1
2
3
الفهرس الفصل
رقم الصفحة
المنطق األرسطوطاليسي
17 - 14
اإلطار الفكري
23 - 19
اإلرادة والنجاح
37 - 25
النفس والمادة
59 - 39
4
المقدمة : كتاب خوارق الالشعور للكاتب علي الوردي والذي يعتبر الوردي من أبرز المؤلفين في مجال الكتب الفكرية. يتناول الوردي في هذا الكتاب دراسة للنفس البشرية ،حيث أنه يتكون من أربعة فصول بداية باإلطار الفكري وصولًا إلى النفس والمادة وما بين األول واألخير هنالك المنطق األرسوطاليسي و اإلدارة والنجاح.
و خوارق الالشعور. تحذير هذا الكتاب يُفيد الراشدين أما المدللين فال ،ولك أن تكتشف حقيقة ذلك من أولى صفحات الكتاب !
الكاتبة :شروق الشريف
5
إن المقاييس التي نميز بها بين المستحيل والممكن من األمور هي في الواقع مقاييس نسبية ،إذ هي منبعثة من التقاليد والمصطلحات والمواضعات االجتماعية التي تعود عليها الفرد أو أوحى بها إليه في بيته أو مدرسته أو نادية. ومن األقوال التي كان الغزالي يرددها في كتبه قوله(( :إن اإلنسان ليستغرب مالم يعهده، حتى لو حدثه أحد ،أنه لو حك خشبة بخشبة لخرج منها شيء أحمر ،بمقدار عدسة ،يأكل هذه البلدة و أهلها ،ولم يكن رأى النار قط ،الستغرب ذلك و أنكره)). إن تركيب العقل البشري متماثل في جميع الناس سيان في ذلك بين المتعلمين منهم وغير المتعلمين .فكل إنسان على عقله منظار أو إطار لينظر إلى الكون من خالله ،وهو إذن ال يصدق باألمور التي تقع خارج هذا اإلطار ،كما أن من البالهة أن نحاول إقناع غيرنا على رأي من اآلراء بنفس البراهين التي نقنع بها أنفسنا ،يجدر بنا أن نغير وجهة إطاره الفكري أولًا وإذ ذاك نجده قد مال إلى اإلصغاء إلى براهيننا بشكل يدعو إلى العجب الشديد. إني ال أريد بهذا البحث أن أقنع إال من يريد أن يقتنع .أما الذي ال يريد أن يقتنع فليس لدينا إزاءه أية حيلة. لقد وصلت بهذا البحث إلى نتيجة هي في الواقع معاكسة لجميع ما دأب المعلمون والكتاب والخطباء في هذه البالد أن يلقنونا إياها ،فهم قد وعظونا وعلمونا على أن ((من جد وجد)) وأن ((كل من سار على الدرب وصل)) وأن مستقبل الفرد بيده إذ هو يستطيع أن يصنع نفسه حسب ما يشاء بحزمه وإرادته وسعيه واجتهاده. وأود أن أصارح القارئ بأني كنت في أيام شبابي ضحية من ضحايا هذا المبدأ السخيف، مبدأ ((من جد وجد)) فقد كنت أضيع معظم أوقاتي بالكدح والحرص والمثابرة ووضع الخطط ثم محاولة تنفيذها بدقة وقد وجدت نفسي أخيرًا أضعف في معركة الحياة و أقل نجاحًا من أولئك المسترسلين الذين كانوا يسيرون على طبيعتهم من غير تكلف أو حرص أو جهد كبير. آمن كثير من الناس بوجود الحظ ،ولعل مما ساعد على انتشار فكرة الحظ بين الناس هو اعتقادهم بصحة ذلك المبدأ الذي ذكرناه آنفًا ،فإن اإلنسان يسمع دائمًا بأن النجاح والرزق والتفوق هو من نتائج السعي والتدبير والمثابرة فيأخذ بالسعي والجد إذن لكي ينال النجاح على زعمه ،ولكنه يرى نفسه قد تخلف عن الركب بالرغم من ذلك بينما سبقه غيره ممن هم أقل منه جهدًا و أضعف إرادة ،فيعزو صاحبنا ذلك إلى الحظ ،ويأخذ عندئذ 6
بالشكوى والبكاء من سوء حظه الذي يساوه مع أقرانه. ومما الريب فيه أنه ليس هناك حظ بالمعنى الذي يفهمه الناس عادة من هذه الكلمة ،إن هناك باألحرى قوى الشعورية تنبثق من أغوار النفس ويكون لها أثر ال يستهان به في نجاح الفرد أو نبوغه أو تفوقه ،والفرق الذي نراه أحيانًا بين الفرد وآخر في مبلغ النجاح رغم تشابههما في السعي والذكاء ناتج في األغلب من كون أحدهما يسمح لقواه الالشعورية باالنبثاق ويستفيد منها في حياته العملية ،بينما يكدح اآلخر طوال وقته ويجهد نفسه فيكبح بذلك تلك القوى وال يصغي لحواسها وحوافزها الخارقة ،ولذا تراه قد ابتعد رغم أنفه عن طريق النجاح .إن التقصد والتحمل والتكلف والتعجل أمور مناقضة لحوافز الالشعور ومفسدة لها. إن كثيرًا من أسباب النجاح آتية من استلهام الالشعور و اإلصغاء إلى وحيه اآلتي ،فإذا تعجل المرء أمرًا وأراده وأجهد نفسه في سبيله قمع بذلك وحي الالشعور وسار في طريق الفشل. هناك أوقات يحتاج فيها الفرد إلى السعي والجهد وهناك أوقات أخرى تقتضي من الفرد االنسياب و االسترسال والالمباالة وقلة الحرص ،والسعيد هو من استطاع أن يوفق بين هذه األوقات وتلك ثم يسلك في كل حين حسبما يقتضيه المقام. إن النجاح في الحقيقة أمر نادر ال يستطيع أن يناله إال القليل من الناس مهما كان نوع النظام الذي يعيشون فيه ،فتطور المجتمع البشري ناشئ من هذه المنافسة الحادة التي تدفع كل فرد على أن يبرع وأن يتفوق على غيره ،فالتطور قائم إذن على أكوام من أبدان الضحايا ،أبدان أولئك الذين فشلوا في الحياة فصعد على أكتافهم الناجحون. النجاح الذي نقصده هو الذي يستفيد منه الفرد والمجتمع معًا .وهذا هو النجاح الذي يبقى أثره على مرور األجيال ،إنه نجاح المخترع والمكتشف والعالم والباحث والمعلم والطبيب والمهندس والمحامي والمدير والتاجر والقائد والزعيم والخطيب وغيرهم من أولئك الذين يضيفون إلى تراث الحضارة البشرية كل يوم شيئًا جديدًا. لقد ثبت علميًا بأن قسطًا كبيرًا من هذه اإلنجازات الخالدة التي قام بها هؤالء الناجحون والنابغون جاء نتيجة اإللهام الذي انبثق من أغوار الالشعور. إن موضوع القوى النفسية موضوع جديد كل الجدة ،فهو لم يبدأ بشكلة التجريبي الراهن إال حوالي سنة ،1930وقد جابه العلماء هذا الموضوع بشيء من السخرية 7
واالستنكار أول األمر وقاومه كثير من األساتذة والهيئات البدائية ،ولكن جامعة (ديوك) ثابرت على خطتها في تشجيع هذا الموضوع. إن الذي ينظر إلى الكون خالل المنظار الذي صنعه لنا (غاليلو)و (نيوتن)أو (داروين) و (باشور) ال يستطيع بسهولة أن يصدق بالخوارق النفسية التي تمكن اإلنسان من قراءة فكر غيره أو من رؤية األشياء من وراء حجاب أو من التنبؤ عن بعض ما يحدث في المستقبل من حوادث. إن تاريخ القوى النفسية الخارقة طويل جدًا ،وقد اعتراها على توالي األحقاب شتى المالبسات والمضاعفات ،والمشكلة األساسية في تاريخ هذه القوى آتية من كونها قد استخدمت في مختلف األزمان واألماكن من قبل السحرة والكهان واختلطت من جراء ذلك بكثير من التدجيل والشعوذة .ومما يؤسف له أن الناس قديمًا كانوا ينسبونها إلى بعض القوى الروحية والغيبية ولهذا فهي كانت تعتبر رمزًا للخرافة ودعامة لكثير من حركات التعصب والرجعية.
وصل علماء القرن التاسع عشر في إيمانهم بالمادة وفي تكذيبهم بما سواها إلى الدرجة القصوى .فكانوا سريعين إلى إنكار كل ظاهرة ال يمكن تفسيرها تفسيرًا ماديًا. ونظرية الذرة القديمة أو نظرية الجوهر الفرد تعد اليوم ساذجة كل السذاجة ومؤداها أن المادة مؤلفة من ذرات أو جسيمات بلغت الغاية في الصغر ،وماهية هذه الذرات في نظرهم ال تختلف عن أي قطعة مادية أخرى إال في كونها صغيرة جدًا ال تقبل التجزئة. وقد أفادتهم هذه النظرية بعض الفائدة حيث استطاعوا أن يفسروا بها الظواهر الكيمياوية .أما من حيث اطالعهم على سر المادة وماهيتها األصلية فلم تكن تلك النظرية بذات نفع لهم قليل أو كثير. ظل العلماء جاهلين حقيقة المادة حتى السنوات األخيرة من القرن التاسع عشر ففي سنة 1896حدثت أول خطوة في سبيل اكتشاف ما في داخل الذرة من خفايا هائلة، وهذه الخطوة قام بها عالم اسمه (هنري بكريل) حيث اكتشف نوعًا من اإلشعاع ينبعث من أحد المركبات الكيمياوية .وقد تواصلت بعدئذ البحوث واالكتشافات العجيبة حيث اهتدى الباحثون أخيرًا إلى أن هذا الجوهر الفرد الذي كانوا يظنون أنه ال يتجزأ وال ينقسم هو عالم زاخر بالقوى الهائلة وهو مؤلف من أمواج كهربائية تدور على نسق 8
غريب حول النواة كما تدور الكواكب حول الشمس .إن هذا االكتشاف قد قلب في الواقع الفكر البشري رأسًا على عقب وجعل الفالسفة في حيرة كبرى من أمرهم .لقد كاد علماء القرن العشرين يتفقون على أن المادة ليست مادة حسب ما يفهمه علماء القرن الماضي ،إن هذه المادة التي نلمسها بيدنا ماهي في نظرهم إال وهم من أوهام الحواس ،إنها أمواج كهربائية قد كورت في حيز ضيق. يقول بعض العلماء إنه ليس هناك من فرق جوهري بين قطعة المادة التي نتناولها بأيدينا وشعاع الضوء الذي نلمحه بأبصارنا ،كل منهما عبارة عن أمواج كهربائية والفرق الظاهري بين المادة والشعاع ناشئ من كون أمواج المادة معبأة أو مجمدة حيث هي تدور في دوائر صغيرة داخل الذرة بينما أمواج الشعاع منطلقة في الفضاء إذ تسير فيه بسرعة قصوى. إذًا فالقرن العشرين شاهد انقالبين هائلين أحدهما في بحث المادة واآلخر في بحث النفس، والعجيب أن كال االنقالبين يشيران إلى نتيجة واحدة .ويخيل لي أن النفس والمادة وجهان لحقيقة واحدة هي الكهرباء .ومشكلتنا الكبرى في هذا القرن أن نعرف ما هو الكهرباء? ومن مهازل القدر أننا نعّرف مجهولًا بمجهول آخر. ولقد أصبح العلماء اليوم يعتقدون بأن هذا الفضاء الذي نعيش فيه مملوء بأمواج غير منظورة يكاد يعجز العقل عن إحصائها وهي تتراطم على أجسامنا في كل لحظة تمر علينا من غير أن نحس بها أو ندرك مبلغ أثرها على المجريات النفسية والحيوية فينا. لقد كانوا في ذلك القرن يعتقدون بأن المادة هي األصل في الكون ،ولم تكن األمواج في نظرهم آنذاك إال عرضًا بسيطًا ال أهمية له ،أما اليوم فقد انقلب األمر رأسًا على عقب ،حيث أصبحت األمواج هي األصل بينما أصبحت المادة تعتبر عرضًا أو وهمًا. ونحن اليوم نرتقب ما سوف يكشف لنا العلم في المستقبل من مجاهل أخرى عن طبيعة األمواج المادية والنفسية ،فنحن اآلن على أي حال نشهد ،انقالبين هائلين في تاريخ الفكر البشري .أحدهما اكتشاف القوى الذرية ،واآلخر اكتشاف القوى النفسية .ولعل البحث سيؤدي إلى اكتشاف مصدر واحد لكال هذين النوعية من القوى أو األمواج الكهربائية. ولقد ظهر في اللغة العربية عدد من الكتب حول هذا الموضوع الخالب ،موضوع القوى النفسية الخارقة ،ولكن الذي يؤسف له أن كثيرًا ممن كتبوا فيه رأيناهم يؤمنون بالغيبيات ،وهم إذن يعتبرون تلك القوى النفسية من الدالئل القاطعة على 9
وجود عالم الروح أو ما يسمى أحيانًا بعالم ما وراء المادة .و أود هنا أن ألفت نظر القارئ بأني ال أميل إلى إنكار الروح ،وال أميل أيضًأ إلى االيمان بها وخير ما يمكنني قوله في هذا الصدر هو ترديد اآلية القرآنية ((:يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إال قليلًا)). إن العلم الحديث ال يقول شيئًا عن الروح ولعله ال يستطيع أن يقول عنها شيئًا حتى أمد طويل. وقد يحلو لبعض المتعلمين أن يتباهوا بأنهم ينكرون الروح كأنهم يعدون هذا اإلنكار من دالئل التحرر الفكري ،والواقع أن المنكر كما المؤمن قد حفظ شيئًا وغابت عنه أشياء والباحث الحقيقي هو الذي يقول في مثل هذه األمور "ال أعلم". ونحن اليوم ال يجوز لنا أن نتعصب لرأي من اآلراء مهما بدا هذا الرأي قويًا أو مؤيدًا بالبراهين العلمية ،إن البراهين كما أسلفنا أمور اعتبارية وهي تتغير بتغير األزمان فالبرهان الذي نقبله اليوم ربما بدأ لنا سخيفًا غدًا ،وعلى هذا األساس نسير في بحث القوى النفسية .فنحن ندرسها على ما هي عليه في الواقع غير متجهين في تأويلها إلى ناحية دون األخرى .إن هذه القوى النفسية موجودة في جميع الناس تقريبًا لكنها ال تظهر فيهم على درجة واحدة. قلنا إن القوى النفسية الخارقة موجودة في كل إنسان وما الفرق الذي نالحظه بين بعض الناس وبعضهم اآلخر في هذا الخصوص إذن إال فرق بالدرجة ال بالنوع. والمشكلة الكبرى التي تجابهنا في هذا السبيل هي أن المتعلمين من بيننا قد تعودوا أن ينظروا في األمور على أساس المنطق القديم ،وهو الذي يسمى بالمنطق ذي الحدين، فاألمر في نظرهم إما أن يكون حقًا كله أو باطلًا كله ،وال يجوز عندهم التوسط بين الحدين. والقوى النفسية في الحقيقة ال تأتي الفرد طوع إرادته ،وهي قد تضعف أو تزول حين يريد الفرد أن يقويها في نفسه .إنها قوى الشعورية تنبعث من أعماق العقل الباطن ولذا فهي قد يعرقلها التفكير ويضعفها التمرين والتعليم. لقد سميت هذا الكتاب (خوارق الالشعور) أو (أسرار الشخصية الناجحة) ألني أريد بذلك أن ألفت نظر القارئ العربي إلى ناحية من الشخصية البشرية ربما كان غافلًا عنها هي ناحية الالشعور أو ما يسمى أحيانًا بالعقل الباطن. 10
إننا يمكننا تشبيه العقل البشري بجبل الجليد الطافي في البحار القطبية ال يظهر إال جزء صغير فوق سطح الماء أما الجزء األكبر فقد انغمس في الماء ال يرى منه شيئًا .إن أغلب حركات اإلنسان وسكناته يسيرها ذلك الجزء المنغمس من العقل، وليس العقل الظاهر إذًا إال أخدوعة ،الغرض منها التضليل والتمويه ووضع الطالء والزخرفة على حقائق األشياء. إن األبحاث النفسية األخيرة تكاد تشير إلى أن اإلنسان مسيّر في أغلب أعماله ال مخيّر ،ففي أعماق النفس البشرية من العوامل الكامنة ما يكاد يشبه تلك اآلالت المتنوعة المخفية في باطن الطيارة. وقد يسأل القارئ :ما هو هذا العقل الباطن الذي يسير اإلنسان في أغلب أعماله? إن الجواب على هذا السؤال عسير جدًا ،فالعقل الباطن أمر قد اختلف فيه الباحثون وذهبوا فيه مذاهب شتى ،وقد ظهر أخيرًا علماء أنكروا وجوده إنكارًا تامًا. والذي نريد أن يفهمه القارئ اآلن هو أن العقل الباطن أو الالشعور اصطالح يراد به اإلشارة إلى ما يحدث في داخل النفس من مجريات ال يشعر بها الفكر وال تدخل في مجال الوعي و التأمل. والذين أنكروا وجود العقل الباطن في اإلنسان لم يستطيعوا مع ذلك أن ينكروا حقارة العقل الظاهر وضعف أمره في توجيه أعمال الفرد. وأخيرًا جاء (فرويد) فألقى قنبلته الهائلة قائلًا بأن لإلنسان عقلين :ظاهر وباطن ،وأن أغلى أعمال االنسان مسّيرة بعوامل منبعثة من العقل الباطن الذي ال يشعر اإلنسان به وال يدري ماذا يحدث فيه. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن المشتغلين ببحث القوى النفسية الخارقة انقسموا إزاء نظرية العقل الباطن إلى جماعتين متضادتين ،وعلى كل حال فإن أغلب الباحثين في هذا الموضوع يميلون إلى االعتقاد بوجود العقل الباطن وأنه مصدر القوى النفسية الخارقة .ومعنى ذلك أن العقل الباطن أصبح في نظر هؤالء مجالًا لنوعين من القوى الخفية :فهو مباءة للرغبات المكبوتة من جهة كما أشرنا إلى ذلك آنفًا وهو منبع للقوى الخارقة من الجهة األخرى.
11
وقد يعترض هنا معترض فيقول " :إذا كان العقل الباطن كما تقول مبعثًا لنوعين مختلفين من الحوافز ،أحدهما صالح واآلخر طالح ،فكيف يتأتى للفرد العادي أن يميز بينهما لكي يستطيع أن يسير على زعمك في سبيل النجاح? ". الواقع أن هذه من المشاكل الكبرى التي تجابهنا في البحث .فإننا إذا نصحنا الفرد بأن يصغي إلى حوافزه الالشعورية من غير تفريق وأن يعتمد عليها دائمًا في حياته العملية فربما أوقعناه في ورطة. إن اإلنسان يجب أن يكون حذرًا كل الحذر من حوافز عقله الباطن إذ ال يجوز له أن ينجرف بما توحي به إليه انجرافًا تامًا. ربما صح القول بأن الفرد كلما قلت عقده النفسية كان أقدر على االنتفاع من قواه الخارقة ،فالفرد الذي امتألت نفسه بالعقد والرغبات المكبوتة يصعب عليه النجاح في معاملته مع الناس ،ذلك ألن قواه الخارقة ال تكون إذ ذاك نقية أو حرة في عملها.
يقال أن النبي محمد صل اهلل عليه وسلم كان قوي الفراسة يحسن اختيار أصحابه وأعوانه وهذا كان من أسباب نجاحه العظيم في حياته .ويبدو لي أن فراسة النبي هذه لم تأته اعتباطًا فهو قد كان ،كما هو معروف عنه ،من أولي النفوس الصافية المطمئنة التي ال تحمل حقدًا أو ضغينة على أحد .إن هذا الصفاء النفساني قد أدى بال ريب إلى حسن استثماره لقواه الخارقة فكشفت له عن خبايا طبائع الناس. والخالصة :إن في أغوار الالشعور قوى مبدعة تستطيع أن تقود الفرد في سبيل النجاح لو أحسن استثماره وطهرت مما يلحق بها من أدران الهوى والعاطفة الممسوخة ،وإني ألظن بأن ما يسمى بالحظ عند العامة ناتج عن استثمار هذه القوى الالشعورية. النهاية :أرجو من القارئ الذي ال يجد من نفسه ولعًا بمتابعة هذا البحث أن يقف عند هذا الحد فال يتعداه ،إذ يكتفي بما قرأ في المقدمة فيريح ويستريح. أما الذي يريد أن يواصل القراءة فإليه أقدم الفصول التالية.
12
المنطق األرسطوطاليسي
13
يعتبر المنطق جملة من العلوم االساسية التي يجدر برجل الدين أن يحذقها في وقتنا الحاضر لكي يتمكن من وعظ الناس ومجادلة الخصوم. المحور الذي يدور حوله منطق أرسطو هو ما يسمى بالقياس ( ( ،syllogismوهذا القياس يتسلل من المعلوم إلى الجهول تدريجيًا أو من المقدمات إلى النتائج حسب قواعد أو قيود أصلحوها .ومشكلة المشاكل في منطق أرسطو أنه ال يمثل واقع الحياة ،وهذا يتضح إذا درسنا تاريخ هذا المنطق وألممنا بالظروف الفكرية واالجتماعية التي أحاطت بنشأته األولى في عهد اإلغريق عندما ظهرت فئة السوفطائيين الذين احترفوا فن الكالم و تعليمه للناس. وجاء السوفطائيين بفلسفة مؤادها :إن الحقيقة نسبية غير مطلقة وإن مقياس الحقيقة هو اإلنسان بمصالحة ورغباته وشهواته ،فما دام اإلنسان على زعمهم مصدر الحقيقة ومادامت الحقيقة متغيرة بتغير مصالحه ورغباته ،فقد أصبح من الجدير بالفرد في نظرهم أن يحذق فن اإلقناع لكي يستطيع جذب غيره أو يؤثر في الحكام ليحكم لمصلحته الخاصة. يروى أن سقراط كان سوفسطائيًا ،لكنه انشق عنهم وظل يكافح بحجة أن وحيًا نزل عليه، فظل يبشر بدعوته حتى حكم عليه بالموت ،فخلفه تلميذه أفالطون ،وحول المجال من الشارع إلى غرفة الدراسة ومن النقاش الشفاهي الى صفحات الكتاب. وبعد موته ،تناول مشعل الفلسفة أرسطوطاليس الذي أطلق عليه لقب المعلم األول. انتصر منطق أرسطو واندحرت السفسطة التي تؤمن بالحقيقة المطلقة وبمقدرة العقل البشري على اكتشافها و النظر فيها ،لكن السفسطة ال تخلو من الحقيقة إذ هي تمثل وجهًا ال باس به من حقيقة الكون. فالحقيقة كما قال (مانهايم) نسبية و مطلقة في آن واحد .لكن انتصار أرسطو جعل المفكرين ينظرون إلى جانب واحد من الحقيقة وهو الجانب المطلق ،فعزل نجاح أرسطو المفكرين عن سواد الناس ،فجعل الناس على طبقتين من ناحية التفكير :طبقة البرج العاجي التي تتلذذ بالتأمل في الحقيقة المجردة ،وطبقة بقيت منجرفة بتيار الحياة تريد أن تتكيف للحقائق المتغيرة يومًا بعد يوم.
14
كان فالسفة اإلغريق من أصحاب العبيد ،فكانوا غير مضطرين للتفكير في معاشهم أو في كيفية الحصول على رزقهم ،إذ هم لم يعانوا مشاكل الحياة ،ما يجعلهم يفكرون فيها جديًا ،فإذا احتاجوا إلى شيء أمروا عبيدهم. فلو كان العبيد يملكون من الوقت ما يفكرون به كأسيادهم الفالسفة لربما رأيناهم يبتكرون منطقًا خاصًا بهم معاكسًا لمنطق أسيادهم ،ولنا أن نقول في هذ الصدد :أن منطق السفسطة كان أقرب إلى فهم الحياة الواقعية من منطق أرسطو ،ولعله كان منطق العمال والعبيد ،وربما كان ذلك من اسباب اندحاره. إن المفكر الوحيد الذي ثار على هذا المنطق من التفكير المثالي في اإلسالم كان ابن خلدون ،فحاول هد منطق أرسطو ويبني مكانه منطقًا جديدًا يستند على الواقع االجتماعي المتغير ،فلم يفهمه المفكرون في حينه ،فال نزال متأثرين بمنطق أرسطو و ننظر لألمور من خالل مقوالته وقوانينه. إن منطق أرسطو يصلح للوعظ والمشاغبة معًا ،فالواعظ يرقى المنبر إلنذار الناس بالويل و الثبور والمشاغب الذي يبحث عن عيوب الناس لينتقدها كالهما يستعمل هذا المنطق في الهجوم والدفاع فهو منطق الوعظ ال االتعاظ .آذان الملوع به شديد في وعظ غيره بينما هو بعيد عن االتعاظ به ،فهو يتلمح في سلوك كل فرد من األفراد المحيطين به تناقضًا منطقيًا ولكنه ال يرى ذلك التناقض في نفسه. قد يستعمل المجادل اقيسته المنطقي جريًا وراء عواطفه فإذا كره شخصًا ثم رأه يضحك هتف قائلًا على طريقته المنطقية: الضحك من غير سبب قلة أدب ،وفالن ضحك من غير سبب ،إذن فالن قليل أدب. ومعنى ذلك إن المقياس المنطقي قد أصبح آلة بيد اإلنسان ،يستعمله في سبيل ما يشتهي ويرغب فيه ،و لهذا السبب نشأت تلك الفكرة التي تقول " :ال تخف إال من المعمم" ،ذلك أن المعمم يستطيع أن يقوم بأي عمل ثم يأتي به بعد ذلك بحجة منطقية يدافع بها عن نفسه و يرد بها انتقاد المنتقدين. لقد سبق ابن خلدون زمانه بنظرته السابقة في المنطق ،،فالمنطق من نظره ال يأخذ صورة واقعية للحياة ولهذا فهو يعرقل صاحبة عن النجاح فيها. فكان يعتقد أن العامي البسيط ينجح في الحياة الواقعية أكثر من المفكر وذلك ألنه يكيف نفسه للواقع كما هو من غير أن يلجأ في سبيل ذلك إلى قياس منطقي ،أما الفقهاء 15
والمناطقة في رأي ابن خلدون فقد اعتادوا على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسومات وتجريدها في الذهن ،فال تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن و ال تصير إلى المطابقة فيقعون في الغلط كثيرا وال يؤمن عليهم. وضع القدماء ثالثة قوانين سموها بقوانين الفكر ،اعتبروها بديهية ال يتطرق لصحتها الشك وضحت مبلغ ما بينها وبين الواقع: القانون األول :قانون الذاتية ،و هو قانون الحقيقة الثابتة ومؤداه أن الثبات أصل الكون وأن الحركة و الصيرورة عرض ال أهمية له فيه. القانون الثاني :قانون عدم التناقض ،وخالصته أن الشي ال يمكن أن يكون فاقدًا وحائزًا لصفة معينة في آن واحد فإما أن يكون حقًا أو يكون باطلًا ،وهذا معناه أن الحقيقة مطلقة ال نسبية. القانون الثالث :نون الوسط المرفوع ،وهو أن العالم مؤلف من جانبين ال ثالث لهما :جانب الحق وجانب الباطل ،جانب الجمال جانب الحقد ،كما قال عيسى قديمًا " :من لم يكن معنا كان ضدنا " ،فليس هناك في هذا المنطق بين بين. لقدت نسفت العلوم الحديثة هذا القانون من أساسه ،ففي الفيزياء مثلًا وجدو أن المادة ليست موجودة في مكان معين ،فكانوا قديمًا يقولون بأن المادة موجودة هنا وغير موجودة هناك ،أما اليوم فقد أخذ العلماء يعتقدون بأن المادة موجودة ال حد لوجودها في القضاء. فهذا القلم الذي أمسكه بيدي اآلن وجود في كل مكان فما دام مؤلفًا من طاقة كهربائية فمجاله الكهربائي المغناطيسي إذن يشمل الكون كله .فنحن حين نحس بوجود القلم بين أصابعنا إنما نتأثر بحواسنا المحدودة .إن مجال القلم موجود هنا وهناك بدرجات متفاوتة فكلما ابتعدنا عنه كان تأثيره الكهربائي المغناطيسي أقل طبعًا. إن المبتلى بمنطق أرسطو يؤذي نفسه ويعرقل سبيل نجاحه من نواح ثالث: -1
يكون أولًا كثير األعداء قليل األصدقاء ،فقد اعتاد على النظر في الحقيقة نظرًا
ضيقًا فال يكاد يلمح في أحد من الناس تناقضًا بسيطًا حتى انهال عليه نقدًا واعتداءً على طريقته الحيادية ذات الحدين .وينسى أن التناقض صفة طبيعية في اإلنسان.
16
-2
المبتلى بداء الجدل المنطقي قد يؤذي نفسه من ناحية أخرى ،فهو يتصور
الناس كلهم منطقيين في أعمالهم ،إن الناس في حياتهم العملية بعيدون عن المنطق، فهم ال يتبعون مقياس الحق والعدل في أعمالهم اليومية ،وإنما تجرفهم البهارج والتقاليد والمظاهر. -3
التفكير المنطقي يؤدي إلى الفشل من ناحية ثالثة إذ هو يحول بين الفرد وبين
استثماره لقواه النفسية الخارقة .إن القوى النفسية تنبثق من أعماق الالشعور ،فال تحتاج إلى مقدمات فكرية ،إنها باألحرى تحتاج إلى خمول أو ذهول ال تكدره أية خلجة فكرية واعية. إن المبتلى بالتفكير المنطقي ال يقوم بعمل إال بعد تفكير نظامي دقيق وهو حين ينشغل بهذا تفوته كثير من فوائد اإللهام اإللهي الذي يخترق حجب الغيب. ومن األمثال المشهورة " :يجب على من يدخل السوق أن يضع عقله على الرف ". إن التراث العقيم الذي جاءنا من أيام اليونان القدماء علمنا بأن التفكير المنظم هو مصدر النجاح في الحياة .وقد حصلنا من هذا التراث على ضرر بليغ. قلت ألحد األصدقاء ذات يوم وكان في موقف حرج حائرًا " :افعل ما توحيه به إليك بديهتك االرتجالية" .فضحك وظن أني أريد به سوءًا .إنه ضحية من ضحايا المنطق اليوناني ،كما كان كثير منا من ضحايا الطب اليوناني حتى عهد قريب ،وبعد هذ أجاب الصديق " :إنه سيفعل ما يأمر به العقل والتفكير الصحيح" .وعلى هذا ظل يفكر ولم يزدد بتفكيره إال حيرة وارتباك ،فمنع ومضاته المبدعة من االنبثاق كما تمنع الستارة نور الشمس.
17
اإلطار الفكري
18
اإلنسان اعتاد أن ينظر إلى الكون من خالل إطار فكري يحدد مجال نظره و أنه يستغرب أو ينكر أي شيء ال يراه من خالل ذلك اإلطار .و ليس هناك فرق أساسي بين المتعلمين وغير المتعلمين في هذا الخصوص ،كل جديد في العلم يقابله المتعلمون وغير المتعلمين من الناس بالهزء ،والتاريخ مملوء بقصص العلماء والمخترعين والمكتشفين الذين قاسوا من االضطهاد و االستهزاء ما قاسوا جراء ما جاءوا به من جديد في خدمة التطور العلمي واالجتماعي .ينبغي أن نميز بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم هو من تعلم أمورًا لم تخرج من نطاق اإلطار الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره ،لم يزدد من العلم إال ما زاد في تعصبه و ضيق من مجال نظره ،هو قد آمن برأي من اآلراء فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيده في رأيه ،أما المثقف فهو يمتاز بمرونة في رأيه لتلقي كل فكرة جديدة و للتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها. يقال أن المقياس لثقافة شخص هو مبلغ ما يتحمل من آراء غيره المخالفة لرأيه .لطالما رأينا جمهور المتعلمين يسخرون من فكرة في هذا اليوم ثم يقدسونها غدًا. إن اإلطار الفكري الذي ينظر اإلنسان من خالله إلى الكون مؤلف جزؤه األكبر من المصطلحات و المألوفات والمفترضات التي يوحي بها المجتمع إليه و يغرزها في أعماق قلبه الباطن و اإلنسان متأُثر بها من حيث ال يشعر ،فهو ال يكاد يرى أحدًا يخالفه في رأيه حتى يثور غاضبًا و يتحفز لالعتداء عليه و هو عندما يعتدي على المخالف له ال يعد ذلك شينًا و ال ظلمًا ،إذ هو يعتقد بأنه يجاهد في سبيل الحقيقة و يكافح ضد الباطل .و أغلب الحروب و االضطهادات التي شنها البشر على بعضهم في سبيل مذهب من المذاهب الدينية أو السياسية ناتجة عن وجود هذا اإلطار الالشعوري على عقل اإلنسان. إن اإلنسان ال يستطيع التخلص من اإلطار الفكري إال نادرًا فاإلطار شيء كامن في الالشعور واإلنسان ال يستطيع أن يتخلص من شيء ال يشعر به. إن االختراع أو اإلبداع هو تركيب بين شيئين قديمين و لهذا السبب كان المتعصب لرأي أو طريقة من الطرق بعيدًا عن اإلبداع أو االختراع ،إن الباحث المبدع يمتاز بكونه يعترف بإطاره الفكري و لذا فهو أقدر على مواجهة الحقيقة الجديدة من غيره .و العجيب أن بعض الناس ينكرون وجود إطار على عقولهم ،إنهم بهذا يبرهنون على تعصبهم الشديد .إن كل أمرئ في الواقع يلون الدنيا بلون ما في نفسه و يقيس األمور حسب المقاييس التي نشأ عليها ،لذلك ليس من العجيب أن يختلف الناس في أذواقهم 19
وميولهم و لكن العجب باألحرى أن يتخاصموا من أجل هذا االختالف ،و أنا أعجب حين أرى الناس يتنازعون على أمور من غير أن يقفوا لحظة ليتدبروا ما على أبصارهم و أذواقهم من قيود الشعورية. لقد وقع اختالف بين المفكرين حول موضوع الفكر البشري :هل هو الذي يخلق الحقيقة أم أنها هي التي تخلقه? و قد انقسم المفكرون إلى فريقين :األفالطونيين يقولون بأن العقل البشري ليس إال مرآة للحقيقة حيث يعكس صورتها من غير تشويه وال تغيير ،و الفريق اآلخر يميل إلى النقيض إذ يرى بأن الحقيقة بنت العقل وأن ليس هناك حقيقة خارجة عنه ومن هؤالء ظهر السفسطائيون ،ففي رأي هؤالء أن اإلنسان هو مقياس الحقيقة و أنه هو الذي يخلقها برغبته و هواه و لذلك فهي تتغير من شخص إلى شخص، فما يكون صحيحًا في يوم قد يكون خطأ في يوم آخر ،إن هذين الفريقين يعتبران اليوم على خطأ .فالمنطق الحديث ال يمل نحو فريق منهما دون اآلخر ،إذ هو يكاد يحكم بأن الحقيقة ذاتية و موضوعية في آن واحد :أي أن الحقيقة على هذا االعتبار الحديث ،تخلق الفكر ويخلقها الفكر في نفس الوقت فكل منهما سبب لآلخر ونتيجة له أيضًا. يرى (مانهايم) و هو من دعائم المدرسة الجديدة في المنطق ،أن الحقيقة موجودة خارج العقل البشري أي أنها ليست من خلق هذا العقل ولكنها مع ذلك ذات أوجه متعددة . فالعقل حين ينظر إليها ال يستطيع في الغالب أن يطلع إال على وجه واحد منها و لذا فهو ال يأخذ عنها صورة كاملة .و يؤيد (جون ديوي) هذا الرأي تأييدًا كبيرًا ،إن العقل في نظره لم يخلق من أجل الحقيقة فله هدف آخر أهم من الحقيقة و أنفع ،هو الفوز في تنازع البقاء .فالعقل في نظره هو عضو قد تطور في اإلنسان لكي يساعده في كفاح الحياة و تنازع البقاء فهو ال يفهم الحقيقة إال بمقدار ما تنفعه. يطلب المثالي من خصمه أن يفكر على أساس المنطق لكي يصل إلى الحقيقة و هو يقصد بها حقيقته الخاصة التي تنفعه ،ومعنى هذا أنه يريد من خصمه أن ينحاز إلى جانبه ويكون عونًا له على الحياة ،أما خصمه فيداور و يراوغ ألنه هو نفسه يحمل حقيقته الخاصة به ويريد االنتصار لها ،هكذا ينشأ النزاع وتثور الفتن بين الناس . ليس هناك مقياس عقلي دقيق يقتنع به كل أحد ،فكل فرد منغمر في ذاته ولذا فهو يثور إذا رأى قرينًا له يتقدم عليه في مجاالت الحياة ،إن المشكلة آتية من كون اإلنسان أنانيًا بطبعه وهو حين يفعل ذلك يعتقد بأنه إنما يقصد الخير العام و يريد مصلحة الجماعة .معضلة العقل البشري أنه ميال إلى جعل مصلحة صاحبه والمصلحة العامة 20
واحدة فكل شيء ينفع صاحبه يصبح في نظره حقًا مطلقًا يجب أن يتبعه الناس جميعًا ،إن دراسة تاريخ األديان و الدول تعطينا أمثلة ال حصر لها على صحة هذا الرأي، فكل ثائر أو صاحب مذهب يدعي أنه صاحب الحق الذي ال شبهة فيه. إن النجاح يحمل بذرة الفشل في أساس طبيعته ،و لن ننتظر من دين ينتشر أو حركة تنتصر أن تسير األمور فيه بعد النصر هونًا كما سارت سابقًا ،و نحن حين ندرس اإلسالم نرى فيه مصداق هذا األمر ،ولعل االنشقاق قد ظهر في اإلسالم أسرع مما ظهر في غيره من األديان ،وكأن ذلك نشأ من السرعة الهائلة التي نجحت بها الدعوة و انتشرت فتوحات اإلسالم في أقاصي األرض .يقال إن قضية الخالفة كانت المنبع الرئيسي لجميع أنواع الفرق ،وهذا قول له ما يؤيده من الواقع ،فالخالفة في أول أمرها عندما كانت زهدًا و تقوى ،كان الخالف عليها ضعيفًا يكاد ال يشعر به أحد ،أما حين بدأ الترف يأخذ مأخذه و حفت بها األبهة وشاعت فيها شتى اللذات فقد تحرقت األنفس نحوها وأخذت العقول تنشئ المذاهب الفكرية والفرق الدينية في سبيل الظفر بها .ويمكن القول بأن النجاح يحمل بذرة فشله معه في القضايا الفردية أيضًا ،فالفرد حين ينجح يتغير بنجاحه إطاره الفكري فهو يأخذ آنذاك بالنظر في األمور نظرًا جديدًا يوائم وضعه الجديد وهذا التغير في النظر قد يجلب أسباب الفشل مع أحيانًا .إن اإلطار الفكري الشعوري واإلنسان غير قادر على التحكم في شيء ال يشعر به. هناك ثالثة أنواع من القيود موضوعة على عقل اإلنسان عند تفكيره أو عند نظره في األمور -1 :القيود النفسية -2القيود االجتماعية -3القيود الحضارية . ( )1فاإلنسان قبل كل شيء يملك نفسًا معقدة فيها كثير من الرغبات المكبوتة واالتجاهات الدفينة ،ففكره إذن مقيد بهذه القيود النفسية التي ال يجد عنها محيصًا إال نادرًا. ( )2فكر اإلنسان مقيد بقيود اجتماعية عالوة على قيود نفسية ،فهو ينتمي إلى جماعة أو طبقة أو بلد و لذا فهو يتعصب لجماعته في الحق والباطل على منوال ما كان عرب الجاهلية يفعلون حين قالوا " :انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا " . ( )3العقل البشري إضافة إلى قيوده النفسية واالجتماعية ،له قيوده الحضارية وهي القيود التي تشترك بها كل الجماعات في داخل حضارة معينة .
21
إن مشكلة النزاع البشري هي مشكلة المعايير والمناظير قبل أن تكون مشكلة الحق والباطل وما كان الناس يحسبون أنه نزاع بين حق وباطل هو الواقع نزاع بين حق وحق آخر ،فكل متنازع في الغالب يعتقد أنه المحق وخصمه المبطل ،و لو نظرت إلى األمور من نفس الزاوية التي ينظر منها أي متنازع لوجدت شيئًا من الحق معه قليلًا أو كثيرًا. إن المنطق الحديث ال يؤمن بالعدل المطلق كما أنه ال يؤمن بالحق المطلق ،فليس هناك في نظر هذا المنطق عدل يمكن أن يشمل الناس جميعًا ،وكل من يدعو إلى الحق المطلق إنما هو يريد من حيث يشعر أو ال يشعر أن يخدع الناس أو أن يجذبهم لجانبه و جانب جماعته فالحياة في الواقع هي نزاع بين المصالح المختلفة. إن أي عصر من العصور التاريخية هو ذهبي لمن يتنعم به وفحمي لمن يبتئس به .و ما عليك إال أن توازن بين عدد المتنعمين و المبتئسين فتحكم بما يمليه عليك رجحان الميزان. إن المنطق الحديث ال يعترف بوجود خير مطلق أو عدل مطلق ،فكل إنسان ينظر إلى العدل أو الخير من ناحيته الخاصة أو من خالل إطاره الفكري ،و كل من يدعوك إلى الخير المطلق فاعلم أنه يريد أن يغشك و يخدعك ،إن مثل هذه الدعوة هي في الحقيقة دعاية وتطبيل وترميز وما على الذين يريدون اإلبداع في العلم أو األدب أن يتجنبوا هذا السبيل الموحل. ماهي العبقرية? الجواب على هذا صعب جدًا ،فال يزال الباحثون مختلفين في موضوع العبقرية اختالفًا شديدًا ،لكن الذي يلفت النظر في أمر العبقرية هو أن الكثيرين ممن بحثوا هذا الموضوع كادوا يتفقون على وجود شيء من التشابه بين بعض ظواهر العبقرية وظواهر الجنون ،والغريب أننا نجد ما يقارب هذا المعنى لدى كثير من الشعوب. إن األبحاث النفسية الحديثة تشير إلى أن العبقري حين ينتج انتاجه الرائع ال يشعر بنفسه فهو يدخل في حالة شاذة لها شبه بالصرع أو الغيبوبة .كما يرى بعض الباحثين :أن العبقري يتقمص عند اإلنتاج شخصية أخرى عير شخصيته االعتيادية وهو حين يرجع إلى حالته االعتيادية ينذهل من روعة إنتاجه و يعجب كيف استطاع هو نفسه أن ينتجه. ما نريد أن يفهمه القارئ هو أن العبقرية فيها شيء من الخروج عن الذات والدخول في عالم آخر ال نعرف مداه اآلن معرفة تامة ،فهي تعتبر نوعًا من أنواع الجنون أحيانًا ألنها تخرج بصاحبها عن حالته االعتيادية و تجعله ينظر إلى الحياة بمنظار ثاقب نفاذ لم يعهده الناس من قبل ،ولنا أن نقول :إن القوى الخارقة تنبعث من أغوار النفس العبقرية انبعاثًا طليقًا فتنتج على يد العبقري ما ال يستطيع أن ينتجه المنافقون والمتعصبون والمقلدون. 22
الفرد العادي ال يستطيع أن يتجرد من تفكيره مهما حاول ،ألن القيود التي تقيد تفكيره مغروزة في أعماق عقله الباطن .إن العبقري هو اإلنسان الوحيد الذي يستطيع أن يسمو عن ذلك ويحلق في سماء اإلبداع و االختراع. ال يوجد على وجه األرض عقل قد تجرد من قيوده الفكرية تجردًا تامًا و من الممكن أن نقول :إنه كلما كان التجرد في عقل من العقول أتم كانت قدرته على اإلبداع أعظم، فالعباقرة إذن يتفاضلون بمقدار ما تحررون قليلًا أو كثيرًا من إطارهم الفكري .إن التجرد المطلق مستحيل و العبقرية الكاملة كذلك غير ممكنة. من الجدير على الخطيب: _1أن يقدم إذا رأى اإلقدام عزمًا ،ويحجم إذا رأى اإلحجام حزمًا. _2أن ال يدخل مدخلًا إال إذا هيأ له منه مخرجًا ،فهو قد يرتج عليه أثناء الخطابة ،يقلب نظره في الناس من غير أن يستطيع التفوه بشيء ،فالحاذق يهيئ لنفسه فبل اإللقاء فكرة معينة أو رؤوس أقالم يلجأ إليها عند الحاجة فتكون له بمثابة خط الرجعة. _3يطرق أول فكرة تخطر بباله. من المخجل أن نجد معلمي اللغة العربية يدربون التالمذة في فن اإلنشاء والكتابة مراعاة التسلسل المنطقي في كتاباتهم ،مهملين أثر الحوافز الالشعورية فيها. إن االهتمام بالتصنيف المصطنع والتسلسل المنطقي وترتيب الديباجة والخاتمة يعتبر بمثابة األحجار التي توضع في طريق التيار فتعرقل سيره. إن طريق اإلبداع في الكتابة يحتاج إلى ثالث مراحل ،وهي: _1البحث الواعي وجمع المعلومات وتصنيفها ،ويمكن تسميتها بمرحلة الخزن ،فالعقل الباطن ال يعمل وهو فارغ. _2االنبثاق الالشعوري ،فالكاتب بعد أن يخزن المعلومات في عقله الباطن ويتركها ستتخمر وتتلقح ،فيجد نفسه مدفوعًا إلى الكتابة ،ويكون قلمه آنذاك هو السيد المطاع. _3التنسيق والتزويق والحذلقة المنطقية.
23
اإلرادة والنجاح
24
انصبت آراء معظم المفكرين -منذ عهد بعيد -على تمجيد اإلرادة في تحقيق النجاح، وينسبون للمخفق ضعف اإلرادة والسعي ،ولكي ينجح عليه أن يعزم على الجد ويقوي إرادته. وقد امتألت الكتب العربية قديمها وجديدها بهذه الفكرة :النجاح بالمثابرة ،كل من سار على الدرب وصل ،من طلب جلب ومن جال نال ...إلى غير ذلك من أقاويل اخترعها لنا المغرورون. فكثير من األفراد الذين أتيح لهم الفرصة أو الوساطة القوية ما جعلهم ينالون الحظ، فأخذوا يتباهون ويتكبرون على الناس ،كأنهم نالوا ما نالوا بالسعي والصبر واإلرادة، ناسين أثر تلك الظروف السعيدة التي أحاطت بهم منذ نشأتهم األولى ،وناسين أيضًا بأن ذلك المسكين الذي يكدح في أيام الصيف من شروق الشمس إلى غروبها يحمل على ظهره التراب واآلجر ،هو أكثر منهم صبرًا وأقوى إرادة. ولو سألت أي فرد قد بلغ منزلة رفيعة " :هل كنت في بدء حياتك قد وضعت نصب عينيك هذه المنزلة ،فسعيت نحوها حتى وصلت إليها? " ،فإنه سوف يجيبك بالنفي على أرجح الظن. إن معظم الناس يتجهون في أول أمرهم نحو غاية ثم ينحرفون عنها أخيرًا ،إن واقع الحياة أقوى من أية خطة يضعها عقل محدود ،فإذا نجح على سبيل الصدفة رأيته انهال على الناس لومًا وتقريعًا حاسبًا سوء حظهم من صنع أيديهم.والغريب أن الحظ ال يؤمن به إال الفاشلون ،ليجدوا تعليلًا وتفسيرًا لفشلهم ،أما الناجح فقد امتلكه الغرور ،ونسب كل فضل في نجاحه إلى نفسه.
*** ترجم يعقوب صروف كتابًا عن اإلنكليزية سماه "سر النجاح" راج في البالد العربية والغربية ،وهذا الكتاب يؤكد على أهمية اإلرادة والسعي والكفاح في أمر النجاح ،وجاء لنا بأمثلة عديدة للبرهنة على صحة ما يقول.
25
ومما جاء في الكتاب ،أن بعضهم حكى أنه رأى نجارًا يصلح كرسيًا يجلس عليها القضاة ،وكان يعتني بإصالحه أكثر من المعتاد ،فقال له :ما بالك تعتني بإصالح هذا الكرسي? ،قال :ألني أريد أن أجلس عليه يومًا ما ،وهكذا كان ألن ذلك النجار درس علم الحقوق وجلس على ذلك الكرسي. ويروي مؤلف الكتاب :أن جنديًا فرنسيًا كان يتمشى في غرفته ويقول " :ال بد من أن أصير قائدًا " ،وقد سعى هذا الجندي في سبيل ذلك حتى تم له أخيرًا ما أراد. إن هذه القصص تنفع في تعليم الصبيان من غير شك ،وهي ضرورية في تربيتهم ،لما فيها من تحريض على العمل وتقوية اإلرادة ،ولكنها رغم ذلك ال تنطبق على حياة الواقع انطباقًا تامًا ،وال يتفوه بها في الغالب إال الناجحون الذين غرّوا أو تناسوا تلك العوامل الخفية التي ساعدتهم على نوال النجاح .ونحن لو أحصينا عدد الذين أرادوا النجاح فلم يصلوا إليه لوجدناه أكثر من عدد الذين نجحوا. والمشكلة أننا ال نصغي إلى ما يقول الفاشلون ،فكل همنا منصب على اإلعجاب بالناجح والتلهف لسماع أقواله ،أما الفاشل فنحن نميل عادة إلى احتقاره وذم أعماله ،وهو كلما أقسم لنا بأغلظ األيمان على أنه أراد وسعى ولكن التوفيق خانه ،أهملنا أقواله ،وهكذا تضيع علينا وجهة نظر هامة كان األجدر بنا أن نهتم بها وننتفع بما فيها من عبرة. يذكر لنا مؤلف كتاب "سر النجاح" قصة ذلك الجندي الفرنسي الذي أراد أن يكون قائدًا فصار ،ونحن نود أن نسأله هنا :كم من الجنود كافحوا ليصيروا قادة ولم يفلحوا? والواقع أن الذي يريد أن يرقى إلى منزلة رفيعة وهو غير موهوب بالصفات التي تؤهله لها ،يؤذي نفسه أكثر مما ينفعها ،إن اإلرادة وحدها ال تكفي أبدًا لنوال شيء. إن لكل نوع من أنواع النجاح مؤهالت خاصة ،وتلعب القوى النفسية الخارقة دورًا كبيرًا في تكوين هذه المؤهالت .إن صاحب المواهب النفسية يجب أن يسير على رسله في الحياة فال يحرص أو يتقصد في االنتفاع من تلك المواهب ،وكلما كان انبثاق قواه النفسية ارتجاليًا ال تكلف فيه كان ذلك أدعى إلى نجاحه وانتظام أمره. إن األبحاث النفسية الحديثة تكشف الحقيقة التي تشير إلى أن اإلرادة قد تعرقل سبيل النجاح أحيانًا ،وإلى أن الذي يستعمل إرادته في كل األمور قد يسيء إلى نفسه من حيث ال يدري ،إن هذه الحقيقة تسمى بقانون (كويه) ،أو قانون الجهد المعكوس.
26
إن قانون (كويه) بسيط في عباراته ولكنه هائل في أهميته العملية ،ويمكن تلخيص هذا القانون بالعبارة الموجزة التالية :إذا سيطرت فكرة على شخص بحيث أصبحت متغلغلة في أغوار عقله الباطن ،فإن كل الجهود الواعية التي يبذلها ذلك الشخص في مخالفة تلك الفكرة تؤدي إلى عكس النتيجة التي كان يبتغيها منها .ومعنى هذا إن اإلرادة إذا كانت معاكسة للمخيلة أمست ضارة ،والجدير بالفرد في مثل هذه الحالة أن يكون غير مكترث خير له من أن يكون حريصًا قوي اإلرادة ،يعرف هذا كل من يريد أن يقابل أحدًا من الكبار ،فهو كلما أراد أن يكون حاذقًا في مقابلته واستعد لها من قبل كان مخفقًا وظهر بمظهر التحذلق والرقاعة. وأينما توجه اإلنسان في مختلف نواحي الحياة وجد أثر قانون (كويه) واضحًا ،فهو يريد مثلًا أن يتذكر اسمًا معينًا ،فيجد هذا االسم يختفي من ذاكرته كلما حرص على تذكره ،ولكنه ال يكاد ييأس من نذكر االسم ويرجع إلى مألوف عادته وعدم اكتراثه حتى يلمع في خاطره بغتة ،لقد أراده فلم يأته ،وأهمله فجاء يسعى إليه. ولعلنا ال نغالي إذا قلنا بأن الشخصية الناجحة هي التي تتخيل النجاح الذي تريده ،واألولى بالمربين أن يطبعوا خيال النجاح في أذهان األطفال بدلًا من أن يحرّضوهم على إرادة النجاح ،فينبغي أن يقولوا لهم" :أنتم ناجحون" عوضًا عن أن يقولوا لهم" :كونوا ناجحين"، فهم يجعلون أوالدهم يريدون النجاح في الوقت الذي يتخيلون فيه الخيبة. إن من الممكن القول بأن سوء الحظ هو عقدة نفسية ،فسيء الحظ هو ذلك الذي يتخيل الخيبة والفشل في كل عمل يقوم به ،فهو يريد النجاح ويحرص عليه ويدأب في سبيله ولكنه في أعماق عقله الباطن يتصور الفشل. إن شعار المربين عندنا يدور معظمه حول عبارة " كن ...وال تكن ،" ...وهذه الطريقة تؤدي إلى ضرر الطفل من ناحيتين :فهي تغرز في مخيلة الطفل صورة متشائمة عن نفسه من ناحية ،وهي تحرضه على إرادة النجاح من الناحية األخرى ،وهو يصبح إذن ضحية من ضحايا قانون الجهد المعكوس ،يريد النجاح في عقله الواعي بينما هو يريد الفشل في عقله الباطن. ولعلنا ال نخطئ إذا قلنا بأن التقليد نوعان :إرادي وغير إرادي ،وشخصية اإلنسان تحتاج في نموها إلى تقليد غير إرادي ،حيث تدخل الصفة المقلدة في تركيب الشخصية وتتلون بلون إذ تصبح جزءًا منها ،أي أن اإلنسان يقلد فيه على رسله من حيث ال يتعمد وال يتقصد ،وال يسمى هذا تقليدًا على المعنى المتداول بين الناس ،ألنه مضغ وهضم 27
للصفة المقلدة وإدخالها في تكوين الشخصية .أما التقليد اإلرادي كمثل تنمية شيء بإلصاق إضافة عليه من خارجه .والشخص الناضج حين يعجب بصفة لدى غيره ال يبالي أن يقلدها ،إنما هو يخزنها في أعماق عقله الباطن ،فتخرج في أوانها دون تكلف ويسير سيرًا ارتجاليًا وتصبح جزءًا ال يتجزأ من شخصيته الخاصة. إن سوء الحظ عقدة نفسية تنمو في الالشعور فتجعل صاحبه يتخيل الفشل في كل خطوة يخطوها ،ولهذه العقدة ركنان :فصاحبها يحرص على النجاح ويريد ويعزم عليه من جهة وهو يتخيل االخفاق ويتوقعه من الجهة األخرى. أعرف رجلًا قد اعتاد على أن يتحدث عن كل مشروع يقوم به يتوقع فشله ،فسألته مرة عن سبب هذه اإلصرار على توقع الفشل ،فأجاب " :إن توقع الفشل خير من توقع النجاح ،ألن في ذلك استعدادًا للنفس على تحمل الصدمة إذا وقعت " .ثم أضاف " :وما ضرر الكلمة أنطق بها متفائلًا أو متشائمًا إذا كان المشروع قد قدر له أن ينجح أو يفشل في النهاية، والكلمات التي اتفوه بها تذهب أدراج الرياح من غير أن تؤثر شيئًا ". إن هذا الرأي كبير الضرر ومن المؤسف أنه منتشر بين الناس ومتغلغل في عقولهم، فالناس هنا يعتقدون بأن النجاح هو نتيجة الجهد واإلرادة والتفكير وحسن التدبير ،والواقع أن الكلمات هي أعظم في تأثيرها النفسي من البرهان المنطقي الذي نحاول أن نقنع عقولنا به ،فالبرهان المنطقي ال يتعدى تأثيره حدود العقل الواعي ،ولذا فهو ال يؤثر في المخيلة إال قليلًا. إن عيب البرهان المنطقي أنه ال ينمي في النفس عقيدة ،فالعقيدة بنت اإليحاء والتكرار، ولهذا السبب نجد وعاظنا ال ينجحون في تبديل أخالق الناس أو عقائدهم إال نادرًا ،فهم يحاولون دائمًا أن يقنعوا الناس في أن يسيروا في أمورهم الفكرية واالجتماعية على أساس ما انطبع في عقولهم الباطنة من أفكار وعادات وقيم. وفي القرآن آية لها صلة كبيرة بهذا الموضوع أيضًا وهي( :وأما بنعمة ربك فحدث) ،فال مراء أن التحدث بالنعمة يزيدها. لقد اعتدنا أن نتخوف من ذكر النعمة على شتى صورها ،وهذه العادة لها أسبابها االجتماعية والنفسية التي توفرت في حضارتنا الشرقية أكثر من غيرها ،وقد انتشرت بيننا عقيدة الحظ وكثر أصحاب الحظوظ السيئة في صفوفنا .إن الذين يعتقدون أن النجاح على قدر المشقة قد ال يغتنمون الفرص ،ولعلهم ال يتصورون أنها فرص 28
ثمينة حين تمر بهم وذلك لسهولة منالها ،فهم ال يقدّرون قيمتها إال بعد فواتها، وعند ذلك يضربون يدًا بيد متأسفين ،وتضيع الفرص عليهم. لقد قال صلى اهلل عليه وسلم" :جئتكم بالشريعة السمحاء" ولكن أتباعه نسوا هذا وجعلوا دينه من أصعب األديان وأكثرها تعبًا ومكابدة ومشقة ،فقد جعلوا الطقوس الدينية دقيقة التفاصيل معقدة األجزاء .إن العبادة الحقة تنفع الفرد نسبيًا ،فهي تبعث الثقة والطمأنينة في قلب اإلنسان وتجعله متفائلًا يسير في الحياة وهو معتقد بأن هناك ربّ يرعاه ويعينه على حل المشاكل. إن عقدة االستكمال تعد من أكبر عوامل الفشل في الحياة ،فصاحبها ال يستطيع أن يقوم بعمل إال بصعوبة ،ذلك أنه ينظر ويعيد النظر في كل جزء يعمله ويهمل االعتناء باألصل في سبيل االعتناء بالفروع. فهو يتحرى الدقة الصارمة في كل صغيرة وكبيرة مما يعمل كأنه سوف يحاسب على ذلك حسابًا عسيرًا. وقول المثل" :الوسواس نجس" ومعنى ذلك أن الذي يتحرى الدقة الكاملة في الطهارة ال يستطيع الوصول إليها أبدًا ،فهو في شقاء متواصل ويسعى وراء المستحيل. لم تلق الفكرة من الرواج واالنتشار في هذا القرن مثلما لقيته فكرة الالشعور أو العقل الباطن ،وقد أصبح حتى الذين ينكرون وجود هذا العقل ال يستطيعون أن ينكروا وجود بعض القوى الكامنة في أغوار النفس حيث تسيّر اإلنسان وتؤثر في سلوكه من حيث ال يشعر ،فبعدما كان اإلنسان في الماضي يعتبر حرًا مختارًا يوجه سلوكه في ضوء العقل الواعي ويقرر مصيره بإرادته ،أصبح اليوم يعتبر وكأنه آلة صماء تسيطر عليه الحوافز الالشعورية وتدفع به دفعًا. ( :)1قد ال نخطئ إذا أضفنا الذين يؤمنون بوجود العقل الباطن إلى فريقين :فريق منهم، وهم أتباع مدرسة التحليل النفسي ،يعتقدون بأن العقل الباطن مكمن الرغبات المكبوتة التي لم يستطيع اإلنسان إشباعها لسبب من األسباب ،وهذه الرغبات تبقى في نظرهم محبوسة في العقل الباطن وهي تحت ضغط شديد ناتج عن رقابة العقل الواعي ،فإذا تخدر هذا العقل أو ضعف أو غفل أو نام وجدت الرغبات المكبوتة في ذلك فرصة سانحة للخروج من حبسها ،وهي تظهر آنذاك بصور شتى و أساليب متنوعة .و أهم مجال تظهر فيه هذه الرغبات المكبوتة في رأيهم ،هو مجال األحالم. 29
( :)2أما الفريق اآلخر فيعتقدون بأن العقل الباطن هو مهبط الوحي والكشف واإللهام في اإلنسان ،وهو منبع العبقرية والنبوة واالختراع وما أشبه ،وقد تطرف بعضهم فذهب إلى أن العقل الباطن هو الروح ،أو هو في رأي آخرين منهم ،جزء اهلل الذي حل في اإلنسان. إن تطرف هذا الفريق أثار رد فعل قوية في األوساط العلمية ،فقد أحال عدد كبير من الباحثين إلى إنكار القوى النفسية الخارقة وذلك حين رأوها قد اختلطت باألمور الغيبية والروحية. إن القوى النفسية الخارقة أصبحت اليوم ،كما أسلفنا ،من الحقائق العلمية المقررة وقد أخذت التجارب المختبرية تؤيدها تأييدًا ال بأس به ،ولكن الذي يخشى بعض الباحثين منه هو أن تنتهي بهم هذه األبحاث إلى اعتناق األفكار الروحية القديمة التي ناضلوا في القرون الماضية نضالًا طويلًا في سبيل القضاء عليها. واألولى منها هي التي سار عليها الباحثون في انكلترا ،وتابعهم على ذلك جماعات متعددة في أقطار أخرى .وتتلخص هذه الطريقة في االعتناء بجمع الوثائق عن كل حادثة يظهر فيها عمل خارق ،فإذا سمع الباحثون بأن شخصًا ما في بقعة من بقاع األرض يملك موهبة عجيبة في التنبؤ أو قراءة األفكار وما إلى ذلك ،أرسلوا إليه مالحظين ممن تتوفر فيهم النزاهة والصدق والحياد ودقة المالحظة ،فيقوم أولئك المالحظون بدراسة الخوارق التي يقوم بها ذلك الشخص الموهوب ويضعونه تحت المراقبة الدقيقة ثم يقدمون عنه تقريرًا بما شاهدوه. وقد تألفت لهذا الغرض جمعية في بريطانيا منذ ،1882سميت بجمعية المباحث النفسية (( ،The Socicty For Psychical Researchاشترك فيها عدد من العلماء والفالسفة، وٲخذت تصدر مجلة تنطق بلسانها وكان أول رئيس ان ُتخِب لها هو البرفسور (سدجوك) أستاذ الفلسفة في جامعة كمبردج .لقد توصلت جمعيات المباحث النفسية في بريطانيا وغيرها إلى :أن لدى اإلنسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثالث :تناقل األفكار ( )telepathyورؤية األشياء من وراء حاجز ( )clairvoyanceو التنبؤ (.)foreknowledge والغريب أن كثيرًا من الناس يستطيعون أن يحدثونا عن واقعة وقعت لهم تشير إلى وجود موهبة في اإلنسان تكتشف فكر الغير أو تتنبأ عن بعض حوادث المستقبل أو تستشف األشياء المخفية ،و لكننا تعودنا أن نعزو ذلك إلى الصدفة. 30
الصدفة تجري حسب قوانين ثابت و قد بحث علماء اإلحصاء في قوانين الصدفة و لم يبق منها جزء مجهول نستطيع أن نعزو إليه األشياء التي نعجز عن تعليلها تعليلًا معقولًا .نحن ال يجوز أن نتطرف في إنكار الوقائع بمقدار ما يتطرف السذج من الناس في تصديق األوهام إن سرعة التصديق و سرعة اإلنكار كالهما يدالن على سذاجة غير محمودة. إن الباحثين يسيرون في هذا الموضوع على طريقتين: ( :)1طريقة فحص الوقائع والتثبت من صدق شهودها وجمع الوثائق عنها .وهذه الطريقة هي ما سارت عليه جمعيات المباحث النفسية في أنحاء العالم. ( :)2طريقة البرفسور راين و أتباعه و هي تجري على أساس التجريب و اإلحصاء .وقد أخذت تنتشر في بعض الجامعات. والطريقتين توصلتا إلى نتائج متشابهة مفادها أن في اإلنسان قدرة على اإلحساس الخارق، أو ما يسميه (راين) باإلحساس من غير حاسة (. )extra sensory perception المشكلة تنحصر اليوم في قلة معرفتنا بطبيعة الظاهرة الخارقة ،فالباحثون اليوم ال يشكون في وجودها ولكنهم ال يعرفون ماهيتها و قوانينها .على أي حال ،قد كثرت الفرضيات التي وضعت لتعليل هذه الظاهرة الخارقة ،وأود أن اجتزئ منها فرضيتين فقط وهاتان هما: فرضية (تشنر) :يعتقد بأن ما ندعوه بالعقل الباطن أو الالشعور له قدرة على تخطي المسافات المكانية وذلك ألنه شيء غير مكاني. فرضية (سينل) :يرى بأن كل مادة في الكون تبعث ذبذبات أو أمواج أثيرية خاصة ال تدركها الحواس الخمس .و يعتقد بأن النتوء الصنوبري الصغير في أسفل المخ من ناحية النخاع الشوكي هو عبارة عن الحاسة السادسة التي تدرك تلك الذبذبات و تتأثر بها أحيانًا. لقد اكتشفت األبحاث الحديثة أن أنواعًا معينة من األمواج الكهربائية تنطلق من دماغ كل إنسان وهي تختلف في النوم عنها في اليقظة ،وفي التفكير عنها في الذهول ،وفي المرض عنها في الصحة ،فكما يقول الدكتور (دايفس) أن كل فرد يطلق من رأسه أمواجًا دماغية خاصة به دون غيره ،أي أن األمواج الدماغية مثل بصمة األصبع ال يتشابه فيها اثنان من البشر.
31
لقد ثبت علميًا أن الذرة تخزن بعض األمواج التي تتلقاها من الخارج ثم تطلقها بعدئذٍ، فمن الجائز إذًا أن تخزن ذرات الهواء والجدران واألثاث في مكان ما شيئًا من األمواج المنبعثة من أدمغة أصحابه ،ثم تطلقها علينا عند دخولنا فيه وبهذا فنحن نتأثر بها سلبًا أو إيجابًا من حيث ال نشعر. إن الناس فريقان :فريق تستلين له الحياة و يستجيب له الناس ،وهو سادر مستغرق ال يبالي ،وفريق آخر يجالد ويكافح فتصعب عليه الحياة بمقدار ما جالد وكافح .لقد آن للناس إن يدركوا سر الحظ الذي خفي على األجيال الماضية ،وإن يلتفتوا الى ما تحتوي عليه النفس البشرية من أفانين القوى التي تشتد في عملها كلما غفال عنها وتعني بنا متى أهملناها. ومما يلفت النظر في هذا الموضوع أن هناك عددًا من العلماء يفسرون هذه الحركة العشوائية في سير اإللكترون بأنها ناتجة من قصورنا عن مراقبة حركته صحيحة ،ذلك أننا في نظر هؤالء العلماء نراقب ظل (اإللكترون) فقط وال نستطيع أن نراقبه نفسه ،إذ هو يتحرك في فضاء ذي أربعة أبعاد. يقول البروفسور (جينز) في هذا الصدد" :إن ما يلوح لنا من عدم خضوع الطبيعة للتحديد قد يكون مصدره أننا نحاول أن نحصر في فضاء قليل األبعاد ما يقع من الحوادث في أبعاد كثيرة .تصور مثلًا نوعًا من الديدان العمياء ال تتعدى مداركها الحسية سطح األرض ذي البعدين ،فهي ترى هذه الماء تبتل بالماء بين آونة و أخرى .فنحن الذين نستطيع أن ندرك البعد الثالث نعلل هذا البلل بسقوط المطر من السحاب و نقدر أحيانًا على أن نتنبأ عن األجزاء التي سينالها المطر من األرض و التي ستبقى جافة منها ". و (جينز) يقول أيضًا " :كما إن الظالل الواقعة على الجدران تكون شبحًا ذا بُعدين لحقائق ثالثية األبعاد ،وعلى ذلك ال تكون الحوادث التي تقع في الزمان و المكان أكثر من صف متحرك من األشكال الظليّة السحرية تغدو وتروح ". يتضح من هذا أن ما يبدو لنا من فوضى في سير (اإللكترون) إنما هي فوضى في عقولنا. ولعل األسباب التي تتحرك في سير اإللكترون موجودة في البعد الرابع حيث ال نستطيع أن نراها ،وقد يؤدي هذا بنا إلى القول بأن األسباب التي تحرك الكون كامنة في الزمان الماضي والمقبل ،واإللكترون إذًا يتحرك بحافز يأتيه من وقت آخر غير هذا الوقت الذي نعيش فيه.
32
إن هذه فرضية ضعيفة ،كما قلنا و لكننا نجد مع ذلك صعوبة في قبولها بناء على ما جاء (آينشتاين) به من مفهوم جديد للزمان والمكان ،وبناء على هذا فإن التنبؤ بحوادث المستقبل ليس مستحيلًا. وهنا قد يسأل سائل فيقول :ما هي صلة هذه األمواج الخفية بموضوع العقل الباطن الذي نحن فيه? و الجواب على ذلك كما قلنا سابقًا فنحن ال نعتبر العقل الباطن جهازًا نفسيًا معينًا له خصائصه ،بل هو اصطالح عام نقصد به جميع الفعاليات النفسية التي تؤثر في سلوك اإلنسان وهو ال يشعر بها .يتضح من هذا أن العقل الباطن حيز ذهني يجتمع فيه نوعان من الحوافز :فهو مباءة العقد النفسية والرغبات المكبوتة من ناحية ،و موئل اإلحساس الخارق من الناحية األخرى ،وهو بهذا مصدر للخير والشر معًا. ومن الغريب حقًا أن نجد المأثورات الدينية تذهب إلى مثل هذا الرأي تمامًا .يقول (النراقي) " :أعلم أن الخاطر ما يعرض في القلب من األفكار ،فإن كان مذمومًا داعيًا إلى الشر سمي وسوسة ،و إن كان محمودًا داعيًا إلى الخير سمي إلهامًا ". ثم لما كان الخاطر أمرًا حادثًا فالبد له من سبب ،فإن كان سببه الشيطان فهو الوسوسة ،و إن كان ملكًا فهو اإللهام ،وما يستعد به القلب لقبول الوسوسة يسمى إغواءً وخذالنًا ،و ما يتهيأ به لقبول اإللهام يسمى لطفًا و توفيقًا. إن الحوافز الالشعورية هي خير ما يرشد اإلنسان في معالجة أموره ،لذا يجب أن نكون شديدي الحذر عند إصغائنا لحوافز الالشعور فينا ،فهي قد تلتبس أحيانًا بنزعات العقد و وساوس الرغبات المكبوتة ،وربما أدت باإلنسان في بعض األحيان إلى حيث الفشل أو السخف أو الرقاعة. إن (وليم مارستون) حين نصح القراء بأن يطيعوا خواطرهم اآلنية إنما كان يخاطب بذلك قراءة البالد الغربية ،فالحضارة الغربية تساعد الفرد نوعًا ما على تنمية شخصية خالية من العقد. إن حضارتنا الشرقية فيها كثير من العوامل التي تؤدي إلى كبت الرغبات و تنمية العقد النفسية في الفرد ،وهذه العوامل التي تكون على أشدها بين فقرائنا وذوي العاهات واألمراض منا ،إن مجتمعنا اللئيم يخلق أسباب الفقر والعاهة من جهة ،ثم يحتقر المصابين بها من الجهة األخرى .وبذا ينمي فيهم عقدًا نفسية ال خالص منها. 33
و نرى أحدنا ال يكاد يلمح امرأة من بعيد حتى يتغير في جميع حركاته وسكناته وربما انقلب بأسرع من لمح البصر إلى (دون جوان) ،وهو حين يلقى جماعة من الرجال تراه قد انقلب إلى بطل مغوار ال يشق له غبار ،أما إذا رأى غنيًا وذا جاه ونفوذ وجدته يقوم و يقعد استجداءً وتملقًا و هيامًا. إننا ال يسعنا أن ننصح الفرد في هذه البالد بأن يصغي إلى حوافز العقل الباطن من غير حذر وال تؤدة ،إنه يجب أن يحذر كل الحذر من خواطر رغباته المكبوتة ،وهي متعددة كي ال تطغي عليه و تجعله آلة بيدها .فالفرد منا قد يشترك في مجلس من مجالس الوقار والنفوذ ،كمجلس نواب أو مجلس أساتذة أو مجلس شركة أو ما أشبه ،وهو قد يجد نفسه آنذاك حائرًا ال يدري يتكلم أم يسكت ،فالكالم قد يكون أحيانًا من فضة وأحيانًا من فحم. إني ال أستطيع أن أعطي القارئ هنا قاعدة عامة يسير عليها في مثل هذه المواقف الحرجة ،و لكني مع ذلك أقول بتحفظ :إن الفرد الذي يفحص حوافزه المتنوعة ثم ينتقي منها ما هو أدعى لإلخالص وأنفه للناس هو الذي يفوز بالنجاح في األمد الطويل. فأنت إذا وجدت نفسك تريد الكالم وكان الدافع الذي يدفعك إليه هو الحصول على تقدير الحاضرين أو التقرب من أصحاب النفوذ منهم أو ما إلى ذلك فاعلم أنك فاشلًا عاجلًا أم أجلًا. لقد حدث ذات يوم أعلن غني مشهور من أغنياء بريطانيا :أنه قد وضع ورقة نقدية قمتها ألف جنيه داخل مظروف ،و وعد أن يهبها لمن يستطيع أن يخبر عن رقم تلك الورقة حدسًا، وقد ظلت الورقة عند صاحبها مدة طويلة حيث لم يوفق أحد للفوز بها ،وقد اتخذ الكتاب في بريطانيا ذلك دليلًا قاطعًا على كذب اإلحساس الخارق الذي يدعيه بعض األفراد. و معنى هذا أن اإلنسان ما دام يريد شيئًا ويفكر في الحصول عليه فإنه ال يستطيع أن يستخدم فيه عقله الباطن استخدامًا مجديًا ،و لربما صح القول بأن اإلرادة واإللهام ال يجتمعان ،فكلما اشتدت إرادتك ضَعُف إلهامك ،فأنت ال تنجح في استثمار العقل الباطن إال حين تكون منهمكًا في أمر ال تقصد من ورائه غرضًا مؤقتًا وال تبتغي شهرة أو مالًا أو نفوذًا.
يعتقد (تشنر) بأن العرافين الذين يحدقون في الكرات البلورية إنما يفعلون ذلك طلبًا للصفاء الفكري ،حيث تفتح عند ذلك مواهبهم الخارقة .ويؤيد (سينيل) هذا الرأي 34
تأييدًا كبيرًا ،فهو يعتقد بأن الذين يكشفون عن مياه األرض بواسطة العصا الكاشفة أو يقرأون الفنجان أو الكف أو ما إلى ذلك إنما يقصدون من ذلك وقف حركة التفكير االعتيادية و إعداد أذهانهم لتلقي الذبذبات الكاشفة. إن (سينل) يشترط لكي تقوم الحاسة بنشاطها الخارقة في اإلنسان أن تقف حركة المخ بصفة مؤقتة بحيث تكون بمثابة (الصفحة البيضاء) ،وعندئذ يصير المخ في نظر (سينل) شبيهًا بالمذياع الذي يدار مفتاحه بدقة نحو محطة من المحطات فال يلتقط أمواجًا من غيرها. يبدو أن العقل الظاهر والعقل الباطن ،كما أشرنا إلى ذلك في الفصل السابق ،متعاكسان في الطبيعة ،أو هما بعبارة أخرى :على طرفي نقيض ،فإذا اشتدت فعالية أحدهما خفت فعالية اآلخر ،ولعل هذا هو السبب الذي جعل خوارق العقل الباطن تظهر بأوضح صورها أثناء التنويم المغناطيسي؛ فالنائم نومًا مغناطيسيًا يكون عقله الظاهر مخدرًا ،ولذا فهو ال يعي إال ما يأمر به المنوم ،إن مخه عند ذاك يصبح (صفحة بيضاء) على حد تعبير (سينل) ،و مستعد الستقبال ذبذبات معينة من الخارج. إن إيحاء المنوم يمكن اعتباره في هذه الحالة بمثابة مفتاح المذياع ،فهو قادر أن يوجهه على أية محطة يشاء ،و قد رأيت شخصيًا من غرائب التنويم المغناطيسي ما أذهلني ،فقد استطاع النائم ذات مرة أن يعرف اسمي و اسم أبي ومهنتي وما أشكو منه بدون معرفة سابقة بي .إن ما شاهدته بعيني على أية حال كان كافيًا للتصديق بما عند المنوم من مقدرة خارقة. قد يعترض البعض ويقول في هذا الصدد" :إذا كان التنويم المغناطيسي يؤدي كما تقول إلى ظهور هذه المقدرة الخارقة ،فلماذا ال يستغله أصحابه في اكتشاف الجرائم الغامضة أو في البحث عن الكنوز المطمورة تحت األرض أو ما أشبه? ". قد يكون الجواب على هذا السؤال سهلًا إذا تصورنا مخ اإلنسان كجهاز المذياع ،فالمذياع يحتاج لكي يقوم بعمله قيامًا متقنًا أن يكون قويًا صحيحًا ال نقص فيه من جهة ،وأن تكون هناك محطة لإلذاعة قوية من جهة أخرى .أما في التنويم المغناطيسي فالمنوم يوحى إلى النائم ما يشاء ،والنائم يطيعه طاعة عمياء ،فهو ال يعي ما حوله إال ما يأمر به المنوم ،و بهذا يكون مفتاح مخه بيد منومه.
35
إن حدسه في النوم كثيرًا ما يختلط بأوهامه وشهواته ومخاوفه ،وطالما كان عقله الباطن حينذاك مشغولًا بلقاء الحبيبة التي كانت ممتنعة عليه من قبل ،أو بالتهام الطعام الذي حرم منه في اليقظة ،أو من االنتقام من العدو الذي آذاه ولم يقدر أن يشفي غليله منه ،فهو يلجأ إلى أوقات النوم لينفس فيها كربات ما أنتابه في أوقات اليقظة ،وهلل في خلقه شؤون. وعلى هذا من الخطأ أن نعتمد على أحالمنا في أمورنا كما تفعل العامة أحيانًا ،إن اعتمادنا على األحالم يشبه من بعض الوجوه اعتماد البعض من الناس على الربح في سباق الخيل، فنسبة الخطأ فيها أكثر جدًا من نسبة الصواب وال يرجو خيرًا من ذلك عادة إال األغبياء و انصاف المجانين. كان (وليم جبس) السكرتير السابق لمالية الواليات المتحدة ،يستعمل طريقة خاصة لالستفادة من أحالمه ،فهو كان يأوي إلى فراشه حول منتصف الليل بعد أن يكون التفكير قد أضنى قواه العقلية ،ولذا فهو قد اعتاد أن يضع ورقًا و قلمًا بجانب فراشه ليسجل به ما قد تكشفه األحالم من حلول لمشاكله الكثيرة ،وكان يستيقظ من نومه أحيانًا و في رأسه فكرة طارئة ،فيسرع إلى القلم لتقييدها قبل اختفائها ،وكثيرًا ما انتفع المستر (جبس) من هذه الطريقة في الوصول إلى حلول عجز عنها في ساعات اليقظة. ولقد حاول الكثير من الباحثين أن يضعوا طريقة نفسية معينة يتمكن اإلنسان بها من أن يستثمر أحالمه في حل مشاكله ،والظاهر أن معظم الطرائق التي وضعوها تدور حول تركيز العقل الباطن قبل النوم على فكرة معينة وبعث الثقة فيه و شحذه لكي يتوجه نحوها ببصيرة ثاقبة. و من المالحظ بهذه المناسبة أن الكلمات األعجمية تستعمل كثيرًا في الطالسم والرقي واألدعية عندنا في الشرق ،ويظهر أنها أقوى تأثيرًا في النفس من الكلمات المفهومة، فغموضها يسبغ عليها شيئًا من الروعة والقداسة ،وهي إذا ُفهِمت فقدت روعتها وتأثيرها النفسي ،والمشكلة في مثل هذه األمور إنها ال تنفع إذا عرف الناس سرها وتفلسفوا فيها. إن العقل الباطن هو عقل اإليمان والعقيدة الراسخة ،بينما العقل الظاهر هو عقل التفكير والشك والتفلسف ،فإذا أردت استخدام عقلك الباطن استخدامًا صحيحًا في النوم أو غيره، وجب عليك أن تبتعد عن كل ما يدعو إلى التفكير والتدليل والتفلسف.
36
إن الطريقة الحديثة في استثمار العقل الباطن هي طريقة اإليحاء والتكرار ،فاإلنسان يستطيع أن يوحى لنفسه ويكرر عليها قبل النوم ،في أي وقت بما يشاء من معاني في سبيل حل المشاكل أو شفاء األمراض أو نوال النجاح أو غير ذلك. دخل شخص يشكو من أمراض نفسية عديدة إلى طبيب يسأله عالجًا ،وكان الطبيب قد سمع بما لإليحاء النفسي من قوة في شفاء األمراض ،فأخذ يجيب على كل شكوى يتفوه بها المريض قائلًا " :أوحى لنفسك أنك قد شفيت " ،فخرج المريض ولم يدفع للطبيب أجرة فحصه قائلًا له " :أوح لنفسك أنك قد قبضت مني أجرة الفحص يا طبيبي العزيز" .إن هذا الطبيب الرقيع يظن أن اإليحاء هين وأن من الممكن استثمار العقل الباطن بواسطة االقتناع المنطقي والتفكير الواعي. إن المعالج النفساني ال يجوز أن يكشف للمريض عن سر هذه الطريقة التي يعالجه بها، فال يجوز أن يقول له " :أوحي لنفسك" ،إنما يقول له بدلًا من ذلك " :قل كذا و استعمل كذا". لقد ربحنا في حياتنا المدنية الجديدة من ناحية ،وخسرنا من ناحية ،فقد تقدمت لدينا أساليب الحياة المادية تقدمًا عظيمًا بينما تأخرت فينا أساليب النفس وطرق استثمارها وقواها الخارقة .فنحن اليوم نستعمل أعظم أنواع العالج المادي وأعجب المخترعات والمبتكرات ولكننا ضيعنا تلك العقيدة الراسخة التي تزلزل الجبال .لقد نمت فينا قوى العقل الظاهر وتقلصت قوى العقل الباطن ،فاستخدمنا خوارق المادة وأهملنا خوارق الالشعور.
37
النفس والمادة 38
لقد أثيرت منذ أيام (ديكارت) في القرن السابع عشر مشكلة فلسفية كبرى ،هي مشكلة الفكر والبدن أو بعبارة أخرى :مشكلة التفاعل بين القوى النفسية والقوى المادية .إن مما ال ريب فيه أن الفكر يؤثر في البدن ،والبدن يؤثر في الفكر ،فال يكاد اإلنسان يخجل من شيء حتى تحمر وجنتاه ،وال يبتأس لحادث حتى يمرض أو يظهر الضعف والشحوب عليه. م أحد األشخاص تنويمًا مغناطيسيًا ثم أُخبِر أثناء التنويم كذلك بأن جمرة ملتهبة قد ُو َ ن ِّ وضعت على يده فظهرت أثار االحتراق والتقيح على جلدة يده كأن نارًا حقيقية قد مستها. والفكر قد يتأثر بالمادة على نفس المنوال الذي يؤثر فيها ،فاإلنسان حين يتناول شرابًا مسكرًا أو منعشًا أو مخدرًا تجد أفكاره قد تغيرت تبعًا لنوع المادة التي تناولها ،وعلى هذا قس كثيرًا من الوقائع التي نالحظها في أنفسنا وفي غيرنا من حياتنا اليومية. ومن الغرائب التي شاهدتها في هذا الخصوص حادثة حدثت قبل عشر سنوات تقريبًا وال أزال أتذكرها متعجبًا ،فقد أقيمت في جامعة بيروت األمريكية حفلة كبيرة حضرها منوم مغناطيسي مشهور ،ومن جملة ما قام به هذا المنوم أنه أعطى كرات معدنية باردة إلى عدد من الحاضرين ثم أخذ يوحي إليهم بصوت عال :إنها ساخنة ..إنها ساخنة .فأخذت الكرات تسخن في أيديهم فعلًا حتى رماها معظمهم إلى األرض لشدة حرارتها وهم ينفخون في راحات أكفهم من شدة األلم ،وبقي واحد منهم أصر على إبقاء الكرة في راحة يده ،ولعل أراد أن يظهر بمظهر الشجاع أمام الفتيات الحاضرات ،وأخذ ينقل الكرة من يد إلى يد بغية تخفيف ألمها وعندما رماها أخيرًا بدت على راحة كفه عالمات احتراق. إن الكرة لم تسخن في الواقع ،إنما الذي سخن هو جلد اليد و ذلك من جراء اإليحاء ،وليس هذا بعجيب ،فإن اإلنسان كثيرًا ما يتخيل المرض فيمرض ،ويتوهم األلم في مكان ما من جسمه فيحدث األلم هناك فعلًا. وقد ظهر في شتاء إحدى السنوات في حديقة (الهايدبارك) بلندن ،فقير هندي عاري البدن يكاد ال يحس بزمهرير الشتاء ،وأخذ يقوم بأعمال خارقة ،فهو كان يبتلع حطام الزجاج والمسامير الصغيرة الحادة وغيرها ،ويشرب حامض النتريك هنيئًا ويمشي حافيًا على الجمر الملتهب ،وقد يدفنونه تحت التراب لعدة ساعات ثم يخرجونه حيًا كأن لم يكن قد حرث عليه شيء. إن هذه الخوارق كلها تدخل في موضوع تأثير الفكر في البدن وهي في الواقع ناتجة عن سيطرة عقيدة معينة على بدن االنسان ،فالفقير الهندي حين يمشي على النار إنما 39
هو معتقد اعتقادًا جازمًا بأن النار ال تؤذيه ،إن هذه العقيدة قد استحوذت على ذهنه استحواذًا تامًا بحيث أصبح في شبه غيبوبة عن ما حوله ،فمجرد شك بسيط يخامر نفسه يؤدي حتمًا إلى هالكه. و ال مِراء أن هذه العقيدة الجازمة الخالية من كل شك ليس باألمر الهين وال يستطيع أن يحصل عليها أي إنسان ،إذ هي عقيدة عميقة لها جذورها القوية في أغوار الالشعور ،وال يكفي اإلنسان فيها أن ينوي و يعزم أو يقصد و يتعمد. إن العقيدة في الواقع ليست بيد اإلنسان ،وهو ال يستطيع أن يحصل عليها أو يتركها كما يريد ،إنها قناعة الشعورية تأتي نتيجة اإليمان القوي والمراس الطويل واالنغمار الذي ال يخامره الشك أبدًا ،إن العقيدة التي تكون في العقل الظاهر ال تتغلغل إلى العقل الباطن قد تضر ضررًا بليغًا من هذه الناحية ،وهي ربما أدت الى عكس النتيجة المبتغاة منها .إن صاحب هذه العقيدة السطحية ال يكاد يضع قدمه على النار اقتداء بفقراء الهنود ،حتى يأخذ عقله الباطن بالتخوف و االستغاثة ،فهو يقول لنفسه أقدم وال تخف ،ولكن عقله الباطن يهمس في أغوار النفس بهمسات الخطر و دنو األجل. يعلل العلماء خوارق المتصوفة والهنود بأنها نوع من التنويم الذاتي ،فالمتصوف ينوم نفسه قبل أن يقوم بتلك الخوارق ،والهنود يختلفون في الطريقة التي ينومون بها أنفسهم تنويمًا ذاتيًا ،فالهنود يروضون أنفسهم رياضيات نفسية معقدة وطويلة األمد حتى يصلوا أخيرًا إلى مرحلة القدرة على القيام بالخوارق ،وعند وصولهم إلى تلك المرحلة النهائية يصبحون كأنهم خرجوا من هذه الدنيا وأخذوا يعيشون في دنيا خاصة بهم، وتصبح الخوارق لديهم أنذاك أعمالًا اعتيادية يستطيعون أن يقوموا بها متى شاؤوا. أما متصوفة العراق فيلجأون إلى الغناء ودق الدفوف وإلى نوع من الرقص والدوران ،و بعد ذاك يدخلون في شبه غيبوبة يطلقون عليها "المدد" و ليس المدد في الواقع إال تنويمًا ذاتيًا. إن خوارق المتصوف هي خوارق الالشعور ،وكلما قل وعي المتصوف أثناء القيام بها قل الخطر عليه منها .يعتقد المتصوفة أن هذه الخوارق التي يقومون بها آتية من صحة عقيدتهم ،فقوة العقيدة وعمقها وتغلغلها في الالشعور هي التي تؤدي إلى ظهور الخوارق ،أما صحة العقيدة فال شأن لها في هذا األمر .إن كل إنسان قوي في عقيدته يستطيع أن يصل إلى نفس النتائج التي وصلوا إليها سواء في ذلك أكان من أتباع الرفاعي أو أغا خان أو عباس أفندي.
40
يرى (اوليفر لودج) العالم الطبيعي المعروف ،أن الصالة والدعاء والعبادة لها فائدة كبيرة ،وهو يفند أراء المنكرين الذين يرون أن الدعاء لغو فارغ ال قدرة على تغيير ما في الكون من قوانين طبيعية ،فيقول عنهم" :أنهم يتصورون أنفسهم كأنهم شيء منعزل عن الكون وخارج منه يعمل فيه من ظاهره و يحاول أن يبدل مظاهره باالبتهال إلى نظام في القوة المسيرة" ،و لكن إذا استطعنا أن نتفطن إلى أنفسنا وأننا نحن جزء صميم من النظام بأسره وأن رغباتنا و مطالبنا هي نفحة من اإلرادة المسيطرة الهادية ،لم يمتنع على حركات عقولنا أن يكون لها أثر فاعل إذا سرنا بها وفاقًا ال صدق ما في الكون من القوانين وأعالها.
ذكرنا في الفصل السابق أن النفس البشرية قد تتأثر بما حولها من المادة الخارجية تأثرًا ال شعوريًا ،وفي هذا الفصل أدركنا كيف أن النفس تؤثر في مادة بدنها وتتأثر به أيضًا ،بقي علينا أن نعرف ،بعد هذا ،هل تستطيع النفس أن تؤثر في المادة الخارجية بمثل ما تتأثر بها? إن هذا السؤال قد أشغل أذهان المفكرين منذ زمان بعيد ،وكثير ما تروي األخبار العجيبة عن مقدرة بعض السحرة على تحريك المادة من بعيد أو التأثير فيها قليلًا أو كثيرًا ،وظل المفكرون حائرين إزاء هذه األخبار المتواترة ال يستطيعون لها تكذيبًا أو تصديقًا، ومعظم العلماء كانوا يميلون إلى تكذيبها والسخرية منها حتى زمن متأخر. إن الشرق يعرف عن السحرة كثيرًا ،أما الغرب فلم يعرف عنهم إال قليلًا .و قد ظهر في الغرب مؤخرًا نفر من السحرة الموهوبين أثاروا فيه الدهشة ،وأهم هؤالء ثالثة هم: (هوم) االسكتلندي و (بالدينو) اإليطالية و (هوديني) األمريكي .وأهمية هؤالء آتية من كونهم أثاروا بأعمالهم العجيبة نقاشًا حادًا في األوساط العلمية وأقيمت حولهم المناظرات والمجادالت. لقد كانت (بالدينو) فتاة إيطالية ساذجة وكانت تدخل في حالة من الغيبوبة أحيانًا فتقوم بأعمال غريبة ال يميل العقل إلى تصديقها ،فهي كانت تجعل الموائد تتحرك من تلقاء نفسها ،وتجعل بعض اآلالت الموسيقية تعزف من غير أن يمسها أحد ،و قد تجعل منديل أحد الحاضرين يخرج من جيبه فيرتفع إلى أنفه كأنه يريد أن يساعده على التمخط وغير ذلك من المدهشات .ولقد تشكلت لجنة من أساتذة جامعة (تورين) ففحصوها فحصًا دقيقًا ،ثم قدموا تقريرًا عنها أجمعوا فيه على صحة ما شاهدوا منها من أعمال خارقة. 41
والغريب في هذا األمر أن (بالدينو) بعد أن حازت نجاحًا عظيمًا في أوروبا ،ذهبت إلى بريطانيا ففحصها أساتذة جامعة كامبريدج وضبطت هناك متلبسة في الغش إذ شوهدت وهي تستخدم يدها في تحريك الموائد. وفي سنة 1908م .شكلت جمعية المباحث النفسية البريطانية لجنة ثالثية مؤلفة من خبراء معروفين في اكتشاف الخداع و الشعوذة وأرسلتهم إلى (نابولي) في إيطاليا لفحص بالدينو وقد قرر هؤالء الخبراء بعد فحصها أنها كانت تحل يديها أثناء الغيبوبة عن قصد أو غير قصد ،هذا مع العلم إن قسط كبيرًا من أعمالها خارق للعادة بال ريب ،وكتب المستر فيلدنج أحد أعضاء اللجنة تقرير قال فيه" :إني أشكر بالدينو ألنها علمتني شيئين :األول أن ليس كل عمل غش ،والثاني أن ليس كل غش مقصود ". أما "هوم" االسكتلندي فقد أدهش العالم المتمدن بعجائب سحره ،من حيث رفعه الموائد من دون لمس لها ،و طيرانه بين نافذة وأخرى في بناية مرتفعة ،وغمس وجهه في الجمر الملتهب وجعل بعض اآلالت الموسيقية تعزف ألحانًا معينة من تلقاء نفسها. وقد شاهد أفعال هذا الساحر (وليم كروكس) مخترع الصمام الكهربائي المعروف باسمه ،و وضعه تحت الفحص الدقيق في مختبره الفيزيائي ،وقد كتب (كروكس) تقريرًا لمجلة علمية قال فيه" :كل ما رأيته منه جرى في النور وال تأخر عن الظواهر التي شاهدتها تناقض تمام التناقض المبادئ العلمية المقررة كقانون الجاذبية في تأثيرها المطلق الدائم ،وإن في رأسي نزاعًا بين عقلي الذي يحكم بأن هذه الظواهر مستحيلة الوقوع من الوجهة العلمية ،وشعوري بأن ما رأيته بعيني و لمسته بيدي لم يكن كذبًا باطلًا ". لقد سخر الناس في بريطانيا من (هوم) واعتبروا أفعاله تلك من قبيل سحر العين أو ما يسمى اليوم باالستهواء و التنويم ،والغريب أن المشتغلين بالسحر من الجيل الحاضر يقولون بأنهم قادرون على تفسير خوارق (هوم) و يرونها من قبيل الحيل الممكنة. أما (هوديني) األمريكي فكان يقوم بأفعاله العجيبة على خشبات المسارح ،وقد شاهده البروفيسور (فيليب حتي) مؤلف كتاب تاريخ العرب المعروف و كتب عنه تقريرًا إلى مجلة المقتطف وملخص أمره " :أنه يوضع في كيس محكم الشد ثم يوضع بعد ذلك في داخل صندوق متين ويقفل عليه الصندوق بقفل مرتين ثم يشد الصندوق بحبل مشدود كثيف وبعد لحظة يخرج (هوديني) من وراء الستار طليق اليدين والرجلين " .كان هوديني يعترف بأن أعماله هي نتيجة الخفة و اللباقة ليس فيه شيء من السحر الخارق. 42
إن هذه القصص العجيبة التي ذكرناها حول السحرة الثالثة ال تؤيد على فرض صحتها القول بأن القوى النفسية تؤثر في المادة الخارجية ،ويميل بعض الباحثين إلى أن األفعال السحرية التي يتناقل الناس أخبارها في كل حين ليست إال من قبيل سحر العيون .وسحر العيون هو نوع من التنويم المغناطيسي يحدث على اإلنسان من غير أن يشعر به ،ففيه يكون النائم مدركًا كل اإلدراك جميع ما يحدث حوله وال تبدو عليه أعراض غير اعتيادية ،ولكن قابلته لإليحاء تكون شديدة جدًا .والساحر يقوم بدور المنوم في هذه الحالة ،فهو يوحي للحاضرين بعد تنويمهم بأنهم يشاهدون أشياء معينة فيرونها واضحة وهي في الواقع غير موجودة. لقد أُجرِيت بعض التجارب العلمية على أفراد نومِّوا بهذه الصورة ،وكانت نتيجة التجارب عجيبة للغاية ،فقد نُوِّم رجل وقد جيء له بقطعة من قماش ثم قيل له أنها كلب ،فصدق الرجل بما أوحي إليه وأخذ يعامل القطعة كأنها كلب فعلًا ،وأوحى لرجل آخر أنه ال يرى أحدًا فاختفى الحاضرون من نظره حالًا ،و أوحي آلخر أن يشاهد قرنان ينبتان في رأس أحد الحاضرين فأخذ القرنان يتراءيان بكل وضوح .وعلى هذا فمن المظنون أن ما فعله (هوم) أو (بالدينو) أو (هوديني) ليس إال أوهامًا أوحي بها إلى أذهان الحاضرين ،وقد أنكر بعض العلماء هذا التفسير و صرحوا بأن ما شاهدوه لم يكن إال حقيقة وواقعة. لقد وجدنا فيما سبق كيف أن النفس تستطيع بواسطة العقيدة القوية أن تؤثر في مادة بدنها تأثرًا كبيرًا ،ولعلنا ال نخطئ إذا عزونا للنفس بعض هذا التأثير في المادة الخارجية، ومهما كان التأثير النفسي في المادة الخارجية ضعيفة فهو يؤدي أحيانًا إلى عواقب كبرى ،ولقد دلت وقائع الحياة أن قوى صغيرة جدًا قد تؤدي في ظروف معينة إلى نسف مدينة بأسرها ،أو تغيير مسار فرد أو أمة. لقد عودنا المنطق القديم أن نقول عن قوة من القوى أنها قادرة أو عاجزة عن إنتاج أثر معين ،ونتناسى طبيعة الظروف المتشابكة التي قد تجعل القوة الصغيرة أحيانًا أقدر من القوة الكبيرة .وهكذا هي القنبلة الذرية التي تنسف الجبال والمدن ،فانقسام نواة ذرة واحدة فيها يؤدي إلى تفاعل متسلسل ،ينتهي أخيرًا إلى صب الكوارث بمختلف أنواعها على رؤوس الناس.
معظم الناس يعتقدون بأن هواجس النفس وخوالجها ال تؤثر في األشياء الخارجية تأثيرًا ماديًا محسوسًا ،فهم يتشاءمون ويتفاءلون ،ويحزنون ويفرحون ،غير مدركين 43
بأن هذه االنفعاالت قد تؤثر في األحياء والجمادات المحيطة بهم قليلًا أو كثيرًا .لعل أولي الحظوظ السيئة يرقبون الحوادث وال يتوقعون منها إال الشر ،وبهذا تكون نسبة الحوادث السيئة التي تقع عليهم أكبر من غيرهم من المتفائلين. ولعل هؤالء المتشائمين ضحايا ظروفهم السيئة التي ولدوا فيها ،حيث اعتادوا منذ طفولتهم أن ال يالقوا في الحياة إال كل ظلم واحتقار وطرد ،وهم بذلك ينشؤون وقد ثبتت في مخيلتهم صورة الخيبة.
لقد دأب الناس في العصر الحديث أن يجعلوا مفهوم الحظ مرادفًا لمفهوم الصدفة فسموا كالهما ( ،)Chanceوفي الحقيقة أن الصدفة وحدها ال تكفي لتفسير الحظ، فللقوى النفسية أثر ال يستهان به في تكوينه سلبًا أو إيجابًا. إن القوى النفسية قوى حافزة وحادسة معًا ،تغالب الصدفة بتأثيرها وتنافسها بحدسها. إن صاحب الحظ الحسن إذن له مقدرتان ،فهو بصفاء ذهنه وثقته بنفسه واعتقاده بنجاحه يؤثر في األمور بعض التأثير لمصلحته ،وما يعجز عن التأثير فيه فيعالجه من طريق آخر هو طريق الحدس والتنبؤ ،وبذلك يستطيع أن يتكيف لما سيأتي به الغد. يحاول الدعاة في الحقيقة في كل حين أن يكافحوا األوهام بين الناس ،و ما دروا بأن الوهم ربما كان أنفع من الحقيقة أحيانًا .فلو أن اإلنسان عاش على الحقيقة وحدها لفني منذ زمان بعيد. لقد جهزتنا المدنية الحديثة بالكثير من األدوية الناجحة و الوسائل المفيدة فأصبحنا نستطيع أن نستعيض بها عن اعتناق األوهام و الخرافات ،و لكن ماذا يصنع ذلك الفطري العائش في غابات أفريقيا أو هذا الريفي الساكن في قرية نائية منعزلة ،إنه أمام األمراض و المخاطر وجهًا لوجه ،وهو ال يملك اتجاهها أية وسيلة مادية قادرة على وقايته منها. إن من الضرر إذن أن نطلب من هذا الفطري أن يترك أوهامه وخرافاته و يصير واقعيًا في تفكيره .إن األوهام لها وظيفتها في كثير من الحضارات و االجتماعات ،فهي كالدواء في البيئة التي ال دواء فيها ،و كالحجر الصحي بين أولئك الذين لم يعرفوا بعض حقيقة األمراض و مصدرها الميكروبي. إن الوهم و المرض في تصارع مرير منذ خلق اإلنسان ،واإلنسان لم يفضل الوهم على الحقيقة في بعض األحيان عبثًا ،إنه وجد في الوهم فائدة كبيرة واتخذ منه 44
سالحًا ماضيًا كافح به ملمات الحياة .إن االنسان قد يطلب الحقيقة أحيانًا وال يستطيع أن يحصل عليها ،وهو مضطر إذن أن يخلق بأوهامه حقيقة خاصة به تعينه على حل مشاكله .إن أجدادنا جهلوا سر األمراض ،وهم لو كانوا يريدون اكتشاف سرها لعجزوا ،وحتى (باستور) نفسه ما كان يستطيع أن يكتشف سر الميكروب لو أنه كان يعيش في بيئة غير تلك البيئة التي عاش فيها ،أو أنه ولِد في زمان قبل ذلك الزمان الذي وصلت به البحوث الطبية والكيماوية إلى تلك الدرجة التي كانت عليها. وبناء على هذا فقد لجأ أجدادنا إلى الطالسم والرقي واألدعية يعالجون بها أمراضهم، ونحن اليوم نضحك على خرافاتهم هذه ظلمًا وعدوانًا ،غير عالمين بأن الطالسم واألدعية حين يعتقد بها المريض ،تنفع فيها أكثر مما ينفع الدواء المادي المشكوك في أمره. إن الحضارات الفطرية المنتشرة في غابات أفريقيا و صحاري أستراليا وجزائر المحيط الهادي وغيرها ،تحتوي من خوارق القوى النفسية ما يدهش .وطالما حدثنا الذين جابوا هذه المناطق عما فيها من الغرائب التي ال يميل العقل إلى تصديقها. وفي هذه الحضارات الفطرية نرى القوى النفسية واضحة األثر بكل وجهيها النافع والضار :ففيها نجد التقاليد السخيفة والعقائد الخرافية بلغت أقصى درجاتها ،في نفس الوقت الذي نرى فيها الخوارق و الغرائب المذهلة. إن الفطريين يختلفون عن المدنيين في إطارهم الفكري وفي طراز عقليتهم ،فهم ال يفسرون الكون كما يفسره المدنيون ،من حيث خضوعه لقواميس طبيعية ثابتة أو سيرة حسب مبدأ السبب و النتيجة ،إنهم باألحرى يتخيلون الكون مليء باألرواح من كل نوع ،وهذا ما يسمى اليوم بالنظرة "التشخيصية" في الكون. فالفطريون يعتقدون بأن كل ظاهرة من الظواهر الطبيعية سببها إرادة صادرة من روح معينة ،واألرواح التي تسير الكون في نظرهم هي كاألشخاص الدين يتألف المجتمع منهم ،ولذلك نراهم يسترضون األرواح في كل عمل يقومون به لكي ال تغضب عليهم وتسبب لهم الكوارث .فبينما المدنيون يحاولون حل مشاكلهم بالحلول العقلية والعملية، نجد الفطريين يحلونها بفنون السحر وأنواع التعاويذ و لطالسم ،وهم بذلك يخاطبون األرواح و يتملقون إليها ويرجون منها دفع الضرر وجلب الخير.
45
وإني ال أزال أتذكر قصة شاهدتها بنفسي قبل مدة حيث اعتدى أحد العوام على زميله اعتداءً فظيعًا ألنه قال" :المطر بخار" ،وقد ظن المعتدي بأن هذا القول كفر صريح ومخالف لما يستوجبه اإليمان بتدبير الخالق عز و جل. وعندما انتشر وباء الهيضة في العراق عام 1926م .تهرب الناس من التطعيم الواقي و لجأوا إلى إقامة الحفالت الدينية وقراءة األدعية وما شابه. إن لكل من هاتين العقليتين ،الفطرية والمدنية ،محاسنها ومساوئها كما ذكرنا من قبل، فالعقلية الفطرية تمد اإلنسان باالعتقاد الراسخ والثقة التي ال حد لها من جهة ،وهي تجعله ميال لتصديق الخرافات واألباطيل من جهة أخرى ،أما العقلية المدنية فهي تجعل اإلنسان أضعف إيمانًا وأقل خرافة في آن واحد.
إذا أراد الساحر الفطري أن يقتل بسحره أحد الناس ،صنع له تمثالًا صغيرًا من الطين ثم تمتم بعض الكلمات الغامضة ورفع سكينته يحركها في الهواء وأغمدها في صدر التمثال .يقول (فريزر) الباحث الحضاري المعروف ،أن الرجل الذي يُرَاد قتله ال يكاد يسمع بما فعل الساحر ضده حتى يلجأ إلى ساحر آخر ليدرأ عنه ذلك التأثير القاتل ،فإذا عجز عن العثور إلى ساحر يقيه شر القتل استعد للبالء وامتنع عن الطعام إلى أن يموت. وال ريب أن الرجل المدني يندر أن يموت مثل هذه الميتة الشنعاء حتى و لو صنع الساحر له ألف تمثال من الطين وأغمد فيه ألف سكين! إن الساحر الذي يقتل الناس بتلك الطريقة بين الفطرين يستطيع طبعًا أن يشفيهم من أمراضهم المستعصية وجروحهم القاتلة ،فالقوى النفسية إذا آمن الناس بها أصبحت ذات أثر فعال من الناحيتين السلبية واإليجابية معًا ،فهي تحي وتميت ،وتنفع وتضر ،وال راد في حكمها .و لقد وصل الفطريون في استثمار قواهم النفسية حدًا قد يعجز المدنيون أن يصلوا إلى عشر معشاره.
يقول (سمنر) الباحث االجتماعي المشهور ،أن الفطريين إذا رأوا حادثتين تتلوا أحداهما األخرى ،أسرعوا حالًا إلى ربطهما برباط السبب والنتيجة .ويروي (سمنر) قصص عديدة لتوضيح هذا الرأي نقلًا عن الرواد والباحثين الذين خالطوا الفطريين ودرسوا حياتهم دراسة موضوعية .ففي إحدى جزائر المحيط الهادي حدث أن أحد الفطريين بدأ يعمل 46
في صناعة الخزف ولكنه مات صدفة ،فاعتبر أهل الجزيرة موته نتيجة من نتائج تلك الصناعة ،ولذا حرموا ممارستها تحريمًا باتًا ،فاختفت تلك الصناعة من جزيرتهم نهائيًا. و حدث أيضًا أن رجلًا أبيض أهدى عصا مزخرفة إلى أحد الفطريين في جنوب أفريقيا ،وقد صادف أن هذا الفطري مات بعد تسلمه العصا ،وحين ورث ابنه تلك العصا مات أيضًا، فاستنتج الفطريون من ذلك استنتاجًا ال يقبل الريب أن ملك الموت يختفي في داخل العصا، وأسرعوا فأرجعوها إلى صاحبها لكي ال يالحق الموت جميع من في القرية. إن هذا الطراز من التفكير المنتشر بين الفطريين يؤدي طبعًا إلى تراكم الخرافات والتقاليد السخيفة ،فال يكاد أحدهم يلحظ أمرًا معينًا ثم يصيبه النجاح بعد ذلك اتفاقًا حتى يعتبر ذلك األمر محتويًا على روح خفية تسبب النجاح له في كل حين ،وبهذا يدخل األمر في نطاق التقاليد والعادات الموروثة ،و يصبح بالتدريج مقدسًا .على هذا المنوال تتراكم السخافات المقدسة بين الفطريين جيلًا بعد جيل .ومما ال ينكر أن هذا الطراز من التفكير له من النفع أحيانًا بمقدار ما له من الضرر ،فإن الفطري الذي يحمل عظم الكلب معه في الصيد وهو مؤمن إيمانًا قاطعًا بأن روح العظم تحميه و تنصره يكون بال ريب أقوى في صيده من ذلك الذي ال يحمل عظمًا وال يملك عقيدة.
أشرنا سابقًا إلى أن العبقري النادر هو من يجمع بين العقل والجنون ،وبين السعي والكسل، وبين اإلرادة والالمباالة ،و نود اآلن أن نقول إضافة إلى ذلك :أنه يتصف بالتفكير الفطري والتفكير المدني معًا وربما صح القول بأن العبقرية هي اجتماع النقائض في شخصية واحدة. إن الذي يكون عاقالً في كل حين هو كالذي يكون مجنونًا دائمًا ،ال ينتج من الخير إال قليالً. وصاحب التفكير العلمي قد ال يفوز من الحياة أكثر مما يفوز به صاحب التفكير الفطري، فهو يربح جانبًا منها ويخسر جانبًا. ولو درسنا شخصية كل من الناجحين العظام لوجدناها غريبة األطوار ،فهي ال تأخذ قالبًا معينًا فتظل فيه زمنًا طويلًا .وهنا يظهر امتياز الناجح العظيم عن الرجل العادي، فالرجل العادي له شخصية متحجرة ال تتغير وال تتبدل إال نادرًا ،فأنت تستطيع أن تعرفه بسيماه في كل حين .أما الرجل العظيم فتراه جياشًا ال يقر له قرار ،فتارة
47
تجده باردًا غير مكترث ،وتارة تجده جبارًا وثابًا يضرب الضربة فال يثنّيها ،وهو حكيم أحيانًا ،خرافي أحيانًا أخرى ،عاقل مرة مجنون مرة أخرى. انظر على سبيل المثال إلى النبي العبقري –محمد بن عبداهلل ،-لقد كان هذا العبقري النادر حكيمًا واقعيًا بعيد النظر حتى يضع الخطط أو يدير المعارك .فإذا توجه نحو ربه نسي نفسه و انغمر في إيمان عجيب تحسبه جنونًا وما هو بجنون . يروى عنه أنه كان قبيل معركة بدر الكبرى يستشير أصحابه و أهل الخبرة منهم فيعبّأ جنده و يعدّ سالحه كأي قائد بارع من قواد هذه الدنيا ،حتى إذا دنت ساعة النضال رفع يديه نحو السماء فذهل عن نفسه و أخذ يدعو ربه دعاءً ملتهبًا يكاد يفجر الصخر األصم ،فهو في مرحلة االستعداد غيره في مرحلة الهجوم وهو بذلك قد جمع بين جنبيه النقيضين. أما أتباع محمد فهم كما قال المعري :إنا عقالء ال دين لهم أو متديّنون ال عقل لهم ،وال حول وال قوة إال باهلل .
كلمة ال بد منها لقد درجت الطبقات الحاكمة في مختلف مراحل التاريخ أن تبرر حكمها الغاشم للرعية بشتى أنواع الحجج ،فقد كانوا في القرون الوسطى مثلًا يبررون حكمهم بأنه مستمد من الحق اإللهي ،وأنهم جند اهلل في أرضه .وبعدما بدأت الثورة الصناعية في بالد الغرب لجأ رجال الحكم في تبرير حكمهم إلى حجة أخرى ،هي حجة "من جدّ وجد" ،فهم ينظرون إلى الشعب بعين االحتقار على اعتبار أنه مؤلف من األغبياء و الكسالى الذين عجزوا عن الصعود في مراقي النجاح .انتشر هذا المبدأ الخبيث في الحضارة اإلسالمية إبان عصرها المزهر ،قبل انتشاره في الغرب .واإلسالم دين امتاز بإلغاء الفوارق الطبقية وإعالن المساواة بين الناس ،فاضطر المتكبرون من المسلمين تجاه ذلك أن يعتنقوا مبدأ "من جدّ وجد" للتغطية. يقول الفضل بن يحيى البرمكي ،وهو ممن صعد بهم القدر إلى الوزارة من غير جدارة، إن الناس أربع طبقات [ :ملوك قدمهم االستحقاق ،ووزراء فضّلتهم الفطنة و الرأي، وعلية أنهضهم اليسار ،وأوساط ألحقهم بهم التأدب ،والناس بعدهم زبد جفاء ] ،إن هذا الوزير العباسي المتحذلق قد اغترّ بما نال من ترف وجاه في ذلك العهد المتفسخ فأمسى يعتقد أنه قد نال ذلك باجتهاده و تدبيره .وهو يعتبر الطبقات العليا كلها قد
48
وصلت إلى منازلها تلك بسعيها ،أما الباقون من الناس فهم في نظره زبد جفاء و حثاالت ال حق لهم في الحياة وال كرامة. ولقد بقي المنافقون الذين استطاعوا أن يصلوا إلى المناصب العليا بطريقة ملتوية يقتدون بالفضل بن يحيى في احتقار سواد الرعية من المظلومين .والواقع أن نبي اإلسالم ينظر إلى عامة الناس والفقراء بغير النظرة التي ينظر اليهم بها المترفون من أتباعه ،فهو يقول في حديث مأثور له[ :إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين ال يؤبد له ،الذين إذا استأذنوا على األمراء لم يؤذن لهم ،وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا ،وإذا قالوا لم ينصت لهم ،حوائج أحدهم تتخلخل في صدره لو ُقسّم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم ] .فالنبي لم يقل في هؤالء المنكوبين ما قال فيهم الفضل بن يحيى من أنهم زبد جفاء ،بل وضعهم في منزلة أعلى جدًا من منزلة الفضل بن يحيى ومن لف لفه من األمراء والوزراء الذين ال يساوون عند اهلل جنح ذبابة .ولقد حاولنا في هذه الفصول أن نبحث في العوامل النفسية للنجاح ،والنجاح مع ذلك له عوامله االجتماعية أيضًا ،وربما كانت العوامل االجتماعية أهم في نوال النجاح من العوامل النفسية أحيانًا ،فقد يولد اإلنسان في بيت فقير بائس ال حول له وال جاه ،فيندفن في وحول بيئته المحدودة إذ ال يستطيع رقيًّا مهما كان موهوبًا بأسباب التفوق أو العبقرية. إن الصعود في مراقي النجاح إذن ال يعتمد على سعي الفرد وحسن تدبيره دائمًا ،فالفرد مقيد في هذا السبيل بقيود ال تحصى ،فهو إن استطاع أن يتحرر من قيوده النفسية ،وقفت في طريقه القيود االجتماعية وضربته على رأسه. إن جالوزة العراق ،ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ،ينظرون إلى أبناء الشعب الفقير نظرة ملؤها االحتقار واالستصغار ،ولعلهم ال يشعرون بهذا االحتقار الذي يكنّونه ألبناء الشعب ،إذ هو احتقار كامن في أغوار الالشعور من أنفسهم ،فهم ينساقون به وقد ال يعرفون مأتاه أحيانًا .أعرف أفراد جماعة لهم صلة غامضة بأحد جالوزة بغداد الكبار وقد استغل هؤالء تلك الصلة في إيذاء الناس فكانوا في منجاة من عقاب القانون ،وقد حدث في اآلونة األخيرة أن جاء أحد هؤالء بكلب مفترس فوضعه أمام بيته ينهش الرائح والغادي ،وقد كثرت شكايات الناس من هذا الكلب اللئيم فلم تفعل الشرطة إزاءه شيئًا .ولقد عض الكلب في إحدى المرات صبيًا فقيرًا فقطع بأسنانه قطعة من لحم ساقه وتركه مشرفًا على الموت ،ولقد شاهدت بنفسي والد الصبي وكان يحترف بيع النفط بعربة يدفعها بيديه ،وهو يترك عمله كل يوم ليذهب بولده إلى المستشفى بغية 49
معالجته من عضته المهلكة .إن القانون ال يستطيع أن يعاقب كلبًا له صلة غير مباشرة بجلواز من الجالوزة ،فماذا يستطيع أن يفعل تجاه الجلواز نفسه? على هذا المنوال تدور الدنيا في هذا البلد األمين! المشكلة هي أن المظلوم في هذا البلد ال يستطيع اإلفصاح عن نفسه ،بينما فتحت أبوا الكتابة والخطابة على مصراعيها لمن يريد أن يتكلم من المترفين والمتفقهين والحالمين، فترى المظلوم ساكتًا والظالم ينطق ،وبهذا صعب علينا أن ندرك المدى الذي وصل إليه الشعب المنكوب في تألمه و حرمانه.
كنت أصبغ حذائي ذات يوم على رصيف شارع في نيويورك ،وكان الصباغ يتوقف عن الصبغ بين لحظة وأخرى ليتحدث إلى رجل كان واقفًا بجانبه وعليه سيماء الوقار ،لقد كانا يتحادثان عن رحلة للصيد قام بها ذلك الرجل الوقور هو و زوجته في سواحل كاليفورنيا ،وبعد ذهاب ذلك الرجل سألت الصباغ عنه فقال " :إنه صديق ،وهو مدير هذا المستشفى " وأشار بيده إلى مستشفى قريب كبير جدًا لعل مستشفانا الحكومي ال يصلح أن يكون مطبخًا فيه .لقد ذهلت حقًا حين وجدت ذلك المدير الكبير يتحدث إلى الصباغ الذي كان يصبغ حذائي ،ولقد تذكرت آنذاك ما يروى عن علي ابن أبي طالب من أنه كان في أيام خالفته في الكوفة يكثر من الجلوس في دكان بقال ،إذ كان البقال صديقه ،وكان الخليفة يبيع التمر مكانه إذا غاب. يقول جعفر بن محمد " :ما من رجل تكبّر أو تجبّر إال لذلة وجدها في نفسه " .وهذا قول يصدق في حاالت كثيرة ،فلقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الكبرياء يستعمل أحيانًا كستار للتغطية لدى بعض األفراد ،فإن الذي يملك مزية حقيقية تميزه عن غيره من الناس ال يحس بحاجة إلى هذا الستار ،فهو يدخل بين الناس على طبيعته من غير تكلف أو تكبّر أو رياء ،أما الذي يشعر بأنه دون الناس أو مثلهم على األقل فهو يحاول أن يضع بينه وبين الناس حجابًا من الكبرياء لئال تنكشف حقيقته العادية بينهم. و يلجأ إلى وضع هذا الحجاب في الغالب أولئك الذين صعد بهم القدر إلى مناصب ليسوا هم في الحقيقة أهلًا لها ،إنهم مضطرون في مثل هذه الحالة أن يتخذوا لهم سلوكًا خاصًا بهم لكي يتميزوا عما سواهم من الناس ،وبعبارة أخرى :إنهم يخلقون ألنفسهم مظاهر التميز ويتصنعون بها تصنعًا ،لكي يعوّضوا بذلك عما فقدوه من 50
حقيقة التميز الطبيعي .إن الفوارق االصطناعية التي يلتزمها الناقصون ويتعصبون لها تشبع فيهم رغبة الشعورية للتفوق واالستعالء والتباهي. كان األفندية في العهد العثماني في العراق يستحقرون لغة الشعب ويتبجحون بلغتهم التركية الفخمة ذات الهدير والخرير ،وعندما تشكلت الدولة العراقية أخيرًا ،وأخذ مجد (عدنان) و (قحطان) و (نزار) يحل محل (حكمت) و (مدحت) و (حشمت) ،تراجع األفندية وأسقط في أيديهم ،ذلك أن لغة سيبويه و نفطويه شرعت تأخذ مكان تلك اللغة الهدّارة وتنال قصب السبق بدلًا عنها.
ذكرت في الفصل األول من هذا الكتاب قيود اإلطار الفكري وكيف أن االنسان ال يستطيع أن يتجرد في تفكيره تجردًا تامًا إذ هو مقيد بقيود نفسية واجتماعية وحضارية ،وهذه القيود كما قلنا ،ال يحس بها اإلنسان حين يفكر فهي ال شعورية ،وهو يعتقد عادةً بأنه حر في تفكيره بينما هو في الواقع مقيّد في ذلك كل التقييد. وقد ذكرت في الفصل الرابع بعض محتويات الالشعور وكيف أن يكون أحيانًا مصدر خير وإبداع لإلنسان ،ويكون أحيانًا مصدر الشر والظلم ،فهو مبعث الخوارق النفسية من ناحية، ومباءة الرغبات المكبوتة من ناحية أخرى. إن من الجدير بنا ونحن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا المملوء بالنكبات ،أن نعتني بدراسة الالشعور وما فيه من الدفائن والخبايا التي تسيّر اإلنسان في أموره االجتماعية من حيث ال يشعر .إن قسطًا كبيرًا من بالئنا الذي نحن فيه ناتج من كوننا نعتمد في جميع خطبنا ومقاالتنا ومواعظنا على الشعور وحده ونهمل الالشعور ،فنحن إذا أردنا إصالح إنسان لجأنا إلى إقناعه بواسطة الجدل المنطقي وعلى هذا المنوال بقينا عشرات القرون نصرخ فال يستجيب لنا أحد.
إننا اآلن نود في التلخيص ،أن نصنف محتويات الالشعور إلى ثالثة أنواع: -1
فالنوع األول منها مؤلف من خوارق الالشعور وتكون على أجلى مظاهرها في
اإلنسان حين تصفو نفسه وتخلص من عقدها. -2
والنوع الثاني من محتويات الالشعور مؤلف من الرغبات المكبوتة والعقد النفسية . 51
-3
أما النوع الثالث فهو ما يمكن تسميته مؤقتًا بالقيم االجتماعية ،وهذه القيم
هي التي تؤلف جزءًا كبيرًا من اإلطار الفكري الذي بحثنا في تركبيه في الفصل األول .وعلى هذه القيم تستند في الغالب همسات الضمير ووخزاته . لقد تطرف الناس كثيرًا في االعتماد على الضمير البشري واعتبروه صوت الحق المطلق والعدل في اإلنسان ،وهذا خطأ فظيع ،فالضمير يتحيز في اتجاهه كما يتحيز التفكير .ال يجوز للمظلوم أن يعتمد على ضمير الظالم ،فالظالم حين يظلم ال يشعر بأنه ظالم ،ذلك ألنه ينظر في األمور من منظار خاص به يختلف عن المنظار الذي ينظر منه المظلوم . إن القيم االجتماعية في الجماعة مثل العقد النفسية في الفرد :كالهما يوجه سلوك الناس ويقيّد تفكيرهم من حيث ال يشعرون. إن من الحوادث التي ال أستطيع أن أنساها حادثة وقت في الكاظمية قبل عشرات السنين لو حللناها تحليلًا علميًا لوجدناها ذات مغزى اجتماعي هام. تظاهر جماعة من أهالي الكاظمية لسبب ما ،وخرجوا إلى ظاهر البلد يشغبون ،فجاءهم جلواز على رأس ثلة من الشرطة وأطلق عليهم رصاص الرشاش فقتل منهم عددًا ،وهو لم يكتف بهذا فوّجه الرشاش على مقهى قريب كان مزدحمًا بالجالسين فقتل منهم جمعًا غفيرًا ،لقد كنت آنذاك تلميذًا في إحدى المدارس المتوسطة وكانت المثل العليا التي كان المعلمون يمطروننا بها يومًا بعد يوم راسخة في ذهني ،لذا شعرت بالعجب الشديد من جرأة ذلك الجلواز على قتل الناس ،من غير تفريق بين صغير أو كبير. لقد لقّننا المعلمون ووعظنا الواعظون بأن الضمير هو نبراس الحق وصوت العدل في اإلنسان .وقد تخيلت بناء على هذا أن ذلك السفاح سيحزن على ما رمّل من زوجات و أيتم من أطفال ،وأن ضميره سيخزه حتى يموت ،ولكني عرفت أخيرًا بأنه قد أصبح بطلًا يشار إليه بالبنان ،فعلمت عندئذ أن الضمير البشري ال اعتماد عليه. من المؤسف أن نرى مدارسنا تعنى في تربية طالبها بالشعور وحده و تهمل الالشعور. وبعبارة أخرى :إنها تربّي فيهم العقل الظاهر وتترك العقل الباطن ينمو كما يهوى، وبذلك تخلق في تكوين شخصيتهم دواعي االزدواج البغيض. إن العقل الباطن كما ذكرنا مرارًا ،هو الذي يسيّر اإلنسان في كثير من أموره ويوجه سلوكه ،أما العقل الظاهر فليس إال طال ًء ورياءً .وكلما اعتنينا بالعقل الظاهر وحشوناه بالمبادئ المطلقة خلقنا بينه وبين العقل الباطن ثغرة وجعلنا شخصية الفرد ذات شقين، 52
و يمسي الفرد بهذا مرائيَا يقول شيئًا ويفعل نقيضه ،أو يدعي صفة ثم يقوم بما يخالفها من قول أو فعل ،فهو حين ينصح غيره تراه يعيد ما لقنّاه من كلمات رنانة أما حين يسعى وراء العيش فتجده كغيره من الناس مسوقًا بما يمليه عليه عقله الباطن من طمع دنئ. ال ريب أن شرّ ما تبتلى به أمة من األمم أن يكون لها ضميران :ضمير لحكامها وضمير ألفراد شعبها .فهذا االنشقاق في الضمير االجتماعي يجعل الحكام يظلمون الشعب من حيث يظنون أنهم يعدلون ،ويجعل الشعب متمردًا من حيث يظن أنه طائعًا .والعراق قد ابتلي من هذه الناحية بمصيبة اجتماعية ال حد لها مع األسف الشديد. يقال إن الحكومة في بريطانيا قد وضعت صندوقًا أسمته "صندوق الضمير" ليضع فيه الشعب بقايا ما عليهم من الضرائب التي غفل عنها الجباة ،وقد دعوه "صندوق الضمير" ألن أفراد الشعب يشعرون بوخز الضمير حين يدفعون إلى الحكومة ضرائب أقل مما يستوجبه القانون .ونحن لو وضعنا مثل هذا الصندوق في بغداد ألسبح هو ذاته منهوبًا. إن الفرق ناشئ من تصادم القيم االجتماعية وانشقاق الضمير ،فالشعب الذي يجد في حكامه كراهة له يميل إلى التهرب من كل ما يأمر به هؤالء الحكام و يرى في ذلك فضيلة .فالتجار في بغداد ليسوا كتجار لندن من حيث انصياعهم ألوامر الحكومة .إن التجار هنا يحتقرون كل من يخبر الحكومة عن مخالفاتهم ويعتبرونه خسيسًا أما في لندن فالتاجر يعتقد أن من الشرف أن يخبر الحكومة بما يقوم به البعض من جرائم. إن األنظمة الحكومية يعتبرها الشعب في بريطانيا أنظمته التي شرعت لمصلحته ،فهو يرعاها كما يرعى مصلحة نفسه وعائلته .أما في العراق فالقاتل يختفي بين الناس وهم يجدون من الفخار أن يستروا عليه .إن هذا هو الفرق الذي جعل الحكومة العراقية غير موفقة في معظم أعمالها. وهذا على أي حال ،أمر له أسبابه التاريخية القديمة ،فهو ليس ظهارة مستحدثة بين عشية وضحاها ،ولكن الذي نأسف له أن جالوزتنا لم يقوموا بما يخفف من وطأتها وربما صح القول :إنهم زادوا فيها وساعدوا على إنمائها. يشير ( لونغريغ ) إلى أن التجنيد اإلجباري كان في العهد العثماني من أهم األسباب التي باعدت بين الشعب والحكومة .وهذا رأي له ما يؤيده من وقائع الحياة االجتماعية في
53
العراق ،وال يزال سكان العراق في القرى واألرياف يرتعبون من كل إحصاء يقوم به موظف حيث يظنون أنه جاء في سبيل تجنيدهم . إن التجنيد االجباري ال يزال اليوم ،سببًا من أسباب انشقاق الضمير في المجتمع العراقي. لقد كان الالزم بعد تشكيل الدولة العراقية أن تنسى الحكومة مسألة التجنيد االجباري زمنًا طويلًا لكي يتسنى ألبناء الشعب أن ينسوا تلك الويالت التي قاسوها في التجنيد على أيدي العثمانيين ،ولكن المؤسف أنهم لم يكادوا يستقلون حتى رجعوا إلى التجنيد اإلجباري بكل حماس! فهم سنوا نظام التجنيد اإلجباري في الوقت الذي أهملوا فيه نظام التعليم االجباري، وجعل الشعب يستعيد في ذاكرته عنجهية الحكم العثماني البغيض مرة أخرى. ومن المفارقات التي تجري في هذا البلد المسكين :إن الحكومة تفرض التجنيد اإلجباري على رعيتها ثم ال تسمح لهم باالنتخاب المباشر ،فهي تريد أن تدرب الفرد العراقي على أن يكون جنديًا رغم أنفه ،وال تريد أن تدرّبه على أن يكون مواطنًا صالحًا فعالًا في بناء الدولة .ومما ال شك فيه أن االنتخاب المباشر هو من أهم العوامل التي تساعد على تقليص الثغرة بين الشعب والحكومة .فالشعب حين يعتاد على رؤية ممثليه ينطقون باسمه ويريدون رضاه يشعر بأنه عضو فعّال في جهاز الدولة ،وأنه يؤلف مع الحكومة صفًا واحدًا ال ثغرة فيه.
و يبدو أن ازدواج الشخصية وانشقاق الضمير أحدهما يكمّل اآلخر في انتاج عقلية الجالوزة في العراق .وقد يعجب الباحث حين يرى الجيل الجديد من الشباب المتعلم في العراق ال يكاد ينخرط في سلك الوظيفة حتى يمسي جلوازًا في ميوله واتجاه ضميره وطراز تفكيره. أعرف شابًا وطنيًا كان يفوق أقرانه بحماسته وإخالصه ،وقد شاء القدر أن يكون من أصحاب المناصب الكبرى في الدولة ،فوجدناه عندئذ ظالمًا يتحيز في أحكامه ويتعسف على من ال يحب ،وهذا ال يعني أنه فقد ضميره الذي كان لديه في أيامه السالفة ،فضميره ال يزال نابضًا في أعماق نفسه يحفزه نحو الخير ،لكنه خير األعوان واألصدقاء. 54
بعض أساتذتنا ،سامحهم اهلل ،جالوزة في هيئة معلمين ،فهم يساعدون من حيث ال يشعرون على انشقاق الضمير لدى تالميذهم ،وتراهم يتغنون في كل حين بالحق والحقيقة ،فإذا سألتهم ما هو الحق وما هي الحقيقة لووا أعناقهم ونسبوا إليك الزندقة. نحن نريد أن يفهم التالميذ بأن الحق هو السواد األعظم من الناس ،والحقيقة هي ما أدى إلى الترفيه عنهم ورفع مستواهم ،نريد أن يفهموا بأن الحق ال يخص زمرة قليلة من المترفين ،وأن الحقيقة ال تعيش في الفراغ إنما هي صنيعة المجتمع .إننا نريد جيلًا متواضعًا يحنو على الفقراء فال يستنكف منهم وال يتعالى عليهم ،إن أولئك في الواقع لم يصلوا إلى ما هم عليه من الفقر بتعمد منهم .إننا بحاجة إلى طراز من المتعلمين يدركون بأنه ال فضل لهم فيما نالوا من نجاح أو علم ،وأنهم مخاليق أنتجتهم العوامل االجتماعية والنفسية التي أحاطت بهم من غير أن يكون لهم يد فيها. نحن نريد حكامًا ومتعلمين يشكرون نعمة اهلل عليهم فال يتكبرون ،و يعرفون قدرهم فال يتجبرون. قال النبي محمد " :إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم والدنانير ،رماهم اهلل بأربع خصال :بالقحط من الزمان ،والجور من السلطان، والجناية من والية الحكام ،والشوكة من األعداء ". و يظهر أن هذا الحديث النبوي ينطبق علينا انطباقًا كبيرًا ،فكثير منا متكبرون على من هو دونهم بمقدار ما هم خانعون نحو من هو فوقهم ،تراهم يفركون أكفهم في أيدي الظالمين ثم يرفعون أصواتهم في وجوه المظلومين ،قد ازدوجت شخصيتهم بمقدار ما انشق ضميرهم ،وباؤوا بالهزيمة في كل ميدان. يقول علي بن الحسين " :إياك و ظلم من ال يجد عليك ناصرًا إال اهلل ". وقد دل التاريخ أن الطغاة الذين يظلمون المساكين آمنين من انتقامهم ،ال بد أن يأتيهم من يظلمهم ولو بعد زمن طويل ،فالمظلوم الذي ال يملك سالحًا ماديًا ينتقم به ،قد يملك سالحًا أمضى من السالح المادي ،هو سالح النفس المكوّن من الدعاء الذي يصعد للسماء .وال ريب أن القوى النفسية ،أو صرخات المظلومين ،إذا اتجهت على ظالم أحرقته حرقًا.
55
لقد كان القدماء يعتقدون بأن سوء الخلق ناتج من جهل اإلنسان وقلة عقله ،وقد كانوا يرددون قول (سقراط) المشهور " :المعرفة فضيلة والجهل رذيلة " ،وأخذ بعض المفكرين في هذا الزمان ينسجون على هذا الموال فقالوا " :من فتح مدرسة سد سجنًا". لعلنا ال نغالي إذا قلنا :بأن المدرسة ال تتقن إالّ طالء اإلنسان وال تزوّق إال مظهره ،أما أعماق عقله الباطن فالمدرسة ال تمسها إال قليلًا .إن السلوك البشري بصورة عامة مبني على أساس ال شعوري من القيم االجتماعية والعقد النفسية ،وال يكفي في اصالح اإلنسان أن نمطره بالمواعظ والتعاليم على طريقة " كن ..وال تكن "..
يحكى أن رجلًا علم ولده السباحة على الفراش ،فلما ذهب به إلى النهر غرق الولد فصاح به أبوه غاضبًا " :أما علمتك ?! " فأجابه الولد وهو في النفس األخير " :يا أبتي ..إن الناس ال يتعلمون السباحة على الفراش! ". إننا ال نستطيع أن نعلم اإلنسان على اتخاذ سلوك معين بأن نحشو دماغه بالنصائح الفارغة والمعلومات " العاجية " .إن صالح اإلنسان في مختلف نواحيه ال يتم بالحفظ والتلقين ،كما نفعل اآلن في مدارسنا ،فهو " تصيّر " نفسي واجتماعي كما يدعوه علماء االجتماع ،وهو ال ينمو إذن إال بتوفر عوامله النفسية واالجتماعية الضرورية له. من أقوال ( ارسطو ) المشهورة " :إن االنسان مدني بالطبع " ،يعني بذلك أن اإلنسان اجتماعي في صميم طبيعته ،والواقع أن اإلنسان مدني ووحشي ،أو هو اجتماعي و أناني في آن واحد .وال يجوز لنا إذن أن نعتمد على طبيعة اإلنسان االجتماعية دائمًا أو نطالبه بالتضحية في سبيل مصلحة المجموع كل حين. إن لإلنسان رغبات و شهوات يريد إشباعها على أي حال ،فهو ال يحب الحق والحقيقة بمقدار ما يحب نفسه وما ينبعث عنها من أهواء وميول ،وهو إذًا وجد رغباته قد كبتت فإنه يميل أحيانًا إلى الخروج على القوانين كي يشبع تلك الرغبات. إن رغبات اإلنسان متنوعة ،وقد اختلف العلماء في تعدادها ،ولعلنا نستطيع أن نقول هنا على سبيل االختصار إن أهم هذه الرغبات ثالث هي: -1
الرغبة المعاشية. 56
-2
الرغبة الجنسية.
-3
الرغبة االعتبارية.
فاإلنسان قبل كل شيء يريد أن يعيش حتى ولو مات الناس كلهم دونه .إنه يقول في سره " :إذا مت عطشانًا فال نزل القطر " ،ولكنه يتظاهر أحيانًا بعكس هذا تفاخرًا ورياءً. وطالما وجدنا المترفين والمغرورين يدّعون التضحية في سبيل المصلحة العامة ،وهذا كذب منهم واختالق ،فهم لو كانوا فقراء كادحين قد أحاط بهم أطفالهم يتباكون من الجوع ألدركوا عند ذلك مبلغ بعدهم عن الحقيقة. تروي األساطير الدينية أن امرأة مع طفلها ،عندما جاءها الطوفان في أيام نوح عليه السالم ،حاولت في أول األمر أن تحمي طفلها من الغرق فرفعته فوق رأسها حتى إذا وصل الماء إلى أنفها ،وضعت طفلها تحت قدمها وارتفعت عليه ،هذه هي طبيعة اإلنسان في كل زمان ومكان. واإلنسان بعد أن يسد رمقه ويصون حياته يشتهي نوال الجنس اآلخر والتلذذ به ،وهو قد يدعي أحيانًا بأنه مستعد للموت في سبيل الحبيب ،ولكنه ال يكاد ينال حاجته منه حتى ينبذه نبذ النواة. و بعد ما يشبع اإلنسان من الخبز واللذة الجنسية يشرع بالسعي وراء الشهرة ،وهذه هي ما نسميها بالرغبة االعتبارية ،فهو يريد أن يكون معتبرًا بين قومه يشار إليه بالبنان .وكثير من أولئك الذين يدّعون طلب الحق و الحقيقة ،إنما هم في دخيلة أنفسهم يطلبون الشهرة وما الحقيقة عندهم إال وسيلة لهذا الهدف المحبوب جدًا. إن هذه الرغبات الثالث موجودة في كل إنسان تقريبًا على درجات متفاوتة وصور شتى، وهي قد تكون كامنة في العقل الباطن تدفع اإلنسان نحو أغراضها دفعًا ،بينما هو يتصور بأنه مدفوع في سبيل الحق و الحقيقة. واإلنسان الذي ال يستطيع أن يشبع هذه الرغبات أو إحداها يمسي معقدًا مكبوتًا .إنه يحاول آنذاك أن ينفّس عن مكظومات نفسه في كل سبيل ،وتراه بهذا قد أمسى مشاغبًا أو مجرمًا .فحين يجد اإلنسان نفسه محرومًا مقيدًا ويرى غيره طليقًا ،قد تنبعث من أغوار نفسه حوافز ال شعورية تحفزه نحو األذى والشغب.
57
قال النبي محمد " :كاد الفقر أن يكون كفرًا " ،ومن الواضح أن مفهوم الكفر في الحديث ال يختلف اختالفًا جوهريًا عن مفهوم الجريمة في عرف علم االجتماع الحديث، فكالهما خروج عن المألوف على وجه من الوجوه. حدثني أبي عن صديق له كان نجّارًا ،أن يومًا من أيام الكساد مرّ عليه فتركه ال يملك ما يشتري به خبزًا لزوجته وأطفاله ،وقد ظل جالسًا في حانوته حتى وقت متأخر منتظرًا أن ل وهو كان يكره أن يذهب إلى البيت يأتيه شيء من الرزق حينذاك ،فطال انتظاره إلى أن م ّ إذ كانت له طفلة صغيرة اعتادت أن تنتظره في رأس الزقاق قبيل موعد األكل من كل يوم لتستبشر بما يأتي به من طعام .يقول الراوي :فذهب النجار إلى بيته على كل حال وهو ال يحمل ألهله شيئًا من الطعام ،فاجتمع حوله أطفاله يسألونه ويعولون ،فالتفت عند ذلك نحو السماء صارخًا "ربي ..حتى حرملة لم يفعل مثل فعلك ! ". إن هذا يعتبر كفرًا صريحًا في نظر رجال الدين الذين ألهاهم الترف وصحبة الطغاة عن إدراك ما يحل بالناس من نكبات ،ولكنه على أي حال كفر دُفع الرجل إليه بدافع قوي من رغباته المكبوتة .إن المترفين ال يتفوهون طبعًا بمثل ما تفوه به ذلك النجا .،فأمورهم الهينة وعيشهم الرغيد يجعلهم ينسون الكفر ،إنهم مشغولون بدل ذلك بإلقاء الخطب الرنانة في مدح العدالة والحق والناس حولهم يصفقون لهم ويهتفون . خذ على سبيل المثال حكاية المتلذذ بأمر اهلل هارون الرشيد ،فلقد كان هذا المترف مؤمنًا شديد االيمان إذ ال يكاد الواعظ يعظه حتى تراه أخذ يبكي إلى أن يغمى عليه ،إن ظروفه الهينة اللينة تجعله مؤمنًا باهلل تقيًا نقيًا .والغريب أن هذا المؤمن يريد من الناس كلهم أن يكونوا مؤمنين مثله وهو قد عين عددًا كبيرًا من الجالوزة القساة للتحري عن الزنادقة والقاء القبض عليهم و قتلهم.
والظاهر أن جالوزتنا ال يختلفون عن هذا الملك السعيد كثيرًا ،فهم يؤمنون بالديمقراطية ويذرفون الدمع السخين هيامًا بها وشفقة عليها ،وهم يسجنون الناس أو يقتلونهم من أجلها ،ولكنهم ال يطبقونها .إنهم بهذا يشبهون هارون الرشيد الذي كان يبكي من خشية اهلل بكاءً مُرًا ولكنه ال يطيعه ،وتراه يبذّر أموال األمة على جواريه وأعوانه فال يخشى اهلل ،حتى إذا انتهى من تبذيره وجلس يتلذذ ذكر اهلل واغرورقت عيناه بالدموع.
58
و يبدو أن جالوزتنا يريدون أن يعيدوا مجد الرشيد بقضه وقضيضه والعياذ باهلل ،فهم قد أطلقوا اسمه على كل ما كبر في نظرهم فصار لدينا من جراء ذلك :شارع الرشيد وعاصمة الرشيد ومعسكر الرشيد وما أشبه ،كأن التاريخ قد خلى من جميع رجال الخير إال هذا الرجل .إن األمة التي تنجب رجالًا من طراز محمد وأبي بكر وعمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز ال يجوز لها أن تقدس مثل هذا الرجل الذي ازدوجت شخصيته وانشق ضميره .إني أخشى أن تساعد الظروف جالوزتنا فيعيدون مجد هذا الرجل بالتمام والكمال وهنالك الطامة الكبرى. نحن ال نريد دينًا يأتي به رجل من طراز هارون الرشيد أو غيره من الظالمين ،إننا باألحرى نريد دينًا يأتي به رجل مثل محمد بن عبداهلل ،إذ يقول " :اللهم أحييني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني مع المساكين " .إنهما دينان متعاكسان وقد آن لنا أن نختار أحدهما!.
لقد كتب المتمدنون تاريخ أممهم في ضوء مبادئ العدالة االجتماعية التي انبثق نورها في هذا العصر الجديد ،وقد آن لنا أن نكتب تاريخنا في ضوء مبادئ العدالة التي جاء بها اإلسالم.
59
60
61