دموع ثائرة
قصة مأخوذة من الواقع
ﶊﺪ رﺿﻮان
محمد رضوان
دموع ثائرة
ال أعرف سر إصرارى على كتابة قصتى ،ربما ھى الرغبة فى البوح بما يحمله صدرى من آالم و متاعب ،و ربما رغبتى فى تخليد ذكرى من أحب ،و ربما سعيا ً لتضيع الوقت ،فكلھا بضع ساعات و تبدأ فاعليات إحياء الذكرى الثانية ألحداث محمد محمود ،ايا ً كان السبب فقد قررت أن أك ُتب قصتى ليقرأھا أكبر عدد ممكن من البشر ،ربما تقع فى يدك قصتى و أنا حية أو متوفية ،أيا ً كان أُريدك أن تتوجه بالدعاء بالرحمة لمن أ ُحب . حتى ال أ ُطيل عليكم فى مقدمة أعلم أن الكثير لن يقرأھا اسمى ميرفت أعمل صحفية فى إحدى الجرائد الخاصة ،اتقاضى راتبا بالكاد يكفينى فى معمعة الحياة ،ال أمتلك أى ملمح من مالمح الجمال على االطالق ،فكل من يرانى يعتقد إننى فى األربعينات بالرغم من أن عمرى لم يتعدى سنواته الـ ٢٧و لكن ما رأيته فى حياتى من متاعب و آالم يفوق سنوات عمرى بكثير كيف ال اتألم و قد وعيت على دنياى ھذه و قد وجدت أبى و أمى منفصلين ؟!! ..نعم يا سيدى لقد نشأت فى كنف زوج أمى الذى كان بينه و بين الحنان عداء و لألسف كانت أمى مثله تماما ً َق ُسوا ِكالھما فى ُمعاملتى فلم يكونا أبداً ُيعاملونى كأنسانة و انما صف عنھا إنھا ال تنفع إال مع الحيوانات معاملة أقل ما ُيو َ بتلك الظروف نشأت متقوقعة بداخل نفسى أرفض الصديقات و أرفض الحب و إن كنت قد أمتلكت صديقة وحيدة ،،و ال تستعجب من كلمة كنت أمتلك ،فصديقتى الوحيدة توفيت عام ٢٠٠٦فى حادثة العبارة ١
محمد رضوان
دموع ثائرة
الشھيرة ،و كأن القدر قد َح ُّتم على أن اعيش حزينة طوال عمرى بال أنيس أو جليس ،و بسبب الالمباالة فى تعامل اإلدارة السياسية للبالد مع الحادثة آنذاك قررت أن اتجه للصحافة .فأنا أمتلك القدرة على التعبير عما أخفيه بداخلى على الورق ،و بالفعل تقدمت بأوراقى إلحدى الصحف التى تسمى بصحف المعارضة و كنت حينھا فى السنة الثانية بكلية اآلداب و المفاجأة إنھم قبلونى و كانت ھذه أول مرة أنجح فيھا فى شيئ اخترته بإرادتى اتجھت للعمل السياسى بداخل الجامعة عن طريق جماعة األخوان و إن كنت اختلفت معھم فى كثير من األشياء !!! و بعد عام و بضع شھور طلبت منى الجريدة أن أذھب لتغطية اعتصام عمال المحلة يوم ٦إبريل ، ٢٠٠٨و بالفعل ذھبت إلى ھناك و تفاعلت بشدة مع العمال و مع العصيان المدنى الذى دعى إليه الشباب لقد وجدت النظام المباركى الفاسد ينھار و الداخلية تفقد القدرة على السيطرة على الموقف ،و أرسلت المادة التى التقطتھا إلى الجريدة و التى َتعجبت بعدھا بعدم نشر الكثير مما كتبته و َتعجبت أكثر عندما َوجدت أن رئيس التحرير قد طلب منى الحضور إلى مكتبه .و بالفعل ذھبت إليه
حضرتك طلبتنى يا فندم ؟؟ إيه اللى إنتى كاتباه ده ؟؟ ده اللى حصل فى المحلة يا فندم انتى عايزة الجرنال يتقفل ؟! انتى متعرفيش أمنالدولة شغال أزاى يا بنت انتى ؟! ٢
محمد رضوان
دموع ثائرة
بس انا بكتب الحقيقة ملعون أبوكى على أبو الحقيقة ،انتى ھنامتكتبيش غير اللى ينفع يتنشر بس مش اللى سيادتك عايزة تكتبيه خرجت من مكتبه شبه منھارة من أسلوبه الفاجع فى كالمه معى ،و ألول مرة تنھال دموعى بداخل المكان الذى أعمل فيه و أبكى بداخله بحرقة ، إال أن ھناك يد قامت بمسح دموعى المنھمرة على خدى ،نظرت إلى صاحب اليد ألجده استاذ كمال أحد الصحفيين الجدد فى الجريدة كان شاب فى منتھى اللطف و الكياسة فى معاملة األخرين انتبھت بسرعة و ُقمت بمسح دموعى بيدى إال أنه نظر إلىَّ و ھو مبتسم و قام باعطائى منديل ألمسح به دموعى ،شكرته على الفور و بكلمات مقتضبة ،فأنا تعودت على أن أمسح دموعى بنفسى و ال أجد أحداً يكون بجوارى عندما أبكى خرجت من المجلة ثم ذھبت الجتماع حركة شباب ٦إبريل ،الحركة التى انضممت إليھا بعد ما عاشرتھم خالل اعتصامات المحلة و لكنى فوجئت بوجود استاذ كمال فى االجتماع ،نظر ألىَّ و ابتسم ثم رحب بى و بدأنا فى الحديث معا و عرفت من خاللھا إنه حديث التخرج من كلية اإلعالم و أنه ُع ّين ُمعيد بھا و أنه يستعد للسفر قريبا إلى الخارج لتحضير رسالة الماجستير
٣
محمد رضوان
دموع ثائرة
و ألول مرة أكون مھتمة بكالم رجل ما !! فأنا امرأة اعتادت أال تتكلم مع الرجال ،فجميع الرجال يا إما مثل أبى بال عقل ،أو مثل زوج أمى بال قلب ،يا إما مثل مديرى فى العمل بال قلب و عقل كاليھما !! لم أكن من الفتيات التى تعيش قصص الحب و تحبذھا فقد كنت اختصر من الجميع و اتعمد البعد عن الرجال ،فال أريد أن أكون من ذوات العالقات الفاشلة ،و ال أريد أن اتزوج رجل يطلقنى و يتركنى وحيدة لسبب تافه ،و ال أريد رجالً يتحكم فى تحركاتى ،فقد كرھت السيطرة و أصبحت ال أريدھا انتھى االجتماع و قد أصر كمال على توصيلى و لكنى رفضت و ال أعلم لماذا فعلت ذلك ؟! ربما إلنى رافضة مبدأ أن يحدث بينى و بين أى رجل أى احتكاك ذھبت إلى منزلى و يومھا ظللت طوال الليل أفكر فى كمال و ما فعلته معه اليوم و صورته ال تفارق ذھنى ذھبت فى اليوم التالى إلى عملى ،و حاولت أن اتجول ببصرى فى انحاء المكان بحثا عن ھذا الرجل ،و لكننى لم أجده ،إال أنه أخيرا جاء ذھبت إليه فى خجل و اعتذرت إليه عما بدر منى باألمس ،إال أنه بابتسامته المعھودة نفى استيائه من فعلتى ظلت عالقتنا ال تتغير لمدة اكثر من عام من اھتمام منى و ابتسامة و رزانه منه دون أى تطوير لھا على األطالق ،حتى فاجئنى فى يوم بأنه سوف يسافر للخارج لتحضير رسالة الماجستير ،تظاھرت بالفرحة وباركت له سفره و لكن بداخلى حزن دفين فأنا ال أعلم متى سيعود و ال أعلم ھل سأراه ثانية أم ال و يا ترى ھل سيتزوج من الخارج فھو حتى اآلن ال يعرف حقيقة مشاعرى تجاھه ٤
محمد رضوان
دموع ثائرة
مرت السنة تلو السنة و ھو فى ذاكرتى لم يفارقھا .ال أعلم لماذا ھو دون الجميع قد ملك قلبى ،و لماذا لم ألمح له بحقيقة مشاعرى ،ربما أخشى ردة فعله ،فربما يرفض حبى فأنا أعلم حظى جيداً احداث كثيرة متالحقة حدثت فى تلك الفترة أبرزھا )مقتل خالد سعيد – تزوير انتخابات مجلس الشعب( لن اتحدث عن حياتى فى تلك الفترة فقد كنت امرأة بال قلب ..فقلبى كان مسافر مع من أحببته و أخيراً علمت بالصدفة بأنه سيعود فى األسبوع األول من يناير ، ٢٠١١ بدأ قلبى أخيراً فى الفرح فقد اشتقت لرؤيته كثيرا و بالفعل عاد و كنت فى استقباله مع بعض من الزمالء ،لم يتغير ابدا فى أسلوب كالمه أو مظھره الشخصى بدأت أتحدث معه عن اخباره فى الغربة و ماذا فعل .كان يستمع إلىَّ و يجيب على اسئلتى بابتسامته المعتادة منه مرت أيام قليلة كنت خاللھا اواظب على االتصال به و األطمئنان عليه ، و بدأنا بعدھا فى التحضير لوقفة ٢٥يناير التى كان يطمح البعض أن تكون شرارة ثورة مثل الثورة التونسية
٥
محمد رضوان
دموع ثائرة
أعددنا عدتنا من خرائط لخروج المسيرات ،و حاولنا أن تكون سرية إلى اقصى درجة حتى تفشل محاوالت جھاز أمن الدولة فى األمساك بنا عند بداية المسيرات قبل أن نتوجه للتحرير ،و بالفعل بدأت مسيرات ٢٥ يناير ،،كان يھتف فى حماس و يردد المئات الذين خرجوا معنا الھتاف فى حماس بدأ عساكر األمن المركزى فى محاصراتنا فى دائرة محكمة و سرعان ما بدأ العساكر فى الضرب المبرح لنا ،تعرضت لالغماء من شدة الضرب ،و ھنا سمعت صوته و ھو يحاول آفاقتى ،بالفعل تمت افاقتى و لكن ظلت دموعى تنھمر منى بشدة و للمرة الثانية يقوم بمسح دموعى بيده " يا ريت متعيطيش غير لما أكون جنبك عشان أمسحلك دموعك "بھذه الكلمات نطق و ھو مبتسم و ينظر إلىَّ ،سرعان ما نسيت ھول الموقف الذى انا فيه اآلن ،لم أصدق ما سمعت اتكأت عليه كى اذھب الى بيتى لنعيد مظاھراتنا غداً ،فلم اكن انتوى االعتصام مع المعتصميين و ظللت طوال الليل افكر فيه و فى كلماته و لم تفارقنى صورته طوال الليل مر يوم ٢٦و ٢٧مثل االيام السابقة و اتجھنا ليوم " ٢٨جمعة الغضب" ، لم يكن يوما ً عاديا ً ،فقد مرت فيه األحداث بسرعة للتحول للدموية ،و سرعان ما بدأت ميليشيات مبارك بالسقوط .
٦
محمد رضوان
دموع ثائرة
)الشعب يريد اسقاط النظام( ظل ھذا الھتاف فى حلوقنا نردده ،كنت ممسكة بيده طوال المظاھرات ، فقد كنت خائفة عليه ،و ھو ايضا كان يخشى علىَّ من االغماء و من رصاص األمن استطعنا بالفعل من دخول الميدان بعد سقوط مئات القتلى و آالف الجرحى و اعتصمنا بداخله و بدأت بوادر سقوط مبارك واضحة كنت فى قمة الرعب مما حدث ،و كان ھو بين الحين و اآلخر ينظر إلى ُ انظر إليه و ابتسم فى وجه ثم أعود وجھى ،ثم يقول إلى " متخافيش" ،، مرة أخرى للھتاف و الصراخ مرت األيام و نحن معتصميين بداخل الميدان نتعرض لكافة انواع الضرب و التنكيل ،كنت أبكى كعادتى على ما آراه من مناظر بشعة ،و كعادته كان دائما ما يمسح دموعى بيده و يقبل رأسى بعدھا مرت أيام قالئل و كنا دائما على ھذا الحال حتى تنحى الھالك مبارك عن الحكم و عمت األفراح الميدان . لن أنسى فرحتنا العارمة آنذاك ،و ألول مرة أعرف ما يسمى بدموع الفرح ،ففى العادة الفرح لم يكن موجود فى قاموس حياتى ،و كعادته كان ينظر إلىَّ بإبتسامة ثم يمسح دموعى بكفه .
٧
محمد رضوان
دموع ثائرة
مرت الشھور بعدھا و ظللنا على كفاحنا فقد قام المجلس العسكرى مقام مبارك ،و ظللنا فى النزول ضده حتى يرحل ھو اآلخر و يلحق بركب مبارك و فى اعتصام يوليو ٢٠١١حدث أجمل ما كنت اتوقعه
بحس انى محظوظ إنى اتعرفت على حد زيك .انا بحبك ♥ و انا كمان انا عايز اتقدملك و أخطبك من أھلك .يا ريت تدينى ميعاد مع حد منھمعشان أطلبك منه
ال استطيع أن أوصف سعادتى بھذا العرض ،مرت األسابيع و تمت قراءة الفاتحة ألصبح رسميا خطيبته يا ` أخيرا بدأت الدنيا تحقق لى ما أريد و بدأت تبتسم لى بدأت أعيش معه أجمل أيام عمرى ،كنت أعشق البكاء بجواره ألستمه إليه و ھو يردد كلمته الدائمة )متعيطيش غير و انا جنبك عشان أمسحلك دموعك (. قررنا النزول لمظاھرات األقباط فى ماسبيرو ،و بدأنا بالفعل فى التحضير لمظاھرة ٩أكتوبر ، ٢٠١١و حدثت أمامنا المذبحة التى أودت بحياة الكثير من اصدقائنا األعزاء ٨
محمد رضوان
دموع ثائرة
و استمرت مذابح العسكر بحق شعب الثورة ،،حتى حانت اللحظة التى لن انساھا )اعتصام محمد محمود ١٩نوفمبر (٢٠١١ خرجنا معا حينھا لالنضمام العتصام أھالى الشھداء فى ميدان التحرير ، كان يقف معھم و يھتف بحماس ،قامت الداخلية بفض االعتصام إال إننا لم نستسلم و ذھبنا إلى وزارة الداخلية لنقوم بوقف عدوانھم علينا ،و حدثت االشتباكات بين الطرفين و ھنا أخترقت إحدى الرصاصات صدر حبيبى ليسقط على الفور صريعا ً على األرض لم أصدق ھذا المشھد من ھول الصدمة و جريت نحوه و قمت بحمله انا و األصدقاء للمستشفى الميدانى ،كانت دموعى تنھمر بغذارة عندما أكد لنا الطبيب خبر استشھاده ، يا ` !! لماذا ال تستمر أبداً سعادتى ؟!! لماذا يموت كل من أحبھم ؟!! و لماذا تصر اآللة العسكرية الغاشمة على التفريق بين األحبة ؟!! جمعتنا دبلة الخطوبة و فرقتنا رصاصات العسكر بكيت بشدة و انا ممسكة بيده ،و ألول مرة أبكى بجواره دون أن يقوم ھو بمسح دموعى ،و ألول مرة يخلف وعده معى !!! ھا أنا ذا أكتب قصتى معه فى ذكرى رحيله الثانية ،و قبل أن أنزل إلى الميدان لكى أحيى ذكراه رحمة ` على كل من أحب ..يسقط يسقط حكم العسكر ٩
محمد رضوان
دموع ثائرة
**انتھى** محمد رضوان
١٠