفه من مقهوريه‪ ،‬يزداد‬ ‫ابتعاداً خلف قصوره وخلف سياراته الفارهة‪،‬‬ ‫محاوالً جعل الناس ُمق ّلدين له‪ ،‬فيضمن رهبتهم‬ ‫وتابع ّيتهم‪ .‬وبقدر االستهالك للروح وللعالقات‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬بقدر االبتعاد عن الطبيعة البرشية‬ ‫الفطرية وعن الجامل واإلبداع‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫معركة ال إنسانية ال ينترص فيها ّإل‬ ‫االستهالك‬ ‫الطغاة و َمن شاكلهم‪ .‬أ ّما اإلنسان املقهور فمن‬ ‫الطبيعي أن يع ّوض احتياجاته النفسية والجسدية‪،‬‬ ‫فيلتهم الدنيا بعيونه‪ .‬نعم نجح الطاغي بتجويع‬ ‫البرش‪ ،‬وبجعل بعضهم يج ّرون ثوبه الطويل‪ ،‬و َمن‬ ‫يتمرد منهم فجدرانه العالية تنتظره‪ ،‬لكنه نيس‬ ‫أن الجوع األول والعطش األول والجامل األول‬ ‫هو الحرية‪ ،‬أوىل الحاجات وآخرها‪ ،‬وهذه أصيلة‬ ‫يف الدم‪ ،‬أصيلة بحضارتنا‪ ،‬أصيلة بإنساننا‪ ،‬رغم‬ ‫كل محاوالت الطاغية جعله إنساناً يأكل ويرشب‬ ‫فقط‪ ،‬ويأمتر بخدمته‪ ،‬ويوقف دوران الزمن خلف‬ ‫جدرانه العالية‪ ،‬يصبح الوطن معتق ًال ألبنائه تار ًة‬ ‫مبشيئتهم وأخرى رغ ًام عنهم‪.‬‬ ‫حينام تزداد القيود عىل األيادي‪ ،‬فتصبح غريب ًة‬ ‫عىل األقالم‪ ،‬غريب ًة عىل املحراث والنول وحتى‬ ‫البندقية‪ ،‬غريب ًة عىل ي ٍد تصافحها أو شعو ٍر تحاول‬ ‫مجاراة انطالقه‪ ،‬وحينام تبحث اللغة عن مفرداتها‬ ‫يف ضحكات األطفال‪ ،‬فتعاندها لعبة الشمس‬ ‫والظالل‪ ،‬حينها فقط َترشع العيون إىل ال يشء‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫معتقل آلخر‪..‬‬ ‫“فلنحافظ عىل رمق الحياة”‪ ..‬يقول‬

‫نفس تزيني خيمة اللجوء وزرع‬ ‫ولكن كيف؟ هل ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الورود أمامها استسالما ورضا بالوطن الخيمة؟‬ ‫لكن الجانب اآلخر ملا مل تره العيون‪ّ ،‬أن السوري‬ ‫وإن أصبح وطنه خيمة‪ ،‬فإ ّنه ّ‬ ‫بكل ما أويت من‬ ‫حياة رغم قهره الطويل‪ ،‬لقاد ٌر عىل تحويل منفاه‬ ‫إىل وطن‪ ،‬ليست دعو ًة لتزيني قهرنا الطويل‬ ‫بل إلعادة الحياة ونبضها بكل ما تفعله أيادينا‪،‬‬ ‫ولكل ما تراه عيوننا‪ ،‬حتى ال نفقد قيمنا الجاملية‬ ‫الستهالك يلتهم أخرض نفوسنا‪.‬‬ ‫وتتح ّول حياتنا‬ ‫ٍ‬ ‫لنعد إىل املعتقل الكبري وكيف يدفع باإلنسان إىل‬ ‫الرضا بالحدود الدنيا للمعاش‪ ،‬وإىل إقناع أطفالنا‬ ‫بكرسات الخبز‪ ،‬بل يحاول بعضهم عرب ذاكر ٍة‬ ‫منس ّي ٍة جعلها مط ّعمة بنكهات الشوكوالتة!‬ ‫ّ‬ ‫السوريُّ قاد ٌر عىل تحويل البسيط إىل مركب‬ ‫أ ّول للحياة‪ ،‬وذاك املعتقل‪ ،‬ح ّقق قيم ًة مضاف ًة‬ ‫للخمسني لرية‪ ،‬فجمعته واحتضنته بعقد رشاك ٍة‬ ‫مع رشكائه يف القهر‪ ،‬ذكرى الزوجة التي تنتظر‬ ‫خروجه‪ ،‬واألبناء الذين يحلمون بسهراتهم يف‬ ‫دفء العائلة قد تح ّقق‪ ،‬والعائالت التي ترى‬ ‫يف خوفها ابتالع الجدران آلبائهم وأمهاتهم يف‬ ‫املعتقالت قد انفرج ه ّمها‪.‬‬ ‫والسوريُّ قاد ٌر رغم كل القهر‪ ،‬أن يح ّول أدوات‬ ‫القتل إىل ألعاب وأن يقول للعيد تو ّقف ها هنا‪..‬‬ ‫عند أطفال درعا‪ ،‬وأطفال حمص وإدلب‪ ،‬فهم‬ ‫قادرون عىل صناعة الفرح وتلك هي قيمهم‬ ‫الجاملية رغم كل الخراب يف النفوس‪.‬‬ ‫القدرة عىل اإلبداع هي ر ّد السوريّ عىل محاولة‬ ‫تاريخ مىض ومييض‪ ،‬ما‬ ‫إفراغه وجعله جزءاً من‬ ‫ٍ‬

‫زالت ناعورة حامه تدور وتنئ‪ ،‬شاهد ًة عىل اغرتاف‬ ‫الدم واغرتاف ماء الحياة‪ ،‬بصفاوة عيون األطفال‪،‬‬ ‫ونقاوة شغبهم للحياة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫شدنا‪ ..‬هُ ّجرنا‪ ..‬اغرتبنا‪ ..‬نعم‪ ،‬لكنّ األيادي والعيون‬ ‫تنس طعم الخبز ورائحة القهوة‪ ،‬وما زالت‬ ‫مل َ‬ ‫املؤجل‪ ،‬هذا‬ ‫اآلذان تحتفظ بباقي زغاريد الفرح ّ‬ ‫ما يدفع املعتقلني إىل أشغال الخرز‪ ،‬سوا ٌر لطفل ٍة‬ ‫ثوب دافئ للجدّة‪ّ ،‬‬ ‫كل يشء رغم‬ ‫يف املعتقل الكبري‪ٌ ،‬‬ ‫عفونة الجدران‪ ،‬مشغول باملحبة‪ ،‬وبدفء األيام‬ ‫القادمة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫والسجان يف املعتقل الصغري واملعتقل‬ ‫ُيهزَم الجلد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫روحه وأنهّ‬ ‫الكبري‪ ،‬حينام يرى أن السوريّ مل تفرغ ُ‬ ‫كل الخوف والقلق‪ ،‬رغم ّ‬ ‫رغم ّ‬ ‫كل ما شنّه من‬ ‫حروب‪ ،‬ما زال قادراً عىل العطاء‪ ،‬وإذا ما ف ّكر‬ ‫بفتح باب القفص‪ ،‬سيجد أبناءنا يف املغرتبات‬ ‫أوفياء لعهود القهر‪ ،‬بأن ُيقال‪ّ :‬‬ ‫كل ما يحتاجه‬ ‫السوري هو االهتامم وستجدهم ك ّلهم مبدعني‪.‬‬ ‫اإلبداع هو الفيصل بني السقوط يف قاع القيم‬ ‫االستهالكية والقدرة عىل إضافة قيمة جاملية‪.‬‬ ‫تكاتف الناس وتشاركها الهم عقدٌ مصنوع من‬ ‫مح ّبة الحياة‪ ،‬حينها الخيمة ليست عاراً‪ ،‬وكرسات‬ ‫الخبز املبللة باملاء ليست ُس ّ ًم‪ .‬العار هو أن نحتفظ‬ ‫بآثار خرابنا شاهداً عىل الهزمية‪ ،‬كام فعل الطغاة‬ ‫باالحتفاظ بدمار القنيطرة‪ ،‬العار أن نق ّيد الطفل‬ ‫انحن تحت علم البالد‪ .‬هكذا ُتستهلك‬ ‫ونقول له‪ِ :‬‬ ‫الحياة و ُتستهلك كل قيمة يحملها اإلنسان‪ .‬بل‬ ‫العار أن نستعذب سياط ّ‬ ‫الجلدين ونز ّين عصاه‬ ‫بخرزة زرقاء‪.‬‬ ‫من الخطأ القول مل يبقَ لدينا ما نخرسه‪ ،‬القول‬ ‫الحق لدينا الكثري مل ننجزه بعد‪ ،‬ناعورة حامه ما‬ ‫تزال تغرف املاء صافياً‪ ،‬ومياه النهر تجدد نفسها‪،‬‬ ‫وتغسل أحالمنا مهام كدّرتها أنفاس الطغاة‪.‬‬ ‫ما حصل يف درعا يثبت أن تكاتف الناس ٌ‬ ‫قيمة‬ ‫جاملية ُم ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مشرتك ولحيا ٍة مشرتك ٍة‪،‬‬ ‫لعيش‬ ‫ضافة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حصار حمص وحصار الغوطة مل تستهلك البرش‪،‬‬ ‫رغم كل املوت الذي عاشه السوري فام زال قادراً‬ ‫عىل صناعة الحياة‪ ،‬ولن يستطيع الطغاة اعتقال‬ ‫الحياة‪ ،‬حسبهم زنازينهم‪ ،‬تردد صدى خوفهم‪.‬‬ ‫السوريُّ قاد ٌر عىل صناعة الحياة مهام اشت ّد قيده‪،‬‬ ‫وحسبه يقول‪ :‬إن حبستموين ّ‬ ‫فإن حبيس خلوة‪،‬‬ ‫وإن نفيتموين ّ‬ ‫فإن نفيي سياحة‪.‬‬ ‫طوىب للسوريّ املبدع‪.‬‬


‫من إدلب إىل درعا‪..‬‬ ‫رسائل دعم وتضامن ومناصرة‬

‫‪12‬‬

‫هاديا منصور‬ ‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫تقارير‬

‫ال تكاد تغيب درعا عن الساحة اإلعالمية حتى تعود‬ ‫إليها بأحداث تصعيد جديدة‪ ،‬رغم االتفاقيات الهشة‬ ‫والتسويات التي مل تكن أكرث من نار تحت الرماد‬ ‫تتأجج نريانها كل مدة‪ ،‬وخاصة بعد فشل قوات النظام‬ ‫باقتحامها‪ ،‬عقب حملة عسكرية واسعة عىل درعا البلد‬ ‫مستخدمة شتى أنواع األسلحة كام حصل مؤخراً‪.‬‬ ‫دفعت أحداث درعا األخرية أهايل إدلب وشامل غرب‬ ‫سوريا‪ ،‬مقيمني ونازحني‪ ،‬للتضامن مع درعا خالل الحملة‬ ‫هناك والتي راح ضحيتها مدنيني بينهم أطفال ونساء‪.‬‬ ‫يقول “حسام الجندي” (‪ 35‬عاماً) وهو ناشط حقوقي من‬ ‫إدلب‪“ :‬إن قضية درعا وإدلب وباقي املناطق السورية‬ ‫هي قضية واحدة‪ ،‬ودرعا اليوم تحمل عىل عاتقها كل‬ ‫حرب السوريني ضد نظام األسد املستبد واملجرم”‪،‬‬ ‫مضيفاً‪“ :‬من واجب كافة املناطق املحررة وفصائل‬ ‫املعارضة نرصة أهايل درعا وفتح جبهات للتخفيف عنها‬ ‫قدر املستطاع‪ ،‬لتشعر درعا أننا معها وتنقذ ما تبقى من‬ ‫معاقل املعارضة يف الجنوب السوري”‪.‬‬ ‫وكان النظام السوري روج قبل حملته األخرية عىل درعا‬ ‫أنها تضم إرهابيني ودواعش يك يربر هجومه عىل املدنيني‬ ‫وارتكابه الجرائم املتعددة وحصاره للمدينة‪ ،‬وقد تكون‬ ‫جولة التصعيد هذه مختلفة عن سابقاتها‪ ،‬وبات واضحاً‬ ‫قلق النظام وحلفائه روسيا وإيران من إمكانية تأسيس‬ ‫إدارة ذاتية يف درعا‪ ،‬وأن تشكل مع السويداء املجاورة‬ ‫التي تتمتع بنوع من اإلدارة الذاتية‪ ،‬نواة إلدارة ذاتية‬ ‫تشمل عموم الجنوب السوري‪.‬‬ ‫ويف السياق يرى الطبيب “لؤي الحسن” (‪ 40‬عاماً) وهو‬ ‫نازح من درعا ومقيم يف إدلب‪ ،‬أن املنطقة الجنوبية‪،‬‬ ‫وتحديداً درعا‪ ،‬هي مهد االحتجاجات الشعبية التي‬ ‫انطلقت قبل عرشة أعوام ضد نظام األسد‪ ،‬وانتقلت منها‬

‫إىل بقية املدن واملناطق السورية‪ ،‬موضحاً‪:‬‬ ‫“تحولت منذ ذلك الحني إىل أيقونة يف وجدان‬ ‫الشعب السوري الرافض لحكم األسد‪ ،‬ومن‬ ‫هنا أطالب بعدم التخيل عن درعا وتجديد‬ ‫املظاهرات بشكل مستمر‪ ،‬ونرش التعليقات‬ ‫والصور ضمن هاشتاغات متعددة عىل مواقع‬ ‫التواصل االجتامعي ومنها ‪#‬ال ترتكو درعا‬ ‫وحيدة‪# ،‬درعا لن تهزم‪# ،#‬درعا مهد الثورة‬ ‫السورية تحت النريان ‪ ،‬وغريها من العبارات‬ ‫للفت أنظار العامل ملا يجري يف درعا البلد”‪.‬‬ ‫ويشيد الحسن بصمود أهايل درعا وشجاعتهم‬ ‫رغم كل ما تعرضوا له من انتهاكات وجرائم‬ ‫من قبل قوات النظام إلخضاعهم وإذاللهم‪.‬‬ ‫وتتفق آراء السواد األعظم من املدنيني يف‬ ‫إدلب عىل التضامن مع درعا وإعجابهم‬ ‫ببطوالتها‪ ،‬وقد عربوا عن ذلك باملظاهرات‬ ‫التي عمت أرجاء إدلب وشامل غرب سوريا‪،‬‬ ‫وأشارت الفتاتهم إىل مدى دعم أهايل إدلب‬ ‫لدرعا وتضامنهم مع محنتها وما تتعرض له من‬ ‫اعتداءات‪ ،‬والتي كتبت عليها عبارات متنوعة‬

‫منها‪“ :‬درعا درع الثورة ومصدر قوتها”‪“ ،‬ال‬ ‫اتفاقية وال عهد مع قاتل”‪“ ،‬درعا صامدة ولن‬ ‫تهزم”‪“ ،‬درعا عىل أبوابها سيسقط الطغاة”‪،‬‬ ‫“من إدلب العز‪ :‬آين من درعا”‪“ ،‬من حوران‬ ‫هلت البشاير”‪ ..‬وغريها‪.‬‬ ‫األربعينية “رهام العبد الله” وهي من درعا‬ ‫تخف‬ ‫ومقيمة يف إدلب منذ ست سنوات‪ ،‬مل ِ‬ ‫خوفها عىل مدينتها ومسقط رأسها من استيالء‬ ‫“ميليشيات األسد” عليها‪ ،‬وتقول‪“ :‬إن سقطت‬ ‫درعا ستسقط سوريا كلها بيد النظام املجرم‪،‬‬ ‫ضحت وما زالت منذ بدايات‬ ‫فدرعا التي ّ‬ ‫الثورة السورية بالغايل والنفيس من أجل ثورة‬ ‫يتيمة تخىل عنا القايص والداين لن تستسلم‬ ‫ولن يكون هناك مكان ليأسها‪ ،‬هي صامدة‬ ‫وتدافع عن حقها يف الحياة وعن حق كل‬ ‫سوري يف الكرامة والحرية والعيش الكريم”‪.‬‬ ‫وبينام تشهد محافظة درعا جنوب سوريا‬ ‫تطورات ميدانية متالحقة‪ ،‬ترنوا األنظار إىل‬ ‫مصري أحد أهم معاقل الثورة السورية وحصنها‬ ‫املنيع وترى اآلمال فيها بالنرص‪.‬‬


‫ارتفاع درجات احلرارة‬ ‫وجه آخر للمعاناة يف خميمات إدلب‬

‫‪13‬‬

‫دارين الحسن ‪ -‬إدلب‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫النازحون عرضة لألمراض‬ ‫بدوره الطبيب “أسامة الرزوق” (‪ 38‬عاماً)‬ ‫من مدينة إدلب يقول لـ”طلعنا عالحرية” عن‬ ‫األمراض التي تنترش يف أوساط النازحني خالل‬ ‫فصل الصيف‪“ :‬يؤدي ارتفاع درجات الحرارة‬ ‫يف ظل نقص مستلزمات النظافة الشخصية‬ ‫واملياه إىل انتشار عدد من األمراض املعدية بني‬ ‫النازحني‪ ،‬ومنها الجرب الذي ينترش مع ارتفاع‬ ‫درجات الحرارة وقلة النظافة الشخصية”‪.‬‬ ‫ويشري إىل انتشار أمراض أخرى كالتهاب املعدة‬ ‫واألمعاء‪ ،‬واإلسهاالت الناتجة عن استخدام‬ ‫املياه امللوثة‪ ،‬وانعدام مقومات النظافة العامة‪،‬‬ ‫مؤكداً أن العالج وحده غري كاف‪ ،‬إن مل يؤمن‬ ‫للنازحني الكميات الكافية من املياه الصالحة‬ ‫للرشب‪ ،‬واالستحامم اليومي يف فصل الصيف‬ ‫وغسل الثياب مبياه معقمة‪.‬‬ ‫وينصح الطبيب النازحني بالتزام الخيام ما‬ ‫أمكن وقت الظهرية‪ ،‬وعدم التع ّرض ألشعة‬ ‫الشمس املبارشة‪ ،‬السيام األطفال وكبار السنّ ‪،‬‬ ‫وتخفيف الحرارة عن األطفال باستخدام املاء‪،‬‬ ‫مع اإلكثار من رشبه تجنباً للجفاف‪ ،‬وحفظ‬ ‫األطعمة بشكل جيد خوفاً من فسادها‪ ،‬ما قد‬ ‫يؤدي إىل التسمم‪.‬‬ ‫وبحسب إحصائيات فريق “منسقو استجابة‬ ‫سوريا”‪ ،‬بلغ عدد املخ ّيامت ّ‬ ‫الكل يف مناطق‬ ‫شامل غريب سوريا ‪ 1304‬مخي ًام‪ ،‬يقيم فيها‬ ‫نحو مليون و‪ 44‬ألف نازح‪ ،‬ومنها ‪ 393‬مخي ًام‬ ‫عشوائياً‪ ،‬يقيم فيها ‪ 187764‬نازحاً‪.‬‬

‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫مطالبات دون استجابة‬ ‫ً‬ ‫من جهته “وليد الجمول” (‪ 41‬عاما) مدير‬ ‫مخيم يف بلدة كليل يرشح أوضاع النازحني‪:‬‬ ‫“موجات الحر الشديدة هذا الصيف أدت‬ ‫لتفاقم أمراض كبار السن واألطفال يف املخيم‪،‬‬ ‫وسط انقطاع تام للكهرباء‪ ،‬وقلة يف املياه‪،‬‬ ‫دون أن يتمكن كثري من النازحني من الوصول‬ ‫إىل املراكز الطبية يف املنطقة واالستفادة من‬ ‫خدماتها‪ ،‬لبعدها عن مكان إقامتهم‪ ،‬وعدم‬ ‫توفر املواصالت‪ ،‬وضعف إمكانياتهم املادية”‪.‬‬ ‫ويشري الجمول إىل كرثة الزواحف السامة‬ ‫يف السهول التي تقام عليها املخيامت‪ ،‬مثل‬ ‫األفاعي والعقارب‪ ،‬وانتشار الروائح الكريهة‬ ‫مكب النفايات القريب من‬ ‫املنبعثة من‬ ‫ّ‬ ‫املخيم‪ ،‬والرصف الصحي املكشوف‪.‬‬ ‫ويطالب املنظامت اإلنسانية ّ‬ ‫برش املبيدات‬ ‫الحرشية‪ ،‬وتوزيع عوازل للخيام لتقي ساكنيها‬ ‫من حرارة الصيف الالهبة‪ ،‬إىل جانب توزيع‬ ‫ألواح طاقة شمسية وبطاريات‪ ،‬كون أغلب‬ ‫النازحني ال ميتلكون مراوح‪ ،‬إضافة لزيادة‬ ‫مخصصات املياه واملنظفات للنازحني يف فصل‬ ‫الصيف‪.‬‬ ‫وح ّذر فريق “منسقو استجابة سوريا” من‬ ‫مخاطر ارتفاع درجات الحرارة عىل النازحني‬ ‫السوريني يف مخيامت الشامل السوري‪ ،‬ورصد‬ ‫الفريق انعدام املياه الصالحة للرشب يف أكرث‬ ‫من ‪ 200‬مخي ًام يف مناطق أطمة وقاح ودير‬ ‫حسان وحارم وحربنوش وكليل شامل إدلب‪،‬‬ ‫حيث تضم هذه املخيامت ما يقارب ‪ 400‬ألف‬ ‫نازح‪ ،‬األمر الذي تسبب يف إصابة عدد كبري‬ ‫من النازحني بأمراض جلدية كالجرب وغريه من‬ ‫األوبئة‪ ،‬بينهم أطفال ونساء‪.‬‬ ‫وجه الفريق ندا ًء لجميع املنظامت‬ ‫كام ّ‬

‫اإلنسانية لزيادة املشاريع اإلنسانية‪ ،‬وتأمني‬ ‫العديد من املستلزمات األساسية للنازحني‪،‬‬ ‫بغية تحسني األوضاع األساسية يف املخيامت‬ ‫ملواجهة ارتفاع درجة الحرارة يف املنطقة‪.‬‬

‫تقارير‬

‫ال يحتمل الستيني “أبو سعيد” البقاء يف خيمته عند‬ ‫الظهرية‪ ،‬فيضطر للخروج والجلوس تحت ظل شجرة‬ ‫زيتون قريبة من املخيم‪ّ ،‬‬ ‫مالبسه بقليل من املاء‪،‬‬ ‫ويرش‬ ‫َ‬ ‫يف محاولة للتخفيف من تأثري الحر عىل جسده النحيل‬ ‫ونفسه املشبعة بالهموم واألوجاع‪.‬‬ ‫أبو سعيد من مدينة رساقب يعيش مع زوجته يف أحد‬ ‫مخيامت مدينة أطمة الحدودية مع تركيا منذ أكرث من‬ ‫عام ونصف‪ ،‬وهو ككل النازحني الذين يعانون من ارتفاع‬ ‫وشح املياه‪،‬‬ ‫درجات الحرارة يف ظل انقطاع الكهرباء‪ّ ،‬‬ ‫وضعف الرعاية الصحية‪ ،‬األمر الذي يعرضهم لإلصابة‬ ‫باألمراض‪ ،‬ويفاقم أحوالهم املتدهورة أص ًال‪.‬‬ ‫أساليب بدائية لتخفيف وطأة الحر‬ ‫يتحدث أبو سعيد عن معاناته‪“ :‬الشتاء غريق والصيف‬ ‫حريق؛ حيث نواجه العديد من املشاكل يف فصل الصيف‪،‬‬ ‫يف مقدمتها نقص املياه والرعاية الصحية‪ ،‬وانتشار‬ ‫الحرشات‪ ،‬والسكن يف خيام مصنوعة من النايلون‪ ،‬ال‬ ‫تحمينا من الغبار والحرشات وحر الصيف الذي يكوينا‬ ‫ويأخذ علينا أنفاسنا”‪.‬‬ ‫ويؤكد أبو سعيد أنه ال يجد مالذاً إال اللجوء لألرايض‬ ‫املزروعة باألشجار‪ ،‬هرباً من درجات الحرارة الخانقة داخل‬ ‫الخيام‪ ،‬فهو مريض بالضغط والسكري‪ ،‬ويزيد الحر من‬ ‫آالمه وأوجاعه‪ ،‬دون أي إمكانية ملغادرة املخيم بسبب فقر‬ ‫حاله وارتفاع إيجارات املنازل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫األوضاع مع “جميلة الكريدي” (‪ 35‬عاما) النازحة من‬ ‫مدينة معرة النعامن إىل مخيم حربنوش بريف إدلب‬ ‫الشاميل‪ ،‬قد تكون أسوأ‪ ،‬باعتبارها أم لخمسة أطفال‪،‬‬ ‫تحاول درء الحر عنهم من خالل وضعهم يف أوعية مليئة‬ ‫باملاء وقت الظهرية! وعن ذلك توضح‪“ :‬الحر ال يطاق‬ ‫داخل الخيام‪ ،‬فام أن ترشق الشمس حتى نشعر وكأننا‬ ‫نجلس داخل فرن‪ ،‬كام نعاين من الغبار الذي يتسلل إىل‬ ‫خيامنا عند هبوب الرياح‪ ،‬وانتشار الذباب والبعوض‪،‬‬ ‫وفساد الطعام برسعة كبرية نتيجة ارتفاع الحرارة وعدم‬ ‫وجود كهرباء لتشغيل الثالجات”‪.‬‬ ‫وتؤكد أن اثنني من أطفالها بأعامر ‪ 5 3-‬سنوات أصيبا‬ ‫مبرض الجفاف منذ عرشة أيام مضت‪ ،‬وتظهر عليهام أعراض‬ ‫إسهال واقياء مع ارتفاع درجة حرارة الجسم‪ ،‬بسبب الحر‬ ‫الشديد‪ ،‬وال تزال مستمرة يف عالجهام‪.‬‬ ‫وعن الطرق التي تحاول من خاللها حامية أطفالها تقول‪:‬‬ ‫“أشرتي ألواح البوظ بشكل يومي لتربيد مياه الرشب‪،‬‬ ‫وأبلل قامش الخيمة باملاء لرتد عنا حرارة الشمس الحارقة”‪.‬‬


‫‪14‬‬

‫التعامل باللرية الرتكية يرهق سكان ريف حلب‬ ‫وال ينهي األزمة املعيشية‬ ‫حسين الخطيب‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫تقارير‬

‫انهيار اللرية السورية أمام العمالت األجنبية األخرى‪،‬‬ ‫فرض عىل املجالس املحلية يف ريف حلب الشاميل‬ ‫اتخاذ قرار يقيض بالتعامل املايل باللرية الرتكية‪ ،‬وجعلها‬ ‫بدي ًال يف جميع التعامالت النقدية‪ ،‬حفاظاً عىل استقرار‬ ‫األسواق‪ ،‬ال سيام أن انهيار اللرية السورية سبب أزمة‬ ‫معيشية لدى معظم القاطنني يف ريف حلب من‬ ‫عاملني يف القطاع الخاص والعام والعاملني يف املياومة‪،‬‬ ‫نتيجة تقاضيهم أجورهم باللرية السورية‪ ،‬بينام معظم‬ ‫عمليات رشاء حاجياتهم يتم حسابها بحسب سعر‬ ‫الرصف اليومي‪.‬‬ ‫مىض حوايل العام عىل بدء تداول اللرية الرتكية يف جميع‬ ‫املعامالت النقدية يف أسواق ريف حلب الشاميل‪،‬‬ ‫ويبدو ظاهرياً أن ذلك حافظ عىل استقرار أسعار‬ ‫السلع واملنتجات الغذائية‪ ،‬ويف الوقت ذاته مل يخلص‬ ‫األهايل من األزمات املعيشية التي باتت ترهقهم وتزيد‬ ‫من معاناتهم‪ ،‬ألنها ليست ح ًال يف ظل انعدام فرص‬ ‫العمل وندرة مصادر الدخل املعيشية‪ ،‬وانخفاض‬ ‫األجور اليومية يف حال توفر العمل‪.‬‬ ‫يجلس “أبو محمود” (‪ 41‬عاماً) عىل قارعة الرصيف يف‬ ‫سوق الهال مبدينة مارع بريف حلب الشاميل‪ ،‬ينتظر‬ ‫أن يناديه أحد التجار للعمل يف العتالة‪ ،‬وهو عمل‬ ‫يومي يتقاىض أجره مقابل إفراغ حمولة سيارة من‬ ‫صناديق البندورة‪ ،‬مع عدد من العامل الذين يعملون‬ ‫بالعمل ذاته‪.‬‬ ‫يقول الرجل خالل حديثه ملجلة طلعنا عىل الحرية إنه‬ ‫يحصل عىل أجر إفراغ السيارة ‪ 50‬لرية تركية‪ ،‬يتقاسمها‬ ‫مع اثنني من العامل يعملون معه يف املهنة ذاتها‪،‬‬ ‫وهكذا يف بعض األيام يستطيع أن يعمل بـ ‪ 35‬لرية‪،‬‬ ‫ويف أيام ال يعمل عىل اإلطالق بحسب حركة األسواق‪.‬‬ ‫وعن مقارنة األجور اليومية بأسعار السلع يوضح‪:‬‬ ‫“إن األسعار يف األسواق ال تتناسب مع دخلنا اليومي؛‬ ‫فالعمل ليس متوفراً طيلة الشهر‪ ،‬وكذلك املبلغ الذي‬ ‫أحصل عليه ال يغطي شيئاً من حاجيات أرسيت‪ ،‬فعىل‬ ‫سبيل املثال فالكيلوغرام من السكر ‪ 5‬لريات تركية‪،‬‬ ‫والكيلوغرام من الشاي ‪ 60‬لرية‪ ،‬فكيف ميكن أن تغطي‬ ‫أجورنا هذه الفوارق؟”‪.‬‬ ‫ويضيف الرجل‪“ :‬يف السابق قبل الثورة السورية‪ ،‬كنت‬ ‫أعمل ليوم واحد يوفر يل الطعام لثالثة أيام حيث‬

‫كان أجري اليومي يصل إىل ‪ 500‬لرية سورية ما يعني‬ ‫‪ 10‬دوالرات أمريكية‪ ،‬أما اآلن فاألجر اليومي الذي‬ ‫أحصل عليه ال يصل إىل ‪ 4‬دوالر أمرييك”‪ ،‬ويشري إىل‬ ‫أن التعامل باللرية السورية كان أفضل‪ ،‬لكن انهيارها‬ ‫املتواصل “جعلنا نعاين أيضاً‪ ،‬لذلك التعامل باللرية‬ ‫الرتكية جيد‪ ،‬ولكنه ليس ح ًال ينهي معاناتنا”‪.‬‬ ‫ويشتيك سكان ريف حلب الشاميل من التعامل باللرية‬ ‫الرتكية يف عمليات الرشاء والبيع يف مختلف األسواق‪،‬‬ ‫سوا ًء األدوات الكهربائية واأللبسة واملواد الغذائية‬ ‫والخرضوات‪ ،‬ألنها يف معظم عمليات البيع تعرضهم‬ ‫للخسارة‪ ،‬كام يستغل الباعة األهايل خالل عمليات‬ ‫البيع باللرية الرتكية مع غياب للقطع النقدية الصغرية‪،‬‬ ‫وبقاء سعرها حسب أدىن قطع نقدية متوفرة‪ ،‬وهي‬ ‫‪ 0.5‬لرية تركية‪.‬‬ ‫يقول “عبد الرحمن أبو حسن” وهو صاحب متجر‬ ‫للمواد الغذائية‪ ،‬يف أحد أسواق ريف حلب الشاميل‬ ‫خالل حديثه ملجلة طلعنا عىل الحرية‪“ :‬إن التعامل‬ ‫باللرية الرتكية أفضل من التعامل باللرية السورية ألننا‬ ‫كنا يومياً نبيع السلع عىل اللرية السورية‪ ،‬وآخر اليوم‬ ‫يكون سعرها عىل الدوالر مختلفاً متاماً ونتعرض‬ ‫لخسارة كبرية”‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬نحتاج إىل عمالت نقدية صغرية لنستطيع‬ ‫البيع من خاللها‪ ،‬ألنها غري متوفرة يف األسواق‪ ،‬مام‬ ‫يدفعنا إىل تسعري بعض األطعمة حسب أصغر قطعة‬ ‫نقدية متوفرة وهي النصف لرية‪ ،‬وهذا األمر يصفه‬ ‫األهايل باالستغالل!”‪.‬‬ ‫ويؤكد‪“ :‬أن أسعار السلع استقر أكرث من السابق‪ ،‬عىل‬ ‫الرغم من عدم ثبات سعر اللرية الرتكية أمام الدوالر‪،‬‬ ‫لكنها ليست بدرجة تقلب اللرية السورية‪ ،‬التي كانت‬ ‫تتأرجح كل ساعة‪ ،‬وبدأنا نحقق أرباحاً جيدة نوعاً ما”‪.‬‬

‫ويشري إىل أن اللرية الرتكية مل يتم التبادل بها يف عمليات‬ ‫البيع كحل لألزمة املعيشية‪ ،‬وما يجري يف الوضع‬ ‫الراهن من انخفاض قيمة الدخل يف حال توفر‪ ،‬هو‬ ‫عدم تناسب أجور العامل مع أسعار السلع”‪.‬‬ ‫من جانبه “عبد الله العيل”‪ ،‬يقيم يف مدينة صوران‬ ‫بريف حلب الشاميل وهو موظف يف القطاع العام‬ ‫يقول ملجلة طلعنا عىل الحرية‪“ :‬إن أسعار السلع يف‬ ‫الشامل السوري قريب جداً من أسعار السلع يف تركيا‪،‬‬ ‫وهذا يعني يجب أن تكون مصادر الدخل يف ريف‬ ‫حلب قريبة من مصادر الدخل يف تركيا‪ ،‬ألن التعامل‬ ‫باللرية الرتكية مل ين ِه األزمة‪ ،‬بل سبب أزمة أخرى‪ ،‬وهي‬ ‫عدم إيجاد حلول للعاملني الذين يتقاضون أجورهم‬ ‫التي تصل يف أحسن حاالتها إىل ‪ 800‬لرية تركية شهرياً‪،‬‬ ‫وهي ما يعادل ‪ 95‬دوالر أمرييك”‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬عىل الجهات املحلية سوا ًء املجالس املحلية‬ ‫أو غريها السعي من أجل تحسني الواقع املعييش‬ ‫للناس‪ ،‬من خالل رفع أجور العاملني يف القطاع العام‪،‬‬ ‫وإيجاد فرص عمل للعاملني يف املياومة‪ ،‬والتي تصل‬ ‫نسبتهم إىل ‪ % 60‬من سكان املنطقة‪ ،‬من خالل منح‬ ‫رؤوس األموال إمكانية إنشاء مصانع ومعامل وترغيبهم‬ ‫يف العمل وتسويق بضائعهم‪.”..‬‬ ‫ويحتاج السوريون يف ريف حلب الشاميل إىل مصدر‬ ‫دخل شهري ال يقل عن ‪ 2500‬لرية تركية من أجل أن‬ ‫تتناسب مع أسعار السلع واحتياجات أرسهم اليومية‪،‬‬ ‫ال سيام أن معظمهم يكابدون يف سبيل توفري أدىن‬ ‫املقومات املعيشية ألرسهم التي باتت تتغافل الكثري‬ ‫من األساسيات عىل أنها يشء من الرفاهية‪ ،‬ولذلك ال بد‬ ‫من إيجاد حل لألمر قد ترتبط به العديد من القضايا‬ ‫من أبرزها عاملة األطفال والرسقة والخطف مقابل‬ ‫املال‪.‬‬


‫حمصول التني األخضر واجملفف‬ ‫يؤمن فرص عمل جيدة يف إدلب‬ ‫شمس الدين مطعون‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫يف حال وجدت طرق التصدير” يوضح املهندس‬ ‫غزال‪.‬‬ ‫ويقول “محمد أبو حمزة” إن أسعار التني األخرض‬ ‫تعترب جيدة لهذا العام؛ نظراً لرتاجع الكميات‬ ‫املطروحة بالسوق‪ ،‬ويضيف أن سعر كيلو التني‬ ‫تراوح بني ‪ 3‬إىل ‪ 4‬لريات تركية‪ ،‬أما التني املجفف‬ ‫(اليابس) فقد تراوح سعره يف بداية موسمه بني‬ ‫دوالر ونصف إىل دوالرين بحسب النوعية‪.‬‬ ‫كام تتنوع أصناف التني يف محافظة إدلب‪ ،‬ومن‬ ‫أشهرها السطحي والصفراوي والزعيبيل وكعب‬ ‫الغزال‪ ،‬وترتكز زراعتها بشكل أسايس يف جبل‬ ‫الزاوية وريفه ومناطق رسمني والنريب وريف‬ ‫املعرة‪.‬‬ ‫*التني املجفف (اليابس)‪:‬‬ ‫كام تجد السيدات يف موسم التني فرصة عمل‬ ‫جيدة‪ ،‬حيث تنترش ورشات لتجهيز التني‬ ‫املجفف‪ ،‬وتعمل السيدة “هيفاء” وهي نازحة‬ ‫من ريف املعرة وتقيم يف بلدة املسطومة يف‬ ‫ورشة لتجفيف التني يف البلدة والتي تضم‬ ‫عرشات العامالت‪.‬‬ ‫تقول هيفاء‪“ :‬ما دفعني للعمل يف تجفيف التني‪،‬‬ ‫هي سهولة العمل والذي سيؤمن لعائلتي دخ ًال‬ ‫جيداً خالل فرتة قصرية”‪.‬‬ ‫حيث تقوم السيدات باستخدام املكابس لفرز‬ ‫مثار التني حسب الجودة والحجم‪ ،‬ومن ثم تبدأ‬ ‫مرحلة الغسيل والتبييض يف أحواض املاء إلزالة‬ ‫الشوائب واألوساخ‪ ،‬ثم تنرش حبات التني يف‬ ‫الهواء الطلق حتى تجف‪ ،‬وبعدها يتم تغليفه‬ ‫ضمن أكياس خاصة وبأحجام مختلفة يف قوالب‬ ‫متنوعة‪.‬‬ ‫بينام استطاعت “زينب” أن تعمل بتجفيف‬ ‫التني من منزلها “ال أستطيع مغادرة البيت ألن‬ ‫أطفايل صغار وال ميكنني تركهم لوحدهم” توضح‬ ‫السيدة‪.‬‬ ‫وتضيف وهي ترشح طريقة عملها‪“ :‬أحصل‬

‫عىل التني األخرض من السوق‪ ،‬ويطلب أن يكون‬ ‫ناضجا متاماً‪ ،‬وأنقعه مباء مغيل مملح لعدة‬ ‫دقائق‪ ،‬ثم أتركه حتى ّ‬ ‫يجف عىل قطعة قامش‬ ‫نظيفة‪ ،‬وبعدها أقوم بتعليق حبات التني عىل‬ ‫حبال‪ ،‬وأعرضها ألشعة الشمس ملدة يومني”‪.‬‬ ‫يف السابق‪ ،‬كانت زينب تبيع معظم إنتاجها من‬ ‫التني املجفف ألقاربها وجاراتها‪ ،‬ولكن مع تراجع‬ ‫الوضع املعييش‪ ،‬باتت السيدة تخبئ إنتاجها‬ ‫حتى يستقر سعر السوق لتقوم ببيعه للمحال‬ ‫التجارية‪.‬‬ ‫*مصاعب ومخاطر‪:‬‬ ‫عىل دراجته النارية يقطع “حسني” عرشات‬ ‫الكيلومرتات من مخيامت الشامل حيث يقيم‬ ‫بعد النزوح مع عائلته‪ ،‬متجهاً إىل أرضه يف جبل‬ ‫الزاوية لجني محصول التني‪.‬‬ ‫ويشكل موسم التني مورداً هاماً ألهايل جبل‬ ‫الزاوية‪ ،‬وهي منطقة تعترب األخطر حالياً‪ ،‬بعد‬ ‫تصعيد قوات النظام قصفها عىل املنطقة‪.‬‬ ‫يقول حسني‪“ :‬البد من املخاطرة لجني محصول‬ ‫التني‪ ،‬ألنه ميكن أن يحقق أرباحاً تكفينا مرصوفاً‬ ‫ألشهر عدة‪ ،‬وباألخص التني اليابس”‪.‬‬ ‫من جهته يوضح الناشط “إبراهيم الشاميل” من‬ ‫جبل الزاوية أن محصول التني يف جبل الزاوية‬ ‫لهذا العام تعرض ملشاكل عدة أبرزها القصف‬ ‫املتكرر الذي تشهده املنطقة‪ ،‬والذي منع معظم‬ ‫األهايل من الوصول ملحاصيلهم‪.‬‬ ‫ويقول الشاميل‪“ :‬تحتاج بعض األشجار للتسميد‬ ‫والسقاية‪ ،‬لكن الغالء وعدم االستقرار مل يسمحا‬ ‫بتقديم الرعاية الكافية ألشجار التني‪ ،‬وهذا ما‬ ‫أدى لضعف إنتاجها”‪.‬‬ ‫ويضيف الشاميل أن موسم التني كان يؤمن سابقاً‬ ‫فرصاً لعرشات عامل املياومة لجني املحصول‬ ‫الوفري‪ ،‬لكن مع ضعف املحصول يضطر األهايل‬ ‫لجني محاصيلهم بأنفسهم لتوفري أكرب قدر‬ ‫ممكن من األرباح‪.‬‬

‫تقارير‬

‫يجهز سعيد ‪ 26‬عاماً دراجته النارية مع ارتفاع أشعة‬ ‫الشمس‪ ،‬ويضع عليها عدداً من الصناديق البالستيكية‪،‬‬ ‫وينطلق متوجهاً لحقول التني يف بلدته رسمني بريف‬ ‫إدلب‪.‬‬ ‫يقول سعيد‪“ :‬قبل انطالق املوسم اتفقت مع أحد‬ ‫أصحاب حقول التني‪ ،‬عىل (الضامن) أنا أضع عميل‬ ‫وجهدي ونتقاسم مرابح البيع مناصف ًة”‪.‬‬ ‫استطاع سعيد وهو طالب جامعي أن يجد فرصة عمل‬ ‫جيدة ال تتطلب منه التفرغ بشكل دائم‪ ،‬كام أنها ال‬ ‫تحتاج لرأس مال‪“ ،‬ميكنني أن أوفر معظم مرصويف‬ ‫الجامعي خالل عميل يف جني التني مبدة ال تتجاوز‬ ‫الشهرين” قال سعيد‪.‬‬ ‫يبدأ موسم قطاف التني منذ منتصف شهر متوز‪ ،‬ويستمر‬ ‫‪ 60‬يوماً تقريباً‪ ،‬وخالل هذه الفرتة تنضج مثار أشجار‬ ‫التني ليمكن قطفها مبارشة‪ ،‬ويعرف بالتني األخرض‪ ،‬أو‬ ‫تركها حتى تجف وهو التني (اليابس) املجفف‪.‬‬ ‫يتطلب قطاف مثار التني األخرض رسعة ومداومة‪،‬‬ ‫وخصوصاً يف أوقات ارتفاع درجات الحرارة‪ ،‬لذلك يخرج‬ ‫سعيد للعمل باكراً قبل أن تلسعه أشعة الشمس‪ ،‬ليتمكن‬ ‫من جني حبات التني وبيعها يف السوق‪ ،‬كام يلجأ بعض‬ ‫األهايل لتأجيل رحلة الجني لفرتة أخرى وهي “العرصية”‬ ‫وتبدأ عندما تخف أشعة الشمس يف آخر النهار‪.‬‬ ‫يؤمن موسم التني فرص عمل جيدة لكثري من األهايل‪،‬‬ ‫فهو يحتاج إىل القطاف والتعبئة والشحن والتسويق‪،‬‬ ‫ومن ضمن رشوط العمل يف قطاف التني أنه يتم االتفاق‬ ‫عىل األجر عىل كل ساعة عمل‪.‬‬ ‫ويقول “أبو عمر” مزارع من بلدة رسمني‪ ،‬إن حمولة‬ ‫شجرة التني الواحدة الجيدة تقدر بحوايل ‪ 70‬كيلو غرام‪،‬‬ ‫ومع تقدم عمر الشجرة تبدأ حمولتها بالرتاجع‪ ،‬كام أن‬ ‫شجرة التني ال تعمر أكرث من ‪ 50‬عاماً‪.‬‬ ‫لذلك فإن األهايل الذين ميلكون أشجاراً كثرية ذات‬ ‫حمولة جيدة مضطرون إليجاد عامل لقطاف املحصول‬ ‫“التني ما بيتحمل يبقى ع الشجر كتري‪ ،‬والزمو حواش أول‬ ‫بأول” يقول أبو عمر‪.‬‬ ‫ويوضح املهندس الزراعي “أحمد غزال” أن ما مييز زراعة‬ ‫التني أنها تنجح يف معظم الرتب‪ ،‬ومع قليل من األسمدة‬ ‫لبعض الرتبة الضعيفة‪ ،‬كام تعتمد زراعة التني يف إدلب‬ ‫عىل مياه األمطار‪ ،‬ونادراً ما ُيسقى املحصول‪ ،‬وهي ال‬ ‫تحتاج سوى لقليل من التقليم من سنة ألخرى‪.‬‬ ‫ويقول غزال إن األهايل خالل عملهم بالزراعة يف إدلب‬ ‫يعتمدون عىل محاصيل رئيسية أبرزها التني والزيتون‪،‬‬ ‫وتتميز شجرة التني بتحملها للظروف املناخية‪ ،‬وبأنها ال‬ ‫تحتاج للكثري من األسمدة والري “وهي ذات مرابح أوفر‬

‫‪15‬‬


‫ّ‬ ‫ثالثية غرناطة‬

‫‪16‬‬ ‫بشرى البشوات‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫مقاالت‬

‫“تبدو املصائب كبرية تقبض الروح‪ ،‬ثم يأيت ما هو أعتى‬ ‫و أشد فيصغر ما بدا كبرياً و ينكمش متقلصاً يف زاوية‬ ‫من القلب والحشا”‪ .‬رضوى عاشور يف روايتها ثالثية‬ ‫غرناطة‪.‬‬ ‫ُكتبت الرواية يف ثالثة أجزاء‪ ،‬آخرها جزء الرحيل‪،‬‬ ‫َغرناطة؛ التي تعني الرمانة وس ّميت بذلك لشدة جاملها‪.‬‬ ‫يكمن رصاع القصة لحظة سقوط غرناطة‪ ،‬بعد تنازل‬ ‫أبو عبد الله الصغري حاكم غرناطة آنذاك إىل فرناندو‬ ‫وايزابيال عن الحكم عام ‪ 1492‬هجري‪.‬‬ ‫من هنا تتواىل األحداث‪ ،‬حيث تبدأ محاكم التفتيش‬ ‫وعمليات االضطهاد العرق ّية‪ ،‬فيتم تغيري جميع أسامء‬ ‫أفراد املجتمع إىل أسامء مسيحية‪ ،‬وتح ّول املساجد إىل‬ ‫كنائس‪.‬‬ ‫ويتم إجبار الناس عىل تحو ّيل دياناتهم من اإلسالم إىل‬ ‫املسيح ّية بالتعم ّيد‪ .‬ثم منع العادات والتقاليد اإلسالمية‬ ‫التي قام عليها املجتمع سابقاً‪ ،‬وإحراق جميع كتب‬ ‫اللغة العربية واملصاحف‪.‬‬ ‫مام يشكل صدمة عىل جميع فئات املجتمع يف غرناطة‪.‬‬ ‫فتبدأ الهجرات الجامع ّية ويعلن التاريخ مرحلة انتقال ّية‪.‬‬ ‫البطلة الرئيسية يف الرواية “عائلة أبو جعفر” الذي كان‬ ‫يعمل مج ّلداً للكتب‪ ،‬ويف خضم كل ذلك تعيش العائلة‬ ‫وتنجب وتفرح بأبنائها‪ ،‬وميوت بعض أفرادها فيحزنون‬ ‫لكنهم يستمرون يف العيش‪.‬‬ ‫يف نهاية الرواية يتأكد “عيل” أحد أبطالها أنه‪ ،‬وبالرغم‬ ‫من كل ما حدث ألهل األندلس من املسلمني‪ ،‬فإن‬ ‫املوت هو يف الرحيل عن األندلس وليس يف البقاء فيها‪:‬‬ ‫“نحن ال نختار بني بديلني‪ ،‬بل هو قدر مكتوب‪ ،‬نحن‬ ‫مهزومون فمن أين االختيار؟”‪.‬‬ ‫َغرناطة الحصن األخري للمسلمني يف األندلس‬ ‫تر ّكز الراوية عىل الشخصيات البسيطة‪ ،‬مل يتم تحميلها‬ ‫باألسامء الكبرية؛ األمراء والحكام الذين أضاعوا غرناطة‪.‬‬ ‫…‪..‬‬ ‫كنت قد اشرتيت رواية ثالثية غرناطة من مكتبة النوري‬ ‫يف قلب دمشق يف شهر آب من سنة ‪ ،2015‬قبل أشهر‬ ‫قليلة من مغادريت دمشق وسوريا نهائياً! (طبعا مل أكن‬ ‫أتوقع ذلك)‪.‬‬ ‫مرت ست سنوات عىل ذلك اليوم‪ ،‬حني مشيت وحدي‬ ‫عرب شوارع دمشق‪.‬‬ ‫التقطت الكثري من الصور‪ ،‬نظرت يف صور اإلعالنات‪،‬‬ ‫واألبنية والشوارع والساحات والرشفات املفتوحة عىل‬

‫شمس دمشق الحارقة يف ذلك الصباح‪.‬‬ ‫تتشابك أحداث الرواية كام تشابكت حيايت‪ ،‬وصار من‬ ‫الصعب أن أمسك بأي خيط منها‪.‬‬ ‫تهتم الرواية بالتفاصيل كام امتألت حيايت بالتفاصيل‬ ‫بعد أن عربت جبل الزاوية يف إدلب ويف حضني ابنتي‬ ‫الرضيعة‪.‬‬ ‫مل أحمل من سوريا سوى جوازات السفر الخاصة بنا‪،‬‬ ‫بطاقاتنا الشخصية‪ ،‬جهاز الالبتوب الخاص بنا‪ ،‬ورواية‬ ‫ثالثية غرناطة!‬ ‫نعم الرواية من بني خمسمئة كتاب كان موجوداً يف‬ ‫مكتبة البيت الذي كنّا نستأجره يف مدينة الحسكة‪،‬‬ ‫آخر معاقلنا يف سوريا‪ ،‬كام كانت غرناطة آخر معاقل‬ ‫العرب يف األندلس‪.‬‬ ‫سقطت حقيبة ظهري مرتني وأنا أركض ألقطع الحدود‪،‬‬ ‫وأنا أركض ألنشد الخالص يل ولهذين الطفلني‪ ،‬لكنني‬ ‫عدت وحملتها ألنني مل أرغب أن أفقد الرواية‪ ،‬ومل‬ ‫أعرف بعد رس عوديت وإرصاري عىل إعادة التقاطها!‬ ‫عربنا الحدود يف شهر ترشين األول ‪2015‬‬ ‫ألق ولو نظرة واحدة للوراء‪ ،‬مل أق َو عىل‬ ‫أذكر بأنني مل ِ‬ ‫رؤية أضواء املصابيح يف سوريا التي ظننت بأنني أعرف‪.‬‬ ‫ركضت بكل ما ّيف من طاقة‪ ،‬ركضت حتى دون أن أوقع‬ ‫معاهدة تنازل عن حصة سوريا يف دمي‪.‬‬ ‫أردت أن أنشد خاليص بأنانية مفرطة‪.‬‬ ‫الهرب من املوت‬ ‫عرفت الهجرة والنزوح مثلام عرفها أبو جعفر يف رواية‬ ‫غرناطة‪ .‬هربت من املوت الذي كان يطاردنا كام طارد‬ ‫عائلة أبو جعفر‪ ،‬لقد هربنا حتى ال يضعف شعورنا‬

‫حب الوطن متاماً‬ ‫بسوريتنا! حتى ال نتهم بالتخاذل يف ّ‬ ‫مثلام ا ُتهمت العائلة يف الرواية‪.‬‬ ‫عىل شاطئ أزمري الرتكية كان يجب أن أتخفف من‬ ‫متاعي؛ فحمل طفلة رضيعة يف حضني كان يكفي‪ ،‬مع‬ ‫بعض حاجياتها وأوراقنا الثبوتية‪ .‬لكنني مل أتخفف!‬ ‫كنت قد لففت الرواية مثلام فعلت مع األوراق‬ ‫بالنايلون‪ ،‬واحكمت إغالق الكيس جيداً منعاً لترسب‬ ‫املاء‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حني قام امله ّرب بتكورينا جميعا يف أرض ّية (البلم)‬ ‫كدسنا فوق بعضنا البعض دون ترتيب‪ ،‬فتكدّست معي‬ ‫الرواية أيضاً! عربنا البحر كام فعل الآلالف من السوريني؛‬ ‫مشينا فيام بعد يف أوربا الرشقية‪ .‬قطعنا بالداً مل أفكر‬ ‫يوما بأنها ستنهب قلبي يف تلك اللحظات بجاملها‬ ‫اآلرس‪ ..‬وبقيت الرواية معي‪.‬‬ ‫تخففت فيام بعد من حمولتي‪ ،‬رمينا ثيابنا املتسخة‪،‬‬ ‫حصلنا عىل أخرى نظيفة ومكو ّية جيداً‪ ،‬ولكنني مل‬ ‫أتخفف من الرواية التي أصابت الرطوبة أوراقها‪ ،‬ومع‬ ‫ْ‬ ‫حافظت عىل متانتها وظلت ساكنة بهدوء تام يف‬ ‫ذلك‬ ‫حقيبة الظهر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أمتسك بها متاما كام كنت أرفع‬ ‫أرفع الحقيبة جيدا‪ّ ،‬‬ ‫طفلتي إىل حضني وأتشبث بها‪.‬‬ ‫أحافظ عليهام جيداً؛ إحداهام عىل ظهري واألخرى يف‬ ‫قلبي!‬ ‫أصل أملانيا بعد رحلة استغرقت أيا ًما معدودة‪ ،‬لكنها‬ ‫كانت بالنسبة يل دهراً مستمراً يف الهرولة‪.‬‬ ‫بعد الوصول وبعد تحقق رشط األمان املطلوب‬ ‫أفتح ذات ليلة كتايب املخزّن جيداً‪ ،‬وأطالع لوحة غالفه‪،‬‬ ‫رسم أنثى وراء ظهرها يتمثل مايض غرناطة الزاخر‬ ‫ببساتينه اليانعة‪ ،‬قطعة من جنة مفقودة‪ ،‬وجهها ألوان‬ ‫مختلفة تدل عىل الكثري من األىس‪ ،‬ويف العينني لون‬ ‫أصفر ميضء وكأن حريقاً يستعر أمامها‪ ،‬وتنعكس نريانه‬ ‫يف بؤبؤي العينني‪.‬‬ ‫وأبدأ بالقراءة التي ّأجلتها قبل أشهر‪:‬‬ ‫اإلهداء‬ ‫إىل ابني متيم الربغويث‪.‬‬ ‫اإلهداء من األ ّم املرص ّية رضوى عاشور إىل االبن‬ ‫الفلسطيني‪.‬‬ ‫وأكتب أنا اآلن‪:‬‬ ‫اإلهداء‬ ‫إىل ابنتي طل!ّ‬


‫صحفيو سوريا بني إهمال‬ ‫الداخل وعجز اخلارج‬ ‫قصي األحمد‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫سابقاً‪ ،‬وكان بعضها قات ًال‪ ،‬يالحظ املتابع تخبطاً‬ ‫من قبل املعنيني بالتعاطي والتعامل الفعال مع‬ ‫تلك الحوادث؛ فوجود حوادث سابقة وتهديدات‬ ‫يتلقاها الصحفي أحياناً من جهات مجهولة‪،‬‬ ‫يستدعي القيام بإجراءات إضافية من قبل املعنيني‬ ‫عند معرفتهم بها‪ ،‬لكن أياً من ذلك مل يحدث‪ ،‬رمبا‬ ‫ذلك عائد إىل الفوىض والبريوقراطية القاتلة داخل‬ ‫تلك املؤسسات‪ ،‬أو إىل نقص الخربة يف التعامل‬ ‫مع مثل هذه القضايا‪ ،‬أو غريها من األسباب التي‬ ‫يجب عالجها والتعامل معها بجدية ومسؤولية‬ ‫وجرأة بغية تحسينها‪.‬‬ ‫ولعل بقاء قنوات التواصل مفتوحة بني الصحفيني‬ ‫واملسؤولني‪ ،‬والتعاطي الفعال مع التهديدات التي‬ ‫يشعرون بها‪ ،‬من شأنه أن يقلل كثرياً من املخاطر‬ ‫املحتملة‪.‬‬ ‫منظامت دولية عاجزة‪:‬‬ ‫تقف املنظامت الدولية ‪-‬وخاصة املتصدرة للدفاع‬ ‫عن الصحفيني السوريني‪ -‬عاجزة أمام ضغط‬ ‫التحديات والتهديدات التي يعاين منها الصحفيون‬ ‫يف الداخل السوري‪ ،‬والتي تستدعي تدخ ًال عاج ًال‬ ‫لتحقيق أدىن درجات السالمة للصحفي املعرض‬ ‫للخطر عىل أقل تقدير‪.‬‬ ‫فغالباً ما يقترص عمل الكثري منها عىل إصدار‬ ‫البيانات واإلدانات‪ ،‬مربرة عدم قدرتها عىل‬ ‫املساعدة بوجود الصحفي يف داخل سوريا‪ ،‬أو‬

‫بسبب ضعف إمكاناتها أو إمكانات املنظامت‬ ‫الرشيكة معها‪ ،‬عىل الرغم من مساعدتها لصحفيني‬ ‫محددين يف بعض األحيان‪ ،‬لكن دون وجود آلية‬ ‫واضحة ملساعدتهم ‪-‬عىل الرغم من قلتهم‪ -‬دون‬ ‫البعض اآلخر‪.‬‬ ‫وعىل الرغم من امتالكها لكامل املعلومات عن‬ ‫الصحفي ووضعه واملخاطر املحتملة‪ ،‬إال أنها يف‬ ‫نهاية املطاف إما أن تعتذر عن مساعدته لألسباب‬ ‫التي ذكرناها‪ ،‬أو متاطله إىل أجل غري مسمى‪.‬‬ ‫وما يجب عىل تلك املنظامت هو العمل الجاد‬ ‫إليجاد آلية ملساعدة الصحفيني يف داخل سوريا‬ ‫والذين هم عرضة للمخاطر أكرث من غريهم ‪-‬هذا‬ ‫إذا سلمنا مبساعدتهم للصحفيني خارج سوريا‪-‬‬ ‫باإلضافة لوجود آلية واضحة ومفهومة “وشفافة”‬ ‫لتقديم املساعدة واملستحقني لها‪.‬‬ ‫احموا الصحفيني!‬ ‫وقفت قبل أيام بالقرب من سياريت املدمرة‪،‬‬ ‫ووضعت عليها ورقة مكتوب فيها “اليوم تم‬ ‫استهدايف وغداً قد يتم استهداف زميل آخر‬ ‫‪#‬احموا_الصحفيني يف رسالة إىل الجهات املعنية‬ ‫بالداخل‪ ،‬واملنظامت املعنية بحامية الصحفيني‬ ‫ومساعدتهم بالخارج‪ ،‬برضورة العمل الجاد‬ ‫للوقوف بجانب الصحفيني وحاميتهم وخلق بيئة‬ ‫آمنة لعملهم قدر املستطاع‪ ..‬فهل يلقى ندايئ آذاناً‬ ‫صاغية؟!‬

‫تقارير‬

‫تجهزت كالعادة ورتبت أغرايض‪ ،‬وتأكدت من‬ ‫بطارية الكامريا‪ ،‬ومن وجود مساحة فارغة عىل‬ ‫كرت الذاكرة الذي لطاملا امتأل باملتناقضات التي‬ ‫كنا نعيشها؛ بقصص املعاناة والنجاح‪ ،‬اليأس‬ ‫والطموح‪ ،‬اآلالم واآلمال‪ ..‬وغريها من القصص التي‬ ‫لطاملا عملت عىل نقلها ومشاركة العامل بها‪.‬‬ ‫جلست قلي ًال مع زوجتي والعبت طفلتي حتى‬ ‫ارتفع صوت ضحكها‪ ،‬وأعطيت الحقيبة ألخي‪،‬‬ ‫وخرج وخرجت وراءه‪.‬‬ ‫كانت الوجهة إىل مخيامت النازحني لنقل أوضاعهم‬ ‫واحتياجاتهم مع اقرتاب عيد األضحى‪ ،‬ولكن ما إن‬ ‫اقرتبنا من السيارة قلي ًال حتى تغريت الوجهة متاماً‪..‬‬ ‫كتلة كبرية من اللهب وصوت انفجار ضخم غري‬ ‫كل يشء!‬ ‫لوهلة مل أستوعب ما حدث‪ ،‬افتقدت أخي الذي‬ ‫كان أقرب مني إىل السيارة‪ ،‬فوجدته مرمياً عىل‬ ‫الحائط القريب يضع يده عىل رأسه‪ ،‬شاخص‬ ‫البرص ممتقع اللون‪ ،‬وكأنه قد شاهد ملك املوت‬ ‫يخرج من السيارة خايل الوفاض‪ ،‬وكان من املفرتض‬ ‫أن يقبض أرواحنا لو خرجنا قبل خمس أو عرش‬ ‫ثوان عىل األكرث!‬ ‫أصبح الرصاخ والعويل يحيط يب من كل جانب‪،‬‬ ‫ودالء وأباريق املاء تنهمر عىل السيارة من كل‬ ‫حدب وصوب إلطفائها‪ ،‬والنار ال تزداد إال لهيباً‪.‬‬ ‫كان من املفرتض يب أن أهرع معهم إلطفاء السيارة‪،‬‬ ‫لكني مل أفعل ذلك‪ ..‬رمبا بسبب ذهويل مام حدث‪،‬‬ ‫أو ألن ناراً أخرى اشتعلت هناك يف صدري بسبب‬ ‫خويف عىل أرسيت داخل املنزل‪ .‬هرعت لالطمئنان‬ ‫عليهم‪ ،‬فإذا صوت ضحك ابنتي قبل دقيقة قد‬ ‫تحول إىل بكاء ورصاخ سمعته من خلف الباب‪،‬‬ ‫وعىل الرغم من أنه كان بكاء إال أنه كان كفي ًال ألن‬ ‫أطمنئ وأمتالك نفيس‪.‬‬ ‫سأكتفي برسد هذه األحداث من تلك الدقيقة‬ ‫التي كانت بحجم سنة‪ ،‬ألتكلم عن ما بعدها‪..‬‬ ‫فوىض لدى الجهات املسؤولة الداخلية‪:‬‬ ‫عىل الرغم من أنها املرة الثانية التي يتم استهدايف‬ ‫بها‪ ،‬وعىل الرغم من استهداف العديد من‬ ‫الصحفيني يف مختلف مناطق الشامل السوري‬

‫‪17‬‬


‫“بريد ّ‬ ‫الليل” رواية ّ‬ ‫الرسائل‬ ‫املتعالقة واملصائر املتشابهة‬

‫‪18‬‬ ‫ياسمين نهار‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬ ‫ثقافة‬

‫تع ّد رواية بريد ال ّليل من ال ّروايات التي نجحت‬ ‫يف تسليط ّ‬ ‫الضوء عىل املصري اإلنسا ّين يف بالدنا‬ ‫العرب ّية‪ ،‬من خالل عرضها لقصص أشخاص‬ ‫غادروا بالد املآيس اليوم ّي ّة‪ ،‬واألرض ا ُملت َعبة من‬ ‫الحروب واالستبداد والفقر‪.‬‬ ‫ال ّرواية للكاتبة اللبنانية هدى بركات‪ ،‬وقد‬ ‫صدرت عن دار اآلداب عام ‪ ،2018‬وحصلت عىل‬ ‫جائزة “بوكر” العرب ّية عام ‪.2019‬‬ ‫ومن ّ‬ ‫اللفت للنظر ّأن جامل ّية ال ّرواية تبدأ من‬ ‫خاف‬ ‫العنوان بوصفه عتبة أوىل للن ّ​ّص‪ ،‬وغري ٍ‬ ‫علينا ما يتض ّمنه هذا الرتكيب اإلضا ّيف من عنارص‬ ‫تحفيز للمتلقي ليعرف ماهية هذا الربيد‪ ،‬وسبب‬ ‫تحديده بكلمة “ال ّليل”‬ ‫ُتقسم ال ّرواية إىل ثالثة فصول جاء الفصل األ ّول‬ ‫تحت عنوان “خلف النّافذة” ّ‬ ‫وتدل هذه العتبة‬ ‫عىل رمز ّية عالية مبا تشري إليه من دالالت ّ‬ ‫الت ّقب‬ ‫واالنتظار‪ ،‬وقد استخدمت الكاتبة يف هذا الفصل‬ ‫تقنية ال ّرسائل ا ُملرسلة من خمسة أشخاص‬ ‫مختلفني‪ّ ،‬‬ ‫كل رسالة بعد ال ّرسالة األوىل كانت‬ ‫دافعاً ّ‬ ‫للشخص ّية التّالية لكتابة رسالتها‪.‬‬ ‫ولد كاتب ال ّرسالة األوىل ويف فمه ملعقة من‬ ‫ال َع َوز‪ ،‬وأل ّنه أذىك أخوته أرسلته أ ّمه وهو يف‬ ‫ال ّثامنة أو التّاسعة إىل بيت ع ّمه يف العاصمة‬ ‫ّفيس أث ٌر كب ٌري عىل‬ ‫ليتع ّلم‪ ،‬وكان لهذا الفطام الن ّ‬ ‫حياته وسلوكه؛ فبدا من خالل رسالة كتبها إىل‬ ‫حبيبته قلقاً متق ّلباً عدوان ّياً‪ ،‬يتعاطى املخدرات‬ ‫يف بالد هاجر إليها ومل يلقَ فيها ّإل الوحشة‬ ‫واإلفالس‪.‬‬ ‫بسبب الفقر والحاجة عمل يف البلد الذي‬ ‫هاجر إليه عند عسكريّ انقال ّيب “فتح جريدة‬ ‫ليع ّلم الخليقة أصول الدّميوقراط ّية” بعد أن‬ ‫رسق ثروات بالده‪ّ .‬إل ّأن عمل هذا ّ‬ ‫الشاب مل‬

‫يدم طوي ًال أل ّنه ُطرد من العمل هو وزمالؤه‬ ‫الكتّاب دون سابق إنذار‪ ،‬ورغم أ ّنه ح ّلق بعيداً‬ ‫عن أقفاص بالده ظ ّلت األسالك تحارصه‪ ،‬وعيون‬ ‫أجهزة املخابرات تراقبه بعد أن جاء تصنيفه‬ ‫معارضاً إثر ترجمته ملقال‪.‬‬ ‫وتجدر اإلشارة هنا إىل وقوع رسالة ال ّرجل‬ ‫غري املكتملة بيد امرأة عرب ّية وجدتها يف دليل‬ ‫الفندق‪ ،‬ورسعان ما بدأت بكتابة رسالة إىل رجل‬ ‫تنتظره‪.‬‬ ‫بدت من خالل رسالتها أ ّنها امرأة تجاوزت‬ ‫الخمسني‪ ،‬سافرت للقاء رجل كنديّ أح ّبته يف‬ ‫سنوات شبابها‪.‬‬ ‫ويبدو يل ّأن هذه املرأة عانت من خذالن األح ّبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وتشظت كآنية‬ ‫وويالت حرب يف بلد “وقعت‬ ‫كبرية من الزّجاج”‪ ،‬باإلضافة إىل فقد األب وما تال‬ ‫موته من مشاعر متناقضة من إحساس بالفقد‬ ‫ّ‬ ‫ولعل حضور‬ ‫حب ق ّيدها‪،‬‬ ‫وغبطة تح ّرر من ّ‬ ‫رمز ّية العصفور يف رسالتها دليل عىل شغفها‬ ‫بالحر ّية التي ُيحرم أبنا ُء بلدها ّ‬ ‫تنشقَ هوائها‪.‬‬ ‫يف املطار ُتلقي املرأة التي خاب أملها من حبيب‬ ‫مل يأت رسالتها يف س ّلة املهمالت؛ ّ‬ ‫مم س ّهل عىل‬ ‫أحد املوجودين يف املطار قراءتها وهو بدوره‬ ‫رشع يكتب رسالة لوالدته مسرتجعاً ذكريات‬

‫ّ‬ ‫الطفولة ّ‬ ‫والشباب املؤملة‪ ،‬وما تراكم داخله من‬ ‫إحساس مؤمل باإلهانة بسبب تعنيف والده له‪.‬‬ ‫ومن تلك الذكريات متاديه م ّرة يف الكالم أثناء‬ ‫خدمته اإللزام ّية ليدفع عنه إحساس اإلهانة‬ ‫الكامن يف ال ّالشعور؛ فوىش به شاب يغار من‬ ‫ق ّوته‪ ،‬وكام يحصل يف املعتقالت اعرتف مبا ُألصق‬ ‫به من ُتهم ليتخ ّلص من وطأة العذاب الجسديّ‬ ‫ّفيس‪ ،‬وليربهن لهم عن توبته طلبوا منه أن‬ ‫والن ّ‬ ‫يعمل معهم ويع ّذب املساجني‪ ،‬ويف لعبة تبادل‬ ‫األدوار مارس أعنف أنواع طرق التّعذيب يف‬ ‫هذه الحالة “يتّخذ العنف طابع التّشفي الذي‬ ‫ال يعرف االرتواء‪ّ ،‬‬ ‫ألن الجرح ّ‬ ‫جيس النّابع من‬ ‫الن ّ‬ ‫القهر غري قابل لالندمال‪ّ .‬‬ ‫فإن عالقة اإلرهاب تولد‬ ‫بشك ملغز “إفراطاً يف االستكانة تجاه ا ُملتس ّلط‪،‬‬ ‫وإفراطاً يف جربوت الق ّوة تجاه األضعف” عىل‬ ‫ح ّد تعبري الدّكتور مصطفى حجازي‪.‬‬ ‫املتأصلة‬ ‫تجدر اإلشارة هنا إىل ّأن آثار العنف‬ ‫ّ‬ ‫يف أعامق ّ‬ ‫الشاب دفعته إىل اإلجرام وقتل امرأة‬ ‫أجنب ّية مسنّة عطفت عليه يف إحدى الدّول التي‬ ‫استقبلت ّ‬ ‫اللجئني بعد اندالع ال ّثورة يف بلده‪.‬‬ ‫هكذا ُترهب دول القمع مواطنيها وتح ّولهم‬ ‫إىل بيادق خائفة تار ًة و ُمتس ّلطة عىل الحلقة‬ ‫األضعف تار ًة أخرى‪.‬‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 16‬‬

‫النّاجني من قوارب املوت انتهى به املطاف يف‬ ‫بالد الغربة‪ّ ،‬إل ّأن خصوص ّيته الجسد ّية والنّفس ّية‬ ‫جعلته يعيش يف مجتمع ض ّيق مع أقرانه املثليني‬ ‫يعاين الفقر والت ّ‬ ‫ّرشد والوحشة دون أن يصله‬ ‫جواب من أهله عىل رسالته‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫الفصل ال ّثاين يف ال ّرواية جاء تحت عنوان “يف‬ ‫املطار” وهذا املكان ّ‬ ‫يدل عىل عالقة تقابل ّية‬ ‫بني ثناثئ ّيات‪( :‬ال ّلقاء‪ /‬الفراق)‪( ،‬الفرح‪ /‬الحزن)‪،‬‬ ‫(األمل‪ /‬الخيبة) ّإل ّأن كاتبي ال ّرسائل جميعهم‬ ‫مل يلقوا يف املطار ّإل الفراق والحزن والخيبة‪..‬‬ ‫ويف هذا الفصل تركت الكاتبة مساحة للقارئ‬ ‫ليشارك يف خواتيم عاملها ال ّروا ّيئ وفق أفق التو ّقع‬ ‫السلبي‬ ‫لديه‪ ،‬وهي بذلك تنقله من دور املتل ّقي‬ ‫ّ‬ ‫إىل دور املتل ّقي الفاعل‪.‬‬ ‫والفصل األخري يف ال ّرواية حمل عنوانني هام‪:‬‬ ‫والسؤال‪ :‬ملاذا‬ ‫“الخامتة‪ ،‬موت البوسطجي”‬ ‫ّ‬ ‫جعلت الكاتبة روايتها تنتهي مبوت البوسطجي‬ ‫(ساعي الربيد)؟ أهو موت مجازيّ ؟ وكأ ّنها أرادت‬ ‫أن تقول ّإن مصري ال ّرسائل كمصري أصحابها أي‬ ‫النسيان والتجاهل والضياع؟ أم هو ٌ‬ ‫موت أمىس‬ ‫مصري من بقي يف بالد تنهبها الحرب وداعش؟‬ ‫بخاف علينا نفاذ الكاتبة إىل أعامق‬ ‫وليس‬ ‫ٍ‬ ‫شخص ّياتها‪ ،‬ورصد حاالتها السيكولوجية‪ّ ،‬إل ّإن‬ ‫الشخص ّيات جاءت بدون أسامء رصيحة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكأن‬ ‫ّ‬ ‫كل يشء يسقط ويضيع يف زمن الحرب‪.‬‬ ‫ويف الحقّ ّأن الكاتبة جعلت شخص ّياتها ابنة‬ ‫بيئتها االجتامع ّية وال ّثقاف ّية‪ ،‬ومل يفد اتصالها مع‬ ‫اآلخر يف إزالة ما علق بها من رواسب التّنشئة‬ ‫االجتامع ّية وال ّثقاف ّية األوىل‪.‬‬ ‫وينبغي ّأل يفوتنا الحديث عن خروج ال ّرواية‬ ‫عن دائرة الزّمان واملكان املحدّدين تحديداً‬ ‫واضحاً؛ لكن عندما رصدت الكاتبة الغربة‬

‫بأبعادها النّفس ّية واملكان ّية ألناس اغرتبوا عن‬ ‫بلدان مل يجدوا فيها ّإل الفقر واالستبداد وويالت‬ ‫الحرب‪ ،‬أرادت أن يكون زمن ال ّرواية الحارض‬ ‫والحارض املستم ّر‪ ،‬وقد يرت ّد زمن األحداث إىل‬ ‫مرحلة ّ‬ ‫الطفولة لدى بعض الشخص ّيات‪.‬‬ ‫ومل تحدّد الكاتبة أسامء األمكنة بشكل رصيح‪،‬‬ ‫وهي البالد التي تركها أصحاب ال ّرسائل‪ ،‬وبلدان‬ ‫االغرتاب التي قصدوها‪ ،‬باإلضافة إىل املطار‪.‬‬ ‫ّإن عدم التّحديد هذا أغنى خيال القارئ‪ّ ،‬‬ ‫ودل‬ ‫عىل القواسم املشرتكة بني املنايف (القرس ّية أو‬ ‫وكأن ّ‬ ‫االختيار ّية) ّ‬ ‫كل مكان يرتك فيه اإلنسان‬ ‫“البيوت األوىل” يشبه األمكنة التي رصدتها‬ ‫الكاتبة بأبعادها النّفس ّية واملاد ّية‪ ،‬غري ّأن هذا‬ ‫ال يعني ّأن بلدانهم كانت أحسن حاالً فحضورها‬ ‫ولو كان يف الحلم يكون “كالكوابيس”‬ ‫ومن املالحظ حضور األمكنة املغلقة يف ال ّرواية‬ ‫(الغرفة‪ ،‬البيت‪ ،‬البار‪ ،‬املطار‪ ،‬الزّنزانة‪ ،‬الفندق‪)..‬‬ ‫فإنا ّ‬ ‫هذا إن ّ‬ ‫دل عىل يشء ّ‬ ‫يدل عىل قلق‬ ‫القاطنني فيها وضيقهم‪ ،‬وهم الغرباء ّ‬ ‫املرشدون‪،‬‬ ‫م ّمن رسمت ظروف الفقر والحرب واالستبداد‬ ‫مصائرهم ودروبهم املسدودة‪.‬‬ ‫واملتم ّعن يف لغة ال ّرواية يرى أ ّنها لغة بسيطة‬ ‫سهلة‪ ،‬بعيدة عن اإلغراق يف التعقيد؛ وهو ما‬ ‫يناسب أسلوب ال ّرسائل الذي بنت عليه الكاتبة‬ ‫السد‪.‬‬ ‫طريقتها يف ّ‬ ‫ميكن يف ضوء ما تقدّم أن نقول ّإن رسائل‬ ‫ال ّرواية كشفت ال ّروابط املشرتكة بني أشخاص‬ ‫مل يجدوا يف بالدهم ّإل الفقر والنبذ واالستالب؛‬ ‫ويبدو يل ّأن الجسور التي عربوها إىل بالد أخرى‬ ‫مل تساعدهم عىل مح ّو ّ‬ ‫الظالل املهيمنة عىل‬ ‫حياتهم التي امتدّت فأثرت يف أسلوب كتابتهم‪،‬‬ ‫لذا جاء بريدهم حزيناّ ُمع ِت ًام كظلمة ال ّليل‪.‬‬

‫ثقافة‬

‫تقع رسالة ّ‬ ‫الشاب بعد إلقاء القبض عليه بيد‬ ‫امرأة تعمل خادمة يف املطار‪ ،‬فتكتب بدورها‬ ‫رسالة إىل أخيها الذي ارتأى لنفسه أن يأخذ دور‬ ‫حاسب ا ُملتس ّلط وهو ا ُملستَلب عىل األصعدة‬ ‫ا ُمل ِ‬ ‫كا ّفة‪.‬‬ ‫تختار الكاتبة يف هذه ال ّرسالة أن تأخذ آلة‬ ‫الخاصة بها وتلتقط صوراً من القاع‬ ‫التّصوير‬ ‫ّ‬ ‫االجتامعي الفقري وما يجري فيه من زواج‬ ‫ّ‬ ‫القارصات مقابل حصول األهل عىل املال‪ ،‬وكيف‬ ‫ينتهي هذا الزّواج ّ‬ ‫بالطالق يف كثري من األحيان‪،‬‬ ‫وهنا تجد الفتاة نفسها ضح ّية مجتمع ال يرحم‪،‬‬ ‫وظروف اقتصاد ّية س ّيئة تجربها عىل األعامل‬ ‫ا ُملهينة والدّعارة‪.‬‬ ‫ال ّرسالة األخرية يف ال ّرواية من شاب “مث ّ‬ ‫يل”‬ ‫وجد رسالة يف البار من فتاة إىل أخيها املسجون‬ ‫شجعته عىل كتابة رسالة إىل أبيه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫قصة هذا ّ‬ ‫الشاب عن‬ ‫تكشف الكاتبة من خالل ّ‬ ‫هيمنة عدد غري قليل من اآلباء يف مجتمعاتنا‬ ‫عىل أبنائهم‪ ،‬وعجز اآلباء عن إيجاد وسيلة‬ ‫الشاب كغريه من ّ‬ ‫للتواصل معهم‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫الش ّبان‬

‫‪19‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.