حول الموجة الثانية للثورة السورية

Page 1

‫حول الموجة الثانية للثورة السورية‪ :‬تقييم مبادرة‬

‫ملخص‬

‫من بين كل دوافع اندالع االنقالبات والثورات تأتي دوافع اندالع الثورة السورية لتكون األعمق واألكثر أحقية‪ .‬ومن بين كل‬ ‫احتماالت التعقيدات التي قد تعرقل نجاح الثورات كانت العقد التي تواطأت لتثبيط الثورة السورية عن بلوغ غايتها هي األقوى‬

‫واألكثر تأزماً‪ .‬أدى ذلك إلى إطالة أمد الثورة وما خلفه من نتائج كارثية بسبب فداحة الخسائر البشرية واالنهيارات االقتصادية‬ ‫والمجتمعية والعمرانية وصوالً النحراف الكثير من البوصالت عن األهداف األساسية التي شبت بسببها الثورة وجسدتها مطالبها‬

‫األولى‪.‬‬

‫ولو أردنا تصنيف مراحل الثورة اليوم ‪-‬وبعد ما يقارب األربع سنوات‪ -‬من حيث االنفعال الشعبي لالحظنا أن الثلث األول كان‬

‫األشد من حيث زخم التفاعل الشعبي وايقاد األمل ‪-‬للمرة األولى ربما ألبناء الجيل‪ -‬بإمكانية تحقيق حلم دولة الحقوق والحريات‬ ‫والمواطنة الك ريمة والفرص النزيهة‪ ،‬وهو ما شهد تضافر المساعي الجمعية ضمن حيز جديد خلقته الثورة ألول مرة في تاريخ‬ ‫سورية المعاصرة تصب فيه جهود الشباب ‪-‬الذي أصبح فاعالً بعد خمول‪ -‬في المجال العام عبر حيز المجتمع المدني‪.‬‬

‫وفي المقابل ‪-‬وألسباب وعوامل أشبعت تحليالً ونقداً‪ -‬تشهد المرحلة الحالية إحباط المزاج الشعبي وانهزاميته ‪-‬التي لها أسبابها‬ ‫المبررة على كل حال‪ ،-‬وانفضاض أغلبية الشباب عن النشاط الداعم للثورة‪ .‬وفي ضوء هذه المعطيات برزت عدة أصوات‬ ‫تنادي بإعادة الزخم لروح الثورة األولى من خالل ما اتفق على تسميته ب"الموجة الثانية للثورة"‪.‬‬ ‫هذه الورقة تحلل األسس النظرية لهذا الطرح وتقيم احتماليات جدواه وفرص نجاحه وتطرح بعض التوصيات في ضوء ما‬ ‫تخلص إليه من نتائج‪.‬‬ ‫مقدمة‬

‫لإلجابة على تساؤل ما إذا كانت الدعوة إلحياء "الموجة الثانية من الثورة" تنسجم مع المبادئ النظرية لمبدأ الثورة‪ ،‬نحتاج أن‬

‫نقيم أوالً وضعها في كل حيز من الفضاءات المكونة لهيكلية الدولة في شكلها المعاصرالقائم على مبدأ فصل السلطات‪ ،‬حيث‬

‫يمكن أن نميز الفضاءات التالية كما بالرسم التوضيحي أدناه‪ :‬في النواة تقع سلطة الدولة وحكومتها السياسية(س)‪ ،‬وتشكل مع‬ ‫حلقة األحزاب والهيئات السياسية (ح) ما يعرف بالحيز العام‪ ،‬وفي حلقة أوسع تحيط بالحيزين السابقين تأتي حلقة المجتمع‬

‫المدني (م)‪ ،‬ثم الحيز االقتصادي وأسواق المال واألعمال (ق)‪ ،‬وأخي اًر ما يعرف الحيز الخاص ويشكل كل ما يتعلق بالحياة‬

‫الفردية الخاصة واألسرية وخيارات نمط المعيشة والترفيه الشخصي (خ)‪ .‬في هذه الهيكلية المعاصرة للدولة والقائمة على مبدأ‬

‫العقد االجتماعي تكون الشرعية مركزة في النواة باتفاق كافة الحلقات (عن طريق االنتخابات في الدولة الديمقراطية) وتسري‬ ‫الشرعية من النواة لباقي الحلقات عن طريق تشريع القوانين المنظمة وااللتزام بها مما يضمن هيكالً مترابطاً ومتماسكاً للدولة‪.‬‬


‫الحيز الخاص (خ)‬

‫حيز المجتمع المدني (م)‬ ‫حيز األحزاب (ح)‬

‫الدولة‬ ‫‪/‬السلطة‬ ‫(س)‬

‫الحيز االقتصادي (ق)‬

‫تقوم الثورات في محاولة لقلب نظام الحكم من خالل نزع الشرعية القائمة واستبدالها بشرعية تؤمن مطالب الثورات‪ .‬ويتمثل‬ ‫التحدي األكبر ألي ثورة أو انقالب أو حراك في نجاحها في نزع الشرعية بسرعة واستبدال السلطة بسلطة بديلة تتسلم الشرعية‬ ‫وتؤمن سالمة مؤسسات الدولة‪ .‬عملية نزع الشرعية عملية خطيرة قد تهدد العقد االجتماعي إن لم تكن مستحقة ومبررة وعادلة‬ ‫وناجحة‪ ،‬وتتمثل خطورتها في أنها تقلب مصدر الشرعية فبدل أنه كان مرك اًز في النواة‪-‬السلطة‪ -‬يصبح المركزياً في الطبقة‬ ‫الثائرة‪ ،‬ويكون التحدي الحقيقي في مدى قدرة الطرف الثائر على تجميع الشرعية والتجمع حولها بشكل يضمن إعادتها مرة‬

‫أخرى للنواة الجديدة المتفق على شرعيتها‪ .‬لذا تشكل الثورات الحل النهائي –وليس خيا اًر ترفياً وال نزهة ترفيهية‪ -‬الذي تجد‬ ‫الشعوب نفسها مضطرة إليه بشكل عفوي غير مخطط‪.‬‬ ‫عندما تنشأ الثورة على النظام الحاكم من أي من طبقات الحيز العام (س أو ح) تشكل ما يعرف باالنقالب السياسي وتكون‬ ‫القيادة مركزية والمجريات مخطط لها سياسياً وغالباً عسكرياً وتكون باقي الطبقات معزولة عن الفعل في هذه الحالة‪ ،‬وتشكل‬ ‫االنقالباات أسرع طريقة الستبدال الشرعية‪ .‬وعندما تقود حلقة المجتمع المدني النخبوية التحرك الثوري المعارض غالباً تأتي في‬

‫أشكال مدنية كالدعوة إلى توقيع عرائض مطالب واحتجاجات واعتراضات وقد تنظم مظاهرات موجهة ومحددة المطالب تقودها‬ ‫النخبة المثقفة الحقوقية الفاعلة أو النقابات للضغط على السلطة‪ .‬وعندما تستجيب حلقة االقتصاد واألعمال وتقرر االنخراط‬ ‫ينتج غالباً ما يعرف بالعصيان المدني تتعطل بسببه األسواق واألعمال بشكل مؤقت‪ .‬أما عندما تشتعل الش اررة من عمق الحيز‬ ‫الخاص بشعور جمعي بالقهر تتفجر الثورات الشعبية التي يقودها ويوجهها نبض الشارع بشكل عفوي غير مدروس مسبقاً وغير‬

‫مركزي‪ .‬وتتمثل أحسن السيناريوهات عندما تتواطأ باقي الطبقات في الحراك الشعبي وتنجح في دعمه وتوجيهه وصوالً إلى قلب‬

‫السلطة مع تخفيف اآلثار الهدمية المصاحبة لعملية االنقالبات بالضرورة من خالل الوصول سريعاً للهدف وتحويل الالمركزية‬

‫في إلى مركزية‪ ،‬وتقليل األضرار على طبقة االقتصاد بشكل خاص‪ ،‬مع تحفيز آثار بناءة في طبقتي المجتمع المدني‬


‫واألحزاب‪ ،‬والحفاظ على مؤسسات الدولة‪ .‬وتكون بهذا نموذج ناجح لغاية محقة بوسائل فعالة‪ .‬وفي المقابل تنتج أسوأ‬

‫السيناريوهات عندما تؤدي الثورة الشعبية إلى قلب كل الطبقات رأساً على عقب وتخبطها طويالً دون الوصول للنتيجة المرجوة‬

‫المتمثلة بقلب نواة السلطة‪ .‬وعندها تسود اآلثار الهدمية من توقف االقتصاد وتخلخل المجتمع وانحسار مد الشارع وزيادة‬

‫االنقسامات وركود األعمال المدنية وفتور النخبة القيادية الفكرية وتخبط الطبقة السياسية‪ ،‬كالمشهد الطاغي على الساحة‬ ‫السورية حالياً‪ .‬أضف إلى ذلك ظهور تعقيدات جديدة لم تكن في الحسبان كالحركات المتطرفة‪.‬‬

‫خيارات بناء الموجة الثانية‬ ‫في ضوء المعطيات السابقة يبرز التساؤل التالي‪" :‬ماذا يعني فعلياً إحياء الحالة الثورية؟"‪ .‬ال أعتقد أن المقصود إعادة النبض‬ ‫إلى الشارع الذي بات مشغوالً بأولويات تأمين السالمة والمأوى وأولويات الحياة من خالل مقارعة الجوع والبرد وانقطاع الكهرباء‬ ‫إضافة إلى لملمة الجروح العميقة من خالل ما كابد من صدمات نفسية واجتماعية شديدة العنف واألثر‪ .‬لن تفيد أية دعوة لبث‬ ‫الروح الثورية مجدداً على مستوى الشارع واعادته إلى أتون الحراك الشعبي‪ ،‬ألن نتيجة الثورة واألفعال المقاومة للثورة من قبل‬ ‫النظام قد أدت إلى "انقالب" في طبقات الحياة المعيشية واالقتصادية‪ ،‬وال تستطيع ثورة شعبية يقودها الشارع أن تكمل تقدمها‬ ‫نحو طبقات حيز السلطة والحال هكذا‪.‬‬ ‫هذه المالحظات تحور السؤال ليصبح‪" :‬كيف نستحدث طرحاً يأتي في زخمه كأنه موجة قوية تعم الساحة وتؤثر في مجريات‬ ‫األحداث إلكمال ما بدأه حراك الشارع وصوالً إلى الغاية المنشودة بإسقاط النظام؟"‪.‬‬ ‫يمكن تخيل شكلين لتحفيز الموجة الثانية للثورة‪ .‬الشكل األول يتمثل في بناء موجة قوية وضخها بطاقة عالية ليأتي انسياب‬ ‫قوتها من األعلى لألسفل (المكونات األضعف)‪ .‬وتكون القيادة في هذا النموذج مركزية‪ ،‬والهيكلية محددة‪ .‬هذا النموذج الهيكلي‬ ‫المركزي هو المتبع في تنظيمات كاالئتالف والمجلس الوطني‪ .‬وتواجه هذا النموذج مجموعة من التحديات منها قدرته على‬ ‫الحشد األولي للطاقة المحركة‪ ،‬حيث تقاس قوة الموجة الناتجة بقوة كل من أعمدتها (أي األفراد الذين يشغلون مواقعهم حسب‬ ‫الهيكلية)‪ .‬ويتمثل التحدي اآلخر بقدرتها على االستم اررية في مواجهة التالشي الذي قد ينشأ من تصادم التيارات المكونة لها‬ ‫فيضعف طاقة الموجة الكبرى‪ ،‬كما جرى في حالتي االئتالف والمجلس الوطني قبله‪ ،‬مع مالحظة أن أثر تالشي الموجة التي‬ ‫تتبع هذا النموذج يكون ذا أثر ارتدادي سلبي كبير‪.‬‬ ‫أما النموذج الثاني فيتمثل في حشد التيارات‪/‬الموجات الصغيرة من األسفل لألعلى وانسجام حركتها بحيث تشكل في مجموعها‬ ‫زخماً ضاغطاً كما في التيارات السياسية المختلفة ومنظمات المجتمع المدني والتنسيقيات الشبابية‪ .‬ويتصف هذا النموذج‬ ‫بالالمركزية ووسع المدى‪ ،‬كما أن تأثير تالشي إحدى تياراته المكونة ال يكون له ذات األثر االرتدادي المدمر على الموجة‬


‫الكلية‪ .‬إال أن التحدي األكبر أمام هذا النموذج هو في قدرته على تنسيق اتجاه ضغطه بحيث يبدو في مجموعه موجة لها قوة‬ ‫ضاغطة كبيرة‪.‬‬ ‫في هذه الورقة نقترح نموذجاً ثالثاً يبني على نقاط قوة كل من النموذجين المذكورين ويتفادى قدر اإلمكان نقاط ضعفهما‪ .‬ويمكن‬ ‫تمثيله بموجة يتم تشكيلها من كافة الموجات والتيارات الصغيرة الفعالة‪ ،‬ويتم توجيهها وادارتها من قبل نواة تتشكل من أعضاء‬ ‫يمثلون كالً من التيارات المشاركة وتشكل وحدة للتنسيق والتوجيه‪ .‬وعلى هذا يكون النموذج يدمج بين الشكل المركزي‬ ‫والالمركزي للقيادة والتوجيه بحيث يترك لكافة الهيئات والمجموعات الفاعلة مساحتها ويدمجها في العمل بينما تقوم وحدة تنسيق‬ ‫وتوجيه وتواصل بتنسيق الجهود وتجميعها بما يشكل في مجموعه زخماً ضاغطاً موجهاً وواسع المدى‪.‬‬ ‫ولكي يأتي هذا ال طرح بقوة الموجة المتأملة البد وأن تراعى فيه مجموعة من الخصائص مستمدة من الواقع الحالي ومستفيدة من‬ ‫دروس وعبر التجارب الماضية ومنها‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫أنه جهد مشترك يستمد قوته وزخمه من اندماج عدة هيئات سياسية ومدنية وميدانية فيه وتوافقها حوله‪.‬‬

‫‪‬‬

‫أنه ال يقاد بشكل فردي نائي عن التشكيالت الحالية على الساحة‪.‬‬

‫‪‬‬

‫أنه قادر على أن يكون نواة جاذبة لشرعية توافقية تزداد ترك اًز فيه‪.‬‬

‫‪‬‬

‫أنه يأتي بشكل قيادة شبه مركزية‪ :‬قيادة مركزية داخل المجموعة الواحدة ومتعددة المركزية من حيث تعدد الجهات‬ ‫المشاركة‪.‬‬

‫وفي ضوء هذه المالمح العامة‪ ،‬يمكن أن نقترح شكالً عاماً لهذا الطرح كالتالي‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫أن يتم طرحه على شكل مبادرة وطنية مشتركة تدعى لالنضمام إليها والمشاركة فيها مختلف الهيئات السياسية وتدعى‬ ‫لدعمها منظمات المجتمع المدني والهيئات الميدانية الشبابية‪.‬‬

‫‪‬‬

‫يتم التوافق حول وثيقة وطنية تحدد مبادئ وطنية مشتركة وتطرح إطا اًر عاماً لمشاريع يمكن أن تندرج تحتها كافة‬ ‫الجهود‪ ،‬وتشكل قنوات تستطيع أن تُستحدث لتفعيلها فرق عمل متخصصة‪ .‬تعمل المشاريع المطروحة على تفعيل‬ ‫هيئات مؤهلة لتقوم في مقام الظل البديل لمؤسسات الدولة السياسية واالقتصادية والمجتمعية والمدنية‪ :‬مثل اإلعالم‬ ‫البديل‪ ،‬االقتصاد البديل‪ ،‬التعليم البديل وغيرها‪.‬‬

‫‪‬‬

‫من أمثلة هذه المشاريع‪:‬‬ ‫‪ o‬مشروع تعزيز الهوية الوطنية السورية‪.‬‬ ‫‪ o‬مشروع دعم المشاريع االقتصادية الصغيرة والمتوسطة وبناء القدرات الذاتية‪.‬‬ ‫‪ o‬مشروع اإلدارة المركزية للعمل االغاثي‪.‬‬ ‫‪ o‬مشروع إدارة العالقات العامة مع الشركاء وأصدقاء الشعب السوري وتفعيل الشراكة‪.‬‬


‫‪ o‬مشروع تنسيق إدارة الصراع العسكري مع النظام‪.‬‬ ‫‪ o‬مشروع دعم وتطوير منظمات المجتمع المدني‪.‬‬ ‫‪ o‬مشروع تخطيط وتفعيل رؤية سورية الغد‪.‬‬ ‫‪‬‬

‫يكون على هيئة جسد استشاري تنسيقي –ال يتبع أسلوب الوصاية‪ -‬وأن يقتصر عمله بكونه واسطة للتواصل‬ ‫والتنسيق بحيث يحدد أبواباً تنتظم تحتها كافة المبادرات والمشاريع المطروحة من قبل باقي الهيئات‪ ،‬وينسق بين‬ ‫المشاريع‪ ،‬ويوفر هيئة استشارية للمساعدة في التوجيه لتنفيذ تلك المشاريع‪.‬‬

‫خاتمة‬ ‫تدرس هذه الورقة طرحاً إلحياء الزخم الثوري تحت مسمى "الموجة الثانية للثورة"‪ ،‬وتقوم بتقييمه في ضوء تحليل بعض األسس‬ ‫النظرية للثورات‪ .‬وتطرح مجموعة من الخصائص المطلوبة ألي طرح من شأنه إحياء الزخم الثوري ثم تقدم بعض التوصيات‬ ‫للشكل المقترح بناء على الخصائص التي تم طرحها‪.‬‬

‫منال ريس‬ ‫‪manal.rayess@gmail.com‬‬ ‫نوفمبر‪ -‬تشرين الثاني ‪4102‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.