خوارق اللاشعور

Page 1

1


2


3


‫الفهرس‬ ‫الفصل‬

‫رقم الصفحة‬

‫المنطق األرسطوطاليسي‬

‫‪17 - 14‬‬

‫اإلطار الفكري‬

‫‪23 - 19‬‬

‫اإلرادة والنجاح‬

‫‪37 - 25‬‬

‫النفس والمادة‬

‫‪59 - 39‬‬

‫‪4‬‬


‫المقدمة ‪:‬‬ ‫كتاب خوارق الالشعور للكاتب علي الوردي والذي يعتبر الوردي من‬ ‫أبرز المؤلفين في مجال الكتب الفكرية‪.‬‬ ‫يتناول الوردي في هذا الكتاب دراسة للنفس البشرية‪ ،‬حيث أنه يتكون‬ ‫من أربعة فصول بداية باإلطار الفكري وصولًا إلى النفس والمادة وما‬ ‫بين األول واألخير هنالك المنطق األرسوطاليسي و اإلدارة والنجاح‪.‬‬

‫و خوارق الالشعور‪.‬‬ ‫تحذير هذا الكتاب يُفيد الراشدين أما المدللين فال‪ ،‬ولك أن تكتشف‬ ‫حقيقة ذلك من أولى صفحات الكتاب !‬

‫الكاتبة ‪ :‬شروق الشريف‬

‫‪5‬‬


‫إن المقاييس التي نميز بها بين المستحيل والممكن من األمور هي في الواقع‬ ‫مقاييس نسبية‪ ،‬إذ هي منبعثة من التقاليد والمصطلحات والمواضعات االجتماعية التي‬ ‫تعود عليها الفرد أو أوحى بها إليه في بيته أو مدرسته أو نادية‪.‬‬ ‫ومن األقوال التي كان الغزالي يرددها في كتبه قوله‪(( :‬إن اإلنسان ليستغرب مالم يعهده‪،‬‬ ‫حتى لو حدثه أحد‪ ،‬أنه لو حك خشبة بخشبة لخرج منها شيء أحمر‪ ،‬بمقدار عدسة‪ ،‬يأكل‬ ‫هذه البلدة و أهلها‪ ،‬ولم يكن رأى النار قط‪ ،‬الستغرب ذلك و أنكره))‪.‬‬ ‫إن تركيب العقل البشري متماثل في جميع الناس سيان في ذلك بين المتعلمين منهم وغير‬ ‫المتعلمين‪ .‬فكل إنسان على عقله منظار أو إطار لينظر إلى الكون من خالله‪ ،‬وهو إذن ال‬ ‫يصدق باألمور التي تقع خارج هذا اإلطار‪ ،‬كما أن من البالهة أن نحاول إقناع غيرنا على رأي‬ ‫من اآلراء بنفس البراهين التي نقنع بها أنفسنا‪ ،‬يجدر بنا أن نغير وجهة إطاره الفكري أولًا‬ ‫وإذ ذاك نجده قد مال إلى اإلصغاء إلى براهيننا بشكل يدعو إلى العجب الشديد‪.‬‬ ‫إني ال أريد بهذا البحث أن أقنع إال من يريد أن يقتنع‪ .‬أما الذي ال يريد أن يقتنع فليس لدينا‬ ‫إزاءه أية حيلة‪.‬‬ ‫لقد وصلت بهذا البحث إلى نتيجة هي في الواقع معاكسة لجميع ما دأب المعلمون‬ ‫والكتاب والخطباء في هذه البالد أن يلقنونا إياها‪ ،‬فهم قد وعظونا وعلمونا على أن ((من‬ ‫جد وجد)) وأن ((كل من سار على الدرب وصل)) وأن مستقبل الفرد بيده إذ هو يستطيع أن‬ ‫يصنع نفسه حسب ما يشاء بحزمه وإرادته وسعيه واجتهاده‪.‬‬ ‫وأود أن أصارح القارئ بأني كنت في أيام شبابي ضحية من ضحايا هذا المبدأ السخيف‪،‬‬ ‫مبدأ ((من جد وجد)) فقد كنت أضيع معظم أوقاتي بالكدح والحرص والمثابرة ووضع‬ ‫الخطط ثم محاولة تنفيذها بدقة وقد وجدت نفسي أخيرًا أضعف في معركة الحياة و أقل‬ ‫نجاحًا من أولئك المسترسلين الذين كانوا يسيرون على طبيعتهم من غير تكلف أو حرص أو‬ ‫جهد كبير‪.‬‬ ‫آمن كثير من الناس بوجود الحظ‪ ،‬ولعل مما ساعد على انتشار فكرة الحظ بين الناس هو‬ ‫اعتقادهم بصحة ذلك المبدأ الذي ذكرناه آنفًا‪ ،‬فإن اإلنسان يسمع دائمًا بأن النجاح والرزق‬ ‫والتفوق هو من نتائج السعي والتدبير والمثابرة فيأخذ بالسعي والجد إذن لكي ينال النجاح‬ ‫على زعمه‪ ،‬ولكنه يرى نفسه قد تخلف عن الركب بالرغم من ذلك بينما سبقه غيره ممن‬ ‫هم أقل منه جهدًا و أضعف إرادة‪ ،‬فيعزو صاحبنا ذلك إلى الحظ‪ ،‬ويأخذ عندئذ‬ ‫‪6‬‬


‫بالشكوى والبكاء من سوء حظه الذي يساوه مع أقرانه‪.‬‬ ‫ومما الريب فيه أنه ليس هناك حظ بالمعنى الذي يفهمه الناس عادة من هذه الكلمة‪ ،‬إن‬ ‫هناك باألحرى قوى الشعورية تنبثق من أغوار النفس ويكون لها أثر ال يستهان به في‬ ‫نجاح الفرد أو نبوغه أو تفوقه‪ ،‬والفرق الذي نراه أحيانًا بين الفرد وآخر في مبلغ النجاح رغم‬ ‫تشابههما في السعي والذكاء ناتج في األغلب من كون أحدهما يسمح لقواه الالشعورية‬ ‫باالنبثاق ويستفيد منها في حياته العملية ‪ ،‬بينما يكدح اآلخر طوال وقته ويجهد نفسه‬ ‫فيكبح بذلك تلك القوى وال يصغي لحواسها وحوافزها الخارقة‪ ،‬ولذا تراه قد ابتعد رغم‬ ‫أنفه عن طريق النجاح‪ .‬إن التقصد والتحمل والتكلف والتعجل أمور مناقضة لحوافز‬ ‫الالشعور ومفسدة لها‪.‬‬ ‫إن كثيرًا من أسباب النجاح آتية من استلهام الالشعور و اإلصغاء إلى وحيه اآلتي‪ ،‬فإذا‬ ‫تعجل المرء أمرًا وأراده وأجهد نفسه في سبيله قمع بذلك وحي الالشعور وسار في‬ ‫طريق الفشل‪.‬‬ ‫هناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد وهناك أوقات أخرى تقتضي من الفرد‬ ‫االنسياب و االسترسال والالمباالة وقلة الحرص‪ ،‬والسعيد هو من استطاع أن يوفق بين هذه‬ ‫األوقات وتلك ثم يسلك في كل حين حسبما يقتضيه المقام‪.‬‬ ‫إن النجاح في الحقيقة أمر نادر ال يستطيع أن يناله إال القليل من الناس مهما كان نوع‬ ‫النظام الذي يعيشون فيه‪ ،‬فتطور المجتمع البشري ناشئ من هذه المنافسة الحادة التي‬ ‫تدفع كل فرد على أن يبرع وأن يتفوق على غيره‪ ،‬فالتطور قائم إذن على أكوام من أبدان‬ ‫الضحايا‪ ،‬أبدان أولئك الذين فشلوا في الحياة فصعد على أكتافهم الناجحون‪.‬‬ ‫النجاح الذي نقصده هو الذي يستفيد منه الفرد والمجتمع معًا‪ .‬وهذا هو النجاح الذي يبقى‬ ‫أثره على مرور األجيال‪ ،‬إنه نجاح المخترع والمكتشف والعالم والباحث والمعلم والطبيب‬ ‫والمهندس والمحامي والمدير والتاجر والقائد والزعيم والخطيب وغيرهم من أولئك الذين‬ ‫يضيفون إلى تراث الحضارة البشرية كل يوم شيئًا جديدًا‪.‬‬ ‫لقد ثبت علميًا بأن قسطًا كبيرًا من هذه اإلنجازات الخالدة التي قام بها هؤالء الناجحون‬ ‫والنابغون جاء نتيجة اإللهام الذي انبثق من أغوار الالشعور‪.‬‬ ‫إن موضوع القوى النفسية موضوع جديد كل الجدة‪ ،‬فهو لم يبدأ بشكلة التجريبي‬ ‫الراهن إال حوالي سنة ‪ ،1930‬وقد جابه العلماء هذا الموضوع بشيء من السخرية‬ ‫‪7‬‬


‫واالستنكار أول األمر وقاومه كثير من األساتذة والهيئات البدائية‪ ،‬ولكن جامعة‬ ‫(ديوك) ثابرت على خطتها في تشجيع هذا الموضوع‪.‬‬ ‫إن الذي ينظر إلى الكون خالل المنظار الذي صنعه لنا (غاليلو)و (نيوتن)أو (داروين) و‬ ‫(باشور) ال يستطيع بسهولة أن يصدق بالخوارق النفسية التي تمكن اإلنسان من قراءة‬ ‫فكر غيره أو من رؤية األشياء من وراء حجاب أو من التنبؤ عن بعض ما يحدث في‬ ‫المستقبل من حوادث‪.‬‬ ‫إن تاريخ القوى النفسية الخارقة طويل جدًا‪ ،‬وقد اعتراها على توالي األحقاب شتى‬ ‫المالبسات والمضاعفات‪ ،‬والمشكلة األساسية في تاريخ هذه القوى آتية من كونها قد‬ ‫استخدمت في مختلف األزمان واألماكن من قبل السحرة والكهان واختلطت من جراء ذلك‬ ‫بكثير من التدجيل والشعوذة‪ .‬ومما يؤسف له أن الناس قديمًا كانوا ينسبونها إلى بعض‬ ‫القوى الروحية والغيبية ولهذا فهي كانت تعتبر رمزًا للخرافة ودعامة لكثير من حركات‬ ‫التعصب والرجعية‪.‬‬

‫وصل علماء القرن التاسع عشر في إيمانهم بالمادة وفي تكذيبهم بما سواها إلى الدرجة‬ ‫القصوى‪ .‬فكانوا سريعين إلى إنكار كل ظاهرة ال يمكن تفسيرها تفسيرًا ماديًا‪.‬‬ ‫ونظرية الذرة القديمة أو نظرية الجوهر الفرد تعد اليوم ساذجة كل السذاجة ومؤداها أن‬ ‫المادة مؤلفة من ذرات أو جسيمات بلغت الغاية في الصغر‪ ،‬وماهية هذه الذرات في‬ ‫نظرهم ال تختلف عن أي قطعة مادية أخرى إال في كونها صغيرة جدًا ال تقبل التجزئة‪.‬‬ ‫وقد أفادتهم هذه النظرية بعض الفائدة حيث استطاعوا أن يفسروا بها الظواهر‬ ‫الكيمياوية‪ .‬أما من حيث اطالعهم على سر المادة وماهيتها األصلية فلم تكن تلك‬ ‫النظرية بذات نفع لهم قليل أو كثير‪.‬‬ ‫ظل العلماء جاهلين حقيقة المادة حتى السنوات األخيرة من القرن التاسع عشر ففي‬ ‫سنة‪ 1896‬حدثت أول خطوة في سبيل اكتشاف ما في داخل الذرة من خفايا هائلة‪،‬‬ ‫وهذه الخطوة قام بها عالم اسمه (هنري بكريل) حيث اكتشف نوعًا من اإلشعاع‬ ‫ينبعث من أحد المركبات الكيمياوية‪ .‬وقد تواصلت بعدئذ البحوث واالكتشافات العجيبة‬ ‫حيث اهتدى الباحثون أخيرًا إلى أن هذا الجوهر الفرد الذي كانوا يظنون أنه ال يتجزأ وال‬ ‫ينقسم هو عالم زاخر بالقوى الهائلة وهو مؤلف من أمواج كهربائية تدور على نسق‬ ‫‪8‬‬


‫غريب حول النواة كما تدور الكواكب حول الشمس‪ .‬إن هذا االكتشاف قد قلب في‬ ‫الواقع الفكر البشري رأسًا على عقب وجعل الفالسفة في حيرة كبرى من أمرهم‪ .‬لقد‬ ‫كاد علماء القرن العشرين يتفقون على أن المادة ليست مادة حسب ما يفهمه علماء‬ ‫القرن الماضي‪ ،‬إن هذه المادة التي نلمسها بيدنا ماهي في نظرهم إال وهم من أوهام‬ ‫الحواس‪ ،‬إنها أمواج كهربائية قد كورت في حيز ضيق‪.‬‬ ‫يقول بعض العلماء إنه ليس هناك من فرق جوهري بين قطعة المادة التي نتناولها بأيدينا‬ ‫وشعاع الضوء الذي نلمحه بأبصارنا‪ ،‬كل منهما عبارة عن أمواج كهربائية والفرق‬ ‫الظاهري بين المادة والشعاع ناشئ من كون أمواج المادة معبأة أو مجمدة حيث هي تدور‬ ‫في دوائر صغيرة داخل الذرة بينما أمواج الشعاع منطلقة في الفضاء إذ تسير فيه بسرعة‬ ‫قصوى‪.‬‬ ‫إذًا فالقرن العشرين شاهد انقالبين هائلين أحدهما في بحث المادة واآلخر في بحث النفس‪،‬‬ ‫والعجيب أن كال االنقالبين يشيران إلى نتيجة واحدة‪ .‬ويخيل لي أن النفس والمادة وجهان‬ ‫لحقيقة واحدة هي الكهرباء‪ .‬ومشكلتنا الكبرى في هذا القرن أن نعرف ما هو‬ ‫الكهرباء? ومن مهازل القدر أننا نعّرف مجهولًا بمجهول آخر‪.‬‬ ‫ولقد أصبح العلماء اليوم يعتقدون بأن هذا الفضاء الذي نعيش فيه مملوء بأمواج غير‬ ‫منظورة يكاد يعجز العقل عن إحصائها وهي تتراطم على أجسامنا في كل لحظة تمر‬ ‫علينا من غير أن نحس بها أو ندرك مبلغ أثرها على المجريات النفسية والحيوية فينا‪.‬‬ ‫لقد كانوا في ذلك القرن يعتقدون بأن المادة هي األصل في الكون‪ ،‬ولم تكن األمواج في‬ ‫نظرهم آنذاك إال عرضًا بسيطًا ال أهمية له‪ ،‬أما اليوم فقد انقلب األمر رأسًا على عقب‪ ،‬حيث‬ ‫أصبحت األمواج هي األصل بينما أصبحت المادة تعتبر عرضًا أو وهمًا‪.‬‬ ‫ونحن اليوم نرتقب ما سوف يكشف لنا العلم في المستقبل من مجاهل أخرى عن طبيعة‬ ‫األمواج المادية والنفسية‪ ،‬فنحن اآلن على أي حال نشهد‪ ،‬انقالبين هائلين في تاريخ الفكر‬ ‫البشري‪ .‬أحدهما اكتشاف القوى الذرية‪ ،‬واآلخر اكتشاف القوى النفسية‪ .‬ولعل البحث‬ ‫سيؤدي إلى اكتشاف مصدر واحد لكال هذين النوعية من القوى أو األمواج الكهربائية‪.‬‬ ‫ولقد ظهر في اللغة العربية عدد من الكتب حول هذا الموضوع الخالب‪ ،‬موضوع‬ ‫القوى النفسية الخارقة‪ ،‬ولكن الذي يؤسف له أن كثيرًا ممن كتبوا فيه رأيناهم‬ ‫يؤمنون بالغيبيات‪ ،‬وهم إذن يعتبرون تلك القوى النفسية من الدالئل القاطعة على‬ ‫‪9‬‬


‫وجود عالم الروح أو ما يسمى أحيانًا بعالم ما وراء المادة‪ .‬و أود هنا أن ألفت نظر‬ ‫القارئ بأني ال أميل إلى إنكار الروح‪ ،‬وال أميل أيضًأ إلى االيمان بها وخير ما يمكنني‬ ‫قوله في هذا الصدر هو ترديد اآلية القرآنية ‪((:‬يسألونك عن الروح قل الروح من أمر‬ ‫ربي وما أوتيتم من العلم إال قليلًا))‪.‬‬ ‫إن العلم الحديث ال يقول شيئًا عن الروح ولعله ال يستطيع أن يقول عنها شيئًا حتى أمد‬ ‫طويل‪.‬‬ ‫وقد يحلو لبعض المتعلمين أن يتباهوا بأنهم ينكرون الروح كأنهم يعدون هذا اإلنكار من‬ ‫دالئل التحرر الفكري‪ ،‬والواقع أن المنكر كما المؤمن قد حفظ شيئًا وغابت عنه أشياء‬ ‫والباحث الحقيقي هو الذي يقول في مثل هذه األمور "ال أعلم"‪.‬‬ ‫ونحن اليوم ال يجوز لنا أن نتعصب لرأي من اآلراء مهما بدا هذا الرأي قويًا أو مؤيدًا‬ ‫بالبراهين العلمية‪ ،‬إن البراهين كما أسلفنا أمور اعتبارية وهي تتغير بتغير األزمان‬ ‫فالبرهان الذي نقبله اليوم ربما بدأ لنا سخيفًا غدًا‪ ،‬وعلى هذا األساس نسير في بحث القوى‬ ‫النفسية‪ .‬فنحن ندرسها على ما هي عليه في الواقع غير متجهين في تأويلها إلى ناحية‬ ‫دون األخرى‪ .‬إن هذه القوى النفسية موجودة في جميع الناس تقريبًا لكنها ال تظهر‬ ‫فيهم على درجة واحدة‪.‬‬ ‫قلنا إن القوى النفسية الخارقة موجودة في كل إنسان وما الفرق الذي نالحظه بين بعض‬ ‫الناس وبعضهم اآلخر في هذا الخصوص إذن إال فرق بالدرجة ال بالنوع‪.‬‬ ‫والمشكلة الكبرى التي تجابهنا في هذا السبيل هي أن المتعلمين من بيننا قد تعودوا أن‬ ‫ينظروا في األمور على أساس المنطق القديم‪ ،‬وهو الذي يسمى بالمنطق ذي الحدين‪،‬‬ ‫فاألمر في نظرهم إما أن يكون حقًا كله أو باطلًا كله‪ ،‬وال يجوز عندهم التوسط بين‬ ‫الحدين‪.‬‬ ‫والقوى النفسية في الحقيقة ال تأتي الفرد طوع إرادته‪ ،‬وهي قد تضعف أو تزول حين يريد‬ ‫الفرد أن يقويها في نفسه‪ .‬إنها قوى الشعورية تنبعث من أعماق العقل الباطن ولذا فهي‬ ‫قد يعرقلها التفكير ويضعفها التمرين والتعليم‪.‬‬ ‫لقد سميت هذا الكتاب (خوارق الالشعور) أو (أسرار الشخصية الناجحة) ألني أريد بذلك أن‬ ‫ألفت نظر القارئ العربي إلى ناحية من الشخصية البشرية ربما كان غافلًا عنها هي ناحية‬ ‫الالشعور أو ما يسمى أحيانًا بالعقل الباطن‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫إننا يمكننا تشبيه العقل البشري بجبل الجليد الطافي في البحار القطبية ال يظهر إال‬ ‫جزء صغير فوق سطح الماء أما الجزء األكبر فقد انغمس في الماء ال يرى منه‬ ‫شيئًا‪ .‬إن أغلب حركات اإلنسان وسكناته يسيرها ذلك الجزء المنغمس من العقل‪،‬‬ ‫وليس العقل الظاهر إذًا إال أخدوعة‪ ،‬الغرض منها التضليل والتمويه ووضع الطالء‬ ‫والزخرفة على حقائق األشياء‪.‬‬ ‫إن األبحاث النفسية األخيرة تكاد تشير إلى أن اإلنسان مسيّر في أغلب أعماله ال مخيّر‪ ،‬ففي‬ ‫أعماق النفس البشرية من العوامل الكامنة ما يكاد يشبه تلك اآلالت المتنوعة المخفية في‬ ‫باطن الطيارة‪.‬‬ ‫وقد يسأل القارئ‪ :‬ما هو هذا العقل الباطن الذي يسير اإلنسان في أغلب أعماله? إن‬ ‫الجواب على هذا السؤال عسير جدًا‪ ،‬فالعقل الباطن أمر قد اختلف فيه الباحثون وذهبوا فيه‬ ‫مذاهب شتى‪ ،‬وقد ظهر أخيرًا علماء أنكروا وجوده إنكارًا تامًا‪.‬‬ ‫والذي نريد أن يفهمه القارئ اآلن هو أن العقل الباطن أو الالشعور اصطالح يراد به‬ ‫اإلشارة إلى ما يحدث في داخل النفس من مجريات ال يشعر بها الفكر وال تدخل في مجال‬ ‫الوعي و التأمل‪.‬‬ ‫والذين أنكروا وجود العقل الباطن في اإلنسان لم يستطيعوا مع ذلك أن ينكروا حقارة‬ ‫العقل الظاهر وضعف أمره في توجيه أعمال الفرد‪.‬‬ ‫وأخيرًا جاء (فرويد) فألقى قنبلته الهائلة قائلًا بأن لإلنسان عقلين‪ :‬ظاهر وباطن‪ ،‬وأن أغلى‬ ‫أعمال االنسان مسّيرة بعوامل منبعثة من العقل الباطن الذي ال يشعر اإلنسان به وال يدري‬ ‫ماذا يحدث فيه‪.‬‬ ‫ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن المشتغلين ببحث القوى النفسية الخارقة انقسموا‬ ‫إزاء نظرية العقل الباطن إلى جماعتين متضادتين‪ ،‬وعلى كل حال فإن أغلب الباحثين في‬ ‫هذا الموضوع يميلون إلى االعتقاد بوجود العقل الباطن وأنه مصدر القوى النفسية‬ ‫الخارقة‪ .‬ومعنى ذلك أن العقل الباطن أصبح في نظر هؤالء مجالًا لنوعين من القوى الخفية‬ ‫‪:‬فهو مباءة للرغبات المكبوتة من جهة كما أشرنا إلى ذلك آنفًا وهو منبع للقوى الخارقة‬ ‫من الجهة األخرى‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫وقد يعترض هنا معترض فيقول‪ " :‬إذا كان العقل الباطن كما تقول مبعثًا لنوعين‬ ‫مختلفين من الحوافز‪ ،‬أحدهما صالح واآلخر طالح‪ ،‬فكيف يتأتى للفرد العادي أن يميز‬ ‫بينهما لكي يستطيع أن يسير على زعمك في سبيل النجاح? "‪.‬‬ ‫الواقع أن هذه من المشاكل الكبرى التي تجابهنا في البحث‪ .‬فإننا إذا نصحنا الفرد بأن‬ ‫يصغي إلى حوافزه الالشعورية من غير تفريق وأن يعتمد عليها دائمًا في حياته العملية‬ ‫فربما أوقعناه في ورطة‪.‬‬ ‫إن اإلنسان يجب أن يكون حذرًا كل الحذر من حوافز عقله الباطن إذ ال يجوز له أن ينجرف‬ ‫بما توحي به إليه انجرافًا تامًا‪.‬‬ ‫ربما صح القول بأن الفرد كلما قلت عقده النفسية كان أقدر على االنتفاع من قواه‬ ‫الخارقة‪ ،‬فالفرد الذي امتألت نفسه بالعقد والرغبات المكبوتة يصعب عليه النجاح في‬ ‫معاملته مع الناس‪ ،‬ذلك ألن قواه الخارقة ال تكون إذ ذاك نقية أو حرة في عملها‪.‬‬

‫يقال أن النبي محمد صل اهلل عليه وسلم كان قوي الفراسة يحسن اختيار أصحابه وأعوانه‬ ‫وهذا كان من أسباب نجاحه العظيم في حياته‪ .‬ويبدو لي أن فراسة النبي هذه لم تأته‬ ‫اعتباطًا فهو قد كان‪ ،‬كما هو معروف عنه‪ ،‬من أولي النفوس الصافية المطمئنة التي ال‬ ‫تحمل حقدًا أو ضغينة على أحد‪ .‬إن هذا الصفاء النفساني قد أدى بال ريب إلى حسن‬ ‫استثماره لقواه الخارقة فكشفت له عن خبايا طبائع الناس‪.‬‬ ‫والخالصة‪ :‬إن في أغوار الالشعور قوى مبدعة تستطيع أن تقود الفرد في سبيل النجاح لو‬ ‫أحسن استثماره وطهرت مما يلحق بها من أدران الهوى والعاطفة الممسوخة‪ ،‬وإني ألظن‬ ‫بأن ما يسمى بالحظ عند العامة ناتج عن استثمار هذه القوى الالشعورية‪.‬‬ ‫النهاية‪ :‬أرجو من القارئ الذي ال يجد من نفسه ولعًا بمتابعة هذا البحث أن يقف عند هذا‬ ‫الحد فال يتعداه‪ ،‬إذ يكتفي بما قرأ في المقدمة فيريح ويستريح‪.‬‬ ‫أما الذي يريد أن يواصل القراءة فإليه أقدم الفصول التالية‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫المنطق األرسطوطاليسي‬

‫‪13‬‬


‫يعتبر المنطق جملة من العلوم االساسية التي يجدر برجل الدين أن يحذقها في وقتنا‬ ‫الحاضر لكي يتمكن من وعظ الناس ومجادلة الخصوم‪.‬‬ ‫المحور الذي يدور حوله منطق أرسطو هو ما يسمى بالقياس ( ( ‪ ،syllogism‬وهذا‬ ‫القياس يتسلل من المعلوم إلى الجهول تدريجيًا أو من المقدمات إلى النتائج حسب قواعد‬ ‫أو قيود أصلحوها‪ .‬ومشكلة المشاكل في منطق أرسطو أنه ال يمثل واقع الحياة‪ ،‬وهذا‬ ‫يتضح إذا درسنا تاريخ هذا المنطق وألممنا بالظروف الفكرية واالجتماعية التي أحاطت‬ ‫بنشأته األولى في عهد اإلغريق عندما ظهرت فئة السوفطائيين الذين احترفوا فن الكالم‬ ‫و تعليمه للناس‪.‬‬ ‫وجاء السوفطائيين بفلسفة مؤادها‪ :‬إن الحقيقة نسبية غير مطلقة وإن مقياس الحقيقة‬ ‫هو اإلنسان بمصالحة ورغباته وشهواته‪ ،‬فما دام اإلنسان على زعمهم مصدر الحقيقة‬ ‫ومادامت الحقيقة متغيرة بتغير مصالحه ورغباته‪ ،‬فقد أصبح من الجدير بالفرد في نظرهم‬ ‫أن يحذق فن اإلقناع لكي يستطيع جذب غيره أو يؤثر في الحكام ليحكم لمصلحته‬ ‫الخاصة‪.‬‬ ‫يروى أن سقراط كان سوفسطائيًا‪ ،‬لكنه انشق عنهم وظل يكافح بحجة أن وحيًا نزل عليه‪،‬‬ ‫فظل يبشر بدعوته حتى حكم عليه بالموت‪ ،‬فخلفه تلميذه أفالطون‪ ،‬وحول المجال من‬ ‫الشارع إلى غرفة الدراسة ومن النقاش الشفاهي الى صفحات الكتاب‪.‬‬ ‫وبعد موته‪ ،‬تناول مشعل الفلسفة أرسطوطاليس الذي أطلق عليه لقب المعلم األول‪.‬‬ ‫انتصر منطق أرسطو واندحرت السفسطة التي تؤمن بالحقيقة المطلقة وبمقدرة العقل‬ ‫البشري على اكتشافها و النظر فيها‪ ،‬لكن السفسطة ال تخلو من الحقيقة إذ هي تمثل‬ ‫وجهًا ال باس به من حقيقة الكون‪.‬‬ ‫فالحقيقة كما قال (مانهايم) نسبية و مطلقة في آن واحد‪ .‬لكن انتصار أرسطو جعل‬ ‫المفكرين ينظرون إلى جانب واحد من الحقيقة وهو الجانب المطلق‪ ،‬فعزل نجاح أرسطو‬ ‫المفكرين عن سواد الناس‪ ،‬فجعل الناس على طبقتين من ناحية التفكير‪ :‬طبقة البرج‬ ‫العاجي التي تتلذذ بالتأمل في الحقيقة المجردة‪ ،‬وطبقة بقيت منجرفة بتيار الحياة تريد أن‬ ‫تتكيف للحقائق المتغيرة يومًا بعد يوم‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫كان فالسفة اإلغريق من أصحاب العبيد‪ ،‬فكانوا غير مضطرين للتفكير في‬ ‫معاشهم أو في كيفية الحصول على رزقهم‪ ،‬إذ هم لم يعانوا مشاكل الحياة‪ ،‬ما‬ ‫يجعلهم يفكرون فيها جديًا‪ ،‬فإذا احتاجوا إلى شيء أمروا عبيدهم‪.‬‬ ‫فلو كان العبيد يملكون من الوقت ما يفكرون به كأسيادهم الفالسفة لربما رأيناهم‬ ‫يبتكرون منطقًا خاصًا بهم معاكسًا لمنطق أسيادهم‪ ،‬ولنا أن نقول في هذ الصدد‪ :‬أن‬ ‫منطق السفسطة كان أقرب إلى فهم الحياة الواقعية من منطق أرسطو‪ ،‬ولعله كان‬ ‫منطق العمال والعبيد‪ ،‬وربما كان ذلك من اسباب اندحاره‪.‬‬ ‫إن المفكر الوحيد الذي ثار على هذا المنطق من التفكير المثالي في اإلسالم كان ابن‬ ‫خلدون‪ ،‬فحاول هد منطق أرسطو ويبني مكانه منطقًا جديدًا يستند على الواقع االجتماعي‬ ‫المتغير‪ ،‬فلم يفهمه المفكرون في حينه‪ ،‬فال نزال متأثرين بمنطق أرسطو و ننظر لألمور‬ ‫من خالل مقوالته وقوانينه‪.‬‬ ‫إن منطق أرسطو يصلح للوعظ والمشاغبة معًا‪ ،‬فالواعظ يرقى المنبر إلنذار الناس بالويل و‬ ‫الثبور والمشاغب الذي يبحث عن عيوب الناس لينتقدها كالهما يستعمل هذا المنطق في‬ ‫الهجوم والدفاع فهو منطق الوعظ ال االتعاظ‪ .‬آذان الملوع به شديد في وعظ غيره بينما‬ ‫هو بعيد عن االتعاظ به‪ ،‬فهو يتلمح في سلوك كل فرد من األفراد المحيطين به تناقضًا‬ ‫منطقيًا ولكنه ال يرى ذلك التناقض في نفسه‪.‬‬ ‫قد يستعمل المجادل اقيسته المنطقي جريًا وراء عواطفه فإذا كره شخصًا ثم رأه يضحك‬ ‫هتف قائلًا على طريقته المنطقية‪:‬‬ ‫الضحك من غير سبب قلة أدب‪ ،‬وفالن ضحك من غير سبب‪ ،‬إذن فالن قليل أدب‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك إن المقياس المنطقي قد أصبح آلة بيد اإلنسان‪ ،‬يستعمله في سبيل ما يشتهي‬ ‫ويرغب فيه‪ ،‬و لهذا السبب نشأت تلك الفكرة التي تقول‪ " :‬ال تخف إال من المعمم"‪ ،‬ذلك أن‬ ‫المعمم يستطيع أن يقوم بأي عمل ثم يأتي به بعد ذلك بحجة منطقية يدافع بها عن نفسه‬ ‫و يرد بها انتقاد المنتقدين‪.‬‬ ‫لقد سبق ابن خلدون زمانه بنظرته السابقة في المنطق‪ ،،‬فالمنطق من نظره ال يأخذ صورة‬ ‫واقعية للحياة ولهذا فهو يعرقل صاحبة عن النجاح فيها‪.‬‬ ‫فكان يعتقد أن العامي البسيط ينجح في الحياة الواقعية أكثر من المفكر وذلك ألنه يكيف‬ ‫نفسه للواقع كما هو من غير أن يلجأ في سبيل ذلك إلى قياس منطقي‪ ،‬أما الفقهاء‬ ‫‪15‬‬


‫والمناطقة في رأي ابن خلدون فقد اعتادوا على الغوص في المعاني وانتزاعها من‬ ‫المحسومات وتجريدها في الذهن‪ ،‬فال تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن و ال‬ ‫تصير إلى المطابقة فيقعون في الغلط كثيرا وال يؤمن عليهم‪.‬‬ ‫وضع القدماء ثالثة قوانين سموها بقوانين الفكر‪ ،‬اعتبروها بديهية ال يتطرق لصحتها‬ ‫الشك وضحت مبلغ ما بينها وبين الواقع‪:‬‬ ‫القانون األول‪ :‬قانون الذاتية‪ ،‬و هو قانون الحقيقة الثابتة ومؤداه أن الثبات أصل الكون وأن‬ ‫الحركة و الصيرورة عرض ال أهمية له فيه‪.‬‬ ‫القانون الثاني‪ :‬قانون عدم التناقض‪ ،‬وخالصته أن الشي ال يمكن أن يكون فاقدًا وحائزًا‬ ‫لصفة معينة في آن واحد فإما أن يكون حقًا أو يكون باطلًا‪ ،‬وهذا معناه أن الحقيقة‬ ‫مطلقة ال نسبية‪.‬‬ ‫القانون الثالث‪ :‬نون الوسط المرفوع‪ ،‬وهو أن العالم مؤلف من جانبين ال ثالث لهما‪ :‬جانب‬ ‫الحق وجانب الباطل‪ ،‬جانب الجمال جانب الحقد‪ ،‬كما قال عيسى قديمًا‪ " :‬من لم يكن معنا‬ ‫كان ضدنا "‪ ،‬فليس هناك في هذا المنطق بين بين‪.‬‬ ‫لقدت نسفت العلوم الحديثة هذا القانون من أساسه‪ ،‬ففي الفيزياء مثلًا وجدو أن المادة‬ ‫ليست موجودة في مكان معين‪ ،‬فكانوا قديمًا يقولون بأن المادة موجودة هنا وغير‬ ‫موجودة هناك ‪ ،‬أما اليوم فقد أخذ العلماء يعتقدون بأن المادة موجودة ال حد لوجودها في‬ ‫القضاء‪.‬‬ ‫فهذا القلم الذي أمسكه بيدي اآلن وجود في كل مكان فما دام مؤلفًا من طاقة‬ ‫كهربائية فمجاله الكهربائي المغناطيسي إذن يشمل الكون كله‪ .‬فنحن حين نحس بوجود‬ ‫القلم بين أصابعنا إنما نتأثر بحواسنا المحدودة‪ .‬إن مجال القلم موجود هنا وهناك بدرجات‬ ‫متفاوتة فكلما ابتعدنا عنه كان تأثيره الكهربائي المغناطيسي أقل طبعًا‪.‬‬ ‫إن المبتلى بمنطق أرسطو يؤذي نفسه ويعرقل سبيل نجاحه من نواح ثالث‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫يكون أولًا كثير األعداء قليل األصدقاء‪ ،‬فقد اعتاد على النظر في الحقيقة نظرًا‬

‫ضيقًا فال يكاد يلمح في أحد من الناس تناقضًا بسيطًا حتى انهال عليه نقدًا واعتداءً على‬ ‫طريقته الحيادية ذات الحدين‪ .‬وينسى أن التناقض صفة طبيعية في اإلنسان‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫‪-2‬‬

‫المبتلى بداء الجدل المنطقي قد يؤذي نفسه من ناحية أخرى‪ ،‬فهو يتصور‬

‫الناس كلهم منطقيين في أعمالهم‪ ،‬إن الناس في حياتهم العملية بعيدون عن المنطق‪،‬‬ ‫فهم ال يتبعون مقياس الحق والعدل في أعمالهم اليومية‪ ،‬وإنما تجرفهم البهارج‬ ‫والتقاليد والمظاهر‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫التفكير المنطقي يؤدي إلى الفشل من ناحية ثالثة إذ هو يحول بين الفرد وبين‬

‫استثماره لقواه النفسية الخارقة‪ .‬إن القوى النفسية تنبثق من أعماق الالشعور‪ ،‬فال تحتاج‬ ‫إلى مقدمات فكرية‪ ،‬إنها باألحرى تحتاج إلى خمول أو ذهول ال تكدره أية خلجة فكرية‬ ‫واعية‪.‬‬ ‫إن المبتلى بالتفكير المنطقي ال يقوم بعمل إال بعد تفكير نظامي دقيق وهو حين ينشغل‬ ‫بهذا تفوته كثير من فوائد اإللهام اإللهي الذي يخترق حجب الغيب‪.‬‬ ‫ومن األمثال المشهورة‪ " :‬يجب على من يدخل السوق أن يضع عقله على الرف "‪.‬‬ ‫إن التراث العقيم الذي جاءنا من أيام اليونان القدماء علمنا بأن التفكير المنظم هو مصدر‬ ‫النجاح في الحياة‪ .‬وقد حصلنا من هذا التراث على ضرر بليغ‪.‬‬ ‫قلت ألحد األصدقاء ذات يوم وكان في موقف حرج حائرًا‪ " :‬افعل ما توحيه به إليك بديهتك‬ ‫االرتجالية" ‪ .‬فضحك وظن أني أريد به سوءًا‪ .‬إنه ضحية من ضحايا المنطق اليوناني‪ ،‬كما‬ ‫كان كثير منا من ضحايا الطب اليوناني حتى عهد قريب‪ ،‬وبعد هذ أجاب الصديق‪ " :‬إنه‬ ‫سيفعل ما يأمر به العقل والتفكير الصحيح"‪ .‬وعلى هذا ظل يفكر ولم يزدد بتفكيره إال‬ ‫حيرة وارتباك‪ ،‬فمنع ومضاته المبدعة من االنبثاق كما تمنع الستارة نور الشمس‪.‬‬

‫‪17‬‬


‫اإلطار الفكري‬

‫‪18‬‬


‫اإلنسان اعتاد أن ينظر إلى الكون من خالل إطار فكري يحدد مجال نظره و أنه‬ ‫يستغرب أو ينكر أي شيء ال يراه من خالل ذلك اإلطار‪ .‬و ليس هناك فرق أساسي بين‬ ‫المتعلمين وغير المتعلمين في هذا الخصوص‪ ،‬كل جديد في العلم يقابله المتعلمون‬ ‫وغير المتعلمين من الناس بالهزء‪ ،‬والتاريخ مملوء بقصص العلماء والمخترعين‬ ‫والمكتشفين الذين قاسوا من االضطهاد و االستهزاء ما قاسوا جراء ما جاءوا به من‬ ‫جديد في خدمة التطور العلمي واالجتماعي‪ .‬ينبغي أن نميز بين المتعلم والمثقف‪،‬‬ ‫فالمتعلم هو من تعلم أمورًا لم تخرج من نطاق اإلطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ‬ ‫صغره‪ ،‬لم يزدد من العلم إال ما زاد في تعصبه و ضيق من مجال نظره‪ ،‬هو قد آمن‬ ‫برأي من اآلراء فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه‪ ،‬أما المثقف فهو‬ ‫يمتاز بمرونة في رأيه لتلقي كل فكرة جديدة و للتأمل فيها ولتملي وجه الصواب‬ ‫منها‪.‬‬ ‫يقال أن المقياس لثقافة شخص هو مبلغ ما يتحمل من آراء غيره المخالفة لرأيه‪ .‬لطالما‬ ‫رأينا جمهور المتعلمين يسخرون من فكرة في هذا اليوم ثم يقدسونها غدًا‪.‬‬ ‫إن اإلطار الفكري الذي ينظر اإلنسان من خالله إلى الكون مؤلف جزؤه األكبر من‬ ‫المصطلحات و المألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه و يغرزها في أعماق‬ ‫قلبه الباطن و اإلنسان متأُثر بها من حيث ال يشعر‪ ،‬فهو ال يكاد يرى أحدًا يخالفه في رأيه‬ ‫حتى يثور غاضبًا و يتحفز لالعتداء عليه و هو عندما يعتدي على المخالف له ال يعد ذلك شينًا‬ ‫و ال ظلمًا‪ ،‬إذ هو يعتقد بأنه يجاهد في سبيل الحقيقة و يكافح ضد الباطل‪ .‬و أغلب الحروب‬ ‫و االضطهادات التي شنها البشر على بعضهم في سبيل مذهب من المذاهب الدينية أو‬ ‫السياسية ناتجة عن وجود هذا اإلطار الالشعوري على عقل اإلنسان‪.‬‬ ‫إن اإلنسان ال يستطيع التخلص من اإلطار الفكري إال نادرًا فاإلطار شيء كامن في‬ ‫الالشعور واإلنسان ال يستطيع أن يتخلص من شيء ال يشعر به‪.‬‬ ‫إن االختراع أو اإلبداع هو تركيب بين شيئين قديمين و لهذا السبب كان المتعصب لرأي‬ ‫أو طريقة من الطرق بعيدًا عن اإلبداع أو االختراع‪ ،‬إن الباحث المبدع يمتاز بكونه يعترف‬ ‫بإطاره الفكري و لذا فهو أقدر على مواجهة الحقيقة الجديدة من غيره‪ .‬و العجيب أن‬ ‫بعض الناس ينكرون وجود إطار على عقولهم ‪ ،‬إنهم بهذا يبرهنون على تعصبهم‬ ‫الشديد‪ .‬إن كل أمرئ في الواقع يلون الدنيا بلون ما في نفسه و يقيس األمور حسب‬ ‫المقاييس التي نشأ عليها‪ ،‬لذلك ليس من العجيب أن يختلف الناس في أذواقهم‬ ‫‪19‬‬


‫وميولهم و لكن العجب باألحرى أن يتخاصموا من أجل هذا االختالف‪ ،‬و أنا أعجب حين‬ ‫أرى الناس يتنازعون على أمور من غير أن يقفوا لحظة ليتدبروا ما على أبصارهم و‬ ‫أذواقهم من قيود الشعورية‪.‬‬ ‫لقد وقع اختالف بين المفكرين حول موضوع الفكر البشري‪ :‬هل هو الذي يخلق الحقيقة‬ ‫أم أنها هي التي تخلقه? و قد انقسم المفكرون إلى فريقين‪ :‬األفالطونيين يقولون بأن‬ ‫العقل البشري ليس إال مرآة للحقيقة حيث يعكس صورتها من غير تشويه وال تغيير‪ ،‬و‬ ‫الفريق اآلخر يميل إلى النقيض إذ يرى بأن الحقيقة بنت العقل وأن ليس هناك حقيقة‬ ‫خارجة عنه ومن هؤالء ظهر السفسطائيون‪ ،‬ففي رأي هؤالء أن اإلنسان هو مقياس‬ ‫الحقيقة و أنه هو الذي يخلقها برغبته و هواه و لذلك فهي تتغير من شخص إلى شخص‪،‬‬ ‫فما يكون صحيحًا في يوم قد يكون خطأ في يوم آخر‪ ،‬إن هذين الفريقين يعتبران اليوم‬ ‫على خطأ‪ .‬فالمنطق الحديث ال يمل نحو فريق منهما دون اآلخر‪ ،‬إذ هو يكاد يحكم بأن‬ ‫الحقيقة ذاتية و موضوعية في آن واحد‪ :‬أي أن الحقيقة على هذا االعتبار الحديث‪ ،‬تخلق‬ ‫الفكر ويخلقها الفكر في نفس الوقت فكل منهما سبب لآلخر ونتيجة له أيضًا‪.‬‬ ‫يرى (مانهايم) و هو من دعائم المدرسة الجديدة في المنطق‪ ،‬أن الحقيقة موجودة خارج‬ ‫العقل البشري أي أنها ليست من خلق هذا العقل ولكنها مع ذلك ذات أوجه متعددة ‪.‬‬ ‫فالعقل حين ينظر إليها ال يستطيع في الغالب أن يطلع إال على وجه واحد منها و لذا فهو‬ ‫ال يأخذ عنها صورة كاملة‪ .‬و يؤيد (جون ديوي) هذا الرأي تأييدًا كبيرًا‪ ،‬إن العقل في نظره‬ ‫لم يخلق من أجل الحقيقة فله هدف آخر أهم من الحقيقة و أنفع‪ ،‬هو الفوز في تنازع‬ ‫البقاء‪ .‬فالعقل في نظره هو عضو قد تطور في اإلنسان لكي يساعده في كفاح الحياة و‬ ‫تنازع البقاء فهو ال يفهم الحقيقة إال بمقدار ما تنفعه‪.‬‬ ‫يطلب المثالي من خصمه أن يفكر على أساس المنطق لكي يصل إلى الحقيقة و هو‬ ‫يقصد بها حقيقته الخاصة التي تنفعه‪ ،‬ومعنى هذا أنه يريد من خصمه أن ينحاز إلى جانبه‬ ‫ويكون عونًا له على الحياة‪ ،‬أما خصمه فيداور و يراوغ ألنه هو نفسه يحمل حقيقته‬ ‫الخاصة به ويريد االنتصار لها‪ ،‬هكذا ينشأ النزاع وتثور الفتن بين الناس ‪.‬‬ ‫ليس هناك مقياس عقلي دقيق يقتنع به كل أحد‪ ،‬فكل فرد منغمر في ذاته ولذا فهو‬ ‫يثور إذا رأى قرينًا له يتقدم عليه في مجاالت الحياة‪ ،‬إن المشكلة آتية من كون اإلنسان‬ ‫أنانيًا بطبعه وهو حين يفعل ذلك يعتقد بأنه إنما يقصد الخير العام و يريد مصلحة‬ ‫الجماعة‪ .‬معضلة العقل البشري أنه ميال إلى جعل مصلحة صاحبه والمصلحة العامة‬ ‫‪20‬‬


‫واحدة فكل شيء ينفع صاحبه يصبح في نظره حقًا مطلقًا يجب أن يتبعه الناس‬ ‫جميعًا‪ ،‬إن دراسة تاريخ األديان و الدول تعطينا أمثلة ال حصر لها على صحة هذا الرأي‪،‬‬ ‫فكل ثائر أو صاحب مذهب يدعي أنه صاحب الحق الذي ال شبهة فيه‪.‬‬ ‫إن النجاح يحمل بذرة الفشل في أساس طبيعته‪ ،‬و لن ننتظر من دين ينتشر أو حركة تنتصر‬ ‫أن تسير األمور فيه بعد النصر هونًا كما سارت سابقًا‪ ،‬و نحن حين ندرس اإلسالم نرى فيه‬ ‫مصداق هذا األمر‪ ،‬ولعل االنشقاق قد ظهر في اإلسالم أسرع مما ظهر في غيره من‬ ‫األديان‪ ،‬وكأن ذلك نشأ من السرعة الهائلة التي نجحت بها الدعوة و انتشرت فتوحات‬ ‫اإلسالم في أقاصي األرض‪ .‬يقال إن قضية الخالفة كانت المنبع الرئيسي لجميع أنواع‬ ‫الفرق‪ ،‬وهذا قول له ما يؤيده من الواقع ‪ ،‬فالخالفة في أول أمرها عندما كانت زهدًا و‬ ‫تقوى‪ ،‬كان الخالف عليها ضعيفًا يكاد ال يشعر به أحد‪ ،‬أما حين بدأ الترف يأخذ مأخذه و‬ ‫حفت بها األبهة وشاعت فيها شتى اللذات فقد تحرقت األنفس نحوها وأخذت العقول‬ ‫تنشئ المذاهب الفكرية والفرق الدينية في سبيل الظفر بها‪ .‬ويمكن القول بأن النجاح‬ ‫يحمل بذرة فشله معه في القضايا الفردية أيضًا‪ ،‬فالفرد حين ينجح يتغير بنجاحه إطاره‬ ‫الفكري فهو يأخذ آنذاك بالنظر في األمور نظرًا جديدًا يوائم وضعه الجديد وهذا التغير‬ ‫في النظر قد يجلب أسباب الفشل مع أحيانًا‪ .‬إن اإلطار الفكري الشعوري واإلنسان غير قادر‬ ‫على التحكم في شيء ال يشعر به‪.‬‬ ‫هناك ثالثة أنواع من القيود موضوعة على عقل اإلنسان عند تفكيره أو عند نظره في‬ ‫األمور‪ -1 :‬القيود النفسية ‪ -2‬القيود االجتماعية ‪ -3‬القيود الحضارية ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬فاإلنسان قبل كل شيء يملك نفسًا معقدة فيها كثير من الرغبات المكبوتة‬ ‫واالتجاهات الدفينة‪ ،‬ففكره إذن مقيد بهذه القيود النفسية التي ال يجد عنها محيصًا إال‬ ‫نادرًا‪.‬‬ ‫(‪ )2‬فكر اإلنسان مقيد بقيود اجتماعية عالوة على قيود نفسية ‪ ،‬فهو ينتمي إلى جماعة أو‬ ‫طبقة أو بلد و لذا فهو يتعصب لجماعته في الحق والباطل على منوال ما كان عرب‬ ‫الجاهلية يفعلون حين قالوا ‪ " :‬انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا " ‪.‬‬ ‫(‪ )3‬العقل البشري إضافة إلى قيوده النفسية واالجتماعية‪ ،‬له قيوده الحضارية وهي‬ ‫القيود التي تشترك بها كل الجماعات في داخل حضارة معينة ‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫إن مشكلة النزاع البشري هي مشكلة المعايير والمناظير قبل أن تكون مشكلة الحق‬ ‫والباطل وما كان الناس يحسبون أنه نزاع بين حق وباطل هو الواقع نزاع بين حق وحق‬ ‫آخر‪ ،‬فكل متنازع في الغالب يعتقد أنه المحق وخصمه المبطل‪ ،‬و لو نظرت إلى األمور‬ ‫من نفس الزاوية التي ينظر منها أي متنازع لوجدت شيئًا من الحق معه قليلًا أو كثيرًا‪.‬‬ ‫إن المنطق الحديث ال يؤمن بالعدل المطلق كما أنه ال يؤمن بالحق المطلق‪ ،‬فليس هناك في‬ ‫نظر هذا المنطق عدل يمكن أن يشمل الناس جميعًا‪ ،‬وكل من يدعو إلى الحق المطلق إنما‬ ‫هو يريد من حيث يشعر أو ال يشعر أن يخدع الناس أو أن يجذبهم لجانبه و جانب جماعته‬ ‫فالحياة في الواقع هي نزاع بين المصالح المختلفة‪.‬‬ ‫إن أي عصر من العصور التاريخية هو ذهبي لمن يتنعم به وفحمي لمن يبتئس به‪ .‬و ما‬ ‫عليك إال أن توازن بين عدد المتنعمين و المبتئسين فتحكم بما يمليه عليك رجحان الميزان‪.‬‬ ‫إن المنطق الحديث ال يعترف بوجود خير مطلق أو عدل مطلق‪ ،‬فكل إنسان ينظر إلى العدل‬ ‫أو الخير من ناحيته الخاصة أو من خالل إطاره الفكري‪ ،‬و كل من يدعوك إلى الخير المطلق‬ ‫فاعلم أنه يريد أن يغشك و يخدعك‪ ،‬إن مثل هذه الدعوة هي في الحقيقة دعاية وتطبيل‬ ‫وترميز وما على الذين يريدون اإلبداع في العلم أو األدب أن يتجنبوا هذا السبيل الموحل‪.‬‬ ‫ماهي العبقرية? الجواب على هذا صعب جدًا‪ ،‬فال يزال الباحثون مختلفين في موضوع‬ ‫العبقرية اختالفًا شديدًا‪ ،‬لكن الذي يلفت النظر في أمر العبقرية هو أن الكثيرين ممن‬ ‫بحثوا هذا الموضوع كادوا يتفقون على وجود شيء من التشابه بين بعض ظواهر‬ ‫العبقرية وظواهر الجنون‪ ،‬والغريب أننا نجد ما يقارب هذا المعنى لدى كثير من الشعوب‪.‬‬ ‫إن األبحاث النفسية الحديثة تشير إلى أن العبقري حين ينتج انتاجه الرائع ال يشعر بنفسه‬ ‫فهو يدخل في حالة شاذة لها شبه بالصرع أو الغيبوبة‪ .‬كما يرى بعض الباحثين‪ :‬أن‬ ‫العبقري يتقمص عند اإلنتاج شخصية أخرى عير شخصيته االعتيادية وهو حين يرجع إلى‬ ‫حالته االعتيادية ينذهل من روعة إنتاجه و يعجب كيف استطاع هو نفسه أن ينتجه‪.‬‬ ‫ما نريد أن يفهمه القارئ هو أن العبقرية فيها شيء من الخروج عن الذات والدخول في‬ ‫عالم آخر ال نعرف مداه اآلن معرفة تامة‪ ،‬فهي تعتبر نوعًا من أنواع الجنون أحيانًا ألنها‬ ‫تخرج بصاحبها عن حالته االعتيادية و تجعله ينظر إلى الحياة بمنظار ثاقب نفاذ لم يعهده‬ ‫الناس من قبل‪ ،‬ولنا أن نقول‪ :‬إن القوى الخارقة تنبعث من أغوار النفس العبقرية انبعاثًا‬ ‫طليقًا فتنتج على يد العبقري ما ال يستطيع أن ينتجه المنافقون والمتعصبون والمقلدون‪.‬‬ ‫‪22‬‬


‫الفرد العادي ال يستطيع أن يتجرد من تفكيره مهما حاول‪ ،‬ألن القيود التي تقيد‬ ‫تفكيره مغروزة في أعماق عقله الباطن‪ .‬إن العبقري هو اإلنسان الوحيد الذي يستطيع‬ ‫أن يسمو عن ذلك ويحلق في سماء اإلبداع و االختراع‪.‬‬ ‫ال يوجد على وجه األرض عقل قد تجرد من قيوده الفكرية تجردًا تامًا و من الممكن أن‬ ‫نقول‪ :‬إنه كلما كان التجرد في عقل من العقول أتم كانت قدرته على اإلبداع أعظم‪،‬‬ ‫فالعباقرة إذن يتفاضلون بمقدار ما تحررون قليلًا أو كثيرًا من إطارهم الفكري‪ .‬إن التجرد‬ ‫المطلق مستحيل و العبقرية الكاملة كذلك غير ممكنة‪.‬‬ ‫من الجدير على الخطيب‪:‬‬ ‫‪ _1‬أن يقدم إذا رأى اإلقدام عزمًا‪ ،‬ويحجم إذا رأى اإلحجام حزمًا‪.‬‬ ‫‪ _2‬أن ال يدخل مدخلًا إال إذا هيأ له منه مخرجًا‪ ،‬فهو قد يرتج عليه أثناء الخطابة‪ ،‬يقلب‬ ‫نظره في الناس من غير أن يستطيع التفوه بشيء‪ ،‬فالحاذق يهيئ لنفسه فبل اإللقاء فكرة‬ ‫معينة أو رؤوس أقالم يلجأ إليها عند الحاجة فتكون له بمثابة خط الرجعة‪.‬‬ ‫‪ _3‬يطرق أول فكرة تخطر بباله‪.‬‬ ‫من المخجل أن نجد معلمي اللغة العربية يدربون التالمذة في فن اإلنشاء والكتابة مراعاة‬ ‫التسلسل المنطقي في كتاباتهم‪ ،‬مهملين أثر الحوافز الالشعورية فيها‪.‬‬ ‫إن االهتمام بالتصنيف المصطنع والتسلسل المنطقي وترتيب الديباجة والخاتمة يعتبر‬ ‫بمثابة األحجار التي توضع في طريق التيار فتعرقل سيره‪.‬‬ ‫إن طريق اإلبداع في الكتابة يحتاج إلى ثالث مراحل‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫‪ _1‬البحث الواعي وجمع المعلومات وتصنيفها‪ ،‬ويمكن تسميتها بمرحلة الخزن‪ ،‬فالعقل‬ ‫الباطن ال يعمل وهو فارغ‪.‬‬ ‫‪ _2‬االنبثاق الالشعوري‪ ،‬فالكاتب بعد أن يخزن المعلومات في عقله الباطن ويتركها‬ ‫ستتخمر وتتلقح‪ ،‬فيجد نفسه مدفوعًا إلى الكتابة‪ ،‬ويكون قلمه آنذاك هو السيد المطاع‪.‬‬ ‫‪ _3‬التنسيق والتزويق والحذلقة المنطقية‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫اإلرادة والنجاح‬

‫‪24‬‬


‫انصبت آراء معظم المفكرين ‪-‬منذ عهد بعيد‪ -‬على تمجيد اإلرادة في تحقيق النجاح‪،‬‬ ‫وينسبون للمخفق ضعف اإلرادة والسعي‪ ،‬ولكي ينجح عليه أن يعزم على الجد ويقوي‬ ‫إرادته‪.‬‬ ‫وقد امتألت الكتب العربية قديمها وجديدها بهذه الفكرة‪ :‬النجاح بالمثابرة‪ ،‬كل من سار‬ ‫على الدرب وصل‪ ،‬من طلب جلب ومن جال نال‪ ...‬إلى غير ذلك من أقاويل اخترعها لنا‬ ‫المغرورون‪.‬‬ ‫فكثير من األفراد الذين أتيح لهم الفرصة أو الوساطة القوية ما جعلهم ينالون الحظ‪،‬‬ ‫فأخذوا يتباهون ويتكبرون على الناس‪ ،‬كأنهم نالوا ما نالوا بالسعي والصبر واإلرادة‪،‬‬ ‫ناسين أثر تلك الظروف السعيدة التي أحاطت بهم منذ نشأتهم األولى‪ ،‬وناسين أيضًا بأن‬ ‫ذلك المسكين الذي يكدح في أيام الصيف من شروق الشمس إلى غروبها يحمل على‬ ‫ظهره التراب واآلجر‪ ،‬هو أكثر منهم صبرًا وأقوى إرادة‪.‬‬ ‫ولو سألت أي فرد قد بلغ منزلة رفيعة‪ " :‬هل كنت في بدء حياتك قد وضعت نصب عينيك‬ ‫هذه المنزلة‪ ،‬فسعيت نحوها حتى وصلت إليها? "‪ ،‬فإنه سوف يجيبك بالنفي على أرجح‬ ‫الظن‪.‬‬ ‫إن معظم الناس يتجهون في أول أمرهم نحو غاية ثم ينحرفون عنها أخيرًا‪ ،‬إن واقع الحياة‬ ‫أقوى من أية خطة يضعها عقل محدود‪ ،‬فإذا نجح على سبيل الصدفة رأيته انهال على‬ ‫الناس لومًا وتقريعًا حاسبًا سوء حظهم من صنع أيديهم‪.‬والغريب أن الحظ ال يؤمن به إال‬ ‫الفاشلون‪ ،‬ليجدوا تعليلًا وتفسيرًا لفشلهم‪ ،‬أما الناجح فقد امتلكه الغرور‪ ،‬ونسب كل‬ ‫فضل في نجاحه إلى نفسه‪.‬‬

‫***‬ ‫ترجم يعقوب صروف كتابًا عن اإلنكليزية سماه "سر النجاح" راج في البالد العربية‬ ‫والغربية‪ ،‬وهذا الكتاب يؤكد على أهمية اإلرادة والسعي والكفاح في أمر النجاح‪ ،‬وجاء لنا‬ ‫بأمثلة عديدة للبرهنة على صحة ما يقول‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫ومما جاء في الكتاب‪ ،‬أن بعضهم حكى أنه رأى نجارًا يصلح كرسيًا يجلس عليها‬ ‫القضاة‪ ،‬وكان يعتني بإصالحه أكثر من المعتاد‪ ،‬فقال له‪ :‬ما بالك تعتني بإصالح هذا‬ ‫الكرسي?‪ ،‬قال‪ :‬ألني أريد أن أجلس عليه يومًا ما‪ ،‬وهكذا كان ألن ذلك النجار درس علم‬ ‫الحقوق وجلس على ذلك الكرسي‪.‬‬ ‫ويروي مؤلف الكتاب‪ :‬أن جنديًا فرنسيًا كان يتمشى في غرفته ويقول‪ " :‬ال بد من أن أصير‬ ‫قائدًا "‪ ،‬وقد سعى هذا الجندي في سبيل ذلك حتى تم له أخيرًا ما أراد‪.‬‬ ‫إن هذه القصص تنفع في تعليم الصبيان من غير شك‪ ،‬وهي ضرورية في تربيتهم‪ ،‬لما‬ ‫فيها من تحريض على العمل وتقوية اإلرادة‪ ،‬ولكنها رغم ذلك ال تنطبق على حياة الواقع‬ ‫انطباقًا تامًا‪ ،‬وال يتفوه بها في الغالب إال الناجحون الذين غرّوا أو تناسوا تلك العوامل‬ ‫الخفية التي ساعدتهم على نوال النجاح‪ .‬ونحن لو أحصينا عدد الذين أرادوا النجاح فلم‬ ‫يصلوا إليه لوجدناه أكثر من عدد الذين نجحوا‪.‬‬ ‫والمشكلة أننا ال نصغي إلى ما يقول الفاشلون‪ ،‬فكل همنا منصب على اإلعجاب بالناجح‬ ‫والتلهف لسماع أقواله‪ ،‬أما الفاشل فنحن نميل عادة إلى احتقاره وذم أعماله‪ ،‬وهو كلما‬ ‫أقسم لنا بأغلظ األيمان على أنه أراد وسعى ولكن التوفيق خانه‪ ،‬أهملنا أقواله‪ ،‬وهكذا‬ ‫تضيع علينا وجهة نظر هامة كان األجدر بنا أن نهتم بها وننتفع بما فيها من عبرة‪.‬‬ ‫يذكر لنا مؤلف كتاب "سر النجاح" قصة ذلك الجندي الفرنسي الذي أراد أن يكون قائدًا‬ ‫فصار‪ ،‬ونحن نود أن نسأله هنا‪ :‬كم من الجنود كافحوا ليصيروا قادة ولم يفلحوا?‬ ‫والواقع أن الذي يريد أن يرقى إلى منزلة رفيعة وهو غير موهوب بالصفات التي تؤهله‬ ‫لها‪ ،‬يؤذي نفسه أكثر مما ينفعها‪ ،‬إن اإلرادة وحدها ال تكفي أبدًا لنوال شيء‪.‬‬ ‫إن لكل نوع من أنواع النجاح مؤهالت خاصة‪ ،‬وتلعب القوى النفسية الخارقة دورًا كبيرًا في‬ ‫تكوين هذه المؤهالت‪ .‬إن صاحب المواهب النفسية يجب أن يسير على رسله في الحياة‬ ‫فال يحرص أو يتقصد في االنتفاع من تلك المواهب‪ ،‬وكلما كان انبثاق قواه النفسية‬ ‫ارتجاليًا ال تكلف فيه كان ذلك أدعى إلى نجاحه وانتظام أمره‪.‬‬ ‫إن األبحاث النفسية الحديثة تكشف الحقيقة التي تشير إلى أن اإلرادة قد تعرقل سبيل‬ ‫النجاح أحيانًا‪ ،‬وإلى أن الذي يستعمل إرادته في كل األمور قد يسيء إلى نفسه من حيث ال‬ ‫يدري‪ ،‬إن هذه الحقيقة تسمى بقانون (كويه)‪ ،‬أو قانون الجهد المعكوس‪.‬‬

‫‪26‬‬


‫إن قانون (كويه) بسيط في عباراته ولكنه هائل في أهميته العملية‪ ،‬ويمكن تلخيص‬ ‫هذا القانون بالعبارة الموجزة التالية‪ :‬إذا سيطرت فكرة على شخص بحيث أصبحت‬ ‫متغلغلة في أغوار عقله الباطن‪ ،‬فإن كل الجهود الواعية التي يبذلها ذلك الشخص في‬ ‫مخالفة تلك الفكرة تؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يبتغيها منها‪ .‬ومعنى هذا إن‬ ‫اإلرادة إذا كانت معاكسة للمخيلة أمست ضارة‪ ،‬والجدير بالفرد في مثل هذه الحالة أن‬ ‫يكون غير مكترث خير له من أن يكون حريصًا قوي اإلرادة‪ ،‬يعرف هذا كل من يريد أن‬ ‫يقابل أحدًا من الكبار‪ ،‬فهو كلما أراد أن يكون حاذقًا في مقابلته واستعد لها من قبل‬ ‫كان مخفقًا وظهر بمظهر التحذلق والرقاعة‪.‬‬ ‫وأينما توجه اإلنسان في مختلف نواحي الحياة وجد أثر قانون (كويه) واضحًا‪ ،‬فهو يريد مثلًا‬ ‫أن يتذكر اسمًا معينًا‪ ،‬فيجد هذا االسم يختفي من ذاكرته كلما حرص على تذكره‪ ،‬ولكنه‬ ‫ال يكاد ييأس من نذكر االسم ويرجع إلى مألوف عادته وعدم اكتراثه حتى يلمع في خاطره‬ ‫بغتة‪ ،‬لقد أراده فلم يأته‪ ،‬وأهمله فجاء يسعى إليه‪.‬‬ ‫ولعلنا ال نغالي إذا قلنا بأن الشخصية الناجحة هي التي تتخيل النجاح الذي تريده‪ ،‬واألولى‬ ‫بالمربين أن يطبعوا خيال النجاح في أذهان األطفال بدلًا من أن يحرّضوهم على إرادة‬ ‫النجاح‪ ،‬فينبغي أن يقولوا لهم‪" :‬أنتم ناجحون" عوضًا عن أن يقولوا لهم‪" :‬كونوا ناجحين"‪،‬‬ ‫فهم يجعلون أوالدهم يريدون النجاح في الوقت الذي يتخيلون فيه الخيبة‪.‬‬ ‫إن من الممكن القول بأن سوء الحظ هو عقدة نفسية‪ ،‬فسيء الحظ هو ذلك الذي يتخيل‬ ‫الخيبة والفشل في كل عمل يقوم به‪ ،‬فهو يريد النجاح ويحرص عليه ويدأب في سبيله‬ ‫ولكنه في أعماق عقله الباطن يتصور الفشل‪.‬‬ ‫إن شعار المربين عندنا يدور معظمه حول عبارة " كن ‪ ...‬وال تكن‪ ،" ...‬وهذه الطريقة‬ ‫تؤدي إلى ضرر الطفل من ناحيتين‪ :‬فهي تغرز في مخيلة الطفل صورة متشائمة عن نفسه‬ ‫من ناحية‪ ،‬وهي تحرضه على إرادة النجاح من الناحية األخرى‪ ،‬وهو يصبح إذن ضحية من‬ ‫ضحايا قانون الجهد المعكوس‪ ،‬يريد النجاح في عقله الواعي بينما هو يريد الفشل في‬ ‫عقله الباطن‪.‬‬ ‫ولعلنا ال نخطئ إذا قلنا بأن التقليد نوعان‪ :‬إرادي وغير إرادي‪ ،‬وشخصية اإلنسان تحتاج في‬ ‫نموها إلى تقليد غير إرادي‪ ،‬حيث تدخل الصفة المقلدة في تركيب الشخصية وتتلون‬ ‫بلون إذ تصبح جزءًا منها‪ ،‬أي أن اإلنسان يقلد فيه على رسله من حيث ال يتعمد وال‬ ‫يتقصد‪ ،‬وال يسمى هذا تقليدًا على المعنى المتداول بين الناس‪ ،‬ألنه مضغ وهضم‬ ‫‪27‬‬


‫للصفة المقلدة وإدخالها في تكوين الشخصية‪ .‬أما التقليد اإلرادي كمثل تنمية شيء‬ ‫بإلصاق إضافة عليه من خارجه‪ .‬والشخص الناضج حين يعجب بصفة لدى غيره ال يبالي‬ ‫أن يقلدها‪ ،‬إنما هو يخزنها في أعماق عقله الباطن‪ ،‬فتخرج في أوانها دون تكلف‬ ‫ويسير سيرًا ارتجاليًا وتصبح جزءًا ال يتجزأ من شخصيته الخاصة‪.‬‬ ‫إن سوء الحظ عقدة نفسية تنمو في الالشعور فتجعل صاحبه يتخيل الفشل في كل خطوة‬ ‫يخطوها‪ ،‬ولهذه العقدة ركنان‪ :‬فصاحبها يحرص على النجاح ويريد ويعزم عليه من جهة‬ ‫وهو يتخيل االخفاق ويتوقعه من الجهة األخرى‪.‬‬ ‫أعرف رجلًا قد اعتاد على أن يتحدث عن كل مشروع يقوم به يتوقع فشله‪ ،‬فسألته مرة عن‬ ‫سبب هذه اإلصرار على توقع الفشل‪ ،‬فأجاب‪ " :‬إن توقع الفشل خير من توقع النجاح‪ ،‬ألن‬ ‫في ذلك استعدادًا للنفس على تحمل الصدمة إذا وقعت "‪ .‬ثم أضاف‪ " :‬وما ضرر الكلمة‬ ‫أنطق بها متفائلًا أو متشائمًا إذا كان المشروع قد قدر له أن ينجح أو يفشل في النهاية‪،‬‬ ‫والكلمات التي اتفوه بها تذهب أدراج الرياح من غير أن تؤثر شيئًا "‪.‬‬ ‫إن هذا الرأي كبير الضرر ومن المؤسف أنه منتشر بين الناس ومتغلغل في عقولهم‪،‬‬ ‫فالناس هنا يعتقدون بأن النجاح هو نتيجة الجهد واإلرادة والتفكير وحسن التدبير‪ ،‬والواقع‬ ‫أن الكلمات هي أعظم في تأثيرها النفسي من البرهان المنطقي الذي نحاول أن نقنع‬ ‫عقولنا به‪ ،‬فالبرهان المنطقي ال يتعدى تأثيره حدود العقل الواعي‪ ،‬ولذا فهو ال يؤثر في‬ ‫المخيلة إال قليلًا‪.‬‬ ‫إن عيب البرهان المنطقي أنه ال ينمي في النفس عقيدة‪ ،‬فالعقيدة بنت اإليحاء والتكرار‪،‬‬ ‫ولهذا السبب نجد وعاظنا ال ينجحون في تبديل أخالق الناس أو عقائدهم إال نادرًا‪ ،‬فهم‬ ‫يحاولون دائمًا أن يقنعوا الناس في أن يسيروا في أمورهم الفكرية واالجتماعية على‬ ‫أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم‪.‬‬ ‫وفي القرآن آية لها صلة كبيرة بهذا الموضوع أيضًا وهي‪( :‬وأما بنعمة ربك فحدث)‪ ،‬فال‬ ‫مراء أن التحدث بالنعمة يزيدها‪.‬‬ ‫لقد اعتدنا أن نتخوف من ذكر النعمة على شتى صورها‪ ،‬وهذه العادة لها أسبابها‬ ‫االجتماعية والنفسية التي توفرت في حضارتنا الشرقية أكثر من غيرها‪ ،‬وقد انتشرت‬ ‫بيننا عقيدة الحظ وكثر أصحاب الحظوظ السيئة في صفوفنا‪ .‬إن الذين يعتقدون أن‬ ‫النجاح على قدر المشقة قد ال يغتنمون الفرص‪ ،‬ولعلهم ال يتصورون أنها فرص‬ ‫‪28‬‬


‫ثمينة حين تمر بهم وذلك لسهولة منالها‪ ،‬فهم ال يقدّرون قيمتها إال بعد فواتها‪،‬‬ ‫وعند ذلك يضربون يدًا بيد متأسفين‪ ،‬وتضيع الفرص عليهم‪.‬‬ ‫لقد قال صلى اهلل عليه وسلم‪" :‬جئتكم بالشريعة السمحاء" ولكن أتباعه نسوا هذا وجعلوا‬ ‫دينه من أصعب األديان وأكثرها تعبًا ومكابدة ومشقة‪ ،‬فقد جعلوا الطقوس الدينية دقيقة‬ ‫التفاصيل معقدة األجزاء‪ .‬إن العبادة الحقة تنفع الفرد نسبيًا‪ ،‬فهي تبعث الثقة والطمأنينة‬ ‫في قلب اإلنسان وتجعله متفائلًا يسير في الحياة وهو معتقد بأن هناك ربّ يرعاه ويعينه‬ ‫على حل المشاكل‪.‬‬ ‫إن عقدة االستكمال تعد من أكبر عوامل الفشل في الحياة‪ ،‬فصاحبها ال يستطيع أن يقوم‬ ‫بعمل إال بصعوبة‪ ،‬ذلك أنه ينظر ويعيد النظر في كل جزء يعمله ويهمل االعتناء باألصل‬ ‫في سبيل االعتناء بالفروع‪.‬‬ ‫فهو يتحرى الدقة الصارمة في كل صغيرة وكبيرة مما يعمل كأنه سوف يحاسب على‬ ‫ذلك حسابًا عسيرًا‪.‬‬ ‫وقول المثل‪" :‬الوسواس نجس" ومعنى ذلك أن الذي يتحرى الدقة الكاملة في الطهارة ال‬ ‫يستطيع الوصول إليها أبدًا‪ ،‬فهو في شقاء متواصل ويسعى وراء المستحيل‪.‬‬ ‫لم تلق الفكرة من الرواج واالنتشار في هذا القرن مثلما لقيته فكرة الالشعور أو العقل‬ ‫الباطن‪ ،‬وقد أصبح حتى الذين ينكرون وجود هذا العقل ال يستطيعون أن ينكروا وجود‬ ‫بعض القوى الكامنة في أغوار النفس حيث تسيّر اإلنسان وتؤثر في سلوكه من حيث ال‬ ‫يشعر‪ ،‬فبعدما كان اإلنسان في الماضي يعتبر حرًا مختارًا يوجه سلوكه في ضوء العقل‬ ‫الواعي ويقرر مصيره بإرادته‪ ،‬أصبح اليوم يعتبر وكأنه آلة صماء تسيطر عليه الحوافز‬ ‫الالشعورية وتدفع به دفعًا‪.‬‬ ‫(‪ :)1‬قد ال نخطئ إذا أضفنا الذين يؤمنون بوجود العقل الباطن إلى فريقين‪ :‬فريق منهم‪،‬‬ ‫وهم أتباع مدرسة التحليل النفسي‪ ،‬يعتقدون بأن العقل الباطن مكمن الرغبات المكبوتة‬ ‫التي لم يستطيع اإلنسان إشباعها لسبب من األسباب‪ ،‬وهذه الرغبات تبقى في نظرهم‬ ‫محبوسة في العقل الباطن وهي تحت ضغط شديد ناتج عن رقابة العقل الواعي‪ ،‬فإذا تخدر‬ ‫هذا العقل أو ضعف أو غفل أو نام وجدت الرغبات المكبوتة في ذلك فرصة سانحة للخروج‬ ‫من حبسها‪ ،‬وهي تظهر آنذاك بصور شتى و أساليب متنوعة‪ .‬و أهم مجال تظهر فيه‬ ‫هذه الرغبات المكبوتة في رأيهم‪ ،‬هو مجال األحالم‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫(‪ :)2‬أما الفريق اآلخر فيعتقدون بأن العقل الباطن هو مهبط الوحي والكشف‬ ‫واإللهام في اإلنسان‪ ،‬وهو منبع العبقرية والنبوة واالختراع وما أشبه‪ ،‬وقد تطرف‬ ‫بعضهم فذهب إلى أن العقل الباطن هو الروح‪ ،‬أو هو في رأي آخرين منهم‪ ،‬جزء‬ ‫اهلل الذي حل في اإلنسان‪.‬‬ ‫إن تطرف هذا الفريق أثار رد فعل قوية في األوساط العلمية‪ ،‬فقد أحال عدد كبير من‬ ‫الباحثين إلى إنكار القوى النفسية الخارقة وذلك حين رأوها قد اختلطت باألمور الغيبية‬ ‫والروحية‪.‬‬ ‫إن القوى النفسية الخارقة أصبحت اليوم‪ ،‬كما أسلفنا‪ ،‬من الحقائق العلمية المقررة وقد‬ ‫أخذت التجارب المختبرية تؤيدها تأييدًا ال بأس به‪ ،‬ولكن الذي يخشى بعض الباحثين منه هو‬ ‫أن تنتهي بهم هذه األبحاث إلى اعتناق األفكار الروحية القديمة التي ناضلوا في القرون‬ ‫الماضية نضالًا طويلًا في سبيل القضاء عليها‪.‬‬ ‫واألولى منها هي التي سار عليها الباحثون في انكلترا‪ ،‬وتابعهم على ذلك جماعات متعددة‬ ‫في أقطار أخرى‪ .‬وتتلخص هذه الطريقة في االعتناء بجمع الوثائق عن كل حادثة يظهر‬ ‫فيها عمل خارق‪ ،‬فإذا سمع الباحثون بأن شخصًا ما في بقعة من بقاع األرض يملك موهبة‬ ‫عجيبة في التنبؤ أو قراءة األفكار وما إلى ذلك‪ ،‬أرسلوا إليه مالحظين ممن تتوفر فيهم‬ ‫النزاهة والصدق والحياد ودقة المالحظة‪ ،‬فيقوم أولئك المالحظون بدراسة الخوارق التي‬ ‫يقوم بها ذلك الشخص الموهوب ويضعونه تحت المراقبة الدقيقة ثم يقدمون عنه تقريرًا‬ ‫بما شاهدوه‪.‬‬ ‫وقد تألفت لهذا الغرض جمعية في بريطانيا منذ‪ ،1882‬سميت بجمعية المباحث النفسية‬ ‫((‪ ،The Socicty For Psychical Research‬اشترك فيها عدد من العلماء والفالسفة‪،‬‬ ‫وٲخذت تصدر مجلة تنطق بلسانها وكان أول رئيس ان ُتخِب لها هو البرفسور (سدجوك)‬ ‫أستاذ الفلسفة في جامعة كمبردج‪ .‬لقد توصلت جمعيات المباحث النفسية في بريطانيا‬ ‫وغيرها إلى‪ :‬أن لدى اإلنسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثالث‪ :‬تناقل األفكار‬ ‫(‪ )telepathy‬ورؤية األشياء من وراء حاجز (‪ )clairvoyance‬و التنبؤ‬ ‫(‪.)foreknowledge‬‬ ‫والغريب أن كثيرًا من الناس يستطيعون أن يحدثونا عن واقعة وقعت لهم تشير إلى وجود‬ ‫موهبة في اإلنسان تكتشف فكر الغير أو تتنبأ عن بعض حوادث المستقبل أو تستشف‬ ‫األشياء المخفية‪ ،‬و لكننا تعودنا أن نعزو ذلك إلى الصدفة‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫الصدفة تجري حسب قوانين ثابت و قد بحث علماء اإلحصاء في قوانين الصدفة و لم‬ ‫يبق منها جزء مجهول نستطيع أن نعزو إليه األشياء التي نعجز عن تعليلها تعليلًا‬ ‫معقولًا‪ .‬نحن ال يجوز أن نتطرف في إنكار الوقائع بمقدار ما يتطرف السذج من الناس‬ ‫في تصديق األوهام إن سرعة التصديق و سرعة اإلنكار كالهما يدالن على سذاجة‬ ‫غير محمودة‪.‬‬ ‫إن الباحثين يسيرون في هذا الموضوع على طريقتين‪:‬‬ ‫(‪ :)1‬طريقة فحص الوقائع والتثبت من صدق شهودها وجمع الوثائق عنها‪ .‬وهذه‬ ‫الطريقة هي ما سارت عليه جمعيات المباحث النفسية في أنحاء العالم‪.‬‬ ‫(‪ :)2‬طريقة البرفسور راين و أتباعه و هي تجري على أساس التجريب و اإلحصاء‪ .‬وقد‬ ‫أخذت تنتشر في بعض الجامعات‪.‬‬ ‫والطريقتين توصلتا إلى نتائج متشابهة مفادها أن في اإلنسان قدرة على اإلحساس الخارق‪،‬‬ ‫أو ما يسميه (راين) باإلحساس من غير حاسة (‪. )extra sensory perception‬‬ ‫المشكلة تنحصر اليوم في قلة معرفتنا بطبيعة الظاهرة الخارقة‪ ،‬فالباحثون اليوم ال‬ ‫يشكون في وجودها ولكنهم ال يعرفون ماهيتها و قوانينها‪ .‬على أي حال‪ ،‬قد كثرت‬ ‫الفرضيات التي وضعت لتعليل هذه الظاهرة الخارقة‪ ،‬وأود أن اجتزئ منها فرضيتين فقط‬ ‫وهاتان هما‪:‬‬ ‫فرضية (تشنر)‪ :‬يعتقد بأن ما ندعوه بالعقل الباطن أو الالشعور له قدرة على تخطي‬ ‫المسافات المكانية وذلك ألنه شيء غير مكاني‪.‬‬ ‫فرضية (سينل)‪ :‬يرى بأن كل مادة في الكون تبعث ذبذبات أو أمواج أثيرية خاصة ال‬ ‫تدركها الحواس الخمس‪ .‬و يعتقد بأن النتوء الصنوبري الصغير في أسفل المخ من ناحية‬ ‫النخاع الشوكي هو عبارة عن الحاسة السادسة التي تدرك تلك الذبذبات و تتأثر بها أحيانًا‪.‬‬ ‫لقد اكتشفت األبحاث الحديثة أن أنواعًا معينة من األمواج الكهربائية تنطلق من دماغ كل‬ ‫إنسان وهي تختلف في النوم عنها في اليقظة‪ ،‬وفي التفكير عنها في الذهول‪ ،‬وفي‬ ‫المرض عنها في الصحة‪ ،‬فكما يقول الدكتور (دايفس) أن كل فرد يطلق من رأسه‬ ‫أمواجًا دماغية خاصة به دون غيره‪ ،‬أي أن األمواج الدماغية مثل بصمة األصبع ال يتشابه‬ ‫فيها اثنان من البشر‪.‬‬

‫‪31‬‬


‫لقد ثبت علميًا أن الذرة تخزن بعض األمواج التي تتلقاها من الخارج ثم تطلقها بعدئذٍ‪،‬‬ ‫فمن الجائز إذًا أن تخزن ذرات الهواء والجدران واألثاث في مكان ما شيئًا من األمواج‬ ‫المنبعثة من أدمغة أصحابه‪ ،‬ثم تطلقها علينا عند دخولنا فيه وبهذا فنحن نتأثر بها‬ ‫سلبًا أو إيجابًا من حيث ال نشعر‪.‬‬ ‫إن الناس فريقان‪ :‬فريق تستلين له الحياة و يستجيب له الناس‪ ،‬وهو سادر مستغرق ال‬ ‫يبالي‪ ،‬وفريق آخر يجالد ويكافح فتصعب عليه الحياة بمقدار ما جالد وكافح‪ .‬لقد آن للناس‬ ‫إن يدركوا سر الحظ الذي خفي على األجيال الماضية‪ ،‬وإن يلتفتوا الى ما تحتوي عليه‬ ‫النفس البشرية من أفانين القوى التي تشتد في عملها كلما غفال عنها وتعني بنا متى‬ ‫أهملناها‪.‬‬ ‫ومما يلفت النظر في هذا الموضوع أن هناك عددًا من العلماء يفسرون هذه الحركة‬ ‫العشوائية في سير اإللكترون بأنها ناتجة من قصورنا عن مراقبة حركته صحيحة‪ ،‬ذلك أننا‬ ‫في نظر هؤالء العلماء نراقب ظل (اإللكترون) فقط وال نستطيع أن نراقبه نفسه‪ ،‬إذ هو‬ ‫يتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد‪.‬‬ ‫يقول البروفسور (جينز) في هذا الصدد‪" :‬إن ما يلوح لنا من عدم خضوع الطبيعة للتحديد‬ ‫قد يكون مصدره أننا نحاول أن نحصر في فضاء قليل األبعاد ما يقع من الحوادث في أبعاد‬ ‫كثيرة‪ .‬تصور مثلًا نوعًا من الديدان العمياء ال تتعدى مداركها الحسية سطح األرض ذي‬ ‫البعدين‪ ،‬فهي ترى هذه الماء تبتل بالماء بين آونة و أخرى‪ .‬فنحن الذين نستطيع أن ندرك‬ ‫البعد الثالث نعلل هذا البلل بسقوط المطر من السحاب و نقدر أحيانًا على أن نتنبأ عن األجزاء‬ ‫التي سينالها المطر من األرض و التي ستبقى جافة منها "‪.‬‬ ‫و (جينز) يقول أيضًا‪ " :‬كما إن الظالل الواقعة على الجدران تكون شبحًا ذا بُعدين لحقائق‬ ‫ثالثية األبعاد‪ ،‬وعلى ذلك ال تكون الحوادث التي تقع في الزمان و المكان أكثر من صف‬ ‫متحرك من األشكال الظليّة السحرية تغدو وتروح "‪.‬‬ ‫يتضح من هذا أن ما يبدو لنا من فوضى في سير (اإللكترون) إنما هي فوضى في عقولنا‪.‬‬ ‫ولعل األسباب التي تتحرك في سير اإللكترون موجودة في البعد الرابع حيث ال نستطيع أن‬ ‫نراها‪ ،‬وقد يؤدي هذا بنا إلى القول بأن األسباب التي تحرك الكون كامنة في الزمان‬ ‫الماضي والمقبل‪ ،‬واإللكترون إذًا يتحرك بحافز يأتيه من وقت آخر غير هذا الوقت الذي‬ ‫نعيش فيه‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫إن هذه فرضية ضعيفة‪ ،‬كما قلنا و لكننا نجد مع ذلك صعوبة في قبولها بناء على‬ ‫ما جاء (آينشتاين) به من مفهوم جديد للزمان والمكان‪ ،‬وبناء على هذا فإن التنبؤ‬ ‫بحوادث المستقبل ليس مستحيلًا‪.‬‬ ‫وهنا قد يسأل سائل فيقول‪ :‬ما هي صلة هذه األمواج الخفية بموضوع العقل الباطن الذي‬ ‫نحن فيه?‬ ‫و الجواب على ذلك كما قلنا سابقًا فنحن ال نعتبر العقل الباطن جهازًا نفسيًا معينًا له‬ ‫خصائصه‪ ،‬بل هو اصطالح عام نقصد به جميع الفعاليات النفسية التي تؤثر في سلوك‬ ‫اإلنسان وهو ال يشعر بها‪ .‬يتضح من هذا أن العقل الباطن حيز ذهني يجتمع فيه نوعان من‬ ‫الحوافز‪ :‬فهو مباءة العقد النفسية والرغبات المكبوتة من ناحية‪ ،‬و موئل اإلحساس‬ ‫الخارق من الناحية األخرى‪ ،‬وهو بهذا مصدر للخير والشر معًا‪.‬‬ ‫ومن الغريب حقًا أن نجد المأثورات الدينية تذهب إلى مثل هذا الرأي تمامًا‪ .‬يقول‬ ‫(النراقي)‪ " :‬أعلم أن الخاطر ما يعرض في القلب من األفكار‪ ،‬فإن كان مذمومًا داعيًا إلى‬ ‫الشر سمي وسوسة‪ ،‬و إن كان محمودًا داعيًا إلى الخير سمي إلهامًا "‪.‬‬ ‫ثم لما كان الخاطر أمرًا حادثًا فالبد له من سبب‪ ،‬فإن كان سببه الشيطان فهو الوسوسة‪ ،‬و‬ ‫إن كان ملكًا فهو اإللهام‪ ،‬وما يستعد به القلب لقبول الوسوسة يسمى إغواءً وخذالنًا‪ ،‬و‬ ‫ما يتهيأ به لقبول اإللهام يسمى لطفًا و توفيقًا‪.‬‬ ‫إن الحوافز الالشعورية هي خير ما يرشد اإلنسان في معالجة أموره‪ ،‬لذا يجب أن نكون‬ ‫شديدي الحذر عند إصغائنا لحوافز الالشعور فينا‪ ،‬فهي قد تلتبس أحيانًا بنزعات العقد و‬ ‫وساوس الرغبات المكبوتة‪ ،‬وربما أدت باإلنسان في بعض األحيان إلى حيث الفشل أو‬ ‫السخف أو الرقاعة‪.‬‬ ‫إن (وليم مارستون) حين نصح القراء بأن يطيعوا خواطرهم اآلنية إنما كان يخاطب بذلك‬ ‫قراءة البالد الغربية‪ ،‬فالحضارة الغربية تساعد الفرد نوعًا ما على تنمية شخصية خالية من‬ ‫العقد‪.‬‬ ‫إن حضارتنا الشرقية فيها كثير من العوامل التي تؤدي إلى كبت الرغبات و تنمية العقد‬ ‫النفسية في الفرد‪ ،‬وهذه العوامل التي تكون على أشدها بين فقرائنا وذوي العاهات‬ ‫واألمراض منا‪ ،‬إن مجتمعنا اللئيم يخلق أسباب الفقر والعاهة من جهة‪ ،‬ثم يحتقر‬ ‫المصابين بها من الجهة األخرى‪ .‬وبذا ينمي فيهم عقدًا نفسية ال خالص منها‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫و نرى أحدنا ال يكاد يلمح امرأة من بعيد حتى يتغير في جميع حركاته وسكناته وربما‬ ‫انقلب بأسرع من لمح البصر إلى (دون جوان)‪ ،‬وهو حين يلقى جماعة من الرجال تراه‬ ‫قد انقلب إلى بطل مغوار ال يشق له غبار‪ ،‬أما إذا رأى غنيًا وذا جاه ونفوذ وجدته يقوم و‬ ‫يقعد استجداءً وتملقًا و هيامًا‪.‬‬ ‫إننا ال يسعنا أن ننصح الفرد في هذه البالد بأن يصغي إلى حوافز العقل الباطن من غير حذر‬ ‫وال تؤدة‪ ،‬إنه يجب أن يحذر كل الحذر من خواطر رغباته المكبوتة‪ ،‬وهي متعددة كي ال‬ ‫تطغي عليه و تجعله آلة بيدها‪ .‬فالفرد منا قد يشترك في مجلس من مجالس الوقار‬ ‫والنفوذ‪ ،‬كمجلس نواب أو مجلس أساتذة أو مجلس شركة أو ما أشبه‪ ،‬وهو قد يجد نفسه‬ ‫آنذاك حائرًا ال يدري يتكلم أم يسكت‪ ،‬فالكالم قد يكون أحيانًا من فضة وأحيانًا من فحم‪.‬‬ ‫إني ال أستطيع أن أعطي القارئ هنا قاعدة عامة يسير عليها في مثل هذه المواقف‬ ‫الحرجة‪ ،‬و لكني مع ذلك أقول بتحفظ‪ :‬إن الفرد الذي يفحص حوافزه المتنوعة ثم ينتقي‬ ‫منها ما هو أدعى لإلخالص وأنفه للناس هو الذي يفوز بالنجاح في األمد الطويل‪.‬‬ ‫فأنت إذا وجدت نفسك تريد الكالم وكان الدافع الذي يدفعك إليه هو الحصول على تقدير‬ ‫الحاضرين أو التقرب من أصحاب النفوذ منهم أو ما إلى ذلك فاعلم أنك فاشلًا عاجلًا أم‬ ‫أجلًا‪.‬‬ ‫لقد حدث ذات يوم أعلن غني مشهور من أغنياء بريطانيا‪ :‬أنه قد وضع ورقة نقدية قمتها‬ ‫ألف جنيه داخل مظروف‪ ،‬و وعد أن يهبها لمن يستطيع أن يخبر عن رقم تلك الورقة حدسًا‪،‬‬ ‫وقد ظلت الورقة عند صاحبها مدة طويلة حيث لم يوفق أحد للفوز بها‪ ،‬وقد اتخذ الكتاب‬ ‫في بريطانيا ذلك دليلًا قاطعًا على كذب اإلحساس الخارق الذي يدعيه بعض األفراد‪.‬‬ ‫و معنى هذا أن اإلنسان ما دام يريد شيئًا ويفكر في الحصول عليه فإنه ال يستطيع أن‬ ‫يستخدم فيه عقله الباطن استخدامًا مجديًا‪ ،‬و لربما صح القول بأن اإلرادة واإللهام ال‬ ‫يجتمعان‪ ،‬فكلما اشتدت إرادتك ضَعُف إلهامك‪ ،‬فأنت ال تنجح في استثمار العقل الباطن إال‬ ‫حين تكون منهمكًا في أمر ال تقصد من ورائه غرضًا مؤقتًا وال تبتغي شهرة أو مالًا أو‬ ‫نفوذًا‪.‬‬

‫يعتقد (تشنر) بأن العرافين الذين يحدقون في الكرات البلورية إنما يفعلون ذلك طلبًا‬ ‫للصفاء الفكري‪ ،‬حيث تفتح عند ذلك مواهبهم الخارقة‪ .‬ويؤيد (سينيل) هذا الرأي‬ ‫‪34‬‬


‫تأييدًا كبيرًا‪ ،‬فهو يعتقد بأن الذين يكشفون عن مياه األرض بواسطة العصا الكاشفة‬ ‫أو يقرأون الفنجان أو الكف أو ما إلى ذلك إنما يقصدون من ذلك وقف حركة التفكير‬ ‫االعتيادية و إعداد أذهانهم لتلقي الذبذبات الكاشفة‪.‬‬ ‫إن (سينل) يشترط لكي تقوم الحاسة بنشاطها الخارقة في اإلنسان أن تقف حركة المخ‬ ‫بصفة مؤقتة بحيث تكون بمثابة (الصفحة البيضاء)‪ ،‬وعندئذ يصير المخ في نظر (سينل)‬ ‫شبيهًا بالمذياع الذي يدار مفتاحه بدقة نحو محطة من المحطات فال يلتقط أمواجًا من‬ ‫غيرها‪.‬‬ ‫يبدو أن العقل الظاهر والعقل الباطن‪ ،‬كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق‪ ،‬متعاكسان‬ ‫في الطبيعة‪ ،‬أو هما بعبارة أخرى‪ :‬على طرفي نقيض‪ ،‬فإذا اشتدت فعالية أحدهما خفت‬ ‫فعالية اآلخر‪ ،‬ولعل هذا هو السبب الذي جعل خوارق العقل الباطن تظهر بأوضح صورها‬ ‫أثناء التنويم المغناطيسي؛ فالنائم نومًا مغناطيسيًا يكون عقله الظاهر مخدرًا‪ ،‬ولذا فهو ال‬ ‫يعي إال ما يأمر به المنوم‪ ،‬إن مخه عند ذاك يصبح (صفحة بيضاء) على حد تعبير (سينل)‪ ،‬و‬ ‫مستعد الستقبال ذبذبات معينة من الخارج‪.‬‬ ‫إن إيحاء المنوم يمكن اعتباره في هذه الحالة بمثابة مفتاح المذياع‪ ،‬فهو قادر أن يوجهه‬ ‫على أية محطة يشاء‪ ،‬و قد رأيت شخصيًا من غرائب التنويم المغناطيسي ما أذهلني‪ ،‬فقد‬ ‫استطاع النائم ذات مرة أن يعرف اسمي و اسم أبي ومهنتي وما أشكو منه بدون معرفة‬ ‫سابقة بي‪ .‬إن ما شاهدته بعيني على أية حال كان كافيًا للتصديق بما عند المنوم من‬ ‫مقدرة خارقة‪.‬‬ ‫قد يعترض البعض ويقول في هذا الصدد‪" :‬إذا كان التنويم المغناطيسي يؤدي كما تقول‬ ‫إلى ظهور هذه المقدرة الخارقة‪ ،‬فلماذا ال يستغله أصحابه في اكتشاف الجرائم الغامضة‬ ‫أو في البحث عن الكنوز المطمورة تحت األرض أو ما أشبه? "‪.‬‬ ‫قد يكون الجواب على هذا السؤال سهلًا إذا تصورنا مخ اإلنسان كجهاز المذياع‪ ،‬فالمذياع‬ ‫يحتاج لكي يقوم بعمله قيامًا متقنًا أن يكون قويًا صحيحًا ال نقص فيه من جهة‪ ،‬وأن‬ ‫تكون هناك محطة لإلذاعة قوية من جهة أخرى‪ .‬أما في التنويم المغناطيسي فالمنوم‬ ‫يوحى إلى النائم ما يشاء‪ ،‬والنائم يطيعه طاعة عمياء‪ ،‬فهو ال يعي ما حوله إال ما يأمر به‬ ‫المنوم‪ ،‬و بهذا يكون مفتاح مخه بيد منومه‪.‬‬

‫‪35‬‬


‫إن حدسه في النوم كثيرًا ما يختلط بأوهامه وشهواته ومخاوفه‪ ،‬وطالما كان عقله‬ ‫الباطن حينذاك مشغولًا بلقاء الحبيبة التي كانت ممتنعة عليه من قبل‪ ،‬أو بالتهام الطعام‬ ‫الذي حرم منه في اليقظة‪ ،‬أو من االنتقام من العدو الذي آذاه ولم يقدر أن يشفي غليله‬ ‫منه‪ ،‬فهو يلجأ إلى أوقات النوم لينفس فيها كربات ما أنتابه في أوقات اليقظة‪ ،‬وهلل في‬ ‫خلقه شؤون‪.‬‬ ‫وعلى هذا من الخطأ أن نعتمد على أحالمنا في أمورنا كما تفعل العامة أحيانًا‪ ،‬إن اعتمادنا‬ ‫على األحالم يشبه من بعض الوجوه اعتماد البعض من الناس على الربح في سباق الخيل‪،‬‬ ‫فنسبة الخطأ فيها أكثر جدًا من نسبة الصواب وال يرجو خيرًا من ذلك عادة إال األغبياء و‬ ‫انصاف المجانين‪.‬‬ ‫كان (وليم جبس) السكرتير السابق لمالية الواليات المتحدة‪ ،‬يستعمل طريقة خاصة‬ ‫لالستفادة من أحالمه‪ ،‬فهو كان يأوي إلى فراشه حول منتصف الليل بعد أن يكون التفكير‬ ‫قد أضنى قواه العقلية‪ ،‬ولذا فهو قد اعتاد أن يضع ورقًا و قلمًا بجانب فراشه ليسجل به ما‬ ‫قد تكشفه األحالم من حلول لمشاكله الكثيرة‪ ،‬وكان يستيقظ من نومه أحيانًا و في رأسه‬ ‫فكرة طارئة‪ ،‬فيسرع إلى القلم لتقييدها قبل اختفائها‪ ،‬وكثيرًا ما انتفع المستر (جبس) من‬ ‫هذه الطريقة في الوصول إلى حلول عجز عنها في ساعات اليقظة‪.‬‬ ‫ولقد حاول الكثير من الباحثين أن يضعوا طريقة نفسية معينة يتمكن اإلنسان بها من أن‬ ‫يستثمر أحالمه في حل مشاكله‪ ،‬والظاهر أن معظم الطرائق التي وضعوها تدور حول‬ ‫تركيز العقل الباطن قبل النوم على فكرة معينة وبعث الثقة فيه و شحذه لكي يتوجه‬ ‫نحوها ببصيرة ثاقبة‪.‬‬ ‫و من المالحظ بهذه المناسبة أن الكلمات األعجمية تستعمل كثيرًا في الطالسم والرقي‬ ‫واألدعية عندنا في الشرق‪ ،‬ويظهر أنها أقوى تأثيرًا في النفس من الكلمات المفهومة‪،‬‬ ‫فغموضها يسبغ عليها شيئًا من الروعة والقداسة‪ ،‬وهي إذا ُفهِمت فقدت روعتها‬ ‫وتأثيرها النفسي‪ ،‬والمشكلة في مثل هذه األمور إنها ال تنفع إذا عرف الناس سرها‬ ‫وتفلسفوا فيها‪.‬‬ ‫إن العقل الباطن هو عقل اإليمان والعقيدة الراسخة‪ ،‬بينما العقل الظاهر هو عقل التفكير‬ ‫والشك والتفلسف‪ ،‬فإذا أردت استخدام عقلك الباطن استخدامًا صحيحًا في النوم أو غيره‪،‬‬ ‫وجب عليك أن تبتعد عن كل ما يدعو إلى التفكير والتدليل والتفلسف‪.‬‬

‫‪36‬‬


‫إن الطريقة الحديثة في استثمار العقل الباطن هي طريقة اإليحاء والتكرار‪ ،‬فاإلنسان‬ ‫يستطيع أن يوحى لنفسه ويكرر عليها قبل النوم‪ ،‬في أي وقت بما يشاء من معاني في‬ ‫سبيل حل المشاكل أو شفاء األمراض أو نوال النجاح أو غير ذلك‪.‬‬ ‫دخل شخص يشكو من أمراض نفسية عديدة إلى طبيب يسأله عالجًا‪ ،‬وكان الطبيب قد‬ ‫سمع بما لإليحاء النفسي من قوة في شفاء األمراض‪ ،‬فأخذ يجيب على كل شكوى يتفوه‬ ‫بها المريض قائلًا‪ " :‬أوحى لنفسك أنك قد شفيت "‪ ،‬فخرج المريض ولم يدفع للطبيب أجرة‬ ‫فحصه قائلًا له‪ " :‬أوح لنفسك أنك قد قبضت مني أجرة الفحص يا طبيبي العزيز"‪ .‬إن هذا‬ ‫الطبيب الرقيع يظن أن اإليحاء هين وأن من الممكن استثمار العقل الباطن بواسطة االقتناع‬ ‫المنطقي والتفكير الواعي‪.‬‬ ‫إن المعالج النفساني ال يجوز أن يكشف للمريض عن سر هذه الطريقة التي يعالجه بها‪،‬‬ ‫فال يجوز أن يقول له‪ " :‬أوحي لنفسك"‪ ،‬إنما يقول له بدلًا من ذلك‪ " :‬قل كذا و استعمل‬ ‫كذا"‪.‬‬ ‫لقد ربحنا في حياتنا المدنية الجديدة من ناحية‪ ،‬وخسرنا من ناحية‪ ،‬فقد تقدمت لدينا أساليب‬ ‫الحياة المادية تقدمًا عظيمًا بينما تأخرت فينا أساليب النفس وطرق استثمارها وقواها‬ ‫الخارقة‪ .‬فنحن اليوم نستعمل أعظم أنواع العالج المادي وأعجب المخترعات والمبتكرات‬ ‫ولكننا ضيعنا تلك العقيدة الراسخة التي تزلزل الجبال‪ .‬لقد نمت فينا قوى العقل الظاهر‬ ‫وتقلصت قوى العقل الباطن‪ ،‬فاستخدمنا خوارق المادة وأهملنا خوارق الالشعور‪.‬‬

‫‪37‬‬


‫النفس والمادة‬ ‫‪38‬‬


‫لقد أثيرت منذ أيام (ديكارت) في القرن السابع عشر مشكلة فلسفية كبرى‪ ،‬هي‬ ‫مشكلة الفكر والبدن أو بعبارة أخرى‪ :‬مشكلة التفاعل بين القوى النفسية والقوى‬ ‫المادية‪ .‬إن مما ال ريب فيه أن الفكر يؤثر في البدن‪ ،‬والبدن يؤثر في الفكر‪ ،‬فال يكاد‬ ‫اإلنسان يخجل من شيء حتى تحمر وجنتاه‪ ،‬وال يبتأس لحادث حتى يمرض أو يظهر‬ ‫الضعف والشحوب عليه‪.‬‬ ‫م أحد األشخاص تنويمًا مغناطيسيًا ثم أُخبِر أثناء التنويم كذلك بأن جمرة ملتهبة قد‬ ‫ُو َ‬ ‫ن ِّ‬ ‫وضعت على يده فظهرت أثار االحتراق والتقيح على جلدة يده كأن نارًا حقيقية قد مستها‪.‬‬ ‫والفكر قد يتأثر بالمادة على نفس المنوال الذي يؤثر فيها‪ ،‬فاإلنسان حين يتناول شرابًا‬ ‫مسكرًا أو منعشًا أو مخدرًا تجد أفكاره قد تغيرت تبعًا لنوع المادة التي تناولها‪ ،‬وعلى هذا‬ ‫قس كثيرًا من الوقائع التي نالحظها في أنفسنا وفي غيرنا من حياتنا اليومية‪.‬‬ ‫ومن الغرائب التي شاهدتها في هذا الخصوص حادثة حدثت قبل عشر سنوات تقريبًا وال‬ ‫أزال أتذكرها متعجبًا‪ ،‬فقد أقيمت في جامعة بيروت األمريكية حفلة كبيرة حضرها منوم‬ ‫مغناطيسي مشهور‪ ،‬ومن جملة ما قام به هذا المنوم أنه أعطى كرات معدنية باردة إلى‬ ‫عدد من الحاضرين ثم أخذ يوحي إليهم بصوت عال‪ :‬إنها ساخنة ‪ ..‬إنها ساخنة‪ .‬فأخذت‬ ‫الكرات تسخن في أيديهم فعلًا حتى رماها معظمهم إلى األرض لشدة حرارتها وهم‬ ‫ينفخون في راحات أكفهم من شدة األلم‪ ،‬وبقي واحد منهم أصر على إبقاء الكرة في‬ ‫راحة يده‪ ،‬ولعل أراد أن يظهر بمظهر الشجاع أمام الفتيات الحاضرات‪ ،‬وأخذ ينقل الكرة‬ ‫من يد إلى يد بغية تخفيف ألمها وعندما رماها أخيرًا بدت على راحة كفه عالمات احتراق‪.‬‬ ‫إن الكرة لم تسخن في الواقع‪ ،‬إنما الذي سخن هو جلد اليد و ذلك من جراء اإليحاء‪ ،‬وليس‬ ‫هذا بعجيب‪ ،‬فإن اإلنسان كثيرًا ما يتخيل المرض فيمرض‪ ،‬ويتوهم األلم في مكان ما من‬ ‫جسمه فيحدث األلم هناك فعلًا‪.‬‬ ‫وقد ظهر في شتاء إحدى السنوات في حديقة (الهايدبارك) بلندن‪ ،‬فقير هندي عاري البدن‬ ‫يكاد ال يحس بزمهرير الشتاء‪ ،‬وأخذ يقوم بأعمال خارقة‪ ،‬فهو كان يبتلع حطام الزجاج‬ ‫والمسامير الصغيرة الحادة وغيرها‪ ،‬ويشرب حامض النتريك هنيئًا ويمشي حافيًا على‬ ‫الجمر الملتهب‪ ،‬وقد يدفنونه تحت التراب لعدة ساعات ثم يخرجونه حيًا كأن لم يكن قد‬ ‫حرث عليه شيء‪.‬‬ ‫إن هذه الخوارق كلها تدخل في موضوع تأثير الفكر في البدن وهي في الواقع ناتجة‬ ‫عن سيطرة عقيدة معينة على بدن االنسان‪ ،‬فالفقير الهندي حين يمشي على النار إنما‬ ‫‪39‬‬


‫هو معتقد اعتقادًا جازمًا بأن النار ال تؤذيه‪ ،‬إن هذه العقيدة قد استحوذت على ذهنه‬ ‫استحواذًا تامًا بحيث أصبح في شبه غيبوبة عن ما حوله‪ ،‬فمجرد شك بسيط يخامر نفسه‬ ‫يؤدي حتمًا إلى هالكه‪.‬‬ ‫و ال مِراء أن هذه العقيدة الجازمة الخالية من كل شك ليس باألمر الهين وال يستطيع أن‬ ‫يحصل عليها أي إنسان‪ ،‬إذ هي عقيدة عميقة لها جذورها القوية في أغوار الالشعور‪ ،‬وال‬ ‫يكفي اإلنسان فيها أن ينوي و يعزم أو يقصد و يتعمد‪.‬‬ ‫إن العقيدة في الواقع ليست بيد اإلنسان‪ ،‬وهو ال يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما‬ ‫يريد‪ ،‬إنها قناعة الشعورية تأتي نتيجة اإليمان القوي والمراس الطويل واالنغمار الذي ال‬ ‫يخامره الشك أبدًا‪ ،‬إن العقيدة التي تكون في العقل الظاهر ال تتغلغل إلى العقل الباطن‬ ‫قد تضر ضررًا بليغًا من هذه الناحية‪ ،‬وهي ربما أدت الى عكس النتيجة المبتغاة منها‪ .‬إن‬ ‫صاحب هذه العقيدة السطحية ال يكاد يضع قدمه على النار اقتداء بفقراء الهنود‪ ،‬حتى‬ ‫يأخذ عقله الباطن بالتخوف و االستغاثة‪ ،‬فهو يقول لنفسه أقدم وال تخف‪ ،‬ولكن عقله‬ ‫الباطن يهمس في أغوار النفس بهمسات الخطر و دنو األجل‪.‬‬ ‫يعلل العلماء خوارق المتصوفة والهنود بأنها نوع من التنويم الذاتي‪ ،‬فالمتصوف ينوم‬ ‫نفسه قبل أن يقوم بتلك الخوارق‪ ،‬والهنود يختلفون في الطريقة التي ينومون بها‬ ‫أنفسهم تنويمًا ذاتيًا‪ ،‬فالهنود يروضون أنفسهم رياضيات نفسية معقدة وطويلة األمد‬ ‫حتى يصلوا أخيرًا إلى مرحلة القدرة على القيام بالخوارق‪ ،‬وعند وصولهم إلى تلك المرحلة‬ ‫النهائية يصبحون كأنهم خرجوا من هذه الدنيا وأخذوا يعيشون في دنيا خاصة بهم‪،‬‬ ‫وتصبح الخوارق لديهم أنذاك أعمالًا اعتيادية يستطيعون أن يقوموا بها متى شاؤوا‪.‬‬ ‫أما متصوفة العراق فيلجأون إلى الغناء ودق الدفوف وإلى نوع من الرقص والدوران‪ ،‬و بعد‬ ‫ذاك يدخلون في شبه غيبوبة يطلقون عليها "المدد" و ليس المدد في الواقع إال تنويمًا ذاتيًا‪.‬‬ ‫إن خوارق المتصوف هي خوارق الالشعور‪ ،‬وكلما قل وعي المتصوف أثناء القيام بها قل‬ ‫الخطر عليه منها‪ .‬يعتقد المتصوفة أن هذه الخوارق التي يقومون بها آتية من صحة‬ ‫عقيدتهم‪ ،‬فقوة العقيدة وعمقها وتغلغلها في الالشعور هي التي تؤدي إلى ظهور‬ ‫الخوارق‪ ،‬أما صحة العقيدة فال شأن لها في هذا األمر‪ .‬إن كل إنسان قوي في عقيدته‬ ‫يستطيع أن يصل إلى نفس النتائج التي وصلوا إليها سواء في ذلك أكان من أتباع الرفاعي‬ ‫أو أغا خان أو عباس أفندي‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫يرى (اوليفر لودج) العالم الطبيعي المعروف‪ ،‬أن الصالة والدعاء والعبادة لها فائدة‬ ‫كبيرة‪ ،‬وهو يفند أراء المنكرين الذين يرون أن الدعاء لغو فارغ ال قدرة على تغيير ما في‬ ‫الكون من قوانين طبيعية‪ ،‬فيقول عنهم‪" :‬أنهم يتصورون أنفسهم كأنهم شيء منعزل‬ ‫عن الكون وخارج منه يعمل فيه من ظاهره و يحاول أن يبدل مظاهره باالبتهال إلى نظام‬ ‫في القوة المسيرة"‪ ،‬و لكن إذا استطعنا أن نتفطن إلى أنفسنا وأننا نحن جزء صميم من‬ ‫النظام بأسره وأن رغباتنا و مطالبنا هي نفحة من اإلرادة المسيطرة الهادية‪ ،‬لم يمتنع‬ ‫على حركات عقولنا أن يكون لها أثر فاعل إذا سرنا بها وفاقًا ال صدق ما في الكون من‬ ‫القوانين وأعالها‪.‬‬

‫ذكرنا في الفصل السابق أن النفس البشرية قد تتأثر بما حولها من المادة الخارجية تأثرًا ال‬ ‫شعوريًا‪ ،‬وفي هذا الفصل أدركنا كيف أن النفس تؤثر في مادة بدنها وتتأثر به أيضًا‪ ،‬بقي‬ ‫علينا أن نعرف‪ ،‬بعد هذا‪ ،‬هل تستطيع النفس أن تؤثر في المادة الخارجية بمثل ما تتأثر‬ ‫بها?‬ ‫إن هذا السؤال قد أشغل أذهان المفكرين منذ زمان بعيد‪ ،‬وكثير ما تروي األخبار العجيبة‬ ‫عن مقدرة بعض السحرة على تحريك المادة من بعيد أو التأثير فيها قليلًا أو كثيرًا‪ ،‬وظل‬ ‫المفكرون حائرين إزاء هذه األخبار المتواترة ال يستطيعون لها تكذيبًا أو تصديقًا‪،‬‬ ‫ومعظم العلماء كانوا يميلون إلى تكذيبها والسخرية منها حتى زمن متأخر‪.‬‬ ‫إن الشرق يعرف عن السحرة كثيرًا‪ ،‬أما الغرب فلم يعرف عنهم إال قليلًا‪ .‬و قد ظهر في‬ ‫الغرب مؤخرًا نفر من السحرة الموهوبين أثاروا فيه الدهشة‪ ،‬وأهم هؤالء ثالثة هم‪:‬‬ ‫(هوم) االسكتلندي و (بالدينو) اإليطالية و (هوديني) األمريكي‪ .‬وأهمية هؤالء آتية من‬ ‫كونهم أثاروا بأعمالهم العجيبة نقاشًا حادًا في األوساط العلمية وأقيمت حولهم‬ ‫المناظرات والمجادالت‪.‬‬ ‫لقد كانت (بالدينو) فتاة إيطالية ساذجة وكانت تدخل في حالة من الغيبوبة أحيانًا فتقوم‬ ‫بأعمال غريبة ال يميل العقل إلى تصديقها‪ ،‬فهي كانت تجعل الموائد تتحرك من تلقاء‬ ‫نفسها‪ ،‬وتجعل بعض اآلالت الموسيقية تعزف من غير أن يمسها أحد‪ ،‬و قد تجعل منديل‬ ‫أحد الحاضرين يخرج من جيبه فيرتفع إلى أنفه كأنه يريد أن يساعده على التمخط وغير‬ ‫ذلك من المدهشات‪ .‬ولقد تشكلت لجنة من أساتذة جامعة (تورين) ففحصوها فحصًا‬ ‫دقيقًا‪ ،‬ثم قدموا تقريرًا عنها أجمعوا فيه على صحة ما شاهدوا منها من أعمال خارقة‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫والغريب في هذا األمر أن (بالدينو) بعد أن حازت نجاحًا عظيمًا في أوروبا‪ ،‬ذهبت إلى‬ ‫بريطانيا ففحصها أساتذة جامعة كامبريدج وضبطت هناك متلبسة في الغش إذ شوهدت‬ ‫وهي تستخدم يدها في تحريك الموائد‪.‬‬ ‫وفي سنة ‪ 1908‬م‪ .‬شكلت جمعية المباحث النفسية البريطانية لجنة ثالثية مؤلفة من‬ ‫خبراء معروفين في اكتشاف الخداع و الشعوذة وأرسلتهم إلى (نابولي) في إيطاليا لفحص‬ ‫بالدينو وقد قرر هؤالء الخبراء بعد فحصها أنها كانت تحل يديها أثناء الغيبوبة عن قصد‬ ‫أو غير قصد‪ ،‬هذا مع العلم إن قسط كبيرًا من أعمالها خارق للعادة بال ريب‪ ،‬وكتب المستر‬ ‫فيلدنج أحد أعضاء اللجنة تقرير قال فيه‪" :‬إني أشكر بالدينو ألنها علمتني شيئين‪ :‬األول أن‬ ‫ليس كل عمل غش‪ ،‬والثاني أن ليس كل غش مقصود "‪.‬‬ ‫أما "هوم" االسكتلندي فقد أدهش العالم المتمدن بعجائب سحره‪ ،‬من حيث رفعه الموائد‬ ‫من دون لمس لها‪ ،‬و طيرانه بين نافذة وأخرى في بناية مرتفعة‪ ،‬وغمس وجهه في الجمر‬ ‫الملتهب وجعل بعض اآلالت الموسيقية تعزف ألحانًا معينة من تلقاء نفسها‪.‬‬ ‫وقد شاهد أفعال هذا الساحر (وليم كروكس) مخترع الصمام الكهربائي المعروف‬ ‫باسمه‪ ،‬و وضعه تحت الفحص الدقيق في مختبره الفيزيائي‪ ،‬وقد كتب (كروكس) تقريرًا‬ ‫لمجلة علمية قال فيه‪" :‬كل ما رأيته منه جرى في النور وال تأخر عن الظواهر التي‬ ‫شاهدتها تناقض تمام التناقض المبادئ العلمية المقررة كقانون الجاذبية في تأثيرها‬ ‫المطلق الدائم‪ ،‬وإن في رأسي نزاعًا بين عقلي الذي يحكم بأن هذه الظواهر مستحيلة‬ ‫الوقوع من الوجهة العلمية‪ ،‬وشعوري بأن ما رأيته بعيني و لمسته بيدي لم يكن كذبًا باطلًا‬ ‫"‪.‬‬ ‫لقد سخر الناس في بريطانيا من (هوم) واعتبروا أفعاله تلك من قبيل سحر العين أو ما‬ ‫يسمى اليوم باالستهواء و التنويم‪ ،‬والغريب أن المشتغلين بالسحر من الجيل الحاضر‬ ‫يقولون بأنهم قادرون على تفسير خوارق (هوم) و يرونها من قبيل الحيل الممكنة‪.‬‬ ‫أما (هوديني) األمريكي فكان يقوم بأفعاله العجيبة على خشبات المسارح‪ ،‬وقد شاهده‬ ‫البروفيسور (فيليب حتي) مؤلف كتاب تاريخ العرب المعروف و كتب عنه تقريرًا إلى مجلة‬ ‫المقتطف وملخص أمره‪ " :‬أنه يوضع في كيس محكم الشد ثم يوضع بعد ذلك في داخل‬ ‫صندوق متين ويقفل عليه الصندوق بقفل مرتين ثم يشد الصندوق بحبل مشدود كثيف‬ ‫وبعد لحظة يخرج (هوديني) من وراء الستار طليق اليدين والرجلين "‪ .‬كان هوديني يعترف‬ ‫بأن أعماله هي نتيجة الخفة و اللباقة ليس فيه شيء من السحر الخارق‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫إن هذه القصص العجيبة التي ذكرناها حول السحرة الثالثة ال تؤيد على فرض‬ ‫صحتها القول بأن القوى النفسية تؤثر في المادة الخارجية‪ ،‬ويميل بعض الباحثين إلى‬ ‫أن األفعال السحرية التي يتناقل الناس أخبارها في كل حين ليست إال من قبيل سحر‬ ‫العيون‪ .‬وسحر العيون هو نوع من التنويم المغناطيسي يحدث على اإلنسان من غير أن‬ ‫يشعر به‪ ،‬ففيه يكون النائم مدركًا كل اإلدراك جميع ما يحدث حوله وال تبدو عليه‬ ‫أعراض غير اعتيادية‪ ،‬ولكن قابلته لإليحاء تكون شديدة جدًا‪ .‬والساحر يقوم بدور‬ ‫المنوم في هذه الحالة‪ ،‬فهو يوحي للحاضرين بعد تنويمهم بأنهم يشاهدون أشياء‬ ‫معينة فيرونها واضحة وهي في الواقع غير موجودة‪.‬‬ ‫لقد أُجرِيت بعض التجارب العلمية على أفراد نومِّوا بهذه الصورة‪ ،‬وكانت نتيجة التجارب‬ ‫عجيبة للغاية‪ ،‬فقد نُوِّم رجل وقد جيء له بقطعة من قماش ثم قيل له أنها كلب‪ ،‬فصدق‬ ‫الرجل بما أوحي إليه وأخذ يعامل القطعة كأنها كلب فعلًا‪ ،‬وأوحى لرجل آخر أنه ال يرى‬ ‫أحدًا فاختفى الحاضرون من نظره حالًا‪ ،‬و أوحي آلخر أن يشاهد قرنان ينبتان في رأس أحد‬ ‫الحاضرين فأخذ القرنان يتراءيان بكل وضوح‪ .‬وعلى هذا فمن المظنون أن ما فعله (هوم)‬ ‫أو (بالدينو) أو (هوديني) ليس إال أوهامًا أوحي بها إلى أذهان الحاضرين‪ ،‬وقد أنكر بعض‬ ‫العلماء هذا التفسير و صرحوا بأن ما شاهدوه لم يكن إال حقيقة وواقعة‪.‬‬ ‫لقد وجدنا فيما سبق كيف أن النفس تستطيع بواسطة العقيدة القوية أن تؤثر في مادة‬ ‫بدنها تأثرًا كبيرًا‪ ،‬ولعلنا ال نخطئ إذا عزونا للنفس بعض هذا التأثير في المادة الخارجية‪،‬‬ ‫ومهما كان التأثير النفسي في المادة الخارجية ضعيفة فهو يؤدي أحيانًا إلى عواقب‬ ‫كبرى‪ ،‬ولقد دلت وقائع الحياة أن قوى صغيرة جدًا قد تؤدي في ظروف معينة إلى نسف‬ ‫مدينة بأسرها‪ ،‬أو تغيير مسار فرد أو أمة‪.‬‬ ‫لقد عودنا المنطق القديم أن نقول عن قوة من القوى أنها قادرة أو عاجزة عن إنتاج أثر‬ ‫معين‪ ،‬ونتناسى طبيعة الظروف المتشابكة التي قد تجعل القوة الصغيرة أحيانًا أقدر من‬ ‫القوة الكبيرة‪ .‬وهكذا هي القنبلة الذرية التي تنسف الجبال والمدن‪ ،‬فانقسام نواة ذرة‬ ‫واحدة فيها يؤدي إلى تفاعل متسلسل‪ ،‬ينتهي أخيرًا إلى صب الكوارث بمختلف أنواعها‬ ‫على رؤوس الناس‪.‬‬

‫معظم الناس يعتقدون بأن هواجس النفس وخوالجها ال تؤثر في األشياء الخارجية‬ ‫تأثيرًا ماديًا محسوسًا‪ ،‬فهم يتشاءمون ويتفاءلون‪ ،‬ويحزنون ويفرحون‪ ،‬غير مدركين‬ ‫‪43‬‬


‫بأن هذه االنفعاالت قد تؤثر في األحياء والجمادات المحيطة بهم قليلًا أو كثيرًا‪ .‬لعل‬ ‫أولي الحظوظ السيئة يرقبون الحوادث وال يتوقعون منها إال الشر‪ ،‬وبهذا تكون نسبة‬ ‫الحوادث السيئة التي تقع عليهم أكبر من غيرهم من المتفائلين‪.‬‬ ‫ولعل هؤالء المتشائمين ضحايا ظروفهم السيئة التي ولدوا فيها‪ ،‬حيث اعتادوا منذ‬ ‫طفولتهم أن ال يالقوا في الحياة إال كل ظلم واحتقار وطرد‪ ،‬وهم بذلك ينشؤون وقد ثبتت‬ ‫في مخيلتهم صورة الخيبة‪.‬‬

‫لقد دأب الناس في العصر الحديث أن يجعلوا مفهوم الحظ مرادفًا لمفهوم الصدفة‬ ‫فسموا كالهما (‪ ،)Chance‬وفي الحقيقة أن الصدفة وحدها ال تكفي لتفسير الحظ‪،‬‬ ‫فللقوى النفسية أثر ال يستهان به في تكوينه سلبًا أو إيجابًا‪.‬‬ ‫إن القوى النفسية قوى حافزة وحادسة معًا‪ ،‬تغالب الصدفة بتأثيرها وتنافسها بحدسها‪.‬‬ ‫إن صاحب الحظ الحسن إذن له مقدرتان‪ ،‬فهو بصفاء ذهنه وثقته بنفسه واعتقاده بنجاحه‬ ‫يؤثر في األمور بعض التأثير لمصلحته‪ ،‬وما يعجز عن التأثير فيه فيعالجه من طريق آخر‬ ‫هو طريق الحدس والتنبؤ‪ ،‬وبذلك يستطيع أن يتكيف لما سيأتي به الغد‪.‬‬ ‫يحاول الدعاة في الحقيقة في كل حين أن يكافحوا األوهام بين الناس‪ ،‬و ما دروا بأن‬ ‫الوهم ربما كان أنفع من الحقيقة أحيانًا‪ .‬فلو أن اإلنسان عاش على الحقيقة وحدها لفني‬ ‫منذ زمان بعيد‪.‬‬ ‫لقد جهزتنا المدنية الحديثة بالكثير من األدوية الناجحة و الوسائل المفيدة فأصبحنا‬ ‫نستطيع أن نستعيض بها عن اعتناق األوهام و الخرافات‪ ،‬و لكن ماذا يصنع ذلك الفطري‬ ‫العائش في غابات أفريقيا أو هذا الريفي الساكن في قرية نائية منعزلة‪ ،‬إنه أمام األمراض‬ ‫و المخاطر وجهًا لوجه‪ ،‬وهو ال يملك اتجاهها أية وسيلة مادية قادرة على وقايته منها‪.‬‬ ‫إن من الضرر إذن أن نطلب من هذا الفطري أن يترك أوهامه وخرافاته و يصير واقعيًا في‬ ‫تفكيره‪ .‬إن األوهام لها وظيفتها في كثير من الحضارات و االجتماعات‪ ،‬فهي كالدواء‬ ‫في البيئة التي ال دواء فيها‪ ،‬و كالحجر الصحي بين أولئك الذين لم يعرفوا بعض حقيقة‬ ‫األمراض و مصدرها الميكروبي‪.‬‬ ‫إن الوهم و المرض في تصارع مرير منذ خلق اإلنسان‪ ،‬واإلنسان لم يفضل الوهم‬ ‫على الحقيقة في بعض األحيان عبثًا‪ ،‬إنه وجد في الوهم فائدة كبيرة واتخذ منه‬ ‫‪44‬‬


‫سالحًا ماضيًا كافح به ملمات الحياة‪ .‬إن االنسان قد يطلب الحقيقة أحيانًا وال يستطيع‬ ‫أن يحصل عليها‪ ،‬وهو مضطر إذن أن يخلق بأوهامه حقيقة خاصة به تعينه على حل‬ ‫مشاكله‪ .‬إن أجدادنا جهلوا سر األمراض‪ ،‬وهم لو كانوا يريدون اكتشاف سرها‬ ‫لعجزوا‪ ،‬وحتى (باستور) نفسه ما كان يستطيع أن يكتشف سر الميكروب لو أنه كان‬ ‫يعيش في بيئة غير تلك البيئة التي عاش فيها‪ ،‬أو أنه ولِد في زمان قبل ذلك الزمان‬ ‫الذي وصلت به البحوث الطبية والكيماوية إلى تلك الدرجة التي كانت عليها‪.‬‬ ‫وبناء على هذا فقد لجأ أجدادنا إلى الطالسم والرقي واألدعية يعالجون بها أمراضهم‪،‬‬ ‫ونحن اليوم نضحك على خرافاتهم هذه ظلمًا وعدوانًا‪ ،‬غير عالمين بأن الطالسم واألدعية‬ ‫حين يعتقد بها المريض‪ ،‬تنفع فيها أكثر مما ينفع الدواء المادي المشكوك في أمره‪.‬‬ ‫إن الحضارات الفطرية المنتشرة في غابات أفريقيا و صحاري أستراليا وجزائر المحيط‬ ‫الهادي وغيرها‪ ،‬تحتوي من خوارق القوى النفسية ما يدهش‪ .‬وطالما حدثنا الذين جابوا‬ ‫هذه المناطق عما فيها من الغرائب التي ال يميل العقل إلى تصديقها‪.‬‬ ‫وفي هذه الحضارات الفطرية نرى القوى النفسية واضحة األثر بكل وجهيها النافع‬ ‫والضار‪ :‬ففيها نجد التقاليد السخيفة والعقائد الخرافية بلغت أقصى درجاتها‪ ،‬في نفس‬ ‫الوقت الذي نرى فيها الخوارق و الغرائب المذهلة‪.‬‬ ‫إن الفطريين يختلفون عن المدنيين في إطارهم الفكري وفي طراز عقليتهم‪ ،‬فهم ال‬ ‫يفسرون الكون كما يفسره المدنيون‪ ،‬من حيث خضوعه لقواميس طبيعية ثابتة أو سيرة‬ ‫حسب مبدأ السبب و النتيجة‪ ،‬إنهم باألحرى يتخيلون الكون مليء باألرواح من كل نوع‪ ،‬وهذا‬ ‫ما يسمى اليوم بالنظرة "التشخيصية" في الكون‪.‬‬ ‫فالفطريون يعتقدون بأن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية سببها إرادة صادرة من روح‬ ‫معينة‪ ،‬واألرواح التي تسير الكون في نظرهم هي كاألشخاص الدين يتألف المجتمع‬ ‫منهم‪ ،‬ولذلك نراهم يسترضون األرواح في كل عمل يقومون به لكي ال تغضب عليهم‬ ‫وتسبب لهم الكوارث‪ .‬فبينما المدنيون يحاولون حل مشاكلهم بالحلول العقلية والعملية‪،‬‬ ‫نجد الفطريين يحلونها بفنون السحر وأنواع التعاويذ و لطالسم‪ ،‬وهم بذلك يخاطبون‬ ‫األرواح و يتملقون إليها ويرجون منها دفع الضرر وجلب الخير‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫وإني ال أزال أتذكر قصة شاهدتها بنفسي قبل مدة حيث اعتدى أحد العوام على‬ ‫زميله اعتداءً فظيعًا ألنه قال‪" :‬المطر بخار"‪ ،‬وقد ظن المعتدي بأن هذا القول كفر‬ ‫صريح ومخالف لما يستوجبه اإليمان بتدبير الخالق عز و جل‪.‬‬ ‫وعندما انتشر وباء الهيضة في العراق عام ‪ 1926‬م‪ .‬تهرب الناس من التطعيم الواقي و‬ ‫لجأوا إلى إقامة الحفالت الدينية وقراءة األدعية وما شابه‪.‬‬ ‫إن لكل من هاتين العقليتين‪ ،‬الفطرية والمدنية‪ ،‬محاسنها ومساوئها كما ذكرنا من قبل‪،‬‬ ‫فالعقلية الفطرية تمد اإلنسان باالعتقاد الراسخ والثقة التي ال حد لها من جهة‪ ،‬وهي‬ ‫تجعله ميال لتصديق الخرافات واألباطيل من جهة أخرى‪ ،‬أما العقلية المدنية فهي تجعل‬ ‫اإلنسان أضعف إيمانًا وأقل خرافة في آن واحد‪.‬‬

‫إذا أراد الساحر الفطري أن يقتل بسحره أحد الناس‪ ،‬صنع له تمثالًا صغيرًا من الطين ثم‬ ‫تمتم بعض الكلمات الغامضة ورفع سكينته يحركها في الهواء وأغمدها في صدر‬ ‫التمثال‪ .‬يقول (فريزر) الباحث الحضاري المعروف‪ ،‬أن الرجل الذي يُرَاد قتله ال يكاد يسمع‬ ‫بما فعل الساحر ضده حتى يلجأ إلى ساحر آخر ليدرأ عنه ذلك التأثير القاتل‪ ،‬فإذا عجز عن‬ ‫العثور إلى ساحر يقيه شر القتل استعد للبالء وامتنع عن الطعام إلى أن يموت‪.‬‬ ‫وال ريب أن الرجل المدني يندر أن يموت مثل هذه الميتة الشنعاء حتى و لو صنع الساحر له‬ ‫ألف تمثال من الطين وأغمد فيه ألف سكين!‬ ‫إن الساحر الذي يقتل الناس بتلك الطريقة بين الفطرين يستطيع طبعًا أن يشفيهم من‬ ‫أمراضهم المستعصية وجروحهم القاتلة‪ ،‬فالقوى النفسية إذا آمن الناس بها أصبحت‬ ‫ذات أثر فعال من الناحيتين السلبية واإليجابية معًا‪ ،‬فهي تحي وتميت‪ ،‬وتنفع وتضر‪ ،‬وال راد‬ ‫في حكمها‪ .‬و لقد وصل الفطريون في استثمار قواهم النفسية حدًا قد يعجز المدنيون أن‬ ‫يصلوا إلى عشر معشاره‪.‬‬

‫يقول (سمنر) الباحث االجتماعي المشهور‪ ،‬أن الفطريين إذا رأوا حادثتين تتلوا أحداهما‬ ‫األخرى‪ ،‬أسرعوا حالًا إلى ربطهما برباط السبب والنتيجة‪ .‬ويروي (سمنر) قصص عديدة‬ ‫لتوضيح هذا الرأي نقلًا عن الرواد والباحثين الذين خالطوا الفطريين ودرسوا حياتهم‬ ‫دراسة موضوعية‪ .‬ففي إحدى جزائر المحيط الهادي حدث أن أحد الفطريين بدأ يعمل‬ ‫‪46‬‬


‫في صناعة الخزف ولكنه مات صدفة‪ ،‬فاعتبر أهل الجزيرة موته نتيجة من نتائج تلك‬ ‫الصناعة‪ ،‬ولذا حرموا ممارستها تحريمًا باتًا‪ ،‬فاختفت تلك الصناعة من جزيرتهم نهائيًا‪.‬‬ ‫و حدث أيضًا أن رجلًا أبيض أهدى عصا مزخرفة إلى أحد الفطريين في جنوب أفريقيا‪ ،‬وقد‬ ‫صادف أن هذا الفطري مات بعد تسلمه العصا‪ ،‬وحين ورث ابنه تلك العصا مات أيضًا‪،‬‬ ‫فاستنتج الفطريون من ذلك استنتاجًا ال يقبل الريب أن ملك الموت يختفي في داخل العصا‪،‬‬ ‫وأسرعوا فأرجعوها إلى صاحبها لكي ال يالحق الموت جميع من في القرية‪.‬‬ ‫إن هذا الطراز من التفكير المنتشر بين الفطريين يؤدي طبعًا إلى تراكم الخرافات والتقاليد‬ ‫السخيفة‪ ،‬فال يكاد أحدهم يلحظ أمرًا معينًا ثم يصيبه النجاح بعد ذلك اتفاقًا حتى يعتبر‬ ‫ذلك األمر محتويًا على روح خفية تسبب النجاح له في كل حين‪ ،‬وبهذا يدخل األمر في نطاق‬ ‫التقاليد والعادات الموروثة‪ ،‬و يصبح بالتدريج مقدسًا‪ .‬على هذا المنوال تتراكم السخافات‬ ‫المقدسة بين الفطريين جيلًا بعد جيل‪ .‬ومما ال ينكر أن هذا الطراز من التفكير له من النفع‬ ‫أحيانًا بمقدار ما له من الضرر‪ ،‬فإن الفطري الذي يحمل عظم الكلب معه في الصيد وهو‬ ‫مؤمن إيمانًا قاطعًا بأن روح العظم تحميه و تنصره يكون بال ريب أقوى في صيده من ذلك‬ ‫الذي ال يحمل عظمًا وال يملك عقيدة‪.‬‬

‫أشرنا سابقًا إلى أن العبقري النادر هو من يجمع بين العقل والجنون‪ ،‬وبين السعي والكسل‪،‬‬ ‫وبين اإلرادة والالمباالة‪ ،‬و نود اآلن أن نقول إضافة إلى ذلك‪ :‬أنه يتصف بالتفكير الفطري‬ ‫والتفكير المدني معًا وربما صح القول بأن العبقرية هي اجتماع النقائض في شخصية‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫إن الذي يكون عاقالً في كل حين هو كالذي يكون مجنونًا دائمًا‪ ،‬ال ينتج من الخير إال قليالً‪.‬‬ ‫وصاحب التفكير العلمي قد ال يفوز من الحياة أكثر مما يفوز به صاحب التفكير الفطري‪،‬‬ ‫فهو يربح جانبًا منها ويخسر جانبًا‪.‬‬ ‫ولو درسنا شخصية كل من الناجحين العظام لوجدناها غريبة األطوار‪ ،‬فهي ال تأخذ‬ ‫قالبًا معينًا فتظل فيه زمنًا طويلًا‪ .‬وهنا يظهر امتياز الناجح العظيم عن الرجل العادي‪،‬‬ ‫فالرجل العادي له شخصية متحجرة ال تتغير وال تتبدل إال نادرًا‪ ،‬فأنت تستطيع أن‬ ‫تعرفه بسيماه في كل حين‪ .‬أما الرجل العظيم فتراه جياشًا ال يقر له قرار‪ ،‬فتارة‬

‫‪47‬‬


‫تجده باردًا غير مكترث‪ ،‬وتارة تجده جبارًا وثابًا يضرب الضربة فال يثنّيها‪ ،‬وهو حكيم‬ ‫أحيانًا‪ ،‬خرافي أحيانًا أخرى‪ ،‬عاقل مرة مجنون مرة أخرى‪.‬‬ ‫انظر على سبيل المثال إلى النبي العبقري –محمد بن عبداهلل ‪ ،-‬لقد كان هذا العبقري النادر‬ ‫حكيمًا واقعيًا بعيد النظر حتى يضع الخطط أو يدير المعارك ‪ .‬فإذا توجه نحو ربه نسي‬ ‫نفسه و انغمر في إيمان عجيب تحسبه جنونًا وما هو بجنون ‪.‬‬ ‫يروى عنه أنه كان قبيل معركة بدر الكبرى يستشير أصحابه و أهل الخبرة منهم فيعبّأ‬ ‫جنده و يعدّ سالحه كأي قائد بارع من قواد هذه الدنيا‪ ،‬حتى إذا دنت ساعة النضال رفع يديه‬ ‫نحو السماء فذهل عن نفسه و أخذ يدعو ربه دعاءً ملتهبًا يكاد يفجر الصخر األصم‪ ،‬فهو‬ ‫في مرحلة االستعداد غيره في مرحلة الهجوم وهو بذلك قد جمع بين جنبيه النقيضين‪.‬‬ ‫أما أتباع محمد فهم كما قال المعري‪ :‬إنا عقالء ال دين لهم أو متديّنون ال عقل لهم‪ ،‬وال‬ ‫حول وال قوة إال باهلل ‪.‬‬

‫كلمة ال بد منها‬ ‫لقد درجت الطبقات الحاكمة في مختلف مراحل التاريخ أن تبرر حكمها الغاشم للرعية‬ ‫بشتى أنواع الحجج‪ ،‬فقد كانوا في القرون الوسطى مثلًا يبررون حكمهم بأنه مستمد من‬ ‫الحق اإللهي‪ ،‬وأنهم جند اهلل في أرضه‪ .‬وبعدما بدأت الثورة الصناعية في بالد الغرب لجأ‬ ‫رجال الحكم في تبرير حكمهم إلى حجة أخرى‪ ،‬هي حجة "من جدّ وجد"‪ ،‬فهم ينظرون‬ ‫إلى الشعب بعين االحتقار على اعتبار أنه مؤلف من األغبياء و الكسالى الذين عجزوا عن‬ ‫الصعود في مراقي النجاح‪ .‬انتشر هذا المبدأ الخبيث في الحضارة اإلسالمية إبان عصرها‬ ‫المزهر‪ ،‬قبل انتشاره في الغرب ‪ .‬واإلسالم دين امتاز بإلغاء الفوارق الطبقية وإعالن‬ ‫المساواة بين الناس‪ ،‬فاضطر المتكبرون من المسلمين تجاه ذلك أن يعتنقوا مبدأ "من جدّ‬ ‫وجد" للتغطية‪.‬‬ ‫يقول الفضل بن يحيى البرمكي‪ ،‬وهو ممن صعد بهم القدر إلى الوزارة من غير جدارة‪،‬‬ ‫إن الناس أربع طبقات‪ [ :‬ملوك قدمهم االستحقاق‪ ،‬ووزراء فضّلتهم الفطنة و الرأي‪،‬‬ ‫وعلية أنهضهم اليسار‪ ،‬وأوساط ألحقهم بهم التأدب‪ ،‬والناس بعدهم زبد جفاء ]‪ ،‬إن‬ ‫هذا الوزير العباسي المتحذلق قد اغترّ بما نال من ترف وجاه في ذلك العهد المتفسخ‬ ‫فأمسى يعتقد أنه قد نال ذلك باجتهاده و تدبيره‪ .‬وهو يعتبر الطبقات العليا كلها قد‬

‫‪48‬‬


‫وصلت إلى منازلها تلك بسعيها‪ ،‬أما الباقون من الناس فهم في نظره زبد جفاء و‬ ‫حثاالت ال حق لهم في الحياة وال كرامة‪.‬‬ ‫ولقد بقي المنافقون الذين استطاعوا أن يصلوا إلى المناصب العليا بطريقة ملتوية يقتدون‬ ‫بالفضل بن يحيى في احتقار سواد الرعية من المظلومين‪ .‬والواقع أن نبي اإلسالم ينظر إلى‬ ‫عامة الناس والفقراء بغير النظرة التي ينظر اليهم بها المترفون من أتباعه‪ ،‬فهو يقول‬ ‫في حديث مأثور له‪[ :‬إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين ال يؤبد له‪ ،‬الذين إذا استأذنوا‬ ‫على األمراء لم يؤذن لهم‪ ،‬وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا‪ ،‬وإذا قالوا لم ينصت لهم‪ ،‬حوائج‬ ‫أحدهم تتخلخل في صدره لو ُقسّم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم ]‪ .‬فالنبي لم‬ ‫يقل في هؤالء المنكوبين ما قال فيهم الفضل بن يحيى من أنهم زبد جفاء‪ ،‬بل وضعهم‬ ‫في منزلة أعلى جدًا من منزلة الفضل بن يحيى ومن لف لفه من األمراء والوزراء الذين ال‬ ‫يساوون عند اهلل جنح ذبابة‪ .‬ولقد حاولنا في هذه الفصول أن نبحث في العوامل النفسية‬ ‫للنجاح‪ ،‬والنجاح مع ذلك له عوامله االجتماعية أيضًا‪ ،‬وربما كانت العوامل االجتماعية أهم‬ ‫في نوال النجاح من العوامل النفسية أحيانًا‪ ،‬فقد يولد اإلنسان في بيت فقير بائس ال حول له‬ ‫وال جاه ‪ ،‬فيندفن في وحول بيئته المحدودة إذ ال يستطيع رقيًّا مهما كان موهوبًا بأسباب‬ ‫التفوق أو العبقرية‪.‬‬ ‫إن الصعود في مراقي النجاح إذن ال يعتمد على سعي الفرد وحسن تدبيره دائمًا‪ ،‬فالفرد‬ ‫مقيد في هذا السبيل بقيود ال تحصى‪ ،‬فهو إن استطاع أن يتحرر من قيوده النفسية‪ ،‬وقفت‬ ‫في طريقه القيود االجتماعية وضربته على رأسه‪.‬‬ ‫إن جالوزة العراق‪ ،‬ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين‪ ،‬ينظرون إلى أبناء‬ ‫الشعب الفقير نظرة ملؤها االحتقار واالستصغار‪ ،‬ولعلهم ال يشعرون بهذا االحتقار الذي‬ ‫يكنّونه ألبناء الشعب‪ ،‬إذ هو احتقار كامن في أغوار الالشعور من أنفسهم‪ ،‬فهم‬ ‫ينساقون به وقد ال يعرفون مأتاه أحيانًا‪ .‬أعرف أفراد جماعة لهم صلة غامضة بأحد جالوزة‬ ‫بغداد الكبار وقد استغل هؤالء تلك الصلة في إيذاء الناس فكانوا في منجاة من عقاب‬ ‫القانون‪ ،‬وقد حدث في اآلونة األخيرة أن جاء أحد هؤالء بكلب مفترس فوضعه أمام بيته‬ ‫ينهش الرائح والغادي‪ ،‬وقد كثرت شكايات الناس من هذا الكلب اللئيم فلم تفعل الشرطة‬ ‫إزاءه شيئًا‪ .‬ولقد عض الكلب في إحدى المرات صبيًا فقيرًا فقطع بأسنانه قطعة من لحم‬ ‫ساقه وتركه مشرفًا على الموت‪ ،‬ولقد شاهدت بنفسي والد الصبي وكان يحترف بيع‬ ‫النفط بعربة يدفعها بيديه‪ ،‬وهو يترك عمله كل يوم ليذهب بولده إلى المستشفى بغية‬ ‫‪49‬‬


‫معالجته من عضته المهلكة‪ .‬إن القانون ال يستطيع أن يعاقب كلبًا له صلة غير مباشرة‬ ‫بجلواز من الجالوزة‪ ،‬فماذا يستطيع أن يفعل تجاه الجلواز نفسه?‬ ‫على هذا المنوال تدور الدنيا في هذا البلد األمين!‬ ‫المشكلة هي أن المظلوم في هذا البلد ال يستطيع اإلفصاح عن نفسه‪ ،‬بينما فتحت أبوا‬ ‫الكتابة والخطابة على مصراعيها لمن يريد أن يتكلم من المترفين والمتفقهين والحالمين‪،‬‬ ‫فترى المظلوم ساكتًا والظالم ينطق‪ ،‬وبهذا صعب علينا أن ندرك المدى الذي وصل إليه‬ ‫الشعب المنكوب في تألمه و حرمانه‪.‬‬

‫كنت أصبغ حذائي ذات يوم على رصيف شارع في نيويورك‪ ،‬وكان الصباغ يتوقف عن الصبغ‬ ‫بين لحظة وأخرى ليتحدث إلى رجل كان واقفًا بجانبه وعليه سيماء الوقار‪ ،‬لقد كانا يتحادثان‬ ‫عن رحلة للصيد قام بها ذلك الرجل الوقور هو و زوجته في سواحل كاليفورنيا‪ ،‬وبعد‬ ‫ذهاب ذلك الرجل سألت الصباغ عنه فقال‪ " :‬إنه صديق‪ ،‬وهو مدير هذا المستشفى "‬ ‫وأشار بيده إلى مستشفى قريب كبير جدًا لعل مستشفانا الحكومي ال يصلح أن يكون‬ ‫مطبخًا فيه‪ .‬لقد ذهلت حقًا حين وجدت ذلك المدير الكبير يتحدث إلى الصباغ الذي كان‬ ‫يصبغ حذائي‪ ،‬ولقد تذكرت آنذاك ما يروى عن علي ابن أبي طالب من أنه كان في أيام‬ ‫خالفته في الكوفة يكثر من الجلوس في دكان بقال‪ ،‬إذ كان البقال صديقه‪ ،‬وكان الخليفة‬ ‫يبيع التمر مكانه إذا غاب‪.‬‬ ‫يقول جعفر بن محمد‪ " :‬ما من رجل تكبّر أو تجبّر إال لذلة وجدها في نفسه "‪ .‬وهذا‬ ‫قول يصدق في حاالت كثيرة‪ ،‬فلقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الكبرياء يستعمل‬ ‫أحيانًا كستار للتغطية لدى بعض األفراد‪ ،‬فإن الذي يملك مزية حقيقية تميزه عن غيره‬ ‫من الناس ال يحس بحاجة إلى هذا الستار‪ ،‬فهو يدخل بين الناس على طبيعته من غير‬ ‫تكلف أو تكبّر أو رياء‪ ،‬أما الذي يشعر بأنه دون الناس أو مثلهم على األقل فهو‬ ‫يحاول أن يضع بينه وبين الناس حجابًا من الكبرياء لئال تنكشف حقيقته العادية بينهم‪.‬‬ ‫و يلجأ إلى وضع هذا الحجاب في الغالب أولئك الذين صعد بهم القدر إلى مناصب‬ ‫ليسوا هم في الحقيقة أهلًا لها‪ ،‬إنهم مضطرون في مثل هذه الحالة أن يتخذوا لهم‬ ‫سلوكًا خاصًا بهم لكي يتميزوا عما سواهم من الناس‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬إنهم يخلقون‬ ‫ألنفسهم مظاهر التميز ويتصنعون بها تصنعًا‪ ،‬لكي يعوّضوا بذلك عما فقدوه من‬ ‫‪50‬‬


‫حقيقة التميز الطبيعي‪ .‬إن الفوارق االصطناعية التي يلتزمها الناقصون ويتعصبون‬ ‫لها تشبع فيهم رغبة الشعورية للتفوق واالستعالء والتباهي‪.‬‬ ‫كان األفندية في العهد العثماني في العراق يستحقرون لغة الشعب ويتبجحون بلغتهم‬ ‫التركية الفخمة ذات الهدير والخرير‪ ،‬وعندما تشكلت الدولة العراقية أخيرًا‪ ،‬وأخذ مجد‬ ‫(عدنان) و (قحطان) و (نزار) يحل محل (حكمت) و (مدحت) و (حشمت)‪ ،‬تراجع األفندية‬ ‫وأسقط في أيديهم‪ ،‬ذلك أن لغة سيبويه و نفطويه شرعت تأخذ مكان تلك اللغة الهدّارة‬ ‫وتنال قصب السبق بدلًا عنها‪.‬‬

‫ذكرت في الفصل األول من هذا الكتاب قيود اإلطار الفكري وكيف أن االنسان ال يستطيع‬ ‫أن يتجرد في تفكيره تجردًا تامًا إذ هو مقيد بقيود نفسية واجتماعية وحضارية‪ ،‬وهذه‬ ‫القيود كما قلنا‪ ،‬ال يحس بها اإلنسان حين يفكر فهي ال شعورية‪ ،‬وهو يعتقد عادةً بأنه‬ ‫حر في تفكيره بينما هو في الواقع مقيّد في ذلك كل التقييد‪.‬‬ ‫وقد ذكرت في الفصل الرابع بعض محتويات الالشعور وكيف أن يكون أحيانًا مصدر خير‬ ‫وإبداع لإلنسان‪ ،‬ويكون أحيانًا مصدر الشر والظلم‪ ،‬فهو مبعث الخوارق النفسية من ناحية‪،‬‬ ‫ومباءة الرغبات المكبوتة من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫إن من الجدير بنا ونحن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المملوء بالنكبات‪ ،‬أن نعتني‬ ‫بدراسة الالشعور وما فيه من الدفائن والخبايا التي تسيّر اإلنسان في أموره االجتماعية من‬ ‫حيث ال يشعر‪ .‬إن قسطًا كبيرًا من بالئنا الذي نحن فيه ناتج من كوننا نعتمد في جميع خطبنا‬ ‫ومقاالتنا ومواعظنا على الشعور وحده ونهمل الالشعور‪ ،‬فنحن إذا أردنا إصالح إنسان لجأنا‬ ‫إلى إقناعه بواسطة الجدل المنطقي وعلى هذا المنوال بقينا عشرات القرون نصرخ فال‬ ‫يستجيب لنا أحد‪.‬‬

‫إننا اآلن نود في التلخيص‪ ،‬أن نصنف محتويات الالشعور إلى ثالثة أنواع‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫فالنوع األول منها مؤلف من خوارق الالشعور وتكون على أجلى مظاهرها في‬

‫اإلنسان حين تصفو نفسه وتخلص من عقدها‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫والنوع الثاني من محتويات الالشعور مؤلف من الرغبات المكبوتة والعقد النفسية ‪.‬‬ ‫‪51‬‬


‫‪-3‬‬

‫أما النوع الثالث فهو ما يمكن تسميته مؤقتًا بالقيم االجتماعية‪ ،‬وهذه القيم‬

‫هي التي تؤلف جزءًا كبيرًا من اإلطار الفكري الذي بحثنا في تركبيه في الفصل األول‬ ‫‪ .‬وعلى هذه القيم تستند في الغالب همسات الضمير ووخزاته ‪.‬‬ ‫لقد تطرف الناس كثيرًا في االعتماد على الضمير البشري واعتبروه صوت الحق المطلق‬ ‫والعدل في اإلنسان‪ ،‬وهذا خطأ فظيع‪ ،‬فالضمير يتحيز في اتجاهه كما يتحيز التفكير‪ .‬ال‬ ‫يجوز للمظلوم أن يعتمد على ضمير الظالم‪ ،‬فالظالم حين يظلم ال يشعر بأنه ظالم‪ ،‬ذلك‬ ‫ألنه ينظر في األمور من منظار خاص به يختلف عن المنظار الذي ينظر منه المظلوم ‪.‬‬ ‫إن القيم االجتماعية في الجماعة مثل العقد النفسية في الفرد‪ :‬كالهما يوجه سلوك‬ ‫الناس ويقيّد تفكيرهم من حيث ال يشعرون‪.‬‬ ‫إن من الحوادث التي ال أستطيع أن أنساها حادثة وقت في الكاظمية قبل عشرات السنين‬ ‫لو حللناها تحليلًا علميًا لوجدناها ذات مغزى اجتماعي هام‪.‬‬ ‫تظاهر جماعة من أهالي الكاظمية لسبب ما‪ ،‬وخرجوا إلى ظاهر البلد يشغبون‪ ،‬فجاءهم‬ ‫جلواز على رأس ثلة من الشرطة وأطلق عليهم رصاص الرشاش فقتل منهم عددًا‪ ،‬وهو‬ ‫لم يكتف بهذا فوّجه الرشاش على مقهى قريب كان مزدحمًا بالجالسين فقتل منهم‬ ‫جمعًا غفيرًا‪ ،‬لقد كنت آنذاك تلميذًا في إحدى المدارس المتوسطة وكانت المثل العليا التي‬ ‫كان المعلمون يمطروننا بها يومًا بعد يوم راسخة في ذهني‪ ،‬لذا شعرت بالعجب الشديد‬ ‫من جرأة ذلك الجلواز على قتل الناس‪ ،‬من غير تفريق بين صغير أو كبير‪.‬‬ ‫لقد لقّننا المعلمون ووعظنا الواعظون بأن الضمير هو نبراس الحق وصوت العدل في‬ ‫اإلنسان‪ .‬وقد تخيلت بناء على هذا أن ذلك السفاح سيحزن على ما رمّل من زوجات و أيتم‬ ‫من أطفال‪ ،‬وأن ضميره سيخزه حتى يموت‪ ،‬ولكني عرفت أخيرًا بأنه قد أصبح بطلًا يشار‬ ‫إليه بالبنان‪ ،‬فعلمت عندئذ أن الضمير البشري ال اعتماد عليه‪.‬‬ ‫من المؤسف أن نرى مدارسنا تعنى في تربية طالبها بالشعور وحده و تهمل الالشعور‪.‬‬ ‫وبعبارة أخرى‪ :‬إنها تربّي فيهم العقل الظاهر وتترك العقل الباطن ينمو كما يهوى‪،‬‬ ‫وبذلك تخلق في تكوين شخصيتهم دواعي االزدواج البغيض‪.‬‬ ‫إن العقل الباطن كما ذكرنا مرارًا‪ ،‬هو الذي يسيّر اإلنسان في كثير من أموره ويوجه‬ ‫سلوكه‪ ،‬أما العقل الظاهر فليس إال طال ًء ورياءً‪ .‬وكلما اعتنينا بالعقل الظاهر وحشوناه‬ ‫بالمبادئ المطلقة خلقنا بينه وبين العقل الباطن ثغرة وجعلنا شخصية الفرد ذات شقين‪،‬‬ ‫‪52‬‬


‫و يمسي الفرد بهذا مرائيَا يقول شيئًا ويفعل نقيضه‪ ،‬أو يدعي صفة ثم يقوم بما‬ ‫يخالفها من قول أو فعل‪ ،‬فهو حين ينصح غيره تراه يعيد ما لقنّاه من كلمات رنانة أما‬ ‫حين يسعى وراء العيش فتجده كغيره من الناس مسوقًا بما يمليه عليه عقله الباطن من‬ ‫طمع دنئ‪.‬‬ ‫ال ريب أن شرّ ما تبتلى به أمة من األمم أن يكون لها ضميران‪ :‬ضمير لحكامها وضمير‬ ‫ألفراد شعبها ‪ .‬فهذا االنشقاق في الضمير االجتماعي يجعل الحكام يظلمون الشعب من‬ ‫حيث يظنون أنهم يعدلون‪ ،‬ويجعل الشعب متمردًا من حيث يظن أنه طائعًا‪ .‬والعراق قد‬ ‫ابتلي من هذه الناحية بمصيبة اجتماعية ال حد لها مع األسف الشديد‪.‬‬ ‫يقال إن الحكومة في بريطانيا قد وضعت صندوقًا أسمته "صندوق الضمير" ليضع فيه‬ ‫الشعب بقايا ما عليهم من الضرائب التي غفل عنها الجباة‪ ،‬وقد دعوه "صندوق الضمير"‬ ‫ألن أفراد الشعب يشعرون بوخز الضمير حين يدفعون إلى الحكومة ضرائب أقل مما‬ ‫يستوجبه القانون‪ .‬ونحن لو وضعنا مثل هذا الصندوق في بغداد ألسبح هو ذاته منهوبًا‪.‬‬ ‫إن الفرق ناشئ من تصادم القيم االجتماعية وانشقاق الضمير‪ ،‬فالشعب الذي يجد في‬ ‫حكامه كراهة له يميل إلى التهرب من كل ما يأمر به هؤالء الحكام و يرى في ذلك‬ ‫فضيلة‪ .‬فالتجار في بغداد ليسوا كتجار لندن من حيث انصياعهم ألوامر الحكومة‪ .‬إن‬ ‫التجار هنا يحتقرون كل من يخبر الحكومة عن مخالفاتهم ويعتبرونه خسيسًا أما في‬ ‫لندن فالتاجر يعتقد أن من الشرف أن يخبر الحكومة بما يقوم به البعض من جرائم‪.‬‬ ‫إن األنظمة الحكومية يعتبرها الشعب في بريطانيا أنظمته التي شرعت لمصلحته‪ ،‬فهو‬ ‫يرعاها كما يرعى مصلحة نفسه وعائلته‪ .‬أما في العراق فالقاتل يختفي بين الناس وهم‬ ‫يجدون من الفخار أن يستروا عليه‪ .‬إن هذا هو الفرق الذي جعل الحكومة العراقية غير‬ ‫موفقة في معظم أعمالها‪.‬‬ ‫وهذا على أي حال‪ ،‬أمر له أسبابه التاريخية القديمة‪ ،‬فهو ليس ظهارة مستحدثة بين‬ ‫عشية وضحاها‪ ،‬ولكن الذي نأسف له أن جالوزتنا لم يقوموا بما يخفف من وطأتها وربما‬ ‫صح القول‪ :‬إنهم زادوا فيها وساعدوا على إنمائها‪.‬‬ ‫يشير ( لونغريغ ) إلى أن التجنيد اإلجباري كان في العهد العثماني من أهم األسباب التي‬ ‫باعدت بين الشعب والحكومة‪ .‬وهذا رأي له ما يؤيده من وقائع الحياة االجتماعية في‬

‫‪53‬‬


‫العراق‪ ،‬وال يزال سكان العراق في القرى واألرياف يرتعبون من كل إحصاء يقوم به‬ ‫موظف حيث يظنون أنه جاء في سبيل تجنيدهم ‪.‬‬ ‫إن التجنيد االجباري ال يزال اليوم‪ ،‬سببًا من أسباب انشقاق الضمير في المجتمع العراقي‪.‬‬ ‫لقد كان الالزم بعد تشكيل الدولة العراقية أن تنسى الحكومة مسألة التجنيد االجباري‬ ‫زمنًا طويلًا لكي يتسنى ألبناء الشعب أن ينسوا تلك الويالت التي قاسوها في التجنيد على‬ ‫أيدي العثمانيين‪ ،‬ولكن المؤسف أنهم لم يكادوا يستقلون حتى رجعوا إلى التجنيد‬ ‫اإلجباري بكل حماس!‬ ‫فهم سنوا نظام التجنيد اإلجباري في الوقت الذي أهملوا فيه نظام التعليم االجباري‪،‬‬ ‫وجعل الشعب يستعيد في ذاكرته عنجهية الحكم العثماني البغيض مرة أخرى‪.‬‬ ‫ومن المفارقات التي تجري في هذا البلد المسكين‪ :‬إن الحكومة تفرض التجنيد اإلجباري‬ ‫على رعيتها ثم ال تسمح لهم باالنتخاب المباشر‪ ،‬فهي تريد أن تدرب الفرد العراقي على‬ ‫أن يكون جنديًا رغم أنفه‪ ،‬وال تريد أن تدرّبه على أن يكون مواطنًا صالحًا فعالًا في بناء‬ ‫الدولة‪ .‬ومما ال شك فيه أن االنتخاب المباشر هو من أهم العوامل التي تساعد على‬ ‫تقليص الثغرة بين الشعب والحكومة‪ .‬فالشعب حين يعتاد على رؤية ممثليه ينطقون‬ ‫باسمه ويريدون رضاه يشعر بأنه عضو فعّال في جهاز الدولة‪ ،‬وأنه يؤلف مع الحكومة‬ ‫صفًا واحدًا ال ثغرة فيه‪.‬‬

‫و يبدو أن ازدواج الشخصية وانشقاق الضمير أحدهما يكمّل اآلخر في انتاج عقلية‬ ‫الجالوزة في العراق‪ .‬وقد يعجب الباحث حين يرى الجيل الجديد من الشباب المتعلم في‬ ‫العراق ال يكاد ينخرط في سلك الوظيفة حتى يمسي جلوازًا في ميوله واتجاه ضميره‬ ‫وطراز تفكيره‪.‬‬ ‫أعرف شابًا وطنيًا كان يفوق أقرانه بحماسته وإخالصه‪ ،‬وقد شاء القدر أن يكون من‬ ‫أصحاب المناصب الكبرى في الدولة‪ ،‬فوجدناه عندئذ ظالمًا يتحيز في أحكامه ويتعسف‬ ‫على من ال يحب‪ ،‬وهذا ال يعني أنه فقد ضميره الذي كان لديه في أيامه السالفة‪ ،‬فضميره‬ ‫ال يزال نابضًا في أعماق نفسه يحفزه نحو الخير‪ ،‬لكنه خير األعوان واألصدقاء‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫بعض أساتذتنا‪ ،‬سامحهم اهلل‪ ،‬جالوزة في هيئة معلمين‪ ،‬فهم يساعدون من حيث ال‬ ‫يشعرون على انشقاق الضمير لدى تالميذهم‪ ،‬وتراهم يتغنون في كل حين بالحق‬ ‫والحقيقة‪ ،‬فإذا سألتهم ما هو الحق وما هي الحقيقة لووا أعناقهم ونسبوا إليك الزندقة‪.‬‬ ‫نحن نريد أن يفهم التالميذ بأن الحق هو السواد األعظم من الناس‪ ،‬والحقيقة هي ما أدى‬ ‫إلى الترفيه عنهم ورفع مستواهم‪ ،‬نريد أن يفهموا بأن الحق ال يخص زمرة قليلة من‬ ‫المترفين‪ ،‬وأن الحقيقة ال تعيش في الفراغ إنما هي صنيعة المجتمع‪ .‬إننا نريد جيلًا‬ ‫متواضعًا يحنو على الفقراء فال يستنكف منهم وال يتعالى عليهم‪ ،‬إن أولئك في الواقع لم‬ ‫يصلوا إلى ما هم عليه من الفقر بتعمد منهم‪ .‬إننا بحاجة إلى طراز من المتعلمين يدركون‬ ‫بأنه ال فضل لهم فيما نالوا من نجاح أو علم‪ ،‬وأنهم مخاليق أنتجتهم العوامل االجتماعية‬ ‫والنفسية التي أحاطت بهم من غير أن يكون لهم يد فيها‪.‬‬ ‫نحن نريد حكامًا ومتعلمين يشكرون نعمة اهلل عليهم فال يتكبرون‪ ،‬و يعرفون قدرهم‬ ‫فال يتجبرون‪.‬‬ ‫قال النبي محمد‪ " :‬إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع‬ ‫الدراهم والدنانير‪ ،‬رماهم اهلل بأربع خصال‪ :‬بالقحط من الزمان‪ ،‬والجور من السلطان‪،‬‬ ‫والجناية من والية الحكام‪ ،‬والشوكة من األعداء "‪.‬‬ ‫و يظهر أن هذا الحديث النبوي ينطبق علينا انطباقًا كبيرًا‪ ،‬فكثير منا متكبرون على من‬ ‫هو دونهم بمقدار ما هم خانعون نحو من هو فوقهم‪ ،‬تراهم يفركون أكفهم في‬ ‫أيدي الظالمين ثم يرفعون أصواتهم في وجوه المظلومين‪ ،‬قد ازدوجت شخصيتهم‬ ‫بمقدار ما انشق ضميرهم‪ ،‬وباؤوا بالهزيمة في كل ميدان‪.‬‬ ‫يقول علي بن الحسين‪ " :‬إياك و ظلم من ال يجد عليك ناصرًا إال اهلل "‪.‬‬ ‫وقد دل التاريخ أن الطغاة الذين يظلمون المساكين آمنين من انتقامهم ‪ ،‬ال بد أن يأتيهم‬ ‫من يظلمهم ولو بعد زمن طويل‪ ،‬فالمظلوم الذي ال يملك سالحًا ماديًا ينتقم به‪ ،‬قد يملك‬ ‫سالحًا أمضى من السالح المادي‪ ،‬هو سالح النفس المكوّن من الدعاء الذي يصعد‬ ‫للسماء‪ .‬وال ريب أن القوى النفسية‪ ،‬أو صرخات المظلومين‪ ،‬إذا اتجهت على ظالم أحرقته‬ ‫حرقًا‪.‬‬

‫‪55‬‬


‫لقد كان القدماء يعتقدون بأن سوء الخلق ناتج من جهل اإلنسان وقلة عقله‪ ،‬وقد‬ ‫كانوا يرددون قول (سقراط) المشهور‪ " :‬المعرفة فضيلة والجهل رذيلة "‪ ،‬وأخذ‬ ‫بعض المفكرين في هذا الزمان ينسجون على هذا الموال فقالوا‪ " :‬من فتح مدرسة‬ ‫سد سجنًا"‪.‬‬ ‫لعلنا ال نغالي إذا قلنا ‪ :‬بأن المدرسة ال تتقن إالّ طالء اإلنسان وال تزوّق إال مظهره‪ ،‬أما‬ ‫أعماق عقله الباطن فالمدرسة ال تمسها إال قليلًا‪ .‬إن السلوك البشري بصورة عامة مبني‬ ‫على أساس ال شعوري من القيم االجتماعية والعقد النفسية‪ ،‬وال يكفي في اصالح اإلنسان‬ ‫أن نمطره بالمواعظ والتعاليم على طريقة " كن ‪ ..‬وال تكن ‪"..‬‬

‫يحكى أن رجلًا علم ولده السباحة على الفراش‪ ،‬فلما ذهب به إلى النهر غرق الولد فصاح‬ ‫به أبوه غاضبًا‪ " :‬أما علمتك ?! " فأجابه الولد وهو في النفس األخير‪ " :‬يا أبتي ‪ ..‬إن الناس ال‬ ‫يتعلمون السباحة على الفراش! "‪.‬‬ ‫إننا ال نستطيع أن نعلم اإلنسان على اتخاذ سلوك معين بأن نحشو دماغه بالنصائح الفارغة‬ ‫والمعلومات " العاجية "‪ .‬إن صالح اإلنسان في مختلف نواحيه ال يتم بالحفظ والتلقين‪ ،‬كما‬ ‫نفعل اآلن في مدارسنا‪ ،‬فهو " تصيّر " نفسي واجتماعي كما يدعوه علماء االجتماع‪ ،‬وهو‬ ‫ال ينمو إذن إال بتوفر عوامله النفسية واالجتماعية الضرورية له‪.‬‬ ‫من أقوال ( ارسطو ) المشهورة‪ " :‬إن االنسان مدني بالطبع "‪ ،‬يعني بذلك أن اإلنسان‬ ‫اجتماعي في صميم طبيعته‪ ،‬والواقع أن اإلنسان مدني ووحشي‪ ،‬أو هو اجتماعي و أناني‬ ‫في آن واحد‪ .‬وال يجوز لنا إذن أن نعتمد على طبيعة اإلنسان االجتماعية دائمًا أو نطالبه‬ ‫بالتضحية في سبيل مصلحة المجموع كل حين‪.‬‬ ‫إن لإلنسان رغبات و شهوات يريد إشباعها على أي حال‪ ،‬فهو ال يحب الحق والحقيقة‬ ‫بمقدار ما يحب نفسه وما ينبعث عنها من أهواء وميول‪ ،‬وهو إذًا وجد رغباته قد كبتت‬ ‫فإنه يميل أحيانًا إلى الخروج على القوانين كي يشبع تلك الرغبات‪.‬‬ ‫إن رغبات اإلنسان متنوعة‪ ،‬وقد اختلف العلماء في تعدادها‪ ،‬ولعلنا نستطيع أن نقول هنا‬ ‫على سبيل االختصار إن أهم هذه الرغبات ثالث هي‪:‬‬ ‫‪-1‬‬

‫الرغبة المعاشية‪.‬‬ ‫‪56‬‬


‫‪-2‬‬

‫الرغبة الجنسية‪.‬‬

‫‪-3‬‬

‫الرغبة االعتبارية‪.‬‬

‫فاإلنسان قبل كل شيء يريد أن يعيش حتى ولو مات الناس كلهم دونه‪ .‬إنه يقول في‬ ‫سره‪ " :‬إذا مت عطشانًا فال نزل القطر "‪ ،‬ولكنه يتظاهر أحيانًا بعكس هذا تفاخرًا ورياءً‪.‬‬ ‫وطالما وجدنا المترفين والمغرورين يدّعون التضحية في سبيل المصلحة العامة‪ ،‬وهذا‬ ‫كذب منهم واختالق‪ ،‬فهم لو كانوا فقراء كادحين قد أحاط بهم أطفالهم يتباكون من‬ ‫الجوع ألدركوا عند ذلك مبلغ بعدهم عن الحقيقة‪.‬‬ ‫تروي األساطير الدينية أن امرأة مع طفلها‪ ،‬عندما جاءها الطوفان في أيام نوح عليه‬ ‫السالم‪ ،‬حاولت في أول األمر أن تحمي طفلها من الغرق فرفعته فوق رأسها حتى إذا‬ ‫وصل الماء إلى أنفها‪ ،‬وضعت طفلها تحت قدمها وارتفعت عليه‪ ،‬هذه هي طبيعة‬ ‫اإلنسان في كل زمان ومكان‪.‬‬ ‫واإلنسان بعد أن يسد رمقه ويصون حياته يشتهي نوال الجنس اآلخر والتلذذ به‪ ،‬وهو قد‬ ‫يدعي أحيانًا بأنه مستعد للموت في سبيل الحبيب‪ ،‬ولكنه ال يكاد ينال حاجته منه حتى ينبذه‬ ‫نبذ النواة‪.‬‬ ‫و بعد ما يشبع اإلنسان من الخبز واللذة الجنسية يشرع بالسعي وراء الشهرة‪ ،‬وهذه هي‬ ‫ما نسميها بالرغبة االعتبارية‪ ،‬فهو يريد أن يكون معتبرًا بين قومه يشار إليه بالبنان‪ .‬وكثير‬ ‫من أولئك الذين يدّعون طلب الحق و الحقيقة‪ ،‬إنما هم في دخيلة أنفسهم يطلبون الشهرة‬ ‫وما الحقيقة عندهم إال وسيلة لهذا الهدف المحبوب جدًا‪.‬‬ ‫إن هذه الرغبات الثالث موجودة في كل إنسان تقريبًا على درجات متفاوتة وصور شتى‪،‬‬ ‫وهي قد تكون كامنة في العقل الباطن تدفع اإلنسان نحو أغراضها دفعًا‪ ،‬بينما هو‬ ‫يتصور بأنه مدفوع في سبيل الحق و الحقيقة‪.‬‬ ‫واإلنسان الذي ال يستطيع أن يشبع هذه الرغبات أو إحداها يمسي معقدًا مكبوتًا‪ .‬إنه يحاول‬ ‫آنذاك أن ينفّس عن مكظومات نفسه في كل سبيل‪ ،‬وتراه بهذا قد أمسى مشاغبًا أو‬ ‫مجرمًا‪ .‬فحين يجد اإلنسان نفسه محرومًا مقيدًا ويرى غيره طليقًا‪ ،‬قد تنبعث من أغوار‬ ‫نفسه حوافز ال شعورية تحفزه نحو األذى والشغب‪.‬‬

‫‪57‬‬


‫قال النبي محمد‪ " :‬كاد الفقر أن يكون كفرًا "‪ ،‬ومن الواضح أن مفهوم الكفر في‬ ‫الحديث ال يختلف اختالفًا جوهريًا عن مفهوم الجريمة في عرف علم االجتماع الحديث‪،‬‬ ‫فكالهما خروج عن المألوف على وجه من الوجوه‪.‬‬ ‫حدثني أبي عن صديق له كان نجّارًا‪ ،‬أن يومًا من أيام الكساد مرّ عليه فتركه ال يملك ما‬ ‫يشتري به خبزًا لزوجته وأطفاله‪ ،‬وقد ظل جالسًا في حانوته حتى وقت متأخر منتظرًا أن‬ ‫ل وهو كان يكره أن يذهب إلى البيت‬ ‫يأتيه شيء من الرزق حينذاك‪ ،‬فطال انتظاره إلى أن م ّ‬ ‫إذ كانت له طفلة صغيرة اعتادت أن تنتظره في رأس الزقاق قبيل موعد األكل من كل يوم‬ ‫لتستبشر بما يأتي به من طعام‪ .‬يقول الراوي‪ :‬فذهب النجار إلى بيته على كل حال وهو ال‬ ‫يحمل ألهله شيئًا من الطعام‪ ،‬فاجتمع حوله أطفاله يسألونه ويعولون‪ ،‬فالتفت عند ذلك نحو‬ ‫السماء صارخًا "ربي ‪ ..‬حتى حرملة لم يفعل مثل فعلك ! "‪.‬‬ ‫إن هذا يعتبر كفرًا صريحًا في نظر رجال الدين الذين ألهاهم الترف وصحبة الطغاة عن‬ ‫إدراك ما يحل بالناس من نكبات‪ ،‬ولكنه على أي حال كفر دُفع الرجل إليه بدافع قوي من‬ ‫رغباته المكبوتة ‪ .‬إن المترفين ال يتفوهون طبعًا بمثل ما تفوه به ذلك النجا‪ .،‬فأمورهم‬ ‫الهينة وعيشهم الرغيد يجعلهم ينسون الكفر‪ ،‬إنهم مشغولون بدل ذلك بإلقاء الخطب‬ ‫الرنانة في مدح العدالة والحق والناس حولهم يصفقون لهم ويهتفون ‪.‬‬ ‫خذ على سبيل المثال حكاية المتلذذ بأمر اهلل هارون الرشيد‪ ،‬فلقد كان هذا المترف مؤمنًا‬ ‫شديد االيمان إذ ال يكاد الواعظ يعظه حتى تراه أخذ يبكي إلى أن يغمى عليه‪ ،‬إن ظروفه‬ ‫الهينة اللينة تجعله مؤمنًا باهلل تقيًا نقيًا‪ .‬والغريب أن هذا المؤمن يريد من الناس كلهم أن‬ ‫يكونوا مؤمنين مثله وهو قد عين عددًا كبيرًا من الجالوزة القساة للتحري عن الزنادقة‬ ‫والقاء القبض عليهم و قتلهم‪.‬‬

‫والظاهر أن جالوزتنا ال يختلفون عن هذا الملك السعيد كثيرًا‪ ،‬فهم يؤمنون بالديمقراطية‬ ‫ويذرفون الدمع السخين هيامًا بها وشفقة عليها‪ ،‬وهم يسجنون الناس أو يقتلونهم من‬ ‫أجلها‪ ،‬ولكنهم ال يطبقونها‪ .‬إنهم بهذا يشبهون هارون الرشيد الذي كان يبكي من‬ ‫خشية اهلل بكاءً مُرًا ولكنه ال يطيعه‪ ،‬وتراه يبذّر أموال األمة على جواريه وأعوانه فال‬ ‫يخشى اهلل‪ ،‬حتى إذا انتهى من تبذيره وجلس يتلذذ ذكر اهلل واغرورقت عيناه بالدموع‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫و يبدو أن جالوزتنا يريدون أن يعيدوا مجد الرشيد بقضه وقضيضه والعياذ باهلل‪ ،‬فهم‬ ‫قد أطلقوا اسمه على كل ما كبر في نظرهم فصار لدينا من جراء ذلك‪ :‬شارع الرشيد‬ ‫وعاصمة الرشيد ومعسكر الرشيد وما أشبه‪ ،‬كأن التاريخ قد خلى من جميع رجال الخير‬ ‫إال هذا الرجل‪ .‬إن األمة التي تنجب رجالًا من طراز محمد وأبي بكر وعمر بن الخطاب‬ ‫وعمر بن عبدالعزيز ال يجوز لها أن تقدس مثل هذا الرجل الذي ازدوجت شخصيته‬ ‫وانشق ضميره‪ .‬إني أخشى أن تساعد الظروف جالوزتنا فيعيدون مجد هذا الرجل بالتمام‬ ‫والكمال وهنالك الطامة الكبرى‪.‬‬ ‫نحن ال نريد دينًا يأتي به رجل من طراز هارون الرشيد أو غيره من الظالمين‪ ،‬إننا باألحرى‬ ‫نريد دينًا يأتي به رجل مثل محمد بن عبداهلل ‪،‬إذ يقول‪ " :‬اللهم أحييني مسكينًا وأمتني‬ ‫مسكينًا واحشرني مع المساكين "‪ .‬إنهما دينان متعاكسان وقد آن لنا أن نختار أحدهما!‪.‬‬

‫لقد كتب المتمدنون تاريخ أممهم في ضوء مبادئ العدالة االجتماعية التي انبثق نورها في‬ ‫هذا العصر الجديد‪ ،‬وقد آن لنا أن نكتب تاريخنا في ضوء مبادئ العدالة التي جاء بها‬ ‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪59‬‬


60


61


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.