كتاب مآثر من سعاده (final)

Page 1

‫مآثر من سعاده‬


‫• الكتاب‪ :‬مآثر من سعاده‬ ‫ّ‬ ‫• املؤلف‪ :‬الياس جرجي قنيزح‬ ‫• الطبعة الثانية ‪2112‬‬ ‫‪ISBN: 978-9953-417‬‬‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫تصميم الغالف وإلاخراج‪ :‬نغم عرنوق‬

‫ّ‬ ‫مؤسسة سعاده للثقافة‬ ‫هاتف‪+961 1 753363 :‬‬ ‫فاكس‪+961 1 753364 :‬‬ ‫‪e-mail: saadehcf@idm.net.lb‬‬ ‫‪e-mail: contactus@saadehcf.org‬‬ ‫العنوان‪ :‬شارع الحمراء الرئيس ي‪ ،‬بناية رسامني‪ ،‬الطابق الرابع‪.‬‬ ‫بيروت ‪ -‬لبنان‬


‫الياس جرجي قنيزح‬

‫مآثر من سعاده‬ ‫زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي‬

‫ّ‬ ‫مقاالت نشرت في مجلة «البناء» ألاسبوعية‬ ‫في بيروت‪ ،‬خالل ‪1799 - 1791‬‬



‫إلاهداء‬

‫إىل أبناء إحلياة‬ ‫روإد إحلرية وإلوإجب وإلنظام وإلقوة يف سورايان‬ ‫أهدي هذإ إلكتاب‬ ‫إلياس جريج قنزيح‬



‫مقد مة الطبعة الثانية‬

‫معلم فـي الحـ ـوار‬ ‫كم نحتاج اليوم أن نتعلم‬

‫نغم رزق هللا عرنوق‬

‫ٍ‬ ‫حديث مع صديق‪ ،‬سألين‪َ :‬من ِمن خارج أسرتك‪ ،‬الشخص الذي‬ ‫ذات‬ ‫َ‬ ‫ترك فيك أثراً أكرب من غريه؟ ‪ ...‬أهو خالك الياس؟‬

‫تعرفت إىل صديقي هذا بعد وفاة‬ ‫فاجأين‪ ..‬ألنه مل يكن يعرفه‪ ،‬بل ي‬ ‫أين ي‬ ‫لكن جوابه كان يف سؤاله‪ ،‬إذ لطاملا كان «خايل»‬ ‫خايل بسبع سنوات‪ ،‬ي‬ ‫كل أمور احلياة اليت نتح يدث هبا‪.‬‬ ‫حاضراً يف أحاديثي عن ي‬ ‫أعادين سؤاله إىل تذ يكر تاريخ عالقيت مع خايل الياس منذ بداياهتا‪ ،‬وأقول‬ ‫ألين أتذ يكر يأول لقاء يل معه‪ ،‬حيث كان مقيماً يف لبنان وممنوع عليه‬ ‫هذا ي‬ ‫زيارة الشام إثر أحداث عام ‪ ،1755‬فيما كنت مقيماً يف طرطوس وأمسع عن‬ ‫خايل الياس أحاديث يلتَبِ س فيها الغموض باألسى‪ ،‬واحلب باملهابة‪ ..‬إىل أن‬ ‫‪9‬‬


‫سنحت يل الفرصة لزيارة بريوت مع أهلي‪ ،‬وعمري ال يتجاوز الثانية عشرة‬ ‫إالي بقليل‪ .‬كان يومها لقاء التعارف الذي اكتشف فيه الطفل يف داخلي‪،‬‬ ‫لكن السؤال بقي غاللة‬ ‫حناناً رصيناً‪ ،‬وحكمة ال تراود أحالمه وخياله‪ ،‬ي‬ ‫ش يفافة حتيط الوجه البشوش اهلادئ‪.‬‬

‫بعد سنوات‪ ،‬وقد تع يددت اللقاءات متقطيعة‪ ،‬وقد بدأت أعي ما يدور‬ ‫حويل من أمور وقضايا تبدأ من اهلموم احلياتية الشخصية‪ ،‬وال تنتهي عند‬ ‫حدود الوطن‪ ،‬بل تتجاوزها حملاولة رسم خطوط ٍ‬ ‫اضح للمنظومة‬ ‫فهم و ٍ‬

‫ككل‪ ،‬وجدتين ال أترك فرصة إالي وأفتح مع «األمني الياس» احلوار‬ ‫اإلنسانية ي‬ ‫إثر احلوار‪.‬‬ ‫ولعل الفرتة اليت كانت األكثر تواص الً معه‪ ،‬وكانت البداية لصداقة‬ ‫ي‬ ‫حّت وفاته‪ ،‬كانت يف عام ‪ 1785‬حني أقمت يف بيته يف بريوت‬ ‫استمرت ي‬ ‫ي‬ ‫م يدة ثالثة أشهر‪ ،‬كينا يومياً منضي اجلزء األخري من السهرة معاً وبعد أن ينام‬ ‫اجلميع‪ ،‬ليستمع إىل األخبار‪ ،‬وليدور بعدها احلديث مدة ترتاوح بني نصف‬ ‫الساعة والساعة‪ ،‬أذكر متاماً كيف أدركت يومها أ ين الصداقة ال تقف عند‬ ‫فارق العمر‪ ،‬وكيف أ ين هناك من العظماء من تشعر أمامهم بأنيك ضئيل‪،‬‬ ‫لكن منهم من تشعر‪ ،‬فعالً‪ ،‬وكأن عظمتهم امت يد ت وفاضت إليك‪ ،‬حّت‬ ‫ي‬

‫تشعر بعظمتك أنت‪ ،‬وأنت أمامهم؛ وهذا ما قاله يل هو يف واحدة من تلك‬ ‫السهرات‪ ،‬نقالً عن قول ألحدهم‪.‬‬ ‫يف من أثر ملا وجدت‬ ‫لو حاولت اعتصار ذهين لكي أح يدد ما الذي تركه ي‬ ‫أوضح وأهبى من أسلوبه يف احلوار‪ .‬كان احلوار متعته وهوايته‪ ،‬إذ مل يكن‪ ،‬يف‬ ‫مفهومه‪ ،‬نزاعاً‪ ،‬وال هو براعة يف إثبات وجهة نظر‪ ،‬بقدر ما هو رغبة يف‬ ‫التواصل قائمة يأوالً على الرباعة يف اإلصغاء‪ .‬كم كان يصمت مسرتسالً يف‬ ‫‪8‬‬


‫وبكل احلب‬ ‫إصغائه واهتمامه‪ ،‬تاركاً حملاوره أن يتدفيق يف طرح ذاته‪ ،‬مثي‬ ‫ي‬ ‫ومصوباً‪ ،‬ومتسائالً وتاركاً‬ ‫التفهم‪ ،‬يبدأ بوضع النقاط على احلروف‪ ،‬مثبيتاً‬ ‫و ي‬ ‫ي‬ ‫حمرضاً ذهن حماوره بأسئلة ذكيية‬ ‫الباب مفتوحاً على احتماالت واردة‪ .‬أو ي‬ ‫التأمل‬ ‫وعميقة‪ ،‬كان احلوار معه شكل من أشكال التفكري اجلماعي‪ ،‬بل و ي‬ ‫فتح‬ ‫اجلماعي‪ ،‬إذ تشعر بنشوة كونك إنساناً تستطيع أن تتحاور‬ ‫وتتطور وتت ي‬ ‫ي‬ ‫أمامك نوافذ العقل‪ ،‬مع من تفهم وحتب‪.‬‬

‫«ح يددوا املصطلحات» ‪ ،‬كم كان يقول لنا هذا‪ ،‬وكم من سوء تفاهم نشأ‬

‫نتيجة استخدام أحد احملاورين ملصطلح بغري املعىن الذي يستخدمه فيه‬ ‫اآلخر‪.‬‬ ‫«ح يددوا اهلدف من احلوار»‪ ،‬وكم كان هذا أيضاً سبباً يف حوار‬ ‫كل واحد يدور يف فلك‪ ،‬وال ميكن أن تتقاطع املدارات‪.‬‬ ‫الطرشان‪ ،‬حيث ي‬ ‫«امسعين بدل أ ين تفكير مباذا ستجيب»‪ ،‬يقوهلا بروح الدعابة اليت ميتاز‬ ‫هبا‪ ،‬ولكنيه يصيب هبا عني احلقيقة‪ ،‬وكم من حوار جند فيه األطراف ال‬

‫يسمعون بعضهم بل يعتربون احلوار مبارزة ال ب يد فيها من منتصر ومهزوم‪..‬‬ ‫حّت الثوابت اليت‬ ‫مل يكن لديه مسليمات ال تطرح للنقاش واحلوار‪ ،‬ي‬

‫يتمس ك هبا ويعتمدها كمبادئ يف حياته وتفكريه‪ ،‬كان على استعداد للحوار‬ ‫ي‬ ‫هبا وإعادة النظر‪ ،‬مل أشعر به يوماً حياور وهو متيخذ قراراً مسبقاً بعدم‬ ‫لكن أسلوبه جعلين أدرك أن ال ضري‬ ‫مرة اختلفنا يف الرأي‪ ،‬ي‬ ‫الرتاجع‪ ،‬وكم من ي‬ ‫يف االختالف‪ ،‬والضري كل الضري يف اخلالف‪ ،‬وأ ين احلوار هو تبادل لوجهات‬ ‫النظر وليس تنازعاً عليها‪.‬‬

‫بأقل من عام على ما أذكر‪ ،‬وقد‬ ‫أذكر سهرة يف ضهور الشوير‪ ،‬قبل وفاته ي‬

‫اجتمع لديه العديد من الرفقاء واألصدقاء واألقرباء‪ ،‬ودارت األحاديث لتطال‬

‫‪7‬‬


‫برمته‪ ،‬ووضع احلزب السوري القومي االجتماعي‪ ،‬وإمكانية‬ ‫الوضع السياسي ي‬ ‫باألمة‪ ،‬ورأيته يومها صامتاً‪ ،‬حي يد ق‬ ‫املخولة بالنهوض‬ ‫النهوض بالوسيلة‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫خممناً ما يدور يف‬ ‫كل يديل بدلوه ويطرح آراءه‪ ،‬وأنا أراقبه ي‬ ‫باملتكليمني‪ ،‬و ي‬ ‫خاطره‪ ،‬من أمل أو أمل‪ ،‬وكنت مدركاً لوضعه الصحي وقد جتاوز الثمانني من‬

‫عمره‪ ،‬وق يدرت أنيه قد أخذ به التعب والنعاس‪ ،‬متمنيياً للحديث أن ينتهي من‬ ‫أجل أن يسرتيح‪ ،‬ولش يد ما كانت دهشيت حني اعتدل يف جملسه وانطلق يف‬ ‫كل التفاصيل اليت‬ ‫حديث طويل بصوته املرتفع الواضح ونربته القويية‪ ،‬مراجعا ي‬ ‫ونوه به‪ ،‬حم يدداً النقاط اليت‬ ‫ذُكرت‪ ،‬دون أن يرتك أمراً يستدعي املالحظة‪ ،‬إال ي‬ ‫ومرجحاً وجهة نظر على‬ ‫اتيفق عليها‪ ،‬ومشرياً إىل ما يستحق البحث أكثر‪ ،‬ي‬ ‫يلون هبا األحاديث بذكاء‪،‬‬ ‫أخرى‪ ،‬إىل أن أهنى كالمه بإحدى دعاباته اليت ي‬

‫لتبقى تدور وتدور وترتفع بالعقول والنفوس حمليقة يف رحابة الفكر اليت ال‬ ‫حت يد‪.‬‬ ‫أذكر يومها‪ ،‬بعد تلك السهرة‪ ،‬أ ين حديثاً دار بيين وبني ابنه متيوز‪ ،‬كان قد‬ ‫لفت انتباهه حضور والده الذهين وتوقيد بصريته وسرعة خاطره رغم تق يدمه يف‬ ‫صحته‪ ،‬وقلت له يومها أ ين أكثر ما لفت انتباهي وإعجايب هو‬ ‫السن وتراجع ي‬ ‫تتم مناقشته‪ ،‬إذ مل يندفع‬ ‫قدرة اخلال على اإلصغاء‪ ،‬رغم حرارة املوضوع اليت ي‬ ‫تدين بعض‬ ‫مرت‪ ،‬ومل يهزأ من رأي‪ ،‬رغم ي‬ ‫يف مقاطعة أحد رغم اهلفوات اليت ي‬ ‫يسخف وجهة نظر‪ ،‬رغم احنياز بعض‬ ‫الطروحات عن روح املوضوعية‪ ،‬ومل ي‬ ‫األفكار إىل األهواء واملزاج الشخصي‪ .‬كان ثابتُهُ الذي ال يتزحزح‪ ،‬أنيه‬

‫يستحق االحرتام يأوالً وأخرياً‪.‬‬ ‫يتواصل مع إنسان‬ ‫ي‬

‫كم كان يطرح أمامنا أسئلة وكأنيه يفكير بصوت مرتفع‪ ،‬ويدعونا ملشاركته‬ ‫تصور واضح عن اإلجابة‪ ،‬كأن يسأل مثالً‪:‬‬ ‫يف التساؤل‪ ،‬دون أن يكون لديه ي‬ ‫‪11‬‬


‫« هل من املمكن الفصل بني احلب واالحرتام‪ ،‬أي هل من املمكن أن حتب‬ ‫شخصاً ال حترتمه‪ ،‬أو حترتم شخصاً ال حتبيه؟؟» أو يتساءل مث الً عن الفرق‬ ‫بني سوء الطبع وسوء األخالق‪ ...‬وهل ميكن الفصل بينهما؟ ويبدأ بطرح‬ ‫لكن التأثري األكرب هلذه‬ ‫األمثلة ويقليب بينها‪ ،‬وغالباً ما يبقى السؤال مفتوحاً‪ ،‬ي‬

‫تظل طفالً حت يدق إىل الكون‬ ‫األسئلة هو متعة التفكري والتساؤل‪ ،‬متعة أن ي‬ ‫بدهشة ورغبة يف التعليم واالكتشاف‪ ،‬وأن ال تقبل مبا هو موجود دون أن‬ ‫وتأمالً‪ ،‬إنيه نوع من الصالة‪.‬‬ ‫تدخله إىل خمترب عقلك وروحك وتشبعه درساً ي‬

‫ككل املعلمني احلقيقيني ألنيه عرف كيف يتتلمذ على‬ ‫كان معليماً حقيقياً ي‬ ‫باعث هنضة فكرية وثقافية رائعة يف‬ ‫رسويل النهج هو أنطون سعاده‪،‬‬ ‫يد معليم‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫اضع فلسفة ونظرة للحياة «إنسانية ‪ -‬اجتماعية»‬ ‫هذه ي‬ ‫األمة العريقة‪ ،‬وو ُ‬ ‫جديدة‪ ،‬ومناضل ختم رسالته بدمائه وفاء لفكرة آمن هبا ِ‬ ‫وعمل هلا حّت‬ ‫الرمق األخري‪ ،‬فقد كانت مرافقتُه له على مدى سنوات خري مدرسة هنل منها‬ ‫اجلمة يف هذه املقاالت‬ ‫واختمرت مآثرها يف نفسه‪ ،‬فصاغ لنا مثرة تلك املآثر ي‬

‫اليت صدرت تباعاً‪ ،‬إىل أن ُ​ُجعت يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫أجل‪ ،‬كان لألمني الياس األثر الكبري‪ ،‬ألنيه كان معليماً حقيقياً بالقدوة‪:‬‬ ‫«ال حتفظ ما أقول من أفكار‪ ،‬بل تعليم كيف تفكير أنت»‪ ...‬لعيله مل يقلها‪،‬‬ ‫مت منه أن أستشعر متعة كوين إنساناً مف يكراً‪ ،‬ومن مثي‬ ‫لكينه مارسها‪ ،‬فتعلي ُ‬ ‫التأمل وناقالً لتلك «العدوى»‪ ،‬اليت قد‬ ‫حمرضاً على التفكري و ي‬ ‫متعة كوين ي‬ ‫تكون بلسماً لكل ما يعاين منه هذا الكوكب اجلميل من فقدان للغة‬ ‫التواصل‪ ،‬رغم االنرتنت والستااليت‪.‬‬ ‫إ ين وسائل التواصل هذه‪ ،‬ق يدمت الكثري الكثري لإلنسان من اإلمكانيات‪،‬‬ ‫لكن ما حنتاجه اليوم فعالً بعد أن امتلكنا الوسائل‪ ،‬هي روحيية التواصل‪،‬‬ ‫ي‬ ‫‪11‬‬


‫روحية االنفتاح والقدرة على احلوار‪ ،‬روحية أن نستشعر متعة كوننا بشراً‬ ‫نستطيع أن جند لغة للتخاطب فيما بيننا‪ ،‬وعلى نطاق الكوكب‪ ،‬من مبدأ‬ ‫التعرف على اآلخر وفهمه واإلصغاء إليه‪ ،‬وتبادل الثقافات واألفكار والقيم‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ٍ‬ ‫ال تنازعها والنزاع عليها‪ .‬من أجل بناء غد أُجل وأنبل لعاملنا الذي حييا‬ ‫بالتواصل والتناغم‪ .‬ليس إالي‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫مقدمة‬ ‫الطبعة ألاولى ‪9191‬‬

‫حيدر حاج إسماعيل‬ ‫بيروت ‪1788/9/27‬‬

‫كتاب «مآثر من سعاده» ‪ ،‬لألمني الياس جرجي قنيزح‪ ،‬يدخل يف باب‬ ‫املروييات‪ ،‬اليت أراد هلا الزعيم‪ ،‬من خالل طلبه‪ ،‬إىل األمناء واملسؤولني‬ ‫كون جزءاً من تاريخ النهضة‪،‬‬ ‫والرفقاء‪ ،‬أن تُ َد َّون‪ ،‬خوفاً عليها من الضياع‪ ،‬لِتُ ِّ‬ ‫يف جانبها االجتماعي ـ ـ البشري‪ ،‬وما سامهت به من بعث ل ِإلنسان اجلديد‬ ‫إنسان احلزب السوري القومي االجتماعي‪...‬‬ ‫وللكتاب أمهية خاصة‪ ،‬ألن مرويياته تدور حول شخصية الزعيم أنطون‬ ‫سعاده‪ ،‬الفكرية والسياسية‪ ،‬واإلدارية‪ ،‬والتنظيمية واإلذاعية واإلعالمية‪ ،‬وإبراز‬ ‫ملكنون هذه الشخصية الف يذة‪...‬‬ ‫واألمني الياس واحد من رجاالت النهضة الكبار‪ ،‬من الذين عرفوا النبع‬ ‫واستقوا من مورده‪ ،‬فهو حني يتحدث عن تاريخ احلزب‪ ،‬يَـتَحدَّث بعقلية‬ ‫العامل العارف‪ ،‬الشاهد اخلبري‪ ،‬ملا خيتزن من ثقافة حزبية غنية‪ ،‬وما ميتاز به‬ ‫منطقه من دقة وقدرة على اإلقناع‪ ،‬إضافة لشفافية روحه‪ ،‬اليت تتجلى يف‬ ‫النكتة الذكية‪..‬‬

‫‪12‬‬


‫األمني الياس مدرسة ضمن مدرسة النهضة‪ ،‬اجملسدة بالتزامه القومي‬ ‫االجتماعي بتعاليمها‪ ،‬فهو رائد يف القدوة وااللتزام‪ ،‬وعلى يديه ترََّّب أكثر من‬

‫جيل‪ ...‬وهناك يف مرمريتا حيث كانت مدرسة «النهضة» التقيت به يف عام‬ ‫‪ ،1751‬وكان يومها عميداً للداخلية‪ ،‬وممثالً ملركز احلزب يف كل الشؤون‬ ‫الثقافية واإلذاعية وغريها‪...‬‬ ‫وال يزال األمني األمني حّت اليوم‪ ،‬ميارس العقيدة فكراً وفعالً بالرغم من‬ ‫تقدم سينه ‪ 91/‬عاماً‪ /‬وال زالت شعلة النور فيه تنشر احلرارة والعافية‬ ‫والفكر‪...‬‬ ‫يف هذا الكتاب حكايات صغرية من حيث احلجم كبرية من حيث‬ ‫املعىن‪ ،‬ساقه ا األمني الياس من خالل عالقته بالزعيم‪ ،‬ويف الكتاب أقوال‬ ‫للزعيم من مثل‪:‬‬ ‫« ضموا سورية إىل لبنان وال تضموا لبنان إىل سورية»‪.‬‬ ‫« حنن من الشعب ونعمل يف الشعب ألجل الشعب»‪.‬‬ ‫وعن حكاية «ال تكن يا رفيقي صعوبة فوق الصعوبات»‪.‬‬ ‫وعن قول الزعيم سعاده‪« :‬الشخص اآلدمي الطيب أُزِّو ُجهُ ابنيت‪ ،‬ال‬ ‫أُسلِّ ُمه مق يدرات البالد»‪.‬‬ ‫وعن « االنضباط ال حيول دون إبداء العواطف السامية واملشاعر النبيلة»‪.‬‬ ‫وعن قول الزعيم سعاده‪ « :‬ال تنتصر النهضة باعتمادها التسوية مع‬ ‫الرجعة»‪.‬‬ ‫وعن قوله أيضاً‪ « :‬احلياة مغامرة‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬واحلزب مغامرة بقلب‬ ‫مغامرة»‪.‬‬ ‫وعن «حق اإلقناع هو حق االعتناق»‪.‬‬ ‫وعن «ال يتفق من معه شيء مع من ليس معه شيئاً»‪..‬‬ ‫‪14‬‬


‫وعن قوله‪ « :‬مهما بلغت النصوص من بالغة التعبري فالنفوس وحدها‬ ‫تظل ضمانة كل تشريع»‪.‬‬ ‫ونقرأ حكايات كثرية أخرى‪ ...‬ونقرأ الكثري من مثل هذه احلكايات‪.‬‬ ‫ونقرأ حكاية القول العظيم‪« :‬ليست حياة الزعيم ضمانة لبقاء النهضة‬ ‫إمنا النهضة هي الضمانة للزعيم‪.»...‬‬ ‫واحلكاية األخرية كان قبل ساعات من استشهاد الزعيم سعاده يف وقفة‬ ‫العز الكربى يف الثامن من متوز عام ‪.1747‬‬ ‫خالصة الكالم هي َّ‬ ‫كل راغب يف‬ ‫أن يف كتاب «مآثر من سعاده» ي‬ ‫زوادة ي‬ ‫ضمت الزعيم‬ ‫التعرف على شريط من حقائق احلياة القومية االجتماعية اليت َّ‬ ‫ي‬ ‫سعاده وأحد أكرب تالمذته وجنوده األمناء الصادقني املخلصني امللتزمني‬ ‫األمني الياس جرجي قنيزح فهنيئاً للقارئني‪.‬‬

‫‪15‬‬


‫مؤش ـ ـ ـ ـ ـرات مشـ ـ ـعة كبـ ـ ـ ـ ـ ـيرة أبـ ـ ـ ـ ـ ـرزت تف ـ ـ ـ ـوق‬ ‫شخصية سعاده وشموخ تطلعاتها البطولية‬ ‫منذ فجر تفتحه على الحياة والوجود‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدروسا ّ‬ ‫يدل على نفسيته‪ .‬والسلوك‬ ‫َّإن ما يصدر عن املرء عفويا أو‬ ‫إلانساني بطبيعة ميزاته الحضارية هو السبيل للكشف عن مكنونات الذات‪،‬‬ ‫وبالتالي‪ ،‬وسيلة الاهتداء إلى معالم الحقيقة‪ ،‬ألنه قدرة إلافصاح عن أبعد‬ ‫ألاعماق‪ .‬من هنا يتفاوت السلوك‪ ،‬كسائر وسائل التعبير‪ ،‬بقوة البيان عن‬ ‫معاناة النفس حسب كفاءة إلانسان من حيث الاستيعاب والاستجابة‬ ‫ّ‬ ‫للمحرضات املحدقة والطاقة على التحقيق‪ ،‬والتباين في كفاءات السلوك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فضال عن كونه طبيعيا وعريقا‪ ،‬فهو من أرقى سمات الحياة وأغنى مزايا‬ ‫ً‬ ‫الحضارة عبر شواهد التراث‪ .‬انطلق إلانسان منذ القدم معبرا عن كوامن‬ ‫ّ ً‬ ‫نفسه بالخلق ّ‬ ‫الفني في مختلف العلوم‪ ،‬مؤكدا باستمرار نزوعه إلى التطور‬ ‫َّ‬ ‫والارتقاء‪ ،‬ولم يقف عند ّ‬ ‫حد في عملية النمو وإلانتاج‪ ،‬ولن يكف عن البناء‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫والعطاء‪ .‬منذ أن كان الزعيم حدثا‪ ،‬بدت رهافة إلاحساس وصفاء الفكر‪،‬‬ ‫وصالبة الصمود وإلاقدام عبر ما ّ‬ ‫سجله من مواقف وتصرفات تشير إلى‬

‫‪11‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتفوقة‪ ،‬م َّما لفت الانتباه إليه‪ ،‬وأضحى موضع إكبار ومحط‬ ‫شخصيته‬ ‫تقدير من الذين عرفوه‪.‬‬ ‫*‬ ‫ّ‬ ‫حين كلف أنطون سعاده بإعداد كلمة إللقائها أمام الوالي‬ ‫ً‬ ‫احتفاء بقدومه «امليمون»‪ ،‬بمناسبة انتهاء العام الدراس ي في مدرسة‬ ‫التركي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫برمانا إلانكليزية العالية ‪ -‬والتي ال تزال قائمة حتى آلان ‪ -‬وكان حينها حدثا لم‬ ‫يتجاوز الثالثة عشر من عمره‪ ،‬إضافة إلى ارتدائه اللباس الرسمي املع َّد‬ ‫ً‬ ‫خصيصا لذلك اليوم‪ ،‬ألنه سيحمل العلم التركي وسيكون على رأس‬ ‫الصفوف الطالبية خالل العرض حين حضور الوالي‪ ،‬وبالرغم من ّأن هذا‬ ‫التكليف هو دليل ح ّس ي قاطع على ما كان له من مكانة مرموقة بين أقرانه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والتقدير العميق من إدارة املدرسة ّ‬ ‫ملؤهالته ومواهبه الفذة‪...‬‬ ‫وبالرغم من هذا رفض!! رفض أن يشترك في استقبال الوالي التركي ّ‬ ‫بكل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫رصانة وكبر‪ ،‬معلنا َّأنه من املتعذر عليه أن يقوم ب عمل ما يكره‪ ،‬في حمل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لوال متحكم بشعبه وأهله‪ ،‬ولن يتمكن مطلقا من الترحيب بهذا‬ ‫علم أجنبي ٍّ‬ ‫َّ ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوالي الذي يعتبر زيارته حدثا تاريخيا ويأبى على نفسه أن يمر منكسا رأسه‬ ‫تحت أقواس النصر‪ ،‬املزدانة باألعالم التركية والتي تتباهى بإذالل الشعب‪،‬‬ ‫وإخضاعه لنير السلطة العثمانية‪.‬‬ ‫أعلن سعاده بصراحة الواثق من نفسه انصياعه التام إلى نظام‬ ‫املدرسة‪ ،‬واستعداده الكامل لتلبية جميع ما يعهد إليه به وكل ما تشاء إدارة‬ ‫املدرسة اتخاذه من تدابير وإجراءات بصدد موقفه من استقبال الوالي‪ .‬لكن‬ ‫إصرار أنطون سعاده على رفضه القاطع لتكريم العدو قوبل بتشديد من‬ ‫إدارة املدرسة على ضرورة تلبيته الكاملة لقراراتها‪ ،‬معتبرة املسألة هي‬ ‫مدرسية محضة وليست سياسية ولذلك أنذر سعاده بحرمانه من شهادته‬ ‫‪19‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫وطرده النهائي من املدرسة‪ ،‬ألنها ترى في سلوكه هذا تمردا صريحا على نظام‬ ‫ً‬ ‫املدرسة وعصيانا ألوامر املسؤولين‪ .‬وما عليه إال أن يتحمل عواقب عصيانه‬ ‫املشهود ويحسن الاختيار السليم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تقبل الطالب سعاده العقوبة النكراء جزاء وعيه القومي من دون ّ‬ ‫أي‬ ‫ّ‬ ‫تذمر وهو غير آسف على خسارة شهادته في يوم التخرج بالذات‪ ،‬اليوم‬ ‫املوعود لتكريم الطالب املتفوقين أمثاله ومكافآتهم بما يستحقون‪ .‬وأسدل‬ ‫الستار على الحادث‪.‬‬ ‫ومهما طال الزمن فلن يستطيع أن يمسح معالم البطولة من هذا‬ ‫ً‬ ‫الحدث التاريخي‪ ،‬وسيظل خالدا في ذاكرة ألاجيال ألنه من تراث وأصالة‬ ‫ّ‬ ‫املتفوقة‪.‬‬ ‫النهضة السورية القومية الاجتماعية‬ ‫كان هذا الحدث الدفعة البكر من سعاده ّ‬ ‫سددها بإيمان واعتزاز‬ ‫لصيانة كرامة ألامة وهيبتها‪ .‬وهي أولى وقفات العز في حياة الزعيم التي أقسم‬ ‫على أن يقفها لخير ألامة السورية ومجدها‪ .‬ث َّم تلتها دفعات ووقفات‬ ‫ً‬ ‫متالحقة‪ ،‬كان أكرمها وأروعها ً‬ ‫وفاء ونبال‪ ،‬العطاء ألاذكى الذي جاد به الزعيم‬ ‫القائد النتصار أعظم قضية ألعرق أمة في التاريخ‪ .‬هكذا بدأ سعاده حياته‬ ‫بإصراره البطولي على رفض الترحيب ّ‬ ‫بأي أجنبي والاحتفاء بقدومه املذ ّل‬ ‫مهما بلغ ثمن البذل في سبيل الكرامة السورية‪ .‬واستمر على هذه الطريق‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تمس بشرف ألامة وحقها في‬ ‫طيلة حياته رافضا ألي تسوية ومساومة‬ ‫سيادتها على نفسها إلى أن نال شرف الخلود مرفوع الرأس‪ ،‬ناصع الجبين‪،‬‬ ‫كل سلطان مكابر‪ ،‬على ّ‬ ‫عزيز الجانب وهو يقول بيقين املنتصر على ّ‬ ‫كل‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫طاغية بطاش‪ :‬شكرا ولتحيا سورية‪.‬‬ ‫*‬

‫‪18‬‬


‫توالت ألاحداث وتتابعت مفاجآت الحرب العاملية ألاولى‬ ‫بسرعة مذهلة بما فرضته من تغ ُّيرات جذرية في أوضاع الدول وعالقات‬ ‫ألامم والشعوب فيما بينها‪ .‬وانتهت تلك املجزرة الطاحنة بانهيار إلامبراطورية‬ ‫العثمانية وحلفائها وتولت السيطرة على مصير عالم ما بعد الحرب الدولتان‬ ‫املنتصرتان فرنسا وبريطانيا‪ .‬وقد أصابنا ما أصاب الضعيف املستسلم إلى‬ ‫ليقرر عنه‪ ،‬وي ّ‬ ‫حدد له مكانته ّ‬ ‫إرادة الغير ّ‬ ‫ويعين وجوده وقيمته بين ألامم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫في تلك ألاثناء كان الدكتور خليل سعاده والد الزعيم مغتربا في‬ ‫البرازيل‪ ،‬ويعتمد في تأمين اتصاالته مع عائلته املوجودة آنذاك في ضهور‬ ‫الشوير على صديق له حميم هو عمر الداعوق‪ ،‬رئيس بلدية بيروت‪ .‬وكان‬ ‫ّ ً‬ ‫الفتى أنطون سعاده يتردد من حين آلخر إلى دار البلدية متفقدا رسائل والده‬ ‫وما كان يرسله لعائلته من إسعافات مالية وسواها‪ ،‬مما هي بحاجة ّ‬ ‫ماسة‬ ‫إليها في تلك الظروف املضطربة والغارقة في املآس ي وألاهوال‪.‬‬ ‫ذات يوم حضر أنطون سعاده إلى بلدية بيروت ملواجهة عمر الداعوق‬ ‫ً‬ ‫مستوضحا ع َّما إذا كان قد وصله ّأية رسالة من أبيه بعد فترة كانت فيها قد‬ ‫انقطعت أخباره‪ ،‬وفرضت ذلك صعوبات الاتصال بين املهاجر والوطن ّإبان‬ ‫الحرب الضارية‪ .‬فص ودف وقتها وجود اجتماع حاشد في البلدية يضم كبار‬ ‫ً‬ ‫وجهاء بيروت‪ .‬وكان الجمع منهمكا في درس ألاوضاع السياسية التي كانت تنذر‬ ‫البالد بأوخم العواقب‪ .‬وكانوا يتداولون توقعاتهم عن مصير الوطن بعد‬ ‫انسحاب ألاتراك وانتصار الحلفاء عليهم‪ .‬ومدار البحث ألاساس ي في لقائهم‬ ‫يتناول ما آلت إليه أحوال البالد أثناء الحرب وإثر انتهائها وحول الدولة‬ ‫ّ‬ ‫لتحل في الوطن ّ‬ ‫ّ‬ ‫محل الدولة التركية‪ .‬ترى من هو ألانسب‬ ‫املفضلة‬ ‫ألاجنبية‬ ‫ّ‬ ‫لنا أن يأتي الفرنسيون أم إلانكليز أم ألاميركان أم سواهم وسواهم؟ توسعت‬ ‫ّ‬ ‫وتوزعت آلاراء بهذا الصدد‪،‬‬ ‫ألابحاث أو باألحرى شردت عن منطلقها‬ ‫وتضاربت ّ‬ ‫كل جانب وفي ّ‬ ‫شتى التقديرات من ّ‬ ‫كل اتجاه‪ ،‬حتى سادت البلبلة‬ ‫‪17‬‬


‫جمهرة الوجهاء الغيارى على مصلحة البالد والناشطين لتأمين املستقبل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التوصل‬ ‫ألافضل الذي ينشدون‪ ،‬وتعذر الوصول إلى ّأية نتيجة من البحث أو‬ ‫ً‬ ‫إلى ترجيح ّأية وجهة نظر على ألاخرى‪ .‬والفتى أنطون سعاده يقف متابعا لسير‬ ‫ً‬ ‫ألاحاديث ويراقب مستغربا تفاقم الفوض ى والضياع املسيطرين على عقول‬ ‫الحضور وعلى تعابيرهم التي ظلت مشدودة بعنف طيلة النقاش‪ .‬في خضم‬ ‫تالطم الصياح املتزايد واختالط ألاصوات الصاخبة إلى درجة الصراخ‬ ‫املكدود سنحت برهة عابرة من الصمت والسكينة اغتنمها عمر الداعوق‬ ‫ّ‬ ‫ليتوجه إلى ابن صديقه الذي أتى لزيارته وطال انتظاره فرصة‬ ‫بسرعة ولباقة‬ ‫اللقاء به‪ .‬التفت إليه والابتسامة ألابوية تسبق عباراته َّ‬ ‫لتنم عن مدى‬ ‫حرصه على إراحة الفتى‪ .‬وقال له بدعابة دمثة ما رأيك؟ يا أنطون‪ ،‬وقد‬ ‫رافقت بنفسك البحث الدائر؛ ّأية دولة تراها ألافضل لحكم هذه البالد‬ ‫ً‬ ‫فورا‪ّ ،‬‬ ‫وكأنه على موعد مع السؤال وقد أ َّ‬ ‫عد‬ ‫املنكودة الحظ؟ فأجابه سعاده‬ ‫له الجواب‪« :‬ألافضل أن ن ْستق َّل بأنفسنا وال حاجة لنا إلى ّ‬ ‫أي أجنبي كي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتولى أمرنا‪ ،‬نحن ّ‬ ‫فاهتز عمر الداعوق‬ ‫مؤهلون لذلك ويجب أن نعمل»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتفرس بوجه‬ ‫مثقف يمليه ف ًتى على الحاضرين وراح‬ ‫واع‬ ‫ٍّ‬ ‫لجواب رجل ٍّ‬ ‫أنطون سعاده املض يء امل ّ‬ ‫تفتح على الحياة املفعم بمالمح إلاقدام‪ ،‬ذلك‬ ‫الفتى الكبير بوعيه الشجاع الواثق بنفسه وبجدارة أمته للسيادة‬ ‫ّ‬ ‫التصدي لتلك الفئة من الحكام‬ ‫والاستقالل‪ ،‬الكبير بجرأته العظيمة على‬ ‫الساعين وراء من يضع نير العبودية في ألاعناق الجاهزة للرضوخ والركوع‪.‬‬ ‫لقد بهر جمهرة الوجهاء جواب الرجولة من الفتى الذي شاهد بنفسه تسابق‬ ‫ً‬ ‫هؤالء في التفتيش عن مستعمر جديد يحكم البالد عوضا عن املستعمر‬ ‫التركي الذي دام ما يزيد على أربع مئة سنة‪ ،‬س َّر الداعوق حين رأى الفتى‬ ‫سعاده ّ‬ ‫يقدم له الحل بعد أن عجز عنه الرجال املجتمعون‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫وقيل أن عمر الداعوق تناول من جيبه بطاقة صغيرة تحمل اسمه‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وخط عليها ّ‬ ‫بتأن وعناية هذه العبارات‪« :‬أتوقع لك‪ ،‬يا أنطون‪ ،‬مستقبال‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عظيما ونجاحا كبيرا في حياتك‪ ،‬حالفك التوفيق الذي يليق بمواهبك‬ ‫وأمدك هللا بالعمر الطويل»‪ .‬ثم قدم إليه البطاقة عربون إلاعجاب والتقدير‪.‬‬ ‫وإمارات الفرح ترتسم على مالمحه ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحبة والاعتزاز‬ ‫معبرة عن مشاعر‬ ‫ّ‬ ‫املتدفقة التي غمرت فؤاده تجاه الصديق الجديد ابن الصديق‪.‬‬ ‫*‬ ‫ال ب َّد لإلنسان أن يتح َّلى بالقدرة البالغية للتعبير ع َّما ّ‬ ‫تكنه‬ ‫ذاته‪ .‬ومهما امتازت لديه هذه القدرة ال ب َّد أن يسقط في أخطاء تعبيرية عن‬ ‫قصد أو عن غير قصد وهذه من طبيعة العمل‪ ،‬فمن يعمل يخطئ وتتفاوت‬ ‫درجات الخطأ والصواب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مذ كان سعاده يافعا في فجر تف ّتحه على الحياة ومعانيها وأبعاد الوجود‬ ‫بدت عليه إمارات النجابة والنباهة‪ .‬إذ لفتت إليه انتباه عارفيه من أقرانه‪.‬‬ ‫كما أثارت اهتمام الجميع في تتبع تصرفاته والتوقف لدى مالحظاته‬ ‫وآرائه‪ .‬حتى استقطب نبوغه املبكر عنايتهم الدقيقة الحثيثة وجذب إعجابهم‬ ‫الكبير بالفتى الصغير‪ .‬فصاروا يراقبون سلوكه ويتناولونه بالتعليق والتقريظ‪.‬‬ ‫وبعفوية وسهولة بالغة مارس قوة التعبير الفكري والعملي وما كان‬ ‫يعتمل في مكنونات ذهنه ووجدانه من أفكار ومن تأمالت عميقة ألابعاد‪ .‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فطنة‬ ‫طموحات فذة ومن مؤشرات‬ ‫سيما عما يجيش في نفسه من معالم‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫متفتح للمستقبل‪ ،‬مستقبل أمته ووطنه‪ .‬ما أكثر ما كان‬ ‫تتألف في تطلع‬ ‫يلتمع في قرارة عزيمة ذلك الفتى أنطون‪ ،‬من معطيات ألحداث جسام ومن‬ ‫يعد الع َّدة لها ّ‬ ‫ملهمات وأعمال فائقة كان ّ‬ ‫بوادر ّ‬ ‫ليقدمها‪ ،‬ساعة يستكمل‬ ‫تجهيزها‪ ،‬في الوقت املناسب والظرف املالئم‪ .‬فتكون ضرورة حياة اجتماعية‬ ‫‪21‬‬


‫وإمكانية ّ‬ ‫فعالة إلى الانطالق والتحرر والتقدم‪ .‬ملا تصبح دانية القطوف‬ ‫تعطي أشهى الثمار وأفضلها للشعب‪ .‬لدى بزوغ شباب أنطون أخذ إيمانه‬ ‫بأصالة شعبه يتبلور‪ .‬ويل ُّح عليه بوجوب الوفاء ألمته وهدايتها إلى الحرية‬ ‫والسيادة‪ .‬وأن يلتزم بمصيرها بكل وجوده وكل خلجة من فكره ونبضة من‬ ‫كيانه‪.‬‬ ‫أوائل العشرينات كان والد الفتى أنطون‪ ،‬الدكتور خليل سعاده‪ ،‬يحزم‬ ‫أمره إلصدار مجلة «املجلة» في سان باولو ـ ـ البرازيل‪ .‬فراح سعاده الابن ّ‬ ‫يعد‬ ‫ً‬ ‫العدة ملولد الحدث املهم ويباشر عمليا بالتفكير بشؤون املجلة والتحضير‬ ‫لجميع لوازم إصدارها إن من ناحية حاجاتها الطباعية أو من ناحية جهازها‬ ‫إلاداري تحت إشراف أبيه وبتوجيه من إرشاداته وخبرته‪ .‬وصار يالحق كل‬ ‫ّ‬ ‫أمر من أمورها الالزمة لتكون مجلة «املجلة» في طليعة الصحافة املهجرية‬ ‫ً‬ ‫فضال عن إسهام أنطون‬ ‫بين جميع الجاليات السورية في املغتربات كلها‪.‬‬ ‫املباشر والحثيث في إمدادها باملقاالت وألابحاث الفكرية العلمية‬ ‫والاجتماعية‪.‬‬ ‫لقد القى في هذا السبيل ّ‬ ‫شتى الصعوبات واملشاق الكثيرة‪ .‬لكنه عرف‬ ‫ّ‬ ‫كيف يتجاوزها ويذللها بقدرة الرجل املقدام وفطنة املجرب الحكيم في‬ ‫تصريف شؤون العمل وفي إلاعداد املتين لسيره واستمراره‪ .‬وكان من أهم‬ ‫العقبات الجدية‪ ،‬التي واجهته في البدء لدى التأسيس‪ ،‬هو افتقار املطبعة‬ ‫العربية الوحيدة آنذاك في سان باولو إلى فريق من العمال يحسنون صف‬ ‫ألاحرف الطباعية وإجراء عمليات الطباعة تلبية إلصدار مجلة دورية‬ ‫ّ ً‬ ‫شبانا من‬ ‫يقتض ي أن تصل إلى قرائها في انتظام‪ .‬وكانت تلك املطبعة تخص‬ ‫آل بندقي املغتربين من حمص ‪ -‬الشام إلى البرازيل‪ .‬وكان حال الطباعة في‬ ‫ً‬ ‫ذلك الوقت بدائيا يعتمد ألايدي العاملة أكثر مما يعتمد على تقنية آلالة‬ ‫املتطورة الحديثة‪ .‬فكان على أنطون إذن‪ ،‬وهو في مطلع حياته العملية‪،‬‬ ‫‪22‬‬


‫ّ‬ ‫ومطلع اغترابه‪ ،‬أن يخلق ملجلة «املجلة» فريق العمال القادرين على تأمين‬ ‫ّ‬ ‫حاجتها وضمان انتظامها الالزم مع جهله التام بكل ما يتعلق بالطباعة‪.‬‬ ‫سعى سعاده الابن إلى اختيار نواة ع َّمالة للطباعة من بين ّ‬ ‫شبان‬ ‫ّ‬ ‫تعرف إليهم تلك الفترة ّ‬ ‫الجالية الذين كان قد ّ‬ ‫ليتدرب معهم على صف‬ ‫ألاحرف العربية‪ّ .‬‬ ‫فتم تشكيل الفريق الصالح للعمل املطلوب‪ .‬ولم تمض‬ ‫ً‬ ‫أسابيع قليلة حتى صار هذا الفريق بقيادته وقدوته قادرا على أن ّ‬ ‫يلبي‬ ‫ّ‬ ‫الحاجات الطباعية للمجلة‪ ،‬لتصدر بمواعيدها الشهرية قدر إلامكان وبحلة‬ ‫ّ‬ ‫الئقة‪ .‬هكذا تمكن الفتى‪ ،‬ألول مرة‪ ،‬أن يحقق أروع أمنياته الرسولية وهي‬ ‫ً‬ ‫توفير إحدى أجدى وسائل الاتصال الدؤوب بالشعب بدءا من أبناء‬ ‫ّ‬ ‫ألاخص‪ .‬وهو‬ ‫الجاليات السورية في البرازيل وسائر املغتربات ألاميركية على‬ ‫ّ‬ ‫القائل‪« :‬ليست معركتنا سوى معركة الوصول إلى الشعب»‪ .‬وتحققت مزاولة‬ ‫ّ‬ ‫الشي ق بالرغم من جميع املشاق التي اعترضت سبيل‬ ‫عمله الصحافي‬ ‫طموحه وانتصاراته ألاولى في فكر الشعب ووجدانه‪.‬‬ ‫لقد ّ‬ ‫تحمل الفتى أنطون سعاده عظم هذه املسؤوليات التأسيسية‬ ‫َّ‬ ‫لعمل ُّ‬ ‫جد ّ‬ ‫هام‪ .‬وتنكب هذه املهمات الفكرية والعملية إلى جانب والده منش ئ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫واملفكر الالمع الذي كان ّ‬ ‫يتبوأ مركزا‬ ‫مجلة «املجلة»‪ ،‬الطبيب املعروف‬ ‫ً‬ ‫مرموقا ومكانة عالية محترمة بين مختلف فئات الجاليات السورية‬ ‫وألاجنبية وبين املواطنين في البرازيل وسائر املهاجر‪ .‬ثم سار العمل في املجلة‬ ‫ّ‬ ‫بنجاح‪ .‬بعد أن جعلها أنطون سعاده تتخط ى املراحل الصعبة وتجتاز عوائق‬ ‫فترة التأسيس املهمة ومنطلق الانتشار ألاهم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ملقال‬ ‫أحرف تجهيزا‬ ‫وحدث أن كان أنطون سعاده منهمكا بصف‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫سيدفعه إلى املطبعة ّ‬ ‫مر بقربه أحد زمالئه العمال‪ .‬فالحظ أن ألاستاذ‬ ‫منهمك في صف أحرف ملقال غير ّ‬ ‫ٌ‬ ‫معد‬ ‫أنطون‪ ،‬كما اعتادوا أن يدعونه‪،‬‬ ‫ٍّ‬

‫‪22‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كتابة قبل الصف‪ .‬استوقفه ألامر ولم يكلم به ألاستاذ بل انصرف رأسا‬ ‫ليخبر أحد أصحاب املطبعة السيد بندقي ّ‬ ‫عما يحدث‪ .‬غير أن كالمه لم يلق‬ ‫ّ‬ ‫في البدء أي قبول‪ .‬إنما أجيب أن ألاستاذ ربما يتسلى بصف بعض كلمات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متفرقة ال تشكل ال جمال وال موضوعا للنشر‪ .‬إال أن إصرار العامل على صحة‬ ‫مالحظته جعل أحد شبان آل بندقي يتوجه إلى جهة ألاستاذ ليتأكد بنفسه‬ ‫من صحة ما زعمه‪ .‬ودهش عندما شاهد أن ألاستاذ سعاده ينقل مباشرة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ليصفه أحرفا‪ .‬ثم يدفعه إلى املطبعة دون أن يكلف نفسه‬ ‫من ذهنه مقاال‬ ‫ً‬ ‫عناء كتابته خطيا على ورق‪ .‬لم يشأ السيد بندقي أن يقطع آنذاك على‬ ‫ّ‬ ‫ليتوجه إليه بأي سؤال بهذا الصدد‪ .‬بل تركه وشأنه‬ ‫ألاستاذ مجرى تفكيره‬ ‫يتابع عمله‪ .‬لكنه‪ ،‬في اليوم التالي استوضحه عن املقال الذي كان يصف‬ ‫ً‬ ‫أحرفه دون أن ّ‬ ‫يدبجه قبل ذلك مكتوبا‪ .‬كيف يمكن ملثل هذا العمل الغريب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يصح أم أنه مجرد محاولة لصف كلمات متنوعة‪ ،‬ال رابط بينها وال‬ ‫أن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وحدة؟ ابتسم ألاستاذ وأكد أن املسألة هي كما يرى وأنه يفعل ذلك مرارا‪.‬‬ ‫هذه بعض النماذج من قدرة سعاده في السيطرة الكلية على ّ‬ ‫تيقظه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتفوق‬ ‫مؤشرات لطاقته على ممارسة التوازن‬ ‫الفكري وحضور بديهته‪ ،‬وهي‬ ‫بين ما يدور في خلده من أفكار يؤلف لحمتها وبين ما يقوم به من أعمال‬ ‫كبيرة وتصرفات فذة جبارة متوافقة‪.‬‬ ‫*‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ازداد سعاده نموا وتفتحا على الحياة والوجود وأخذ يغوص‬ ‫ً ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫باحثا عن كنوز املعرفة مستغال إياها في الخلق وإلابداع زعيما ومعلما وقدوة‬ ‫باملعرفة وإلارادة وإلايمان‪ .‬فأتانا بالكشف العبقري عن حقيقة من نحن‪ ،‬في‬ ‫النهضة السورية القومية الاجتماعية وحقيقة ألاهداف واملرامي التي ال ّبد‬

‫‪24‬‬


‫لألصالة السورية من أن تسير إليها وتجسدها باألعمال وألافعال السورية‬ ‫القومية الاجتماعية لتحيا سورية سعاده بازدهار وسعادة‪.‬‬ ‫َّإبان وجود سعاده في سان باولو البرازيل سنة ‪ 1728‬كان هناك تقليد‬ ‫ً‬ ‫شائع يقض ي على املرء أن يحتفظ دائما بلباس لرأسه أمام الناس خاصة في‬ ‫ألاماكن العامة‪ .‬وكان من يخالف هذا العرف يتعرض لالنتقاد الشديد‬ ‫ويجلب لنفسه املتاعب التي هو بغنى عنها‪.‬‬ ‫تلك ألاثناء بالذات تفاجأ الجالية السورية في سان باولو بأن أنطون‬ ‫ً‬ ‫سعاده يتجول في ألاسواق وهو حاسر الرأس خالفا للعرف املتبع وال يبالي‬ ‫باستنكار الناس لتصرفه الشاذ‪ .‬فهبت عاصفة حادة من الاستهجان ملا أقدم‬ ‫عليه هذا الفتى من خروج عن التقاليد التي تجمع الجالية على احترامها‬ ‫وألاخذ بها‪ .‬هل هو ّ‬ ‫تحد من قبله لـ «الرأي العام»‪ ،‬استخفاف هذا أم ّ‬ ‫مجرد‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫غلطة يقترفها من كان في مثل سنه غير مكترث بالعواقب؟‬ ‫وانطلقت ألالسن ّ‬ ‫بحقه تتسابق في التفسير والتأويل لألسباب التي‬ ‫دفعته إلى القيام بهذا العمل‪ .‬واتصل به العديد من املعارف وألاصدقاء‬ ‫ّ‬ ‫ويضمون رأيهم إلى الاستغراب‬ ‫ينقلون إليه ّردة الفعل الستخفافه بالعادات‬ ‫العام مستفهمين بدورهم عن ألاسباب الداعية لخلق هذه املشكلة ناصحين‬ ‫ً‬ ‫َّإياه بالعدول عن سلوكه مراعاة ملشاعر الناس ودرءا لتماديهم باللغط وإثارة‬ ‫إلاشاعات ونشر ألاقاويل الجارحة املحرجة‪ .‬وهو يعتصم باإلصغاء دون‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إلافصاح عن رأيه متسائال عما يدعو الناس إلى التدخل بشؤونه الخاصة‬ ‫ًّ‬ ‫مصرا على‬ ‫التي ال يمكن أن تعني سواه وال تس يء ألحد على إلاطالق‪ .‬لكنه ظل‬ ‫التخلي عن لباس الرأس‪ .‬والناس من كل صوب يتابعون حملتهم على‬ ‫ً‬ ‫مخالفته النكراء لعاداتهم املقدسة‪ .‬وبقي متذرعا باإلصغاء والصمت وسط‬ ‫تفاقم موجة الاستنكار املوجهة ضد شذوذه عن املوقف العام‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫مرت ألاشهر على هذه الحال ولم تهدأ الانتقادات وألاقاويل حول‬ ‫أنطون سعاده ألنه ال يضع أي لباس على رأسه في بلد يجمع سكانه على‬ ‫ضرورة تغطية الرأس بحرص شديد وإلحاح عنيف‪ .‬وهو الصخرة الصامدة‬ ‫ّ‬ ‫خضم ألانواء وألامواج الصاخبة‪ .‬غير أن املسألة لم تقف عند‬ ‫الصامتة في‬ ‫هذا الحد بل تطورت واتسعت النقمة على سعاده حين فاجأهم‪ ،‬والعاصفة‬ ‫على أش ّدها‪ ،‬بإطالق لحيته دون أن يقيم أي اعتبار لردة فعل الناس‬ ‫ّ‬ ‫وتصلبهم في محاولة إرغامه على التراجع عما يؤذي قدسية التقاليد‬ ‫والعادات العامة‪ .‬فتجددت ردة الفعل هذه بنقمة ّ‬ ‫أشد وإلحاح أقس ى دون‬ ‫جدوى على إلاطالق‪ .‬ألن سعاده لم يقلع في الذي أقدم عليه ولم ي ْرعو عن‬ ‫ّ‬ ‫تشبثه بموقفه وليس لديه أي استعداد للدفاع عن تصرفاته الخارجة عن‬ ‫املألوف وال إعطاء أي إيضاح عما يقوم به‪ .‬ترى ما الذي يحمل سعاده على‬ ‫إثارة هذا السخط عليه وتأليب حملة شعواء ضده من جراء هذا السلوك‬ ‫الغريب؟ ما الفائدة من خوض معركة مع الرغبة العامة أو التوتر العام‬ ‫بسبب نزع لباس رأس ثم إطالق لحية؟ ومطلب الناس احترام التقاليد‬ ‫والتقيد بممارستها وألاخذ بها بحذافيرها مهما كان نوعها ومضمونها وقيمتها‬ ‫بالنسبة لحياة الشعب وحاجاته العملية لها‪ .‬كيف ستنتهي املشكلة التي‬ ‫أدارها سعاده مع الجالية السورية في سان باولو ّ‬ ‫بتحديه تقاليدها وعاداتها‬ ‫وإصراره الصامد على العمل بموجب رأيه هو وقناعته الخاصة فيها دون‬ ‫ً‬ ‫الاهتمام برأي أحد‪ .‬وال يوضح شيئا عما يدور في خلده ويعتمل في نفسه‬ ‫بينما الجميع وفي طليعتهم أصدقاؤه يسعون ملعرفة أغراضه من كل ما‬ ‫حدث وحصل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأتاه ذات يوم أحد أقرب أصدقائه مستفسرا ومظهرا الحرص على‬ ‫ّ ً‬ ‫سمعته ومركزه في الجالية السورية‪ .‬متوخيا معرفة الحقيقة‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫ً‬ ‫عال خطر‬ ‫ابتسم سعاده متنفسا بعمق كمن يحاول تجاوز حاجز ٍّ‬ ‫يفصل ما بين الناس وامتالك الحقيقة ثم قال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«أنا باألساس لم يبدر مني ما يس يء ألحد ولم تخطر لي إلاساءة أبدا‪ .‬فما‬ ‫ً‬ ‫شأن الناس من أمر ال يعنيهم فضال عن كونه ال يزعجهم على إلاطالق ‪.‬فلماذا‬ ‫يشغلهم أمر شخص ي وعادي كأنه قضية كبرى تتناول جميع شؤونهم؟ ومن‬ ‫ً‬ ‫جهة ثانية يا صديقي‪ ،‬فإنني عمدت إلى تصرف كنت أعرف مسبقا أنه سيثير‬ ‫ً‬ ‫اهتمام الناس ويحرك نقمتهم ّ‬ ‫علي ويسبب لي كثيرا من املتاعب‪ .‬لكنني أردت‬ ‫أن أمتحن صمودي إزاء موقف أجمع الناس على مخالفتي به ورفضه لي‬ ‫بالضغط واللفظ وشتى وسائل املمانعة واملقاومة‪ .‬فهل أتراجع لكسب رض ى‬ ‫ّ ً‬ ‫آلاخرين تخلصا من حملتهم على خروجي عن تقاليدهم وأعرافهم التي هي‬ ‫ً‬ ‫مبدئيا ال مبرر لها وال معنى لوجودها وال تستحق ال الحرص عليها وال إلزام‬ ‫أحد بها‪ .‬هل أتنازل عن قناعتي بصحة موقف أو تدبير معين تحت الضغط‬ ‫وإلاكراه أم أ ّ‬ ‫صر وأصمد في موقعي وأستمر إلثبات حقي في الحرية والاختيار‬ ‫ملا أصبو إليه وأسعى لبلوغه؟»‪.‬‬ ‫*‬ ‫كثيرة هي الشواهد على تفوق سعاده وعبقريته في التعبير عن‬ ‫أصالة قد تفجرت في النهضة السورية القومية الاجتماعية زوبعة تعصف‬ ‫ً‬ ‫وتقصف لتؤسس وتشيد أمجادا وبطوالت لتحيا سورية رائدة خالدة‪.‬‬ ‫بعد عودة سعاده من املغترب وقبل املباشرة بتأسيس الحزب السوري‬ ‫القومي الاجتماعي أقام فترة في مدينة دمشق لالتصال بأوساط الطلبة‬ ‫ً‬ ‫والصحافة‪ .‬ثم غادرها إلى بيروت الستكمال تلك الاتصاالت إعدادا ملبادرة‬ ‫التأسيس املرتقبة‪ .‬حينذاك استأجر غرفة في منزل برأس بيروت مع اثنين من‬ ‫أصحابه‪ .‬وراح يعقد الصالت الصميمة الهادفة مع طالب من الجامعة‬ ‫‪29‬‬


‫ً‬ ‫ألاميركانية عن طريق إعطائهم دروسا خاصة باللغة ألاملانية‪ .‬إلى أن كان‬ ‫البدء الفعلي باكتشاف أولى اللبنات الصالحة لتأسيس النهضة‪.‬‬ ‫َّإبان إقامة سعاده في تلك الغرفة مع صاحبيه‪ ،‬الحظا‪ ،‬ومنذ ألايام‬ ‫ً‬ ‫ألاولى‪ ،‬بادرة منه استلفتت انتباههما واستوقفتهما طويال وهي أن أنطون ال‬ ‫يستعمل قط في نومه الفراش ولوازمه بل يكتفي بإلقاء جسمه ساعات‬ ‫قليلة إلى البساط املمتد أمام سريره وهو شبه عار صي ًفا ً‬ ‫شتاء‪ ،‬أوان تساقط‬ ‫ٍّ‬ ‫الثلوج وهطول ألامطار وأثناء عصف الرياح واشتداد البرد القارس‪ .‬بينما كان‬ ‫رفيقاه في الغرفة كسائر الشباب أقرانه ّيتخذان كامل الاحتياطات املعتادة‬ ‫التي ال غنى عنها التقاء مزعجات فصل الشتاء‪ .‬سواء ما يتعلق بأنواع‬ ‫ألالبسة الشتوية أو وسائل التدفئة الضرورية‪ .‬تتبع رفيقاه القسوة املذهلة‬ ‫ن ّ‬ ‫تأفف وال ّ‬ ‫تبرم في مواجهته الجريئة‬ ‫التي كان يفرضها سعاده على نفسه دو‬ ‫ألقس ى حاالت الطقس وتقلبات الطبيعة الغاضبة دون أن يبديا أي‬ ‫يوجها إليه أدنى تساؤل أو استيضاح ّ‬ ‫استغراب أو مالحظة أو ّ‬ ‫كأن ألامر جد‬ ‫طبيعي وعادي‪ .‬ألن سعاده من طباعه املعروفة الاستقاللية املطلقة في‬ ‫ً‬ ‫سلوكه الخاص‪ .‬ال يفسح ألحد أيا كان مجال التدخل بشؤونه الخاصة‪ .‬ويرى‬ ‫ً‬ ‫أن له ملء الحق والحرية في التصرف بما يتعلق به شخصيا ما دام ال يس يء‬ ‫بسلوكه إلى أحد وال يسبب له أدنى مضايقة أو إزعاج‪ .‬وإذا ما تداول سعاده‬ ‫مع أحد من أصحابه بشأن خاص فهذا دليل على ما ّ‬ ‫يكن له كصديق من‬ ‫وافر التقدير ويوليه من عميق الثقة‪ .‬وهو يقصد من إشراكه صديقه في‬ ‫خصوصياته وشجونه تحقيق غرض في نفسه صميم وبلوغ غاية توجيهية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّبناءة بعيدة املرمى عميقة املعنى تجعله أشد التصاقا به وأمض ى تجاوبا‬ ‫ً ً‬ ‫وتفاعال معا‪.‬‬ ‫مض ى فصل الشتاء وسعاده يواظب على طريقته عينها في النوم‬ ‫ً‬ ‫واليقظة وممارسة الرياضة البدنية صباح مساء‪ ،‬متابعا منهجه الخاص بكل‬ ‫‪28‬‬


‫دقة وإتقان دون انقطاع مهما يطرأ عليه من عوائق وموانع فهو مستمر‬ ‫بجدية وعفوية ال يداخلهما إجهاد وال ملل‪.‬‬ ‫وكان أحد صاحب ْي سعاده ّ‬ ‫يترصد مسلكه عن كثب بكل إعجاب وإكبار‬ ‫دون أن يسمح لنفسه بإبداء أي تعليق‪ .‬ويرافقه خالل إقامته معه بأهم‬ ‫ألابحاث حتى حصل على كامل ثقته وبلغ من نفسه منزلة حميمة صميمة‬ ‫مما جعل سعاده يبادله آلا اء في الكثير من شؤونه ويكاشفه ّ‬ ‫بأدق تأمالته في‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫وأحب مشاريعه إلى عقله وقلبه‪ .‬كما كان يطلعه على أبعد‬ ‫الحياة والوجود‬ ‫تطلعاته املستقبلية بارتياح وانشراح‪ .‬وقد أتيح لهذا الصديق مناسبة‬ ‫الستفسار سعاده عن النمط الفريد الذي يلتزم به في حياته ويمارسه بعناية‬ ‫وقناعة تامة‪ .‬فأوضح له سعاده مرامي سلوكه املستغرب‪ ،‬ألول وهلة‪،‬‬ ‫وأفصح عن مقاصده العليا به‪:‬‬ ‫«الحياة‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬عميقة ّ‬ ‫الجدية شديدة القسوة‪ .‬ال تتوقف لحظة‬ ‫عن تحدي صمود إلانسان باملصاعب واملصائب التي تقيمها في سياق‬ ‫مسيرته الشاقة‪ .‬الحياة تثير عزيمة إلانسان وتحرض عنفوانه ليواجه فيض‬ ‫كنوزها وتدفق ويالتها‪ .‬وما عليه إال أن يكون على مستوى املجابهة ألية‬ ‫مفاجأة ولو بلغت أقص ى الشدة والعنف‪ ،‬يتصدى لها بما يليق بكرامة‬ ‫إلانسان وسمو رسالته في الحياة‪ .‬فإما أن ينتصر فيبرهن أنه جدير بالحياة‬ ‫ّ ً‬ ‫قادر على انتزاع حقه من أشداق املظالم َّ‬ ‫صرا عن إثبات‬ ‫وإما أن يتخاذل مق‬ ‫وجوده وتأكيد أهليته للصمود‪ ،‬فيتلبسه عار الهزيمة ووصمة التسليم‬ ‫والاستسالم لألمر الحاصل‪.‬‬ ‫الحياة‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬مغامرة كبرى ومصدر جميع املغامرات التي ال‬ ‫تحص ى وال يحتمل تذليلها والتغلب عليها إال بالنفسية الصراعية املجهزة‬ ‫بأمتن القوى النفسية املناقبية التي هي قدرة إلايمان وإلارادة‪ :‬إلايمان‬

‫‪27‬‬


‫بالحقيقة وإرادة تحقيق قضية إلايمان‪ ،‬وفرض الانتصار املحتوم دون‬ ‫مهادنة أو تهاون‪.‬‬ ‫ْ ً ّ‬ ‫ألاحياء فلذة من صلب الحياة بالصالبة والجمال وليسوا أتباعا أذال ٍّء‬ ‫ترميهم الحياة بما تفرزه من فضالت وفتات يتصدق بها ألاحرار أو ألاغرار‬ ‫الغادرون على الخانعين‪.‬‬ ‫الحياة‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬ال تتوانى عن صفع املولولين النائحين على عتبة‬ ‫الحياة كأنهم في مأتم فنائهم‪ .‬فالحياة تسارع إلى سحقهم شامتة بعجزهم‬ ‫ً‬ ‫وتأبى انتسابهم إليها‪ .‬ليس مباحا أن نستغيث ونستنجد مستجدين العون‬ ‫وإلاسعاف‪ .‬ال يليق بمن يعي وجوده إلانساني أن يلجأ إلى املواربة في حضرة‬ ‫ً‬ ‫الحقيقة ويلوذ باملداورة هربا من تحمل مسؤولياته على غرار هروب النعامة‬ ‫ونذالتها‪ .‬ال ّبد من الصمود والتصدي ألي احتمال مهما اقتض ى من آالم‬ ‫ً‬ ‫عظيمة وتضحيات جسيمة‪ .‬نذود أبدا عن قضية الحياة الكلية ألازلية‬ ‫وروعة عظمتها‪ ،‬مؤكدين خطورة دور إلانسان في تشريف الحياة ورفع شأنها‬ ‫إلى مصاف إنسانيته كي يتسنى لنا الارتواء من فيض منابع ال تنضب من‬ ‫الحق والخير والجمال ليحق لنا الاعتزاز بعمق أصالة إلانسان في صميم‬ ‫أصالة الحياة‪.‬‬ ‫من يدري‪ ،‬يا صديقي‪ ،‬قد تأتينا أيام وربما سنون عجاف تبلونا بأفظع‬ ‫النكبات واملحن‪ .‬فال يتوفر لنا مثل هذا البساط الذي ندوسه آلان بأقدامنا‬ ‫ونمسح به نعالنا لنفترشه آنذاك ّ‬ ‫ونتقي به شر الفاقة وبؤس املآس ي‪ .‬الحياة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لنا أوال وأخيرا ومطلبنا الحقيقي أن نستطيع التعبير بها عن أسمى املثل‬ ‫وأنبل املقاصد‪ .‬نجسد مآثر مفهومنا للحضارة ورؤيتنا الصحيحة للتراث هذا‬ ‫الشاهد الصادق على تفوق أصالتنا وتألق طاقاتنا»‪.‬‬ ‫*‬ ‫‪21‬‬


‫هكذا بنى سعاده من نفسه قوة قادرة على مواجهة جسام‬ ‫ألاحداث وتحمل روائع املسؤوليات منذ تفتحه على الحياة والوجود‪ .‬هكذا‬ ‫أقام من نفسه منارة تطلق مشاعل رسالة تهدي إلى سراط الحق والخير‬ ‫والجمال فتالقي ألامة السورية بقدوته أعظم انتصار ألعظم صبر في التاريخ‪.‬‬ ‫هذا هو املعلم الزعيم من ج َّسد أصالة النفس السورية بأجمل معطياتها‬ ‫املادية الروحية وأعظم مواهبها الفذة‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي‬ ‫يقوم من أجل حقيقة ثابتة مستمرة‪ ،‬هي‬ ‫قض ـ ـ ـ ـ ـ ـية حياة املجتمع واس ـ ـ ـ ـ ـ ـتمرار حياته‬ ‫وتقدمها نحو ألافضل وألاجمل‪ .‬قضـ ـ ـ ـ ـية‬ ‫تقدم وانتصار وعز‬ ‫سعاده‬

‫ما أن وضعت الحرب العاملية ألاولى أوزارها وفتح الطريق إلى املغتربات‬ ‫حتى هاجر الزعيم ملالقاة والده وإخوانه في البرازيل من أميركا الجنوبية‪،‬‬ ‫وكانت والدته قد توفيت إ ّبان الحرب هناك‪َّ ،‬‬ ‫ثم راح الزعيم يتعاطى العمل‬ ‫الصحفي في مجلة «املجلة» التي كان يصدرها والده الدكتور خليل سعاده‬ ‫في سان باولو البرازيل‪ .‬أثناء وجوده في املغترب كان شديد املتابعة ألخبار‬ ‫الوطن وعميق التأمل في ما وصلت إليه حال مواطنيه تحت نير الانتدابين‬ ‫البريطاني والفرنس ي اللذين فرضتهما معاهدة سايكس ‪ -‬بيكو على ألامة‬ ‫السورية والعالم العربي‪ ،‬بينما كان الزعيم ّ‬ ‫يعد نفسه إلى الحدث التاريخي‬ ‫الفذ الذي وقف له كل حياته ووجوده وعمل له بكل قواه وإمكاناته حتى‬ ‫أذكى العطاء بشهادة الدم‪.‬‬ ‫عاد الزعيم إلى الوطن سنة ‪ 1721‬وفي ذهنه مباشرة العمل الكبير‬ ‫لحياة ألامة السورية والوطن السوري ورقيهما‪ .‬فأخذ ّ‬ ‫يتحين الفرصة‬

‫‪22‬‬


‫املناسبة للمبادرة الفعلية إلى تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي‪.‬‬ ‫وكانت أولى املحاوالت في هذا السبيل انتقاله لإلقامة في دمشق العاصمة‬ ‫الشامية التي كانت وكأنها على وطيس نار ملتهبة تغلي في حربها ضد املستعمر‬ ‫ألاجنبي ومقاومة أساليب طغيانه‪ .‬وذلك ربيع سنة ‪ .1721‬اقتصر اتصال‬ ‫الزعيم في البدء بأوساط الطلبة من خالل املدرسة العلمية الوطنية الكائنة‬ ‫آنذاك في شارع البزورية لصاحبها الدكتور منيف العاندي‪ .‬ثم ارتاد أوساط‬ ‫الصحافة الشامية بعقد صالت مع أسرة صحيفة «ألايام» اليومية لصاحبها‬ ‫ً‬ ‫نصوح بابيل‪ ،‬وكان من وقت آلخر ينشر مقاالت وأبحاثا قليلة بغية سبر ردود‬ ‫ً‬ ‫الفعل لدى ّ‬ ‫القراء والرأي العام إجماال وطبيعة هذه الردود إزاء ما كان‬ ‫ينشره من أفكار وآراء تتناول معالجة شؤون الساعة بمفاهيم النهضة‪ .‬وبعد‬ ‫ً‬ ‫أن ّ‬ ‫معا في دمشق مدى ّ‬ ‫تقبل‬ ‫تبين الزعيم من خالل املدرسة والصحافة‬ ‫الشعب ملواجهة قضاياه املصيرية وتحسسه بمسؤوليات العمل لها غادرها‬ ‫ً‬ ‫بعد بضعة أشهر ليعود إلى بيروت مستكمال دراسته لنفسية الشعب‬ ‫واستعداداته لتلبية الدعوة إلى اعتناق عقيدة الحرية والواجب والنظام‬ ‫والقوة والجهاد القومي الاجتماعي لنصرتها‪.‬‬ ‫في بيروت بادر الزعيم إلى الاتصال بأوساط الطلبة عن طريق إعطاء‬ ‫ّ‬ ‫دروس خاصة باللغة ألاملانية لطالب من الجامعة ألاميركانية وكذلك وطد‬ ‫عالقات ّ‬ ‫ودية مع أسرة جريدة «النهار» اليومية لصاحبها آنذاك جبران تويني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عله يتعرف في بيروت أيضا إلى مستوى الرأي العام ومدى إمكانياته‬ ‫ومؤهالته للعمل القومي الاجتماعي الذي كان الزعيم ّ‬ ‫يؤس س له جميع‬ ‫دعاماته ألاساسية وعناصره الضرورية ألاصيلة‪ .‬من أوساط الجامعة‬ ‫ألاميركانية في بيروت كان اختياره ألولى اللبنات لتأسيس النهضة ومباشرة‬ ‫الدعوة القومية الاجتماعية‪ .‬وكان ذلك البدء أثناء السنة املدرسية ‪-1721‬‬ ‫‪ 1722‬وبمنتهى الحرص على السرية التامة‪ .‬ثم بلغ عدد ألاعضاء املنتسبين‬ ‫‪22‬‬


‫إلى الحزب خالل أسابيع معدودات ما يتجاوز الخمسة معظمهم من الطالب‬ ‫وألاوساط الطالبية واملثقفة‪.‬‬ ‫لم يمض وقت طويل على هذا البدء حتى الحظ الزعيم أن بعضهم‬ ‫أخذ يتصرف مع رفقائه ومع الزعيم بالذات بعقلية السياسيين التقليديين‪،‬‬ ‫على أساس املفهوم السياس ي البحت في معالجته الشؤون الاجتماعية‬ ‫واملواضيع العامة‪ ،‬كما الحظ سلوكهم من الحزب وقضيته ومسؤوليات‬ ‫العمل الحزبي كأنها وسائل لتحقيق أغراض الوجاهة الشخصية والنفوذ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعضا‪ .‬كان ّ‬ ‫همهم ينصرف أوال إلى بلوغ أغراض‬ ‫الفردي على بعضهم‬ ‫خصوصية وإرواء رغبات فردية ال قومية اجتماعية على حساب مصلحة‬ ‫الحزب وشؤونه الخطيرة جاعلين من الحزب ووجوده السبيل إلى وصولهم‬ ‫ّ‬ ‫فانكب الزعيم على معالجة هذه الظاهرة الخطيرة من‬ ‫ملنافع تافهة ليس إال‪.‬‬ ‫الانحراف الخلقي الفكري الناشبة في جسم الحزب وما زال في طور التكوين‬ ‫ألاول وبداية مرحلة التأسيس الفكري النفس ي‪ .‬وراح ّ‬ ‫بأدق وسائل التوجيه‬ ‫وألبق أساليب إلارشاد والتصويب يعمل على إنقاذ الحزب من النزعة الفردية‬ ‫التي تقتحم عقليته ألاخالقية الجديدة‪ ،‬وهو في مهد النشوء والنمو‪ .‬لكن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرديون ألاوائل في التشويش وبث‬ ‫املفاسد أحكمت تالعبها باألفراد وتمادى‬ ‫روحية الشك والبلبلة بين الرفقاء حتى صار معظم الاهتمام العام يدور على‬ ‫غير املحور املناقبي ّ‬ ‫البناء‪ ،‬بدل أن ينصرف إلى معالجة شؤون النهضة وألامة‬ ‫باملستوى الالئق بطموح الشباب وعزيمته إلى أن تحولت‪ ،‬أو كادت‪،‬‬ ‫الاجتماعات الحزبية والجلسات الرسمية عن مواضيعها وأغراضها إلى ميدان‬ ‫ً‬ ‫التنافس الشخص ي وباتت مجاال لخلق املشاكل وتعطيل كل معالجة لها‪.‬‬ ‫ففاجأت هذه الظاهرة املرضية‪ ،‬الزعيم‪ ،‬والحزب ما يزال في مطلع اختباراته‬ ‫ألاولى‪ ،‬وآمله أن يكون هذا بين أوساط الطالب الشباب الذين لم ينطلقوا‬ ‫بعد في مواجهة الحياة وما فيها إزاء تفاقم التردي في التعامل القومي‬ ‫‪24‬‬


‫ً‬ ‫الاجتماعي والسلوكية الال مناقبية لهؤالء ألاعضاء والحزب ال يزال سريا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ويضم أعدادا محدودة ال تتجاوز العشرين عضوا‪ ،‬كان ال ّبد من إيجاد‬ ‫ً‬ ‫العالج الناجع السريع للخروج من حراجة املأزق‪ .‬ولم يكن ممكنا اللجوء إلى‬ ‫ّ‬ ‫أي كان بالفصل أو الطرد أو سواهما من التدابير النافذة إلى إلاصالح‬ ‫معاقبة ٍّ‬ ‫ما دام الحزب غرسة لدنة ونواة ّ‬ ‫غضة ال تتحمل ّ‬ ‫الهزات وال التجارب‬ ‫ً‬ ‫الحاسمة فضال عن حالته السرية وحاجته القصوى إلى الاحتماء بسريته إلى‬ ‫أجل ال يمكن تحديد أجله آنذاك‪.‬‬ ‫فارتأى الزعيم في حل الحزب ضرورة لينصرف كل واحد إلى الاهتمام‬ ‫بشؤونه الخاصة ريثما يعاود التأمل في تلك ألاعراض املدمرة‪ .‬ثم دعا جميع‬ ‫ألاعضاء إلى عقد اجتماع عام طارئ تم خالله مصارحة الزعيم التاريخية‬ ‫للحضور في قول‪ :‬إن تجربته في تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي‬ ‫ً‬ ‫بات مقتنعا بعدم جدواها وقدرتها على النمو والاستمرار وهو لم يعد يلمس‬ ‫من نفسه الاستعداد ملتابعة الترابط معهم في التعاقد القائم‪ .‬وهو يعلن‬ ‫للجميع عزمه على ّ‬ ‫حل الحزب بوصفه الشارع صاحب الدعوة إلى القومية‬ ‫ّ‬ ‫السورية الاجتماعية‪ .‬وحلهم بالتالي من القسم القومي الاجتماعي وجميع‬ ‫مستلزماته وموجباته القومية الاجتماعية وليس ألحد تجاهه أي إلزام من‬ ‫ً‬ ‫أي نوع‪ ،‬موضحا أن الحق بحل الحزب أو باالستمرار به يعود إليه بالنظر ملا‬ ‫له من مسؤوليات وصالحيات في التأسيس والقيادة مدى الحياة‪ .‬وها هو‬ ‫ً‬ ‫يصارحهم بكل ما ينوي عمله تاركا لهم حرية املوقف والتصرف من جانبهم‬ ‫بعد حل الحزب وانصرافه هو عن تنفيذ تعاقده السابق معهم لتحقيق‬ ‫مبادئ الحزب وأهدافه‪ .‬وقد القى هذا التدبير الفاصل الحاسم من قبل‬ ‫الزعيم ردود فعل متفاوتة لدى أعضاء ألامس‪ ،‬حسب تفهمهم للحزب‬ ‫ومراميه وجدية انتمائهم إليه وحسب قدراتهم ألاخالقية النفسية على حمل‬

‫‪25‬‬


‫مسؤوليات الصمود والنضال في طريق الحياة الطويلة الشاقة التي شقها‬ ‫ً‬ ‫الحزب مصمما على الاستمرار بها حتى النفس ألاخير والنصر النهائي‪.‬‬ ‫مضت فترة من الصمت عن الحزب ووجوده‪ ،‬اقتنع خاللها من يجب‬ ‫بعدئذ‬ ‫أن يقتنع بانتهاء مسألة الحزب وزواله من الوجود إلى غير رجعة‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫استأنف الزعيم الاهتمام بقل ة من ألاعضاء القدماء ممن الحظ فيهم‬ ‫الجدارة على حمل العقيدة والسير بها وعمد إلى إعادتهم إلى التنظيم بمنتهى‬ ‫ً‬ ‫التأني والروية ملتابعة العمل القومي الاجتماعي بهم أوال ومعهم‪ .‬فكان تأسيس‬ ‫الحزب السوري القومي الاجتماعي من جديد بعودة بعض من كانوا النواة‬ ‫ألاولى في التأسيس ألاول وبانضواء آخرين جدد تحت خفق الزوبعة للحرية‬ ‫والواجب والنظام والقوة‪.‬‬ ‫إنه التأسيس املستمر منذ السادس عشر من تشرين الثاني سنة‬ ‫ً‬ ‫‪ .1722‬وظل الحزب يعمل سريا تحت طبقة الثرثرة والصياح املنتشرة فوق‬ ‫هذه ألامة وتمتد روحه بهدوء واطمئنان في جسم ألامة وتنظم جماعاتها‪ .‬إلى‬ ‫أن كان السادس عشر من تشرين الثاني من سنة ‪ 1725‬الذكرى الثالثة‬ ‫لتأسيسه‪ ،‬فجر ذلك اليوم انكشف أمر الحزب وأعلن وجوده من قبل‬ ‫سلطات الانتداب الفرنس ي وأعوانه العمالء العاملين لسيادة الاستعمار على‬ ‫ألامة والوطن‪ .‬داهمت السلطات مقر الحزب ومنازل من عرفتهم من‬ ‫املسؤولين وألاعضاء وتم اعتقال الزعيم والعديد من معاونيه جنود القضية‬ ‫ً‬ ‫السورية القومية الاجتماعية وإحالتهم جميعا إلى القضاء الفرنس ي املختلط‪.‬‬ ‫فكان أول امتحان في أولى معارك النضال والانتصار ّ‬ ‫ترسخت بها دعائم‬ ‫التأسيس في توكيد سالمة البنية وصمود ألاصالة السورية وفي إثبات قدرة‬ ‫النهضة على تحقيق النصر القومي الاجتماعي ملجد سورية بقيادة سعاده‬ ‫املعلم الزعيم‪.‬‬

‫‪21‬‬


‫قص ـ ـ ـ ـة أول نـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدوة ثقافـ ـ ـ ـ ـ ـية في الح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزب‬

‫أنشئت أول ندوة ثقافية في الحزب السوري الاجتماعي حين كان‬ ‫ً‬ ‫الحزب ال يزال سريا أواسط سنة ‪ 1724‬أي بعد مض ي سنتين على بدء‬ ‫تأسيسه‪ .‬لدى انعقاد الجلسة ألاولى للندوة أخذ الزعيم يوضح الغرض من‬ ‫إنشائها وخطورة مهماتها الثقافية في حزب عقدي ذي نظرة كلية شاملة إلى‬ ‫الحياة والكون والفن إلى جانب مسؤوليات عمدة الثقافة والفنون الجميلة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتطرق الزعيم أيضا إلى كيفية ممارسة عملها إداريا من الوجهة النظامية‬ ‫بوصفها أحد أجهزة عمدة الثقافة والفنون الجميلة املولجة بمعالجة‬ ‫الشؤون الثقافية سواء في مؤسسة العمد ومجلسهم أو بتوجيه التفاعل‬ ‫الثقافي العام في صميم الشعب ومعركة الوصول إلى الشعب إلى نفسه‬ ‫وفكره ووجدانه‪ ،‬معركة النهضة ألاولى وألاهم‪ .‬ثم تناول الزعيم شرح‬ ‫ً‬ ‫مسؤولية رئيس الندوة الثقافية وناموسها اللذين يشكالن معا هيئة املكتب‬ ‫للندوة ويتوليان بالتعاون مهمة تنظيم برامجها‪ ،‬وتنظيم إلاشراف على‬ ‫تنفيذها باإلضافة إلى توفير التوافق الكلي الذي يحقق نظام النهج والفكر‬

‫‪29‬‬


‫بين مختلف لجان الندوة وإلى تأمين التنسيق ملختلف مشاريعها ودراساتها‬ ‫الفكرية الفنية في الاتجاه القومي الاجتماعي‪ ،‬ذلك الاتجاه الواضح ألاسس‬ ‫واملنطلقات في مضامين قضية الحزب واتجاهات املبادئ السورية القومية‬ ‫الاجتماعية وفي أهدافها وغايتها‪.‬‬ ‫وتوجه الزعيم إلى الرفقاء أعضاء الندوة الثقافية ألاولى في الحزب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الذين يشكلون دون ريب حينذاك نخبة مثقفي الحزب ومفكريه املؤهلين‬ ‫للعمل والتوجيه الثقافي الفكري بين صفوف النهضة واملواطنين قاطبة‪ ،‬إلى‬ ‫تفهم قضية النهضة ّ‬ ‫هؤالء املفروض فيهم جدارة ّ‬ ‫وتفهم مفاهيمها ومعطياتها‬ ‫املادية الروحية قد توجه الزعيم ليسألهم‪« :‬من منكم يرى في نفسه الكفاءة‬ ‫لتحمل مسؤولية رئيس للندوة الثقافية وقد اتضحت لكم كامل خطوط‬ ‫مسؤولياتها ومهماتها ألاساسية الكبرى؟»‪.‬‬ ‫أمام السؤال الكبير ساد الصمت املشوب باالرتباك والتردد وسرى بين‬ ‫الجميع وبسرعة خاطفة تبادل نظرات معبرة تنم عن حيرة متحفزة وتفصح‬ ‫عن ّ‬ ‫تهيب عميق إلايمان بعزيمته‪ ،‬تهيب من إلاقدام على تنكب املسؤولية‪،‬‬ ‫مسؤولية رئاسة الندوة الثقافية ألاولى في الحزب السوري القومي الاجتماعي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لكن الوقت لم يمض طويال‪ .‬خالل دقائق معدودات بينما كان بعض‬ ‫ً‬ ‫ألاعضاء يستوضح نقاطا دقيقة وردت على لسان الزعيم لدى شرحه ألاولي‬ ‫ً‬ ‫مستأذنا الكالم ّ‬ ‫ليقدم نفسه من أجل ّ‬ ‫تحمل مسؤولية‬ ‫لها رفع أحدهم يده‬ ‫ّ ً‬ ‫الرئاسة في تلك الندوة مبينا مدى استعداده لتأمين أهم متطلباتها وإحراز‬ ‫النجاح الجيد فيها‪ .‬وكان ذلك الرفيق السابق زكي ّنقاش‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فتلقى الزعيم الاقتراح بملء الفرح والسرور وبادر فورا إلى الترحيب به‬ ‫ً‬ ‫واملوافقة عليه بالتصفيق للرفيق ّنقاش معبرا عن عميق إعجابه ألي خطوة‬ ‫تدل على ثقة بالنفس‪ ،‬وترسخ تلبية جريئة للمهمات مهما كبرت أحمالها‬

‫‪28‬‬


‫وتشابكت مسالكها‪ .‬من دون أن يقع املرء فريسة تصوراته لألسوأ ويتوقع‬ ‫ً‬ ‫أعقد الاحتماالت املثبطة أو يتهيب محجما عند توهمه أنه مرمى الاتهامات‬ ‫بالغرور والتباهي‪ ،‬فاإلقد ام على حمل أعباء الحياة وأعباء النهضة التي هي‬ ‫خير تعبير عن سمو الحياة‪ .‬هذا إلاقدام هو ضرورة الوجود وحافز البقاء‬ ‫والاستمرار لألفضل مهما يكن نصيب إلاقدام من الفشل أو النجاح‪ .‬إن‬ ‫إلاحجام ّ‬ ‫املتردد يؤدي إلى الجمود والفشل الذميم‪.‬‬ ‫الثقة بالنفس تنبثق عن وعي الحقيقة‪ .‬أما النزعة الفردية فهي وليدة‬ ‫روحية التفرد الال اجتماعية وذهنية التشاوف ألانانية الضاربة في العبث‬ ‫والغرور واملغرقة بالسطحية الطائشة املشوهة‪.‬‬

‫‪27‬‬


‫الاعتقال ألاول‬

‫نحن آلان مع فريق من شعبنا هو أحوج ما‬ ‫يكون إلى تعاليمنا فلنغتنم الفرصة لنزف‬ ‫إليه والدة النهضة‬

‫لم يراود الزعيم قط أي شك بمقدرة النهضة على إحداث الانقالب‬ ‫الجذري في عقلية الشعب ووجدانه وإطالق فاعليته لتغيير مجرى التاريخ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ولم ي ْنت ْب إيمانه بأصالة ألامة السورية ّ‬ ‫أي وهن بل ظل يقينه مطلقا بقوتها‬ ‫على إحراز النصر بفعل تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية متغلبة‬ ‫ً‬ ‫أبدا على عوامل التخاذل والاستسالم التي تسربت إلى نفسيتها من عهود‬ ‫الطغيان والاستعمار‪ .‬لم يترك سعاده سانحة تمر وال فرصة تعبر مهما بدت‬ ‫هذه حرجة وصعبة من دون أن يدعو املواطنين إلى اعتناق العقيدة القومية‬ ‫ألنها أمل ألامة الوحيد‪ ،‬أمل يعتقها من العبودية وينقذها من عقلية‬ ‫التسويات والتسليم إلى ألامر املفعول‪« .‬إ ن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه‬ ‫ً‬ ‫التاريخ»‪ .‬ليس من سوري مبدئيا إال وهو أهل لحمل رسالة النهضة والعمل‬ ‫لالنتصار بها على جميع الويالت والنكبات التي طاملا ّ‬ ‫كبلت حيوية ألامة‬ ‫َّ‬ ‫وعطلت قدراتها الفاعلة عن التفتح والنمو والعطاء‪ .‬وقد سلم املعلم أنه‬ ‫باإلمكان أن «تتالعب املفاسد باألفراد لكنهم ال يستطيعون أن يصموا‬ ‫املجتمع كله باملفاسد التي في نفوسهم»‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫لدى الكشف عن وجود الحزب وإعالن حقيقة مبادئه وأهدافه لألمة‬ ‫السورية والعالم العربي والعالم بأسره حدث الاعتقال ألاول «فكان أول‬ ‫تجربة تتعرض لها قوة املبادئ واملناقب وألاخالق الجديدة»‪ .‬ويصف سعاده‬ ‫للتاريخ كيف وقع معاونوه أعضاء مجلس العمد وبعض املوظفين املساعدين‬ ‫في حيص بيص وفي حيرة من أمرهم‪ .‬غير أن موقفه القدوة في الصمود‬ ‫والشجاعة جعلهم يواجهون مسؤولياتهم برباطة جأش لم تكن تخلو آنذاك‬ ‫من بعض الشك والتفكير باملصير املبهم‪ .‬ويؤكد سعاده أن «من هذه النقطة‬ ‫ّ‬ ‫والتهرب‪ ،‬على صفات‬ ‫ابتدأت الثورة الروحية العملية على الخوف والوجل‬ ‫ً‬ ‫الخنوع والذل» التي ألـ ّمت بالنفسية السورية زمنا غير يسير‪ .‬لقد كانت وقفة‬ ‫الحزب إزاء الصدمة ألاولى بمثابة نقطة تحول مهمة في بناء نفسية الصمود‬ ‫وتأسيس الوعي لخطورة القضية التي أخذ الحزب على عاتقه تحقيقها‪ .‬كما‬ ‫ّ‬ ‫كانت صالبته دفقة قوة مكنته فيما بعد من مواجهة مسؤوليات املصير‬ ‫القومي بشجاعة وتصميم ّ‬ ‫عز نظيرهما في التاريخ‪ .‬وفي مجال عرضه للتحوالت‬ ‫النفسية ألاخالقية التي أحدثها صمود القوميين الاجتماعيين أمام سطوة‬ ‫َّ‬ ‫معاوني ألاول‬ ‫سلطة الانتداب الصارمة يعلن الزعيم أنه‪« :‬مع ما ظهر على‬ ‫والرفقاء الذين سجنوا معهم من ضعف ّأولي فال ّبد لي من التصريح بأن‬ ‫فترة الضعف كانت قصيرة وأنهم تحملوا الصدمة هم وعيالهم وأهلهم على‬ ‫أفضل ما يكون‪ .‬باملوقف الذي وقفناه بين دخول السجن والخروج من‬ ‫املحكمة انتصرت روحية الحزب السوري القومي الاجتماعي على عوامل‬ ‫الزمن العتيق والروحية العديمة الفضائل واملناقب»‪.‬‬ ‫إ َّبان تلك التجربة ألاولى كانت املصاعب واملشقات تعمل على بلورة‬ ‫مناعة املناضلين في ّ‬ ‫تحمل تبعات الصراع من أجل النهضة وألامة مدى‬ ‫الطريق الطويلة الشاقة‪ .‬وقد أعوز بعضهم اليقين بطاقات النهضة على‬ ‫ّ‬ ‫تخطي العقبات واملخاطر التي أخذت تجابهها بقسوة وتحاول أن تهز الثقة‬ ‫‪41‬‬


‫ً‬ ‫حينا‪ .‬فما كان من الزعيم إال ْ‬ ‫كسر جليد الجمود‬ ‫بالنفس وإلايمان بالنصر‬ ‫ً‬ ‫والصمت الهائم في متاهات املجهول مهيبا بالرفقاء السجناء لتلبية واجب‬ ‫النشاط‪ « :‬نحن هنا‪ ،‬أيها الرفقاء‪ ،‬مع جماعة متأملة من شعبنا هي أحوج ما‬ ‫ّ‬ ‫فنقدم إليها تعاليمنا القومية‬ ‫تكون إلى وعينا وإرشادنا إياها إلى الحقيقة‪.‬‬ ‫الاجتماعية لتنقذها من جحيم وضعها املوجع وما تعانيه من ألم الحرمان‬ ‫ومرارة البؤس والشقاء‪ .‬ال ّبد أن نغتنم الفرصة الثمينة التي لدينا آلان إلى‬ ‫ّ‬ ‫جانب هؤالء املواطنين لنا ونزف إليهم والدة النهضة ومبادئها وانبثاق الفجر‬ ‫الجديد من حلك الظلمة إلنارة طريق ألامة‪ .‬وقد ظنها أعداؤها والعجزة من‬ ‫أبنائها منقرضة‪ .‬إلى أن جاءت النهضة تحيــي آلامال امليتة وتوقظ العزائم‬ ‫الخائرة الحائرة»‪ .‬ثم راح سعاده يتصل بأولئك املساجين ممن حكم عليهم‬ ‫ً‬ ‫القانون باإلثم وإلاجرام واحتجزهم بعيدا عن املجتمع لحمايته من شرورهم‬ ‫وأذاهم‪ .‬وأخذ يدعوهم إلى استعادة ثقتهم بأنفسهم‪ ،‬إلى مراجعة وجدانهم‬ ‫وما أوصلهم إلى حالة ألاسر والحرمان البائسة‪ .‬أفاض الزعيم في شرح أهمية‬ ‫مسؤولياتهم‪ ،‬مع وجودهم في السجن‪ ،‬تجاه تحرير الشعب مما يحدق به من‬ ‫أخطار ّ‬ ‫ويهدده من غدر ألاعداء وتآمرهم بغية تكبيله باملفاسد واملخازي‬ ‫ّ ً‬ ‫مكبال‬ ‫وإخضاعه إلى عوامل التخاذل والرضوخ لعبودية املصالح ألاجنبية‬ ‫باألغالل والقيود التي توصد ألابواب بوجه حيوية الشعب كما تسد دونه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫منافذ الوعي والتحرر كي تقعده ذليال مشلوال ليغدو فريسة املستعمر‬ ‫وحلفائه من أبناء أمتنا املضللين‪.‬‬ ‫وقد ركز الزعيم حديثه مع السجناء على تبيان ما تنطوي عليه طبيعة‬ ‫نفوسهم املتأملة الناقمة من خير وجمال وما تكتنز من طاقات جبارة‬ ‫وإمكانيات قادرة أن تسهم ببناء ألامة السورية الرائدة املؤهلة للنهوض فوق‬ ‫مهاوي التفسخ ومخازي الدمار حتى تنتصر على جميع العقبات واملؤامرات‬ ‫التي تحاك ضد أصالتها في الداخل ومن الخارج‪ .‬واملتآمرون هم العاملون‬ ‫‪42‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لبث روح الانقسام وإثارة املنازعات الداخلية كي نسقط جميعا أشالء أمام‬ ‫تضافر قوى الشر والغدر من أجل القضاء على جميع سمات الحياة فينا‪.‬‬ ‫وليس سوى النهضة السورية القومية الاجتماعية بقادرة على إدراك‬ ‫حقيقة طاقاتنا وحقيقة مآسينا ومخازينا وهي وحدها تملك العالج الشافي‬ ‫ّ‬ ‫الذي يكفل لألمة وحدتها ويبني قدرتها الحقيقية لتقدم على التحرر‬ ‫وتتقدم‬ ‫إلى النصر املحتوم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ففي أدق الظروف حراجة وأشدها تأزما وتعقيدا لم يستفز الزعيم أو‬ ‫يستدرج ملنازلة الخصوم بغير سالح النهضة‪ ،‬سالح املناقب العالية وعتاد‬ ‫العقلية ألاخالقية الجديدة‪ ،‬ألنه قدوة البناء في ميدان الوفاق والوئام كما‬ ‫هو قدوة في مجال الخصام والتصادم‪ .‬وما روحية البناء ألامثل وذهنية‬ ‫العطاء ألاذكى إال أساس التعامل القومي الاجتماعي ومصدر كل إنتاج حقيقي‬ ‫أصيل يليق بالنفسية السورية الكريمة التي ال تكف عن العطاء وإلابداع‪.‬‬

‫‪42‬‬


‫ضموا س ـ ـ ـ ـورية إلى لبنان وال تضموا لبنان‬ ‫إلى سورية‪..‬‬

‫كشف أمر الحزب فجر السادس عشر من تشرين الثاني ‪ 1725‬في‬ ‫الذكرى الثالثة لتأسيسه‪ .‬وسرعان ما انتشر الخبر في طول البالد وعرضها‪،‬‬ ‫كانتشار النار في الهشيم‪ .‬فأشغل النبأ الناس على اختالف نزعاتهم وميولهم‬ ‫السياسية والفكرية‪ .‬منهم من ّ‬ ‫تلقاه بإعجاب وترحاب من خالل قيمة مبادئه‬ ‫ّ‬ ‫ونظامه ومن خالل شخصية الزعيم ومواقفه الفذة إ َّبان التحقيق وأثناء‬ ‫املحاكمات أمام القضاء ألاجنبي‪ ،‬في املحكمة املختلطة‪ ،‬ومنهم من استنكر أن‬ ‫يقوم حزب من هذا النوع في لبنان ومن هذه التشكيلة «العجيبة النابية»‪،‬‬ ‫بنظرهم‪ ،‬التي يتكون منها الحزب‪ ،‬حزب زعيمه من ضهور الشوير ‪ -‬املتن‬ ‫الشمالي ‪ -‬ويقول بسورية والسوريين‪ .‬وهو ال يحكي عن العرب والعروبة وما‬ ‫يتصل بها من أمجاد عريقة‪ ،‬وال يتغنى بلبنان ألارز والشربين والقصعين‪.‬‬ ‫حزب يقوم على عقيدة ومبادئ أساسية وإصالحية‪ ،‬ويشدد على النظام‬ ‫والتنظيم الدقيق الانضباط والتلبية‪ ،‬على رأسه شاب‪ ،‬ليس من الوجهاء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واملعروفين وال من العائالت املرموقة حسبا ونسبا‪ .‬وهو يدعى الزعيم‪ ،‬مطلق‬

‫‪44‬‬


‫ً‬ ‫الصالحيات والسلطات‪ .‬ال ينتخب ديمقراطيا‪ ،‬مثل املختار والنائب في بلدنا‪،‬‬ ‫بلد الحرية والنور‪ ،‬إنما هو زعيم منذ وجود الحزب ويبقى في مسؤولياته‬ ‫مدى الحياة‪.‬‬ ‫وصلت أخبار الحزب وتضارب آراء الناس وتعليقاتهم على غرابته‬ ‫مسن شبه معتكف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫لكنه‬ ‫وطرافة نوادره أمام املحاكمات‪ ،‬مسامع رجل‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫والتتبع ملا يدور حوله وعلى ألسنة الناس‪ ،‬ومما‬ ‫منفتح الذهن كثير الانتباه‪،‬‬ ‫استوقفه من غرابة هذا الحزب أن يكون الزعيم من قلب املتن‪ ،‬واسمه‬ ‫أنطون سعاده‪ ،‬ومعظم أعضاء الحزب البارزين أو الذين عرفوا‪ ،‬آنذاك‪ ،‬هم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لبنانيون‪ ،‬ومع ذلك فالحزب سوري «أجنبي» قلبا وقالبا‪ ،‬ويريد أن يضم‬ ‫لبنان إلى سورية «يا للطيش والضالل» فهاله هذا ألامر الشاذ‪ ،‬واستنكره من‬ ‫ً‬ ‫كل جوارحه‪ ،‬وقرر هذا الرجل املسن‪ ،‬في سره‪ ،‬أن يجد حال لهذه املشكلة‬ ‫الشائكة وهي أن يهدي شبان الحزب إلى الصواب و ّ‬ ‫التعقل‪ .‬وراح ّ‬ ‫يردد في‬ ‫أحاديثه مع أبناء القرية الجبلية النائية‪« ،‬هؤالء الشبان أعضاء الحزب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أوالد أوادم»‪ ،‬وال يجوز لهم أن يشطوا هكذا‪ ،‬وقد آمله كثيرا أن يكون «هذا‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫الشاب القبضاي» ‪ ،‬الفهيم املتعلم‪ ،‬أي الزعيم‪ ،‬متشبثا جدا وعنيدا يجابه‬ ‫السلطة ويتحداها‪ .‬ال ّبد من إقناعه وإعادته إلى الصواب‪ ،‬إلى لبنان الخالد‪،‬‬ ‫لبنان إلاشعاع‪« .‬نيال من له مرقد عنزة في لبنان»‪ ،‬هل يقبل أن يضم لبنان‬ ‫إلى سورية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وكم كان تأثره عميقا وشديدا عندما بلغه أنه قد حكم على الزعيم‬ ‫بالسجن ستة أشهر‪ ،‬وحكم على باقي الشبان بمدد متفاوتة دون هذه املدة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وصمم الرجل أكثر وأكثر‪ ،‬بينه وبين نفسه أن يسعى يوما إلى زيارة الزعيم‬ ‫ّ‬ ‫لتقديم النصح إليه‪ ،‬عل ه يقنعه بوجهة نظره فيرجع عن فكرته الخاطئة‬ ‫ً‬ ‫وآرائه الخيالية‪ .‬شبان لبنانيون‪ ،‬طيبون‪ ،‬يعملون حزبا‪ ،‬في آخر الزمان‪ ،‬لضم‬ ‫لبنان إلى سورية‪ « ،‬يا عيب الشوم على الشباب‪ ،‬ويا لضياع آلامال»‪.‬‬ ‫‪45‬‬


‫أنهى الزعيم مدة الحكم عليه وخرج من السجن‪ ،‬ما أن بلغ الخبر‬ ‫ّ‬ ‫املسن حتى عزم على الذهاب إلى بيروت للتعرف على الزعيم‪.‬‬ ‫السار الرجل‬ ‫وفي اليوم التالي‪ ،‬توجه الرجل إلى بيروت‪ ،‬التي هجرها منذ سنين طويلة‪ ،‬من‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫وبتكتم شديد وعناء كبير‬ ‫أعالي بلدته الجبلية‪ ،‬متجشما املشقات وألاخطار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اهتدى إلى مكتب الحزب‪ ،‬آمال أن يتفاهم مع الزعيم على ما يجوز عمله وما‬ ‫ً‬ ‫ال يجوز وأنه ال يليق بشاب كالزعيم أن يصدر عنه مثل هذا وكان واثقا من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وسيحل املوضوع بالتي هي أحسن‪.‬‬ ‫أنه سيلقى من الزعيم آذانا صاغية‪،‬‬ ‫ّ ً‬ ‫متكال على‬ ‫وصل مركز الحزب في شارع املعرض وصعد ساللم ثالثة‬ ‫عصاه حتى بلغ املرمى‪ .‬وبعد استراحة قصيرة توجه إلى أحد الشبان هناك‬ ‫ً‬ ‫طالبا مقابلة الزعيم أنطون‪ ،‬وملا سئل هل أنت على موعد سابق مع الزعيم؟‬ ‫قال بنبرة ألاب الواثق من مكانته في بيته وبين ذويه‪« :‬قل لألستاذ‪ ،‬أنا جيت‬ ‫خصوص ي من الجبل حتى أتعرف عليه بدون موعد‪ .‬هل يمكن أن أقابله‬ ‫اسأله أنت‪ّ ،‬‬ ‫ورد ّ‬ ‫علي الخبر»‪ .‬فذهب الشاب وأوصل ألامر إلى الزعيم‪ ،‬وخالل‬ ‫دقائق معدودات كان الرجل لدى الزعيم في مكتبه‪ .‬وبعد تبادل كلمات الود‬ ‫ً‬ ‫والتقدير لشخص الزعيم بادره قائال‪:‬‬ ‫الرجل‪ :‬أنا سعيد بمعرفتك‪ّ ،‬‬ ‫وأهنئك بسالمة خروجك من السجن‪ ،‬ال‬ ‫يهمك‪ ،‬السجن للرجال‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬لكني أريد أن أستعلم منك عن مسألة‬ ‫ً‬ ‫تهمني كثيرا‪ .‬هل هو صحيح‪ ،‬يا ابني‪ ،‬أنك عملت حزبك حتى تضم لبنان إلى‬ ‫سورية‪ .‬وكيف يجوز مثل هذا ألامر الغريب؟ ما لنا ولهذه الورطة غير‬ ‫ّ‬ ‫املعقولة‪ ،‬وال املقبولة‪ .‬مبين عنك إنك شاب كويس وابن ناس‪ ،‬وكلك فهم‪ ،‬ما‬ ‫شاء هللا‪ ،‬مع ذلك تريد ضم لبنان إلى سورية‪.‬‬ ‫وكان الرجل بادي الارتياح والتقدير العميق للزعيم مع شديد استغرابه‬ ‫املحب لفعلته «املرفوضة» والتي ال تليق بمثله ويجب إلاقالع عنها‪.‬‬

‫‪41‬‬


‫وكان الزعيم يصغي إلى كلمات الرجل بكل جدية واهتمام ال يخلو من‬ ‫إلاعجاب والابتسامة تض يء قسمات وجهه الوقور ثم أجابه بعد أن أكمل‬ ‫كل ما أراد الرجل قوله‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«ليس ألامر صحيحا كما بلغك عني‪ ،‬أنا ال أريد أن أضم لبنان إلى‬ ‫ً‬ ‫سورية وال أسعى إلى هذا ألامر أبدا‪ ،‬إنما أريد أن أضم سورية إلى لبنان‪،‬‬ ‫وأعمل له وأدعو جميع املواطنين إليه وآمل تحقيقه»‪.‬‬ ‫وبسرور بالغ البراءة‪ ،‬وفرحه عارمة‪ ،‬وقف الرجل على أقدامه وتقدم‬ ‫ً‬ ‫من الزعيم يصافحه بحرارة من لقي ضاال يهتدي ويعود إلى الوعي والصواب‪،‬‬ ‫وهو يردد كلمات إلاعجاب والتشجيع‪.‬‬ ‫بارك هللا فيك‪ ،‬يا ابني‪ ،‬إذا ّبدك تضم سورية إلى لبنان‪ ،‬ما في مانع‪،‬‬

‫ّ‬ ‫ضمها‪ ،‬كلنا معك‪ .‬هللا يعطيك العافية ويأخذ بيدك ويقويك‪ .‬إن شاء هللا‬ ‫بتحقق غايتك وبتنال ما تتمنى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ثم نهض مودعا‪ ،‬ومقتنعا بصحة ما يرمي إليه الزعيم وهو يردد‬ ‫التأكيد على تأييده له‪ .‬وصل لي حقي‪ ،‬يا ابني‪ ،‬ضم سورية إلى لبنان‪،‬‬ ‫وخلصنا من هاملشكلة‪ .‬بخاطرك‪ ،‬هللا يحميك من أعدائك ويخليك‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫نحن من الشـ ـ ـعب ونعمل في الشعب ألجل‬ ‫الش ـ ـ ـ ـعب‬ ‫سعاده‬

‫ّ‬ ‫تتكون التشكيالت‬ ‫جرت العادة املتفشية بين أوساط الرجعة أن‬ ‫السياسية من تكتالت فئوية تجمع كميات من شتات ألافراد‪ ،‬أو باألحرى‬ ‫ألاتباع‪ ،‬تحت رعاية ذوي املكانة‪ .‬يقودونها في ميدان املزايدات الشخصية‬ ‫للتسابق بين أصحاب النفوذ من أجل الوصول إلى املنافع الخاصة واملآرب‬ ‫َّ ً‬ ‫ً‬ ‫الخصوصية‪ .‬وقد صار هذا العرف تقليدا مسلما به في إنشاء ما يسمى‬ ‫ً‬ ‫باألحزاب السياسية‪ .‬وأحيانا يضفون عليها صفة العقائدية‪ .‬وليس لها من‬ ‫ً‬ ‫مضامين ألاحزاب ومفاهيم العقائد شيئا البتة ‪.‬إنها مجرد أشكال فارغة‬ ‫ومظاهر ّ‬ ‫طنانة تحاول أن ّ‬ ‫تتلبس سمة النظام وألوان التنظيم الحزبي‪ .‬هذه‬ ‫التشكيالت ّ‬ ‫تعبر عن العقليـة ألاخالقية القديمة‪ .‬تنشئها ب ْهوراتها الديماغوجية‬ ‫ّ‬ ‫وتسخرها لعصبياتها الحاقدة في تالعبها بالعقول الضئيلة والنفوس‬ ‫ّ‬ ‫الضعيفة‪ .‬فالجماهير الغفيرة الصخابة في املظاهرات واملناسـ ـبات هي ق ـ ـوتها‬ ‫وأداتها للفوض ى والتضـ ـ ـ ـليل‪ .‬مهما تكاث ـ ـرت هذه التش ـ ـ ـ ـكيالت الال حزبية‬

‫‪48‬‬


‫وبذلت في املواسـ ـ ـ م من الجهود الجسيمة فهي ال تمثل غير التضخم والتراكم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الكمي‪ .‬ألنها عاجزة أبدا عن إنقاذ ش يء من معنويات هذه ألامة أو تحقيق‬ ‫هدف واحد من أهدافها السامية‪.‬‬ ‫غير أن الحزب السوري القومي الاجتماعي يج ّسد «فكرة وحركة‬ ‫تتناوالن حياة ّأمة بأسرها»‪ .‬وقد وجد ألاعضاء أن سياسة الحزب الداخلية‬ ‫تتجه إلى الاعتماد على القوة الحقيقية‪ ،‬قوة السواعد والقلوب وألادمغة‪ ،‬ال‬ ‫على قوة املكانة التي تستمد وجودها باألكثر من مبادئ ومفاهيم ال تتفق في‬ ‫ّ‬ ‫سنجد د بها حيوية ألامة وقوتها»‪.‬‬ ‫جوهرها وال في شكلها مع املبادئ التي‬ ‫فالحركة السورية القومية الاجتماعية تمثل أماني الشعب ومرامي حياته‬ ‫الخيرة‪ .‬ألنها انبثقت من صميم الشعب وهي تعمل في الشعب وألجله‪.‬‬ ‫لقد ّ‬ ‫تقد م لالنتساب للحزب أحد ذوي املكانة املرموقة سنة ‪.1721‬‬ ‫وكان من أصحاب النفوذ العريض وألامالك الشاسعة واملزارع الواسعة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حيث يعمل مئات العمال والفالحين الكادحين‪ .‬وقد كان إلحاحه كبيرا‬ ‫ً‬ ‫شديدا لتدارس القضية السورية القومية الاجتماعية قبل أن ّ‬ ‫يبت‬ ‫وإصراره‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بأمر قبوله عضوا في الحزب‪ ،‬مؤكدا استعداده الخالص لاللتزام الكامل‬ ‫بمتطلبات العضوية وواجباتها‪ .‬وبعد دراسة وافية ملبادئ الحزب ولغايته‬ ‫وطبيعة نظامه ّ‬ ‫تم لـ «خالد آغا» أداء قسم العضوية وأصبح مذ ذاك الرفيق‬ ‫ّ‬ ‫خالد‪ .‬ثم ّ‬ ‫تسنى له أن يواجه الزعيم ويطلع منه مباشرة على أبعاد نظرة‬ ‫الحزب السوري القومي الاجتماعي وماهية مرامي الحزب في أن «يبعث نهضة‬ ‫سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وتعيد إلى ألامة السورية‬ ‫حيويتها وقوتها»‪ .‬وقد كان الرفيق خالد على ش يء وفير من الاطالع والدراسة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وهو يتمتع بقسط جيد من الخبرة العملية التي تتيح مجاال مجديا من‬ ‫الاستفادة والاكتساب املتوافر في صفوف النهضة وثقافتها‪.‬‬

‫‪47‬‬


‫ً‬ ‫وكان على الرفيق خالد أن ينزل سريعا وبقوة إلى ميدان النشاط‬ ‫والتحقيق في صفوف النهضة وصفوف املواطنين كافة‪ .‬فيبرهن للمأل كيف‬ ‫ّ‬ ‫أن الحزب قد ّ‬ ‫حول مجرى حياته من إقطاعي معروف بصلفه وتسلطه على‬ ‫ّ‬ ‫عماله ومزارعيه إلى رفيق قومي اجتماعي‪ ،‬إلى رجل عقيدة يؤمن بالحق‬ ‫والعدالة ويعمل بكل إمكانياته ووجوده لتثبيت حرية املواطن وصيانة‬ ‫كرامته‪.‬‬ ‫لم تمض أشهر قالئل على انتماء هذا الرفيق إلى الحزب حتى جاء‬ ‫ً‬ ‫يراجع ّ‬ ‫منفذ عام منطقته بخطة عمل خاصة ونافذة جدا بين جماعات‬ ‫ّ‬ ‫عماله وفالحيه‪ .‬وهي تقض ي بأن يترك له املجال الكافي لتطبيق مبادئ الحزب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مع هؤالء الذين يعتبرون أنفسهم أتباعا له‪ .‬فيلمسون عمليا معنى الحزب‬ ‫من خالل تعامله الجديد معهم وتعاونه القومي الاجتماعي وإياهم في الحقول‬ ‫واملزرعة والبيت ّ‬ ‫يتفهمون أغراض الحزب ويقفون على حقيقة أخالقه‬ ‫ونفسية أعضائه بقدوته ومناقبه هو ذلك إلاقطاعي السابق‪ .‬لم ي ْ‬ ‫صر إلى‬ ‫مفاتحتهم بشؤون الحزب وأفكاره ومقاصده‪ .‬أي أن يتعرف كل فالح ومزارع‬ ‫من خالل ألاعمال القومية الحقيقية على الحزب وكيف تمكن من أن يلغي‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫إلغاء تاما وصادقا‪ .‬وفيما بعد يطلعون نظريا على‬ ‫إقطاعية «آلاغا» العريقة‬ ‫كل مضامين الحزب ومفاهيمه ومناقبيته‪ .‬هكذا يصبح هؤالء العمال‬ ‫واملزارعون واعين بسذاجة فطرتهم السليمة وبالتطبيق العملي واملمارسة‬ ‫ً‬ ‫الفعلية ملا يحمل إليهم الحزب من خير وهناء‪ .‬يستعيدون واقعيا الثقة‬ ‫بنفوسهم والاعتزاز بكرامتهم بالتعاون والتعامل الفاضل‪ .‬حينذاك يسعون‬ ‫من تلقاء أنفسهم للتفتيش عن الحزب الذي أعتقهم من نير إقطاعية‬ ‫ً‬ ‫«آلاغا» جاعال منه رفيق الجميع وصديق من كان يستعبدهم باألمس بال‬ ‫إرغام وال إكراه‪ .‬وبدون هذه الطريقة التي يسبق فيها العمل والتطبيق كل‬ ‫قول وكل النظريات مهما بلغت قيمتها وخطورتها ال نصل إلى الشعب‪ ،‬إلى‬ ‫‪51‬‬


‫عقله ونفسه ووجدانه‪ .‬لسنا في الحزب عارض ي نظريات ونماذج أفكار وأقوال‬ ‫إنما نحن بناة النفوس والعقول باألعمال وألافعال التي تفرض حقيقتها‬ ‫النبيلة البناءة على الوجود بأسره‪« .‬نحن ّ‬ ‫نقد س آالم الشعب‪ ،‬ونبذل نفوسنا‬ ‫ً‬ ‫فداء للشعب»‪.‬‬ ‫هكذا عمل الرفيق خالد لتكون دعوته ملجموع فالحيه ومزارعيه وهكذا‬ ‫ّ‬ ‫يتلقنون حقيقة الحزب ويعتنقونها بصالبة فذة وهم يتساءلون‬ ‫راح هؤالء‬ ‫ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫فغير فيه ّ‬ ‫عما حدث لـ «آلاغا» ّ‬ ‫وبدل حتى صار ندا لخدمه ومحبا لـ «أزالمه»‬ ‫ً‬ ‫حبه إلخوانه وأوالده‪ .‬ما الذي ّ‬ ‫حول ‪ -‬ألاغا ‪ -‬فجعله إنسانا بالفعل والسلوك‬ ‫ً‬ ‫كباقي الناس ومع سائر الناس‪ .‬وملا قيل لهم إن ‪ -‬آلاغا ‪ -‬قد أصبح عضوا في‬ ‫حزب ولذلك لم يعد يتقبل كلمة «آغا» بل غدا يزدريها‪ .‬وهو اليوم يفخر بأنه‬ ‫الرفيق خالد‪ .‬وها هو بالفعل رفيق ورقيق وشفيق مع الجميع دون استثناء‬ ‫وال تصنيف أو تفريق بين الناس‪ .‬هذا بعض ما هو القومي الاجتماعي‬ ‫الحقيقي وبعض ما تعنيه حياة العقيدة‪ .‬وما جعل «خالد آغا» يعلو ويسمو‬ ‫ّ‬ ‫إلى أن صار الرفيق خالد الكنج إال ذهنية القضية وما يزال بعد أن فارقنا‬ ‫بالجسد مثال الرفيق بقدوة ذكراه‪.‬‬ ‫ما أن سمع الفالحون واملزارعون العاملون في أمالك الرفيق خالد كنج‬ ‫إن الحزب يحقق مثل هذه ألافعال الجبارة التي تشبه املعجزات حتى تحولوا‬ ‫ً‬ ‫هم تباعا بحماس منقطع النظير وإيمان ال أعمق وال أصفى وال أفعل‪ .‬أجل‬ ‫ً‬ ‫قد تحول من ع ُّدوا عبيدا باألمس بفعل العقيدة السورية القومية‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الاجتماعية قد صاروا أحرارا أعزاء تفاخر النهضة بما يتحلون به من وضوح‬ ‫الشخصية وما هم عليه من «استقالل نفس ي وجوهر أعظم من أي شخص‬ ‫وضع نفسه أداة تسير بأفكار بعيدة عن حقيقته»‪.‬‬

‫‪51‬‬


‫أجل في النهضة يتم التحول املتألق والخلق الجديد وتتحقق لكل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أصحاء العقل‬ ‫إنسان الكرامة والحرية‪ .‬وفيها أيضا يصنع رجال العقيدة‬ ‫والنفس ويبنى إلا نسان الجديد‪ ،‬إنسان العقلية ألاخالقية الجديدة الذي‬ ‫ً‬ ‫يؤمن بالحق والخير والجمال لألمة السورية‪ .‬ويعمل مناضال للحرية والواجب‬ ‫والنظام والقوة لتحيا سورية هانئة بقدوة سعاده‪.‬‬

‫‪52‬‬


‫اللقاء ألاول مع سعاده‬

‫ال تكن يا رفيـ ـ ـ ـ ـقي صعوبة فوق الصـ ـ ـعوبات‬

‫كانت محافظة الالذقية التي تشمل حينذاك ما يكون اليوم محافظة‬ ‫ً‬ ‫طرطوس‪ ،‬مسرحا ملوجة عارمة من العمل لـ «الوحدة السورية»‪ ،‬أي لوحدة‬ ‫ً‬ ‫تضم كال من دولة العلويي ن ودولة جبل الدروز إلى دولة دمشق عاصمة‬ ‫الشام الشاملة مدن الداخل حتى حدود منطقة العراق الحالية لتجعل منها‬ ‫دولة مركزية واحدة باسم الجمهورية السورية‪ .‬وكان مدار ذلك النشاط منذ‬ ‫أوائل سنة ‪ 1724‬يوزع ألاهلين‪ ،‬وعلى رأسهم فئة املهتمين بالشؤون‬ ‫السياسية العامة‪ ،‬بين طالب «الوحدة السورية» والانفصاليين املعارضين‬ ‫لهذه الوحدة‪ .‬وقد كان لألجنبي‪ ،‬بالطبع‪ ،‬دوره ألاساس ي في إذكاء روح‬ ‫التعصب والتنازع بشتى الطرق وألاساليب الاستعمارية‪ ،‬ما دامت صفوف‬ ‫الشعب البائس تعاني من تضارب نفسيات ألافراد الشخصية مع نفسيتهم‬ ‫العامة في كل ما له عالقة بالقضايا العامة‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫في غمرة الانهماك العام بين جماعة الوحدة وجماعة الانفصال التي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كانت تستأثر باهتمام الناس وتمأل أوقاتهم توترا وحماسا أخذ فكر الحزب‬ ‫ً‬ ‫رويدا وبكل تؤدة ّ‬ ‫وتأن إلى عقول الناس‬ ‫السوري القومي الاجتماعي يتسرب‬ ‫ٍّ‬ ‫ونفوسهم ويراود سعيهم املتواصل إليجاد الحلول ومعالجة تطلعاتهم نحو‬ ‫ألافضل‪ .‬وراح بعض العناصر من الشباب املتحمس واملتقد قدرة على العمل‬ ‫والصمود يتهامسون حول وجود حزب سري ناش ئ في لبنان يتسلل ّ‬ ‫بتكتم‬ ‫ً‬ ‫شديد إلى أواسط العاملين من الطلبة خصوصا‪ ،‬للقضية العامة‪ .‬ويقولون‬ ‫أن نطاق مبادئ هذا الحزب يمتد في سورية الطبيعية بأسرها‪.‬‬ ‫وصل الحديث بالتواتر الحذر عن وجود هذا الحزب السوري القومي‬ ‫الاجتماعي‪ ،‬منذ أواسط سنة ‪ ،1725‬إلى مسامع بعض شبان طرطوس‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معظمهم ممن كانوا طالبا في مدارس لبنان‪ .‬وتناقلوا فيما بينهم فكرة‬ ‫الاستزادة من املعلومات عن الحزب التخاذ املوقف املدروس بشأنه‪ ،‬فكان‬ ‫نشوء مديرية للحزب السوري القومي الاجتماعي في طرطوس تابعة ّ‬ ‫ملنفذية‬ ‫طرابلس خالل أشهر معدودات من منتصف السنة عينها‪ .‬مديرها الرفيق‬ ‫السابق رياض عبد الرزاق ابن نائب البلدة آنذاك بينما ّ‬ ‫تحملت مسؤولية‬ ‫املذيع أولى املسؤوليات الحزبية إلادارية التي أسندت ّ‬ ‫إلي‪ .‬ولم يمض وقت‬ ‫ً‬ ‫طويل حتى بلغ عدد أعضاء مديرية طرطوس خمسة وأربعين عضوا‪.‬‬ ‫في تلك ألاثناء كشفت سلطات الانتداب الفرنس ي أمر الحزب ونشطت‬ ‫ً‬ ‫في مطاردة الزعيم مع من عرفتهم من املسؤولين وألاعضاء‪ .‬اعتقلت عددا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كبيرا منهم بتهمة تأسيس حزب سري غير مرخص يعمل ضد أمن الدولة‬ ‫ً‬ ‫وأنظمتها وقد ساقت من ساقت تعسفا أمام املحاكم ألاجنبية‪ .‬وقع انكشاف‬ ‫أمر الحزب في السادس عشر من تشرين الثاني سنة ‪ 1725‬لدى مرور ثالث‬ ‫سنوات على بدء تأسيسه‪ .‬فتلقى أبناء الشعب النبأ التاريخي الفريد باهتمام‬ ‫ّ‬ ‫بالغ وإقبال بارز على تس ُّقط أخبار الحزب ومتابعة مواقف الزعيم الفذة إزاء‬ ‫‪54‬‬


‫املحاكمات مع بقية ألاعضاء واملسؤولين آنذاك‪ .‬وغدا الحزب موضع ردود‬ ‫فعل متباينة من قبل جميع فئات الشعب ح يث تناولت ألاقالم وألالسن‬ ‫مبادئ الحزب ونظامه باإلطراء وإلاعجاب وانهالت عليه جماعة إلاقطاع‬ ‫وفريق من رجال الدين ومن يدورون في فلك أفكارهم ومواقفهم بسيل من‬ ‫الاتهامات ووابل من إلاشاعات بغية تشويهه وإبعاد سواد الشعب عن تأييده‬ ‫ومناصرة قضيته‪ .‬هكذا بدأت أولى معارك التحرير الشعبي على يد العاملين‬ ‫لرسالة الحرية والواجب والنظام والقوة من جماعة الرجعية‪ .‬وقد ّ‬ ‫سجل‬ ‫رجاالت الحزب وقفات العز أمام املثلث املتمثل باألجنبي املستعمر وإلاقطاع‬ ‫املتسلط وحفنة من رجال الدين ال تميز بين جوهر الدين وفضائله وبين‬ ‫الطائفية وما ُّ‬ ‫تجر من أحقاد مخذية‪« .‬وما معركة النهضة سوى معركة‬ ‫الوصول إلى الشعب»‪ ،‬إلى عقله ووجدانه ونفسه‪ .‬وال ّبد في كل معركة من‬ ‫مواقف بطولية قدوة ومن هزائم تفرز أصحابها عن صفوف أبناء الحياة‬ ‫املناضلة لسيادة ألامة وكرامتها‪ .‬لذلك قد تراجع بعضهم عن التزامه‪ ،‬أمام‬ ‫ّ‬ ‫ضغط التسلط ألاجنبي وأعوانه‪ ،‬وإزاء تضليل إلاشاعات بأن الحزب هو ضد‬ ‫ً‬ ‫الدين‪ ،‬ضد العروبة وضد لبنان‪ .‬وهو حزب ال ّبد وأن يكون عميال إلحدى‬ ‫الدول ألاجنبية أو ألكثر من دولة ّ‬ ‫عدوة‪.‬‬ ‫وكان من طليعة الذين انسحبوا من الحزب الدكتور علم الدين الذي‬ ‫ً‬ ‫أعلن انسحابه عبر مقال مط َّول في جريدة «ألايام» الدمشقية متهما الحزب‬ ‫بعدم إيمانه بالعروبة‪.‬‬ ‫ما أن وصلت جريدة ألايام هذه إلى طرطوس حتى سارع الرفيق مدير‬ ‫ً‬ ‫مديرية طرطوس إلى عرضها على رفقاء طرطوس طالبا منهم الانسحاب من‬ ‫الحزب الذي ال يؤمن بعروبة الدكتور علم الدين‪ .‬فكان له ما أراد بسهولة‬ ‫ً‬ ‫مذهلة إذ وافقه على الانسحاب من الحزب أربعون رفيقا من أصل خمس‬ ‫ً‬ ‫وأربعين عضوا في طرطوس‪ .‬وقد ّدبج املنسحبون عريضة «طويلة عريضة»‬ ‫‪55‬‬


‫توجهوا بها إلى مركز الحزب في بيروت بإعالن حل الحزب في طرطوس‬ ‫والعودة إلى قواعدهم العروبية «مساملين ظافرين»‪ .‬أما الخمسة الباقون فلم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يوقعوا العريضة وقد أكدوا لرياض عبد الرزاق استمرار إيمانهم بحقيقة‬ ‫الحركة السورية القومية الاجتماعية مع توكيد عدم استعدادهم ملتابعة أي‬ ‫نشاط حزبي في تلك آلاونة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املصممون على إيمانهم بحقيقة عروبة الحزب وجميع‬ ‫ثم قرر الخمسة‬ ‫معطيات عقيدته أن يرسلوا أحدهم إلى املركز في بيروت إلطالع عمدة‬ ‫الداخلية على ما جرى للحزب في طرطوس وعلى أسبابه والغرض منه‬ ‫ً‬ ‫وللتداول نظاميا في ما يقتض ي عمله في هذا الشأن‪ .‬كانت الحادثة أولى‬ ‫اختبارات الحزب بطرطوس‪ .‬رأى هؤالء الخمسة الصامدون في موقفهم‬ ‫وتسب ْ‬ ‫ّ‬ ‫بت لهم بصدمة بالغة من ألالم والخيبة‪.‬‬ ‫صعوبة كبرى شديدة املرارة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد وقع الخيار ّ‬ ‫علي أنا بوصفي مذيعا ملديرية طرطوس كي أتوجه باسمهم‬ ‫ّ ً‬ ‫مدرسا في معهد الالييك الفرنس ي بطرطوس‪.‬‬ ‫إلى املركز‪ .‬وكنت وقتذاك‬ ‫ّ‬ ‫توج هت إلى بيروت في الثاني والعشرين من أيار سنة ‪ 1721‬ملالقاة‬ ‫عميد الداخلية مأمون إياس ً‬ ‫بناء على موعد سابق حصلت عليه بموجب‬ ‫رسالة رسمية‪ .‬وكان قد مض ى تسعة أيام فقط على إلافراج عن الزعيم بعد‬ ‫قضائه ستة أشهر في سجن الرمل مدة الحكم ألاول عليه‪ .‬وصلت إلى بناية‬ ‫ً‬ ‫مركز الحزب في بيروت بعد ّ‬ ‫مشقة وجهد كبيرين ألنني لم أكن أعرف أحدا‬ ‫من الحزب هناك وليس لدي ما يعرف ّ‬ ‫علي سوى رسالة عمدة الداخلية التي‬ ‫ً‬ ‫تحدد لي موعدا مع العميد‪ .‬دخلت املركز وقدمت الرسالة التي أحملها من‬ ‫عمدة الداخلية إلى الحارس‪ ،‬الذي طلب مني الجلوس‪ ،‬ريثما يسمح لي‬ ‫ً‬ ‫بالدخول‪ .‬فجلست على مقعد ورحت ّ‬ ‫أتأمل املوجودين الذين ال أعرف أحدا‬ ‫ً‬ ‫منهم‪ .‬ولكني كنت مرتاحا رغم سفري‪ ،‬ملا رأيته من حيوية ونشاط فيهم‪ ،‬وبعد‬ ‫دقائق ناداني أحدهم با سمي وطلب مني مرافقته ثم قادني خالل ممر‪ ،‬حيث‬ ‫‪51‬‬


‫أوقفني أمام إحدى الغرف‪ ،‬ثم قرع الباب‪ ،‬وطلب مني أن أتقدمه بالدخول‪،‬‬ ‫ثم قام بإعالن اسمي ومسؤوليتي الحزبية للذي في الغرفة‪ ،‬ثم ّ‬ ‫قدم التحية‬ ‫ً‬ ‫وانسحب من الغرفة بنظام تام‪ ،‬ليتركني وجها لوجه أمام شاب بهي الطلعة‪،‬‬ ‫حاد النظرات‪ ،‬حازم املالمح‪ ،‬حنطي اللون أقرب إلى السمرة‪ ،‬ربع القامة‬ ‫ممتلئ الجسم‪ .‬ما لبثت أن أدركت أنني أمام الزعيم ألول مرة في حياتي وقد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أتصوره أكثر طوال قبل املثول أمامه‪ ،‬من خالل إحدى صوره باللباس‬ ‫كنت‬ ‫الرسمي التي نشرت عنه أثناء اعتقاله والتحقيقات ألاولى معه‪.‬‬ ‫دعاني للجلوس إلى جانبه مواجهة في مقعد مستطيل يتسع لثالثة‬ ‫أشخاص على ألاقل وبادرني في الحال‪:‬‬ ‫ ما الخبر عن طرطوس؟‬‫ّ‬ ‫قصصت له كل ما حدث منذ اطالع املدير رياض على مقال الدكتور‬ ‫علم الدين املتضمن انسحابه من الحزب بسبب عدم أخذه بالعروبة كما‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫قوميــي‬ ‫يراها هو إلى أن وضعت العريضة بانسحاب أربعين عضوا من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫طرطوس لترسل إلى املركز معلنة حل الحزب فيها وقد توقفت مليا لدى‬ ‫موقف ألاعضاء الخمسة من هذه العملية وما ّ‬ ‫تفردوا به من صمود وحنكة‬ ‫بالنسبة ملجموع ألاعضاء‪.‬‬ ‫ إذن املسألة هي مفاجأة الدكتور علم الدين ورياض عبد الرزاق‬‫بخروج الحزب عن مفهومهما للعروبة‪ .‬فكيف ترون مجال العمل من جديد‬ ‫في طرطوس وأسلوب إعادة شق الطريق أمام هذه العقبات املعلنة في وجه‬ ‫الحزب بطرطوس؟‬ ‫أخذت أروي له ما كان ينتظره الحزب لوال ذ لك الحادث من انتشار‬ ‫وانتصار في املحيط سواء بمدينة طرطوس أو قراها العديدة القابلة لألخذ‬

‫‪59‬‬


‫ّ‬ ‫بالفكرة السورية القومية الاجتماعية وما صارت تشكله هذه الحادثة في‬ ‫سبيل عمل الحزب من صعوبات وصعوبات شديدة الوعورة‪.‬‬ ‫وأسهبت الشرح عما ينتظرنا من الصعوبات الشديدة في املراحل‬ ‫ّ‬ ‫والتحسب ملواجهة تلك الصعوبات‬ ‫القادمة وما يفرض علينا إعداده‬ ‫بقسوتها وصالبتها‪.‬‬ ‫كل هذا التفصيل والتطويل قابله الزعيم بإصغاء هادئ عميق كان‬ ‫ّ‬ ‫يتخلله بين الحين وآلاخر ابتسامة عابرة لكنها ُّ‬ ‫جد معبرة لم يكن ليخفي تلك‬ ‫الابتسامة املتأملة حتى وصلت بحديثي املطول عن الصعوبات وخطورتها‬ ‫بحماسة واندفاع جامح جعال الزعيم يستوقفني بكلمة حاسمة‪« :‬لكن يا‬ ‫رفيقي ال تكن أنت صعوبة فوق الصعوبات»‪ .‬ثم عاد إلى صمته املتأني كمن‬ ‫ّ‬ ‫أتصورها بل‬ ‫ينتظر مني املزيد من إلاسهاب في وصف الصعوبات التي كنت‬ ‫ّ‬ ‫أتوق عها في مسيرتنا الحزبية املقبلة بالرغم مما كنت أبديه خالل الحديث‬ ‫من استعدادنا نحن الخمسة الباقون في الحزب بطرطوس لتحمل‬ ‫املسؤوليات وتحمل تلك الصعوبات الناجمة عنها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بعد أن قال لي الزعيم بأال أكون أنا نفس ي صعوبة جديدة تستلزم هي‬ ‫ذاتها املعالجة ارتج ّ‬ ‫علي ولم يكن بإمكاني متابعة الحديث عن أي أمر بل‬ ‫صرت أحار فيما أقول وكيف أقول ما أرى ضرورة قوله وإلافصاح عنه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حينذاك استدرك الزعيم تلعثمي بالكالم وتعذر إفصاحي عن أي فكرة أو‬ ‫إبداء أي رأي‪ .‬فاستدعى بنفسه عميد الداخلية وطلب منه إعطاء ألاعضاء‬ ‫ً‬ ‫الخمسة املوجودين في طرطوس تفويضا بمسؤولية الدعاية وإلادخال بين‬ ‫صفوف املواطنين في قضاء طرطوس على أن يكونوا مسؤولين مباشرة عن‬ ‫أعمالهم الحزبية أمام عمدة الداخلية‪.‬‬

‫‪58‬‬


‫هكذا بدأت مرحلة جديدة مهمة من تاريخ العمل الحزبي في طرطوس‬ ‫والقرى التابعة لها‪ .‬والحزب وحده يعرف كم كنا نحن الخمسة‪ ،‬أو كنت أنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصيا صعوبة فوق الصعوبات التي يواجهها طبيعيا العمل السوري‬ ‫القومي الاجتماعي في معركة انتشار الحزب في صفوف ألامة السورية‬ ‫ّ‬ ‫وميادين انتصاره ّ‬ ‫املحتم على كل صعوبة في طريق الحياة الطويلة الشاقة‪.‬‬

‫‪57‬‬


‫َّ‬ ‫الشخص «آلادمي الطيب» أزوجه ابنتي‪ ،‬ال‬ ‫أسلمه مق َّدرات البالد‬

‫للداللة على تطور املجتمع ووعيه وسبل النهوض عالمات ومؤشرات‬ ‫متفاوتة من حيث ألاهمية والوضوح‪ .‬منها نظرة الشعب إلى ماهية السلطة‬ ‫ّ‬ ‫ومعنى املسؤوليات التي يتوالها ألافراد لتصريف مختلف‪ ،‬شؤون الشعب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومنها أيضا نظرة ألافراد أنفسهم إلى مدلول تلك السلطة التي بين أيديهم وإلى‬ ‫كيفية التصرف بها وممارستها بالنسبة إلى أشخاصهم هم وإلى املصلحة‬ ‫العامة عينها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فالشعوب املتخلفة التي يتفش ى التفكك في بنيتها الاجتماعية وتعاني‬ ‫وطأة الفوض ى وامليوعة في عقليتها ألاخالقية‪ ،‬هذه الشعوب ترى في السلطة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نوعا من الامتياز يمنح لعدد من ألافراد أو ضربا من غنيمة ينالها البعض‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عنوة حتى تصبح حقا مكتسبا ألصحابها يمارسونه كيفما شاؤوا‪ .‬وللشعب‬ ‫أن يتحمل النتائج التي تفرض عليه حسنة كانت أو سيئة‪.‬‬ ‫‪11‬‬


‫وألافراد في الشعوب املستعبدة يحسبون السلطة أداة خاصة لتأمين‬ ‫حاجاتهم الخصوصية وتوفير ملنافع واملكاسب ألشخاصهم هم‪ .‬وما على‬ ‫الشعب إال الرضوخ والتسليم ملا يقررون‪ .‬ألن املجتمع بنظرهم وسيلة‬ ‫لتحقيق ألاغراض الشخصية‪ .‬إنهم مصدر السلطات ومنشأ ّ‬ ‫النعم يوزعونها‬ ‫على الشعب وفق رغباتهم وشهواتهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املتطورة التي بلغت مستوى الثقة بنفسها ووعي حقيقتها‬ ‫أما الشعوب‬ ‫فقد أدركت أن السلطة مسؤولية لخدمة املصلحة العامة من أجل خير‬ ‫الشعب ورفاهه وازدهاره‪.‬‬ ‫وإن ألافراد في ألامم‪ ،‬التي ّ‬ ‫تفهمت معنى السيادة والكرامة‪ ،‬ينظرون‬ ‫بدورهم إلى السلطة على أنها وسيلة لخدمة ألاهداف القومية واملصالح‬ ‫الاجتماعية التي لوالها ملا كانت الشرائع والقوانين وانتفت الحاجة إلى جميع‬ ‫السلطات‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لقد وقعت أمتنا فريسة حكام يرون أن السلطة هي ميراث موروث‬ ‫ّ‬ ‫وملكية خاصة‪ ،‬ضاربين عرض الحائط‪ ،‬بالقدرة التي قد يتحلى بها البعض‬ ‫من غنى وتفوق ّ‬ ‫تخولهم حق القيادة‪ ،‬والسير باألمة ملجاراة سائر ألامم ّ‬ ‫الحية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حدث مرة في أحد كيانات الوطن أن تسلم أحد النافذين مركز رئيس‬ ‫ّ‬ ‫مجلس الوزراء‪ .‬واستمر في منصبه هذا السنين الطوال‪ ،‬رغم تقلب ألاحوال‬ ‫ّ‬ ‫وتبدل ألاوضاع املتعاقبة في ألامة السورية والعالم بأسره‪ .‬حتى فاحت روائح‬ ‫أالعيبه واختالساته‪ .‬وشاعت نتانة صفقاته ملآرب ذويه وأزالمه‪ .‬ومألت ألانوف‬ ‫ً‬ ‫والنفوس اشمئزازا‪ .‬وليس من سبيل لزحزحته وتحرير رئاسة الحكومة من‬ ‫تكالبه‪ ،‬وإراحة كاهل الشعب من جشعه وارتكاباته‪ .‬لقد ّ‬ ‫عمت البلبلة بين‬ ‫الناس الراضخين بمرارة إلى النظام إلاقطاعي الذي يوشك أن يودي‬ ‫بمصالحهم ويقض ي على كرامتهم القومية‪ .‬وأثير موضوع استقالته أو إلزامه‬ ‫‪11‬‬


‫على الاستقالة‪ .‬وأخذت ألالسن تتداول أسماء من يمكن أن يحل مكانه‪ ،‬وقد‬ ‫رجح ورشح من راح الناس يتنادون بنزاهته وصفاء أخالقه‪ .‬وأنه «آدمي‬ ‫طيب» ال يسرق وال يتالعب ّ‬ ‫بمقدرات الدولة ومصالح املواطنين‪ .‬فشعر الناس‬ ‫لطيب أصالتهم وصفاء فطرتهم أنهم مقبلون على فرج كبير ألول مرة منذ أكثر‬ ‫ّ‬ ‫من جيل‪ .‬وقد عاودهم ألامل بمستقبل جيد ملجرد تصورهم إمكان التخلص‬ ‫ّ‬ ‫املتشبث «بالكرس ي» ُّ‬ ‫تشبث عزرائيل بأرواح ضحاياه‬ ‫من صاحب الدولة‬ ‫ألابرياء العزل‪ .‬ولم يبق مواطن إال وأسهم في الفرحة الكبرى باإلنقاذ العتيد‪.‬‬ ‫إلى أن كنا ذات مرة في سهرة قومية اجتماعية بحضور الزعيم‪ .‬فر ّدد أمامه‬ ‫خبر الانتخابات‪ .‬وقد يؤتى باآلدمي فالن الذي ال يسرق وال ينهب وال يختلس‬ ‫ُّ‬ ‫وال‪ ...‬لتسلم سدة رئاسة الوزارة عوض عن فالن الشهير بشوائبه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فابتسم الزعيم مستغربا والتفت إلى املهللين ملجيء آلادمي إلى الحكم‬ ‫ً‬ ‫قائال‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫أسلمه ّ‬ ‫«الطيب آلادمي أ ّزوجه ابنتي ّ‬ ‫مقدرات البالد»‪ .‬ال خالص‬ ‫لكنني ال‬ ‫وال إنقاذ لألمة من ويالتها إال بحركة التغيير الجذري في العقلية ألاخالقية‬ ‫القديمة البالية واعتناق العقلية ألاخالقية الجديدة‪ ،‬عقلية الحرية‬ ‫والواجب والنظام والقوة إلقامة الحق والخير والعدالة بين الناس وفي‬ ‫عقولهم ونفوسهم‪ .‬ولن ّ‬ ‫تتم أي فائدة لألمة من تبديل أشخاص بأشخاص‪.‬‬ ‫وهم يتسابقون لتمكين الفساد وإفساد أصالة الشعب‪.‬‬

‫‪12‬‬


‫صدقتم‪ ،‬يا دولة الرئيس‪ ،‬إن ما نسـ ـ ـ ـ ـتعمله‬ ‫غـ ـ ـ ـاية وجودنا تس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـتعملونه أنتم وس ـ ـ ـ ـ ـيلة‬ ‫ملنافعكم الخصوصية‬ ‫سعاده‬

‫كان يقود النضال السلبي في الشام ضد الانتداب الفرنس ي جماعة‬ ‫ونيف‪ .‬في ّ‬ ‫الكتلة الوطنية طيلة خمس وعشرين سنة ّ‬ ‫أدق مرحلة من مراحل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وأشدها عنفا واحتداما كشف أمر الحزب السوري القومي‬ ‫هذا النضال‬ ‫الاجتماعي‪ ،‬فكان إلعالنه ونشر مبادئه وأهدافه دوي كبير لدى الرأي العام‬ ‫السوري وأمام السلطة ألاجنبية والعالم‪ .‬إ ثر انكشاف وجود الحزب في‬ ‫السادس عشر من تشرين الثاني سنة ‪ 1721‬ز ّج بالزعيم وبمن عرفوا من‬ ‫املسؤولين وألاعضاء في السجون اللبنانية‪ .‬وقد و ّجهت إليهم تهمة تأسيس‬ ‫حزب سياس ي والعمل له من دون ترخيص رسمي من قبل الدولة‪ .‬وانتهت‬ ‫املحاكمة أمام املحكمة الفرنسية املختلطة بالحكم على الزعيم بالسجن‬ ‫ملدة ستة أشهر وملد ٍّد متفاوتة دون الستة أشهر على سائر املسؤولين آنذاك‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وبحل الحزب واعتباره غير شرعي‪.‬‬ ‫‪12‬‬


‫ً‬ ‫َّإبان اعتقال الزعيم وقعت أحداث عنيفة جدا من مظاهرات‬ ‫وإضرابات واسعة شملت مدينة دمشق وبقية املدن الشامية الكبرى ضد‬ ‫سلطات الانتداب الفرنس ي‪ ،‬مما أدى إلى تراجع هذه السلطات تحت وطأة‬ ‫الضغوط الشديدة وإلى قبولها‪ ،‬ولو بالظاهر‪ ،‬مبدأ تشكيل وفد سوري من‬ ‫الشام إلجراء مفاوضات ثنائية في باريس‪ .‬وقد ت ّنبه الحزب إلى أهمية تلك‬ ‫املناسبة َّ‬ ‫وود استغاللها ملصلحة ألامة إلى أبعد الحدود‪ .‬فأصدر الزعيم ما‬ ‫دعي بالبالغ ألازرق ّند د فيه بتصرفات املستعمر وتماديه في الضغط على‬ ‫الحريات العامة وأشاد بوقفة الشعب املش ّرفة في سبيل كرامته وسيادته‪.‬‬ ‫تمنيه على الوفد املفاوض بأن ّ‬ ‫وض َّمن البالغ ّ‬ ‫يتبنى مطالب الحركة السورية‬ ‫القومية الاجتماعية بالسيادة والاستقالل ّ‬ ‫وأهمها إلاصرار على طلب استفتاء‬ ‫الشعب في لبنان بشأن ض َّم لبنان والشام‪ .‬وقد كانت الظروف‪ ،‬على مستوى‬ ‫الوطن السوري أو بالنسبة إلى أوضاع فرنسا الداخلية‪ُّ ،‬‬ ‫جد مالئمة ملثل هذه‬ ‫الخطوة املهمة‪ ،‬والنفوس ّ‬ ‫مهيأة التخاذ هذا املوقف القومي الشجاع‪.‬‬ ‫لكن قادة الكتلة الوطنية لم تع ْر هذا املوضوع الاهتمام الج ّدي ولم‬ ‫ً‬ ‫تكترث لوفد الحزب الذي َّ‬ ‫توجه إلى دمشق حامال لحكومتها البالغ ألازرق‬ ‫ً‬ ‫مرفقا بمذكرة من الزعيم بتأييد موقفها ودعمه مع الاقتراحات العملية التي‬ ‫كان يرى ضرورة ألاخذ بها واعتمادها ألهميتها القومية‪ .‬وكانت ّ‬ ‫حجة جميل‬ ‫مردم بك رئيس الوزراء الشامي‪ ،‬آنذاك‪ ،‬إن الظروف غير مالئمة ملثل هذه‬ ‫املطالب املحرجة للجانب الفرنس ي‪ ،‬وأضاف إن الحزب السوري القومي‬ ‫الاجتماعي مشكوك بعروبته وال يجوز له‪ ،‬والحالة هذه‪ ،‬أن يحشر أنفه في‬ ‫ّ‬ ‫مثل هذه الشؤون‪ .‬منذ ذلك الحين أخذت مواقف الكتلة الوطنية تتكشف‬ ‫عن محاربة صارمة لنشاط الحزب وانتشاره الواسع دون أي ّ‬ ‫مبرر لهذا‬ ‫ّ‬ ‫العداء إال الافتراء القائل بأن الحزب هو ضد العروبة‪ ،‬ومن دون اللجوء إلى‬ ‫ّ‬ ‫أي حوار أو بحث حول هذا الاتهام الباطل‪ .‬ولكم ُّاتخ ذ هذا الاتهام وسواه‬ ‫‪14‬‬


‫ذريعة واهية لتغطية خلفيات املتآمرين على وجود الحزب وحجب نواياهم‬ ‫ّ‬ ‫التي ال ُّ‬ ‫تمت إلى املصلحة العامة بأي صلة وال تن ُّم إال عن جهل مطبق مع‬ ‫ّ‬ ‫خلوها من أي مبدأ أو فكر‪.‬‬ ‫في عهد رئاسة جميل مردم بك للوزارة الشامية سنة ‪1729-1721‬‬ ‫سلخ لواء الاسكندرون عن جسم الدولة السورية وض َّم إلى الدولة التركية‬ ‫ّ‬ ‫فتصدى دولة رئيس الحكومة لهذه املؤامرة بإلقاء التصاريح‬ ‫عنوة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الديماغوجية مؤكدا من على املنابر «إن الاسكندرون عربية وستبقى عربية‬ ‫إلى ألابد»‪ .‬وملا لم تفعل التصاريح «املردمية» فعلها السحري في ّرد الجيوش‬ ‫التركية والفرنسية عن سلخ لواء الاسكندرون وإلحاقه بتركيا وفي تفشيل‬ ‫ّ‬ ‫تصد ى مردم بك‬ ‫املؤامرة الدولية ضد سيادة ألامة السورية واستقاللها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بجدية أكثر لالعتداء آلاثم بتصعيد حدة التصاريح قائال‪« :‬ال ضير علينا من‬ ‫إلحاق الاسكندرون بتركيا‪ ،‬إن هذه العملية ستحرج تركيا نفسها وتوقعها في‬ ‫ورطة مستعصية ألنها لن تستطيع هضمها وابتالعها وسوف تنال جزاء‬ ‫فعلتها واعتدائها علينا من جراء هذا الضم»‪ .‬فما كان من جريدة الحزب‬ ‫«النهضة» التي كانت تصدر حينذاك في بيروت إال أن ّ‬ ‫تلقفت التصريح‬ ‫ّ‬ ‫وأبرزته في صدر صفحتها ألاولى معلقة عليه‪« :‬إذا صح قول دولة رئيس وزراء‬ ‫ّ‬ ‫ستقض‬ ‫الشام بأن ضم لواء الاسكندرون إلى تركيا‪ ،‬هو بمثابة ضربة‬ ‫مضجعها وتضعها في مأزق مصيري‪ ،‬فكم سيصيبها من ويل وأذى لو تقدمنا‬ ‫إليها بأجزاء أخرى من وطننا‪ ،‬أال تكون ّ‬ ‫هديتنا إليها ضربة قاتلة تجعلها عبرة‬ ‫ملن تس ّول له نفسه الطمع في الاعتداء على سيادتنا والنيل من استقاللنا؟‬ ‫فما رأي دولة مردم بك بهذا النوع من العالج كي نقض ي به على أعدائنا؟»‪.‬‬ ‫وكان مردم ال يدع مناسبة أو مجا ًال إال ويبادر إلى رمينا بفرية إثر أخرى‬ ‫ّ‬ ‫لتشويه حقيقتنا وتزوير مواقفنا ومقاصدنا‪ .‬لكن هذه الافتراءات كانت تذكر‬ ‫الناس بمهزلة منطقه العجيب الذي أنقذ به لواء الاسكندرون وجعل سلخه‬ ‫‪15‬‬


‫عن الجسم السوري نكبة على تركيا وفرحة لسورية‪ .‬وكان أهم ما يزعجه‬ ‫منا ّأننا ال نأخذ بالعروبة الوهمية حسب مفهومه الديماغوجي املعتمد على‬ ‫فيض التصاريح وسيولة «الب ْهورات» كم ْن ُّ‬ ‫يود أن يربح الحرب «بالنظارات»‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫صرح بهذا الصدد مرة «إن ما يستعمله الحزب السوري القومي‬ ‫الاجتماعي غاية له نحن نستعمله وسيلة»‪ ..‬أي أن العمل لسورية الذي هو‬ ‫غاية الحزب هو لدى مردم بك مجرد وسيلة لقضية ألامة العربية ليس إال‪.‬‬ ‫فما كان من جريدة «النهضة» إال أن تناولت هذا التصريح الطريف بكل‬ ‫ً‬ ‫عناية الئقة ّ‬ ‫وردت عليه بتأكيدها على صحته‪« :‬حقا إن ما نستعمله نحن‬ ‫ّ‬ ‫غاية لنا وهو مصلحة سورية وسيادتها ّ‬ ‫مجرد‬ ‫وحريتها تستعمله دولتكم‬ ‫ّ‬ ‫خاصة ملنافعكم وأغراضكم الخصوصية»‪ .‬فأغضب صاحب الدولة‬ ‫وسيلة‬ ‫ّ‬ ‫هذه املرة‪ .‬وتجاوز في انفعاله حرب التصاريح إلى إصدار أوامره املشددة بمنع‬ ‫دخول جريدة الحزب أراض ي الجمهورية الشامية تحت طائلة أقص ى‬ ‫العقوبات‪ .‬لكنه مع ذلك ظل ّ‬ ‫يتلقى الجريدة كل صباح في مكتب رئاسة‬ ‫الوزارة دون انقطاع طيلة أسابيع‪ .‬ولم تستطع جميع تحقيقاته ووسائل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتحدي لقرار دولته‪ ،‬وال كيفية تخطي هذه‬ ‫حكمه آنذاك أن تعرف من هو‬ ‫ّ‬ ‫املحرمة الحدود الشامية ووصولها حتى مكتبه بالذات‪ .‬وما زال هذا‬ ‫الجريدة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الحادث لغزا ّ‬ ‫طي الكتمان التام يتندر به من يذكر عهد الضغط على‬ ‫ً‬ ‫الحريات في بلد الحريات‪ ،‬في ألامة التي كانت دائما رائدة الحقيقة و الحرية‬ ‫للعالم بأسره‪ .‬وستبقى ألامة السورية منبت الرساالت والعقائد العاملة للحق‬ ‫والخير والجمال‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫طول له الحبل‪ .‬فإما أن يشـ ـ ـ ـ ـ ـنق نفس ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫بالحبل أو ينقذها به‪ .‬وتظل الثقة أساس‬ ‫كل بناء وكل تحقيق‬ ‫سعاده‬

‫أفرج عن الزعيم للمرة الثالثة من السجن مع العديد من املسؤولين‬ ‫الحزبيين ‪ 1729‬بعد أن انكشفت ّ‬ ‫سرية الحزب‪ .‬وحينها جرت انتخابات نيابية‬ ‫عامة في الجمهورية الشامية‪ .‬خاضها الحزب في معظم املناطق بزخم قوي‬ ‫وفاعلية مقدامة لفتت إليه اهتمام ألاصدقاء والخصوم وكان للحزب‬ ‫مرشحون من أعضائه في بعض الدوائر الانتخابية وفي بعضها مرشحون من‬ ‫أنصاره ومن املناطق الشامية التي تميزت بنشاط الحزب الفعال دائرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طرطوس الانتخابية حيث برز التنافس عنيفا وكثيفا بين كثرة من املرشحين‬ ‫ومؤيديهم‪ .‬وكانت طرطوس آنذاك من أقوى ّ‬ ‫ألاقوياء بمالهم ّ‬ ‫منفذيات الحزب‬ ‫في الجمهورية الشامية وكان عليها أن تتدارس الوضع الانتخابي والشعبي ّ‬ ‫بكل‬ ‫ّ‬ ‫روي ة وموضوعية لتحسن اتخاذ املوقف املالئم ملناقب الحزب ومكانته‬ ‫املرموقة‪.‬‬

‫‪19‬‬


‫لدى تداول أوضاع طرطوس الانتخابي من قبل أعضاء هيئة ّ‬ ‫املنفذية‬ ‫ّ‬ ‫توزعت آلاراء كثيرًا وتضاربت وجهات النظر ّ‬ ‫بشدة تعذر معها التوصل‬ ‫َّ‬ ‫بسهولة إلى اتخاذ موقف مو َّحد الختيار مرشح بمؤازرة قوى الحزب‪ .‬وملا‬ ‫كل من املرشحين أى ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتشعبت التقديرات حول ّ‬ ‫املنفذ العام‬ ‫طالت ألابحاث‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫بالوكالة الرفيق الدكتور ابراهيم يازجي أن يرفع إلى املركز في بيروت اقتراحا‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫معلال بمناصرة الحزب للمرشح عيس ى جميل عرنوق‪ ،‬عمال بصالحياته‬ ‫الدستورية‪ .‬وقد كنت بوصفي ناظرًا لإلذاعة‪ّ ،‬‬ ‫ممن خالفوا هذا الاقتراح‬ ‫ّ‬ ‫وسجلوا في تقرير خاص أسباب هذه املخالفة رفع إلى عمدة الداخلية مع‬ ‫ً‬ ‫طعنا بنزاهة موقف ّ‬ ‫اقتراح املنفذ العام وقد ّ‬ ‫املنفذ العام‬ ‫ضمنت التقرير‬ ‫ً‬ ‫بالوكالة ّمتهما إياه باالنحياز لصالح املرشح عيس ى جميل عرنوق باعتباره ابن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عمه مع بيان ألادلة على ذلك‪ .‬وبعد أيام قالئل من موافاة املركز بدراستنا‬ ‫للوضع الانتخابي في طرطوس واقتراحاتنا بصدد املوقف املناسب اتخاذه من‬ ‫املر ّشحين‪ .‬جاءنا الجواب بوجوب تأييد الحزب للمرشح عيس ى جميل عرنوق‬ ‫أي باملوافقة على اقتراح املنفذ العام بالوكالة‪ .‬ثم جرت الانتخابات وأبدت‬ ‫فيها صفوف الحزب بطرطوس منتهى الفاعلية والانضباط وأعطت للمرشح‬ ‫عيس ى عرنوق أبرز تأييد وأفعل دعم وقد قارب النجاح بعدد قليل من‬ ‫ّ ً‬ ‫ألاصوات مؤكدا صالبة جبهته ومتانة شعبيته ثم استؤنفت ألاعمال الحزبية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كمدرس في معهد‬ ‫بنشاطها املعهود بينما كنت أترقب الفرصة السانحة لي‬ ‫الالييك الفرنس ي ألتابع مع املركز موضوع ّاتهامي للمنفذ العام بالوكالة‬ ‫ً‬ ‫بخصوص سلوكه من الانتخابات‪ .‬وفي تلك ألاثناء ّ‬ ‫تلقت ّ‬ ‫املنفذية مرسوما من‬ ‫الزعيم بترفيع الرفيق الدكتور يازجي من مسؤولية ّ‬ ‫منفذ عام بالوكالة إلى‬ ‫رتبة ّ‬ ‫منفذ عام طرطوس‪ .‬استوقفني هذا التدبير وأشكل ّ‬ ‫علي تعليله كما‬ ‫علي ّ‬ ‫صعب َّ‬ ‫تقبله بارتياح واطمئنان‪ .‬وقد هالني أن يحدث مثل هذا التقدير‬ ‫ملن تحوم حوله الشكوك وهو ما يزال موضع اتهام خطير وقبل أن يصار إلى‬

‫‪18‬‬


‫إجراء أي تحقيق معه‪ .‬ثم سارعت إلى الاتصال بعمدة الداخلية للحصول‬ ‫ظن ًا ّ‬ ‫ملنفذية طرطوس ّ‬ ‫على موعد قريب من أجل معالجة الوضع الشاذ ّ‬ ‫مني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتوجب الكشف أو وجود حلقة مفقودة يقتض ي‬ ‫ّأن هنالك غموضا معيبا‬ ‫ْ‬ ‫وبدأت املخاوف تنتابني بسبب الثقة‬ ‫بحثها مع املركز إلعادة ألامور إلى نصابها‪.‬‬ ‫التي منحت للرفيق الدكتور يازجي وهو غير أهل لها بنظري وما قد ينجم عن‬ ‫وضع الثقة في غير موضعها من ضرر يصيب الحزب ويعيق سالمة استمراره‬ ‫ّ‬ ‫بصح ة تطبيق العدالة في التدبير الذي‬ ‫في طرطوس‪ .‬وقد خامرني الشك‬ ‫ً‬ ‫اتخذه الحزب أو اعتماده املعلومات الخاطئة أساسا لتصنيف ألاعضاء‬ ‫وتقييم إمكانياتهم ومؤهالتهم‪.‬‬ ‫وقد ه ّزني تصور ما تؤول إليه حال ّ‬ ‫منفذية طرطوس بعد التدبير الذي‬ ‫ً‬ ‫ّاتخذ كأنه مكافأة ملن يس يء إلى مصلحة الحزب‪ .‬لم أكن قادرا حينذاك على‬ ‫ّ‬ ‫أن أركز تفكيري بما حدث وألن أضبط اضطرابي لتحليل ألاسباب‬ ‫واستشفاف العوامل التي حد ْت بالزعيم إلى منح ثقته ملتهم يجب معاقبته أو‬ ‫مؤاخذته على ألاقل‪.‬‬ ‫آملتني الحادثة خاصة وأنني كنت ال أزال في مطلع حياتي الحزبية وبداية‬ ‫تك ّون اختباراتي ألاولى ّ‬ ‫لتفهم معاني املؤسسات الحزبية وفحوى إلاجراءات‬ ‫التي تعتمدها في الكشف والتوجيه والبناء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املخولة معالجة ألامر‬ ‫وتوجهت إلى بيروت لالتصال بالجهات الحزبية‬ ‫وأعددت نفس ي على أن أكون شديد املصارحة ملا كنت أعانيه من ألم مرير‬ ‫نتيجة إهمال عمدة الداخلية لشكواي ضد املنفذ العام ومكافأة الحزب له‬ ‫جزاء سوء تصرفه في توجيه املوقف الانتخابي خدمة لقريبه املرشح‪ .‬وعزمت‬ ‫على أن أواجه الزعيم إذا اقتض ى ألامر ليس فقط بما أرى وما لدي من أدلة‬ ‫ً‬ ‫أيضا من ظنون ّ‬ ‫وحز في نفس ي من‬ ‫على اتهام املنفذ العام بل بما خامرني‬

‫‪17‬‬


‫شجون تجاه الثقة املجحفة بالحقيقة التي أوالها الزعيم إلى الرفيق الدكتور‬ ‫يازجي آنذاك‪ .‬وصلت املركز وأخذت أسرد لعميد الداخلية نعمة تابت كل ما‬ ‫ّ‬ ‫يتعلق بوضعية ّ‬ ‫منف ذ عام طرطوس ومسلكه إبان املعركة الانتخابية لكنه‬ ‫قاطعني بتؤدة ولباقة ليتابع هو ما كنت ّ‬ ‫أود أن أخبره به عن طرطوس‬ ‫ومنفذها وغير ّ‬ ‫ّ‬ ‫منفذها‪ .‬كأنه كان على علم مسبق بما لدي وما يدور في خلدي‬ ‫ً‬ ‫ويشغلني من هموم على مسيرة الحزب في طرطوس‪ .‬ثم غادرني مستأذنا إلى‬ ‫غرفة مجاورة وعاد منها خالل دقائق ليدعوني إلى مقابلة حضرة الزعيم‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫رحبا‪ ،‬ابتسامة تنم عن‬ ‫قابلني حضرة الزعيم بابتسامة مستحبة م‬ ‫ّ‬ ‫ارتياح عميق راح يغمر قلقي بعناية ودراية مطمئنة من جهة ومشجعة من‬ ‫جهة أخرى على الكشف الكامل ّ‬ ‫عما يعتمل في نفس ي من قناعات وما في‬ ‫تردد أو ّ‬ ‫ظنوني من تقديرات دون أي ّ‬ ‫تحفظ أو ّ‬ ‫تهيب‪ .‬عرضت أمام رحابة‬ ‫الزعيم الحافلة بعمق ّ‬ ‫ألابوة كل دخائل فكري وخفايا مشاعري وجوانب‬ ‫تصوراتي بما فيها من غموض وسذاجة بريئة‪ .‬وكان الزعيم يأخذ بيدي وهو‬ ‫يصغي إلى كل إشارة تبدر مني ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويشجعني على‬ ‫ليبدد جميع أوهامي ومتاعبي‬ ‫املض ّي في تنفس الصعداء وأنا أعلل أفكاري ّ‬ ‫وأفند اتهاماتي بعجرها وبجرها‪.‬‬ ‫ما أروع ّ‬ ‫تحمل الزعيم الحميم لجموح براءتي املشدود‪ ،‬والقتحام براءتي كل‬ ‫معقول وكل صحيح بدافع ُّ‬ ‫تخوفها البدائي على الحزب وقلقها على مصيره‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫البالغ منتهى الغلو واملبالغة املتدفقة حرصا انفعاليا على سالمة الحزب لكن‬ ‫ال ريب في صفاء إيمانها‪ .‬يا لبالغة صمته وصفاء ّ‬ ‫تأمله النابض بالحياة املفعم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫خضم كل‬ ‫بالثقة واليقين املطلق بأن الصحيح وحده هو الباقي منتصرا في‬ ‫ألاخطاء وألاخطار‪ .‬ال زلت أرتوي من رحيق هاتيك العبر وقد مض ى عليها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أربعون عاما ونيف وأخالني آلان أصغي إلى كلمات الزعيم تقول أبدا‪:‬‬ ‫يا رفيقي أخذ املركز بجميع شكوكك حول تصرف منفذ عام طرطوس‪،‬‬ ‫لذلك وكي ال تجمد التهم املنسوبة إليه في حيز الشك بل تخرج إلى اليقين‬ ‫‪91‬‬


‫ّ‬ ‫املسند إلى الوقائع الثابتة‪ .‬ولئال ّيحكم إلانسان بالشك ويدان بالظنون بل‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يظل بريئا حتى ثبوت إدانته باألدلة والشواهد القاطعة‪ ،‬ومن أجل أن يقطع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتربص به في الخفاء‪.‬‬ ‫بالتردد والدوران حوله‬ ‫الشك فال يطول أجله‬ ‫دابر‬ ‫لهذه ألاسباب كلها التي ّ‬ ‫تكرس مبدأ الحرص على العدالة وضرورة ألاخذ بها‬ ‫ً‬ ‫بجرأة وحزم‪ ،‬اقتضت الضرورة‪ ،‬انطالقا من الشكوك الواردة بحق املنفذ‬ ‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ليتصرف بحرية‬ ‫العام‪ ،‬أن يمنح مزيدا من الثقة ويعطى متسعا من املجال‬ ‫ً‬ ‫وأمان فيثبت يقينا ّإما أنه بريء مما نسب إليه أو يثبت يقينا أنه مذنب غير‬ ‫جدير بالثقة‪ .‬ونصل هكذا باإلثبات الخالي من أي شك إلى الحكم له أو‬ ‫الحكم عليه‪ .‬ن ّ‬ ‫ّ‬ ‫طول له الحبل وهو ّ‬ ‫وتظل‬ ‫حر أن يشنق نفسه به أو ينقذها‪.‬‬ ‫الثقة الواعية املوجهة السبيل إلى كشف الحقيقة‪ ،‬وإثبات كامل مناعتها‬ ‫ومطلق صوابها‪ .‬ولسنا بخائفين على الحزب من أحد ألن الجسم السليم ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّبد له عاجال أو آجال أن يلفظ املادة الغريبة عن جوهره أما إذا تناسبت مع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويتمثلها ّ‬ ‫متجددة مهما‬ ‫قوة وقدرة وعافية‬ ‫أصالته فهو يعرف كيف يمتصها‬ ‫ً‬ ‫طالت مراحل معاناته لتحملها ومضغها‪ .‬ففي النهاية كل مصير ّ‬ ‫تقرره معا‬ ‫طبيعة الجسم املستوعب وطبيعة تلك املادة املعدة للتفاعل والامتصاص‬ ‫من أجل تأمين املصير ألاوحد والهدف ألامثل «أما طريق الحياة فال يثبت‬ ‫عليها إال ألاحياء وطالبو الحياة بوقفات العز التي ال تنضب‪ .‬ويسقط ألاموات‬ ‫على جانب الطريق»‪.‬‬

‫‪91‬‬


‫ً‬ ‫نحن حقا أوالد من حي‬ ‫النمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـو‬

‫الطهارة وقابلية‬ ‫سعاده‬

‫بمناسبة إلافراج عن الزعيم من سجن الرمل أواسط سنة ‪،1729‬‬ ‫حضرت إلى بيروت برفقة وفد من أعضاء منفذية طرطوس إللقاء السالم‬ ‫عليه وتهنئته بالعودة إلى حرية العمل والنضال القومي الاجتماعي بعد ذلك‬ ‫الاعتقال الجائر‪ .‬وقد ّ‬ ‫ضمتنا السهرة في منزل رفيق من رأس بيروت مع‬ ‫الزعيم وعدد من ألامناء والرفقاء القدامى‪ .‬وكان الحديث يدور حول تمادي‬ ‫ّ‬ ‫وتحركات القوميين‬ ‫السلطة الفرنسية في تشديد مالحقة النشاط الحزبي‬ ‫الاجتماعيين في كل مكان من لبنان‪ .‬وتناول البحث ما كانت تقوم به من‬ ‫حمالت صحفية مركزة ضد مبادئ الحزب وضد نظامه وشخص الزعيم‬ ‫بالذات‪ .‬وما كانت تعتمده من أساليب إلثارة الشعب بكل فئاته ضد أهداف‬ ‫الحزب وغاياته « ّ‬ ‫الهدامة» ‪ ،‬مؤكدة أنه يعمل على تقويض الكيان اللبناني‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وإلحاقه عنوة بسورية‪ ،‬أي بالجمهورية الشامية‪ .‬ويتنكر أيضا للعرب‬ ‫ً‬ ‫والعروبة فضال عن كونه دعوة صريحة إلى الكفر وإلالحاد‪ .‬هو حزب عميل‬

‫‪92‬‬


‫ّ ً‬ ‫مدعيا السعي إلى تحرير البالد من الانتداب‬ ‫إليطاليا الفاشية وأملانيا النازية‬ ‫الفرنس ي بينما يعمل لخدمة أغراض استعمارية‪ .‬كانت املالحظات ّ‬ ‫تفند‬ ‫ّ‬ ‫اضطهاد الحزب من قبل ألاجنبي وزبانيته من العمالء واملدسوسين‪ .‬وتركزت‬ ‫في قلق الفرنسيين وألاجانب من انتشار الحزب وسرعة نموه في كل أوساط‬ ‫الشعب‪ ،‬وفي ّ‬ ‫تخوفهم من صالبة مواقفه ولحمة صفوفه املرصوصة التي‬ ‫تجمع جميع فئات الشعب وعناصره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واتسع البحث في توقفه عند انجراف إلاقطاعيين عامة وفريق من‬ ‫رجال الدين مع ّتيار العداء للحزب وتأييدهم لتدابير املستعمر املعادية‬ ‫لوجود الحزب دون وعي ّ‬ ‫ملغبة هذا الضالل والتضليل ودون أي اهتمام‬ ‫بدراسة مبادئ الحزب وأهدافه للوقوف منها‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬موقف الدارس‬ ‫املسؤول ال موقف الغبي التابع أو املأجور املرتزق من خالل املنافع‬ ‫الخصوصية وألاغراض الخاصة‪.‬‬ ‫كان الزعيم يحلل هذه الظاهرة النابية والتي ّ‬ ‫سجلها ذوو املنافع‬ ‫الخصوصية بتالقيهم على الصعيد نفسه مع نوايا املستعمر وتصرفاته‬ ‫الطاغية ضد وعي ألامة لشؤونها ألاساسية وقضاياها املصيرية‪ .‬لقد كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أصحاب النفوذ واملكانة التراكمية بمعظمهم عونا كبيرا ملخطط الاستعمار‬ ‫منذ نشوء الحزب وبدء انتشاره في صفوف الشعب‪ .‬ثم أخذ الزعيم يقارن‬ ‫هذه الظاهرة املنحرفة بإقبال الشعب على تتبع أخبار الحزب وأعماله‬ ‫ومواقفه بشغف عميق واهتمام بالغ الجدية والصفاء‪.‬‬ ‫في تلك ألاثناء أطل علينا شاب وسيم في مقتبل العمر معتدل القامة‬ ‫ممشوق القوام‪ ،‬واضح مالمح الوجه‪ ،‬صافي النظرات املعبرة عن إيمان‬ ‫وتصميم‪ .‬فتوجه نحو الزعيم بخطى هادئة قوية‪ ،‬وألقى عليه التحية‬ ‫القومية الاجتماعية بصوت م ّتزن النبرات ّ‬ ‫متقد إلايقاع‪ّ ،‬‬ ‫مما لفت إليه‬

‫‪92‬‬


‫ّ‬ ‫ألانظار واتجه إليه الانتباه كأنه موفد إلينا بمهمة من جهة معينة‪ .‬توقف‬ ‫الحديث هنيهة وساد الجميع صمت من يترقب إعالن خبر ذي بال‪ .‬وقد‬ ‫امتألت نفس ي آنذاك بشوق م ٍّ ّلح للتعرف إلى الشاب وسيم املظهر واملسلك‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ما كاد الرفيق يلقي التحية حتى أذن الزعيم له بالجلوس قائال هات ما‬ ‫عندك من طريف ألاخبار‪ .‬فارتفع في الحال صوت الرفيق فؤاد سليمان يمأل‬ ‫أرجاء القاعة صفاء وعزيمة صادقة ليعلن‪« :‬نحن اليوم يا حضرة الزعيم‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫أمام تهمة طريفة جديدة‪ ،‬تهمة أننا حزب أوالد»‪ .‬ثم توقف فجأة كمن‬ ‫يستفتي الزعيم ملا يقتض ي عمله ويستوجب اتخاذه من تدابير حاسمة للرد‬ ‫ّ‬ ‫على جماعة املفترين علهم يتعلمون كيف يحسبون لهؤالء ألاوالد حساب‬ ‫الرجال‪ .‬أدار الزعيم نظره في وجوه من حوله من الرفقاء وألامناء كأنه‬ ‫ّ‬ ‫املستخفين‬ ‫يستوحي من عنفوان رجولتهم ما يفحم به مزاعم املغرورين‬ ‫برجاالت النهضة‪ .‬وخاطب الرفيق فؤاد بصوت خافت النبرات عميق الهدوء‬ ‫ً‬ ‫واليقين‪« :‬نعم‪ ،‬يا رفيق فؤاد‪ ،‬نحن حقا أوالد من حيث الطهارة وقابلية‬ ‫النمو»‪.‬‬ ‫ما أن ّ‬ ‫تلفظ الزعيم بهذه العبارات حتى ّ‬ ‫دوت القاعة‪ ،‬بضحكات‬ ‫ّ‬ ‫وقابليتهم‬ ‫الحاضرين كأنها تصفيق الاعتزاز بطهارتهم القومية الاجتماعية‬ ‫ً‬ ‫النبيلة للنمو‪ ،‬وراحوا يتبادلون نظرات ّ‬ ‫تنم عن تهنئة بعضهم بعضا وهي‬ ‫ّ‬ ‫مستمرون في النمو والتطور‬ ‫أنهم مثال الطهارة بالفكر والتعامل وألاخالق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫والانفتاح على الشعب كله ليكونوا دائما رجاال وقدوة الرجال في ترسيخ قيم‬ ‫ّ‬ ‫املتفوقة بطهارة‬ ‫النهضة القومية الاجتماعية وفضائل ألاصالة السورية‪،‬‬ ‫العطاء وانطالقة النمو والبناء‪.‬‬

‫‪94‬‬


‫محـ ـ ـ ـ ـاولة فاش ـ ـ ـ ـلة الغتـ ـ ـ ـ ـيال الزعي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـم‬

‫أ ّسس الحزب السوري القومي الاجتماعي سنة ‪ 1722‬واستمر ثالث‬ ‫سنوات يعمل في الخفاء والكتمان الشديد‪ .‬وقد امتد آنذاك نشاطه واتسع‬ ‫انتشاره عبر لبنان حيث تغلغل في مختلف املناطق والكيانات السياسية في‬ ‫سورية الطبيعية‪ .‬فجر السادس عشر من تشرين الثاني ‪ 1725‬في الذكرى‬ ‫ّ‬ ‫الثالثة لتأسيس الحزب كان انبثاق فجره من ّ‬ ‫التكتم والعمل السر ّي إلى‬ ‫طي‬ ‫حيز الوجود املعلن‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫فهزت املفاجأة الكبرى وجدان الشعب وأيقظت وعيه‬ ‫لجوانب خطيرة من حقيقته وشؤونه املصيرية كما ارتعدت فرائص‬ ‫السلطات اللبنانية والفرنسية وحلفائهما من العمالء لهول الحدث الذي‬ ‫ّ‬ ‫ينذر الرجعة بإجالء عقليتها املتخلفة العقيمة التي تقوم على معالجة أدهى‬ ‫آلافات الاجتماعية بالعقاقير واملسكنات والشعوذات الحقيرة‪ .‬وما تزال الئحة‬ ‫العقاقير ّ‬ ‫ترسخ الجهل والفقر واملرض في نفوس الناس وعقولهم تارة باسم‬ ‫ً‬ ‫الدين وطورا باسم املصلحة العامة‪ .‬كشف أمر الحزب فراحت السلطات‬ ‫ّ‬ ‫املتحكمة بحريات املواطن تطارد كل من عرفتهم من أعضاء الحزب‬

‫‪95‬‬


‫واملسؤولين وعلى رأسهم الزعيم بتهم ّ‬ ‫تنم عن تفاقم قلقها على منافعها‬ ‫ومراكز أفرادها‪ .‬وكانت املحاكمات ّ‬ ‫ماد ة افتراءات دسمة ومجال حمالت‬ ‫إعالمية عارمة بغية تضليل الشعب عن حقيقة مبادئ الحزب ومراميه‬ ‫القومية ثم صدرت ألاحكام من لدن املحكمة الفرنسية متفاوتة من امل َّدة‬ ‫التي حكم بها الزعيم‪ .‬لم تستطع جميع املالحقات واملطاردات وألاحكام ّ‬ ‫الحد‬ ‫ً ً‬ ‫ّ‬ ‫من انتشار الحزب ّ‬ ‫ونموه إنما كانت حافزا قويا المتداد فكره في بث الوعي‬ ‫بين صفوف الشعب حتى داخل السجون واملعتقالت وإلى صفوف قوى ألامن‬ ‫عينها التي رافقت عن كثب بحكم مسؤولياتها ألامنية مسلك الرفقاء‬ ‫وتعاملهم ومفاهيمهم ألاخالقية املناقبية في مواجهة مسؤولياتهم وتصريف‬ ‫ّ‬ ‫أمورهم بأمانة وشجاعة الواثق من نفسه واملؤمن بحقه وانتصاره املحتوم‪.‬‬ ‫وصار الحزب يفرض وجوده واحترامه في جميع ألاوساط ويحظى بعميق‬ ‫التأييد والدعم من مختلف فئات الشعب مما كان ّ‬ ‫يحرض السلطات ملتابعة‬ ‫الضغوط عليه بشتى وسائل التنكيل والضغط‪.‬‬ ‫وتوالت الاعتقاالت من قوى البطش والطغيان‪« .‬كلما ازددنا قوة ازداد‬ ‫الضغط علينا» ألن قوتنا غدت مخيفة ّ‬ ‫تتوع د أعداء الشعب املتآمرين على‬ ‫سيادته وكرامته بالويل‪« .‬وكلما تراكمت علينا الصعاب ّ‬ ‫تجددت قوانا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وسحقنا ما اعترضنا من صعاب»‪ .‬فاحتار املتنكرون لحق ألامة الذين‬ ‫يسيرون في ركاب املستعمر في السبيل لتعطيل مسيرة الشعب إلى التحرر‪،‬‬ ‫وتحطيم فاعلية ألامة الناهضة من أجل تغيير مجرى التاريخ ووجه ألاحداث‬ ‫ّ‬ ‫بمقدرات ألامة من كل صوب للتشاور في أمر‬ ‫الجارية‪ .‬تنادت جبهة الغدر‬ ‫الحزب الذي أصبح معضلة مستعصية وعقبة مستفحلة بوجه مخادعتهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للشعب‪ .‬تلك املعضلة التي ال تذلل وال تحتمل‪ .‬ال ّبد من التخلص من الحزب‬ ‫وإيقاف انتشاره والحد من تزايد انتصاراته من الوصول إلى الشعب وفي‬ ‫استقطاب خيرة شبابه والتفافهم حول قضيته‪ .‬ويستوجب للقضاء على‬ ‫‪91‬‬


‫ّ‬ ‫الحزب إلاسراع مهما كلف ألامر بذل جهود ولو اقتض ى الهدف اقتراف أشنع‬ ‫الجرائم وأبشع املخازي وآلاثام‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تقض‬ ‫إن مسألة الحزب وخاصة صمود الزعيم غدت شديدة الخطورة‬ ‫مضاجع العاملين على امتصاص دم الشعب واغتصاب حريته وكرامته‬ ‫بإصرار بالغ الضراوة والبربرية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انقضت قوى السلطة على منزل‬ ‫وفي إحدى أمسيات عام ‪ 1729‬حين‬ ‫ً‬ ‫الزعيم وجميع املسؤولين وألاعضاء ّ‬ ‫لزجهم جميعا في السجون والثكنات‬ ‫بصورة مباغتة وعاصفة بينما الناس يتساءلون بحيرة ووجوم ما الخبر وما‬ ‫هو الداعي لجعل السجون مكان إلاقامة الدائمة لكل قومي اجتماعي‪ ،‬ناهيك‬ ‫عن سياسة التجويع ّ‬ ‫املتبعة التي تفرض الطرد من الوظائف ومن املدارس‬ ‫والحرمان القاطع من تأمين أي مورد ّ‬ ‫يرد عن القومي غائلة العوز والفاقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫استمر ّ‬ ‫وبأشد ما يكون من التصميم‬ ‫كل ذلك على قدم وساق خالل سنين‬ ‫الشرس للقضاء املبرم على الحزب واستئصال وجوده من حياة ألامة وانتزاع‬ ‫مكانته من نفوس الشعب‪.‬‬ ‫بعد أيام قالئل من بدء هذه الحمالت املسعورة التي ّ‬ ‫شنتها سلطات‬ ‫إلارهاب على الزعيم والقوميين الاجتماعيين يأتي أحد أفراد الدرك املكلف‬ ‫بحراسة غرفة انفراد الزعيم إلى رفيق من ذويه ليهمس في أذنه بحذر مكدود‬ ‫خشية انكشاف أمره ويقول‪« :‬الزعيم في خطر شديد‪ ،‬وفي نية السلطة‬ ‫القضاء عليه‪ .‬وقد ق ّد م إليه اليوم طعام مسموم وكان على وشك تناوله‬ ‫ووقوع الكارثة الرهيبة لكنني غامرت بوظيفتي وحياتي وأعلمته باألمر فامتنع‬ ‫ً‬ ‫حاال عن الطعام وأعلن إلاضراب املستمر عن كل طعام وشراب منذ ظهر‬ ‫ً‬ ‫هذا اليوم‪ .‬وقد طلب الزعيم م ّني إعطاء املسؤولين خارج السجن علما‬ ‫ً‬ ‫باملؤامرة النكراء ليصار إلى اتخاذ التدابير الواجبة عاجال»‪.‬‬

‫‪99‬‬


‫ّ‬ ‫فما كان من إدارة الحزب املركزية التي تتولى القيادة حينذاك بمنتهى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والترقب إال أن أعلمت أحد أقرباء الزعيم بضرورة إقامة دعوى‬ ‫السرية‬ ‫شخصية على السلطة بوصفه القريب املخول باملطالبة بحياة الزعيم‬ ‫وسالمته وتحميل السلطة مسؤولية كل ما قد يناله من أذى في السجن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ويتعرض له من خطر متهما إياها بمحاولة اغتياله بينما هو قيد التوقيف‬ ‫والتحقيق القضائي‪ .‬ثم قام املركز بتوزيع بيان مفصل على الصحف والرأي‬ ‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫العام شارحا الواقعة ومحذرا من عواقب املؤامرة على حياة الزعيم‪ .‬وقد‬ ‫أرسلت نسخ من البيان إلى جميع سفارات الدول العربية املوجودة في‬ ‫ً‬ ‫كيانات الوطن السوري‪ .‬كما أحيطت جميع املؤسسات الدولية علما‬ ‫بالحادث بموجب البيان نفسه مع مذكرة رسمية وجهت إليها باسم الحزب‬ ‫السوري القومي الاجتماعي‪ .‬وقد وضعت صفوف الحزب بأقص ى حاالت‬ ‫ّ‬ ‫التأهب والاستنفار ملواجهة أسوأ الاحتماالت وأخطرها‪ .‬وكان إلاضراب عن‬ ‫الطعام قد ّ‬ ‫عم جميع سجون لبنان بين القوميين الاجتماعيين وبقية‬ ‫السجناء قاطبة‪.‬‬ ‫ما أن در ْت الحكومة بتدابير الحزب واستعداداته حتى سارعت إلى‬ ‫إلاعالن بواسطة أبواقها املأجورة من صحفية وسواها عن اهتمام القضاء‬ ‫الش ديد بإجراء التحقيقات العادلة والسريعة مع املوقوفين من أعضاء‬ ‫الحزب السوري القومي الاجتماعي كي يصار بالتالي إلى إلافراج عن ألابرياء‬ ‫منهم‪ .‬وهي تسهر بكل وسائلها على تأمين راحتهم وإنصافهم وفق مقتضيات‬ ‫العدالة والقوانين املرعية‪ّ .‬إبان تأكيد السلطة على تطبيق القانون‬ ‫واعتمادها العدالة أساس التعامل مع املوقوفين قيد التحقيق توقفت جميع‬ ‫املالحقات العشوائية ثم بادرت السلطة إلى إلافراج عن عدد من املساجين‬ ‫غير املسؤولين خالل أيام‪.‬‬

‫‪98‬‬


‫ولم يمض بعض الوقت على تعميم استعدادات الحزب للرد على من‬ ‫ّ‬ ‫ت ّ‬ ‫سول له نفسه أن يستهين بالقانون ويستخف بسالمة إلانسان وكرامة‬ ‫املواطن حتى تم إلافراج عن الزعيم وجميع املوقوفين القوميين الاجتماعيين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫للتنصل مما أشيع عن محاولة‬ ‫كم كان حرص السلطة آنذاك شديدا ودؤوبا‬ ‫اغتيال الزعيم في سجنه وكم سعت بشتى الوسائل وألاساليب إلزالة آثار‬ ‫ً‬ ‫الحادث من ألاذهان ّ‬ ‫وطيه نهائيا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أما الرفيق الدركي الذي ّ‬ ‫ألشد ألاخطار من أجل إنقاذ‬ ‫عرض نفسه‬ ‫ً‬ ‫حينا ثم عاد عندما ّ‬ ‫تبدلت ألاحوال السياسية‪.‬‬ ‫حياة زعيمه فقد غادر الوطن‬ ‫وهذا نموذج من فعل ألاعضاء ّ‬ ‫السريين في تحقيق ألاعمال وألافعال الجبارة‪.‬‬ ‫ما زال كتمان ألاسرار في الحزب وسيظل واجب القومي الاجتماعي من‬ ‫ضمن القسم لنكون قادرين تحت كل الظروف على صون كرامة ألامة‬ ‫وسالمتها بكل إخالص وكل عزيمة صادقة وباعتزاز ّ‬ ‫عز نظيره في التاريخ‪.‬‬

‫‪97‬‬


‫القدوة أسـ ـ ـ ـ ـاس كل بناء نفس ي وش ـ ـ ـ ـ ـرط كل‬ ‫تربية متينة تس ـ ـ ـ ـتمر وتثمر‬

‫من أخطر آلافات املستشرية في مجتمعنا واملزمنة التي يتوارثها ألاحفاد‬ ‫عن ألاجداد دون أدنى حرج وبال تحفظ هي آفة استعمال املعرفة للجهل فال‬ ‫تضر وال تقدم أي نفع لإلنسان‪ .‬ما أكثر ّ‬ ‫الوعاظ واملرشدين في شتى حقول‬ ‫ً‬ ‫العلم واملعرفة وما أقدرهم جميعا على إلقاء املواعظ وتوزيع النصائح‬ ‫والتوجيهات واملالحظات ذات اليمين وذات اليسار وبمنتهى السهولة واليسر‬ ‫من دون أن يلتزموا بش يء مما يقولون ويطلبون من آلاخرين ألاخذ به‪ .‬وهم‬ ‫بقدر ما ّ‬ ‫يشددون على صواب إرشاداتهم وصحة اختياراتهم وضرورة العمل‬ ‫ّ‬ ‫يشذون قبل سواهم عن اعتمادها في سلوكهم وتعاملهم ّ‬ ‫كأن‬ ‫بموجبها‬ ‫املعرفة لديهم هي نوع من بضاعة كاسدة فما على البائع إال أن يتقن عرضها‬ ‫ً‬ ‫إلغراء ّ‬ ‫املارة بشرائها‪ .‬ولكل بضاعة عادة مواسم ومناسبات عمال بمبدأ‬ ‫العرض والطلب بين املنتج واملستهلك‪.‬‬ ‫وال ب َّد للسوري القومي الاجتماعي أن يعمل بصدق وبما تمليه عليه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عقيدته‪ ،‬مت ّبرئا من أولئك الذين يقولون شيئا ويعملون شيئا آخر والذين‬ ‫‪81‬‬


‫تنطبق عليهم آلاية إلانجيلية الكريمة‪ ...« :‬اسمعوا أقوالهم وال تفعلوا‬ ‫أفعالهم»‪ ...‬من هنا كانت أهمية قول الزعيم بوجوب اقتران الكالم بالفعل‪:‬‬ ‫«التاريخ ال يسجل ألاماني وال النيات إنما يسجل ألاعمال وألافعال وإن ألامر‬ ‫ُّ‬ ‫وتقل ألاعمال أمر ال نصيب له في النجاح‪ .‬وأن‬ ‫الذي تكثر فيه ألاقوال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املجتمع معرفة واملعرفة قوة»‪ .‬وما عدا ذلك فهو مجرد أوهام باطلة‪ ،‬وهو‬ ‫الجهل والتيه في حضيض الفناء والانحالل وضرب من الهزيمة أمام‬ ‫املسؤولية‪.‬‬ ‫ذات ليلة وألامطار تتساقط بغزارة فائقة في شوارع بيونس ايرس‬ ‫ً‬ ‫عاصمة ألارجنتين وتتجمع سيوال تجرف ما يعترض سبيلها ويعيق زحفها‬ ‫انقطعت طرق املواصالت وتوارت جميع وسائل النقل في سائر أنحاء املدينة‪.‬‬ ‫مثل هذه املفاجآت من تسارع هطول ألامطار بين آلاونة وألاخرى خالل‬ ‫مختلف الفصول يحدث كثيرًا وتكرارًا وهو من طبيعة مناخ ألارجنتين ّ‬ ‫القاري‬ ‫ّ‬ ‫املعروف بتقلبه املباغت بين شدة الحرارة وحدة ألامطار والبرودة‪.‬‬ ‫في تلك الليلة الليالء عينها كان لدى الزعيم موعده الدوري مع إحدى‬ ‫مديريات بيونس ايرس وكان عليه أن يحضره‪ .‬وال سبيل للوصول إلى مكان‬ ‫ً‬ ‫الاجتماع الذي يبعد عن مسكن الزعيم ما يقارب الساعة مشيا على ألاقدام‬ ‫في الحاالت الهادئة فكيف إبان غضب الطبيعة وزمجرتها‪ .‬فال ب َّد له من‬ ‫تلبية واجب الحضور مهما حالت دونها الصعوبات‪ ،‬والنظام في الحركة‬ ‫القومية الاجتماعية هو واجب مق َّدس يسري على الجميع والجميع فيه‬ ‫متساوون‪ .‬فما على الزعيم إذن إال أن ّ‬ ‫يتدبر ألامر لبلوغ مكان الاجتماع في‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫واملشقات‪ .‬فما ال يباح به‬ ‫املوعد متخطيا كل املوانع ومذلال جميع العقبات‬ ‫ألحد القوميين الاجتماعيين ال يباح به ألي مسؤول أو للزعيم نفسه‪ .‬ويكون‬ ‫املسؤولون جديرين باملسؤولية بقدر قدرتهم على ّ‬ ‫تقدم الصفوف بالقدرة‬ ‫التي ّ‬ ‫تجسد معنى القيادة واملسؤولية القومية الاجتماعية‪.‬‬ ‫‪81‬‬


‫قبل فوات الوقت على موعد انعقاد الاجتماع ينطلق الزعيم بمفرده‬ ‫ً‬ ‫مشيا على ألاقدام إلى مكان الاجتماع بين تدفق مياه الشارع الغارق تحت‬ ‫وطأة السيول الجارفة وبين رشقات ألامطار املتساقطة عليه كالسياط من‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عنان السماء‪ ،‬وحيدا في شوارع بيونس ايرس‪ .‬شاقا طريقه الشاق ة تلبية‬ ‫للواجب دون إبطاء وال تردد‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫وصل الزعيم في الوقت املحدد مبلال باملياه من أعلى رأسه إلى أخمص‬ ‫قدميه وقد أدهش الحضور وصوله بهذه الحال وإصراره على تنفيذ كل ما‬ ‫ّ‬ ‫ودقة‪ّ .‬‬ ‫يعهد إليه به ّ‬ ‫فهب الجميع والدهشة وإلاعجاب قد أخذا‬ ‫بكل أمانة‬ ‫ّ‬ ‫كل مأخذ‪ ،‬إلى إلاحاطة به للتعبير عن تقديرهم ملا ّ‬ ‫منهم ّ‬ ‫مشاق‬ ‫تكبده من‬ ‫الوصول إليهم في هكذا ظرف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عقد الاجتماع في حينه بالرغم من تخلف عدد غير قليل من ألاعضاء‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ظنا منهم ّأنها تشكل عذرا مقبوال لعدم تلبية‬ ‫بسبب سوء ألاحوال الجوية‪.‬‬ ‫الواجب القومي الاجتماعي‪ .‬لدى انتهاء ذلك الاجتماع ّ‬ ‫أصر الزعيم على العودة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فورا وتحت ّ‬ ‫كل الظروف ألن عمال آخر كان بانتظاره تلك الليلة‪.‬‬ ‫إلى منزله‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فتقدم ثالثة من الرفقاء يلحون عليه للسماح لهم بمرافقته ومشاركته في‬ ‫ً‬ ‫تحمل ّ‬ ‫مشقة العودة مشيا على ألاقدام‪.‬‬ ‫في اليوم التالي انتشر خبر ّ‬ ‫تحدي الزعيم لإلعصار وألامطار في ذلك الليل‬ ‫الطويل تلبية للواجب القومي الاجتماعي بعزيمة القائد القدوة‪ .‬ألن أي‬ ‫موقف لإلنسان املسؤول وأي مسلك يبدر منه يقتض ي أن يكون لبنة في‬ ‫مداميك البناء وفي صلب إلاعداد ملعركة املصير ووقفة العز الفاصلة‬ ‫ّ‬ ‫والحاسمة‪ .‬فالزعيم املعل م ال يأبه للصعوبات والنكبات إنما يقتحم السدود‬ ‫ويفجر ألالغام في دروب الصراع وميادين النضال ملجد هذه ألامة وكرامتها‬ ‫القومية الاجتماعية‪ .‬والنهضة ال محالة منتصرة بقدوة القوميين الاجتماعيين‬

‫‪82‬‬


‫في مجابهة ألاخطار ومواجهة مسؤوليات التغيير ملجرى التاريخ في أمة ّ‬ ‫شيدت‬ ‫صروح التاريخ على دعائم متينة من روائع الفن والعلم والفلسفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫كم كان خجل الرفقاء الذين ّ‬ ‫تغيبوا عن ذلك الاجتماع عميقا وكم‬ ‫ّ‬ ‫أقض جوارحهم الشعور بالتقصير والتهاون في تلبية الواجب القومي‬ ‫ً‬ ‫جميعا عبرة ّ‬ ‫تحفزنا لإلقدام والتقدم‬ ‫الاجتماعي وكم هي قدوة الزعيم لنا‬ ‫ومنارة هادية ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشدد عزائمنا لتذليل كل وعورة وتبديد كل ظلمة‪ .‬وما هذه‬ ‫الحادثة سوى واحدة من صور البطولة للزعيم القدوة التي ما زالت حديث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫القوميين الاجتماعيين ومثلهم امللهم كلما راودت أحدهم حالة ضعف أو تلكؤ‬ ‫إزاء تبعات القضية التي تساوي كل وجودنا وقد تعاقدنا على السير بها إلى‬ ‫قمم النصر والتحرر‪.‬‬ ‫لقد رويت لي هذه الحادثة ومثيالتها من دروس القدوة يوم قمت‬ ‫بجولة حزبية إلى أميركا الجنوبية ومنها زيارتي إلى ألارجنتين سنة ‪ 1755‬بينما‬ ‫وقعت الحادثة سنة ‪.1741‬‬ ‫وما ذكريات ألاحداث التي تروي لنا أخبار البطوالت والانتصارات إال‬ ‫مآثر القدوة ّ‬ ‫يقدمها تراث ألامة الحية‪ ،‬ليست هذه الذكريات سوى حافز‬ ‫ّ‬ ‫نجسد روائع‬ ‫الاعتزاز بأمجاد املاض ي والاقتداء بمآثر تلك ألامجاد كي‬ ‫الذكريات حياة أفضل باألعمال وألافعال العظيمة حياة جديرة بأصالة ألامة‬ ‫السورية وعظمة نهضتها القومية الاجتماعي ة التي تشق الطريق لإلنسان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الجديد بالقدوة التي هي خير تراث نجعلها مدماكا صالحا في البناء النهضوي‬ ‫لتكون ذخيرة لألجيال التي لم تولد بعد‪ .‬من حيث تجسيدها لقيم الخير‬ ‫والحق والجمال كما أرساها املعلم من أجل ألامة السورية وكرامتها‪ّ ،‬أمة‬ ‫الحرية والواجب والنظام والقوة‪.‬‬

‫‪82‬‬


‫ً‬ ‫الـم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوت ي ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـظل واح ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدا‬

‫كما يتعرض الجسم ّ‬ ‫لتحوالت عديدة متفاوتة ألاهمية وألاثر في مراحل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تكونه‪ ،‬يتعرض الفكر إلانساني ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتحوالت تتفاوت عمقا وتأثيرا في بناء الكيان‬ ‫ً‬ ‫الفكري واتجاهاته الفعلية‪ .‬من هذه التحوالت ما ّ‬ ‫يمر عابرا دون أي أثر‬ ‫جذري ثابت في تأسيس البنية الفكرية وتكوينها املميز‪ .‬ومنها ما يحدث في‬ ‫ً ّ ً‬ ‫ً‬ ‫أساس الشخصية تغييرا عميق الغور‪ .‬يمكنه أن يجري تبديال كليا في صلب‬ ‫ً‬ ‫نظرة إلانسان إلى الحياة والكون وإلانسان‪ .‬فيواجه هذا إلانسان انقالبا‬ ‫ً‬ ‫شامال في مفاهيمه وفي رؤاه ومشاعره‪ ،‬وبالتالي في مسلكه ومواقفه من‬ ‫الوجود والعالم بأسره‪.‬‬ ‫من التحوالت الفيزيولوجية الجسدية ما يدفع بالجسم إلى النمو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واكتساب القوة والعافية‪ .‬لينطلق متطورا إلى ألافضل‪ .‬ومنها أيضا ما هو‬ ‫تحوالت م ّ‬ ‫رضية تفقد صاحبها قوة املناعة للصمود ومتانة القدرة على‬ ‫الاستمرار السليم في التحمل واملعاناة‪ .‬كذلك تلقى النفس إلانسانية تحوالت‬ ‫سيكولوجية معنوية ترقى بها إلى تكامل الثقة بالنفس والوعي للحقيقة‪ .‬كما‬ ‫‪84‬‬


‫ّ‬ ‫تواجهها تحوالت انهزامية ّ‬ ‫تؤدي بها إلى التسليم لألمر الواقع متخلية عن‬ ‫ّ‬ ‫ليتوصل املرء إلى اعتناق هذه‬ ‫السعي إلى بلوغ الحق وإدراك الحقيقة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التحوالت املرضية قضية‪ .‬كان يأباها باألمس ويرفض اتخاذها مثاال ونبراسا‬ ‫لسيره وسيرته‪ .‬لجميع هذه التحوالت أسباب متعددة وعوامل متباينة تسهم‬ ‫ّ‬ ‫ومحرضات البيئة‬ ‫في توليدها وإطالقها متفاعلة مع خصائص الشخصية‬ ‫الاجتماعية النفسية وسواها من معطيات‪ .‬لوال الاستعداد الطبيعي لتقبل‬ ‫إلانسان التحوالت املمكنة والاقتناع بها العتناقها‪ ،‬ملا كان التطور خاصة‬ ‫ّ‬ ‫مسوغ وأي جدوى‪ .‬وليس‬ ‫أساسية للكائنات وملا كان للحوار إلانساني أي‬ ‫ً‬ ‫أجدى من الحوار وأعمق شأنا في بناء الحضارات والكشف عن معطياتها لو‬ ‫ّ‬ ‫توفر لدى املتحاورين صفاء الفطرة وصفاء الشخصية والاستقالل النفس ي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وتناول الحوار موضوعا مصيريا يعالج شؤون الحق والخير والجمال إزاء‬ ‫حقيقة الوجود والوجود إلانساني الحقيقي‪.‬‬ ‫كثيرون هم املواطنون الذين دخلوا صفوف الحزب السوري القومي‬ ‫ً‬ ‫الاجتماعي‪ .‬مكثوا بيننا ردحا من حياتهم‪ .‬كأعضاء ومسؤولين إداريين لفترة‬ ‫ً‬ ‫غير قصيرة‪ .‬لكنهم لم يصبحوا فعال قوميين اجتماعيين ولم تنفتح عقولهم‬ ‫ً ً‬ ‫ونفوسهم العتناق الحزب إيمانا كليا وإرادة شاملة كيانهم ووجودهم‪ .‬لذلك‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما لبثوا أن تخلوا عن قضية الحزب أو هي تخلت عنهم‪ .‬ال فرق بين من حنث‬ ‫بقسمه وانهار من تلقاء نفسه إلى جانب الطريق دون مراسيم فصل وطرد‬ ‫ً‬ ‫وبين من كان سقوطه مقرونا بمراسيم التأبين‪ .‬هناك من أراد أن يكون‬ ‫لسقوطه دوي قصف ألاغصان اليابسة التي تنسلخ عن جذعها لتنطح‬ ‫ألارض بانحدارها إلى أديم التربة‪ .‬وهناك من يتساقطون بصمت وهدوء‬ ‫كتناثر أور اق الخريف التي تنفصل عن أغصانها وجذوعها فال تجعل من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مدويا ّ‬ ‫تتلقفه ألالسن وألاقالم‪ .‬لكن مهما ّ‬ ‫تنوعت ألاسباب‬ ‫سقوطها حدثا‬ ‫ً‬ ‫واملظاهر املأسوية فاملوت يظل واحدا‪.‬‬ ‫‪85‬‬


‫غير أن فئة من جماعة الساقطين على جانب الطريق قد حاولت أن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تحول سقوطها العادي في عالم ألاموات بين طالبي املوت لتجعله ضربا من‬ ‫قضية خالف فكري أو تباين عقدي فلسفي‪ .‬بين هذه الفئة وبين الحزب‬ ‫سواء كان ذلك أيام الزعيم مثل الذين انسحبوا من الحزب ألنه حركة ضد‬ ‫لبنان والكيان اللبناني أو ضد العرب والعروبة أو ضد الدين وتعاليم السماء‬ ‫وأنبيائها‪ .‬أو ما حدث مثيله منذ استشهاد الزعيم لآلن وخالل مراحل عدة‪.‬‬ ‫ليس ألحد من هؤالء مسألة فكرية واحدة تستوقف دارس ي وضعهم‬ ‫ً‬ ‫وموضوعهم في الحزب‪ .‬أنهم قد ألبسوا زورا انحرافاتهم املسلكية وفوض ى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تصرفاتهم وأخالقهم ثوبا مصطنعا من أشكال ال معنى لها وال طائل سوى‬ ‫إلاغراق في النزعة الفردية ّ‬ ‫املدمرة‪ .‬وما غرضهم إال إلامعان في تغطية مسلكهم‬ ‫الال نظامي والال أخالقي بوجوه عديدة من التستر والانحراف‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫شذ عن هؤالء ّ‬ ‫املدعين بالعقل والفكر‪ ،‬رفيق سابق أو أمين سابق‬ ‫وقد‬ ‫واحد هو الدكتور فخري معلوف‪ .‬هذا الرجل من أقدم أعضاء الحزب‬ ‫ً‬ ‫وأوائلهم منذ تأسيس الحزب ومن أعرقهم بروزا في إيمانه العميق ونشاطه‬ ‫الفكري والعملي الفعال‪ .‬وقد عرف ا سمه بين ألاعضاء قاطبة‪ ،‬قبل أن‬ ‫يتعرفوا إلى شخصه كأحد رجاالت النهضة العاملين بعمق وصمت ّ‬ ‫وجدية إلى‬ ‫جانب الزعيم‪ ،‬في شتى الحقول وألابحاث‪ .‬وقد ذاعت شهرة الدكتور معلوف‬ ‫بالنسبة إلى الد اسة املوسعة التي وضعها لكتاب نشوء ألامم وكانت ّ‬ ‫معدة‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫للطبع ملحقة بالكتاب‪ .‬لوال ظروف ألاعمال الحزبية وتراكم ألاحداث الشاقة‬ ‫التي حالت دون تعميم الفائدة منها‪.‬‬ ‫هذا الرجل املتمرس بالعقيدة والنظام‪ ،‬الذي حاز على رتبة ألامانة منذ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تشعباته‬ ‫مطلع حياته الحزبية املبكرة‪ ،‬أخذ يدرس الالهوت ويتوغل في‬ ‫ومتاهاته املاورائية‪ .‬حتى نال في هذا الفرع شهادة الدكتوراه‪ .‬وهو ال يزال‬ ‫ّ ً‬ ‫مدرسا لالهوت في إحدى جامعات أميركانيا‪ .‬وقد راح يشعر في صميم تفكيره‬ ‫‪81‬‬


‫ّ‬ ‫وتأمالته أمام الحياة والوجود والكون بالتحوالت تفعل فعلها الجذري في‬ ‫تحويل مفاهيمه وتبديل نظرته القومية الاجتماعية الكلية الشاملة إلى‬ ‫الحياة والكون وإلانسان والفن‪ .‬فإذا به ينسلخ عن العقلية ألاخالقية‬ ‫الجديدة التي ت ّ‬ ‫قدمها النهضة لألمة السورية‪ ،‬وملصالحها ومصيرها‪ .‬ويرى أنه‬ ‫ً‬ ‫قد فقد نهائيا إيمانه السوري القومي الاجتماعي بفعل سطوة التحوالت‬ ‫املتسلطة على تفكيره ّ‬ ‫وتأمالته وسلوكه‪ .‬فسارع بدون تمويه ودون مواربة إلى‬ ‫ّ‬ ‫الاتصال بالزعيم إبان الحرب يوم كان في أميركا ليطلعه بدقة وصفاء عما آل‬ ‫إليه موقفه من عقيدة الحزب وأهدافه‪ .‬وقد أفاض برسائله مع الزعيم‬ ‫بتبيان جميع العوامل وألاسباب التي دعته ليكون خارج معطيات العقيدة‬ ‫ًّ‬ ‫لحا‪ ،‬باالستناد‬ ‫القومية الاجتماعية ومفاهيمها كلها‪ .‬وقد طلب إلى الزعيم م‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إلى أنه لم يعد قوميا اجتماعيا‪ ،‬كي يحله من قسمه حتى يكون منسجما‬ ‫حقيقة مع شرفه وحقيقته ومعتقده‪ .‬وقد تبادل الكثير من الرسائل مع‬ ‫الزعيم الذي ّ‬ ‫ظل يدعوه تارة الرفيق السابق وتارة ألامين السابق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وسمو الصراحة البالغة أقص ى‬ ‫ّإن هذه الحالة من صفاء الوجدانية‬ ‫النبل وألامانة للحق والحقيقة التي سجلها الرفيق السابق فخري معلوف هي‬ ‫فريدة من نوعها في الحزب بالنظر إلى مستواها من ألاصالة السورية وما‬ ‫ّ‬ ‫تعبر عنه هذه ألاصالة من مناقب الحق والخير والجمال‪ .‬كم يؤملنا‪ ،‬نحن‬ ‫القوميين الاجتماعيين‪ ،‬أن يغرق أحد ّ‬ ‫ّ‬ ‫خضم‬ ‫منا أو من مواطنينا في‬ ‫ً‬ ‫املاورائيات التي تفقدنا ألارض دون أن تحقق لنا ربحا في السماء‪ .‬ألن الدين‬ ‫هو لإلنسان لخيره ّ‬ ‫وعزه وصيانته من ّ‬ ‫كل سقوط والتواء‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫هل من الض ـ ـ ـ ـروري أن يعـ ـ ـ ـ ـ ـ ـود الزع ـ ـ ـ ـ ـ ـيم‬ ‫إلى الوط ـ ـ ـ ـ ـن؟‬

‫ّ‬ ‫لكل مرحلة من حياة ألامة والحزب بطوالتها ومواقفها القدوة في‬ ‫ّ‬ ‫الصمود والعطاء والبناء كما لها‪ ،‬على ما يبدو معطالتها ومخازيها يسجلها‬ ‫ّ‬ ‫«أفراد تالعبت بهم املفاسد ّ‬ ‫لكنهم ال يستطيعون أن يصموا املجتمع كله‬ ‫باملفاسد التي في نفوسهم»‪ .‬ألن الشعب الحي ّ‬ ‫يحول حتى مآسيه إلى حوافز‬ ‫شديدة الفاعلية ّ‬ ‫تحرضه إلى مزيد من ألاعمال الكبيرة وألافعال الجبارة‪.‬‬ ‫قبيل عودة الزعيم من املغترب عقد املجلس ألاعلى جلسة عامة ّ‬ ‫ضمت‬ ‫أعضاء مجلس العمد للتداول بمسألة عودة الزعيم من جهة اتصاالت‬ ‫ا لحزب بالسلطة اللبنانية وحملها على وضع حد ملماطلتها في إعطاء الزعيم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سمة العودة ومن جهة أخرى إعداد صفوف الحزب نفسيا وفكريا ليوم‬ ‫استقبال الزعيم‪ ،‬ذلك اليوم التاريخي في حياة ألامة والنهضة‪ .‬بادر املجلس‬ ‫ألاعلى لالستماع إلى ما قام به أعضاء املكتب السياس ي من اتصاالت‬ ‫بالحكومة اللبنانية بخصوص عودة الزعيم والعراقيل املفتعلة التي وضعتها‬ ‫دولة لبنان في هذا السبيل‪ .‬فيما كان رئيس املكتب السياس ي آنذاك نعمة‬ ‫‪88‬‬


‫تابت يطلع املجلس على ما ّ‬ ‫تم باألمر استأذن فايز صائغ وهو عميد لإلذاعة‬ ‫وعميد للثقافة للكالم في مسألة تتعلق بالنظام فأعطي حق الكالم ثم قال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫«قبل ّ‬ ‫أي بحث حول إعداد عودة الزعيم سياسيا وحزبيا أرى أن يبحث‬ ‫املجلس املوقر إذا كان من الضروري أن يعود الزعيم أم أن بقاءه في املهجر‬ ‫هو ألافضل»‪ .‬ما كاد فايز صائغ يتلفظ بهذه العبارات حتى اضطرب ّ‬ ‫جو‬ ‫ّ‬ ‫الجلسة وساده التوتر والاستهجان‪ .‬عميد إذاعة وثقافة يطلب من املجلس‬ ‫ألاعلى ومجلس العمد في الحزب أن يطرحا للبحث موضوع إبعاد الزعيم عن‬ ‫الوطن وتقرير نفيه خارج الوطن وهو يعتبر هذا ألامر بل التآمر نقطة في نظام‬ ‫الحزب‪ .‬ما إن ملس حضرة العميد ردود الفعل العنيفة من قبل أعضاء‬ ‫املجلسين إ اء مطلبه وواجه ّ‬ ‫حدة الاستنكار لسلوكه الال قومي اجتماعي حتى‬ ‫ز‬ ‫سارع نعمة تابت‪ ،‬رئيس املجلس ألاعلى‪ ،‬إلى إيقاف الجلسة الرسمية وراح‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫يلطف من ّ‬ ‫حدة الجو مجتهدا في تفسير ما فاه به فايز صائغ وفي تأويل‬ ‫ّ‬ ‫عله يجعل من صفاقة املؤامرة الفاضحة ّ‬ ‫مجرد هفوة في التعبير‬ ‫الغرض منه‬ ‫ّ‬ ‫عن وجهة نظر سليمة وعادية ليس إال ألن أعضاء املجلس لم يمهلوه‬ ‫لإلفصاح عن رأيه بوضوح‪ .‬فكان إلابهام‪ .‬ولنعمه تابت مقدرة مشهودة في‬ ‫التفنن بالتخريج والتأويل لأللفاظ والنوايا هي مقدرة بالغة اللباقة واللياقة‪.‬‬ ‫غير أن صراحة فايز صائغ من جهة وانهماك نعمة تابت لتدارك خلفية هذه‬ ‫الصراحة املوصوفة من جهة ثانية كشف الستار عن مسرحية مشبوهة‬ ‫وعن كيفية إخراجها وتقسيم أدوارها بين العبين محترفين وغير بارعين‪.‬‬ ‫ثم أعيدت الجلسة إلى الانعقاد وتوبع البحث ذاته في ضرورة الضغط‬ ‫على السلطة الستجابة طلب الحزب عودة الزعيم إلى لبنان‪ ،‬خاصة‪ ،‬وأنها‬ ‫ليس لديها أي ّ‬ ‫مبر ر قانوني للتأجيل والتسويف في تسهيل إعطاء سمة‬ ‫الدخول للزعيم‪ .‬وانتقل البحث إلى توكيد إعداد القوميين الاجتماعيين ليوم‬ ‫استقبال الزعيم بعد أن ّ‬ ‫يتم تحديده‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫ّ‬ ‫منذ هذه الجلسة للمجلس ألاعلى أخذت تتكش ف معالم املؤامرة‬ ‫الرامية إلى إبقاء الزعيم في املغترب على ألاقل إلى ما بعد انتخابات الخامس‬ ‫والعشرين من أيار ‪ 1749‬الشهيرة حتى ذلك الحين بتفوقها بالتزوير وإلغائها‬ ‫العملي لحق الناخب املشروع في اختيار ممثله للمجلس النيابي‪ ،‬وتحاك‬ ‫مؤامرة السلطة مع نعمة تابت ومن كان يدور في فلكه وكان نعمة تابت قد‬ ‫أعد نفسه للترشيح عن املقعد املاروني في املتن الجنوبي وذلك بتغيير هويته‬ ‫الطائفية من إنجيلي إلى ماروني‪.‬‬ ‫وقد بلغ الحزب تلك ألاثناء الحديث املأثور الذي دار بين نعمة تابت‬ ‫ورياض الصلح رئيس الوزراء بصدد هذه املؤامرة‪ .‬وهو قول الصلح‪« :‬إسمع يا‬ ‫نعمة ما في لزوم يرجع أنطون سعاده خ ّل ْ‬ ‫وه بعيد ْ‬ ‫أريح إلنا وأريح إلكم»‪ .‬هكذا‬ ‫عمل الاثنان متكافلين متضامني ن لتأخير عودة الزعيم إلى الوطن ما أمكنهما‬ ‫ذلك ريثما تستكمل التدابير الستغالل قوى الحزب في معركة الانتخابات‬ ‫النيابية ملصلحة الطرفين املتعاونين على الزعيم وعلى الحزب‪ .‬أحيط الزعيم‬ ‫ً‬ ‫علما باألمر ور ْ‬ ‫فعت إليه التقارير بشأنه‪ .‬فكان ال ّبد أن يحضر بأقص ى سرعة‬ ‫ّ‬ ‫وبأية طريقة لوضع الحد الحاسم لتمادي املتآمرين على أهداف الحزب‬ ‫وأغراضه القومية العليا‪.‬‬ ‫تمكن الزعيم في بيونس ايرس ‪ -‬ألارجنتين مع رفقاء املغترب من انتزاع‬ ‫سمة العودة إلى لبنان من السفير اللبناني هناك بعد مماطالت كثيرة حاول‬ ‫ً‬ ‫بها السفير ّ‬ ‫التهرب من مواجهة مسؤولياته القانونية عمال بتوجيه مغرض من‬ ‫دولته‪.‬‬ ‫بينما كان مركز الحزب يالحق نعمة تابت ملتابعة اتصاالته بالدولة من‬ ‫ً‬ ‫أجل عودة الزعيم‪ ،‬فجأة وفي غمرة القلق اتصل الزعيم هاتفيا ببيروت من‬ ‫ً‬ ‫فصفق من ّ‬ ‫القاهرة ليعلن عن موعد قدومه إلى بيروت‪ّ .‬‬ ‫صفق مرحا للبشرى‬

‫‪71‬‬


‫العظيمة بعودة الروح إلى الحزب‪ ،‬عودة القيادة القدوة إلى ممارسة‬ ‫مسؤولياتها الفعلية على رأس الحزب ليقبض على ناصية الشؤون الحزبية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ويوجهها إلى املرس ى السليم بالعطاء والبناء والقدوة الفذة البطولية‪ .‬كذلك‬ ‫ارتعدت فرائص املنحرفين العاملين‪ ،‬منذ أن ّ‬ ‫غررت بهم السياسة على‬ ‫تحويل الحزب وقضية ألامة إلى ّ‬ ‫مطية ملنافعهم الخصوصية وأغراضهم‬ ‫ألانانية‪.‬‬ ‫بعودة الزعيم في الثاني من آذار ‪ 1749‬كانت العودة الجبارة إلى ساحة‬ ‫الجهاد ملصلحة ألامة السورية وقضيتها القومية الاجتماعية فأخذت ألامور‬ ‫ً‬ ‫تستقيم تباعا على محورها وتوضع إلامكانيات والطاقات الحزبية في مكانها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومجالها لتكون دائما وأبدا مصلحة سورية فوق كل مصلحة بفعل العقلية‬ ‫ألاخالقية ّ‬ ‫البن اءة التي تسحق عبث ألافراد املتطاولين على مصلحة ألامة‬ ‫والضالعين في إلاساءة إلى كرامتها والنيل من سالمتها وسيادتها لتقيم حقيقة‬ ‫النهضة على إلايمان بأصالة ألامة السورية وتجسيدها باألعمال وألافعال‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫الانض ـ ـباط ال يح ـ ـ ـ ـول دون إبداء الع ـ ـ ـواطف‬ ‫السامية واملشاعر النبـ ـ ـيلة‬ ‫سعاده‬

‫كان الثاني من آذار سنة ‪ 1749‬يوم عودة الزعيم من مغتربه القسري‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الذي دام تسع سنوات‪ ،‬حدثا تاريخيا عظيما في حياة الحزب وألامة‪ .‬كان‬ ‫ّ‬ ‫ذلك اليوم والدة انطالقة فذة في نفوس القوميين الاجتماعيين‪ ،‬وبعث‬ ‫النشاط والفاعلية في صفوفهم‪ .‬كان يوم العودة الحقيقية إلى ساحة الجهاد‬ ‫كما أعلنها الزعيم في ختام خطابه لدى وصوله‪ ،‬بعد سنين مريرة‪ ،‬قضاها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والتردد حينا‪ ،‬وحينا آخر يشكو‬ ‫الحزب‪ ،‬إبان غياب الزعيم‪ ،‬يعاني الركود‬ ‫التشكيك من قيادته والقلق على املصير‪.‬‬ ‫احتشدت جموع القوميين الاجتماعيين الوافدة من مختلف أرجاء‬ ‫الوطن السوري في مطار بيروت الدولي الستقبال الزعيم‪ ،‬ترافقهم جموع من‬ ‫أصدقاء الحزب ّ‬ ‫ومؤيديه للمشاركة في الاحتفال الكبير بيوم العودة‪ .‬كانت‬ ‫‪72‬‬


‫ً‬ ‫الصفوف املنظمة والزوابع الخفاقة وألاناشيد القومية الاجتماعية‪ ،‬فضال‬ ‫عن الهتافات الحزبية ّ‬ ‫تنم كلها عن عظم الفرحة التاريخية بجالل الحدث‬ ‫الفريد‪ ،‬بعد حدث والدة الزعيم وحدث تأسيس الحزب السوري القومي‬ ‫الاجتماعي‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫متوجها إلى باحة املطار الكبرى‪،‬‬ ‫ترجل الزعيم من الطائرة وغادرها‬ ‫فعلت الهتافات ّ‬ ‫تشق عنان السماء وتتجاوب أصداؤها في أرجاء الفضاء‪،‬‬ ‫معلنة سالمة الوصول امليمون‪ .‬أحاطت الصفوف املتر ّ‬ ‫اصة بالزعيم إحاطة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫السوار باملعصم‪ ،‬وكان العناق طويال ومؤثرا بين الزعيم والعديد من الرفقاء‬ ‫واملسؤولين املوجودين على مقربة منه‪ ،‬دون أن يتاح للجميع التقدم إلى‬ ‫الزعيم للسالم عليه‪ .‬وملا تزايد التسابق الحار ملعانقة الزعيم ومصافحته‬ ‫حاول أحد املسؤولين إلى جانب الزعيم أن يخفف من حوله وطأة ذلك‬ ‫ً‬ ‫التزاحم اللجب تأمينا لراحة الزعيم‪ .‬فمنعه الزعيم في الحال عن الحؤول‬ ‫دون وصول القوميين الاجتماعيين إليه وتحقيق رغبتهم في السالم عليه‬ ‫مصافحين أو معانقين أو التوجه إليه بأي عبارة تفصح عن عميق ابتهاجهم‬ ‫العظيم بلقائه وقال للرفيق املسؤول آنذاك‪:‬‬ ‫دع القوميين الاجتماعيين يقبلون إلى الزعيم بعفويتهم الصادقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وليعبروا له عن فرحتهم بم ْقدمه كما يحلو لهم بهذه املناسبة‪ ،‬وبعد أن طال‬ ‫ابتعادهم عنه كل هذه املدة الطويلة الشاقة‪ .‬فاالنضباط ال يمكن أن يحول‬ ‫دون إبداء املرء أسمى العواطف وأنبل املشاعر القومية التي ّ‬ ‫تعبر عن عميق‬ ‫إيمانه بقضيته وبزعيمه‪.‬‬ ‫في خطاب الزعيم يوم وصوله إلى الوطن الذي توجه به إلى ألامة وإلى‬ ‫رفقائه في النضال القومي الاجتماعي حانت منه التفاتة عذبة ورائعة إلى‬ ‫ً‬ ‫رغبته في مصافحة كل منهم والتعرف إليه شخصيا‪:‬‬

‫‪72‬‬


‫«أيها القوميون الاجتماعيون‬ ‫ً‬ ‫كال منكم‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫وأتعرف‬ ‫كل واحد بمفرده‬ ‫كنت أود أن يتسع الوقت ألصافح‬ ‫إليه ولكن الوقت ّ‬ ‫ضيق‪ .‬وهذا الوقت ال يكفي‪ ،‬ولكن عزيمتي اليوم كما كانت‬ ‫في املاض ي‪ ،‬أن أقصد مناطقكم وأزوركم فيها»‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫»ال تنتصر النهضة باعتمادها التس ـ ـ ـ ـ ـ ـوية‬ ‫مع الرج ـ ـ ـ ـ ـعة»‬ ‫سعاده‬

‫حشد حافل يضم جموع القوميين الاجتماعيين من جميع ألاقطار‬ ‫ً‬ ‫صفوفا متر ّ‬ ‫السورية وألاصدقاء واملؤيدين ينتظمون‬ ‫اصة في باحة مطار‬ ‫بيروت الدولي‪ ،‬صبيحة الثاني من آذار ‪ 1749‬للترحيب بعودة الزعيم من‬ ‫املغترب بعد غياب قسري دام تسع سنوات ّ‬ ‫ونيف‪.‬‬ ‫حشد ينم عن إيمان الشعب بكل فئاته بالقضية السورية القومية‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬وعن عميق استعداده لتلبية دعوتها ساعة تقتضيه مصلحة‬ ‫ألامة والوطن‪ .‬هذا الحضور املحتشد يوم استقبال الزعيم أبلغ تعبير صادق‬ ‫ّ‬ ‫عن فعل النهضة في وعي الشعب ونفسيته ّ‬ ‫ّ‬ ‫التحرر والتخلص من‬ ‫التواقة إلى‬ ‫أعدائه‪ ،‬يهود الداخل‪ ،‬ناهيك عن يهود الخارج وحلفائهم املتآمرين على‬ ‫سالمة ألامة السورية وحقها في الحياة والحرية‪ ،‬حشد يفصح عن مدى‬ ‫ّ‬ ‫تأهب الشعب للذود عن كرامته وسيادته‪.‬‬

‫‪75‬‬


‫ً‬ ‫والحكومة اللبنانية‪ ،‬أيضا‪ ،‬كانت هناك مع املستقبلين‪ ،‬بآذانها املرهفة‬ ‫السمع وعيونها املنتشرة هنا وهناك في أرجاء املطار‪ ،‬بين الصفوف النظامية‬ ‫وحمية‪ .‬مشاركة الحكومة في الحشد‪ ،‬كانت مشوبة ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتربص‬ ‫املتدفقة حيوية‬ ‫ّ‬ ‫القلق والترقب الحذر‪.‬‬ ‫حضورها املتواري عن ألانظار كان يسعى خلسة إليجاد ما يبرر لها‬ ‫ّ‬ ‫امللتف بإيمان وعزيمة صادقة حول ّ‬ ‫قضيته‬ ‫التدخل لعرقلة مسيرة الشعب‬ ‫ل ّ‬ ‫بقيادة الزعيم‪ ،‬وإلزاحة الكابوس حو تحكم السلطة بإرادة الشعب ومصيره‬ ‫ّ‬ ‫من أجل ضمان منافع املتحكمين أنفسهم‪ .‬فكان على الحكومة‪ ،‬إذن‪ ،‬أن‬ ‫تثبت وجودها لتتأكد هي بنفسها من جدوى وجودها وحقيقة ّ‬ ‫قوتها كسلطة‬ ‫تفهم الحكم مجرد ممارسة التسلط بكل الوسائل وألاساليب‪ .‬وكان همها يوم‬ ‫ً‬ ‫الاستقبال أن تجد سبيال إلى استفزاز الحشد الواثق من نفسه ومن وعيه‬ ‫ً‬ ‫حقيقة مقاصده البناءة‪ ،‬أن تفتعل حادثا يشيع الفوض ى بين املستقبلين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تسديدا ملخاوفها من يقظة الشعب وعالجا لقلقها املوجع على منافع أفرادها‬ ‫الخصوصية من جراء عودة الزعيم قائد الجهاد‪ ،‬العودة إلى النظام‬ ‫والنضال‪ ،‬إلى القول الفصل واملوقف الفاصل إزاء املفاسد واملخازي التي‬ ‫تتولى السلطة عينها تغذيتها وتع ُّهدها بعقليتها البالية الرجعية‪ ،‬لتقبض على‬ ‫ّ‬ ‫كل نبضة حياة وومضة اعتزام يتألق لها الشعب الحي في طريق نموه وسياق‬ ‫نهوضه ألاصيل إلى حياة الحرية والواجب والنظام والقوة‪ .‬هذه السلطة التي‬ ‫ّ‬ ‫كانت ّ‬ ‫تتربص للزعيم غدت تعلل نفسها بالنجاح بعد أن ضمنت موالاة نعمة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ثابت ملخططها التآمري موهما إياها أن تخليه عن الزعيم هو انفضاض‬ ‫جميع القوميين الاجتماعيين من حول الزعيم والسير بقيادته هو في التعاون‬ ‫ّ‬ ‫املخصصة للمواقف «املشرقة البطولية»‪.‬‬ ‫مع السلطة والتفاهم على الغنائم‬ ‫وبالفعل قد باشر ثابت بتغيير طائفة مولده‪ ،‬إنجيلي بروتستانتي‪ ،‬إلى ماروني‪،‬‬ ‫ً‬ ‫استعدادا لخوض معركة الانتخابات النيابية التي أصبحت على ألابواب‬ ‫‪71‬‬


‫وأخذت تشغل الناس‪ ،‬وتستأثر باهتمامهم املتزايد‪ ،‬وكانت انتخابات الخامس‬ ‫والعشرين من أيار ‪ 1749‬الشهيرة في ملف التزوير واملشهود لها بممارسة‬ ‫ّ‬ ‫حرية التزوير والتالعب ألاثيم بإرادة الشعب ونبل تطلعه إلى مستقبل‬ ‫أفضل‪ ،‬خاصة في مطلع عهد الاستقالل‪ .‬أيكون الاستقالل إطالق يد السلطة‬ ‫ً‬ ‫بالتهام مقدرات البالد ووقوع الشعب في قبضة يدها مستسلما ليسهل‬ ‫استثماره والتحكم ف يه ما دامت الانتخابات قد حولت بإشراف املتحكمين‬ ‫وتوجيههم إلى موسم إثارة ألاحقاد الراقدة‪ ،‬وبعث الفتن الراكدة‪ ،‬وإلهاب‬ ‫ضغائن العصبيات الجزئية الحاقدة واملهددة سالمة ألامة وتطور الشعب‬ ‫املؤهل بطبيعة أصالته للثقة بالحق والركون إلى الخير والفضيلة‪ ،‬والتي‬ ‫عطلتها سياسة الحكام في معالجته للشؤون كافة‪ .‬هل كان الاستقالل يقض ي‬ ‫في ذلك الزمن‪ ،‬باستنزاف طاقات الشعب ليظل تحت سوط الجالدين من‬ ‫أبناء أمته‪ ،‬وفريسة الجزارين من مواطنيه باسم الاستقالل إياه والسيادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعينها‪ .‬ما معنى الاستقالل والسيادة إذا صارا سالحا خطيرا لقهر إرادة‬ ‫الش عب‪ ،‬وسلبه كرامته‪ ،‬وحرمانه أبسط حقوقه ألاولية وحاجاته البدائية؟‬ ‫لم يمض اليوم الثالث على عودة الزعيم إلى الوطن‪ ،‬حتى بادرت‬ ‫ً‬ ‫الحكومة إلى الترحيب به‪ ،‬ردا على احتفاء الشعب بقائد نهضته‪ ،‬وعلى والئه‬ ‫لقضية كرامته واعتزازه بأصالته املتجسدة في الحركة القومية الاجتماعية‪.‬‬ ‫وويل للحكومات املستهترة بوعي الشعب لحقيقة وجوده وكرامته‪ ،‬إذا انتفض‬ ‫ً‬ ‫في وجهها رافضا الخنوع والاستسالم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إحضار للزعيم أمام املحقق ألداء الحساب عما‬ ‫وجاء الترحيب مذكرة‬ ‫ٍّ‬ ‫ورد في خطابه لدى وصوله إلى املطار مما ّ‬ ‫يخل بأمن البالد ويس يء إلى‬ ‫ّ ً‬ ‫مؤمنا والسالمة مضمونة‪ .‬بينما ترك للحزب‬ ‫السالمة العامة‪ ،‬كأن ألامن كان‬ ‫ّ‬ ‫مجال متابعة نشاطه كاملعتاد دون أن تشمله نعم املذكرة‪.‬‬

‫‪79‬‬


‫ف تحت املعركة بين الحزب والحكومة اللبنانية‪ ،‬وكان على الحزب أن‬ ‫يختار أسلوب الدفاع عن نفسه‪ .‬فإ ّما تلبية مذكرة إلاحضار ومثول الزعيم‬ ‫أمام املحقق‪ ،‬ثم انتظار ما سيكون‪ ،‬أو رفضها بصورة قاطعة وإعالن‬ ‫الحكومة عاصية لحق الشعب بتجاوزها حقوقها املشروعة‪ ،‬والعمل على‬ ‫إخضاعها إلى حرمة القانون وإلزامها بمسؤولياتها الشرعية إزاء الشعب‬ ‫ً‬ ‫وحقه في الحرية التي بدونها تغدو إعادة السلطة إلى الصواب والعدالة حقا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أساسيا من حقوق الشعب الواعي‪ ،‬بل واجبا فعليا تمليه عليه كرامته‬ ‫وسيادته‪ ،‬وضرورة مصيرية‪ ،‬أو أن الحزب يكتفي برفض الانصياع إلى كيد‬ ‫الحكومة والرضوخ إلى اعتدائها على حقه في ممارسة أولى بديهيات حرية‬ ‫القول وإبداء الرأي وحرية املعتقد والانتقاد املوضوعي البناء‪ ،‬على أن يترك‬ ‫لها مسؤولية اتخاذ الخطوة التالية ّ‬ ‫ترد بها على ّ‬ ‫تمرد الحزب على عصيانها‬ ‫إرادة الشعب وحقه القومي في تقرير مصيره والدفاع عن وجوده‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫متفقدا‬ ‫انتقل الزعيم إلى زيارة الفروع الحزبية في مختلف أرجاء لبنان‪،‬‬

‫ّ‬ ‫قوات الحزب وإمكانياته العملية والنفسية ملواجهة مسؤولياته لدى‬ ‫ّ ً‬ ‫ومتخذا التدابير الرادعة للحيلولة دون محاولة السلطة تنفيذ‬ ‫الاقتضاء‪،‬‬ ‫أغراضها بحق الحزب‪.‬‬

‫ولدى تداول الزعيم مع الدوائر املركزية بموضوع املذكرة الصادرة عن‬ ‫ّ‬ ‫يضم ّ‬ ‫تقرر عقد مؤتمر ّ‬ ‫الحكومة‪ّ ،‬‬ ‫املنفذين العامين ونظار التدريب في الكيان‬ ‫اللبناني‪ ،‬كمرحلة أولى بغية الاطالع على وجهات نظر قادة الوحدات في‬ ‫ّ‬ ‫املناطق بشأن املشكلة الناشئة بين الحزب والسلطة اللبنانية‪ ،‬والتأكد من‬ ‫مدى الاستعداد الفعلي لتلبية ما ّيتخذ من إجراء بهذا الصدد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عقد املؤتمر املقرر في الثاني والعشرين من آذار‪ ،‬بعد عشرين يوما من‬ ‫عودة الزعيم‪ ،‬في مركز الحزب‪ ،‬بحضور أعضاء مجلس العمد‪ .‬وقد ّ‬ ‫توجه‬

‫‪78‬‬


‫الزعيم إلى املؤتمرين برسالة‪ ،‬عرفت برسالة الثاني والعشرين من آذار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عارضا فيها ّ‬ ‫أهم خطوط املشكلة مع حكومة لبنان املستقل وطالبا موافاته‬ ‫ً‬ ‫برأي كل مسؤول من املؤتمرين في الحادثة املطروحة وما يراه مناسبا من‬ ‫ّ‬ ‫حلول لها بوضوح ودقة‪ .‬حتى يتاح للزعيم الوقوف على رأي كل من املؤتمرين‬ ‫والكشف عن مستوى العقلية ألاخالقية الجديدة التي يعالج بها املسؤولون‬ ‫شؤون الحزب الهامة‪ ،‬وعما وصلت إليه الذهنية القومية الاجتماعية في‬ ‫ّ‬ ‫تحمل املسؤوليات‪ ،‬منذ غياب الزعيم القسري عن مركز الزعامة الفعلية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّإبان الحرب العاملية الثانية‪ ،‬خالل سنوات شاقة مليئة باألحداث الجسام‬ ‫واملفاجآت املصيرية البالغة الخطورة‪ .‬وقد انتهى املؤتمر إلى اتخاذ قرار‬ ‫ّ‬ ‫املتجنية على الحزب‪ ،‬وعدم‬ ‫باإلجماع يقض ي برفض تنفيذ مذكرة الحكومة‬ ‫تمكينها من بلوغ مقصدها‪ .‬ثم رفع ألامر إلى الزعيم مع ضبط وقائع املؤتمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بعد انقضاء املدة القانونية لتلبية الزعيم مذكرة إلاحضار أردفتها‬ ‫ّ‬ ‫بمذكرة جلب وأوكلت إلى قوى ألامن ّ‬ ‫مهمة تنفيذها باللجوء إلى‬ ‫السلطة‬ ‫مداهمة ألاماكن و القرى التي يشتبه بوجود الزعيم فيها‪ ،‬لكن جميع‬ ‫املحاوالت باءت بالفشل أمام مؤازرة الشعب لقوى النهضة والتفافه حول‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الزعيم‪ ،‬حرصا على سالمته وراحته‪ ،‬وتأييدا النتصاره على طغمة الطغيان‪.‬‬ ‫إلى أن اضطرت السلطة عينها إلى التراجع عن موقفها وإلغاء تدابيرها الرامية‬ ‫إلى الاعتداء على أمن البالد وحرية الشعب‪ ،‬وكان ذلك بعد مض ي سبعة‬ ‫أشهر وسبعة أيام على تواصل املالحقات ومداهمات املنازل واملؤسسات‬ ‫ّ‬ ‫والتحرر من العبودية‪.‬‬ ‫املشبوهة بارتكاب إثم الوعي‬ ‫في تلك ألاثناء صدر قرار بفصل ّ‬ ‫كل من نعمه ثابت‪ ،‬مأمون إياس وأسد‬ ‫ألاشقر عن جسم الحزب ألجل غير محدد‪ ،‬بسبب ّ‬ ‫تمرد نعمة ومأمون على‬ ‫أوامر الحزب وقيامهما باتصاالت سياسية فردية‪ ،‬دون اطالع الحزب‪ ،‬وألن‬ ‫ألامين أسد ألاشقر قد تمادى في إثارة التشكيك بخطة الزعيم إزاء الحكومة‬ ‫‪77‬‬


‫اللبنانية‪ ،‬واعتراضه على صالحيات الزعيم الدستورية التي لم تعد بنظره‬ ‫صالحة لتلك املرحلة من حياة الحزب وألامة وال ّبد من إعادة النظر فيها‪.‬‬ ‫وتال قرار الفصل قرار أخير بطرد كل من نعمة ثابت ومأمون إياس من الحزب‬ ‫حيث ثبت تواطؤهما مع الحكومة اللبنانية‪ ،‬ودعم موقفها العدائي من‬ ‫ّ‬ ‫وتصرفاته التي أساءت إلى‬ ‫الحزب والزعيم‪ ،‬وإثارتهما التشويش حول الزعيم‬ ‫نمو الحزب وانتشاره في ذلك الحين‪.‬‬ ‫أما ألامين أسد الذي كان يرى ضرورة مسايرة الحكومة اللبنانية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والتصدي لها حفاظا على مسيرة الحزب‬ ‫بمرونة وحنكة‪ ،‬ال تع ُّمد مجابهتها‬ ‫ومستقبل عالقته مع السلطة في تلك املرحلة من بدء الاستقالل‪ ،‬فلم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ينقطع عن الاجتماع بالزعيم محاوال إقناعه بوجهة نظره‪ ،‬مؤكدا شديد‬ ‫حرصه على إفالت الحزب من ألازمة املفتعلة التي بدت له قاسية الوطأة‪،‬‬ ‫خاصة ولم يمض على عودة الزعيم من املغترب سوى بضعة أسابيع‪ّ ،‬‬ ‫مدة‬ ‫غير كافية الطالعه على حقيقة الوضع الحزبي والعمل على إعادة تنظيمه‬ ‫ّ‬ ‫وتركيزه‪ .‬توالت اللقاءات املطولة بين الزعيم وألامين أسد دون‬ ‫التوصل إلى‬ ‫ً‬ ‫أي توافق في وجهات النظر حول املوقف ّ‬ ‫املتخذ من السلطة اللبنانية ردا‬ ‫على تصرفاتها من الحزب‪ ،‬وقد كان الزعيم شديد إلاصرار على ضرورة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التعسف والطغيان دون ّ‬ ‫مبرر ومن‬ ‫التصلب تجاه السلطة لتماديها آلاثم في‬ ‫ً‬ ‫ممكنا ّ‬ ‫تجنب مواجهتها أو‬ ‫غير حق‪ .‬لقد فتحت السلطة املعركة ولم يكن‬ ‫ّ ً‬ ‫يصح أبدا الخروج من املعركة بالهرب أو التسوية‪ .‬ألن التساهل‬ ‫تأجيلها وال‬ ‫ً‬ ‫في املواقف املبدئية يشكل سقوطا إلى منحدر املساومات التي ال تليق‬ ‫بالنهضة ورسالتها في العدالة القومية الاجتماعية‪ ،‬ال ّبد إذن من الصمود إلى‬ ‫آخر الشوط مهما غال الثمن‪ ،‬قال الزعيم لألمين أسد‪ ،‬في إحدى جلسات‬ ‫البحث في ألاسس واملنطلقات التي ال تحتمل الحلول الوسط الخالية من‬ ‫املزايا املميزة ومن العبر الجذرية‪:‬‬ ‫‪111‬‬


‫«يا أسد أنت ّ‬ ‫ممن يعنون باملسائل التاريخية عادة‪ ،‬وإني أطلب منك‬ ‫أن تأتيني ولو بحادثة واحدة فقط من تاريخ نهضات ألامم‪ ،‬كان الانتصار فيها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حاال بقبول‬ ‫ألي نهضة معتمدا التسوية مع الرجعة والرجعيين فأقتنع معك‬ ‫ّ‬ ‫التسوية مع الحكومة اللبنانية علها تكون خطوة إلى تحقيق كسب للقضية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سبيال ّ‬ ‫ألي نفع تجنيه‬ ‫وإال عليك أنت أن تقلع نهائيا عن اعتبار التسوية‬ ‫النهضة‪ ،‬ال سيما النهضة السورية ا لقومية الاجتماعية ذات النظرة‬ ‫الفلسفية الكلية الشمول إلى الحياة والكون والفن‪ ،‬أعظم نهضة ألعظم أمة‬ ‫في التاريخ»‪.‬‬ ‫انجلت لدى ألامين أسد‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬مفاهيم جديدة بالغة الروعة من‬ ‫ّ‬ ‫املتميزة بأعمق ألاسس وأدق الحقائق العظيمة‪ ،‬ذات‬ ‫معطيات النهضة‬ ‫ألاهداف البعيدة املرمى والغايات النبيلة السامية‪.‬‬ ‫في اليوم التالي‪ ،‬عاد ألامين أسد ألاشقر يحمل إلى الزعيم رسالته‬ ‫الشهيرة التي نشرت حينذاك‪ ،‬في أحد إعداد النشرة الرسمية بعنوان‪« :‬لقد‬ ‫أرسلت العناية إلالهية الزعيم في الوقت املناسب إلنقاذ النهضة وألامة» ومن‬ ‫ثم أصدر القرار القاض ي بإلغاء عق وبة الفصل عن ألامين أسد وإعادته إلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صفوف الحزب عضوا نظاميا موثوقا ليعاود نضاله القومي الاجتماعي‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫انتصار جديد لقواعد النهضة ومفاهيمها ولصحة رؤياها في‬ ‫وكان‬ ‫معالجة الشؤون القومية واملشاكل التي تطرحها ألاحداث الجارية‪ ،‬ولحلول‬ ‫« العقلية ألاخالقية الجديدة التي يقدمها الحزب لألمة ملصالحها ومصيرها»‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫نحن نقيم مواقفنا ونعني ماه َّية قوانا من‬ ‫خالل مفاهيم ـ ـ ـ ـ ـنا ومقاييس ـ ـ ـ ـ ـنا ال من خالل‬ ‫مفاهيم آلاخرين ومقاييسهم التي ندعوهم‬ ‫للتخلي عنها وألاخذ بنظرتنا الكلية الشاملة‬ ‫وقواع ـ ـ ـ ـ ـدها‬ ‫سعاده‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حطت الطائرة التي أقلت الزعيم صباح الثاني من آذار املبارك ‪1749‬‬ ‫في مطار بيروت حيث احتشدت جموع غفيرة من القوميين الاجتماعيين‬ ‫وألاصدقاء التي توافدت من مختلف املناطق في الوطن السوري الستقبال‬ ‫حضرة الزعيم العائد من مغتربه القسري بعد غياب طويل دام تسع سنوات‬ ‫ّ‬ ‫ونيف‪.‬‬ ‫في الرابع من آذار‪ ،‬اليوم الثالث لعودة الزعيم‪ ،‬فاجأت السلطة‬ ‫ّ‬ ‫مذكرة إحضار تدعو الزعيم للمثول‬ ‫اللبنانية الحزب والرأي العام بإصدارها‬ ‫أمام املحقق بشأن الخطاب الذي ألقاه لدى وصوله أمام حشود مستقبليه‪.‬‬ ‫إزاء موقف السلطة العدواني من الحزب دعا الزعيم مجلس العمد إلى عقد‬ ‫ّ‬ ‫جلسة طارئة لتدارس ألامر الواقع‪ .‬تداول املجتمعون حادث مذكرة إلاحضار‬ ‫ّ‬ ‫وما ينطوي عليه من نوايا تب ّيتها السلطة لإليقاع بالحزب عنوة وملا يمض‬ ‫على عودة الزعيم إلى الوطن السوري سوى أيام معدودات‪ .‬فارتؤي أن يغادر‬ ‫ً‬ ‫الزعيم بيروت مبدئيا ويتوجه إلى املناطق الجبلية مع إهمال مذكرة‬

‫‪112‬‬


‫ّ‬ ‫إلاحضار‪ .‬مما يتيح له القيام بجوالت تفقدية لقوى الحزب في الكيان اللبناني‬ ‫مع إجراء اتصاالت سياسية على جميع ألاصعدة قبل املبادرة إلى اتخاذ تدابير‬ ‫ً‬ ‫ملجابهة اعتداء السلطات اللبنانية بما يستحقه صونا لحق الحزب في الحرية‬ ‫والوجود‪.‬‬ ‫مضت على مذكرة إلاحضار املدة القانونية املحددة لتنفيذها دون‬ ‫اكتراث الحزب فأعقبها إصدار مذكرة توقيف تقض ي بتكليف قوى ألامن‬ ‫ً‬ ‫مالحقة الزعيم وإلقاء القبض عليه ليمثل موقوفا للتحقيق معه‪ .‬ولوحق‬ ‫ّ‬ ‫حولوا القانون إلى أداة ّ‬ ‫الزعيم باسم القانون ومن قبل من ّ‬ ‫وتشفي‪ .‬ثم‬ ‫تجني‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫راحت قوى ألامن تجوب مختلف املناطق اللبنانية بحثا عن الزعيم علها‬ ‫ّ‬ ‫توفق إلى توقيفه لكن محاوالتها باءت بالفشل والخيبة‪.‬‬ ‫في الثاني والعشرين من آذار عينه طلب الزعيم من عميد الداخلية‬ ‫دعوة جميع املنفذين العامين مع نظار التدريب في لبنان إلى عقد مؤتمر عام‬ ‫في الحال يحضره جميع العمد‪ .‬وقد وجه الزعيم إلى املؤتمرين رسالة مهمة‬ ‫عرفت برسالة الثاني والعشرين من آذار ‪ .1749‬عرض فيها دقائق املشكلة‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫مفندا املآرب الخفية للسلطة املتحكمة‬ ‫املفتعلة مع الحزب دون مبرر ظاهر‬ ‫من جراء فعلتها‪ .‬كما طلب الزعيم في الرسالة أن يقف على رأي ّ‬ ‫كل من‬ ‫ٍّ‬ ‫املؤتمرين باملشكلة الراهنة مع تقديم اقتراحات الحلول العملية ملعالجتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التعرف إلى مختلف وجهات النظر واملقترحات‬ ‫وأنه يعلق كبير أهمية على‬ ‫بصدد إعداد التدابير املناسبة لردع السلطة عن التمادي في طعن حريات‬ ‫املواطن ألاساسية التي بدونها ال معنى للدولة وال وجود للمواطن في الدولة‬ ‫بل هناك فقط طغاة متسلطون ورعايا مستعبدون تساق بالسوط‬ ‫وإلارهاب‪ .‬ال ّبد إذن من ّ‬ ‫املتعمد من ّ‬ ‫ّ‬ ‫أي جهة أتى بما يليق‬ ‫الرد على العدوان‬ ‫بأصالة هذا الشعب وبعظم مسؤولية النهضة في تحرير املواطن من ربق‬ ‫أغالل الرجعة والنهوض به إلى املستوى الذي هو أهل له وتواق لبلوغه‪.‬‬ ‫‪112‬‬


‫ً‬ ‫انفض املؤتمر ّ‬ ‫َّ‬ ‫فورا إلى ّ‬ ‫مقر الزعيم ليرفعوا إليه ضبط‬ ‫فتوجه العمد‬ ‫ً‬ ‫وقائع أعمال املؤتمر بدقائق تفاصيلها فضال عن مالحظاتهم بشأنها‪ .‬وكان‬ ‫املؤتمرون قد أجمعوا على ضرورة رفض الحزب لتلبية مذكرات الحكومة‬ ‫والانصياع لها‪ .‬على أن يصار إلى استنفار جميع قوى الحزب وألاصدقاء‬ ‫ملواجهة ما يحتمل أن تقدم عليه سلطة قد ارتضت لنفسها ممارسة‬ ‫ً‬ ‫التسلط والاعتداء السافر على حق يمنحه القانون للمواطن عوضا عن أن‬ ‫تلتزم هي بالسهر على تطبيق القانون والعمل على صيانته من أي عبث أو‬ ‫ً‬ ‫استهتار حرصا على هيبة الدولة وألامة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لقد استمرت السلطة في مالحقة الزعيم تنفيذا ملذكرة التوقيف وثابر‬ ‫الحزب من جهته على إعداد كامل قواه وإمكانياته للدفاع عن نفسه في ّ‬ ‫صد‬

‫شل نشاطه وتعطيل ّ‬ ‫املؤامرة الرامية إلى ّ‬ ‫نموه خاصة وقد أصبح انتشار‬ ‫الحزب آنذاك مصدر قلق لرجاالت تلك الحكومة بقدر ما هو بطبيعته مصدر‬ ‫تحرير للشعب من عوامل الضعف والتخاذل‪.‬‬

‫تابع الحزب تنظيم صفوفه دون أن يتوقف عن اتصاالته السياسية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫عل ه يقنع الجهات الحكومية باإلقالع عن سلوكها الاستبدادي وتدابيرها‬ ‫الخارجة عن القانون الذي ال ّبد أن يلتزم به بلد متحضر يحترم حريته‬ ‫ً‬ ‫وسيادته‪ .‬والحزب ّ‬ ‫يلح دوما على شرعية احتكامه للشعب وتصميمه على‬ ‫الصمود لتوطيد كيانه وحماية استمراره‪ .‬وقد اعتمد سياسة ضبط النفس‬ ‫ّ‬ ‫املرعية‪ .‬مع ذلك برزت‬ ‫مع حرصه على تأكيد وجوده ضمن احترامه للقوانين‬ ‫بوادر استعداداته ملجابهة ّ‬ ‫أي احتمال لدى الحاجة‪ .‬ألن حشود القوميين‬ ‫وألاصدقاء كانت تتزايد في مواكبتها لتحركات الزعيم وزياراته املتالحقة‬ ‫للفروع‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫امتدت مالحقات السلطة للزعيم خالل سبعة أشهر وسبعة أيام دون‬ ‫أن يحدث أي احتكاك يذكر بين القوتين‪ :‬قوة الرجعة وقوة النهضة‪ .‬وملا لم‬ ‫مهمتها باعتقال الزعيم أو ّ‬ ‫تقو قوى ألامن على إنجاز ّ‬ ‫الحد من تجواله املستمر‬ ‫في املناطق استجابت الحكومة إلى منطق املفاوضة ووافقت على إلغاء‬ ‫ّ‬ ‫املالحقة وإيقاف ّ‬ ‫كل ما من شأنه تصعيد التوتر لدى الشعب وإثارة ردود‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫التعسفي‪ّ .‬‬ ‫طي مذكراتها وسحبها‪.‬‬ ‫وتم التفاهم على‬ ‫الفعل املتزايد ضد مسلكها‬ ‫والحزب في ديمومة مسيرته التاريخية يصون نهضة ألامة السورية لنشر‬ ‫الوعي في صفوف الشعب‪ ،‬وعادة تقدمه بنفسه وبمواهبه الفذة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بحمية ناشطة في حمالتها‬ ‫طيلة فترة املالحقات والصحف تنطلق‬ ‫إلاعالمية العارمة‪ .‬منها ما ساند موقف الحزب وأشاد بروعة صموده إزاء‬ ‫الطغيان وإلارهاب ومنها ما اح ّ‬ ‫يندد بما أسماه عصيان الحزب ّ‬ ‫وتمرده على‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫سلطة السلطان‪ ،‬محرضا الحكومة على تشديد حمالتها للقضاء على‬ ‫ً‬ ‫الحزب‪ ،‬ومنهمكا في مؤازرتها للتنكيل به واستئصال وجوده‪ .‬وقد ّلفت موجة‬ ‫الحماس والتضارب باملواقف والاتجاهات أغلبية الصحف في لبنان وسائر‬ ‫ً‬ ‫الكيانات السورية وبقية أمم العالم العربي فضال عن الكثير من الصحف‬ ‫ألاجنبية التي أولت املرحلة عميق اهتمامها‪ .‬وصار مراسلو الصحف‬ ‫ّ‬ ‫املطولة‬ ‫يتسابقون لالجتماع بالزعيم ونشر التصاريح املستفيضة واملقاالت‬ ‫عن شخصه وعن ألازمة الناشبة بين الحزب وحكومة لبنان‪ .‬حتى غدت أخبار‬ ‫الحزب وخاصة ّ‬ ‫تنقالت الزعيم وتصاريحه مدار اهتمام جميع الناس‬ ‫وموضوع مناقشاتهم اليومية وتوزع آرائهم ومواقفهم من قوة النهضة والقوة‬ ‫املناهضة لها‪.‬‬ ‫ما أن سحبت مذكرة التوقيف وساد الصمت إلاعالمي حول شؤون‬ ‫الحزب وشجونه حتى شعر فريق من القوميين الاجتماعيين واملؤيدين أول‬ ‫ً‬ ‫ألامر بمرارة العزلة تقصيهم عن الشعب‪ .‬كأن الحزب لم يعد موجودا أو أنه‬ ‫‪115‬‬


‫أصيب بخسارة فادحة عطلت قدرته على الاستمرار وأودت به إلى الارتماء‬ ‫ً‬ ‫مغمورا في حلك الظلمة‪.‬‬ ‫الحظ الزعيم ما كان لهذا الصمت حول الحزب من وقع أشبه بصدمة‬ ‫نفسية تزعزع إلايمان وتهز الثقة بالنفس‪ .‬فأهاب املعلم بالقوميين‬ ‫الاجتماعيين للتأمل في حقيقة بالغة الروعة والعمق وألاخذ بها كما يليق‬ ‫ّ‬ ‫برجال نهضات التاريخ الذين يمثلون أروع انتصارات الحق والحقيقة للعالم‬ ‫بأسره‪:‬‬ ‫رفقائي‪ ،‬رجال النضال السليم‬ ‫إن سكوت آلاخرين عن تناول الحزب سواء بالتأييد وإلاعجاب أو‬ ‫ً ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مهما للتأمل‬ ‫بالتهجم والاستنكار‪ ،‬هذا السكوت يجب أن يشكل لنا مجاال‬ ‫العميق‪ ،‬وفرصة ُّ‬ ‫جد ثمينة تغتنمها لنق ّيم مواقفنا وحقيقة قوانا بهدوء‬ ‫ّ‬ ‫وروي ة من خالل مفاهيمنا نحن ومقاييسنا ال من خالل مقاييس آلاخرين التي‬ ‫ّ‬ ‫تغلب عليها الديماغوجية الرعناء‪ ،‬وال انفعال مفاهيم الرجعة املتسمة‬ ‫بالسطحية والعاطفية ألنها مفاهيم ال قومية اجتماعية تأخذ بالنظرة‬ ‫ّ‬ ‫املجزئة للحقيقة والواقع‪ ،‬هي مفاهيم إلا نسان القديم البائدة في‬ ‫الجزئية‬ ‫عهد النهضة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املتفهمون هذه الحقيقة‬ ‫نحن وحدنا ندرك حقيقة من نحن ووحدنا‬ ‫ّ‬ ‫الخالدة والقادرون على تدارسها ّ‬ ‫لنقدم وعينا لها وإيماننا بصدقها نظرة كلية‬ ‫شاملة إلى الحياة والكون والفن‪ .‬فيلد وعي الحقيقة الثقة بالنفس للسير في‬ ‫طريق الحياة الطويلة الشاقة ويشق الطريق لتحيى سورية‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫لديـ ـ ـ ـ ـنا‪ ،‬عند العق ـ ـ ـ ـ ـول تض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيع البط ـ ـ ـ ـ ـ ـون‬ ‫سعاده‬

‫ذلك اليوم الحافل بالفرح العظيم كأنه مولد جديد لبزوغ فجر النهضة‬ ‫بعد احتجاب مرير‪ ،‬يوم عودة الزعيم من املغترب إلى بيروت كان مناسبة‬ ‫حشد عارم تالقت فيه على أرض املطار غالبية القوى القومية الاجتماعية‬ ‫املقيمة ضمن الوطن السوري القادر على الانتقال والحضور‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لقد ّ‬ ‫سدد خطاب العودة تعطش القوميين الاجتماعيين للقاء الزعيم‬ ‫خالل تسع سنوات وعالج فيه جميع معاناة الصفوف من فراغ القيادة‬ ‫وغياب املرجع التراث ومصدر التوجيه والقدوة‪.‬‬ ‫عالج في ذلك املوقف بالذات مفهوم الاستقالل الحقيقي للبنان ولسائر‬ ‫ً‬ ‫الكيانات السورية وأبعاد مدلوالته الفكرية القومية واملناقبية فاضحا‬ ‫بصراحة مدهشة ووضوح قاطع غباء املأخوذين باملظاهر ّ‬ ‫وتربص املنافقين‬ ‫لحقيقة السيادة التي ال ّبد أن تقصيهم ساعة انتصارها عن ّ‬ ‫منصة املسرح‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتعري ّادعاءاتهم الباطلة املضللة‪ .‬كذلك نسف س عاده في خطابه جميع‬ ‫الترتيبات الانحرافية والبدع الال قومية اجتماعية التي تواطأ على إدخالها إلى‬ ‫الحزب بعض من أخذ يراود أطماعهم الخصوصية القفز البهلواني في‬ ‫أرجوحة السياسة فوق صخرة العقيدة الصامدة‪ .‬وكان هؤالء قد ّ‬ ‫أعدوا‬ ‫‪119‬‬


‫ّ‬ ‫مستلزمات أالعيبهم قبل ذاك علهم يضعون الزعيم أمام ألامر الواقع‬ ‫فيحملونه على الرضوخ إلى رغبتهم في تطوير العقيدة بما يخرجها عن طبيعة‬ ‫طورها باتجاه املساومات والتسويات السياسية‪ ،‬سواء تجاه السلطة‬ ‫اللبنانية أو إ اء مفاهيم مدسوسة في فكر الحزب قيل حينذاك أنها ّ‬ ‫تجددية‬ ‫ز‬ ‫مهمة مع أنها غريبة عن أصول قواعد النهضة وعن صميم مراميها‬ ‫ومقاصدها في تأسيس العقلية ألاخالقية الجديدة التي هي أهم ما يقدمه‬ ‫الحزب لألمة السورية‪ ،‬ملصالحها ومصيرها‪.‬‬ ‫كان ذلك الخطاب بمثابة النفير العام للعودة بقوى النهضة إلى ساحة‬ ‫الجهاد‪ .‬كان دعوة للتحرر من جميع شوائب الانحراف والتحريف الال قومي‬ ‫اجتماعي‪ .‬وكان الرفض الصريح لشعوذة ما سمي بالتجديد والتطور تلبية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫أيضا تأكيد التحرر من ّ‬ ‫تحسبات التدخل‬ ‫ملقتض ى ظروف ناشئة كما كان‬ ‫يمارسه إلانسان القديم ومفاهيمه الرجعية في الروحية القومية الاجتماعية‪.‬‬ ‫قوتنا النامية ّ‬ ‫حد ًا جعلها ّ‬ ‫وقد بلغت مخاوف الرجعة على نفسها إزاء ّ‬ ‫تترصد‬ ‫ّ‬ ‫تحركاتنا لإليقاع بنا‪.‬‬ ‫كانت كلمة املطار ذلك الكشف الحاسم عن جميع املخبآت الكامنة في‬ ‫املتربصة لإلجرام وفي النفوس امللتوية املتآمرة التي ّ‬ ‫النوايا ّ‬ ‫السيئة ّ‬ ‫ظنت أنها‬ ‫بمأمن من الفضيحة والوقوف أمام وجدان الشعب‪.‬‬ ‫إثر الخطاب ّ‬ ‫توجه جمع غفير من ذلك الحشد اللجب إلى منزل نعمة‬ ‫تابت برفقة الزعيم‪ .‬هناك تناول الرفقاء طعام الغذاء بهرج ومرج ّ‬ ‫ينمان عن‬ ‫روعة الفرحة الكبرى التي غمرت النفوس بفيض من السعادة والاعتزاز‬ ‫ملالقاة حدث عودة الزعيم إلى الوطن‪ ،‬عودة القيادة وقدرة التحقيق ملواجهة‬ ‫النصر املوعود‪ .‬تلك ألاثناء والانهماك على ّ‬ ‫أشده في ّ‬ ‫التزود بالطعام والشراب‬ ‫كان العديد ّ‬ ‫منا يحيط بالزعيم ويتسابق لالستماع إلى كل همسة تهفو على‬

‫‪118‬‬


‫لسانه وتشرئب في نظراته وابتسامته املفعمة بالغبطة والاعتزاز‪ .‬آنذاك توجه‬ ‫ألامين فؤاد أبي عجرم إلى الزعيم بقوله هل ترى كيف أن «عند البطون‬ ‫ّ‬ ‫التنبه واليقظة‪،‬‬ ‫ضاعت العقول» فالتفت إليه الزعيم بهدوئه العميق‬ ‫ً‬ ‫العميق بحضوره الدائم في صميم كل إشارة وبادرة ثم أجابه قائال‪ :‬هذا‬ ‫يصح عند سوانا ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكننا نرى نحن أن «عند العقول تضيع البطون»‪.‬‬ ‫لم يكن باإلمكان أن ّ‬ ‫تمر غلطة أمام الزعيم مهما بدت طفيفة وعابرة‬ ‫ولو على سبل النكتة أو املالحظة املرحة إال ويتناولها بالتدقيق والتصويب كي‬ ‫ّ‬ ‫تعبر كلها عن مفاهيم النهضة ومعانيها الحقيقية دون أي إبهام أو إشكال‪.‬‬ ‫فالتسوية ممنوعة في كل ش يء وكل مضمار وأن املفاهيم الغائمة والحائرة‬ ‫بين فكر إلانسان الجديد وإلانسان القديم مرفوضة بمقتض ى التخلي عنها‬ ‫وتصويبها بفكر النهضة‪.‬‬ ‫إذا كانت حاجة البطون تستولي على العقول ومتطلباتها عند سوانا‬ ‫ألنهم يعملون إلقامة العيش من دون مطالب الحياة العليا فإن ألامر لدينا‬ ‫على عكس هذا املفهوم‪ ،‬ما دمنا نرى أن العقل هو الشرع ألاعلى‪ ،‬هو الشرع‬ ‫ألاساس‪ ،‬وما دمنا نعمل إلقامة الحياة وقتل العيش وال يجوز ألي ش يء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بنظرتنا أن يعطل فعل العقل فينا أو أن يؤثر في قدرته وفاعليته للخلق‬ ‫وإلابداع الال متناهي‪.‬‬ ‫لذلك نحن ال نسلم بأن عند البطون تضيع العقول‪ ،‬بل عند العقول‬ ‫تضيع البطون‪ ،‬نحن حركة تؤمن بالحياة وتعمل لها‪ .‬نحن أبناء الحياة ّ‬ ‫ورواد‬ ‫ّ‬ ‫فضائلها ومثلها بقدر ما نفكر ونعمل لتحقيق أغراض الحياة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫«نحن جماعة لم ّ‬ ‫تفضل يوما أن تترك عقيدتها وأخالقها لتنقذ جسدا‬ ‫ً‬ ‫باليا ال قيمة له»‪.‬‬

‫‪117‬‬


‫ليس من حقيقة أقوى وال أس ـ ـ ـ ـمى من فعل‬ ‫الثقة في بناء النف ـ ـ ـ ـ ـوس وتحقيق املطالب‬ ‫واملقاص ـ ـ ـ ـ ـد‬

‫ما كاد الزعيم يصل إلى الوطن من مغتربه القسري حتى بادرته السلطة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مذكرة التوقيف الشهيرة ّ‬ ‫بحقه‪ ،‬ألنه‬ ‫املتسلطة على حرية الناس إلى إصدار‬ ‫صارح الشعب بقوله إن الاستقالل الذي ناله من دون عناء وال سابق إعداد‬ ‫له‪ ،‬هذا الاستقالل هو بمثابة «خروج ألامة من ‹القواويش› التي كانت فيها‬ ‫ولكنها ال تزال ضمن أسوار السجن‪ .‬ألابواب مفتوحة‪ ،‬التي إلى الداخل‪ ،‬أما‬ ‫ً‬ ‫التي إلى الخارج فال يزال عليها السجانون وهم دائما منا في الغالب»‪.‬‬ ‫تلك ألاثناء انصرف الزعيم بالدرجة ألاولى إلى تحقيق العودة إلى ساحة‬ ‫الجهاد التي أطلق الدعوة إليها في خطابه يوم وصوله إلى الوطن‪ .‬وقد كلفني‬ ‫كعميد للداخلية بدراسة دقيقة وعاجلة ألوضاع املسؤولين في مختلف‬ ‫ً‬ ‫بدءا من ّ‬ ‫منفذية بيروت نظرًا ّ‬ ‫ألهميتها‬ ‫ألاجهزة واملؤسسات الحزبية لتركيزها‬ ‫ألاساسية من جميع الوجوه في سير العمل الحزبي عامة وفي لبنان خاصة‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫عاما ّ‬ ‫وقد ّ‬ ‫ملنفذية بيروت‬ ‫عين حينذاك الرفيق محمد راشد منفذا‬ ‫وعهد إليه أمر اختيار معاونيه في هيئة ّ‬ ‫املنفذية واقتراح تعيينهم إلى املراجع‬ ‫ّ‬ ‫املختصة‪ .‬ثم أخذ العمل الحزبي يسير في بيروت بنشاط وانتظام ملحوظين‪.‬‬ ‫واملنفذ العام هو من أقدم أعضاء الحزب ومن أكثرهم آنذاك خبرة‬ ‫وممارسة لشتى املسؤوليات‪ .‬وتعود معرفتي بالرفيق محمد راشد إلى‬ ‫ً‬ ‫وكيال لعميد الداخلية وكنت أنا ناظرًا لإلذاعة في ّ‬ ‫منفذية‬ ‫الثالثينات يوم كان‬ ‫طرطوس‪ .‬وقد تم التعاون بيننا والتعامل املسؤول على صعيد مرموق من‬ ‫التجاوب والتلبية القومية الاجتماعية‪ .‬إلى أن فاجأني الرفيق محمد راشد‬ ‫بالتوقف التام عن كل نشاط وكل تلبية ألي واجب قومي اجتماعي مهما كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بسيطا وهاما‪ .‬فآملني هذا التغير بسلوكه النظامي الذي لم يكن بالحسبان‬ ‫ً‬ ‫فضال ّ‬ ‫عما كان يكتنفه من غموض وإبهام‪ ،‬ثم رحت أبحث عن ألاسباب أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املبررات لذلك بكل الوسائل وألاساليب النظامية علني أقف عليها وأوفق إلى‬ ‫معالجة الوضع الشاذ الناش ئ عنها‪.‬‬ ‫وصار املنفذ العام يتجنب اللقاء بي أو إلاجابة على أي طلب ّ‬ ‫أوجهه‬ ‫إليه‪ .‬تابعت السعي لالجتماع به فترة غير وجيزة بال جدوى حتى داهمته من‬ ‫دون سابق موعد في عمله‪ .‬وقد كان عميق الارتباك عند مواجهتنا واضح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التململ واملضايقة من وجودي وقد طلبت منه موعدا عاجال ال بوصفي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مسؤوال إداريا كعميد للداخلية مع منفذ عام بل بصفتي قوميا اجتماعيا‬ ‫ّ‬ ‫التحدث مع رفيقه ومصارحته بشؤون حزبية جديرة باهتمامهما‪.‬‬ ‫فقط يود‬ ‫فاملسؤولية إلادارية تأتي وتذهب بموجب قرار أو مرسوم أما العضوية في‬ ‫ً‬ ‫الحزب فال تكون بقرار أو مرسوم إنما هي ذات ميزات وخصائص أكثر ثباتا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫واستمرارا وأعمق رسوخا‪ .‬وقد تم لنا اللقاء على انفراد في اليوم التالي في‬ ‫غرفتي برأس بيروت فدار بيننا الحديث التالي‪:‬‬

‫‪111‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫يا رفيقي أنت ممن عرفتهم مسؤوال مركزيا يوم كنت في مطلع حياتي‬ ‫الحزبية أمارس مسؤولية ناظر إذاعة في ّ‬ ‫منفذية طرطوس‪ .‬إنك أسهمت في‬ ‫إعطائي الكثير من التوجيهات وفي تكوين خبراتي ومعلوماتي عن الحزب‬ ‫والعمل الحزبي‪ .‬وقد باشرت وإياك العمل الحزبي خالل ألاشهر املاضية‬ ‫بالتعاون املجدي الذي أعطى النتائج الجيدة ملصلحة ألامة والحزب‪ ..‬فماذا‬ ‫بعدئذ حتى انقطعت فجأة عن تلبية أي واجب حزبي؟‪ ..‬آمل أن‬ ‫دهاك‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫تصارحني بحقيقة أسباب توقفك عن ممارسة مسؤوليتك الحزبية املفروض‬ ‫إعالمنا بها‪ .‬ال ّبد أن نتطارح جميع املواضيع خاصة ما أوصلنا منها إلى‬ ‫القطيعة فيما بيننا وأفقدنا إمكان العمل الحزبي وأي مجال إلنتاج قومي‬ ‫اجتماعي‪ .‬هات ما لديك من هموم وشجون وأفصح عما يراودك تجاه أي‬ ‫رفيق أو أي مسألة حزبية من تساؤالت ومن شكوك وشكوى حتى لو كان ما‬ ‫يقلقك يتناول أمانتي للقضية القومية الاجتماعية‪ .‬ال ّبد أن نعاود ثقتنا‬ ‫ً‬ ‫وتعاوننا معا لخير هذه ألامة وانتصار نهضتها‪.‬‬ ‫أمام هذا إلالحاح الشديد لكشف ما يخامر الرفيق محمد راشد من‬ ‫هموم وهواجس تمنعه من متابعة العمل الحزبي وإزاء تأكيدي على ضرورة‬ ‫املصارحة الكلية ووجوب إلافصاح الكامل عما يعانيه من آالم وجدانية مهما‬ ‫بلغت من الخطورة ووعورة التداول بها‪ّ ،‬‬ ‫توصل الرفيق محمد راشد إلى‬ ‫البوح بما ي قاسيه من متاعب تعيق مسيرته الحزبية وهو بأشد حاالت التوتر‬ ‫والقلق املضني فقال‪:‬‬ ‫« نعم أنت تشكل العائق في سبيل قيامي بواجباتي الحزبية ألنك‬ ‫ً‬ ‫أصبحت منذ حين بنظري خائنا لعقيدة الحزب وقضيته بعد أن كنت لي‬ ‫القدوة التي أتوق إلى السير على خطاها والامتثال بها»‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫ثم توقف بغتة عن إلادالء بالتفاصيل وألادلة التي تثبت «خيانتي»‬ ‫والتي سببت له صدمة أخمدت لديه كل إمكانية نشاط وكل طاقة ملمارسة‬ ‫حتى عضويته في الحزب‪.‬‬ ‫فقلت له‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬فإما أن تصارحني بكل ش يء وأنا مستعد ألدافع‬ ‫عن نفس ي أمام وجدانك القومي الاجتماعي‪ّ ..‬‬ ‫أتقبل منك أي حكم مهما كان‬ ‫نوعه كما أتقاض ى أمام أي سلطة أو مرجع وأما أن نذهب سوية وفي الحال‬ ‫ملقابلة حضرة الزعيم كي يحكم بيننا وينظر بخطورة التهمة املوجهة إل ّي ألن‬ ‫له وحده ملء الحق بأن يصدر بحقي العقوبة القصوى إذا ثبتت إدانتي وأن‬ ‫ً‬ ‫يتحقق من براءتي حتى نعود سريعا إلى نشاطنا املعتاد وتعود الثقة القومية‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬لتجمعنا فنحمل شرف العضوية في الحزب ونتحمل مسؤوليات‬ ‫النهوض باألمة السورية‪.‬‬ ‫بعد صمت مكدود حائر استأنف الرفيق محمد راشد إلادالء‬ ‫بمعلوماته عن ماهية اتهامه لي بجرم الخيانة‪ ،‬ثم راح يصغي ّ‬ ‫إلي بكل أمانة‬ ‫للحقيقة وأنا ّ‬ ‫أفند له وجهات نظري ومعلوماتي بالتفصيل‪ .‬أقدم إليه جميع‬ ‫ً‬ ‫جالء ملالبسات ألاخبار وألاحداث التي أدت إلى اتهامي‬ ‫إلايضاحات الالزمة‬ ‫بأفظع إثم وأودت به إلى صدمة عنيفة استحال عليه معها ّ‬ ‫تقبل التعامل‬ ‫معي واللقاء بي على أي صعيد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انتهت تلك الجلسة التي تجلت فيها وحدة الروح القومية الاجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫وتألقت مناقب الصراحة النبيلة وروعة الشعور باملسؤولية‪ ،‬وقد تبين خالل‬ ‫ونيف للرفيق محمد راشد صدق براءتي مما نسب إ ّلي أو ّ‬ ‫أربع ساعات ّ‬ ‫ظن بي‬ ‫ّ‬ ‫الظن إثم‪ .‬فنهض إذ ذاك ّ‬ ‫يحييني تحية الشرف والحقيقة‬ ‫من سوء وبعض‬ ‫ً‬ ‫والعقيدة ويعانقني بحماس الفرحة الكبرى وحرارة من وجد ضائعا كان قد‬ ‫ً‬ ‫فقد ألامل بلقائه حيا‪ .‬ثم أعلن كامل استعداده للتكفير عن تهاونه الذي‬

‫‪112‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألاشد والاندفاع ألاقوى في تلبية جميع‬ ‫ولده الشك وذلك بمضاعفة النشاط‬ ‫واجباته القومية الاجتماعية من أجل تحقيق ما تعاقدنا عليه من أمر خطير‬ ‫ّ‬ ‫محل الشكوك‪ ،‬متى ّ‬ ‫حلت الثقة ّ‬ ‫حل إلايمان محل‬ ‫يساوي كل وجودنا‪« .‬ومتى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الشك‪ ،‬قض ي على التردد والفوض ى والبلبلة ويمكننا أن نتقدم من الشك إلى‬ ‫إلايمان وال يمكننا أن ّ‬ ‫نتقد م من إلايمان إلى الشك بل يمكننا أن نتراجع‬ ‫القهقرى»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتصورها املشككون فاقدو‬ ‫بالثقة وحدها تتحقق معجزات خارقة ال‬ ‫مواهب الثقة واليقين الجبارة‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫احـ ـ ـ ـ ـ ـذروا مغبة خداعكم لنا وال تس ـ ـ ـ ـ ـتهينوا‬ ‫بطيبتنا وثقتنا بالناس‬ ‫سعاده‬

‫إبان مالحقة السلطة اللبنانية للزعيم إثر عودته من املغترب في الثاني‬ ‫من آذار ‪ ،1749‬ولدى اقتراب موعد الانتخابات النيابية املقررة في الخامس‬ ‫والعشرين من أيار من السنة ذاتها‪ ،‬أخذ املرشحون وامل ْست ْنوبون‪ ،‬حينذاك‪،‬‬ ‫يتسابقون لالتصال بالزعيم‪ ،‬وزيارته في البرية حتى في ساعات متأخرة من‬ ‫الليالي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كل هم جاء إلى الزعيم شديد إلاعجاب بشخصيته الفذة وبالحزب‬ ‫ومبادئه الصالحة لألمة ومستقبلها التي ال مثيل لها‪ ،‬دون أن يفوته إبداء‬ ‫النقمة العارمة على السلطة الظاملة ملطاردتها له دون وجه حق‪« ،‬لكن ما‬ ‫العمل‪ ،‬هللا يهديها»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كلهم قد حرص بصورة ال تقبل الشك على تأكيد صداقته الحميمة‬ ‫وتأييده املطلق القديم للحزب في بلدته وحيثما ّ‬ ‫تعرف على أشخاص من‬ ‫ّ ً‬ ‫الحزب‪ ،‬مدلال على صحة صداقته بالحوادث وألارقام والشواهد القاطعة‪.‬‬ ‫‪115‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كلهم أفاض بالتحدث عن شخصه الكريم مشيدا بمؤهالته ومواهبه‬ ‫ّ‬ ‫وخاص ة عن جدارته لتمثيل إرادة الشعب في الندوة النيابية إذا ما‬ ‫املرموقة‬ ‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫قيض له النجاح الذي يتراءى مضمونا بإذن هللا وتأييد الزعيم مفندا ببيان‬ ‫ّ‬ ‫املتطفلين الذين‬ ‫مسهب أنه املرشح ألاقوى وألانفذ بين سائر املرشحين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يثيرون شفقته حينا وسخريته حينا آخر‪.‬‬ ‫ّكلهم مستعجل ّ‬ ‫يلح على انتزاع وعد م ن الزعيم بتأييد ترشيحه‬ ‫ً‬ ‫مرددا ّ‬ ‫تفوقه بكل ش يء على منافسيه‬ ‫ومؤازرته لضمان النجاح املرتقب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والتهجم عليهم شخصيا‪.‬‬ ‫ومتحمسا للتعريض بهم والنيل من قوتهم ومكانتهم‬ ‫ً‬ ‫أحدا من هؤالء ألابطال قد ّ‬ ‫تقدم من الحزب‬ ‫ولم يصادف مرة أن‬ ‫ً‬ ‫بمساعدة مالية أو دعم سياس ي للخروج مثال من أزمته مع السلطة اللبنانية‬ ‫مما يدل على ّ‬ ‫ظل من الصداقة الفعلية للحزب‪ ،‬والاستعداد الصادق‬ ‫للتعاون معه ومساندته بأي أمر‪ .‬إنما كانت أحاديثهم مقتصرة على الب ْهورات‬ ‫وعرض العضالت‪ ،‬وعلى صياغة املطالب بألفاظ وعبارات ّ‬ ‫تنم عن ّتزلف‬ ‫مشين وتواضع مهين‪ .‬بينما هم ألاقوياء الناجحون بأقل جهد وبضعة أصوات‬ ‫مضمونة هم يستجدون تأييد الحزب الكامل بأعضائه وأصدقائه وحلفائه‬ ‫ومؤازرته الفعالة بسرعة قصوى وحماسة عارمة‪ .‬كأن نجاحهم في الوصول‬ ‫الشخص ي يشكل دعامة كبرى لقضية ألامة ومصيرها‪.‬‬ ‫كلهم يغدق الوعود الطويلة العريضة بتأييد الحزب ودعمه في كل‬ ‫مواقفه ومطالبه إذا قدر له النجاح ووصل إلى ّ‬ ‫سدة النيابة املضمونة في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حقيبته أو جيبه الصغرى‪ ،‬مدلال دائما وبأساليب عجيبة غريبة على تفوقه‬ ‫باملقدرة العلمية وألاخالق الحسنة والسمعة الطيبة العطرة «مثل املسك»‪،‬‬ ‫أبا عن جد‪ ،‬وخاصة ما اشتهر عنه من عرفان الجميل والوفاء للقريب‬ ‫والغريب‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫هكذا أمض ى الزعيم ألايام وألاسابيع وهو ّ‬ ‫يودع نماذج من هؤالء الزوار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نسخا أخرى‪ّ ،‬‬ ‫منقحة أو ّ‬ ‫مشوهة‪ ،‬يصغي كثيرا وباهتمام عميق لكل‬ ‫ليستقبل‬ ‫ّ‬ ‫ما يقال ويعرض عليه من أفكار واقتراحات ووعود‪ ،‬ومن توق عات وتخمينات‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طريفة ظريفة‪ .‬دون أن يبدي رأيا أو تعليقا ما سوى قوله «أن الحزب يتابع‬ ‫دراسته لألوضاع واملرشحين وهو لم يقرر موقفه بعد»‪ .‬وكان في بعض‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ألاحيان يقاطع محدثه ليوجه إليه سؤالا معينا يهدف إلى استكمال دراسة‬ ‫الشخص أو التعرف أكثر إلى أوضاع منطقته ومواصفة زمالئه وأخصامه‬ ‫ً‬ ‫حظة ّ‬ ‫يخفف بها من غلواء املبالغات‬ ‫املرشحين آلاخرين‪ ،‬أو يبدي مال‬ ‫الصبيانية التي كان يحاول بعضهم أن يتب ْهور بها ليبهر الزعيم وينال إعجابه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتعجبه الستدراجه إلى وعده بالتأييد املقصود على أنه الضمانة ألاخيرة‬ ‫وألامل الوحيد املنقذ للعباد من كل حيف وكل أزمة ومأزق قد ّ‬ ‫يحل‪ ،‬ال‬ ‫سمح املولى‪ ،‬بالناس والوطن‪.‬‬ ‫في إحدى الجلسات التي ّ‬ ‫تعبر بكل وضوح وصدق عن العقلية‬ ‫السياسية التي كان يتمتع بها السياسيون والتي ج َّرت املهازل واملآس ي جاء إلى‬ ‫الزعيم طبيب من عائلة مرموقة ومعروفة في دنيا السياسة يرافقه أحد‬ ‫ً‬ ‫املحامين البارعين الذي بدوره يعمل في السياسة‪ ،‬وكان الوقت متأخرا في‬ ‫ً‬ ‫بيت في أطراف ضهور الشوير‪ ،‬وصودف وجودي هناك‪ ،‬وكنت عميدا‬ ‫للداخلية‪ ،‬فراح كل منهما يشرح بالتناوب عن أهميته وقوته الشعبية‬ ‫ومكانته في املجتمع‪ ،‬وكذلك يشرح صداقتهما الحميمة للحزب وملواقف‬ ‫الزعيم‪ ،‬فقال لهم الزعيم‪ « :‬لستم أصدقاء الحزب‪ ،‬بل أصدقاء منافعكم‬ ‫الخصوصية تطلبونها بوقوف الحزب إلى جانبكم في الانتخابات ضد‬ ‫خصومكم دون النظر إلى أي جانب من املصلحة العامة‪ .‬فالصداقة ال تكون‬ ‫إال بصدق التعاون والتعامل بقناعة وأخالق لغرض نبيل يجمع بين‬ ‫ّ‬ ‫ويعمق التفاهم بينهم»‪ّ .‬‬ ‫ويمتن صالتهم ّ‬ ‫وكأنكم بهذا‬ ‫ألاصدقاء الحقيقيين‪،‬‬ ‫‪119‬‬


‫التأكيد على ما نحن عليه من طيبة تعنون بأننا بسطاء وسذج يسهل‬ ‫استغاللنا واستثمار إمكانياتنا ببعض العبارات املعسولة والوعود الباهرة‬ ‫الطنانة‪ .‬ال ريب أننا طيبون ونتم َّسك بالصداقة الحقيقية ّ‬ ‫ّ‬ ‫لنمدها بما يجعلها‬ ‫أفعل وأقدر على الاستمرار وممارسة أنبل الصدق ألسمى الصداقة‪ .‬فالصدق‬ ‫لدينا من أهم املناقب وأجمل ألاخالق لإلنسان في تحقيق إنسانيته‪ .‬قد‬ ‫ً‬ ‫نخدع‪ ،‬ليس عجبا‪ ،‬بوضع ثقتنا في غير موضعها‪ ،‬ألننا نثق بإنساننا وال نتخلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عن بناء الثقة في فكره ونفسه‪ ،‬لكننا أيضا‪ ،‬وعندما نرى لزوما‪ ،‬نعرف كيف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نمكر على املاكرين‪ ،‬ليكون لهم من مكرنا عبرا ودروسا توقظهم من غفلتهم‬ ‫ّ‬ ‫وتوهمهم من أن د ْهقنتهم ال تعجز عن التالعب بعقول السذج ّ‬ ‫ممن تدعونهم‬ ‫«ألاوادم»‪« ،‬أوالد الحالل»‪ .‬احذروا ّ‬ ‫مغب ة خداعكم لنا وال تستهينوا بطيبتنا‬ ‫وثقتنا بالناس‪ .‬هي من طبيعة أصالة أمتنا التي يعمل الحزب على بلورتها قوة‬ ‫عاملة للعطاء والبناء‪« .‬يتساوى العاجز والنابه بالبناء والتعمير وال يتساويان‬ ‫بالخراب والتدمير»‪.‬‬

‫‪118‬‬


‫«إن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـت بتخ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـليهم يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدقوا»‬ ‫سعاده‬

‫ما أن أصدرت السلطة اللبنانية مذكرة التوقيف بحق الزعيم‪ ،‬إثر‬ ‫ّ‬ ‫التجول في القرى‬ ‫عودته من املغترب في الثاني من آذار ‪ ،1749‬حتى بادر إلى‬ ‫ّ ً‬ ‫متفقدا قوى الحزب التي غاب عنها طيلة سنوات تسع‪ّ ،‬إبان‬ ‫الجبلية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫الحرب العاملية الثانية‪ ،‬موجها ومشرفا على سير ألاعمال الحزبية في شتى‬ ‫الفروع واملؤسسات‪ ،‬باإلضافة إلى ما قام به من لقاءات إذاعية فكرية‬ ‫واتصاالت سياسية اجتماعية مع الرفقاء واملواطنين من مختلف املناطق‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫واملستويات الثقافية‪ .‬ذات يوم‪ ،‬تبلغت مع عدد من الرفقاء‪ ،‬أمرا من حضرة‬ ‫الزعيم يدعونا ملالقاته إلى مديرية سر ْحمول‪ّ ،‬‬ ‫منفذية الغرب‪ ،‬في منزل‬ ‫الرفيق توفيق نور الدين‪ ،‬حضرنا من بيروت إلى عين عنوب‪ ،‬ومنها سرنا على‬ ‫ألاقدام إلى بشامون فسرحمول‪ .‬ووصلناها مع بزوغ الفجر‪ .‬استقبلنا صاحب‬ ‫الدار‪ ،‬ثم انتقلنا إلى غرفة فسيحة حيث كان الزعيم ينتظرنا مع بعض‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الرفقاء‪ .‬بعد أداء التحية‪ ،‬أخذ الزعيم يتمش ى بخطى وئيدة ذهابا وإيابا في‬

‫‪117‬‬


‫باحة الغرفة الكبيرة‪ ،‬وهو يملي رسالة على الرفيق وديع ألاشقر‪ ،‬وكيل عميد‬ ‫إلاذاعة‪ ،‬من كفرقاحل ‪ -‬الكورة‪ ،‬الجالس خلف طاولة صغيرة في إحدى‬ ‫زوايا الغرفة‪.‬‬ ‫بعد دقائق معدودات‪ ،‬اقترب الزعيم من الطاولة وتناول ورقة مطوية‬ ‫ً‬ ‫مادا ّ‬ ‫بحجم رسالة عادية‪ ،‬واتجه نحوي‬ ‫إلي يده بالرسالة‪ .‬فوقفت وسرت‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إليه في الحال ألتسلم الرسالة مستوضحا «ملن تريد‪ ،‬يا حضرة الزعيم أن‬ ‫ّ‬ ‫أسلم الرسالة» فأجابني بقوله هذه لك‪ .‬فتحت الورقة املطوية بإحكام‬ ‫ووجدت نفس ي فجأة‪ ،‬أمام صادرة رسمية ّ‬ ‫متوجة باسم الحزب‪ ،‬مكتب‬ ‫الزعيم‪ ،‬وفي أعالها من الوسط رسم النسر‪ ،‬شارة الزعامة‪ .‬هي مرسوم‬ ‫بتوقيع الزعيم وخاتم الزعامة‪ ،‬مؤرخ في ألاول من نيسان ‪ ،1749‬يقض ي‬ ‫ً‬ ‫بتعييني عميدا للداخلية في الحزب السوري القومي الاجتماعي‪ .‬ولم يسبق أن‬ ‫وتأن‬ ‫فاتحني الزعيم بهذا ألامر على إلاطالق‪ .‬بعد أن قرأت املرسوم بشغف ٍّ‬ ‫قلت له‪« :‬إنني‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬على أت ّم الاستعداد لكل تلبية‪ّ .‬‬ ‫لكنني ألفت‬ ‫نظر حضرة الزعيم‪ ،‬إلى ّأنني طالب في معهد الحقوق الفرنس ي‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومدرس ملادة الرياضيات في معهد البكالوريا املسائي‪ ،‬رأس النبع‪ ،‬لصاحبه‬ ‫محمد العيتاني‪ّ .‬‬ ‫وبودي لو يتاح لي‪ ،‬أن أتابع دراسة الحقوق»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فأجابني الزعيم «ال يضيرنا أن تصبح يوما ما محاميا‪ ،‬لكن هناك‬ ‫ظروف في حياة ألامة‪ ،‬تقض ي بوضع كل ما هو شخص ي وخاص على الرف‬ ‫وتقديم أغلى التضحيات‪.‬‬ ‫أنت آلان عميد للداخلية‪ ،‬عملك هو التجوال في املناطق‪ّ ،‬‬ ‫الاتصال‬ ‫الحي بالرفقاء واملواطنين وليسن باملراسلة‪ ،‬من وراء املكاتب‪ .‬والرفقاء في‬ ‫يؤمنون لك إلاقامة واملأكل‪ ،‬فاألمر يعود إليهم‪ّ ،‬‬ ‫املناطق ّ‬ ‫هيا إلى العمل‪ ،‬يا‬ ‫حضرة العميد»‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫عند أصيل ذلك اليوم املليء باألعمال ّ‬ ‫الهامة خرجنا جميعنا برفقة‬ ‫الزعيم إلى الجنينة املحيطة باملنزل‪ ،‬حيث وضعت مجموعة من الطاوالت‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫الصغيرة واملقاعد‪ ،‬لنأخذ قسطا من الراحة‪ ،‬نتناول بعض املرطبات‬ ‫ً‬ ‫والفاكهة‪ .‬وكنت طيلة الوقت أقلب مرسوم الزعيم بين يدي‪ ،‬أضعه حينا في‬ ‫ً‬ ‫جيبي بكل حرص وعناية ألستعيد قراءته حينا آخر بإمعان وتمعن‪ ،‬مما لفت‬ ‫ً‬ ‫انتباه حضرة الزعيم وقال مرحا «ألم تحفظ حتى آلان هذا املرسوم عن ظهر‬ ‫قلب‪ ،‬وأنت ّ‬ ‫تكرر قراءته منذ الصباح؟» أجبته ليس ألامر هكذا‪ ،‬يا حضرة‬ ‫الزعيم بل صدور هذا املرسوم في ألاول من نيسان قد استوقفني‪ .‬فبادرني‬ ‫ً‬ ‫واضعا يده على كتفي‪ ،‬والضحكة تمأل أسماع الحضور «ال بأس‪ ،‬يا حضرة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العميد‪ ،‬إنت بتخليهم يصدقوا‪ ،‬وآلاتي قريب»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وكان يوما جميال باألعمال املثمرة‪ ،‬جميال بما تخلله من مرح واستجمام‬ ‫ّ‬ ‫عميق مفعم باآلمال الكبار إلى جانب الزعيم الرفيق‪ ،‬الذي علمنا الفرح في‬ ‫ّ‬ ‫علمنا ّ‬ ‫الجدية في الصراع وإلانتاج املجدي‪.‬‬ ‫حياتنا وأعمالنا‪ ،‬كما‬ ‫«نحن نحمل املتاعب‪ ،‬ال ننوء وال نرزح بها‪ ،‬ننتصر عليها ونخرج إلى مرح‬ ‫ً‬ ‫وانشراح في الحياة إلى تحقيق للوجود‪ ،‬الذي ال يمكن أن يكون عبثا أو‬ ‫ً‬ ‫وهما»‪.‬‬

‫‪121‬‬


‫«الحياة مغ ـامرة‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬والحزب مغامرة‬ ‫بقلب مغامرة»‬ ‫سعاده‬

‫مض ى على صدور مذكرة التوقيف بحق الزعيم التي استمرت سبعة‬ ‫أشهر وسبعة أيام قبل إلغائها‪ ،‬ما يزيد على السنة‪ .‬طرد أثناء هذه املدة‬ ‫ً‬ ‫أصحاب البدع‪ ،‬والتحريف في العقيدة والنظام‪ ،‬الذين حاولوا عبثا‪ ،‬تحويل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجرى النهضة بجعل السياسة وأغراضها هدفا ومطلبا بذاتها من دون‬ ‫العقيدة ونظرتها إلى الحياة والكون والفن‪ .‬وقد اجتاز الحزب في تلك الحقبة‬ ‫إحدى املراحل الصعبة‪ ،‬وأطل على مرحلة من الهدوء النسبي والهدنة‬ ‫العابرة املؤقتة في معركته الطويلة الشاقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫راودني‪ ،‬حينذاك‪ ،‬الحنين إلى دراسة الحقوق التي صادف أن علقتها‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مرارا بسبب الظروف الحزبية القاسية ومقتضيات الواجب القومي‪ ،‬وفكرت‬ ‫أن ّ‬ ‫أقدم استقالتي من مسؤولية عميد الداخلية‪ ،‬ألنقطع إلى الدراسة‬ ‫والتحصيل الثقافي املطلوب من جانب كل قومي اجتماعي يعي أهمية‬ ‫املعرفة‪ ،‬وعميق خطورتها في إطالق إمكانياته للبناء والتحقيق‪.‬‬ ‫‪122‬‬


‫ً‬ ‫طلبت موعدا من حضرة الزعيم ألفاتحه باألمر الذي أعتبره جليل‬ ‫ألاهمية‪ .‬لدى اجتماعي به أفضيت له برغبتي باالستقالة من مسؤوليتي‬ ‫ّ ً‬ ‫متجهما‪ ،‬وقد بدا الامتعاض عليه بقوله‬ ‫الحزبية واستئناف الدراسة‪ ،‬أجابني‬ ‫«هذا ألامر يعود إليك أنت وحدك ولك أن تقرره كما تشاء»‪ .‬وملا الحظ أنني‬ ‫ً‬ ‫لم أدرك مقصده‪ ،‬أضاف موضحا‪« ،‬أنت تشغل آلان مسؤولية حزبية هامة‬ ‫في مرحلة دقيقة من تاريخ الحزب والنهضة‪ ،‬وقد بدأت بإعطاء النتائج‬ ‫ّ‬ ‫الحسنة فيها‪ ،‬وفي الوقت الذي نفكر فيه بدعوة آخرين لنضعهم تحت‬ ‫ً‬ ‫تصرف العمل الحزبي‪ ،‬تطالبنا باالستقالة حرصا منك على إتمام دراستك‪.‬‬ ‫فإذا كنت ال تأنس من نفسك القدرة على املغامرة فليس بمقدور أحد أن‬ ‫ً‬ ‫يجعلك مغامرا‪ .‬إن الحياة مغامرة يا رفيقي والحزب مغامرة بقلب املغامرة‪.‬‬ ‫عليك أن ّ‬ ‫تقرر ما أنت أهل لعمله‪ .‬وقادر على تقديمه للنهضة التي تساوي‬ ‫وجودنا»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫خجوال من مواجهة ّ‬ ‫ترددي في إلاقدام على حياة‬ ‫أطرقت مرتبكا‬ ‫املغامرة‪ ،‬ومن تقصيري في ّ‬ ‫تحمل مسؤولية رجل العقيدة‪ ،‬رجل النهضة الذي‬ ‫يجب أن يكون قدوة في العطاء‪ ،‬قدوة في املغامرة الحقيقية الكبرى‪.‬‬

‫‪122‬‬


‫إن ألامة العظيمة يبرهن انكسـ ـ ـارها عما إذا‬ ‫كانت قـ ـ ـوية في نفسـ ـ ـ ـها وق ـ ـ ـادرة أن تثـ ـ ـ ـ ـبت‬ ‫للنكب ـ ـ ـ ـ ـات‬ ‫سعاده‬

‫بدأت إحدى معارك التحرير لفلسطين ‪ 1748‬هذه املرة بهجوم عام‬ ‫ضم الجيوش النظامية من مختلف ألامم العربية‪ .‬وبدت في مطلع ذلك‬ ‫ّ‬ ‫مؤشرات التصميم على قتال مجيد ّ‬ ‫يلقن العدو صدمة جدية في‬ ‫الهجوم‬ ‫متابعة مساعيه إلقامة دولته في «أرض امليعاد» على أنقاض أصحاب الحق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتصرف بمواردها وخيراتها‪ .‬وقد علل الناس‬ ‫الشرعي املطلق باألرض‬ ‫ّ‬ ‫الحمية‬ ‫أنفسهم بخير النتائج ملا أبدته الجيوش الزاحفة إلى فلسطين من‬ ‫وإلاقدام حتى ظ َّن أن املعركة قد تكون حاسمة وقادرة على وضع حدّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ألطماع اليهود في الوطن السوري‪ ،‬ولو إلى حين‪.‬‬ ‫غير أن الدول ألاجنبية الاستعمارية املتربصة بأمتنا والتي وراء املؤامرة‬ ‫الصهيونية كانت تراقب عن كثب سير العمليات وتفاقم ألاخطار املتزايدة على‬ ‫مصالحها في اتجاه املعارك املظفرة‪ .‬وهي إذ أفزعتها انتصارات الجبهة العربية‬ ‫على اليهود‪ ،‬سارعت إلى التدخل بوصفها الحكم الذي يدعو إلى السالم‬ ‫‪124‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫العادل والدائم كالعادة ملصلحة الطرفين حقنا للدماء وتأمينا لسالمة ألامن‬ ‫ً‬ ‫وآلامنين جميعا‪.‬‬ ‫وراحت تلك الدول املشهود لها بحسن النية وسالمة الطوية تنشط‬ ‫وتناور تارة بالوعود املعسولة وتارة بالوعيد املرير عساها تحصل على موافقة‬ ‫الجانبين إليقاف القتال وفصل القوات مع غيرها من التنازالت كي يتاح لها‬ ‫في جو هادئ إيجاد الحل املناسب خدمة للمصالح اليهودية الصهيونية‬ ‫املعهودة‪ .‬وقد و ّفقت‪ ،‬دون ريب‪ ،‬هذه الدول «املحايدة امل ّ‬ ‫حبة للسالم» إلى ما‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وتوصلت إلى إقناع ذوي الشأن في ّ‬ ‫الحل والربط‪« ،‬املشهود لهم أيضا‬ ‫تشتهي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بشديد الحرص على السيادة والتمسك بإرادة الشعب»‪ ،‬توصلت إلى‬ ‫إقناعهم‪ ،‬هؤالء‪ ،‬بضرورة التفاوض حول نقاط الخالف التي أوجبت القتال‬ ‫وإهراق الدماء‪ .‬وكانت حصيلة الجهود «املشكورة» قبول «الهدنة ألاولى»‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتحفز مفعمة‬ ‫وتوقف القتال على جميع الجبهات في أجواء مليئة بالتوتر‬ ‫بالحماس الجارف والتفاؤل العارم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مرت على الهدنة فترة ال أذكر مداها بين ترقب محموم من جانب‬ ‫ّ‬ ‫الشعب وتصميم فذ لحملة السالح على خوض معركة الشرف والكرامة بين‬ ‫لحظة وأخرى إلحراز النصر وصون السيادة‪ .‬بينما أصحاب السيادة‬ ‫والفخامة والجاللة يوالون الاجتماعات الخفية وراء ألابواب املقفلة حيث‬ ‫ً‬ ‫تمارس سياسة الثعلبة والنفاق التي أوصلت ألامة دائما إلى الكوارث واملآس ي‪.‬‬ ‫طيلة مراحل القتال قبل الهدنة وأثناءها والحزب يقوم باتصاالت‬ ‫ّ‬ ‫مكثفة بجميع الجهات والجبهات ليحصل على السالح فينزل بكامل قواه‬ ‫ّ‬ ‫مستمر‬ ‫ومعداته إلى حلبة العطاء والشهادة‪ ،‬وبعد وعود متعددة ونكوث‬ ‫للوعود‪ ،‬كان الجواب «ال سالح للقوميين الاجتماعيين»‪ .‬وهكذا أقص ي الحزب‬ ‫السوري القومي الاجتماعي عن املشاركة الفعالة النظامية في القتال من‬

‫‪125‬‬


‫أجل جنوب سورية ّ‬ ‫ضد برابرة الصهيونية اليهودية‪« .‬مع ذلك فقد انخرط‬ ‫قوميون اجتماعيون عديدون في الجيوش املحاربة وحاربوا في كل امليادين‪.‬‬ ‫وتفان في الواجب‪.‬‬ ‫وكانوا املتطوعين الشعبيين الوحيدين املمتازين بنظامية‬ ‫ٍّ‬ ‫شهد بهما كثيرون من الذين عاينوا أعمالهم من رؤساء ‹اللجان القومية›‬ ‫والقادة»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وقعت تلك الهدنة وحلت السياسة وأضاليلها وأالعيبها مكان القتال‬ ‫ّ‬ ‫التحفز الجامح‬ ‫وفعله الفاصل بين الحق والباطل‪ .‬وقد كان الزعيم‪ ،‬وسط‬ ‫والحماسة الجارفة التي أبداها الشعب بمختلف نزعاته‪ ،‬يتوقع مثل هذه‬ ‫ّ‬ ‫الصدمة الفاضحة ليصفع بها الساسة التقليديين‪ .‬وقد أكد أكثر من مرة‬ ‫« إن السياسة الخصوصية الاعتباطية قد وصلت باملسألة الكيليكية‬ ‫واملسألة الاسكندرونية ‪ -‬إلى الكارثة‪ .‬كارثة فلسطين مسؤولة عنها سياسة‬ ‫الخصوصيات والحزبيات الدينية والعشائرية‪ .‬هذه السياسة الخصوصية‬ ‫شبثت بقضايا ألامة ّ‬ ‫الاعتباطية الاحتكارية ت ّ‬ ‫تشبث الغول بفريسته» فكم نبه‬ ‫الزعيم بجميع اتصاالته وكتاباته إلى خطورة العقلية ألاخالقية القديمة التي‬ ‫تقوم على السياسة وخطورة أساليبها الرجعية على مستقبل ألامة ومصيرها‬ ‫َّ‬ ‫وحذر من عواقبها الوخيمة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫مذ أعلنت الهدنة وبدأت املؤتمرات السياسية تشغل محافل الساسة‪،‬‬ ‫والناس في حيرة وقلق مقيم‪ .‬وقد بادر الزعيم إلى وضع البالغ الشهير بصدد‬ ‫قرار تقسيم فلسطين (ولم يكن موضوع التقسيم قد ورد على لسان ولم‬ ‫يكن يتوقعه أحد من الناس أو يتحسب له)‪ ،‬ثم دعا الزعيم مجلس العمد‬ ‫ً‬ ‫فورا إلى جلسة طارئة لتداول موضوع البالغ املع ّد الذي يعالج رؤية النهضة‬ ‫حول وضع البالد وما آلت إليه معركة تحرير فلسطين آنذاك كما يقدم‬ ‫وجهة نظر الحزب لألمة بمنتهى الوضوح والجرأة والصدق القومي الاجتماعي‬

‫‪121‬‬


‫ً‬ ‫محددا مسؤولية الكارثة على عاتق الشعوذة «الوطنية» وعقلية الاتكالية‬ ‫«العروبية»‪.‬‬ ‫عقدت الجلسة وأوضح الزعيم للعمد ّ‬ ‫تأمله في مرامي الهدنة وأبعاد‬ ‫املؤامرة التي ّ‬ ‫تعد لألمة مفاجأة بتقسيم فلسطين‪ .‬وتال البالغ لالطالع على رأي‬ ‫كل من العمد في أمر البالغ وتفاصيل ما انطوى عليه من وصف لألوضاع‬ ‫الناشئة والتوقعات املرتقبة‪.‬‬ ‫وقد جاء البالغ في تحليله ألسباب الكارثة وعوامل حدوثها بلهجة ّ‬ ‫جد‬ ‫صارمة من ضمن حملة عاصفة على فئة السياسيين الرجعيين وزبانيتهم وما‬ ‫اقترفوه ويقترفون من تآمر يدل على غباء فاضح وعقلية ملتوية ال أخالقية‬ ‫حتى أصبحوا الويل النازل على ألامة بل مصدر الكوارث كلها‪.‬‬ ‫وافق مجلس العمد على فكرة البالغ وضرورته ومناسبته املهمة لكنهم‬ ‫ّ‬ ‫فوجئوا من لهجته «القاسية» وهجومه «الجارح» على من يشكلون بنظرهم‬ ‫ّ‬ ‫وحكامها‪ّ .‬‬ ‫وتخوفوا كثيرًا من أسلوب الرد وما يحتمل أن ّ‬ ‫يجره على‬ ‫قادة البالد‬ ‫الحزب من ردود فعل مؤذية معرقلة‪ .‬لكنهم لم يفاتحوا الزعيم بما في‬ ‫نفوسهم من ّ‬ ‫تخوف وقلق على مصلحة الحزب بالنظر إلى أسلوب صياغة‬ ‫البالغ‪ .‬واكتفوا باملوافقة إلاجمالية على البالغ وباللجوء إلى الصمت‪ .‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫انفضت الجلسة بعد أن سل م الزعيم إلى عميد إلاذاعة البالغ للعمل على‬ ‫طبعه وتوزيعه بكميات كبيرة بالتعاون مع سائر العمد كل وفق صالحياته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد غادر العمد منزل الزعيم‪ ،‬وكنت آنذاك عميدا للداخلية‪ ،‬بقصد التوجه‬ ‫إلى املطبعة‪ّ ،‬‬ ‫لكنهم توقفوا في صيدلية ألامين فؤاد أبي عجرم لتداول أمر‬ ‫البالغ والتشاور في شأن ما ّ‬ ‫يحز في نفوسهم من معاناة بسبب عدم اقتناعهم‬ ‫كل ما يدور في البالغ وعدم مصارحة الزعيم والتعاون معه ّ‬ ‫بصواب ّ‬ ‫لحل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ومتوجب قوميا اجتماعيا‪.‬‬ ‫إلاشكال الحاصل كما هو مطلوب‬

‫‪129‬‬


‫عقد العمد لقاءهم في صيدلية ألامين فؤاد أبي عجرم ملعالجة مشكلة‬ ‫البالغ قبل مباشرة طبعه‪ .‬وإثر تبادل آلاراء والتباحث فيما يشكو منه العمد‬ ‫ً‬ ‫بشأن البالغ رأى الجميع ضرورة الاتصال بالزعيم فورا والعودة إليه لإلدالء‬ ‫بكل ما يدور في خواطرنا وتصوراتنا ثم الخروج من املأزق الضاغط على‬ ‫ً‬ ‫وجداننا جميعا بأفضل الحلول‪ .‬تناولت الهاتف واتصلت بحضرة الزعيم‪.‬‬ ‫وكان ذلك بعد مغادرتنا منزله بأقل من ساعة‪ .‬فما أن سمع صوتي حتى‬ ‫ً‬ ‫عرفه وبادرني سريعا بالسؤال «من أين تتكلم»؟ وملا عرف أننا موجودون في‬ ‫الصيدلية واملفروض أن نكون في املطبعة طلب أن نعود إليه كلنا‪ .‬وهو‬ ‫بانتظارنا‪.‬‬ ‫وصلنا إلى منزل الزعيم بأقص ى سرعة وقبل أن نطلعه نحن على ما‬ ‫نريده منه بادرنا القول‪ :‬لقد اجتمعتم في الصيدلية عوض الذهاب إلى‬ ‫املطبعة ألنكم غير مقتنعين بما ورد في البالغ‪ .‬فأجبناه باإليجاب وشرحنا له‬ ‫ً‬ ‫مطوال كل شاردة وواردة حدثت معنا منذ اطالعنا على نص البالغ‪ .‬فقطب‬ ‫وجهه بادئ ألامر وتج َّهم ثم عاد فابتسم وهو يقول‪ :‬لنفصل املوضوع إلى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بصحة املواقف الواردة في البالغ إن من حيث‬ ‫شقين‪ :‬ألاول ما يتعلق فقط‬ ‫ّ‬ ‫تحليل الوقائع أو إدانة املسؤولين عن وقوع الكارثة‪ .‬والثاني ما يتعلق‬ ‫بالصيغة وما يمكن أن ّ‬ ‫تسبب للحزب أو ألشخاصنا من صعوبات أو عداوات‬ ‫قد يكون ألافضل عدم إثارتها والتعرض لها في هذه آلاونة‪ .‬تم التداول‬ ‫الدقيق العميق في موضوع الشق ألاول حول صواب الرؤية وسالمة إلادراك‬ ‫للوقائع وضرورة ما قيل ووجوب إعالنه بأكمله‪ .‬أما في الشق الثاني فقد‬ ‫ً‬ ‫أفاض الزعيم في أن النهضة ال تعبأ أبدا في القيل والقال وما تثيره مواقفها‬ ‫من ردود الفعل من قبل الرجعية والرجعيين‪ ،‬إنما تعمل إلحداث تلك الردود‬ ‫وتلك ّ‬ ‫الهزات التي ّ‬ ‫يسب بها العالج نفسه في ألاجسام املريضة املتعبة حتى‬ ‫ّ‬ ‫تستريح وتتعافى بعد أن تكون جميع حاالتها قد اتضحت وتكشفت جميع‬ ‫‪128‬‬


‫أعراض املرض ودخائله الكامنة أمام التشخيص ولدى املعالجة‪« .‬ليس‬ ‫ْ ّ‬ ‫عندنا ش يء مكتوم وش يء معلن‪ّ ،‬‬ ‫ألننا لم نخف قط من إعالن حقيقتنا‪ .‬لم‬ ‫يوجد حزب‪ ،‬في العالم كله‪ ،‬واجه من الصعوبات وألاضاليل والعراقيل‬ ‫وإلاشاعات ما واجهه وانتصر عليه هذا الحزب» فإذا كنتم تعرفون بأن ما‬ ‫نقوله حقيقة ال ريب فيها‪ ،‬فعلينا إذن أن نتحمل جميع النتائج التي تلزمنا‬ ‫بها شجاعتنا وقضيتنا‪ .‬وإذا كنتم أيها العمد غير قادرين أمام ردود الفعل‬ ‫ً‬ ‫املرتقبة فإنني أعفيكم حاال من مجابهتها وأتحملها بمفردي أمام ألامة‬ ‫ّ‬ ‫والتاريخ الذي يسطر ما نحن وما نفعل‪« .‬وسواء أفهمونا أم أساؤوا فهمنا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فإننا نعمل للحياة ولن نتخلى عنها»‪ .‬وانصرفنا بعد ذاك إلى التنفيذ الواجب‬ ‫ونحن ّ‬ ‫نتمتع بقناعة مطلقة وعزيمة مطلقة ملواجهة النصر املحتوم الذي‬ ‫مرد إلرادتنا وال ّ‬ ‫نعمل له ونسير إليه‪ .‬ال ّ‬ ‫تردد في إقدامنا‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫«الخج ـ ـ ـ ـل من الرذيلـ ـ ـ ـة طع ـ ـ ـنة للفض ـ ـ ـ ـ ـيلة»‬ ‫سعاده‬

‫ًّ‬ ‫فنا يخدم غاية» هي العقيدة والنظام الجديد‪،‬‬ ‫بين أن تكون «السياسة‬ ‫ً‬ ‫وأن تكون السياسة غرضا لذاتها تنصاع إليه العقيدة بمفاهيمها ومضامينها‬ ‫الفكرية النفسية‪ ،‬فرق عميق في كيانية الحزب وأبعاد النهضة وفي دعائم‬ ‫وجودهما وماهية أهدافهما‪ .‬فالحزب الذي وجد من ألاساس ليصون النهضة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مجرد «عدد من الناس مجتمعين‬ ‫يتحول بجعل السياسة هدفا له إلى‬ ‫للمناداة بوحدة سورية فحسب أو للعمل للنيابة‪ ،‬كما يعمل املشتغلون في‬ ‫ّ‬ ‫ومتكتلين ملصلحة شخصية خصوصية»‪ .‬هذا ما أصاب‬ ‫السياسة متآزرين‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قيادي يه وسلوكهم أثناء غياب الزعيم في املهجر‪،‬‬ ‫نفسية بعض‬ ‫الحزب في‬ ‫ّإبان الحرب العاملية الثانية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫منهم من ّ‬ ‫تقرب من دهاقنه السلطة اللبنانية‪ ،‬آنذاك‪ ،‬تزلفا وطلبا‬ ‫ً‬ ‫للمنفعة الشخصية‪ ،‬واضعا بين يديها تغييرات جذرية في املبادئ وألانظمة‬ ‫ً‬ ‫الحزبية‪ ،‬حتى الشعارات املعروفة والتي أصبحت ّ‬ ‫تكون جزءا من شخصية‬ ‫ّ‬ ‫املوجه ألغراض سياسية‪ .‬فكان‬ ‫الحزب ومزاياه تناولها التحوير والتبديل‬ ‫‪121‬‬


‫«الواقع اللبناني» الذي كتبه نعمة تابت وألقاه في اجتماع بعقلين سنة‬ ‫ً‬ ‫‪ .1744‬وهو يشكل خروجا عن معنى ألامة الذي نفهمه‪ ،‬والانتقال بالقول‬ ‫ّ‬ ‫بأمة جديدة «ألامة اللبنانية»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫في «الواقع اللبناني» كل ش يء قومي صار «لبنانيا»‪ .‬فقد تكلم نعمة تابت‬ ‫ً‬ ‫فيه عن قيم لها صفة القومية العامة ونسبها إلى لبنان واللبنانيين بدال من‬ ‫أن ينسبها إلى سورية والسوريين كما ّيتفق مع الحقيقة‪ .‬من هذه القيم‬ ‫التراث وألاخالق والثقافة والتاريخ والرسالة‪.‬‬ ‫وكان بعد «الواقع اللبناني» تغيير الزوبعة‪ ،‬شعار الحزب‪« ،‬بشارة»‬ ‫أخرى جديدة‪ ،‬دون توضيح لهذا التدبير وال تبرير ملوجباته‪ ،‬ثم كان تع ُّمد‬ ‫الدوائر املركزية إغفال ذكر الزعيم وسورية من أي نشرة أو تعميم أو بحث‬ ‫حزبي‪ ،‬دونما سبب ظاهر‪ .‬هكذا كان يتسلل الانحراف والتحوير إلى فكر‬ ‫الحزب وتنظيماته املعروفة‪ ،‬بتخطيط وتصميم ّ‬ ‫وسرية مشبوهة‪ ،‬هادفة إلى‬ ‫إرضاء ذوي السلطة والسلطان في الدولة اللبنانية‪ ،‬حينذاك‪ ،‬خدمة للمآرب‬ ‫الخصوصية التي أصبحت فوق مصلحة القضية‪.‬‬ ‫إلى أن عاد الزعيم من املغترب في الثاني من آذار سنة ‪ ،1749‬وألقى‬ ‫خطابه التاريخي املشهور على حشود املستقبلين في باحة املطار‪ ،‬من‬ ‫القوميين الاجتماعيين وألاصدقاء واملؤيدين‪ .‬وكان هذا الخطاب القول‬ ‫الفصل في العودة إلى العقيدة والنظام وإلغاء جميع البدع الدخيلة‬ ‫املستحدثة التي دست في الحزب كالسم في الدسم لتكون أداة استغالل‬ ‫ألفراد قالئل عصفت بهم ألاطماع الخصوصية على حساب النهضة وألامة‪.‬‬ ‫ومنذ ذلك اليوم‪ ،‬راح الزعيم يعيد ألامور الفكرية العقدية‬ ‫ً‬ ‫والتنظيمات الدستورية إلى قواعدها وأصولها القومية الاجتماعية‪ ،‬محاسبا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حينا‪ ،‬وموجها حينا آخر‪ ،‬حتى كانت جلسة املجلس ألاعلى التي عقدت في‬ ‫‪121‬‬


‫الرابع من نيسان ‪ 1749‬في عيتات ‪ -‬الغرب‪ ،‬بحضور أعضاء مجلس العمد‬ ‫وعدد من املسؤولين املركزيين السابقين أثناء غياب الزعيم عن الوطن‪ .‬وقد‬ ‫خ ّ‬ ‫صصت هذه الجلسة التاريخية لطرح جميع إلاشكاالت الفكرية الدستورية‬ ‫وسواها التي أ دخلت إلى الحزب‪ ،‬ومعالجة جميع أسبابها الظاهرة وخلفياتها‬ ‫ً‬ ‫البعيدة ثم تحديد مسؤولية املسؤولين عن افتعالها واملأخوذين بها تضليال‬ ‫ً‬ ‫وتبلبال‪.‬‬ ‫فتوجه الزعيم إلى نعمة ثابت‪ ،‬بوصفه رائد تلك البدع املزيفة بقوله‪:‬‬ ‫«الحظت يا حضرة ألامين‪ ،‬أنكم ّ‬ ‫تعمدتم‪ ،‬أثناء غيابي‪ ،‬إغفال كلمة‬ ‫سورية وكلمة الزعيم من كل النشرات الحزبية والبيانات العامة‪ ،‬فما‬ ‫السبب لهذا إلاجراء؟»‪.‬‬ ‫أجاب نعمة تابت بقوله‪ :‬إنني الحظت‪ ،‬يا حضرة الزعيم‪ ،‬أن الشعب في‬ ‫لبنان ينفر بمجمله من كلمة سورية وكلمة الزعيم مما حملنا على إيجاد حل‬ ‫لهذه املشكلة‪ .‬فلجأنا إلى هذا التدبير كأسلوب إذاعي مرن للتقرب من الشعب‬ ‫والتفاهم معه وليس ألي غرض آخر سوى مصلحة الحزب وانتشاره‪.‬‬ ‫أجابه الزعيم‪« :‬ال شك أن نفور الشعب من الحزب أمر شديد‬ ‫الخطورة وجدير بكامل اهتمامنا وعنايتنا‪ ،‬ألن معركتنا هي معركة الوصول‬ ‫إلى الشعب‪ ،‬غير أن إلزالة إلاشكال الحاصل بيننا وبين الشعب‪ ،‬إن ّ‬ ‫صح هذا‬ ‫ّ‬ ‫وصحت أسبابه كما تقول‪ ،‬يا حضرة ألامين‪ ،‬إحدى وسيلتين‪:‬‬ ‫الزعم‬ ‫الوسيلة ألاولى‪ :‬إحداث ما ّ‬ ‫يود الشعب من تغيير وتبديل في قضيتنا‬ ‫ً‬ ‫بالشكل والجوهر نتيجة جهله لحقيقة رسالتنا‪ ،‬وصوال إلى إزالة نفوره منا‬ ‫ومعالجة ابتعاده عن حركتنا‪ .‬نكون‬ ‫عندئذ قد ألغينا أنفسنا وأزلنا وجودنا‬ ‫ٍّ‬ ‫كنهضة‪ .‬فال يعود من مبرر لنفوره على إلاطالق‪ .‬وهذا هو منتهى الشك‬ ‫بصحة قضيتنا والهزيمة الكلية من مواجهة مسؤولياتنا تجاه الشعب‬ ‫‪122‬‬


‫ومصيره‪ .‬ليس غرض النهضة مسايرة تصورات الشعب بل توعيته إلى‬ ‫حقيقته‪.‬‬ ‫الوسيلة الثانية‪ :‬تقوم على عميق إيماننا بصحة ما ّ‬ ‫نقدمه للشعب‪،‬‬ ‫وعميق تمسكنا بسالمة قضيتنا من كل شائبة‪ ،‬والعمل على تحقيق أهداف‬ ‫النهضة وغايتها دون مساومة وال مواربة‪ .‬وبعدها نسعى ملعرفة أسباب عدم‬ ‫ّ‬ ‫تقبل الشعب لقضية وجود ه وسيادته في النهضة ثم العمل على تذليل كل‬ ‫عقبة تحول دون إقباله على صفوفنا واعتناقه العقيدة القومية الاجتماعية‬ ‫ونظامها والصراع من أجل انتصارها‪ ،‬وذلك بابتكار ألاساليب والوسائل‬ ‫تعرفه على حقيقة النهضة ّ‬ ‫إلاذاعية الثقافية والعملية لتسهيل ّ‬ ‫وتفهمه‬ ‫لحقيقة مبادئها وأهدافها‪.‬‬ ‫غير أن هذه الوسيلة العملية الصحيحة إليصال القضية إلى الشعب‬ ‫تتطلب التمرس في الجهاد الدؤوب‪ ،‬والتضحية املستمرة طريقها طويلة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وشاقة‪ ،‬محفوفة باملصاعب واملخاطر‪ّ .‬‬ ‫لكنكم تخليتم عنها واخترتم سبيل‬ ‫الهزيمة ألنكم فقدتم روح النضال والشجاعة في أعمالكم وخسرتم مناقب‬ ‫البطولة َّ‬ ‫املؤيدة بصحة العقيدة»‪.‬‬ ‫بعدئذ‬ ‫وقد حل الزعيم ذلك املجلس ألاعلى في جلسته تلك‪ .‬وتابع‬ ‫ٍّ‬ ‫التحقيق مع نعمة تابت في سائر شؤون الحزب ومواقفه إبان غياب الزعيم‬ ‫ّ‬ ‫القسري عن الوطن‪ .‬وبعد أن تأكد لديه تواطؤ نعمة تابت مع الحكومة‬ ‫اللبنانية نتيجة ملا أجراه من تغييرات في ألاسس واملفاهيم القومية‬ ‫الاجتماعية‪ّ ،‬‬ ‫لجر الحزب إلى عجلة الساسة املحترفين مقابل وصوله‬ ‫ً‬ ‫الشخص ي إلى مراكز املكانة والوجاهة على حساب الحزب وألامة‪ ،‬فضال عن‬ ‫تآمره الثابت بالسعي لتأخير عودة الزعيم إلى الوطن ومؤازرة الحكومة‬

‫‪122‬‬


‫اللبنانية في إصدار مذكرة التوقيف بحق الزعيم ومطاردته إثر عودته إلى‬ ‫الوطن في الثاني من آذار ‪.1749‬‬ ‫ثم طرد نعمة تابت ومأمون إياس ومن كان يدور آنذاك في فلكهما‪ .‬وقد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أصبح فيما بعد نعمة تابت عضوا في الرابطة املارونية ومأمون إياس عضوا‬ ‫في الكتلة الوطنية‪ .‬وما يزالان حتى آلان على والئهما الجديد‪.‬‬ ‫بعد أيام من طردهما‪ ،‬صادف مرور نعمة تابت في شارع املعرض ‪-‬‬ ‫ً‬ ‫بيروت‪ ،‬وقد ملح على الرصيف املقابل ألامين كامل أبو كامل‪ ،‬فسارع قاطعا‬ ‫إليه الشارع للسالم عليه بلهفة وحفاوة بالغة‪ .‬فوجد ألامين كامل نفسه أمام‬ ‫ً‬ ‫ألامر الواقع‪ ،‬وبعد تردد عابر بادله السالم واملصافحة تأدبا‪ ،‬ومض ى كل‬ ‫منهما في سبيله‪.‬‬ ‫وقد بلغ الزعيم لقاء ألامين كامل أبو كامل في شارع املعرض باملطرود‬ ‫نعمة تابت وتبادلهما التحية واملصافحة‪ .‬فاستدعى ألامين كامل واستوضحه‬ ‫ألامر‪ ،‬ثم قال له‪:‬‬ ‫«لقد ارتبكت ‪ ،‬يا حضرة ألامين إزاء انهماك نعمة بالسالم عليك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومددت إليه يد املصافحة مراعاة لشعوره وإكراما لحفاوته ولطفه‪ .‬لكن‪ ،‬أال‬ ‫ترى‪ ،‬أن خجلك من الرذيلة طعنة للفضيلة! فماذا أبقيت للفضيلة من‬ ‫تقدير وإكرام!»‪.‬‬

‫‪124‬‬


‫الثق ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـة بالحـ ـ ـ ـ ـ ـ ـزب وع ـ ـ ـ ـ ـدالته النبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيلة‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫نحن دولة ألامة السورية املصغرة‪ .‬نمثل الشعب السوري بجميع‬ ‫فعالياته الفكرية‪ ،‬الاجتماعية والاقتصادية ونتفاعل وحدة باإلدراك‬ ‫للحقيقة ووحدة باملنطلق والاتجاه ووحدة باملطلب والهدف‪ ،‬حين نمارس‬ ‫توحد بيننا ّ‬ ‫العقلية ألاخالقية الجديدة الراقية التي ّ‬ ‫وتؤهلنا ملواجهة وحدة‬ ‫ً‬ ‫مجتمعا ّ‬ ‫موحد إلايمان وإلارادة كي نحقق ألامر الخطير‬ ‫الحياة ووحدة املصير‬ ‫الذي تعاقدنا على اعتناقه والنضال من أجل انتصاره وخلوده ألجيال لم‬ ‫تولد بعد‪.‬‬ ‫لقد أدركنا في الحزب السوري القومي الاجتماعي حقيقة كوننا دولة‬ ‫ألامة السورية وصرنا نجسد دعائمها ألاربعة‪ :‬الحرية والواجب والنظام‬ ‫ّ‬ ‫والقوة حتى أخذ سلوكنا يتسم «باالبتكار ألاصلي الذي هو من مزايا شعبنا»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫هكذا راح ألاعضاء يتعاملون معا ويعاملون آلاخرين وفق مبادئ هذه الدولة‬ ‫و« نظامها القومي الاجتماعي الذي يصهر التقاليد املنافية لوحدة ألامة‬ ‫والنفسيات الشخصية املنافية لنفسية ألامة»‪ .‬وقد ّ‬ ‫عم إدراك هذه الحقيقة‬ ‫‪125‬‬


‫املواطنين ممن ّ‬ ‫تعرفوا إلى أعضاء الحزب وخبروا أخالقهم من خالل‬ ‫عالقاتهم بهم ومعامالتهم معهم في ّ‬ ‫شتى الشؤون وألاعمال‪.‬‬ ‫جاء أحد املواطنين إلى الحزب في بيروت بعيد إلغاء الدولة اللبنانية‬ ‫ً‬ ‫ملذكرة التوقيف سنة ‪ 1749‬يسأل عن عميد الداخلية ليعرض إليه أمرا‬ ‫ً‬ ‫خاصا وصفه بأنه هام‪ .‬تقدمت إليه وعرفته بنفس ي وقد ّ‬ ‫رحب بمعرفته لي‬ ‫ً‬ ‫بمنتهى التهذيب واللياقة لكن أيضا بكثير من الارتباك املشوب بالخجل‬ ‫ً‬ ‫والتهيب‪ .‬وقد بدا منه ّ‬ ‫ّ‬ ‫تردد ظاهر بقبول دعوتي إليه للجلوس وقد ّ‬ ‫ظل واقفا‬ ‫يحملق بي دون أن ي نبس بكلمة ثم جلس بينما الكالم كان يتلجلج في حلقة‬ ‫ً‬ ‫دون أن يتمكن من إلافصاح عن حاجته إلى أن همس قائال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ أشار ّ‬‫علي بعض ألاصدقاء أن آتي إلى الحزب وأعرض عليكم أمرا‬ ‫ً‬ ‫خاصا يتعلق بأحد رفقائكم فهل ذلك ممكن ومسموح في نظامكم‪.‬‬ ‫يهمنا ّ‬ ‫• نعم تفضل‪ّ ،‬‬ ‫كل ما يتعلق بأي رفي ق ونعمل على معالجته‬ ‫بالعناية والعدالة‪.‬‬ ‫ثم توقف عن الحديث ليلتقط أنفاسه وهو بحال من الاضطراب‬ ‫ً‬ ‫والحيرة تثير الانتباه وأضاف قائال‪:‬‬ ‫ أخبروني أنكم تهتمون بأمري وتساعدوني على حل مشكلتي مع أحد‬‫القوميين بوجدان وعدالة‪.‬‬ ‫• من كل ّبد نحن نحرص على التعامل مع جميع الناس بالحق والدفاع‬ ‫عن كل حق دون تفريق بين واحد وآخر وال محاباة ضد أحد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ إذن‪ ،‬أخبرك‪ ،‬يا حضرة العميد‪ ،‬أن لي مبلغا من املال مع ألاستاذ‬‫جار في مشروعه «التموين العائلي» القائم في‬ ‫أسد ألاشقر من أصل حساب ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫محلة الجميزة ومض ى على موعد تسديد الدين بعض الوقت دون أن أجد‬ ‫‪121‬‬


‫ً‬ ‫سبيال لالتصال به وتذكيره بتسديده‪ .‬إني بأشد الحاجة في هذه ألايام إلى‬ ‫املال ألنني أعاني أزمة أوقعتني بخسارة فوق طاقتي ّ‬ ‫تحملها‪ .‬ولوال ذلك ملا‬ ‫أزعجتكم‪ .‬وها أني أعرض ألامر على الحزب ليقض ي بحكمه مهما كان نوعه‪.‬‬ ‫أرجو املعذرة وعدم املؤاخذة إلشغالكم بمثل هذا املوضوع البسيط ال بل‬ ‫التافه بالنسبة إليكم‪.‬‬ ‫• هل أن املبلغ متفق على مقداره مع الرفيق (آنذاك) أسد ألاشقر‪ .‬وما‬ ‫هو وجه الخالف بينكما؟‬ ‫ نعم يا عميد الاتفاق تام على املبلغ وعلى تقسيطه لعدد من‬‫الدفعات‪ .‬وقد سدد منه ألاستاذ قسطين أي ما يقارب نصف املبلغ إلاجمالي‪.‬‬ ‫• فما هي دعواك على الرفيق أسد ألاشقر؟ وماذا تطلب منا عمله من‬ ‫أجلك مع الرفيق أسد ألاشقر؟‬ ‫ّ‬ ‫التكرم‬ ‫ معاذ هللا‪ ،‬أنا ال أقيم دعوى على ألاستاذ أسد بل أرجوكم‬‫بمساعدتي إلقناع ألاستاذ بتسديد املتأخر مع ما تبقى من املبلغ دفعة‬ ‫ّ‬ ‫واحدة وخالل هذا الشهر إذا أمكن‪ .‬فيسهل ّ‬ ‫علي التخلص من ألازمة التي أنا‬ ‫واقع فيها وال يسعني الخروج منها بدون ذلك‪.‬‬ ‫• جيد‪ ،‬يمكنك‪ ،‬يا ّ‬ ‫سيد أن تعود إلى هذا املكان ملواجتهي بعد يومين‬ ‫وستسير ألامور على أحسن وجه يفرضه الوجدان والحق ويقتضيه الشعور‬ ‫معك‪ .‬إلى اللقاء‪ ،‬ال تتأخر عن املوعد‪ ،‬إني هنا بانتظارك‪ .‬موفق‪.‬‬ ‫رويت ذلك املساء لحضرة الزعيم هذه القصة الطريفة التي ّ‬ ‫تنم عن‬ ‫عمق ثقة الناس بحقيقة شعور النهضة النبيل تجاههم وتمام استعدادها‬ ‫ملساعدتهم العادلة املنصفة وأنها مالذهم في امللمات‪ .‬في اليوم التالي دعوت‬ ‫الرفيق أسد إلى عمدة الداخلية واستوضحته تفاصيل الحادثة املذكورة‬

‫‪129‬‬


‫فأفاد بصحة كل ما ورد على لسان ذلك املواطن وأنه على ّ‬ ‫أتم الاستعداد‬ ‫لتسديده كامل املبلغ الباقي له بالسرعة املطلوبة‪ .‬وقد طلبت من الرفيق أسد‬ ‫ألاشقر الحضور إلى عمدة الداخلية في املركز في املوعد املضروب للمواطن‬ ‫ً‬ ‫معا ّ‬ ‫ويتفقا على كل ش يء‪.‬‬ ‫ليتواجها‬ ‫حضر املواطن سليم والرفيق أسد ألاشقر بتمام املوعد املحدد إلى‬ ‫مكتب عميد الداخلية وتباحثا بأمر املبلغ املالي الباقي للمواطن لدى الرفيق‬ ‫أسد ألاشقر‪ .‬كم كان خجل املواطن سليم من الرفيق أسد ألاشقر‪ .‬وكم كرر‬ ‫اعتذاره منه ورجاه ع دم مؤاخذته ألنه اضطر إلى مراجعة الحزب بشأن ما‬ ‫ً‬ ‫بينهما من مال مؤكدا بأن اتصاله بالحزب كان بقصد الحصول على‬ ‫مساعدته إبان أزمته املالية الخانقة لم يكن يطلب غير الاستعانة بالحزب ال‬ ‫الشكوى وال إقامة دعوى بحقه‪ .‬فقال له الرفيق أشقر ال تؤاخذ نفسك إن‬ ‫لجوءك إلى الحزب ولو ّ‬ ‫بنية إقامة دعوى أمر يدل على ثقتك بالحزب‬ ‫ً‬ ‫وبعدالته النبيلة وإيمانك بعميق اهتمامه بشؤون جميع املواطنين فضال عن‬ ‫أعضائه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد تم الاتفاق بينهما على كيفية التسديد املطلوبة شعورا من الرفيق‬ ‫أسد ألاشقر مع املواطن فيما يعانيه من أزمة ومأزق حرج ومشاطرة من‬ ‫الحزب بالتخفيف عن كاهله ما أمكنه من وزر ألازمة املصاب بها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأخيرا أكد عميد الداخلية للمواطن وبحضور الرفيق أشقر أن ما‬ ‫ّ‬ ‫اتفق عليه آلان سينفذ بحذافيره دون تلكؤ وعليه أن يعلم العمدة بالنتائج‬ ‫ّ‬ ‫في حينها ولدى الحاجة فالحزب لن يتخلى عن واجبه بإغاثة كل متألم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غادر املواطن سليم مركز الحزب مودعا بكل امتنان ملا القاه من نبل‬ ‫املعاملة وحسن التلبية لنداء الحق والخير والعطاء‪ .‬ولم يفته أن يذكر‬

‫‪128‬‬


‫لصديقه جميل صنيعه لنصحه إياه بمراجعة الحزب ومناشدته املعونة‬ ‫واملؤازرة كي ينال مبتغاه‪.‬‬ ‫وقد ّ‬ ‫شدد على أن الحزب حر ّي بكل تقدير وإعجاب وجدير بكل تأييد‬ ‫ً‬ ‫وأنه سيكون‪ ،‬إن شاء هللا‪ ،‬وفيا ملا ملسه من ألاخالقية القومية النبيلة ومن‬ ‫صفاء املحبة وصدق التعامل‪ .‬وال ّبد أن يكون النجاح حليف الحزب‪ ،‬حزب‬ ‫إلانسان امللهوف املعذب طالب إلانصاف والعدالة والكرامة‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫حـ ـ ـ ـق إلاق ـ ـ ـناع هو حـ ـ ـ ـق الاعت ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـناق‬

‫لم يكن قد مض ى على عودة الزعيم من املغترب سوى بضعة أسابيع‬ ‫إبان استمرار مذكرة التوقيف التي كانت السلطة اللبنانية قد أصدرتها بحق‬ ‫الزعيم‪ ،‬حين راح الزعيم يعد الطبعة الرابعة املوسعة لتعاليم النهضة‬ ‫ّ‬ ‫تتضمن تفاصيل وإيضاحات جديدة كي‬ ‫السورية القومية الاجتماعية التي‬ ‫ً‬ ‫يقدمها للرأي العام الحزبي فضال عن الشعب السوري بأسره وإلى العالم‬ ‫والقراء ّ‬ ‫ّ‬ ‫عامة‬ ‫كله‪ .‬وقد حملت هذه الطبعة الجديدة آنذاك إلى الدارسين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ملحقا خاصا من صفحات عديدة باسم «إيضاح» يعرض فيه الزعيم‬ ‫التعديالت الجديدة التي أدخلها إلى حدود الوطن السوري من جهة الشمال‬ ‫والشمال الشرقي وشمولها نجمة جزيرة قبرص واملثبتة في نص املبدأ‬ ‫ً‬ ‫ألاساس ي‪ .‬ويعلل الزعيم إضافته إلى اسم الحزب كلمة «اجتماعي» مبينا‬ ‫ً‬ ‫الغرض منها ومشيرا إلى جميع مصادر ألابحاث والدراسات التي أوصلت‬ ‫الزعيم إلى الكشف العلمي عن هذه الحقائق وأهميتها القصوى مما اقتض ى‬ ‫ألاخذ بها واعتمادها لإلفادة منها أمانة للحقيقة بجميع دقائقها وجوانبها‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫ّ‬ ‫املتضمنة بعض التعديل‬ ‫تلك ألاثناء عينها وقبيل توزيع الطبعة الرابعة‬ ‫للمبادئ السورية القومية الاجتماعية ألاساسية طلب الزعيم من العمد في‬ ‫إحدى جلسات مجلس العمد املنعقدة برئاسته أن يقتصر مجمل النشاط‬ ‫الحزبي خالل فترة معينة على صفوف القوميين الاجتماعيين من دون سائر‬ ‫املواطنين‪ .‬كي يشرح لهم ما استجد من أفكار ّ‬ ‫محددة أدخلت على مضمون‬ ‫مبادئ الحزب ومن صيغ بعض التعابير لتكون لها املداليل القومية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الاجتماعية ألاكثر دقة وألاوفى وضوحا‪ .‬حتى يتاح لألعضاء مبدئيا تفهم‬ ‫مسائل قضيتهم واستيعاب جميع معطياتها ومفاهيمها قبل الشروع بإذاعتها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ألنه من بديهيات حقهم تدارس شؤون الفكر القومي الاجتماعي معا‬ ‫والاقتناع الكامل بصحتها وسالمتها حتى يصار إلى تقديمها إلى ألامة كلها وإلى‬ ‫ً‬ ‫العالم بأسره‪ .‬وقد أشار الزعيم أيضا بضرورة وضع الئحة تضم أسماء‬ ‫جميع القوميين الاجتماعيين الذين قد يتعذ ر علينا إفهامهم الجديد من‬ ‫مبادئ الحزب وإقناعهم بأهمية ألاخذ به باعتباره وحدة كلية مع كامل‬ ‫املفاهيم وألاسس القومية الاجتماعية‪ .‬من أجل أن يدعو الزعيم هؤالء‬ ‫لالجتماع لتسديد الشروح الوافية التي يحتاجون بها إليه مباشرة‪ .‬فال يبقى‬ ‫بعد ذلك لدى أحد ألاعضاء أي غموض أو إشكال حول أية نقطة في مفهوم‬ ‫العقيدة السورية القومية الاجتماعية ونظامها لينطلق كل بدوره إلى إقناع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫آلاخرين مزودا بالقناعة التامة‪ .‬وبذلك يكون الزعيم قد أجرى نوعا من‬ ‫استفتاء حول ّ‬ ‫تقبل أعضاء الحزب التغييرا ت التي أحدثها في نص بعض‬ ‫املبادئ ما دام هؤالء هم أحد طرفي التعاقد في تأسيس الحزب السوري‬ ‫القومي الاجتماعي ولهم بالتالي ملء الحق الشرعي في إبداء الرأي واملالحظة‬ ‫وتقديم وجهات نظرهم باألخص في ما يعني املسائل العقدية الفكرية‪ .‬كذلك‬ ‫يتم للزعيم الوقوف عن كثب على حقيقة الوضع الحزبي والتأكد من مدى‬ ‫ّ‬ ‫تقبل القوميين الاجتماعيين بالفكر والفعل ملا أدخله هو من جديد مهم على‬

‫‪141‬‬


‫مبادئ الحزب وتعاليمه‪ .‬هذا الجديد الذي يشكل إلايضاح ألاعمق داللة‬ ‫ً‬ ‫للنصوص ويتناول تفاصيل الشروح التي لم يتس َّن للزعيم سابقا إنجازها‬ ‫ً‬ ‫وإكمالها بسبب ظروف املالحقات آنفا‪ .‬فالزعيم قد أكد لنا أن ال حرية بال‬ ‫حوار وأن ال واجب وال نظام ب َّناء بدون التعامل بالتفاهم والفهم الصحيح‪.‬‬ ‫لذلك هو ال يصدر أمرًا بطاعة أفكاره ُّ‬ ‫وتأمالته الفكرية العقدية بل يحاور‬ ‫ويقنع‪ .‬عندها فقط تتكون قوة إلايمان وتتكامل القناعة ويتم الاندفاع املادي‬ ‫النفس ي السليم نحو ما يعمل به القومي الاجتماعي ويعمل له من حق وخير‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وجمال‪ .‬فال تكون القناعة فكريا ووجدانيا مجرد إجراء تنفيذي خاضع‬ ‫للتنفيذ كما هو قابل لالعتراض بعد التنفيذ‪ .‬الفكر ال يرتبط بنصوص‬ ‫عدل وت ّ‬ ‫دستورية قانونية أو بصالحيات إدارية لسلطات معينة قد ت ّ‬ ‫بدل‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫سريا كان أم علنيا‪.‬‬ ‫بالتصويت والاقتراع‬ ‫ودأب الزعيم من موقعه القيادي على التوجيه والتفاعل الصميم في‬ ‫وحدة املجتمع الروحية املادية وتأمين التجاوب الصحيح بين صاحب الدعوة‬ ‫إلى القومية السورية الاجتماعية وبين املقبلين على الدعوة تجاوب مجموع‬ ‫العناصر التي تكون كيان الجسم الحي‪ ،‬من يولون الزعيم كامل الثقة ومطلق‬ ‫التأييد ّ‬ ‫فيلبون كل أمر وكل طلب يصدر إليهم حتى إلاقدام فرحين على أذكى‬ ‫شهادة لسيادة ألامة السورية وفالح نهضتها القومية الاجتماعية‪ ،‬أمل ألامة‬ ‫الوحيد‪ .‬فالطاعة القومية الاجتماعية تجسيد عملي للقناعة واحترام صادق‬ ‫لألسس واملنطلقات واملقاصد‪.‬‬ ‫ال ّبد أن تقودنا العقلية ألاخالقية الجديدة بقوة التعاقد على تحقيق‬ ‫ألامر الخطير الذي يساوي وجودنا إلى ممارسة التعاون النبيل والتعامل البناء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومناقبيتنا بأن‬ ‫عقالنيتنا‬ ‫من أجل مصلحة سورية فوق كل مصلحة‪ .‬وتؤكد‬ ‫حق الاقتناع هو حق الاعتناق وأساسه ألاوحد في تأسيس إلايمان وإلارادة‬ ‫ً‬ ‫لتلبية التنفيذ ألافضل ما دامت القومية ثقة بالنفس ووعيا للحقيقة وما‬ ‫‪142‬‬


‫دام سعاده لم يأتنا سوى بالحقائق‪ ،‬التي هي نحن ومن نحن في حقيقة‬ ‫التعبير نحن الحق والخير والجمال‪ّ ،‬‬ ‫ترسخها قوة العقل ّ‬ ‫سيد الشرع ألاعلى‪،‬‬ ‫الشرع ألاساس ي‪ ،‬القادرة بإيمانها على تجسيد القضاء والقدر إرادة ألامة‬ ‫السورية التي ال ت ّ‬ ‫رد‪.‬‬

‫‪142‬‬


‫كـ ـ ـ ـ ـم م ـ ـ ـ ـ ـرة حيـ ـ ـ ـل بيني وب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـين ممارس ـ ـ ـ ـ ـتي‬ ‫لـمسؤوليات الزعامة!‬ ‫سعاده‬

‫عاد الزعيم من املغترب وبادر إلى إعادة النظر في تشكيل الهيئات‬ ‫ً‬ ‫بدءا من مجلس ْي ألاعلى والعمد ثم ّ‬ ‫املنفذيات‬ ‫املسؤولة إلادارية وسواها‪،‬‬ ‫وفروعها‪ ،‬رغم مالحقة السلطة اللبنانية إللقاء القبض عليه‪.‬‬ ‫وراح القوميون الاجتماعيون من رفقاء ومسؤولين يتقاطرون لالتصال‬ ‫به والسعي إليه أينما ّ‬ ‫حل في رحالته إلى فروع الحزب ويهرعون لالستفسار‬ ‫ً‬ ‫منه عن شتى املواضيع والشؤون الحزبية مهما بدت أحيانا أولية أو بديهية‪.‬‬ ‫وهو يوجه مداركهم إلى الجوهر ويسدد مفاهيمهم للصواب ويرشد‬ ‫ً‬ ‫اهتماماتهم إلى ألافضل وألاهم‪ ،‬واضعا جميع ألامور في نصابها ومكانها‬ ‫املناسب‪ .‬وكان يحيل الكثير من مطالبهم واقتراحاهم إلى الجهات الحزبية ذات‬ ‫الاختصاص والصالحيات للبت بها وإلاجابة عليها‪ ،‬بطريقة التسلسل النظامي‬ ‫املعروف في العمل الحزبي‪ .‬واستمر الرفقاء إلى ّ‬ ‫حد بعيد في إشغال الزعيم‬ ‫ً‬ ‫بكثير من الشؤون الحزبية العادية التي هي مبدئيا من ضمن مسؤوليات‬ ‫‪144‬‬


‫ً‬ ‫وصالحيات ألاجهزة الحزبية في املراكز أو الفروع‪ .‬وهو دوما يعاود تذكيرهم‬ ‫ّ‬ ‫بأصول النظامية الحزبية‪ ،‬لشدة ما كانت هذه ألامور العادية تكلفه من‬ ‫وقت وجهد ألا ْولى أن يصرفه في عمل أكثر أهمية وجدوى‪.‬‬ ‫تمادى القوميون الاجتماعيون في التوجه إلى الزعيم باالستيضاحات‬ ‫والاستفسارات عن مواضيع كان عليهم أن يتوجهوا بها إلى مذيع املديرية أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املنفذ العام لحلها وتسديدها‪ .‬إلى أن قال‪ ،‬ذات يوم‪ ،‬ألحدهم‪« :‬يا رفيقي‪ ،‬كم‬ ‫مرة حال أمثالك‪ ،‬بأسئلة كهذه‪ ،‬بيني وبين تأمين مسؤول يات الزعامة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وحملني على القيام بمسؤوليات فرعية عوضا عن مسؤوليتي ألاساسية التي‬ ‫تظل شاغرة فترات غير قليلة»‪.‬‬ ‫ثابر الزعيم على إحداث التغييرات في ألاجهزة الحزبية من ضمن حملة‬ ‫إعادة التنظيم لالنطالقة الجديدة‪ .‬وكان في رأس اهتماماته جعل كل مسؤول‬ ‫يعي ماهية مسؤوليته‪ ،‬وأن يعرف حدودها فال يتجاوزها وال يسمح لسواه‬ ‫بتجاوزها مهما كانت ّ‬ ‫املبررات‪ .‬إن أهم ما كان يتناوله بالتشديد وإلاصرار هو‬ ‫عدم اعتياد الرفقاء الرجوع إليه بكل شاردة وواردة‪ ،‬وخاصة عدم املجيء‬ ‫ً‬ ‫إليه بغية حل املشاكل التي ّ‬ ‫يتعرض لها املسؤول‪ ،‬دون محاولته أوال معالجتها‬ ‫باعتماده على نفسه وصالحياته الدستورية الواضحة كل الوضوح‪ .‬ال يجوز‬ ‫ّ‬ ‫يتحول املسؤول إلى ّ‬ ‫مجرد ساعي بريد‪ .‬همه ألاوحد إيصال الرسائل إلى‬ ‫أن‬ ‫الجهات املرسلة إليها بأمانة‪ ،‬وتنتهي مسؤوليته هكذا بصورة آلية فارغة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دائما يمتنع عن إمالء الحلول على طالبها ّ‬ ‫ليتلقاها‬ ‫لذلك كان الزعيم‬ ‫جاهزة ويأخذها أو يأخذ بها دون مشاركة بها ودون عناء في الحصول عليها‪.‬‬ ‫وكان ّ‬ ‫همه إقامة الحوار وتقريب وجهات النظر والتداول بها مع سواه حتى‬ ‫يصل به أو معه إلى إيجاد التقرير أو التدبير املطلوب بشأنها‪ .‬هو ّ‬ ‫يثقف‬ ‫بتوجيه املواهب وتحريك إلامكانيات الكامنة والثمينة بالتحرك وإلانتاج‬

‫‪145‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫املتجدد‪ .‬ويأبى مبدئيا الاقتراحات غير املعللة وغير املدروسة من‬ ‫وإلانشاء‬ ‫قبل صاحبها‪ .‬فحسن الاقتراح ضرورة ولون جيد هام من ألوان التفكير‬ ‫ّ‬ ‫السليم‪ ،‬وإال يصبح الاقتراح امللقى دون تعليل بال معنى‪ .‬ويغدو مجرد تيه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتصورات‪.‬‬ ‫بالتمنيات‬ ‫عزم الزعيم مرة على إتمام كامل تنظيمات ألاجهزة الحزبية كي تعمل‬ ‫ّ‬ ‫وتتعامل متفاعلة لنفسها دون تدخله‪ ،‬وال السماح لها بالرجوع إليه‪ ،‬إال في‬ ‫مهمة‪ُّ ،‬‬ ‫ملحة ومواضيع ُّ‬ ‫شؤون ّ‬ ‫جد ّ‬ ‫وجد جديدة‪ ،‬ال تدخل بأي شكل في إطار‬ ‫الصالحيات الدستورية املنصوص عليها بجالء تام‪ .‬ثم أعلمنا في إحدى‬ ‫جلسات مجلس العمد أنه بعد الانتهاء من تركيز العمل الحزبي كما يلزم‪،‬‬ ‫سيتركنا ّ‬ ‫نصرف جميع ألامور على مسؤولياتنا نحن من دون الرجوع إليه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأنه بالفعل سيغيب عنا إلى حيث ال نعلم لينقطع كليا إلى الكتابة من أجل‬ ‫إعداد مواضيع فكرية ثقافية للمستقبل‪ ،‬سيطلعنا عليها في حينه وأنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ويتفقد سير أعمالنا املنوطة بنا متى رأى ذلك ممكنا وضروريا‪.‬‬ ‫سيطل علينا‬ ‫املطلوب هو أن يكون كل واحد منا الزعيم‪ ،‬أن يعتمد على نفسه ويثق‬ ‫بقدراته تمام الثقة للقيام بمسؤولياته وواجباته القومية الاجتماعية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وأضاف الزعيم جازما أنه لن يسمح ألحد أن يقطع عليه خلوته التي يأمل أن‬ ‫تتاح له في القريب العاجل‪ ،‬وأن ّ‬ ‫يتسنى له أثناءها إنجاز ألابحاث التي ال تزال‬ ‫تحتاجها النهضة‪ ،‬والتي ال ّبد من إعدادها وإتمامها على وجه السرعة حاملا‬ ‫يصبح في خلوته املرتقبة‪ .‬وهذه ألابحاث تتناول كما أعلنها سعاده‪:‬‬ ‫ً‬ ‫كتابا في «نشوء ألامة السورية» الذي أ ّ‬ ‫عد في السابق وضاعت‬ ‫‬‫مخطوطته في املداهمات منذ سنة ‪.1729‬‬ ‫ً‬ ‫ كتابا في الاقتصاد القومي الاجتماعي‪.‬‬‫ً‬ ‫ كتابا في الفلسفة املدرحية القومية الاجتماعية‪.‬‬‫‪141‬‬


‫ً‬ ‫ كتابا في نظرة النهضة إلى الدين‪.‬‬‫هكذا اح الزعيم ّ‬ ‫يعد أوضاع الحزب الداخلية والتنظيمية إلى إتمام‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫مسيرته السليمة القديمة مع ابتعاد الزعيم‪ ،‬ولو مؤقتا عن إلاشراف املباشر‬ ‫ً‬ ‫عليه‪ .‬فقد ّ‬ ‫حل مجلس العمد في نيسان ‪ 1748‬بقصد إعادة تشكيله مجددا‪،‬‬ ‫بعد أن كان قد حل املجلس ألاعلى في الرابع من نيسان سنة ‪ 1749‬إثر‬ ‫عودته إلى الوطن بشهر ويومين‪ .‬وكان ينوي إعادة تقييم وضع ألامناء ليصار‬ ‫إلى تشكيل مجلس أعلى جديد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن التاسع من حزيران‪ ،‬يوم حادث ّ‬ ‫الجميزة الذي كشف عن مؤامرة‬ ‫الرجعية الحاقدة بقدر ما هي خائفة‪ ،‬هذا اليوم‪ ،‬الذي انتهى إلى فجر الثامن‬ ‫من تموز‪ ،‬قد داهم الزعيم‪ ،‬إذ عاجلته أذكى شهادة‪ ،‬شهادة الدم‪ .‬وكان‬ ‫صباح وكان مساء عهد صراع جديد بالغ الضراوة والشراسة‪ .‬عسانا نكون‬ ‫ً‬ ‫جديرين بدفق عطاء الزعيم فنقتدي به ونؤسس دائما بقدوته منطلقات‬ ‫ّ‬ ‫جديدة للبناء والعطاء‪ .‬وليكن كل منا مرآة صادقة لبطوالت الزعيم املعلم‬ ‫ومنارات هادية ألجيال لم تولد بعد‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫َّ‬ ‫م ـ ـا ينطبق على وداعة الخراف‪ ،‬ول ـ ـو ضلت‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال ينطبق مطل ـ ـ ـ ـ ـ ـقا على ش ـ ـ ـراس ـ ـ ـ ـ ـة الذئاب‬ ‫وضراوتها ولو فقدت أنيابها‬ ‫سعاده‬

‫ما كاد الزعيم يصل إلى الوطن‪ ،‬بعد غياب قسري في املغتربات‪ ،‬دام‬ ‫تسع سنوات ونيف‪ ،‬حتى بادرت السلطة اللبنانية‪ ،‬إلى إصدار مذكرة الجلب‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بحق الزعيم‪ ،‬ثم مذكرة التوقيف‪ ،‬من ضمن خطة إلثبات وجودها‪ ،‬إعدادا‬ ‫النتخابات الخامس والعشرين من أيار ‪ 1749‬الشهيرة ّ‬ ‫باتخاذها التزوير إلرادة‬ ‫الشعب مبدأ ورسالة في ممارسة الديمقراطية التي لم تتوان في تطبيقها‪.‬‬ ‫ّإبان مالحقات السلطة للزعيم‪ ،‬ولدى اقتراب موعد الانتخابات‬ ‫النيابية‪ ،‬حينها أخذ رهط من املرشحين لتمثيل إرادة الشعب وطموحه في‬ ‫عهد الاستقالل‪ ،‬وامل ْست ْنوبين من جميع املناطق يهرعون لالجتماع بالزعيم‬ ‫زرافات ووحدانا‪ ،‬في وضح النهار‪ ،‬وفي حلك ساعات متأخرة من الليالي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لقد كانت تلك اللقاءات طريفة في عمق فراغها‪ ،‬بليغة جدا في إعطاء‬ ‫ّ‬ ‫أدق الصور وأصدقها عن العقلية ألاخالقية القديمة‪ ،‬القائمة على احتراف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫دسما‪ّ ،‬‬ ‫يدر املال والجاه العريض‬ ‫ألاعمال السياسية‪ ،‬واتخاذها مهنة وموردا‬

‫‪148‬‬


‫على دهاقنة السياسة‪ ،‬الذين «يعرفون من أين تؤكل الكتف» ساعة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتضورون جوعا ومعظمهم مصاب بتكالب مزمن‪ .‬تخلل أحاديث هؤالء‬ ‫املدمنين بالسياسة من أجل السياسة‪ ،‬ومشاهد مسرحياتهم البارعة في‬ ‫ومآس مضحكة‪ ،‬تستوقف الدارس للعقلية‬ ‫العرض والطلب‪ ،‬مهازل مفجعة‬ ‫ٍّ‬ ‫الرجعية بمفاهيمها التائهة وأساليبها امللتوية في معالجة شتى الشؤون العامة‬ ‫منها والخاصة‪.‬‬ ‫في إحدى الليالي‪ ،‬جاء ملقابلة الزعيم‪ ،‬طبيب من عائلة مرموقة في دنيا‬ ‫السياسة الرائجة‪ ،‬يرافقه أحد املحامين الالمع ّي السمعة‪.‬‬ ‫فجأة ّ‬ ‫تطرق الطبيب إلى بحث موضوع جديد‪ ،‬لم يكن بالحسبان‪،‬‬ ‫وليست له ّأية عالقة ظاهرة باالنتخابات‪ ،‬وهو الاستيضاح عن أسباب طرد‬ ‫نعمة تابت ومأمون إ ياس‪ ،‬الذي لم يكن قد مض ى عليه سوى بضعة‬ ‫ّ‬ ‫أسابيع‪ ،‬والدخول في دقائق ألامور التي أثرت في حدوث الحادث املؤسف‪.‬‬ ‫أجابهما الزعيم على رغبتهما في فتح هذا امللف‪ ،‬وأخذ يشرح لهما أهم‬ ‫ّ‬ ‫ألاسباب وأدق ها التي أودت باثنين من قادة الحزب السابقين إلى السقوط‬ ‫على جانب الطريق والطرد من صفوف الحزب‪ .‬ولم يفت الزعيم إبداء عميق‬ ‫أسفه ملا وصل إليه مصيرهما في الحزب‪ ،‬بعد أن قضيا فترة مديدة من‬ ‫النشاط والنضال في سبيل قضية الحزب‪ .‬وفي سياق تفنيد ألاسباب املوجبة‬ ‫للطرد‪ ،‬توقف الزعيم عند نقاط مهمة وأساسية أوجبت اتخاذ مثل هذا‬ ‫التدبير الصارم العادل‪ ،‬الذي لم يكن منه ّبد وال باإلمكان التغاض ي عنه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫إطالقا‪ ،‬خاصة وقد أعطيا مجاال كبيرا للعودة إلى الصواب والانضباط‬ ‫واستدراك ما ّ‬ ‫سجاله من خروج عن العقيدة والنظام‪ ،‬وهما ممن كان‬ ‫مفروض فيهم القدوة واملثال القومي الاجتماعي الذي يحتذى به‪ .‬إن النظام‬

‫‪147‬‬


‫فوق ألاشخاص وجميع الاعتبارات الشخصية الفردية التي وجد الحزب‬ ‫للقضاء عليها‪ ،‬وتخليص املجتمع من مخازيها وشجونها‪.‬‬ ‫فما كان من الطبيب‪ ،‬لدى انتهاء الزعيم من تبيان ألاسباب التي‬ ‫استحق من أجلها الطرد كل من نعمة تابت ومأمون إياس‪ ،‬إال أن بادره‬ ‫بقوله‪ :‬ال بأس فاألمر بسيط‪ ،‬وأنت مفروض فيك‪ ،‬كمعلم وزعيم‪ ،‬أن تقابل‬ ‫مثل هؤالء بالتسامح‪ ،‬والتساهل‪ ،‬مهما تمادوا بالخطأ والضالل «ألم يقل‬ ‫السيد املسيح جئت لخراف إسرائيل الضالة» فلتكن هذه الحقيقة الكبرى‬ ‫ً‬ ‫عبرة لهما ومرشدا في معالجة هفوات آلاخرين وإن تفاقمت‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫متعجبا ال معجبا بتأويل ما‬ ‫فابتسم الزعيم! لدى سماعه هذا القول‪،‬‬ ‫قدمه إليهما من أدلة على موجبات الطرد ومراحل معالجته لالرتكابات التي‬ ‫ً‬ ‫سبقت العقوبة قبل أن يضطر مكرها إلى اتخاذ أقس ى العقوبات ألقس ى‬ ‫الخروج عن جادة الحرص على مصلحة النهضة وألامة‪ّ .‬‬ ‫ورد الزعيم املالحظة‬ ‫بلباقته املعهودة ووضوحه الرصين بالفكر والتعبير‪« :‬أجل الخراف الضالة‬ ‫تحتاج إلى هداية ورعاية عميقة الصبر‪ ،‬طويلة النفس‪ ،‬لكن‪ ،‬هل ما اقترفه‬ ‫املطرودان تجاه الحزب‪ ،‬هو من شيمة الخراف الضالة‪ ،‬أم من صفات‬ ‫الذئاب الضارية؟ إن ما ينطبق على وداعة الخراف ولو ضلت‪ ،‬ال ينطبق‬ ‫ً‬ ‫مطلقا على شراسة الذئاب وضراوتها ولو فقدت أنيابها»‪.‬‬ ‫أعقب كالم الزعيم عن شراسة الذئاب الضارية حتى عند فقد أنيابها‪،‬‬ ‫صمت مضطرب فيه من الحيرة والارتباك ما جعله يفرض هيبته على‬ ‫الطبيب واملحامي الزائرين للزعيم في ليلة دافقة باملطر الغزير‪.‬‬ ‫ثم استأنف املحامي البحث في موضوع املطرودين من الحزب‪ ،‬نعمة‬ ‫ومأمون‪ ،‬بقوله‪« :‬ال ّبد أن يعرف كل منهما ّ‬ ‫حده ويلتزم الصواب والانضباط‬ ‫ّ‬ ‫مهما طال ضياعهما‪ ،‬ألنهما من أبناء النهضة منذ سنوات عديدة وتسلما في‬ ‫‪151‬‬


‫ً‬ ‫صفوف الحزب مختلف املسؤوليات املهمة‪ .‬ونأمل أن يعودا عاجال إلى‬ ‫القواعد الصحيحة من التفكير واملمارسة ألن ‹العين ال تعلو فوق الحاجب›»‪.‬‬ ‫تفوه املحامي بهذه العبارة من ألامثلة العامية املشهورة للداللة على‬ ‫ّ‬ ‫الذل والتسليم لألمر الواقع دون ّ‬ ‫تمرد وال اعتراض‪ ،‬كأن مواقع الناس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ومصنفة على أسس ثابتة ونهائية كحكم القضاء والقدر‬ ‫ومراتبهم موزعة‬ ‫الذي ال ي ّ‬ ‫رد‪ .‬وليس إلرادة إلانسان وعقله موقف وال فعل في تغيير املقدور‬ ‫وتبديل ما هو مفروض منذ ألازل‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تفرس في وجه ّ‬ ‫لدى سماع الزعيم لهذه العبارة ّ‬ ‫كل منهما محاوال تفسير‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ما يقصداه ثم بادر إلى القول بصوت مرتفع معلنا بجدية عميقة لفتت إليه‬ ‫ألانظار والانتباه‪ :‬العين تعلو فوق الحاجب‪ ،‬دون أدنى ريب‪ ،‬فأجابه الاثنان‬ ‫ً‬ ‫معا بصوت واحد وباستغراب ّ‬ ‫جلي‪ :‬كيف يحدث هذا ألامر ومتى حصلت هذه‬ ‫ألاعجوبة وأصبحت العين فوق الحاجب؟‬ ‫أجل‪ ،‬العين تعلو فوق الحاجب‪ ،‬وبسهولة تامة‪ ،‬عندما يصبح الرأس‬ ‫من تحت‪ ،‬حين تنقلب املقاييس‪ ،‬وتنعكس املفاهيم سواء في التفكير أو‬ ‫التعامل‪ ،‬وال يبقى ش يء وال كائن حي في حجمه أو في مكانه الطبيعي‪ ،‬وتسير‬ ‫القواعد واملبادئ العلمية والخلقية في عكس مجراها إلى عكس ّ‬ ‫مصبها ومآلها‬ ‫السليم‪ .‬لسنا إزاء خراف ضالة‪ ،‬تائهة تفتقر إلى هداية أو رعاية وال أمام عين‬ ‫فقدت مكانها‪ ،‬ولم تعد تعرف أين هي من حاجبها‪ ،‬ألصق أعضاء الجسم بها‬ ‫وأقربها إليها‪ ،‬يلزمها النظر إلى مرآة صافية لترى وتدرك مكانها الحقيقي‪.‬‬ ‫لنا قواعد سلوكنا ومنطلقات تفكيرنا ومشاعرنا واستهدافات وجودنا‬ ‫وحياتنا‪ ،‬ولنا خاصة عقليتنا ألاخالقية الجديدة التي ّ‬ ‫نقدمها لألمة‪ ،‬ملصالحها‬ ‫ومصيرها‪ ،‬التي نعرف بها ونمتاز على سائر الناس ألنها الطريق ألاوحد‬ ‫لألهداف الخيرة الجميلة نحققها بحركة الحرية والواجب والنظام والقوة‪.‬‬ ‫‪151‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫«لقد رأيت في ذاك التصرف خروجا أساسيا على نظام الحزب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولكل ما يعني وحدة الحزب‪ ،‬لبلوغ الغاية الواحدة‪ ،‬ونزعة‬ ‫ومؤسساته‪،‬‬ ‫شخصية شديدة نحو ألانانية ونحو دكتاتورية فردية قبيحة‪ ،‬ال تأخذ إرادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫عامة وال دستورا نافذا بعين الاعتبار»‪.‬‬ ‫«ففي ألافراد فقط تلعب املفاسد‪ ،‬وال يمكن لهؤالء أن يصموا املجتمع‬ ‫كله باملفاسد التي في أنفسهم»‪« .‬وألافراد تأتي وتذهب أما النهضة فباقية بقاء‬ ‫ألامة السورية والوطن السوري»‪.‬‬

‫‪152‬‬


‫ال يتف ـ ـ ـق من معه ش يء مع من ليس معـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫ش يء‪ ،‬الاتف ـ ـ ـ ـ ـاق يك ـ ـ ـون بين اثنين أو أكثر مع‬ ‫كل منهم ش يء يعتمد عليه‬ ‫سعاده‬

‫انتهت الانتخابات النيابية في لبنان بتاريخ الخامس والعشرين من أيار‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫سنة ‪ .1749‬وفاحت منها رائحة التزوير الذي وفرته السلطة املتحكمة آنذاك‬ ‫ً‬ ‫عمال بـ «حرية الانتخابات الديمقراطية وباسم حق املواطن في اختيار ممثليه‬ ‫الشرعيين»‪ .‬ذات يوم فاجأنا أحد الزائرين إلى مركز الحزب في شارع املعرض‬ ‫ا‬ ‫مطال بقامته الفارعة وسمرته الحالكة‪ .‬وقدم نفسه بوصفه أحد املرشحين‬ ‫لالنتخابات املذكورة عن مرجعيون الذين لم يحالفهم الحظ بالنجاح‪ .‬وكان‬ ‫في صوته ألاجش نبرة تنم عن مرارة ال تخلو من اعتزاز مصطنع وهو يردد أن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تزوير السلطة إلرادة الشعب جعل من الفاشلين املفلسين شعبيا ّنوابا وهم‬ ‫ال يمثلون بالحقيقة إال دولة يحكمها أشخاص ال ّ‬ ‫يهمهم سوى مصلحتهم‬ ‫ً‬ ‫الخاصة‪ .‬وبعد هذه املقدمة أردف مطالبا بموعد مع الزعيم ألنه يود‬ ‫التشرف بمعرفته والتداول معه بشؤون الساعة ّ‬ ‫ّ‬ ‫امللحة وهو يرجو أن تتم‬ ‫ملحة ال ّبد أن ّ‬ ‫مهمة ّ‬ ‫املقابلة في وقت قريب‪ ،‬ألن لديه مقترحات ّ‬ ‫يتقدم بها إلى‬ ‫حضرة الزعيم‪ .‬فاستمهل السيد فرحة إلى صبيحة اليوم التالي ريثما يؤتى‬ ‫‪152‬‬


‫ً‬ ‫بجواب الزعيم عن املوعد ومكانه‪ .‬وكان حضرة الزعيم ال يزال مالحقا بحكم‬ ‫مذكرة التوقيف التي أصدرتها السلطة بحقه إثر عودته من املهجر وإلقائه في‬ ‫املطار يوم وصوله في الثاني من آذار ‪ 1749‬خطابه التاريخي الشهير‪ ،‬حين‬ ‫أعلن ما معناه «إن الاستقالل ال يكون بمجرد جالء الجيوش ألاجنبية عن‬ ‫أرض الوطن بل بجالء عقلية املستعمر وأساليبه التعسفية عن كاهل‬ ‫الشعب ّ‬ ‫وتعهد الحكومة الوطنية بجميع شؤون الاستقالل وحقوق الحرية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وأال يكون الاستقالل بمثابة خروج املساجين من القواويش إلى باحة السجن‬ ‫لحظات « ّ‬ ‫للتنفس» بينما هم ال يزالون ضمن ألاسوار محتجزين محرومين من‬ ‫ممارسة حق الحرية والسيادة»‪.‬‬ ‫مساء اليوم التالي ذهبنا برفقة السيد فرحة إلى مقر الزعيم في إحدى‬ ‫ًّ‬ ‫منكبا على إعداد مقال إلحدى صحف بيروت‬ ‫قرى املتن الشمالي‪ .‬كان الزعيم‬ ‫حين وصولنا ومعه عدد من الرفقاء كانوا يتولون ّ‬ ‫مهمة الحراسة ورصد‬ ‫ّ ً‬ ‫الطرق املؤدية إلى مقر الزعيم‪ّ .‬‬ ‫متهيبا حضرة املرشح الذي لم‬ ‫قدم نفسه‬ ‫ّ‬ ‫ليتسنى له الفوز في الانتخابات املعلومة‪ .‬وسارع إلى‬ ‫تشمله نعمة التزوير‬ ‫التحدث بإسهاب عن عمليات التزوير التي مارستها السلطة ّ‬ ‫وعمالها ضد‬ ‫املرشحين الذين رفضوا الرضوخ ملطاليبها وأساليبها‪ .‬مما قلب موازين القوى‬ ‫ً‬ ‫الشعبية املنتصرة رأسا على عقب وأفسد كل معنى للنظام الديمقراطي في‬ ‫لبنان‪ ،‬ذلك النظام الذي طاملا ّ‬ ‫تشدق به وأشاد ذوو الشأن والسلطان‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وطاملا استغل وا أشكاله للقضاء على كل معطياته ومضامينه الديمقراطية‪.‬‬ ‫ّ ً‬ ‫وكان السيد فرحة ّ‬ ‫يفصل بدقة ما أسماه وقائع وحقائق راهنة مدلال على‬ ‫ّ‬ ‫صحة أقواله بذكر أعداد ألاصوا ت وأسماء الناخبين ومراكز الاقتراع التي‬ ‫تشهد على فظائع التزوير املشين‪ .‬ولم يف ْته التأكيد على ضمان فوزه‬ ‫باالنتخابات ّ‬ ‫وتفوق شعبيته لوال طغيان التالعب بإرادة الشعب والاستهتار‬ ‫ً‬ ‫الفاضح بحرية الشعب وحقه الشرعي في اختيار ممثليه‪ .‬وكان فضال عن‬ ‫‪154‬‬


‫تحمسه ونقمته العارمة ّ‬ ‫شديد ّ‬ ‫ضد ما حصل من ق بل السلطة من ضغط‬ ‫ً‬ ‫وإرهاب ورشوة كان ّ‬ ‫إلحاحا على ضرورة ّ‬ ‫الرد على ما اقترفته تلك‬ ‫أشد‬ ‫ّ‬ ‫السلطة الجانية بما يليق بوعي الشعب وما تستحقه مثل هذه الدولة من‬ ‫عقاب رادع‪ .‬وكان عنيف إلاصرار على استعداده التام وتوفر قدراته لتلبية‬ ‫ً‬ ‫رغبة الحزب في خوض املعركة واضعا نفسه تحت أمرته لدى اتخاذ القرار‬ ‫املناسب والتدابير الجذرية الضرورية لذلك‪ .‬كي ال تحاول أي سلطة تشويه‬ ‫إرادة الشعب بعد اليوم وتزوير مواقفه م ّمن ّ‬ ‫يعبرون عن حقيقة أمانيه ونبل‬ ‫مقاصده‪ .‬لقد أمعن السيد فرحة بتعابيره املثيرة واستطراداته الهادرة في‬ ‫تفنيد الوقائع التي ال يرقى إليها أدنى شك‪ ،‬حسب قوله‪ ،‬بغية إثارة الزعيم‬ ‫وتحريضه على إشعال الثورة من أجل إلاطاحة باملزورين ألنهم انتزعوا منه‬ ‫ً‬ ‫الفوز الذي كان «مضمونا» في الانتخابات لو حدث غير ما حدث‪ .‬وكم توقف‬ ‫ً‬ ‫طويال لدى ما اقترفته السلطة تجاه الحزب والزعيم بإصدارها مذكرة‬ ‫مبرر وال ّ‬ ‫التوقيف تلك دون ّ‬ ‫مسوغ‪ .‬وراح ّ‬ ‫يكرر التأكيد على أهمية إسهامه‬ ‫بكل إمكانياته في تدعيم الثورة العتيدة والعمل على إنجاحها‪ ،‬فال ّبد إذن أن‬ ‫ينال املرتكبون جزاءهم الصارم والعاجل «خير ّ‬ ‫البر عاجله»‪ .‬وأن للسيد فرحة‬ ‫من قوة شخصيته الديماغوجية وتماديه في الاعتماد عليها والتفنن في‬ ‫استغاللها ما جعله يعتقد بحتمية إقناع الزعيم وحمله على الثورة ّ‬ ‫ضد‬ ‫ً‬ ‫الدولة تشفيا له‪.‬‬ ‫وما إن أخذ السيد فرحة لنفسه فرصة الستعادة أنفاسه املكدودة‬ ‫وضبط انفعاالته املشدودة حتى بادره الزعيم بقوله‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«حسنا‪ ،‬يا سيد فرحة‪ ،‬ال ريب أن الحكومة عاصية إرادة الشعب‬ ‫ّ‬ ‫متنكرة لسيادته وحريته وهي تستحق العقاب العادل املعبر عن أصالة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املستبد الدرس الالزم عله يدرك مدى‬ ‫مستعدون إلعطاء‬ ‫الشعب‪ .‬ونحن‬

‫ّ‬ ‫تمسك الشعب بحقه في الحرية وقدرته على إثبات هذا الحق والدفاع عن‬ ‫‪155‬‬


‫ّ‬ ‫ويسرنا أن نتعاون مع ألاصدقاء الغيورين على املصلحة‬ ‫كرامته املستهانة‪.‬‬ ‫العامة أمثالك‪ .‬فما هو استعدادك العملي للتعاون؟» ثم تناول الزعيم ورقة‬ ‫صغيرة وخط في أعالها إلى اليمين اسم السيد فرحة‪ ،‬ووضع تحته بشكل‬ ‫عامودي ثالث كلمات ذات داللة عميقة الخطورة‪ :‬الرجال‪ ،‬السالح‪ ،‬املال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مستوضحا‪« :‬ماذا ّ‬ ‫تقدم ملتطلبات املعركة من‬ ‫وتوجه فورا إلى السيد فرحة‬ ‫ً‬ ‫مقاتلين‪ ،‬من سالح ومال توفيرا إلمكانيات نجاحها»؟‬ ‫وملا لم يكن لدى السيد فرحة ما يقدمه إلنجاح الثورة التي ّ‬ ‫شدد على‬ ‫أهميتها ما عدا الحماس الغامر والكالم الوفير من دون أن يتجاوزه إلى العمل‬ ‫ووسائله الجدية‪ ،‬أعلن له الزعيم بحزم حاسم‪« :‬نحن بطبيعتنا وطبيعة‬ ‫تعاليم النهضة السورية القومية الاجتماعية رواد بحث عن القتال حتى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نضع حدا نهائيا آلالم الشعب ومرارة ما يعانيه من تعسف على أعداء‬ ‫الشعب أينما وجدوا في الداخل والخارج‪ .‬غير ّأننا لم نعلمك باألمر ولن‬ ‫ً‬ ‫ندعوك ملشاركتنا بأي عمل ما دمت ال تملك شيئا تقدمه الحتياجات الثورة‪.‬‬ ‫فال ّيتفق من معه ش يء مع من ليس معه ش يء‪ ،‬الاتفاق يكون مع اثنين أو‬ ‫كل منهم ش يء يعتمد عليه ونحن إذ ّ‬ ‫أكثر مع ّ‬ ‫نسجل مالحظتنا على اندفاعك‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ى‬ ‫الجارف نر ضرورة الاقتصاد به لإلفساح في املجال للعمل املجدي املصمم‬ ‫الصامت‪ .‬فال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال ّ‬ ‫وتقل ألاعمال»‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫قل لحضرة عمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـيد الداخلية ليصدر أمر‬ ‫ً‬ ‫انتقـ ـ ـ ـ ـ ـال‪ ،‬ال إذنا بالهجرة‪ ،‬ملن يود الذهاب‬ ‫إلى الكويت ألنها منطقة ض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـمن الوطن‬ ‫السـ ـ ـ ـ ـ ـوري‬ ‫سعاده‬

‫من أهم التدابير التنظيمية التي اتخذها الزعيم إثر عودته من املغترب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هي إصدار مرسوم بمنع الهجرة خارج الوطن‪ ،‬إال لحاالت استثنائية‬ ‫اضطرارية‪ ،‬وبإذن خاص من الزعيم‪ ،‬وأن على من ّ‬ ‫يود مغادرة الوطن إلى ّأية‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫جهة من العالم‪ ،‬أن يتقدم‪ ،‬أوال‪ ،‬بواسطة التسلسل إلاداري‪ ،‬بطلب يعلل‬ ‫ً‬ ‫فيه ألاسباب املوجبة الغترابه‪ ،‬وعليه أيضا أن يخضع إلى تحقيق تقوم به‬ ‫عمدة الداخلية حول جميع العوامل التي تفرض عليه الهجرة‪ ،‬حتى يصار‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مشروطا ّ‬ ‫بعدة قيود والتزامات قومية‬ ‫بالتالي‪ ،‬إلى منحه إلاذن بالهجرة‬ ‫ّ‬ ‫ً ً‬ ‫اجتماعية‪ ،‬وإال تمنع عليه مغادرة الوطن منعا باتا‪.‬‬ ‫مذ ذاك‪ ،‬أخذت الدوائر الحزبية في املركز وجميع الفروع تهتم بشؤون‬ ‫الهجرة على العموم وخاصة بين صفوف الحزب‪ّ ،‬‬ ‫متتبعة ألاسباب املادية‬ ‫والنفسية التي ّ‬ ‫تؤد ي إلى تفاقم دوافع الهجرة‪ ،‬للعمل بجميع الوسائل‬ ‫‪159‬‬


‫القومية على تالفيها والحد من إلاقبال املتزايد عليها الذي يدل على حالة‬ ‫ّ‬ ‫مؤسفة في الهرب الخطير من الوطن‪ ،‬والتخلي عن موجبات املواطن‬ ‫ألاساسية‪ ،‬مما ّ‬ ‫يتهدد ثروة ألامة من الوجهة البشرية واملادية بالضياع‪،‬‬ ‫ويضعها في مأزق إزاء مستقبلها ومصيرها‪ ،‬وتجاه سائر ألامم النامية‬ ‫الناهضة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ذات يوم‪ ،‬تسلمت عمدة الداخلية طلبا من أحد الرفقاء موجها‬ ‫بالتسلسل النظامي إلى الزعيم يستأذن به السماح له بالهجرة إلى الكويت‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واملنفذ‬ ‫ومذيلة بمطالعة كل من مدير مديريته‬ ‫ألسباب مبينة في الطلب‬ ‫العام‪ .‬فبادر عميد الداخلية إلى تكليف ناموس العمدة بدعوة الرفيق طالب‬ ‫إلاذن بالهجرة ملقابلة العميد في موعد قريب‪ ،‬من أجل التحقيق معه في‬ ‫ً‬ ‫دواعي هجرته إلى الكويت ليرفع طلبه إلى الزعيم مرفقا بمطالعة العمدة‬ ‫واقتراحها بشأنه‪.‬‬ ‫بعد إجراء التحقيق الالزم مع الرفيق املذكور بموضوع طلبه الهجرة إلى‬ ‫الكويت‪ ،‬حملت ّ‬ ‫ملف ه املتضمن‪ ،‬إلى جانب طلب إلاذن بالهجرة‪ ،‬كامل‬ ‫املعلومات عنه مع املطالعات والتحقيقات املتعلقة بطلبه من قبل املديرية‬ ‫ّ‬ ‫واملنفذية إلى حضرة الزعيم ملعرفة ما يتوجب ّ‬ ‫علي عمله بهذا الخصوص‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يتصفح بريد عمدة الداخلية بما فيه من التقارير والاقتراحات‬ ‫أخذ الزعيم‬ ‫ً‬ ‫املرفوعة إما من قبلها أو بواسطتها إلى مقام الزعامة‪ ،‬موجها ّ‬ ‫إلي املالحظات‬ ‫وإلارشادات الالزمة إلى أن أخذ ملف طلب إلاذن بالهجرة إلى الكويت‪ .‬وما أن‬ ‫وقع نظره عليه واطلع على موضوعه‪ ،‬حتى الحت ابتسامة على محياه ّ‬ ‫تنم‬ ‫ً‬ ‫عن شديد الاستغراب والتساؤل ثم تناول قلما من جيبه وخط في أعلى‬ ‫الصفحة ألاولى من الطلب عبارة «الكويت منطقة سورية ال يحتاج من يود‬ ‫الذهاب إليها ّ‬ ‫أي إذن بالهجرة بل يكفي إعطاؤه أمر انتقال من لدن عمدة‬ ‫الداخلية إللحاقه هناك بأحد الفروع الحزبية حيث سيقيم»‪ .‬ثم التفت ّ‬ ‫إلي‬ ‫‪158‬‬


‫ً ّ‬ ‫قائال‪« :‬بلغ حضرة عميد الداخلية‪ّ ،‬أن الذهاب إلى الكويت هو مجرد انتقال‬ ‫ً‬ ‫ضمن الوطن السوري‪ ،‬وليس اغترابا أو هجرة إلى الخارج عبر الحدود»‪.‬‬ ‫بهذه املناسبة‪ ،‬علمت أن الكويت منطقة من الوطن السوري‪ ،‬ضمن‬ ‫ّ‬ ‫حدوده الطبيعية‪ ،‬وتعلمت بفضل تلك الغلطة الجسيمة التي اشترك فيها‬ ‫بالتسلسل من مدير املديرية إلى عمدة الداخلية‪ ،‬إلى أين تمتد حدود وطني‬ ‫السوري وأن الكويت هي منطقة سورية‪.‬‬

‫‪157‬‬


‫موضـ ـ ـ ـ ـ ـ ـوع الاجتماع هـ ـ ـ ـو الاجتماع نفس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـه‬ ‫بمعانيه وأبعاده القومية الاجتماعية‬ ‫سعاده‬

‫عقد اجتماع إلحدى مديريات رأس بيروت صيف سنة ‪ .1749‬حضره‬ ‫الزعيم وعدد من العمد‪ .‬ما أن التأم عقد الاجتماع‪ ،‬وقبيل املبادرة إلى‬ ‫ً‬ ‫رسميا حتى ّ‬ ‫توجه أحد ألاعضاء إلى املدير بسؤاله ّ‬ ‫عما هو موضوع‬ ‫افتتاحه‬ ‫الاجتماع اليوم وهل من جديد لدينا؟‬ ‫ثم افتتح الاجتماع ّ‬ ‫وتمت معالجة ألابحاث واملواضيع ّ‬ ‫املقررة دون أن‬ ‫ً‬ ‫يجاب مباشرة على هذا السؤال‪ّ .‬ربما ألن مدير املديرية لم ير السؤال جديرا‬ ‫باإلجابة الخاصة أو ألن ه رأى أن ما حصل في الاجتماع نفسه من أبحاث هو‬ ‫بطبيعة الحال الجواب املطلوب والوافي للسؤال‪ .‬كاد الاجتماع يختتم أعماله‬ ‫ويقارب إلى النهاية دون الرجوع إلى السؤال والاهتمام به‪.‬‬ ‫ً‬ ‫حينذاك تناول الزعيم الحديث مبادرا إلى إلاجابة على السؤال املذكور‬ ‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫بالتوجه‬ ‫فاستهل الزعيم كالمه‬ ‫حول موضوع الاجتماع عينه والجديد فيه‪.‬‬ ‫إلى صاحب السؤال‪ :‬هل عرفت‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬موضوع هذا الاجتماع وهل‬ ‫وجدت فيه من جديد؟ فارتبك الرفيق وتلفظ ّ‬ ‫بتردد خجول بكلمة «نعم‬ ‫‪111‬‬


‫حضرة الزعيم»‪ .‬وقد تراءى له أن الزعيم يؤنبه للطريقة التي ّ‬ ‫وجه بها‬ ‫السؤال إلى املدير‪ .‬ثم تولى الزعيم تسديد الجواب كما يلي‪:‬‬ ‫يا رفيقي‪ ،‬أن موضوع الاجتماع‪ّ ،‬‬ ‫أي اجتماع‪ ،‬هو الاجتماع عينه بصرف‬ ‫النظر ّ‬ ‫عما يتداول خالله من أبحاث وأحاديث ومعلومات وتعليمات وسواها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مواضيع جميع الاجتماعات دون استثناء هي واحدة باملبدأ وألاساس‪ ،‬هي أوال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫استعداد للتالقي‬ ‫وآخرا موضوع التلبية لالجتماع التلبية التي تؤكد عميق‬ ‫ٍّ‬ ‫الواعي املسؤول وللتفاعل الحقيقي من أجل تحقيق ما تعاقدنا على تحقيقه‪.‬‬ ‫موضوع الاجتماع هو ممارسة النظام بالعمل الحي والواجب الفعلي‪ ،‬والنظام‬ ‫ً‬ ‫اصنا وتضافر عزائمنا‪ ،‬وهو ّ‬ ‫هو أعمق الواجبات داللة على تر ّ‬ ‫أشدها تعبيرا‬ ‫عن حريتنا في العمل وإصرارنا على تحقيق حقيقتنا وتجسيد قوتنا في توليد‬ ‫التجاوب لصفوفنا وترسيخ الاستجابة الخطيرة ألاهمية بيننا ألغراض النهضة‬ ‫ومراميها الحقيقية ّ‬ ‫البناءة‪.‬‬ ‫الاجتماع منطلق التحقيق لوحدة إلارادة ووحدة التصميم للعمل‬ ‫ّ‬ ‫املوحد من أجل قضية ألامة السورية وسيادتها‪ .‬وال يتم العمل الصحيح إال‬ ‫بتضافر عزيمة العاملين له وإجماع جهادهم وجهودهم في سبيل مفاهيم‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بمجرد‬ ‫الحزب وغاية الحزب ومبادئه‪ .‬والقصد من كل اجتماع حاصل حكما‬ ‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫ً ّ ً‬ ‫محددا في‬ ‫معينا ونتداول حديثا‬ ‫اللقاء ولو لم نعالج ّإبان الاجتماع بحثا‬ ‫إطاره‪ .‬وماهية املوضوع ّ‬ ‫ألي اجتماع تتكون من طبيعة ثقتنا بأنفسنا ووعينا‬ ‫ً‬ ‫معا‪ .‬هذه الروحية القومية الاجتماعية عينها التي تحملنا إلى الاجتماع هي‬ ‫ّ‬ ‫التي ّ‬ ‫وتحدد لنا ماهية الاجتماع‪.‬‬ ‫تمدنا باملوضوع الذي ال غنى عن معالجته‪،‬‬ ‫أما التنظيم فهو ّ‬ ‫يعين نطاق املوضوع وتقسيم مراحل بحثه وتوزيع أجزائه في‬ ‫ً‬ ‫املجال الذي ال ّبد أن يكون مناسبا‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫ففي التلبية النظامية يكون ضمان الاجتماع وفي الاجتماع بذاته تنشأ‬ ‫ً ً‬ ‫ً‬ ‫املواضيع الالزمة له وتتكامل عمقا وشموال تبعا ملمارسة العمل والوعي‬ ‫ّ ً‬ ‫معبرا‬ ‫فتتبلور إذ ذاك حقيقة وجودنا مع كل لقاء وينطلق وجودنا الحقيقي‬ ‫ّ ً‬ ‫عن ّ‬ ‫ومجسدا انتصارها باألعمال وألافعال‬ ‫تفوق حقيقة ألاصالة السورية‬ ‫ّ‬ ‫الفذة التي ّ‬ ‫تؤسسها وترسخها القدرة على الاجتماع القومي‬ ‫وباملواقف‬ ‫الاجتماعي وقوة الوعي ملعاني الاجتماع وأبعاده‪ .‬فالجديد الحي يتجدد بقوة‬ ‫نموه وطاقته على التطور لألفضل وحاجة الحياة لالستمرار بزخمه‬ ‫وبفاعليته الال متناهية التصاعد والتسامي في بلوغ مطالب الحياة العليا‪.‬‬ ‫وتظل الحياة لنا بقدر ما نحن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وباعثي‬ ‫مؤهلون لنكون أبناء الحياة‬ ‫ّ‬ ‫التجدد والتجديد‪ ،‬أمة الخلق وإلابداع‪.‬‬ ‫الحيوية لهذه ألامة العظيمة‪ ،‬أمة‬

‫‪112‬‬


‫إذا س ـ ـ ـ ـألك القوميون عما س ـ ـ ـيفعل الزعيم‬ ‫بمبلغ ألالفي ليرة التي يطل ـ ـ ـ ـ ـب جمعها‪ ،‬قـ ـ ـ ـل‬ ‫لهم أن الزعيم سيرمي بها في البحر‬ ‫سعاده‬

‫في أواسط الشهر الحادي عشر من سنة ‪ 1749‬ولم يكن قد مض ى‬ ‫الشهر ألاول على سحب السلطة اللبنانية ملذكرة التوقيف بحق الزعيم‪ ،‬التي‬ ‫كانت قد أصدرتها إثر عودته من املغترب‪ ،‬كان املسؤولون منهمكين في‬ ‫تصريف أعمال مسؤولياتهم الحزبية‪ ،‬أثناء دوامهم في مركز الحزب‪ ،‬الكائن‪،‬‬ ‫آنذاك‪ ،‬في شارع املعرض‪ .‬في تلك ألاثناء وألاعمال تسير على أشدها من‬ ‫النشاط والفاعلية‪ ،‬يقرع جرس الهاتف‪ ،‬يسود الهدوء جو املركز‪ ،‬حين‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫أتناول السماعة وأقول فورا‪« :‬ألو‪ ،‬أنت غالي وطلبت رخيص»‪ .‬فرد املتكلم‬ ‫ً‬ ‫حاال‪« ،‬جيد عليك‪ ،‬إذن‪ ،‬أن تحضر إلى هنا‪ ،‬إني بانتظارك في مكتبي»‪.‬‬ ‫أدركت‪ ،‬حينذاك‪ّ ،‬إنني أتكلم مع الزعيم‪ ،‬ابتسمت والارتباك بل ّ‬ ‫التهيب قد‬ ‫بدا في صوتي وعلى وجهي‪ ،‬مما لفت ّ‬ ‫إلي ألانظار‪ ،‬وسارعت إلى إلاجابة‪:‬‬ ‫«حاضر‪ ،‬وإني ّ‬ ‫أصر على الشق ألاول من العبارة‪ ،‬أنت غالي» فرد الزعيم «مع‬ ‫ً‬ ‫ذلك‪ ،‬ال ّبد من حضورك سريعا»‪ .‬وضعت السماعة في مكانها‪ ،‬حملت‬ ‫‪112‬‬


‫ً‬ ‫حقيبتي محاوال مغادرة املركز ألوافي الزعيم إلى مكتبه في خان أنطون بك‪،‬‬ ‫باب إدريس‪ ،‬وتهامس الرفقاء الحاضرون قائلين أن املخابرة مع الزعيم وهو‬ ‫يدعو عميد الداخلية ملقابلته‪ ،‬وبدا على الجميع الاهتمام واملرح ثم قال‬ ‫أحدهم‪ ،‬أصبحت أنت الرخيص املطلوب من قبل الغالي‪ ،‬التفت إليه كأنني‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهم بشكره ثم خرجت سريعا من املركز باتجاه مكتب الزعيم‪.‬‬ ‫وما إن صرت أمام الزعيم حتى بادرني‪ ،‬وباالبتسامة تسبقه إلى‬ ‫إلافصاح عن ارتياحه وسروره «هذه املرة أدعوك إلى جولة سريعة قصيرة‪،‬‬ ‫لكن لشأن مالي ال إداري كاملعتاد‪ ،‬نحن بحاجة ّ‬ ‫ملحة إلى مبلغ من املال ال‬ ‫ّ‬ ‫يقل عن ألفي ليرة لبنانية‪ ،‬ال ّبد أن نحصل عليها خالل أسبوع واحد ال أكثر‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫استعد منذ آلان وفكر جيدا من أي منطقة يسهل جمع املبلغ‪ ،‬وضمن املهلة‬ ‫املحددة‪ ،‬لن أرض ى دون هذا املبلغ ولو ليرة واحدة‪ ،‬وأريده في الوقت املعين‪،‬‬ ‫وإال سألجأ إلى تدبير آخر للحصول عليه‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫أفضل أن أعتمد تبرعات‬ ‫لكني‬ ‫القوميين‪ ،‬يمكنك أن تعود إلى عملك آلان لتحضر إلى هنا عند الظهر»‪.‬‬ ‫حضرت في املوعد إلى مكتب الزعيم‪ ،‬وأوضحت له إمكان جمع املبلغ‬ ‫ّ‬ ‫املطلوب في ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحددة عن طريق التبرعات‪ّ ،‬‬ ‫سأتوجه‬ ‫وسميت املناطق التي‬ ‫املدة‬ ‫إليها‪ ،‬بادئ ألامر‪ ،‬من أجل تأمين املطلوب كما يلزم‪ .‬وافق الزعيم وأبدى ثقته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بنجاح املهمة قائال‪« :‬غدا تبدأ الجولة منذ الصباح»‪ .‬وقبل أن يسمح لي‬ ‫بتأن وهدوء‪ ،‬كمن يملي‬ ‫باالنصراف تفرس بوجهي وهو يتلفظ بهذه العبارات ٍّ‬ ‫رسالة على أحد ّ‬ ‫الكتاب النواميس‪« ،‬انتب ْه‪ ،‬يا حضرة العميد‪ ،‬إذا سألك‬ ‫القوميون‪ ،‬الذين ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتوج ه‪ ،‬ماذا سيعمل الزعيم بهذا‬ ‫ستتصل بهم‪ ،‬حيث‬ ‫املال‪ ،‬قل لهم أن الزعيم سيرمي به إلى البحر‪ ،‬ألن املصلحة القومية تقض ي‬ ‫ً ً‬ ‫ّ‬ ‫غال‪ ،‬وليس رخيصا أبدا‪ .‬موفق‪ ..‬وإلى‬ ‫بذلك‪ ،‬إن ما أطلب منك عمله هو جد ٍّ‬ ‫حين»‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫ا‬ ‫مستهال جولتي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫بمنف ذية الالذقية‪ ،‬ومنها إلى جبلة‪ ،‬بانياس‬ ‫توجهت‬ ‫وطرطوس‪ .‬وباشرت بعقد جلسات لهيئات ّ‬ ‫املنفذيات أعلمهم بأمر ّ‬ ‫مهمتي‬ ‫إليهم‪ ،‬وبإصرار الزعيم عل ّ‬ ‫أهمية الحصول على كامل املبلغ في غضون أسبوع‬ ‫واحد‪ .‬أ ّ‬ ‫عدت اللوائح بأسماء ألاعضاء القادرين بالنسبة إلى إمكانياتهم املالية‬ ‫وقدرتهم على تلبية الواجب على أفضل وجه‪ ،‬وبمنتهى الدقة والنظامية‬ ‫ّ‬ ‫القومية الاجتماعية ثم و ّزعت تلك اللوائح على عدد ّ‬ ‫معين من الرفقاء كلفوا‬ ‫بعملية جمع املال بموجب إيصاالت رسمية من قبل ن ّظار املالية في ّ‬ ‫املنفذيات‬ ‫املذكورة‪ .‬هكذا أخذ التنفيذ يتم ويستمر بنظامية بالغة الروعة والانضباط‪،‬‬ ‫دون أن يحاول أي رفيق توجيه السؤال ملعرفة الغرض من جمع املبلغ‪ ،‬ونوع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تلميحا‪ّ ،‬‬ ‫جميعا على علم أكيد بمرامي ّ‬ ‫كل‬ ‫كأنهم‬ ‫الحاجة إليه‪ ،‬ال تصريحا وال‬ ‫ما يطلب تأمينه‪ ،‬وعلى يقين قاطع من صحة ّ‬ ‫كل ما يجري وصواب ما يعهد‬ ‫به إليهم‪ ،‬وكنت‪ ،‬طيلة ألايام الثالثة ألاولى من الجولة ّ‬ ‫أتأمل روحية الثقة‬ ‫املطلقة التي كانت ترافق عملية جمع املال‪ ،‬وكم كنت ّ‬ ‫أتمنى أن يستوضح‬ ‫مني أحدهم عن الغاية من تأمين هذا املبلغ‪ ،‬ألجيب بما أوصاني به الزعيم‬ ‫ّ ً‬ ‫متوسعا في شرح وتحليل معنى قول الزعيم بأنه سيرمي‬ ‫حول مصير املال‪،‬‬ ‫باملبلغ إلى البحر‪ ،‬وما ّ‬ ‫يدل عليه من رسوخ الثقة بأعمال الحزب وأبعادها‬ ‫السامية في منهج تعاملنا وكيفية قيامنا بواجباتنا القومية الاجتماعية على‬ ‫ّ‬ ‫املجسدة للعقلية ألاخالقية‬ ‫أعلى مستوى من الثقة وألامانة والتلبية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ونقدمها لألمة ملصالحها ومصيرها‪ .‬لكن أحدا من‬ ‫الجديدة التي نمارسها‬ ‫القوميين الاجتماعيين لم يث ْر ‪ ،‬ال من قريب وال من بعيد‪ ،‬مسألة حاجة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫واستمرت التبرعات ترد إلى نظار املالية تباعا بهدوء‬ ‫الزعيم إلى املال املطلوب‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ورصانة ويقين عميق ّ‬ ‫عز نظيره في تاريخ أرقى ألامم وأعمقها إيمانا بالنصر‪،‬‬ ‫وأقدرها على تحقيقه‪.‬‬

‫‪115‬‬


‫وملا لم يرد السؤال من أحد حول وجهة صرف هذا املال‪ ،‬في حين أن‬ ‫الجولة أوشكت على الانتهاء واملبلغ جمع معظمه خالل خمسة أيام فقط‪،‬‬ ‫ومن املحتمل أن أتمكن من العودة إلى الزعيم ومعي امل بلغ في اليوم السادس‬ ‫ً‬ ‫مساء‪ ،‬رأيت أن أخبر الرفقاء عن أن املال سيلقي به الزعيم إلى البحر‬ ‫ً‬ ‫ملصلحة قومية عليا‪ ،‬وأن أجعل من قوله هذا‪ ،‬منطلقا لبحث موضوع الثقة‬ ‫كل عمل منظم ّ‬ ‫كل وحدة روحية‪ ،‬وبالتالي‪ّ ،‬‬ ‫في الحزب‪ ،‬التي هي أساس ّ‬ ‫وبناء‪،‬‬ ‫التي لوالها ملا كانت ألاخالق واملناقب نبراس كل نجاح وفالح لألمم‪ .‬وملا كان‬ ‫ً‬ ‫أصال إلاقبال البطولي على العطاء والتضحية من أجل القضية التي تساوي‬ ‫وجودنا‪ ،‬وملا استطاع إلا نسان أي عمل مثمر في الحياة‪ ،‬وعجز عن الكشف‬ ‫عما في أعماق البحار والقفار‪ ،‬وما في ألاجواء من كنوز ومن مناجم ومقالع‪،‬‬ ‫وفقد السي طرة بعقله الجبار وعزيمته العمالقة على مصادر الثروة ومنابع‬ ‫القوة في الحياة والكون‪ ،‬تلك التي تتزايد كل يوم وفي كل خطوة من مسيرة‬ ‫العقل وإلادارة‪.‬‬ ‫ال يكون العمل وإلانتاج إال وليد الثقة‪ ،‬الطاعة والانضباط بالعقيدة‬ ‫والنظام دليل الثقة‪ ،‬الطموح في التقدم وتحقيق ألافضل ثقة بالحياة‬ ‫واملستقبل‪ ،‬والثقة طاقة ّ‬ ‫جبارة تساعد على تحمل آلاالم وتذليل الصعوبات‬ ‫وبلوغ النصر املوعود‪ .‬إلايمان ثقة تصنع العجائب واملعجزات‪ ،‬باإليمان‪ ،‬وهو‬ ‫أعلى مراتب الثقة وأسمى قمم الشجاعة وإلاقدام‪ ،‬يقول إلانسان لهذا‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل‪ ،‬متغلبا على املوت ومنتصرا على‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جميع الويالت واملآس ي‪ ،‬مهما بلغت حدة وعنفا‪.‬‬ ‫«إننا ارتبطنا لنسير على سياسة واحدة‪ ،‬في نظام له ّ‬ ‫منا ّ‬ ‫كل والئنا في‬ ‫ّ‬ ‫الحزب القائم على يقين كلي‪ ،‬وإيمان مطلق ال سبيل‪ ،‬معه‪ ،‬إلى الشكوك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فالشكوك ّ‬ ‫والترد د والفوض ى وعدم الوضوح‪ .‬فال سبيل‬ ‫تكون الجبن والخوف‬ ‫لهذه املخاوف إلى يقيننا»‪.‬‬ ‫‪111‬‬


‫«إن الذين ال يثقون بحقيقة قضيتهم‪ ،‬ال يثقون بحزبهم ونظامهم‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫محل الشك‪ ،‬متى حل إلايمان محل‬ ‫بش يء على إلاطالق‪ ،‬ومتى حلت الثقة‬ ‫الشك قض ي على التردد والفوض ى والبلبلة‪ .‬فإذا كنا نعود من إلايمان إلى‬ ‫ً‬ ‫الئقا أن نقول بحق أننا ال ّ‬ ‫نتقدم بل نتراجع‪ .‬يمكننا أن نتقدم‬ ‫الشك‪ ،‬كان‬ ‫من الشك إلى إلايمان‪ ،‬وال يمكننا أن نتقدم من إلايمان إلى الشك بل يمكننا‬ ‫أن نرجع القهقرى»‪.‬‬ ‫« بيقين مثل هذا فقط يمكن الانتصار‪ ،‬بهذا إلايمان بمبادئنا‪ ،‬بأمجادنا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بحقيقتنا‪ ،‬بأننا قضية‪ ،‬بأننا الحق والخير والجمال كله‪ ،‬نحقق كل ما هو‬ ‫سام وجميل ّ‬ ‫وخير للمجتمع»‪.‬‬ ‫ٍّ‬

‫‪119‬‬


‫التعيين هو شـ ـ ـ ـ ـرط الوضوح‪ ،‬وكل ال وضوح‬ ‫ال يمكن أن يكون قاعدة ألية حقيقة‬ ‫سعاده‬

‫قبل التاس ـ ـ ـ ـع من حزيـ ـ ـ ـران سـ ـنة ‪ ،1747‬يوم الغدر في الجميزة‪ ،‬ب ـ ـ ـ ـ ـما ال‬ ‫ّ‬ ‫يقل عن ثالثة أش ـ ـ ـهر‪ّ ،‬‬ ‫حل الزعيم مجلس العمد‪ ،‬وكلف العمد بمسؤوليات‬ ‫ً‬ ‫أخرى من فرعية ومركزية‪ ،‬موكال إلى وكالء العمد مسؤولية تصريف ألاعمال‬ ‫ْ‬ ‫الحزبية بإشراف مباشر من قبله‪ .‬وقد نقلت آنذاك‪ ،‬من مسؤولية عميد‬ ‫للداخلية إلى مسؤولية مدير مكتب الزعيم وناموسه ألاول‪ ،‬في حين ع ّين‬ ‫ّ‬ ‫الرفيق جورج بشور الناموس الثاني للمكتب‪.‬‬ ‫تسلمت ّ‬ ‫ّ‬ ‫مهام مسؤوليتي الجديدة‪ ،‬وكان أول ما طلب مني القيام به‪ ،‬في‬ ‫اليوم ألاول‪ ،‬هو تصنيف جميع ألاوراق والوثائق التي كانت ّ‬ ‫تكون مراجع‬ ‫ألابحاث في مكتب الزعيم والتي كانت مبعثرة دون أي تبويب أو تنظيم‬ ‫يساعدان على الاستفادة منها لدى الحاجة‪.‬‬ ‫جلست إلى الطاولة وأخذت ّ‬ ‫أتأمل فيما حولي من أوراق مطبوعة‬ ‫ومخطوطة‪ ،‬ومن صحف وقصاصات صحف ونشرات وبيانات صادرة عن‬ ‫الحزب وواردة من جهات حزبية سياسية وفكرية ثقافية متنوعة النزعات‬ ‫‪118‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واملآرب‪ ،‬كما رحت أقلب النظر بح ْيرة الواقف على مفترق الطرق يفتش عن‬ ‫ّ‬ ‫أقرب السبل وأسلمها للسير إلى غرضه املنشود‪ ،‬أقلب النظر في كميات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألاوراق املوزعة في جميع أرجاء الغرفة‪ ،‬علي أهتدي إلى نقطة البدء‬ ‫الصالحة لالنطالق إلى العمل املطلوب إنجازه بعناية وسرعة‪ .‬فراودتني فكرة‬ ‫بدت لي موفقة وجيدة للمباشرة منها إلى تصنيف ألاوراق املتراكمة حولي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫وسارعت إلى ورقة بيضاء كانت بالقرب مني ألخط عليها جدوال بأسماء‬ ‫املواضيع التي ال ّبد أن يكون لها أوراق بين الوثائق‪ ،‬كي ّ‬ ‫أعد لها املصنفات‬ ‫ّ‬ ‫أوزع كل نوع منها في مصنفه الخاص بموضوعه‪ ،‬أ ّرقمها وأ ّ‬ ‫سجلها بأرقامها‬ ‫ثم‬ ‫ّ‬ ‫وتصفح محتواه لدى الحاجة‪.‬‬ ‫املتسلسلة في فهرست أبجدي تسهل مراجعته‬ ‫وأ ذكر أن عدد أسماء املصنفات التي وضعتها على أساس املواضيع املفترض‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وجود أوراق تتعلق بها قد بلغ ما يقارب الخمسين مصنفا‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ليتفقد ما ت َّم إنجازه من‬ ‫صبيحة اليوم التالي دخل الزعيم إلى املكتب‬ ‫ً‬ ‫العمل املطلوب منذ أربع وعشرين ساعة‪ .‬وجدني منهمكا في إعداد الالئحة‬ ‫بأسماء املصنفات للمواضيع التي افترضت وجود أوراق عنها بين كوم ألاوراق‬ ‫التي كانت ما تزال على حالها كالسابق‪ .‬تناول الزعيم الجدول بأسماء‬ ‫املصنفات وراح يطالع تفاصيله بإمعان كمن ّ‬ ‫يحل رموز ألغاز يصعب ّ‬ ‫تفهم‬ ‫ً‬ ‫مدلولها وخلفياتها ثم ابتسم مقطبا وقال‪ « :‬يا حضرة ألامين‪ ،‬بالرغم من‬ ‫عنائك واعتنائك بوضع هذا الجدول الطويل بأسماء مواضيع افترضت‬ ‫ّ‬ ‫وجود أوراق لها‪ ،‬دون أن تطلع حتى آلان على ّأية ورقة منها لتعرف‬ ‫ً‬ ‫مضمونها‪ ،‬فإنك لم تباشر بعد عملك فعليا‪ ،‬ألنك انطلقت من فرضية غير‬ ‫ّ‬ ‫مستندة إلى ّ‬ ‫يصح الاعتماد عليه‪ .‬افترضت ما يمكن أن‬ ‫أي معطى حقيقي‬ ‫تحتويه هذه ألاوراق من مواضيع ومراجع ملواضيع‪ ،‬ثم بادرت إلى إعداد‬ ‫أسماء املصنفات للمواضيع املفترض وجودها دون أن ّ‬ ‫تمس ورق واحدة منها‪.‬‬

‫‪117‬‬


‫أنك ال تستطيع أن تعرف مواضيع هذه ألاوراق التي بحوزتك ملجرد‬ ‫ّ‬ ‫خاصة بها‬ ‫النظر إليها من بعيد‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬ال يسعك توزيعها في مصنفات‬ ‫حسب هذه املواضيع التي يمكن أن تشتمل عليها هذه ألاوراق سيوقعك هذا‬ ‫ً‬ ‫دون ريب بأحد أمرين لدى اطالعك الفعلي على محتواها أو باألمرين معا‪.‬‬ ‫مصنفات ّ‬ ‫ّ‬ ‫معدة ملواضيع ال وجود لها في‬ ‫فإما أنك ستجد بين يديك‬ ‫الواقع‪ ،‬وستبقى هذه املصنفات لديك فارغة بانتظار وجود مواضيعها‬ ‫ً‬ ‫الغائبة في املجهول‪ ،‬إذا ما ّ‬ ‫تيسر وجودها يوما‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التصور الذي‬ ‫وأما أنك ستجد أمامك أوراقا ملواضيع لم تخطر لك في‬ ‫انطلقت منه إلعداد املصنفات املذكورة‪ ،‬ولم تع ّد لها املصنفات الالزمة‬ ‫ّ‬ ‫لترتيبها‪ ،‬وستبقى هذه ألاوراق مهملة بانتظار مصنفاتها املتخلفة عن الحضور‬ ‫ّ‬ ‫تصور الواقع الحقيقي بتمام‬ ‫بسبب الافتراض الذي ال ّبد أن يقصر عن‬ ‫دقائقه‪ ،‬الافتراض عادة مغرق بضباب إلابهام‪ ،‬وأن ّ‬ ‫أي تصور أو افتراض ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يصح أن يكون منطلقا صحيحا إلنجاز أعمال وإقرار حقائق عملية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جهودا ّ‬ ‫وبددت وقتا دون طائل وال‬ ‫وفي أي من الحالين لقد أهدرت‬ ‫جدوى‪ ،‬ألنك قد أحللت الافتراض النظري بل التصور املبهم محل الاستناد‬ ‫ً‬ ‫معطى عملي جاهز بين يديك هو وجود ألاوراق بعينها التي كان عليك أن‬ ‫إلى‬ ‫ّ‬ ‫تبادر إلى الاطالع عليها قبل أي ش يء آخر ملعرفة ما تتناول من مواضيع‬ ‫وأبحاث‪ّ ،‬‬ ‫تصن فها حسب مواضيعها‪ ،‬بعد معرفتك ملضمونها معرفة صحيحة‬ ‫ال تحتمل الافتراض وال التخمين وال يرقى إليها الغموض وال إشكال إلابهام‪.‬‬ ‫لو اتجهت بعملك إلى اعتماد نظام الفكر والنهج الذي يجعلك تدرك‬ ‫الواقع وتبني عليه كل الخطوات التالية للتعرف به‪ ،‬ألمكنك‪ ،‬منذ البارحة‬ ‫إلى اليوم‪ ،‬أن تنجز عملك بأكمل وجه وتنتهي من تصنيف ما لديك من‬ ‫أوراق ومراجع في مكتب الزعيم‪.‬‬ ‫‪191‬‬


‫ً‬ ‫ففي الحزب لم نفترض وجود أمة افتراضا‪ ،‬ولم ننش ئ ألامة السورية‬ ‫بقرار ومرسوم‪ ،‬رغبة في أن تكون لنا أمة أسوة بسائر ألامم‪ ،‬أمة تناسب‬ ‫تأمالتنا وتطابق تصوراتنا وأمانينا‪ .‬لم نؤسس لوجود ألامة املفترض نهضة‬ ‫ً‬ ‫قومية اجتماعية وحزبا مهمته أن يصون النهضة ويناضل لتحقيق وجودها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وانتصار حقيقتها على أساس افتراض شئنا ّ‬ ‫تصوره لهوا واعتباطا‪ .‬وإننا نعرف‬ ‫ما نريد ونريد ما نعرف‪ .‬كما أن ألاعمال ال تكون ّ‬ ‫بالنيات فالحقائق ال تكون‬ ‫بالفرضيات والتصورات كيفما اتفق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عندما توجهنا بسؤالنا «من نحن» ّ‬ ‫عبرنا عن يقيننا املطلق بأننا وجود‬ ‫حي وحقيقة قادرة على أن تفرض نفسها على الوجود‪« .‬والتعيين هو شرط‬ ‫الوضوح‪ ،‬والوضوح هو الحالة الطبيعية للذات املدركة الواعية الفاهمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أساسا إليمان صحيح‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫فكل ال وضوح ال يمكن أن يكون‬ ‫وكل ال وضوح ال‬ ‫ً‬ ‫يمكن أن يكون قاعدة ألي حقيقة»‪ .‬وال سببا ألي إنشاء أو تحقيق سليم‬ ‫فاعل‪.‬‬

‫‪191‬‬


‫آمل أن تكون أعص ـ ـ ـ ـ ـابك بمتانة روحي ـ ـ ـ ـتك‬ ‫القومية ألنها من أس ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاس متانة إلانج ـ ـ ـ ـ ـاز‬ ‫والتحقيق السليم‬ ‫سعاده‬

‫ً‬ ‫ذات مرة في لقاء مع الزعيم كنا عددا من الرفقاء دعانا للتداول بأمر‬ ‫طارئ وهام‪ .‬كان ّ‬ ‫يود الاطالع على آرائنا واقتراحاتنا العملية بشأنه‪ّ .‬‬ ‫تشعبت‬ ‫جوانب البحث في املوضوع ّ‬ ‫وتوزعت وجهات النظر في تعليله وتحليله وخاصة‬ ‫ّ‬ ‫التوصل إلى الحل الصحيح‪ .‬وكانت املسألة‪ ،‬على ما أذكر‪ ،‬تتعلق‬ ‫في إمكان‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫باتخاذ موقف من فئة معينة ردا على تصرف بدر منها تجاه رفيق في إحدى‬ ‫ّ‬ ‫مديريات املتن الشمالي‪ .‬وكان البحث يتطلب الخروج إلى الرأي العام بتسديد‬ ‫حاسم للجهة التي تجرأت فأقدمت يومذاك على إلاساءة لسمعة الحزب دون‬ ‫أي ّ‬ ‫مبرر مما يقتض ي التصويب‪.‬‬ ‫برمانا وكان ّ‬ ‫كان من بين الحضور الرفيق يوسف تاج من مديرية ّ‬ ‫أشدنا‬ ‫ً‬ ‫إصرارًا على ضرورة ّ‬ ‫الرد‪ ،‬وإلحاحا على نوع معين من أسلوب املعالجة‬ ‫ً‬ ‫للمسألة املطروحة على أن يكون الرد فاصال في تقديم العبرة القومية‬ ‫الاجتماعية وفي تمكين الشعب من ّ‬ ‫تفهم حقيقة الحزب ومن تقديره للعقلية‬ ‫‪192‬‬


‫ألاخالقية البناءة التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫استمر البحث بعض الوقت‬ ‫يرسخها في نفسية ألامة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فتزايد ّ‬ ‫تحمس الرفيق يوسف تاج خالله متصاعدا إلى حد الانفعال الغاضب‬ ‫حتى راح يقرع الطاولة الخشبية املوجودة أمامنا دون أي انتباه ملا يعمل‪ .‬مما‬ ‫ً‬ ‫فاجأنا جميعا وأحرج املوقف تجاه حضرة الزعيم بما أضفاه على سوية‬ ‫ّ‬ ‫البحث من توتر مشدود غير مقبول‪ .‬وقد حاول أحدنا بكل تؤدة أن يمسك‬ ‫ً‬ ‫بيد الرفيق املتحمس ملفتا انتباهه إلى خطأ ذلك التصرف مهما كان الدافع‬ ‫ْ‬ ‫إليه وإلى ضرورة ضبط أعصابه وأخذ ألامر بالروية والانضباط السديدين‪.‬‬ ‫لكن الزعيم سارع بإشارة لبقة خاطفة إلى طلب الامتناع عن أي تدخل وترك‬ ‫كامل املجال للرفيق يوسف تاج كي ّ‬ ‫يعبر عن رأيه كما يروق له وبطريقته‬ ‫العفوية التي ّ‬ ‫سهلت له ذلك‪ .‬في تلك اللحظة بالذات تنبه الرفيق لنفسه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫والحظ خطأ ما بدر منه فتوقف حاال عن متابعة حديثه مستعيدا بسرعة‬ ‫ً‬ ‫هدوئه ّ‬ ‫ورويته النظامية‪ .‬وبادر فورا إلى تقديم اعتذاره الصادق لحضرة‬ ‫ً‬ ‫الزعيم موضحا أنه قد استرسل بانفعاله غير النظامي والخارج عن اللياقة‬ ‫ً‬ ‫القومية الاجتماعية نظرا لألهمية القصوى التي أوالها ملوضوع البحث‬ ‫ولحرصه الشديد على ضرورة معالجة ما قد ينجم عنه من مالبسات‬ ‫ً‬ ‫محتملة ليصار بسرعة إلى تالفيها مستقبال‪ .‬وراح يكرر اعتذاره بحرارة‬ ‫وإلحاح‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غير أن الزعيم تابع حديثه مستمرا في توجيه البحث من دون أن‬ ‫يتوقف عند الانفعال ولم يهتم باالعتذار املعروض ولم ي ْبد ّأية مالحظة أو‬ ‫ً‬ ‫تعليق بهذا الصدد بل ّ‬ ‫ظل هادئا كاملعتاد‪ .‬استأنف الجميع البحث بدقة‬ ‫عميقة في السعي إلى معالجة املسألة بغية إيجاد الحل املالئم لها‪ .‬وانتهى‬ ‫التداول باتخاذ موقف مناسب‪ ،‬وتقرر تدبير الزم نال موافقة الزعيم وحصل‬ ‫على تشجيعه وارتياحه لجدواه‪.‬‬

‫‪192‬‬


‫وقبيل السماح باالنصراف إلى مباشرة التنفيذ املقرر عاد الرفيق‬ ‫ّ ً‬ ‫مجددا إلى تأكيد أسفه ملا بدر منه وإلاصرار على طلب املعذرة‬ ‫يوسف تاج‬ ‫بالنظر إلى صدق العوامل التي أدت إلى ذلك السلوك الانفعالي‪.‬‬ ‫حينذاك التفت الزعيم إليه وهو يضع يده برفق املحب على كتفه‬ ‫ترافقها ومضات ابتسامة صافية الهدوء عميقة التأمل‪ ،‬ابتسامة تنم على‬ ‫أمل كبير يعلقه الزعيم على حرارة انهماك املخلصين للنهضة وعن إلايمان‬ ‫املطلق بالوصول بهؤالء القلقين على مصير القضية إلى قمم من البناء‬ ‫ومعارج الفالح‪ .‬التفت الزعيم إلى أسارير الرفيق يوسف تاج املضطربة‬ ‫ً‬ ‫التعابير وجال بنظراته الثاقبة متأمال الوجوه الشاخصة إليه في هدأة‬ ‫ّ‬ ‫بالترقب آلامن واملليء بالرغبة في الكشف عن املجهول‬ ‫السكون املفعم‬ ‫ّ ً‬ ‫الشيق‪ .‬وما «املعرفة سوى الكشف عن املجهول»‪ .‬ثم قال متوجها إلى الجميع‬ ‫بصوت نابض بأسرار ألاعماق وكنوز ألاغوار الخصيبة‪ ،‬صوت من يتلو على‬ ‫ً‬ ‫العقول والنفوس عبرا بليغة في يقينها لبلوغ ما تقصد من مواجهة ألازمات‬ ‫مهما اشتدت ومجابهة الصعاب مهما تصلبت واستعصت‪:‬‬ ‫«مع تأكيدي على ّ‬ ‫صح ة الدوافع القومية التي حملت الرفيق يوسف‬ ‫تاج إلى إبداء الاندفاع بل الانفعال الذي حصل له ومع تقديري ملتانة‬ ‫الروحية الدافعة لتدفق هذه الحيوية املباركة وإن تجاوز ْت حدود ّ‬ ‫الاتزان‬ ‫النظامي إلى ّ‬ ‫التوتر املشدود‪ ،‬فإني آسف ملا أعوز الرفيق يوسف من متانة‬ ‫ألاعصاب وعمق الروية النضالية‪ .‬كم ّ‬ ‫أود أن يكون لنا من متانة ألاعصاب‬ ‫وصالبة التعبير العميق عن حرصنا على مصلحة القضية ما يوازي متانة‬ ‫روحيتنا الصامدة‪ .‬يتضافران متكاملين في مواجهة املعضالت وتذليل امللمات‪.‬‬ ‫ألن ‹الخطر في اضطراب ألاعصاب› مهما أعطينا من متانة ألاخالق والوالء‬ ‫للقضية‪ .‬علينا أن نعرف كيف نبذل الجهود الرامية إلى إنجاح العمل وتحمل‬ ‫املسؤولية امللقاة على عواتقنا دونما تفريط بقوانا في مسيرتنا الطويلة‬ ‫‪194‬‬


‫الشاقة إلى ألافضل وألاكثر جدوى ودون أي تبديد أو تبذير للوقت‪ .‬فال يهدر‬ ‫سدى وال يفيض عن مطلب الحاجة إليه في كل أمر‪ .‬إن ضرورة الاستمرار في‬ ‫التلبية والعطاء تقتض ي متانة التصميم ومتانة إلاقدام على التحقيق املتين‪.‬‬ ‫ال ّبد أن تؤول جميع العوامل املبذولة بمتانة الاتجاه وإلادراك إلى أمتن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صدقا ّ‬ ‫وروية وعمقا‪ .‬لنكن دائما في تماسك إمكانياتنا وتوازن‬ ‫الغايات وأمنعها‬ ‫ً ّ ً‬ ‫طاقاتنا وفاعلية مواهبنا وحدة ومتانة وانطالقا مركزا إلى ألافضل وألاجمل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتقل ألاعمال› فكيف وألاقوال انفعاالت‬ ‫‹وال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال‬ ‫جامحة وتوترات مضطربة‪ ،‬أقوال يعوزها صمود إلارادة وصالبتها»‪.‬‬

‫‪195‬‬


‫ال ش ـ ـ ـ ـك أن الـمال امتحان مهم لنفس ـ ـ ـ ـية‬ ‫ً‬ ‫الـمـ ـ ـ ـرء‪ ،‬حين يصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـادف رف ـ ـ ـ ـ ـ ـيقا لم تكتمل‬ ‫قوميته الاجتماعية يج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـرفه ويودي به إلى‬ ‫الس ـ ـ ـ ـ ـقوط‬ ‫سعاده‬

‫ّ‬ ‫تتكرر حاالت معينة في سياق حياة ألامة وفي أمم أخرى على امتداد‬ ‫مراحل من تاريخها‪ .‬ويصبح تكرارها بمثابة ظاهرة اجتماعية طبيعية توشك‬ ‫أن تشكل ما يشبه قاعدة ثابتة ومستمرة‪ .‬فتلفت إليها الاهتمام وتستوجب‪،‬‬ ‫بالتالي‪ ،‬التوقف لدراستها املوضوعية ومعالجتها الجدية‪.‬‬ ‫من هذه الحاالت املتكررة عبر ألازمنة واملجتمعات قديمها وحديثها هي‬ ‫أن ّرواد الرساالت‪ ،‬والنهضات الكبرى من دينية واجتماعية فكرية وكذلك‬ ‫ألاقطاب املؤمنون العاملون لنصرة هذه العقائد ألاساسية في بناء صرح‬ ‫الحضارات الخالدة والباذلون لتدعيمها وصيانتها كل طاقاتهم ووجودهم‬ ‫جميع هؤالء أو معظمهم هم من صميم صفوف الشعب املتأملة‪ ،‬ال يملكون‬ ‫الثروة والجاه املرموق ال ينعمون بالنفوذ واملكانة ّ‬ ‫ّ‬ ‫أغلبيتهم‬ ‫املادية التراكمية‪.‬‬ ‫الساحقة ممن يفتقرون إلى الحاجات املالية ألاولية وإلامكانيات املادية‬ ‫‪191‬‬


‫الضرورية وهم ال يحسنون توفير املال وال التصرف به‪ .‬شملت هذه الظاهرة‬ ‫ً‬ ‫أيضا معظم املشتغلين في الشؤون الفكرية واملهتمين بقضايا ألادب والفن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقد قيل قديما «فالن أدركته حرفة ألادب» أي أنه صار فقيرا معدما لشدة‬ ‫انصرافه إلى املسائل الفكرية‪ .‬وقد اعتبر وضع ألاديب الفرنس ي واملفكر الكبير‬ ‫ّ‬ ‫الشاذة عن هذه الظاهرة التي ّ‬ ‫عمت الكثير من ألامم‬ ‫«فولتير» من الحاالت‬ ‫والشعوب‪ .‬ألن «فولتير» كان‪ ،‬وهو من أكبر رجال الفكر في عصره‪ ،‬أغنى رجل‬ ‫في أوروبا حينذاك‪ .‬أال تلتقي روحية العطاء الخيرة وبطولة إلاقدام الصادقة‬ ‫في طلب الغايات وألاهداف املثلى مع الاكتفاء املالي والاطمئنان ّ‬ ‫املادي؟ وهل‬ ‫أن الثراء املادي يقعد باملرء‪ ،‬بالضرورة‪ ،‬عن مطالب الطموح العليا التي‬ ‫تتجاوز بأهميتها املصيرية محدودية الحاجات املادية ومرحلية ألاعمال‬ ‫القريبة املنال الدانية القطوف؟ إن طبيعة إلانسان ألاساسية هي التسامي‬ ‫في إحراز مدرحية الحياة بوحدة توازنها ألاصيل وأن «القوة املادية دليل قوة‬ ‫نفسية راقية»‪ ،‬وال وجود البتة لواحدة منهما من دون ألاخرى وال فصل‬ ‫بينهما وال انفصام في الحياة السليمة الراقية‪ .‬من املؤسف أن يكون لفقدان‬ ‫ً‬ ‫التوازن بين قوة املادة وقوة الروح آثارا وأمثلة في سلوك العديد من‬ ‫القوميين الاجتماعيين‪ ،‬بالرغم من ّ‬ ‫تفرد الحزب بعقليته ألاخالقية البناءة‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وروحا وما ّ‬ ‫سجله من مواقف بطولية فذة تجلت في تصاعد العطاء‬ ‫مادة‬ ‫وإلاقدام لترسيخ حقيقة الحرية والواجب والنظام والقوة‪ .‬لقد أثبت الحزب‬ ‫ً‬ ‫خالل ما يقارب نصف قرن من تاريخ ألامة السورية في ّ‬ ‫أدق مراحله تعقيدا‬ ‫ّ ً‬ ‫وتأزما‪ ،‬أثبت جدارة ألاصالة السورية للصمود والصراع على جميع الجبهات‬ ‫ّ‬ ‫املتفوقة‪ .‬فضائل‬ ‫وأكد قدرة النهضة على تجسيد فضائل هذه ألاصالة‬ ‫العطاء باألعمال وألافعال وبمواقف العز والكرامة لخير ألامة وسيادتها‪.‬‬ ‫لوحظ منذ ان طالقة الحزب ألاولى أن بعض من اندفعوا في النشاط‬ ‫ّ‬ ‫القومي الاجتماعي بفاعلية دؤوبة مقدامة قد طرأ عليهم بعد حين تلكؤ عن‬ ‫‪199‬‬


‫تلبية واجباتهم النظامية بسبب ّ‬ ‫تحس ن وضعهم املالي ثم أخذوا يتراجعون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ويقصرون عن‬ ‫رويدا رويدا عن متابعة مواقفهم في حلبة إلاقدام والنضال‬ ‫الصمود خاصة لدى ألاحداث التي تتطلب منهم أسوة بسواهم استجماع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫قواهم واستنفار إمكانياتهم إلى أقص ى مداها إلى أن تخلوا أخيرا عن التزامهم‬ ‫بالعقيدة والنظام وراحوا يتهربون عن إبداء أدنى اهتمام بشأن الحزب‬ ‫ّ‬ ‫ومصير ألامة متوارين وراء ّ‬ ‫الدالة على ّ‬ ‫الترهل‬ ‫شتى ألاعذار والذرائع الواهية و‬ ‫ْ‬ ‫والعقوق الفاضح‪ .‬وقبعوا منزوين هكذا في حفرة منافعهم الخصوصية‬ ‫يدورون بجشع وتكالب غير الئقين بالقومي الاجتماعي‪ .‬مثل هؤالء املغرقين‬ ‫ً‬ ‫بجمع املال للمال يعيد إلى ألاذهان عبرا بليغة من خبرات الرساالت العظمى‬ ‫ً‬ ‫كاملسيحية مثال حيث يعلن املسيح‪« :‬الحق الحق أقول لكم أنه سهل على‬ ‫الجمل أن يدخل خرم إلابرة من دخول غني إلى ملكوت السماوات»‪ .‬وما زال‬ ‫ً‬ ‫هروب بعض ألاثرياء من تحمل مسؤولياتهم القومية الاجتماعية مستمرا‬ ‫املتمولون ّكلما ّ‬ ‫ّ‬ ‫تحسنت‬ ‫بنسبة تزايد ثرواتهم وتراكم أموالهم‪ .‬حتى صار هؤالء‬ ‫أوضاعهم املالية أمعنوا في الفرار من مواجهة تبعات املسؤولية القومية‬ ‫ّ‬ ‫وتنصلوا من أعباء العطاء وواجب التلبية الصادقة الصافية‪.‬‬ ‫الاجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املستمدة في‬ ‫هل يتعذر حتى على القومي الاجتماعي أن يجمع بين قوة نفوذه‬ ‫ّ‬ ‫املجتمع الحالي من توفر املال بحوزته وبين قوة نفسيته القومية الاجتماعية‬ ‫املؤمنة بصحة العقيدة واستمرار الصراع من أجل القضية التي توازي كل‬ ‫ّ‬ ‫املتمول أن ما يقدمه من مال مهما بلغ مقداره هو‬ ‫وجوده؟ هل يحسب هذا‬ ‫ً‬ ‫أكرم عطاء وأشد بطولة ممن يجودون بدمائهم تسديدا لحق ألامة عليهم‪،‬‬ ‫حقها بالسيادة والكرامة؟ وهل تكون الكرامة الحقيقية إال بإغداق العطاء‬ ‫الكريم لتحقيق الحرية والواجب والنظام والقوة فتنهض ألامة العظيمة التي‬ ‫أعطت وما زالت تقدم أخصب املناجم وأصلب املقالع في تأسيس كل فن‬ ‫وكل علم وكل فلسفة لبناء الحضارات املتألقة‪.‬‬

‫‪198‬‬


‫ذات مرة بينما ألاحاديث كانت تدور حول أحد أغنياء الحزب الهاربين‬ ‫من وجه قسمهم القومي الاجتماعي‪ ،‬سئل حضرة الزعيم عن أسباب هذه‬ ‫ّ‬ ‫الظاهرة من تلكؤ رفقاء عن ممارسة واجباتهم القومية الاجتماعية ملا طرأ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تحس ن أو استقرار على أوضاعهم املالية بعد أن ّ‬ ‫من ّ‬ ‫سجلوا سلوكا نظاميا‬ ‫ً‬ ‫فاعال‪ .‬فأجاب الزعيم إن الحياة املغامرة الكبرى هي سلسلة امتحانات‬ ‫مستمرة ال تنتهي‪ّ .‬‬ ‫منا من يفوز بتأكيد ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهليته لخوض معركة‬ ‫واختبارات‬ ‫ّ‬ ‫الحياة لدى استمرارية هذه الامتحانات‪ .‬ومنا من تكشف الامتحانات زيف‬ ‫إيمانه وسطحية اندفاعه وتعلن انعدام مقدرته على الصمود والنجاح‬ ‫وعجزه عن الثبات في الطريق الطويلة‪ .‬وما املال سوى أحد أهم هذه‬ ‫ً‬ ‫الامتحانات املغرية بالتخاذل والترهل‪ .‬فحين يصادف املال رفيقا لم يكتمل‬ ‫بناء قوميته الاجتماعية ولم تتبلور مفاهيمه للعقيدة وأهدافها فإنه يجرفه‬ ‫ال محالة وتستدرجه مغرياته املضللة إلى هاوية الهزيمة والسقوط‪ .‬إنه يضيع‬ ‫بين دعوة ألانا التي ّ‬ ‫يشده إليها املال ودعوة الواجب لتلبية أصالته السورية‬ ‫حتى يقع فريسة التكالب والجبانة ويقص ي نفسه عن مسيرة الصفوف وزخم‬ ‫صمودها املتفوق بالعطاء والصراع حتى بلوغ النصر ألاخير‪.‬‬

‫‪197‬‬


‫وضع النظ ـ ـ ـ ـام على قـ ـ ـ ـ ـواعد حيـ ـ ـ ـ ـ ـوية تأخذ‬ ‫ألاف ـ ـ ـ ـ ـراد إلى النظام وتفس ـ ـ ـ ـ ـح أمامهم مجال‬ ‫التطور والنمو حسب مواهبهم ومؤهالتهم‬ ‫سعاده‬

‫« إن مبادئنا القومية الاجتماعية قد كفلت توحيد اتجاهنا‪ ،‬ونظامنا قد‬ ‫ً‬ ‫كفل توحيد عملنا في هذا الاتجاه‪ .‬النظام ش يء عميق جدا في الحياة‪ .‬هو‬ ‫نظام الفكر والنهج ثم نظام ألاشكال التي تحقق الفكر والنهج»‪.‬‬ ‫كما أن النظام بطبيعته يضع ألامور في نصابها فهو كذلك يضع ألافراد‬ ‫في مكانهم الالئق بمواهبهم ومؤهالتهم‪ .‬لذلك يلتزم النظام بمعاقبة من تس ّول‬ ‫له نفسه مخالفة توجيهاته والتهاون بتلبية أحكامه وتطبيق مضامينه بكل‬ ‫أمانة ودقة‪ .‬والنظام القومي الاجتماعي يختلف عن كل نظام آخر ألنه نظام‬ ‫العقيدة السورية القومية الاجتماعية‪ .‬نظام فوق ألاشخاص وكل الاعتبارات‬ ‫الخارجة عن الحق العام وعن الغاية التي وجد من أجلها هذا النظام وتلك‬ ‫العقيدة‪ .‬هذا النظام القومي الاجتماعي الذي يكفل توحيد العمل للحرية‬ ‫والواجب والنظام والقوة يدين التسويات ويرفض ألاحكام املتسرعة‬ ‫‪181‬‬


‫الاعتباطية والحلول املنحازة ضد أشخاص أو من أجل أشخاص‪ .‬هو تجسيد‬ ‫العدالة ألن « ألاخالق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى»‪،‬‬ ‫بفعل النظام القومي الاجتماعي نحصل على أكبر إنتاج وأفضله بأقل مجهود‬ ‫وأقل التكاليف وأقصر مدى زمني إذا ما أدركنا قيمته وشأنه ّ‬ ‫البناء في حياة‬ ‫ألامة والنهضة‪.‬‬ ‫كان الزعيم دقيق املحاسبة بقدر ما هو دقيق التوجيه؛ شديد الحرص‬ ‫ً‬ ‫على تصويب أي تهاون واستئصال أي إهمال‪ .‬مهما بدا في الظاهر طفيفا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وبسيطا‪ّ .‬‬ ‫مرة حضر عميد الداخلية متأخرا عن موعد جلسة مجلس العمد‬ ‫مدة اثنتي عشرة دقيقة دون عذر‪ .‬فما كان من الزعيم إال أن أقاله من‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫مسؤولية العمدة حاال ليكون عبرة لسواه‪ .‬من يحسب أن دقة الانضباط‬ ‫والتلبية الحاسمة أمر بسيط أو ثانوي يمكن التغاض ي عنه‪ .‬فالتأخير عن‬ ‫مواعيد العمل وإلانجاز ال يقاس بمداه الزمني إنما بمغزاه النفس ي الوجداني‬ ‫ذي ألاثر الشديد الخطورة في البناء القومي الاجتماعي‪.‬‬ ‫كان الشهيد ّ‬ ‫عساف كرم قد طرد من صفوف الحزب ّإبان غياب‬ ‫الزعيم عن الوطن واستمر ّ‬ ‫ينفذ هذه العقوبة القصوى خالل سنين عديدة‬ ‫حتى بعد عودة الزعيم فترة غير قصيرة‪ ،‬دون أن يصار إلى إعادة النظر بهذا‬ ‫الوضع‪ ،‬ال بطلب منه وال من قبل السلطة الحزبية آنذاك‪ .‬ذات يوم حضر‬ ‫ً‬ ‫عميدا للداخلية ونقل َّ‬ ‫إلي رغبة‬ ‫ألامين عجاج املهتار إلى املركز ملقابلتي بوصفي‬ ‫ّ‬ ‫عساف في الاجتماع بي ألمر حزبي هام‪ .‬استمهلته ريثما أرفع ألامر إلى الزعيم‬ ‫أستأذنه الاجتماع ّ‬ ‫بعساف كرم املطرود‪ .‬في اليوم التالي أبلغت ألامين عجاج‬ ‫املوعد للقاء ّ‬ ‫عساف‪ .‬فحضر بتمام املوعد املحدد إلى املقابلة‪ّ .‬أدى التحية‬ ‫القومية الاجتماعية بنظامية رائعة وبخشوع من يتلو أدعية الصالة لتحيا‬ ‫ً‬ ‫سورية‪ .‬ثم أردف قائال‪« :‬أنا يا حضرة العميد‪ .‬كما تعلم‪ ،‬مطرود من صفوف‬ ‫ُّ‬ ‫أستحق الطرد‪ .‬وليس لي من‬ ‫الحزب منذ كذا من السنين وإني دون ريب‬ ‫‪181‬‬


‫اعتراض وال طلب بصدد العقوبة‪ .‬إنما ُّ‬ ‫بت منذ حين أشعر بأنني قومي‬ ‫اجتماعي صادق العقيدة وصادق العزيمة ُّ‬ ‫وأود أن أمارس واجبات العضوية‬ ‫بصورة فعلية ونظامية أسوة بسائر الرفقاء العاملين‪ .‬وقد جئت إليكم أرجو‬ ‫العمل على إعادة اعتباري القومي الاجتماعي ومنحي حقوق العضوية‬ ‫النظامية كي يتاح لي القيام بواجباتي القومية الاجتماعية كاملة‪ .‬وإني آمل‬ ‫تلبية طلبي هذا‪ .‬وعند الامتحان يكرم املرء أو يهان»‪ .‬أبديت له عميق ارتياحي‬ ‫ملطلبه البالغ ألاهمية ووعدته بمراجعة حضرة الزعيم باألمر على أن أبلغه ما‬ ‫ً‬ ‫قد يتم بشأنه في موعد قريب جدا عن طريق صهره ألامين عجاج املهتار‪.‬‬ ‫رفعت تقريري إلى الزعيم عن موضوع ّ‬ ‫عساف كرم وما أبداه من نبيل الرغبة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وصفاء إلايمان للعودة إلى صفوف النهضة عضوا عامال ومناضال في العقيدة‬ ‫والنظام‪ .‬فأمرني الزعيم بأن اتصل ّ‬ ‫بعساف كرم ثانية وأطلب منه توجيه‬ ‫ً‬ ‫رسالة إلى الزعيم بما أعلنه شفويا وبواسطة عمدة الداخلية ثم ينتظر‬ ‫ّ‬ ‫خطية من ّ‬ ‫الجواب‪ّ .‬‬ ‫عساف كرم تؤكد مطلبه‬ ‫تم الحصول على رسالة‬ ‫ً‬ ‫بالوضوح وإلايجاز عينه الذي سجله شفويا لدى مقابلته لعميد الداخلية‪.‬‬ ‫بعد أيام ثالثة من تاريخ وصول الرسالة إلى حضرة الزعيم ّ‬ ‫تلقى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫عساف كرم طلبا ليرافق عميد الداخلية إلى مواجهة الزعيم في مكتبه‪ .‬وقد‬ ‫ًّ‬ ‫مصرا على ثقته بنفسه وجدارته‬ ‫كرر أمام الزعيم فحوى الرسالة ذاتها‬ ‫لتحمل مسؤوليات العضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي على ّ‬ ‫ّ‬ ‫أتم‬ ‫وجه وأعلى مستوى‪ .‬دامت املقابلة بضع دقائق وقد طلب منه الزعيم‬ ‫الانتظار بعض الوقت حتى ّ‬ ‫يتسلم القرار الالزم ملعالجة وضعه‪ .‬سمح له‬ ‫باالنصراف ثم ّأدى ّ‬ ‫عساف كرم بقامته الفارعة ووقفته النظامية ّ‬ ‫البهية‬ ‫ّ‬ ‫التحية للزعيم الذي تجلت في مالمحه املشرقة روعة إلايمان بعظمة هذه‬ ‫ّ‬ ‫بتألق أصالتها ّ‬ ‫وتفوق صفائها وقدرتها على كل عطاء وكل‬ ‫ألامة وجالل اليقين‬ ‫تحقيق ّ‬ ‫خير وخالد‪.‬‬ ‫‪182‬‬


‫هكذا عاد ّ‬ ‫عساف كرم املطرود إلى صفوف الحزب ليمارس عضويته‬ ‫ّ ً‬ ‫مجسدا تعاقده على تحقيق أمر خطير‬ ‫بكل أمانة ودقة وعاود نضاله البطولي‬ ‫يساوي وجوده فبلغ ذروة العطاء وصار قدوة ألابطال ومن تراث ألاجيال التي‬ ‫ّ‬ ‫لم تولد بعد‪ .‬فالقومي الاجتماعي السليم ألاخالق مهما أملت به حاالت‬ ‫يظل القوة القادرة على التحرر من ك ْبوتها فال ّ‬ ‫الضعف والانكفاء ّ‬ ‫تحولها‬ ‫النكبات إلى إنسان متخاذل جبان‪ .‬ال ّبد للقومي الاجتماعي أن ينتصر على‬ ‫لحق أمته ومن أجل كرامتها ّ‬ ‫نفسه وينتصر بالتالي ّ‬ ‫وعزها ومجدها‪ .‬إن ألابطال‬ ‫املنتصرين على ضعفهم وتر ّددهم هم جحافل القوى التي يقودها سعاده إلى‬ ‫ًّ‬ ‫حدا‬ ‫النصر ويضع بقدوة مواقفهم القومية الاجتماعية وصالبة صمودهم‬ ‫ً‬ ‫نهائيا للفتوحات‪.‬‬

‫‪182‬‬


‫أنت تسـ ـ ـتحق العقوبة من الحزب ال املعونة‬ ‫ألنك أسـ ـ ـ ـ ـأت بع ـ ـ ـ ـملك إلى الثروة الق ـ ـ ـ ـ ـ ـومية‬ ‫سعاده‬

‫يتبارى الجميع في اعتماد «الوسائط» إلعفائهم من أحكام القانون مهما‬ ‫بدت عادلة ومحقة‪ ،‬ألن الناس بمعظمهم‪ ،‬خالل فترات الانحالل الخلقي‬ ‫الشائع‪ ،‬يعتقدون أن القانون بحد ذاته مجحف وظالم وهو ّ‬ ‫مجرد سوط‬ ‫يستعمله عامة ألاقوياء من شعبنا ملطاردة الضعفاء الذين يشعرون بأن ال‬ ‫حول لهم وال قوة تحميهم من حيث املكانة والنفوذ والثراء‪ .‬لذلك يخشون‬ ‫القانون والاحتكام إليه‪ .‬هذا من جهة ومن جهة أخرى تعود الناس ّ‬ ‫التهرب‬ ‫ّ‬ ‫وتحمل جزاء أعمالهم‪ .‬وهذا املوقف من‬ ‫من مواجهة مسؤوليات تصرفاتهم‬ ‫النظام والقانون يكاد يكون بين املواطنين عامة على اختالف مستوياتهم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لذلك قل ما يتعرض املرء إلى مخالفة العقاب والحساب القانوني إال ويسعى‬ ‫ً‬ ‫جاهدا إلى إيجاد من يتوسط له لدى ذوي السلطة وأصحاب الشأن‬ ‫ّ‬ ‫للتملص ما أمكنه من ّ‬ ‫تحمل تبعات سلوكه مهما كانت مخالفته للقانون‬

‫‪184‬‬


‫وألاخالق جسيمة وشائنة بحق أحد ألافراد أو إزاء الحق العام والسالمة‬ ‫العامة‪.‬‬ ‫وقد خ ّيل ألحد القوميين الاجتماعيين أن واجب املساعدة واملساندة في‬ ‫امللمات بين ألاعضاء هو إلزامي وهو من دون قيد وال شرط يفرضه الحق‬ ‫العام واملصلحة العامة كما يحدث عادة في ممارسة التعاون والتآزر بين‬ ‫الجماعات التي تشدها العصبيات الطائفية أو العشائرية والعائلية وسواها‬ ‫ّ‬ ‫التكتالت الفئوية إذ يتم التعاون بينهم خاصة على إلاثم والعدوان بعامل‬ ‫من‬ ‫الحقد على آلاخرين‪ .‬املساعدة بين هؤالء هي أساس ترابطهم وغاية له وهي‬ ‫شرط استمرار ّ‬ ‫تجمعهم الال اجتماعي ألن عالقتهم بعضهم مع بعض هي‬ ‫ّ‬ ‫عالقة املساهمين في شركة استثمار‪ّ ،‬‬ ‫وتتبدل وفق أرصدة ألارباح‬ ‫تتغير‬ ‫والخسائر‪ .‬هم في اختالف أو وفاق دائم سواء على تقسيم ألارباح أو توزيع‬ ‫الخسائر‪ ،‬كل فرد منهم على أهبة الاستعداد للتشهير باآلخرين والانقضاض‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ ً‬ ‫متوعدا بالويل والثبور‪ .‬لذلك فإن تواجدهم ووجودهم بأسره‬ ‫مهددا‬ ‫عليهم‬ ‫ّ‬ ‫مهد د بالدمار والانهيار بين لحظة ولحظة هم على شفير الانفجار والاندثار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أفرادا وأعدادا‪ .‬مجموعهم شراذم من مقامرين ومغامرين‪ .‬كل يستثمر آلاخر‬ ‫وال يجرؤ أحد منهم على محاسبة سواه ومقاضاته‪ .‬هذا بعض ما يحدث لدى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ابا وهم ّ‬ ‫مجرد شركات وتشكيالت‬ ‫من يحسبون أنفسهم زورا وتزويرا أحز‬ ‫سياسية أو غير سياسية‪ ،‬والسياسة لدى هؤالء املتحزبين الذين يجمع بينهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كره سواهم هي فقط من أجل السياسة عينها وال يمكن أن تكون عمال قوميا‬ ‫ً‬ ‫ولن تعرف سبل النجاح مهما مألت ألارجاء وألاجواء ثرثرة وصياحا‬ ‫ً‬ ‫فضفاضا‪.‬‬ ‫جاء أحد أعضاء الحزب الذي لم يكن ّ‬ ‫يفرق بين نهضة تعمل لسيادة‬ ‫ألامة بانتصار املناقب‪ ،‬وألاخالق البناءة الخيرة في صفوفها وبين شركة‬ ‫ًّ‬ ‫هما قد حسبه‬ ‫استثمار‪ ،‬واستيراد‪ .‬جاء هذا العضو إلى الزعيم يشكو إليه‬ ‫‪185‬‬


‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫مهما وجسيما وهو أنه قد أحيل إلى إحدى محاكم الدولة اللبنانية‬ ‫آنذاك‬ ‫بتهمة اصطياد السمك في غير املواعيد املحددة وألاساليب املسموحة‪ .‬وهو‬ ‫يخش ى إصدار الحكم بمعاقبته‪ .‬ألامر الذي ال يستطيع ّ‬ ‫تحمله‪ .‬ألنه رجل فقير‬ ‫ّ‬ ‫يمكنه من ّ‬ ‫سد رمق عائلته‪ .‬فكيف العمل للخالص من‬ ‫معوز ال يملك ما‬ ‫ّ‬ ‫املشكلة؟ وقد طلب مواجهة الزعيم لعل ه يتدخل أو يأمر من يتدخل مع‬ ‫أعضاء املحكمة لتخفيف الع قوبة املتوقعة عنه أو تبرئته من التهمة‪ ،‬وهذا‬ ‫بالطبع هو ألانسب لديه وألافضل‪ .‬والرفيق يرى أنه يستحق مسامحة‬ ‫املحكمة له ويأمل عطف الزعيم عليه واهتمامه بأمره وهل غير زعيم حزبه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وامللمات وفي‬ ‫وهو أب الجميع‪ ،‬يكون سند القوميين وعونا لهم في ألازمات‬ ‫املآس ي واملآزق؟‬ ‫ّ‬ ‫وتجهم‬ ‫ما كاد الرفيق الصياد يفرغ من كالمه هذا حتى وجم الزعيم‬ ‫وجهه ّ‬ ‫فنمت مالمحه بوضوح عما كان يعانيه حينذاك من مرارة وخيبة ثم‬ ‫ً‬ ‫ما لبث أن استعاد روعه وأخذ يتكلم بروية وتؤدة مؤاسيا الرفيق الصياد‬ ‫ّ‬ ‫عله ينشله من ضياعه ويوقظه من هذيان استولى عليه دون أن يدري ما‬ ‫يقول أو يعي ما يعمل‪ .‬وقال له‪ ،‬يا رفيقي‪ ،‬أنت تعلم أنك خالفت القانون‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وعرضت نفسك للعقوبة وموردك الوحيد للضياع‪ .‬باصطياد ألاسماك في‬ ‫ً‬ ‫محرمة من شأنها أن ّ‬ ‫وقت ممنوع وبوسائل ّ‬ ‫تهدد ثروة البالد التي هي أيضا‬ ‫ثروتك إلى الانقراض والزوال وإلى حرمان الكثيرين من موارد رزقهم‪ .‬ألن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مواسم ألاسماك تشكل جانبا مهما من اقتصاد ألامة‪ .‬وأن عمال كهذا هو‬ ‫تصرف ال قومي اجتماعي تستحق من أجله عقوبة من حزبك ال معونته لك‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تستحقه من عقوبة قانون الدولة اللبنانية يجب أال تع ْد ثانية إلى‬ ‫فضال عما‬ ‫مخالفة كهذه وارجع إلينا بنتيجة املحاكمة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫اصة متماسكة ّ‬ ‫صفوفا متعاونة وقوة متر ّ‬ ‫تشدنا عصبية‬ ‫أما إذا كنا‬ ‫قومية اجتماعية واحدة ضرورية لنمونا وصمودنا وأساسية النتصارنا‪ ،‬فإن‬ ‫‪181‬‬


‫هذا التعاون بيننا الضامن الستمرارنا وانتشارنا بمنعة وقوة هو تعاون قومي‬ ‫ّ‬ ‫التقدم باألخالق واملناقب ومن أجل الدفاع عن حقوق‬ ‫اجتماعي في سبيل‬ ‫الوطن واملصلحة القومية التي هي لصيانة سيادة ألامة وتوطيد ثروتها وقوتها‬ ‫وكرامتها‪ .‬فأين سلوكك يا رفيقي من هذه العقلية ألاخالقية القومية‬ ‫الاجتماعية ومن غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي وأهدافه‪.‬‬

‫‪189‬‬


‫الرابطة العائلية قس ـ ـ ـرية ال خي ـ ـ ـ ـ ـار فيها‪ ،‬أما‬ ‫الرابطة القومية فهي رابطة الحريـ ـ ـة والوعي‬

‫إن أقدم رابطة عرفها إلانسان وتعامل على أساسها وبمقتض ى عاداتها‬ ‫وتقاليدها هي رابطة الحسب و النسب‪ ،‬رابطة العرق والدم‪ .‬لقد قادت‬ ‫البشرية وفعلت في كيانها أزمنة متالحقة عريقة القدم‪ .‬كما كانت العامل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واملحرك لكل عداوة‪ ،‬يومها عاش إلانسان عشائر وقبائل‬ ‫املولد لكل صداقة‬ ‫ّ‬ ‫متنق لة ال تعرف إلاقامة في مكان معين وال الاستقرار في موطن محدد تتفاعل‬ ‫ً‬ ‫في بيئته الجماعات وألاجيال املتعاقبة‪ .‬ثم اتخذ إلانسان لنفسه وطنا يقطنه‬ ‫ويدأب على استثمار خيراته والعيش من موارده فنشأت حينذاك بين الفئات‬ ‫العائلية القبلية املتجاورة في البيئة الواحدة رابطة جديدة غدت فيما بعد‬ ‫شديدة التأثير في استمرار إلانسان ومصيره خالل تالحق الحقبات التاريخية‪.‬‬

‫‪188‬‬


‫وهذه الرابطة هي رابطة ألارض ركيزة تفاعل إلانسان مع الحياة‬ ‫والوجود‪ .‬وصارت رابطة الدم تتناوب ورابطة ألارض في توجيه إلانسان‬ ‫ً‬ ‫وتعيين اتجاهاته وعالقات جماعاته بعضها مع بعض‪ .‬وكان الصراع عنيفا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫بين هاتين العصبيتين وما زال محتدما في الشعوب البدائية املتخلفة‪ .‬أما في‬ ‫ألامم واملجتمعات املتطورة فقد راحت العصبية العائلية أو العشائرية‬ ‫تتراجع وتنحل أمام تمكن العصبية القومية من ّ‬ ‫لم شتات أبناء الوطن‬ ‫الواحد على اختالف أصولهم الدموية ومذاهبهم الدينية‪ .‬وبذلك أصبحت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ألامة مجتمعا واحدا ومزيجا قوميا مميزا بخصائصه ومواهبه ومواقفه‬ ‫املوحدة أمام شؤون الحياة والكون والوجود‪ .‬وأصبحت مصلحة ألامة‬ ‫الواحدة فوق كل املصالح الجزئية املعطلة ل ْحمة وحدتها وتط ُّور تكاملها‬ ‫ونموها ّ‬ ‫كأي كائن حي له شخصية واحدة وقضية واحدة ومرام مادية روحية‬ ‫واحدة كلية التماسك والتفاعل‪.‬‬ ‫نشوء الحزب السوري القومية الاجتماعي في مدينة طرطوس ومنطقتها‬ ‫ً‬ ‫بدأ قديما منذ أوائل سنة ‪ 1725‬وكان انتشاره بين أوساط الشعب عامة‬ ‫ً‬ ‫عميقا فيما أحدثه من تغيير جذري في النفوس والعقليات‪ .‬قد سجل الكثير‬ ‫من أعضائه املواقف ّ‬ ‫الفعالة لصرح البناء القومي ّدلت على ّ‬ ‫أهمية وعيهم‬ ‫لحقيقة أبعاد الحركة السورية القومية وعلى مدى صالبتهم في الصمود أمام‬ ‫املصاعب الحادة التي تواجههم‪ .‬من أجل أن يذودوا عن العقلية ألاخالقية‬ ‫الجديدة التي ّ‬ ‫يقدمها الحزب لألمة السورية وملصالحها ومصيرها‪ .‬وهم‬ ‫يؤكدون فعلها ألاصيل في بناء إلانسان الجديد وقدرتها الجريئة على جعل‬ ‫إلانسان ينعتق من مفاهيم العقلية السياسية البالية التي تقف في طريق‬ ‫الزحف القومي الاجتماعي مهما طالبت وتراكمت على دروبها الصعوبات‬ ‫والنكبات‪.‬‬

‫‪187‬‬


‫من ألاحداث الدالة على ثبات القوميين الاجتماعيين في حلبة الصراع‬ ‫والنضال أمام القوى املعارضة ملسيرة النهضة‪ ،‬هذه ألاحداث هي مواقف‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫صفوف الحزب إزاء تألب فئات الرجعة ّإبان املعارك الانتخابية مثال التي‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫تحسب محكا هاما للعناد وإلاصرار في وجه املغريات والتهديدات التي كانت‬ ‫تتوالى وتتزاحم حينذاك‪.‬‬ ‫لقد رشح الحزب عن املقعد النيابي في طرطوس لعدة دورات انتخابية‬ ‫الرفيق بديع أنيس اسماعيل‪ ،‬وتمكن من إيصاله إلى النجاح‪ .‬تدعمه قوى‬ ‫الحزب وقوى ألاصدقاء واملؤيدين‪ .‬لقد حدث ذات مرة‪ .‬في إحدى الدورات‬ ‫الانتخابية‪ ،‬أن أنيس اسماعيل‪ ،‬والد الرفيق بديع‪ ،‬وهو أحد أصدقاء الحزب‬ ‫البارزين في طرطوس قد فاجأنا بترشيح نفسه عن املقعد ذاته‪ ،‬دون أن‬ ‫يتشاور مع الحزب أو يتداول معه في ألامر ودون إلافصاح ألحد عن بواعث‬ ‫ُّ‬ ‫تقدمه على ابنه وتجاوزه له‪ .‬وقد كتم ألاسباب حتى عن ابنه نفسه‪ .‬وكان‬ ‫يبدو أن وراء هذه املفاجأة التي أرادها الصديق أنيس إسماعيل تأثير بعض‬ ‫الفئات التي لم ير ْق لها ما قد بلغه الحزب آنذاك من قوة وانتشار ّ‬ ‫يهددان‬ ‫نفوذهم ومكانتهم املتوارثة‪.‬‬ ‫أمام ألامر الواقع الذي فرضه على الحزب أحد أقرب أصدقائه ووالد‬ ‫ً‬ ‫مرشح ونائب قومي اجتماعي كان املوقف يتطلب الحزم والروية معا‪ .‬فما كان‬ ‫من إلادارة الحزبية بعد تدارس املوضوع من جميع جوانبه وبمنتهى السرعة‬ ‫إال أن اتخذت قرارها القاض ي بترشيح الرفيق بديع أنيس إسماعيل مقابل‬ ‫ترشيح والده بدون أي تعليق أو إيضاح‪ .‬وقد أعلن الترشيح وبوشر العمل‬ ‫للمرشح القومي الاجتماعي بصورة طبيعية كاملعتاد‪ .‬فكان لهذا القرار‬ ‫ّ‬ ‫واستجابة الرفيق للتنفيذ ٌ‬ ‫وقع أثار الدهشة وإلاعجاب من جهة كما ولد‬ ‫ّ‬ ‫عند البعض الاستغراب والتعجب‪ .‬كيف يرشح الابن نفسه ضد أبيه؟ وكيف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتصرف الحزب بوضع الابن خصما ألبيه؟ كيف الخروج من هذا الذي اعتبر‬ ‫‪171‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتطوراتها لذلك‬ ‫املعنية؟ راح الجميع يترقب ردود الفعل‬ ‫مأزقا لكل ألاطراف‬ ‫املوقف الطريف بقدر ما هو دقيق لكن ما لبث الصديق أنيس اسماعيل أن‬ ‫بادر إلى الاتصال باملسؤول الحزبي املكلف بهذه املسؤولية وهو عميد‬ ‫الداخلية آنذاك ألامين إلياس جرجي قنيزح‪ّ ،‬‬ ‫وتمت لقاءات عديدة بين‬ ‫املسؤول الحزبي والصديق أنيس إسماعيل بحضور الرفيق بديع دارت فيها‬ ‫شتى ألابحاث وألاحاديث بصدد ترشيح ألاب والابن للتنافس على مقعد نيابي‬ ‫واحد في طرطوس‪ .‬وكان أهم ما تداواله‪:‬‬ ‫ هل يجوز يا حضرة العميد أن يتدخل الحزب ليفصل الابن عن‬‫أبيه؟‬ ‫• الحزب ال يفصل بين الاثنين بل يجمع بينهما بأن يكون مرشحه‬ ‫ً‬ ‫الرفيق بديع أنيس اسماعيل في هذه الدورة أيضا كما كان النائب ألكثر من‬ ‫ً‬ ‫دورة سابقة‪ .‬وهو في الوقت نفسه ولدك ألاكبر‪ .‬ناهيك عن كونك صديقا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وسلمت بمثل هذا الترشيح ّ‬ ‫وتحمست له دائما‪ .‬فما الداعي‬ ‫للحزب وقد سبق‬ ‫لتصرفك اليوم املنافي للماض ي؟ هل بطل أن يكون الرفيق بديع ابنك‪ .‬أم أن‬ ‫الحزب قد ّ‬ ‫تغير بنظرك؟‬ ‫ّ‬ ‫ لكني اليوم قد رش حت نفس ي وأعلنته للجميع فهل يليق أن أتراجع‬‫أمام ضغط ابني وبدعم من الحزب وتشجيعه ّ‬ ‫ضدي؟‬ ‫ً‬ ‫• ليست املسألة إعالن ترشيح قبل ترشيح ولست أمام ضغط إطالقا‪.‬‬ ‫فا بنك يبقى بالنسبة إليك ولدى جميع الناس مثال الابن البار في كل‬ ‫الشؤون العائلية كما أنه يبرهن للمأل أنه مثال القومي الاجتماعي الوفي‬ ‫لقسمه الحريص على أن يكون لرفقائه قدوة تحتذى‪ .‬ويستحق منك أنت‬ ‫قبل سائر الناس التقدير والاعتزاز ألنه رجل عقيدة ورجل قضية كبرى من‬ ‫حقنا أن نفاخر به ونسانده بموقفه الشجاع‪.‬‬ ‫‪171‬‬


‫ لكن ما رأي الحزب لو سمح «للرفيق» بديع باالنسحاب ملصلحة أبيه‬‫ً‬ ‫حفاظا على سمعة وكرامة العائلة هذه املرة فقط ويكون بعد ذلك مرشح‬ ‫الجميع ندعمه كلنا نحن والحزب؟‬ ‫• يا أبا بديع نحن ال نطلب دعم ابنك ورفيقنا في الترشيح ليغدو نائب‬ ‫الحزب فقط ملرة واحدة أو مرات محددة هو لنا بقدر ما هو لك ونحن له‬ ‫ً‬ ‫أيضا ومنذ الساعة عليك أن تبايعه وتبارك له باملركز الذي هو جدير به‪.‬‬ ‫ً‬ ‫يجب أن ّ‬ ‫تعتز بغدك الذي هو بديع وتعتز بنا جميعا وال يجوز أن تطلب منا‬ ‫أي تراجع ليس ملصلحة أحد سوى الخصوم فأسرع يا أبا بديع وبارك ترشيح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حاال وال تكن عثرة في وجه ّ‬ ‫تمسكنا برفقته وبصداقتك أيضا‪ .‬إن‬ ‫ابنك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حرصنا عليه في صفوفنا قوميا اجتماعيا مناضال ال يحق لك تعطيله‪ .‬ال‬ ‫تحاول إقناعنا بالتخلي عنه ألن الرفيق بديع ّ‬ ‫يعبر بموقفه الرائع عن أخالق‬ ‫الحركة السورية القومية الاجتماعية دون أدنى إساءة إليك من جراء إصراره‬ ‫ّ‬ ‫املشرفة‪ .‬ال ّبد أن تمسك بيده ليثابر على هذا الصمود‪ .‬إياك أن‬ ‫على البطولة‬ ‫تدفعه إلى ما يعيبه من التخلي عن قسمه‪ .‬حينذاك فقط يس يء بسلوكه الال‬ ‫قومي إليك وينال بالفعل من كرامتك وسمعتك‪ ،‬خاصة‪ ،‬بنظر من يعرفون‬ ‫ً‬ ‫حقا قيمة الشرف والحقيقة واملعتقد لحياة إلانسان‪ ،‬ال تدع يا سيد أنيس‬ ‫ً‬ ‫مجاال ّ‬ ‫ألي فريق ثالث أن يتداخل بينك وبين الحزب وأنت تعرف ماذا يعني‬ ‫تداخل أولئك الخصوم الذين ال يركن إليهم وال يضمرون لك ولنا سوى‬ ‫ألاذى وإلاساءة البالغة‪.‬‬ ‫ فهمت يا حضرة العميد‪ ،‬أ مهلني ألعود في الغد بالجواب الذي آمل أن‬‫يفي بالغرض‪ .‬سأتدبر ألامر بالتي هي أحسن‪ .‬لكن أرجو ّ‬ ‫التريث حتى الغد دون‬ ‫أي تصعيد إعالمي للمعركة الانتخابية قبل أن نلتقي ثانية خالل أربع‬ ‫وعشرين ساعة على ألاكثر‪.‬‬

‫‪172‬‬


‫وقبل أن يغادر أنيس اسماعيل الغرفة أطلق عبارة مدوية وهو يضحك‬ ‫وقد أثارت اهتمام الجميع ومرحهم‪ « :‬يا جماعة‪ ،‬ما هذا الحزب الذي يلزمني‬ ‫أن أطلب منه تأييد ابني لي في الانتخابات»‪ ،‬ثم أعلن بخاطركم‪ ..‬إلى اللقاء‪.‬‬ ‫وفي اليوم التالي ّ‬ ‫تم التفاهم بين ألاب والابن على خوض معركة‬ ‫ّ‬ ‫انتخابية للمرش ح القومي الاجتماعي الرفيق بديع اسماعيل وقد تكللت‬ ‫املعركة بالنجاح والانتصار املنشود‪.‬‬

‫‪172‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫هل يصح أن تكون السـ ـ ـ ـ ـ ـلطة فريقا غريبا‬ ‫ً‬ ‫عنا مفروضا علينا‬

‫ع ّودتنا عهود متراكمة من الاستعمار والتسلط أن ننظر إلى السلطة‬ ‫نظرتنا إلى فريق غريب عنا‪ .‬فريق ال ّ‬ ‫يعبر عن أمانينا في الحياة وال عن رغباتنا‬ ‫ّ‬ ‫في الوجود‪ .‬الفريق املتسلط الذي ال يعرف العدالة وال يعمل على معالجة‬ ‫شؤوننا من منطلق وجداني إنساني‪ ،‬وبنزاهة وأخالق‪ .‬إنما همه ألاوحد‬ ‫التشدد على إنزال العقوبات الجائرة علينا وألننا بتنا نخش ى أصحاب‬ ‫ً‬ ‫السلطة‪ ،‬رحنا نتحاشاهم خوفا ورهبة‪ ،‬واملفروض‪ ،‬غير ذلك أن يتحلى رجل‬ ‫السلطة برحابة الصدر‪ ،‬والقدرة على الاستماع ملشاكل الناس ليصار إلى‬ ‫تصحيحها وتسيير ألامور نحو ألافضل ولكن السلطة عندنا هي طبقة فوقية‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مستبدة‪ ،‬طبقة تفرض وجودها علينا تنفيذا ملآرب سواها‪ .‬وبتنا ال‬ ‫مستغلة‬ ‫نعرف كيفية التعامل معها بوضوح من أجل الخير العام والسالمة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الاجتماعية التي هي أخيرا سالمتنا جميعا والتي تقتض ي تضافر قوانا قاطبة‬

‫‪174‬‬


‫وتفاعل كامل إمكانياتنا وطاقاتنا ومواهبنا‪ .‬إن السلطة في الحقيقة والواقع ال‬ ‫ّبد أن تنبثق من إرادتنا‪ .‬لقد وجدت لنا ومن أجل حقوقنا ومصالحنا‬ ‫القومية ليس إال‪ .‬وما عليها إال أن ّ‬ ‫تعب ر عن أمانينا وتجسد توقنا إلى الرقي‬ ‫والتقدم‪ .‬مهمتها ألاساسية واملبدئية هي مهمة الطبيب واملربي القدوة‪ .‬مهمتها‬ ‫تزودنا باملعرفة والقوة ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫وتمدنا باملحبة والوالء وتسهر على راحتنا وتذود‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتطورنا‪ .‬السلطة بمفهومنا القومي‬ ‫املهددة لوحدتنا‬ ‫عنا املكاره واملكائد‬ ‫الاجتماعي هي التعبير العملي ألافضل عن مدى ثقتنا بأنفسنا ووعينا مرامي‬ ‫قضيتنا في الحياة والوجود هي لنا بقدر ما نحن لها‪ ،‬هي قدوة في التحقيق‬ ‫لقوة إرادتنا ومضاء عزيمتنا مدى طريق الحياة الطويلة الشاقة‪ .‬تتبدل‬ ‫ألافراد في السلطة‪ ،‬يأتي هؤالء ويذهبون‪.‬‬ ‫أما حقيقة السلطة فباقية ال تزول تزاول مسؤولياتها الجسام‪،‬‬ ‫وتمارس مهماتها الدائمة لتأمين دورها العظيم في البناء والتنظيم‪ ،‬في إلارشاد‬ ‫والتوجيه‪ ،‬خارج هذه القيم واملناقب ال معنى للسلطة وال لزوم لوجودها‪ ،‬إذ‬ ‫ّ‬ ‫تصبح مجرد تسلط منحرف آثم‪ ،‬مجرد عصيان إلرادة الشعب وتمرد على‬ ‫كرامته وسيادته‪ ،‬ألنهما شعار كل سلطة شرعية ّ‬ ‫ومبرر بقائها واستمرار‬ ‫سدة املسؤولية ّ‬ ‫أفرادها في ّ‬ ‫وسدة الاحترام والتقدير‪.‬‬ ‫ّإبان غياب الزعيم القسري عن الوطن‪ ،‬واجهت القيادة الحزبية‬ ‫العديد من الانحرافات سواء في املفاهيم أو املواقف الال قومية اجتماعية‪.‬‬ ‫وقد بلغت ّ‬ ‫أشدها عندما طلب عميد إلاذاعة وعميد الثقافة في ٍّآن واحد‪،‬‬ ‫فايز صايغ في جلسة مشتركة ملجلس ي ألاعلى والعمد أن يبحثا موضوع إبقاء‬ ‫الزعيم في املغترب وعدم السعي لعودته إلينا‪ .‬ألامر الذي سبق أن تشاور به‬ ‫الصايغ مع زميله في التآمر نعمة تابت ومن كان يدور في فلكهما املنحرف عن‬ ‫ّ‬ ‫جادة الصواب وألاخالق القومية الاجتماعية‪ ،‬لكنهما سرعان ما تراجعا‬ ‫بحنكة ودهاء إزاء ما لقياه من استنكار حاد ورفض عنيف للطلب املذكور‪.‬‬ ‫‪175‬‬


‫ثم تابعت القيادة الحزبية آنذاك السعي الحثيث لعودة الزعيم وإلاعداد‬ ‫الدؤوب ليوم استقباله امليمون‪.‬‬ ‫عاد الزعيم إلى الوطن في الثاني من آذار سنة ‪ 1749‬وكان قد أحيط‬ ‫ً‬ ‫علما وهو في املغترب ببعض حاالت الانحراف التي حدثت أثناء غيابه‪ ،‬غير‬ ‫ً‬ ‫جميعا أحجمنا وقتذاك عن إبالغه ّ‬ ‫عما بدر من فايز صايغ بخصوص‬ ‫أننا‬ ‫محاولته إلقناع مجلس ي ألاعلى والعمد باإلقالع عن الاهتمام بعودة الزعيم‬ ‫إلى قيادة الحزب في الوطن وضرورة إبقائه خارج البالد ما أمكن ذلك أو ما‬ ‫ً‬ ‫استطاع املركز فعله بهذا الشأن‪ .‬كتمنا هذا املوضوع عن الزعيم ظنا منا أن‬ ‫ّ‬ ‫فايز صايغ هو إمكانية ثمينة وأن ه من ألافضل إلابقاء عليها في صفوف‬ ‫الحزب بطريقه إخفاء الحقيقة عن الزعيم‪.‬‬ ‫فما كان من الزعيم إال أن ا عتمده في كثير من املهمات الحزبية الهامة‬ ‫وانتدبه لألعمال التي تقتض ي صفات قومية اجتماعية ممتازة أو باألحرى‬ ‫صفات متفوقة عالية‪ ،‬على أساس ّأن ه إمكانية حزبية جديرة بكامل الثقة‬ ‫والتقدير من قبل الزعيم! من هذه املهمات الخطيرة التي عهد بها إليه إيفاده‬ ‫وحده بصفة مندوب للزعيم في جولة حزبية إلى فروع إفريقيا‪ .‬الغرض منها‬ ‫وضع جموع القوميين الاجتماعيين وألاصدقاء أمام مسؤولياتهم التاريخية‬ ‫ّإبان مطاردة الحكومة اللبنانية للزعيم إثر عودته من املغترب وبغية استنفار‬ ‫روحيتهم القومية الاجتماعية في تلك املناسبة الحرجة من حياة الحزب‬ ‫و ألامة‪ ،‬كي يجودوا بالتضحيات املالية وغير املالية التي تليق بجنود النهضة‬ ‫املناضلين ّإبان تصاعد النضال‪.‬‬ ‫قام مندوب الزعيم إلى إفريقيا‪ ،‬عميد إلاذاعة والثقافة فايز صايغ‬ ‫ً‬ ‫بجولة واسعة في جميع املناطق إلافريقية‪ .‬ألقى فيها الخطب الكثيرة داعيا إلى‬ ‫عقيدة غير عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي استقاها من أفكار‬

‫‪171‬‬


‫معلمه في مفهوم الفردية «كركيغارد» الذي يرى أن املجتمع وسيلة للفرد‬ ‫ً‬ ‫أموالا ّ‬ ‫تبرع بها القوميون الاجتماعيون‬ ‫ليس إال‪ .‬وقد جمع خالل جولته‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأنصارهم للحزب من مختلف فروع إفريقيا‪ .‬لكنه بعد عودته لم يؤد ّ‬ ‫أي‬ ‫حساب عن أعماله في الجولة وراح يثير مسألة الحرية الشخصية في نطاق‬ ‫الحزب ويطعن بسالمة قواعد ارتباط ألاعضاء بالحزب وخاصة في مدى‬ ‫ثقتهم بالزعيم وتسليمهم بصالحياته الدستورية املطلقة‪.‬‬ ‫عندما افتضح أمر تآمر فايز صايغ على العقيدة والنظام وثبت سوء‬ ‫تصرفه بأموال الحزب وتعاليمه‪ ،‬آنذاك‪ ،‬أطلعنا الزعيم على ما سبق له‬ ‫وقام به من طعن وتآمره على عودته إلى الوطن‪ ،‬فوجم الزعيم أمام سلوك‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫فايز صايغ وفساد إيمانه بالنهضة والزعيم‪ .‬وتألم كثيرا أن تصل «إمكانية» في‬ ‫الحزب إلى هذا القدر من استغالل ثقة الزعيم بها أسوأ استغالل ومن إساءة‬ ‫استعمال املسؤولية الحزبية بهذه الصورة املؤسفة املنكرة‪ .‬وكان له معنا‬ ‫درس لن ننساه‪ .‬يصلح أن يكون طليعة الدروس املسلكية النظامية لكل‬ ‫قومي اجتماعي ومن أهمها روعة ودقة‪« .‬لقد اقترفتم بإخفاء الحقيقة عن‬ ‫السلطة الحزبية‪ ،‬أي عن الحزب‪ ،‬أخطاء جسيمة هي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ :‬الحنث بالقسم في فقرته ‹وأن أسهر على مصلحة الحزب وأؤيد‬ ‫زعيمه وسلطته›‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شخصيا لكم‪ّ .‬‬ ‫مما حرم‬ ‫ثانيا‪ :‬التفرد باالحتفاظ بمعلومات ليست ملكا‬ ‫البت في أمر خطير ّ‬ ‫السلطة الحزبية صالحية ّ‬ ‫واتخاذ التدابير الالزمة لحماية‬ ‫ّ‬ ‫املندسين بيننا‪.‬‬ ‫الحزب من املرتكبين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ثالثا‪ :‬إن كتمان املعلومات املتعلقة بالسالمة العامة يشكل جرما‬ ‫تعاقب عليه جميع القوانين في العالم ويعتبر مؤازرة‪ ،‬ولو غير مباشرة‪ ،‬لفعل‬ ‫املتآمرين على سالمة أمن الدولة وسيادتها‪.‬‬ ‫‪179‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬اعتبار أنفسكم أشد حرصا على مصلحة الحزب من املؤسسة‬ ‫ً‬ ‫وأعمق وعيا منها ملا هو خير القضية وسالمتها‪.‬‬ ‫ً‬ ‫خامسا‪ :‬وضع قوميتكم موضع الشك في حال كتمان ّ‬ ‫سر يتعلق‬ ‫ً‬ ‫بأحدكم ربما بعامل عالقتكم الشخصية معه ثم إعالنه متأخرا بعامل‬ ‫ً‬ ‫أيضا ال من أجل مصلحة قضية ألامة التي يجب أن ّ‬ ‫تظل‬ ‫العالقة الشخصية‬ ‫ًّ‬ ‫فوق كل مصلحة وكل عالقة أو قرابة أو عاطفة أيا كان نوعها وشأنها‬ ‫عندئذ يضاهي إعالن الحقيقة كتمانها وإخفاءها من حيث‬ ‫ألشخاصكم‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫الانحراف والارتكاب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بالنيات غير أن قصور ّ‬ ‫سادسا‪ :‬إن ألاعمال ليست لدينا ّ‬ ‫تصوركم عما‬ ‫أسأتم به للقضية التي تساوي وجودنا‪ ،‬قصوركم عن ّ‬ ‫تفهم الحزب وكيفية‬ ‫ً‬ ‫فضال عن ّ‬ ‫خلو سلوككم من أي‬ ‫قيامكم بواجباتكم تجاهه بفطنة وحرص‬ ‫سوء ّنية أو سوء غرض‪ ،‬لهذه ألاسباب مجتمعة أكتفي آلان بهذه العقوبة‬ ‫الوجدانية النفسية»‪.‬‬ ‫أجل ليس في الرجوع إلى املؤسسات الحزبية بأي شأن أو شكوى ما‬ ‫ّ‬ ‫يدعى وشاية أو نميمة‪ ،‬بل يعني هذا دقة التمسك بنظام الحزب القائم على‬ ‫املؤسسات ال على مجموعات من ألافراد أو الرفقاء‪.‬‬

‫‪178‬‬


‫هل إلانس ـ ـ ـ ـ ـان للديـ ـن أم الدين لإلنس ـ ـ ـ ـ ـ ـان؟‬

‫ّ‬ ‫املتدينين خوفهم على الدين ونصوصه لئال ينالها‬ ‫أكثر ما يشغل بال‬ ‫أدنى أذى أو تحريف من قبل رجال العلم واملفكرين عامة‪ .‬كأن العلم مجرد‬ ‫بدعة يحمل في طياته إلالحاد‪ .‬أوجدته زمرة من ألابالسة ألاشقياء بغية النيل‬ ‫من الدين وبقصد إلاساءة إلى إلايمان وأصحابه‪ .‬أو كأن موهبة العقل‬ ‫ً‬ ‫تختلف عن سائر مواهب إلانسان‪ .‬وجودها كان عبثا أو للعبث بمقدسات‬ ‫ألاديان ليس إال‪.‬‬ ‫إلا نسان بطبيعته البشرية كائن عاقل لديه غريزة وحب الكشف عن‬ ‫ّ‬ ‫أسرار الوجود‪ ،‬بإطالق العنان لتأمالته ليبحث في الال مرئيات‪ ،‬يعلل أسباب‬ ‫هذه الظواهر بالعقل ويحلل خصائصها الدقيقة ليخلص إلى النتائج التي‬ ‫ّ‬ ‫تؤهله إلى إحراز املزيد من املعرفة ومن القدرة على معالجة النتائج باملعرفة‬ ‫وإلارادة‪ ،‬كي يبلغ ذروة التفاعل والتجاوب مع الحياة والكون والوجود‪ ،‬كما‬ ‫يسحب خياله وتصوراته عبر الوجود الراهن إلى ما وراء الوجود عساه‬ ‫‪177‬‬


‫ّ‬ ‫يستحضر املجهول إلى عالم الشهادة والواقع فتتسع آفاق معرفته وتنمو‬ ‫ّ‬ ‫التوصل‬ ‫طاقاته على الاستشراف والاستطالع إن قدرة إلانسان على‬ ‫للمعرفة‪ ،‬وإخضاعها إلمكاناته إلانسانية تتكامل كلها وتتضافر بالتحام‬ ‫صميم أصيل لتجعل من إلانسان وحده ّ‬ ‫سيد املخلوقات على صورة هللا‬ ‫ومثاله بالعقل والتوق الدؤوب لإلحاطة بأبعاد الال متناهي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إلانسان العاقل املدرك ال ّبد أن يكون مؤمنا بالحق والخير والقيم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫العليا‪ .‬ساعيا إلى إرواء تعط ش العقل والنفس بكل ما هو أفضل وأسمى‬ ‫وأقوى‪ .‬املجتمع هو الكائن الحي الباقي‪ ،‬الكائن السرمدي القادر على الخلق‬ ‫وإلابداع‪ ،‬مدى تعاقب ألاجيال واستمرارها بالنمو والتطور هذه س َّنة الدين‬ ‫ودين كل رسالة صحيحة سليمة صالحة للحياة‪.‬‬ ‫ما أن برز الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى الوجود حتى ّ‬ ‫هب‬ ‫ّ‬ ‫فريق املسحوقين تحت كابوس املخاوف التي تتآكل بصائرهم وتعطل في‬ ‫نفوسهم حقيقة إلايمان باملحبة والفضيلة‪ّ ،‬‬ ‫هب فاقدو إلايمان هؤالء ليرموا‬ ‫الحزب بكل فرية باطلة م َّتهمينه بأنه ضد الدين‪ .‬ألن الحزب يبغي تحرير ألامة‬ ‫ّ‬ ‫التعصب الطائفي ّ‬ ‫وهم ه تحرير املواطن من املفهوم السائد بجعل الدين‬ ‫من‬ ‫مجرد طقوس وتعاويذ‪ ،‬يهيمن بها رجال الدين ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتزمتون على عقول الناس‪،‬‬ ‫إذ يحسبون أنفسهم املصدر ألاوحد للدين وألاوصياء على جماعة املؤمنين‬ ‫ّ‬ ‫التعصب الحاقد الكافر باألخالق واملثل‪.‬‬ ‫ومالذهم ألاخير من حماة‬ ‫َّ‬ ‫هم ّ‬ ‫ُّ‬ ‫املتزمتين إثارة القلق وبث املخاوف بين أبناء الوطن الواحد من‬ ‫ّ‬ ‫أجل إشعال الفتن وإشغال الشعب بما ّ‬ ‫بتمسكه ّ‬ ‫بترهاتهم‬ ‫يدمره ويفرقه‬ ‫وأباطيلهم آلاثمة‪.‬‬ ‫ّإبان جولة الزعيم إلى الجمهورية الشامية خالل شهر تشرين الثاني‬ ‫ّ‬ ‫سنة ‪ 1748‬توقف الزعيم مل َّدة يومين في مدينة حماه‪ ،‬حيث كان للحزب‬ ‫‪211‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تضم نخبة من شبان البلدة وتستقطب اهتمام خيرة‬ ‫منفذية فاعلة‬ ‫الرجاالت والعائالت العاملة في سياق الفكر والاجتماع‪ .‬وفد الكثيرون من‬ ‫جميع الفئات والفعاليات للتعرف إلى الزعيم والسالم عليه‪ .‬وقد عقدت له‬ ‫معهم العديد من الندوات والاجتماعات املوسعة‪ ،‬تداولت فيها شتى‬ ‫ً‬ ‫املواضيع وألابحاث حول ألامة والحزب‪ ،‬وتناولت أيضا معظم الاتهامات التي‬ ‫ّ‬ ‫تفش ت بين الناس منذ إعالن وجود الحزب سنة ‪ 1725‬لتعمل على تأويل‬ ‫ْ‬ ‫مبادئه وأهدافه على هواها‪ .‬تلك الاتهامات التي أل صقها ألاجنبي املستعمر‬ ‫ّ‬ ‫بالحزب‪ .‬يؤازره أعوانه وعمالؤه الضالعين بالتسكع ومن قطعان ألاغبياء‬ ‫النفعيين الذين يسهل الاستيالء على عقولهم وتضليل نفوسهم وجرهم‬ ‫صاغرين إلى التهلكة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املشوهة‬ ‫كان من جملة الوافدين إلى الزعيم‪ ،‬املأخوذين باإلشاعات‬ ‫لحقيقة الحزب ومراميه القومية‪ ،‬جماعة من «إلاخوان املسلمين» جاءت‬ ‫ّ‬ ‫لتطمئن إلى حقيقة موقف الحزب من الدين ومن الرساالت السماوية ّ‬ ‫عامة‪.‬‬ ‫سأل أحد إلاخوان املسلمين الزعيم بش يء من التردد والتلعثم‪،‬‬ ‫وبحضور جمع غفير من الناس‪ ،‬وبعد مض ي ما يقرب من الساعة والنصف‬ ‫على شرح تناوله الزعيم حول مفهوم القومية الاجتماعية‪ :‬ما هو موقف‬ ‫الحزب السوري القومي الاجتماعي من ألاديان وإلايمان الديني؟‬ ‫أجابه الزعيم بهدوئه املعهود ّ‬ ‫وتأن يه اللبق املشهود في جميع املناسبات‬ ‫والحاالت‪ « :‬نحن جماعة إيمان بالدين الحقيقي القائم على حقيقة الحق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وبالبر والتقوى لخير إلانسان‪ .‬نحن‬ ‫البناءة باملحبة والفضيلة‪ ،‬العاملة باإلخاء‬ ‫نقدر املؤمنين الذين ّيتقون الحزبيات الدينية ويدركون حقيقة دورهم في‬ ‫توحيد النفوس والعقول وجمع القلوب من أجل مطلب السيادة والكرامة‪،‬‬ ‫مطلب الحق والخير والجمال لحياة املجتمع وازدهاره الذي ينشده الجميع‪.‬‬

‫‪211‬‬


‫ّ‬ ‫باتخاذهم ّ‬ ‫أي دين سماوي‬ ‫نحن نترك ألعضاء الحزب حرية املعتقد‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫إيمانا لهم‪ .‬يمارسونه كما يشاؤون‪ .‬ونطلب منهم التخلق بأخالق الدين‬ ‫ومناقبه الداعية إلى املحبة والفضيلة السمحاء‪ .‬ألن الدين‪ ،‬كما نفهمه‪ ،‬هو‬ ‫باألساس عامل توحيد وتعاون نبيل‪ ،‬ال عامل تفرقة وتباغض بين الناس‪ .‬هو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يجمع إلانسان إلى إلانسان بممارسة املثل والقيم التي تعلم العطاء وتلقن‬ ‫أخالق البناء والتقدم‪ .‬ال يجوز لنا أن ّنتخذ الدين أداة تعصب وإكراه لتفتن‬ ‫بين الناس‪ ،‬وتفتك بإنسانية إلا نسان ومناقبه السامية‪ ،‬كما يفعل جماعة‬ ‫ممن يسمون أنفسهم رجال دين وتقوى‪ ،‬هؤالء بعقولهم امللتوية ونفوسهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫امللوثة يجعلون الدين معوال للهدم وموقدا للحرق وإلابادة الجانية التي‬ ‫ّ‬ ‫تجتث جذور الدين‪ ،‬وتستأصل مآثر الرساالت الدينية‪ ،‬وتشوه كل معانيها‬ ‫ومراميها ّ‬ ‫الخيرة الرائعة ألاغراض‪.‬‬ ‫املمزق القوى‪ّ ،‬‬ ‫كل ما نصنعه نحن لهذا الشعب ّ‬ ‫املفتت العزائم؛ هو‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موحدة إلايمان وإلارادة‪ّ ،‬‬ ‫واحدا‪ .‬أمة واحدة ّ‬ ‫موحدة‬ ‫إعادة بنائه مجتمعا‬ ‫النفوس والصفوف‪ّ ،‬‬ ‫موحدة الرؤية واملوقف من جميع الفضائل والقيم‬ ‫واملثل‪ ،‬ومن جميع الشرور واملخازي وآلاثام‪ ،‬التي تهدد وجوده وتقتلع من‬ ‫أعماقه كل معاني إلايمان ومطالب الدين الصحيح «ليس من سوري إال وهو‬ ‫مسلم رب العاملين‪ ،‬فاتقوا هللا‪ ،‬واتركوا تآويل الحزبيات الدينية العمياء؛‬ ‫منا من أسلم هلل باإلنجيل‪ّ ،‬‬ ‫فقد جمعنا إلاسالم؛ ّ‬ ‫ومنا من أسلم هلل بالقرآن‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ومنا من أسلم هلل بالحكمة‪ .‬قد جمعنا إلاسالم ّ‬ ‫وأي د كوننا أمة واحدة‪ ،‬فليس‬ ‫لنا من ّ‬ ‫عدو يقاتلنا في ديننا وحقنا ووطننا سوى اليهود»‪.‬‬ ‫أفاض الزعيم في تشريح نظرة النهضة إلى الدين وموقفها من رجال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتزمت والحقد‪ ،‬وأفاض في كشف جوانب مهمة ألضرار‬ ‫واملتدينين‬ ‫الدين‬ ‫الطائفية على جوهر الدين وسالمة املجتمع‪ .‬ثم ّ‬ ‫توجه إلى وفد إلاخوان‬ ‫املسلمين أمام جمهور الحاضرين‪ :‬ما رأيكم أنتم برسالة الدين في املبدأ‪ ،‬هل‬ ‫‪212‬‬


‫الدين لإلنسان أم إلانسان للدين؟ فراحوا يجيبون على السؤال باهتمام‬ ‫بالغ‪ .‬لكن سرعان ما توزعت آلاراء بينهم وتباينت وجهات النظر وتضاربت‬ ‫ً‬ ‫الاجتهادات حول املوضوع‪ ،‬حتى التفت أحدهم الذي كان أقلهم كالما وأقلهم‬ ‫ّ‬ ‫والتفضل باإلجابة على‬ ‫حماسة إلى الزعيم ليطلب إليه إبداء رأيه في ألامر‬ ‫السؤال الذي طرحه على إلاخوان‪.‬‬ ‫أوجز الزعيم الجواب بقوله‪ :‬ال شك أن الدين لإلنسان الذي يعمل‬ ‫بوصاياه وتعاليمه التي أوجدت فقط لتكون لخير إلانسان‪ ،‬ومن أجل رفاهه‬ ‫وسعادته‪ ،‬سواء في هذه الدنيا أو أي دنيا في عالم الغيب‪« .‬الدين املعاملة‬ ‫الخلق كلهم عيال هللا‪ .‬وإن أكرمكم عند هللا أنفعكم لعياله»‪« .‬أحبوا‬ ‫ً‬ ‫بعضكم بعضا تأكلون خيرات ألارض»‪ .‬الدين وسيلة لتشريف الحياة‪.‬‬ ‫ضد من ال يفهم معنى الدين‪ّ ،‬‬ ‫نحن إذن ّ‬ ‫ضد ّ‬ ‫كل من يريد أن يجعل من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نفسه مرجعا أخيرا مرجعا وحيدا‪ ،‬يحتكر بواسطته معرفة الدين‪ ،‬وتفهم‬ ‫ّ‬ ‫املتألهون ال دين لهم غير ّ‬ ‫فرديتهم‪ ،‬لذلك نحن ندينهم‬ ‫أغراضه العليا‪ .‬هؤالء‬ ‫بالتمرد على حقيقة الدين والخروج على حقيقة تعاليمه السامية‪.‬‬

‫‪212‬‬


‫ً‬ ‫بين ـ ـ ـما تضاعف العنـ ـ ـ ـ ـ ـاية باملتخلفين قوميا‬ ‫يس ـ ـ ـ ـتمر الع ـ ـ ـمل كاملعـ ـ ـ ـ ـ ـتاد لتدعـ ـ ـ ـ ـيم بن ـ ـ ـ ـ ـ ـاء‬ ‫ألاصحاء‬

‫كان العمل الحزبي على ّ‬ ‫أشده في مختلف املدن الداخلية الشامية في‬ ‫السنوات بين ‪1741‬ـ ـ ‪ 1747‬وكانت ّ‬ ‫منفذية حمص بالذات من أهم مراكز‬ ‫النشاط والانطالق للحزب‪ّ ،‬إبان تلك الفترة‪ .‬ومما كان يذكي الفعالية الحزبية‬ ‫هناك‪ ،‬تكاثر عدد ألاحزاب‪ ،‬من جهة‪ ،‬واستمرار تصادمها‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬في‬ ‫ْ‬ ‫ساحة التسابق لكسب الت فاف الرأي العام حولها‪ ،‬خالل سنة ‪ 1748‬وقع في‬ ‫إحدى مديريات مدينة حمص حادث داخلي بين عدد من الرفقاء ّأدى إلى‬ ‫ّ‬ ‫تصدع‪ ،‬ثم تفاقم فيما بعد‪ .‬بين صفوف رفقاء املديرية عينها‪،‬‬ ‫حدوث‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫فأشغل وضع املديرية أجهزة املركز برمتها مدة شاقة وغير قصيرة‪ .‬فاتخذت‬ ‫حياله مختلف التدابير ّ‬ ‫وشتى الوسائل الحزبية بغية إعادة الرفقاء إلى حالتهم‬ ‫الطبيعية من الانضباط والتلبية النظامية‪ .‬وبينما مشكلة املديرية املذكورة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تزداد تعقيدا وتبلبال بين ألاعضاء‪ ،‬كانت تنهال على املديرية طلبات الانتماء‬ ‫من املواطنين الراغبين في دخول الحزب‪ ،‬ألن قوة الحزب ع َّامة وحسن‬ ‫‪214‬‬


‫سمعته لدى الرأي العام‪ ،‬كانت تجعله مركز جذب وإقبال الجميع‪ّ ،‬‬ ‫لكن‬ ‫الحالة الداخلية للمديرية لم تكن تدعو إلى الارتياح‪ ،‬وال ّ‬ ‫تشجع على استقبال‬ ‫ّ‬ ‫طالبي الدخول إلى الحزب‪ ،‬ألامر الذي أوقع عمدة الداخلية في‬ ‫املواطنين‬ ‫حيرة وارتباك من أجل الوصول إلى التوفيق بين الحالين‪.‬‬ ‫لذلك لم يكن من الرجوع إلى الزعيم ّبد لحل املشكلة الناشئة‬ ‫والناشبة في جسم املديرية‪ ،‬بالرغم من تراكم أشغاله وإلحاح مهماته تلك‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ألاثناء‪ .‬فرفعت‪ ،‬بوصفي عميدا للداخلية تقريرا مفصال باملوضوع الشائك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ورحت في تقريري أتساءل عما يمكن عمله بشأنه‪ ،‬دون أن يتخلل عرض ي‬ ‫للمسألة أي اقتراح عملي أو وجهة نظر تساعد الخروج من ألازمة التي كنت‬ ‫أعاني منها ّ‬ ‫ألامرين دون جدوى‪.‬‬ ‫ما هو العمل الذي يفض ي إلى استيعاب طالبي الانتماء إلى الحزب‬ ‫ّ‬ ‫املهد د لوجودها كوحدة‬ ‫وإنقاذ املديرية‪ ،‬بالوقت نفسه‪ ،‬من التفكك‬ ‫نظامية؟‬ ‫ّ‬ ‫تسلم الزعيم تقرير عميد الداخلية‪ .‬فكان التقرير كأنه وصف لكارثة‪،‬‬ ‫أو هو بمثابة استغاثة ملهوف يوشك على الغرق‪ ،‬يرسلها قبيل أن تبتلعه‬ ‫أعماق اللجة الظاملة‪ .‬ثم دعاني إلى مكتبه لالجتماع به بعد ساعتين من‬ ‫حينه‪ ،‬على أن أصطحب معي ملف املديرية مع بيان خطي بجميع الخطوات‬ ‫التي كنت قد قمت بها من أجل معالجة املوضوع املطلوب حله‪.‬‬ ‫وقابلته في املوعد أحمل إليه جميع ألاوراق واملستندات التي يود‬ ‫الاطالع عليها‪ .‬فأخذ يطالع التقارير الواردة إلى العمدة بشأن املديرية‪ ،‬مع ما‬ ‫قامت به ّ‬ ‫منفذية حمص من تدابير ومعالجات إزاء تلك املديرية التابعة لها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ثم اطلع على ماهية إلاجراءات التي قامت بها العمدة بدورها‪ .‬وقد تركز‬ ‫اهتمامه على ما اعتمد ملعالجة مسألة املواطنين طالبي الانتماء إلى الحزب‪،‬‬ ‫‪215‬‬


‫ً‬ ‫عندئذ بادر الزعيم إلى توجيه أسئلته أو تساؤالته إلى العميد طالبا إلاجابة‬ ‫ٍّ‬ ‫عنها‪ :‬هل يفصل املخالفون عن جسم الحزب‪ ،‬وهم أكثرية أعضاء املديرية‬ ‫ّ‬ ‫وتحل املديرية كي يصار إلى إلحاق بقية أعضائها بمديرية أخرى؟‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫هل تشكل املديرية من ألاعضاء الصالحين مضافا إليهم ألاعضاء‬ ‫ً‬ ‫الجدد في الحي نفسه بعد أن ّ‬ ‫يتم فصل غير الصالحين نهائيا؟‬ ‫ً‬ ‫هل يسمح بإيقاف إلادخال إلى الحزب‪ ،‬ولو مؤقتا‪ ،‬ريثما ننهي تدابيرنا‬ ‫إلادارية داخل املديرية؟ أم يفسح باملجال إلطالع العضو الجديد على أوضاع‬ ‫ًّ‬ ‫املديرية ّ‬ ‫املتردية؟ هل ّ‬ ‫سرا‬ ‫تؤمن هذه التدابير أو بعضها إبقاء مشكلة املديرية‬ ‫ً‬ ‫ال ّ‬ ‫يتعدى معرفة أعضاء املديرية أنفسهم حرصا على هيبة الحزب ومعنوياته‬ ‫ّ‬ ‫للمستحقين من‬ ‫في الخارج وداخل الصفوف‪ ،‬مع تأمين دخول الحزب‬ ‫املواطنين دون إبطاء؟‬ ‫كيف سيواجه هؤالء الجدد الوضع الز ّري القائم في املديرية‪ ،‬وكم‬ ‫سيصيب روحيتهم املتوثبة من أذى إزاء ذلك؟‬ ‫كيف العمل إذن للخروج باملديرية من حالتها الشاذة ّ‬ ‫بأقل أضرار ال‬ ‫تعيق مسيرة العمل الحزبي الناشطة في حمص‪ ،‬خاصة والصراع مع بقية‬ ‫الفئات وألاحزاب على أش ّده؟‬ ‫امتنع الزعيم عن تقديم إلاجابة عن ألاسئلة التي توجه بها إلى عميد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التأمل بها‪ ،‬والسعي بنفسه إليجاد الحلول الالزمة‪،‬‬ ‫الداخلية‪ ،‬تاركا له‬ ‫والاهتداء إلى املعالجة الناجعة الضرورية‪ .‬ولم يشأ الزعيم أن ّ‬ ‫يسهل مهمة‬ ‫ً‬ ‫العميد ويختصر الطريق عليه بتلقينه الحل املطلوب وتحميله إياه جاهزا‬ ‫للتطبيق ّ‬ ‫الهين‪ ،‬إنما تداول مع العميد جميع الحلول التي تخطر على البال‪،‬‬ ‫ّ ً‬ ‫ْ‬ ‫حصلت‬ ‫متوجها بها نحو ألافضل وألاجدى إلى أن‬ ‫وراح ين ّقحها ويص ّوبها‬ ‫ً‬ ‫وكنتيجة للحوار الذي أخذ بها أخيرا ووضعت موضع التنفيذ وهي‪:‬‬ ‫‪211‬‬


‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ـ ـ يقبل املواطنون الصالحون لالنتماء إلى الحزب أوال‪ ،‬ثم تشكل منهم‬ ‫وحدة حزبية ويظلون إلى حين‪ ،‬أعضاء سريين عن آلاخرين‪.‬‬ ‫ـ ـ بينما تستمر معالجة أوضاع املديرية التي تعاني مشكلة داخلية‪ ،‬ينقل‬ ‫ً‬ ‫السرية ّ‬ ‫ّ‬ ‫املكونة من ألاعضاء‬ ‫منها تباعا ألاعضاء الذين يصلحون إلى الوحدة‬ ‫ً‬ ‫الجدد ويمارسون معا واجباتهم الحزبية‪.‬‬ ‫ـ ـ إذا كان ال ّبد من فصل من يستعص ي إصالحهم فيتم ذلك‪ ،‬في حين‬

‫تكون الوحدة الجديدة قد أنشئت بمعزل عنهم‪ّ ،‬‬ ‫وضمت الجدد مع نخبة من‬ ‫الرفقاء القدماء‪ ،‬هكذا تنقل الحجارات الصالحة إلقامة البناء الصالح ّ‬ ‫وتتم‬ ‫ً‬ ‫سريعا عملية هدم الفاسد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بهذه الطريقة الصحيحة نكون كأننا نقلنا املديرية الواحدة تدريجيا‬ ‫ّ‬ ‫من مكان إلى آخر مع التخل ي عن غير ألاصحاء‪ ،‬ويتواصل العمل الداخلي‬ ‫والعمل بين املواطنين على ّ‬ ‫كل ألاصعدة النظامية‪.‬‬

‫‪219‬‬


‫خط الفكر السـ ـ ـ ـ ـوري حقيقة بارزة في تاريخ‬ ‫الف ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـكر‬ ‫سعاده‬

‫قام الزعيم بجولة إلى فروع الحزب في الجمهورية الشامية استغرقت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫شهرا ونيف سنة ‪ 1748‬وقد دعي إبان هذه الزيارة مرارا لاللتقاء بمواطنين‬ ‫ً‬ ‫في بيوت الرفقاء‪ ،‬فضال عن عقد الاجتماعات العامة والندوات الثقافية‬ ‫للقاء مع عدد من الشبان‬ ‫وإلقاء املحاضرات‪ .‬في دمشق دعاه أحد الرفقاء ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫املثقفين ال يتجاوزون الثالثين شخصا عدا الرفقاء الذين أتوا بصحبة‬ ‫الزعيم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫متعددة عن مبادئ الحزب وأهدافه وعن‬ ‫تخلل هذا اللقاء أبحاث‬ ‫مواقفه التاريخية التي تدل على مدى تطبيق الحزب للمبادئ والعمل‬ ‫ّ‬ ‫الدؤوب على ترسيخها في صفوف الشعب‪ .‬وقد توقف الزعيم عند شرح‬ ‫مراحل حرب النهضة ضد الرجعة والرجعيين وما يشكل هؤالء من عثرة‬ ‫وعقبة تجاه مسيرة ألامة وانطالقة النهضة‪ ،‬في التحرير والبناء‪ّ ،‬‬ ‫ثم خصص‬ ‫بعض الوقت لإلجابة على ألاسئلة‪ .‬وكان من أهمها ما يتعلق بشطر ألامة‬ ‫املغترب في ّ‬ ‫شتى أنحاء املعمورة وأهمية الدور املنوط باملغتربين وما يترتب‬ ‫عليهم لإلسهام في دعم النهضة والبذل املعنوي واملالي إلنجاحها وانتشارها في‬ ‫‪218‬‬


‫الوطن وعبر الحدود‪ّ .‬‬ ‫خاص ة وللحزب في مختلف املغتربات ركائز أساسية من‬ ‫رفقاء وأصدقاء عاملين بجد ونشاط في صفوف النهضة‪.‬‬ ‫استمر الاجتماع حتى ساعة متأخرة من الليل‪ ،‬ثم أخذ املدعوون‬ ‫ً‬ ‫ينصرفون تباعا ولم يبق مع الزعيم سوى القوميين الاجتماعيين ومواطن‬ ‫واحد هو محام شاب وموظف مدني في وزارة الدفاع الشامية آنذاك‪ .‬ومن‬ ‫ً‬ ‫أقرباء الرفيق صاحب الدعوة‪ ،‬وبينما كنا نتناول شيئا من الفاكهة‬ ‫ّ‬ ‫متحلقين حول الزعيم‪ ،‬توجه املواطن ألاستاذ ّ‬ ‫خباز بسؤال إلى‬ ‫واملرطبات‬ ‫حضرة الزعيم «لقد ورد في كالمك أكثر من مرة ذكر للفلسفة السورية‬ ‫ّ‬ ‫وخط الفكر السوري من دون إعطاء إلايضاح عن هذه النقطة‪ .‬فهل هناك‬ ‫ّ‬ ‫فلسفة سورية ذات خصائص مميزة وخط للفكر السوري له مزاياه‬ ‫جلي واضح ّ‬ ‫ومعامله؟» أجابه الزعيم أجل للفكر السوري خط ّ‬ ‫يميزه عن‬ ‫سواه في الفلسفة والفن والعلم وفي ّ‬ ‫شتى شؤون الفكر‪ .‬وليس آلان مجال‬ ‫إلافاضة في بحث هذه املسألة املهمة وإبراز دقائقها والشواهد على تفوقها‬ ‫وعراقه أصالتها بالنسبة إلى سائر الحضارات ومفاهيمها لدى ألامم جمعاء‪.‬‬ ‫وإني أوجز لك ما يلي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أوال‪ّ :‬‬ ‫تميز الفكر السوري إجماال بالنظرة املوضوعية العملية إلى شؤون‬ ‫الحياة والوجود في محاوالت الفكر السوري الكشف عن أصول املعطيات‬ ‫التي تشتمل عليها هذه النظرة‪ ،‬كابتكار ألارقام الحسابية والحروف ألابجدية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مثال‪ ،‬وإقامة إلانشاءات العمرانية من مدنية وعسكرية ودينية وتنظيم‬ ‫القوانين والتشريعات العامة والخاصة لجالء أسس العالقات بين أفراد‬ ‫الشعب وبينهم وبين املؤسسات العامة الحكومية منها والشعبية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثانيا‪ :‬الانكباب على استخدام معطيات البيئة الطبيعية الخام في حقل‬ ‫الر ّي كفتح الترع وإقامة السدود‪ ،‬وحقل الزراعة والهندسة والتجارة وما‬

‫‪217‬‬


‫ّيتصل بهذه املشاريع من أصول املعامالت والعقول والعالقات الداخلية‬ ‫والخارجية من الوجهة الاقتصادية املالية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬إشغال الفكر باالهتمام الفني في طبيعة البيئة الجمالية وفي‬ ‫ألوانها وألحانها وموحيات ما فيها من منابع الروعة والجمال سواء في عالم‬ ‫النبات والحيوان والطير والجماد‪ ،‬أنتج الفكر السوري أروع املالحم الشعرية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وألاساطير الدقيقة الوصف‪ ،‬البالغة الدقة وإلاشراق في تدفق الخيال ورقة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التأمالت الفكرية في رحاب الوجود وما ينطوي عليه من‬ ‫املشاعر وتألق‬ ‫غرائب الكنوز العجيبة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫رابعا‪ :‬الالتفات العميق إلى أهمية الرحالت الكبرى حول القارات‬ ‫البعيدة لكشف املناطق الجديدة واستثمارها الاقتصادي والعمراني وإلافادة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من أهمية مواقعها العسكرية عمليا وفنيا سواء أثناء الحروب الكبرى أو‬ ‫ّإبان الانتفاضات الداخلية التي كانت تتعرض لها السلطة الحاكمة‪ .‬منذ‬ ‫أعرق عصور التاريخ بنى السوري القالع والحصون وصنع أدوات القتال‬ ‫ووضع الخطط الرائعة للحروب‪ ،‬وما تزال هذه مراجع قيمة للفن الحربي‬ ‫حتى يومنا هذا‪ .‬وقد كانت الجيوش السورية بتنظيمها وانضباطها وتجهيزاتها‬ ‫َّ‬ ‫مضرب املثل ومحط إعجاب العالم القديم منذ فتوحات بابل وأشور‬ ‫وصيدا وصور وقرطاجة‪ .‬وقد قامت القوى السورية بالفتوحات الكبرى‬ ‫ّ‬ ‫وعلمت العالم القديم والحديث كيف تساس ألامم وتحكم الشعوب‬ ‫وتستثمر موارد الطبيعة وثرواتها ّإبان السلم وأثناء الحروب‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫صناعة السفن وإنشاء املدن البحرية في أدق املواقع الاستراتيجية من‬ ‫الناحية الاقتصادية‪ ،‬التجارية والناحية العسكرية القتالية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ً‬ ‫خامسا‪ :‬وقد ّ‬ ‫تفوقا بارزا في صالبة الصمود‬ ‫سجل تراث الفكر السوري‬ ‫والعناد بإخضاع الشعوب التي كانت تحاول الاعتداء على مصالح ألامة‬

‫‪211‬‬


‫ومواردها أو على أمنها وسالمتها‪ .‬وكيف كانت سورية تعلم تلك الشعوب‬ ‫وتتعهد تطويرها وإنماءها‪ .‬وبين أيدينا لآلن‪ ،‬في متاحفنا وآثارنا‪ ،‬ومتاحف‬ ‫كثيرة لدى معظم أمم العالم ما يدل على ّ‬ ‫تفوق الفكر السوري في الفنون‬ ‫والفلسفة والعلوم والتي ما تزال أسسها خالدة باقية لتشهد على مرور‬ ‫الزمان لألصالة السورية وخصب قدرتها على إلابداع والعطاء والبناء‪.‬‬ ‫ما كاد الزعيم يصل إلى هذه النقاط من البحث في تبيان ما أسماه‬ ‫خط الفكر السوري وماهية الفلسفة السورية عبر عهود التاريخ القديم حتى‬ ‫ّ‬ ‫تنفس ألاستاذ ّ‬ ‫خب از الصعداء كمن أفلت من كابوس محكم الضغط على‬ ‫عنقه‪ .‬ثم بادر إلى التعليق على حديث الزعيم وقال «هل يعقل أن يحدث كل‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫هذا الفكر قي بالدنا؟ أنا لم أسمع شيئا عن خط الفكر السوري والفلسفة‬ ‫السورية قبل اليوم» ّ‬ ‫كأن حدود معرفة ألاستاذ ّ‬ ‫خباز ودراساته هي حدود‬ ‫الحقيقة وتحديد ّ‬ ‫لصحة الوقائع وقيمتها ونطاق الصواب في تأريخ الفكر‪.‬‬ ‫عند ذلك خطر لي سؤال مهم‪ ،‬ورأيت مناسبة توجيهه إلى ألاستاذ خباز‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فالتفت إلى حضرة الزعيم أستأذنه بتوجيه السؤال‪ ،‬ولدى موافقته قلت‬ ‫ّ‬ ‫لألستاذ خباز «هال عرفت والدي يا أستاذ‪ ،‬أو عرفت عنه أي ش يء؟» فأجاب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مؤكدا بكل ّ‬ ‫جدية عدم معرفته له‪ .‬وفي الحال رفعت صوتي معلنا‪،‬‬ ‫بالنفي‬ ‫«بما أنك يا أستاذ ال تعرف والدي فأنا إذن مولود بصورة عجيبة من دون‬ ‫ً‬ ‫أيضا ال تعرف والدتي بالتأكيد فأنا كذلك من دون أم»‪ّ .‬‬ ‫فتأمل‬ ‫والد‪ .‬وألنك‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كيف يكون هذا ألامر معقوال وقابال للتصديق وهل تفوق غرابته وجود خط‬ ‫للفكر السوري‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ذرعا من ّ‬ ‫تفوق ألاستاذ‬ ‫ضحك الزعيم بملء رئتيه بعد أن كاد يضيق‬ ‫ّ‬ ‫خباز بمادة الغباء والسخافة وقال له «كان الزم نبحث معك «هيك» على‬ ‫طريقة ألامين إلياس»‪.‬‬

‫‪211‬‬


‫هالك ـ ـ ـ ـ ـ ـرس ي ما بتخص إلي ـ ـ ـ ـاس جـ ـ ـ ـ ـرجي ابن‬ ‫قنيزح‪ ،‬بتخص حضرة عميد الداخلية‬ ‫سعاده‬

‫ً‬ ‫مستودعا يختزن فيه املرء ّ‬ ‫مخبآت ألامس بإرادته ليعود‬ ‫ليست الذاكرة‬ ‫ّ‬ ‫إليها ساعة يشاء ولدى حاجته إلى مدخراتها‪ .‬ليست ألارشيف املجهز‬ ‫باملحفوظات والوثائق يستنطقها الباحث من أجل الحصول على املراجع‬ ‫الالزمة ملعالجة موضوع مطروح‪ .‬الذاكرة طاقة نفسية عقلية كالخيال‬ ‫والعاطفة والنباهة والشجاعة وسواها من خصائص النفس إلانسانية‪ .‬تمتاز‬ ‫بمخزونها من ألافكار والصور واملشاعر وامليول وبمرونتها في تلبية ما يطلب‬ ‫منها أو ما تقدمه هي من تلقائها‪ .‬وتعبر بطبيعتها عن حاجات النفس وعن‬ ‫عميق ميولها واستعداداتها الفنية الفكرية وعن صميم مفاهيمها املناقبية‬ ‫ألاخالقية ألنها تلتقط ما يتجاوب مع مؤهالت إلانسان ومواهبه في تعامله مع‬ ‫ألافكار وألاشياء والناس‪ .‬وهي لذلك ّ‬ ‫تدل على إلانسان نفسه‪ ،‬على نظرته إلى‬ ‫الحياة وإلانسان والوجود‪ ،‬على أسس مفاهيمه في شتى شؤون الفكر‬ ‫والسلوك‪ ،‬وعلى منطلق مواقفه من ألاعمال وألاحداث وإلانسان‪.‬‬

‫‪212‬‬


‫ذاكرة ذوي النفوس الكبيرة ال تحفظ الذكريات عينها التي تدخرها‬ ‫ً‬ ‫ذاكرة ذوي النفوس املجرمة الدنيئة‪ ،‬بل تختلف عنها كليا كاختالف مضامين‬ ‫لكل ذاكرته وذكرياته كما أن ّ‬ ‫كل منهما النفسية املناقبية‪ّ .‬‬ ‫لكل مقدراته‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫وإمكانياته املادية النفسية يتداولها عفويا في العمل والتعامل‪ ،‬في التفكير‬ ‫والتأمل‪ ،‬في تصوراته وأمانيه وأشواقه وفي مخاوفه ومخازيه‪ .‬يسع إلانسان‬ ‫تحليل مستحضرات ذاكرته وتفهم مضامينها وأبعادها التي تقدمها له كما‬ ‫يمكنه استخدام مواردها ومحاصيلها في مجاالت الغرس وإلانماء والتطوير‬ ‫ْ‬ ‫وما عليه إال أن ي ْستنبت خصوبتها‪.‬‬ ‫قام الزعيم بجولته إلى الجمهورية الشامية بين الثالث من تشرين‬ ‫الثاني إلى العاشر من كانون ألاول سنة ‪ 1748‬وكانت مرافقتي له فرصة رائعة‬ ‫ّ‬ ‫أنارت أمامي الكثير من سبل املعرفة والاختبار الثمين‪ .‬تعلمت من تلك الرحلة‬ ‫ّ‬ ‫أشياء جديدة ّ‬ ‫وصح ح لدي الكثير مما‬ ‫برمتها بالنسبة ملعلوماتي السابقة‪،‬‬ ‫أظنه معرفة صحيحة قبل ذاك‪ ،‬كما ّ‬ ‫كنت ّ‬ ‫تلقنت الدروس العملية في‬ ‫السلوك والتعامل املطابق ملفاهيم النهضة وتقاليدها‪ .‬من هذه الدروس ما‬ ‫ً‬ ‫كنت أجهله تماما ومنها ما كنت أهمل الاهتمام به العتقادي أنه قليل‬ ‫ألاهمية ال يستوجب دقة الاعتناء واملمارسة‪.‬‬ ‫حين زار الزعيم مدينة طرطوس‪ ،‬مكان مولدي‪ ،‬توافد إليه جمع غفير‬ ‫من املواطنين بينهم شخصيات سياسية مما يقال أنها مرموقة‪ ،‬قاصدين‬ ‫التعرف إليه والاطالع على آرائه خاصة حول شؤون الساعة‪ّ .‬‬ ‫وأهمها صدور‬ ‫قرار تقسيم الجنوب السوري‪ ،‬فلسطين‪ .‬وكان ّ‬ ‫همي آنذاك‪ .‬وأنا في طرطوس‪،‬‬ ‫أن ّ‬ ‫أعتز بزعيمي أمام أهل بلدي وأفاخر بنفس ي كعميد للداخلية برفقتي له‬ ‫في الحل والترحال‪ ،‬كما ّ‬ ‫أعتز بأبناء بلدي إزاء زعيمي‪ .‬وقد حضر لزيارة‬ ‫الزعيم‪ ،‬ذات يوم نائب طرطوس رياض بك عبد الرزاق وهو قومي سابق‬ ‫ً‬ ‫تخلى عن الحزب متوهما أنه ضد العروبة منذ أواخر سنة ‪ 1721‬وكان‬ ‫‪212‬‬


‫ً‬ ‫برفقته رهط من وجهاء البلدة ممن أعرفهم جيدا وأعرف ميولهم السياسية‬ ‫ومواقفهم من الحزب‪ ،‬منهم الخصوم ومنهم املعتدلون وهم بالطبع من‬ ‫أنصار النائب‪ .‬ما أن تقدم رياض عبد الرزاق إلى مصافحة الزعيم حتى‬ ‫ّ‬ ‫سارعت إلى التخل ي عن مقعدي إلى يمين الزعيم وأجلسته مكاني‪ .‬وكنت‬ ‫أقصد التعبير عن عميق اهتمامي الالئق به وكي أتيح له مجال التحدث إلى‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫حضرة الزعيم والتداول معه مليا بما يروق له عن كثب‪ ،‬عله يعود إلى‬ ‫صوابه القومي الاجتماعي بتأثير شخصية الزعيم والاستماع إلى أبحاثه‪.‬‬ ‫بعد انقضاء النهار وانصراف الناس جميعهم دعاني الزعيم إلى غرفته‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وكثيرا ما كانت تحدث مثل هذه الخلوة ليستوضحني الزعيم بعض‬ ‫ً‬ ‫عميدا للداخلية‪ ،‬أو ليكلفني ّ‬ ‫بمهمة معينة تقتض ي سرعة‬ ‫املعلومات بوصفي‬ ‫التنفيذ أو ليوجه ّ‬ ‫إلي مالحظة اقتضتها تصرفات خاطئة بدرت مني‪ .‬وكانت‬ ‫آنذاك إلبداء مالحظة في تصويب سلوك محدد‪ .‬وقد استهل كالمه بقوله‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫بتخص الياس جرجي ابن قنيزح هي لحضرة‬ ‫«هالكرس ي إلى يمين الزعيم ما‬ ‫عميد الداخلية‪ ،‬وال يمكنك تقديمها إلى نائب طرطوس هبة ّ‬ ‫مجانية إال إذا‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كانت لديك صالحية تعيينه عميدا للداخلية»‪ .‬فابتسمت مرتبكا ألنني تعلمت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وأتصرف كمسؤول حزبي حتى بأبسط ألامور واملواقف والحاالت‬ ‫أن أفكر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أتصرف كفرد عادي يمثل‬ ‫ملزما نفس ي دائما بمفاهيم الحزب وتقاليده ال أن‬ ‫شخصه على طريقته ّ‬ ‫ويعبر عن اعتبارات ولياقات محلية من خارج مفاهيم‬ ‫النهضة مستمدة من مجامالت خصوصية‪ .‬بعد يومين من تاريخه بدأت‬ ‫زيارتنا إلى مدينة صافيتا‪ .‬وصادف آنذاك وجود مأتم حافل ألحد وجهاء‬ ‫البلدة حضره حشد مزدحم من الناس‪ .‬وقد افق املأتم وفد من ّ‬ ‫منفذية‬ ‫ر‬ ‫صافيتا ّ‬ ‫وتقدم بالتعازي آلل الفقيد باسم الحزب والزعيم‪ .‬بعد املأتم ّ‬ ‫توجه‬ ‫الكثير من الحضور لزيارة الزعيم في منزل الرفيق يوسف خوري‪ .‬وكان في‬ ‫ّ‬ ‫مقدمة الوافدين عدد من املطارنة الذين شاركوا في املأتم‪ .‬لدى استقبالهم‬ ‫‪214‬‬


‫في مدخل الغرفة حاول أحد املطارنة الجلوس في املقعد املخصص لعميد‬ ‫ً‬ ‫الداخلية إلى يمين الزعيم فسبقته إليه سريعا واتخذت مكاني املختص دون‬ ‫تردد‪ ،‬وال كياسة قروية هذه املرة‪ .‬فبادرني الزعيم بالتفاتة عاجلة‪ .‬وابتسامة‬ ‫رقيقة دقيقة التعبير تعلو ثغره ّ‬ ‫وتنم عن ارتياح ظاهر يعيد إلى الذاكرة ما‬ ‫حدث مع رياض عبد الرزاق الطرطوس ي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انقضت أيام وسنون مكتظة باألحداث وألاهوال مفعمة بالهزائم‬ ‫والانتصارات وظل نوع من الناس ال ّ‬ ‫يفرقون بين القضية وألاشخاص‪ ،‬بين‬ ‫العقيدة وشعارات الغوغاء‪ ،‬بين مواقف السياسة التي تخدم غاية‬ ‫والسياسة التي تخضع إليها كل غاية عامة « كأنها مهنة خاصة يحترفها بعض‬ ‫ألافراد ويحتكرون بواسطتها النفوذ وتقرير مصير الشعب» خدمة ملنافعهم‬ ‫الخصوصية ويدعونها عقيدة‪ .‬هؤالء الناس جعلوا ّ‬ ‫يسمون حزبنا «جناح‬ ‫ً‬ ‫قنيزح‪ ،‬أو جماعة قنيزح» ‪ ،‬الحزب السوري القومي الاجتماعي العامل أبدا‬ ‫لترسيخ أسس منطلقات النهضة السورية القومية الاجتماعية بفكرها‬ ‫العقدي وفعلها املناقبي في النفوس والعقول من أجل حياة ألامة السورية‬ ‫والوطن السوري ورقيهما‪ .‬وقد أوقف سعاده نفسه لهما وبذل لقضيتهما‬ ‫حياته ودمه‪.‬‬

‫‪215‬‬


‫الـم ـ ـ ـ ـهم أن ال يذبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـح الـم ـ ـ ـ ـ ـرء عجل جـ ـ ـ ـ ـ ـاره‬ ‫سعاده‬

‫حرص الزعيم ّإبان جولته الحزبية إلى الشام سنة ‪ 1748‬على إجراء‬ ‫اتصاالت واسعة وعقد الاجتماعات املتنوعة بمواضيعها وأبحاثها وأغراضها‪.‬‬ ‫من هذه اللقاءات ما حصل مع مواطنين من صميم الشعب العامل ومنها ما‬ ‫ّ‬ ‫تم مع فئات متعلمة أو مثقفة من بين رجال الفكر ومحترفي السياسة‬ ‫وسواهم‪ .‬هذا باإلضافة إلى ّ‬ ‫تفقد الزعيم لسير العمل الحزبي في مختلف‬ ‫الفروع التي زارها وتعرف إلى أعضائها عن كثب‪ .‬تخللت هذه الاتصاالت‬ ‫والاجتماعات كلها شتى ألابحاث وألاحاديث والتوجيهات عالج فيها الزعيم‬ ‫أهم شؤون الساعة وأدق املواضيع القومية الاجتماعية وأهمها في بناء‬ ‫املجتمع وتأسيس مفاهيمه واتجاهاته ومواقفه العملية املسؤولة‪ .‬وقد و ّجهت‬ ‫للزعيم خاللها العديد من ألاسئلة عن معنى العقيدة القومية الاجتماعية‬ ‫وأهدافها وما يتصل بالنظرة الفلسفية للحزب‪ ،‬النظرة الكلية إلى الحياة‬ ‫والكون والفن‪ .‬تلك النظرة الجديدة التي أشغلت الناس منذ بدء إعالنها وما‬

‫‪211‬‬


‫تزال لآلن مدار اهتمام طالب املعرفة‪ ،‬ورجال الفكر وموضع دراستهم‬ ‫ّ‬ ‫ماهيتها ومصادرها ومدى شمولها ملدارك الفكر وخصائص‬ ‫وتنقيبهم عن‬ ‫النفس إلا نسانية‪ ،‬وخاصة عن مجاالت توافقها أو تباينها بالنسبة لسائر‬ ‫الفلسفات والنظرات‪ .‬وقد اشتملت هذه ألاسئلة على الكثير من الاهتمامات‬ ‫ً‬ ‫الجدية والعمق أو من حيث ّ‬ ‫املتفاوتة إن من حيث ّ‬ ‫الخفة والسطحية تبعا‬ ‫لتوزع فكر شبابنا بين خليط من املعطيات واملفاهيم الثقافية العلمية‬ ‫ً‬ ‫واملناقبية النفسية التي تصدر إلينا وتفرض علينا فرضا‪.‬‬ ‫ففي مدينة الالذقية حيث توجد ّ‬ ‫منفذية للحزب تميزت بانتشارها‬ ‫الواسع ومكانة أفرادها بين املواطنين‪ ،‬زار الزعيم وفد من حركة الشبيبة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ألارثوذكسية ضم مجموعة من الشباب املتعلم واملتعطش لتحصيل املعرفة‬ ‫ّ‬ ‫والتعمق في دراسة عقيدة الحزب وغايته‪ .‬وكان من بين هؤالء أصدقاء‬ ‫للحركة السورية القومية الاجتماعية معروفون بمتابعتهم الوثيقة للمواضيع‬ ‫القومية والعقائد الاجتماعية‪ .‬غير أن تأييدهم للحزب قد تعرض للوهن‬ ‫وخالطه بعض الشك بل العتب املرير إثر طرد فايز صايغ من صفوف الحزب‬ ‫ًّ‬ ‫ظنا منهم أنه استحق عقوبة الطرد بسبب موقف فكري من تعاليم الحزب‬ ‫ونظامه‪ .‬خاصة وقد كان لفايز صايغ لقاءات صميمة مع حركة الشبيبة‬ ‫ألارثوذكسية في بعض الجوانب الفكرية املرتكزة إلى معطيات فلسفية صادرة‬ ‫عن املفكرين املعروفين بردياييف وكركيغارد وهما من مراجع الفكر‬ ‫ألاساسية لدى الحركة ألارثوذكسية‪.‬‬ ‫لقد كان وفد الحركة ألارثوذكسية يحمل في جعبته إلى الزعيم‪ ،‬كما‬ ‫تبين‪ ،‬مجموعة ثمينة وطريفة من ألاسئلة واملالحظات وقبضة ّ‬ ‫قيمة من‬ ‫ألابحا ث والاقتراحات حول قضية الحزب السوري القومي الاجتماعي وشؤون‬ ‫العمل القومي عامة‪ .‬بدأت جولة تمهيدية مقتضبة من ألاحاديث املتنوعة‬ ‫مقبالت ّ‬ ‫كانت بمثابة ّ‬ ‫شيقة لإلقبال النشيط على الوليمة الشهية ثم دار‬ ‫‪219‬‬


‫الحوار حول ألاسباب املوجبة لطرد فايز صايغ من الحزب بعد أن كان في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مرحلة سابقة عضوا بارزا في الحزب بنشاطه وإنتاجه ثم صار عميدا‬ ‫للثقافة ولإلذاعة خالل فترة غير قصيرة من وجوده في الحزب‪ .‬فأوضح‬ ‫الزعيم للوفد ألاسباب الحقيقة التي أودت بفايز صايغ إلى الطرد ّ‬ ‫وفند‬ ‫ً‬ ‫العوامل كلها التي أوجبت معاقبته مؤكدا عميق أسفه ملا حصل له وانتقل‬ ‫الحديث بعد ذلك إلى تداول أبحاث عامة وهامة تتعلق بعقيدة الحزب‬ ‫السورية القومية الاجتماعية‪ ،‬أساس منشأها وأصول نظرتها الكلية إلى‬ ‫الحياة والكون والفن‪ .‬وتناول الحديث دقائق مفاهيم النهضة السورية‬ ‫القومية الاجتماعية بكامل أطرها وجذورها ألاصيلة في النفسية السورية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعمق تاريخها الحضاري ذات الخصائص املميزة واملتفوقة فكرا ونهجا في‬ ‫إبداع كل فن‪ ،‬كل علم وكل فلسفة للعالم بأسره‪ .‬تشعبت الشروح في‬ ‫العقيدة ومضامينها املادية النفسية واتسعت مجاالت ألاسئلة إلى أن انبرى‬ ‫فجأة أحدهم بتوجيه سؤال طريف إلى الزعيم‪.‬‬ ‫«كيف يكون ملجتمع ما نظرة واحدة كلية شاملة إلى الحياة والكون‬ ‫والفن؟ هل من املعقول واملمكن أن يحدث هذا ألامر ألي مجتمع في العالم؟‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فمثال‪ ،‬لو فرضنا أن ألحد من الناس عجال يعبده ويؤلهه بإيمان عميق‬ ‫وقناعة تامة‪ .‬وهو‪ ،‬بالتالي‪ ،‬ال يسمح ألي كان أن يمسه بأدنى إزعاج أو أذى‬ ‫ً‬ ‫على إلاطالق‪ .‬بينما يقطن بجوار هذا املؤمن امرؤ لديه عجله أيضا‪ ،‬لكنه ال‬ ‫يعبده بل هو بنظره كسائر الحيوانات قد وجد لخدمة إلانسان ونفعه وله‬ ‫أن يتصرف بمصيره كما يشاء‪ .‬فما العمل للتوفيق بين موقف الاثنين من‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫العجل‪ .‬أحدهما يعبده إلها والثاني يذبحه طعاما له‪ .‬هذا في أبسط الحاالت‬ ‫ناهيك عن إمكان التقائهما في نظرة واحدة كلية إلى سائر شؤون الحياة‬ ‫ً‬ ‫والوجود؟»‪ ،‬قبل أن ّ‬ ‫يهم الزعيم لإلجابة على هذا السؤال حاولت عبثا بيني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التفت إلى الزعيم‬ ‫أتصور ما يمكن أن يكون جواب الزعيم‪.‬‬ ‫وبين نفس ي أن‬ ‫‪218‬‬


‫فألفيته يبتسم وهو يجول بنظرات مستغربة في الوجوه املحيطة كأنه يفتش‬ ‫ً‬ ‫عن مفقود أو فقيد عزيز متواريا بين أحداق العيون الشاخصة إليه بأنفاس‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتريث اكتفى الزعيم بالجواب‬ ‫التأمل‬ ‫متأرجحة‪ .‬إثر لحظة عابرة من‬ ‫ً‬ ‫املقتضب «املهم أن ال يذبح املرء عجل جاره» وساد الصمت باحثا في‬ ‫السكون عن املعنى لعبارة الزعيم التي أحدثت لدى الحضور صدمة من‬ ‫ً‬ ‫الاستغراب والحيرة ال ّبد من جالئها والتفريج عنها‪ .‬ثم أردف الزعيم شارحا‬ ‫ّ‬ ‫الكلية الشاملة إلى الحياة والكون والفن ال تلغي ّ‬ ‫تعدد جوانب‬ ‫ّأن النظرة‬ ‫الرؤى بل تعني بإطالق القدرة على الخلق وإلابداع وهي ترى ضرورة التباين‬ ‫وأهمية النقاوة في ّ‬ ‫تعدد وجهات النظر خاصة فيما يتعلق بالتفاصيل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتبدل بطبيعتها الجزئية‪.‬‬ ‫للتغير‬ ‫والجزئيات واملشتقات أو الروافد القابلة‬ ‫ّ‬ ‫مهمة النظرة املدركة لوحدة املصادر وراء كل املظاهر والحاالت هي أن توحد‬ ‫قواعد الانطالق ومراكزه ألاساسية في اتجاه واضح لنؤسس حياة جديدة‬ ‫أفضل ونحقق للمجتمع الواحد شمول النمو وكلية القدرة على التطور‬ ‫ً‬ ‫والتكامل‪ .‬لذلك ال تفرض النظرة القومية الاجتماعية على أحد موضوعا‬ ‫ً‬ ‫ملعتقده أو أسلوبا ملمارسته له وال تلزمه بنمط جامد من الفهم والسلوك‬ ‫ً‬ ‫يجعله صدى لغيره أو تكرارا لسواه في مواجهة كل شاردة وواردة‪ .‬نظرتنا‬ ‫الواحدة للحياة وإلانسان ّ‬ ‫تحرر هذا إلا نسان من تفلت الفوض ى وكابوس‬ ‫الجمود ومن ميوعة الضياع في خضم املغريات والنزوات الفردية التي تعبث‬ ‫بكل وجود حقيقي لشخصية املجتمع ومثله وتعرقل وحدة كيانة ووحدة‬ ‫مصيره‪.‬‬ ‫«املهم أن ال يذبح املرء عجل جاره»‪ .‬تعني أن من يعبد العجل هو ّ‬ ‫حر‬ ‫في التصرف بعجله وكيفية التعامل معه‪ .‬كذلك ملن يود أن يجعل من عجله‬ ‫ذبيحة لوليمة كامل الحرية املطلقة فليس ألحدهما أن يمنع عن آلاخر حق‬ ‫ّ‬ ‫ممارسة الحرية سواء ّ‬ ‫بملكيته الخاصة‪ .‬ما دامت‬ ‫حرية العبادة أو التصرف‬ ‫‪217‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫هذه الحرية حقا عاما ال تس يء إلى املصلحة العامة وال تحرم أحدا من أي‬ ‫حاجة مشروعة أو حق يناله بأخالق واحترام لحق الغير وحريته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الحرية وحق ممارستها البناء إال من صميم النظرة إلى الحياة‬ ‫وما‬ ‫والكون وإلا نسان والفن والحقيقة وفي أساس هذه النظرة الجديدة‬ ‫ومفهومها ملعاني الحرية والواجب والنظام والقوة من أجل حق ألامة في‬ ‫الحياة وحقها في السيادة والكرامة‪.‬‬

‫‪221‬‬


‫إن العدالة‪ ،‬وإن أخـ ـ ـ ـ ـطأت‪ ،‬ال تكابر‪ ،‬إنمـ ـ ـ ـ ـ ـا‬ ‫تعترف وتصحح بكبر‬

‫«لم يأتنا سعاده باملعجزات والخوارق‪ ،‬بل أتانا بالحقائق التي هي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بتفوقها التاريخي الفذ‬ ‫نحن»‪ .‬لقد كشف لنا حقيقة ألاصالة السورية‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التحرر والانطالق متغلبة على الويالت والنكبات‪ ،‬دعانا بقدوة‬ ‫وقدرتها على‬ ‫عبقرية إلى الثقة بأنفسنا والوعي لحقيقتنا أمام الحياة والعالم بأسره‪ .‬كان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تأكيده قاطعا على أن الحقيقة السورية ليست أمرا واقعا بقوة املعجزات‬ ‫والخوارق إنما كونت ذاتها ألاصيلة بقدرة العقل الخارقة التي تغير وحدها‬ ‫وجه التاريخ‪ّ .‬‬ ‫وتحول مجرى حياة الشعوب الحية الجديرة بالنهوض‪« .‬العقل‬ ‫ّ‬ ‫قوة إنسانية فاعلة تقدر أن تعي الحقائق وتفكر وتقصد وتعمل‪ .‬وال ش يء‬ ‫ً‬ ‫مطلقا يمكن أن يعطل هذه القوة‪ ،‬ألاساسية وهذه املوهبة ألاساسية‬ ‫لإلنسان»‪ .‬ولرسالة إلانسان إلى الحياة والوجود التي هي رسالة إلابداع‬ ‫ّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ص يعيق تجليها وامتدادها‪.‬‬ ‫والتفوق والانتصار على املجهول وكل مستع ٍّ‬ ‫فالعصمة هي لقضية العقل وحدها قدرة «التمييز باإلدراك ملا هو أفضل‪.‬‬

‫‪221‬‬


‫فيقرر العقل من ذاته وبذاته ما هو املصير ألافضل وألاجمل لحياة إلانسان»‬ ‫وحياة أجياله الطالعة التي لم تولد بعد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يحذرنا من ّ‬ ‫مغبة الوقوع في شرك التأليه لإلنسان وفي براثن‬ ‫كم‬ ‫ّ‬ ‫التصور التائه أنه قادر على فرض الال معقول والال واقعي‪ ،‬بغية الانتصار‬ ‫على واقعية املدرحية تشمل مقوماتها جميع طاقات التحقيق والتجسيد‬ ‫إلانساني ملدخرات الكون وإمكانيات الوجود‪ .‬كي ال نتعرض لفقدان الثقة‬ ‫بمواهبنا وال نستسلم ّ‬ ‫مكبلين مبهورين أمام أفذاذ العباقرة‪ .‬أننا ال نتراجع عن‬ ‫ّ‬ ‫مواجهة املوهوبين بأفعال العقل وإلارادة‪ .‬مهما بلغت مؤهالتهم من التألق‬ ‫ّ‬ ‫وإلاشعاع الخالب‪ .‬لسنا نتورع عن مخالفتهم أو تجاوز تفوقهم العبقري إذا‬ ‫قضت قدرة املعقول التي تقوى على إلاحاطة بما في الوجود من حق وخير‬ ‫وجمال‪ ،‬وعلى إلاطاحة بكل ما يعترض العقل من عوائق‪ ،‬من أجل أن يحقق‬ ‫ّ‬ ‫التفوق ذات الدعائم الراسخة ألاسس‬ ‫إلانسان السيادة بعقالنيته الفائقة‬ ‫واملنائر الشامخة القمم‪ .‬ألننا إذ نؤله إلا نسان‪ ،‬نحكم عليه بالجمود ونلزمه‬ ‫بالوقوف عند حد يفقده حق الخطأ‪ ،‬وبالتالي يحرمه من حق النمو والتطور‬ ‫والارتقاء‪ ،‬ومن موهبة التمتع بمآثر املاض ي وروعة ذكرياته ألاخاذة‪ .‬نحن‬ ‫نسلبه طاقة املعاناة الراهنة ملعطيات الحاضر ولتأمالت الغد وحوافز آماله‬ ‫وجميعها تشد باإلنسان إلى تجسيد إلايمان بخير ألاعمال وألافعال في عالم‬ ‫الواقع ومشاتل حقول ألاجيال آلاتية‪ .‬نحن إذ نخطئ نعرف أننا نخطئ لعجز‬ ‫نعانيه وأن « لنا الحق في الخطأ كما لنا الحق في الصواب»‪ ،‬لذلك نحن‬ ‫نتقدم ونرتقي بوعينا حقيقة الخطأ وحقيقة الصواب التي نتعلمها ونمارسها‬ ‫في أصول حياة الحرية والواجب والنظام والقوة‪ .‬حياة إلادراك والتمييز‬ ‫والعمل الصحيح‪ ،‬حياة الانعكاف من العتيق البالي وإلاقدام لالعتناق‬ ‫الجديد املحرر‪.‬‬

‫‪222‬‬


‫ّإبان جولة سعاده إلى الجمهورية الشامية املمتدة من الثالث من‬ ‫تشرين الثاني إلى العاشر من كانون ألاول سنة ‪ 1748‬تناول اهتمام الزعيم‬ ‫شؤون العمل الحزبي وأوضاع الحزب الداخلية في شتى حقول املسؤوليات‬ ‫ً‬ ‫واملؤسسات القومية‪ .‬فضال عن اتصاالته باألوساط الفكرية من طالبية‬ ‫وسواها واتصاالته باألوساط السياسية‪ .‬وقد كانت هذه ألاوساط تنظر إلى‬ ‫الحزب نظرها إلى فتى يافع ال يخلو من ّ‬ ‫مؤهالت‪ .‬يحاول أن ينطلق بقدرة‬ ‫معينة إلثبات وجوده وتوكيد أهميته إذا استطاع‪ .‬لكنه ما يزال حتى ذلك‬ ‫الحين بحاجة إلى إلارشاد والتوعية لئال ينزلق في مهاوي الطريق الوعرة التي‬ ‫يقحم نفسه في ولوجها‪ .‬وهو بعد طر ّي العود ّ‬ ‫ندي القوى ضئيل إلاعداد‬ ‫ً‬ ‫بأسا من مجاملته‪ .‬بينما ّ‬ ‫والاستعداد ال ترى‬ ‫يظن أساطين السياسة حينذاك‬ ‫في الشام أنهم حققوا املستحيل واخترقوا املعجزات‪ .‬وهم يضنون على الحزب‬ ‫حتى بفتات معرفتهم وفضالت خبرتهم التاريخية املنقطعة النظير فال يتجاوز‬ ‫الحزب حدود ما رسموه له من خطوات أولية‪ .‬كي يظل تحت سن الرشد‬ ‫بأمرتهم ووصايتهم‪.‬‬ ‫من جملة املواضيع إلادارية التي أعارها الزعيم اهتمامه القيادي‪ ،‬وتولى‬ ‫الدخول بمجمل تفاصيلها إلعطاء حكمه فيها‪ ،‬كانت مسألة التعرف بعمل‬ ‫حزبي قام به منفذ عام دمشق‪ ،‬آنذاك الرفيق عصام محايري‪ ،‬واختالفه‬ ‫ّ‬ ‫بالرؤية حوله مع أحد النظار في هيئة ّ‬ ‫املنفذية‪ ،‬الرفيق رياض سكر‪ .‬وقد كان‬ ‫الزعيم على علم سابق بهذا ألامر ومالبساته من قبل عميد الداخلية ألامين‬ ‫ّ‬ ‫املخصصة‬ ‫قنيزح الذي أتيح له آنذاك أن يرافق الزعيم في تلك الجولة‬ ‫ملناطق الجمهورية الشامية‪ .‬اطلع الزعيم على دقائق املسألة؛ مدار الخالف‬ ‫في هيئة ّ‬ ‫منفذية دمشق‪ .‬واستمع إلى وجهات نظر الجميع بشأنها‪ .‬وقد لفظ‬ ‫الزعيم حكمه املعلل بها‪ .‬وهو يتضمن تخطئة الرفيق رياض في ما ذهب إليه‬ ‫من فهم للمسألة وتأكيد صحة رأي املنفذ العام بصددها مع املالحظة أن‬ ‫‪222‬‬


‫دوافع التباين في الرؤية كلها كانت نابعة من روحية التسابق في الحرص على‬ ‫مصلحة الحزب والتشدد على سالمة مسيرته ونموه الوطيد‪.‬‬ ‫انتهى كل ش يء بوضع جميع ألامور في نصابها من الصحة والصواب ثم‬ ‫تابع الزعيم جولته املقررة من دمشق إلى حمص‪ ،‬حماه وحلب فإلى سائر‬ ‫ً‬ ‫مناطق الساحل الشامي قبل أن يقفل عائدا إلى بيروت‪.‬‬ ‫بعد مض ي ما يقارب الشهر على نهاية الجولة أي ما يزيد عن الشهرين‬ ‫على معالجة الزعيم للحادثة إلادارية آلانفة الذكر في دمشق‪ ،‬حضر الرفيق‬ ‫أنطون سالمة إلى بيروت ملقابلة عميد الداخلية والتباحث معه في ذيول‬ ‫ّ‬ ‫«تلك املشكلة» وهي أن الرفيق رياض سكر‪ ،‬املعروف ذلك الحين باندفاعه‬ ‫القومي الاجتماعي ونشاطه الحزبي املثمر الجيد‪ ،‬قد أوقف نشاطه املعهود‬ ‫إثر زيارة الزعيم إلى دمشق‪ ،‬والتزم جانب القعود عن كل تلبية قومية‬ ‫اجتماعية‪ .‬ألنه شعر بالغبن يحز في نفسه من جراء حكم الزعيم عليه‬ ‫بالخطأ والخطل في فهمه وسلوكه إلاداري بالنسبة إلى «تلك املشكلة»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فاستعدت‪ ،‬بوصفي عميدا للداخلية‪ ،‬مع الرفيق سالمة تفاصيل املسألة‬ ‫إياها وسائر جوانبها ومالبساتها وفحوى ما أشار به الزعيم بخصوصها‪ .‬ثم‬ ‫ّ‬ ‫وصلت بالبحث والتحليل إلى القول‪« :‬لنسلم أن الزعيم قد أخطأ بالفعل في‬ ‫معالجة املسألة مما ألحق الحيف بموقف الرفيق رياض سكر منها‪ .‬فال يضير‬ ‫الرفيق من ممارسة قوميته الاجتماعية كما يمليه عليه إخالصه وتمسكه‬ ‫بقسمه القومي الاجتماعي»‪.‬‬ ‫لكن الرفيق أنطون سالمة قد رأى ضرورة مواجهة الزعيم باألمر‬ ‫ّ‬ ‫ووضعه بالصورة التي صار إليها الرفيق رياض سكر من التقاعس في تلبية‬ ‫الواجب القومي الاجتماعي لألسباب املذكورة‪ ،‬كي يقف من الزعيم نفسه‬ ‫على رأيه ألاخير والحاسم باملوضوع‪ .‬قمت‪ ،‬كعميد للداخلية‪ ،‬بالحصول على‬

‫‪224‬‬


‫موعد من الزعيم للرفيق أنطون سالمة‪ .‬فوافى الزعيم بمفرده إلى املوعد‬ ‫ليقص عليه خبر الحلول إلادارية التي جرت في دمشق للمسألة الحزبية التي‬ ‫ّ‬ ‫أحد طرفيها الرفيق رياض سكر‪ .‬غير أن الرفيق سالمة سرعان ما عاد إلى‬ ‫عمدة الداخلية بعد فترة قصيرة ليعلمني‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫إن الزعيم ما كاد يطلع على موضوع وضع الرفيق رياض سكر حتى‬ ‫ّ‬ ‫بادره بقوله‪« ،‬الزعيم قد أخطأ بحق الرفيق سكر في الحلول التي أعطاها‬ ‫للمسألة املعلومة‪ .‬ومن طبيعة الفكر أن ّ‬ ‫يتعرض للخطأ في تكوين رؤيته‬ ‫ً‬ ‫لدقائق الحقائق خصوصا في مجال إصدار الحكم الالزم بشأنها‪ .‬أما املطلوب‬ ‫من الرفيق رياض فهو أن يصمد في املثابرة على قوميته والعمل بموجب ما‬ ‫ّ‬ ‫أقسم له وهو يساوي كل وجودنا‪ .‬فاملبادئ هي لإلنسان الذي يستحقها‬ ‫ويناضل من أجل انتصارها بالعقلية ألاخالقية الجديرة باألصالة السورية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫القادرة على تحقيقها وتجسيدها أعماال وأفعاال‪ .‬نحن نعتنق القاعدة‬ ‫ألاصيلة التي انبثق منها وعينا حقيقة وجودنا‪ .‬لذلك نعرف كيف ننتصر على‬ ‫ّ‬ ‫ألاخطاء غير املقصودة كما نجتث ألاخطاء املتعمدة‪ .‬ألن هذه ليست أخطاء‬ ‫بل انحرافات وارتكابات‪ .‬ال ّبد من بترها واستئصالها لنسير إلى الانتصار الحق‬ ‫الذي ال ّ‬ ‫مفر منه»‪.‬‬

‫‪225‬‬


‫ً‬ ‫ليس الكرم أن تجـ ـ ـ ـود جزافا باملال بل هو‬ ‫الع ـ ـ ـ ـ ـطاء من أجل بناء الكـ ـ ـ ـرامة التي تح ـ ـرر‬ ‫وت ـ ـ ـ ـ ـ ـبني‬

‫يختلف مفهوم الكرم‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬املوقف منه حسب ألاوساط‬ ‫ً‬ ‫الاجتماعية واملجتمعات إلانسانية كما يختلف أيضا في ألامة الواحدة سياق‬ ‫ً‬ ‫تطورها ونضوجها القومي ففي الجاهلية مثال‪ ،‬جعل الكرم املادي في رأس‬ ‫الفضائل القبلية وصار موضع الاعتزاز واملباهاة بين الناس وقورن بشجاعة‬ ‫املقاتل وبطولة املناضل الذي يواجه املوت غير هياب‪ .‬ألن حاجات الحياة في‬ ‫العهد القبلي كانت مادية بالدرجة ألاولى وقلما ترتفع عن ضرورات العيش‬ ‫وما يتصل بها من مفاهيم ومقاييس بدائية‪ .‬لكن لدى تمكن العقلية‬ ‫الحضارية في نفوس الناس وفي تعاملهم وعند ّ‬ ‫نموها وامتدادها في تطوير‬ ‫الشعوب ّ‬ ‫تبد لت النظرة إلى الضيافة حتى في مناسبات ألافراح وألاتراح‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وأمثالها‪ .‬وغدا كرم الضيافة لونا بدائيا رجعيا من تقاليد الجماعات البشرية‬ ‫ّ‬ ‫املتأخرة خاصة إذا ّأدى إلى إهمال الشؤون الاجتماعية التي هي أساس‬ ‫‪221‬‬


‫التقدم والارتقاء وفي صلب البناء الاجتماعي والنهوض القومي الاجتماعي مثل‬ ‫إنشاء املشاريع واملؤسسات القادرة على مجابهة ألاعداء وألاوبئة والانتصار‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫وإن آفة هدر الطاقات وتبديد إلامكانيات سدى في غير الطريق املؤدية‬ ‫ّ‬ ‫إلى البناء والتقدم ال تزال متغلبة ومتفاقمة في كيفية الحصول على املال‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫التصرف به واستثماره اجتماعيا لألفضل وألارقى حتى أننا نلحظ بين‬ ‫وكيفية‬ ‫ّ‬ ‫صفوف النهضة تفش ي هذه العلة وأثرها البالغ في السلوك املالي تجاه‬ ‫القضية الخطيرة التي تعاقدنا على تحقيقها وهي تساوي كل وجودنا‪ .‬إلى سوء‬ ‫التصرف باملال وعدم إخضاعه للمفاهيم القومية الاجتماعية‪ ،‬يعود افتقار‬ ‫الحزب إلى املال الضروري النتشاره وانتصاره في صميم الشعب‪ .‬مع أنه‬ ‫ّ‬ ‫الفذة في ّ‬ ‫ّ‬ ‫شتى امليادين والحقول التي ال‬ ‫سجل املواقف القدوة وألافعال‬ ‫ّ‬ ‫يشكل فيها املال ألاساس والسبيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتفوق‪.‬‬ ‫ألاول إلى التحقيق‬ ‫ً‬ ‫كنت ّ‬ ‫مرة‪ ،‬بوصفي عميدا للداخلية سنة ‪ ،1748‬بزيارة حزبية ملديرية‬ ‫ميمس التابعة ّ‬ ‫ملنفذية مرجعيون يرافقني إليها املنفذ العام الرفيق ّنواف‬ ‫حردان وناظر إلاذاعة في ّ‬ ‫املنفذية آنذاك‪ .‬وصلنا نحن الثالثة إلى بيت املدير‬ ‫حيث َّ‬ ‫تم اللقاء مع القوميين الاجتماعيين لعقد الاجتماع من أجل تفقد‬ ‫أوضاع الحزب وسير أعمال املديرية قبيل موعد الاجتماع املقرر حان وقت‬ ‫الغداء دعانا املدير لتناول الغذاء فوجدنا أنفسنا أمام وليمة حافلة‬ ‫بمختلف ألوان املقبالت وألوان الطعام الشهي الدسم إلى جانب أنواع‬ ‫الفاكهة والحلوى‪ .‬خ ّيل إلينا في البدء أن املدعوين إلى هذه الوليمة هم جمع‬ ‫غفير في حفلة عرس ألحد وجوه العشيرة وأركان إلاقطاع في املنطقة‪ ،‬هذه‬ ‫الوفرة من الطعام بتعدد أنواعه وألوانه كان مجرد وجبة طعام يقدمها رفيق‬ ‫قومي اجتماعي إلى ثالثة من رفقائه يأتون إليه لعمل حزبي‪.‬‬

‫‪229‬‬


‫ما أن بدأنا بتناول الطعام حتى خطرت لي فكرة تراءت جدية وجميلة‬ ‫ً‬ ‫املغزى‪ .‬هي أن اشتراكات أعضاء هذه املديرية وعددهم آنذاك ثمانون رفيقا‬ ‫ال ّبد أن تكون مرتفعة ومسددة بالدقة النظامية‪ ،‬خاصة من قبل املدير‬ ‫الذي يقدم على تحمل تكاليف هذه الضيافة‪.‬‬ ‫طلبت من املحصل أن يأتيني بلوائح الاشتراكات ألعضاء املديرية كي‬ ‫أقف على تفاصيل الوضع املالي‪ .‬فهالني أن أعلم أن أرفع اشتراك في املديرية‬ ‫ال يتجاوز ربع ليرة لبنانية وهو اشتراك املدير صاحب «الوليمة» املؤملة وقد‬ ‫ً‬ ‫مض ى عليه سنتان كاملتان لم ّ‬ ‫ّ‬ ‫متوجباته املالية وهو‬ ‫يسدد خاللهما شيئا من‬ ‫ّ‬ ‫إذن مدين لصندوق الحزب من متأخرات مالية بمبلغ ست ليرات لبنانية‬ ‫خالل عامين‪ .‬كما أن التلكؤ عن تلبية الواجب القومي كان شبه شامل بين‬ ‫أعضاء املديرية الثمانين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إذا كان املال متوفرا لتكديس الطعام في وليمة ال معنى لها وال ضرورة‬ ‫خا صة بين القومين الاجتماعيين فلماذا ال يتوفر في سبيل النهضة بتغذيتها‬ ‫بقوة املال؟ ملاذا ال يبذل املال من أجل مصلحة الحزب فوق كل مصلحة‬ ‫عوض أن يهدر ً‬ ‫هباء في ترسيخ عقلية قبلية يعمل الحزب على إزالتها وإزالة‬ ‫كل ما ّيت صل بها من مفاهيم ومقاييس وتقاليد ال قومية اجتماعية‪ .‬أما إذا‬ ‫توفر املال إلقامة وليمة من هذا النوع ال تليق باألخوة القومية الاجتماعية‬ ‫وال تعبر عن العقلية ألاخالقية الصريحة الخالية من العقد هي أساس‬ ‫التعامل بين القومين الاجتماعيين وفي صلب كيان املجتمع القومي الاجتماعي‬ ‫وتكوينه الصحيح‪ ،‬فما الداعي للكرم الجاهلي في عهد النهضة وفي عالقة‬ ‫ّ‬ ‫أبنائها بعضهم مع بعض‪ .‬بينما يتخل ى القومي عن تأدية واجبه من أجل‬ ‫يكبل مسيرة النهضة ويعيق ّ‬ ‫الكرامة القومية الاجتماعية مما ّ‬ ‫نموها‬ ‫واستمرارها‪ .‬إن تلبية واجب العطاء الواعي كفيلة بتحقيق مبادئ الحزب‬

‫‪228‬‬


‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫تاما‪ ،‬وت ّ‬ ‫حررها كليا‬ ‫وتنظيم حركة تؤدي إلى استقالل ألامة السورية استقالال‬ ‫من جميع عوامل التخاذل والضعف والتفسخ املدمر لكل سيادة وكرامة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫غير أن اختالف املواقف هو دائما وليد اختالف املفاهيم الاجتماعية‪،‬‬ ‫لذلك يرى البعض الكرامة في كرم الضيافة ويرى آلاخرون الكرامة في تقديم‬ ‫كل ما يتمكنون من عطا ء إلقامة الحياة الكريمة وقتل العيش الذليل‪.‬‬ ‫الكرامة اجتماعية ال تتجزأ وال تتمزق أشالء وأجزاء بين ألافراد و«كراماتهم‬ ‫الشخصية» ‪ ،‬فاألمة مجتمع واحد وكرامتها حقيقة واحدة اجتماعية كلية في‬ ‫شمولها أفراد ألامة بأسرها ووحدة مصالحهم ومصيرهم ألاوحد‪.‬‬

‫‪227‬‬


‫أنا لم أكلفك بالتفـ ـ ـ ـ ـكير الذي يعـ ـطل العمل‬ ‫ويش ـ ـوهه‪ .‬أنا كلفتك فقط بالتنفـ ـ ـيذ الفهيم‬ ‫ليتم العمل الـمطلوب بنجاح‬ ‫سعاده‬

‫من مزايا العصر املنتشرة بين أشباه املتعلمين والتي تشكل ظاهرة تهدر‬ ‫الجهد والوقت سدى باإلكثار من الكالم والتكرار والاجترار لقوالبه عينها‬ ‫ً‬ ‫ومقالبه اللفظية‪ .‬هذه السيئة التي تبدو حينا حسنة جذابة هي إدمان نوع‬ ‫من «املفكرين» على تعاطي عادة تقليب وجهات الرأي والرؤية في أمر معين‬ ‫والاستغراق الشارد بالتحليل والتعليل في ما يطلقون عليه عملية «التنظير»‪.‬‬ ‫هذا ألاسلوب من البحث أو النمط من التفكير هو إجراء فكري من‬ ‫حيث الشكل وإلاخراج أما من حيث الجوهر والغرض الفكري فهو وسيلة‬ ‫ً‬ ‫إغراق املضمون في سيل جارف من ألالفاظ والصور اللفظية تجعل أخيرا‬ ‫من املوضوع املطروح مجرد عبارات واستعارات بيانية ال تعني فكرة واضحة‬ ‫ً‬ ‫وال تدل على مرمى فكري معين‪ .‬سواء كان هذا العمل التنظيري متعمدا‬ ‫لتضليل السامع أو غير مقصود بمثابة لون من اللهو في معرض الجدية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫املوضوعية‪ .‬قد يصادف هذا التنظير بادئ ألامر إعجابا وإكبارا باملحدث من‬ ‫‪221‬‬


‫السامعين ملا فيه من سهولة التعبير ومرونة العرض والاستعراض لشتى‬ ‫العبارات والصيغ الرشيقة لألداء وإلادالء بوجهات النظر وإبداء تعليالت‬ ‫ّ‬ ‫لألخذ بها أو التخلي عنها لدى الاقتضاء‪ .‬لكن إعجاب السامع بالتنظير‬ ‫واملنظرين ال يلبث أن ينقلب إلى تعجب إزاء الفراغ الفكري الذي يمأل‬ ‫أحاديثهم وأبحاثهم البراقة‪ّ .‬‬ ‫ومم ا يلفت الانتباه إلى هؤالء مدى استعدادهم‬ ‫الدائم ملعالجة أي موضوع بمناسبة وبال مناسبة استجابة ألي طلب أو رغبة‬ ‫يبديها أحد الولوعين في الاستماع إليهم واملؤهلين لتحمل إلاصغاء وإغداق‬ ‫التقدير والثناء على إبداعهم التنظيري‪ .‬وكم يتخلل التنظير من عبارات‬ ‫الوعظ وإلارشاد لآلخرين وعبارات التعالي والتعظيم النرسيس ي ملواهبهم‬ ‫ّ‬ ‫املتفوقة وكفاءاتهم الفذة‪ .‬املنظرون يبالغون بصياغة الكالم والاسترسال‬ ‫ً‬ ‫بإلقائه جزافا كأن الكالم لديهم هو من أجل الكالم عينه‪ .‬أو في سبيل‬ ‫استماعهم هم إلى إيقاع ألفاظهم ونبرة أصواتهم بصرف النظر عن وقعه على‬ ‫آلاخرين‪ .‬وما يحدثه من وقيعة في أعصاب السامعين ونفوسهم ومن فضائل‬ ‫ً‬ ‫املنظرين تماديهم في التكرار والترداد ولجوئهم أيضا إلى التخيل والاختراع‬ ‫يحدثونك عنه كأنه من صميم الوقائع واملراجع الثابتة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املحدثين‪،‬‬ ‫لقد أصيبت صفوف الحزب‪ ،‬مع ألاسف‪ ،‬بعدد من هؤالء‬ ‫ّ‬ ‫الخطباء أو املنظرين خطابة وكتابة‪ .‬وقد استطاعوا في فترات متعددة أن‬ ‫يمألوا أيا مهم وأيامنا معهم بفيض من طبقات الثرثرة والصياح‪ .‬يقولون ما‬ ‫هو خارج عن كل موضوع‪ ،‬يقولون ما ال يعملون يقولون ّ‬ ‫ليبزوا أعمال‬ ‫آلاخرين باألقوال والشعارات الضبابية التي تحجب الحقائق باألوهام‬ ‫والتصورات‪ .‬إن التاريخ بالنسبة إلى الديماغوجيين هؤالء ال يسجل ألاعمال‬ ‫ّ‬ ‫والنيات يسجل هدير الصخب وقرع طبول‬ ‫وألافعال إنما يسجل ألاماني‬ ‫الغوغاء‪ .‬إذا كان لدى القوميين الاجتماعيين الواعين حقيقة النهضة‬ ‫ورسالتها إلى ألامة السورية «ال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال وتقل ألاعمال»‬ ‫‪221‬‬


‫فإن الديماغوجيين من املنظرين وأشباههم يرون أن ألامر الذي ينجح هو ما‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫تكثر فيه ألاقوال وتندر ألاعمال‪ .‬املنظرون املعجبون أبدا بمواهبهم وقدراتهم‬ ‫ّ‬ ‫هم املتفوقون بمرآة غرورهم في كل مجال‪ ،‬واملجلون في كل ميدان وقد‬ ‫اضطررت أن أقول ألحد املتباهين بفذوذيتهم‪« :‬يا رفيقي أراك ال تحدثنا عن‬ ‫أمر أو شأن إال وأنت ّ‬ ‫ألاول في فهمه ومعالجته‪ .‬فهل لك أن تخبرنا عن مسألة‬ ‫أو موضوع كنت منه في املرتبة الثانية ال ألاولى بالنسبة إلى أقرانك‬ ‫ومنافسيك؟»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ومما يذكر ألحد من هؤالء أنه كان ّ‬ ‫يردد أمام املسؤولين والزعيم تكرارا‬ ‫لدى أي عمل يقوم به ويالقي في معالجته الفشل وإلاخفاق‪« :‬فالن من‬ ‫ألاعضاء أو من املسؤولين لم يفهم مقصدي أنا لم أقل كذا‪ ...‬ولم أعن بقولي‬ ‫كذا‪ ..‬وكذا‪ »..‬إلى أن قال له الزعيم مرة ولدى استمرار سوء الفهم أو سوء‬ ‫التفاهم بينه وبين معظم من يتعامل معهم‪ « :‬هل املشكلة أن الرفقاء ال‬ ‫ً‬ ‫يفهمون دائما ما تقول لهم‪ْ ،‬أم أن املشكلة أنك قاصر ومقصر عن إفهامهم‬ ‫ما ت ريد قوله أو ما تطلب منهم عمله ويحصل لك‪ ،‬بالتالي‪ ،‬مع الجميع سوء‬ ‫الفهم ويتعذر التفاهم مع العلم أن هذه الصعوبة في التعامل ال تحدث‬ ‫هكذا مع سواك»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫معين ّ‬ ‫رفيقا من جماعة املنظرين بعمل ّ‬ ‫محدد أفاض‬ ‫كلف الزعيم‬ ‫الزعيم بشرحه له الشرح الواضح الوافي‪ .‬وفي اليوم التالي عاد الرفيق املذكور‬ ‫يحمل إلى الزعيم خالصة ما أنجزه من املهمة املوكلة إليه‪ .‬وما أن بادر إلى‬ ‫ً‬ ‫اطالعه على ما أجراه من تنفيذ حيال مهمته حتى قاطعه الزعيم مستغربا‬ ‫تحول املوضوع في ذهنك إلى موضوع غريب ال ّ‬ ‫يمت ّ‬ ‫بقوله «كيف ّ‬ ‫بأية صلة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إلى ما كلفت القيام به؟ ماذا فعلت؟ وهل تذكر جيدا ما كلفت به من عمل؟‬ ‫وما عالقة كالمك عما قمت به وما أنجزت باملهمة التي عهدت إليك»‪ .‬فسارع‬ ‫ً‬ ‫الرفيق إلى إيضاح ما حدث له مستهال كالمه‪ :‬يا حضرة الزعيم‪ .‬أنا فكرت أن‬ ‫‪222‬‬


‫أعمل كذا هو أفضل‪ ..‬غير أن الزعيم أوقفه في الحال عن متابعة كالمه‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ويشوهه‪ .‬أنا‬ ‫مؤكدا له قوله‪« :‬أنا لم أكلفك بالتفكير الذي يعطل العمل‬ ‫كلفتك فقط بالتنفيذ الفهيم ليتم العمل بنجاح دون أي ش يء آخر»‪ .‬ولم‬ ‫يترك له املجال لتقديم التبريرات وإبداء ألاعذار التي أودت به إلى إفشال‬ ‫املهمة التي أنيط به تحمل مسؤوليتها‪.‬‬ ‫الفاشلون اثنان‪ ،‬واحد يعمل وال يفكر وواحد يفكر وال يعمل‪ .‬وكالهما‬ ‫فريسة ّ‬ ‫توهمه أنه ناجح ومؤهل للفكر والعمل‪ .‬والاثنان نمط طريف من‬ ‫مركبات النزعة الفردية ومشتقاتها‪ .‬هذه النزعة التي تشكل أشد ألاخطار على‬ ‫صاحبها وعلى آلاخرين وخاصة املتعاملين معه‪ .‬ذوو النزعة الفردية هم طالبو‬ ‫املوت وهم بفرديتهم صائرو ن إلى السقوط على جانب الطريق‪ ،‬تساقط‬ ‫أوراق الخريف في غمرة ألانواء والرياح أو تساقط ألاغصان العاتية بقوة‬ ‫ّ‬ ‫وطالبو الحياة‪.‬‬ ‫القصف العاصف ولن يثبت في طريق الحياة سوى ألاحياء‬ ‫أبناء الحياة الواثقون بأنفسهم غير املغرورين الواعون للحقيقة غير‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتوهمين‪ ،‬والعاملون للحق والخير والجمال غير املتوانين وال‬ ‫املضللين‬ ‫املتواكلين‪.‬‬

‫‪222‬‬


‫لنقبض على ناص ـ ـ ـ ـ ـية ألام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـور في الوق ـ ـ ـ ـ ـت‬ ‫الـمناسب دون أن ندعها تفلت من قبض ـ ـتنا‬ ‫سعاده‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املرضية التي تتفش ى في حاالت التخلف وامليوعة‪،‬‬ ‫من أبرز الظاهرات‬ ‫ّ‬ ‫تتحكم بسلوك الناس ّ‬ ‫وتبدد من بين أيديهم فرص إلانتاج والنجاح كما‬ ‫ّ‬ ‫تؤدي بهم إلى الضياع هذه الظاهرة الشائعة بين أبناء شعبنا هي ّ‬ ‫تعود‬ ‫ّ‬ ‫بتحمل املسؤوليات وإنجاز املهمات حتى الضرورية‬ ‫املماطلة والتسويف‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وامللحة‪ .‬كثيرا ما نفوت علينا الفرص السانحة واملناسبات املالئمة إلتمام‬ ‫ألاعمال في حينها مع ّأن النجاح في الحياة يقض ي بوضع ألامر في نصابه‬ ‫بالوقت املناسب‪.‬‬ ‫أما إذا انقض ى الوقت املناسب للعمل وأصابتنا الخسائر املوجعة؛‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫فأننا نمأل الدنيا صياحا بالندم على ما فات ونشغل أذهان الناس بالتشكي‬ ‫تمر ألايام ّ‬ ‫من سوء الحظ ومعاكسة ألاقدار‪ .‬قد ّ‬ ‫وربما ألاشهر والسنون‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتذمر من جميع الناس ومن‬ ‫ونحن في غمرة التنظير تائهون‪ ،‬نمتهن التأفف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل ألاعمال وألاشياء‪ .‬ونتقن التملص البارع من مواجهة الحقيقة والواقع‬ ‫‪224‬‬


‫ّ‬ ‫دون أن نكل ف عقلنا عناء التفتيش عن ألاسباب املوضوعية ملا يصيبنا من‬ ‫ّ‬ ‫فشل وإخفاق أو نحلل العوامل الفعلية التي تودي بنا إلى حيث التبعثر‬ ‫ّ‬ ‫والتقهقر عن ركب ألامم والشعوب الناهضة‪ .‬وكلما ضاق وقت أحدنا‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫للتحدث عن‬ ‫وتراكمت عليه املشاغل واملهمات كلما وجد متسعا من الوقت‬ ‫ً‬ ‫استجداء إلعجاب الناس بقدرته‬ ‫ضيق وقته‪ ،‬بمناسبة وبدون ّأية مناسبة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ونشاطه الخارق‪ .‬ما أكثر املتملقين وأبرعهم في ممارسة الرياء وإتقان التمويه‬ ‫والخداع‪ .‬أنهم أبعد الناس عن قول الحق وإعالن الحقيقة الصادقة ّ‬ ‫البناءة‪.‬‬ ‫إذا خطر ألحد ّ‬ ‫املتهربين من مواجهة مسؤوليات مصيرهم أن ينفض‬ ‫ً‬ ‫عنه وزر القعود والخمول وينتفض على عجزه فأنه يلوذ بالندامة معلنا‬ ‫ّ ً‬ ‫جددا وعوده بمضاعفة الاجتهاد واليقظة أو أنه‬ ‫التوبة والتكفير عن إهماله م‬ ‫يلجأ بسهولة عفوية إلى صياغة ألاعذار وتنميق الذرائع الواهية التي ال ّ‬ ‫تقل‬ ‫ّ‬ ‫فضيحة عن عار إلاهمال بعينه وعن نقيصة التهاون والتلكؤ الشائن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كلف الزعيم أحد املسؤولين بعمل معين شارحا له مقدار أهميته‬ ‫وضرورة الاعتناء بحسن إعداده وإنجازه بإتقان‪ ،‬لكن الزعيم لم يشأ أن‬ ‫ً‬ ‫يعين لهذا املسؤول موعدا لالنتهاء من العمل ولم يش ْر كذلك إلى املدى‬ ‫الزمني الذي يستغرق إتمامه ّ‬ ‫الجيد‪ ،‬بل ترك مسألة املوعد واملدة الالزمين‬ ‫للعمل املطلوب إلى تقدير املسؤول نفسه الذي أبدى أمام الزعيم ّ‬ ‫كل ّ‬ ‫تفهم‬ ‫ملاهية املهمة التي أسندت إليه كما أكد استعداده للقيام التام ملبادرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الاهتمام بها سريعا وجديا‪.‬‬ ‫اح الزعيم من وقت آلخر ّ‬ ‫يتفقد ما قام به املسؤول ّ‬ ‫مما أوكل إليه‬ ‫ر‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫القيام به مصرا على أهميته وخطورة النتائج املترتبة عليه وكان يتلقى‬ ‫البيانات املطولة اململوءة باألعذار التي تفرض عليه تأجيل البدء بالعمل‪ .‬إلى‬ ‫أن فاجأه الزعيم ذات يوم بقوله أن ال لزوم للعمل املذكور بعد ذلك الحين‬

‫‪225‬‬


‫ً‬ ‫ألنه قد تم إنجازه نهائيا وبكامل العناية وإلاتقان من قبل مسؤول آخر كلفه‬ ‫الزعيم القيام به بعد أسبوع من موعد تكليفه هو به‪ .‬فلم تعد إذن من‬ ‫حاجة ليشغل اهتمامه به بعد تماديه بإهماله الال نظامي الذي ال يليق‬ ‫بالقومي الاجتماعي‪ ،‬ثم ّ‬ ‫توجه إليه الزعيم بحضور عدد من الرفقاء بينهم‬ ‫املسؤول الذي لبى الواجب القومي الاجتماعي الذي ألقاه على عاتقه خير‬ ‫ّ‬ ‫واملبررات لتغطية إهماله‬ ‫تلبية نظامية دون أن يلجأ إلى حشد أكوام ألاعذار‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫الفاضح كي يلقنه درسا بليغا ال ينساه وال يستغني عنه القومي في أي مجال‬ ‫من الحياة العملية‪:‬‬ ‫«ليس فقط ال ينجح أمر تكثر فيه ألاقوال ّ‬ ‫وتقل ألاعمال‪ ،‬إنما يقتض ي‬ ‫مبادرة العمل بحزم واضح حاسم وحضور عقلي نفس ي ّ‬ ‫تام الوعي والتصميم‬ ‫وفي الوقت املناسب كمن يقبض على مقود السيارة يوجهها ساعة يشاء وإلى‬ ‫ّ‬ ‫أتم حاالت الهدوء ّ‬ ‫حيث يريد وهو في ّ‬ ‫والاتزان املادي املعنوي‪ .‬كلما يتساهل‬ ‫املرء مع نفسه باغتنام الفرصة ألانسب ملباشرة العمل املطلوب ّ‬ ‫تعرض‬ ‫إلضاعة فرصة اللحاق بالعمل إلى ألابد أما إذا أتيح له استدراك بقية‬ ‫يتلقط بالعمل وهو ّ‬ ‫الفرصة العابرة فقد ّ‬ ‫متوتر ألاعصاب منهك القوى‬ ‫ّ‬ ‫وألانفاس مشتت املدارك و الطاقات ال يسعه السيطرة ال على أعصابه‬ ‫ّ‬ ‫التصرف املجدي بمسؤوليته يخضعها إلى‬ ‫املضطربة وال امتالك قدرة‬ ‫ّ ً‬ ‫مشيئته وإلى متطلبات مقاصده وأهدافه متمتعا بعميق الثقة بالنفس‬ ‫وصفاء الوعي لكل أبعاد الحقيقة»‪ ،‬وقد أفاض الزعيم في تحذيرنا من أن‬ ‫نكون من صنف تالمذة النعامة الساذجين فنقتدي بفلسفتها الكبرى أو‬ ‫الصغرى على حد سواء‪.‬‬ ‫فلسفة النعامة الكبرى تجعلها تدعي دوما أنها تجمع في شخصيتها‬ ‫ّ‬ ‫الفذة خصائص فريق الجمال وخصائص الطيور باآلن ذاته‪ .‬لقد قيل لها‬ ‫مرة أن تطير أسوة بأبناء فصيلتها فقالت إنني كالجمال قادرة على حمل‬ ‫‪221‬‬


‫ألاثقال فحسب‪ .‬أما عندما طلب منه ا أن تقوم بأحمال الجمال فأجابت إنها‬ ‫قادرة على ممارسة الطيران مثل باقي الطيور زمالئها‪ .‬لكنها لم تطر وهي من‬ ‫جملة الطيور ولم تحم ل ألاثقال وهي من جماعة الجمال‪ .‬إنها جاهزة‬ ‫لالعتذار عن تلبية أي عمل يعهد به إليها مهما كان نوعه وشأنه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫دائما من القيام بأي عمل ّ‬ ‫بشتى‬ ‫النعامة ّتدعي عمل كل ش يء وتتملص‬ ‫الحجج الواهية واملبررات ّ‬ ‫امللفقة الباطلة‪.‬‬ ‫فلسفة النعامة الصغرى تبيح لها أن ّ‬ ‫تزج رأسها في الرمال حين يقترب‬ ‫ً‬ ‫منها الصياد محاوال اقتناصها حتى ال يتمكن هو من رؤيتها وال ينالها بأدنى‬ ‫أذى‪ .‬هكذا ّ‬ ‫تتوهم أنها ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالتهرب من مواجهة مخاطر الواقع‬ ‫تؤمن سالمتها‬ ‫مستسلمة إلى ّ‬ ‫تصورات العماوة وطمأنينة الغباوة الال مسؤولة بينما تمعن‬ ‫في قلب الحقائق وتشويه املفاهيم واملعطيات الحقيقية وتفسد على نفسها‬ ‫كل سبيل إلى التحقيق والتقدم وكل مجال للنجاة من منزلقات أوهامها‪.‬‬ ‫ليس لنا من ينقذنا من شرور الفلسفات النعامية سوى إلاقبال على‬ ‫العمل بأخالق ّ‬ ‫وتفهم ونشاط رزين‪ ،‬فنأمن الوقوع فريسة إلاخفاق والفشل‬ ‫ّ‬ ‫محجة النجاح والانتصار على جميع ّ‬ ‫الترهات وألاباطيل‪ .‬ألن الفاشل‬ ‫ونبلغ‬ ‫بالرغم من حمأة نشاطه املحموم هو أحد اثنين‪ :‬من يعمل وال يفكر‪ ،‬ومن‬ ‫يفكر وال يعمل‪ ،‬لكن ال سبيل إلى إحراز خير املطالب ونبل املقاصد سوى‬ ‫مدرحية العمل املفكر والفكر العامل للحق والخير والجمال‪.‬‬

‫‪229‬‬


‫مهما بل ـ ـ ـ ـغت النصـ ـ ـ ـوص من بالغة التعـ ـ ـ ـبير‬ ‫فالنفوس وحدها تظل ضم ـ ـ ـ ـانة كل تش ـ ـ ـريع‬

‫ال تستطيع الدساتير والقوانين قاطبة أن تحيط بجميع الاحتماالت أو‬ ‫ّ‬ ‫تتحسب لكل الطوارئ واملفاجآت املمكنة‪ .‬فليس لإلنسان قوة النبوءة أو‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫قدرة الاستشراف الال محدودة لكل التوقعات املجهولة‪ .‬إنما ّ‬ ‫هم إلانسان هو‬ ‫أن َّ‬ ‫يلم بماهية الوقائع ويحيط بأهم عواملها وأسبابها ألاساسية‪ .‬كي تتاح له‬ ‫ّ‬ ‫يستمد ّ‬ ‫قوته ويكتسب‬ ‫إلاطاللة على أبعادها املرتقبة من ضمن املعقول الذي‬ ‫مناعته من خالل سابقات ألاحداث املتقاربة‪ ،‬وما تقدمه له التجارب من‬ ‫جديد املعطيات الجيدة فاألحداث تترابط وتتالحق في سلسلة حلقات‬ ‫ً‬ ‫متكاملة ومتماسكة لتغدو النتائج السالفة بدورها أسبابا جديدة لوقائع‬ ‫تالية‪ .‬ليس من انفصام كلي أو انقطاع تام بين منطق املبادئ ومرامي‬ ‫ألاهداف‪ ،‬إذ ال مبادئ بدون أهداف تتجه إليها وال أهداف شاردة ال تعدها‬ ‫مبادئ أساسية‪ .‬غير أن ضمانة كل فالح ّ‬ ‫وتقدم هي النفوس الكريمة التي ال‬

‫‪228‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تكف عن العطاء والوالء ملطلب أعلى‪ .‬نفوس تفيض محبة ونبال وتغدق أبوة‬ ‫ّ‬ ‫وأمومة صافية صادقة‪ .‬تعلم بقدوة الفضيلة والعطاء‪.‬‬ ‫إن الشارع صاحب الدعوة إلى القومية السورية هو الزعيم وهو القائد‬ ‫ألاعلى لقوات الحزب ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية‪ .‬الزعيم مطلق‬ ‫الصالحيات واملسؤوليات تجاه الحزب‪ .‬ال ّ‬ ‫تقيده إال التشريعات وإلادارة‬ ‫الدستورية التي وضعها هو وأصبحت ّ‬ ‫تكون قضية الحزب السوري القومي‬ ‫ّ‬ ‫وكل منطلقاته وأغراضه‪ .‬أين إذن الضمانات القانونية‬ ‫الاجتماعي‬ ‫والتشريعات الحقوقية الكفيلة بضبط سلوك الزعيم ووقاية الحزب من أي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تصرفات‬ ‫نتحمل أوزاره وتدفع ألامة عواقبه من جراء‬ ‫حيف أو ويل قد‬ ‫الزعيم‪ .‬وهو واضع كل أسس النهضة؟ أقسمنا جميعنا على تأييد الزعيم‬ ‫وسلطته الال محدودة إال بالقيود التي أراد الزعيم هو نفسه أن يلتزم بها تجاه‬ ‫صفوف الحزب وألامة بأسرها‪ .‬كم يبدو ألامر شديد الغرابة والخطورة من‬ ‫ّ‬ ‫وجوه عديدة‪ .‬خاصة في مرحلة من حياة ألامة‪ ،‬يتدنى فيها الوعي إلى درك‬ ‫فقدان هويتها وانعدام الثقة بنفسها وبمعنى وجودها! هل تكون العالقة‬ ‫إلانس انية بين الناس وليدة متانة النصوص القانونية وديباجة الشرائع؟ هل‬ ‫نبغي من التعاليم والوصايا معجزة تضبط جنوح النفوس الشاردة‪ ،‬وتصون‬ ‫ألاخالق واملناقب من أي خلل يصيبها أو اختالل يؤدي باإلنسان إلى الفساد‬ ‫والانحالل‪.‬‬ ‫قد يوفق الشرطي بعض الوقت بإيقاف املرتكب عن التمادي بإجرامه‬ ‫تحت وطأة العقاب وسطوة السوط‪ .‬لكن جميع قوى ألامن وقوى القمع‬ ‫والردع في العالم ترى نفسها عاجزة عن تقويم روحية إلاجرام ومعالجة‬ ‫مصادر الشرور واملفاسد لدى إلانسان‪ .‬ولو ق ّدر لهذه القوى أن ت َّزود بجميع‬ ‫وسائل املطاردة والتنكيل وإلارهاب‪« .‬تدرك النفوس القوية الحق وتدرك‬ ‫النفوس الضعيفة الباطل»‪.‬‬ ‫‪227‬‬


‫ّ‬ ‫املخصصة لتدارس وضع الحزب‬ ‫● في إحدى جلسات مجلس العمد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫املالي‪ ،‬طلب الزعيم بيانا تفصيليا عن مقدار التعويضات التي يتقاضاها‬ ‫املتفرغون للعمل الحزبي‪ ،‬وعن كيفية تأمينها وتسديدها ّإبان ما يعصف‬ ‫بالحزب من أزمة مالية‪ّ .‬‬ ‫فتبين لدى تفنيد أرقام التعويضات وما كان قد‬ ‫س ّد د من كل منها حتى ذلك الحين أن بعضهم لم يتقاض من تعويضه‬ ‫الشهري نسبة ضئيلة بينما س ّدد آلخرين مبالغ تزيد على تلك النسبة دون‬ ‫ّ‬ ‫مبر ر إال إلحاح صاحب حق على املطالبة بتعويضه‪ .‬عندها وضع الزعيم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أساسا واضحا لتسديد ما يمكن من التعويضات املتوفرة قيمتها في صندوق‬ ‫ّ‬ ‫تعذر تسديدها كاملة في موعد ّ‬ ‫لضيق في املوارد‬ ‫محدد بالنظر‬ ‫الحزب إذا‬ ‫ٍّ‬ ‫املالية‪ .‬يقوم أساس التسديد على تحديد موعد أو أكثر يوزع فيه التعويض‬ ‫ً‬ ‫أو بعضه على الرفقاء بنسبة واحدة فال ينال أحدهم نصف تعويضه مثال‬ ‫لينال آلاخر ربع ما يخ ّ‬ ‫ص ه أو يتقاض ى تعويضه بكامله‪ .‬وال يجوز منح‬ ‫السلفات ألحد إال بإذن خاص يستند إلى ألاسباب املوجبة والاضطرارات‬ ‫الاستثنائية وبموافقة الزعيم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وقد أضاف الزعيم موضحا منطلق هذه ألاسس في التعامل املالي‪ :‬كما‬ ‫أن جهودنا تتضافر لتأمين متطلبات القضية بكل أمانة ودقة‪ .‬فأننا ننال‬ ‫ّ‬ ‫حقنا بمنتهى إلانصاف والعدالة‪ .‬ما دمنا متضامنين في مواجهة املصير‬ ‫الواحد فإننا نتحمل املصاعب وألازمات بروحية واحدة إزاء وحدة حياة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ووحدة مصير‪ .‬إننا نسير معا‪ .‬نعمل معا‪ ،‬نعاني آالمنا وصعوباتنا معا‪ ،‬نسقط‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫معا وننتصر معا دون تمايز وال تهرب وال محاباة‪ .‬هكذا يجب أن نتعاون‬ ‫ونتعامل إلقامة إلاخاء القومي الاجتماعي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫● كان مسكني يوم كنت عميدا للداخلية‪ ،‬على مقربة من منزل الزعيم‬ ‫في رأس بيروت‪ .‬وكان ّ‬ ‫علي أن ألتقي به كل صباح ألضع أمامه حصيلة اليوم‬

‫‪241‬‬


‫بعدئذ إلى تنفيذ ما يعهد به ّ‬ ‫إلي‬ ‫السابق وبرنامج اليوم الراهن‪ .‬ثم أنصرف‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫مزودا بالتوجيهات والتعليمات الضرورية ملسيرة ألاعمال ونموها السليم‪.‬‬ ‫ذات صباح حضرت كالعادة إلى مكتب الزعيم في منزله وأنا مضطرب‬ ‫ألاعصاب مكفهر املالمح ّ‬ ‫مشوش التصرفات‪ .‬ألقي التحية على حضرة الزعيم‪.‬‬ ‫وحالتي تشير إلى ما كنت أعانيه من ألم عميق وأكابده من أزمة شديدة‬ ‫الوقع‪ ،‬عميقة التأثير في مزاجي املعروف باملرح على العموم‪ .‬خاصة عندما‬ ‫ً‬ ‫أكون مع الزعيم‪ .‬فسمح لي بالجلوس ثم بادرني بعباراته‪ :‬أنت لست حاضرا‬ ‫ّ‬ ‫هنا‪ ،‬يا أمين إلياس؛ أنت مأخوذ إلى مشكلة تشتت وجودك‪ .‬فال ّبد من‬ ‫معرفتها ومعالجتها كما يلزم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يشتد بي‪ .‬إلى أن استجمعت‬ ‫وج ْمت فترة أمامه ال أنبس بكلمة والقلق‬ ‫عزيمتي وحاولت إلافصاح عما ينتابني بش يء من هدوء ألاعصاب‪ .‬حين‬ ‫سمعته ّ‬ ‫يردد بحنو ألابوة وحزمها املهيب‪ :‬القومي يصارح زعيمه بكل ش يء وال‬ ‫ً‬ ‫يخفي عنه أمرا من أي نوع‪ .‬هات ما لديك‪ .‬إني أريد معرفة كل تفصيل‬ ‫والوقوف على كل شاردة أوصلتك إلى هذه الحالة غير الطبيعية‪.‬‬ ‫ حضرة الزعيم‪ ،‬أتت شقيقتي من طرطوس لزيارتي منذ ثالثة أيام وهي‬‫ّ‬ ‫طيلة الوقت طريحة الفراش‪ ،‬تحت وطأة حرارة شديدة كاوية‪ .‬يتولى السهر‬ ‫عليها أهل البيت الذي أسكن بجوارهم‪ .‬استدعيت لها الطبيب‪ .‬وقد أعطاني‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تتعرض إلى‬ ‫«رشاتة» العالج الالزم الذي يقتضيها تناوله سريعا‪ .‬وإال‬ ‫مضاعفات مؤذية خبيثة‪ .‬لقد مض ى يومان دون أن يتوفر ّ‬ ‫لدي ثمن العالج‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وغدا سأضطر ملغادرتها في جولة مقررة سابقا‪ .‬هذا ما يقلقني في الصميم‬ ‫ويحرجني‪ .‬الجولة ضرورية‪ ،‬العالج إلزامي وشقيقتي مريضة يعتني بها الجيران‬ ‫ً‬ ‫وال أرى كيفية الخروج من املأزق‪ .‬قد يكون املرض حتى آلان بسيطا لكن‬ ‫شفاءه بحاجة إلى العالج السريع وقبل تفاقم الحالة ّ‬ ‫وتعقدها‪.‬‬

‫‪241‬‬


‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحاد حتى ملست في مالمحه‬ ‫ما كاد الزعيم يطلع على قصة اضطرابي‬ ‫شبح ألازمة التي كانت ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتشل قدرتي على التحرك والتنفس‬ ‫تشد بخناقي‬ ‫الطبيعي‪ .‬لكنه لم يقل لي كلمة واحدة ولم يستوضح عن مدى محاوالتي‬ ‫لتدبير ثمن العالج بل اعتصم بالصمت لتنوب نظراته الحانية باإلفصاح عن‬ ‫مكنونات نفسه وعن عميق مشاعره املتأملة‪.‬‬ ‫ثم انتقلنا بصورة طبيعية إلى معالجة املواضيع الحزبية التي أتيت‬ ‫ملقابلته بشأنها‪ .‬تلك ألاثناء دخلت حضرة ألامينة ألاولى علينا إلى مكتب‬ ‫ْ‬ ‫اقتربت من الزعيم‬ ‫الزعيم وهي ترتدي لباس الزيارة‪ .‬وبعد تبادل التحية معها‬ ‫لتهمس في أذنه كلمات سمعت منها «إني ذاهبة إلى السوق مع الرفيق‪ ..‬لشراء‬ ‫بعض الحاجيات فهل بإمكاني أن أحصل على ش يء من املال‪ »..‬أجابها الزعيم‬ ‫ً‬ ‫بمثل صوتها الهامس «يمكنك إرجاء هذا ألامر اليوم‪ .‬أنا أحتاج منك مقدارا‬ ‫من املال وبعدها نتدبر مسألة الحاجيات للبيت»‪ .‬ناولته ألامينة قطعة‬ ‫ورقية‪ .‬أضاف إليها من جيبه قطعة أخرى‪ .‬ووضع الكل في غالف ثم طواه في‬ ‫ً‬ ‫قبضته‪ .‬وحين انتهى الحديث الحزبي وقبل انصرافي ناولني الزعيم مغلفا شبه‬ ‫مغلق‪ .‬وقال «عليك آلان قبل كل ش يء أن ّ‬ ‫تتوجه إلى صيدلية قريبة في آخر‬ ‫بعدئذ تذهب بأمان في جولتك‪.‬‬ ‫الشارع وتشتري العالج املطلوب لشقيقتك‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫سنؤمن أثناء غيابك العناية بها لتعود أنت ساملا وتلقاها معافاة»‪.‬‬ ‫ونحن‬ ‫وترددت في تناول الغالف الذي ّ‬ ‫واجهت كلمات الزعيم بارتباك ّ‬ ‫يقدمه‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫إلي‪ .‬لكنه أكد إصراره بضرورة تسلمي املغلف وإلاسراع إلى تنفيذ ألامر بقوله‪:‬‬ ‫« الزعيم يطلب منك شراء ما يلزم للرفيقة شقيقتك من عالج‪ .‬ثم يمكنك‬ ‫ّ‬ ‫يصح هذا ألامر أم ماذا تفعل؟»‪ .‬قبلت‬ ‫التوجه للجولة الحزبية املقررة‪ .‬هل‬ ‫ّ‬ ‫ألامر‪ .‬تقبلت ّ‬ ‫حنو ألاب‪ .‬تعلمت بالقدوة كيف نحن وحدة حياة ووحدة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والضراء‪ .‬انصرفت وأنا معافى‬ ‫السراء‬ ‫مصير‪ ،‬كيف نتعاون معا ونتماسك في‬

‫‪242‬‬


‫من أوصاب قلقي أحمل إلى شقيقتي بشرى الشفاء العاجل بعالج أراده لها‬ ‫سعاده‪ .‬كما أراد لألمة السورية السالمة والكرامة‪.‬‬ ‫هكذا عرفت الزعيم قائد العقلية ألاخالقية الجديدة بقدوة الحنو‬ ‫والسمو‪ .‬كما هو مصدر التجسيد ملناقب الحق والخير والجمال‪ .‬وهكذا تعطي‬ ‫النصوص والصالحيات أبعد معانيها وأروع مدلوالتها القومية الاجتماعية‪.‬‬

‫‪242‬‬


‫ال يمكن إق ـ ـ ـ ـ ـامة بن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـاية من حجـ ـ ـ ـ ـارات هي‬ ‫في عالم الخيال والـمطلق‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتوزع آلاراء وتتضارب وجهات النظر في شتى املواضيع مع توفر حسن‬ ‫النية وصدق املسعى للتوصل إلى الحقيقة‪ .‬قد يبلغ تشابك آلاراء حد‬ ‫ً‬ ‫التعارض والتناقض املشدود‪ ،‬لكنه يعود أخيرا إلى عاملين أساسيين قد‬ ‫تتفرغ عنهما عوامل ثانوية أخرى‪.‬‬ ‫َّأول هذين العاملين هو إلاغراق في تأكيد النظر إلى زاوية واحدة من‬ ‫ّ ّ‬ ‫املوضوع املطروق بدون الالتفات إلى سائر الزوايا التي تشكل كلها وحدة‬ ‫أهم ّ‬ ‫عناصر املوضوع‪ .‬أو ّ‬ ‫مقوماته‪ .‬إن التمادي في إلاصرار ّ‬ ‫تكون ّ‬ ‫الضيق على‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل زاوية مفردة على حدة‪ ،‬كأنها املوضوع بكليته الشاملة‪ .‬يجعل التالقي في‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫متعذرا‪ .‬كما يعطل الانطالق في ّ‬ ‫تفهم املوضوع من‬ ‫بحث أضالع املوضوع‬ ‫خالل مجمل نقاطه ومجموع جوانبه‪ .‬فيتحول تضارب آلاراء إلى إضاعة‬ ‫معالم املوضوع وخصائصه‪ ،‬وإلى تمزيق ّ‬ ‫لكل محاوالت التحليل له والخروج‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫بأية نتيجة صحيحة من ّ‬ ‫ن‬ ‫جراء البحث‪ .‬فيعجز الباحثو عن متابعة الحوار‬ ‫ً‬ ‫املجدي ألن الدوران في الجزئيات املبعثرة لوحدة املوضوع‪ ،‬فضال عن ضياع‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املوضوع عينه! يشتت بالتالي معنى كل بحث ويشتت أغراضه الفكرية‬ ‫إلانسانية‪.‬‬ ‫‪244‬‬


‫هكذا تقض ي النظرة الجزئية إلى الواقع والحياة على فحوى ّ‬ ‫كل حوار‬ ‫وإمكان ُّ‬ ‫توصله إلى تقرير أي أمر وإقرار أي فكر في أي شأن من شؤون‬ ‫املجتمع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫والعامل الثاني املؤدي أيضا إلى تعثر البحث وتبعثر آلاراء وألافكار‬ ‫ّ‬ ‫املفروض ارتباطها بصميم املوضوع‪ ،‬هذا العامل هو توزع الفكر وتنازع آلاراء‬ ‫بين ما هو كائن‪ ،‬أي املوضوع املطلوب تحليله واتخاذ املوقف املدروس منه‪،‬‬ ‫وبين ما هو مفترض الوقوع‪ .‬وما يزال في عالم الرؤية الذهنية ضمن‬ ‫احتماالت تنظيرية تتيه في العموميات واملطلقات دون أي معطى معين‪.‬‬ ‫«والتعيين هو شرط الوضوح»‪ ،‬عامل ّ‬ ‫يتميز بالحيرة بين الانفالت في معالجة‬ ‫املطلقات غير الواضحة التي تشرد في إلابهام الذي هو أقرب إلى الالش يء ألنه‬ ‫ّ‬ ‫التقيد املوضوعي في ما هو راهن في عالم الواقع والحقيقة‬ ‫كل ش يء‪ ،‬وبين‬ ‫املعطاة أمام العقل والوجدان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫املختص مثال في تشريح ألاجسام والوقوف على مواصفاتها وما‬ ‫فالعالم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫هي عليه من خصائص وميزات‪ ،‬هذا العالم يقدم دراساته جاهزة مصنفة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫لتكون عونا للطبيب في معالجة مرضاه والعمل على إنقاذهم من أدوائهم‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتسن ى له تقديم الشفاء‬ ‫املشرح كي‬ ‫وآالمهم‪ .‬فالطبيب ال يستغني عن علم‬ ‫ملريضه‪ .‬غير أن عالم التشريح‪ .‬وإن ّ‬ ‫مد الطبيب بعلومه ومعلوماته فال يسعه‬ ‫أن ينوب عن الطبيب في عيادته ومستشفاه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بقدر ما تشمل رؤيا املرء مجموع ألاجزاء التي ّ‬ ‫معينا ّ‬ ‫يلم‬ ‫تكون موضوعا‬ ‫بما بينها من صالت وفواصل‪ .‬وبقدر ما يقوى هذا املرء على تعميق نظره إلى‬ ‫ّ‬ ‫ومتفرعاته وروافده العملية يمتنع عن الاستطراد بالتنظير‬ ‫الواقع الراهن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫سعيا وراء سراب املفترض‪ ،‬أي بقدر ما يمعن النظر إلى ألامر الراهن منطلقا‬ ‫من نظرة كلية شاملة إلى الحياة‪ ،‬والكون والوجود يرفض الانفالش في ضباب‬

‫‪245‬‬


‫ّ‬ ‫املستمدة جذورها‬ ‫التنظير على حساب الواقع‪ .‬بهذا املقدار من الواقعية‬ ‫ّ‬ ‫الكلية الشاملة سائر ألاجزاء وألاعراض ّ‬ ‫ّ‬ ‫املعبرة‪ ،‬أجل بهذا املقدار‬ ‫وقوتها من‬ ‫من وعي الحقيقة يستطيع إلانسان أن يدرك حقيقة الوجود إدراكه لوجوده‬ ‫الحقيقي‪ .‬وأن يتوصل‪ ،‬بالجهد والجهاد في الوقت الالزم لنجاح كل عمل‪ ،‬إلى‬ ‫ّ‬ ‫التقدم والانتصار على جميع الصعوبات‬ ‫بلوغ الغرض املنشود‪ .‬هو غرض‬ ‫ً‬ ‫صعودا إلى أهداف واضحة ّ‬ ‫معينة ال ريب فيها وال لبس في صحتها‪.‬‬ ‫واملعيقات‬ ‫حدثت‪ ،‬ذات مرة‪ ،‬ضرورة حزبية إلعادة تنظيم ّ‬ ‫منفذية قضاء عاليه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فدعوت‪ ،‬بوصفي عميدا للداخلية‪ ،‬عددا من الرفقاء تم اختيارهم من خيرة‬ ‫ً‬ ‫معا وإعطاء املشورة في وضع ّ‬ ‫القوميين الاجتماعيين هناك للتداول‬ ‫املنفذية‪.‬‬ ‫التوصل إلى إعادة تنظيمها على أفضل وجه ضرور ّي ّ‬ ‫ّ‬ ‫لتقدمها‪ .‬عرضت‬ ‫ثم‬ ‫موضوع الاجتماع املطلوب بحثه‪ ،‬بغية التوافق إلى إمكان تشكيل هيئة‬ ‫ّ‬ ‫ملنفذية قضاء عاليه‪ ،‬تلك املرحلة‪ .‬فراح معظم الرفقاء الحضور يسترسل في‬ ‫كل من أعضاء ّ‬ ‫بحث مواصفات ّ‬ ‫املنفذية لينتهي إلى الاعتذار بعدم قدرته على‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ً ً‬ ‫ّ‬ ‫تحمل ّأية مسؤولية في الهيئة وإلى القول أيضا أنه ال يرى أحدا أهال لتحمل‬ ‫ّ‬ ‫السوي ة بكل صدق وكل إيجابية قومية‬ ‫مسؤوليات العمل على هذه‬ ‫اجتماعية‪ .‬وقد خلصنا‪ ،‬بما يشبه إلاجماع‪ ،‬إلى عدم إمكان تشكيل هيئة‬ ‫ّ‬ ‫ملنفذية قضاء عاليه ال من الرفقاء املجتمعين وال من رفقاء آخرين‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وكاد إلافالس والتعجيز ّ‬ ‫يلفان ّ‬ ‫جو الاجتماع مع ما تجلى فيه من صراحة‬ ‫الرأي وصفاء الروحية‪.‬‬ ‫فأعلنت للحضور‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬أنه على هذا ألاساس من التنظير في‬ ‫ً‬ ‫العموميات واملطلقات فلن نجد في الحزب من هو أهل ألن يكون عضوا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قوميا اجتماعيا سوى الزعيم نفسه‪ ،‬إذا جاز الاستثناء‪ .‬لكننا بالرغم من هذا‬ ‫ملنفذية قضاء عاليه من رفقاء تابعين لهذه ّ‬ ‫سنشكل هيئة ّ‬ ‫املنفذية‪ .‬وليس‬

‫‪241‬‬


‫من أعضاء ّ‬ ‫ملنفذية أخرى أو أعضاء من مناطق عبر الحدود‪ .‬وبالطبع سوف‬ ‫ال نستورد مسؤولين ال من أحزاب أخرى وال من ّأمة خارج ألامة السورية‪.‬‬ ‫فما علينا بهذه املناسبة إال أن نتذكر قول الزعيم الوارد في املحاضرة‬ ‫ً‬ ‫السادسة‪« :‬إذا افترضنا أي مطلق افتراضا‪ ،‬وابتدأنا نحوم حول فهم هذا‬ ‫ً‬ ‫املطلق ومعرفته‪ ،‬فإننا قد ّ‬ ‫عي ّنا مبهما للخروج من جدل لم نصل فيه إلى‬ ‫ً‬ ‫فكل ال وضوح ال يمكن أن يكون أساسا إليمان صحيح‪ّ ،‬‬ ‫الحقيقة‪ّ .‬‬ ‫وكل ال‬ ‫وضوح ال يمكن أن يكون قاعدة ّ‬ ‫ألية حقيقة» ‪ ،‬ثم أضاف عميد الداخلية قد‬ ‫نكون بحاجة إلى توسيع دعوتنا هذه لتشمل رفقاء آخرين‪ .‬نتداول وإياهم‬ ‫لكننا أخيرًا‪ .‬ال ّبد من تشكيل هيئة ّ‬ ‫باألمر‪ّ .‬‬ ‫ملنفذية قضاء عاليه من نخبة‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫املؤهلين ليس باإلمكان مطلقا إقامة بناية في الواقع‬ ‫أعضائها العاملين‬ ‫والحقيقة من حجارات ومواد بناء هي في عالم الفرض الغائب وفي ّ‬ ‫حيز‬ ‫ّ‬ ‫ألاماني ّ‬ ‫الطوية‪.‬‬ ‫والنيات‪ .‬مهما بلغت تلك النوايا من روعة املناقب وحسن‬ ‫ينفض هذا الاجتماع قبل إيجاد رفقاء ّ‬ ‫ّ‬ ‫مؤهلين لتسلم جميع‬ ‫لذلك سوف ال‬ ‫مسؤوليات ّ‬ ‫املنفذية‪ ،‬دون إبطاء وال تردد حائر بين حقيقة الواقع وبين إبهام‬ ‫املتوقع ّ‬ ‫طي رؤية التنظير‪ .‬وفي مجال املطلق املفترض‪« .‬املطلق الذي هو ش يء‬ ‫هو املطلق الواضح»‪ .‬هو املطلب ألاخير الذي نسعى إلى بلوغه في مدى الطريق‬ ‫ّ‬ ‫الطويلة الشاقة‪ ،‬طريق الحياة‪ ،‬مدى التصاعد الال متناهي في سلم القمم‬ ‫الال متناهية في شموخ تساميها وتسامي شموخها‪ .‬لكن الشرط لبلوغ املطلق‬ ‫املنشود يبقى في بذل مطلق الجهاد والعطاء ألامثل‪ .‬هذا الشرط هو قدرتنا‬ ‫على تعيين نقط الالتقاء الواضحة الصالحة إلى الانطالق الواضح الصحيح‪.‬‬ ‫«فالوضوح ‪ -‬معرفة ألامور وألاشياء معرفة صحيحة ‪ -‬هو قاعدة ال ّبد من‬ ‫ّاتباعها في أية قضية للفكر إلانساني والحياة إلانسانية»‪.‬‬

‫‪249‬‬


‫الزواج انعـ ـ ـتاق من الوحدة لتحق ـ ـ ـيق وحدة‬ ‫الح ـ ـ ـ ـ ـياة‬

‫كنت بزيارة الزعيم املعتادة ّ‬ ‫أتقدم إليه بموجز عما ّنفذته عمدة‬ ‫املقرر خالل فترة معينة‪ّ .‬‬ ‫الداخلية من منهجها ّ‬ ‫وعما هي مزمعة على عمله‬ ‫ّإبان مرحلة قادمة‪ .‬أنهيت بياني هذا ثم أخذت أدون على ورقة توجيهات‬ ‫الزعيم ومالحظاته بشأنه‪ .‬تلك ألاثناء وقبل أن يؤذن لي باالنصراف حان‬ ‫موعد الزعيم لاللتقاء مع أربعة شبان إخوة يتقدمهم خالهم‪ ،‬شيخ جليل‬ ‫مهيب‪ .‬بادرت إلى الاعتذار بمغادرتهم ألفسح لهم مجال البحث للموضوع‬ ‫إلي الزعيم بالبقاء‪ .‬فحضرت اللقاء ً‬ ‫الذي كنت أجهله‪ .‬أشار ّ‬ ‫بناء لرغبته‬ ‫ولربما يكون هناك أمور ّ‬ ‫ّ‬ ‫يود إ طالعي عليها‪ ،‬وبغبطة املشاركة في إلافادة مما‬ ‫سيتداول‪.‬‬ ‫الحظت اهتمام الزعيم الواضح بالوافدين إليه وعنايته العميقة‬ ‫ّ‬ ‫باستقبالهم والحفاوة ّ‬ ‫بكل منهم‪ ،‬بينما ابتسامة الاطمئنان والتأني الن ّفاذ لم‬ ‫تفارق ثغره كاملعتاد‪ .‬ما أن استوى بهم املكان حتى تقدم الشيخ بوقار وألم إلى‬ ‫عرض ما سماه «مشكلة» أحد أوالد أخته الرفيق حافظ الغائب عنهم‪.‬‬ ‫أخذ يسرد مالبسات هذه املشكلة ومراحلها بأسلوب ّ‬ ‫جلي الهدوء‬ ‫والرزانة ملفت لالنتباه وإلاصغاء العميقين إذ قال‪ :‬حافظ ابن أختي‪ ،‬كما‬ ‫تعلم يا حضرة الزعيم‪ ،‬هو قومي اجتماعي مؤمن بعقيدته ومندفع في‬ ‫‪248‬‬


‫ّ‬ ‫سبيلها‪ .‬لم ّ‬ ‫يعودنا في شتى تصرفاته سوى مواقف التعقل والسلوك الخلوق‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكنه اليوم يتخبط في مأزق حرج قد ّ‬ ‫يعرضه إلى مشكلة ال تحمد عقباها‪ ،‬إذا‬ ‫تشبثه وعناده الخاطئ‪ْ .‬‬ ‫ما استمر في ّ‬ ‫بلغت هذه املشكلة أوج تعقيدها وقد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتعذر حلها وإنقاذه منها إال إذا ّ‬ ‫تفضل الزعيم وأعارها شيئا من اهتمامه‬ ‫وعنايته ألابوية‪ .‬فإنها‪ ،‬إذ ذاك‪ ،‬تغدو ّ‬ ‫هي نة سهلة وتنتهي على ما يرام إن شاء‬ ‫هللا تعالى‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫حبا شديدا ويعزم على الزواج منها بين ليلة‬ ‫يحب فتاة‬ ‫حافظ‬ ‫ّ‬ ‫وضحاها‪ .‬بالرغم من استياء جميع ألاهل وألاصدقاء ورفضهم الكلي لزواجه‬ ‫ً‬ ‫منها‪ .‬ألن هذه الفتاة هي أكبر منه سنا وليست‪ ،‬بال مؤاخذة‪ ،‬من عائلة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مناسبة لعائلته ال اجتماعيا وال ثقافيا‪ .‬فهي باالختصار ال تليق به من جميع‬ ‫الوجوه‪ .‬وليس باإلمكان القبول لحافظ بمثل هذا الزواج‪ .‬فاألمر شديد‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫نتشرف‬ ‫الخطورة كبير إلاحراج لنا جميعا‪ .‬وها ّإننا‪ ،‬إخوانه ألاربعة وأنا‬ ‫بزيارتكم آملين أن ّ‬ ‫تمدوا لنا يد العون وتسعفونا لحل هذه املشكلة التي‬ ‫ّ‬ ‫استعص ى علينا حلها بعد أن استنفدنا جميعنا كل الوسائل والطرق‬ ‫العائلية التي بوسعنا اعتمادها مع حافظ دون أن نلقى منه ّأية استجابة أو‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تريث على إلاطالق‪ .‬لذلك نقصد حضرتكم راجين تدخلكم الكريم بهذه‬ ‫املسألة الشائكة‪ .‬وملعلوماتكم‪ ،‬يا حضرة الزعيم‪ ،‬نخبركم أننا ّ‬ ‫قدمنا إليه‬ ‫العديد من خيرة الصبايا التي تليق بحافظ ألنه‪ ،‬بنظرنا جدير بالزواج من‬ ‫ً‬ ‫أحسن فتاة يختارها من بين الكثير من الصبايا اللواتي يناسبنه مكانة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فضال عن كل هذا‪ ،‬هناك صعوبة ّ‬ ‫أشد تواجهنا‬ ‫وجاها‪ ،‬تربية وشخصية‪.‬‬ ‫أمام الناس وهي إن هذه الفتاة التي ينوي حافظ الزواج منها ليست من‬ ‫طائفتنا‪ .‬مع أن هذا ألامر ثانوي بالنسبة إلينا نحن‪ .‬غير أن الناس ال ترحم وال‬ ‫ّ‬ ‫تقف عند ّ‬ ‫حد في تدخلها بشؤون الناس‪ ،‬باإلضافة إلى نفورهم من نوعية‬ ‫الفتاة ذاتها‪ ،‬بسبب ما ينقصها من صفات لتكون جديرة بابن أختي حافظ‬ ‫‪247‬‬


‫وما لديه من أفضليات عليها‪ .‬كان إلاخوة ألاربعة مع خالهم الشيخ يتناوبون‬ ‫الكالم عن املشكلة َّ‬ ‫املهدد بها الرفيق حافظ‪ .‬لعلهم يحظون من الزعيم بوعد‬ ‫واضح في ّ‬ ‫تبني املوضوع والعمل على معالجته كما يرغبون‪ .‬والزعيم يصغي‬ ‫ّ‬ ‫بسكونه ونظراته حتى النهاية‪ .‬يتتبع عرض املسألة ّ‬ ‫وكل تفاصيلها بدقة‬ ‫وإمعان‪ .‬إلى أن وعدهم بدعوة الرفيق حافظ ليرى ما يحسن عمله بعد‬ ‫ً ً‬ ‫اللقاء به قريبا جدا‪.‬‬ ‫ً‬ ‫من ثم التفت ّ‬ ‫إلي طالبا دعوة الرفيق حافظ من قبل عمدة الداخلية‬ ‫ً‬ ‫ملقابلة الزعيم في مكتبه بعد يومين من تاريخه وأردف قائال‪ :‬عليك الحضور‬ ‫معه للموعد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫انصرف الجميع‪ ،‬إثر ذلك‪ ،‬وهم يؤكدون شكرهم الجزيل الهتمام‬ ‫الزعيم باألمر‪.‬‬ ‫ظل الزعيم في مكانه بعد وداعهم‪ّ .‬‬ ‫يتأمل بصمت عميق املرارة وألاس ى‬ ‫ملا يشغل الناس الذين ال قضية لهم وال نظرة واضحة إلى شؤون الحياة‬ ‫وشجونها‪ .‬ثم قال وهو ّ‬ ‫يودعني‪ :‬إن املسألة دون ريب مهمة‪ ،‬فالزواج موضوع‬ ‫كبير‪ .‬هو مسؤولية اجتماعية حياتية كبرى‪.‬‬ ‫حضرنا ملقابلة الزعيم في املوعد املضروب‪ ،‬الرفيق حافظ وأنا‪ .‬وقد بدا‬ ‫ّ‬ ‫على الرفيق ارتباك ّ‬ ‫ينم عن توقعه ملا قد يبحثه الزعيم معه‪ .‬أذن لنا الزعيم‬ ‫وتوجه إلى الرفيق حافظ على الفور بقوله‪ :‬إنك ّ‬ ‫بالجلوس قبالته ّ‬ ‫تود الزواج‬ ‫ً‬ ‫قريبا‪ .‬ألامر جلل وشديد ّ‬ ‫الجدية‪ .‬يقتضينا الزواج توفير عناصر فكرية نفسية‬ ‫هي غاية في الدقة وألاهمية قبل إلاقدام عليه‪ ،‬ذلك إلاقدام الجميل الرائع‬ ‫لحياة إلانسان واستمراره‪ .‬صحيح أن الزواج تعانق روحين وتناغم قلبين‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أبدا للعطاء ّ‬ ‫ألاتم والوالء ألاسمى‪ .‬لكنه خصوصا تعاقد‬ ‫برباط املحبة الجاهز‬ ‫ّ‬ ‫عقلين واعيين معنى املسؤولية املترتبة عليهما‪ .‬هما عقالن قد ّ‬ ‫قررا الحياة‬ ‫‪251‬‬


‫ً‬ ‫ً‬ ‫معا والتعاون الصميم معا بمنتهى الصدق والنبل والوفاء لغرض الزواج‬ ‫الذي هو املثال في الرصانة والرفاقة والثقة بالنفس‪ .‬يقوم الزواج على‬ ‫ّ‬ ‫التوازن الفذ بين غمرة الحب البالغ أقص ى درجات الروعة والجمال وبين‬ ‫سمو إلادراك والقدرة على كل تحقيق ّ‬ ‫َّ‬ ‫خير‪.‬‬ ‫يقظة العقل والنفس البالغة‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫الزواج قبل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫كل ش يء وفوق كل أمر هو خاصة التزام مسؤول تجاه كرامة‬ ‫ألامة واملجتمع‪ ،‬لتأسيس العقلية ألاخالقية الجديدة وغرسها في بنية النشء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وعقالنيا‪ ،‬ثم ّ‬ ‫تعهد تنميتها بقدوة ألاخالق واملناقب القومية‬ ‫جسديا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لكل ّ‬ ‫أساسا ّ‬ ‫نمو ومنطلقا لكل إنجاز وإنشاء‪ .‬إنه هذا‬ ‫الاجتماعية‪ ،‬إلى أن تغدو‬ ‫التعاقد على انتصار العق يدة ألجيال تتوالد وتتصاعد في ترسيخ الحق والخير‬ ‫والجمال مدى أزمنة التاريخ‪ ،‬أجل مثل هذا التعاقد الجميل والجليل‪ ،‬ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫يحتمل لعبا ولهوا إزاء الشؤون الخطيرة التي تساوي وجودنا‪ .‬لذلك وردت‬ ‫فقرة القسم القومي الاجتماعي‪« :‬وأن أ ّتخذ مبادئ الحزب القومية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الاجتماعية إيمانا لي ولعائلتي وشعارا لبيتي»‪ .‬على أساس هذه املفاهيم وهذه‬ ‫املقاصد العليا يقتض ي اختيار الزوج أو الزوجة‪ ،‬اختيار شريك الحياة بملء‬ ‫معاني الشراكة املادية الروحية‪ ،‬وأعظم معاني الحياة في أرقى مطالبها لبلوغ‬ ‫منتهى الحرية والواجب والنظام والقوة من أجل سيادة ألامة‪.‬‬ ‫هكذا ّ‬ ‫يتم الزواج ليكون أساس العقد الاجتماعي والتعاقد القومي لخير‬ ‫وعزها وكرامتها‪ ،‬ألاساس الراسخ عبر تالحق ألاجيال‪ّ .‬‬ ‫ألامة ّ‬ ‫يحقق الزواج‬ ‫ّ‬ ‫أغراضه الحقيقية حين تحصل لدى الزوجين النظرة الواحدة الكلية إلى‬ ‫الحياة والكون والفن‪ ،‬إلى الحب والجمال‪ ،‬إلى التربية وألاوالد‪ ،‬إلى معنى ألامل‬ ‫وعوامل تكوينه‪ ،‬إلى معنى ألالم وعناصر نشوئه‪.‬‬ ‫حين تتكامل هذه النظرة من خالل مفهوم الزواج وتمتد بال حدود إلى‬ ‫ّ‬ ‫املجتمع‪ .‬الزواج هو املشتل لكل الجذور املولدة ألفراح الحياة وأتراحها‪ ،‬هو‬ ‫ّ‬ ‫بؤرة إلاشعاع والتألق لكل القيم والفضائل إذا نجح‪.‬‬ ‫‪251‬‬


‫وهو املعول املقطع ّ‬ ‫لكل منابت الحق والخير والحقيقة‪ ،‬إذا فشل‪ ،‬أو‬ ‫أ ّسس على خطأ في إلادراك أو خطأ في الوعي وزيغان في الوجدان وألاخالق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫في عهدة الزوجة القومية الاجتماعية ينطلق الزوج رجال في رحاب‬ ‫الخلق وإلابداع وفي حلبة التحقيق البطولي‪ ،‬في كنف الزوج القومي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الاجتماعي يتوهج حنان املرأة ّ‬ ‫وعطاء‪ .‬ففي‬ ‫يعمر الكون ويغمر الوجود بذال‬ ‫الزواج القومي الاجتماعي «تستطيع املرأة أن تدرك بقلبها ما ال يستطيع‬ ‫الرجل أن يدركه بعقله»‪ .‬تعطي بفضل فضائلها الكبيرة دعائم العائلة‬ ‫القدوة والرجل املقدام ليبلغ ذروة التفوق‪ .‬علينا أن نحسن بناء الزواج لنبني‬ ‫به قمم املجد والسؤدد ّ‬ ‫ألمة البناء العريق ألاصالة‪.‬‬ ‫هذا بعض ما زلت أذكره بفحواه مما ورد على لسان الزعيم بمناسبة‬ ‫درسه الرائع عن معاني الزواج القومي الاجتماعي إلى الرفيق حافظ الذي‬ ‫كان ّ‬ ‫يعد نفسه آنذاك للزواج باندفاع الولهان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يضج ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتأمل في ما هي‬ ‫بقوة إلاعجاب‬ ‫غمر الحضور صمت كان‬ ‫حقيقة الزواج لدى النهضة‪ .‬إذ ذاك ينتصب الرفيق حافظ أمام الزعيم‬ ‫مكدود ألانفاس ليعلن ّ‬ ‫بأن الفتاة التي اختارها لتصبح زوجة له لن تكون له‬ ‫زوجة ألنها ليست قادرة على مشاركته الحياة الحقيقية الفاعلة ملصلحة‬ ‫ألامة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أنه يؤكد منذ آلان لحضرة الزعيم انفكاكه عنها والامتناع نهائيا عن‬ ‫الزواج منها لهذه ألاسباب‪.‬‬ ‫ليس من تعاقد حياتي نبيل إال ويجب أن يؤول إلى تحقيق ألامر الخطير‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كل وجودنا ّ‬ ‫الذي يساوي ّ‬ ‫مادة ومعنى‪ ،‬قلبا وعقال‪..‬‬

‫‪252‬‬


‫ال رئيس وم ـ ـ ـ ـ ـ ـرؤوس في التعـ ـ ـ ـ ـامل القـ ـ ـ ـ ـ ـ ـومي‬ ‫الاجت ـ ـ ـ ـماعي الذي هو التعـ ـ ـ ـبير ألاس ـ ـ ـ ـ ـمى عن‬ ‫وحدة روحية في الجسم الواحد الحي‬

‫ّ‬ ‫عد مناقبي وإن بدت‬ ‫كل بادرة تصدر عن إلانسان ذات مدلول نفس ي وب ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ألول وهلة عادية عابرة ال تلفت إليها الانتباه وال تثير الاهتمام‪ .‬هي تفصح‬ ‫بطبيعتها عن مضمون ّ‬ ‫مادي روحي كما تشير بذاتها إلى مفهوم معين وموقف‬ ‫حاصل على أساس هذا املفهوم‪ .‬سواء كان صدور هذه البادرة ّ‬ ‫املعبرة عن‬ ‫واع أو بعفوية ال واعية وفورية‪ .‬مهما حاول إلانسان‬ ‫مكنونات نفسية بقصد ٍّ‬ ‫ً‬ ‫إخفاء حقيقة مقاصده ومشاعره والامتناع عن إبدائها فهي تبرز عاجال أم‬ ‫ً‬ ‫آجال ّ‬ ‫جلي ة املعالم بليغة املعاني والوضوح بشكل أو بآخر‪ .‬ألن من خصائص‬ ‫ّ‬ ‫جوهر الحقيقة أن تثبت وجودها وتؤكد حضورها في واقع الحياة وإن طال‬ ‫أمد ّ‬ ‫مدها وانحسارها وخالها الناس منقرضة مهزومة‪ .‬وال ّبد أن يتفاوت فعل‬ ‫الحقيقة وشأنها في مسيرة الحياة ومجرى الواقع بتفاوت أصالة تعبيرها عن‬ ‫قيم الحياة وتجسيدها لفضائلها ومثلها وملاهية الوجود والكون‪.‬‬ ‫‪252‬‬


‫ً‬ ‫درج بعض القوميين الاجتماعيين امليسورين ماليا على زيارة الزعيم‬ ‫لتهنئته بذكرى ألاول من آذار وتقديم هدايا معينة إليه وفق التقاليد املتبعة‬ ‫عامة ملثل هذه املناسبة في بالدنا منذ القديم‪.‬‬ ‫وذلك حدث في أول آذار سنة ‪ 1747‬حين دخل أحد ألامناء القدماء إلى‬ ‫ً‬ ‫غرفة مكتب الزعيم في منزله ‪ -‬برأس بيروت ‪ -‬بينما كنت جالسا إلى مكتبي في‬ ‫ّ‬ ‫الغرفة املقابلة ّ‬ ‫أصرف بعض ألامور الحزبية التي كلفني بها الزعيم بوصفي‬ ‫ً‬ ‫مديرا ملكتب الزعيم وناموسه ألاول‪ .‬مكث ألامين الزائر لدى الزعيم بعض‬ ‫ً‬ ‫موجها ّ‬ ‫إلي التحية القومية الاجتماعية من بعيد وهو يحمل‬ ‫الوقت وانصرف‬ ‫في مالمحه معالم ابتسامة ال تخلو من السرور املمزوج باالرتباك الساذج‪.‬‬ ‫خالل دقائق معدودات إثر انصراف الزائر ّ‬ ‫توجه الزعيم إلى مكتبي‪ .‬فسارعت‬ ‫ً‬ ‫إلى الوقوف وأداء التحية متخليا عن مقعدي وراء املكتب إلقدامه إليه‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دخل الغرفة‪ ،‬صافحني وأشار ّ‬ ‫إلي التخذ مكاني كالسابق‪ .‬ثم أخذ كرسيا من‬ ‫جانب املكتب وق َّربها مني‪ .‬صرت أنتظر ما قد يطلب عمله مني أو إلاجابة‬ ‫عليه‪ .‬كان يحمل بإحدى يديه علبة صغيرة جميلة النقوش وألالوان وكانت‬ ‫تعلو وجهه ابتسامة تنبئ ّ‬ ‫عما كان يجيش في خاطره من عميق التأمل وغريب‬ ‫التساؤل الصامت لكن بصعوبة‪ .‬بعد دقائق معدودات مفعمة بالغموض‬ ‫املهيب الذي ّ‬ ‫يتحفز لإلفصاح عن ذاته بادرني الزعيم الحديث بقوله‪:‬‬ ‫• هل رأيت من كان في مكتبي منذ لحظات‪.‬‬ ‫ نعم حضرة الزعيم هو ألامين ‪ ...‬وقد دخل إليك دون إعالمي باألمر‬‫ً‬ ‫آلخذ له موعدا ملقابلتكم‪...‬‬ ‫ً‬ ‫مهنئا بمناسبة ذكرى ألاول من آذار ّ‬ ‫وقدم ّ‬ ‫إلي‬ ‫• قدم ألامين ‪ ...‬لزيارتي‬ ‫هذه العلبة من السيكار الفاخر الثمين‪ ...‬خذ منها حصتك أنا غير مولع‬ ‫بالتدخين‪.‬‬ ‫‪254‬‬


‫ً‬ ‫ـ ـ شكرا حضرة الزعيم إني أمي بمعرفة قيمة السيكار‪ ،‬خاصة إذا كان‬ ‫من هذا الطراز‪ .‬غير أن هذه العلبة الجميلة تدل على ما تحويه من ثمين‪،‬‬ ‫ً‬ ‫وتناولت واحدا من السيكار‪.‬‬ ‫ثوان بعد ذاك من الصمت الناطق أعقبه التوجيه البليغ‪.‬‬ ‫مضت ٍّ‬ ‫• «كثير من القوميين الاجتماعيين ال يدركون حتى آلان معنى الزعيم‬ ‫ّ‬ ‫وماهية الرابطة الروحية التي ّ‬ ‫ّ‬ ‫يتصرف‬ ‫وتشده إليهم‪ .‬لذلك‬ ‫تشدهم إليه‬ ‫هؤالء مع الزعيم تصرفهم مع رئيس عشيرة أو رئيس شركة‪ ،‬رئيس تقليدي‬ ‫يتقرب إليه مرؤوسوه أو أتباعه ويتعاملون معه بغية تأمين مكاسب معينة‬ ‫ومنافع فردية عن طريق رضاه عنهم‪ .‬رض ًى ال ّ‬ ‫ينم عن عميق الوحدة الروحية‬ ‫الرابطة بيننا والتي تجسد وحدة الحياة الحقيقية بقدوة البناء والعطاء في‬ ‫كيان الجسم الواحد ّ‬ ‫الحي‪ ..‬لقد شعرت «يا أمين إلياس» ّأن الهدية قدمت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫خلفيته مقابل‬ ‫إلي رشوة يستميلني بها ألامين ‪ ...‬لشخصه أو ينشد في خفايا‬ ‫ً‬ ‫الهدية خدمة أو امتيازا فوق ألاشخاص قاطبة وفوق جميع الاعتبارات‬ ‫الشخصية واملنافع الخصوصية»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وتوق ف الزعيم برهة عن متابعة الكالم بينما الانقباض املكدود يغمر‬ ‫مالمحه ويكسو أساريره بش يء من الذهول والشرود‪ .‬لم أر ما يمكن أن أقوله‬ ‫للزعيم إزاء هذا الحادث فالتزمت الصمت‪ ،‬وألالم املرير يمأل جوارح نفس ي‬ ‫بسبب تفاقم الفردية التي ما تزال ترافق تعاملنا وسلوكنا اليومي والعفوي‪.‬‬ ‫َّ ّ ً‬ ‫مليا كمن يستشف‬ ‫ثم نهض الزعيم عن كرسيه ليغادر الغرفة وهو ينظر إلي‬ ‫موقفي ومشاعري إزاء ما حدث‪ .‬فوقفت أستعد لوداعه‪ .‬وقبل أن يبادر إلى‬ ‫الذهاب عاود فتح علبة السيكار ثانية وقدمها ّ‬ ‫إلي بقوله يمكن أن تأخذ أكثر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقد انفرجت أساريره قليال عما كان عليه‪ .‬تناولت سيكارا وأنا أبتسم قبيل‬ ‫التفوه بأي كلمة ثم قلت « هل يهديني الزعيم السيكار بعد السيكار كما‬

‫‪255‬‬


‫أهديت إليه العلبة من قبل ألامين الزائر؟» ضحك الزعيم بش يء من‬ ‫الارتياح‪ّ .‬ربت على كتفي ثم رفع يده بالتحية وغادرني إلى مكتبه وأنا ّ‬ ‫مسمر في‬ ‫ّ‬ ‫خضم الضجيج‬ ‫مكاني كمن نس ي نفسه في غير مكان وجوده الفعلي وتاه في‬ ‫املشوب بالعويل ألاليم‪.‬‬ ‫ما أروع ما تسمو به نفسك الكبيرة‪ ،‬أيها الزعيم‪ ،‬من براءة وصفاء!! ما‬ ‫أعظم القدوة الرائعة التي تعلمنا إياها باألعمال وألافعال لتبني في نفوسنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أبدا إلايمان بالحقيقة التي ّ‬ ‫تجسد وحدة الروح في وحدة‬ ‫وعقولنا دائما و‬ ‫ّ‬ ‫الوجود ووحدة الحياة‪ ،‬وحدة شاملة كلية في حقيقة الحق والخير والجمال‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لتتمجد ألاصالة السورية بسعادة في إبداع سوريانا كل فن كل علم وكل‬ ‫فلسفة‪.‬‬

‫‪251‬‬


‫ال ي ـ ـ ـ ـ ـ ـزال القومي ـ ـ ـ ـ ـون الاجتماعيون يلبـ ـ ـ ـ ـ ـون‬ ‫لتض ـ ـ ـ ـ ـميد جراح املصـ ـ ـ ـابين في املع ـ ـارك أكثر‬ ‫مما يلبون لتخط ـ ـ ـيط ص ـراع وإعداد معارك‬ ‫تمدنا بقوة الهجـ ـ ـ ـ ـوم والتقدم وتق ـ ـ ـينا مغبة‬ ‫الدفاع والـمهادنة‬ ‫سعاده‬

‫ّ‬ ‫الجميزة الشهير‪ .‬يوم‬ ‫في التاسع من حزيران سنة ‪ 1747‬كان حادث‬ ‫تفجر التآمر الفاضح على الحزب وحياة الزعيم بسبب التعاون بين أشدّ‬ ‫ّ‬ ‫املحمديين ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتعصبين ّ‬ ‫ألن قضيتهم واحدة‪ ،‬مهما‬ ‫وأشد‬ ‫املعتصبين املسيحيين‬ ‫ّ‬ ‫تخاصموا‪ ،‬هي العمل على صون التفرقة وترسيخ الحواجز املعطلة لكل‬ ‫تكاتف وتآخي بين الطوائف‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫رجعيتهم واحد تجاه‬ ‫وألن مصيرهم ومصير‬ ‫القوى القومية الاجتماعية ّ‬ ‫املعب رة عن أصالة الحق والخير والعاملة من أجل‬ ‫ّ‬ ‫استئصال جذور‬ ‫التعصب ألاثيم وعوامل التفرقة أينما وجدت وحيثما‬ ‫ّ‬ ‫عششت وتغلغلت‪ .‬النهضة وحدها ّ‬ ‫تعبد الطريق للحقيقة والحياة الجميلة‬ ‫ّ‬ ‫وتوطد سبيل الحضارة والحرية بقضائها على إلاقطاع والطائفية وسواهما‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قضاء مبرما ونهائيا‪.‬‬ ‫من أسباب التقسيم والتفسخ‬

‫‪259‬‬


‫ّ‬ ‫الجميزة الفاجعة لألخالق والقانون قد استنفرت عزائم‬ ‫حادثة‬ ‫القوميين الاجتماعيين وشحذت قدراتهم الجبارة على البذل والعطاء ألاسخى‬ ‫ملواجهة هجمة السلطة املسعورة‪ .‬التي راحت ّ‬ ‫تشنها بال هوادة على صفوف‬ ‫الحزب‪ .‬أرسل املركز‪ ،‬حينذاك‪ ،‬الوفود إلى املناطق الشامية واللبنانية‬ ‫إليضاح مالبسات املشكلة الناشبة بين الحزب والسلطة اللبنانية الناشطة‬ ‫في عمليات القمع والاعتداء السافر على مراكز الحزب ومنازل أعضائه من‬ ‫دون مبرر وال ّ‬ ‫أي سبب‪ .‬قامت هذه الوفود بشرح معطيات املشكلة الظاهر‬ ‫ّ‬ ‫منها والخافي على النظر القريب وحثت الرفقاء على استجماع أقص ى‬ ‫إمكانياتهم وطاقاتهم لتلبية نفير الواجب القومي الاجتماعي بمنتهى ّ‬ ‫التأهب‬ ‫والنظامية املسؤولة‪.‬‬ ‫ثم عادت الوفود إلى دمشق من مختلف املناطق الحزبية في الوطن‬ ‫تحمل إلى الزعيم ّ‬ ‫تبرعات ألاعضاء وألاصدقاء من مال ومجوهرات وسندات‬ ‫عقارات‪ .‬مما أفصح عن مدى استعداد القوميين الاجتماعيين لصون كرامة‬ ‫ألامة والنهضة‪ّ .‬‬ ‫وعبر عن مستوى الاستجابة القومية الاجتماعية لتحريض‬ ‫ً ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتحديها لنهضة ألامة التي تناضل أبدا لبث الوعي في صفوف الشعب‬ ‫الرجعة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وتأسيس مناقب البطولة املؤمنة املؤيدة بصحة العقيدة‪ .‬وقد جاءت هذه‬ ‫التلبية الرائعة لتؤكد فعل النهضة ّ‬ ‫الجبار في نفسية شعب كاد الرجعيون‬ ‫يحكمون عليه بالخمول والانحطاط‪ّ .‬‬ ‫وتثبت جدارة ألامة السورية بالصمود‬ ‫التحرر من ربقة الرجعية ومخازيها‪ .‬وكانت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الرد البطولي‬ ‫والصراع في معركة‬ ‫ّ‬ ‫على مالحقة دولة الرجعة والرجعيين‪ ،‬الرد الذي لم يسبق له مثيل في سياق‬ ‫ممارسة النهضة لنزاع الحياة واملوت بين ألامة السورية واليهود في الداخل‬ ‫والخارج على السواء‪ .‬وطاملا ّ‬ ‫عودتنا الرجعة وزبانيتها افتعال املحرضات بدافع‬ ‫ً‬ ‫خوفها على كيانها وبغية إثبات وجودها وتوطيد سلطانها القائم أصال على‬ ‫التعسف والقمع إلرادة الشعب وتكامل وعيه‪.‬‬ ‫‪258‬‬


‫ّ‬ ‫لقد لفت انتباه الزعيم هذا التصاعد الفذ في تلبية املعركة الضارية‬ ‫التي فرضتها دولة إلارهاب والقمع على النهضة بصورة مباغتة غادرة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫واستوقفته استجابة القوميين الاجتماعيين الصارمة ملتطل بات الجهاد‬ ‫الدائر‪ ،‬تلك الاستجابة فاقت جميع ممارساتهم البطولية املعتادة إزاء‬ ‫ألاحداث اليومية الجارية واملسؤوليات املعهودة‪ .‬فكانت الدليل على روعة ما‬ ‫تزخر به النفسية القومية الاجتماعية من ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجبارة وما‬ ‫مدخر الطاقات‬ ‫تنطوي عليه ألاصالة السورية من عميق الخصوبة التي ّ‬ ‫تؤهلها ّ‬ ‫لكل عطاء‬ ‫وإبداع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكن هذه الظواهر على ّ‬ ‫وسموها قد دلت على فعل‬ ‫تفوق روعتها‬ ‫انفعالي بالعوامل الخارجية التي أيقظت صفوف النهضة في أحرج الحاالت‬ ‫ّ‬ ‫ّ ً ّ‬ ‫ّ‬ ‫ودقة وجعلتها ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحرضات التي ولدتها‬ ‫تلبي على مستوى تفاقم‬ ‫وأشدها تأزما‬ ‫ّ‬ ‫ووجهتها من أجل أغراضه هو‪ .‬فالنهضة ليست‬ ‫إرادة الخصم نفسه‬ ‫مجموعات ّردات فعل‪ ،‬ولو تجاوزت هذه قدرة ألافعال الضاغطة من جانب‬ ‫الغير‪ .‬ليست النهضة صيحات غضب ّ‬ ‫وتوت ر وحقد صاخب في وجه مداهمات‬ ‫ً‬ ‫ألاحداث والسلطات ولو ّأدت إلى إحراز النصر حينا‪.‬‬ ‫«النهضة السورية القومية الاجتماعية ثقة القوم بأنفسهم ووعي ألامة‬ ‫لحقيقتها»‪ ،‬هي الانطالق إلى تجسيد صحة املعرفة وعميق اليقين وإلادراك‬ ‫ً‬ ‫للواقع بما فيه من حسنات جيدة ونقائص رديئة‪ .‬النهضة تكون دوما في حال‬ ‫يقظة وتأهب مستمر للنهوض وإلانقاذ والتحرير بما تملك من إيمان ومعرفة‬ ‫وشجاعة‪ .‬وال يجوز لها أن تنف عل باألحداث الدائرة حولها سواء أتتها من‬ ‫مصادر معلومة أو جوانب مجهولة‪ .‬مهما بدا أن لألحداث واملفاجآت من أثر‬ ‫هام في إحداث التغيير والتزام التبديل والتطوير لبعض خطوط الخطط‬ ‫املرسومة من دون إلاخالل باستمرارية الاستراتيجية الواحدة في الاتجاه‬ ‫ً ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫الجلي املعالم‪ .‬وبقدر ما يكون مدى الرؤية شامال وكليا إلى‬ ‫الواضح واملرمى‬ ‫‪257‬‬


‫ّ‬ ‫وتقل تدابير‬ ‫ماهية الحقيقة واملعرفة الصحيحة تندر املفاجآت املباغتة‬ ‫الطوارئ الجانحة عن طبيعة املعطيات الواضحة القواعد واملقاصد‪.‬‬ ‫إن عظم التلبية الفذة التي جسدها القوميون الاجتماعيون في‬ ‫مواجهتهم لحادثة ّ‬ ‫الجميزة وفور بلوغهم إياها قد كشف أمام رؤية الزعيم‬ ‫النافذة حقيقة أخرى عميقة الداللة على مستوى البنية الصراعية في‬ ‫نفسية صفوف النهضة فبادر إلى تناولها بالبحث والتحليل الوافي‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«لو كان القوميون الاجتماعيون دائما على هذا املستوى العالي من‬ ‫ً‬ ‫الاستعداد للتلبية وال ّ‬ ‫تأهب للبذل والعطاء ملا ّ‬ ‫تجرأت الرجعة يوما أن تقف‬ ‫في وجه النهضة وتحاول أن تدافع أمامها عن وجودها ّ‬ ‫ومبرر وجودها‪ .‬لو أن‬ ‫ً‬ ‫أعضاء الحزب ّ‬ ‫يلبون دوما حاجات البناء وضرورات النمو بهذا النفس‬ ‫البطولي كما ّ‬ ‫يلبون تضميد الجراح النازفة ومؤاساة املصابين إزاء ضربات‬ ‫يسددها العدو للطعن في كيان النهضة‪ ،‬ملا كانت لنا حتى اليوم مع أعدائنا‬ ‫في الداخل والخارج سوى معركة واحدة فاصلة لنصر ألامة السورية بما‬ ‫لكننا ما لنا أقدر على تضميد الجراح ّ‬ ‫يليق بأصالتها ومواهبها‪ّ .‬‬ ‫منا على تلبية‬ ‫ز‬ ‫ً‬ ‫العقلية ألاخالقية الجديدة التي تضعنا أبدا في حال صراع دائم وموقع‬ ‫نضال مستمر‪ّ ،‬‬ ‫ألن نا نشأنا جماعة تبحث عن القتال وال تدع القتال يبحث‬ ‫املتحركة‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫القوة املهاجمة ال املدافعة نحن‬ ‫عنها‪ .‬ألننا نحن القوة الفاعلة‬ ‫بطبيعة نشوئنا ّ‬ ‫قوة مهاجمة ال مدافعة»‪.‬‬

‫‪211‬‬


‫القائد ال يجعل همه املحافظة على سالمته‬

‫ً‬ ‫ليس ـ ـ ـت حياة الزعـ ـ ـيم ضم ـ ـانا لبقاء النهضة‬ ‫إنما النهض ـ ـ ـ ـة هي الض ـ ـ ـ ـمانة للزع ـ ـيم ولألمة‬ ‫بأس ـ ـ ـ ـ ـرها‬ ‫سعاده‬

‫أعلن الزعيم الثورة القومية الاجتماعية ألاولى نهار ألاربعاء في الرابع من‬ ‫تموز ‪ 1747‬فراح القوميون الاجتماعيون يتسابقون إلى تلبية الواجب‬ ‫وتنفيذ ما عهد به إليهم من أوامر وتعليمات اقتضتها عمليات الثورة القومية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتجسد أمرا واقعا كانت‬ ‫الاجتماعية‪ .‬بينما كان هذا الحدث الكبير يحاول أن‬ ‫تبدو في ألافق بوادر غيوم تثير الشك بنوايا حسني الزعيم تجاه الحزب‬ ‫بالرغم من استمراره العملي بدعم الثورة ومؤازرة الحزب في سائر مواقفه‬ ‫ً‬ ‫وحاجاته ّ‬ ‫مجد ًدا تأكيد وعوده ّ‬ ‫بقوة أكثر ً‬ ‫جالء وأكثر إلحاحا ومبالغة‪ .‬إن هذا‬ ‫الشك بصدق موقف حسني الزعيم كان يساور الكثيرين ّ‬ ‫منا بدرجات‬ ‫ّ‬ ‫الشك أو يثبته‪.‬‬ ‫متفاوتة دون أن يكون لدينا من الوقائع ما يدحض هذا‬ ‫الشك إلى ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وقد كنت ّ‬ ‫حد‬ ‫استبد بهم القلق وكبر في تصوراتهم‬ ‫ممن‬ ‫ً‬ ‫القيام بعمل ظننته ّ‬ ‫ألول وهلة صالحا إلنقاذ الوضع املشوب بالشكوك‬

‫‪211‬‬


‫والهواجس إلى جانب انطالق القوميين الاجتماعيين في ممارسة أروع‬ ‫ّ‬ ‫وأشدها صعوبة وخطورة‪ .‬فأقدمت على تجاوز صالحياتي كمدير‬ ‫الواجبات‬ ‫ملكتب الزعيم وناموسه ألاول وأرسلت إلى ألامينة ألاولى التي كانت قد غادرت‬ ‫ً‬ ‫بيروت إلى الالذقية أطلب منها موافاتي سريعا بأوراق الزعيم الخاصة مثل‬ ‫جواز السفر وتوابعه من املعامالت الضرورية في حال حاجة الزعيم إلى‬ ‫السفر‪ .‬وقد وصلتني جميعها خالل أربع وعشرين ساعة إلى دمشق حيث كان‬ ‫الزعيم وكان مركز الحزب ّإبان الفترة ألاولى من بدء الثورة‪ .‬اتخذت هذا‬ ‫التدبير دون علم أحد ودون إطالع الزعيم نفسه عليه ألخذ موافقته‪ .‬حتى إذا‬ ‫أصبحت بحوزتي جميع ألاوراق الالزمة ملغادرة الزعيم الشام أفاتحه باألمر‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ما أن تسلمت ألاوراق املتعلقة بمعامالت الزعيم للسفر‪ ،‬حين يشاء‬ ‫ّ‬ ‫السفر‪ ،‬حتى سارعت أطلب إلى الزعيم خلوة ملساررته بأمر هام‪ ،‬وملا انفردت‬ ‫بالزعيم في غرفة مكتبه بادرته بقولي وأنا شديد الانهماك بما ينتابني من قلق‬ ‫ومن فرحة كبرى‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫الشك بحسن نوايا حسني الزعيم‬ ‫ إني أرى‪ ،‬يا حضرة الزعيم‪ّ ،‬أن‬‫ّ‬ ‫يتزايد في نفس ي حتى غدوت أخش ى أوخم العواقب من ّ‬ ‫جراء بعض املؤشرات‬ ‫املريعة التي تبدر من قبل حسني الزعيم‪ .‬وها أني ‪ -‬وقد رفعت ألاوراق بيدي‬ ‫أمام الزعيم ‪ -‬قد أحضرت جميع ألاوراق التي ّ‬ ‫تسهل لكم مغادرة البالد قبل‬ ‫أن تفاجئنا ألاحداث بمكروه‪ .‬وأرجو من حضرة الزعيم قبول اقتراحي‬ ‫بضرورة ّاتخاذه التدابير ملغادرة الشام قبل فوات ألاوان‪ .‬ألني أعتقد أن حياة‬ ‫الزعيم وسالمته هما الضمان لحياة النهضة وسالمتها واستمرارها‪.‬‬ ‫ما كدت أصل بحديثي إلى هذا ّ‬ ‫الحد حتى الحظت في وجه الزعيم ما‬ ‫حادة ّ‬ ‫أوقفني عن متابعة الكالم‪ .‬راح الزعيم يحدجني بنظرات ّ‬ ‫تعبر عن عميق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫التجهم والتأثر‬ ‫ما كان يعانيه من ألم ومرارة وقد بدت على مالمحه عالمات‬

‫‪212‬‬


‫ّ‬ ‫علي انتزاعها من ّ‬ ‫يتعذر ّ‬ ‫مخيلتي وقد ّ‬ ‫مر‬ ‫املنفعل كان يصعب النظر إليها كما‬ ‫عليها ما يقارب الثالثين سنة ّ‬ ‫كأن هذا املشهد لم يمض عليه سوى لحظات‬ ‫ّ‬ ‫بتأن ظاهر ّ‬ ‫وتمهل واضح كمن يملي كلمات‬ ‫قصيرة‪ .‬ثم أخذ الزعيم يتكلم ٍّ‬ ‫مأثورة أو عظة نادرة البالغة ّ‬ ‫يود حفظها واستيعاب جميع دقائقها لتغرس‬ ‫في الفكر والنفس‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫• املسألة‪ ،‬يا حضرة ألامين‪ ،‬ليست مسألة شكوك وتوقعات ألسوأ‬ ‫ّ‬ ‫يؤكدون صداقتهم للنهضة ّ‬ ‫الاحتماالت تأتينا ّ‬ ‫ويعدون للوقوف إلى جانبها‬ ‫ممن‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫بعدا في وجودنا ّ‬ ‫ومؤازرتها في ّ‬ ‫مما‬ ‫كل شأن؛ إنما املسألة الحقيقية هي أعمق‬ ‫خطر لك‪ .‬لقد فاجأني تفكيرك املستغرب بقولك أن حياة الزعيم ضمان‬ ‫لحياة النهضة واستمرارها بينما الحقيقة هي ّأن النهضة وحدها الضمانة‬ ‫لحياة الزعيم وحياة ألامة بأسرها‪ .‬هي ألامل الوحيد والعمل الحقيقي‬ ‫ً‬ ‫لتحقيق سيادة ألامة وكرامتها‪ .‬هل بلغك مرة أن قائدا وهو في قيادة قواته إلى‬ ‫ميادين القتال وساحات الدم يجعل ّ‬ ‫همه ألاول املحافظة على سالمته‬ ‫تحمله ملسؤولياته؟ هل ّ‬ ‫واتخاذ الحيطة لتأمين هربه من املعركة ومن ّ‬ ‫يصح‬ ‫ّ‬ ‫أن يكون هاجس الزعيم التخلي عن أقدس واجباته من أجل سالمته‬ ‫الشخصية ّ‬ ‫كأنها هي املطلب ألاخير فوق كرامة ّ‬ ‫ألامة وكيان النهضة في حين‬ ‫يضرب القوميون املناضلون أمام العالم والتاريخ الرقم القياس ي بالصمود‬ ‫والبطولة‪ .‬فمنذ ساعات سقط الصدر ّ‬ ‫عساف كرم شهيد الحرية والواجب‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫في موقف ّ‬ ‫جبار متحديا قوى الجيش اللبناني التي تألبت عليه وأحكمت من‬ ‫ً‬ ‫مغلوبا على أمره وهو ّ‬ ‫يصمم على‬ ‫حوله الطوق فلم يستسلم ولم يتراجع‬ ‫ّ‬ ‫املشرفة‪.‬‬ ‫خوض املعركة حتى النهاية‬ ‫ّ‬ ‫وإني مع ّ‬ ‫تفه مي للدوافع العاطفية التي حدت بك إلى مثل هذا التفكير‬ ‫الانفعالي وحملتك إلى سلوك هذا النمط من التصرف فإني أرفض اقتراحك‬ ‫ً ًّ‬ ‫لي بإعداد ّ‬ ‫خلوا من متانة الرؤية إلى الحقيقة‬ ‫العدة للهزيمة وأحسبه موقفا‬ ‫‪212‬‬


‫ومن بعد النظر وعميق التوازن بين معطيات العقل وجموح العاطفة‬ ‫ً‬ ‫أيضا التي من شأنها أن ّ‬ ‫تحد من أفق التفكير لإلنسان وتثبط‬ ‫وجنونها‬ ‫عزيمته أمام ّ‬ ‫امللمات‪.‬‬ ‫ولم يشأ الزعيم أن يتناول مجموعة ما كنت قد أعددته له من أوراق‬ ‫ّ‬ ‫خاصة تمك نه من السفر والابتعاد عن قلب املعركة الناشبة‪ .‬فألقيتها بهدوء‬ ‫من يتوارى عن العيان خشية افتضاح أمره على طاولة أمام الزعيم وأنا‬ ‫ّ‬ ‫شديد الارتباك عميق الشعور بخيبة الفشل غير املتوقع‪ .‬وكم كنت أعلل‬ ‫ً‬ ‫النفس بإمكان إقناع الزعيم بوجهة نظري تحقيقا لسالمته الثمينة الغالية‪.‬‬ ‫هكذا بين مرارة ما أصبنا به من جسيم الخسارة وعظيم النكبة بفقدان‬ ‫الزعيم على يد الغدر والخيانة وبين الاعتزاز بقدوة الزعيم أمام املوت في‬ ‫سبيل ما أوقف نفسه له‪ ،‬بين املرارة والاعتزاز نقف في الثامن من تموز لدى‬ ‫ّ‬ ‫مجددين العهد لتصبح النهضة بالفعل أمل ّ‬ ‫ألامة الوحيد‬ ‫ذكرى الشهادة‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫وضمانة ّ‬ ‫لحق سورية وخيرها وازدهارها‪ .‬ونحقق النصر الذي وعدنا به‬ ‫ّ‬ ‫سعاده املعلم القدوة فكان الثامن من تموز‪.‬‬

‫‪214‬‬


‫الاعتقال ألاخير‬

‫لـ ـ ـ ـ ـم يع ـ ـ ـ ـ ـط الم ـ ـ ـ ـ ـ ـرئ أن يهين س ـ ـ ـ ـ ـواه‪ ،‬قـ ـ ـ ـ ـد‬ ‫يهين الـمرء نفسـ ـ ـه‬ ‫سعاده‬

‫ّ‬ ‫ليس من موقف للزعيم إال وتجل ت فيه عبرة تنطق بكبر القيادة وأنفتها‬ ‫ّ‬ ‫الخلوقة الخال قة وأشرقت منه النفسية الرسالية املؤمنة بالفضيلة واملثل‬ ‫العليا التي تزخر بها ألاصالة السورية عبر أحقاب من التاريخ وملء أحداثه‬ ‫ّ‬ ‫الخطيرة ومن خالل جليل أفعاله الجبارة‪ .‬سواء كانت هذه املواقف الفذة في‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫أشد الظروف تألقا وإضاءة أو في أحلكها ظلما وظالما فإن سعاده يظل‬ ‫ّ‬ ‫القدوة الرائدة التي تعلم وتهدي باألعمال وألافعال إلى أسمى القمم وأروعها‪.‬‬ ‫فهو من استطاع أن يبعث حتى في النفوس التي تتالعب بها مفاسد ألاحقاد‬ ‫والعصبيات العمياء املدمرة الثقة بالنفس والوعي لحقيقة البناء والعطاء‪.‬‬ ‫ألن املرء أمام شخصية سعاده يشعر أنه قطعة ّ‬ ‫جبارة قدت من ماهية‬ ‫ً‬ ‫العظمة وفاضت من كنه القدرة ّ‬ ‫املظفرة التي تجعله أهال للصمود والانتصار‬ ‫املبين‪.‬‬ ‫عن أمثال سعاده قد تكلم جبران خليل جبران أحد أدباء الطليعة‬ ‫الذي سعى إلى الانعتاق من ألاغالل وعمل للنهوض الواعي من املخازي حين‬ ‫‪215‬‬


‫قال‪« :‬العظيم العظيم من ّ‬ ‫يحول هينمة الريح إلى أنشودة بالغة العذوبة‬ ‫ً‬ ‫والحالوة»‪ .‬أجل هو ذا سعاده العظيم العظيم ّ‬ ‫يحول دائما بفعل تعاليم‬ ‫النهضة السورية القومية الاجتماعية وقدرته على تجسيدها جميع املفاسد‬ ‫التي جلبت الويل على ألامة السورية إلى قوة صمود وقدرة صراع وبطولة‬ ‫ً‬ ‫قدوة في تغيير وجه التاريخ تحقيقا لعقيدة الحرية والواجب والنظام والقوة‬ ‫هو يجعل من صديد التباغض ونتن التخاذل ّ‬ ‫املذل مناقب قومية اجتماعية‬ ‫ّ‬ ‫وتوحد العقول والنفوس في‬ ‫تزيل جميع الحواجز بين أبناء ألامة الواحدة‬ ‫عقلية أخالقية جديدة في بوتقة مجتمع واحد وقضية كلية شاملة‪.‬‬ ‫ما أن سلم حسني الزعيم ضيفه الزعيم إلى السلطة اللبنانية صبيحة‬ ‫السابع من تموز ‪ 1747‬حتى بادرت هذه السلطة إلى التحقيق معه في ما‬ ‫نسب إليه ومحاكمته بإصدارها حكم إلاعدام عليه ثم أعدمته بسرعة‬ ‫ّ‬ ‫ومحقرة ملعنى العدالة وقيمتها في حياة الشعب وكرامة ألامة‪.‬‬ ‫مذهلة‬ ‫لدى تصديق رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك على حكم إلاعدام بحق‬ ‫الزعيم ّ‬ ‫تقد م أحد حراسه ليبلغه القرار ألاخير ويطلب منه الاستعداد‬ ‫ً‬ ‫لالنتقال سريعا إلى مكان التنفيذ‪ .‬عند ذاك أبدى الزعيم رغبته في وضع‬ ‫ً‬ ‫رسالة موجهة إلى عائلته راجيا من حارسه إيصالها إليها مفتوحة إذا كان‬ ‫ً‬ ‫ألامر مباحا كمطلب له أخير قبل تنفيذ الحكم عليه‪ .‬فما كاد الحارس يسمع‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من الزعيم كلمة رسالة حتى ّ‬ ‫تفجر غيظا وغضبا وأجابه بقوله‪:‬‬ ‫«أنت تريد أن تكتب رسالة لتوجه إلى الناس الشتائم وإلاهانات‬ ‫كالعادة‪ ،‬هل تظن أنني سأسهل لك ألامر وأساعدك به»‪.‬‬ ‫ابتسم الزعيم لدى ّ‬ ‫تلفظ حارسه بهذه الكلمات‪ .‬واملرارة الكئيبة ترتسم‬ ‫على قسمات وجهه من ّ‬ ‫شدة ما يمأل نفس الحارس من غباء ويوغر صدره‬ ‫َّ‬ ‫من حقد ّ‬ ‫ضده‪ .‬هكذا ل ّقن ألاغبياء املضللون من شعبنا عن الحزب وزعيمه‬ ‫‪211‬‬


‫مما يحملهم إلى إبداء مثل هذه ألافكار وإلاتيان بمثل هذه التصرفات‬ ‫ً‬ ‫الشائنة‪ .‬لكن الزعيم ال يمكن أن يضيق ذرعا أمام ّأية مشكلة مهما‬ ‫ّ‬ ‫استعصت وال أن ينفد صبره إزاء ّأية صعوبة مهما تعقدت‪ .‬تلقى مالحظة‬ ‫الحارس بروحية املعلم وأخالق القائد القدوة‪ .‬وهو يتأ ّمل توتر أعصابه ّ‬ ‫وشدة‬ ‫حنقه وغيظه ّ‬ ‫ملجرد فكرة تكليفه‪ ،‬بحمل رسالة من الزعيم إلى عائلته إذا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫كان ذلك ممكنا ومسموحا ثم قال له بهدوء عميق مفعم باأللم‪:‬‬ ‫سيد‪ ،‬ليس من شأني أن ّ‬ ‫«ال تتسرع يا ّ‬ ‫أوجه ألحد ّأية شتيمة ولم يكن‬ ‫يعرضه ألدنى ً‬ ‫في تعاليمي أو سلوكي ما يس يء إلى أحد أو ّ‬ ‫أذى أو إهانة‪ .‬لم‬ ‫يعط المر ٍّئ أن يهين سواه‪ ،‬قد يهين املرء نفسه»‪.‬‬ ‫مضت دقائق والحارس مطرق مغرق في الصمت‪ .‬ينتقل نظره بين‬ ‫ّ‬ ‫املحدقة الحانية‪ .‬تنتاب مالمحه إمارات الارتباك‬ ‫ألارض ونظرات الزعيم‬ ‫الشديد والخجل املكدود‪ .‬ما لبث بعدها أن تقدم بتؤدة من الزعيم‬ ‫والغ ّ‬ ‫صات تقطع نبرات صوته وهو يقول له‪:‬‬ ‫ً‬ ‫«اعذرني‪ ،‬يا أستاذ‪ ،‬أنت رجل كبير تواجه املوت بعد ساعات مبتسما‬ ‫ّ ً‬ ‫متزنا‪ .‬أما أنا فأخش ى خسارة وظيفتي‪ ،‬مورد عائلتي الوحيد‪ ،‬أسأت بما قلته‬ ‫ً‬ ‫لك يا زعيم‪ ،‬اعذرني ألني ال أستطيع أن آخذ منك شيئا ألحد»‪ ،‬وراح يلتهم‬ ‫ً‬ ‫بقية سيجارة كانت تذوي بين أصابعه مسرعة إلى الانطفاء ً‬ ‫هباء ورمادا‬ ‫تلفظ آخر رمق من نارها‪.‬‬

‫‪219‬‬


‫على كل يا أس ـ ـ ـتاذ تبقى النفسـ ـ ـية الس ـ ـورية‬ ‫أقوى من النفسية الـمصرية‬

‫خالل الفترة الواقعة بين السنة ‪ 1747‬وسنة ‪ 1755‬كان النشاط‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الحزبي عامة على ّ‬ ‫أشده حماسا واحتداما بين مختلف ألاحزاب السورية في‬ ‫الشام تتسابق جميعها للوصول إلى الشعب‪ .‬وكان مركز الحزب السوري‬ ‫القومي الاجتماعي قد انتقل آنذاك من بيروت إلى دمشق إثر استشهاد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الزعيم غيلة بمخالب «العدالة» الانعزالية‪ .‬أخذ الحزب يالقي انتشارا واسعا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وإقباال شديدا لدى مختلف صفوف الشعب وفئاته‪ .‬وتنوعت كثيرا حينذاك‬ ‫أساليب ووسائل الوصول إلى نفسية الشعب ووجدانه ووعيه‪ّ .‬‬ ‫وترسخت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وشموال الدعوة القومية في جميع ألاوساط الشعبية ّ‬ ‫وشتى املؤسسات‬ ‫عمقا‬ ‫دون استثناء‪ .‬وقد أصبح للحزب ّإبان تلك الحقبة عدد من النواب سواء من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫واملؤيدين الذين كانوا يتعاونون معا في‬ ‫بين أعضاء الحزب أو من أصدقائه‬ ‫جبهة واحدة معتمدين اتجاهات الحزب وتوجيهاته القومية الاجتماعية‬ ‫ً‬ ‫أساسا ملواقفهم وتداولهم للشؤون العامة‪.‬‬

‫‪218‬‬


‫ً‬ ‫في سلسلة الجوالت الحافلة التي كان الحزب يقوم بها تباعا إلى مختلف‬ ‫ً‬ ‫املناطق الشامية زرت بوصفي عميدا للداخلية مديرية «محردة» التابعة‬ ‫ملنفذية حماه حيث كان للحزب فرع قوي وناشط‪ .‬وكان برفقتي ّ‬ ‫ّ‬ ‫منفذ عام‬ ‫حماه وناظر إلاذاعة‪ .‬دع ْونا جميع ألاهلين قاطبة لالستماع إلى محاضرة يلقيها‬ ‫عميد الداخلية بموضوع العروبة القومية الاجتماعية في الساحة العامة‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫واضحا إلى ّ‬ ‫كل‬ ‫جليا‬ ‫للبلدة حيث نصب مذياع كبير بوسعه أن يحمل الصوت‬ ‫أرجاء محردة ومنازلها‪ّ .‬‬ ‫فلبى الدعوة جمع غفير من مختلف الفئات وألاحزاب‬ ‫ً‬ ‫وألاوساط فضال عن القوميين الاجتماعيين وذويهم واملناصرين‪.‬‬ ‫بدأت املحاضرة بعرض دقيق ملعنى العروبة عامة وتفنيد ماهيتها‬ ‫ّ‬ ‫وأبعادها وفق النظرة القومية الاجتماعية التي تتوخى الاستناد إلى املعطيات‬ ‫العلمية والانطالق منها إلى إثبات كل حقيقة والدعوة إلى اعتناقها‪ .‬وقد‬ ‫ّ‬ ‫وتمسكه بها وسعيه‬ ‫تناولت املحاضرة التوكيد على أهمية عروبة الحزب‬ ‫ّ‬ ‫العقدي إلنشاء الجبهة العربية التي تشكل القوة الحقيقية القادرة على جعل‬ ‫السد املنيع ّ‬ ‫ّ‬ ‫ضد جميع املطامع ألاجنبية التي تستهدف‬ ‫العالم العربي بأسره‬ ‫النيل من سيادته ومصالحه وكرامته القومية وقد استغرقت املحاضرة ما‬ ‫يقارب الساعة ثم أفسح في املجال لألسئلة ملمارسة الحوار الب َّناء الذي يبيح‬ ‫ملن يشاء من أسئلة واستيضاحات وأن يبدي ما يروق له من وجهات نظر‬ ‫قد تعارض رأي الحزب في املوضوع املطروح واملقارنة املوضوعية املسؤولة‬ ‫ً‬ ‫حرية الرأي ّ‬ ‫تحقيقا ملبدأ ّ‬ ‫وحق الحوار الراقي الهادف‬ ‫بين سائر آلاراء املغايرة‬ ‫ً‬ ‫أبدا إلى البناء والارتقاء إلى ألافضل وألاصح‪ .‬سرعان ما انهالت على املحاضر‬ ‫ألاسئلة والتعليقات على ما ورد لديه‪ .‬وتضاربت املعارضات املتفاوتة ملفهوم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫العروبة القومية الاجتماعية وقد كان جليا أن املتعلمين بين الحضور وفرة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بارزة وأن حماسهم ملقارعة الحجة بالحجة بدا شديدا وحريصا على تقرير‬ ‫ّ‬ ‫املسددة‬ ‫الحقيقة خدمة للمصلحة العامة بقوة الحقيقة‪ .‬وتوالت ألاجوبة‬ ‫‪217‬‬


‫لألسئلة واملالحظات عامة بجو جميل من الهدوء ومن إلاصغاء والسعي لبلوغ‬ ‫التفاهم املنشود بالرغم من تباين آلا اء ّ‬ ‫وتوزع املفاهيم حول العروبة‬ ‫ر‬ ‫وكيفية العمل لتحقيقها‪ .‬إلى أن ّ‬ ‫تقدم من بين جمهور الناس أحدهم‬ ‫ً‬ ‫ّ ً‬ ‫متحمسا ومسرعا نحو املنبر وهو يحمل بيمينه بضعة أوراق غير قليلة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فاعتلى حاال املنصة وراح يتلو من وراء املذياع على مسامع الحشد محاضرة‬ ‫مسهبة عن تاريخ العرب وأمجاد العروبة وما يفهمه هو من معناها ومدلولها‪.‬‬ ‫وأخذ يشيد بمصر «الشقيقة الكبرى» ويفاخر بفضلها على العروبة وفعل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مواقفها العربية الفذة بتدعيم دنيا العرب وتوليها قيادة العرب في أحرج‬ ‫ألاوقات ّ‬ ‫وأدق املراحل إلى تحقيق القومية العربية حتى خ ّيل للناس أن مصر‬ ‫هي وحدها العروبة بأسرها ووحدها العاملة لها ورائدتها ّ‬ ‫السباقة منذ قبل‬ ‫ّ‬ ‫الزمن التاريخي الجلي‪ .‬دون أن يكل ف حضرة املحاضر نفسه في خضم‬ ‫ً‬ ‫قليال لدى أي بلد عربي آخر ّ‬ ‫لينوه‬ ‫تحمسه البالغ البالغة أن يتوقف ولو‬ ‫بدوره في العمل العربي وفعل مواقفه العربية املجيدة‪ .‬كم كان تصرفه‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الكيفي بأحداث التاريخ ال علميا وال مسؤوال‪ ..‬وكم كان إصراره الانفعالي على‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جعل العروبة وقفا على مصر من دون سائر الشعوب والدول العربية إصرارا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جامحا ال منطقيا ومجحفا بحق جميع من عمل للعروبة وعالج شؤونها‪.‬‬ ‫تلك ألاثناء وفي لحظة خاطفة خطرت لي فكرة مفاجئة وجدت أنه من‬ ‫ً‬ ‫املناسب أن أقطع على املحاضر لهاث أنفاسه أللقيها سريعا على مسامع‬ ‫ً‬ ‫الجمهور‪ .‬وقد سر ْت بين صفوفه موجة ّ‬ ‫تبرم واستغراب‪ .‬اقتربت حاال من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫املتدفق ألقول «على ّ‬ ‫كل يا‬ ‫املذياع وأزحته عنه قليال قاطعا مجرى حماسه‬ ‫ٍّ‬ ‫أستاذ ّ‬ ‫فإن النفسية السورية تبقى أقوى من النفسية املصرية»‪ ،‬ما كاد‬ ‫ً‬ ‫يسمع هذا «التجديف» حتى تفاقم اندفاعه الجارف وبادرني مشددا وبصورة‬ ‫حاسمة‪« :‬كال يا أستاذ النفسية املصرية هي ألاقوى»‪ .‬فما كان ّ‬ ‫مني إذ ذاك‬ ‫إال أن أثنيت وثنيت على قوله بمنتهى الهدوء والرض ى «ال بأس أن يكون‬ ‫‪291‬‬


‫ذلك‪ ،‬لكن في هذه الحال ال يكون لألمة العربية الواحدة وجود على إلاطالق‬ ‫ما دامت لها نفسيتان متغايرتان ال نفسية واحدة»‪ .‬عندها اعتراه ذهول‬ ‫عميق الحيرة والارتباك‪ ،‬ثم ما لبث أن غادر املذياع وسط تصفيق الحضور‬ ‫دون أن يت ّم إلقاء محاضرته‪.‬‬ ‫وكانت هذه إحدى املناسبات الكثيرة التي ّ‬ ‫صح فيها الصحيح دون كبير‬ ‫عناء بتأكيد ّ‬ ‫ً‬ ‫صحة املفهوم العلمي الرصين ملعنى العروبة القومية الاجتماعية‬ ‫تجاه أي اندفاع انفعالي هو أقرب إلى الانجراف وراء ألاماني ّ‬ ‫والنيات منه إلى‬ ‫ً‬ ‫ألاخذ بحقيقة الواقع العملي‪ .‬كذلك أيضا هو ألامر بالنسبة إلى العقلية‬ ‫ّ‬ ‫تتصور إمكان وجودها واستمرارها مقطعة ألاوصال منقطعة‬ ‫الانعزالية التي‬ ‫ّ‬ ‫عن الاتصال ألاصيل والتفاعل الحي في الجسم السليم‪ ،‬جسم ألامة السورية‬ ‫التامة والوطن السوري الواحد‪ .‬مهما كانت النوايا واملقاصد حسنة وجيدة‬ ‫فاألوطان ال تقوم إال على املعطيات العلمية الواقعية الصالحة وحدها للبناء‬ ‫ّ‬ ‫الصالح والبقاء السليم والاستمرار ّ‬ ‫الحي والصمود الفذ املنتصر‪.‬‬

‫‪291‬‬


‫اقتنع فاعتنق فاستشهد‬

‫تعجز مرارة الخي ـ ـبة في النفوس ألاصيلة عن‬ ‫تعطيل قدرة الوعي للحقيقة وإلاقبال عليها‬ ‫سعاده‬

‫حضر ذات يوم ألامين الشهيد أحمد حمود لزيارتي في غرفتي بدمشق‬ ‫من أوائل سنة ‪ 1751‬حين أصبح مركز الحزب السوري القومي الاجتماعي في‬ ‫دمشق إثر إعدام السلطات اللبنانية للزعيم ألنه القائل «سورية للسوريين‬ ‫ً‬ ‫والسوريون أمة تامة»‪ .‬وكنت آنذاك عميدا للداخلية‪.‬‬ ‫تبادلت بعض طرائف النوادر والرفيق ألامين الذي كان لدي من أصفى‬ ‫ألاصدقاء ومن أكثرهم قربى ألفكاري وتأمالتي‪ .‬لقد كان يساررني بكوامن‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نفسه وخفايا خواطره الصميمة‪ .‬ثم طلب مني موعدا قريبا للقاء إذاعي‬ ‫ثقافي مع أحد املواطنين أصدقائه املقربين وأضاف أن املواطن هو ممن‬ ‫يؤمنون بالعروبة ويعملون لها بقناعة وصفاء وهو يود الاجتماع إلى مسؤول‬ ‫قومي اجتماعي لالطالع منه على عروبة الحزب وتدارس وجهات التقارب‬ ‫والتباين بين عروبة القومية العربية وعروبة القومية الاجتماعية‪ .‬ع ّين موعد‬ ‫اللقاء لليوم التالي‪ .‬وقد ّ‬ ‫تم في حينه مع ألامين حمود واملواطن رفيق سيف‬ ‫‪292‬‬


‫ّ‬ ‫وتوسعت حول مفهومنا القومي الاجتماعي‬ ‫الدين‪ .‬دارت ألابحاث بيننا‬ ‫للعروبة الذي نعتبره املفهوم العملي العلمي للعروبة الحقيقية من جميع‬ ‫الوجوه الاجتماعية‪ ،‬الثقافية‪ ،‬السياسية والاقتصادية‪ .‬وتناول الحوار كيف‬ ‫أن العالم العربي هو واقع بيئات جغرافية متنوعة‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬بيئات‬ ‫اجتماعية قومية متباينة‪ّ ،‬‬ ‫لكل منها ميزاتها وخصائصها كما تجمع بينها‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مصالح مشتركة ومفاهيم متقاربة تجعل منها عاملا واحدا تنضوي في إطاره‬ ‫أمم متعددة ال أمة واحدة فقط‪ .‬على هذه ألاسس العلمية الصحيحة تؤمن‬ ‫نهضتنا القومية الاجتماعية بوجود عروبة واقعية عملية وتعمل لها مع‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫منيعا ّ‬ ‫ضد كل اعتداء أجنبي‬ ‫سدا‬ ‫السعي إلنشاء جبهة عروبة واحدة تقف‬ ‫ّ ّ‬ ‫يحاول أن ّ‬ ‫يمس سيادة أي ّأمة من ألامم العربية التي تكون كلها متضامنة‬ ‫العالم العربي بأسره‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تشع ب النقاش وشمل سرد الدقائق والتفاصيل في تبيان معنى ألامة‬ ‫ً‬ ‫والقومية ومعنى العالم الذي يضم عددا من ألامم املتفاعلة املتجاورة‬ ‫فتتبادل الكثير من املصالح واملفاهيم املتجانسة‪ .‬وقد ّاتضحت بدقة معالم‬ ‫الاختالفات في وجهات النظر وأسبابها‪ .‬والصديق سيف الدين من القائلين‬ ‫بوجود أمة عربية واحدة وما سورية سوى جزء منها أو أحد أقاليمها كذلك‬ ‫حال بقية ألاقطار وألامصار العربية ألاخرى‪.‬‬ ‫وقد ساد البحث جو ممتع بروعة التجاوب املوضوعية وروحية السعي‬ ‫الدؤوبة من أجل ّ‬ ‫تلمس الحقيقة والتالقي لديها العتناقها بنبل ووعي‬ ‫ومسؤولية والذود عنها بأمانة وإيمان صارم‪.‬‬ ‫ً‬ ‫انتهت تلك الجلسة الطويلة واملريحة أيضا ولم ننته فيها إلى ش يء يذكر‬ ‫ً‬ ‫من التوافق الفكري العقدي سوى إلحاحنا على لقاء قريب وإصرارنا جميعا‬

‫‪292‬‬


‫ً‬ ‫ّ‬ ‫على ضرورة متابعة البحث مهما ّ‬ ‫وتوسع حرصا منا للوقوف على‬ ‫تشعب‬ ‫الحقيقة وجالئها من جميع جوانبها وزواياها‪.‬‬ ‫وتوالت اللقاءات مع املواطن رفيق سيف الدين بعناية حثيثة من قبل‬ ‫ألامين حمود وحضوره الدائم املواظب‪ .‬وكانت ألابحاث خاللها تدور عن‬ ‫العروبة في مختلف معطياتها ومفاهيمها سواء كانت الوهمية العاطفية وما‬ ‫ّ‬ ‫تنطوي عليه من دافق الاندفاعات وفيض ألاماني والنوايا ألاخاذة أو العروبة‬ ‫سجل ألاعمال وألافعال ال سفر ألاماني و ّ‬ ‫ّ‬ ‫النيات‬ ‫العملية التي ترى التاريخ‬ ‫مهما سمت وخلصت‪ّ « .‬‬ ‫فالنيات ال تكون إال باألعمال»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مضت أشهر وهذه الاجتماعات لم تنقطع إال ملاما واضطرارا وكنا لدى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫كل حوار عن العروبة وشتى النظريات فيها نقطع رويدا رويدا مجاالت عميقة‬ ‫ّ‬ ‫مركزة في تقريب وجهات النظر وجالء وحدة الرؤية ووحدة الهدف والغاية‬ ‫املنشودة‪ .‬بالرغم من التباين في البدء بين املنطلقات إليها وتفاوت ألاساليب‬ ‫ّ‬ ‫لبلوغها حتى غدت بعد حين بجهد متواصل التفاصيل عينها والدقائق كلها‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫متوافقة شكال ونهجا في التعبير واملضمون الجوهري‪.‬‬ ‫ثم انقطع فجأة الصديق رفيق سيف الدين عن الاتصال بي مدة ال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تقل عن ألاسبوعين إلى أن ّ‬ ‫حدثني هاتفيا بلهفة وشوق متفقدا أحوالي‬ ‫ّ ً‬ ‫الخاصة والشؤون الحزبية ومؤكدا توقه للقاء عاجل وطويل املدى برفقة‬ ‫ألامين حمود كاملعتاد‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مديدا وحاولت ّ‬ ‫تبي ن بواعثه مع‬ ‫فكان ذلك اللقاء بعد انقطاع خلته‬ ‫نفس ي‪ .‬وكانت ألاحاديث هذه املرة تدور حول تسديد بعض ألاسئلة املحددة‬ ‫عن املفهوم القومي الاجتماعي لألمة للقومية‪ ،‬لالجتماعية‪ ،‬للعالم العربي‬ ‫ْ‬ ‫تناولت تفصيالت‬ ‫وللجبهة العربية وكانت بمثابة استيضاحات تصفية‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مواضيع سابقة قد أشبعت درسا وتمحيصا‪ .‬وكان الصديق سيف الدين‬ ‫‪294‬‬


‫ً ّ ً‬ ‫ّ‬ ‫حينذاك منفرج ألاسارير ّ‬ ‫أشد حبورا وتألقا من أي وقت مض ى كأنه يتوقع‬ ‫بشرى بحدوث أمر عظيم أو ّ‬ ‫يعد نفسه للقيام بعمل جلل جدير بالغبطة‬ ‫والابتهاج‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بعد هنيهة من صمت مباغت حامال في طياته غمار التساؤالت وغزارة‬ ‫التأمالت في البعيد البعيد بادر الصديق رفيق سيف الدين برصانة وانشراح‬ ‫إلى إعالن قناعته التامة بصحة املفهوم القومي الاجتماعي للعروبة الواقعية‬ ‫وصدق سائر املبادئ السورية القومية الاجتماعية وهو ّ‬ ‫يود آلان من أعماق‬ ‫يقينه هذا وبملء تح ّسسه باملسؤولية أن ينتسب إلى صفوف الحزب‬ ‫السوري القومي الاجتماعي مع أنه يشعر باأللم ّ‬ ‫يحز بنفسه لعدم وجود أمة‬ ‫عربية واحدة وهو يواجه الحقيقة السورية القومية الاجتماعية بمرارة‬ ‫موجعة ّ‬ ‫ألن هذه الحقيقة قد أسقطت اطمئنانه السابق إزاء ما كان يحسبه‬ ‫ً‬ ‫صوابا ويمأل قناعت ه خالل سنين عديدة قضاها أليف إيمان ونشاط لقضية‬ ‫ّ‬ ‫العروبة الواحدة لألمة الواحدة‪ّ .‬‬ ‫لكنه يسلم غير مكابر وال مرغم بالحقيقة‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫معتزا بينما يتقدم إلى اعتناقها عقيدة سورية‬ ‫الكلية ألاخيرة ويسير به ْديها‬ ‫قومية اجتماعية خالصة وبكل إخالص وكل عزيمة صادقة من أجل تحقيق‬ ‫ألامر الخطير الذي يساوي ّ‬ ‫كل وجودنا‪ .‬مضت سنوات على اعتناق الرفيق‬ ‫رفيق سيف الدين للعقيدة السورية القومية الاجتماعية ومن ثم ّأدى‬ ‫ضريبة الدم بأمانة الشهادة وزخم البطولة ّ‬ ‫املؤيدة بصحة العقيدة‪.‬‬

‫‪295‬‬


‫إن إبداء الرأي واجب في محله‪ ،‬منكر في غير‬ ‫محله‪ .‬وما أك ـ ـ ـ ـثر الذين يب ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـدون آراء في غير‬ ‫محـ ـ ـ ـ ـلها‬ ‫سعاده‬

‫تتكاثر آلا اء والنظريات في ّ‬ ‫شتى املواضيع وألابحاث املتداولة في هذا‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫العصر الذي ضرب الرقم القياس ي في تعدد الاختراعات والاكتشافات سواء‬ ‫في العلوم العملية أو العلوم إلانسانية‪ .‬من هذه العلوم ما يعاد النظر به من‬ ‫ً‬ ‫جديد بعد أن مض ى على اعتباره نهائيا خالل أجيال خلت‪ .‬ومنها ما هو جديد‬ ‫ّ‬ ‫وتطرق إليه البحث أو تناوله العقل بالتحليل‬ ‫لم يسبق أن تداوله إلانسان‬ ‫والتمحيص‪ .‬وقد ّ‬ ‫امتد ت آفاق املواضيع واتسعت أبعادها وأنواعها إلى حدود‬ ‫ً‬ ‫مذهلة حقا‪ ،‬حدود املفاجآت الكبرى في عالم كل علم‪ ،‬كل فن وكل فلسفة‬ ‫ّ‬ ‫دون تو ُّقف وال تم ُّهل‪ .‬وقد اشتمل التطور‬ ‫والتجدد على ألاصول واملعطيات‬ ‫ً‬ ‫وألاساليب والوسائل قاطبة‪ .‬حتى بلغ التسابق في إبداء آلا اء ّ‬ ‫أشده شموال‬ ‫ر‬ ‫ملختلف املواضيع والظاهرات التي غدت تواجه إلانسان في كل زمان وكل‬ ‫ً‬ ‫مناسبة‪ .‬لقد جرف ّ‬ ‫حب الحوار من أجل الحوار اعتباطا معظم الناس‪ ،‬كما‬ ‫‪291‬‬


‫ّ‬ ‫استولى عليهم التعلق بالتنظير الجدلي دون أن يترك لهم مجال التأمل‬ ‫الصحيح والتعمق الرزين‪ .‬كأن هؤالء الناس قد تحولوا بين ليلة وضحاها إلى‬ ‫جمهرة من نوابغ أفذاذ في ّ‬ ‫كل شأن من شؤون الفكر وإلالهام العبقري‪ .‬ال‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫شك أن إبداء الرأي واجب في محله‪ ،‬لكنه منكر في غير محله‪ .‬وما أكثر الذين‬ ‫يبدون آراء في غير محلها‪.‬‬ ‫● يروي لنا الزعيم في خطاب أول آذار سنة ‪ 1728‬كيف أملى الخوف‬ ‫ّ‬ ‫من انكشاف أمر الحزب على عدد من ألاعضاء آراء في غير محلها‪« :‬كم وكم‬ ‫من الذين جاؤوا يراجعونني في أمر إتالف بطاقات العضوية املثبتة‬ ‫مسؤوليات ألاعضاء‪ .‬فرفضت إلاصغاء لصوت الخوف والوجل وأجبت الذين‬ ‫كانوا يطلبون إتالف التذاكر والاستغناء عنها ‹إننا حين ندخل الحزب‬ ‫السوري القومي ندخل في حياة جديدة ال نريد أن نتخلى عنها›‪.‬‬ ‫والذين كانوا يقولون ‹ال حاجة لهذه البطاقات‪ ،‬ألن إلايمان في القلب‪،‬‬ ‫وألاصل الباطن وكلمة الرجل تكفي لتقييده› أجبتهم ‹أن الظاهر يجب أن‬ ‫ّ‬ ‫يدل على الباطن والذي يتقيد بكلمته ال يرفض أن تكون هذه الكلمة خطية‬ ‫وحاملة توقيعه›‪ .‬إني أبغضت السياسة في القومية وكرهت الاحتيال للتهرب‬ ‫من املسؤولية بشرف»‪.‬‬ ‫● ذات مرة اقترح على الزعيم أحد الخائفين من الصعوبات‪ ،‬املتهربين‬ ‫من مواجهة مسؤولياتهم في الصراع والصمود‪« :‬ما رأي حضرة الزعيم‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تسهيال النتشار الحزب وضمانا الجتيازه املراحل الصعبة‪ ،‬أن يصار إلى‬ ‫تشكيل فروع للحزب على أساس الطوائف والعشائر املنتشرة هنا وهناك‬ ‫حسب أوضاع السكان ّ‬ ‫وتوزعهم في املناطق ثم ت ّ‬ ‫ضم هذه الفروع بعضها إلى‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بعض قوميا اجتماعيا‪ .‬أليس هذا ألاسلوب أجدى للعمل وأضمن للنتائج‬ ‫ّ‬ ‫املتوخاة على أهون سبيل؟»‪.‬‬

‫‪299‬‬


‫ً‬ ‫ما كاد الرفيق املقترح ينهي كالمه هذا‪ ،‬حتى بادره الزعيم قائال‪ :‬من‬ ‫املمكن قبول هذا الرأي وألاخ ذ بتنفيذه واعتماده‪ ،‬إذا صح لطبيب أن يعالج‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مريضا يشكو أملا في إحدى يديه بطريقة قطع يده أوال‪ ،‬ملداواتها على حدة‬ ‫ً‬ ‫تسهيال ملزاولة املريض ألعماله املعتادة‪ .‬حتى إن تعافت تلك اليد‪ ،‬هكذا‪،‬‬ ‫تعاد إليه بعد حين‪ .‬فيلقى الشفاء والعافية املنشودة‪ ،‬على أهون سبيل‬ ‫وبأقل عناء للمريض‪.‬‬ ‫ما قولك بهذا ألاسلوب باملداواة الذي يبتر ما يقتض ي تأمين تفاعله‬ ‫الحي في دورة حياة صحيحة سليمة ال سبيل إلى إلانقاذ والقوة ّإال بها‪ّ .‬‬ ‫شتان‬ ‫بين إزالة املرض من الجسم وإلاجهاز على هذا الجسم إلزالته من الوجود أو‬ ‫تشويه وجوده الجميل على ألاقل‪.‬‬ ‫● كنت في إحدى جوالتي الحزبية إلى القامشلي كي ألقي محاضرة عن‬ ‫العروبة وكيفية فهمنا لها وموقعنا العقدي منها‪ .‬وقد جل ْوت الفرق بين‬ ‫العروبة الوهمية وعروبتنا العلمية التي تثبت وجود ألامة السورية التامة‪،‬‬ ‫كما تثبت ضرورة إنشاء الجبهة العربية ّ‬ ‫املكونة من سائر أمم العالم العربي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تشكل جبهة عربية منيعة ّ‬ ‫ضد كل اعتداء أجنبي مهما بلغ من القوة‬ ‫والتي‬ ‫والضراوة الاستعمارية‪ .‬وكنت أجيب على مختلف ألاسئلة التي يوجهها‬ ‫املواطنون بهذا الصدد بإدالء ألادلة والبراهين القاطعة على صحة مفهومنا‬ ‫للعروبة الحقيقية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يتقدم أحد‬ ‫وأخيرا‪ ،‬وكنت قد أوشكت على الانتهاء من املحاضرة‪،‬‬ ‫الذين أفاضوا في توجيه ألاسئلة والحوار معي في املوضوع املطروح‪ ،‬ليعلن‬ ‫ّ‬ ‫بصوت جهوري على مسمع من الجميع‪« :‬إني‪ ،‬يا أستاذ‪ ،‬قد اقتنعت بوجود‬ ‫أمة سورية ذات خصائص ّ‬ ‫تميزها عن سواها كأمة تامة‪ ،‬وأيقنت بوجود‬ ‫ً‬ ‫عالم عربي يضم عديدا من ألامم التي تربط بينها شتى الروابط واملصالح‬

‫‪298‬‬


‫ألاساسية ألاكيدة‪ .‬لكنني مع ذلك ما زلت بحاجة إلى إلاجابة على سؤالي ألاخير‬ ‫إليك‪ ،‬إذا سمحت‪ :‬ملاذا ال توجد أمة عربية واحدة؟»‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫خيم على الحضور وجوم حائر وأخذوا يتبادلون الابتسامات‪ .‬ثم راحوا‬ ‫ّ‬ ‫يتطلعون إلى الجواب بنظرات ّ‬ ‫تعبر عن عجبهم لغرابة املنطق الال منطقي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تأملت السائل‪ ،‬والابتسامة العريضة كادت تفضح استغرابي لسؤاله‬ ‫وتغني عن أي إفصاح آخر‪ .‬لكنني استدركت وقلت‪« :‬كل منا‪ ،‬يا صاحبي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أصبح مقتنعا بحقيقة وجود ألامة وحقيقة وضوح شخصيتها‪ .‬وكالنا يجهل‬ ‫ً‬ ‫ألاسباب لعدم وجود أمة عربية واحدة مع تأكده من عدم وجودها علميا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫وقوميا اجتماعيا‪ .‬أما الفرق بيننا فهو إنني واثق من صحة معرفتي ومعتمد‬ ‫عليها‪ .‬بينما أنت تعرف الحقيقة وال تريد أن تواجهها مواجهة فعلية‬ ‫موضوعية‪ .‬إن أمنيتك بوجود أمة عربية‪ ،‬ال يضيرني وجودها‪ ،‬إن وجدت‪،‬‬ ‫هذه ألامنية تطغى لديك على الواقع وعلى سالمة املنطق‪ .‬ثق‪ ،‬يا صاحبي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معا ّ‬ ‫لعزها وسعادتها‪ .‬بذلك نحقق‬ ‫بوجود ألامة السورية وتعال نعمل‬ ‫العروبة‪ ،‬وننصر قضية العرب الواقعية في كل أمم العالم العربي‪ ،‬دون أدنى‬ ‫ريب أو أي إشكال يضعنا في حيرة بين ما ندركه بالعقل السليم وما نتوق‬ ‫إليه بالعواطف وألامنيات النبيلة‪ ،‬لكنها غير واقعية‪.‬‬

‫‪297‬‬


‫قد انتص ـ ـ ـ ـ ـ ـرنا انتصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـارات غ ـ ـ ـ ـير منظ ـ ـ ـ ـ ـ ـورة‬ ‫وانتص ـ ـ ـ ـارات كثيرة منظ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـورة‪ .‬وسيك ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـون‬ ‫النتص ـ ـ ـ ـ ـارنا ألاخير مش ـ ـ ـ ـ ـهد ينظر إليه العالم‬ ‫أجم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـع‬ ‫سعاده‬

‫ّ‬ ‫حدثني أحد الرفقاء املثابرين على النضال القومي الدؤوب طيلة عقود‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫من عمره قال‪ :‬بينما كنت ساهرا في البيت مع أفراد عائلتي وأنا أعاني آالما‬ ‫ّ‬ ‫صحية ّ‬ ‫مبرحة من ّ‬ ‫جراء مرض عضال‪ ،‬قرع جرس الهاتف فهرعت أستجلي‬ ‫ّ ً‬ ‫علي جدا يسألني عما إذا كان بإمكانه زيارتي‬ ‫الخبر فإذا برفيق قديم وعزيز‬ ‫تلك السهرة‪ّ .‬‬ ‫رحبت به بحرارة فائقة خاصة ولم أكن قد التقيت به منذ زمن‬ ‫طويل‪ .‬ورحت ّ‬ ‫أرحب به بشوق كبير‪ .‬وبعد لحظات حسبتها ساعات قرع‬ ‫جرس الباب فأقبل الرفيق الصديق ومعه رفيقان آخران ممن يشوقني‬ ‫اللقاء بهم‪ .‬وكانوا يتأبطون زجاجة من الويسكي مع لوازمها من مقبالت‪.‬‬ ‫جلسنا جميعنا وأفراد عائلتي مرحين فرحين وأخذنا نحتس ي بعض املشروب‬ ‫ً‬ ‫الذي يعالج آلاالم والهموم أحيانا باالنصراف عن النظر إليها ومواجهتها على‬ ‫طريقة النعامة‪ .‬سرعان ما تعالت حرارة املرح كاملعتاد في لقاءات القوميين‬ ‫‪281‬‬


‫الاجتماعيين العائلية واشتد التسابق في إلقاء النكت وسرد القصص مما‬ ‫ّ‬ ‫يدل على عميق الانفتاح لدى القومي الاجتماعي وشديد إلاقبال على الحياة‬ ‫ّ‬ ‫ملالقاة الغد ألاجمل‪ .‬وقد تخلل سرد القصص ذكر الوقائع الشيقة عن أخبار‬ ‫الحزب ومواقف القوميي ن خالل أحداث من تاريخ النضال القومي الاجتماعي‬ ‫ّإبان وجود الزعيم بيننا ومنذ ذلك الحين‪ .‬تلك ألاثناء يقطع الرفيق الصديق‬ ‫ً‬ ‫متوجها ّ‬ ‫إلي بهذه العبارات‪ :‬يا حضرة ألامين‬ ‫جو املرح الغامر نفوس الجميع‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫إني أحد تالميذك العاقين الذين أهملوا واجباتهم القومية الاجتماعية كثيرا‬ ‫تجاهك وتجاه أمثالك من قدماء املناضلين القدوة بسلوكهم وصمودهم‪.‬‬ ‫فمن خالل قدوتك لنا ّ‬ ‫تعرفنا نحن إلى عظمة النهضة وعرفنا الكثير عن‬ ‫حضرة الزعيم ومن خالل رفقاء الزعيم أمثالك كان لنا أجمل ألاخبار‬ ‫ّ‬ ‫وأروعها عن سيرة الزعيم وعن مزايا شخصيته العبقرية الخالبة‪ .‬ثم أضاف‬ ‫ّ‬ ‫الرفيق الصديق إني أعتبر أن من قدموا حياتهم كلها للنهضة وثابروا على‬ ‫العطاء والجهاد بال كلل هؤالء قد عملوا للحزب تلبية لواجباتهم هم ونيابة‬ ‫ّ‬ ‫عن كثيرين من املتخل فين املهملين الذين اقتصر اهتمامهم في الحياة على‬ ‫شؤونهم الخصوصية وتحصيل الثروة املالية ألشخاصهم‪ .‬وأنا من هذه الفئة‬ ‫التي تخلت عن واجباتها العامة للعناية بمنافعها الخاصة فقط ولوال ذلك ملا‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫تسنى لي حيازة ما أملك من ثروة‪ .‬وإني أعتبر أيضا أن ذلك وألمثالك حصة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بل حقا مشروعا في ثروتي وقد جئنا نعلن لك هذا الحق راجين أن تلبي لنا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫نلح على تحقيقه‪ .‬ترامى إلينا ما تعانيه من آالم ّ‬ ‫هاما ُّ‬ ‫صحية وأن‬ ‫طلبا‬ ‫الطبيب قد أشار من ضمن معالجته لك أن تمتنع عن متابعة وظيفتك‬ ‫وتتوقف عن كل مجهود مهما كان نوعه حتى يستطيع شفاءك‪ .‬إن إرشاد‬ ‫ً‬ ‫الطبيب إليك بعدم القيام بأي عمل يضعك في مأزق أشد حرجا من املرض‬ ‫نفسه بالنظر إلى وضعك املالي املعروف لدى الجميع‪ .‬لقد علمنا باألمر منذ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫يومين فسارعنا إليك ّ‬ ‫نقدم حلنا لهذه املشكلة وهو أن تستقيل فورا من‬

‫‪281‬‬


‫ً‬ ‫الوظيفة عمال بوصية الطبيب ونحن نؤمن لك الراتب الذي تتقاضاه مهما‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لتحمل‬ ‫بلغ قدره‪ .‬إن إمكانياتنا املالية فضال عن عميق استعدادنا الروحي‬ ‫هذه املسؤولية بسهولة واعتزاز قومي اجتماعي تجعلنا قادرين على تنفيذ ما‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مصرا على أخذ‬ ‫نتعهد به بكل أمانة ودقة‪ .‬ولدى توقف ألامين عن حديثه‬ ‫الجواب في تلك السهرة عينها بقبول الحل املعروض وقد أفاض في تفنيد‬ ‫استعداده الكامل لتقديم كل حاجات ألامين بمنتهى السرور والارتياح التام‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وتوقف الرفيق الصديق أخيرا عند رجاء بالغ الروعة والصفاء‪ ،‬رجاؤه بأن‬ ‫يكون لألمين ثقته الكلية بالرفيق الصديق التي يجب أن توازي ثقة الرفيق‬ ‫الصديق باألمين وأن تتكامل الثقة املتبادلة في ممارسة الواجب القومي‬ ‫الاجتماعي تجاه القضية التي تعاقدنا على تحقيقها على أنها تساوي كل‬ ‫وجودنا فكان قبول ألامين واستمر التنفيذ بإيمان ّ‬ ‫عز نظيره في التاريخ‪.‬‬ ‫«ما أشد اعتزازي بكم وما أروع النصر الذي أسير بكم إليه» كم‬ ‫انتصرنا انتصارات كثيرة غير منظورة ال تحص ى وال تتوقف إلى جانب‬ ‫الانتصارات الكثيرة املنظورة واملستمرة‪.‬‬

‫‪282‬‬


‫األمين الياس جرجي قنيزح‬

‫شموخ السنديان‬

‫كراس صدر يف ‪1779/12/12‬‬ ‫ي‬

‫فيه جمموعة من املقاالت اليت كتبت عن األمني الياس جرجي قنيزح‬ ‫بعد وفاته يف ‪1779/11/27‬‬

‫‪282‬‬


‫شهادة في مصدر الشهادات‬ ‫أنطوان غريّب‬

‫البقاء لألمة‪ ،‬والبقاء للزارعني يف كرمها عمر نضال يف ما زرعوا وجنينا من مثارهم‬ ‫احملبيبة‪.‬‬

‫األمني ا لياس جرجي قنيزح الذي تناسينا فيه كل األلقاب واألمساء‪ ،‬كما ختلى هو‬ ‫عن كل ارتباط فردي الرتباط أمسى باألمة واجملتمع‪ ،‬فهو كان لنا «األمني الياس»‬ ‫ونقطة على السطر‪.‬‬

‫لن نردد ما كرزه وما ح يققه طوال مسرية نضاله اليت جتاوزت النصف قرن‪ ،‬فكل‬ ‫ذلك يندرج يف صفحات مضيئة من تاريخ النهضة وحزهبا‪.‬‬ ‫إنه التجسيد ملا رمسه سعاده يف وعيه املتوقد ملثال القومي االجتماعي‪ ،‬التزاماً‬

‫نضالياً ومناقب أخالقية‪ ،‬وصالبة موقف وإصرار مثايل على وقف كل نبضة من‬ ‫عمره لقضية األمة ونصرة هنضتها يف بناء أجيال أعدها لتحمل املشعل من بعد جيل‬ ‫التأسيس‪.‬‬

‫«أمني الياس» ألنك أسقطت مثالب األنانية والفردية والفئوية‪ ،‬ترجلت عن‬ ‫صهوة النضال يف اسرتاحة استحقيت وزناهتا‪ ،‬ملن أنشأت وربيت وهذبت‪ ،‬فأنت يف‬ ‫الوجدان املثال املقيم‪ ،‬ويف الذاكرة صورة إشراق هنضوي‪ ،‬وسنلتقيك عند كل صياح‬ ‫ديك وقبل كل هجمة ليل وبالتحية زاوية قائمة حلياة سوريا‪ ،‬أمالً بأن نقاربك يف‬ ‫املثال الذي كنته لنا‪.‬‬

‫* من الافتتاحة في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪284‬‬


‫قامة مديدة‬ ‫علي قانصو‬

‫أمر مشهد رحيلهم‪ ،‬وما أثقله على الذاكرة‪:‬‬ ‫ما ي‬ ‫تراهم يعربون إىل مثواهم األخري‪ ،‬من أمام ناظريك‪ ،‬من بني يديك‪ ،‬يعربون‬ ‫واحداً إثر واحد‪ ،‬قامة مديدة إثر قامة‪ ،‬وسنديانة شاخمة إثر سنديانة‪.‬‬

‫بصمت كبري‪ ،‬يعرب أولئك الصحابة‪ ،‬صحابة الزعيم‪ ،‬ض يفة احلياة فتنطوي‬ ‫بعبورهم قبضات جبابرة‪ ،‬وحمطات مشرقات من التاريخ‪.‬‬

‫هؤالء هم رفقاء سعاده‪ ،‬بناة التأسيس‪ ،‬يرواد النهضة القومية االجتماعية‪ ،‬هؤالء‬ ‫أتعبوا الزمن وما تعبوا‪ ،‬غالبوا التنني وما غلبوا‪ ،‬عرفتهم السجون واملنايف‪ ،‬كما الفقر‬ ‫اهتز إمياهنم‪.‬‬ ‫والعوز‪ ،‬امتحنتهم الشدائد بقسوة‪ ،‬فما النت عزميتهم وال ي‬

‫هؤالء هم ذاكرتنا‪ ،‬تارخينا‪ ،‬قادتنا‪ ،‬ووجهنا الذي ال خيبو‪.‬‬ ‫ويا أمني الياس‪..‬‬ ‫أيها ا لصحايب اجلليل‪ ،‬يا ابن الشام‪ ،‬يا ابن لبنان‪ ،‬يا ابن األردن‪ ،‬أيها السوري‬

‫القومي االجتماعي‪ ،‬ماذا أقول فيك اليوم‪ ،‬وأي كالم يستطيع اإلحاطة بتارخيك‪،‬‬ ‫ستون عاماً ونيف‪ ،‬سلختها يف النضال الدؤوب واملستمر‪ ،‬واحتملت فيها شّت‬ ‫ضروب القهر والفقر والتشرد‪ ،‬وما ضعفت يوماً‪ ،‬وال تأفيفت‪ ،‬وال اعتكفت‪ ،‬وال‬ ‫خرجت عن نظام املؤسسات‪ ،‬ويكفي أن يسند إليك الزعيم مسؤولية عميد‬

‫*‬

‫من كلمة ألقاها في وداع الراحل في ‪ ،1779/11/21‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ‬ ‫‪.1779/11/8‬‬

‫‪285‬‬


‫الداخلية‪ ،‬مث مدير مكتب الزعامة وناموسها األول‪ ،‬ورئيس جلنة التحقيقات اإلدارية‪،‬‬ ‫لتكون صحابياً مميزاً‪ ،‬وقائداً قدوة‪ ،‬وبعد استشهاد الزعيم بقيت يف مواقع املسؤوليات‬

‫القيادية‪ :‬عميداً‪ ،‬وعضواً يف اجمللس األعلى‪ ،‬ورئيساً للمحكمة احلزبية العليا‪ ،‬ورئيساً‬ ‫بقيت إذاعة احلزب‪ ،‬يتحليق حولك املواطنون يف‬ ‫للحزب‪ ،‬وعلى امتداد تارخيك َ‬ ‫البيوت كما يف الساحات العامة تعلمهم مبادئ احلزب ونظامه ومناقبه وتارخيه‪ ،‬ولو‬ ‫ومروضها بامتياز‪ ،‬سرياً على‬ ‫كان للمسافات أن تنطق اليوم لقالت أنك فارسها ي‬ ‫األقدام كنت تطوف يف قرى الشام ومدهنا‪ ،‬كما يف قرى لبنان ومدنه تزرع يف كل‬

‫يباس نباتاً‪ ،‬وفوق كل صخرة تراباً‪ ،‬واخلصب يا أبا متوز‪ ،‬اخلصب اآليت من ختصيب‬ ‫احلياة مببادئ النهضة القومية االجتماعية‪ ،‬هذا اخلصب الذي أنتجته يداك‪ ،‬وروح‬ ‫التضحية والفداء اليت عقبت هبا سريتك‪ ،‬هذان جعالك جديراً بكنيتني عرفت هبما‬

‫عنيت‪ :‬أبا متوز وأبا فداء‪.‬‬ ‫ولن أنسى يا أبا متوز‪ ،‬هذا الفرح الغين الذي يفرتش صدرك وخيليف ألوانه على‬ ‫حديثك وعلى نظرتك إىل األمور‪ ،‬وعلى عالقاتك برفقائك ومواطنيك‪ ،‬إنه فرح‬ ‫اإلميان بالقضية وفرح االلتزام هبا‪ ،‬ما رأيتك يوماً يف تشاؤم‪ ،‬ما رأيتك يوماً إال‬ ‫والبسمة فوق شفتيك‪ .‬أما الطرفة فكانت جزءاً من أسلوبك يف احلديث‪ ،‬حّت يف‬

‫حتمل الطرفة ما تريده من أفكار‬ ‫املواقف اجلدية والدقيقة‪ ،‬لكنيك كنت تعرف كيف ي‬

‫ومواقف جامعاً يف حديثك بني املتعة والفائدة‪.‬‬ ‫يا أبا متوز‪ ،‬يا أبا فداء‪:‬‬ ‫ومن حيمل لألمة األمل باخلصب والتج يدد واالنبعاث؟ من يشكل فيها مخرية‬

‫الفداء؟‬ ‫يا أبا متوز‪:‬‬ ‫سيبقى حزبك حامالً مشعل النهضة لشعبنا‪ ،‬مدرسة الوعي القومي االجتماعي‬ ‫يف وطننا‪ ،‬سيبقى عامالً على بناء اإلنسان اجلديد‪ ،‬وعلى بناء اجملتمع املدين والدولة‬ ‫‪281‬‬


‫املدنية‪ ،‬سيبقى مخرية االنبعاث والفداء‪ ،‬وستبقى أنت القدوة لنا يف التضحية‬ ‫والنضال واملناقب والنظام‪.‬‬ ‫سنبقى نفيء إىل ظاللك الوارفة‪ ،‬وإىل ظالل من سبقوك إىل العامل اآلخر من‬ ‫مؤس س حزبنا وزعيمه سعاده‪ ،‬السالم على روحك من‬ ‫الرواد األوائل ويف مقدمتهم ي‬ ‫مين ومن قيادة احلزب وأعضائه‪ ،‬البقاء لكم‪ ،‬البقاء‬ ‫كنيسة احملبة والسالم‪ ،‬التحية لك ي‬ ‫ألمتنا والنصر لقضيتنا‪.‬‬

‫‪289‬‬


‫مبدع في خلق نفسه‬ ‫متروبوليت بيروت للروم األرثوذكس‬ ‫الياس عودة‬

‫من يطالع يا أخويت سرية «إلياس» هذه األرضية‪ ،‬يكتشف كم هو إنسان مبدع‬ ‫يف خلق نفسه‪ .‬إنسان منذ الطفولة شاء أن يكون حراً‪ ،‬أن يكون سيد كلمة ختلق‬

‫حيول الفكر‪ ،‬من فكر كسول‪ ،‬من فكر ميتهن العبودية‪ ،‬إىل فكر يْنـ َوجد‬ ‫وتبدع‪ .‬هبا ي‬ ‫ويوجد‪ .‬إنسان من غضاضة شبابه عرف أن يعلِّم الشباب َّ‬ ‫بأن العلم وسيلة ليكو َن‬ ‫الشخص‪ .‬والشخص ليس فردياً ال بل هو إنسان اجتماعي‪ ،‬مبعىن َّ‬ ‫أن فرحه يرختي‬ ‫كل إنسان حيب‪.‬‬ ‫على اآلخرين سعاد ًة‪ ،‬وأمله جيرح اإلنسان اآلخر‪ ،‬جيرح احلبيب‪ ،‬و ي‬ ‫ٍ‬ ‫يتكرب‪،‬‬ ‫تعليم يف املدرسة‪ ،‬وأكمل علمه على نفسه‪ ،‬عصامياً‪ .‬بعدئذ مل يتوا َن ومل ي‬

‫وارتضى أن يكون رفيقاً للطلبة‪ ،‬لطلبة احلقيقة‪ ،‬لطلبة االنفتاح‪ ،‬ألولئك الذين يريدون‬ ‫أن يكونوا كالربعم املنفتح للحياة‪ .‬لكنه‪ ،‬باعتقاده‪ ،‬كان حمصوراً يف نطاق يستطيع أن‬ ‫التواقة ال تستطيع أن تبقى حمصورة ولو‬ ‫يتجاوزه إىل دائرة أوسع‪ ،‬حيث وجد نفسه ي‬ ‫يف ُجال الشباب‪ ،‬بل أراد أن يعاشر من يكون على كِ َِرب القضية والوطن‪ .‬وهلذا منذ‬ ‫شبابه الباكر ترك التعليم وذهب لينخرط مع شباب اعتقدوا َّ‬ ‫بأن مسريهتم تنقذ‬ ‫الشعب الراقد من النوم وتوقظه ليكون حياً‪ ،‬ليكون نظامياً يف األخالق واملناقبية‪،‬‬ ‫غش وكل خيانة وعلى كل ما يسيء إىل اإلنسان‬ ‫متمرداً على كل ٍّ‬ ‫وسالمة القلب‪ِّ .‬‬

‫األمة والوطن‪.‬‬ ‫تتكون َّ‬ ‫الذي منه َّ‬

‫* من كلمة ألقاها في وداع الراحل في ‪.1779/11/21‬‬

‫‪288‬‬


‫هكذا كان هذا األمني على ما اعتق َد‪ ،‬وأنا أحرتم من يعتقد‪ ،‬وأحرتم من يكون‬

‫أميناً العتقاده‪ ،‬ألين أحب الصادقني الذين أمساهم الكتاب‪ :‬الصدِّيقني‪ ،‬فالصادق‬ ‫خمفي‪ ،‬واحلق‪ ،‬يف الكلمة اليونانية‪ ،‬يعين ما هو غري خفي‪.‬‬ ‫وحده يكشف ما هو ي‬ ‫كل حني‪ .‬أما يف اخلفاء والظلمة فيحاك‬ ‫وهذا اإلنسان عرف أن احلقيقة تنجلي يف ي‬ ‫ما هو ظالم وظلم‪ ،‬ألن احلقيقة ال ختاف‪ .‬الظاملون ال يفعلون يف الضوء ما يشاؤون‪.‬‬ ‫العلَن معتربين َّ‬ ‫بأن احلقيقة اليت يؤمنون هبا هي حقيقة‬ ‫واملؤمنون يفعلون األمور يف َ‬

‫آمنوا‬ ‫آمنوا بصدقيته‪َ ،‬‬ ‫للمأل ال لفئة من الفئات‪ .‬وهلذا يا أحبية‪ ،‬هذا األمني الذي َ‬ ‫آمنوا بتكامل نفسه‪ ،‬كان يُرقى إليه من حني إىل آخر تَـ َرتاً مبسؤوليات كبرية‪.‬‬ ‫مبناقبيته‪َ ،‬‬ ‫واألمور الكبرية ال تعطى إال للصادقني‪ .‬فاملنافقون ال يبنون‪ ،‬املنافقون يبنون أنفسهم‪،‬‬ ‫وأما اآلدمي يُهلك نفسه لتحيا أنت‪ .‬وهلذا يا أحبة‪ ،‬عرفوا َّ‬ ‫بأن هذا اخلَِفر يظهر يف‬

‫العمل الصاحلَ‪ ،‬فأوكل له أن يعمل‪.‬‬ ‫تقرأ هذه السرية‪ ،‬فتحرتم إنساناً يناضل من أجل اعتقاد الْتَـ َزَمهُ‪ .‬وأنا أحب‬ ‫الصادقني وأكره املنافقني الذين يبيعون النفوس من أجل ختمة بطوهنم وجيوهبم‪ .‬يا‬ ‫أحبَّة‪ ،‬أعرتف بأين ال أعرف سريته مع اهلل ولكن أؤمن بأ ين اهلل يقول‪ :‬ملكوت اهلل يف‬ ‫داخلكم‪ ،‬أعرف بأن عقيدة احلزب امتلكت نفسه‪ ،‬واهلل يعلم إن كان ميلكه يف‬ ‫نفسه‪ ،‬ولكين على يقني بأن ملتزم احلق والصدق ال يعرف هذين إن مل يكن هلل يف‬ ‫مقر‪ ،‬فقط ِّ‬ ‫املتأهلون يعرفون احلقيقة‪ ،‬واإلنسان‪ ،‬إن مل يكن أميناً يف القليل ال‬ ‫قلبه ي‬ ‫يستطيع أن يكون أميناً يف الكثري ‪.‬هذا الذي يتكلم عن وطنية وال حيرتم بيته‪ ،‬هذا‬ ‫كاذب‪ .‬إذا أنت لست أميناً يف البيت ال تستطيع أن تكون أميناً للبلد‪ ،‬ومن كان‬ ‫سارقاً لدرهم يسرق املليون‪ ،‬ألن السرقة ليست متعلِّقة بالقيمة‪ ،‬وإمنا متعلِّقة بالقلب‪.‬‬ ‫ولياس الذي ‪ -‬وشكراً هلل ‪ -‬ينطلق من بيتنا إليه‪ ،‬أنا أفرح بأنه مل خين ما اعتق َد به‬ ‫وفيه‪.‬‬

‫‪287‬‬


‫فيا أحبية‪ ،‬هذا اإلنسان اعتنق عقيدة‪ ،‬أحب بشراً‪ ،‬التزم خبط قاده إنسان شاء أن‬ ‫ِ‬ ‫س وكان متواضعاً‪ ،‬من يرأس افتحوا اجملال له‬ ‫ِّ‬ ‫يغري‪ ،‬وبقي أميناً إىل الرمق األخري‪َ .‬رئ َ‬ ‫ليمر‪ ،‬أما هو فكان َخ ِفراً حمبوباً إذا َوجد خالفاً يزرع حمبة‪ ،‬إذا رأى وجهاً مقتيماً يرمي‬ ‫للوجه حياة‪ ،‬يتأمل احلزب بتفكيك أو بصراع‪ ،‬يبكي مناشداً القلوب إىل‬ ‫البسمة ليعيد َ‬ ‫الوحدة‪ .‬ألن من ِّ‬ ‫يفكك يريد الشر يف الناس‪ ،‬كلكم تعرفون « ِّفرق تسد»‪ ،‬أنا أقول‪:‬‬ ‫ِّفرق تصبح عبداً‪ ،‬ألنك تلتزم هذا اخلط أو ذاك وتنسى بأن الذي ُجعك هو حمبة‬ ‫القضية الواحدة‪ ،‬فاملنطق البشري يصبح منطقاً إذا كان منطلقاً من وحدة فكر‪.‬‬

‫يوحدون‪ ،‬ولكن هذا اإلنسان بصمت عظيم أراد‬ ‫املشوشون ال حيلمون‪ ،‬املختلفون ال ِّ‬ ‫ي‬ ‫األمة يف الوحدة ال يف التفكك‪ ،‬كائناً من كان‬ ‫أن يكون شاهداً إىل األخري بأ ين جناح ي‬ ‫يود أن ِّ‬ ‫يفكك‪ .‬رسالته لرفاقه أن يقول كل واحد لآلخر أنت رفيق‪ .‬وأنا أقول له أيها‬ ‫احلبيب‪ُ ،‬مسِّيت على امسي الياس‪ ،‬ما شئت إال أن تنطلق من حيِّــي لتكون جمنِّحاً‬ ‫باحلقيقة اليت سيجليها لك الرب كاملة‪ .‬قد يقول لك كنت ُخمطئاً هنا وهناك‪ ،‬ولكين‬ ‫أحب قلبك احلي ألن اإلنسان الذي حييا يف احلق إنسان حيب احلياة‪ ،‬حيب‬ ‫يغرك أمر‬ ‫االستقامة‪ ،‬حيب الصراحة‪ ،‬حيب الصدق‪ ،‬فيا حبييب أنت بشر قد تتوه‪ ،‬ي‬ ‫ما‪ ،‬أو الدنيا‪ .‬اليوم تستكني يف راحة‪ .‬أحببت احلقيقة‪ ،‬هي أنا‪ ،‬فتيشت عنها يف‬

‫وجوه أخوتك‪ ،‬سرتاهم كلهم يف هباء النور إذا استمروا يف حقيقة القلب وصدقه‪ .‬أنا‬

‫ال أقرأ الكتب ‪ -‬يقول الرب ‪ -‬أنا أقرأ القلوب‪ ،‬الكتب ختتلف‪ ،‬اآلراء ختتلف‪،‬‬ ‫أين قلت لك يا ابين أعطين قلبك‪ ،‬وكنت مستعداً أن متنحين إياه‪ .‬ألن‬ ‫ولكن يكفيين ي‬ ‫العبيد هم عبيد ويبقون عبيداَ‪ ،‬نطلب الرمحة هلم‪ .‬ولكن األشخاص الذين يتبعون‬

‫نقاوة القلب كهذا اإلنسان‪ ،‬رمحة حيتاجون‪ ،‬ولكنهم بفرح يكونون يف اللقاء‪.‬‬ ‫الياس‪ ،‬كامسي الياس‪ ،‬اليوم حيلِّق ليتعلَّم العلم احلقيقي‪ ،‬حيث يقول له يا ابين أنا‬ ‫َّحداً بذاتك‪ ،‬ومت ِ‬ ‫يسوع‪ ،‬أدخل إىل بييت وكن كما شئت أن تكون مت ِ‬ ‫َّحداً حبقيقيت اليت‬ ‫ال تزول‪ ،‬آمني‪.‬‬

‫‪271‬‬


‫كانت لك فرادتك‬ ‫أليسار أنطون سعاده‬

‫تراك سئمت سجن الشيخوخة اليت مل تسمح بأن تتسلل إىل أوصالك إال‬ ‫حريتك األخرية؟‬ ‫متأخرة‪ .‬فانطلقت إىل ي‬

‫أم تراك قد استب يد بك الشوق إىل البدايات املشرقة وكل البيوت وأهلها وكل‬ ‫األمكنة اليت محلك إليها هفهافاً إميانُك العارم بنهضة ال تعرف التعب‪ ..‬فآثرت‬

‫الرحيل؟‬ ‫أم أنه الزمن املعكوس املطبق على األمة فيما مل َتر يف أفقه بوادر ثورة على‬ ‫املفاسد وهنضة حتطيم األغالل؟‬ ‫تأخر حصاد أضناك انتظاره بعدما وهبته شبابك وما خبلت بوجودك كليه‪،‬‬ ‫أم ي‬ ‫زاهداً يف الدنيا ومتاعها إذ ال يغيب عن ناظريك زعيمك ورفيقك األول؟‬ ‫حتول األزمنة ومن كنت حتسبهم من الذهب اخلالص‪ ..‬أو انقالب املعايري‪..‬‬ ‫أو ي‬ ‫أو طغيان مادي هنم ال يعرف شبعاً؟‬ ‫أو كل هذا وغريه مما ال تتيسع له أسطر معدودات؟‬ ‫يإال أنك رحلت‪ ..‬تاركاً عالمات فارقة من زمن نضال مديد تقلَّبت فيه يف‬

‫الذل والقهر واالضطهاد واحلرمان‪..‬‬ ‫مسؤوليات جسام‪ ،‬وغالبت فيه ي‬ ‫عالمات ال ب يد باقية معلماً يف هنر القضية الدافق‪..‬‬

‫* كلمة لها‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪271‬‬


‫َّت رسولية يف تنكيب املسؤولية توطيداً ملعاين اإلنسانية الراقية‪ .‬فما‬ ‫عالمات تبد ْ‬ ‫حسبت حساباً لنفسك وما ادخرت جهداً أو قرشاً‪ ..‬ومل هتن لك عزمية بل ازددت‬

‫توثيباً كلما تعاظمت الشدائد وما أكثرها‪.‬‬

‫ت إمياناً راسخاً ال يتزعزع بالعقيدة والنظام وقد أمضيت ردحاً طويالً يف‬ ‫وجتلي ْ‬ ‫تدعيم ركائزها وحتصني بنياهنا حّت ُوشم الشأن اإلداري بنهجك وباتت الفروع حتيا‬ ‫على وقع تفق يدك لشؤوهنا وأحواهلا‪.‬‬

‫ت إمياناً بالقومية االجتماعية هنجاً حلياة جمتمع يطمح لالرتقاء بكل‬ ‫كما جتلي ْ‬ ‫بنيه‪.‬‬ ‫احلق على االقتداء هبا وكنت‬ ‫ْ‬ ‫وتألقت مناقب ومثالً وقيماً ما كففت يوماً عن ي‬ ‫أنت حريصاً على أن تكون جملموعنا خري قدوة‪.‬‬ ‫ومودة واحرتام‪ ،‬تاركاً بصماتك يف‬ ‫جت تفاعالً اجتماعياً نسج وشائج التزام ي‬ ‫وتوه ْ‬ ‫ي‬ ‫ذاكرة أترابك والشباب وحّت األحفاد‪.‬‬ ‫جت كل ذلك بروح مرحة وبشاشة تب يدد التشنج والوجوم ومتنح القلوب فرصة‬ ‫َّ‬ ‫وتو َ‬

‫التبلسم بعفوية صادقة‪ ..‬فكانت لك فرادتك‪.‬‬ ‫واألهبى أنك ٍ‬ ‫باق يف ذاكرتنا يا أبا فداء عنوان مرحلة مذهلة خبصوصيتها وتأليقها‬

‫بالرغم من كل النكسات‪.‬‬

‫‪272‬‬


‫استع ّدوا‪..‬‬

‫شماس‬ ‫جميل ّ‬

‫أيها القوميون االجتماعيون‪ :‬استع يد‪..‬‬

‫ا لياس جرجي قنيزح ال جمال لذكر صفاته ونضاله وأخالقه وحمبته وتواضعه وحبكة‬ ‫النكتة عنده يف أحلك األوقات‪ .‬قد يكون يشبه بطرس الرسول الذي اعتربه الزعيم‬ ‫سعاده الصخرة اليت بىن عليه حزبه‪ .‬ويف الوقت نفسه يشبه بولس الرسول حيث ما‬ ‫انفك ينتقل إىل كل العواصم واملدن والقرى يبشر مببادئ سعاده‪.‬‬ ‫ي‬ ‫بكل طاقاته وعلمه وذكائه‬ ‫هذا الرجل الذي ي‬ ‫جترد من ذاته‪ ،‬وعاش شهيداً وعمل ي‬ ‫ليحافظ على وحدة احلزب وترسيخ النظام قيمة يف نفوس أعضائه‪ ،‬وعليمهم االحرتام‬

‫والوالء‪.‬‬ ‫ويف وفاته استطاع أن جيمع حوله احلزب بكل فروعه وقيادته وهل أستطيع أن‬ ‫أتوجه مبناسبة هذا اللقاء إكراماً هلذا الرجل الذي أحبيه وق يدره اجلميع‪ ..،‬ووفاء‬ ‫ي‬ ‫لسعاده‪ ،‬ومن أجل مصلحة احلزب واألمة بأن يتنازل ُجيع القادة املسؤولني عن‬ ‫أخطائهم ومشاكلهم وخالفاهتم‪ ،‬وأن جيتمعوا بروح احملبة واملسؤولية‪ ،‬ويتخليوا عن‬ ‫ويتمس كوا باجلوهر‪ ،‬ويعملوا جبد واجتهاد إلجياد طريق إلعادة وحدة‬ ‫الشكليات‬ ‫ي‬ ‫احلزب بكل قياداته وأعضائه‪ .‬وأنا واثق بأن هذا أفضل وفاء نقدمه لألمني الياس‪..،‬‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪272‬‬


‫بأن يكون أمالً لنا حبياته وموته سبباً لتوحيد احلزب‪ ،‬وملي مشله ليعود قوة ضاربة‬ ‫متماسكة ملواجهة الصهيونية يف هذه الساعات العصيبة‪ ،‬ألنكم أمل األمة‪.‬‬ ‫إن أهم ما تعلمتموه من سعاده هو الصدق والشجاعة‪ ،‬لذلك أدعوكم بكل حمبة‬ ‫فتوحدوا صفوفكم‬ ‫واحرتام لوقفة شجاعة لتثبتوا أنكم تستحقون لقب تالمذة سعاده ِّ‬

‫لنرى جيشاً من األشاوس يتمنطقون مبناطق سوداء تلمع فوق رؤوسهم حراب‬ ‫مسنونة حتت راية الزوبعة احلمراء ويصرخ بأعلى صوته الرئيس الذي ستلتفون حوله ‪-‬‬ ‫أيها القوميون االجتماعيون ‪ -‬استعد حتية خذ لألمني الياس جرجي قنيزح‪.‬‬ ‫فيُالقيه الزعيم يف السماء فرحاً ويقول له أهالً بناموسي األول وإنين فخور بك‬ ‫وبتالميذي ُجيعهم‪.‬‬ ‫وهكذا سيكون حفل التأبني الذي ستقيمونه هلذا اإلنسان الرائع فخراً لكم ُجيعاً‬

‫خلف راية واحدة وقيادة واحدة‪.‬‬ ‫تعليمت يف حيايت أن أحلم وأحقق أحالمي ولكنين اليوم أحلم وأنتم ستح يققون‬ ‫أحالمي‪.‬‬

‫‪274‬‬


‫غادرنا محتفظاً بالفرح‬

‫عصام محايري‬

‫األمني الياس جرجي كان من الفرسان األوائل يف تن يكب عملية التأسيس والبناء‬

‫واملسامهة يف تكوين اجليل القومي االجتماعي اجلديد‪ ،‬جيل النظام اجلديد‪.‬‬

‫ومن خالل وعيه وإدراكه ملا يتطليبه التأسيس ونشر العقيدة وبناء النفوس من‬ ‫عطاء وبذل وتضحيات‪ ،‬نذر نفسه منذ اللحظات األوىل لتحقيق ذلك «األمر‬ ‫اخلطري» املساوي لوجوده ووجود رفقائه املتعاقدين عليه‪.‬‬ ‫لست آتياً بأي جديد أعرفه عن األمني الياس وال يعرفه غريي‪ ،‬فكل عضو من‬ ‫مر باحلزب السوري القومي االجتماعي يعرف أن األمني‬ ‫أعضاء احلزب وكل من َّ‬ ‫الياس مل يكن مسؤوالً يتقن تنفيذ األوامر ويتقن إجناز ما يوكل إليه بكل دقة وأمانة‬ ‫فحسب‪ ،‬بل كان إىل جانب أدائه اإلداري املميز‪ ،‬مربيياً بامتياز جلميع األجيال‬ ‫القومية االجتماعية كما كان يف سلك التعليم قبل دخوله احلزب مربياً وطنياً بارزاً‪.‬‬ ‫أعمها‪ ،‬ما كانت تقتصر على التحقيق والدرس‬ ‫جوالته احلزبية‪ ،‬وما أكثرها وما ي‬

‫والتدقيق يف األمور النظامية والشؤون احلزبية الصرف فأهم ما يف جوالته وما يف‬ ‫لقاءاته وما يف معاجلاته للمشاكل واملتطلبات احلزبية كان روح االهتمام برتسيخ قواعد‬ ‫تربوية حزبية تناقلتها أجيالنا جيالً بعد جيل‪.‬‬ ‫التحمل يف االستماع إىل ُجيع األطراف وإقناع اجلميع‬ ‫الصرب والقدرة على‬ ‫ي‬ ‫باحرتام قواعد السلوك القومي االجتماعي وااللتزام هبا يف التعاطي بني الرفقاء ومع‬

‫* من كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪275‬‬


‫املسؤولني‪ .‬كان ميتلك الصفات النادرة اليت ميزت أداء هذا الرجل الكبري حّت أصبح‬ ‫مر األيام ملجأً ملعظم الرفقاء يف قضاياهم اخلاصة‪ ،‬يسألونه النصح فيما‬ ‫على ي‬

‫يتصرفون به جتاه مشاكلهم العائلية أو يف أوساطهم املهنية‪.‬‬ ‫ي‬

‫احملطات احلزبية املضيئة يف انتصارات احلزب املادية والنفسية على املثالب‬

‫واملصاعب حتمل يف طيياهتا الكثري من بصمات وآثار األمني الياس‪ ،‬عرب األجيال‬ ‫احلزبية املتعددة اليت تتلمذت على يده‪ ،‬من خالل األسفار واجلوالت واللقاءات‬ ‫واحملاضرات ودروس التوعية واستخراج العرب اليت سادت مسريته احلزبية عرب ستة عقود‬ ‫من الزمن‪ .‬مميا جعل له فرادةً ومتيزاً عن غريه يف املسؤولني يف احلزب يف نوعية العالقة‬ ‫بينه وبني أعضاء احلزب‪.‬‬ ‫روح الرتبية والتوجيه مل تكن تفارقه‪ ،‬ال وهو غارق يف صميم العمل احلزيب‬ ‫ومتطلباته‪ ،‬وال يف أوقات اسرتاحاته وأسفاره وأكله وشربه فهو حاضر البديهة‪ ،‬دائماً‬ ‫يوظيف النكتة والفكاهة يف عمله الرتبوي اآلخذ كل اهتماماته‪ ،‬فال عجب أن جتد له‬ ‫آالفاً من التالميذ يف احلزب من خمتلف األجيال واألعمار‪.‬‬ ‫مل أحتدث ومل أعدد ما أجنز األمني الياس جرجي‪ ،‬ذلك أن يف كل صفحة من‬ ‫صفحات تاريخ احلزب له دور ومكان بارز‪ ،‬وكما كانت سريته ومسريته حموراً لنا يف‬

‫حضوره أم يف غيابه سيبقى حياً بيننا يف مآثره وإجنازاته وعطاءاته كما كان يف‬ ‫حياته‪..‬‬ ‫عرفت يف حيايت احلزبية كثريين من الرفقاء واألمناء تقاربت سريهتم احلزبية مع‬ ‫اهلم احلزيب عنده على‬ ‫سريته يف رهن كل دقيقة من حياته للعمل احلزيب‪ ،‬ويف سيطرة ي‬ ‫لكين مل أعرف أن أحداً تقدم عليه‪ .‬كما مل أعرف أحداً عاد مريضاً يف‬ ‫هم‪ ،‬و ي‬ ‫كل ي‬ ‫مستشفى كما عُدنا األمني الياس يف اجلامعة األمريكية منذ مخسة أ عوام‪ ،‬وغادره‬ ‫حمتفظاً بالفرح واملرح الذي أشاعه ذلك «املريض» يف نفوس ُمعيديه‪.‬‬

‫‪271‬‬


‫الحاضر في صفوفنا‬ ‫هيام نصر اهلل محسن‬

‫« قد تسقط أجسادنا أما نفوسنا فقد فرضت حقيقتها على هذا الوجود»‬ ‫نودعك أيها األمني‬ ‫هبذه املعرفة وهذا اإلميان ي‬ ‫الذي ائتُمنت على الكثري وحفظت األمانة!‬ ‫مللمت فرحك‪ ،‬ورحلت مثخناً باجلراح‪...‬‬

‫بصمت وهدوء طويت آالم نفسك ورحلت‪..‬‬ ‫رشفت املرارات حّت آخر الكأس‪..‬‬ ‫فما ذبلت االبتسامة يوماً‪،‬‬ ‫غص الفرح‪..‬‬ ‫وال ي‬ ‫هذا قدر املصارعني األوفياء‪،‬‬ ‫يلف احملييا‪..‬‬ ‫يرحلون وقوس النصر ي‬ ‫مطمئنا‪ ،‬رضيياً‪ ،‬هانئاً‪.‬‬ ‫أعطيت من نفسك بال حساب‪.‬‬

‫* كلمة لها‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪279‬‬


‫وال توقيت وال منية‪..‬‬

‫دفق خري كنت أينما حللت!!‬ ‫وضعت يدك على احملراث منذ البدايات‬

‫وبذرت ما اكتنزتْهُ نفسك وروحك من تعاليم املعلم‬ ‫ومل تسقط يدك! بل جسدك هوى‪..‬‬ ‫ما التقينا مرة إال‪ ...‬ونزفنا‪،‬‬

‫فكثرية كانت أوجاعنا‪...‬‬ ‫وخطيئتنا أننا مل ننفجر!!‬ ‫انفجرت‪..‬‬ ‫انفجرت؟ لو‬ ‫ماذا لو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫لن أغفر لنفسي‪ ..‬لن أغفر‪..‬‬ ‫عاتبة أنا‪ ،‬بقدر احملبة!‬ ‫قلت يل وجزمت مراراً أنك‬ ‫َ‬ ‫سرتف جبناحيك النازفني فوق منازل األحبة‪..‬‬ ‫ي‬

‫يف كل بقاع سورية‪ ،‬وترتك من نزفك بصمات‪..‬‬ ‫وما فعلت‪ ..‬أعرف‪،‬‬ ‫تسارع النبض يف قلبك‪ ،‬ووهن اجلسد‪.‬‬

‫أعاقا حركتك‪ ..‬وهزما أمنيتك!‬ ‫فأويت إىل حمرابك!!‬ ‫كنسر مشظيى وحمليق صعوداً‪..‬‬

‫سيقال الكثري عنك وفيك‪،‬‬ ‫لكن أحداً لن يفيك!!‬ ‫يا من غرست على كل درب ومفرق‬

‫‪278‬‬


‫آيات ومآثر سعاده‪ ..‬ويف كل قلب وعقل بعثت نشوة اإلميان‪ ،‬وألق املعرفة‪...‬‬ ‫حبب!‬ ‫وأطلقت أجياالً يف الطرقات الشاقة الطويلة‪ ..‬بأدلتك ي‬ ‫حباً ي‬ ‫عربت وشائج القلوب‪،‬‬

‫وسكنت وجدان النهضة‪...‬‬ ‫فهنيئاً لك تراب سورية‬ ‫وهنيئاً لك كل هذا احلب‬

‫‪277‬‬


‫طيف ب ـ «سعاده»‬ ‫ال ُـم ّ‬

‫نزار سلّوم‬

‫طيف بسعاده» برحيله ‪ -‬يبدو يل رحيله الوادع استنفاداً لطاقته‬ ‫فاجأين «الـ ُم ي‬ ‫وطريقته املرهفة واالحتجاجية الصاخبة يف ٍ‬ ‫آن ‪ -‬ألين متي يقن أن بعض الرجال ال‬

‫ميكن‪ ،‬بل ال جيب أن يرحلوا ليس ألهنم ليسوا من البشر فال خيضعون لناموس‬ ‫املوت‪ ،‬بل ألهنم‪ ،‬وبالضبط‪ ،‬األكثر اقرتاباً من اجلوهر البشري‪ ،‬ومبعىن أكثر ثقافة‪،‬‬

‫من اجلوهر اإلنساين‪.‬‬ ‫كنت‪ ،‬وما أزال‪ ،‬أخال «الـ ُمطييف بسعاده» مندجماً باجلوهر اإلنساين اخلالص‬ ‫أبعاده البشرية وأوصافه الـ ُمحددة له كرجل‪،‬‬ ‫إىل حدود التماهي الذي يُسقط منه َ‬ ‫ليُظ ِهر فيه الوهج ‪ -‬املهيب الداخلي اخلاص الذي ال ُحياط ببعد وال يُقاس مبقياس‪.‬‬ ‫اجملرد‪ ،‬فيبدو كصاحب‬ ‫إنه نوع من القدرة املتميزة اليت تذهب بصاحبها إىل بوابة ي‬ ‫سلطة ليس ألنه لديه سلطة بل ألنه موجود بذاته‪ .‬ويبدو كضرورة ليس ألننا حنتاجه‬ ‫اآلن وحسب‪ ،‬بل ألننا حنتاجه دائماً ويف كل وقت‪.‬‬ ‫تتأسس حاجتنا إىل « الـمطيف بسعاده» على خاصة متيزه وتتعلق بنا يف ٍ‬ ‫آن‪،‬‬ ‫ُ ي‬ ‫ي‬ ‫وهي أننا (ُجيعنا) حباجة إليه‪.‬‬ ‫وإذا كانت هذه اخلاصة حتيله إىل مرتبة «الضرورة اجلمعية» فهذا ال يعين متاهيه‬ ‫االدعائية‬ ‫بشخصية «الـ ُمنقذ» أو «الفادي» ‪ -‬كان حريصاً على نفي هذه الصفات ي‬ ‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪211‬‬


‫عن نفسه ‪ -‬بل يعين قدرته الفائقة على إكساب ارتباطه (بنا) ذلك البعد الذي‬ ‫جيعل من هذا االرتباط ضرورة ال غىن عنها‪ .‬كان وما يزال ضرورة لنا ُجيعاً‪.‬‬ ‫طيف بسعاده» ذاته انتماءً إىل النهضة السورية القومية االجتماعية‬ ‫صاغ « الـ ُم ي‬ ‫صياغةً على مستوى ٍ‬ ‫عال من األداء املتمييز مفهومياً وأخالقياً‪ ،‬فشكيل بذلك «حمالً»‬ ‫مسكوناً باالطمئنان والثقة اخلالصة‪ ،‬فلم يبتكر «قراءات» وال «مناهج» جديدة أو‬ ‫غري جديدة تدعوه للتباهي ‪ -‬وقد أدت إىل الضياع‪ ..‬والذل ‪ -‬ولكنه كان استثنائياً‬ ‫يف قدرته الدائمة على ابتكار النهضة يف النفوس اجلديدة‪.‬‬

‫يف هذا املستوى يكمن إبداعه اخلاص واملتميز‪.‬‬ ‫وإذ حتاول «املناهج» املبتكرة االبتعاد بالنهضة عن مسارها‪ ،‬فتدب الفوضى يف‬ ‫الطريق فيُعمي غبار البلبلة األبصار‪ ،‬وختتلط املقاييس وتنقلب املعايري‪ ،‬فإن‬

‫«الـ ُمطييف بسعاده» ما يلبث أن يرفع صوت النهضة جملجالً فتتيجه األبصار الشاردة‬ ‫صوب سارية سعاده وتلتئم الصفوف يف مسار احلق‪.‬‬ ‫ظننت مرة أنه خيفيه يف قلبه‪ ،‬لكنين‬ ‫‪ ....‬و‪ ..‬ولكثرة ما هو مسكون بسعاده‪ُ ،‬‬

‫حاولت اقتفاء أثره يف مساره الطويل ‪ -‬مسار أطول من دهر وأقصر من‬ ‫وحيث‬ ‫ُ‬ ‫ضرورة ‪ -‬مل أجد سوى قلبه‪ ....‬وسعاده‪.‬‬

‫‪211‬‬


‫إنه األمين األمين‬ ‫حسن عز الدين‬

‫ا لياس جرجي قنيزح رجل من أصحاب سعاده الزعيم اخلالد‪ ،‬إنه واحد من‬ ‫أولئك األوائل الذين صاغتهم النهضة القومية االجتماعية‪ ،‬وربَّتهم على فضائلها‬ ‫ومقاصدها‪.‬‬ ‫من االنتماء إىل املمات‪ ..‬حياته واضحة مقروءة‪.‬‬ ‫إميان‪ ،‬عزم ومضاء‪.‬‬ ‫صدق‪ ،‬طهر ونقاء‪.‬‬ ‫تواضع‪ ،‬حب ووفاء‪.‬‬ ‫تقديس واحنياز لقيم احلق واخلري واجلمال‪ ،‬واحرتام للحياة‪ ،‬ولألحياء‪.‬‬ ‫لقلت فيه‪:‬‬ ‫لو كان يل أن أختصره يف ُجلة واحدة ُ‬

‫«إنه األمني األمني»‬ ‫فصلت قليالً لقلت فيه ثالث كلمات‪:‬‬ ‫ولو ي‬ ‫كان مرتعاً باإلميان بسعاده وهنضة األمة‪ ،‬عامالً هلا‪ ،‬متحداً احتاداً كامالً بالرسالة‬

‫وأهدافها ومثلها العليا‪ .‬وجتربةُ اإلميان عنده قد مارست تفوقها يف كل مكان ويف كل‬ ‫زمان‪ ،‬ومن خالل كل املسؤوليات اليت ُعهد هبا إليه‪.‬‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪212‬‬


‫فالقومية مبا هي «يقظة األمة وتنبيهها لوحدة حياهتا‪ ،‬ولشخصيتها ومميزاهتا‬ ‫ولوحدة مصريها»‪ ..‬كانت ديناً له‪ .‬هي على فمه قيثارة‪ ،‬ويف قلبه نبض‪ ،‬ويف عقله‬ ‫استنارة‪ ،‬وهي كل رؤاه‪ ،‬كل خطاه‪ ،‬كل حركاته‪ ،‬بل كل أحالمه وأمانيه وخاطرات‬ ‫نفسه‪.‬‬ ‫وكان بسيطاً متواضعاً وزاهداً يف مغامن الدنيا‪ .‬وُجيعها مل تكن هواية له‪ ،‬بل‬ ‫كانت سلوكاً وفطرة وأمانة‪.‬‬

‫كانت سعادته باجلماعة القومية وأبناء األمة الذين تث يقفت عقوهلم‪ ،‬وحسنت‬

‫تربيتهم واستنارت بصائرهم واستقامت أخالقهم‪ ،‬ومشوا إىل أهداف قضيتهم القومية‬ ‫بثقة وثبات‪ .‬فال نزعات فردية وفئوية‪ ،‬وال احنرافات‪.‬‬ ‫وهو إىل هذا كله‪ ،‬كان صرحياً جريئاً‪ ،‬يصدح صوته باحلق الذي يراه‪.‬‬ ‫كان يغضب ممن تأخذهم مغريات احلياة فيحاولون االنتصار هبا‪.‬‬ ‫كان يفعل ذلك وباستمرار‪ ،‬ألنه عاش حياته صادقاً‪ ،‬وألنه كان ومن مرافقته‬ ‫للزعيم يف املدرسة احلقيقية للنهضة وللقيادة‪.‬‬

‫فعلى عمره املديد ‪ -‬كم اجتهد بفرح يف تأييده للصواب! وكم اجتهد يف دحضه‬ ‫للخطأ! وكم باعدت صراحته وحواراته بينه وبني آخرين يف احلزب!‬ ‫رحليه موجع‪ .‬لكنه فيما آمن وفيما فعل سيبقى‪.‬‬ ‫لعل الكثريين من رفقائه ممين عايشوه‬ ‫إنه ضمري ي‬ ‫معرب بعد غياب الزعيم املعلم‪ .‬و ي‬ ‫وزاملوه يقيسون بسلوكه ومواقفه رؤاهم عن احلق واخلري واجلمال‪.‬‬ ‫له اخللود مع الشهداء‪.‬‬

‫‪212‬‬


‫سيرة خالدة‬ ‫نواف حردان‬

‫األمني الياس عميد الداخلية الناجح يف حزبنا‪ ،‬ناموس الزعيم‪ ،‬ذلك الرجل‬ ‫اجلبار القوي الشخصية‪ ،‬صاحب الكلمة البليغة النافذة القاطعة كح يد السيف‪،‬‬ ‫ترد‪ ،‬السريع اخلاطر احلاضر النكتة‪ ،‬الرفيق الغيور واألمني الصادق‬ ‫احلجة اليت ال ي‬ ‫و ي‬ ‫والصديق الصدوق‪.‬‬ ‫إنه مل ميت‪ ..‬ألن أبناء احلياة احلقيقيني ال يطويهم املوت‪ ..‬واألمني الياس كان‬ ‫من أبناء احلياة املصارعني اجملليني‪ِ ..‬‬ ‫وس َري هؤالء املصارعني‪ ..‬تبقى يف ضمائر أبناء‬ ‫النهضة‪ ..‬خالدة ال متوت‪ ..‬تبقى جديدة أبداً‪ ..‬ومعناها يتجدد كل يوم‪ ..‬ينحين‬ ‫أمامها تاريخ هنضتنا‪ ..‬إجالالً واحرتاماً وتقديراً‪ ..‬فال تقاس معها األيام‪ ،‬وال ينال‬ ‫كر السنني‪.‬‬ ‫منها مرور األيام‪ ..‬و ي‬ ‫األمني الياس جرجي مل ميت‪ ..‬ألنه كان ابن النضال الكبري‪ ..‬وأبو الواجبات‬

‫املقدسة العظيمة‪.‬‬ ‫أال طوَّب لرواد النهضة املصارعني‪ ،‬قادة الفكر والواجب واحلق والنظام‪.‬‬ ‫طوَّب هلم ألهنم أعطوا ومل يأخذوا‪ ..‬ولكن يف ضمائر رفقائهم وتاريخ هنضتهم‬ ‫خيلدون‪.‬‬

‫* من كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪214‬‬


‫السنديانة‪..‬‬ ‫عبد اهلل قبرصي‬

‫سبقته عاماً واحداً يف االنتماء إىل احلزب وسبقين بأن نذر نفسه للقضية ونذر‬ ‫عائلته‪ ،‬فما قَبِل أيية مهنة وال أية وظيفة‪ ،‬منذ انتمائه‪ ،‬إال العمل يف قيادة احلزب‪ ..‬أو‬

‫صفوفه‪.‬‬ ‫لقد اقتنع يف أواخر أيامه‪ ،‬أن ال حياة للحزب إال بتحقيق وحدته‪ ،‬فقال يل إين‬ ‫مستعد أن أطوف البالد وعرب احلدود مب يشراً بالوحدة‪.‬‬ ‫ماذا ميكن أن تكتب عن رجل نذر نفسه للقضية اليت آمن هبا وعمل هلا طوال‬ ‫حياته حّت رمقه األخري؟‬ ‫لعلي بني األمناء والرفقاء أكثرهم التصاقاً به يف السنوات األخرية من عمره‪،‬‬

‫أتردد عليه باستمرار ألن الشيخوخة ‪ -‬رغم أنه ما شاخ إال مؤخراً جداً ‪-‬‬ ‫فكنت ي‬ ‫تفرض على صاحبها العزلة‪ ،‬فالناس ال حيبون الذين أكل الدهر منهم وشرب‪ ،‬بقدر‬ ‫ما حيبيون أهل احلركة واحليوية الناشطني يف كل امليادين واحلقول‪.‬‬ ‫إن األمني الياس جرجي قنيزح الذي ق يدره رفقاؤه فرفعوه إىل مرتبة رئاسة احلزب‬ ‫مر بكل القنوات وكل املسؤوليات من إدارية وسياسية وقضائية‪ .‬انتهى وهو رئيس‬ ‫ي‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪215‬‬


‫للمحكمة احلزبية العليا‪ .‬وحيثما وجد كان يعطي كل ما ميلك من خربة ووعي‬ ‫ومقدرة‪.‬‬ ‫ما كتب مذكراته‪ ،‬ولكنه كتب لنا مآثر من سعاده‪ ..‬هذا الكتيب أكمل‬ ‫معلوماتنا عن الرجل العظيم‪ ،‬فقيدنا الراحل الكبري الزمه كناموسه وكعميد للداخلية‪،‬‬ ‫حّت أيامه األخرية يف الشام‪ ،‬وما رواه عنه رواية شاهد عيان‪ ..‬شاهد مرافق‪ ،‬شاهد‬ ‫صادق وأمني‪.‬‬ ‫كنت أعرفه عميداً للداخلية‪ ،‬يف سنوات انتمائه األوىل‪ ،‬مث يف سنوات نشاطه يف‬

‫الوطن وعرب احلدود‪ ،‬فإذا يب يف بستان ‪ -‬قرب بانياس‪ ،‬أمسعه‪ ،‬خيطب مرحباً باألمينة‬ ‫األوىل‪ ،‬زوجة سعاده اخلالد‪ ،‬فإذا به خطيب قدير‪ ،‬ال يتلعثم‪ ،‬ال يرتدد‪ ،‬ال يكرر‪.‬‬ ‫إال أن ميزته األساسية‪ ،‬امليزة اليت يكاد يتفرد هبا بني القدامى من جيله ‪ -‬ألن‬ ‫جيل الشباب يعىن بالنوابغ والقادرين ‪ -‬هي العمل اإلذاعي واإلداري حم يدث وحماضر‬ ‫وحماور حتسبه وهو يف كرسيه يف داره على منرب يف حفل عام‪ ،‬أسلوبه اإلقناع أحياناً‬ ‫بالصراخ والتقريع وأكثر األحيان باحلجة الدامغة‪ ،‬ودائماً بالنكتة الظريفة اليت تسهل‬ ‫أمام السامع ارتياد احلجج املشدودة إىل الفلسفة وعلم االجتماع وعلم االقتصاد‬ ‫وعلم النفس‪!..‬‬

‫يف ذروة احلوار والنقاش كان األمني الياس يطلق نكته من مبتكراته‪ ،‬فإذا اجلو‬ ‫بارد بعد توتر‪ ،‬وإذا السامع متعطش إىل املزيد‪.‬‬ ‫قلنا أنه نذر نفسه للقضية القومية االجتماعية‪ ،‬ولكنه نذر عائلته أيضاً فزوجته‬ ‫الرفيقة سوسن‪ ،‬وولداه متوز وفداء‪ ،‬مؤمنون حّت العظم بالقضية القومية‪ ،‬يعاملون‬ ‫الزوج والوالد كأصدقاء للحزب ال كأبيهم فقط‪.‬‬ ‫حي صائر إىل الرحيل‪ ،‬ويف آخر أيامه صائر إىل نوع من العجز‬ ‫كل كائن ي‬ ‫الطبيعي‪ ،‬خربت بنفسي كيف كانت الزوجة األمينة‪ ،‬واالبن والبنت يعاملون القائد‪،‬‬ ‫بأي حنان‪ ،‬بأي احرتام‪ ،‬بأيية تضحية! بوركت العائلة القومية يف هذا السلوك الكرمي‪.‬‬ ‫‪211‬‬


‫ليست آثار املعلم وحدها هي اليت تركها لنا األمني إلياس مكتوبة ومطبوعة‪ ،‬لقد‬ ‫ترك لنا سجل حياته الطويلة‪ ،‬إهنا أيضاً مليئة باملآثر والفضائل والتضحيات‪.‬‬

‫األمني ا لياس جرجي سنديانة من سندياننا ضربتها العاصفة‪ ،‬إهنا حتت الرتاب‬

‫وأغصاهنا فوق األرض‪ ،‬تنبت لنا سنديانات تُناطح السحاب‪ ،‬القومي االجتماعي‬ ‫الذي يهب حياته للحزب ال ميوت‪ ،‬كل كبارنا من الصحابيني وغري الصحابيني‬ ‫الذين عملوا بأخالق وصدق ‪ -‬يف سبيل النهضة‪ ،‬خالدون يف قلوبنا إىل أن تقوم‬ ‫القيامة‪.‬‬

‫‪219‬‬


‫مذيع مديرية شتورة‬ ‫محمود غزاله‬

‫واحد من أبرز الصحابة الذين أثيروا يب‪ ،‬فهو يعليم بالقدوة‪ ،‬مل يتصنيع اإلميان‪ ،‬وال‬

‫هو نادى بأفكار مارس خالفها‪ ،‬وال استغل موقعه ملكسب شخصي‪.‬‬ ‫املشهد األول الذي محل االنطباع امللفت‪ ،‬كان حني نقلت وكاالت األنباء من‬ ‫السراجي يف اخلمسينات ثورة طفلة يف سنواهتا األوىل على‬ ‫داخل حصون النظام ي‬

‫تصرفات رجال «السلطان األمحر» وقذفتهم بسيل من االحتجاجات اليت بات‬ ‫ُجاعة حقوق اإلنسان يتحدثون فيها اليوم ويالحقون على أساسها األنظمة القمعية‪.‬‬ ‫وملا حبثت عن هوية هذه الطفلة‪ ،‬جاء اجلواب يف رسالة وصلتين وأنا يف جريدة‬ ‫تصرف الطفلة‪،‬‬ ‫«الزوابع» تقول أهنا فداء ابنة األمني الياس جرجي قنيزح‪ ،‬فقد ي‬ ‫عزز ي‬ ‫تقدير والدها يف نفسي‪.‬‬ ‫املشهد الثاين‪ ،‬كان يف السنة ‪ ،1795‬يوم أسست «التعاونية االستهالكية يف برج‬ ‫محود وسن الفيل واجلوار» جاءين األمني الياس جرجي ليبلغين استعداده ألن يضع‬ ‫كتفه إىل جانب أكتاف اجملموعة اليت أخذت على عاتقها مسؤولية إجناح املشروع ‪-‬‬ ‫احللم ‪ -‬وقد أكد أكثر من مرة أنه ال يبغي يف ذلك غري جين النجاح‪ ،‬للحجر الذي‬ ‫بدأ يف سن الفيل‪ ،‬وانتش ر يف الشوف ومشسطار‪ ،‬وبتغرين‪ ،‬ليشمل يف دراسة اجلدوى‬ ‫مشاريع إسكانية وأخرى إنتاجية حرفية‪ ،‬أحرقها ُجيعاً جحيم الطائفية البغيض‪.‬‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪218‬‬


‫املشهد الثالث‪ ،‬حني هتف رئيس احلزب األمني الياس جرجي‪ ،‬من بيت مضيفه‬ ‫إيل يف مشغرة يبلغين أنه اختارين عميداً لإلذاعة‪ ،‬والحظ‬ ‫أنيس ُجال يف سوق الغرب ي‬

‫لكل شيء يف احلياة‬ ‫حرييت على اهلاتف حني بادرين بالقول‪« :‬إهنا املرة األوىل‪ ،‬و ي‬ ‫أول»‪ ،‬لقد بقي هذا االنطباع ماثالً يف ذهين إىل أن كان املشهد الرابع‪ ،‬حيث طلب‬ ‫رئيس احلزب التهيئة إلعادة إصدار «البناء» أسبوعية‪ ،‬وليس يف خزينة احلزب ما‬ ‫يكفل بتسديد كلفة طباعتها‪ ،‬مصراً على القول أنه ليس هنالك مشروع فاشل‬ ‫ومشروع ناجح‪ ،‬هنالك إنسان فاشل وآخر ناجح‪.‬‬

‫مهماً من عناصر جناح مشروع إصدار «البناء»‬ ‫وال ب يد أن أسجل هنا أن جزءاً ي‬ ‫يعود إىل األمني ميشال نبعة‪ ،‬الذي اخرتتُه وكيالً لعميد اإلذاعة‪ ،‬فوقف جهده ووقته‬ ‫وعالقاته على إجناح املشروع وكانت‪« ،‬البناء» ألول مرة يف تارخيها مشروعاً فكرياً ‪-‬‬

‫اقتصادياً جمدياً‪.‬‬ ‫املشهد اخلامس‪ ،‬كان يوم ذهبت إىل مكتب حضرة الرئيس يف العام ‪1791‬‬

‫أطلعته على صيغة افتتاحية العدد األسبوعي من «البناء» وهي بعنوان «الكتائب‬ ‫اللبنانية‪ ..‬والكتائب الفلسطينية» وحني انتهيت من تالوة املقال اكتفى بالقول‪:‬‬ ‫« سنبقى ندفع مثن مواقفنا الصرحية والواضحة اليت متليها علينا رؤيتنا لألمور»‪.‬‬ ‫هذه املشاهد اخلمسة ليست كل ما انطبع يف نفسي عن الصحايب القدوة‪ ،‬فقد‬ ‫نعب منها‪ ،‬خصوصاً يف أزمنة‬ ‫كان يف املزاح‪ ،‬ويف اجلدية ي‬ ‫يؤدي دروساً سنبقى ي‬ ‫اجلفاف‪.‬‬ ‫حّت اآلن‪ ،‬هو أن رئيس احلزب األمني‬ ‫أما املثال الذي مل يتكرر يف تاريخ حزبنا ي‬

‫مهمته حني سليم الرئاسة إىل أمني آخر‪ ،‬فإذا به بعد أيام‬ ‫الياس جرجي قنيزح أكمل ي‬ ‫لكن‬ ‫مذيع يف مديرية شتورة التابعة ملن يفذية زحلة‪ُ .‬ر َّ‬ ‫ب قائل يقول إهنا خطوة عادية‪ ،‬ي‬ ‫هذه اخلطوة بقيت وحيدة‪ ،‬فهل هي عادية بالفعل؟‬

‫‪217‬‬


‫نتوق لسماعه‬ ‫حليم رّزوق‬

‫وم ْعلَم من معامل هذه النهضة العظيمة!‬ ‫سنديانة عتيقة هو‪َ ،‬‬ ‫كيف ال وهو رفيق املعلم‪ ،‬وواحد من رعيل األوفياء! كم كنا حنن‪ ،‬رفقاؤه‪،‬‬ ‫التزود بنصائحه‪ ،‬مع املتج يذر يف‬ ‫األصغر سناً واألقل خربة‪ ،‬نتوق إىل مساع آرائه و ي‬

‫وهم األمة!‬ ‫هم احلزب ي‬ ‫النضال‪ ،‬احلامل على كتفيه اللتني أوهنتهما السنني‪ ،‬ي‬ ‫وكم كان يطيب لنا أن جنلس إليه ونسمعه‪ ،‬فكراً متوقيداً ومحاساً متوثيباً مل تنل‬ ‫منهما عاديات األيام وال املصاعب والويالت اليت عاناها هذا األمني‪ ،‬الشيخ جسداً‬ ‫والشاب فكراً ومحاساً!‬

‫* من كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪211‬‬


‫أوقف الحوار‪ ..‬ورحل‬ ‫غسان الشامي‬

‫مقرراً له أن يبدأ‬ ‫رمبا ارتدى ب يذته‪ ،‬وعقد ربطة عنقه بانتظار احلوار الذي كان ي‬ ‫ظهرية ذلك اليوم التشريين‪ ..‬رمبا‪..‬‬ ‫فعلى غري عادته يف األيام األخرية‪ ،‬تناول هناره بشكل خمتلف‪ ،‬يف مساء الليل‬ ‫هتفت له‪ ،‬وكالعادة‪ ،‬حديث ينوشه املزاح‪:‬‬ ‫الذي سبق ُ‬ ‫ أمني لْياس‪ ..‬سنُجري معك حواراً‪ ..‬غداً‪ ..‬ونتحدث عن التأسيس وعن‬‫أشياء كثرية‪.‬‬ ‫ غداً صباحاً‪ ..‬أيها املواطن؟‬‫‪ -‬ال‪ ..‬املواطن يقول بعد الظهر يا نيافة األمني‪.‬‬

‫ اتفقنا‪.‬‬‫غري رأيه بعد ارتداء‬ ‫تأخر عن موعده‪ ..‬أو ي‬ ‫لكنه ي‬ ‫تأخرنا يف ضرب املوعد‪ ،‬أو ي‬ ‫مالبسه‪ ،‬مث اتيكأ على طاولة الفطور‪ ..‬ونام‪ .‬رمبا يأرقه ذلك الليل البريويت‪ ،‬ومل ميازحه‬ ‫أحد‪ ،‬أو مل يستطع أن «يرِّكب» مزحة تغدو «نادرة» على ألسنة الرفقاء‪..‬‬ ‫رمبا تعب فأوقف احلوار‪ ..‬ورحل‪.‬‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪211‬‬


‫الياس جرجي قنيزح‪ ..‬بعينيه الذكيتني‪ ،‬وابتسامته الساخرة‪ ،‬وطريقة ممازحته‬ ‫امللتبسة‪ ،‬وعقيدته الصرحية اليت قطع يف سبيل نشرها سهول وجبال هذه البالد‪..‬‬ ‫رحل‪.‬‬ ‫رحل تاركاً ابتسامته وألق عينيه‪ ،‬وفكاهته امللتبسة ومتاهي الرجل بالعقيدة‪..‬‬ ‫كوة يف ذاكرة التأسيس‪ ،‬يف التعب‬ ‫وهكذا وبعد ستني عاماً يرتك «أمني الياس» ي‬ ‫والعرق والسفر مشياً‪ ،‬ويف الكالم احملب عن عقيدة صاغت شخصيته‪ ،‬فاستطاع‬

‫الدخول إىل عقول وقلوب من الْتقاه وصاروا فيما بعد جيشاً من رفقاء‪.‬‬

‫هكذا‪ ..‬رحل رفيق الصعرت‪ ،‬وخبز التنور‪ ،‬وقادوميات القرى‪ ،‬ورجل املواقف‬ ‫الضاربة يف الصدق‪ ..‬ويف هذا الرحيل بعض من غياب رائحة متميزة‪ ..‬ألن ُجياً من‬ ‫الرفقاء يعرف أن حواراً طويالً مع اإلميان بصنع التاريخ الباسم قد‪ ..‬توقيف‪.‬‬

‫‪212‬‬


‫رحيل السنديان‬ ‫«البناء»‬

‫غادر الياس جرجي قنيزح كرسيه‪ ،‬وغادر «البناء» اليت رافقها منذ صدورها وكتب‬ ‫فيها بعضاً من حياة‪ ،‬ومواقف وتاريخ‪.‬‬ ‫الرجل الذي أينع يف تالل وجبال وسهول هذي البالد‪.‬‬ ‫األمني على الوعد وعلى املسرية وعلى الكلمة‪.‬‬ ‫من حبر طرطوس إىل حبر بريوت إىل ضهور الشوير إىل جبال الساحل والداخل‬ ‫إىل عمان وإىل أقاصي اجلزيرة السورية‪ ..‬مسافات عرفته وخربها ويا ما أحبته وأحبها‬ ‫ويا ما له من أحبة ورفقاء وأصدقاء يف كل مطارح هذي البالد الشاسعة‪.‬‬ ‫غادر الياس جرجي قنيزح كرسيه‪ ..‬غادرت معه ابتسامة ُجيلة لكنه مل يغادر‬ ‫الذاكرة‪ ..‬وال الضوء‪.‬‬

‫* كلمة التحرير في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 879‬تاريخ ‪.1779/11/8‬‬

‫‪212‬‬


‫أجيال نضال‬ ‫عماد أبو جود‬

‫األمني الياس جرجي قنيزح هو جزء من تاريخ احلزب السوري القومي‬ ‫االجتماعي‪ .‬فقد انتمى إىل صفوف احلزب منذ بدايات نشوء احلزب وزامن سعاده‬ ‫واضع العقيدة القومية االجتماعية ومؤسس احلزب وزعيمه‪ ،‬وكان األمني الياس يف‬ ‫سدة املسؤولية طوال فرتة عضويته يف احلزب وها قد فارقنا تاركاً يف قلوب رفقائه‬

‫حسرة ويف نفس كل منهم ذكرى‪ ..‬وإنين من الرفقاء الذين كان هلم شرف التعرف‬ ‫إىل األمني ا لياس عن كثب وممن ُجعتهم به أعمال مشرتكة إما يف دائرة واحدة من‬ ‫دوائر احلزب وإما ممن تقاطعت مهماهتم مع مهمات األمني الياس‪ ..‬ويف إطار ما‬ ‫دونتها يف حينها‪ ،‬وأبقيتها طي‬ ‫ذكرت أعاله‪ ..‬صارت بني األمني الياس وبيين قصة ي‬ ‫دفرت ذكريايت‪...‬‬ ‫أما اآلن وقد فارقنا األمني إلياس أرى أنه من واجيب ووفاءً لذكراه وملا جيس يده يف‬

‫قلوبنا ويف نفوسنا أن أفرج عن هذه الوريقات أمام املأل ألقص ما يلي‪:‬‬ ‫كلفتين عمدة اإلذاعة واإلعالم يف احلزب السوري القومي االجتماعي بصفة‬ ‫مذيع مركزي لتغطية حلقات إذاعية يف منطقة صور يف إطار برنامج املن يفذية هناك‪.‬‬

‫وكانت احللقات اليت أقوم بواجب تغطيتها حمصورة باملواطنني املقبلني على االنتماء‬ ‫إىل صفوف احلزب‪.‬‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/1‬‬

‫‪214‬‬


‫إيل أسبوعياً طوال الفرتة املمتدة من ظهر يوم اجلمعة حّت‬ ‫كنت أنفذ ما عهد به ي‬

‫مساء يوم األحد حبيث كنت أتنقل بني معظم قرى املنطقة حبسب برنامج مع يد‬ ‫مسبقاً من قبل نظارة اإلذاعة واإلعالم يف املن يفذية‪.‬‬

‫استمريت على منوال القيام هبذه املهمة على مدى السنتني تقريباً من‬ ‫الثمانينات‪.‬‬ ‫من جهة أخرى كنت خالل تلك الفرتة عينها أتردد بالزيارة إىل بيت األمني‬ ‫ا لياس جرجي قنيزح الكائن يف منطقة احلمراء حبيث جتمعين باألمني الياس صداقة‬ ‫متينة على الرغم من فارق السن بيننا‪ ،‬فهو من مواليد ‪ 9191‬وأنا من مواليد‬ ‫‪ 9191‬كينا خالل الزيارات نتبادل أطراف احلديث ومنها حول جتارب األمني الياس‬ ‫احلزبية ومنها حول العمل اإلذاعي الذي أقوم به من يف من يفذية صور‪.‬‬ ‫وكان قد عُهد إىل األمني الياس آنذاك مسؤولية «مفتش إداري» على فروع‬ ‫احلزب من قبل عمدة الداخلية‪ ..‬وتوافق أن برنامج عمله يف مهمته قد تقاطع مرة مع‬ ‫برنامج مهميت يف من يف ذية صور إذ كان عليه زيارة جنوب لبنان للتفتيش يف إدارة‬

‫من يفذيات تلك املنطقة واتفقنا على االنطالق معاً إىل النبطية حيث نفرتق كل يف‬ ‫مهمته على أن نلتقي مساء األحد يف بلدة صريفا يف قضاء صور كي نعود معاً‬

‫صباح االثنني باكراً إىل بريوت‪ ..‬مت االنطالق حسبما هو متفق عليه‪ ..‬لن أتكلم‬ ‫اآلن عما دار من أحاديث خالل الرحلة ولكن أقول بأن الوقت يتسلل وينساب‬ ‫لالنقضاء بسرعة من دون أن نشعر به عندما نكون حبضرة األمني الياس‪ ..‬فهو‬ ‫خمزون هائل من اإلميان والتاريخ واخلربة وسرعة اخلاطر والطرافة اليت ختفي عربة بل‬ ‫عرباً وهذا الرأي ليس رأيــي وحدي بل أنه رأي كل من عرف األمني الياس‪.‬‬ ‫عدنا وا لتقينا مساء األحد يف بلدة صريفا يف منزل الرفيق أبو علي نزال‪ ،‬وبعد‬ ‫سهرة امتدت إىل أواخر ساعات الليل وقد يأمها عدد ال بأس به من رفقاء من يفذية‬

‫فوت انتقلنا بعدها للنوم حيث فرش لنا الرفيق‬ ‫صور ألن السهرة مع األمني الياس ال تُ ي‬ ‫‪215‬‬


‫أبو علي يف غرفة اجللوس لتوفر الدفء بسبب وجود «الصوبيا»‪ .‬ب يدلت ثيايب بسرعة‬

‫وحتضرت للنوم يف حني أن األمني ا لياس كان جيد بعض الصعوبة يف تبديل ثيابه مما‬ ‫دفعين إىل املبادرة ملساعدته وقد قلت له بشكل عفوي‪« :‬أمني الياس آن األوان لك‬

‫لكي ترتاح‪ .»...‬وضع األمني الياس يده على كتفي عند مساعه قويل هذا وكأنه يريد‬ ‫أن يدفعين عنه تعبرياً عن احتجاجه على ما قلت له‪ ،‬وقال يل‪« :‬أرتاح؟!‪ ..‬إذا‬ ‫فكرت أن أرتاح‪ ..‬أنا مبوت‪ ..‬يوجد أسباب كثرية حتول دون الراحة ألمثايل‪..‬‬ ‫فالنهضة مل تنتصر بعد‪ ..‬والقوميون االجتماعيون على الرغم من صحة عقيدهتم وقوة‬ ‫إمياهنم فأهنم يف حاجة دائماً إىل املتابعة والقدوة‪ »..‬وأضاف بعد صمت قليل؛ «‪..‬‬ ‫وال أخفي عليك يا رفيق عماد بأن يل قدرة تنهضين إىل مواصلة النضال وهي عوامل‬ ‫فاعلة ومؤثرة على إراديت فإننا نزامن اآلن يف احلزب السوري القومي االجتماعي‬ ‫مرحلة نوعية من مراحل االستشهاديني وأنا أرى بأن نضال اجليل الذي أنتمي إليه‬ ‫على الرغم من تضحياته اجلسام اليت تعترب من مواهب التاريخ النضايل للحزب وعلى‬ ‫الرغم من أهنا أسست للمرحلة الراهنة إال أهنا تعترب برأيــي مرحلة الطفولة واليفاعة من‬ ‫عمر النضال احلزيب‪ ..‬وأما االستشهاديون فإهنم جيسدون مرحلة الشباب والرجولة‬ ‫من عمر هذا النضال‪ ...‬وإنه من غري الطبيعي عدم جماراة حركة احلزب النضالية يف‬ ‫ُجيع مراحله وعدم العمل على تطوير أدائه طاملا منلك اإلمكانية وطاملا يف ذلك‬ ‫حتقيق لغاية احلزب يف مسريته الصراعية للوصول إىل اجملتمع‪.»...‬‬ ‫وتابع األمني الياس بعد صمت أيضاً «‪ ..‬إن نضال القوميني األوائل بالنسبة إىل‬ ‫تاريخ احلزب وحجم التحديات وأدوات وأساليب النضال مقارنة مبا هو احلال اآلن‬ ‫هو مبثابة طفل بدأ بالنطق‪ ..‬حيث يقول‪ ...‬بابا‪ ..‬بابا‪ ..‬ماما‪ ...‬ماما‪ ...‬وأن هذا‬ ‫الطفل يصبح غري طبيعي إذا بقي ال ينطق بسوى بابا‪ ..‬بابا‪ ..‬يف الوقت الذي‬ ‫أصبح فيه رجالً‪ ..‬ولكي يستفاد من خدماتنا ال ب يد لنا من امتالك روحية املرحلة‬ ‫الراهنة‪ ..‬لن أرتاح يا رفيق عماد فإذا كان ليس بإمكاين القيام بنضال على مستوى‬ ‫‪211‬‬


‫االستشهاديني إال أنين سوف أواصل عطاء ما بإمكاين عطاءه طاملا أنين أتنفس‬ ‫وأقف على قدمي‪ ..‬وطاملا عقلي ينضج ولساين ينطق‪ ..‬وطاملا أن النهضة السورية‬ ‫القومية االجتماعية تنادي رجاهلا‪ ..‬وسوف تبقى حباجة إليهم حّت ولو انتصرت‪»..‬‬ ‫البقاء لألمة يا أمني الياس فلقد كان ما أردت وناضلت حّت الرمق األخري‪.‬‬ ‫اخللود لسعاده‪.‬‬ ‫ولسوف تبقى يف وجداننا ذكرى ُجيلة‬ ‫ولن ضالنا قدوة الستمرار العطاء واإلميان بالنصر‪.‬‬

‫‪219‬‬


‫صفاء الرسل‬ ‫سهام بشير جمال‬

‫إىل األمني الياس قنيزح‬ ‫حني يرحل التاريخ جترفنا موجة حزن ال وصف هلا‪ .‬نقف وجلني صامتني ونود‬ ‫لو نغمر فيك كل املاضي يف حضنة أو قبلة كي ال يضيع‪ .‬نود لو نتوسده راحة وأمالً‬ ‫لالستمرار يف زمن الردة‪.‬‬ ‫يا أميننا الغائب‪ ،‬مل ترحل باكراً بالعمر‪ ،‬لكنك رحلت باكراً من حبنا الكبري‬ ‫جسدمتوه‬ ‫ألمثالك وعطاءاهتم وتفانيهم وزهدهم باألنا وتعليقهم باآلخر‪ .‬هذا التعلق ي‬ ‫يف مطارح واسعة من األمة زرمتوها مشياً على األقدام يف الليايل الباردة والصباحات‬ ‫اآلملة‪ .‬محلتم الفرح بنور العقل‪ ،‬طردمت ظلمة الغرائزية‪ .‬أشعلتم ضوء األمل ٍ‬ ‫بغد واعد‬ ‫مساواة وعدالة وقيماً وحضارة مشعشعة على العامل دون عوملة مصفاة من االنغالق‬ ‫والتعسف والظلم والكراهية‪.‬‬ ‫يا أميننا الغايل ما أُجل ما حتليت به من صفاء البساطة واملرح والتواضع‬ ‫والتسامح وروح احلوار املنفتح‪ .‬أذكر سنة بكاملها حني كنت رئيساً للحزب ويف‬ ‫أحلك الظروف‪ .‬وكنت يف بيتك معنا يف مشالن ال زلت لليوم أمسع صوت األوالد‬ ‫أمرها والوطن يف حمنة قاسية‬ ‫ينادونك «عمو الرئيس» أحالها أيام وحنن مبعيتك و ي‬ ‫والعام ‪ٍ .1791‬‬ ‫ليال طوال سهرت وسهرنا معك‪ ،‬مراجعات ومطالب وقصف‬

‫* كلمة لها‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/2‬‬

‫‪218‬‬


‫وخطف وموت ودمار وال ضوء يف األفق‪ .‬وصراع األخوة الرفاق على أشده‪ .‬يا‬ ‫لصربك الطويل وحمبتك العارمة وثقتك بأن يف النفس السورية كل حق وخري وُجال‪.‬‬ ‫فهل ميكن أن تضيع وما كنت لتصدق ذلك‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫متفان كأصدق ما تكون احملبة‪.‬‬ ‫يا أميننا الغايل‪ ،‬أنت صفاء الرسل األوفياء‪.‬‬

‫متسامح كما تسامح الشجعان القادرين‪ .‬معطاء من ذاتك حّت االستشهاد برحيلك‬ ‫أحب األمناء‪ .‬يا أبا فداء‪.‬‬ ‫فقدنا الصفوة‪ .‬أال فليكن هذا الغياب اخلمرية وامللح يا ي‬

‫‪217‬‬


‫«نكهة» إلياس جرجي‬ ‫بشير موصلي‬

‫ا لياس جرجي ال يرثى بالعواطف وحدها وال مبا أعطاه فقط ففي كل وجه من‬ ‫أوجه احلياة حمل للرثاء‪.‬‬ ‫العطاء والتضحيات ومواكبة مسرية احلزب واإلخالص والبذل واملناقب وغريها‬ ‫وغريها من الصفات جزيلة وحافلة يف تاريخ احلزب مل ينفرد هبا يوماً عدد قليل من‬ ‫املضحني بالدم واملال‬ ‫أعضائه‪ .‬فقد متيز احلزب عرب تارخيه الطويل بوفرة املناضلني و ي‬ ‫والصحة والعائلة واألبناء‪ ،‬بالوقت وبكل ما ميلكون يف سبيل انتصار قضيتهم وحتقيق‬ ‫املصاحل العليا ألمتهم والدفاع عن استقالل وطنهم ووحدة أراضيه‪.‬‬ ‫وكان دائماً لكل مناضل مميز «نكهة» خاصة به متييز عطاءه وتفرد نضاليته‪،‬‬ ‫وحتمل شخصيته والياس جرجي‪ ،‬كما عدد من أمناء وأعضاء الثالثينات‬ ‫واألربعينات‪ ،‬التصق باملسؤوليات احلزبية من صغريها حّت أعالها حلظة انتهى من‬ ‫أداء القسم حّت حلظة انتهاء نبض احلياة يف عروقه‪.‬‬ ‫مبكراً وهو شاب وصل إىل املراكز القيادية‪ ..‬فأمامي اآلن حتت زجاج طاولة‬

‫مكتيب هوييت احلزبية رقم ‪ 242‬تاريخ (املركز يف أول يناير ‪ )1748‬عميد الداخلية‬ ‫إلياس جرجي ‪ -‬توقيع ‪ -‬مل يتغري حّت اليوم‪.‬‬

‫* من كلمة له‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/4‬‬

‫‪221‬‬


‫كان القيادي الوحيد الذي استبقاه الزعيم إىل جانبه بعد أن حل جملس العمد‪،‬‬ ‫خرجت أجياالً‬ ‫وعيينه ناموساً للزعيم بعد عمدة الداخلية وال تزال بصماته حمفورة‪ ،‬ي‬ ‫من وكالء العمدة واملنفذين العامني‪.‬‬ ‫شعاره «العمل ‪ 48‬ساعة يف األربع وعشرين ساعة» وعلى من يعمل معه أن‬ ‫يكون مستعداً هلذا التوقيت «اليسرجي» فهو مل يعرف الراحة وال حيب «الكرسي»‬ ‫ووحده متيز يف تاريخ احلزب بلقب «العميد املتجول» فاجللوس وراء املكتب ال جيوز‬ ‫عنده أن يتجاوز بضعة أيام لتحضري تقارير جوالته العائد منها‪ .‬ولإلعداد جلوالته‬ ‫الذاهب إليها‪« .‬فاحلزب ال يدار من املكاتب»‪.‬‬ ‫أواخر األربعينات ومطلع اخلمسينات رافقته يف جوالت حزبية عديدة أثناء‬ ‫دراسيت اإلنكليزية يف الصيف يف اجلامعة األمريكية‪ .‬وال أذكر مرة أننا وصلنا منطقة‬ ‫حزبية قبل منتصف الليل‪ .‬فهو يعصر النهار وحّت آخره قبل أن يتوجه إىل الزيارة‬ ‫التالية‪ .‬مرة وصلنا إزرع يف الثانية بعد منتصف الليل وفتح لنا هاجم فلوح الباب‪.‬‬ ‫أول مرة ألقاه‪ ،‬ومل ِ‬ ‫ميض على زواجه سوى سنتني أو ثالث‪ .‬وبعد اسرتاحة قصرية‬ ‫(نوم) للصباح بدأ العمل مع الفطور‪ .‬ومهما كنت أصغر منه يف السن فهو أبداً‬ ‫سباق يف االستيقاظ ويف بدء العمل ويف السري الطويل ويف الساعات املتواصلة من‬ ‫الدرس أو النقاش أو الزيارات العملية‪.‬‬ ‫يف العبادية قرب عاليه فتح لنا أنيس أبو رافع الباب بعد منتصف الليل والثلوج‬ ‫متأل الطريق حيث مشينا على األقدام من مفرق العبادية على طريق الشام وكان معنا‬ ‫شاهني شاهني وكيل عميد الداخلية املقيم يف منتصف شارع جان دارك‪.‬‬ ‫ويف الزبداين استجد أمر خالل االجتماع اقتضى إحضار املسؤول احلزيب من‬ ‫ألتوجه فوراً إىل هناك سرياً على األقدام عرب احلقول‬ ‫بلودان‪ ،‬فاختارين األمني الياس ي‬ ‫املغطاة بالثلوج تعكس ضوء القمر وكأنك يف النهار وليس معي سوى عصا غليظة‬

‫‪221‬‬


‫زودين هبا مدير املديرية يف الزبداين‪ .‬ورغم صالبتها مل تستطع ختفيف ضربات قليب‬ ‫وألطرد اخلوف من ضبع جائع‪.‬‬ ‫مركز احلزب عام ‪ 1749‬كان يف أول شارع املعرض على اليمني صعوداً حنو‬ ‫جملس النواب وهناك كنت أتواعد معه على اللقاء‪ ،‬كلما حضرت من دمشق‪ .‬وكان‬ ‫يعرف أعضاء من يفذية دمشق واحداً واحداً وباالسم‪.‬‬ ‫يف فرتة اخلمسينات حتمل من اإلساءات ومن االضطهاد النفسي ما ال ميكن‬ ‫وصفه‪« .‬فهجر» عمدة الداخلية وسرت معه يف شوارع دمشق ُجيعها والدموع يف‬ ‫عينيه وهو يفرغ ما يف نفسه من آالم زرعتها التصرفات اليت أوصلت احلزب إىل كارثة‬ ‫عام ‪.1755‬‬ ‫مر به من عطاء وعمل وفرح وحزن ومصاعب وانشغال ومهوم حافظ‬ ‫كل ما ي‬ ‫يف ي‬ ‫على ميزة مل تفارقه حّت وفاته وقد عرفها كل من الْتقاه ولو لساعات قليلة‪ ،‬وهي‬ ‫ميزة املرح والنكتة احلاضرة‪ .‬ولوال تلك امليزة املميزة لكان الياس جرجي غادرنا وهو‬ ‫شاب فلطاملا كان يضحك مع كل من حوله واحلزن ميزق أحشاءه‪.‬‬

‫حكاية الياس جرجي مع احلزب هي متاماً حكاية حزب مع عضو مل يكن كباقي‬ ‫األعضاء‪ .‬حكاية تفسرها اجلموع اليت حضرت تلقائياً وبدون تدبري مسبق أو منظم‬ ‫وقبل أن تصلها النعوة رمسياً لتشارك يف وداعه‪ .‬يف كل بيت قومي اجتماعي له‪،‬‬

‫ذكرى‪ ،‬من القامشلي إىل صور ومن امليادين إىل طرابلس‪ ،‬وكل ما بينهما من مدن‬ ‫وبلدات وقرى يف الساحل ويف السهول ويف اجلبال‪ ،‬إىل كل فرع من عرب احلدود‪.‬‬ ‫سكن القلوب بوداعته وأشاع االبتسامات يف أحلك الظروف ونسي نفسه متاماً‬

‫ينس حزبه وال دقيقة خالل ستني عاماً وأكثر‪ .‬حّت‬ ‫خالل ستني عاماً وأكثر ومل َ‬ ‫اإلهداء على صورة له حبجم كارت بوستال قدمها يل عام ‪« 1747‬كان حماضرة‬ ‫حزبية» (ال زلت أحتفظ هبا)‪.‬‬

‫‪222‬‬


‫وبعد قد ال تكفي عشرات الصحائف لتسجيل مآثره وجهاده ونضاله وطيبته‬ ‫وعفويته وكل ما مر به من ٍ‬ ‫مآس وأفراح ومن انتصارات وانكسارات ومن جناح‬ ‫وخيبات من نسور وثعالب ومن أصدقاء ورفقاء ومن فريسيني‪ ،‬ويوضاسيني‪ .‬ولكنه‬ ‫يتكرر‪.‬‬ ‫يبقى أبداً هو من الْ َّ‬ ‫تف «اجلميع» حول نعشه يف الوداع األخري‪ .‬وهو من مل ي‬

‫‪222‬‬


‫األمين «القديس»‬ ‫إلياس مخلوف‬

‫كثريون هم الذين سيكتبون عنك لريثونك‪..‬‬ ‫وكثريون هم الذين سيتعزون مبا خليفت وأبقيت‪..‬‬ ‫وكثريون هم الذين سيقولون بأنك ٍ‬ ‫باق بيننا ويف اجملتمع الذي كان يساوي كل‬ ‫حياتك ووجودك‪ .‬فتلك هي ُسنَّة احلياة‪ ،‬بل ُسنَّة املوت يف احلياة‪ .‬وهو حلقة من‬ ‫حلقاهتا حيث تستمر احلياة رغم املوت‪ ،‬خطوة متوت لتلد بعدها خطوات‪ ،‬فال‬ ‫تتجمد احلياة وال تسري إىل عدم‪.‬‬ ‫روح تبقى بفعل الذي تبقيه وتتخلد فيه‪ ،‬وجسد ٍ‬ ‫بال ال قيمة له يزول‪ .‬وقد كنت‬ ‫جس دهتا أفكارك وأعمالك وعطاياك يف حياة األمة‪ ،‬اليت تزول‬ ‫دائماً تلك الروح اليت ي‬ ‫أشياؤها وتتواىل أجياهلا وهي ال تتغري وال تزول‪.‬‬ ‫مل تكتنز من كنوز الدنيا شيئاً ومل توفر ماالً ومل تستطع حّت إكمال دروسك‬ ‫األكادميية كما كنت تريد وتشتهي‪ ،‬فقد كنت تبتدئ هنا لتنتهي بك جهودك‬ ‫الطموحة إىل ما ال يوصلك إىل مبتغاك‪.‬‬ ‫كان طموحك كبرياً ولكن أيام الظلم واالضطهاد كانت األكرب واألقوى‪ ،‬فلم‬ ‫تتيسر لك طريق الوصول‪.‬‬ ‫تتحقق فيها طموحاتك ومل ي‬ ‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/9‬‬

‫‪224‬‬


‫كرست حياتك لألمة‪ ،‬للحياة اليت تبقى وتستمر ومثلك كثريون‪ ،‬ولكن األكثر‬ ‫ي‬ ‫منا ُجيعاً‪ ،‬كان املستغلون حلياة األمة والالعبون على متناقضاهتا واملتاجرون مبا هي‬

‫عليه من الضعف واهلوان‪ .‬وقد ظن هؤالء بأهنم األذكى واألبرع يف احلصول على ما‬ ‫يريدون من أجل أنانيتهم ونفعهم اخلاص‪.‬‬ ‫كرست حياتك لألمة لتشقى أنت‬ ‫لقد ضربت مبنافعك اخلاصة عرض احلائط و ي‬ ‫وحتيا األمة من بعدك يف سريها الطبيعي للحياة أجياالً بعد أجيال‪.‬‬ ‫كنت صادقاً مع نفسك ومع اآلخرين‪ ،‬بل مع حقيقة األمة اليت جسدت يف‬

‫نفسك من أصالتها الشيء الكثري‪.‬‬ ‫لقد رحلت بعد كل الذي كابدته من املصاعب والويالت‪ ،‬ولكنك رغم كل‬ ‫الذي كان‪ ،‬عنادك باحلق هو األقوى كلما ازدادت جراحاتك فيه‪ ،‬كما كنت البسمة‬ ‫الدائمة والنفس الرضية املرحة املبلسمة للجراح ألنك كنت فوق اجلراح والصرب األقوى‬ ‫القادر على اهلزء باملصاعب والنكبات‪.‬‬ ‫كان أملك باألمة كبرياً وال مناص هلا من االنتصار‪ .‬ولكن جراحات األمة‬

‫أذاقتك من العذاب ألواناً وأنت تداوي جراحاهتا هذه جبراحاتك شأن الطبيب الذي‬ ‫يداوم على شفاء مريضه ومريضه يأَّب الشفاء‪ .‬ولكنك عاندت مع املعاندين وصربت‬ ‫مع الصابرين حّت الرمق األخري‪ ،‬وقد أزفت ساعة احلق فكان موتك حقاً‪ ،‬وكنت يف‬

‫موتك احلق املنتصر يف ذاتك من أجل انتصار حق األمة الذي يبقى ويستمر‪..‬‬ ‫وهكذا تبقى القدوة الصاحلة لنا ُجيعاً يف املعاناة والصرب عسى أن تتعلم القلوب‬ ‫املؤمنة منك ما تستطيعه من احملبة ونكران الذات‪.‬‬

‫‪225‬‬


‫اإلنسان الجديد‬ ‫محمد المقلد (الشيخ)‬

‫الكالم على األمني ا لياس جرجي قنيزح‪ ،‬كمن يريد أن يكشف سر الطبيعة‪،‬‬ ‫ففي الطبيعة فصول‪ ،‬الشتاء‪ ،‬خري من السماء‪ ،‬يسقي البشر واحليوان والنبات‬ ‫والشجر‪« ،‬وجعلنا من املاء كل شيء حي»‪ ،‬والربيع سر عظمة اخلالق‪ ،‬حيث تتنوع‬ ‫أزهار األشجار وأزهار األرض بأُجل إبداعات السماء‪ ،‬والصيف تكثر فيه اخلضر‬ ‫والفواكه من كل ما ل يذ وطاب‪ ،‬واخلريف‪ ،‬حيث تتعرى األشجار واألزهار كما‬ ‫تتساقط األقنعة عن الوجوه الكاحلة وامللونة‪ ،‬واملطالة باألنانية وحب الذات‪.‬‬ ‫واألمني الياس جرجي متعدد الصفات كهذه الفصول األربعة‪ ،‬عطاءً وُجاالً‬ ‫نفسياً وأخالقياً‪ ،‬وإبداعاً بالصراحة والكتابة واإلذاعة واحملاضرات‪ ،‬وثورة على املفاسد‬ ‫واملتاعب يكشف العراة واملزيفني بوضوح‪ ،‬وال خيشى يف قول احلق لومة الئم‪ ،‬كما‬ ‫تتعرى من أوراقها أشجار اخلريف‪.‬‬ ‫قطع دراسته العليا‪ ،‬عندما طلب منه الزعيم أن يتحمل إحدى املسؤوليات‬ ‫املركزية‪.‬‬ ‫ضحى مبستقبله يف سبيل مصلحة األمة‪ ،‬كان عميداً للداخلية لفرتة طويلة‪ ،‬مل‬ ‫و ي‬ ‫يفصل خالهلا رفيقاً واحداً عن جسم احلزب‪.‬‬

‫* من كلمة له‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/15‬‬

‫‪221‬‬


‫عرفت األمني الياس جرجي قبل أن أتعرف عليه شخصياً‪ ،‬عرفته من خالل‬ ‫ممارساته وسلوكيته وتضحياته‪ ،‬ومواقفه العادلة واحلازمة‪.‬‬ ‫وتعرفت عليه عن كثب يوم كان رئيساً للمجلس األعلى‪ ،‬ومن مث رئيساً للحزب‪،‬‬

‫وتوطدت العالقة بيننا‪ ،‬وآنست فيه اآلدمية واألخالقية والبساطة والتواضع والزهد‪،‬‬ ‫والرتفع عن األنانية وحب الذات‪ .‬فكل ما عنده‪ ،‬وما ميلكه هو ملك احلزب‪ ،‬وعقله‬ ‫ووقته‪ ،‬وجهده ولسانه وفكره يف سبيل احلزب‪.‬‬ ‫هو مدرسة مفتوحة يف شكل دائم لتدريس العقيدة القومية االجتماعية‪ ،‬وحديثه‬ ‫دائماً وأبداً عن العقيدة‪ ،‬وتوجيهاته وإرشاداته ملصلحة احلزب‪ ،‬فال حديث عنده غري‬ ‫احلديث عن النهضة‪ ،‬وعن السبل والوسائل اليت تدفع بالعمل احلزيب يف سبيل‬ ‫األفضل‪.‬‬ ‫وكان يتأمل من كل ما يسيء ويعرقل املسرية‪ ،‬ولكنه النظامي واالنضباطي‪ ،‬فال‬ ‫يقبل مطلقاً اخلروج عن النظام‪ ،‬وتوجيهاته لنا دائماً‪ .‬صليحوا وعاجلوا ضمن النظام‪،‬‬ ‫وال خترجوا عليه‪.‬‬ ‫عرفته رئيساً للمحكمة العليا يف احلزب‪ ،‬وعملت حتت إمرته مدة وجوده رئيساً‪،‬‬ ‫كناموس للمحكمة العليا‪.‬‬ ‫كان القاضي النزيه واجملرد‪ ،‬آراؤه مدروسة وحكيمة‪ ،‬ال خلفية عنده‪ ،‬العدالة‬ ‫القومية االجتماعية هي األساس‪.‬‬ ‫عندما مل تعجبه املسرية‪ ،‬وكانت له بعض املالحظات اليت ال جيوز السكوت‬ ‫عنها‪ ،‬ق يدم استقالته إىل اجمللس األعلى وذهب إىل بيته بكل صمت‪.‬‬

‫مل ينقطع بعدها على رغم سنيه ومرضه عن إعطاء احللقات اإلذاعية‪ .‬وعن تلبية‬ ‫أي دعوة حزبية يف سبيل حماضرة أو حلقة إذاعية‪ ،‬واستمر بالعطاء وهو على فراش‬ ‫املرض‪.‬‬

‫‪229‬‬


‫املوجه‪ ،‬واألمني األمني‪،‬‬ ‫إيل كان األستاذ والقدوة و ي‬ ‫األمني الياس جرجي بالنسبة ي‬

‫والرفيق والصديق الويف‪.‬‬

‫أفخر أنين أخذت الكثري من خصاله وسلوكه‪ ،‬وتتلمذت على تعاليمه قدمياً‬ ‫وحديثاً ألنه كان موسوعة تارخيية وقومية‪.‬‬ ‫األمني ا لياس جرجي هو إنسان سعاده اجلدي‪ ،‬مبفاهيمه اجلديدة‪ ،‬بقيمه ومثله‬ ‫وأخالقه وعطاءاته‪ ،‬كما أراد املعلم‪.‬‬

‫األمني ا لياس جرجي كالطبيعة املعطاءة اليت ال يفيها اإلنسان حقها وعطاءاهتا‬ ‫وُجاهلا‪ ،‬فمهما قلنا فيه قليل من الكثري جداً‪ ،‬وأفضل القول عنه أنه كان اإلنسان‬ ‫اجلديد‪.‬‬

‫‪228‬‬


‫قدوة نضالية مميزة‬ ‫ابراهيم الزين‬

‫تعرفت إىل األمني الياس جرجي قنيزح منذ أربعني سنة‪ ،‬إذ كان يومها عميداً‬ ‫للداخلية يف احلزب السوري القومي االجتماعي‪ ،‬وكنت مسؤوالً إدارياً يف من يفذية‬ ‫الطلبة‪ ،‬وحبكم هذه العالقة اإلدارية ‪ -‬التنظيمية‪ ،‬كان التعارف بيننا‪ ،‬فاحملبة واالحرتام‬ ‫مع الصداقة القومية االجتماعية املبنية على الود والثقة املتبادلة‪ ،‬واإلخالص يف‬ ‫العمل‪ ،‬مع عالقة روحية محيمة‪ ،‬بعد ذاك التعارف وعلى امتداد هذه السنوات‬ ‫الطوال‪.‬‬ ‫وللحقيقة اجملردة أقول‪ ،‬لقد عرفت العديد من مسؤويل احلزب وقيادييه‪ ،‬ولكنين‬ ‫مل أعرف أبداً من يضاهيه يف روح النكتة وخفة الدم واجلدية يف العمل احلزيب والقلق‬ ‫الدائم على تقدم املسرية احلزبية أياً كانت الصعوبات والعوائق املعرتضة‪.‬‬ ‫جلساته اإلذاعية‪ ،‬وخاصة يف احللقات املفتوحة املوضوع كانت متعة يف الشرح‬ ‫الذي ترافقه الروح املرحة واالقتناع باحلجة يف مناخ عائلي محيم‪ .‬ترافقنا مرتني يف‬ ‫جوالت حزبية على بعض فروع احلزب يف لبنان‪ ،‬فكانت هذه اجلوالت دقيقة يف‬

‫مواعيدها وبراجمها‪ ،‬عميمة الفائدة يف نتائجها على صعيد التفتيش املايل واإلداري‬ ‫واإلذاعي‪ ،‬وتعليم املسؤولني احملليني كيفية القيام مبهام مسؤولياهتم بالتمييز والدقة‬ ‫* من كلمة له‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/24‬‬

‫‪227‬‬


‫اللتني اشتهر هبما احلزب السوري القومي االجتماعي يف عمله اإلداري الفرعي‬ ‫واملركزي‪ ،‬وكان ذلك يف بداية الثمانينات من عمره‪ ،‬فكنت أحسه شاباً يف مقتبل‬

‫العمر اندفاعاً وحيوية ومهة متوثبة‪.‬‬

‫وكنت كلما اقرتبت منه أحببته أكثر من السابق‪ ،‬وشعرت معه بأنه أخ وأب‬

‫ورفيق غيور على راحة رفقائه وتنفيذ أوامر القيادة اليت انتدبته لتلك املهمة بكل دقة‪.‬‬ ‫من الصعب جداً اإلحاطة بكل جوانب شخصية األمني الياس الغنية مبزاياها‬ ‫القيادية العديدة الرائعة ولكنين أقول بأنه أمني مؤمن بعمق دقيق وصارم ٍ‬ ‫قاس يف‬ ‫القواعد النظامية واملسائل العقائدية‪ ،‬ويف فهم معىن املسؤولية اإلدارية اليت جيب أن‬ ‫أخوة حقيقية نابعة من‬ ‫تظل الفاعلة املعليمة للرفقاء واملواطنني على ح يد سواء مبحبة و ي‬ ‫وحدة الروح املنبثقة من وحدة احلياة!‬ ‫نكاته املتعالية على التعذيب أيام «معتقل األمري بشري» إثر فشل الثورة االنقالبية‬ ‫مطلع عام ‪ 1712‬كنا نتناقلها بني القواويش‪ ،‬فكان هلا فعل السحر يف تشديد عزمية‬ ‫الرفقاء والضحك من أعماق القلب يوم كان الضحك ممنوعاً علينا يف تلك احملنة‬ ‫القاسية املباركة‪.‬‬ ‫كان دائماً سريع البديهة‪ ،‬حاضر النكتة يف أقسى الظروف وأصعبها خيلق جواً‬ ‫من اإللفة واحملبة واالحرتام والتعلق به وجبلساته املمتعة عند ُجيع الرفقاء جملرد أن‬ ‫جيالسهم خارج أوقات االجتماعات احلزبية النظامية اليت يكون فيها شديد الدقة يف‬ ‫يشك مرة من‬ ‫التوجيه واحملاسبة واجلدية‪ .‬وبالرغم من أوضاعه الشخصية الصعبة مل ُ‬ ‫ضائقته املادية وإذا ما فعل فبخجل كبري وبسرية تامة بينه وبني املسؤول املعين الذي‬ ‫له وحده جتوز الشكوى‪ ،‬والبوح باملعاناة حّت ال يسيء إىل مهام مسؤوليته اإلدارية أو‬ ‫املهمة اليت يكون مكلفاً بإجنازها‪.‬‬ ‫كانت حياته مصادرة كلياً للعمل احلزيب منذ عيينه الزعيم عميداً للداخلية بُعيد‬ ‫عودته من مغرتبه القسري فناموساً يف مكتبه قبيل استشهاده وبقي مصادراً للعمل‬ ‫‪221‬‬


‫احلزيب قلقاً على دفع مسريته حّت آخر أيام حياته‪ .‬مل أعرف أنه تقاعس يوماً عن‬

‫واجب أو اعتذر عن مهمة بل كان يقدم نفسه للمهمات حّت حني يكون يف إجازة‬

‫خاصة‪ ،‬حيث كا ن يطرح على املسؤولني إمكانية االستفادة من وقته للعمل احلزيب يف‬ ‫املكان الذي يقصده للراحة!‪ ...‬وإن أنسى فلن أنسى يوم باح يل بسر خطري فعلى‬ ‫أثر اغتيال العقيد عدنان املالكي يف الشام عام ‪ ،1755‬كان األمني إلياس يقوم جبولة‬ ‫حزبية يف املغرتبات‪ ،‬وعندما انتهت جولته وأراد العودة إىل الوطن‪ ،‬مل يكن‬ ‫باستطاعته العودة إىل دمشق‪ ،‬ألن احلزب كانت قياداته إما يف السجن أو متواجدة‬ ‫يف لبنان وعندما حضر إىل لبنان مل يكن ميلك منزالً فيه وليس مبقدوره تأمني ذلك‬

‫من ماله اخلاص‪ ،‬واحلزب كان مير بضائقة مالية كبرية‪ ،‬والعديد من الرفقاء مشردون‬ ‫من الشام‪ ،‬واحلزب والرفقاء يهتمون بإيوائهم‪ ،‬وألن األمني الياس ال يريد أن يكون‬ ‫عبئاً إضافياً على احلزب‪ ،‬ف يكر جدياً بتسليم نفسه إىل احلكومة الشامية لكي‬ ‫يتخليص من ضائقته‪ ،‬ولكن أرحييية الرفقاء واهتمام قيادة احلزب بعد علمها هبذا األمر‬ ‫أنقذاه من هذه احملنة‪ ،‬ولدى مساعي هذا السر من فمه تذكرت قول املعلم‪« :‬أن‬ ‫آالماً عظيمة‪ ،‬آالماً مل يسبق هلا مثيل يف التاريخ تنتظر كل ذي نفس كبرية فينا‪ ،‬إذ‬ ‫ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب‪ ،‬بل عليه أن يسري وحيداً‪ ،‬بال أمل وال‬ ‫عزاء»!‬ ‫كان انتصار احلزب هاجسه األوحد‪ ،‬وقد كتب مرة يس يفه اجتهاد أحد القياديني‬ ‫يف احلزب حول النظام‪ ،‬فقال رداً عليه‪« :‬العقيدة بال نظام‪ ،‬كالنظام بال عقيدة‬ ‫واالثنان يشكيالن وحدة عضوية ال فصل بينهما»‪.‬‬ ‫رحم اهلل األمني الياس فقد كان مثاالً للقومي االجتماعي املؤمن املنضبط دائماً‬ ‫والقائم بالتزامات عضويته يف كل الظروف السهلة والصعبة‪ ،‬وكان أميناً قدوة يف إميانه‬ ‫وحتمله أعباء أكرب املسؤوليات وأصغرها‪ ،‬فهو مل يكن يهجس إال مبا يفيد‬ ‫وعطائه ي‬ ‫النهضة اليت تظل أمل األمة خبالصها من كل ما تعانيه من علل وأمراض ومشاكل‬ ‫‪221‬‬


‫وأخطار‪ ،‬وألنه آم ن منذ اعتناقه عقيدة سعاده باحلكمة القائلة‪« :‬ماذا يفيدنا لو رحبنا‬ ‫العامل كله وخسرنا أنفسنا»‪.‬‬ ‫وما أكده لنا سعاده يف عقيدته عندما اعترب أ ين الفرد هو إمكانية حمدودة‪،‬‬ ‫ويضحوا‬ ‫واجملتمع هو احلقيقة الكربى اليت من أجل مصلحتها جيب أن يعمل األفراد‬ ‫ي‬

‫بكل ما ميلكون من أجل انتصارها يف الوجود‪ .‬فاحلقيقة وجود ومعرفة‪ ،‬واحلق انتصار‬ ‫يف معركة إنسانية يقرر نتائجها اإلنسان املؤمن حبياة أمته ومصلحتها «وألن احلياة‬ ‫كلها وقفة عز فقط»‪ .‬وهكذا كان األمني الياس جرجي قدوة لنا يف حياته ونضاله‬ ‫وإميانه بالنهضة القومية خالداً يف مسريهتا الصراعية الظافرة‪ ،‬جيالً بعد جيل‪ ،‬رمحه اهلل‬ ‫والبقاء لألمة‪.‬‬

‫‪222‬‬


‫متمماً واجباته النهضوية‬ ‫عبر وجه الحياة ّ‬

‫جمول‬ ‫يمنى ّ‬

‫ورحل األمني الياس جرجي قنيزح‪ ..‬جندي من جنود النهضة اخلليص‪ ،‬عرب وجه‬ ‫احلياة بامساً‪ ،‬متمماً واجباته النهضوية‪ ..‬ممتلئاً بنعمة املعرفة‪ ،‬مل يقحاً هبموم املصري‪..‬‬

‫مرحتالً بفكر سعاده‪.‬‬ ‫لرحيل األمني قنيزح رائحة تشبه األمل‪ ،‬رحيله انتظر أمالً يرتدي وجعاً ووجعاً‬ ‫صد مفارق‬ ‫ترتديه جراح‪ ،‬وجراح تنزف ناراً خلف احلدود‪ ..‬رحيل يرتدي نوراً‪ ،‬يرت ي‬ ‫عذابات األبعاد على ضياع الوطن‪ ..‬رحيل يذكرنا باحلياة‪ ،‬يوقظ فينا مهماً بردت‬ ‫ٍ‬ ‫بأحالم لكبار رحلوا‪ ،‬عشقوا‬ ‫يودع عصارة حياة‪ ،‬وجتارب ترتقي‬ ‫ودفئاً اسرتاح‪ ،‬وهنجاً ي‬ ‫املش يقات‪ ،‬شربتهم ضلوع األرض‪ ،‬محلوا مشاعل النهضة يف وجه الريح‪ ..‬التقطوا‬

‫اجلمر احملرق لليباس واملضيء لألجيال‪.‬‬ ‫تالمذة مدرسة الوعي والبطولة املؤمنة املؤيدة بصحة العقيدة‪ ..‬أخذوا على‬ ‫عاتقهم عملية البناء والتغيري‪ .‬هؤالء يظلون جمهولني للكثريين‪ .‬ألهنم املداميك اليت‬ ‫رست عليها قلعة هنضة اجملتمع‪ ،‬وغريت ما سطيره الغريب ملستقبلنا‪ ،‬وهم الذين‬ ‫تعاقدوا على حتقيق أمر خطري يساوي وجودهم‪.‬‬

‫* من كلمة لها‪ ،‬نشرت في جريدة «الديار» في ‪.1779/11/24‬‬

‫‪222‬‬


‫هؤالء اجلنود‪ ،‬هؤالء التالميذ‪ ،‬هبم تستمر النهضة‪ ،‬وعلى أيديهم يتم التغيري‪..‬‬ ‫إهنم رفاق سعاده وتالمذته الذين ما تقاعدوا عن العمل لعظمة ما تعاقدوا عليه‪.‬‬ ‫مرتسلون خملصون لفكر سعاده وخطيه وهنجه ومدرسته ومبادئه‬ ‫أمناء أوفياء ي‬ ‫وفلسفته‪ .‬استم يدوا القوة على االستمرار من قوة شخصيته وعزميته‪ ..‬واستمدوا‬

‫اإلخالص من إخالصه ملبادئه وقسمه حّت املوت‪ ،‬واستمدوا الثقة بالنفس من ثقة‬ ‫مفر منه‪،‬‬ ‫الزعيم باألمة واألجيال‪ ،‬يعملون بصمت وهم واصلون إىل النصر الذي ال ي‬

‫ألن الظروف الذي حتدق باألمة أرست الثقة باملبادئ‪ ،‬وأثبتت أنه ال خالص لنا إال‬

‫املشعة احملبية مهما جتاهلها اجلاهلون وتعامى عنها املسؤولون‪.‬‬ ‫باملبادئ ي‬ ‫األمني الياس جرجي قنيزح‪ ..‬رفيق سعاده وجندي من جنوده‪ ،‬وأحد تالمذته‬ ‫الذين عايشوه وعملوا معه وذاقوا مرارة اجلهاد وحالوة النصر يف العمل القومي املبين‬ ‫على الفكر وبث بذور الوعي والتضحية بني املواطنني‪ ..‬كما أنه أحد أولئك الذين‬ ‫مل يهونوا أو يتقاعسوا أو خيونوه‪ ،‬ال قبل صياح الديك وال بعده‪ ..‬ومل يتفلسفوا يف‬ ‫مفاهيم النهضة بقصد اإلسفاف هبا‪ ..‬ومل يتلكيأوا عن أداء واجبهم يف أكرب مسؤولية‬ ‫أو أصغرها‪ .‬واألمني الياس جرجي ح يدثنا قبل رحيله عن الكبرية والصغرية بصوت‬ ‫حنون دافئ‪ ،‬حني يتعليق األمر باالطمئنان عن العائلة متفقداً اجلميع‪ ،‬وهو ذو‬ ‫الصوت احلازم وصاحب النربة القوية املليئة باحل يدة والعزمية والثقة حني يتحدث عن‬ ‫البتار حني يتعلق األمر بالشؤون املسلكية‪ ،‬ومع‬ ‫قضايا األمة واجملتمع‪ ..‬وهو السيف ي‬ ‫ذلك مل نستشعر يوماً من كالمه ضعفاً واستسالماً‪ ،‬حّت ولو كان يتحدث هبدوء‬ ‫وشفافية عن األدب والشعر والفن‪ ،‬رمبا كان للمعلم سعاده األثر الكبري يف تكريس‬

‫سلوك الثبات والعزمية والثقة يف كل نربة من صوته‪ ..‬هو من الذين يتأقلمون بسرعة‬ ‫يف احمليط الذي يتواجد فيه‪ ..‬وقد اعتاد هذا األسلوب خالل تن يقله اجلغرايف يف عمله‬ ‫يهمه‬ ‫احلزيب‪ ،‬فلم يكن يعري اهتماماً ملا يق يدم له من طعام أو مسكن أو مقعد‪ .‬ي‬ ‫تتغري ج يديته ونظرته إىل األمور‬ ‫اإلنسان‪ ،‬وهاجسه ما يق يدمه هو ملن هم حوله‪ ،‬فال ي‬ ‫‪224‬‬


‫واملسؤولية مهما كانت مهمته‪ .‬واملسؤولية عنده دور وواجب وحق‪ ،‬ال تسميةً وال‬ ‫مركزاً أو امساً‪ ..‬فقد يكون يف حلظة رئيساً للحزب‪ ،‬ويف اليوم التايل يصبح مذيعاً يف‬ ‫ٍ‬ ‫املرتسلة‪.‬‬ ‫املهمتان ينفذمها جبديية وإخالص وتفان‪ ،‬بنفس املنهجية ي‬ ‫مديرية‪ ،‬و ي‬ ‫كان من الكبار البسطاء‪ ..‬ومن التالمذة العظماء الذين يصبحون مبجموعهم‬ ‫بالنسبة لنا جزءاً من سعاده الفكر والنهج‪.‬‬ ‫ويبقى األمل حيدونا أننا إذا عرفناهم عن كثب‪ ،‬فألهنم عرفوا الزعيم‪ ،‬وكان ال ب يد‬ ‫أن نلقي بعض الضوء على سعاده من جديد علينا نراه من خالل العيون اليت رأته‪،‬‬

‫ونسمعه من خالل من مسعوه‪ ،‬فنحدق هبم ونالحقهم وكأننا‬ ‫نستشف شيئاً جديداً‬ ‫ي‬ ‫عن زعيم هنضة عز نظريها ملا القته من أهوال وصعوبات‪ .‬هكذا كنا نستمع إىل‬ ‫مر به‬ ‫حضرة األمني الياس جرجي‪ ...‬نستمع إليه حي يدثنا عن الزعيم وعمله معه‪ ،‬وما ي‬ ‫من مسؤوليات ومهوم‪ ،‬وكأن ال نريد أن تغيب عنيا إشارة أو كلمة‪ ..‬فأفعال هذا‬ ‫األمني ترهقه بالسؤال واحلشرية منذ اللحظة اليت تعاقد فيها مع النهضة‪ ،‬مع األمة‪،‬‬ ‫مع األجيال‪ ،‬مع سعاده عرب انتمائه إليها‪.‬‬

‫مل ندع األمني الياس يومها يرتاح أو يصمت ملدة يومني يف بلدة «حبوش»‬ ‫يكل وال يرتاح‪،‬‬ ‫اجلنوبية‪ ..‬كنا جلوجني ي‬ ‫متحرقني لالستماع إليه‪ ،‬وكان هو كالنيبع ال ي‬ ‫مل نكن نتوقيف عنه بالسؤال حّت أثناء الطعام‪ ..‬حلظة يتح يدث يبتسم حني يتذ يكر‬ ‫حدثاً ما مع الزعيم‪ ..‬وحلظات ينفجر بالكالم بشكل ج يدي كالنيهر الصاخب حني‬ ‫يتعليق األمر هبموم األمة ومشاكل األجيال وأمراض الوطن كالطائفية والعشائرية‬ ‫املتكررة معه مل يفه بكلمة ال معىن هلا‪ ..‬ومل جت ِر‬ ‫واإلقطاع‪ ،‬وطوال اجللسات املتع يددة و ي‬ ‫على لسانه ُجلة ال قيمة هلا‪ ..‬كالمه دوماً حيمل معىن‪ ،‬فهو إما فكري اجتماعي‪ ،‬أو‬ ‫شاعري أديب‪ ،‬وهو أيضاً كالم ذو مغزى بأسلوب ساخر هتكيمي حيمل أكثر من‬ ‫معىن داالً على صورة مأسوية من مساوىء جمتمعنا أو على حالة معينة تصيبنا من‬

‫‪225‬‬


‫قريب أو بعيد‪ ..‬وهاكم بعضاً مما استطعنا اقتطافه من ورده وشوكه الالذع حيث‬ ‫يقول‪:‬‬ ‫«هناك من حيسب نفسه من الزعماء‪ ..‬أنا أمسييه ذو عماء»‬ ‫»هناك أناس عندهم شعار‪ ..‬وأناس عندهم شي عار»‬ ‫تعمر شيئاً»‬ ‫تعمر كثرياً‪ ..‬وال ي‬ ‫»هناك فئة من الناس ي‬ ‫»جيب أن نث يقف أعصابنا كما نث يقف عقولنا»‬ ‫»الكلمة هلا تاريخ وشخصية»‪...‬‬

‫‪221‬‬


‫كأنك في أول الطريق‬ ‫إدما ناصيف حماده‬

‫مل تزل معنا يا حضرة األمني وستبقى‪..‬‬ ‫دعوتنا لرتانا‪ ،‬زوجي وأنا‪ ،‬مل أشعر ومل أدرك أن إحلاحك يف تلك الدعوة كان‬ ‫جللسة وداع‪ ،‬ال للقاء كما كان يف السابق‪ ..‬تقول لنا على اهلاتف تعالوا إنين مشتاق‬ ‫لرؤية العائلة القومية االجتماعية اليت سامهت يف بنائها وأسع َدتـَ ْين باستمرارها كما‬

‫جيب أن يكون االستمرار‪.‬‬ ‫مل أنتبه لقصدك يف ذلك احلني‪ ،‬رمبا لرفضي فكرة الفراق وجتاهلي شبح املوت‪،‬‬ ‫مل أنتبه أن ما كنت تقوله يف تلك اجللسة اليت سبقت رحيلك بيوم واحد فقط‪ ،‬مل‬

‫أنتبه أنه وصية لنا‪ .‬وليس حواراً ونقاشاً وتقييماً ملا فعلنا وما جيب أن نفعل‪ ،‬كان‬ ‫حديثك مفاجئاً لنا بتلك النظرة اجلديية‪ ،‬واحلزم الذي كنت فيه وكأنك ابن العشرين‪:‬‬ ‫«إن العامل القادم علينا‪ ،‬عامل ٍ‬ ‫قاس وعنيف‪ .‬ويتطلب منيا بأساً وشدةً وقوةً لنحفظ‬ ‫جمتمعنا من الدمار‪ »...‬كنت تقول ذلك وكأنك يف أول الطريق‪ !!.‬بأمثالك تنتصر‬ ‫عقيدة سعاده‪.‬‬ ‫لقد غبت عن نظرنا كما غاب الكثريون من أحبائنا ورفقائنا وكانوا خليية انتمائنا‬

‫هلذه العقيدة العظيمة‪ ،‬يغيبون الواحد بعد اآلخر‪ ،‬وبصمت املوت تتوقف حركة احلياة‬ ‫يف األجساد‪ ،‬ويغيب الشكل يف جماهل هذا الصمت الغامض‪ .‬ولكنهم حاضرون يف‬

‫* كلمة بمناسبة ذكرى أربعين غيابه‪ ،‬في ‪.1779/12/8‬‬

‫‪229‬‬


‫وجداننا ما دامت احلياة فاعلة يف كياننا‪ ،‬وحضورك املميز يا حضرة األمني سيبقى يف‬ ‫تعرف عليك وعلى ممارستك اليت مل تكن يوماً سوى‬ ‫وجدان كل قومي اجتماعي ي‬ ‫فعل إميان وإرادة‪.‬‬ ‫إن ما يعرفه اإلنسان هو ما يعيشه‪ ،‬وأنت الذي عرفت العقيدة القومية‬ ‫االجتماعية وعشتها فكراً وقوالً وعمالً حّت آخر حلظة يف حياتك‪ .‬مل تكن تدهش‬ ‫الناس خبطابتك وأفكارك اجلديدة بقدر ما هبدوئك احلذر ومرحك الواعد‪ ،‬تدخل‬ ‫قلوب الذين يتعرفون عليك مث عقوهلم‪ .‬مؤكداً دائماً على أمهية ثبات اخلطوات مهما‬

‫مردداً أن‬ ‫كانت صغرية‪ ،‬أمام الصعوبات اليت تعرتض مسريتنا مهما كانت كبرية‪ِّ .‬‬ ‫هذه اخلطوات الثابتة عين ها تقودنا إىل النتائج الكبرية‪ ،‬وعلى أساس األخالق‬ ‫الصحيحة لتكوين اإلنسان اجلديد الذي أراده سعاده‪.‬‬

‫هبذه األخالق مل تضطرب عالقة األمني إلياس مع أحد من رفقائه‪ ،‬وهبذه‬ ‫يتنصل من أية مسؤولية عن كل ما يقول أو يفعل‪ ،‬مع بصرية نافذة‬ ‫األخالق مل ي‬ ‫تسبق القرارات احلامسة يف حياته‪.‬‬ ‫لألمني الذي كان شاهداً على قسمي وانتمائي والذي مل يغفل عن متابعيت مع‬ ‫أسريت متابعة األب ألبنائه‪ .‬كما كان جلميع القوميني مرشداً وأباً ورفيقاً أميناً‪ ،‬برحابة‬

‫مبسطاً هلم األمور املعقدة يف حياهتم الشخصية‪ ،‬الفتاً‬ ‫األفق واتساع البحر يناقشهم ي‬ ‫إياهم إىل عا ِملَني أساسني يف حياة األفراد‪ :‬سيادة العقل وفعل اإلرادة‪ .‬لألمني الياس‬ ‫القدوة أقول كم كان صربك عظيماً‪ ،‬وكم كان عطاؤك كبرياً جملد سورية‪.‬‬

‫‪228‬‬


‫منذ أول الدرب أول القافلة‬ ‫نزار سلّوم‬

‫إىل الياس جرجي قنيزح‬ ‫أيها الواقف يف مطلع الصفوف‪..‬‬ ‫أيها الزاحف صوب مشس خمبوءة خلف دهور من اجلهل‪.‬‬ ‫أيها الباسم‪ ،‬الفائق األمل‪..‬‬ ‫أيها الواقف يف أول العمر على عتبة االفرتاق عن اجلهل والعتم واملوت‪ ،‬عندما‬ ‫جترأت فزججت نفسك يف قافلة النهضة‪ ..،‬منذ أول الدرب عندما كان ربياهنا يف جلية‬ ‫البحر‪..‬‬ ‫وقتها‪ ....‬ابتدأ جنونك وحلمك‪ ،‬فاهنمرت نضاالً يف مسالك النهضة‪ ،‬وحكت‬ ‫تستجر آالفاً‬ ‫ذاتك «قطبة» صلبة يف نسيجها‪« ..‬قطبة» تتواشج مع أخواهتا‪ ،‬و ي‬ ‫مؤلفة من القطبات املتواليات‪.‬‬ ‫قطبة بلون ابتسامتك‪ ،‬وعمق وداعتك الصاخبة املالئة روحنا عزمية‪ ..‬وإرادة‪.‬‬ ‫أيها اهلازئ بنصائح «احلكماء» و«الفالسفة» حيث ختجل «الديباجات‬ ‫املسبوكة باملنطق» وهترول خارجة أمام «لدعات احلياة» ورشاقة «املفارقات» وجنون‬ ‫الرفض‪.‬‬ ‫أيها الساكن يف قلوب اجلميع‪ ،‬صماماً لبوصلة احلب‪ ،‬وقوة لدفقه‪.‬‬

‫* كلمة له‪ ،‬نشرت في مجلة «البناء»‪ ،‬العدد ‪ 871‬تاريخ ‪.1779/11/1‬‬

‫‪227‬‬


‫أيها النازل يف بيوت اجلميع‪ ،‬يف أول اجلغرافيا‪ /‬أول الوطن‪ ،‬يف آخر اجلغرافيا‪..‬‬ ‫سور الوطن‪.‬‬ ‫ورحاهلا‪ /‬الـ ُمقيم يف حمطاهتا مسعفاً نشاف‬ ‫جوال النهضة ي‬ ‫أيها الزائر الدائم‪ /‬ي‬ ‫الروح‪ ،‬واألمل‪.‬‬ ‫أيها الناطر يف أول القافلة‪ ،‬يف قلب القافلة‪ ...‬يف آخر!!‪ ..‬ال ليس للقافلة هناية‪.‬‬ ‫أيها الـ ُمطييف بسعاده‪ ،‬الـ ُمشبع ب ـ«مآثره» حلماً حبجم التاريخ‪ ...‬والوطن‪.‬‬

‫يا «أمني الياس»‪.‬‬ ‫حتيا سورية‪.‬‬

‫‪241‬‬


‫‪ ...‬يرافقنا‪ ،‬ولم يفارقنا‬ ‫تموز الياس قنيزح‬ ‫ّ‬

‫أيها األحباء واحملبيون‪..‬‬ ‫أحب أن يواكبنا‬ ‫أحب أن يرافقنا‪َّ ،‬‬ ‫األمني الياس مل يفارقنا‪ ،‬وهو الذي طاملا َّ‬ ‫مبحبته وحرصه‪ ،‬إين أراه وأمسعه وأكلمه‪ ،‬هو احلاضر يف نبض كل مناضل صادق ويف‬ ‫ذكرى كل شهيد بطل‪ ،‬هو املتوقِّد يف عيون أحفاده‪ ،‬املطبوع يف نظرة «عمر» وعلى‬ ‫املدوي يف صوت «سينار» وترغلة «سامر»‪ ،‬هو املعشِّش يف‬ ‫جبني «إيالت»‪ ،‬ي‬ ‫وجدان ُحمبيه ال ُكثُر يف عائلته الصغرية وحزبه الكبري وأمته العمالقة‪.‬‬

‫يتذمر‪ ،‬أعطى ومل‬ ‫كرب ومل ي‬ ‫هو الذي تعليم وعليم‪ ،‬تريَّب وريَّب‪ُ ،‬‬ ‫يتكرب‪ ،‬تعب ومل ي‬ ‫يتبجح‪ .‬هو القاسي ال الظامل‪ ،‬واملرح ال املاجن‪ ،‬واإلداري ال اجلامد‪ .‬طوال عمري‬ ‫ي‬ ‫املوجه‪ ،‬واملسؤول القدوة‪،‬‬ ‫غرفت منه بشغف وفرح كبريين‪ ،‬هو األب ِّ‬ ‫املريب واألستاذ ي‬ ‫احملب‪ ،‬والتلميذ املتواضع واإلنسان الرائع‪ ،‬الرائع‪.‬‬ ‫والصديق ي‬ ‫مكرم حييا يف صلب عائليت‪ ،‬كنت على‬ ‫شعرت دائماً بأن أنطون سعاده فرد مميَّـز َّ‬ ‫متاس دائم معه‪ ،‬وعرفته جيداً دون أن ألتقيه‪ ،‬كل ذلك بفضل والدي‪ ،‬فهو وزعيمه مل‬ ‫ٍّ‬

‫يفرتقا حلظة واحدة ‪.‬فقد كان األمني إلياس متييماً مبآثر املعليم يستحضرها يف كل‬ ‫وموجهاً وحم يفزاً ومنبيهاً‪.‬‬ ‫مصوباً ي‬ ‫مناسبة وموقف‪ ،‬ي‬ ‫* كلمة ألاهل في ذكرى ألاربعين في طرطوس‪ ،‬في ‪.1779/12/12‬‬

‫‪241‬‬


‫حياة األمني الياس‪ ،‬ذاك الشهيد احلي‪ ،‬كانت زاخرة بوقفات العز وحمطيات‬ ‫البطولة وينابيع العطاء‪:‬‬ ‫مقرراً ودون‬ ‫فمن ختلييه ‪ -‬عام ‪ 1728‬يف طرطوس ‪ -‬عن التعليم‪ ،‬مورده األوحد‪ِّ ،‬‬

‫خريوه بني األمرين‪ ،‬وقد نال على أثر هذا املوقف رتبة‬ ‫أي ي‬ ‫التمسك حبزبه عندما ي‬ ‫تردد ي‬ ‫األمانة من الزعيم‪ ،‬ومل ِ‬ ‫ميض على انتمائه للحزب ثالث سنوات‪.‬‬ ‫إىل تركه كلية احلقوق يف اجلامعة اليسوعية يف بريوت ملتزماً قرار الزعيم بتعيينه‬

‫عميداً للداخلية عام ‪.1749‬‬

‫إىل جوالته األسطورية املنتجة‪ ،‬على األقدام‪ ،‬وعلى امتداد املناطق يف اجلمهورية‬

‫الشامية أوائل اخلمسينات‪ ،‬متف يقداً الفروع اإلدارية‪ ،‬مفتيشاً على مدارس احلزب‪،‬‬ ‫املطولة‬ ‫منسقاً معاركه االنتخابية‪ ،‬ناشراً عقيدته‪ ،‬ح َكماً بني رفقائه‪ .‬إىل زيارته احلزبية َّ‬ ‫ي‬ ‫إىل األرجنتني والربازيل عامي ‪ 1754‬و‪ .1755‬إىل تف يقده فروع احلزب يف األردن‬ ‫والقدس والضفة الغربية طوال عام ‪.1751‬‬ ‫إىل تواجده الفاعل والدائم يف خمتلف املناطق اللبنانية ابتداءً من العام ‪1759‬‬ ‫مواكباً كل أجيال النهضة‪.‬‬ ‫املفوض العام يف لبنان‪ ،‬اخلطرية جداً‪ ،‬بعد حماولة االنقالب‬ ‫إىل ي‬ ‫حتمله مسؤولية ي‬ ‫عام ‪ ،1712‬يف ظل ظروف التجويع والرتويع‪.‬‬ ‫إىل تلقفه ُجرة رئاسة «اللجنة القيادية» من تلميذه «أبو واجب»‪ ،‬مث رئاسة‬ ‫احلزب بعد استشهاد «أبو واجب» عام ‪ ،1795‬مثبيتاً مبوقفه اجلريء آنذاك هنجاً‬

‫أخالقياً وسياسياً كاد أن يندثر‪ ،‬أدى إىل حماصرة املتالعبني باحلزب‪ ،‬غري مكرتث‬ ‫باألخطار احملدقة به‪.‬‬ ‫إىل ترحيبه‪ ،‬كرئيس للحزب‪ ،‬عام ‪ ،1791‬بدخول اجليش الشامي إىل لبنان رغم‬ ‫تعرض هلا هو وحزبه‪ ،‬شاهراً قناعته بصوابية الدور الشامي‬ ‫الضغوط الشديدة اليت ي‬

‫‪242‬‬


‫الـ ُمسقط ل ـ «سايكس ‪ -‬بيكو»‪ ،‬واهلادف إىل وقف النزف يف لبنان ومحاية الثورة‬ ‫الفلسطينية‪.‬‬ ‫إىل إصراره على العودة من دمشق إىل بريوت مع بدايات احلصار اليهودي هلا يف‬ ‫اجتياح عام ‪ 1782‬ليكون يف ساحة املواجهة‪ ،‬وصموده فيها طوال حمنتها املريرة‬ ‫مالذاً لرفقائه‪ ،‬ودافعاً هلم على االستمرار‪.‬‬ ‫إىل جتواله يف اإلمارات العربية وكل مناطق الكيان الشامي عام ‪.1789‬‬ ‫إىل زيارتيه لفروع احلزب يف أمريكا الشمالية عامي ‪ 1781‬و‪.1774‬‬ ‫أدق‬ ‫إىل تنكيبه رئاسة احملكمة احلزبية العليا من العام ‪ 1771‬وحّت ‪ ،1775‬يف ي‬ ‫الظروف الداخلية وأخطرها‪ ،‬وهو ابن الثمانني عاماً‪.‬‬ ‫واستمراره يف العطاء واملشاركة حّت آخر رمق من حياته‪..‬‬ ‫ونعتز مبحبتكم‬ ‫هذا الرجل الذي هو علم من أعالم النهضة‪ ،‬نفخر مبحبته لكم‪ ،‬ي‬ ‫له‪ ،‬نضطرب يف وداعه لفداحة اخلسارة‪ ،‬ولكن ما خيفف من وطأة الغياب مئات‬ ‫املواقف واألحاديث واخلطب واملقاالت اليت سلطت الضوء على أصالة هذه األمة‬ ‫وعظمة هنضتها وعبقرية ُمطلقها‪.‬‬ ‫بامسه نقول شكراً من القلب‪ ،‬والبقاء لألمة واخللود لشهدائها‪.‬‬

‫‪242‬‬


‫حتى الرمق األخير‬ ‫إلياس جرجي قنيزح‬

‫‪ ...‬وأتق يدم إليكم بالشكر اجلزيل من صميم تعليقي باحلياة الكرمية معكم‪،‬‬ ‫أعتز ملا مي يدين به من قدرة الثبات وقوة اإلقدام‪،‬‬ ‫مبناسبة احتفائكم الذي أفخر به و ي‬ ‫لبلوغ األفضل واألُجل‪ ،‬لكي أكون أكثر جدارةً بثقتكم وتقديركم وأشد أهلية‬ ‫للعطاء‪...‬‬ ‫املوجه إىل شخصي ما هو يف‬ ‫‪ ...‬وإين أحسب اليوم بداهةً أ ين هذا التكرمي ي‬ ‫الواقع إال التعبري الصميم عن تقديركم الصادق العميق ملعاين النهضة السورية القومية‬ ‫كل حيايت بفرح واعتزاز‪،‬‬ ‫االجتماعية ومراميها النبيلة خلري الشعب ي‬ ‫وعزه‪ ،‬واليت منحتها ي‬ ‫ٍ‬ ‫بإخالص وأمانة كلية حّت الرمق األخري‬ ‫وإين أتابع يف حلبتها واجب الكفاح‬ ‫ي‬

‫العتيد‪...‬‬ ‫‪ ...‬إىل اللقاء امليمون‪ ،‬يف املناسبات اجمليدة ألمتنا العظيمة‪ ،‬لتكن غالل موامسنا‬ ‫املقبلة شفية الغليل‪ ،‬بانعتاقنا من أغاللنا لنكمل معاً طريق احلياة الكرمية‪ .‬والنفس‬ ‫الكرمية ال تكف عن العطاء‪.‬‬ ‫دوموا للحق واجلهاد كي نالقي أعظم انتصار ألعظم صرب يف التاريخ‪...‬‬

‫* مقاطع من كلمة ألقاها في تكريم أقامه له السيد جميل ّ‬ ‫شماس في نادي ّ‬ ‫خريجي الجامعة ألاميركية في‬ ‫بيروت في ‪1775/2/21‬‬

‫‪244‬‬


‫�أ‬

‫فهر�س الأ�سماء‬ ‫ح‬

‫ •�أبو جود‪ ،‬عماد‪:‬‬ ‫ •�أبو رافع‪ ،‬اني�س‪:‬‬ ‫ •�أبو واجب‪:‬‬ ‫ •ابي عجرم‪ ،‬ف�ؤاد‪، :‬‬ ‫ •�إ�سرب رفقه‪� ،‬سو�سن‪:‬‬ ‫ •ا�سماعيل‪� /‬أني�س‪:‬‬ ‫ •ا�سماعيل اني�س‪ ،‬بديع‪:‬‬ ‫ •الأ�شقر‪ ،‬ا�سد‪، ، :‬‬ ‫ •الأ�شقر‪ ،‬وديع‪:‬‬ ‫ •انطون بك‪:‬‬ ‫ •�آغا‪ ،‬خالد‪،‬‬ ‫ •�إيا�س‪ ،‬ف�أمون‪، :‬‬ ‫‪150 ،149‬‬

‫ب‬

‫‪،‬‬

‫‪316 314‬‬ ‫‪321‬‬ ‫‪342‬‬ ‫‪127 109‬‬ ‫‪349‬‬ ‫‪193-190‬‬ ‫‪194-190‬‬ ‫‪138-136 100 99‬‬ ‫‪120‬‬ ‫‪164‬‬ ‫‪51-49‬‬ ‫‪134 101-99 56‬‬

‫‪،‬‬

‫‪،‬‬

‫ •بابيل‪ّ ،‬ن�صوح‪:‬‬ ‫ •بردياييف‪:‬‬ ‫ •ب�شور‪ ،‬جورج‪:‬‬ ‫ •بندقي‪:‬‬ ‫ •‬ ‫ •ت‬ ‫ •تاج‪ ،‬يو�سف‪174-172 :‬‬ ‫ •تويني‪ ،‬جربان‪33 :‬‬ ‫‪33‬‬ ‫‪217‬‬ ‫‪168‬‬ ‫‪74‬‬

‫ت‬

‫ •تابت‪ ،‬نعمة‪،99 ،96 ،90-88 ،70 :‬‬ ‫‪150 ،149 ،134-131 ،108 ،100‬‬

‫ج‬

‫ •جمال‪� ،‬أني�س‪:‬‬ ‫ •جمول‪ ،‬مينى‪:‬‬

‫‪309‬‬ ‫‪333‬‬

‫ •حاج �إ�سماعيل‪ ،‬حيدر‪:‬‬ ‫‪،‬‬ ‫ •حافظ‪:‬‬ ‫ •حردان‪ ،‬نواف‪، :‬‬ ‫ •حماده‪� ،‬إدما نا�صيف‪:‬‬ ‫ •حمود‪� ،‬أحمد‪، :‬‬

‫‪13‬‬

‫‪252 250-248‬‬ ‫‪327 304‬‬ ‫‪337‬‬ ‫‪274 272‬‬

‫خ‬

‫ •خ ّباز‪211 ،209 :‬‬ ‫ •خليل جربان‪ ،‬جربان‪:‬‬ ‫ •خوري‪ ،‬يو�سف‪214 :‬‬

‫د‬

‫‪265‬‬

‫ •الداعوق‪ ،‬عمر‪، :‬‬

‫ر‬

‫‪20 19‬‬

‫ •را�شد‪ ،‬حممد‪:‬‬ ‫ •رزق‪ ،‬حليم‪:‬‬

‫ز‬

‫‪113-111‬‬ ‫‪310‬‬

‫ •الزعيم‪ ،‬ح�سني‪:‬‬ ‫ •الزين‪ ،‬غرباهيم‪:‬‬

‫�س‬

‫‪،‬‬

‫‪،‬‬

‫‪266 262 261‬‬ ‫‪329‬‬

‫ •�سعاده‪� ،‬أنطون‪ ،‬الي�سار‪291 :‬‬ ‫ •�سعاده �أنطون‪،29-17 ،14 ،13 ،11 :‬‬ ‫‪،63 ،48 ،46 ،45 ،42-40 ،36 ،31‬‬ ‫‪،107 ،102 ،95 ،92 ،90 ،72 ،67‬‬ ‫‪،144 ،130 ،124 ،122 ،119 ،115‬‬ ‫‪،163 ،160 ،157 ،153 ،148 ،146‬‬ ‫‪،208 ،184 ،180 ،176 ،172 ،168‬‬ ‫‪،230 ،223 ،221 ،216 ،215 ،212‬‬ ‫‪،272 ،266 ،265 ،261 ،257 ،234‬‬ ‫‪،299 ،294 ،285 ،284 ،280 ،276‬‬ ‫‪،328 ،317 ،314 ،306 ،302 ،300‬‬ ‫‪341 ،340 ،338 ،337 ،335-332‬‬


‫ق‬

‫ •�سعاده‪ ،‬خليل‪، ، :‬‬ ‫ •�سكر‪ ،‬ريا�ض‪:‬‬ ‫ •�سالمة‪� ،‬أنطون‪، :‬‬ ‫ •�سلوم‪ ،‬نزار‪:‬‬ ‫ •�سليم‪138 :‬‬ ‫ •�سليمان‪ ،‬ف�ؤاد‪74 :‬‬ ‫ •�سيف الدين‪ ،‬رفيق‪275-272 :‬‬

‫ •قان�صو‪ ،‬علي‪:‬‬ ‫ •قرب�صلي‪ ،‬عبد اهلل‪305 :‬‬ ‫ •قنيزح‪ ،‬اليا�س جرجي‪-13 ،11 ،8 ،7 :‬‬ ‫‪،241 ،223 ،212 ،211 ،191 ،15‬‬ ‫‪،293 ،289 ،288 ،285 ،283 ،255‬‬ ‫‪-307 ،305 ،304 ،302 ،296 ،295‬‬ ‫‪-326 ،322-320 ،318-312 ،309‬‬ ‫‪،342 ،341 ،339 ،335-331 ،329‬‬ ‫‪349 ،344‬‬ ‫ •قنيزح‪ ،‬اليا�س جرجي‪ ،‬متوز‪341 ،10 :‬‬ ‫ •قنيزح‪ ،‬اليا�س جرجي‪ ،‬فداء‪349 :‬‬

‫‪32 22 19‬‬ ‫‪225-223‬‬ ‫‪226 225‬‬ ‫‪339‬‬

‫�ش‬

‫ •ال�شامي‪ ،‬غ�سان‪:‬‬ ‫ •�شاهني‪� ،‬شاهني‪:‬‬ ‫�شما�س‪� ،‬شاهني‪:‬‬ ‫ • ّ‬ ‫ •‬

‫‪311‬‬ ‫‪321‬‬ ‫‪344 293‬‬

‫ •�صايغ‪ ،‬فايز‪، :‬‬ ‫ •ال�صلح‪ ،‬ريا�ض‪:‬‬

‫‪،‬‬

‫�ص‬

‫‪،‬‬

‫ع‬

‫ •العاندي‪ ،‬منيف‪:‬‬ ‫ •عبد الرزاق‪ ،‬ريا�ض‪:‬‬ ‫‪215-213‬‬

‫ •عرنوق‪ ،‬عي�سى جميل‪:‬‬ ‫ •عرنوق‪ ،‬نغم رزق اهلل‪:‬‬ ‫ •عز الدين‪ ،‬ح�سن‪:‬‬ ‫ •عوده‪ ،‬اليا�س‪:‬‬ ‫ •العيتاين‪ ،‬حممد‪:‬‬

‫‪7‬‬ ‫‪302‬‬ ‫‪288‬‬ ‫‪120‬‬

‫ •غريب‪� ،‬أنطون‪:‬‬ ‫ •غزالة‪ ،‬حممود‪:‬‬

‫ف‬

‫ •فرحه‪:‬‬ ‫ •فولتري‪:‬‬

‫‪،‬‬

‫‪218 217 197-195 89‬‬ ‫‪90‬‬

‫‪33‬‬

‫غ‬

‫ك‬

‫‪284‬‬ ‫‪308‬‬

‫‪156-153‬‬ ‫‪177‬‬

‫‪،57 ،56 ،54‬‬ ‫‪68‬‬

‫‪285‬‬

‫ •كركيغارد‪:‬‬ ‫ •كرم‪ ،‬ع�ساف‪:‬‬

‫م‬

‫‪،‬‬

‫‪217 197‬‬ ‫‪263 183-181‬‬

‫‪،‬‬

‫ •املالكي‪ ،‬عدنان‪:‬‬ ‫ •حمايري‪ ،‬ع�صام‪، :‬‬ ‫ •خملوف‪ ،‬اليا�س‪:‬‬ ‫ •مردم بك‪ ،‬جميل‪، :‬‬ ‫ •معاوف‪ ،‬فخري‪، :‬‬ ‫ •املقلد‪ ،‬ال�شيخ حممد‪:‬‬ ‫ •املهتار‪ ،‬عجاج‪، :‬‬ ‫ •مو�صلي‪ ،‬ب�شري‪:‬‬

‫ن‬

‫‪331‬‬ ‫‪293 223‬‬ ‫‪324‬‬ ‫‪65 64‬‬ ‫‪87 86‬‬ ‫‪326‬‬ ‫‪182 181‬‬ ‫‪320‬‬

‫ •نبعه‪ ،‬مي�شال‪:‬‬ ‫ •نزال‪ ،‬ابو علي‪، :‬‬ ‫ •ن�صر اهلل حم�سن‪ ،‬هيام‪:‬‬ ‫ •نقا�ش‪ ،‬زكي‪:‬‬

‫ي‬

‫‪309‬‬ ‫‪316 315‬‬ ‫‪297‬‬ ‫‪38‬‬

‫ •يازجي‪ ،‬جميل‪، ، :‬‬

‫‪70 69 68‬‬


‫املوضوعات‬

‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقدمة الطبعة الثانية‪ :‬معلم في الحوار ‪9 .........................................................................‬‬ ‫مقدمة الطبعة ألاولى ‪12 ......................................................................................................‬‬ ‫مؤشرات مشعة كبيرة أبرزت تفوق شخصية سعاده ‪11 ..................................................‬‬ ‫نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي‬ ‫يقوم من أجل حقيقة ثابتة ومستمرة ‪22 ...........................................................................‬‬ ‫قصة أول ندوة ثقافية في الحزب ‪29 ..................................................................................‬‬ ‫نحن آلان مع فريق من شعبنا ‪41 ........................................................................................‬‬ ‫ضموا سورية إلى لبنان وال تضموا لبنان إلى سورية ‪44 ....................................................‬‬ ‫نحن من الشعب ونعمل في الشعب ‪48 ..............................................................................‬‬ ‫اللقاء ألاول مع سعاده ‪52 ...................................................................................................‬‬ ‫الشخص آلادمي أزوجه ابنتي ‪11 .........................................................................................‬‬ ‫صدقتم يا دولة الرئيس ‪12 ..................................................................................................‬‬ ‫ط ّول له الحبل ‪19 ................................................................................................................‬‬ ‫ً‬ ‫نحن حقا أوالد من حيث الطهارة ‪92 ..................................................................................‬‬ ‫محاولة فاشلة الغتيال الزعيم ‪95 .......................................................................................‬‬ ‫القدوة أساس كل بناء ‪81 ....................................................................................................‬‬ ‫ً‬ ‫املوت يظل واحدا ‪84 ............................................................................................................‬‬ ‫هل من الضروري أن يعود الزعيم ‪88 ................................................................................‬‬ ‫الانضباط ال يحول دون إبداء العواطف ‪72 ......................................................................‬‬ ‫ال تنتصر النهضة باعتمادها التسوية ‪75 ............................................................................‬‬ ‫نحن نقيم مواقفنا ‪112 .......................................................................................................‬‬ ‫لدينا‪ ،‬عند العقول تضيع البطون ‪119 ..............................................................................‬‬ ‫ليس من حقيقة أقوى من فعل الثقة ‪111 ........................................................................‬‬ ‫احذروا مغبة خداعكم لنا ‪115 ...........................................................................................‬‬ ‫إنت بتخليهم يصدقوا ‪117 ...................................................................................................‬‬ ‫الحياة مغامرة يا رفيقي ‪122 ................................................................................................‬‬


‫إن ألامة العظيمة يبرهن انكسارها عما إذا كانت قوية في نفسها ‪124 .............................‬‬ ‫الخجل من الرذيلة طعنة للفضيلة ‪121 .............................................................................‬‬ ‫الثقة بالحزب وعدالته النبيلة ‪125 .....................................................................................‬‬ ‫حق إلاقناع هو حق الاعتناق ‪141 .......................................................................................‬‬ ‫كم مرة حيل بيني وبين ممارستي ملسؤوليات الزعامة ‪144 ...............................................‬‬ ‫ما ينطبق على وداعة الخراف ‪148 .....................................................................................‬‬ ‫ال يتفق من معه ش يء مع من ليس معه ش يء ‪152 ............................................................‬‬ ‫قل لحضرة عميد الداخلية ‪159 .........................................................................................‬‬ ‫موضوع الاجتماع ‪111 ..........................................................................................................‬‬ ‫إذا سألك القوميون ‪112 .....................................................................................................‬‬ ‫التعيين هو شرط الوضوح ‪118 ...........................................................................................‬‬ ‫آمل أن تكون أعصابك بمتانة روحيتك ‪192 .....................................................................‬‬ ‫ال شك أن املال امتحان مهم ‪191 .......................................................................................‬‬ ‫وضع النظام على قواعد حيوية ‪181 ..................................................................................‬‬ ‫أنت تستحق العقوبة ‪184 ...................................................................................................‬‬ ‫الرابطة العائلية قسرية ‪188 ...............................................................................................‬‬ ‫ً‬ ‫هل يصح أن تكون السلطة فريقا؟ ‪174 .............................................................................‬‬ ‫هل إلانسان للدين أم الدين لإلنسان؟ ‪177 ......................................................................‬‬ ‫بينما تضاعف العناية ‪214 ..................................................................................................‬‬ ‫خط الفكر السوري حقيقة بارزة ‪218 ...............................................................................‬‬ ‫هالكرس ي ما بتخص الياس جرجي قنيزح ‪212 ....................................................................‬‬ ‫املهم أن ال يذبح املرء عجل جاره ‪211 ................................................................................‬‬ ‫إن العدالة وإن أخطأت ال تكابر ‪221 .................................................................................‬‬ ‫ً‬ ‫ليس الكرم أن تجود جزافا باملال ‪221 ...............................................................................‬‬ ‫أنا لم أكلفك بالتفكير ‪221 ..................................................................................................‬‬ ‫لنقبض على ناصية ألامور ‪224 ...........................................................................................‬‬ ‫مهما بلغت النصوص ‪228 ...................................................................................................‬‬


‫ال يمكن إقامة بناية من حجارات هي في عالم الخيال ‪244 ...............................................‬‬ ‫الزواج انعتاق من الوحدة ‪248 ...........................................................................................‬‬ ‫ال رئيس وال مرؤوس في التعامل القومي ‪252 ......................................................................‬‬ ‫ال يزال القوميون الاجتماعيون ّ‬ ‫يلبون لتضميد جراح املصابين ‪259 ................................‬‬ ‫ً‬ ‫ليست حياة الزعيم ضمانا ‪211 ..........................................................................................‬‬ ‫لم يعط المر ٍّئ أن يهين سواه ‪215 ......................................................................................‬‬ ‫على ك ّل يا أستاذ ‪218 ...........................................................................................................‬‬ ‫تعجز مرارة الخيبة ‪292 ......................................................................................... ...............‬‬ ‫إن إبداء الرأي واجب في محله ‪291 ....................................................................................‬‬ ‫قد انتصرنا انتصارات غير منظورة ‪281 .............................................................................‬‬ ‫شموخ السنديان ‪282 .........................................................................................................‬‬ ‫شهادة في مصدر الشهادات ‪ ............................................................‬أنطوان ّ‬ ‫غريب ‪284 ....‬‬ ‫قامة مديدة ‪ .........................................................................................‬علي قانصو ‪281 ....‬‬ ‫مبدع في خلق نفسه ‪ ......................................................‬املتروبوليت إلياس عوده ‪287 ....‬‬ ‫كانت لك فرادتك ‪ .................................................................‬أليسار أنطون سعاده ‪272 ....‬‬ ‫ّ‬ ‫استعدوا‪ ......................................................................................... ..‬جميل ّ‬ ‫شماس ‪274 ....‬‬ ‫ً‬ ‫غادرنا محتفظا بالفرح ‪ .................................................................‬عصام املحايري ‪271 ....‬‬ ‫الحاضر في صفوفنا ‪ ...........................................................‬هيام نصر هللا محسن ‪278 ....‬‬ ‫ّ‬ ‫امل ّ‬ ‫طيف ب ـ «سعاده» ‪ ................................................................................‬نزار سلوم ‪211 ....‬‬ ‫إنه ألامين ألامين ‪ ...........................................................................‬حسن عز الدين ‪212 ....‬‬ ‫سيرة خالدة ‪ .......................................................................................‬نواف حردان ‪215 ....‬‬ ‫السنديانة ‪ .....................................................................................‬عبد هللا قبرص ي ‪211 ....‬‬ ‫مذيع مديرية شتورة ‪ ........................................................................‬محمود غزاله ‪217 ....‬‬ ‫ّ‬ ‫نتوق لسماعه ‪ ......................................................................................‬حليم رزوق ‪211 ....‬‬ ‫أوقف الحوار‪ ..‬ورحل ‪ .....................................................................‬غسان الشامي ‪212 ....‬‬ ‫رحيل السنديان ‪« .........................................................................................‬البناء» ‪214 ....‬‬


‫أجيال نضال ‪ ....................................................................................‬عماد أبو جود ‪215 ....‬‬ ‫صفاء الرسل ‪ .............................................................................‬سهام بشير جمال ‪217 ....‬‬ ‫«نكهة» إلياس جرجي ‪ .........................................................................‬بشير موصلي ‪221 ....‬‬ ‫ألامين «القديس» ‪ ...........................................................................‬إلياس مخلوف ‪225 ....‬‬ ‫ّ‬ ‫إلانسان الجديد ‪ ...................................................................‬محمد مقلد (الشيخ) ‪229 ....‬‬ ‫قدوة نضالية مميزة ‪ ..........................................................................‬إبراهيم الزين ‪221 ....‬‬ ‫ً‬ ‫متمما واجباته النهضوية ‪ ..........................................‬يمنى ّ‬ ‫جمول ‪224 ....‬‬ ‫عبر وجه الحياة‬ ‫كأنك في أول الطريق ‪ .............................................................‬أدما ناصيف حماده ‪228 ....‬‬ ‫ّ‬ ‫منذ أول الدرب أول القافلة ‪ ..................................................................‬نزار سلوم ‪241 ....‬‬ ‫يرافقنا‪ ،‬ولم يفارقنا ‪ .................................................................‬تموز إلياس قنيزح ‪242 ....‬‬ ‫حتى الرمق ألاخير ‪ ....................................................................‬إلياس جرجي قنيزح ‪245 ....‬‬


‫ألامين الياس جرجي قنيزح (‪)9111-9191‬‬ ‫‪ ‬ولد في طرطوس الشام في ‪.1712-2-18‬‬ ‫ودرس هذه ّ‬ ‫ّ‬ ‫التخصص في الرياضيات ّ‬ ‫املادة في‬ ‫‪ ‬أنهى دروسه الثانوية في بلدته وأكمل‬ ‫مدرسة البلدة‪.‬‬ ‫‪ ‬انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في طرطوس يوم ‪.1725-8-22‬‬ ‫تدرج في مسؤوليات مذيع مديرية طرطوس‪ ،‬ناظر إلاذاعة ّ‬ ‫‪ّ ‬‬ ‫ملنفذية طرطوس‪ّ ،‬ثم‬ ‫منفذ عام طرطوس ومندوب مركزي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ملنفذيات طرطوس ومحافظة الالذقية‪.‬‬ ‫‪ ‬نال رتبة ألامانة عام ‪.1728‬‬

‫ً‬ ‫‪ ‬بعد عودة الزعيم من مغتربه في آذار ‪ 1749‬بشهر واحد اختاره عميدا للداخلية‪ّ .‬ثم‬ ‫ً‬ ‫مديرا ملكتب الزعامة وناموسها ّ‬ ‫ألاول‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ ‬شكل الزعيم عام ‪« 1748‬لجنة التحقيقات إلادارية» وأسند رئاستها إليه وهي بمثابة‬ ‫«محكمة حزبية عليا»‪.‬‬

‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ ‬بعد استشهاد الزعيم ّ‬ ‫عين عميدا للداخلية‪ّ .‬ثم عضوا في اللجنة الرئاسية عام‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ ،1794‬وعضوا في لجنة قيادية مركزية‪ .‬وانتخب عضوا في املجلس ألاعلى ألكثر من‬ ‫ّ‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫‪ ‬انتخب رئيسا للحزب عام ‪.1795‬‬ ‫‪ ‬رئيس املحكمة الحزبية العليا من ‪.1775-1771‬‬ ‫‪ّ ‬‬ ‫تزوج من الرفيقة سوسن إسبر رفقه في ‪ 1751-8-22‬ورزقا بابنة أسمياها «فداء»‬ ‫وابن حمل اسم « ّتموز»‪ .‬عرف بين رفقائه بلقب «أبي فداء»‪.‬‬ ‫‪ ‬له أبحاث ومقاالت ّ‬ ‫قومية مختلفة‪ ،‬وكتاب بعنوان «مآثر من سعاده»‪.‬‬ ‫‪ ‬حائز على «وسام سعاده»‪.‬‬ ‫‪ ‬ثابر على نشاطه القومي بعزيمة الشباب وحكمة الشيوخ وروحية املعرفة‪ّ ،‬‬ ‫حتى‬ ‫وفاته في ‪ 1779-11-27‬في بيروت‪.‬‬









Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.