مجلة طلعنا عالحرية / العدد 98

Page 1

‫حرية ‪ ،‬كرامة‪ ،‬مواطنة‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬

‫يف السفر‪..‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫مجلة شهرية‪ ،‬سياسية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬


‫يف السفر‪..‬‬ ‫‪2‬‬

‫نصار‬ ‫افتتاحية بقلم أسامة ّ‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫يتكلم دون “شازلونة” يستلقي عليها كام‬ ‫يف األفالم‪ .‬كانت جلسة العالج النفيس عرب‬ ‫االنرتنت‪ ..‬ومل يكن الطبيب النفيس بنظارة مدورة‬ ‫ولحية مش ّذبة‪ ،‬ومل يدخن الغليون‪ ،‬لكنه حافظ‬ ‫خالل كل الجلسات عىل صوت هادئ ودود ولغة‬ ‫رصينة‪..‬‬ ‫ثالث قا ّرات وعدة محيطات كانت تفصل بني‬ ‫مس‬ ‫الطبيب املعالج و(املريض) الذي يقاوم ّ‬ ‫الجنون‪ ..‬وقصف الطريان ووابل الرباميل وخنق‬ ‫األسعار والحصار‪ ..‬والسارين!‬ ‫جلسة‪ ..‬اثنتان‪ ..‬ثالث‪..‬‬ ‫زولوفت‪ ..‬بروزاك‪..‬‬ ‫شهيق‪ ..‬زفري‪..‬‬ ‫مل تبد جملة الطبيب الوقور متناسبة مع االحرتافية‬ ‫العالية التي تل ّبسها خالل األسابيع السابقة‪“ :‬أمل‬ ‫تكن أريض واسعة فتهاجروا فيها‪ ،”..‬لع ّله قدّر أن‬ ‫اقتباس آية من القرآن سيضفي بعض القداسة‬ ‫والروحانية عىل جلساته‪ ..‬لكن االقتباس ختم‬ ‫سلسلة الجلسات وأوصل رسالة غري مرغوبة‪.‬‬ ‫‪...‬‬ ‫متسك كثري من السوريني‬ ‫رغم ظروف عاتية‪ّ ،‬‬ ‫بقرار البقاء يف بلدهم‪ ،‬وبعضهم أضطر للبقاء‬ ‫النعدام الخيارات األخرى‪.‬‬

‫ال نتكلم فقط عن السنوات العرش األخرية‪ ،‬وعن‬ ‫الحرب والتهجري واإلخفاء القرسيني والتجنيد‬ ‫اإلجباري وداعش وباقي البالوي التي أملّت بالبلد‬ ‫وأهله‪ ..‬لطاملا كان السفر واالغرتاب ظاهرة سورية‬ ‫ملحوظة‪ ..‬الجميع يسافرون‪ ،‬ويتغربون ويكتبون‬ ‫األشعار واألغاين عن الرحيل والفراق والغياب‪..‬‬ ‫لكن املسألة عندنا أكرث من السفر للعمل أو‬ ‫الدراسة أو العالج‪ .‬وال يبدو أننا نسافر لتلك‬ ‫األسباب التقليدية‪ ..‬بل إننا (نطفش) متذرعني بها‬ ‫مرصحني بسبب رحيلنا (الطفش)!‬ ‫أو حتى ّ‬ ‫ملاذا يسافر (أو يطفش) السوريون؟ وملاذا ال‬ ‫يسافر بعضهم؟ وكيف ينظر من طفش إىل من‬ ‫بقي؟‬ ‫ويف سياق السفر‪ ،‬تشكلت ثنائية‪ ،‬مشحونة يف‬ ‫أغلب األحيان‪ ،‬عن (الداخل والخارج) وصار‬ ‫الحديث عن من أفضل ِمن َمن‪ ،‬و َمن يعاين أكرث‬ ‫ِمن َمن‪ ،‬واحدة من جدلياتنا الكثرية‪..‬‬ ‫يروى بأن قائداً روم ّياً سأل خالد بن الوليد يف أحد‬ ‫فواصل معركة الريموك‪“ :‬هل ملن يدخل يف اإلسالم‬ ‫اليوم مثل ما لكم من املثوبة واألجر؟” وأجاب‬ ‫خالد‪..“ :‬وأفضل”‪ ،‬فتعجب الرومي‪“ :‬كيف وقد‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫افتتاحية‬

‫املقاالت املنشورة تعرب عن آراء أصحابها أوالً‬ ‫وال تعرب بالرضورة عن آراء هيئة التحرير‬ ‫املجلة غري ملزمة بنرش كل ما يردها من مواد‬

‫شهرية ثقافية‪ ،‬اجتامعية‪ ،‬سياسية‪،‬‬ ‫تعنى بالشأن السوري‬ ‫املدير اإلداري‬ ‫معتصم أبو الشامات‬

‫الغالف‬ ‫سمري خلييل‬

‫سبقتموه؟” لري ّد خالد‪“ :‬لقد عشنا مع رسول الله‪،‬‬ ‫ورأينا آياته ومعجزاته‪ ،‬وحق ملن رأى ما رأينا‪،‬‬ ‫وسمع ما سمعنا أن يسلم يف يرس‪ ،‬أما أنتم يا‬ ‫من مل تروه ومل تسمعوه ثم آمنتم بالغيب‪ ،‬فإن‬ ‫أجركم أجزل وأكرب إذا صدقتم الله رسائركم”‪.‬‬ ‫بعيداً عن مزاودة “تحت املكيفات‪ ،‬ومعارضة‬ ‫الفنادق‪ ،‬وارتشاف النسكافيه‪ ،”..‬وبنفس‬ ‫منطق خالد‪ ،‬رمبا أمكن مقاربة انخراط مغرتبني‬ ‫ومغرتبات خارج سوريا يف العمل الثوري‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبذلهم‪/‬ن املال والجهد واألعصاب‪..‬‬ ‫يبح صوته يف مظاهرة ح ّية عىل‬ ‫فكيف ملن مل ّ‬ ‫بعد خطوة من جنود القمع والشبيحة أن يحافظ‬ ‫عىل حامسه؟‬ ‫‪..‬يف املظاهرة‪ ،‬يرسي تيار كهربايئ يف املتظاهرين‬ ‫ويحيلهم جسداً واحداً هاتفاً‪ ..‬فكيف تصل‬ ‫الكهرباء إىل أصدقائهم عرب اليوتيوب؟!‬ ‫هل ينقل فيسبوك بقعة الدم عىل قميص الناشط‬ ‫الذي يسعف للمشفى امليداين زميله املصاب‬ ‫برصاص جنود اإلجرام؟‬ ‫يبدو أن التواصل حصل‪ ،‬عرب وسائل التواصل أو‬ ‫بطرقه الغامضة‪ ..‬ولكن بقي السوريون مغرتبني‬ ‫حتى وهم داخل بلدهم؛ فنحن‪ ،‬كام كتب الراحل‬ ‫محمد املاغوط‪ ،‬من ضيعة اسمها غربة!‬ ‫تفاعل معنا عرب صفحاتنا عىل اإلنرتنت‬ ‫‪facebook.com/rising4freedom‬‬

‫نصار‬ ‫رئيس التحرير أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫نائب رئيس التحرير ليىل الصفدي‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫كاريكاتري‬ ‫سمري خلييل ‪ /‬هاين ع ّباس‬

‫أمن رقمي ومحاسبة‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف سوريا‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫أمحد أبو ارتيمه ‪ -‬غزة‬

‫البحث عن احلرية‬ ‫من فوهة نفق‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫نفق الحرية كان أيضاً مشهداً غنياً بالرمزية؛ فاألرسى‬ ‫الفلسطينيون داخل سجون االحتالل اإلرسائييل‬ ‫محرومون من أبسط الوسائل العادية التي يستخدمها‬ ‫الناس‪ ،‬وهم مراقبون بدقة من قبل سلطة مصلحة‬ ‫السجون االرسائيلية‪ ،‬وهناك حمالت تفتيش يومية‬ ‫يتعرضون لها‪ ،‬وقبل ذلك فإن بناء السجن محصن‬ ‫بالخرسانة والقضبان الحديدية‪ ،‬كل هذه العوامل مل‬ ‫تقتل إرادة املقاومة يف نفوس األرسى‪ ،‬وولدت العزمية‬

‫يف عقولهم أفكا ًرا لنحت الصخر‪ ،‬باملعنى الحريف لكلمة‬ ‫نحت الصخر‪ ،‬هم يعلمون أن املهمة صعبة‪ ،‬لكن‬ ‫املحاولة خري من االستسالم للموت داخل السجون‬ ‫اإلرسائيلية‪.‬‬ ‫كان اكتشاف نجاح ستة من األرسى يف حفر نفق من‬ ‫غرفتهم إىل خارج جدران السجن فضيحة مدوية لصورة‬ ‫الهيبة اإلرسائيلية‪.‬‬ ‫إرسائيل حريصة عىل إبقاء صورة التفوق‪ ،‬وأنها دولة‬ ‫ال ميكن هزميتها يف الوعي الفلسطيني والعريب‪ ،‬ألنها‬ ‫تخىش إذا اهتزت هذه الصورة أن يلهم ذلك الشعب‬ ‫الفلسطيني مبقاومتها‪ ،‬لذلك فإن الفضيحة إلرسائيل أكرب‬ ‫من مجرد خروج ستة أرسى من السجن‪ .‬إن الخسارة‬ ‫اإلرسائيلية تتمثل يف اهتزاز صورتها الردعية‪ ،‬واكتشاف‬ ‫الناس أن هناك مواطن ضعف ميكن التسلل من خاللها‪.‬‬ ‫يف نفق الحرية كانت الداللة الرمزية حارضة بقوة ً‬ ‫أيضا‪،‬‬ ‫أن الفلسطيني قادر عىل النحت يف الصخر من أجل‬ ‫كرس إرادة عدوه‪ ،‬وأن الفلسطيني ال مييش يف النفق‬ ‫وحسب بحثاً عن الضوء يف نهايته‪ ،‬بل إنه هو الذي‬ ‫يبادر إىل حفر النفق بأظافره‪ ،‬وهو ممتلئ باإلميان بأن‬ ‫هناك نوراً يف نهاية النفق بعد أن يتم حفره‪.‬‬ ‫عززت حادثة النفق تذكري الفلسطينيني بالذات الوطنية‪،‬‬ ‫فقد امتأل كل بيت فلسطيني مبشاعر الفخر وهو يتابع‬ ‫أخبار نجاح األرسى يف حفر نفق ومعانقة شمس الحرية‬ ‫رغم إرادة السجان‪ ،‬ثم بات كل بيت فلسطيني حزينا‬ ‫بعد بضعة أيام حني متكن جنود االحتالل من إعادة‬ ‫اعتقال بعض هؤالء األرسى‪.‬‬ ‫متنى كل فلسطيني لو تفشل “إرسائيل” يف الوصول‬ ‫إىل األرسى‪ ،‬لكنها ليست بطولة كبرية حققتها‬ ‫“إرسائيل” باعادة اعتقالهم‪ ،‬يف ضوء سيطرتها الكاملة‬ ‫أمنياً وتكنولوجياً وعسكرياً‪ ،‬واالنتصار الذي انتزعه‬ ‫األرسى هو انتصار معنوي متثل يف إعالن قوة العزمية‬ ‫الفلسطينية وإهانة كربياء “إرسائيل”‪.‬‬ ‫إن الدرس األهم الذي نتعلمه من أحداث األشهر األخرية‬ ‫يف فلسطني هو أن إرادة املقاومة الفلسطينية أقوى من‬ ‫كل السجون والجدران التي يشيدها املستعمر‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫حني تفقد الشعوب الواقعة تحت االستعامر ّ‬ ‫كل عنارص‬ ‫قوتها املادية‪ ،‬فإنه ال يتبقى أمامها إال سالح العزمية‬ ‫لتواجه به محاوالت القوة املستعمرة إبادتها‪ ،‬هذا حدث‬ ‫بتكرار يف التاريخ‪ ،‬وهو ما يحدث اآلن يف فلسطني التي‬ ‫يواجه شعبها املرشوع الصهيوين االستعامري‪.‬‬ ‫تنحاز موازين القوى املادية لدولة االستعامر الصهيوين‬ ‫“إرسائيل” عىل نحو فادح‪ ،‬إذ تتلقى هذه الدولة دع ًام‬ ‫سياسياً وعسكرياً واقتصادياً غري مرشوط من املجتمع‬ ‫الدويل الرسمي وعىل رأسه اإلدارة األمريكية‪ ،‬ومينح‬ ‫التفوق العسكري واألمني والتقني إلرسائيل فرصة‬ ‫التحكم الكامل يف الفلسطينيني ما بني البحر والنهر‬ ‫وإحباط أي محاولة منهم للمقاومة‪.‬‬ ‫كذلك تحظى “إرسائيل” ببيئة إقليمية داعمة‪ ،‬تتمثل‬ ‫يف األنظمة العربية غري املنتخبة‪ ،‬والتي ربطت مصريها‬ ‫باملحافظة عىل االستقرار مع إرسائيل‪ ،‬بسبب اعتقاد‬ ‫تلك األنظمة أن صحوة شعبية فلسطينية ستلهم‬ ‫الشعوب الخاضعة تحت حكمها أيضا للحركة‪ ،‬وهو ما‬ ‫سيهدد مصالحها‪ ،‬وكذلك بسبب اعتقاد تلك األنظمة أن‬ ‫إرضاء “إرسائيل” هو مدخل إلرضاء اإلدارة األمريكية‪،‬‬ ‫لذلك سارعت تلك األنظمة إىل التطبيع مع “إرسائيل”‪.‬‬ ‫يف املقابل فإن الفلسطينيني يتعرضون لحصار مشدّد من‬ ‫قبل األنظمة العربية‪ ،‬ويحرمون من الحلفاء اإلقليميني‬ ‫الذين من شأنهم أن يوفروا لهم وسائل الدعم واإلسناد‪.‬‬ ‫من عنارص قوة “إرسائيل” املادية أيضاً وجود السلطة‬ ‫الفلسطينية التي متارس التعاون األمني مع سلطات‬ ‫االحتالل يف الضفة‪ ،‬ومتثل جداراً عازالً يؤخر اندالع‬ ‫انتفاضة شعبية شاملة‪ ،‬يواجه فيها الشعب الفلسطيني‬ ‫املحتل مبارشة‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫ظل كل عنارص االختالل هذه التي توفر بيئة‬ ‫مريحة لدولة االستعامر ومتثل سيفاً مسلطاً عىل‬ ‫الشعب الفلسطيني صاحب الحق‪ ،‬فامذا تبقى يف وسع‬ ‫الفلسطينيني أن يفعلوه؟‬ ‫مل يبقَ أمام الفلسطيني إال أحد خيارين‪ ،‬إما التكيف‬ ‫مع الهزمية وإعالن الخضوع إلرادة املستعمر الصهيوين‪،‬‬ ‫وإما أن يقول “ال” ويتحمل مثن موقفه الرافض دون‬ ‫أن ميتلك أي عامل قوة سوى قوة إميانه بحقه وقوة‬ ‫عزميته‪.‬‬ ‫يف األسابيع القليلة املاضية قال الفلسطيني “ال” بصوت‬ ‫عالٍ مرتني يف حدثني شديدي الداللة الرمزية‪.‬‬ ‫الحدث األول يف غزة يف ‪ 21‬آب‪ /‬أغسطس املايض‪ ،‬وهو‬ ‫نجاح شاب فلسطيني يف إصابة قناص إرسائييل متحصن‬ ‫وراء الجدار العازل أثناء تظاهرة نظمها الفلسطينيون‪،‬‬

‫يف ذلك اليوم أصيب ‪ 41‬متظاهراً فلسطينياً برصاص‬ ‫القناصة اإلرسائيليني وتويف اثنان من املصابني‬ ‫الفلسطينيني الحقاً متأثرين بجراحهام‪ ،‬قبل أن يأيت‬ ‫شاب فلسطيني ويخرج مسدسه ويطلق الرصاص من‬ ‫فوهة صغرية يف الجدار املحصن باتجاه القناص الذي‬ ‫قتل بعد تسعة أيام متأثراً بجروحه‪.‬‬ ‫والحدث الثاين يف ‪ 6‬أيلول‪ /‬سبتمرب‪ ،‬وهو اكتشاف نفق‬ ‫بعد متكن ستة من األرسى الفلسطينيني املحكومني‬ ‫باملؤبد يف سجن “جلبوع” مشدّد الحراسة شامل‬ ‫فلسطني املحتلة من حفره برسية كاملة طوال األشهر‬ ‫املاضية‪ ،‬بالرغم من انعدام اإلمكانيات داخل السجن‬ ‫والرقابة األمنية اإلرسائيلية املشددة‪ ،‬وقد بقي األرسى‬ ‫خارج السجن بضعة أيام قبل متكن سلطات االحتالل‬ ‫من إعادة اعتقال أربعة منهم‪ .‬وال يزال اثنان منهم‬ ‫مطاردين من جيش االحتالل وأجهزته األمنية حتى‬ ‫لحظة كتابة هذا املقال‪.‬‬ ‫هذان الحدثان لقيا تفاع ًال كبرياً من الجمهور‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬وكذلك املنارصون للحقوق الفلسطينية‬ ‫يف العامل‪ ،‬وساهام يف تأجيج الروح املعنوية الفلسطينية‬ ‫بشكل ملحوظ‪.‬‬ ‫ما املعنى الذي تضمنه هذان الحدثان؟‬ ‫املعنى األهم الذي يشري إليه هذان الحادثتان هو‬ ‫قوة العزمية الفلسطينية‪ ،‬وقدرة الشعب الفلسطيني‬ ‫عىل استثامر أشد الوسائل بساطة يف مقاومة االحتالل‬ ‫واإلعالن عن رفض االستسالم ملشيئته‪.‬‬ ‫هناك رمزية مكثفة يف كال الحدثني‪ ،‬فالفلسطيني مهام‬ ‫اشتدت حصانة الجدار الذي يحارصه فإنه ال ييأس من‬ ‫محاولة اخرتاقه‪ ،‬ويكفي ثقب ضئيل يف هذا الجدار من‬ ‫أجل أن يرسل الفلسطيني من خالله صوته أو رصاصته‪،‬‬ ‫التي يعلن من خاللها الندية للقوة االستعامرية‬ ‫املدججة‪ ،‬هذا ما حدث حرفياً يف قتل القناص اإلرسائييل‬ ‫عىل سياج غزة من فوهة صغرية جداً يف الجدار‪ ،‬أبقاها‬ ‫الجيش ليطلق الرصاص من خاللها نحو الفلسطينيني‪.‬‬

‫‪3‬‬


‫“مركب حلم يبحر وال ينبل”‬ ‫‪4‬‬

‫حوار مع الفنانة سهري شقري‬ ‫حاورتها ليلى الصفدي‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫“لصوتها شهوة القرميد فإذا ما غنت أصبحت‬ ‫بيوتنا مسقوفة” بهذا الوصف يحايك أحد‬ ‫الشعراء صوتها‪ ،‬سهري شقري صاحبة الصوت‬ ‫اآلرس والشجي؛ صوت ال ميكن أن تسمعه عىل‬ ‫عجالة‪ ،‬ألنه سيأخذك لألعامق أو يحلق بك عالياً‪،‬‬ ‫ميسك بتالبيب القلب ويالمس جدران الروح‪.‬‬ ‫الفنانة سهري شقري التي وصلت السويد قبل ست‬ ‫سنوات يف رحلة شاقة حاذت فيها املوت مراراً كآالف‬ ‫السوريني‪ ،‬تحاول التأقلم يف بالد املهجر‪ ،‬وتعاود‬ ‫عيش حلمها املوسيقي الذي تعرث يف محطات كثرية‪،‬‬ ‫تصدر مؤخراً مجموعة غنائية جديدة ومصورة‬ ‫مبرافقة فرقة سويدية‪ ،‬تضم املجموعة أغنيات‬ ‫من تأليفها نصاً ولحناً‪ ،‬باإلضافة إىل أغنية من‬ ‫تأليف وتلحني شقيقها الفنان الكبري سميح شقري‪.‬‬ ‫ومبناسبة هذا اإلصدار الجديد كان لنا هذا‬ ‫الحديث حول مجمل تجربتها الفنية واإلنسانية‪:‬‬

‫هل تجدين أن مسريتك الفنية سارت مبسارها‬ ‫الطبيعيكفنانةمتتلكصوتاًساحراًوموهبةمتميزة؟‬

‫لقاءات‬

‫عىل العكس متاماً‪ ،‬مسرييت الفنية كانت متعرثة‬ ‫لسنوات طويلة ولعديد من األسباب‪ ،‬إن كنت‬ ‫سأذكر بعضاً منها فال بد أن أبدأ بالذائقة الفنية‬ ‫املرتدية التي سيطرت عىل نهج ثقايف فني كامل‪،‬‬ ‫وشارك يف هذا الرتدي كل من استسهل العمل‬ ‫الفني واتجه به نحو مسارات ال تساهم برتقية‬ ‫الذائقة الفنية لدى الرشيحة األوسع من الجمهور‪.‬‬ ‫وسبب آخر هو عدم منطية ما أقدمه‪ ،‬واعتبار‬ ‫هذا النمط الفني حكراً عىل النخبة‪ ،‬وهذا األمر‬ ‫يحمل حدي سكني؛ فهو جارح يف كال الحالتني‪.‬‬ ‫من األسباب أيضاً أنني كنت أغنى مع شقيقي‬ ‫الفنان سميح شقري لسنوات طوال‪ ،‬وهذا ما وضع‬ ‫تلك التجربة الغنائية برمتها بني قوسني دامئاً‪،‬‬ ‫ولطاملا ضاقت تلك األقواس علينا ألسباب كثرية ال‬ ‫أو ّد الخوض فيها‪ ،‬لكن كل من ميتلك ذاكرة لتجربة‬ ‫سميح شقري منذ انطالقتها يف الثامنينات وحتى هذه‬ ‫اللحظة ال بد أن يدرك الكثري من تلك األسباب‪.‬‬

‫رمبا اختلفت ظروف البلد واملجتمع يف‬ ‫السنوات األخرية‪ ،‬لكن تبدو ظروفك خاصة حتى‬ ‫مام قبل الثورة‪ ،‬هل أنت اآلن أو كنت جزء من‬ ‫املشهد الفني السوري؟ هل لك أصدقاء “من‬ ‫الوسط”‪ ،‬وهل فع ًال قامت التوجهات السياسية‬ ‫والفكرية بفرز الفنانني حتى قبل الثورة؟‬

‫سألتني أكرث من سؤال بسؤال واحد‪ ،‬سأحاول‬ ‫اإليجاز‪ ،‬عن الظرف الفني ما قبل الثورة أو‬ ‫هل كنت جزءاً من املشهد الفني السوري أظن‬ ‫أنني كنت ضمن هذا املشهد‪ ،‬ولكن بكثري من‬ ‫التحفظ‪ ،‬فأنا كنت ضمن تجربة فنية ما كان‬ ‫باإلمكان تهميشها‪ ،‬وبالتايل أخذت هذا املكان‬ ‫بكثري من الحذر والخصوصية إن جاز يل التعبري‪.‬‬ ‫أما عن األصدقاء من الوسط الفني‪ ،‬فنعم‪،‬‬ ‫حظيت بالكثري من العالقات الودية مع‬ ‫معظم من ينتمون للوسط الفني وبأقل ما‬ ‫ميكن من الربوباغاندا‪ ،‬عىل عكس ما يفعله‬ ‫معظم املنخرطني بهذا الوسط يف أيامنا هذه‪.‬‬ ‫أما حول سؤالك هل فع ًال قامت التوجهات السياسية‬ ‫والفكرية بفرز الفنانني حتى قبل الثورة‪ ،‬فنعم‬

‫بالتأكيد‪ ،‬وهذا الفرز وإن بدا واضحاً جداً بعد‬ ‫الثورة‪ ،‬إال أنه كان موجوداً وبطريقة مستفزة‪ ،‬ومن‬ ‫هذه النقطة بالذات برزت الشللية أو التكتالت‬ ‫الفنية واملحسوبيات‪ ،‬والكثري من املطبات التي‬ ‫نعلمها جميعاً‪ ،‬ولطاملا تناولناها حتى يف الدراما‪.‬‬

‫نادراً ما ينجح شخصان موهوبان من نفس‬ ‫العائلة‪ ،‬لكن أثبتت سهري من أول ظهور لها عىل‬ ‫مرسح الحمراء بدمشق أن لها حضوراً وشخصية‬ ‫فنية مستقلة بجانب الرائع سميح‪ ،‬كيف‬ ‫تقيمني تجربتك الفنية بجانب سميح أو بدونه؟‬

‫الحديث عن تجربتي مع سميح حديث يطول‪،‬‬ ‫ففيها كانت البدايات التي شكلتني متاماً فنياً‬ ‫وصقلتني وشكلت ذائقتي ووعيي الفني‪ ،‬إال أين‬ ‫مل أقدم فيها ما كان يجب أن يقدم‪ .‬وأقصد هنا‬ ‫كثافة األعامل أو كثافة الظهور عىل املرسح أو‬ ‫التسجيالت الصوتية‪ ،‬وذلك لكرثة املعوقات‪ ،‬منها‬ ‫اللوجستية ومنها الشخصية والعامة‪ ،‬لكنها بدون‬ ‫شك كانت تجربة مثينة إىل الحد األقىص‪ ،‬وهي التي‬ ‫أكسبتني هذا الشكل الفني الذي أظهر به اليوم‪.‬‬


‫‪.....‬‬

‫“‬

‫بقدر ما أبعد االستب�داد أرواحنا عن الفرح إال أنه بذات‬ ‫برئا من ألم ال زلنا نشرب منه إىل اللحظة‬ ‫الوقت حفر ً‬

‫العدد‬

‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫الغناء يف ظل االستبداد قاد صويت ليظهر ما يف روحي من أمل‪ ،‬ولرمبا‬ ‫وبحسب رأيي أكرث ما مييز املغني إحساسه العايل والعميق بالكلمة‪،‬‬ ‫وقدرته عىل تجسيد هذه املشاعر‪ ،‬وبالتايل بقدر ما أبعد االستبداد‬ ‫أرواحنا عن الفرح إال أنه بذات الوقت حفر برئاً من أمل ال زلنا نرشب‬ ‫منه إىل اللحظة‪ ،‬حتى وأن كنا يف بالد الحريات‪ ،‬لألمل ذاكرة ال تنىس‪.‬‬ ‫هنا يف بالد املهجر واملهجرين سقف الحلم أعىل والتحليق أبعد‪ .‬لكنني الزلت‬ ‫أح ّمل كل أغنيايت وصويت ذلك الحزن العالق عىل حواف الوجدان‪ ،‬وال قدرة‬ ‫يل عىل تخطيه إىل اللحظة‪ ،‬مع أىن أؤمن بأننا يجب أن نغني للفرح والحياة‬ ‫والحرية وكل ما هو جميل‪ ،‬لكنها الذاكرة تشد صويت لقعر ذاك البرئ مجدداً‪.‬‬

‫‪98‬‬

‫الغناء يف ظل االستبداد‪ ..‬الغناء يف ظل الحرية‪..‬‬ ‫طاملا رسم الفن أحالمنا يف أوطاننا الحرة وكان جناحنا للتحليق يف ظل‬ ‫االستبداد‪ ،‬كيف يكون الغناء واإلبداع يف بالد الحريات؟ حدثينا عن‬ ‫تجربتك يف األلبوم األخري‪.‬‬

‫”‬

‫داعمة أو جهة ما تقوم بذلك الجهد عني هو أمر رضوري للتكثيف من هذا الظهور‪.‬‬ ‫لكن هذا املوضوع يأيت بالرتاكم‪ ،‬سيام هنا يف أوروبا‪ ،‬وهذا ما أحاول فعله حالياً‪.‬‬ ‫رس أو ّد إفشاءه‪ ،‬هو أنني كسولة جداً بكل‬ ‫وسبب أخر يحرضين اآلن‪ ،‬أو هو رمبا ّ‬ ‫ما يتعلق بالظهور يف امليديا‪ ،‬وال أعتربه رضورة مع أنه كذلك‪ ،‬وال أبذل الجهد‬ ‫الحقيقي لتدارك هذه الفجوة‪ .‬ولكن رمبا هذا ما يكسبني الوقت والرتكيز أكرث حالياً‬ ‫لحياكة أغانٍ جديدة بنصها ولحنها‪ ،‬ومتابعة املوزع وركوب القطارات من مدينة‬ ‫ألخرى للقاء موسيقيني رائعني‪ ،‬والحديث الطويل عن املوسيقى‪ ،‬وفرد أرواحنا‬ ‫عىل السلم املوسيقي‪ ،‬والقبض عىل لحظات فرح حقيقي بعد اكتامل كل عمل‪.‬‬

‫‪5‬‬

‫مثل آالف السوريني كان لسهري رحلة شاقة مع اللجوء‪ ..‬حدثينا عنها‪..‬‬

‫أما عن رحلتي إىل أوروبا فهي عىل الرغم من قسوتها ومحاذاة املوت مراراً‬ ‫وتكراراً ‪ ،‬لكنها ليست إال حصتي من األمل السوري العظيم‪ ،‬وليست إال نذراً‬ ‫يسرياً مام تعرض له شعب كامل من كل صنوف األمل والفقد‪ ،‬وها أنا أعيش يف‬ ‫السويد منذ ست سنوات خلت‪ ،‬ومستمرة مبحاوالت تذليل الصعوبات اليومية‬ ‫والحياتية هنا‪ ،‬والتي أقل ما أسميها بأنها رصاع يتلوه رصاع إلثبات الذات‪.‬‬

‫كانلكتجربةيفاإلعالميفالخليجالعريب‪،‬كيفميكنكوصفهاأوتلخيصها؟‬

‫منذ انطالقك‪ ،‬نفهم غيابك (أو تغييبك) عن تلفزيونات وإذاعات‬ ‫األنظمة العربية‪ ،‬واآلن بعد الربيع العريب مل يختلف حال ظهورك كثرياً‪.‬‬ ‫كيف نفرس ذلك؟‬

‫نحن يف زمن امليديا‪ ،‬وللميديا أدواتها ومنافذها ومفاتيحها‪ ،‬ووجود مؤسسة‬

‫لقاءات‬

‫بدأت كإعالمية يف اإلمارات منذ أكرث من ‪ 17‬عاماً‪ ،‬بدأت كمذيعة إذاعية‪،‬‬ ‫ثم مذيعة أخبار‪ ،‬ثم معدّة برامج تلفزيونية‪ ،‬ثم عملت يف اإلنتاج يف‬ ‫تلفزيون أبو ظبي‪ ،‬كانت تجربة ممتعة وهامة مهنياً‪ ،‬لكني خاللها‬ ‫تراجعت بشكل كبري عن الغناء لوقت طويل‪ ،‬لكرثة انشغايل يف العمل‬ ‫اإلعالمي‪ .‬ومع أن خروجي من اإلمارات كان قرسياً إىل ح ّد كبري بعد‬ ‫الثورة بسبب موقفي من الكارثة اإلنسانية التي أملت بالشعب السوري‪،‬‬ ‫إال أنني تنفست الصعداء حني وصلت إىل السويد‪ ،‬وعدت مجدداً إىل‬ ‫صويت وهاجيس وحلمي الذي يفقدين النوم الهادئ يف معظم ليا ّيل‪.‬‬


‫‪6‬‬

‫السوريون يف تركيا‪..‬‬ ‫حتريض ضدهم ومغالطات مل تعد ُتتمل!‬ ‫حسن عارفة‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫يكاد ال مير أسبوع يف هذه الفرتة‪ ،‬إال ويظهر للعلن صوت‬ ‫تريك يهاجم السوريني يف تركيا‪ ،‬يهددهم‪ ،‬يتوعدهم‪ ،‬و َي ِعدهم‬ ‫برجوع قريب إىل بلدهم‪ ،‬أو باملزيد من القيود عليهم!‬ ‫متيز شهر آب املايض بحرارة مل يشهدها هذا الشهر‬ ‫بالسنوات املاضية‪ ،‬أصبحت درجة الـ‪ 40‬مئوية شيئاً عادياً‬ ‫يف مناطق جنوب تركيا وسوريا‪ ،‬ترافق ذلك مع سخونة‬ ‫باألحداث التي كان محورها السوريون برتكيا‪ ،‬بدءاً‬ ‫من حادثة االعتداءات عىل ممتلكات ومحال لسوريني‬ ‫يف العاصمة الرتكية أنقرة‪ ،‬عىل خلفية مقتل تريك من‬ ‫قبل الجئ سوري‪ ،‬مروراً بترصيحات بعض رجاالت‬ ‫املعارضة الرتكية‪ ،‬الذين وضعوا يف رأس قوائم برامجهم‬ ‫الرتويجية لالنتخابات ملف عودة السوريني إىل بلدهم‪.‬‬ ‫وكانت من أبرز مشاهد هذه املوجة‪ ،‬قرارات رئيس بلدية‬ ‫مدينة “بولو” الرتكية “تانجو أوزجان” مبضاعفة رسوم فواتري‬ ‫املياه عىل السوريني ‪ 10‬أضعاف‪ ،‬وترصيحات رئيس “حزب‬ ‫الشعب الجمهوري ‪ ”CHP‬املعارض “كامل كليجدار” بأنه‬ ‫سيعيدالسورينيخاللسنتنيلبالدهملووصلحزبهللحكم‪.‬‬ ‫فيام كان لعضوة حزب “الجيد‪ “ İYİ‬املعارض “إيالي‬ ‫أكسوي” تغريدة مغالطات حول منطقة الفاتح التي‬ ‫وصفتها بأنها “تعرضت للغزو واالحتالل وهي منطقة‬ ‫قذرة”‪ ،‬لتأيت التغريدة ضمن تدفق كبري من قبل العضوة‬ ‫ميلء باملغالطات والرسائل التحريضية ضد السوريني‪،‬‬ ‫فحسابها عىل التويرت ُيعد منوذجاً للعنرصية السياسية‬ ‫والتطرف ضد الالجئني‪ ،‬وخطاب الكراهية البائس‪.‬‬ ‫وال تكفي صفحات املجلة أو أي موقع إلكرتوين للرد‬ ‫عىل أخطاء العنرصيني ومغالطاتهم‪ ،‬ورغم أن هذا البلد‬ ‫يستضيف أكرث من ‪ 3.6‬مليون سوري‪/‬ة‪ ،‬وفتح أبوابه‬ ‫للهاربني من نظام بشار األسد وأشباهه‪ ،‬ورغم عدم نكران ما‬ ‫قدمته تركيا للسوريني‪ ،‬يجب أيضاً توضيح بعض الحقائق‪.‬‬ ‫يعيش الالجئون السوريون يف تركيا كضيوف‪ ،‬يحملون‬ ‫بطاقة اسمها “بطاقة الحامية املؤقتة” أو “الكملك”‬ ‫متنحها لهم السلطات الرتكية معتربة إياهم ضيوفاً وليسوا‬ ‫الجئني‪ ،‬لها إيجابيات‪ ،‬حيث يحصل حاملها عىل معظم‬ ‫حقوق املواطن الرتيك من طبابة مجانية مبشايف الدولة‪،‬‬ ‫وحق الدراسة وغريها‪ ،‬فيام يتقيد حاملها بأي حركة‪ ،‬فال‬ ‫يستطيع مغادرة مدينته التي يقيم فيها دون إذن سفر‪،‬‬ ‫وهو ممنوع من السفر خارج تركيا‪ ،‬وكل مدة زمنية‬ ‫يكون بحاجة لتحديث بياناته‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬العودة لحياة‬ ‫الطوابري التي اشتهر بها نظام األسد‪ ،‬وإن بصورة مغايرة‪.‬‬ ‫وبعيداً عن “الكملك” بسلبياتها وإيجابياتها‪ ،‬مثة سوريون‬ ‫آخرون يحملون بطاقات إقامة جرت تسميتها بني‬

‫السوريني بالـ”اإلقامة السياحية”‪،‬‬ ‫تسمح للسوري بالتجوال بني املدن‬ ‫والواليات دون إذن سفر‪ ،‬أو السفر‬ ‫خارج تركيا‪ ،‬لكنها تشرتط دخول‬ ‫السوري لرتكيا عرب املطارات‪ ،‬ومرتبطة‬ ‫بصالحية جواز السفر؛ ما يعني أن‬ ‫مصري حاملها بيد النظام السوري‪ ،‬والقنصلية السورية‬ ‫الكارثية بإسطنبول‪ ،‬فيام استفاد سوريون وسوريات‬ ‫من الجنسية الرتكية االستثنائية التي حصلوا عليها‪.‬‬ ‫ويف ظل التحريض ض ّد الوجود السوري يف تركيا‪ ،‬تغيب‬ ‫عن‪ ،‬أو تتناىس تلك األصوات‪ ،‬الحقائق املذكورة سابقاً‬ ‫يف املقال حول أوضاع السوريني‪ ،‬أو الدراسات التي‬ ‫تظهر من جهات عاملية‪ ،‬توثق ما يواجهه السوريون‬ ‫برتكيا‪ ،‬كالدراسة التي أصدرها “املركز الدمناريك‬ ‫لالجئني”‪ ،‬يف آب ‪/‬أغسطس املايض بعنوان “الالجئون‬ ‫السوريون‪ ..‬تصورات حول سوق العمل الرسمي”‪.‬‬ ‫الدراسة مليئة باألرقام الهامة‪ ،‬شملت السوريني‪/‬ات يف‬ ‫مدن أورفة‪ -‬كيليس‪ -‬هاتاي‪ -‬كهرمان مرعش جنويب تركيا‪،‬‬ ‫حيث أكدت أن السوريني ما زالوا يواجهون قيوداً بالوصول‬ ‫لسوق العمل الرسمي‪ ،‬ونحو مليون سوري يعملون بشكل‬ ‫غري رسمي دون حامية وحقوق قانونية‪ ،‬ما يضطرهم‬ ‫للعمل بوظائف منخفضة األجر‪ ،‬متيل بحسب الدراسة‬ ‫إىل “االستغالل الشديد وتتطلب جهداً بدنياً كبرياً”‪.‬‬ ‫وأوضحت أن السوريني يعملون أكرث من نظرائهم‬ ‫األتراك وبأجور أقل‪ ،‬فكل ‪ 3‬من ‪ 4‬سوريني يتقاضون‬ ‫أقل من الحد األدىن لألجور بالساعة يف تركيا‪ ،‬و‬ ‫‪ 45‬باملئة من الحاصلني عىل بطاقة الحامية املؤقتة‬ ‫املشمولني يف عينة البحث‪ ،‬يعيشون تحت خطر الفقر!‬ ‫هذه األرقام تتناسب مع ما طرحته منظمة “اليوم التايل”‬ ‫السورية العاملة برتكيا‪ ،‬خالل تقرير بعنوان “اتجاهات‬ ‫الالجئني السوريني يف تركيا نحو العودة” اعتمد عىل دراسة‬ ‫عينة من السوريني املقيمني يف مختلف الواليات الرتكية‪ ،‬جاء‬ ‫فيه أن “ معظم السوريني وصلوا بني عامي ‪، -2014 2013‬‬ ‫معظمهم يعيش ضمن عائالت يف مساكن مستأجرة‪52% ،‬‬ ‫منهم يتقاضون أجوراً تقل عن الحد األدىن لألجور يف تركيا”‪.‬‬ ‫ومع تغافل هذه األرقام والواقع‪ ،‬يتسع خطاب الكراهية‬ ‫ضد السوريني‪ ،‬وتضيق األحوال عليهم‪ ،‬حتى أصبح‬ ‫من الطبيعي‪ ،‬يف غازي عنتاب مث ًال‪ ،‬أن يتعرض السوري‬ ‫الباحث عن منزل لإليجار‪ ،‬للكثري من رافيض تأجري البيوت‬ ‫للسوريني الشهريين بجملة “سوريايل يوك”‪ ،‬أو ملن يقبلون‬ ‫تأجري السوريني مع ابتزاز يتمثل برفع قيمة اإليجار‬

‫الشهرية بشكل كبري‪ ،‬استغالالً لحاجة السوري للمنزل‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 2020‬نرش “مركز توثيق االنتهاكات يف‬ ‫سوريا” ورقة بحثية بعنوان “خطاب الكراهية والتمييز‬ ‫العنرصي تجاه السوريني يف تركيا”‪ ،‬رصدت ربط املشاكل‬ ‫بالتواجد السوري‪ ،‬كرتاجع االقتصاد مث ًال‪ ،‬ودور املعارضة‬ ‫السورية الهزيل بتصحيح الصور النمطية واملغالطات‪.‬‬ ‫وجاء يف الورقة نتائج الستطالع أجراه “مركز‬ ‫الدراسات الرتكية يف جامعة قادر هاس”‪ ،‬منها أن‬ ‫نسبة الرفض الرتيك لالجئني السوريني وصلت إىل‬ ‫الـ‪ 67%‬عام ‪ 2019‬بعدما كانت ‪ 57%‬يف الـ‪،2016‬‬ ‫واختتمت الورقة بتوصيات لتحسني أوضاع الالجئني‬ ‫السوريني يف تركيا‪ ،‬من قبيل “تيسري الوصول للعدالة‬ ‫لكافة الالجئني‪ ،‬العمل عىل توضيح حقوق الالجئني‬ ‫عىل اإلعالم الرتيك‪ ،‬إنهاء حالة الحامية املؤقتة وتحويلها‬ ‫لحامية دولية (لجوء) أو إيجاد قانون يحقق الحامية‬ ‫لالجئ وفق معايري دولية‪ ،‬وغريها من التوصيات”‪.‬‬ ‫وهنا‪ ،‬ال يدرك العنرصيون وأصحاب خطاب الكراهية‪ ،‬أن‬ ‫قسم كبري من السوريني يف تركيا‪ ،‬جاؤوا مجربين‪ ،‬وهذا‬ ‫ما يؤكده تقرير “اليوم التايل”‪ ،‬الذي خلص إىل أن “‪69‬‬ ‫‪ %‬من مجتمع البحث جاؤوا إىل تركيا ألنها كانت الخيار‬ ‫الوحيد املتاح لهم‪ ،‬وهذا السبب األبرز الختيار تركيا بلداً‬ ‫للجوء‪ ،‬و‪ 74%‬منهم يفضلون خيار العودة لسوريا”‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬تفاصيل كثرية ال يتم الحديث عنها من قبل املعارضة‬ ‫الرتكية‪ ،‬وحتى من قبل اإلعالم الرتيك عموماً‪ ،‬لتوضيح‬ ‫بعض املغالطات حول اللجوء السوري يف هذه البالد‪،‬‬ ‫الذي أصبح ورقة خارجية بيد أنقرة تهدد فيها أوربا بفتح‬ ‫الحدود‪ ،‬وورقة داخلية تلوح بها املعارضة الرتكية قبيل‬ ‫أي حدث انتخايب‪ ،‬لكن‪ ،‬بعيداً عن تحميل املسؤولية‬ ‫للحكومة الرتكية واألصوات التحريضية والعنرصية من‬ ‫معارضيها‪ ،‬وللمخطئني من الالجئني السوريني‪ ،‬يطفو‬ ‫عىل السطح الفراغ الواضح للمعارضة السورية املقيمة‬ ‫يف تركيا‪ ،‬الحليفة ألنقرة أو الخاضعة لها إن صح القول‪،‬‬ ‫هل فكرت يوماً بتشكيل لويب يواجه خطاب الكراهية‬ ‫باألرقام والرباهني الكثرية‪ ،‬أم أن عقلية الخوف من األسد‬ ‫انتقلت إىل خارج الحدود‪ ،‬وأصبحت متالزمة دامئة؟!‬


‫بني آالم احلاضر وأسئلة الغد‬

‫‪7‬‬

‫يوسف صادق‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫قياده‪ ،‬ليبقى أمام السوريّ خيا ٌر وحيدٌ هو الهجرة‬ ‫رغ ًام عنه‪.‬‬ ‫حينام تضيق اآلفاق أمام الشباب بني مستقبل‬ ‫مجهول أو يكونوا وقوداً يف حربه‪ ،‬أو يكونوا م ّمن‬ ‫ارتضوا غرائز البقاء تحت جناحيه املعتمني‪.‬‬ ‫السؤال املعضلة‪ :‬كيف نقنع الشباب بعدم الهجرة؟‬ ‫ولسان حالهم يقول‪ :‬رفعنا ّ‬ ‫كل الرايات وأسقطناها‬ ‫ومل نجد غري صور ٍة مش ّوهة ألحزاب وت ّيارات‪،‬‬ ‫ذواتنا فرغت‪ ،‬وال نريد ملئها بقاذورات الطاغية‪،‬‬ ‫وال بوعو ٍد رومانس ّية‪ .‬سنوات شبابنا ضاعت ومل‬ ‫تعد كلمة “وطن” تحمل ذات املدلول كام كانت‬ ‫لكم! ّ‬ ‫كل هذه األسئلة مرشوعة‪ ،‬ف َمن يجعل إرادة‬ ‫الشباب وطموحهم حام ًال للمستقبل؟ إذا كنّا منلك‬ ‫إرادة تجاوز آالم الحارض املمتد!‬ ‫ٌ‬ ‫هل ثقافة الحقوق ووعي الذات‪ ،‬قادرة عىل ملء‬ ‫الفراغ لدى الشباب؟ هل تل ّبي ّ‬ ‫كل احتياجاته؟‬ ‫نعود للسؤال بتف ّرعاته‪ :‬ماذا يريدون؟ وأيّ عوامل‬ ‫الدفع أقوى لدى تناقضات دواخلهم؟‬ ‫لربا املدخل والتقديم يقودان للنتيجة السبب‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫املستقبل هم املعن ّيون به‪.‬‬ ‫قد تكون األجيال السابقة فشلت وساهمت مبا‬ ‫نحن عليه اآلن‪ ،‬لذلك ال ب ّد من فتح النوافذ لهم‪،‬‬ ‫نوافذ الحقيقة التي وعوا قس ًام كبرياً منها‪ ،‬نوافذ‬ ‫اإلرادة وعدم الوصاية‪ ،‬إذ ال وصاية لغري ذي أهل ّية‪،‬‬ ‫نوافذ الخيارات لألفكار‪ ،‬إذ كفانا قواقع الطوائف‬ ‫واألحزاب والديانات والعائالت‪ ،‬نوافذ األمل والواقع‬ ‫دون تزييف أو تزيني‪ ،‬إذ كفانا الغبش املرتاكم‬ ‫بحجة األمل‪ ،‬نوافذ القرار إذ كفانا ما ق ّررت السلطة‬ ‫ّ‬ ‫الالرشع ّية عنّا‪ ،‬وكفانا ما ق ّرر السلف عنّا‪ ،‬وكفانا‬ ‫ما ُأجربنا عىل ا ّتخاذه من قرارات حينام مل تكن‬ ‫خيارات أمامنا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكفانا ما هُ ّجر من بيته‪ ،‬إذ احتله ظل الشيطان‪،‬‬ ‫وغي صورنا عىل الجدران‪ ،‬وحاول ويحاول تغيري‬ ‫ّ‬ ‫روائح األرض واملكان من أجل مجتمع القطيع‬ ‫املتجانس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لندع املستقبل للشباب وكلنا ثقة بهم‪ ،‬فهم‬ ‫األقرب له منّا‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫ ‬ ‫ً‬ ‫حينام يحلم اإلنسان ويتخ ّيل مكانا آخر غري‬ ‫الذي يعيش فيه‪ ،‬فهو يف غربة‪ ،‬هي الوجه اآلخر‬ ‫ا ُملعتم النتامئه‪ ،‬وعدم تح ّقق أسس االنتامء ينزع‬ ‫عن السلطة الحاكمة رشع ّيتها‪.‬‬ ‫فكيف ستكون هذه الغربة إذا كانت السلطة هي‬ ‫َمن تقوم بتهجري مواطنيها؟‬ ‫قد ال نحتاج لهذا التقديم إلثبات عدم رشعية نظام‬ ‫مجرم‪ .‬لكن السؤال عن التهجري واالغرتاب‬ ‫حكم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫هو السؤال عن عوامل تحقق أسس االنتامء‪ ،‬ملاذا‬ ‫يحلم السوريّ بالهجرة رغم ارتباطه مبكانه؟ ما‬ ‫الذي يريده فعال؟ وما العوامل التي تدفع برغباته‬ ‫املتناقضة؟‬ ‫التقديم يطرح علينا أسئلة الغد‪ ،‬بقدر ما نعي شقاء‬ ‫الحارض؛ شقاء الغربة والتهجري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫البحث عن الذات الحضارية ليس جديدا علينا‪،‬‬ ‫منذ أيام جربان خليل جربان ورفاقه‪ ،‬والبحر يحمل‬ ‫األحالم‪ ،‬طاملا األرض تحمل الطغاة‪ .‬من سفربرلك‬ ‫إىل آخر‪ ،‬حتّى بات تاريخنا‪ ،‬تاريخ االغرتابات‪،‬‬ ‫والنيل دامئاً يسري نحو الشامل كام أ ّكدها الطيب‬ ‫مواسم‪ ،‬والبحث عن تربة‬ ‫صالح‪ ،‬وموسم الهجرة‬ ‫ٌ‬ ‫تعيد الخصب لفروع األشجار املقطوعة‪ ،‬هو مطلب‬ ‫الذات الحضارية الضائعة‪.‬‬ ‫اغرتاب عن النفس‪ ،‬حينام يقف اإلنسان عاجزاً‬ ‫أمام ما يسعى إليه‪ .‬اغرتاب عن تاريخ يق ّيدنا‬ ‫ويشدّنا للاميض بعاداته وتقاليده و ُم ُثله‪ ،‬يجعلنا‬ ‫ُنسخاً مش ّوهة عن ذواتنا ّ‬ ‫ٌ‬ ‫جميل حتى‬ ‫وعم هو‬ ‫اب عن أسس تحقيق الذات‬ ‫يف ذاك التاريخ‪ .‬اغرت ٌ‬ ‫وفاعليتها العامة‪ ،‬املدنية والسياسية‪ ،‬حينام ال‬ ‫تكون املشاركة بالشأن العام ّإل عرب تقديم الوالءات‬ ‫والطاعة والهتاف للزعيم‪.‬‬ ‫االغرتاب والهجرة هام الوجه اآلخر لالنتامء‪،‬‬ ‫فلو توافرت أسس االنتامء لكان الحلم هو السعي‬ ‫لألفضل عرب إمكانيات الوجود ذاته‪.‬‬ ‫هنا معضلة السوريّ بني حلمه بسوريا وطناً‬ ‫للجميع وللمستقبل‪ ،‬وبني انتامئه لحلم ضبايب مل‬ ‫يستطع الساسة وال األحزاب وال الت ّيارات مسح‬ ‫الغبش من نافذ ٍة يحاول اإلطالل منها‪ ،‬فكان أن‬

‫حمل وطنه يف حقيبة وردّد خلف درويش‪ّ :‬‬ ‫“كل‬ ‫قلوب الناس جنسيتي‪ ..‬فلتسقطوا عنّي جواز‬ ‫السفر”‪ّ ،‬‬ ‫وكأن الزمن تالىش بني هجرات شبابنا‬ ‫وهجرات جربان ورفاقه‪.‬‬ ‫بينام السلطة غري الرشع ّية تحاول فتح األبواب‬ ‫وآالت حربها تقول‪ :‬إ ّما أن تبقوا هنا عبيداً أو‬ ‫ترحلوا‪ ،‬أو مصريكم خلف الجدران العالية‪ .‬معضلة‬ ‫السوريّ ه ّويته التي اختارها يف هذا املكان وهو‬ ‫يردّد‪“ :‬وطني ليس حقيبة‪ ،‬وأنا لست ُمساف ْر”‪.‬‬ ‫ليس حديثنا ع ّمن هاجر ألسباب اقتصادية بحتة‪،‬‬ ‫فهو كذلك لو وجد ما يعينه عىل رزق أوالده ملا‬ ‫غادرهم‪ ،‬حديثنا عن التناقض الحاصل داخل‬ ‫السوريّ ‪ ،‬وهي أش ّد غربة حينام يصبح عاجزاً‪ ،‬وال‬ ‫يشعر ّ‬ ‫بأن إلرادته ورؤاه معنى‪ُ ،‬منعزالً عن ركب‬ ‫القطيع الناجي من سطوة الطاغي‪.‬‬ ‫تبدأ الغربة كحكاية صغرية تكرب مع تساؤالت‬ ‫السوريّ الصغري عن هو ّيته وعن أناه وعن وجوده‪،‬‬ ‫ثم يبدأ الحصار بأذرع األخطبوط عرب منظامته‬ ‫ّ‬ ‫ذات األسامء التي تحمل الحقة املركز‪ ،‬تحيص‬ ‫توجهاته‪ ،‬تحاول جعل اإلنسان عدواً‬ ‫عليه أنفاسه‪ّ ،‬‬ ‫لنفسه ولآلخرين‪ ،‬تن ّمي لديه غرائز البقاء واالحتيال‬ ‫ليصب ّ‬ ‫كل القاذورات يف‬ ‫والوصولية والحيوان ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫مدح األب األكرب‪ ،‬األخ األكرب‪ ،‬الرفيق األكرب‪ ،‬وغريها‪..‬‬ ‫وحدث أن انقسم الناس بني فرقة ناجية تبعت‬ ‫غرائزها وصارت من ّ‬ ‫الجلدين‪ ،‬وفرقة ضا ّلة باملعنى‬ ‫اإليجايب وهي َمن تعاين أش ّد الغربة‪ ،‬ضمري الحر ّية‬ ‫أصيل مل يفارقها ومل تحجبه ّ‬ ‫ٌ‬ ‫كل الجدران‪ ،‬ومل يبقَ‬ ‫أمامها سوى خيارين‪ ،‬بعدما نفت خيار القطيع‪ :‬إ ّما‬ ‫خلف الجدران العالية‪ ،‬وهذا مصري آالف املعتقلني‬ ‫لدينا‪ ،‬أو الهجرة القرسية‪.‬‬ ‫يحاول الطاغية بعدما فشلت أذرع األخطبوط‬ ‫لديه أن يلجأ إىل نزع كل األقنعة ليظهر وجهه‬ ‫األشوه كام اعتدناه من أيام مجازر حامة‪ ،‬إىل تدمر‪،‬‬ ‫فصيدنايا‪ ،‬أ ّما الحديثة فلم تنته بعد‪ ،‬ودرعا لن‬ ‫تكون آخرها‪.‬‬ ‫العنف‪ ،‬نعم‪ ..‬هو يلجأ إليه‪ ،‬مع إبقاء باب‬ ‫القفص مفتوحاً‪ ،‬يريد قطيعاً “متجانساً” يسهل‬


‫‪8‬‬

‫طوابري يومية تشهدها مناطق‬ ‫اجلزيرة السورية‬ ‫الحسكة – كمال شيخو‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫سكر وبيض واسطوانة غاز ومازوت وجواز سفر‬ ‫والقامئة تطول؛ أبرز الكلامت املسموعة واملتداولة‬ ‫لدى غالبية سكان وأهايل مناطق الجزيرة السورية‪،‬‬ ‫حيث بات مشهد االزدحام املتزايد عىل أبواب‬ ‫دوائر الهجرة والجوازات يف منطقة سيطرة النظام‬ ‫الحاكم باملربع األمني بالحسكة؛ مؤرشاً عىل رغبة‬ ‫كثريين يف مغادرة هذه املنطقة املنقسمة عسكرياً‬ ‫بني جهات عسكرية محلية ودولية وإقليمية‪.‬‬ ‫ولألسبوع الثالث عىل التوايل تشهد األسواق املركزية‬ ‫مبدن وبلدات محافظة الحسكة أزمة خانقة بتأمني‬ ‫مادة السكر‪ ،‬يف حني سجل طبق البيض ألول مرة‬ ‫‪ 10‬أالف لرية سورية (حوايل ‪ 3‬دوالر أمرييك) أما‬ ‫الفروج الحي يباع الكيلو الواحد بحدود ‪6500‬‬ ‫لرية‪ ،‬وهذه املرة األوىل التي تحلق هذه األسعار‬ ‫يف مناطق الجزيرة عىل الرغم من وجود مئات‬ ‫املداجن الخاصة والعامة‪ ،‬يف وقت ارتفع سعر‬ ‫ربطة الخبز السياحي (وزن ‪ 700‬غرام) اىل ‪1200‬‬ ‫لرية وكان سعرها قبل شهر واحد ‪ 800‬لرية‪ ،‬بينام‬ ‫كان سعره اقبل عام ‪ 200‬لرية فقط‪.‬‬ ‫شح مشتقات الوقود‬ ‫هذه األزمات تزامنت مع ّ‬ ‫وندرة أسطوانات الغاز‪ ،‬ويقول “عبدو” البالغ من‬ ‫العمر ‪ 60‬عاماً إنه يأيت يومياً ويقف أمام صالة‬ ‫نوروز بحي الصالحية جنويب مدينة الحسكة‪،‬‬ ‫أم ًال بالحصول عىل عدد من كيلوغرامات السكر‬ ‫بسعر املبيع املحدد لدى دائرة التموين والرقابة‬ ‫يف املناطق الخاضعة لسيطرة اإلدارة الذاتية‪ ،‬وقال‬ ‫ملجلة (طلعنا عالحرية)‪“ :‬ذهبت للمحال التجارية‬ ‫املجاورة‪ .‬يبيعون الكيلو مببلغ ‪ 2500‬لرية‪ ،‬بينام يباع‬ ‫هنا يف الصالة بسعر ‪ 1900‬لرية”‪ ،‬غري أن االزدحام‬ ‫وقلة الكميات يجعل من الصعوبة الحصول عىل‬ ‫حاجتهم من السكر‪ .‬يضيف عبدو‪“ :‬نحن شعب‬ ‫يحب السكر؛ نستخدم السكر يف الشاي والكثري من‬ ‫األطعمة‪ ،‬وكرثة الطلب عليه تسبب باالزدحام”‪.‬‬ ‫وأشار “عبد املجيد محمد” مدير صالة نوروز‬ ‫وهذه الرشكة تتبع لجنة االقتصاد باإلدارة الذاتية‪،‬‬ ‫إن الرشكة توزع وبشكل يومي ‪ 35‬طناً من السكر‬ ‫عىل أحياء مدينة الحسكة‪ُ ،‬يباع منها ‪ 15‬طن يف‬

‫وانتقادات تطال اإلدارة الذاتية‬ ‫ازدحام على اجلوازات والسكر والبيض؛‬ ‫يضاف إليها اسطوانات الغاز ومشتقات الوقود‬ ‫ثالث صاالت من رشكة نوروز بالحسكة‪“ :‬بسعر‬ ‫الجملة ‪ 1900‬لرية‪ ،‬أما الباقي ‪ 20‬طن تذهب إىل‬ ‫تجار املفرق لبيعها يف محالهم التجارية‪ ،‬واألسعار‬ ‫مراقبة من هيئة التموين والرقابة”‪.‬‬ ‫بدوره‪ ،‬أخرب “سلامن بارودو” رئيس هيئة االقتصاد‬ ‫والزراعة باإلدارة الذاتية يف حديث مع طلعنا‬ ‫عالحرية أن اإلدارة تعمل عىل زيادة كميات مادة‬ ‫السكر الشهرية من ‪ 8‬ألف طن إىل ‪ 15‬ألف طن‪،‬‬ ‫“وقد تصل إىل ‪ 20‬ألف طن‪ ،‬وهذه الضائقة يف‬ ‫طريقها للحل خالل أسبوع وستعود األمور إىل‬ ‫نصابها‪ ،‬إذ ستطرح مؤسسات اإلدارة كميات تفوق‬ ‫االحتياج اليومي لألهايل باألسواق”‪ ،‬وأرجع املسؤول‬ ‫أزمة السكر إىل إغالق املعابر الحدودية مع مناطق‬ ‫سيطرة النظام‪ ،‬ومثيالتها مع مناطق املعارضة‬ ‫السورية‪ ،‬وأضاف بارودو‪“ :‬مام أدى إىل نقص مادة‬ ‫السكر يف األسواق‪ ،‬واحتكار بعض التجار الذي فاقم‬ ‫نقص السكر وخلق أزمة بني املواطنني”‪.‬‬ ‫ومن السكر إىل مشتقات النفط ونقص الوقود‪،‬‬ ‫يحيك “طه” الذي يعمل سائق سيارة أجرة وعمره‬ ‫(‪ 37‬سنة) كيف يتجول من الساعة ‪ 4‬فجراً عىل‬ ‫معظم محطات الوقود يف مدينته الحسكة للحصول‬ ‫عىل ‪ 20‬لرت بنزين دون فائدة‪ ،‬وقال‪“ :‬أبقى أبحث‬ ‫من محطة ملحطة حتى أمأل سياريت‪ ،‬يف بعض‬ ‫املحطات عليك االنتظار يف الطابور يوماً كام ًال‪،‬‬ ‫ومحطات ثانية يقولون ال يوجد بنزين”‪ ،‬منوهاً‬ ‫أن هذه املنطقة تستخرج يومياً آالف الرباميل‬ ‫من النفط الخام‪ ،‬وأردف قائ ًال‪“ :‬أما أبناء املنطقة‬ ‫محرمون منها ويبحثون عن لرت واحد دون جدوى”‪.‬‬ ‫وتشكو “اسمهان” املتحدرة من مدينة الحسكة‬ ‫وتقيم يف حي تل حجر الواقع بالجهة الغربية‪ ،‬من‬ ‫قلة أسطوانات الغاز التي توزع حرصاً عن طريق‬ ‫لجان الحي وتعرف باسم (الكومي)‪ ،‬فيام تباع يف‬

‫األسواق بأسعار مضاعفة يصل سعرها ألكرث من‬ ‫‪ 15‬ألف لرية سورية (‪ 5‬دوالر أمرييك) بينام عند‬ ‫الكومني سعرها ‪ 3200‬لرية (حوايل دوالر واحد)‪،‬‬ ‫لتقول‪“ :‬هذا سعر مقبول لكن املشكلة تأخر الدور‬ ‫ونبقى أحياناً شهراً كام ًال حتى نستلم جرة واحدة‪،‬‬ ‫عندما تنتهي قبل الوقت اقرتض من عند أهيل‬ ‫والجريان وأردها عند استالمي واحدة جديدة”‪.‬‬ ‫من جانبه‪ ،‬أرجع “صادق محمد” رئيس إدارة‬ ‫املحروقات العامة باإلدارة ملجلة طلعنا عالحرية‬ ‫شح مشتقات الوقود إىل حاجة القطاع الزراعي‬ ‫ّ‬ ‫للمحروقات‪ ،‬وتوزيع مازوت التدفئة املنزيل عىل‬ ‫العائالت يف مدن وبلدات الجزيرة‪ ،‬ولفت إىل أن‬ ‫“األهايل وبسبب انقطاع التيار الكهربايئ يلجؤون‬ ‫إىل مولدات الكهرباء التي تعمل عىل املازوت أو‬ ‫البنزين”‪ ،‬أما أسطوانات الغاز املنزيل “زاد الطلب‬ ‫عليها لعدم قدرة الغالبية عىل تشغيل وسائل‬ ‫الطهي الكهربائية‪ ،‬والسبب ً‬ ‫أيضا انقطاع التيار‬ ‫الكهربايئ املتكرر”‪.‬‬ ‫وتشهد مناطق اإلدارة الذاتية منذ أشهر ساعات‬ ‫تقنني طويلة‪ ،‬وصلت خالل أشهر متوز وآب املاضيني‬ ‫يف بعض املناطق إىل نحو عرشين ساعة يومياً‪،‬‬ ‫بسبب تراجع منسوب مياه نهر الفرات‪ ،‬وعدم‬ ‫توفر “الفيول” والغاز الالزمني لتشغيل محطات‬ ‫التوليد‪ ،‬األمر الذي دفع األهايل لالعتامد عىل‬ ‫طرق بديلة‪ ،‬منها ألواح الطاقة الشمسية باهظة‬ ‫الثمن‪ ،‬أو محركات لتوليد التيار الكهربايئ‪ ،‬واألخرية‬ ‫تعمل عىل البنزين أو املازوت‪ ،‬وتتسبب بحدوث‬ ‫اختناقات يومية عىل محطات الوقود‪ ،‬ومشاهدة‬ ‫طوابري طويلة‪ .‬وينتقد أهايل الحسكة دور اإلدارة‬ ‫الذاتية ومؤسساتها بعدم قدرتها عىل معالجة هذه‬ ‫القضايا الخدمية واملعيشية التي تواجه سكان‬ ‫املنطقة يومياً‪.‬‬


‫أذربيجان ـ الدولة قبل اإلسالم‬

‫‪9‬‬

‫مرزوق الحلبي‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫وتأليبه ضد نفسه‪ ،‬ومن الجنوب‪ ،‬إيران وتركيا‪.‬‬ ‫منوذجا يف أربعة‬ ‫هذا يعني أن أذربيجان تش ّكل‬ ‫ً‬ ‫مستويات‪:‬‬ ‫يف املستوى االقتصادي من خالل تنمية واضحة‬ ‫املعامل وعملة قوية (املانات األذربيجاين يساوي نحو‬ ‫‪ 50%‬من اليورو وقيمته الرشائية عالية)‪.‬‬ ‫يف املستوى االجتامعي عرب تعزيز متاسك املجتمع‬ ‫وتشكيل األ ّمة‪.‬‬ ‫يف مستوى املرشوع املستقبيل الذي ينتظر املواطنني‬ ‫مع التأكيد عىل املستقبل وإمكاناته والتصالح مع‬ ‫املايض الذي أتوا منه‪.‬‬ ‫يف مستوى فصل الدين عن الدولة يف بلد إسالمي‬ ‫يف غالبيته الساحقة‪ ،‬وتغليب متط ّلبات االجتامع‬ ‫الحديث عىل الرتاث والتاريخ والثقافة السابقة‬ ‫للدولة‪ .‬مبعنى أن للنُخب يف أذربيجان مرشوعها‬ ‫الذي يف املستقبل وليس يف املايض كام يقرتح‬ ‫اإلسالم السيايس والثقايف العريب‪.‬‬ ‫متبجح‬ ‫وهنا ُيقال‬ ‫فليحي الفارق البسيط بني إسالم ّ‬ ‫َ‬ ‫ومدّع كحزب العدالة والتنمية يف املغرب ( ُمني‬ ‫بهزمية ساحقة) وحركة النهضة يف تونس واإلخوان‬ ‫املسلمني يف مرص عىل آخر القامئة‪ ،‬وبني دولة‬ ‫إسالمية متواضعة يف دينها وناجحة يف مرشوعها‬ ‫املد ّين‪ .‬أذربيجان القادمة من القوقاز تقرتح علينا‬ ‫منوذجا آخر ‪-‬غري خالٍ من الثغرات كوجود مظاهر‬ ‫ً‬ ‫فساد مايل وأحياء فقر حول العاصمة‪ -‬لكنه حيويّ‬ ‫ّ‬ ‫يخط مساره بثقة نحو اجتامع معقول‪ ،‬أعاد يل أنا‬ ‫شخص ًّيا ثقتي بالدولة‪ .‬أقول هذا بعد أن ح ّولت‬ ‫النُخب العربية (و ُنخب غريها يف العامل) الدول‬ ‫باسم اإلسالم ورشيعته أو يف تحالف معه إىل‬ ‫التوحش والتقتيل‪.‬‬ ‫مافيات دولية ال ُتنتج سوى ّ‬ ‫األمر املطمنئ هو أن للدولة عقيدة تقوم عىل‬ ‫االنفتاح يف داخلها‪ ،‬وعىل االنفتاح نحو الخارج‪،‬‬ ‫أيضاً‪ .‬هي دولة تعيش يف الحارض بأدوات الحارض‬ ‫ولغته‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫يف العقد األ ّول لالنفصال عن االتحاد السوفييتي‬ ‫حاولت أكرث من دولة اخرتاق أذربيجان العامئة‬ ‫عىل آبار نفط ال ينضب‪ .‬تركيا وإيران من الجنوب‬ ‫والعربية السعودية ودول أخرى أبعد قلي ًال‪ .‬دخلت‬ ‫جميعها من بوابة اإلسالم‪ .‬فبنوا حسب التقديرات‬ ‫نحو ‪ 2000‬مسجداً يف ربوع الدولة ذات العرشة‬ ‫ماليني‪ .‬كان االدّعاء ا ُملعلن إعادة الناس إىل حضن‬ ‫اإلسالم بعد قرن من التغريب بقوة املرشوع‬ ‫السوفييتي‪ّ .‬إل أن النُخب يف باكو انتبهت رسي ًعا إىل‬ ‫هذا االخرتاق‪ ،‬فأوقفته بقرارات واضحة يف الدستور‪،‬‬ ‫ومنها أن الدولة علامنية‪ ،‬وأنها تقوم عىل أساس‬ ‫الفصل بني الدين وبني الدولة‪ .‬مللم الدُ عاة عباءاتهم‬ ‫ومصاحفهم وعادوا من حيث أتوا‪ .‬ومللمت دولهم‬ ‫أذيالها وتراجعت عن هذا األسلوب يف خطب دولة‬ ‫ناهضة للت ّو‪.‬‬ ‫فإذا زرت باكو العاصمة لن تجد ‪-‬حسب محدّيث‪-‬‬ ‫أكرث من عرشين مسجدًا (يف مدينة تع ّد ‪ 3.5‬مليون‬ ‫نسمة) ال تصدر عنها التكبريات وال تصدح من مآذنها‬ ‫املؤسسةـ‬ ‫ّ‬ ‫مكبات الصوت‪ .‬الصالة للمص ّلني ـتقول ّ‬ ‫والحيز العام ح ّر‪ .‬واملسجد للصالة والعبادة‪ ،‬ال هو‬ ‫مدرسة وال مركز دعويّ ‪ .‬أما القسمة بني شيعة ـوهم‬ ‫األكرثية الساحقةـ وبني ُسنّة ‪-‬وهم أقل ّية‪ -‬فغري قامئة‬ ‫ألن املص ّلني عىل مذاهبهم يأ ّمون املساجد ذاتها‪.‬‬ ‫هذا عل ًام ّ‬ ‫بأن اللون األخرض شارة اإلسالم هي مك ّون‬ ‫من ثالثة يف علم الدولة‪.‬‬ ‫إشارة أخرى عىل نوايا النُخب التي ُتسك بزمام‬ ‫اعي يف إنتاج الخمور‬ ‫األمور هو استمرار القطاع الزر ّ‬ ‫نشط يف‬ ‫اعي اقتصاديّ ِ‬ ‫وبجودة عالية كنشاط زر ّ‬ ‫األقاليم املناسبة لذلك يف وسط البالد‪ .‬كام أن الخمور‬ ‫ويتم تداولها يف الحيز العام كباقي السلع ـ‬ ‫ُتباع ّ‬ ‫متو ّفرة ملن يرغب‪ .‬أما األحوال الشخصية ومسائلها‬ ‫فتتم يف مؤسسات الدولة‪ ،‬وإن كانت الطقوس‬ ‫ك ّلها ّ‬ ‫شعبي‪ .‬هي محاولة إلبقاء‬ ‫الشعبية تأيت من تراث‬ ‫ّ‬ ‫صح التعبري‪ ،‬وتحرير‬ ‫الدين يف خانته الروحانية إذا ّ‬ ‫وتجاره‪ .‬ألن عقيدة النُخب‬ ‫املجتمع من أحكامه ّ‬ ‫تقول بوضوح أن االجتامع الحديث ُيدار بطرق‬ ‫ترصف شؤون الحياة‬ ‫حديثة وبوسائل ُيكنها أن ّ‬ ‫العرصية والخري العام والح ّيز العام لصالح الجميع‬ ‫بدرجة كافية من الكفاءة واالقتدار‪ .‬هذا ما كتبه‬

‫املؤسس‬ ‫وأسس له األب ّ‬ ‫ّ‬ ‫حيد علييف الذي استطاع‬ ‫أن يعرب ببالده املرحلة‬ ‫االنتقالية من نظام شمويل‬ ‫ـاإلمرباطور ّية السوفييت ّيةـ‬ ‫إىل نظام منفتح تعدّدي ودميقراطي عىل نحو‬ ‫معقول‪.‬‬ ‫إن هذا التح ّول الالفت يف أذربيجان هو مثرة ركائز‬ ‫الجدد وهي‪:‬‬ ‫املؤسسون ُ‬ ‫ط ّورها ّ‬ ‫تنمية اقتصادية مستدامةـ من خالل استغالل‬ ‫واستثامر موارد البلد‪ ،‬ال س ّيام النفط‪ ،‬إلحداث‬ ‫طفرات متتالية يف مستويات املعيشة وهو ما حصل‬ ‫تم اكتشاف النفط يف أذربيجان يف‬ ‫ للمعلومية‪ّ ،‬‬‫نهاية النصف األول للقرن الثامن عرش‪.‬‬ ‫التصالح مع املايض عىل ح َق ِبه‪ -‬ويف مقدّمتها‬ ‫الحقبة السوفييت ّية التي ال تزال رموزها وعالماتها‬ ‫يف العاصمة وغريها ُمصانة ومحفوظة‪ .‬لكن‬ ‫يشمل التصالح كل الحقب التاريخية التي مرت‬ ‫عىل أذربيجان مبا فيها العربية والفارسية والرتكية‬ ‫واحتالالت أخرى للبالد‪ .‬وهنا‪ ،‬أيضاً‪ ،‬سنجد أن‬ ‫الدولة ُتعنى باملعامل التاريخ ّية كلها وتصونها‬ ‫وتك ّلف طواقم من العامل بإدارتها‪.‬‬ ‫السعي لبناء عيش مشرتك بدون تو ّترات‪ -‬من‬ ‫خالل سياسات يف مركزها تحويل اإلثنيات الـ ‪16‬‬ ‫الرئيسة يف البالد إىل مجتمع متجانس قدر اإلمكان‪،‬‬ ‫عرب سياسات هادفة بهذا الخصوص‪.‬‬ ‫ضامنات اجتامعية تو ّفرها الدولة‪ -‬عرب خدمات‬ ‫تعليم وصحة وإسكان ودعم اقتصادي للمصالح‬ ‫املتوسط‪ .‬عرب توطني الالجئني‬ ‫والقطاع الخاص‬ ‫ّ‬ ‫جراء الحروب مع أرمينيا ـاألخرية يف العام ‪2020‬ـ‬ ‫وتطوير الريف ومق ّدراته‪.‬‬ ‫إن واردات الدولة من الغاز والنفط وتوابعه‬ ‫قادرة وفق تقديرات االحتياطي وقدرات اإلنتاج‬ ‫ومتطلبات السوق وعالقات الدولة أن تحمل‬ ‫املجتمع األذربيجاين والدولة لعقود طويلة عىل‬ ‫دالة النم ّو والتط ّور العمراين‪ .‬وهو احتامل تعزّزه‬ ‫سياسات النُخب التي عرفت كيف متوضع الدولة‬ ‫متغية وضاغطة‬ ‫الفت ّية يف موقع استقرار يف بيئة ّ‬ ‫من الشامل‪ ،‬الدب الرويس بواسطة تحريك القوقاز‬


‫‪96‬‬

‫ال شفاء هلذه النازفة!‬

‫‪10‬‬ ‫عبد اهلل شاهين‬

‫العدد‬ ‫‪98‬‬

‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫“كا َن ِت ا ْم َرأَ ٌة ُم َصا َب ٌة ِب َنز ِْف د ٍَم ُمن ُْذ ا ْث َنتَي ع ْ َ‬ ‫َش َة‬ ‫َسنَة‪َ ،‬ولَ ْم َي ْق ِد ْر أَ َحدٌ أَ ْن َي ْش ِف َيهَا‪َ .‬د َن ْت ِمنْ َو َرا ِء‬ ‫َي ُسوع‪َ ،‬ولَ َم َس ْت َط َر َف ِردَا ِئ ِه‪َ ،‬و َفجأَ ًة َو َق َف َنز ُْف‬ ‫الـج ِميع‪.‬‬ ‫َد ِمهَا‪َ .‬ف َق َال َي ُسوع‪َ “ :‬منْ لَ َم َس ِني؟”‪َ .‬وأَ ْن َك َر َ‬ ‫الـج ُموعَ‬ ‫َف َق َال ُب ْط ُر ُس َو َمنْ َم َعهُ‪“ :‬يا ُم َع ِّلم‪ ،‬إِ َّن ُ‬ ‫واحدًا‬ ‫َيز َْح ُمو َن َك َو ُي َضا ِي ُقو َن َك!”‪َ َ .‬ق َال َي ُسوع‪“ :‬إِ َّن ِ‬ ‫َق ْد لَ َم َس ِني! َف ِّإن َع َر ْف ُت أَ َّن ُق َّو ًة َق ْد َخ َر َج ْت ِمنِّي!”‪.‬‬ ‫َو َرأَ ِت الـ َم ْرأَ ُة أَ َّن أَ ْم َرها لَ ْم َي ْخ َف َع َليه‪َ ،‬ف َد َن ْت‬ ‫ُم ْر َت ِع َد ًة وا ْر َ َت ْت ع َ​َل َق َد َميه‪َ ،‬وأَ ْع َلن َْت أَ َما َم َّ‬ ‫الش ْع ِب‬ ‫ُك ِّل ِه لِام َذا لَ َم َس ْتهُ‪َ ،‬و َك ْي َف ُش ِف َي ْت لِ ْل َحال‪َ .‬ف َق َال لَهَا‬ ‫َي ُسوع‪“ :‬يا ا ْب َن ِتي‪ ،‬إِ ْ َيا ُن ِك َخ َّل َص ِك! إِ ْذهَ ِبي ِب َسالم”‬ ‫انجيل لوقا ‪43 :8‬‬

‫مقاالت‬

‫“تعا ودعو يا حوينتو‪ ..‬آخر أيامو املشمش”‪..‬‬ ‫مل تكن نداءات الباعة وقتئذ إعالناً لقرب نهاية‬ ‫الصيف فحسب‪ ،‬بل كانت إشارة البدء يف حزم‬ ‫املتاع والسفر نحو العام الدرايس الجديد‪ .‬بالرغم‬ ‫من العقود التي باتت تفصل ذاكريت عن صيف‬ ‫سوريا‪ ،‬تبقى نسامت املساء عند الغروب تثري‬ ‫ّيف ذلك الوجد والحنني‪ .‬مهام حاولت كبت تلك‬ ‫الذكريات‪ ،‬فإنها تظل تتسلل إىل أحالمي‪ .‬موسم‬ ‫املشمش الذي أعشق‪ ،‬وسهرات البلكون‪ ،‬وعرشات‬ ‫مواكب األعراس‪ .‬كانت سوريا مرتبطة بالصيف‬ ‫ارتباطه مبوسم املشمش يف ذاكرة ذلك الطفل‬ ‫ربيب الغربة؛ فباقي الشهور كنت أقضيها يف ح ّر‬ ‫مامثل‪ ،‬لكن دون صيف وال نسامت وال سهرات‬ ‫بلكون‪ .‬فقط وجد وحنني!‬

‫إال أن سوريا الخريف كان لها أن تلتقي بذكريات‬ ‫ذلك املراهق عام ‪ ،1996‬حني انتقلنا من الخليج‬ ‫وسكنّا يف حمص ملدة عامني‪ .‬انضممت فيها إىل‬ ‫صفوف الرفاق يف شبيبة البؤس يف سوريا حافظ‬ ‫األسد آنذاك‪ .‬من بني أربعني شقياً يف الشعبة‬ ‫الثانية يف الصف العارش‪ ،‬كنت أنا ومغرتب آخر‬ ‫نكتشف ذلك الفصل البائس للمرة األوىل‪ .‬م َّيزَنا‬ ‫طولنا الفارع عن باقي أقراننا‪ ،‬وبعض الشحم الذي‬ ‫مت ّكنت املسريات واحتفاالت الحزب الخمسينية‬ ‫من نحته أخرياً‪ .‬يف مدرسة تعداد طالبها تجاوز‬ ‫الثالمثئة كان عدد من عاشوا تجربة االغرتاب ال‬ ‫يتجاوز عدد األصابع‪ .‬مدرستنا كانت مجاورة‬ ‫لألحياء الراقية‪ ،‬وكنا بصحبة أوالد أكرب عائالت‬ ‫حمص وأشهرها‪ .‬كان اثنان من أبناء صفي ممن‬ ‫أسامؤهم كانت أسامء شوارع أو معامل يف املدينة؛‬ ‫كونهم كانوا سميي أجدادهم الذين كانوا من‬ ‫أعالم املدينة‪.‬‬ ‫مل تكن ظاهرة االغرتاب عن السوريني يف تلك الفرتة‬ ‫عجت بنا مدن الخليج آنذاك‪ .‬لكن‬ ‫بالغريبة‪ ،‬بل ّ‬ ‫مفهوم االغرتاب للكثريين من أبناء صفي وقتها‬ ‫كان مستهجناً‪ .‬فلم يكن من املنطقي أن يذهب‬ ‫املرء طواعية إىل أماكن تهان فيها كرامته ويحرم‬ ‫من حقه باملواطنة مقابل املال‪ .‬مفهوم ال شك‬ ‫سطحي ومجحف يف التبسيط‪ ،‬ويهمل عرشات‬ ‫األسباب التي كانت تدفع ماليني السوريني إىل‬ ‫املنفى آنذاك‪ .‬ظللنا ضحية نكتة “شحادي الخليج”‬ ‫السمجة آنذاك‪ ،‬بالرغم من أننا كنا أفضل حاالً من‬

‫الناحية املادية من الكثري من أهايل أولئك الرفاق‪.‬‬ ‫ما علينا‪ ..‬عىل كل فقد كانت فكرة ترك البلد عند‬ ‫هؤالء الشباب مرفوضة جملة وتفصي ًال؛ فنار البلد‬ ‫خري من جنة النفطيني كام ظلوا يرددون‪.‬‬ ‫أمتمت دراستي الجامعية عام ‪ ،2006‬وكنت وقتها‬ ‫قد عدت إىل وضعية عابر السبيل الصيفي يف‬ ‫سوريا‪ .‬وكان خط رحلتي ال شك هو املزيد من‬ ‫االغرتاب‪ .‬كزدورات شارع امللعب بحمص كانت‬ ‫ملتقانا من جديد نحن أوالد الشعبة الثانية يف‬ ‫ثانوية عبد الحميد الزهراوي‪ .‬عرش سنوات فصلت‬ ‫بني أحالم املراهقني وواقعهم‪ .‬من أصل أولئك‬ ‫األربعني‪ ،‬كان نصيب الخليج منهم مثانية عرشة‪.‬‬ ‫وكانت أمريكا وأوروبا قد ابتلعتا خمسة آخرين‪.‬‬ ‫ومن بقي ظل هو اآلخر مرشوع مغرتب مؤج ًال‪.‬‬ ‫سوريا األسدين تحولت يف تلك الفرتة الوجيزة إىل‬ ‫ماكينة احرتافية يف تصدير الشباب إىل العامل‪ .‬منهم‬ ‫من سلك هذا املسلك بدافع التخلص من الخدمة‬ ‫العسكرية اإللزامية ودفع البدل النقدي‪ ،‬ومنهم‬ ‫من تصالح مع واقع أن البحبوحة التي نشأ يف‬ ‫كنفها مل تكن لتسعه هو وإخوته‪ ،‬فكان عىل أبناء‬ ‫العائالت امليسورة أيضاً أن يختاروا لقمة العيش‬ ‫عىل الكرامة وينضموا إلينا (معرش الصيفيني)‪.‬‬ ‫يف آخر بحث يل عىل الفيسبوك ‪-‬قبل أن أعتزله‪ -‬يف‬ ‫عام ‪ ،2018‬ارتفع عدد (أرسى الخليج) من ّ‬ ‫صف‬ ‫األشقياء يف ثانوية الزهراوي إىل ‪ 22‬وخرست أوروبا‬ ‫واحداً عاد إىل “حضن الوطن”‪ ،‬بينام اكتسبت‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫اليوم وأنا أرى صور أصدقايئ اللبنانيني يتصورون‬ ‫بجانب حقائبهم يف مطار بريوت مودعني‬ ‫وطنهم دون حرب وال براميل‪ ،‬ال أستطيع إال أن‬ ‫أتساءل‪ :‬أكان يصمد منا أكرث من ‪ 4‬بكل األحوال‬ ‫يف حضن هذه العجوز النازفة؟!‬

‫‪98‬‬

‫مل تكن سوريا األسد بحاجة لشبابها‪ .‬بل كانت‬ ‫تطرب وهي تتخلص من أحاملها‪ .‬كانت أسهل‬ ‫األوراق التي استصدرتها عام ‪ 2008‬هي تأشرية‬ ‫السفر التي صدرت خالل نصف ساعة‪ ،‬بينام‬ ‫استغرقت معادلة الشهادة عامني رغم أنني‬ ‫مسجل تحت اإلرش ّ‬ ‫اف!‬ ‫لقد بدأ التهجري القرسي قبل الثورة السورية‬ ‫بسنوات‪ .‬وبينام أمعنت الحرب والقصف‬ ‫والرباميل يف تهجرينا‪ ،‬إال أنها كانت مجرد‬

‫استكامل ملا أراده السفاح الصغري‪ ،‬وهو أن‬ ‫تشيخ البلد وتنوب إليه وحده‪ ،‬فيستحكمها‬ ‫أبداً آخر‪.‬‬

‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫خمسة غريه‪ .‬وتركيا صارت مسكن خمسة‬ ‫آخرين‪ .‬وبقي أربعة صامدون‪ ،‬أو يخيل إلينا‬ ‫أنهم كذلك‪ ،‬وليس منهم أي من أسامء املعامل‬ ‫الحمص ّية‪.‬‬ ‫يسميها الغرب “نزيف العقول”‪ ،‬لكنها لسوريا‬ ‫كانت نزيف الحياة؛ نزيف سال قبل أن يكمل‬ ‫األسد االبن طعنته يف القلب بعقد من الزمن‪.‬‬ ‫أما لنا فكانت النجاة قبل اآلزفة بقليل‪ ،‬أو من‬ ‫بني أيديها‪.‬‬

‫‪11‬‬

‫مقاالت‬


‫عمران أنا‪..‬‬ ‫فلتغرقوا يف صميت األبدي‬

‫‪12‬‬ ‫جمال الشوفي‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫مذ شاهدت إيالن يغفو عىل شاطئ مدينة ما‪ ،‬وأنا‬ ‫أسأل أمي كل يوم‪ :‬ملاذا مل نذهب معهم يا أمي‪،‬‬ ‫كنا لعبنا معاً عىل الشاطئ ومن ثم غفونا سوية؟‪.‬‬ ‫تنهمر الدمعة من عينيها‪ ،‬تضمني‪ ،‬وتقول‪“ :‬بعيد‬ ‫الرش عنك”‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫اليوم‪ ،‬جنحت األسئلة وش ِدهت عني أمي‪ ،‬فال أنا‬ ‫تكلمت وال هي بكت! ال أعلم ملاذا تنترش صوريت‬ ‫يف مج ّالت العامل وجرائدها ونرشاتها اإلخبارية!‬ ‫هل ّ‬ ‫حرب؟‬ ‫بت قائد أم ٍة أم بطل ٍ‬ ‫ً‬ ‫ال أدرك املعنى أبدا‪ ،‬لكن إيالن قد يرى صوريت‬ ‫فيعود لنلعب سوية‪ .‬سأقول له ال تخف من هذا‬ ‫اللون األحمر اللزج الذي يسيل عىل وجهي‪ ،‬فأنا‬ ‫أغسل وجهي جيداً‪ ،‬أنظف أسناين حتى تلمع‪ ،‬لكن‬ ‫مل أكن أظن يوماً أنها ستكون يوماً هدف طيار‬ ‫أعمى وقذائفه‪ .‬يا إيالن‪ ،‬رسحت شعري ورتبته‪،‬‬ ‫لحظة هممت للخروج لضوء الشمس ورشاق ُة‬ ‫الصبح تغري قدمي‪ ،‬ناوياً الخروج ل ّلعب يف‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫الحديقة‪ ،‬أطبقت العتمة عيل من كل جهة‪ ،‬ومأل‬ ‫أنفي زكام غبار كثيف وسيل من ركام جبل!‬ ‫من أنتم؟ أنا ال أعرفكم‪ ،‬أما أنا؛ فأنا عمران وعمري‬ ‫خمسة أعوام‪ ،‬و الزلت حياً‪ ،‬بعد أن غادرين إيالن‬ ‫عام مىض‪ ،‬لكنني توقفت عن ترديد كلامتكم‪،‬‬ ‫قبل ٍ‬ ‫وتحرشجت الحروف يف حنجريت‪ ،‬واليوم هجرت‬ ‫لغتكم أبداً‪“ ،‬فلكم لغتكم ويل لغتي”‪ .‬قلقكم‬ ‫واستنكاركم مجرد حروف أستهجنها‪ ،‬فأبداً مل‬ ‫تستطع إيقاف الصواريخ من االنهامر عىل حينا‪،‬‬ ‫وال الرباميل من اجتياح حديقتنا! حديقة الحي‬ ‫التي كلام تعاونت ورفاقي عىل تنظيفها‪ ،‬انهالت‬ ‫عليها قنابل وبراميل‪ .‬ونعيد الكرة‪ ،‬نعاود اللعب‬ ‫فيها وتعلو أصوات ضحكاتنا عىل صوت الضجيج‬ ‫وهدير الطائرات‪ ،‬فلامذا ال تسمعونها؟‬ ‫ال تظنوا أنا نجري خوفاً من الطائرات‪ ،‬فقد اعتدنا‬ ‫منها أن متأل سامءنا بدل الطيور والعصافري! فقط‪،‬‬ ‫حي و مل‬ ‫نحن نجري كل منا تجاه أمه يخربها أنه ٌ‬ ‫تطله قذيفة أو برميل‪ ،‬ومل يغفو بعد كام إيالن!‬ ‫وعدتك أال تبيك يا أمي‪ ،‬ال أحب أن تذريف املزيد‬

‫من الدموع‪ ،‬فابتسامتك فيض حنان‪ ،‬وبريق عينيك‬ ‫يغرينى يك أكرب وأغدو أجمل‪ ،‬فأصبح قادراً عىل‬ ‫التغلب عىل جوعنا وبأسنا اليومي املطبق علينا‬ ‫مذ ولدت‪ .‬يا أمي هكذا أردت أن أحميك من‬ ‫وجعك ومن خوفك املستدام لكن‪..‬‬ ‫أنا عمران ابن حلب‪ ،‬حلب التي تتكلمون عنها‬ ‫يف الصحف ونرشات األخبار واجتامعات الدول‬ ‫وغرف العمليات‪ ،‬حلب التي مل تبق يد آمثة يف‬ ‫الكون ومن كل أصناف شذاذ اآلفاق إال وامتدت‬ ‫إليها لتقتلنا! وطاملا سألت أمي وهي ال تجيب‪:‬‬ ‫ملاذا ال يحبوننا يا أمي؟ ما الجرمية التي ارتكبتها‬ ‫ليأمروا بقتيل؟ أنا أحب العصافري وكل أنواع‬ ‫الطيور‪ ،‬أنا أحب األزهار والفراشات وأهتم بها‬ ‫وأعتني بكالب الحارة وقططها‪ ،‬أرتب رسيري كل‬ ‫صباح وأغسل يدي قبل كل طعام وأنظف أسناين‬ ‫قبل النوم‪ ،‬أنا مل أرسق يا أمي ومل أكذب يوماً‪ ..‬أمل‬ ‫يعلمونا يف املدرسة أن األطفال كنز الحياة وزينتها؟‬ ‫وأننا حارض سوريا ومستقبلها فلامذا يسموننا‬ ‫إرهابيني؟!‬ ‫السم األصفر الذي‬ ‫قبل أعوام نجوت وأصحايب من ّ‬ ‫انهمر علينا‪ ،‬هل تذكرين؟ هل تتذكرون؟ يومها‬ ‫ظننت أن املطر بات أصفراً بلون أوراق القمح يف‬ ‫موسم الحصاد‪ ،‬فالقمح يف هذا املوعد من العام‬ ‫يكون قد تم جنيه وبات مخزناً يف املنازل لشتاء‬ ‫قارص‪ ،‬يبعث البهجة يف نفس أيب وأمي‪ ،‬ولرمبا‬ ‫ابتسامتهام الصفراوية كانت تعكس لون القمح‬ ‫أيضاً! أنا ال أعلم ملاذا يقولون عن ابتسامة عدم‬ ‫السم األصفر؟‬ ‫الرضا هذه بالصفراوية؟ أالنها تشبه ّ‬ ‫وملاذا يبتسم أيب بذلك اللون رغم تأمني املوسم؟‬ ‫أتراه يقول يف نفسه‪“ :‬أمنّا الخبز لكن كيف‬ ‫سنؤمن املاء وكيف سنتقي مطر املدافع ووابل‬ ‫الطائرات‪”..‬؟ و الزلت أتساءل‪ ،‬هل األصفر هو‬ ‫نهاية حياة كانت خرضاء مزدانة بالفرح؟‬ ‫أتعلمون أن صمتكم قتلني مرات ومرات‪ ،‬فرغم‬ ‫أين شعرت باالختناق لكن أقوالكم املزينة مبشاعر‬ ‫هالمية خنقتني أكرث‪ ،‬أنا ال أكذب ومل أكذب يوماً‪،‬‬

‫وأنتم كل يوم تكذبون عىل أطفالكم وعاملكم حني‬ ‫تصفوننا نحن األطفال‪ ،‬باإلرهابيني وتبيحون قتلنا‬ ‫اليومي!‬ ‫سأصمت عن قولٍ ‪ ،‬فصمتي ليس عجزاً‪ ،‬وال فراغ‬ ‫نظريت‪ ،‬لن أجيب عن أسئلتكم‪ ،‬ولن أقول لكم‬ ‫من هو قاتيل‪ ،‬فمحاكمكم وقضاؤكم يعرفونه‬ ‫أكرث مني‪ ،‬بل تتسرتون عليه عنو ًة ولغاية يف نفس‬ ‫يعقوب‪ .‬وأنا مازلت بريئاً من أي ذنب كرباءة‬ ‫الذئب من دم يوسف‪ .‬سأترك قلقكم يأخذكم إىل‬ ‫ما النهاية‪ ،‬وسأترك لكم فتح معاهد جديدة يف‬ ‫التحليل النفيس وعلوم السياسة والقانون الدويل‬ ‫لتجيبوا عن أسئلة العلم الحديث‪ :‬ملاذا عمران ال‬ ‫يتكلم؟ ملَ هو مصدوم؟ ما املعنى النفيس لنظراته‬ ‫الشاردة تلك؟ هل يفهم ما يجري حوله؟ هل‬ ‫خرقت الطائرة التي قصفت بيته الهدنة؟ وهل‬ ‫انتهكت قواعد االشتباك املعلنة بني أمريكيا‬ ‫وروسيا؟ هل كان يحمل سالحاً إلسقاط الطائرات‬ ‫وخرق باستخدامه القانون الدويل؟ سأترك لكم‬ ‫أسئلتكم بال إجابة فهي أسئلة صعبة عيل‪ ،‬لكني‬ ‫سأسألكم علكم تجيبوين‪:‬‬ ‫ هل تذكرون حمزة؟ من ثقب جسده مبثقب‬‫الكهرباء وأعاده ألهله جثة هامدة؟‬ ‫ هل تتذكرون هاجر وأحمد وغياث و سلمى‬‫وآالف األطفال مثيل؟ ملاذا قتلوا فرادى وجامعات؟‬ ‫ أين إيالن‪ ،‬وملاذا غفا طوي ًال عىل شاطئ ما؟ هل‬‫تعلمون أ ّنا كنا نلعب سوية كل صباح‪ ،‬وكنا نحلم‬ ‫أن نكرب معاً و أن نبني معاً‪ ،‬سأصارحكم بأنه هرب‬ ‫من املوت هنا‪ ،‬فامت هناك عىل شاطئ هجرة‬ ‫شاهد عىل موتنا الجامعي‪ ،‬وأنا بقيت والزلت‬ ‫أنتظر موتاً ما‪ ،‬فهل من سبيل لديكم خالف ذلك‬ ‫يا سادة؟‬ ‫ هل أنا من أسعى النقراض الطائر أبو منجل يف‬‫بادية الشام؟ وهل حياته أهم مني ومن رفاقي‬ ‫لتدفع له األمم املتحدة يف برنامجها العاملي إلنقاذ‬ ‫الطيور املنقرضة وتوافق عىل انقراضنا كل يوم؟‬ ‫‪ -‬ملاذا يجتمع العامل عىل قتيل؟ أمل يخرب أطفال‬


‫‪.....‬‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫* نرشت هذه الكلامت ألول مرة يف مجلة ذوات العدد ‪ ,30‬مؤسسة‬ ‫مؤمنون بال حدود‪ ،‬املغرب‪ ،11/2016 ،‬واليوم زاد عمر عمران خمس‬ ‫سنوات‪ ،‬وهرمت أنا ومثيل ك ُرث‪ ،‬وال زالت الجرمية مستمرة والذهول ميأل‬ ‫القلوب قبل العيون والعامل يطبق يف صمته األبدي‪..‬‬

‫كاريكاتري‬

‫روسيا بوتني وجرناالته‪ ،‬يوماً‪ ،‬أن أطفال ستالينغراد‬ ‫كانوا مثيل ذات يوم‪ ،‬ذات حصار وموت؟‬ ‫ ماذا تراها ستفعل مراكز بحثكم العلمية‬‫والسياسية واالقتصادية وعلوم التقنية الحديثة يف‬ ‫تفسري مسار الدم الحار عىل وجنتي؟ وملاذا بقيت‬ ‫حياً ومل أمت؟ بينام مات أخي ومل أستطع بكاءه؟‬ ‫ ملاذا تعتقدون أن أطفالكم فقط هم األطفال‪،‬‬‫وأين ابن سبعني عاماً مث ًال؟!‬ ‫عام وعام يا سادة‪ ،‬أنا من تيبست‬ ‫أنا ابن املئة ٍ‬ ‫روحه وجفلت الكلامت منه‪ ،‬أنا وجع الصمت‬ ‫امل ّر وأنني املوت يف الرشايني‪ ،‬أنا ضحية إجرامكم‬ ‫الطويل وحبكم يف مشاهدة أفالم الرعب القاتل‬ ‫ولعق الدماء‪ ،‬أنا ال أستطيع لعنكم‪ ،‬فلم أتعلم‬ ‫ثقافة اللعن والكراهية‪ ،‬وال ميكنني أن أمتنى املوت‬ ‫لقاتيل‪ ،‬فأنا أبن الحضارة التي تريدون إزالتها من‬ ‫الوجود‪ ،‬أنا طفولة سوريا التي تتمنون صمتها عن‬ ‫جرمية العرص‪ .‬رمبا إنسانيتكم املفرطة متنعكم‬ ‫من متابعة مشاهد بؤسنا اليومي وموتنا اليومي‬ ‫وجرمية أسيادكم اليومية فينا! سأتابع صمتي‬ ‫فإن عذبكم وأقلق نومكم وحارت به منظامتكم‬ ‫ومجتمعاتكم الحقوقية واإلنسانية فلم يكن أبداً‬ ‫ذنبي‪ ،‬فأنا مل أنوي يوماً أذية حتى منلة‪ .‬هو ذنب‬ ‫اللغة وعجزها‪ ،‬ذنب الصمم األبكم وعجز نطقكم‬ ‫أيضاً! و لرمبا كان ذنبي الوحيد أين ولدت سورياً‪،‬‬ ‫ولدت حيث تصنع آلة القتل والتدمري مواكب‬ ‫املهجرين إىل كل شتات األرض وطريق الراحلني‬ ‫يف رحلة جنائزية طويلة‪ ،‬والباقون منا يعزفون‬ ‫لعنة الصمت املر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صمتي ليس موقفا وفقط‪ ،‬ولن أخطب “خطبة‬ ‫الهندي األحمر األخرية” ولن أسأل عن املتبقي‬ ‫فينا‪ ،‬صمتي تحفة أثرية لتحتفظوا بها يف‬ ‫متاحفكم التاريخية‪ ،‬يف اللوفر‪ ،‬يف الساحات‬ ‫الحمراء‪ ،‬بجوار متثال الحرية‪ ،‬يف متاحف نرصكم‬ ‫يف حروبكم الوطنية! حتى إذا م ّر الزائرون يوماً‬ ‫ولفت انتباههم متثايل‪ ،‬وقرؤوا ما كتب عىل‬ ‫لوحتي بلون برونزي مخضب‪:‬‬ ‫“هذا مصري أطفال سوريا‪ ،‬ومثن رصخات الحرية”‪..‬‬ ‫صمت األبدي‪..‬‬ ‫غرقوا‪ ،‬كام غرقتم مثيل يف‬ ‫ٍ‬

‫‪13‬‬


‫الوطن والغربة‬ ‫حياصران السوريني!‬

‫‪14‬‬ ‫علي الداالتي – إدلب‬

‫العدد‬

‫‪97‬‬ ‫‪2021 / 8 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫“كانت رحلتنا أشبه برحلة القيامة‪ ..‬خرجت من منزل‬ ‫أهيل بدمشق نحو حمص ليوقفنا حاجز القطيفة‬ ‫لعدة ساعات‪ ،‬ولنتوجه بعدها ملحافظة حمص‪ ،‬ثم‬ ‫حامة ومنها للرقة‪ .‬ثم خرجنا باتجاه منبج‪ ،‬ومنها إىل‬ ‫مناطق “درع الفرات” بريف حلب‪ ..‬وقفنا عىل حاجز‬ ‫“العون” عدة ساعات‪ ،‬قبل أن نحصل عىل إذن من‬ ‫الفصائل والقوات الرتكية لنستطيع الدخول‪ .‬ومن هناك‬ ‫دخلت إدلب‪ ،‬حيث حاولت عدة مرات دخول تركيا‬ ‫عرب طريق التهريب‪ ،‬وال أعلم كم مرة سأحاول حتى‬ ‫أستطيع العبور”‪ .‬كانت دمعة “سهى” تسيل وهي‬ ‫قصة محاولة الوصول لزوجها‬ ‫تروي بهذه الكلامت ّ‬ ‫املقيم يف تركيا بعد تهجريه قرسياً من بلدته بريف‬ ‫دمشق نحو مدينة إدلب؛ حيث خرج منها إىل تركيا‪،‬‬ ‫وهي تريد الخروج إليه ليعيدا تأسيس أرستهام بعد‬ ‫أن متكن زوجها من تأسيس لحياة جديدة يف تركيا‪.‬‬ ‫وهم جالسني يف أحد املقاهي ويتكلمون بحديثهم‬ ‫املعتاد عن الهجرة‪ ،‬يرصخ أحمد بأصدقائه‪“ :‬مادام هناك‬ ‫ثورة يف سوريا لن أخرج منها‪ ،‬لقد حلمت لسنني بالثورة‬ ‫عىل النظام‪ ،‬وعندما أضحى الحلم حقيقة تريدوين أن‬ ‫أهرب من حلمي؟!”‪ .‬أحمد (‪ 32‬سنة) مهجر من مدينة‬ ‫حلب ملدينة إدلب‪ ،‬يقول ملجلة طلعنا عالحرية‪“ :‬يف‬ ‫كل مساء أجلس مع أصدقايئ هنا لنتناقش مبستقبلنا‪،‬‬ ‫لتدور غالبية الحديث عن الهجرة” ويتابع‪“ :‬فقدنا‬ ‫ثالثة أعضاء كانوا فعالني بنقاشاتنا‪ :‬محمد الذي قتل‬ ‫بقصف مدفعي لقوات النظام عىل ريف إدلب‪ ،‬واثنني‬ ‫خرجا نحو تركيا”‪ .‬ويختم أحمد كالمه‪“ :‬أنا أفضل‬ ‫أن أموت هنا بأريض‪ ،‬مثل محمد‪ ،‬عىل أن أغادرها؛‬ ‫فنحن خرجنا بثورة وعلينا امليض بها نحو النهاية”‪.‬‬ ‫وتعيش منطقة إدلب نوعاً من الهدوء املتقطع‪،‬‬ ‫وتبقى مرتقبة لتفاهامت دولية جديدة‪ ،‬قد‬ ‫تخرس بها املحافظة الخارجة عن النظام مزيداً‬ ‫من أجزائها‪ .‬وبحسب إحصائيات نرشتها منظمة‬ ‫منسقو االستجابة‪ ،‬يعيش يف شامل غرب سوريا‬ ‫‪ 4‬مليون نسمة‪ ،‬منهم ‪ 2.1‬مليون من النازحني‪،‬‬ ‫يعيش أكرث من ثالثة ماليني منهم تحت خط الفقر‪.‬‬ ‫تخ ّرج محمد (‪ 27‬سنة) من كلية الرتبية منذ عام‪ ،‬وهو‬ ‫منذ ذلك الوقت يحاول الهجرة خارج سوريا‪ ،‬ليصل‬ ‫إلخوته املوجودين يف أوربا‪ .‬كل يوم مييش يف األرايض‬ ‫الزراعية املحيطة باملخيم الذي يعيش فيه مع أقاربه‪،‬‬

‫وهو ينتظر اتصاالً من “امله ِّرب” الذي سيدخله تركيا‪،‬‬ ‫ليذهب مع مهرب آخر إىل اليونان ومنها لبلد آخر يف‬ ‫أوروبا‪ .‬قال محمد لطلعنا عالحرية إنه مل يعد يحتمل‬ ‫العيش يف إدلب‪ ،‬فبعد تهجريه من قريته يف ريف‬ ‫إدلب الجنويب ووفاة والدته‪“ ،‬مل يعد هناك يشء‬ ‫يربطني بهذه البالد‪ ،‬فالوقت الذي يجب أن أقضيه‬ ‫كشاب وأنا أفكر ببناء مستقبيل‪ ،‬أقضيه بالتفكري كيف‬ ‫سأبقى عىل قيد الحياة‪ ،‬يف بالد مل يبق فيها يشء سهل‬ ‫املنال إال املوت”‪ ..‬مل يكمل محمد حديثه معنا ألنه‬ ‫تلقى مكاملة من شخص‪ ،‬تخربه برضورة التوجه ملنزل‬ ‫املهرب‪ ،‬حيث سيحاولون هذه الليلة العبور إىل تركيا‪.‬‬ ‫فهو سبق وأخربنا أنه إنه مستعجل بالدخول إىل تركيا‬ ‫ليستطيع العبور لألرايض األوربية قبل حلول فصل‬ ‫الشتاء الذي يصبح فيه الوصول ألوروبا مستحي ًال‪.‬‬ ‫أبو سمري (‪70‬سنة) يجلس يومياً عىل قارعة الرصيف‬ ‫أمام متجره الذي يبيع فيه األدوات املنزلية يف مدينة‬ ‫إدلب‪ .‬روى الرجل لنا أحالمه هو وزوجته بالسفر‬ ‫ألوروبا‪ ،‬لرؤية أبنائهام املنترشين يف الدول األوربية‪،‬‬ ‫حيث غادروا سوريا إىل تركيا هرباً من القصف الذي‬ ‫استهدف املدينة عام ‪ 2015‬بعد تحريرها من قوات‬ ‫النظام‪ ،‬ومل يبقَ من أبنائه سوى أصغرهم “مهند”‬ ‫الذي رفض ترك والديه وحيدين‪ ،‬اللذين رفضا‬ ‫بدورهام مغادرة املدينة طمعاً باملوت عىل األرض‬ ‫التي ولِدا وعاشا فيها‪ .‬ولكن أبا سمري اليوم يشعر‬ ‫بالندم بسبب عدم سفره مع أبنائه يف ذاك الوقت‪،‬‬ ‫ويزداد ندمه ويشعر بتأنيب الضمري كلام رأى ولده‬ ‫مهند الذي بقي يف إدلب ألجله ومل يسافر مع أخوته‪.‬‬ ‫وبحسب أيب سمري‪“ :‬اليوم الذهاب ألوروبا يحتاج‬ ‫لتكاليف كبرية‪ ،‬وحتى لو استطعت تأمينها عرب‬ ‫بيع كل ما أملك‪ ،‬فحت ًام لن أتحمل أنا وزوجتي‬ ‫صعوبة الرحلة؛ ألننا نعاين عدة أمراض مزمنة”‪.‬‬ ‫مل تكن الهجرة حدثاً جديداً عىل السوريني؛‬ ‫فقبل اندالع الثورة يف ‪ 2011‬كان آالف السوريني‬ ‫والسوريات يغادرون سوريا‪ ،‬غالبيتهم من‬ ‫الشباب‪ ،‬ويتوجهون لدول الخليج العريب ألجل‬ ‫العمل وتحسني أوضاعهم املعيشية‪ ،‬وليستطيعوا‬ ‫تأسيس حياتهم يف الدولة ذات الحزب الواحد‬ ‫والقائد الواحد املسيطر عىل كل مفاصل الحياة‪.‬‬ ‫وكان الشباب السوري وقتها يعاين من البطالة‬

‫والفساد واملحسوبيات يف كل يشء‪ ،‬والشباب‬ ‫الذكور يعانون من الخدمة اإللزامية التي كانت‬ ‫مصممة لتذيق من يذهب إليها جميع أنواع الذل‬ ‫واإلهانة‪ .‬ومن هؤالء الشباب كنانة هنداوي (‪30‬‬ ‫سنة) وهو ناشط إعالمي من جبل الزاوية قال ملجلة‬ ‫طلعنا للحرية‪“ :‬غادرت سوريا لدولة قطر للعمل‬ ‫عام ‪ 2011‬قبل اندالع الثورة بعدة أيام‪ ،‬وبقيت‬ ‫هناك إىل عام ‪ ،2015‬حني قررت العودة إىل سوريا‬ ‫للمشاركة يف الثورة السورية عىل النظام الذي كان‬ ‫سبباً بغربتي لسنوات بعيداً عن أهيل وبلدي”‪،‬‬ ‫ويتابع‪“ :‬الكثري يستغربون من عوديت إىل البلد التي‬ ‫يحاول الكثري من أهلها الهجرة منها بكافة األساليب”‪.‬‬ ‫وبحسب تقرير منظمة الهجرة العاملية لعام ‪،2020‬‬ ‫تصدرت سوريا قامئة الدول املصدرة لالجئني حول‬ ‫العامل‪ .‬وأشار التقرير إىل وجود أكرث من ‪ 6.6‬مليون‬ ‫الجئ سوري‪ ،‬يتوزعون عىل أغلبية دول العامل‪ ،‬ولكن‬ ‫النسبة األعىل منهم تقيم يف دول الجوار السوري‪:‬‬ ‫تركيا واألردن ولبنان‪ ،‬باإلضافة لدولتي مرص وأملانيا‪.‬‬


‫الشباب يف مناطق النظام واملناطق‬ ‫احملررة تعددت األسباب واهلجرة واحدة‬

‫‪15‬‬

‫شمس الدين مطعون‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫يرافق العم “أبو عامر” آخر أبنائه إىل مبنى الهجرة‬ ‫والجوازات يف دمشق‪ ،‬حيث يزدحم عرشات الشباب‬ ‫الراغبني بالحصول عىل جواز سفر ملغادرة البالد‪.‬‬ ‫يقول أبو عامر‪“ :‬ابني أصبح بعمر الخدمة اإللزامية‪،‬‬ ‫لذلك يجب أن يسافر ويلتحق بإخوته الذين سبقوه إىل‬ ‫مرص يف ‪ 2013‬لنفس السبب”‪ ،‬ويضيف العم‪“ :‬يف مرص‬ ‫استطاع أوالدي أن يؤ ّمنوا حياتهم‪ ،‬كام أننا نعيش من لطرق التهريب الخطرية والباهظة الثمن‪ ،‬باتت عدم االستقرار والتهديد الدائم بحملة عسكرية‪،‬‬ ‫املال الذي يرسلونه لنا”‪.‬‬ ‫سلطات النظام تس ّهل الهجرة وتسمح للشباب كام أن الفقر وقلة فرص العمل هام من أهم‬ ‫تتكرر مشاهد الهجرة ألبناء دمشق وريفها‪ ،‬حيث ‪-‬حتى املطلوبني‪ -‬للهجرة بشكل نظامي عرب األسباب التي دفعت لهجرة مئات الشباب‪.‬‬ ‫يندفع الشباب للسفر ليس خوفاً من االلتحاق بالخدمة منحهم موافقات أمنية‪.‬‬ ‫تقترص الوجهة الرئيسية إىل تركيا املتاخمة‬ ‫اإللزامية فقط‪ ،‬وإمنا تطلعاً ملستقبل قد يكون أفضل من حيث خفضت تكلفة “املوافقة األمنية”‪ ،‬ووفق لحدود املناطق املحررة‪ ،‬ومن ثم يسعى الشباب‬ ‫الظروف الصعبة التي تعيشها بالدهم‪ ،‬ويجد الشباب يف “م ن” وهو أحد العاملني يف مكاتب السفريات للهجرة إىل دولة أوروبية‪ ،‬يف ظروف صعبة وعرب‬ ‫الهجرة طريقاً إليجاد فرص عمل أو الستكامل تعليمهم‪ ،‬بالعاصمة دمشق‪ ،‬فإن تسهيالت كبرية تقدم طرق شديدة الخطورة ومرتفعة األكالف‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫ظل تدين الظروف الحياتية واالقتصادية التي يعانون للسوريني الراغبني بالسفر وباألخص إىل مرص‪.‬‬ ‫يقول “مهند” بعد أن متكن من مغادرة إدلب‬ ‫منها‪.‬‬ ‫وأوضح “م ن” أن مدّة االنتظار للحصول عىل بواسطة أحد املهربني إىل تركيا‪ ،‬وبعدها لجزيرة‬ ‫وكان عرشات الشباب قد استطاعوا يف وقت سابق‪ ،‬املوافقة األمنية أصبحت أقل‪ ،‬حيث يحصل قربص اليونانية‪ ،‬إن تكلفة رحلته بلغت حوايل‬ ‫االبتعاد عن عيون السلطات تجنباً من االلتحاق بصفوف السوريني عىل ترصيح دخول ترتاوح مدته بني ‪ 5‬آالف دوالر أمرييك‪ ،‬إضافة إىل املخاطر‬ ‫الجيش‪ ،‬عرب االختباء بالقرى النائية وعدم مغادرة املنزل شهر إىل ستة أشهر‪.‬‬ ‫التي تعرض لها خالل الرحلة‪“ :‬نجوت من‬ ‫إال للرضورة القصوى‪ ،‬وتجنب العبور عىل الحواجز‬ ‫املوت املحتم مرتني‪ ،‬إحداها عند القفز من‬ ‫األمنية‪.‬‬ ‫تأمني تكلفة الهجرة‪:‬‬ ‫الجدار الرتيك حيث أطلق علينا حرس الحدود‬ ‫الشاب “عبد الرحمن” (‪ 21‬عاماً) متكن من التخلف عن يلجأ العرشات من األهايل لبيع عقاراتهم وجزء (الجاندرما) النار‪ ،‬وبعدها يف عرض البحر غرقاً يف‬ ‫الخدمة اإللزامية لعامني قبل أن يق ّرر الهجرة إىل مرص‪ ،‬من منازلهم التي يسكنونها أحياناً‪ ،‬لتأمني تكلفة طريقنا لقربص” حسب كالم مهند‪.‬‬ ‫يقول عبد الرحمن إنه كان متفائ ًال بأن تتحسن الظروف‪ ،‬الهجرة ألبنائهم‪ ،‬ويقول “أبو مازن” وهو من ولكن بعد الرحلة الشاقة متكن مهند من تأمني‬ ‫ويحل مسألة تخ ّلفه بدفع البدل أو بأي طريقة أخرى‪ ،‬سكان ريف دمشق أنه عرض قس ًام من منزله عمل بأجر جيد يف مجال البناء يف قربص‪ ،‬يوضح‬ ‫يف سبيل البقاء يف مدينته‪“ .‬إال أن الحياة أصبحت من للبيع لتأمني تكلفة هجرة الثنني من أبنائه‪ .‬مهند‪“ :‬ميكنني خالل بضع سنوات أن أسدد‬ ‫يسء ألسوء‪ ،‬الغالء وقلة الخدمات من جهة‪ ،‬وعدم توفر يوضح أبو مازن‪“ :‬البيع يف هذه الفرتة سهل ديوين‪ ،‬وأن أجمع مبلغاً ميكنني من االستعداد‬ ‫فرص عمل جيدة‪ ،‬جعلت األفق مسدوداً يف وجهي‪ ،‬وال جداً‪ ،‬ولكن األسعار قليلة مقارنة بقيمة العقار”‪ ،‬للزواج أو افتتاح مرشوع”‪ ،‬وأردف‪“ :‬مل تكن هذه‬ ‫حل إال الهجرة”‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬إنني مضطر لتأمني املبلغ لسفر ابني الفرص لتتاح يل لو بقيت يف إدلب”‪.‬‬ ‫الذي أصبح بعمر الخدمة اإللزامية”‪.‬‬ ‫أما “أبو محمد” وهو سائق سيارة يف أعزاز بريف‬ ‫وجهة الهجرة‪:‬‬ ‫تقترص الهجرة يف معظم األحيان عىل عدد محدد حلب‪ ،‬فيقول إنه ينقل يومياً عرشات الشباب إىل‬ ‫ً‬ ‫تختلف الوجهات التي يقصدها الشباب املهاجرون؛ من أفراد العائلة‪ ،‬نظرا الرتفاع األكالف‪ ،‬وهم الحدود الرتكية‪ ،‬من الذين يريدون السفر لرتكيا‬ ‫حيث تعترب مرص إحدى الجهات الرئيسية‪ ،‬كام أصبح بالغالب من فئة الشباب‪ ،‬ويربر أبو مازن‪“ :‬نحن عن طريق املهربني‪ .‬ويوضح أبو محمد‪“ :‬سعيد‬ ‫خيار السفر إىل ليبيا متاحاً‪ ،‬عرب مطار دمشق الدويل‪ ،‬عشنا ما يكفينا‪ ،‬وما عاد لنا طمع يف الحياة”‪ ،‬الحظ من يستطيع الدخول‪ ،‬حيث تبوء عرشات‬ ‫بينام يتوجه العرشات للحصول عىل تأشرية سفر إىل ويضيف‪ “ :‬خيل الشباب ياخدوا فرصتهم محاوالت التهريب بالفشل‪ ،‬ولكن الشباب‬ ‫كردستان العراق‪ ،‬ومل تعد لبنان وجهة مفضلة‪ ،‬لرتدي ويعيشوا حياة أفضل”‪.‬‬ ‫يرصون عىل تكرار التجربة رغم مخاطرها”‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الوضع االقتصادي وتراجع فرص العمل فيها‪.‬‬ ‫وعىل ما يبدو‪ ،‬ال يفكر معظم الشباب املهاجرين‬ ‫وعىل عكس الحال يف ‪ 2013‬حني دفعت الظروف الهجرة من الشامل املحرر‪:‬‬ ‫بالعودة إىل سوريا يف الوقت القريب‪ ،‬بل يفرون‬ ‫الصعبة مبئات الشباب والعائالت إىل الهجرة من سوريا‪ ،‬رغم مخاطرها وعدم توفر خيارات كثرية للهجرة‪ ،‬عنها محاولني االبتعاد نحو مستقبل باعتقادهم‬ ‫السيام املطلوبني أمنياً أو للخدمة العسكرية‪ ،‬واللجوء‬ ‫يرص الشباب عىل الخوض فيها‪ ،‬هرباً من حالة أنه سيكون أفضل‪.‬‬ ‫ّ‬


‫‪16‬‬

‫الق ّبار‪..‬‬ ‫مالذ نازحني لكسب الرزق يف إدلب‬ ‫دارين الحسن ‪ -‬إدلب‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫تقارير‬

‫تتوجه أم أحمد (‪ 35‬عاماً) مع طلوع الفجر برفقة‬ ‫ثالثة من أوالدها إىل الجبال والكروم واألرايض الزراعية‬ ‫القريبة من مخيم بلدة كليل الذي تقطن به‪ ،‬بهدف‬ ‫جمع أزهار نبتة الق ّبار (الشفلح) وبيعها واالستفادة‬ ‫من مثنها يف تأمني املرصوف اليومي ألرستها‪ ،‬باعتبارها‬ ‫املعيلة ألوالدها الخمسة بعد وفاة زوجها جراء القصف‬ ‫عىل املنطقة منذ ثالث سنوات‪ ،‬حيث تجد يف هذه‬ ‫النبتة مصدر رزق يكفيهم العوز طوال فصل الصيف‪.‬‬ ‫تعمل أم أحمد يف جمع الق ّبار نظراً لغياب الفرص‬ ‫البديلة التي تساعدها عىل تلبية احتياجات أوالدها‬ ‫ومستلزمات املعيشة‪ ،‬وعن عملها تقول‪“ :‬هو نبات‬ ‫من خريات الطبيعة‪ ،‬وليس مملوكاً ألحد‪ ،‬لذلك نعترب‬ ‫العثور عىل نبتة مليئة بالثامر مبثابة كنز بالنسبة لنا‬ ‫وكفيل بإدخال الرسور إىل نفوسنا‪ ،‬فنبذل قصارى‬ ‫جهدنا يف جمع أكرث ما ميكن‪ ،‬وإنهاء العمل قبل أن‬ ‫يشتد علينا الحر”‪.‬‬ ‫وتضيف‪“ :‬متتد فرتة تزهري الق ّبار لحوايل ستة أشهر‪،‬‬ ‫بدءاً من شهر أيار‪ ،‬حيث نخرج يومياً منذ الصباح‬ ‫الباكر‪ ،‬ونسرتيح يف أوج الحر عند الظهرية‪ ،‬ثم نعود‬ ‫للعمل يف فرتة املساء حتى غياب الشمس‪ ،‬ونبيع ما‬ ‫نجمعه للمراكز املعتمدة املنترشة يف املنطقة”‪.‬‬ ‫وتؤكد أن العمل صعب ومتعب‪ ،‬حيث تتسبب قسوة‬ ‫أشواك النبتة بإصابة أصابع أيديهم بجروح وتقرحات‪،‬‬ ‫إىل جانب التعرض ملخاطر وجود األفاعي والحرشات‬ ‫بني شجرياتها‪ ،‬وامليش ملسافات بعيدة بحثاً عن النبتة‪،‬‬ ‫لكنها توضح‪“ :‬العمل والتعب لتحصيل لقمة العيش‬ ‫بكرامة أفضل من الحاجة واستجداء اآلخرين”‪.‬‬ ‫الشفلح نبات شويك له فروع عديدة مغطاة باألشواك‬ ‫القاسية‪ ،‬مثاره خرضاء اللون‪ ،‬وينبت بشكل طبيعي يف‬ ‫كافة مناطق شامل غرب سوريا‪ ،‬ويشكل مصدر دخل‬ ‫ألشخاص من ذوي الدخل املحدود يف إدلب بسبب‬ ‫ندرة فرص العمل‪ ،‬وخسارة الكثريين ألرزاقهم يف ظل‬ ‫الحرب والنزوح والتهجري‪.‬‬ ‫كام يتخذ الكثري من األطفال من جني الشفلح عم ًال‬ ‫لهم‪ ،‬مستغلني فرتة عطلة املدارس خالل فصل الصيف‪،‬‬ ‫ملساعدة أرسهم يف تأمني مرصوف املنزل‪ ،‬أو ادخار‬ ‫بعض النقود لرشاء الدفاتر واألقالم ومالبس جديدة‬ ‫للمدرسة‪.‬‬ ‫الطفل أسامة الحسون (‪ 10‬سنوات) نزح مع أرسته من‬

‫مدينة رساقب إىل مخيم قرية كفريحمول بريف‬ ‫إدلب الشاميل‪ ،‬يعمل يف جمع مثار القبار‪“ ،‬أخرج‬ ‫مع أطفال املخيم بشكل يومي للعمل يف جمع‬ ‫حبيبات الشفلح‪ ،‬وأمتكن يومياً من جمع ‪ 2‬كيلو‬ ‫غرام‪ ،‬ألساعد أرسيت يف تأمني مثن الخبز‪ ،‬ويف نهاية‬ ‫موسم القطاف أجمع مثن احتياجات املدرسة من‬ ‫عميل أيضاً” يقول أسامة‪.‬‬ ‫وال يخلو العمل بجمع أزرار القبار من املخاطر يف‬ ‫إدلب بسبب التعرض لرضبات الشمس‪ ،‬والقصف‬ ‫املستمر‪ ،‬حيث قتل عدد من األطفال وأصيب‬ ‫آخرون يف أوقات سابقة جنوب إدلب أثناء‬ ‫عملهم‪ ،‬بسبب انفجار مخ ّلفات قنابل عنقودية‪،‬‬ ‫أو من خالل استهدافهم بشكل مبارش من قبل‬ ‫حواجز نظام األسد‪.‬‬ ‫ومؤخراً أصيب ‪ 3‬أطفال بجروح متفاوتة الخطورة‬ ‫جراء انفجار لغم أريض من مخلفات الحرب‬ ‫بالقرب من بلدة النريب رشق مدينة إدلب‪،‬‬ ‫أثناء عملهم يف قطف أزهار الشفلح‪ ،‬بتاريخ ‪18‬‬ ‫حزيران‪ /‬يوليو من العام الحايل‪.‬‬ ‫أحمد العموري (‪ 44‬عاماً) من مدينة إدلب‪،‬‬ ‫صاحب مركز لرشاء القبار يتحدث عن عمله‪:‬‬ ‫“كانت نبتة القبار تشكل عبئاً عىل املزارعني‬ ‫الذين يقومون باقتالعها من أراضيهم والتخلص‬ ‫منها‪ ،‬ولكن بعد معرفة فوائدها وزيادة اإلقبال‬ ‫عليها‪ ،‬باتت تشكل مصدر رزق للكثريين يف ظل‬ ‫الفقر وشح فرص العمل”‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬أقوم برشاء أزهار نبتة الق ّبار من‬ ‫األشخاص الذين يعملون يف جمعها‪ ،‬ثم أقوم‬ ‫بغربلتها من األوراق وتنظيفها‪ ،‬وأحفظها يف‬

‫براميل خاصة بإضافة محلول املاء وامللح إليها‪،‬‬ ‫حتى يأيت التجار املع َت َمدون ويستلمونه مني ثم‬ ‫يقومون بتعليبه أو تصديره”‪.‬‬ ‫أما بالنسبة لسعر ال ُق ّبار‪ ،‬فيشري العموري أنه‬ ‫ك ّلام ُكب حجم الحبة انخفض السعر‪ ،‬ويصل سعر‬ ‫الكيلو غرام الواحد إىل حوايل دوالرين‪.‬‬ ‫و ُيستخدم القبار يف صنع بعض أنواع األدوية‪،‬‬ ‫وقسم آخر لصناعة املخلالت‪ ،‬وصناعة التوابل‬ ‫لبعض األطعمة من أجل إضفاء نكهة طيبة عليها‪،‬‬ ‫كام ُتعترب أزهار الق ّبار من أفضل األزهار التي‬ ‫يلجأ إليها النحل إلنتاج أفضل أنواع العسل‪.‬‬ ‫إبراهيم الدياب (‪ 45‬عاماً) طبيب أعشاب من‬ ‫بلدة كفرلوسني بريف إدلب الشاميل‪ ،‬يرشح فوائد‬ ‫هذه النبتة‪“ :‬يعترب نبات الق ّبار يف مقدمة النباتات‬ ‫الطبية التي يجب أن يداوم عليها من يحرص عىل‬ ‫االستشفاء من أمراض الروماتيزم وارتفاع نسبة‬ ‫السكر يف الدم واالضطرابات الكبدية”‪.‬‬ ‫ويضيف‪“ :‬الق ّبار مبثابة صيدلية طب ّية عالجية‬ ‫لعدد كبري من األمراض‪ ،‬منها فقر الدم وتنظيف‬ ‫الكىل وتص ّلب الرشايني واضطرابات الجهاز‬ ‫الهضمي‪ ،‬كام أنها ِّ‬ ‫تنشط وظيفة الطحال‪ ،‬وتساعد‬ ‫الرباعم الزهرية يف الوقاية من املاء البيضاء يف‬ ‫العني‪ ،‬كام أن مستقطر جذور القبار يستخدم يف‬ ‫صناعة وتكوين املستحرضات التجميلية‪ ،‬ويفيد‬ ‫يف معالجة التهابات الجلد والحساسية”‪.‬‬ ‫حرارة الشمس الحارقة ومخاطر القصف مل متنع‬ ‫الكثري من أهايل إدلب من التوجه إىل الرباري‬ ‫والكروم‪ ،‬لجمع مثار نبتة القبار‪ ،‬بهدف تحصيل‬ ‫لقمة العيش التي صعبتها الحرب‪.‬‬


‫ارتفاع الرسوم السنوية يف جامعة‬ ‫حلب احلرة ال تناسب الظروف‬ ‫املعيشية‪ ..‬وترهق الطلبة‬ ‫حسين الخطيب‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬

‫الشهادة الثانوية حديثاً‪ ،‬أما الشهادات القدمية فإن‬ ‫فرصتها كانت خالل عام صدورها‪ ،‬وميكن متابعة‬ ‫الدراسة عرب التعليم املوازي‪.‬‬ ‫من جهتها فاطمة محمد‪ ،‬طالبة أنهت الثانوية‬ ‫العامة خالل العام الدرايس السابق‪ ،‬تريد االلتحاق‬ ‫بكليات الهندسة قالت‪ :‬إن “الرسوم الجامعية‬ ‫جيدة ومناسبة‪ ،‬ألن املعاهد الخاصة التي تدرس‬ ‫منهاج البكلوريا لعام واحد تأخذ أكرث من ‪400‬‬ ‫دوالر أمرييك‪ ،‬وهذا املثال يطبق عىل العديد من‬ ‫املعاهد وحتى الروضات وغريها”‪ .‬وأضافت‪“ :‬قد‬ ‫ال تتناسب مع الكثري‪ ،‬لكن من املؤكد أن الدراسة‬ ‫الجامعية مكلفة يف مختلف دول العامل‪ ،‬ويحتاج‬ ‫الطالب فيها لدفع الرسوم وتكاليف دراسية أخرى‪،‬‬ ‫عىل الرغم من اختالف الظروف”‪.‬‬ ‫ومنحت الجامعة عدداً من اإلعفاءات واالستثناءات‪،‬‬ ‫منها تخفيض الرسوم السنوية بنسبة ‪ 50%‬ألبناء‬ ‫الشهداء وأبناء املعتقلني‪ ،‬وذوي اإلعاقة‪ ،‬بينام‬ ‫خفضت الرسوم بنسبة ‪ 25%‬إذا كان الزوج أو األب‬ ‫من ذوي اإلعاقة‪ ،‬وكذلك أبناء وزوجات املوظفني‬ ‫واإلداريني يف الجامعة‪ ،‬وأيضاً إعفاء اإلخوة األشقاء‪،‬‬ ‫وبلغ عدد املستفيدين من اإلعفاءات ‪ 1270‬طالب‬ ‫وطالبة‪.‬‬ ‫وعلقت برشى محمد عىل ارتفاع األقساط السنوية‬ ‫بقولها‪“ :‬إن تحقيق التوازن يف أعداد املقبولني بني‬ ‫الفروع املختلفة يتم ضبطه باملفاضلة بني درجات‬ ‫الطالب‪ ،‬ويتم زيادة درجة الحد األدىن للقبول يف‬ ‫الفرع الذي يلقى إقباالً شديداً‪ ،‬وتخفيض درجة‬ ‫الحد األدىن للقبول يف الفروع التي ال يتم اإلقبال‬ ‫عليها فالدرجات هي املعيار وليست الرسوم”‪.‬‬

‫وقال أحد الطالب رافضاً الكشف عن اسمه‪:‬‬ ‫“يجب عدم التمييز وإمنا تكافؤ الفرص واملساواة‬ ‫يف املعاملة وحصول الجميع عىل التعليم‪ ،‬ألنه‬ ‫حق للجميع‪ ،‬ال سيام أن الرسوم املنخفضة أتاحت‬ ‫ملختلف طبقات املجتمع الحصول عىل التعليم‬ ‫خالل الفرتات السابقة‪ ،‬أما اآلن هناك الكثري‬ ‫سيحرمون من متابعة تحصيلهم العلمي”‪.‬‬ ‫رئيس جامعة حلب الحرة‪ ،‬الدكتور عبد العزيز‬ ‫الدغيم قال ملجلة طلعنا عىل الحرية‪“ :‬ترتاوح‬ ‫زيادة الرسوم بني ‪ 15‬و‪ 20%‬فقط”‪ ،‬موضحاً أسباب‬ ‫ارتفاعها‪ ،‬أن‪“ :‬هناك مصاريف تشغيلية‪ ،‬وتوسعة‬ ‫يف القاعات واألبنية التي تحتاجها الجامعة‪ ،‬وتم‬ ‫رفع الرسوم لتغطيتها” ويتابع د‪ .‬الدغيم‪“ :‬لدينا‬ ‫اآلن بناء جديد يتم العمل عىل تنفيذه‪ ،‬يتسع ألكرث‬ ‫من ألف طالب‪ ،‬كيف ميكن تغطية مصاريف البناء‬ ‫مع غياب الدعم؟”؛ مشرياً إىل أن زيادة الرسوم‬ ‫“ليست لزيادة رواتب املدرسني واملوظفني‪ ،‬كام‬ ‫يعتقد العديد من الطالب”‪.‬‬ ‫وأكد‪“ :‬أن الجامعة ال تتلقى أي دعم رسمي كامل‬ ‫من جهة معينة‪ ،‬إال أنه يقترص عىل دعم تشغييل ال‬ ‫يذكر من بعض املنظامت‪ ،‬لذلك نعتمد عىل موارد‬ ‫الجامعة بشكل رئييس وهي رسوم الطالب”‪.‬‬ ‫وتابع د‪ .‬الدغيم‪“ :‬إن رئاسة الجامعة عىل اطالع‬ ‫تام بالظروف املعيشية واملادية وغريها التي مير‬ ‫بها األهايل‪ .‬والجميع من كوادر تدريسية وإدارية‬ ‫تركوا منازلهم وهُ ِّجروا ويعيشون الحال ذاته‪ ،‬لكن‬ ‫امللحة‬ ‫ال ميكن إغفال الجانب التعليمي والحاجة ّ‬ ‫لتغطية مصاريف ما تقوم بها الجامعة‪ ،‬الستيعاب‬ ‫كل الطلبة”‪.‬‬

‫تقارير‬

‫أثار ارتفاع الرسوم السنوية الجامعية يف جامعة حلب يف املناطق‬ ‫املحررة جدالً واسعاً‪ ،‬وموج َة غضب شعبي بني أوساط الطالب‬ ‫يف ريف حلب الشاميل وإدلب‪ ،‬يف ظل ظروف معيشية ومادية‬ ‫صعبة تعاين منها فئة عظمى من الطلبة‪ ،‬إىل جانب انعدام‬ ‫االستقرار ألن العديد من الطلبة يقيمون يف منازل مستأجرة مع‬ ‫أرسهم‪ ،‬وبعضهم يعيش يف مخيامت عىل الحدود السورية‪.‬‬ ‫أصدرت جامعة حلب يف املناطق املحررة الجمعة ‪ 27‬آب‪/‬‬ ‫أغسطس املايض‪ ،‬مفاضلة العام الدرايس القادم‪ ،‬حيث أعلن‬ ‫مجلس التعليم العايل يف الحكومة السورية املؤقتة عن بدء‬ ‫التسجيل يف ‪ 29‬آب‪ /‬أغسطس‪ ،‬واالنتساب إلحدى الكليات‬ ‫واملعاهد يف جامعة حلب يف املناطق املحررة‪.‬‬ ‫وحددت الجامعة‪ ،‬نوع الشهادات التعليمة التي ميكن قبولها‪،‬‬ ‫وفقاً لعام صدورها‪ ،‬حيث يستطيع الحاصلون عىل شهادة الثانوية‬ ‫العامة خالل العام الدرايس األخري الدخول‪ ،‬وفقاً للرسم السنوي‬ ‫العام‪ ،‬بينام الشهادات الصادرة خالل األعوام املاضية ينتسبون‬ ‫للجامعة وفقاً للرسم املوازي‪.‬‬ ‫ذكرت الجامعة عدة رشوط لقبول الطلبة يف إحدى الكليات‬ ‫واملعاهد‪ ،‬ولوحظ ارتفاع يف الرسوم السنوية التي أقرها مجلس‬ ‫التعليم العايل‪ ،‬بفارق عن الرسوم السنوية لألعوام املاضية‪ ،‬األمر‬ ‫الذي تسبب بحالة سخط شعبي‪.‬‬ ‫وتبلغ الرسوم السنوية كليات الهندسات‪ 250 ،‬دوالر‪ ،‬أما‬ ‫املوازي يبلغ ‪ 400‬دوالر‪ ،‬بينام كلية اإلعالم‪ ،‬يبلغ رسمها السنوي‬ ‫العام‪ 250 ،‬دوالر‪ ،‬و‪ 400‬للموازي‪ ،‬أما كليات الرتبية والحقوق‬ ‫واالقتصاد‪ ،‬يبلغ الرسم السنوي العام ‪ 200‬دوالر‪ ،‬و‪ 300‬للموازي‪،‬‬ ‫وكلية الرتبية قسم معلم صف‪ ،‬والرشيعة‪ 175 ،‬دوالر أمرييك‬ ‫للرسم العام‪ ،‬و‪ 275‬للموازي‪.‬‬ ‫أما كليات العلوم والعلوم السياسية واآلداب‪ 150 ،‬دوالر أمرييك‬ ‫للرسم العام‪ ،‬و‪ 250‬دوالر للموازي‪ .‬بينام وصل رسم املعاهد‬ ‫التقنية إىل ‪ 150‬دوالر للرسم العام و‪ 200‬دوالر للموازي‪.‬‬ ‫عيل املحمود‪ ،‬طالب حاصل عىل الشهادة الثانوية العامة‬ ‫يف التعليم العام قبل عامني قال ملجلة طلعنا عىل الحرية إنه‬ ‫لن يستطيع االلتحاق بجامعة حلب‪ ،‬وينتظر إصدار مفاضلة‬ ‫الجامعات األخرى‪ ،‬فهو لديه رغبة يف دخول كلية الرتبية معلم‬ ‫صف‪ ،‬ويحتاج الرسم السنوي إىل ‪ 275‬دوالر أمرييك‪ .‬وأضاف‪:‬‬ ‫“ليس لدي قدرة مادية لتغطية هذه الرسوم‪ ،‬ألنني أعمل من‬ ‫أجل تغطية نفقات دراستي‪ ،‬ووالدي ال يستطيع أن يؤمن مرصويف‬ ‫الجامعي إىل جانب مرصوف العائلة‪ ،‬ويبدو أنني سأحتاج إىل دفع‬ ‫‪ 100‬دوالر فوق الرسم العام ألن شهاديت صادرة قبل عامني!”‪.‬‬ ‫وبررت جامعة حلب قرار دخول أصحاب الشهادات الصادرة‬ ‫خالل األعوام الدراسية املاضية ما قبل العام األخري‪ ،‬بأن الجامعة‬ ‫مل تعد تستوعب كامل املتقدمني وهذه املفاضلة للحاصلني عىل‬

‫‪17‬‬


‫‪18‬‬

‫االسم املُستعار ُه ّ‬ ‫وي ٌة للعبور إىل عامل الكتابة‬ ‫ياسمين نهار‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫مقاالت‬

‫ّإن التّخفي وراء اسم ُمستعار ظاهرة عرفها األدب‬ ‫منذ القديم؛ حيث يختار األديب اس ًام جديداً ُيخفي‬ ‫شخص ّيته الحقيق ّية‪ ،‬ومينحه ه ّوية جديدة‪.‬‬ ‫وهنا يحقّ لنا أن نتساءل‪ :‬ملاذا يتّخذ األديب أو املفكرّ‬ ‫اس ًام ُمستعاراً؟‬ ‫منذ ال ِقدم‪ ..‬منذ قتل سقراط؛ أل ّنه طالب باستقالل‬ ‫السلطة الكتّاب الخارجني ّ‬ ‫عم ألفه‬ ‫ال ِفكر حاربت ُّ‬ ‫النّاس‪ ،‬واعتادوا عليه‪.‬‬ ‫وألننا نعيش يف مجتمع تطغى عليه نزعة التّقليد‪،‬‬ ‫و ُتك َبت فيه الحر ّيات ا ّتخذ بعض األدباء واملف ّكرين‬ ‫اس ًام ُمستعاراً‪ ،‬هو مبثابة قناع؛ مينحهم حر ّية التّعبري‬ ‫عن أنفسهم‪ ،‬أو ّربا يكون وسيلة لتق ّمص شخص ّية‬ ‫تعب عن املحظور من اآلراء واألفكار بعيداً عن‬ ‫جديدة ّ‬ ‫أعني ال ّرقابة‪.‬‬ ‫السلطة عىل اختالف أشكالها تحارب الكتابة‬ ‫ذلك ّأن ُّ‬ ‫اإلبداع ّية؛ ّ‬ ‫ألن الكتابة تهدف إىل بناء اإلنسان الحضاريّ‬ ‫السلطة تهدف إىل قهر اإلنسان وصهره يف‬ ‫الح ّر‪ ،‬بينام ُّ‬ ‫بوتقة الجامعة الخانعة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لذا كان هاجس األدباء واملفكرين البحث عن فضاء‬ ‫ويعبون من خالله عن آرائهم‬ ‫يتن ّفسون فيه بحر ّية‪ّ ،‬‬ ‫بعيداً عن القمع وا ّلرقابة‪.‬‬ ‫وتجدر اإلشارة هنا إىل تاريخنا الحافل بأسامء سالطني‬ ‫السياط‪.‬‬ ‫سجنوا األدباء واملف ّكرين‪ ،‬وأذاقوهم مرارة ّ‬ ‫وقد ُقتل الكثريون ظل ًام وعدواناً بإيعاز من سلطان ّ‬ ‫تول‬ ‫مه ّمة محاسبة العباد عىل األرض‪ ،‬و َق ْمع األقالم الح ّرة‬ ‫ليلتحق أصحابها بقامئة من شهداء الكلمة‪ ،‬قامئ ٍة طويل ٍة‬ ‫ُيعدُّ سقراط ال ّرمز اال ّول لحر ّية الفكر فيها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقد يكون من الدّال بحقّ عىل ظلم وجور الحكام‬ ‫حادثة قتل علم من أعالم الفكر واألدب ّ‬ ‫والتجمة‬ ‫يف أدبنا وهو عبد الله بن املق ّفع‪ ،‬إذ عُ وقب بتقطيع‬ ‫جسده قطع ًة قطع ًة ُوألقي به يف النّار أل ّنه أرسل كتابه‬ ‫الصحابة “ إىل الخليفة املنصور نصحه فيه‬ ‫“رسالة ّ‬ ‫وحسن سياسة ال ّرع ّية‪.‬‬ ‫بحسن اختيار معاونيه ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وميكننا أن نتوقف أيضا عند تجربة شاعر يع ّد من أبرز‬ ‫شعراء قصيدة النّرث‪ ،‬أعلن مت ّرده عىل الواقع من خالل‬ ‫السائد هو ّ‬ ‫قصائد خرجت عىل التّقليد ّ‬ ‫الشاعر‬ ‫الشعريّ ّ‬ ‫“مح ّمد املاغوط”‪،‬‬ ‫السجن يف عمر مبكر‪ ،‬ألنهّ‬ ‫وشاعرنا خرب الفقر وتجربة ّ‬

‫عاش يف وطن يجلد املبدعني بسياطه وقسوة العيش‬ ‫فيه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل هذا دفعه إىل استبطان أعامقه‪ ،‬واالعتصام مبخ ّيلته‬ ‫التي تد ّفقت صوراً جديد ًة غريب ًة استطاعت أن ترتجم‬ ‫السخرية‬ ‫معاناته ومعاناة من حوله بنربة ال تخلو من ّ‬ ‫اليومي وتشحنه بطاقات شعر ّية عالية‪.‬‬ ‫وبلغة تستحرض‬ ‫ّ‬ ‫من يدرس حياة املاغوط ي َر أ ّنه من الذين سبحوا ض ّد‬ ‫التّيار يف الكتابة ويف الحياة‪ ،‬وقد و ّقع بعض الكتابات‬ ‫السجن “فبقدر ما‬ ‫يف بداياته باسم “سومر” خوفاً من ّ‬ ‫تكون الكلمة يف الحلم طريقاً إىل الحر ّية‪ ،‬نجدها يف‬ ‫السجن” هذا ما قالته زوجته ّ‬ ‫الشاعرة‬ ‫الواقع طريقاً إىل ّ‬ ‫سن ّية صالح عن شاعر رأى ّ‬ ‫الشعر أدا ًة من أدوات‬ ‫التّغيري‪.‬‬ ‫وال يلبث القارئ طوي ًال حتّى يكتشف ّأن الحر ّية هي‬ ‫هاجس املاغوط األسمى يف بالد مل يلقَ فيها إال األمل‬ ‫والغدر فيقول‪:‬‬ ‫“لكنّني ال أستطيع أن أتنهّد بحر ّية‬ ‫أن ُأرفرف بك فوق ّ‬ ‫الظالم والحرير‬ ‫إ ّنهم يكرهونني يا حبيبة‬ ‫ويترسبون إىل قلبي كاألظافر”‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السابقة‪ُ ،‬تورث بيئة‬ ‫القمع‬ ‫أشكال‬ ‫أن‬ ‫والحقيقة‬ ‫ّ‬ ‫اجتامع ّية متخ ّلفة؛ ترفض تعليم املرأة وخروجها من‬ ‫الس ّيدات دفعتهن‬ ‫املنزل ّإل ّأن إرادة التّحدي لدى بعض ّ‬ ‫االجتامعي الذي يحرم املرأة من‬ ‫إىل مواجهة هذا القمع‬ ‫ّ‬ ‫أبسط حقوقها وهو حقّ التّعليم وخري دليل عىل ذلك‬ ‫الدّكتورة عائشة عبد ال ّرحمن التي ا ّتخذت لنفسها لقب‬ ‫الشاطئ” وبنت ّ‬ ‫“بنت ّ‬ ‫الشاطئ مل تستطع الكتابة أو‬ ‫الصيح؛ أل ّنها ولدت يف بيئة تحرم الفتاة‬ ‫النّرش باسمها ّ‬ ‫أن تتع ّلم ومتنعها من الخروج من املنزل‪.‬‬ ‫أخذت الدّكتورة بنت ّ‬ ‫الشاطئ تنرش مؤ ّلفاتها بهذا‬ ‫االسم حتّى صار هذا االسم‪/‬ا لقناع ّ‬ ‫يدل عىل س ّيدة‬ ‫من س ّيدات النّهضة العلم ّية والفكر ّية واألدب ّية يف عاملنا‬ ‫واإلسالمي‪.‬‬ ‫العر ّيب‬ ‫ّ‬ ‫وال ب ّد من أن أذكر هنا تجربة شاعرة سعودية مل تتج ّرأ‬ ‫الصيح‪ ،‬رمزت لنفسها بـ”غجر ّية‬ ‫عىل الجهر باسمها ّ‬ ‫ال ّريف” أو “غيداء املنفى” ليخفي هذا االسم‪ /‬القناع‬ ‫شاعرة جميلة نرشت قصائدها عىل مدار عامني يف‬ ‫ثم تو ّقفت عن النّرش‪ .‬وقد‬ ‫جريدة الجزيرة السعود ّية‪ّ ،‬‬

‫تحدّث عنها النّاقد عبد الله الغ ّذامي يف كتابه “ترشيح‬ ‫الن ّ​ّص” تقول يف قصيدة عنوانها‪“ :‬تداعيات عطىش إىل‬ ‫عنوان ما”‪“ :‬يف دمي‬ ‫امرأة خائفة‬ ‫ترتعد كاللقيطة يف مدن األولياء‬ ‫وجهها يحمل الغيم‪..‬‬ ‫وجهي براري ظأم‬ ‫نخلتان عىل صدرها‪ ..‬والعيون مطر‬ ‫أربط األمتعة‬ ‫فأين املوانئ‬ ‫أين ّ‬ ‫املحطات؟‬ ‫ّ‬ ‫والطرق‪ ..‬اآلن ضائعة‪.‬‬

‫واملدينة‪ ..‬قديسة تنتحر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل أغنية ع ّذبتني وع ّذبتها‬ ‫خلعت فصويل عليها‪ ..‬ومارست‪.‬‬ ‫فيها العقوق األثيم‪.‬‬ ‫أضاءت عناقيدها لحظة‪ ..‬ورمتني‬ ‫أنا امرأة عشقها عارشته العصافري‬ ‫السيل‪.‬‬ ‫‪ ..‬واجتاحه ّ‬ ‫‪ ..‬نازلته سيوف القبائل!!‬ ‫قالت لها ّ‬ ‫الشمس‪ ..‬يوماً‪.‬‬ ‫استمطرت مدن الثأر‬ ‫ولتبحثي عن عيون رحيمة”‬ ‫تعب ّ‬ ‫الشاعرة يف هذه القصيدة عن خوفها وما تعانيه‬ ‫ّ‬ ‫من حزن وضياع “يف مدن األولياء”‪ ،‬وحني تبحث عن‬ ‫ملجأ آخر وهو ّ‬ ‫ثم ما‬ ‫الشعر ُيب َعث النّور فيه لحظ ًة ّ‬ ‫يلبث أن يرميها أل ّنها خرجت ّ‬ ‫عم تعارف عليه اآلخرون‪،‬‬ ‫و”سيوف القبائل” تحارب عشقها أل ّنها أرادته أن يح ّلق‬ ‫دون قيود ويكون رفيقاً للطري‪.‬‬ ‫ّإن هذا الن ّ​ّص وأمثاله يع ّلل احتجاب املبدعات وراء‬ ‫اسم ُمستعار‪ ،‬يستعنَّ به للكشف عن الواقع املقموع‬ ‫املكبوت الذي يعشنَ فيه‪.‬‬ ‫أهم سببني‬ ‫ويف الختام أقول‪ :‬توقفت يف هذا املقال عند ّ‬ ‫ميكن أن مينعا األدباء واملف ّكرين من الكتابة بأسامئهم‬ ‫يايس‬ ‫ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫الصيحة يف بالدنا العرب ّية وهام‪ :‬االستبداد ّ‬ ‫االجتامعي‪ ،‬ومع ذلك يبقى الحلم مستم ّراً‬ ‫واالضطهاد‬ ‫ّ‬ ‫بأوطان تحمي مبدعيها وتكفل لهم ح ّرية التّعبري‬ ‫والعيش الكريم‪.‬‬


‫حني تقطع النساء الصمت‬

‫‪19‬‬

‫بشرى البشوات‬

‫العدد‬

‫‪98‬‬ ‫‪2021 / 9 / 17‬‬ ‫ثقافة‬

‫يقال بأن ليىل األخيلية كانت قادمة من سفر‬ ‫برفقة زوجها‪ ،‬أرادت أن تتوقف عند قرب توبة‬ ‫أرصت‬ ‫لتسلم عليه‪ ،‬حاول الزوج منعها لكنها ّ‬ ‫قائلة‪“ :‬والله ال أبرح حتى أسلم عىل توبة‪ ،‬فرتكها‬ ‫زوجها تفعل”‪.‬‬ ‫ملا دنت من القرب وقفت أمامه قائلة‪“ :‬السالم‬ ‫عليك يا توبة”‪ ،‬ثم قالت ملن معها‪“ :‬ما عرفت له‬ ‫كذبة قط”!‬ ‫فلام سألوها عن ذلك‪ ،‬قالت‪“ :‬أليس هو القائل‪:‬‬ ‫ولو أن ليىل األخيلية س ّلمت‬ ‫ع ّ‬ ‫يل ودوين تربة وصفائح‬ ‫لسلمت تسليم البشاشة أو صاح‬ ‫إليها صدى من جانب القرب صائح‬ ‫فام له مل يسلم ع ّ‬ ‫يل كام قال؟”!‬ ‫وكانت قرب القرب بومة فلام رأت الهودج‪ ،‬فزعت‬ ‫وطارت يف وجه البعري الذي يحمل ليىل مام أدى‬ ‫إىل سقوطها ودق عنقها‪ .‬فكانت نهايتها ودفنت‬ ‫بجانب قرب توبة‪.‬‬ ‫ماتت ليىل الشاعرة والحبيبة‪ ،‬التي كانت تسافر‬ ‫الحب‪.‬‬ ‫يف الصحراء بعد أن عاشت طوي ًال بذاكرة ّ‬ ‫الذاكرة الثابتة التي مل تتبدل بأخرى بديلة بعد‬ ‫زواجني‪ .‬حني اقتضت شؤون الصحراء أال تتزوج‬ ‫َ‬ ‫ممن عشقت!‬ ‫عاشت برعب من الوجود بعيداً عن توبة‪ ،‬ضمن‬ ‫رشط الجامعة التي رفضت هذا الحب ووقفت يف‬ ‫وجهه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قرأت عن قصة ليىل األخيلية وقصة توبة قبل‬ ‫سنوات‪ ،‬وقرأت أيضاً الكثري من أشعار ليىل التي‬ ‫يقال بأن الفرزدق قد ّ‬ ‫فضل شعرها عىل نفسه‪.‬‬ ‫عاشت ليىل طوي ًال أغلب عمرها يف صدر اإلسالم‪،‬‬ ‫غري أنها نهلت من شعر الجاهلية‪ .‬باعتقادي بأن‬ ‫ذلك يعود إىل أن الجاهلية كانت تطلق رساح‬ ‫وتكس من تلك الحدود حولها‪.‬‬ ‫مشاعرها ورغباتها ّ‬

‫سمعت كذلك بقصة ريجني أولسن قبل سنوات‬ ‫وقد جاء اسمها مرتبطاً بالفيلسوف الدمناريك‬ ‫سورين كريكجارد أو ‪ Soren Kierkegaard‬وهو‬ ‫باإلضافة إىل ذلك شاعر وناقد ومؤلف ديني‪ ،‬وقد‬ ‫كتب نصوصاً نقدية حول الد ّين املنظم واألخالق‬ ‫وعلم النفس واملسيح ّية‪.‬‬ ‫حني التقى كريكجارد بروجني أولسن كانت بعد يف‬ ‫الخامسة عرشة من العمر وكان ذلك سنة ‪.1837‬‬ ‫وتقدم لخطبتها سنة ‪ 1840‬لكنه بعد أقل من‬ ‫عام أعاد خامتها‪ ،‬قائ ًال بأنه ال يستطيع إسعاد‬ ‫الفتاة دون إيضاح السبب!‬ ‫ومع أن اإلثنني كانا غارقني يف الحب‪ ،‬إال أنه مل‬ ‫يستطع إمتام الزواج‪ ،‬وقد أشار كريكجارد يف‬ ‫يومياته إىل أن سوداويته تجعله غري مناسب‬ ‫للزواج‪ ،‬لذلك آثر أن يبتعد عنها‪.‬‬ ‫طلب إليها أن تحرره من ذلك القيد ففعلت‪.‬‬ ‫ثم تزوجت معلمها يف صف الالهوت فردريك‬ ‫شليغل سنة ‪ ،1847‬وعندما حصل زوجها عىل‬ ‫وظيفة حاكم محيل يف إحدى املستعمرات‬ ‫الدمناركية وقرر السفر إىل هناك‪ ،‬قررت روجني‬ ‫بنفس اليوم أن تذهب يف جولة صغرية وتلقي‬ ‫التحية رمبا ألخر مرة عىل كريكجارد‪.‬‬ ‫كان قد مىض أربعة عرش عاماً عىل إنهاء الخطوبة‪،‬‬ ‫عىل فض الطرقات التي كانت تصل بينهام‪.‬‬ ‫أكرث من خمسة عرش عاماً عىل تلك املرة التي‬ ‫رآها فيها يف إحدى الحفالت املوسيقية ووقعت‬ ‫يف قلبه‪.‬‬ ‫قام بإخراجها من حياتها الوادعة‪ ،‬حملها معه إىل‬ ‫عوامله األوسع‪ ،‬فأعجبت بشاعريته الفذة وعبق‬ ‫حديثه‪ ،‬ثم فجأة قرر بأنه لن مييض أكرث‪.‬‬ ‫تصف روجني لقائها به بعد تلك السنوات‪“ ،‬أريد‬ ‫أن ألخص كل ما فكرت به خالل أربعة عرش‬ ‫عاماً‪ ،‬أريد أن أقول‪“ :‬بأنني لست غاضبة‪ ،‬وال‬

‫زلت أودّه‪ ،‬وعليه أن يعرف أيضاً بأنني قلقة عليه‪،‬‬ ‫لكنني أريد أوالً وأخرياً أن أقطع الصمت!‬ ‫سأقرتب منه جداً وأقول له بصمت واطىء‪ :‬الله‬ ‫يباركك‬ ‫آمل أن كل يشء سيميض بخري معك”‪.‬‬ ‫نظر إيل بفزع‪ ،‬تنحى بأدب ثم توقف مرتدداً‪،‬‬ ‫تراجع خطوة للوراء ورفع قبعته قلي ًال‪ ،‬لكنه مل يقل‬ ‫شيئاً‪ ،‬ثم استدار بعجلة‪ ،‬لدي شعور بأنه سيهرب”‪.‬‬ ‫يف نفس العام ميوت كريكجارد يف إحدى‬ ‫املستشفيات يف كوبنهاجن‪ ،‬ويرتك بعد موته وصية‬ ‫يرتك فيها كل إرثه املادي والفكري لروجني التي‬ ‫يقال بأنها ظلت حتى أواخر حياتها‪ ،‬تبدأ كالمها‬ ‫بالحديث عن زوجها الراحل شليغل والثناء عليه‪،‬‬ ‫ولكنها كانت تنهيها دوماً بالحديث عن سورين‬ ‫كريكجارد‪ ،‬حبيب فتوتها وشبابها‪.‬‬ ‫قامت كل من ليىل وروجني بتخطي الحاجز‪ ،‬حاجز‬ ‫بالحب‪َ ،‬خ ّلدت إحداهن‬ ‫الكآبة‪ .‬حاجز املوت‬ ‫ّ‬ ‫حبيباً‪ُ ،‬‬ ‫وخ ّلدت األخرى من ِقبل حبيب‪.‬‬ ‫تزوجت إحداهن مرتني‪ ،‬وتزوجت الثانية مرة‪.‬‬ ‫عاشت املرأتني ح ّباً مل يكتمل‪ ،‬تعذبتا بصمت رمبا‬ ‫وأكملتا الحياة‪.‬‬ ‫كتبت ليىل الشعر يف الحبيب‪ ،‬وقفت بني يدي‬ ‫تخف أبدًا هذا التعلق والوله‪.‬‬ ‫امللوك واألمراء ومل ِ‬ ‫عاشت روجني ملتصقة بذكرى كريكجارد؛ فام أن‬ ‫الحب والدين‬ ‫ُتذكر نصوصه ونظرياته وفلسفته يف ّ‬ ‫حتى يظهر اسم روجني مرتدداً معه بذات السطر‪،‬‬ ‫ملتصقاً بها‪.‬‬ ‫مل يكن كريكجارد عىل خطأ عندما كتب أنه‬ ‫حبيبها األبدي‪.‬‬ ‫فقد كتب الحقاً يف أوراقه الخاصة قبل وفاته‪:‬‬ ‫“كانت هي الحبيبة‪ ،‬وميكن اعتبار عميل الفكري‬ ‫أيضاً كأثر تذكاري لتمجيدها وتقديرها‪ ،‬سآخذها‬ ‫معي إىل التاريخ”‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.