حرية ،كرامة ،مواطنة
العدد
97 2021 / 8 / 16
مجلة شهرية ،سياسية ،ثقافية ،مستقلة
ً يوما.. إذا الشعب
ً إذا الشعب يوما.. 2
نصار افتتاحية بقلم أسامة ّ
العدد
97 2021 / 8 / 16
من الخطاب الشهري للرئيس التونيس قيس سع ّيد، الذي أعلن فيه ّ حل الربملان املنتخب ،وإعفاء الحكومة والسيطرة عىل مفاصل الحكم ومنها القضاء ،إىل إعالن الجرنال حفرت رفضه ألي إدارة مدنية للبالد ،إىل إعالن حركة طالبان سيطرتها عىل باقي املدن األفغانية املفصلية بعد انسحاب األمريكان ،تتعزز لدى الشعوب املستضعفة عوامل التطرف والعدمية .فال يشء يجدي ،ال الثورات السلمية وال حركات التحرر الوطنية املس ّلحة .وكل ما يقوله الغرب عن نرش الدميقراطية وحقوق اإلنسان كذب ،وال أصدقاء لنا نحن املستضعفني املقهورين. … إذا الشعب يوماً أراد الحياة ..فستنبت يف أرضه فطريات مس ّلحة ،بشعارات إميانية وبنادق كافرة، ترى الحياة بقتل املغاير ،أو إكراهه يف كل تفاصيل حياته ..ومامته! إذا الشعب يوماً أراد الحياة ..ستتمسكن له جرناالته حمالناً وادعة حتى يعطيها األمان ،لتنقلب عليه ذئاباً كارسة ،وتعيده تحت البسطار ،أو حوله، وتؤمن له كل حقوقه ..يف تلميع البسطار! إذا الشعب يوماً أراد الحياة ..تتقاطر عىل أرضه الجيوش ،لتصبح مهمة تحرره تابعاً لوغاريتمياً من الدرجة العارشة.
إذا الشعب يوماً أراد الحياة ..ميوت بعضه ،و ُيسجن ويهجره بعضه ،وينسحق بعضه ،و ُيحارص بعضهَّ ، الباقون منه يف سعيهم وراء اللقمة.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة ..تنعقد عىل اسمه مؤمترات وجلسات ملجلس األمن؛ تقول إن الحق معه ،لكننا سندعم الباطل ..ضدّه! …. كل ذلك حصل ..وأكرث. والواقع يقول بوضوح إن الحياة الكرمية مطلب عيص عىل التحقيق.. ّ ولكن.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. عليه أن يعرف -أو يتع ّلم- أن التغيري هو مسرية حياة، وليس لحظة حامسية عابرة.. إن كانت دراسة التجارب الفاشلة أو غري املكتملة من موجبات التغيري فهي وملحة .وإن كان بناء واجبةّ ، العالقات الصح ّية مع القوى املؤثرة من أسباب التغيري ملح .وإن فهو أيضاً واجب ّ كان طريق التغيري صعباً وفيه مط ّبات وحفر وأفخاخ، فعليه أن يخوضه بحفره ومطباته ورياحه املعاكسة.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. www.freedomraise.net
افتتاحية
املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد
شهرية ثقافية ،اجتامعية ،سياسية، تعنى بالشأن السوري املدير اإلداري معتصم أبو الشامات
الغالف سمري خلييل
لتكن تتمة الشطر أي تتمة ..سيئة أو متفائلة.. ولرتسل قوى الظالم يف األرض كل رسائل التط ّرف والجنون والعدم ..غري إن البقاء عىل ذ ّمة االنحياز للحياة والتحرر والكرامة ،أفضل ألف مرة من الركون لقوانني الظلم واالستعالء يف األرض ..وإن تأخرت استجابة القدر.. إذا الشعب يوماً.. سيبقى منه ولو فرد واحدٌ ،يكافح عىل قيد الحياة.. عىل قيد الرشف!
تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت facebook.com/rising4freedom
نصار رئيس التحرير أسامة ّ
twitter.com/freedomraise
نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي
freedomraise@gmail.com
كاريكاتري سمري خلييل /هاين ع ّباس
أمن رقمي ومحاسبة وائل موىس
زمالء مختطفون يف سوريا رزان زيتونة -ناظم حامدي
السويداء تكرر“ :اهلل من جهد البالء” 3 جمال الشوفي
العدد
97 2021 / 8 / 16 مقاالت
أكدت األيام املاضية ،ومن خالل أحداثها املتتالية يف منطقتي شهبا والرحى ،رفض ونبذ أهايل السويداء لقامئة من املفردات ،وهي: املشاريع الفئوية الضيقة التي تقرص أبناء هذهاملحافظة عىل قدر طائفي أقلوي ،مل يكونوا يوماً من رعاته بقدر ما أنهم رعاة وطنية وانتامء سوري. التصعيد باتجاه االقتتال الداخيل ،أو االنجرارللغة الحرب ..ما مل ُتفرض عليهم. رفض ميليشيات الخطف والسلب والنهبوتجارة املخدرات ،والتي أثبتت أحداث شهبا فيها حيازة أفرادها ال عىل املخدرات وحسب ،بل عىل املنفجرات املحظورة كـ TNTوالـ ،C4والتي عرضها أصحابها عىل املأل! وأثبتت أيضاً تبعية أفراد هذه العصابات مبا ال شك فيه ألجهزة أمنية متعددة ،من خالل البطاقات األمنية التي وجدت بحوزتهم ،هذا عدا عن السيارات املرسوقة أو املعروفة بـ “اللفة”. رفض الفلتان األمني املمنهج ،وسياسة إفقاروتجويع الناس والفساد الحكومي القائم ،وما ينتح عنه من تضييق عىل سبل الحياة ومعاش الناس، دون أي حلول ترجى. كام أثبت الواقع األهيل رفضه للوجودامليليشوي العسكري بني املدنيني ،ورفض االنجرار خلف املشاريع املشبوهة لها ،فقد أثبتت أحداث الرحى عدم قبول املجتمع املحيل لكل من كتائب الدفاع الوطني املرعية من األجهزة األمنية والداعم اإليراين ،وأيضاً ما ُسمي أخرياً بقوة مكافحة اإلرهاب غري متضح املعامل والهوية بعد ،والتي كاد التصعيد بينهام يؤدي القتتال تذهب نتيجته األبرياء ،وتزيد يف تفكيك النسيج املجتمعي ،وتغليب سياسة املشاريع واألجندات الخارجية. يف هذا السياق ،برز خطايب ليث البلعوس ،نجل املرحوم وحيد البلعوس ،والشيخ سليامن عبد ليعبا عن البعد األهيل للمحافظة ورفضهم الباقي ّ بشكل أسايس املرشوع اإليراين وتبعاته يف الجنوب السوري عامة والسويداء خاصة ،والتمسك بالهوية
الوطنية السورية ورفض االنجرار ملقتلة داخلية. ويضاف إليها طرح أفكار تتعلق بحرية التفكري وتأسيس األحزاب السياسية ،وعدم احتكارها من قبل حزب البعث وجبهته الوطنية ،وهذه عندما تأيت عىل لسان رجال دين وقادة فصائل فلها معنى إيجايب وإشارة هامة يف التقدم باتجاه البعد السيايس للعمل الوطني. السويداء ،كأي رقعة يف سوريا ،تجدها تغرق يف مشاكلها الداخلية ومفارقات الحياة اليومية، فتجد بها كل صنوف البرش ومناذج وطباع حياتهم. السويداء املوسومة باألقلية الدينية ،ما يجعلها ترتاب إزاء املختلف عنها دينياً وسياسياً ،ويجعل سياق أحداثها أكرث إشهاراً من غريها؛ فتبدو وكأنها ذات سامت خاصة .فقد عانت هذه األقلية التهميش الوظيفي والسيايس واالقتصادي التاريخي منذ العام ،1966وزادت يف اآلونة األخرية الضغوط االقتصادية عليها ،خاصة وأنها ال متلك معرباَ حدودياً وال مشاريع تنموية محلية ،ويعتمد سكانها عىل الراتب الوظيفي والزراعة البعلية .ولوال وجود أبنائها املغرتبني الذين وصلت نسبتهم ملا يقرب 50%ليساعدوا أهاليهم بالداخل ،لفرغت املحافظة من سكانها .هذا إضافة ملحاوالت عدة لجرها للدخول يف معرتك املقتلة السورية ،أو االقتتال الداخيل فيام بينها ،لكنها برهنت طوال السنوات العرش املاضية أن لها طريقتها املختلفة يف عالج أحداثها ،فهل ميكنها الثبات واالستمرار؟ لليوم السويداء ،ال زالت غنية بإمكانيات سياسية وفكرية ،وقوى محلية قادرة عىل الثبات كخطوط دفاع خلفية .فرغم كل املخاوف التي تحيق بها، واملشاريع ذات الشبهة الخارجية خاصة اإليرانية وغريها ،تثبت متسكها بالثوابت الوطنية العامة: السلم واألمان ،رفض الدم ولغة الحرب والقوة، تغليب سياسة العقل والحكمة وعدم االنجرار خلف املشاريع الطائفية ،التأكيد عىل الفصل بني الدولة ومؤسساتها وبني جهاز السلطة القائم، الذي بات مته ًام من كل األطراف باملحافظة ،رساً وعالنية ،بالفساد والخراب ورعاية الفنت وسبب النكبة والكوارث السورية والسويداء منها .وينتظر
عمقها األهيل أدوات التغيري السيايس املمكنة ،دون أن ينجروا ملواجهة عسكرية ما ،يعلمون جيداً أنها خارسة مجتمعياً ووطنياً. “الله من جهد البالء” ،جملة تلخص تاريخ وحارض يعاش ،تاريخ يحتكم للعقل وتأخري مفاعيل القوة، وتستلزم عالجاً حكي ًام لكل أشكال الشدة واملشقة التي ال طاقة عليها .جملة كرث ترديدها يف السنوات املاضية من أهايل السويداء ،وهم املعروفون بأنهم أقلية دينية تدين لطائفة املسلمني املوحدين املعروفني بالدروز دينياً ،وبالبعد الوطني يف االنتامء لسوريا منذ أرىس سلطان األطرش قيادة ثورة الـ 1925تحت “شعار الدين لله والوطن للجميع”، وذلك حني التقى بالكتلة الوطنية الدمشقية ممثلة بعبد الرحمن الشهبندر .وهذا تاريخ تبدو إمكانية استعادته اليوم مرة أخرى إذا ما أخذت بعني االعتبار ثوابتهم العامة من بوابة السلم ورفض القتل وتحقيق خطوات التغيري الوطني التي تقود لالستقرار واألمان .ما يستلزم فع ًال سياسياً وطنياً متكامل األبعاد ،سواء عىل صعيد املحافظة أو عىل صعيد متكني صالتها بأقرانها السوريني ،فوجود قوى عسكرية متعددة األهداف يف رقعة ضيقة كالسويداء لن يجعل املنطقة مستقرة ،ما مل ترتبط بفعل اجتامعي وطني ذي عمق سيايس ومدين، يرفض لغة الحرب ،ويعمل بالتنسيق والتوازي مع الحوامل املجتمعية املحلية التي أعلنت اتفاقها عىل هذه األسس ،وبذات الوقت مع السوريني الراغبني بتقصري عمر هذه الفرتة املستعصية سياسياً وأمنياً واقتصادياً وحياتياً أيضاً .ما يجعل التغري السيايس الدميقراطي ليس هدفاً سياسياً للمعارضة وحسب، كام هو مشاع ،بل حاجة عامة ورضورة واقعية تنعكس بنتائجها عىل الجميع. فهل تجيب األيام القادمة عن استمرار قدرة أهايل السويداء الذاتية عىل درء البالء وتحقيق السلم واألمان؟ وهل تستجيب معها القوى الوطنية السياسية السورية؟ أم أن هناك جوالت للموت والحرب بسوريا مل تنته بعد ،وال زالت أدواتها متتلك القدرة عىل جر أبناء املحافظة ملشاريع مشبوهة واقتتال مفتعل؟
4
ّ العربية املأمولة مشروطة بإصالح النهضة ديين ـ ثقايف ّ يقدم العقل على النص! طلعنا عاحلرية حتاور الكاتب مرزوق احلليب
العدد
97 2021 / 8 / 16 لقاءات
عىل ضوء أحداث تونس األخرية ،وما سبقها من انهيارات كارثية لثورات الربيع العريب خالل السنوات العرش األخرية ،وعىل ضوء انتعاش الثورات املضادة يف كل مكان وخفوت اآلمال بالتغيري املنشود ،كان ملجلة طلعنا عالحرية هذا الحوار مع الكاتب مرزوق الحلبي من فلسطني املحتلة ،والذي امتد إىل مسائل النهضة العربية واخفاقاتها وإمكاناتها املستقبلية. الحلبي مث ّقف نقديّ يأيت من مجاالت الحقوق والعلوم السياس ّية واالسترشاف .شاعر وناقد ثقايف .يد ّرس العلوم السياسية واألدب .له إسهامات يف مقاربة موضوعات العوملة والهو ّية واللغة واألخالق وما بعد الحداثة. فيام ييل الحوار كام ًال: .1ها هي تونس ُتعيدنا ّربا إىل املربّع األ ّول ،عشية الربيع العريب ،كيف تنظر إىل هذه التجربة املمتدة من مسافة عقد عىل بدايتها ،ما هي مالمح هذه التجربة التي يبدو أنها مل تكتمل بعد ،هل من استنتاجات ،من دروس؟ مرزوق الحلبي“ :إن ما حدث يف تونس ليس مفاجئًا، يتم عىل دفعة واحدة بل من ألن كل ربيع للشعوب ال ّ خالل ما أس ّميه “أثر األرجوحة”؛ أي أن األمور ستتأرجح من جهة إىل أخرى إىل أن تستق ّر عىل صيغة ما لالجتامع وللسياسة والدولة .هذا يف رؤية من بعيد .أما إذا دخلنا إىل حيثيات الحالة التونسية ،خاصة عدم قيام الرئيس ا ُملنتخب سيايس سوى مواجهة بطرح أي بديل إداريّ دستوري ّ الحكم تنفذ الفساد ومالحقة الفاسدين .وضعية فراغ يف ُ صح التعبري .قد تدخل قوى إقليم ّية منه “الشياطني” إذا ّ التونيس أو تعبث الشعب ادة ر إ لتحرف ودولية إىل تونس ّ تتجسد عىل بهاّ .مثة مصالح ال ِق َبل لنا بتبيانها أو تتبعها قد ّ أرض تونس كام حصل يف مواقع شتّى يف اإلقليم .خطوة الرئيس اسع ّيد ناقصة األمر الجوهريّ وهو هيكلة النظام االجتامعي من جديد ،وطرح مسار أو خارطة السيايس و ّ ّ طريقُ .يذكرنا األمر مبا حصل يف دول املنظومة االشرتاكية حني تفكك النظام هناك ،وتبدّلت القوى يف إدارة البالد تب ًعا إىل أن رست عىل صيغة ال تزال تعمل .سنشهد املزيد من هذه التطورات مع الوقت يف كل البلدان العربية التي طالها الربيع العريب .لكن علينا أن نحذر من فائض األمل ،ألن التاريخ ال يتح ّرك عىل ّ خط تصاعديّ من أدىن إىل أرقى ،بل قد ينكرس يف الشعوب التي تسري عليها. ثورات ُمضادة ومصالح لجهات أقوى من الشعوب و ُنخبها.
“أ ّما بالنسبة للدروس ،فال ب ّد من مواصلة تطوير صيغة حداثية للحكم واالجتامع ،ال تنحرص يف دستور أو انتخابات دورية ،أو يف مبدأ التداول عىل السلطة والفصل بني السلطات ،بل يف توزيع الرثوات -القليلة أص ًال يف تونس -من جديد عىل نحو أكرث عدالً .تحدّيان كبريان ينبغي عىل النُخب والشعوب أن تخوضهام؛ يف األ ّول :أن ُتنتج صيغة الجتامع معقول ،يف أساسه آليات لترصيف التوترات والرصاعات ،من خالل تطوير (موديلها) وطريقتها يف إدارة البالد والخري العام وعملية التنافس بني قوى املجتمع .ويف الثاين :أن تعرف كيف تح ّيد الضغوط و ّ التدخالت الخارجية ،مبا فيها بحجة تقويم االقتصاد .وهو عادة الباب املرشع التي تنفذ منه قوى العوملة إىل وضع يدها عىل مقدرات البلدان املأزومة وعىل مصري شعوبها”. السيايس كان واضحاً يف األحداث .2دور اإلسالم ّ يف كل األقطار التي شهدت مواسم الربيع العريب، ويف تونس أيضاً ،وقد ُأتيح لها أن تتس ّلم مقاليد الحُ كم يف بعض املواقع -كام يف مرص وتونس -لنشهد تفجراً يف عالقتها مع املجتمع والدولة ،ما فيام بعد ّ الذي يُعيق املصالحة بينها وبني الدولة واملجتمع؟ مرزوق الحلبي :ظهور “داعش” ومتدّد اإلسالم الراديكا ّيل السيايس أن العدمي فسح املجال دولياً لقوى اإلسالم و/أو ّ ّ العدمي ،وأقصد تنتعش ألنها صارت -مع ظهور اإلسالم ّ املجاهر مبوقفه ضد الدولة ال ُقطرية وضد النظام العاملي م ًعا سع ًيا إىل دولة الخالفة العادلة ،وما رافقها من تنظريات نكوص ّية غيب ّية .لكنّها -كام النهضة يف تونس مث ًال -عدّلت موقفها لتبدو غري عدمية وغري متط ّرفة ،أي حيال التط ّرف، ومل تعدّله حيال املجتمع والدولة .ا ّتضح من سلوك حركة النهضة أنها تقبل اللعبة تكتيكياً وليس كخيار اسرتاتيجي. مبقتلي بنيو ًيا يجهضان السيايس ُمصابة حركات اإلسالم ْ ّ إمكانية أن تصبح قوى سياسية فاعلة إىل جانب القوى األخرة يف املجتمعات العربية اإلسالم ّية ،تش ّد نحو العيش املعقول واملد ّين .املقتل األ ّول أنها مل تتصالح مع التاريخ أي مع الحارض ومع ا ُملستقبل -ألنها ال تزال أسرية النصاملتقادم ،واملد ّونة القارصة عن اإلحاطة بحركة التاريخ والتموضع فيها بأمان كقوة ُتنتج و ُتسهم بقسطها يف إدارة عجلته .لننتبه إىل الخطاب االستعاليئ الذي ُتنشئه هذه الحركات يف مقابل التحديث وقوى العوملة والعلوم تؤصل لها يف وا ُملنجزات .فإما أنها ال تع ّول عليها ،أو أنها ّ
* "أخطأ اإلسالمويون حيث أخطأ القوميون ـ يف االعتقاد أن الهوية كافية لحل مآزق الحداثة والدولة واالجتامع" ّ املد ّونة اإلسالمية ،وتدّعي أن أساسها يف اإلسالم مسترتاً النص القرآين! وجهان لعملة واحدة؛ ومتواف ًرا لنا يف ّ التشاوف وعدم اإلقرار بالهزمية ،والوهن والنكوص كمدخلٍ للفعل الجامعي السيايس وسواه .يف هذه الحالة ال أتو ّقع من أصحاب هذا الخطاب سوى أن ُيراوحوا يف أماكنهم، يك ّررون وينقلون ويتّبعون ،وال ُينتجون شيئاً ،ألنهم مرتاحون إىل ما كانوا أنتجوه ..بالفرضية طب ًعا من قبل! أما املقتل الثاين هو أن هذه الحركات عىل تفاوت مشاربها، مل تط ّور أي معادلة إلدارة االجتامع الحديث .ليس لديها يف مدونتها أو نصوصها ما ّ يحل مشكلة الفقر ،أو غياب التصحر والرتييف ،وما إىل ذلك من املساواة ،أو سريورات ّ مشاكل الدولة ال ُقطريةّ .ربا ألن هذه الحركات ال تقبل بالحداثة نظاماً لالجتامع والدولة ،وال تقبل مببدأ الفصل بني السلطات وبني الدين والدولة .فهي مسكونة بوهم كاف إلدارة الحارض واقتحام ا ُملستقبل .لكنها أن املايض ٍ تعدم يف واقع األمر الحلول العلمية العملية ملشاكل املجتمع العريب أو اإلسالمي ،إذا شاءت ،يف الراهن الحدا ّيث. خاصة أن الكون ميلء بالتحديات املفروضة عليها .فهي ليست ضمن إمرباطورية إسالمية ممتدة “من ..إىل،”.. بل هي قوى سياسية من مجموعة موديالت وقوى نافذة سياسية واقتصادية عىل مستوى الكون ُتريد هي، أيضاً ،أن تهندس الكون و ُتديره و ُتدير االجتامع يف هذا ال ُقطر أو ذاك .مبعنى آخر؛ إن الهوية بوصفها وع ًيا مبن كاف لحصول أنت ،كجامعة ورواية وتاريخ ،رشط غري ٍ االقتدار والنهضة وبناء مجتمع عاقل ودولة معقولة. اإلسالميون يعتقدون أن الهوية اإلسالم ّية بوصفها ثقافة وأمناطوأنساقوروايةوتجربةكافية ّ لكليشء،مبافيهاللحكم وإدارة عملية االجتامع .وهذا رضب من الغيب والتدليس سيايس ال متارسه بهذا القدر أو ذاك. ال أعرف حركة إسالم ّ السيايس مل يتع ّلم من أخطاء يبدو يل جل ًّيا أن اإلسالم ّ األحزاب القومية العربية التي انزلقت إىل فاشية أو استبداد
.....
97 2021 / 8 / 16
متن ّقل نشهد آثاره ومتثيالته يف اإلقليم العريب عىل نحو يجعل من فرضياتنا عن انتصار الشعوب مج ّرد إرث تقادم. أما ثورة االتصاالت ،وإن بدت لنا سالحاً يف أيدي الشعوب (انظر ما أشيع من خطاب بهذه الروح بعد ثورة الشعب املرصي ضد حكم مبارك) لكن لديها وجه آخر؛ وهو خصوصا عىل أنها وسائل نافذة للسيطرة واالستحواذ، ً الوعي وتصميمه عىل نحو ُيتيح ملراكز القوى “صناعة الرأي” و” ّيك الوعي” العام للناس وللجامعات عىل نحو يخدم قوى اإلنتاج ومراكز إنتاج العوملة وسريوراتها.. أمر الفت أيضاً يف هذه السريورات هو أنه إذا كانت الحركة القومية العاملية مح ّر ًكا لبناء مجتمعات وتسوية رصاعاتها وتوتراتها الداخلية لضامن نوع من التجانس ّ وتشظي يف الدولة القومية ،جاءت العوملة لتفكك املجتمعات يف إطار إضعاف الدولة القومية والقرار ليتيس لها تحقيق مصالحها وأهدافها الوطني واالجتامع ّ داخل الدول وعربها .مبعنى أن سريورات العوملة املتعدّدة املستويات تعمل بشكل تلقايئ وبشكل مدروس عىل تفتيت الكيانات الدوالنية والتعامل معها كقطاعات ومجموعات استهالكية أو كمجموعات تستثمرها يف مشاريعها الكونية أو اإلقليمية .فلننتبه إىل ظاهرة جيوش املرتزقة أو استعامل مجموعات ُمعدمة -السوريني مث ًال -يف حروب تركيا يف ليبيا أو يف حروب الروس يف مواقع أخرى. ما أريد قوله بناء عىل االستعراض آنف الذكر إن عوامل تفتيت الشعوب يف كل مكان أكرث من عوامل توحيدها. ال تنترص الشعوب بدون أن تط ّور وتف ّعل نوعًا من اإلرادة السياس ّية الجامعة ،وهو ما تستهدفه مراكز القوى وتنجح كام نرى يف رضبه أو إبقائه تحت السيطرة. يف كل هذه السريورات تتبدّى الشعوب واملجتمعات العرب ّية ّ هشة ولقمة سائغة خاصة وأنها مستهدفة ألن أراضيها ُمرتعة باملوارد واملصالح كالتي أرشنا إليها. أشري بناء عىل دراستي وتأماليت يف فكرة الدولة إىل أنني يف سبيل االستنتاج بأن سريورات العوملة لن ترتدد يف شطب دول وتغيري خرائطها وحدودها ،ألنها متلك القدرة عىل ذلك. صارت الدولة يف كثري من األحيان ظاهرة اسمية ال فعلية؛ سورياوالصومالوالعراقوليبياواليمنولبنان،مث ًال.نحنعىل
العدد
* “علينا االنتباه أن سريورات العوملة تحمل كل عوامل تفكيك نسيج القوميات والجامعات عكس الفكرة القومية التي حملت عوامل الوحدة والتجميع ،وعليه فإن مهامت الشعوب واملجتمعات ال سيام امل ُستضعفة صارت أصعب”
لقاءات
منصة الفكرة القومية توحش كام يف سوريا اآلن ،من ّ أو ّ ماض مجيد .وهو كحركات والتعويل عىل التاريخ بوصفه ٍ سياسيةاليش ّذعنالقاعدةاملعروفةعندالفوضوينيالثوريني الذين قالوا ،ونقول معهم ،إن السلطة ُمفسدة وكذلك املال طاغ .فكيف إذا اجتمعا معا؟ وهو ما ألن فيهام إغراء ٍ حصل يف تونس وغريها .فاإلسالمويون برش مثلنا؛ ُتغريهم السلطة واملال وال ِنعم األخرى .هم من طينة البرش ولو تل ّفعوا بعباءات الشيوخ وعاممئهم وكرروا العظات ُ وخطب الجمعة عىل مدار الكرة األرضية .وتونس تجربة ُتثبت ذلك. وقد رأى الناس ما رأوا فعادوا إىل االحتجاجات والشوارع. للتلخيص أقول :ال ُيكن لهذه القوى أن ُتدير مجتمعاتها بنص الهو ّيت .ستفشل يف ّ كل مرة ُتحاول ذلك .ال مناص من مصالحة تاريخية مع الذات املوجودة اآلن “خارج التاريخ”؛ مبعنى أنها مفعول بها غري فاعلة فيهُ ،مستهلكة للتحوالت وال ُتنتجها ،يقع عليها الفعل ف ُينهكها أو يحرشها أو يستغ ّلها .إذا مل تعرتف بهذا الواقع فمن املستحيل أن تغادره إىل موقع أفضل .وهذا يعني بقاء املجتمعات التي ُتديرها أو ُتشارك يف إدارتها يف مواقع متأخرة فيحرض سؤال شكيب أرسالن من مطلع القرن الفائت ،من جديد :ملاذا ّ تأخر املسلمون وتقدّم غريهم؟ ال ب ّد من الخوض يف تجربة إدارة االجتامع والدولة من خالل العقل البرشيّ واملوديالت التي أنتجتها الحركات املدن ّية يف العامل .والتجارب الناجحة ليست قليلة يك نتع ّلم منها ،أو يك نقتبسها .أما نظريات املالءمة وتعريب هذه النامذج فقد ثبت لنا أن القوميني العرب واإلسالميني العرب ُي ّ فضلونها يك ّ يتستوا عىل الهروب من استحقاقات الدميقراطية مث ًال أو تبعات الفكرة الليربالية. هل ستختار هذه الحركات بوعي وإرادة الخروج من مد ّونتها والرشوع برؤية العامل بعقل بارد ومنهجية اسرتاتيجية ُتح ّررنا وتح ّررها؟ .3كربنا عىل فرضيات تقول بانتصار الشعوب وإراداتها.. لكننا حيال محنة حقيقية دموية ،ماحقة للشعوب العرب ّية التي انتفضت وخرجت من الجوع شاهرة سيفها ،مجتمعات ّ التوحش تشظت ودول تف ّككت و ّ ُرص التاريخ العريب عىل تزويدنا هو سيد املوقف ..ملاذا ي ّ مبشاهد املوت والتهجري ،ما الذي يشدّنا إىل هناك؟ مرزوق الحلبي :هذه فرضيات تغذت من عوامل تاريخية كانت فاعلة بقوة .حركات تح ّرر الشعوب من االستعامر وقبلها الثورات السياسية االجتامعية الكربى (الثورة الفرنسية وتلك الروسية وتلك األمريكية) والفكرة الدميقراطية الليربالية والحركات القومية التي نشأت ومنت منذ القرن السابع عرش وأقامت أقطارها ودولها واجتامعها، رغم املصاعب والحروب والرصاعات املريرة .يف هذه العوامل ما ُينتج آماالً وأحالماً وفرضيات “إن الشعوب إذا ه ّبت ستنترص”ّ .إل أن هذا اإلرث من الفرضيات وإن
بقي ّ غي من طبيعته مع الشعوب. وظل معنا لكن التاريخ ّ فنحن لسنا بصدد حقبة الثورات والتحوالت التي قادتها الربجوازية يف مواجهة الرأساملية ضمن ما اعتربناه الحداثة، هذه الحقبة انتهت .لقد دخلنا من عقود يف حقبة العوملة املتسارعة ،وانتقلنا من الحداثة إىل ما بعدها أو إىل ما ّ سمها زيغموند باومن بـ “الحداثة السائلة” -ولديه أسبابه- حداثة زئبق ّية ّ تنسل من املكان وتهرب خارج الحدود .إننا ُ حيال ما بعد القومية والدولة القطرية ،وسيكون عىل تغي من فرضياتها يف حركتها املتط ّلعة إىل الشعوب أن ّ النسبي واملساواة النسب ّية .يعني إننا ال نستطيع العدل ّ أن نراهن عىل تحويالت تفرضها الطبقة الربجوازية عىل الطبقة الرأساملية ألننا حيال هيكلية جديدة للطبقات. “يك ال ُننهك القارئ باملصطلحات سأكتفي مبحاولة لتفسري العوملة .وهو املصطلح املفتاح لفهم التاريخ بوصفه رصاعًا بني قوى .العوملة يف جوهرها هي حركة بدون معوقات السلع والخدمات وخطوط وأنظمة حامية وطنية لكل من ِ اإلنتاج والعاملة واملهارات ورأس املال (انظر البورصات) واألفكار واألمناط وال ِق َيم .هذه الشبكة من التقاطعات الصغر، والعمليات االقتصادية الهائلة ال ِك َب واملتناهية ِ التي توازيها يف الحجم عمليات سياسية تخلق أمام أعيننا عاملاً جديداً تفعل فيه فعلها ثورة االتصاالت والتكنولوجيا العالية .هذه السريورة التي اندفعت بقوة بعد انتهاء ونحفت مفهوم الحرب الباردة أضعفت الشعوب والدول ّ السيادة الوطن ّية ونفاذ القرار الوطني وكادت ُتفرغه من مضمونه (وهو ادّعاء يورغن هربماس آخر ّ منظري مدرسة فرانكفورت) بل أفرغته متا ًما يف املجتمعات ا ُملستضعفة .القوى املتن ّفذة يف زمن العوملة وفكرة العوملة ذاتها وقوى الدفع فيها تش ّد العامل شدًّا إىل استغالل مواطن الضعف والهشاشة عىل مدار الكرة األرضية. حركة أخرى موازية وناتجة عن العوملة ح ّررت العامل من كوابحه ومواثيقه ومعاهداته الكابحة للعنف واالستغالل والعدوان .فقد انتهت حربان كونيتان إىل سلسلة من القوانني والقواعد واملواثيق التي بدا العامل عىل قواه وأقطاره تم استخالصه. قاب ًال بها كجزء من الدرس اإلنساين الذي ّ سلسلة من الفظائع وحروب اإلبادة والجرائم ضد اإلنسانية استم ّرت حتى ُمنتصف القرن العرشين ،األمر الذي دفع الفكر السيايس واالجتامعي إىل ابتداع املواثيق والقوانني وسلسلة ال نهائية من النُظم املتفق عليها للح ّد من كل هذا .وأرانا اآلن ما بعد هذه الكوابح وهذه الضوابط ،وأن العامل ّ فك أرس نفسه منها واندفع بفعل العوملة إىل مرحلة جديدة من الرصاع عىل املوارد واملواقع وخطوط املالحة والتجارة والبحار واملضائق واملمرات البحرية ومصادر الطاقة واألسواق ..وهذا ك ّله يف صلب سريورة العوملة. انتقلنا إىل رصاع مكشوف حول ما ذكرت ،وهو رصاع
5
طلعنا عاحلرية حتاور الكاتب مرزوق احلليب:
6
العدد
97 2021 / 7 / 17 لقاءات
بعد مئة عام وأكرث عن اتفاقيات سايكس -بيكو (،)1916 وقد رأينا أنه مل يبقَ منها سوى الخطوط عىل الخريطة. إثبات عىل أننا يف حقبة أخرى يحدث فيها كل يشء، ويتح ّرك التاريخ عىل حساب الشعوب وبهزميتها -مؤ ّقتا. .4كيف تنظر إىل العالقة بني “املوضوعي” و”الذايت” وبني “الداخ ّ “الخارجي” فيام حصل ،أو هل يل” و ّ أمكننا الفصل بني العوامل الذاتية -الثقافية السياس ّية االقتصادية واملعرفية -وبني العوامل الوافدة من الخارج؟ تم فهو مرزوق الحلبي“ :الفصل بني هذه العوامل إذا ّ اصطناعي ولغرض النقاش .ألن ّ كل هذه العوامل فصل ّ تتداخل أكرث وأكرث مع سريورات العوملة وتقاطعاتها الالنهائ ّية .مع هذا علينا كعرب أن نسأل أنفسنا أسئلة صعبة .أن ننقد ذاتنا الجامعية وثقافتنا ونع ّرضهام للحفر الذي ال ُيحايب .لقد فشلت النُخب العرب ّية يف العموم يف إدارة الدولة واالجتامع املد ّين ألسباب تتصل بها وأخرى برشوطها÷ وهي رشوط اإلقليم أو السياسات الدولية. فشلت ألسباب تتصل بها وبثقافتها :عوامل ذاتية .فشلت يف عملية بناء الحياة املدن ّية التي ال تقوم ّإل بتكريس املدينة والحارضة .ورأينا أن العكس هو الذي حصل .فقد تر ّيفت ا ُملدن العربية بسبب من الهجرة إليها من األرياف واملناطق النائية .صحيح أن الحركة حصلت يف نيويورك ولندن وباريس وطوكيو ..لكنها توازت مع سياسات وطنية متعددة املستويات ملعالجتها تالفت انعكاساتها ،وهو ما مل يحصل يف الحالة العربية .إن حاالت الهدر للموارد يف املجتمعات العربية ظ ّلت عالية بكل املعايري ،وهو ما يعني أن املال العام الذي من املفروض أن ُيستثمر يف الدولة وصيانتها وتطوير خدماتها و ُبنيتها ،مل يصل إىل تم تهريبه إىل غاياته ،بل دخل إىل حسابات شخصية أو ّ الخارج .كام أن املوارد البرش ّية العربية تم هدرها كجزء من إهدار اإلنسان العر ّيب وجعله رهينة االستبداد أو مشاريع شمولية أو قهرية قابضة أو قاتلة ،كام يف سوريا. أمر آخر هو اإلرادات السياسية التي ذهبت يف اتجاهات ال ّ متت بصلة إىل مفهوم دولة املواطنني واملؤسسات والحداثة .أجزم أن اإلرادات السياسية مل تص ّوب عىل بناء الدولة وتطويرها بقدر ما ص ّوبت إىل تحقيق مصالحها هي ولو عىل حساب شعوبها ومقدرات هذه الشعوب .يف يتم تطوير الصناعات التقليدية وال تحديثها. سوريا مث ًال ،مل ّ تتم حركة التمدين ّإل عىل مقاسات الطغمة الحاكمة ومل ّ وهي طغمة طائفية وإن قالت بالعروبة والقومية. األنظمة العربية عىل العموم بدل أن توضح غاياتها ومناهجها التحديثية املدن ّية؛ املواطنة واملساواة أمام القانون والحقوق الدستورية للناس وتكافؤ الفرص للجميع ،فقد م ّوهتها وجعلتها ُمبهمة بارتكازها م ّرة عىل
التد ّين الشعبوي ،وم ّرة عىل العشرية والطائفة والهو ّيات املناطق ّية والعرق ّية والدين ّية ..هذه ال ُبنى التقليدية تعززت وازدهرت ،األمر الذي أفىض إىل والءات متعددة للفرد؛ فلم تعد الدولة أ ّمه وأباه سوى كهدف لقمعها ومباحثها. راعني من قراءايت اآلخرية وتأماليت أن أكتشف أن كثرياً مام ُقلناه عن “النهضة العربية” و”مطالعها” يف نهايات صح القرن التاسع عرش كان غري دقيق وغري علمي إذا ّ التعبري .لقد حصل تضخيم لهذه الحالة فوق حقيقتها التاريخية .فخطاب النهضة طال فئات محدودة جداً يف املراكز العربية خاصة ألن انتشار الكتب والجرائد كان محدوداً؛ بضع آالف نسخة من أوسع الجرائد انتشا ًرا يف مرص ،وأن معظم الناس كانت أ ّمية ال تتداول الخطاب وال مفرداته .وخاصة أن املجتمعات العربية برمتها كانت يف غالبيتها الساحقة مجتمعات زراعية وريف ّية .وال يزال بعضها كذلك أو هي انتقلت إىل مجتمعات تعيش من يغي من ال ُبنى االجتامعية اقتصاد ريعي غري منتج وال ّ التقليدية .ما دامت النُخب قرأت تاريخها وأوضاعها قراءة خاطئة أو منقوصة ،فإننا لو س ّلمنا مبشاريعها النهضوية فإنها سوف ّ تضل التطريق إىل ُسدرة املنتهى. يف مستوى آخر ،مل تستطع األنظمة واملجتمعات العربية من إدارة عالقاتها بالعامل بشكل نافع كنتيجة مبارشة لعدم ُقدرتها عىل إدارة نفسها يف الداخل .أي أن الخلل الداخيل هو يف نظر القوى الخارجية فرصة ُيكن النفاذ منها إىل تحقيق مصالح تجارية واقتصادية واسرتاتيجية. ألن جوهر املجتمعات العربية يف ّ ظل اإلسالم كخطاب ومد ّونة وعقلية وموديل ،ظ ّلت املجتمعات العربية متخ ّلفة عن الركب .فقد أدت هذه العوامل إىل فقر معريف ،ال س ّيام يف العلوم االجتامعية العملية التي مل تتط ّور ّإل قلي ًال .باملقابل ،وخال ًفا لحركة النقل عن الغرب يف بداية النهضة العربية ،امتنع العرب عمو ًما واإلسالميون تحديداً عن التع ّلم من املركزية الغربية ألسباب هويتية وتاريخية ممتدّة منذ الحمالت الصليبية .وهو أمر أفىض إىل فقر يف هذه العلوم واملعارف ،وإىل نقص شديد يف املوديالت واآلليات الرضورية لهيكلة املجتمع واالقتصاد وإدارة االجتامع .فكان النكوص إىل استعامل محصلة حاصل. العنف أو موديل “األنظمة الشمولية” ّ تصح الرؤية علينا أن نشري إىل أن النُخب العربية هي يك ّ املسؤول األول واألخري ّ عم ّ حل بشعوبها خاصة بعد االستقالل .إن صانع السياسات يف العامل العر ّيب فشل وأخفق وع ّلق األسباب عىل شامعة الغرب أو القوى الخارج ّية. فشل الخيار الدميقراطي هو فشل عر ّيب يف سياقنا هذا، ألن الدميقراطية ظ ّلت بعيدة عن ذهنية هذه النُخب التي واجهت االستعامر بعقلية ثورية انقالبية ال تحويلية .قوامها
* “ال ُنخب العرب ّية عىل مشاربها أخفقت يف استثامر حقبة االستقالل وما بعد االستعامر ال س ّيام يف التأسيس لبنية اقتصادية تحمل املجتمعات إىل مواضع األمن واالستقرار” العنف أو حرق املراحل .إقامة كل هذه املسالخ البرش ّية متوحشة ض ّد الناس من درعا يف سوريا وشنّ حروب إبادة ّ حتى إدلب ،هو يف األساس من طبيعة النظام الشمويل .أو هي من طبيعة نظام أق ّلوي يحرق البلد وأهلها ك ّلام الحت بارقة تغيري يف سلطته .وهذه الظواهر تستعملها الدول الخارجية وقوى العوملة لتحقيق مصالحها .وهي تستثمر الفرص إذا نشأت وقد تلجأ إىل خلقها إذا استطاعت. مبعنى أنها ليست بريئة من دم الشعوب العربية ومآسيها. لقد اعتادت الدول العربية بعد االستقالل عىل اعتامد خطط خمسية ورباعية وعرشية وما إىل ذلك يف إطار مناهج وموديالت اجتاحت العامل بعد االستعامر .إال أنها يف غالبيتها ظ ّلت بدون بنية اقتصادية متينة أو قابلة لحمل املجتمع بأمان .مل يحصل التحويل االقتصادي املأمول الذي يضمن مستوى معيشة معقول وتوزيع الرثوات ،التي قد تكون محدودة ،عىل نحو عادل ولو بشكل نسبي .لقد أرادت النُخب الحاكمة أن تضمن مصالحها وسؤددها وأن ُتخفي فشلها وإخفاقاتها التاريخية بالقهر والعنف .وهو ما نحصده إىل اآلن. .5ينحو البعض يف العامل العريب ويف خارجه إىل اتهام الثقافة العربية بقصورها ،إىل الحفر فيها لكشف أسباب العطب .يذهب آخرون أبعد من ذلك إىل نوع من جلد الذات وتحقريها وتبخيسها وإنهاء كل نقاش بالقول: “ألننا عرب”“ ،ألننا مسلمون” لن تقوم لنا قامئة! مرزوق الحلبي :أنا شخص ًّيا أمقت لعن الذات وأعتربه مقت ًال من مقاتل العر ّيب ا ُملنفعل بسبب من التخ ّلف والقهر .وأرى ذلك من نتائج الشعور بالقهر حيال العامل واآلخر .من األنساق الذهنية القابضة يف حاالت القهر. هي نتيجة أن تفقد الثقة بأنك برش كباقي البرش ،وأنك قادر مثلهم ،وأن ال يشء ينقصك ،وأن مجتمعي يستحق وجدير وقادر .حالة هي نتيجة قرون من الشعور بالقهر. وجه آخر من هذه النسق الذهني الفكري العميل هو تلك النزعة االستعالئية تجاه الغرب أو تجاه كل ما هو إسالمي .لعن الذات ُيعفي صاحبه من أي ليس عر ّيب أو ّ واجب وفعل .واالستعالءً ، أيضاُ ،يعفيه من بذل الجهد إلحداث تغيري .فاالستعالء مينحه شعوراً بالتوازن حيال
.....
العدد
نناقش من خالل علم اجتامع وعلوم سياسة حقبة العوملة. لفت نظري يف عالقايت الشخصية مع مثقفني عرب ،ويف الخطاب الثقايف العريب ،أن مثقفني غري إسالميني علقوا يف التوجهات اإلسالموية القائلة إن املسلمني أفضل من فخ ّ سواهم ،ألنهم مسلمون فقط .أل ّنهم يدينون بدين اإلسالم، يحجون ويصومون ويؤدون الفرائض! من فهم كهذا وألنهم ّ للذات والوجود لن نتقدّم سوى إىل نكبة بعدها نكسة. أنت لست أفضل ّ ألنك مسلم ،وألن طابع املجتمع إسالمي، وال هذا االعتبار ُيح ّررك من واجب بذل الجهد الواعي واملدروس إلنتاج العيش اآلمن واالجتامع املعقول .وبالقدر نفسه أنت لست عاجزاً وال مقهو ًرا أل ّنك مسلم ،ويف مجتمع إسالمي الطابع وتدين باإلسالم كام ُيحاول إقناعنا البعض. ال مناص للعريب كجامعة من مواجهة جرحه الرنجيس، كام وصفه الصديق الراحل جورج طرابييش .ال ُيكنه ّإل أن يخضع طوعًا ملقاربات فرويد وثورته يف فهم اإلنسان لذاته .وكام أرشت ساب ًقا ،العريب كباقي البرش ال ّ أقل وال أكرث .من هنا تبدأ املسرية .وح ّبذا لو طالت حقول حياته ك ّلها ال س ّيام لغته وثقافته القارص ْتي يف كل ما يتّصل مبعارف الحداثة واالجتامع الحديث املع ْومل ،وما بعدها ال س ّيام ما يتّصل منها باالجتامع الحديث والدولة الحديثة.
97
* “فرضية أننا خري أ ّمة أُخرجت للناس تشبه فرضية أننا األفضل ألننا مسلمون وكالهام رضب من الغيب والهرطقة”
2021 / 8 / 16
اآلخر ،وبأن األمور عىل أفضل ما يكون .ولننتبه كيف تتحول نقائص العريب ك ّلها إىل فضائل ضمن هذا الخطاب. ما يبقى هو فعل حفر جاد يف ثقافة العريب وهويته وإرثه ومد ّونته .عليه أن يتخ ّلص من شعور القهر أوالً .وهي عملية لن تحصل بفعل خارجي بل بفعل ذا ّيت .أن يعرتف بنواقصه وإخفاقاته كشعب ومجتمع وديانة وثقافة .أن يتصالح مع ذاته ويرممها ويحميها من الوقوع يف رشك التأرجح بني نقيض ونقيض .هذا لن يحصل دون مواجهة بني الفكرة العلامنية والدين أو بدون إصالح ديني شامل. صحيح أن فالسفة مسلمني وعر ًبا حاولوا واقرتحوا وج ّربوا.. لكن املؤسسة العربية ظ ّلت مؤمتتة بنظام العقلية اإلسالمية والتاريخ العريب املجيد .ما حصل للفكر اإلسالمي حصل أيضا .هناك وهنا ّ للفكر القومي العريبً ، ظل الخطاب ا ُملهيمن خطابا سلف ًّيا ماضوياً .من هنا دعويت الرصيحة إىل القطيعة التامة مع الرتاث ولو لحقبة زمنية .فهذا االشتغال امل َريض بالرتاث وهذا االنغامس باملد ّونة كمصدر إلنتاج الحلول واملخارج كار ّيث ،ألنني ال أرى أي طائل من هذا االنشغال ّإل إذا متحور يف تبيان املعوقات وأسباب الفشل. التعامل مع الرتاث كسبب للهزائم ُيفيدنا ،أما غري ذلك فهو تكريس للتخ ّلف والقهر ،وتكريس العرب مضحكة العرص. علينا أن نعرتف أن العطب يف الجذر .يف الثقافة التي مل العبايس. تتجدّد معارفها وال علومها ومعارفها منذ العرص ّ أكرث من ألف عام من التكرار والنقل واال ّتباع .لنأخذ مثالً اللغة العربية كم هي جامدة لدى املؤسسة الرسمية اللغوية والسياسية .كم هي مغلقة أمام أهلها .كم هو معجمها فقري ومحدود األفق .كم هو التعامل معها ُيشبه تعامل املجتمعات العربية مع املرأة؟ هناك رضورة لتجديد املعارف العربية من خالل اعتبار معرفة اإلنسان معرفة للعرب ،أيضاً ،وال ضري يف استخدامها يف إدارة االجتامع وليس فقط يف تحقيق رفاهية األمراء والطواغيت كام هو حاصل .عىل العرب أن يدخلوا التاريخ من جديد عىل أنهم كباقي شعوب األرض ال ّ أقل وال أكرث .ليسوا “خري أ ّمة ُأخرجت للناس” لكنهم ليسوا ّ أقل من أي أ ّمة أخرى” .6املخرج ..سؤال املليون دوالر ،أو السؤال الذي يج ّره العرب منذ مطالع النهضة يف أواخر القرن التاسع عرش، أي منذ ظهرت مالمح أ ّمة ومجتمعات عىل عتبة الحداثة؟
مرزوق الحلبي :هي محاولة منّي لقول ما ال ُيقال يف ُ خضت يف السنوات األخرية يف تجربة شخص ّية جدًا العادة. ومع ّلمة جدًا .مت ّثلت يف التعاون مع مؤسسة بريطانية ّ بالتدخل يف مناطق النزاعات تعتمد منهجيات متخصصة االسترشاف ودراسة املستقبالت .استكملت عندها يف محاولة إلطالق مرشوع تجريبي يف فلسطني الداخل. عندما أردت تطبيق ما درست وجدت أن خرية أبناء مجتمعي تعارض قبول لعب تخطيط املستقبل ودراسته ورسم سيناريوهاته ،عىل اعتبار أنهم جميعاً -وأنا معهم- كنّا مص ّوبني عىل ّ حل الدولتني كمنظومة سياسية وفكرية وذهنية .مل نستطع تجاوز حدود هذا النسقّ ، غل يف اللقاءات الخامسة والسادسة .يومها ،أدركت كم هي األنساق السياسية ،وفرضيات العمل املتقادمة تعيق مج ّرد التفكري يف ا ُملغاير ويف املمكن املختلف ويف املستقبل .مبعنى أن النُخب العربية أسرية فرضيات تقادمت وأن عقائدها وأيديولوجياتها صارت كومة من الخردة تربض عىل صدرها وفكرها ولغتها ،ينبغي التخ ّلص منها يك تتح ّرر من وهمها. يف ختام تجربتي ا ُملشار إليها انتهينا إىل تقرير اسرتاتيجي يقوم عىل رسم سيناريوهات ممكنة للرصاع اإلرسائييل- الفلسطيني (العريب) .نتبناه بلغة اسرتاتيجية باردة تأيت من فوق العقائد واإليديولوجيات ،وتعتمد العقل العلمي املف ّكر ،وقاعدة بيانات جافة تتجاوز خطاب األمنيات والرغائب .حدّدنا نقاط الضعف ومكامن القوة ،وخارطة ميسة وأخرى معيقة إىل آخر األعداء واألصدقاء ،وعوامل ّ التفاصيل .عندما قرأنا ما وضعناه شعرنا شعو ًرا جامع ًيا نصنا العقالين مح ّرراً لنا بامتياز .وخلصت بالتح ّرر .كان ّ إىل كتابة مقال بعنوان مشابه هو “النص االسرتاتيجي نصا تحرير ًيا بامتياز” .للقول إن إعامل العقل بوصفه ًّ صح التعبري -ح ّررنا من االنفعاالت واعتبارات: الجاف -إذا ّ نحب ونكره ونتمنى ،وجعلنا نعرف ما ُنريد وما نستطيع، ّ وكيف نفعل ذلك .باملناسبة ،عندما أردت تحضري مواد مساعدة ملجموعتي باللغة العربية وجدت مقاالً واحداً مرتج ًام عن اإلنكليزية يتحدّث عن علم االسترشاف. رسين كثرياً أن أكتشف قبل عامني مجلة “االسترشاف” و ّ الصادرة عن معهد الدوحة .أعرتف أنني قرأت ثالث مجالت كاملة منها يف أسبوع واحد .لقد و ّلدت لدي ً أمل
خاصة ،وأنني أعرف مناذج إلبداعات عرب ّية يف ّ كل مجال ومجال مبا فيها علم االجتامع ،لكنها إبداعات ال تزال فردية متباعدة ومل تتح ّول إىل “ثقافة” و”خطاب” معتمد ْين. “ال مناص من إعادة العقل العريب إىل الواجهة كمح ّرك أساس؛ وال أقصد العقل الذي تحدّث عنه الجابري ،بل ذاك العقل البديل للغيب والشعوذة ،العقل املد ّبر والفاعل والقادر ،البديل للنصوص واملقدّس واملد ّونة ،العقل البرشي البديل للخالص اإللهي الساموي ،العقل العلمي العم ّ يل، البديل لعقل أسري النص والقصص والخرافة .العر ّيب يف نهاية املطاف بحاجة إىل السؤال وليس إىل اإلميان .كأن ثورة الشك قفزت فوق العريب ّ فظل عىل إميانه .ولفت انتباهي أن الثقافة العربية يف العرص الحديث تو ّقفت عند الحداثة ومل تعتمد نقد الحداثة .تو ّقفت عند الدولة القطرية ومل تخض يف تجربة نقدها وتطويرها .حتى اآلن ناقشنا من داخل علم اجتامع وسياسة الدولة ال ُقطرية .وقد يكون علينا أن
لقاءات
* “االشتغال بالرتاث والتاريخ ينبغي أن ينحرص يف تبيان أسباب الهزمية والتخلّف، ليس يف مايض العرب وال اإلسالم ما يحل أبسط مشاكل املجتمعات ُيكنه أن ّ الحديثة ،ال معرف ًيا وال عمليا”
“* شهدت الثقافة العربية آخر تحديثاتها العبايس و”النهضة” حقبة قصرية يف العرص ّ كانت محصورة يف نُخبة محدودة جدا يف مجتمعات زراعية وأ ّمية يف غالبيتها”
7
الدميقراطية :احلاجة الغائبة
8 أوس المبارك
العدد
97 2021 / 8 / 16 مقاالت
مع اإلجراءات االستثنائية التي أعلن عنها الرئيس التونيس الشهر املايض يف اجتامعه مع القيادات العسكرية واألمنية ،وهو مام ال تخطئ قراء َته ع ٌني دميقراطية ،بدا واضحاً أن تجربة آخر بلد عريب من بلدان الربيع العريب تم تقويضها لصالح عودة العسكر والقوى األمنية للسيطرة عىل الحياة السياسية .لينتهي بذلك املسار الدميقراطي الوحيد الذي صمد عرش سنوات وأعطى أم ًال لبقية املنحازين للثورات عىل األنظمة املستبدة بقابليته عىل التحقق يف بلدانهم أيضاً ،برغم ما عانوه من سحق عسكري ،سواء تحقق لديهم شعار (إسقاط النظام) أم مل يتحقق. ذلك الشعار الذي تف ّرد باالتفاق عليه من جميع املنحازين للثورات ،واختلفوا عىل جميع ما دونه ،بدا عامل قوة يف ثورات وعامل ضعف يف أخرى بتأثري عوامل س ِرن ُد عليها .املقصود هو أن التمحور حول (إسقاط النظام) الذي بدا مس ِّبباً إلنجازات اتضح أنها مؤقتة ،كان جلياً يف حاالت أخرى عىل عدم كفايته إلنجازها ،عدا عن إنجاز نظام قادر عىل تحقيق سبل الحياة الكرمية والعادلة يف الحالتني. والحال أن الشعوب التي انتفضت ضد واقع الرتدي السيايس واملعييش ،يائس ًة من قدرة األنظمة الحاكمة عىل نقلها إىل أحوال أفضل، عالو ًة عىل توغلها يف الفساد واملامرسات التمييزية ْ والتقت وقمع أي صوت يعلو ضد مامرساتها، بذلك مع أحزاب سياسية وحركات ونشطاء عىل رغبة يف املشاركة السياسية والتأثري يف الشأن العام، ْ واجهت مع الوقت قصور الشعار وحده يف إنتاج
تجاوز للواقع الذي قامت ضده الثورات .ودخلت القوى السياسية يف مسألة (كيف نحكم؟) من أجل تحديد (من يحكم؟) ،ال من أجل الكيفية ذاتها .وانخفضت عتبة الرصاعات اإليديولوجية بني التوجهات السياسية ،إسالمية كانت بكل تفرعاتها أو علامنية من أقىص اليسار إىل الليربالية، يف وجه ارتفاع عتبة التامس ما قد يفيض إليه واقع زيادة تدهور األوضاع االقتصادية واألمنية التي ال مف ّر منها وتفرضها الصدمات الكربى مثل الثورات بأي حال .هذا ما جعل ما يسمى بقوى “الثورة املضادة” ،مدعوم ًة من املحور (اإلمارايت – السعودي) ،تستغل الرصاع اإليديولوجي لتنترص إلحداها وتكسب تأييدها ،ولتنفذ من هموم املعيشة التي تتثاقل يومياً عىل عموم السكان، اقتصادياً وأمنياً ،فتفيض إىل العودة للسيطرة عىل الدولة .وبالطبع ،فالغائب األكرب عن ذلك املسار هو الدميقراطية. والحال أنه برغم ظهور اإلسالميني كمدافعني عن الدميقراطية يف الحالتني التونسية واملرصية يف وجه القوى العلامنية التي هللت إلزاحتهم عن الحكم دون استشعار واضح لخطر هذا املسار “الثوري املضاد” بسبب أولوية الرصاع اإليديولوجي عىل ترسيخ الدميقراطية كام ُذ ِكر ،فقد كانوا يف دول أخرى أول املنقضني عليها ،كسوريا وليبيا .عالوة عىل أنهم اتخذوا من الدميقراطية مساراً إجرائياً ال مبادئ دميقراطية فيه سوى صندوق االقرتاع ،فسمحوا ألنفسهم بتجيري املؤسسات اإلدارية والقضائية لنفوذهم السيايس، متجاهلني املبادئ الدميقراطية التي ال تبيح ذلك،
وأنشؤوا إدارات ومؤسسات وأذرع لتضمن والءها، و ّ رشعت القوانني لتجذير وجودها وتهميش غريها، أو َ رشعت يف ذلك يف بعض الحاالت دون أن تحققه ودون أن يخفى التشابه النوعي بني القوى اإلسالمية جميعاً ،وإن اختلف كمياً يف تحقيقها ملرشوعها الساعي للتحول إىل “حزب قائد للدولة واملجتمع” ،مدعوم ًة كذلك من املحور (القطري – الرتيك) املدعي الدفاع عن الدميقراطية. وقد ظهر من خالل السنوات العرش الغابرة وما جرى فيهام يف االتجاهني (الثوري – الثوري املضاد) ،محاطني بالقوى اإلقليمية والدولية املتدخلة ،أن تل ّمس الحاجة لرتسيخ دميقراطيات لالنتقال إىل أوطان حرة وكرمية وعادلة ته ّمش أو غاب فيها الفعل السيايس .وإن كانت هناك قوى دميقراطية تدرك أهمية ترسيخها ونتائجها عىل املدى البعيد ،إال أنها بقيت أصغر الفئات بني املتصارعني (إسالمياً – علامنياً) والدول الراغبة بإيجاد أنظمة موالية لها ،وعموم السكان الذين تقع همومهم يف الحال اليومي املرتدي ويريدون حلوالً رسيع ًة تؤثر يف واقعهم .وإن كان املسار الدميقراطي الذي يفيض إىل الحرية واملساواة والعدالة االجتامعية وفصل السلطات ومكافحة الفساد وترسيخ املبادئ الدميقراطية غري اإلجرائية أو ما يصطلح بتسميتها املبادئ فوق الدستورية-تتطلب االنطالق يف املسار اإلجرايئ وإنتاجها مع الوقت ومع التطور الحر للمجتمعات ،إال أنه ال ميكن يف أي وقت تحييد العنارص املضادة لها يف االتجاهني (الثوري – الثوري املضاد). لذا ،وبعد هذه السنني العرش التي انتهت
9
العدد
97 2021 / 8 / 16 كاركاتري
فيها كل تجارب الدميقراطية يف بلدان الربيع العريب ،يبدو أن توسعة القاعدة الدميقراطية بني القوى السياسية والفئات االجتامعية لتشمل املبادئ غري اإلجرائية التي تضمن فصل القوى السياسية عن التغول املؤسسايت ،وفصل السلطات عن بعضها ،ووضع قاعدة مواجهة املشاكل بأدوات دستورية وقانونية فوق الحلول االقتالعية واالنقالبية ،وكون كرامة اإلنسان وحقوقه فوق التفسريات الغيبية ألح ما يجب واملاضوية والرباغامتية ،هي ّ أن تعمل القوى الدميقراطية عىل خوض النضال من أجله. وإن كان ذلك النضال يتشابك مع قضايا كاإلصالح الديني ومواجهة الثورات املضادة واقرتاب أكرب من حاجات املواطنني وهمومهم ،التي قد ال تبدو عىل ارتباط مبارش برغم أنها تقع يف صلب الهدف الدميقراطي ،ما يجعله يبدو حم ًال أكرب من قدرتها ،إال أن االنشغال املعريف فيه والنشاط باتجاهه يبقى املجال الوحيد املمكن يف واقع استيالء “الثورات املضادة” عىل السلطة ،وجنوح معظم القوى العلامنية لتأييد إجراءات غري دميقراطية يف مواجهة قوى غري دميقراطية ...مثلها. وعىس أن تنتج السنوات أو العقود القادمة تحوالت دميقراطية ،رمبا ال نكون من أبنائها.
96
ٌ رحلة يف اخلراب: مع حممد ّ برو يف سجن تدمر
10 مصعب الحمادي
العدد 97
عندما أدرك رئيس الفرع “غازي كنعان” أن هناك خطأً ما ،سحب السجني “محمد ب ّرو” من أذنه بشدة وعاد به إىل حجرة القايض عام 1980ليقول: “ابن القحبة هذا ما يزال َحدَثاً ،وال يجوز عليه حكم اإلعدام ألنه مل يبلغ الثامنة عرشة”.
2021 / 8 / 16
تم تخفيف الحكم من اإلعدام إىل عرش سنوات ّ مع األشغال الشاقة ،وعاش محمد ب ّرو ابن السابعة عرش عاماً إىل اليوم ،ولكن ليس قبل ّ األريض يف سجن أن مي ّر بثامن سنني من الجحيم تدمر يف الصحراء السورية. محمد ب ّرو اليوم من أملع وأجمل املثقفني السوريني املقيمني يف اسطنبول ،كاتب غزير يف العديد من املواقع ،ومو ّثقٌ أمني سيدخل التاريخ سجل فيه يوميات من انتهى بهم بكتابه الذي ّ الحظ للعيش أو املوت يف سجن تدمر ،الذي ٌ وأعوان لهام أرشف عليه حافظ ورفعت األسد، من عصاب ٍة عائل ّي ٍة وطائفية مت ّكنت من رقاب السور ّيني باسم الدولة.
مقاالت
“ناج من املقصلة” السفر عرب صفحات كتاب ٍ ٌ رحلة يف ملحمد ب ّرو الصادر عام 2020هو واسع صحيح أن الخراب يف سوريا الخراب. ٌ ٌ مكانياً ،من القامشيل للجوالن ،وزمانياً ،منذ عام 1963وحتى اليوم ،لكن تجربة محمد ب ّرو اب مك ّثف ،هي ورفاقه يف سجن تدمر هي خر ٌ ٌ إنسان ظلم وقهر ماليني السوريني يتجرعهام واحدٌ دفع ًة واحدة ويف مكانٍ واحد. مل يشفع ملحمد برو أنه كان ما يزال طالباً يف الثانوية يوم تداول مع رفاقه جريد ًة ممنوعة؛
فعصابة حافظ األسد كانت يف معرك ٍة دامية مع عصاب ٍة أخرى هي جامعة اإلخوان املسلمني ،وما برحت العصابة األوىل تبحث عن أفرا ٍد ممن ميكن حسبانهم عىل العصابة الثانية (حتى وإن زوراً) حتى تسومهم سوء العذاب وتنتقم منهم وتجعلهم عرب ًة ملن وراءهم .وقع املسكني محمد ب ّرو ضحية تلك الدوامة من الكراهية الطائفية املتبادلة ،مع أنه مل ينتم لإلخوان املسلمني ،ومل يحمل فكرهم ،ومل يكن ِ يعرف يوم التقط جريدتهم ،جريدة “النذير” من مدخل بنايته أنها أخطر من قنبلة ،وأنها ستسوقه ذنب وال خطيئة. إىل عرش سنني من السجن بال ٍ انتقام تنزله عليه يف سجن تدمر ،وقع محمد ضحية ٍ سياط مجرمني وحاقدين ال يرون الوطن واملواطنني إال من خالل طاق ٍة طائفية ض ّيقة .مل يكن يفهم بداية األمر؛ ملاذا صار اسمه عند الجالدين “أبو بكر” تار ًة ،و”عمر” تار ًة أخرى! احتاج األمر منه شهوراً ليدرك أن القضية بالنسبة ّ للجلدين ومن وراءهم مل تكن جرمي ًة سياسية ارتكبها يف حقّ الوطن ،بل قصة كراهي ٍة طائفية كان عىل الغالم أن يحمل تبعاتها كام حمل املسيح صليبه .تلقى محمد حفالت
تعذيب يومية عىل مدى مثان سنوات ،واسرتق النظر إىل مشاهد اإلعدام الشهرية يف ساحات السجن الصحراوي النايئ عن العامل. جسد محمد من خالل تجربته محنة كل إنسانٍ لقد ّ قدّر له أن يولد يف سوريا يف ظل حكم األسد األب أو االبن؛ فالوالدة يف بل ٍد تحكمه عصابة هي رأس املحنة ومبتدؤها بالنسبة ألي إنسانٍ له نوازع طبيعية نحو العدالة والحر ّية .وما كل نجاة من تعذيب أو قهر إال من طوالع الحظ التي حبس أو ٍ ٍ عب تدمر ،وعاد لنا بالحكايات؛ مل ينلها محمد ،الذي َ لع ّلنا ن ّذكر فال ننىس أننا نعيش كلنا يف الخراب ،حتى ْ ولدت وإن مل ندخل السجن ،وأن يف سوريا التي ٌ عصابة مريض ًة قبل مئة عام ال توجد دولة ،وإمنا متارس الجرمية ّ املنظمة. وما أحداث ثورة الكرامة منذ عام 2011حتى اليوم، وما تالها من تدم ٍري شاملٍ لألرض واإلنسان يف سوريا، إال تصديق عىل تجربة محمد ب ّرو ،وتأكيد عىل أن املقصلة ما تزال ترتبص ّ بكل السوريني ما مل يحصل التغيري املطلوب يف بلدهم.
ّ سوريون ..بني االستهالك واجلمال 11
يوسف صادق
العدد
97 2021 / 8 / 16 مقاالت
يف قصة العيون املرشعة إلبراهيم صموئيل ،يقع املعتقل بني حدّين بال نهاية ،إ ّما أن يحتفظ بالخمسني لرية التي أودعته إ ّياها زوجته تعويذ ًة السجان ،أو أن للحظ وأم ًال تعينه عىل قهره إزاء ّ يضحي بتلك الورقة لصالح املعتقلني ،وقد تبقي رمق لدى أحدهم. عىل آخر ٍ هذه صورة عيانية ملا يحدث يف مجتمعاتنا حينام تتح ّول ملعتقلٍ كب ٍري ،هل بتنا نتعامل مع أشيائنا وقيم استهالكية؟ وهل يفقد واآلخرين ٍ بدوافع ٍ املقهور كل قيمة جاملية؟ تسود القيم االستهالكية حينام يصبح املتاح بعيداً عن متناول األيدي ،قريباً من خيالٍ يحاول ّ والترشد احتضانها لتبقى منه دماً للحياة .الفقر ليس جديداً عىل مجتمعاتنا ،عمره بعمر اغتناء سلط ٍة داست عىل كل جميلٍ بدواخلنا. االستهالك صفة مشرتكة للطغاة واإلنسان املقهور. الطاغي ك ّلام زاد خوفه من مقهوريه ،يزداد ابتعاداً خلف قصوره وخلف سياراته الفارهة، محاوالً جعل الناس ُمق ّلدين له ،فيضمن رهبتهم وتابع ّيتهم .وبقدر االستهالك للروح وللعالقات اإلنسانية ،بقدر االبتعاد عن الطبيعة البرشية الفطرية وعن الجامل واإلبداع. ٌ معركة ال إنسانية ال ينترص فيها ّإل االستهالك الطغاة و َمن شاكلهم .أ ّما اإلنسان املقهور فمن الطبيعي أن يع ّوض احتياجاته النفسية والجسدية، فيلتهم الدنيا بعيونه .نعم نجح الطاغي بتجويع البرش ،وبجعل بعضهم يج ّرون ثوبه الطويل ،و َمن يتمرد منهم فجدرانه العالية تنتظره ،لكنه نيس أن الجوع األول والعطش األول والجامل األول هو الحرية ،أوىل الحاجات وآخرها ،وهذه أصيلة يف الدم ،أصيلة بحضارتنا ،أصيلة بإنساننا ،رغم كل محاوالت الطاغية جعله إنساناً يأكل ويرشب فقط ،ويأمتر بخدمته ،ويوقف دوران الزمن خلف جدرانه العالية ،يصبح الوطن معتق ًال ألبنائه تار ًة مبشيئتهم وأخرى رغ ًام عنهم. حينام تزداد القيود عىل األيادي ،فتصبح غريب ًة عىل األقالم ،غريب ًة عىل املحراث والنول وحتى البندقية ،غريب ًة عىل ي ٍد تصافحها أو شعو ٍر تحاول مجاراة انطالقه ،وحينام تبحث اللغة عن مفرداتها يف ضحكات األطفال ،فتعاندها لعبة الشمس والظالل ،حينها فقط َترشع العيون إىل ال يشء. ٌ معتقل آلخر.. “فلنحافظ عىل رمق الحياة” ..يقول
نفس تزيني خيمة اللجوء وزرع ولكن كيف؟ هل ّ ً ً الورود أمامها استسالما ورضا بالوطن الخيمة؟ لكن الجانب اآلخر ملا مل تره العيونّ ،أن السوري وإن أصبح وطنه خيمة ،فإ ّنه ّ بكل ما أويت من حياة رغم قهره الطويل ،لقاد ٌر عىل تحويل منفاه إىل وطن ،ليست دعو ًة لتزيني قهرنا الطويل بل إلعادة الحياة ونبضها بكل ما تفعله أيادينا، ولكل ما تراه عيوننا ،حتى ال نفقد قيمنا الجاملية الستهالك يلتهم أخرض نفوسنا. وتتح ّول حياتنا ٍ لنعد إىل املعتقل الكبري وكيف يدفع باإلنسان إىل الرضا بالحدود الدنيا للمعاش ،وإىل إقناع أطفالنا بكرسات الخبز ،بل يحاول بعضهم عرب ذاكر ٍة منس ّي ٍة جعلها مط ّعمة بنكهات الشوكوالتة! ّ السوريُّ قاد ٌر عىل تحويل البسيط إىل مركب أ ّول للحياة ،وذاك املعتقل ،ح ّقق قيم ًة مضاف ًة للخمسني لرية ،فجمعته واحتضنته بعقد رشاك ٍة مع رشكائه يف القهر ،ذكرى الزوجة التي تنتظر خروجه ،واألبناء الذين يحلمون بسهراتهم يف دفء العائلة قد تح ّقق ،والعائالت التي ترى يف خوفها ابتالع الجدران آلبائهم وأمهاتهم يف املعتقالت قد انفرج ه ّمها. والسوريُّ قاد ٌر رغم كل القهر ،أن يح ّول أدوات القتل إىل ألعاب وأن يقول للعيد تو ّقف ها هنا.. عند أطفال درعا ،وأطفال حمص وإدلب ،فهم قادرون عىل صناعة الفرح وتلك هي قيمهم الجاملية رغم كل الخراب يف النفوس. القدرة عىل اإلبداع هي ر ّد السوريّ عىل محاولة تاريخ مىض ومييض ،ما إفراغه وجعله جزءاً من ٍ
زالت ناعورة حامه تدور وتنئ ،شاهد ًة عىل اغرتاف الدم واغرتاف ماء الحياة ،بصفاوة عيون األطفال، ونقاوة شغبهم للحياة. ُّ شدنا ..هُ ّجرنا ..اغرتبنا ..نعم ،لكنّ األيادي والعيون تنس طعم الخبز ورائحة القهوة ،وما زالت مل َ املؤجل ،هذا اآلذان تحتفظ بباقي زغاريد الفرح ّ ما يدفع املعتقلني إىل أشغال الخرز ،سوا ٌر لطفل ٍة ثوب دافئ للجدّةّ ، كل يشء رغم يف املعتقل الكبريٌ ، عفونة الجدران ،مشغول باملحبة ،وبدفء األيام القادمة. ّ والسجان يف املعتقل الصغري واملعتقل ُيهزَم الجلد ّ ّ روحه وأنهّ الكبري ،حينام يرى أن السوريّ مل تفرغ ُ كل الخوف والقلق ،رغم ّ رغم ّ كل ما شنّه من حروب ،ما زال قادراً عىل العطاء ،وإذا ما ف ّكر بفتح باب القفص ،سيجد أبناءنا يف املغرتبات أوفياء لعهود القهر ،بأن ُيقالّ : كل ما يحتاجه السوري هو االهتامم وستجدهم ك ّلهم مبدعني. اإلبداع هو الفيصل بني السقوط يف قاع القيم االستهالكية والقدرة عىل إضافة قيمة جاملية. تكاتف الناس وتشاركها الهم عقدٌ مصنوع من مح ّبة الحياة ،حينها الخيمة ليست عاراً ،وكرسات الخبز املبللة باملاء ليست ُس ّ ًم .العار هو أن نحتفظ بآثار خرابنا شاهداً عىل الهزمية ،كام فعل الطغاة باالحتفاظ بدمار القنيطرة ،العار أن نق ّيد الطفل انحن تحت علم البالد .هكذا ُتستهلك ونقول لهِ : الحياة و ُتستهلك كل قيمة يحملها اإلنسان .بل العار أن نستعذب سياط ّ الجلدين ونز ّين عصاه بخرزة زرقاء. من الخطأ القول مل يبقَ لدينا ما نخرسه ،القول الحق لدينا الكثري مل ننجزه بعد ،ناعورة حامه ما تزال تغرف املاء صافياً ،ومياه النهر تجدد نفسها، وتغسل أحالمنا مهام كدّرتها أنفاس الطغاة. ما حصل يف درعا يثبت أن تكاتف الناس ٌ قيمة جاملية ُم ٌ ٌ مشرتك ولحيا ٍة مشرتك ٍة، لعيش ضافة ٍ ٍ حصار حمص وحصار الغوطة مل تستهلك البرش، رغم كل املوت الذي عاشه السوري فام زال قادراً عىل صناعة الحياة ،ولن يستطيع الطغاة اعتقال الحياة ،حسبهم زنازينهم ،تردد صدى خوفهم. السوريُّ قاد ٌر عىل صناعة الحياة مهام اشت ّد قيده، وحسبه يقول :إن حبستموين ّ فإن حبيس خلوة، وإن نفيتموين ّ فإن نفيي سياحة. طوىب للسوريّ املبدع.
من إدلب إىل درعا.. رسائل دعم وتضامن ومناصرة
12
هاديا منصور العدد
97 2021 / 8 / 16 تقارير
ال تكاد تغيب درعا عن الساحة اإلعالمية حتى تعود إليها بأحداث تصعيد جديدة ،رغم االتفاقيات الهشة والتسويات التي مل تكن أكرث من نار تحت الرماد تتأجج نريانها كل مدة ،وخاصة بعد فشل قوات النظام باقتحامها ،عقب حملة عسكرية واسعة عىل درعا البلد مستخدمة شتى أنواع األسلحة كام حصل مؤخراً. دفعت أحداث درعا األخرية أهايل إدلب وشامل غرب سوريا ،مقيمني ونازحني ،للتضامن مع درعا خالل الحملة هناك والتي راح ضحيتها مدنيني بينهم أطفال ونساء. يقول “حسام الجندي” ( 35عاماً) وهو ناشط حقوقي من إدلب“ :إن قضية درعا وإدلب وباقي املناطق السورية هي قضية واحدة ،ودرعا اليوم تحمل عىل عاتقها كل حرب السوريني ضد نظام األسد املستبد واملجرم”، مضيفاً“ :من واجب كافة املناطق املحررة وفصائل املعارضة نرصة أهايل درعا وفتح جبهات للتخفيف عنها قدر املستطاع ،لتشعر درعا أننا معها وتنقذ ما تبقى من معاقل املعارضة يف الجنوب السوري”. وكان النظام السوري روج قبل حملته األخرية عىل درعا أنها تضم إرهابيني ودواعش يك يربر هجومه عىل املدنيني وارتكابه الجرائم املتعددة وحصاره للمدينة ،وقد تكون جولة التصعيد هذه مختلفة عن سابقاتها ،وبات واضحاً قلق النظام وحلفائه روسيا وإيران من إمكانية تأسيس إدارة ذاتية يف درعا ،وأن تشكل مع السويداء املجاورة التي تتمتع بنوع من اإلدارة الذاتية ،نواة إلدارة ذاتية تشمل عموم الجنوب السوري. ويف السياق يرى الطبيب “لؤي الحسن” ( 40عاماً) وهو نازح من درعا ومقيم يف إدلب ،أن املنطقة الجنوبية، وتحديداً درعا ،هي مهد االحتجاجات الشعبية التي انطلقت قبل عرشة أعوام ضد نظام األسد ،وانتقلت منها
إىل بقية املدن واملناطق السورية ،موضحاً: “تحولت منذ ذلك الحني إىل أيقونة يف وجدان الشعب السوري الرافض لحكم األسد ،ومن هنا أطالب بعدم التخيل عن درعا وتجديد املظاهرات بشكل مستمر ،ونرش التعليقات والصور ضمن هاشتاغات متعددة عىل مواقع التواصل االجتامعي ومنها #ال ترتكو درعا وحيدة# ،درعا لن تهزم# ،#درعا مهد الثورة السورية تحت النريان ،وغريها من العبارات للفت أنظار العامل ملا يجري يف درعا البلد”. ويشيد الحسن بصمود أهايل درعا وشجاعتهم رغم كل ما تعرضوا له من انتهاكات وجرائم من قبل قوات النظام إلخضاعهم وإذاللهم. وتتفق آراء السواد األعظم من املدنيني يف إدلب عىل التضامن مع درعا وإعجابهم ببطوالتها ،وقد عربوا عن ذلك باملظاهرات التي عمت أرجاء إدلب وشامل غرب سوريا، وأشارت الفتاتهم إىل مدى دعم أهايل إدلب لدرعا وتضامنهم مع محنتها وما تتعرض له من اعتداءات ،والتي كتبت عليها عبارات متنوعة
منها“ :درعا درع الثورة ومصدر قوتها”“ ،ال اتفاقية وال عهد مع قاتل”“ ،درعا صامدة ولن تهزم”“ ،درعا عىل أبوابها سيسقط الطغاة”، “من إدلب العز :آين من درعا”“ ،من حوران هلت البشاير” ..وغريها. األربعينية “رهام العبد الله” وهي من درعا تخف ومقيمة يف إدلب منذ ست سنوات ،مل ِ خوفها عىل مدينتها ومسقط رأسها من استيالء “ميليشيات األسد” عليها ،وتقول“ :إن سقطت درعا ستسقط سوريا كلها بيد النظام املجرم، ضحت وما زالت منذ بدايات فدرعا التي ّ الثورة السورية بالغايل والنفيس من أجل ثورة يتيمة تخىل عنا القايص والداين لن تستسلم ولن يكون هناك مكان ليأسها ،هي صامدة وتدافع عن حقها يف الحياة وعن حق كل سوري يف الكرامة والحرية والعيش الكريم”. وبينام تشهد محافظة درعا جنوب سوريا تطورات ميدانية متالحقة ،ترنوا األنظار إىل مصري أحد أهم معاقل الثورة السورية وحصنها املنيع وترى اآلمال فيها بالنرص.
ارتفاع درجات احلرارة وجه آخر للمعاناة يف خميمات إدلب
13
دارين الحسن -إدلب
العدد
97 النازحون عرضة لألمراض بدوره الطبيب “أسامة الرزوق” ( 38عاماً) من مدينة إدلب يقول لـ”طلعنا عالحرية” عن األمراض التي تنترش يف أوساط النازحني خالل فصل الصيف“ :يؤدي ارتفاع درجات الحرارة يف ظل نقص مستلزمات النظافة الشخصية واملياه إىل انتشار عدد من األمراض املعدية بني النازحني ،ومنها الجرب الذي ينترش مع ارتفاع درجات الحرارة وقلة النظافة الشخصية”. ويشري إىل انتشار أمراض أخرى كالتهاب املعدة واألمعاء ،واإلسهاالت الناتجة عن استخدام املياه امللوثة ،وانعدام مقومات النظافة العامة، مؤكداً أن العالج وحده غري كاف ،إن مل يؤمن للنازحني الكميات الكافية من املياه الصالحة للرشب ،واالستحامم اليومي يف فصل الصيف وغسل الثياب مبياه معقمة. وينصح الطبيب النازحني بالتزام الخيام ما أمكن وقت الظهرية ،وعدم التع ّرض ألشعة الشمس املبارشة ،السيام األطفال وكبار السنّ ، وتخفيف الحرارة عن األطفال باستخدام املاء، مع اإلكثار من رشبه تجنباً للجفاف ،وحفظ األطعمة بشكل جيد خوفاً من فسادها ،ما قد يؤدي إىل التسمم. وبحسب إحصائيات فريق “منسقو استجابة سوريا” ،بلغ عدد املخ ّيامت ّ الكل يف مناطق شامل غريب سوريا 1304مخي ًام ،يقيم فيها نحو مليون و 44ألف نازح ،ومنها 393مخي ًام عشوائياً ،يقيم فيها 187764نازحاً.
2021 / 8 / 16
مطالبات دون استجابة ً من جهته “وليد الجمول” ( 41عاما) مدير مخيم يف بلدة كليل يرشح أوضاع النازحني: “موجات الحر الشديدة هذا الصيف أدت لتفاقم أمراض كبار السن واألطفال يف املخيم، وسط انقطاع تام للكهرباء ،وقلة يف املياه، دون أن يتمكن كثري من النازحني من الوصول إىل املراكز الطبية يف املنطقة واالستفادة من خدماتها ،لبعدها عن مكان إقامتهم ،وعدم توفر املواصالت ،وضعف إمكانياتهم املادية”. ويشري الجمول إىل كرثة الزواحف السامة يف السهول التي تقام عليها املخيامت ،مثل األفاعي والعقارب ،وانتشار الروائح الكريهة مكب النفايات القريب من املنبعثة من ّ املخيم ،والرصف الصحي املكشوف. ويطالب املنظامت اإلنسانية ّ برش املبيدات الحرشية ،وتوزيع عوازل للخيام لتقي ساكنيها من حرارة الصيف الالهبة ،إىل جانب توزيع ألواح طاقة شمسية وبطاريات ،كون أغلب النازحني ال ميتلكون مراوح ،إضافة لزيادة مخصصات املياه واملنظفات للنازحني يف فصل الصيف. وح ّذر فريق “منسقو استجابة سوريا” من مخاطر ارتفاع درجات الحرارة عىل النازحني السوريني يف مخيامت الشامل السوري ،ورصد الفريق انعدام املياه الصالحة للرشب يف أكرث من 200مخي ًام يف مناطق أطمة وقاح ودير حسان وحارم وحربنوش وكليل شامل إدلب، حيث تضم هذه املخيامت ما يقارب 400ألف نازح ،األمر الذي تسبب يف إصابة عدد كبري من النازحني بأمراض جلدية كالجرب وغريه من األوبئة ،بينهم أطفال ونساء. وجه الفريق ندا ًء لجميع املنظامت كام ّ
اإلنسانية لزيادة املشاريع اإلنسانية ،وتأمني العديد من املستلزمات األساسية للنازحني، بغية تحسني األوضاع األساسية يف املخيامت ملواجهة ارتفاع درجة الحرارة يف املنطقة.
تقارير
ال يحتمل الستيني “أبو سعيد” البقاء يف خيمته عند الظهرية ،فيضطر للخروج والجلوس تحت ظل شجرة زيتون قريبة من املخيمّ ، مالبسه بقليل من املاء، ويرش َ يف محاولة للتخفيف من تأثري الحر عىل جسده النحيل ونفسه املشبعة بالهموم واألوجاع. أبو سعيد من مدينة رساقب يعيش مع زوجته يف أحد مخيامت مدينة أطمة الحدودية مع تركيا منذ أكرث من عام ونصف ،وهو ككل النازحني الذين يعانون من ارتفاع وشح املياه، درجات الحرارة يف ظل انقطاع الكهرباءّ ، وضعف الرعاية الصحية ،األمر الذي يعرضهم لإلصابة باألمراض ،ويفاقم أحوالهم املتدهورة أص ًال. أساليب بدائية لتخفيف وطأة الحر يتحدث أبو سعيد عن معاناته“ :الشتاء غريق والصيف حريق؛ حيث نواجه العديد من املشاكل يف فصل الصيف، يف مقدمتها نقص املياه والرعاية الصحية ،وانتشار الحرشات ،والسكن يف خيام مصنوعة من النايلون ،ال تحمينا من الغبار والحرشات وحر الصيف الذي يكوينا ويأخذ علينا أنفاسنا”. ويؤكد أبو سعيد أنه ال يجد مالذاً إال اللجوء لألرايض املزروعة باألشجار ،هرباً من درجات الحرارة الخانقة داخل الخيام ،فهو مريض بالضغط والسكري ،ويزيد الحر من آالمه وأوجاعه ،دون أي إمكانية ملغادرة املخيم بسبب فقر حاله وارتفاع إيجارات املنازل. ً األوضاع مع “جميلة الكريدي” ( 35عاما) النازحة من مدينة معرة النعامن إىل مخيم حربنوش بريف إدلب الشاميل ،قد تكون أسوأ ،باعتبارها أم لخمسة أطفال، تحاول درء الحر عنهم من خالل وضعهم يف أوعية مليئة باملاء وقت الظهرية! وعن ذلك توضح“ :الحر ال يطاق داخل الخيام ،فام أن ترشق الشمس حتى نشعر وكأننا نجلس داخل فرن ،كام نعاين من الغبار الذي يتسلل إىل خيامنا عند هبوب الرياح ،وانتشار الذباب والبعوض، وفساد الطعام برسعة كبرية نتيجة ارتفاع الحرارة وعدم وجود كهرباء لتشغيل الثالجات”. وتؤكد أن اثنني من أطفالها بأعامر 5 3-سنوات أصيبا مبرض الجفاف منذ عرشة أيام مضت ،وتظهر عليهام أعراض إسهال واقياء مع ارتفاع درجة حرارة الجسم ،بسبب الحر الشديد ،وال تزال مستمرة يف عالجهام. وعن الطرق التي تحاول من خاللها حامية أطفالها تقول: “أشرتي ألواح البوظ بشكل يومي لتربيد مياه الرشب، وأبلل قامش الخيمة باملاء لرتد عنا حرارة الشمس الحارقة”.
14
التعامل باللرية الرتكية يرهق سكان ريف حلب وال ينهي األزمة املعيشية حسين الخطيب
العدد
97 2021 / 8 / 16 تقارير
انهيار اللرية السورية أمام العمالت األجنبية األخرى، فرض عىل املجالس املحلية يف ريف حلب الشاميل اتخاذ قرار يقيض بالتعامل املايل باللرية الرتكية ،وجعلها بدي ًال يف جميع التعامالت النقدية ،حفاظاً عىل استقرار األسواق ،ال سيام أن انهيار اللرية السورية سبب أزمة معيشية لدى معظم القاطنني يف ريف حلب من عاملني يف القطاع الخاص والعام والعاملني يف املياومة، نتيجة تقاضيهم أجورهم باللرية السورية ،بينام معظم عمليات رشاء حاجياتهم يتم حسابها بحسب سعر الرصف اليومي. مىض حوايل العام عىل بدء تداول اللرية الرتكية يف جميع املعامالت النقدية يف أسواق ريف حلب الشاميل، ويبدو ظاهرياً أن ذلك حافظ عىل استقرار أسعار السلع واملنتجات الغذائية ،ويف الوقت ذاته مل يخلص األهايل من األزمات املعيشية التي باتت ترهقهم وتزيد من معاناتهم ،ألنها ليست ح ًال يف ظل انعدام فرص العمل وندرة مصادر الدخل املعيشية ،وانخفاض األجور اليومية يف حال توفر العمل. يجلس “أبو محمود” ( 41عاماً) عىل قارعة الرصيف يف سوق الهال مبدينة مارع بريف حلب الشاميل ،ينتظر أن يناديه أحد التجار للعمل يف العتالة ،وهو عمل يومي يتقاىض أجره مقابل إفراغ حمولة سيارة من صناديق البندورة ،مع عدد من العامل الذين يعملون بالعمل ذاته. يقول الرجل خالل حديثه ملجلة طلعنا عىل الحرية إنه يحصل عىل أجر إفراغ السيارة 50لرية تركية ،يتقاسمها مع اثنني من العامل يعملون معه يف املهنة ذاتها، وهكذا يف بعض األيام يستطيع أن يعمل بـ 35لرية، ويف أيام ال يعمل عىل اإلطالق بحسب حركة األسواق. وعن مقارنة األجور اليومية بأسعار السلع يوضح: “إن األسعار يف األسواق ال تتناسب مع دخلنا اليومي؛ فالعمل ليس متوفراً طيلة الشهر ،وكذلك املبلغ الذي أحصل عليه ال يغطي شيئاً من حاجيات أرسيت ،فعىل سبيل املثال فالكيلوغرام من السكر 5لريات تركية، والكيلوغرام من الشاي 60لرية ،فكيف ميكن أن تغطي أجورنا هذه الفوارق؟”. ويضيف الرجل“ :يف السابق قبل الثورة السورية ،كنت أعمل ليوم واحد يوفر يل الطعام لثالثة أيام حيث
كان أجري اليومي يصل إىل 500لرية سورية ما يعني 10دوالرات أمريكية ،أما اآلن فاألجر اليومي الذي أحصل عليه ال يصل إىل 4دوالر أمرييك” ،ويشري إىل أن التعامل باللرية السورية كان أفضل ،لكن انهيارها املتواصل “جعلنا نعاين أيضاً ،لذلك التعامل باللرية الرتكية جيد ،ولكنه ليس ح ًال ينهي معاناتنا”. ويشتيك سكان ريف حلب الشاميل من التعامل باللرية الرتكية يف عمليات الرشاء والبيع يف مختلف األسواق، سوا ًء األدوات الكهربائية واأللبسة واملواد الغذائية والخرضوات ،ألنها يف معظم عمليات البيع تعرضهم للخسارة ،كام يستغل الباعة األهايل خالل عمليات البيع باللرية الرتكية مع غياب للقطع النقدية الصغرية، وبقاء سعرها حسب أدىن قطع نقدية متوفرة ،وهي 0.5لرية تركية. يقول “عبد الرحمن أبو حسن” وهو صاحب متجر للمواد الغذائية ،يف أحد أسواق ريف حلب الشاميل خالل حديثه ملجلة طلعنا عىل الحرية“ :إن التعامل باللرية الرتكية أفضل من التعامل باللرية السورية ألننا كنا يومياً نبيع السلع عىل اللرية السورية ،وآخر اليوم يكون سعرها عىل الدوالر مختلفاً متاماً ونتعرض لخسارة كبرية”. ويضيف“ :نحتاج إىل عمالت نقدية صغرية لنستطيع البيع من خاللها ،ألنها غري متوفرة يف األسواق ،مام يدفعنا إىل تسعري بعض األطعمة حسب أصغر قطعة نقدية متوفرة وهي النصف لرية ،وهذا األمر يصفه األهايل باالستغالل!”. ويؤكد“ :أن أسعار السلع استقر أكرث من السابق ،عىل الرغم من عدم ثبات سعر اللرية الرتكية أمام الدوالر، لكنها ليست بدرجة تقلب اللرية السورية ،التي كانت تتأرجح كل ساعة ،وبدأنا نحقق أرباحاً جيدة نوعاً ما”.
ويشري إىل أن اللرية الرتكية مل يتم التبادل بها يف عمليات البيع كحل لألزمة املعيشية ،وما يجري يف الوضع الراهن من انخفاض قيمة الدخل يف حال توفر ،هو عدم تناسب أجور العامل مع أسعار السلع”. من جانبه “عبد الله العيل” ،يقيم يف مدينة صوران بريف حلب الشاميل وهو موظف يف القطاع العام يقول ملجلة طلعنا عىل الحرية“ :إن أسعار السلع يف الشامل السوري قريب جداً من أسعار السلع يف تركيا، وهذا يعني يجب أن تكون مصادر الدخل يف ريف حلب قريبة من مصادر الدخل يف تركيا ،ألن التعامل باللرية الرتكية مل ين ِه األزمة ،بل سبب أزمة أخرى ،وهي عدم إيجاد حلول للعاملني الذين يتقاضون أجورهم التي تصل يف أحسن حاالتها إىل 800لرية تركية شهرياً، وهي ما يعادل 95دوالر أمرييك”. ويضيف“ :عىل الجهات املحلية سوا ًء املجالس املحلية أو غريها السعي من أجل تحسني الواقع املعييش للناس ،من خالل رفع أجور العاملني يف القطاع العام، وإيجاد فرص عمل للعاملني يف املياومة ،والتي تصل نسبتهم إىل % 60من سكان املنطقة ،من خالل منح رؤوس األموال إمكانية إنشاء مصانع ومعامل وترغيبهم يف العمل وتسويق بضائعهم.”.. ويحتاج السوريون يف ريف حلب الشاميل إىل مصدر دخل شهري ال يقل عن 2500لرية تركية من أجل أن تتناسب مع أسعار السلع واحتياجات أرسهم اليومية، ال سيام أن معظمهم يكابدون يف سبيل توفري أدىن املقومات املعيشية ألرسهم التي باتت تتغافل الكثري من األساسيات عىل أنها يشء من الرفاهية ،ولذلك ال بد من إيجاد حل لألمر قد ترتبط به العديد من القضايا من أبرزها عاملة األطفال والرسقة والخطف مقابل املال.
حمصول التني األخضر واجملفف يؤمن فرص عمل جيدة يف إدلب شمس الدين مطعون
العدد
97 2021 / 8 / 16
يف حال وجدت طرق التصدير” يوضح املهندس غزال. ويقول “محمد أبو حمزة” إن أسعار التني األخرض تعترب جيدة لهذا العام؛ نظراً لرتاجع الكميات املطروحة بالسوق ،ويضيف أن سعر كيلو التني تراوح بني 3إىل 4لريات تركية ،أما التني املجفف (اليابس) فقد تراوح سعره يف بداية موسمه بني دوالر ونصف إىل دوالرين بحسب النوعية. كام تتنوع أصناف التني يف محافظة إدلب ،ومن أشهرها السطحي والصفراوي والزعيبيل وكعب الغزال ،وترتكز زراعتها بشكل أسايس يف جبل الزاوية وريفه ومناطق رسمني والنريب وريف املعرة. *التني املجفف (اليابس): كام تجد السيدات يف موسم التني فرصة عمل جيدة ،حيث تنترش ورشات لتجهيز التني املجفف ،وتعمل السيدة “هيفاء” وهي نازحة من ريف املعرة وتقيم يف بلدة املسطومة يف ورشة لتجفيف التني يف البلدة والتي تضم عرشات العامالت. تقول هيفاء“ :ما دفعني للعمل يف تجفيف التني، هي سهولة العمل والذي سيؤمن لعائلتي دخ ًال جيداً خالل فرتة قصرية”. حيث تقوم السيدات باستخدام املكابس لفرز مثار التني حسب الجودة والحجم ،ومن ثم تبدأ مرحلة الغسيل والتبييض يف أحواض املاء إلزالة الشوائب واألوساخ ،ثم تنرش حبات التني يف الهواء الطلق حتى تجف ،وبعدها يتم تغليفه ضمن أكياس خاصة وبأحجام مختلفة يف قوالب متنوعة. بينام استطاعت “زينب” أن تعمل بتجفيف التني من منزلها “ال أستطيع مغادرة البيت ألن أطفايل صغار وال ميكنني تركهم لوحدهم” توضح السيدة. وتضيف وهي ترشح طريقة عملها“ :أحصل
عىل التني األخرض من السوق ،ويطلب أن يكون ناضجا متاماً ،وأنقعه مباء مغيل مملح لعدة دقائق ،ثم أتركه حتى ّ يجف عىل قطعة قامش نظيفة ،وبعدها أقوم بتعليق حبات التني عىل حبال ،وأعرضها ألشعة الشمس ملدة يومني”. يف السابق ،كانت زينب تبيع معظم إنتاجها من التني املجفف ألقاربها وجاراتها ،ولكن مع تراجع الوضع املعييش ،باتت السيدة تخبئ إنتاجها حتى يستقر سعر السوق لتقوم ببيعه للمحال التجارية. *مصاعب ومخاطر: عىل دراجته النارية يقطع “حسني” عرشات الكيلومرتات من مخيامت الشامل حيث يقيم بعد النزوح مع عائلته ،متجهاً إىل أرضه يف جبل الزاوية لجني محصول التني. ويشكل موسم التني مورداً هاماً ألهايل جبل الزاوية ،وهي منطقة تعترب األخطر حالياً ،بعد تصعيد قوات النظام قصفها عىل املنطقة. يقول حسني“ :البد من املخاطرة لجني محصول التني ،ألنه ميكن أن يحقق أرباحاً تكفينا مرصوفاً ألشهر عدة ،وباألخص التني اليابس”. من جهته يوضح الناشط “إبراهيم الشاميل” من جبل الزاوية أن محصول التني يف جبل الزاوية لهذا العام تعرض ملشاكل عدة أبرزها القصف املتكرر الذي تشهده املنطقة ،والذي منع معظم األهايل من الوصول ملحاصيلهم. ويقول الشاميل“ :تحتاج بعض األشجار للتسميد والسقاية ،لكن الغالء وعدم االستقرار مل يسمحا بتقديم الرعاية الكافية ألشجار التني ،وهذا ما أدى لضعف إنتاجها”. ويضيف الشاميل أن موسم التني كان يؤمن سابقاً فرصاً لعرشات عامل املياومة لجني املحصول الوفري ،لكن مع ضعف املحصول يضطر األهايل لجني محاصيلهم بأنفسهم لتوفري أكرب قدر ممكن من األرباح.
تقارير
يجهز سعيد 26عاماً دراجته النارية مع ارتفاع أشعة الشمس ،ويضع عليها عدداً من الصناديق البالستيكية، وينطلق متوجهاً لحقول التني يف بلدته رسمني بريف إدلب. يقول سعيد“ :قبل انطالق املوسم اتفقت مع أحد أصحاب حقول التني ،عىل (الضامن) أنا أضع عميل وجهدي ونتقاسم مرابح البيع مناصف ًة”. استطاع سعيد وهو طالب جامعي أن يجد فرصة عمل جيدة ال تتطلب منه التفرغ بشكل دائم ،كام أنها ال تحتاج لرأس مال“ ،ميكنني أن أوفر معظم مرصويف الجامعي خالل عميل يف جني التني مبدة ال تتجاوز الشهرين” قال سعيد. يبدأ موسم قطاف التني منذ منتصف شهر متوز ،ويستمر 60يوماً تقريباً ،وخالل هذه الفرتة تنضج مثار أشجار التني ليمكن قطفها مبارشة ،ويعرف بالتني األخرض ،أو تركها حتى تجف وهو التني (اليابس) املجفف. يتطلب قطاف مثار التني األخرض رسعة ومداومة، وخصوصاً يف أوقات ارتفاع درجات الحرارة ،لذلك يخرج سعيد للعمل باكراً قبل أن تلسعه أشعة الشمس ،ليتمكن من جني حبات التني وبيعها يف السوق ،كام يلجأ بعض األهايل لتأجيل رحلة الجني لفرتة أخرى وهي “العرصية” وتبدأ عندما تخف أشعة الشمس يف آخر النهار. يؤمن موسم التني فرص عمل جيدة لكثري من األهايل، فهو يحتاج إىل القطاف والتعبئة والشحن والتسويق، ومن ضمن رشوط العمل يف قطاف التني أنه يتم االتفاق عىل األجر عىل كل ساعة عمل. ويقول “أبو عمر” مزارع من بلدة رسمني ،إن حمولة شجرة التني الواحدة الجيدة تقدر بحوايل 70كيلو غرام، ومع تقدم عمر الشجرة تبدأ حمولتها بالرتاجع ،كام أن شجرة التني ال تعمر أكرث من 50عاماً. لذلك فإن األهايل الذين ميلكون أشجاراً كثرية ذات حمولة جيدة مضطرون إليجاد عامل لقطاف املحصول “التني ما بيتحمل يبقى ع الشجر كتري ،والزمو حواش أول بأول” يقول أبو عمر. ويوضح املهندس الزراعي “أحمد غزال” أن ما مييز زراعة التني أنها تنجح يف معظم الرتب ،ومع قليل من األسمدة لبعض الرتبة الضعيفة ،كام تعتمد زراعة التني يف إدلب عىل مياه األمطار ،ونادراً ما ُيسقى املحصول ،وهي ال تحتاج سوى لقليل من التقليم من سنة ألخرى. ويقول غزال إن األهايل خالل عملهم بالزراعة يف إدلب يعتمدون عىل محاصيل رئيسية أبرزها التني والزيتون، وتتميز شجرة التني بتحملها للظروف املناخية ،وبأنها ال تحتاج للكثري من األسمدة والري “وهي ذات مرابح أوفر
15
ّ ثالثية غرناطة
16 بشرى البشوات
العدد
97 2021 / 8 / 16 مقاالت
“تبدو املصائب كبرية تقبض الروح ،ثم يأيت ما هو أعتى و أشد فيصغر ما بدا كبرياً و ينكمش متقلصاً يف زاوية من القلب والحشا” .رضوى عاشور يف روايتها ثالثية غرناطة. ُكتبت الرواية يف ثالثة أجزاء ،آخرها جزء الرحيل، َغرناطة؛ التي تعني الرمانة وس ّميت بذلك لشدة جاملها. يكمن رصاع القصة لحظة سقوط غرناطة ،بعد تنازل أبو عبد الله الصغري حاكم غرناطة آنذاك إىل فرناندو وايزابيال عن الحكم عام 1492هجري. من هنا تتواىل األحداث ،حيث تبدأ محاكم التفتيش وعمليات االضطهاد العرق ّية ،فيتم تغيري جميع أسامء أفراد املجتمع إىل أسامء مسيحية ،وتح ّول املساجد إىل كنائس. ويتم إجبار الناس عىل تحو ّيل دياناتهم من اإلسالم إىل املسيح ّية بالتعم ّيد .ثم منع العادات والتقاليد اإلسالمية التي قام عليها املجتمع سابقاً ،وإحراق جميع كتب اللغة العربية واملصاحف. مام يشكل صدمة عىل جميع فئات املجتمع يف غرناطة. فتبدأ الهجرات الجامع ّية ويعلن التاريخ مرحلة انتقال ّية. البطلة الرئيسية يف الرواية “عائلة أبو جعفر” الذي كان يعمل مج ّلداً للكتب ،ويف خضم كل ذلك تعيش العائلة وتنجب وتفرح بأبنائها ،وميوت بعض أفرادها فيحزنون لكنهم يستمرون يف العيش. يف نهاية الرواية يتأكد “عيل” أحد أبطالها أنه ،وبالرغم من كل ما حدث ألهل األندلس من املسلمني ،فإن املوت هو يف الرحيل عن األندلس وليس يف البقاء فيها: “نحن ال نختار بني بديلني ،بل هو قدر مكتوب ،نحن مهزومون فمن أين االختيار؟”. َغرناطة الحصن األخري للمسلمني يف األندلس تر ّكز الراوية عىل الشخصيات البسيطة ،مل يتم تحميلها باألسامء الكبرية؛ األمراء والحكام الذين أضاعوا غرناطة. ….. كنت قد اشرتيت رواية ثالثية غرناطة من مكتبة النوري يف قلب دمشق يف شهر آب من سنة ،2015قبل أشهر قليلة من مغادريت دمشق وسوريا نهائياً! (طبعا مل أكن أتوقع ذلك). مرت ست سنوات عىل ذلك اليوم ،حني مشيت وحدي عرب شوارع دمشق. التقطت الكثري من الصور ،نظرت يف صور اإلعالنات، واألبنية والشوارع والساحات والرشفات املفتوحة عىل
شمس دمشق الحارقة يف ذلك الصباح. تتشابك أحداث الرواية كام تشابكت حيايت ،وصار من الصعب أن أمسك بأي خيط منها. تهتم الرواية بالتفاصيل كام امتألت حيايت بالتفاصيل بعد أن عربت جبل الزاوية يف إدلب ويف حضني ابنتي الرضيعة. مل أحمل من سوريا سوى جوازات السفر الخاصة بنا، بطاقاتنا الشخصية ،جهاز الالبتوب الخاص بنا ،ورواية ثالثية غرناطة! نعم الرواية من بني خمسمئة كتاب كان موجوداً يف مكتبة البيت الذي كنّا نستأجره يف مدينة الحسكة، آخر معاقلنا يف سوريا ،كام كانت غرناطة آخر معاقل العرب يف األندلس. سقطت حقيبة ظهري مرتني وأنا أركض ألقطع الحدود، وأنا أركض ألنشد الخالص يل ولهذين الطفلني ،لكنني عدت وحملتها ألنني مل أرغب أن أفقد الرواية ،ومل أعرف بعد رس عوديت وإرصاري عىل إعادة التقاطها! عربنا الحدود يف شهر ترشين األول 2015 ألق ولو نظرة واحدة للوراء ،مل أق َو عىل أذكر بأنني مل ِ رؤية أضواء املصابيح يف سوريا التي ظننت بأنني أعرف. ركضت بكل ما ّيف من طاقة ،ركضت حتى دون أن أوقع معاهدة تنازل عن حصة سوريا يف دمي. أردت أن أنشد خاليص بأنانية مفرطة. الهرب من املوت عرفت الهجرة والنزوح مثلام عرفها أبو جعفر يف رواية غرناطة .هربت من املوت الذي كان يطاردنا كام طارد عائلة أبو جعفر ،لقد هربنا حتى ال يضعف شعورنا
حب الوطن متاماً بسوريتنا! حتى ال نتهم بالتخاذل يف ّ مثلام ا ُتهمت العائلة يف الرواية. عىل شاطئ أزمري الرتكية كان يجب أن أتخفف من متاعي؛ فحمل طفلة رضيعة يف حضني كان يكفي ،مع بعض حاجياتها وأوراقنا الثبوتية .لكنني مل أتخفف! كنت قد لففت الرواية مثلام فعلت مع األوراق بالنايلون ،واحكمت إغالق الكيس جيداً منعاً لترسب املاء. ً حني قام امله ّرب بتكورينا جميعا يف أرض ّية (البلم) كدسنا فوق بعضنا البعض دون ترتيب ،فتكدّست معي الرواية أيضاً! عربنا البحر كام فعل الآلالف من السوريني؛ مشينا فيام بعد يف أوربا الرشقية .قطعنا بالداً مل أفكر يوما بأنها ستنهب قلبي يف تلك اللحظات بجاملها اآلرس ..وبقيت الرواية معي. تخففت فيام بعد من حمولتي ،رمينا ثيابنا املتسخة، حصلنا عىل أخرى نظيفة ومكو ّية جيداً ،ولكنني مل أتخفف من الرواية التي أصابت الرطوبة أوراقها ،ومع ْ حافظت عىل متانتها وظلت ساكنة بهدوء تام يف ذلك حقيبة الظهر. ً ً أمتسك بها متاما كام كنت أرفع أرفع الحقيبة جيداّ ، طفلتي إىل حضني وأتشبث بها. أحافظ عليهام جيداً؛ إحداهام عىل ظهري واألخرى يف قلبي! أصل أملانيا بعد رحلة استغرقت أيا ًما معدودة ،لكنها كانت بالنسبة يل دهراً مستمراً يف الهرولة. بعد الوصول وبعد تحقق رشط األمان املطلوب أفتح ذات ليلة كتايب املخزّن جيداً ،وأطالع لوحة غالفه، رسم أنثى وراء ظهرها يتمثل مايض غرناطة الزاخر ببساتينه اليانعة ،قطعة من جنة مفقودة ،وجهها ألوان مختلفة تدل عىل الكثري من األىس ،ويف العينني لون أصفر ميضء وكأن حريقاً يستعر أمامها ،وتنعكس نريانه يف بؤبؤي العينني. وأبدأ بالقراءة التي ّأجلتها قبل أشهر: اإلهداء إىل ابني متيم الربغويث. اإلهداء من األ ّم املرص ّية رضوى عاشور إىل االبن الفلسطيني. وأكتب أنا اآلن: اإلهداء إىل ابنتي طل!ّ
صحفيو سوريا بني إهمال الداخل وعجز اخلارج قصي األحمد
العدد
97 2021 / 8 / 16
سابقاً ،وكان بعضها قات ًال ،يالحظ املتابع تخبطاً من قبل املعنيني بالتعاطي والتعامل الفعال مع تلك الحوادث؛ فوجود حوادث سابقة وتهديدات يتلقاها الصحفي أحياناً من جهات مجهولة، يستدعي القيام بإجراءات إضافية من قبل املعنيني عند معرفتهم بها ،لكن أياً من ذلك مل يحدث ،رمبا ذلك عائد إىل الفوىض والبريوقراطية القاتلة داخل تلك املؤسسات ،أو إىل نقص الخربة يف التعامل مع مثل هذه القضايا ،أو غريها من األسباب التي يجب عالجها والتعامل معها بجدية ومسؤولية وجرأة بغية تحسينها. ولعل بقاء قنوات التواصل مفتوحة بني الصحفيني واملسؤولني ،والتعاطي الفعال مع التهديدات التي يشعرون بها ،من شأنه أن يقلل كثرياً من املخاطر املحتملة. منظامت دولية عاجزة: تقف املنظامت الدولية -وخاصة املتصدرة للدفاع عن الصحفيني السوريني -عاجزة أمام ضغط التحديات والتهديدات التي يعاين منها الصحفيون يف الداخل السوري ،والتي تستدعي تدخ ًال عاج ًال لتحقيق أدىن درجات السالمة للصحفي املعرض للخطر عىل أقل تقدير. فغالباً ما يقترص عمل الكثري منها عىل إصدار البيانات واإلدانات ،مربرة عدم قدرتها عىل املساعدة بوجود الصحفي يف داخل سوريا ،أو
بسبب ضعف إمكاناتها أو إمكانات املنظامت الرشيكة معها ،عىل الرغم من مساعدتها لصحفيني محددين يف بعض األحيان ،لكن دون وجود آلية واضحة ملساعدتهم -عىل الرغم من قلتهم -دون البعض اآلخر. وعىل الرغم من امتالكها لكامل املعلومات عن الصحفي ووضعه واملخاطر املحتملة ،إال أنها يف نهاية املطاف إما أن تعتذر عن مساعدته لألسباب التي ذكرناها ،أو متاطله إىل أجل غري مسمى. وما يجب عىل تلك املنظامت هو العمل الجاد إليجاد آلية ملساعدة الصحفيني يف داخل سوريا والذين هم عرضة للمخاطر أكرث من غريهم -هذا إذا سلمنا مبساعدتهم للصحفيني خارج سوريا- باإلضافة لوجود آلية واضحة ومفهومة “وشفافة” لتقديم املساعدة واملستحقني لها. احموا الصحفيني! وقفت قبل أيام بالقرب من سياريت املدمرة، ووضعت عليها ورقة مكتوب فيها “اليوم تم استهدايف وغداً قد يتم استهداف زميل آخر #احموا_الصحفيني يف رسالة إىل الجهات املعنية بالداخل ،واملنظامت املعنية بحامية الصحفيني ومساعدتهم بالخارج ،برضورة العمل الجاد للوقوف بجانب الصحفيني وحاميتهم وخلق بيئة آمنة لعملهم قدر املستطاع ..فهل يلقى ندايئ آذاناً صاغية؟!
تقارير
تجهزت كالعادة ورتبت أغرايض ،وتأكدت من بطارية الكامريا ،ومن وجود مساحة فارغة عىل كرت الذاكرة الذي لطاملا امتأل باملتناقضات التي كنا نعيشها؛ بقصص املعاناة والنجاح ،اليأس والطموح ،اآلالم واآلمال ..وغريها من القصص التي لطاملا عملت عىل نقلها ومشاركة العامل بها. جلست قلي ًال مع زوجتي والعبت طفلتي حتى ارتفع صوت ضحكها ،وأعطيت الحقيبة ألخي، وخرج وخرجت وراءه. كانت الوجهة إىل مخيامت النازحني لنقل أوضاعهم واحتياجاتهم مع اقرتاب عيد األضحى ،ولكن ما إن اقرتبنا من السيارة قلي ًال حتى تغريت الوجهة متاماً.. كتلة كبرية من اللهب وصوت انفجار ضخم غري كل يشء! لوهلة مل أستوعب ما حدث ،افتقدت أخي الذي كان أقرب مني إىل السيارة ،فوجدته مرمياً عىل الحائط القريب يضع يده عىل رأسه ،شاخص البرص ممتقع اللون ،وكأنه قد شاهد ملك املوت يخرج من السيارة خايل الوفاض ،وكان من املفرتض أن يقبض أرواحنا لو خرجنا قبل خمس أو عرش ثوان عىل األكرث! أصبح الرصاخ والعويل يحيط يب من كل جانب، ودالء وأباريق املاء تنهمر عىل السيارة من كل حدب وصوب إلطفائها ،والنار ال تزداد إال لهيباً. كان من املفرتض يب أن أهرع معهم إلطفاء السيارة، لكني مل أفعل ذلك ..رمبا بسبب ذهويل مام حدث، أو ألن ناراً أخرى اشتعلت هناك يف صدري بسبب خويف عىل أرسيت داخل املنزل .هرعت لالطمئنان عليهم ،فإذا صوت ضحك ابنتي قبل دقيقة قد تحول إىل بكاء ورصاخ سمعته من خلف الباب، وعىل الرغم من أنه كان بكاء إال أنه كان كفي ًال ألن أطمنئ وأمتالك نفيس. سأكتفي برسد هذه األحداث من تلك الدقيقة التي كانت بحجم سنة ،ألتكلم عن ما بعدها.. فوىض لدى الجهات املسؤولة الداخلية: عىل الرغم من أنها املرة الثانية التي يتم استهدايف بها ،وعىل الرغم من استهداف العديد من الصحفيني يف مختلف مناطق الشامل السوري
17
“بريد ّ الليل” رواية ّ الرسائل املتعالقة واملصائر املتشابهة
18 ياسمين نهار
العدد
97 2021 / 8 / 16 ثقافة
تع ّد رواية بريد ال ّليل من ال ّروايات التي نجحت يف تسليط ّ الضوء عىل املصري اإلنسا ّين يف بالدنا العرب ّية ،من خالل عرضها لقصص أشخاص غادروا بالد املآيس اليوم ّي ّة ،واألرض ا ُملت َعبة من الحروب واالستبداد والفقر. ال ّرواية للكاتبة اللبنانية هدى بركات ،وقد صدرت عن دار اآلداب عام ،2018وحصلت عىل جائزة “بوكر” العرب ّية عام .2019 ومن ّ اللفت للنظر ّأن جامل ّية ال ّرواية تبدأ من خاف العنوان بوصفه عتبة أوىل للن ّّص ،وغري ٍ علينا ما يتض ّمنه هذا الرتكيب اإلضا ّيف من عنارص تحفيز للمتلقي ليعرف ماهية هذا الربيد ،وسبب تحديده بكلمة “ال ّليل” ُتقسم ال ّرواية إىل ثالثة فصول جاء الفصل األ ّول تحت عنوان “خلف النّافذة” ّ وتدل هذه العتبة عىل رمز ّية عالية مبا تشري إليه من دالالت ّ الت ّقب واالنتظار ،وقد استخدمت الكاتبة يف هذا الفصل تقنية ال ّرسائل ا ُملرسلة من خمسة أشخاص مختلفنيّ ، كل رسالة بعد ال ّرسالة األوىل كانت دافعاً ّ للشخص ّية التّالية لكتابة رسالتها. ولد كاتب ال ّرسالة األوىل ويف فمه ملعقة من ال َع َوز ،وأل ّنه أذىك أخوته أرسلته أ ّمه وهو يف ال ّثامنة أو التّاسعة إىل بيت ع ّمه يف العاصمة ّفيس أث ٌر كب ٌري عىل ليتع ّلم ،وكان لهذا الفطام الن ّ حياته وسلوكه؛ فبدا من خالل رسالة كتبها إىل حبيبته قلقاً متق ّلباً عدوان ّياً ،يتعاطى املخدرات يف بالد هاجر إليها ومل يلقَ فيها ّإل الوحشة واإلفالس. بسبب الفقر والحاجة عمل يف البلد الذي هاجر إليه عند عسكريّ انقال ّيب “فتح جريدة ليع ّلم الخليقة أصول الدّميوقراط ّية” بعد أن رسق ثروات بالدهّ .إل ّأن عمل هذا ّ الشاب مل
يدم طوي ًال أل ّنه ُطرد من العمل هو وزمالؤه الكتّاب دون سابق إنذار ،ورغم أ ّنه ح ّلق بعيداً عن أقفاص بالده ظ ّلت األسالك تحارصه ،وعيون أجهزة املخابرات تراقبه بعد أن جاء تصنيفه معارضاً إثر ترجمته ملقال. وتجدر اإلشارة هنا إىل وقوع رسالة ال ّرجل غري املكتملة بيد امرأة عرب ّية وجدتها يف دليل الفندق ،ورسعان ما بدأت بكتابة رسالة إىل رجل تنتظره. بدت من خالل رسالتها أ ّنها امرأة تجاوزت الخمسني ،سافرت للقاء رجل كنديّ أح ّبته يف سنوات شبابها. ويبدو يل ّأن هذه املرأة عانت من خذالن األح ّبة، ّ وتشظت كآنية وويالت حرب يف بلد “وقعت كبرية من الزّجاج” ،باإلضافة إىل فقد األب وما تال موته من مشاعر متناقضة من إحساس بالفقد ّ ولعل حضور حب ق ّيدها، وغبطة تح ّرر من ّ رمز ّية العصفور يف رسالتها دليل عىل شغفها بالحر ّية التي ُيحرم أبنا ُء بلدها ّ تنشقَ هوائها. يف املطار ُتلقي املرأة التي خاب أملها من حبيب مل يأت رسالتها يف س ّلة املهمالت؛ ّ مم س ّهل عىل أحد املوجودين يف املطار قراءتها وهو بدوره رشع يكتب رسالة لوالدته مسرتجعاً ذكريات
ّ الطفولة ّ والشباب املؤملة ،وما تراكم داخله من إحساس مؤمل باإلهانة بسبب تعنيف والده له. ومن تلك الذكريات متاديه م ّرة يف الكالم أثناء خدمته اإللزام ّية ليدفع عنه إحساس اإلهانة الكامن يف ال ّالشعور؛ فوىش به شاب يغار من ق ّوته ،وكام يحصل يف املعتقالت اعرتف مبا ُألصق به من ُتهم ليتخ ّلص من وطأة العذاب الجسديّ ّفيس ،وليربهن لهم عن توبته طلبوا منه أن والن ّ يعمل معهم ويع ّذب املساجني ،ويف لعبة تبادل األدوار مارس أعنف أنواع طرق التّعذيب يف هذه الحالة “يتّخذ العنف طابع التّشفي الذي ال يعرف االرتواءّ ، ألن الجرح ّ جيس النّابع من الن ّ القهر غري قابل لالندمالّ . فإن عالقة اإلرهاب تولد بشك ملغز “إفراطاً يف االستكانة تجاه ا ُملتس ّلط، وإفراطاً يف جربوت الق ّوة تجاه األضعف” عىل ح ّد تعبري الدّكتور مصطفى حجازي. املتأصلة تجدر اإلشارة هنا إىل ّأن آثار العنف ّ يف أعامق ّ الشاب دفعته إىل اإلجرام وقتل امرأة أجنب ّية مسنّة عطفت عليه يف إحدى الدّول التي استقبلت ّ اللجئني بعد اندالع ال ّثورة يف بلده. هكذا ُترهب دول القمع مواطنيها وتح ّولهم إىل بيادق خائفة تار ًة و ُمتس ّلطة عىل الحلقة األضعف تار ًة أخرى.
.....
العدد
97 2021 / 8 / 16
النّاجني من قوارب املوت انتهى به املطاف يف بالد الغربةّ ،إل ّأن خصوص ّيته الجسد ّية والنّفس ّية جعلته يعيش يف مجتمع ض ّيق مع أقرانه املثليني يعاين الفقر والت ّ ّرشد والوحشة دون أن يصله جواب من أهله عىل رسالته. ٌ الفصل ال ّثاين يف ال ّرواية جاء تحت عنوان “يف املطار” وهذا املكان ّ يدل عىل عالقة تقابل ّية بني ثناثئ ّيات( :ال ّلقاء /الفراق)( ،الفرح /الحزن)، (األمل /الخيبة) ّإل ّأن كاتبي ال ّرسائل جميعهم مل يلقوا يف املطار ّإل الفراق والحزن والخيبة.. ويف هذا الفصل تركت الكاتبة مساحة للقارئ ليشارك يف خواتيم عاملها ال ّروا ّيئ وفق أفق التو ّقع السلبي لديه ،وهي بذلك تنقله من دور املتل ّقي ّ إىل دور املتل ّقي الفاعل. والفصل األخري يف ال ّرواية حمل عنوانني هام: والسؤال :ملاذا “الخامتة ،موت البوسطجي” ّ جعلت الكاتبة روايتها تنتهي مبوت البوسطجي (ساعي الربيد)؟ أهو موت مجازيّ ؟ وكأ ّنها أرادت أن تقول ّإن مصري ال ّرسائل كمصري أصحابها أي النسيان والتجاهل والضياع؟ أم هو ٌ موت أمىس مصري من بقي يف بالد تنهبها الحرب وداعش؟ بخاف علينا نفاذ الكاتبة إىل أعامق وليس ٍ شخص ّياتها ،ورصد حاالتها السيكولوجيةّ ،إل ّإن الشخص ّيات جاءت بدون أسامء رصيحةّ ، ّ وكأن ّ كل يشء يسقط ويضيع يف زمن الحرب. ويف الحقّ ّأن الكاتبة جعلت شخص ّياتها ابنة بيئتها االجتامع ّية وال ّثقاف ّية ،ومل يفد اتصالها مع اآلخر يف إزالة ما علق بها من رواسب التّنشئة االجتامع ّية وال ّثقاف ّية األوىل. وينبغي ّأل يفوتنا الحديث عن خروج ال ّرواية عن دائرة الزّمان واملكان املحدّدين تحديداً واضحاً؛ لكن عندما رصدت الكاتبة الغربة
بأبعادها النّفس ّية واملكان ّية ألناس اغرتبوا عن بلدان مل يجدوا فيها ّإل الفقر واالستبداد وويالت الحرب ،أرادت أن يكون زمن ال ّرواية الحارض والحارض املستم ّر ،وقد يرت ّد زمن األحداث إىل مرحلة ّ الطفولة لدى بعض الشخص ّيات. ومل تحدّد الكاتبة أسامء األمكنة بشكل رصيح، وهي البالد التي تركها أصحاب ال ّرسائل ،وبلدان االغرتاب التي قصدوها ،باإلضافة إىل املطار. ّإن عدم التّحديد هذا أغنى خيال القارئّ ، ودل عىل القواسم املشرتكة بني املنايف (القرس ّية أو وكأن ّ االختيار ّية) ّ كل مكان يرتك فيه اإلنسان “البيوت األوىل” يشبه األمكنة التي رصدتها الكاتبة بأبعادها النّفس ّية واملاد ّية ،غري ّأن هذا ال يعني ّأن بلدانهم كانت أحسن حاالً فحضورها ولو كان يف الحلم يكون “كالكوابيس” ومن املالحظ حضور األمكنة املغلقة يف ال ّرواية (الغرفة ،البيت ،البار ،املطار ،الزّنزانة ،الفندق).. فإنا ّ هذا إن ّ دل عىل يشء ّ يدل عىل قلق القاطنني فيها وضيقهم ،وهم الغرباء ّ املرشدون، م ّمن رسمت ظروف الفقر والحرب واالستبداد مصائرهم ودروبهم املسدودة. واملتم ّعن يف لغة ال ّرواية يرى أ ّنها لغة بسيطة سهلة ،بعيدة عن اإلغراق يف التعقيد؛ وهو ما يناسب أسلوب ال ّرسائل الذي بنت عليه الكاتبة السد. طريقتها يف ّ ميكن يف ضوء ما تقدّم أن نقول ّإن رسائل ال ّرواية كشفت ال ّروابط املشرتكة بني أشخاص مل يجدوا يف بالدهم ّإل الفقر والنبذ واالستالب؛ ويبدو يل ّأن الجسور التي عربوها إىل بالد أخرى مل تساعدهم عىل مح ّو ّ الظالل املهيمنة عىل حياتهم التي امتدّت فأثرت يف أسلوب كتابتهم، لذا جاء بريدهم حزيناّ ُمع ِت ًام كظلمة ال ّليل.
ثقافة
تقع رسالة ّ الشاب بعد إلقاء القبض عليه بيد امرأة تعمل خادمة يف املطار ،فتكتب بدورها رسالة إىل أخيها الذي ارتأى لنفسه أن يأخذ دور حاسب ا ُملتس ّلط وهو ا ُملستَلب عىل األصعدة ا ُمل ِ كا ّفة. تختار الكاتبة يف هذه ال ّرسالة أن تأخذ آلة الخاصة بها وتلتقط صوراً من القاع التّصوير ّ االجتامعي الفقري وما يجري فيه من زواج ّ القارصات مقابل حصول األهل عىل املال ،وكيف ينتهي هذا الزّواج ّ بالطالق يف كثري من األحيان، وهنا تجد الفتاة نفسها ضح ّية مجتمع ال يرحم، وظروف اقتصاد ّية س ّيئة تجربها عىل األعامل ا ُملهينة والدّعارة. ال ّرسالة األخرية يف ال ّرواية من شاب “مث ّ يل” وجد رسالة يف البار من فتاة إىل أخيها املسجون شجعته عىل كتابة رسالة إىل أبيه. ّ قصة هذا ّ الشاب عن تكشف الكاتبة من خالل ّ هيمنة عدد غري قليل من اآلباء يف مجتمعاتنا عىل أبنائهم ،وعجز اآلباء عن إيجاد وسيلة الشاب كغريه من ّ للتواصل معهم ،وهذا ّ الش ّبان
19