طلعنا عالحرية / العدد 67

Page 1

‫نصف شهرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬مستقلة‬

‫العدد ‪67‬‬ ‫‪2016 / 3 / 25‬‬

‫مجلة مستقلة‪ ،‬تعنى بشؤون الثورة السورية‪ ،‬نصف شهرية‪ ،‬تطبع وتوزع‬ ‫داخل سوريا ويف عدد من مخيامت اللجوء والتجمعات السورية يف الخارج‬


‫‪2‬‬

‫ســوريا التي بين أسنان الكلب‬ ‫افتتاحية بقلم ماهر مسعود‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫تشبه سوريا اليوم‪ ،‬وإىل حد بعيد‪ ،‬تلك السياسة‬ ‫الدولية املامرسة تجاهها‪ ،‬فكلتاهام محكومة‬ ‫بعدم التعيني‪ ،‬وعدم الثبات‪ ،‬وكلتاهام تقعان‬ ‫ُّ‬ ‫التشكل وإمكانية‬ ‫تحت الرهانات الصعبة وإعادة‬ ‫الفشل‪ ،‬وكلتاهام محكومة بعدد كبري من العوامل‬ ‫والعنارص والدول غري املتجانسة التي ستساهم يف‬ ‫تحديدهام‪ ،‬وبالتايل رسم املستقبل‪.‬‬ ‫ال شك أن تزامن الهدنة مع املفاوضات والتوقف‬ ‫الجزيئ للقصف الهمجي الرويس‪ ،‬كان خرياً‬ ‫ووضع النزاع عىل سكة املسار‬ ‫للشعب السوري‪،‬‬ ‫َ‬ ‫السيايس‪ ،‬وساعد السوريني عىل استعادة روح‬ ‫ثورتهم السلمية‪ ،‬إال أن العقبة األهم التي مازالت‬ ‫تنتصب أمام أي تقدم جدّي يف املسار السيايس‬ ‫هي بشار األسد نفسه‪ ،‬عىل اعتباره مازال ممسكاً‬ ‫بزمام السلطة “النظامية” يف سوريا‪ ،‬وعىل‬ ‫اعتبار الرصاع الذي بدأه مع الشعب هو رصاع‬ ‫وجودي من الدرجة األوىل‪ ،‬ال مكان فيه للتنازالت‬ ‫الحقيقية‪ ،‬وما املفاوضات بالنسبة له سوى‬ ‫مراوغة ولعب أوراق داخلية وخارجية لكسب‬ ‫املعركة‪.‬‬ ‫املشكلة أن وجود األسد ُيفقد الوفد الحكومي‬ ‫املفاوض أي مصداقية وأي تأثري‪ ،‬ألن ما يعرفه‬ ‫كل السوريني ببساطة‪ ،‬أن هؤالء ليسوا إال‬ ‫موظفني غري قادرين عىل اتخاذ أي قرار مصريي‬ ‫تجاه بلدهم‪ ،‬وحتى لو امتلكوا النية أو اإلرادة‬ ‫للتفاوض الجدي‪ ،‬فإنهم ال ميلكون الصالحيات‬ ‫لذلك‪ ،‬باإلضافة إىل أنهم هم أنفسهم مراقبون‬ ‫من ضباط أمن مشاركني يف الوفد املفاوض مثلام‬ ‫يعرف الجميع‪ .‬واملعروف أيضاً‪ ،‬أنه مثلام ال‬

‫فوارق يف سوريا “النظامية” بني النظام والدولة‪،‬‬ ‫ال فوارق أيضاً بني النظام ورئيسه‪ ،‬وأنه كل من‬ ‫هو دون الرئيس ميكن التخيل عنه أو استبداله‬ ‫أو قتله أو تغيريه دون أن ميس النظام العام أي‬ ‫خلل جوهري‪ ،‬مع أن العكس ليس صحيحاً عىل‬ ‫اإلطالق‪.‬‬ ‫واملشكلة أيضاً‪ ،‬أن نهاية األسد ليست نهاية‬ ‫املشكالت‪ ،‬بل بدايتها عىل نحو جديد‪ ،‬ووجود‬ ‫األسد ال يفعل سوى تعطيل وتأجيل وتأخري تلك‬ ‫البدايات الصعبة التي ال مف َّر من مواجهتها يف‬ ‫إعادة تشكيل الكيان السوري‪ .‬ويف الحقيقة‬ ‫لو كان من املمكن االعتامد عىل ما نستبعده‪،‬‬ ‫وهو قبول األسد بعملية “الخروج بكرامة”‪،‬‬ ‫لكان من املمكن أن يس ّهل ذلك عملية التفاوض‬ ‫املعقدة بني السوريني‪ ،‬حيث إن مشكالت من‬ ‫نوع التحاصص السيايس‪ ،‬وإعادة هيكلة الجيش‬ ‫واألمن والقضاء‪ ،‬ونوع الحكم‪ ،‬وصيغة الدستور‪،‬‬ ‫ولغة البلد واسمها وحدودها وعلمها ووحدتها‪،‬‬ ‫ومسائل مشاركة املرأة‪ ،‬والعدالة االنتقالية‪،‬‬ ‫واملحاكامت وملف املعتقلني واملخطوفني‬ ‫واملغ ِّيبني‪ ،‬وجرب الرضر والتعويض وإعادة‬ ‫املهجرين والنازحني‪ ..‬الخ‪ ،‬كل تلك املشكالت‬ ‫وغريها‪ ،‬ليست قضايا سهلة للتفاوض‪ ،‬وال قضايا‬ ‫يتفق عليها السوريون‪ ،‬والسيام يف ظل صعود‬ ‫ظاهرة املظلوميات التي قد تؤدي بسوريا إىل‬ ‫التمزق األهيل والجغرايف واإلثني واملذهبي‪،‬‬ ‫ومتنع أي تفكري متفائل بسوريا دميقراطية أو‬ ‫آمنة‪.‬‬ ‫واملظلوميات هي تحويل القضايا العادلة واملحقة‬

‫كلمة‬

‫للنشر أو مراسلة فريق التحرير‬

‫إىل مركوب سيايس يتجه حت ًام نحو العنرصية‬ ‫والتطرف تجاه اآلخرين‪ ،‬أفراداً ومك ّونات‪ ،‬فام قام‬ ‫به حزب االتحاد الدميقراطي الكردي يف شامل‬ ‫سوريا‪ ،‬ليس سوى استغالل للمظلومية الكردية‪،‬‬ ‫وتكرار الستغالالت كثرية حصلت وتحصل يف‬ ‫سوريا واملنطقة‪ ،‬مل ولن تؤدي سوى إلعادة انتاج‬ ‫االستبداد بطرق جديدة‪ ،‬ونذ ِّكر بأن مجاهدي‬ ‫اإلسالم السنّي والشيعي‪ ،‬ومجاهدو األقليات‪،‬‬ ‫وحتى بعض “املجاهدات” النسويات‪ ،‬جميعهم‬ ‫ينطلقون من قضايا عادلة‪ ،‬لكن التعامل مع‬ ‫تلك القضايا كمظلوميات مل ولن يؤدي سوى‬ ‫للركوب عليها بغية تحصيل االمتيازات وليس‬ ‫إنتاج املساواة وال الدميقراطية‪ ،‬ال داخل أي من‬ ‫املكونات السابقة‪ ،‬وال تجاه اآلخرين خارجها‪.‬‬ ‫ونذ ّكر أيضاً كيف ح ّول صاحب “السالم العادل‬ ‫والشامل” سوريا إىل مزرعة وسجن يف عهده‪ ،‬أو‬ ‫كيف ح ّول الصهاينة “إرسائيل”‪ ،‬عرب مظلومية‬ ‫اليهود يف أوروبا‪ ،‬إىل أكرب معسكر نازي ض ّد‬ ‫الفلسطينيني‪.‬‬ ‫ال يكرر التاريخ إال من مل يتعلم من تجاربه‪،‬‬ ‫ولذلك نعتقد أن املقدمات األفضل للتفاوض‪ ،‬هي‬ ‫التعامل السيايس مع جميع السوريني كمظلومني‬ ‫وأصحاب حقّ بطريقة أو بأخرى‪ ،‬وترك التفاوت‬ ‫يف الظلم إىل القانون ال للسياسة‪ ،‬ذلك ما يفتح‬ ‫أفق التفاوض نحو أهداف الثورة األوىل‪ ،‬يف‬ ‫الدميقراطية والحرية والكرامة لكل السوريني‪،‬‬ ‫ويبعدنا عن سوريا التعيسة كـ “عظمة بني أسنان‬ ‫الكلب” عىل ما وصفها يوماً شاعر سوريا العظيم‬ ‫“رياض الصالح الحسني”‪.‬‬ ‫تفاعل معنا عبر صفحاتنا على اإلنترنت‬ ‫‪www.freedomraise.net‬‬

‫‪freedomraise@gmail.com‬‬

‫‪facebook.com/freeraise‬‬

‫مجلة نصف شهرية تعنى بشؤون الثورة‬ ‫تطبع وتوزع داخل املدن والقرى السورية‬ ‫ويف بعض مخيامت اللجوء‬ ‫رئيس التحرير‬ ‫ليىل الصفدي‬

‫معاون رئيس التحرير‬ ‫نصار‬ ‫أسامة ّ‬

‫‪twitter.com/freedomraise‬‬

‫املحرر الثقايف‬ ‫رامي العاشق‬

‫املحرر االقتصادي‬ ‫وائل موىس‬

‫زمالء مختطفون يف الغوطة الرشقية‬ ‫رزان زيتونة ‪ -‬ناظم حامدي‬


‫المتمردة‬ ‫“فرامة الكتب”‬ ‫ّ‬ ‫“طرابيشــي”‪ّ :‬‬

‫‪3‬‬

‫شوكت غرز الدين‬

‫العدد ‪- 67 -‬‬ ‫‪2016 / 3 / 25‬‬

‫املفكر السوري الراحل جورج طرابييش‬ ‫طرابييش الذي “خان” قضايا كثرية وتجاوزها‬ ‫باملعنى “الهيغ ّ‬ ‫يل”‪ ،‬وأحياناً كثرية كانت “خيانته”‬ ‫مزدوجة عندما ترجم “من لغة عىل لغة” كام‬ ‫يقول‪ ،‬ظل أميناً حتى الن َفس األخري للوعي‬ ‫وللعقالنية وللحداثة ولل َعلامنية ولقضيتي املرأة‬ ‫واألقليات والدور الحاسم لهذه القضايا‪/‬املسائل‬ ‫معاً يف تقدم العرب وتقدم مجتمعاتهم‪ .‬فأعلن‬ ‫الحرب‪/‬النقد‪ ،‬التي يجب وميكن كسبها عىل‬ ‫الدوام‪ ،‬بال هوادة عىل الالعقالنية‪ ،‬ومارس يومياً‬ ‫التاريخي‬ ‫نقداً جذر ّياً للتأخر العر ّيب وللفوات‬ ‫ّ‬ ‫وللمعجزة وللعقل املستقيل وللتزوير حتى نحيى‬ ‫الحقيقة ومنارسها‪.‬‬ ‫ترجل أخرياً بعد هذا‬ ‫الذي‬ ‫الكاتب‪/‬املحارب‬ ‫إىل‬ ‫ّ‬ ‫اإلنتاج الضخم واملعارك العديدة التي خاضها‬ ‫واملفارقات التي أحدثها أقول‪ :‬لروحك السالم‪َّ .‬‬ ‫وإن‬ ‫عزايئ يف موته‪ ،‬ورمبا عزاءنا جميعاً‪ ،‬يكمن يف مت ّرده‬ ‫املكتوب الذي أضفى معنى عىل عبثية هذه الدنيا‬ ‫ومحالها‪ .‬فوداعاً “جورج طرابييش” لقد أحدثت‬ ‫فرقاً‪ .‬وسيكون موتك ككاتب والدة لقارئ وقراءات‬ ‫مفتوحة‪.‬‬

‫مقاالت‬

‫من الوالدة إىل املوت‪ ،‬يتصف مشوار الراحل‬ ‫جورج طرابييش‪ ،‬بصفتني تصع ّيد ّيتني باملعنى‬ ‫عب عن نفسه‬ ‫“الفروّيديّ ” وكأنه “مكبوتاً” ُي ِّ‬ ‫بالنوعية والكرثة واملفارقات؛ الصفة األوىل‪ ،‬أ َّنه‬ ‫عاش كـ “ف ّرامة الكتب”‪ ،‬من حيث قراءة الكتب‬ ‫املتنوعة و”فرمها” فه ًام وتحلي ًال ونقداً وترجمة‪،‬‬ ‫ومن حيث إنتاج الكتب والكتابة‪ ،‬وهو يالزم قلمه‬ ‫بشكل أقرب إىل التص ّوف كمالزمة ّ‬ ‫الظل لصاحبه‪.‬‬ ‫والصفة الثانية‪ ،‬روح التم ّرد التي الزمته مبختلف‬ ‫أعامله ومؤلفاته وترجامته‪ ،‬حتى بات ّ‬ ‫أقل ما‬ ‫يقال عن سريورته الفكر ّية وعنه‪ :‬إ َّنه “شقّ عصا‬ ‫الطاعة وفارق الجامعة”؛ طاعة السلطة السياسية‬ ‫واالجتامعية والدينية واالقتصادية‪ ،‬وابتعد وفارق‬ ‫نظرياً وسلوكياً ووجدانياً التقليد والجامعة‪/‬القطيع‬ ‫وإحدث قطيعة إبيستمولوج ّية معهام‪.‬‬ ‫لقد خرج طرابييش من األ ْم َثلة والتقديس‪ ،‬ومن‬ ‫زيف األدلجة والوهم وعباءتهام‪ ،‬بعد ْأن ابتىل بهام‬ ‫بفرتات مختلفة؛ لقدرته عىل تجاوز ذاته‪ .‬وعن‬ ‫مترده بهذا الشكل‪ ،‬وهرطقته ومفارقته للجامعة‪/‬‬ ‫القطيع‪ ،‬قال هذا “املهرطق” الكبري يوماً‪“ :‬كثرياً ما‬ ‫حب الهرطقة؟ إذا مل‬ ‫تساءلت ملاذا يغيل يف دمي ّ‬ ‫ّ‬ ‫تكن مهرطقاً فهذا يعني أ ّنك كاتب امتثايل تك ِّرر ما‬ ‫تقوله الجامعة ال أكرث وال ّ‬ ‫أقل‪.”...‬‬ ‫وكونه سور ّياً انتظر السور ّيون رأيه يف املأساة‬ ‫الواقعة فآثر الصمت بعد مقالني كتبهام يف بداية‬ ‫“الربيع العريبّ”‪ .‬فأىت موته يف زمن التم ّرد السوريّ‬ ‫الكبري‪ ،‬صامتاً و”خائباً”؛ َّ‬ ‫ألن “سور ّية لن تعود كام‬ ‫عرفناها” كام يقول‪ .‬فهو ابن الخيبة من ثورات‬ ‫سابقة‪ ،‬كام هو ابن األمل الذي فتح األفق للعرب‬ ‫مع “الربيع العريبّ”‪ .‬فكان موته كجسد موتاً صغرياً‬ ‫الشخيص‬ ‫عىل هامش موت سور ّية الكبري‪ ،‬وتاريخه‬ ‫ّ‬ ‫تاريخاً صغرياً عىل هامش تاريخ سور ّية الكبري‪.‬‬ ‫ولكن تراثه املكتوب ال ميوت ويبقى طوي ًال يف‬ ‫دائرة النقد واالقتباس والتعلم واإلرشاد‪.‬‬ ‫عاش طرابييش مسارات فكر ّية وثقاف ّية متعدّدة‬ ‫ومتن ّوعة فصهرها يف فكره املتم ّرد‪ .‬ومل تكن‬ ‫معايشته لألفكار بران ّية وترفاً فكر ّياً‪ ،‬بل كانت‬ ‫معايشة جوان ّية ووجود ّية تحدِّد يف كل مرحلة‬ ‫ومع كل اختالف خياراته وطريقة تفكريه وسلوكه‪.‬‬

‫فعاش وجودياً مشوار ترجمة فرويد و”التحليل‬ ‫النفيس”‪ ،‬واستخدام منهجه وطريقته يف التحليل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومن ثم رؤية األدب والثقافة واملثقفني بواسطته‪.‬‬ ‫وعاش مع األدب فتذ ّوقه ونقده وح ّلله نفسياً فأنتج‬ ‫“رواية” عىل الرواية؛ “رواية جديدة” عىل بعض‬ ‫الروايات التي قام بتحليلها مبنهج فرويد‪ .‬وعاش مع‬ ‫“املاركس ّية” وترجمتها والتفكري بواسطتها وتبنيها‬ ‫واالنقضاض عليها‪ .‬وبالفلسفة كمعاجم وتاريخ‬ ‫وفالسفة ومذاهب فلسف ّية كالهيغلية واملاركسية‬ ‫والوجودية‪ ...‬ومع الدين والرتاث اإلسالمي بش ّقيه‬ ‫املسيحي واليهوديّ ‪...‬‬ ‫والشيعي ومع الدين‬ ‫السني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومع ال َعلامنية والقومية والدميقراطية‪ ...‬حتى بات‬ ‫مرجعاً لطالبي الثقافة والفكر عموماً‪.‬‬ ‫قومي؟!‬ ‫ماركيس؟! وجوديّ ؟! فروّيديّ ؟!‬ ‫هل هو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثوريّ ؟! ترا ّيث‪...‬؟! هو ّ‬ ‫كل هذا معاً وليس هو يف‬ ‫آن؛ وذلك بفضل روحه املتم ّردة‪ .‬لقد عاش حالة‬ ‫الرتاكب بني اليشء ونقيضه يف آن‪ .‬فقال مترده يف‬ ‫ترجامته ويف مؤلفاته‪ ،‬كـ”مهرطق” يتم ّرد عىل‬ ‫نفسه وأرسته وم ّلته وطائفته ومجتمعه‪...‬‬ ‫ترجم فرويد وأك ّد عىل جرمية قتل األب النفس َّية‪،‬‬ ‫وعىل الجنس ّية عند األطفال يف مجتمع ذكوري‬ ‫يقدِّس األب ويربئ الطفل من الرغبات الجنس ّية‪.‬‬ ‫وأرى أ َّنه “ارتكب جرمية قتل األب ثالث مرات عىل‬ ‫األقل”؛ مرة بقتل أبيه الحقيقي نفسياً والتصالح‬ ‫معه واالنسجام مع نفسه‪ ،‬ومرة بقتل “أبيه”‬ ‫‪/‬السيايس وأستاذه ياسني الحافظ‪ ،‬ومرة‬ ‫الفكريّ‬ ‫ّ‬ ‫واألبستمولوجي‬ ‫بقتل “أبيه” الفلسفي‪/‬الرتايث‬ ‫ّ‬ ‫محمد عابد الجابري الذي كان طرابييش يعتربه‬ ‫“شمساً” ويعترب نفسه “فلكاً” يدور حول هذه‬ ‫الشمس‪.‬‬ ‫واعترب طرابييش مع فرويد يف “مستقبل وهم”‬ ‫و”قلق يف الحضارة” الدينَ وه ًام وهذياناً يف ثور ّية‬ ‫تجاوزت ثور ّية ماركس القائل‪“ :‬الدين أفيون‬ ‫الشعوب” أي مخدرها‪ .‬والفرق كبري بني فهم الدين‬ ‫فلسفي يف ماهية الدين‪ ،‬وبني‬ ‫كوهم‪ ،‬وهو فهم‬ ‫ّ‬ ‫كمخدِّر‪ ،‬وهو فهم إجرايئ يف وظيفة‬ ‫فهم الدين ُ‬ ‫الدين‪ .‬وكان أول من ترجم إىل العرب ّية تروتسيك‪،‬‬ ‫املنبوذ عربياً وماركسياً واملتهم “ستالينياً”‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن ترجمة غراميش وروزا لوكسمبورغ‪...‬‬


‫ماذا تعلم عن فيدرالية مســلم‬ ‫‪44‬‬

‫نبيل شوفان‬ ‫حزب االتحاد الدميقراطي (‪ )PYD‬والنظام‬

‫العدد ‪53 -‬‬ ‫‪2016‬‬ ‫‪2015 // 38 // 25‬‬ ‫‪2 - 67‬‬

‫تأسس حزب االتحاد الدميقراطي عام ‪،2003‬‬ ‫وباعرتاف خالد عيىس املتحدث باسم الحزب فإن‬ ‫كل منارصي حزب العامل الكردستاين يف سوريا‬ ‫انضموا اىل حزب االتحاد الدميقراطي‪ ،‬وال يخفي‬ ‫خالد عيىس يف كل ترصيحاته تطبيق الحزب‬ ‫ألهداف وأيديولوجية وفلسفة عبد الله أوجالن‪،‬‬ ‫وعالقات املودة والتعاون بني الحزبني وبني حزب‬ ‫االتحاد الدميقراطي‪ ،‬وللعلم فإن عبد الله أوجالن‬ ‫كان مدعوماً وبحامية حافظ األسد‪ ،‬ويرفض النظام‬ ‫حتى اليوم االعرتاف بتسليمه لرتكيا‪.‬‬

‫حزب االتحاد الدميقراطي (‪ )PYD‬واألكراد‬ ‫الذين يؤيدون الثورة‬

‫عندما بدأت الثورة يف سوريا يف آذار عام ‪ 2011‬خرج‬ ‫املعارض الشهيد مشعل متو يف إحدى املظاهرات‬ ‫قائ ًال‪“ :‬دعونا نبذل جهداً أو عم ًال يف سبيل حرية‬ ‫شعبنا‪ ،‬الحرية التي ننشدها منذ عصور وكنا نصطدم‬ ‫بأنظمة قمعية ال تعرف الرحمة وال تعرف اإلنسان‪،‬‬ ‫الشكر األكرب يف الحرية الجزئية التي نلتها هو لكل‬ ‫سوري من درعا وإىل املالكية‪ ،‬بئس نظام يقتل‬ ‫شعبه‪ ،‬سنبني سورية حديثة لكل السوريني”‪ ،‬وتابع‬ ‫متو‪“ :‬يؤسفني أن مي ّد بعض الكرد يدهم إىل نظام‬ ‫يقتل شعبه بالرصاص وباملدافع”‪ ،‬وهكذا أعلنها متو‬ ‫طالقاً كام ًال مع النظام‪ ،‬وهو ما أزعج حزب العامل‬ ‫الكردستاين الرتيك املتحالف مع النظام‪.‬‬ ‫تتهم عائلة متو حزب االتحاد الدميقراطي بتهديد‬ ‫الشهيد ُبعيد ترصيحاته يف بداية األحداث بينام‬ ‫يتهم خالد عيىس املجلس الوطني املعارض باغتياله!‬

‫حزب االتحاد الدميقراطي (‪ )PYD‬وإيران‬

‫مقاالت‬ ‫لقاءات‬

‫التزمت إيران كامل الصمت يف إبداء موقفها من‬ ‫الجامعات الكردية‪ ،‬لكنها حت ًام تخىش إقامة الدولة‬ ‫الكردية‪ ،‬فهي تقمع خمس الشعب الكردي املوجود‬ ‫يف العامل‪ ،‬لكن تر ّؤس هيثم منّاع املقرب من حزب‬ ‫الله ملجلس سوريا الدميقراطي طأمنها وأزعج‬ ‫املعارضة ومن خلفها السعودية‪.‬‬

‫حزب االتحاد الدميقراطي (‪ )PYD‬وأمريكا‬

‫تعاون حزب االتحاد الدميقراطي مع أمريكا منذ‬

‫معركة عني عرب “كوباين” التي ُقتل فيها ‪ 400‬مسلحاً‬ ‫من تنظيم داعش خالل معركة امتدت ألسابيع‪،‬‬ ‫نجح بعدها بالسيطرة عىل املدينة ومعها عدد من‬ ‫القرى‪ ،‬وأثار املقاتلون األكراد إعجاب أصحاب القرار‬ ‫يف أمريكا‪ ،‬فتقرر زيادة دعمهم‪ .‬حظي هذا الحزب‬ ‫بالدعم األمرييك الذي ُحسد عليه من قبل املعارضة‬ ‫السورية والنظام السوري وإيران وتركيا‪ ،‬لكن هذا‬ ‫الدعم بدأ يتعرض لنكسة منذ التدخل الرويس؛‬ ‫تصب‬ ‫حيث بدأت الترصيحات األمريكية السياسية ّ‬ ‫يف غري صالحهم‪ ،‬ورغم أن تحالفهم مع أمريكا كان‬ ‫بأحسن حاالته‪ ،‬لكن صالح مسلم رأى أن أمريكا‬ ‫ماتزال تحرتم تركيا كحليفة يف املنطقة‪ ،‬وأنه يف‬ ‫اللحظة الفاصلة ستنقلب واشنطن عىل الحزب‬ ‫املدعوم واملد ّلل ملحاربة داعش يف مواجهة مصلحتها‬ ‫األعىل مع تركيا‪.‬‬

‫حزب االتحاد الدميقراطي (‪ )PYD‬وروسيا‬

‫بعد أن تدخلت روسيا يف سوريا ألسباب أولها إنقاذ‬ ‫النظام وليس آخرها “فركة أذن” إليران التي باتت‬ ‫تهمش مصالح الروس‪ ،‬وتهدد مصالحهم‪ ،‬فمن‬ ‫املعلوم كيف تقصدت القوى الجوية الروسية يف‬ ‫أكرث من مرة قصف بعض التجمعات لحزب الله‬ ‫وامليليشيات الشيعية بحجة الخطأ‪ .‬منذ بداية‬ ‫التدخل الرويس رأت قيادة حزب االتحاد الدميقراطي‬ ‫أنه من الجيد التحالف مع الروس‪ ،‬فأطلق الحزب‬ ‫عىل لسان قيادييه ترصيحات تؤيد التدخل الرويس‪،‬‬ ‫رغم أن التدخل جاء ض ّد قضية عادلة وهي الثورة‬ ‫السورية‪“ ،‬أه ًال وسه ًال” قالت روسيا ملسلم ودفعت‬ ‫عىل ما يبدو هيثم مناع ليرتأس مجلس سوريا‬ ‫الدميقراطية وهو الغطاء السيايس للمقاتلني األكراد‪،‬‬ ‫ويف ترؤس مناع كانت هناك رسائل أخرى وصلت‬ ‫أكرث من طرف‪.‬‬

‫حزب االتحاد الدميقراطي (‪ )PYD‬والسعودية‬

‫تدعم السعودية املعارضة السورية التي تقاتل‬ ‫النظام‪ ،‬وترى كام ترى املعارضة أن الحزب الكردي‬ ‫املذكور يراعي مصالحه وأهداف قيادته عىل الصعيد‬ ‫الحزيب والشخيص أكرث مام يراعي الثورة العادلة‪،‬‬ ‫كام رفضت إدراج اسمه يف مؤمتر الرياض بسبب‬

‫مهاجمته للمعارضة املعتدلة يف مناطق قرب حلب‬ ‫واستغالل انشغالها مبقاتلة تنظيم داعش للسيطرة‬ ‫عىل أراض جديدة‪ ،‬بغطاء جوي رويس قصف‬ ‫املعارضة املعتدلة يف أهم مناطقها قرب تركيا‪ ،‬كرد‬ ‫عىل إسقاطها طائرة روسية‪ ،‬وفتحت روسيا مكتباً‬ ‫للحزب يف موسكو كمكافأة عىل خدماته قرب‬ ‫الحدود الرتكية‪ ،‬ومل يكن صالح مسلم يحلم يف قيام‬ ‫أمريكا بخطوة كهذه‪.‬‬ ‫الخالصة‪ ...‬ال أريد أن أكون ظاملاً أو جائراً‪ ،‬لكن‬ ‫إعالن الفيدرالية عىل طريقة صالح مسلم والذي‬ ‫شبهه البعض بإعالن دولة الخالفة‪ ،‬جاء مشابهاً يف‬ ‫زوايا أكرب من مجرد إعالنها من طرف واحد؛ فمسلم‬ ‫أعلنها يف الوقت الخاطئ متاماً‪ .‬أمريكا فقدت ثقتها‬ ‫به سياسياً وروسيا انسحبت تاركة إياه تحت رحمة‬ ‫القرار الرتيك السعودي بالتدخل‪ ،‬وإيران لن تنقذه‬ ‫عىل أقل تقدير ومثلها النظام واملعارضة‪.‬‬ ‫ما بالك وحزب االتحاد الدميقراطي قىض طيلة‬ ‫الخمس سنوات الفائتة محارباً تركيا دومنا أسباب‬ ‫واضحة سوى تحالفه مع حزب العامل الذي يهدد‬ ‫األمن القومي الرتيك‪ ،‬ومل يلتفت مسلم ولو بترصيح‬ ‫إىل زمالئه املناضلني بني سلسلة وهضاب زاغروس‬ ‫شاميل غريب إيران حيث تنترش األحياء املدقعة يف‬ ‫الفقر ألكراد إيران والذين ال يطالبون بدولة مستقلة‬ ‫وال حتى بإدارة ذاتية ولكن بحقوق مواطنة؛‬ ‫فالكردي اإليراين يعامل كمواطن درجة ثانية هناك‪،‬‬ ‫حيث يتعرض املقاومون األكراد الذين يطالبون‬ ‫بالحكم الذايت إىل حملة قمع دامية ورشسة‪ ،‬ويحظر‬ ‫عليهم تعلم اللغة الكردية يف املدارس‪ ،‬رغم أن البند‬ ‫‪ 15‬من الفصل الثاين يف دستور إيران ينص عىل‬ ‫حقهم يف استخدام لغتهم باملجاالت التعليمية‪.‬‬ ‫يف النهاية لن يعطي األكراد حقوقهم سوى الثورة‬ ‫السورية والعدالة القادمة‪ ،‬وأعتقد أن السوريني‬ ‫سيختارون النظام الالمركزي عىل أساس املناطق‬ ‫اإلدارية واألربعة عرشة محافظة سورية كام هو‬ ‫حاصل يف فرنسا وسويرسا‪ ،‬وليس عىل أساس قومي‬ ‫يف ّ‬ ‫ظل ال دولة وال مركز كحالة لتكريس التقسيم‬ ‫وتقسيم املقسم‪.‬‬


‫الثورة الكاشفة‬

‫وضرورة المرحلــة االنتقالية األخالقية‬ ‫وإعادة اإلعمــار الثقافي والفكري‬

‫‪5‬‬

‫يوسف المنجد‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫مقاالت‬

‫الثورة الكاشفة أو الفاضحة تعبري كثرياً ما تم‬ ‫تداوله يف وصف الثورة السورية‪ ،‬ليس فقط‬ ‫كونها فضحت املواقف الدولية العاملية املخادعة‬ ‫واملتخاذلة حيال ما يجري يف سوريا من انتهاك‬ ‫لكل حقوق اإلنسان التي تتباهى تلك الدول‬ ‫بكونها القيمة الكربى لديها وبأنها املدافعة عنها‬ ‫يف كل مكان من العامل‪ .‬وال بسبب فضحها مواقف‬ ‫الدول العربية واإلسالمية التي توصف بالشقيقة‪،‬‬ ‫والتي تروج يف كل مناسبة بأن العرب أمة واحدة‪،‬‬ ‫بعد رفضها م ّد يد العون للشعب السوري الثائر‬ ‫باستثناء الفتات الذي مل يسمن ومل يغن من‬‫جوع‪ -‬وامتناع معظمها عن استقبال الالجئني‬ ‫الفارين من أتون املوت اليومي يف بالدهم‪ ،‬وتآمر‬ ‫بعضها مع الجالد ومدّه بالعون املادي والسيايس‬ ‫لوأد الشعب وثورته‪.‬‬ ‫وإمنا كذلك بسبب فضحها للكثري من املثقفني‬ ‫والدعاة والفنانني الذين كانوا يحظون بجامهريية‬ ‫كبرية‪ ،‬فجاءت رياح الثورة لتنسف الرداء الجميل‬ ‫من األلقاب واألعامل الذي كانوا يكسون به‬ ‫سوءاتهم‪ ،‬فظهروا عراة عىل حقيقتهم التي جهدوا‬ ‫يف إخفائها ببعض املواقف التمثيلية أو األقوال‬ ‫التخديرية‪ ،‬فتبني للناس كذبهم ونفاقهم بعد أن‬ ‫انحازوا إىل صف القتلة‪ ،‬ووصل األمر ببعضهم إىل‬ ‫التحريض واملشاركة املبارشة يف الجرمية‪.‬‬ ‫الثورة الكاشفة تعبري استخدم كذلك لكون الثورة‬ ‫كشفت ووضحت الحقيقة العارية للواقع الفكري‬ ‫والثقايف املنخور للمجتمع بشكل عام‪ ،‬والتي شكل‬ ‫ظهورها صدمة كبرية للكثري من الناس الذين‬ ‫كانوا ينظرون إىل واقعهم نظرة وردية متفائلة‪،‬‬ ‫ويتغاضون عن البثور التي كانت تظهر هنا وهناك‬ ‫ويقللون من شأنها‪ ،‬جاهلني أنها أعراض بسيطة‬ ‫ظاهرة ألمراض قاتلة دفينة‪ .‬فلم يكن معظمنا‬ ‫يدرك مدى الهشاشة االجتامعية التي نحن عليها‪،‬‬ ‫ومدى التقعر الثقايف‪ ،‬والتحدب الفكري الذي كنا‬ ‫نقيم عليه بنيان مجتمعنا‪.‬‬ ‫الثورة الكاشفة استخدم يف وصف الثورة السورية‬ ‫كم العطن األخالقي والخواء‬ ‫أيضا ألنها ع َّرت َّ‬

‫الروحي الذي كان حارضاً بكرثة دون أن نشعر‬ ‫بفجاجته ونرى حجمه الهائل الذي مثل أمامنا‬ ‫بعد الثورة؛ الرياء والخداع واألثرة والغدر والخيانة‬ ‫طيت أوراق التوت‬ ‫والضعف والوهن‪ ...‬الثورة َّ‬ ‫التي كنا نسرت بها عوراتنا‪.‬‬ ‫لكن‪ ،‬رمبا ‪-‬حتى ال نقع يف ظلم أنفسنا ونقوم بجلد‬ ‫ذواتنا‪ -‬نعطي شيئاً من الوجاهة للرأي الفلسفي‬ ‫الذي يقول بأن الحروب ال تكشف فقط حقيقة‬ ‫الواقع الثقايف واالجتامعي واألخالقي للمجتمع‬ ‫الذي تدور فيه رحاها‪ ،‬وإمنا هي (الحرب) تجلب‬ ‫معها أخالقها الخاصة‪ ،‬فهي ال تأيت فقط عىل البنيان‬ ‫املادي واالقتصادي‪ ،‬وإمنا كذلك عىل البنيان الثقايف‬ ‫والفكري واألخالقي والروحي له‪ .‬فرمبا االنحدار‬ ‫األخالقي واالنهيار االجتامعي ليس أصي ًال بطبعه‪،‬‬ ‫وإمنا هو طارئ أو مثرة طبيعية للحرب والظروف‬ ‫التي ترافقها‪ .‬الرأي وجيه جداً‪ ،‬ولكنه ال يلغي أن‬ ‫الحروب ال تأيت فقط بأخالقها القذرة‪ ،‬وإمنا تكشف‬ ‫أيضاً حالة الهشاشة ومواطن الرخاوة املوجودة يف‬ ‫املجتمع قبلها‪.‬‬ ‫ما نود قوله بعد كل ما سبق‪ ،‬هو أن صمود الهدنة‬ ‫وتالياً انسحاب القوات الروسية‪ ،‬أنعش اآلمال يف‬

‫نفوس السوريني يف انتهاء الحرب وأيامها العجاف‪،‬‬ ‫وتو ّقف حالة النزيف الشاملة التي تعيشها بلدنا‬ ‫سوريا منذ خمس سنوات‪ ..‬رمبا انتهت الحرب‬ ‫حقاً‪ ،‬ورمبا نعيش حالة الهدوء الذي يسبق‬ ‫العاصفة‪ ،‬رمبا انتهى مشوار األمل وحان وقت نشيد‬ ‫األمل‪ ،‬ورمبا الطريق ال تزال طويلة‪ ،‬ولكن مع ذلك‬ ‫نرى أنه آن األوان لالنتباه إىل الحالة االجتامعية‬ ‫والثقافية والفكرية‪ ،‬التي كشفت الثورة نقائصها‬ ‫وتناقضاتها‪ ،‬وأن ال تقترص مساعينا يف التخطيط‬ ‫والبحث عىل مناقشة مرحلة االنتقال السيايس‬ ‫صب الجهود‬ ‫وإعادة اإلعامر املادي‪ ،‬بل كذلك ّ‬ ‫بكثافة وبالتوازي يف التخطيط والبحث ملرحلة‬ ‫االنتقال األخالقي والقيمي‪ ،‬وإعادة اإلعامر الثقايف‬ ‫والفكري‪ ،‬فهذا ال ّ‬ ‫يقل أهمية عن الجانب األول‪،‬‬ ‫هذا إن مل يتفوق عليه‪ .‬فالدول واملجتمعات إن‬ ‫مل تتأسس عىل قواعد فكرية وثقافية وأخالقية‬ ‫صلدة ومتامسكة‪ ،‬فال أمل يف نجاحها ونجاتها‪ ،‬وإن‬ ‫اجتهدت ح ّد اإلرساف يف إشادة بنيانها املادي‪ ،‬ألنها‬ ‫تبقى عدمية املناعة وعرضة لالنهيار يف أي لحظة‬ ‫فـ “إمنا األمم األخالق مابقيت ‪ ....‬وإن هم ذهبت‬ ‫أخالقهم ذهبوا” أو كام قال الشاعر‪.‬‬


‫‪86‬‬

‫هل ســتنتصر الثورة في النهاية‬ ‫ابو القاسم السوري‬

‫العدد ‪66 -‬‬ ‫‪2016 / 32 / 25‬‬ ‫‪17 - 67‬‬

‫قبل حوايل ثالثة أشهر كتبت يف مجلة طلعنا‬ ‫عالحرية مقالة تحت عنوان “قراءة لقرار مجلس‬ ‫األمن األخري” ذكرت فيه ما ييل‪:‬‬ ‫‪ 1‬هناك تقاسم لألدوار بني الفاعلني اإلقليمني‬‫والدوليني‪ ،‬وما يظهر أنه خالفات دبلوماسية‬ ‫بني الدول هو يف الحقيقة تناسق وتناغم متفق‬ ‫عليه فيبدو أن الدولتني العظميني متفقتني عىل‬ ‫أن تتعهد روسيا بالوضع امليداين وتهيئته‪ ،‬وأن‬ ‫تتعهد أمريكا بتهيئة الساحة الدبلوماسية‪ ،‬بينام‬ ‫تتكفل الدول اإلقليمية بالضغط عىل األطراف التي‬ ‫تدعمها للسري يف كنف هذا الخط‪.‬‬

‫‪ - 2‬وجود خطة تسوية سياسية وفق الركائز التالية‪:‬‬

‫مقاالت‬

‫أ‌‪ -‬تخفيف حدة الرصاع وخلق البيئة السياسية‬ ‫املناسبة‪.‬‬ ‫ب‌‪ -‬خلق خطوات بناء الثقة بني األطراف‪.‬‬ ‫ج‪ -‬تحييد جميع من يرفض أو يقف عائقاً أمام‬ ‫السيناريو املحتمل‪.‬‬ ‫د‪ -‬دفع كل األطراف لالعرتاف باآلخر واالعرتاف‬ ‫بوجوده وما ميثله وما يبتغيه من مصالح‪.‬‬ ‫هـ‪ -‬الدخول يف مفاوضات تفيض إىل إيجاد اتفاق‬ ‫سيايس ينهي هذا الرصاع‪.‬‬ ‫ولعل تطورات الثالثة أشهر املاضية تؤرش إىل أن‬ ‫البنية التحليلية التي قامت عليها املقالة املذكورة‬ ‫تصلح للبناء؛ فاألساس الذي تعتمده القوى الدولية‬ ‫ملقاربتها الوضع السوري هو تصنيف الرصاع يف‬ ‫سورية بأنه رصاع أهيل‪ ،‬وليس ثورة شعبية مرتكزها‬ ‫الرئييس سيايس متصل بإيجاد التنظيم السيايس‬ ‫االجتامعي القادر عىل خلق حالة من العدالة‬ ‫االجتامعية واملساواة ومبا يحفظ حقوق وكرامة‬ ‫املواطن السوري‪ .‬وعىل ذلك فإن السيناريوهات‬ ‫املتوقعة لتطورات الوقائع عىل األرض يف األيام‬ ‫القادمة لن تخرج عن هذا السياق؛ فجميع‬ ‫الخطوات التفاوضية ستندرج تحت هذا املفهوم‬ ‫فسنشهد حالة تثبيت لخطوط فصل مناطقي‬ ‫أساسها سيايس قائم عىل أساس مناطق معارضة‬ ‫ومناطق مواالة باإلضافة إىل تكثيف خطوات بناء‬ ‫الثقة‪ ،‬كإدخال املساعدات وتخفيف حدة الحصار‬ ‫عىل املناطق املحارصة وقد تصل إىل إطالق رساح‬ ‫املعتقلني مع إطالق جهد تفاويض رمبا يكون قادراً‬ ‫عىل إنتاج صيغة توافقية سياسية ترىض القوى‬

‫جانب من مظاهرات مدينة دوما يف الغوطة الرشقية‬

‫األساسية الداخلة يف العملية التفاوضية‪ .‬ولكن‬ ‫السؤال الذي يجب أن نطرحه وبقوة‪ :‬هل بعد‬ ‫انتهاء كل ذلك ستكون الثورة منترصة أم مهزومة؟‬ ‫أعتقد أن اإلجابة عن هذا السؤال تستوجب أن‬ ‫نكون عىل أعىل قدر من املكاشفة مع الذات قبل‬ ‫كل يشء‪ ،‬فالوضع يف عام ‪ 2011‬يختلف اختالفاً‬ ‫جذرياً عن الوضع الحايل مع بداية ‪2016‬؛ ففي‬ ‫عام ‪ 2011‬كان هناك حالة تفجر شعبي لها حاضن‬ ‫سيايس قام عىل مبادئ أخالقية ومصلحية سامية‬ ‫مست غالبية الشعب السوري‪ ،‬وكانت تستهدف‬ ‫ّ‬ ‫انتزاع حقوق الحرية والكرامة من نظام مجرم‬ ‫مستبدّ‪ ،‬وبناء سورية دميوقراطية مدنية‪ .‬ولكننا‬ ‫بعد ‪ 5‬سنوات بقي النظام فيها موجوداً وأصبح‬ ‫هناك قوى عديدة تسعي إىل إسقاط هذا النظام‪،‬‬ ‫ولكن هل جميع هذه القوى تحمل مرشوعاً‬ ‫متوافقاً ومتامهياً مع قيم الثورة األوىل؟ أو أن‬ ‫لهذه القوى مشاريعها الخاصة والتي قد تعيد‬ ‫إنتاج أشكال من النظم السياسة قد ال تختلف يف‬ ‫جوهرها عام كان سائداً‪.‬‬ ‫يف عام ‪ 2011‬استطاعت الثورة السورية إنتاج‬ ‫مرشوع ذي جناحني متالزمني‪ ،‬استطاعا أن يقنعا‬ ‫نسب ًة كبرية من الشعب السوري‪ ،‬وهام‪:‬‬ ‫الجناح األول‪ :‬هو الجناح األخالقي ‪-‬القيمي حيث‬ ‫دعت الثورة لتحقيق أهداف تتعلق بقيم يطلبها‬ ‫كل إنسان عىل وجه الكرة األرضية وهذه القيم‬ ‫هي الحرية والكرامة واملساواة‪...‬‬ ‫الجناح الثاين‪ :‬هو الجناح املصلحي القائم عىل‬ ‫أن انتصار الثورة السورية وإسقاط النظام هو يف‬ ‫النهاية سينعكس مصلحة لكل مواطن سوري من حيث‬ ‫اكتساب الحقوق الفردية وتحسني مستوى التنمية‬ ‫االجتامعية وتحقيقي العدالة االجتامعية وغريها‪..‬‬

‫ولكن بعد خمس سنوات اعتقد أن هذين‬

‫الجناحني قد اهرتأا ولو بشكل نسبي لكل‬ ‫منهام؛ فالجناح املبديئ أصيب بطعنات متتالية‬ ‫نتيجة الترصفات التي تلمسها الشعب من عديد‬ ‫املؤسسات واألفراد الذين تبوؤوا دفة قيادة الحراك‬ ‫الثوري والذين ‪-‬نتيجة طول عمر الثورة‪ -‬وقعوا‬ ‫بأخطاء من حيث مل يدروا مل يتم تحميلها لهم‬ ‫بل للثورة بشكلها العام‪ .‬أما عىل مستوى الجناح‬ ‫املصلحي فأعتقد أنه ال ميكننا نكران أن مجمل‬ ‫أفراد الشعب السوري قد تكبد أرضاراً مهولة عىل‬ ‫املستوى الشخيص‪ ،‬وخاصة بأن ما كان ُيطمح إليه‬ ‫من خالل التغري انعكس قت ًال وتهجرياً ودماراً وفقراً‬ ‫وأموراً مأساوية أخرى‪.‬‬ ‫وعىل ذلك‪ ،‬فإذا ما عدنا إىل سؤالنا الرئييس هل‬ ‫ستفيض تطورات الوقائع القادمة إىل انتصار‬ ‫للثورة‪ ،‬ميكنني القول إن ذلك يعتمد أساساً‬ ‫عىل قدرتنا عىل إعادة ترميم الجناحني السابقني‬ ‫من خالل إعادة ّ‬ ‫بث الروح يف قيم الثورة األوىل‬ ‫وإطالق مرشوع إصالحي يجد فيه عامة أفراد‬ ‫الشعب مصلحتهم الخاصة والعامة‪ .‬ولعل أهم‬ ‫ركن من أركان بناء هذا األمر هو ترسيخ العدل يف‬ ‫مناطق سيطرة الثورة‪.‬‬ ‫ولكن إذا ما فشلنا يف ذلك فقد نستطيع إسقاط‬ ‫النظام نتيجة توزان القوى وقناعة مراكز القوى‬ ‫الدولية واإلقليمية بأن إنهاء الرصاع ال ميكن تحقيقه‬ ‫بوجود النظام‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أن الثورة قد‬ ‫تنترص‪ ،‬لذلك فاملرحلة املقبلة مرحلة عمل وجهد‬ ‫حثيث إلعادة بوصلة الثورة إىل وجهتها األوىل‪،‬‬ ‫ونبذ كل انحرافات خارج هذه الواجهة وحينها‬ ‫ميكننا الجزم بأن الثورة انترصت مبفهومها األصيل‬ ‫القائم عىل التغري من بنية نظام اجتامعي وسيايس‬ ‫قائم عىل مبادئ الظلم والطغيان باتجاه نظام سيايس‬ ‫اجتامعي قائم عىل أساس من العدالة والحرية‪.‬‬


‫متــى يعود المخفر إلــى ضيعتنا؟‬

‫‪97‬‬

‫مصعب الحمادي‬

‫‪- 67‬‬ ‫العدد ‪66 -‬‬ ‫‪2016 / 32 / 25‬‬ ‫‪17‬‬

‫انقلب النظام بشكلٍ مخيف وما عاد أحد يعرف‬ ‫حدّه‪ .‬صارت الثورة فوىض ال تطاق‪ ،‬صارت مترد‬ ‫الجاهل عىل العامل‪ ،‬واألحمق عىل الحكيم‪ ،‬والوضيع‬ ‫عىل الرشيف‪ ،‬والفاجر عىل الفاضل‪ ،‬والزعران عىل‬ ‫كرام الضيعة وأصحاب األدب والرتبية العالية‪.‬‬ ‫الضيعة بال مخفر صارت غابة مخيفة‪ ،‬وكث ٌري‬ ‫من الناس املساملني تحولوا بغياب الرشطة إىل‬ ‫وحوش مفرتسة‪ .‬يرغب أهايل الضيعة اليوم بأن‬ ‫تتوقف الحرب برسعة‪ ،‬و ُتسحب البنادق من‬ ‫أيادي املتقاتلني‪ ،‬حتى ال يعودوا يرون املسدس‬ ‫إال عىل خرص الرشطي‪ ،‬ويعود بائع الشاورما إىل‬ ‫مطعمه‪ ،‬والخرضجي إىل دكانه‪ ،‬ويتم إدخال املخرب‬ ‫مصحات نفسية‬ ‫واملتعاطي واملتن ّمر واملتم ّرد إىل ّ‬ ‫وأخالقية تقيمها الدولة الجديدة التي ستنهض‬ ‫عىل أنقاض النظام الفاسد املتهالك‪.‬‬

‫شهادات‬ ‫مقاالت‬

‫أحلم أن يعود املخفر إىل ضيعتنا‪ ،‬ليس نفس مل يشعر أحد يف السنة األوىل من الثورة بوطأة‬ ‫املخفر القديم التابع للنظام‪ ،‬وإمنا مخفر الدولة إغالق املخفر‪ .‬فالثورة كانت يف بدايتها ه ّبة‬ ‫الجديدة التي ستنهض بفضل تضحيات الثوار‪.‬‬ ‫شجعان‪ ،‬ونهضة أشخاص أصحاب مروءة وتضحية‪.‬‬ ‫يوم مل يعقب إغالق املخفر فوىض‪ ،‬ومل يتع ّد أحد عىل‬ ‫مل يكن املخفر يف ضيعتنا رمزاً للعدل يف ٍ‬ ‫من األيام‪ ،‬لكنه كان عىل الدوام رادعاً للفوىض أحد‪ .‬ولكن النظام تخىل مع الوقت عن باقي‬ ‫املجتمعية‪ .‬كانت املرأة يف الضيعة إذا أرادت أن مسؤولياته يف الضيعة التي باتت تسمى “محررة”‬ ‫تدلل طفلها نادته “يا مدير الناحية”! وللحق فقد وهو ما شجع قس ًام كبرياً من السكان عىل االنضامم‬ ‫كان مدير الناحية أكرث شخص ُمهاب يف الضيعة‪ ،‬للحراك املعارض للنظام بعد أن أمنوا أن النظام مل‬ ‫يحرتمه الكبار‪ ،‬ويخاف منه الصغار‪ ،‬ويرجف يعد يتطلع الستعادة الضيعة من الثوار‪.‬‬ ‫بني يديه الزعران واملشكلجية‪ .‬حتى املختار كان وهكذا دخل يف الثوار من ليس منهم‪ ،‬وانضمت‬ ‫يسارع لزيارة مدير الناحية أول تعيينه ويقيم إليهم تشكيلة من الناس مختلطة ومعقدة‬ ‫وليم ًة كربى يف مضافته عىل رشفه‪.‬‬ ‫الرتكيب‪ :‬من الطالب الذين خرسوا جامعاتهم‬ ‫يف األشهر األوىل من الثورة وأيام املظاهرات خشية االعتقال‪ ،‬إىل املوظفني الذين عجزوا عن‬ ‫السلمية مل تكن عالقة املتظاهرين باملخفر عدائي ًة قبض رواتبهم بسبب الحواجز‪ ،‬إىل مخربين سابقني‬ ‫أبداً‪ .‬وعندما حذرت مخابرات النظام املتظاهرين لألمن خشوا عىل أنفسهم انتقام الناس‪ ،‬إىل سلفيني‬ ‫من وقوع الفوىض بسبب مظاهراتهم‪ ،‬ذهب وفدٌ حاقدين عىل النظام ملضايقته لهم يف املايض‪،‬‬ ‫منهم إىل املخفر ووجه دعو ًة إىل الرشطة للمجيء إىل ضباطٍ أرسلهم النظام تحت غطاء االنشقاق‬ ‫إىل املظاهرة واملساهمة يف ضبط األمن وحامية ليفسدوا الثورة والثوار‪ .‬وباملحصلة ع ّمت الفوىض‪.‬‬ ‫املتظاهرين‪ .‬كان مدير الناحية يف ذلك الوقت ترك “معلم الشاورما” السيخ وحمل سيفاً ليقيم‬ ‫شاباً صغرياً مثقفاً من محافظة حلب‪ .‬كان لبقاً به حدود الله عىل الكفار‪ّ .‬‬ ‫انقض الخرضجي الذي‬ ‫جداً وودوداً أثناء استقباله للمتظاهرين‪ ،‬ووعدهم بجانب الجامع عىل اإلمام‪ ،‬نزع عاممته أمام‬ ‫النظر جدياً يف دعوتهم الرشطة للحضور إىل الناس ثم طرده من املسجد ألنه صويف زدنيق‪،‬‬ ‫املظاهرة‪.‬‬ ‫والخرضجي ال يريد أن يستمع هو وأهل الحارة إىل‬ ‫لكن األمور تطورت برسعة وارتكبت أجهزة أمن خطبة الجمعة من فم واح ٍد زنديق‪ .‬املخرب القديم‬ ‫النظام عدة جرائم ض ّد متظاهرين سلميني أبرياء لألمن أسس لجن ًة أمنية اآلن‪ ،‬وصار يعمل عىل‬ ‫يف أكرث من منطقة مجاورة للضيعة‪ ،‬فانقطع حبل ضبط األمور‪ .‬استهل جهوده بنصب حاج ٍز عند‬ ‫الثقة بني الرشطة واملتظاهرين‪ ،‬وبدأت النظرة مدخل الضيعة وخطف محاسب الرتبية‪ .‬وضعه‬ ‫تصبح سلبية جداً ليس فقط للرشطة‪ ،‬بل ولكل يف السجن و”رفعه فلق” وصادر منه حقيب ًة فيها‬ ‫موظفي الدولة الذين صاروا يف نظر املتظاهرين مئات الرواتب لريع الثورة‪ .‬عبدو الس ّكري املشهور‬ ‫نظام بات الكل يتطلع ليس فقط يف الضيعة تاب إىل الله تعاىل وانضم إىل كتيب ٍة من‬ ‫عنواناً الستمرار ٍ‬ ‫نظام جدي ٍد املجاهدين وكانت أول عملي ٍة مظ ّفرة له أنه دخل‬ ‫إلصالحه‪ ،‬بل القتالعه من أساسه وبناء ٍ‬ ‫مكانه‪.‬‬ ‫بلباسه العسكري الكامل وببندقيته الجديدة منزل‬ ‫ّ‬ ‫وما إن تشكلت أول مجموعة مسلحة يف الضيعة جاره الغني الذي مل يشارك باملظاهرات وأجربه‬ ‫حتى داهمت الرشطة املعتكفني يف املخفر وطلبت عىل دفع مليوين لرية “خ ّوة” لدعم الثورة‪ .‬املجاهد‬ ‫منهم ترك سالحهم واملغادرة‪ .‬كان الثوار األوائل يف‬ ‫قسوم تك ّفل باقتحام العيادة النسائية الوحيدة يف‬ ‫ّ‬ ‫أمس الحاجة لقطع السالح وكانت البنادق اآللية الضيعة ليطرد الطبيبة السافرة املت ّربجة املنحدرة‬ ‫ّ‬ ‫البسيطة التي يحتويها املخفر مبثابة الكنز الذي من ضيع ٍة مجاورة ألنه ال يريد أن يتداوى سكان‬ ‫وقع بني أيديهم‪.‬‬ ‫الضيعة املسلمني عند مسيحي ٍة كافرة‪.‬‬

‫بكابوس طويل بال‬ ‫صارت الحياة بالضيعة أشبه‬ ‫ٍ‬ ‫نهاية‪ .‬النظام يقصف ويقتل ويدمر من جهة‪،‬‬ ‫والرثثرية والرعاع والسوقة يفسدون ما بقي من‬ ‫رونق الحياة من جه ٍة ثانية‪ .‬وما إن دخلت الثورة‬ ‫عامها الثالث حتى مات واختفى تقريباً كل الجيل‬ ‫األول من الثوار واملتظاهرين‪ ،‬وتصدر املشهد‬ ‫زمر ٌة من تجار املخدرات‪ ،‬واملخربين املتقاعدين‪،‬‬ ‫أشخاص جيدو النوايا لكنهم‬ ‫ويف أحسن األحوال‬ ‫ٌ‬ ‫سلفيني تكفرييني بغيضني‪ ،‬ن ّغصوا عىل الناس حتى‬ ‫عبادتهم ومساجدهم‪.‬‬ ‫صار العمل العسكري ض ّد النظام “مهنة” وليس‬ ‫ثورة‪ .‬وانضم عددٌ كبري من أبناء الضيعة للفصائل‬ ‫التي تأخذ رواتب بالدوالر لتأمني معيشتهم‪.‬‬ ‫ووجدت مجموعات تنظيم القاعدة ترب ًة خصبة‬ ‫بني شباب الضيعة الذين أمضوا شطراً من شبيبتهم‬ ‫يف املجون يف كربيهات القرى املجاورة يف الجبل‬ ‫ليك يتوبوا إىل الله تعاىل ويتفقهوا بالدين‪ ،‬لكنها‬ ‫توب ًة مل تكن لتكتمل إال بخطف الطبيب واملهندس‬ ‫واملدرس واألديب والشاعر واملطرب لتأديبهم‬ ‫بالسجون‪ ،‬واستتابتهم عىل علامنيتهم‪ ،‬وتعليمهم‬ ‫أصول الدين‪ ،‬وأحياناً جلدهم يف ساحة الضيعة‬ ‫كالبهائم‪.‬‬


‫متحفا إدلــب ومعرة النعمان‬ ‫يحكيــان التاريخ رغم القصف‬

‫‪8‬‬

‫ومطالبــات بتوفير الحماية‬ ‫سمير كرم ‪ -‬إدلب‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫ال يزال متحف مدينة إدلب عىل الرغم من الرصاعات والحروب‬ ‫التي عصفت باملدينة‪ ،‬يحتفظ ِب ُل َق ًى أثرية من املدن الحارضة يف‬ ‫الذاكرة وخاصة آثار منطقة البارة ورسجيال ومملكة إيبال التي‬ ‫اكتُشفت عام ‪1965‬عىل يد العامل اإليطايل الربوفسور باولو ماتييه‪،‬‬ ‫بينام كان االكتشاف األعظم عام ‪ 1974‬وهو املكتبة امللكية يف‬ ‫القرص املليك اإليباليئ والذي يضم حوايل ‪ 16000‬رقي ًام مسامرياً‬ ‫وكرسة رقيم‪.‬‬ ‫أما متحف الفسيفساء األثري يف مدينة معرة النعامن بريف‬ ‫محافظة إدلب‪ ،‬الذي يحتوي عىل ‪ 1600‬مرتاً مربعاً من املوازييك‬ ‫(الفسيفساء)‪ ،‬كام يضم “خان مراد باشا” الذي تم تأسيسه يف‬ ‫العهد العثامين‪ ،‬فلم تسلم لوحاته املوجودة يف رواقه الرشقي‬ ‫والتي تعود للعصور القدمية من القصف بالرباميل املتفجرة من‬ ‫قبل طريان النظام‪ ،‬ما دفع فريق املتحف للحيلولة دون ضياع‬ ‫اللوحات لتجاوز هذه الحرب الفظيعة‪.‬‬ ‫ووفق تقديرات متخصصة‪ ،‬متتلك محافظة إدلب ثلث آثار سوريا‪،‬‬ ‫وتعترب أحفلها باألحداث التاريخية العائدة إىل حقبة األلف‬ ‫الخامس قبل امليالد‪ ،‬ويتجىل ذلك يف أوابدها التاريخية الهامة‬ ‫املنترشة يف املحافظة‪ .‬حيث يوجد فيها ‪ 400‬موقع أثري منها‬ ‫حوايل ‪ 200‬تل أثري‪.‬‬ ‫وبعد خروج قوات النظام وميليشياته من مدينة إدلب‪ ،‬مل يكتف‬ ‫األخري باتهام قوات املعارضة بنهب متحفي إدلب ومعرة النعامن‬ ‫برسقة القطع األثرية وبيعها‪ ،‬بل عمد إىل قصفهام بالرباميل‬ ‫املتفجرة‪ ،‬لطمس معامل تاريخ املنطقة‪.‬‬ ‫ويؤكد مدير مركز حامية الرتاث الثقايف السوري املستقل يف‬ ‫املناطق املحررة “عبد الرحمن اليحيى” لـ”طلعنا عالحرية” أن‬ ‫القطع األثرية والوحات الفسيفسائية‪ ،‬يف متحفي إدلب ومعرة‬ ‫النعامن‪ ،‬ال تزال يف حامية املركز بالتعاون مع الجيش الحر‪.‬‬

‫عمل دؤوب لفريق مركز حامية الرتاث لحامية املتحفني‬

‫تقارير‬

‫لكن رسعان ما تبدد يف الفرتة األخرية‪ ،‬دون‬ ‫اهتامم واضح أو ملموس من قبلها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الحرس الجمهوري يف الثامنينات رسق‬ ‫التامثيل من املدافن امللكية يف “فركيا”‪:‬‬ ‫ويعيدنا اليحيى إىل الثامنينات إبان مجزرة‬ ‫حامة الشهرية‪ ،‬إذ كانت قصص عمليات‬ ‫رسقة وتهريب اآلثار يتناقلها جميع‬ ‫العاملني يف املتاحف السورية‪ ،‬ويقول”إن‬ ‫فضائح بيع اآلثار تورط فيها مسؤولون من‬ ‫نظام األسد وعىل رأسهم رفعت األسد”‪،‬‬ ‫ونقل عىل لسان أحد العاملني باملتاحف يف‬ ‫تلك الفرتة‪ ،‬والذي ال زال عىل رأس عمله‬ ‫اليوم‪ ،‬أن “قوات نظام حافظ األسد ممثل ًة‬ ‫بالحرس الجمهوري جاءت إىل منطقة أثرية‬ ‫يف ريف إدلب (موقع فركيا) الذي يحتوي‬ ‫عىل مدافن ملكية وأخذت متاثيل من‬ ‫املوقع إىل جه ٍة مجهولة يف تلك الحقبة”‪.‬‬ ‫وأكد ما سبق املؤرخ العاملي أندرياس‬ ‫كيلب؛ أي أن تهريب اآلثارالسورية واإلتجار‬ ‫بها كان من اختصاص رفعت األسد يف‬ ‫الثامنينات‪ ،‬ليخرج من سوريا برثوة هائلة‬ ‫م ّكنته من رشاء شارع كامل يف باريس‪،‬‬ ‫وورث ماهر األسد مهنة ع ّمه لتصبح املهنة‬ ‫حكراً عىل آل األسد‪.‬‬

‫وأضاف اليحيى أنه‪“ :‬تم إفراغ صاالت متحف إدلب األثري‬ ‫بالكامل ووضع جميع القطع األثرية يف صناديق تم حفظها يف‬ ‫مستودع رسي خوفاً من قصف الطريان الحريب”‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وفيام يخص لوحات املوزاييك يف متحف املعرة‪ ،‬قال اليحيى‪:‬‬ ‫“قمنا برتميم كل اللوحات بقطع قامشية بطبقتني‪ ،‬إىل جانب ساتر‬ ‫حامية أمام كل لوحة‪ ،‬بطريقة علمية ومدروسة‪.‬‬ ‫ولفت اليحيى إىل أنه مثة موقع منيس يف منطقة شنرشاح أو خربة‬ ‫حاس التي تقع يف منطقة جبل الزاوية وتبعد نحو ‪ 5‬كم عن‬ ‫مدينة كفرنبل‪ ،‬وتعترب إحدى املواقع األثرية التي تعود للعهد‬ ‫الروماين البيزنطي‪ ،‬استهدفته طائرات روسية بثامنية صواريخ‬ ‫فراغية مؤخراً‪ ،‬مشرياً إىل أن فريق املركز و َّثق القصف وأرسل طلباً‬ ‫إىل منظمة “اليونسكو” منذ فرتة دون أن يتل ّقى رداً منها‪.‬‬ ‫وعن اهتامم القوى الثورية السياسية‪ ،‬أوضح مدير املركز أن استمرار عمليات التنقيب عن اآلثار من‬ ‫قدم وساق يف العام ‪ ،2014‬قبل مجهولني وال حلول لوقفها‪:‬‬ ‫التنسيق مع الحكومة املؤقتة‪ ،‬كان عىل ٍ‬

‫الناشط اإلعالمي هاشم الرميي أكد لطلعنا‬ ‫مجموعات مجهولة اليوم‪،‬‬ ‫عالحرية وجود‬ ‫ٍ‬ ‫تنِّقب عن اآلثار يف محافظة إدلب‪ ،‬دون‬ ‫ادع من أحد‪ ،‬الفتاً أن العديد من املدافن‬ ‫ر ٍ‬ ‫األثرية يف القرى األثرية القدمية التي‬ ‫تسمى املدن امليتة‪ ،‬تعرضت للحفر غري‬ ‫الرشعي من قبل لصوص اآلثار‪.‬‬ ‫بدوره‪ ،‬أكد الصحفي عيل إبراهيم من بلدة‬ ‫البارة يف ريف إدلب أن اآلثار السورية هي‬ ‫ملك للجميع وهي تاريخ سورية‪ ،‬وليس لها‬ ‫أي عالقة بالسياسة أو العسكرة‪ .‬فيجب‬ ‫علينا الحفاظ عليها حتى يف زمن الحروب‪.‬‬ ‫وأضاف‪“ :‬إن املناطق األثرية بحسب‬ ‫اليونسكو‪ ،‬من املفروض حاميتها من قبل‬ ‫اللجنة الدولية للصليب األحمر‪ ،‬ورفع أعالم‬ ‫بيضاء عليها وفق بروتوكول جنيف ‪:1954‬‬ ‫(الحامية القانونية للممتلكات الثقافية يف‬ ‫حالة النزاع املسلح ضمن إطار القانون‬ ‫الدويل اإلنساين التعاقدي والعريف) التي‬ ‫تفرض عىل املنظامت الدولية تحييد هذه‬ ‫املناطق عن الرصاع وحاميتها”‪.‬‬ ‫ويرى املختصون أنه أمام هذه الصعوبات‪،‬‬ ‫ال بد من إيجاد صيغة تساهم يف التنسيق‬ ‫بني قوى الثورة واملعارضة ممثل ًة باالئتالف‬ ‫السوري والحكومة املؤقتة ومجالس إدارة‬ ‫املدن واملحافظات املحررة لصيانة ورعاية‬ ‫املواقع والباركات األثرية‪.‬‬


‫أنا والنيروز‬

‫‪9‬‬

‫أنور عباس‬

‫العدد ‪- 67 -‬‬ ‫‪2016 / 3 / 25‬‬

‫مقاالت‬

‫وجدت ذات مرة كتاباً صغرياً لونه أزرق‬ ‫ملقى يف مكتبة صغرية يف بيت‬ ‫جميل‪ً ،‬‬ ‫جدي‪ ،‬ولفت نظري اسم الكتاب‪“ ،‬ممو‬ ‫زين” وكنت يف مطلع عقدي الثاين‪،‬‬ ‫مراهقاً صغرياً تشده قصص الحب الذي‬ ‫كنت أبحث عنه‪ ،‬وكان الكتاب يروي‬ ‫واحدة من تلك القصص تدور أحداثها‬ ‫بني شاب وفتاة يف جزيرة بوطان الواقعة‬ ‫يف كردستان يف أرض تتوسط سوريا‬ ‫والعراق وتركيا‪ .‬قالت مقدمة الكتاب‬ ‫إنها قصة من الرتاث الشعبي للجزيرة‪،‬‬ ‫وقد ترجمها إىل العربية بأسلوب بديع‬ ‫الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي‪،‬‬ ‫نق ًال عن ملحمة صاغها الشاعر الكردي‬ ‫الكبري أحمد الخاين عىل شكل ملحمة‬ ‫شعرية حسب ما أذكر مام ورد يف‬ ‫مقدمة الكتاب‪.‬‬ ‫والقصة ال تعدو كونها قصة حب‬ ‫يعج‬ ‫منسوجة بخيال شعبي لكنه خصب ّ‬ ‫بالتفاصيل واألحداث‪ ،‬وأكرث ما لفتني‬ ‫فيها يومذاك هو الحديث عن احتفاالت‬ ‫الشعب الكردي يف جزيرة بوطان‬ ‫بأعياده ومناسباته ومنها عيد النريوز‪،‬‬ ‫كام نقول عنه نحن العرب‪ ،‬أو النوروز‬ ‫كام يقول األكراد‪.‬‬ ‫تركت أحداث القصة يف نفيس أثراً عميقاً‬ ‫كمراهق تشده قصص الحب التي يعاين‬ ‫فيها العاشقان األمرين وتنتهي غالباً‬ ‫مبوتهم قبل أن يثمر حبهام‪ ،‬مالبث‬ ‫أن زال بعد بضع سنني‪ .‬كانت القصة‬ ‫تعج باألحداث القاسية والحزينة؛ فقد‬ ‫ّ‬ ‫عاىن العاشقان كثرياً‪ ،‬ومرا بظروف‬ ‫قاسية سببت لهام األمل والدموع‪،‬‬ ‫تعج باأللوان‬ ‫لكنها ‪-‬وباملقابل‪ -‬كانت ّ‬ ‫واالحتفاالت التي بدت يل غرائبية جداً‬ ‫وكأنها تأيت من كوكب آخر‪ .‬مل أدرك‬ ‫يومها أن هؤالء القوم الذين يتحدث‬ ‫عنهم الكتاب كانوا يشاركونني ذات‬ ‫املساحة الجغرافية التي شكلت الوطن‬ ‫بالنسبة يل‪ ،‬ومل يخطر ببايل أن هذا‬

‫ممكن‪ .‬فاألكراد سوريون مثيل‪ ،‬وكنت أحسب أنهم‬ ‫عرب أيضاً‪ ،‬وأن كلمة كردي ال تختلف عن كلمة‬ ‫حلبي أو فلسطيني‪ ،‬والذي كنت أعتقده أيضاً أنها ال‬ ‫تختلف عن الحميص أو الحوراين! ورمبا خلت أن هذا‬ ‫الكتاب يتحدث عن شعب عاش منذ زمن‪ ،‬وأن هذه‬ ‫التقاليد مل تعد موجودة أبداً‪.‬‬ ‫تعج باأللوان واملالبس‬ ‫تتحدث القصة عن احتفاالت ّ‬ ‫والعادات والطقوس‪ ،‬وقد تكون فيها بعض املبالغة‪،‬‬ ‫إال أنها بدت جميلة جداً‪ ،‬وكان بعضها عن عيد اسمه‬ ‫النريوز‪ ،‬كنت أسمع به ألول مرة حينها‪ ،‬ومل أسمع به‬ ‫كثرياً بعد ذلك‪ ،‬إال عندما أصبحت يف الجامعة وبدأت‬ ‫أتردد عىل مدينة دمشق بشكل يومي‪ ،‬وأعرف أكرث‬ ‫عام كان يدور فيها‪ .‬كنت أقارن هذه االحتفاالت التي‬ ‫أقرأ عنها يف الكتاب بتقاليد األعراس يف قريتي‪ ،‬ورغم‬ ‫االختالف الكبري بينهام‪ ،‬إال أن احتفاالت قريتي كانت‬ ‫هي املرجعية الوحيدة التي ميكن يل أن أفهم من‬ ‫خاللها مثل هذه الطقوس الجميلة الشعبية واملنمقة‬ ‫يف آن معاً‪.‬‬ ‫يف تلك األيام العصيبة التي مرت عىل سوريا‪ ،‬كان‬ ‫البعث قد متكن من فرض قبضته عىل البالد‪ ،‬بعد أن‬ ‫تم قمع التمرد الذي حصل يف حامة وحلب وأجزاء‬ ‫ّ‬ ‫أخرى من سوريا‪ ،‬وبدأ “األب القائد” ‪-‬كام كان يشار‬

‫إليه يف أدبيات اتحاد شبيبة الثورة الذي وجدنا أنفسنا‬ ‫بني ظهرانيه‪ -‬يتخذ صورة اإلله الذي ال يقهر‪ ،‬وبدأت‬ ‫سوريا األسد بالتشكل‪ ،‬وبدأ اللون الواحد يسود كل‬ ‫مناحي الحياة والثقافة‪ ،‬من شعر وغناء‪ ،‬وبدأت أغانٍ‬ ‫جديدة تشق طريقها إىل املدارس والجامعات ُويك َّرس‬ ‫الشعر ملدح قائد الوطن‪ ،‬وغابت وراء صورة الطاغية‬ ‫ومتاثيله كل تفاصيل الحياة اآلخرى‪ ،‬وبينها كل فرصة‬ ‫ميكن أن تتاح ملراهق يف عمري ليعرف ما ينبغي له‬ ‫أن يعرف!‬ ‫هكذا بدأت حيايت وحياة أجيال كاملة يف ذاك الوطن‬ ‫الحزين‪ .‬ناضلت بعدها لسنوات ألتخلص من هذا‬ ‫اإلنسان‪ ،‬ومل أفلح بالتخلص منه بالكامل‪ ،‬وال أعرف‬ ‫إنساناً استطاع ذلك‪ ،‬وهو ما يعزيني‪.‬‬ ‫كنا جميعاً نعيش يف دولة االستبداد التي مل أكن‬ ‫أعرف حقيقتها حينذاك‪ ،‬وكانت كل االحتفاالت‬ ‫تقترص عىل ما هو مرتبط بالحزب الحاكم‪ ،‬والثورة‬ ‫املجيدة واألب القائد‪ .‬وحرمنا كل ما ميكن أن يزين‬ ‫حياتنا بالفرح الحقيقي واأللوان الزاهية وقصص‬ ‫الحب وشعر الغزل والغنى الثقايف الذي مييزنا يف‬ ‫سوريا‪ ،‬وكان علينا جميعاً أن ندعي أنه غري موجود‬ ‫بدواعي الوحدة الوطنية‪ ،‬التي مل تكن إال حقيقة‪،‬‬ ‫وأصبحنا ما نحن عليه اليوم‪.‬‬


‫‪10‬‬

‫وقف إطالق النار وانسحاب روسي يرافقه‬ ‫انسحاب في قيمة الليرة السورية‬ ‫وائل موسى‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫اقتصاد‬

‫دخل اتفاق وقف إطالق النار يف سوريا حيز‬ ‫التنفيذ منتصف ليلة السبت ‪ 27‬فرباير‪/‬شباط‬ ‫مبوجب خطة روسية أمريكية التزمت بها أغلب‬ ‫فصائل املعارضة السورية‪ ،‬وتم االتفاق عىل استثناء‬ ‫تنظيم “داعش” وجبهة النرصة من االتفاق‪.‬‬ ‫وقف إطالق النار جاء متهيداً الستئناف املفاوضات‬ ‫بني املعارضة السورية ونظام األسد يف جنيف ضمن‬ ‫جولة جديدة بعد تأجيل موعدها املقرر سابقاً‬ ‫ألسباب متعددة‪ ،‬ورغم هشاشة وقف إطالق النار‬ ‫وتوارد العديد من التقارير التي تشري النتهاك‬ ‫اتفاق وقف إطالق النار يف مناطق متعددة‪ ،‬إال‬ ‫أن إعالن روسيا سحي قواتها فاجئ الجميع لتتغري‬ ‫التوقعات حول مسار املفاوضات‪.‬‬ ‫أعلنت روسيا منتصف آذار ‪ 2016‬عن قرار سحب‬ ‫جزء كبري من قواتها يف سوريا‪ ،‬وبدأت عملية‬ ‫االنسحاب تدريجياً من يوم الثالثاء ‪،15/03/2016‬‬ ‫ووفقاً لتحليالت وتقارير وردت عىل رويرتز‪،‬‬ ‫فإن القوات الجوية الروسية قد سحبت معظم‬ ‫طائراتها املقدرة ب‪ 36‬مقاتلة جوية‪ ،‬وأعلن‬ ‫الجيش األمرييك يوم الجمعة أن روسيا مل تشن‬ ‫حمالت جوية خالل األسبوع املايض عىل املناطق‬ ‫الشاملية من سوريا‪ ،‬وقال الكولونيل باتريك رايدر‬ ‫“عىل الرغم من أننا مل نر غارات جوية روسية يف‬ ‫املناطق الشاملية من سوريا هذا األسبوع فيبدو‬ ‫أن الروس شنوا بعض الغارات الجوية بعد كل ذلك‬ ‫يف جنوب سوريا يف املنطقة املحيطة بتدمر دعام‬ ‫للنظام السوري‪”.‬‬ ‫ومنذ صدور إعالن سحب جزء كبري من القوات‬ ‫الروسية وبالتزامن مع وصول وفود املعارضة‬ ‫وممثيل سلطة األسد إىل جنيف‪ ،‬بدأت قيمة اللرية‬ ‫السورية يف تراجع كبري‪ ،‬حيث وصلت قيمة الدوالر‬ ‫األمرييك مقابل اللرية السورية إىل حدود ال ‪،495‬‬ ‫ويف هذه األثناء تكثف حكومة األسد مساعيها يف‬ ‫التدخل املبارش عرب بيع الدوالر ألصحاب رشكات‬ ‫الرصافة‪ ،‬حيث عقد البنك املركزي جلسة تدخل‬ ‫بحضور ممثيل رشكات ومكاتب الرصافة بعد‬ ‫يومني من صدور اإلعالن الرويس‪ ،‬وبارش مرصف‬ ‫سوريا املركزي ببيع الدوالر األمرييك بسعر ‪460‬‬ ‫لرية كام حدد سعر ‪ 450‬لرية للدوالر الواحد لتاريخ‬

‫‪ ،24/03/2016‬وقد حدد مرصف سورية املركزي‬ ‫سعر رصف الدوالر مقابل اللرية السورية ب‬ ‫‪ 422.48‬لرية وسطياً‪.‬‬ ‫اعترب حاكم مرصف سورية املركزي “أديب ميالة”‬ ‫أن ارتفاع السعر غري مربر وناتج عن استغالل‬ ‫األطراف املعادية لخرب سحب جزء من القوات‬ ‫الروسية‪ ،‬كام رصح عن وجود مستجدات اقتصادية‬ ‫إيجابية من أبرزها فتح معرب جديد بني سوريا‬ ‫والعراق مير عربه يومياً أكرث من ‪ 150‬سيارة تحمل‬ ‫املنتجات السورية إىل العراق‪ ،‬كذلك تشغيل الخط‬ ‫البحري املبارش بني املوانئ السورية والروسية‬ ‫لتسهيل تصدير املنتجات السورية إىل روسيا‪.‬‬ ‫ترصيحات “ميالة” املتتالية بكل تناقضاتها تحاول‬ ‫استغباء السوريني ممن يثقون بحكومة األسد‬ ‫ونظام عصاباته‪ ،‬متناسياً وعوده السابقة التي‬ ‫أرشنا إليها يف نرشة سابقة بعدم تجاوز سعر رصف‬ ‫الدوالر مقابل اللرية السورية عن ‪ 400‬لرية‪ ،‬كام‬ ‫أن املستجدات التي يعتربها إيجابية متناقضة‬ ‫متاماً مع الواقع السوري الذي بات بحاجة لتدفق‬ ‫املساعدات من الخارج‪ ،‬حيث أن ما تم اعتباره‬ ‫مؤرشاً إيجابياً ال يعدو عن كونه مجرد فقاعة‬ ‫إعالمية عاجزة عن تغطية النقص الحاصل يف‬ ‫األسواق‪ ،‬ويف نرشات سابقة أرشنا إىل مواضيع‬ ‫تدحض ترصيحات ميالة‪ ،‬فام رصح حوله من معرب‬ ‫جديد وخط بحري ال ينفي أن سوريا البلد الزراعية‬ ‫بات تجارها يطالبون باسترياد الخضار من بعد أن‬ ‫كانت تصدّرها إىل العديد من الدول‪ ،‬إضافة إىل‬ ‫إعالن وزارة االقتصاد والتجارة الخارجية بالتعاون‬ ‫مع رئيس اتحاد الغرفة الزراعية عن االسترياد من‬

‫مرص لسد الفجوة الحاصلة يف البلد من نقص يف‬ ‫اإلنتاج الزراعي والصناعي‪.‬‬ ‫تسعى حكومة األسد جاهدة للظهور عىل انها‬ ‫تستوعب الكارثة االقتصادية التي يعاين منها‬ ‫الشعب السوري يف كافة املناطق‪ ،‬رغم تجاهلها‬ ‫الواضح لكافة األوضاع اإلنسانية وضلوعها املبارش‬ ‫يف تجويع سكان املناطق املحارصة‪ ،‬عدا عن تسببها‬ ‫يف تهجري الشباب ورؤوس األموال وقطع الطرق‬ ‫مام تسبب يف شلل اقتصادي عام‪.‬‬ ‫استمر ظهور نظام األسد عىل أنه صامد اقتصاديا‪ً،‬‬ ‫رغم عدم وجود أي قراءات ملؤرشات اقتصادية‬ ‫توضح الصورة الحقيقية‪ ،‬حيث استبدلت الحكومة‬ ‫السورية املؤرشات االقتصادية بالتغطية اإلعالمية‬ ‫وتجاهل االحتياجات واستخدام الدعم الخارجي‬ ‫وطباعة عمالت ال قيمة لها‪ ،‬مام دفع املعارضة‬ ‫يف املناطق الشاملية إلصدار قرار الستبدال عملة‬ ‫التداول يف املناطق املحررة شامل سوريا بالعملة‬ ‫الرتكية‪ ،‬حيث اعتربت اللجنة املسؤولة عن القرار‬ ‫أن الهدف األسايس من استبدال العملة هو توجيه‬ ‫رضبات اقتصادية للنظام السوري‪ ،‬باإلضافة لحامية‬ ‫أموال السوريني من موجات الهبوط املفاجئة يف‬ ‫قيمة العملة املحلية‪ ،‬ورغم عدم التزام العديد من‬ ‫الجهات بتنفيذ هذا القرار إال أن عامة السوريني‬ ‫قد فقدوا الثقة باللرية السورية بشكل عام‪.‬‬ ‫من خالل حركة هبوط قيمة اللرية السورية مؤخرا‪ً،‬‬ ‫بات من الواضح أن العملة السورية مؤهلة‬ ‫لالنهيار أكرث مام هي عليه اآلن‪ ،‬وتعترب قيمتها‬ ‫املتدنية الحالية مجرد عارض ال يرتقي لتسميته‬ ‫بعد مبرحلة انهيار قيمة العملة السورية‪.‬‬


‫نشرة اقتصادية‬

‫طلعنا عالحرية ‪ -‬القسم االقتصادي‬

‫اهم املستجدات التي تهم السوريني يف الشتات والداخل‬

‫المنح الدراسية للسوريين لهذا العام‪.‬‬

‫ومؤسسة ‪ EP-Nuffic‬للتعليم يف هولندا‪ 400 ،‬منحة‬ ‫دراسية للطالب السوريني‪ ،‬إضافة إىل توفري ‪4,000‬‬ ‫منحة لدراسة اللغة اإلنجليزية وتقديم اإلرشاد‬ ‫الرتبوي إىل أكرث من ‪ 42,000‬أخرين‪ .‬كام يقدم‬ ‫الربنامج منحاً صغرية ميرسة التمويل لدورات قصرية‬ ‫ومبتكرة من قبل الجامعات يف املنطقة‪.‬‬ ‫أما برنامج الفاخورة‪ ،‬املمول من قبل مؤسسة التعليم‬ ‫فوق الجميع القطرية‪ ،‬فسيقدم ‪ 800‬منحة دراسية‬ ‫للطالب السوريني‪.‬‬

‫تحويل مؤسسة‬ ‫الطيران السورية‬ ‫لشركات خاصة‬

‫اقتصاد‬

‫نقلت وكالة سانا عن مدير تأمني سالمة‬ ‫الطريان يف املؤسسة العامة للطريان املدين‬ ‫“بشار أحمد” أن املؤسسة وافقت مبدئياً‬ ‫عىل الرتخيص لرشكة “إبيال للطريان”‪ ،‬وقد‬ ‫ذكر يف الترصيح للوكالة بأن املؤسسة‬ ‫تقوم بدراسة طلبات ‪ 13‬رشكة ترغب يف‬ ‫تأسيس رشكات طريان مدين‪.‬‬ ‫سبق أن رخصت مؤسسة الطريان‬ ‫السورية لرشكتي “أجنحة الشام وفالي‬ ‫داماس” تحت ادعاء تخفيف العبء عن‬ ‫املسافرين واملغرتبني السوريني‪.‬‬ ‫تعاين مؤسسة الطريان السورية من‬ ‫عقوبات أمريكية قدمية حدت من‬ ‫إمكانية املؤسسة من تطوير اسطولها‪،‬‬

‫كام خضعت لعقوبات أوروبية بعد انطالق الثورة‬ ‫السورية‪ ،‬ويضاف إىل معاناتها من العقوبات‪،‬‬ ‫ابتالء املؤسسة بإدارة فاسدة‪ ،‬وتوظف مؤسسة‬ ‫الطريان ما يقارب ‪ 6‬آالف موظف واستمرت‬ ‫كمؤسسة خارسة حتى اندالع الثورة السورية‬ ‫لتتحول إىل الربح نتيجة احتياج السوريني للتنقل‬ ‫اآلمن ضمن األرايض السورية‪ ،‬إضافة إىل توقف‬ ‫العديد من رشكات الطريان الدولية عن تسيري‬ ‫رحالتها إىل سوريا‪.‬‬ ‫ويف ظل العقوبات عىل مؤسسة الطريان أصبحت‬ ‫الساحة متاحة لرامي مخلوف للسيطرة عىل‬ ‫النقل الجوي من خالل رشكة أجنحة الشام التي‬ ‫باتت املستفيد األكرب من قطاع النقل الجوي عىل‬ ‫حساب املؤسسة العامة‪.‬‬

‫نقلت صفحة دمشق اآلن عىل موقع التواصل‬ ‫االجتامعي فيسبوك عن صحيفة “الوطن”‬ ‫ترصيحات لوزير الصناعة يف حكومة نظام‬ ‫األسد “كامل الدين طعمة” عن وجود قروض‬ ‫وتراكامت مالية مبليارات اللريات‪ ،‬وتحاول‬ ‫الوزارة قدر اإلمكان تالفيها‪ ،‬ورصح بوجود خطة‬ ‫مالية لتسديد القروض‪ ،‬وقال‪ :‬نعمل حالياً يف‬ ‫إطار تصحيح سعر مادة اإلسمنت‪ ،‬مقارناً بني‬ ‫سعره يف سورية والذي بلغ ‪ 25‬ألف لرية للطن‬ ‫الواحد وبنسبة ربح ال تتجاوز ‪ 3‬باملئة وبني‬ ‫سعره مع دول الجوار ومنها لبنان الذي تجاوز‬ ‫فيها سعر الطن الواحد ‪ 55‬ألف لرية‪.‬‬ ‫علل “كامل الدين طعمة” توجهات الوزارة‬ ‫إىل رفع قيمة مادة اإلسمنت لتساوي سعرها‬ ‫يف دول الجوار بأنها لتفادي التهريب دون أي‬ ‫اعتبار للنقص الحاصل يف األسواق وتعرث عجلة‬ ‫اإلنتاج‪ ،‬كام حاول تربير الفساد الذي أدى‬ ‫لرتاكم الديون عىل الوزارة‪.‬‬ ‫توارد عدد من التعليقاًت الساخرة عىل صفحة‬ ‫دمشق اآلن حول ترصيحات الوزير لتقول بأن‬ ‫عىل الوزير مقارنة دخل املواطن السوري التي‬ ‫ال تزيد عن ‪ 100‬دوالر أمرييك بدول الجوار‬ ‫التي يصل فيها دخل املواطن إىل ما يزيد عن‬ ‫‪ 500‬دوالر أمرييك‪.‬‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫هذا العام‪ ،‬قدمت سبارك‪ ،‬بدعم من‬ ‫الحكومة الهولندية‪ 1,500 ،‬منحة دراسية‬ ‫للطالب السوريني‪ .‬كام تعتزم تقديم ‪3,500‬‬ ‫منحة أخرى خالل ‪ 2016‬و‪ 10,000‬منحة‬ ‫ضمن ميزانيتها الحالية‪ .‬تقدم سبارك هذه‬ ‫املنح بالرشاكة مع منظامت محلية مثل‬ ‫الجمعية اللبنانية لدعم البحث العلمي‪،‬‬ ‫التي تعمل عىل توفري مقاعد دراسية لـ ‪460‬‬ ‫طالب سوري يف الجامعات الخاصة اللبنانية‬ ‫هذا العام‪ ،‬وجامعة غازي عينتاب الرتكية‪،‬‬ ‫التي لديها اليوم ‪ 1,300‬طالب وطالبة‬ ‫سوريني‪.‬‬ ‫كام يقدم برنامج آفاق وفرص التعليم العايل‬ ‫للسوريني (آمال)‪ ،‬واملمول من قبل صندوق‬ ‫مداد التابع لالتحاد األورويب ويدار من قبل‬ ‫الهيئة األملانية للتبادل العلمي (‪)DAAD‬‬ ‫واملجلس الثقايف الربيطاين‪ ،‬وجامعة فرنسا‬

‫تصريحات وزير حكومة‬ ‫نظام األسد تثير‬ ‫السخرية على فيسبوك‬

‫‪11‬‬


‫“الرقيب الخالد” يشارك في الملتقى‬

‫‪12‬‬

‫السينمائى“اللمساتاألولى”باالسكندرية‬ ‫طلعنا عالحرية‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫ُيشارك الفيلم التسجييل السوري “الرقيب الخالد”‬ ‫للمخرج الشاب زياد كلثوم‪ ،‬يف امللتقى السينامىئ‬ ‫“اللمسات األوىل” الذي يقام من ‪ ٢٠‬حتى ‪٢٥‬‬ ‫من آذار‪ /‬مارس الجاري‪ ،‬وذلك ىف محطته الثانية‬ ‫بعد تونس العاصمة الشهر املايض‪ ،‬والذي تنظمه‬ ‫مؤسسة جدارن للفنون والتنمية بالتعاون مع‬ ‫أرخبيل الصورة ‪ -‬مارسليا وجمعية نشاز ‪ -‬تونس‬ ‫واملركز الثقاىف الفرنيس بالقاهرة‪.‬‬ ‫الفيلم الذي فاز بعدد هام من الجوائز‪ ،‬كان أهمها‬ ‫“جائزة أفضل فلم تسجييل طويل” مبهرجان “يب‪.‬‬ ‫يب‪.‬يس”‪ ،‬وجائزة يف مهرجان لوكارنو السيناميئ يف‬ ‫سويرسا‪ ،‬ولدت فكرته أثناء إخراج فيلم “سلم‬ ‫إىل دمشق” لصاحب “الليل” و”أحالم املدينة”‬ ‫املخرج محمد ملص‪ ،‬يوم كان “كلثوم” يعمل‬ ‫معه آنذاك كمساعد مخرج‪ .‬متناوالً قصة شاب‬ ‫سوري ضمن عاملني مختلفني‪ :‬األول يرصد حياة‬ ‫مجند يف الخدمة العسكرية اإللزامية‪ ،‬والثاين هو‬ ‫حياة نفس الشاب‪ ،‬أثناء عمله يف تصوير أحد‬ ‫األفالم السينامئية‪.‬‬

‫رحلة يوم واحد يف أعامق املجتمع‬ ‫السوري‪..‬‬

‫ثقافة‬

‫يف “الرقيب الخالد” (‪ 72‬دقيقة‪ ،)2014 ،‬عمل‬ ‫“كلثوم” يف رحلة يوم عادي من عام ‪،2012‬‬ ‫ليقدم لنا ملحة عن رفاقه السوريني اآلخرين‬ ‫وهم يكابدون األىس والصدمة ويف نفس الوقت‬ ‫يحاولون مواصلة حياتهم العادية‪ ،‬إنها رحلة يوم‬ ‫واحد يف أعامق املجتمع السوري يقوم بها الفيلم‪،‬‬ ‫ما يجعله أقرب إىل مسبار يستكشف املسكوت‬ ‫عنه يف مجتمع ّ‬ ‫تتوضح خلف كل نأمة فيه معامل‬ ‫الخوف من الحارض واملستقبل‪ ،‬والخوف عىل‬ ‫املايض ومنه‪ .‬من الصعب العثور عىل صفة أخرى‬ ‫غري الخوف تختزل الحال التي يقولها الفيلم عرب‬ ‫شخصياته التي يلتقيها‪ ،‬ويقدمها لنا‪.‬‬ ‫ففي يوم من أيام ترشين الثاين (نوفمرب) ‪،2012‬‬ ‫سوف يستيقظ الرقيب املجند زياد كلثوم‪ ،‬يغادر‬ ‫املكتب الذي يؤدي فيه خدمته العسكرية‬ ‫االلزامية‪ ،‬مي ّر عىل صالة “السينام العسكرية”‪،‬‬ ‫يف مق ّر خدمته؛ (إدارة التوجيه السيايس يف قوى‬ ‫الدفاع الجوي)‪ .‬ومن ثم يركب ميكروباص متجهًا‬ ‫لعمله اآلخر‪ ،‬مساعدًا مللص يف تصوير فيلمه‪،‬‬ ‫وسيعود الرقيب املجند يف املساء‪ ،‬إىل الثكنة‪،‬‬ ‫وقد استكشفنا معه عوامل دمشق التي ميكنها أن‬ ‫تكون صورة مكثفة عن سوريا كلها‪ .‬ليعلن بعدها‬ ‫الرقيب املجند انشقاقه عن الجيش‪ ،‬ويعلن عدم‬

‫املخرج زياد كلثوم‬ ‫التحاقه بـ”الجيش السوري الحر”‪ ،‬أو أي جيش أو فصيل‬ ‫مقاتل‪ ،‬إذ إن سالحه (الكامريا)‪ .‬وإذ ذاك سوف يصري‬ ‫الرقيب املجند جدي ًرا بصفة “الرقيب الخالد”‪.‬‬ ‫ويف هذا الفيلم يطري زياد كلثوم عىل أجنحة روائية‬ ‫لشخصيات نجح العمل إبداع ًيا يف اإلقرتاب من عواملها‬ ‫املعتمة الحرجة‪ ،‬فأدهشت مبكنوناتها‪.‬‬ ‫وميكن القول إن ذكاء فكرة الفيلم‪ ،‬تتكامل مع تنفيذه‪،‬‬ ‫وبنائه‪ ،‬ورسديته‪ ،‬وقدرته عىل النفاذ إىل «وصف الحال‬ ‫السورية»‪ ،‬من دون أن يقولها مبارشة‪ ،‬بل عرب أصوات‬ ‫نازفة األمل والخوف‪.‬‬

‫محاكاة الواقع الدامي بالكامريا‬

‫ُصورت مشاهد الخدمة اإللزامية يف الفيلم‪ ،‬عن طريق‬

‫كامريا املوبايل‪ ،‬وعن هذا الجانب يقول مخرج‬ ‫العمل‪ ،‬إن “الظرف هو الذي يتحكم باألدوات‬ ‫املناسبة إلنجاز املواد السينامئية‪ ،‬وهي التي‬ ‫تفرض رشط االستخدام وطريقة توظيفها بشكل‬ ‫ٌ‬ ‫توظيف برع فيه زياد كلثوم فـ‬ ‫مناسب”‪.‬‬ ‫“الرقيب الخالد” هو فيلم أمام الكامريا‪ ،‬وفيلم‬ ‫خلفها أمام كامريا رسية‪ .‬كأمنا هي الحال السورية‬ ‫ذاتها‪ ،‬أو شكل آخر من اختزاالتها وتكثيفها‪.‬‬ ‫مجتمع محكوم بالرسية‪ .‬الصمت عنوان الرسية‪،‬‬ ‫والقول فضيحتها‪ .‬الصورة السينامئية توازي‬ ‫القول وال تقوله‪ .‬إنها استعارة أو داللة أو إحالة‪.‬‬ ‫هذه املرة لن نرى الحرب‪ .‬بل سنعيشها‪ .‬ولن‬ ‫نرى الطائرات‪ .‬وإمنا سنسمع زعيقها‪ .‬ولن نرى‬ ‫القتىل‪ .‬غري أننا سوف نسمع قصصهم وحكايتهم‪.‬‬ ‫كذلك لن نرى الدمار‪ .‬لكن غباره سوف يخنقنا‪.‬‬ ‫ولن يكون الحديث عن املجتمع ألننا نحن هو‪.‬‬ ‫سرنى أنفسنا وراء الوجوه التي ظهرت أمام كامريا‬ ‫“الرقيب الخالد”‪.‬‬ ‫ُيشار إىل أن املخرج الشاب زياد كلثوم‪ ،‬يقيم حال ًيا‬ ‫يف برلني‪ ،‬وهو من مواليد مدينة حمص السورية‬ ‫عام ‪ .1981‬درس السينام يف االتحاد السوفيايت‪،‬‬ ‫وقبل إخراج الوثائقيات الطويلة‪ ،‬عمل كمساعد‬ ‫مخرج مع العديد من املخرجني مثل محمد ملص‬ ‫وحاتم عيل وطالل ديريك وكذلك عىل مسلسالت‬ ‫تلفزية سورية‪ .‬وقد اختري فيلمه الوثائقي األول‬ ‫“أيدل” (آه يا قلبي) عام ‪ 2012‬ملهرجان قرطاج‬ ‫السيناميئ‪.‬‬ ‫وبعد اندالع الثورة السورية‪ ،‬خدم “كلثوم”‬ ‫كجندي احتياط‪ ،‬ويف الوقت ذاته كان يعمل‬ ‫ً‬ ‫أيضا مساعدًا للمخرج محمد ملص‪ .‬ويف العام‬ ‫‪ 2015‬حقق زياد كلثوم فيلمه الوثائقي الثالث‬ ‫“ديك بريوت”‪ ،‬وهو رشيط طويل‪ ،‬صامت‪ ،‬خال‬ ‫من الكالم‪ ،‬اعتمد فيه عىل الصوت واملوسيقى‬ ‫م ًعا‪ ،‬وفيه يرصد حياة وأوضاع ‪ 150‬عامل بناء‬ ‫من سوريا يعملون يف بريوت‪ ،‬يعيشون يف حفرة‬ ‫تحت األرض‪ ،‬يخرجون منها بشكل يومي عىل‬ ‫س ّلم خشبي ليصلوا إىل مستوى األرض ويذهبوا‬ ‫إىل عملٍ يومي يتكرر‪.‬‬ ‫جدير بالذكر أن فعاليات امللتقى السينامىئ‬ ‫“اللمسات األوىل”‪ ،‬تجمع بني العرض والنقد‬ ‫واإلبداع‪ .‬من خالل مجموعة من العروض‬ ‫السينامئية وورش العمل حول الكتابة النقدية‬ ‫والربمجة واإلخراج والتي سوف تدور أحداثه‬ ‫باألماكن الفنية ملؤسسة جدران للفنون والتنمية‬ ‫( وكالة بهنا – الكابينة)‪.‬‬


‫نشرة ثقافية‬

‫حراك ثقافي في الذكرى الخامسة للثورة السورية‬ ‫طلعنا عالحرية – القسم الثقافي‬

‫كنان العظمة وأوركسرتا املغرتبني يف أملانيا‬ ‫حركة ضمري‬

‫“الليرباسيون”الفرنسية‪،‬‬ ‫“بوليتيكن”الدمناركية”‪،‬‬ ‫و”تاتز” األملانية‪ ،‬صحف‬ ‫الثورة السورية يف أوروبا‬

‫دكتور” وسجن بأمر من عاطف نجيب وقتها‪،‬‬ ‫وهو اآلن يقاتل مع الجيش الحر!‪ ،‬يف الوقت‬ ‫ذاته خصصت صحيفة بوليتكن الدمناركية مل ًفا‬ ‫خاصا عن الثورة السورية ووضعت يف عددها‬ ‫ً‬ ‫الصادر يف ذكرى الثورة شعار “إجاك الدور‬ ‫يا دكتور” عىل الصفحة األوىل‪ ،‬بينام قامت‬ ‫صحيفة “تاتز” األملانية الشهرية بتخصيص عدد‬ ‫كامل يف ‪ 18‬آذار عن سوريا وثورتها كتب فيه‬ ‫صحافيون سوريون وأملان عن سوريا وثورتها‪.‬يف‬ ‫الفريق الطبي لحي بستان القرص‪.‬‬

‫ردينغ يف اسطنبول‬ ‫و‬

‫لفيلم ب‬

‫ل عرض جامهريي‬ ‫سطنبول يف الذكرى‬ ‫أو‬ ‫ع الثقايف الفني يف ا‬ ‫و‬ ‫ألسب‬ ‫رتة ما بني ‪ 19‬وحتى‬ ‫يشارك فيلم “بوردينغ” يف ا ة والذي يقام يف الف‬ ‫طالق الثورة السوري‬ ‫ة‪ ،‬ويذكر أن فيلم‬ ‫سة الن‬ ‫عربي‬ ‫الخام ار الجاري‪ ،‬يف قاعة مكتبة توتيل ال ل مرة للجمهور يف‬ ‫ن غنوم يعرض ألو‬ ‫‪ 25‬من آذ‬ ‫رج السوري غطفا‬ ‫دقيقة) من إنتاج‬ ‫خ‬ ‫م‬ ‫لل‬ ‫(‪93‬‬ ‫ديغ”‬ ‫“بور سبة‪“ .‬بوردينغ” فيلم وثائقي طويل من مآيس الالجئني‬ ‫هذه املنا‬ ‫سينامئية جوانب‬ ‫مادته ال‬ ‫ة رصبيا ومقدونيا‪.‬‬ ‫العام ‪ ،2014‬يتناول يف ها األورويب عىل حاف‬ ‫بني اليونان وجوار‬ ‫السوريني‬

‫ثقافة‬

‫قررت صحيفة الليرباسيون‬ ‫الفرنسية احتفاالً بذكرى‬ ‫الثورة السورية أن متنح‬ ‫مكاتبها للسوريني يو ًما كام ًال‪،‬‬ ‫إلصدار عدد سوريّ بالكامل‬ ‫عنوانه “تحرير”‪ ،‬حيث‬ ‫دخل السوريون وقاموا بكل‬ ‫األعاملالصحافيةوالتحريرية‬ ‫واإلخراجية والتقنية الالزمة‬ ‫من األلف إىل الياء‪ .‬حمل‬ ‫غالفها توقيع الفنان السوري‬ ‫الفلسطيني “باسم منور”‪،‬‬ ‫وضمت صفحاتها أسامء‬ ‫كثرية لصحافيني سوريني‪،‬‬ ‫كام كان يف الصفحة األخرية‬ ‫لقاء مع معاوية الصياصنة‬ ‫من درعا‪ ،‬الطفل الذي كتب‬ ‫عىل الجدار “إجاك الدور يا‬

‫أعلن مجموعة من السوريني اجتمعوا يف العاصمة‬ ‫الفرنسية باريس عن انطالق “حركة ضمري” التي‬ ‫أعلنت رفضها “ألي شكل من أشكال الديكتاتورية‬ ‫والتطرف الديني يف سوريا املستقبل”‪.‬‬ ‫وأعلنت حركة ضمري أنها ستكون “حركة مدنية‬ ‫ثقافية سياسية‪ ،‬تستمد مبادئها من أهداف الثورة‬ ‫السورية السلمية بالحرية والكرامة ومواجهة وإنهاء‬ ‫الديكتاتورية من جهة والتطرف الديني والتكفريي من‬ ‫جهة أخرى”‪.‬‬ ‫وأكدت الحركة عىل‬

‫العدد ‪2016 / 3 / 25 - 67 -‬‬

‫أقام عازف الكالرينيت السوري كنان العظمة مع أوركسرتا‬ ‫املغرتبني السوريني الفيلهارموين حف ًال موسيق ًيا يف العاصمة‬ ‫األملانية برلني‪ ،‬تحت عنوان “وطننا حيث تكون موسيقانا” يف‬ ‫مقر مؤسسة هايرنش بول األملانية األربعاء ‪ ،9-3-2016‬حيث‬ ‫دعا “األصدقاء” الفنانون السوريني إىل هذا الحفل ليعرضوا‬ ‫قطعة من الوطن للذين تركوه خلفهم‪ ،‬فبحسب العظمة‬ ‫وأصدقائه‪ ،‬الوطن‪ ،‬هو حيث تكون موسيقاهم‪ .‬وكان هذا‬ ‫مخصصا لالجئني السوريني يف برلني‪ ،‬بينام سبقه يف‬ ‫الحفل‬ ‫ً‬ ‫ٌ‬ ‫يوم قبله حفل بذات الربنامج‪ ،‬لألملان والقادرين عىل دفع ‪20‬‬ ‫ٍ‬ ‫يورو ذهبت لألطفال يف مخيامت اللجوء يف لبنان‪.‬‬

‫وحدة األرايض السورية ورفض كل‬ ‫أشكال االحتالل‪ .‬والسعي لجمع القوى‬ ‫الدميقراطية واملجتمع املدين بكل قواه‬ ‫لوقف الحرب‪ ،‬والدفع باتجاه حل‬ ‫سيايس وفقا لـ اتفاق جنيف‪.1‬‬ ‫وجاء يف الوثيقة التأسيسية للحركة‪:‬‬ ‫“حركة ضمري” هي حراك مدين‬ ‫ثقايف سيايس مفتوح لجميع الساعني‬ ‫للحرية والدميقراطية والعدالة‬ ‫االجتامعية‪ ،‬منطلقه أهداف الثورة‬ ‫السورية السلمية يف الحرية والكرامة‪،‬‬ ‫والخالص من الديكتاتورية التي أدت‬ ‫إىل اغرتاب سورية املجتمع واإلنسان‬ ‫والتاريخ والقيم عن ذاتها‪ ،‬وأودت‬ ‫بها إىل منط من الركود واالستنقاع‬ ‫املجتمعي والتاريخي ليكون مستح ًقا‬ ‫بعد هذا نداء الثورة بإسقاط النظام‪،‬‬ ‫خصوصا بعد البطش الالمحدود وقتل‬ ‫ً‬ ‫املتظاهرينالسلميني‪”.‬‬

‫‪13‬‬


‫الربيع والنار توأمان‬

‫‪4‬‬ ‫‪14‬‬

‫حيدر محمد هوري‬

‫العدد ‪53 -‬‬ ‫‪2016‬‬ ‫‪2015 // 38 // 25‬‬ ‫‪2 - 67‬‬

‫ثقافة‬ ‫لقاءات‬

‫لن أبدأ بحديث كالسييك عن الربيع واملروج الخرض‪ .‬لن أشغلكم بالكالم عن‬ ‫أحاديث العجائز أمام عتبات البيوت‪ ،‬سأنىس تفاصيل الربيع يف القرى‪ ،‬سأنىس‬ ‫الجداول والينابيع‪ ،‬سأنىس التالل املزركشة بقطعان املوايش وبساطة (الرعيان)‪ .‬كل‬ ‫هذا ألستذكر (أبو الفوز) وعائلته تلك الندبة العميقة يف الذاكرة‪ ،‬ألنني ما زلت‬ ‫أنتظرهم وأترقب قدومهم‪ ،‬هذا هو العام الخامس عىل غيابهم‪.‬‬ ‫عائلة أبو الفوز‪ ،‬تلك العائلة املنحدرة من أصول ألبانية مل تزل تربك روحي‪ .‬إنها‬ ‫عائلة مازجت بني خواص املاء والنار‪ ،‬بني الرماد ومالمح الربيع‪ ،‬بني رائحة الرصاص‬ ‫وعبري الزهور الربية‪ ،‬تلك العائلة التي علمتني الكثري‪ ..‬الكثري يف هذه الحياة‪.‬‬ ‫املشاهد مازالت حارضة يف الذاكرة رغم تساقط بعض التفاصيل‪ ،‬صفاتهم‬ ‫ومالمحهم‪ ،‬لن أنىس قاماتهم الطويلة‪ ،‬وال شقرتهم‪ ،‬أو حتى صربهم عىل العمل‬ ‫وعىل فضول أهل القرية وأسئلتهم الساذجة‪ ،‬كم كنت أحاول عد نقاط النمش‬ ‫املوزعة بعشوائية عىل وجوههم‪ .‬مالمحهم كانت كفيلة ألن تقول لك‪“ :‬إنهم‬ ‫غرباء عن هذه القرية”‪ ،‬لكن الغرباء اآلن كثريون يف بلدي‪ ،‬ومالمحهم تدل عىل‬ ‫عدم ارتباطهم بطني هذا البلد‪ ،‬لست أدري ملاذا يقول مختار الوطن‪“ :‬أنهم من‬ ‫آل البيت”‪.‬‬ ‫إنهم العائلة النبوءة صدقوين فكل ما فيهم وكل ما يحيط بهم ويصدر عنهم يؤكد‬ ‫ذلك‪ ،‬لقد علموين أن الغرباء ميكن أن يصبحوا كأهل الدار‪ ،‬وميكن أن نشاركهم يف‬ ‫زادنا وقمحنا‪ ،‬وميكن أن يصريوا أصهرة وأصدقاء أو أعداء‪ .‬هذه العائلة مل تعرف‬ ‫املستحي‪ ،‬لكننا مل نتعلم منهم كيف تنصب الخيام!‪.‬‬ ‫كنا صغارا‪ ،‬نحوم حولهم كأفراخ الدجاج التي تنتظر حفنة من الحب‪ .‬كانت األيدي‬ ‫تعمل بخفة ورشاقة‪ .‬لكل يد طابعها الخاص‪“ ،‬هناك يد حاملة وثانية مزاجية‪،‬‬ ‫وثالثة طائشة‪ ،‬ورابعة قاتلة وأخرى مبدعة”‪ ،‬هكذا كان يقول جدي‪.‬‬ ‫كنا نراقبهم وهم يدقون األوتاد‪ ،‬مل نتعلم طريقتهم السحرية يف ربط الحبال‬ ‫باألوتاد املثبتة باألرض‪ ،‬يف كل عام كنت أسهو وأرشد عن مرحلة توزيع األعمدة‬ ‫الخشبية التي كانت توزع وفق هندسة حفظوها عن أجدادهم ومل أتعلمها‪ .‬كانوا‬ ‫يعملون بجد‪ ،‬مل يطلبوا يو ًما عو ًنا من أحد‪ ،‬تذكرتهم وتذكرت طوابري الزحمة‬ ‫والفوىض يف مخيامتنا أثناء توزيع املساعدات الغذائية‪.‬‬ ‫أبو الفوز طال غيابك‪ ،‬هل أنت منشغل بنصب الخيام عىل الحدود أم أن الحواجز‬ ‫املنترشة كالحىص يف قاعة مسمكة منزلية اعتقلت (فواز) وأنت األن تنتقل من‬ ‫باب ألخر لتعرف مصريه أو لتفك أرسه‪ ..‬أين أنت يا أبا الفوز؟‬ ‫“الربيع والنار توأمان” تعلمت هذه الحكمة من أبو الفوز‪ ..‬كان يقول‪:‬‬ ‫“مثلام الربيع يجمل وجه األرض باملروج واألزهار‪ ،‬فالنار أيضا تطهر وتب ّيض‬ ‫النفوس وتحفظ البالد من العدوان‪ ..‬أمل تتساءلوا يوما ملاذا اختار الله النار عذابا‬ ‫لكل عاص يف األرض؟! ألن النار ال تعرف الرياء والنفاق ألنها تطهر وتكفر عنا‬ ‫الخطايا والسيئات‪”..‬‬ ‫أبو الفوز الغريب‪ ،‬مبيض األواين النحاسية ال يحب النزوح وال اإلقامة يف بالد‬ ‫اآلخرين‪ ،‬أبو الفوز الطارئ والضعيف كان يزورنا ليعلمنا فوائد النار يف الربيع‪،‬‬ ‫وكيف تنصب الخيام‪ ،‬لكنه كان يغادرنا يف الصيف حني تنضج الثامر‪ ،‬ينزع أوتاده‬ ‫من األرض يحل عقد الحبال ويجمع األعمدة الخشبية ويلف خيمته معتقدًا أن‬ ‫الرسالة قد وصلت‪..‬‬ ‫لكنه كان يعاود الزيارة يف الربيع التايل‪ ..‬طال غيابه‪ ،‬بدأنا نحن إليه‪ ،‬خمس سنوات‬ ‫من االنتظار كانت كفيلة باملوت والنزوح‪ ..‬تعال يا أبا الفوز فالصيف عىل األبواب‬ ‫ونحن ال نعرف كيف تهدم الخيام؟!‬

‫‬”إنه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫مجد ًدا”‪‬‪‬‬ ‫يتون‬ ‫الز‬ ‫َّ‬ ‫‬عالء عودة‪‪‬‬

‫العدم‬ ‫صاب بفقدان ذاكر ٍة‬ ‫ارتكايس “ماورا ّيئ”‪ ..‬أ َف ْق ُت منَ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كم ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫جالسا إىل طاول ٍة من الخشب الخام يف أح ِد املقاهي ذوي الطابع‬ ‫ا ّلذي لطاملا كان ُمح ّب ًبا إ ّيل‪ ،‬تحت نعم ِة موسيقى الجاز الخفيفة‪،‬‬ ‫شخص غارقٍ يف ُمكامل ٍة هاتف ّية‪..‬‬ ‫مبقابلِ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫قط ُ‬ ‫بت للوهل ِة األوىل‪ ،‬ال أذك ُر من هو‪ ..‬لكنّ مالمحه الط ّيبة ليست‬ ‫بغريبة بالتأكيد‪ ،‬بل مألوفة أش ّد األلفة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فنجان القهوة إزاءه شارف عىل أن يفرغ‪ ،‬و كأس ّ‬ ‫الشاي أمامي كان‬ ‫ُ‬ ‫قد تب ّقى منه ما يعادل ال ّرشفتني‪ ،‬لكنّ قعره كان خاليا من أي أث ٍر‬ ‫هبي الدّاكن الودود‪ ،‬عاد ًة‪،‬‬ ‫لألوراقِ ّ‬ ‫السوداء ضمن هذا ال ّلون ال ّذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫أفضل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثم ُ‬ ‫ر‪..‬‬ ‫ف‬ ‫التو‬ ‫حال‬ ‫يف‬ ‫“الخمري”‬ ‫اي‬ ‫الش‬ ‫نظرت إىل املنفضة‪ :‬عددٌ‬ ‫ّ‬ ‫من أعقاب سجائر ال ّلف العرب ّية‪ ،‬و ُ‬ ‫شاي معصور‪..‬‬ ‫ظرف ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الصديق املجهول املق ّرب‪ ،‬الذي كان ال يزال‬ ‫نظرت مج ّددًا إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫طقطقُ عىل خشب الطاولة مببسم‬ ‫يخوض مكاملته الهاتفية‪ ،‬و ُي ِ‬ ‫الخشبي الفارغ‪..‬‬ ‫السجائر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لوهلة حدّثت نفيس‪ :‬أين أنا؟؟ كيف هذا ّ‬ ‫الضياع يف هذا املقهى‬ ‫املح ّبب و صديقي ا ّلذي ال أعر ُفه‪ ،‬أو ‪-‬بصيغ ٍة ّ‬ ‫أخف وطأة‪ -‬ال‬ ‫أذكره‪..‬‬ ‫يستعيدُ‬ ‫الصوت إىل أذ ّين‬ ‫توارد‬ ‫فجأة‪،‬‬ ‫السمع‬ ‫ة‬ ‫حاس‬ ‫كمن‬ ‫و‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نرفع رأسنا َ‬ ‫فوق سطح ماء البحر‬ ‫كالصوت الذي نسمعه عندما ُ‬ ‫ّ‬ ‫بع َد غطسة‪ ،‬فهو يأيت مفاجئًا بارتفاع نربته‪ ،‬غري أ ّنه ال يأيت من‬ ‫همهامت غري مفهومة كنّا‬ ‫العدَم متاما‪ ،‬إذ إ ّنه يجيء واضحا بعد‬ ‫ٍ‬ ‫نسمعها و نحن تحت املاء‪..‬‬ ‫الصديق يف مكاملته‪ ،‬و كان يتحدّث عن املوسم‪،‬‬ ‫أصغيت إىل صوت ّ‬ ‫و قطاف الزّيتون أو “النّرب”‪ ،‬وحصاده “لقوطته”‪ ،‬و أجور املعرصة‬ ‫و ارتفاع أسعار زيت الزّيتون‪..‬‬ ‫فابتسمت و أنا أرجع رأيس إىل الخلف بارتياح من ّ‬ ‫ُ‬ ‫يتمطط بعد‬ ‫عملٍ شاق‪ ،‬و عا َد ّ‬ ‫كل يش ٍء إىل طبيعته‪ ..‬و عاد اإلحساس باأللفة‬ ‫و اإلدراك إ ّيل‪..‬‬


‫يوميات ياسمين (‪)5‬‬ ‫سالم الغوطاني‬

‫مبزيج من ّ‬ ‫الطني والحزن وعرق ناسها املتعبني‪,‬‬ ‫ٍ‬ ‫بيوت تحيطها املزارع و”البوايك” وقنن الدواجن‪,‬‬ ‫ٌ‬ ‫بيوت متناثرة‪ ,‬متباعدة واملساحات بينها شاسعة‪,‬‬ ‫ٌ‬ ‫تعويض واستبدال‬ ‫وكأن‪ ،‬امتداد هذا الفراغ بينها‪،‬‬ ‫وأزقة تر ٌ‬ ‫دروب ٌ‬ ‫ابية‬ ‫مبا يض ّيق عىل القلوب‪ .‬تتخللها‬ ‫ٌ‬ ‫الصباح البطيئة الثقيلة‬ ‫بدت كأنها تتل ّوى مع حركة ّ‬ ‫ألهل البلدة‪ ,‬ما خال ٌ‬ ‫بضعة من أشجا ٍر تكافح لتعديل‬ ‫هيمنة اللون األصفر‪...‬‬ ‫ٌ‬ ‫قاطعتني يدُ‬ ‫حانية ر ّبتت عىل كتفي “تعي قعدي‬ ‫ّ‬ ‫ياسمني”‪ .‬عينايَ اللتان ملتا البكاء‪ ,‬استبدلهام حزين‬ ‫بقلب يعلو حتى المس حنجريت صانعاً اضطراب‬ ‫ٍ‬ ‫صويت “الله يخليك محمد بدي ك ّفي تعليمي‪ ,‬قبال‬ ‫وما رح أنسالك هاملعروف”‪ .‬مل أستطع إكامل ّ‬ ‫الت ّجي‪,‬‬ ‫كرهت التوسل‪ ,‬فجأ ًة كأين تع ّلمت شيئاً‪ ,‬ق ّو ٌة خفيةٌ‬

‫العدد ‪- 67 -‬‬

‫لوحة للفنان ديالور عمر بعنوان “قصة الجئة”‬

‫‪2016 / 3 / 25‬‬

‫يتقصد العذوبة يف صوته؟‬ ‫ال أدري‪ ،‬هل كان‬ ‫ّ‬ ‫فحديثه الذي كان شج ّياً مح ّم ًال بهموم الحياة‪ ,‬مل‬ ‫يلهي نظري املتن ّقل بني أرجاء مسكني الجديد‪.‬‬ ‫كانت الرائحة املميزة لحداثة األثاث تفوح يف‬ ‫املكان؛ رائحة تع ّودنا ارتباطها بنشوة الفرح‬ ‫الطفيل بالجديد من األشياء‪ ,‬هي طفولتنا املسكينة‬ ‫واملسكونة بالحرمان‪ .‬وقع نظري عىل الزخارف‬ ‫املعهودة بهندستها الناقصة‪ ,‬خطوط غري تامة‪،‬‬ ‫زوايا قامئة‪ ,‬وأخرى حادة لكنها متساوية‪ ,‬أضالع‬ ‫متطابقة‪ ,‬كانت عىل با َّيب الخزانة‪ ,‬وعىل أطراف‬ ‫الرسير‪ ,‬كذلك عىل “الكومدينا”‪ ,‬والسجادة‬ ‫املستطيلة‪ ,‬عىل األغطية والوسائد‪ ,‬واألدهى‬ ‫من كل ذلك أنها كانت أيضاً عىل أطراف ردايئ‪:‬‬ ‫رسومات هندس ّية ذكرتني بقبب املساجد وجدران‬ ‫الجوامع‪ ,‬بأسواق دمشق القدمية‪ ,‬تنطق برضورة‬ ‫التنظيم‪ ,‬وواجب االنضباط‪ .‬أحسست أنها تقول‪:‬‬ ‫“ال يعش اإلنسان إال قدره”‪ .‬هي سجن الروح يف‬ ‫قفص جرب ّية الحياة‪ ,‬فكرة النصيب‪ ,‬خطوط تهمس‬ ‫بهواجس عقل راسمها‪ ,‬إجبار خيال الناظر إمتام‬ ‫أنصاف أقواسها‪ُ ,‬يك ِّمل الدائرة ويرىض باملكتوب‪...‬‬ ‫“ترشيب قهوة ياسمني‪ ,‬بدي ذ ّوقك قهويت”‪ ,‬بجه ٍد‬ ‫ُ‬ ‫أومأت له بنعم‪ ,‬غرفة “محمد” املش ّيدة فوق‬ ‫السطوح كانت مج ّهزة مبطبخ وحامم صغريين‬ ‫ُ‬ ‫فتحت النافذة‬ ‫داخلها‪ ,‬دخل “محمد” املطبخ‪.‬‬ ‫الوحيدة املغطاة بقطعة قامش‪ ,‬وراء النافذة‬ ‫ٌ‬ ‫قضبان من حدي ٍد صدأ‪ ,‬منعتني من استنشاق‬ ‫تجاهلت صالبتها وتخ ّي ُ‬ ‫ُ‬ ‫لت‬ ‫الصباحي‪ ,‬حتى‬ ‫الهواء‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أستطيع إذابتها‪ .‬هو توق ال ّروح‬ ‫أنني بتحديقي‬ ‫ُ‬ ‫لالمتداد وتحدّي االنقطاع واالنفصال‪.‬‬ ‫رأيت بلديت‪ ,‬كنت كأين أراها ألول مرة‪ ,‬جدران‬ ‫بيوتها اإلسمنت ّية املتشققة‪ُ ,‬غط ّيت الشقوق‬

‫ّ‬ ‫لتوسل ورجايئ”!‬ ‫اجتاحتني “ال لضعفي‪ ,‬ال‬ ‫“بتعرف محمد متل بعضها بدك ياين اتعلم او ما‬ ‫أتعلم”‪ .‬جلس “محمد” عىل الرسير‪ ,‬وضع يده‬ ‫أسفل ذقنه ونظر اىل األرض‪“ :‬انتي رصيت مريت‬ ‫ياسمني‪ ,‬شغلة هالتعليم شغلة صعبة كثري‪ ,‬ييل‬ ‫عبتفكري فيه مش دارج بعيلتنا”‪.‬‬ ‫وقف وبدأ برتتيب األغطية‪ ,‬ثم ذهب اىل املطبخ‬ ‫عائداً بصينية القهوة ومكنسة‪“ :‬ص ّبي قهوة بني ما‬ ‫كنّس الغرفة‪ ,‬خلينا نقعد عىل نظافة”‪ .‬ارتشفت‬ ‫القهوة وأنا أراقب نشاطه‪“ .‬بتعريف ياسمني أين‬ ‫عىل لبنان ما عاد رح روح‪ ,‬حابب أستقر يا الله‪,‬‬ ‫تعبت من الغربة والسفر‪ ,‬جمعت مبلغ مليح‪ ,‬رح‬ ‫أشرتي تيوتا وأترزق بسوق الهال بالشام‪ ,‬وحياتك‬ ‫رح ترتاحي معي‪ ,‬رح نع ّمر أحىل بيت‪ ,‬ونعيش‬ ‫متل ما بدنا”‪.‬‬ ‫الطرق الناعم عىل الباب أوقفه‪ ,‬وبحركة فازعة‬ ‫رمى املكنسة من يده “مني”؟ جاء صوت عمتي‬ ‫“مربوك يا عرسان يلال عمنستناكن عالفطور”‪.‬‬ ‫كنت فع ًال جائعة‪ ,‬العائلة بأكملها اجتمعت حول‬ ‫صحون الفول والحمص والبيض واللنب واملخلالت‪,‬‬ ‫مل تتوقف املباركات والتهاين والزغاريد من جديد‬ ‫منذ وطئنا‪ ,‬أرض الديار‪ .‬كانت عمتي وزوجها‬ ‫وأخوة محمد الخمسة‪ ,‬وثالث نساء عرفت أنهن‬ ‫زوجات أخوته‪...‬‬ ‫مفاجأيت الجديدة التي كانت كاإلعصار‪ ,‬عندما‬ ‫رفض زوج عمتي أن يبارك الطعام‪ ,‬اح ّمرت الوجوه‬ ‫مع صوته الغاضب “أين ما فيي س ّمي عىل األكل‬ ‫اذا يف بيننا وحدي مش مغطية راسها”‪ ,‬تل ّمست‬ ‫ُ‬ ‫وعرفت الحياة التي تنتظرين‪.‬‬ ‫شعري بخشي ٍة‬

‫‪15‬‬

‫‪ ...................................‬يتبع يف العدد القادم‬

‫المعتقل وليد – المشــهد ‪2‬‬

‫أغلق السجان الباب تاركاً وليد وحيداً يف الزنزانة‬ ‫املنفردة يعاين من لسعات املاء البارد التي‬ ‫أيقظته‪ .‬عفونة املكان بدأت تدخل مع النفس‬ ‫إىل أنف وليد ليشعر ّ‬ ‫بذل املكان‪ ..‬الرطوبة بدأت‬ ‫تتسلل شيئاً فشيئاً إىل العظام لتفتك بها أملاً‪.‬‬

‫شهادات‬

‫معتصم أبو الشامات‬

‫املكان تخاله بأنه تحت قرب‪ ،‬ال متنفس من هواء‬ ‫وال شعاع من ضوء‪ .‬يضيع الزمان يف ذلك املكان‪،‬‬ ‫فال وسيلة لعد ساعاتك وأيامك‪ .‬الوقت يتوقف‬ ‫فال تسمع إال رصاخ الجالدين وأنني املعذبني‪،‬‬ ‫ويبقى اتصالك الوحيد بالعامل الخارجي من خالل‬ ‫ذاكرتك‪ ..‬انها الوحيدة القادرة عىل إخراجك من‬ ‫ذلك املكان‪.‬‬ ‫تخلخل برودة املاء التي تلسع جلد وليد ملسات‬ ‫دفء من خلف رأسه‪ .‬ميد يده ليعرف مصدر تلك‬

‫الحرارة فيؤمله جرحه النازف الذي ناله من عقب‬ ‫البندقية التي أفقدته وعيه‪ .‬يحاول أن يستذكر‬ ‫دروس اإلسعافات األولية التي أعطاه أياها أحد‬ ‫شباب التنسيقيات من أجل إسعاف املتظاهرين‬ ‫يف املستشفيات امليدانية‪ .‬حاول أن يتحرك من‬ ‫أجل أن يوقف النزيف ولكن مل يسعفه جسده‬ ‫املتعب الجريح عىل الحركة‪.‬‬ ‫أقدام آتية من بعيد ويبدأ قفل‬ ‫يسمع أصوات‬ ‫ٍ‬ ‫الباب بالفتح ويغيب وليد عن الوعي من جديد‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.