مآثر من سعاده
• الكتاب :مآثر من سعاده ّ • املؤلف :الياس جرجي قنيزح • الطبعة الثانية 2112 ISBN: 978-9953-417© جميع الحقوق محفوظة تصميم الغالف وإلاخراج :نغم عرنوق
ّ مؤسسة سعاده للثقافة هاتف+961 1 753363 : فاكس+961 1 753364 : e-mail: saadehcf@idm.net.lb e-mail: contactus@saadehcf.org العنوان :شارع الحمراء الرئيس ي ،بناية رسامني ،الطابق الرابع. بيروت -لبنان
الياس جرجي قنيزح
مآثر من سعاده زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي
ّ مقاالت نشرت في مجلة «البناء» ألاسبوعية في بيروت ،خالل 1799 - 1791
إلاهداء
إىل أبناء إحلياة روإد إحلرية وإلوإجب وإلنظام وإلقوة يف سورايان أهدي هذإ إلكتاب إلياس جريج قنزيح
مقد مة الطبعة الثانية
معلم فـي الحـ ـوار كم نحتاج اليوم أن نتعلم
نغم رزق هللا عرنوق
ٍ حديث مع صديق ،سألينَ :من ِمن خارج أسرتك ،الشخص الذي ذات َ ترك فيك أثراً أكرب من غريه؟ ...أهو خالك الياس؟
تعرفت إىل صديقي هذا بعد وفاة فاجأين ..ألنه مل يكن يعرفه ،بل ي أين ي لكن جوابه كان يف سؤاله ،إذ لطاملا كان «خايل» خايل بسبع سنوات ،ي كل أمور احلياة اليت نتح يدث هبا. حاضراً يف أحاديثي عن ي أعادين سؤاله إىل تذ يكر تاريخ عالقيت مع خايل الياس منذ بداياهتا ،وأقول ألين أتذ يكر يأول لقاء يل معه ،حيث كان مقيماً يف لبنان وممنوع عليه هذا ي زيارة الشام إثر أحداث عام ،1755فيما كنت مقيماً يف طرطوس وأمسع عن خايل الياس أحاديث يلتَبِ س فيها الغموض باألسى ،واحلب باملهابة ..إىل أن 9
سنحت يل الفرصة لزيارة بريوت مع أهلي ،وعمري ال يتجاوز الثانية عشرة إالي بقليل .كان يومها لقاء التعارف الذي اكتشف فيه الطفل يف داخلي، لكن السؤال بقي غاللة حناناً رصيناً ،وحكمة ال تراود أحالمه وخياله ،ي ش يفافة حتيط الوجه البشوش اهلادئ.
بعد سنوات ،وقد تع يددت اللقاءات متقطيعة ،وقد بدأت أعي ما يدور حويل من أمور وقضايا تبدأ من اهلموم احلياتية الشخصية ،وال تنتهي عند حدود الوطن ،بل تتجاوزها حملاولة رسم خطوط ٍ اضح للمنظومة فهم و ٍ
ككل ،وجدتين ال أترك فرصة إالي وأفتح مع «األمني الياس» احلوار اإلنسانية ي إثر احلوار. ولعل الفرتة اليت كانت األكثر تواص الً معه ،وكانت البداية لصداقة ي حّت وفاته ،كانت يف عام 1785حني أقمت يف بيته يف بريوت استمرت ي ي م يدة ثالثة أشهر ،كينا يومياً منضي اجلزء األخري من السهرة معاً وبعد أن ينام اجلميع ،ليستمع إىل األخبار ،وليدور بعدها احلديث مدة ترتاوح بني نصف الساعة والساعة ،أذكر متاماً كيف أدركت يومها أ ين الصداقة ال تقف عند فارق العمر ،وكيف أ ين هناك من العظماء من تشعر أمامهم بأنيك ضئيل، لكن منهم من تشعر ،فعالً ،وكأن عظمتهم امت يد ت وفاضت إليك ،حّت ي
تشعر بعظمتك أنت ،وأنت أمامهم؛ وهذا ما قاله يل هو يف واحدة من تلك السهرات ،نقالً عن قول ألحدهم. يف من أثر ملا وجدت لو حاولت اعتصار ذهين لكي أح يدد ما الذي تركه ي أوضح وأهبى من أسلوبه يف احلوار .كان احلوار متعته وهوايته ،إذ مل يكن ،يف مفهومه ،نزاعاً ،وال هو براعة يف إثبات وجهة نظر ،بقدر ما هو رغبة يف التواصل قائمة يأوالً على الرباعة يف اإلصغاء .كم كان يصمت مسرتسالً يف 8
وبكل احلب إصغائه واهتمامه ،تاركاً حملاوره أن يتدفيق يف طرح ذاته ،مثي ي ومصوباً ،ومتسائالً وتاركاً التفهم ،يبدأ بوضع النقاط على احلروف ،مثبيتاً و ي ي حمرضاً ذهن حماوره بأسئلة ذكيية الباب مفتوحاً على احتماالت واردة .أو ي التأمل وعميقة ،كان احلوار معه شكل من أشكال التفكري اجلماعي ،بل و ي فتح اجلماعي ،إذ تشعر بنشوة كونك إنساناً تستطيع أن تتحاور وتتطور وتت ي ي أمامك نوافذ العقل ،مع من تفهم وحتب.
«ح يددوا املصطلحات» ،كم كان يقول لنا هذا ،وكم من سوء تفاهم نشأ
نتيجة استخدام أحد احملاورين ملصطلح بغري املعىن الذي يستخدمه فيه اآلخر. «ح يددوا اهلدف من احلوار» ،وكم كان هذا أيضاً سبباً يف حوار كل واحد يدور يف فلك ،وال ميكن أن تتقاطع املدارات. الطرشان ،حيث ي «امسعين بدل أ ين تفكير مباذا ستجيب» ،يقوهلا بروح الدعابة اليت ميتاز هبا ،ولكنيه يصيب هبا عني احلقيقة ،وكم من حوار جند فيه األطراف ال
يسمعون بعضهم بل يعتربون احلوار مبارزة ال ب يد فيها من منتصر ومهزوم.. حّت الثوابت اليت مل يكن لديه مسليمات ال تطرح للنقاش واحلوار ،ي
يتمس ك هبا ويعتمدها كمبادئ يف حياته وتفكريه ،كان على استعداد للحوار ي هبا وإعادة النظر ،مل أشعر به يوماً حياور وهو متيخذ قراراً مسبقاً بعدم لكن أسلوبه جعلين أدرك أن ال ضري مرة اختلفنا يف الرأي ،ي الرتاجع ،وكم من ي يف االختالف ،والضري كل الضري يف اخلالف ،وأ ين احلوار هو تبادل لوجهات النظر وليس تنازعاً عليها.
بأقل من عام على ما أذكر ،وقد أذكر سهرة يف ضهور الشوير ،قبل وفاته ي
اجتمع لديه العديد من الرفقاء واألصدقاء واألقرباء ،ودارت األحاديث لتطال
7
برمته ،ووضع احلزب السوري القومي االجتماعي ،وإمكانية الوضع السياسي ي باألمة ،ورأيته يومها صامتاً ،حي يد ق املخولة بالنهوض النهوض بالوسيلة ي ي خممناً ما يدور يف كل يديل بدلوه ويطرح آراءه ،وأنا أراقبه ي باملتكليمني ،و ي خاطره ،من أمل أو أمل ،وكنت مدركاً لوضعه الصحي وقد جتاوز الثمانني من
عمره ،وق يدرت أنيه قد أخذ به التعب والنعاس ،متمنيياً للحديث أن ينتهي من أجل أن يسرتيح ،ولش يد ما كانت دهشيت حني اعتدل يف جملسه وانطلق يف كل التفاصيل اليت حديث طويل بصوته املرتفع الواضح ونربته القويية ،مراجعا ي ونوه به ،حم يدداً النقاط اليت ذُكرت ،دون أن يرتك أمراً يستدعي املالحظة ،إال ي ومرجحاً وجهة نظر على اتيفق عليها ،ومشرياً إىل ما يستحق البحث أكثر ،ي يلون هبا األحاديث بذكاء، أخرى ،إىل أن أهنى كالمه بإحدى دعاباته اليت ي
لتبقى تدور وتدور وترتفع بالعقول والنفوس حمليقة يف رحابة الفكر اليت ال حت يد. أذكر يومها ،بعد تلك السهرة ،أ ين حديثاً دار بيين وبني ابنه متيوز ،كان قد لفت انتباهه حضور والده الذهين وتوقيد بصريته وسرعة خاطره رغم تق يدمه يف صحته ،وقلت له يومها أ ين أكثر ما لفت انتباهي وإعجايب هو السن وتراجع ي تتم مناقشته ،إذ مل يندفع قدرة اخلال على اإلصغاء ،رغم حرارة املوضوع اليت ي تدين بعض مرت ،ومل يهزأ من رأي ،رغم ي يف مقاطعة أحد رغم اهلفوات اليت ي يسخف وجهة نظر ،رغم احنياز بعض الطروحات عن روح املوضوعية ،ومل ي األفكار إىل األهواء واملزاج الشخصي .كان ثابتُهُ الذي ال يتزحزح ،أنيه
يستحق االحرتام يأوالً وأخرياً. يتواصل مع إنسان ي
كم كان يطرح أمامنا أسئلة وكأنيه يفكير بصوت مرتفع ،ويدعونا ملشاركته تصور واضح عن اإلجابة ،كأن يسأل مثالً: يف التساؤل ،دون أن يكون لديه ي 11
« هل من املمكن الفصل بني احلب واالحرتام ،أي هل من املمكن أن حتب شخصاً ال حترتمه ،أو حترتم شخصاً ال حتبيه؟؟» أو يتساءل مث الً عن الفرق بني سوء الطبع وسوء األخالق ...وهل ميكن الفصل بينهما؟ ويبدأ بطرح لكن التأثري األكرب هلذه األمثلة ويقليب بينها ،وغالباً ما يبقى السؤال مفتوحاً ،ي
تظل طفالً حت يدق إىل الكون األسئلة هو متعة التفكري والتساؤل ،متعة أن ي بدهشة ورغبة يف التعليم واالكتشاف ،وأن ال تقبل مبا هو موجود دون أن وتأمالً ،إنيه نوع من الصالة. تدخله إىل خمترب عقلك وروحك وتشبعه درساً ي
ككل املعلمني احلقيقيني ألنيه عرف كيف يتتلمذ على كان معليماً حقيقياً ي باعث هنضة فكرية وثقافية رائعة يف رسويل النهج هو أنطون سعاده، يد معليم ُ ي اضع فلسفة ونظرة للحياة «إنسانية -اجتماعية» هذه ي األمة العريقة ،وو ُ جديدة ،ومناضل ختم رسالته بدمائه وفاء لفكرة آمن هبا ِ وعمل هلا حّت الرمق األخري ،فقد كانت مرافقتُه له على مدى سنوات خري مدرسة هنل منها اجلمة يف هذه املقاالت واختمرت مآثرها يف نفسه ،فصاغ لنا مثرة تلك املآثر ي
اليت صدرت تباعاً ،إىل أن ُُجعت يف هذا الكتاب.
أجل ،كان لألمني الياس األثر الكبري ،ألنيه كان معليماً حقيقياً بالقدوة: «ال حتفظ ما أقول من أفكار ،بل تعليم كيف تفكير أنت» ...لعيله مل يقلها، مت منه أن أستشعر متعة كوين إنساناً مف يكراً ،ومن مثي لكينه مارسها ،فتعلي ُ التأمل وناقالً لتلك «العدوى» ،اليت قد حمرضاً على التفكري و ي متعة كوين ي تكون بلسماً لكل ما يعاين منه هذا الكوكب اجلميل من فقدان للغة التواصل ،رغم االنرتنت والستااليت. إ ين وسائل التواصل هذه ،ق يدمت الكثري الكثري لإلنسان من اإلمكانيات، لكن ما حنتاجه اليوم فعالً بعد أن امتلكنا الوسائل ،هي روحيية التواصل، ي 11
روحية االنفتاح والقدرة على احلوار ،روحية أن نستشعر متعة كوننا بشراً نستطيع أن جند لغة للتخاطب فيما بيننا ،وعلى نطاق الكوكب ،من مبدأ التعرف على اآلخر وفهمه واإلصغاء إليه ،وتبادل الثقافات واألفكار والقيم، ي ٍ ال تنازعها والنزاع عليها .من أجل بناء غد أُجل وأنبل لعاملنا الذي حييا بالتواصل والتناغم .ليس إالي.
12
مقدمة الطبعة ألاولى 9191
حيدر حاج إسماعيل بيروت 1788/9/27
كتاب «مآثر من سعاده» ،لألمني الياس جرجي قنيزح ،يدخل يف باب املروييات ،اليت أراد هلا الزعيم ،من خالل طلبه ،إىل األمناء واملسؤولني كون جزءاً من تاريخ النهضة، والرفقاء ،أن تُ َد َّون ،خوفاً عليها من الضياع ،لِتُ ِّ يف جانبها االجتماعي ـ ـ البشري ،وما سامهت به من بعث ل ِإلنسان اجلديد إنسان احلزب السوري القومي االجتماعي... وللكتاب أمهية خاصة ،ألن مرويياته تدور حول شخصية الزعيم أنطون سعاده ،الفكرية والسياسية ،واإلدارية ،والتنظيمية واإلذاعية واإلعالمية ،وإبراز ملكنون هذه الشخصية الف يذة... واألمني الياس واحد من رجاالت النهضة الكبار ،من الذين عرفوا النبع واستقوا من مورده ،فهو حني يتحدث عن تاريخ احلزب ،يَـتَحدَّث بعقلية العامل العارف ،الشاهد اخلبري ،ملا خيتزن من ثقافة حزبية غنية ،وما ميتاز به منطقه من دقة وقدرة على اإلقناع ،إضافة لشفافية روحه ،اليت تتجلى يف النكتة الذكية..
12
األمني الياس مدرسة ضمن مدرسة النهضة ،اجملسدة بالتزامه القومي االجتماعي بتعاليمها ،فهو رائد يف القدوة وااللتزام ،وعلى يديه ترََّّب أكثر من
جيل ...وهناك يف مرمريتا حيث كانت مدرسة «النهضة» التقيت به يف عام ،1751وكان يومها عميداً للداخلية ،وممثالً ملركز احلزب يف كل الشؤون الثقافية واإلذاعية وغريها... وال يزال األمني األمني حّت اليوم ،ميارس العقيدة فكراً وفعالً بالرغم من تقدم سينه 91/عاماً /وال زالت شعلة النور فيه تنشر احلرارة والعافية والفكر... يف هذا الكتاب حكايات صغرية من حيث احلجم كبرية من حيث املعىن ،ساقه ا األمني الياس من خالل عالقته بالزعيم ،ويف الكتاب أقوال للزعيم من مثل: « ضموا سورية إىل لبنان وال تضموا لبنان إىل سورية». « حنن من الشعب ونعمل يف الشعب ألجل الشعب». وعن حكاية «ال تكن يا رفيقي صعوبة فوق الصعوبات». وعن قول الزعيم سعاده« :الشخص اآلدمي الطيب أُزِّو ُجهُ ابنيت ،ال أُسلِّ ُمه مق يدرات البالد». وعن « االنضباط ال حيول دون إبداء العواطف السامية واملشاعر النبيلة». وعن قول الزعيم سعاده « :ال تنتصر النهضة باعتمادها التسوية مع الرجعة». وعن قوله أيضاً « :احلياة مغامرة ،يا رفيقي ،واحلزب مغامرة بقلب مغامرة». وعن «حق اإلقناع هو حق االعتناق». وعن «ال يتفق من معه شيء مع من ليس معه شيئاً».. 14
وعن قوله « :مهما بلغت النصوص من بالغة التعبري فالنفوس وحدها تظل ضمانة كل تشريع». ونقرأ حكايات كثرية أخرى ...ونقرأ الكثري من مثل هذه احلكايات. ونقرأ حكاية القول العظيم« :ليست حياة الزعيم ضمانة لبقاء النهضة إمنا النهضة هي الضمانة للزعيم.»... واحلكاية األخرية كان قبل ساعات من استشهاد الزعيم سعاده يف وقفة العز الكربى يف الثامن من متوز عام .1747 خالصة الكالم هي َّ كل راغب يف أن يف كتاب «مآثر من سعاده» ي زوادة ي ضمت الزعيم التعرف على شريط من حقائق احلياة القومية االجتماعية اليت َّ ي سعاده وأحد أكرب تالمذته وجنوده األمناء الصادقني املخلصني امللتزمني األمني الياس جرجي قنيزح فهنيئاً للقارئني.
15
مؤش ـ ـ ـ ـ ـرات مشـ ـ ـعة كبـ ـ ـ ـ ـ ـيرة أبـ ـ ـ ـ ـ ـرزت تف ـ ـ ـ ـوق شخصية سعاده وشموخ تطلعاتها البطولية منذ فجر تفتحه على الحياة والوجود
ً ً مدروسا ّ يدل على نفسيته .والسلوك َّإن ما يصدر عن املرء عفويا أو إلانساني بطبيعة ميزاته الحضارية هو السبيل للكشف عن مكنونات الذات، وبالتالي ،وسيلة الاهتداء إلى معالم الحقيقة ،ألنه قدرة إلافصاح عن أبعد ألاعماق .من هنا يتفاوت السلوك ،كسائر وسائل التعبير ،بقوة البيان عن معاناة النفس حسب كفاءة إلانسان من حيث الاستيعاب والاستجابة ّ للمحرضات املحدقة والطاقة على التحقيق ،والتباين في كفاءات السلوك، ً ً ً فضال عن كونه طبيعيا وعريقا ،فهو من أرقى سمات الحياة وأغنى مزايا ً الحضارة عبر شواهد التراث .انطلق إلانسان منذ القدم معبرا عن كوامن ّ ً نفسه بالخلق ّ الفني في مختلف العلوم ،مؤكدا باستمرار نزوعه إلى التطور َّ والارتقاء ،ولم يقف عند ّ حد في عملية النمو وإلانتاج ،ولن يكف عن البناء ٍّ ً والعطاء .منذ أن كان الزعيم حدثا ،بدت رهافة إلاحساس وصفاء الفكر، وصالبة الصمود وإلاقدام عبر ما ّ سجله من مواقف وتصرفات تشير إلى
11
ّ ّ املتفوقة ،م َّما لفت الانتباه إليه ،وأضحى موضع إكبار ومحط شخصيته تقدير من الذين عرفوه. * ّ حين كلف أنطون سعاده بإعداد كلمة إللقائها أمام الوالي ً احتفاء بقدومه «امليمون» ،بمناسبة انتهاء العام الدراس ي في مدرسة التركي ً ّ برمانا إلانكليزية العالية -والتي ال تزال قائمة حتى آلان -وكان حينها حدثا لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره ،إضافة إلى ارتدائه اللباس الرسمي املع َّد ً خصيصا لذلك اليوم ،ألنه سيحمل العلم التركي وسيكون على رأس الصفوف الطالبية خالل العرض حين حضور الوالي ،وبالرغم من ّأن هذا التكليف هو دليل ح ّس ي قاطع على ما كان له من مكانة مرموقة بين أقرانه، ّ والتقدير العميق من إدارة املدرسة ّ ملؤهالته ومواهبه الفذة... وبالرغم من هذا رفض!! رفض أن يشترك في استقبال الوالي التركي ّ بكل ً ّ رصانة وكبر ،معلنا َّأنه من املتعذر عليه أن يقوم ب عمل ما يكره ،في حمل ً ّ لوال متحكم بشعبه وأهله ،ولن يتمكن مطلقا من الترحيب بهذا علم أجنبي ٍّ َّ ّ ً ً ً الوالي الذي يعتبر زيارته حدثا تاريخيا ويأبى على نفسه أن يمر منكسا رأسه تحت أقواس النصر ،املزدانة باألعالم التركية والتي تتباهى بإذالل الشعب، وإخضاعه لنير السلطة العثمانية. أعلن سعاده بصراحة الواثق من نفسه انصياعه التام إلى نظام املدرسة ،واستعداده الكامل لتلبية جميع ما يعهد إليه به وكل ما تشاء إدارة املدرسة اتخاذه من تدابير وإجراءات بصدد موقفه من استقبال الوالي .لكن إصرار أنطون سعاده على رفضه القاطع لتكريم العدو قوبل بتشديد من إدارة املدرسة على ضرورة تلبيته الكاملة لقراراتها ،معتبرة املسألة هي مدرسية محضة وليست سياسية ولذلك أنذر سعاده بحرمانه من شهادته 19
ً ً وطرده النهائي من املدرسة ،ألنها ترى في سلوكه هذا تمردا صريحا على نظام ً املدرسة وعصيانا ألوامر املسؤولين .وما عليه إال أن يتحمل عواقب عصيانه املشهود ويحسن الاختيار السليم. ّ تقبل الطالب سعاده العقوبة النكراء جزاء وعيه القومي من دون ّ أي ّ تذمر وهو غير آسف على خسارة شهادته في يوم التخرج بالذات ،اليوم املوعود لتكريم الطالب املتفوقين أمثاله ومكافآتهم بما يستحقون .وأسدل الستار على الحادث. ومهما طال الزمن فلن يستطيع أن يمسح معالم البطولة من هذا ً الحدث التاريخي ،وسيظل خالدا في ذاكرة ألاجيال ألنه من تراث وأصالة ّ املتفوقة. النهضة السورية القومية الاجتماعية كان هذا الحدث الدفعة البكر من سعاده ّ سددها بإيمان واعتزاز لصيانة كرامة ألامة وهيبتها .وهي أولى وقفات العز في حياة الزعيم التي أقسم على أن يقفها لخير ألامة السورية ومجدها .ث َّم تلتها دفعات ووقفات ً متالحقة ،كان أكرمها وأروعها ً وفاء ونبال ،العطاء ألاذكى الذي جاد به الزعيم القائد النتصار أعظم قضية ألعرق أمة في التاريخ .هكذا بدأ سعاده حياته بإصراره البطولي على رفض الترحيب ّ بأي أجنبي والاحتفاء بقدومه املذ ّل مهما بلغ ثمن البذل في سبيل الكرامة السورية .واستمر على هذه الطريق ً ّ تمس بشرف ألامة وحقها في طيلة حياته رافضا ألي تسوية ومساومة سيادتها على نفسها إلى أن نال شرف الخلود مرفوع الرأس ،ناصع الجبين، كل سلطان مكابر ،على ّ عزيز الجانب وهو يقول بيقين املنتصر على ّ كل ً َّ طاغية بطاش :شكرا ولتحيا سورية. *
18
توالت ألاحداث وتتابعت مفاجآت الحرب العاملية ألاولى بسرعة مذهلة بما فرضته من تغ ُّيرات جذرية في أوضاع الدول وعالقات ألامم والشعوب فيما بينها .وانتهت تلك املجزرة الطاحنة بانهيار إلامبراطورية العثمانية وحلفائها وتولت السيطرة على مصير عالم ما بعد الحرب الدولتان املنتصرتان فرنسا وبريطانيا .وقد أصابنا ما أصاب الضعيف املستسلم إلى ليقرر عنه ،وي ّ حدد له مكانته ّ إرادة الغير ّ ويعين وجوده وقيمته بين ألامم. ً في تلك ألاثناء كان الدكتور خليل سعاده والد الزعيم مغتربا في البرازيل ،ويعتمد في تأمين اتصاالته مع عائلته املوجودة آنذاك في ضهور الشوير على صديق له حميم هو عمر الداعوق ،رئيس بلدية بيروت .وكان ّ ً الفتى أنطون سعاده يتردد من حين آلخر إلى دار البلدية متفقدا رسائل والده وما كان يرسله لعائلته من إسعافات مالية وسواها ،مما هي بحاجة ّ ماسة إليها في تلك الظروف املضطربة والغارقة في املآس ي وألاهوال. ذات يوم حضر أنطون سعاده إلى بلدية بيروت ملواجهة عمر الداعوق ً مستوضحا ع َّما إذا كان قد وصله ّأية رسالة من أبيه بعد فترة كانت فيها قد انقطعت أخباره ،وفرضت ذلك صعوبات الاتصال بين املهاجر والوطن ّإبان الحرب الضارية .فص ودف وقتها وجود اجتماع حاشد في البلدية يضم كبار ً وجهاء بيروت .وكان الجمع منهمكا في درس ألاوضاع السياسية التي كانت تنذر البالد بأوخم العواقب .وكانوا يتداولون توقعاتهم عن مصير الوطن بعد انسحاب ألاتراك وانتصار الحلفاء عليهم .ومدار البحث ألاساس ي في لقائهم يتناول ما آلت إليه أحوال البالد أثناء الحرب وإثر انتهائها وحول الدولة ّ لتحل في الوطن ّ ّ محل الدولة التركية .ترى من هو ألانسب املفضلة ألاجنبية ّ لنا أن يأتي الفرنسيون أم إلانكليز أم ألاميركان أم سواهم وسواهم؟ توسعت ّ وتوزعت آلاراء بهذا الصدد، ألابحاث أو باألحرى شردت عن منطلقها وتضاربت ّ كل جانب وفي ّ شتى التقديرات من ّ كل اتجاه ،حتى سادت البلبلة 17
جمهرة الوجهاء الغيارى على مصلحة البالد والناشطين لتأمين املستقبل ّ ّ التوصل ألافضل الذي ينشدون ،وتعذر الوصول إلى ّأية نتيجة من البحث أو ً إلى ترجيح ّأية وجهة نظر على ألاخرى .والفتى أنطون سعاده يقف متابعا لسير ً ألاحاديث ويراقب مستغربا تفاقم الفوض ى والضياع املسيطرين على عقول الحضور وعلى تعابيرهم التي ظلت مشدودة بعنف طيلة النقاش .في خضم تالطم الصياح املتزايد واختالط ألاصوات الصاخبة إلى درجة الصراخ املكدود سنحت برهة عابرة من الصمت والسكينة اغتنمها عمر الداعوق ّ ليتوجه إلى ابن صديقه الذي أتى لزيارته وطال انتظاره فرصة بسرعة ولباقة اللقاء به .التفت إليه والابتسامة ألابوية تسبق عباراته َّ لتنم عن مدى حرصه على إراحة الفتى .وقال له بدعابة دمثة ما رأيك؟ يا أنطون ،وقد رافقت بنفسك البحث الدائر؛ ّأية دولة تراها ألافضل لحكم هذه البالد ً فوراّ ، وكأنه على موعد مع السؤال وقد أ َّ عد املنكودة الحظ؟ فأجابه سعاده له الجواب« :ألافضل أن ن ْستق َّل بأنفسنا وال حاجة لنا إلى ّ أي أجنبي كي ّ ّ يتولى أمرنا ،نحن ّ فاهتز عمر الداعوق مؤهلون لذلك ويجب أن نعمل». ّ يتفرس بوجه مثقف يمليه ف ًتى على الحاضرين وراح واع ٍّ لجواب رجل ٍّ أنطون سعاده املض يء امل ّ تفتح على الحياة املفعم بمالمح إلاقدام ،ذلك الفتى الكبير بوعيه الشجاع الواثق بنفسه وبجدارة أمته للسيادة ّ التصدي لتلك الفئة من الحكام والاستقالل ،الكبير بجرأته العظيمة على الساعين وراء من يضع نير العبودية في ألاعناق الجاهزة للرضوخ والركوع. لقد بهر جمهرة الوجهاء جواب الرجولة من الفتى الذي شاهد بنفسه تسابق ً هؤالء في التفتيش عن مستعمر جديد يحكم البالد عوضا عن املستعمر التركي الذي دام ما يزيد على أربع مئة سنة ،س َّر الداعوق حين رأى الفتى سعاده ّ يقدم له الحل بعد أن عجز عنه الرجال املجتمعون.
21
وقيل أن عمر الداعوق تناول من جيبه بطاقة صغيرة تحمل اسمه ّ ً ّ وخط عليها ّ بتأن وعناية هذه العبارات« :أتوقع لك ،يا أنطون ،مستقبال ٍّ ً ً ً عظيما ونجاحا كبيرا في حياتك ،حالفك التوفيق الذي يليق بمواهبك وأمدك هللا بالعمر الطويل» .ثم قدم إليه البطاقة عربون إلاعجاب والتقدير. وإمارات الفرح ترتسم على مالمحه ّ ّ املحبة والاعتزاز معبرة عن مشاعر ّ املتدفقة التي غمرت فؤاده تجاه الصديق الجديد ابن الصديق. * ال ب َّد لإلنسان أن يتح َّلى بالقدرة البالغية للتعبير ع َّما ّ تكنه ذاته .ومهما امتازت لديه هذه القدرة ال ب َّد أن يسقط في أخطاء تعبيرية عن قصد أو عن غير قصد وهذه من طبيعة العمل ،فمن يعمل يخطئ وتتفاوت درجات الخطأ والصواب. ً مذ كان سعاده يافعا في فجر تف ّتحه على الحياة ومعانيها وأبعاد الوجود بدت عليه إمارات النجابة والنباهة .إذ لفتت إليه انتباه عارفيه من أقرانه. كما أثارت اهتمام الجميع في تتبع تصرفاته والتوقف لدى مالحظاته وآرائه .حتى استقطب نبوغه املبكر عنايتهم الدقيقة الحثيثة وجذب إعجابهم الكبير بالفتى الصغير .فصاروا يراقبون سلوكه ويتناولونه بالتعليق والتقريظ. وبعفوية وسهولة بالغة مارس قوة التعبير الفكري والعملي وما كان يعتمل في مكنونات ذهنه ووجدانه من أفكار ومن تأمالت عميقة ألابعاد .وال ّ ّ فطنة طموحات فذة ومن مؤشرات سيما عما يجيش في نفسه من معالم ٍّ ٍّ ُّ ّ متفتح للمستقبل ،مستقبل أمته ووطنه .ما أكثر ما كان تتألف في تطلع يلتمع في قرارة عزيمة ذلك الفتى أنطون ،من معطيات ألحداث جسام ومن يعد الع َّدة لها ّ ملهمات وأعمال فائقة كان ّ بوادر ّ ليقدمها ،ساعة يستكمل تجهيزها ،في الوقت املناسب والظرف املالئم .فتكون ضرورة حياة اجتماعية 21
وإمكانية ّ فعالة إلى الانطالق والتحرر والتقدم .ملا تصبح دانية القطوف تعطي أشهى الثمار وأفضلها للشعب .لدى بزوغ شباب أنطون أخذ إيمانه بأصالة شعبه يتبلور .ويل ُّح عليه بوجوب الوفاء ألمته وهدايتها إلى الحرية والسيادة .وأن يلتزم بمصيرها بكل وجوده وكل خلجة من فكره ونبضة من كيانه. أوائل العشرينات كان والد الفتى أنطون ،الدكتور خليل سعاده ،يحزم أمره إلصدار مجلة «املجلة» في سان باولو ـ ـ البرازيل .فراح سعاده الابن ّ يعد ً العدة ملولد الحدث املهم ويباشر عمليا بالتفكير بشؤون املجلة والتحضير لجميع لوازم إصدارها إن من ناحية حاجاتها الطباعية أو من ناحية جهازها إلاداري تحت إشراف أبيه وبتوجيه من إرشاداته وخبرته .وصار يالحق كل ّ أمر من أمورها الالزمة لتكون مجلة «املجلة» في طليعة الصحافة املهجرية ً فضال عن إسهام أنطون بين جميع الجاليات السورية في املغتربات كلها. املباشر والحثيث في إمدادها باملقاالت وألابحاث الفكرية العلمية والاجتماعية. لقد القى في هذا السبيل ّ شتى الصعوبات واملشاق الكثيرة .لكنه عرف ّ كيف يتجاوزها ويذللها بقدرة الرجل املقدام وفطنة املجرب الحكيم في تصريف شؤون العمل وفي إلاعداد املتين لسيره واستمراره .وكان من أهم العقبات الجدية ،التي واجهته في البدء لدى التأسيس ،هو افتقار املطبعة العربية الوحيدة آنذاك في سان باولو إلى فريق من العمال يحسنون صف ألاحرف الطباعية وإجراء عمليات الطباعة تلبية إلصدار مجلة دورية ّ ً شبانا من يقتض ي أن تصل إلى قرائها في انتظام .وكانت تلك املطبعة تخص آل بندقي املغتربين من حمص -الشام إلى البرازيل .وكان حال الطباعة في ً ذلك الوقت بدائيا يعتمد ألايدي العاملة أكثر مما يعتمد على تقنية آلالة املتطورة الحديثة .فكان على أنطون إذن ،وهو في مطلع حياته العملية، 22
ّ ومطلع اغترابه ،أن يخلق ملجلة «املجلة» فريق العمال القادرين على تأمين ّ حاجتها وضمان انتظامها الالزم مع جهله التام بكل ما يتعلق بالطباعة. سعى سعاده الابن إلى اختيار نواة ع َّمالة للطباعة من بين ّ شبان ّ تعرف إليهم تلك الفترة ّ الجالية الذين كان قد ّ ليتدرب معهم على صف ألاحرف العربيةّ . فتم تشكيل الفريق الصالح للعمل املطلوب .ولم تمض ً أسابيع قليلة حتى صار هذا الفريق بقيادته وقدوته قادرا على أن ّ يلبي ّ الحاجات الطباعية للمجلة ،لتصدر بمواعيدها الشهرية قدر إلامكان وبحلة ّ الئقة .هكذا تمكن الفتى ،ألول مرة ،أن يحقق أروع أمنياته الرسولية وهي ً توفير إحدى أجدى وسائل الاتصال الدؤوب بالشعب بدءا من أبناء ّ ألاخص .وهو الجاليات السورية في البرازيل وسائر املغتربات ألاميركية على ّ القائل« :ليست معركتنا سوى معركة الوصول إلى الشعب» .وتحققت مزاولة ّ الشي ق بالرغم من جميع املشاق التي اعترضت سبيل عمله الصحافي طموحه وانتصاراته ألاولى في فكر الشعب ووجدانه. لقد ّ تحمل الفتى أنطون سعاده عظم هذه املسؤوليات التأسيسية َّ لعمل ُّ جد ّ هام .وتنكب هذه املهمات الفكرية والعملية إلى جانب والده منش ئ ً ّ واملفكر الالمع الذي كان ّ يتبوأ مركزا مجلة «املجلة» ،الطبيب املعروف ً مرموقا ومكانة عالية محترمة بين مختلف فئات الجاليات السورية وألاجنبية وبين املواطنين في البرازيل وسائر املهاجر .ثم سار العمل في املجلة ّ بنجاح .بعد أن جعلها أنطون سعاده تتخط ى املراحل الصعبة وتجتاز عوائق فترة التأسيس املهمة ومنطلق الانتشار ألاهم. ً ً ّ ملقال أحرف تجهيزا وحدث أن كان أنطون سعاده منهمكا بصف ٍّ ٍّ سيدفعه إلى املطبعة ّ مر بقربه أحد زمالئه العمال .فالحظ أن ألاستاذ منهمك في صف أحرف ملقال غير ّ ٌ معد أنطون ،كما اعتادوا أن يدعونه، ٍّ
22
ً ّ ّ كتابة قبل الصف .استوقفه ألامر ولم يكلم به ألاستاذ بل انصرف رأسا ليخبر أحد أصحاب املطبعة السيد بندقي ّ عما يحدث .غير أن كالمه لم يلق ّ في البدء أي قبول .إنما أجيب أن ألاستاذ ربما يتسلى بصف بعض كلمات ً ً متفرقة ال تشكل ال جمال وال موضوعا للنشر .إال أن إصرار العامل على صحة مالحظته جعل أحد شبان آل بندقي يتوجه إلى جهة ألاستاذ ليتأكد بنفسه من صحة ما زعمه .ودهش عندما شاهد أن ألاستاذ سعاده ينقل مباشرة ّ ً ً ّ ليصفه أحرفا .ثم يدفعه إلى املطبعة دون أن يكلف نفسه من ذهنه مقاال ً عناء كتابته خطيا على ورق .لم يشأ السيد بندقي أن يقطع آنذاك على ّ ليتوجه إليه بأي سؤال بهذا الصدد .بل تركه وشأنه ألاستاذ مجرى تفكيره يتابع عمله .لكنه ،في اليوم التالي استوضحه عن املقال الذي كان يصف ً أحرفه دون أن ّ يدبجه قبل ذلك مكتوبا .كيف يمكن ملثل هذا العمل الغريب ّ ّ يصح أم أنه مجرد محاولة لصف كلمات متنوعة ،ال رابط بينها وال أن ً ّ وحدة؟ ابتسم ألاستاذ وأكد أن املسألة هي كما يرى وأنه يفعل ذلك مرارا. هذه بعض النماذج من قدرة سعاده في السيطرة الكلية على ّ تيقظه ّ ّ املتفوق مؤشرات لطاقته على ممارسة التوازن الفكري وحضور بديهته ،وهي بين ما يدور في خلده من أفكار يؤلف لحمتها وبين ما يقوم به من أعمال كبيرة وتصرفات فذة جبارة متوافقة. * ً ً ازداد سعاده نموا وتفتحا على الحياة والوجود وأخذ يغوص ً ّ ً ً ً باحثا عن كنوز املعرفة مستغال إياها في الخلق وإلابداع زعيما ومعلما وقدوة باملعرفة وإلارادة وإلايمان .فأتانا بالكشف العبقري عن حقيقة من نحن ،في النهضة السورية القومية الاجتماعية وحقيقة ألاهداف واملرامي التي ال ّبد
24
لألصالة السورية من أن تسير إليها وتجسدها باألعمال وألافعال السورية القومية الاجتماعية لتحيا سورية سعاده بازدهار وسعادة. َّإبان وجود سعاده في سان باولو البرازيل سنة 1728كان هناك تقليد ً شائع يقض ي على املرء أن يحتفظ دائما بلباس لرأسه أمام الناس خاصة في ألاماكن العامة .وكان من يخالف هذا العرف يتعرض لالنتقاد الشديد ويجلب لنفسه املتاعب التي هو بغنى عنها. تلك ألاثناء بالذات تفاجأ الجالية السورية في سان باولو بأن أنطون ً سعاده يتجول في ألاسواق وهو حاسر الرأس خالفا للعرف املتبع وال يبالي باستنكار الناس لتصرفه الشاذ .فهبت عاصفة حادة من الاستهجان ملا أقدم عليه هذا الفتى من خروج عن التقاليد التي تجمع الجالية على احترامها وألاخذ بها .هل هو ّ تحد من قبله لـ «الرأي العام» ،استخفاف هذا أم ّ مجرد ٍّ ّ غلطة يقترفها من كان في مثل سنه غير مكترث بالعواقب؟ وانطلقت ألالسن ّ بحقه تتسابق في التفسير والتأويل لألسباب التي دفعته إلى القيام بهذا العمل .واتصل به العديد من املعارف وألاصدقاء ّ ويضمون رأيهم إلى الاستغراب ينقلون إليه ّردة الفعل الستخفافه بالعادات العام مستفهمين بدورهم عن ألاسباب الداعية لخلق هذه املشكلة ناصحين ً َّإياه بالعدول عن سلوكه مراعاة ملشاعر الناس ودرءا لتماديهم باللغط وإثارة إلاشاعات ونشر ألاقاويل الجارحة املحرجة .وهو يعتصم باإلصغاء دون ً ّ إلافصاح عن رأيه متسائال عما يدعو الناس إلى التدخل بشؤونه الخاصة ًّ مصرا على التي ال يمكن أن تعني سواه وال تس يء ألحد على إلاطالق .لكنه ظل التخلي عن لباس الرأس .والناس من كل صوب يتابعون حملتهم على ً مخالفته النكراء لعاداتهم املقدسة .وبقي متذرعا باإلصغاء والصمت وسط تفاقم موجة الاستنكار املوجهة ضد شذوذه عن املوقف العام.
25
مرت ألاشهر على هذه الحال ولم تهدأ الانتقادات وألاقاويل حول أنطون سعاده ألنه ال يضع أي لباس على رأسه في بلد يجمع سكانه على ضرورة تغطية الرأس بحرص شديد وإلحاح عنيف .وهو الصخرة الصامدة ّ خضم ألانواء وألامواج الصاخبة .غير أن املسألة لم تقف عند الصامتة في هذا الحد بل تطورت واتسعت النقمة على سعاده حين فاجأهم ،والعاصفة على أش ّدها ،بإطالق لحيته دون أن يقيم أي اعتبار لردة فعل الناس ّ وتصلبهم في محاولة إرغامه على التراجع عما يؤذي قدسية التقاليد والعادات العامة .فتجددت ردة الفعل هذه بنقمة ّ أشد وإلحاح أقس ى دون جدوى على إلاطالق .ألن سعاده لم يقلع في الذي أقدم عليه ولم ي ْرعو عن ّ تشبثه بموقفه وليس لديه أي استعداد للدفاع عن تصرفاته الخارجة عن املألوف وال إعطاء أي إيضاح عما يقوم به .ترى ما الذي يحمل سعاده على إثارة هذا السخط عليه وتأليب حملة شعواء ضده من جراء هذا السلوك الغريب؟ ما الفائدة من خوض معركة مع الرغبة العامة أو التوتر العام بسبب نزع لباس رأس ثم إطالق لحية؟ ومطلب الناس احترام التقاليد والتقيد بممارستها وألاخذ بها بحذافيرها مهما كان نوعها ومضمونها وقيمتها بالنسبة لحياة الشعب وحاجاته العملية لها .كيف ستنتهي املشكلة التي أدارها سعاده مع الجالية السورية في سان باولو ّ بتحديه تقاليدها وعاداتها وإصراره الصامد على العمل بموجب رأيه هو وقناعته الخاصة فيها دون ً الاهتمام برأي أحد .وال يوضح شيئا عما يدور في خلده ويعتمل في نفسه بينما الجميع وفي طليعتهم أصدقاؤه يسعون ملعرفة أغراضه من كل ما حدث وحصل. ً ً وأتاه ذات يوم أحد أقرب أصدقائه مستفسرا ومظهرا الحرص على ّ ً سمعته ومركزه في الجالية السورية .متوخيا معرفة الحقيقة.
21
ً عال خطر ابتسم سعاده متنفسا بعمق كمن يحاول تجاوز حاجز ٍّ يفصل ما بين الناس وامتالك الحقيقة ثم قال: ً «أنا باألساس لم يبدر مني ما يس يء ألحد ولم تخطر لي إلاساءة أبدا .فما ً شأن الناس من أمر ال يعنيهم فضال عن كونه ال يزعجهم على إلاطالق .فلماذا يشغلهم أمر شخص ي وعادي كأنه قضية كبرى تتناول جميع شؤونهم؟ ومن ً جهة ثانية يا صديقي ،فإنني عمدت إلى تصرف كنت أعرف مسبقا أنه سيثير ً اهتمام الناس ويحرك نقمتهم ّ علي ويسبب لي كثيرا من املتاعب .لكنني أردت أن أمتحن صمودي إزاء موقف أجمع الناس على مخالفتي به ورفضه لي بالضغط واللفظ وشتى وسائل املمانعة واملقاومة .فهل أتراجع لكسب رض ى ّ ً آلاخرين تخلصا من حملتهم على خروجي عن تقاليدهم وأعرافهم التي هي ً مبدئيا ال مبرر لها وال معنى لوجودها وال تستحق ال الحرص عليها وال إلزام أحد بها .هل أتنازل عن قناعتي بصحة موقف أو تدبير معين تحت الضغط وإلاكراه أم أ ّ صر وأصمد في موقعي وأستمر إلثبات حقي في الحرية والاختيار ملا أصبو إليه وأسعى لبلوغه؟». * كثيرة هي الشواهد على تفوق سعاده وعبقريته في التعبير عن أصالة قد تفجرت في النهضة السورية القومية الاجتماعية زوبعة تعصف ً وتقصف لتؤسس وتشيد أمجادا وبطوالت لتحيا سورية رائدة خالدة. بعد عودة سعاده من املغترب وقبل املباشرة بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أقام فترة في مدينة دمشق لالتصال بأوساط الطلبة ً والصحافة .ثم غادرها إلى بيروت الستكمال تلك الاتصاالت إعدادا ملبادرة التأسيس املرتقبة .حينذاك استأجر غرفة في منزل برأس بيروت مع اثنين من أصحابه .وراح يعقد الصالت الصميمة الهادفة مع طالب من الجامعة 29
ً ألاميركانية عن طريق إعطائهم دروسا خاصة باللغة ألاملانية .إلى أن كان البدء الفعلي باكتشاف أولى اللبنات الصالحة لتأسيس النهضة. َّإبان إقامة سعاده في تلك الغرفة مع صاحبيه ،الحظا ،ومنذ ألايام ً ألاولى ،بادرة منه استلفتت انتباههما واستوقفتهما طويال وهي أن أنطون ال يستعمل قط في نومه الفراش ولوازمه بل يكتفي بإلقاء جسمه ساعات قليلة إلى البساط املمتد أمام سريره وهو شبه عار صي ًفا ً شتاء ،أوان تساقط ٍّ الثلوج وهطول ألامطار وأثناء عصف الرياح واشتداد البرد القارس .بينما كان رفيقاه في الغرفة كسائر الشباب أقرانه ّيتخذان كامل الاحتياطات املعتادة التي ال غنى عنها التقاء مزعجات فصل الشتاء .سواء ما يتعلق بأنواع ألالبسة الشتوية أو وسائل التدفئة الضرورية .تتبع رفيقاه القسوة املذهلة ن ّ تأفف وال ّ تبرم في مواجهته الجريئة التي كان يفرضها سعاده على نفسه دو ألقس ى حاالت الطقس وتقلبات الطبيعة الغاضبة دون أن يبديا أي يوجها إليه أدنى تساؤل أو استيضاح ّ استغراب أو مالحظة أو ّ كأن ألامر جد طبيعي وعادي .ألن سعاده من طباعه املعروفة الاستقاللية املطلقة في ً سلوكه الخاص .ال يفسح ألحد أيا كان مجال التدخل بشؤونه الخاصة .ويرى ً أن له ملء الحق والحرية في التصرف بما يتعلق به شخصيا ما دام ال يس يء بسلوكه إلى أحد وال يسبب له أدنى مضايقة أو إزعاج .وإذا ما تداول سعاده مع أحد من أصحابه بشأن خاص فهذا دليل على ما ّ يكن له كصديق من وافر التقدير ويوليه من عميق الثقة .وهو يقصد من إشراكه صديقه في خصوصياته وشجونه تحقيق غرض في نفسه صميم وبلوغ غاية توجيهية ً ً ّبناءة بعيدة املرمى عميقة املعنى تجعله أشد التصاقا به وأمض ى تجاوبا ً ً وتفاعال معا. مض ى فصل الشتاء وسعاده يواظب على طريقته عينها في النوم ً واليقظة وممارسة الرياضة البدنية صباح مساء ،متابعا منهجه الخاص بكل 28
دقة وإتقان دون انقطاع مهما يطرأ عليه من عوائق وموانع فهو مستمر بجدية وعفوية ال يداخلهما إجهاد وال ملل. وكان أحد صاحب ْي سعاده ّ يترصد مسلكه عن كثب بكل إعجاب وإكبار دون أن يسمح لنفسه بإبداء أي تعليق .ويرافقه خالل إقامته معه بأهم ألابحاث حتى حصل على كامل ثقته وبلغ من نفسه منزلة حميمة صميمة مما جعل سعاده يبادله آلا اء في الكثير من شؤونه ويكاشفه ّ بأدق تأمالته في ر ّ وأحب مشاريعه إلى عقله وقلبه .كما كان يطلعه على أبعد الحياة والوجود تطلعاته املستقبلية بارتياح وانشراح .وقد أتيح لهذا الصديق مناسبة الستفسار سعاده عن النمط الفريد الذي يلتزم به في حياته ويمارسه بعناية وقناعة تامة .فأوضح له سعاده مرامي سلوكه املستغرب ،ألول وهلة، وأفصح عن مقاصده العليا به: «الحياة ،يا صديقي ،عميقة ّ الجدية شديدة القسوة .ال تتوقف لحظة عن تحدي صمود إلانسان باملصاعب واملصائب التي تقيمها في سياق مسيرته الشاقة .الحياة تثير عزيمة إلانسان وتحرض عنفوانه ليواجه فيض كنوزها وتدفق ويالتها .وما عليه إال أن يكون على مستوى املجابهة ألية مفاجأة ولو بلغت أقص ى الشدة والعنف ،يتصدى لها بما يليق بكرامة إلانسان وسمو رسالته في الحياة .فإما أن ينتصر فيبرهن أنه جدير بالحياة ّ ً قادر على انتزاع حقه من أشداق املظالم َّ صرا عن إثبات وإما أن يتخاذل مق وجوده وتأكيد أهليته للصمود ،فيتلبسه عار الهزيمة ووصمة التسليم والاستسالم لألمر الحاصل. الحياة ،يا صديقي ،مغامرة كبرى ومصدر جميع املغامرات التي ال تحص ى وال يحتمل تذليلها والتغلب عليها إال بالنفسية الصراعية املجهزة بأمتن القوى النفسية املناقبية التي هي قدرة إلايمان وإلارادة :إلايمان
27
بالحقيقة وإرادة تحقيق قضية إلايمان ،وفرض الانتصار املحتوم دون مهادنة أو تهاون. ْ ً ّ ألاحياء فلذة من صلب الحياة بالصالبة والجمال وليسوا أتباعا أذال ٍّء ترميهم الحياة بما تفرزه من فضالت وفتات يتصدق بها ألاحرار أو ألاغرار الغادرون على الخانعين. الحياة ،يا صديقي ،ال تتوانى عن صفع املولولين النائحين على عتبة الحياة كأنهم في مأتم فنائهم .فالحياة تسارع إلى سحقهم شامتة بعجزهم ً وتأبى انتسابهم إليها .ليس مباحا أن نستغيث ونستنجد مستجدين العون وإلاسعاف .ال يليق بمن يعي وجوده إلانساني أن يلجأ إلى املواربة في حضرة ً الحقيقة ويلوذ باملداورة هربا من تحمل مسؤولياته على غرار هروب النعامة ونذالتها .ال ّبد من الصمود والتصدي ألي احتمال مهما اقتض ى من آالم ً عظيمة وتضحيات جسيمة .نذود أبدا عن قضية الحياة الكلية ألازلية وروعة عظمتها ،مؤكدين خطورة دور إلانسان في تشريف الحياة ورفع شأنها إلى مصاف إنسانيته كي يتسنى لنا الارتواء من فيض منابع ال تنضب من الحق والخير والجمال ليحق لنا الاعتزاز بعمق أصالة إلانسان في صميم أصالة الحياة. من يدري ،يا صديقي ،قد تأتينا أيام وربما سنون عجاف تبلونا بأفظع النكبات واملحن .فال يتوفر لنا مثل هذا البساط الذي ندوسه آلان بأقدامنا ونمسح به نعالنا لنفترشه آنذاك ّ ونتقي به شر الفاقة وبؤس املآس ي .الحياة ً ً لنا أوال وأخيرا ومطلبنا الحقيقي أن نستطيع التعبير بها عن أسمى املثل وأنبل املقاصد .نجسد مآثر مفهومنا للحضارة ورؤيتنا الصحيحة للتراث هذا الشاهد الصادق على تفوق أصالتنا وتألق طاقاتنا». * 21
هكذا بنى سعاده من نفسه قوة قادرة على مواجهة جسام ألاحداث وتحمل روائع املسؤوليات منذ تفتحه على الحياة والوجود .هكذا أقام من نفسه منارة تطلق مشاعل رسالة تهدي إلى سراط الحق والخير والجمال فتالقي ألامة السورية بقدوته أعظم انتصار ألعظم صبر في التاريخ. هذا هو املعلم الزعيم من ج َّسد أصالة النفس السورية بأجمل معطياتها املادية الروحية وأعظم مواهبها الفذة.
21
نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي يقوم من أجل حقيقة ثابتة مستمرة ،هي قض ـ ـ ـ ـ ـ ـية حياة املجتمع واس ـ ـ ـ ـ ـ ـتمرار حياته وتقدمها نحو ألافضل وألاجمل .قضـ ـ ـ ـ ـية تقدم وانتصار وعز سعاده
ما أن وضعت الحرب العاملية ألاولى أوزارها وفتح الطريق إلى املغتربات حتى هاجر الزعيم ملالقاة والده وإخوانه في البرازيل من أميركا الجنوبية، وكانت والدته قد توفيت إ ّبان الحرب هناكَّ ، ثم راح الزعيم يتعاطى العمل الصحفي في مجلة «املجلة» التي كان يصدرها والده الدكتور خليل سعاده في سان باولو البرازيل .أثناء وجوده في املغترب كان شديد املتابعة ألخبار الوطن وعميق التأمل في ما وصلت إليه حال مواطنيه تحت نير الانتدابين البريطاني والفرنس ي اللذين فرضتهما معاهدة سايكس -بيكو على ألامة السورية والعالم العربي ،بينما كان الزعيم ّ يعد نفسه إلى الحدث التاريخي الفذ الذي وقف له كل حياته ووجوده وعمل له بكل قواه وإمكاناته حتى أذكى العطاء بشهادة الدم. عاد الزعيم إلى الوطن سنة 1721وفي ذهنه مباشرة العمل الكبير لحياة ألامة السورية والوطن السوري ورقيهما .فأخذ ّ يتحين الفرصة
22
املناسبة للمبادرة الفعلية إلى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. وكانت أولى املحاوالت في هذا السبيل انتقاله لإلقامة في دمشق العاصمة الشامية التي كانت وكأنها على وطيس نار ملتهبة تغلي في حربها ضد املستعمر ألاجنبي ومقاومة أساليب طغيانه .وذلك ربيع سنة .1721اقتصر اتصال الزعيم في البدء بأوساط الطلبة من خالل املدرسة العلمية الوطنية الكائنة آنذاك في شارع البزورية لصاحبها الدكتور منيف العاندي .ثم ارتاد أوساط الصحافة الشامية بعقد صالت مع أسرة صحيفة «ألايام» اليومية لصاحبها ً نصوح بابيل ،وكان من وقت آلخر ينشر مقاالت وأبحاثا قليلة بغية سبر ردود ً الفعل لدى ّ القراء والرأي العام إجماال وطبيعة هذه الردود إزاء ما كان ينشره من أفكار وآراء تتناول معالجة شؤون الساعة بمفاهيم النهضة .وبعد ً أن ّ معا في دمشق مدى ّ تقبل تبين الزعيم من خالل املدرسة والصحافة الشعب ملواجهة قضاياه املصيرية وتحسسه بمسؤوليات العمل لها غادرها ً بعد بضعة أشهر ليعود إلى بيروت مستكمال دراسته لنفسية الشعب واستعداداته لتلبية الدعوة إلى اعتناق عقيدة الحرية والواجب والنظام والقوة والجهاد القومي الاجتماعي لنصرتها. في بيروت بادر الزعيم إلى الاتصال بأوساط الطلبة عن طريق إعطاء ّ دروس خاصة باللغة ألاملانية لطالب من الجامعة ألاميركانية وكذلك وطد عالقات ّ ودية مع أسرة جريدة «النهار» اليومية لصاحبها آنذاك جبران تويني. ً ّ عله يتعرف في بيروت أيضا إلى مستوى الرأي العام ومدى إمكانياته ومؤهالته للعمل القومي الاجتماعي الذي كان الزعيم ّ يؤس س له جميع دعاماته ألاساسية وعناصره الضرورية ألاصيلة .من أوساط الجامعة ألاميركانية في بيروت كان اختياره ألولى اللبنات لتأسيس النهضة ومباشرة الدعوة القومية الاجتماعية .وكان ذلك البدء أثناء السنة املدرسية -1721 1722وبمنتهى الحرص على السرية التامة .ثم بلغ عدد ألاعضاء املنتسبين 22
إلى الحزب خالل أسابيع معدودات ما يتجاوز الخمسة معظمهم من الطالب وألاوساط الطالبية واملثقفة. لم يمض وقت طويل على هذا البدء حتى الحظ الزعيم أن بعضهم أخذ يتصرف مع رفقائه ومع الزعيم بالذات بعقلية السياسيين التقليديين، على أساس املفهوم السياس ي البحت في معالجته الشؤون الاجتماعية واملواضيع العامة ،كما الحظ سلوكهم من الحزب وقضيته ومسؤوليات العمل الحزبي كأنها وسائل لتحقيق أغراض الوجاهة الشخصية والنفوذ ً ً بعضا .كان ّ همهم ينصرف أوال إلى بلوغ أغراض الفردي على بعضهم خصوصية وإرواء رغبات فردية ال قومية اجتماعية على حساب مصلحة الحزب وشؤونه الخطيرة جاعلين من الحزب ووجوده السبيل إلى وصولهم ّ فانكب الزعيم على معالجة هذه الظاهرة الخطيرة من ملنافع تافهة ليس إال. الانحراف الخلقي الفكري الناشبة في جسم الحزب وما زال في طور التكوين ألاول وبداية مرحلة التأسيس الفكري النفس ي .وراح ّ بأدق وسائل التوجيه وألبق أساليب إلارشاد والتصويب يعمل على إنقاذ الحزب من النزعة الفردية التي تقتحم عقليته ألاخالقية الجديدة ،وهو في مهد النشوء والنمو .لكن ّ ّ الفرديون ألاوائل في التشويش وبث املفاسد أحكمت تالعبها باألفراد وتمادى روحية الشك والبلبلة بين الرفقاء حتى صار معظم الاهتمام العام يدور على غير املحور املناقبي ّ البناء ،بدل أن ينصرف إلى معالجة شؤون النهضة وألامة باملستوى الالئق بطموح الشباب وعزيمته إلى أن تحولت ،أو كادت، الاجتماعات الحزبية والجلسات الرسمية عن مواضيعها وأغراضها إلى ميدان ً التنافس الشخص ي وباتت مجاال لخلق املشاكل وتعطيل كل معالجة لها. ففاجأت هذه الظاهرة املرضية ،الزعيم ،والحزب ما يزال في مطلع اختباراته ألاولى ،وآمله أن يكون هذا بين أوساط الطالب الشباب الذين لم ينطلقوا بعد في مواجهة الحياة وما فيها إزاء تفاقم التردي في التعامل القومي 24
ً الاجتماعي والسلوكية الال مناقبية لهؤالء ألاعضاء والحزب ال يزال سريا ً ً ويضم أعدادا محدودة ال تتجاوز العشرين عضوا ،كان ال ّبد من إيجاد ً العالج الناجع السريع للخروج من حراجة املأزق .ولم يكن ممكنا اللجوء إلى ّ أي كان بالفصل أو الطرد أو سواهما من التدابير النافذة إلى إلاصالح معاقبة ٍّ ما دام الحزب غرسة لدنة ونواة ّ غضة ال تتحمل ّ الهزات وال التجارب ً الحاسمة فضال عن حالته السرية وحاجته القصوى إلى الاحتماء بسريته إلى أجل ال يمكن تحديد أجله آنذاك. فارتأى الزعيم في حل الحزب ضرورة لينصرف كل واحد إلى الاهتمام بشؤونه الخاصة ريثما يعاود التأمل في تلك ألاعراض املدمرة .ثم دعا جميع ألاعضاء إلى عقد اجتماع عام طارئ تم خالله مصارحة الزعيم التاريخية للحضور في قول :إن تجربته في تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي ً بات مقتنعا بعدم جدواها وقدرتها على النمو والاستمرار وهو لم يعد يلمس من نفسه الاستعداد ملتابعة الترابط معهم في التعاقد القائم .وهو يعلن للجميع عزمه على ّ حل الحزب بوصفه الشارع صاحب الدعوة إلى القومية ّ السورية الاجتماعية .وحلهم بالتالي من القسم القومي الاجتماعي وجميع مستلزماته وموجباته القومية الاجتماعية وليس ألحد تجاهه أي إلزام من ً أي نوع ،موضحا أن الحق بحل الحزب أو باالستمرار به يعود إليه بالنظر ملا له من مسؤوليات وصالحيات في التأسيس والقيادة مدى الحياة .وها هو ً يصارحهم بكل ما ينوي عمله تاركا لهم حرية املوقف والتصرف من جانبهم بعد حل الحزب وانصرافه هو عن تنفيذ تعاقده السابق معهم لتحقيق مبادئ الحزب وأهدافه .وقد القى هذا التدبير الفاصل الحاسم من قبل الزعيم ردود فعل متفاوتة لدى أعضاء ألامس ،حسب تفهمهم للحزب ومراميه وجدية انتمائهم إليه وحسب قدراتهم ألاخالقية النفسية على حمل
25
مسؤوليات الصمود والنضال في طريق الحياة الطويلة الشاقة التي شقها ً الحزب مصمما على الاستمرار بها حتى النفس ألاخير والنصر النهائي. مضت فترة من الصمت عن الحزب ووجوده ،اقتنع خاللها من يجب بعدئذ أن يقتنع بانتهاء مسألة الحزب وزواله من الوجود إلى غير رجعة. ٍّ ّ استأنف الزعيم الاهتمام بقل ة من ألاعضاء القدماء ممن الحظ فيهم الجدارة على حمل العقيدة والسير بها وعمد إلى إعادتهم إلى التنظيم بمنتهى ً التأني والروية ملتابعة العمل القومي الاجتماعي بهم أوال ومعهم .فكان تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي من جديد بعودة بعض من كانوا النواة ألاولى في التأسيس ألاول وبانضواء آخرين جدد تحت خفق الزوبعة للحرية والواجب والنظام والقوة. إنه التأسيس املستمر منذ السادس عشر من تشرين الثاني سنة ً .1722وظل الحزب يعمل سريا تحت طبقة الثرثرة والصياح املنتشرة فوق هذه ألامة وتمتد روحه بهدوء واطمئنان في جسم ألامة وتنظم جماعاتها .إلى أن كان السادس عشر من تشرين الثاني من سنة 1725الذكرى الثالثة لتأسيسه ،فجر ذلك اليوم انكشف أمر الحزب وأعلن وجوده من قبل سلطات الانتداب الفرنس ي وأعوانه العمالء العاملين لسيادة الاستعمار على ألامة والوطن .داهمت السلطات مقر الحزب ومنازل من عرفتهم من املسؤولين وألاعضاء وتم اعتقال الزعيم والعديد من معاونيه جنود القضية ً السورية القومية الاجتماعية وإحالتهم جميعا إلى القضاء الفرنس ي املختلط. فكان أول امتحان في أولى معارك النضال والانتصار ّ ترسخت بها دعائم التأسيس في توكيد سالمة البنية وصمود ألاصالة السورية وفي إثبات قدرة النهضة على تحقيق النصر القومي الاجتماعي ملجد سورية بقيادة سعاده املعلم الزعيم.
21
قص ـ ـ ـ ـة أول نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوة ثقافـ ـ ـ ـ ـ ـية في الح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزب
أنشئت أول ندوة ثقافية في الحزب السوري الاجتماعي حين كان ً الحزب ال يزال سريا أواسط سنة 1724أي بعد مض ي سنتين على بدء تأسيسه .لدى انعقاد الجلسة ألاولى للندوة أخذ الزعيم يوضح الغرض من إنشائها وخطورة مهماتها الثقافية في حزب عقدي ذي نظرة كلية شاملة إلى الحياة والكون والفن إلى جانب مسؤوليات عمدة الثقافة والفنون الجميلة. ً ً وتطرق الزعيم أيضا إلى كيفية ممارسة عملها إداريا من الوجهة النظامية بوصفها أحد أجهزة عمدة الثقافة والفنون الجميلة املولجة بمعالجة الشؤون الثقافية سواء في مؤسسة العمد ومجلسهم أو بتوجيه التفاعل الثقافي العام في صميم الشعب ومعركة الوصول إلى الشعب إلى نفسه وفكره ووجدانه ،معركة النهضة ألاولى وألاهم .ثم تناول الزعيم شرح ً مسؤولية رئيس الندوة الثقافية وناموسها اللذين يشكالن معا هيئة املكتب للندوة ويتوليان بالتعاون مهمة تنظيم برامجها ،وتنظيم إلاشراف على تنفيذها باإلضافة إلى توفير التوافق الكلي الذي يحقق نظام النهج والفكر
29
بين مختلف لجان الندوة وإلى تأمين التنسيق ملختلف مشاريعها ودراساتها الفكرية الفنية في الاتجاه القومي الاجتماعي ،ذلك الاتجاه الواضح ألاسس واملنطلقات في مضامين قضية الحزب واتجاهات املبادئ السورية القومية الاجتماعية وفي أهدافها وغايتها. وتوجه الزعيم إلى الرفقاء أعضاء الندوة الثقافية ألاولى في الحزب ّ ّ الذين يشكلون دون ريب حينذاك نخبة مثقفي الحزب ومفكريه املؤهلين للعمل والتوجيه الثقافي الفكري بين صفوف النهضة واملواطنين قاطبة ،إلى تفهم قضية النهضة ّ هؤالء املفروض فيهم جدارة ّ وتفهم مفاهيمها ومعطياتها املادية الروحية قد توجه الزعيم ليسألهم« :من منكم يرى في نفسه الكفاءة لتحمل مسؤولية رئيس للندوة الثقافية وقد اتضحت لكم كامل خطوط مسؤولياتها ومهماتها ألاساسية الكبرى؟». أمام السؤال الكبير ساد الصمت املشوب باالرتباك والتردد وسرى بين الجميع وبسرعة خاطفة تبادل نظرات معبرة تنم عن حيرة متحفزة وتفصح عن ّ تهيب عميق إلايمان بعزيمته ،تهيب من إلاقدام على تنكب املسؤولية، مسؤولية رئاسة الندوة الثقافية ألاولى في الحزب السوري القومي الاجتماعي. ً لكن الوقت لم يمض طويال .خالل دقائق معدودات بينما كان بعض ً ألاعضاء يستوضح نقاطا دقيقة وردت على لسان الزعيم لدى شرحه ألاولي ً مستأذنا الكالم ّ ليقدم نفسه من أجل ّ تحمل مسؤولية لها رفع أحدهم يده ّ ً الرئاسة في تلك الندوة مبينا مدى استعداده لتأمين أهم متطلباتها وإحراز النجاح الجيد فيها .وكان ذلك الرفيق السابق زكي ّنقاش. ً فتلقى الزعيم الاقتراح بملء الفرح والسرور وبادر فورا إلى الترحيب به ً واملوافقة عليه بالتصفيق للرفيق ّنقاش معبرا عن عميق إعجابه ألي خطوة تدل على ثقة بالنفس ،وترسخ تلبية جريئة للمهمات مهما كبرت أحمالها
28
وتشابكت مسالكها .من دون أن يقع املرء فريسة تصوراته لألسوأ ويتوقع ً أعقد الاحتماالت املثبطة أو يتهيب محجما عند توهمه أنه مرمى الاتهامات بالغرور والتباهي ،فاإلقد ام على حمل أعباء الحياة وأعباء النهضة التي هي خير تعبير عن سمو الحياة .هذا إلاقدام هو ضرورة الوجود وحافز البقاء والاستمرار لألفضل مهما يكن نصيب إلاقدام من الفشل أو النجاح .إن إلاحجام ّ املتردد يؤدي إلى الجمود والفشل الذميم. الثقة بالنفس تنبثق عن وعي الحقيقة .أما النزعة الفردية فهي وليدة روحية التفرد الال اجتماعية وذهنية التشاوف ألانانية الضاربة في العبث والغرور واملغرقة بالسطحية الطائشة املشوهة.
27
الاعتقال ألاول
نحن آلان مع فريق من شعبنا هو أحوج ما يكون إلى تعاليمنا فلنغتنم الفرصة لنزف إليه والدة النهضة
لم يراود الزعيم قط أي شك بمقدرة النهضة على إحداث الانقالب الجذري في عقلية الشعب ووجدانه وإطالق فاعليته لتغيير مجرى التاريخ. ً ولم ي ْنت ْب إيمانه بأصالة ألامة السورية ّ أي وهن بل ظل يقينه مطلقا بقوتها على إحراز النصر بفعل تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية متغلبة ً أبدا على عوامل التخاذل والاستسالم التي تسربت إلى نفسيتها من عهود الطغيان والاستعمار .لم يترك سعاده سانحة تمر وال فرصة تعبر مهما بدت هذه حرجة وصعبة من دون أن يدعو املواطنين إلى اعتناق العقيدة القومية ألنها أمل ألامة الوحيد ،أمل يعتقها من العبودية وينقذها من عقلية التسويات والتسليم إلى ألامر املفعول« .إ ن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه ً التاريخ» .ليس من سوري مبدئيا إال وهو أهل لحمل رسالة النهضة والعمل لالنتصار بها على جميع الويالت والنكبات التي طاملا ّ كبلت حيوية ألامة َّ وعطلت قدراتها الفاعلة عن التفتح والنمو والعطاء .وقد سلم املعلم أنه باإلمكان أن «تتالعب املفاسد باألفراد لكنهم ال يستطيعون أن يصموا املجتمع كله باملفاسد التي في نفوسهم». 41
لدى الكشف عن وجود الحزب وإعالن حقيقة مبادئه وأهدافه لألمة السورية والعالم العربي والعالم بأسره حدث الاعتقال ألاول «فكان أول تجربة تتعرض لها قوة املبادئ واملناقب وألاخالق الجديدة» .ويصف سعاده للتاريخ كيف وقع معاونوه أعضاء مجلس العمد وبعض املوظفين املساعدين في حيص بيص وفي حيرة من أمرهم .غير أن موقفه القدوة في الصمود والشجاعة جعلهم يواجهون مسؤولياتهم برباطة جأش لم تكن تخلو آنذاك من بعض الشك والتفكير باملصير املبهم .ويؤكد سعاده أن «من هذه النقطة ّ والتهرب ،على صفات ابتدأت الثورة الروحية العملية على الخوف والوجل ً الخنوع والذل» التي ألـ ّمت بالنفسية السورية زمنا غير يسير .لقد كانت وقفة الحزب إزاء الصدمة ألاولى بمثابة نقطة تحول مهمة في بناء نفسية الصمود وتأسيس الوعي لخطورة القضية التي أخذ الحزب على عاتقه تحقيقها .كما ّ كانت صالبته دفقة قوة مكنته فيما بعد من مواجهة مسؤوليات املصير القومي بشجاعة وتصميم ّ عز نظيرهما في التاريخ .وفي مجال عرضه للتحوالت النفسية ألاخالقية التي أحدثها صمود القوميين الاجتماعيين أمام سطوة َّ معاوني ألاول سلطة الانتداب الصارمة يعلن الزعيم أنه« :مع ما ظهر على والرفقاء الذين سجنوا معهم من ضعف ّأولي فال ّبد لي من التصريح بأن فترة الضعف كانت قصيرة وأنهم تحملوا الصدمة هم وعيالهم وأهلهم على أفضل ما يكون .باملوقف الذي وقفناه بين دخول السجن والخروج من املحكمة انتصرت روحية الحزب السوري القومي الاجتماعي على عوامل الزمن العتيق والروحية العديمة الفضائل واملناقب». إ َّبان تلك التجربة ألاولى كانت املصاعب واملشقات تعمل على بلورة مناعة املناضلين في ّ تحمل تبعات الصراع من أجل النهضة وألامة مدى الطريق الطويلة الشاقة .وقد أعوز بعضهم اليقين بطاقات النهضة على ّ تخطي العقبات واملخاطر التي أخذت تجابهها بقسوة وتحاول أن تهز الثقة 41
ً حينا .فما كان من الزعيم إال ْ كسر جليد الجمود بالنفس وإلايمان بالنصر ً والصمت الهائم في متاهات املجهول مهيبا بالرفقاء السجناء لتلبية واجب النشاط « :نحن هنا ،أيها الرفقاء ،مع جماعة متأملة من شعبنا هي أحوج ما ّ فنقدم إليها تعاليمنا القومية تكون إلى وعينا وإرشادنا إياها إلى الحقيقة. الاجتماعية لتنقذها من جحيم وضعها املوجع وما تعانيه من ألم الحرمان ومرارة البؤس والشقاء .ال ّبد أن نغتنم الفرصة الثمينة التي لدينا آلان إلى ّ جانب هؤالء املواطنين لنا ونزف إليهم والدة النهضة ومبادئها وانبثاق الفجر الجديد من حلك الظلمة إلنارة طريق ألامة .وقد ظنها أعداؤها والعجزة من أبنائها منقرضة .إلى أن جاءت النهضة تحيــي آلامال امليتة وتوقظ العزائم الخائرة الحائرة» .ثم راح سعاده يتصل بأولئك املساجين ممن حكم عليهم ً القانون باإلثم وإلاجرام واحتجزهم بعيدا عن املجتمع لحمايته من شرورهم وأذاهم .وأخذ يدعوهم إلى استعادة ثقتهم بأنفسهم ،إلى مراجعة وجدانهم وما أوصلهم إلى حالة ألاسر والحرمان البائسة .أفاض الزعيم في شرح أهمية مسؤولياتهم ،مع وجودهم في السجن ،تجاه تحرير الشعب مما يحدق به من أخطار ّ ويهدده من غدر ألاعداء وتآمرهم بغية تكبيله باملفاسد واملخازي ّ ً مكبال وإخضاعه إلى عوامل التخاذل والرضوخ لعبودية املصالح ألاجنبية باألغالل والقيود التي توصد ألابواب بوجه حيوية الشعب كما تسد دونه ً ً منافذ الوعي والتحرر كي تقعده ذليال مشلوال ليغدو فريسة املستعمر وحلفائه من أبناء أمتنا املضللين. وقد ركز الزعيم حديثه مع السجناء على تبيان ما تنطوي عليه طبيعة نفوسهم املتأملة الناقمة من خير وجمال وما تكتنز من طاقات جبارة وإمكانيات قادرة أن تسهم ببناء ألامة السورية الرائدة املؤهلة للنهوض فوق مهاوي التفسخ ومخازي الدمار حتى تنتصر على جميع العقبات واملؤامرات التي تحاك ضد أصالتها في الداخل ومن الخارج .واملتآمرون هم العاملون 42
ً ّ لبث روح الانقسام وإثارة املنازعات الداخلية كي نسقط جميعا أشالء أمام تضافر قوى الشر والغدر من أجل القضاء على جميع سمات الحياة فينا. وليس سوى النهضة السورية القومية الاجتماعية بقادرة على إدراك حقيقة طاقاتنا وحقيقة مآسينا ومخازينا وهي وحدها تملك العالج الشافي ّ الذي يكفل لألمة وحدتها ويبني قدرتها الحقيقية لتقدم على التحرر وتتقدم إلى النصر املحتوم. ً ً ً ففي أدق الظروف حراجة وأشدها تأزما وتعقيدا لم يستفز الزعيم أو يستدرج ملنازلة الخصوم بغير سالح النهضة ،سالح املناقب العالية وعتاد العقلية ألاخالقية الجديدة ،ألنه قدوة البناء في ميدان الوفاق والوئام كما هو قدوة في مجال الخصام والتصادم .وما روحية البناء ألامثل وذهنية العطاء ألاذكى إال أساس التعامل القومي الاجتماعي ومصدر كل إنتاج حقيقي أصيل يليق بالنفسية السورية الكريمة التي ال تكف عن العطاء وإلابداع.
42
ضموا س ـ ـ ـ ـورية إلى لبنان وال تضموا لبنان إلى سورية..
كشف أمر الحزب فجر السادس عشر من تشرين الثاني 1725في الذكرى الثالثة لتأسيسه .وسرعان ما انتشر الخبر في طول البالد وعرضها، كانتشار النار في الهشيم .فأشغل النبأ الناس على اختالف نزعاتهم وميولهم السياسية والفكرية .منهم من ّ تلقاه بإعجاب وترحاب من خالل قيمة مبادئه ّ ونظامه ومن خالل شخصية الزعيم ومواقفه الفذة إ َّبان التحقيق وأثناء املحاكمات أمام القضاء ألاجنبي ،في املحكمة املختلطة ،ومنهم من استنكر أن يقوم حزب من هذا النوع في لبنان ومن هذه التشكيلة «العجيبة النابية»، بنظرهم ،التي يتكون منها الحزب ،حزب زعيمه من ضهور الشوير -املتن الشمالي -ويقول بسورية والسوريين .وهو ال يحكي عن العرب والعروبة وما يتصل بها من أمجاد عريقة ،وال يتغنى بلبنان ألارز والشربين والقصعين. حزب يقوم على عقيدة ومبادئ أساسية وإصالحية ،ويشدد على النظام والتنظيم الدقيق الانضباط والتلبية ،على رأسه شاب ،ليس من الوجهاء ً ً واملعروفين وال من العائالت املرموقة حسبا ونسبا .وهو يدعى الزعيم ،مطلق
44
ً الصالحيات والسلطات .ال ينتخب ديمقراطيا ،مثل املختار والنائب في بلدنا، بلد الحرية والنور ،إنما هو زعيم منذ وجود الحزب ويبقى في مسؤولياته مدى الحياة. وصلت أخبار الحزب وتضارب آراء الناس وتعليقاتهم على غرابته مسن شبه معتكفّ ، ّ لكنه وطرافة نوادره أمام املحاكمات ،مسامع رجل ٍّ ّ والتتبع ملا يدور حوله وعلى ألسنة الناس ،ومما منفتح الذهن كثير الانتباه، استوقفه من غرابة هذا الحزب أن يكون الزعيم من قلب املتن ،واسمه أنطون سعاده ،ومعظم أعضاء الحزب البارزين أو الذين عرفوا ،آنذاك ،هم ً ً لبنانيون ،ومع ذلك فالحزب سوري «أجنبي» قلبا وقالبا ،ويريد أن يضم لبنان إلى سورية «يا للطيش والضالل» فهاله هذا ألامر الشاذ ،واستنكره من ً كل جوارحه ،وقرر هذا الرجل املسن ،في سره ،أن يجد حال لهذه املشكلة الشائكة وهي أن يهدي شبان الحزب إلى الصواب و ّ التعقل .وراح ّ يردد في أحاديثه مع أبناء القرية الجبلية النائية« ،هؤالء الشبان أعضاء الحزب، ّ ً أوالد أوادم» ،وال يجوز لهم أن يشطوا هكذا ،وقد آمله كثيرا أن يكون «هذا ً ً ً الشاب القبضاي» ،الفهيم املتعلم ،أي الزعيم ،متشبثا جدا وعنيدا يجابه السلطة ويتحداها .ال ّبد من إقناعه وإعادته إلى الصواب ،إلى لبنان الخالد، لبنان إلاشعاع« .نيال من له مرقد عنزة في لبنان» ،هل يقبل أن يضم لبنان إلى سورية. ً ً ّ وكم كان تأثره عميقا وشديدا عندما بلغه أنه قد حكم على الزعيم بالسجن ستة أشهر ،وحكم على باقي الشبان بمدد متفاوتة دون هذه املدة، ً وصمم الرجل أكثر وأكثر ،بينه وبين نفسه أن يسعى يوما إلى زيارة الزعيم ّ لتقديم النصح إليه ،عل ه يقنعه بوجهة نظره فيرجع عن فكرته الخاطئة ً وآرائه الخيالية .شبان لبنانيون ،طيبون ،يعملون حزبا ،في آخر الزمان ،لضم لبنان إلى سورية « ،يا عيب الشوم على الشباب ،ويا لضياع آلامال». 45
أنهى الزعيم مدة الحكم عليه وخرج من السجن ،ما أن بلغ الخبر ّ املسن حتى عزم على الذهاب إلى بيروت للتعرف على الزعيم. السار الرجل وفي اليوم التالي ،توجه الرجل إلى بيروت ،التي هجرها منذ سنين طويلة ،من ّ ً ّ وبتكتم شديد وعناء كبير أعالي بلدته الجبلية ،متجشما املشقات وألاخطار، ً اهتدى إلى مكتب الحزب ،آمال أن يتفاهم مع الزعيم على ما يجوز عمله وما ً ال يجوز وأنه ال يليق بشاب كالزعيم أن يصدر عنه مثل هذا وكان واثقا من ً ّ وسيحل املوضوع بالتي هي أحسن. أنه سيلقى من الزعيم آذانا صاغية، ّ ً متكال على وصل مركز الحزب في شارع املعرض وصعد ساللم ثالثة عصاه حتى بلغ املرمى .وبعد استراحة قصيرة توجه إلى أحد الشبان هناك ً طالبا مقابلة الزعيم أنطون ،وملا سئل هل أنت على موعد سابق مع الزعيم؟ قال بنبرة ألاب الواثق من مكانته في بيته وبين ذويه« :قل لألستاذ ،أنا جيت خصوص ي من الجبل حتى أتعرف عليه بدون موعد .هل يمكن أن أقابله اسأله أنتّ ، ورد ّ علي الخبر» .فذهب الشاب وأوصل ألامر إلى الزعيم ،وخالل دقائق معدودات كان الرجل لدى الزعيم في مكتبه .وبعد تبادل كلمات الود ً والتقدير لشخص الزعيم بادره قائال: الرجل :أنا سعيد بمعرفتكّ ، وأهنئك بسالمة خروجك من السجن ،ال يهمك ،السجن للرجال ،كما يقولون ،لكني أريد أن أستعلم منك عن مسألة ً تهمني كثيرا .هل هو صحيح ،يا ابني ،أنك عملت حزبك حتى تضم لبنان إلى سورية .وكيف يجوز مثل هذا ألامر الغريب؟ ما لنا ولهذه الورطة غير ّ املعقولة ،وال املقبولة .مبين عنك إنك شاب كويس وابن ناس ،وكلك فهم ،ما شاء هللا ،مع ذلك تريد ضم لبنان إلى سورية. وكان الرجل بادي الارتياح والتقدير العميق للزعيم مع شديد استغرابه املحب لفعلته «املرفوضة» والتي ال تليق بمثله ويجب إلاقالع عنها.
41
وكان الزعيم يصغي إلى كلمات الرجل بكل جدية واهتمام ال يخلو من إلاعجاب والابتسامة تض يء قسمات وجهه الوقور ثم أجابه بعد أن أكمل كل ما أراد الرجل قوله: ً «ليس ألامر صحيحا كما بلغك عني ،أنا ال أريد أن أضم لبنان إلى ً سورية وال أسعى إلى هذا ألامر أبدا ،إنما أريد أن أضم سورية إلى لبنان، وأعمل له وأدعو جميع املواطنين إليه وآمل تحقيقه». وبسرور بالغ البراءة ،وفرحه عارمة ،وقف الرجل على أقدامه وتقدم ً من الزعيم يصافحه بحرارة من لقي ضاال يهتدي ويعود إلى الوعي والصواب، وهو يردد كلمات إلاعجاب والتشجيع. بارك هللا فيك ،يا ابني ،إذا ّبدك تضم سورية إلى لبنان ،ما في مانع،
ّ ضمها ،كلنا معك .هللا يعطيك العافية ويأخذ بيدك ويقويك .إن شاء هللا بتحقق غايتك وبتنال ما تتمنى. ً ً ثم نهض مودعا ،ومقتنعا بصحة ما يرمي إليه الزعيم وهو يردد التأكيد على تأييده له .وصل لي حقي ،يا ابني ،ضم سورية إلى لبنان، وخلصنا من هاملشكلة .بخاطرك ،هللا يحميك من أعدائك ويخليك.
49
نحن من الشـ ـ ـعب ونعمل في الشعب ألجل الش ـ ـ ـ ـعب سعاده
ّ تتكون التشكيالت جرت العادة املتفشية بين أوساط الرجعة أن السياسية من تكتالت فئوية تجمع كميات من شتات ألافراد ،أو باألحرى ألاتباع ،تحت رعاية ذوي املكانة .يقودونها في ميدان املزايدات الشخصية للتسابق بين أصحاب النفوذ من أجل الوصول إلى املنافع الخاصة واملآرب َّ ً ً الخصوصية .وقد صار هذا العرف تقليدا مسلما به في إنشاء ما يسمى ً باألحزاب السياسية .وأحيانا يضفون عليها صفة العقائدية .وليس لها من ً مضامين ألاحزاب ومفاهيم العقائد شيئا البتة .إنها مجرد أشكال فارغة ومظاهر ّ طنانة تحاول أن ّ تتلبس سمة النظام وألوان التنظيم الحزبي .هذه التشكيالت ّ تعبر عن العقليـة ألاخالقية القديمة .تنشئها ب ْهوراتها الديماغوجية ّ وتسخرها لعصبياتها الحاقدة في تالعبها بالعقول الضئيلة والنفوس ّ الضعيفة .فالجماهير الغفيرة الصخابة في املظاهرات واملناسـ ـبات هي ق ـ ـوتها وأداتها للفوض ى والتضـ ـ ـ ـليل .مهما تكاث ـ ـرت هذه التش ـ ـ ـ ـكيالت الال حزبية
48
وبذلت في املواسـ ـ ـ م من الجهود الجسيمة فهي ال تمثل غير التضخم والتراكم ً ّ الكمي .ألنها عاجزة أبدا عن إنقاذ ش يء من معنويات هذه ألامة أو تحقيق هدف واحد من أهدافها السامية. غير أن الحزب السوري القومي الاجتماعي يج ّسد «فكرة وحركة تتناوالن حياة ّأمة بأسرها» .وقد وجد ألاعضاء أن سياسة الحزب الداخلية تتجه إلى الاعتماد على القوة الحقيقية ،قوة السواعد والقلوب وألادمغة ،ال على قوة املكانة التي تستمد وجودها باألكثر من مبادئ ومفاهيم ال تتفق في ّ سنجد د بها حيوية ألامة وقوتها». جوهرها وال في شكلها مع املبادئ التي فالحركة السورية القومية الاجتماعية تمثل أماني الشعب ومرامي حياته الخيرة .ألنها انبثقت من صميم الشعب وهي تعمل في الشعب وألجله. لقد ّ تقد م لالنتساب للحزب أحد ذوي املكانة املرموقة سنة .1721 وكان من أصحاب النفوذ العريض وألامالك الشاسعة واملزارع الواسعة. ً حيث يعمل مئات العمال والفالحين الكادحين .وقد كان إلحاحه كبيرا ً شديدا لتدارس القضية السورية القومية الاجتماعية قبل أن ّ يبت وإصراره ً ً بأمر قبوله عضوا في الحزب ،مؤكدا استعداده الخالص لاللتزام الكامل بمتطلبات العضوية وواجباتها .وبعد دراسة وافية ملبادئ الحزب ولغايته وطبيعة نظامه ّ تم لـ «خالد آغا» أداء قسم العضوية وأصبح مذ ذاك الرفيق ّ خالد .ثم ّ تسنى له أن يواجه الزعيم ويطلع منه مباشرة على أبعاد نظرة الحزب السوري القومي الاجتماعي وماهية مرامي الحزب في أن «يبعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى ألامة السورية حيويتها وقوتها» .وقد كان الرفيق خالد على ش يء وفير من الاطالع والدراسة ً ً وهو يتمتع بقسط جيد من الخبرة العملية التي تتيح مجاال مجديا من الاستفادة والاكتساب املتوافر في صفوف النهضة وثقافتها.
47
ً وكان على الرفيق خالد أن ينزل سريعا وبقوة إلى ميدان النشاط والتحقيق في صفوف النهضة وصفوف املواطنين كافة .فيبرهن للمأل كيف ّ أن الحزب قد ّ حول مجرى حياته من إقطاعي معروف بصلفه وتسلطه على ّ عماله ومزارعيه إلى رفيق قومي اجتماعي ،إلى رجل عقيدة يؤمن بالحق والعدالة ويعمل بكل إمكانياته ووجوده لتثبيت حرية املواطن وصيانة كرامته. لم تمض أشهر قالئل على انتماء هذا الرفيق إلى الحزب حتى جاء ً يراجع ّ منفذ عام منطقته بخطة عمل خاصة ونافذة جدا بين جماعات ّ عماله وفالحيه .وهي تقض ي بأن يترك له املجال الكافي لتطبيق مبادئ الحزب ً ً مع هؤالء الذين يعتبرون أنفسهم أتباعا له .فيلمسون عمليا معنى الحزب من خالل تعامله الجديد معهم وتعاونه القومي الاجتماعي وإياهم في الحقول واملزرعة والبيت ّ يتفهمون أغراض الحزب ويقفون على حقيقة أخالقه ونفسية أعضائه بقدوته ومناقبه هو ذلك إلاقطاعي السابق .لم ي ْ صر إلى مفاتحتهم بشؤون الحزب وأفكاره ومقاصده .أي أن يتعرف كل فالح ومزارع من خالل ألاعمال القومية الحقيقية على الحزب وكيف تمكن من أن يلغي ً ّ ً ً ً إلغاء تاما وصادقا .وفيما بعد يطلعون نظريا على إقطاعية «آلاغا» العريقة كل مضامين الحزب ومفاهيمه ومناقبيته .هكذا يصبح هؤالء العمال واملزارعون واعين بسذاجة فطرتهم السليمة وبالتطبيق العملي واملمارسة ً الفعلية ملا يحمل إليهم الحزب من خير وهناء .يستعيدون واقعيا الثقة بنفوسهم والاعتزاز بكرامتهم بالتعاون والتعامل الفاضل .حينذاك يسعون من تلقاء أنفسهم للتفتيش عن الحزب الذي أعتقهم من نير إقطاعية ً «آلاغا» جاعال منه رفيق الجميع وصديق من كان يستعبدهم باألمس بال إرغام وال إكراه .وبدون هذه الطريقة التي يسبق فيها العمل والتطبيق كل قول وكل النظريات مهما بلغت قيمتها وخطورتها ال نصل إلى الشعب ،إلى 51
عقله ونفسه ووجدانه .لسنا في الحزب عارض ي نظريات ونماذج أفكار وأقوال إنما نحن بناة النفوس والعقول باألعمال وألافعال التي تفرض حقيقتها النبيلة البناءة على الوجود بأسره« .نحن ّ نقد س آالم الشعب ،ونبذل نفوسنا ً فداء للشعب». هكذا عمل الرفيق خالد لتكون دعوته ملجموع فالحيه ومزارعيه وهكذا ّ يتلقنون حقيقة الحزب ويعتنقونها بصالبة فذة وهم يتساءلون راح هؤالء ًّ ًّ فغير فيه ّ عما حدث لـ «آلاغا» ّ وبدل حتى صار ندا لخدمه ومحبا لـ «أزالمه» ً حبه إلخوانه وأوالده .ما الذي ّ حول -ألاغا -فجعله إنسانا بالفعل والسلوك ً كباقي الناس ومع سائر الناس .وملا قيل لهم إن -آلاغا -قد أصبح عضوا في حزب ولذلك لم يعد يتقبل كلمة «آغا» بل غدا يزدريها .وهو اليوم يفخر بأنه الرفيق خالد .وها هو بالفعل رفيق ورقيق وشفيق مع الجميع دون استثناء وال تصنيف أو تفريق بين الناس .هذا بعض ما هو القومي الاجتماعي الحقيقي وبعض ما تعنيه حياة العقيدة .وما جعل «خالد آغا» يعلو ويسمو ّ إلى أن صار الرفيق خالد الكنج إال ذهنية القضية وما يزال بعد أن فارقنا بالجسد مثال الرفيق بقدوة ذكراه. ما أن سمع الفالحون واملزارعون العاملون في أمالك الرفيق خالد كنج إن الحزب يحقق مثل هذه ألافعال الجبارة التي تشبه املعجزات حتى تحولوا ً هم تباعا بحماس منقطع النظير وإيمان ال أعمق وال أصفى وال أفعل .أجل ً قد تحول من ع ُّدوا عبيدا باألمس بفعل العقيدة السورية القومية ّ ً الاجتماعية قد صاروا أحرارا أعزاء تفاخر النهضة بما يتحلون به من وضوح الشخصية وما هم عليه من «استقالل نفس ي وجوهر أعظم من أي شخص وضع نفسه أداة تسير بأفكار بعيدة عن حقيقته».
51
أجل في النهضة يتم التحول املتألق والخلق الجديد وتتحقق لكل ً ّ أصحاء العقل إنسان الكرامة والحرية .وفيها أيضا يصنع رجال العقيدة والنفس ويبنى إلا نسان الجديد ،إنسان العقلية ألاخالقية الجديدة الذي ً يؤمن بالحق والخير والجمال لألمة السورية .ويعمل مناضال للحرية والواجب والنظام والقوة لتحيا سورية هانئة بقدوة سعاده.
52
اللقاء ألاول مع سعاده
ال تكن يا رفيـ ـ ـ ـ ـقي صعوبة فوق الصـ ـ ـعوبات
كانت محافظة الالذقية التي تشمل حينذاك ما يكون اليوم محافظة ً طرطوس ،مسرحا ملوجة عارمة من العمل لـ «الوحدة السورية» ،أي لوحدة ً تضم كال من دولة العلويي ن ودولة جبل الدروز إلى دولة دمشق عاصمة الشام الشاملة مدن الداخل حتى حدود منطقة العراق الحالية لتجعل منها دولة مركزية واحدة باسم الجمهورية السورية .وكان مدار ذلك النشاط منذ أوائل سنة 1724يوزع ألاهلين ،وعلى رأسهم فئة املهتمين بالشؤون السياسية العامة ،بين طالب «الوحدة السورية» والانفصاليين املعارضين لهذه الوحدة .وقد كان لألجنبي ،بالطبع ،دوره ألاساس ي في إذكاء روح التعصب والتنازع بشتى الطرق وألاساليب الاستعمارية ،ما دامت صفوف الشعب البائس تعاني من تضارب نفسيات ألافراد الشخصية مع نفسيتهم العامة في كل ما له عالقة بالقضايا العامة. 52
في غمرة الانهماك العام بين جماعة الوحدة وجماعة الانفصال التي ً ً كانت تستأثر باهتمام الناس وتمأل أوقاتهم توترا وحماسا أخذ فكر الحزب ً رويدا وبكل تؤدة ّ وتأن إلى عقول الناس السوري القومي الاجتماعي يتسرب ٍّ ونفوسهم ويراود سعيهم املتواصل إليجاد الحلول ومعالجة تطلعاتهم نحو ألافضل .وراح بعض العناصر من الشباب املتحمس واملتقد قدرة على العمل والصمود يتهامسون حول وجود حزب سري ناش ئ في لبنان يتسلل ّ بتكتم ً شديد إلى أواسط العاملين من الطلبة خصوصا ،للقضية العامة .ويقولون أن نطاق مبادئ هذا الحزب يمتد في سورية الطبيعية بأسرها. وصل الحديث بالتواتر الحذر عن وجود هذا الحزب السوري القومي الاجتماعي ،منذ أواسط سنة ،1725إلى مسامع بعض شبان طرطوس، ً معظمهم ممن كانوا طالبا في مدارس لبنان .وتناقلوا فيما بينهم فكرة الاستزادة من املعلومات عن الحزب التخاذ املوقف املدروس بشأنه ،فكان نشوء مديرية للحزب السوري القومي الاجتماعي في طرطوس تابعة ّ ملنفذية طرابلس خالل أشهر معدودات من منتصف السنة عينها .مديرها الرفيق السابق رياض عبد الرزاق ابن نائب البلدة آنذاك بينما ّ تحملت مسؤولية املذيع أولى املسؤوليات الحزبية إلادارية التي أسندت ّ إلي .ولم يمض وقت ً طويل حتى بلغ عدد أعضاء مديرية طرطوس خمسة وأربعين عضوا. في تلك ألاثناء كشفت سلطات الانتداب الفرنس ي أمر الحزب ونشطت ً في مطاردة الزعيم مع من عرفتهم من املسؤولين وألاعضاء .اعتقلت عددا ً ّ كبيرا منهم بتهمة تأسيس حزب سري غير مرخص يعمل ضد أمن الدولة ً وأنظمتها وقد ساقت من ساقت تعسفا أمام املحاكم ألاجنبية .وقع انكشاف أمر الحزب في السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1725لدى مرور ثالث سنوات على بدء تأسيسه .فتلقى أبناء الشعب النبأ التاريخي الفريد باهتمام ّ بالغ وإقبال بارز على تس ُّقط أخبار الحزب ومتابعة مواقف الزعيم الفذة إزاء 54
املحاكمات مع بقية ألاعضاء واملسؤولين آنذاك .وغدا الحزب موضع ردود فعل متباينة من قبل جميع فئات الشعب ح يث تناولت ألاقالم وألالسن مبادئ الحزب ونظامه باإلطراء وإلاعجاب وانهالت عليه جماعة إلاقطاع وفريق من رجال الدين ومن يدورون في فلك أفكارهم ومواقفهم بسيل من الاتهامات ووابل من إلاشاعات بغية تشويهه وإبعاد سواد الشعب عن تأييده ومناصرة قضيته .هكذا بدأت أولى معارك التحرير الشعبي على يد العاملين لرسالة الحرية والواجب والنظام والقوة من جماعة الرجعية .وقد ّ سجل رجاالت الحزب وقفات العز أمام املثلث املتمثل باألجنبي املستعمر وإلاقطاع املتسلط وحفنة من رجال الدين ال تميز بين جوهر الدين وفضائله وبين الطائفية وما ُّ تجر من أحقاد مخذية« .وما معركة النهضة سوى معركة الوصول إلى الشعب» ،إلى عقله ووجدانه ونفسه .وال ّبد في كل معركة من مواقف بطولية قدوة ومن هزائم تفرز أصحابها عن صفوف أبناء الحياة املناضلة لسيادة ألامة وكرامتها .لذلك قد تراجع بعضهم عن التزامه ،أمام ّ ضغط التسلط ألاجنبي وأعوانه ،وإزاء تضليل إلاشاعات بأن الحزب هو ضد ً الدين ،ضد العروبة وضد لبنان .وهو حزب ال ّبد وأن يكون عميال إلحدى الدول ألاجنبية أو ألكثر من دولة ّ عدوة. وكان من طليعة الذين انسحبوا من الحزب الدكتور علم الدين الذي ً أعلن انسحابه عبر مقال مط َّول في جريدة «ألايام» الدمشقية متهما الحزب بعدم إيمانه بالعروبة. ما أن وصلت جريدة ألايام هذه إلى طرطوس حتى سارع الرفيق مدير ً مديرية طرطوس إلى عرضها على رفقاء طرطوس طالبا منهم الانسحاب من الحزب الذي ال يؤمن بعروبة الدكتور علم الدين .فكان له ما أراد بسهولة ً مذهلة إذ وافقه على الانسحاب من الحزب أربعون رفيقا من أصل خمس ً وأربعين عضوا في طرطوس .وقد ّدبج املنسحبون عريضة «طويلة عريضة» 55
توجهوا بها إلى مركز الحزب في بيروت بإعالن حل الحزب في طرطوس والعودة إلى قواعدهم العروبية «مساملين ظافرين» .أما الخمسة الباقون فلم ّ ّ يوقعوا العريضة وقد أكدوا لرياض عبد الرزاق استمرار إيمانهم بحقيقة الحركة السورية القومية الاجتماعية مع توكيد عدم استعدادهم ملتابعة أي نشاط حزبي في تلك آلاونة. ّ املصممون على إيمانهم بحقيقة عروبة الحزب وجميع ثم قرر الخمسة معطيات عقيدته أن يرسلوا أحدهم إلى املركز في بيروت إلطالع عمدة الداخلية على ما جرى للحزب في طرطوس وعلى أسبابه والغرض منه ً وللتداول نظاميا في ما يقتض ي عمله في هذا الشأن .كانت الحادثة أولى اختبارات الحزب بطرطوس .رأى هؤالء الخمسة الصامدون في موقفهم وتسب ْ ّ بت لهم بصدمة بالغة من ألالم والخيبة. صعوبة كبرى شديدة املرارة. ً وقد وقع الخيار ّ علي أنا بوصفي مذيعا ملديرية طرطوس كي أتوجه باسمهم ّ ً مدرسا في معهد الالييك الفرنس ي بطرطوس. إلى املركز .وكنت وقتذاك ّ توج هت إلى بيروت في الثاني والعشرين من أيار سنة 1721ملالقاة عميد الداخلية مأمون إياس ً بناء على موعد سابق حصلت عليه بموجب رسالة رسمية .وكان قد مض ى تسعة أيام فقط على إلافراج عن الزعيم بعد قضائه ستة أشهر في سجن الرمل مدة الحكم ألاول عليه .وصلت إلى بناية ً مركز الحزب في بيروت بعد ّ مشقة وجهد كبيرين ألنني لم أكن أعرف أحدا من الحزب هناك وليس لدي ما يعرف ّ علي سوى رسالة عمدة الداخلية التي ً تحدد لي موعدا مع العميد .دخلت املركز وقدمت الرسالة التي أحملها من عمدة الداخلية إلى الحارس ،الذي طلب مني الجلوس ،ريثما يسمح لي ً بالدخول .فجلست على مقعد ورحت ّ أتأمل املوجودين الذين ال أعرف أحدا ً منهم .ولكني كنت مرتاحا رغم سفري ،ملا رأيته من حيوية ونشاط فيهم ،وبعد دقائق ناداني أحدهم با سمي وطلب مني مرافقته ثم قادني خالل ممر ،حيث 51
أوقفني أمام إحدى الغرف ،ثم قرع الباب ،وطلب مني أن أتقدمه بالدخول، ثم قام بإعالن اسمي ومسؤوليتي الحزبية للذي في الغرفة ،ثم ّ قدم التحية ً وانسحب من الغرفة بنظام تام ،ليتركني وجها لوجه أمام شاب بهي الطلعة، حاد النظرات ،حازم املالمح ،حنطي اللون أقرب إلى السمرة ،ربع القامة ممتلئ الجسم .ما لبثت أن أدركت أنني أمام الزعيم ألول مرة في حياتي وقد ً ّ أتصوره أكثر طوال قبل املثول أمامه ،من خالل إحدى صوره باللباس كنت الرسمي التي نشرت عنه أثناء اعتقاله والتحقيقات ألاولى معه. دعاني للجلوس إلى جانبه مواجهة في مقعد مستطيل يتسع لثالثة أشخاص على ألاقل وبادرني في الحال: ما الخبر عن طرطوس؟ّ قصصت له كل ما حدث منذ اطالع املدير رياض على مقال الدكتور علم الدين املتضمن انسحابه من الحزب بسبب عدم أخذه بالعروبة كما ً ّ قوميــي يراها هو إلى أن وضعت العريضة بانسحاب أربعين عضوا من ً ّ طرطوس لترسل إلى املركز معلنة حل الحزب فيها وقد توقفت مليا لدى موقف ألاعضاء الخمسة من هذه العملية وما ّ تفردوا به من صمود وحنكة بالنسبة ملجموع ألاعضاء. إذن املسألة هي مفاجأة الدكتور علم الدين ورياض عبد الرزاقبخروج الحزب عن مفهومهما للعروبة .فكيف ترون مجال العمل من جديد في طرطوس وأسلوب إعادة شق الطريق أمام هذه العقبات املعلنة في وجه الحزب بطرطوس؟ أخذت أروي له ما كان ينتظره الحزب لوال ذ لك الحادث من انتشار وانتصار في املحيط سواء بمدينة طرطوس أو قراها العديدة القابلة لألخذ
59
ّ بالفكرة السورية القومية الاجتماعية وما صارت تشكله هذه الحادثة في سبيل عمل الحزب من صعوبات وصعوبات شديدة الوعورة. وأسهبت الشرح عما ينتظرنا من الصعوبات الشديدة في املراحل ّ والتحسب ملواجهة تلك الصعوبات القادمة وما يفرض علينا إعداده بقسوتها وصالبتها. كل هذا التفصيل والتطويل قابله الزعيم بإصغاء هادئ عميق كان ّ يتخلله بين الحين وآلاخر ابتسامة عابرة لكنها ُّ جد معبرة لم يكن ليخفي تلك الابتسامة املتأملة حتى وصلت بحديثي املطول عن الصعوبات وخطورتها بحماسة واندفاع جامح جعال الزعيم يستوقفني بكلمة حاسمة« :لكن يا رفيقي ال تكن أنت صعوبة فوق الصعوبات» .ثم عاد إلى صمته املتأني كمن ّ أتصورها بل ينتظر مني املزيد من إلاسهاب في وصف الصعوبات التي كنت ّ أتوق عها في مسيرتنا الحزبية املقبلة بالرغم مما كنت أبديه خالل الحديث من استعدادنا نحن الخمسة الباقون في الحزب بطرطوس لتحمل املسؤوليات وتحمل تلك الصعوبات الناجمة عنها. ّ بعد أن قال لي الزعيم بأال أكون أنا نفس ي صعوبة جديدة تستلزم هي ذاتها املعالجة ارتج ّ علي ولم يكن بإمكاني متابعة الحديث عن أي أمر بل صرت أحار فيما أقول وكيف أقول ما أرى ضرورة قوله وإلافصاح عنه. ّ حينذاك استدرك الزعيم تلعثمي بالكالم وتعذر إفصاحي عن أي فكرة أو إبداء أي رأي .فاستدعى بنفسه عميد الداخلية وطلب منه إعطاء ألاعضاء ً الخمسة املوجودين في طرطوس تفويضا بمسؤولية الدعاية وإلادخال بين صفوف املواطنين في قضاء طرطوس على أن يكونوا مسؤولين مباشرة عن أعمالهم الحزبية أمام عمدة الداخلية.
58
هكذا بدأت مرحلة جديدة مهمة من تاريخ العمل الحزبي في طرطوس والقرى التابعة لها .والحزب وحده يعرف كم كنا نحن الخمسة ،أو كنت أنا ً ً شخصيا صعوبة فوق الصعوبات التي يواجهها طبيعيا العمل السوري القومي الاجتماعي في معركة انتشار الحزب في صفوف ألامة السورية ّ وميادين انتصاره ّ املحتم على كل صعوبة في طريق الحياة الطويلة الشاقة.
57
َّ الشخص «آلادمي الطيب» أزوجه ابنتي ،ال أسلمه مق َّدرات البالد
للداللة على تطور املجتمع ووعيه وسبل النهوض عالمات ومؤشرات متفاوتة من حيث ألاهمية والوضوح .منها نظرة الشعب إلى ماهية السلطة ّ ومعنى املسؤوليات التي يتوالها ألافراد لتصريف مختلف ،شؤون الشعب. ً ومنها أيضا نظرة ألافراد أنفسهم إلى مدلول تلك السلطة التي بين أيديهم وإلى كيفية التصرف بها وممارستها بالنسبة إلى أشخاصهم هم وإلى املصلحة العامة عينها. ّ فالشعوب املتخلفة التي يتفش ى التفكك في بنيتها الاجتماعية وتعاني وطأة الفوض ى وامليوعة في عقليتها ألاخالقية ،هذه الشعوب ترى في السلطة ً ً نوعا من الامتياز يمنح لعدد من ألافراد أو ضربا من غنيمة ينالها البعض ً ً عنوة حتى تصبح حقا مكتسبا ألصحابها يمارسونه كيفما شاؤوا .وللشعب أن يتحمل النتائج التي تفرض عليه حسنة كانت أو سيئة. 11
وألافراد في الشعوب املستعبدة يحسبون السلطة أداة خاصة لتأمين حاجاتهم الخصوصية وتوفير ملنافع واملكاسب ألشخاصهم هم .وما على الشعب إال الرضوخ والتسليم ملا يقررون .ألن املجتمع بنظرهم وسيلة لتحقيق ألاغراض الشخصية .إنهم مصدر السلطات ومنشأ ّ النعم يوزعونها على الشعب وفق رغباتهم وشهواتهم. ّ املتطورة التي بلغت مستوى الثقة بنفسها ووعي حقيقتها أما الشعوب فقد أدركت أن السلطة مسؤولية لخدمة املصلحة العامة من أجل خير الشعب ورفاهه وازدهاره. وإن ألافراد في ألامم ،التي ّ تفهمت معنى السيادة والكرامة ،ينظرون بدورهم إلى السلطة على أنها وسيلة لخدمة ألاهداف القومية واملصالح الاجتماعية التي لوالها ملا كانت الشرائع والقوانين وانتفت الحاجة إلى جميع السلطات. ّ لقد وقعت أمتنا فريسة حكام يرون أن السلطة هي ميراث موروث ّ وملكية خاصة ،ضاربين عرض الحائط ،بالقدرة التي قد يتحلى بها البعض من غنى وتفوق ّ تخولهم حق القيادة ،والسير باألمة ملجاراة سائر ألامم ّ الحية. ّ حدث مرة في أحد كيانات الوطن أن تسلم أحد النافذين مركز رئيس ّ مجلس الوزراء .واستمر في منصبه هذا السنين الطوال ،رغم تقلب ألاحوال ّ وتبدل ألاوضاع املتعاقبة في ألامة السورية والعالم بأسره .حتى فاحت روائح أالعيبه واختالساته .وشاعت نتانة صفقاته ملآرب ذويه وأزالمه .ومألت ألانوف ً والنفوس اشمئزازا .وليس من سبيل لزحزحته وتحرير رئاسة الحكومة من تكالبه ،وإراحة كاهل الشعب من جشعه وارتكاباته .لقد ّ عمت البلبلة بين الناس الراضخين بمرارة إلى النظام إلاقطاعي الذي يوشك أن يودي بمصالحهم ويقض ي على كرامتهم القومية .وأثير موضوع استقالته أو إلزامه 11
على الاستقالة .وأخذت ألالسن تتداول أسماء من يمكن أن يحل مكانه ،وقد رجح ورشح من راح الناس يتنادون بنزاهته وصفاء أخالقه .وأنه «آدمي طيب» ال يسرق وال يتالعب ّ بمقدرات الدولة ومصالح املواطنين .فشعر الناس لطيب أصالتهم وصفاء فطرتهم أنهم مقبلون على فرج كبير ألول مرة منذ أكثر ّ من جيل .وقد عاودهم ألامل بمستقبل جيد ملجرد تصورهم إمكان التخلص ّ املتشبث «بالكرس ي» ُّ تشبث عزرائيل بأرواح ضحاياه من صاحب الدولة ألابرياء العزل .ولم يبق مواطن إال وأسهم في الفرحة الكبرى باإلنقاذ العتيد. إلى أن كنا ذات مرة في سهرة قومية اجتماعية بحضور الزعيم .فر ّدد أمامه خبر الانتخابات .وقد يؤتى باآلدمي فالن الذي ال يسرق وال ينهب وال يختلس ُّ وال ...لتسلم سدة رئاسة الوزارة عوض عن فالن الشهير بشوائبه. ً فابتسم الزعيم مستغربا والتفت إلى املهللين ملجيء آلادمي إلى الحكم ً قائال: ّ أسلمه ّ «الطيب آلادمي أ ّزوجه ابنتي ّ مقدرات البالد» .ال خالص لكنني ال وال إنقاذ لألمة من ويالتها إال بحركة التغيير الجذري في العقلية ألاخالقية القديمة البالية واعتناق العقلية ألاخالقية الجديدة ،عقلية الحرية والواجب والنظام والقوة إلقامة الحق والخير والعدالة بين الناس وفي عقولهم ونفوسهم .ولن ّ تتم أي فائدة لألمة من تبديل أشخاص بأشخاص. وهم يتسابقون لتمكين الفساد وإفساد أصالة الشعب.
12
صدقتم ،يا دولة الرئيس ،إن ما نسـ ـ ـ ـ ـتعمله غـ ـ ـ ـاية وجودنا تس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتعملونه أنتم وس ـ ـ ـ ـ ـيلة ملنافعكم الخصوصية سعاده
كان يقود النضال السلبي في الشام ضد الانتداب الفرنس ي جماعة ونيف .في ّ الكتلة الوطنية طيلة خمس وعشرين سنة ّ أدق مرحلة من مراحل ً ً ّ وأشدها عنفا واحتداما كشف أمر الحزب السوري القومي هذا النضال الاجتماعي ،فكان إلعالنه ونشر مبادئه وأهدافه دوي كبير لدى الرأي العام السوري وأمام السلطة ألاجنبية والعالم .إ ثر انكشاف وجود الحزب في السادس عشر من تشرين الثاني سنة 1721ز ّج بالزعيم وبمن عرفوا من املسؤولين وألاعضاء في السجون اللبنانية .وقد و ّجهت إليهم تهمة تأسيس حزب سياس ي والعمل له من دون ترخيص رسمي من قبل الدولة .وانتهت املحاكمة أمام املحكمة الفرنسية املختلطة بالحكم على الزعيم بالسجن ملدة ستة أشهر وملد ٍّد متفاوتة دون الستة أشهر على سائر املسؤولين آنذاك، ّ وبحل الحزب واعتباره غير شرعي. 12
ً َّإبان اعتقال الزعيم وقعت أحداث عنيفة جدا من مظاهرات وإضرابات واسعة شملت مدينة دمشق وبقية املدن الشامية الكبرى ضد سلطات الانتداب الفرنس ي ،مما أدى إلى تراجع هذه السلطات تحت وطأة الضغوط الشديدة وإلى قبولها ،ولو بالظاهر ،مبدأ تشكيل وفد سوري من الشام إلجراء مفاوضات ثنائية في باريس .وقد ت ّنبه الحزب إلى أهمية تلك املناسبة َّ وود استغاللها ملصلحة ألامة إلى أبعد الحدود .فأصدر الزعيم ما دعي بالبالغ ألازرق ّند د فيه بتصرفات املستعمر وتماديه في الضغط على الحريات العامة وأشاد بوقفة الشعب املش ّرفة في سبيل كرامته وسيادته. تمنيه على الوفد املفاوض بأن ّ وض َّمن البالغ ّ يتبنى مطالب الحركة السورية القومية الاجتماعية بالسيادة والاستقالل ّ وأهمها إلاصرار على طلب استفتاء الشعب في لبنان بشأن ض َّم لبنان والشام .وقد كانت الظروف ،على مستوى الوطن السوري أو بالنسبة إلى أوضاع فرنسا الداخليةُّ ، جد مالئمة ملثل هذه الخطوة املهمة ،والنفوس ّ مهيأة التخاذ هذا املوقف القومي الشجاع. لكن قادة الكتلة الوطنية لم تع ْر هذا املوضوع الاهتمام الج ّدي ولم ً تكترث لوفد الحزب الذي َّ توجه إلى دمشق حامال لحكومتها البالغ ألازرق ً مرفقا بمذكرة من الزعيم بتأييد موقفها ودعمه مع الاقتراحات العملية التي كان يرى ضرورة ألاخذ بها واعتمادها ألهميتها القومية .وكانت ّ حجة جميل مردم بك رئيس الوزراء الشامي ،آنذاك ،إن الظروف غير مالئمة ملثل هذه املطالب املحرجة للجانب الفرنس ي ،وأضاف إن الحزب السوري القومي الاجتماعي مشكوك بعروبته وال يجوز له ،والحالة هذه ،أن يحشر أنفه في ّ مثل هذه الشؤون .منذ ذلك الحين أخذت مواقف الكتلة الوطنية تتكشف عن محاربة صارمة لنشاط الحزب وانتشاره الواسع دون أي ّ مبرر لهذا ّ العداء إال الافتراء القائل بأن الحزب هو ضد العروبة ،ومن دون اللجوء إلى ّ أي حوار أو بحث حول هذا الاتهام الباطل .ولكم ُّاتخ ذ هذا الاتهام وسواه 14
ذريعة واهية لتغطية خلفيات املتآمرين على وجود الحزب وحجب نواياهم ّ التي ال ُّ تمت إلى املصلحة العامة بأي صلة وال تن ُّم إال عن جهل مطبق مع ّ خلوها من أي مبدأ أو فكر. في عهد رئاسة جميل مردم بك للوزارة الشامية سنة 1729-1721 سلخ لواء الاسكندرون عن جسم الدولة السورية وض َّم إلى الدولة التركية ّ فتصدى دولة رئيس الحكومة لهذه املؤامرة بإلقاء التصاريح عنوة. ً الديماغوجية مؤكدا من على املنابر «إن الاسكندرون عربية وستبقى عربية إلى ألابد» .وملا لم تفعل التصاريح «املردمية» فعلها السحري في ّرد الجيوش التركية والفرنسية عن سلخ لواء الاسكندرون وإلحاقه بتركيا وفي تفشيل ّ تصد ى مردم بك املؤامرة الدولية ضد سيادة ألامة السورية واستقاللها، ً ّ بجدية أكثر لالعتداء آلاثم بتصعيد حدة التصاريح قائال« :ال ضير علينا من إلحاق الاسكندرون بتركيا ،إن هذه العملية ستحرج تركيا نفسها وتوقعها في ورطة مستعصية ألنها لن تستطيع هضمها وابتالعها وسوف تنال جزاء فعلتها واعتدائها علينا من جراء هذا الضم» .فما كان من جريدة الحزب «النهضة» التي كانت تصدر حينذاك في بيروت إال أن ّ تلقفت التصريح ّ وأبرزته في صدر صفحتها ألاولى معلقة عليه« :إذا صح قول دولة رئيس وزراء ّ ستقض الشام بأن ضم لواء الاسكندرون إلى تركيا ،هو بمثابة ضربة مضجعها وتضعها في مأزق مصيري ،فكم سيصيبها من ويل وأذى لو تقدمنا إليها بأجزاء أخرى من وطننا ،أال تكون ّ هديتنا إليها ضربة قاتلة تجعلها عبرة ملن تس ّول له نفسه الطمع في الاعتداء على سيادتنا والنيل من استقاللنا؟ فما رأي دولة مردم بك بهذا النوع من العالج كي نقض ي به على أعدائنا؟». وكان مردم ال يدع مناسبة أو مجا ًال إال ويبادر إلى رمينا بفرية إثر أخرى ّ لتشويه حقيقتنا وتزوير مواقفنا ومقاصدنا .لكن هذه الافتراءات كانت تذكر الناس بمهزلة منطقه العجيب الذي أنقذ به لواء الاسكندرون وجعل سلخه 15
عن الجسم السوري نكبة على تركيا وفرحة لسورية .وكان أهم ما يزعجه منا ّأننا ال نأخذ بالعروبة الوهمية حسب مفهومه الديماغوجي املعتمد على فيض التصاريح وسيولة «الب ْهورات» كم ْن ُّ يود أن يربح الحرب «بالنظارات». وقد ّ صرح بهذا الصدد مرة «إن ما يستعمله الحزب السوري القومي الاجتماعي غاية له نحن نستعمله وسيلة» ..أي أن العمل لسورية الذي هو غاية الحزب هو لدى مردم بك مجرد وسيلة لقضية ألامة العربية ليس إال. فما كان من جريدة «النهضة» إال أن تناولت هذا التصريح الطريف بكل ً عناية الئقة ّ وردت عليه بتأكيدها على صحته« :حقا إن ما نستعمله نحن ّ غاية لنا وهو مصلحة سورية وسيادتها ّ مجرد وحريتها تستعمله دولتكم ّ خاصة ملنافعكم وأغراضكم الخصوصية» .فأغضب صاحب الدولة وسيلة ّ هذه املرة .وتجاوز في انفعاله حرب التصاريح إلى إصدار أوامره املشددة بمنع دخول جريدة الحزب أراض ي الجمهورية الشامية تحت طائلة أقص ى العقوبات .لكنه مع ذلك ظل ّ يتلقى الجريدة كل صباح في مكتب رئاسة الوزارة دون انقطاع طيلة أسابيع .ولم تستطع جميع تحقيقاته ووسائل ّ ّ املتحدي لقرار دولته ،وال كيفية تخطي هذه حكمه آنذاك أن تعرف من هو ّ املحرمة الحدود الشامية ووصولها حتى مكتبه بالذات .وما زال هذا الجريدة ً ّ الحادث لغزا ّ طي الكتمان التام يتندر به من يذكر عهد الضغط على ً الحريات في بلد الحريات ،في ألامة التي كانت دائما رائدة الحقيقة و الحرية للعالم بأسره .وستبقى ألامة السورية منبت الرساالت والعقائد العاملة للحق والخير والجمال.
11
طول له الحبل .فإما أن يشـ ـ ـ ـ ـ ـنق نفس ـ ـ ـ ـ ـه بالحبل أو ينقذها به .وتظل الثقة أساس كل بناء وكل تحقيق سعاده
أفرج عن الزعيم للمرة الثالثة من السجن مع العديد من املسؤولين الحزبيين 1729بعد أن انكشفت ّ سرية الحزب .وحينها جرت انتخابات نيابية عامة في الجمهورية الشامية .خاضها الحزب في معظم املناطق بزخم قوي وفاعلية مقدامة لفتت إليه اهتمام ألاصدقاء والخصوم وكان للحزب مرشحون من أعضائه في بعض الدوائر الانتخابية وفي بعضها مرشحون من أنصاره ومن املناطق الشامية التي تميزت بنشاط الحزب الفعال دائرة ً ً طرطوس الانتخابية حيث برز التنافس عنيفا وكثيفا بين كثرة من املرشحين ومؤيديهم .وكانت طرطوس آنذاك من أقوى ّ ألاقوياء بمالهم ّ منفذيات الحزب في الجمهورية الشامية وكان عليها أن تتدارس الوضع الانتخابي والشعبي ّ بكل ّ روي ة وموضوعية لتحسن اتخاذ املوقف املالئم ملناقب الحزب ومكانته املرموقة.
19
لدى تداول أوضاع طرطوس الانتخابي من قبل أعضاء هيئة ّ املنفذية ّ توزعت آلاراء كثيرًا وتضاربت وجهات النظر ّ بشدة تعذر معها التوصل َّ بسهولة إلى اتخاذ موقف مو َّحد الختيار مرشح بمؤازرة قوى الحزب .وملا كل من املرشحين أى ّ ّ وتشعبت التقديرات حول ّ املنفذ العام طالت ألابحاث ر ً بالوكالة الرفيق الدكتور ابراهيم يازجي أن يرفع إلى املركز في بيروت اقتراحا ً ّ ً معلال بمناصرة الحزب للمرشح عيس ى جميل عرنوق ،عمال بصالحياته الدستورية .وقد كنت بوصفي ناظرًا لإلذاعةّ ، ممن خالفوا هذا الاقتراح ّ وسجلوا في تقرير خاص أسباب هذه املخالفة رفع إلى عمدة الداخلية مع ً طعنا بنزاهة موقف ّ اقتراح املنفذ العام وقد ّ املنفذ العام ضمنت التقرير ً بالوكالة ّمتهما إياه باالنحياز لصالح املرشح عيس ى جميل عرنوق باعتباره ابن ّ ّ عمه مع بيان ألادلة على ذلك .وبعد أيام قالئل من موافاة املركز بدراستنا للوضع الانتخابي في طرطوس واقتراحاتنا بصدد املوقف املناسب اتخاذه من املر ّشحين .جاءنا الجواب بوجوب تأييد الحزب للمرشح عيس ى جميل عرنوق أي باملوافقة على اقتراح املنفذ العام بالوكالة .ثم جرت الانتخابات وأبدت فيها صفوف الحزب بطرطوس منتهى الفاعلية والانضباط وأعطت للمرشح عيس ى عرنوق أبرز تأييد وأفعل دعم وقد قارب النجاح بعدد قليل من ّ ً ألاصوات مؤكدا صالبة جبهته ومتانة شعبيته ثم استؤنفت ألاعمال الحزبية ّ ّ كمدرس في معهد بنشاطها املعهود بينما كنت أترقب الفرصة السانحة لي الالييك الفرنس ي ألتابع مع املركز موضوع ّاتهامي للمنفذ العام بالوكالة ً بخصوص سلوكه من الانتخابات .وفي تلك ألاثناء ّ تلقت ّ املنفذية مرسوما من الزعيم بترفيع الرفيق الدكتور يازجي من مسؤولية ّ منفذ عام بالوكالة إلى رتبة ّ منفذ عام طرطوس .استوقفني هذا التدبير وأشكل ّ علي تعليله كما علي ّ صعب َّ تقبله بارتياح واطمئنان .وقد هالني أن يحدث مثل هذا التقدير ملن تحوم حوله الشكوك وهو ما يزال موضع اتهام خطير وقبل أن يصار إلى
18
إجراء أي تحقيق معه .ثم سارعت إلى الاتصال بعمدة الداخلية للحصول ظن ًا ّ ملنفذية طرطوس ّ على موعد قريب من أجل معالجة الوضع الشاذ ّ مني ً ً ّ يتوجب الكشف أو وجود حلقة مفقودة يقتض ي ّأن هنالك غموضا معيبا ْ وبدأت املخاوف تنتابني بسبب الثقة بحثها مع املركز إلعادة ألامور إلى نصابها. التي منحت للرفيق الدكتور يازجي وهو غير أهل لها بنظري وما قد ينجم عن وضع الثقة في غير موضعها من ضرر يصيب الحزب ويعيق سالمة استمراره ّ بصح ة تطبيق العدالة في التدبير الذي في طرطوس .وقد خامرني الشك ً اتخذه الحزب أو اعتماده املعلومات الخاطئة أساسا لتصنيف ألاعضاء وتقييم إمكانياتهم ومؤهالتهم. وقد ه ّزني تصور ما تؤول إليه حال ّ منفذية طرطوس بعد التدبير الذي ً ّاتخذ كأنه مكافأة ملن يس يء إلى مصلحة الحزب .لم أكن قادرا حينذاك على ّ أن أركز تفكيري بما حدث وألن أضبط اضطرابي لتحليل ألاسباب واستشفاف العوامل التي حد ْت بالزعيم إلى منح ثقته ملتهم يجب معاقبته أو مؤاخذته على ألاقل. آملتني الحادثة خاصة وأنني كنت ال أزال في مطلع حياتي الحزبية وبداية تك ّون اختباراتي ألاولى ّ لتفهم معاني املؤسسات الحزبية وفحوى إلاجراءات التي تعتمدها في الكشف والتوجيه والبناء. ّ ّ املخولة معالجة ألامر وتوجهت إلى بيروت لالتصال بالجهات الحزبية وأعددت نفس ي على أن أكون شديد املصارحة ملا كنت أعانيه من ألم مرير نتيجة إهمال عمدة الداخلية لشكواي ضد املنفذ العام ومكافأة الحزب له جزاء سوء تصرفه في توجيه املوقف الانتخابي خدمة لقريبه املرشح .وعزمت على أن أواجه الزعيم إذا اقتض ى ألامر ليس فقط بما أرى وما لدي من أدلة ً أيضا من ظنون ّ وحز في نفس ي من على اتهام املنفذ العام بل بما خامرني
17
شجون تجاه الثقة املجحفة بالحقيقة التي أوالها الزعيم إلى الرفيق الدكتور يازجي آنذاك .وصلت املركز وأخذت أسرد لعميد الداخلية نعمة تابت كل ما ّ يتعلق بوضعية ّ منف ذ عام طرطوس ومسلكه إبان املعركة الانتخابية لكنه قاطعني بتؤدة ولباقة ليتابع هو ما كنت ّ أود أن أخبره به عن طرطوس ومنفذها وغير ّ ّ منفذها .كأنه كان على علم مسبق بما لدي وما يدور في خلدي ً ويشغلني من هموم على مسيرة الحزب في طرطوس .ثم غادرني مستأذنا إلى غرفة مجاورة وعاد منها خالل دقائق ليدعوني إلى مقابلة حضرة الزعيم. ّ ً رحبا ،ابتسامة تنم عن قابلني حضرة الزعيم بابتسامة مستحبة م ّ ارتياح عميق راح يغمر قلقي بعناية ودراية مطمئنة من جهة ومشجعة من جهة أخرى على الكشف الكامل ّ عما يعتمل في نفس ي من قناعات وما في تردد أو ّ ظنوني من تقديرات دون أي ّ تحفظ أو ّ تهيب .عرضت أمام رحابة الزعيم الحافلة بعمق ّ ألابوة كل دخائل فكري وخفايا مشاعري وجوانب تصوراتي بما فيها من غموض وسذاجة بريئة .وكان الزعيم يأخذ بيدي وهو يصغي إلى كل إشارة تبدر مني ّ ّ ويشجعني على ليبدد جميع أوهامي ومتاعبي املض ّي في تنفس الصعداء وأنا أعلل أفكاري ّ وأفند اتهاماتي بعجرها وبجرها. ما أروع ّ تحمل الزعيم الحميم لجموح براءتي املشدود ،والقتحام براءتي كل معقول وكل صحيح بدافع ُّ تخوفها البدائي على الحزب وقلقها على مصيره ً ً ّ البالغ منتهى الغلو واملبالغة املتدفقة حرصا انفعاليا على سالمة الحزب لكن ال ريب في صفاء إيمانها .يا لبالغة صمته وصفاء ّ تأمله النابض بالحياة املفعم ً ّ خضم كل بالثقة واليقين املطلق بأن الصحيح وحده هو الباقي منتصرا في ألاخطاء وألاخطار .ال زلت أرتوي من رحيق هاتيك العبر وقد مض ى عليها ً ً أربعون عاما ونيف وأخالني آلان أصغي إلى كلمات الزعيم تقول أبدا: يا رفيقي أخذ املركز بجميع شكوكك حول تصرف منفذ عام طرطوس، لذلك وكي ال تجمد التهم املنسوبة إليه في حيز الشك بل تخرج إلى اليقين 91
ّ املسند إلى الوقائع الثابتة .ولئال ّيحكم إلانسان بالشك ويدان بالظنون بل ً ّ يظل بريئا حتى ثبوت إدانته باألدلة والشواهد القاطعة ،ومن أجل أن يقطع ّ ّ ّ والتربص به في الخفاء. بالتردد والدوران حوله الشك فال يطول أجله دابر لهذه ألاسباب كلها التي ّ تكرس مبدأ الحرص على العدالة وضرورة ألاخذ بها ً بجرأة وحزم ،اقتضت الضرورة ،انطالقا من الشكوك الواردة بحق املنفذ ّ ً ً ّ ليتصرف بحرية العام ،أن يمنح مزيدا من الثقة ويعطى متسعا من املجال ً وأمان فيثبت يقينا ّإما أنه بريء مما نسب إليه أو يثبت يقينا أنه مذنب غير جدير بالثقة .ونصل هكذا باإلثبات الخالي من أي شك إلى الحكم له أو الحكم عليه .ن ّ ّ طول له الحبل وهو ّ وتظل حر أن يشنق نفسه به أو ينقذها. الثقة الواعية املوجهة السبيل إلى كشف الحقيقة ،وإثبات كامل مناعتها ومطلق صوابها .ولسنا بخائفين على الحزب من أحد ألن الجسم السليم ال ً ً ّبد له عاجال أو آجال أن يلفظ املادة الغريبة عن جوهره أما إذا تناسبت مع ّ ّ ويتمثلها ّ متجددة مهما قوة وقدرة وعافية أصالته فهو يعرف كيف يمتصها ً طالت مراحل معاناته لتحملها ومضغها .ففي النهاية كل مصير ّ تقرره معا طبيعة الجسم املستوعب وطبيعة تلك املادة املعدة للتفاعل والامتصاص من أجل تأمين املصير ألاوحد والهدف ألامثل «أما طريق الحياة فال يثبت عليها إال ألاحياء وطالبو الحياة بوقفات العز التي ال تنضب .ويسقط ألاموات على جانب الطريق».
91
ً نحن حقا أوالد من حي النمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو
الطهارة وقابلية سعاده
بمناسبة إلافراج عن الزعيم من سجن الرمل أواسط سنة ،1729 حضرت إلى بيروت برفقة وفد من أعضاء منفذية طرطوس إللقاء السالم عليه وتهنئته بالعودة إلى حرية العمل والنضال القومي الاجتماعي بعد ذلك الاعتقال الجائر .وقد ّ ضمتنا السهرة في منزل رفيق من رأس بيروت مع الزعيم وعدد من ألامناء والرفقاء القدامى .وكان الحديث يدور حول تمادي ّ وتحركات القوميين السلطة الفرنسية في تشديد مالحقة النشاط الحزبي الاجتماعيين في كل مكان من لبنان .وتناول البحث ما كانت تقوم به من حمالت صحفية مركزة ضد مبادئ الحزب وضد نظامه وشخص الزعيم بالذات .وما كانت تعتمده من أساليب إلثارة الشعب بكل فئاته ضد أهداف الحزب وغاياته « ّ الهدامة» ،مؤكدة أنه يعمل على تقويض الكيان اللبناني ً ّ وإلحاقه عنوة بسورية ،أي بالجمهورية الشامية .ويتنكر أيضا للعرب ً والعروبة فضال عن كونه دعوة صريحة إلى الكفر وإلالحاد .هو حزب عميل
92
ّ ً مدعيا السعي إلى تحرير البالد من الانتداب إليطاليا الفاشية وأملانيا النازية الفرنس ي بينما يعمل لخدمة أغراض استعمارية .كانت املالحظات ّ تفند ّ اضطهاد الحزب من قبل ألاجنبي وزبانيته من العمالء واملدسوسين .وتركزت في قلق الفرنسيين وألاجانب من انتشار الحزب وسرعة نموه في كل أوساط الشعب ،وفي ّ تخوفهم من صالبة مواقفه ولحمة صفوفه املرصوصة التي تجمع جميع فئات الشعب وعناصره. ّ ّ واتسع البحث في توقفه عند انجراف إلاقطاعيين عامة وفريق من رجال الدين مع ّتيار العداء للحزب وتأييدهم لتدابير املستعمر املعادية لوجود الحزب دون وعي ّ ملغبة هذا الضالل والتضليل ودون أي اهتمام بدراسة مبادئ الحزب وأهدافه للوقوف منها ،وبالتالي ،موقف الدارس املسؤول ال موقف الغبي التابع أو املأجور املرتزق من خالل املنافع الخصوصية وألاغراض الخاصة. كان الزعيم يحلل هذه الظاهرة النابية والتي ّ سجلها ذوو املنافع الخصوصية بتالقيهم على الصعيد نفسه مع نوايا املستعمر وتصرفاته الطاغية ضد وعي ألامة لشؤونها ألاساسية وقضاياها املصيرية .لقد كان ً ً أصحاب النفوذ واملكانة التراكمية بمعظمهم عونا كبيرا ملخطط الاستعمار منذ نشوء الحزب وبدء انتشاره في صفوف الشعب .ثم أخذ الزعيم يقارن هذه الظاهرة املنحرفة بإقبال الشعب على تتبع أخبار الحزب وأعماله ومواقفه بشغف عميق واهتمام بالغ الجدية والصفاء. في تلك ألاثناء أطل علينا شاب وسيم في مقتبل العمر معتدل القامة ممشوق القوام ،واضح مالمح الوجه ،صافي النظرات املعبرة عن إيمان وتصميم .فتوجه نحو الزعيم بخطى هادئة قوية ،وألقى عليه التحية القومية الاجتماعية بصوت م ّتزن النبرات ّ متقد إلايقاعّ ، مما لفت إليه
92
ّ ألانظار واتجه إليه الانتباه كأنه موفد إلينا بمهمة من جهة معينة .توقف الحديث هنيهة وساد الجميع صمت من يترقب إعالن خبر ذي بال .وقد امتألت نفس ي آنذاك بشوق م ٍّ ّلح للتعرف إلى الشاب وسيم املظهر واملسلك. ً ما كاد الرفيق يلقي التحية حتى أذن الزعيم له بالجلوس قائال هات ما عندك من طريف ألاخبار .فارتفع في الحال صوت الرفيق فؤاد سليمان يمأل أرجاء القاعة صفاء وعزيمة صادقة ليعلن« :نحن اليوم يا حضرة الزعيم، ّ أمام تهمة طريفة جديدة ،تهمة أننا حزب أوالد» .ثم توقف فجأة كمن يستفتي الزعيم ملا يقتض ي عمله ويستوجب اتخاذه من تدابير حاسمة للرد ّ على جماعة املفترين علهم يتعلمون كيف يحسبون لهؤالء ألاوالد حساب الرجال .أدار الزعيم نظره في وجوه من حوله من الرفقاء وألامناء كأنه ّ املستخفين يستوحي من عنفوان رجولتهم ما يفحم به مزاعم املغرورين برجاالت النهضة .وخاطب الرفيق فؤاد بصوت خافت النبرات عميق الهدوء ً واليقين« :نعم ،يا رفيق فؤاد ،نحن حقا أوالد من حيث الطهارة وقابلية النمو». ما أن ّ تلفظ الزعيم بهذه العبارات حتى ّ دوت القاعة ،بضحكات ّ وقابليتهم الحاضرين كأنها تصفيق الاعتزاز بطهارتهم القومية الاجتماعية ً النبيلة للنمو ،وراحوا يتبادلون نظرات ّ تنم عن تهنئة بعضهم بعضا وهي ّ مستمرون في النمو والتطور أنهم مثال الطهارة بالفكر والتعامل وألاخالق، ً ً والانفتاح على الشعب كله ليكونوا دائما رجاال وقدوة الرجال في ترسيخ قيم ّ املتفوقة بطهارة النهضة القومية الاجتماعية وفضائل ألاصالة السورية، العطاء وانطالقة النمو والبناء.
94
محـ ـ ـ ـ ـاولة فاش ـ ـ ـ ـلة الغتـ ـ ـ ـ ـيال الزعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم
أ ّسس الحزب السوري القومي الاجتماعي سنة 1722واستمر ثالث سنوات يعمل في الخفاء والكتمان الشديد .وقد امتد آنذاك نشاطه واتسع انتشاره عبر لبنان حيث تغلغل في مختلف املناطق والكيانات السياسية في سورية الطبيعية .فجر السادس عشر من تشرين الثاني 1725في الذكرى ّ الثالثة لتأسيس الحزب كان انبثاق فجره من ّ التكتم والعمل السر ّي إلى طي حيز الوجود املعلنّ . ّ فهزت املفاجأة الكبرى وجدان الشعب وأيقظت وعيه لجوانب خطيرة من حقيقته وشؤونه املصيرية كما ارتعدت فرائص السلطات اللبنانية والفرنسية وحلفائهما من العمالء لهول الحدث الذي ّ ينذر الرجعة بإجالء عقليتها املتخلفة العقيمة التي تقوم على معالجة أدهى آلافات الاجتماعية بالعقاقير واملسكنات والشعوذات الحقيرة .وما تزال الئحة العقاقير ّ ترسخ الجهل والفقر واملرض في نفوس الناس وعقولهم تارة باسم ً الدين وطورا باسم املصلحة العامة .كشف أمر الحزب فراحت السلطات ّ املتحكمة بحريات املواطن تطارد كل من عرفتهم من أعضاء الحزب
95
واملسؤولين وعلى رأسهم الزعيم بتهم ّ تنم عن تفاقم قلقها على منافعها ومراكز أفرادها .وكانت املحاكمات ّ ماد ة افتراءات دسمة ومجال حمالت إعالمية عارمة بغية تضليل الشعب عن حقيقة مبادئ الحزب ومراميه القومية ثم صدرت ألاحكام من لدن املحكمة الفرنسية متفاوتة من امل َّدة التي حكم بها الزعيم .لم تستطع جميع املالحقات واملطاردات وألاحكام ّ الحد ً ً ّ من انتشار الحزب ّ ونموه إنما كانت حافزا قويا المتداد فكره في بث الوعي بين صفوف الشعب حتى داخل السجون واملعتقالت وإلى صفوف قوى ألامن عينها التي رافقت عن كثب بحكم مسؤولياتها ألامنية مسلك الرفقاء وتعاملهم ومفاهيمهم ألاخالقية املناقبية في مواجهة مسؤولياتهم وتصريف ّ أمورهم بأمانة وشجاعة الواثق من نفسه واملؤمن بحقه وانتصاره املحتوم. وصار الحزب يفرض وجوده واحترامه في جميع ألاوساط ويحظى بعميق التأييد والدعم من مختلف فئات الشعب مما كان ّ يحرض السلطات ملتابعة الضغوط عليه بشتى وسائل التنكيل والضغط. وتوالت الاعتقاالت من قوى البطش والطغيان« .كلما ازددنا قوة ازداد الضغط علينا» ألن قوتنا غدت مخيفة ّ تتوع د أعداء الشعب املتآمرين على سيادته وكرامته بالويل« .وكلما تراكمت علينا الصعاب ّ تجددت قوانا، ّ وسحقنا ما اعترضنا من صعاب» .فاحتار املتنكرون لحق ألامة الذين يسيرون في ركاب املستعمر في السبيل لتعطيل مسيرة الشعب إلى التحرر، وتحطيم فاعلية ألامة الناهضة من أجل تغيير مجرى التاريخ ووجه ألاحداث ّ بمقدرات ألامة من كل صوب للتشاور في أمر الجارية .تنادت جبهة الغدر الحزب الذي أصبح معضلة مستعصية وعقبة مستفحلة بوجه مخادعتهم ّ ّ للشعب .تلك املعضلة التي ال تذلل وال تحتمل .ال ّبد من التخلص من الحزب وإيقاف انتشاره والحد من تزايد انتصاراته من الوصول إلى الشعب وفي استقطاب خيرة شبابه والتفافهم حول قضيته .ويستوجب للقضاء على 91
ّ الحزب إلاسراع مهما كلف ألامر بذل جهود ولو اقتض ى الهدف اقتراف أشنع الجرائم وأبشع املخازي وآلاثام. ّ تقض إن مسألة الحزب وخاصة صمود الزعيم غدت شديدة الخطورة مضاجع العاملين على امتصاص دم الشعب واغتصاب حريته وكرامته بإصرار بالغ الضراوة والبربرية. ّ انقضت قوى السلطة على منزل وفي إحدى أمسيات عام 1729حين ً الزعيم وجميع املسؤولين وألاعضاء ّ لزجهم جميعا في السجون والثكنات بصورة مباغتة وعاصفة بينما الناس يتساءلون بحيرة ووجوم ما الخبر وما هو الداعي لجعل السجون مكان إلاقامة الدائمة لكل قومي اجتماعي ،ناهيك عن سياسة التجويع ّ املتبعة التي تفرض الطرد من الوظائف ومن املدارس والحرمان القاطع من تأمين أي مورد ّ يرد عن القومي غائلة العوز والفاقة. ّ استمر ّ وبأشد ما يكون من التصميم كل ذلك على قدم وساق خالل سنين الشرس للقضاء املبرم على الحزب واستئصال وجوده من حياة ألامة وانتزاع مكانته من نفوس الشعب. بعد أيام قالئل من بدء هذه الحمالت املسعورة التي ّ شنتها سلطات إلارهاب على الزعيم والقوميين الاجتماعيين يأتي أحد أفراد الدرك املكلف بحراسة غرفة انفراد الزعيم إلى رفيق من ذويه ليهمس في أذنه بحذر مكدود خشية انكشاف أمره ويقول« :الزعيم في خطر شديد ،وفي نية السلطة القضاء عليه .وقد ق ّد م إليه اليوم طعام مسموم وكان على وشك تناوله ووقوع الكارثة الرهيبة لكنني غامرت بوظيفتي وحياتي وأعلمته باألمر فامتنع ً حاال عن الطعام وأعلن إلاضراب املستمر عن كل طعام وشراب منذ ظهر ً هذا اليوم .وقد طلب الزعيم م ّني إعطاء املسؤولين خارج السجن علما ً باملؤامرة النكراء ليصار إلى اتخاذ التدابير الواجبة عاجال».
99
ّ فما كان من إدارة الحزب املركزية التي تتولى القيادة حينذاك بمنتهى ّ ّ والترقب إال أن أعلمت أحد أقرباء الزعيم بضرورة إقامة دعوى السرية شخصية على السلطة بوصفه القريب املخول باملطالبة بحياة الزعيم وسالمته وتحميل السلطة مسؤولية كل ما قد يناله من أذى في السجن ً ّ ويتعرض له من خطر متهما إياها بمحاولة اغتياله بينما هو قيد التوقيف والتحقيق القضائي .ثم قام املركز بتوزيع بيان مفصل على الصحف والرأي ّ ً ً العام شارحا الواقعة ومحذرا من عواقب املؤامرة على حياة الزعيم .وقد أرسلت نسخ من البيان إلى جميع سفارات الدول العربية املوجودة في ً كيانات الوطن السوري .كما أحيطت جميع املؤسسات الدولية علما بالحادث بموجب البيان نفسه مع مذكرة رسمية وجهت إليها باسم الحزب السوري القومي الاجتماعي .وقد وضعت صفوف الحزب بأقص ى حاالت ّ التأهب والاستنفار ملواجهة أسوأ الاحتماالت وأخطرها .وكان إلاضراب عن الطعام قد ّ عم جميع سجون لبنان بين القوميين الاجتماعيين وبقية السجناء قاطبة. ما أن در ْت الحكومة بتدابير الحزب واستعداداته حتى سارعت إلى إلاعالن بواسطة أبواقها املأجورة من صحفية وسواها عن اهتمام القضاء الش ديد بإجراء التحقيقات العادلة والسريعة مع املوقوفين من أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي كي يصار بالتالي إلى إلافراج عن ألابرياء منهم .وهي تسهر بكل وسائلها على تأمين راحتهم وإنصافهم وفق مقتضيات العدالة والقوانين املرعيةّ .إبان تأكيد السلطة على تطبيق القانون واعتمادها العدالة أساس التعامل مع املوقوفين قيد التحقيق توقفت جميع املالحقات العشوائية ثم بادرت السلطة إلى إلافراج عن عدد من املساجين غير املسؤولين خالل أيام.
98
ولم يمض بعض الوقت على تعميم استعدادات الحزب للرد على من ّ ت ّ سول له نفسه أن يستهين بالقانون ويستخف بسالمة إلانسان وكرامة املواطن حتى تم إلافراج عن الزعيم وجميع املوقوفين القوميين الاجتماعيين. ً ً ّ للتنصل مما أشيع عن محاولة كم كان حرص السلطة آنذاك شديدا ودؤوبا اغتيال الزعيم في سجنه وكم سعت بشتى الوسائل وألاساليب إلزالة آثار ً الحادث من ألاذهان ّ وطيه نهائيا. ّ أما الرفيق الدركي الذي ّ ألشد ألاخطار من أجل إنقاذ عرض نفسه ً حينا ثم عاد عندما ّ تبدلت ألاحوال السياسية. حياة زعيمه فقد غادر الوطن وهذا نموذج من فعل ألاعضاء ّ السريين في تحقيق ألاعمال وألافعال الجبارة. ما زال كتمان ألاسرار في الحزب وسيظل واجب القومي الاجتماعي من ضمن القسم لنكون قادرين تحت كل الظروف على صون كرامة ألامة وسالمتها بكل إخالص وكل عزيمة صادقة وباعتزاز ّ عز نظيره في التاريخ.
97
القدوة أسـ ـ ـ ـ ـاس كل بناء نفس ي وش ـ ـ ـ ـ ـرط كل تربية متينة تس ـ ـ ـ ـتمر وتثمر
من أخطر آلافات املستشرية في مجتمعنا واملزمنة التي يتوارثها ألاحفاد عن ألاجداد دون أدنى حرج وبال تحفظ هي آفة استعمال املعرفة للجهل فال تضر وال تقدم أي نفع لإلنسان .ما أكثر ّ الوعاظ واملرشدين في شتى حقول ً العلم واملعرفة وما أقدرهم جميعا على إلقاء املواعظ وتوزيع النصائح والتوجيهات واملالحظات ذات اليمين وذات اليسار وبمنتهى السهولة واليسر من دون أن يلتزموا بش يء مما يقولون ويطلبون من آلاخرين ألاخذ به .وهم بقدر ما ّ يشددون على صواب إرشاداتهم وصحة اختياراتهم وضرورة العمل ّ يشذون قبل سواهم عن اعتمادها في سلوكهم وتعاملهم ّ كأن بموجبها املعرفة لديهم هي نوع من بضاعة كاسدة فما على البائع إال أن يتقن عرضها ً إلغراء ّ املارة بشرائها .ولكل بضاعة عادة مواسم ومناسبات عمال بمبدأ العرض والطلب بين املنتج واملستهلك. وال ب َّد للسوري القومي الاجتماعي أن يعمل بصدق وبما تمليه عليه ً ً ً عقيدته ،مت ّبرئا من أولئك الذين يقولون شيئا ويعملون شيئا آخر والذين 81
تنطبق عليهم آلاية إلانجيلية الكريمة ...« :اسمعوا أقوالهم وال تفعلوا أفعالهم» ...من هنا كانت أهمية قول الزعيم بوجوب اقتران الكالم بالفعل: «التاريخ ال يسجل ألاماني وال النيات إنما يسجل ألاعمال وألافعال وإن ألامر ُّ وتقل ألاعمال أمر ال نصيب له في النجاح .وأن الذي تكثر فيه ألاقوال ّ ّ املجتمع معرفة واملعرفة قوة» .وما عدا ذلك فهو مجرد أوهام باطلة ،وهو الجهل والتيه في حضيض الفناء والانحالل وضرب من الهزيمة أمام املسؤولية. ذات ليلة وألامطار تتساقط بغزارة فائقة في شوارع بيونس ايرس ً عاصمة ألارجنتين وتتجمع سيوال تجرف ما يعترض سبيلها ويعيق زحفها انقطعت طرق املواصالت وتوارت جميع وسائل النقل في سائر أنحاء املدينة. مثل هذه املفاجآت من تسارع هطول ألامطار بين آلاونة وألاخرى خالل مختلف الفصول يحدث كثيرًا وتكرارًا وهو من طبيعة مناخ ألارجنتين ّ القاري ّ املعروف بتقلبه املباغت بين شدة الحرارة وحدة ألامطار والبرودة. في تلك الليلة الليالء عينها كان لدى الزعيم موعده الدوري مع إحدى مديريات بيونس ايرس وكان عليه أن يحضره .وال سبيل للوصول إلى مكان ً الاجتماع الذي يبعد عن مسكن الزعيم ما يقارب الساعة مشيا على ألاقدام في الحاالت الهادئة فكيف إبان غضب الطبيعة وزمجرتها .فال ب َّد له من تلبية واجب الحضور مهما حالت دونها الصعوبات ،والنظام في الحركة القومية الاجتماعية هو واجب مق َّدس يسري على الجميع والجميع فيه متساوون .فما على الزعيم إذن إال أن ّ يتدبر ألامر لبلوغ مكان الاجتماع في ّ ً ّ ً ّ واملشقات .فما ال يباح به املوعد متخطيا كل املوانع ومذلال جميع العقبات ألحد القوميين الاجتماعيين ال يباح به ألي مسؤول أو للزعيم نفسه .ويكون املسؤولون جديرين باملسؤولية بقدر قدرتهم على ّ تقدم الصفوف بالقدرة التي ّ تجسد معنى القيادة واملسؤولية القومية الاجتماعية. 81
قبل فوات الوقت على موعد انعقاد الاجتماع ينطلق الزعيم بمفرده ً مشيا على ألاقدام إلى مكان الاجتماع بين تدفق مياه الشارع الغارق تحت وطأة السيول الجارفة وبين رشقات ألامطار املتساقطة عليه كالسياط من ًّ ً ّ عنان السماء ،وحيدا في شوارع بيونس ايرس .شاقا طريقه الشاق ة تلبية للواجب دون إبطاء وال تردد. ّ ً وصل الزعيم في الوقت املحدد مبلال باملياه من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه وقد أدهش الحضور وصوله بهذه الحال وإصراره على تنفيذ كل ما ّ ودقةّ . يعهد إليه به ّ فهب الجميع والدهشة وإلاعجاب قد أخذا بكل أمانة ّ كل مأخذ ،إلى إلاحاطة به للتعبير عن تقديرهم ملا ّ منهم ّ مشاق تكبده من الوصول إليهم في هكذا ظرف. ّ عقد الاجتماع في حينه بالرغم من تخلف عدد غير قليل من ألاعضاء ً ًّ ً ّ ظنا منهم ّأنها تشكل عذرا مقبوال لعدم تلبية بسبب سوء ألاحوال الجوية. الواجب القومي الاجتماعي .لدى انتهاء ذلك الاجتماع ّ أصر الزعيم على العودة ً ً فورا وتحت ّ كل الظروف ألن عمال آخر كان بانتظاره تلك الليلة. إلى منزله ّ ّ فتقدم ثالثة من الرفقاء يلحون عليه للسماح لهم بمرافقته ومشاركته في ً تحمل ّ مشقة العودة مشيا على ألاقدام. في اليوم التالي انتشر خبر ّ تحدي الزعيم لإلعصار وألامطار في ذلك الليل الطويل تلبية للواجب القومي الاجتماعي بعزيمة القائد القدوة .ألن أي موقف لإلنسان املسؤول وأي مسلك يبدر منه يقتض ي أن يكون لبنة في مداميك البناء وفي صلب إلاعداد ملعركة املصير ووقفة العز الفاصلة ّ والحاسمة .فالزعيم املعل م ال يأبه للصعوبات والنكبات إنما يقتحم السدود ويفجر ألالغام في دروب الصراع وميادين النضال ملجد هذه ألامة وكرامتها القومية الاجتماعية .والنهضة ال محالة منتصرة بقدوة القوميين الاجتماعيين
82
في مجابهة ألاخطار ومواجهة مسؤوليات التغيير ملجرى التاريخ في أمة ّ شيدت صروح التاريخ على دعائم متينة من روائع الفن والعلم والفلسفة. ً كم كان خجل الرفقاء الذين ّ تغيبوا عن ذلك الاجتماع عميقا وكم ّ أقض جوارحهم الشعور بالتقصير والتهاون في تلبية الواجب القومي ً جميعا عبرة ّ تحفزنا لإلقدام والتقدم الاجتماعي وكم هي قدوة الزعيم لنا ومنارة هادية ّ ّ تشدد عزائمنا لتذليل كل وعورة وتبديد كل ظلمة .وما هذه الحادثة سوى واحدة من صور البطولة للزعيم القدوة التي ما زالت حديث ّ ّ القوميين الاجتماعيين ومثلهم امللهم كلما راودت أحدهم حالة ضعف أو تلكؤ إزاء تبعات القضية التي تساوي كل وجودنا وقد تعاقدنا على السير بها إلى قمم النصر والتحرر. لقد رويت لي هذه الحادثة ومثيالتها من دروس القدوة يوم قمت بجولة حزبية إلى أميركا الجنوبية ومنها زيارتي إلى ألارجنتين سنة 1755بينما وقعت الحادثة سنة .1741 وما ذكريات ألاحداث التي تروي لنا أخبار البطوالت والانتصارات إال مآثر القدوة ّ يقدمها تراث ألامة الحية ،ليست هذه الذكريات سوى حافز ّ نجسد روائع الاعتزاز بأمجاد املاض ي والاقتداء بمآثر تلك ألامجاد كي الذكريات حياة أفضل باألعمال وألافعال العظيمة حياة جديرة بأصالة ألامة السورية وعظمة نهضتها القومية الاجتماعي ة التي تشق الطريق لإلنسان ً ً الجديد بالقدوة التي هي خير تراث نجعلها مدماكا صالحا في البناء النهضوي لتكون ذخيرة لألجيال التي لم تولد بعد .من حيث تجسيدها لقيم الخير والحق والجمال كما أرساها املعلم من أجل ألامة السورية وكرامتهاّ ،أمة الحرية والواجب والنظام والقوة.
82
ً الـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوت ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظل واح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدا
كما يتعرض الجسم ّ لتحوالت عديدة متفاوتة ألاهمية وألاثر في مراحل ً ً تكونه ،يتعرض الفكر إلانساني ّ ّ لتحوالت تتفاوت عمقا وتأثيرا في بناء الكيان ً الفكري واتجاهاته الفعلية .من هذه التحوالت ما ّ يمر عابرا دون أي أثر جذري ثابت في تأسيس البنية الفكرية وتكوينها املميز .ومنها ما يحدث في ً ّ ً ً أساس الشخصية تغييرا عميق الغور .يمكنه أن يجري تبديال كليا في صلب ً نظرة إلانسان إلى الحياة والكون وإلانسان .فيواجه هذا إلانسان انقالبا ً شامال في مفاهيمه وفي رؤاه ومشاعره ،وبالتالي في مسلكه ومواقفه من الوجود والعالم بأسره. من التحوالت الفيزيولوجية الجسدية ما يدفع بالجسم إلى النمو ً ً واكتساب القوة والعافية .لينطلق متطورا إلى ألافضل .ومنها أيضا ما هو تحوالت م ّ رضية تفقد صاحبها قوة املناعة للصمود ومتانة القدرة على الاستمرار السليم في التحمل واملعاناة .كذلك تلقى النفس إلانسانية تحوالت سيكولوجية معنوية ترقى بها إلى تكامل الثقة بالنفس والوعي للحقيقة .كما 84
ّ تواجهها تحوالت انهزامية ّ تؤدي بها إلى التسليم لألمر الواقع متخلية عن ّ ليتوصل املرء إلى اعتناق هذه السعي إلى بلوغ الحق وإدراك الحقيقة. ً ً التحوالت املرضية قضية .كان يأباها باألمس ويرفض اتخاذها مثاال ونبراسا لسيره وسيرته .لجميع هذه التحوالت أسباب متعددة وعوامل متباينة تسهم ّ ومحرضات البيئة في توليدها وإطالقها متفاعلة مع خصائص الشخصية الاجتماعية النفسية وسواها من معطيات .لوال الاستعداد الطبيعي لتقبل إلانسان التحوالت املمكنة والاقتناع بها العتناقها ،ملا كان التطور خاصة ّ مسوغ وأي جدوى .وليس أساسية للكائنات وملا كان للحوار إلانساني أي ً أجدى من الحوار وأعمق شأنا في بناء الحضارات والكشف عن معطياتها لو ّ توفر لدى املتحاورين صفاء الفطرة وصفاء الشخصية والاستقالل النفس ي ً ً وتناول الحوار موضوعا مصيريا يعالج شؤون الحق والخير والجمال إزاء حقيقة الوجود والوجود إلانساني الحقيقي. كثيرون هم املواطنون الذين دخلوا صفوف الحزب السوري القومي ً الاجتماعي .مكثوا بيننا ردحا من حياتهم .كأعضاء ومسؤولين إداريين لفترة ً غير قصيرة .لكنهم لم يصبحوا فعال قوميين اجتماعيين ولم تنفتح عقولهم ً ً ونفوسهم العتناق الحزب إيمانا كليا وإرادة شاملة كيانهم ووجودهم .لذلك ّ ّ ما لبثوا أن تخلوا عن قضية الحزب أو هي تخلت عنهم .ال فرق بين من حنث بقسمه وانهار من تلقاء نفسه إلى جانب الطريق دون مراسيم فصل وطرد ً وبين من كان سقوطه مقرونا بمراسيم التأبين .هناك من أراد أن يكون لسقوطه دوي قصف ألاغصان اليابسة التي تنسلخ عن جذعها لتنطح ألارض بانحدارها إلى أديم التربة .وهناك من يتساقطون بصمت وهدوء كتناثر أور اق الخريف التي تنفصل عن أغصانها وجذوعها فال تجعل من ً ً مدويا ّ تتلقفه ألالسن وألاقالم .لكن مهما ّ تنوعت ألاسباب سقوطها حدثا ً واملظاهر املأسوية فاملوت يظل واحدا. 85
غير أن فئة من جماعة الساقطين على جانب الطريق قد حاولت أن ً ّ تحول سقوطها العادي في عالم ألاموات بين طالبي املوت لتجعله ضربا من قضية خالف فكري أو تباين عقدي فلسفي .بين هذه الفئة وبين الحزب سواء كان ذلك أيام الزعيم مثل الذين انسحبوا من الحزب ألنه حركة ضد لبنان والكيان اللبناني أو ضد العرب والعروبة أو ضد الدين وتعاليم السماء وأنبيائها .أو ما حدث مثيله منذ استشهاد الزعيم لآلن وخالل مراحل عدة. ليس ألحد من هؤالء مسألة فكرية واحدة تستوقف دارس ي وضعهم ً وموضوعهم في الحزب .أنهم قد ألبسوا زورا انحرافاتهم املسلكية وفوض ى ً ً تصرفاتهم وأخالقهم ثوبا مصطنعا من أشكال ال معنى لها وال طائل سوى إلاغراق في النزعة الفردية ّ املدمرة .وما غرضهم إال إلامعان في تغطية مسلكهم الال نظامي والال أخالقي بوجوه عديدة من التستر والانحراف. ّ شذ عن هؤالء ّ املدعين بالعقل والفكر ،رفيق سابق أو أمين سابق وقد واحد هو الدكتور فخري معلوف .هذا الرجل من أقدم أعضاء الحزب ً وأوائلهم منذ تأسيس الحزب ومن أعرقهم بروزا في إيمانه العميق ونشاطه الفكري والعملي الفعال .وقد عرف ا سمه بين ألاعضاء قاطبة ،قبل أن يتعرفوا إلى شخصه كأحد رجاالت النهضة العاملين بعمق وصمت ّ وجدية إلى جانب الزعيم ،في شتى الحقول وألابحاث .وقد ذاعت شهرة الدكتور معلوف بالنسبة إلى الد اسة املوسعة التي وضعها لكتاب نشوء ألامم وكانت ّ معدة ر ّ للطبع ملحقة بالكتاب .لوال ظروف ألاعمال الحزبية وتراكم ألاحداث الشاقة التي حالت دون تعميم الفائدة منها. هذا الرجل املتمرس بالعقيدة والنظام ،الذي حاز على رتبة ألامانة منذ ّ ّ ّ تشعباته مطلع حياته الحزبية املبكرة ،أخذ يدرس الالهوت ويتوغل في ومتاهاته املاورائية .حتى نال في هذا الفرع شهادة الدكتوراه .وهو ال يزال ّ ً مدرسا لالهوت في إحدى جامعات أميركانيا .وقد راح يشعر في صميم تفكيره 81
ّ وتأمالته أمام الحياة والوجود والكون بالتحوالت تفعل فعلها الجذري في تحويل مفاهيمه وتبديل نظرته القومية الاجتماعية الكلية الشاملة إلى الحياة والكون وإلانسان والفن .فإذا به ينسلخ عن العقلية ألاخالقية الجديدة التي ت ّ قدمها النهضة لألمة السورية ،وملصالحها ومصيرها .ويرى أنه ً قد فقد نهائيا إيمانه السوري القومي الاجتماعي بفعل سطوة التحوالت املتسلطة على تفكيره ّ وتأمالته وسلوكه .فسارع بدون تمويه ودون مواربة إلى ّ الاتصال بالزعيم إبان الحرب يوم كان في أميركا ليطلعه بدقة وصفاء عما آل إليه موقفه من عقيدة الحزب وأهدافه .وقد أفاض برسائله مع الزعيم بتبيان جميع العوامل وألاسباب التي دعته ليكون خارج معطيات العقيدة ًّ لحا ،باالستناد القومية الاجتماعية ومفاهيمها كلها .وقد طلب إلى الزعيم م ً ّ ً ً إلى أنه لم يعد قوميا اجتماعيا ،كي يحله من قسمه حتى يكون منسجما حقيقة مع شرفه وحقيقته ومعتقده .وقد تبادل الكثير من الرسائل مع الزعيم الذي ّ ظل يدعوه تارة الرفيق السابق وتارة ألامين السابق. ّ وسمو الصراحة البالغة أقص ى ّإن هذه الحالة من صفاء الوجدانية النبل وألامانة للحق والحقيقة التي سجلها الرفيق السابق فخري معلوف هي فريدة من نوعها في الحزب بالنظر إلى مستواها من ألاصالة السورية وما ّ تعبر عنه هذه ألاصالة من مناقب الحق والخير والجمال .كم يؤملنا ،نحن القوميين الاجتماعيين ،أن يغرق أحد ّ ّ خضم منا أو من مواطنينا في ً املاورائيات التي تفقدنا ألارض دون أن تحقق لنا ربحا في السماء .ألن الدين هو لإلنسان لخيره ّ وعزه وصيانته من ّ كل سقوط والتواء.
89
هل من الض ـ ـ ـ ـروري أن يعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود الزع ـ ـ ـ ـ ـ ـيم إلى الوط ـ ـ ـ ـ ـن؟
ّ لكل مرحلة من حياة ألامة والحزب بطوالتها ومواقفها القدوة في ّ الصمود والعطاء والبناء كما لها ،على ما يبدو معطالتها ومخازيها يسجلها ّ «أفراد تالعبت بهم املفاسد ّ لكنهم ال يستطيعون أن يصموا املجتمع كله باملفاسد التي في نفوسهم» .ألن الشعب الحي ّ يحول حتى مآسيه إلى حوافز شديدة الفاعلية ّ تحرضه إلى مزيد من ألاعمال الكبيرة وألافعال الجبارة. قبيل عودة الزعيم من املغترب عقد املجلس ألاعلى جلسة عامة ّ ضمت أعضاء مجلس العمد للتداول بمسألة عودة الزعيم من جهة اتصاالت ا لحزب بالسلطة اللبنانية وحملها على وضع حد ملماطلتها في إعطاء الزعيم ً ً سمة العودة ومن جهة أخرى إعداد صفوف الحزب نفسيا وفكريا ليوم استقبال الزعيم ،ذلك اليوم التاريخي في حياة ألامة والنهضة .بادر املجلس ألاعلى لالستماع إلى ما قام به أعضاء املكتب السياس ي من اتصاالت بالحكومة اللبنانية بخصوص عودة الزعيم والعراقيل املفتعلة التي وضعتها دولة لبنان في هذا السبيل .فيما كان رئيس املكتب السياس ي آنذاك نعمة 88
تابت يطلع املجلس على ما ّ تم باألمر استأذن فايز صائغ وهو عميد لإلذاعة وعميد للثقافة للكالم في مسألة تتعلق بالنظام فأعطي حق الكالم ثم قال: ً ً «قبل ّ أي بحث حول إعداد عودة الزعيم سياسيا وحزبيا أرى أن يبحث املجلس املوقر إذا كان من الضروري أن يعود الزعيم أم أن بقاءه في املهجر هو ألافضل» .ما كاد فايز صائغ يتلفظ بهذه العبارات حتى اضطرب ّ جو ّ الجلسة وساده التوتر والاستهجان .عميد إذاعة وثقافة يطلب من املجلس ألاعلى ومجلس العمد في الحزب أن يطرحا للبحث موضوع إبعاد الزعيم عن الوطن وتقرير نفيه خارج الوطن وهو يعتبر هذا ألامر بل التآمر نقطة في نظام الحزب .ما إن ملس حضرة العميد ردود الفعل العنيفة من قبل أعضاء املجلسين إ اء مطلبه وواجه ّ حدة الاستنكار لسلوكه الال قومي اجتماعي حتى ز سارع نعمة تابت ،رئيس املجلس ألاعلى ،إلى إيقاف الجلسة الرسمية وراح ّ ً يلطف من ّ حدة الجو مجتهدا في تفسير ما فاه به فايز صائغ وفي تأويل ّ عله يجعل من صفاقة املؤامرة الفاضحة ّ مجرد هفوة في التعبير الغرض منه ّ عن وجهة نظر سليمة وعادية ليس إال ألن أعضاء املجلس لم يمهلوه لإلفصاح عن رأيه بوضوح .فكان إلابهام .ولنعمه تابت مقدرة مشهودة في التفنن بالتخريج والتأويل لأللفاظ والنوايا هي مقدرة بالغة اللباقة واللياقة. غير أن صراحة فايز صائغ من جهة وانهماك نعمة تابت لتدارك خلفية هذه الصراحة املوصوفة من جهة ثانية كشف الستار عن مسرحية مشبوهة وعن كيفية إخراجها وتقسيم أدوارها بين العبين محترفين وغير بارعين. ثم أعيدت الجلسة إلى الانعقاد وتوبع البحث ذاته في ضرورة الضغط على السلطة الستجابة طلب الحزب عودة الزعيم إلى لبنان ،خاصة ،وأنها ليس لديها أي ّ مبر ر قانوني للتأجيل والتسويف في تسهيل إعطاء سمة الدخول للزعيم .وانتقل البحث إلى توكيد إعداد القوميين الاجتماعيين ليوم استقبال الزعيم بعد أن ّ يتم تحديده. 87
ّ منذ هذه الجلسة للمجلس ألاعلى أخذت تتكش ف معالم املؤامرة الرامية إلى إبقاء الزعيم في املغترب على ألاقل إلى ما بعد انتخابات الخامس والعشرين من أيار 1749الشهيرة حتى ذلك الحين بتفوقها بالتزوير وإلغائها العملي لحق الناخب املشروع في اختيار ممثله للمجلس النيابي ،وتحاك مؤامرة السلطة مع نعمة تابت ومن كان يدور في فلكه وكان نعمة تابت قد أعد نفسه للترشيح عن املقعد املاروني في املتن الجنوبي وذلك بتغيير هويته الطائفية من إنجيلي إلى ماروني. وقد بلغ الحزب تلك ألاثناء الحديث املأثور الذي دار بين نعمة تابت ورياض الصلح رئيس الوزراء بصدد هذه املؤامرة .وهو قول الصلح« :إسمع يا نعمة ما في لزوم يرجع أنطون سعاده خ ّل ْ وه بعيد ْ أريح إلنا وأريح إلكم» .هكذا عمل الاثنان متكافلين متضامني ن لتأخير عودة الزعيم إلى الوطن ما أمكنهما ذلك ريثما تستكمل التدابير الستغالل قوى الحزب في معركة الانتخابات النيابية ملصلحة الطرفين املتعاونين على الزعيم وعلى الحزب .أحيط الزعيم ً علما باألمر ور ْ فعت إليه التقارير بشأنه .فكان ال ّبد أن يحضر بأقص ى سرعة ّ وبأية طريقة لوضع الحد الحاسم لتمادي املتآمرين على أهداف الحزب وأغراضه القومية العليا. تمكن الزعيم في بيونس ايرس -ألارجنتين مع رفقاء املغترب من انتزاع سمة العودة إلى لبنان من السفير اللبناني هناك بعد مماطالت كثيرة حاول ً بها السفير ّ التهرب من مواجهة مسؤولياته القانونية عمال بتوجيه مغرض من دولته. بينما كان مركز الحزب يالحق نعمة تابت ملتابعة اتصاالته بالدولة من ً أجل عودة الزعيم ،فجأة وفي غمرة القلق اتصل الزعيم هاتفيا ببيروت من ً فصفق من ّ القاهرة ليعلن عن موعد قدومه إلى بيروتّ . صفق مرحا للبشرى
71
العظيمة بعودة الروح إلى الحزب ،عودة القيادة القدوة إلى ممارسة مسؤولياتها الفعلية على رأس الحزب ليقبض على ناصية الشؤون الحزبية ّ ّ ويوجهها إلى املرس ى السليم بالعطاء والبناء والقدوة الفذة البطولية .كذلك ارتعدت فرائص املنحرفين العاملين ،منذ أن ّ غررت بهم السياسة على تحويل الحزب وقضية ألامة إلى ّ مطية ملنافعهم الخصوصية وأغراضهم ألانانية. بعودة الزعيم في الثاني من آذار 1749كانت العودة الجبارة إلى ساحة الجهاد ملصلحة ألامة السورية وقضيتها القومية الاجتماعية فأخذت ألامور ً تستقيم تباعا على محورها وتوضع إلامكانيات والطاقات الحزبية في مكانها ً ً ومجالها لتكون دائما وأبدا مصلحة سورية فوق كل مصلحة بفعل العقلية ألاخالقية ّ البن اءة التي تسحق عبث ألافراد املتطاولين على مصلحة ألامة والضالعين في إلاساءة إلى كرامتها والنيل من سالمتها وسيادتها لتقيم حقيقة النهضة على إلايمان بأصالة ألامة السورية وتجسيدها باألعمال وألافعال.
71
الانض ـ ـباط ال يح ـ ـ ـ ـول دون إبداء الع ـ ـ ـواطف السامية واملشاعر النبـ ـ ـيلة سعاده
كان الثاني من آذار سنة 1749يوم عودة الزعيم من مغتربه القسري، ً ً ً الذي دام تسع سنوات ،حدثا تاريخيا عظيما في حياة الحزب وألامة .كان ّ ذلك اليوم والدة انطالقة فذة في نفوس القوميين الاجتماعيين ،وبعث النشاط والفاعلية في صفوفهم .كان يوم العودة الحقيقية إلى ساحة الجهاد كما أعلنها الزعيم في ختام خطابه لدى وصوله ،بعد سنين مريرة ،قضاها ً ً ّ والتردد حينا ،وحينا آخر يشكو الحزب ،إبان غياب الزعيم ،يعاني الركود التشكيك من قيادته والقلق على املصير. احتشدت جموع القوميين الاجتماعيين الوافدة من مختلف أرجاء الوطن السوري في مطار بيروت الدولي الستقبال الزعيم ،ترافقهم جموع من أصدقاء الحزب ّ ومؤيديه للمشاركة في الاحتفال الكبير بيوم العودة .كانت 72
ً الصفوف املنظمة والزوابع الخفاقة وألاناشيد القومية الاجتماعية ،فضال عن الهتافات الحزبية ّ تنم كلها عن عظم الفرحة التاريخية بجالل الحدث الفريد ،بعد حدث والدة الزعيم وحدث تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. ّ ً ّ متوجها إلى باحة املطار الكبرى، ترجل الزعيم من الطائرة وغادرها فعلت الهتافات ّ تشق عنان السماء وتتجاوب أصداؤها في أرجاء الفضاء، معلنة سالمة الوصول امليمون .أحاطت الصفوف املتر ّ اصة بالزعيم إحاطة ً ً السوار باملعصم ،وكان العناق طويال ومؤثرا بين الزعيم والعديد من الرفقاء واملسؤولين املوجودين على مقربة منه ،دون أن يتاح للجميع التقدم إلى الزعيم للسالم عليه .وملا تزايد التسابق الحار ملعانقة الزعيم ومصافحته حاول أحد املسؤولين إلى جانب الزعيم أن يخفف من حوله وطأة ذلك ً التزاحم اللجب تأمينا لراحة الزعيم .فمنعه الزعيم في الحال عن الحؤول دون وصول القوميين الاجتماعيين إليه وتحقيق رغبتهم في السالم عليه مصافحين أو معانقين أو التوجه إليه بأي عبارة تفصح عن عميق ابتهاجهم العظيم بلقائه وقال للرفيق املسؤول آنذاك: دع القوميين الاجتماعيين يقبلون إلى الزعيم بعفويتهم الصادقة، ّ وليعبروا له عن فرحتهم بم ْقدمه كما يحلو لهم بهذه املناسبة ،وبعد أن طال ابتعادهم عنه كل هذه املدة الطويلة الشاقة .فاالنضباط ال يمكن أن يحول دون إبداء املرء أسمى العواطف وأنبل املشاعر القومية التي ّ تعبر عن عميق إيمانه بقضيته وبزعيمه. في خطاب الزعيم يوم وصوله إلى الوطن الذي توجه به إلى ألامة وإلى رفقائه في النضال القومي الاجتماعي حانت منه التفاتة عذبة ورائعة إلى ً رغبته في مصافحة كل منهم والتعرف إليه شخصيا:
72
«أيها القوميون الاجتماعيون ً كال منكمّ ، ّ وأتعرف كل واحد بمفرده كنت أود أن يتسع الوقت ألصافح إليه ولكن الوقت ّ ضيق .وهذا الوقت ال يكفي ،ولكن عزيمتي اليوم كما كانت في املاض ي ،أن أقصد مناطقكم وأزوركم فيها».
74
»ال تنتصر النهضة باعتمادها التس ـ ـ ـ ـ ـ ـوية مع الرج ـ ـ ـ ـ ـعة» سعاده
حشد حافل يضم جموع القوميين الاجتماعيين من جميع ألاقطار ً صفوفا متر ّ السورية وألاصدقاء واملؤيدين ينتظمون اصة في باحة مطار بيروت الدولي ،صبيحة الثاني من آذار 1749للترحيب بعودة الزعيم من املغترب بعد غياب قسري دام تسع سنوات ّ ونيف. حشد ينم عن إيمان الشعب بكل فئاته بالقضية السورية القومية الاجتماعية ،وعن عميق استعداده لتلبية دعوتها ساعة تقتضيه مصلحة ألامة والوطن .هذا الحضور املحتشد يوم استقبال الزعيم أبلغ تعبير صادق ّ عن فعل النهضة في وعي الشعب ونفسيته ّ ّ التحرر والتخلص من التواقة إلى أعدائه ،يهود الداخل ،ناهيك عن يهود الخارج وحلفائهم املتآمرين على سالمة ألامة السورية وحقها في الحياة والحرية ،حشد يفصح عن مدى ّ تأهب الشعب للذود عن كرامته وسيادته.
75
ً والحكومة اللبنانية ،أيضا ،كانت هناك مع املستقبلين ،بآذانها املرهفة السمع وعيونها املنتشرة هنا وهناك في أرجاء املطار ،بين الصفوف النظامية وحمية .مشاركة الحكومة في الحشد ،كانت مشوبة ّ ّ بالتربص املتدفقة حيوية ّ القلق والترقب الحذر. حضورها املتواري عن ألانظار كان يسعى خلسة إليجاد ما يبرر لها ّ امللتف بإيمان وعزيمة صادقة حول ّ قضيته التدخل لعرقلة مسيرة الشعب ل ّ بقيادة الزعيم ،وإلزاحة الكابوس حو تحكم السلطة بإرادة الشعب ومصيره ّ من أجل ضمان منافع املتحكمين أنفسهم .فكان على الحكومة ،إذن ،أن تثبت وجودها لتتأكد هي بنفسها من جدوى وجودها وحقيقة ّ قوتها كسلطة تفهم الحكم مجرد ممارسة التسلط بكل الوسائل وألاساليب .وكان همها يوم ً الاستقبال أن تجد سبيال إلى استفزاز الحشد الواثق من نفسه ومن وعيه ً حقيقة مقاصده البناءة ،أن تفتعل حادثا يشيع الفوض ى بين املستقبلين ً ً تسديدا ملخاوفها من يقظة الشعب وعالجا لقلقها املوجع على منافع أفرادها الخصوصية من جراء عودة الزعيم قائد الجهاد ،العودة إلى النظام والنضال ،إلى القول الفصل واملوقف الفاصل إزاء املفاسد واملخازي التي تتولى السلطة عينها تغذيتها وتع ُّهدها بعقليتها البالية الرجعية ،لتقبض على ّ كل نبضة حياة وومضة اعتزام يتألق لها الشعب الحي في طريق نموه وسياق نهوضه ألاصيل إلى حياة الحرية والواجب والنظام والقوة .هذه السلطة التي ّ كانت ّ تتربص للزعيم غدت تعلل نفسها بالنجاح بعد أن ضمنت موالاة نعمة ّ ّ ً ثابت ملخططها التآمري موهما إياها أن تخليه عن الزعيم هو انفضاض جميع القوميين الاجتماعيين من حول الزعيم والسير بقيادته هو في التعاون ّ املخصصة للمواقف «املشرقة البطولية». مع السلطة والتفاهم على الغنائم وبالفعل قد باشر ثابت بتغيير طائفة مولده ،إنجيلي بروتستانتي ،إلى ماروني، ً استعدادا لخوض معركة الانتخابات النيابية التي أصبحت على ألابواب 71
وأخذت تشغل الناس ،وتستأثر باهتمامهم املتزايد ،وكانت انتخابات الخامس والعشرين من أيار 1749الشهيرة في ملف التزوير واملشهود لها بممارسة ّ حرية التزوير والتالعب ألاثيم بإرادة الشعب ونبل تطلعه إلى مستقبل أفضل ،خاصة في مطلع عهد الاستقالل .أيكون الاستقالل إطالق يد السلطة ً بالتهام مقدرات البالد ووقوع الشعب في قبضة يدها مستسلما ليسهل استثماره والتحكم ف يه ما دامت الانتخابات قد حولت بإشراف املتحكمين وتوجيههم إلى موسم إثارة ألاحقاد الراقدة ،وبعث الفتن الراكدة ،وإلهاب ضغائن العصبيات الجزئية الحاقدة واملهددة سالمة ألامة وتطور الشعب املؤهل بطبيعة أصالته للثقة بالحق والركون إلى الخير والفضيلة ،والتي عطلتها سياسة الحكام في معالجته للشؤون كافة .هل كان الاستقالل يقض ي في ذلك الزمن ،باستنزاف طاقات الشعب ليظل تحت سوط الجالدين من أبناء أمته ،وفريسة الجزارين من مواطنيه باسم الاستقالل إياه والسيادة ً ً بعينها .ما معنى الاستقالل والسيادة إذا صارا سالحا خطيرا لقهر إرادة الش عب ،وسلبه كرامته ،وحرمانه أبسط حقوقه ألاولية وحاجاته البدائية؟ لم يمض اليوم الثالث على عودة الزعيم إلى الوطن ،حتى بادرت ً الحكومة إلى الترحيب به ،ردا على احتفاء الشعب بقائد نهضته ،وعلى والئه لقضية كرامته واعتزازه بأصالته املتجسدة في الحركة القومية الاجتماعية. وويل للحكومات املستهترة بوعي الشعب لحقيقة وجوده وكرامته ،إذا انتفض ً في وجهها رافضا الخنوع والاستسالم. ّ إحضار للزعيم أمام املحقق ألداء الحساب عما وجاء الترحيب مذكرة ٍّ ورد في خطابه لدى وصوله إلى املطار مما ّ يخل بأمن البالد ويس يء إلى ّ ً مؤمنا والسالمة مضمونة .بينما ترك للحزب السالمة العامة ،كأن ألامن كان ّ مجال متابعة نشاطه كاملعتاد دون أن تشمله نعم املذكرة.
79
ف تحت املعركة بين الحزب والحكومة اللبنانية ،وكان على الحزب أن يختار أسلوب الدفاع عن نفسه .فإ ّما تلبية مذكرة إلاحضار ومثول الزعيم أمام املحقق ،ثم انتظار ما سيكون ،أو رفضها بصورة قاطعة وإعالن الحكومة عاصية لحق الشعب بتجاوزها حقوقها املشروعة ،والعمل على إخضاعها إلى حرمة القانون وإلزامها بمسؤولياتها الشرعية إزاء الشعب ً وحقه في الحرية التي بدونها تغدو إعادة السلطة إلى الصواب والعدالة حقا ً ً ً أساسيا من حقوق الشعب الواعي ،بل واجبا فعليا تمليه عليه كرامته وسيادته ،وضرورة مصيرية ،أو أن الحزب يكتفي برفض الانصياع إلى كيد الحكومة والرضوخ إلى اعتدائها على حقه في ممارسة أولى بديهيات حرية القول وإبداء الرأي وحرية املعتقد والانتقاد املوضوعي البناء ،على أن يترك لها مسؤولية اتخاذ الخطوة التالية ّ ترد بها على ّ تمرد الحزب على عصيانها إرادة الشعب وحقه القومي في تقرير مصيره والدفاع عن وجوده. ّ ً متفقدا انتقل الزعيم إلى زيارة الفروع الحزبية في مختلف أرجاء لبنان،
ّ قوات الحزب وإمكانياته العملية والنفسية ملواجهة مسؤولياته لدى ّ ً ومتخذا التدابير الرادعة للحيلولة دون محاولة السلطة تنفيذ الاقتضاء، أغراضها بحق الحزب.
ولدى تداول الزعيم مع الدوائر املركزية بموضوع املذكرة الصادرة عن ّ يضم ّ تقرر عقد مؤتمر ّ الحكومةّ ، املنفذين العامين ونظار التدريب في الكيان اللبناني ،كمرحلة أولى بغية الاطالع على وجهات نظر قادة الوحدات في ّ املناطق بشأن املشكلة الناشئة بين الحزب والسلطة اللبنانية ،والتأكد من مدى الاستعداد الفعلي لتلبية ما ّيتخذ من إجراء بهذا الصدد. ً عقد املؤتمر املقرر في الثاني والعشرين من آذار ،بعد عشرين يوما من عودة الزعيم ،في مركز الحزب ،بحضور أعضاء مجلس العمد .وقد ّ توجه
78
الزعيم إلى املؤتمرين برسالة ،عرفت برسالة الثاني والعشرين من آذار، ً ً عارضا فيها ّ أهم خطوط املشكلة مع حكومة لبنان املستقل وطالبا موافاته ً برأي كل مسؤول من املؤتمرين في الحادثة املطروحة وما يراه مناسبا من ّ حلول لها بوضوح ودقة .حتى يتاح للزعيم الوقوف على رأي كل من املؤتمرين والكشف عن مستوى العقلية ألاخالقية الجديدة التي يعالج بها املسؤولون شؤون الحزب الهامة ،وعما وصلت إليه الذهنية القومية الاجتماعية في ّ تحمل املسؤوليات ،منذ غياب الزعيم القسري عن مركز الزعامة الفعلية، ّ ّإبان الحرب العاملية الثانية ،خالل سنوات شاقة مليئة باألحداث الجسام واملفاجآت املصيرية البالغة الخطورة .وقد انتهى املؤتمر إلى اتخاذ قرار ّ املتجنية على الحزب ،وعدم باإلجماع يقض ي برفض تنفيذ مذكرة الحكومة تمكينها من بلوغ مقصدها .ثم رفع ألامر إلى الزعيم مع ضبط وقائع املؤتمر. ّ بعد انقضاء املدة القانونية لتلبية الزعيم مذكرة إلاحضار أردفتها ّ بمذكرة جلب وأوكلت إلى قوى ألامن ّ مهمة تنفيذها باللجوء إلى السلطة مداهمة ألاماكن و القرى التي يشتبه بوجود الزعيم فيها ،لكن جميع املحاوالت باءت بالفشل أمام مؤازرة الشعب لقوى النهضة والتفافه حول ً ً الزعيم ،حرصا على سالمته وراحته ،وتأييدا النتصاره على طغمة الطغيان. إلى أن اضطرت السلطة عينها إلى التراجع عن موقفها وإلغاء تدابيرها الرامية إلى الاعتداء على أمن البالد وحرية الشعب ،وكان ذلك بعد مض ي سبعة أشهر وسبعة أيام على تواصل املالحقات ومداهمات املنازل واملؤسسات ّ والتحرر من العبودية. املشبوهة بارتكاب إثم الوعي في تلك ألاثناء صدر قرار بفصل ّ كل من نعمه ثابت ،مأمون إياس وأسد ألاشقر عن جسم الحزب ألجل غير محدد ،بسبب ّ تمرد نعمة ومأمون على أوامر الحزب وقيامهما باتصاالت سياسية فردية ،دون اطالع الحزب ،وألن ألامين أسد ألاشقر قد تمادى في إثارة التشكيك بخطة الزعيم إزاء الحكومة 77
اللبنانية ،واعتراضه على صالحيات الزعيم الدستورية التي لم تعد بنظره صالحة لتلك املرحلة من حياة الحزب وألامة وال ّبد من إعادة النظر فيها. وتال قرار الفصل قرار أخير بطرد كل من نعمة ثابت ومأمون إياس من الحزب حيث ثبت تواطؤهما مع الحكومة اللبنانية ،ودعم موقفها العدائي من ّ وتصرفاته التي أساءت إلى الحزب والزعيم ،وإثارتهما التشويش حول الزعيم نمو الحزب وانتشاره في ذلك الحين. أما ألامين أسد الذي كان يرى ضرورة مسايرة الحكومة اللبنانية ً ّ والتصدي لها حفاظا على مسيرة الحزب بمرونة وحنكة ،ال تع ُّمد مجابهتها ومستقبل عالقته مع السلطة في تلك املرحلة من بدء الاستقالل ،فلم ً ً ينقطع عن الاجتماع بالزعيم محاوال إقناعه بوجهة نظره ،مؤكدا شديد حرصه على إفالت الحزب من ألازمة املفتعلة التي بدت له قاسية الوطأة، خاصة ولم يمض على عودة الزعيم من املغترب سوى بضعة أسابيعّ ، مدة غير كافية الطالعه على حقيقة الوضع الحزبي والعمل على إعادة تنظيمه ّ وتركيزه .توالت اللقاءات املطولة بين الزعيم وألامين أسد دون التوصل إلى ً أي توافق في وجهات النظر حول املوقف ّ املتخذ من السلطة اللبنانية ردا على تصرفاتها من الحزب ،وقد كان الزعيم شديد إلاصرار على ضرورة ّ ّ التعسف والطغيان دون ّ مبرر ومن التصلب تجاه السلطة لتماديها آلاثم في ً ممكنا ّ تجنب مواجهتها أو غير حق .لقد فتحت السلطة املعركة ولم يكن ّ ً يصح أبدا الخروج من املعركة بالهرب أو التسوية .ألن التساهل تأجيلها وال ً في املواقف املبدئية يشكل سقوطا إلى منحدر املساومات التي ال تليق بالنهضة ورسالتها في العدالة القومية الاجتماعية ،ال ّبد إذن من الصمود إلى آخر الشوط مهما غال الثمن ،قال الزعيم لألمين أسد ،في إحدى جلسات البحث في ألاسس واملنطلقات التي ال تحتمل الحلول الوسط الخالية من املزايا املميزة ومن العبر الجذرية: 111
«يا أسد أنت ّ ممن يعنون باملسائل التاريخية عادة ،وإني أطلب منك أن تأتيني ولو بحادثة واحدة فقط من تاريخ نهضات ألامم ،كان الانتصار فيها ً ً حاال بقبول ألي نهضة معتمدا التسوية مع الرجعة والرجعيين فأقتنع معك ّ التسوية مع الحكومة اللبنانية علها تكون خطوة إلى تحقيق كسب للقضية. ً ً سبيال ّ ألي نفع تجنيه وإال عليك أنت أن تقلع نهائيا عن اعتبار التسوية النهضة ،ال سيما النهضة السورية ا لقومية الاجتماعية ذات النظرة الفلسفية الكلية الشمول إلى الحياة والكون والفن ،أعظم نهضة ألعظم أمة في التاريخ». انجلت لدى ألامين أسد ،إذ ذاك ،مفاهيم جديدة بالغة الروعة من ّ املتميزة بأعمق ألاسس وأدق الحقائق العظيمة ،ذات معطيات النهضة ألاهداف البعيدة املرمى والغايات النبيلة السامية. في اليوم التالي ،عاد ألامين أسد ألاشقر يحمل إلى الزعيم رسالته الشهيرة التي نشرت حينذاك ،في أحد إعداد النشرة الرسمية بعنوان« :لقد أرسلت العناية إلالهية الزعيم في الوقت املناسب إلنقاذ النهضة وألامة» ومن ثم أصدر القرار القاض ي بإلغاء عق وبة الفصل عن ألامين أسد وإعادته إلى ً ً ً صفوف الحزب عضوا نظاميا موثوقا ليعاود نضاله القومي الاجتماعي. ٌ انتصار جديد لقواعد النهضة ومفاهيمها ولصحة رؤياها في وكان معالجة الشؤون القومية واملشاكل التي تطرحها ألاحداث الجارية ،ولحلول « العقلية ألاخالقية الجديدة التي يقدمها الحزب لألمة ملصالحها ومصيرها».
111
نحن نقيم مواقفنا ونعني ماه َّية قوانا من خالل مفاهيم ـ ـ ـ ـ ـنا ومقاييس ـ ـ ـ ـ ـنا ال من خالل مفاهيم آلاخرين ومقاييسهم التي ندعوهم للتخلي عنها وألاخذ بنظرتنا الكلية الشاملة وقواع ـ ـ ـ ـ ـدها سعاده ّ ّ حطت الطائرة التي أقلت الزعيم صباح الثاني من آذار املبارك 1749 في مطار بيروت حيث احتشدت جموع غفيرة من القوميين الاجتماعيين وألاصدقاء التي توافدت من مختلف املناطق في الوطن السوري الستقبال حضرة الزعيم العائد من مغتربه القسري بعد غياب طويل دام تسع سنوات ّ ونيف. في الرابع من آذار ،اليوم الثالث لعودة الزعيم ،فاجأت السلطة ّ مذكرة إحضار تدعو الزعيم للمثول اللبنانية الحزب والرأي العام بإصدارها أمام املحقق بشأن الخطاب الذي ألقاه لدى وصوله أمام حشود مستقبليه. إزاء موقف السلطة العدواني من الحزب دعا الزعيم مجلس العمد إلى عقد ّ جلسة طارئة لتدارس ألامر الواقع .تداول املجتمعون حادث مذكرة إلاحضار ّ وما ينطوي عليه من نوايا تب ّيتها السلطة لإليقاع بالحزب عنوة وملا يمض على عودة الزعيم إلى الوطن السوري سوى أيام معدودات .فارتؤي أن يغادر ً الزعيم بيروت مبدئيا ويتوجه إلى املناطق الجبلية مع إهمال مذكرة
112
ّ إلاحضار .مما يتيح له القيام بجوالت تفقدية لقوى الحزب في الكيان اللبناني مع إجراء اتصاالت سياسية على جميع ألاصعدة قبل املبادرة إلى اتخاذ تدابير ً ملجابهة اعتداء السلطات اللبنانية بما يستحقه صونا لحق الحزب في الحرية والوجود. مضت على مذكرة إلاحضار املدة القانونية املحددة لتنفيذها دون اكتراث الحزب فأعقبها إصدار مذكرة توقيف تقض ي بتكليف قوى ألامن ً مالحقة الزعيم وإلقاء القبض عليه ليمثل موقوفا للتحقيق معه .ولوحق ّ حولوا القانون إلى أداة ّ الزعيم باسم القانون ومن قبل من ّ وتشفي .ثم تجني ّ ً راحت قوى ألامن تجوب مختلف املناطق اللبنانية بحثا عن الزعيم علها ّ توفق إلى توقيفه لكن محاوالتها باءت بالفشل والخيبة. في الثاني والعشرين من آذار عينه طلب الزعيم من عميد الداخلية دعوة جميع املنفذين العامين مع نظار التدريب في لبنان إلى عقد مؤتمر عام في الحال يحضره جميع العمد .وقد وجه الزعيم إلى املؤتمرين رسالة مهمة عرفت برسالة الثاني والعشرين من آذار .1749عرض فيها دقائق املشكلة ّ ً ّ مفندا املآرب الخفية للسلطة املتحكمة املفتعلة مع الحزب دون مبرر ظاهر من جراء فعلتها .كما طلب الزعيم في الرسالة أن يقف على رأي ّ كل من ٍّ املؤتمرين باملشكلة الراهنة مع تقديم اقتراحات الحلول العملية ملعالجتها، ّ ّ التعرف إلى مختلف وجهات النظر واملقترحات وأنه يعلق كبير أهمية على بصدد إعداد التدابير املناسبة لردع السلطة عن التمادي في طعن حريات املواطن ألاساسية التي بدونها ال معنى للدولة وال وجود للمواطن في الدولة بل هناك فقط طغاة متسلطون ورعايا مستعبدون تساق بالسوط وإلارهاب .ال ّبد إذن من ّ املتعمد من ّ ّ أي جهة أتى بما يليق الرد على العدوان بأصالة هذا الشعب وبعظم مسؤولية النهضة في تحرير املواطن من ربق أغالل الرجعة والنهوض به إلى املستوى الذي هو أهل له وتواق لبلوغه. 112
ً انفض املؤتمر ّ َّ فورا إلى ّ مقر الزعيم ليرفعوا إليه ضبط فتوجه العمد ً وقائع أعمال املؤتمر بدقائق تفاصيلها فضال عن مالحظاتهم بشأنها .وكان املؤتمرون قد أجمعوا على ضرورة رفض الحزب لتلبية مذكرات الحكومة والانصياع لها .على أن يصار إلى استنفار جميع قوى الحزب وألاصدقاء ملواجهة ما يحتمل أن تقدم عليه سلطة قد ارتضت لنفسها ممارسة ً التسلط والاعتداء السافر على حق يمنحه القانون للمواطن عوضا عن أن تلتزم هي بالسهر على تطبيق القانون والعمل على صيانته من أي عبث أو ً استهتار حرصا على هيبة الدولة وألامة. ً لقد استمرت السلطة في مالحقة الزعيم تنفيذا ملذكرة التوقيف وثابر الحزب من جهته على إعداد كامل قواه وإمكانياته للدفاع عن نفسه في ّ صد
شل نشاطه وتعطيل ّ املؤامرة الرامية إلى ّ نموه خاصة وقد أصبح انتشار الحزب آنذاك مصدر قلق لرجاالت تلك الحكومة بقدر ما هو بطبيعته مصدر تحرير للشعب من عوامل الضعف والتخاذل.
تابع الحزب تنظيم صفوفه دون أن يتوقف عن اتصاالته السياسية، ّ عل ه يقنع الجهات الحكومية باإلقالع عن سلوكها الاستبدادي وتدابيرها الخارجة عن القانون الذي ال ّبد أن يلتزم به بلد متحضر يحترم حريته ً وسيادته .والحزب ّ يلح دوما على شرعية احتكامه للشعب وتصميمه على الصمود لتوطيد كيانه وحماية استمراره .وقد اعتمد سياسة ضبط النفس ّ املرعية .مع ذلك برزت مع حرصه على تأكيد وجوده ضمن احترامه للقوانين بوادر استعداداته ملجابهة ّ أي احتمال لدى الحاجة .ألن حشود القوميين وألاصدقاء كانت تتزايد في مواكبتها لتحركات الزعيم وزياراته املتالحقة للفروع.
114
امتدت مالحقات السلطة للزعيم خالل سبعة أشهر وسبعة أيام دون أن يحدث أي احتكاك يذكر بين القوتين :قوة الرجعة وقوة النهضة .وملا لم مهمتها باعتقال الزعيم أو ّ تقو قوى ألامن على إنجاز ّ الحد من تجواله املستمر في املناطق استجابت الحكومة إلى منطق املفاوضة ووافقت على إلغاء ّ املالحقة وإيقاف ّ كل ما من شأنه تصعيد التوتر لدى الشعب وإثارة ردود ّ ّ ّ التعسفيّ . طي مذكراتها وسحبها. وتم التفاهم على الفعل املتزايد ضد مسلكها والحزب في ديمومة مسيرته التاريخية يصون نهضة ألامة السورية لنشر الوعي في صفوف الشعب ،وعادة تقدمه بنفسه وبمواهبه الفذة. ّ بحمية ناشطة في حمالتها طيلة فترة املالحقات والصحف تنطلق إلاعالمية العارمة .منها ما ساند موقف الحزب وأشاد بروعة صموده إزاء الطغيان وإلارهاب ومنها ما اح ّ يندد بما أسماه عصيان الحزب ّ وتمرده على ر ً سلطة السلطان ،محرضا الحكومة على تشديد حمالتها للقضاء على ً الحزب ،ومنهمكا في مؤازرتها للتنكيل به واستئصال وجوده .وقد ّلفت موجة الحماس والتضارب باملواقف والاتجاهات أغلبية الصحف في لبنان وسائر ً الكيانات السورية وبقية أمم العالم العربي فضال عن الكثير من الصحف ألاجنبية التي أولت املرحلة عميق اهتمامها .وصار مراسلو الصحف ّ املطولة يتسابقون لالجتماع بالزعيم ونشر التصاريح املستفيضة واملقاالت عن شخصه وعن ألازمة الناشبة بين الحزب وحكومة لبنان .حتى غدت أخبار الحزب وخاصة ّ تنقالت الزعيم وتصاريحه مدار اهتمام جميع الناس وموضوع مناقشاتهم اليومية وتوزع آرائهم ومواقفهم من قوة النهضة والقوة املناهضة لها. ما أن سحبت مذكرة التوقيف وساد الصمت إلاعالمي حول شؤون الحزب وشجونه حتى شعر فريق من القوميين الاجتماعيين واملؤيدين أول ً ألامر بمرارة العزلة تقصيهم عن الشعب .كأن الحزب لم يعد موجودا أو أنه 115
أصيب بخسارة فادحة عطلت قدرته على الاستمرار وأودت به إلى الارتماء ً مغمورا في حلك الظلمة. الحظ الزعيم ما كان لهذا الصمت حول الحزب من وقع أشبه بصدمة نفسية تزعزع إلايمان وتهز الثقة بالنفس .فأهاب املعلم بالقوميين الاجتماعيين للتأمل في حقيقة بالغة الروعة والعمق وألاخذ بها كما يليق ّ برجال نهضات التاريخ الذين يمثلون أروع انتصارات الحق والحقيقة للعالم بأسره: رفقائي ،رجال النضال السليم إن سكوت آلاخرين عن تناول الحزب سواء بالتأييد وإلاعجاب أو ً ًّ ّ ّ مهما للتأمل بالتهجم والاستنكار ،هذا السكوت يجب أن يشكل لنا مجاال العميق ،وفرصة ُّ جد ثمينة تغتنمها لنق ّيم مواقفنا وحقيقة قوانا بهدوء ّ وروي ة من خالل مفاهيمنا نحن ومقاييسنا ال من خالل مقاييس آلاخرين التي ّ تغلب عليها الديماغوجية الرعناء ،وال انفعال مفاهيم الرجعة املتسمة بالسطحية والعاطفية ألنها مفاهيم ال قومية اجتماعية تأخذ بالنظرة ّ املجزئة للحقيقة والواقع ،هي مفاهيم إلا نسان القديم البائدة في الجزئية عهد النهضة. ّ املتفهمون هذه الحقيقة نحن وحدنا ندرك حقيقة من نحن ووحدنا ّ الخالدة والقادرون على تدارسها ّ لنقدم وعينا لها وإيماننا بصدقها نظرة كلية شاملة إلى الحياة والكون والفن .فيلد وعي الحقيقة الثقة بالنفس للسير في طريق الحياة الطويلة الشاقة ويشق الطريق لتحيى سورية.
111
لديـ ـ ـ ـ ـنا ،عند العق ـ ـ ـ ـ ـول تض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيع البط ـ ـ ـ ـ ـ ـون سعاده
ذلك اليوم الحافل بالفرح العظيم كأنه مولد جديد لبزوغ فجر النهضة بعد احتجاب مرير ،يوم عودة الزعيم من املغترب إلى بيروت كان مناسبة حشد عارم تالقت فيه على أرض املطار غالبية القوى القومية الاجتماعية املقيمة ضمن الوطن السوري القادر على الانتقال والحضور. ّ لقد ّ سدد خطاب العودة تعطش القوميين الاجتماعيين للقاء الزعيم خالل تسع سنوات وعالج فيه جميع معاناة الصفوف من فراغ القيادة وغياب املرجع التراث ومصدر التوجيه والقدوة. عالج في ذلك املوقف بالذات مفهوم الاستقالل الحقيقي للبنان ولسائر ً الكيانات السورية وأبعاد مدلوالته الفكرية القومية واملناقبية فاضحا بصراحة مدهشة ووضوح قاطع غباء املأخوذين باملظاهر ّ وتربص املنافقين لحقيقة السيادة التي ال ّبد أن تقصيهم ساعة انتصارها عن ّ منصة املسرح ّ ّ وتعري ّادعاءاتهم الباطلة املضللة .كذلك نسف س عاده في خطابه جميع الترتيبات الانحرافية والبدع الال قومية اجتماعية التي تواطأ على إدخالها إلى الحزب بعض من أخذ يراود أطماعهم الخصوصية القفز البهلواني في أرجوحة السياسة فوق صخرة العقيدة الصامدة .وكان هؤالء قد ّ أعدوا 119
ّ مستلزمات أالعيبهم قبل ذاك علهم يضعون الزعيم أمام ألامر الواقع فيحملونه على الرضوخ إلى رغبتهم في تطوير العقيدة بما يخرجها عن طبيعة طورها باتجاه املساومات والتسويات السياسية ،سواء تجاه السلطة اللبنانية أو إ اء مفاهيم مدسوسة في فكر الحزب قيل حينذاك أنها ّ تجددية ز مهمة مع أنها غريبة عن أصول قواعد النهضة وعن صميم مراميها ومقاصدها في تأسيس العقلية ألاخالقية الجديدة التي هي أهم ما يقدمه الحزب لألمة السورية ،ملصالحها ومصيرها. كان ذلك الخطاب بمثابة النفير العام للعودة بقوى النهضة إلى ساحة الجهاد .كان دعوة للتحرر من جميع شوائب الانحراف والتحريف الال قومي اجتماعي .وكان الرفض الصريح لشعوذة ما سمي بالتجديد والتطور تلبية ً ّ أيضا تأكيد التحرر من ّ تحسبات التدخل ملقتض ى ظروف ناشئة كما كان يمارسه إلانسان القديم ومفاهيمه الرجعية في الروحية القومية الاجتماعية. قوتنا النامية ّ حد ًا جعلها ّ وقد بلغت مخاوف الرجعة على نفسها إزاء ّ تترصد ّ تحركاتنا لإليقاع بنا. كانت كلمة املطار ذلك الكشف الحاسم عن جميع املخبآت الكامنة في املتربصة لإلجرام وفي النفوس امللتوية املتآمرة التي ّ النوايا ّ السيئة ّ ظنت أنها بمأمن من الفضيحة والوقوف أمام وجدان الشعب. إثر الخطاب ّ توجه جمع غفير من ذلك الحشد اللجب إلى منزل نعمة تابت برفقة الزعيم .هناك تناول الرفقاء طعام الغذاء بهرج ومرج ّ ينمان عن روعة الفرحة الكبرى التي غمرت النفوس بفيض من السعادة والاعتزاز ملالقاة حدث عودة الزعيم إلى الوطن ،عودة القيادة وقدرة التحقيق ملواجهة النصر املوعود .تلك ألاثناء والانهماك على ّ أشده في ّ التزود بالطعام والشراب كان العديد ّ منا يحيط بالزعيم ويتسابق لالستماع إلى كل همسة تهفو على
118
لسانه وتشرئب في نظراته وابتسامته املفعمة بالغبطة والاعتزاز .آنذاك توجه ألامين فؤاد أبي عجرم إلى الزعيم بقوله هل ترى كيف أن «عند البطون ّ التنبه واليقظة، ضاعت العقول» فالتفت إليه الزعيم بهدوئه العميق ً العميق بحضوره الدائم في صميم كل إشارة وبادرة ثم أجابه قائال :هذا يصح عند سوانا ّ ّ لكننا نرى نحن أن «عند العقول تضيع البطون». لم يكن باإلمكان أن ّ تمر غلطة أمام الزعيم مهما بدت طفيفة وعابرة ولو على سبل النكتة أو املالحظة املرحة إال ويتناولها بالتدقيق والتصويب كي ّ تعبر كلها عن مفاهيم النهضة ومعانيها الحقيقية دون أي إبهام أو إشكال. فالتسوية ممنوعة في كل ش يء وكل مضمار وأن املفاهيم الغائمة والحائرة بين فكر إلانسان الجديد وإلانسان القديم مرفوضة بمقتض ى التخلي عنها وتصويبها بفكر النهضة. إذا كانت حاجة البطون تستولي على العقول ومتطلباتها عند سوانا ألنهم يعملون إلقامة العيش من دون مطالب الحياة العليا فإن ألامر لدينا على عكس هذا املفهوم ،ما دمنا نرى أن العقل هو الشرع ألاعلى ،هو الشرع ألاساس ،وما دمنا نعمل إلقامة الحياة وقتل العيش وال يجوز ألي ش يء ّ ّ بنظرتنا أن يعطل فعل العقل فينا أو أن يؤثر في قدرته وفاعليته للخلق وإلابداع الال متناهي. لذلك نحن ال نسلم بأن عند البطون تضيع العقول ،بل عند العقول تضيع البطون ،نحن حركة تؤمن بالحياة وتعمل لها .نحن أبناء الحياة ّ ورواد ّ فضائلها ومثلها بقدر ما نفكر ونعمل لتحقيق أغراض الحياة. ً ً «نحن جماعة لم ّ تفضل يوما أن تترك عقيدتها وأخالقها لتنقذ جسدا ً باليا ال قيمة له».
117
ليس من حقيقة أقوى وال أس ـ ـ ـ ـمى من فعل الثقة في بناء النف ـ ـ ـ ـ ـوس وتحقيق املطالب واملقاص ـ ـ ـ ـ ـد
ما كاد الزعيم يصل إلى الوطن من مغتربه القسري حتى بادرته السلطة ّ ّ مذكرة التوقيف الشهيرة ّ بحقه ،ألنه املتسلطة على حرية الناس إلى إصدار صارح الشعب بقوله إن الاستقالل الذي ناله من دون عناء وال سابق إعداد له ،هذا الاستقالل هو بمثابة «خروج ألامة من ‹القواويش› التي كانت فيها ولكنها ال تزال ضمن أسوار السجن .ألابواب مفتوحة ،التي إلى الداخل ،أما ً التي إلى الخارج فال يزال عليها السجانون وهم دائما منا في الغالب». تلك ألاثناء انصرف الزعيم بالدرجة ألاولى إلى تحقيق العودة إلى ساحة الجهاد التي أطلق الدعوة إليها في خطابه يوم وصوله إلى الوطن .وقد كلفني كعميد للداخلية بدراسة دقيقة وعاجلة ألوضاع املسؤولين في مختلف ً بدءا من ّ منفذية بيروت نظرًا ّ ألهميتها ألاجهزة واملؤسسات الحزبية لتركيزها ألاساسية من جميع الوجوه في سير العمل الحزبي عامة وفي لبنان خاصة.
111
ً ً عاما ّ وقد ّ ملنفذية بيروت عين حينذاك الرفيق محمد راشد منفذا وعهد إليه أمر اختيار معاونيه في هيئة ّ املنفذية واقتراح تعيينهم إلى املراجع ّ املختصة .ثم أخذ العمل الحزبي يسير في بيروت بنشاط وانتظام ملحوظين. واملنفذ العام هو من أقدم أعضاء الحزب ومن أكثرهم آنذاك خبرة وممارسة لشتى املسؤوليات .وتعود معرفتي بالرفيق محمد راشد إلى ً وكيال لعميد الداخلية وكنت أنا ناظرًا لإلذاعة في ّ منفذية الثالثينات يوم كان طرطوس .وقد تم التعاون بيننا والتعامل املسؤول على صعيد مرموق من التجاوب والتلبية القومية الاجتماعية .إلى أن فاجأني الرفيق محمد راشد بالتوقف التام عن كل نشاط وكل تلبية ألي واجب قومي اجتماعي مهما كان ً ً بسيطا وهاما .فآملني هذا التغير بسلوكه النظامي الذي لم يكن بالحسبان ً فضال ّ عما كان يكتنفه من غموض وإبهام ،ثم رحت أبحث عن ألاسباب أو ّ ّ املبررات لذلك بكل الوسائل وألاساليب النظامية علني أقف عليها وأوفق إلى معالجة الوضع الشاذ الناش ئ عنها. وصار املنفذ العام يتجنب اللقاء بي أو إلاجابة على أي طلب ّ أوجهه إليه .تابعت السعي لالجتماع به فترة غير وجيزة بال جدوى حتى داهمته من دون سابق موعد في عمله .وقد كان عميق الارتباك عند مواجهتنا واضح ً ً التململ واملضايقة من وجودي وقد طلبت منه موعدا عاجال ال بوصفي ً ً ً ً مسؤوال إداريا كعميد للداخلية مع منفذ عام بل بصفتي قوميا اجتماعيا ّ التحدث مع رفيقه ومصارحته بشؤون حزبية جديرة باهتمامهما. فقط يود فاملسؤولية إلادارية تأتي وتذهب بموجب قرار أو مرسوم أما العضوية في ً الحزب فال تكون بقرار أو مرسوم إنما هي ذات ميزات وخصائص أكثر ثباتا ً ً واستمرارا وأعمق رسوخا .وقد تم لنا اللقاء على انفراد في اليوم التالي في غرفتي برأس بيروت فدار بيننا الحديث التالي:
111
ً ً يا رفيقي أنت ممن عرفتهم مسؤوال مركزيا يوم كنت في مطلع حياتي الحزبية أمارس مسؤولية ناظر إذاعة في ّ منفذية طرطوس .إنك أسهمت في إعطائي الكثير من التوجيهات وفي تكوين خبراتي ومعلوماتي عن الحزب والعمل الحزبي .وقد باشرت وإياك العمل الحزبي خالل ألاشهر املاضية بالتعاون املجدي الذي أعطى النتائج الجيدة ملصلحة ألامة والحزب ..فماذا بعدئذ حتى انقطعت فجأة عن تلبية أي واجب حزبي؟ ..آمل أن دهاك ٍّ ّ تصارحني بحقيقة أسباب توقفك عن ممارسة مسؤوليتك الحزبية املفروض إعالمنا بها .ال ّبد أن نتطارح جميع املواضيع خاصة ما أوصلنا منها إلى القطيعة فيما بيننا وأفقدنا إمكان العمل الحزبي وأي مجال إلنتاج قومي اجتماعي .هات ما لديك من هموم وشجون وأفصح عما يراودك تجاه أي رفيق أو أي مسألة حزبية من تساؤالت ومن شكوك وشكوى حتى لو كان ما يقلقك يتناول أمانتي للقضية القومية الاجتماعية .ال ّبد أن نعاود ثقتنا ً وتعاوننا معا لخير هذه ألامة وانتصار نهضتها. أمام هذا إلالحاح الشديد لكشف ما يخامر الرفيق محمد راشد من هموم وهواجس تمنعه من متابعة العمل الحزبي وإزاء تأكيدي على ضرورة املصارحة الكلية ووجوب إلافصاح الكامل عما يعانيه من آالم وجدانية مهما بلغت من الخطورة ووعورة التداول بهاّ ، توصل الرفيق محمد راشد إلى البوح بما ي قاسيه من متاعب تعيق مسيرته الحزبية وهو بأشد حاالت التوتر والقلق املضني فقال: « نعم أنت تشكل العائق في سبيل قيامي بواجباتي الحزبية ألنك ً أصبحت منذ حين بنظري خائنا لعقيدة الحزب وقضيته بعد أن كنت لي القدوة التي أتوق إلى السير على خطاها والامتثال بها».
112
ثم توقف بغتة عن إلادالء بالتفاصيل وألادلة التي تثبت «خيانتي» والتي سببت له صدمة أخمدت لديه كل إمكانية نشاط وكل طاقة ملمارسة حتى عضويته في الحزب. فقلت له ،يا رفيقي ،فإما أن تصارحني بكل ش يء وأنا مستعد ألدافع عن نفس ي أمام وجدانك القومي الاجتماعيّ .. أتقبل منك أي حكم مهما كان نوعه كما أتقاض ى أمام أي سلطة أو مرجع وأما أن نذهب سوية وفي الحال ملقابلة حضرة الزعيم كي يحكم بيننا وينظر بخطورة التهمة املوجهة إل ّي ألن له وحده ملء الحق بأن يصدر بحقي العقوبة القصوى إذا ثبتت إدانتي وأن ً يتحقق من براءتي حتى نعود سريعا إلى نشاطنا املعتاد وتعود الثقة القومية الاجتماعية ،لتجمعنا فنحمل شرف العضوية في الحزب ونتحمل مسؤوليات النهوض باألمة السورية. بعد صمت مكدود حائر استأنف الرفيق محمد راشد إلادالء بمعلوماته عن ماهية اتهامه لي بجرم الخيانة ،ثم راح يصغي ّ إلي بكل أمانة للحقيقة وأنا ّ أفند له وجهات نظري ومعلوماتي بالتفصيل .أقدم إليه جميع ً جالء ملالبسات ألاخبار وألاحداث التي أدت إلى اتهامي إلايضاحات الالزمة بأفظع إثم وأودت به إلى صدمة عنيفة استحال عليه معها ّ تقبل التعامل معي واللقاء بي على أي صعيد. ّ انتهت تلك الجلسة التي تجلت فيها وحدة الروح القومية الاجتماعية ّ وتألقت مناقب الصراحة النبيلة وروعة الشعور باملسؤولية ،وقد تبين خالل ونيف للرفيق محمد راشد صدق براءتي مما نسب إ ّلي أو ّ أربع ساعات ّ ظن بي ّ الظن إثم .فنهض إذ ذاك ّ يحييني تحية الشرف والحقيقة من سوء وبعض ً والعقيدة ويعانقني بحماس الفرحة الكبرى وحرارة من وجد ضائعا كان قد ً فقد ألامل بلقائه حيا .ثم أعلن كامل استعداده للتكفير عن تهاونه الذي
112
ّ ّ ألاشد والاندفاع ألاقوى في تلبية جميع ولده الشك وذلك بمضاعفة النشاط واجباته القومية الاجتماعية من أجل تحقيق ما تعاقدنا عليه من أمر خطير ّ محل الشكوك ،متى ّ حلت الثقة ّ حل إلايمان محل يساوي كل وجودنا« .ومتى ّ ّ ّ الشك ،قض ي على التردد والفوض ى والبلبلة ويمكننا أن نتقدم من الشك إلى إلايمان وال يمكننا أن ّ نتقد م من إلايمان إلى الشك بل يمكننا أن نتراجع القهقرى». ّ ّ ّ يتصورها املشككون فاقدو بالثقة وحدها تتحقق معجزات خارقة ال مواهب الثقة واليقين الجبارة.
114
احـ ـ ـ ـ ـ ـذروا مغبة خداعكم لنا وال تس ـ ـ ـ ـ ـتهينوا بطيبتنا وثقتنا بالناس سعاده
إبان مالحقة السلطة اللبنانية للزعيم إثر عودته من املغترب في الثاني من آذار ،1749ولدى اقتراب موعد الانتخابات النيابية املقررة في الخامس والعشرين من أيار من السنة ذاتها ،أخذ املرشحون وامل ْست ْنوبون ،حينذاك، يتسابقون لالتصال بالزعيم ،وزيارته في البرية حتى في ساعات متأخرة من الليالي. ّ كل هم جاء إلى الزعيم شديد إلاعجاب بشخصيته الفذة وبالحزب ومبادئه الصالحة لألمة ومستقبلها التي ال مثيل لها ،دون أن يفوته إبداء النقمة العارمة على السلطة الظاملة ملطاردتها له دون وجه حق« ،لكن ما العمل ،هللا يهديها». ّ كلهم قد حرص بصورة ال تقبل الشك على تأكيد صداقته الحميمة وتأييده املطلق القديم للحزب في بلدته وحيثما ّ تعرف على أشخاص من ّ ً الحزب ،مدلال على صحة صداقته بالحوادث وألارقام والشواهد القاطعة. 115
ً ّ كلهم أفاض بالتحدث عن شخصه الكريم مشيدا بمؤهالته ومواهبه ّ وخاص ة عن جدارته لتمثيل إرادة الشعب في الندوة النيابية إذا ما املرموقة ّ ً ً ّ قيض له النجاح الذي يتراءى مضمونا بإذن هللا وتأييد الزعيم مفندا ببيان ّ املتطفلين الذين مسهب أنه املرشح ألاقوى وألانفذ بين سائر املرشحين ً ً يثيرون شفقته حينا وسخريته حينا آخر. ّكلهم مستعجل ّ يلح على انتزاع وعد م ن الزعيم بتأييد ترشيحه ً مرددا ّ تفوقه بكل ش يء على منافسيه ومؤازرته لضمان النجاح املرتقب. ً ً ّ والتهجم عليهم شخصيا. ومتحمسا للتعريض بهم والنيل من قوتهم ومكانتهم ً أحدا من هؤالء ألابطال قد ّ تقدم من الحزب ولم يصادف مرة أن ً بمساعدة مالية أو دعم سياس ي للخروج مثال من أزمته مع السلطة اللبنانية مما يدل على ّ ظل من الصداقة الفعلية للحزب ،والاستعداد الصادق للتعاون معه ومساندته بأي أمر .إنما كانت أحاديثهم مقتصرة على الب ْهورات وعرض العضالت ،وعلى صياغة املطالب بألفاظ وعبارات ّ تنم عن ّتزلف مشين وتواضع مهين .بينما هم ألاقوياء الناجحون بأقل جهد وبضعة أصوات مضمونة هم يستجدون تأييد الحزب الكامل بأعضائه وأصدقائه وحلفائه ومؤازرته الفعالة بسرعة قصوى وحماسة عارمة .كأن نجاحهم في الوصول الشخص ي يشكل دعامة كبرى لقضية ألامة ومصيرها. كلهم يغدق الوعود الطويلة العريضة بتأييد الحزب ودعمه في كل مواقفه ومطالبه إذا قدر له النجاح ووصل إلى ّ سدة النيابة املضمونة في ً ً حقيبته أو جيبه الصغرى ،مدلال دائما وبأساليب عجيبة غريبة على تفوقه باملقدرة العلمية وألاخالق الحسنة والسمعة الطيبة العطرة «مثل املسك»، أبا عن جد ،وخاصة ما اشتهر عنه من عرفان الجميل والوفاء للقريب والغريب.
111
هكذا أمض ى الزعيم ألايام وألاسابيع وهو ّ يودع نماذج من هؤالء الزوار ً ً نسخا أخرىّ ، منقحة أو ّ مشوهة ،يصغي كثيرا وباهتمام عميق لكل ليستقبل ّ ما يقال ويعرض عليه من أفكار واقتراحات ووعود ،ومن توق عات وتخمينات ً ً طريفة ظريفة .دون أن يبدي رأيا أو تعليقا ما سوى قوله «أن الحزب يتابع دراسته لألوضاع واملرشحين وهو لم يقرر موقفه بعد» .وكان في بعض ً ً ألاحيان يقاطع محدثه ليوجه إليه سؤالا معينا يهدف إلى استكمال دراسة الشخص أو التعرف أكثر إلى أوضاع منطقته ومواصفة زمالئه وأخصامه ً حظة ّ يخفف بها من غلواء املبالغات املرشحين آلاخرين ،أو يبدي مال الصبيانية التي كان يحاول بعضهم أن يتب ْهور بها ليبهر الزعيم وينال إعجابه ّ ّ وتعجبه الستدراجه إلى وعده بالتأييد املقصود على أنه الضمانة ألاخيرة وألامل الوحيد املنقذ للعباد من كل حيف وكل أزمة ومأزق قد ّ يحل ،ال سمح املولى ،بالناس والوطن. في إحدى الجلسات التي ّ تعبر بكل وضوح وصدق عن العقلية السياسية التي كان يتمتع بها السياسيون والتي ج َّرت املهازل واملآس ي جاء إلى الزعيم طبيب من عائلة مرموقة ومعروفة في دنيا السياسة يرافقه أحد ً املحامين البارعين الذي بدوره يعمل في السياسة ،وكان الوقت متأخرا في ً بيت في أطراف ضهور الشوير ،وصودف وجودي هناك ،وكنت عميدا للداخلية ،فراح كل منهما يشرح بالتناوب عن أهميته وقوته الشعبية ومكانته في املجتمع ،وكذلك يشرح صداقتهما الحميمة للحزب وملواقف الزعيم ،فقال لهم الزعيم « :لستم أصدقاء الحزب ،بل أصدقاء منافعكم الخصوصية تطلبونها بوقوف الحزب إلى جانبكم في الانتخابات ضد خصومكم دون النظر إلى أي جانب من املصلحة العامة .فالصداقة ال تكون إال بصدق التعاون والتعامل بقناعة وأخالق لغرض نبيل يجمع بين ّ ويعمق التفاهم بينهم»ّ . ويمتن صالتهم ّ وكأنكم بهذا ألاصدقاء الحقيقيين، 119
التأكيد على ما نحن عليه من طيبة تعنون بأننا بسطاء وسذج يسهل استغاللنا واستثمار إمكانياتنا ببعض العبارات املعسولة والوعود الباهرة الطنانة .ال ريب أننا طيبون ونتم َّسك بالصداقة الحقيقية ّ ّ لنمدها بما يجعلها أفعل وأقدر على الاستمرار وممارسة أنبل الصدق ألسمى الصداقة .فالصدق لدينا من أهم املناقب وأجمل ألاخالق لإلنسان في تحقيق إنسانيته .قد ً نخدع ،ليس عجبا ،بوضع ثقتنا في غير موضعها ،ألننا نثق بإنساننا وال نتخلى ً ً عن بناء الثقة في فكره ونفسه ،لكننا أيضا ،وعندما نرى لزوما ،نعرف كيف ً ً نمكر على املاكرين ،ليكون لهم من مكرنا عبرا ودروسا توقظهم من غفلتهم ّ وتوهمهم من أن د ْهقنتهم ال تعجز عن التالعب بعقول السذج ّ ممن تدعونهم «ألاوادم»« ،أوالد الحالل» .احذروا ّ مغب ة خداعكم لنا وال تستهينوا بطيبتنا وثقتنا بالناس .هي من طبيعة أصالة أمتنا التي يعمل الحزب على بلورتها قوة عاملة للعطاء والبناء« .يتساوى العاجز والنابه بالبناء والتعمير وال يتساويان بالخراب والتدمير».
118
«إن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت بتخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـليهم يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدقوا» سعاده
ما أن أصدرت السلطة اللبنانية مذكرة التوقيف بحق الزعيم ،إثر ّ التجول في القرى عودته من املغترب في الثاني من آذار ،1749حتى بادر إلى ّ ً متفقدا قوى الحزب التي غاب عنها طيلة سنوات تسعّ ،إبان الجبلية، ً ّ ً الحرب العاملية الثانية ،موجها ومشرفا على سير ألاعمال الحزبية في شتى الفروع واملؤسسات ،باإلضافة إلى ما قام به من لقاءات إذاعية فكرية واتصاالت سياسية اجتماعية مع الرفقاء واملواطنين من مختلف املناطق ً ّ واملستويات الثقافية .ذات يوم ،تبلغت مع عدد من الرفقاء ،أمرا من حضرة الزعيم يدعونا ملالقاته إلى مديرية سر ْحمولّ ، منفذية الغرب ،في منزل الرفيق توفيق نور الدين ،حضرنا من بيروت إلى عين عنوب ،ومنها سرنا على ألاقدام إلى بشامون فسرحمول .ووصلناها مع بزوغ الفجر .استقبلنا صاحب الدار ،ثم انتقلنا إلى غرفة فسيحة حيث كان الزعيم ينتظرنا مع بعض ً ً ّ الرفقاء .بعد أداء التحية ،أخذ الزعيم يتمش ى بخطى وئيدة ذهابا وإيابا في
117
باحة الغرفة الكبيرة ،وهو يملي رسالة على الرفيق وديع ألاشقر ،وكيل عميد إلاذاعة ،من كفرقاحل -الكورة ،الجالس خلف طاولة صغيرة في إحدى زوايا الغرفة. بعد دقائق معدودات ،اقترب الزعيم من الطاولة وتناول ورقة مطوية ً مادا ّ بحجم رسالة عادية ،واتجه نحوي إلي يده بالرسالة .فوقفت وسرت ً ّ إليه في الحال ألتسلم الرسالة مستوضحا «ملن تريد ،يا حضرة الزعيم أن ّ أسلم الرسالة» فأجابني بقوله هذه لك .فتحت الورقة املطوية بإحكام ووجدت نفس ي فجأة ،أمام صادرة رسمية ّ متوجة باسم الحزب ،مكتب الزعيم ،وفي أعالها من الوسط رسم النسر ،شارة الزعامة .هي مرسوم بتوقيع الزعيم وخاتم الزعامة ،مؤرخ في ألاول من نيسان ،1749يقض ي ً بتعييني عميدا للداخلية في الحزب السوري القومي الاجتماعي .ولم يسبق أن وتأن فاتحني الزعيم بهذا ألامر على إلاطالق .بعد أن قرأت املرسوم بشغف ٍّ قلت له« :إنني ،بطبيعة الحال ،على أت ّم الاستعداد لكل تلبيةّ . لكنني ألفت نظر حضرة الزعيم ،إلى ّأنني طالب في معهد الحقوق الفرنس ي ،بيروت، ّ ومدرس ملادة الرياضيات في معهد البكالوريا املسائي ،رأس النبع ،لصاحبه محمد العيتانيّ . وبودي لو يتاح لي ،أن أتابع دراسة الحقوق». ً ً فأجابني الزعيم «ال يضيرنا أن تصبح يوما ما محاميا ،لكن هناك ظروف في حياة ألامة ،تقض ي بوضع كل ما هو شخص ي وخاص على الرف وتقديم أغلى التضحيات. أنت آلان عميد للداخلية ،عملك هو التجوال في املناطقّ ، الاتصال الحي بالرفقاء واملواطنين وليسن باملراسلة ،من وراء املكاتب .والرفقاء في يؤمنون لك إلاقامة واملأكل ،فاألمر يعود إليهمّ ، املناطق ّ هيا إلى العمل ،يا حضرة العميد».
121
عند أصيل ذلك اليوم املليء باألعمال ّ الهامة خرجنا جميعنا برفقة الزعيم إلى الجنينة املحيطة باملنزل ،حيث وضعت مجموعة من الطاوالت ّ ً الصغيرة واملقاعد ،لنأخذ قسطا من الراحة ،نتناول بعض املرطبات ً والفاكهة .وكنت طيلة الوقت أقلب مرسوم الزعيم بين يدي ،أضعه حينا في ً جيبي بكل حرص وعناية ألستعيد قراءته حينا آخر بإمعان وتمعن ،مما لفت ً انتباه حضرة الزعيم وقال مرحا «ألم تحفظ حتى آلان هذا املرسوم عن ظهر قلب ،وأنت ّ تكرر قراءته منذ الصباح؟» أجبته ليس ألامر هكذا ،يا حضرة الزعيم بل صدور هذا املرسوم في ألاول من نيسان قد استوقفني .فبادرني ً واضعا يده على كتفي ،والضحكة تمأل أسماع الحضور «ال بأس ،يا حضرة ّ ّ العميد ،إنت بتخليهم يصدقوا ،وآلاتي قريب». ّ ً ً ً وكان يوما جميال باألعمال املثمرة ،جميال بما تخلله من مرح واستجمام ّ عميق مفعم باآلمال الكبار إلى جانب الزعيم الرفيق ،الذي علمنا الفرح في ّ علمنا ّ الجدية في الصراع وإلانتاج املجدي. حياتنا وأعمالنا ،كما «نحن نحمل املتاعب ،ال ننوء وال نرزح بها ،ننتصر عليها ونخرج إلى مرح ً وانشراح في الحياة إلى تحقيق للوجود ،الذي ال يمكن أن يكون عبثا أو ً وهما».
121
«الحياة مغ ـامرة ،يا رفيقي ،والحزب مغامرة بقلب مغامرة» سعاده
مض ى على صدور مذكرة التوقيف بحق الزعيم التي استمرت سبعة أشهر وسبعة أيام قبل إلغائها ،ما يزيد على السنة .طرد أثناء هذه املدة ً أصحاب البدع ،والتحريف في العقيدة والنظام ،الذين حاولوا عبثا ،تحويل ً ً مجرى النهضة بجعل السياسة وأغراضها هدفا ومطلبا بذاتها من دون العقيدة ونظرتها إلى الحياة والكون والفن .وقد اجتاز الحزب في تلك الحقبة إحدى املراحل الصعبة ،وأطل على مرحلة من الهدوء النسبي والهدنة العابرة املؤقتة في معركته الطويلة الشاقة. ّ راودني ،حينذاك ،الحنين إلى دراسة الحقوق التي صادف أن علقتها ً ّ مرارا بسبب الظروف الحزبية القاسية ومقتضيات الواجب القومي ،وفكرت أن ّ أقدم استقالتي من مسؤولية عميد الداخلية ،ألنقطع إلى الدراسة والتحصيل الثقافي املطلوب من جانب كل قومي اجتماعي يعي أهمية املعرفة ،وعميق خطورتها في إطالق إمكانياته للبناء والتحقيق. 122
ً طلبت موعدا من حضرة الزعيم ألفاتحه باألمر الذي أعتبره جليل ألاهمية .لدى اجتماعي به أفضيت له برغبتي باالستقالة من مسؤوليتي ّ ً متجهما ،وقد بدا الامتعاض عليه بقوله الحزبية واستئناف الدراسة ،أجابني «هذا ألامر يعود إليك أنت وحدك ولك أن تقرره كما تشاء» .وملا الحظ أنني ً لم أدرك مقصده ،أضاف موضحا« ،أنت تشغل آلان مسؤولية حزبية هامة في مرحلة دقيقة من تاريخ الحزب والنهضة ،وقد بدأت بإعطاء النتائج ّ الحسنة فيها ،وفي الوقت الذي نفكر فيه بدعوة آخرين لنضعهم تحت ً تصرف العمل الحزبي ،تطالبنا باالستقالة حرصا منك على إتمام دراستك. فإذا كنت ال تأنس من نفسك القدرة على املغامرة فليس بمقدور أحد أن ً يجعلك مغامرا .إن الحياة مغامرة يا رفيقي والحزب مغامرة بقلب املغامرة. عليك أن ّ تقرر ما أنت أهل لعمله .وقادر على تقديمه للنهضة التي تساوي وجودنا». ً ً خجوال من مواجهة ّ ترددي في إلاقدام على حياة أطرقت مرتبكا املغامرة ،ومن تقصيري في ّ تحمل مسؤولية رجل العقيدة ،رجل النهضة الذي يجب أن يكون قدوة في العطاء ،قدوة في املغامرة الحقيقية الكبرى.
122
إن ألامة العظيمة يبرهن انكسـ ـ ـارها عما إذا كانت قـ ـ ـوية في نفسـ ـ ـ ـها وق ـ ـ ـادرة أن تثـ ـ ـ ـ ـبت للنكب ـ ـ ـ ـ ـات سعاده
بدأت إحدى معارك التحرير لفلسطين 1748هذه املرة بهجوم عام ضم الجيوش النظامية من مختلف ألامم العربية .وبدت في مطلع ذلك ّ مؤشرات التصميم على قتال مجيد ّ يلقن العدو صدمة جدية في الهجوم متابعة مساعيه إلقامة دولته في «أرض امليعاد» على أنقاض أصحاب الحق ّ ّ والتصرف بمواردها وخيراتها .وقد علل الناس الشرعي املطلق باألرض ّ الحمية أنفسهم بخير النتائج ملا أبدته الجيوش الزاحفة إلى فلسطين من وإلاقدام حتى ظ َّن أن املعركة قد تكون حاسمة وقادرة على وضع حدّ ٍّ ألطماع اليهود في الوطن السوري ،ولو إلى حين. غير أن الدول ألاجنبية الاستعمارية املتربصة بأمتنا والتي وراء املؤامرة الصهيونية كانت تراقب عن كثب سير العمليات وتفاقم ألاخطار املتزايدة على مصالحها في اتجاه املعارك املظفرة .وهي إذ أفزعتها انتصارات الجبهة العربية على اليهود ،سارعت إلى التدخل بوصفها الحكم الذي يدعو إلى السالم 124
ً ً العادل والدائم كالعادة ملصلحة الطرفين حقنا للدماء وتأمينا لسالمة ألامن ً وآلامنين جميعا. وراحت تلك الدول املشهود لها بحسن النية وسالمة الطوية تنشط وتناور تارة بالوعود املعسولة وتارة بالوعيد املرير عساها تحصل على موافقة الجانبين إليقاف القتال وفصل القوات مع غيرها من التنازالت كي يتاح لها في جو هادئ إيجاد الحل املناسب خدمة للمصالح اليهودية الصهيونية املعهودة .وقد و ّفقت ،دون ريب ،هذه الدول «املحايدة امل ّ حبة للسالم» إلى ما ً ّ وتوصلت إلى إقناع ذوي الشأن في ّ الحل والربط« ،املشهود لهم أيضا تشتهي. ّ بشديد الحرص على السيادة والتمسك بإرادة الشعب» ،توصلت إلى إقناعهم ،هؤالء ،بضرورة التفاوض حول نقاط الخالف التي أوجبت القتال وإهراق الدماء .وكانت حصيلة الجهود «املشكورة» قبول «الهدنة ألاولى» ّ ّ والتحفز مفعمة وتوقف القتال على جميع الجبهات في أجواء مليئة بالتوتر بالحماس الجارف والتفاؤل العارم. ّ مرت على الهدنة فترة ال أذكر مداها بين ترقب محموم من جانب ّ الشعب وتصميم فذ لحملة السالح على خوض معركة الشرف والكرامة بين لحظة وأخرى إلحراز النصر وصون السيادة .بينما أصحاب السيادة والفخامة والجاللة يوالون الاجتماعات الخفية وراء ألابواب املقفلة حيث ً تمارس سياسة الثعلبة والنفاق التي أوصلت ألامة دائما إلى الكوارث واملآس ي. طيلة مراحل القتال قبل الهدنة وأثناءها والحزب يقوم باتصاالت ّ مكثفة بجميع الجهات والجبهات ليحصل على السالح فينزل بكامل قواه ّ مستمر ومعداته إلى حلبة العطاء والشهادة ،وبعد وعود متعددة ونكوث للوعود ،كان الجواب «ال سالح للقوميين الاجتماعيين» .وهكذا أقص ي الحزب السوري القومي الاجتماعي عن املشاركة الفعالة النظامية في القتال من
125
أجل جنوب سورية ّ ضد برابرة الصهيونية اليهودية« .مع ذلك فقد انخرط قوميون اجتماعيون عديدون في الجيوش املحاربة وحاربوا في كل امليادين. وتفان في الواجب. وكانوا املتطوعين الشعبيين الوحيدين املمتازين بنظامية ٍّ شهد بهما كثيرون من الذين عاينوا أعمالهم من رؤساء ‹اللجان القومية› والقادة». ّ وقعت تلك الهدنة وحلت السياسة وأضاليلها وأالعيبها مكان القتال ّ التحفز الجامح وفعله الفاصل بين الحق والباطل .وقد كان الزعيم ،وسط والحماسة الجارفة التي أبداها الشعب بمختلف نزعاته ،يتوقع مثل هذه ّ الصدمة الفاضحة ليصفع بها الساسة التقليديين .وقد أكد أكثر من مرة « إن السياسة الخصوصية الاعتباطية قد وصلت باملسألة الكيليكية واملسألة الاسكندرونية -إلى الكارثة .كارثة فلسطين مسؤولة عنها سياسة الخصوصيات والحزبيات الدينية والعشائرية .هذه السياسة الخصوصية شبثت بقضايا ألامة ّ الاعتباطية الاحتكارية ت ّ تشبث الغول بفريسته» فكم نبه الزعيم بجميع اتصاالته وكتاباته إلى خطورة العقلية ألاخالقية القديمة التي تقوم على السياسة وخطورة أساليبها الرجعية على مستقبل ألامة ومصيرها َّ وحذر من عواقبها الوخيمة. ْ مذ أعلنت الهدنة وبدأت املؤتمرات السياسية تشغل محافل الساسة، والناس في حيرة وقلق مقيم .وقد بادر الزعيم إلى وضع البالغ الشهير بصدد قرار تقسيم فلسطين (ولم يكن موضوع التقسيم قد ورد على لسان ولم يكن يتوقعه أحد من الناس أو يتحسب له) ،ثم دعا الزعيم مجلس العمد ً فورا إلى جلسة طارئة لتداول موضوع البالغ املع ّد الذي يعالج رؤية النهضة حول وضع البالد وما آلت إليه معركة تحرير فلسطين آنذاك كما يقدم وجهة نظر الحزب لألمة بمنتهى الوضوح والجرأة والصدق القومي الاجتماعي
121
ً محددا مسؤولية الكارثة على عاتق الشعوذة «الوطنية» وعقلية الاتكالية «العروبية». عقدت الجلسة وأوضح الزعيم للعمد ّ تأمله في مرامي الهدنة وأبعاد املؤامرة التي ّ تعد لألمة مفاجأة بتقسيم فلسطين .وتال البالغ لالطالع على رأي كل من العمد في أمر البالغ وتفاصيل ما انطوى عليه من وصف لألوضاع الناشئة والتوقعات املرتقبة. وقد جاء البالغ في تحليله ألسباب الكارثة وعوامل حدوثها بلهجة ّ جد صارمة من ضمن حملة عاصفة على فئة السياسيين الرجعيين وزبانيتهم وما اقترفوه ويقترفون من تآمر يدل على غباء فاضح وعقلية ملتوية ال أخالقية حتى أصبحوا الويل النازل على ألامة بل مصدر الكوارث كلها. وافق مجلس العمد على فكرة البالغ وضرورته ومناسبته املهمة لكنهم ّ فوجئوا من لهجته «القاسية» وهجومه «الجارح» على من يشكلون بنظرهم ّ وحكامهاّ . وتخوفوا كثيرًا من أسلوب الرد وما يحتمل أن ّ يجره على قادة البالد الحزب من ردود فعل مؤذية معرقلة .لكنهم لم يفاتحوا الزعيم بما في نفوسهم من ّ تخوف وقلق على مصلحة الحزب بالنظر إلى أسلوب صياغة البالغ .واكتفوا باملوافقة إلاجمالية على البالغ وباللجوء إلى الصمت .وقد ّ انفضت الجلسة بعد أن سل م الزعيم إلى عميد إلاذاعة البالغ للعمل على طبعه وتوزيعه بكميات كبيرة بالتعاون مع سائر العمد كل وفق صالحياته. ً وقد غادر العمد منزل الزعيم ،وكنت آنذاك عميدا للداخلية ،بقصد التوجه إلى املطبعةّ ، لكنهم توقفوا في صيدلية ألامين فؤاد أبي عجرم لتداول أمر البالغ والتشاور في شأن ما ّ يحز في نفوسهم من معاناة بسبب عدم اقتناعهم كل ما يدور في البالغ وعدم مصارحة الزعيم والتعاون معه ّ بصواب ّ لحل ً ً ّ ومتوجب قوميا اجتماعيا. إلاشكال الحاصل كما هو مطلوب
129
عقد العمد لقاءهم في صيدلية ألامين فؤاد أبي عجرم ملعالجة مشكلة البالغ قبل مباشرة طبعه .وإثر تبادل آلاراء والتباحث فيما يشكو منه العمد ً بشأن البالغ رأى الجميع ضرورة الاتصال بالزعيم فورا والعودة إليه لإلدالء بكل ما يدور في خواطرنا وتصوراتنا ثم الخروج من املأزق الضاغط على ً وجداننا جميعا بأفضل الحلول .تناولت الهاتف واتصلت بحضرة الزعيم. وكان ذلك بعد مغادرتنا منزله بأقل من ساعة .فما أن سمع صوتي حتى ً عرفه وبادرني سريعا بالسؤال «من أين تتكلم»؟ وملا عرف أننا موجودون في الصيدلية واملفروض أن نكون في املطبعة طلب أن نعود إليه كلنا .وهو بانتظارنا. وصلنا إلى منزل الزعيم بأقص ى سرعة وقبل أن نطلعه نحن على ما نريده منه بادرنا القول :لقد اجتمعتم في الصيدلية عوض الذهاب إلى املطبعة ألنكم غير مقتنعين بما ورد في البالغ .فأجبناه باإليجاب وشرحنا له ً مطوال كل شاردة وواردة حدثت معنا منذ اطالعنا على نص البالغ .فقطب وجهه بادئ ألامر وتج َّهم ثم عاد فابتسم وهو يقول :لنفصل املوضوع إلى ّ ّ بصحة املواقف الواردة في البالغ إن من حيث شقين :ألاول ما يتعلق فقط ّ تحليل الوقائع أو إدانة املسؤولين عن وقوع الكارثة .والثاني ما يتعلق بالصيغة وما يمكن أن ّ تسبب للحزب أو ألشخاصنا من صعوبات أو عداوات قد يكون ألافضل عدم إثارتها والتعرض لها في هذه آلاونة .تم التداول الدقيق العميق في موضوع الشق ألاول حول صواب الرؤية وسالمة إلادراك للوقائع وضرورة ما قيل ووجوب إعالنه بأكمله .أما في الشق الثاني فقد ً أفاض الزعيم في أن النهضة ال تعبأ أبدا في القيل والقال وما تثيره مواقفها من ردود الفعل من قبل الرجعية والرجعيين ،إنما تعمل إلحداث تلك الردود وتلك ّ الهزات التي ّ يسب بها العالج نفسه في ألاجسام املريضة املتعبة حتى ّ تستريح وتتعافى بعد أن تكون جميع حاالتها قد اتضحت وتكشفت جميع 128
أعراض املرض ودخائله الكامنة أمام التشخيص ولدى املعالجة« .ليس ْ ّ عندنا ش يء مكتوم وش يء معلنّ ، ألننا لم نخف قط من إعالن حقيقتنا .لم يوجد حزب ،في العالم كله ،واجه من الصعوبات وألاضاليل والعراقيل وإلاشاعات ما واجهه وانتصر عليه هذا الحزب» فإذا كنتم تعرفون بأن ما نقوله حقيقة ال ريب فيها ،فعلينا إذن أن نتحمل جميع النتائج التي تلزمنا بها شجاعتنا وقضيتنا .وإذا كنتم أيها العمد غير قادرين أمام ردود الفعل ً املرتقبة فإنني أعفيكم حاال من مجابهتها وأتحملها بمفردي أمام ألامة ّ والتاريخ الذي يسطر ما نحن وما نفعل« .وسواء أفهمونا أم أساؤوا فهمنا، ّ فإننا نعمل للحياة ولن نتخلى عنها» .وانصرفنا بعد ذاك إلى التنفيذ الواجب ونحن ّ نتمتع بقناعة مطلقة وعزيمة مطلقة ملواجهة النصر املحتوم الذي مرد إلرادتنا وال ّ نعمل له ونسير إليه .ال ّ تردد في إقدامنا.
127
«الخج ـ ـ ـ ـل من الرذيلـ ـ ـ ـة طع ـ ـ ـنة للفض ـ ـ ـ ـ ـيلة» سعاده
ًّ فنا يخدم غاية» هي العقيدة والنظام الجديد، بين أن تكون «السياسة ً وأن تكون السياسة غرضا لذاتها تنصاع إليه العقيدة بمفاهيمها ومضامينها الفكرية النفسية ،فرق عميق في كيانية الحزب وأبعاد النهضة وفي دعائم وجودهما وماهية أهدافهما .فالحزب الذي وجد من ألاساس ليصون النهضة ً ّ ّ مجرد «عدد من الناس مجتمعين يتحول بجعل السياسة هدفا له إلى للمناداة بوحدة سورية فحسب أو للعمل للنيابة ،كما يعمل املشتغلون في ّ ومتكتلين ملصلحة شخصية خصوصية» .هذا ما أصاب السياسة متآزرين ّ ّ قيادي يه وسلوكهم أثناء غياب الزعيم في املهجر، نفسية بعض الحزب في ّإبان الحرب العاملية الثانية. ً ّ ً منهم من ّ تقرب من دهاقنه السلطة اللبنانية ،آنذاك ،تزلفا وطلبا ً للمنفعة الشخصية ،واضعا بين يديها تغييرات جذرية في املبادئ وألانظمة ً الحزبية ،حتى الشعارات املعروفة والتي أصبحت ّ تكون جزءا من شخصية ّ املوجه ألغراض سياسية .فكان الحزب ومزاياه تناولها التحوير والتبديل 121
«الواقع اللبناني» الذي كتبه نعمة تابت وألقاه في اجتماع بعقلين سنة ً .1744وهو يشكل خروجا عن معنى ألامة الذي نفهمه ،والانتقال بالقول ّ بأمة جديدة «ألامة اللبنانية». ً في «الواقع اللبناني» كل ش يء قومي صار «لبنانيا» .فقد تكلم نعمة تابت ً فيه عن قيم لها صفة القومية العامة ونسبها إلى لبنان واللبنانيين بدال من أن ينسبها إلى سورية والسوريين كما ّيتفق مع الحقيقة .من هذه القيم التراث وألاخالق والثقافة والتاريخ والرسالة. وكان بعد «الواقع اللبناني» تغيير الزوبعة ،شعار الحزب« ،بشارة» أخرى جديدة ،دون توضيح لهذا التدبير وال تبرير ملوجباته ،ثم كان تع ُّمد الدوائر املركزية إغفال ذكر الزعيم وسورية من أي نشرة أو تعميم أو بحث حزبي ،دونما سبب ظاهر .هكذا كان يتسلل الانحراف والتحوير إلى فكر الحزب وتنظيماته املعروفة ،بتخطيط وتصميم ّ وسرية مشبوهة ،هادفة إلى إرضاء ذوي السلطة والسلطان في الدولة اللبنانية ،حينذاك ،خدمة للمآرب الخصوصية التي أصبحت فوق مصلحة القضية. إلى أن عاد الزعيم من املغترب في الثاني من آذار سنة ،1749وألقى خطابه التاريخي املشهور على حشود املستقبلين في باحة املطار ،من القوميين الاجتماعيين وألاصدقاء واملؤيدين .وكان هذا الخطاب القول الفصل في العودة إلى العقيدة والنظام وإلغاء جميع البدع الدخيلة املستحدثة التي دست في الحزب كالسم في الدسم لتكون أداة استغالل ألفراد قالئل عصفت بهم ألاطماع الخصوصية على حساب النهضة وألامة. ومنذ ذلك اليوم ،راح الزعيم يعيد ألامور الفكرية العقدية ً والتنظيمات الدستورية إلى قواعدها وأصولها القومية الاجتماعية ،محاسبا ً ً ً حينا ،وموجها حينا آخر ،حتى كانت جلسة املجلس ألاعلى التي عقدت في 121
الرابع من نيسان 1749في عيتات -الغرب ،بحضور أعضاء مجلس العمد وعدد من املسؤولين املركزيين السابقين أثناء غياب الزعيم عن الوطن .وقد خ ّ صصت هذه الجلسة التاريخية لطرح جميع إلاشكاالت الفكرية الدستورية وسواها التي أ دخلت إلى الحزب ،ومعالجة جميع أسبابها الظاهرة وخلفياتها ً البعيدة ثم تحديد مسؤولية املسؤولين عن افتعالها واملأخوذين بها تضليال ً وتبلبال. فتوجه الزعيم إلى نعمة ثابت ،بوصفه رائد تلك البدع املزيفة بقوله: «الحظت يا حضرة ألامين ،أنكم ّ تعمدتم ،أثناء غيابي ،إغفال كلمة سورية وكلمة الزعيم من كل النشرات الحزبية والبيانات العامة ،فما السبب لهذا إلاجراء؟». أجاب نعمة تابت بقوله :إنني الحظت ،يا حضرة الزعيم ،أن الشعب في لبنان ينفر بمجمله من كلمة سورية وكلمة الزعيم مما حملنا على إيجاد حل لهذه املشكلة .فلجأنا إلى هذا التدبير كأسلوب إذاعي مرن للتقرب من الشعب والتفاهم معه وليس ألي غرض آخر سوى مصلحة الحزب وانتشاره. أجابه الزعيم« :ال شك أن نفور الشعب من الحزب أمر شديد الخطورة وجدير بكامل اهتمامنا وعنايتنا ،ألن معركتنا هي معركة الوصول إلى الشعب ،غير أن إلزالة إلاشكال الحاصل بيننا وبين الشعب ،إن ّ صح هذا ّ وصحت أسبابه كما تقول ،يا حضرة ألامين ،إحدى وسيلتين: الزعم الوسيلة ألاولى :إحداث ما ّ يود الشعب من تغيير وتبديل في قضيتنا ً بالشكل والجوهر نتيجة جهله لحقيقة رسالتنا ،وصوال إلى إزالة نفوره منا ومعالجة ابتعاده عن حركتنا .نكون عندئذ قد ألغينا أنفسنا وأزلنا وجودنا ٍّ كنهضة .فال يعود من مبرر لنفوره على إلاطالق .وهذا هو منتهى الشك بصحة قضيتنا والهزيمة الكلية من مواجهة مسؤولياتنا تجاه الشعب 122
ومصيره .ليس غرض النهضة مسايرة تصورات الشعب بل توعيته إلى حقيقته. الوسيلة الثانية :تقوم على عميق إيماننا بصحة ما ّ نقدمه للشعب، وعميق تمسكنا بسالمة قضيتنا من كل شائبة ،والعمل على تحقيق أهداف النهضة وغايتها دون مساومة وال مواربة .وبعدها نسعى ملعرفة أسباب عدم ّ تقبل الشعب لقضية وجود ه وسيادته في النهضة ثم العمل على تذليل كل عقبة تحول دون إقباله على صفوفنا واعتناقه العقيدة القومية الاجتماعية ونظامها والصراع من أجل انتصارها ،وذلك بابتكار ألاساليب والوسائل تعرفه على حقيقة النهضة ّ إلاذاعية الثقافية والعملية لتسهيل ّ وتفهمه لحقيقة مبادئها وأهدافها. غير أن هذه الوسيلة العملية الصحيحة إليصال القضية إلى الشعب تتطلب التمرس في الجهاد الدؤوب ،والتضحية املستمرة طريقها طويلة ّ ّ وشاقة ،محفوفة باملصاعب واملخاطرّ . لكنكم تخليتم عنها واخترتم سبيل الهزيمة ألنكم فقدتم روح النضال والشجاعة في أعمالكم وخسرتم مناقب البطولة َّ املؤيدة بصحة العقيدة». بعدئذ وقد حل الزعيم ذلك املجلس ألاعلى في جلسته تلك .وتابع ٍّ التحقيق مع نعمة تابت في سائر شؤون الحزب ومواقفه إبان غياب الزعيم ّ القسري عن الوطن .وبعد أن تأكد لديه تواطؤ نعمة تابت مع الحكومة اللبنانية نتيجة ملا أجراه من تغييرات في ألاسس واملفاهيم القومية الاجتماعيةّ ، لجر الحزب إلى عجلة الساسة املحترفين مقابل وصوله ً الشخص ي إلى مراكز املكانة والوجاهة على حساب الحزب وألامة ،فضال عن تآمره الثابت بالسعي لتأخير عودة الزعيم إلى الوطن ومؤازرة الحكومة
122
اللبنانية في إصدار مذكرة التوقيف بحق الزعيم ومطاردته إثر عودته إلى الوطن في الثاني من آذار .1749 ثم طرد نعمة تابت ومأمون إياس ومن كان يدور آنذاك في فلكهما .وقد ً ً أصبح فيما بعد نعمة تابت عضوا في الرابطة املارونية ومأمون إياس عضوا في الكتلة الوطنية .وما يزالان حتى آلان على والئهما الجديد. بعد أيام من طردهما ،صادف مرور نعمة تابت في شارع املعرض - ً بيروت ،وقد ملح على الرصيف املقابل ألامين كامل أبو كامل ،فسارع قاطعا إليه الشارع للسالم عليه بلهفة وحفاوة بالغة .فوجد ألامين كامل نفسه أمام ً ألامر الواقع ،وبعد تردد عابر بادله السالم واملصافحة تأدبا ،ومض ى كل منهما في سبيله. وقد بلغ الزعيم لقاء ألامين كامل أبو كامل في شارع املعرض باملطرود نعمة تابت وتبادلهما التحية واملصافحة .فاستدعى ألامين كامل واستوضحه ألامر ،ثم قال له: «لقد ارتبكت ،يا حضرة ألامين إزاء انهماك نعمة بالسالم عليك ً ً ومددت إليه يد املصافحة مراعاة لشعوره وإكراما لحفاوته ولطفه .لكن ،أال ترى ،أن خجلك من الرذيلة طعنة للفضيلة! فماذا أبقيت للفضيلة من تقدير وإكرام!».
124
الثق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بالحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزب وع ـ ـ ـ ـ ـدالته النبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيلة
ّ ّ نحن دولة ألامة السورية املصغرة .نمثل الشعب السوري بجميع فعالياته الفكرية ،الاجتماعية والاقتصادية ونتفاعل وحدة باإلدراك للحقيقة ووحدة باملنطلق والاتجاه ووحدة باملطلب والهدف ،حين نمارس توحد بيننا ّ العقلية ألاخالقية الجديدة الراقية التي ّ وتؤهلنا ملواجهة وحدة ً مجتمعا ّ موحد إلايمان وإلارادة كي نحقق ألامر الخطير الحياة ووحدة املصير الذي تعاقدنا على اعتناقه والنضال من أجل انتصاره وخلوده ألجيال لم تولد بعد. لقد أدركنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي حقيقة كوننا دولة ألامة السورية وصرنا نجسد دعائمها ألاربعة :الحرية والواجب والنظام ّ والقوة حتى أخذ سلوكنا يتسم «باالبتكار ألاصلي الذي هو من مزايا شعبنا». ً هكذا راح ألاعضاء يتعاملون معا ويعاملون آلاخرين وفق مبادئ هذه الدولة و« نظامها القومي الاجتماعي الذي يصهر التقاليد املنافية لوحدة ألامة والنفسيات الشخصية املنافية لنفسية ألامة» .وقد ّ عم إدراك هذه الحقيقة 125
املواطنين ممن ّ تعرفوا إلى أعضاء الحزب وخبروا أخالقهم من خالل عالقاتهم بهم ومعامالتهم معهم في ّ شتى الشؤون وألاعمال. جاء أحد املواطنين إلى الحزب في بيروت بعيد إلغاء الدولة اللبنانية ً ملذكرة التوقيف سنة 1749يسأل عن عميد الداخلية ليعرض إليه أمرا ً خاصا وصفه بأنه هام .تقدمت إليه وعرفته بنفس ي وقد ّ رحب بمعرفته لي ً بمنتهى التهذيب واللياقة لكن أيضا بكثير من الارتباك املشوب بالخجل ً والتهيب .وقد بدا منه ّ ّ تردد ظاهر بقبول دعوتي إليه للجلوس وقد ّ ظل واقفا يحملق بي دون أن ي نبس بكلمة ثم جلس بينما الكالم كان يتلجلج في حلقة ً دون أن يتمكن من إلافصاح عن حاجته إلى أن همس قائال: ً أشار ّعلي بعض ألاصدقاء أن آتي إلى الحزب وأعرض عليكم أمرا ً خاصا يتعلق بأحد رفقائكم فهل ذلك ممكن ومسموح في نظامكم. يهمنا ّ • نعم تفضلّ ، كل ما يتعلق بأي رفي ق ونعمل على معالجته بالعناية والعدالة. ثم توقف عن الحديث ليلتقط أنفاسه وهو بحال من الاضطراب ً والحيرة تثير الانتباه وأضاف قائال: أخبروني أنكم تهتمون بأمري وتساعدوني على حل مشكلتي مع أحدالقوميين بوجدان وعدالة. • من كل ّبد نحن نحرص على التعامل مع جميع الناس بالحق والدفاع عن كل حق دون تفريق بين واحد وآخر وال محاباة ضد أحد. ً إذن ،أخبرك ،يا حضرة العميد ،أن لي مبلغا من املال مع ألاستاذجار في مشروعه «التموين العائلي» القائم في أسد ألاشقر من أصل حساب ٍّ ّ محلة الجميزة ومض ى على موعد تسديد الدين بعض الوقت دون أن أجد 121
ً سبيال لالتصال به وتذكيره بتسديده .إني بأشد الحاجة في هذه ألايام إلى املال ألنني أعاني أزمة أوقعتني بخسارة فوق طاقتي ّ تحملها .ولوال ذلك ملا أزعجتكم .وها أني أعرض ألامر على الحزب ليقض ي بحكمه مهما كان نوعه. أرجو املعذرة وعدم املؤاخذة إلشغالكم بمثل هذا املوضوع البسيط ال بل التافه بالنسبة إليكم. • هل أن املبلغ متفق على مقداره مع الرفيق (آنذاك) أسد ألاشقر .وما هو وجه الخالف بينكما؟ نعم يا عميد الاتفاق تام على املبلغ وعلى تقسيطه لعدد منالدفعات .وقد سدد منه ألاستاذ قسطين أي ما يقارب نصف املبلغ إلاجمالي. • فما هي دعواك على الرفيق أسد ألاشقر؟ وماذا تطلب منا عمله من أجلك مع الرفيق أسد ألاشقر؟ ّ التكرم معاذ هللا ،أنا ال أقيم دعوى على ألاستاذ أسد بل أرجوكمبمساعدتي إلقناع ألاستاذ بتسديد املتأخر مع ما تبقى من املبلغ دفعة ّ واحدة وخالل هذا الشهر إذا أمكن .فيسهل ّ علي التخلص من ألازمة التي أنا واقع فيها وال يسعني الخروج منها بدون ذلك. • جيد ،يمكنك ،يا ّ سيد أن تعود إلى هذا املكان ملواجتهي بعد يومين وستسير ألامور على أحسن وجه يفرضه الوجدان والحق ويقتضيه الشعور معك .إلى اللقاء ،ال تتأخر عن املوعد ،إني هنا بانتظارك .موفق. رويت ذلك املساء لحضرة الزعيم هذه القصة الطريفة التي ّ تنم عن عمق ثقة الناس بحقيقة شعور النهضة النبيل تجاههم وتمام استعدادها ملساعدتهم العادلة املنصفة وأنها مالذهم في امللمات .في اليوم التالي دعوت الرفيق أسد إلى عمدة الداخلية واستوضحته تفاصيل الحادثة املذكورة
129
فأفاد بصحة كل ما ورد على لسان ذلك املواطن وأنه على ّ أتم الاستعداد لتسديده كامل املبلغ الباقي له بالسرعة املطلوبة .وقد طلبت من الرفيق أسد ألاشقر الحضور إلى عمدة الداخلية في املركز في املوعد املضروب للمواطن ً معا ّ ويتفقا على كل ش يء. ليتواجها حضر املواطن سليم والرفيق أسد ألاشقر بتمام املوعد املحدد إلى مكتب عميد الداخلية وتباحثا بأمر املبلغ املالي الباقي للمواطن لدى الرفيق أسد ألاشقر .كم كان خجل املواطن سليم من الرفيق أسد ألاشقر .وكم كرر اعتذاره منه ورجاه ع دم مؤاخذته ألنه اضطر إلى مراجعة الحزب بشأن ما ً بينهما من مال مؤكدا بأن اتصاله بالحزب كان بقصد الحصول على مساعدته إبان أزمته املالية الخانقة لم يكن يطلب غير الاستعانة بالحزب ال الشكوى وال إقامة دعوى بحقه .فقال له الرفيق أشقر ال تؤاخذ نفسك إن لجوءك إلى الحزب ولو ّ بنية إقامة دعوى أمر يدل على ثقتك بالحزب ً وبعدالته النبيلة وإيمانك بعميق اهتمامه بشؤون جميع املواطنين فضال عن أعضائه. ً وقد تم الاتفاق بينهما على كيفية التسديد املطلوبة شعورا من الرفيق أسد ألاشقر مع املواطن فيما يعانيه من أزمة ومأزق حرج ومشاطرة من الحزب بالتخفيف عن كاهله ما أمكنه من وزر ألازمة املصاب بها. ً وأخيرا أكد عميد الداخلية للمواطن وبحضور الرفيق أشقر أن ما ّ اتفق عليه آلان سينفذ بحذافيره دون تلكؤ وعليه أن يعلم العمدة بالنتائج ّ في حينها ولدى الحاجة فالحزب لن يتخلى عن واجبه بإغاثة كل متألم. ً غادر املواطن سليم مركز الحزب مودعا بكل امتنان ملا القاه من نبل املعاملة وحسن التلبية لنداء الحق والخير والعطاء .ولم يفته أن يذكر
128
لصديقه جميل صنيعه لنصحه إياه بمراجعة الحزب ومناشدته املعونة واملؤازرة كي ينال مبتغاه. وقد ّ شدد على أن الحزب حر ّي بكل تقدير وإعجاب وجدير بكل تأييد ً وأنه سيكون ،إن شاء هللا ،وفيا ملا ملسه من ألاخالقية القومية النبيلة ومن صفاء املحبة وصدق التعامل .وال ّبد أن يكون النجاح حليف الحزب ،حزب إلانسان امللهوف املعذب طالب إلانصاف والعدالة والكرامة.
127
حـ ـ ـ ـق إلاق ـ ـ ـناع هو حـ ـ ـ ـق الاعت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـناق
لم يكن قد مض ى على عودة الزعيم من املغترب سوى بضعة أسابيع إبان استمرار مذكرة التوقيف التي كانت السلطة اللبنانية قد أصدرتها بحق الزعيم ،حين راح الزعيم يعد الطبعة الرابعة املوسعة لتعاليم النهضة ّ تتضمن تفاصيل وإيضاحات جديدة كي السورية القومية الاجتماعية التي ً يقدمها للرأي العام الحزبي فضال عن الشعب السوري بأسره وإلى العالم والقراء ّ ّ عامة كله .وقد حملت هذه الطبعة الجديدة آنذاك إلى الدارسين ً ً ملحقا خاصا من صفحات عديدة باسم «إيضاح» يعرض فيه الزعيم التعديالت الجديدة التي أدخلها إلى حدود الوطن السوري من جهة الشمال والشمال الشرقي وشمولها نجمة جزيرة قبرص واملثبتة في نص املبدأ ً ألاساس ي .ويعلل الزعيم إضافته إلى اسم الحزب كلمة «اجتماعي» مبينا ً الغرض منها ومشيرا إلى جميع مصادر ألابحاث والدراسات التي أوصلت الزعيم إلى الكشف العلمي عن هذه الحقائق وأهميتها القصوى مما اقتض ى ألاخذ بها واعتمادها لإلفادة منها أمانة للحقيقة بجميع دقائقها وجوانبها.
141
ّ املتضمنة بعض التعديل تلك ألاثناء عينها وقبيل توزيع الطبعة الرابعة للمبادئ السورية القومية الاجتماعية ألاساسية طلب الزعيم من العمد في إحدى جلسات مجلس العمد املنعقدة برئاسته أن يقتصر مجمل النشاط الحزبي خالل فترة معينة على صفوف القوميين الاجتماعيين من دون سائر املواطنين .كي يشرح لهم ما استجد من أفكار ّ محددة أدخلت على مضمون مبادئ الحزب ومن صيغ بعض التعابير لتكون لها املداليل القومية ً ً ّ الاجتماعية ألاكثر دقة وألاوفى وضوحا .حتى يتاح لألعضاء مبدئيا تفهم مسائل قضيتهم واستيعاب جميع معطياتها ومفاهيمها قبل الشروع بإذاعتها. ً ّ ألنه من بديهيات حقهم تدارس شؤون الفكر القومي الاجتماعي معا والاقتناع الكامل بصحتها وسالمتها حتى يصار إلى تقديمها إلى ألامة كلها وإلى ً العالم بأسره .وقد أشار الزعيم أيضا بضرورة وضع الئحة تضم أسماء جميع القوميين الاجتماعيين الذين قد يتعذ ر علينا إفهامهم الجديد من مبادئ الحزب وإقناعهم بأهمية ألاخذ به باعتباره وحدة كلية مع كامل املفاهيم وألاسس القومية الاجتماعية .من أجل أن يدعو الزعيم هؤالء لالجتماع لتسديد الشروح الوافية التي يحتاجون بها إليه مباشرة .فال يبقى بعد ذلك لدى أحد ألاعضاء أي غموض أو إشكال حول أية نقطة في مفهوم العقيدة السورية القومية الاجتماعية ونظامها لينطلق كل بدوره إلى إقناع ً ً آلاخرين مزودا بالقناعة التامة .وبذلك يكون الزعيم قد أجرى نوعا من استفتاء حول ّ تقبل أعضاء الحزب التغييرا ت التي أحدثها في نص بعض املبادئ ما دام هؤالء هم أحد طرفي التعاقد في تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي ولهم بالتالي ملء الحق الشرعي في إبداء الرأي واملالحظة وتقديم وجهات نظرهم باألخص في ما يعني املسائل العقدية الفكرية .كذلك يتم للزعيم الوقوف عن كثب على حقيقة الوضع الحزبي والتأكد من مدى ّ تقبل القوميين الاجتماعيين بالفكر والفعل ملا أدخله هو من جديد مهم على
141
مبادئ الحزب وتعاليمه .هذا الجديد الذي يشكل إلايضاح ألاعمق داللة ً للنصوص ويتناول تفاصيل الشروح التي لم يتس َّن للزعيم سابقا إنجازها ً وإكمالها بسبب ظروف املالحقات آنفا .فالزعيم قد أكد لنا أن ال حرية بال حوار وأن ال واجب وال نظام ب َّناء بدون التعامل بالتفاهم والفهم الصحيح. لذلك هو ال يصدر أمرًا بطاعة أفكاره ُّ وتأمالته الفكرية العقدية بل يحاور ويقنع .عندها فقط تتكون قوة إلايمان وتتكامل القناعة ويتم الاندفاع املادي النفس ي السليم نحو ما يعمل به القومي الاجتماعي ويعمل له من حق وخير ً ً وجمال .فال تكون القناعة فكريا ووجدانيا مجرد إجراء تنفيذي خاضع للتنفيذ كما هو قابل لالعتراض بعد التنفيذ .الفكر ال يرتبط بنصوص عدل وت ّ دستورية قانونية أو بصالحيات إدارية لسلطات معينة قد ت ّ بدل ً ّ ً سريا كان أم علنيا. بالتصويت والاقتراع ودأب الزعيم من موقعه القيادي على التوجيه والتفاعل الصميم في وحدة املجتمع الروحية املادية وتأمين التجاوب الصحيح بين صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية وبين املقبلين على الدعوة تجاوب مجموع العناصر التي تكون كيان الجسم الحي ،من يولون الزعيم كامل الثقة ومطلق التأييد ّ فيلبون كل أمر وكل طلب يصدر إليهم حتى إلاقدام فرحين على أذكى شهادة لسيادة ألامة السورية وفالح نهضتها القومية الاجتماعية ،أمل ألامة الوحيد .فالطاعة القومية الاجتماعية تجسيد عملي للقناعة واحترام صادق لألسس واملنطلقات واملقاصد. ال ّبد أن تقودنا العقلية ألاخالقية الجديدة بقوة التعاقد على تحقيق ألامر الخطير الذي يساوي وجودنا إلى ممارسة التعاون النبيل والتعامل البناء ّ ّ ومناقبيتنا بأن عقالنيتنا من أجل مصلحة سورية فوق كل مصلحة .وتؤكد حق الاقتناع هو حق الاعتناق وأساسه ألاوحد في تأسيس إلايمان وإلارادة ً لتلبية التنفيذ ألافضل ما دامت القومية ثقة بالنفس ووعيا للحقيقة وما 142
دام سعاده لم يأتنا سوى بالحقائق ،التي هي نحن ومن نحن في حقيقة التعبير نحن الحق والخير والجمالّ ، ترسخها قوة العقل ّ سيد الشرع ألاعلى، الشرع ألاساس ي ،القادرة بإيمانها على تجسيد القضاء والقدر إرادة ألامة السورية التي ال ت ّ رد.
142
كـ ـ ـ ـ ـم م ـ ـ ـ ـ ـرة حيـ ـ ـ ـل بيني وب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـين ممارس ـ ـ ـ ـ ـتي لـمسؤوليات الزعامة! سعاده
عاد الزعيم من املغترب وبادر إلى إعادة النظر في تشكيل الهيئات ً بدءا من مجلس ْي ألاعلى والعمد ثم ّ املنفذيات املسؤولة إلادارية وسواها، وفروعها ،رغم مالحقة السلطة اللبنانية إللقاء القبض عليه. وراح القوميون الاجتماعيون من رفقاء ومسؤولين يتقاطرون لالتصال به والسعي إليه أينما ّ حل في رحالته إلى فروع الحزب ويهرعون لالستفسار ً منه عن شتى املواضيع والشؤون الحزبية مهما بدت أحيانا أولية أو بديهية. وهو يوجه مداركهم إلى الجوهر ويسدد مفاهيمهم للصواب ويرشد ً اهتماماتهم إلى ألافضل وألاهم ،واضعا جميع ألامور في نصابها ومكانها املناسب .وكان يحيل الكثير من مطالبهم واقتراحاهم إلى الجهات الحزبية ذات الاختصاص والصالحيات للبت بها وإلاجابة عليها ،بطريقة التسلسل النظامي املعروف في العمل الحزبي .واستمر الرفقاء إلى ّ حد بعيد في إشغال الزعيم ً بكثير من الشؤون الحزبية العادية التي هي مبدئيا من ضمن مسؤوليات 144
ً وصالحيات ألاجهزة الحزبية في املراكز أو الفروع .وهو دوما يعاود تذكيرهم ّ بأصول النظامية الحزبية ،لشدة ما كانت هذه ألامور العادية تكلفه من وقت وجهد ألا ْولى أن يصرفه في عمل أكثر أهمية وجدوى. تمادى القوميون الاجتماعيون في التوجه إلى الزعيم باالستيضاحات والاستفسارات عن مواضيع كان عليهم أن يتوجهوا بها إلى مذيع املديرية أو ّ ّ املنفذ العام لحلها وتسديدها .إلى أن قال ،ذات يوم ،ألحدهم« :يا رفيقي ،كم مرة حال أمثالك ،بأسئلة كهذه ،بيني وبين تأمين مسؤول يات الزعامة، ً وحملني على القيام بمسؤوليات فرعية عوضا عن مسؤوليتي ألاساسية التي تظل شاغرة فترات غير قليلة». ثابر الزعيم على إحداث التغييرات في ألاجهزة الحزبية من ضمن حملة إعادة التنظيم لالنطالقة الجديدة .وكان في رأس اهتماماته جعل كل مسؤول يعي ماهية مسؤوليته ،وأن يعرف حدودها فال يتجاوزها وال يسمح لسواه بتجاوزها مهما كانت ّ املبررات .إن أهم ما كان يتناوله بالتشديد وإلاصرار هو عدم اعتياد الرفقاء الرجوع إليه بكل شاردة وواردة ،وخاصة عدم املجيء ً إليه بغية حل املشاكل التي ّ يتعرض لها املسؤول ،دون محاولته أوال معالجتها باعتماده على نفسه وصالحياته الدستورية الواضحة كل الوضوح .ال يجوز ّ يتحول املسؤول إلى ّ مجرد ساعي بريد .همه ألاوحد إيصال الرسائل إلى أن الجهات املرسلة إليها بأمانة ،وتنتهي مسؤوليته هكذا بصورة آلية فارغة. ً دائما يمتنع عن إمالء الحلول على طالبها ّ ليتلقاها لذلك كان الزعيم جاهزة ويأخذها أو يأخذ بها دون مشاركة بها ودون عناء في الحصول عليها. وكان ّ همه إقامة الحوار وتقريب وجهات النظر والتداول بها مع سواه حتى يصل به أو معه إلى إيجاد التقرير أو التدبير املطلوب بشأنها .هو ّ يثقف بتوجيه املواهب وتحريك إلامكانيات الكامنة والثمينة بالتحرك وإلانتاج
145
ً ّ املتجدد .ويأبى مبدئيا الاقتراحات غير املعللة وغير املدروسة من وإلانشاء قبل صاحبها .فحسن الاقتراح ضرورة ولون جيد هام من ألوان التفكير ّ السليم ،وإال يصبح الاقتراح امللقى دون تعليل بال معنى .ويغدو مجرد تيه ّ ّ والتصورات. بالتمنيات عزم الزعيم مرة على إتمام كامل تنظيمات ألاجهزة الحزبية كي تعمل ّ وتتعامل متفاعلة لنفسها دون تدخله ،وال السماح لها بالرجوع إليه ،إال في مهمةُّ ، ملحة ومواضيع ُّ شؤون ّ جد ّ وجد جديدة ،ال تدخل بأي شكل في إطار الصالحيات الدستورية املنصوص عليها بجالء تام .ثم أعلمنا في إحدى جلسات مجلس العمد أنه بعد الانتهاء من تركيز العمل الحزبي كما يلزم، سيتركنا ّ نصرف جميع ألامور على مسؤولياتنا نحن من دون الرجوع إليه. ً وأنه بالفعل سيغيب عنا إلى حيث ال نعلم لينقطع كليا إلى الكتابة من أجل إعداد مواضيع فكرية ثقافية للمستقبل ،سيطلعنا عليها في حينه وأنه ً ً ّ ويتفقد سير أعمالنا املنوطة بنا متى رأى ذلك ممكنا وضروريا. سيطل علينا املطلوب هو أن يكون كل واحد منا الزعيم ،أن يعتمد على نفسه ويثق بقدراته تمام الثقة للقيام بمسؤولياته وواجباته القومية الاجتماعية. ً وأضاف الزعيم جازما أنه لن يسمح ألحد أن يقطع عليه خلوته التي يأمل أن تتاح له في القريب العاجل ،وأن ّ يتسنى له أثناءها إنجاز ألابحاث التي ال تزال تحتاجها النهضة ،والتي ال ّبد من إعدادها وإتمامها على وجه السرعة حاملا يصبح في خلوته املرتقبة .وهذه ألابحاث تتناول كما أعلنها سعاده: ً كتابا في «نشوء ألامة السورية» الذي أ ّ عد في السابق وضاعت مخطوطته في املداهمات منذ سنة .1729 ً كتابا في الاقتصاد القومي الاجتماعي.ً كتابا في الفلسفة املدرحية القومية الاجتماعية.141
ً كتابا في نظرة النهضة إلى الدين.هكذا اح الزعيم ّ يعد أوضاع الحزب الداخلية والتنظيمية إلى إتمام ر ً مسيرته السليمة القديمة مع ابتعاد الزعيم ،ولو مؤقتا عن إلاشراف املباشر ً عليه .فقد ّ حل مجلس العمد في نيسان 1748بقصد إعادة تشكيله مجددا، بعد أن كان قد حل املجلس ألاعلى في الرابع من نيسان سنة 1749إثر عودته إلى الوطن بشهر ويومين .وكان ينوي إعادة تقييم وضع ألامناء ليصار إلى تشكيل مجلس أعلى جديد. ّ لكن التاسع من حزيران ،يوم حادث ّ الجميزة الذي كشف عن مؤامرة الرجعية الحاقدة بقدر ما هي خائفة ،هذا اليوم ،الذي انتهى إلى فجر الثامن من تموز ،قد داهم الزعيم ،إذ عاجلته أذكى شهادة ،شهادة الدم .وكان صباح وكان مساء عهد صراع جديد بالغ الضراوة والشراسة .عسانا نكون ً جديرين بدفق عطاء الزعيم فنقتدي به ونؤسس دائما بقدوته منطلقات ّ جديدة للبناء والعطاء .وليكن كل منا مرآة صادقة لبطوالت الزعيم املعلم ومنارات هادية ألجيال لم تولد بعد.
149
َّ م ـ ـا ينطبق على وداعة الخراف ،ول ـ ـو ضلت، ً ال ينطبق مطل ـ ـ ـ ـ ـ ـقا على ش ـ ـ ـراس ـ ـ ـ ـ ـة الذئاب وضراوتها ولو فقدت أنيابها سعاده
ما كاد الزعيم يصل إلى الوطن ،بعد غياب قسري في املغتربات ،دام تسع سنوات ونيف ،حتى بادرت السلطة اللبنانية ،إلى إصدار مذكرة الجلب ّ ً ّ بحق الزعيم ،ثم مذكرة التوقيف ،من ضمن خطة إلثبات وجودها ،إعدادا النتخابات الخامس والعشرين من أيار 1749الشهيرة ّ باتخاذها التزوير إلرادة الشعب مبدأ ورسالة في ممارسة الديمقراطية التي لم تتوان في تطبيقها. ّإبان مالحقات السلطة للزعيم ،ولدى اقتراب موعد الانتخابات النيابية ،حينها أخذ رهط من املرشحين لتمثيل إرادة الشعب وطموحه في عهد الاستقالل ،وامل ْست ْنوبين من جميع املناطق يهرعون لالجتماع بالزعيم زرافات ووحدانا ،في وضح النهار ،وفي حلك ساعات متأخرة من الليالي. ً لقد كانت تلك اللقاءات طريفة في عمق فراغها ،بليغة جدا في إعطاء ّ أدق الصور وأصدقها عن العقلية ألاخالقية القديمة ،القائمة على احتراف ً ً ً دسماّ ، يدر املال والجاه العريض ألاعمال السياسية ،واتخاذها مهنة وموردا
148
على دهاقنة السياسة ،الذين «يعرفون من أين تؤكل الكتف» ساعة ّ ً ّ يتضورون جوعا ومعظمهم مصاب بتكالب مزمن .تخلل أحاديث هؤالء املدمنين بالسياسة من أجل السياسة ،ومشاهد مسرحياتهم البارعة في ومآس مضحكة ،تستوقف الدارس للعقلية العرض والطلب ،مهازل مفجعة ٍّ الرجعية بمفاهيمها التائهة وأساليبها امللتوية في معالجة شتى الشؤون العامة منها والخاصة. في إحدى الليالي ،جاء ملقابلة الزعيم ،طبيب من عائلة مرموقة في دنيا السياسة الرائجة ،يرافقه أحد املحامين الالمع ّي السمعة. فجأة ّ تطرق الطبيب إلى بحث موضوع جديد ،لم يكن بالحسبان، وليست له ّأية عالقة ظاهرة باالنتخابات ،وهو الاستيضاح عن أسباب طرد نعمة تابت ومأمون إ ياس ،الذي لم يكن قد مض ى عليه سوى بضعة ّ أسابيع ،والدخول في دقائق ألامور التي أثرت في حدوث الحادث املؤسف. أجابهما الزعيم على رغبتهما في فتح هذا امللف ،وأخذ يشرح لهما أهم ّ ألاسباب وأدق ها التي أودت باثنين من قادة الحزب السابقين إلى السقوط على جانب الطريق والطرد من صفوف الحزب .ولم يفت الزعيم إبداء عميق أسفه ملا وصل إليه مصيرهما في الحزب ،بعد أن قضيا فترة مديدة من النشاط والنضال في سبيل قضية الحزب .وفي سياق تفنيد ألاسباب املوجبة للطرد ،توقف الزعيم عند نقاط مهمة وأساسية أوجبت اتخاذ مثل هذا التدبير الصارم العادل ،الذي لم يكن منه ّبد وال باإلمكان التغاض ي عنه ً ً ً إطالقا ،خاصة وقد أعطيا مجاال كبيرا للعودة إلى الصواب والانضباط واستدراك ما ّ سجاله من خروج عن العقيدة والنظام ،وهما ممن كان مفروض فيهم القدوة واملثال القومي الاجتماعي الذي يحتذى به .إن النظام
147
فوق ألاشخاص وجميع الاعتبارات الشخصية الفردية التي وجد الحزب للقضاء عليها ،وتخليص املجتمع من مخازيها وشجونها. فما كان من الطبيب ،لدى انتهاء الزعيم من تبيان ألاسباب التي استحق من أجلها الطرد كل من نعمة تابت ومأمون إياس ،إال أن بادره بقوله :ال بأس فاألمر بسيط ،وأنت مفروض فيك ،كمعلم وزعيم ،أن تقابل مثل هؤالء بالتسامح ،والتساهل ،مهما تمادوا بالخطأ والضالل «ألم يقل السيد املسيح جئت لخراف إسرائيل الضالة» فلتكن هذه الحقيقة الكبرى ً عبرة لهما ومرشدا في معالجة هفوات آلاخرين وإن تفاقمت. ً ّ ً متعجبا ال معجبا بتأويل ما فابتسم الزعيم! لدى سماعه هذا القول، قدمه إليهما من أدلة على موجبات الطرد ومراحل معالجته لالرتكابات التي ً سبقت العقوبة قبل أن يضطر مكرها إلى اتخاذ أقس ى العقوبات ألقس ى الخروج عن جادة الحرص على مصلحة النهضة وألامةّ . ورد الزعيم املالحظة بلباقته املعهودة ووضوحه الرصين بالفكر والتعبير« :أجل الخراف الضالة تحتاج إلى هداية ورعاية عميقة الصبر ،طويلة النفس ،لكن ،هل ما اقترفه املطرودان تجاه الحزب ،هو من شيمة الخراف الضالة ،أم من صفات الذئاب الضارية؟ إن ما ينطبق على وداعة الخراف ولو ضلت ،ال ينطبق ً مطلقا على شراسة الذئاب وضراوتها ولو فقدت أنيابها». أعقب كالم الزعيم عن شراسة الذئاب الضارية حتى عند فقد أنيابها، صمت مضطرب فيه من الحيرة والارتباك ما جعله يفرض هيبته على الطبيب واملحامي الزائرين للزعيم في ليلة دافقة باملطر الغزير. ثم استأنف املحامي البحث في موضوع املطرودين من الحزب ،نعمة ومأمون ،بقوله« :ال ّبد أن يعرف كل منهما ّ حده ويلتزم الصواب والانضباط ّ مهما طال ضياعهما ،ألنهما من أبناء النهضة منذ سنوات عديدة وتسلما في 151
ً صفوف الحزب مختلف املسؤوليات املهمة .ونأمل أن يعودا عاجال إلى القواعد الصحيحة من التفكير واملمارسة ألن ‹العين ال تعلو فوق الحاجب›». تفوه املحامي بهذه العبارة من ألامثلة العامية املشهورة للداللة على ّ الذل والتسليم لألمر الواقع دون ّ تمرد وال اعتراض ،كأن مواقع الناس ّ ّ ومصنفة على أسس ثابتة ونهائية كحكم القضاء والقدر ومراتبهم موزعة الذي ال ي ّ رد .وليس إلرادة إلانسان وعقله موقف وال فعل في تغيير املقدور وتبديل ما هو مفروض منذ ألازل. ً تفرس في وجه ّ لدى سماع الزعيم لهذه العبارة ّ كل منهما محاوال تفسير ٍّ ً ما يقصداه ثم بادر إلى القول بصوت مرتفع معلنا بجدية عميقة لفتت إليه ألانظار والانتباه :العين تعلو فوق الحاجب ،دون أدنى ريب ،فأجابه الاثنان ً معا بصوت واحد وباستغراب ّ جلي :كيف يحدث هذا ألامر ومتى حصلت هذه ألاعجوبة وأصبحت العين فوق الحاجب؟ أجل ،العين تعلو فوق الحاجب ،وبسهولة تامة ،عندما يصبح الرأس من تحت ،حين تنقلب املقاييس ،وتنعكس املفاهيم سواء في التفكير أو التعامل ،وال يبقى ش يء وال كائن حي في حجمه أو في مكانه الطبيعي ،وتسير القواعد واملبادئ العلمية والخلقية في عكس مجراها إلى عكس ّ مصبها ومآلها السليم .لسنا إزاء خراف ضالة ،تائهة تفتقر إلى هداية أو رعاية وال أمام عين فقدت مكانها ،ولم تعد تعرف أين هي من حاجبها ،ألصق أعضاء الجسم بها وأقربها إليها ،يلزمها النظر إلى مرآة صافية لترى وتدرك مكانها الحقيقي. لنا قواعد سلوكنا ومنطلقات تفكيرنا ومشاعرنا واستهدافات وجودنا وحياتنا ،ولنا خاصة عقليتنا ألاخالقية الجديدة التي ّ نقدمها لألمة ،ملصالحها ومصيرها ،التي نعرف بها ونمتاز على سائر الناس ألنها الطريق ألاوحد لألهداف الخيرة الجميلة نحققها بحركة الحرية والواجب والنظام والقوة. 151
ً ً «لقد رأيت في ذاك التصرف خروجا أساسيا على نظام الحزب ّ ّ ولكل ما يعني وحدة الحزب ،لبلوغ الغاية الواحدة ،ونزعة ومؤسساته، شخصية شديدة نحو ألانانية ونحو دكتاتورية فردية قبيحة ،ال تأخذ إرادة ً ً عامة وال دستورا نافذا بعين الاعتبار». «ففي ألافراد فقط تلعب املفاسد ،وال يمكن لهؤالء أن يصموا املجتمع كله باملفاسد التي في أنفسهم»« .وألافراد تأتي وتذهب أما النهضة فباقية بقاء ألامة السورية والوطن السوري».
152
ال يتف ـ ـ ـق من معه ش يء مع من ليس معـ ـ ـ ـ ـه ش يء ،الاتف ـ ـ ـ ـ ـاق يك ـ ـ ـون بين اثنين أو أكثر مع كل منهم ش يء يعتمد عليه سعاده
انتهت الانتخابات النيابية في لبنان بتاريخ الخامس والعشرين من أيار ّ ّ سنة .1749وفاحت منها رائحة التزوير الذي وفرته السلطة املتحكمة آنذاك ً عمال بـ «حرية الانتخابات الديمقراطية وباسم حق املواطن في اختيار ممثليه الشرعيين» .ذات يوم فاجأنا أحد الزائرين إلى مركز الحزب في شارع املعرض ا مطال بقامته الفارعة وسمرته الحالكة .وقدم نفسه بوصفه أحد املرشحين لالنتخابات املذكورة عن مرجعيون الذين لم يحالفهم الحظ بالنجاح .وكان في صوته ألاجش نبرة تنم عن مرارة ال تخلو من اعتزاز مصطنع وهو يردد أن ً ً تزوير السلطة إلرادة الشعب جعل من الفاشلين املفلسين شعبيا ّنوابا وهم ال يمثلون بالحقيقة إال دولة يحكمها أشخاص ال ّ يهمهم سوى مصلحتهم ً الخاصة .وبعد هذه املقدمة أردف مطالبا بموعد مع الزعيم ألنه يود التشرف بمعرفته والتداول معه بشؤون الساعة ّ ّ امللحة وهو يرجو أن تتم ملحة ال ّبد أن ّ مهمة ّ املقابلة في وقت قريب ،ألن لديه مقترحات ّ يتقدم بها إلى حضرة الزعيم .فاستمهل السيد فرحة إلى صبيحة اليوم التالي ريثما يؤتى 152
ً بجواب الزعيم عن املوعد ومكانه .وكان حضرة الزعيم ال يزال مالحقا بحكم مذكرة التوقيف التي أصدرتها السلطة بحقه إثر عودته من املهجر وإلقائه في املطار يوم وصوله في الثاني من آذار 1749خطابه التاريخي الشهير ،حين أعلن ما معناه «إن الاستقالل ال يكون بمجرد جالء الجيوش ألاجنبية عن أرض الوطن بل بجالء عقلية املستعمر وأساليبه التعسفية عن كاهل الشعب ّ وتعهد الحكومة الوطنية بجميع شؤون الاستقالل وحقوق الحرية. ّ وأال يكون الاستقالل بمثابة خروج املساجين من القواويش إلى باحة السجن لحظات « ّ للتنفس» بينما هم ال يزالون ضمن ألاسوار محتجزين محرومين من ممارسة حق الحرية والسيادة». مساء اليوم التالي ذهبنا برفقة السيد فرحة إلى مقر الزعيم في إحدى ًّ منكبا على إعداد مقال إلحدى صحف بيروت قرى املتن الشمالي .كان الزعيم حين وصولنا ومعه عدد من الرفقاء كانوا يتولون ّ مهمة الحراسة ورصد ّ ً الطرق املؤدية إلى مقر الزعيمّ . متهيبا حضرة املرشح الذي لم قدم نفسه ّ ليتسنى له الفوز في الانتخابات املعلومة .وسارع إلى تشمله نعمة التزوير التحدث بإسهاب عن عمليات التزوير التي مارستها السلطة ّ وعمالها ضد املرشحين الذين رفضوا الرضوخ ملطاليبها وأساليبها .مما قلب موازين القوى ً الشعبية املنتصرة رأسا على عقب وأفسد كل معنى للنظام الديمقراطي في لبنان ،ذلك النظام الذي طاملا ّ تشدق به وأشاد ذوو الشأن والسلطان، ّ وطاملا استغل وا أشكاله للقضاء على كل معطياته ومضامينه الديمقراطية. ّ ً وكان السيد فرحة ّ يفصل بدقة ما أسماه وقائع وحقائق راهنة مدلال على ّ صحة أقواله بذكر أعداد ألاصوا ت وأسماء الناخبين ومراكز الاقتراع التي تشهد على فظائع التزوير املشين .ولم يف ْته التأكيد على ضمان فوزه باالنتخابات ّ وتفوق شعبيته لوال طغيان التالعب بإرادة الشعب والاستهتار ً الفاضح بحرية الشعب وحقه الشرعي في اختيار ممثليه .وكان فضال عن 154
تحمسه ونقمته العارمة ّ شديد ّ ضد ما حصل من ق بل السلطة من ضغط ً وإرهاب ورشوة كان ّ إلحاحا على ضرورة ّ الرد على ما اقترفته تلك أشد ّ السلطة الجانية بما يليق بوعي الشعب وما تستحقه مثل هذه الدولة من عقاب رادع .وكان عنيف إلاصرار على استعداده التام وتوفر قدراته لتلبية ً رغبة الحزب في خوض املعركة واضعا نفسه تحت أمرته لدى اتخاذ القرار املناسب والتدابير الجذرية الضرورية لذلك .كي ال تحاول أي سلطة تشويه إرادة الشعب بعد اليوم وتزوير مواقفه م ّمن ّ يعبرون عن حقيقة أمانيه ونبل مقاصده .لقد أمعن السيد فرحة بتعابيره املثيرة واستطراداته الهادرة في تفنيد الوقائع التي ال يرقى إليها أدنى شك ،حسب قوله ،بغية إثارة الزعيم وتحريضه على إشعال الثورة من أجل إلاطاحة باملزورين ألنهم انتزعوا منه ً الفوز الذي كان «مضمونا» في الانتخابات لو حدث غير ما حدث .وكم توقف ً طويال لدى ما اقترفته السلطة تجاه الحزب والزعيم بإصدارها مذكرة مبرر وال ّ التوقيف تلك دون ّ مسوغ .وراح ّ يكرر التأكيد على أهمية إسهامه بكل إمكانياته في تدعيم الثورة العتيدة والعمل على إنجاحها ،فال ّبد إذن أن ينال املرتكبون جزاءهم الصارم والعاجل «خير ّ البر عاجله» .وأن للسيد فرحة من قوة شخصيته الديماغوجية وتماديه في الاعتماد عليها والتفنن في استغاللها ما جعله يعتقد بحتمية إقناع الزعيم وحمله على الثورة ّ ضد ً الدولة تشفيا له. وما إن أخذ السيد فرحة لنفسه فرصة الستعادة أنفاسه املكدودة وضبط انفعاالته املشدودة حتى بادره الزعيم بقوله: ً «حسنا ،يا سيد فرحة ،ال ريب أن الحكومة عاصية إرادة الشعب ّ متنكرة لسيادته وحريته وهي تستحق العقاب العادل املعبر عن أصالة ّ ّ ّ املستبد الدرس الالزم عله يدرك مدى مستعدون إلعطاء الشعب .ونحن
ّ تمسك الشعب بحقه في الحرية وقدرته على إثبات هذا الحق والدفاع عن 155
ّ ويسرنا أن نتعاون مع ألاصدقاء الغيورين على املصلحة كرامته املستهانة. العامة أمثالك .فما هو استعدادك العملي للتعاون؟» ثم تناول الزعيم ورقة صغيرة وخط في أعالها إلى اليمين اسم السيد فرحة ،ووضع تحته بشكل عامودي ثالث كلمات ذات داللة عميقة الخطورة :الرجال ،السالح ،املال. ّ ً ً مستوضحا« :ماذا ّ تقدم ملتطلبات املعركة من وتوجه فورا إلى السيد فرحة ً مقاتلين ،من سالح ومال توفيرا إلمكانيات نجاحها»؟ وملا لم يكن لدى السيد فرحة ما يقدمه إلنجاح الثورة التي ّ شدد على أهميتها ما عدا الحماس الغامر والكالم الوفير من دون أن يتجاوزه إلى العمل ووسائله الجدية ،أعلن له الزعيم بحزم حاسم« :نحن بطبيعتنا وطبيعة تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية رواد بحث عن القتال حتى ً ً نضع حدا نهائيا آلالم الشعب ومرارة ما يعانيه من تعسف على أعداء الشعب أينما وجدوا في الداخل والخارج .غير ّأننا لم نعلمك باألمر ولن ً ندعوك ملشاركتنا بأي عمل ما دمت ال تملك شيئا تقدمه الحتياجات الثورة. فال ّيتفق من معه ش يء مع من ليس معه ش يء ،الاتفاق يكون مع اثنين أو كل منهم ش يء يعتمد عليه ونحن إذ ّ أكثر مع ّ نسجل مالحظتنا على اندفاعك ٍّ ّ ى الجارف نر ضرورة الاقتصاد به لإلفساح في املجال للعمل املجدي املصمم الصامت .فال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال ّ وتقل ألاعمال».
151
قل لحضرة عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيد الداخلية ليصدر أمر ً انتقـ ـ ـ ـ ـ ـال ،ال إذنا بالهجرة ،ملن يود الذهاب إلى الكويت ألنها منطقة ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمن الوطن السـ ـ ـ ـ ـ ـوري سعاده
من أهم التدابير التنظيمية التي اتخذها الزعيم إثر عودته من املغترب، ّ هي إصدار مرسوم بمنع الهجرة خارج الوطن ،إال لحاالت استثنائية اضطرارية ،وبإذن خاص من الزعيم ،وأن على من ّ يود مغادرة الوطن إلى ّأية ّ ً جهة من العالم ،أن يتقدم ،أوال ،بواسطة التسلسل إلاداري ،بطلب يعلل ً فيه ألاسباب املوجبة الغترابه ،وعليه أيضا أن يخضع إلى تحقيق تقوم به عمدة الداخلية حول جميع العوامل التي تفرض عليه الهجرة ،حتى يصار، ً مشروطا ّ بعدة قيود والتزامات قومية بالتالي ،إلى منحه إلاذن بالهجرة ّ ً ً اجتماعية ،وإال تمنع عليه مغادرة الوطن منعا باتا. مذ ذاك ،أخذت الدوائر الحزبية في املركز وجميع الفروع تهتم بشؤون الهجرة على العموم وخاصة بين صفوف الحزبّ ، متتبعة ألاسباب املادية والنفسية التي ّ تؤد ي إلى تفاقم دوافع الهجرة ،للعمل بجميع الوسائل 159
القومية على تالفيها والحد من إلاقبال املتزايد عليها الذي يدل على حالة ّ مؤسفة في الهرب الخطير من الوطن ،والتخلي عن موجبات املواطن ألاساسية ،مما ّ يتهدد ثروة ألامة من الوجهة البشرية واملادية بالضياع، ويضعها في مأزق إزاء مستقبلها ومصيرها ،وتجاه سائر ألامم النامية الناهضة. ً ً ذات يوم ،تسلمت عمدة الداخلية طلبا من أحد الرفقاء موجها بالتسلسل النظامي إلى الزعيم يستأذن به السماح له بالهجرة إلى الكويت، ّ ّ واملنفذ ومذيلة بمطالعة كل من مدير مديريته ألسباب مبينة في الطلب العام .فبادر عميد الداخلية إلى تكليف ناموس العمدة بدعوة الرفيق طالب إلاذن بالهجرة ملقابلة العميد في موعد قريب ،من أجل التحقيق معه في ً دواعي هجرته إلى الكويت ليرفع طلبه إلى الزعيم مرفقا بمطالعة العمدة واقتراحها بشأنه. بعد إجراء التحقيق الالزم مع الرفيق املذكور بموضوع طلبه الهجرة إلى الكويت ،حملت ّ ملف ه املتضمن ،إلى جانب طلب إلاذن بالهجرة ،كامل املعلومات عنه مع املطالعات والتحقيقات املتعلقة بطلبه من قبل املديرية ّ واملنفذية إلى حضرة الزعيم ملعرفة ما يتوجب ّ علي عمله بهذا الخصوص. ّ يتصفح بريد عمدة الداخلية بما فيه من التقارير والاقتراحات أخذ الزعيم ً املرفوعة إما من قبلها أو بواسطتها إلى مقام الزعامة ،موجها ّ إلي املالحظات وإلارشادات الالزمة إلى أن أخذ ملف طلب إلاذن بالهجرة إلى الكويت .وما أن وقع نظره عليه واطلع على موضوعه ،حتى الحت ابتسامة على محياه ّ تنم ً عن شديد الاستغراب والتساؤل ثم تناول قلما من جيبه وخط في أعلى الصفحة ألاولى من الطلب عبارة «الكويت منطقة سورية ال يحتاج من يود الذهاب إليها ّ أي إذن بالهجرة بل يكفي إعطاؤه أمر انتقال من لدن عمدة الداخلية إللحاقه هناك بأحد الفروع الحزبية حيث سيقيم» .ثم التفت ّ إلي 158
ً ّ قائال« :بلغ حضرة عميد الداخليةّ ،أن الذهاب إلى الكويت هو مجرد انتقال ً ضمن الوطن السوري ،وليس اغترابا أو هجرة إلى الخارج عبر الحدود». بهذه املناسبة ،علمت أن الكويت منطقة من الوطن السوري ،ضمن ّ حدوده الطبيعية ،وتعلمت بفضل تلك الغلطة الجسيمة التي اشترك فيها بالتسلسل من مدير املديرية إلى عمدة الداخلية ،إلى أين تمتد حدود وطني السوري وأن الكويت هي منطقة سورية.
157
موضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوع الاجتماع هـ ـ ـ ـو الاجتماع نفس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه بمعانيه وأبعاده القومية الاجتماعية سعاده
عقد اجتماع إلحدى مديريات رأس بيروت صيف سنة .1749حضره الزعيم وعدد من العمد .ما أن التأم عقد الاجتماع ،وقبيل املبادرة إلى ً رسميا حتى ّ توجه أحد ألاعضاء إلى املدير بسؤاله ّ عما هو موضوع افتتاحه الاجتماع اليوم وهل من جديد لدينا؟ ثم افتتح الاجتماع ّ وتمت معالجة ألابحاث واملواضيع ّ املقررة دون أن ً يجاب مباشرة على هذا السؤالّ .ربما ألن مدير املديرية لم ير السؤال جديرا باإلجابة الخاصة أو ألن ه رأى أن ما حصل في الاجتماع نفسه من أبحاث هو بطبيعة الحال الجواب املطلوب والوافي للسؤال .كاد الاجتماع يختتم أعماله ويقارب إلى النهاية دون الرجوع إلى السؤال والاهتمام به. ً حينذاك تناول الزعيم الحديث مبادرا إلى إلاجابة على السؤال املذكور ّ َّ بالتوجه فاستهل الزعيم كالمه حول موضوع الاجتماع عينه والجديد فيه. إلى صاحب السؤال :هل عرفت ،يا رفيقي ،موضوع هذا الاجتماع وهل وجدت فيه من جديد؟ فارتبك الرفيق وتلفظ ّ بتردد خجول بكلمة «نعم 111
حضرة الزعيم» .وقد تراءى له أن الزعيم يؤنبه للطريقة التي ّ وجه بها السؤال إلى املدير .ثم تولى الزعيم تسديد الجواب كما يلي: يا رفيقي ،أن موضوع الاجتماعّ ، أي اجتماع ،هو الاجتماع عينه بصرف النظر ّ عما يتداول خالله من أبحاث وأحاديث ومعلومات وتعليمات وسواها. ً مواضيع جميع الاجتماعات دون استثناء هي واحدة باملبدأ وألاساس ،هي أوال ً ّ استعداد للتالقي وآخرا موضوع التلبية لالجتماع التلبية التي تؤكد عميق ٍّ الواعي املسؤول وللتفاعل الحقيقي من أجل تحقيق ما تعاقدنا على تحقيقه. موضوع الاجتماع هو ممارسة النظام بالعمل الحي والواجب الفعلي ،والنظام ً اصنا وتضافر عزائمنا ،وهو ّ هو أعمق الواجبات داللة على تر ّ أشدها تعبيرا عن حريتنا في العمل وإصرارنا على تحقيق حقيقتنا وتجسيد قوتنا في توليد التجاوب لصفوفنا وترسيخ الاستجابة الخطيرة ألاهمية بيننا ألغراض النهضة ومراميها الحقيقية ّ البناءة. الاجتماع منطلق التحقيق لوحدة إلارادة ووحدة التصميم للعمل ّ املوحد من أجل قضية ألامة السورية وسيادتها .وال يتم العمل الصحيح إال بتضافر عزيمة العاملين له وإجماع جهادهم وجهودهم في سبيل مفاهيم ً ّ بمجرد الحزب وغاية الحزب ومبادئه .والقصد من كل اجتماع حاصل حكما ّ ً ً ً ّ ً محددا في معينا ونتداول حديثا اللقاء ولو لم نعالج ّإبان الاجتماع بحثا إطاره .وماهية املوضوع ّ ألي اجتماع تتكون من طبيعة ثقتنا بأنفسنا ووعينا ً معا .هذه الروحية القومية الاجتماعية عينها التي تحملنا إلى الاجتماع هي ّ التي ّ وتحدد لنا ماهية الاجتماع. تمدنا باملوضوع الذي ال غنى عن معالجته، أما التنظيم فهو ّ يعين نطاق املوضوع وتقسيم مراحل بحثه وتوزيع أجزائه في ً املجال الذي ال ّبد أن يكون مناسبا.
111
ففي التلبية النظامية يكون ضمان الاجتماع وفي الاجتماع بذاته تنشأ ً ً ً املواضيع الالزمة له وتتكامل عمقا وشموال تبعا ملمارسة العمل والوعي ّ ً معبرا فتتبلور إذ ذاك حقيقة وجودنا مع كل لقاء وينطلق وجودنا الحقيقي ّ ً عن ّ ومجسدا انتصارها باألعمال وألافعال تفوق حقيقة ألاصالة السورية ّ الفذة التي ّ تؤسسها وترسخها القدرة على الاجتماع القومي وباملواقف الاجتماعي وقوة الوعي ملعاني الاجتماع وأبعاده .فالجديد الحي يتجدد بقوة نموه وطاقته على التطور لألفضل وحاجة الحياة لالستمرار بزخمه وبفاعليته الال متناهية التصاعد والتسامي في بلوغ مطالب الحياة العليا. وتظل الحياة لنا بقدر ما نحن ّ ّ وباعثي مؤهلون لنكون أبناء الحياة ّ التجدد والتجديد ،أمة الخلق وإلابداع. الحيوية لهذه ألامة العظيمة ،أمة
112
إذا س ـ ـ ـ ـألك القوميون عما س ـ ـ ـيفعل الزعيم بمبلغ ألالفي ليرة التي يطل ـ ـ ـ ـ ـب جمعها ،قـ ـ ـ ـل لهم أن الزعيم سيرمي بها في البحر سعاده
في أواسط الشهر الحادي عشر من سنة 1749ولم يكن قد مض ى الشهر ألاول على سحب السلطة اللبنانية ملذكرة التوقيف بحق الزعيم ،التي كانت قد أصدرتها إثر عودته من املغترب ،كان املسؤولون منهمكين في تصريف أعمال مسؤولياتهم الحزبية ،أثناء دوامهم في مركز الحزب ،الكائن، آنذاك ،في شارع املعرض .في تلك ألاثناء وألاعمال تسير على أشدها من النشاط والفاعلية ،يقرع جرس الهاتف ،يسود الهدوء جو املركز ،حين ّ ً أتناول السماعة وأقول فورا« :ألو ،أنت غالي وطلبت رخيص» .فرد املتكلم ً حاال« ،جيد عليك ،إذن ،أن تحضر إلى هنا ،إني بانتظارك في مكتبي». أدركت ،حينذاكّ ،إنني أتكلم مع الزعيم ،ابتسمت والارتباك بل ّ التهيب قد بدا في صوتي وعلى وجهي ،مما لفت ّ إلي ألانظار ،وسارعت إلى إلاجابة: «حاضر ،وإني ّ أصر على الشق ألاول من العبارة ،أنت غالي» فرد الزعيم «مع ً ذلك ،ال ّبد من حضورك سريعا» .وضعت السماعة في مكانها ،حملت 112
ً حقيبتي محاوال مغادرة املركز ألوافي الزعيم إلى مكتبه في خان أنطون بك، باب إدريس ،وتهامس الرفقاء الحاضرون قائلين أن املخابرة مع الزعيم وهو يدعو عميد الداخلية ملقابلته ،وبدا على الجميع الاهتمام واملرح ثم قال أحدهم ،أصبحت أنت الرخيص املطلوب من قبل الغالي ،التفت إليه كأنني ً ّ ّ أهم بشكره ثم خرجت سريعا من املركز باتجاه مكتب الزعيم. وما إن صرت أمام الزعيم حتى بادرني ،وباالبتسامة تسبقه إلى إلافصاح عن ارتياحه وسروره «هذه املرة أدعوك إلى جولة سريعة قصيرة، لكن لشأن مالي ال إداري كاملعتاد ،نحن بحاجة ّ ملحة إلى مبلغ من املال ال ّ يقل عن ألفي ليرة لبنانية ،ال ّبد أن نحصل عليها خالل أسبوع واحد ال أكثر. ً ّ ّ استعد منذ آلان وفكر جيدا من أي منطقة يسهل جمع املبلغ ،وضمن املهلة املحددة ،لن أرض ى دون هذا املبلغ ولو ليرة واحدة ،وأريده في الوقت املعين، وإال سألجأ إلى تدبير آخر للحصول عليهّ ، ّ أفضل أن أعتمد تبرعات لكني القوميين ،يمكنك أن تعود إلى عملك آلان لتحضر إلى هنا عند الظهر». حضرت في املوعد إلى مكتب الزعيم ،وأوضحت له إمكان جمع املبلغ ّ املطلوب في ّ ّ املحددة عن طريق التبرعاتّ ، سأتوجه وسميت املناطق التي املدة إليها ،بادئ ألامر ،من أجل تأمين املطلوب كما يلزم .وافق الزعيم وأبدى ثقته ً ً بنجاح املهمة قائال« :غدا تبدأ الجولة منذ الصباح» .وقبل أن يسمح لي بتأن وهدوء ،كمن يملي باالنصراف تفرس بوجهي وهو يتلفظ بهذه العبارات ٍّ رسالة على أحد ّ الكتاب النواميس« ،انتب ْه ،يا حضرة العميد ،إذا سألك القوميون ،الذين ّ ّ تتوج ه ،ماذا سيعمل الزعيم بهذا ستتصل بهم ،حيث املال ،قل لهم أن الزعيم سيرمي به إلى البحر ،ألن املصلحة القومية تقض ي ً ً ّ غال ،وليس رخيصا أبدا .موفق ..وإلى بذلك ،إن ما أطلب منك عمله هو جد ٍّ حين».
114
ا مستهال جولتيّ ، ّ بمنف ذية الالذقية ،ومنها إلى جبلة ،بانياس توجهت وطرطوس .وباشرت بعقد جلسات لهيئات ّ املنفذيات أعلمهم بأمر ّ مهمتي إليهم ،وبإصرار الزعيم عل ّ أهمية الحصول على كامل املبلغ في غضون أسبوع واحد .أ ّ عدت اللوائح بأسماء ألاعضاء القادرين بالنسبة إلى إمكانياتهم املالية وقدرتهم على تلبية الواجب على أفضل وجه ،وبمنتهى الدقة والنظامية ّ القومية الاجتماعية ثم و ّزعت تلك اللوائح على عدد ّ معين من الرفقاء كلفوا بعملية جمع املال بموجب إيصاالت رسمية من قبل ن ّظار املالية في ّ املنفذيات املذكورة .هكذا أخذ التنفيذ يتم ويستمر بنظامية بالغة الروعة والانضباط، دون أن يحاول أي رفيق توجيه السؤال ملعرفة الغرض من جمع املبلغ ،ونوع ً ً ً تلميحاّ ، جميعا على علم أكيد بمرامي ّ كل كأنهم الحاجة إليه ،ال تصريحا وال ما يطلب تأمينه ،وعلى يقين قاطع من صحة ّ كل ما يجري وصواب ما يعهد به إليهم ،وكنت ،طيلة ألايام الثالثة ألاولى من الجولة ّ أتأمل روحية الثقة املطلقة التي كانت ترافق عملية جمع املال ،وكم كنت ّ أتمنى أن يستوضح مني أحدهم عن الغاية من تأمين هذا املبلغ ،ألجيب بما أوصاني به الزعيم ّ ً متوسعا في شرح وتحليل معنى قول الزعيم بأنه سيرمي حول مصير املال، باملبلغ إلى البحر ،وما ّ يدل عليه من رسوخ الثقة بأعمال الحزب وأبعادها السامية في منهج تعاملنا وكيفية قيامنا بواجباتنا القومية الاجتماعية على ّ املجسدة للعقلية ألاخالقية أعلى مستوى من الثقة وألامانة والتلبية ً ّ ونقدمها لألمة ملصالحها ومصيرها .لكن أحدا من الجديدة التي نمارسها القوميين الاجتماعيين لم يث ْر ،ال من قريب وال من بعيد ،مسألة حاجة ّ ً ّ واستمرت التبرعات ترد إلى نظار املالية تباعا بهدوء الزعيم إلى املال املطلوب، ً ورصانة ويقين عميق ّ عز نظيره في تاريخ أرقى ألامم وأعمقها إيمانا بالنصر، وأقدرها على تحقيقه.
115
وملا لم يرد السؤال من أحد حول وجهة صرف هذا املال ،في حين أن الجولة أوشكت على الانتهاء واملبلغ جمع معظمه خالل خمسة أيام فقط، ومن املحتمل أن أتمكن من العودة إلى الزعيم ومعي امل بلغ في اليوم السادس ً مساء ،رأيت أن أخبر الرفقاء عن أن املال سيلقي به الزعيم إلى البحر ً ملصلحة قومية عليا ،وأن أجعل من قوله هذا ،منطلقا لبحث موضوع الثقة كل عمل منظم ّ كل وحدة روحية ،وبالتاليّ ، في الحزب ،التي هي أساس ّ وبناء، التي لوالها ملا كانت ألاخالق واملناقب نبراس كل نجاح وفالح لألمم .وملا كان ً أصال إلاقبال البطولي على العطاء والتضحية من أجل القضية التي تساوي وجودنا ،وملا استطاع إلا نسان أي عمل مثمر في الحياة ،وعجز عن الكشف عما في أعماق البحار والقفار ،وما في ألاجواء من كنوز ومن مناجم ومقالع، وفقد السي طرة بعقله الجبار وعزيمته العمالقة على مصادر الثروة ومنابع القوة في الحياة والكون ،تلك التي تتزايد كل يوم وفي كل خطوة من مسيرة العقل وإلادارة. ال يكون العمل وإلانتاج إال وليد الثقة ،الطاعة والانضباط بالعقيدة والنظام دليل الثقة ،الطموح في التقدم وتحقيق ألافضل ثقة بالحياة واملستقبل ،والثقة طاقة ّ جبارة تساعد على تحمل آلاالم وتذليل الصعوبات وبلوغ النصر املوعود .إلايمان ثقة تصنع العجائب واملعجزات ،باإليمان ،وهو أعلى مراتب الثقة وأسمى قمم الشجاعة وإلاقدام ،يقول إلانسان لهذا ً ّ ً الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل ،متغلبا على املوت ومنتصرا على ً ً جميع الويالت واملآس ي ،مهما بلغت حدة وعنفا. «إننا ارتبطنا لنسير على سياسة واحدة ،في نظام له ّ منا ّ كل والئنا في ّ الحزب القائم على يقين كلي ،وإيمان مطلق ال سبيل ،معه ،إلى الشكوك. ّ فالشكوك ّ والترد د والفوض ى وعدم الوضوح .فال سبيل تكون الجبن والخوف لهذه املخاوف إلى يقيننا». 111
«إن الذين ال يثقون بحقيقة قضيتهم ،ال يثقون بحزبهم ونظامهم ،وال ّ ّ محل الشك ،متى حل إلايمان محل بش يء على إلاطالق ،ومتى حلت الثقة الشك قض ي على التردد والفوض ى والبلبلة .فإذا كنا نعود من إلايمان إلى ً الئقا أن نقول بحق أننا ال ّ نتقدم بل نتراجع .يمكننا أن نتقدم الشك ،كان من الشك إلى إلايمان ،وال يمكننا أن نتقدم من إلايمان إلى الشك بل يمكننا أن نرجع القهقرى». « بيقين مثل هذا فقط يمكن الانتصار ،بهذا إلايمان بمبادئنا ،بأمجادنا ّ ّ بحقيقتنا ،بأننا قضية ،بأننا الحق والخير والجمال كله ،نحقق كل ما هو سام وجميل ّ وخير للمجتمع». ٍّ
119
التعيين هو شـ ـ ـ ـ ـرط الوضوح ،وكل ال وضوح ال يمكن أن يكون قاعدة ألية حقيقة سعاده
قبل التاس ـ ـ ـ ـع من حزيـ ـ ـ ـران سـ ـنة ،1747يوم الغدر في الجميزة ،ب ـ ـ ـ ـ ـما ال ّ يقل عن ثالثة أش ـ ـ ـهرّ ، حل الزعيم مجلس العمد ،وكلف العمد بمسؤوليات ً أخرى من فرعية ومركزية ،موكال إلى وكالء العمد مسؤولية تصريف ألاعمال ْ الحزبية بإشراف مباشر من قبله .وقد نقلت آنذاك ،من مسؤولية عميد للداخلية إلى مسؤولية مدير مكتب الزعيم وناموسه ألاول ،في حين ع ّين ّ الرفيق جورج بشور الناموس الثاني للمكتب. تسلمت ّ ّ مهام مسؤوليتي الجديدة ،وكان أول ما طلب مني القيام به ،في اليوم ألاول ،هو تصنيف جميع ألاوراق والوثائق التي كانت ّ تكون مراجع ألابحاث في مكتب الزعيم والتي كانت مبعثرة دون أي تبويب أو تنظيم يساعدان على الاستفادة منها لدى الحاجة. جلست إلى الطاولة وأخذت ّ أتأمل فيما حولي من أوراق مطبوعة ومخطوطة ،ومن صحف وقصاصات صحف ونشرات وبيانات صادرة عن الحزب وواردة من جهات حزبية سياسية وفكرية ثقافية متنوعة النزعات 118
ّ ّ واملآرب ،كما رحت أقلب النظر بح ْيرة الواقف على مفترق الطرق يفتش عن ّ أقرب السبل وأسلمها للسير إلى غرضه املنشود ،أقلب النظر في كميات ّ ّ ألاوراق املوزعة في جميع أرجاء الغرفة ،علي أهتدي إلى نقطة البدء الصالحة لالنطالق إلى العمل املطلوب إنجازه بعناية وسرعة .فراودتني فكرة بدت لي موفقة وجيدة للمباشرة منها إلى تصنيف ألاوراق املتراكمة حولي، َّ ً وسارعت إلى ورقة بيضاء كانت بالقرب مني ألخط عليها جدوال بأسماء املواضيع التي ال ّبد أن يكون لها أوراق بين الوثائق ،كي ّ أعد لها املصنفات ّ أوزع كل نوع منها في مصنفه الخاص بموضوعه ،أ ّرقمها وأ ّ سجلها بأرقامها ثم ّ وتصفح محتواه لدى الحاجة. املتسلسلة في فهرست أبجدي تسهل مراجعته وأ ذكر أن عدد أسماء املصنفات التي وضعتها على أساس املواضيع املفترض ً ّ وجود أوراق تتعلق بها قد بلغ ما يقارب الخمسين مصنفا. ّ ليتفقد ما ت َّم إنجازه من صبيحة اليوم التالي دخل الزعيم إلى املكتب ً العمل املطلوب منذ أربع وعشرين ساعة .وجدني منهمكا في إعداد الالئحة بأسماء املصنفات للمواضيع التي افترضت وجود أوراق عنها بين كوم ألاوراق التي كانت ما تزال على حالها كالسابق .تناول الزعيم الجدول بأسماء املصنفات وراح يطالع تفاصيله بإمعان كمن ّ يحل رموز ألغاز يصعب ّ تفهم ً مدلولها وخلفياتها ثم ابتسم مقطبا وقال « :يا حضرة ألامين ،بالرغم من عنائك واعتنائك بوضع هذا الجدول الطويل بأسماء مواضيع افترضت ّ وجود أوراق لها ،دون أن تطلع حتى آلان على ّأية ورقة منها لتعرف ً مضمونها ،فإنك لم تباشر بعد عملك فعليا ،ألنك انطلقت من فرضية غير ّ مستندة إلى ّ يصح الاعتماد عليه .افترضت ما يمكن أن أي معطى حقيقي تحتويه هذه ألاوراق من مواضيع ومراجع ملواضيع ،ثم بادرت إلى إعداد أسماء املصنفات للمواضيع املفترض وجودها دون أن ّ تمس ورق واحدة منها.
117
أنك ال تستطيع أن تعرف مواضيع هذه ألاوراق التي بحوزتك ملجرد ّ خاصة بها النظر إليها من بعيد ،وبالتالي ،ال يسعك توزيعها في مصنفات حسب هذه املواضيع التي يمكن أن تشتمل عليها هذه ألاوراق سيوقعك هذا ً دون ريب بأحد أمرين لدى اطالعك الفعلي على محتواها أو باألمرين معا. مصنفات ّ ّ معدة ملواضيع ال وجود لها في فإما أنك ستجد بين يديك الواقع ،وستبقى هذه املصنفات لديك فارغة بانتظار وجود مواضيعها ً الغائبة في املجهول ،إذا ما ّ تيسر وجودها يوما. ً ّ التصور الذي وأما أنك ستجد أمامك أوراقا ملواضيع لم تخطر لك في انطلقت منه إلعداد املصنفات املذكورة ،ولم تع ّد لها املصنفات الالزمة ّ لترتيبها ،وستبقى هذه ألاوراق مهملة بانتظار مصنفاتها املتخلفة عن الحضور ّ تصور الواقع الحقيقي بتمام بسبب الافتراض الذي ال ّبد أن يقصر عن دقائقه ،الافتراض عادة مغرق بضباب إلابهام ،وأن ّ أي تصور أو افتراض ال ً ً يصح أن يكون منطلقا صحيحا إلنجاز أعمال وإقرار حقائق عملية. ً ً جهودا ّ وبددت وقتا دون طائل وال وفي أي من الحالين لقد أهدرت جدوى ،ألنك قد أحللت الافتراض النظري بل التصور املبهم محل الاستناد ً معطى عملي جاهز بين يديك هو وجود ألاوراق بعينها التي كان عليك أن إلى ّ تبادر إلى الاطالع عليها قبل أي ش يء آخر ملعرفة ما تتناول من مواضيع وأبحاثّ ، تصن فها حسب مواضيعها ،بعد معرفتك ملضمونها معرفة صحيحة ال تحتمل الافتراض وال التخمين وال يرقى إليها الغموض وال إشكال إلابهام. لو اتجهت بعملك إلى اعتماد نظام الفكر والنهج الذي يجعلك تدرك الواقع وتبني عليه كل الخطوات التالية للتعرف به ،ألمكنك ،منذ البارحة إلى اليوم ،أن تنجز عملك بأكمل وجه وتنتهي من تصنيف ما لديك من أوراق ومراجع في مكتب الزعيم. 191
ً ففي الحزب لم نفترض وجود أمة افتراضا ،ولم ننش ئ ألامة السورية بقرار ومرسوم ،رغبة في أن تكون لنا أمة أسوة بسائر ألامم ،أمة تناسب تأمالتنا وتطابق تصوراتنا وأمانينا .لم نؤسس لوجود ألامة املفترض نهضة ً قومية اجتماعية وحزبا مهمته أن يصون النهضة ويناضل لتحقيق وجودها ً ً وانتصار حقيقتها على أساس افتراض شئنا ّ تصوره لهوا واعتباطا .وإننا نعرف ما نريد ونريد ما نعرف .كما أن ألاعمال ال تكون ّ بالنيات فالحقائق ال تكون بالفرضيات والتصورات كيفما اتفق. ّ عندما توجهنا بسؤالنا «من نحن» ّ عبرنا عن يقيننا املطلق بأننا وجود حي وحقيقة قادرة على أن تفرض نفسها على الوجود« .والتعيين هو شرط الوضوح ،والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات املدركة الواعية الفاهمة. ً أساسا إليمان صحيحّ ، ّ فكل ال وضوح ال يمكن أن يكون وكل ال وضوح ال ً يمكن أن يكون قاعدة ألي حقيقة» .وال سببا ألي إنشاء أو تحقيق سليم فاعل.
191
آمل أن تكون أعص ـ ـ ـ ـ ـابك بمتانة روحي ـ ـ ـ ـتك القومية ألنها من أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس متانة إلانج ـ ـ ـ ـ ـاز والتحقيق السليم سعاده
ً ذات مرة في لقاء مع الزعيم كنا عددا من الرفقاء دعانا للتداول بأمر طارئ وهام .كان ّ يود الاطالع على آرائنا واقتراحاتنا العملية بشأنهّ . تشعبت جوانب البحث في املوضوع ّ وتوزعت وجهات النظر في تعليله وتحليله وخاصة ّ التوصل إلى الحل الصحيح .وكانت املسألة ،على ما أذكر ،تتعلق في إمكان ً ّ باتخاذ موقف من فئة معينة ردا على تصرف بدر منها تجاه رفيق في إحدى ّ مديريات املتن الشمالي .وكان البحث يتطلب الخروج إلى الرأي العام بتسديد حاسم للجهة التي تجرأت فأقدمت يومذاك على إلاساءة لسمعة الحزب دون أي ّ مبرر مما يقتض ي التصويب. برمانا وكان ّ كان من بين الحضور الرفيق يوسف تاج من مديرية ّ أشدنا ً إصرارًا على ضرورة ّ الرد ،وإلحاحا على نوع معين من أسلوب املعالجة ً للمسألة املطروحة على أن يكون الرد فاصال في تقديم العبرة القومية الاجتماعية وفي تمكين الشعب من ّ تفهم حقيقة الحزب ومن تقديره للعقلية 192
ألاخالقية البناءة التي ّ ّ استمر البحث بعض الوقت يرسخها في نفسية ألامة. ً فتزايد ّ تحمس الرفيق يوسف تاج خالله متصاعدا إلى حد الانفعال الغاضب حتى راح يقرع الطاولة الخشبية املوجودة أمامنا دون أي انتباه ملا يعمل .مما ً فاجأنا جميعا وأحرج املوقف تجاه حضرة الزعيم بما أضفاه على سوية ّ البحث من توتر مشدود غير مقبول .وقد حاول أحدنا بكل تؤدة أن يمسك ً بيد الرفيق املتحمس ملفتا انتباهه إلى خطأ ذلك التصرف مهما كان الدافع ْ إليه وإلى ضرورة ضبط أعصابه وأخذ ألامر بالروية والانضباط السديدين. لكن الزعيم سارع بإشارة لبقة خاطفة إلى طلب الامتناع عن أي تدخل وترك كامل املجال للرفيق يوسف تاج كي ّ يعبر عن رأيه كما يروق له وبطريقته العفوية التي ّ سهلت له ذلك .في تلك اللحظة بالذات تنبه الرفيق لنفسه ً ً ّ والحظ خطأ ما بدر منه فتوقف حاال عن متابعة حديثه مستعيدا بسرعة ً هدوئه ّ ورويته النظامية .وبادر فورا إلى تقديم اعتذاره الصادق لحضرة ً الزعيم موضحا أنه قد استرسل بانفعاله غير النظامي والخارج عن اللياقة ً القومية الاجتماعية نظرا لألهمية القصوى التي أوالها ملوضوع البحث ولحرصه الشديد على ضرورة معالجة ما قد ينجم عنه من مالبسات ً محتملة ليصار بسرعة إلى تالفيها مستقبال .وراح يكرر اعتذاره بحرارة وإلحاح. ً غير أن الزعيم تابع حديثه مستمرا في توجيه البحث من دون أن يتوقف عند الانفعال ولم يهتم باالعتذار املعروض ولم ي ْبد ّأية مالحظة أو ً تعليق بهذا الصدد بل ّ ظل هادئا كاملعتاد .استأنف الجميع البحث بدقة عميقة في السعي إلى معالجة املسألة بغية إيجاد الحل املالئم لها .وانتهى التداول باتخاذ موقف مناسب ،وتقرر تدبير الزم نال موافقة الزعيم وحصل على تشجيعه وارتياحه لجدواه.
192
وقبيل السماح باالنصراف إلى مباشرة التنفيذ املقرر عاد الرفيق ّ ً مجددا إلى تأكيد أسفه ملا بدر منه وإلاصرار على طلب املعذرة يوسف تاج بالنظر إلى صدق العوامل التي أدت إلى ذلك السلوك الانفعالي. حينذاك التفت الزعيم إليه وهو يضع يده برفق املحب على كتفه ترافقها ومضات ابتسامة صافية الهدوء عميقة التأمل ،ابتسامة تنم على أمل كبير يعلقه الزعيم على حرارة انهماك املخلصين للنهضة وعن إلايمان املطلق بالوصول بهؤالء القلقين على مصير القضية إلى قمم من البناء ومعارج الفالح .التفت الزعيم إلى أسارير الرفيق يوسف تاج املضطربة ً التعابير وجال بنظراته الثاقبة متأمال الوجوه الشاخصة إليه في هدأة ّ بالترقب آلامن واملليء بالرغبة في الكشف عن املجهول السكون املفعم ّ ً الشيق .وما «املعرفة سوى الكشف عن املجهول» .ثم قال متوجها إلى الجميع بصوت نابض بأسرار ألاعماق وكنوز ألاغوار الخصيبة ،صوت من يتلو على ً العقول والنفوس عبرا بليغة في يقينها لبلوغ ما تقصد من مواجهة ألازمات مهما اشتدت ومجابهة الصعاب مهما تصلبت واستعصت: «مع تأكيدي على ّ صح ة الدوافع القومية التي حملت الرفيق يوسف تاج إلى إبداء الاندفاع بل الانفعال الذي حصل له ومع تقديري ملتانة الروحية الدافعة لتدفق هذه الحيوية املباركة وإن تجاوز ْت حدود ّ الاتزان النظامي إلى ّ التوتر املشدود ،فإني آسف ملا أعوز الرفيق يوسف من متانة ألاعصاب وعمق الروية النضالية .كم ّ أود أن يكون لنا من متانة ألاعصاب وصالبة التعبير العميق عن حرصنا على مصلحة القضية ما يوازي متانة روحيتنا الصامدة .يتضافران متكاملين في مواجهة املعضالت وتذليل امللمات. ألن ‹الخطر في اضطراب ألاعصاب› مهما أعطينا من متانة ألاخالق والوالء للقضية .علينا أن نعرف كيف نبذل الجهود الرامية إلى إنجاح العمل وتحمل املسؤولية امللقاة على عواتقنا دونما تفريط بقوانا في مسيرتنا الطويلة 194
الشاقة إلى ألافضل وألاكثر جدوى ودون أي تبديد أو تبذير للوقت .فال يهدر سدى وال يفيض عن مطلب الحاجة إليه في كل أمر .إن ضرورة الاستمرار في التلبية والعطاء تقتض ي متانة التصميم ومتانة إلاقدام على التحقيق املتين. ال ّبد أن تؤول جميع العوامل املبذولة بمتانة الاتجاه وإلادراك إلى أمتن ً ً ً صدقا ّ وروية وعمقا .لنكن دائما في تماسك إمكانياتنا وتوازن الغايات وأمنعها ً ّ ً طاقاتنا وفاعلية مواهبنا وحدة ومتانة وانطالقا مركزا إلى ألافضل وألاجمل. ّ وتقل ألاعمال› فكيف وألاقوال انفعاالت ‹وال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال جامحة وتوترات مضطربة ،أقوال يعوزها صمود إلارادة وصالبتها».
195
ال ش ـ ـ ـ ـك أن الـمال امتحان مهم لنفس ـ ـ ـ ـية ً الـمـ ـ ـ ـرء ،حين يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادف رف ـ ـ ـ ـ ـ ـيقا لم تكتمل قوميته الاجتماعية يج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرفه ويودي به إلى الس ـ ـ ـ ـ ـقوط سعاده
ّ تتكرر حاالت معينة في سياق حياة ألامة وفي أمم أخرى على امتداد مراحل من تاريخها .ويصبح تكرارها بمثابة ظاهرة اجتماعية طبيعية توشك أن تشكل ما يشبه قاعدة ثابتة ومستمرة .فتلفت إليها الاهتمام وتستوجب، بالتالي ،التوقف لدراستها املوضوعية ومعالجتها الجدية. من هذه الحاالت املتكررة عبر ألازمنة واملجتمعات قديمها وحديثها هي أن ّرواد الرساالت ،والنهضات الكبرى من دينية واجتماعية فكرية وكذلك ألاقطاب املؤمنون العاملون لنصرة هذه العقائد ألاساسية في بناء صرح الحضارات الخالدة والباذلون لتدعيمها وصيانتها كل طاقاتهم ووجودهم جميع هؤالء أو معظمهم هم من صميم صفوف الشعب املتأملة ،ال يملكون الثروة والجاه املرموق ال ينعمون بالنفوذ واملكانة ّ ّ أغلبيتهم املادية التراكمية. الساحقة ممن يفتقرون إلى الحاجات املالية ألاولية وإلامكانيات املادية 191
الضرورية وهم ال يحسنون توفير املال وال التصرف به .شملت هذه الظاهرة ً أيضا معظم املشتغلين في الشؤون الفكرية واملهتمين بقضايا ألادب والفن ً ً ً وقد قيل قديما «فالن أدركته حرفة ألادب» أي أنه صار فقيرا معدما لشدة انصرافه إلى املسائل الفكرية .وقد اعتبر وضع ألاديب الفرنس ي واملفكر الكبير ّ الشاذة عن هذه الظاهرة التي ّ عمت الكثير من ألامم «فولتير» من الحاالت والشعوب .ألن «فولتير» كان ،وهو من أكبر رجال الفكر في عصره ،أغنى رجل في أوروبا حينذاك .أال تلتقي روحية العطاء الخيرة وبطولة إلاقدام الصادقة في طلب الغايات وألاهداف املثلى مع الاكتفاء املالي والاطمئنان ّ املادي؟ وهل أن الثراء املادي يقعد باملرء ،بالضرورة ،عن مطالب الطموح العليا التي تتجاوز بأهميتها املصيرية محدودية الحاجات املادية ومرحلية ألاعمال القريبة املنال الدانية القطوف؟ إن طبيعة إلانسان ألاساسية هي التسامي في إحراز مدرحية الحياة بوحدة توازنها ألاصيل وأن «القوة املادية دليل قوة نفسية راقية» ،وال وجود البتة لواحدة منهما من دون ألاخرى وال فصل بينهما وال انفصام في الحياة السليمة الراقية .من املؤسف أن يكون لفقدان ً التوازن بين قوة املادة وقوة الروح آثارا وأمثلة في سلوك العديد من القوميين الاجتماعيين ،بالرغم من ّ تفرد الحزب بعقليته ألاخالقية البناءة ّ ً ً وروحا وما ّ سجله من مواقف بطولية فذة تجلت في تصاعد العطاء مادة وإلاقدام لترسيخ حقيقة الحرية والواجب والنظام والقوة .لقد أثبت الحزب ً خالل ما يقارب نصف قرن من تاريخ ألامة السورية في ّ أدق مراحله تعقيدا ّ ً وتأزما ،أثبت جدارة ألاصالة السورية للصمود والصراع على جميع الجبهات ّ املتفوقة .فضائل وأكد قدرة النهضة على تجسيد فضائل هذه ألاصالة العطاء باألعمال وألافعال وبمواقف العز والكرامة لخير ألامة وسيادتها. لوحظ منذ ان طالقة الحزب ألاولى أن بعض من اندفعوا في النشاط ّ القومي الاجتماعي بفاعلية دؤوبة مقدامة قد طرأ عليهم بعد حين تلكؤ عن 199
تلبية واجباتهم النظامية بسبب ّ تحس ن وضعهم املالي ثم أخذوا يتراجعون ً ً ّ ويقصرون عن رويدا رويدا عن متابعة مواقفهم في حلبة إلاقدام والنضال الصمود خاصة لدى ألاحداث التي تتطلب منهم أسوة بسواهم استجماع ً ّ قواهم واستنفار إمكانياتهم إلى أقص ى مداها إلى أن تخلوا أخيرا عن التزامهم بالعقيدة والنظام وراحوا يتهربون عن إبداء أدنى اهتمام بشأن الحزب ّ ومصير ألامة متوارين وراء ّ الدالة على ّ الترهل شتى ألاعذار والذرائع الواهية و ْ والعقوق الفاضح .وقبعوا منزوين هكذا في حفرة منافعهم الخصوصية يدورون بجشع وتكالب غير الئقين بالقومي الاجتماعي .مثل هؤالء املغرقين ً بجمع املال للمال يعيد إلى ألاذهان عبرا بليغة من خبرات الرساالت العظمى ً كاملسيحية مثال حيث يعلن املسيح« :الحق الحق أقول لكم أنه سهل على الجمل أن يدخل خرم إلابرة من دخول غني إلى ملكوت السماوات» .وما زال ً هروب بعض ألاثرياء من تحمل مسؤولياتهم القومية الاجتماعية مستمرا املتمولون ّكلما ّ ّ تحسنت بنسبة تزايد ثرواتهم وتراكم أموالهم .حتى صار هؤالء أوضاعهم املالية أمعنوا في الفرار من مواجهة تبعات املسؤولية القومية ّ وتنصلوا من أعباء العطاء وواجب التلبية الصادقة الصافية. الاجتماعية ّ ّ املستمدة في هل يتعذر حتى على القومي الاجتماعي أن يجمع بين قوة نفوذه ّ املجتمع الحالي من توفر املال بحوزته وبين قوة نفسيته القومية الاجتماعية املؤمنة بصحة العقيدة واستمرار الصراع من أجل القضية التي توازي كل ّ املتمول أن ما يقدمه من مال مهما بلغ مقداره هو وجوده؟ هل يحسب هذا ً أكرم عطاء وأشد بطولة ممن يجودون بدمائهم تسديدا لحق ألامة عليهم، حقها بالسيادة والكرامة؟ وهل تكون الكرامة الحقيقية إال بإغداق العطاء الكريم لتحقيق الحرية والواجب والنظام والقوة فتنهض ألامة العظيمة التي أعطت وما زالت تقدم أخصب املناجم وأصلب املقالع في تأسيس كل فن وكل علم وكل فلسفة لبناء الحضارات املتألقة.
198
ذات مرة بينما ألاحاديث كانت تدور حول أحد أغنياء الحزب الهاربين من وجه قسمهم القومي الاجتماعي ،سئل حضرة الزعيم عن أسباب هذه ّ الظاهرة من تلكؤ رفقاء عن ممارسة واجباتهم القومية الاجتماعية ملا طرأ ً ً تحس ن أو استقرار على أوضاعهم املالية بعد أن ّ من ّ سجلوا سلوكا نظاميا ً فاعال .فأجاب الزعيم إن الحياة املغامرة الكبرى هي سلسلة امتحانات مستمرة ال تنتهيّ . منا من يفوز بتأكيد ّ ّ أهليته لخوض معركة واختبارات ّ الحياة لدى استمرارية هذه الامتحانات .ومنا من تكشف الامتحانات زيف إيمانه وسطحية اندفاعه وتعلن انعدام مقدرته على الصمود والنجاح وعجزه عن الثبات في الطريق الطويلة .وما املال سوى أحد أهم هذه ً الامتحانات املغرية بالتخاذل والترهل .فحين يصادف املال رفيقا لم يكتمل بناء قوميته الاجتماعية ولم تتبلور مفاهيمه للعقيدة وأهدافها فإنه يجرفه ال محالة وتستدرجه مغرياته املضللة إلى هاوية الهزيمة والسقوط .إنه يضيع بين دعوة ألانا التي ّ يشده إليها املال ودعوة الواجب لتلبية أصالته السورية حتى يقع فريسة التكالب والجبانة ويقص ي نفسه عن مسيرة الصفوف وزخم صمودها املتفوق بالعطاء والصراع حتى بلوغ النصر ألاخير.
197
وضع النظ ـ ـ ـ ـام على قـ ـ ـ ـ ـواعد حيـ ـ ـ ـ ـ ـوية تأخذ ألاف ـ ـ ـ ـ ـراد إلى النظام وتفس ـ ـ ـ ـ ـح أمامهم مجال التطور والنمو حسب مواهبهم ومؤهالتهم سعاده
« إن مبادئنا القومية الاجتماعية قد كفلت توحيد اتجاهنا ،ونظامنا قد ً كفل توحيد عملنا في هذا الاتجاه .النظام ش يء عميق جدا في الحياة .هو نظام الفكر والنهج ثم نظام ألاشكال التي تحقق الفكر والنهج». كما أن النظام بطبيعته يضع ألامور في نصابها فهو كذلك يضع ألافراد في مكانهم الالئق بمواهبهم ومؤهالتهم .لذلك يلتزم النظام بمعاقبة من تس ّول له نفسه مخالفة توجيهاته والتهاون بتلبية أحكامه وتطبيق مضامينه بكل أمانة ودقة .والنظام القومي الاجتماعي يختلف عن كل نظام آخر ألنه نظام العقيدة السورية القومية الاجتماعية .نظام فوق ألاشخاص وكل الاعتبارات الخارجة عن الحق العام وعن الغاية التي وجد من أجلها هذا النظام وتلك العقيدة .هذا النظام القومي الاجتماعي الذي يكفل توحيد العمل للحرية والواجب والنظام والقوة يدين التسويات ويرفض ألاحكام املتسرعة 181
الاعتباطية والحلول املنحازة ضد أشخاص أو من أجل أشخاص .هو تجسيد العدالة ألن « ألاخالق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى»، بفعل النظام القومي الاجتماعي نحصل على أكبر إنتاج وأفضله بأقل مجهود وأقل التكاليف وأقصر مدى زمني إذا ما أدركنا قيمته وشأنه ّ البناء في حياة ألامة والنهضة. كان الزعيم دقيق املحاسبة بقدر ما هو دقيق التوجيه؛ شديد الحرص ً على تصويب أي تهاون واستئصال أي إهمال .مهما بدا في الظاهر طفيفا ً ً وبسيطاّ . مرة حضر عميد الداخلية متأخرا عن موعد جلسة مجلس العمد مدة اثنتي عشرة دقيقة دون عذر .فما كان من الزعيم إال أن أقاله من ّ ً مسؤولية العمدة حاال ليكون عبرة لسواه .من يحسب أن دقة الانضباط والتلبية الحاسمة أمر بسيط أو ثانوي يمكن التغاض ي عنه .فالتأخير عن مواعيد العمل وإلانجاز ال يقاس بمداه الزمني إنما بمغزاه النفس ي الوجداني ذي ألاثر الشديد الخطورة في البناء القومي الاجتماعي. كان الشهيد ّ عساف كرم قد طرد من صفوف الحزب ّإبان غياب الزعيم عن الوطن واستمر ّ ينفذ هذه العقوبة القصوى خالل سنين عديدة حتى بعد عودة الزعيم فترة غير قصيرة ،دون أن يصار إلى إعادة النظر بهذا الوضع ،ال بطلب منه وال من قبل السلطة الحزبية آنذاك .ذات يوم حضر ً عميدا للداخلية ونقل َّ إلي رغبة ألامين عجاج املهتار إلى املركز ملقابلتي بوصفي ّ عساف في الاجتماع بي ألمر حزبي هام .استمهلته ريثما أرفع ألامر إلى الزعيم أستأذنه الاجتماع ّ بعساف كرم املطرود .في اليوم التالي أبلغت ألامين عجاج املوعد للقاء ّ عساف .فحضر بتمام املوعد املحدد إلى املقابلةّ .أدى التحية القومية الاجتماعية بنظامية رائعة وبخشوع من يتلو أدعية الصالة لتحيا ً سورية .ثم أردف قائال« :أنا يا حضرة العميد .كما تعلم ،مطرود من صفوف ُّ أستحق الطرد .وليس لي من الحزب منذ كذا من السنين وإني دون ريب 181
اعتراض وال طلب بصدد العقوبة .إنما ُّ بت منذ حين أشعر بأنني قومي اجتماعي صادق العقيدة وصادق العزيمة ُّ وأود أن أمارس واجبات العضوية بصورة فعلية ونظامية أسوة بسائر الرفقاء العاملين .وقد جئت إليكم أرجو العمل على إعادة اعتباري القومي الاجتماعي ومنحي حقوق العضوية النظامية كي يتاح لي القيام بواجباتي القومية الاجتماعية كاملة .وإني آمل تلبية طلبي هذا .وعند الامتحان يكرم املرء أو يهان» .أبديت له عميق ارتياحي ملطلبه البالغ ألاهمية ووعدته بمراجعة حضرة الزعيم باألمر على أن أبلغه ما ً قد يتم بشأنه في موعد قريب جدا عن طريق صهره ألامين عجاج املهتار. رفعت تقريري إلى الزعيم عن موضوع ّ عساف كرم وما أبداه من نبيل الرغبة ً ً ً وصفاء إلايمان للعودة إلى صفوف النهضة عضوا عامال ومناضال في العقيدة والنظام .فأمرني الزعيم بأن اتصل ّ بعساف كرم ثانية وأطلب منه توجيه ً رسالة إلى الزعيم بما أعلنه شفويا وبواسطة عمدة الداخلية ثم ينتظر ّ خطية من ّ الجوابّ . عساف كرم تؤكد مطلبه تم الحصول على رسالة ً بالوضوح وإلايجاز عينه الذي سجله شفويا لدى مقابلته لعميد الداخلية. بعد أيام ثالثة من تاريخ وصول الرسالة إلى حضرة الزعيم ّ تلقى ً ّ عساف كرم طلبا ليرافق عميد الداخلية إلى مواجهة الزعيم في مكتبه .وقد ًّ مصرا على ثقته بنفسه وجدارته كرر أمام الزعيم فحوى الرسالة ذاتها لتحمل مسؤوليات العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي على ّ ّ أتم وجه وأعلى مستوى .دامت املقابلة بضع دقائق وقد طلب منه الزعيم الانتظار بعض الوقت حتى ّ يتسلم القرار الالزم ملعالجة وضعه .سمح له باالنصراف ثم ّأدى ّ عساف كرم بقامته الفارعة ووقفته النظامية ّ البهية ّ التحية للزعيم الذي تجلت في مالمحه املشرقة روعة إلايمان بعظمة هذه ّ بتألق أصالتها ّ وتفوق صفائها وقدرتها على كل عطاء وكل ألامة وجالل اليقين تحقيق ّ خير وخالد. 182
هكذا عاد ّ عساف كرم املطرود إلى صفوف الحزب ليمارس عضويته ّ ً مجسدا تعاقده على تحقيق أمر خطير بكل أمانة ودقة وعاود نضاله البطولي يساوي وجوده فبلغ ذروة العطاء وصار قدوة ألابطال ومن تراث ألاجيال التي ّ لم تولد بعد .فالقومي الاجتماعي السليم ألاخالق مهما أملت به حاالت يظل القوة القادرة على التحرر من ك ْبوتها فال ّ الضعف والانكفاء ّ تحولها النكبات إلى إنسان متخاذل جبان .ال ّبد للقومي الاجتماعي أن ينتصر على لحق أمته ومن أجل كرامتها ّ نفسه وينتصر بالتالي ّ وعزها ومجدها .إن ألابطال املنتصرين على ضعفهم وتر ّددهم هم جحافل القوى التي يقودها سعاده إلى ًّ حدا النصر ويضع بقدوة مواقفهم القومية الاجتماعية وصالبة صمودهم ً نهائيا للفتوحات.
182
أنت تسـ ـ ـتحق العقوبة من الحزب ال املعونة ألنك أسـ ـ ـ ـ ـأت بع ـ ـ ـ ـملك إلى الثروة الق ـ ـ ـ ـ ـ ـومية سعاده
يتبارى الجميع في اعتماد «الوسائط» إلعفائهم من أحكام القانون مهما بدت عادلة ومحقة ،ألن الناس بمعظمهم ،خالل فترات الانحالل الخلقي الشائع ،يعتقدون أن القانون بحد ذاته مجحف وظالم وهو ّ مجرد سوط يستعمله عامة ألاقوياء من شعبنا ملطاردة الضعفاء الذين يشعرون بأن ال حول لهم وال قوة تحميهم من حيث املكانة والنفوذ والثراء .لذلك يخشون القانون والاحتكام إليه .هذا من جهة ومن جهة أخرى تعود الناس ّ التهرب ّ وتحمل جزاء أعمالهم .وهذا املوقف من من مواجهة مسؤوليات تصرفاتهم النظام والقانون يكاد يكون بين املواطنين عامة على اختالف مستوياتهم. ّ لذلك قل ما يتعرض املرء إلى مخالفة العقاب والحساب القانوني إال ويسعى ً جاهدا إلى إيجاد من يتوسط له لدى ذوي السلطة وأصحاب الشأن ّ للتملص ما أمكنه من ّ تحمل تبعات سلوكه مهما كانت مخالفته للقانون
184
وألاخالق جسيمة وشائنة بحق أحد ألافراد أو إزاء الحق العام والسالمة العامة. وقد خ ّيل ألحد القوميين الاجتماعيين أن واجب املساعدة واملساندة في امللمات بين ألاعضاء هو إلزامي وهو من دون قيد وال شرط يفرضه الحق العام واملصلحة العامة كما يحدث عادة في ممارسة التعاون والتآزر بين الجماعات التي تشدها العصبيات الطائفية أو العشائرية والعائلية وسواها ّ التكتالت الفئوية إذ يتم التعاون بينهم خاصة على إلاثم والعدوان بعامل من الحقد على آلاخرين .املساعدة بين هؤالء هي أساس ترابطهم وغاية له وهي شرط استمرار ّ تجمعهم الال اجتماعي ألن عالقتهم بعضهم مع بعض هي ّ عالقة املساهمين في شركة استثمارّ ، وتتبدل وفق أرصدة ألارباح تتغير والخسائر .هم في اختالف أو وفاق دائم سواء على تقسيم ألارباح أو توزيع الخسائر ،كل فرد منهم على أهبة الاستعداد للتشهير باآلخرين والانقضاض ّ ً ّ ً متوعدا بالويل والثبور .لذلك فإن تواجدهم ووجودهم بأسره مهددا عليهم ّ مهد د بالدمار والانهيار بين لحظة ولحظة هم على شفير الانفجار والاندثار ً ً أفرادا وأعدادا .مجموعهم شراذم من مقامرين ومغامرين .كل يستثمر آلاخر وال يجرؤ أحد منهم على محاسبة سواه ومقاضاته .هذا بعض ما يحدث لدى ً ً ً ابا وهم ّ مجرد شركات وتشكيالت من يحسبون أنفسهم زورا وتزويرا أحز سياسية أو غير سياسية ،والسياسة لدى هؤالء املتحزبين الذين يجمع بينهم ً ً كره سواهم هي فقط من أجل السياسة عينها وال يمكن أن تكون عمال قوميا ً ولن تعرف سبل النجاح مهما مألت ألارجاء وألاجواء ثرثرة وصياحا ً فضفاضا. جاء أحد أعضاء الحزب الذي لم يكن ّ يفرق بين نهضة تعمل لسيادة ألامة بانتصار املناقب ،وألاخالق البناءة الخيرة في صفوفها وبين شركة ًّ هما قد حسبه استثمار ،واستيراد .جاء هذا العضو إلى الزعيم يشكو إليه 185
ً ًّ مهما وجسيما وهو أنه قد أحيل إلى إحدى محاكم الدولة اللبنانية آنذاك بتهمة اصطياد السمك في غير املواعيد املحددة وألاساليب املسموحة .وهو يخش ى إصدار الحكم بمعاقبته .ألامر الذي ال يستطيع ّ تحمله .ألنه رجل فقير ّ يمكنه من ّ سد رمق عائلته .فكيف العمل للخالص من معوز ال يملك ما ّ املشكلة؟ وقد طلب مواجهة الزعيم لعل ه يتدخل أو يأمر من يتدخل مع أعضاء املحكمة لتخفيف الع قوبة املتوقعة عنه أو تبرئته من التهمة ،وهذا بالطبع هو ألانسب لديه وألافضل .والرفيق يرى أنه يستحق مسامحة املحكمة له ويأمل عطف الزعيم عليه واهتمامه بأمره وهل غير زعيم حزبه، ً ّ وامللمات وفي وهو أب الجميع ،يكون سند القوميين وعونا لهم في ألازمات املآس ي واملآزق؟ ّ وتجهم ما كاد الرفيق الصياد يفرغ من كالمه هذا حتى وجم الزعيم وجهه ّ فنمت مالمحه بوضوح عما كان يعانيه حينذاك من مرارة وخيبة ثم ً ما لبث أن استعاد روعه وأخذ يتكلم بروية وتؤدة مؤاسيا الرفيق الصياد ّ عله ينشله من ضياعه ويوقظه من هذيان استولى عليه دون أن يدري ما يقول أو يعي ما يعمل .وقال له ،يا رفيقي ،أنت تعلم أنك خالفت القانون، ّ وعرضت نفسك للعقوبة وموردك الوحيد للضياع .باصطياد ألاسماك في ً محرمة من شأنها أن ّ وقت ممنوع وبوسائل ّ تهدد ثروة البالد التي هي أيضا ثروتك إلى الانقراض والزوال وإلى حرمان الكثيرين من موارد رزقهم .ألن ً ً ً ّ مواسم ألاسماك تشكل جانبا مهما من اقتصاد ألامة .وأن عمال كهذا هو تصرف ال قومي اجتماعي تستحق من أجله عقوبة من حزبك ال معونته لك، ً ّ تستحقه من عقوبة قانون الدولة اللبنانية يجب أال تع ْد ثانية إلى فضال عما مخالفة كهذه وارجع إلينا بنتيجة املحاكمة. ً اصة متماسكة ّ صفوفا متعاونة وقوة متر ّ تشدنا عصبية أما إذا كنا قومية اجتماعية واحدة ضرورية لنمونا وصمودنا وأساسية النتصارنا ،فإن 181
هذا التعاون بيننا الضامن الستمرارنا وانتشارنا بمنعة وقوة هو تعاون قومي ّ التقدم باألخالق واملناقب ومن أجل الدفاع عن حقوق اجتماعي في سبيل الوطن واملصلحة القومية التي هي لصيانة سيادة ألامة وتوطيد ثروتها وقوتها وكرامتها .فأين سلوكك يا رفيقي من هذه العقلية ألاخالقية القومية الاجتماعية ومن غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي وأهدافه.
189
الرابطة العائلية قس ـ ـ ـرية ال خي ـ ـ ـ ـ ـار فيها ،أما الرابطة القومية فهي رابطة الحريـ ـ ـة والوعي
إن أقدم رابطة عرفها إلانسان وتعامل على أساسها وبمقتض ى عاداتها وتقاليدها هي رابطة الحسب و النسب ،رابطة العرق والدم .لقد قادت البشرية وفعلت في كيانها أزمنة متالحقة عريقة القدم .كما كانت العامل ّ ّ واملحرك لكل عداوة ،يومها عاش إلانسان عشائر وقبائل املولد لكل صداقة ّ متنق لة ال تعرف إلاقامة في مكان معين وال الاستقرار في موطن محدد تتفاعل ً في بيئته الجماعات وألاجيال املتعاقبة .ثم اتخذ إلانسان لنفسه وطنا يقطنه ويدأب على استثمار خيراته والعيش من موارده فنشأت حينذاك بين الفئات العائلية القبلية املتجاورة في البيئة الواحدة رابطة جديدة غدت فيما بعد شديدة التأثير في استمرار إلانسان ومصيره خالل تالحق الحقبات التاريخية.
188
وهذه الرابطة هي رابطة ألارض ركيزة تفاعل إلانسان مع الحياة والوجود .وصارت رابطة الدم تتناوب ورابطة ألارض في توجيه إلانسان ً وتعيين اتجاهاته وعالقات جماعاته بعضها مع بعض .وكان الصراع عنيفا ّ ً بين هاتين العصبيتين وما زال محتدما في الشعوب البدائية املتخلفة .أما في ألامم واملجتمعات املتطورة فقد راحت العصبية العائلية أو العشائرية تتراجع وتنحل أمام تمكن العصبية القومية من ّ لم شتات أبناء الوطن الواحد على اختالف أصولهم الدموية ومذاهبهم الدينية .وبذلك أصبحت ً ً ً ً ً ألامة مجتمعا واحدا ومزيجا قوميا مميزا بخصائصه ومواهبه ومواقفه املوحدة أمام شؤون الحياة والكون والوجود .وأصبحت مصلحة ألامة الواحدة فوق كل املصالح الجزئية املعطلة ل ْحمة وحدتها وتط ُّور تكاملها ونموها ّ كأي كائن حي له شخصية واحدة وقضية واحدة ومرام مادية روحية واحدة كلية التماسك والتفاعل. نشوء الحزب السوري القومية الاجتماعي في مدينة طرطوس ومنطقتها ً بدأ قديما منذ أوائل سنة 1725وكان انتشاره بين أوساط الشعب عامة ً عميقا فيما أحدثه من تغيير جذري في النفوس والعقليات .قد سجل الكثير من أعضائه املواقف ّ الفعالة لصرح البناء القومي ّدلت على ّ أهمية وعيهم لحقيقة أبعاد الحركة السورية القومية وعلى مدى صالبتهم في الصمود أمام املصاعب الحادة التي تواجههم .من أجل أن يذودوا عن العقلية ألاخالقية الجديدة التي ّ يقدمها الحزب لألمة السورية وملصالحها ومصيرها .وهم يؤكدون فعلها ألاصيل في بناء إلانسان الجديد وقدرتها الجريئة على جعل إلانسان ينعتق من مفاهيم العقلية السياسية البالية التي تقف في طريق الزحف القومي الاجتماعي مهما طالبت وتراكمت على دروبها الصعوبات والنكبات.
187
من ألاحداث الدالة على ثبات القوميين الاجتماعيين في حلبة الصراع والنضال أمام القوى املعارضة ملسيرة النهضة ،هذه ألاحداث هي مواقف ّ ً صفوف الحزب إزاء تألب فئات الرجعة ّإبان املعارك الانتخابية مثال التي ً ًّ تحسب محكا هاما للعناد وإلاصرار في وجه املغريات والتهديدات التي كانت تتوالى وتتزاحم حينذاك. لقد رشح الحزب عن املقعد النيابي في طرطوس لعدة دورات انتخابية الرفيق بديع أنيس اسماعيل ،وتمكن من إيصاله إلى النجاح .تدعمه قوى الحزب وقوى ألاصدقاء واملؤيدين .لقد حدث ذات مرة .في إحدى الدورات الانتخابية ،أن أنيس اسماعيل ،والد الرفيق بديع ،وهو أحد أصدقاء الحزب البارزين في طرطوس قد فاجأنا بترشيح نفسه عن املقعد ذاته ،دون أن يتشاور مع الحزب أو يتداول معه في ألامر ودون إلافصاح ألحد عن بواعث ُّ تقدمه على ابنه وتجاوزه له .وقد كتم ألاسباب حتى عن ابنه نفسه .وكان يبدو أن وراء هذه املفاجأة التي أرادها الصديق أنيس إسماعيل تأثير بعض الفئات التي لم ير ْق لها ما قد بلغه الحزب آنذاك من قوة وانتشار ّ يهددان نفوذهم ومكانتهم املتوارثة. أمام ألامر الواقع الذي فرضه على الحزب أحد أقرب أصدقائه ووالد ً مرشح ونائب قومي اجتماعي كان املوقف يتطلب الحزم والروية معا .فما كان من إلادارة الحزبية بعد تدارس املوضوع من جميع جوانبه وبمنتهى السرعة إال أن اتخذت قرارها القاض ي بترشيح الرفيق بديع أنيس إسماعيل مقابل ترشيح والده بدون أي تعليق أو إيضاح .وقد أعلن الترشيح وبوشر العمل للمرشح القومي الاجتماعي بصورة طبيعية كاملعتاد .فكان لهذا القرار ّ واستجابة الرفيق للتنفيذ ٌ وقع أثار الدهشة وإلاعجاب من جهة كما ولد ّ عند البعض الاستغراب والتعجب .كيف يرشح الابن نفسه ضد أبيه؟ وكيف ً ّ يتصرف الحزب بوضع الابن خصما ألبيه؟ كيف الخروج من هذا الذي اعتبر 171
ً ّ ّ ّ وتطوراتها لذلك املعنية؟ راح الجميع يترقب ردود الفعل مأزقا لكل ألاطراف املوقف الطريف بقدر ما هو دقيق لكن ما لبث الصديق أنيس اسماعيل أن بادر إلى الاتصال باملسؤول الحزبي املكلف بهذه املسؤولية وهو عميد الداخلية آنذاك ألامين إلياس جرجي قنيزحّ ، وتمت لقاءات عديدة بين املسؤول الحزبي والصديق أنيس إسماعيل بحضور الرفيق بديع دارت فيها شتى ألابحاث وألاحاديث بصدد ترشيح ألاب والابن للتنافس على مقعد نيابي واحد في طرطوس .وكان أهم ما تداواله: هل يجوز يا حضرة العميد أن يتدخل الحزب ليفصل الابن عنأبيه؟ • الحزب ال يفصل بين الاثنين بل يجمع بينهما بأن يكون مرشحه ً الرفيق بديع أنيس اسماعيل في هذه الدورة أيضا كما كان النائب ألكثر من ً دورة سابقة .وهو في الوقت نفسه ولدك ألاكبر .ناهيك عن كونك صديقا ً ّ وسلمت بمثل هذا الترشيح ّ وتحمست له دائما .فما الداعي للحزب وقد سبق لتصرفك اليوم املنافي للماض ي؟ هل بطل أن يكون الرفيق بديع ابنك .أم أن الحزب قد ّ تغير بنظرك؟ ّ لكني اليوم قد رش حت نفس ي وأعلنته للجميع فهل يليق أن أتراجعأمام ضغط ابني وبدعم من الحزب وتشجيعه ّ ضدي؟ ً • ليست املسألة إعالن ترشيح قبل ترشيح ولست أمام ضغط إطالقا. فا بنك يبقى بالنسبة إليك ولدى جميع الناس مثال الابن البار في كل الشؤون العائلية كما أنه يبرهن للمأل أنه مثال القومي الاجتماعي الوفي لقسمه الحريص على أن يكون لرفقائه قدوة تحتذى .ويستحق منك أنت قبل سائر الناس التقدير والاعتزاز ألنه رجل عقيدة ورجل قضية كبرى من حقنا أن نفاخر به ونسانده بموقفه الشجاع. 171
لكن ما رأي الحزب لو سمح «للرفيق» بديع باالنسحاب ملصلحة أبيهً حفاظا على سمعة وكرامة العائلة هذه املرة فقط ويكون بعد ذلك مرشح الجميع ندعمه كلنا نحن والحزب؟ • يا أبا بديع نحن ال نطلب دعم ابنك ورفيقنا في الترشيح ليغدو نائب الحزب فقط ملرة واحدة أو مرات محددة هو لنا بقدر ما هو لك ونحن له ً أيضا ومنذ الساعة عليك أن تبايعه وتبارك له باملركز الذي هو جدير به. ً يجب أن ّ تعتز بغدك الذي هو بديع وتعتز بنا جميعا وال يجوز أن تطلب منا أي تراجع ليس ملصلحة أحد سوى الخصوم فأسرع يا أبا بديع وبارك ترشيح ً ً حاال وال تكن عثرة في وجه ّ تمسكنا برفقته وبصداقتك أيضا .إن ابنك ً ً ً حرصنا عليه في صفوفنا قوميا اجتماعيا مناضال ال يحق لك تعطيله .ال تحاول إقناعنا بالتخلي عنه ألن الرفيق بديع ّ يعبر بموقفه الرائع عن أخالق الحركة السورية القومية الاجتماعية دون أدنى إساءة إليك من جراء إصراره ّ املشرفة .ال ّبد أن تمسك بيده ليثابر على هذا الصمود .إياك أن على البطولة تدفعه إلى ما يعيبه من التخلي عن قسمه .حينذاك فقط يس يء بسلوكه الال قومي إليك وينال بالفعل من كرامتك وسمعتك ،خاصة ،بنظر من يعرفون ً حقا قيمة الشرف والحقيقة واملعتقد لحياة إلانسان ،ال تدع يا سيد أنيس ً مجاال ّ ألي فريق ثالث أن يتداخل بينك وبين الحزب وأنت تعرف ماذا يعني تداخل أولئك الخصوم الذين ال يركن إليهم وال يضمرون لك ولنا سوى ألاذى وإلاساءة البالغة. فهمت يا حضرة العميد ،أ مهلني ألعود في الغد بالجواب الذي آمل أنيفي بالغرض .سأتدبر ألامر بالتي هي أحسن .لكن أرجو ّ التريث حتى الغد دون أي تصعيد إعالمي للمعركة الانتخابية قبل أن نلتقي ثانية خالل أربع وعشرين ساعة على ألاكثر.
172
وقبل أن يغادر أنيس اسماعيل الغرفة أطلق عبارة مدوية وهو يضحك وقد أثارت اهتمام الجميع ومرحهم « :يا جماعة ،ما هذا الحزب الذي يلزمني أن أطلب منه تأييد ابني لي في الانتخابات» ،ثم أعلن بخاطركم ..إلى اللقاء. وفي اليوم التالي ّ تم التفاهم بين ألاب والابن على خوض معركة ّ انتخابية للمرش ح القومي الاجتماعي الرفيق بديع اسماعيل وقد تكللت املعركة بالنجاح والانتصار املنشود.
172
ً ً هل يصح أن تكون السـ ـ ـ ـ ـ ـلطة فريقا غريبا ً عنا مفروضا علينا
ع ّودتنا عهود متراكمة من الاستعمار والتسلط أن ننظر إلى السلطة نظرتنا إلى فريق غريب عنا .فريق ال ّ يعبر عن أمانينا في الحياة وال عن رغباتنا ّ في الوجود .الفريق املتسلط الذي ال يعرف العدالة وال يعمل على معالجة شؤوننا من منطلق وجداني إنساني ،وبنزاهة وأخالق .إنما همه ألاوحد التشدد على إنزال العقوبات الجائرة علينا وألننا بتنا نخش ى أصحاب ً السلطة ،رحنا نتحاشاهم خوفا ورهبة ،واملفروض ،غير ذلك أن يتحلى رجل السلطة برحابة الصدر ،والقدرة على الاستماع ملشاكل الناس ليصار إلى تصحيحها وتسيير ألامور نحو ألافضل ولكن السلطة عندنا هي طبقة فوقية ً ّ مستبدة ،طبقة تفرض وجودها علينا تنفيذا ملآرب سواها .وبتنا ال مستغلة نعرف كيفية التعامل معها بوضوح من أجل الخير العام والسالمة ً ً الاجتماعية التي هي أخيرا سالمتنا جميعا والتي تقتض ي تضافر قوانا قاطبة
174
وتفاعل كامل إمكانياتنا وطاقاتنا ومواهبنا .إن السلطة في الحقيقة والواقع ال ّبد أن تنبثق من إرادتنا .لقد وجدت لنا ومن أجل حقوقنا ومصالحنا القومية ليس إال .وما عليها إال أن ّ تعب ر عن أمانينا وتجسد توقنا إلى الرقي والتقدم .مهمتها ألاساسية واملبدئية هي مهمة الطبيب واملربي القدوة .مهمتها تزودنا باملعرفة والقوة ّ أن ّ وتمدنا باملحبة والوالء وتسهر على راحتنا وتذود ّ ّ وتطورنا .السلطة بمفهومنا القومي املهددة لوحدتنا عنا املكاره واملكائد الاجتماعي هي التعبير العملي ألافضل عن مدى ثقتنا بأنفسنا ووعينا مرامي قضيتنا في الحياة والوجود هي لنا بقدر ما نحن لها ،هي قدوة في التحقيق لقوة إرادتنا ومضاء عزيمتنا مدى طريق الحياة الطويلة الشاقة .تتبدل ألافراد في السلطة ،يأتي هؤالء ويذهبون. أما حقيقة السلطة فباقية ال تزول تزاول مسؤولياتها الجسام، وتمارس مهماتها الدائمة لتأمين دورها العظيم في البناء والتنظيم ،في إلارشاد والتوجيه ،خارج هذه القيم واملناقب ال معنى للسلطة وال لزوم لوجودها ،إذ ّ تصبح مجرد تسلط منحرف آثم ،مجرد عصيان إلرادة الشعب وتمرد على كرامته وسيادته ،ألنهما شعار كل سلطة شرعية ّ ومبرر بقائها واستمرار سدة املسؤولية ّ أفرادها في ّ وسدة الاحترام والتقدير. ّإبان غياب الزعيم القسري عن الوطن ،واجهت القيادة الحزبية العديد من الانحرافات سواء في املفاهيم أو املواقف الال قومية اجتماعية. وقد بلغت ّ أشدها عندما طلب عميد إلاذاعة وعميد الثقافة في ٍّآن واحد، فايز صايغ في جلسة مشتركة ملجلس ي ألاعلى والعمد أن يبحثا موضوع إبقاء الزعيم في املغترب وعدم السعي لعودته إلينا .ألامر الذي سبق أن تشاور به الصايغ مع زميله في التآمر نعمة تابت ومن كان يدور في فلكهما املنحرف عن ّ جادة الصواب وألاخالق القومية الاجتماعية ،لكنهما سرعان ما تراجعا بحنكة ودهاء إزاء ما لقياه من استنكار حاد ورفض عنيف للطلب املذكور. 175
ثم تابعت القيادة الحزبية آنذاك السعي الحثيث لعودة الزعيم وإلاعداد الدؤوب ليوم استقباله امليمون. عاد الزعيم إلى الوطن في الثاني من آذار سنة 1749وكان قد أحيط ً علما وهو في املغترب ببعض حاالت الانحراف التي حدثت أثناء غيابه ،غير ً جميعا أحجمنا وقتذاك عن إبالغه ّ عما بدر من فايز صايغ بخصوص أننا محاولته إلقناع مجلس ي ألاعلى والعمد باإلقالع عن الاهتمام بعودة الزعيم إلى قيادة الحزب في الوطن وضرورة إبقائه خارج البالد ما أمكن ذلك أو ما ً استطاع املركز فعله بهذا الشأن .كتمنا هذا املوضوع عن الزعيم ظنا منا أن ّ فايز صايغ هو إمكانية ثمينة وأن ه من ألافضل إلابقاء عليها في صفوف الحزب بطريقه إخفاء الحقيقة عن الزعيم. فما كان من الزعيم إال أن ا عتمده في كثير من املهمات الحزبية الهامة وانتدبه لألعمال التي تقتض ي صفات قومية اجتماعية ممتازة أو باألحرى صفات متفوقة عالية ،على أساس ّأن ه إمكانية حزبية جديرة بكامل الثقة والتقدير من قبل الزعيم! من هذه املهمات الخطيرة التي عهد بها إليه إيفاده وحده بصفة مندوب للزعيم في جولة حزبية إلى فروع إفريقيا .الغرض منها وضع جموع القوميين الاجتماعيين وألاصدقاء أمام مسؤولياتهم التاريخية ّإبان مطاردة الحكومة اللبنانية للزعيم إثر عودته من املغترب وبغية استنفار روحيتهم القومية الاجتماعية في تلك املناسبة الحرجة من حياة الحزب و ألامة ،كي يجودوا بالتضحيات املالية وغير املالية التي تليق بجنود النهضة املناضلين ّإبان تصاعد النضال. قام مندوب الزعيم إلى إفريقيا ،عميد إلاذاعة والثقافة فايز صايغ ً بجولة واسعة في جميع املناطق إلافريقية .ألقى فيها الخطب الكثيرة داعيا إلى عقيدة غير عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي استقاها من أفكار
171
معلمه في مفهوم الفردية «كركيغارد» الذي يرى أن املجتمع وسيلة للفرد ً أموالا ّ تبرع بها القوميون الاجتماعيون ليس إال .وقد جمع خالل جولته ّ ّ وأنصارهم للحزب من مختلف فروع إفريقيا .لكنه بعد عودته لم يؤد ّ أي حساب عن أعماله في الجولة وراح يثير مسألة الحرية الشخصية في نطاق الحزب ويطعن بسالمة قواعد ارتباط ألاعضاء بالحزب وخاصة في مدى ثقتهم بالزعيم وتسليمهم بصالحياته الدستورية املطلقة. عندما افتضح أمر تآمر فايز صايغ على العقيدة والنظام وثبت سوء تصرفه بأموال الحزب وتعاليمه ،آنذاك ،أطلعنا الزعيم على ما سبق له وقام به من طعن وتآمره على عودته إلى الوطن ،فوجم الزعيم أمام سلوك ّ ً فايز صايغ وفساد إيمانه بالنهضة والزعيم .وتألم كثيرا أن تصل «إمكانية» في الحزب إلى هذا القدر من استغالل ثقة الزعيم بها أسوأ استغالل ومن إساءة استعمال املسؤولية الحزبية بهذه الصورة املؤسفة املنكرة .وكان له معنا درس لن ننساه .يصلح أن يكون طليعة الدروس املسلكية النظامية لكل قومي اجتماعي ومن أهمها روعة ودقة« .لقد اقترفتم بإخفاء الحقيقة عن السلطة الحزبية ،أي عن الحزب ،أخطاء جسيمة هي: ً أوال :الحنث بالقسم في فقرته ‹وأن أسهر على مصلحة الحزب وأؤيد زعيمه وسلطته›. ً ً ً شخصيا لكمّ . مما حرم ثانيا :التفرد باالحتفاظ بمعلومات ليست ملكا البت في أمر خطير ّ السلطة الحزبية صالحية ّ واتخاذ التدابير الالزمة لحماية ّ املندسين بيننا. الحزب من املرتكبين ً ً ّ ثالثا :إن كتمان املعلومات املتعلقة بالسالمة العامة يشكل جرما تعاقب عليه جميع القوانين في العالم ويعتبر مؤازرة ،ولو غير مباشرة ،لفعل املتآمرين على سالمة أمن الدولة وسيادتها. 179
ً ً رابعا :اعتبار أنفسكم أشد حرصا على مصلحة الحزب من املؤسسة ً وأعمق وعيا منها ملا هو خير القضية وسالمتها. ً خامسا :وضع قوميتكم موضع الشك في حال كتمان ّ سر يتعلق ً بأحدكم ربما بعامل عالقتكم الشخصية معه ثم إعالنه متأخرا بعامل ً أيضا ال من أجل مصلحة قضية ألامة التي يجب أن ّ تظل العالقة الشخصية ًّ فوق كل مصلحة وكل عالقة أو قرابة أو عاطفة أيا كان نوعها وشأنها عندئذ يضاهي إعالن الحقيقة كتمانها وإخفاءها من حيث ألشخاصكم. ٍّ الانحراف والارتكاب. ً بالنيات غير أن قصور ّ سادسا :إن ألاعمال ليست لدينا ّ تصوركم عما أسأتم به للقضية التي تساوي وجودنا ،قصوركم عن ّ تفهم الحزب وكيفية ً فضال عن ّ خلو سلوككم من أي قيامكم بواجباتكم تجاهه بفطنة وحرص سوء ّنية أو سوء غرض ،لهذه ألاسباب مجتمعة أكتفي آلان بهذه العقوبة الوجدانية النفسية». أجل ليس في الرجوع إلى املؤسسات الحزبية بأي شأن أو شكوى ما ّ يدعى وشاية أو نميمة ،بل يعني هذا دقة التمسك بنظام الحزب القائم على املؤسسات ال على مجموعات من ألافراد أو الرفقاء.
178
هل إلانس ـ ـ ـ ـ ـان للديـ ـن أم الدين لإلنس ـ ـ ـ ـ ـ ـان؟
ّ املتدينين خوفهم على الدين ونصوصه لئال ينالها أكثر ما يشغل بال أدنى أذى أو تحريف من قبل رجال العلم واملفكرين عامة .كأن العلم مجرد بدعة يحمل في طياته إلالحاد .أوجدته زمرة من ألابالسة ألاشقياء بغية النيل من الدين وبقصد إلاساءة إلى إلايمان وأصحابه .أو كأن موهبة العقل ً تختلف عن سائر مواهب إلانسان .وجودها كان عبثا أو للعبث بمقدسات ألاديان ليس إال. إلا نسان بطبيعته البشرية كائن عاقل لديه غريزة وحب الكشف عن ّ أسرار الوجود ،بإطالق العنان لتأمالته ليبحث في الال مرئيات ،يعلل أسباب هذه الظواهر بالعقل ويحلل خصائصها الدقيقة ليخلص إلى النتائج التي ّ تؤهله إلى إحراز املزيد من املعرفة ومن القدرة على معالجة النتائج باملعرفة وإلارادة ،كي يبلغ ذروة التفاعل والتجاوب مع الحياة والكون والوجود ،كما يسحب خياله وتصوراته عبر الوجود الراهن إلى ما وراء الوجود عساه 177
ّ يستحضر املجهول إلى عالم الشهادة والواقع فتتسع آفاق معرفته وتنمو ّ التوصل طاقاته على الاستشراف والاستطالع إن قدرة إلانسان على للمعرفة ،وإخضاعها إلمكاناته إلانسانية تتكامل كلها وتتضافر بالتحام صميم أصيل لتجعل من إلانسان وحده ّ سيد املخلوقات على صورة هللا ومثاله بالعقل والتوق الدؤوب لإلحاطة بأبعاد الال متناهي. ً إلانسان العاقل املدرك ال ّبد أن يكون مؤمنا بالحق والخير والقيم ّ ً العليا .ساعيا إلى إرواء تعط ش العقل والنفس بكل ما هو أفضل وأسمى وأقوى .املجتمع هو الكائن الحي الباقي ،الكائن السرمدي القادر على الخلق وإلابداع ،مدى تعاقب ألاجيال واستمرارها بالنمو والتطور هذه س َّنة الدين ودين كل رسالة صحيحة سليمة صالحة للحياة. ما أن برز الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الوجود حتى ّ هب ّ فريق املسحوقين تحت كابوس املخاوف التي تتآكل بصائرهم وتعطل في نفوسهم حقيقة إلايمان باملحبة والفضيلةّ ، هب فاقدو إلايمان هؤالء ليرموا الحزب بكل فرية باطلة م َّتهمينه بأنه ضد الدين .ألن الحزب يبغي تحرير ألامة ّ التعصب الطائفي ّ وهم ه تحرير املواطن من املفهوم السائد بجعل الدين من مجرد طقوس وتعاويذ ،يهيمن بها رجال الدين ّ ّ املتزمتون على عقول الناس، إذ يحسبون أنفسهم املصدر ألاوحد للدين وألاوصياء على جماعة املؤمنين ّ التعصب الحاقد الكافر باألخالق واملثل. ومالذهم ألاخير من حماة َّ هم ّ ُّ املتزمتين إثارة القلق وبث املخاوف بين أبناء الوطن الواحد من ّ أجل إشعال الفتن وإشغال الشعب بما ّ بتمسكه ّ بترهاتهم يدمره ويفرقه وأباطيلهم آلاثمة. ّإبان جولة الزعيم إلى الجمهورية الشامية خالل شهر تشرين الثاني ّ سنة 1748توقف الزعيم مل َّدة يومين في مدينة حماه ،حيث كان للحزب 211
ّ ّ تضم نخبة من شبان البلدة وتستقطب اهتمام خيرة منفذية فاعلة الرجاالت والعائالت العاملة في سياق الفكر والاجتماع .وفد الكثيرون من جميع الفئات والفعاليات للتعرف إلى الزعيم والسالم عليه .وقد عقدت له معهم العديد من الندوات والاجتماعات املوسعة ،تداولت فيها شتى ً املواضيع وألابحاث حول ألامة والحزب ،وتناولت أيضا معظم الاتهامات التي ّ تفش ت بين الناس منذ إعالن وجود الحزب سنة 1725لتعمل على تأويل ْ مبادئه وأهدافه على هواها .تلك الاتهامات التي أل صقها ألاجنبي املستعمر ّ بالحزب .يؤازره أعوانه وعمالؤه الضالعين بالتسكع ومن قطعان ألاغبياء النفعيين الذين يسهل الاستيالء على عقولهم وتضليل نفوسهم وجرهم صاغرين إلى التهلكة. ّ املشوهة كان من جملة الوافدين إلى الزعيم ،املأخوذين باإلشاعات لحقيقة الحزب ومراميه القومية ،جماعة من «إلاخوان املسلمين» جاءت ّ لتطمئن إلى حقيقة موقف الحزب من الدين ومن الرساالت السماوية ّ عامة. سأل أحد إلاخوان املسلمين الزعيم بش يء من التردد والتلعثم، وبحضور جمع غفير من الناس ،وبعد مض ي ما يقرب من الساعة والنصف على شرح تناوله الزعيم حول مفهوم القومية الاجتماعية :ما هو موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي من ألاديان وإلايمان الديني؟ أجابه الزعيم بهدوئه املعهود ّ وتأن يه اللبق املشهود في جميع املناسبات والحاالت « :نحن جماعة إيمان بالدين الحقيقي القائم على حقيقة الحق ّ ّ وبالبر والتقوى لخير إلانسان .نحن البناءة باملحبة والفضيلة ،العاملة باإلخاء نقدر املؤمنين الذين ّيتقون الحزبيات الدينية ويدركون حقيقة دورهم في توحيد النفوس والعقول وجمع القلوب من أجل مطلب السيادة والكرامة، مطلب الحق والخير والجمال لحياة املجتمع وازدهاره الذي ينشده الجميع.
211
ّ باتخاذهم ّ أي دين سماوي نحن نترك ألعضاء الحزب حرية املعتقد ّ ً إيمانا لهم .يمارسونه كما يشاؤون .ونطلب منهم التخلق بأخالق الدين ومناقبه الداعية إلى املحبة والفضيلة السمحاء .ألن الدين ،كما نفهمه ،هو باألساس عامل توحيد وتعاون نبيل ،ال عامل تفرقة وتباغض بين الناس .هو ّ ّ يجمع إلانسان إلى إلانسان بممارسة املثل والقيم التي تعلم العطاء وتلقن أخالق البناء والتقدم .ال يجوز لنا أن ّنتخذ الدين أداة تعصب وإكراه لتفتن بين الناس ،وتفتك بإنسانية إلا نسان ومناقبه السامية ،كما يفعل جماعة ممن يسمون أنفسهم رجال دين وتقوى ،هؤالء بعقولهم امللتوية ونفوسهم ً ً امللوثة يجعلون الدين معوال للهدم وموقدا للحرق وإلابادة الجانية التي ّ تجتث جذور الدين ،وتستأصل مآثر الرساالت الدينية ،وتشوه كل معانيها ومراميها ّ الخيرة الرائعة ألاغراض. املمزق القوىّ ، كل ما نصنعه نحن لهذا الشعب ّ املفتت العزائم؛ هو ً ً موحدة إلايمان وإلارادةّ ، واحدا .أمة واحدة ّ موحدة إعادة بنائه مجتمعا النفوس والصفوفّ ، موحدة الرؤية واملوقف من جميع الفضائل والقيم واملثل ،ومن جميع الشرور واملخازي وآلاثام ،التي تهدد وجوده وتقتلع من أعماقه كل معاني إلايمان ومطالب الدين الصحيح «ليس من سوري إال وهو مسلم رب العاملين ،فاتقوا هللا ،واتركوا تآويل الحزبيات الدينية العمياء؛ منا من أسلم هلل باإلنجيلّ ، فقد جمعنا إلاسالم؛ ّ ومنا من أسلم هلل بالقرآن، ّ ومنا من أسلم هلل بالحكمة .قد جمعنا إلاسالم ّ وأي د كوننا أمة واحدة ،فليس لنا من ّ عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا سوى اليهود». أفاض الزعيم في تشريح نظرة النهضة إلى الدين وموقفها من رجال ّ ّ بالتزمت والحقد ،وأفاض في كشف جوانب مهمة ألضرار واملتدينين الدين الطائفية على جوهر الدين وسالمة املجتمع .ثم ّ توجه إلى وفد إلاخوان املسلمين أمام جمهور الحاضرين :ما رأيكم أنتم برسالة الدين في املبدأ ،هل 212
الدين لإلنسان أم إلانسان للدين؟ فراحوا يجيبون على السؤال باهتمام بالغ .لكن سرعان ما توزعت آلاراء بينهم وتباينت وجهات النظر وتضاربت ً الاجتهادات حول املوضوع ،حتى التفت أحدهم الذي كان أقلهم كالما وأقلهم ّ والتفضل باإلجابة على حماسة إلى الزعيم ليطلب إليه إبداء رأيه في ألامر السؤال الذي طرحه على إلاخوان. أوجز الزعيم الجواب بقوله :ال شك أن الدين لإلنسان الذي يعمل بوصاياه وتعاليمه التي أوجدت فقط لتكون لخير إلانسان ،ومن أجل رفاهه وسعادته ،سواء في هذه الدنيا أو أي دنيا في عالم الغيب« .الدين املعاملة الخلق كلهم عيال هللا .وإن أكرمكم عند هللا أنفعكم لعياله»« .أحبوا ً بعضكم بعضا تأكلون خيرات ألارض» .الدين وسيلة لتشريف الحياة. ضد من ال يفهم معنى الدينّ ، نحن إذن ّ ضد ّ كل من يريد أن يجعل من ً ً ً ً نفسه مرجعا أخيرا مرجعا وحيدا ،يحتكر بواسطته معرفة الدين ،وتفهم ّ املتألهون ال دين لهم غير ّ فرديتهم ،لذلك نحن ندينهم أغراضه العليا .هؤالء بالتمرد على حقيقة الدين والخروج على حقيقة تعاليمه السامية.
212
ً بين ـ ـ ـما تضاعف العنـ ـ ـ ـ ـ ـاية باملتخلفين قوميا يس ـ ـ ـ ـتمر الع ـ ـ ـمل كاملعـ ـ ـ ـ ـ ـتاد لتدعـ ـ ـ ـ ـيم بن ـ ـ ـ ـ ـ ـاء ألاصحاء
كان العمل الحزبي على ّ أشده في مختلف املدن الداخلية الشامية في السنوات بين 1741ـ ـ 1747وكانت ّ منفذية حمص بالذات من أهم مراكز النشاط والانطالق للحزبّ ،إبان تلك الفترة .ومما كان يذكي الفعالية الحزبية هناك ،تكاثر عدد ألاحزاب ،من جهة ،واستمرار تصادمها ،من جهة ثانية ،في ْ ساحة التسابق لكسب الت فاف الرأي العام حولها ،خالل سنة 1748وقع في إحدى مديريات مدينة حمص حادث داخلي بين عدد من الرفقاء ّأدى إلى ّ تصدع ،ثم تفاقم فيما بعد .بين صفوف رفقاء املديرية عينها، حدوث ّ ّ ّ فأشغل وضع املديرية أجهزة املركز برمتها مدة شاقة وغير قصيرة .فاتخذت حياله مختلف التدابير ّ وشتى الوسائل الحزبية بغية إعادة الرفقاء إلى حالتهم الطبيعية من الانضباط والتلبية النظامية .وبينما مشكلة املديرية املذكورة ً ً تزداد تعقيدا وتبلبال بين ألاعضاء ،كانت تنهال على املديرية طلبات الانتماء من املواطنين الراغبين في دخول الحزب ،ألن قوة الحزب ع َّامة وحسن 214
سمعته لدى الرأي العام ،كانت تجعله مركز جذب وإقبال الجميعّ ، لكن الحالة الداخلية للمديرية لم تكن تدعو إلى الارتياح ،وال ّ تشجع على استقبال ّ طالبي الدخول إلى الحزب ،ألامر الذي أوقع عمدة الداخلية في املواطنين حيرة وارتباك من أجل الوصول إلى التوفيق بين الحالين. لذلك لم يكن من الرجوع إلى الزعيم ّبد لحل املشكلة الناشئة والناشبة في جسم املديرية ،بالرغم من تراكم أشغاله وإلحاح مهماته تلك ً ً ً ألاثناء .فرفعت ،بوصفي عميدا للداخلية تقريرا مفصال باملوضوع الشائك. ّ ورحت في تقريري أتساءل عما يمكن عمله بشأنه ،دون أن يتخلل عرض ي للمسألة أي اقتراح عملي أو وجهة نظر تساعد الخروج من ألازمة التي كنت أعاني منها ّ ألامرين دون جدوى. ما هو العمل الذي يفض ي إلى استيعاب طالبي الانتماء إلى الحزب ّ املهد د لوجودها كوحدة وإنقاذ املديرية ،بالوقت نفسه ،من التفكك نظامية؟ ّ تسلم الزعيم تقرير عميد الداخلية .فكان التقرير كأنه وصف لكارثة، أو هو بمثابة استغاثة ملهوف يوشك على الغرق ،يرسلها قبيل أن تبتلعه أعماق اللجة الظاملة .ثم دعاني إلى مكتبه لالجتماع به بعد ساعتين من حينه ،على أن أصطحب معي ملف املديرية مع بيان خطي بجميع الخطوات التي كنت قد قمت بها من أجل معالجة املوضوع املطلوب حله. وقابلته في املوعد أحمل إليه جميع ألاوراق واملستندات التي يود الاطالع عليها .فأخذ يطالع التقارير الواردة إلى العمدة بشأن املديرية ،مع ما قامت به ّ منفذية حمص من تدابير ومعالجات إزاء تلك املديرية التابعة لها. ّ ثم اطلع على ماهية إلاجراءات التي قامت بها العمدة بدورها .وقد تركز اهتمامه على ما اعتمد ملعالجة مسألة املواطنين طالبي الانتماء إلى الحزب، 215
ً عندئذ بادر الزعيم إلى توجيه أسئلته أو تساؤالته إلى العميد طالبا إلاجابة ٍّ عنها :هل يفصل املخالفون عن جسم الحزب ،وهم أكثرية أعضاء املديرية ّ وتحل املديرية كي يصار إلى إلحاق بقية أعضائها بمديرية أخرى؟ ً َّ هل تشكل املديرية من ألاعضاء الصالحين مضافا إليهم ألاعضاء ً الجدد في الحي نفسه بعد أن ّ يتم فصل غير الصالحين نهائيا؟ ً هل يسمح بإيقاف إلادخال إلى الحزب ،ولو مؤقتا ،ريثما ننهي تدابيرنا إلادارية داخل املديرية؟ أم يفسح باملجال إلطالع العضو الجديد على أوضاع ًّ املديرية ّ املتردية؟ هل ّ سرا تؤمن هذه التدابير أو بعضها إبقاء مشكلة املديرية ً ال ّ يتعدى معرفة أعضاء املديرية أنفسهم حرصا على هيبة الحزب ومعنوياته ّ للمستحقين من في الخارج وداخل الصفوف ،مع تأمين دخول الحزب املواطنين دون إبطاء؟ كيف سيواجه هؤالء الجدد الوضع الز ّري القائم في املديرية ،وكم سيصيب روحيتهم املتوثبة من أذى إزاء ذلك؟ كيف العمل إذن للخروج باملديرية من حالتها الشاذة ّ بأقل أضرار ال تعيق مسيرة العمل الحزبي الناشطة في حمص ،خاصة والصراع مع بقية الفئات وألاحزاب على أش ّده؟ امتنع الزعيم عن تقديم إلاجابة عن ألاسئلة التي توجه بها إلى عميد ً ّ التأمل بها ،والسعي بنفسه إليجاد الحلول الالزمة، الداخلية ،تاركا له والاهتداء إلى املعالجة الناجعة الضرورية .ولم يشأ الزعيم أن ّ يسهل مهمة ً العميد ويختصر الطريق عليه بتلقينه الحل املطلوب وتحميله إياه جاهزا للتطبيق ّ الهين ،إنما تداول مع العميد جميع الحلول التي تخطر على البال، ّ ً ْ حصلت متوجها بها نحو ألافضل وألاجدى إلى أن وراح ين ّقحها ويص ّوبها ً وكنتيجة للحوار الذي أخذ بها أخيرا ووضعت موضع التنفيذ وهي: 211
ّ ً ـ ـ يقبل املواطنون الصالحون لالنتماء إلى الحزب أوال ،ثم تشكل منهم وحدة حزبية ويظلون إلى حين ،أعضاء سريين عن آلاخرين. ـ ـ بينما تستمر معالجة أوضاع املديرية التي تعاني مشكلة داخلية ،ينقل ً السرية ّ ّ املكونة من ألاعضاء منها تباعا ألاعضاء الذين يصلحون إلى الوحدة ً الجدد ويمارسون معا واجباتهم الحزبية. ـ ـ إذا كان ال ّبد من فصل من يستعص ي إصالحهم فيتم ذلك ،في حين
تكون الوحدة الجديدة قد أنشئت بمعزل عنهمّ ، وضمت الجدد مع نخبة من الرفقاء القدماء ،هكذا تنقل الحجارات الصالحة إلقامة البناء الصالح ّ وتتم ً سريعا عملية هدم الفاسد. ً بهذه الطريقة الصحيحة نكون كأننا نقلنا املديرية الواحدة تدريجيا ّ من مكان إلى آخر مع التخل ي عن غير ألاصحاء ،ويتواصل العمل الداخلي والعمل بين املواطنين على ّ كل ألاصعدة النظامية.
219
خط الفكر السـ ـ ـ ـ ـوري حقيقة بارزة في تاريخ الف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكر سعاده
قام الزعيم بجولة إلى فروع الحزب في الجمهورية الشامية استغرقت ً ً شهرا ونيف سنة 1748وقد دعي إبان هذه الزيارة مرارا لاللتقاء بمواطنين ً في بيوت الرفقاء ،فضال عن عقد الاجتماعات العامة والندوات الثقافية للقاء مع عدد من الشبان وإلقاء املحاضرات .في دمشق دعاه أحد الرفقاء ٍّ ً ّ املثقفين ال يتجاوزون الثالثين شخصا عدا الرفقاء الذين أتوا بصحبة الزعيم. ّ متعددة عن مبادئ الحزب وأهدافه وعن تخلل هذا اللقاء أبحاث مواقفه التاريخية التي تدل على مدى تطبيق الحزب للمبادئ والعمل ّ الدؤوب على ترسيخها في صفوف الشعب .وقد توقف الزعيم عند شرح مراحل حرب النهضة ضد الرجعة والرجعيين وما يشكل هؤالء من عثرة وعقبة تجاه مسيرة ألامة وانطالقة النهضة ،في التحرير والبناءّ ، ثم خصص بعض الوقت لإلجابة على ألاسئلة .وكان من أهمها ما يتعلق بشطر ألامة املغترب في ّ شتى أنحاء املعمورة وأهمية الدور املنوط باملغتربين وما يترتب عليهم لإلسهام في دعم النهضة والبذل املعنوي واملالي إلنجاحها وانتشارها في 218
الوطن وعبر الحدودّ . خاص ة وللحزب في مختلف املغتربات ركائز أساسية من رفقاء وأصدقاء عاملين بجد ونشاط في صفوف النهضة. استمر الاجتماع حتى ساعة متأخرة من الليل ،ثم أخذ املدعوون ً ينصرفون تباعا ولم يبق مع الزعيم سوى القوميين الاجتماعيين ومواطن واحد هو محام شاب وموظف مدني في وزارة الدفاع الشامية آنذاك .ومن ً أقرباء الرفيق صاحب الدعوة ،وبينما كنا نتناول شيئا من الفاكهة ّ متحلقين حول الزعيم ،توجه املواطن ألاستاذ ّ خباز بسؤال إلى واملرطبات حضرة الزعيم «لقد ورد في كالمك أكثر من مرة ذكر للفلسفة السورية ّ وخط الفكر السوري من دون إعطاء إلايضاح عن هذه النقطة .فهل هناك ّ فلسفة سورية ذات خصائص مميزة وخط للفكر السوري له مزاياه جلي واضح ّ ومعامله؟» أجابه الزعيم أجل للفكر السوري خط ّ يميزه عن سواه في الفلسفة والفن والعلم وفي ّ شتى شؤون الفكر .وليس آلان مجال إلافاضة في بحث هذه املسألة املهمة وإبراز دقائقها والشواهد على تفوقها وعراقه أصالتها بالنسبة إلى سائر الحضارات ومفاهيمها لدى ألامم جمعاء. وإني أوجز لك ما يلي: ً ً أوالّ : تميز الفكر السوري إجماال بالنظرة املوضوعية العملية إلى شؤون الحياة والوجود في محاوالت الفكر السوري الكشف عن أصول املعطيات التي تشتمل عليها هذه النظرة ،كابتكار ألارقام الحسابية والحروف ألابجدية، ً مثال ،وإقامة إلانشاءات العمرانية من مدنية وعسكرية ودينية وتنظيم القوانين والتشريعات العامة والخاصة لجالء أسس العالقات بين أفراد الشعب وبينهم وبين املؤسسات العامة الحكومية منها والشعبية. ً ثانيا :الانكباب على استخدام معطيات البيئة الطبيعية الخام في حقل الر ّي كفتح الترع وإقامة السدود ،وحقل الزراعة والهندسة والتجارة وما
217
ّيتصل بهذه املشاريع من أصول املعامالت والعقول والعالقات الداخلية والخارجية من الوجهة الاقتصادية املالية. ً ثالثا :إشغال الفكر باالهتمام الفني في طبيعة البيئة الجمالية وفي ألوانها وألحانها وموحيات ما فيها من منابع الروعة والجمال سواء في عالم النبات والحيوان والطير والجماد ،أنتج الفكر السوري أروع املالحم الشعرية ّ ّ وألاساطير الدقيقة الوصف ،البالغة الدقة وإلاشراق في تدفق الخيال ورقة ّ ّ التأمالت الفكرية في رحاب الوجود وما ينطوي عليه من املشاعر وتألق غرائب الكنوز العجيبة. ً رابعا :الالتفات العميق إلى أهمية الرحالت الكبرى حول القارات البعيدة لكشف املناطق الجديدة واستثمارها الاقتصادي والعمراني وإلافادة ً ً من أهمية مواقعها العسكرية عمليا وفنيا سواء أثناء الحروب الكبرى أو ّإبان الانتفاضات الداخلية التي كانت تتعرض لها السلطة الحاكمة .منذ أعرق عصور التاريخ بنى السوري القالع والحصون وصنع أدوات القتال ووضع الخطط الرائعة للحروب ،وما تزال هذه مراجع قيمة للفن الحربي حتى يومنا هذا .وقد كانت الجيوش السورية بتنظيمها وانضباطها وتجهيزاتها َّ مضرب املثل ومحط إعجاب العالم القديم منذ فتوحات بابل وأشور وصيدا وصور وقرطاجة .وقد قامت القوى السورية بالفتوحات الكبرى ّ وعلمت العالم القديم والحديث كيف تساس ألامم وتحكم الشعوب وتستثمر موارد الطبيعة وثرواتها ّإبان السلم وأثناء الحروب ،ناهيك عن صناعة السفن وإنشاء املدن البحرية في أدق املواقع الاستراتيجية من الناحية الاقتصادية ،التجارية والناحية العسكرية القتالية. ً ّ ً ً خامسا :وقد ّ تفوقا بارزا في صالبة الصمود سجل تراث الفكر السوري والعناد بإخضاع الشعوب التي كانت تحاول الاعتداء على مصالح ألامة
211
ومواردها أو على أمنها وسالمتها .وكيف كانت سورية تعلم تلك الشعوب وتتعهد تطويرها وإنماءها .وبين أيدينا لآلن ،في متاحفنا وآثارنا ،ومتاحف كثيرة لدى معظم أمم العالم ما يدل على ّ تفوق الفكر السوري في الفنون والفلسفة والعلوم والتي ما تزال أسسها خالدة باقية لتشهد على مرور الزمان لألصالة السورية وخصب قدرتها على إلابداع والعطاء والبناء. ما كاد الزعيم يصل إلى هذه النقاط من البحث في تبيان ما أسماه خط الفكر السوري وماهية الفلسفة السورية عبر عهود التاريخ القديم حتى ّ تنفس ألاستاذ ّ خب از الصعداء كمن أفلت من كابوس محكم الضغط على عنقه .ثم بادر إلى التعليق على حديث الزعيم وقال «هل يعقل أن يحدث كل ّ ً هذا الفكر قي بالدنا؟ أنا لم أسمع شيئا عن خط الفكر السوري والفلسفة السورية قبل اليوم» ّ كأن حدود معرفة ألاستاذ ّ خباز ودراساته هي حدود الحقيقة وتحديد ّ لصحة الوقائع وقيمتها ونطاق الصواب في تأريخ الفكر. عند ذلك خطر لي سؤال مهم ،ورأيت مناسبة توجيهه إلى ألاستاذ خباز، ّ فالتفت إلى حضرة الزعيم أستأذنه بتوجيه السؤال ،ولدى موافقته قلت ّ لألستاذ خباز «هال عرفت والدي يا أستاذ ،أو عرفت عنه أي ش يء؟» فأجاب ً ً مؤكدا بكل ّ جدية عدم معرفته له .وفي الحال رفعت صوتي معلنا، بالنفي «بما أنك يا أستاذ ال تعرف والدي فأنا إذن مولود بصورة عجيبة من دون ً أيضا ال تعرف والدتي بالتأكيد فأنا كذلك من دون أم»ّ . فتأمل والد .وألنك ّ ً ً كيف يكون هذا ألامر معقوال وقابال للتصديق وهل تفوق غرابته وجود خط للفكر السوري. ً ذرعا من ّ تفوق ألاستاذ ضحك الزعيم بملء رئتيه بعد أن كاد يضيق ّ خباز بمادة الغباء والسخافة وقال له «كان الزم نبحث معك «هيك» على طريقة ألامين إلياس».
211
هالك ـ ـ ـ ـ ـ ـرس ي ما بتخص إلي ـ ـ ـ ـاس جـ ـ ـ ـ ـرجي ابن قنيزح ،بتخص حضرة عميد الداخلية سعاده
ً مستودعا يختزن فيه املرء ّ مخبآت ألامس بإرادته ليعود ليست الذاكرة ّ إليها ساعة يشاء ولدى حاجته إلى مدخراتها .ليست ألارشيف املجهز باملحفوظات والوثائق يستنطقها الباحث من أجل الحصول على املراجع الالزمة ملعالجة موضوع مطروح .الذاكرة طاقة نفسية عقلية كالخيال والعاطفة والنباهة والشجاعة وسواها من خصائص النفس إلانسانية .تمتاز بمخزونها من ألافكار والصور واملشاعر وامليول وبمرونتها في تلبية ما يطلب منها أو ما تقدمه هي من تلقائها .وتعبر بطبيعتها عن حاجات النفس وعن عميق ميولها واستعداداتها الفنية الفكرية وعن صميم مفاهيمها املناقبية ألاخالقية ألنها تلتقط ما يتجاوب مع مؤهالت إلانسان ومواهبه في تعامله مع ألافكار وألاشياء والناس .وهي لذلك ّ تدل على إلانسان نفسه ،على نظرته إلى الحياة وإلانسان والوجود ،على أسس مفاهيمه في شتى شؤون الفكر والسلوك ،وعلى منطلق مواقفه من ألاعمال وألاحداث وإلانسان.
212
ذاكرة ذوي النفوس الكبيرة ال تحفظ الذكريات عينها التي تدخرها ً ذاكرة ذوي النفوس املجرمة الدنيئة ،بل تختلف عنها كليا كاختالف مضامين لكل ذاكرته وذكرياته كما أن ّ كل منهما النفسية املناقبيةّ . لكل مقدراته ٍّ ٍّ ً وإمكانياته املادية النفسية يتداولها عفويا في العمل والتعامل ،في التفكير والتأمل ،في تصوراته وأمانيه وأشواقه وفي مخاوفه ومخازيه .يسع إلانسان تحليل مستحضرات ذاكرته وتفهم مضامينها وأبعادها التي تقدمها له كما يمكنه استخدام مواردها ومحاصيلها في مجاالت الغرس وإلانماء والتطوير ْ وما عليه إال أن ي ْستنبت خصوبتها. قام الزعيم بجولته إلى الجمهورية الشامية بين الثالث من تشرين الثاني إلى العاشر من كانون ألاول سنة 1748وكانت مرافقتي له فرصة رائعة ّ أنارت أمامي الكثير من سبل املعرفة والاختبار الثمين .تعلمت من تلك الرحلة ّ أشياء جديدة ّ وصح ح لدي الكثير مما برمتها بالنسبة ملعلوماتي السابقة، أظنه معرفة صحيحة قبل ذاك ،كما ّ كنت ّ تلقنت الدروس العملية في السلوك والتعامل املطابق ملفاهيم النهضة وتقاليدها .من هذه الدروس ما ً كنت أجهله تماما ومنها ما كنت أهمل الاهتمام به العتقادي أنه قليل ألاهمية ال يستوجب دقة الاعتناء واملمارسة. حين زار الزعيم مدينة طرطوس ،مكان مولدي ،توافد إليه جمع غفير من املواطنين بينهم شخصيات سياسية مما يقال أنها مرموقة ،قاصدين التعرف إليه والاطالع على آرائه خاصة حول شؤون الساعةّ . وأهمها صدور قرار تقسيم الجنوب السوري ،فلسطين .وكان ّ همي آنذاك .وأنا في طرطوس، أن ّ أعتز بزعيمي أمام أهل بلدي وأفاخر بنفس ي كعميد للداخلية برفقتي له في الحل والترحال ،كما ّ أعتز بأبناء بلدي إزاء زعيمي .وقد حضر لزيارة الزعيم ،ذات يوم نائب طرطوس رياض بك عبد الرزاق وهو قومي سابق ً تخلى عن الحزب متوهما أنه ضد العروبة منذ أواخر سنة 1721وكان 212
ً برفقته رهط من وجهاء البلدة ممن أعرفهم جيدا وأعرف ميولهم السياسية ومواقفهم من الحزب ،منهم الخصوم ومنهم املعتدلون وهم بالطبع من أنصار النائب .ما أن تقدم رياض عبد الرزاق إلى مصافحة الزعيم حتى ّ سارعت إلى التخل ي عن مقعدي إلى يمين الزعيم وأجلسته مكاني .وكنت أقصد التعبير عن عميق اهتمامي الالئق به وكي أتيح له مجال التحدث إلى ّ ً حضرة الزعيم والتداول معه مليا بما يروق له عن كثب ،عله يعود إلى صوابه القومي الاجتماعي بتأثير شخصية الزعيم والاستماع إلى أبحاثه. بعد انقضاء النهار وانصراف الناس جميعهم دعاني الزعيم إلى غرفته. ً وكثيرا ما كانت تحدث مثل هذه الخلوة ليستوضحني الزعيم بعض ً عميدا للداخلية ،أو ليكلفني ّ بمهمة معينة تقتض ي سرعة املعلومات بوصفي التنفيذ أو ليوجه ّ إلي مالحظة اقتضتها تصرفات خاطئة بدرت مني .وكانت آنذاك إلبداء مالحظة في تصويب سلوك محدد .وقد استهل كالمه بقوله: ّ بتخص الياس جرجي ابن قنيزح هي لحضرة «هالكرس ي إلى يمين الزعيم ما عميد الداخلية ،وال يمكنك تقديمها إلى نائب طرطوس هبة ّ مجانية إال إذا ّ ً ً كانت لديك صالحية تعيينه عميدا للداخلية» .فابتسمت مرتبكا ألنني تعلمت ّ ّ وأتصرف كمسؤول حزبي حتى بأبسط ألامور واملواقف والحاالت أن أفكر ً ً ّ ّ أتصرف كفرد عادي يمثل ملزما نفس ي دائما بمفاهيم الحزب وتقاليده ال أن شخصه على طريقته ّ ويعبر عن اعتبارات ولياقات محلية من خارج مفاهيم النهضة مستمدة من مجامالت خصوصية .بعد يومين من تاريخه بدأت زيارتنا إلى مدينة صافيتا .وصادف آنذاك وجود مأتم حافل ألحد وجهاء البلدة حضره حشد مزدحم من الناس .وقد افق املأتم وفد من ّ منفذية ر صافيتا ّ وتقدم بالتعازي آلل الفقيد باسم الحزب والزعيم .بعد املأتم ّ توجه الكثير من الحضور لزيارة الزعيم في منزل الرفيق يوسف خوري .وكان في ّ مقدمة الوافدين عدد من املطارنة الذين شاركوا في املأتم .لدى استقبالهم 214
في مدخل الغرفة حاول أحد املطارنة الجلوس في املقعد املخصص لعميد ً الداخلية إلى يمين الزعيم فسبقته إليه سريعا واتخذت مكاني املختص دون تردد ،وال كياسة قروية هذه املرة .فبادرني الزعيم بالتفاتة عاجلة .وابتسامة رقيقة دقيقة التعبير تعلو ثغره ّ وتنم عن ارتياح ظاهر يعيد إلى الذاكرة ما حدث مع رياض عبد الرزاق الطرطوس ي. ّ انقضت أيام وسنون مكتظة باألحداث وألاهوال مفعمة بالهزائم والانتصارات وظل نوع من الناس ال ّ يفرقون بين القضية وألاشخاص ،بين العقيدة وشعارات الغوغاء ،بين مواقف السياسة التي تخدم غاية والسياسة التي تخضع إليها كل غاية عامة « كأنها مهنة خاصة يحترفها بعض ألافراد ويحتكرون بواسطتها النفوذ وتقرير مصير الشعب» خدمة ملنافعهم الخصوصية ويدعونها عقيدة .هؤالء الناس جعلوا ّ يسمون حزبنا «جناح ً قنيزح ،أو جماعة قنيزح» ،الحزب السوري القومي الاجتماعي العامل أبدا لترسيخ أسس منطلقات النهضة السورية القومية الاجتماعية بفكرها العقدي وفعلها املناقبي في النفوس والعقول من أجل حياة ألامة السورية والوطن السوري ورقيهما .وقد أوقف سعاده نفسه لهما وبذل لقضيتهما حياته ودمه.
215
الـم ـ ـ ـ ـهم أن ال يذبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الـم ـ ـ ـ ـ ـرء عجل جـ ـ ـ ـ ـ ـاره سعاده
حرص الزعيم ّإبان جولته الحزبية إلى الشام سنة 1748على إجراء اتصاالت واسعة وعقد الاجتماعات املتنوعة بمواضيعها وأبحاثها وأغراضها. من هذه اللقاءات ما حصل مع مواطنين من صميم الشعب العامل ومنها ما ّ تم مع فئات متعلمة أو مثقفة من بين رجال الفكر ومحترفي السياسة وسواهم .هذا باإلضافة إلى ّ تفقد الزعيم لسير العمل الحزبي في مختلف الفروع التي زارها وتعرف إلى أعضائها عن كثب .تخللت هذه الاتصاالت والاجتماعات كلها شتى ألابحاث وألاحاديث والتوجيهات عالج فيها الزعيم أهم شؤون الساعة وأدق املواضيع القومية الاجتماعية وأهمها في بناء املجتمع وتأسيس مفاهيمه واتجاهاته ومواقفه العملية املسؤولة .وقد و ّجهت للزعيم خاللها العديد من ألاسئلة عن معنى العقيدة القومية الاجتماعية وأهدافها وما يتصل بالنظرة الفلسفية للحزب ،النظرة الكلية إلى الحياة والكون والفن .تلك النظرة الجديدة التي أشغلت الناس منذ بدء إعالنها وما
211
تزال لآلن مدار اهتمام طالب املعرفة ،ورجال الفكر وموضع دراستهم ّ ماهيتها ومصادرها ومدى شمولها ملدارك الفكر وخصائص وتنقيبهم عن النفس إلا نسانية ،وخاصة عن مجاالت توافقها أو تباينها بالنسبة لسائر الفلسفات والنظرات .وقد اشتملت هذه ألاسئلة على الكثير من الاهتمامات ً الجدية والعمق أو من حيث ّ املتفاوتة إن من حيث ّ الخفة والسطحية تبعا لتوزع فكر شبابنا بين خليط من املعطيات واملفاهيم الثقافية العلمية ً واملناقبية النفسية التي تصدر إلينا وتفرض علينا فرضا. ففي مدينة الالذقية حيث توجد ّ منفذية للحزب تميزت بانتشارها الواسع ومكانة أفرادها بين املواطنين ،زار الزعيم وفد من حركة الشبيبة ّ ّ ألارثوذكسية ضم مجموعة من الشباب املتعلم واملتعطش لتحصيل املعرفة ّ والتعمق في دراسة عقيدة الحزب وغايته .وكان من بين هؤالء أصدقاء للحركة السورية القومية الاجتماعية معروفون بمتابعتهم الوثيقة للمواضيع القومية والعقائد الاجتماعية .غير أن تأييدهم للحزب قد تعرض للوهن وخالطه بعض الشك بل العتب املرير إثر طرد فايز صايغ من صفوف الحزب ًّ ظنا منهم أنه استحق عقوبة الطرد بسبب موقف فكري من تعاليم الحزب ونظامه .خاصة وقد كان لفايز صايغ لقاءات صميمة مع حركة الشبيبة ألارثوذكسية في بعض الجوانب الفكرية املرتكزة إلى معطيات فلسفية صادرة عن املفكرين املعروفين بردياييف وكركيغارد وهما من مراجع الفكر ألاساسية لدى الحركة ألارثوذكسية. لقد كان وفد الحركة ألارثوذكسية يحمل في جعبته إلى الزعيم ،كما تبين ،مجموعة ثمينة وطريفة من ألاسئلة واملالحظات وقبضة ّ قيمة من ألابحا ث والاقتراحات حول قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي وشؤون العمل القومي عامة .بدأت جولة تمهيدية مقتضبة من ألاحاديث املتنوعة مقبالت ّ كانت بمثابة ّ شيقة لإلقبال النشيط على الوليمة الشهية ثم دار 219
الحوار حول ألاسباب املوجبة لطرد فايز صايغ من الحزب بعد أن كان في ً ً ً مرحلة سابقة عضوا بارزا في الحزب بنشاطه وإنتاجه ثم صار عميدا للثقافة ولإلذاعة خالل فترة غير قصيرة من وجوده في الحزب .فأوضح الزعيم للوفد ألاسباب الحقيقة التي أودت بفايز صايغ إلى الطرد ّ وفند ً العوامل كلها التي أوجبت معاقبته مؤكدا عميق أسفه ملا حصل له وانتقل الحديث بعد ذلك إلى تداول أبحاث عامة وهامة تتعلق بعقيدة الحزب السورية القومية الاجتماعية ،أساس منشأها وأصول نظرتها الكلية إلى الحياة والكون والفن .وتناول الحديث دقائق مفاهيم النهضة السورية القومية الاجتماعية بكامل أطرها وجذورها ألاصيلة في النفسية السورية ً ً وعمق تاريخها الحضاري ذات الخصائص املميزة واملتفوقة فكرا ونهجا في إبداع كل فن ،كل علم وكل فلسفة للعالم بأسره .تشعبت الشروح في العقيدة ومضامينها املادية النفسية واتسعت مجاالت ألاسئلة إلى أن انبرى فجأة أحدهم بتوجيه سؤال طريف إلى الزعيم. «كيف يكون ملجتمع ما نظرة واحدة كلية شاملة إلى الحياة والكون والفن؟ هل من املعقول واملمكن أن يحدث هذا ألامر ألي مجتمع في العالم؟ ً ً فمثال ،لو فرضنا أن ألحد من الناس عجال يعبده ويؤلهه بإيمان عميق وقناعة تامة .وهو ،بالتالي ،ال يسمح ألي كان أن يمسه بأدنى إزعاج أو أذى ً على إلاطالق .بينما يقطن بجوار هذا املؤمن امرؤ لديه عجله أيضا ،لكنه ال يعبده بل هو بنظره كسائر الحيوانات قد وجد لخدمة إلانسان ونفعه وله أن يتصرف بمصيره كما يشاء .فما العمل للتوفيق بين موقف الاثنين من ً ً العجل .أحدهما يعبده إلها والثاني يذبحه طعاما له .هذا في أبسط الحاالت ناهيك عن إمكان التقائهما في نظرة واحدة كلية إلى سائر شؤون الحياة ً والوجود؟» ،قبل أن ّ يهم الزعيم لإلجابة على هذا السؤال حاولت عبثا بيني ّ ّ التفت إلى الزعيم أتصور ما يمكن أن يكون جواب الزعيم. وبين نفس ي أن 218
فألفيته يبتسم وهو يجول بنظرات مستغربة في الوجوه املحيطة كأنه يفتش ً عن مفقود أو فقيد عزيز متواريا بين أحداق العيون الشاخصة إليه بأنفاس ّ ّ والتريث اكتفى الزعيم بالجواب التأمل متأرجحة .إثر لحظة عابرة من ً املقتضب «املهم أن ال يذبح املرء عجل جاره» وساد الصمت باحثا في السكون عن املعنى لعبارة الزعيم التي أحدثت لدى الحضور صدمة من ً الاستغراب والحيرة ال ّبد من جالئها والتفريج عنها .ثم أردف الزعيم شارحا ّ الكلية الشاملة إلى الحياة والكون والفن ال تلغي ّ تعدد جوانب ّأن النظرة الرؤى بل تعني بإطالق القدرة على الخلق وإلابداع وهي ترى ضرورة التباين وأهمية النقاوة في ّ تعدد وجهات النظر خاصة فيما يتعلق بالتفاصيل ّ ّ والتبدل بطبيعتها الجزئية. للتغير والجزئيات واملشتقات أو الروافد القابلة ّ مهمة النظرة املدركة لوحدة املصادر وراء كل املظاهر والحاالت هي أن توحد قواعد الانطالق ومراكزه ألاساسية في اتجاه واضح لنؤسس حياة جديدة أفضل ونحقق للمجتمع الواحد شمول النمو وكلية القدرة على التطور ً والتكامل .لذلك ال تفرض النظرة القومية الاجتماعية على أحد موضوعا ً ملعتقده أو أسلوبا ملمارسته له وال تلزمه بنمط جامد من الفهم والسلوك ً يجعله صدى لغيره أو تكرارا لسواه في مواجهة كل شاردة وواردة .نظرتنا الواحدة للحياة وإلانسان ّ تحرر هذا إلا نسان من تفلت الفوض ى وكابوس الجمود ومن ميوعة الضياع في خضم املغريات والنزوات الفردية التي تعبث بكل وجود حقيقي لشخصية املجتمع ومثله وتعرقل وحدة كيانة ووحدة مصيره. «املهم أن ال يذبح املرء عجل جاره» .تعني أن من يعبد العجل هو ّ حر في التصرف بعجله وكيفية التعامل معه .كذلك ملن يود أن يجعل من عجله ذبيحة لوليمة كامل الحرية املطلقة فليس ألحدهما أن يمنع عن آلاخر حق ّ ممارسة الحرية سواء ّ بملكيته الخاصة .ما دامت حرية العبادة أو التصرف 217
ً ً ً هذه الحرية حقا عاما ال تس يء إلى املصلحة العامة وال تحرم أحدا من أي حاجة مشروعة أو حق يناله بأخالق واحترام لحق الغير وحريته. ّ الحرية وحق ممارستها البناء إال من صميم النظرة إلى الحياة وما والكون وإلا نسان والفن والحقيقة وفي أساس هذه النظرة الجديدة ومفهومها ملعاني الحرية والواجب والنظام والقوة من أجل حق ألامة في الحياة وحقها في السيادة والكرامة.
221
إن العدالة ،وإن أخـ ـ ـ ـ ـطأت ،ال تكابر ،إنمـ ـ ـ ـ ـ ـا تعترف وتصحح بكبر
«لم يأتنا سعاده باملعجزات والخوارق ،بل أتانا بالحقائق التي هي ّ ّ بتفوقها التاريخي الفذ نحن» .لقد كشف لنا حقيقة ألاصالة السورية ّ ّ التحرر والانطالق متغلبة على الويالت والنكبات ،دعانا بقدوة وقدرتها على عبقرية إلى الثقة بأنفسنا والوعي لحقيقتنا أمام الحياة والعالم بأسره .كان ً ً ً تأكيده قاطعا على أن الحقيقة السورية ليست أمرا واقعا بقوة املعجزات والخوارق إنما كونت ذاتها ألاصيلة بقدرة العقل الخارقة التي تغير وحدها وجه التاريخّ . وتحول مجرى حياة الشعوب الحية الجديرة بالنهوض« .العقل ّ قوة إنسانية فاعلة تقدر أن تعي الحقائق وتفكر وتقصد وتعمل .وال ش يء ً مطلقا يمكن أن يعطل هذه القوة ،ألاساسية وهذه املوهبة ألاساسية لإلنسان» .ولرسالة إلانسان إلى الحياة والوجود التي هي رسالة إلابداع ّ ْ ْ ص يعيق تجليها وامتدادها. والتفوق والانتصار على املجهول وكل مستع ٍّ فالعصمة هي لقضية العقل وحدها قدرة «التمييز باإلدراك ملا هو أفضل.
221
فيقرر العقل من ذاته وبذاته ما هو املصير ألافضل وألاجمل لحياة إلانسان» وحياة أجياله الطالعة التي لم تولد بعد. ّ يحذرنا من ّ مغبة الوقوع في شرك التأليه لإلنسان وفي براثن كم ّ التصور التائه أنه قادر على فرض الال معقول والال واقعي ،بغية الانتصار على واقعية املدرحية تشمل مقوماتها جميع طاقات التحقيق والتجسيد إلانساني ملدخرات الكون وإمكانيات الوجود .كي ال نتعرض لفقدان الثقة بمواهبنا وال نستسلم ّ مكبلين مبهورين أمام أفذاذ العباقرة .أننا ال نتراجع عن ّ مواجهة املوهوبين بأفعال العقل وإلارادة .مهما بلغت مؤهالتهم من التألق ّ وإلاشعاع الخالب .لسنا نتورع عن مخالفتهم أو تجاوز تفوقهم العبقري إذا قضت قدرة املعقول التي تقوى على إلاحاطة بما في الوجود من حق وخير وجمال ،وعلى إلاطاحة بكل ما يعترض العقل من عوائق ،من أجل أن يحقق ّ التفوق ذات الدعائم الراسخة ألاسس إلانسان السيادة بعقالنيته الفائقة واملنائر الشامخة القمم .ألننا إذ نؤله إلا نسان ،نحكم عليه بالجمود ونلزمه بالوقوف عند حد يفقده حق الخطأ ،وبالتالي يحرمه من حق النمو والتطور والارتقاء ،ومن موهبة التمتع بمآثر املاض ي وروعة ذكرياته ألاخاذة .نحن نسلبه طاقة املعاناة الراهنة ملعطيات الحاضر ولتأمالت الغد وحوافز آماله وجميعها تشد باإلنسان إلى تجسيد إلايمان بخير ألاعمال وألافعال في عالم الواقع ومشاتل حقول ألاجيال آلاتية .نحن إذ نخطئ نعرف أننا نخطئ لعجز نعانيه وأن « لنا الحق في الخطأ كما لنا الحق في الصواب» ،لذلك نحن نتقدم ونرتقي بوعينا حقيقة الخطأ وحقيقة الصواب التي نتعلمها ونمارسها في أصول حياة الحرية والواجب والنظام والقوة .حياة إلادراك والتمييز والعمل الصحيح ،حياة الانعكاف من العتيق البالي وإلاقدام لالعتناق الجديد املحرر.
222
ّإبان جولة سعاده إلى الجمهورية الشامية املمتدة من الثالث من تشرين الثاني إلى العاشر من كانون ألاول سنة 1748تناول اهتمام الزعيم شؤون العمل الحزبي وأوضاع الحزب الداخلية في شتى حقول املسؤوليات ً واملؤسسات القومية .فضال عن اتصاالته باألوساط الفكرية من طالبية وسواها واتصاالته باألوساط السياسية .وقد كانت هذه ألاوساط تنظر إلى الحزب نظرها إلى فتى يافع ال يخلو من ّ مؤهالت .يحاول أن ينطلق بقدرة معينة إلثبات وجوده وتوكيد أهميته إذا استطاع .لكنه ما يزال حتى ذلك الحين بحاجة إلى إلارشاد والتوعية لئال ينزلق في مهاوي الطريق الوعرة التي يقحم نفسه في ولوجها .وهو بعد طر ّي العود ّ ندي القوى ضئيل إلاعداد ً بأسا من مجاملته .بينما ّ والاستعداد ال ترى يظن أساطين السياسة حينذاك في الشام أنهم حققوا املستحيل واخترقوا املعجزات .وهم يضنون على الحزب حتى بفتات معرفتهم وفضالت خبرتهم التاريخية املنقطعة النظير فال يتجاوز الحزب حدود ما رسموه له من خطوات أولية .كي يظل تحت سن الرشد بأمرتهم ووصايتهم. من جملة املواضيع إلادارية التي أعارها الزعيم اهتمامه القيادي ،وتولى الدخول بمجمل تفاصيلها إلعطاء حكمه فيها ،كانت مسألة التعرف بعمل حزبي قام به منفذ عام دمشق ،آنذاك الرفيق عصام محايري ،واختالفه ّ بالرؤية حوله مع أحد النظار في هيئة ّ املنفذية ،الرفيق رياض سكر .وقد كان الزعيم على علم سابق بهذا ألامر ومالبساته من قبل عميد الداخلية ألامين ّ املخصصة قنيزح الذي أتيح له آنذاك أن يرافق الزعيم في تلك الجولة ملناطق الجمهورية الشامية .اطلع الزعيم على دقائق املسألة؛ مدار الخالف في هيئة ّ منفذية دمشق .واستمع إلى وجهات نظر الجميع بشأنها .وقد لفظ الزعيم حكمه املعلل بها .وهو يتضمن تخطئة الرفيق رياض في ما ذهب إليه من فهم للمسألة وتأكيد صحة رأي املنفذ العام بصددها مع املالحظة أن 222
دوافع التباين في الرؤية كلها كانت نابعة من روحية التسابق في الحرص على مصلحة الحزب والتشدد على سالمة مسيرته ونموه الوطيد. انتهى كل ش يء بوضع جميع ألامور في نصابها من الصحة والصواب ثم تابع الزعيم جولته املقررة من دمشق إلى حمص ،حماه وحلب فإلى سائر ً مناطق الساحل الشامي قبل أن يقفل عائدا إلى بيروت. بعد مض ي ما يقارب الشهر على نهاية الجولة أي ما يزيد عن الشهرين على معالجة الزعيم للحادثة إلادارية آلانفة الذكر في دمشق ،حضر الرفيق أنطون سالمة إلى بيروت ملقابلة عميد الداخلية والتباحث معه في ذيول ّ «تلك املشكلة» وهي أن الرفيق رياض سكر ،املعروف ذلك الحين باندفاعه القومي الاجتماعي ونشاطه الحزبي املثمر الجيد ،قد أوقف نشاطه املعهود إثر زيارة الزعيم إلى دمشق ،والتزم جانب القعود عن كل تلبية قومية اجتماعية .ألنه شعر بالغبن يحز في نفسه من جراء حكم الزعيم عليه بالخطأ والخطل في فهمه وسلوكه إلاداري بالنسبة إلى «تلك املشكلة». ً فاستعدت ،بوصفي عميدا للداخلية ،مع الرفيق سالمة تفاصيل املسألة إياها وسائر جوانبها ومالبساتها وفحوى ما أشار به الزعيم بخصوصها .ثم ّ وصلت بالبحث والتحليل إلى القول« :لنسلم أن الزعيم قد أخطأ بالفعل في معالجة املسألة مما ألحق الحيف بموقف الرفيق رياض سكر منها .فال يضير الرفيق من ممارسة قوميته الاجتماعية كما يمليه عليه إخالصه وتمسكه بقسمه القومي الاجتماعي». لكن الرفيق أنطون سالمة قد رأى ضرورة مواجهة الزعيم باألمر ّ ووضعه بالصورة التي صار إليها الرفيق رياض سكر من التقاعس في تلبية الواجب القومي الاجتماعي لألسباب املذكورة ،كي يقف من الزعيم نفسه على رأيه ألاخير والحاسم باملوضوع .قمت ،كعميد للداخلية ،بالحصول على
224
موعد من الزعيم للرفيق أنطون سالمة .فوافى الزعيم بمفرده إلى املوعد ليقص عليه خبر الحلول إلادارية التي جرت في دمشق للمسألة الحزبية التي ّ أحد طرفيها الرفيق رياض سكر .غير أن الرفيق سالمة سرعان ما عاد إلى عمدة الداخلية بعد فترة قصيرة ليعلمني: ّ إن الزعيم ما كاد يطلع على موضوع وضع الرفيق رياض سكر حتى ّ بادره بقوله« ،الزعيم قد أخطأ بحق الرفيق سكر في الحلول التي أعطاها للمسألة املعلومة .ومن طبيعة الفكر أن ّ يتعرض للخطأ في تكوين رؤيته ً لدقائق الحقائق خصوصا في مجال إصدار الحكم الالزم بشأنها .أما املطلوب من الرفيق رياض فهو أن يصمد في املثابرة على قوميته والعمل بموجب ما ّ أقسم له وهو يساوي كل وجودنا .فاملبادئ هي لإلنسان الذي يستحقها ويناضل من أجل انتصارها بالعقلية ألاخالقية الجديرة باألصالة السورية. ً ً القادرة على تحقيقها وتجسيدها أعماال وأفعاال .نحن نعتنق القاعدة ألاصيلة التي انبثق منها وعينا حقيقة وجودنا .لذلك نعرف كيف ننتصر على ّ ألاخطاء غير املقصودة كما نجتث ألاخطاء املتعمدة .ألن هذه ليست أخطاء بل انحرافات وارتكابات .ال ّبد من بترها واستئصالها لنسير إلى الانتصار الحق الذي ال ّ مفر منه».
225
ً ليس الكرم أن تجـ ـ ـ ـود جزافا باملال بل هو الع ـ ـ ـ ـ ـطاء من أجل بناء الكـ ـ ـ ـرامة التي تح ـ ـرر وت ـ ـ ـ ـ ـ ـبني
يختلف مفهوم الكرم ،وبالتالي ،املوقف منه حسب ألاوساط ً الاجتماعية واملجتمعات إلانسانية كما يختلف أيضا في ألامة الواحدة سياق ً تطورها ونضوجها القومي ففي الجاهلية مثال ،جعل الكرم املادي في رأس الفضائل القبلية وصار موضع الاعتزاز واملباهاة بين الناس وقورن بشجاعة املقاتل وبطولة املناضل الذي يواجه املوت غير هياب .ألن حاجات الحياة في العهد القبلي كانت مادية بالدرجة ألاولى وقلما ترتفع عن ضرورات العيش وما يتصل بها من مفاهيم ومقاييس بدائية .لكن لدى تمكن العقلية الحضارية في نفوس الناس وفي تعاملهم وعند ّ نموها وامتدادها في تطوير الشعوب ّ تبد لت النظرة إلى الضيافة حتى في مناسبات ألافراح وألاتراح ً ً ً وأمثالها .وغدا كرم الضيافة لونا بدائيا رجعيا من تقاليد الجماعات البشرية ّ املتأخرة خاصة إذا ّأدى إلى إهمال الشؤون الاجتماعية التي هي أساس 221
التقدم والارتقاء وفي صلب البناء الاجتماعي والنهوض القومي الاجتماعي مثل إنشاء املشاريع واملؤسسات القادرة على مجابهة ألاعداء وألاوبئة والانتصار عليها. وإن آفة هدر الطاقات وتبديد إلامكانيات سدى في غير الطريق املؤدية ّ إلى البناء والتقدم ال تزال متغلبة ومتفاقمة في كيفية الحصول على املال ً ّ التصرف به واستثماره اجتماعيا لألفضل وألارقى حتى أننا نلحظ بين وكيفية ّ صفوف النهضة تفش ي هذه العلة وأثرها البالغ في السلوك املالي تجاه القضية الخطيرة التي تعاقدنا على تحقيقها وهي تساوي كل وجودنا .إلى سوء التصرف باملال وعدم إخضاعه للمفاهيم القومية الاجتماعية ،يعود افتقار الحزب إلى املال الضروري النتشاره وانتصاره في صميم الشعب .مع أنه ّ الفذة في ّ ّ شتى امليادين والحقول التي ال سجل املواقف القدوة وألافعال ّ يشكل فيها املال ألاساس والسبيل ّ ّ والتفوق. ألاول إلى التحقيق ً كنت ّ مرة ،بوصفي عميدا للداخلية سنة ،1748بزيارة حزبية ملديرية ميمس التابعة ّ ملنفذية مرجعيون يرافقني إليها املنفذ العام الرفيق ّنواف حردان وناظر إلاذاعة في ّ املنفذية آنذاك .وصلنا نحن الثالثة إلى بيت املدير حيث َّ تم اللقاء مع القوميين الاجتماعيين لعقد الاجتماع من أجل تفقد أوضاع الحزب وسير أعمال املديرية قبيل موعد الاجتماع املقرر حان وقت الغداء دعانا املدير لتناول الغذاء فوجدنا أنفسنا أمام وليمة حافلة بمختلف ألوان املقبالت وألوان الطعام الشهي الدسم إلى جانب أنواع الفاكهة والحلوى .خ ّيل إلينا في البدء أن املدعوين إلى هذه الوليمة هم جمع غفير في حفلة عرس ألحد وجوه العشيرة وأركان إلاقطاع في املنطقة ،هذه الوفرة من الطعام بتعدد أنواعه وألوانه كان مجرد وجبة طعام يقدمها رفيق قومي اجتماعي إلى ثالثة من رفقائه يأتون إليه لعمل حزبي.
229
ما أن بدأنا بتناول الطعام حتى خطرت لي فكرة تراءت جدية وجميلة ً املغزى .هي أن اشتراكات أعضاء هذه املديرية وعددهم آنذاك ثمانون رفيقا ال ّبد أن تكون مرتفعة ومسددة بالدقة النظامية ،خاصة من قبل املدير الذي يقدم على تحمل تكاليف هذه الضيافة. طلبت من املحصل أن يأتيني بلوائح الاشتراكات ألعضاء املديرية كي أقف على تفاصيل الوضع املالي .فهالني أن أعلم أن أرفع اشتراك في املديرية ال يتجاوز ربع ليرة لبنانية وهو اشتراك املدير صاحب «الوليمة» املؤملة وقد ً مض ى عليه سنتان كاملتان لم ّ ّ متوجباته املالية وهو يسدد خاللهما شيئا من ّ إذن مدين لصندوق الحزب من متأخرات مالية بمبلغ ست ليرات لبنانية خالل عامين .كما أن التلكؤ عن تلبية الواجب القومي كان شبه شامل بين أعضاء املديرية الثمانين. ً إذا كان املال متوفرا لتكديس الطعام في وليمة ال معنى لها وال ضرورة خا صة بين القومين الاجتماعيين فلماذا ال يتوفر في سبيل النهضة بتغذيتها بقوة املال؟ ملاذا ال يبذل املال من أجل مصلحة الحزب فوق كل مصلحة عوض أن يهدر ً هباء في ترسيخ عقلية قبلية يعمل الحزب على إزالتها وإزالة كل ما ّيت صل بها من مفاهيم ومقاييس وتقاليد ال قومية اجتماعية .أما إذا توفر املال إلقامة وليمة من هذا النوع ال تليق باألخوة القومية الاجتماعية وال تعبر عن العقلية ألاخالقية الصريحة الخالية من العقد هي أساس التعامل بين القومين الاجتماعيين وفي صلب كيان املجتمع القومي الاجتماعي وتكوينه الصحيح ،فما الداعي للكرم الجاهلي في عهد النهضة وفي عالقة ّ أبنائها بعضهم مع بعض .بينما يتخل ى القومي عن تأدية واجبه من أجل يكبل مسيرة النهضة ويعيق ّ الكرامة القومية الاجتماعية مما ّ نموها واستمرارها .إن تلبية واجب العطاء الواعي كفيلة بتحقيق مبادئ الحزب
228
ً ً ً تاما ،وت ّ حررها كليا وتنظيم حركة تؤدي إلى استقالل ألامة السورية استقالال من جميع عوامل التخاذل والضعف والتفسخ املدمر لكل سيادة وكرامة. ً غير أن اختالف املواقف هو دائما وليد اختالف املفاهيم الاجتماعية، لذلك يرى البعض الكرامة في كرم الضيافة ويرى آلاخرون الكرامة في تقديم كل ما يتمكنون من عطا ء إلقامة الحياة الكريمة وقتل العيش الذليل. الكرامة اجتماعية ال تتجزأ وال تتمزق أشالء وأجزاء بين ألافراد و«كراماتهم الشخصية» ،فاألمة مجتمع واحد وكرامتها حقيقة واحدة اجتماعية كلية في شمولها أفراد ألامة بأسرها ووحدة مصالحهم ومصيرهم ألاوحد.
227
أنا لم أكلفك بالتفـ ـ ـ ـ ـكير الذي يعـ ـطل العمل ويش ـ ـوهه .أنا كلفتك فقط بالتنفـ ـ ـيذ الفهيم ليتم العمل الـمطلوب بنجاح سعاده
من مزايا العصر املنتشرة بين أشباه املتعلمين والتي تشكل ظاهرة تهدر الجهد والوقت سدى باإلكثار من الكالم والتكرار والاجترار لقوالبه عينها ً ومقالبه اللفظية .هذه السيئة التي تبدو حينا حسنة جذابة هي إدمان نوع من «املفكرين» على تعاطي عادة تقليب وجهات الرأي والرؤية في أمر معين والاستغراق الشارد بالتحليل والتعليل في ما يطلقون عليه عملية «التنظير». هذا ألاسلوب من البحث أو النمط من التفكير هو إجراء فكري من حيث الشكل وإلاخراج أما من حيث الجوهر والغرض الفكري فهو وسيلة ً إغراق املضمون في سيل جارف من ألالفاظ والصور اللفظية تجعل أخيرا من املوضوع املطروح مجرد عبارات واستعارات بيانية ال تعني فكرة واضحة ً وال تدل على مرمى فكري معين .سواء كان هذا العمل التنظيري متعمدا لتضليل السامع أو غير مقصود بمثابة لون من اللهو في معرض الجدية ً ً املوضوعية .قد يصادف هذا التنظير بادئ ألامر إعجابا وإكبارا باملحدث من 221
السامعين ملا فيه من سهولة التعبير ومرونة العرض والاستعراض لشتى العبارات والصيغ الرشيقة لألداء وإلادالء بوجهات النظر وإبداء تعليالت ّ لألخذ بها أو التخلي عنها لدى الاقتضاء .لكن إعجاب السامع بالتنظير واملنظرين ال يلبث أن ينقلب إلى تعجب إزاء الفراغ الفكري الذي يمأل أحاديثهم وأبحاثهم البراقةّ . ومم ا يلفت الانتباه إلى هؤالء مدى استعدادهم الدائم ملعالجة أي موضوع بمناسبة وبال مناسبة استجابة ألي طلب أو رغبة يبديها أحد الولوعين في الاستماع إليهم واملؤهلين لتحمل إلاصغاء وإغداق التقدير والثناء على إبداعهم التنظيري .وكم يتخلل التنظير من عبارات الوعظ وإلارشاد لآلخرين وعبارات التعالي والتعظيم النرسيس ي ملواهبهم ّ املتفوقة وكفاءاتهم الفذة .املنظرون يبالغون بصياغة الكالم والاسترسال ً بإلقائه جزافا كأن الكالم لديهم هو من أجل الكالم عينه .أو في سبيل استماعهم هم إلى إيقاع ألفاظهم ونبرة أصواتهم بصرف النظر عن وقعه على آلاخرين .وما يحدثه من وقيعة في أعصاب السامعين ونفوسهم ومن فضائل ً املنظرين تماديهم في التكرار والترداد ولجوئهم أيضا إلى التخيل والاختراع يحدثونك عنه كأنه من صميم الوقائع واملراجع الثابتة. ّ املحدثين، لقد أصيبت صفوف الحزب ،مع ألاسف ،بعدد من هؤالء ّ الخطباء أو املنظرين خطابة وكتابة .وقد استطاعوا في فترات متعددة أن يمألوا أيا مهم وأيامنا معهم بفيض من طبقات الثرثرة والصياح .يقولون ما هو خارج عن كل موضوع ،يقولون ما ال يعملون يقولون ّ ليبزوا أعمال آلاخرين باألقوال والشعارات الضبابية التي تحجب الحقائق باألوهام والتصورات .إن التاريخ بالنسبة إلى الديماغوجيين هؤالء ال يسجل ألاعمال ّ والنيات يسجل هدير الصخب وقرع طبول وألافعال إنما يسجل ألاماني الغوغاء .إذا كان لدى القوميين الاجتماعيين الواعين حقيقة النهضة ورسالتها إلى ألامة السورية «ال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال وتقل ألاعمال» 221
فإن الديماغوجيين من املنظرين وأشباههم يرون أن ألامر الذي ينجح هو ما ّ ً تكثر فيه ألاقوال وتندر ألاعمال .املنظرون املعجبون أبدا بمواهبهم وقدراتهم ّ هم املتفوقون بمرآة غرورهم في كل مجال ،واملجلون في كل ميدان وقد اضطررت أن أقول ألحد املتباهين بفذوذيتهم« :يا رفيقي أراك ال تحدثنا عن أمر أو شأن إال وأنت ّ ألاول في فهمه ومعالجته .فهل لك أن تخبرنا عن مسألة أو موضوع كنت منه في املرتبة الثانية ال ألاولى بالنسبة إلى أقرانك ومنافسيك؟». ً ومما يذكر ألحد من هؤالء أنه كان ّ يردد أمام املسؤولين والزعيم تكرارا لدى أي عمل يقوم به ويالقي في معالجته الفشل وإلاخفاق« :فالن من ألاعضاء أو من املسؤولين لم يفهم مقصدي أنا لم أقل كذا ...ولم أعن بقولي كذا ..وكذا »..إلى أن قال له الزعيم مرة ولدى استمرار سوء الفهم أو سوء التفاهم بينه وبين معظم من يتعامل معهم « :هل املشكلة أن الرفقاء ال ً يفهمون دائما ما تقول لهمْ ،أم أن املشكلة أنك قاصر ومقصر عن إفهامهم ما ت ريد قوله أو ما تطلب منهم عمله ويحصل لك ،بالتالي ،مع الجميع سوء الفهم ويتعذر التفاهم مع العلم أن هذه الصعوبة في التعامل ال تحدث هكذا مع سواك». ً َّ معين ّ رفيقا من جماعة املنظرين بعمل ّ محدد أفاض كلف الزعيم الزعيم بشرحه له الشرح الواضح الوافي .وفي اليوم التالي عاد الرفيق املذكور يحمل إلى الزعيم خالصة ما أنجزه من املهمة املوكلة إليه .وما أن بادر إلى ً اطالعه على ما أجراه من تنفيذ حيال مهمته حتى قاطعه الزعيم مستغربا تحول املوضوع في ذهنك إلى موضوع غريب ال ّ يمت ّ بقوله «كيف ّ بأية صلة ً ّ إلى ما كلفت القيام به؟ ماذا فعلت؟ وهل تذكر جيدا ما كلفت به من عمل؟ وما عالقة كالمك عما قمت به وما أنجزت باملهمة التي عهدت إليك» .فسارع ً الرفيق إلى إيضاح ما حدث له مستهال كالمه :يا حضرة الزعيم .أنا فكرت أن 222
أعمل كذا هو أفضل ..غير أن الزعيم أوقفه في الحال عن متابعة كالمه ً ّ ويشوهه .أنا مؤكدا له قوله« :أنا لم أكلفك بالتفكير الذي يعطل العمل كلفتك فقط بالتنفيذ الفهيم ليتم العمل بنجاح دون أي ش يء آخر» .ولم يترك له املجال لتقديم التبريرات وإبداء ألاعذار التي أودت به إلى إفشال املهمة التي أنيط به تحمل مسؤوليتها. الفاشلون اثنان ،واحد يعمل وال يفكر وواحد يفكر وال يعمل .وكالهما فريسة ّ توهمه أنه ناجح ومؤهل للفكر والعمل .والاثنان نمط طريف من مركبات النزعة الفردية ومشتقاتها .هذه النزعة التي تشكل أشد ألاخطار على صاحبها وعلى آلاخرين وخاصة املتعاملين معه .ذوو النزعة الفردية هم طالبو املوت وهم بفرديتهم صائرو ن إلى السقوط على جانب الطريق ،تساقط أوراق الخريف في غمرة ألانواء والرياح أو تساقط ألاغصان العاتية بقوة ّ وطالبو الحياة. القصف العاصف ولن يثبت في طريق الحياة سوى ألاحياء أبناء الحياة الواثقون بأنفسهم غير املغرورين الواعون للحقيقة غير ّ ّ املتوهمين ،والعاملون للحق والخير والجمال غير املتوانين وال املضللين املتواكلين.
222
لنقبض على ناص ـ ـ ـ ـ ـية ألام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور في الوق ـ ـ ـ ـ ـت الـمناسب دون أن ندعها تفلت من قبض ـ ـتنا سعاده
ّ ّ ّ املرضية التي تتفش ى في حاالت التخلف وامليوعة، من أبرز الظاهرات ّ تتحكم بسلوك الناس ّ وتبدد من بين أيديهم فرص إلانتاج والنجاح كما ّ تؤدي بهم إلى الضياع هذه الظاهرة الشائعة بين أبناء شعبنا هي ّ تعود ّ بتحمل املسؤوليات وإنجاز املهمات حتى الضرورية املماطلة والتسويف ً ّ ّ وامللحة .كثيرا ما نفوت علينا الفرص السانحة واملناسبات املالئمة إلتمام ألاعمال في حينها مع ّأن النجاح في الحياة يقض ي بوضع ألامر في نصابه بالوقت املناسب. أما إذا انقض ى الوقت املناسب للعمل وأصابتنا الخسائر املوجعة؛ ً ّ فأننا نمأل الدنيا صياحا بالندم على ما فات ونشغل أذهان الناس بالتشكي تمر ألايام ّ من سوء الحظ ومعاكسة ألاقدار .قد ّ وربما ألاشهر والسنون ّ ّ والتذمر من جميع الناس ومن ونحن في غمرة التنظير تائهون ،نمتهن التأفف ّ ّ كل ألاعمال وألاشياء .ونتقن التملص البارع من مواجهة الحقيقة والواقع 224
ّ دون أن نكل ف عقلنا عناء التفتيش عن ألاسباب املوضوعية ملا يصيبنا من ّ فشل وإخفاق أو نحلل العوامل الفعلية التي تودي بنا إلى حيث التبعثر ّ والتقهقر عن ركب ألامم والشعوب الناهضة .وكلما ضاق وقت أحدنا ّ ً ّ ّ للتحدث عن وتراكمت عليه املشاغل واملهمات كلما وجد متسعا من الوقت ً استجداء إلعجاب الناس بقدرته ضيق وقته ،بمناسبة وبدون ّأية مناسبة، ّ ونشاطه الخارق .ما أكثر املتملقين وأبرعهم في ممارسة الرياء وإتقان التمويه والخداع .أنهم أبعد الناس عن قول الحق وإعالن الحقيقة الصادقة ّ البناءة. إذا خطر ألحد ّ املتهربين من مواجهة مسؤوليات مصيرهم أن ينفض ً عنه وزر القعود والخمول وينتفض على عجزه فأنه يلوذ بالندامة معلنا ّ ً جددا وعوده بمضاعفة الاجتهاد واليقظة أو أنه التوبة والتكفير عن إهماله م يلجأ بسهولة عفوية إلى صياغة ألاعذار وتنميق الذرائع الواهية التي ال ّ تقل ّ فضيحة عن عار إلاهمال بعينه وعن نقيصة التهاون والتلكؤ الشائن. ً ّ كلف الزعيم أحد املسؤولين بعمل معين شارحا له مقدار أهميته وضرورة الاعتناء بحسن إعداده وإنجازه بإتقان ،لكن الزعيم لم يشأ أن ً يعين لهذا املسؤول موعدا لالنتهاء من العمل ولم يش ْر كذلك إلى املدى الزمني الذي يستغرق إتمامه ّ الجيد ،بل ترك مسألة املوعد واملدة الالزمين للعمل املطلوب إلى تقدير املسؤول نفسه الذي أبدى أمام الزعيم ّ كل ّ تفهم ملاهية املهمة التي أسندت إليه كما أكد استعداده للقيام التام ملبادرة ً ً الاهتمام بها سريعا وجديا. اح الزعيم من وقت آلخر ّ يتفقد ما قام به املسؤول ّ مما أوكل إليه ر ًّ ّ القيام به مصرا على أهميته وخطورة النتائج املترتبة عليه وكان يتلقى البيانات املطولة اململوءة باألعذار التي تفرض عليه تأجيل البدء بالعمل .إلى أن فاجأه الزعيم ذات يوم بقوله أن ال لزوم للعمل املذكور بعد ذلك الحين
225
ً ألنه قد تم إنجازه نهائيا وبكامل العناية وإلاتقان من قبل مسؤول آخر كلفه الزعيم القيام به بعد أسبوع من موعد تكليفه هو به .فلم تعد إذن من حاجة ليشغل اهتمامه به بعد تماديه بإهماله الال نظامي الذي ال يليق بالقومي الاجتماعي ،ثم ّ توجه إليه الزعيم بحضور عدد من الرفقاء بينهم املسؤول الذي لبى الواجب القومي الاجتماعي الذي ألقاه على عاتقه خير ّ واملبررات لتغطية إهماله تلبية نظامية دون أن يلجأ إلى حشد أكوام ألاعذار ً ً ّ الفاضح كي يلقنه درسا بليغا ال ينساه وال يستغني عنه القومي في أي مجال من الحياة العملية: «ليس فقط ال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال ّ وتقل ألاعمال ،إنما يقتض ي مبادرة العمل بحزم واضح حاسم وحضور عقلي نفس ي ّ تام الوعي والتصميم وفي الوقت املناسب كمن يقبض على مقود السيارة يوجهها ساعة يشاء وإلى ّ أتم حاالت الهدوء ّ حيث يريد وهو في ّ والاتزان املادي املعنوي .كلما يتساهل املرء مع نفسه باغتنام الفرصة ألانسب ملباشرة العمل املطلوب ّ تعرض إلضاعة فرصة اللحاق بالعمل إلى ألابد أما إذا أتيح له استدراك بقية يتلقط بالعمل وهو ّ الفرصة العابرة فقد ّ متوتر ألاعصاب منهك القوى ّ وألانفاس مشتت املدارك و الطاقات ال يسعه السيطرة ال على أعصابه ّ التصرف املجدي بمسؤوليته يخضعها إلى املضطربة وال امتالك قدرة ّ ً مشيئته وإلى متطلبات مقاصده وأهدافه متمتعا بعميق الثقة بالنفس وصفاء الوعي لكل أبعاد الحقيقة» ،وقد أفاض الزعيم في تحذيرنا من أن نكون من صنف تالمذة النعامة الساذجين فنقتدي بفلسفتها الكبرى أو الصغرى على حد سواء. فلسفة النعامة الكبرى تجعلها تدعي دوما أنها تجمع في شخصيتها ّ الفذة خصائص فريق الجمال وخصائص الطيور باآلن ذاته .لقد قيل لها مرة أن تطير أسوة بأبناء فصيلتها فقالت إنني كالجمال قادرة على حمل 221
ألاثقال فحسب .أما عندما طلب منه ا أن تقوم بأحمال الجمال فأجابت إنها قادرة على ممارسة الطيران مثل باقي الطيور زمالئها .لكنها لم تطر وهي من جملة الطيور ولم تحم ل ألاثقال وهي من جماعة الجمال .إنها جاهزة لالعتذار عن تلبية أي عمل يعهد به إليها مهما كان نوعه وشأنه. ً ّ دائما من القيام بأي عمل ّ بشتى النعامة ّتدعي عمل كل ش يء وتتملص الحجج الواهية واملبررات ّ امللفقة الباطلة. فلسفة النعامة الصغرى تبيح لها أن ّ تزج رأسها في الرمال حين يقترب ً منها الصياد محاوال اقتناصها حتى ال يتمكن هو من رؤيتها وال ينالها بأدنى أذى .هكذا ّ تتوهم أنها ّ ّ بالتهرب من مواجهة مخاطر الواقع تؤمن سالمتها مستسلمة إلى ّ تصورات العماوة وطمأنينة الغباوة الال مسؤولة بينما تمعن في قلب الحقائق وتشويه املفاهيم واملعطيات الحقيقية وتفسد على نفسها كل سبيل إلى التحقيق والتقدم وكل مجال للنجاة من منزلقات أوهامها. ليس لنا من ينقذنا من شرور الفلسفات النعامية سوى إلاقبال على العمل بأخالق ّ وتفهم ونشاط رزين ،فنأمن الوقوع فريسة إلاخفاق والفشل ّ محجة النجاح والانتصار على جميع ّ الترهات وألاباطيل .ألن الفاشل ونبلغ بالرغم من حمأة نشاطه املحموم هو أحد اثنين :من يعمل وال يفكر ،ومن يفكر وال يعمل ،لكن ال سبيل إلى إحراز خير املطالب ونبل املقاصد سوى مدرحية العمل املفكر والفكر العامل للحق والخير والجمال.
229
مهما بل ـ ـ ـ ـغت النصـ ـ ـ ـوص من بالغة التعـ ـ ـ ـبير فالنفوس وحدها تظل ضم ـ ـ ـ ـانة كل تش ـ ـ ـريع
ال تستطيع الدساتير والقوانين قاطبة أن تحيط بجميع الاحتماالت أو ّ تتحسب لكل الطوارئ واملفاجآت املمكنة .فليس لإلنسان قوة النبوءة أو أن ّ قدرة الاستشراف الال محدودة لكل التوقعات املجهولة .إنما ّ هم إلانسان هو أن َّ يلم بماهية الوقائع ويحيط بأهم عواملها وأسبابها ألاساسية .كي تتاح له ّ يستمد ّ قوته ويكتسب إلاطاللة على أبعادها املرتقبة من ضمن املعقول الذي مناعته من خالل سابقات ألاحداث املتقاربة ،وما تقدمه له التجارب من جديد املعطيات الجيدة فاألحداث تترابط وتتالحق في سلسلة حلقات ً متكاملة ومتماسكة لتغدو النتائج السالفة بدورها أسبابا جديدة لوقائع تالية .ليس من انفصام كلي أو انقطاع تام بين منطق املبادئ ومرامي ألاهداف ،إذ ال مبادئ بدون أهداف تتجه إليها وال أهداف شاردة ال تعدها مبادئ أساسية .غير أن ضمانة كل فالح ّ وتقدم هي النفوس الكريمة التي ال
228
ً ً ّ تكف عن العطاء والوالء ملطلب أعلى .نفوس تفيض محبة ونبال وتغدق أبوة ّ وأمومة صافية صادقة .تعلم بقدوة الفضيلة والعطاء. إن الشارع صاحب الدعوة إلى القومية السورية هو الزعيم وهو القائد ألاعلى لقوات الحزب ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية .الزعيم مطلق الصالحيات واملسؤوليات تجاه الحزب .ال ّ تقيده إال التشريعات وإلادارة الدستورية التي وضعها هو وأصبحت ّ تكون قضية الحزب السوري القومي ّ وكل منطلقاته وأغراضه .أين إذن الضمانات القانونية الاجتماعي والتشريعات الحقوقية الكفيلة بضبط سلوك الزعيم ووقاية الحزب من أي ّ ّ تصرفات نتحمل أوزاره وتدفع ألامة عواقبه من جراء حيف أو ويل قد الزعيم .وهو واضع كل أسس النهضة؟ أقسمنا جميعنا على تأييد الزعيم وسلطته الال محدودة إال بالقيود التي أراد الزعيم هو نفسه أن يلتزم بها تجاه صفوف الحزب وألامة بأسرها .كم يبدو ألامر شديد الغرابة والخطورة من ّ وجوه عديدة .خاصة في مرحلة من حياة ألامة ،يتدنى فيها الوعي إلى درك فقدان هويتها وانعدام الثقة بنفسها وبمعنى وجودها! هل تكون العالقة إلانس انية بين الناس وليدة متانة النصوص القانونية وديباجة الشرائع؟ هل نبغي من التعاليم والوصايا معجزة تضبط جنوح النفوس الشاردة ،وتصون ألاخالق واملناقب من أي خلل يصيبها أو اختالل يؤدي باإلنسان إلى الفساد والانحالل. قد يوفق الشرطي بعض الوقت بإيقاف املرتكب عن التمادي بإجرامه تحت وطأة العقاب وسطوة السوط .لكن جميع قوى ألامن وقوى القمع والردع في العالم ترى نفسها عاجزة عن تقويم روحية إلاجرام ومعالجة مصادر الشرور واملفاسد لدى إلانسان .ولو ق ّدر لهذه القوى أن ت َّزود بجميع وسائل املطاردة والتنكيل وإلارهاب« .تدرك النفوس القوية الحق وتدرك النفوس الضعيفة الباطل». 227
ّ املخصصة لتدارس وضع الحزب ● في إحدى جلسات مجلس العمد ً ً املالي ،طلب الزعيم بيانا تفصيليا عن مقدار التعويضات التي يتقاضاها املتفرغون للعمل الحزبي ،وعن كيفية تأمينها وتسديدها ّإبان ما يعصف بالحزب من أزمة ماليةّ . فتبين لدى تفنيد أرقام التعويضات وما كان قد س ّد د من كل منها حتى ذلك الحين أن بعضهم لم يتقاض من تعويضه الشهري نسبة ضئيلة بينما س ّدد آلخرين مبالغ تزيد على تلك النسبة دون ّ مبر ر إال إلحاح صاحب حق على املطالبة بتعويضه .عندها وضع الزعيم ً ً أساسا واضحا لتسديد ما يمكن من التعويضات املتوفرة قيمتها في صندوق ّ تعذر تسديدها كاملة في موعد ّ لضيق في املوارد محدد بالنظر الحزب إذا ٍّ املالية .يقوم أساس التسديد على تحديد موعد أو أكثر يوزع فيه التعويض ً أو بعضه على الرفقاء بنسبة واحدة فال ينال أحدهم نصف تعويضه مثال لينال آلاخر ربع ما يخ ّ ص ه أو يتقاض ى تعويضه بكامله .وال يجوز منح السلفات ألحد إال بإذن خاص يستند إلى ألاسباب املوجبة والاضطرارات الاستثنائية وبموافقة الزعيم. ً وقد أضاف الزعيم موضحا منطلق هذه ألاسس في التعامل املالي :كما أن جهودنا تتضافر لتأمين متطلبات القضية بكل أمانة ودقة .فأننا ننال ّ حقنا بمنتهى إلانصاف والعدالة .ما دمنا متضامنين في مواجهة املصير الواحد فإننا نتحمل املصاعب وألازمات بروحية واحدة إزاء وحدة حياة ً ً ً ووحدة مصير .إننا نسير معا .نعمل معا ،نعاني آالمنا وصعوباتنا معا ،نسقط ً ً معا وننتصر معا دون تمايز وال تهرب وال محاباة .هكذا يجب أن نتعاون ونتعامل إلقامة إلاخاء القومي الاجتماعي. ً ● كان مسكني يوم كنت عميدا للداخلية ،على مقربة من منزل الزعيم في رأس بيروت .وكان ّ علي أن ألتقي به كل صباح ألضع أمامه حصيلة اليوم
241
بعدئذ إلى تنفيذ ما يعهد به ّ إلي السابق وبرنامج اليوم الراهن .ثم أنصرف ٍّ ً مزودا بالتوجيهات والتعليمات الضرورية ملسيرة ألاعمال ونموها السليم. ذات صباح حضرت كالعادة إلى مكتب الزعيم في منزله وأنا مضطرب ألاعصاب مكفهر املالمح ّ مشوش التصرفات .ألقي التحية على حضرة الزعيم. وحالتي تشير إلى ما كنت أعانيه من ألم عميق وأكابده من أزمة شديدة الوقع ،عميقة التأثير في مزاجي املعروف باملرح على العموم .خاصة عندما ً أكون مع الزعيم .فسمح لي بالجلوس ثم بادرني بعباراته :أنت لست حاضرا ّ هنا ،يا أمين إلياس؛ أنت مأخوذ إلى مشكلة تشتت وجودك .فال ّبد من معرفتها ومعالجتها كما يلزم. ّ يشتد بي .إلى أن استجمعت وج ْمت فترة أمامه ال أنبس بكلمة والقلق عزيمتي وحاولت إلافصاح عما ينتابني بش يء من هدوء ألاعصاب .حين سمعته ّ يردد بحنو ألابوة وحزمها املهيب :القومي يصارح زعيمه بكل ش يء وال ً يخفي عنه أمرا من أي نوع .هات ما لديك .إني أريد معرفة كل تفصيل والوقوف على كل شاردة أوصلتك إلى هذه الحالة غير الطبيعية. حضرة الزعيم ،أتت شقيقتي من طرطوس لزيارتي منذ ثالثة أيام وهيّ طيلة الوقت طريحة الفراش ،تحت وطأة حرارة شديدة كاوية .يتولى السهر عليها أهل البيت الذي أسكن بجوارهم .استدعيت لها الطبيب .وقد أعطاني ً ّ تتعرض إلى «رشاتة» العالج الالزم الذي يقتضيها تناوله سريعا .وإال مضاعفات مؤذية خبيثة .لقد مض ى يومان دون أن يتوفر ّ لدي ثمن العالج. ً ً وغدا سأضطر ملغادرتها في جولة مقررة سابقا .هذا ما يقلقني في الصميم ويحرجني .الجولة ضرورية ،العالج إلزامي وشقيقتي مريضة يعتني بها الجيران ً وال أرى كيفية الخروج من املأزق .قد يكون املرض حتى آلان بسيطا لكن شفاءه بحاجة إلى العالج السريع وقبل تفاقم الحالة ّ وتعقدها.
241
ّ ّ الحاد حتى ملست في مالمحه ما كاد الزعيم يطلع على قصة اضطرابي شبح ألازمة التي كانت ّ ّ لتشل قدرتي على التحرك والتنفس تشد بخناقي الطبيعي .لكنه لم يقل لي كلمة واحدة ولم يستوضح عن مدى محاوالتي لتدبير ثمن العالج بل اعتصم بالصمت لتنوب نظراته الحانية باإلفصاح عن مكنونات نفسه وعن عميق مشاعره املتأملة. ثم انتقلنا بصورة طبيعية إلى معالجة املواضيع الحزبية التي أتيت ملقابلته بشأنها .تلك ألاثناء دخلت حضرة ألامينة ألاولى علينا إلى مكتب ْ اقتربت من الزعيم الزعيم وهي ترتدي لباس الزيارة .وبعد تبادل التحية معها لتهمس في أذنه كلمات سمعت منها «إني ذاهبة إلى السوق مع الرفيق ..لشراء بعض الحاجيات فهل بإمكاني أن أحصل على ش يء من املال »..أجابها الزعيم ً بمثل صوتها الهامس «يمكنك إرجاء هذا ألامر اليوم .أنا أحتاج منك مقدارا من املال وبعدها نتدبر مسألة الحاجيات للبيت» .ناولته ألامينة قطعة ورقية .أضاف إليها من جيبه قطعة أخرى .ووضع الكل في غالف ثم طواه في ً قبضته .وحين انتهى الحديث الحزبي وقبل انصرافي ناولني الزعيم مغلفا شبه مغلق .وقال «عليك آلان قبل كل ش يء أن ّ تتوجه إلى صيدلية قريبة في آخر بعدئذ تذهب بأمان في جولتك. الشارع وتشتري العالج املطلوب لشقيقتك. ٍّ ً ّ سنؤمن أثناء غيابك العناية بها لتعود أنت ساملا وتلقاها معافاة». ونحن وترددت في تناول الغالف الذي ّ واجهت كلمات الزعيم بارتباك ّ يقدمه ّ ُّ ّ ّ إلي .لكنه أكد إصراره بضرورة تسلمي املغلف وإلاسراع إلى تنفيذ ألامر بقوله: « الزعيم يطلب منك شراء ما يلزم للرفيقة شقيقتك من عالج .ثم يمكنك ّ يصح هذا ألامر أم ماذا تفعل؟» .قبلت التوجه للجولة الحزبية املقررة .هل ّ ألامر .تقبلت ّ حنو ألاب .تعلمت بالقدوة كيف نحن وحدة حياة ووحدة ً ّ ّ والضراء .انصرفت وأنا معافى السراء مصير ،كيف نتعاون معا ونتماسك في
242
من أوصاب قلقي أحمل إلى شقيقتي بشرى الشفاء العاجل بعالج أراده لها سعاده .كما أراد لألمة السورية السالمة والكرامة. هكذا عرفت الزعيم قائد العقلية ألاخالقية الجديدة بقدوة الحنو والسمو .كما هو مصدر التجسيد ملناقب الحق والخير والجمال .وهكذا تعطي النصوص والصالحيات أبعد معانيها وأروع مدلوالتها القومية الاجتماعية.
242
ال يمكن إق ـ ـ ـ ـ ـامة بن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاية من حجـ ـ ـ ـ ـارات هي في عالم الخيال والـمطلق
ّ ّ تتوزع آلاراء وتتضارب وجهات النظر في شتى املواضيع مع توفر حسن النية وصدق املسعى للتوصل إلى الحقيقة .قد يبلغ تشابك آلاراء حد ً التعارض والتناقض املشدود ،لكنه يعود أخيرا إلى عاملين أساسيين قد تتفرغ عنهما عوامل ثانوية أخرى. َّأول هذين العاملين هو إلاغراق في تأكيد النظر إلى زاوية واحدة من ّ ّ املوضوع املطروق بدون الالتفات إلى سائر الزوايا التي تشكل كلها وحدة أهم ّ عناصر املوضوع .أو ّ مقوماته .إن التمادي في إلاصرار ّ تكون ّ الضيق على ّ ّ كل زاوية مفردة على حدة ،كأنها املوضوع بكليته الشاملة .يجعل التالقي في ّ ً ّ متعذرا .كما يعطل الانطالق في ّ تفهم املوضوع من بحث أضالع املوضوع خالل مجمل نقاطه ومجموع جوانبه .فيتحول تضارب آلاراء إلى إضاعة معالم املوضوع وخصائصه ،وإلى تمزيق ّ لكل محاوالت التحليل له والخروج ٍّ ّ بأية نتيجة صحيحة من ّ ن جراء البحث .فيعجز الباحثو عن متابعة الحوار ً املجدي ألن الدوران في الجزئيات املبعثرة لوحدة املوضوع ،فضال عن ضياع ّ ّ املوضوع عينه! يشتت بالتالي معنى كل بحث ويشتت أغراضه الفكرية إلانسانية. 244
هكذا تقض ي النظرة الجزئية إلى الواقع والحياة على فحوى ّ كل حوار وإمكان ُّ توصله إلى تقرير أي أمر وإقرار أي فكر في أي شأن من شؤون املجتمع. ّ ً والعامل الثاني املؤدي أيضا إلى تعثر البحث وتبعثر آلاراء وألافكار ّ املفروض ارتباطها بصميم املوضوع ،هذا العامل هو توزع الفكر وتنازع آلاراء بين ما هو كائن ،أي املوضوع املطلوب تحليله واتخاذ املوقف املدروس منه، وبين ما هو مفترض الوقوع .وما يزال في عالم الرؤية الذهنية ضمن احتماالت تنظيرية تتيه في العموميات واملطلقات دون أي معطى معين. «والتعيين هو شرط الوضوح» ،عامل ّ يتميز بالحيرة بين الانفالت في معالجة املطلقات غير الواضحة التي تشرد في إلابهام الذي هو أقرب إلى الالش يء ألنه ّ التقيد املوضوعي في ما هو راهن في عالم الواقع والحقيقة كل ش يء ،وبين املعطاة أمام العقل والوجدان. ً ّ املختص مثال في تشريح ألاجسام والوقوف على مواصفاتها وما فالعالم ّ ّ هي عليه من خصائص وميزات ،هذا العالم يقدم دراساته جاهزة مصنفة. ً لتكون عونا للطبيب في معالجة مرضاه والعمل على إنقاذهم من أدوائهم ّ ّ يتسن ى له تقديم الشفاء املشرح كي وآالمهم .فالطبيب ال يستغني عن علم ملريضه .غير أن عالم التشريح .وإن ّ مد الطبيب بعلومه ومعلوماته فال يسعه أن ينوب عن الطبيب في عيادته ومستشفاه. ً ً بقدر ما تشمل رؤيا املرء مجموع ألاجزاء التي ّ معينا ّ يلم تكون موضوعا بما بينها من صالت وفواصل .وبقدر ما يقوى هذا املرء على تعميق نظره إلى ّ ومتفرعاته وروافده العملية يمتنع عن الاستطراد بالتنظير الواقع الراهن ً ً سعيا وراء سراب املفترض ،أي بقدر ما يمعن النظر إلى ألامر الراهن منطلقا من نظرة كلية شاملة إلى الحياة ،والكون والوجود يرفض الانفالش في ضباب
245
ّ املستمدة جذورها التنظير على حساب الواقع .بهذا املقدار من الواقعية ّ الكلية الشاملة سائر ألاجزاء وألاعراض ّ ّ املعبرة ،أجل بهذا املقدار وقوتها من من وعي الحقيقة يستطيع إلانسان أن يدرك حقيقة الوجود إدراكه لوجوده الحقيقي .وأن يتوصل ،بالجهد والجهاد في الوقت الالزم لنجاح كل عمل ،إلى ّ التقدم والانتصار على جميع الصعوبات بلوغ الغرض املنشود .هو غرض ً صعودا إلى أهداف واضحة ّ معينة ال ريب فيها وال لبس في صحتها. واملعيقات حدثت ،ذات مرة ،ضرورة حزبية إلعادة تنظيم ّ منفذية قضاء عاليه. ً ً فدعوت ،بوصفي عميدا للداخلية ،عددا من الرفقاء تم اختيارهم من خيرة ً معا وإعطاء املشورة في وضع ّ القوميين الاجتماعيين هناك للتداول املنفذية. التوصل إلى إعادة تنظيمها على أفضل وجه ضرور ّي ّ ّ لتقدمها .عرضت ثم موضوع الاجتماع املطلوب بحثه ،بغية التوافق إلى إمكان تشكيل هيئة ّ ملنفذية قضاء عاليه ،تلك املرحلة .فراح معظم الرفقاء الحضور يسترسل في كل من أعضاء ّ بحث مواصفات ّ املنفذية لينتهي إلى الاعتذار بعدم قدرته على ٍّ ً ً ً ّ تحمل ّأية مسؤولية في الهيئة وإلى القول أيضا أنه ال يرى أحدا أهال لتحمل ّ السوي ة بكل صدق وكل إيجابية قومية مسؤوليات العمل على هذه اجتماعية .وقد خلصنا ،بما يشبه إلاجماع ،إلى عدم إمكان تشكيل هيئة ّ ملنفذية قضاء عاليه ال من الرفقاء املجتمعين وال من رفقاء آخرين. ّ وكاد إلافالس والتعجيز ّ يلفان ّ جو الاجتماع مع ما تجلى فيه من صراحة الرأي وصفاء الروحية. فأعلنت للحضور ،إذ ذاك ،أنه على هذا ألاساس من التنظير في ً العموميات واملطلقات فلن نجد في الحزب من هو أهل ألن يكون عضوا ً ً قوميا اجتماعيا سوى الزعيم نفسه ،إذا جاز الاستثناء .لكننا بالرغم من هذا ملنفذية قضاء عاليه من رفقاء تابعين لهذه ّ سنشكل هيئة ّ املنفذية .وليس
241
من أعضاء ّ ملنفذية أخرى أو أعضاء من مناطق عبر الحدود .وبالطبع سوف ال نستورد مسؤولين ال من أحزاب أخرى وال من ّأمة خارج ألامة السورية. فما علينا بهذه املناسبة إال أن نتذكر قول الزعيم الوارد في املحاضرة ً السادسة« :إذا افترضنا أي مطلق افتراضا ،وابتدأنا نحوم حول فهم هذا ً املطلق ومعرفته ،فإننا قد ّ عي ّنا مبهما للخروج من جدل لم نصل فيه إلى ً فكل ال وضوح ال يمكن أن يكون أساسا إليمان صحيحّ ، الحقيقةّ . وكل ال وضوح ال يمكن أن يكون قاعدة ّ ألية حقيقة» ،ثم أضاف عميد الداخلية قد نكون بحاجة إلى توسيع دعوتنا هذه لتشمل رفقاء آخرين .نتداول وإياهم لكننا أخيرًا .ال ّبد من تشكيل هيئة ّ باألمرّ . ملنفذية قضاء عاليه من نخبة ً ّ املؤهلين ليس باإلمكان مطلقا إقامة بناية في الواقع أعضائها العاملين والحقيقة من حجارات ومواد بناء هي في عالم الفرض الغائب وفي ّ حيز ّ ألاماني ّ الطوية. والنيات .مهما بلغت تلك النوايا من روعة املناقب وحسن ينفض هذا الاجتماع قبل إيجاد رفقاء ّ ّ مؤهلين لتسلم جميع لذلك سوف ال مسؤوليات ّ املنفذية ،دون إبطاء وال تردد حائر بين حقيقة الواقع وبين إبهام املتوقع ّ طي رؤية التنظير .وفي مجال املطلق املفترض« .املطلق الذي هو ش يء هو املطلق الواضح» .هو املطلب ألاخير الذي نسعى إلى بلوغه في مدى الطريق ّ الطويلة الشاقة ،طريق الحياة ،مدى التصاعد الال متناهي في سلم القمم الال متناهية في شموخ تساميها وتسامي شموخها .لكن الشرط لبلوغ املطلق املنشود يبقى في بذل مطلق الجهاد والعطاء ألامثل .هذا الشرط هو قدرتنا على تعيين نقط الالتقاء الواضحة الصالحة إلى الانطالق الواضح الصحيح. «فالوضوح -معرفة ألامور وألاشياء معرفة صحيحة -هو قاعدة ال ّبد من ّاتباعها في أية قضية للفكر إلانساني والحياة إلانسانية».
249
الزواج انعـ ـ ـتاق من الوحدة لتحق ـ ـ ـيق وحدة الح ـ ـ ـ ـ ـياة
كنت بزيارة الزعيم املعتادة ّ أتقدم إليه بموجز عما ّنفذته عمدة املقرر خالل فترة معينةّ . الداخلية من منهجها ّ وعما هي مزمعة على عمله ّإبان مرحلة قادمة .أنهيت بياني هذا ثم أخذت أدون على ورقة توجيهات الزعيم ومالحظاته بشأنه .تلك ألاثناء وقبل أن يؤذن لي باالنصراف حان موعد الزعيم لاللتقاء مع أربعة شبان إخوة يتقدمهم خالهم ،شيخ جليل مهيب .بادرت إلى الاعتذار بمغادرتهم ألفسح لهم مجال البحث للموضوع إلي الزعيم بالبقاء .فحضرت اللقاء ً الذي كنت أجهله .أشار ّ بناء لرغبته ولربما يكون هناك أمور ّ ّ يود إ طالعي عليها ،وبغبطة املشاركة في إلافادة مما سيتداول. الحظت اهتمام الزعيم الواضح بالوافدين إليه وعنايته العميقة ّ باستقبالهم والحفاوة ّ بكل منهم ،بينما ابتسامة الاطمئنان والتأني الن ّفاذ لم تفارق ثغره كاملعتاد .ما أن استوى بهم املكان حتى تقدم الشيخ بوقار وألم إلى عرض ما سماه «مشكلة» أحد أوالد أخته الرفيق حافظ الغائب عنهم. أخذ يسرد مالبسات هذه املشكلة ومراحلها بأسلوب ّ جلي الهدوء والرزانة ملفت لالنتباه وإلاصغاء العميقين إذ قال :حافظ ابن أختي ،كما تعلم يا حضرة الزعيم ،هو قومي اجتماعي مؤمن بعقيدته ومندفع في 248
ّ سبيلها .لم ّ يعودنا في شتى تصرفاته سوى مواقف التعقل والسلوك الخلوق. ّ لكنه اليوم يتخبط في مأزق حرج قد ّ يعرضه إلى مشكلة ال تحمد عقباها ،إذا تشبثه وعناده الخاطئْ . ما استمر في ّ بلغت هذه املشكلة أوج تعقيدها وقد ً ّ يتعذر حلها وإنقاذه منها إال إذا ّ تفضل الزعيم وأعارها شيئا من اهتمامه وعنايته ألابوية .فإنها ،إذ ذاك ،تغدو ّ هي نة سهلة وتنتهي على ما يرام إن شاء هللا تعالى. ً ًّ ّ حبا شديدا ويعزم على الزواج منها بين ليلة يحب فتاة حافظ ّ وضحاها .بالرغم من استياء جميع ألاهل وألاصدقاء ورفضهم الكلي لزواجه ً منها .ألن هذه الفتاة هي أكبر منه سنا وليست ،بال مؤاخذة ،من عائلة ً ً مناسبة لعائلته ال اجتماعيا وال ثقافيا .فهي باالختصار ال تليق به من جميع الوجوه .وليس باإلمكان القبول لحافظ بمثل هذا الزواج .فاألمر شديد ً ّ نتشرف الخطورة كبير إلاحراج لنا جميعا .وها ّإننا ،إخوانه ألاربعة وأنا بزيارتكم آملين أن ّ تمدوا لنا يد العون وتسعفونا لحل هذه املشكلة التي ّ استعص ى علينا حلها بعد أن استنفدنا جميعنا كل الوسائل والطرق العائلية التي بوسعنا اعتمادها مع حافظ دون أن نلقى منه ّأية استجابة أو ّ ّ تريث على إلاطالق .لذلك نقصد حضرتكم راجين تدخلكم الكريم بهذه املسألة الشائكة .وملعلوماتكم ،يا حضرة الزعيم ،نخبركم أننا ّ قدمنا إليه العديد من خيرة الصبايا التي تليق بحافظ ألنه ،بنظرنا جدير بالزواج من ً أحسن فتاة يختارها من بين الكثير من الصبايا اللواتي يناسبنه مكانة، ً ً فضال عن كل هذا ،هناك صعوبة ّ أشد تواجهنا وجاها ،تربية وشخصية. أمام الناس وهي إن هذه الفتاة التي ينوي حافظ الزواج منها ليست من طائفتنا .مع أن هذا ألامر ثانوي بالنسبة إلينا نحن .غير أن الناس ال ترحم وال ّ تقف عند ّ حد في تدخلها بشؤون الناس ،باإلضافة إلى نفورهم من نوعية الفتاة ذاتها ،بسبب ما ينقصها من صفات لتكون جديرة بابن أختي حافظ 247
وما لديه من أفضليات عليها .كان إلاخوة ألاربعة مع خالهم الشيخ يتناوبون الكالم عن املشكلة َّ املهدد بها الرفيق حافظ .لعلهم يحظون من الزعيم بوعد واضح في ّ تبني املوضوع والعمل على معالجته كما يرغبون .والزعيم يصغي ّ بسكونه ونظراته حتى النهاية .يتتبع عرض املسألة ّ وكل تفاصيلها بدقة وإمعان .إلى أن وعدهم بدعوة الرفيق حافظ ليرى ما يحسن عمله بعد ً ً اللقاء به قريبا جدا. ً من ثم التفت ّ إلي طالبا دعوة الرفيق حافظ من قبل عمدة الداخلية ً ملقابلة الزعيم في مكتبه بعد يومين من تاريخه وأردف قائال :عليك الحضور معه للموعد. ّ انصرف الجميع ،إثر ذلك ،وهم يؤكدون شكرهم الجزيل الهتمام الزعيم باألمر. ظل الزعيم في مكانه بعد وداعهمّ . يتأمل بصمت عميق املرارة وألاس ى ملا يشغل الناس الذين ال قضية لهم وال نظرة واضحة إلى شؤون الحياة وشجونها .ثم قال وهو ّ يودعني :إن املسألة دون ريب مهمة ،فالزواج موضوع كبير .هو مسؤولية اجتماعية حياتية كبرى. حضرنا ملقابلة الزعيم في املوعد املضروب ،الرفيق حافظ وأنا .وقد بدا ّ على الرفيق ارتباك ّ ينم عن توقعه ملا قد يبحثه الزعيم معه .أذن لنا الزعيم وتوجه إلى الرفيق حافظ على الفور بقوله :إنك ّ بالجلوس قبالته ّ تود الزواج ً قريبا .ألامر جلل وشديد ّ الجدية .يقتضينا الزواج توفير عناصر فكرية نفسية هي غاية في الدقة وألاهمية قبل إلاقدام عليه ،ذلك إلاقدام الجميل الرائع لحياة إلانسان واستمراره .صحيح أن الزواج تعانق روحين وتناغم قلبين ً ً أبدا للعطاء ّ ألاتم والوالء ألاسمى .لكنه خصوصا تعاقد برباط املحبة الجاهز ّ عقلين واعيين معنى املسؤولية املترتبة عليهما .هما عقالن قد ّ قررا الحياة 251
ً ً معا والتعاون الصميم معا بمنتهى الصدق والنبل والوفاء لغرض الزواج الذي هو املثال في الرصانة والرفاقة والثقة بالنفس .يقوم الزواج على ّ التوازن الفذ بين غمرة الحب البالغ أقص ى درجات الروعة والجمال وبين سمو إلادراك والقدرة على كل تحقيق ّ َّ خير. يقظة العقل والنفس البالغة ّ ٌ ّ الزواج قبل ّ ٌ كل ش يء وفوق كل أمر هو خاصة التزام مسؤول تجاه كرامة ألامة واملجتمع ،لتأسيس العقلية ألاخالقية الجديدة وغرسها في بنية النشء ً ً وعقالنيا ،ثم ّ تعهد تنميتها بقدوة ألاخالق واملناقب القومية جسديا ً ً ّ لكل ّ أساسا ّ نمو ومنطلقا لكل إنجاز وإنشاء .إنه هذا الاجتماعية ،إلى أن تغدو التعاقد على انتصار العق يدة ألجيال تتوالد وتتصاعد في ترسيخ الحق والخير والجمال مدى أزمنة التاريخ ،أجل مثل هذا التعاقد الجميل والجليل ،ال ً ً يحتمل لعبا ولهوا إزاء الشؤون الخطيرة التي تساوي وجودنا .لذلك وردت فقرة القسم القومي الاجتماعي« :وأن أ ّتخذ مبادئ الحزب القومية ً ً الاجتماعية إيمانا لي ولعائلتي وشعارا لبيتي» .على أساس هذه املفاهيم وهذه املقاصد العليا يقتض ي اختيار الزوج أو الزوجة ،اختيار شريك الحياة بملء معاني الشراكة املادية الروحية ،وأعظم معاني الحياة في أرقى مطالبها لبلوغ منتهى الحرية والواجب والنظام والقوة من أجل سيادة ألامة. هكذا ّ يتم الزواج ليكون أساس العقد الاجتماعي والتعاقد القومي لخير وعزها وكرامتها ،ألاساس الراسخ عبر تالحق ألاجيالّ . ألامة ّ يحقق الزواج ّ أغراضه الحقيقية حين تحصل لدى الزوجين النظرة الواحدة الكلية إلى الحياة والكون والفن ،إلى الحب والجمال ،إلى التربية وألاوالد ،إلى معنى ألامل وعوامل تكوينه ،إلى معنى ألالم وعناصر نشوئه. حين تتكامل هذه النظرة من خالل مفهوم الزواج وتمتد بال حدود إلى ّ املجتمع .الزواج هو املشتل لكل الجذور املولدة ألفراح الحياة وأتراحها ،هو ّ بؤرة إلاشعاع والتألق لكل القيم والفضائل إذا نجح. 251
وهو املعول املقطع ّ لكل منابت الحق والخير والحقيقة ،إذا فشل ،أو أ ّسس على خطأ في إلادراك أو خطأ في الوعي وزيغان في الوجدان وألاخالق. ً في عهدة الزوجة القومية الاجتماعية ينطلق الزوج رجال في رحاب الخلق وإلابداع وفي حلبة التحقيق البطولي ،في كنف الزوج القومي ً ً الاجتماعي يتوهج حنان املرأة ّ وعطاء .ففي يعمر الكون ويغمر الوجود بذال الزواج القومي الاجتماعي «تستطيع املرأة أن تدرك بقلبها ما ال يستطيع الرجل أن يدركه بعقله» .تعطي بفضل فضائلها الكبيرة دعائم العائلة القدوة والرجل املقدام ليبلغ ذروة التفوق .علينا أن نحسن بناء الزواج لنبني به قمم املجد والسؤدد ّ ألمة البناء العريق ألاصالة. هذا بعض ما زلت أذكره بفحواه مما ورد على لسان الزعيم بمناسبة درسه الرائع عن معاني الزواج القومي الاجتماعي إلى الرفيق حافظ الذي كان ّ يعد نفسه آنذاك للزواج باندفاع الولهان. ّ يضج ّ ّ والتأمل في ما هي بقوة إلاعجاب غمر الحضور صمت كان حقيقة الزواج لدى النهضة .إذ ذاك ينتصب الرفيق حافظ أمام الزعيم مكدود ألانفاس ليعلن ّ بأن الفتاة التي اختارها لتصبح زوجة له لن تكون له زوجة ألنها ليست قادرة على مشاركته الحياة الحقيقية الفاعلة ملصلحة ألامة. ً أنه يؤكد منذ آلان لحضرة الزعيم انفكاكه عنها والامتناع نهائيا عن الزواج منها لهذه ألاسباب. ليس من تعاقد حياتي نبيل إال ويجب أن يؤول إلى تحقيق ألامر الخطير ً ً كل وجودنا ّ الذي يساوي ّ مادة ومعنى ،قلبا وعقال..
252
ال رئيس وم ـ ـ ـ ـ ـ ـرؤوس في التعـ ـ ـ ـ ـامل القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـومي الاجت ـ ـ ـ ـماعي الذي هو التعـ ـ ـ ـبير ألاس ـ ـ ـ ـ ـمى عن وحدة روحية في الجسم الواحد الحي
ّ عد مناقبي وإن بدت كل بادرة تصدر عن إلانسان ذات مدلول نفس ي وب ٍّ ّ ألول وهلة عادية عابرة ال تلفت إليها الانتباه وال تثير الاهتمام .هي تفصح بطبيعتها عن مضمون ّ مادي روحي كما تشير بذاتها إلى مفهوم معين وموقف حاصل على أساس هذا املفهوم .سواء كان صدور هذه البادرة ّ املعبرة عن واع أو بعفوية ال واعية وفورية .مهما حاول إلانسان مكنونات نفسية بقصد ٍّ ً إخفاء حقيقة مقاصده ومشاعره والامتناع عن إبدائها فهي تبرز عاجال أم ً آجال ّ جلي ة املعالم بليغة املعاني والوضوح بشكل أو بآخر .ألن من خصائص ّ جوهر الحقيقة أن تثبت وجودها وتؤكد حضورها في واقع الحياة وإن طال أمد ّ مدها وانحسارها وخالها الناس منقرضة مهزومة .وال ّبد أن يتفاوت فعل الحقيقة وشأنها في مسيرة الحياة ومجرى الواقع بتفاوت أصالة تعبيرها عن قيم الحياة وتجسيدها لفضائلها ومثلها وملاهية الوجود والكون. 252
ً درج بعض القوميين الاجتماعيين امليسورين ماليا على زيارة الزعيم لتهنئته بذكرى ألاول من آذار وتقديم هدايا معينة إليه وفق التقاليد املتبعة عامة ملثل هذه املناسبة في بالدنا منذ القديم. وذلك حدث في أول آذار سنة 1747حين دخل أحد ألامناء القدماء إلى ً غرفة مكتب الزعيم في منزله -برأس بيروت -بينما كنت جالسا إلى مكتبي في ّ الغرفة املقابلة ّ أصرف بعض ألامور الحزبية التي كلفني بها الزعيم بوصفي ً مديرا ملكتب الزعيم وناموسه ألاول .مكث ألامين الزائر لدى الزعيم بعض ً موجها ّ إلي التحية القومية الاجتماعية من بعيد وهو يحمل الوقت وانصرف في مالمحه معالم ابتسامة ال تخلو من السرور املمزوج باالرتباك الساذج. خالل دقائق معدودات إثر انصراف الزائر ّ توجه الزعيم إلى مكتبي .فسارعت ً إلى الوقوف وأداء التحية متخليا عن مقعدي وراء املكتب إلقدامه إليه. ً دخل الغرفة ،صافحني وأشار ّ إلي التخذ مكاني كالسابق .ثم أخذ كرسيا من جانب املكتب وق َّربها مني .صرت أنتظر ما قد يطلب عمله مني أو إلاجابة عليه .كان يحمل بإحدى يديه علبة صغيرة جميلة النقوش وألالوان وكانت تعلو وجهه ابتسامة تنبئ ّ عما كان يجيش في خاطره من عميق التأمل وغريب التساؤل الصامت لكن بصعوبة .بعد دقائق معدودات مفعمة بالغموض املهيب الذي ّ يتحفز لإلفصاح عن ذاته بادرني الزعيم الحديث بقوله: • هل رأيت من كان في مكتبي منذ لحظات. نعم حضرة الزعيم هو ألامين ...وقد دخل إليك دون إعالمي باألمرً آلخذ له موعدا ملقابلتكم... ً مهنئا بمناسبة ذكرى ألاول من آذار ّ وقدم ّ إلي • قدم ألامين ...لزيارتي هذه العلبة من السيكار الفاخر الثمين ...خذ منها حصتك أنا غير مولع بالتدخين. 254
ً ـ ـ شكرا حضرة الزعيم إني أمي بمعرفة قيمة السيكار ،خاصة إذا كان من هذا الطراز .غير أن هذه العلبة الجميلة تدل على ما تحويه من ثمين، ً وتناولت واحدا من السيكار. ثوان بعد ذاك من الصمت الناطق أعقبه التوجيه البليغ. مضت ٍّ • «كثير من القوميين الاجتماعيين ال يدركون حتى آلان معنى الزعيم ّ وماهية الرابطة الروحية التي ّ ّ يتصرف وتشده إليهم .لذلك تشدهم إليه هؤالء مع الزعيم تصرفهم مع رئيس عشيرة أو رئيس شركة ،رئيس تقليدي يتقرب إليه مرؤوسوه أو أتباعه ويتعاملون معه بغية تأمين مكاسب معينة ومنافع فردية عن طريق رضاه عنهم .رض ًى ال ّ ينم عن عميق الوحدة الروحية الرابطة بيننا والتي تجسد وحدة الحياة الحقيقية بقدوة البناء والعطاء في كيان الجسم الواحد ّ الحي ..لقد شعرت «يا أمين إلياس» ّأن الهدية قدمت ّ ّ خلفيته مقابل إلي رشوة يستميلني بها ألامين ...لشخصه أو ينشد في خفايا ً الهدية خدمة أو امتيازا فوق ألاشخاص قاطبة وفوق جميع الاعتبارات الشخصية واملنافع الخصوصية». ّ وتوق ف الزعيم برهة عن متابعة الكالم بينما الانقباض املكدود يغمر مالمحه ويكسو أساريره بش يء من الذهول والشرود .لم أر ما يمكن أن أقوله للزعيم إزاء هذا الحادث فالتزمت الصمت ،وألالم املرير يمأل جوارح نفس ي بسبب تفاقم الفردية التي ما تزال ترافق تعاملنا وسلوكنا اليومي والعفوي. َّ ّ ً مليا كمن يستشف ثم نهض الزعيم عن كرسيه ليغادر الغرفة وهو ينظر إلي موقفي ومشاعري إزاء ما حدث .فوقفت أستعد لوداعه .وقبل أن يبادر إلى الذهاب عاود فتح علبة السيكار ثانية وقدمها ّ إلي بقوله يمكن أن تأخذ أكثر ً ً وقد انفرجت أساريره قليال عما كان عليه .تناولت سيكارا وأنا أبتسم قبيل التفوه بأي كلمة ثم قلت « هل يهديني الزعيم السيكار بعد السيكار كما
255
أهديت إليه العلبة من قبل ألامين الزائر؟» ضحك الزعيم بش يء من الارتياحّ .ربت على كتفي ثم رفع يده بالتحية وغادرني إلى مكتبه وأنا ّ مسمر في ّ خضم الضجيج مكاني كمن نس ي نفسه في غير مكان وجوده الفعلي وتاه في املشوب بالعويل ألاليم. ما أروع ما تسمو به نفسك الكبيرة ،أيها الزعيم ،من براءة وصفاء!! ما أعظم القدوة الرائعة التي تعلمنا إياها باألعمال وألافعال لتبني في نفوسنا ً ً أبدا إلايمان بالحقيقة التي ّ تجسد وحدة الروح في وحدة وعقولنا دائما و ّ الوجود ووحدة الحياة ،وحدة شاملة كلية في حقيقة الحق والخير والجمال. ّ لتتمجد ألاصالة السورية بسعادة في إبداع سوريانا كل فن كل علم وكل فلسفة.
251
ال ي ـ ـ ـ ـ ـ ـزال القومي ـ ـ ـ ـ ـون الاجتماعيون يلبـ ـ ـ ـ ـ ـون لتض ـ ـ ـ ـ ـميد جراح املصـ ـ ـ ـابين في املع ـ ـارك أكثر مما يلبون لتخط ـ ـ ـيط ص ـراع وإعداد معارك تمدنا بقوة الهجـ ـ ـ ـ ـوم والتقدم وتق ـ ـ ـينا مغبة الدفاع والـمهادنة سعاده
ّ الجميزة الشهير .يوم في التاسع من حزيران سنة 1747كان حادث تفجر التآمر الفاضح على الحزب وحياة الزعيم بسبب التعاون بين أشدّ ّ املحمديين ّ ّ ّ ّ املتعصبين ّ ألن قضيتهم واحدة ،مهما وأشد املعتصبين املسيحيين ّ تخاصموا ،هي العمل على صون التفرقة وترسيخ الحواجز املعطلة لكل تكاتف وتآخي بين الطوائفّ ، ّ رجعيتهم واحد تجاه وألن مصيرهم ومصير القوى القومية الاجتماعية ّ املعب رة عن أصالة الحق والخير والعاملة من أجل ّ استئصال جذور التعصب ألاثيم وعوامل التفرقة أينما وجدت وحيثما ّ عششت وتغلغلت .النهضة وحدها ّ تعبد الطريق للحقيقة والحياة الجميلة ّ وتوطد سبيل الحضارة والحرية بقضائها على إلاقطاع والطائفية وسواهما ً ً ً قضاء مبرما ونهائيا. من أسباب التقسيم والتفسخ
259
ّ الجميزة الفاجعة لألخالق والقانون قد استنفرت عزائم حادثة القوميين الاجتماعيين وشحذت قدراتهم الجبارة على البذل والعطاء ألاسخى ملواجهة هجمة السلطة املسعورة .التي راحت ّ تشنها بال هوادة على صفوف الحزب .أرسل املركز ،حينذاك ،الوفود إلى املناطق الشامية واللبنانية إليضاح مالبسات املشكلة الناشبة بين الحزب والسلطة اللبنانية الناشطة في عمليات القمع والاعتداء السافر على مراكز الحزب ومنازل أعضائه من دون مبرر وال ّ أي سبب .قامت هذه الوفود بشرح معطيات املشكلة الظاهر ّ منها والخافي على النظر القريب وحثت الرفقاء على استجماع أقص ى إمكانياتهم وطاقاتهم لتلبية نفير الواجب القومي الاجتماعي بمنتهى ّ التأهب والنظامية املسؤولة. ثم عادت الوفود إلى دمشق من مختلف املناطق الحزبية في الوطن تحمل إلى الزعيم ّ تبرعات ألاعضاء وألاصدقاء من مال ومجوهرات وسندات عقارات .مما أفصح عن مدى استعداد القوميين الاجتماعيين لصون كرامة ألامة والنهضةّ . وعبر عن مستوى الاستجابة القومية الاجتماعية لتحريض ً ّ ّ وتحديها لنهضة ألامة التي تناضل أبدا لبث الوعي في صفوف الشعب الرجعة ّ ّ وتأسيس مناقب البطولة املؤمنة املؤيدة بصحة العقيدة .وقد جاءت هذه التلبية الرائعة لتؤكد فعل النهضة ّ الجبار في نفسية شعب كاد الرجعيون يحكمون عليه بالخمول والانحطاطّ . وتثبت جدارة ألامة السورية بالصمود التحرر من ربقة الرجعية ومخازيها .وكانت ّ ّ الرد البطولي والصراع في معركة ّ على مالحقة دولة الرجعة والرجعيين ،الرد الذي لم يسبق له مثيل في سياق ممارسة النهضة لنزاع الحياة واملوت بين ألامة السورية واليهود في الداخل والخارج على السواء .وطاملا ّ عودتنا الرجعة وزبانيتها افتعال املحرضات بدافع ً خوفها على كيانها وبغية إثبات وجودها وتوطيد سلطانها القائم أصال على التعسف والقمع إلرادة الشعب وتكامل وعيه. 258
ّ لقد لفت انتباه الزعيم هذا التصاعد الفذ في تلبية املعركة الضارية التي فرضتها دولة إلارهاب والقمع على النهضة بصورة مباغتة غادرة، ّ واستوقفته استجابة القوميين الاجتماعيين الصارمة ملتطل بات الجهاد الدائر ،تلك الاستجابة فاقت جميع ممارساتهم البطولية املعتادة إزاء ألاحداث اليومية الجارية واملسؤوليات املعهودة .فكانت الدليل على روعة ما تزخر به النفسية القومية الاجتماعية من ّ ّ الجبارة وما مدخر الطاقات تنطوي عليه ألاصالة السورية من عميق الخصوبة التي ّ تؤهلها ّ لكل عطاء وإبداع. ّ ّ ّ لكن هذه الظواهر على ّ وسموها قد دلت على فعل تفوق روعتها انفعالي بالعوامل الخارجية التي أيقظت صفوف النهضة في أحرج الحاالت ّ ّ ً ّ ّ ودقة وجعلتها ّ ّ املحرضات التي ولدتها تلبي على مستوى تفاقم وأشدها تأزما ّ ووجهتها من أجل أغراضه هو .فالنهضة ليست إرادة الخصم نفسه مجموعات ّردات فعل ،ولو تجاوزت هذه قدرة ألافعال الضاغطة من جانب الغير .ليست النهضة صيحات غضب ّ وتوت ر وحقد صاخب في وجه مداهمات ً ألاحداث والسلطات ولو ّأدت إلى إحراز النصر حينا. «النهضة السورية القومية الاجتماعية ثقة القوم بأنفسهم ووعي ألامة لحقيقتها» ،هي الانطالق إلى تجسيد صحة املعرفة وعميق اليقين وإلادراك ً للواقع بما فيه من حسنات جيدة ونقائص رديئة .النهضة تكون دوما في حال يقظة وتأهب مستمر للنهوض وإلانقاذ والتحرير بما تملك من إيمان ومعرفة وشجاعة .وال يجوز لها أن تنف عل باألحداث الدائرة حولها سواء أتتها من مصادر معلومة أو جوانب مجهولة .مهما بدا أن لألحداث واملفاجآت من أثر هام في إحداث التغيير والتزام التبديل والتطوير لبعض خطوط الخطط املرسومة من دون إلاخالل باستمرارية الاستراتيجية الواحدة في الاتجاه ً ّ ً ّ الجلي املعالم .وبقدر ما يكون مدى الرؤية شامال وكليا إلى الواضح واملرمى 257
ّ وتقل تدابير ماهية الحقيقة واملعرفة الصحيحة تندر املفاجآت املباغتة الطوارئ الجانحة عن طبيعة املعطيات الواضحة القواعد واملقاصد. إن عظم التلبية الفذة التي جسدها القوميون الاجتماعيون في مواجهتهم لحادثة ّ الجميزة وفور بلوغهم إياها قد كشف أمام رؤية الزعيم النافذة حقيقة أخرى عميقة الداللة على مستوى البنية الصراعية في نفسية صفوف النهضة فبادر إلى تناولها بالبحث والتحليل الوافي: ً «لو كان القوميون الاجتماعيون دائما على هذا املستوى العالي من ً الاستعداد للتلبية وال ّ تأهب للبذل والعطاء ملا ّ تجرأت الرجعة يوما أن تقف في وجه النهضة وتحاول أن تدافع أمامها عن وجودها ّ ومبرر وجودها .لو أن ً أعضاء الحزب ّ يلبون دوما حاجات البناء وضرورات النمو بهذا النفس البطولي كما ّ يلبون تضميد الجراح النازفة ومؤاساة املصابين إزاء ضربات يسددها العدو للطعن في كيان النهضة ،ملا كانت لنا حتى اليوم مع أعدائنا في الداخل والخارج سوى معركة واحدة فاصلة لنصر ألامة السورية بما لكننا ما لنا أقدر على تضميد الجراح ّ يليق بأصالتها ومواهبهاّ . منا على تلبية ز ً العقلية ألاخالقية الجديدة التي تضعنا أبدا في حال صراع دائم وموقع نضال مستمرّ ، ألن نا نشأنا جماعة تبحث عن القتال وال تدع القتال يبحث املتحركةّ ، ّ القوة املهاجمة ال املدافعة نحن عنها .ألننا نحن القوة الفاعلة بطبيعة نشوئنا ّ قوة مهاجمة ال مدافعة».
211
القائد ال يجعل همه املحافظة على سالمته
ً ليس ـ ـ ـت حياة الزعـ ـ ـيم ضم ـ ـانا لبقاء النهضة إنما النهض ـ ـ ـ ـة هي الض ـ ـ ـ ـمانة للزع ـ ـيم ولألمة بأس ـ ـ ـ ـ ـرها سعاده
أعلن الزعيم الثورة القومية الاجتماعية ألاولى نهار ألاربعاء في الرابع من تموز 1747فراح القوميون الاجتماعيون يتسابقون إلى تلبية الواجب وتنفيذ ما عهد به إليهم من أوامر وتعليمات اقتضتها عمليات الثورة القومية ً ً ّ يتجسد أمرا واقعا كانت الاجتماعية .بينما كان هذا الحدث الكبير يحاول أن تبدو في ألافق بوادر غيوم تثير الشك بنوايا حسني الزعيم تجاه الحزب بالرغم من استمراره العملي بدعم الثورة ومؤازرة الحزب في سائر مواقفه ً وحاجاته ّ مجد ًدا تأكيد وعوده ّ بقوة أكثر ً جالء وأكثر إلحاحا ومبالغة .إن هذا الشك بصدق موقف حسني الزعيم كان يساور الكثيرين ّ منا بدرجات ّ الشك أو يثبته. متفاوتة دون أن يكون لدينا من الوقائع ما يدحض هذا الشك إلى ّ ّ ّ وقد كنت ّ حد استبد بهم القلق وكبر في تصوراتهم ممن ً القيام بعمل ظننته ّ ألول وهلة صالحا إلنقاذ الوضع املشوب بالشكوك
211
والهواجس إلى جانب انطالق القوميين الاجتماعيين في ممارسة أروع ّ وأشدها صعوبة وخطورة .فأقدمت على تجاوز صالحياتي كمدير الواجبات ملكتب الزعيم وناموسه ألاول وأرسلت إلى ألامينة ألاولى التي كانت قد غادرت ً بيروت إلى الالذقية أطلب منها موافاتي سريعا بأوراق الزعيم الخاصة مثل جواز السفر وتوابعه من املعامالت الضرورية في حال حاجة الزعيم إلى السفر .وقد وصلتني جميعها خالل أربع وعشرين ساعة إلى دمشق حيث كان الزعيم وكان مركز الحزب ّإبان الفترة ألاولى من بدء الثورة .اتخذت هذا التدبير دون علم أحد ودون إطالع الزعيم نفسه عليه ألخذ موافقته .حتى إذا أصبحت بحوزتي جميع ألاوراق الالزمة ملغادرة الزعيم الشام أفاتحه باألمر. ّ ّ ما أن تسلمت ألاوراق املتعلقة بمعامالت الزعيم للسفر ،حين يشاء ّ السفر ،حتى سارعت أطلب إلى الزعيم خلوة ملساررته بأمر هام ،وملا انفردت بالزعيم في غرفة مكتبه بادرته بقولي وأنا شديد الانهماك بما ينتابني من قلق ومن فرحة كبرى: ّ الشك بحسن نوايا حسني الزعيم إني أرى ،يا حضرة الزعيمّ ،أنّ يتزايد في نفس ي حتى غدوت أخش ى أوخم العواقب من ّ جراء بعض املؤشرات املريعة التي تبدر من قبل حسني الزعيم .وها أني -وقد رفعت ألاوراق بيدي أمام الزعيم -قد أحضرت جميع ألاوراق التي ّ تسهل لكم مغادرة البالد قبل أن تفاجئنا ألاحداث بمكروه .وأرجو من حضرة الزعيم قبول اقتراحي بضرورة ّاتخاذه التدابير ملغادرة الشام قبل فوات ألاوان .ألني أعتقد أن حياة الزعيم وسالمته هما الضمان لحياة النهضة وسالمتها واستمرارها. ما كدت أصل بحديثي إلى هذا ّ الحد حتى الحظت في وجه الزعيم ما حادة ّ أوقفني عن متابعة الكالم .راح الزعيم يحدجني بنظرات ّ تعبر عن عميق ّ ّ التجهم والتأثر ما كان يعانيه من ألم ومرارة وقد بدت على مالمحه عالمات
212
ّ علي انتزاعها من ّ يتعذر ّ مخيلتي وقد ّ مر املنفعل كان يصعب النظر إليها كما عليها ما يقارب الثالثين سنة ّ كأن هذا املشهد لم يمض عليه سوى لحظات ّ بتأن ظاهر ّ وتمهل واضح كمن يملي كلمات قصيرة .ثم أخذ الزعيم يتكلم ٍّ مأثورة أو عظة نادرة البالغة ّ يود حفظها واستيعاب جميع دقائقها لتغرس في الفكر والنفس. ّ • املسألة ،يا حضرة ألامين ،ليست مسألة شكوك وتوقعات ألسوأ ّ يؤكدون صداقتهم للنهضة ّ الاحتماالت تأتينا ّ ويعدون للوقوف إلى جانبها ممن ً ّ بعدا في وجودنا ّ ومؤازرتها في ّ مما كل شأن؛ إنما املسألة الحقيقية هي أعمق خطر لك .لقد فاجأني تفكيرك املستغرب بقولك أن حياة الزعيم ضمان لحياة النهضة واستمرارها بينما الحقيقة هي ّأن النهضة وحدها الضمانة لحياة الزعيم وحياة ألامة بأسرها .هي ألامل الوحيد والعمل الحقيقي ً لتحقيق سيادة ألامة وكرامتها .هل بلغك مرة أن قائدا وهو في قيادة قواته إلى ميادين القتال وساحات الدم يجعل ّ همه ألاول املحافظة على سالمته تحمله ملسؤولياته؟ هل ّ واتخاذ الحيطة لتأمين هربه من املعركة ومن ّ يصح ّ أن يكون هاجس الزعيم التخلي عن أقدس واجباته من أجل سالمته الشخصية ّ كأنها هي املطلب ألاخير فوق كرامة ّ ألامة وكيان النهضة في حين يضرب القوميون املناضلون أمام العالم والتاريخ الرقم القياس ي بالصمود والبطولة .فمنذ ساعات سقط الصدر ّ عساف كرم شهيد الحرية والواجب ّ ً في موقف ّ جبار متحديا قوى الجيش اللبناني التي تألبت عليه وأحكمت من ً مغلوبا على أمره وهو ّ يصمم على حوله الطوق فلم يستسلم ولم يتراجع ّ املشرفة. خوض املعركة حتى النهاية ّ وإني مع ّ تفه مي للدوافع العاطفية التي حدت بك إلى مثل هذا التفكير الانفعالي وحملتك إلى سلوك هذا النمط من التصرف فإني أرفض اقتراحك ً ًّ لي بإعداد ّ خلوا من متانة الرؤية إلى الحقيقة العدة للهزيمة وأحسبه موقفا 212
ومن بعد النظر وعميق التوازن بين معطيات العقل وجموح العاطفة ً أيضا التي من شأنها أن ّ تحد من أفق التفكير لإلنسان وتثبط وجنونها عزيمته أمام ّ امللمات. ولم يشأ الزعيم أن يتناول مجموعة ما كنت قد أعددته له من أوراق ّ خاصة تمك نه من السفر والابتعاد عن قلب املعركة الناشبة .فألقيتها بهدوء من يتوارى عن العيان خشية افتضاح أمره على طاولة أمام الزعيم وأنا ّ شديد الارتباك عميق الشعور بخيبة الفشل غير املتوقع .وكم كنت أعلل ً النفس بإمكان إقناع الزعيم بوجهة نظري تحقيقا لسالمته الثمينة الغالية. هكذا بين مرارة ما أصبنا به من جسيم الخسارة وعظيم النكبة بفقدان الزعيم على يد الغدر والخيانة وبين الاعتزاز بقدوة الزعيم أمام املوت في سبيل ما أوقف نفسه له ،بين املرارة والاعتزاز نقف في الثامن من تموز لدى ّ مجددين العهد لتصبح النهضة بالفعل أمل ّ ألامة الوحيد ذكرى الشهادة ٌ ّ وضمانة ّ لحق سورية وخيرها وازدهارها .ونحقق النصر الذي وعدنا به ّ سعاده املعلم القدوة فكان الثامن من تموز.
214
الاعتقال ألاخير
لـ ـ ـ ـ ـم يع ـ ـ ـ ـ ـط الم ـ ـ ـ ـ ـ ـرئ أن يهين س ـ ـ ـ ـ ـواه ،قـ ـ ـ ـ ـد يهين الـمرء نفسـ ـ ـه سعاده
ّ ليس من موقف للزعيم إال وتجل ت فيه عبرة تنطق بكبر القيادة وأنفتها ّ الخلوقة الخال قة وأشرقت منه النفسية الرسالية املؤمنة بالفضيلة واملثل العليا التي تزخر بها ألاصالة السورية عبر أحقاب من التاريخ وملء أحداثه ّ الخطيرة ومن خالل جليل أفعاله الجبارة .سواء كانت هذه املواقف الفذة في ً ً ّ ً ّ أشد الظروف تألقا وإضاءة أو في أحلكها ظلما وظالما فإن سعاده يظل ّ القدوة الرائدة التي تعلم وتهدي باألعمال وألافعال إلى أسمى القمم وأروعها. فهو من استطاع أن يبعث حتى في النفوس التي تتالعب بها مفاسد ألاحقاد والعصبيات العمياء املدمرة الثقة بالنفس والوعي لحقيقة البناء والعطاء. ألن املرء أمام شخصية سعاده يشعر أنه قطعة ّ جبارة قدت من ماهية ً العظمة وفاضت من كنه القدرة ّ املظفرة التي تجعله أهال للصمود والانتصار املبين. عن أمثال سعاده قد تكلم جبران خليل جبران أحد أدباء الطليعة الذي سعى إلى الانعتاق من ألاغالل وعمل للنهوض الواعي من املخازي حين 215
قال« :العظيم العظيم من ّ يحول هينمة الريح إلى أنشودة بالغة العذوبة ً والحالوة» .أجل هو ذا سعاده العظيم العظيم ّ يحول دائما بفعل تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية وقدرته على تجسيدها جميع املفاسد التي جلبت الويل على ألامة السورية إلى قوة صمود وقدرة صراع وبطولة ً قدوة في تغيير وجه التاريخ تحقيقا لعقيدة الحرية والواجب والنظام والقوة هو يجعل من صديد التباغض ونتن التخاذل ّ املذل مناقب قومية اجتماعية ّ وتوحد العقول والنفوس في تزيل جميع الحواجز بين أبناء ألامة الواحدة عقلية أخالقية جديدة في بوتقة مجتمع واحد وقضية كلية شاملة. ما أن سلم حسني الزعيم ضيفه الزعيم إلى السلطة اللبنانية صبيحة السابع من تموز 1747حتى بادرت هذه السلطة إلى التحقيق معه في ما نسب إليه ومحاكمته بإصدارها حكم إلاعدام عليه ثم أعدمته بسرعة ّ ومحقرة ملعنى العدالة وقيمتها في حياة الشعب وكرامة ألامة. مذهلة لدى تصديق رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك على حكم إلاعدام بحق الزعيم ّ تقد م أحد حراسه ليبلغه القرار ألاخير ويطلب منه الاستعداد ً لالنتقال سريعا إلى مكان التنفيذ .عند ذاك أبدى الزعيم رغبته في وضع ً رسالة موجهة إلى عائلته راجيا من حارسه إيصالها إليها مفتوحة إذا كان ً ألامر مباحا كمطلب له أخير قبل تنفيذ الحكم عليه .فما كاد الحارس يسمع ً ً من الزعيم كلمة رسالة حتى ّ تفجر غيظا وغضبا وأجابه بقوله: «أنت تريد أن تكتب رسالة لتوجه إلى الناس الشتائم وإلاهانات كالعادة ،هل تظن أنني سأسهل لك ألامر وأساعدك به». ابتسم الزعيم لدى ّ تلفظ حارسه بهذه الكلمات .واملرارة الكئيبة ترتسم على قسمات وجهه من ّ شدة ما يمأل نفس الحارس من غباء ويوغر صدره َّ من حقد ّ ضده .هكذا ل ّقن ألاغبياء املضللون من شعبنا عن الحزب وزعيمه 211
مما يحملهم إلى إبداء مثل هذه ألافكار وإلاتيان بمثل هذه التصرفات ً الشائنة .لكن الزعيم ال يمكن أن يضيق ذرعا أمام ّأية مشكلة مهما ّ استعصت وال أن ينفد صبره إزاء ّأية صعوبة مهما تعقدت .تلقى مالحظة الحارس بروحية املعلم وأخالق القائد القدوة .وهو يتأ ّمل توتر أعصابه ّ وشدة حنقه وغيظه ّ ملجرد فكرة تكليفه ،بحمل رسالة من الزعيم إلى عائلته إذا ً ً كان ذلك ممكنا ومسموحا ثم قال له بهدوء عميق مفعم باأللم: سيد ،ليس من شأني أن ّ «ال تتسرع يا ّ أوجه ألحد ّأية شتيمة ولم يكن يعرضه ألدنى ً في تعاليمي أو سلوكي ما يس يء إلى أحد أو ّ أذى أو إهانة .لم يعط المر ٍّئ أن يهين سواه ،قد يهين املرء نفسه». مضت دقائق والحارس مطرق مغرق في الصمت .ينتقل نظره بين ّ املحدقة الحانية .تنتاب مالمحه إمارات الارتباك ألارض ونظرات الزعيم الشديد والخجل املكدود .ما لبث بعدها أن تقدم بتؤدة من الزعيم والغ ّ صات تقطع نبرات صوته وهو يقول له: ً «اعذرني ،يا أستاذ ،أنت رجل كبير تواجه املوت بعد ساعات مبتسما ّ ً متزنا .أما أنا فأخش ى خسارة وظيفتي ،مورد عائلتي الوحيد ،أسأت بما قلته ً لك يا زعيم ،اعذرني ألني ال أستطيع أن آخذ منك شيئا ألحد» ،وراح يلتهم ً بقية سيجارة كانت تذوي بين أصابعه مسرعة إلى الانطفاء ً هباء ورمادا تلفظ آخر رمق من نارها.
219
على كل يا أس ـ ـ ـتاذ تبقى النفسـ ـ ـية الس ـ ـورية أقوى من النفسية الـمصرية
خالل الفترة الواقعة بين السنة 1747وسنة 1755كان النشاط ً ً الحزبي عامة على ّ أشده حماسا واحتداما بين مختلف ألاحزاب السورية في الشام تتسابق جميعها للوصول إلى الشعب .وكان مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي قد انتقل آنذاك من بيروت إلى دمشق إثر استشهاد ً ً الزعيم غيلة بمخالب «العدالة» الانعزالية .أخذ الحزب يالقي انتشارا واسعا ً ً ً وإقباال شديدا لدى مختلف صفوف الشعب وفئاته .وتنوعت كثيرا حينذاك أساليب ووسائل الوصول إلى نفسية الشعب ووجدانه ووعيهّ . وترسخت ً ً وشموال الدعوة القومية في جميع ألاوساط الشعبية ّ وشتى املؤسسات عمقا دون استثناء .وقد أصبح للحزب ّإبان تلك الحقبة عدد من النواب سواء من ً ّ واملؤيدين الذين كانوا يتعاونون معا في بين أعضاء الحزب أو من أصدقائه جبهة واحدة معتمدين اتجاهات الحزب وتوجيهاته القومية الاجتماعية ً أساسا ملواقفهم وتداولهم للشؤون العامة.
218
ً في سلسلة الجوالت الحافلة التي كان الحزب يقوم بها تباعا إلى مختلف ً املناطق الشامية زرت بوصفي عميدا للداخلية مديرية «محردة» التابعة ملنفذية حماه حيث كان للحزب فرع قوي وناشط .وكان برفقتي ّ ّ منفذ عام حماه وناظر إلاذاعة .دع ْونا جميع ألاهلين قاطبة لالستماع إلى محاضرة يلقيها عميد الداخلية بموضوع العروبة القومية الاجتماعية في الساحة العامة ً ًّ واضحا إلى ّ كل جليا للبلدة حيث نصب مذياع كبير بوسعه أن يحمل الصوت أرجاء محردة ومنازلهاّ . فلبى الدعوة جمع غفير من مختلف الفئات وألاحزاب ً وألاوساط فضال عن القوميين الاجتماعيين وذويهم واملناصرين. بدأت املحاضرة بعرض دقيق ملعنى العروبة عامة وتفنيد ماهيتها ّ وأبعادها وفق النظرة القومية الاجتماعية التي تتوخى الاستناد إلى املعطيات العلمية والانطالق منها إلى إثبات كل حقيقة والدعوة إلى اعتناقها .وقد ّ وتمسكه بها وسعيه تناولت املحاضرة التوكيد على أهمية عروبة الحزب ّ العقدي إلنشاء الجبهة العربية التي تشكل القوة الحقيقية القادرة على جعل السد املنيع ّ ّ ضد جميع املطامع ألاجنبية التي تستهدف العالم العربي بأسره النيل من سيادته ومصالحه وكرامته القومية وقد استغرقت املحاضرة ما يقارب الساعة ثم أفسح في املجال لألسئلة ملمارسة الحوار الب َّناء الذي يبيح ملن يشاء من أسئلة واستيضاحات وأن يبدي ما يروق له من وجهات نظر قد تعارض رأي الحزب في املوضوع املطروح واملقارنة املوضوعية املسؤولة ً حرية الرأي ّ تحقيقا ملبدأ ّ وحق الحوار الراقي الهادف بين سائر آلاراء املغايرة ً أبدا إلى البناء والارتقاء إلى ألافضل وألاصح .سرعان ما انهالت على املحاضر ألاسئلة والتعليقات على ما ورد لديه .وتضاربت املعارضات املتفاوتة ملفهوم ّ ً العروبة القومية الاجتماعية وقد كان جليا أن املتعلمين بين الحضور وفرة ً ً بارزة وأن حماسهم ملقارعة الحجة بالحجة بدا شديدا وحريصا على تقرير ّ املسددة الحقيقة خدمة للمصلحة العامة بقوة الحقيقة .وتوالت ألاجوبة 217
لألسئلة واملالحظات عامة بجو جميل من الهدوء ومن إلاصغاء والسعي لبلوغ التفاهم املنشود بالرغم من تباين آلا اء ّ وتوزع املفاهيم حول العروبة ر وكيفية العمل لتحقيقها .إلى أن ّ تقدم من بين جمهور الناس أحدهم ً ّ ً متحمسا ومسرعا نحو املنبر وهو يحمل بيمينه بضعة أوراق غير قليلة. ً فاعتلى حاال املنصة وراح يتلو من وراء املذياع على مسامع الحشد محاضرة مسهبة عن تاريخ العرب وأمجاد العروبة وما يفهمه هو من معناها ومدلولها. وأخذ يشيد بمصر «الشقيقة الكبرى» ويفاخر بفضلها على العروبة وفعل ّ ّ مواقفها العربية الفذة بتدعيم دنيا العرب وتوليها قيادة العرب في أحرج ألاوقات ّ وأدق املراحل إلى تحقيق القومية العربية حتى خ ّيل للناس أن مصر هي وحدها العروبة بأسرها ووحدها العاملة لها ورائدتها ّ السباقة منذ قبل ّ الزمن التاريخي الجلي .دون أن يكل ف حضرة املحاضر نفسه في خضم ً قليال لدى أي بلد عربي آخر ّ لينوه تحمسه البالغ البالغة أن يتوقف ولو بدوره في العمل العربي وفعل مواقفه العربية املجيدة .كم كان تصرفه ً ً الكيفي بأحداث التاريخ ال علميا وال مسؤوال ..وكم كان إصراره الانفعالي على ً ً جعل العروبة وقفا على مصر من دون سائر الشعوب والدول العربية إصرارا ً ً ً جامحا ال منطقيا ومجحفا بحق جميع من عمل للعروبة وعالج شؤونها. تلك ألاثناء وفي لحظة خاطفة خطرت لي فكرة مفاجئة وجدت أنه من ً املناسب أن أقطع على املحاضر لهاث أنفاسه أللقيها سريعا على مسامع ً الجمهور .وقد سر ْت بين صفوفه موجة ّ تبرم واستغراب .اقتربت حاال من ً ّ ً املتدفق ألقول «على ّ كل يا املذياع وأزحته عنه قليال قاطعا مجرى حماسه ٍّ أستاذ ّ فإن النفسية السورية تبقى أقوى من النفسية املصرية» ،ما كاد ً يسمع هذا «التجديف» حتى تفاقم اندفاعه الجارف وبادرني مشددا وبصورة حاسمة« :كال يا أستاذ النفسية املصرية هي ألاقوى» .فما كان ّ مني إذ ذاك إال أن أثنيت وثنيت على قوله بمنتهى الهدوء والرض ى «ال بأس أن يكون 291
ذلك ،لكن في هذه الحال ال يكون لألمة العربية الواحدة وجود على إلاطالق ما دامت لها نفسيتان متغايرتان ال نفسية واحدة» .عندها اعتراه ذهول عميق الحيرة والارتباك ،ثم ما لبث أن غادر املذياع وسط تصفيق الحضور دون أن يت ّم إلقاء محاضرته. وكانت هذه إحدى املناسبات الكثيرة التي ّ صح فيها الصحيح دون كبير عناء بتأكيد ّ ً صحة املفهوم العلمي الرصين ملعنى العروبة القومية الاجتماعية تجاه أي اندفاع انفعالي هو أقرب إلى الانجراف وراء ألاماني ّ والنيات منه إلى ً ألاخذ بحقيقة الواقع العملي .كذلك أيضا هو ألامر بالنسبة إلى العقلية ّ تتصور إمكان وجودها واستمرارها مقطعة ألاوصال منقطعة الانعزالية التي ّ عن الاتصال ألاصيل والتفاعل الحي في الجسم السليم ،جسم ألامة السورية التامة والوطن السوري الواحد .مهما كانت النوايا واملقاصد حسنة وجيدة فاألوطان ال تقوم إال على املعطيات العلمية الواقعية الصالحة وحدها للبناء ّ الصالح والبقاء السليم والاستمرار ّ الحي والصمود الفذ املنتصر.
291
اقتنع فاعتنق فاستشهد
تعجز مرارة الخي ـ ـبة في النفوس ألاصيلة عن تعطيل قدرة الوعي للحقيقة وإلاقبال عليها سعاده
حضر ذات يوم ألامين الشهيد أحمد حمود لزيارتي في غرفتي بدمشق من أوائل سنة 1751حين أصبح مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي في دمشق إثر إعدام السلطات اللبنانية للزعيم ألنه القائل «سورية للسوريين ً والسوريون أمة تامة» .وكنت آنذاك عميدا للداخلية. تبادلت بعض طرائف النوادر والرفيق ألامين الذي كان لدي من أصفى ألاصدقاء ومن أكثرهم قربى ألفكاري وتأمالتي .لقد كان يساررني بكوامن ً ً نفسه وخفايا خواطره الصميمة .ثم طلب مني موعدا قريبا للقاء إذاعي ثقافي مع أحد املواطنين أصدقائه املقربين وأضاف أن املواطن هو ممن يؤمنون بالعروبة ويعملون لها بقناعة وصفاء وهو يود الاجتماع إلى مسؤول قومي اجتماعي لالطالع منه على عروبة الحزب وتدارس وجهات التقارب والتباين بين عروبة القومية العربية وعروبة القومية الاجتماعية .ع ّين موعد اللقاء لليوم التالي .وقد ّ تم في حينه مع ألامين حمود واملواطن رفيق سيف 292
ّ وتوسعت حول مفهومنا القومي الاجتماعي الدين .دارت ألابحاث بيننا للعروبة الذي نعتبره املفهوم العملي العلمي للعروبة الحقيقية من جميع الوجوه الاجتماعية ،الثقافية ،السياسية والاقتصادية .وتناول الحوار كيف أن العالم العربي هو واقع بيئات جغرافية متنوعة ،وبالتالي ،بيئات اجتماعية قومية متباينةّ ، لكل منها ميزاتها وخصائصها كما تجمع بينها ٍّ ً ً مصالح مشتركة ومفاهيم متقاربة تجعل منها عاملا واحدا تنضوي في إطاره أمم متعددة ال أمة واحدة فقط .على هذه ألاسس العلمية الصحيحة تؤمن نهضتنا القومية الاجتماعية بوجود عروبة واقعية عملية وتعمل لها مع ً ًّ منيعا ّ ضد كل اعتداء أجنبي سدا السعي إلنشاء جبهة عروبة واحدة تقف ّ ّ يحاول أن ّ يمس سيادة أي ّأمة من ألامم العربية التي تكون كلها متضامنة العالم العربي بأسره. ّ تشع ب النقاش وشمل سرد الدقائق والتفاصيل في تبيان معنى ألامة ً والقومية ومعنى العالم الذي يضم عددا من ألامم املتفاعلة املتجاورة فتتبادل الكثير من املصالح واملفاهيم املتجانسة .وقد ّاتضحت بدقة معالم الاختالفات في وجهات النظر وأسبابها .والصديق سيف الدين من القائلين بوجود أمة عربية واحدة وما سورية سوى جزء منها أو أحد أقاليمها كذلك حال بقية ألاقطار وألامصار العربية ألاخرى. وقد ساد البحث جو ممتع بروعة التجاوب املوضوعية وروحية السعي الدؤوبة من أجل ّ تلمس الحقيقة والتالقي لديها العتناقها بنبل ووعي ومسؤولية والذود عنها بأمانة وإيمان صارم. ً انتهت تلك الجلسة الطويلة واملريحة أيضا ولم ننته فيها إلى ش يء يذكر ً من التوافق الفكري العقدي سوى إلحاحنا على لقاء قريب وإصرارنا جميعا
292
ً ّ على ضرورة متابعة البحث مهما ّ وتوسع حرصا منا للوقوف على تشعب الحقيقة وجالئها من جميع جوانبها وزواياها. وتوالت اللقاءات مع املواطن رفيق سيف الدين بعناية حثيثة من قبل ألامين حمود وحضوره الدائم املواظب .وكانت ألابحاث خاللها تدور عن العروبة في مختلف معطياتها ومفاهيمها سواء كانت الوهمية العاطفية وما ّ تنطوي عليه من دافق الاندفاعات وفيض ألاماني والنوايا ألاخاذة أو العروبة سجل ألاعمال وألافعال ال سفر ألاماني و ّ ّ النيات العملية التي ترى التاريخ مهما سمت وخلصتّ « . فالنيات ال تكون إال باألعمال». ً ً مضت أشهر وهذه الاجتماعات لم تنقطع إال ملاما واضطرارا وكنا لدى ً ً ّ كل حوار عن العروبة وشتى النظريات فيها نقطع رويدا رويدا مجاالت عميقة ّ مركزة في تقريب وجهات النظر وجالء وحدة الرؤية ووحدة الهدف والغاية املنشودة .بالرغم من التباين في البدء بين املنطلقات إليها وتفاوت ألاساليب ّ لبلوغها حتى غدت بعد حين بجهد متواصل التفاصيل عينها والدقائق كلها ً ً متوافقة شكال ونهجا في التعبير واملضمون الجوهري. ثم انقطع فجأة الصديق رفيق سيف الدين عن الاتصال بي مدة ال ً ً تقل عن ألاسبوعين إلى أن ّ حدثني هاتفيا بلهفة وشوق متفقدا أحوالي ّ ً الخاصة والشؤون الحزبية ومؤكدا توقه للقاء عاجل وطويل املدى برفقة ألامين حمود كاملعتاد. ً مديدا وحاولت ّ تبي ن بواعثه مع فكان ذلك اللقاء بعد انقطاع خلته نفس ي .وكانت ألاحاديث هذه املرة تدور حول تسديد بعض ألاسئلة املحددة عن املفهوم القومي الاجتماعي لألمة للقومية ،لالجتماعية ،للعالم العربي ْ تناولت تفصيالت وللجبهة العربية وكانت بمثابة استيضاحات تصفية ً ً مواضيع سابقة قد أشبعت درسا وتمحيصا .وكان الصديق سيف الدين 294
ً ّ ً ّ حينذاك منفرج ألاسارير ّ أشد حبورا وتألقا من أي وقت مض ى كأنه يتوقع بشرى بحدوث أمر عظيم أو ّ يعد نفسه للقيام بعمل جلل جدير بالغبطة والابتهاج. ً بعد هنيهة من صمت مباغت حامال في طياته غمار التساؤالت وغزارة التأمالت في البعيد البعيد بادر الصديق رفيق سيف الدين برصانة وانشراح إلى إعالن قناعته التامة بصحة املفهوم القومي الاجتماعي للعروبة الواقعية وصدق سائر املبادئ السورية القومية الاجتماعية وهو ّ يود آلان من أعماق يقينه هذا وبملء تح ّسسه باملسؤولية أن ينتسب إلى صفوف الحزب السوري القومي الاجتماعي مع أنه يشعر باأللم ّ يحز بنفسه لعدم وجود أمة عربية واحدة وهو يواجه الحقيقة السورية القومية الاجتماعية بمرارة موجعة ّ ألن هذه الحقيقة قد أسقطت اطمئنانه السابق إزاء ما كان يحسبه ً صوابا ويمأل قناعت ه خالل سنين عديدة قضاها أليف إيمان ونشاط لقضية ّ العروبة الواحدة لألمة الواحدةّ . لكنه يسلم غير مكابر وال مرغم بالحقيقة ًّ ّ معتزا بينما يتقدم إلى اعتناقها عقيدة سورية الكلية ألاخيرة ويسير به ْديها قومية اجتماعية خالصة وبكل إخالص وكل عزيمة صادقة من أجل تحقيق ألامر الخطير الذي يساوي ّ كل وجودنا .مضت سنوات على اعتناق الرفيق رفيق سيف الدين للعقيدة السورية القومية الاجتماعية ومن ثم ّأدى ضريبة الدم بأمانة الشهادة وزخم البطولة ّ املؤيدة بصحة العقيدة.
295
إن إبداء الرأي واجب في محله ،منكر في غير محله .وما أك ـ ـ ـ ـثر الذين يب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدون آراء في غير محـ ـ ـ ـ ـلها سعاده
تتكاثر آلا اء والنظريات في ّ شتى املواضيع وألابحاث املتداولة في هذا ر ّ العصر الذي ضرب الرقم القياس ي في تعدد الاختراعات والاكتشافات سواء في العلوم العملية أو العلوم إلانسانية .من هذه العلوم ما يعاد النظر به من ً جديد بعد أن مض ى على اعتباره نهائيا خالل أجيال خلت .ومنها ما هو جديد ّ وتطرق إليه البحث أو تناوله العقل بالتحليل لم يسبق أن تداوله إلانسان والتمحيص .وقد ّ امتد ت آفاق املواضيع واتسعت أبعادها وأنواعها إلى حدود ً مذهلة حقا ،حدود املفاجآت الكبرى في عالم كل علم ،كل فن وكل فلسفة ّ دون تو ُّقف وال تم ُّهل .وقد اشتمل التطور والتجدد على ألاصول واملعطيات ً وألاساليب والوسائل قاطبة .حتى بلغ التسابق في إبداء آلا اء ّ أشده شموال ر ملختلف املواضيع والظاهرات التي غدت تواجه إلانسان في كل زمان وكل ً مناسبة .لقد جرف ّ حب الحوار من أجل الحوار اعتباطا معظم الناس ،كما 291
ّ استولى عليهم التعلق بالتنظير الجدلي دون أن يترك لهم مجال التأمل الصحيح والتعمق الرزين .كأن هؤالء الناس قد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى جمهرة من نوابغ أفذاذ في ّ كل شأن من شؤون الفكر وإلالهام العبقري .ال ّ ّ شك أن إبداء الرأي واجب في محله ،لكنه منكر في غير محله .وما أكثر الذين يبدون آراء في غير محلها. ● يروي لنا الزعيم في خطاب أول آذار سنة 1728كيف أملى الخوف ّ من انكشاف أمر الحزب على عدد من ألاعضاء آراء في غير محلها« :كم وكم من الذين جاؤوا يراجعونني في أمر إتالف بطاقات العضوية املثبتة مسؤوليات ألاعضاء .فرفضت إلاصغاء لصوت الخوف والوجل وأجبت الذين كانوا يطلبون إتالف التذاكر والاستغناء عنها ‹إننا حين ندخل الحزب السوري القومي ندخل في حياة جديدة ال نريد أن نتخلى عنها›. والذين كانوا يقولون ‹ال حاجة لهذه البطاقات ،ألن إلايمان في القلب، وألاصل الباطن وكلمة الرجل تكفي لتقييده› أجبتهم ‹أن الظاهر يجب أن ّ يدل على الباطن والذي يتقيد بكلمته ال يرفض أن تكون هذه الكلمة خطية وحاملة توقيعه› .إني أبغضت السياسة في القومية وكرهت الاحتيال للتهرب من املسؤولية بشرف». ● ذات مرة اقترح على الزعيم أحد الخائفين من الصعوبات ،املتهربين من مواجهة مسؤولياتهم في الصراع والصمود« :ما رأي حضرة الزعيم، ً ً تسهيال النتشار الحزب وضمانا الجتيازه املراحل الصعبة ،أن يصار إلى تشكيل فروع للحزب على أساس الطوائف والعشائر املنتشرة هنا وهناك حسب أوضاع السكان ّ وتوزعهم في املناطق ثم ت ّ ضم هذه الفروع بعضها إلى ً ً بعض قوميا اجتماعيا .أليس هذا ألاسلوب أجدى للعمل وأضمن للنتائج ّ املتوخاة على أهون سبيل؟».
299
ً ما كاد الرفيق املقترح ينهي كالمه هذا ،حتى بادره الزعيم قائال :من املمكن قبول هذا الرأي وألاخ ذ بتنفيذه واعتماده ،إذا صح لطبيب أن يعالج ً ً ً مريضا يشكو أملا في إحدى يديه بطريقة قطع يده أوال ،ملداواتها على حدة ً تسهيال ملزاولة املريض ألعماله املعتادة .حتى إن تعافت تلك اليد ،هكذا، تعاد إليه بعد حين .فيلقى الشفاء والعافية املنشودة ،على أهون سبيل وبأقل عناء للمريض. ما قولك بهذا ألاسلوب باملداواة الذي يبتر ما يقتض ي تأمين تفاعله الحي في دورة حياة صحيحة سليمة ال سبيل إلى إلانقاذ والقوة ّإال بهاّ . شتان بين إزالة املرض من الجسم وإلاجهاز على هذا الجسم إلزالته من الوجود أو تشويه وجوده الجميل على ألاقل. ● كنت في إحدى جوالتي الحزبية إلى القامشلي كي ألقي محاضرة عن العروبة وكيفية فهمنا لها وموقعنا العقدي منها .وقد جل ْوت الفرق بين العروبة الوهمية وعروبتنا العلمية التي تثبت وجود ألامة السورية التامة، كما تثبت ضرورة إنشاء الجبهة العربية ّ املكونة من سائر أمم العالم العربي، ّ تشكل جبهة عربية منيعة ّ ضد كل اعتداء أجنبي مهما بلغ من القوة والتي والضراوة الاستعمارية .وكنت أجيب على مختلف ألاسئلة التي يوجهها املواطنون بهذا الصدد بإدالء ألادلة والبراهين القاطعة على صحة مفهومنا للعروبة الحقيقية. ً ّ يتقدم أحد وأخيرا ،وكنت قد أوشكت على الانتهاء من املحاضرة، الذين أفاضوا في توجيه ألاسئلة والحوار معي في املوضوع املطروح ،ليعلن ّ بصوت جهوري على مسمع من الجميع« :إني ،يا أستاذ ،قد اقتنعت بوجود أمة سورية ذات خصائص ّ تميزها عن سواها كأمة تامة ،وأيقنت بوجود ً عالم عربي يضم عديدا من ألامم التي تربط بينها شتى الروابط واملصالح
298
ألاساسية ألاكيدة .لكنني مع ذلك ما زلت بحاجة إلى إلاجابة على سؤالي ألاخير إليك ،إذا سمحت :ملاذا ال توجد أمة عربية واحدة؟». ّ خيم على الحضور وجوم حائر وأخذوا يتبادلون الابتسامات .ثم راحوا ّ يتطلعون إلى الجواب بنظرات ّ تعبر عن عجبهم لغرابة املنطق الال منطقي. ّ تأملت السائل ،والابتسامة العريضة كادت تفضح استغرابي لسؤاله وتغني عن أي إفصاح آخر .لكنني استدركت وقلت« :كل منا ،يا صاحبي، ً أصبح مقتنعا بحقيقة وجود ألامة وحقيقة وضوح شخصيتها .وكالنا يجهل ً ألاسباب لعدم وجود أمة عربية واحدة مع تأكده من عدم وجودها علميا ً ً وقوميا اجتماعيا .أما الفرق بيننا فهو إنني واثق من صحة معرفتي ومعتمد عليها .بينما أنت تعرف الحقيقة وال تريد أن تواجهها مواجهة فعلية موضوعية .إن أمنيتك بوجود أمة عربية ،ال يضيرني وجودها ،إن وجدت، هذه ألامنية تطغى لديك على الواقع وعلى سالمة املنطق .ثق ،يا صاحبي، ً معا ّ لعزها وسعادتها .بذلك نحقق بوجود ألامة السورية وتعال نعمل العروبة ،وننصر قضية العرب الواقعية في كل أمم العالم العربي ،دون أدنى ريب أو أي إشكال يضعنا في حيرة بين ما ندركه بالعقل السليم وما نتوق إليه بالعواطف وألامنيات النبيلة ،لكنها غير واقعية.
297
قد انتص ـ ـ ـ ـ ـ ـرنا انتصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارات غ ـ ـ ـ ـير منظ ـ ـ ـ ـ ـ ـورة وانتص ـ ـ ـ ـارات كثيرة منظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورة .وسيك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون النتص ـ ـ ـ ـ ـارنا ألاخير مش ـ ـ ـ ـ ـهد ينظر إليه العالم أجم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع سعاده
ّ حدثني أحد الرفقاء املثابرين على النضال القومي الدؤوب طيلة عقود ً ً من عمره قال :بينما كنت ساهرا في البيت مع أفراد عائلتي وأنا أعاني آالما ّ صحية ّ مبرحة من ّ جراء مرض عضال ،قرع جرس الهاتف فهرعت أستجلي ّ ً علي جدا يسألني عما إذا كان بإمكانه زيارتي الخبر فإذا برفيق قديم وعزيز تلك السهرةّ . رحبت به بحرارة فائقة خاصة ولم أكن قد التقيت به منذ زمن طويل .ورحت ّ أرحب به بشوق كبير .وبعد لحظات حسبتها ساعات قرع جرس الباب فأقبل الرفيق الصديق ومعه رفيقان آخران ممن يشوقني اللقاء بهم .وكانوا يتأبطون زجاجة من الويسكي مع لوازمها من مقبالت. جلسنا جميعنا وأفراد عائلتي مرحين فرحين وأخذنا نحتس ي بعض املشروب ً الذي يعالج آلاالم والهموم أحيانا باالنصراف عن النظر إليها ومواجهتها على طريقة النعامة .سرعان ما تعالت حرارة املرح كاملعتاد في لقاءات القوميين 281
الاجتماعيين العائلية واشتد التسابق في إلقاء النكت وسرد القصص مما ّ يدل على عميق الانفتاح لدى القومي الاجتماعي وشديد إلاقبال على الحياة ّ ملالقاة الغد ألاجمل .وقد تخلل سرد القصص ذكر الوقائع الشيقة عن أخبار الحزب ومواقف القوميي ن خالل أحداث من تاريخ النضال القومي الاجتماعي ّإبان وجود الزعيم بيننا ومنذ ذلك الحين .تلك ألاثناء يقطع الرفيق الصديق ً متوجها ّ إلي بهذه العبارات :يا حضرة ألامين جو املرح الغامر نفوس الجميع ً ّ إني أحد تالميذك العاقين الذين أهملوا واجباتهم القومية الاجتماعية كثيرا تجاهك وتجاه أمثالك من قدماء املناضلين القدوة بسلوكهم وصمودهم. فمن خالل قدوتك لنا ّ تعرفنا نحن إلى عظمة النهضة وعرفنا الكثير عن حضرة الزعيم ومن خالل رفقاء الزعيم أمثالك كان لنا أجمل ألاخبار ّ وأروعها عن سيرة الزعيم وعن مزايا شخصيته العبقرية الخالبة .ثم أضاف ّ الرفيق الصديق إني أعتبر أن من قدموا حياتهم كلها للنهضة وثابروا على العطاء والجهاد بال كلل هؤالء قد عملوا للحزب تلبية لواجباتهم هم ونيابة ّ عن كثيرين من املتخل فين املهملين الذين اقتصر اهتمامهم في الحياة على شؤونهم الخصوصية وتحصيل الثروة املالية ألشخاصهم .وأنا من هذه الفئة التي تخلت عن واجباتها العامة للعناية بمنافعها الخاصة فقط ولوال ذلك ملا ً ّ تسنى لي حيازة ما أملك من ثروة .وإني أعتبر أيضا أن ذلك وألمثالك حصة ً ً بل حقا مشروعا في ثروتي وقد جئنا نعلن لك هذا الحق راجين أن تلبي لنا ً ً نلح على تحقيقه .ترامى إلينا ما تعانيه من آالم ّ هاما ُّ صحية وأن طلبا الطبيب قد أشار من ضمن معالجته لك أن تمتنع عن متابعة وظيفتك وتتوقف عن كل مجهود مهما كان نوعه حتى يستطيع شفاءك .إن إرشاد ً الطبيب إليك بعدم القيام بأي عمل يضعك في مأزق أشد حرجا من املرض نفسه بالنظر إلى وضعك املالي املعروف لدى الجميع .لقد علمنا باألمر منذ ً ّ يومين فسارعنا إليك ّ نقدم حلنا لهذه املشكلة وهو أن تستقيل فورا من
281
ً الوظيفة عمال بوصية الطبيب ونحن نؤمن لك الراتب الذي تتقاضاه مهما ً ّ لتحمل بلغ قدره .إن إمكانياتنا املالية فضال عن عميق استعدادنا الروحي هذه املسؤولية بسهولة واعتزاز قومي اجتماعي تجعلنا قادرين على تنفيذ ما ًّ ّ ّ مصرا على أخذ نتعهد به بكل أمانة ودقة .ولدى توقف ألامين عن حديثه الجواب في تلك السهرة عينها بقبول الحل املعروض وقد أفاض في تفنيد استعداده الكامل لتقديم كل حاجات ألامين بمنتهى السرور والارتياح التام. ً ّ وتوقف الرفيق الصديق أخيرا عند رجاء بالغ الروعة والصفاء ،رجاؤه بأن يكون لألمين ثقته الكلية بالرفيق الصديق التي يجب أن توازي ثقة الرفيق الصديق باألمين وأن تتكامل الثقة املتبادلة في ممارسة الواجب القومي الاجتماعي تجاه القضية التي تعاقدنا على تحقيقها على أنها تساوي كل وجودنا فكان قبول ألامين واستمر التنفيذ بإيمان ّ عز نظيره في التاريخ. «ما أشد اعتزازي بكم وما أروع النصر الذي أسير بكم إليه» كم انتصرنا انتصارات كثيرة غير منظورة ال تحص ى وال تتوقف إلى جانب الانتصارات الكثيرة املنظورة واملستمرة.
282
األمين الياس جرجي قنيزح
شموخ السنديان
كراس صدر يف 1779/12/12 ي
فيه جمموعة من املقاالت اليت كتبت عن األمني الياس جرجي قنيزح بعد وفاته يف 1779/11/27
282
شهادة في مصدر الشهادات أنطوان غريّب
البقاء لألمة ،والبقاء للزارعني يف كرمها عمر نضال يف ما زرعوا وجنينا من مثارهم احملبيبة.
األمني ا لياس جرجي قنيزح الذي تناسينا فيه كل األلقاب واألمساء ،كما ختلى هو عن كل ارتباط فردي الرتباط أمسى باألمة واجملتمع ،فهو كان لنا «األمني الياس» ونقطة على السطر.
لن نردد ما كرزه وما ح يققه طوال مسرية نضاله اليت جتاوزت النصف قرن ،فكل ذلك يندرج يف صفحات مضيئة من تاريخ النهضة وحزهبا. إنه التجسيد ملا رمسه سعاده يف وعيه املتوقد ملثال القومي االجتماعي ،التزاماً
نضالياً ومناقب أخالقية ،وصالبة موقف وإصرار مثايل على وقف كل نبضة من عمره لقضية األمة ونصرة هنضتها يف بناء أجيال أعدها لتحمل املشعل من بعد جيل التأسيس.
«أمني الياس» ألنك أسقطت مثالب األنانية والفردية والفئوية ،ترجلت عن صهوة النضال يف اسرتاحة استحقيت وزناهتا ،ملن أنشأت وربيت وهذبت ،فأنت يف الوجدان املثال املقيم ،ويف الذاكرة صورة إشراق هنضوي ،وسنلتقيك عند كل صياح ديك وقبل كل هجمة ليل وبالتحية زاوية قائمة حلياة سوريا ،أمالً بأن نقاربك يف املثال الذي كنته لنا.
* من الافتتاحة في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
284
قامة مديدة علي قانصو
أمر مشهد رحيلهم ،وما أثقله على الذاكرة: ما ي تراهم يعربون إىل مثواهم األخري ،من أمام ناظريك ،من بني يديك ،يعربون واحداً إثر واحد ،قامة مديدة إثر قامة ،وسنديانة شاخمة إثر سنديانة.
بصمت كبري ،يعرب أولئك الصحابة ،صحابة الزعيم ،ض يفة احلياة فتنطوي بعبورهم قبضات جبابرة ،وحمطات مشرقات من التاريخ.
هؤالء هم رفقاء سعاده ،بناة التأسيس ،يرواد النهضة القومية االجتماعية ،هؤالء أتعبوا الزمن وما تعبوا ،غالبوا التنني وما غلبوا ،عرفتهم السجون واملنايف ،كما الفقر اهتز إمياهنم. والعوز ،امتحنتهم الشدائد بقسوة ،فما النت عزميتهم وال ي
هؤالء هم ذاكرتنا ،تارخينا ،قادتنا ،ووجهنا الذي ال خيبو. ويا أمني الياس.. أيها ا لصحايب اجلليل ،يا ابن الشام ،يا ابن لبنان ،يا ابن األردن ،أيها السوري
القومي االجتماعي ،ماذا أقول فيك اليوم ،وأي كالم يستطيع اإلحاطة بتارخيك، ستون عاماً ونيف ،سلختها يف النضال الدؤوب واملستمر ،واحتملت فيها شّت ضروب القهر والفقر والتشرد ،وما ضعفت يوماً ،وال تأفيفت ،وال اعتكفت ،وال خرجت عن نظام املؤسسات ،ويكفي أن يسند إليك الزعيم مسؤولية عميد
*
من كلمة ألقاها في وداع الراحل في ،1779/11/21نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
285
الداخلية ،مث مدير مكتب الزعامة وناموسها األول ،ورئيس جلنة التحقيقات اإلدارية، لتكون صحابياً مميزاً ،وقائداً قدوة ،وبعد استشهاد الزعيم بقيت يف مواقع املسؤوليات
القيادية :عميداً ،وعضواً يف اجمللس األعلى ،ورئيساً للمحكمة احلزبية العليا ،ورئيساً بقيت إذاعة احلزب ،يتحليق حولك املواطنون يف للحزب ،وعلى امتداد تارخيك َ البيوت كما يف الساحات العامة تعلمهم مبادئ احلزب ونظامه ومناقبه وتارخيه ،ولو ومروضها بامتياز ،سرياً على كان للمسافات أن تنطق اليوم لقالت أنك فارسها ي األقدام كنت تطوف يف قرى الشام ومدهنا ،كما يف قرى لبنان ومدنه تزرع يف كل
يباس نباتاً ،وفوق كل صخرة تراباً ،واخلصب يا أبا متوز ،اخلصب اآليت من ختصيب احلياة مببادئ النهضة القومية االجتماعية ،هذا اخلصب الذي أنتجته يداك ،وروح التضحية والفداء اليت عقبت هبا سريتك ،هذان جعالك جديراً بكنيتني عرفت هبما
عنيت :أبا متوز وأبا فداء. ولن أنسى يا أبا متوز ،هذا الفرح الغين الذي يفرتش صدرك وخيليف ألوانه على حديثك وعلى نظرتك إىل األمور ،وعلى عالقاتك برفقائك ومواطنيك ،إنه فرح اإلميان بالقضية وفرح االلتزام هبا ،ما رأيتك يوماً يف تشاؤم ،ما رأيتك يوماً إال والبسمة فوق شفتيك .أما الطرفة فكانت جزءاً من أسلوبك يف احلديث ،حّت يف
حتمل الطرفة ما تريده من أفكار املواقف اجلدية والدقيقة ،لكنيك كنت تعرف كيف ي
ومواقف جامعاً يف حديثك بني املتعة والفائدة. يا أبا متوز ،يا أبا فداء: ومن حيمل لألمة األمل باخلصب والتج يدد واالنبعاث؟ من يشكل فيها مخرية
الفداء؟ يا أبا متوز: سيبقى حزبك حامالً مشعل النهضة لشعبنا ،مدرسة الوعي القومي االجتماعي يف وطننا ،سيبقى عامالً على بناء اإلنسان اجلديد ،وعلى بناء اجملتمع املدين والدولة 281
املدنية ،سيبقى مخرية االنبعاث والفداء ،وستبقى أنت القدوة لنا يف التضحية والنضال واملناقب والنظام. سنبقى نفيء إىل ظاللك الوارفة ،وإىل ظالل من سبقوك إىل العامل اآلخر من مؤس س حزبنا وزعيمه سعاده ،السالم على روحك من الرواد األوائل ويف مقدمتهم ي مين ومن قيادة احلزب وأعضائه ،البقاء لكم ،البقاء كنيسة احملبة والسالم ،التحية لك ي ألمتنا والنصر لقضيتنا.
289
مبدع في خلق نفسه متروبوليت بيروت للروم األرثوذكس الياس عودة
من يطالع يا أخويت سرية «إلياس» هذه األرضية ،يكتشف كم هو إنسان مبدع يف خلق نفسه .إنسان منذ الطفولة شاء أن يكون حراً ،أن يكون سيد كلمة ختلق
حيول الفكر ،من فكر كسول ،من فكر ميتهن العبودية ،إىل فكر يْنـ َوجد وتبدع .هبا ي ويوجد .إنسان من غضاضة شبابه عرف أن يعلِّم الشباب َّ بأن العلم وسيلة ليكو َن الشخص .والشخص ليس فردياً ال بل هو إنسان اجتماعي ،مبعىن َّ أن فرحه يرختي كل إنسان حيب. على اآلخرين سعاد ًة ،وأمله جيرح اإلنسان اآلخر ،جيرح احلبيب ،و ي ٍ يتكرب، تعليم يف املدرسة ،وأكمل علمه على نفسه ،عصامياً .بعدئذ مل يتوا َن ومل ي
وارتضى أن يكون رفيقاً للطلبة ،لطلبة احلقيقة ،لطلبة االنفتاح ،ألولئك الذين يريدون أن يكونوا كالربعم املنفتح للحياة .لكنه ،باعتقاده ،كان حمصوراً يف نطاق يستطيع أن التواقة ال تستطيع أن تبقى حمصورة ولو يتجاوزه إىل دائرة أوسع ،حيث وجد نفسه ي يف ُجال الشباب ،بل أراد أن يعاشر من يكون على كِ َِرب القضية والوطن .وهلذا منذ شبابه الباكر ترك التعليم وذهب لينخرط مع شباب اعتقدوا َّ بأن مسريهتم تنقذ الشعب الراقد من النوم وتوقظه ليكون حياً ،ليكون نظامياً يف األخالق واملناقبية، غش وكل خيانة وعلى كل ما يسيء إىل اإلنسان متمرداً على كل ٍّ وسالمة القلبِّ .
األمة والوطن. تتكون َّ الذي منه َّ
* من كلمة ألقاها في وداع الراحل في .1779/11/21
288
هكذا كان هذا األمني على ما اعتق َد ،وأنا أحرتم من يعتقد ،وأحرتم من يكون
أميناً العتقاده ،ألين أحب الصادقني الذين أمساهم الكتاب :الصدِّيقني ،فالصادق خمفي ،واحلق ،يف الكلمة اليونانية ،يعين ما هو غري خفي. وحده يكشف ما هو ي كل حني .أما يف اخلفاء والظلمة فيحاك وهذا اإلنسان عرف أن احلقيقة تنجلي يف ي ما هو ظالم وظلم ،ألن احلقيقة ال ختاف .الظاملون ال يفعلون يف الضوء ما يشاؤون. العلَن معتربين َّ بأن احلقيقة اليت يؤمنون هبا هي حقيقة واملؤمنون يفعلون األمور يف َ
آمنوا آمنوا بصدقيتهَ ، للمأل ال لفئة من الفئات .وهلذا يا أحبية ،هذا األمني الذي َ آمنوا بتكامل نفسه ،كان يُرقى إليه من حني إىل آخر تَـ َرتاً مبسؤوليات كبرية. مبناقبيتهَ ، واألمور الكبرية ال تعطى إال للصادقني .فاملنافقون ال يبنون ،املنافقون يبنون أنفسهم، وأما اآلدمي يُهلك نفسه لتحيا أنت .وهلذا يا أحبة ،عرفوا َّ بأن هذا اخلَِفر يظهر يف
العمل الصاحلَ ،فأوكل له أن يعمل. تقرأ هذه السرية ،فتحرتم إنساناً يناضل من أجل اعتقاد الْتَـ َزَمهُ .وأنا أحب الصادقني وأكره املنافقني الذين يبيعون النفوس من أجل ختمة بطوهنم وجيوهبم .يا أحبَّة ،أعرتف بأين ال أعرف سريته مع اهلل ولكن أؤمن بأ ين اهلل يقول :ملكوت اهلل يف داخلكم ،أعرف بأن عقيدة احلزب امتلكت نفسه ،واهلل يعلم إن كان ميلكه يف نفسه ،ولكين على يقني بأن ملتزم احلق والصدق ال يعرف هذين إن مل يكن هلل يف مقر ،فقط ِّ املتأهلون يعرفون احلقيقة ،واإلنسان ،إن مل يكن أميناً يف القليل ال قلبه ي يستطيع أن يكون أميناً يف الكثري .هذا الذي يتكلم عن وطنية وال حيرتم بيته ،هذا كاذب .إذا أنت لست أميناً يف البيت ال تستطيع أن تكون أميناً للبلد ،ومن كان سارقاً لدرهم يسرق املليون ،ألن السرقة ليست متعلِّقة بالقيمة ،وإمنا متعلِّقة بالقلب. ولياس الذي -وشكراً هلل -ينطلق من بيتنا إليه ،أنا أفرح بأنه مل خين ما اعتق َد به وفيه.
287
فيا أحبية ،هذا اإلنسان اعتنق عقيدة ،أحب بشراً ،التزم خبط قاده إنسان شاء أن ِ س وكان متواضعاً ،من يرأس افتحوا اجملال له ِّ يغري ،وبقي أميناً إىل الرمق األخريَ .رئ َ ليمر ،أما هو فكان َخ ِفراً حمبوباً إذا َوجد خالفاً يزرع حمبة ،إذا رأى وجهاً مقتيماً يرمي للوجه حياة ،يتأمل احلزب بتفكيك أو بصراع ،يبكي مناشداً القلوب إىل البسمة ليعيد َ الوحدة .ألن من ِّ يفكك يريد الشر يف الناس ،كلكم تعرفون « ِّفرق تسد» ،أنا أقول: ِّفرق تصبح عبداً ،ألنك تلتزم هذا اخلط أو ذاك وتنسى بأن الذي ُجعك هو حمبة القضية الواحدة ،فاملنطق البشري يصبح منطقاً إذا كان منطلقاً من وحدة فكر.
يوحدون ،ولكن هذا اإلنسان بصمت عظيم أراد املشوشون ال حيلمون ،املختلفون ال ِّ ي األمة يف الوحدة ال يف التفكك ،كائناً من كان أن يكون شاهداً إىل األخري بأ ين جناح ي يود أن ِّ يفكك .رسالته لرفاقه أن يقول كل واحد لآلخر أنت رفيق .وأنا أقول له أيها احلبيبُ ،مسِّيت على امسي الياس ،ما شئت إال أن تنطلق من حيِّــي لتكون جمنِّحاً باحلقيقة اليت سيجليها لك الرب كاملة .قد يقول لك كنت ُخمطئاً هنا وهناك ،ولكين أحب قلبك احلي ألن اإلنسان الذي حييا يف احلق إنسان حيب احلياة ،حيب يغرك أمر االستقامة ،حيب الصراحة ،حيب الصدق ،فيا حبييب أنت بشر قد تتوه ،ي ما ،أو الدنيا .اليوم تستكني يف راحة .أحببت احلقيقة ،هي أنا ،فتيشت عنها يف
وجوه أخوتك ،سرتاهم كلهم يف هباء النور إذا استمروا يف حقيقة القلب وصدقه .أنا
ال أقرأ الكتب -يقول الرب -أنا أقرأ القلوب ،الكتب ختتلف ،اآلراء ختتلف، أين قلت لك يا ابين أعطين قلبك ،وكنت مستعداً أن متنحين إياه .ألن ولكن يكفيين ي العبيد هم عبيد ويبقون عبيداَ ،نطلب الرمحة هلم .ولكن األشخاص الذين يتبعون
نقاوة القلب كهذا اإلنسان ،رمحة حيتاجون ،ولكنهم بفرح يكونون يف اللقاء. الياس ،كامسي الياس ،اليوم حيلِّق ليتعلَّم العلم احلقيقي ،حيث يقول له يا ابين أنا َّحداً بذاتك ،ومت ِ يسوع ،أدخل إىل بييت وكن كما شئت أن تكون مت ِ َّحداً حبقيقيت اليت ال تزول ،آمني.
271
كانت لك فرادتك أليسار أنطون سعاده
تراك سئمت سجن الشيخوخة اليت مل تسمح بأن تتسلل إىل أوصالك إال حريتك األخرية؟ متأخرة .فانطلقت إىل ي
أم تراك قد استب يد بك الشوق إىل البدايات املشرقة وكل البيوت وأهلها وكل األمكنة اليت محلك إليها هفهافاً إميانُك العارم بنهضة ال تعرف التعب ..فآثرت
الرحيل؟ أم أنه الزمن املعكوس املطبق على األمة فيما مل َتر يف أفقه بوادر ثورة على املفاسد وهنضة حتطيم األغالل؟ تأخر حصاد أضناك انتظاره بعدما وهبته شبابك وما خبلت بوجودك كليه، أم ي زاهداً يف الدنيا ومتاعها إذ ال يغيب عن ناظريك زعيمك ورفيقك األول؟ حتول األزمنة ومن كنت حتسبهم من الذهب اخلالص ..أو انقالب املعايري.. أو ي أو طغيان مادي هنم ال يعرف شبعاً؟ أو كل هذا وغريه مما ال تتيسع له أسطر معدودات؟ يإال أنك رحلت ..تاركاً عالمات فارقة من زمن نضال مديد تقلَّبت فيه يف
الذل والقهر واالضطهاد واحلرمان.. مسؤوليات جسام ،وغالبت فيه ي عالمات ال ب يد باقية معلماً يف هنر القضية الدافق..
* كلمة لها ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
271
َّت رسولية يف تنكيب املسؤولية توطيداً ملعاين اإلنسانية الراقية .فما عالمات تبد ْ حسبت حساباً لنفسك وما ادخرت جهداً أو قرشاً ..ومل هتن لك عزمية بل ازددت
توثيباً كلما تعاظمت الشدائد وما أكثرها.
ت إمياناً راسخاً ال يتزعزع بالعقيدة والنظام وقد أمضيت ردحاً طويالً يف وجتلي ْ تدعيم ركائزها وحتصني بنياهنا حّت ُوشم الشأن اإلداري بنهجك وباتت الفروع حتيا على وقع تفق يدك لشؤوهنا وأحواهلا.
ت إمياناً بالقومية االجتماعية هنجاً حلياة جمتمع يطمح لالرتقاء بكل كما جتلي ْ بنيه. احلق على االقتداء هبا وكنت ْ وتألقت مناقب ومثالً وقيماً ما كففت يوماً عن ي أنت حريصاً على أن تكون جملموعنا خري قدوة. ومودة واحرتام ،تاركاً بصماتك يف جت تفاعالً اجتماعياً نسج وشائج التزام ي وتوه ْ ي ذاكرة أترابك والشباب وحّت األحفاد. جت كل ذلك بروح مرحة وبشاشة تب يدد التشنج والوجوم ومتنح القلوب فرصة َّ وتو َ
التبلسم بعفوية صادقة ..فكانت لك فرادتك. واألهبى أنك ٍ باق يف ذاكرتنا يا أبا فداء عنوان مرحلة مذهلة خبصوصيتها وتأليقها
بالرغم من كل النكسات.
272
استع ّدوا..
شماس جميل ّ
أيها القوميون االجتماعيون :استع يد..
ا لياس جرجي قنيزح ال جمال لذكر صفاته ونضاله وأخالقه وحمبته وتواضعه وحبكة النكتة عنده يف أحلك األوقات .قد يكون يشبه بطرس الرسول الذي اعتربه الزعيم سعاده الصخرة اليت بىن عليه حزبه .ويف الوقت نفسه يشبه بولس الرسول حيث ما انفك ينتقل إىل كل العواصم واملدن والقرى يبشر مببادئ سعاده. ي بكل طاقاته وعلمه وذكائه هذا الرجل الذي ي جترد من ذاته ،وعاش شهيداً وعمل ي ليحافظ على وحدة احلزب وترسيخ النظام قيمة يف نفوس أعضائه ،وعليمهم االحرتام
والوالء. ويف وفاته استطاع أن جيمع حوله احلزب بكل فروعه وقيادته وهل أستطيع أن أتوجه مبناسبة هذا اللقاء إكراماً هلذا الرجل الذي أحبيه وق يدره اجلميع ..،ووفاء ي لسعاده ،ومن أجل مصلحة احلزب واألمة بأن يتنازل ُجيع القادة املسؤولني عن أخطائهم ومشاكلهم وخالفاهتم ،وأن جيتمعوا بروح احملبة واملسؤولية ،ويتخليوا عن ويتمس كوا باجلوهر ،ويعملوا جبد واجتهاد إلجياد طريق إلعادة وحدة الشكليات ي احلزب بكل قياداته وأعضائه .وأنا واثق بأن هذا أفضل وفاء نقدمه لألمني الياس..،
* كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
272
بأن يكون أمالً لنا حبياته وموته سبباً لتوحيد احلزب ،وملي مشله ليعود قوة ضاربة متماسكة ملواجهة الصهيونية يف هذه الساعات العصيبة ،ألنكم أمل األمة. إن أهم ما تعلمتموه من سعاده هو الصدق والشجاعة ،لذلك أدعوكم بكل حمبة فتوحدوا صفوفكم واحرتام لوقفة شجاعة لتثبتوا أنكم تستحقون لقب تالمذة سعاده ِّ
لنرى جيشاً من األشاوس يتمنطقون مبناطق سوداء تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة حتت راية الزوبعة احلمراء ويصرخ بأعلى صوته الرئيس الذي ستلتفون حوله - أيها القوميون االجتماعيون -استعد حتية خذ لألمني الياس جرجي قنيزح. فيُالقيه الزعيم يف السماء فرحاً ويقول له أهالً بناموسي األول وإنين فخور بك وبتالميذي ُجيعهم. وهكذا سيكون حفل التأبني الذي ستقيمونه هلذا اإلنسان الرائع فخراً لكم ُجيعاً
خلف راية واحدة وقيادة واحدة. تعليمت يف حيايت أن أحلم وأحقق أحالمي ولكنين اليوم أحلم وأنتم ستح يققون أحالمي.
274
غادرنا محتفظاً بالفرح
عصام محايري
األمني الياس جرجي كان من الفرسان األوائل يف تن يكب عملية التأسيس والبناء
واملسامهة يف تكوين اجليل القومي االجتماعي اجلديد ،جيل النظام اجلديد.
ومن خالل وعيه وإدراكه ملا يتطليبه التأسيس ونشر العقيدة وبناء النفوس من عطاء وبذل وتضحيات ،نذر نفسه منذ اللحظات األوىل لتحقيق ذلك «األمر اخلطري» املساوي لوجوده ووجود رفقائه املتعاقدين عليه. لست آتياً بأي جديد أعرفه عن األمني الياس وال يعرفه غريي ،فكل عضو من مر باحلزب السوري القومي االجتماعي يعرف أن األمني أعضاء احلزب وكل من َّ الياس مل يكن مسؤوالً يتقن تنفيذ األوامر ويتقن إجناز ما يوكل إليه بكل دقة وأمانة فحسب ،بل كان إىل جانب أدائه اإلداري املميز ،مربيياً بامتياز جلميع األجيال القومية االجتماعية كما كان يف سلك التعليم قبل دخوله احلزب مربياً وطنياً بارزاً. أعمها ،ما كانت تقتصر على التحقيق والدرس جوالته احلزبية ،وما أكثرها وما ي
والتدقيق يف األمور النظامية والشؤون احلزبية الصرف فأهم ما يف جوالته وما يف لقاءاته وما يف معاجلاته للمشاكل واملتطلبات احلزبية كان روح االهتمام برتسيخ قواعد تربوية حزبية تناقلتها أجيالنا جيالً بعد جيل. التحمل يف االستماع إىل ُجيع األطراف وإقناع اجلميع الصرب والقدرة على ي باحرتام قواعد السلوك القومي االجتماعي وااللتزام هبا يف التعاطي بني الرفقاء ومع
* من كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
275
املسؤولني .كان ميتلك الصفات النادرة اليت ميزت أداء هذا الرجل الكبري حّت أصبح مر األيام ملجأً ملعظم الرفقاء يف قضاياهم اخلاصة ،يسألونه النصح فيما على ي
يتصرفون به جتاه مشاكلهم العائلية أو يف أوساطهم املهنية. ي
احملطات احلزبية املضيئة يف انتصارات احلزب املادية والنفسية على املثالب
واملصاعب حتمل يف طيياهتا الكثري من بصمات وآثار األمني الياس ،عرب األجيال احلزبية املتعددة اليت تتلمذت على يده ،من خالل األسفار واجلوالت واللقاءات واحملاضرات ودروس التوعية واستخراج العرب اليت سادت مسريته احلزبية عرب ستة عقود من الزمن .مميا جعل له فرادةً ومتيزاً عن غريه يف املسؤولني يف احلزب يف نوعية العالقة بينه وبني أعضاء احلزب. روح الرتبية والتوجيه مل تكن تفارقه ،ال وهو غارق يف صميم العمل احلزيب ومتطلباته ،وال يف أوقات اسرتاحاته وأسفاره وأكله وشربه فهو حاضر البديهة ،دائماً يوظيف النكتة والفكاهة يف عمله الرتبوي اآلخذ كل اهتماماته ،فال عجب أن جتد له آالفاً من التالميذ يف احلزب من خمتلف األجيال واألعمار. مل أحتدث ومل أعدد ما أجنز األمني الياس جرجي ،ذلك أن يف كل صفحة من صفحات تاريخ احلزب له دور ومكان بارز ،وكما كانت سريته ومسريته حموراً لنا يف
حضوره أم يف غيابه سيبقى حياً بيننا يف مآثره وإجنازاته وعطاءاته كما كان يف حياته.. عرفت يف حيايت احلزبية كثريين من الرفقاء واألمناء تقاربت سريهتم احلزبية مع اهلم احلزيب عنده على سريته يف رهن كل دقيقة من حياته للعمل احلزيب ،ويف سيطرة ي لكين مل أعرف أن أحداً تقدم عليه .كما مل أعرف أحداً عاد مريضاً يف هم ،و ي كل ي مستشفى كما عُدنا األمني الياس يف اجلامعة األمريكية منذ مخسة أ عوام ،وغادره حمتفظاً بالفرح واملرح الذي أشاعه ذلك «املريض» يف نفوس ُمعيديه.
271
الحاضر في صفوفنا هيام نصر اهلل محسن
« قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود» نودعك أيها األمني هبذه املعرفة وهذا اإلميان ي الذي ائتُمنت على الكثري وحفظت األمانة! مللمت فرحك ،ورحلت مثخناً باجلراح...
بصمت وهدوء طويت آالم نفسك ورحلت.. رشفت املرارات حّت آخر الكأس.. فما ذبلت االبتسامة يوماً، غص الفرح.. وال ي هذا قدر املصارعني األوفياء، يلف احملييا.. يرحلون وقوس النصر ي مطمئنا ،رضيياً ،هانئاً. أعطيت من نفسك بال حساب.
* كلمة لها ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
279
وال توقيت وال منية..
دفق خري كنت أينما حللت!! وضعت يدك على احملراث منذ البدايات
وبذرت ما اكتنزتْهُ نفسك وروحك من تعاليم املعلم ومل تسقط يدك! بل جسدك هوى.. ما التقينا مرة إال ...ونزفنا،
فكثرية كانت أوجاعنا... وخطيئتنا أننا مل ننفجر!! انفجرت.. انفجرت؟ لو ماذا لو ُ َ لن أغفر لنفسي ..لن أغفر.. عاتبة أنا ،بقدر احملبة! قلت يل وجزمت مراراً أنك َ سرتف جبناحيك النازفني فوق منازل األحبة.. ي
يف كل بقاع سورية ،وترتك من نزفك بصمات.. وما فعلت ..أعرف، تسارع النبض يف قلبك ،ووهن اجلسد.
أعاقا حركتك ..وهزما أمنيتك! فأويت إىل حمرابك!! كنسر مشظيى وحمليق صعوداً..
سيقال الكثري عنك وفيك، لكن أحداً لن يفيك!! يا من غرست على كل درب ومفرق
278
آيات ومآثر سعاده ..ويف كل قلب وعقل بعثت نشوة اإلميان ،وألق املعرفة... حبب! وأطلقت أجياالً يف الطرقات الشاقة الطويلة ..بأدلتك ي حباً ي عربت وشائج القلوب،
وسكنت وجدان النهضة... فهنيئاً لك تراب سورية وهنيئاً لك كل هذا احلب
277
طيف ب ـ «سعاده» ال ُـم ّ
نزار سلّوم
طيف بسعاده» برحيله -يبدو يل رحيله الوادع استنفاداً لطاقته فاجأين «الـ ُم ي وطريقته املرهفة واالحتجاجية الصاخبة يف ٍ آن -ألين متي يقن أن بعض الرجال ال
ميكن ،بل ال جيب أن يرحلوا ليس ألهنم ليسوا من البشر فال خيضعون لناموس املوت ،بل ألهنم ،وبالضبط ،األكثر اقرتاباً من اجلوهر البشري ،ومبعىن أكثر ثقافة،
من اجلوهر اإلنساين. كنت ،وما أزال ،أخال «الـ ُمطييف بسعاده» مندجماً باجلوهر اإلنساين اخلالص أبعاده البشرية وأوصافه الـ ُمحددة له كرجل، إىل حدود التماهي الذي يُسقط منه َ ليُظ ِهر فيه الوهج -املهيب الداخلي اخلاص الذي ال ُحياط ببعد وال يُقاس مبقياس. اجملرد ،فيبدو كصاحب إنه نوع من القدرة املتميزة اليت تذهب بصاحبها إىل بوابة ي سلطة ليس ألنه لديه سلطة بل ألنه موجود بذاته .ويبدو كضرورة ليس ألننا حنتاجه اآلن وحسب ،بل ألننا حنتاجه دائماً ويف كل وقت. تتأسس حاجتنا إىل « الـمطيف بسعاده» على خاصة متيزه وتتعلق بنا يف ٍ آن، ُ ي ي وهي أننا (ُجيعنا) حباجة إليه. وإذا كانت هذه اخلاصة حتيله إىل مرتبة «الضرورة اجلمعية» فهذا ال يعين متاهيه االدعائية بشخصية «الـ ُمنقذ» أو «الفادي» -كان حريصاً على نفي هذه الصفات ي * كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
211
عن نفسه -بل يعين قدرته الفائقة على إكساب ارتباطه (بنا) ذلك البعد الذي جيعل من هذا االرتباط ضرورة ال غىن عنها .كان وما يزال ضرورة لنا ُجيعاً. طيف بسعاده» ذاته انتماءً إىل النهضة السورية القومية االجتماعية صاغ « الـ ُم ي صياغةً على مستوى ٍ عال من األداء املتمييز مفهومياً وأخالقياً ،فشكيل بذلك «حمالً» مسكوناً باالطمئنان والثقة اخلالصة ،فلم يبتكر «قراءات» وال «مناهج» جديدة أو غري جديدة تدعوه للتباهي -وقد أدت إىل الضياع ..والذل -ولكنه كان استثنائياً يف قدرته الدائمة على ابتكار النهضة يف النفوس اجلديدة.
يف هذا املستوى يكمن إبداعه اخلاص واملتميز. وإذ حتاول «املناهج» املبتكرة االبتعاد بالنهضة عن مسارها ،فتدب الفوضى يف الطريق فيُعمي غبار البلبلة األبصار ،وختتلط املقاييس وتنقلب املعايري ،فإن
«الـ ُمطييف بسعاده» ما يلبث أن يرفع صوت النهضة جملجالً فتتيجه األبصار الشاردة صوب سارية سعاده وتلتئم الصفوف يف مسار احلق. ظننت مرة أنه خيفيه يف قلبه ،لكنين ....و ..ولكثرة ما هو مسكون بسعادهُ ،
حاولت اقتفاء أثره يف مساره الطويل -مسار أطول من دهر وأقصر من وحيث ُ ضرورة -مل أجد سوى قلبه ....وسعاده.
211
إنه األمين األمين حسن عز الدين
ا لياس جرجي قنيزح رجل من أصحاب سعاده الزعيم اخلالد ،إنه واحد من أولئك األوائل الذين صاغتهم النهضة القومية االجتماعية ،وربَّتهم على فضائلها ومقاصدها. من االنتماء إىل املمات ..حياته واضحة مقروءة. إميان ،عزم ومضاء. صدق ،طهر ونقاء. تواضع ،حب ووفاء. تقديس واحنياز لقيم احلق واخلري واجلمال ،واحرتام للحياة ،ولألحياء. لقلت فيه: لو كان يل أن أختصره يف ُجلة واحدة ُ
«إنه األمني األمني» فصلت قليالً لقلت فيه ثالث كلمات: ولو ي كان مرتعاً باإلميان بسعاده وهنضة األمة ،عامالً هلا ،متحداً احتاداً كامالً بالرسالة
وأهدافها ومثلها العليا .وجتربةُ اإلميان عنده قد مارست تفوقها يف كل مكان ويف كل زمان ،ومن خالل كل املسؤوليات اليت ُعهد هبا إليه.
* كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
212
فالقومية مبا هي «يقظة األمة وتنبيهها لوحدة حياهتا ،ولشخصيتها ومميزاهتا ولوحدة مصريها» ..كانت ديناً له .هي على فمه قيثارة ،ويف قلبه نبض ،ويف عقله استنارة ،وهي كل رؤاه ،كل خطاه ،كل حركاته ،بل كل أحالمه وأمانيه وخاطرات نفسه. وكان بسيطاً متواضعاً وزاهداً يف مغامن الدنيا .وُجيعها مل تكن هواية له ،بل كانت سلوكاً وفطرة وأمانة.
كانت سعادته باجلماعة القومية وأبناء األمة الذين تث يقفت عقوهلم ،وحسنت
تربيتهم واستنارت بصائرهم واستقامت أخالقهم ،ومشوا إىل أهداف قضيتهم القومية بثقة وثبات .فال نزعات فردية وفئوية ،وال احنرافات. وهو إىل هذا كله ،كان صرحياً جريئاً ،يصدح صوته باحلق الذي يراه. كان يغضب ممن تأخذهم مغريات احلياة فيحاولون االنتصار هبا. كان يفعل ذلك وباستمرار ،ألنه عاش حياته صادقاً ،وألنه كان ومن مرافقته للزعيم يف املدرسة احلقيقية للنهضة وللقيادة.
فعلى عمره املديد -كم اجتهد بفرح يف تأييده للصواب! وكم اجتهد يف دحضه للخطأ! وكم باعدت صراحته وحواراته بينه وبني آخرين يف احلزب! رحليه موجع .لكنه فيما آمن وفيما فعل سيبقى. لعل الكثريين من رفقائه ممين عايشوه إنه ضمري ي معرب بعد غياب الزعيم املعلم .و ي وزاملوه يقيسون بسلوكه ومواقفه رؤاهم عن احلق واخلري واجلمال. له اخللود مع الشهداء.
212
سيرة خالدة نواف حردان
األمني الياس عميد الداخلية الناجح يف حزبنا ،ناموس الزعيم ،ذلك الرجل اجلبار القوي الشخصية ،صاحب الكلمة البليغة النافذة القاطعة كح يد السيف، ترد ،السريع اخلاطر احلاضر النكتة ،الرفيق الغيور واألمني الصادق احلجة اليت ال ي و ي والصديق الصدوق. إنه مل ميت ..ألن أبناء احلياة احلقيقيني ال يطويهم املوت ..واألمني الياس كان من أبناء احلياة املصارعني اجمللينيِ .. وس َري هؤالء املصارعني ..تبقى يف ضمائر أبناء النهضة ..خالدة ال متوت ..تبقى جديدة أبداً ..ومعناها يتجدد كل يوم ..ينحين أمامها تاريخ هنضتنا ..إجالالً واحرتاماً وتقديراً ..فال تقاس معها األيام ،وال ينال كر السنني. منها مرور األيام ..و ي األمني الياس جرجي مل ميت ..ألنه كان ابن النضال الكبري ..وأبو الواجبات
املقدسة العظيمة. أال طوَّب لرواد النهضة املصارعني ،قادة الفكر والواجب واحلق والنظام. طوَّب هلم ألهنم أعطوا ومل يأخذوا ..ولكن يف ضمائر رفقائهم وتاريخ هنضتهم خيلدون.
* من كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
214
السنديانة.. عبد اهلل قبرصي
سبقته عاماً واحداً يف االنتماء إىل احلزب وسبقين بأن نذر نفسه للقضية ونذر عائلته ،فما قَبِل أيية مهنة وال أية وظيفة ،منذ انتمائه ،إال العمل يف قيادة احلزب ..أو
صفوفه. لقد اقتنع يف أواخر أيامه ،أن ال حياة للحزب إال بتحقيق وحدته ،فقال يل إين مستعد أن أطوف البالد وعرب احلدود مب يشراً بالوحدة. ماذا ميكن أن تكتب عن رجل نذر نفسه للقضية اليت آمن هبا وعمل هلا طوال حياته حّت رمقه األخري؟ لعلي بني األمناء والرفقاء أكثرهم التصاقاً به يف السنوات األخرية من عمره،
أتردد عليه باستمرار ألن الشيخوخة -رغم أنه ما شاخ إال مؤخراً جداً - فكنت ي تفرض على صاحبها العزلة ،فالناس ال حيبون الذين أكل الدهر منهم وشرب ،بقدر ما حيبيون أهل احلركة واحليوية الناشطني يف كل امليادين واحلقول. إن األمني الياس جرجي قنيزح الذي ق يدره رفقاؤه فرفعوه إىل مرتبة رئاسة احلزب مر بكل القنوات وكل املسؤوليات من إدارية وسياسية وقضائية .انتهى وهو رئيس ي
* كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
215
للمحكمة احلزبية العليا .وحيثما وجد كان يعطي كل ما ميلك من خربة ووعي ومقدرة. ما كتب مذكراته ،ولكنه كتب لنا مآثر من سعاده ..هذا الكتيب أكمل معلوماتنا عن الرجل العظيم ،فقيدنا الراحل الكبري الزمه كناموسه وكعميد للداخلية، حّت أيامه األخرية يف الشام ،وما رواه عنه رواية شاهد عيان ..شاهد مرافق ،شاهد صادق وأمني. كنت أعرفه عميداً للداخلية ،يف سنوات انتمائه األوىل ،مث يف سنوات نشاطه يف
الوطن وعرب احلدود ،فإذا يب يف بستان -قرب بانياس ،أمسعه ،خيطب مرحباً باألمينة األوىل ،زوجة سعاده اخلالد ،فإذا به خطيب قدير ،ال يتلعثم ،ال يرتدد ،ال يكرر. إال أن ميزته األساسية ،امليزة اليت يكاد يتفرد هبا بني القدامى من جيله -ألن جيل الشباب يعىن بالنوابغ والقادرين -هي العمل اإلذاعي واإلداري حم يدث وحماضر وحماور حتسبه وهو يف كرسيه يف داره على منرب يف حفل عام ،أسلوبه اإلقناع أحياناً بالصراخ والتقريع وأكثر األحيان باحلجة الدامغة ،ودائماً بالنكتة الظريفة اليت تسهل أمام السامع ارتياد احلجج املشدودة إىل الفلسفة وعلم االجتماع وعلم االقتصاد وعلم النفس!..
يف ذروة احلوار والنقاش كان األمني الياس يطلق نكته من مبتكراته ،فإذا اجلو بارد بعد توتر ،وإذا السامع متعطش إىل املزيد. قلنا أنه نذر نفسه للقضية القومية االجتماعية ،ولكنه نذر عائلته أيضاً فزوجته الرفيقة سوسن ،وولداه متوز وفداء ،مؤمنون حّت العظم بالقضية القومية ،يعاملون الزوج والوالد كأصدقاء للحزب ال كأبيهم فقط. حي صائر إىل الرحيل ،ويف آخر أيامه صائر إىل نوع من العجز كل كائن ي الطبيعي ،خربت بنفسي كيف كانت الزوجة األمينة ،واالبن والبنت يعاملون القائد، بأي حنان ،بأي احرتام ،بأيية تضحية! بوركت العائلة القومية يف هذا السلوك الكرمي. 211
ليست آثار املعلم وحدها هي اليت تركها لنا األمني إلياس مكتوبة ومطبوعة ،لقد ترك لنا سجل حياته الطويلة ،إهنا أيضاً مليئة باملآثر والفضائل والتضحيات.
األمني ا لياس جرجي سنديانة من سندياننا ضربتها العاصفة ،إهنا حتت الرتاب
وأغصاهنا فوق األرض ،تنبت لنا سنديانات تُناطح السحاب ،القومي االجتماعي الذي يهب حياته للحزب ال ميوت ،كل كبارنا من الصحابيني وغري الصحابيني الذين عملوا بأخالق وصدق -يف سبيل النهضة ،خالدون يف قلوبنا إىل أن تقوم القيامة.
219
مذيع مديرية شتورة محمود غزاله
واحد من أبرز الصحابة الذين أثيروا يب ،فهو يعليم بالقدوة ،مل يتصنيع اإلميان ،وال
هو نادى بأفكار مارس خالفها ،وال استغل موقعه ملكسب شخصي. املشهد األول الذي محل االنطباع امللفت ،كان حني نقلت وكاالت األنباء من السراجي يف اخلمسينات ثورة طفلة يف سنواهتا األوىل على داخل حصون النظام ي
تصرفات رجال «السلطان األمحر» وقذفتهم بسيل من االحتجاجات اليت بات ُجاعة حقوق اإلنسان يتحدثون فيها اليوم ويالحقون على أساسها األنظمة القمعية. وملا حبثت عن هوية هذه الطفلة ،جاء اجلواب يف رسالة وصلتين وأنا يف جريدة تصرف الطفلة، «الزوابع» تقول أهنا فداء ابنة األمني الياس جرجي قنيزح ،فقد ي عزز ي تقدير والدها يف نفسي. املشهد الثاين ،كان يف السنة ،1795يوم أسست «التعاونية االستهالكية يف برج محود وسن الفيل واجلوار» جاءين األمني الياس جرجي ليبلغين استعداده ألن يضع كتفه إىل جانب أكتاف اجملموعة اليت أخذت على عاتقها مسؤولية إجناح املشروع - احللم -وقد أكد أكثر من مرة أنه ال يبغي يف ذلك غري جين النجاح ،للحجر الذي بدأ يف سن الفيل ،وانتش ر يف الشوف ومشسطار ،وبتغرين ،ليشمل يف دراسة اجلدوى مشاريع إسكانية وأخرى إنتاجية حرفية ،أحرقها ُجيعاً جحيم الطائفية البغيض.
* كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
218
املشهد الثالث ،حني هتف رئيس احلزب األمني الياس جرجي ،من بيت مضيفه إيل يف مشغرة يبلغين أنه اختارين عميداً لإلذاعة ،والحظ أنيس ُجال يف سوق الغرب ي
لكل شيء يف احلياة حرييت على اهلاتف حني بادرين بالقول« :إهنا املرة األوىل ،و ي أول» ،لقد بقي هذا االنطباع ماثالً يف ذهين إىل أن كان املشهد الرابع ،حيث طلب رئيس احلزب التهيئة إلعادة إصدار «البناء» أسبوعية ،وليس يف خزينة احلزب ما يكفل بتسديد كلفة طباعتها ،مصراً على القول أنه ليس هنالك مشروع فاشل ومشروع ناجح ،هنالك إنسان فاشل وآخر ناجح.
مهماً من عناصر جناح مشروع إصدار «البناء» وال ب يد أن أسجل هنا أن جزءاً ي يعود إىل األمني ميشال نبعة ،الذي اخرتتُه وكيالً لعميد اإلذاعة ،فوقف جهده ووقته وعالقاته على إجناح املشروع وكانت« ،البناء» ألول مرة يف تارخيها مشروعاً فكرياً -
اقتصادياً جمدياً. املشهد اخلامس ،كان يوم ذهبت إىل مكتب حضرة الرئيس يف العام 1791
أطلعته على صيغة افتتاحية العدد األسبوعي من «البناء» وهي بعنوان «الكتائب اللبنانية ..والكتائب الفلسطينية» وحني انتهيت من تالوة املقال اكتفى بالقول: « سنبقى ندفع مثن مواقفنا الصرحية والواضحة اليت متليها علينا رؤيتنا لألمور». هذه املشاهد اخلمسة ليست كل ما انطبع يف نفسي عن الصحايب القدوة ،فقد نعب منها ،خصوصاً يف أزمنة كان يف املزاح ،ويف اجلدية ي يؤدي دروساً سنبقى ي اجلفاف. حّت اآلن ،هو أن رئيس احلزب األمني أما املثال الذي مل يتكرر يف تاريخ حزبنا ي
مهمته حني سليم الرئاسة إىل أمني آخر ،فإذا به بعد أيام الياس جرجي قنيزح أكمل ي لكن مذيع يف مديرية شتورة التابعة ملن يفذية زحلةُ .ر َّ ب قائل يقول إهنا خطوة عادية ،ي هذه اخلطوة بقيت وحيدة ،فهل هي عادية بالفعل؟
217
نتوق لسماعه حليم رّزوق
وم ْعلَم من معامل هذه النهضة العظيمة! سنديانة عتيقة هوَ ، كيف ال وهو رفيق املعلم ،وواحد من رعيل األوفياء! كم كنا حنن ،رفقاؤه، التزود بنصائحه ،مع املتج يذر يف األصغر سناً واألقل خربة ،نتوق إىل مساع آرائه و ي
وهم األمة! هم احلزب ي النضال ،احلامل على كتفيه اللتني أوهنتهما السنني ،ي وكم كان يطيب لنا أن جنلس إليه ونسمعه ،فكراً متوقيداً ومحاساً متوثيباً مل تنل منهما عاديات األيام وال املصاعب والويالت اليت عاناها هذا األمني ،الشيخ جسداً والشاب فكراً ومحاساً!
* من كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
211
أوقف الحوار ..ورحل غسان الشامي
مقرراً له أن يبدأ رمبا ارتدى ب يذته ،وعقد ربطة عنقه بانتظار احلوار الذي كان ي ظهرية ذلك اليوم التشريين ..رمبا.. فعلى غري عادته يف األيام األخرية ،تناول هناره بشكل خمتلف ،يف مساء الليل هتفت له ،وكالعادة ،حديث ينوشه املزاح: الذي سبق ُ أمني لْياس ..سنُجري معك حواراً ..غداً ..ونتحدث عن التأسيس وعنأشياء كثرية. غداً صباحاً ..أيها املواطن؟ -ال ..املواطن يقول بعد الظهر يا نيافة األمني.
اتفقنا.غري رأيه بعد ارتداء تأخر عن موعده ..أو ي لكنه ي تأخرنا يف ضرب املوعد ،أو ي مالبسه ،مث اتيكأ على طاولة الفطور ..ونام .رمبا يأرقه ذلك الليل البريويت ،ومل ميازحه أحد ،أو مل يستطع أن «يرِّكب» مزحة تغدو «نادرة» على ألسنة الرفقاء.. رمبا تعب فأوقف احلوار ..ورحل.
* كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
211
الياس جرجي قنيزح ..بعينيه الذكيتني ،وابتسامته الساخرة ،وطريقة ممازحته امللتبسة ،وعقيدته الصرحية اليت قطع يف سبيل نشرها سهول وجبال هذه البالد.. رحل. رحل تاركاً ابتسامته وألق عينيه ،وفكاهته امللتبسة ومتاهي الرجل بالعقيدة.. كوة يف ذاكرة التأسيس ،يف التعب وهكذا وبعد ستني عاماً يرتك «أمني الياس» ي والعرق والسفر مشياً ،ويف الكالم احملب عن عقيدة صاغت شخصيته ،فاستطاع
الدخول إىل عقول وقلوب من الْتقاه وصاروا فيما بعد جيشاً من رفقاء.
هكذا ..رحل رفيق الصعرت ،وخبز التنور ،وقادوميات القرى ،ورجل املواقف الضاربة يف الصدق ..ويف هذا الرحيل بعض من غياب رائحة متميزة ..ألن ُجياً من الرفقاء يعرف أن حواراً طويالً مع اإلميان بصنع التاريخ الباسم قد ..توقيف.
212
رحيل السنديان «البناء»
غادر الياس جرجي قنيزح كرسيه ،وغادر «البناء» اليت رافقها منذ صدورها وكتب فيها بعضاً من حياة ،ومواقف وتاريخ. الرجل الذي أينع يف تالل وجبال وسهول هذي البالد. األمني على الوعد وعلى املسرية وعلى الكلمة. من حبر طرطوس إىل حبر بريوت إىل ضهور الشوير إىل جبال الساحل والداخل إىل عمان وإىل أقاصي اجلزيرة السورية ..مسافات عرفته وخربها ويا ما أحبته وأحبها ويا ما له من أحبة ورفقاء وأصدقاء يف كل مطارح هذي البالد الشاسعة. غادر الياس جرجي قنيزح كرسيه ..غادرت معه ابتسامة ُجيلة لكنه مل يغادر الذاكرة ..وال الضوء.
* كلمة التحرير في مجلة «البناء» ،العدد 879تاريخ .1779/11/8
212
أجيال نضال عماد أبو جود
األمني الياس جرجي قنيزح هو جزء من تاريخ احلزب السوري القومي االجتماعي .فقد انتمى إىل صفوف احلزب منذ بدايات نشوء احلزب وزامن سعاده واضع العقيدة القومية االجتماعية ومؤسس احلزب وزعيمه ،وكان األمني الياس يف سدة املسؤولية طوال فرتة عضويته يف احلزب وها قد فارقنا تاركاً يف قلوب رفقائه
حسرة ويف نفس كل منهم ذكرى ..وإنين من الرفقاء الذين كان هلم شرف التعرف إىل األمني ا لياس عن كثب وممن ُجعتهم به أعمال مشرتكة إما يف دائرة واحدة من دوائر احلزب وإما ممن تقاطعت مهماهتم مع مهمات األمني الياس ..ويف إطار ما دونتها يف حينها ،وأبقيتها طي ذكرت أعاله ..صارت بني األمني الياس وبيين قصة ي دفرت ذكريايت... أما اآلن وقد فارقنا األمني إلياس أرى أنه من واجيب ووفاءً لذكراه وملا جيس يده يف
قلوبنا ويف نفوسنا أن أفرج عن هذه الوريقات أمام املأل ألقص ما يلي: كلفتين عمدة اإلذاعة واإلعالم يف احلزب السوري القومي االجتماعي بصفة مذيع مركزي لتغطية حلقات إذاعية يف منطقة صور يف إطار برنامج املن يفذية هناك.
وكانت احللقات اليت أقوم بواجب تغطيتها حمصورة باملواطنني املقبلني على االنتماء إىل صفوف احلزب.
* كلمة له ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/1
214
إيل أسبوعياً طوال الفرتة املمتدة من ظهر يوم اجلمعة حّت كنت أنفذ ما عهد به ي
مساء يوم األحد حبيث كنت أتنقل بني معظم قرى املنطقة حبسب برنامج مع يد مسبقاً من قبل نظارة اإلذاعة واإلعالم يف املن يفذية.
استمريت على منوال القيام هبذه املهمة على مدى السنتني تقريباً من الثمانينات. من جهة أخرى كنت خالل تلك الفرتة عينها أتردد بالزيارة إىل بيت األمني ا لياس جرجي قنيزح الكائن يف منطقة احلمراء حبيث جتمعين باألمني الياس صداقة متينة على الرغم من فارق السن بيننا ،فهو من مواليد 9191وأنا من مواليد 9191كينا خالل الزيارات نتبادل أطراف احلديث ومنها حول جتارب األمني الياس احلزبية ومنها حول العمل اإلذاعي الذي أقوم به من يف من يفذية صور. وكان قد عُهد إىل األمني الياس آنذاك مسؤولية «مفتش إداري» على فروع احلزب من قبل عمدة الداخلية ..وتوافق أن برنامج عمله يف مهمته قد تقاطع مرة مع برنامج مهميت يف من يف ذية صور إذ كان عليه زيارة جنوب لبنان للتفتيش يف إدارة
من يفذيات تلك املنطقة واتفقنا على االنطالق معاً إىل النبطية حيث نفرتق كل يف مهمته على أن نلتقي مساء األحد يف بلدة صريفا يف قضاء صور كي نعود معاً
صباح االثنني باكراً إىل بريوت ..مت االنطالق حسبما هو متفق عليه ..لن أتكلم اآلن عما دار من أحاديث خالل الرحلة ولكن أقول بأن الوقت يتسلل وينساب لالنقضاء بسرعة من دون أن نشعر به عندما نكون حبضرة األمني الياس ..فهو خمزون هائل من اإلميان والتاريخ واخلربة وسرعة اخلاطر والطرافة اليت ختفي عربة بل عرباً وهذا الرأي ليس رأيــي وحدي بل أنه رأي كل من عرف األمني الياس. عدنا وا لتقينا مساء األحد يف بلدة صريفا يف منزل الرفيق أبو علي نزال ،وبعد سهرة امتدت إىل أواخر ساعات الليل وقد يأمها عدد ال بأس به من رفقاء من يفذية
فوت انتقلنا بعدها للنوم حيث فرش لنا الرفيق صور ألن السهرة مع األمني الياس ال تُ ي 215
أبو علي يف غرفة اجللوس لتوفر الدفء بسبب وجود «الصوبيا» .ب يدلت ثيايب بسرعة
وحتضرت للنوم يف حني أن األمني ا لياس كان جيد بعض الصعوبة يف تبديل ثيابه مما دفعين إىل املبادرة ملساعدته وقد قلت له بشكل عفوي« :أمني الياس آن األوان لك
لكي ترتاح .»...وضع األمني الياس يده على كتفي عند مساعه قويل هذا وكأنه يريد أن يدفعين عنه تعبرياً عن احتجاجه على ما قلت له ،وقال يل« :أرتاح؟! ..إذا فكرت أن أرتاح ..أنا مبوت ..يوجد أسباب كثرية حتول دون الراحة ألمثايل.. فالنهضة مل تنتصر بعد ..والقوميون االجتماعيون على الرغم من صحة عقيدهتم وقوة إمياهنم فأهنم يف حاجة دائماً إىل املتابعة والقدوة »..وأضاف بعد صمت قليل؛ «.. وال أخفي عليك يا رفيق عماد بأن يل قدرة تنهضين إىل مواصلة النضال وهي عوامل فاعلة ومؤثرة على إراديت فإننا نزامن اآلن يف احلزب السوري القومي االجتماعي مرحلة نوعية من مراحل االستشهاديني وأنا أرى بأن نضال اجليل الذي أنتمي إليه على الرغم من تضحياته اجلسام اليت تعترب من مواهب التاريخ النضايل للحزب وعلى الرغم من أهنا أسست للمرحلة الراهنة إال أهنا تعترب برأيــي مرحلة الطفولة واليفاعة من عمر النضال احلزيب ..وأما االستشهاديون فإهنم جيسدون مرحلة الشباب والرجولة من عمر هذا النضال ...وإنه من غري الطبيعي عدم جماراة حركة احلزب النضالية يف ُجيع مراحله وعدم العمل على تطوير أدائه طاملا منلك اإلمكانية وطاملا يف ذلك حتقيق لغاية احلزب يف مسريته الصراعية للوصول إىل اجملتمع.»... وتابع األمني الياس بعد صمت أيضاً « ..إن نضال القوميني األوائل بالنسبة إىل تاريخ احلزب وحجم التحديات وأدوات وأساليب النضال مقارنة مبا هو احلال اآلن هو مبثابة طفل بدأ بالنطق ..حيث يقول ...بابا ..بابا ..ماما ...ماما ...وأن هذا الطفل يصبح غري طبيعي إذا بقي ال ينطق بسوى بابا ..بابا ..يف الوقت الذي أصبح فيه رجالً ..ولكي يستفاد من خدماتنا ال ب يد لنا من امتالك روحية املرحلة الراهنة ..لن أرتاح يا رفيق عماد فإذا كان ليس بإمكاين القيام بنضال على مستوى 211
االستشهاديني إال أنين سوف أواصل عطاء ما بإمكاين عطاءه طاملا أنين أتنفس وأقف على قدمي ..وطاملا عقلي ينضج ولساين ينطق ..وطاملا أن النهضة السورية القومية االجتماعية تنادي رجاهلا ..وسوف تبقى حباجة إليهم حّت ولو انتصرت».. البقاء لألمة يا أمني الياس فلقد كان ما أردت وناضلت حّت الرمق األخري. اخللود لسعاده. ولسوف تبقى يف وجداننا ذكرى ُجيلة ولن ضالنا قدوة الستمرار العطاء واإلميان بالنصر.
219
صفاء الرسل سهام بشير جمال
إىل األمني الياس قنيزح حني يرحل التاريخ جترفنا موجة حزن ال وصف هلا .نقف وجلني صامتني ونود لو نغمر فيك كل املاضي يف حضنة أو قبلة كي ال يضيع .نود لو نتوسده راحة وأمالً لالستمرار يف زمن الردة. يا أميننا الغائب ،مل ترحل باكراً بالعمر ،لكنك رحلت باكراً من حبنا الكبري جسدمتوه ألمثالك وعطاءاهتم وتفانيهم وزهدهم باألنا وتعليقهم باآلخر .هذا التعلق ي يف مطارح واسعة من األمة زرمتوها مشياً على األقدام يف الليايل الباردة والصباحات اآلملة .محلتم الفرح بنور العقل ،طردمت ظلمة الغرائزية .أشعلتم ضوء األمل ٍ بغد واعد مساواة وعدالة وقيماً وحضارة مشعشعة على العامل دون عوملة مصفاة من االنغالق والتعسف والظلم والكراهية. يا أميننا الغايل ما أُجل ما حتليت به من صفاء البساطة واملرح والتواضع والتسامح وروح احلوار املنفتح .أذكر سنة بكاملها حني كنت رئيساً للحزب ويف أحلك الظروف .وكنت يف بيتك معنا يف مشالن ال زلت لليوم أمسع صوت األوالد أمرها والوطن يف حمنة قاسية ينادونك «عمو الرئيس» أحالها أيام وحنن مبعيتك و ي والعام ٍ .1791 ليال طوال سهرت وسهرنا معك ،مراجعات ومطالب وقصف
* كلمة لها ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/2
218
وخطف وموت ودمار وال ضوء يف األفق .وصراع األخوة الرفاق على أشده .يا لصربك الطويل وحمبتك العارمة وثقتك بأن يف النفس السورية كل حق وخري وُجال. فهل ميكن أن تضيع وما كنت لتصدق ذلك.
ٍ متفان كأصدق ما تكون احملبة. يا أميننا الغايل ،أنت صفاء الرسل األوفياء.
متسامح كما تسامح الشجعان القادرين .معطاء من ذاتك حّت االستشهاد برحيلك أحب األمناء .يا أبا فداء. فقدنا الصفوة .أال فليكن هذا الغياب اخلمرية وامللح يا ي
217
«نكهة» إلياس جرجي بشير موصلي
ا لياس جرجي ال يرثى بالعواطف وحدها وال مبا أعطاه فقط ففي كل وجه من أوجه احلياة حمل للرثاء. العطاء والتضحيات ومواكبة مسرية احلزب واإلخالص والبذل واملناقب وغريها وغريها من الصفات جزيلة وحافلة يف تاريخ احلزب مل ينفرد هبا يوماً عدد قليل من املضحني بالدم واملال أعضائه .فقد متيز احلزب عرب تارخيه الطويل بوفرة املناضلني و ي والصحة والعائلة واألبناء ،بالوقت وبكل ما ميلكون يف سبيل انتصار قضيتهم وحتقيق املصاحل العليا ألمتهم والدفاع عن استقالل وطنهم ووحدة أراضيه. وكان دائماً لكل مناضل مميز «نكهة» خاصة به متييز عطاءه وتفرد نضاليته، وحتمل شخصيته والياس جرجي ،كما عدد من أمناء وأعضاء الثالثينات واألربعينات ،التصق باملسؤوليات احلزبية من صغريها حّت أعالها حلظة انتهى من أداء القسم حّت حلظة انتهاء نبض احلياة يف عروقه. مبكراً وهو شاب وصل إىل املراكز القيادية ..فأمامي اآلن حتت زجاج طاولة
مكتيب هوييت احلزبية رقم 242تاريخ (املركز يف أول يناير )1748عميد الداخلية إلياس جرجي -توقيع -مل يتغري حّت اليوم.
* من كلمة له ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/4
221
كان القيادي الوحيد الذي استبقاه الزعيم إىل جانبه بعد أن حل جملس العمد، خرجت أجياالً وعيينه ناموساً للزعيم بعد عمدة الداخلية وال تزال بصماته حمفورة ،ي من وكالء العمدة واملنفذين العامني. شعاره «العمل 48ساعة يف األربع وعشرين ساعة» وعلى من يعمل معه أن يكون مستعداً هلذا التوقيت «اليسرجي» فهو مل يعرف الراحة وال حيب «الكرسي» ووحده متيز يف تاريخ احلزب بلقب «العميد املتجول» فاجللوس وراء املكتب ال جيوز عنده أن يتجاوز بضعة أيام لتحضري تقارير جوالته العائد منها .ولإلعداد جلوالته الذاهب إليها« .فاحلزب ال يدار من املكاتب». أواخر األربعينات ومطلع اخلمسينات رافقته يف جوالت حزبية عديدة أثناء دراسيت اإلنكليزية يف الصيف يف اجلامعة األمريكية .وال أذكر مرة أننا وصلنا منطقة حزبية قبل منتصف الليل .فهو يعصر النهار وحّت آخره قبل أن يتوجه إىل الزيارة التالية .مرة وصلنا إزرع يف الثانية بعد منتصف الليل وفتح لنا هاجم فلوح الباب. أول مرة ألقاه ،ومل ِ ميض على زواجه سوى سنتني أو ثالث .وبعد اسرتاحة قصرية (نوم) للصباح بدأ العمل مع الفطور .ومهما كنت أصغر منه يف السن فهو أبداً سباق يف االستيقاظ ويف بدء العمل ويف السري الطويل ويف الساعات املتواصلة من الدرس أو النقاش أو الزيارات العملية. يف العبادية قرب عاليه فتح لنا أنيس أبو رافع الباب بعد منتصف الليل والثلوج متأل الطريق حيث مشينا على األقدام من مفرق العبادية على طريق الشام وكان معنا شاهني شاهني وكيل عميد الداخلية املقيم يف منتصف شارع جان دارك. ويف الزبداين استجد أمر خالل االجتماع اقتضى إحضار املسؤول احلزيب من ألتوجه فوراً إىل هناك سرياً على األقدام عرب احلقول بلودان ،فاختارين األمني الياس ي املغطاة بالثلوج تعكس ضوء القمر وكأنك يف النهار وليس معي سوى عصا غليظة
221
زودين هبا مدير املديرية يف الزبداين .ورغم صالبتها مل تستطع ختفيف ضربات قليب وألطرد اخلوف من ضبع جائع. مركز احلزب عام 1749كان يف أول شارع املعرض على اليمني صعوداً حنو جملس النواب وهناك كنت أتواعد معه على اللقاء ،كلما حضرت من دمشق .وكان يعرف أعضاء من يفذية دمشق واحداً واحداً وباالسم. يف فرتة اخلمسينات حتمل من اإلساءات ومن االضطهاد النفسي ما ال ميكن وصفه« .فهجر» عمدة الداخلية وسرت معه يف شوارع دمشق ُجيعها والدموع يف عينيه وهو يفرغ ما يف نفسه من آالم زرعتها التصرفات اليت أوصلت احلزب إىل كارثة عام .1755 مر به من عطاء وعمل وفرح وحزن ومصاعب وانشغال ومهوم حافظ كل ما ي يف ي على ميزة مل تفارقه حّت وفاته وقد عرفها كل من الْتقاه ولو لساعات قليلة ،وهي ميزة املرح والنكتة احلاضرة .ولوال تلك امليزة املميزة لكان الياس جرجي غادرنا وهو شاب فلطاملا كان يضحك مع كل من حوله واحلزن ميزق أحشاءه.
حكاية الياس جرجي مع احلزب هي متاماً حكاية حزب مع عضو مل يكن كباقي األعضاء .حكاية تفسرها اجلموع اليت حضرت تلقائياً وبدون تدبري مسبق أو منظم وقبل أن تصلها النعوة رمسياً لتشارك يف وداعه .يف كل بيت قومي اجتماعي له،
ذكرى ،من القامشلي إىل صور ومن امليادين إىل طرابلس ،وكل ما بينهما من مدن وبلدات وقرى يف الساحل ويف السهول ويف اجلبال ،إىل كل فرع من عرب احلدود. سكن القلوب بوداعته وأشاع االبتسامات يف أحلك الظروف ونسي نفسه متاماً
ينس حزبه وال دقيقة خالل ستني عاماً وأكثر .حّت خالل ستني عاماً وأكثر ومل َ اإلهداء على صورة له حبجم كارت بوستال قدمها يل عام « 1747كان حماضرة حزبية» (ال زلت أحتفظ هبا).
222
وبعد قد ال تكفي عشرات الصحائف لتسجيل مآثره وجهاده ونضاله وطيبته وعفويته وكل ما مر به من ٍ مآس وأفراح ومن انتصارات وانكسارات ومن جناح وخيبات من نسور وثعالب ومن أصدقاء ورفقاء ومن فريسيني ،ويوضاسيني .ولكنه يتكرر. يبقى أبداً هو من الْ َّ تف «اجلميع» حول نعشه يف الوداع األخري .وهو من مل ي
222
األمين «القديس» إلياس مخلوف
كثريون هم الذين سيكتبون عنك لريثونك.. وكثريون هم الذين سيتعزون مبا خليفت وأبقيت.. وكثريون هم الذين سيقولون بأنك ٍ باق بيننا ويف اجملتمع الذي كان يساوي كل حياتك ووجودك .فتلك هي ُسنَّة احلياة ،بل ُسنَّة املوت يف احلياة .وهو حلقة من حلقاهتا حيث تستمر احلياة رغم املوت ،خطوة متوت لتلد بعدها خطوات ،فال تتجمد احلياة وال تسري إىل عدم. روح تبقى بفعل الذي تبقيه وتتخلد فيه ،وجسد ٍ بال ال قيمة له يزول .وقد كنت جس دهتا أفكارك وأعمالك وعطاياك يف حياة األمة ،اليت تزول دائماً تلك الروح اليت ي أشياؤها وتتواىل أجياهلا وهي ال تتغري وال تزول. مل تكتنز من كنوز الدنيا شيئاً ومل توفر ماالً ومل تستطع حّت إكمال دروسك األكادميية كما كنت تريد وتشتهي ،فقد كنت تبتدئ هنا لتنتهي بك جهودك الطموحة إىل ما ال يوصلك إىل مبتغاك. كان طموحك كبرياً ولكن أيام الظلم واالضطهاد كانت األكرب واألقوى ،فلم تتيسر لك طريق الوصول. تتحقق فيها طموحاتك ومل ي * كلمة له ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/9
224
كرست حياتك لألمة ،للحياة اليت تبقى وتستمر ومثلك كثريون ،ولكن األكثر ي منا ُجيعاً ،كان املستغلون حلياة األمة والالعبون على متناقضاهتا واملتاجرون مبا هي
عليه من الضعف واهلوان .وقد ظن هؤالء بأهنم األذكى واألبرع يف احلصول على ما يريدون من أجل أنانيتهم ونفعهم اخلاص. كرست حياتك لألمة لتشقى أنت لقد ضربت مبنافعك اخلاصة عرض احلائط و ي وحتيا األمة من بعدك يف سريها الطبيعي للحياة أجياالً بعد أجيال. كنت صادقاً مع نفسك ومع اآلخرين ،بل مع حقيقة األمة اليت جسدت يف
نفسك من أصالتها الشيء الكثري. لقد رحلت بعد كل الذي كابدته من املصاعب والويالت ،ولكنك رغم كل الذي كان ،عنادك باحلق هو األقوى كلما ازدادت جراحاتك فيه ،كما كنت البسمة الدائمة والنفس الرضية املرحة املبلسمة للجراح ألنك كنت فوق اجلراح والصرب األقوى القادر على اهلزء باملصاعب والنكبات. كان أملك باألمة كبرياً وال مناص هلا من االنتصار .ولكن جراحات األمة
أذاقتك من العذاب ألواناً وأنت تداوي جراحاهتا هذه جبراحاتك شأن الطبيب الذي يداوم على شفاء مريضه ومريضه يأَّب الشفاء .ولكنك عاندت مع املعاندين وصربت مع الصابرين حّت الرمق األخري ،وقد أزفت ساعة احلق فكان موتك حقاً ،وكنت يف
موتك احلق املنتصر يف ذاتك من أجل انتصار حق األمة الذي يبقى ويستمر.. وهكذا تبقى القدوة الصاحلة لنا ُجيعاً يف املعاناة والصرب عسى أن تتعلم القلوب املؤمنة منك ما تستطيعه من احملبة ونكران الذات.
225
اإلنسان الجديد محمد المقلد (الشيخ)
الكالم على األمني ا لياس جرجي قنيزح ،كمن يريد أن يكشف سر الطبيعة، ففي الطبيعة فصول ،الشتاء ،خري من السماء ،يسقي البشر واحليوان والنبات والشجر« ،وجعلنا من املاء كل شيء حي» ،والربيع سر عظمة اخلالق ،حيث تتنوع أزهار األشجار وأزهار األرض بأُجل إبداعات السماء ،والصيف تكثر فيه اخلضر والفواكه من كل ما ل يذ وطاب ،واخلريف ،حيث تتعرى األشجار واألزهار كما تتساقط األقنعة عن الوجوه الكاحلة وامللونة ،واملطالة باألنانية وحب الذات. واألمني الياس جرجي متعدد الصفات كهذه الفصول األربعة ،عطاءً وُجاالً نفسياً وأخالقياً ،وإبداعاً بالصراحة والكتابة واإلذاعة واحملاضرات ،وثورة على املفاسد واملتاعب يكشف العراة واملزيفني بوضوح ،وال خيشى يف قول احلق لومة الئم ،كما تتعرى من أوراقها أشجار اخلريف. قطع دراسته العليا ،عندما طلب منه الزعيم أن يتحمل إحدى املسؤوليات املركزية. ضحى مبستقبله يف سبيل مصلحة األمة ،كان عميداً للداخلية لفرتة طويلة ،مل و ي يفصل خالهلا رفيقاً واحداً عن جسم احلزب.
* من كلمة له ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/15
221
عرفت األمني الياس جرجي قبل أن أتعرف عليه شخصياً ،عرفته من خالل ممارساته وسلوكيته وتضحياته ،ومواقفه العادلة واحلازمة. وتعرفت عليه عن كثب يوم كان رئيساً للمجلس األعلى ،ومن مث رئيساً للحزب،
وتوطدت العالقة بيننا ،وآنست فيه اآلدمية واألخالقية والبساطة والتواضع والزهد، والرتفع عن األنانية وحب الذات .فكل ما عنده ،وما ميلكه هو ملك احلزب ،وعقله ووقته ،وجهده ولسانه وفكره يف سبيل احلزب. هو مدرسة مفتوحة يف شكل دائم لتدريس العقيدة القومية االجتماعية ،وحديثه دائماً وأبداً عن العقيدة ،وتوجيهاته وإرشاداته ملصلحة احلزب ،فال حديث عنده غري احلديث عن النهضة ،وعن السبل والوسائل اليت تدفع بالعمل احلزيب يف سبيل األفضل. وكان يتأمل من كل ما يسيء ويعرقل املسرية ،ولكنه النظامي واالنضباطي ،فال يقبل مطلقاً اخلروج عن النظام ،وتوجيهاته لنا دائماً .صليحوا وعاجلوا ضمن النظام، وال خترجوا عليه. عرفته رئيساً للمحكمة العليا يف احلزب ،وعملت حتت إمرته مدة وجوده رئيساً، كناموس للمحكمة العليا. كان القاضي النزيه واجملرد ،آراؤه مدروسة وحكيمة ،ال خلفية عنده ،العدالة القومية االجتماعية هي األساس. عندما مل تعجبه املسرية ،وكانت له بعض املالحظات اليت ال جيوز السكوت عنها ،ق يدم استقالته إىل اجمللس األعلى وذهب إىل بيته بكل صمت.
مل ينقطع بعدها على رغم سنيه ومرضه عن إعطاء احللقات اإلذاعية .وعن تلبية أي دعوة حزبية يف سبيل حماضرة أو حلقة إذاعية ،واستمر بالعطاء وهو على فراش املرض.
229
املوجه ،واألمني األمني، إيل كان األستاذ والقدوة و ي األمني الياس جرجي بالنسبة ي
والرفيق والصديق الويف.
أفخر أنين أخذت الكثري من خصاله وسلوكه ،وتتلمذت على تعاليمه قدمياً وحديثاً ألنه كان موسوعة تارخيية وقومية. األمني ا لياس جرجي هو إنسان سعاده اجلدي ،مبفاهيمه اجلديدة ،بقيمه ومثله وأخالقه وعطاءاته ،كما أراد املعلم.
األمني ا لياس جرجي كالطبيعة املعطاءة اليت ال يفيها اإلنسان حقها وعطاءاهتا وُجاهلا ،فمهما قلنا فيه قليل من الكثري جداً ،وأفضل القول عنه أنه كان اإلنسان اجلديد.
228
قدوة نضالية مميزة ابراهيم الزين
تعرفت إىل األمني الياس جرجي قنيزح منذ أربعني سنة ،إذ كان يومها عميداً للداخلية يف احلزب السوري القومي االجتماعي ،وكنت مسؤوالً إدارياً يف من يفذية الطلبة ،وحبكم هذه العالقة اإلدارية -التنظيمية ،كان التعارف بيننا ،فاحملبة واالحرتام مع الصداقة القومية االجتماعية املبنية على الود والثقة املتبادلة ،واإلخالص يف العمل ،مع عالقة روحية محيمة ،بعد ذاك التعارف وعلى امتداد هذه السنوات الطوال. وللحقيقة اجملردة أقول ،لقد عرفت العديد من مسؤويل احلزب وقيادييه ،ولكنين مل أعرف أبداً من يضاهيه يف روح النكتة وخفة الدم واجلدية يف العمل احلزيب والقلق الدائم على تقدم املسرية احلزبية أياً كانت الصعوبات والعوائق املعرتضة. جلساته اإلذاعية ،وخاصة يف احللقات املفتوحة املوضوع كانت متعة يف الشرح الذي ترافقه الروح املرحة واالقتناع باحلجة يف مناخ عائلي محيم .ترافقنا مرتني يف جوالت حزبية على بعض فروع احلزب يف لبنان ،فكانت هذه اجلوالت دقيقة يف
مواعيدها وبراجمها ،عميمة الفائدة يف نتائجها على صعيد التفتيش املايل واإلداري واإلذاعي ،وتعليم املسؤولني احملليني كيفية القيام مبهام مسؤولياهتم بالتمييز والدقة * من كلمة له ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/24
227
اللتني اشتهر هبما احلزب السوري القومي االجتماعي يف عمله اإلداري الفرعي واملركزي ،وكان ذلك يف بداية الثمانينات من عمره ،فكنت أحسه شاباً يف مقتبل
العمر اندفاعاً وحيوية ومهة متوثبة.
وكنت كلما اقرتبت منه أحببته أكثر من السابق ،وشعرت معه بأنه أخ وأب
ورفيق غيور على راحة رفقائه وتنفيذ أوامر القيادة اليت انتدبته لتلك املهمة بكل دقة. من الصعب جداً اإلحاطة بكل جوانب شخصية األمني الياس الغنية مبزاياها القيادية العديدة الرائعة ولكنين أقول بأنه أمني مؤمن بعمق دقيق وصارم ٍ قاس يف القواعد النظامية واملسائل العقائدية ،ويف فهم معىن املسؤولية اإلدارية اليت جيب أن أخوة حقيقية نابعة من تظل الفاعلة املعليمة للرفقاء واملواطنني على ح يد سواء مبحبة و ي وحدة الروح املنبثقة من وحدة احلياة! نكاته املتعالية على التعذيب أيام «معتقل األمري بشري» إثر فشل الثورة االنقالبية مطلع عام 1712كنا نتناقلها بني القواويش ،فكان هلا فعل السحر يف تشديد عزمية الرفقاء والضحك من أعماق القلب يوم كان الضحك ممنوعاً علينا يف تلك احملنة القاسية املباركة. كان دائماً سريع البديهة ،حاضر النكتة يف أقسى الظروف وأصعبها خيلق جواً من اإللفة واحملبة واالحرتام والتعلق به وجبلساته املمتعة عند ُجيع الرفقاء جملرد أن جيالسهم خارج أوقات االجتماعات احلزبية النظامية اليت يكون فيها شديد الدقة يف يشك مرة من التوجيه واحملاسبة واجلدية .وبالرغم من أوضاعه الشخصية الصعبة مل ُ ضائقته املادية وإذا ما فعل فبخجل كبري وبسرية تامة بينه وبني املسؤول املعين الذي له وحده جتوز الشكوى ،والبوح باملعاناة حّت ال يسيء إىل مهام مسؤوليته اإلدارية أو املهمة اليت يكون مكلفاً بإجنازها. كانت حياته مصادرة كلياً للعمل احلزيب منذ عيينه الزعيم عميداً للداخلية بُعيد عودته من مغرتبه القسري فناموساً يف مكتبه قبيل استشهاده وبقي مصادراً للعمل 221
احلزيب قلقاً على دفع مسريته حّت آخر أيام حياته .مل أعرف أنه تقاعس يوماً عن
واجب أو اعتذر عن مهمة بل كان يقدم نفسه للمهمات حّت حني يكون يف إجازة
خاصة ،حيث كا ن يطرح على املسؤولني إمكانية االستفادة من وقته للعمل احلزيب يف املكان الذي يقصده للراحة! ...وإن أنسى فلن أنسى يوم باح يل بسر خطري فعلى أثر اغتيال العقيد عدنان املالكي يف الشام عام ،1755كان األمني إلياس يقوم جبولة حزبية يف املغرتبات ،وعندما انتهت جولته وأراد العودة إىل الوطن ،مل يكن باستطاعته العودة إىل دمشق ،ألن احلزب كانت قياداته إما يف السجن أو متواجدة يف لبنان وعندما حضر إىل لبنان مل يكن ميلك منزالً فيه وليس مبقدوره تأمني ذلك
من ماله اخلاص ،واحلزب كان مير بضائقة مالية كبرية ،والعديد من الرفقاء مشردون من الشام ،واحلزب والرفقاء يهتمون بإيوائهم ،وألن األمني الياس ال يريد أن يكون عبئاً إضافياً على احلزب ،ف يكر جدياً بتسليم نفسه إىل احلكومة الشامية لكي يتخليص من ضائقته ،ولكن أرحييية الرفقاء واهتمام قيادة احلزب بعد علمها هبذا األمر أنقذاه من هذه احملنة ،ولدى مساعي هذا السر من فمه تذكرت قول املعلم« :أن آالماً عظيمة ،آالماً مل يسبق هلا مثيل يف التاريخ تنتظر كل ذي نفس كبرية فينا ،إذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب ،بل عليه أن يسري وحيداً ،بال أمل وال عزاء»! كان انتصار احلزب هاجسه األوحد ،وقد كتب مرة يس يفه اجتهاد أحد القياديني يف احلزب حول النظام ،فقال رداً عليه« :العقيدة بال نظام ،كالنظام بال عقيدة واالثنان يشكيالن وحدة عضوية ال فصل بينهما». رحم اهلل األمني الياس فقد كان مثاالً للقومي االجتماعي املؤمن املنضبط دائماً والقائم بالتزامات عضويته يف كل الظروف السهلة والصعبة ،وكان أميناً قدوة يف إميانه وحتمله أعباء أكرب املسؤوليات وأصغرها ،فهو مل يكن يهجس إال مبا يفيد وعطائه ي النهضة اليت تظل أمل األمة خبالصها من كل ما تعانيه من علل وأمراض ومشاكل 221
وأخطار ،وألنه آم ن منذ اعتناقه عقيدة سعاده باحلكمة القائلة« :ماذا يفيدنا لو رحبنا العامل كله وخسرنا أنفسنا». وما أكده لنا سعاده يف عقيدته عندما اعترب أ ين الفرد هو إمكانية حمدودة، ويضحوا واجملتمع هو احلقيقة الكربى اليت من أجل مصلحتها جيب أن يعمل األفراد ي
بكل ما ميلكون من أجل انتصارها يف الوجود .فاحلقيقة وجود ومعرفة ،واحلق انتصار يف معركة إنسانية يقرر نتائجها اإلنسان املؤمن حبياة أمته ومصلحتها «وألن احلياة كلها وقفة عز فقط» .وهكذا كان األمني الياس جرجي قدوة لنا يف حياته ونضاله وإميانه بالنهضة القومية خالداً يف مسريهتا الصراعية الظافرة ،جيالً بعد جيل ،رمحه اهلل والبقاء لألمة.
222
متمماً واجباته النهضوية عبر وجه الحياة ّ
جمول يمنى ّ
ورحل األمني الياس جرجي قنيزح ..جندي من جنود النهضة اخلليص ،عرب وجه احلياة بامساً ،متمماً واجباته النهضوية ..ممتلئاً بنعمة املعرفة ،مل يقحاً هبموم املصري..
مرحتالً بفكر سعاده. لرحيل األمني قنيزح رائحة تشبه األمل ،رحيله انتظر أمالً يرتدي وجعاً ووجعاً صد مفارق ترتديه جراح ،وجراح تنزف ناراً خلف احلدود ..رحيل يرتدي نوراً ،يرت ي عذابات األبعاد على ضياع الوطن ..رحيل يذكرنا باحلياة ،يوقظ فينا مهماً بردت ٍ بأحالم لكبار رحلوا ،عشقوا يودع عصارة حياة ،وجتارب ترتقي ودفئاً اسرتاح ،وهنجاً ي املش يقات ،شربتهم ضلوع األرض ،محلوا مشاعل النهضة يف وجه الريح ..التقطوا
اجلمر احملرق لليباس واملضيء لألجيال. تالمذة مدرسة الوعي والبطولة املؤمنة املؤيدة بصحة العقيدة ..أخذوا على عاتقهم عملية البناء والتغيري .هؤالء يظلون جمهولني للكثريين .ألهنم املداميك اليت رست عليها قلعة هنضة اجملتمع ،وغريت ما سطيره الغريب ملستقبلنا ،وهم الذين تعاقدوا على حتقيق أمر خطري يساوي وجودهم.
* من كلمة لها ،نشرت في جريدة «الديار» في .1779/11/24
222
هؤالء اجلنود ،هؤالء التالميذ ،هبم تستمر النهضة ،وعلى أيديهم يتم التغيري.. إهنم رفاق سعاده وتالمذته الذين ما تقاعدوا عن العمل لعظمة ما تعاقدوا عليه. مرتسلون خملصون لفكر سعاده وخطيه وهنجه ومدرسته ومبادئه أمناء أوفياء ي وفلسفته .استم يدوا القوة على االستمرار من قوة شخصيته وعزميته ..واستمدوا
اإلخالص من إخالصه ملبادئه وقسمه حّت املوت ،واستمدوا الثقة بالنفس من ثقة مفر منه، الزعيم باألمة واألجيال ،يعملون بصمت وهم واصلون إىل النصر الذي ال ي
ألن الظروف الذي حتدق باألمة أرست الثقة باملبادئ ،وأثبتت أنه ال خالص لنا إال
املشعة احملبية مهما جتاهلها اجلاهلون وتعامى عنها املسؤولون. باملبادئ ي األمني الياس جرجي قنيزح ..رفيق سعاده وجندي من جنوده ،وأحد تالمذته الذين عايشوه وعملوا معه وذاقوا مرارة اجلهاد وحالوة النصر يف العمل القومي املبين على الفكر وبث بذور الوعي والتضحية بني املواطنني ..كما أنه أحد أولئك الذين مل يهونوا أو يتقاعسوا أو خيونوه ،ال قبل صياح الديك وال بعده ..ومل يتفلسفوا يف مفاهيم النهضة بقصد اإلسفاف هبا ..ومل يتلكيأوا عن أداء واجبهم يف أكرب مسؤولية أو أصغرها .واألمني الياس جرجي ح يدثنا قبل رحيله عن الكبرية والصغرية بصوت حنون دافئ ،حني يتعليق األمر باالطمئنان عن العائلة متفقداً اجلميع ،وهو ذو الصوت احلازم وصاحب النربة القوية املليئة باحل يدة والعزمية والثقة حني يتحدث عن البتار حني يتعلق األمر بالشؤون املسلكية ،ومع قضايا األمة واجملتمع ..وهو السيف ي ذلك مل نستشعر يوماً من كالمه ضعفاً واستسالماً ،حّت ولو كان يتحدث هبدوء وشفافية عن األدب والشعر والفن ،رمبا كان للمعلم سعاده األثر الكبري يف تكريس
سلوك الثبات والعزمية والثقة يف كل نربة من صوته ..هو من الذين يتأقلمون بسرعة يف احمليط الذي يتواجد فيه ..وقد اعتاد هذا األسلوب خالل تن يقله اجلغرايف يف عمله يهمه احلزيب ،فلم يكن يعري اهتماماً ملا يق يدم له من طعام أو مسكن أو مقعد .ي تتغري ج يديته ونظرته إىل األمور اإلنسان ،وهاجسه ما يق يدمه هو ملن هم حوله ،فال ي 224
واملسؤولية مهما كانت مهمته .واملسؤولية عنده دور وواجب وحق ،ال تسميةً وال مركزاً أو امساً ..فقد يكون يف حلظة رئيساً للحزب ،ويف اليوم التايل يصبح مذيعاً يف ٍ املرتسلة. املهمتان ينفذمها جبديية وإخالص وتفان ،بنفس املنهجية ي مديرية ،و ي كان من الكبار البسطاء ..ومن التالمذة العظماء الذين يصبحون مبجموعهم بالنسبة لنا جزءاً من سعاده الفكر والنهج. ويبقى األمل حيدونا أننا إذا عرفناهم عن كثب ،فألهنم عرفوا الزعيم ،وكان ال ب يد أن نلقي بعض الضوء على سعاده من جديد علينا نراه من خالل العيون اليت رأته،
ونسمعه من خالل من مسعوه ،فنحدق هبم ونالحقهم وكأننا نستشف شيئاً جديداً ي عن زعيم هنضة عز نظريها ملا القته من أهوال وصعوبات .هكذا كنا نستمع إىل مر به حضرة األمني الياس جرجي ...نستمع إليه حي يدثنا عن الزعيم وعمله معه ،وما ي من مسؤوليات ومهوم ،وكأن ال نريد أن تغيب عنيا إشارة أو كلمة ..فأفعال هذا األمني ترهقه بالسؤال واحلشرية منذ اللحظة اليت تعاقد فيها مع النهضة ،مع األمة، مع األجيال ،مع سعاده عرب انتمائه إليها.
مل ندع األمني الياس يومها يرتاح أو يصمت ملدة يومني يف بلدة «حبوش» يكل وال يرتاح، اجلنوبية ..كنا جلوجني ي متحرقني لالستماع إليه ،وكان هو كالنيبع ال ي مل نكن نتوقيف عنه بالسؤال حّت أثناء الطعام ..حلظة يتح يدث يبتسم حني يتذ يكر حدثاً ما مع الزعيم ..وحلظات ينفجر بالكالم بشكل ج يدي كالنيهر الصاخب حني يتعليق األمر هبموم األمة ومشاكل األجيال وأمراض الوطن كالطائفية والعشائرية املتكررة معه مل يفه بكلمة ال معىن هلا ..ومل جت ِر واإلقطاع ،وطوال اجللسات املتع يددة و ي على لسانه ُجلة ال قيمة هلا ..كالمه دوماً حيمل معىن ،فهو إما فكري اجتماعي ،أو شاعري أديب ،وهو أيضاً كالم ذو مغزى بأسلوب ساخر هتكيمي حيمل أكثر من معىن داالً على صورة مأسوية من مساوىء جمتمعنا أو على حالة معينة تصيبنا من
225
قريب أو بعيد ..وهاكم بعضاً مما استطعنا اقتطافه من ورده وشوكه الالذع حيث يقول: «هناك من حيسب نفسه من الزعماء ..أنا أمسييه ذو عماء» »هناك أناس عندهم شعار ..وأناس عندهم شي عار» تعمر شيئاً» تعمر كثرياً ..وال ي »هناك فئة من الناس ي »جيب أن نث يقف أعصابنا كما نث يقف عقولنا» »الكلمة هلا تاريخ وشخصية»...
221
كأنك في أول الطريق إدما ناصيف حماده
مل تزل معنا يا حضرة األمني وستبقى.. دعوتنا لرتانا ،زوجي وأنا ،مل أشعر ومل أدرك أن إحلاحك يف تلك الدعوة كان جللسة وداع ،ال للقاء كما كان يف السابق ..تقول لنا على اهلاتف تعالوا إنين مشتاق لرؤية العائلة القومية االجتماعية اليت سامهت يف بنائها وأسع َدتـَ ْين باستمرارها كما
جيب أن يكون االستمرار. مل أنتبه لقصدك يف ذلك احلني ،رمبا لرفضي فكرة الفراق وجتاهلي شبح املوت، مل أنتبه أن ما كنت تقوله يف تلك اجللسة اليت سبقت رحيلك بيوم واحد فقط ،مل
أنتبه أنه وصية لنا .وليس حواراً ونقاشاً وتقييماً ملا فعلنا وما جيب أن نفعل ،كان حديثك مفاجئاً لنا بتلك النظرة اجلديية ،واحلزم الذي كنت فيه وكأنك ابن العشرين: «إن العامل القادم علينا ،عامل ٍ قاس وعنيف .ويتطلب منيا بأساً وشدةً وقوةً لنحفظ جمتمعنا من الدمار »...كنت تقول ذلك وكأنك يف أول الطريق !!.بأمثالك تنتصر عقيدة سعاده. لقد غبت عن نظرنا كما غاب الكثريون من أحبائنا ورفقائنا وكانوا خليية انتمائنا
هلذه العقيدة العظيمة ،يغيبون الواحد بعد اآلخر ،وبصمت املوت تتوقف حركة احلياة يف األجساد ،ويغيب الشكل يف جماهل هذا الصمت الغامض .ولكنهم حاضرون يف
* كلمة بمناسبة ذكرى أربعين غيابه ،في .1779/12/8
229
وجداننا ما دامت احلياة فاعلة يف كياننا ،وحضورك املميز يا حضرة األمني سيبقى يف تعرف عليك وعلى ممارستك اليت مل تكن يوماً سوى وجدان كل قومي اجتماعي ي فعل إميان وإرادة. إن ما يعرفه اإلنسان هو ما يعيشه ،وأنت الذي عرفت العقيدة القومية االجتماعية وعشتها فكراً وقوالً وعمالً حّت آخر حلظة يف حياتك .مل تكن تدهش الناس خبطابتك وأفكارك اجلديدة بقدر ما هبدوئك احلذر ومرحك الواعد ،تدخل قلوب الذين يتعرفون عليك مث عقوهلم .مؤكداً دائماً على أمهية ثبات اخلطوات مهما
مردداً أن كانت صغرية ،أمام الصعوبات اليت تعرتض مسريتنا مهما كانت كبريةِّ . هذه اخلطوات الثابتة عين ها تقودنا إىل النتائج الكبرية ،وعلى أساس األخالق الصحيحة لتكوين اإلنسان اجلديد الذي أراده سعاده.
هبذه األخالق مل تضطرب عالقة األمني إلياس مع أحد من رفقائه ،وهبذه يتنصل من أية مسؤولية عن كل ما يقول أو يفعل ،مع بصرية نافذة األخالق مل ي تسبق القرارات احلامسة يف حياته. لألمني الذي كان شاهداً على قسمي وانتمائي والذي مل يغفل عن متابعيت مع أسريت متابعة األب ألبنائه .كما كان جلميع القوميني مرشداً وأباً ورفيقاً أميناً ،برحابة
مبسطاً هلم األمور املعقدة يف حياهتم الشخصية ،الفتاً األفق واتساع البحر يناقشهم ي إياهم إىل عا ِملَني أساسني يف حياة األفراد :سيادة العقل وفعل اإلرادة .لألمني الياس القدوة أقول كم كان صربك عظيماً ،وكم كان عطاؤك كبرياً جملد سورية.
228
منذ أول الدرب أول القافلة نزار سلّوم
إىل الياس جرجي قنيزح أيها الواقف يف مطلع الصفوف.. أيها الزاحف صوب مشس خمبوءة خلف دهور من اجلهل. أيها الباسم ،الفائق األمل.. أيها الواقف يف أول العمر على عتبة االفرتاق عن اجلهل والعتم واملوت ،عندما جترأت فزججت نفسك يف قافلة النهضة ..،منذ أول الدرب عندما كان ربياهنا يف جلية البحر.. وقتها ....ابتدأ جنونك وحلمك ،فاهنمرت نضاالً يف مسالك النهضة ،وحكت تستجر آالفاً ذاتك «قطبة» صلبة يف نسيجها« ..قطبة» تتواشج مع أخواهتا ،و ي مؤلفة من القطبات املتواليات. قطبة بلون ابتسامتك ،وعمق وداعتك الصاخبة املالئة روحنا عزمية ..وإرادة. أيها اهلازئ بنصائح «احلكماء» و«الفالسفة» حيث ختجل «الديباجات املسبوكة باملنطق» وهترول خارجة أمام «لدعات احلياة» ورشاقة «املفارقات» وجنون الرفض. أيها الساكن يف قلوب اجلميع ،صماماً لبوصلة احلب ،وقوة لدفقه.
* كلمة له ،نشرت في مجلة «البناء» ،العدد 871تاريخ .1779/11/1
227
أيها النازل يف بيوت اجلميع ،يف أول اجلغرافيا /أول الوطن ،يف آخر اجلغرافيا.. سور الوطن. ورحاهلا /الـ ُمقيم يف حمطاهتا مسعفاً نشاف جوال النهضة ي أيها الزائر الدائم /ي الروح ،واألمل. أيها الناطر يف أول القافلة ،يف قلب القافلة ...يف آخر!! ..ال ليس للقافلة هناية. أيها الـ ُمطييف بسعاده ،الـ ُمشبع ب ـ«مآثره» حلماً حبجم التاريخ ...والوطن.
يا «أمني الياس». حتيا سورية.
241
...يرافقنا ،ولم يفارقنا تموز الياس قنيزح ّ
أيها األحباء واحملبيون.. أحب أن يواكبنا أحب أن يرافقناَّ ، األمني الياس مل يفارقنا ،وهو الذي طاملا َّ مبحبته وحرصه ،إين أراه وأمسعه وأكلمه ،هو احلاضر يف نبض كل مناضل صادق ويف ذكرى كل شهيد بطل ،هو املتوقِّد يف عيون أحفاده ،املطبوع يف نظرة «عمر» وعلى املدوي يف صوت «سينار» وترغلة «سامر» ،هو املعشِّش يف جبني «إيالت» ،ي وجدان ُحمبيه ال ُكثُر يف عائلته الصغرية وحزبه الكبري وأمته العمالقة.
يتذمر ،أعطى ومل كرب ومل ي هو الذي تعليم وعليم ،تريَّب وريَّبُ ، يتكرب ،تعب ومل ي يتبجح .هو القاسي ال الظامل ،واملرح ال املاجن ،واإلداري ال اجلامد .طوال عمري ي املوجه ،واملسؤول القدوة، غرفت منه بشغف وفرح كبريين ،هو األب ِّ املريب واألستاذ ي احملب ،والتلميذ املتواضع واإلنسان الرائع ،الرائع. والصديق ي مكرم حييا يف صلب عائليت ،كنت على شعرت دائماً بأن أنطون سعاده فرد مميَّـز َّ متاس دائم معه ،وعرفته جيداً دون أن ألتقيه ،كل ذلك بفضل والدي ،فهو وزعيمه مل ٍّ
يفرتقا حلظة واحدة .فقد كان األمني إلياس متييماً مبآثر املعليم يستحضرها يف كل وموجهاً وحم يفزاً ومنبيهاً. مصوباً ي مناسبة وموقف ،ي * كلمة ألاهل في ذكرى ألاربعين في طرطوس ،في .1779/12/12
241
حياة األمني الياس ،ذاك الشهيد احلي ،كانت زاخرة بوقفات العز وحمطيات البطولة وينابيع العطاء: مقرراً ودون فمن ختلييه -عام 1728يف طرطوس -عن التعليم ،مورده األوحدِّ ،
خريوه بني األمرين ،وقد نال على أثر هذا املوقف رتبة أي ي التمسك حبزبه عندما ي تردد ي األمانة من الزعيم ،ومل ِ ميض على انتمائه للحزب ثالث سنوات. إىل تركه كلية احلقوق يف اجلامعة اليسوعية يف بريوت ملتزماً قرار الزعيم بتعيينه
عميداً للداخلية عام .1749
إىل جوالته األسطورية املنتجة ،على األقدام ،وعلى امتداد املناطق يف اجلمهورية
الشامية أوائل اخلمسينات ،متف يقداً الفروع اإلدارية ،مفتيشاً على مدارس احلزب، املطولة منسقاً معاركه االنتخابية ،ناشراً عقيدته ،ح َكماً بني رفقائه .إىل زيارته احلزبية َّ ي إىل األرجنتني والربازيل عامي 1754و .1755إىل تف يقده فروع احلزب يف األردن والقدس والضفة الغربية طوال عام .1751 إىل تواجده الفاعل والدائم يف خمتلف املناطق اللبنانية ابتداءً من العام 1759 مواكباً كل أجيال النهضة. املفوض العام يف لبنان ،اخلطرية جداً ،بعد حماولة االنقالب إىل ي حتمله مسؤولية ي عام ،1712يف ظل ظروف التجويع والرتويع. إىل تلقفه ُجرة رئاسة «اللجنة القيادية» من تلميذه «أبو واجب» ،مث رئاسة احلزب بعد استشهاد «أبو واجب» عام ،1795مثبيتاً مبوقفه اجلريء آنذاك هنجاً
أخالقياً وسياسياً كاد أن يندثر ،أدى إىل حماصرة املتالعبني باحلزب ،غري مكرتث باألخطار احملدقة به. إىل ترحيبه ،كرئيس للحزب ،عام ،1791بدخول اجليش الشامي إىل لبنان رغم تعرض هلا هو وحزبه ،شاهراً قناعته بصوابية الدور الشامي الضغوط الشديدة اليت ي
242
الـ ُمسقط ل ـ «سايكس -بيكو» ،واهلادف إىل وقف النزف يف لبنان ومحاية الثورة الفلسطينية. إىل إصراره على العودة من دمشق إىل بريوت مع بدايات احلصار اليهودي هلا يف اجتياح عام 1782ليكون يف ساحة املواجهة ،وصموده فيها طوال حمنتها املريرة مالذاً لرفقائه ،ودافعاً هلم على االستمرار. إىل جتواله يف اإلمارات العربية وكل مناطق الكيان الشامي عام .1789 إىل زيارتيه لفروع احلزب يف أمريكا الشمالية عامي 1781و.1774 أدق إىل تنكيبه رئاسة احملكمة احلزبية العليا من العام 1771وحّت ،1775يف ي الظروف الداخلية وأخطرها ،وهو ابن الثمانني عاماً. واستمراره يف العطاء واملشاركة حّت آخر رمق من حياته.. ونعتز مبحبتكم هذا الرجل الذي هو علم من أعالم النهضة ،نفخر مبحبته لكم ،ي له ،نضطرب يف وداعه لفداحة اخلسارة ،ولكن ما خيفف من وطأة الغياب مئات املواقف واألحاديث واخلطب واملقاالت اليت سلطت الضوء على أصالة هذه األمة وعظمة هنضتها وعبقرية ُمطلقها. بامسه نقول شكراً من القلب ،والبقاء لألمة واخللود لشهدائها.
242
حتى الرمق األخير إلياس جرجي قنيزح
...وأتق يدم إليكم بالشكر اجلزيل من صميم تعليقي باحلياة الكرمية معكم، أعتز ملا مي يدين به من قدرة الثبات وقوة اإلقدام، مبناسبة احتفائكم الذي أفخر به و ي لبلوغ األفضل واألُجل ،لكي أكون أكثر جدارةً بثقتكم وتقديركم وأشد أهلية للعطاء... املوجه إىل شخصي ما هو يف ...وإين أحسب اليوم بداهةً أ ين هذا التكرمي ي الواقع إال التعبري الصميم عن تقديركم الصادق العميق ملعاين النهضة السورية القومية كل حيايت بفرح واعتزاز، االجتماعية ومراميها النبيلة خلري الشعب ي وعزه ،واليت منحتها ي ٍ بإخالص وأمانة كلية حّت الرمق األخري وإين أتابع يف حلبتها واجب الكفاح ي
العتيد... ...إىل اللقاء امليمون ،يف املناسبات اجمليدة ألمتنا العظيمة ،لتكن غالل موامسنا املقبلة شفية الغليل ،بانعتاقنا من أغاللنا لنكمل معاً طريق احلياة الكرمية .والنفس الكرمية ال تكف عن العطاء. دوموا للحق واجلهاد كي نالقي أعظم انتصار ألعظم صرب يف التاريخ...
* مقاطع من كلمة ألقاها في تكريم أقامه له السيد جميل ّ شماس في نادي ّ خريجي الجامعة ألاميركية في بيروت في 1775/2/21
244
�أ
فهر�س الأ�سماء ح
•�أبو جود ،عماد: •�أبو رافع ،اني�س: •�أبو واجب: •ابي عجرم ،ف�ؤاد، : •�إ�سرب رفقه� ،سو�سن: •ا�سماعيل� /أني�س: •ا�سماعيل اني�س ،بديع: •الأ�شقر ،ا�سد، ، : •الأ�شقر ،وديع: •انطون بك: •�آغا ،خالد، •�إيا�س ،ف�أمون، : 150 ،149
ب
،
316 314 321 342 127 109 349 193-190 194-190 138-136 100 99 120 164 51-49 134 101-99 56
،
،
•بابيلّ ،ن�صوح: •بردياييف: •ب�شور ،جورج: •بندقي: • •ت •تاج ،يو�سف174-172 : •تويني ،جربان33 : 33 217 168 74
ت
•تابت ،نعمة،99 ،96 ،90-88 ،70 : 150 ،149 ،134-131 ،108 ،100
ج
•جمال� ،أني�س: •جمول ،مينى:
309 333
•حاج �إ�سماعيل ،حيدر: ، •حافظ: •حردان ،نواف، : •حماده� ،إدما نا�صيف: •حمود� ،أحمد، :
13
252 250-248 327 304 337 274 272
خ
•خ ّباز211 ،209 : •خليل جربان ،جربان: •خوري ،يو�سف214 :
د
265
•الداعوق ،عمر، :
ر
20 19
•را�شد ،حممد: •رزق ،حليم:
ز
113-111 310
•الزعيم ،ح�سني: •الزين ،غرباهيم:
�س
،
،
266 262 261 329
•�سعاده� ،أنطون ،الي�سار291 : •�سعاده �أنطون،29-17 ،14 ،13 ،11 : ،63 ،48 ،46 ،45 ،42-40 ،36 ،31 ،107 ،102 ،95 ،92 ،90 ،72 ،67 ،144 ،130 ،124 ،122 ،119 ،115 ،163 ،160 ،157 ،153 ،148 ،146 ،208 ،184 ،180 ،176 ،172 ،168 ،230 ،223 ،221 ،216 ،215 ،212 ،272 ،266 ،265 ،261 ،257 ،234 ،299 ،294 ،285 ،284 ،280 ،276 ،328 ،317 ،314 ،306 ،302 ،300 341 ،340 ،338 ،337 ،335-332
ق
•�سعاده ،خليل، ، : •�سكر ،ريا�ض: •�سالمة� ،أنطون، : •�سلوم ،نزار: •�سليم138 : •�سليمان ،ف�ؤاد74 : •�سيف الدين ،رفيق275-272 :
•قان�صو ،علي: •قرب�صلي ،عبد اهلل305 : •قنيزح ،اليا�س جرجي-13 ،11 ،8 ،7 : ،241 ،223 ،212 ،211 ،191 ،15 ،293 ،289 ،288 ،285 ،283 ،255 -307 ،305 ،304 ،302 ،296 ،295 -326 ،322-320 ،318-312 ،309 ،342 ،341 ،339 ،335-331 ،329 349 ،344 •قنيزح ،اليا�س جرجي ،متوز341 ،10 : •قنيزح ،اليا�س جرجي ،فداء349 :
32 22 19 225-223 226 225 339
�ش
•ال�شامي ،غ�سان: •�شاهني� ،شاهني: �شما�س� ،شاهني: • ّ •
311 321 344 293
•�صايغ ،فايز، : •ال�صلح ،ريا�ض:
،
�ص
،
ع
•العاندي ،منيف: •عبد الرزاق ،ريا�ض: 215-213
•عرنوق ،عي�سى جميل: •عرنوق ،نغم رزق اهلل: •عز الدين ،ح�سن: •عوده ،اليا�س: •العيتاين ،حممد:
7 302 288 120
•غريب� ،أنطون: •غزالة ،حممود:
ف
•فرحه: •فولتري:
،
218 217 197-195 89 90
33
غ
ك
284 308
156-153 177
،57 ،56 ،54 68
285
•كركيغارد: •كرم ،ع�ساف:
م
،
217 197 263 183-181
،
•املالكي ،عدنان: •حمايري ،ع�صام، : •خملوف ،اليا�س: •مردم بك ،جميل، : •معاوف ،فخري، : •املقلد ،ال�شيخ حممد: •املهتار ،عجاج، : •مو�صلي ،ب�شري:
ن
331 293 223 324 65 64 87 86 326 182 181 320
•نبعه ،مي�شال: •نزال ،ابو علي، : •ن�صر اهلل حم�سن ،هيام: •نقا�ش ،زكي:
ي
309 316 315 297 38
•يازجي ،جميل، ، :
70 69 68
املوضوعات
ّ ّ مقدمة الطبعة الثانية :معلم في الحوار 9 ......................................................................... مقدمة الطبعة ألاولى 12 ...................................................................................................... مؤشرات مشعة كبيرة أبرزت تفوق شخصية سعاده 11 .................................................. نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي يقوم من أجل حقيقة ثابتة ومستمرة 22 ........................................................................... قصة أول ندوة ثقافية في الحزب 29 .................................................................................. نحن آلان مع فريق من شعبنا 41 ........................................................................................ ضموا سورية إلى لبنان وال تضموا لبنان إلى سورية 44 .................................................... نحن من الشعب ونعمل في الشعب 48 .............................................................................. اللقاء ألاول مع سعاده 52 ................................................................................................... الشخص آلادمي أزوجه ابنتي 11 ......................................................................................... صدقتم يا دولة الرئيس 12 .................................................................................................. ط ّول له الحبل 19 ................................................................................................................ ً نحن حقا أوالد من حيث الطهارة 92 .................................................................................. محاولة فاشلة الغتيال الزعيم 95 ....................................................................................... القدوة أساس كل بناء 81 .................................................................................................... ً املوت يظل واحدا 84 ............................................................................................................ هل من الضروري أن يعود الزعيم 88 ................................................................................ الانضباط ال يحول دون إبداء العواطف 72 ...................................................................... ال تنتصر النهضة باعتمادها التسوية 75 ............................................................................ نحن نقيم مواقفنا 112 ....................................................................................................... لدينا ،عند العقول تضيع البطون 119 .............................................................................. ليس من حقيقة أقوى من فعل الثقة 111 ........................................................................ احذروا مغبة خداعكم لنا 115 ........................................................................................... إنت بتخليهم يصدقوا 117 ................................................................................................... الحياة مغامرة يا رفيقي 122 ................................................................................................
إن ألامة العظيمة يبرهن انكسارها عما إذا كانت قوية في نفسها 124 ............................. الخجل من الرذيلة طعنة للفضيلة 121 ............................................................................. الثقة بالحزب وعدالته النبيلة 125 ..................................................................................... حق إلاقناع هو حق الاعتناق 141 ....................................................................................... كم مرة حيل بيني وبين ممارستي ملسؤوليات الزعامة 144 ............................................... ما ينطبق على وداعة الخراف 148 ..................................................................................... ال يتفق من معه ش يء مع من ليس معه ش يء 152 ............................................................ قل لحضرة عميد الداخلية 159 ......................................................................................... موضوع الاجتماع 111 .......................................................................................................... إذا سألك القوميون 112 ..................................................................................................... التعيين هو شرط الوضوح 118 ........................................................................................... آمل أن تكون أعصابك بمتانة روحيتك 192 ..................................................................... ال شك أن املال امتحان مهم 191 ....................................................................................... وضع النظام على قواعد حيوية 181 .................................................................................. أنت تستحق العقوبة 184 ................................................................................................... الرابطة العائلية قسرية 188 ............................................................................................... ً هل يصح أن تكون السلطة فريقا؟ 174 ............................................................................. هل إلانسان للدين أم الدين لإلنسان؟ 177 ...................................................................... بينما تضاعف العناية 214 .................................................................................................. خط الفكر السوري حقيقة بارزة 218 ............................................................................... هالكرس ي ما بتخص الياس جرجي قنيزح 212 .................................................................... املهم أن ال يذبح املرء عجل جاره 211 ................................................................................ إن العدالة وإن أخطأت ال تكابر 221 ................................................................................. ً ليس الكرم أن تجود جزافا باملال 221 ............................................................................... أنا لم أكلفك بالتفكير 221 .................................................................................................. لنقبض على ناصية ألامور 224 ........................................................................................... مهما بلغت النصوص 228 ...................................................................................................
ال يمكن إقامة بناية من حجارات هي في عالم الخيال 244 ............................................... الزواج انعتاق من الوحدة 248 ........................................................................................... ال رئيس وال مرؤوس في التعامل القومي 252 ...................................................................... ال يزال القوميون الاجتماعيون ّ يلبون لتضميد جراح املصابين 259 ................................ ً ليست حياة الزعيم ضمانا 211 .......................................................................................... لم يعط المر ٍّئ أن يهين سواه 215 ...................................................................................... على ك ّل يا أستاذ 218 ........................................................................................................... تعجز مرارة الخيبة 292 ......................................................................................... ............... إن إبداء الرأي واجب في محله 291 .................................................................................... قد انتصرنا انتصارات غير منظورة 281 ............................................................................. شموخ السنديان 282 ......................................................................................................... شهادة في مصدر الشهادات ............................................................أنطوان ّ غريب 284 .... قامة مديدة .........................................................................................علي قانصو 281 .... مبدع في خلق نفسه ......................................................املتروبوليت إلياس عوده 287 .... كانت لك فرادتك .................................................................أليسار أنطون سعاده 272 .... ّ استعدوا ......................................................................................... ..جميل ّ شماس 274 .... ً غادرنا محتفظا بالفرح .................................................................عصام املحايري 271 .... الحاضر في صفوفنا ...........................................................هيام نصر هللا محسن 278 .... ّ امل ّ طيف ب ـ «سعاده» ................................................................................نزار سلوم 211 .... إنه ألامين ألامين ...........................................................................حسن عز الدين 212 .... سيرة خالدة .......................................................................................نواف حردان 215 .... السنديانة .....................................................................................عبد هللا قبرص ي 211 .... مذيع مديرية شتورة ........................................................................محمود غزاله 217 .... ّ نتوق لسماعه ......................................................................................حليم رزوق 211 .... أوقف الحوار ..ورحل .....................................................................غسان الشامي 212 .... رحيل السنديان « .........................................................................................البناء» 214 ....
أجيال نضال ....................................................................................عماد أبو جود 215 .... صفاء الرسل .............................................................................سهام بشير جمال 217 .... «نكهة» إلياس جرجي .........................................................................بشير موصلي 221 .... ألامين «القديس» ...........................................................................إلياس مخلوف 225 .... ّ إلانسان الجديد ...................................................................محمد مقلد (الشيخ) 229 .... قدوة نضالية مميزة ..........................................................................إبراهيم الزين 221 .... ً متمما واجباته النهضوية ..........................................يمنى ّ جمول 224 .... عبر وجه الحياة كأنك في أول الطريق .............................................................أدما ناصيف حماده 228 .... ّ منذ أول الدرب أول القافلة ..................................................................نزار سلوم 241 .... يرافقنا ،ولم يفارقنا .................................................................تموز إلياس قنيزح 242 .... حتى الرمق ألاخير ....................................................................إلياس جرجي قنيزح 245 ....
ألامين الياس جرجي قنيزح ()9111-9191 ولد في طرطوس الشام في .1712-2-18 ودرس هذه ّ ّ التخصص في الرياضيات ّ املادة في أنهى دروسه الثانوية في بلدته وأكمل مدرسة البلدة. انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في طرطوس يوم .1725-8-22 تدرج في مسؤوليات مذيع مديرية طرطوس ،ناظر إلاذاعة ّ ّ ملنفذية طرطوسّ ،ثم منفذ عام طرطوس ومندوب مركزي ّ ّ ملنفذيات طرطوس ومحافظة الالذقية. نال رتبة ألامانة عام .1728
ً بعد عودة الزعيم من مغتربه في آذار 1749بشهر واحد اختاره عميدا للداخليةّ .ثم ً مديرا ملكتب الزعامة وناموسها ّ ألاول. ّ شكل الزعيم عام « 1748لجنة التحقيقات إلادارية» وأسند رئاستها إليه وهي بمثابة «محكمة حزبية عليا».
ً ً بعد استشهاد الزعيم ّ عين عميدا للداخليةّ .ثم عضوا في اللجنة الرئاسية عام ً ً ،1794وعضوا في لجنة قيادية مركزية .وانتخب عضوا في املجلس ألاعلى ألكثر من ّ مرة. ً انتخب رئيسا للحزب عام .1795 رئيس املحكمة الحزبية العليا من .1775-1771 ّ تزوج من الرفيقة سوسن إسبر رفقه في 1751-8-22ورزقا بابنة أسمياها «فداء» وابن حمل اسم « ّتموز» .عرف بين رفقائه بلقب «أبي فداء». له أبحاث ومقاالت ّ قومية مختلفة ،وكتاب بعنوان «مآثر من سعاده». حائز على «وسام سعاده». ثابر على نشاطه القومي بعزيمة الشباب وحكمة الشيوخ وروحية املعرفةّ ، حتى وفاته في 1779-11-27في بيروت.