املسيحية واحملمدية والقومية �أنطون �سعادة �صدر هذا الكتاب عن م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة جميع احلقوق حمفوظة لعائلة �أنطون �سعادة ال ي�سمح ب�إعادة طبع هذا الكتاب �أو �أي جزء منه �أو تخزينه يف نطاق ا�ستعادة املعلومات �أو نقله ب�أي و�سيلة �سواء ال ّت�صويرية �أم االلكرتونية �أم امليكانيكية .مبا يف ذلك الن�سخ الفوتوغرايف والت�سجيل على �أ�شرطة �أو �سواها وحفظ املعلومات وا�سرتجاعها دون �إذن خطي من العائلة.
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت� ،صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : الطبعة الأوىل ،بريوت 2012 ISBN: 978-9953-419-21-3
احملتوى الفهرس
مقدمة النا�شر «عالك» �أوزان يف جمال حما�ضر ال�ضالل البعيد اجلهل املطبق الفهم املُ ْف ِل ْق ما مل َ يعط للجهال ومل يتمكن منه املنافقون ذات ِنيقة َخ ْرقا ُء ُ لي�س من ع ِلم كمن ال يعلم ت�أويل اجلاهلني �ضعف الإدراك من نق�ص العقل بني اجلمود والإرتقاء -تخليط خم ِّلط بني الهو�س والتدين �أغرا�ض الدين واختالف الأديان
رقمالصفحة 7 17 20 27 33 39 46 54 61 67 74 86 100 110
مدار اخلالف بني الإ�سالم وامل�سيحية مدار اخلالف بني امل�سيحية والإ�سالم بني الدين والدولة الدين والفل�سفة الإجتماعية ن�صو�ص الإ�سالم كدولة يف الدولة واحلرب الدينية الدين والدولة العروبة الزائفة والعروبة ال�صحيحة العروبة الدينية والدعوات الأجنبية العروبة كقوة �إذاعية للمطامع ال�سيا�سية الفردية التعنتات امل�سيحية ـ خال�صة خلود اجلنون فهر�س الأ�سماء
119 132 142 151 163 169 177 186 194 202 209 217 227
7
مقدمة الناشر يف مطلع �آب �سنة ،1940تناهى �إىل �أنطون �سعادة م�ؤ�س�س احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي يف مغرتبه الق�سري بالأرجنتني �أن جريدة «الرابطة» ال�صادرة يف الربازيل تن�شر على حلقات «حما�ضرة» �ألقاها ر�شيد �سليم اخلوري الذي �أطلق على نف�سه ا�سم (ال�شاعر القروي) بعنوان «امل�سيحية والإ�سالم» ،فكتب �إىل جورج بندقي يف �سان باولو ر�سالة بتاريخ � 4آب يقول فيها: «مل يخطر لك يف بال �أن تر�سلها �إ ّيل (�أي املحا�ضرة) مع �أنها هامة يل .وقد وردين معظمها وبقي الق�سم الأخري ( )...ف�أريد �أن تر�سل هذا الق�سم �إ ّيل �سريعاً». كان �سعادة �آنذاك ي�ستعد لإ�صدار جريدة «الزوبعة» يف بوان�س �أير�س ،وقد �صدر العدد الأول فع ًال يف � 10آب .1940غري �أنه قرر مناق�شة «حما�ضرة» ر�شيد �سليم اخلوري ب�سل�سلة من املقاالت ين�شرها على �صفحات جريدة «�سورية اجلديدة» ال�صادرة يف �سان باولو ،التي كان قد اتفق مع �صاحبيها ف�ؤاد وتوفيق بندقي على �أن يتوليا هما الإدارة يف حني تكون ال�سيا�سة التحريرية خا�ضعة لإ�شراف القيادة احلزبية .ولذلك كتب �إىل جورج بندقي بتاريخ � 23آب يقول« :و�ضعت لك منذ يومني ،يف الربيد العادي امل�سجل ،مغلفاً ي�شتمل على املقالني الأولني من �سل�سلة مقاالت يف ر�شيد �سليم اخلوري ومنظوماته و«حما�ضرته» الأخرية بعنوان «جنون اخللود» ،ف�أكرر هنا وجوب التدقيق يف الأغالط املطبعية»... و�أرفق �سعادة هذين املقالني بتعليمات وا�ضحة حمددة لطريقة الن�شر يف �صدر ال�صفحة الأوىل من «�سورية اجلديدة».
8
لكن الن�شر مل يتم يف الوقت املعني ،فكتب مرة �أخرى �إىل جورج بندقي بتاريخ � 9أيلول...« : وردين الربيد هذا اليوم وفيه العدد 82من «�سورية اجلديدة» فوجدته خالياً من املقال الأول من �سل�سلة «جنون اخللود» ،وقد كنت �أتوقع �صدوره يف هذا العدد (� )...أكتب و�أبلغني عن م�صري املقالني املر�سلني لأتخذ ما يلزم» .ويو�ضح �سعادة يف هذه الر�سالة �أهمية ال�سل�سلة التي يعكف على كتابتها بالقول� « :إن «حما�ضرة» ر�شيد �سليم اخلوري هي اختيار للحرب حتى يتم لنا الن�صر .وهذه املعارك الفكرية تفيد احلركة وبالتايل اجلريدة فائدة معنوية وح�سية لأنها تنبه الر�أي العام وتك�شف عن �شعوذة �أعدائنا الذين يحاربوننا ب�سالح الأوهام الباطلة». ومع ذلك مل تن�شر «�سورية اجلديدة» املقالني ،وا�ستلم �سعادة يف منت�صف �أيلول ر�سالة من �أخيه �إدوار املقيم يف �سان باولو يخربه فيها �أن جورج بندقي «مل ي�ستطع ن�شر املقالني» ،فقرر التحرك باجتاهني :الأول «ت�أ�سي�س مطبعة �صاحلة تكفي لإ�صدار «الزوبعة» ( )...فت�صبح هي اجلريدة �شبه الر�سمية للحركة القومية ،والثاين الطلب من �أخيه �سحب املقالني من «�سورية اجلديدة» بانتظار �أن يعالج الإ�شكاالت الإدارية واحلزبية العالقة مع ف�ؤاد وتوفيق بندقي. وبالفعل با�شرت «الزوبعة» ن�شر حلقات «جنون اخللود» ابتداء من العدد ال�ساد�س ال�صادر بتاريخ 15ت�شرين الأول ،1940بتوقيع «هاين بعل». ال تعنينا كثرياً هنا الطريقة التي ُعوجلت بها الحقاً م�شكلة جمل�س �إدارة «�سورية اجلديدة»، لكن �سعادة كتب �إىل وليم بحلي�س بتاريخ � 3شباط ...« :1941وبعد قليل ميكن «�سورية اجلديدة» مبا�شرة نقل مقاالت «الزوبعة» يف «جنون اخللود» ،و�أنا �أر�سل جمموعة هذه املقاالت منقحة» .ويف � 22شباط 1941ن�شرت «�سورية اجلديدة» احللقة الأوىل من «جنون اخللود»، وا�ستمرت على هذا املنوال حتى احللقة ال�ساد�سة والثالثني ،وهي الأخرية .وكان �سعادة ينقح ما ُين�شر يف «الزوبعة» ويعيد �إر�ساله بالربيد �إىل «�سورية اجلديدة» دفعة بعد �أخرى. مل تكن ت�صحيحات �سعادة وتنقيحاته جذرية ،بني «الزوبعة» و«�سورية اجلديدة» ،و�إن كان ي�ؤكد يف �أكرث من منا�سبة على رغبته يف املزيد من التو�سع يف معاجلة املو�ضوع ،كما جاء يف ر�سالة �إىل وليم بحلي�س بتاريخ � 23أيلول .1941
9
ونظراً �إىل االهتمام الوا�سع بني املهاجرين ال�سوريني الذي �أثارته ال�سل�سلة يف الربازيل والأرجنتني ،فقد اقرتح بع�ض ال�سوريني املتمولني طبع «جنون اخللود» يف كتاب لتوزيعه على نطاق وا�سع ،ويقول �سعادة يف الر�سالة ذاتها« :قد يكون الأف�ضل جعل �أقل عدد ُيطبع خم�سة �آالف لكي ُير�سل منها �إىل الوطن وم�صر والعراق بعد احلرب ،لأن البحث يجب �أن ي�صل �إىل ال�شبيبة القومية يف الوطن حيث تكون النتيجة �أكرب». ويف ر�سالة �إىل جنيب الع�سراوي بتاريخ � 21آذار 1942يقول �سعادة« :قررت طبع �سل�سلة «جنون اخللود» يف كتابني :الواحد �أدبي ويتعلق مبنظومات ر�شيد اخلوري كدرا�سة �أدبية، والثاين يخت�ص مبو�ضوع امل�سيحية واملحمدية �أو الي�سوعية واملحمدية والع�صبية القومية .وقد ر�أيت �أن يحمل الكتاب الأول فقط عنوان «جنون اخللود»� ،أما الكتاب الثاين ف�س�أجد له عنواناً من مو�ضوعه». ومع �أن م�شروع �إ�صدار الكتاب يف الربازيل �أو الأرجنتني مل يتحقق� ،إال �أن الفكرة ظلت تلح على �سعادة فرتة بعد �أخرى .ففي الر�سالة املذكورة �أعاله لنجيب الع�سراوي يعرب عن �أ�سفه لأنه مل يتمكن «من الوقوف على كتابات �أخرى يف هذا املو�ضوع ككتاب ال�شيخ حممد لدي امل�صادر وامل�ستندات عبده يف «امل�سيحية والإ�سالم» وغريه ( )...وكان بودي لو تتوفر ّ وال�شواهد العديدة ،ولكن مكاتب الأرجنتني ال�سورية فقرية جداً يف الكتب ،وحالة احلرب مل ت�سمح بجلب �شيء جديد ،وال �أدري ما يوجد يف �سان باولو وكيف ومتى ُير�سل ،فا�ضطررت للإقت�صار على �أ�سا�س املو�ضوع وما وقفت عليه من �آراء وحجج �أ�صحاب الدولة الدينية املحمدية». �إن ال�ضجة التي �أحدثتها �سل�سلة «جنون اخللود» يف املهجر الأمريكي الالتيني ،والإهتمام الذي �أثارته يف �صفوف امل�ؤيدين واملعار�ضني ،جعال �سعادة يفكر جدياً يف «تو�سيع البحث عند تنقيحه» ،كما جاء يف ر�سالته �إىل يعقوب نا�صيف بتاريخ � 7آب .1942بل نراه ي�ؤكد يف ر�سالة �أخرى �إىل جربان م�سوح بتاريخ � 15أيلول �« :1943أخذت م�ؤخراً �أهتم بكتب ال�سري واحلديث املحمدية لأعود �إىل بحث امل�سيحية واملحمدية .»...لكننا نعرف �أن عدم ا�ستطاعة
10
�سعادة احل�صول على مراجع رئي�سية لإكمال البحث من جهة ،و�ضغوط العمل احلزبي، واحل�صار الذي فر�ضه �أ�صحاب املطابع العربية على �سعادة يف املهجر منعت من حتقيق رغبته. �أما يف الوطن بعد العودة �سنة ،1947ف�إن ظروف ال�صراع ال�سيا�سي العنيف الذي خا�ضه �سعادة واحلزب حالت دون �إجناز تلك الرغبة ،فبقيت كتابات �سل�سلة «جنون اخللود» حمدودة الإنت�شار يف املغرتب فقط� ،إىل �أن �أعيد ن�شر 12حلقة منها للمرة الأوىل يف الوطن يف جملة «النظام اجلديد» ال�صادرة يف دم�شق �سنة � .1951أما الأق�سام الباقية فقد ُن�شرت يف كتاب و�ضع له عنوان «الإ�سالم يف ر�سالتيه امل�سيحية واملحمدية» بطبعاته املختلفة يف دم�شق وبريوت. ومل ت�صدر ال�سل�سلة كلها يف كتاب واحد (خارج �سياق عملية جمع الآثار الكاملة ل�سعادة التي بد�أت �سنة � )1975إال �سنة 1978عندما توىل الأمني ال�شهيد حبيب كريوز الإ�شراف على طبعة جديدة اعتماداً على الن�ص الأ�صلي املن�شور يف «الزوبعة». تقول املقدمة التي و�ضعها الدكتور �سليم جماع�ص لتلك الطبعة �إن �سل�سلة «جنون اخللود» يف كال ال�شكلني تعر�ضت «�إىل الكثري من احلذف والتحوير مما حولها �إىل كتابات خمتلفة عن الن�صو�ص الأ�صلية .حتى �أنه عند مراجعة الكتاب لإعداده للن�شر ،وعند مقارنته مع الأ�شكال املعروفة ،تبني �أنه مل ُ تخل �صفحة مطبوعة من احلذف والتحوير لأكرث من ثالث كلمات ولأكرث من جملتني» .و�إ�ضافة �إىل ت�صحيح مكامن اخللل الذي �أ�صاب ال�سل�سلة يف طبعاتها املختلفة ،متيزت هذه الطبعة بو�ضع ثبت باملراجع ،ون�شر الوثائق املتعلقة بالبحث، و�إعداد فهار�س متنوعة ،وكذلك و�ضع مالحق ذات عالقة مبحتويات الكتاب. و�أ�صبحت طبعة العام 1978منوذجاً ُيحتذى ،خ�صو�صاً يف جمموعة «الأعمال الكاملة» التي �أ�صدرتها «م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة» يف بريوت �سنة .2001ومع ذلك ،توجد حاجة ما�سة لطبعة جديدة تبني على ما �أجنز حتى الآن ،وتتجاوز النواق�ص التي اعرتت تينك الطبعتني .وال�سبب يف ذلك هو �أن طبعة العام 1978ذاتها تعر�ضت يف �أق�سام منها «للحذف والتحوير» ،وكذلك مل ُيتح للم�شرفني عليها التدقيق اللغوي والتحريري نظراً �إىل الظروف الأمنية يف لبنان يف تلك املرحلة ،ولعدم توافر جمموعة «�سورية اجلديدة» �آنذاك .يف حني �أن طبعة «الأعمال الكاملة» اهتمت كثرياً بتحقيق الن�ص ،ونق�صد بذلك املقارنة بني ما ُن�شر يف «الزوبعة» وما �أعيد
11
ن�شره يف «�سورية اجلديدة» ،ما جعل الكتاب مليئاً باملالحظات الإي�ضاحية التي تفيد الباحث املدقق ،لكنها قد ُتثقل على القارىء العادي. هذه الطبعة ترتكز �إىل طبعتي 1978و ،2001لكنها تتجاوزهما يف ناحيتني �أ�سا�سيتني :عاجلنا النواق�ص والتدخالت التي اعرتت الطبعة الأوىل ،و�أ�سقطنا من الثانية كل ما من �ش�أنه �أن يعرقل �سياق مرونة الن�ص وان�سيابه الطبيعي .مثال على ذلك �أن حمرر طبعة 1978كان يتعامل بح�سا�سية مفرطة مع مو�ضوع العراق ،فيعمل قلمه تعدي ًال وتبدي ًال كلما �شعر �أن ذلك «ي�شوه» الفهم القومي الإجتماعي جلغرافية الوطن ال�سوري .يف حني �أن حمرر طبعة 2001كان ي�صر دائماً على الإ�شارة �إىل كل التغيريات بني ما ُن�شر يف «الزوبعة» وما �أعيد ن�شره يف «�سورية اجلديدة» بعد الت�صحيح والتنقيح ،علماً ب�أن �سعادة هو الذي �أقدم على �إجراء تلك الت�صحيحات والتعديالت. والطبعة هذه تعتمد ما كان �سعادة ينوي القيام به من حيث تق�سيم ال�سل�سلة الدرا�سية �إىل كتابني :الأول �أدبي مناقبي يحمل العنوان الذي كان �سعادة قد قرر ا�ستعماله وي�ضم 12 حلقة ،كل منها بعنوان خمتلف ،ن�شرت يف �إطار العنوان الرئي�سي «جنون اخللود»� .أما الكتاب الثاين ،وهو ي�ضم باقي حلقات البحث ،فقد و�ضعنا له عنواناً م�ستمداً مما كان ينوي �سعادة الت�أ�سي�س عليه وهو «امل�سيحية واملحمدية والقومية». وهكذا تكون هذه الطبعة قد �إلتزمت املعايري التالية: � - 1إعتماد الطبعتني امل�شار �إليهما �أعاله ،والعودة �إىل الن�صو�ص الأ�صلية كلما دعت احلاجة �أو واجهتنا عبارات �أو كلمات غام�ضة. � - 2إلغاء كل الهوام�ش التي تو�ضح تعديالت �أدخلها �سعادة ،والإكتفاء مبا ن�شر يف «�سورية اجلديدة» مع الأخذ يف الإعتبار ما �أ�شار �إليه �سعادة يف ر�سائله �آنذاك وتتعلق ببع�ض الأخطاء �أو الت�صحيحات. - 3كان �سعادة ي�ستعمل �أ�سماء الأ�شهر الإفرجنية (مار�س� ،أبريل� )...أثناء �إقامته يف الأرجنتني، ثم عاد �إىل ا�ستعمال �أ�سماء الأ�شهر ال�سورية (�آذار ،ني�سان )...يف الوطن .لذلك �أوردنا يف هذه الطبعة الإ�سم الإفرجني �أو ًال ،وو�ضعنا بني قو�سني ( ) الإ�سم ال�سوري املرادف له.
12
� - 4سعينا �إىل توحيد بع�ض املفردات التي كانت تطبع ب�أ�شكال خمتلفة بني «�سورية اجلديدة» و«الزوبعة» .ومن الأمثلة على ذلك :بحت -بحتة� ،أوربا � -أوروبا� ،أمريكا � -أمريكا ،دبلوماتية دبلوما�سية ،الإنقليز -الإنكليز�...إلخ. - 5ا�ستخدمنا الأ�سلوب املعا�صر يف عملية التنقيط نظراً �إىل غياب ذلك يف معظم ما ن�شرته «�سورية اجلديدة» و«الزوبعة». - 6مل نورد مراجع الآيات القر�آنية �أو الآيات التوراتية والإجنيلية يف الهام�ش �أ�سفل كل �صفحة كما يف طبعة � ،2001أو يف �آخر كل حلقة كما يف طبعة .1978بل و�ضعناها يف ال�سطر نف�سه على ال�شكل التايل« :البقرة� »112 ،أي «�سورة البقرة الآية .»112وال�شيء نف�سه ينطبق على الآيات التوراتية والإجنيلية« :لوقا� »5 : 1 ،أي «�إجنيل لوقا ،الإ�صحاح الأول ،الآية .»5 � - 7أ�ضفنا �شروحات ل�شخ�صيات و�أحداث وكتب مل تكن الطبعات ال�سابقة قد و�ضعت �أية تعريفات لها. � - 8سمحنا لأنف�سنا ،يف حالة واحدة فقط� ،إلغاء تدخل حمرر طبعة 2001عندما �أ�ضاف كلمة «هلل» بعد عبارة «فاملو�سويون م�سلمون» يف قول �سعادة «فاملو�سويون م�سلمون وامل�سيحيون م�سلمون هلل واملحمديون م�سلمون هلل» (احللقة / 31احللقة 20بالرتتيب اجلديد) .وقد ظن املحرر �أن «هلل» �سقطت �سهواً ،يف حني �أننا نرى �أن �سعادة تعمد �إ�سقاطها لأن اليهود مل ي�سلموا هلل رب العاملني بل ليهوه ربهم اخلا�ص .وقد �أو�ضحنا ذلك يف الهام�ش. - 9مل تتوافر لدى �سعادة كل املراجع التي كان يتمنى لو �أنها متاحة له ،وهذا ما تو�ضحه ر�سائل تلك املرحلة ،وقد ا�ست�شهدنا ببع�ض فقراتها يف ما �سبق .لذلك كان من الطبيعي وقوع بع�ض الهنات من مثل اعتبار قول الإمام علي بن �أبي طالب «�إعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً واعمل لآخرتك ك�أنك متوت غداً» حديثاً نبوياً .وقد �أ�شرنا �إىل هذا اخلط�أ مرة واحدة ،وتركنا ال�سياق العام على ما هو عليه يف الن�ص الأ�صلي. � - 10أما بالن�سبة �إىل املالحق ،فقد اكتفينا بواحد منها فقط هو «ترتيب ال�سور القر�آنية ح�سب نزولها» ،ملا لهذا الأمر من عالقة جذرية بالبحث الذي يتناوله �سعادة يف «جنون اخللود».
13
- 11الق�سم الأول من ال�سل�سلة (�إثنتا ع�شرة حلقة) ُن�شر يف كتاب م�ستقل بعنوان «جنون اخللود» ،وهذا الكتاب يت�ضمن الق�سم الباقي .لكننا ابتد�أنا من منت�صف احللقة الثانية ع�شرة لأن �سعادة با�شر مناق�شة مو�ضوع املحمدية وامل�سيحية فيها. - 12و�ضعنا ترتيباً جديداً لأرقام حلقات هذا الق�سم ،غري �أننا �أوردنا الإي�ضاحات الالزمة عندما تطلب ال�سياق ذكر �أرقام احللقات ال�سابقة كما جاءت يف «الزوبعة» و«�سورية اجلديدة». هذا من حيث تاريخ «جنون اخللود» واملراحل املختلفة لن�شره ،فماذا عن م�ضمونه والغاية منه؟ ي�صف �سعادة «جنون اخللود» ب�أنها «�سل�سلة درا�سية» الغر�ض منها« :قمع الفتنة الدينية بني �أبناء �أمتنا قبل ا�ستعار �أوارها ،ودعوة ال�سوريني جميعهم من ر�سوليني وم�سيحيني ودروز �إىل رابطة العقيدة الإجتماعية الواحدة� :إىل عقيدة القومية ال�سورية التي جتمعهم يف وطن واحد وم�صري واحد» (احللقة / 35احللقة 24بالرتتيب اجلديد) .و�إذا كانت «حما�ضرة» ر�شيد �سليم اخلوري التي ا�شتملت �أي�ضاً على تهجمات رخي�صة �ضد احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي وزعيمه هي التي دفعت �سعادة �إىل املبا�شرة بكتابة هذه ال�سل�سلة� ،إال �أن املق�صود مل يكن �شخ�ص اخلوري حتديداً .فاخلوري هو ع ّينة من مناذج بع�ض ال�صحافيني واملثقفني والك ّتاب الذين فجروا �أحقادهم مبئات املقاالت �ضد النه�ضة ال�سورية القومية الإجتماعية .فالغاية من هذه الأبحاث كانت توجيه �ضربة قا�صمة �إىل �أعداء النه�ضة القومية الإجتماعية الذين كانوا ي�ستخدمون �سالح الفتنة الدينية بني ال�سوريني من �أجل حتقيق مكا�سب �سيا�سية فردية. وما كادت احللقات الأوىل ت�صدر يف «الزوبعة» ومن ثم يف «�سورية اجلديدة» حتى جرت ات�صاالت مع �سعادة ،و ُبذلت و�ساطات وتدخالت من قبل مواطنني مقربني ورفقاء قوميني ،لتخفيف وط�أة احلملة على اخلوري و�أ�ضرابه من الأدباء بحجة �أنها قد ُتعترب «مهاترات �شخ�صية» .لكن رد �سعادة يف �سياق احللقات ،ويف ر�سائله �أي�ضاً ،كان وا�ضحاً وحازماً� ،إذ �أكد على �أن «مهاجمة نف�سية عتيقة جامدة» لي�ست مهاترات �شخ�صية .م�شدداً على �أنه «ملا كانت مهمتنا الأوىل ك�شف القناع عن ِ�سحن امل�شعوذين «الوطنيني» احلقيقية ،ف�إننا ال ن�ستطيع �إنقاذ ال�شعب من �شعوذاتهم بال�سكوت عليها ،لتحقيق ر�صانة جوفاء ونظرية خرقاء .وما هي النتيجة التي نتوخاها من �إطباق جفوننا على
14
القذى؟» (ر�سالة �إىل جورج بندقي بتاريخ 2ت�شرين الأول .)1940 بد�أت �سل�سلة «جنون اخللود» بحلقات تعري �أدب الإنحطاط الالقومي عند ر�شيد �سليم اخلوري و�أمثاله من الأدباء والكتاب ،لكنها �سرعان ما حتولت �إىل املو�ضوع الأ�سا�سي �أال وهو التحري�ض الذي ميار�سه دعاة الرجعة �إىل الدولة الدينية وامل�ؤدي �إىل اندالع الفتنة الدينية بني �أبناء الأمة الواحدة .وكان على �سعادة �أن يو�سع حملته لتطال تناق�ضات �أ�ساتذة ر�شيد �سليم اخلوري ،واملق�صود بذلك ال�شيخ حممد عبده وال�سيد جمال الدين الأفغاين ،وخطورة دعوتهما �إىل الدولة الدينية على وحدة املجتمع ال�سوري ،بل وعلى وحدة �أي جمتمع �آخر يف العامل العربي .ومل تكن هذه املهمة �سهلة ،فاملراجع مل تكن متوافرة ،ومتابعة العمل احلزبي يف الوطن وعرب احلدود ت�ستنزف جهد �سعادة ووقته .ومع ذلك نراه يقول�« :إن ما �سي�صدر من املقاالت يف امل�سيحية والإ�سالم �سيكون هاماً جداً للتفكري القومي وملعاجلة امل�شاكل الروحية -الإجتماعية يف الأمة ال�سورية .ولوال �ضيق الوقت معي وحراجة الظروف ال�سيا�سية لكنت و�سعت البحث ودققت �أكرث يف التفا�صيل .ولكن املجال الذي حددته يكفي لإي�ضاح الطريق وتعيني احلل .والأقالم القومية تتكفل فيما بعد بزيادة احلجج وتو�سيع النطاق»( .ر�سالة �إىل وليم بحلي�س بتاريخ � 23أيلول .)1941 من امل�ؤ�سف �أن «الفتنة الدينية» التي حذر منها �سعادة يف �أربعينات القرن املا�ضي ما زالت ناراً تلتهم جمتمعنا ال�سوري يف معظم كياناته ال�سيا�سية .ومن امل�ؤ�سف �أي�ضاً �أن �أ�صوات دعاة الرجعة �إىل الدولة الدينية تكاد تطغى على كل نداءات الداعني �إىل الإخاء القومي والوفاق الإجتماعي .ولعلنا يف �إعادة �إ�صدار هذه الأبحاث نكون قد �أظهرنا ريادة �سعادة املميزة وا�ست�شرافه وفهمه العلمي العميق ملخاطر التحري�ض الطائفي واملذهبي على وحدة املجتمع ال�سوري ،ويف الوقت نف�سه نقدم الدليل العملي للمواطنني الباحثني عن خمرج �آمن من امل�أزق الدموي الذي يلفنا جميعاً يف هذه الأزمنة ال�صعبة! بريوت 16 -ت�شرين الثاين 2012
املقال الثاين ع�شر من �سل�سلة «جنون اخللود» كما ن�شر يف جريدة «الزوبعة» ال�صادرة يف بوان�س �أيري�س
املسيحية واحملمدية والقومية
17
«عالك» أوزان يف جمال حماضر نعود الآن( ) �إىل متابعة البحث يف غر�ض هذه املقاالت الأ�سا�سي الذي هو تبيان الأدب االنحطاطي و�أ�ضراره على نف�سية ال�شعب وتبيان عوامل النف�سية املخربة التي تدفع �أ�صحاب هذا الأدب �إىل العيث ف�ساداً يف ال�شعب ،والعبث ُمبثله العليا و�إرجاعه �إىل الفتنة والأحقاد الدينية التي �أتلفت الزرع و�أهلكت ال�ضرع. وبعد �أن فرغنا من �إي�ضاح حقيقة «�شاعرية» ر�شيد اخلوري و�إعطاء منظوماته الوطنية والالوطنية قيمتها ،مند هذا الدر�س يف الأدب �إىل «حما�ضرته» التي ن�شرها يف �صحيفة «الرابطة» التي ت�صدر يف �سان باولو ،الربازيل ،يف �سل�سلة �أعداد ابتدا ًء من العدد 527ال�صادر يف 8يونيو (حزيران) املا�ضي وانتها ًء يف العدد 541ال�صادر يف � 14سبتمرب ( �أيلول) املا�ضي وعدد �أق�سامها �ستة .ومو�ضوع «املحا�ضرة» املذكورة «امل�سيحية والإ�سالم» وغر�ضها تف�ضيل الدين الإ�سالمي على الدين امل�سيحي. �إن هذه «املحا�ضرة» التي تعيد تفكرينا �إىل العهود الأولية امل�ش�ؤومة اجلديرة بالنقد الدرا�سي، لأنها من �أف�ضل الأمثلة على قحة «الواغلني» على الأدب الذين يذكرهم ر�شيد اخلوري وال يذكر نف�سه بينهم ،كما �أغفل ذكر نف�سه مع «عالكي» الأوزان الذين �أ�شار �إليهم يف مقدمة «�أعا�صريه» ،وعلى �سف�سطة القافزين فوق �سياجات العلم والفل�سفة. �إن البحث يف طبيعة دينني جليلني كامل�سيحية والإ�سالم يجب �أن ت�ستتب له �شروط �سابقة من الت�ضلع يف العلم والفل�سفة .ففي هذا البحث ال يكفي الغو�ص على املفردات اللغوية 1
18
�أنطون �سعادة
والتدقيق يف �أ�شكال العرو�ض ،وال يفي به اال�ستعارات من كبار الك ّتاب وال جتدي �أ�ساليب البيان والبالغة يف �صوغ العبارة. وقد عرفنا ر�شيد �سليم اخلوري ناظماً وناثراً ولكننا مل نعرفه من �أهل الفكر والبحث ،فهو �أبعد ما يكون عن التفكري والبحث والدرا�سة واال�ستق�صاء .وقد ر�أينا من الدرا�سة املتقدمة ملنظوماته �أنه لي�ست لها فكرة �أ�سا�سية و�أن موا�ضيعها م�ستمدة من ال ِف َكر ال�شائعة يف بيئته، ولكنه �أبى �إال �أن يغل على املباحث الفل�سفية والعلمية ظاناً �أن الكالم فيها كالكالم يف غريها« ،وكله عند العرب �صابون». قر�أنا «حما�ضرة» اخلوري يف امل�سيحية والإ�سالم فوجدناها �أبعد ما يكون عن �أ�صول املحا�ضرات و�شروطها و�أجدر �أن ت�سمى باحلار�ضة من �أن ت�سمى حما�ضرة .وما �أقدم ر�شيد اخلوري على ح�سبان كالمه حما�ضرة �إال جلهله مفاد لفظة املحا�ضرة العلمي و�أ�صولها و�شروطها .فاملحا�ضرة ا�صطالح علمي يقابل ا�صطالح الفرجن على لفظة «كنفرن�سيا» وهي عند العلماء يف دوائرهم ا�سم نوع للأبحاث اجلليلة التي يقوم بها علماء و�أهل الدر�س والبحث والتنقيب ،بق�صد الو�صول �إىل حقيقة �أ�سا�سية �أو نتيجة علمية باال�ستقراء والتحليل والتعليل يف جو من العلم والفل�سفة هاديء ،بعيد عن النعرات من ّزه عن التع�صب .ومن �أهم �شروط املحا�ضرة وامتيازها على اخلطاب �أنها تكون در�ساً هادئاً ال التجاء فيه �إىل ا�ستفزاز ال�شعور وال�ضرب على الوتر احل�سا�س من حزبية �أو ع�صبية عند اجلمهور �أو ميول جاحمة .ومن �شروط املحا�ضر �أن يتجنب كل ما من �ش�أنه �إثارة ال�شعور والتحري�ض والتهو�س .ف�إذا خلت هذه ال�شروط مل تكن هنالك حما�ضرة .وملا كان ر�شيد اخلوري يجهل هذه الأغرا�ض العلمية ال�سامية ويجهل �أ�صول املحا�ضرة و�شروطها والفرق بينها وبني اخلطاب فقد ظن �أن الفرق بني املحا�ضرة واخلطاب هو يف الطول والق�صر وعدد الكلمات .ف�إذا كان اخلطاب طوي ًال �صار ،يف عرفه ،حما�ضرة .و�إذا كانت املحا�ضرة ق�صرية كانت ،يف عرفه ،خطاباً. واحلقيقة التي ن�ستخرجها من درا�ستنا ل�شخ�صية ر�شيد اخلوري الأدبية هي �أنه ال مييز يف كل ما يقال ويكتب �إال بني �شيئني :النظم والنرث .فما كان مرتباً يف �أوزانٍ ٍ وقواف فهو نظم وما كان
املسيحية واحملمدية والقومية
19
مر�س ًال عبارات وجم ًال تامة باملعنى واملبنى من غري ترتيب �أوزان وال تن�سيق ٍ قواف فهو نرث. فكل كالم غري موزون لي�س له عنده غري �صفة النرث .وهكذا الأدب والعلم والفل�سفة والفن لي�ست عنده �سوى �أ�شكال من النظم والنرث ،ولذلك �سمى نرثه يف امل�سيحية والإ�سالم حما�ضرة� ،أي نرثاً طوي ًال! يقول ر�شيد اخلوري �إن الهجو ينفتح له على م�صراعيه عندما يريد ،وهذا هو الواقع .والواقع �أي�ضاً �أنه ميال �إىل الهجو و�أنه يرتدد كثرياً بني الهجو واملدح .وكالمه على امل�سيحية والإ�سالم لي�س �سوى هجو للم�سيحية ومدح للإ�سالم يف �شكل نرثي ،فهو ال ي�صح �أن ي�سمى خطاباً يثري ال�شعور احلي لق�ضية حقة ،ف�ض ًال عن �أنه ال ي�صح �أن ي�سمى حما�ضرة. وفيما ر�شيد اخلوري يظن �أنه ميدح الإ�سالم �صدقاً ويهجو امل�سيحية حقاً� ،إذا به يطعن الإ�سالم يف �صميم عقيدته من حيث ال يدري ،لأنه يعتقد �أن التدجيل والرياء ي�سرتان القبائح ،ونحن ال ن�صدق �أن م�سلماً واحداً مدركاً حلقيقة ر�سالة النبي العربي يقبل كالم اخلوري الذي ظاهره ت�أييد للإ�سالم وباطنه هدم للعقائد الإ�سالمية ال�صحيحة ،و�سيجيء تبيان ذلك.
اهلوامش - 1الق�سم الأول من هذه احللقة ُن�شر يف كتاب «جنون اخللود» ،وهذا الق�سم ينتقل من املو�ضوع الأدبي املناقبي اىل املو�ضوع الأ�سا�سي وهو امل�سيحية واملحمدية والقومية.
20
�أنطون �سعادة
الضالل البعيد قلنا يف املقال املتقدم �إننا ال ن�صدق �أن م�سلماً واحداً مدركاً حلقيقة ر�سالة النبي العربي يقبل كالم اخلوري الذي ظاهره ت�أييد الإ�سالم ،وباطنه هدم للعقائد الإ�سالمية ال�صحيحة ،ووعدنا الق ّراء بتبيان ذلك يف ما يجيء من هذا البحث. قلنا �أي�ضاً �إن ر�شيد �سليم اخلوري لي�س من �أهل العلم وال من �أهل الفل�سفة والتفكري ،وال من �أهل الأدب ال�صحيح �إذا اتخذنا مقيا�ساً للأدب غري الألفاظ والأوزان .و�إن تناوله دينني جليلني كامل�سيحية والإ�سالم لي�س �سوى وغول على العلم والفل�سفة ،يف حني �أن ق�صده احلقيقي هو مدح الإ�سالم وهجو امل�سيحية. يتظاهر ر�شيد اخلوري يف بدء حار�ضته التي �أ�سماها ،جه ًال منه ،حما�ضرة ب�أنه قد �آمن بالإ�سالم ،ثم ي�أخذ يف اخللط بني كالم رجل متدين ورجل يبحث يف طبائع الأديان من دون حت ّيز �أو انحراف ،اجتهاداً منه يف �إلبا�س مدحه وهجوه لبا�س البحث. ف�إذا كان اخلوري قد �أ�سلم حقاً ،اعتقاداً منه ب�صحة الدين الإ�سالمي وكالمه املنزل ،ف�إن «حما�ضرته» ال تدل �سوى على رجل �أ�سلم عن جهل بحقيقة الإ�سالم ون�صو�صه املنزلة� ،أو رجل يتظاهر بالإ�سالم نفاقاً يف الدين لي�شرتي ب�آياته ثمناً قلي ًال( ). �أول ما نطق به اخلوري املتظاهر بالإ�سالم يف مدح هذا الدين كان كفراً به وب�آياته ،قال يف بدء حار�ضته« :ملا ف�ضلت الإ�سالم على امل�سيحية يف خطابي العام املا�ضي� ،إلخ» .ف�أخذ نقطة االبتداء تف�ضيل الدين الإ�سالمي على الدين امل�سيحي وجعل هذه النقطة مدار كالمه 1
املسيحية واحملمدية والقومية
21
فنطق بكلمة الكفر من حني فتح فاه �أو ج ّر قلمه على القرطا�س ،فحق عليه قول الآيات: {�إن الذين يكفرون باهلل ور�سله ويريدون �أن يفرقوا بني اهلل ور�سله ويقولون ن�ؤمن ببع�ض ونكفر ببع�ض ويريدون �أن يتخذوا بني ذلك �سبي ًال �أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً والذين �آمنوا باهلل ور�سله ومل يفرقوا بني �أحد منهم �أولئك �سوف ي�ؤتيهم �أجورهم وكان اهلل غفوراً رحيماً} (الن�ساء ،)152 - 150 ،ومن �سورة البقرة{ :لي�س الرب �أن تولوا وجوهكم قبل امل�شرق واملغرب ولكن الرب من �آمن باهلل واليوم الآخر واملالئكة والكتاب والنبيني} (الآية ،)177ومن �سورة الن�ساء{ :لكن الرا�سخون يف العلم منهم وامل�ؤمنون ي�ؤمنون مبا �أنزل �إليك وما �أُنزل من قبلك} (الآية .)162 فمحاولة مدح الإ�سالم باملفا�ضلة بينه وبني امل�سيحية وبالتفريق بني حممد وامل�سيح هي حماولة كفر بكالم اهلل املنزل بالوحي على حممد ر�سوله .والذين ي�شايعون ر�شيد اخلوري يف قوله وي�ؤيدونه من امل�سلمني لي�سوا باحلقيقة �سوى زنادقة يف �أثواب م�ؤمنني يتظاهرون �أمام امل�ؤمنني الب�سطاء الودعاء القلوب �أنهم يغارون على الدين ،وما غريتهم �إال على زينة الدنيا و�أعرا�ضها. لو مل يكن ر�شيد اخلوري واغ ًال على الفل�سفة والدين والعلم ملا كان جتا�سر على اقتحام هذا املو�ضوع اخلطر واخلبط يف م�سالكه ،ولكنه يظن �أنه �إذا التقط �أ�شتاتاً من الأقوال الواردة لغريه وح�شاها بهذر من عنده ،ووقف يف جمهور من عامة النا�س و�أخذ يت�شدق بهذه الأقوال فقد �صار «عاملاً جلي ًال» كما �صار مبثل هذا اخللط «�شاعراً مف ِلقاً» .وظن فوق ذلك �أنه �إذا �س َن َده �سيا�سي من �سيا�سيي الدين والأدب ك�شكيب �أر�سالن فقد ربح اخللود «كمدافع عن �شريعة حممد وخلفائه يف الأر�ض» الذين مي ّني �شكيب �أر�سالن نف�سه ب�أن يكون واحداً منهم. وفيما اخلوري يخلط ويخبط وينافق يف الإميان �إذا به يحاول الظهور مبظهر العامل الذي يقلب الأديان على وجوهها ويدر�س طبائعها ،والفيل�سوف الذي يعطي القيم الفكرية موا�ضعها وهو يفعل ذلك من غري �أن يحتاج �إىل بحث وا�ستقراء بل باال�ستبداد باملنطق ،وبت�سخري القيم واملوا�ضيع لأغرا�ض هجوه ومديحه. وملا مل يكن من �أهل العلم والفل�سفة وال من �أهل الأدب ال�صحيح ،كما ب ّينا �آنفاً ،فقد وقف
22
�أنطون �سعادة
يف تفكريه ونظره يف امل�سيحية والإ�سالم عند حدود التفكري العامي املنحط اخلايل من كل ثقافة ودرا�سة �صحيحة. ولي�س �أدل على خلطه وخبطه يف ما ال يعلم من قوله« :لو كنت يف هذا البحث الديني �إ�سماً حلق لكل �أديب �أن يلحاين ،ولكني واالجتماعي فع ًال �أعر�ض مل�سائل الآخرة واجلنة والنار ّ تناولت يف الإ�سالم ناحيته الدينية البحتة و�أ�شرت �إىل عالقته باحلياة الدنيا وحتديده �سلوك الفرد حتديداً مرجعه العقل ال�سليم». فقوله« :ناحيته الدينية البحتة» جمرداً هذه الناحية من م�سائل الآخرة واجلنة والنار لي�س �سوى جهل مبا هو الدين وما هو العلم وما هي الفل�سفة� ،إذ لو جردنا الدين من م�سائل الآخرة والعقاب والثواب ملا بقي له �شيء من «ناحيته الدينية البحتة» ...ولكن من �أين لرجل واغل على هذه املوا�ضيع ال�سامية �أن يعلم ما هو من طبيعة الدين ،وما هو من طبيعة العلم ،وما هو من طبيعة الفل�سفة؟ ال يعرف ر�شيد اخلوري غري املثل الدنيا وال قدرة له على تناول غري الفكر العامية ،ال�سطحية. والعامة تخبط يف ال�ش�ؤون الفل�سفية الأ�سا�سية خبطاً ،ولذلك ن�ش�أت عند عامة امل�سيحيني ال�سوريني الفاقدة الثقافة ال�صحيحة والعلم اعتقادات وت�أويالت يف الدينني امل�سيحي والإ�سالمي� ،أقل ما يقال فيها �إنها جزئية �أو �سطحية .هكذا �أخذت ت�ؤول تعاليم امل�سيح ب�أنها تعاليم توحي الذل لإ�ساءتهم فهم �أقوال امل�سيح التي منها القول« :من �ضربك على خدك فح ّول له الآخر»(لوقا ،)29 : 6 ،و«�إنه لأ�سهل �أن يدخل ٌ جمل يف ثقب الإبرة من �أن يدخل غني ملكوت ال�سموات»(متى.)24 : 19 ، وهذه العامة نف�سها ،نظراً جلهلها وما ورثته من ع�صور االنحطاط� ،أخذت ت�ؤول تعاليم الإ�سالم من غري در�س لها وتدين حممداً وامل�سلمني ببع�ض �آيات التقطتها اتفاقاً ومل حت�سن ت�أويلها، كالآيات املتعلقة ب�أزواج النبي والنكاح و�صور اجلنة املادية ،نا�سية قول امل�سيح« :ال تدينوا لكي ال تدانوا» (متى.)1: 7 ، وكذلك ن�ش�أت عند عامة امل�سلمني ال�سوريني الفاقدة الثقافة ال�صحيحة والعلم اعتقادات
املسيحية واحملمدية والقومية
23
وت�أويالت يف الدينني الإ�سالمي وامل�سيحي� ،أقل ما يقال فيها �إنها جزئية و�سطحية .هكذا �أخذت ت�ؤول �آيات القر�آن ت�أوي ًال يوافق هواها ف�أخذت ببع�ض الآيات و�أهملت البع�ض الآخر. وهذه العامة نف�سها ،نظراً جلهلها وما ورثته من ع�صور االنحطاط� ،أخذت ت�ؤول تعاليم امل�سيحية من غري در�س لها ،وتدين امل�سيح وامل�سيحيني ببع�ض �آيات التقطتها اتفاقاً ومل حت�سن ت�أويلها كالآيات املتعلقة مبلكوت ال�سموات وكيف يدخلها الإن�سان ،نا�سية قول القر�آن�{ :آمن الر�سول مبا �أنزل اليه من ربه وامل�ؤمنون كل �آمن باهلل ومالئكته وكتبه ور�سله ال نف ّرق بني �أحد من ر�سله وقالوا �سمعنا و�أطعنا غفرانك ربنا و�إليك امل�صري}(البقرة.)285 ، وق�سم كبري من عامة ال�سوريني امل�سيحيني وامل�سلمني مل يعد م�ؤمناً الإميان الديني ولكنه يت�شبث بعنعنات من التحزبات الدينية ،فهو قد فقد �إميانه الديني ومل يح�صل على ثقافة وعلم ير�سخانه يف املعرفة ويهبانه نظرة �شاملة يف احلياة ،وي�ساعدانه على فهم الدين وت�أويله على الوجه الأ�صح ،ونتج عن ذلك كله انحطاط كبري يف الإدراك والت�أويل وف�ساد يف اال�ستنتاج وت�صادم يف النف�سيات وفو�ضى يف املنازع وتخبط يف املذاهب. من هذا الباب العامي ما حب�شه ر�شيد اخلوري ليلقي على مدحه للإ�سالم وهجوه امل�سيحية �صفة البحث ،وبهذا التفكري العامي ال�ضعيف الإدراك قال �إن الناحية الدينية البحتة ال تتناول م�سائل الآخرة واجلنة والنار التي بها ،ال بغريها� ،صار الدين ديناً .ولوال م�سائل الآخرة وخلود النف�س والثواب والعقاب ملا امتاز الدين ب�شيء وملا زاد �شيئاً على التعاليم الفل�سفية ال�سامية التي قال بها فال�سفة عظام ،والتي مل ت�أخذ يف قلوب عامة الب�شر املكان الذي �أخذه الدين ب�سبب عدم ن�سبتها �إىل قوة �إلهية خفية وعدم �إ�سنادها �إىل االعتقاد بحياة �أخرى بعد املوت حتا�سب فيها الأنف�س على ما تقيدت به من التعاليم املذكورة وما مل تتقيد به .فالوجهة الدينية البحتة هي العك�س متاماً مما ذكره ر�شيد اخلوري يف حار�ضته الهجائية �أي �أنه بال الآخرة واجلنة والنار ال تبقى للدين وجهة دينية بحتة. ومن بدائع بيان هذا الناثر الهاجي �أنه ُيدخل املوا�ضيع بع�ضها يف بع�ض ،في�شو�ش ذهن القاريء الذي ال يكاد ي�شعر �أنه يتتبع فكرة حتى يرى الكاتب قد �أزاحها من �أمام عينيه،
24
�أنطون �سعادة
كما يزيح �صاحب �صندوق الفرجة �صورة «�صاحب اخل�ضراء» من �أمام عيني الطفل قبل �أن ي�ستوعب جمال �شكلها لي�ضع يف حملها �صورة «�صاحب الأبجر» .فبينما اخلوري يحاول التن�صل من تبعة �إثارة التع�صبات الدينية املريعة� ،إذا به يقطع حبل الفكر يف هذه الناحية بغتة و ُيدخل مو�ضوع الدين الإ�سالمي يف مو�ضوع «الناحية» التي يعاجلها على هذا ال�شكل: «ولكني تناولت يف الإ�سالم ناحيته الدينية البحتة و�أ�شرت �إىل عالقته باحلياة الدنيا وحتديده �سلوك الفرد حتديداً مرجعه العقل ال�سليم فهو (الإ�سالم) مل يف�صل الإن�سان عن نف�سه حتى تتقطع بينهما الأ�سباب� ،إلخ». �إن القاريء ذا املنطق ال�سليم يتوقع من «املحا�ضر» �أن يعود بعد متام جملة «العقل ال�سليم»، فيعطف على نف�سه ومربراته ويقول مث ًال« :و�إين �أجد تبيان ذلك من الأمور ال�ضرورية� ،إلخ»، معداً فكر القاريء لالنتقال �إىل مو�ضوع �آخر .ولكن �أ�صحاب اخللود ويختم هذا املو�ضوع ّ الدنكيخوطي ] [Don Quixoteال يفت�أون ي�أتون باملعجزات التي مل تخطر على قلب ب�شر، فلي�س للقاريء حيلة غري الت�سليم ل�سحر بيانهم اخلاطف الأب�صار واملحري العقول! املهوو�س باخللود م�ستعجل فاف�سحوا له املجال .ال تظنوا �أن جلميع حدود املنطق قدرة على الج يقتحم �سياجات العقل ويقفز من النوافذ �إىل املجامع كبح جماحه� .إنه �أرعنّ ، ملحٌّ ، هاج �سفيه ،من يقدر �أن يقف �أمام �شتمه و�سبابه؟ ويدخل بال ا�ستئذان� ،إنه ٍ ذهب احلديث عن نوع املو�ضوع وحتديده وجاء املو�ضوع نف�سه .وال ت�سل كيف حدثت هذه العجيبة� ،أمل ي�أتك �أن من البيان ل�سحراً ،هكذا يكون ال�سحر{ :ف�إذا برق الب�صر وخ�سف القمر وجمع ال�شم�س والقمر يقول الإن�سان ٍ يومئذ �أين املفر؟}(القيامة.)10 - 7 ، قال �صاحب احلار�ضة الهجائية من في�ض علمه« :فهو (الإ�سالم) مل يف�صل الإن�سان عن نف�سه حتى تتقطع بينهما الأ�سباب ومل يباعد بني اجل�سد والروح يف هذه احلياة ،وهما وحدة ويكمل بناء الب�شر ال�سوي بل لقد قدمه يجمل ّ ين�س العقل الذي ّ ال تتجز�أ �إال باملوت ،ومل َ النبي على �شريعته نف�سها بقوله :ال�شرع عقل من خارج والعقل �شرع من داخل ،وقوله :دين املرء عقله فمن ال عقل له ال دين له ،وقوله :ال يتم دين املرء حتى يتم عقله ،ف�شُ ِّرف الدماغ
املسيحية واحملمدية والقومية
25
الب�شري بهذه الآيات البينات �أعظم ت�شريف ...ولقد �أ�شاد بذكر العلم وف�ضل العلماء وقال يف هذا املعنى من ا ِحل َكم ما يكاد يجمع كتاباً .ونحن لو بحثنا يف الإجنيل ملا وجدنا �آية واحدة تذكر العلم بخري �أو ب�شر». هذا هو املو�ضوع وهنا بدء تف�ضيل الإ�سالم على امل�سيحية الذي قلنا �إنه كفر بالإ�سالم الذي يتظاهر ر�شيد اخلوري �أنه �آمن به .ومبا �أن اخلوري قد خلط بني الدين والطريقة العلمانية يف الكالم الذي �شاء �أن ي�سميه بحثاً ،فال بد من اقتفاء �أثره يف اعوجاجه والتوائه� ،إنه جعل هذا الكالم «بحثاً اجتماعياً فع ًال» فلنوافقه من �أجل البحث. جعل �صاحب احلار�ضة �أول تف�ضيل للإ�سالم على امل�سيحية ما ورد يف احلديث النبوي من الأقوال عن العقل وات�صاله بالدين ،و�إ�شادة النبي بذكر العلم وف�ضل العلماء ،فارتكب عدة جرائم �ضد الدين الإ�سالمي و�ضد الدين امل�سيحي و�ضد العقل الذي عرف حممد قدره فو�صفه مبا عرف .و�أول جرمية �ضد الدين الإ�سالمي �أنه ّقدم احلديث ال�شريف على القر�آن وجعل هذا تابعاً لذاك وو�ضع كالم الر�سول قبل كالم اهلل يف تبيان جوهر الإ�سالم .واجلرمية الثانية الكربى هي �أنه جعل احلديث النبوي حداً للآيات املنزلة وحكماً عليها ،ف�إذا كان حممد قد ّقدم العقل على ال�شريعة املنزلة ،كما يقول هذا املنافق الدجال ،فال�شريعة قد �أ�صبحت منقو�ضة و�أ�صبح العمل بها على جهة الت�سليم ب�أحكام اهلل وحدوده باط ًال ،و�إذا �أ�صبح العقل هو املقدم على ال�شريعة املنزلة ف�أية قيمة �إلهية بقيت لتلك ال�شريعة؟ و�أول جرمية �ضد الدينني امل�سيحي والإ�سالمي معاً هو مقابلته الإجنيل على احلديث النبوي ،والإجنيل كالم �إلهي يف عرف الدينني امل�سيحي والإ�سالمي .فمن حيث امل�سيح هو عند امل�سيحيني ابن اهلل وروحه ،كان كالمه كالم اهلل .ويف القر�آن �إنكار لكون امل�سيح هو اهلل �أو ابنه من �صاحبة وم�شاركاً له يف احلكم يوم الدينونة ولكن فيه �إثباتاً لكون كالم امل�سيح كالماً �إلهياً باعتباره منز ًال عم ًال بقوله{ :لكن الرا�سخون يف العلم منهم وامل�ؤمنون ي�ؤمنون مبا �أنزل �إليك وما �أنزل من قبلك}(الن�ساء ،)162 ،وجاء قول اهلل يف �سورة مرمي {ف�أ�شارت �إليه قالوا كيف نك ّلم من كان يف املهد �صبياً قال �إين عبد اهلل �آتاين الكتاب وجعلني نبياً .وجعلني مباركاً علي يوم ولدت ويوم �أموت �أينما كنت و�أو�صاين بال�صالة والزكاة ما دمت حياً ...وال�سالم ّ
26
�أنطون �سعادة
ويوم �أبعث حياً .ذلك عي�سى ابن مرمي قول احلق الذي فيه ميرتون}(الآيات .)34 - 29 ويف �سورة الن�ساء {و�إن من �أهل الكتاب �إال لي�ؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم �شهيداً}(الآية ،)159ويف �آل عمران {ن َّزل عليك الكتاب باحلق م�صدقاً ملا بني يديه و�أنزل التوراة والإجنيل من قبل هدى للنا�س و�أنزل الفرقان}(الآيتان � ،)4 - 3إلخ. كان ال�صحيح ،من حيث البحث� ،أن يقابل القر�آن على الإجنيل مقابلة كالم �إلهي لكالم �إلهي فال يزين للم�ؤمنني �أن يتبعوا غروره ونفاقه .بهذا يق�ضي منطق العقل ،ولكن الذي اختل منطقه وا�ضطرب �شعوره �أيعرف الدين �أو املنطق؟ بقي �أن نع ّلق على قول �صاحب احلار�ضة املتقدم تعليقاً �أو�سع يف ما يخت�ص مبا جعله �أ�سا�س املفا�ضلة� .إن و�صف حممد ال�شرع ب�أنه عقل من خارج وو�صفه العقل ب�أنه �شرع من داخل �إمنا هو �شيء من التعليل ال�شعري الذي ال يعينّ تعييناً جازماً مركز العقل الب�شري من ال�شرع. حث على عدم وقوله« :ال يتم دين املرء حتى يتم عقله» ،و«من ال عقل له ال دين له» ،هو ّ اجلهل بالدين ،وال ي�شتمل على �أية نظرة فل�سفية �شاملة يف العقل .ولو ا�شتمل على هذه النظرة ال�شاملة وجعلها حممد قاعدة دعوته لكان اكتفى ب�أن يكون فيل�سوفاً يذهب مذهب الفال�سفة ّ املحكمني العقل يف كل الظواهر ،اجلاعلينه جوهر الطبيعة وميزة الإن�سان فيكون، يف هذا الباب ،تلميذاً من تالمذة املدر�سة ال�سورية الفل�سفية التي و�ضع قواعدها الفل�سفية الفيل�سوف ال�سوري العظيم زينون وهو قبل حممد وقبل امل�سيح بزمان .ومن هذا الوجه ما كان يكون ملحمد ف�ضل� ،إذ هو مل يزد مقدار ذرة على مذهب الرواقيني يف الفكر� .إن ميزة حممد هي يف �أنه نبي ال يف �أنه فيل�سوف ،وميزة الإ�سالم هي يف القر�آن وال�شريعة الواردة فيه، جممالت النبي وح�سن نظره و�سالمة فطرته. ال يف احلديث الذي هو من ّ
اهلوامش « - 1لي�شرتوا به ثمناً قلي ًال»( ،البقرة.)79 ،
املسيحية واحملمدية والقومية
27
اجلهل املطبق ف�ض فوه ،بعد عبارته املتقدمة: لنتابع خلط �صاحب احلار�ضة .قالّ ، «فالإجنيل كتاب روحاين ُيعنى بالآخرة فح�سب وال يعلم يف هذه الدنيا غري الدرو�شة والزهد وقهر اجل�سد وحب�س العقل يف قف�ص من غباوة اال�ست�سالم ملا وراء املنظور ،وهو يقتل املواهب ويهي�ض الأجنحة ويع�صب على العيون ويربط الفطرة بال�سال�سل الثقيلة ويخنق الطموح ،فال جمد عنده �إال جمد اخل�ضوع الأعمى للتعاليم ال�سماوية كما ب�شّ ر بها هو .ال ب�أ�س يف �شريعته �أن تعي�ش عبداً رقيقاً مدى احلياة ت�سام اخل�سف والهوان واجللد بال�سياط ما دمت تعتقد �أن بعد املوت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك وا�ست�سالمك و�صربك على الظلم .ولقد ف�سح الإ�سالم ملحبي الك�سب وطالبي الرثوة جما ًال ال حد له بقوله�« :إعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً» يف حني جعلت امل�سيحية الفقر �شرطاً �أ�سا�سياً لدخول ال�سماء عم ًال بقولها للغني الذي طلب �أن يرث احلياة الأبدية« :بع كل �أمالكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني» .ولعمري يبق يف الأر�ض من لو عمل كل غني بهذه ال�شريعة لأ�صبح النا�س جميعاً مدقعني ومل َ ي�ستطيع �أن يجود على فقري بفل�س». ال ننتظر �أن يكون لر�شيد �سليم اخلوري �ضابط من جهله ،لأن ال�ضابط يكون من العلم وال ميكن مطلقاً �أن يكون من اجلهل .فهو يف الفقرة املتقدمة ي�ستمر يف غباوته ويتابع املقابلة بني امل�سيحية والإ�سالم على قاعدة �أن احلديث النبوي هو الإ�سالم و�شريعته .فقوله« :لقد ف�سح الإ�سالم ملحبي الك�سب وطالبي الرثوة جما ًال ال حد له بقوله�( ،أي بقول الإ�سالم): «�إعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً� ،إلخ» يجعل احلديث النبوي يف مقام ال�شريعة الإ�سالمية.
28
�أنطون �سعادة
وهو جهل ما بعده من جهل ،فالإ�سالم ال يقول هذا القول و�إمنا الذي يقوله هو حممد( ) ال الإ�سالم .وهنالك فرق �أ�سا�سي جوهري بني الر�سالة الإ�سالمية واحلديث النبوي ال يغفله غري اجلهال الذين يطلبون الك�سب والرثوة حتى بالتدجيل على الدين والعلم. ملا كان اخلوري قد اتخذ يف هذا الكالم �صفة باحث متجرد عن االعتقادات الدينية ،وكنا �آلينا على �أنف�سنا تتبعه يف جميع التواءاته واعوجاجاته ،ف�إننا �سنعالج هذه النقطة من وجه الدرا�سة العلمية: �إن الكالم الذي ورد على ل�سان حممد �أو قيل �إنه ورد على ل�سانه يق�سم �إىل ق�سمني :ق�سم عزاه حممد �إىل اهلل معلناً �أنه نزل عليه وحياً �إلهياً ،وق�سم مل يعزه �إىل اهلل فهو حديث منه حدث به يف �أوقات متفاوتة .فالق�سم الأول فقط هو الإ�سالم وال�شريعة الإ�سالمية وفيه ّ �أوامر اهلل ونواهيه وحدوده ،فال يحق على امل�سلم �إال ما ورد فيه .وامل�شكوك فيه من الق�سم الأول �آيات قليلة� .أما الق�سم الثاين فلي�س الإ�سالم وال ال�شريعة الإ�سالمية و�إمنا هو �أقوال حكمية ي�ستفيد امل�سلم منها يف كيفية فهم نب ّيه وفهم نظرته يف بع�ض �أحوال الدين والدنيا. �سموه وهذا الق�سم الثاين م�شكوك يف الكثري منه .ومع �أن املتقدمني عزلوا امل�شكوك الذي ّ «جمروحاً» عن «ال�صحيح» ف�إن الأبحاث امل�ستفي�ضة املت�أخرة دلت على �أن الكثري من احلديث النبوي املح�سوب �صحيحاً جمروح� ،أو غري �صحيح فلم يعد ي�صح اعتماده حتى وال يف �صفته املحدودة كحديث فاه به حممد من غري �أن يعينّ �شريعة �أو ن�صاً يجب التم�سك به. بنا ًء عليه ،ال يقول �إن احلديث النبوي هو الإ�سالم الذي يعينّ للم�سلمني طريق احلياة ،غري جاهل جه ًال مطبقاً كر�شيد اخلوري الذي ظن �أن ا�ستعارة بع�ض العبارات العلمية ال�صبغة و�إطالقها يف معر�ض التدجيل لكفيالن ب�أن ي�سويا بني اجلهل والعلم! قلنا يف املقالة ال�سابقة �إن املقابلة بني الإجنيل واحلديث النبوي هي جرمية �ضد الدينني امل�سيحي والإ�سالمي للذين يعتربون ن�صو�صهما� ،أو ن�صو�ص �أحدهما ،ف�ض ًال عن �أنها دليل قاطع على جهل �صاحب احلار�ضة �أوليات «البحث» الذي ت�صدى له تزلفاً �إىل �أتباع الدينني املذكورين ،غري عابيء بالعواقب الوخيمة التي يجرها مطلبه النفعي على �أبناء �أمة واحدة هي 1
املسيحية واحملمدية والقومية
29
جتن منه غري الويل. الآن �أحوج منها يف �أي زمن �آخر �إىل قتل روح التع�صب الديني الذي مل ِ ونقول هنا �إن اجلرمية قد كربت ب�إقامة املثل الدنيا املادية ،التي ر�أينا يف ما تقدم من هذه املقاالت الدرا�سية �أن ر�شيد اخلوري ال يعرف ُمث ًال غريها ،مقام املثل العليا التي تتجه �إليها جميع النفو�س الطالبة االنت�صار على املادية املعطلة للمزايا الإن�سانية ال�سامية .فالوا�ضح من كالم �صاحب احلار�ضة املتقدم �أن املقيا�س الذي ي�ستعمله لتف�ضيل الإ�سالم على امل�سيحية هو املقيا�س املادي ،فبينا هو ي�صف الإجنيل ب�أنه «كتاب روحاين» ،يقيم مادية الإ�سالم يف مقابلها ويجعل املادية �أ�سا�س ف�ضائل الإ�سالم كلها ،لأنه مل يتخذ غري اجلزء املادي البحت من حديث نبوي م�شهور وهذا اجلزء هو�« :إعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً». ر�أى ر�شيد اخلوري يف هذا اجلزء من �أحد �أحاديث حممد �أعظم حكمة يف الإ�سالم. فقد انطبق هذا املثل على عقليته الرازحة باملادية �أميا انطباق فقال عنه� :إنه جوهر الر�سالة الإ�سالمية التي ف�سحت به «ملحبي الك�سب وطالبي الرثوة جما ًال ال حد له» .وبنا ًء على هذه القاعدة التي وجد فيها اخلوري كل الإ�سالم وجوهر ما يف�ضل به على امل�سيحية مل يجد حرجاً يف �أن يطلب هو الك�سب والرثوة حتى با�ستباحة �إثارة التع�صب الديني و�إراقة الدماء بني امل�سيحيني وامل�سلمني من ال�سوريني. �إن �أعظم ف�ضيلة يراها ر�شيد �سليم اخلوري يف الإ�سالم هي :اتباع ال�شهوات املادية وف�سح املجال الالحمدود لها ،بد ًال من كبحها و�إحالل الف�ضائل النف�سية املف�ضلة الإن�سان على احليوان حملها. وهو ،لعجزه عن طلب املثل الروحية العليا التي يراها يف الإجنيل وال يرى خرقاً فيها مير منه �إىل ماديته احلقرية املخربة ،يقول �إن الإجنيل كتاب «يعنى بالآخرة فح�سب»� ،أي �أنه يجب ترك تعاليمه جانباً ،يف كل ما يتعلق باحلياة الب�شرية .واالنتهاء �إىل هذه النتيجة هو �شيء طبيعي .فجميع امليالني �إىل ال�شر والإجرام يبغ�ضون القوانني امل�سنونة ملحاربة الإجرام، وي�س ّبون الق�ضاة النزهاء الذين حكموا عليهم �أحكاماً عادلة قا�سية .وجميع الأوالد ال�سيئي الرتبية يف بيوتهم املعتادين على �إطالق العنان ل�شهواتهم ورغباتهم اجلاحمة يكرهون املعلم
30
�أنطون �سعادة
الذي يجتهد يف تعليمهم طريق الف�ضائل وي�سخرون من تعاليمه وي�ستهزئون بها. لن�أخذ هذا الدر�س بالرتتيب ،لئال يفوتنا �شيء من فوائده .لنعد �إىل ما نقلناه يف املقالة ال�سابقة من كالم ر�شيد اخلوري ،وهو مع ما نقلناه هنا �أ�سا�س النظريات التي يبني عليها اخلوري تف�ضيله الإ�سالم على امل�سيحية .فبعد �أن ذكر �أقوال النبي يف �ضرورة �صحة العقل للم�ؤمن قال �إن من �أهم ما ميتاز به الإ�سالم على امل�سيحية هو �أن حممداً «�أ�شاد بذكر العلم وف�ضل العلماء» ،و�أنه لي�س يف الإجنيل «�آية واحدة تذكر العلم بخري �أو ب�شر». هذه املفا�ضلة ال�سقيمة تظهر كم يجهل ر�شيد اخلوري التاريخ االجتماعي والتاريخ ال�سيا�سي للب�شرية ،ومقدار جهله ن�ش�أة امل�سيحية يف بيئتها وعوامل ن�ش�أة الإ�سالم يف بيئته .ومع �أن املقابلة بني الإجنيل واحلديث النبوي ال ت�صح من �أ�سا�سها كما ب ّينا �آنفاً فال بد لنا من تناول هذه القاعدة املتهدمة للمفا�ضلة لأنها ت�شتمل على �سف�سطة �سهلة ال�شيوع عند العامة واخلا�صة الناق�صة الثقافة لكمال �سطحيتها ولإغفالها احلقائق االجتماعية والتاريخية .فهي ،من هذه اجلهة ،تك ّون خطراً على �صحة االجتاه الفكري وعلى االرتقاء النف�سي نحو �أجمل املثل العليا. ن�ش�أت امل�سيحية يف �سورية بعد �أن كان م�ضى عهد طويل على ارتقاء ال�سوريني عن مرتبة الرببرية التي بقي عليها العرب بعامل بيئتهم الطبيعية غري القابلة للعمران والتمدن ،وبعد �أن كان م�ضى زمن طويل على �إن�شاء ال�سوريني �أعظم مدنية عرفها العامل يف التاريخ القدمي وهي املدنية التي قامت على قواعدها املدنية الع�صرية. ن�ش�أت امل�سيحية يف بالد كانت قد بلغت �أوج العلم والتمدن و�شبعت من الفتوحات يف �إفريقية و�أوروبة ،بالد مل تكن يف حاجة �إىل من يحبب �إىل �شعبها العلم ،لأنها كانت �أ�سبق الأمم �إليه ومنها تع ّلم الإغريق والرومان .فالتب�شري مبحا�سن العلم يف �أمة العلم ما كان يكون له وق ٌع غري وقع قولك للنا�س :املاء �ضروري لأنه ُيذهب العط�ش ،واخلبز ي�سد اجلوع. مل يكن امل�سيح يهودياً ،ومل يكن له «�آباء يهود» كما كان يقول �صاحب احلار�ضة هاجياً �إياه، بل كان �سورياً يتكلم ويخاطب اجلماهري بال�سريانية .وهو نف�سه رف�ض �أن يدعى «�إبن داود» كما �أراد اليهود ،فقال يف ذلك« :كيف يقولون �إن امل�سيح �إبن داود ،وداود نف�سه يقول يف كتاب
املسيحية واحملمدية والقومية
31
املزامري :قال الرب لربي اجل�س عن مييني حتى �أ�ضع �أعداءك موطئاً لقدميك .ف�إذا كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟»(لوقا .)41 : 20 ،بهذا القول قطع امل�سيح كل �سبيل لقيامه على �أ�سا�س التقاليد اليهودية القائلة �إنه يكون يهودياً من ن�سل داود ،فال ي�صح �أن يقال �إن امل�سيح كان يهودياً فهو �إبن البيئة ال�سورية. �أما الإ�سالم فقد ن�ش�أ يف العربة التي ال عمران فيها وال متدن ،والعرب مل يرتقوا عن مرتبة الرببرية ومل يعرفوا العلم ،وفنونهم مق�صورة على الغزو وال�سلب واالحتيال ونظم ال�شعر. فحدثهم حممد مبا يحتاجون �إليه .ولذلك كان حديثه يف حمله ويف ما يحتاج �إليه .فحثهم على طلب العلم ،لأنه مل يكن لهم .وهو الذي كاد ي�ضيق ذرعاً بهم فنزلت الآيتان{ :الأعراب �أ�شد كفراً ونفاقاً و�أجدر �أال يعلموا حدود ما �أنزل اهلل على ر�سوله واهلل عليم حكيم}(التوبة، { ،)97وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن �أهل املدينة مردوا على النفاق ال َت ْع َل ُمهم نحن نَ ْع َل ُمهم �سنعذبهم مرتني ثم ُير ّدون �إىل عذاب عظيم}(التوبة.)101 ، ويف الن�صو�ص الإ�سالمية اعرتاف �صريح ب�أن الر�سل ير�سلون لهداية �أقوامهم ،و�أن حممداً ر�سول �إىل العرب خا�صة بدليل قول القر�آن{ :ويقول الذين كفروا لوال �أنزل عليه �أية من ربه �إمنا �أنت منذر ولكل قوم هاد}(الرعد ،)7 ،و{�إ ّنا �أر�سلناك باحلق ب�شرياً ونذيراً و�إن من من اهلل على امل�ؤمنني �إذ بعث فيهم ر�سو ًال من �أمة �إال خال فيها نذير}(فاطر ،)24 ،و{لقد ّ �أنف�سهم يتلو عليهم �آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب واحلكمة و�إن كانوا من قبل لفي �ضالل مبني}(�آل عمران.)164 ، أمي اخت�صت بالعرب بعناية فوا�ضح من الآية الأخرية �أن ر�سالة الر�سول العربي امللقب بال ّ اهلل الذي �أر�سله هادياً لقومه كما �أر�سل غريه هادياً يف �أقوام �أخرى .وهذه الهداية ،لكي تكون جمدية ،وجب �أن تبتديء من الدرجة التي عليها القوم ال من درجة فوقها .وهذه هي الهداية ال�صحيحة .ف�إن معلم املدر�سة العامل اخلبري ال يبتديء تعليم الأحداث علم اجلرب والهند�سة واملنطق قبل �أن يكونوا �أكملوا درو�س احل�ساب واجلغرافية والأ�شياء .ولو �أن امل�سيح وحممداً تبادال الر�سالة فظهر امل�سيح يف العربة وظهر حممد يف �سورية ملا كانت ر�سالة امل�سيح ابتد�أت
32
�أنطون �سعادة
على الدرجة العالية التي ابتد�أت بها يف �سورية وملا كانت ر�سالة حممد ابتد�أت على الدرجة الأولية التي ابتد�أت بها يف ال ُعربة .لو كان حممد يف �سورية ملا وجد حاجة للكرازة ب�أهمية العلم لأن ال�سوريني كانوا ال�س ّباقني فيه و�إليهم يعود ف�ضل تعليم العرب العلم والفل�سفة كما ت�شهد بذلك التواريخ العربية عينها.
اهلوامش - 1العبارة هذه للإمام علي بن �أبي طالب.
املسيحية واحملمدية والقومية
33
الفهم املُفْ ِلق * لي�ست الر�سالة الإ�سالمية هذه الر�سالة املادية التي ي�صورها ر�شيد �سليم اخلوري ويقول �إنها �أطلقت ال�شهوات وامل�آرب املادية من كل قيد و�أزالت من �أمامها كل حد ،بل هي ر�سالة روحانية قبل كل �شيء ومتجهة يف االجتاه عينه الذي تتجه فيه امل�سيحية ولكنها ا�ضطرت، بحكم البيئة ،لأخذ ت�أخر �أو جمود الثقافة املادية يف العربة بعني االعتبار. وملا كانت الثقافة النف�سية العالية ال ميكن �أن تقوم بدون قاعدة ثابتة من الثقافة املادية، فقد ر�أت الر�سالة الإ�سالمية �أن تهتم ب�ش�ؤون الثقافة املادية لكي تهيء االنت�صار على املادة والت�سامي يف عامل الروح .ومل تكن الر�سالة امل�سيحية يف حاجة لالهتمام ب�ش�ؤون الثقافة املادية ،لأن البيئة ال�سورية كانت قد بلغت بها �أبعد �ش�أو. مل يقل حممد يف حديث له «�إعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً» فقط .وهو لو اقت�صر على هذا القول ،لكان مذهبه الفكري هو االغراق يف املادية الالحمدودة ،كما يقول اخلوري .ولكن حممداً قال�« :إعمل لدنياك ك�أنك تعي�ش �أبداً واعمل لآخرتك ك�أنك متوت غداً» ،ف�أخ�ضع بهذا القول املادية �إخ�ضاعاً كلياً للروحية .فغر�ض ال�سعي والك�سب مل يعد للبقاء يف املادة الالحمدودة ،بل �صار للو�صول �إىل امل�ستوى الروحاين الذي ذهب امل�سيح �إليه ر�أ�ساً ،لعدم حاجته �إىل �إعداد الأ�سا�س املادي لأن هذا كان موجوداً بكرثة .وكل من قر�أ كتاب الزعيم «ن�شوء الأمم» يعلم �أن امل�ستوى العمراين ال�سوري كان �أعلى م�ستوى يف التاريخ االجتماعي قبل ع�صر الآلة احلديث .وبهذا ي�شهد جمهور علماء الأقوام الب�شرية واجلغرافية االقت�صادية �أمثال ويدال دي لبال�ش [ .) (]Vidal De La Blachوال نرتك هنا التحفظ ال�سابق من 1
34
�أنطون �سعادة
جعل احلديث يف مقام الإ�سالم. �إن املادية هي �إحدى الق�ضايا التي كان ال بد للإ�سالم من مواجهتها ،ليتمكن من تقريب النف�س العربية التي جففتها ال�صحراء �إىل احلالة الروحانية التي ال ميكن �أن تن�ش�أ يف حالة مقيدة للنف�س .اجلائع يجب �أن ي�أكل لي�صبح قادراً على التفكري يف �ش�ؤون �أخرى .والذي مل يتمكن من �سد جوعه املادي ـ الفيزيائي ال ي�شعر باجلوع الروحي ،والنف�سية املثالية ترتقي بن�سبة ت�أمني مقومات احلياة� ،إذا كانت النف�س م�ؤهلة لالرتقاء� .أما امل�سيحية فلم تكن يف حاجة �إىل النظر يف احلاجات املادية ،لأن �سورية كانت بالداً يفي�ض الغنى فيها في�ضاً� .أنظر ما جاء يف نبوءة زكريا من التوراة« :وقد بنت �صور ح�صناً لنف�سها وك ّومت الف�ضة كالرتاب والذهب كطني الأ�سواق»(زكريا .)3 :9 ،فالبالد التي كان الذهب والف�ضة فيها بكرثة الرتاب مل تكن يف حاجة ملن يهديها �إىل الك�سب. وال �شك يف �أن الر�سالة امل�سيحية والإ�سالمية واحدة ،وقد جاء حممد م�صدقاً للر�سالة امل�سيحية بكالم �إلهي مثبت يف القر�آن ولي�س مبجرد حديث نبوي .ولو �أن حممداً جاء قبل وعد ر�سالته مكملة لها من احلد الذي وقفت �صدق الر�سالة الإ�سالمية ّ امل�سيح لكان امل�سيح ّ عدها مكملة للر�سالة املو�سوية من عند احلد الذي وقفت عنده وهو احلد الذي عنده ،كما ّ يلتقي معه حد الإ�سالم يف الت�شريع والق�ضاء والعناية بالعالقات االجتماعية من الدرجة الثقافية التي عليها اجلماعة التي ظهرت فيها كل من الر�سالتني املذكورتني. ولقد كان التب�شري واالنذار بعبادة اهلل وترك عبادة الأ�صنام جوهر الروحانية الإ�سالمية كما كانا جوهر الروحانية املو�سوية .ف�صفة حممد يف القر�آن هي �صفة «الب�شري النذير» .وتلتقي الر�سالتان املو�سوية واملحمدية يف الب�شارة واالنذار والت�شريع .والآيات املت�شابهة مبنى ومعنى من التوراة والقر�آن كثرية نقت�صر على �أمثلة قليلة منها« :فهو ذا ي�أتي اليوم امل ّتقد كالتنور وكل امل�ستكربين وكل فاعلي ال�شر يكونون ق�شاً ويحرقهم اليوم الآتي قال رب اجلنود فال ُيبقي لهم �أ�ص ًال وال فرعاً»(مالخي�{ .)1 :4 ،إن ال�ساعة لآتية ال ريب فيها ولكن �أكرث النا�س ال ي�ؤمنون .وقال ربكم ادعوين �أ�ستجب لكم �إن الذين ي�ستكربون عن عبادتي �سيدخلون جهنم داخرين}(غافر« .)60 - 59 ،اذكروا �شريعة مو�سى عبدي الذي �أمرته بها يف حوريب على
املسيحية واحملمدية والقومية
35
كل �إ�سرائيل الفرائ�ض والأحكام»(مالخي{ .)4 :4 ،تلك حدود اهلل ومن يطع اهلل ور�سوله يدخله جنات جتري من حتتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم}(الن�ساء.)13 ، «و�أقرتب �إليكم للحكم و�أكون �شاهداً �سريعاً على ال�سحرة وعلى الفا�سقني وعلى احلالفني زوراً وعلى ال�سالبني �أجرة الأجري :الأرملة واليتيم ومن ي�صد الغريب وال يخ�شاين قال رب اجلنود»(مالخي�{ .)5 :3 ،إن الذين ي�أكلون �أموال اليتامى ظلماً �إمنا ي�أكلون يف بطونهم ناراً و�سي�صلون �سعرياً}(الن�ساء« .)10 ،هكذا قال رب اجلنود قائ ًال اق�ضوا ق�ضاء احلق واعملوا �إح�ساناً ورحم ًة كل �إن�سان مع �أخيه .وال تظلموا الأرملة وال اليتيم وال الغريب وال الفقري وال يفكر �أحد منكم �شراً على �أخيه يف قلبكم»(زكريا{ .)11 - 9 :7 ،ي�س�ألونك ماذا ينفقون قل ما �أنفقتم من خري فللوالدين والأقربني واليتامى وامل�ساكني وابن ال�سبيل وما تفعلوا من خري ف�إن اهلل به عليم}(البقرة{ .)215 ،وال ي�أ َت ِل �أولو الف�ضل منكم وال�سعة �أن ي�ؤتوا �أويل القربى وامل�ساكني واملهاجرين يف �سبيل اهلل وليعفوا ولي�صفحوا �أال حتبون �أن يغفر اهلل لكم واهلل غفور رحيم}(النور.)22 ، ومن يقر�أ �سفر تثنية الإ�شرتاع يف التوراة ،وفيه حدود اهلل يف املعامالت والعقود ،و�سورتي البقرة والن�ساء وال يجد بينها عالقة وثيقة يف الت�شريع والق�ضاء والأحكام؟ واحلقيقة �أنها مت�شابهة �إىل حد بعيد جداً .و�إليك �شيئاً من هذه املوازاة ال�شرعية بني التوراة والقر�آن: «ملعون من ي�ضطجع مع امر�أة �أبيه لأنه يك�شف ذيل �أبيه»(تثنية{ .)20 :27 ،وال تنكحوا ما نكح �آبا�ؤكم من الن�ساء �إال ما قد �سلف �إنه كان فاح�شة ومقتاً و�ساء �سبي ًال}(الن�ساء، « .)22و�إذا ا�ضطجع رجل مع امر�أة �أبيه فقد ك�شف عورة �أبيه� .إنهما يقتالن كالهمان. دمهما عليهما .و�إذا ا�ضطجع رجل مع كنته ف�إنهما يقتالن كالهما .قد فعال فاح�شة .دمهما عليهما»(الويني« .)12 - 11 :20 ،و�إذا اتخذ رجل امر�أة و�أمها فذلك رذيلة .بالنار يحرقونه و�إياهما لكي ال يكون رذيلة بينكم»(الويني« .)14 :20 ،و�إذا �أخذ رجل �أخته بنت �أبيه �أو بنت �أمه ور�أى عورتها ور�أت هي عورته فذلك عار يقطعان �أمام �أعني بني �شعبهما .قد ك�شف عورة �أخته .يحمل ذنبه .و�إذا ا�ضطجع رجل مع امر�أة طامث وك�شف عورتها عرى ينبوعها وك�شفت هي ينبوع دمها يقطعان كالهما من �شعبهما .عورة �أخت �أمك �أو �أخت
36
�أنطون �سعادة
�أبيك ال تك�شف� .إنه قد عرى قريبته .يحمالن ذنبهما .و�إذا ا�ضطجع رجل مع امر�أة عمه فقد ك�شف عورة عمه .يحمالن ذنبهما .ميوتان عقيمني .و�إذا �أخذ رجل �إمر�أة �أخيه فذلك جنا�سة .قد ك�شف عورة �أخيه .يكونان عقيمني»(الويني{ .)20 - 17 :20 ،حرمت عليكم �أمهاتكم وبناتكم و�أخواتكم وعماتكم وخاالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت و�أمهاتكم الالتي �أر�ضعنكم و�أخواتكم من الر�ضاعة و�أمهات ن�سائكم وربائبكم الالئي يف حجوركم من ن�سائكم الالئي دخلتم بهن ف�إن مل تكونوا دخلتم بهن فال جناح عليكم وحالئل �أبنائكم الذين من �أ�صالبكم و�أن جتمعوا بني الأختني �إال ما قد �سلف �إن اهلل كان غفوراً رحيماً} (الن�ساء« .)23 ،ال يقرتب �إن�سان �إىل قريب ج�سده ليك�شف العورة� .أنا الرب .عورة �أبيك وعورة �أمك ال تك�شف� .إنها �أمك ال تك�شف عورتها ،عورة امر�أة �أبيك ال تك�شف� .إنها عورة �أبيك .عورة �أختك بنت �أبيك �أو بنت �أمك املولودة يف البيت �أو املولودة خارجاً ال تك�شف عورتها .عورة ابنة ابنك �أو ابنة بنتك ال تك�شف عورتها� .إنها عورتك .عورة بنت امر�أة �أبيك املولودة من �أبيك ال تك�شف عورتها� .إنها �أختك .عورة �أخت �أبيك ال تك�شف. �إنها قريبة �أبيك .عورة �أخت �أمك ال تك�شف� .إنها قريبة �أمك .عورة �أخي �أبيك ال تك�شف. �إىل امر�أته ال تقرتب� .إنها عمتك .عورة كنتك ال تك�شف� .إنها امر�أة ابنك .ال تك�شف عورتها .عورة امر�أة �أخيك ال تك�شف� .إنها عورة �أخيك .عورة امر�أة وبنتها ال تك�شف. وال ت�أخذ ابنة ابنها �أو ابنة بنتها لتك�شف عورتها� .إنهما قريبتاها� .إنه رذيلة .وال ت�أخذ امر�أة على �أختها لل�ضر لتك�شف عورتها معها يف حياتها .وال تقرتب �إىل امر�أة يف جنا�سة طمثها لتك�شف عورتها .وال جتعل مع امر�أة �صاحبك م�ضجعك لزرع فتتنج�س بها»(الويني:18 ، .)20 - 6ومن مقابلة هذه الآيات يف التوراة والقر�آن جند مو�ضوع الت�شريع واحداً واحلدود واحدة ،فل َرن �أمثلة �أخرى: «و�إذا باع رجل ابنته �أَ َم ًة ال تخرج كما يخرج العبيد� .إن قبحت يف عيني �سيدها الذي خطبها لنف�سه يدعها تفك .ولي�س له �سلطان �أن يبيعها لقوم �أجانب لغدره بها»(خروج.)8 - 7 :21 ، {واملح َ�صنات من الن�ساء �إال ما ملكت �أميانكم كتاب اهلل عليكم و�أُ ِح َّل لكم ما وراء ذلكم �أن ْ حم ِ�صنني غري م�سافحني فما ا�ستمتعتم به منهن ف�آتوهن �أجورهن فري�ضة وال تبتغوا ب�أموالكم ْ
املسيحية واحملمدية والقومية
37
جناح عليكم فيما ترا�ضيتم به من بعد الفري�ضة �إن اهلل كان عليماً حكيماً}(الن�ساء.)24 ، «�إن اتخذ لنف�سه �أخرى ال ينق�ص طعامها وك�سوتها ومعا�شرتها» (خروج{.)10 :21 ،و�إن خفتم �أال ُت ِ ق�سطوا يف اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من الن�ساء مثنى وثالث و ُرباع ف�إن خفتم �أال تعدلوا فواحدة �أو ما ملكت �أميانكم ذلك �أدنى �أال َت ُعولوا}(الن�ساء.)3 ، «�إذا �أخذ رجل امر�أة وتزوج بها ف�إن مل جتد نعمة يف عينيه لأنه وجد فيها عيب �شيء وكتب لها كتاب طالق ودفعه �إىل يدها و�أطلقها من بيته ،ومتى خرجت من بيته ذهبت و�صارت لرجل �آخر ف�إن �أبغ�ضها الرجل الأخري وكتب لها كتاب طالق ودفعه �إىل يدها و�أطلقها من بيته� ،أو �إذا مات الرجل الأخري الذي اتخذها له زوجة ال يقدر زوجها الأول الذي طلقها �أن يعود ي�أخذها لت�صري له زوجة بعد �أن تنج�ست ،لأن ذلك رج�س لدى الرب»(تثنية:24 ، { .)4 - 1ف�إن طلقها فال حتل له من بعد حتى تنكح زوجاً غريه ف�إن طلقها فال جناح عليهما �أن يرتاجعا �إن ظنا �أن يقيما حدود اهلل وتلك حدود اهلل يبينها لقوم يعلمون}(البقرة.)230 ، واحلكم يف القر�آن هو العك�س متاماً ملا يف التوراة ،ولكن مق�صد ال�شارع واحد وهو تقييد الطالق .وهكذا ف�سر مف�سرو الإ�سالم حكم هذه الآية. وورد يف القر�آن يف ما يخت�ص بالطمث الوارد عنه يف التوراة ،وهو مثبت فوق ،هذه الآية: {وي�س�ألونك عن املحي�ض قل هو �أذى فاعتزلوا الن�ساء يف املحي�ض وال تقربوهن حتى يطهرن ف�إذا تطهرن ف�أتوهن من حيث �أمركم اهلل �إن اهلل يحب التوابني ويحب املتطهرين}(البقرة، .)222 ووردت �أي�ضاً م�شابهات �أحكام الزنى والربا وال�سرقة وما �شاكل من قوانني اجلزاء. وال نطيل ال�شرح يف �أن هذه الآيات الت�شريعية مت�ساوية يف الأ�سا�س مت�شابهة يف ال�شكل فيما يخت�ص باحلالة ال�شرعية للأزواج والإماء ،وفيما يخت�ص باملحلالت واملحرمات يف امل�أكل. ون�ضيف �إىل هذا االتفاق بني الدينني يف الأحوال املدنية ،ال�شخ�صية ،االتفاق يف �ش�ؤون الدولة الدينية: «من و�سط �أخوتك جتعل عليك ملكاً .ال يحل لك �أن جتعل عليك رج ًال �أجنبياً لي�س هو
38
�أنطون �سعادة
�أخاك (�أي �أخاك يف ملتك)» ،وهذه الو�صية من �سفر التثنية الإ�صحاح .15 :17ويقابلها يف القر�آن{ :الذين يتخذون الكافرين �أولياء من دون امل�ؤمنني �أيبتغون عندهم العزة ف�إن العزة هلل جميعاً}(الن�ساء{ ،)139 ،يا �أيها الذين �آمنوا ال تتخذوا الكافرين �أولياء من دون امل�ؤمنني �أتريدون �أن جتعلوا هلل عليكم �سلطاناً مبيناً}(الن�ساء.)144 ، يف هذا القدر كفاية لإثبات اتفاق الدينني املو�سوي واملحمدي يف �أ�سا�س ت�شريعي واحد، و�سي�أتي تبيان �أ�سباب هذه االتفاقات وامل�شابهات يف ما يلي من هذا البحث.
اهلوامش * �أفلق ال�شاعر� :أتى بالفلق �أي الأمر العجيب ،فهو مفلق. - 1عامل جغرايف فرن�سي ( ،)1918 - 1845يعترب م�ؤ�س�س املدر�سة الفرن�سية احلديثة يف علم اجلغرافية ال�سيا�سية.
املسيحية واحملمدية والقومية
39
للجهال ما مل يُ َ عط ّ وجدنا ،من مقابلة �أحكام القر�آن وحدوده على �أحكام التوراة وحدودها� ،أن ن�صو�ص ال�شريعتني املو�سوية واملحمدية واحدة مع فوارق �شكلية قليلة ال تغيرّ �شيئاً من وحدة الأ�سا�س .فاهلل قد �أوحى �إىل حممد ،يف القر�آن ،ال�شريعة عينها التي �أوحاها �إىل مو�سى وجميع النبيني الذين تقدموا حممداً ،كما هو مثبت يف القر�آن .واهلل قد �أوحى �إىل حممد �آيات م�سيحية �أي�ضاً ولكن ال�شعب الذي �أر�سل �إليه حممد مل يكن من االدراك والثقافة بحيث مييل �إىل الأخذ بالتعاليم العليا ،وكانت حاجته ما�سة �إىل الأ�سا�س القانوين الذي يجمع بني قبائله املت�شعثة وي�ضمن العالقات ويحدد طرق املعاملة ،فال تكون معلقة على تعاليم الفل�سفة املناقبية التي ع ّلمها امل�سيح وجعلها تاجاً لل�شريعة وحكماً عليها ،وكانت االنت�صار الأول للثقافة النف�سية على حدود ال�شرع اجلامدة .فانت�صار العقل على ال�شرع حدث �أو ًال بظهور التعاليم امل�سيحية، و�أعظم �أ�سباب نقمة اليهود على امل�سيح هو كونه خرج على ن�صو�ص ال�شرع ،وقال بت�أويل ال�شرع ملا يفيد احلياة ويح�سنها ،بد ًال من التقيد بالن�صو�ص ،كما هو احلال يف القر�آن والتوراة .امل�سيح هو الذي قال« :ال حتكموا بح�سب الظاهر لكن احكموا حكماً عاد ًال»(يوحنا .)24 :7 ،وهو قال هذا القول لأن اليهود نقموا عليه لإبرائه �إن�ساناً يوم ال�سبت املحرم العمل فيه عند اليهود ح�سب �شريعة مو�سى ،وكان قد قال قبل هذه الآية�« :إن مو�سى �أعطاكم اخلتان ال �أنه من مو�سى بل من الآباء فتختنون الإن�سان يف ال�سبت .ف�إن كان الإن�سان يخنت يف ال�سبت لئال تنتق�ض �شريعة علي لأين �أبر�أت الإن�سان كله يف ال�سبت»(يوحنا .)23 - 22 :7 ،وكان مو�سى �أفت�سخطون َّ اليهود يعرت�ضون لي�س فقط على �إبراء الرجل يف ال�سبت ،بل �أي�ضاً على حمل الرجل �سريره بعد
40
�أنطون �سعادة
�شفائه ،لأنه مل يكن يجوز يف �شريعة مو�سى �أن ُيعمل �شيء يوم ال�سبت. وكان الكتبة والفري�سيون يجادلون امل�سيح دائماً ويحاولون �أن ي�أخذوه بجريرة خمالفة ال�شريعة. والإجنيل م�شحون بهذه املحاوالت .و�أهم حماولة كانت هذه« :وم�ضى ي�سوع �إىل جبل وقدم الكتبة الزيتون .ثم رجع باكراً �إىل الهيكل ف�أقبل �إليه ال�شعب كلهم فجل�س يعلمهمّ . والفري�سيون �إىل ي�سوع امر�أة �أخذت يف زنى و�أقاموها يف الو�سط .وقالوا :يا معلم �إن هذه املر�أة قد �أخذت يف الزنى .وقد �أو�صى مو�سى يف النامو�س (ال�شريعة) �أن ترجم مثل هذه فماذا تقول �أنت؟ و�إمنا قالوا هذا جتريباً له ليجدوا ما ي�شكونه به� .أما ي�سوع ف�أكب يخط ب�إ�صبعه على الأر�ض .وملا ا�ستمروا ي�س�ألونه انت�صب وقال لهم« :من كان منكم بال خطيئة فليبد�أ ويرمها بحجر» .ثم �أكب �أي�ضاً يخط على الأر�ض� .أما �أولئك فلما �سمعوا طفقوا يخرجون واحداً فواحداً وكان ال�شيوخ �أول اخلارجني وبقي ي�سوع وحده واملر�أة قائمة يف الو�سط .فانت�صب ي�سوع وقال لها« :يا امر�أة �أين الذين ي�شكونك؟ �أما حكم عليك �أحد؟» قالت« :ال يا رب» فقال ي�سوع« :وال �أنا �أحكم عليك اذهبي وال تعودي تخطئني»(يوحنا.)11 - 1 :8 ، يف هذا املثل يظهر ال�صراع بني العقل وال�شرع ب�أجلى مظاهره .ال�شرع وا�ضح ال �شك فيه: الزانية ترجم يف التوراة ويف القر�آن جتلد كما جاء يف الآية{ :الزانية والزاين فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة وال ت�أخذكم بهما ر�أفة يف دين اهلل �إن كنتم ت�ؤمنون باهلل واليوم الآخر ولي�شهد عذابهما طائفة من امل�ؤمنني}(النور ، )2 ،فلم يقت�صر امل�سيح على قوله املطلق «ال حتكموا بح�سب الظاهر لكن احكموا حكماً عاد ًال» ،بل وقف وحمل م�س�ؤولية كالمه .ومل ي�ضع �شريعة جديدة حتل حمل ال�شريعة ال�سابقة يف �أمر الزنى ،بل ع ّلم بتحكيم العقل ليكون احلكم عاد ًال و�إن خالف ن�ص ال�شريعة .وهو ما مل يجر مثله يف القر�آن �أو احلديث وذلك ملا بيناه �آنفاً من �أن حممداً �أر�سل �إىل قوم كانوا م�ضطرين �إىل ما كان م�ضطراً �إليه العربانيون: �شريعة توجد لهم نظاماً يو�ضح لهم املعامالت واحلدود واجلزاء ،بد ًال من عادات الث�أر والغزو وا�ستبداد القوي التي ال تقيم نظاماً .ولذلك ن�ش�أ هذا التوافق الكلي بني ال�شريعة املحمدية وال�شريعة املو�سوية يف ال�شرع حتى يف اجلزاء ونوعه ،كما يف الآية{ :يا �أيها الذين �آمنوا كتب عليكم الق�صا�ص يف القتلى ا ُحل ّر با ُحل ّر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى(}..البقرة،)178 ،
املسيحية واحملمدية والقومية
41
وفيها جوهر اجلزاء املذكور يف �شريعة مو�سى. وهذا ي�ؤيد كون حممد �أُر�سل ليهدي بيئة مل تكن لها �شريعة من قبل ،و�إال ملا وجد الوحي حاجة لتكرار ما ورد يف التوراة وجاء حممد م�صدقاً له .و�إذا كان قد بقي يف ذهن �أحد �شيء من ال�شك يف ما نقوله حتى بعد ما �أوردناه من الآيات القر�آنية ،ف�إننا ن�ؤيده ب�آيات �أخرى كهذه الآيات{ :وكذلك �أوحينا �إليك قر�آناً عربياً لتنذر �أ ّم القرى ومن حولها وتنذر يوم اجلمع ال ريب فيه فريق يف اجلنة وفريق يف ال�سعري}(ال�شورى .)7 ،وهذه الآية هامة جداً ،لأنها مكية، �أي من الآيات التي مل يكن قد دخل فيها العامل ال�سيا�سي الذي نلحظه يف الآيات املدنية: {فكيف �إذا جئنا من كل �أمة ب�شهيد وجئنا بك على ه�ؤالء �شهيداً}(الن�ساء{ ،)41 ،ولقد بعثنا يف كل �أمة ر�سو ًال}(النحل.)36 ، وقد �أثبتنا يف احللقة الثالثة (الرابعة ع�شرة يف الرتتيب اال�صلي) من هذه ال�سل�سلة �شيئاً من و�صف القر�آن لبيئة حممد .ولعل هذه الآية تعطي و�صفاً �أدق لتلك البيئة{ :قالت الأعراب �آم ّنا قل مل ت�ؤمنوا ولكن قولوا �أ�سلمنا وملّا يدخل الإميان يف قلوبكم و�إن تطيعوا اهلل ور�سوله ال َي ِل ْت ُكم من �أعمالكم �شيئاً �إن اهلل غفور رحيم}(احلجرات.)14 ، هذه البيئة العريقة يف البداوة مل تكن م�ؤهلة لإدراك الإميان الروحي وفهم تعاليم الفل�سفة املناقبية� ،إنها بيئة ال تزال دون مرتبة هذه الفل�سفة مبراتب .ولذلك �أخذت ال�سور املدنية وجهة �أقرب �إىل البيئة وعقليتها من وجهة ال�سور املكية .ولذلك كان ظهور روحانية الر�سالة الإ�سالمية خارج العربة يف �سورية وفار�س والأندل�س� .أما �أهل ال ُعربة فظلوا حتت حكم الآية املذكورة �أخرياً �إىل اليوم� ،أي �أنهم �أ�سلموا لكن الإميان احلقيقي ملّا يدخل قلوبهم .وهذه احلالة التي ي�شجبها القر�آن هي التي ميدحها �صاحب احلار�ضة الهجائية الذي مل يفهم من الإ�سالم �إال بقدر ما فهمته الأعراب ،ومل يعرف �شيئاً �صحيحاً عن امل�سيحية �أو عن الإ�سالم ،وكان �أحوج النا�س �إىل �سماع حما�ضرات يف هذين الدينني ون�ش�أتهما وطبيعة كل منهما ،ولذلك قال عن الإ�سالم الذي و�ضع �شرعاً ي�سمونه يف علم احلقوق وال�سيا�سة «جامداً � » Rigidoإنه و�ضع القواعد الروحية ـ الفكرية للتغلب على ال�شرع ،وقال عن امل�سيحية التي ع ّلمت تعاليم فل�سفية مناقبية لت�أويل ال�شرع على ما يوافق الأف�ضل للحياة اجليدة ح�سب حكم العقل �إنها
42
�أنطون �سعادة
دين «يقتل املواهب ويهي�ض الأجنحة ويع�صب على العيون� ،إلخ». بعد الذي ب ّيناه يف ما تقدم من هذه احللقة نعود �إىل نقطة هامة جداً وعدنا ،يف احللقة ال�سابقة� ،أن نعاجلها يف هذه احللقة وهي� :أ�سباب االتفاقات وامل�شابهات بني الر�سالتني املو�سوية واملحمدية اللتني لهما �أ�سا�س واحد هو ال�شرع الذي ر�أينا �أن �أحكامه واحدة يف التوراة والقر�آن. �أملعنا يف ما تقدم من هذا البحث ،خ�صو�صاً يف احللقتني الأخريتني� ،إىل �أن الر�سالة الإ�سالمية هي �أي�ضاً ر�سالة روحية تتجه يف اجتاه الر�سالة امل�سيحية عينه ،ولكنها ا�ضطرت لأخذ الأ�سا�س املادي بعني االعتبار وتقدميه يف املعاجلة على البناء الروحي. واحلقيقة �أن الر�سالة القر�آنية تق�سم �إىل ق�سمني :الق�سم الأول وهو املكي ال�سابق للهجرة وفيه الآيات املكية املتجهة اجتاهاً روحياً ،على قدر ما ت�سمح به عقلية البيئة املحدودة العلوم واملعارف واالختبارات والأفكار والت�صورات .والق�سم الثاين هو املدين امل�شتمل على الآيات املدنية واجتاهه نحو �ش�ؤون �أوليات االجتماع و�ضروريات بداءة �إن�شاء نظام اجتماعي عام ي�شمل جميع العرب ،ويحل حمل العادات والعرف املقت�صرة على القبائل وعلى حاالت قليلة تقوم عليها ال�صالت بني القبائل التي كانت كل قبيلة منها ك�أنها �أمة ودولة قائمة بنف�سها ،ال يجمع بينها غري عادة �أو فري�ضة احلج �إىل الكعبة واال�صطالح على ترك الغزو والث�أر يف �شهر معني من ال�سنة. ويف هذا الق�سم يظهر عامالن رئي�سيان هما :الت�شريع وال�سيا�سة� .أما الت�شريع فلإقامة نظام عام يلغي خ�صو�صيات القبائل ويوحد العرب .و�أما ال�سيا�سة فلجعل جناح الر�سالة ونظامها ممكناً .وهذا العامل الأخري يظهر يف �أمر اجلهاد الذي يغري العرب بالغزو وال�سلب ،وقد ظهر ت�أثري هذه الناحية يف يوم بدر ويوم �أُ ُحد ،ويف ت�شويق العرب ب�صور اجلنة املادية ويف الت�ساهل يف �ش�ؤون حياتهم ،خ�صو�صاً يف الن�ساء وتعدد الزوجات ،مراعاة ل�شهوات ال�صحراء احلادة والقت�صار �ش�ؤون حياة العرب على الغزو وال�سبي وال�سلب ،ووقوف حياتهم الفنية والروحية على الفر�س والرمح واملر�أة .واملر�أة �أو �أنوثتها كانت �أقوى عامل يف نف�سية العربي ولذلك �إعترب القر�آن هذه الناحية مع ناحية ال�صور املادية للجنة حتى يف الآيات املكية كما يف
املسيحية واحملمدية والقومية
43
قوله{ :الذين �آمنوا ب�آياتنا وكانوا م�سلمني ادخلوا اجلنة �أنتم و�أزواجكم تحُبرَ ون يطاف عليهم ب�صحاف من ذهب و�أكواب وفيها ما ت�شتهيه الأنف�س وتلذ الأعني و�أنتم فيها خالدون وتلك اجلنة التي �أورثتموها مبا كنتم تعملون لكم فيها فاكهة كثرية منها ت�أكلون} (�سورة الزخرف املكية ،الآيات ،)73 - 69وقوله�{ :إن املتقني يف مقام �أمني يف جنات وعيون يلب�سون من �سند�س وا�ستربق متقابلني كذلك وز ّوجناهم بحور عني يدعون فيها بكل فاكهة �آمنني ال يذوقون فيها املوت �إال املوتة الأوىل ووقاهم عذاب اجلحيم} (�سورة الدخان املك ّية ،الآيات .)56 - 51 الت�شريع يف ال�سور املدنية مع العامل النف�سي ـ ال�سيا�سي الذي ازداد قوة يف هذه ال�سور هما اللذان �أعطيا الإ�سالم �أعظم فاعليته .ي�ضاف �إىل ذلك كون النبي عربياً يخاطب جماعته ر�أ�ساً{ :لقد جاءكم ر�سول من �أنف�سكم عزيز عليه ما َع ِن ُّتم حري�ص عليكم بامل�ؤمنني ر�ؤوف رحيم}(التوبة ، )128 ،وبلغتهم{ :كتاب ف�صلت �آياته قر�آناً عربياً لقوم يعلمون}(ف�صلت، ،)3وكون الر�سالة �إلهية �أقوى يف النفو�س على الأ�صنام. وملا كان هذان العامالن :الت�شريع وال�سيا�سة النف�سية والعملية هما الأ�شد ت�أثرياً والأعظم �ش�أناً يف النف�سية العربية العامة فقد ُقدمت الآيات املدنية ،حني جمع القر�آن ،على الآيات املك ّية �إال �سورة الفاحتة وهي �آيات قليلة .وال�سبب هو �أن ال�سور املدنية ت�شتمل على �أ�صول املعامالت وقوانني العقود ،وهي املمتازة باحلث والتحري�ض على اجلهاد وحماربة الكفار وزينة اجلنة. وقد �أثبتت التواريخ العربية ل�سري احلركة الإ�سالمية وفتوحاتها �شدة ت�أثري هذين العاملني يف النفو�س وعظم فاعليتهما .من ذلك ما ورد يف «فتوح ال�شام» للواقدي ،وروايته �أنه ملا عزم اخلليفة �أبو بكر على فتح �سورية بد�أ يوجه �إليها اجليو�ش وكان �أول من عقد له يزيد بن �أبي �سفيان على �ألف فار�س وربيعة بن عامر على �ألف فار�س .ف�أخذ يزيد ،وكان مقدماً على ربيعة ،يجد يف ال�سري وال يرحم اجلي�ش ،فخاطبه ربيعة يف ذلك فقال�« :إن �أبا بكر ر�ضي اهلل عنه �سيعقد العقود وير�سل اجليو�ش ف�أردت �أن �أ�سبق النا�س �إىل ال�شام فلعلنا �أن نفتح فتحاً قبل تالحق النا�س بنا فيجتمع بذلك ثالث خ�صال :ر�ضاء اهلل ع َّز َّ وجل ،ور�ضاء خليفتنا،
44
�أنطون �سعادة
وغنيمة ن�أخذها»( ) .ويف خرب نزال خالد بن الوليد لكلو�س يف حرب دم�شق �أن خالداً �أجاب منازله« :و�أما ما ذكرت من بالدنا و�أنها بالد قحط وجوع فالأمر كذلك �إال �أن اهلل تعاىل �أبدلنا ما هو خري منه ف�أبدلنا بدل الذرة احلنطة والفواكه وال�سمن والع�سل»( ) ،وهو ما وجدوه يف ال�شام .ويف جواب خالد بن الوليد لوردان يف واقعة دم�شق�« :إن اهلل ع َّز َّ وجل �أغنانا عن �صدقاتكم و�أموالكم وجعل �أموالكم نتقا�سمها بيننا و� ّ أحل لنا ن�ساءكم و�أوالدكم»( ) .وملا بلغت �أخبار انت�صارات امل�سلمني الأوىل يف �سورية �إىل مكة حترك �أكابرها و�أقبلوا على �أبي بكر، () ويف طليعتهم �أبو �سفيان والغيداق بن وائل ،ي�ست�أذونه يف اخلروج �إىل �سورية .روى الواقدي « :ف ََك ِر َه عمر بن اخلطاب خروجهم �إىل ال�شام وقال لأبي بكر :ال ت�أذن للقوم «ف�إن يف قلوبهم حقائد و�ضغائن واحلمد هلل الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي ال�سفلى وهم على كفرهم و�أرادوا �أن يطفئوا نور اهلل ب�أفواههم وي�أبى اهلل �إال �أن يتم نوره ونحن مع ذلك نقول لي�س مع اهلل غالب .فلما [�سمعوا] �أن اهلل �أع ّز ديننا ون�صر �شريعتنا �أ�سلموا خوفاً من ال�سيف فلما �سمعوا �أن جند اهلل قد ن�صروا على الروم �أتونا لنبعث بهم �إىل الأعداء ليقا�سموا ال�سابقني الأولني» ،ف�سمع �أبو بكر كالم عمر بن اخلطاب و�أدرك �أهل مكة ال�سبب فاجتمعوا �إىل �أبي بكر وتظاهروا �أمامه ب�صدق �إ�سالمهم فر�ضي عليهم �أبو بكر» .هذه �أمثلة من �أمر ت�أثري اجلهاد وما يجلبه من الغنائم. �أما �أمر اجلنة ونعيمها املادي وزينتها فقد روى الواقدي( ) �أن رافع بن عمرية الطائي� ،أحد حدث عن حزنه على موت يون�س (�أحد الدم�شقيني وقع يف الأ�سر قبل فتح �أبطال امل�سلمنيّ ، دم�شق و�أ�سلم)( ) يف احلرب قائ ًال« :فحزنت عليه و�أكرثت من الرتحم عليه فر�أيته يف النوم وعليه حلل تلمع ويف رجليه نعالن من الذهب وهو يجول يف رو�ضة خ�ضراء فقلت له« :ماذا فعل اهلل بك؟» قال« :غفر يل و�أعطاين بد ًال من زوجتي �سبعني حوراء لو بدت واحدة منهن يف الدنيا لكف �ضوء وجهها نور ال�شم�س والقمر فجزيتم يف اهلل خرياً» ،فق�ص�صت الر�ؤيا على خالد (بن الوليد) فقال« :لي�س يل واهلل �سوى ال�شهادة طوبى ملن رزقها». نقف عند هذا احلد يف هذه احللقة ونتابع املو�ضوع يف احللقة التالية. 1
2
3
4
5
6
املسيحية واحملمدية والقومية
45
اهلوامش - 1حممد بن عمر الواقدي« ،فتوح ال�شام» .طبعة م�صر �سنة 1935امل�صورة عن طبعة كلكتا -الهند �سنة .1853 - 2امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .19 - 3امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .37 - 4امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .39 - 5امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .53 - 6جاء يف مقدمة حلقة «ومل يتمكن منه املنافقون» الآتية ما يلي« :ت�صحيح: ذكرنا يف املقالة ال�سابقة �أن يون�س الذي حزن عليه رافع بن عمرية ور�آه يف نومه يف اجلنة هو �أحد الدم�شقيني وقع يف الأ�سر قبل فتح املدينة و�أ�سلم .وال�صحيح �أن يون�س الذي ر�آه رافع يف نومه هو يون�س الق�سي�س الذي نقب داره املال�صقة ل�سور دم�شق وخان املدينة و�سلمها خلالد بن الوليد م�سه ًال له ان يدعي �أنه فتح املدينة عنوة واقتداراً .فاقت�ضى التنبيه .وهو يون�س املذكور يف احللقة التالية».
46
�أنطون �سعادة
ومل يتمكن منه املنافقون ال ب�أ�س من �إيراد ب�ضعة �شواهد �أخرى تعزيزاً ل�صدق التعليل الذي نعلله ،وت�أييداً ل�صحة النتائج التي ن�ستنتجها ،يف �صدد العامل ال�سيا�سي النف�سي للدعوة املحمدية واحلركة الإ�سالمية� ،أي عامل اجلهاد ومغامنه يف هذه الدنيا ،وثواب اجلنة ّ ولذاتها. نورد هنا كتاب خالد بن الوليد الذي كتبه �إىل اخلليفة �أبي بكر ،الذي كان قد تويف ومل يبلغ خالداً خرب وفاته ،يخربه بدخوله دم�شق فاحتاً .وهذا ن�ص الكتاب كما ورد يف تاريخ الواقدي( ): «ب�سم اهلل الرحمن الرحيم لعبد اهلل خليفة ر�سول اهلل ،هلل ،من عامله على ال�شام خالد بن الوليد (وكان �أبو عبيدة ال يزال كامتاً عنه �أمر اخلليفة عمر بن اخلطاب بعزله وتولية �أبي عبيدة مكانه) �أما بعد �سالم عليك ف�إين �أحمد اهلل الذي ال �إله �إال هو و�أ�صلي على نبيه حممد، �صلى اهلل عليه و�سلم ،وذلك �أ ّنا مل نزل يف مكايدة العدو على حرب دم�شق حتى �أنزل اهلل علينا ن�صره وقهر عدوه وفتحت دم�شق عنوة (والواقع بخيانة الق�سي�س يون�س كما هو مثبت يف التاريخ املذكور عينه) بال�سيف من باب �شرقي وكان �أبو عبيدة على باب اجلابية فخدعته الروم و�صاحلوه على الباب الآخر ومنعني �أن �أ�سبي و�أقتل .ولقيناه على كني�سة يقال لها كني�سة مرمي و�أمامه الق�سو�س والرهبان ومعهم كتاب ال�صلح .و�إن �صهر امللك توما و�آخر يقال له هربي�س خرجا من املدينة مبال عظيم و�أحمال ج�سيمة ف�سرت خلفهما يف ع�ساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من �أيديهما وقتلت امللعونني� ،إلخ». 1
املسيحية واحملمدية والقومية
47
وكان �أن اخلليفة عمر غ�ضب لعدم تبليغ امل�سلمني خرب وفاة �أبي بكر وقيامه خليفة من بعده، و�أمره بعزل خالد بن الوليد من �إمارة امل�سلمني يف �سورية وب�إقامة �أبي عبيدة بن اجلراح �أمرياً بد ًال منه .ويف اليوم التايل لورود كتاب خالد بن الوليد املذكور �آنفاً �ص ّلى �صالة الفجر .روى الواقدي: «قام َف َر ِق َي املنرب فحمد اهلل و�أثنى عليه وذكر الر�سول� ،صلى اهلل عليه و�سلم ،ف�ص ّلى عليه وترحم على �أبي بكر ال�صديق ،ر�ضي اهلل عنه تعاىل ،ثم قال� :أيها النا�س� ،إين حملت �أمانة راع م�س�ؤول عن رعيته وقد جئت لإ�صالحكم والنظر يف معاي�شكم راع وكل ٍ عظيمة ،و�إين ٍ وما يقربكم �إىل ربكم �أنتم ومن ح�ضر يف هذا البلد ،ف�إين �سمعت ر�سول اهلل� ،صلى اهلل عليه و�سلم ،يقول« :من �صرب على �أذاها و�شرها كنت له �شفيعاً يوم القيامة» وبالدكم بالد ال زرع فيها وال �ضرع وال ماء �أوقر به الإبل [وال ما �أورق به على الإبل] �إال من م�سرية �شهر .وقد وعدنا اهلل مغامن كثرية و�إين �أريدها للخا�صة والعامة� ،إلخ»( ). ال�شاهدان املذكوران فوق لي�سا قول من ال �ش�أن له من عامة النا�س وجهلتهم ،بل هما قول خليفة وقول �أمري جيو�ش ا�شتهر بلقب «�سيف الإ�سالم» .ويح�سن �أن ن�ضيف �شاهدين �آخرين ليتيقن القاريء من مقدار ت�أثري زينة اجلنة ،ف�ض ًال عن الغنائم وال�سبي على نفو�س املجاهدين: «�سار عبد اهلل بن جعفر ليلحق باملجاهدين ،وكان �أبوه قد قتل يف تبوك ،فلما بلغها طلب �أن يد ّلوه على قرب �أبيه فنزل عليه و�أقام عنده ومعه عبد اهلل بن �أني�س اجلهني و�صحبه �إىل ال�صبح، فلما رحلوا يف ال�صباح نظر ابن �أني�س و�إذا عبد اهلل بن جعفر يبكي ووجهه مثل الزعفران، ف�س�أله ابن �أني�س عن ذلك ،فقال« :ر�أيت البارحة �أبي يف النوم وعليه حلتان خ�ضراوان وتاج له جناحان وبيده �سيف م�سلول �أخ�ضر ف�سلمه �إ ّيل وقال يا بني قاتل به �أعداءك فما و�صلت �إىل ما ترى �إال باجلهاد»( ). ويف وقعة الريموك �أخذ �أبو هريرة يح ّر�ض قومه على القتال ويقول�« :أيها النا�س� ،سارعوا �إىل معانقة احلور العني يف جوار رب العاملني»( ). �أثبتنا ال�شواهد والتفا�صيل املتقدمة ،يف هذه احللقة واحللقة ال�سابقة ،لكي ال يظن �أحد �أننا 2
3
4
48
�أنطون �سعادة
نر�سل الكالم اعتباطاً ونبني ت�آويلنا وا�ستنتاجاتنا على الظن والوهم ،كما فعل ر�شيد �سليم اخلوري حني �أخذ يهرف عن الإ�سالم ،مبا ال يعرف ،ويرمي امل�سيحية مبا هي براء منه يف حار�ضته التي �سماها «حما�ضرة». والآن نعود �إىل الت�شريع ،بعد �أن �أظهرنا �أهميته للعرب الذين مل يكن لهم ما كان لل�سوريني من ال�شرع املدين .ونريد �أن نبني يف ما يلي �أ�سباب وحدة ال�شرع يف الدينني املو�سوي واملحمدي، و�أ�سباب �أهمية ال�شرع وتقدميه عند العرب على غريه من الر�سالة الإ�سالمية ب�إثبات ال�سور الت�شريعية يف �صدر القر�آن ،مع �أن حقها من الوجهة التاريخية والروحية� ،أن تكون يف عجزه. قلنا يف احللقة ال�ساد�سة ع�شرة (احللقة اخلام�سة بالرتتيب اجلديد) من هذا البحث�« :إن حممداً �أر�سل �إىل قوم كانوا م�ضطرين �إىل ما كان م�ضطراً �إليه العربانيون� :شريعة توجد لهم نظاماً يو�ضح لهم املعامالت واحلدود واجلزاء ،بد ًال من عادات الث�أر والغزو وا�ستبداد القوي التي ال تقيم نظاماً .ولذلك ن�ش�أ هذا التوافق الكلي بني ال�شريعة املحمدية وال�شريعة املو�سوية يف ال�شرع حتى يف اجلزاء ونوعه� ،إلخ» .و�إننا جنعل هذا القول نقطة االبتداء يف هذا املو�ضوع الهام. ولكي ال يبقى جمال حل�سبان القول املتقدم جمرد ا�ستبداد مبني على االفرتا�ض نعر�ض ل�ش�أن العربانيني �أو ًال .املتعارف عن هذه اجلماعة ،وكله �أو ج ّله مبني على روايات كتابهم يف التوراة� ،أنها يف الأ�صل عائلة يعقوب انتقلت ب�سبب قحط �أ�صاب الأر�ض �إىل م�صر حيث كان يو�سف �أحد �أبناء يعقوب قد ح�صل على مركز وزير عند فرعون .و�إنها تكاثرت يف م�صر و�صارت �شعباً كثرياً ا�ستعبده امل�صريون حتى جاء مو�سى مر�س ًال من اهلل ،و�أنقذه من العبودية حتت حماية يهوه الذي �أغرق فرعون ومركباته يف البحر .ثم �أن مو�سى �أبقى هذا ال�شعب يف املن وال�سلوى ،وبعدها �أخذ يت�أهب القتحام «�أر�ض �صحراء �سيناء �أربعني �سنة عا�ش فيها على ّ امليعاد» .ويف �أثناء وجود هذه اجلماعة يف ال�صحراء ال�سينائية تقدم مو�سى �إليها باملواد ال�شرعية الأوىل :الو�صايا الع�شر ،وتبعتها الأحكام التف�صيلية امل�شتملة على اجلزاء (العقوبات) وعلى قوانني املعامالت والعقود. هنا يخطر للباحث املدقق �س�ؤال هام جداً وهو� :أمل يكن عند امل�صريني ،الذين كانوا قد
املسيحية واحملمدية والقومية
49
�أ�س�سوا دولة� ،شرائع اقتب�سها� ،أو بع�ضها ،عنهم الإ�سرائيليون ،حتى وجب �أن يعلمهم اهلل �أوليات النظام االجتماعي املدين ،ك�أن يكرم الواحد �أباه و�أمه و�أن ال ي�سرق وال يكذب وال ي�شهد بالزور و�أن ال يزين� ،إلخ؟ �أمل يكن العربانيون متبعني عادات وقوانني مدنية م�صرية؟ ال ت�شري التوراة �إىل �شيء وا�ضح عن النظام الذي كان يعمل به الإ�سرائيليون قبل هبوط الوحي على مو�سى يف طور �سيناء ،وهبوط الوحي بالو�صايا الع�شر يدل على �أن اليهود مل يكونوا يعرفون �أو يعملون بهذه الأوليات كقاعدة عامة يف حياتهم .وهنا يبد�أ ال�شك يف �أن اليهود كانوا عرفوا م�صر قبل دخولهم �أطراف الق�سم اجلنوبي من �سورية .وي�أخذ هذا ال�شك يت�أيد يف عدم وجود ذكر �أو دليل مل�أ�ساة البحر الأحمر التي ت�شري �إليها التوراة وي�ؤيدها القر�آن. فلي�س هناك فرعون واحد هلك يف البحر يف ت ّتبعه �شعباً غريباً هارباً من م�صر .واملرة الوحيدة التي ت ّتبع فيها امل�صريون قوماً غرباء كانت حني انتف�ض امل�صريون على دولة الهك�سو�س ال�سورية التي اجتاحت م�صر و�أخ�ضعت امل�صريني �إىل �أن ثار عليها ه�ؤالء وتغلبوا عليها ،فرجع الهك�سو�س �إىل �سورية وتبعهم امل�صريون وحاربوهم يف وادي جمدو وتبعوهم �إىل ال�شمال. وقد حاول بع�ض م�ؤرخي العربانيني �أن يوجدوا �صلة بني تاريخهم وتاريخ الهك�سو�س ،ولكن الأدلة التاريخية جاءت �ضد هذه املحاولة التي مل تكن الأوىل من نوعها النتحال العربانيني تواريخ الأقوام املجاورة. الأرجح ،يف هذا ال�صدد ،هو ما ذهب �إليه امل�ست�شرق املحقق الكبري غيتاين ) (Caetaniيف كتابه ) ( Studi Di Storia Orientaleالذي يجزم ب�أن اليهود �أو العربانيني مل يكونوا قط يف م�صر ،م�ستنداً �إىل حتقيقات تاريخية وجيولوجية وجغرافية .فهو يثبت �أن العربانيني مل يكونوا �سوى قبائل بدوية موقعها �شمال �شرق �سورية ،يف بقعة كانت تدعى قدميًا «م�صرو» )(Misruو�أن اليهود تعمدوا اخللط بني هذه البقعة وم�صر املعروفة اليوم ليو�سعوا تاريخهم، وليتمكنوا من انتحال حكاية يو�سف التي نقلوها مما بني النهرين وجعلوا حوادثها جتري بني �سورية وم�صر .وي�ؤيد هذه النظرية ما ورد يف املرا�سالت املكت�شفة يف تل العمارنة يف م�صر التي تبودلت بني �أمراء فينيقيني والفرعون وفيها �أخبار غزو قبائل «احلبريو» �أي البدو لبع�ض القرى واملدن اجلنوبية. 5
50
�أنطون �سعادة
فاليهود مل يكونوا ،قبل جميئهم �إىل �سورية ،يعرفون نظاماً اجتماعياً مدنياً ،لأنهم كانوا يف حالة بداوة بربرية ،ومل يكونوا متدنوا ال يف م�صر وال يف مكان �آخر .فهم ،واحلالة هذه ،كانوا ي�شبهون العرب من كل وجه يف ما يخت�ص مبرتبتهم االجتماعية وحاجاتها .فلم يكن لهم قوانني و�أنظمة عامة ت�ضبط معامالتهم وتعاقب جمرميهم بد ًال من ترك �أمرهم لعادة الث�أر .فلما و�صح عزمهم على دخولها والتح�ضر يف �سورية ،وجدوا �أ�صبحوا على حدود املدنية ال�سورية ّ �أن حاجتهم الأوىل هي �إىل نظام ي�ؤهلهم لذلك .وكان للكنعانيني (�سوريـي اجلنوب) نظام اجتماعي راقٍ وقانون مدين وجزائي ين�ص على املعامالت والعقود والعقوبات ،كما �أثبت ذلك الأ�ستاذ �أمل�ستد( ) �أ�ستاذ التاريخ القدمي يف جامعة كولومبية ،الواليات املتحدة ،وهو �أحد معاوين املحقق التاريخي ال�شهري بر�ستد( ) .وقد �أثبت الأ�ستاذ �أمل�ستد هذه احلقيقة يف كتابه بالإنكليزية «تاريخ فل�سطني و�سورية حتى الفتح املكدوين»( ) .ومن مقابلة ال�شرع املو�سوي على ال�شرع الكنعاين جند �أن ذاك ا�ستمد نظرياته و�أحكامه من هذا. وملا مل يكن اليهود �أهل متدن من قبل مل يكن من ال�سهل �أخذهم بالنظام املدين والعمل به .فكان ال بد من �إخ�ضاعهم لل�شريعة �إخ�ضاعاً ،وهذا االخ�ضاع ال ميكن �أن يكون بوا�سطة �شرطة وق�ضاء و�سلطة ،لأنهم كانوا قبائل ال تعرف نظاماً مدنياً وكل ما تعرفه عادات ب�سيطة و ُع َر ٌف ال ت�ضبط الت�صرفات والأعمال وال تعينّ احلقوق الفردية .فب�أي وا�سطة� ،إذاً ،ميكن �إخ�ضاعهم؟ بوا�سطة �سلطة خفية رهيبة وغري منظورة :اهلل ،يهوه الذي ينتقم من املخالفني لل�شرائع والأحكام ،املفتقد ذنوب الآباء يف الأبناء يف اجليل الثالث والرابع .وهكذا حتولت ال�شريعة الكنعانية املدنية القابلة للتطور والتغيري ح�سب تطور االجتماع والعمران ،لأنها �صنع ب�شر� ،إىل �شريعة دينية جامدة ) (Rigidaال تقبل التطور والتغيرّ ،لأنها �صارت �أحكام اهلل الكلي املعرفة القادر على كل �شيء ،املع�صوم عن الغلط .ومع �أن هذا التحويل كان يق�ضي بجمود ال�شرع فلم يكن هناك طريقة �أخرى لإعطاء اليهود �شريعة جتمع �أ�سباطهم وتوحد �أمرهم. هذه هي الطريقة الوحيدة جلمع ال�شعوب والقبائل التي ال تزال يف حالة بداوة �أو بربرية. وقد عر�ض ابن خلدون ،يف مقدمته ال�شهرية ،لهذه احلالة فكتب الف�صل ال�سابع والع�شرين من الف�صل الثاين من الكتاب الأول ملقدمته ،وجعل عنوانه« :يف �أن العرب ال يح�صل 6
7
8
املسيحية واحملمدية والقومية
51
لهم املُلك �إال ب�صبغة دينية من نب ّوة �أو والية �أو �أثر عظيم من الدين على اجلملة» .وذكر ابن خلدون �سبب ذلك بقوله« :ال�سبب يف ذلك �أنهم خللق التوح�ش الذي فيهم �أ�صعب الأمم انقياداً بع�ضهم لبع�ض� ،إلخ»( ) .وفات ابن خلدون �أن يذكر يف الأ�سباب فقدان النظام االجتماعي التمدين ،ول�سنا هنا يف جمال ي�سمح لنا بالإطالة يف هذا ال�صدد. ي�ضعنا كالم ابن خلدون املذكور �آنفاً يف مو�ضع النظر يف العرب و�ش�ؤونهم ،وهو نف�سه يقودنا يف هذا الطريق في�صف العرب من حيث توح�شهم وغلظتهم و�صعوبة مرا�سهم .ولكننا نحن ال نريد التوغل يف م�سائل الطباع ،بل نكتفي بالقول �إن حالتهم البدوية ال ت�سمح بتولد �شريعة بينهم ترقي حياتهم بالنمو االجتماعي واالختبارات االجتماعية املقت�صرة على حاالت �أولية معدودة وحمدودة .وفر�ض �شريعة عليهم متنعهم من و�أد بناتهم ومن �أخذ الأختني زوجتني ومن الث�أر بال ح�ساب ،وتخ�ضعهم لقانون وا�ضح ين�ص على املعامالت والعقود والعقوبات ،مل يكن ممكناً �إال عن طريق الدين .والدين ما كان ميكن �أن يكون مفهوماً عندهم عن غري طريق املعامالت والعقود والوعود باجلزاء املادي احل�سن ،ك�أكل الفاكهة يف اجلنة ولب�س ال�سند�س، كل ذلك يف جنات وعيون يتزوجون فيها بحور عني. ولوال ال�شرع الذي تكرر �إيحا�ؤه ملحمد بعد مو�سى ملا كان ح�صل اجتماع �أمر العرب يف الإ�سالم ،ولوال النظام الذي دعا �إليه حممد ملا كان ممكناً �أن تنجح الفتوحات الإ�سالمية ويثبت �أمر امل�سلمني فيها .بل لك ّنا ر�أينا العرب يتزاحمون على الأ�سالب والغنائم ال يردعهم رادع وال يزعهم وازع ،فيتفككون ب�أ�سرع من ملح الب�صر. وملّا كانت حالة العرب تقت�ضي ما اقت�ضته حال العربانيني فقد تكرر لهم ال�شرع عينه الذي � ِ أوح َي للعربانيني بوا�سطة مو�سى .ولذلك نرى ال�شريعتني املو�سوية واملحمدية تن�صان على حالة واحدة �أحكاماً واحدة .وهذه احلالة هي حالة �أولية يحتاج فيها النا�س ملثل هذه الأحكام. وقد يعجب ال�سوري املتمدن ملاذا وجب �أن تن�ص ال�شريعتان املو�سوية واملحمدية على عدم جواز اجلمع بني الأختني ،مث ًال .ولكي يزول عجبه نقول �إن ذلك كان �ضرورياً ،ومثل احلاالت التي ن�ص عليها القر�آن كان ال يزال واقعاً حتى يف �أيام اخلليفة عمر بن اخلطاب وبعدها ،و�إثباتاً 9
52
�أنطون �سعادة
لهذه احلقيقة نثبت ما �أورده الواقدي( ) يف تاريخه املذكور: «قال عمرو بن مالك العب�سي :كنت مع عمر بن اخلطاب حني �سار �إىل ال�شام فم ّر على ماء جلذام عليه طائفة منهم نزول ،واملاء يدعى ذات املنازل .فنزل (عمر) بامل�سلمني عليه فبينما هو كذلك و�أ�صحاب ر�سول اهلل� ،صلى اهلل عليه و�سلم ،حوله �إذ �أقبل �إليه قوم من جذام فقالوا :يا �أمري امل�ؤمنني �إن عندنا رج ًال له امر�أتان وهما �أختان لأب و�أم ،فغ�ضب عمر وقال: علي به ،ف�أوتي بالرجل �إليه فقال عمر :ما هاتان املر�أتان؟ قال الرجل :زوجتاي ،قال :هل ّ بينهما قرابة؟ قال :نعم ،هما �أختان .قال عمر :فما دينك �أل�ست م�سلماً؟ قال :بلى ،قال عمر :وما علمت �أن هذا حرام عليك واهلل يقول يف كتابه{ :و�أن جتمعوا بني الأختني �إال ما علي بحرام .فغ�ضب عمر وقال: قد �سلف}(الن�ساء)23 ،؟ فقال الرجل :ما علمت وما هما ّ كذبت واهلل �إنه حلرام عليك ولتخلينّ �سبيل �إحداهما و�إال �ضربت عنقك .قال الرجل: علي؟ قال� :أي واهلل الذي ال �إله �إال هو .فقال الرجل� :إن هذا دين ما �أ�صبنا فيه �أفتحكم ّ خرياً ولقد كنت غنياً عن �أن �أدخل فيه .قال عمرُ :ا ْدنُ مني .فدنا منه فخفق ر�أ�سه بالدرة خفقتني .وقال له� :أتت�شاءم بالإ�سالم يا عدو اهلل وعدو نف�سه وهو الدين الذي ارت�ضاه اهلل ملالئكته ور�سله وخريته من خلقه (�شعب اهلل اخلا�ص) ِّ خل يا ويلك� ،سبيل �إحداهما و�إال جلدتك جلدة املفرتي! فقال الرجل :كيف �أ�صنع بهما و�إين �أحبهما ولكن �أقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي يل ،و�إن كنت لهما جميعاً حمباً .ف�أمر عمر فاقرتع فوقعت القرعة على �إحداهما ف�أم�سكها و�أطلق �سبيل الثانية .ثم �أقبل عليه عمر وقال :ا�سمع يا ذا الرجل ِوع ما �أقول لك �إنه من دخل يف ديننا ثم رجع عنه قتلناه ف�إياك �أن تفارق الإ�سالم و�إياك �أن يبلغني �أنك قد �أ�صبت �أخت امر�أتك التي فارقتها ف�إنك �إن فعلت ذلك رجمتك». «و�سار عمر حتى �إذا كان بوادي القرى �أخربوه �أن �شيخاً على املاء وله �صديق يوده فقال �صديقه :هل لك �أن جتعل يل يف زوجتك ن�صيباً و�أكفيك رعيك �إبلك والقيام عليها ويل فيها (الزوجة) يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة .قال ال�شيخ قد فعلت ذلك ور�ضي ،فلما �أُخرب عمر بذلك �أمر بهما ف�أُح�ضرا فقال :يا ويلكما ما دينكما؟ قاال :الإ�سالم ،قال عمر :فما الذي بلغني عنكما؟ قاال :وما هو؟ ف�أخربهما عمر مبا �سمعه من العرب .فقال ال�شيخ قد كان ذلك 10
املسيحية واحملمدية والقومية
53
يا �أمري امل�ؤمنني .فقال عمر� :أما علمتما �أن ذلك حرام يف دين الإ�سالم؟ قاال :ال واهلل ما علمنا ذلك .فقال عمر لل�شيخ :وما دعاك �أن �صنعت هذا القبيح؟ قال� :أنا �شيخ كبري ومل يكن يل �أحد �أثق به و�أتكل عليه فقلت يا هذا �أتكفيني الرعي وال�سقي وتعينني على دوابي و�أنا �أجعل لك ن�صيباً يف امر�أتي؟ والآن علمت �أنه حرام فال �أفعله .فقال عمر خذ بيد امر�أتك فال �سبيل يل عليها (�أي �إنها غري زانية) ثم قال لل�شاب� :إياك �أن تقرب منها ف�إنه �إن بلغني ذلك �ضربت عنقك ،ثم ارحتل عمر». ويف هذين املثلني �صورة وا�ضحة للحالة التي �ش ّرع لها الإ�سالم وهي احلالة عينها التي �ش ّرعت لها املو�سوية.
اهلوامش - 1الواقدي« ،فتوح ال�شام» ،ال�صفحة .53 - 2امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .55 - 3امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .60 - 4امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .117 - 5ليون كايتاين ( ،)1935 - 1869باحث �إيطايل يعترب رائد تطبيق املنهج التاريخي يف قراءة الأحداث الإ�سالمية املبكرة. � - 6ألربت �أُمل�ستد (� ،)1945 - 1880أبرز الإخت�صا�صيني الأمريكيني يف علم الأ�شوريات. - 7جيم�س هرني بر�ستد ( ،)1935 - 1865م�ؤرخ وعامل �آثار �أمريكي. History of Palestine & Syria to the Macedonian Conquest, Charles - 8 Scribner & Sons. New York, 1931.
� - 9إبن خلدون« ،املقدمة» ،دار �إحياء الرتاث العربي ،بريوت -لبنان .من دون تاريخ ،ال�صفحة .151 - 10الواقدي ،م�صدر �سبق ذكره ،ال�صفحة .149
54
ذات نِيقة َخ ْر ُ قاء ُ
�أنطون �سعادة
()1
(تنبيه� :إن كاتب هذا البحث العلمي اجلديد بنظرياته ومعلوماته ال يتوخى من در�سه غري جالء احلقيقة يف طبيعة امل�سيحية وطبيعة الإ�سالم ،على �ضوء عنا�صر كل منهما كما هي يف ذاتها .وهذا الدر�س العظيم الأهمية البعيد عن كل ت�أثري ديني ال يق�صد تف�ضيل �أحد الدينني اجلليلني على الآخر ،كما ق�صد ر�شيد �سليم اخلوري ،رغبة منه يف ا�ستغالل هياج الغوغاء املتع�صب ،بل يق�صد تبيان تالحم هذين الدينني مع �إظهار عالقة كل منهما باملرتبة االجتماعية للبيئة التي ن�ش�أ فيها وعالقة الآيات والتعاليم لكل من الدينني مبرتبة بيئته من الوجهة التاريخية .وقد قال الكاتب يف احللقة ( 14احللقة الثالثة يف الرتتيب اجلديد) من هذه ال�سل�سلة« :لو �أن امل�سيح وحممداً تبادال الر�سالة فظهر امل�سيح يف العربة وظهر حممد يف �سورية ملا كانت ر�سالة امل�سيح ابتد�أت على الدرجة العالية التي ابتد�أت بها يف �سورية وملا كانت ر�سالة حممد ابتد�أت على الدرجة الأولية التي ابتد�أت بها يف ال ُعربة» .وهذا القول ينفي كل فكرة تف�ضيل للواحد على الآخر �أو للر�سالة الواحدة على الأخرى ويجعل �أية مقابلة �أو مقارنة بني الر�سالتني مق�صورة على احلالة االجتماعية واملرتبة االقت�صادية التي ن�ش�أت منها كل من الر�سالتني و�أوجبتا �أن يكون نهج الر�سالتني مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بهما .فاملقابلة لي�ست بني امل�سيح وحممد ،بل بني �سورية وال ُعربة من حيث هما و�ضعان اجتماعيان متباينان اقت�ضى كل منهما منحى خا�صاً يف الدين� .أما الر�سالتان الدينيتان فغر�ضهما وجوهرهما واحد كما �سبقت الإ�شارة وكما �سيجيءّ . فنحذر الق ّراء من املتعي�شني بالتع�صب الديني الذين يحاولون �إيجاد ت�أويل فا�سد لكل نظرية �صحيحة بق�صد �إثارة الفتنة واال�صطياد يف املاء العكر!)
املسيحية واحملمدية والقومية
55
�أظهرنا يف احللقات الأخرية املتقدمة من هذه ال�سل�سلة حالة ال ُعربة االجتماعية ـ الروحية التي �أوجبت اهتمام الر�سالة الإ�سالمية اهتماماً كلياً� ،أ�سا�سياً ،جوهرياً بالق�ضية املادية ووجوب تنظيم �ش�ؤونها العملية تنظيماً حقوقياً ،قانونياً ،يعمل به جميع العرب فريقي �ش�ؤونهم االجتماعية ويو�سع نظرتهم االن�سانية ويقربهم من احلياة الروحية على قدر امل�ستطاع .وهذا ال يعني �أن النبي العربي مل يكن مدركاً �سمو النظرة الروحية يف ال�ش�ؤون االن�سانية ،بل يعني �أنه ر�أى لزوم االهتمام بالأوليات و�أن الر�سالة الإ�سالمية ر�أت �أن تتناول اجلماعة االن�سانية املخت�صة بها من عند درجة مداركها و�ش�ؤون حياتها ،يف حني �أنها مل تغفل املطالب الروحية العليا. وقد تو�سعنا يف تف�صيل هذه احلقيقة لكي ن�ضع �أمام ال�سوريني در�ساً علمياً يفيدهم يف فهم خ�صائ�ص دينني يكاد ال يخلو جممع من جمامعهم من بحثهما ،وبحث الق�ضايا االجتماعية ـ ال�سيا�سية التي و ّلدها وجودهما متجاورين ومتال�صقني ،خ�صو�صاً يف �سورية التي ال ميكن معاجلة ق�ضاياها القومية ـ ال�سيا�سية من غري تناول �شكل التحزبات الدينية ونظرياتها الأ�سا�سية والعار�ضة .و�أهمية هذا البحث جتعلنا نعتقد �أن �صرف النظر عنه �إىل �ش�ؤون ال�سيا�سة اخلارجية والوطنية االعتباطية ال ي�ساعد على حل ق�ضايانا القومية احلقوقية وال�سيا�سية واالقت�صادية. فر�سالة البعث القومي �إىل ال�سوريني لي�ست متولدة من جمرد كر ٍه للأجنبي ،بل من رغبة حقيقية يف �صهر نظرياتنا وعقائدنا املتنافرة و�سبكها يف وحدة روحية ال تعود تتمكن املطامع الأجنبية من تف�سيخها وا�ضعافها. �إن �أ�سا�سنا القومي يجب �أن يكون يف وحدتنا الروحية الكلية قبل كل �شيء .وهذه الوحدة الروحية يجب �أن ت�شمل كل فكرة وكل نظرة يف حياتنا .واملفكرون ال�سطحيون فقط يجهلون �ضرورة بحث نظراتنا و�أفكارنا الدينية بحثاً علمياً ،جريئاً� ،صريحاً ال ُيبقي جما ًال للغمو�ض والريب، بق�صد الو�صول �إىل نتيجة كلية جتتمع فيها نفو�سنا بكل ما فيها من رغبات ومطامح و�آمال. وال بد من القول �إن ما تقدم وما �سيجيء من هذا البحث لي�س ،مع كل نظرياته اجلديدة ودقة معاجلته للأمور التي تناولها� ،سوى �شق طريق لأبحاث تالية م�ستفي�ضة تو�سع دائرة فهمنا وترقي �إدراكنا ل�ش�ؤون حياتنا النف�سية التي منعنا التخبط فيها عن الإجتاه نحو املرامي القومية ال�صحيحة ومثلها ال�سامية .فالق�صد من هذا البحث لي�س جمرد �إظهار �أن ر�شيد �سليم اخلوري
56
�أنطون �سعادة
لي�س �سوى واغل عليه عن جهل بخ�صائ�صه وفاقة كلية يف ال�ش�ؤون الثقافية العالية ،كما يتوهم بع�ض النا�س من العامة ومن طائفة ت�سمي نف�سها «�أدباء وقادة الر�أي» وت�سمم النف�سية العامة ب�آرائها ال�سخيفة وروحيتها ال�سقيمة .فلنعد �إىل البحث. ظهر لنا يف ما تقدم الف�ساد الأول والثاين للمفا�ضلة بني الإ�سالم وامل�سيحية يف حار�ضة عد احلديث النبوي الإ�سالم ،ومقابلته على �آيات ر�شيد �سليم اخلوري .فالأول هو ما كان من ّ وعد خلو الإجنيل عد الأ�سا�س املادي جوهر الإ�سالم ّ الإجنيل و�إ�ساءة فهم احلديث .والثاين ّ حث على الك�سب وعلى طلب العلم نقي�صة فيه. من ّ والآن نتناول الف�ساد الثالث لكالم اخلوري الذي ال نهتم بتفنيده وبيان ف�ساده �إال لأنه منوذج لكالم متناقل يف �أو�ساط وا�سعة من ال�سوريني �إذا مل يو�ضح لها �صحيحه من فا�سده ظل عام ًال من عوامل جمودها .وهذا الف�ساد الثالث هو قوله عن الإجنيل ،الذي يقول القر�آن �إنه كالم منزل� ،إنه كتاب: «ال يعلم يف هذه الدنيا غري الدرو�شة والزهد وقهر اجل�سد وحب�س العقل يف قف�ص من غباوة الإ�ست�سالم ملا وراء املنظور ،وهو يقتل املواهب ويهي�ض الأجنحة ويع�صب على العيون ويربط الفطرة بال�سال�سل الثقيلة ويخنق الطموح ،فال جمد عنده �إال جمد اخل�ضوع الأعمى للتعاليم ال�سماوية كما ب�شّ ر بها هو .ال ب�أ�س يف �شريعته �أن تعي�ش عبداً رقيقاً مدى احلياة ت�سام اخل�سف والهوان واجللد بال�سياط ما دمت تعتقد �أن بعد املوت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك وا�ست�سالمك و�صربك على الظلم». وقوله �أي�ضاً: «يف حني جعلت امل�سيحية الفقر �شرطاً �أ�سا�سياً لدخول ال�سماء عم ًال بقولها للغني الذي طلب �أن يرث احلياة الأبدية« :بع كل �أمالكك ووزع ثمنها على الفقراء واتبعني» ،ولعمري لو يبق يف الأر�ض من ي�ستطيع عمل كل غني بهذه ال�شريعة لأ�صبح النا�س كلهم مدقعني ومل َ �أن يجود على فقري بفل�س». ملا كنا �آلينا على نف�سنا �أخذ كالم اخلوري بالرتتيب ف�إننا نرى ،من �أجل ترتيب البحث� ،أن
املسيحية واحملمدية والقومية
57
نتناول عبارته الأخرية املتعلقة بالفقر ودخول ال�سماء قبل تناولنا الفقرة ال�سابقة التي هي تو�صل �إليها ر�شيد اخلوري من تعاليم الإجنيل كلها. النتيجة الكلية ،الكاملة ،التي ّ قال اخلوري �إن امل�سيحية جعلت الفقر �شرطاً �أ�سا�سياً لدخول ال�سماء .فهذا القول اجلاهل يعد عند امل�ؤمنني ،من الدينني امل�سيحي والإ�سالمي ،كفراً يوازي االختالق ال�شائن الذي ّ �صريحاً .فامل�سيحية مل جتعل قط الفقر �شرطاً �أ�سا�سياً �أو �شكلياً لدخول ال�سماء .وال يوجد يف الإجنيل كله �شريعة توجب الفقر بل ال يوجد يف الإجنيل «�شريعة» على الإطالق. فاختالف الإجنيل عن التوراة والقر�آن هو �أنه لي�س �شريعة بل تعاليم فل�سفة مناقبية ال حتكم على خمالفيها �أحكاماً جزائية ولكنها تقول �إن الإرتقاء نحو حياة �أف�ضل �أو احلياة املثلى ال يكون �إال بها� ،أي مبعانيها الروحية .وقد ر�أينا يف احللقة ال�ساد�سة ع�شرة (احللقة اخلام�سة ي�سن قانوناً جديداً يف الزنى ،بل علم تعليماً بالرتتيب اجلديد) من هذه ال�سل�سلة �أن امل�سيح مل ّ مناقبياً يقود النا�س نحو االرتفاع يف فهم احلياة عن جمرد الن�صو�ص القانونية للأفعال .فك�أن امل�سيح يقول �إن رجم الزانية وحده ال ي�شفي املجتمع من �أمرا�ضه الوبيلة .وهذا تعليم مناقبي ولي�س �شريعة .وكذلك قوله للغني الذي �أراد �أن يرث احلياة الأبدية« :بع كل مالك و�أعطه للم�ساكني فيكون لك كنز يف ال�سماء وتعال اتبعني»(مرق�س .)21 :10 ،فهو تعليم ولي�س �شريعة .وهذا التعليم عينه �صار �شريعة يف الإ�سالم عم ًال بقول القر�آن{ :وليحكم �أهل الإجنيل مبا �أنزل اهلل فيه ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الفا�سقون}(املائدة.)47 ، {قل �إن كان �آبا�ؤكم و�أبنا�ؤكم و�إخوانكم و�أزواجكم وع�شريتكم و�أموال اقرتفتموها وجتارة أحب �إليكم من اهلل ور�سوله وجهاد يف �سبيله فرتب�صوا تخ�شون ك�سادها وم�ساكن تر�ضونها � ّ حتى ي�أتي اهلل ب�أمره واهلل ال يهدي القوم الفا�سقني}(التوبة�{ .)24 ،إن اهلل ا�شرتى من امل�ؤمنني �أنف�سهم و�أموالهم ب�أن لهم اجلنة يقاتلون يف �سبيل اهلل ف َيقتلون و ُيقتلون وعداً عليه حقاً يف التوراة والإجنيل والقر�آن ومن �أوفى بعهده من اهلل}(التوبة .)111 ،فالر�سالة الإ�سالمية ال تخالف الر�سالة امل�سيحية يف هذا الباب ،بل توافقها كل املوافقة .ولكن ر�شيد �سليم اخلوري الذي يرى املفا�ضلة بني الأنبياء والتعاليم قائمة على تقدم الزمان وت�أخره يرى �أنه �أحكم من حممد و�أحكم من القر�آن نف�سه لأنه جاء بعده .كما قال عن الإ�سالم �إنه �أرقى من املو�سوية
58
�أنطون �سعادة
وامل�سيحية «ح�سب ُ�س َّنة الن�شوء والإرتقاء لأنه جاء بعدهما»! على هذه القاعدة البديعة يف فهم نظرية الن�شوء والإرتقاء يكون ر�شيد اخلوري �أرقى من حممد ومن القر�آن لأنه جاء بعدهما!! لنبحث يف قول امل�سيح الذي يثبته القر�آن ب�آيات عديدة ويرف�ضه ر�شيد اخلوري ويدعي ،جرياً على قاعدة اجل ّهال� ،أن الإ�سالم �ضده: �إن احلكم على دين بكامله ب�أخذ �آية واحدة من �آياته وجتريدها عن مو�ضوعها املتعلقة به وت�أويلها �أ�سو�أ ت�أويل لي�س جهالة ر�شيد اخلوري وحده ،بل جهالة ق�سم كبري من العامة امل�سيحية والإ�سالمية ،وجهالة عدد غري قليل من اخلا�صة الناق�صي الثقافة ،املغرتين بزيادة بع�ض نواحي اطالعهم على نواحي اطالع الأم ّيني ومن هم يف حكمهم. امل�سيح مل يقل�« :أيها النا�س كل من اقتنى ذهباً وف�ضة وعقاراً فجزا�ؤه جهنم النار»� .إنه مل ي�ضع �شريعة حترم الغنى وتبيح الفقر وتوجبه �شرطاً لدخول ال�سماء� .أما املثل الذي قدمه اخلوري فلي�ست هذه طريقة فهمه وت�أويله على وجهه ال�صحيح. امل�سيح جاء حام ًال ر�سالة مناقبية للق�ضاء على مثالب املجتمع الذي ت�شبث بقوانني �صارت جامدة و�أجاز �أفراده لأنف�سهم اخلمول وارتكاب جميع �أنواع املوبقات التي تن�ص ال�شريعة على كيفية معاقبتها .فهو كان جماهداً و�أتباعه يجب �أن يكونوا جماهدين ب�أنف�سهم و�أموالهم. ويف وقت اجلهاد ُيطلب من �أهل الغاية �أن ي�ضحوا الت�ضحية العظمى .فالغني الذي جاء يطلب �أن يرث احلياة الأبدية جاء يف بدء اجلهاد وهو وقت يوجب التجرد الكلي ،فطلب منه امل�سيح ما ُيطلب يف مثل هذا الوقت ف�صعب الأمر عليه ،فلم يكن له حظ �أن يدخل ال�سماء لأنه رف�ض اجلهاد بنف�سه وماله من �أجلها ،ومن ثم �إنه رف�ض و�ضع كل قوته لتحقيق الر�سالة. وقد وافق القر�آن هذا التعليم امل�سيحي كل املوافقة بقوله {�إن اهلل ا�شرتى من امل�ؤمنني �أنف�سهم و�أموالهم} ،وبقوله{ :وما لكم �أال تنفقوا يف �سبيل اهلل وهلل مرياث ال�سموات والأر�ض ال ي�ستوي منكم من �أنفق من قبل الفتح وقاتل �أولئك �أعظم درجة من الذين �أنفقوا من بعد وقاتلوا وك ًال وعد اهلل احل�سنى واهلل مبا تعملون خبري}(احلديد .)10 ،فهذه الآية القر�آنية
املسيحية واحملمدية والقومية
59
تف�ضل الذين �أنفقوا وجاهدوا قبل جميء الن�صر على الذين �أنفقوا وجاهدوا بعد حلوله حتى ّ ولو كانوا م�ساوين للأولني يف مقدار النفقة .وقال القر�آن �أي�ضاً{ :لكن الر�سول والذين �آمنوا معه جاهدوا ب�أموالهم و�أنف�سهم و�أولئك لهم اخلريات و�أولئك هم املفلحون}(التوبة.)88 ، وحكم هذه الآية وا�ضح وهو اجلهاد بالنفو�س والأموال ولي�س ببع�ضها .وقال �أي�ضاً{ :ال ي�ستوي القاعدون من امل�ؤمنني غري �أويل ال�ضرر واملجاهدون يف �سبيل اهلل ب�أموالهم و�أنف�سهم وف�ضل ف�ضل اهلل املجاهدين ب�أموالهم و�أنف�سهم على القاعدين درجة وك ًال وعد اهلل احل�سنى ّ ّ اهلل املجاهدين على القاعدين �أجراً عظيماً}(الن�ساء .)95 ،ومع �أننا نلحظ ظهور العامل ال�سيا�سي ـ النف�سي يف هذه الآية ف�أمر اجلهاد وا�ضح ال غمو�ض فيه وهو اجلهاد بالنف�س واملال عد �سعيه للك�سب يف �سبيل ال�سماء ولي�س يف �سبيل الك�سب كما يفهم ر�شيد اخلوري الذي ّ بالتجارة يف الربازيل «جهاداً» .وقد �شدد القر�آن النكري على الأغنياء الذين يحتالون ليقعدوا عن اجلهاد بقوله�{ :إمنا ال�سبيل على الذين ي�ست�أذنونك وهم �أغنياء ر�ضوا ب�أن يكونوا مع اخلوالف وطبع اهلل على قلوبهم فهم ال يعلمون}(التوبة.)93 ، وموافقة القر�آن للإجنيل يف هذه الأحكام هي موافقة كلية ال جزئية .فقد ورد يف الإجنيل يف وعظ امل�سيح للفري�سيني هاتان الآيتان« :مع ذلك فقد بقي لكم �أن تت�صدقوا مما يف �أيديكم فيكون كل �شيء نقياً لكم .لكن الويل لكم �أيها الفري�سيون ف�إنكم تع�شرون النعنع وال�سذاب و�سائر البقول وتتعدون العدل وحمبة اهلل وكان ينبغي �أن تعملوا هذه �أو ًال وال ترتكوا تلك»(لوقا .)42 - 41 :11 ،فامل�سيح مل يقل هنا�« :أن تت�صدقوا بكل ما يف �أيديكم» ولو كانت �شريعته جعل الفقر �شرطاً لدخول ال�سماء ،كما يقول �صاحب احلار�ضة ،لكان وجب �أن يقوله .ومن �آيات امل�سيح التي تدل على جهل ر�شيد اخلوري التعاليم امل�سيحية املثل التايل: «فقال (امل�سيح) رجل �شريف اجلن�س ذهب �إىل بلد بعيد لي�أخذ لنف�سه ملكاً ويعود فدعا ع�شرة عبيد له و�أعطاهم ع�شرة �أمناء (وزنات) وقال لهم تاجروا حتى �آتي .وكان �أهل مدينته يبغ�ضونه ف�أنفذوا يف �أثره ر�س ًال قائلني ال نريد �أن ميلك علينا هذا .فلما �أخذ امللك ورجع �أمر �أن يدعى عبيده الذين �أعطاهم الف�ضة ليعلم ما بلغت جتارة كل منهم .ف�أقبل الأول وقال :يا �سيد �إن مناك قد ربح ع�شرة �أمناء .فقال له� :أح�سنت �أيها العبد ال�صالح قد وجدت �أميناً يف
60
�أنطون �سعادة
القليل فليكن لك ال�سلطان على ع�شر مدن .ثم جاء الثاين وقال :يا �سيد �إن مناك قد ك�سب خم�سة �أمناء .فقال لهذا :و�أنت كن على خم�س مدن .وجاء الآخر فقال :هوذا مناك الذي كان عندي مو�ضوعاً يف منديل لأين خفت منك لكونك رج ًال قا�سياً ت�أخذ ما مل ت�ضع وحت�صد قا�س �آخذ ما ما مل تزرع فقال له :من فمك �أدينك �أيها العبد ال�شرير قد علمت �أين رجل ٍ مل �أ�ضع و�أح�صد ما مل �أزرع .فلماذا مل جتعل ف�ضتي على مائدة ال�صرف حتى �إذا قدمت �أ�ستوفيها مع ربى .ثم قال للحا�ضرين خذوا منه �أملنا و�أعطوه للذي معه الع�شرة الأمناء .فقالوا له يا �سيد �إن معه ع�شرة �أمناء� .إين �أقول لكم �إن كل من له يعطى فيزداد ومن لي�س له ي�ؤخذ منه ما هو له»(لوقا .)26 - 12 :19 ،فلو كانت «�شريعة» امل�سيح تقول ب�شرطية الفقر لدخول ال�سماء ،كما يقول اخلوري يف معر�ض تدجيله ونفاقه ،لكان وجب �أن تكون الآيات عك�س ما هي في�أخذ العبد الك�سول الذي مل يتاجر باملال ال�سلطان على الع�شر مدن والع�شرة الأمناء ويدخل ملكوت ال�سموات .ولكان وجب �أن يقول امل�سيح�« :إين �أقول لكم �إن كل من له يذهب �إىل جهنم وكل من لي�س له يكون له اجلزاء احل�سن ويدخل ملكوت ال�سموات». ولكن ر�شيد اخلوري يرى قلي ًال حتى ت�شويه احلقائق الدينية و�إثارة الفنت الدينية يف �سبيل «الك�سب غري املحدود» الذي ّيدعي ،على جهل منه� ،أنه جوهر الديانة الإ�سالمية .هذا الرجل الذي �ش ّوه التعاليم الدينية ووجد بلهاء ي�صفقون له با�سم الدين ،يريد �أي�ضاً �أن ي�ش ّوه التعاليم ال�سورية القومية من �أجل منافع وعده بها بع�ض املتع�ص ّبة .ولكن �ساء ف�أل املنافقني.
اهلوامش - 1مثل ُي�ضرب للجاهل بالأمر ،وهو مع جهله يدعي املعرفة.
املسيحية واحملمدية والقومية
61
ليس من علم كمن ال يعلم قلنا يف احللقة ال�سابقة�« :إن امل�سيح جاء حام ًال ر�سالة مناقبية للق�ضاء على مثالب املجتمع الذي ت�شبث بقوانني �صارت جامدة و�أجاز �أفراده لأنف�سهم اخلمول وارتكاب جميع �أنواع املوبقات التي تن�ص ال�شريعة على كيفية معاقبتها» .وهذا �أي�ضاً �ش�أن حممد� .إال �أن الفرق بني امل�سيح وحممد �أن امل�سيح مل يكن حمتاجاً لأن تكون ر�سالته ت�شريعية لأن املجتمع الذي ن�ش�أ فيه كان ذا �شرائع �سبكتها املو�سوية يف �شكل �إلهي .و�إن حممداً وجد �أ�شد ما حتتاج �إليه جماعات بيئته هو الت�شريع ف�أدى هذه الر�سالة و�أ�ضاف �إليها تعاليم مناقبية من النوع امل�سيحي عينه� ،إال �أنه تناول بها �أي�ضاً �أموراً كثري ًة خمت�صة ب�أهل بيئته ف�ض ًال عن الأمور العامة. وقد وجدنا الكالم الإلهي يف القر�آن يوافق كل املوافقة تعليم امل�سيح املناقبي الذي جاء جاهل ّيدعي العلم يقول �إنه يخالفه .بل �إننا حني التمعن يف الن�صو�ص جند �أن القر�آن كان �أ�شد ت�أكيداً من الإجنيل بوجوب اال�ستغناء عن كل مال وعقار يف �سبيل ال�سماء .يف الإجنيل كله ال يوجد حكم كحكم الآية القر�آنية�{ :إن اهلل ا�شرتى من امل�ؤمنني �أنف�سهم و�أموالهم}(التوبة،)111 ، وال وعيد الآية{ :قل �إن كان �آبا�ؤكم و�أبنا�ؤكم و�إخوانكم و�أزواجكم وع�شريتكم و�أموال أحب �إليكم من اهلل ور�سوله وجهاد يف اقرتفتموها وجتارة تخ�شون ك�سادها وم�ساكن تر�ضونها � َّ �سبيله فرتب�صوا حتى ي�أتي اهلل ب�أمره واهلل ال يهدي القوم الفا�سقني}(التوبة .)24 ،فامل�سيح مل ينذر الأغنياء ومف�ضلي �أموالهم على حمبة اهلل ،و�إتباع امل�سيح هذا الإنذار ال�شديد ،وقوله لتالميذه ،م�ستخرجاً لهم العربة من رف�ض الغني بيع �أمالكه وتوزيعها على الفقراء« :ما �أع�سر على ذوي الأموال �أن يدخلوا ملكوت اهلل� ،إنه لأ�سهل �أن يدخل اجلمل يف ثقب الإبرة من
62
�أنطون �سعادة
�أن يدخل غني ملكوت اهلل»(لوقا )25 - 24 :18 ،لي�س حكماً عليهم بالرف�ض والهالك من �أجل غناهم ،بل تعييناً حلقيقة حالهم التي اختاروها لأنف�سهم� ،إذ ف�ضلوا �أموالهم على عمل م�شيئة اهلل .وهذا التعليم لي�س �ضد الغني عينه ،كما �أوهم ر�شيد اخلوري جهله ،بل �ضد جعل املال معبود الإن�سان من دون اهلل �أو الف�ضائل العليا .و�إذا تابع الدار�س ذيول هذا احلادث والتعليم امل�سيحي امل�ستخرج منه ظهر له عظم تدجيل ر�شيد اخلوري بادعائه فهم تعليم امل�سيح وال�شريعة الإ�سالمية وتعليم حممد .فالآيات التالية هذا ن�صها« :فقال ال�سامعون فمن ي�ستطيع �إذاً �أن يخل�ص .فقال ما ال ي�ستطاع عند النا�س م�ستطاع عند اهلل .فقال بطر�س هو ذا نحن قد تركنا كل �شيء وتبعناك .فقال لهم احلق �أقول لكم �إنه ما من �أحد ترك بيتاً �أو والدين �أو �أخوة �أو امر�أة �أو بنني لأجل ملكوت اهلل� ،إال ينال يف هذا الزمان �أ�ضعافاً كثرية ويف الدهر الآتي احلياة الأبدية»(لوقا .)30 - 26 :18 ،ف�إذاً الق�صد الوا�ضح من ن�ص التعليم �أن يثاب الإن�سان يف هذه الدنيا �أي�ضاً ف�ض ًال عن ثواب الآخرة فيزداد غناه الدنيوي �أي�ضاً �إذا عمل بهذا التعليم. فكيف يكون هذا القول موجباً للفقر ،كما ّيدجل ر�شيد �سليم اخلوري؟ ومن مقابلة �آيات القر�آن ،املثبتة يف احللقة ال�سابقة وهذه احللقة ،على هذه الآيات الإجنيلية يت�ضح �أن املطابقة بني التعليمني امل�سيحي والإ�سالمي هي كلية .ويف بع�ض الآيات املطابقة لي�ست �أ�سا�سية فقط بل �شكلية �أي�ضاً كما يف تعداد الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ،الذي يكاد يكون حرفياً يف الإجنيل والقر�آن. يرم من ورائها ننتقل �إىل �أخطر الأقوال التي فاه بها ر�شيد اخلوري يف حار�ضته الهجائية التي مل ِ �إىل غري �إثارة الفتنة الدينية وا�ستدرار جيوب الذين ال يزال ي�أخذهم هو�س التع�صب الديني. ونحن ال يهمنا من تناول هذا القول الدفاع عن الدين امل�سيحي �أو �إثبات �صحته و�صحيحه، ل�سنا مب�شري �أديان .و�إذا كان ر�شيد اخلوري �أراد �أن يكون مب�شراً دينياً لق�ضاء لبانة يف نف�سه، فذلك �ش�أنه هو الذي ال ندخل فيه ،وال يف �ش�أن الذين �أغروه بركوب هذا املركب اخل�شن. نحن ن�سوق هذا الدر�س من �أجل حماربة التدجيل العلمي والتدجيل الديني واال�ستهزاء بالتعاليم على االطالق� ،سواء �أكانت دينية �أم غري دينية .ومن �أجل �إي�ضاح احلقائق التي ت�ساعد على التخفيف من غلواء التع�صب الديني املبني على ت�شويه هذه احلقائق ،ون�شوء
املسيحية واحملمدية والقومية
63
اعتقادات يف �صددها ال ميكن �أن يذهب التع�صب الأعمى بدون ذهابها. �سماه �أثبتنا يف ما تقدم فقرة من حار�ضة ر�شيد اخلوري جمعت النتيجة الكلية الكاملة ملا ّ �صاحب احلار�ضة «بحثاً دينياً �إ�سماً واجتماعياً فع ًال» يف ما يتعلق بالدين امل�سيحي �أو الإجنيل، وهي الفقرة القائلة �إن الإجنيل كتاب «ال يع ّلم غري الزهد وقهر اجل�سد وحب�س العقل يف قف�ص من غباوة اال�ست�سالم ملا وراء املنظور ،وهو يقتل املواهب ويهي�ض الأجنحة ويع�صب على العيون» ،و�إنه «ال ب�أ�س يف �شريعته �أن تعي�ش عبداً رقيقاً مدى احلياة ت�سام اخل�سف والهوان واجللد بال�سياط ما دمت تعتقد �أن بعد املوت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك وا�ست�سالمك و�صربك على الظلم» .وقلنا �إننا �سنعود �إليها بعد بحث قوله �إن امل�سيحية «توجب الفقر �شرطاً لدخول ال�سماء» ،فلنبحث يف هذا الكالم. �إن هذا القول هو الذي عنيناه يف احللقة الرابعة ع�شرة (الثالثة يف الرتتيب اجلديد) وجنعله هنا �شاهداً على قولنا هناك �إنه �سف�سطة �سهلة ال�شيوع عند العامة وعند اخلا�صة الناق�صة الثقافة ،و�إي�ضاحنا �أن �سبب هذه ال�سهولة هو كمال �سطحية هذه ال�سف�سطة و�إغفالها احلقائق االجتماعية والتاريخية .وهو الإغفال الذي ر�أينا �أوجه يف تف�ضيل الدين الإ�سالمي على الدين امل�سيحي ل�سبب �أن حممداً «�أ�شاد بذكر العلم وف�ضل العلماء و�أنه ال يوجد يف الإجنيل �آية واحدة تذكر العلم بخري �أو ب�شر». ال يذكر �صاحب احلار�ضة الن�صو�ص الإجنيلية التي ا�ستند �إليها وحللها وحقق فيها ،ليخرج بهذه ال�سف�سطة الباهرة يف «بحثه االجتماعي فع ًال» القائلة �إن الإجنيل كتاب ال يع ّلم غري الدرو�شة والزهد وحب�س العقل واال�ست�سالم للعبودية وال�صرب على الظلم .فهذا الكالم املر�سل جزافاً على عواهنه من غري �ضابط من الن�صو�ص ،وال �شواهد كاملة من التعاليم التي يتناولها ،هو �آخر بدعة من بدع الواغلني على العلم يف ما ميكن �أن يحتمل �أن ي�سمى بحثاً علمياً «�إجتماعياً» ،مهما يكن من �ش�أن هذا النعت غري امل�ضبوط .فه�ؤالء ال�شياطني �أو ال�سعادين ال يرون �ضرورة لبحث التعاليم �أو املباديء �أو الأقوال التي يعطون حكمهم عليها ب�صورة نهائية وجازمة .فعقلية عظيمة ال�سخافة ،كعقلية ر�شيد اخلوري ،ال جتد حاجة والبت يف طبيعة كل منهما لدر�س ن�صو�ص الإ�سالم ون�صو�ص امل�سيحية حني النظر فيهما ّ
64
�أنطون �سعادة
وخ�صائ�صه ،و�إظهار كيفية تو�صلها �إىل النتيجة الأخرية التي ت�صل �إليها� .إن هذه العقلية ال�سف�سطائية التي ال تعلو عن عقلية الأم ّيني ترى �أن التعاليم �شائعة بني النا�س ومعروفة و�أن �إقرار النتيجة �شيء بديهي ال ي�ستدعي �إعادة نظر ،بل يكفي تقدمي �آية واحدة مف�صولة عن مو�ضوعها ك�آية طلب امل�سيح من الغني �أن يبيع �أمالكه ويوزعها على الفقراء ليمتحن �صدق �إميانه ،واتخاذها �شاهداً يغني عن الباقي يف عرف هذه العقلية الفقرية الثقافة الطامعة باخللود واملال .وقد ر�أينا يف احللقة ال�سابقة وما تقدم من هذه احللقة مقدار �إ�ساءة فهم الآية ومو�ضوعها و�إ�ساءة اال�ست�شهاد بها. �إن التعاليم امل�سيحية �شائعة وكذلك التعاليم الإ�سالمية .ولكن �شيوع هذه التعاليم ال يعني دائماً �أن ال�شائعة عندهم در�سوها وحم�صوها وفهموها فهماً كلياً �أو م�ستوفى ،بل قد يعني، وهو الأ�صح� ،أن من اجلهالة اال�ستناد �إىل هذا ال�شيوع غري امل�ضبوط ،خ�صو�صاً يف جمتمع ال يزال فيه بقية كبرية من انحطاط الثقافة ونق�ص العلم اللذين هما من نتائج فقده رابطته و�سيادته القوميتني .ولوال �شيوع هذه التعاليم �شيوعاً يو ّلد كثرياً من الأغاليط يف حميط الثقافة املنحطة والعلم الناق�ص ،ملا وجدنا بنا حاجة لتناول هذه ال�سف�سطة ودر�سها وحتليلها ب�صورة جدية ،بل لك ّنا ف�ضلنا خو�ض املو�ضوع من نقطة ابتدائية غري هذه النقطة ،ومن وجه غري الوجه الذي حتملنا عليه هذه ال�سف�سطة. وقد ر�أينا يف ما تقدم مقدار ما يعرف �أو ما يجهل ر�شيد اخلوري من الإ�سالم وبع�ض مقدار ما يعرف �أو ما يجهل من امل�سيحية ،فل َرن مقداراً �آخر من علمه ومن جهله مبتدئني بقوله �إن الإجنيل «ال يع ّلم يف هذه الدنيا غري الدرو�شة والزهد». من �أين ا�ستمد اخلوري هذا احلكم؟ من خبط العامة يف التعاليم ذات ال�صبغة الفل�سفية يف املناقب .من م ّنا مل ي�سمع كثرياً من العامة واخلا�صة الناق�صة الثقافة تتحدث عن امل�سيحية والإ�سالم ب�صورة بعيدة عن الفهم؟ من م ّنا مل تطرق �أذنه مثل هذه العبارة احلقرية «تقرب الإجنيل �إي�ش بيعلم غري الك�سل� .شو بي�ستفيد الإن�سان من قول امل�سيح« :ال تهتموا لأنف�سكم مبا ت�أكلون وال لأج�سادكم مبا تلب�سون»« ،وال تهتموا قائلني ماذا ن�أكل �أو ماذا ن�شرب �أو ماذا نلب�س؟».
املسيحية واحملمدية والقومية
65
�ألي�س من هذا القبيل متاماً ما يقوله ر�شيد اخلوري يف حار�ضته مدعياً �أن الإجنيل «ال يعلم غري الدرو�شة والزهد»؟ بلى .بال زيادة وال نق�صان .ولكن ما �أبعد هذه النظرة االنحطاطية عن مق�صود هذا التعليم امل�سيحي! امل�سيح مل يقل هذين القولني اللذين ت�ست�شهد بهما العامة املبلبلة واخلا�صة امل�ستمدة ثقافتها من الأفكار ال�شائعة ،اخلطرة ،وحدهما كتعليم كامل تام يف ذاته ،بل قالهما يف عر�ض موعظة كاملة تعالج حالة عامة وتتجه نحو نتيجة كلية هي حماربة االغراق يف املادية الفردية واالنحطاط �إىل �أ�سفل دركاتها ،حيث ي�صبح قلب االن�سان مع كنزه املادي املف�ضل عنده على جميع الف�ضائل العليا املن�سوبة �إىل «م�شيئة اهلل» ،واالنت�صار على الأنانية الفردية لقيام جمتمع �أف�ضل .فامل�سيح مل يقل �آية واحدة ليعبرّ بها عما �أراد �أن ير�سخه يف الأذهان ،بل قال �سل�سلة عبارات يف موعظته على اجلبل كلها مرتبطة بهذا املعنى الواحد املتعلق بوجوب تف�ضيل حمبة املناقب والف�ضائل الباقية على حمبة املال ،فهو مل يكد يتم عبارته القائلة« :فال تطلبوا ما ت�أكلون �أو ما ت�شربون وال تقلقوا» حتى �أردفها ب�آيتني ثانيتني ات�صلتا بها مبا�شرة وهما« :لأن هذا كله تتطلبه �أمم العامل و�أبوكم (اهلل) يعلم �أنكم حتتاجون �إىل هذا .بل اطلبوا ملكوت اهلل وهذا كله يزاد لكم»(لوقا.)31 - 29 :12 ، فهل وقف ر�شيد اخلوري ومن حذا حذوه عند اجلزء الثاين من الآية الأخرية املذكورة �آنفاً وت�أمل معناها ووجد �أنها ال تعني �شيئاً غري الدرو�شة والزهد والفقر؟ هل وقفوا عند هذه الآية املذكورة �آخراً ومتعنوا يف معناها الذي جمع املق�صود من الآيات ال�سابقة والغر�ض الكامل الذي رمى �إليه امل�سيح منها ووجدوا �أن هذا الغر�ض هو الدرو�شة والزهد والفقر ،ال �أكرث وال �أقل؟ �شتان بني غر�ض التعليم وما فهمه ويفهمه رجل يتكلم يف الدين وال يعرف ما هو الدين ويدعي العلم وهو لي�س �سوى خرقاء ذات نيقة. ّ �إن در�س موعظة امل�سيح والآيات املتعلقة مبو�ضوع الغنى يو�صل �إىل نتيجة واحدة هي� :أنه �إذا اجته �أبناء املجتمع الواحد نحو طلب حالة ال�سعادة التي تو ّلدها الف�ضائل ال�سامية ف�إن املجتمع يخ�سر الأنانية الفردية املنحطة ،القتالة ،ولكنه ال يخ�سر �أ�سباب العي�ش والرفاه ،لأن التعاون
66
�أنطون �سعادة
يف املجتمع يولد املحبة واملحبة تزيد التعاون ،ومن هذا التفاعل بني املحبة والتعا�ضد يتولد فالح املجتمع .ف�أي عقل غري �سخيف يقول �إن فالح املجتمع يعني الدرو�شة والزهد والفقر؟ وهل يقول الإ�سالم بغري هذه النتيجة؟ �أتعار�ض الآيات القر�آنية والأحاديث النبوية هذا التعليم؟ كال ،بل هي ت�ؤيده وتتجه معه يف اجتاه واحد .وال يحاول نفي ذلك غري جاهل مغرور ّيدعي �أنه �أخرب بالإ�سالم من القر�آن ومن حممد نف�سه. �أنظر كيف يعلم القر�آن هذا التعليم الإجنيلي عينه{ :من كان يريد حرث الآخرة نزد له يف حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا ن�ؤته منها وما له يف الآخرة من ن�صيب}(ال�شورى.)20 ، فهذه الآية توافق كل املوافقة �آيات الإجنيل يف تع�سري دخول ال�سماء على الذين يف�ضلون حرث الدنيا على حرث الآخرة .و�إليك �آية �أخرىَ { :مث َُل الذين ينفقون �أموالهم يف �سبيل اهلل كمثل حبة �أنبتت �سبع �سنابل يف كل �سنبلة مائة حبة واهلل ي�ضاعف ملن ي�شاء واهلل وا�سع عليم}(البقرة .)261 ،و�أخرى{ :وما �أموالكم وال �أوالدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى �إال من �آمن وعمل �صاحلاً ف�أولئك لهم جزاء ال�ضعف مبا عملوا وهم يف الغرفات �آمنون} (�سب�أ ،)37 ،وغريهاُ { :ز ّين للنا�س حب ال�شهوات من الن�ساء والبنني والقناطري املقنطرة من الذهب والف�ضة واخليل املُ َ�س َّومة والأنعام واحلرث ذلك متاع احلياة الدنيا واهلل عنده ح�سن امل�آب}(�آل عمران ،)14 ،وغريها{ :فما �أوتيتم من �شيء فمتاع احلياة الدنيا وما عند اهلل خري و�أبقى للذين �آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}(ال�شورى.)36 ، �أال يرى ر�شيد �سليم اخلوري ،الوا�ضع على عينيه نظارتني ذهبيتي احلتار والوهج كنظارتي �إيليا �أبي ما�ضي� ،أن الإ�سالم ي�شرتك مع امل�سيحية يف تعليم «الدرو�شة والزهد والفقر واال�ست�سالم ملا وراء املنظور واخل�ضوع الأعمى للتعاليم ال�سماوية؟» �ألي�س هكذا يفهم �شكيب �أر�سالن الإ�سالم حتى قال عن ر�شيد اخلوري �إنه يفوق كثرياً من �أقحاح امل�سلمني املدافعني عن �شريعة حممد وخلفائه يف الأر�ض؟
املسيحية واحملمدية والقومية
67
تأويل اجلاهلني ر�أينا يف احللقة ال�سابقة مقدار ف�ساد كالم ر�شيد اخلوري يف ت�أويله اجلاهل لكالم امل�سيح، احلا�ض على ترك الأنانية القاتلة لروح املحبة املانعة التعاون يف املجتمع .ويف هذه احللقة ّ �سرنى ت�أويله اجلاهل لكالم امل�سيح يف ترك املخا�صمة ووجوب الت�ساهل واملغفرة .وهذا الت�أويل اجلاهل هو قوله« :ال ب�أ�س يف �شريعته �أن تعي�ش عبداً رقيقاً مدى احلياة ت�سام اخل�سف والهوان واجللد بال�سياط ما دمت تعتقد �أن بعد املوت حياة ثانية تثاب فيها على خنوعك وا�ست�سالمك و�صربك على الظلم». �إذا كان ر�شيد اخلوري قد حاول �أن يدعم ت�أويله ال�سابق يف «الدرو�شة والزهد» بالتعلق بعبارة واحدة من عبارات امل�سيح فهو مل يجد حاجة لت�أييد ت�أويله هذا الأخري ب�آية �أو بجملة من الإجنيل .ومما ال �شك فيه �أنه ي�ستخرج هذا الت�أويل الفا�سد من �آيات �إجنيلية �شائعة عند العامة �شيوعاً غري م�ضبوط ،هي من موعظة امل�سيح على جبل الزيتون وهذه هي�« :أما �أنا ف�أقول لكم ال تقاوموا ال�شر بل من لطمك على خدك الأمين فح ّول له الآخر .ومن �أراد �أن يخا�صمك وي�أخذ ثوبك ِّ �سخرك مي ًال فام�ش معه اثنني .ومن �س�ألك ف�أعطه فخل له رداءك �أي�ضاً .ومن ّ ومن �أراد �أن يقرت�ض منك فال متنعه� ...أحبوا �أعداءكم و�أح�سنوا �إىل من يبغ�ضكم و�ص ّلوا لأجل من يعنتكم وي�ضطهدكم»(متى.)41 - 39 :5 ، ر�شيد اخلوري و�أمثاله من قليلي العلم وفقراء الأدب ي�أخذون هذه الآيات وي�أولونها على قدر عقليتهم ،ويقولون �إن ت�أويلهم هذا تعليم امل�سيح .وت�أويلهم هو ،كما ر�أينا من كالم اخلوري، �أن الق�صد من هذا التعليم هو جعل االن�سان م�ست�سلماً للخنوع والعبودية واخل�سف والهوان
68
�أنطون �سعادة
واجللد بال�سياط .فل َرن هل ي�صح هذا الت�أويل؟ قلنا يف ما تقدم �إن امل�سيح مل ي�ضع �شريعة كما يتوهم ر�شيد اخلوري الذي ال يعرف الفرق بني تعليم العقيدة وا�شرتاع القوانني ،ولذلك ال يجوز قط �أن حتمل الآيات املذكورة على حممل احلكم القانوين ،فهي تعليم فيه ت�شديد يف معاجلة حالة اجتماعية و ّلدها جمود ال�شرع ونق�ص التعاليم املناقبية يف الدين .وهذا التعليم ال يق�صد ق�سمة النا�س �إىل ظاملني ومظلومني ،كما يتوهم �أمثال ر�شيد اخلوري ،فتكون هنالك جماعة يحق لأفرادها �أن ي�صفعوا كل من لي�س بفئتهم على وجهه ،وتكون هنالك جماعة يتوجب على �أفرادها �أن يحو ّلوا خدودهم الأخرى ل�ضاربيهم ،بل هو يق�صد نفي اخل�صومة وال�ضرب والظلم من املجتمع .والآيات املذكورة ال ميكن �أخذها وحدها ،لأنها مل ُتقل يف معر�ض الإطالق ،بل يف معر�ض مو�ضوع متعلقة به ومرتبطة به ب�آيات �أخرى معها يف وقت واحد: حث امل�سيح تالميذه على ابتغاء الرب و�سالمة القلب مهما تعر�ضوا للمالم واال�ضطهاد، بعد �أن ّ انتقل �إىل تعليم فل�سفته االجتماعية التي ال تقف عند حدود ال�شرع .فال�شرع اجلزائي وظيفته �سلبية �أكرث مما هي �إيجابية .فالقانون يعاقب على اجلرم ولكنه ال يعينّ الف�ضائل وهو ي�ضع احلد ولكنه ال ي�شق طريق االرتقاء� .إنه يحفظ نظام املجتمع ولكن ترقية نف�سيته تبقى من مهام التعاليم املناقبية والنظرات الفل�سفية يف قواعد احلياة االجتماعية و ُمثُلها العليا .فهذه التعاليم والنظرات الفل�سفية ال تكتفي بحالة الإن�صاف الأوىل التي �أوجدتها ال�شرائع والقوانني �سواء �أكانت دينية �أم مدنية ،وهي حالة ت�أمني ح�صول الطريقة العملية)(Modus Vivendi لت�سيري �ش�ؤون املجتمع وحفظ نظامه .بل ترمي �إىل تعديل �ش�ؤون املجتمع وتغيري نظامه على ما ينطبق على مثلها العليا وما تراه �أف�ضل لرتقية احلياة االن�سانية االجتماعية .وتظهر احلاجة �إىل هذه التعاليم والنظرات الفل�سفية يف املجتمعات التي اجتازت طور الت�شريع االبتدائي وحازت الطريقة العملية ال�صاحلة لت�سيري �ش�ؤونها احليوية .وهذه هي املجتمعات ال�صاحلة لن�شوء التعاليم الفل�سفية .و�سورية كانت بالد متدن باذخ عرفت الت�شريع املدين ثم جاءها اليهود الذين قالوا مبذهب جديد يف الدين هو مذهب الإله الذي يرى وال ُيرى ،خالق ال�سموات والأر�ض وعامل الغيب وجعلوه م�صدر ال�شرع ف�صار ال�شرع جامداً غري قابل التغيري ،مهما تغيرّ
املسيحية واحملمدية والقومية
69
الزمان وتقلبت الظروف والأحوال ،و�صارت النظرة �إىل احلياة م�ؤ�س�سة مناقبياً وفل�سفياً ،على ال�شرع .واكتفى النا�س ،الذين �آمنوا بالدين اجلديد ،بالأ�سا�س املناقبي امل�ستمد من ال�شرع. بجمود ال�شرع ،عن طريق الدين ،جمدت الفل�سفة املناقبية �أي�ضاً و َب ُط َل مبد�أ الفيل�سوف ال�سوري الكبري زينون القائل ب�أن الفكر �أو العقل هو جوهر احلياة االن�سانية .فحدث يف املجتمع ال�سوري ت�صادم عنيف بني النف�سية ال�سورية وال�شرع املو�سوي الذي �أخذ يقوى على عامل العقل ،ب�سبب قوة فكرة اهلل التي ا�ستند �إليها والتي �أخذت تتغلب على فكرة �آلهة الأ�ساطري القدمية والأ�صنام .ومل يعد يف الإمكان الت�أثري على املجتمع �إال عن طريق فكرة اهلل ،لأن هذه الفكرة �أ�ضعفت منزلة احلكمة الب�شرية وقوة العقل االن�ساين جتاه حكمة اهلل وتدبريه .وهذا هو ال�سبب يف اتخاذ التعاليم املناقبية امل�سيحية الفكرة الدينية اجلديدة �أ�سا�ساً لها .فظهر امل�سيح مبظهر املوعود به من اهلل ليكون به اخلال�ص .وعلى هذا االعتقاد الديني ا�ستند امل�سيح لي�ؤدي ر�سالته املناقبية التي �أهم ما فيها ،ب�صرف النظر عن �أهمية تعاليمها، �أنها �أعادت النظرة ال�سورية �إىل احلياة القائلة بت�سليط العقل على جمرى التاريخ ،و�أن ميزة االن�سان الأ�سا�سية هي الفكر ،و�أنها كانت انت�صار النف�سية ال�سورية الفا�صل على النف�سية اليهودية القائلة بتحديد احلياة االن�سانية وفاقاً لل�شرع املو�سوي. قلنا �إن امل�سيح بعد �أن �شدد روحية تالميذه انتقل �إىل تعليم فل�سفته املناقبية االجتماعية. وقد بد�أ امل�سيح تعاليمه مبهاجمة الوقوف عند حدود ال�شرع واالكتفاء بالفرائ�ض .قال« :قد �سمعتم �أنه قيل للأولني :ال تقتل ف�إن من قتل ي�ستوجب الدينونة� .أما �أنا ف�أقول لكم �إن كل من غ�ضب على �أخيه ي�ستوجب الدينونة ومن قال لأخيه راقاً ي�ستوجب حكم املحفل .ومن قال يا �أحمق ي�ستوجب نار جهنم»(متى ،)22 - 21 : 5 ،فهذا الت�شديد بوجوب ترك اجلمود املحدد بال�شرع لي�س ت�شريعاً جديداً ين�ص على معاقبة الذي يغ�ضب على �أخيه ،كما ن�ص ال�شرع املو�سوي امل�أخوذ عن ال�شرع الكنعاين على معاقبة القاتل بالقتل ،بل هو تعليم يقول باحلكم املناقبي امل�ستمد من النظرة الفل�سفية اجلديدة .ويثبت �أنه تعليم لي�س فقط يف �أنه مل يعني العقوبات ،بل يف الآيات التابعة ،وهي« :ف�إذا قدمت قربانك �إىل املذبح وهناك ّ تذكرت ٍ وحينئذ وام�ض �أو ًال ف�صالح �أخاك �أن لأخيك عليك �شيئاً فدع قربانك هناك �أمام املذبح ِ
70
�أنطون �سعادة
ِ وقدم قربانك»(متى ،)24 - 23 :5 ،ثم الآية« :قد �سمعتم �أنه قيل للأولني ال تزن� .أما ائت ّ �أنا ف�أقول لكم �إن كل من نظر �إىل امر�أة لكي ي�شتهيها فقد زنى بها يف قلبه»(متى- 27 :5 ، ،)28ثم الآيات« :قَد قيل من طلق امر�أته فليدفع �إليها كتاب طالق� .أما �أنا ف�أقول لكم من طلق امر�أته �إال لعلة زنى فقد جعلها زانية ومن تزوج مطلقة فقد زنى»(متى.)32 - 31 :5 ، ويف تعليم الآيات الأخرية قواعد مناقبية للرتفع عن ال�شهوات احليوانية واالجتاه نحو املثال الأعلى التمدين نحو احلب وتفاهم احلبيبني للإ�شرتاك يف حياة نف�سية راقية ،يكون احلب فيها حافزاً على الأعمال الكبرية والإنتاج العمراين والثقايف بد ًال من التال�شي يف املغامرات ال�شهوانية .والإ�سالم الذي ن�ش�أ يف �إقليم حدد احلياة الب�شرية حتديداً �شديداً و�أحرجها ،حتى �أ�صبحت ال�شهوات احلادة املن�صرف الوحيد لقوى النا�س ،ف�ضل �أن يتزوج الرجل امر�أة واحدة يف حني �أباح تعدد الزوجات نظراً ملقت�ضيات البيئة ،يقول القر�آن{ :ف�إن خفتم �أال تعدلوا فواحدة �أو ما ملكت �أميانكم}(الن�ساء .)3 ،وقد تابع امل�سيح �إعطاء القواعد املناقبية فقال« :قد �سمعتم �أنه قيل للأولني ال حتنث ،بل � ِ أوف للرب ب�أق�سامك� .أما �أنا ف�أقول لكم ال حتلفوا البتة ال بال�سماء ف�إنها عر�ش اهلل وال بالأر�ض ف�إنها موطيء قدميه .وال حتلف بر�أ�سك لأنك ال تقدر �أن جتعل �شعرة منه بي�ضاء �أو �سوداء ولكن ليكن كالمكم نعم نعم وال ال وما �سام جداً يرفع احرتام زاد على ذلك فهو من ال�شرير»(متى .)37 - 33 :5 ،وهذا التعليم ٍ النا�س �أنف�سهم و�أقوالهم حتى ي�صريوا يعنون ما يقولون دائماً ،فيكون كالمهم موثوقاً به من غري حاجة �إىل حلف خا�ص يدل على ال�شك ب�صدق رواياتهم و�أقوالهم الأخرى .وتابع تعليمه بعدم جتميد الف�ضائل النف�سية باالكتفاء بحد القانون فقال« :قد �سمعتم �أنه قيل العني بالعني وال�سن بال�سن� .أما �أنا ف�أقول لكم ال تقاوموا ال�شر بل من لطمك على خدك الأمين فح ّول له الآخر .ومن �أراد �أن يخا�صمك وي�أخذ ثوبك ِّ �سخرك فخل له رداءك �أي�ضاً .ومن ّ فام�ش معه اثنني .ومن �س�ألك ف�أعطه ومن �أراد �أن يقرت�ض منك فال متنعه»(متى:5 ، مي ًال ِ .)42 - 38 هذه القاعدة املناقبية ال�سامية لي�س ت�أويلها احل�سن ما �أ ّوله ر�شيد اخلوري من غري ا�ستناد �إىل كالم امل�سيح .بل ت�أويلها الوحيد ال�صحيح الذي ال يقبل اجلدل هو �أن امل�سيح قال
املسيحية واحملمدية والقومية
71
بوجوب الت�ساهل يف احلقوق الفردية من �أجل خري املجتمع .فقوله« :ال تقاوموا ال�شر» ال يعني عدم مقاومة الذين يف�سدون املجتمع ،بل يعني عدم اال�ست�سالم لعوامل الف�ساد التي منها تف�ضيل حق الفرد وخريه على حق املجتمع وخريه .فال�شرير هو الذي يريد �أن يقودك �إىل ال�شر بدفعك �إىل مقاومته ب�سالحه وهو ال�شر ،وا�ستعمال هذا ال�سالح ال يخفف ال�شر يف املجتمع ،بل يزيده ،لأن االنتقام يكون بحدة وبال قيا�س .فالغنب ال بد واقع وبالغنب ازدياد الأحقاد وال�ضغائن والعداوة وتفكك املجتمع وف�ساده .فمقاومة ال�شر احلادث بني �إن�سان وابن جمتمعه تكون ،ح�سب قاعدة امل�سيح املناقبية ،بالت�ساهل يف احلقوق الفردية الذي ينتهي يف الأخري �إىل نفي ال�شر ،لأنه متى تعلم كل �إن�سان �أن يت�ساهل من �أجل اخلري العام مل يعد هناك من يريد الظلم ،فينتفي الظلم باملرة �أو ّ يقل كثرياً حتى ال ُي�شعر به ،و�إذا انتفى الظلم فكيف يكون بانتفائه ح�صول اخلنوع واخل�سف والهوان؟ �إن ر�شيد اخلوري اجلاهل تعاليم الدينني امل�سيحي والإ�سالمي يظن �أن الإ�سالم يخالف هذا التعليم امل�سيحي ،وبنا ًء على هذا الظن الآثم �أخذ ي�صرح باختالف الإ�سالم وامل�سيحية يف هذا ال�صدد .ولكن احلقيقة هي �أن الإ�سالم يع ّلم هذا التعليم عينه يف القر�آن واحلديث ،فانظر ما يقول القر�آن{ :وال ت�ستوي احل�سنة وال ال�سيئة ادفع بالتي هي �أح�سن ف�إذا الذي بينك وبينه عداوة ك�أنه ويل حميم}(ف�صلت{ .)34 ،ثم كان من الذين �آمنوا وتوا�صوا بال�صرب وتوا�صوا باملرحمة}(البلد�{ .)17 ،إن تبدوا خرياً �أو تخفوه �أو تعفوا عن �سوء ف�إن اهلل كان عفواً قديراً}(الن�ساء .)149 ،و�أقوى هذه الآيات يف هذا االجتاه هي املذكورة يف الأول من �سورة ال�سجدة [ ُف ّ�صلت] .وقد اكتفت الر�سالة الإ�سالمية بهذا املقدار من موافقة التعليم امل�سيحي مراعاة حلالة البيئة ،ولذلك كانت هذه الآيات مطلقة من غري تعيني لكيفية التطبيق بالأمثال ،كما يف الر�سالة امل�سيحية .فالبيئة العربية كانت ،كما ب ّينا يف ما تقدم من حلقات هذا البحث� ،أ�شد حاجة �إىل و�ضع حد للفو�ضى و�إقامة حدود ال�شرع التي متنع االنتقام اجلامح الذي كاد يقع فيه النبي نف�سه ،منها �إىل احلياة الثقافية العليا .فقد روي عن حممد �أنه «ملا ر�أى حمزة وقد ُمثّل به» قال« :واهلل لئن �أظفرين اهلل بهم لأمث ّّلن ب�سبعني مكانك» (ذكره الإمام البي�ضاوي( ) يف �شرحه �سورة النحل) .ثم �أن النبي كفّر عن ميينه بنزول الآية: 1
72
�أنطون �سعادة
{و�إن عاقبتم فعاقبوا مبثل ما عوقبتم به ولئن �صربمت لهو خري لل�صابرين}(النحل.)126 ، ومع �أن هذه الآية م�ش ّربة روحاً م�سيحي ًة يف الق�سم الأخري منها وهو قوله{ :لئن �صربمت لهو خري لل�صابرين} ف�إن الق�سم الأول جمان�س لل�شرع املو�سوي الذي هو بداءة تنظيم املجتمع. وقد كانت موجبات البيئة لت�ساهل الر�سالة قوية �أحياناً خ�صو�صاً بعد االجتاه نحو جمع كلمة امل�سلمني على قتال الذين ال ي�ؤمنون �إميانهم ون�صرة الدين بالقوة ،كالت�ساهل بتجويز �ضرب الن�ساء حلملهن على �إطاعة رجالهن .فقد وردت يف �سورة الن�ساء الآية{ :الرجال قوامون ف�ضل اهلل بع�ضهم على بع�ض ومبا �أنفقوا من �أموالهم (يف زواجهن) فال�صاحلات على الن�ساء مبا ّ قانتات حافظات للغيب مبا حفظ اهلل والالتي تخافون ن�شوزهن فعظوهن واهجروهن يف امل�ضاجع وا�ضربوهن ف�إن �أطعنكم فال تبغوا عليهن �سبي ًال �إن اهلل كان علياً كبرياً}(الن�ساء، .)34فلهذه الآية عالقة بحكاية حال وهي �أن �سعد بن الربيع� ،أحد نقباء الأن�صار ،ن�شزت (ع�صت) عليه امر�أته حبيبة بنت زيد بن �أبي زهري فلطمها .فانطلق بها �أبوها �إىل النبي ف�شكا، فقال حممد «لتقت�ص منه» .ثم كان �أن الآية نزلت فقال النبي�« :أردنا �أمراً و�أراد اهلل �أمراً والذي �أراد اهلل خري» .ويف هذا القول تدبري �سيا�سي حكيم ملعاجلة احلالة معاجلة ما كان يجب �أن تولد �صدعاً يف �صفوف امل�سلمني. مع كل هذا الت�ساهل ال�شرعي الذي �أبدته الر�سالة املحمدية جتاه مقت�ضيات حالة البيئة ،ف�إن حدث به حديثاً ال �إلزام فيه �أعلى مطلباً للنا�س عامة و�أبعد النبي كان يف بع�ض كالمه الذي ّ يحث امل�ؤمن على التم�سك به مرمى ،م�ستفيداً من �أن كالمه لي�س �شرعاً حتمياً ،بل �إر�شاد ّ من غري عنت وال �إكراه .فهو يف احلديث الذي يخرج به من خ�صو�صيات البيئة و�ضروراتها �إىل عامل االن�سانية الوا�سع الذي يتناول بيئات التمدن �أي�ضاً يجاري امل�سيح يف تعاليمه املناقبية جماراة ال ترتك زيادة مل�ستزيد. يف احلديث الذي يتناول تعاليم عمومية ،كما يف الآيات التي يالحظ �أن عوامل البيئة قيدتها بع�ض التقييد ،تظهر لطافة نف�س النبي العربي ال�سورية الأ�صل ،ف�إذا جوهرها وجوهر نف�س امل�سيح واحد لأنهما من �أرومة واحدة يف الأ�صل ،قبل �أن �صارت القبائل الكنعانية م�ستعربة وهي القبائل العدنانية الكنعانية الأ�صل التي منها النبي حممد.
املسيحية واحملمدية والقومية
73
لينظر القاريء كيف ي ّتحد التعليم املحمدي بالتعليم الي�سوعي ف�إذا هما تعليم واحد ولي�سا تعليمني .و�إذا كانت البيئة العربية ال�صحراوية و�أ�ساليب معي�شتها قد اقت�ضت نظراً خا�صاً يق�صر قيد �شعرة عن مرمى الر�سالة بها ف�إن املرمى الأخري املناقبي للر�سالة الإ�سالمية مل ّ امل�سيحية .قال حممد يف حديث له �« :أو�صاين ربي بت�سع �أو�صيكم بها� :أو�صاين بالإخال�ص عمن يف ال�سر والعالنية ،والعدل يف الر�ضى والغ�ضب ،والق�صد يف الغنى والفقر .و�أن �أعفو ّ ظلمني و�أعطي من حرمني و�أ�صل من قطعني ،و�أن يكون �صمتي فكراً ونطقي ذكراً ونظري عرباً» ،ف�إن العفو عن الظلم هو موا ٍز لتحويل اخلد الآخر ملن �ضربك ،و�إعطاء من يحرم وو�صل فام�ش معه اثنني ومن طلب مالك فال متنعه. �سخرك مي ًال ِ من يقطع موازيان لقول امل�سيح من ّ �إذن ال خالف يف جوهر الر�سالة الإ�سالمية وجوهر الر�سالة امل�سيحية .وال مغايرة �إال فيما اقت�ضاه اختالف البيئة ،ال ما اقت�ضاه ق�صد كل من الر�سالتني ،لأنه ال اختالف يف �أن ق�صدهما واحد. ف�إذا كانت تعاليم امل�سيح تع ّلم اخلنوع واال�ست�سالم والهوان وال�صرب على الظلم ،فتعاليم حممد و�آيات القر�آن توافقها على ذلك كل املوافقة .وال وجه مطلقاً يجيز القول الذي قاله يف هذا ال�صدد ر�شيد اخلوري ،يف حماولة عقيمة لالنت�صار لدين �ضد دين �آخر بت�شويه تعاليم الدينني ون�سبة �أمور �إليهما ال م�ستند �صحيح لن�سبتها �إليهما ،ولعن اهلل من �أراد �إيقاظ الفتنة.
اهلوامش - 1عبداهلل بن عمر البي�ضاوي (تويف 1292م)�« ،أنوار التنزيل و�أ�سرار الت�أويل» اجلزء الثالث، دار الفكر العربي -بريوت ،ال�صفحة .195
74
�أنطون �سعادة
ضعف اإلدراك من نقص العقل ر�أينا يف ما تقدم من هذا البحث �أن مرمى التعاليم املناقبية امل�سيحية �أبعد كثرياً من احلد الذي يبلغه التفكري والتعليم االنحطاطيان العاجزان عن �إدراك قنن الف�ضائل ،ولذلك كان من ال�صعب على النفو�س القانعة بالتفكري والتعليم املذكورين �أن حتاول �إدراكه .وهذه ال�صعوبة مل يجدها �صاحب احلار�ضة يف تتبعه تعاليم امل�سيح فقط ،بل وجدها يف تتبعه تعاليم حممد �أي�ضاً .ولذلك �أغفل �إغفا ًال كلياً ذكر التعاليم الإ�سالمية التي ت�شرتك مع التعاليم امل�سيحية وتك ّون قنة الروحية الإ�سالمية ،ف�شواهده من احلديث النبوي كانت قليلة و�ضعيفة. والأرجح �أنه لي�س له ّاطالع يف هذا الباب الوا�سع� .أما القر�آن فقد �أغفله باملرة والأرجح �أنه يف هذا الباب �أحد الذين قال القر�آن فيهم�{ :أفال يتدبرون القر�آن �أم على قلوب �أقفالها} (حممد.)24 ، ولعل ما يهول ر�شيد اخلوري و�أمثاله ،الذين ف�سدت ن�ش�أتهم واختلطت مثالبهم مبناقبهم ف�إذا هي �شيء واحد ،من التعاليم امل�سيحية ت�شديد امل�سيح يف وجوب كبح جماح ال�شهوات احليوانية كما يف معاجلته حالة الطالق والزنى .فامل�سيح �أراد �أن ُيظهر للمجتمع وخامة عاقبة الظلم الذي ي�أتيه الأفراد والف�ساد الذي يقرتفونه ،مت�سرتين بحكم ال�شريعة القائلة �إنه ال ُجناح على من يط ّلق امر�أته ب�شرط �أن يعطيها كتاب الطالق .ف�صار الرجال امل�سرت�سلون �إىل ال�شهوات وغري العابئني بامل�ضار التي جتلبها �أعمالهم على املجتمع ي�ستهونون ظلم الن�ساء وتطليقهن لأي �سبب من الأ�سباب الب�سيطة ،فتت�أمل الن�ساء ويحدث من وراء ذلك تف�شي الفح�ش وتراخي الروابط العائلية التي هي �أ�سا�س املجتمع .فع ّلم امل�سيح بوجوب ترك تطليق
املسيحية واحملمدية والقومية
75
الن�ساء �إال لعلة الزنى .و�شرح تعليمه قائ ًال« :من طلق امر�أته �إال لعلة الزنى فقد جعلها زانية»(متى� ،)32 :5 ،أي �أنه يرميها يف التجربة ويحملها على الزنى .وقد ال يكون �سبب تطليقها �سوى حجة �ضعيفة يف الظاهر ورغبة باطنة يف تزوج امر�أة �أخرى ا�ستزادة يف التمتع اجل�سدي ،من غري نظر يف العواقب االجتماعية وزيادة يف ا�ستهالك القوى احليوية التي كان الأف�ضل �أن ت�صرف يف ال�ش�ؤون العمرانية والثقافية. �إن هذا التعليم هو ارتقاء يف التعليم التثقيفي املناقبي ،وهو �صعب على الذين ن�ش�أت نف�سيتهم على الف�ساد ،كما هو �صعب القتال على الذين يف قلوبهم مر�ض .والنفو�س ال�ضعيفة ترتد عن الأمور العالية ال�صعبة ،ولكن النفو�س ال�صحيحة تطلب دائماً الأ�سمى مهما يكن من �أمر ال�صعوبات احلائلة دون بلوغه .و�إذا كانت الأمم الراقية ال تفت�أ تكرث بعثاتها على قمة جبل �إفر�ست Everestيف جبال هماليا وهي �أعلى قمة يف العامل ،مع �أن عل ّو هذه القمة يفتك كل مرة بعدد من �أفراد احلملة ،ومع �أن قمة اجلبل لي�ست �سوى قنة مادية كقنن اجلبال الأخرى ،فكم هو �أرفع قدراً و�أ�سمى فخراً طلب �أعلى القنن الروحية واملناقبية .فقول ر�شيد اخلوري �إن هذا التعليم امل�سيحي «يربط الفطرة بال�سال�سل الثقيلة» هو قول مبني على نظرة انحطاطية يف �ش�ؤون احلياة .فهذا التعليم ال «يربط» الفطرة ولكنه يهذبها ويثقفها ويوجه قوتها نحو الأ�سمى .والرمح املثقف هو الأ�صح للحرب من الرمح الأعوج .وق�صد الثقافة �أو الرتبية هو دائماً تقومي االعوجاج وتوجيه قوى احلياة نحو الأف�ضل .هكذا ي�شذب الك ّرام ال�سوري الكرمة فيقطع بع�ض فروعها ويطمر بع�ض الفروع الأخرى ،فيكون من وراء هذا الت�شذيب والتثقيف �أن مقداراً غري ي�سري من حيوية الكرمة يتحول من تغذية فروع م�سرت�سلة �إىل فطرتها العدمية اجلدوى �إىل تغذية الفروع املثمرة ،فتزداد غلة الكرمة �أ�ضعافاً .والرجل الذي يتحول مقدار غري ي�سري من حيويته عن تغذية ال�شهوات الفطرية �إىل الأعمال املفيدة من ميكانيكية و�صناعية وزراعية وعلمية و�أدبية وفنية واجتماعية واقت�صادية ال يكون قد خ�سر قوته ،بل نن�س �أن امل�سيح تك ّلم بنا ًء على �أن كيان العائلة تكون قد حتولت �إىل الأنفع للمجتمع .وال َ عم املجتمع املعروف يف �سورية هو �أ�سا�س املجتمع .وهذا الأ�سا�س العائلي ال�سوري هو الذي ّ املتمدن ،ففكرة العائلة هي يف �أ�سا�س فكرة امل�سيح يف الزواج والطالق والزنى.
76
�أنطون �سعادة
و�إذا رجعنا �إىل احللقات الأوىل من هذا الدر�س التي تو�ضح لنا نف�سية ر�شيد �سليم اخلوري وجدنا �أن مثل هذا التعليم� ،سواء �أكان ي�سوعياً �أو حممدياً ،ال يوافق نف�سيته ومن هم على �شاكلته .فر�شيد اخلوري بلغ من احليوانية ،يف ق�صيدته التي يقول فيها« :من ذاق �شهدك مل �سمك» ،مبلغاً ي�ستهجنه �أي فتى �أو فتاة ن�ش�أ يف بيئة متمدنة ،ف�ض ًال عن �أي رجل يخف من ّ �أو امر�أة من بيئة راقية. كل نف�س تهذبت ّ وحل فيها ال�شعور االن�ساين حمل االح�سا�س احليواين ال تتمالك �أن تق ّز من و�صف ر�شيد اخلوري لكيفية �إكراه فتاة على «جتديد عهد �صباه» واحتقاره �شعور تلك الفتاة وا�ستهزائه بها .و�سواء �أكانت احلادثة التي ي�صورها واقعية �أو ت�صويرية فهي تدل على مثالب نف�سية بالغة يف االنحطاط .ف�إن احليوانات على �أنواعها ال حتتقر ذكورها �إناثها وال تعاملها على الكيفية التي ت�صورها لنا �أبيات اخلوري بقوله: فرنوت مغ�ضبة �إ ّ �سهم فوا�شوق الف�ؤاد ل�سهمك يل ف�صابني من ذاق �شهدك مل يخف من �س ّمك يا نحلة دون ا لأزاهر هجتها بر�ضاك عني تارة وبرغمك ال بدع �أن جددت يل عهد ال�صبا وال بدع �أن ال ترى النف�سية الظاهرة يف هذه الأبيات التعليم امل�سيحي �إال �أنه قيد «يربط الفطرة بال�سال�سل الثقيلة ويخنق الطموح» .فال �شك �أن العمل بالقاعدة �أو العقيدة املناقبية امل�سيحية يربط الفطرة اجلاحمة غري املثقفة ويخنق الطموح االنحطاطي ال�شهواين املتدهور �إىل ما دون احليوانية. وقد ر�أينا يف احللقتني ال�سابقتني بطالن ادعاء اخلوري �أن التعاليم امل�سيحية تع ّلم اخلنوع والهوان والذل .ون�ضيف �إىل ما تقدم ،يف هذا ال�صدد ،هذا املذهب: �إن الذي يت�ساهل يف حقوقه طوعاً ،ال كرهاً ال يكون ذلي ًال وال يتعود الهوان ،بل يكون عزيزاً كبري النف�س .فالهوان يكون بالت�سليم واالذعان املكره عليهما عن عجز وجنب .ولي�س هذا �ش�أن املت�سامح اختياراً وطوعاً من �أجل غاية نبيلة .فهذا ي�شعر �أنه عفا عن مقدرة ،لأنه كان يف و�سعه �أن ينتقم �أو �أن يحا�سب الظامل على ظلمه اجلاهل .و�إن يف الت�سامح يف احلقوق الفردية
املسيحية واحملمدية والقومية
77
من �أجل مبد�أ اجتماعي عام من البطولة ما يفوق كثرياً ما يف امت�شاق احل�سام لغ�ضبة جاهلة. ولكن املفكرين ال�سطحيني ال يرون قوة هذا املبد�أ وفالح املجتمع العامل به ،ولذلك يعزو ر�شيد اخلوري التقدم العمراين عند ال�شعوب امل�سيحية �إىل «خمالفة امل�سيحيني تعاليم الإجنيل ال�س َّنة الطبيعية التي �أمر ال�شارع الإ�سالمي العظيم باتباعها» .وهو يقول �أي�ضاً: وجريهم على ُ «ولي�س ت�أخر امل�سلمني اليوم بناجم عن ف�ساد يف دينهم يعوقهم عن التقدم بل عن تركهم نهجه ال�سوي وتخ ّلقهم مبا كان ينبغي �أن يتخ ّلق به امل�سيحيون .فتقدم امل�سيحية اليوم وت�أخر امل�سلمني هو نتيجة تبادلهما العقيدة ،وعمل كل امل ّلتني بدين الأخرى �إىل حد بعيد .امل�سيحي الغربي يج ّرد �سيف الر�سول وامل�سلم ال�شرقي يرفع راية امل�سيح البي�ضاء ويحمل �صليبه �إىل اجللجلة ،مباركاً العنيه ،حمباً �أعداءه ،حم�سناً �إىل الذين ي�سيئون �إليه ،يلطم على خده الأي�سر وي�سخر للم�شي مي ًال واحداً فيم�شي ع�شرة على رجل فيحول الأمين وجبينه وقذاله �أي�ضاً ّ واحدة متادياً يف الطاعة و�سحق النف�س». هذه هي الزبدة املناقبية «للبحث الديني ا�سماً واالجتماعي فع ًال» التي ا�ستخرجها ر�شيد اخلوري يف حار�ضته ،ليتخذها م�ستنداً لإثارة الفتنة الدينية وحتري�ض املتع�صبني ،وملحاولة قتل الع�صبية القومية الآخذة يف ت�أليف قلوب �أبناء �سورية ليكونوا مثا ًال لغريهم من الأمم التي �أقعدها التع�صب الديني امل�ش�ؤوم عن طلب املجد القومي ،فيتخل�ص منها ر�أ�ساً �إىل هذا القول الأثيم: «�أما ترون جمود امل�سلمني وقد قتل �إخوانهم تقتي ًال ّ ونكل بهم تنكي ًال وا�ستبيحت حمارمهم وهتكت �أعرا�ض بنيهم وبناتهم و�أخرجوا من ديارهم ،ووهبت مقد�ساتهم ملكاً ل�شُ ّذاذ الآفاق من اليهود الذين هم �أول و�آخر من عادى نبيهم و�آله وذريته؟ �أفما �أخلد امل�سلمون �إىل �أكرث من �سكون امل�سيح وناموا على �أ�شد من �ضيمه وفاقوه يف حمبة �أعدائهم فوالوهم على �أهلهم و�إخوانهم فتخاذلوا فف�شلوا وذهبت ريحهم ،و�أطمعوا بهم �صليبيي هذا الزمان حتى لو خرقوا لهم حرمة الكعبة وحطموا احلجر وطمروا البئر ون�سفوا عرفات وت�صرفوا ب�أوراق امل�صحف و�سطوا على قرب النبي (�صلى اهلل عليه و�سلم) فبعرثوا عظامه ،ملا �صعد الدم �إىل ر�ؤو�سهم وال حميت �أنوفهم وقبعوا ملوكاً و�أمراء ورعايا �ساكتني كمن مل يع ِنهم �شيء من الأمر».
78
�أنطون �سعادة
هذا الكالم التع�صبي اجلاهل املثري الفتنة العمياء هو الغر�ض الأخري الكلي للحار�ضة التي �سماها اخلوري حما�ضرة ،وللخطب التهييجية التي بد�أها اخلوري منذ ب�ضع �سنوات ومهد لها ببع�ض ق�صائده .كل ذلك ليقب�ض ر�شيد اخلوري املال املتفق عليه مع بع�ض امل�ؤ�س�سات الدينية الإ�سالمية ،على ما ي�ستنتج من مقال ملدير «�سورية اجلديدة» الذي رد على بع�ض ت ّرهات اخلوري حال ظهورها. لوال انحطاط امل�ستوى العلمي والثقايف العام عند عامة ال�سوريني وال�سواد الأعظم من خا�صتهم ملا وجدنا حاجة بنا للنظر يف هذا القول الهراء والبحث فيه بحثاً جدياً .ف�إن من �أ�شد الأمور عنا ًء للعامل �أن ي�ضطر �إىل مناق�شة جاهل .فتجاه هذا الكالم البعيد كل البعد عن كل �شرط من �شروط العلم و�شروط املحا�ضر واملحا�ضرة ،كما ب ّينا ذلك يف احللقة الثانية ع�شرة (احللقة الأوىل بالرتتيب اجلديد) من هذا الدر�س ،يكاد ال يقف منطق وال تثبت حكمة وال ي�صمد علم ،لأنه كالم غر�ضه الفتنة املق�صودة ،ال العلم .وقد قالوا�« :إذا �أردت �أن تفحم عاملاً ف�أح�ضره جاه ًال» .ويف ذلك قال حممد« :ويل لعامل �أمر من جاهله» .ولو كان لر�شيد اخلوري �شيء من العلم ال�صحيح بحديث النبي العربي و�شيء من فهم العامل لكان كفانا م�ؤونة هذا العناء. ال يوجد يف هذا الزمان �صليبيون وهالليون يقتتلون من �أجل حيازة قرب امل�سيح ومكان والدته، �أو من �أجل «خرق حرمة الكعبة وحتطيم احلجر وطمر البئر ون�سف عرفات والت�صرف ب�أوراق امل�صحف وال�سطو على قرب النبي» ،كما يقول اخلوري الدجال ،بل يوجد �أمم ناه�ضة وثّقت �أوا�صر وحدتها القومية بالتعاليم امل�سيحية التي ي�شرتك فيها الإ�سالم ،وبحثت عن �أ�سباب ترقية عمرانها ال عن �أ�سباب ن�صرة دينها بال�سيف .وهذه الأمم الناه�ضة ال تفرق يف �سعيها لعزها وجمدها بني م�سلم ون�صراين .و�إن من در�س احلروب الأخرية وجد �أنها كانت فيما بني �أمم م�سيحية �أكرث كثرياً مما كانت بني �أمم م�سيحية وغري م�سيحية .فمنذ عهد الفتوحات الإ�سالمية التي ولدت الفتوحات ال�صليبية �أخذ التفكري القومي ي�سيطر رويداً رويداً على جمرى حياة ال�شعوب و�أخذ النا�س يدركون �أن فر�ض �أحد الأديان على النا�س بالقوة ال بد �أن يجد حداً يقف عنده .ولقد امتدت الفتوحات الإ�سالمية �إىل �إ�سبانية وحدود فرن�سة بقوة اال�ستمرار
املسيحية واحملمدية والقومية
79
ولكنها انك�سرت هناك واندحرت وتراجعت �إىل �إفريقية .وقد جرى ذلك للم�سلمني وهم يف �إبان اعتزازهم «ب�سيف الر�سول» وعملهم «بالنهج ال�سوي لدينهم» .فكيف حدث ذلك يعده اخلوري «نهج الإ�سالم ال�سوي»؟ للم�سلمني وهم �آخذون بنهج ال�سيف الذي ّ حدث اندحار امل�سلمني لل�سبب عينه الذي حدث به اندحار �أمم ودول م�سيحية �أمام جيو�ش امل�سلمني الأوىل .وهذا ال�سبب هو ترك التعاليم امل�سيحية امل�صادق عليها من الإ�سالم الذي يقول هو �أي�ضاً بها .ففي �سورية مث ًال كان الف�ساد املناقبي الذي ج ّره ت�سلط الروم على البالد من �أهم العوامل التي جعلت البالد ت�سقط يف يد اجليو�ش العربية الإ�سالمية .والدولة الرومية نف�سها كان ي�ضج فيها الف�ساد املناقبي �ضجيجاً ،فانتفى الت�ساهل من بني النا�س وكرثت الأحقاد وال�ضغائن حتى بني قواد اجلي�ش والرهبان والق�س�س ،وانت�شر الزنى الذي ولد احلفائظ ،فا�شتدت املناف�سات وطلبت الأحقاد االنتقام بجميع الو�سائل ،حتى �إنه ندر �أن جرت معركة من املعارك الكربى يف �سورية �إال وكانت اخليانات االنتقامية وعوامل احلقد واملزاحمة من الأ�سباب الرئي�سية الندحار اجليو�ش ال�سورية والرومية �أو اجليو�ش امل�سيحية �أمام اجليو�ش العربية �أو اجليو�ش الإ�سالمية. �إن ما ن�ؤكده يف ما تقدم لي�س من باب التخر�صات �أو الرجم بالغيب ،بل من فوائد مدونات التاريخ .فقد �أثبت الواقدي ،بالإ�سناد �إىل الذين ح�ضروا الوقائع من �أبطال امل�سلمني� ،أن فتح ب�صرى كان بخيانة البطريق روما�س ذي الأمر عليها ف�إنه خرج يطلب املبارزة مع �أمري العرب فخرج �إليه خالد بن الوليد فخاطبه روما�س و�أظهر ميله �إىل خيانة جماعته فعر�ض عليه خالد الإ�سالم ف�أ�سلم ،وبعد ذلك تظاهر خالد وروما�س بالقتال ليخدعا اجلي�ش ال�سوري ـ الرومي فال ي�شك �أحد يف �أمر روما�س ،وبعد معركة النهار بني اجلي�شني خرج روما�س متخفياً وجاء جي�ش امل�سلمني وطلب مقابلة خالد بن الوليد ف�أُخذ �إليه فقال له�« :أيها الأمري بعد �أن فارقتك طردين قومي وقالوا �إلزم ق�صرك و�إال قتلناك فلزمت ق�صري وهو مال�صق لل�سور وملا وقع لهم جن الليل �أمرت غلماين بحفر ال�سور وفتحوا فيه باباً ف�أتيتك ما وقع وانهزموا حت�صنوا فلما ّ ف�أر�سل معي من تعتمد عليه من �أ�صحابك ت�ستلمون املدينة»! فلما �سمع خالد هذا الكالم �أمر عبد الرحمن بن �أبي بكر �أن ي�أخذ مئة من امل�سلمني وي�سري مع روما�س ،قال �ضرار بن
80
�أنطون �سعادة
الأزور« :وكنت ممن دخل املدينة فلما �صرنا يف ق�صر روما�س فتح لنا خزانة ال�سالح فلب�سنا من �سالحهم وق�سمنا �أربعة �أق�سام� ،إلخ»( ). وكان فتح خالد بن الوليد لدم�شق �شبيهاً بفتحه ب�صرى .وقد ذكرنا يف حلقة �سابقة �أن ذلك كان بخيانة ق�سي�س يدعى يون�س .ذكر الواقدي �أنه« :ملا كانت تلك الليلة (ليلة �صلح دم�شق مع �أبي عبيدة) نقب يون�س من داره وحفر مو�ضعاً وخرج على حني غفلة من �أهله و�أوالده وق�صد خالداً وحدثه �أنه خرج من داره وحفر مو�ضعاً وقال« :والآن �أريد �أماناً يل ولأهلي ولأوالدي» ،ف�أخذ خالد عهده على ذلك وانفذ معه مئة رجل من امل�سلمني �أكرثهم من ِحميرَ »( ). و�إن �أ�سو�أ ما حدث من اخليانات ب�سبب الف�ساد املناقبي هو ما كان يف معركة الريموك يف يوم التعوير ،و�إليك حكايته نق ًال عن الواقدي( ): «قال الواقدي رحمه اهلل تعاىل: «حدثني �أبو عبيدة عن �صفوان بن عمرو بن عبد الرحمن بن جبري �أن �أبا اجلعيد كان رئي�ساً من ر�ؤ�ساء �أهل حم�ص فلما اجتمعت الروم على امل�سلمني يف الريموك دخلوا على حم�ص ت�سمى الزراعة وكان �أبو اجلعيد هذا قد جعلها م�سكنه لطيب هوائها ومائها ونزلوا يف بلدة ّ وانتقل من حم�ص �إليها .فنزل ع�سكر الروم على زراعة عنده وكان فيها عر�س لأبي اجلعيد وزوجته تزف �إليه يف تلك الليلة .قال فتكلف �أبو اجلعيد ب�ضيافة الروم و�أكرمهم و�أطعمهم و�سقاهم اخلمر فلما فرغوا من �أمورهم قالوا :هات امر�أتك �إلينا ،ف�أبى ذلك و�س ّبهم ف�أبوا �إال �أخذ العرو�س فلما �ش ّنع عليهم بذلك عمدوا �إىل العرو�س و�أخذوها كرهاً منه وعبثوا بها بقية ليلتهم (وعلى طريقة ر�شيد اخلوري تركوها كالعقد النثري على الرثى) .فبكى �أبو اجلعيد من حزنه ودعا عليهم فقتلوا �أوالده وكان له ولد من زوجة غريها(!) .قال ف�أقبلت �أم الفتى ف�أخذت ر�أ�س ولدها يف خمارها و�أقبلت �إىل مقدم ذلك اجلي�ش ورمت الر�أ�س �إليه و�شكت حالها وقالت« :انظر ما �صنع �أ�صحابك بولدي فخُ ذ بحقي» فلم يعب�أ بكالمها .فقالت له �أم الفتى« :واهلل لنن�صرن العرب عليكم» ورجعت وهي تدعو عليه فما كان �إال ي�سرياً حتى 1
2
3
املسيحية واحملمدية والقومية
81
هلكوا يف �أيدي امل�سلمني .قال فلما كان يوم الريموك بعدما قتل الن�سطور �أتى �أبو اجلعيد �إىل ع�ساكر امل�سلمني وقال خلالد« :اعلم �أن هذا اجلي�ش النازل ب�إزائكم جي�ش عظيم ولو �س ّلموا �أنف�سهم �إليكم للقتل ملا فرغتم من قتلهم �إال يف املدة الطويلة ف�إن كدتهم لكم يف هذه الليلة مبكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوين؟» قالوا :نعطيك كذا وكذا وال ت�ؤدي جزية �أنت وولدك و�أهل بيتك ونكتب لك ذلك عهداً �إىل �آخر عقبك .فلما ا�ستوثق منهم لنف�سه م�ضى �إىل الروم وهم ال يعلمون و�أتى �إىل وا ٍد عظيم مملوء ماء ف�أنزل الروم �إىل جانبه وقال لهم�« :إن هذا املنزل به العرب و�أنا �س�أكيد لكم العرب مبكيدة يهلكون بها» .قال رجل« :الناقو�صة فيما بني الروم والعرب» ومل يعلم �أحد ما عمقها ،فلما كان يوم التعوير وعلم �أبو اجلعيد �أن الن�صر للعرب و�أن العرب هم املن�صورون(؟!) جاء �أبو اجلعيد �إىل �أبي عبيدة فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماعة من امل�سلمني املهاجرين فقال لهم« :وما قعودكم؟» قالوا« :وما ن�صنع؟» قال�« :إذا كان ليلة غد ف�أكرثوا من النريان» .ثم رجع �إىل الروم لين�صب عليهم حيلة .فلما كانت الليلة الثانية �أوقد امل�سلمون �أكرث من ع�شرة �آالف نار فلما ا�شتعلت النريان �أقبل �إليهم �أبو اجلعيد فقالوا�« :أ�شعلنا النريان كما �أردت فما بعد ذلك؟» قال�« :أريد منكم خم�سمئة رجل من �أبطالكم حتى �أ�شري عليهم مبا ي�صنعون» ،فاختاروا من امل�سلمني خم�سمئة رجل من جملتهم �ضرار بن الأزور وعيا�ض ورافع وعبد اهلل بن ي�سر وعبد اهلل بن �أو�س وعبد اهلل بن عمر وعبد الرحمن بن �أبي بكر وغامن بن عبد اهلل ومثل ه�ؤالء ال�سادات .فلما اجتمعوا �سار بهم �أبو اجلعيد على غري املخا�ضة وق�صد بهم ع�سكر الروم فلما كادوا يخالطونهم �أخذ �أبو اجلعيد منهم رجا ًال ودلهم على املخا�ضة ،ومل يكن يعلم بها �أحد �سواه ممن �سكن الريموك، وقال لهم« :ناو�شوهم احلرب ثم انهزموا ودعوين و�إياهم» ،ففعلوا ذلك و�صاحوا فيهم وحملوا ثم انهزموا قدامهم نحو املخا�ضة .فعند ذلك �صاح �أبو اجلعيد برفيع �صوته« :يا معا�شر الروم، دونكم ومن انهزم! فه�ؤالء امل�سلمون قد �أوقدوا نريانهم وعولوا على احلرب» ،قال« :ف�أقبلت الروم على حال عجلة يظنون �أن ذلك حق ،فبع�ضهم ركب جواده عرياناً وبع�ضهم راجل و�ساروا يف طلب املنهزمني و�أبو اجلعيد يعدو بني �أيديهم �إىل �أن �أوقفهم على الناقو�صة وقال لهم« :هذه املخا�ضة دونكم و�إياهم» ،ف�أقبلوا يت�ساقطون يف املاء ت�ساقط اجلراد حتى هلك يف
82
�أنطون �سعادة
املاء ما ال يعد وال يح�صى عدداً وال يدركه جنان ،ف�سمتها العرب الناقو�صة لنق�ص الروم (اجليو�ش ال�سورية ـ الرومية)». هذه الرواية امل�أخوذة عن م�صدر من �أهم امل�صادر الإ�سالمية تظهر بجالء �أنه مل يكن ينق�ص امل�سيحيني نهج ال�سيف ،و�أن ف�شلهم مل يكن ب�سبب تعاليم دينهم ،بل على العك�س ،ب�سبب تركهم التعاليم املناقبية ال�سامية التي ا�شرتك فيها الإ�سالم مع امل�سيحية .فقد ا�ستظهرت اجليو�ش ال�سورية ـ الرومية على جيو�ش العرب يف يوم الريموك عدة مرات حتى و ّلت هذه الأدبار ومل ترجع �إىل احلرب �إال حتت عامل ا�ستغاثة ن�ساء امل�سلمني ،ولكن الف�ساد املناقبي الداخلي كان �أفعل من جميع �سيوف العرب يف تقرير م�صري معركة الريموك. �إن �أ�سباب �سقوط �سورية هي عينها �أ�سباب �سقوط �إ�سبانية .و�أ�سباب انت�صار �شارل مارتل [�سنة 732م يف موقعة تور] على اجليو�ش الإ�سالمية هي �أن تعاليم املحبة والت�ساهل يف احلقوق الفردية جعلت اجلي�ش الفرن�سي لذلك العهد يداً واحدة على اجلي�ش الإ�سالمي. و�أ�سباب اندحار امل�سلمني يف ما بعد كانت عم ًال بالإعتماد على ال�سيف فقط وترك التعاليم الإ�سالمية التي هي من نوع روح التعاليم امل�سيحية .فلما ترك امل�سلمون الرتاحم بينهم ّ وحكموا ال�سيف يف كل �أمورهم ان�شقوا وتخاذلوا ،ومل يكن تخاذلهم وحده �سبب �سقوطهم، �إذ هناك �سبب مبد�أي �آخر وهو �أن فر�ض العقائد بالقوة له حد يقف عنده و�أن �أف�ضل الطرائق لن�شر العقائد بني ال�شعوب املتمدنة هو الإقناع ب�صحتها ولي�س الإكراه عليها. و�إن �أ�سباب جمود �أمم العامل العربي حتى الأم�س مل تكن عائدة �إىل ترك ال�سيف ،بل �إىل ترك تعاليم املحبة والت�ساهل والدفع بالتي هي �أح�سن وعمل امل�سلمني ببع�ض الآيات من كتابهم وترك العمل بالآيات الأخرى .ف�إن بع�ض الذين ال يتدبرون القر�آن من امل�سلمني ال يفت�أون يحر�ضون الغوغاء مبثل هذه الآيات القر�آنية{ :يا �أيها الذين �آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا �أن اهلل مع املتقني}(التوبة{ .)123 ،قاتلوا الذين ال ي�ؤمنون باهلل وال باليوم الآخر وال يح ّرمون ما ح ّرم اهلل ور�سوله وال يدينون دين احلق (الإ�سالم) من الذين �أوتوا الكتاب حتى يعطوا اجلزية عن يد وهم �صاغرون}(التوبة.)29 ، {لقد كفر الذين قالوا �إن اهلل ثالث ثالثة وما من �إله �إال �إله واحد و�إن مل ينتهوا عما يقولون
املسيحية واحملمدية والقومية
83
ليم�س ّن الذين كفروا منهم عذاب �أليم}(املائدة{ .)73 ،يا �أيها النبي ح ّر�ض امل�ؤمنني على َّ القتال}(الأنفال{ .)65 ،ما كان لنبي �أن يكون له �أ�سرى حتى يثخن يف الأر�ض}(الأنفال، .)67فن�سي امل�سلمون الآيات الأخرى املتفقة مع التعاليم امل�سيحية كهذه الآيات{ :ولكل �أمة ر�سول ف�إذا جاء ر�سولهم ق�ضى بينهم بالق�سط وهم ال يظلمون}(يون�س{ .)47 ،ولو �شاء ربك لآمن من يف الأر�ض كلهم جميعاً �أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني}(يون�س، { .)99وال جتادلوا �أهل الكتاب �إال بالتي هي �أح�سن �إال الذين ظلموا منهم وقولوا �آمنا بالذي �أنزل �إلينا و�أنزل �إليكم و�إلهنا و�إلهكم واحد ونحن له م�سلمون}(العنكبوت.)46 ، فلو عمل امل�سلمون بروح هذه الآيات املكية التي نزلت يف جو جهاد روحي غري م�ضطرب بجهاد ال�سيف والغزو ،يتفق مع �سري العمل الفكري الروحي بني الأمم املتمدنة لوجدت الأمم العربية اليوم متحدة كل منها يف داخلها احتاداً قومياً متيناً ال جمال فيه للأحقاد وال�ضغائن واملفا�سد التي جترها والويالت التي جتلبها. و�إذا كان الإ�سالم قد اتخذ ال�سيف و�سيلة لن�شر الر�سالة يف ال ُعربة حيث جمال الفكر �أ�ضيق من ُ�س ّم اخلياط( ) ،فهو مل يجعل ال�سيف غر�ضه .و�أعظم جناح �أ�صاب امل�سلمني ،حني كانت اجلامعة الدينية �أقوى جامعة ،كان حني نفى امل�سلمون ال�سيف من بينهم وعملوا بالتعاليم م�صدقاً لها ب�آيات كهذه الآية{ :حممد ر�سول اهلل والذين معه امل�سيحية التي جاء النبي ّ �سجداً يبتغون ف�ض ًال من اهلل ور�ضواناً �سيماهم يف �أ�شداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ُر ّكعاً ّ وجوههم من �أثر ال�سجود ذلك مثلهم يف التوراة ومثلهم يف الإجنيل}(الفتح .)29 ،فالرتاحم الداخلي هو �أ�سا�س كل جمتمع يريد �أال يخرب وهذا هو التعليم امل�سيحي الكلي .فامل�سيح ع ّلم املحبة ملنع االنق�سام ،لأن «كل مملكة تنق�سم على ذاتها تخرب وكل بيت ينق�سم على ذاته ي�سقط»(لوقا .)17 :11 ،والتعليم املحمدي مل يحد قيد �شعرة عن التعليم الي�سوعي ،ف�سيف حممد كان لتعزيز العقيدة وهذه هي الطريقة امل�سيحية عينها ،فامل�سيح قال�« :إين جئت لألقي ناراً على الأر�ض وما �أريد �إال ا�ضطرامها .ويل �صبغة �أ�صطبغ بها وما �أ�شد ت�ضايقي حتى تتم. �أتظنون �أين جئت لألقي على الأر�ض �سالماً� .أقول لكم كال بل �شقاقاً (�سيفاً)»(لوقا:12 ، .)51 - 49فامل�سيح قال بوجوب اجلهاد يف �سبيل العقيدة ولكنه خاطب �أبناء بيئته بلغتهم 4
84
�أنطون �سعادة
فال�سيف الذي جاء ليلقيه هو �سيف العقيدة الروحي .وهذا وا�ضح من قوله مردفاً« :ف�إنه من الآن �سيكون خم�سة يف بيت واحد ي�شاق ثالثة منهم اثنني واثنان ثالثة ي�شاق الأب الإبن والإبن الأب والأم البنت والبنت الأم واحلماة كنتها والكنة حماتها»(لوقا.)53 - 52 :12 ، وهذا ال�شقاق هو عراك فكري يف �سبيل االقناع ولي�س قتا ًال بال�سيف والرمح .ذلك �أن العراك الفكري هو الأكرث انطباقاً على الأمم املتمدنة ك�سورية� .أما يف بالد العرب فالعراك الفكري يف الأمور العقائدية ال �سبيل �إليه ولذلك مل يكن بد من االلتجاء �إىل القتال بال�سيف والرمح. والآيات القر�آنية توافق هذا املذهب .ومنها ما �سبق �إثباته يف هذا البحث ومنها يف القر�آن كثري كهذه الآية{ :وما �أر�سلنا من ر�سول �إال بل�سان قومه ليبني لهم ّ في�ضل اهلل من ي�شاء ويهدي من ي�شاء وهو العزيز احلكيم}(�إبراهيم .)4 ،و�إذا رجعنا �إىل �سورة الفتح التي �أخذنا منها الآية القائلة{ :حممد ر�سول اهلل والذين معه �أ�شداء على الكفار رحماء بينهم}(الفتح، )29وجدنا �أن الآيات الأخر تثبت �أن طبيعة البيئة هي التي �أوجبت هذه احلزبية الدينية ال�شديدة .فهنالك الآية�{ :إذ جعل الذين كفروا يف قلوبهم احلمية حمية اجلاهلية ف�أنزل اهلل �سكينته على ر�سوله وعلى امل�ؤمنني و�ألزمهم كلمة التقوى وكانوا �أحق بها و�أهلها وكان اهلل بكل �شيء عليماً}(الفتح ،)26 ،فم ّيز القر�آن حالة احلمية وال�شرا�سة وجعل ال�سكينة للم�ؤمنني فيما بينهم مقابل احلمية عند اجلاهلني ولكنه عاد فقال بال�شدة على الكفار� ،أي مبقابلتهم مبثل �شدتهم ولكن يجب ترك ال�شدة و�إبدال الرحمة بها بني امل�ؤمنني. بنا ًء عليه ي�صح القول �إن جمود ال�شعوب الإ�سالمية �أو التي �سوادها امل�سلمون لي�س عائداً �إىل عدم الأخذ بال�سيف ،بل �إىل �سبب ترك تعاليم الت�ساهل والرتاحم ،و�إىل ت�شبث �سواد املتع�صبني فيها باحلزبية الدينية على طراز حزبية ال ُعربة ،حزبية القتال والتباغ�ض ،و�إىل عدم فهم تعاليم الإ�سالم الروحية التي تتفق كل االتفاق مع تعاليم امل�سيحية و�إىل عدم �إدراك عدد كبري من متعهدي امل�سلمني يف ال�شعوب املتمدنة �أن تقدم الإ�سالم يف البيئات املتمدنة يكون بالقوة الفكرية والناحية الروحية �أكرث مما يكون بقوة ال�سيف والناحية املادية. �إن اخلبري املتب�صر يف �أ�سباب نهو�ض �أمم و�سقوط �أمم يدرك �أن فالح الأمم امل�سيحية الأوروبية والأمريكية هو نتيجة العمل بتعاليم الت�ساهل واملحبة التي قال بها امل�سيح ،و�أيدها الإ�سالم
املسيحية واحملمدية والقومية
85
يف القر�آن واحلديث ،ولي�س برتك هذه التعاليم والعمل بالق�سم املخت�ص بالبيئة العربية من التعاليم الإ�سالمية ،الذي �إذا در�سناه در�ساً وافياً ات�ضح لنا �أنه خمت�ص مبا يجب على امل�سلمني من العرب جتاه بقية العرب غري امل�سلمني الذين يناوئون امل�سلمني مناو�أة جماعة جلماعة. ويجب �أن يكون وا�ضحاً كل الو�ضوح �أن ق�صد التعاليم امل�سيحية هو رفع املناقب الفردية والعائلية ،فالت�ساهل الذي ع ّلمه امل�سيح ق�صد به الأفراد ل�سالمة املجتمع وفالحه ،ومل يق�صد به �أن يتنازل املجتمع� ،أي جمتمع ،عن حقوقه ال�سيا�سية واالقت�صادية والروحية ،لأن هذا التنازل يكون معناه �سقوط املجتمع ،ال قيامه ،وامل�سيح �أراد قيام املجتمع ،ال �سقوطه. لذلك ال ي�صح مطلقاً ن�سبة اال�ستكانة القومية �إىل امل�سيحيني وتعاليم امل�سيح ،كما يريد ر�شيد اخلوري �أن يفهم النا�س. الد�س و�إثارة الفنت ،فلي�ست مقد�سات �أما تخ�صي�صه امل�سلمني يف �أمر اليهود فمن �أ�شد الل�ؤم يف ّ امل�سلمني وحدها هي التي وهبت ل�شُ ّذاذ الآفاق من اليهود ،بل مقد�سات امل�سيحيني �أي�ضاً. ومل يكن نبي امل�سلمني �أول من عاداه اليهود وال �آخر من عادوه ،فهم قد عادوا قبله امل�سيح وا�ضطهدوه و�صلبوه وحاربوا �أتباعه .وامل�س�ألة الفل�سطينية لي�ست م�س�ألة �إ�سالم ويهود ،بل م�س�ألة قومية من الطراز الأول ي�شرتك فيها ال�سوريون امل�سلمون وامل�سيحيون.
اهلوامش - 1الواقدي ،م�صدر �سبق ذكره ،ال�صفحة .17 - 2امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .46 - 3امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .138 - 4ثقب الإبرة.
86
�أنطون �سعادة
بني اجلمود واالرتقاء -ختليط خملّط قلنا يف ختام احللقة ال�سابقة �إن تعاليم امل�سيح املناقبية القائلة بالت�ساهل يف احلقوق الفردية ال تعني مطلقاً ما يفهمه امل�صابون بالعجز الفكري ،كر�شيد اخلوري الواغل ب�سف�سطته على العلم والفل�سفة ،واخلمول والإ�ستكانة وقبول الذل والت�سليم للظلم ،بل على العك�س �إنها تعني �سالمة املجتمع وفالحه .وهو نفي اخلمول والذل والظلم بو�ضع قاعدة البطولة االجتماعية املتالئمة مع حالة التمدن ال�سوري الذي �صار �أ�سا�س التمدن العاملي احلديث يف مكان البطولة الفردية �أو القبلية التي هي من خ�صائ�ص ال�شعوب الأولية واملتبدية ،والتي ال ت�صلح �أ�سا�ساً لإن�شاء جمتمع ،متحد ،راقٍ .هذه البطولة االجتماعية هي بطولة الت�ضحية الفردية يف �سبيل خري املجتمع وهي البطولة التي يكت�شفها الدار�س اخلبري يف �صميم النف�سية ال�سورية منذ بدء التاريخ .و�إن جذور مبد�أ الت�ضحية الفردية يف �سبيل اخلري العام موجودة يف ت�ضحيات الكنعانيني (ومنهم الفينيقيون) ملولوخ وداغون( ) التي ا�ستفظعها بع�ض الدار�سني ،لق�ساوتها املتفقة مع درجة التمدن الأولية ولكنها ،يف احلقيقة ،متثل مبد�أ فدية املجموع بتقدمي الفرد ذبيحة ت�ضحية من �أجل ا�سرت�ضاء الإله وا�ستعطافه لي�سبغ النعمة على الوطن والأمة� .إن هذا املبد�أ �أ�سا�سي لكل جمتمع جدير بالبقاء واالرتقاء ،الذي ظهر مبظهر وح�شي يف عهد مولوخ هو هو عينه الذي عاد فظهر يف تعاليم امل�سيح مبظهره االن�ساين الراقي اخلال�ص من �أوهام الع�صور القدمية التي كانت يف فجر التاريخ. وقد الزم مبد�أ الت�ضحية الفردية احل�ضارة ال�سورية يف جميع �أدوارها فكان من �أفعل العوامل يف ازدهارها وامتداد نفوذها وب�سط �سلطان الدول ال�سورية الهك�سو�سية ثم الفينيقية على �شاطيء 1
املسيحية واحملمدية والقومية
87
�إفريقية ال�شرقي وال�شمايل ،وعلى جزر البحر الأبي�ض املتو�سط وعلى �إ�سبانية و�شاطيء فرن�سة نحو املتو�سط .ومن الروايات املدونة عن هذه البطولة االجتماعية يف تاريخ الدول الفينيقية �أن ربان �أحد املراكب التي تك ّون الأ�سطول الفينيقي التجاري عندما ر�أى املراكب الإغريقية الحقة به ت�ص ّور وخامة العاقبة على التجارة الفينيقية من جلب مزاحمني �إغريق �إىل بع�ض فف�ضل الت�ضحية بنف�سه فخرق مركبه و�أغرقه فارتدت املراكب الأ�سواق �أو م�صادر املعادنّ ، الإغريقية خا�سرة. فمبد�أ الت�ضحية الفردية يف �سبيل خري املجتمع هو �أهم مبد�أ مناقبي قام عليه فالح �أي جمتمع متمدن �أو متوح�ش ،ولوال هذا املبد�أ ال�سامي ملا �سقط جندي واحد �شهيداً يف �ساحة احلرب دفاعاً عن �شرف �أمته� ،أو طموحاً �إىل جمد قومي �أو �إىل موارد جديدة للح�ضارة .ولوال هذا املبد�أ ملا ع ّر�ض نف�سه طبيب خبري خلطر املوت يف جتربة بع�ض ال�سموم �أو اجلراثيم يف ج�سده، وملا جازف طيار بحياته بامتحان طيارة وال غوا�ص بامتحان غوا�صة ،ولوال هذه الت�ضحيات الفردية ملا حدث هذا التقدم الباهر يف احل�ضارة. والت�ضحية لي�س لها �شكل واحد لأنها لي�ست حالة �شكلية ،بل مبد�أً عاماً .فالذي ال تكون الت�ضحية قاعدة عامة عنده ال يعرف البطولة االجتماعية وال ُي ِقدم عليها ففائدته للمجتمع قليلة �أو �سلبية .ومن �أ�شكال الت�ضحية ت�ضحية ال�شهوات احلادة وت�ضحية الأنانية العمياء التي ي�سميها �سف�سطائي اخللود ر�شيد اخلوري «تقييداً للفطرة بال�سال�سل الثقيلة» .وهذه الت�ضحية �صعبة جداً على الذين مل يرو�ضوا �أنف�سهم على الف�ضائل واندفعوا وراء املثل ال�سفلى .ولذلك ي�صف ر�شيد اخلوري امل�سيحية ب�أنها «عدوة نف�سها» ،لأنها يف ت�سميته لها «ديانة الت�ضحية» ومن يف�ضل الإ�سالم عليها ،لأن الإ�سالم يف عرفه ،كما جاء �أجل ذلك يراها عدمية الفائدة .وهو ّ يف حار�ضته «دين الفطرة» فيقول فيه« :فهو يف اعتقادي موجود قبل وجوده �أي قبل ظهور الدعوة وما حممد بن عبد اهلل �إال منبه له ّ ودال عليه فهو مكت�شفه ال خمرتعه» .وهو يريد بذلك �أن الإ�سالم دين �إبقاء االن�سان على فطرته الأوىل بكل ما فيها من �شهوات و�أنانيات وحمبة للك�سب بال حدود ،وهو يعني �أي�ضاً �أن الإ�سالم لي�س دين احلكمة الإلهية ،بل «دين اكت�شاف الفطرة» .وهو بعد بلوغه هذا الأوج من ال�سف�سطة ال�سفلية يعود فيقول �إن «�شريعة
88
�أنطون �سعادة
حممد و�إن �سايرت الطبيعة فهي كا�سرة من حدتها مق ّلمة �أظفارها» ،فال تدري متاماً ما يريد �أن يقول هذا اجلاهل املخلط ،وال تعرف للإ�سالم �صفة ثابتة ،فهو مرة «دين الفطرة املوجودة فيها قبل وجوده» ،ومرة �أخرى هو دين «م�سايرة للفطرة ولكنه كا�سر من حدتها ،مق ّلم �أظفارها». وبعد كل هذا وذاك ال تعرف مما يقوله نتيجة فكرية ثابتة� ،سوى �أنه يهرف عن الإ�سالم مبا ال حم�صل له كمن يتكلم عن �أمور مغ ّيبة .و�إنك لو قتلت نف�سك جهداً يعرف ويقول كالماً ال ّ ملا ا�ستنتجت من كل هذا التخليط �أية فكرة ثابتة عن احلالة االجتماعية املثلى �أو امل�ستوى االجتماعي ـ النف�سي التي يرمي الإ�سالم �إىل �إيجادها. يف�ضل الإ�سالم على امل�سيحية لأن هذه تطلب مقداراً �أكرب من الريا�ضة النف�سية �إن اخلوري ّ واجل�سدية لتحويل معظم قوة االن�سان نحو الأرقى والأنفع للمجتمع كمجد البطولة والت�ضحية واملناقب العالية التي تبلغ ذروة ال�شهامة والعفو وبذل املقدرة يف �سبيل خري املجتمع ،ولأن الإ�سالم ،يف عرفه ،يكتفي بالك�سر من حدة الفطرة غري املرو�ضة وتقليم �أظفارها .فماذا يعني ذلك غري االكتفاء بحد من االرتقاء جتمد االن�سانية عنده جموداً ي�شبه جمود احليوانات، التي ميكن للمرء �أن يك�سر من حدة فطرتها ويق ّلم �أظفارها ،كما يفعل مر ّو�ضو الوحو�ش ،دون �أن يكون من وراء ذلك �أي ارتقاء اجتماعي ـ نف�ساين عند تلك احليوانات ،ذلك لأن ك�سر احلدة وتقليم الأظفار ال يغريان النظرة �إىل احلياة تغيرياً نف�سياً جوهرياً مبعنى االرتقاء. �إذا كانت هذه هي النظرة االن�سانية املثلى يف ما يجب �أن يكون غر�ض الفل�سفات الدينية، ف�أكرث قبائل �إفريقية و�أ�سرتالية و�أمريكة املتوح�شة قد بلغت «قمة اجلودي( ) التي ي�ستقر عليها فلك االن�سانية الغارقة يف طوفان العقائد والنظريات والفل�سفات املتباينة» ،لأن جلميع هذه القبائل �أدياناً فطرية تك�سر من حدة الفطرة وتق ّلم �أظفارها! كل قبيلة من قبائل ال�شعوب الأولية �أو الفطرية لها عادات من خرافات �أو دين تك�سر من حدة الفطرة وتق ّلم �أظفارها ،ويف اجلاهلية كان للعرب �أي�ضاً عادات من خرافات �أو �سحر �أو دين تك�سر من حدة الفطرة وتق ّلم �أظفارها ،فكان لهم �شهر حرام يرتك فيه حمل ال�سالح ويرفع الث�أر واالنتقام ،وعادات يف الزواج واملعي�شة واالجتماع و�شورى يف القبائل .ف�إذا كانت هذه هي قمة اجلودي فلماذا جاء الإ�سالم �إذا مل يكن درجة فوق تلك الدرجة الأولية لقبائل 2
املسيحية واحملمدية والقومية
89
العربة واجتاهاً نحو درجة �أعلى يف االن�سانية عامة ي�شرتك فيها مع درجة امل�سيحية؟ لي�ست هذه احللقة مدار الكالم يف هذا املو�ضوع ف�سنعود �إليه يف حلقة تالية ،فلنعد الآن �إىل �إ�شباع ما بد�أناه يف احللقة الأخرية. ر�أينا يف احللقة املذكورة �أن املق�صود من تعاليم امل�سيح هو �شيء غري «تقييد الفطرة بال�سال�سل الثقيلة» ،و�أن هذا ال�شيء الذي ال تقدر العقول الناق�صة �أو العاجزة عن �إدراكه هو �سيطرة الوعي النف�سي على الأفعال احليوانية وما هو مبعنى الغريزة ،وحتويل مقدار غري ي�سري من حيوية االن�سان التي كانت تنفق يف املتع اجل�سدية �إىل الأعمال املفيدة ،من ميكانيكية و�صناعية وزراعية وعلمية و�أدبية وفنية واجتماعية واقت�صادية .وقد ذهب امل�سيح �إىل هذه النظرة املناقبية ر�أ�ساً ،لأن البيئة ال�سورية كانت قد ارتقت عن درجات ك�سر حدة الفطرة وتقليم �أظفارها و�أ�صبحت تتطلب م�ستوى �أعلى من االرتقاء النف�سي. ببلوغ هذه الذروة املناقبية ابتد�أ جناح الأمم امل�سيحية ولي�س بالتخلي عنها ،كما ّيدعي هذا الواغل على املوا�ضيع االجتماعية امللقب «بالقروي»� .أما �أ�سباب ت�أخر ال�شعوب الإ�سالمية وجمود امل�سلمني فبع�ضه ال دخل للدين فيه حيث البيئة الطبيعية قا�سية ال زرع فيها وال معادن و�ضرعها قليل .ولكن حيث �أ�سباب العمران متوفرة ف�أهم �أ�سباب اجلمود هي ترك العمل بالتعاليم الإ�سالمية العالية امل�شرتكة مع روحية التعاليم امل�سيحية ،واكتفاء بع�ض ال�شعوب الإ�سالمية من الدين «بك�سر حدة الفطرة وتقليم �أظفارها» وترك ذروة املثل العليا النف�سية .فبعدت عقولهم عن طلب التفوق العلمي والتكنيكي والفني .فقد قيل« :من طلب العلى �سهر الليايل» ،ولكن الذي يق�ضي لياليه مرمتياً مع فتاة فوق �أغ�صان الربى ليذوق �شهدها غ�صباً عنها ويزدري �شعورها ويحتقر كرامتها ،كيف ال�سبيل خلروجه من جمود ال�سفولية ومثالب املثل الدنيا؟ بني الأمم التي �أكرث عددها من امل�سلمني جتد �سورية �أرقاها و�أ�شدها ن�شاطاً و�أ�سبقها يف العلم والفنون وال�صناعات ،وما ذلك �إال مل�ؤهالت جن�سها وعملها مبوجب النظرة املناقبية ال�سورية املتجلية يف تعاليم امل�سيح و�أرقى تعاليم حممد .ف�أكرث ال�سوريني امل�سلمني ال مييلون �إىل تعدد
90
�أنطون �سعادة
الزوجات واالنغما�س يف ال�شهوات املك�سورة احلدة ،ويف�ضلون توجيه قواهم �إىل الأفيد للمجتمع .وقد جمد العلم عندهم يف القرون الأخرية بتوايل الفتوحات الرببرية .ولكنك ال ترى هذه النظرة �أو احلالة عينها عند م�سلمي �إفريقية حيث مزيج ال�شعوب وطبيعة الأر�ض جتعل املجتمع �أكرث مي ًال �إىل اللهو والأفعال الغريزية. وقد �أثرت ت�أثرياً كبرياً يف حالة جمود ال�شعوب الإ�سالمية تعاليم اجلهاد الديني احلزبي ال�سيا�سي التي هي من اخل�صائ�ص العربية يف الدين ،ولي�ست من املباديء االن�سانية العامة. �أي �أنها تعاليم ال توافق البيئات املتمدنة .فلو كان امل�سلمون ال�سوريون ،وال نتكلم عن غريهم، «يرفعون راية امل�سيح البي�ضاء» وراية حممد البي�ضاء فيت�ساهلون يف حقوقهم الفردية ويح�سنون عمن ظلمهم وي�صلون من قطعهم ،لكانوا �أزالوا �أعظم عقبة �إىل الذين ي�سيئون �إليهم ويعفون ّ من عقبات االحتاد القومي بف�ضل النظرة املناقبية التي ي�شرتك فيها حممد وامل�سيح .ومتى ح�صل الت�ساهل من اجلانبني امل�سيحي والإ�سالمي يف احلقوق الفردية �أو احلزبية ،الدينية، الداخلية ،بف�ضل هذا الفهم العميق لغاية دينيهما ،و ّمت من وراء ذلك االحتاد القومي امل�سامل كل امل�ساملة يف الداخل� ،أمكنٍ ، حينئذ� ،أن تنه�ض الأمة ال�سورية كرجل واحد وت�سري �إىل فالحها فال تكون يف وحدتها هذه �إ�سالمية وال م�سيحية ،بل قومية ينظر �أفرادها �إىل احلياة نظرة واحدة ويفهم كل منهم دينه بهذه النظرة. بهذا التعليم ال�سوري القومي تنه�ض الأمة ال�سورية وكل �أمة عربية تتخبط يف حماولة عقيمة للتوفيق بني حزبية الدين والواقع االجتماعي ولي�س «ب�سيف الر�سول» ،كما ينادي ر�شيد اخلوري امل�أجور ليقول هذا القول. �إن �سيف الر�سول ال يفيد يف النه�ضات القومية ،ففائدته الوحيدة كانت لن�صرة الدين يف بيئة يتعذر فيها االنت�صار بالفكر والفهم ،يف ال ُعربة .وما ن�سبة ال�سيف �إىل حممد يف الق�ضايا القومية �إال من باب التزلف �إىل متهو�سي امل�سلمني :فال�سيف انت�ضته الدول والأمم يف حروبها وفتوحاتها قبل الإ�سالم وقبل امل�سيحية ،ولقد �شق �سيف هاين بعل �إيطالية من �شمالها �إىل جنوبها يف فتح مل ي�شهد التاريخ له مثي ًال قبل حممد بنحو ثمانية قرون .وكان ال�سيف ُي�ش َهر يف ال ُعربة قبل حممد ،وم ّزية حممد الوحيدة يف ا�ستعمال ال�سيف هي �أنه �أدخله يف امل�سائل
املسيحية واحملمدية والقومية
91
الدينية �أي�ضاً� ،أما يف امل�سائل القومية فلم يكن ملحمد �أي ف�ضل فيه. وهذه احلقيقة التي ال غبار عليها متكننا من �إدراك مبلغ �سخافة البيت الذي نظمه ر�شيد اخلوري تزلفاً ومتهيداً لوغوله على العلم ،و�صفق له ال�سيد ح�سن كامل ال�صرييف الكاتب يف بع�ض املجالت امل�صرية وهو: ب�سيف حممد واهجر ي�سوعا �إذا حاولت رفع ال�ضيم فا�ضرب فن�سبة رفع ال�ضيم �إىل �سيف حممد الديني لي�س �سوى �إقحام يخالف جميع احلقائق التاريخية ،فالأمم من قبل حممد بع�شرات القرون تعمد �إىل ال�سيف �أو الرمح �أو النبلة لرفع ال�ضيم� .أما تهكمه بعد هذا البيت على تعاليم امل�سيح بقوله: بها ذئب ًا فما جنت قطيعا «�أحبوا بع�ضكم بع�ض ًا» وعظنا فمن �أغرب ما عرف يف باب التخليط واخلبل« :ف�أحبوا بع�ضكم بع�ضاً» (يوحنا)26 :15 ، هي لوعظ الرعاة وجمع اخلراف ولي�ست «لوعظ الذئاب» .ولذلك �أو�صى امل�سيح تالميذه حني �أر�سلهم ليكرزوا قائ ًال« :ها �أنا مر�سلكم مثل خراف بني ذئاب فكونوا حكماء كاحل ّيات وودعاء كاحلمام»(متى .)16 :10 ،وهذا يعني �أن ال يبقوا مع الذئاب كاخلرفان ،بل �أن ي�صريوا كاحل ّيات يف دهائها و�إدراكها مع حمافظتهم على الوداعة و�سالمة النية ،لأن مهمتهم تعليمية ولي�ست حربية. �أما هذر اخلوري القائل« :لي�س الإجنيل يف نظر الن�صارى �إال ملحقاً �أو ذي ًال لتوراة اليهود يكمل ما ابتد�أ من �شرها الفظيع ويتمم نبوءاتها القا�ضية بتجديد عهد العداء والتعدي على �أهل فل�سطني» فمن �أحط النفاق والزندقة والتدجيل ،وكذلك قوله« :فماذا ا�ستفاد امل�سيحيون من �إجنيلهم وقد ع ّلقوه يف قفا التوراة للفرجة» .ف�إذا كان ر�شيد اخلوري يتظاهر بالنقمة على امل�سيحية ملجرد �أن امل�سيحيني جمعوا الكتابني التوراة والإجنيل يف جملد واحد �أحياناً ،فما قوله بوجود ق�سم كبري من �سرية اليهود وفرائ�ض دينهم يف القر�آن كما ب ّينا �آنفاً؟ امل�سيح هو الذي حرر االن�سانية من ال�شرائع التي جعلها اليهود �أحكاماً �أبديةً� .أما �أن امل�سيحيني �أرادوا جمع التوراة �إىل كتابهم لي�ؤيدوا �ألوهية امل�سيح و�صحة جميئه موعوداً به يف النبوءات
92
�أنطون �سعادة
فال يفيد ذلك ما يفيده وجود �شرائع مو�سوية كثرية وق�ص�ص يهودية يف �صلب القر�آن. �إن الأمم امل�سيحية املتفوقة مل تبلغ ما بلغته من التقدم بتجريدها «�سيف الر�سول» بل بتجريدها �سيف الوطنية �أو القومية �أو الفتح املعروف من قبل زمن حممد .هذا من الناحية اخلارجية، �أما من الناحية الداخلية فكان تقدمها برتك ال�سيف واتباع تعاليم العدل والرحمة التي ال قيام لأي جمتمع بدونها ولذلك نزلت الآية القر�آنية بجعل الرحمة قاعدة الرتابط بني امل�سلمني واعتماد ال�سيف يف امل�سائل اخلارجية فقط .وملّا كان الدين الإ�سالمي قد حتول من جمرد تعليم روحي �إىل دولة قائمة على قاعدة الدين غر�ضها جمع م�صالح املن�ضمني حتت لوائها وب�سط نفوذها على الدنيا ب�أ�سرها عم ًال مبا جاء يف القر�آن{ :وعد اهلل الذين �آمنوا منكم وعملوا ال�صاحلات لي�ستخلفنهم يف الأر�ض كما ا�ستخلف الذين من قبلهم} (النور ،)55 ،وقوله�{ :إن الأر�ض يرثها عبادي ال�صاحلون}(الأنبياء ،)105 ،كان ال بد له من الأخذ ب�أ�سباب قيام الدول من جتنيد الرجال ومبا�شرة احلرب ،ولكن هذه الغاية لي�ست غايتها الق�صوى ،بل هي و�سيلة �إىل الغاية الق�صوى التي هي :الرحمة يف املجتمع والعدل يف احلكم .وهذه هي زبدة التعاليم امل�سيحية .ف�إذا افرت�ضنا �أن اهلل جعل الأر�ض كلها مرياث امل�سلمني وورثوها فع ًال فماذا بعد ذلك� ،ألي�س الق�صد من هذا الوعد تعميم ال�صالح من الرحمة والعدل؟ �أال يقول القر�آن{ :حممد ...والذين معه ...رحماء بينهم}(الفتح)29 ،؟ وقال �أي�ضاً{ :من الذين �آمنوا وتوا�صوا بال�صرب وتوا�صوا باملرحمة}(البلد{ ،)17 ،ولئن �صربمت لهو خري لل�صابرين}(النحل.)126 ، �أما امل�سيحية فلم تن�ش�أ ن�ش�أة دولة ومل ت�سر على خطة دولة ،بل كانت تعليماً فل�سفياً مناقبياً منزهاً عن خطط الدولة ،غر�ضه خري املجتمع الداخلي .وما نريد باملجتمع هنا هو ما �أو�ضحه زعيم احلركة ال�سورية القومية يف كتابه «ن�شوء الأمم» و�سماه «الواقع االجتماعي» .وهو يعني كل جمتمع �أو كيان اجتماعي .فالتعليم امل�سيحي لي�س غر�ضه �إن�شاء دولة جتمع �أتباعه وحتارب الدول الأخرى ،ولي�س ق�صده جمع �أ�شتات �شعب وتنظيمهم يف دولة كما جرى لليهود والعرب ،لأن البيئة ال�سورية عرفت الدول من زمان فقامت فيها دول فتحت الفتوحات وجندت اجلنود و�أن�ش�أت الأ�ساطيل البحرية و�س ّنت القوانني ،و�إمنا كان غر�ضه �إيجاد القواعد
املسيحية واحملمدية والقومية
93
املناقبية التي تثبت املجتمع وتزيد فاعليته الروحية جتاه زعازع ال�سيا�سة واحلروب .والأمم تتعر�ض يف تاريخها لالنك�سار كما تتعر�ض لالنت�صار ،ف�إذا انك�سرت فال �إقالة لعثارها �إال مبباديء مناقبية متينة� ،أما �إذا فقدت هذه املباديء واعتمدت ال�سيف فقط ف�إن ال�سيف ي�أخذها وال يعود يقوم لها قائمة. يف احلرب احلا�ضرة( ) ت�سقط �أمام �أعيننا دول �ضخمة حاربت حروباً كثرية وفتحت الفتوحات ال�سوي .فما هو ال�سر يف �سقوطها؟ ال�سر يف فقدها العديدة ،ومل تحَ ِ ْد وال مرة عن نهج ال�سيف ّ القوة الروحية واملباديء املناقبية� .إن �سبب �سقوط فرن�سة مث ًال ،هو يف ترك الثقافة املناقبية وتقطيع «ال�سال�سل الثقيلة التي قيدت الفطرة» (على تعبري ر�شيد اخلوري) ،و�إطالق �أبنائها العنان ل�شهواتهم املقلمة الأظفار الناعمة امللم�س ،و�إن �سبب انت�صارات �أملانيا الأخرية هو يف كبح جماح ال�شهوات و�سلك �سبيل «ال�شدة املتناهية» يف تروي�ض النفو�س والأبدان. و�إن من �أ�سباب جمود املجاميع الإ�سالمية غري ما ذكرنا ،بع�ض �أحكام ال�شرع التي ال تتفق مع عوامل التقدم املدين كمعاملة املر�أة وحتجيبها .فت�صور �أن مدينة لندن �أو برلني �أو نيويورك، حتجب مباليينها و�صناعاتها ومكاتبها ودوائرها� ،آهلة مبجموع �إ�سالمي حمافظ على قاعدة ّ الن�ساء حتى ال ت�سفر املر�أة �إال لزوجها و�أخيها وابنها و�أقرب الأقربني �إليها ،فهل ميكن هذا املجموع �أن يقوم مبتطلبات حاجات عمران مدينة من هذه املدن على م�ستواها التمدين احلا�ضر ،الذي مل يبلغ هذه الدرجة �إال با�شرتاك املر�أة كزوجة و�أم و�أخت ومدبرة بيت ومربية �أوالد ومعلمة مدر�سة وممر�ضة وكاتبة على الآلة الكاتبة ،وم�شرتكة يف املعاهد الثقافية والدور العلمية ويف كل �ش�أن من �ش�ؤون احلركة االجتماعية ويف الأدب والفنون ويف جميع �أ�شكال احلياة االجتماعية والقومية؟ �أمل جتد تركية �أن مت�سكها بفهم الإ�سالم القدمي ال بد �أن يق�ضي عليها فقامت بحركة جتديدية من فوق �إىل حتت و�صارت من الأمم الع�صرية التي لها منزلة خطرية يف جممع الأمم احلية فكان الف�ضل يف نه�ضتها للوعي القومي الذي قاد كمال �أتاتورك الأمة الرتكية �إليه ،على الرغم من �صياح �شيوخ الدين الغيورين على ن�ص ال�شرع ومن �صخب الغوغاء الذي عمد ال�شيوخ 3
94
�أنطون �سعادة
�إىل تهييجه؟ �أمل يكن الف�ضل يف نه�ضة الأمم امل�سيحية من قبل �أنها نه�ضت يف وجه حتويل امل�سيحية �إىل دولة دينية رئي�سها البابا خليفة امل�سيح؟ نقول كل ذلك لنبينّ �أن املو�ضوع القومي هو غري املو�ضوع الديني و�أن �أ�سباب تقدم الأمم وت�أخرها لي�س ما ذكره ر�شيد اخلوري يف حار�ضته ،و�أثبتناه يف احللقة ال�سابقة ،ولنو�ضح �أن املباديء الدينية الوحيدة التي تفيد الأمم يف نه�ضتها القومية هي املباديء املناقبية التي يقول اخلوري برف�ضها ويعيرّ امل�سيحية بها وميدح الإ�سالم العتقاده �أنه خمالف لها. ولكن هل لر�شيد اخلوري اعتقاد؟ وهل قال ر�شيد اخلوري ما يعتقد حني �أبدى هذه الغرية امل�ضحكة على «حرمة الكعبة والبئر وعرفات و�أوراق امل�صحف وقرب النبي؟» �أمل ن َر �أنه يف «الأعا�صري» الذي جمع فيه �أخالطاً من النظم �سماه «�شعره الوطني» يقول �أي�ضاً( ): ومن �أجلها �أفطر ومن �أجلها �صم بالدك قدمها على كل ملة وقد حطمتنا بني ناب ومن�سم فقد مزقت هذي املذاهب �شملنا و �أه ًال و�سه ًال بعده بجهنم �سالم على كفر يوحد بيننا ويقول �أي�ضاً( ): بل �ضحايا ال�شام باملجد غنية ما �أ�ضاحي عرفات ومنى فمن �أين جاءته الآن هذه احلمية اجلاهلية على عرفات ومنى والبئر؟ �أثبتنا يف احللقات ال�سابقة �أنه لي�س لر�شيد اخلوري تفكري خا�ص و�أن معظم ما يف نظمه ونرثه م�ستعار �إما من بع�ض �أقوال كبار املفكرين والك ّتاب �أو من عاميني نيرّ ي الذهن ،و�أكرث ما اقتب�سه اخلوري من غري ذكر �أو �شكر هو �سطحي يوافق مقدار عقله .وقد قلنا يف احللقة ال�سابقة �إنه لوال االنحطاط العلمي والثقايف العام عند عامة ال�سوريني وال�سواد الأعظم من خا�صتهم ملا وجدنا حاجة بنا للنظر يف قوله الهراء الرامي �إىل �إيقاد نار الفتنة الدينية العمياء .ونزيد 4
5
املسيحية واحملمدية والقومية
95
الآن �أن من الدوافع التي دفعتنا �إىل مناق�شة كالم هذا اجلاهل الأحمق كون بع�ضه مقتب�ساً من كالم بع�ض م�شاهري ك ّتاب الع�صر املا�ضي الرجعيني الذين انت�شرت كتاباتهم يف �أو�ساط وعدها �سوادهم النور الذي يجب �أن ي�سرت�شد به� ،أمثال الكاتب امل�شهور �إ�سالمية وا�سعةّ ، جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده .ف�إن كالم اخلوري الذي �أثبتناه يف احللقات عما ال�سابقة الأخرية وف ّندناه و�أظهرنا بطالنه وف�ساد ت�أويله يكاد يف بع�ضه يكون منقو ًال باحلرف ّ جاء يف مقالتني وردتا يف «العروة الوثقى» التي �أ�صدرها الكاتبان املذكوران يف باري�س �سنة .1884وهاتان املقالتان هما «الن�صرانية والإ�سالم و�أهلهما»( ) ،والثانية «انحطاط امل�سلمني و�سكونهم»( ) ،ويف بع�ض مقاالت �أخرى كمقالة «الق�ضاء والقدر»( ) .فمن املقالة الأوىل �أخذ اخلوري هذا القول كله ،بتحريف قليل: «�إن الديانة امل�سيحية ُبنيت على امل�ساملة وامليا�سرة يف كل �شيء وجاءت برفع الق�صا�ص ّ واطراح امللك وال�سلطة ونبذ الدنيا وبهرجها ،ووعظت بوجوب اخل�ضوع لكل �سلطان يحكم املتدينني بها وترك �أموال ال�سالطني لل�سالطني واالبتعاد عن املنازعات ال�شخ�صية واجلن�سية، بل والدينية .ومن و�صايا الإجنيل« :من �ضربك على خدك الأمين ف�أدر له الأي�سر» ومن �أخباره �أن امللوك �إمنا واليتهم على الأج�ساد وهي فانية والوالية احلقيقية الباقية على الأرواح وهي هلل وحده» . ويتلو ذلك و�صف لتقدم الأمم امل�سيحية مبا يخالف تعاليم دينها وو�صف لت�أخر امل�سلمني خالفاً لتعاليم دينهم .وملا كنا قد بلغنا �إىل هذا امل�صدر الأ�سا�سي للأقوال والأفكار التي وردت يف حار�ضة اخلوري ،ف�إننا �سنتمم معاجلتنا ملو�ضوع الدينني امل�سيحي والإ�سالمي و�أغالط فهمهما وما ينتج عن ذلك من نظرات �شاذة عن العلم واملنطق يف االجتماع وال�سيا�سة بنا ًء عليه، تاركني ما تبقى من حار�ضة اخلوري ،وهو معظمها ،لعدم وجود �أية وحدة فكرية فيها .فهي ف�سيف�ساء خطابية جمعت موادها «من كل وا ٍد ع�صا» .ونعود بعد الفراغ من النظر يف هذا املو�ضوع �إىل تناول تعري�ضه بالنه�ضة ال�سورية القومية وم�س�ألة «العروبة». والذي يقابل كالم «العروة الوثقى» امللقى على عواهنه على ما �أثبتناه يف هذا ال�صدد يف 6
7
8
96
�أنطون �سعادة
احللقات الأخرية من هذا البحث يجد �أن �أقل ما يقال فيه �إنه اجتهاد م�ش ّوه م�شو�ش ال تد ّبر فيه للإجنيل والقر�آن .فالقول �إن امل�سيحية جاءت برفع الق�صا�ص باطل و�إنها جاءت ّ باطراح امللك وال�سلطة باطل ،و�إنها قالت بنبذ الدنيا وبهرجها باطل� ،إال يف وجوه خمالفة للف�ضائل االجتماعية �أ ّيدها فيها القر�آن ،وقد ب ّيناه. امل�سيح قال« :ال حتكموا بح�سب الظاهر ولكن احكموا حكماً عاد ًال»(يوحنا )24 :7 ،وهذا ال يرفع الق�صا�ص ،وال يوجد يف الإجنيل قول ّ باطراح امللك وال�سلطة .و�أما �أن امل�سيحية «وعظت بوجوب اخل�ضوع لكل �سلطان يحكم املتدينني بها وترك �أموال ال�سالطني لل�سالطني» فقد ح ّوره اخلوري وجعله هكذا« :ال ب�أ�س يف �شريعته �أن تعي�ش عبداً رقيقاً مدى احلياة ت�سام اخل�سف والهوان� ،إلخ» .وقد ب ّينا ف�ساده يف احللقات ال�سابقة و�أثبتنا �أنه ت�أويل �سطحي مغر�ض. على �أن يف هذا الكالم اجتهاداً يف فهم قول امل�سيح للذين كانوا يبحثون عن جريرة ي�أخذونه بها ليهلكوه «�أوفوا ما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل »(لوقا .)25 :20 ،ولكن ما �أبعد هذا االجتاه عن حقيقة ما عناه امل�سيح .ف�إن هذه الآية لي�ست مطلقة وم�ستقلة ،بل هي متعلقة بحادث وعبارات �سابقة .وذلك �أن ر�ؤ�ساء الدين اليهود ملّا عجزوا عن �أخذ امل�سيح بجرم من تعاليمه يهيجون ال�شعب به عليه �صاروا يطلبون �أن يجدوا فيه خمالفة ل�سلطان الدولة الأجنبية احلاكمة لي�سلموه �إليها .وعلى هذه القاعدة جرى الرجعيون يف �سورية لي�س ّلموا زعيم النه�ضة ال�سورية القومية �إىل �سلطان الدولة الأجنبية احلاكمة بعد �أن عجزوا عن �أن يجدوا نق�صاً «فهم ر�ؤ�ساء يف تعاليمه يثري ال�شعب عليه .والواقع الذي اقت�ضى قول امل�سيح هو كما يليّ : الكهنة والكتبة �أن يلقوا عليه الأيدي يف تلك ال�ساعة ولكنهم خافوا من ال�شعب لأنهم علموا �صديقون لكي ي�أخذوه �أنه قال هذا املثل عليهم .فر�صدوه و�أر�سلوا �إليه جوا�سي�س يرا�ؤون �أنهم ّ بكلمة في�سلموه �إىل رئا�سة الوايل و�سلطانه .ف�س�ألوه قائلني :يا معلم قد علمنا �أنك بال�صواب تتكلم وتع ّلم وال ت�أخذ بالوجوه ،بل تعلم طريق اهلل باحلق� .أيجوز لنا �أن نعطي اخلراج لقي�صر �أم ال .ففطن ملكرهم فقال لهم ملاذا جتربونني؟ �أروين ديناراً .ملن ال�صورة والكتابة؟ ف�أجابوا وقالوا لقي�صر .فقال لهم �أوفوا ما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل»(لوقا.)25 :19 ، كل متدبر لهذه الآيات يجد �أنها �أبعد ما يكون عن االجتهاد القائل ب�أن امل�سيحية تقول
املسيحية واحملمدية والقومية
97
بوجوب «اخل�ضوع لكل �سلطان يحكم املتدينني بها» .ولو كان هذا ق�صد تعليم امل�سيح لكان قاله يف مواعظه ولكان �أجاب ال�سائلني على الفور «يجوز �أن تعطوا اخلراج» ولكنه مل يقل ذلك ،بل قال �إنه يجوز رد دنانري قي�صر املطبوعة �صورته وكتابته عليها �إليه .ولذلك مل يقدر اليهود �أن ي�أخذوه بجرم �ضد الدولة ومل يقدروا �أن ّيدعوا �أو يقولوا �إنه يع ّلم اخل�ضوع ل�سلطان �أجنبي ويهيجوا ال�شعب عليه .وهم �إمنا �س�ألوه ليوقعوه يف �إحدى اجلرميتني ال�سيا�سية �أو املناقبية فتغلب على مكرهم برف�ض املوافقة على دفع اجلزية ،ولكن من غري الوقوع يف مكيدة �أعدت له لي�سلموه �إىل املحكمة الأجنبية .والقر�آن يقول{ :واهلل خري املاكرين}(�آل عمران.)54 ، �أما الإ�شارة �إىل «املنازعات ال�شخ�صية واجلن�سية ،بل والدينية» ففيها ت�شويه كبري .وقد ر�أينا �أن امل�سيح �ألقى نزاع العقائد بني النا�س ولكنه ع ّلم باالبتعاد عن املنازعات ال�شخ�صية حر�صاً على وحدة املجتمع و�سالمته .ومل يقل برتك الدفاع عن حقوق املجتمع جتاه املجتمعات الأخرى ،وهو ما يرمي االجتهاد املذكور �إىل �إيهامنا �أنه قاله �أو علم به وهو باطل كما ر�أيت. ومن ا�ستعارات ر�شيد اخلوري قوله يف الدين الإ�سالمي �إنه «مدرحي» �أي «مادي روحي معاً» .فقد يظن القاريء غري املط ّلع �أن هذا القول هو فكرة جديدة فل�سفية للخوري ،واحلقيقة �أنه م�أخوذ من كتاب «ن�شوء الأمم» ل�سعادة ومن �شرح ملباديء احلزب ال�سوري القومي ،فهو فكرة فل�سفية اجتماعية للزعيم �أبداها يف منا�سبات عديدة ،و�آخر ما �أعلنه من �أمر نظرته الفل�سفية كان يف خطابه يف �أول مار�س (�آذار) �سنة ،1940الذي ن�شر يف «�سورية اجلديدة» يف العدد 63ال�صادر يف � 27إبريل (ني�سان) من ال�سنة املذكورة .قال �سعادة: «�إن احلركة ال�سورية القومية مل ت� ِأت �سورية فقط باملباديء املحيية ،بل �أتت العامل بالقاعدة التي ميكن عليها ا�ستمرار العمران وارتقاء الثقافة� .إن احلركة ال�سورية القومية ترف�ض االقرار باتخاذ قاعدة ال�صراع بني املبد�أ املادي واملبد�أ الروحي �أ�سا�ساً للحياة االن�سانية ،وال تقف احلركة ال�سورية القومية عند هذا احلد ،بل هي تعلن للعامل مبد�أ الأ�سا�س املادي ـ الروحي للحياة االن�سانية ووجوب حتويل ال�صراع املميت �إىل تفاعل متجان�س يحيــي ويعمر ويرفع الثقافة وي�سيرّ احلياة نحو �أرفع م�ستوى».
98
�أنطون �سعادة
�إن املبد�أ الذي جاء به �سعادة هو نظرية فل�سفية �شاملة تتناول العامل و�ش�ؤونه االجتماعية واالقت�صادية ،و�شرحها يقت�ضي كتاباً على حدة يبحث يف املباديء املارك�سية املادية لتنظيم املجتمع واملباديء الفا�ش�ستية املازينية الروحية لتنظيم املجتمع ،وال�صراع بني هاتني الفئتني من املباديء ثم يف مبد�أ �سعادة الذي يخرج من القاعدتني املت�صادمتني بقاعدة واحدة عامة ميكن �أن تجُ مع عليها االن�سانية ،وهو بحث وا�سع بل فل�سفة كاملة يف االجتماع والتاريخ. �أخذ ر�شيد اخلوري هذه الفكرة الفل�سفية العظيمة التي ال يطيق عقله �إدراك عمقها و�أهمية الق�ضايا االجتماعية التي ت�شتمل عليها ،فم�سخها وجعلها جمرد كالم �سطحي ب�سيط يق�صد به �إيجاد مقابلة ا�ستبدادية بني الأديان الثالثة ،امل�سيحي والإ�سالمي واليهودي ،فقال: «فالدين امل�سيحي دين ت�صوري ال ينفع الدنيا النف�صاله عنها وال الآخرة لعدم حاجتها �إليه، �صح وهو نقي�ض الدين اليهودي الذي هو مادي �صرف� ،أما الدين الإ�سالمي «فمدرحي» �إذا ّ النحت والرتكيب� ،أي مادي وروحي معاً». حم�صل ولي�س غري اجل ّهال الذين �أعطيت لهم حكمة خفيت عن احلكماء يفهمون ما هو ّ هذا الكالم االعتباطي ،ف�إذا كان الدين الإ�سالمي مادياً وروحياً معاً فالدين اليهودي �أي�ضاً كذلك ،وكذلك الدين امل�سيحي .فكل دين من هذه الأديان ،بل كل دين على االطالق، يزعم �أنه جمع �ش�ؤون الروح واجل�سد ،وهذا ال يعني �شيئاً جديداً يف الدين واالجتماع �إال �أن خ�ص الإ�سالم به من دون امل�سيحية واملو�سوية ليوهم الغوغاء وناق�صي العلم ر�شيد اخلوري ّ �أنه عامل بهذه «الأديان» و�أن له نظرة فيها لها طابع فل�سفي .وهذا التقليد �أقبح من تقليد ال�سعدان للنجار الذي �أدخل �إ�سفيناً يف خ�شبة ،ف�شقّها وترك الإ�سفني فيها ،فجاء القرد يقلده ،فركب على اخل�شبة فتدىل ذنبه يف �شق اخل�شبة ،فرفع الإ�سفني ليقلد النجار ف�أطبقت اخل�شبة على ذنبه!
املسيحية واحملمدية والقومية
99
اهلوامش � - 1آلهة عبدها الكنعانيون ،وكانوا يقدمون لها �أ�ضحية ب�شرية خ�صو�صاً يف قرطاجة. - 2قمة اجلودي هي اجلبل الذي ر�ست فوقه �سفينة نوح ح�سب التقليد الإ�سالمي (�سورة هود الآية .)44 - 3املق�صود احلرب العاملية الثانية. - 4ر�شيد �سليم اخلوري «الأعا�صري» م�صدر �سبق ذكره ،ق�صيدة «عيد الفطر» ال�صفحتان .111 - 110 - 5امل�صدر ال�سابق ،ق�صيدة «عيد الأ�ضحى» ال�صفحة .30 « - 6العروة الوثقى» ،دار العرب -القاهرة .1957ال�صفحات .29 - 23 - 7امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحات .35 - 30 - 8امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحات .58 - 49
100
�أنطون �سعادة
بني اهلوس والتدين ر�أينا مما �أثبتناه يف احللقة ال�سابقة �أن القول يف خالف امل�سيحية والإ�سالم وتف�ضيل هذا الدين على ذلك لي�س جمرد قول يقوله �أحمق ،بل اعتقادات �شاعت يف �أو�ساط وا�سعة بني امل�سلمني وامل�سيحيني .وقد ذكرنا ال�شائعات يف الأو�ساط الإ�سالمية لأن يف هذه الأو�ساط تنت�شر حركة هذا التفكري الرجعي الذي يغذيه عدد من املفكرين امل�سلمني الذين خلطوا الوطنية والقومية بالدين .و�سن�أتي ،يف �سياق البحث ،على ما وقفنا عليه من ال�شائعات يف الأو�ساط امل�سيحية .وكون هذه املعتقدات اخلاطئة ذات جذور يف �أو�ساط وا�سعة ،ولها �شبه مدر�سة فكرية كان يف طليعة �أ�ساتذتها ال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده وال�سيد ر�شيد ر�ضا وال�سيد حممد كرد علي ،ومن تالمذتها املج ّلني ال�سيد �شكيب �أر�سالن وغريه الذين يرون الرجوع �إىل الدولة الدينية ويرون �أن الوطنية هي النعرة الدينية عينها ،يربر كل التربير الأهمية التي �أعطيناها حلار�ضة ر�شيد �سليم اخلوري التي لي�ست يف احلقيقة �سوى ف�سيف�ساء �أفكار التقطها ،على عادته ،من بع�ض ال�صحف واملجالت �أو الكتب ووجد لها جمرى يف بع�ض الأو�ساط .وهذه احلقيقة تكفي لإفهام الذين �أظهروا �إ�شفاقاً على «القروي» �أننا مل نهتم هذا االهتمام �إال ملا هو �أهم بكثري من كبح جماح مهوو�س باخللود واملال. �إذا دققنا �أكرث ف�أكرث يف كالم «العروة الوثقى»( ) املتعلق بغاية الدين امل�سيحي وغاية الدين الإ�سالمي ووقفنا على ُبعد ت�أويله عن االجتاه ال�صحيح امل�ؤيد بال�شواهد وعن الطريقة اال�ستقرائية التاريخية ،على ما �أو�ضحناه يف احللقات الأخرية املتقدمة ،تبني �أنه كالم ُبني على روح احلزبية الدينية �أكرث كثرياً مما ُبني على ّتدبر القر�آن والإجنيل. 1
املسيحية واحملمدية والقومية
101
وحم�صل كالم «العروة الوثقى» �أنه كتاب يع ّلم �إن القر�آن نف�سه َّ يعد الإجنيل كالماً منز ًالّ ، اخلنوع واال�ست�سالم على ما قال اخلوري بالإ�ستناد �إىل كالمها ،فهل يتفق هذا الكالم مع ما فر�ضه القر�آن على امل�سلمني من الإميان به بقوله{ :وقولوا �آمنا بالذي �أنزل �إلينا و�أنزل �إليكم}(العنكبوت .)46 ،وهل يجوز ت�صور �أن اهلل �أر�سل روحه �إىل مرمي لتلد امل�سيح ليع ّلم النا�س الذل واخلنوع؟ وهل يتفق مع انطباق التعاليم الإ�سالمية الروحية على التعاليم امل�سيحية كل االنطباق كما ب ّينا؟ هذا من جهة تد ّبر القر�آن� ،أما من جهة تد ّبر الإجنيل فهل ينطبق الكالم املذكور على ن�ص الإجنيل ال�صريح؟ وقد ر�أينا �أنه ال ينطبق على ن�ص الإجنيل وغر�ض التعليم امل�سيحي ،كما �أو�ضحناه بال�شواهد الكثرية ،ور�أينا �أي�ضاً �أنه ال ينطبق على ال�شواهد القر�آنية العديدة التي �أثبتناها يف هذا البحث .ولكن تقرير هذه احلقيقة ال يعني �أنه كالم غري م�ستند �إىل بع�ض الآيات القر�آنية وبع�ض تقاليد �صدر الإ�سالم من غري تد ّبر لكل ذلك كما يجب ،ومن غري فهم للقواعد االجتماعية ـ االقت�صادية التي هي �أهم من العقائد الدينية يف تعيني اجتاه املجتمعات االن�سانية وتقرير م�صريها ،والتي هي �سبب ن�شوء الأمم والقوميات ،ومن غري فهم ملجرى التاريخ ومن غري فهم حلقيقة الدين على الإطالق وغري معرفة مبحله من التطور االن�ساين. الرجعة هي مذهب الرجوع �إىل حال �سابقة ،وعندما �أطلقنا على الكاتبني الكبريين ال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده نعت الرجعة مل نكن ملقني الكالم اعتباطاً ،بل عنينا �أنهما رجعيان بكل ما يف هذه الكلمة من املعنى ،لأنهما ق�صدا وناديا بالرجوع �إىل عهد الدولة الدينية وت�أ�سي�س الدولة على الدين .فلم يعتربا بالأحداث التاريخية العظمى التي كانت درو�ساً خطرية تنق�ض ال�شيء الكثري من االعتقادات القدمية يف ما هو غر�ض الدين وغر�ض الدولة وطبيعة كل منهما ،وظال يعتقدان �أن ذهاب دولة الدين مل يكن �إال لأ�سباب عار�ضة �أو ن�سبية �أو ل�ضعف الأديان غري الإ�سالمية ،فع ّلال تقهقر الدولة الدينية الإ�سالمية ب�ضعف الإميان �أو ن�سيان الوعد �أو بتق�صري امل�سلمني عن الأخذ ب�إمناء العلوم �أو ب�شغل �أفكار عامتهم باملغالبات الداخلية بني �أمرائهم� ،أو غري ذلك من الأ�سباب الواهية املق�صرة عن �إدراك العوامل االجتماعية واالقت�صادية واجلغرافية والنف�سية يف التطور االن�ساين .وهذه
102
�أنطون �سعادة
العوامل هي التي لها الغلبة يف الأخري .والظاهر �أنهما مل يكونا على اطالع يف ذلك ،ولهذا ال�سبب �أو ل�سبب غريه كغلبة الرتبية الدينية املذهبية عليهما قاال�« :إن ال جن�سية للم�سلمني �إال يف دينهم»( ) ،وال�صحيح هو غري ذلك .وقد ظن امل�سيحيون �أي�ضاً من قبل �أن جن�سيتهم يف دينهم ولكن الواقع نق�ض هذا الظن لي�س فقط يف امل�سيحية ،بل يف الإ�سالم �أي�ضاً ويف كل دين �آخر .ومن �أراد در�س هذا املو�ضوع فعليه بكتاب «ن�شوء الأمم» ت�أليف �سعادة ،وهو كتاب وقدم نظريات يف علم االجتماع جمع �أحدث احلقائق العلمية يف تطور االن�سانية و�أقوامها ّ () جديدة غاية يف الأهمية .وللزعيم �أي�ضاً حما�ضرة يف مباديء الرتبية القومية الأ�سا�سية عر�ض فيها لأ�سباب �سقوط اجلامعة الدينية يف امل�سيحية والإ�سالم. والغفلة عن الت�ضارب الأ�سا�سي ،اجلوهري بني مباديء «اجلن�سية الدينية» ومباديء «اجلن�سية االجتماعية» التي ظهرت باملظهر الذي �أطلق عليه ا�سم «القومية» ،هي ما جعل كاتبي «العروة الوثقى» يعجبان «كل العجب من �أطوار الآخذين بهذا الدين ال�سلمي (امل�سيحية)» [انظر مقالة «الن�صرانية والإ�سالم و�أهلهما»( )] .فعجبهما الذي �أعلناه ال يدل �إال على عدم تدبرهما �أمر الدين امل�سيحي كما ب ّينا ،وعدم تدبرهما �أمر الدين على االطالق من وجهة التاريخ االجتماعي ،ال من وجهة تقاليد �أحد الأديان ،وعلى عدم �إدراكهما الفرق بني «اجلن�سية الدينية» و«اجلن�سية االجتماعية» .ولو �أنهما �أدركا الفرق بني هاتني اجلن�سيتني لزال عجبهما من تقدم الأمم امل�سيحية ومظاهر الروحية احلزبية فيها التي ال تت�ضارب مطلقاً مع تعاليم الدين يف امل�سيحية .فالأمم امل�سيحية ما نه�ضت �إال برتك مبد�أ «اجلن�سية الدينية» ومبد�أ «الدولة الدينية» (التيوكراتية )Theocracyوبالأخذ مببد�أ «اجلن�سية االجتماعية» ومبد�أ «الدولة القومية» من غري �أن يعني ذلك التخلي عن تعاليم دينها املناقبية التي توثق �أوا�صر وحدتها الداخلية وجتعل كل �أمة منها يداً واحدة يف طلب الفالح .والأمم الإ�سالمية ال تزال مت�أخرة، لأنها ملّا جتتز طور العمل مببد�أ «اجلن�سية الدينية» ،وهي ما دامت متم�سكة بهذا املبد�أ الذي ال يتفق مع الواقع االجتماعي فال �أمل لها مبجاراة الأمم امل�سيحية التي تقدمت با�سم اجلامعة القومية املنف�صلة عن الدين ،من غري �أن يتخلى �أي م�ؤمن عن دينه وتعاليمه. �إن خروج املجاميع الإ�سالمية �إىل العمل مببد�أ «اجلن�سية االجتماعية» بد ًال من مبد�أ «اجلن�سية 2
3
4
املسيحية واحملمدية والقومية
103
الدينية» قد يبدو �أمراً �صعباً جداً دونه ما هو �أ�شق من خرط القتاد� .أما �أنه �صعب و�شاق فقد كان �صعباً و�شاقاً للمجاميع امل�سيحية �أي�ضاً ،بل �إنه كان �أ�صعب و�أ�شق لأنه مل يكن لهذه املجاميع مثل تقتدي به .واملجاميع الإ�سالمية ترى الآن مثل الأمم الناه�ضة وجتد �أمامها الأمم الراقية واالخرتاعات والفنون التي ت�س ّهل لها ما مل يكن �سه ًال للمجاميع التي تقدمتها، ومع ذلك فللمجاميع الإ�سالمية �صعوبة من نوع �آخر داخلي ،من قواعد الدين ،فال يكاد يهب زعماء مفكر �إ�سالمي يجهر بفكرة جديدة تنطبق على �أ�صول التطور االجتماعي حتى ّ الدين ينعتونه بالكفر والزندقة .وقد جرى مثل ذلك عند امل�سيحيني من قبل .فر�ؤ�ساء الدين واملتم�سكون مببد�أ «اجلن�سية الدينية» من امل�سلمني يقولون �إن العمل مببد�أ «اجلن�سية يهد �أركان الدين .وهم يحتجون ب�أن غر�ض الإ�سالم هو �أن يرث امل�سلمون، االجتماعية» ّ الذين هم «العباد ال�صاحلون» الذين يعنيهم القر�آن ،الأر�ض كلها من غري امل�سلمني ،و�أن من الأوامر ال�شرعية �أن ال يدع امل�سلمون تنمية م ّلتهم بامليل �إىل التغلب على �سواهم{ ،حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل}(الأنفال .)39 ،ويحتجون �أي�ضاً ب�أن معظم �أحكام دينهم موقوف �إجرا�ؤه على قوة الوالية ال�شرعية التي توازي ال�سلطة الزمنية عند امل�سيحيني .وجميع هذه احلجج م�سندة �إىل �آيات قر�آنية و�إىل ال�سرية املحمدية. بنا ًء على هذه احلجج يحارب الرجعيون امل�سلمون النه�ضة ال�سورية القومية القائلة �إن ال نه�ضة للأمة ال�سورية �إال بالأخذ مببد�أ «اجلن�سية االجتماعية» بد ًال من «اجلن�سية الدينية». وبنا ًء على مثل هذه احلجج يحارب الرجعيون امل�سيحيون هذه النه�ضة القومية (راجع خطاب البطريريك املاروين �سنة 1937ور ّد الزعيم عليه)( ). هنا ال بد من �إلقاء �س�ؤال يفتح �أمامنا باب الق�ضية يف �صلبها وهو� :أ�صحيح �أن الدين الإ�سالمي ال يتم �إال ب�إعالئه على الأديان الأخرى وبيع امل�سلمني �أنف�سهم حتى يتم انت�صار الإ�سالم ويعم العامل؟ و�أن هذا هو غر�ضه الأ�سا�سي؟ هذا ما يظهر �أن الذين فهموا الدين فهماً �أولياً يف حاالت ن�ش�أته يعتقدون �أنه ال�صحيح الذي ال جدال فيه ،وهذا �أي�ضاً ما ذهب �إليه �إمامان كبريان كال�سيد الأفغاين وال�شيخ حممد عبده ،مع العلم �أنهما كانا ُيح�سبان من طالب الإ�صالح يف الدين ،و�أنه كان لهما مناوئون يف مق�صدهما 5
104
�أنطون �سعادة
اال�صالحي الذي مل يبلغ �إىل ما بلغه كاتب �آخر هو [عبد الرحمن] الكواكبي الذي كان من امل�ؤ�سف �أن �صيته مل يذهب ذهاب �صيتهما .وال نريد �أن نتو�سع كثرياً يف هذه ال�شروح ال�س َّنة وال�شيعة واملت�صوفة وغريها يف ذلك ،بل نذهب الآن وال نعر�ض لتفا�صيل مذاهب ُ ر�أ�ساً �إىل اعتماد الأ�سا�س وهو القر�آن ،كما اعتمدنا الإجنيل �أ�سا�ساً يف كالمنا على امل�سيحية، و�إىل فهم عوامل ن�ش�أة الدين الإ�سالمي وتطوره يف بيئته التي هي ال ُعربة ،من غري الدخول يف التفا�صيل الثانوية و�شروحها يف املدار�س الأربع� :أبي حنيفة ،مالك بن �أن�س ،حممد بن �إدري�س ال�شافعي� ،أحمد بن حنبل. وقبل �أن نبد�أ بدر�س �صحة االعتقاد املذكور �آنفاً وف�ساده نريد �أن نظهر مبلغ خطر النتيجة احلا�صلة منه على النه�ضة القومية يف �سورية والأقطار العربية فنلقي هذا ال�س�ؤال� :إىل �أين يقودنا االعتقاد ب�أن �صحة الديانة الإ�سالمية هي يف حماربة �أهل الأديان الأخرى حتى يدينوا بها �أو يخ�ضعوا للم�سلمني ،وب�أن الدين امل�سيحي دين يع ّلم �أتباعه اخل�ضوع لكل �سلطان �أجنبي يحكمهم؟ �أ�إىل �شيء �آخر غري االن�شقاق الداخلي و�إفناء التعاليم الدينية ال�سامية يف قتال ال نهاية له؟ �إن هذا االعتقاد الذي �سنبني ف�ساد الق�سم الأول منه يف ما يلي ،كما ب ّينا ف�ساد الق�سم الثاين يف ما تقدم ،واالعتقاد الذي يقابله عند م�سيحيي �سورية ،هما وحدهما العقبة الك�ؤود يف طريق نه�ضة الأمة ال�سورية القومية .وال �شك يف �أن نه�ضة الأقطار العربية جملة� ،أو بقاءها يف خمولها، تتوقف على نتيجة ال�صراع حول هذا االعتقاد .وملا كنا قد بد�أنا بتفنيد االعتقادات الرجعية يف الأو�ساط الإ�سالمية ف�سنتابع ذلك قبل االنتقال �إىل االعتقادات امل�سيحية يف هذا الباب. وال بد لنا من العطف على ما ب ّيناه من ف�ساد االجتهاد القائل ب�أن الدين امل�سيحي يقول بوجوب اخل�ضوع لكل �سلطان يحكم املتدينني به ب�إظهار م�ضاره االجتماعية والقومية فهو تعليم مغر�ض وخيم العواقب: يف الدرجة الأوىل ت�أتي النتائج االجتماعية الوبيلة التي ميكن �أن تجُ مع يف كلمتي :البغ�ض والعداوة بني امل�سلمني وامل�سيحيني يف الأمة الواحدة .فامل�سيحيون يبغ�ضون امل�سلمني،
املسيحية واحملمدية والقومية
105
اجتماعياً ،لأنهم ي�شعرون مبحاولة حتقريهم بهذا االعتقاد الفا�سد .وامل�سلمون يبغ�ضون امل�سيحيني ،اجتماعياً ،لأن هذا االجتهاد الباطل يجعلهم يعتقدون �أن امل�سيحي ال ميكنه �أن يكون قومياً �صحيحاً ووطنياً �صادقاً ،لأن تعاليم دينه ،ح�سبما �شرحها لهم االجتهاد الفا�سد، متنعه من ذلك وتوجب عليه �إباحة عر�ضه ،فت�ستحكم العداوة با�ستحكام االعتقادات الباطلة. والعداوة ي�ستغلها الأجنبي املتيقظ لقوميته وم�صاحلها ،والنتيجة الأكيدة هي العبودية احلتمية التي ي�شرتك امل�سلمون وامل�سيحيون يف جرمية دفع بع�ضهم بع�ضاً �إليها .وما هو ال�سبب؟ ال�سبب هو االعتقادات الفا�سدة واالجتهادات املغر�ضة من الفريقني ،املبنية بدورها على اعتقادات دينية واجتهادات فقهية �أو الهوتية هي �أي�ضاً فا�سدة �أو ال موجب حتمي لها من الوجهة االجتماعية ـ الدينية ،كما �سنبينه. وهذه الوجهة القومية ـ االجتماعية هي �أعظم الدوافع التي دفعت كاتب هذا البحث �إىل تناول املو�ضوع ومعاجلته بهذه ال�صراحة الكلية ،ولقد قال حممد قو ًال نطلب من جميع متتبعي هذا املو�ضوع اخلطري �أن يجعلوه ن�صب �أعينهم ،لأن فيه حكمة اجتماعية ت�سهل ال�شيء الكثري من ال�صعوبات .وقوله هو« :لو تكا�شفتم ملا تراقبتم» .و�إننا نقول جلميع ال�سوريني ،م�سلمني وم�سيحيني :يجب عليكم �أن تتكا�شفوا فتعلم كل فئة ما ت�ضمر لها الفئة الأخرى بكل ما فيه من جميل وقبيح ،ف�إذا تكا�شفتم فهو �أول الطريق �إىل �إ�صالح حالكم و�إقالة عثاركمّ . وحل كل ق�ضية يتطلب معرفة جميع �أ�ضالعها و�إال كان ح ًال فا�سداً ال يثبت. والآن نعود �إىل حجج اجلانب الإ�سالمي الرجعية التي �أثارت كل هذا البحث امل�سهب، ولكي يكون البحث مفيداً يجب �أن يكون م�صنفاً ووا�ضحاً يف ترتيب متنا�سق ،ولذلك نبد�أ بالت�صنيف الأ�سا�سي فنقول �إن الإ�سالم من حيث هو عقيدة وم ّلة يق�سم �إىل ق�سمني :الأول هو الإ�سالم كدين ،والثاين هو الإ�سالم كنظام اجتماعي ودولة. فالإ�سالم من حيث هو دين يرمي �إىل ثالثة �أغرا�ض �أخرية: � )1إحالل الإعتقاد باهلل الواحد حمل عبادة الأ�صنام. )2فر�ض عمل اخلري وجتنب ال�شر.
106
�أنطون �سعادة
)3تقرير خلود النف�س والثواب والعقاب (احل�شر). على هذه الأغرا�ض الأخرية قام الإ�سالم كدين فهي �أ�سا�س دعوة حممد و�صلبها ،وما تبقى فهو الأمور ال�شكلية التي ُتتخذ و�سائل لبلوغ هذه الأغرا�ض وهي �أي�ضاً جوهرية ولكن �أهميتها ن�سبية من الوجهة الدينية البحت .ولكي نقتنع ب�أن هذه الأغرا�ض ال تتم �إال بوا�سطة الديانة الإ�سالمية وحدها يجب علينا �أن نقتنع ب�أن الإ�سالم هو الذي جاء بها و�أنه هو �أ�سا�سها ،فهل نتحقق ذلك من الوجهة التاريخية؟ �إننا نتحقق العك�س متاماً ب�شهادة الكالم القر�آين نف�سه الذي عزاه حممد �إىل اهلل .فكون اهلل واحداً ،غري منظور ،يرى كل �شيء قادراً على كل �شيء هي فكرة حملها اليهود �أو ًال واتخذوها عقيدة ،وكذلك فكرة البعث والثواب والعقاب ،وفر�ض عمل اخلري واالبتعاد عن ال�شر .ولكن اليهود الذين كانوا يف حالة �أولية وظروف خ�صو�صية فهموا اهلل ووحدانيته بطريقة �أولية فجعلوه �أ�شبه �شيء بطوطم (� )Totemأو �صنم حي ،غري منظور ،خا�ص بالقبيلة الإ�سرائيلية التي يظهر �أنه مل يكن لها طوطم �أو �إله خا�ص يرمز �إىل �شخ�صيتها ،فر�أوا �أن تكون فكرة اهلل طوطمهم اخلا�ص بهم الرامز �إىل �شخ�صيتهم �أ�سوة بالقبائل �أو ال�شعوب الأخرى التي احتكوا بها ،ووجدوا �أن الطوطمية قد حتولت عندها �إىل تقدي�س �أ�صنام ب�شرية الهيئة �أو ممتزجة ،وهو خطوة فوق طوطمية احليوانات والنباتات واملادة (الطوطمية ميل ن�ش�أ عند ال�شعوب الفطرية لعد حيوان ما ،كلب �أو بقرة �أو ذئب ،مث ًال� ،أو نبات ما �سنديانة �أو �أرزة، مث ًال� ،أو مادة ما� ،صخر �أو جبل ،ممث ًال �شخ�صية القبيلة ورامزاً لنف�سيتها فيكون مقد�ساً عندها). انظر كتاب «ن�شوء الأمم»( ). ر�أى اليهود �أن فكرة �إله حي يرى ويفكر ويخلق تق ّوي معنوياتهم وترهب �أعداءهم ملا فيها من هيبة اخلفاء وقوة احلياة جتاه جمود الأ�صنام ،ف�ض ًال عن ال�ضرورة الداخلية للإلتجاء �إىل �سلطان ي�ؤيد الت�شريع واحلكم. ولكن اهلل مل يكن عندهم �أرقى كثرياً من الأ�صنام فكانت عبادتهم له وات�صالهم به �أ�شبه بعبادة الوثنيني الأ�صنام وات�صالهم بها .فكانوا ي�شاورونه يف حروبهم كما كان الوثنيون 6
املسيحية واحملمدية والقومية
107
ي�شاورون �آلهتهم يف حروبهم ،وكان اهلل خا�صاً بهم كما كان لكل �شعب �أو �أمة �أو قبيلة �إله خا�ص به .فهو لهم «�إله �إ�سرائيل» �أو «�إله يعقوب ون�سله» وهما واحد .وكما كان ال�صنم يحارب عن عباده �أو ي�شري عليهم باحلرب �أو ال�سلم كذلك كان يهوه يحارب عن اليهود �أو ي�شري عليهم باحلرب �أو ال�سلم ،ح�سبما يرى �أنه موافق م�صلحة اليهود ،لأنه �إلههم وحدهم من دون النا�س .وعلى هذه الكيفية مل تكن مرتبته �أعلى كثرياً من مرتبة �صنم ،ووظيفته مل تكن �أرقى كثرياً من وظيفة �صنم .هو الذي «و�ساق مثل الغنم �شعبه [وقادهم مثل قطيع يف الربية] وطرد الأمم من قدامهم»(املزامري.)54 - 52 :78 ، ومل تر ِتقِ فكرة اهلل عن فكرة الأ�صنام �إال بتعليم امل�سيح .فقد ن�سخ امل�سيح فكرة كون اهلل خمت�صاً ب�شعب دون �شعب يحارب حروبه �ضد ال�شعوب الأخرى .ف�صار اهلل يف امل�سيحية �إله جميع الب�شر على ال�سواء ال يفرق بني �سوري وهندي و�إغريقي .ورف�ض امل�سيح �أن يكون من يبق يف امل�سيحية من ف�ضل لإن�سان على �إن�سان ن�سل «ال�شعب املختار» من �صلب داود ،ومل َ �إال بالعمل بالرحمة يف املجتمع والعدل يف احلكم. ويف امل�سيحية واليهودية على ال�سواء فر�ض عمل اخلري وجتنب ال�شر وخلود النف�س والثواب والعقاب .ولكن امل�سيحية واليهودية اختلفتا يف اخلري العام فجعله اليهود مقت�صراً على بني �إ�سرائيل و�أطلقته امل�سيحية لي�شمل جميع الأمم .وبنا ًء عليه خرجت اليهودية من الإعتبار كدين �إن�ساين عام .وبقي اليهود يف العامل احللقة املوجودة بني الآلهة ال�شعوبية والإله الإن�ساين العام .ولكنها مل تخرج من غر�ض فكرة وحدانية اهلل وغر�ض فعل اخلري وجتنب ال�شر .و�إذا �أخرجنا اليهودية من غر�ض اخلري الإن�ساين العام فال ميكننا �إخراج امل�سيحية منه ف�إنها �أ�سا�سه، وفكرة خلود النف�س والثواب والعقاب فيها هي فكرة وا�ضحة مالزمة جلميع تعاليمها .فتحقيق �أغرا�ض الإ�سالم النهائية املذكورة �آنفًا ال يكون ،يف احلقيقة� ،سوى حتقيق �أغرا�ض امل�سيحية عينها التي تقدمته .فالأغرا�ض الدينية الأخرية� ،إذن ،لي�ست �أغرا�ض الإ�سالم وحده ،فلماذا عدها ،كما هي بالفعل ،م�شرتكة بني امل�سيحية والإ�سالم تتم �إال به وملاذا ال ميكن ّ ال ميكن �أن ّ تامة بوجود الدينني وبانت�شارهما كل يف البيئات الأكرث موافقة لتعاليمه وقبو ًال لها؟ هذا ال�س�ؤال يفتح م�س�ألة الن�صو�ص القر�آنية التي قلنا �إن �أكرث املهيمنني على اجلماعات
108
�أنطون �سعادة
الإ�سالمية ال يتدبرونها �أو ال يريدون �أن يتدبروها� ،إال وفاقاً لفكرة جامدة �أوجدتها تقاليد �صدر الإ�سالم وفتوحاته ،و�أكرثها م�ستمد من ن�صو�ص الق�سم الثاين من الإ�سالم كدولة. و�إىل هذه الن�صو�ص يلج�أ جميع الذين يريدون �إقامة القومية على الدين كمدر�سة التفكري التي �أ�س�سها ال�سيد الأفغاين وال�شيخ حممد عبده. هل يعني ذلك �أن ن�ص الر�سالة القر�آنية على نوعني؟ اجلواب العلمي (ولي�س الديني) على هذا ال�س�ؤال هو :نعم� ،إن الن�صو�ص القر�آنية على نوعني ويجب �أن تدر�س من وجهتي الدين والدولة .وبهذه الطريقة فقط ميكن فهم الإ�سالم فهماً �صحيحاً من الوجهة التاريخية ،وبهذه الطريقة فقط ميكن اال�ستفادة من مرونة الإ�سالم ملنع جموده وحتجره كما حتجرت اليهودية. وبهذه الطريقة يو�ضع حد مل�شعوذي الدين فال ي�ست�شهدون ب�آيات الق�سم الديني يف غر�ض الدولة وب�آيات الق�سم الدويل يف غر�ض الدين فتت�ضارب �أغرا�ض الإ�سالم من دين ودولة كما هو حادث �إىل اليوم وت�ضطرب �سكينة امل�ؤمنني امل�سلمني ،الذين يجدون �أنف�سهم م�سوقني �أحياناً لت�ضحية بع�ض �آيات الدين يف �سبيل �إقامة بع�ض �آيات الدولة ،وهو الأكرث �ضرراً، و�أحياناً لت�ضحية بع�ض �آيات الدولة يف �سبيل بع�ض �آيات الدين ،من غري معرفة �صحيحة ملا هو الواجب ح�سب حقيقة الدين. هذا التحليل ال يوافق هوى الذين يريدون �أن تظل عامة امل�سلمني جاهلة هذه احلقائق ليتمكنوا من ت�سيريها وفاقاً لرغائبهم اخل�صو�صية ،كما مل يوافق حتليل م�سائل الدين امل�سيحي هوى الذين �أرادوا �إبقاء عامة امل�سيحيني جاهلة حقائق تف�سد �أغرا�ضهم ،فرتى الرجعيني وت�سمعهم ي�صيحون� :إن هذا �إال كالم يق�صد به «نق�ض بناء امل ّلة الإ�سالمية ومتزيقها �شيعاً و�أحزاباً» كما قال �صاحبا «العروة الوثقى» .ولكننا نقول �إن معرفة احلقائق هي طريق ارتقاء الأمم الوحيدة من جميع الأديان.
املسيحية واحملمدية والقومية
109
اهلوامش « - 1العروة الوثقى» م�صدر �سبق ذكره ،ال�صفحتان .26 - 25 - 2امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .25 � - 3أنطون �سعادة ،الأعمال الكاملة ،اجلزء الأول� ،إ�صدار «م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة» -بريوت ،2001ال�صفحة .381 « - 4العروة الوثقى» ،ال�صفحة .150 � - 5أنطون �سعادة ،م�صدر �سبق ذكره ،اجلزء الثاين ال�صفحة .339 � - 6أنطون �سعادة« ،ن�شوء الأمم» .م�صدر �سبق ذكره ،اجلزء الثالث ال�صفحة .76
110
�أنطون �سعادة
أغراض الدين واختالف األديان �إن ن�صو�ص الإ�سالم كدين تقول �إن الدين مل يبتديء مبحمد ،بل ب�إبراهيم ،جرياً على تقاليد اليهود ،و�إن الوحي ن ّزل على حممد لت�أييد الكتب ال�سابقة (التوراة والإجنيل) ،ولتذكري فك�ش ُف الدين النا�س الذين جاءتهم الكتب ولإنذار الذين مل ي�أتهم قبل حممد من نذيرْ . للمرة الأوىل مق�صود به الآخرون� ،أي الذين مل ي�أتهم نذير قبل حممد� ،أما �أهل الكتاب فقد نزل القر�آن م�صدقاً ملا معهم ،فال خالف يف �أنه الدين �أو �أنه والقر�آن دين واحد ور�سالة واحدة. لي�س ما قررناه يف الفقرة املتقدمة جمرد ت�أويل لبع�ض �آيات قر�آنية التقطت التقاطاً ،كما جرى ويجري لك ّتاب كثريين م�سلمني وم�سيحيني يكتفون ب�سماع قول �أو �آية واحدة �أو ب�ضع �آيات من القر�آن �أو الإجنيل لي�ؤولوا الدين الإ�سالمي �أو امل�سيحي كله على ما ي�ستنتجون منها ،من غري معرفة بحقيقتها ،بل هو نتيجة در�س علمي ا�ستقرائي لن�ش�أة الر�سالة الإ�سالمية وتطورها وتد ّبر ملا ورد من الآي يف هذا الباب يف جميع �سور القر�آن من �أول �سورة �إىل �آخر �سورة. وال بد من الإ�شارة ،يف هذا ال�صدد� ،إىل �أن در�س القر�آن لي�س بال�شيء الهني ،وكثري من املقبلني على قراءته ي�ضلون فيه ل�سبب عدم وجود �أي تنظيم مو�ضوعي �أو حادثي يف ترتيب �سوره و�آياته .فقد ذكرنا يف حلقة متقدمة �أن الذين جمعوا القر�آن رتبوا ال�سور املدنية �أو ًال نظراً لأهميتها ال�شرعية ،على �أن ذلك لي�س كام ًال يف ال�صحة� ،أي �أنه �إذا كانت العناية وجهت �إىل �أحكام ال�شرع ،قبل كل �شيء ،ف�إنه مل جت ِر �أية حمافظة على هذه القاعدة ،فال�سور الت�شريعية ال ت�أتي متعاقبة .هذا وال�سور عينها ال حمافظة يف كل منها على مو�ضوع واحد ،بل ت�أتي يف ال�سورة الواحدة عدة موا�ضيع فمنها الذكر ومنها الق�ص�ص ومنها الت�شريع املقت�ضب .وينقطع
املسيحية واحملمدية والقومية
111
الت�شريع يف املو�ضوع الواحد �أو يتم يف �إحدى ال�س َور فيظن القاريء �أن املو�ضوع قد كمل و�أن الغاية قد متت ف�إذا يف �سورة �أخرى عودة �إىل معاجلة املو�ضوع عينه و�إذا هنالك تعديل �أو زيادة ملا ورد قبل. وقد تبينّ �أن الطريقة التي اتبعت يف جمع �س َور القر�آن وترتيبها هي طريقة اختيار الطول والق�صر ،فال�س َور الطوال ت�أتي �أو ًال وتليها الأقل طو ًال ثم الأق�صر� ،إىل الغاية يف الق�صر من غري حمافظة على الدقة الكلية يف ذلك ف�إذا كان الفرق �آيات قليلة فال لزوم للتقدمي والت�أخري .وقد عدها فاحتة الكتاب ف�سميت «�أم القر�آن». و�ضعت �سورة «الفاحتة» يف �أول القر�آن لأن النبي ّ وت�أتي بعد «الفاحتة» التي هي نوع من ال�صالة والت�سبيح �سورة «البقرة» و�آيها 286وتليها �سورة «�آل عمران» و�آيها 200ثم تليها �سورة «الن�ساء» و�آيها 176وهكذا دواليك .ومن �أراد �أن يدر�س القر�آن در�ساً علمياً على هذه الطريقة ال ي�صل �إىل نتيجة �صحيحة ،فيحتاج �إىل در�س التواريخ وكتب ال�سرية وي�ضطر لرتتيب القر�آن ترتيباً جديداً على الن�سق احلادثي �أو التعاقبي الذي ُيعرف به �أية �سورة هي ال�سابقة يف الوحي ،و�أية هي الالحقة .فيعرف كيف نزل القر�آن واحلاالت التي نزلت فيها كل �سورة .فيتتبع تطور الر�سالة بتطور حاالتها ويفهم عالقة ا�ستنزال الآيات باحلاالت واحلوادث اجلارية ،وينتهي �إىل فهم حقيقة املق�صود من �آيات �إذا ُجردت عن احلاالت واحلوادث ظهرت مت�ضاربة �أو غري منطقية ،كما ظهر من جتريد ال�سيد الأفغاين وال�شيخ حممد عبده �آية «�أعطوا ما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل» الإجنيلية من احلالة واحلادث اللذين قيلت فيهما ،فبدت غري منطقية ولكن حني در�سنا هذه الآية وو�ضعناها يف حملها ظهر لنا بجالء �أنها على العك�س متاماً مما فهمه منها الكاتبان املذكوران اللذان مل يك ّلفا �أنف�سهما م�شقة مراجعة الإجنيل وفح�ص حقيقة �أمر هذه الآية ويف �أي موقف قيلت. وكما جرى لهذين الكاتبني وغريهما من �إ�ساءة فهم الآي الإجنيلية ب�سبب عدم در�س عالقة احلوادث واحلاالت بالآيات ،كذلك جرى ويجري لهما ولغريهما يف الكالم على الآي القر�آنية من غري قرن كل �آية باحلادث �أو احلالة الذي ا�ستنزلت فيه. قد ر�أينا كيف �أ�سيء فهم بع�ض الآيات امل�سيحية ،فل َرن كيف �أ�سيء وميكن �إ�ساءة فهم بع�ض الآيات الإ�سالمية فن�أخذ مث ًال هذه الآية{ :و�إذ تقول للذي �أنعم اهلل عليه و�أنعمت عليه
112
�أنطون �سعادة
�أم�سك عليك زوجك واتق اهلل وتخفي يف نف�سك ما اهلل مبديه وتخ�شى النا�س واهلل �أحق �أن تخ�شاه فلما ق�ضى زيد منها َو َطراً زوجناكها لكي ال يكون على امل�ؤمنني حرج يف �أزواج �أدعيائهم �إذا ق�ضوا منهن وطراً وكان �أمر اهلل مفعو ًال}(الأحزاب .)37 ،ف�إن من يقر�أها لأول حم�ص ًال ثابتاً لنف�سه .والق�سم الأخري مرة ومن غري علم مبا دار عليه كالمها يكاد ال يفهم لها ّ ال�شرعي منها �إذا ق�صد منه جواز االقرتان مبطلقة م�سلمة فاحلكم وارد ب�صورة وا�ضحة يف �سورة ال�سور ،ولكن امل�س�ألة ت�صبح وا�ضحة متاماً بعد معرفة احلادث املخت�صة «البقرة» وغريها من ّ به الآية ،وهو �أن حممداً كان قد عتق زيد بن حارثة وكان زيد قد تزوج امر�أة ا�سمها زينب «ف�أب�صرها حممد ،بعدما �أنكحها �إياه فوقعت يف نف�سه فقال�« :سبحان اهلل مق ّلب القلوب» () و�سمعت زينب بالت�سبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك ووقع يف نف�سه كراهة �صحبتها» فطلقها لكي ال يكون حاجزاً بينها وبني ويل نعمته فاتخذها حممد زوجة من غري وا�سطة عقد ب�سبب �أن الآية نزلت فيها .فكان ذلك حادثاً يقت�ضي نظرة خا�صة نظراً للعالقة و�صلة الدعي وكان حدوثه و�سيلة لنزول الآية التي �أباحت للم�ؤمنني املنزلة بني ال�سيد واملوىل �أو ّ اتخاذ ن�ساء �أدعيائهم {�إذا ق�ضوا منهن وطراً} .هذا مثل يف الت�شريع ،والأمثلة يف الإر�شاد والوعظ والوعد والوعيد كثرية وكلها ت�ؤيد �أن الإ�ستدالل على معنى الآيات ،م�سيحية كانت �أم �إ�سالمية ،ب�صورة ا�ستبدادية ومن غري رجوع �إىل مو�ضع الآية ومو�ضوعها واحلال �أو احلادث الذي نزلت فيه هو �أمر كثرياً ما يف�ضي �إىل غري �أو عك�س املق�صود من الآيات الدينية التي منها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد فيجب فهم كل ذلك بدقة لإ�صابة املعنى احلقيقي والغر�ض املق�صود من الآيات. ولذلك نعود فنقول �إن فهم كون الن�ص القر�آين على نوعني :يف الدين ويف الدولة ،يقت�ضي تدبراً ال ميكن �أن يح�صل من االبتداء بدر�س القر�آن ح�سب ترتيبه� ،أي باالبتداء بالفاحتة ثم بالبقرة فب�آل عمران فبالن�ساء فباملائدة �إلخ .ف�إن هذا الرتتيب بعيد عن �إعطاء القاريء �صورة �صحيحة للر�سالة الإ�سالمية واملوا�ضيع املحلية والعامة التي عاجلتها .وال�صواب �أن ُيبتد�أ ب�سورة العلق فبالقلم فباملزمل فباملدثر� ،إلخ .ح�سب تعاقب ال�سور كما �أعلنها النبي ولي�س ح�سب ترتيب ال�س َور الإ�ستبدادي يف القر�آن .ف�إن �أول �سورة نزلت هي العلق ولي�ست 1
املسيحية واحملمدية والقومية
113
الفاحتة وثاين �سورة نزلت هي القلم ولي�ست البقرة وهكذا على التوايل. والآن نعود �إىل متابعة ما بد�أناه يف هذه احللقة يف ما يثبته الن�ص القر�آين ملا هو الدين .ف�إن ترم يف الأ�صل �إىل غري الأغرا�ض الدينية الثالثة التي عددناها بداءة الر�سالة الإ�سالمية مل ِ ي�شتم منه رائحة التفريق �أو التمييز بني ر�سالة حممد يف احللقة ال�سابقة ومل يكن فيها �شيء ّ ور�ساالت الأنبياء ال�سابقني ،من عهد نوح و�إبراهيم ،الذي ظهر يف �أواخر الر�سالة بقوله{ :هو الذي �أر�سل ر�سوله بالهدى ودين احلق ليظهره على الدين كله ولو كره امل�شركون}(ال�صف، .)9وهو من �ش�ؤون الإ�سالم كدولة �أكرث كثرياً مما هو من �ش�ؤون الإ�سالم كدين �أو هو من ال�ش�ؤون الدينية املق�صود بها معاجلة احلالة ال�سيا�سية الداخلية يف ال ُعربة ،ولي�س مق�صوداً بها �إقامة الأغرا�ض الدينية ال�صافية �أو الأغرا�ض الدينية ـ االجتماعية ال�صحيحة التي عددناها يف احللقة ال�سابقة ،لأن الأغرا�ض الدينية ال�صحيحة هي عينها يف الإ�سالم ويف امل�سيحية ويف اليهودية� ،إال �أن هذه الأخرية خرجت من مبد�أ اخلري العام فقط. قلنا �آنفاً �إن ن�صو�ص الإ�سالم كدين تقول �إن الدين (�أي الدين ال�صحيح) مل يبتديء مبحمد، بل ب�إبراهيم ،وقد ذهبت هذه الن�صو�ص �إىل �أكرث من ذلك فقالت �إن الإ�سالم نف�سه مل يبتديء مبحمد ،بل ب�إبراهيم {قل �إنني هداين ربي �إىل �صراط م�ستقيم ديناً قيماً م ّلة �إبراهيم حنيفاً وما كان من امل�شركني}(الأنعام{ ،)161 ،م ّلة �أبيكم �إبراهيم هو �سماكم امل�سلمني من قبل} (احلج .)78 ،وهذا الكالم هو نهج ال�س َور املكية التي فيها �أ�سا�س الدين وجوهر �أغرا�ضه و�إن تكن الأخرية مدنية .ومن نهج ال�س َور املكية قوله�{ :إمنا �أُمرت �أن �أعبد رب هذه البلدة (البلد احلرام) الذي حرمها وله كل �شيء و�أُمرت �أن �أكون من امل�سلمني}(النمل.)91 ، يهم كل دار�س عامل حمقق معرفة �أول كالم فاه به حممد يف ت�أدية ر�سالته، مما ال �شك فيه �أنه ّ لأن الكالم الأول هو �إعالن الر�سالة وعنوانها ومبد�أها ،وما ي�أتي بعد يكون تابعاً له وم�ؤيداً �إياه ومكم ًال لغر�ضه ،فهو الأ�سا�س وما ي�أتي بعد هو البناء الذي ال يحيد وال ينحرف لئال ي�سقط. فماذا كان �أول �شيء �أعلنه حممد للذين اقرتبوا منه؟ ما هو الإلهام الذي ّ حل عليه والنور الذي �أب�صره؟ ما هي الدعوة و�إىل �أي �شيء هي؟
114
�أنطون �سعادة
هذه الأ�سئلة وغريها تدغدغ خميلة كل مفكر عميق يريد �أن يعرف بداءة الفكرة ومنتهاها ويحيط بتطوراتها وتفا�صيلها ليح�صل له الفهم الكامل لها ،وبدون هذه املعرفة وهذه االحاطة يكون فهم الر�سالة جزئياً مبعرثاً �أو مت�ضارباً وهو ما يوقع يف الهو�س املنحرف الذي ال يفت�أ ي�صطدم مبا حوله .فماذا كان �أول ما �أعلنه حممد من الوحي؟ كان �سورة العلق وهي ت�سع ع�شرة �آية ق�صرية هذا ن�صها{ :ب�سم اهلل الرحمن الرحيم .اقر�أ با�سم ربك الذي خلق .خلق الإن�سان من علق .اقر�أ وربك الأكرم .الذي ع ّلم بالقلم .ع ّلم الإن�سان ما مل يعلم .كال �إن الإن�سان ليطغى� .أن ر�آه ا�ستغنى� .إن �إىل ربك الرجعى� .أر�أيت الذي ينهى .عبداً �إذا �صلى� .أر�أيت �إن كان على الهدى� .أو �أمر بالتقوى� .أر�أيت �إن ّ كذب وتوىل� .أمل يعلم ب�أن اهلل يرى .كال لئن مل ينت ِه لن�سفعاً بالنا�صية .نا�صية كاذبة خاطئةَ .ف ْل َي ْد ُع �سندع الزبانية .كال ال ُتطع ُه وا�سجد واقرتب} . ناديه ُ ومن در�سنا هذه ال�سورة نرى �أنها ا�شتملت على الأمور الآتية: )1ذكر ا�سم اهلل ونعوته. )2القول باملعاد �أو احل�شر. � )3إنذار ّ املكذب الناهي عن ال�صالة ب�سوء العاقبة. ويجد الدار�س يف هذه ال�سورة طابع القر�آن الذي الزمه حتى �آخر �سورة .ومن مقابلته على التوراة والإجنيل يت�ضح �أنه �أ�شبه �شيء باملزامري يف التوراة منه ب�أي ق�سم �آخر .فهو �شعري ترتيلي �أكرث مما هو تعليمي �أو �إخباري .والق�ص�ص فيه ،كما يف املزامري� ،أخبار قليلة مقت�صرة على ما يفيد عربة �أو مغزى وال تتناول فل�سفة اخلليقة وتعليلها ،ذلك �أن القر�آن يعد هذه باحل�ض الفل�سفة موجودة يف الكتب ال�سابقة التي جاء م�صدقاً لها .ولذلك ات�صف القر�آن ّ والتهويل .و�إذا ذكر كيفية اخللق ذكرها ب�صورة �شعرية مق�صود منها الت�أثري على ال�سامع �أكرث من تعيني كيفية اخللق �أو كيفية حدوثه ب�صورة ثابتة من باب �سرد الواقع .وهذا الأ�سلوب وا�ضح يف ال�سورة الأوىل بقوله{ :اقر�أ با�سم ربك الذي خلق .خلق الإن�سان من علق .اقر�أ وربك الأكرم .الذي ع ّلم بالقلم .ع ّلم الإن�سان ما مل يعلم} ،فقوله« :خلق الإن�سان من علق
املسيحية واحملمدية والقومية
115
وع ّلم بالقلم» مق�صود منه ت�صوير عظمة اخلالق وقدرته ت�صويراً �شعرياً ي�ؤثر يف ال�شعور �أكرث مما هو مق�صود منه �إعطاء تعليل فل�سفي لكيفية اخللق �أو كيفية التعليم .فاهلل ،من الوجهة الدينية ،ع ّلم بالقلم وبغري القلم وخلق من علق ومن غري علق ،كما يعود القر�آن فيذكر يف ال�سورة التالية .ولكن قوله« :من علق وبالقلم» هو من لوازم ال�سجع والت�صور ال�شعري �أكرث مما هو من باب البيان الفل�سفي املنطقي .وكذلك قوله{ :لن�سفعاً بالنا�صية .نا�صية كاذبة خاطئة} فهو من باب الت�صوير ال�شعري حلالة املذنب وذ ّله �إذ ُيج ّر من نا�صيته �إىل العذاب ولي�س تقريراً لكيفية �سوق املذنب �إىل جهنم على وجه التحقيق� ،أيكون ذلك بالقب�ض على النا�صية �أو بربط اليدين �أو بطريقة �أخرى. وال�سورة الثانية «القلم» ال ت�شتمل �سوى على حتذير من املكذبني ووعيد العذاب ووعد بالأجر .والثالثة «املزمل» فيها �أول تعظيم هلل وقدرته ب�صورة بارزة و�أول �إنذار {واملكذبني �أويل النعمة} بالعذاب و�أول ذكر {للجحيم} وفيها تعيني �صفة القر�آن بقوله يف الآية الرابعة {ور ِّتل القر�آن ترتي ًال} .ويف هذه ال�سورة تعيني �أن حممداً مر�سل �إىل «املكذبني �أويل النعمة» وهم �صناديد قري�ش املهيمنون على القبائل العربية كما كان مو�سى مر�س ًال �إىل فرعون .والآية تقول�{ :إ ّنا �أر�سلنا �إليكم ر�سو ًال �شاهداً عليكم .كما �أر�سلنا �إىل فرعون ر�سو ًال}(املزمل، .)15وذكر مو�سى وفرعون يف هذه ال�سورة قبل ذكر الأخبار التاريخية املتعلقة باحلادث الذي ترويه التوراة يفرت�ض �أن الأخبار معروفة مما جاء يف التوراة .ويف هذه ال�سورة �أول ذكر الحتمال وجود {�آخرون يقاتلون يف �سبيل اهلل}(املزمل )20 ،من غري دعوة �إىل القتال �أو حتري�ض عليه .فيختفي ذكر القتال من ال�س َور يف املدة املكية ،وهي ثالث ع�شرة �سنة .وقال البع�ض �إن املدة املكية ع�شر �سنوات فقط ،واملرجح الأول .وت�أتي بعد «املزمل» �سور كثرية املدثر .قم ف�أنذر .وربك «املدثر» التي ت�أتي قبلها وفيها {يا �أيها ّ كلها ترتيل وت�سبيح كالفاحتة �أو ّ فكبرّ ...ف�إذا نقر يف الناقور .فذلك ٍ يومئذ يوم ع�سري.}... وقد ر�أينا يف ال�سورة الثانية ِذكر مو�سى وفرعون .و�إننا نرى يف ال�سورة الثامنة «الأعلى» ذكر {ال�صحف الأوىل� .صحف �إبراهيم ومو�سى} وهو يدل على الإت�صال بالتوراة �أو ًال قبل الإت�صال بالإجنيلِ .فذكر امل�سيح ي�أتي يف �سورة مت�أخرة ،و�أول �إ�شارة �إىل �أخذ العلم به هي يف
116
�أنطون �سعادة
جد ربنا ما اتخذ �صاحبة وال ولداً}(الآية .)3وال ذكر غري ذلك «اجلن» بقوله{ :و�أنه تعاىل ُّ ك�س َّنة الرجال للم�سيح ور�سالتهّ . وحم�صل الآية ا�ستنكار �أن اهلل اتخذ امر�أة ولدت له ولداً ُ املخلوقني وعدم �إمكان اعتبار بنوية امل�سيح هلل ،التي يقول بها امل�سيحيون� ،إال حادثاً من تزاوج بيولوجي .وبعد ات�صال القر�آن بالإجنيل �أكرث يتعدل هذا احلكم نوعاً بالقول �إن امل�سيح ولد {من روح اهلل} ر�أ�ساً. بعد مرور ثالث وثالثني �سورة على ابتداء الر�سالة املحمدية وكلها �س َور ترتيلية ت�سبيحية تدعو �إىل الإقرار باهلل وتنذر «املكذبني» ،تبتديء الر�سالة تتخذ �شك ًال من الدعوة الوا�ضحة يف �سورة «ق» بقوله{ :ق والقر�آن املجيد بل عجبوا �أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا �شيء عجيب �أ�إذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد}(الآيات .)3 - 1فوا�ضح �أن الكالم موجه �إىل جماعة الر�سول التي ال ت�ؤمن بالبعث .وهو م�ؤيد ب�آيات كثرية ت�أتي بعد قوله{ :لتنذر قوماً ما �أنذر �آبا�ؤهم فهم غافلون}(ي�س .)6 ،وقوله قبل ذلك{ :ولقد ّي�سرنا القر�آن للذكر فهل من مذكر}(القمر .)17 ،وتتكرر هذه الآية يف �سورة «القمر» .ويف �سورة «احلجر» �أن القر�آن هو الذكر بقوله{ :وقالوا يا �أيها الذي نزل عليه الذكر �إنك ملجنون}(الآية .)6ويزداد غر�ض الدعوة و�ضوحاً بقوله يف «يون�س»�{ :أكان للنا�س َع َجباً �أن �أوحينا �إىل رجل منهم �أن �أنذر النا�س وب�شّ ر الذين �آمنوا �أن لهم قدم �صدق عند ربهم قال الكافرون �إن هذا ل�ساحر مبني}(الآية .)2وقوله« :الذين �آمنوا» ال يقت�صر على الذين اتبعوا حممد ،بل يتناول الذين �آمنوا بالكتب ال�سابقة .وهذا الت�أكيد م�ؤيد ب�آيات من ال�سورة عينها كقوله{ :وما كان هذا ولكن ت�صديق الذي بني يديه وتف�صيل الكتاب ال ريب فيه من القر�آن �أن ُيفرتى من دون اهلل ْ رب العاملني}(الآية .)37وقوله« :ولكل �أمة ر�سول» وقد �أثبتناه �سابقاً ،وقوله{ :ف�إن كنت يف �شك مما �أنزلنا �إليك فا�س�أل الذين يقر�أون الكتاب من قبلك لقد جاءك احلق من ربك فال تكونن من املمرتين}(الآية .)94وهذه الآية تقول بالرجوع �إىل الكتب املنزلة من قبل (التوراة والإجنيل) للإ�ست�شهاد وت�أييد �صحة كالم القر�آن ودعوته �إىل اهلل احلي ،وترك عبادة الأ�صنام ،والإميان بالبعث .ويتلو الت�أييد الت�أييد كما يف �سورة «الأنعام» بقوله{ :وهذا كتاب �أنزلناه مبارك م�صدق الذي بني يديه ولتنذر �أم القرى ومن حولها والذين ي�ؤمنون بالآخرة
املسيحية واحملمدية والقومية
117
ي�ؤمنون به وهم على �صالتهم يحافظون}(الآية .)92وهذا يعني �أن الذين �آمنوا بالآخرة من قبل يف التوراة والإجنيل ي�ؤمنون بالقر�آن �أي�ضاً لأنه م�صدق ملا معهم ،وال يتوجب عليهم تغيري «�صالتهم» �أو طرق دينهم لأن القر�آن ال ينق�ضها .وهو يخاطب الأنبياء قائ ًال�{ :إن هذه �أمتكم �أمة واحدة و�أنا ربكم فاعبدون}(الأنبياء .)92 ،وجميع هذه الآيات وطائفة كبرية غريها، منها ما ذكرناه يف احللقات ال�سابقة ومنها ما مل نذكره ،ي�ؤيد قولنا �إن �أغرا�ض الدين الأ�صلية، وهي التي عددناها يف احللقة ال�سابقة ،لي�ست مما مل يوجد �إال بالقر�آن و�إن القر�آن بالذات يعرتف ب�أن غر�ض الدين ُوجد من قبل مبا نزل من الكتب ال�سابقة التي تقدمت القر�آن والتي يجب �أن يكون القر�آن مطابقاً لها لي�صح �أن ي�شهد {الذين يقر�أون الكتاب} ب�أنه {احلق من ربك}(يون�س� ،)94 ،أي مطابقاً لها يف �أ�سا�س الدعوة �إىل اهلل وفعل اخلري وترك ال�شر ،والإميان بالآخرة ،ولي�س يف ما اختلف فيه النا�س يف �صفات الر�سل ومنازلهم. بنا ًء عليه ي�صح كل ال�صحة القول� :إن �أغرا�ض الدين الأ�سا�سية �أو اجلوهرية التي دعا �إليها الإ�سالم تتم بوا�سطة الإ�سالم وامل�سيحية معاً و�إىل حد ما اليهودية �أي�ضاً .والقر�آن ال يقول نقي�ض ذلك ،ولكن الر�سالة الإ�سالمية انتقلت من حالة الدعوة �إىل الإميان بها �إىل حالة اجلهاد �ضد امل�شركني الذين قاوموها ،وهم عبدة الأوثان الذين ُوجهت �إليهم الدعوة يف الأ�صل ،لإخ�ضاعهم للدين بالقوة ،لأن التب�شري والإنذار مل ي�ؤثرا فيهم فلم ينتهوا عما كانوا فيه .وملّا مل جتد الر�سالة الإ�سالمية ت�أييداً كلياً من اليهود وامل�سيحيني يف ال ُعربة ،بل وجدت مقاومة خ�صو�صاً من اليهود �صار ال بد من عدهم خ�صوماً يجب حملهم على االعرتاف ب�صحة الر�سالة واالميان بها من حيث هي م�صدقة ملا معهم .وهذا اخلالف هو من ال�ش�ؤون املذهبية يف الدين ولي�س يف �أغرا�ض الدين الأ�سا�سية التي دعا �إليها الإ�سالم .فال ي�صح مطلقاً القول �إنه ب�سبب هذا اخلالف انتفى �أن {يكون الدين كله هلل}(الأنفال� )39 ،إال عن طريق الإ�سالم بالإحتجاج ب�آيات مدنية ال يجوز القول �إنها ن�سخت الآي املك ّية ،لأنه �إذا جاز القول بالن�سخ �أ�صبح ق�سم من الكتاب �أو كله باط ًال ،والقر�آن يوجب الإميان بالكل ،عم ًال مبا جاء يف �سورة «البقرة»�{ :أفت�ؤمنون ببع�ض الكتاب وتكفرون ببع�ض}(الآية .)85 ولكن هنالك خالفاً �آخر مع اليهود حول حتريفهم التوراة .والر�سالة الإ�سالمية �صادقة فيه.
118
�أنطون �سعادة
فقد ثبت �أن اليهود عبثوا بالتوراة ،ومل نقف على ثبوت �أن ذلك العبث كان بق�صد حذف ا�سم حممد منها .ولكن حتريف التوراة �صار م�ستنداً قوياً للر�سالة الإ�سالمية �ضد اليهود .وال حاجة للإطالة يف هذا املوقف لأن اليهودية ،كما ب ّينا يف احللقة ال�سابقة تخرج من كونها ر�سالة خري عام ،وال يجوز ،من هذه الناحية ،و�ضعها على م�ستوى واحد مع امل�سيحية والإ�سالم. تبقى م�س�ألة اخلالف بني هذين الدينني على عدم ت�أييد امل�سيحيني لر�سالة حممد وعلى �صفة امل�سيح وبع�ض الأمور الأخرى ،فنفرد لذلك مقا ًال يف احللقة التالية.
اهلوامش - 1عبد اهلل بن عمر البي�ضاوي ،مرجع �سابق .اجلزء الرابع ال�صفحة .163
املسيحية واحملمدية والقومية
119
مدار اخلالف بني اإلسالم واملسيحية ال �شك ،مهما كان قلي ًال ،يف �أن الإ�سالم ي�ؤيد الر�سالة امل�سيحية ت�أييداً تاماً ،مطلقاً من كل قيد �أو �شرط و�أنه يعد نف�سه مكم ًال لها عند الذين مل ي�أتهم نذير من قبل� ،أي عند الذين مل ت�شملهم الر�سالة امل�سيحية� .أما امل�ؤمنون بهذه الر�سالة فال يطلب منهم الإ�سالم �سوى م�صدق لر�سالتهم .والآيات القر�آنية التي تقيم الربهان القاطع االعرتاف ب�أنه دين حقيقي ّ على هذه احلقيقة كثرية ،وما تقدم لنا �إثباته منها يكفي لقطع كل قول خمالف ،فما هو من�ش�أ اخلالف بني الدينني ،والأ�صح بني امل ّلتني ،وما هي �أ�سبابه؟ ر�أينا يف ما تقدم �أن القر�آن اتخذ �صفة الت�سبيح والرتمن يف عظمة وقدرة اهلل الذي تقدمت القر�آن كتب �سابقة يف �إثبات وجوده ،والدعوة �إىل العمل مب�شيئته واالنذار بيوم ح�سابه .و�إن �صدق هذه الكتب وجعلها �شاهدة على �صحة دعوة حممد .ولكن ال�سرية املحمدية، القر�آن ّ التي ال بد من التحقيق فيها واال�ستناد �إليها لفهم �آي القر�آن و�أغرا�ضها ،تخربنا �أن اليهود وامل�سيحيني يف ال ُعربة �أخذوا ينتقدون اعتبار حممد نف�سه ر�سو ًال من عند اهلل ،وينتقدون بع�ض الآيات ويرف�ضون ت�أييد ر�سالته .فاليهود ا ّدعوا �أن اهلل وعدهم ب�إر�سال م�سيحهم الذي يعيد جمد �إ�سرائيل .وامل�سيحيون قالوا �إنه ال ي�صح �أن ي�أتي بعد امل�سيح نبي �أو ر�سول. مع ذلك فقد وجد امل�سيحيون �أن دعوة حممد كانت موافقة العتقادهم الإلهي فلم يكن موقفهم من ال�شدة كغريهم .و�أكرث املقاومة كانت من �صناديد قري�ش ،فه�ؤالء اتهموه بعدم �صحة ادعائه الوحي ون�سبوا �إليه االقتبا�س عن التوراة والإجنيل والتلقن ،ت�شهد بذلك �آيات عديدة كهذه{ :وقال الذين كفروا �إن هذا �إال �أفك افرتاه و�أعانه عليه قوم �آخرون فقد جا�ؤوا
120
�أنطون �سعادة
ظلماً وزوراً .وقالوا �أ�ساطري الأولني اكتتبها فهي متلى عليه بكرة و�أ�صي ًال}(الفرقان.)5 - 4 ، وقد ثبت �أن حممداً كان ي�سمع قراءة التوراة والإجنيل يف مكة ،فقد ثبت �أنه كان مبكة رجالن ي�صنعان ال�سيوف ا�سم �أحدهما جرب وا�سم الآخر ي�سار وكانا يقر�آن التوراة والإجنيل وكان حممد مير عليهما فيقر�آن له وي�سمع (انظر �شرح �سورة النحل للبي�ضاوي)( ) .وقد ا�ستنزل الر�سول �آيات كثرية لت�أييد �أن ما يقوله وحي ين ّزل عليه منها هذه{ :ولقد نعلم �أنهم يقولون �إمنا يع ّلمه ب�شر ل�سان الذي يلحدون �إليه �أعجمي وهذا ل�سان عربي مبني}(النحل،)103 ، {�آمل .تنزيل الكتاب ال ريب فيه من رب العاملني �أم يقولون افرتاه بل هو احلق من ربك لتنذر قوماً ما �أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون}(ال�سجدة .)3 - 1 ،وهذه الآية من �أو�ضح الآيات التي تبينّ �أن حممداً كان ر�سو ًال �إىل الذين مل ي�أتهم ر�سول من قبل يف الدرجة ولي�صدق الأوىل� ،أي العرب ،ليدعوهم �إىل اهلل الذي �سبقت الكتب الأخرى بالدعوة �إليه ّ تلك الكتب .وهو ما عنيناه من اخت�صا�ص الر�سالة بالعرب من غري �أن ينق�ض ذلك ا�شرتاكها مع الر�ساالت ال�سابقة وت�أييدها يف دعوة النا�س �أجمعني �إىل �أغرا�ض الدين الأخرية .والآيات القر�آنية التي ت�أتي بهذا املعنى كثرية حتى ال يبقى �أي �شك يف هذا التعليل .وقد �أوردنا بع�ضها يف حلقات �سابقة ويف ما تقدم من هذه احللقة ونورد هنا �آيات �أخرى{ :وعجبوا �أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا �ساحر كذاب �أَ َج َع َل الآلهة �إلهاً واحداً �إن هذا ل�شيء عجاب} (�ص .)5 - 4 ،وهذه الآية موجهة خ�صي�صاً �إىل الذين مل يعرفوا اهلل وال يزالون يعبدون الأ�صنام .ومثلها قوله{ :هو الذي بعث يف الأميني ر�سو ًال منهم يتلو عليهم �آياته ّ ويزكيهم ويع ّلمهم الكتاب واحلكمة و�إن كانوا من قبل لفي �ضالل مبني}(اجلمعة .)2 ،فالأم ّيون كنت بجانب الطور الذين كانوا من قبل لفي �ضالل مبني هم العرب خا�صة بال ريب{ .وما َ �إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما �أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون} من (الق�ص�ص .)46 ،ومعنى هذه الآية �أنه و�إن مل يكن حممد حا�ضراً مناداة اهلل ملو�سى فقد َّ اهلل عليه بالوحي رحمة بقوم ما �أتاهم نذير من قبل .وهذا يعني �أنه مل يكن يف بدء الر�سالة الإ�سالمية �أي اجتاه للإ�صطدام مع املو�سويني �أو امل�سيحيني يف نزاع على ادعاء �صحة الر�سالة �أو نق�ض التعاليم ،بل كان االجتاه للإتفاق على الق�ضاء على عبادة الأ�صنام يف ال ُعربة .ولكن 1
املسيحية واحملمدية والقومية
121
مل يكن بد من ا�صطدام املعتقدات يف الأخري ،كما ب ّينا �آنفاً ،لأنه مل ميكن املو�سويني الت�سليم بتعدد الكتب املقد�سة وال امل�سيحيني الت�سليم بتعدد الدعوات .ولكن اال�شرتاك يف الأغرا�ض الدينية البحتة امل�شار �إليها �سابقاً خفف كثرياً من اال�صطدام� .أما امل�شركون �أو عبدة الأ�صنام فلم يكن من �سبيل لتخفيف اال�صطدام والنزاع معهم ،فوجهوا �إليه انتقادات الذعة ون�سبوا �إليه ال�سحر والهذيان واجلنون ،يف حني �أنه كان ر�سو ًال خمل�صاً �إليهم. وحدثت يف �أثناء الدعوة حوادث جعلت ال�شك يف الوحي يت�سرب �إىل الذين �آمنوا بالر�سالة، فكان من جملة الآيات التي ا�ستنزلها الر�سول لدح�ض مزاعمهم هذه الآية{ :ومن �أظلم يوح �إليه �شيء ومن قال �س�أنزل مثل ما �أنزل ممن افرتى على اهلل كذباً �أو قال �أوحي �إ ّيل ومل َ اهلل ولو ترى �إذ الظاملون يف غمرات املوت واملالئكة با�سطو �أيديهم �أخرِجوا �أنف�سكم اليوم جتزون عذاب الهون مبا كنتم تقولون على اهلل غري احلق وكنتم عن �آياته ت�ستكربون}(الأنعام، .)93وذلك �أن عبد اهلل بن �سعد بن �أبي �سرح كان يكتب وحي النبي فلما نزلت �آية: {ولقد خلقنا الإن�سان من �ساللة من طني} وبلغ قوله{ :ثم �أن�ش�أناه خلقاً �آخر} قال عبد اهلل{ :فتبارك اهلل �أح�سن اخلالقني}(امل�ؤمنون )14 - 12 ،فقال له حممد« :اكتبها فكذلك نزلت» ّ ف�شك عبد اهلل وقال« :لئن كان حممد �صادقاً لقد �أوحي ّيل كما �أوحي �إليه و�إن كان كاذباً لقد قلت كما قال» ،فنزلت الآية املذكورة �أعاله لتكذيبه وتكذيب غريه كم�سيلمة والأ�سود العن�سي وغريهما الذين �أوجبت مقاومتهم له حروباً دامية. يت�ضح يف كل ما تقدم ،يف ما يعني امل�سيحية والإ�سالم من الدعوة الإ�سالمية و�أغرا�ضها، تدع �إىل �أمر واحد من الأمور الدينية ال�صحيحة خمالف لتعاليم الدين �أن هذه الدعوة مل ُ امل�سيحي ،بل �إن القر�آن �أ ّيد الر�سالة امل�سيحية ب�آيات كثرية ودعا القر�آن امل�ؤمنني بالإجنيل ليحكموا {مبا �أنزل اهلل}(البقرة )91 ،فيه من غري زيادة �أو نق�صان �أو ما يوجب تغيري «�صالتهم» وتعاليم دينهم .فاخلالف ن�ش�أ بالأكرث ،من موقف امل�سيحيني العرب من حممد، بل �أعظمه ما كان مع اليهود الذين �أخذوا يخادعون النبي يف املدينة ،فكان �إذا انت�صر على امل�شركني وعاد غامناً يقولون �إنه النبي املنعوت يف التوراة بالن�صرة ،فلما انك�سر يوم �أُ ُحد نكثوا العهد معه على �أن ال يكونوا له وال عليه ،وخرج كعب بن الأ�شرف يف �أربعني راكباً منهم
122
�أنطون �سعادة
�إىل مكة وحالفوا �أبا �سفيان ،ف�أر�سل النبي �أخا كعب من الر�ضاعة فقتله و�صبحهم بالكتائب وحا�صرهم حتى �صاحلوا على اجلالء ،فنزلت الآية{ :هو الذي �أخرج الذين كفروا من �أهل الكتاب من ديارهم لأول احل�شر ما ظننتم �أن يخرجوا وظنوا �أنهم ما ِنع ُتهم ح�صونهم من اهلل ف�أتاهم اهلل من حيث مل يحت�سبوا وقذف يف قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم ب�أيديهم و�أيدي امل�ؤمنني فاعتربوا يا �أويل الأب�صار} (احل�شر ،مدنية ،الآية .)2وهذه الآية والتي تقدمتها هما من �أ�شد الأدلة �صحة على ارتباط الآيات القر�آنية باحلوادث اجلارية. و�إذا كان حممد وجد من موقف امل�سيحيني ما �أوجب عدم ر�ضاه وعدم ر�ضى الوحي ،ف�إن امل�سيحيني وجدوا يف تعليقات القر�آن على اعتقادهم يف امل�سيح �سبباً كافياً لعدم ت�أييده. وقد يكون هنالك �سبب �آخر �سابق لهذا ال�سبب هو كون القر�آن ابتد�أ بذكر التوراة ومو�سى و�إبراهيم ومل يذكر الإجنيل وامل�سيح منذ البدء ،ور�ؤية امل�سيحيني القر�آن يجاري التوراة �أكرث مما يجاري الإجنيل يف البدء .و�إن �أول �إ�شعار الت�صال القر�آن بامل�سيحية كان يف الآية النافية كون اهلل ولد ولداً واتخذ �صاحبة .وهي من �سورة «اجلن» وقد �أثبتناها يف احللقة ال�سابقة .ومل نحقق يف هل كان نفي كون امل�سيح ابن اهلل �سبب �إعرا�ض امل�سيحيني عن دعوة حممد وعن ت�أييده� ،أم هل كان موقف امل�سيحيني باعثاً على اتخاذ الر�سالة الإ�سالمية خطة املقاومة لبع�ض معتقداتهم� ،أو هل كان نفي بنوية امل�سيح �أمراً م�ستق ًال �أوجد �سبباً �آخر للخالف .ومهما يكن عدلت معنى الآيات القائلة من �شيء فالثابت من ّتدبر القر�آن كله �أن الر�سالة الإ�سالمية ّ يعد �أمراً و�سطاً بني بعدم والدة امل�سيح من اهلل ب�إعطاء و�صف لكيفية حمل مرمي ميكن �أن ّ االعتقاد ب�أن امل�سيح ابن اهلل ونفي �صلة امل�سيح بذات اهلل وهو القول �إنه ولد {من روح اهلل}. وعلى هذا الأمر وحده يدور كل اخلالف العقائدي الديني بني امل�سيحية والإ�سالم� .أما التعاليم امل�سيحية فال يقول القر�آن مبخالفة �شيء منها ،بل على العك�س هو يثبتها ويقول �إنها كالم اهلل املنزل وبهذا القول يرفع كل احتمال الختالف الإ�سالم وامل�سيحية على �أغرا�ض الدين ،وتبطل كل حجة للذين مل يفهموا من الر�سالة الإ�سالمية غري حب التغلب والطمع يف الدولة وال�سلطان ومنافعهما ،القائلني �إنه ال يتم الدين �إال با�ستظهار الإ�سالم على غريه من الأديان وبالعمل ببع�ض �آيات الكتاب دون البع�ض الآخر .فالدين و�أغرا�ضه الأخرية
املسيحية واحملمدية والقومية
123
تكمل ،ح�سب قول القر�آن ،باالميان مبا �أنزل من قبل ومن بعد وهو يحتم على امل�سلمني االميان ّ بالإجنيل. انح�صر اخلالف بني الإ�سالم وامل�سيحية يف �أمر واحد من جهة الإ�سالم و�أمر واحد من جهة امل�سيحيني ،وال نقول امل�سيحية لأن الإجنيل من حيث هو �سابق للقر�آن مل يعر�ض له فاقت�صر الأمر على معتقدات امل�سيحيني يف �صدد حممد ور�سالته ،ولي�س على كالم الإجنيل يف حممد .فالأمر الأول هو خمالفة القر�آن اعتقاد معظم امل�سيحيني يف �صفة امل�سيح و�صفة اهلل ،والأمر الثاين عدم �إميان امل�سيحيني بر�سالة حممد وب�أنه نبي حقيقي .و�سنبحث هذين الأمرين يف الفقرات التالية: قلنا يف احللقة ال�سابقة �إن �أول تلميح يف القر�آن �إىل امل�سيح �أو امل�سيحية كان ا�ستنكاراً ل�صفة امل�سيح وعالقته باهلل وذلك يف الآية{ :و�أنه تعاىل جد ربنا ما اتخذ �صاحبة وال ولداً} (اجلن )3 ،ف�إذا حققنا يف هذا القول وجدنا �أن العقل العربي ،نظراً حلالة البداوة وانعدام الثقافة العقلية ،مل ي�ستطع �أن يت�صور كون امل�سيح ابن اهلل �إال ب�أن يكون اهلل قد تزوج امر�أة �أو «اتخذ �صاحبة» ولدت له ابناً .وهذا لو �صح �أنه معتقد لكان �إنزا ًال هلل عن مقامه� ،إذ هو غري حمتاج ،مع قدرته ،لأن ي ّتخذ �صاحبة �ش�أن الرجال العاديني فيتزوجها وتلد له ولداً على ُ�س َّنة الب�شر .و�صحة هذا التحليل للعقلية العربية تت�ضح من قوله« :تعاىل جد ربنا» �أي �أن اهلل �أعلى من �أن يكون هكذا �ش�أنه و�صفته .وال خالف بني الإجنيل والقر�آن يف ذلك وال بني امل�سيحيني وامل�سلمني فيه .فامل�سيحيون الذين قالوا بالتثليث منهم والذين قالوا بالتوحيد �أو بالتثنية (بالطبيعتني �أو بامل�شيئتني) ال يقولون �أو يعنون �أن اهلل ا ّتخذ �صاحبة وتزوج امر�أة لتلد له ،ولكنهم قبلوا رواية الإجنيل �أن مرمي حبلت من الروح القد�س مب�شيئة اهلل من غري تعيني لكيفية ح�صول احلمل ومن غري �أي دخول يف امل�سائل البيولوجية كوجوب ح�صول اللقاح. وهم مل ي�أخذوا الوجهة البيولوجية بعني االعتبار تنزيهاً لقدرة اخلالق عن احلاجة �إىل الفعل البيولوجي و�إعالء جلده عن �ش�أن النا�س «املخلوقني» الذين ال قدرة لهم على الوالدة �إال على الطريقة البيولوجية. ولذلك كانت م�س�ألة والدة مرمي العذراء امل�سيح من العجائب الدالة على قدرة اهلل ونفاذ
124
�أنطون �سعادة
م�شيئته .وهذه الوالدة العجائبية عندهم هي من �أقوى م�ستندات اعتقادهم ب�ألوهية امل�سيح، �أي بحلول روح اهلل يف ج�سده �أو حلول الالهوت يف النا�سوت .ولي�س يف هذا االعتقاد عند امل�سيحيني �أي �إنزال لقدرة اهلل �أو تفكري ب�أنه «اتخذ �صاحبة» �ش�أن الرجال العاديني .ولكن ال يبعد �أن يكون ظهر �شيء من هذا التفكري عند بع�ض العرب الذين قبلوا الدين امل�سيحي وف�سروه ح�سب عقليتهم الفطرية غري املثقفة .ويف هذه احلالة يكون كالم القر�آن موجهاً �إليهم من دون امل�سيحيني املتمدنني ،وهذا هو الأرجح من حيث اعتبار �صحة الوحي النبوي و�أنه موجه �إىل العرب خا�صة وبل�سانهم� .أما من الوجهة العلمية البحتة التي تطلب لكل م�سبب �سبباً فالآية القر�آنية نف�سها ت�صف طريقة التفكري العربي غري املثقف ،فهي �إما مطابقة للعقلية العربية و�إما حمللة لها .وهي يف كل حالة خمت�صة بطريقة الفهم العربي الذي �ضيقت الطبيعة القا�سية على �أفقه الروحي .واالعتقادات امل�سيحية الروحية ال تدخل حتت حكم هذه الآية، لأنها كلها تن ّزه اهلل عن الفعل البيولوجي وال تناق�ش قدرة اهلل على �إر�سال روحه ب�شكل حمامة �أو ب�أي �شكل �آخر لي�ستقر يف �أح�شاء مرمي. �س�أل رجل مالك بن �أن�س� ،أحد م�ؤ�س�سي املدار�س الأربع يف الإ�سالم ،عن قوله يف القر�آن: {الرحمن على العر�ش ا�ستوى}(طه )5 ،كيف هذا اال�ستواء؟ ف�أجاب مالك« :اال�ستواء معقول والكيف جمهول وال �أظنك �إال رجل �سوء». هذا ال�س�ؤال واجلواب يدالننا على �أن امل�سلمني الأولني مل يتعر�ضوا لدر�س القر�آن درا�سة علمية فقبلوا ال�صور ال�شعرية قبولهم الأو�صاف احلدثية والتعليالت املنطقية .فالقول «الرحمن على العر�ش ا�ستوى» يدخل يف ال�صفة ال�شعرية التي حللناها يف احللقة ال�سابقة وهو من باب قوله« :خلق من علق وع ّلم بالقلم» وال لزوم لإحالله يف حمل التقرير احلدثي التاريخي �أو يف حمل التعليل الفل�سفي .ولكن جواب مالك يفتح باب القيا�س يف االعتبارات الدينية .ف�إذا كان ي�صح يف الإ�سالم �أن تكون �أفعال اهلل معقولة وكيفياتها جمهولة فلماذا يجب �أن ال ي�صح ذلك يف امل�سيحية؟ ف�إذا كان اهلل قادراً على كل �شيء ،فلماذا ال يكون قادراً على التج�سد �أو على �إر�سال روح القد�س ليتج�سد يف �شكل �إن�سان من غري وجوب تعيني كيفية حدوث التج�سد؟ و�إذا كان اهلل ال يقدر على التج�سد ،ح�سب بع�ض املعتقدات الدينية ،فقدرته مل
املسيحية واحملمدية والقومية
125
تعد كلية ،بل �أ�صبحت حمدودة و�أ�صبحت جميع اخلوارق املن�سوبة �إليه كاخللق والبعث باطلة ،ومن ثم �أ�صبح هو نف�سه باط ًالّ . (نذكر القاريء �أننا ال نتعر�ض هنا لأمر ثبوت املعتقدات الدينية �أو زوالها ،فال نعر�ض لإثبات �أو نفي حلول روح اهلل يف جوف مرمي العذراء وال لإثبات �أو نفي �أزلية القر�آن وتنزيله ،بل نبحث منطقية بع�ض االفرتا�ضات �أو االعتقادات فقط). وقد ا�ستمر القر�آن يرف�ض االعرتاف باعتقاد امل�سيحيني �أن امل�سيح هو ابن اهلل الوحيد .فوردت يف ذلك �آيات عديدة مبعنى الآية ال�سابقة كقوله{ :بديع ال�سموات والأر�ض �أنى يكون له ولد ومل تكن له �صاحبة وخلق كل �شيء وهو بكل �شيء عليم}(الأنعام{ ،)101 ،ما كان هلل �أن يتخذ من ولد �سبحانه �إذا ق�ضى �أمراً ف�إمنا يقول له كن فيكون}(مرمي{ ،)35 ،وقل احلمد هلل الذي مل يتخذ ولداً ومل يكن له �شريك يف امللك}(الإ�سراء{ ،)111 ،ما اتخذ اهلل من ولد وما كان معه من �إله �إذاً لذهب كل �إله مبا خلق ولعال بع�ضهم على بع�ض �سبحان اهلل عما ي�صفون}(امل�ؤمنون .)91 ،وهذه الآية الأخرية هي مظهر �آخر من مظاهر العقلية العربية يف فهم اعتقاد امل�سيحيني كون امل�سيح ابن اهلل و�إنه ،لذلك� ،إله .فامل�سيحيون ال يقولون ب�ألوهية للم�سيح منف�صلة عن �ألوهية اهلل وب�إرادة له م�ستقلة عن �إرادة اهلل ،ولكن قد يكون وجد بني م�سيحيـي العرب من �أ َّول االعتقاد هذا الت�أويل. ومع ا�ستمرار القر�آن يف �إنكار �ألوهية امل�سيح فقد طر�أ يف �سياق الدعوة املحمدية تعديل كبري على النظرة الأوىل الورادة يف �آية �سورة «اجلن» والآيات ال�شبيهة بها .وهذا التعديل يدل على حدوث ات�صال �أقرب بالإجنيل .و�أول ما يظهر هذا التعديل يف �سورة «مرمي» وهي نزلت بعد «اجلن» بثالث �سور .فانظر هذا التعديل الذي ميكن �أن يعد نقي�ضاً ملا ورد يف �سورة «اجلن» �إذ فيه �صورة جمازية جتعل اهلل مبقام زوج مرمي{ :واذكر يف الكتاب مرمي �إذ انتبذت من �أهلها مكاناً �شرقياً .فاتخذت من دونهم حجاباً ف�أر�سلنا �إليها روحنا فتمثل لها ب�شراً �سوياً .قالت �إين �أعوذ بالرحمن منك �إن كنت تقياً .قال �إمنا �أنا ر�سول ربك لأهب لك غالماً زكياً .قالت �أنى يكون يل غالم ومل مي�س�سني ب�شر ومل � ُأك بغياً .قال كذلك قال ربك هو علي هني ولنجعله �آية للنا�س ورحمة منا وكان �أمراً مق�ضياً .فحملته فانتبذت به مكاناً ق�صياً ...ذلك عي�سى ابن مرمي قول احلق الذي فيه ميرتون}(مرمي.)34 - 16 ،
126
�أنطون �سعادة
هذه الآيات تدل على عالقة وثيقة ب�إجنيل م ّتى و�إجنيل لوقا .ومن التدقيق فيها يت�ضح لنا �أن القر�آن اعرتف ب�صحة رواية الإجنيل لكون والدة امل�سيح حدثت ب�صورة �إلهية مبا�شرة خارقة جلميع ال�سنن ال�سارية على االن�سان واحليوان ،ي�ؤيد ذلك: -1قوله{ :ولنجعله �آية للنا�س} فالآية هي العجيبة �أو املعجزة الإلهية. � -2إن قوله{ :ف�أر�سلنا �إليها روحنا فتمثل لها ب�شراً �سوياً} يجعل عالقة مبا�شرة وثيقة بني عد اجتهاداً يف �إعادة ت�صوير حادث اهلل ومرمي وهو مع قوله{ :وكان �أمراً مق�ضياً فحملتهُ }...ي ُّ احلمل ب�صورة موافقة لرواية الإجنيل ،ومقبولة للعقل العربي من حيث [�أنها] تت�ضمن املعنى البيولوجي. � -3إن هذه الآيات توافق قول م ّتى �إن مرمي« :وجدت حبلى من الروح القد�س»(متى:1 ، )18وما ورد يف �إجنيل لوقا من املحاورة بني املالك جربائيل ومرمي ،ولكنها ت�ضع روح اهلل يف مكان جربائيل. بنا ًء عليه تكون هذه الآيات قد �أزالت كل خالف بني القر�آن والإجنيل على �صفة امل�سيح، لأن حم�صلها يوافق كل املوافقة الرواية الإجنيلية ومعتقدات امل�سيحيني ،وال يوجد م�سيحي واحد يرف�ضها .ومع ذلك ،ومع و�ضوح االعرتاف بوالدة امل�سيح مب�شيئة اهلل ومن ات�صال روحه مبرمي مبا�شرة ف�إن القر�آن مل يوافق على اال�ستنتاج �أو االعرتاف ب�أن ذلك يعني �أن امل�سيح هو ابن اهلل الوحيد� ،أي املولود منه ،فيلحق بالآيات املذكورة �آية �أخرى ت�أتي ر�أ�ساً بعد �آية {ذلك عي�سى ابن مرمي }...وهي قوله{ :ما كان هلل �أن يتخذ من ولد �سبحانه �إذا ق�ضى �أمراً ف�إمنا يقول له كن فيكون}(مرمي.)35 ، وقد ورد يف القر�آن بعد التعديل املذكور تعديل �آخر هو �أ�شد نق�ضاً لآية «اجلن» و�أقرب �إىل تعليل والدة امل�سيح الإجنيلية بطريقة �أكرث قبو ًال للعقل العربي وذلك بقوله{ :والتي �أح�صنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها �آية للعاملني}(الأنبياء .)91 ،وهي بعد �سورة «مرمي» ب�سبع وع�شرين �سورة .ففي هذه الآية �إ�شارة وا�ضحة �إىل اجلهاز التنا�سلي .ويعود القر�آن فيزيد هذا التعليل و�ضوحاً بقوله{ :ومرمي ابنة عمران التي �أح�صنت فرجها فنفخنا فيه
املسيحية واحملمدية والقومية
127
و�صدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتني}(التحرمي .)12 ،فع ّو�ض عن من روحنا ّ قوله «فنفخنا فيها» بقوله «فنفخنا فيه» .وهذا االت�صال هلل مبرمي هو �أبعد كثرياً مما تذهب �إليه رواية الإجنيل وت�صورات امل�سيحيني املتمدنني .ويف �سورة «�آل عمران» النازلة بعد «الأنبياء» وقبل «التحرمي» ما يدل على عالقة ب�إجنيل يوحنا وهو قوله�{ :إذ قالت املالئكة يا مرمي �إن اهلل يب�شرك بكلمة منه ا�سمه امل�سيح�(}...آل عمران ،)45 ،و«الكلمة» يف تعليل يوحنا هي �صفة اهلل« :يف البدء كان الكلمة والكلمة كان عند اهلل وكان الكلمة اهلل ...هذا كان يف البدء عند اهلل .والكلمة �صار ج�سداً ّ وحل فينا وقد �أب�صرنا جمده جمد وحيد من الأب مملوءاً نعمة يعدل هذه الفكرة يف ال�سورة عينها ويو�ضحها وحقاً»(يوحنا 1 :1 ،و .)14 :2ولكن القر�آن ّ هكذا {�إن مثل عي�سى عند اهلل كمثل �آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون}(�آل عمران .)59 ،وهذه الآية ال تق�صد �إي�ضاح والدة امل�سيح ،بل تق�صد ت�أويلها ،فكيفية جميء امل�سيح �آية من اهلل وكلمته م�شروحة يف �سورة «مرمي» ويف �آيتي «الأنبياء» و«التحرمي» .ويف جميع هذه الآيات �أن اهلل مل يخلق امل�سيح كما خلق �آدم� ،إذ مل يجبله من تراب وينفخ فيه وحم�صل �سورة «�آل عمران» �أن امل�سيح و�إن يكن ولد ن�سمة حياة بل �أر�سل روحه �إىل مرميّ . ب�صورة خارقة وبات�صال اهلل مبرمي فقيمة جميئه على هذه الكيفية لي�ست �أكرث من قيمة جميء �آدم الذي مل يولد من تزاوج ولقاح ،بل خلق خلقاً ب�إرادة اهلل .فامل�سيح �إذاً خملوق باملنزلة التي خلق بها �آدم ال �أكرث .فيكون القر�آن حافظ على القول الأول الوارد يف �سورة «اجلن» عدلته تعدي ًال كبرياً كما ر�أيت .ون�أ�سف �أن ال تكون لدينا على الرغم من الآيات التي ّ الأدلة التاريخية الكافية لتعيني هل �أوجبت احلوادث التاريخية هذه املحافظة� ،أم هل �أوجبتها النظرة املبدئية �أو مبد�أ املحافظة على �صحة ما �سبق �أو مبد�أ املفا�ضلة بني الأنبياء والر�سل الذي برز يف طور من �أطوار القر�آن ،ومنا واتخذ �شك ًال وا�ضحاً ،مع تقدم الر�سالة ،ظهر بالقول بتف�ضيل الإ�سالم على جميع الأديان الأخرى. وخال�صة هذه املخالفة الإ�سالمية ل�صفة امل�سيح الأخرية هي �أنها خمالفة غري �شديدة وال جازمة� ،إذ قد تبينّ من الن�صو�ص القر�آنية املثبتة �آنفاً �أن القر�آن �أقر الرواية امل�سيحية لكيفية حمل مرمي ووالدة امل�سيح ،ولكنه خالف امل�سيحيني يف ت�أويل قيمة احلادث فتكون هذه
128
�أنطون �سعادة
املخالفة مبنزلة �شيعة من ال�شيع يف امل�سيحية ،وهي �أقل بعداً عن ال�شيع امل�سيحية من بع�ض ال�شيع الإ�سالمية عن كلها كالراف�ضة ،مث ًال .فاخلالف على الت�أويل ولي�س على احلدوث. ويزداد هذا اخلالف على الت�أويل يف �أواخر الوحي ويبلغ �أوجه يف �سورة «املائدة» بقوله{ :لقد كفر الذين قالوا �إن اهلل هو امل�سيح ابن مرمي قل فمن ميلك من اهلل �شيئاً �إن �أراد �أن يهلك امل�سيح ابن مرمي و�أمه ومن يف الأر�ض جميعاً وهلل ملك ال�سموات والأر�ض وما بينهما يخلق ما ي�شاء واهلل على كل �شي قدير}(املائدة . )17 ،وقوله{ :ما امل�سيح ابن مرمي �إال ر�سول قد �صديقة كانا ي�أكالن الطعام انظر كيف نبينّ لهم الآيات ثم انظر خلت من قبله الر�سل و�أمه ّ �أنى ي�ؤفكون}(املائدة .)75 ،وقوله{ :لقد كفر الذين قالوا �إن اهلل ثالث ثالثة وما من �إله �إال ليم�سن الذين كفروا منهم عذاب �أليم}(املائدة.)73 ، �إله واحد و�إن مل ينتهوا عما يقولون ّ والآية الأوىل من هذه الآيات الثالث تنكر ا�ستنتاج امل�سيحيني �أن امل�سيح هو اهلل املتج�سد وهي تتفق مع قول الآية{ :فنفخنا فيها من روحنا} .ولكن االتفاق لي�س تاماً خ�صو�صاً مع قوله{ :ف�أر�سلنا �إليها روحنا فتمثل لها ب�شراً �سوياً} .والآية الثانية ال ت�شتمل على �سوى القول باعتبار امل�سيح يف منزلة ر�سول .والأخرية تظهر االعتقادات التثليثية امل�سيحية ك�أنها تقول �إن الآلهة ثالثة ،مع �أن هذه االعتقادات ال تقول بتثليث الآلهة ،بل بتثليث الأقانيم التي هي �أجزاء واحد ،لأن اهلل عند امل�سيحيني واحد والتثليث من �صفاته ولي�س من تعدده، فال خالف بني الإ�سالم وامل�سيحية يف كون اهلل واحداً ولذلك قال القر�آن{ :وقولوا �آمنا بالذي �أنزل �إلينا و�أنزل �إليكم و�إلهنا و�إلهكم واحد ونحن له م�سلمون}(العنكبوت.)46 ، وتكفري القر�آن امل�سيحيني لي�س من �أجل دينهم وتعاليمه «�صالتهم» بل من �أجل تعدد الآلهة �صح وثبت �أنهم ال يقولون به ،و�أثبت القر�آن �أن �إله امل�سيحيني �إن �صح �أنهم يقولون به ،وقد ّ وامل�سلمني واحد .يبقى �أمر تكفريهم العتقادهم �أن امل�سيح هو اهلل بالتج�سد وهو ال يتناول عقيدة التوحيد وال غر�ضاً واحداً من الأغرا�ض الدينية الأ�سا�سية التي دعا �إليها الإ�سالم، بل يتناول م�س�ألة مقدار ما يجب �أن ي�ستنتج من والدة امل�سيح على الكيفية امل�شروحة يف الإجنيل والقر�آن .وهو خالف مذهبي يف الدين الواحد ولي�س بني دين ودين �إذ هو لي�س خالفاً مع الإجنيل �أو امل�سيح بل مع طوائف امل�سيحيني حول الت�أويل الذي يجب �أن يعطى
املسيحية واحملمدية والقومية
129
لوالدة امل�سيح .وهذه امل�س�ألة ت�شبه م�س�ألة هل القر�آن خملوق �أو غري خملوق يف الإ�سالم ،ف�إن اع ُترب القر�آن لوحاً م�سطوراً منذ الأزل �أفال ميكن اال�ستنتاج من ذلك �أن القر�آن �أقنوم من ويخف كثرياً هذا اهلل� ،أو غري ذلك من االعتقادات التي ال يوجد ن�ص مينعها ب�صورة قاطعة؟ ّ اخلالف باعتبار �أن كالم امل�سيح هو كالم اهلل� ،إمنا امل�سيحيون يقولون �إن اهلل قاله بالتج�سد والقر�آن يقول بالتنزيل على امل�سيح والنتيجة تق ّرب �شقة اخلالف. ويف تطور الر�سالة الإ�سالمية يظهر خالف �آخر يف �أمر امل�سيح هل �صلب بالفعل �أم مل ي�صلب. فالقر�آن ينفي �صلب امل�سيح جماراة لإجنيل برنابا الذي روى �سرية امل�سيح بطريقة �شاذة ،ظاهرة فيها حماولة حتقري �شخ�صية امل�سيح .ففي �إجنيل برنابا �أن امل�سيح ملا �شعر باقرتاب ت�سليمه و�أن يهوذا قادم مع جمع من اليهود �أو اجلند هرب �إىل منزل واختب�أ يف حجرة فدخل يهوذا الأ�سخريوطي يف �إثره فرفع اهلل امل�سيح و�ألقى على يهوذا نوراً جعله ي�شبه امل�سيح كل ال�شبه حتى مل ي�شك الآتون للقب�ض على امل�سيح يف �أنه هو امل�سيح ،فقب�ضوا عليه وهو ي�صيح قائ ًال �إنه لي�س امل�سيح فلم ي�صدقوه و�أخذوه وكل يقينهم �أنهم قب�ضوا على امل�سيح .و�إليك قول القر�آن{ :وبكفرهم (اليهود) وقولهم على مرمي بهتاناً عظيماً .وقولهم �إ ّنا قتلنا امل�سيح عي�سى ابن مرمي ر�سول اهلل وما قتلوه وما �صلبوه ولكن �شُ ّبه لهم و�إن الذين اختلفوا فيه لفي �شك منه ما لهم به من علم �إال اتباع الظن وما قتلوه يقيناً .بل رفعه اهلل �إليه وكان اهلل عزيزاً حكيماً. و�إن من �أهل الكتاب �إال لي�ؤم ّنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم �شهيداً}(الن�ساء، .)159 - 156 هذا هو وجه اخلالف الوحيد ،من جهة الإ�سالم ،بني امل�سيحية والإ�سالم �أوردناه من غري تطويل ومن غري �إغفال لوجه واحد من وجوهه .ومنه يتبينّ ب�صورة ال تبقي جما ًال للريب ويعد الإجنيل منز ًال� ،أي كالماً �أن الإ�سالم ال ينق�ض الدين امل�سيحي وال تعاليمه ،بل يثبته ّ �إلهياً ،يتوجب على امل�سلمني �أن ي�ؤمنوا به ،ون�صو�ص هذا التثبيت �صريحة وقد �أثبتنا بع�ضها يف ما تقدم. بنا ًء عليه ميكن القول ب�صورة جازمة �إن �أغرا�ض الدين الأ�سا�سية تتم ،من جهة العقيدة الإ�سالمية ال�صحيحة ،بالإ�سالم وامل�سيحية معاً {فيكون الدين كله هلل} بوا�سطتهما
130
�أنطون �سعادة
وبانت�شارهما كل منهما يف البيئات الأكرث موافقة وقبو ًال لتعاليمه� .أما ما ورد من الن�صو�ص التي ميكن �أن ت�ؤول مبا يظهر �أنه ينق�ض هذا احلكم فت�أويله ال�صحيح �أنه من خ�صائ�ص الإ�سالم كدولة. وهنالك اجتهادات وقعت يف الغلط وال�شذوذ عن الن�صو�ص �أجازت ح�سبان امل�سيحيني يف عداد الكفار و�أهل ال�شرك ا�ستناداً على تكفري القر�آن ت�أويل التج�سد والتثليث .وال �شك يف �أن العقدة الكربى هي يف هذه االجتهادات التي ال تد ّبر �صحيحاً فيها للقر�آن .ومن هذه االجتهادات ما خلط بني الدين امل�سيحي وامل ّلة امل�سيحية .فكل ذلك باطل يف حكم القر�آن: {�إن الذين �آمنوا والذين هادوا وال�صابئون والن�صارى من �آمن باهلل واليوم الآخر وعمل �صاحلاً فال خوف عليهم وال هم يحزنون}(املائدة .)69 ،وقد ذهبت الر�سالة الإ�سالمية �إىل �أبعد من ذلك يف ما يخت�ص بامل�سيحيني {لتجدن �أ�شد النا�س عداوة للذين �آمنوا اليهود والذين �أ�شركوا ولتجدن �أقربهم مودة للذين �آمنوا الذين قالوا �إ ّنا ن�صارى ذلك ب�أن منهم ق�سي�سني ورهباناً و�أنهم ال ي�ستكربون}(املائدة .)82 ،ولكن �أكرث ال�شارحني واملف�سرين يقتلون الن�ص ويعوجون الدين ب�إجتهاداتهم .فقد �شرح البي�ضاوي( ) هذا القول قائ ًال« :وفيه دليل على �أن التوا�ضع واالقبال على العلم والعمل واالعرا�ض عن ال�شهوات حممود و�إن كانت من كافر». فك�أنه �أبطل حكم هذه الآية وحكم الآية ال�سابقة القائلة �إن الن�صارى م�ؤمنون باليوم الآخر، عمي عن �آية �سورة «احلج» التي �أخرجت حتى املجو�س من نطاق امل�شركني وهي {�إن وك�أنه َ الذين �آمنوا والذين هادوا وال�صابئني والن�صارى واملجو�س والذين �أ�شركوا �إن اهلل يف�صل بينهم يوم القيامة �إن اهلل على كل �شي �شهيد}(احلج ،)17 ،و�إن هذه الآية من جملة �آيات كثرية ت�أمر برتك احلكم والف�صل بني �أهل الأديان يف ما اختلفوا فيه هلل وحده .وهي تبطل كل حجة للذاهبني مذهب �أن الإ�سالم ال يتم �إال مبغالبة �أهل الأديان الأخرى و�أن كمال االميان عند امل�سلمني يكون بامليل �إىل التغلب على �سواهم و�إال لأبطل هذا املذهب ق�سماً هاماً من ن�ص الدين .و�إذا عملنا مببد�أ �أن �آيات تن�سخ �آيات فماذا يبقى من القر�آن؟ 2
املسيحية واحملمدية والقومية
اهلوامش - 1البي�ضاوي ،مرجع �سابق ،اجلزء الثالث ال�صفحات .195 - 175 - 2املرجع ال�سابق ،اجلزء الثاين ال�صفحة .164
131
132
�أنطون �سعادة
مدار اخلالف بني املسيحية واإلسالم ر�أينا ،يف ما تقدم� ،أن وجه اخلالف الوحيد من جهة الر�سالة الإ�سالمية انح�صر يف نفي مذهب امل�سيحيني �أن امل�سيح هو ابن اهلل الوحيد اجلال�س عن ميني الأب ب�إعطاء �أقنوم الإبن �شك ًال قائماً بذاته ،ولكن من غري نفي والدة امل�سيح من مرمي العذراء ومن روح اهلل ح�سب الروايات امل�سيحية ومن غري نفي لألوهية كالمه .فتكون خمالفة الإ�سالم للم�سيحية مقت�صرة على ت�أويل �صفة امل�سيح احلقيقية ولي�س على �صحة تعاليمه .ور�أينا �أي�ضاً �أنه مبا �أن ت�أويل امل�سيحيني والدة امل�سيح ،بنا ًء على بع�ض «النبوءات» اليهودية ،ال يجعل امل�سيح �إلهاً ثانياً والروح القد�س �إلهاً ثالثاً ،فقيمة اخلالف الأ�سا�سي ت�صغر وتقرب كثرياً �شقته ب�إعالن القر�آن والدة امل�سيح من روح اهلل .والنتيجة الأخرية من حتقيقنا يف هذه الناحية هي �أنه ال يوجد خالف بني امل�سيحية والإ�سالم على غر�ض التوحيد الأ�سا�سي يف هذين الدينني على ال�سواء .وما يظهر من اعتقادات امل�سيحيني �أنه خمالف �أو معار�ض لهذا الغر�ض لي�س يف احلقيقة �سوى مذاهب يف كيفية فهم اهلل ومظاهره و�صفاته .وكل ذلك من امل�سائل مي�س مطلقاً التعاليم امل�سيحية و�صحتها ،وهي تعاليم يعدها الالهوتية والكالمية البحتة وال ّ القر�آن �إلهية ويوجب الإميان بها على امل�سلمني �أي�ضاً ،كما ر�أيت يف ما تقدم .وقد ورد حديث نبوي يف هذه االختالفات والت�ش ّيعات يح�سن �أن نثبته يف هذا املحل ليتب�صر �أ�صحاب مبد�أ �سالمة «الدين ال�صحيح» يف كيفية فهم حممد لهذه الأمور ،قال: «افرتقت اليهود على �إحدى و�سبعني فرقة كلها يف الهاوية �إال واحدة ،وافرتقت الن�صارى على اثنتني و�سبعني فرقة كلها يف الهاوية �إال واحدة ،وتفرتق �أمتي على ثالث و�سبعني فرقة
املسيحية واحملمدية والقومية
133
كلها يف الهاوية �إال واحدة». ونحن ن�ؤكد �أنه ال يدخل يف هذه الفرقة الأخرية �أ�صحاب مبد�أ «�أن الركن الأعظم لدين امل�سلمني هو يف منازعة كل ذي �شوكة يف �شوكته»( ). ّ وتقل �أكرث قيمة اخلالف من هذا الوجه متى علمنا �أن الت�أويالت امل�سيحية يف ال ُعربة لأمر امل�سيح ووالدته كانت غري وا�ضحة واالعتقادات يف هذا ال�صدد �إتخذت �أ�شكا ًال يجب در�سها على حدة ،نظراً خل�صائ�ص البيئة العربية .ويف اعتقادنا �أن هذا اخلالف كان يجب �أن يدر�س در�ساً كلياً يف �أ�سباب من�ش�أه من قبل امل�سلمني وامل�سيحيني و�أن تعني قيمته ال�صحيحة للم ّلتني ،لرتيا �أنه لي�س خالفاً دينياً جوهرياً يقت�ضي ا�ستحكام العداوة بينهما .ولو �أن املجتهدين امل�سلمني اتخذوا هذه الزاوية مبتد�أ الجتهاداتهم لكان ذلك خرياً للم ّلتني. ولكن �أكرث املجتهدين امل�سلمني خلطوا بني كالم الر�سالة الإ�سالمية الديني وكالمها الدويل وف�ضلوا جعل الكالم الدويل منهاجاً لكل خطاب يوجهونه �إىل امل�سلمني ،ليحثوهم على �إقامة الدولة الدينية قبل كل �شيء متوهمني وموهمني �أن هذا هو الدين .ويوافقهم يف هذا املذهب املجتهدون من امل�سيحيني يف تبيان �أن هداية اهلل ال تتم �إال با�سم امل�سيح و�أن ر�سالة حممد ،يف مذهبهم ،باطلة �أو �أنها بدعة تخرب الدين ،مع �أنها ر�سالة دينية �صحيحة جاءت م�صدقة لر�سالة امل�سيح. مل نقف على بحث جديد لكاتب م�سيحي يحمل فيه على الإ�سالم ويطعن يف حقيقته �أو يف حقيقة جميع الأديان الأخرى ،ويقول مبغالبة امل�سلمني و�أهل الأديان غري امل�سيحيني ،كما يقول �أتباع مدر�سة الدولة الدينية يف الإ�سالم وتالمذة مدر�سة ال�سيد الأفغاين يف الدين وال�سيا�سة واالجتماع .ولذلك ي�صعب علينا �أن نناق�ش جميع �أغالط امل�سيحيني يف هذا الباب التي ي�أتونها �ضد الإ�سالم وامل�سلمني ،ويو ّلدون بها االنق�سام القومي ،كما نناق�ش كتابات �أ�صحاب مبد�أ اجلن�سية الدينية والدولة الدينية من امل�سلمني و�أتباعهم .ولكن ذلك ال يعني �أنه ال يوجد هو�س ديني بني امل�سيحيني وال يعني �أنه ال ن�صيب للم�سيحيني يف املنازعات الدينية التي جتعل ن�شوء القومية ال�صحيحة يف حكم امل�ستحيل .و�أهم ما ميكن ذكره يف هذا الباب هو ما ي�سمع بني م�سيحيي �سورية و�أمم ال�شرق املتجاورين مع امل�سلمني. 1
134
�أنطون �سعادة
يبق ما يدفعهم �أما امل�سيحيون الأوروبيون فقد تغلبوا� ،إىل حد بعيد ،على هو�س الدين ومل َ �إىل الت�ألب با�سم الدين. كثرياً ما ت�سمع م�سيح َّيينْ �أو �أكرث من اثنني يتحدثون يف �ش�ؤون الوطن �أو االجتماع �أو الدين فتطرق �أذنك هذه العبارة« :ال ميكن �أن ي�صري احتاد قومي �أو �إ�صالح اجتماعي �إال �إذا زال القر�آن» .وقد يكون �أكرث الذين يرددون هذه العبارة من الذين ذاقوا مرارة الطغيان الديني ال�سابق وعوملوا معاملة قا�سية �أو جمحفة ،ولكن هذه احلقيقة ال تربر القول الذي يقولونه وال جتعل له �صحة على االطالق. احلقيقة �أن هذا القول هو �أبعد الأقوال عن ال�صواب و�أكرثها داللة على اجلهل .فالقر�آن كتاب ديني جليل و�أغرا�ضه الدينية الأخرية ال تختلف وال تت�ضارب مع الأغرا�ض الدينية امل�سيحية ،من حيث الإقرار باهلل الواحد وترك عبادة الأ�صنام وفعل اخلري وجتنب ال�شر وتقرير خلود النف�س والثواب والعقاب .فكيف وب�أي حق يجب �أن يزول كتاب يدعو �إىل هذه الأغرا�ض الأ�سا�سية التي يدعو �إليها دينهم عينه؟ اجلواب على هذا ال�س�ؤال هو يف الإميان ال�ضيق الذي ال يقبل اخلال�ص �إال على يد خمل�ص معني .ويف هذا نق�ض لتعاليم دينهم عينه الذي يقول« :و�إذا واحد من علماء النامو�س قام وقال جم ّرباً له (للم�سيح) يا معلم ماذا �أعمل لأرث احلياة الأبدية ،فقال له ماذا كتب يف النامو�س كيف تقر�أ .ف�أجاب وقال� :أحبب الرب �إلهك بكل قلبك وكل نف�سك وكل قدرتك وكل ذهنك وقريبك كنف�سك .فقال له �أجبت بال�صواب اعمل ذلك فتحيا .ف�أراد �أن يزكي نف�سه فقال لي�سوع :ومن قريبي .فعاد ي�سوع وقال :كان رجل منحدراً من �أور�شليم �إىل �أريحا فوقع بني ل�صو�ص فع ّروه وج ّرحوه ثم م�ضوا وقد تركوه بني حي وميت .فاتفق �أن كاهناً كان منحدراً يف ذلك الطريق ف�أب�صره وجاز .وكذلك الوي وافى املكان ف�أب�صره وجاز. و�صب عليها زيتاً وخمراً وحمله ثم �إن �سامرياً م ّر به فلما ر�آه حتنن فدنا �إليه و�ضمد جراحاته ّ على دابته و�أتى به �إىل فندق واعتنى ب�أمره .ويف الغد �أخرج دينارين و�أعطاهما ل�صاحب الفندق وقال اعنت ب�أمره ومهما تنفق فوق هذا ف�أنا �أدفعه لك عند عودتي .ف�أي ه�ؤالء الثالثة حت�سبه �صار قريباً للذي وقع بني الل�صو�ص .قال :الذي �صنع �إليه الرحمة .فقال له ي�سوع
املسيحية واحملمدية والقومية
135
ام�ض فا�صنع �أنت كذلك»(لوقا ،)37 - 25 :10 ،ف�إذا كان ال�سامري املحتقر ف�ضل الالوي ِ والكاهن املقد�س هلل ،لأنه �صنع الرحمة للذي وقع بني الل�صو�ص وكان ذلك جائزاً وحقاً عند امل�سيح نف�سه �أفال يكون حممد الذي �أنقذ خلقاً كثرياً من حالة التوح�ش والهمجية وهداهم �صدقه و�أ ّيده� ،أف�ضل عند امل�سلمني الذين هداهم �إىل �إىل دين احلق ومل يجحد الإجنيل ،بل ّ احلق من كل كاهن وكل بطريرك وكل بابا مل يبلغهم منه �شيء من الرحمة؟ و�إذا كان امل�سيح قد خ ّل�ص امل�سيحيني ف�إن النبي حممد قد خ ّل�ص امل�سلمني .فكيف تريدون �أيها املجدفون �أن يعدوه ر�سو ًال من اهلل �إليهم وهو الذي هداهم �إىل اهلل؟ ينكر امل�سلمون حممداً و�أن ال ّ لقد ُوجد يف ال ُعربة يهود و ُوجد م�سيحيون فهل متكنوا من هداية العرب وجمع كلمتهم و�إخ�ضاعهم لل�شرع و�إقامة النظام فيهم وحت�سني �ش�ؤون حياتهم االجتماعية؟ فلماذا كان يجب �أن تكون اليهودية �أو امل�سيحية �أقرب �إىل امل�سلمني من حممد قريبهم وحبيبهم وقريب كل من�صف غري متعنت وغري متكرب وحبيبه؟ يوجد من متعنتي امل�سيحيني من يلعنون حممداً لأنه اتخذ زوجة زيد امر�أة له ،فلماذا ال يلعنون داود النبي ويبطلون نبوءاته ومزامريه وهو قد �سلب �أوريا احلثي زوجته �سلباً بحيلة �سافلة ،وكيف ي�ستندون �إىل نبوءته لإثبات �ألوهية امل�سيح؟ وبعد ف�إن النبي حممداً مل ي�سلب زيداً زوجه ،بل تزوجها من بعد �أن طلقها زيد و�أ�صبحت حال ًال له. ومنهم من يزعم �أن حممداً لي�س هادياً �إىل اهلل لأنه مل يفعل العجائب التي قيل �إن الأنبياء الذين تقدموه فعلوها ،وهذه حجة باطلة لأنه ال لزوم للعجائب من بعد ما تب ّينت كلمة الهداية �أنها �إىل اهلل الذي عرفه الأنبياء ال�سابقون ،كما جاء يف القر�آن{ :قولوا �آمنا باهلل وما �أنزل �إلينا وما �أنزل �إىل �إبراهيم و�إ�سماعيل و�إ�سحق ويعقوب والأ�سباط وما �أوتي مو�سى وعي�سى وما �أوتي النبيون من ربهم ال نفرق بني �أحد منهم ونحن له م�سلمون}(البقرة .)136 ،ويف هذه الآية ت�أمني على جميع املعتقدات امل�سيحية وعلى جميع النبوءات التي ي�ستند �إليها امل�سيحيون لإقامة ربوبية امل�سيح. ومنهم من ينحي على حممد بالالئمة التخاذه �سبيل الغزو وال�ضرب بال�سيف وال�سوط
136
�أنطون �سعادة
وال�سبي ،كما فعل عبد امل�سيح الكندي [كتاب «املناظرات»]( ) يف مناظرة �أحد كبار امل�سلمني فن�سب �إىل حممد جمرد حمبة نفع نف�سه و�أ�صحابه و�إقامة دولته .وهذا كالم بعيد عن ال�صواب .فقد كان حممد يك�سب من جتاراته وقد جلبت عليه دعوته �إىل اهلل الأتعاب والأو�صاب ف�أهني وتع ّر�ض للخطر و�سقط جريحاً يف معركة �أُ ُحد وكاد ُيق�ضى عليه. �أما �إنه �أراد �إقامة الدولة فهو �صواب ولكنه �أن�ش�أ الدولة لغر�ض الدين كما جعل الدين عماد الدولة يف بيئة ال �أ�سباب لإقامة الدولة فيها غري �سبب الدين .و�إقامة الدولة لي�ست فرية وال �إثماً .ومن قبل حممد �أن�ش�أ مو�سى دولته بالدين ثم كانت دولة داود بالدين ودولة �سليمان. ويحتج عبد امل�سيح بن �إ�سحق الكندي يف تربير حروب العربانيني وغزواتهم بعجائب فلق البحر ليم ّر الإ�سرائيليون ويهلك امل�صريون ،وغري ذلك من العجائب التي مل يثبتها تاريخ و�إن �صدقها القر�آن .وح�صول العجائب يجب �أن ال يربر فظائع تخريب بيوت �شعب �آمن، يكن ّ كما �أن عدم ح�صول العجائب ال يجرح ق�صد ر�سول لإقامة دين اهلل .ف�إذا كان مو�سى نبياً وي�شوع بن نون نبياً وقد جاءا يهاجمان �شعباً �آمناً عاكفاً على التعمري والتمدين ويقتالن حتى الأطفال والبهائم فمحمد نبي �أعظم منهما ومن جميع �أنبياء اليهود لأنه جاء �إىل جماعة تعمر وال متدن بل �ش�أنها الغزو وال�سلب وال�سبي والتقتيل فخاطبها بلغتها وحاربها وح�شية ال ّ ب�سالحها و�أخ�ضعها للحق وال�شرع والنظام ،وهذا �شيء �أعظم من �شق البحر ب�إذن اهلل و�إقامة الك�سيح ب�إذن اهلل. و�أما �أن لغة العنف والقوة يف بث الر�سالة يجب �أن تبقى يف حدود بيئتها و�أن ال ت�ستعمل يف غري موا�ضعها فهذا بحث �آخر تناولناه يف هذه ال�سل�سلة ونحن نبينّ كيف يجب �أن ُيفهم ذلك منعاً ال�صطدامات عقيمة ال تنفع الأمة وال جتدي الدين. ال وجه يف هذه الأ�سباب للطعن يف حممد ور�سالته ولتجريده من حق النبوة �أو الر�سالة وال ويدعوا القر�آن ،فهذا للطعن على امل�سلمني والقول �إنه ال رجاء بهم حتى يرتكوا الذي هداهم َ قول كبري فيه ظلم كثري وهو�س �شديد. �إن امل�سيح مل ي�شرتط على عامل النامو�س �أن يعرتف ب�أنه هو الكلمة املتج�سدة لريث احلياة 2
املسيحية واحملمدية والقومية
137
الأبدية ،بل اكتفى بتو�صيته �أن يحب اهلل ويحب قريبه كنف�سه .والنبي حممد قد �أوجب ذكر امل�سيح وجاءت �آياته ت�شهد للم�سيح ب�أنه كلمة اهلل ،فماذا يريد املتعنتون فوق ذلك؟ وجاء حممد ي�ؤمن امل�سيحيني على دينهم ويقول �إنهم ال يحتاجون �إىل تغيري «�صالتهم» وتعاليم دينهم ،وي�أبى املتعنتون �إال �أن يقولوا �إن حممداً مبطل �ضال ،حتى �أن عبد امل�سيح بن �إ�سحق عده �صاحب �شريعة ال�شيطان! الكندي ّ �إن حممداً والقر�آن باقيان ويبقيان يف قلوب امل�سلمني لأن حممداً كان ر�سولهم .ف�إذا كان الروح القد�س قد ع ّلم تالميذ امل�سيح ور�سله لغات الأقوام الذين توجهوا للب�شارة والكرازة بينها، فلي�س الذنب ذنب العرب �إذا مل يكن بني ه�ؤالء الر�سل ر�سول ع ّلمه الروح القد�س لغتهم وتوجه �إليهم و�أقام الدين بينهم ،فكيف ال يكون حممد �أقرب �إليهم من ر�سل امل�سيحية؟ وقد بلغنا �أن كثرياً من امل�سيحيني يفرحون ب�إظهار ف�ساد هو�س املتعنتني امل�سلمني �أ�صحاب مدر�سة حماربة �أهل جميع «الأديان» غري امل�سلمني� ،أي حماربة امل�سيحيني الذين يعرتف القر�آن ب�صحة دينهم ،ويظنون �أننا نق�صد من ذلك نكاية امل�سلمني و�إظهار ف�ساد دينهم وبطالنه وحتقري �شخ�صية نبيهم .وبلغنا �أي�ضاً �أن متهو�سي امل�سلمني ظنوا هذا الظن وتوهموا هذا الوهم، فما �آثم هذا الظن وما �أبعده عن ال�صواب! �إن ما نق�صده يف هذا البحث هو الو�صول �إىل �إفهام �أهل الدينني وجوب نزع التعنت والهو�س ومناف�سة بع�ضهم البع�ض ،و�أنه يجب عليهم �إدراك �أغرا�ض دينهم بالعقل ولي�س بالزيغ واملناف�سة التي تعدم ال�صالح وتخرب البيوت وتفيد العدو فقط .فنحن ما �أظهرنا بطالن حجج �أ�صحاب املدر�سة الرجعية من امل�سلمني �إال لنجلبهم �إىل احلق ليعلموا �أن الغل ّو يف الدين من املعائب التي �أ�صابتهم كما �أ�صابت الرجعيني امل�سيحيني ،ولي�س جلعل امل�سيحيني يبالغون يف الغل ّو مبذهبهم ويزدرون الدين الإ�سالمي. والنقطة الأ�سا�سية التي كانت ن�صب �أعيننا منذ بداءة هذا البحث هي هذه� :إن امل�سيحية والإ�سالم دينان �إلهيان يتفقان يف �أغرا�ض الدين الأخرية ويثبت كل منهما الآخر ،فيجب �أن ال يكون بينهما ا�صطدام وال نزاع ،بل حمبة واحتاد .واملحبة واالحتاد ال يكونان برذل كل
138
�أنطون �سعادة
فريق دين الآخر و�إدانته وتف�ضيل دينه عليه ،بل باتخاذ القاعدة العامة التي و�ضعناها وهي: �أن امل�سيحية والإ�سالم يتممان �أغرا�ضهما الأخرية بدون حروب ومنازعات ،بل بالت�ساند واالنت�شار ،كل منهما يف البيئات الأكرث موافقة لتعاليمه وقبو ًال لها .فمن قبل الإ�سالم ديناً فقد اهتدى �إىل اهلل� ،إذا كان اهلل هو غر�ض الدين الأخري ،ومن قبل امل�سيحية فهو م�ؤمن مهتد �إىل اهلل{ ،وما اختلفتم فيه من �شيء فحكمه �إىل اهلل}(ال�شورى{ ،)10 ،ف�إمنا عليك البالغ وعلينا احل�ساب}(الرعد« ،)40 ،ال تدينوا لئال تدانوا ،ف�إنكم بالدينونة التي بها تدينون تدانون وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم .ما بالك تنظر القذى يف عني �أخيك وال تفطن للخ�شبة التي يف عينك� .أم كيف تقول لأخيك دعني �أخرج القذى من عينك وها �أن ٍ وحينئذ تنظر كيف تخرج القذى اخل�شبة يف عينك .يا مرائي �أخرِج �أو ًال اخل�شبة من عينك من عني �أخيك»(متى.)5 - 1 :7 ، ما تقدم هو خال�صة وجهة اخلالف امل�سيحية وقد فندناها وب�سطنا ر�أينا فيها و�أو�ضحنا ف�سادها ومبلغ التع ّنت فيها ،ف�إذا كان قد بقي �شيء جوهري من هذه الوجهة مل نتناوله فذلك لأنه مل يبلغنا ونكون �شاكرين لكل من يو�صل �إلينا قو ًال م�سيحياً ي�ضاد وجود الدين الإ�سالمي ويعد العمل على زواله عم ًال بن�صو�ص الدين ليكون الدين كله م�سيحياً هلل. ّ ومن جميع ما تقدم يت�ضح �أن وجهة امل�سيحيني من اخلالف تنح�صر يف عدم االعرتاف ب�صحة كون حممد ر�سو ًال ،وذلك ا�ستناداً �إىل حتذير امل�سيح من الأنبياء الكذبة وقوله�« :إحذروا �أن ي�ضلكم �أحد لأن كثريين �سي�أتون با�سمي قائلني �إين �أنا هو وي�ضلون كثريين»(مرق�س:13 ، .)6 - 5هذا فيما يخت�ص بالن�ص من جهة امل�سيحية و�أما من جهة الإ�سالم فالن�ص ما ورد يف �سورة «الأعراف» يف و�صف غ�ضب مو�سى على بني �إ�سرائيل التخاذهم العجل �إلهاً ،فبعد �أن �سكن غ�ضب مو�سى �أخذ الألواح {واختار مو�سى قومه �سبعني رج ًال مليقاتنا فلما �أخذتهم الرجفة قال رب لو �شئت �أهلكتهم من قبل و�إياي �أتهلكنا مبا فعل ال�سفهاء منا �إن هي �إال فتنتك ت�ضل بها من ت�شاء وتهدي من ت�شاء �أنت ول ّينا فاغفر لنا وارحمنا و�أنت خري الغافرين. واكتب لنا يف هذه الدنيا ح�سنة ويف الآخرة �إ ّنا ُه ْدنا �إليك قال عذابي �أ�صيب به من �أ�شاء ورحمتي و�سعت كل �شيء ف�س�أكتبها للذين يتقون وي�ؤتون الزكاة والذين هم ب�آياتنا ي�ؤمنون.
املسيحية واحملمدية والقومية
139
الذين يتبعون الر�سول النبي الأ ّمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم يف التوراة والإجنيل ي�أمرهم باملعروف وينهاهم عن املنكر ّ ويحل لهم الطيبات ويح ّرم عليهم اخلبائث وي�ضع عنهم �إ�صرهم والأغالل التي كانت عليهم فالذين �آمنوا به وعزروه ون�صروه وا ّتبعوا النور الذي �أنزل معه �أولئك هم املفلحون .قل يا �أيها النا�س �إين ر�سول اهلل �إليكم جميعاً الذي له ملك ال�سموات والأر�ض ال �إله �إال هو يحيي ومييت ف�آمنوا باهلل ور�سوله النبي الأ ّمي الذي ي�ؤمن باهلل وكلماته وا ّتبعوه لعلكم تهتدون}(الأعراف.)158 - 155 ، بنا ًء على هذا الن�ص الإ�سالمي يعتقد �أكرث امل�سلمني غري املحققني �أن التوراة والإجنيل اللذين يف �أيدي النا�س اليوم هما غري التوراة والإجنيل ال�صحيحني ،لأنه ال ذكر لأحمد �أو حممد فيهما .وقد �س ّلمنا يف ما تقدم من هذا البحث ب�أن اليهود عبثوا بالتوراة ،خ�صو�صاً يهود ترجح �أنهم عبثوا بالقر�آن �أي�ضاً قبل �إكمال جمعه� .أما الإجنيل فلم يجر به العرب .هناك �أدلة ّ �أي عبث ،ولكن وجد �إجنيليون دونوا �سرية امل�سيح و�أقواله تدويناً خمالفاً لتدوين الإجنيليني الأربعة املع ّول عليهم ،واثنان منهم كانا تلميذين للم�سيح وعايناه كم ّتى ويوحنا وثالث كان من �أكرب املحققني هو الطبيب لوقا والرابع هو مرق�س وكان تلميذاً للقدي�س بطر�س .وكانت الأناجيل قد توزعت بني �أيدي النا�س يف �أكرث من لغة �إذ كتب م ّتى بال�سريانية وكتب لوقا باليونانية .ومل يعد من املمكن ،بعد مرور �ستمئة �سنة ونيف على امليالد امل�سيحي� ،أن جتمع جميع الن�سخ املوجودة يف خمتلف اللغات والأقطار وتتلف �إال ن�سخة واحدة حتذف منها الإ�شارة �إىل حممد .ولو كان �صحيحاً �أنه وجد ذكر حممد يف الإجنيل لكان حذفه دعا �إىل �شك كثريين و�صياحهم كما ّ �شكوا و�صاحوا لأمور �أقل من حذف �شيء من ن�ص الإجنيل، ولكان وجب �أن يقف امل�سلمون وحمققوهم على ن�سخة فيها ذكر حممد ويحفظوها للداللة وي�شريوا �إىل مو�ضع ذكر حممد فيها ويف �أية �آية ويف �أي حادث ورد ذكره .ولكن �شيئاً من ذلك مل يحدث ،وقد اكت�شفت الن�سخة ال�سينائية التي هي �أقدم ن�سخ الإجنيل وحقق فيها رجال علم بعيدون عن الهو�س الديني .الن�سخة موجودة �إىل اليوم ولي�س فيها �أي ما يدل على ذكر حممد .ولكن يبقى هنالك وجه هو �أن نعت الروح القد�س «باملع ّزي» يف �إجنيلي مرق�س ويوحنا قد يكون ورد منف�ص ًال يف بع�ض القراءات يف املوا�ضع املوجود بها منف�ص ًال
140
�أنطون �سعادة
عن الإ�سم ف�أدى ذلك �إىل التبا�س �أو �إىل اختالط كقوله�« :إال �أين �أقول لكم احلق �إن يف انطالقي خرياً لكم لأين �إن مل �أنطلق مل ي�أتكم املع ّزي ولكن �إذا م�ضيت �أر�سلته �إليكم. ومتى جاء يبكت العامل على اخلطيئة وعلى الرب وعلى الدينونة� .أما على اخلطيئة فلأنهم مل ي�ؤمنوا بي و�أما على الرب فلأين منطلق �إىل الأب وال تروين بعد .و�أما على الدينونة فلأن رئي�س هذا العامل قد ِدين .و�إن عندي كثرياً �أقوله لكم ولكنكم ال تطيقون حمله الآن .ولكن متى جاء ذاك روح احلق فهو ير�شدكم �إىل جميع احلق ،لأنه ال يتكلم من عنده بل يتكلم بكل ما ي�سمع ويخربكم مبا ي�أتي»(يوحنا .)13 - 7 :16 ،فكل من يقر�أ �أو ي�سمع هذه الآيات ومل يكن قد �سمع الآية 26من الف�صل الرابع ع�شر القائلة «و�أما املع ّزي الروح القد�س الذي �سري�سله الأب با�سمي فهو يعلمكم كل �شيء ويذكركم كل ما قلته لكم»(يوحنا)26 : 14 ، ف�إنه ال ي�شك ب�أنه وعد بر�سول �آخر يجيء ،بل حتى الآية الأخرية ال متنع كل اجتهاد وكل ت�أويل يف هذا الباب. و�إننا نرى �أن هذه الن�صو�ص واخلالف فيها هي من ذيول اخلالف على �صفة امل�سيح وعلى �صفة حممد ،وال جند خالفاً �أ�سا�سياً جوهرياً فيما يخت�ص ب�أغرا�ض الدين الأخرية ،وال ي�ؤثر على �أهل كل دين يف ا ّتباع دينهم .فما على �أهل الدينني امل�سيحية والإ�سالم �إال �أن يرتكوا احلكم هلل عم ًال بقول الدينني«ال تدينوا لكي ال تدانوا»(متى{ ،)1 : 7 ،وما اختلفتم فيه من �شيء فحكمه �إىل اهلل}(ال�شورى.)10 ، ولقد اتخذ هذا اخلالف ،منذ القدمي ،مظهراً حزبياً ،فقد قر�أنا يف بع�ض امل�صادر �أن امل�سلمني «و�أهل الكتاب» افتخروا فقال �أهل الكتاب «نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن �أوىل باهلل منكم» ،وقال امل�سلمون «نحن �أوىل منكم ،نبينا خامت النب ّيني وكتابنا يق�ضي على الكتب ين �أهل الكتاب من يعمل املتقدمة» ،فنزلت يف هذا اخلالف الآية {لي�س ب�أمان ّيكم وال �أما ّ �سوءاً يج َز به وال يجد له من دون اهلل ولياً وال ن�صرياً .ومن يعمل من ال�صاحلات من ذكر �أو �أنثى وهو م�ؤمن ف�أولئك يدخلون اجلنة وال يظلمون نقرياً}(الن�ساء.)124 - 123 ، وجميع هذه الأقوال من الدينني يقبلها كل ذي عقل �سليم ووجدان حي وال يرف�ضها �إال
املسيحية واحملمدية والقومية
141
املنافقون يف الدين من امل�سلمني والن�صارى .فالأولون يقولون ال يتم الدين �إال مبغالبة �أهل «الأديان» الأخرى وتنمية م ّلة الإ�سالم بالقوة والإكراه ،والآخرون يقولون ال يتم الدين �إال مبحو القر�آن من الوجود .وهذا منتهى ال�ضالل ،لأن كل فريق يقيم نف�سه مقام اهلل نف�سه ليدين الفريق الآخر ،مع �أن ن�صو�ص الدين تقول برتك احلكم هلل وحده.
اهلوامش « - 1العروة الوثقى» ،ال�صفحة .149 - 2كاتب عا�ش يف العراق خالل القرن التا�سع امليالدي ،له م�ؤلفات عدة تب�شر بامل�سيحية وتدافع عنها.
142
�أنطون �سعادة
بني الدين والدولة �إن النتيجة النهائية التي و�صلنا �إليها يف احللقتني املتقدمتني وهي� :أن الدينني امل�سيحي والإ�سالمي متفقان كل االتفاق يف الأغرا�ض الدينية الأخرية ،و�أن الواجب على اتباعهما يق�ضي برتك حماربة بع�ضهم البع�ض وحماولة �إخ�ضاع بع�ضهم بع�ضاً ،ال توافق رجال ال�سلطة الروحية من امل ّلتني وال رجال النفوذ ال�سيا�سي املبني على املذهب وامل ّلة .فرجال الدين من امل ّلتني ال يقبلون االعرتاف ب�أن الدينني �صحيحان ،فكل فريق ّيدعي �أن دينه هو ال�صحيح و�أن خال�ص النفو�س ال يتم �إال به .ومما ال �شك فيه �أن هذا البحث لي�س موجهاً �إىل رجال الدين �أنف�سهم ،بل �إىل اخلا�صة والعامة من العلمانيني ،ف�إذا كان رجال الدين قد وقفوا �أنف�سهم عليه ف�إن الدين مل ولن يقف نف�سه عليهم. �إىل جميع النا�س ،غري رجال الدين ،نوجه هذه الدعوة :لنرتك رجال الدين يتناظرون ما �شا�ؤوا املناظرة يف �أي الأديان �أ�صحها ،ب�شرط �أن ال يتعدوا حدود املناظرة �إىل تهييج الغوغاء وال�س َّذج وغر�س الأحقاد بني �أبناء الوطن الواحد با�سم الدين. ُ �إن هذه الدعوة تعني ترك الع�صبية الدينية واعتناق الع�صبية القومية التي جتعل جميع ال�سوريني ،م�سلميهم وم�سيحييهم ،ع�صبة واحدة. هذه الدعوة هي التي يحملها يف �سورية احلزب ال�سوري القومي .وقد ا�صطدمت هذه الدعوة مبقاومة من امل ّلتني امل�سيحية والإ�سالمية� .أما حجة �أبناء امل ّلة امل�سيحية فكانت �أن الوحدة القومية تعيد امل�سيحيني �إىل عهد اخل�ضوع لدولة �إ�سالمية ال حقوق مدنية و�سيا�سية فيها
املسيحية واحملمدية والقومية
143
للم�سيحيني .وهذه �أقوى حجج املدنيني امل�سيحيني با�ستثناء بع�ض املهوو�سني الذين يد�سون بالد�س ،ومل يقدروا على تقدمي هنا وهناك عبارات الكره واحلقد على امل�سلمني ،واكتفوا ّ نظرية ميكن �أن تكون �شبه عقيدة .و�أما حجة �أبناء امل ّلة املحمدية فكانت ذات نظرية م�ؤ�س�سة على ن�صو�ص دينية كالتي عاجلنا بع�ضها يف ما تقدم ،وقال بها رجالن خطريان كال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده اللذين ا�ستند �إىل �أبحاثهما �أكرث امل�سلمني الذين يقاومون ن�شوء القومية يف �سورية لتكون رابطة ّ حتل يف االجتماع واحلقوق حمل امل ّلة .وملا كان هذا البحث خمت�صاً ،بالأكرث ،مبناق�شة �أ�صحاب هذه النظرية التي �صفق امل�سلمون كثرياً يف املهجر لر�شيد �سليم اخلوري الذي حت ّزب لها لغاية يف نف�سه ،ف�سنتابع املناق�شة لن�صل �إىل نتيجة حا�سمة. ولكن ال بد من زيادة �إي�ضاح الأ�سباب الداعية لتخ�صي�ص معظم هذا البحث بالوجهة الإ�سالمية .و�أهم هذه الأ�سباب هو طبيعة كل من الدينني واجتاهه .فامل�سيحية ن�ش�أت ن�ش�أة دين بحت جمرد من �ش�ؤون الدولة واحلكم .فقد اخت�ص الدين امل�سيحي بالأفراد ومعتقداتهم ومناقبهم� .أما الدين الإ�سالمي فقد ب ّينا ،يف ما تقدم من حلقات هذا البحث� ،أنه ا�ضطر لأخذ طبيعة البيئة التي ن�ش�أ فيها بعني االعتبار .وطبيعة البيئة اقت�ضت �إيجاد الدولة لتكون و�سيلة لإقامة الدين .وملا كان غر�ض الدولة �إقامة الدين كان ال بد �أن يكون �أ�سا�سها ،فهي وجدت بالدين لإقامة الدين .ومن هذه ال�ضرورة اخلا�صة بالبيئة العربية ن�ش�أ هذا االرتباط الوثيق بني الدولة والدين يف الإ�سالم ،حتى التب�س �أمر كليهما حتى على �أكرب املفكرين امل�سلمني .ولهذا ال�سبب جند م�س�ألة الف�صل بني الدين والدولة يف امل ّلة الإ�سالمية �أ�صعب ح ًال منها يف امل ّلة امل�سيحية ،لأن الدولة موجودة يف الن�صو�ص القر�آنية كما هي موجودة يف ن�صو�ص التوراة .ولكنها لي�ست موجودة يف ن�صو�ص الإجنيل .وبنا ًء على الن�صو�ص القر�آنية �أمكن �صاحبي «العروة الوثقى» القول�« :إن ال جن�سية للم�سلمني �إال يف دينهم»( ) ،والقول خماطبني امل�سلمني« :هل ن�سوا وعد اهلل لهم ب�أن يرثوا الأر�ض وهم العباد ال�صاحلون؟»( )، والقول« :الديانة الإ�سالمية ُو�ض َع �أ�سا�سها على طلب الغلب وال�شوكة واالفتتاح والعزة ورف�ض كل قانون يخالف �شريعتها ونبذ كل �سلطة ال يكون القائم بها �صاحب الوالية على تنفيذ 1
2
144
�أنطون �سعادة
�أحكامها»( ) ،والقول« :ومن الأوامر ال�شرعية �أن ال يدع امل�سلمون تنمية م ّلتهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل» وذلك «لإعالء كلمة احلق وب�سطة امللك وعموم ال�سيادة»( )، والقول« :كيف ومعظم الأحكام الدينية موقوف �إجرا�ؤه على قوة الوالية ال�شرعية»( ) .وكل هذه الأقوال بعيد عن ال�صواب ولي�س فيه تد ّبر �صحيح لن�صو�ص الديانة الإ�سالمية وتاريخها، كما ب ّينا ونبينّ ،بل هي جميعها نتيجة ا�ستبداد يف االجتهاد من �أجل الو�صول �إىل �أغرا�ض �سيا�سية مبنية على نظرة الدولة الدينية واجلن�سية الدينية. تقدم قولنا �إن الر�سالة الإ�سالمية تق�سم �إىل ق�سمني :الق�سم املكي والق�سم املدين (راجع احللقة / 16احللقة اخلام�سة بالرتتيب اجلديد) ثم عدنا فقلنا (احللقة / 23احللقة 12بالرتتيب اجلديد) �إن ن�صو�ص الإ�سالم على وجهني :وجه يف الدين ووجه يف الدولة .والق�سم املكي هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدينية ،والق�سم املدين هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدولية. وهذا االزدواج يف اجتاه الر�سالة الإ�سالمية الذي مل يح�صل له فيما م�ضى درا�سة جتمع وجهتيه يف وحدة فكرية روحية هو الذي ي�سهل لأ�صحاب الأغرا�ض ال�سيا�سية الأخذ ب�أي وجه �أرادوا ،ح�سبما يوافق �أغرا�ضهم .وهو لي�س عيباً يف القر�آن ،بل نق�ص الثقافة التاريخية االجتماعية وعدم تد ّبر الر�سالة الإ�سالمية كما يجب. و�أ�صحاب الأغرا�ض ال�سيا�سية ال يريدون ن�شوء هذه الدرا�سة يف الإ�سالم ،لأنها ميكن �أن تق�ضي على جميع حماوالت ا�ستخدام الدين للأغرا�ض ال�سيا�سية واملطامع اخل�صو�صية .ف�إذا يخ�ش ه�ؤالء الأراخنة افت�ضاح �أمرهم، ظل الإ�سالم بعيداً عن هذه الدرا�سة التكنيكية مل َ بعك�سهم االجتاه الأول للإ�سالم ،ف�إن حممداً ا�ستخدم الدولة لإقامة الدين وجعل الدين �أ�سا�ساً لتنظيم �شعب باقٍ يف حالة همجية� .أما ه�ؤالء الدبلوما�سيون فرييدون ا�ستخدام الدين لتنفيذ املطامع ال�سيا�سية. ولي�س هذا جديداً يف الإ�سالم ،بل �شيئاً قدمياً ظهر يف �أطوار تاريخية كثرية .فقد وجد املتنازعون على ال�سلطة وال�سيادة �أ�سباباً كافية يف ثنائية الإ�سالم للمبالغة يف العناد واملكابرة ،حتى �إنه ميكن كتابة جملدات يف هذا الباب يف حجج العروبيني وال�شعوبيني ويف النزاع ،حتى بني ال�صحابة والأمويني وبيت علي .ونكتفي للداللة على �سعة التالعب بثنائية الن�صو�ص 3
4
5
املسيحية واحملمدية والقومية
145
الإ�سالمية ب�إيراد هذا احلادث الذي جرى ملعاوية �إذ خاطب النا�س قائ ًال�« :أيها النا�س �إن ف�ضل قري�شاً بثالث فقال لنبيه عليه ال�صالة وال�سالم «و�أنذر ع�شريتك الأقربني» فنحن اهلل ّ ع�شريته .وقال« :و�إنه لذكر لقومك» فنحن قومه .وقال« :لإيالف قري�ش �إيالفهم» �إىل قوله: «الذي �أطعمهم من جوع و�آمنهم من خوف» ونحن قري�ش» .ف�أجابه رجل من الأن�صار« :على ر�سلك يا معاوية ف�إن اهلل يقول« :وكذب به قومك» و�أنتم قومه ،وقال« :وملا �ضرب ابن مرمي مث ًال �إذا قومك منه ي�صدون» و�أنتم قومه ،وقال الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم« :يا رب �إن قومي اتخذوا هذا القر�آن مهجوراً» و�أنتم قومه ،ثالثة بثالثة ولو زدتنا زدناك». هذا مثل رائع من ا�ستخدام ثنائية الن�ص القر�آين يف �أغرا�ض املناف�سات واملطامع وفاقاً للظروف واحلاالت .والذين يجدون �سهولة يف �سلك هذا امل�سلك ال يريدون �أن تقوم درا�سة تو�ضح �أن هذه الثنائية لي�ست مطلقة بل مقيدة ومرتبطة بوحدة فل�سفية يجب ا�ستخراجها و�إبرازها ب�صورة وا�ضحة ،لإيجاد اال�ستقرار الروحي يف امل ّلة الإ�سالمية لتهتم ب�ش�ؤون االرتقاء الثقايف ،فال تظل مع ّر�ضة لت�ضحية غر�ض الدين يف �سبيل غر�ض ال�سيا�سة التي يهمها الدولة وال�سلطان واحلكم �أكرث مما يهمها الدين واالرتقاء الروحي واملثل العليا والتقدم االجتماعي. در�سنا يف احللقات املتقدمة من هذا البحث الناحية الدينية من الإ�سالم ،و�أو�ضحنا ما هي �أغرا�ض هذا الدين الأخرية و�أنها ال تت�ضارب مع الأغرا�ض الدينية امل�سيحية .و�أثبتنا �أن الن�صو�ص القر�آنية نف�سها ت�ؤكد ذلك توكيداً ال ميكن دح�ضه ،وبذلك نكون قد �أجبنا جواباً قاطعاً على ال�س�ؤالني اللذين �ألقيناهما يف احللقة الثالثة والع�شرين (احللقة الثانية ع�شرة بالرتتيب اجلديد) وهما� :أ�صحيح �أن الدين الإ�سالمي ال يتم �إال ب�إعالئه على الأديان ويعم العامل ،و�إن هذا هو غر�ضه الأخرى وبيع امل�سلمني �أنف�سهم حتى يتم انت�صار الإ�سالم ّ الأ�سا�سي؟ و�إىل �أين يقودنا االعتقاد ب�أن �صحة الديانة الإ�سالمية هي يف حماربة �أهل الأديان الأخرى حتى يدينوا بها �أو يخ�ضعوا للم�سلمني؟ �إن الن�صو�ص القر�آنية التي �أثبتناها تنفي نفياً باتاً �أن هذا هو غر�ض الديانة الإ�سالمية و�إن �إيجاب القر�آن على امل�سلمني االعتقاد ب�صحة الإجنيل بل و�صحة التوراة �أي�ضاً واالميان مبا ورد فيهما يقرر نهائياً �أن الدين ال�صحيح من جهة الإ�سالم يقوم بامل�سيحية كما يقوم به وبالإجنيل
146
�أنطون �سعادة
كما بالقر�آن .وقد ن�ص القر�آن على �أن الذين «ي�ؤمنون بالآخرة» (من �أهل الكتاب :التوراة والإجنيل) ال حاجة بهم لتغيري «�صالتهم» بل هم يحافظون عليها حتى ولو �آمنوا بالقر�آن. وكان الأحرى بالذين يرغبون يف التقدم االن�ساين من امل�سلمني �أن يتدبروا هذه الآية اجلليلة من �سورة «الأنعام» التي ت�سند قولنا ال�سابق (احللقة / 25احللقة 14بالرتتيب اجلديد) ب�أن اجتاه الر�سالة الإ�سالمية كان للإتفاق مع الر�ساالت ال�سابقة واال�شرتاك معها على حماربة عبادة الأ�صنام و�إقامة الدين الإلهي .فالآية املذكورة مل تطلب من «�أهل الكتاب» غري االميان ب�أن القر�آن كتاب يدعو �إىل اهلل و�أن دعوته �صحيحة ،وهي ت�ؤمنهم على «�صالتهم» ح�سب كتابهم وال توجب عليهم تغيري دينهم .و�آيات قر�آنية �أخرى عديدة ت�سند حكم هذه الآية كتخ�صي�ص القر�آن وحممد بالذين مل ي�أتهم ر�سول من قبل وكانوا يف �ضالل مبني ،وكلها ترمي �إىل �إزالة كل احتمال للت�صادم والت�ضارب مع امل�سيحية واليهودية و�إىل توحيد جهود هذه الفرق �ضد امل�شركني عبدة الأوثان .ولو �أن امل�سيحيني واليهود يف ال ُعربة عززوا حممداً و�أيدوه ووافقوه على امل�شركني لكانوا �أزالوا عقبات كثرية من الطريق .وكل من�صف مت�أمل يف هذه الآيات احلكيمة ،وقد �أثبتنا معظمها يف احللقات املتقدمة ،يجد �أنها فتحت وتفتح باب التفاهم وا�سعاً� ،إذا ح�سن الق�صد من امل�سلمني وامل�سيحيني على ال�سواء .وهي تقطع على متعنتي امل�سيحيني حججهم الباطلة القائلة �إنه ال ميكن االتفاق مع امل�سلمني ،وكالمهم امل�شبع جه ًال القائل �إنه ال ميكن ح�صول االحتاد القومي يف �سورية �إال بزوال القر�آن .وهذه الآيات عينها ال ت�سمح ،من الوجهة الأخرى ،للم�سلمني بالغل ّو يف احلزبية الدينية ،واعتبار �أن مئات الأجيال الربيئة يجب �أن ت�سقط فري�سة التقاطع والتناحر ب�سبب بع�ض �أغالط بع�ض الأولني .وفيما يخت�ص بامل�سيحيني يف هذا الباب جند �أن القر�آن �شهد لهم ب�صدق الوجدان و�أنهم مل يكونوا مع امل�سلمني كامل�شركني وال كاليهود ،فبعد الآية التي �أثبتناها �آنفاً التي جاء فيها {ولتجدنّ �أقربهم مودة للذين �آمنوا الذين قالوا �إ ّنا ن�صارى}(املائدة )82 ،ت�أتي هذه الآية {و�إذا �سمعوا ما �أنزل �إىل الر�سول ترى �أعينهم تفي�ض من الدمع مما عرفوا من احلق} (املائدة .)83 ،ومتى علمنا �أنه وجد يف ال ُعربة م�سيحيون مل يفهموا من االميان امل�سيحي �أكرث مما فهم م�سلموها من االميان الإ�سالمي لأنهم كانوا �أعراباً جهلة مردوا على النفاق ،ات�ضح لنا
املسيحية واحملمدية والقومية
147
كم هو فا�سد االلتجاء �إىل احلجج القدمية ال�ستمرار الفتنة الدينية. ولقد قلنا �إن م�س�ألة مذاهب امل�سيحيني يف ال ُعربة يجب �أن يفرد لها در�س خا�ص ال ي�شمل مو�ضوعه امل�سيحيني املتمدنني ،ي�ؤيد هذا القول �أن علي بن �أبي طالب ا�ستثنى ن�صارى بني تغلب من حكم �آية «املائدة»( ) التي حللت للم�سلمني طعام «�أهل الكتاب» والتزوج من ن�سائهم فقال فيهم« :لي�سوا على الن�صرانية ومل ي�أخذوا منها �إال �شرب اخلمر» .فكم ي�صدق على كثري من ن�صارى العرب ت�أويلهم والدة امل�سيح وكالم الإجنيل وخ�صو�صاً ق�ضية تثليث الأقانيم؟ بنا ًء على ما تقدم ي�صح �أن ن�س�أل الذاهبني مذهب ال�سيد الأفغاين وال�شيخ حممد عبده يف ال�سن َّية يف القر�آن؟ �أو هل ن�سخت ت�أويل الدين الإ�سالمي :هل ماتت جميع هذه الآيات ُ ب�آيات �أخرى يدل ظاهرها على �أنه خمالف لها ف�أ�صبحت باطلة؟ �إن ثنائية الن�ص القر�آين لي�س معناها �أنه يوجد للر�سالة الإ�سالمية خطتان متباينتان وم�ستقلتان الواحدة عن الأخرى ا�ستقال ًال كلياً ،بحيث يجوز للم�ؤمن �أن يختار �إحداهما مرة والأخرى مرة �أخرى كما يروق له �أو يوافق م�صاحله �أو مطامعه ،بل معناها �أن هنالك وحدة كامنة بني نوعي الن�ص الإ�سالمي .و�إن هذه الوحدة يجب �أن ت�ستخرج من مبد�أ ترابط الأ�سباب وامل�سببات ومن معرفة ن�سبة الوا�سطة �إىل الغاية ،ومن در�س العالقة الوثيقة بني الن�ص القر�آين والأ�سباب املوجبة �أو احلوادث اجلارية .ف�إذا مل يتجه االجتهاد �إىل ا�ستخراج هذه الوحدة بهذه الطريقة اال�ستقرائية ،التحليلية ،فال مهرب من الوقوع يف مغالطات الهو�س الديني ي�ضحي حقيقة الدين على مذبح الأهواء اجلاحمة ،ويط ّوح بامل�سلمني ال�سيا�سي الذي كثرياً ما ّ يف مغامرات ال تعود على دينهم بفائدة وال على دنياهم بخري. على هذا الطريق ال�سلبي �سارت مدر�سة ال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده فغررت بجماعات كثرية من امل�سلمني يف م�صر و�سورية والعراق والهند و�إيران و�أفغان�ستان، وكانت نتائجها خيبة تلو خيبة .ف�إن مبد�أ «اجلن�سية الدينية» للم�سلمني ن�سف من � ّأ�سه، فالإ�سالم مل يكن �أح�سن حظاً من امل�سيحية يف توحيد الأمم ب�إ�سمه .فالأتراك مل يقبلوا 6
148
�أنطون �سعادة
ت�ضحية جن�سيتهم االجتماعية يف �سبيل «جن�سيتهم الدينية» ،ومل يقبل بذلك الفر�س وال �أية �أمة �إ�سالمية �أخرى ا�ستيقظت لوحدتها االجتماعية ـ االقت�صادية ـ اجلغرافية ـ ال�ساللية ،وملطاحمها ومثلها العليا املنبثقة من هذه الأ�صول والعوامل .فذهبت �صيحات الكاتبني الأفغاين وعبده يف �سبيل الوحدة الإ�سالمية �أدراج الرياح ولكنها تركت �أثراً �سيئاً يف الذين تعلقوا بها يف �سورية و�أقطار �أخرى فغررت وط ّوحت بهم وراء نظرية فا�سدة �شغلتهم عن طلب وحدتهم القومية ف�سبقتهم �إليها الأمم التي مل ت�ست�سلم لهذا االغراء، حتى �أن تركية وم�صر والعراق تفاهمت على خ�سارة ال�سوريني لواء الإ�سكندرونة للأتراك ومنطقة املو�صل للعراق ،بل �أن العراقيني اتفقوا مع الفرن�سيني على جتريد حدود �سورية من ناحيتهم من مواقع ا�سرتاتيجية ف�أخذوا من احلدود ال�سورية جبل �سنجار لقاء قطعة �أر�ض ال تفيد لوقاية وال لإنتاج. �إن نظرية مدر�سة الأفغاين وعبده القائلة باجلامعة الإ�سالمية والدولة الدينية و«اجلن�سية الدينية» للم�سلمني تقول �إن الإ�سالم دولة و�إن الن�صو�ص الدولية للإ�سالم هي الدين. فدعوة هذه املدر�سة هي �إقامة دولة الدين «ومنازعة كل ذي �شوكة يف �شوكته» وحماربة الأديان الأخرى لريث امل�سلمون �أر�ضها ،ت�أوي ًال ملا ورد يف القر�آن ،و�إىل جعل قاعدة االميان القتال .فامل�ؤمن ال يكون �صحيح االميان حتى «يكون �أول �أعماله تقدمي ماله وروحه يف �سبيل االميان ،ال يراعي يف ذلك عذراً وال تعلة ،وكل اعتذار يف القعود عن ن�صرة اهلل فهو �آية النفاق وعالمة البعد عن اهلل»( ). واحلركة التي توجه هذه الدعوة �إليها هي «جمع كلمة امل�سلمني» فيطلب ال�سيد الأفغاين من العلماء «�أن ي�سارعوا �إىل هذا اخلري وهو اخلري كله!»( ). احلقيقة �أنه �إذا كان هذا هو اخلري كله يف الإ�سالم لهذه املدر�سة الفكرية فمذهبها ال�صحيح هو :االميان ببع�ض الكتاب والكفر بالبع�ض الآخر ،و�أن �آيات التحري�ض على القتال و�إظهار الإ�سالم «على الدين كله» قد ن�سخت الآيات الزكية الهادئة التي ترفع القيمة الروحية على القيمة املادية و�أبطلت حكمتها. 7
8
املسيحية واحملمدية والقومية
149
وبنا ًء على مذهب هذه املدر�سة الفكرية الإ�سالمية يجب على امل�ؤمنني نبذ مثل هذه الآية دع �إىل �سبيل ربك باحلكمة واملوعظة احل�سنة وجادلهم بالتي هي �أح�سن �أن وهجرها�{ :أُ ُ ربك هو �أعلم مبن �ضل عن �سبيله وهو �أعلم باملهتدين}(الآية ( )125النحل ،مك ّية)، ومثلها{ :ومن جاهد ف�إمنا يجاهد لنف�سه �إن اهلل لغني عن العاملني}(الآية ( )6العنكبوت، مك ّية) ،ومثلها{ :وعباد الرحمن الذين مي�شون على الأر�ض هوناً و�إذا خاطبهم اجلاهلون قالوا �سالماً}(الآية ( )63الفرقان ،مك ّية) .فهذه الآيات وغريها كثري مما �أثبتناه من قبل ومما مل نثبته لي�ست من اخلري يف �شيء ،يف ُع ْرف مدر�سة الدولة الدينية واجلن�سية الدينية، لأنها ال تقول �إن« :كل اعتذار يف القعود عن ن�صرة اهلل فهو �آية النفاق وعالمة البعد عن اهلل» .فالآية املثبتة فوق القائلة �إن اهلل غني عن العاملني هي �آية كاذبة ،وكذلك الآية القائلة بالدعوة �إىل �سبيل اهلل باحلكمة واملوعظة فهي باطلة ،وامل�ؤمن الذي يعمل بها يكون يف ُعرف هذه املدر�سة منافقاً. فالدين ،لهذه املدر�سة و�أ�ضرابها ،لي�س ما هو مثبت يف القر�آن كله ولي�س باالميان بكل ما ورد فيه بل هو ما �شاءت �أهوا�ؤهم ومذاهبهم وباالميان ببع�ض الكتاب دون بع�ض �أو باالميان ببع�ض الكتاب مرة ،وببع�ضه الآخر مرة �أخرى يف تق ّلب دائم. �إننا نعلم �أن هذه احلجج القاطعة التي �أوردناها ال ت�سد جميع �أبواب اجلدل يف وجه �أتباع مدر�سة اجلن�سية الدينية ،وك�أننا ن�سمع بع�ضهم يقولون� :إذا كانت �آيات القتال ون�صرة اهلل ال تبطل �آيات الدعوة باحلكمة واملوعظة واالكتفاء باالر�شاد واالنذار و�سلك طريق االقناع ،فهل تبطل هذه الآيات الأخرية �آيات القتال ون�صرة اهلل؟ وجوابنا :كال و�ألف كال ،فبع�ض �آي الكتاب ال ميكن �أن يبطل بع�ض �آيه �إال للذين ال يتدبرونه ،ف�إذا �أخذهم الهو�س والزيغ عن كلمة احلق هاجوا واحتجوا ببع�ض الكتاب وعموا عن بع�ضه ،وقالوا �إن اخلري كل اخلري يف الأخذ ب�آيات معينة واالعرا�ض عن �آيات معينة حتى يتم القول�{ :أم على قلوب �أقفالها}(حممد.)24 ، �إن القتال فر�ض على امل�سلمني لإقامة الدين حيث يوجد من يريد �إبطاله� ،أي حيث يكون
150
�أنطون �سعادة
نزاع ديني كالذي جرى يف ال ُعربة مع �أهل ال�شرك� .أما حيث ال يوجد �شرك وحيث النزاع قائم بني جمتمع وجمتمع ،بني �أمة و�أمة ،باملعنى االجتماعي ،فالدعوة �إىل اجلهاد الديني ال تدل �إال على عقلية �أولية كعقلية العرب الذين مل يفهم معظمهم من امل�سيحية غري �شرب اخلمر وال من الإ�سالم غري طلب الغنائم. يف احللقة التالية �سنبحث ن�صو�ص الإ�سالم كدولة ،وكيفية فهم هذه الن�صو�ص فهماً �صحيحاً ال يطوح بالدين وال بامل ّلة.
اهلوامش « - 1العروة الوثقى» (�سنة ،)1957ال�صفحة .69 - 2امل�صدر ال�سابق (�سنة ،)1936ال�صفحة .149 - 3امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .77 - 4امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .164 - 5امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .165 { - 6وطعام الذين �أوتوا الكتاب حل لكم}� ،سورة املائدة الآية .5 « - 7العروة الوثقى» (�سنة ،)1936ال�صفحة .247 - 8امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .248
املسيحية واحملمدية والقومية
151
الدين والفلسفة االجتماعية متهيد:
كنا قد وعدنا الق ّراء ،يف ختام احللقة ال�سابقة ،ببحث ن�صو�ص الإ�سالم كدولة يف هذه احللقة، ولكن ر�أينا �أن ن�ضع هذه النظرة الفل�سفية التحليلية للإ�سالم قبل بدء بحث ن�صو�صه كدولة، ت�سهي ًال لفهم طبيعة هذا الدين و�أغرا�ضه ومراميه ،ولفهم حمل ن�صو�صه الدولية منه. قلنا ،يف ما تقدم� ،إن الق�سم املكي من الدعوة الإ�سالمية هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدينية ،و�إن الق�سم املدين هو الأكرث اخت�صا�صاً بالوجهة الدولية .واحلقيقة كلها �أقوى من هذا التعريف ،فالق�سم املكي خمت�ص كل االخت�صا�ص بالن�ص الديني فال يدخله �شيء من الن�ص الدويل ،يف حني �أن الق�سم املدين يدخله ن�ص ديني مع اخت�صا�صه بالوجهة الدولية من الدعوة ،ذلك �أن غر�ض هذا الق�سم لي�س نق�ض غر�ض الق�سم الأول ،بل حتقيقه. وقد قلنا �أي�ضاً �إن �أول الدعوة هو مبثابة �أ�سا�سها لأنه يعينّ غاية الدعوة واجتاهها ال�صحيح قبل �أن يطر�أ عليها من التفاعل مع البيئة ما قد ي�ضطرها التخاذ �أ�شكال خمت�صة ب�سري الدعوة ووا�سطة حتقيقها ،ولي�س بحقيقة الدعوة و�أغرا�ضها الأخرية .فالدعوة تعلن �أو ًال ثم يكون ّ فتحتك بالبيئة وتتفاعل معها .ومن هذا االحتكاك والتفاعل ال�سعي لتحقيقها وتعميمها، ينتج تطور الدعوة يف نهجها التطبيقي الذي يحتمل �أن يك�سب الدعوة الأ�سا�سية النظرة الفل�سفية التي ي�صلح ا�ستعداد البيئة الروحي واملادي حلملها� ،إذا مل تكن لها هذه النظرة من البدء .ولي�س لهذا التطور نهج قيا�سي عام ،لأنه خمت�ص بالدعوة والبيئة النا�شئة فيها.
152
�أنطون �سعادة
ولي�ست الدعوات ذات نظرة واحدة ،ولي�ست البيئة واحدة يف العامل ،بل متعددة وعلى �أنواع وخ�صائ�ص �شتى .ولبع�ض البيئات ا�ستعداد خا�ص ال�ستخراج نظرة �إىل احلياة والكون ت�شمل جميع البيئات التي من نوعها ك�سورية و�إغريقية ،مث ًال .فهاتان بيئتان خرجت منهما نظرات وعقائد �شملت العامل املتمدن كله .و�سورية كانت قاعدة التفكري الإغريقي ذاته من غري نفي خ�صائ�صه الغنية .وما قامت به �سورية ما كان ميكن �أن تقوم به بيئة �أخرى كالهند �أو ال�صني ،مع غنى كل منهما باال�ستعداد النف�سي ،لأنه ا�ستعداد لي�س �أو مل يكن �صاحلاً ال�ستخراج نظرة �إىل احلياة والكون ميكن �أن ت�شمل جميع العامل املتمدن. كذلك البيئة العربية ،بيئة ال�صحراء والبداوة ،بيئة ال�ضروريات احليوية واحللقة املغلقة للأفعال النف�سية ،هي بيئة لها ا�ستعداد خا�ص ،بطبيعتها ومزيجها الدموي ال�ستخراج نظرة �إىل احلياة والكون ت�شمل جميع البيئات التي من نوعها كال�سالجقة واملغول وجميع ال�شعوب الفطرية �أو القريبة �إىل البداوة .وهذه النظرة هي� :إيجاد �صراط م�ستقيم يو�صل �إىل الغاية الأخرية بوا�سطة �شرع حتمي ال حاجة للنف�س مبا وراءه �أو ما حوله� ،أي حتديد مطالب احلياة باحلاجات املعا�شية والتنا�سلية يف و�ضع �شرعي ي�ؤ ّمن الطريقة العملية حل�صول هذه املطالب املحدودة اجلامدة ،ورف�ض جميع الت�صورات الفل�سفية ّ املركبة اخلارجة عن الأوليات الالزمة لإقامة احلدود املحتاجة �إليها البيئة ال�صحراوية� ،شرع واحد حلياة واحدة حمدودة. �إن ت�أمل م�ؤلف هذا البحث الفل�سفي واملباديء املناقبية واجتاهاتها جعله يقرر هذه القاعدة: كل دعوة ،مهما كان ابتدا�ؤها �أو غر�ضها الأخري عاماً� ،شام ًال جلميع النوع االن�ساين ،ف�إن نظرتها �إىل احلياة والكون يجب �أن تكون منطبقة على خ�صائ�ص البيئة التي تن�ش�أ فيها وا�ستعدادها الروحي ،فال ميكنها �أن ّ ت�شذ عن ا�ستعداد بيئتها �إال �إذا خرجت منها �أو ُو ّجهت �إىل غريها املخالف لها .فال �شك عندنا يف وجود جتان�س وترابط بني الدعوة �أو الر�سالة يف جميع تفا�صيلها والبيئة وجماعتها الب�شرية يف ا�ستعدادها النف�سي واملادي وظروفهما .وال �شك عندنا يف �أن انت�شار الدعوة وقبولها يف البيئات الأخرى يجب �أن يكون خا�ضعاً ملبد�أ التجان�س والرتابط بني النظرة الفل�سفية اخلارجة من بيئة معينة ،وا�ستعداد البيئات الأخرى لقبولها والعمل بها، �أو لتعديلها �إذا كان قبولها لها غري اختياري �أو خا�ضعاً لعامل تاريخي معني.
املسيحية واحملمدية والقومية
153
تعمر طوي ًال يف �سورية لأنها كانت دون ا�ستعداد البيئة اليهودية �شبه املتمدنة مل تقدر �أن ّ الروحي .وامل�سيحية ال�سورية حني دخلت ال ُعربة انحطت حتى �صارت جمرد لذات ج�سدية ك�شرب اخلمر ،فلم جتد نظرتها �إىل احلياة االجتماعية حم ًال لها يف النف�س العربية اخلا�ضعة لبيئة طبيعية ت�ض ّيق �أفق الت�صور ،وتقيد النف�س بب�سائط العي�ش. �إن حل م�س�ألة م�صري نف�س االن�سان بعد موته هو �أمر �شغل عقل ال�شعوب التي ارتقى تفكريها، و�أخذت �شخ�صية الفرد تتميز فيها عن جمرد ال�شكل االن�ساين العام .بل �إن االت�صال بحياة بعد املوت �أو االنتقال �إليها ابتد�أ يجد �سبي ًال �إىل نف�س االن�سان حال ارتقائه النف�سي عن حدود احليوانية ،وذلك بوا�سطة �شعور تدل عليه عادات دفن املوتى يف ال�شعوب واملدنيات الأولية .والدين ،يف �أ�سا�سه وبعد ارتقائه ،هو عقيدة معرفة م�صدر االن�سان ومعاده وم�صري الفرد الأخري .فهو ،من هذه الناحية ،ال يك ّون نظرة �إىل احلياة والكون باملعنى االجتماعي ـ االقت�صادي ـ الروحي .ولكنه ي�ؤثر �أو ي�ساعد على �إبراز هذه النظرة التي يكون من�ش�ؤها احلقيقي يف اال�ستعداد النف�سي للبيئة االجتماعية ـ الطبيعية التي يحدد �أو يو�سع لها ا�ستعدادها فهم كيفية م�صدر احلياة ومعادها .فنقول بكل ت�أكيد �إن الدين ،حني ي�صبح عقيدة �أ�سا�سية ت�شمل املبد�أ واملعاد ،ي�صري حمور جميع الأفكار الرامية �إىل تكوين نظرة فل�سفية يف احلياة والكون باملعنى االجتماعي ـ االقت�صادي ـ الروحي .فيكون الدين وا�سطة لإبراز نظرة املجتمع �إىل احلياة كما ت�صري هذه النظرة طريق حتقيق العقيدة الدينية. عند هذا احلد من التعليل نرى وجوب تقرير هذه احلقيقة� :إن الدين ،من الوجهة التاريخية االجتماعية ،م�سبب ال �سبب ،ولكنه ي�صري �سبباً من الوجهة الو�ضعية بعد ر�سوخ العقيدة. جميع الأديان يف الدنيا تخ�ضع لهذه القواعد التي ا�ستخرجناها من الدر�س والت�أمل ،ف�إذا كنا نبحث الدين امل�سيحي عليها فال بد من بحث الدين الإ�سالمي �أي�ضاً بالطريقة التي تع ّينها. قلنا يف احللقة ( 23احللقة 12بالرتتيب اجلديد) �إن �أغرا�ض الدين الإ�سالمي الأخرية التي جتمع كل فكرة الدين ثالثة هي: � )1إحالل االعتقاد باهلل الواحد حمل عبادة الأ�صنام.
154
�أنطون �سعادة
)2فر�ض عمل اخلري وجتنب ال�شر. )3تقرير خلود النف�س والثواب والعقاب (احل�شر). و�صلبها .و�إن ما تبقى هو الأمور ال�شكلية وقلنا �أي�ضاً �إن هذه الأغرا�ض هي �أ�سا�س دعوة حممد ُ التي ُتتخذ و�سائل لبلوغ هذه الأغرا�ض ،وهي �أي�ضاً جوهرية ،ولكن �أهميتها ن�سبية من الوجهة الدينية البحتة .وعنينا بهذا االي�ضاح �أن الأغرا�ض الدينية البحتة هي التي ال ت�شتمل يف حد ذاتها على النظرة �إىل احلياة والكون باملعنى االجتماعي ـ االقت�صادي ـ الروحي ،بل تقت�صر على تعيني املبد�أ واملعاد يف ما وراء املادة �أو بعد املوت وقبل الوالدة .وبنا ًء على هذا التحليل تكون حقيقة الدين يف الغر�ضني الأول والثالث� .أما الغر�ض الثاين فهو الذي يحل م�س�ألة الفائدة �أو ال�ضرورة الرتباط العقائد املجاوزة حدود املادة باحلياة االن�سانية يف خمتلف �أ�شكالها وظروفها .وفيه تظهر النظرة �إىل احلياة والكون باملعنى االجتماعي ـ االقت�صادي ــ الروحي يف تعيني الأ�شكال والألوان التي قلنا �إنها جوهرية ،مع ن�سبية �أهميتها لغاية الدين الأخرية التي هي �إيجاد م�ستقر دائم للنف�س االن�سانية يف اهلل .وقد جعلنا الغر�ض الثاين يف �صلب �أغرا�ض الدين من حيث لزومه لكل فكرة فل�سفية يف حالة مطلقة ال تعينّ نظرة �إىل احلياة والكون. وقد ب ّينا يف ما تقدم من هذا البحث �أنه ال خالف بني امل�سيحية والإ�سالم يف حقيقة الدين �أو على الأغرا�ض الدينية البحتة .و�أثبتنا بال�شواهد الكثرية �أن كتاب امل�سلمني نف�سه يق ّر �أن الدين واحد يف امل�سيحية والإ�سالم ،فال خالف بينهما يف الإقرار ب�إله واحد خالق ال�سموات والأر�ض وكل كائن حي �أو جماد ،وبالعودة يف الأخري �إىل اهلل حيث يكون اخللود �إما يف النعيم و�إما يف اجلحيم. مع ذلك فقد ك ّون كل من هذين الدينني نظرة �إىل احلياة والكون قامت عليها قواعد اجتماعية ـ اقت�صادية ـ روحية م�ستقلة عن نظرة الدين الآخر وقواعده .وهذا التباين �أو االختالف لي�س ناجتاً عن تباين �أو اختالف يف الدين ،بل عن تباين املجتمع ال�سوري املدين ،العمراين، واملجتمع العربي البدوي الالعمراين .ويظهر هذا التباين يف التفا�صيل والأ�شكال التي ال �أهمية كبرية لها بالن�سبة �إىل اهلل والفكرة الدينية الأ�سا�سية ،والتي ي�صري لها كل الأهمية
املسيحية واحملمدية والقومية
155
بالن�سبة �إىل املجتمع وا�ستعداده الروحي ونظرته �إىل احلياة والكون .فمن الوجهة الدينية االختالف �شكلي غري جوهري ،لأن كل جمتمع ق�صد �إقامة اخلري و�إفناء ال�شر .ومن الوجهة االجتماعية االختالف جوهري �أ�سا�سي ،لأنه يقوم على تعريف اخلري وال�شر وحتديدهما وطرق �إبقاء الواحد و�إزالة الآخر .وعلى هذه الطرق يتوقف مقدار �صالح احلياة االن�سانية االجتماعية قبل االنتقال �إىل احلياة ال�سرمدية. بنا ًء عليه ال يكون هنالك تباين �أو اختالف ديني قط ،فاهلل يقبل اخلري ويرف�ض ال�شر ،خري كل م�سلم وم�سيحي و�شر كل منهما ،من غري تفريق بني خري الواحد وخري الآخر ،وبني �شر الواحد و�شر الآخر ،لأن اهلل ،ح�سب فل�سفة العقيدة الدينية ،ال يهتم بالأ�شكال بل بالأ�سا�س ،هذا �إذا ح�سبنا اهلل واحداً جلميع الأديان الإلهية .ولكن الذي ال يقبل كل خري وال يرف�ض كل �شر هو االن�سان ولي�س اهلل .فخري ال�سوري قد ال يكون خري العربي �أو خري الهندي ،وخري العربي قد ال يكون خري الأملاين �أو الإنكليزي وغريهم ،وقد يكون خري العربي خري ال�سلجوقي والأفغاين واملغويل وغريهم. اهلل يقبل خري امل�سيحي يف �صالته وبره من غري و�ضوء ومن غري ح�سبان مل�س الن�ساء تنج�ساً، ويف االكتفاء بزوجة واحدة ومبعموديته من غري ختان ويف عدم حتجيب الن�ساء ،وبرتك احلرية لل�شرع ليتطور ح�سب تطور االن�سانية وحاجاتها .واهلل يقبل خري امل�سلم يف �صالته وبره وو�ضوئه وجتنبه التنج�س بلم�س الن�ساء قبل ال�صالة وبغ�سل الوجه واليدين �إىل املرفقني، وم�سح الر�أ�س والرجلني ،وبالتقيد بال�شرع الثابت اجلامد وبالتزوج مثنى وثالث ورباع مع العدل بني الن�ساء وحتجيبهن من �أجل اخلري .كل خري يقبله اهلل ب�صرف النظر عن �شكله. ولكل بيئة خريها :ففي ال�صحراء حيث املاء قليل ال ي�سمح بالإ�ستحمام كل يوم يكون الو�ضوء وغ�سل الوجه واليدين �إىل املرفقني وم�سح الر�أ�س والرجلني من اخلري .ويف املعمور والأر�ض اخل�صبة حيث ال�صابون واملاء غزير ي�صح ا�ستعماله بكرثة فالإ�ستحمام كل يوم �أو مرتني يف الأ�سبوع مع غ�سل الوجه والأطراف وكل جزء من اجل�سم ن�ضح منه عرق �أو �أ�صابه �شيء من القذارة يف كل يوم يغني عن الو�ضوء ويكون من اخلري .ومن يتفق له يف �سورية �أن يلم�س امر�أة قبل ال�صالة وله من تربيته ما ي�صرف نف�سه عن ال�شهوات اجلاحمة ،ال حاجة به
156
�أنطون �سعادة
للتطهر بالو�ضوء لأنه مل يداخل نف�سه �شيء من الدن�س حني االقرتاب �إىل اهلل .ومن كان يف ال�صحراء عازماً على ال�صالة ومل�س امر�أة بعد الو�ضوء فثارت �شهوته ف�صالته يف هذه احلالة ال تفيده لأن �شعوره قد زاغ .ومنعاً لهذا ال�ضرر يتوجب على من مل�س امر�أة بعد و�ضوئه لل�صالة �أن يعيد و�ضوءه من قبيل االحتياط ل�سالمة �شعوره ،وهذا من اخلري .ولكي نفهم نف�سية العربي التي �أوجبت هذا االحتياط نورد ما ذكره قتادة ،وهو« :كان الرجل يعتكف فيخرج �إىل امر�أته فيبا�شرها ثم يرجع» ويف ذلك ا�ستنزل حممد القول{ :وال تبا�شروهن و�أنتم عاكفون يف امل�ساجد ،تلك حدود اهلل فال تقربوها»(البقرة .)187 ،فهذه حالة ا�ستعداد روحي ال تطيق قول امل�سيح�« :إن كل من نظر �إىل امر�أة لكي ي�شتهيها فقد زنى بها يف قلبه»(متى: 5 ، ،)28ف�إن هذا التعليم امل�سيحي ال ميكنه �أن يالقي قبو ًال يف بيئة كال ُعربة ،لأنه يطلب من �أهلها ما هو خمالف ال�ستعدادهم الروحي .واهلل يقبل هذا اخلري وذاك ،لأنه خري .ولكن االن�سان ال يقبل اخلري كله لأنه ال يدرك �أو مل يدرك اخلري كله .فاخلري للإن�سان هو ما تع ّوده وتربى عليه وتكونت منه نظرته �إىل احلياة ،فاخلتان للمتمدن امل�سيحي لي�س من اخلري ،وعدم اخلتان للبدوي امل�سلم �أو اليهودي الذي كان بدوياً لي�س من اخلري .وجميع ذلك من الأمور املالزمة لفل�سفة احلياة ولي�س لعقيدة الدين� ،أي لالميان باهلل اخلالق الذي �إليه ترجع النفو�س والأمور. وحيثما انت�شر دين يف جمتمع خمالف يف االجتماع والثقافة الروحية للمجتمع الذي خرج منه الدين ال بد �أن يطر�أ على النظرة �إىل احلياة التي يحملها هذا الدين تعديل �أو تغيري يوافق ا�ستعداد املجتمع الروحي .والإ�سالم قد م ّر يف هذا االختبار ،فحيث انت�شر يف بيئات راقية يف التمدن ك�سورية �أخذت نظرته �إىل احلياة تتخذ �شك ًال غري ال�شكل املعروف يف ال�صحراء، فارتقت من الب�سائط �إىل املركبات .واليوم تقول ال ُعربة مبذهب جديد يف الإ�سالم يرمي �إىل جعل الدين عبارة عن عبادة ب�سيطة توافق النف�سية العربية :الوهابية .وامل�سيحية حني دخلت ال�صحراء اتخذت �أ�شكا ًال ب�سيطة على قدر ا�ستعداد البيئة ف�صار �شرب خمر و�صارت رموز والدة امل�سيح عبارة عن زواج ب�سيط جرى بني اهلل ومرمي .حتى �أنه قام دليل على �أن بع�ض االعتقادات امل�سيحية يف ال ُعربة قالت بتثليث الآلهة بالفعل فقالوا« :الأب والأم والإبن»، واملرجح �أن القر�آن �أبطل هذا التثليث الذي جعل الآلهة ثالثة .ودليلنا قول الآية{ :و�إذ
املسيحية واحملمدية والقومية
157
قال اهلل يا عي�سى ابن مرمي �أ�أنت قلت للنا�س اتخذوين و�أمي �إلهني من دون اهلل(}...املائدة، ،)116وهذا يدل على االعتقاد ب�ألوهية مرمي �أي�ضاً وهذا ما ال يقول به �أحد من امل�سيحيني املتمدنني� .أما النظرة �إىل احلياة التي حتملها تعاليم امل�سيحية فلم ميكن تطبيقها ومل جتد قبو ًال يف البيئة العربية. هذه هي النظرة التي جعلتنا جنزم ب�أن الدين يكون كله هلل بدون �أي ت�صادم بني امل�سيحية والإ�سالم ،وبانت�شار كل من هذين الدينني يف البيئات الأكرث موافقة وقبو ًال لتعاليمه .ولكن ال�صعوبة لقبول هذا املبد�أ تن�ش�أ من االعتقاد بكلية املذهب الديني .فكل دين �أو مذهب ديني ّيدعي �أنه هو الدين كله جلميع الب�شر ،ا�ستناداً �إىل كلية فكرة اهلل .ومع ذلك ميكن ح�صر هذه ال�صعوبة يف رجال الدين� ،أما �أبناء املجتمع فيجب �أن يتحولوا عن اجلدل العقيم �إىل فهم نف�سية جمتمعهم والعمل على �إ�سعاده ،تاركني احلكم يف االختالفات الدينية هلل. �أما وقد ات�ضح لنا جيداً ما هو الفرق بني االميان الديني يف �أ�سا�سه والنظرة الفل�سفية �إىل احلياة والكون التي تك ّون و�سيلة حتقيق الدين ،فيمكننا �أن نتقدم الآن �إىل در�س مو�ضوع الإ�سالم كدولة. قلنا ،يف ما تقدم� ،إن دعوة حممد كانت �إىل اهلل الذي ع ّرفته الكتب الدينية التي �سبقت القر�آن (التوراة والإجنيل) وذلك لأن معظم العرب كانوا عبدة �أ�صنام ،ويف حالة توح�ش �شديد� ،إذ مل تتمكن امل�سيحية من جلبهم �إىل اهلل بوا�سطة نظرتها �إىل احلياة وقاعدتها الفل�سفية املخالفة ال�ستعداد �أهل ال ُعربة ،ومل تتمكن اليهودية من ذلك بعامل نظرتها اخل�صو�صية التي جعلت اهلل وقفاً على بني �إ�سرائيل. مل تكن دعوة حممد �إىل �إله جديد غري اهلل املعروف يف التوراة والإجنيل ،بل �إىل �إله امل�سيحية واليهودية �أي�ضاً .ولكنه ّ خط�أ ت�أويالت م�سيحيـي العرب يف �سوء فهمهم والدة امل�سيح وتثليث الأقانيم التي هي لإله واحد .وما �أثبتناه من الآي القر�آنية يكفي للربهان على �أن دعوة حممد ح�سبت اهلل واحداً والدين واحداً منذ البدء ،و�أن الإ�سالم هو �إ�سالم الأمر هلل من قبل حممد ومن بعده{ :الذين �آتيناهم الكتاب من قبله هم به ي�ؤمنون .و�إذا يتلى عليهم قالوا �آمنا به
158
�أنطون �سعادة
�إنه احلق من ربنا �إ ّنا كنا من قبله م�سلمني}(الق�ص�ص� .)53 - 52 ،أي �إ ّنا كنا م�سلمني هلل من قبل القر�آن .ومع كل ما ورد يف الق�سم املدين من �إقامة �أ�سباب دولة الإ�سالم املحمدي ف�إن القر�آن مل يبطل الإ�سالم اليهودي وال الإ�سالم امل�سيحي ،ففي �سورة «املائدة» التي ورد فيها احلديث« :املائدة من �آخر القر�آن نزو ًال ف�أحلوا حاللها وح ّرموا حرامها» مل ينق�ض القر�آن قيمة التوراة والإجنيل فقال{ :وكيف يحكمونك (اليهود) وعندهم التوراة فيها حكم اهلل ثم يتولون من بعد ذلك وما �أولئك بامل�ؤمنني� .إ ّنا �أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين �أ�سلموا للذين هادوا ...ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الكافرون}(الآيات ،)44 - 43وقال �أي�ضاً من ال�سورة عينها{ :وليحكم �أهل الإجنيل مبا �أنزل اهلل فيه ومن مل يحكم مبا �أنزل اهلل ف�أولئك هم الفا�سقون}(الآية . )47فثّبت القر�آن مرة �أخرى �صحة كون التوراة مرجعاً لليهود و�صحة كون الإجنيل مرجعاً للم�سيحيني ،و�أكد قوله ال�سابق{ :وهم على �صالتهم يحافظون}(الأنعام� )92 ،أي �أنه ال حاجة بهم لتغيري دينهم مع الإميان بالقر�آن، �إذ الدين واحد و�أمة �أ�صحاب الكتب املنزلة هي يف القر�آن «�أمة واحدة» يف الأ�صل والأ�سا�س م�صدقاً ملا بني ولكنهم �صاروا �أمماً مبا �شرع اهلل لكل فريق منهم{ :و�أنزلنا �إليك الكتاب باحلق ّ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم مبا �أنزل اهلل (�أي بكل ما �أنزل اهلل ح�سب ترتيبه ال�سابق) وال تتبع �أهواءهم عما جاءك من احلق لكل جعلنا منكم (�أي لكل منكم ،يعني لكل فريق منكم جعلنا) �شرعة ومنهاجاً ولو �شاء اهلل جلعلكم �أمة واحدة ولكن ليبلوكم يف ما �آتاكم فا�ستبقوا اخلريات� ،إىل اهلل مرجعكم جميعاً فينبئكم مبا كنتم فيه تختلفون}(املائدة.)48 ، ت�ؤكد هذه الآيات القر�آنية قولنا ال�سابق (احللقة / 25احللقة 14بالرتتيب اجلديد) �إنه مل يكن يف بدء الر�سالة الإ�سالمية �أي اجتاه للإ�صطدام مع املو�سويني �أو امل�سيحيني يف نزاع على ادعاء �صحة الر�سالة �أو نق�ض التعاليم ،وما عنيناه من بدء الر�سالة هو �أ�سا�سها وغر�ضها الأخري كما �سبق لنا �شرحه. و�إذا تدبرنا القر�آن �سورة �سورة ،ح�سب تعاقب الإ�ستنزال ،وجدنا �أن ال�سور تعاقبت يف الت�سبيح هلل وقدرته وتب�شري الذين ال كتاب لهم مبلكوته وثوابه و�إنذار املكذبني واملبطلني بعقابه .و�أخذ يثبت دعوته بالوحي الذي ا�شتمل على ق�ص�ص ما ورد يف التوراة والإجنيل .فقاوم دعوته
املسيحية واحملمدية والقومية
159
عبدة الأوثان ،وهزئوا من قوله �إن الأموات يقومون من القبور يوم احل�ساب ،فعالج حججهم وذكرهم هزوء النا�س الأولني من الأنبياء والر�سل ال�سابقني ،وا�ست�شهد على �صحة ر�سالته بالكتب ال�سابقة ،كما �أثبتنا يف مو�ضع متقدم ،و�أعطى العرب �صورة اجلنة ونعيمها املالئم للنف�سية العربية .ولكن كرازته الطويلة مل تثمر �سوى نفر قليل من ذوي النفو�س ال�شعرية. فا�ضطهدته قري�ش فهرب و�صحابته الذين التج�أوا �إىل احلب�شة .ثم �أعاد الك ّرة وتابع الكرازة دون كبري توفيق ،فالكلمة مل تالقِ �آذاناً �صاغيةً ،خ�صو�صاً لأن الدعوة مل ت�شتمل على �سوى ما ي�صيب النف�س بعد املوت ،فلم ِ يعط ذلك للعرب �شيئاً ت�شتغل به عقولهم ونفو�سهم جملة يف حياتهم ،لأنه مل يكن لهم ا�ستعداد للإ�شتغال مبا راء الطبيعة وهم يف �أ�شد احلاجة للإ�شتغال مبا �ضمن الطبيعة ،ولأن طبيعة بيئتهم ونوع حياتهم كانا دون امل�ستوى الذي ي�سمح بالإ�شتغال بامل�سائل الروحية والفكرية املج ّردة عن الطبيعة املادية وال�ضرورات العملية .ومع �أن ت�صوير اجلنة كان مبا تتوق �إليه نفو�سهم من النعيم املادي يف ظالل وعيون وحور عني وحلل بديعة وذهب وف�ضة ،ف�إن النف�س العربية مل تكن م�ستعدة للإن�صراف �إىل التفكري بغري ال�ش�ؤون الب�سيطة القريبة املتناول .وقد بقي حممد يب�شر وينذر يف مكة مدة ثالث ع�شرة �سنة، �أي ع�شر �سنني زيادة على مدة تعليم امل�سيح ،من دون �أن يتبعه غري الأفراد الذين ك ّونوا حلقة �صحابته ،فوقعت الر�سالة يف م�أزق كان ال بد من فتح منفذ فيه �إذا كان يجب �أن تتابع عملها. يف املدة املكية كانت الدعوة و�أغرا�ضها قد متت وو�ضحت ف�إذا هي دعوة �إىل االعتقاد باهلل الواحد وبالرجعى �إىل اهلل والعقاب والثواب ،وبوجوب فعل اخلري وتنكب ال�شر من غري تعيني ملا هو اخلري وما هو ال�شر �إال االميان باهلل والكفر به .ويف عدم التعيني ملا هو اخلري وما هو ال�شر يف جمرى احلياة االن�سانية مل يكن للدعوة نظرة �إىل احلياة والكون باملعنى االجتماعي ـ االقت�صادي ـ الروحي ،وهذا كان نقطة �ضعف الدعوة يف الطور املكي .فبدون وجود نظرة �أو فل�سفة تعينّ االجتاه يف احلياة فقلي ًال ما ي�شغل �أفكار املحتاجني �إىل هذه النظرة ما ميكن �أن يكون بعد املوت .فكان يجب �أن يكون للر�سالة غر�ض وا�ضح يف احلياة يجد حم ًال يف نفو�س املدعوين �إليها .وهذا الغر�ض هو بالن�سبة �إىل النظرة الدينية البحتة التي تدور على م�سائل ما بعد املوت ،هو غر�ض ثنوي ووا�سطة فقط �إىل الغر�ض الأخري .وهذا املبد�أ ي�شمل الإ�سالم
160
�أنطون �سعادة
وامل�سيحية وكل دين �إلهي قال بخلود النف�س والإنتقال �إىل الآخرة .ولذلك �أجاب امل�سيح عامل النامو�س قائ ًال« :اعمل فرائ�ض النامو�س فتحيا احلياة الأبدية»(متى .)17 : 19 ،وهكذا فرائ�ض الإ�سالم ف�إنها لي�ست �سوى وا�سطة التقرب �إىل اهلل واكت�ساب ر�ضاه لينال امل�سلم اخللود يف اجلنة املو�صوفة يف القر�آن .ولكن النظرة االجتماعية ـ االقت�صادية ـ الروحية هي من الوجهة الفل�سفية االجتماعية� ،أو ما يجب �أن يكون لهذه الوجهة ،الغر�ض الأ�سا�سي من الدين .ومن هذه الوجهة التي تهتم مبا قبل املوت وبا�ستمرار احلياة يف هذه الدنيا ،لي�س الدين �سوى الغر�ض الثنوي �أو الوا�سطة لتحقيق الغر�ض الأويل الأ�سا�سي ،الذي هو� ،أو ما يجب �أن يكون ،ح�صول نظرة �إىل احلياة االجتماعية ـ االقت�صادية ـ الروحية تعينّ �شرعة �أو قاعدة يكون فيها �أكرث اخلري وال�صالح للمجتمع مبعنى الواقع االجتماعي الذي �أ�شرنا �إليه �آنفاً. وملّا مل يكن حممد فيل�سوفاً اجتماعياً بل نبياً �إلهياً ،ف�إن نظرته هي النظرة الدينية وغر�ضه الأخري هو �إقامة الدين .وكل نظرة �أخرى يجب �أن تكون جمرد نظرة ثنوية �أو وا�سطة لإقامة الدين والو�صول �إىل خلود اجلنة .وبنا ًء عليه نقول بت�أكيد �إن حقيقة الدين و�أ�سا�س الدعوة املحمدية هو ما ا�شتمل عليه الطور املكي الذي هو الطور الروحي ،املنزه عن �ش�ؤون العامل الدنيوي ،املتجه نحو مقر النف�س الأخري يف ما وراء املادة ،و�إن االجتاه الدنيوي الذي �سلكه الطور املدين لي�س �سوى الوا�سطة �أو الطريق للق�ضاء على عبادة الأ�صنام و�إقامة الفكرة الدينية لإمتام الغر�ض الديني الأخري الذي اكتمل يف املدة املكية. قلنا �إنه بعد ثالث ع�شرة �سنة من الدعوة �إىل اهلل من غري جناح يف اجلماعات واجلماهري ،و�صلت الر�سالة �إىل م�أزق مل يعد ممكناً لها التقدم فيه بوا�سطة جمرد التب�شري واالنذار ،و�صار من الالزم اتخاذ خطة �أخرى .وال �شك يف �أن حممداً فكر ملياً يف ما يجب فعله ،وو�ضع خطة عقد العزمية على تنفيذها .وقد ا�شتملت هذه اخلطة على اخلطوط النف�سية العربية والتفكري العربي التي نرى ،عند التحقيق� ،أنها توازي خطوط النف�سية العربانية والتفكري العرباين قبل �أن �أثرت املدنية ال�سورية على العربانيني ت�أثريها الكبري .ولذلك جند موازاة تكاد تكون تامة بني خطة �إقامة الدين الإ�سالمي وخطة �إقامة الدين اليهودي ،وعالقة وثيقة بني القر�آن والتوراة ،وقد �أ�شرنا �إىل هذه العالقة و�أ�سبابها يف حلقتني �سابقتني ( 15و 4 / 16و 5بالرتتيب اجلديد).
املسيحية واحملمدية والقومية
161
يف العهد املكي كان اخلري وال�صالح كله يف االميان باهلل ،وال�شر والطالح كله يف الكفر باهلل وعبادة الأ�صنام (ال�شرك) .هذا كل ما يذكره القر�آن من اخلري يف املدة املكية �إال �آيات قليلة �أولية يف �أواخر املدة كقوله يف �سورة «العنكبوت» وهي قبل الأخرية من العهد املكي: {وو�صينا الإن�سان بوالديه ُح�سناً}(الآية )8التي توازي «�أكرم �أباك و�أمك»(اخلروج:20 ، ّ )12يف التوراة ،وكقوله يف �سورة «املطففني»{ :ويل للمطففني .الذين �إذا اكتالوا على النا�س ي�ستوفون .و�إذا كالوهم �أو وزنوهم يخ�سرون}(الآيات .)3 - 1ويف ما �سوى ذلك وما �شابهه ال تعيني خلري �أو �شر غري االميان باهلل �أو ال�شرك به .وهذه الفكرة الأولية وحدها ما كانت كافية لإن�شاء م ّلة ذات �إميان جديد من عبدة �أ�صنام .ولعل خلو الق�سم املكي من تعيني اخلري وال�شر ونظرة �إىل احلياة والعامل كان اعتماداً على �أن ذلك موجود يف الكتب املتقدمة، يف التوراة والإجنيل اللذين �أوجب القر�آن على امل�سلمني االميان مبا جاء فيهما .وجميع �س َور هذا الق�سم تدل على �أن الق�ضاء على عبادة الأ�صنام وجلب العرب �إىل عبادة اهلل الذي تقدمت حممداً ٌ ر�سل بالدعوة �إليه وتبيان �سبله ،كانا الغاية الق�صوى من الدعوة املحمدية. فلي�س يف الق�سم املكي غاية غريها ،ال كلية وال جزئية .و�س َور الق�سم املكي � 85أو � 86سورة نزلت يف ثالث ع�شرة �سنة وكلها تب�شري و�إنذار ووعد ووعيد يف ترتيل �شعري م�ستمر .وهذه هي الوجهة العامة من الإ�سالم .وهي مل تك ّون فكرة فل�سفية ت�شمل احلياة االن�سانية مبناقبها ومثالبها وروحيتها وماديتها واجتماعياتها واقت�صادياتها ومثلها العليا .فكان ال بد من �إحدى طريقتني� :إما �أن يعلن حممد �أن هذه الفكرة الفل�سفية موجودة يف التوراة �أو الإجنيل �أو يف كليهما ،فتكون دعوته مبثابة دعوة �إىل هذين الكتابني ،و�أما �أن ُيوجد الفكرة �أو النظرة التي ميكن �أن تك ّون للعرب ق�ضيتهم الروحية ـ االجتماعية .فاختار حممد الطريقة الأخرية ،لأنه كره تذبذب اليهود ونفاقهم ،ومل يجد ا�ستعداداً يف العرب للنظرة امل�سيحية التي كانت م�ضطربة عند م�سيحييهم .واحلقيقة �أنه كان ال بد من اال�ستقالل بتعيني طريقة احلياة اجلديدة للعرب نظراً خل�صائ�ص بيئتهم .ومن جزم حممد بالطريقة الثانية ن�ش�أ الطور املدين الذي �أخرج الدعوة من ملل تكرار تراتيل الت�سبيح والتب�شري واالنذار واحلمد واحل�ض والتهويل، �إىل ال�شرع و�إقامة حدود املعامالت والعقود التي ترفع م�ستوى احلياة العربية وت�ضبطها .وملّا
162
�أنطون �سعادة
كان العرب كلهم� ،إال بع�ضهم� ،أميني وبعيدين عن الثقافة والعلم كان ال بد من �إقامة الدولة لإخ�ضاعهم لل�شرع و�ضبط ت�صرفاتهم.
املسيحية واحملمدية والقومية
163
نصوص اإلسالم كدولة �إبتد�أ الطور الثاين ،الأخري للدعوة الإ�سالمية ،بهجرة حممد وال�صحابة (املهاجرين) �إىل املدينة .و�أول �سورة نزلت بعد الهجرة �أعطت الإ�سالم اجتاهه اجلديد الذي �أوجد املذهب العربي يف احلياة املثلى ،م�ستخرجاً من حياة العرب وحاجاتها ،وهي �سورة «البقرة». �أول �سورة «البقرة» ع ْو ُد على بدء الدعوة ،ففيه تكرار التب�شري واالنذار والوعد والوعيد{ :يا �أيها النا�س اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون .الذي جعل لكم الأر�ض فرا�شاً وال�سماء بنا ًء و�أنزل من ال�سماء ما ًء ف�أخرج به من الثمرات رزقاً لكم فال جتعلوا هلل �أنداداً و�أنتم تعلمون}(الآيتان { ،)22 - 21وب�شر الذين �آمنوا وعملوا ال�صاحلات �أن لهم جنات جتري من حتتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل و�أتوا به مت�شابهاً ولهم فيها �أزواج مطهرة وهم فيها خالدون}(الآية .)25هذه الآيات ٌ مثل من �أول �سورة «البقرة» وي�أتي بعده �إثبات ذكر خلق �آدم و�إ�سكانه اجلنة مع زوجه ثم �سقوطهما من اجلنة .فيكون هذا الذكر متهيداً للعامل ال�سيا�سي الذي يظهر حا ًال ،مبخاطبة يهود العرب الذين منهم عدد كبري يف املدينة{ :يا بني �إ�سرائيل اذكروا نعمتي التي �أنعمت عليكم و�أوفوا بعهدي � ِ م�صدقاً ملا معكم وال تكونوا أوف بعهدكم و�إياي فارهبون .و�آمنوا مبا �أنزلت ّ �أول كافر به وال ت�شرتوا ب�آياتي ثمناً قلي ًال و�أياي فا ّتقون}(الآيتان .)41 - 40وتتابع ال�سورة خماطبة بني �إ�سرائيلّ ، مذكرة �إياهم بف�ضل اهلل عليهم وتنجيتهم من �آل فرعون و�إخراجهم من م�صر وتنزيل «الكتاب والفرقان» على مو�سى ،وكيف اعتنى اهلل بهم يف ال ّتيه ،وظللهم املن وال�سلوى ،كما هو مذكور كله يف التوراة .ثم كيف كفروا وعبدوا بالغمام و�أنزل عليهم ّ
164
�أنطون �سعادة
العجل ،وعاد اهلل فتاب عليهم ،و�أ�شياء غري ذلك من ق�ص�ص اليهود .ثم تقطع ال�س َور هذه الق�ص�ص لت�ضع هذه الآية�{ :إن الذين �آمنوا والذين هادوا والن�صارى وال�صابئني من �آمن باهلل واليوم الآخر وعمل �صاحلاً فلهم �أجرهم عند ربهم وال خوف عليهم وال هم يحزنون} (الآية .)62في�ست�أنف الق�ص�ص بعدها ،ثم تذكر ال�سورة جهل العرب اليهود الأُميني بالدين: ين و�إن هم �إال يظنون}(الآية ،)78وهذا ي�صدق {ومنهم �أميون ال يعلمون الكتاب �إال �أما ّ على العرب امل�سيحيني وامل�سلمني �أي�ضاً ،كما ورد بعد يف �سورة «التوبة» و�أثبتناه يف حلقة �سابقة .وت�أتي �آية �أخرى تنذر الذين ا�ستغلوا �أمية امل�ؤمنني بالتوراة ورووا الكتاب على هواهم: {فويل للذين يكتبون الكتاب ب�أيديهم ثم يقولون هذا من عند اهلل لي�شرتوا به ثمناً قلي ًال فويل لهم مما كتبت �أيديهم وويل لهم مما يك�سبون}(الآية .)79ويف ا�ستمرار معاجلة حال اليهود ت�أتي هذه الآيات{ :ولقد �آتينا مو�سى الكتاب وقفّينا من بعده بالر�سل و�آتينا عي�سى ابن مرمي الب ّينات و�أيدناه بروح القد�س �أفكلما جاءكم ر�سول مبا ال تهوى �أنف�سكم ا�ستكربمت ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون .وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم اهلل بكفرهم فقلي ًال ما ي�ؤمنون .وملّا م�صدق ملا معهم وكانوا من قبل ي�ستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم كتاب من عند اهلل ّ جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اهلل على الكافرين}(الآيات .)89 - 87وهذه الآيات تطلب وحتاجهم ب�أغالطهم ال�سابقة �ضد امل�سيح وحتذرهم من من اليهود �أن ال يجحدوا ر�سالة حممد ّ عاقبة رف�ض االميان بالقر�آن .وتتابع ال�سورة جمادلة «�أهل الكتاب» يف �صحة الدعوة املحمدية ووجوب االميان بها و�أنه لي�س �صحيحاً �أن االميان يخت�ص باليهودية �أو بالن�صرانية ،فتتخل�ص من هذه املجادلة �إىل هذه النتيجة« :قولوا �آمنا باهلل وما �أنزل �إلينا وما �أنزل �إىل �إبراهيم و�إ�سماعيل و�إ�سحق ويعقوب والأ�سباط وما �أوتي مو�سى وعي�سى وما �أوتي النبيون من ربهم ال نفرق بني �أحد منهم ونحن له م�سلمون .ف�إن �آمنوا مبثل ما �آمنتم به فقد اهتدوا و�إن تولوا ف�إمنا هم يف �شقاق ف�سيكفيكهم اهلل وهو ال�سميع العليم}(الآيتان ،)137 - 136وهي نتيجة كلية جتعل كل �إميان باهلل حقاً فال يكون الدين وقفاً على مذهب دون مذهب ،وهي نظرة �صائبة �إذا �أ�ضيف �إليها ما ورد يف �سورة «املائدة» و�أثبتناه يف احللقة ال�سابقة {لكل جعلنا منكم �شرعة ومنهاجاً� ...إىل اهلل مرجعكم جميعاً}(الآية .)48فالنتيجة الفكرية كاملة تامة ال يرف�ضها �إال
املسيحية واحملمدية والقومية
165
املتعنتون من م�سلمني وم�سيحيني وغريهم .ولكن ،بكل �أ�سف نقول� ،إن كثرياً من املجتهدين واملف�سرين امل�سلمني ال ي�ؤدون واجب الأمانة لهذه النتيجة التي ين�ص عليها دينهم فيلج�أون �إىل ن�صو�ص �أخرى مناق�ضة لها مناق�ضة ظرفية ليبطلوا حقيقتها. ثم ت�أتي يف هذه ال�سورة [البقرة] م�س�ألة تغيري ال ِقبلة� ،إذ كان حممد يتجه يف �صالته �إىل �أور�شليم ،فلما وجد �إعرا�ض اليهود عن دعوته ورف�ضهم ورف�ض امل�سيحيني االقرار با�ستقالل دعوته و�صحة نبوته ،كما تدل عليه الآية{ :وقالوا كونوا هوداً �أو ن�صارى تهتدوا قل بل م ّلة �إبراهيم حنيفاً وما كان من امل�شركني}(الآية )135عدل عن ِقبلة �أور�شليم وجعل مكة ِقبلته اجلديدة ،وا�ستنزل يف ذلك الآيات ،وفيه عامل �سيا�سي كبري من ا�سرت�ضاء قري�ش، �سادين الكعبة ،كما فيه اجتاه لتو�سيع اال�ستقالل عن اليهود وجعل الإ�سالم املحمدي م ّلة منف�صلة عن م ّلتي اليهودية وامل�سيحية .وبعد تخ ّل�ص من هذه الفكرة اجلديدة تنتقل ال�سورة �إىل التمهيد لالجتاه اجلديد ،الذي هو اجتاه احلزبية الدينية �ضد حزبية قري�ش الوثنية .و�أول �آية يف هذا الباب قوله{ :وال تقولوا ملن يقتل يف �سبيل اهلل �أموات بل �أحياء ولكن ال ت�شعرون}(الآية ،)154ثم يتلو هذه الآية �إعداد النفو�س للحرب{ :ولنبلو ّنكم ب�شيء من اخلوف واجلوع ونق�ص من الأموال والأنف�س والثمرات وب�شّ ر ال�صابرين الذين �إذا �أ�صابتهم م�صيبة قالوا �إ ّنا هلل و�إ ّنا �إليه راجعون� .أولئك عليهم �صلوات من ربهم ورحمة و�أولئك هم املهتدون}(الآيات .)157 - 155ثم يجيء التمهيد لل�شرع بقوله{ :يا �أيها النا�س كلوا مما يف الأر�ض حال ًال طيباً وال ت َّتبعوا خطوات ال�شيطان �إنه لكم عدو مبني}(الآية .)168 وكانت «خطوات ال�شيطان» �شيئاً غري وا�ضح فجاءت �آية �أخرى�{ :إمنا ي�أمركم بال�سوء والفح�شاء و�أن تقولوا على اهلل ما ال تعلمون}(الآية .)169ومع ذلك بقي ال�شر غري وا�ضح فال علم مبا هو ال�سوء �أو الفح�شاء� ،إال �أن يكون الكفر باهلل فقط ،كما ب ّينا �سابقاً .ولكن الأمر ال يطول حتى ي�أتي الت�شريع ،وال�سورة تدخل فيه هكذا{ :يا �أيها الذين �آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم وا�شكروا اهلل �إن كنتم �إياه تعبدون� .إمنا ح ّرم عليكم امليتة والدم وحلم باغ وال عا ٍد فال �إثم عليه �إن اهلل غفور رحيم} اخلنزير وما �أُ ِه َّل به لغري اهلل فمن ا�ضطر غري ٍ (الآيتان ،)173 – 172فكان ذلك �أول ال�شرع ال�ضابط للت�صرف .وهو لي�س �شديداً،
166
�أنطون �سعادة
باغ �إذ فيه �صمام يزيل ال�ضغط ال�شديد يف م�س�ألة امل�آكل وهو قوله{ :فمن ا�ضطر غري ٍ وال عا ٍد فال �إثم عليه} .ويقف الت�شريع يف �آية التحرمي املذكور ،فتنتقل ال�سورة �إىل �إنذار الذين {يكتمون ما �أنزل اهلل من الكتاب}(الآية ،)174فت�أتي �آية ت�شبه التعليم امل�سيحي والو�صايا املو�سوية{ :لي�س البرِ َّ �أن تولوا وجوهكم قبل امل�شرق واملغرب ولكن الرب من �آمن باهلل واليوم الآخر واملالئكة والكتاب والنبيني و�آتى املال على حبه ذوي القربى واليتامى وامل�ساكني وابن ال�سبيل وال�سائلني ويف الرقاب و�أقام ال�صالة و�آتى الزكاة واملوفّون بعهدهم �إذا عاهدوا وال�صابرين يف الب�أ�ساء وال�ض ّراء وحني الب�أ�س �أولئك الذين �صدقوا و�أولئك هم املتقون}(الآية .)177فال تنتهي هذه الآية حتى يعود الت�شريع على خطط التوراة{ :يا �أيها الذين �آمنوا ُكتب عليكم الق�صا�ص يف القتلى ا ُحل ُّر باحلر والعبد بالعبد}(الآية ،)178 ثم ت�أتي �آية ت�شريع يف حقوق التملكُ : {كتب عليكم �إذا ح�ضر �أحدكم املوت �إن ترك خرياً الو�صية للوالدين والأقربني باملعروف حقاً على املتقني}(الآية .)180وهذا الت�شريع ناق�ص كثرياً فترتكه ال�سورة عند نق�صه لتتناول �أمراً �آخر هو فري�ضة ال�صيام{ :يا �أيها الذين �آمنوا كتب عليكم ال�صيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(الآية ،)183وبعد �آيات تبني كيفية ال�صيام ومواقيته وجعل ال ِأه ّلة مقيا�س الوقت واحل�ساب ،تنتقل ال�سورة �إىل �إعالن احلرب والتحري�ض على القتال والأمر به ب�صورة وا�ضحة{ :وقاتلوا يف �سبيل اهلل الذين يقاتلونكم وال تعتدوا �إن اهلل ال يحب املعتدين}(الآية .)190وتقفو هذه الآية �آيات يف كيفية القتال �سندر�سها مع هذه فيما يلي: بعد التحري�ض على القتال تعود ال�سورة �إىل ال�شرع فتبينّ واجبات امل�ؤمن من حج وعمرة و�شروط ذلك ،ثم ي�أتي وعد ووعيد وتهويل وغري ذلك ،ثم ت�أتي عودة �إىل القتال وتوكيده: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وع�سى �أن تكرهوا �شيئاً وهو خري لكم وع�سى �أن حتبوا �شيئاً وهو �شر لكم واهلل يعلم و�أنتم ال تعلمون}(الآية ،)216فجعل القتال فري�ضة �شرعاً .ثم بعد فر�ض القتال عودة �إىل ال�شرع املدين فيحرم اخلمر واملي�سر حترمياً غري قاطع .ثم ي�أتي �أول ؤمن ولأَ َمة م�ؤمنة خري من م�شركة ت�شريع يف الزواج و�أحواله{ :وال تنكحوا امل�شركات حتى ي� ّ ولو �أعجبتكم وال تنكحوا امل�شركني حتى ي�ؤمنوا ولعبد م�ؤمن خري من م�شرك ولو �أعجبكم
املسيحية واحملمدية والقومية
167
�أولئك يدعون �إىل النار واهلل يدعو �إىل اجلنة(}...الآية .)221وتتلو ذلك �آيات املعامالت والعقود يف الزواج والطالق ،وقد �أثبتنا بع�ضها يف حلقة �سابقة (احللقة / 15احللقة الرابعة بالرتتيب اجلديد) ثم عودة �إىل التحري�ض على القتال و�ضرب �أمثاله ببني �إ�سرائيل�{ :أمل ت َر �إىل امللأ من بني �إ�سرائيل من بعد مو�سى �إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل يف �سبيل اهلل قال هل َع�سيتم �إن كتب عليكم القتال �أال تقاتلوا قالوا وما لنا �أال نقاتل يف �سبيل اهلل وقد �أُخرجنا من ديارنا و�أبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا �إال قلي ًال منهم واهلل عليم بالظاملني} (الآية ،)246وتعقبها حكاية متليك �شاول وقتال داود وجليات ليقوى �إميان امل�سلمني ب�أن اهلل ال يتخلى عن �أتباعه وجلعل قاعدة عامة تربر القتال �إذ قد �سبق وقام به اليهود .ولكي ف�ضلنا بع�ضهم على بع�ض ال يكون املثل موجباً للت�شبه باليهود جاء القول{ :تلك الر�سل ّ منهم من ك ّلم اهلل ورفع بع�ضهم درجات و�آتينا عي�سى ابن مرمي الب ّينات و�أيدناه بروح القد�س ولو �شاء اهلل ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم الب ّينات ولكن اختلفوا فمنهم من �آمن ومنهم من كفر ولو �شاء اهلل ما اقتتلوا ولكن اهلل يفعل ما يريد}(الآية ،)253وهو م�ستند ملا �سيجيء من تف�ضيل الإ�سالم اخلا�ص مبحمد على غريه. ت�أتي بعد ما تقدم و�صايا ،ثم الآية{ :ال �إكراه يف الدين قد تبينّ الر�شد من الغي فمن يكفر بالطاغوت وي�ؤمن باهلل فقد ا�ستم�سك بالعروة الوثقى ال انف�صام لها واهلل �سميع عليم}(الآية .)256ثم ي�أتي توكيد البعث م�سنوداً �إىل مثل من �إبراهيم ،وبعدها ي�أتي حث على اخلري وو�صايا يف �أ�شكال قريبة من الوجه العملي .ثم ت�شريع يف حتليل البيع وحترمي الربا .ويتعاقب احلث والت�شريع يف املعامالت والعقود و�شروطها .وتختم ال�سورة بقوله�{ :آمن الر�سول مبا �أنزل �إليه من ربه وامل�ؤمنون ٌّ كل �آمن باهلل ومالئكته وكتبه ور�سله ال نف ّرق بني �أحد من ر�سله وقالوا �سمعنا و�أطعنا غفرانك ربنا و�إليك امل�صري}(الآية )285و�آية �أخرى يف طلب رحمة اهلل. هذا هو بدء العهد املدين وفيه �أ�سا�سه وغر�ض اجتاهه اجلديد .وهذا االجتاه هو :ا�ستخراج النظرة العربية (ال�صحراوية) �إىل احلياة االجتماعية واالقت�صادية والروحية وهي النظرة التي عرفناها يف احللقة ال�سابقة .ففي هذا العهد ابتد�أ تعيني ما هو خري وما هو �شر ،و�إىل جانب �إيجاد هذه النظرة �أوجدت الع�صبية الدينية �ضد الالدينيني �أو الال�إلهيني.
168
�أنطون �سعادة
(�ضاق نطاق هذا العدد من ا�ستيعاب كل مواد هذه احللقة فن�أتي على بقيتها يف العدد القادم).
املسيحية واحملمدية والقومية
169
يف الدولة واحلرب الدينية �أما النظرة �إىل احلياة فقد جرت على خطوط النف�سية العربية املماثلة خلطوط النف�سية اليهودية لعهد مو�سى ،وقبل دخول اليهود يف احل�ضارة ال�سورية واقتبا�سهم من نظرتها �إىل احلياة وفل�سفتها .ون�صت �آيات �صريحة على االقتداء باليهود واتخاذهم مث ًال ،كما ب ّينا �آنفاً .وقد ب ّينا يف بع�ض احللقات ال�سابقة التماثل الت�شريعي بني الإ�سالم املحمدي والإ�سالم املو�سوي ( 15و16 4 /و 5بالرتتيب اجلديد) .ولكن هذه امل�شابهة لي�ست كلية ،ففي ال�شرع دخلت اخل�صائ�ص وال�ضرورات العربية التي كان اليهود �آخذين يف اخلروج منها واالجتاه عنها �إىل احل�ضارة ال�سورية التي �أو�شكت �أن ته�ضمهم متاماً ،حتى �إن ال�سريانية �صارت ،يف �أواخر عهدهم ،اللغة الغالبة على ل�سانهم .وهذه ال�ضرورات واخل�صائ�ص ال تبطل املوازاة التامة تقريباً يف اخلطوط الكربى للنظرة �إىل احلياة .فالو�ضوء ،مث ًال ،قد حدد االغت�سال نظراً لقلة املاء يف ال ُعربة ،بينما التوراة �أطلقته جرياً على قاعدة التمدن ال�سوري «اغت�سلوا تنقوا» (�أ�شعيا.)16 :1 ، قلنا يف احللقة ال�سابقة وما قبلها �إن العهد املدين كان اخلطوة الفا�صلة لإخراج الر�سالة املحمدية من امل�أزق الذي وقعت فيه ،وب ّينا �أن الق�صد من �آياته امل�ؤلفة الن�ص الدويل هو �إقامة الدين وا�ستئ�صال الوثنية ،ولي�س حماربة �أهل الأديان غري املحمدية حتى يتخلوا عن �إ�سالمهم ويتبعوا الإ�سالم املحمدي. وكما �أن �أول �سورة مك ّية دلت على غر�ض الر�سالة الديني و�أ�سا�سها ،كذلك دلت �سورة «البقرة» التي هي �أول ال�سور املدنية على الغر�ض الدويل .ف�أول �أمر بالقتال كان قوله{ :وقاتلوا فخ�ص القتال بالذين يقاومون يف �سبيل اهلل الذين يقاتلونكم وال تعتدوا} (البقرةّ ،)190 ،
170
�أنطون �سعادة
الدين بالقوة ويقاتلون �أتباعه .فالدعوة �إىل القتال ،يف �أ�سا�سها وغر�ضها الأخري ،مل تكن يف �صلب الدعوة الدينية �إىل اهلل� ،إذ خال منها العهد املكي خلواً تاماً ولي�ست يف العهد املدين مطلقة من كل قيد �أو �شرط وعامة ملحاربة امل�سلمني غري املحمديني �أي�ضاً ،بل مقيدة ب�شرط �أن تكون �ضد الذين يقاتلون امل�ؤمنني ويريدون �أن يطفئوا نور اهلل ب�أفواههم ليمدوا ظلمة الوثنية. وقد يقول قائل �إن اجلهاد مذكور يف الق�سم املكي �أي�ضاً ،فنقول �صحيح ولكنه هناك ذو معنى روحي فقط ،فالق�صد منه اجلهاد للإقناع وال�سالح الكلمة ولي�س ال�سيف ،كقوله{ :فال ُتطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبرياً} (الفرقان.)52 ، وملا كان الأمر بالقتال هو لإقامة الدين ولي�س لنق�ضه ،ف�إن من الكفر باهلل والهدم للدين ال�صحيح القول �إن �آيات القتال ال�ستعالء امل ّلة املحمدية �أو لدفع ال�شر عنها قد ن�سخت �آيات الدين وحلت حملها .فالقتال فر�ض لإقامة �آيات الدين ،ال ملجرد القتال �أو حلب القتل ولذلك قالت الآية{ :وال تعتدوا �إن اهلل ال يحب املعتدين} (البقرة.)190 ، وقد قلنا يف �سياق ما تقدم من هذا البحث �إن الآيات الدولية يف الر�سالة املحمدية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باحلوادث اجلارية ،وهذه احلقيقة يجب �أن تظل ن�صب �أعيننا يف كل در�س �صحيح لن�صو�ص الإ�سالم املحمدي كدولة .ولهذه احلقيقة تخ�ضع �آيات القتال ،فقد ا�ستنزل حممد �آيات القتال لأنه وجد من باد�أ امل�سلمني القتال وا�ضطهدهم ،ف�أ�صبح القتال مربوطاً ب�شرطية وجود من يطلبون مقاتلة امل�ؤمنني من امل�شركني. �أما الآيات التي قلنا �إنها تقفو �أول �آية �أمرت بالقتال فهي هذه{ :واقتلوهم حيث ثقفتوهم و�أخرجوهم من حيث �أخرجوكم والفتنة �أ�شد من القتل .وال تقاتلوهم عند امل�سجد احلرام حتى يقاتلوكم فيه ف�إن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين .ف�إن انتهوا ف�إن اهلل غفور رحيم .وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين هلل ف�إن انتهوا فال عدوان �إال على الظاملني} (البقرة .)193 - 191 ،وهذه الآيات تو�ضح جيداً �أن القتال كان دفاعياً ولي�س هجومياً، و�ضرورة ق�ضت بها عداوة امل�شركني .وقوله{ :الذين يقاتلونكم} يعني �أعداء الدين الذين يق�صدون �إبطاله ومقاتلة امل�ؤمنني حتى ولو مل يبا�شروا القتال ر�أ�ساً .ذلك لأن عداوتهم
املسيحية واحملمدية والقومية
171
وا�ضطهادهم امل�ؤمنني ثابتان .وقد جعل القر�آن اال�ضطهاد �أعظم من القتل{ :الفتنة �أكرب من القتل} (البقرة .)217 ،والفتنة هنا مبعنى املحنة ،كالإخراج من الوطن .ولذلك قال: {و�أخرجوهم من حيث �أخرجوكم} .و�أيد غر�ض القتال الذي �أو�ضحناه بقوله{ :وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين هلل}� ،أي لإزالة اال�ضطهاد ومنع العداوة امل�ؤذية ولإقامة تبق حاجة �إىل القتال الديني دين اهلل والق�ضاء على عبادة الأوثان .فمتى �صار الدين هلل مل َ و�صار يجب العودة �إىل الفكرة الدينية ال�صافية املو�ضحة يف الق�سم املكي{ :يا �أيها النا�س �أنتم الفقراء �إىل اهلل واهلل هو الغني احلميد} (فاطر{ ،)15 ،تلك الدار الآخرة جنعلها للذين ال يريدون علواً يف الأر�ض وال ف�ساداً والعاقب ًة للمتقني} (الق�ص�ص ،)83 ،فهنا الدين� .أما القتال فلي�س للدين بل �ضرورة لإقامة الدين �أوجبتها حالة البيئة. وت�أييد القر�آن هذه النظرة هو ت�أييد جازم متكرر ،فقال{ :ال �إكراه يف الدين قد تبينّ الر�شد الغي فمن يكفر بالطاغوت وي�ؤمن باهلل( }...البقرة� ،)256 ،أي �أن الق�صد من القتال من ّ لي�س الإكراه بل دفع الفتنة والعدوان .ولذلك قفى �آية فري�ضة القتال بهذه{ :ي�س�ألونك و�صد عن �سبيل اهلل وكفر به وامل�سجد احلرام عن ال�شهر احلرام قتال فيه قل قتال فيه كبري ٌ و�إخراج �أهله منه �أكرب عند اهلل والفتنة �أكرب من القتل وال يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم �إن ا�ستطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ف�أولئك حبطت �أعمالهم يف الدنيا والآخرة و�أولئك �أ�صحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة .)217 ،فهو يدل على مقدار ا�ستحكام العداوة حتى �ضاق حممد ذرعاً بكرثة ا�ضطهاد امل�شركني لدعوته و�أتباعه و�إمعانهم يف الفتنة ،فا�ستنزل هذه الآية ليجد خمرجاً لل�ضيق الذي وقع فيه �أتباعه .ولوال كرثة ظلم قري�ش ومقاومتهم الكلمة باال�ضطهاد ملا كان الوحي ا�ستوجب االلتجاء �إىل هذه املعاملة .فالآية مربوطة بحالة معينة يبقى حكمها فيها .وجاء يف �سورة «املمتحنة» التي ت�أتي بعد «البقرة» بثالث �س َور وهي الرابعة( ){ :ال ينهاكم اهلل عن الذين مل يقاتلوكم يف الدين ومل يخرجوكم من دياركم �أن ت ّربوهم وتق�سطوا �إليهم �إن اهلل يحب املق�سطني �إمنا ينهاكم اهلل عن الذين قاتلوكم يف الدين و�أخرجوكم من دياركم وظاهروا على �إخراجكم �أن تولوهم ومن يتو ّلهم ف�أولئك هم الظاملون} (املمتحنة .)9 - 8 ،ومعنى هاتني الآيتني �أن اهلل ال ينهى 1
172
�أنطون �سعادة
امل�ؤمنني عن م�ساواة الذين مل يقاتلوهم وينحازوا �إىل مقاتليهم فه�ؤالء ميكن حتى توليتهم وتقدميهم و�إن كانوا م�شركني (وثنيني) .وقد �أو�ضحت هاتان الآيتان املق�صود من املقاتلة والعداء فهما �ضد من «يقاتل يف الدين» ال غري. اقت�ضت العداوة املوجدة احلرب ال�سري بامل ّلة على قاعدة الع�صبية الدينية وجمع كلمة امل�ؤمنني يف نظام دولة ،فاهتمت الر�سالة ب�ش�ؤون احلرب وال�سلم وتوزيع الغنائم .وهذا الأمر الأخري كان من الأهمية مبحل خطري ،لأن طلب الغنائم كان من �أهم قواعد قيام الدولة يف بيئة فقرية جداً، واخلالف على ق�سمتها قد ي�ستفحل وي�ؤدي �إىل تفرق كلمة الأتباع ،كما اختلف امل�سلمون يف واقعة بدر على الغنائم كيف تق�سم ومن يق�سمها .فكان االهتمام بهذه الناحية �أول ما عر�ضت له �سورة «الأنفال» وهي الثانية من العهد املدين ،ويف هذه ال�سورة �شرع تخمي�س الغنائم .وكان من �ضرورات �إقامة الدولة �إيجاد مبد�أ الطاعة لل�سلطة العليا التي ال تقوم دولة �إال بها ،فجاء الأمر بالطاعة يف «الأنفال»{ :يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل ور�سوله وال تولوا عنه و�أنتم ت�سمعون} (الآية ،)20و�أي�ضاً{ :يا �أيها الذين �آمنوا ا�ستجيبوا هلل وللر�سول �إذا دعاكم ملا يحييكم( }...الآية ،)24وجاء النهي عن اخليانة{ :يا �أيها الذين �آمنوا ال تخونوا اهلل والر�سول وتخونوا �أماناتكم و�أنتم تعلمون} (الآية .)27 وتعود الر�سالة يف هذه ال�سورة �إىل �ش�أن القتال ،فت�ؤكد مرة �أخرى تخ�صي�صه بالكفار الذين ال ي�ؤمنون باهلل{ :قل للذين كفروا �أن ينتهوا ُيغفر لهم ما قد �سلف و�إن يعودوا فقد م�ضت ُ�س َّنة الأولني .وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل ف�إن انتهوا ف�إن اهلل مبا يعملون ب�صري} (الآيتان .)39 - 38 �أخرج النهج املدين الدويل الر�سالة املحمدية من م�أزقها ف�أخذ امل�ؤمنون ي�شعرون بوجود نظام ي�ؤمنهم على ح�ص�صهم من الأ�سالب والك�سب ،بعد �أن كان ذلك خا�ضعاً للأثرة والقوة، و�شرع يزيل معاثرهم ويحدد معامالتهم .ف�أخذت �شوكة الدولة تقوى باملغازي والغنائم ،وبقوة �شوكة الدولة �أخذ الدين يتحرر من اال�ضطهاد ،ثم �أخذت الدولة تعتز بدينها ونظرتها �إىل احلياة التي فتحت �أمامها طريق التقدم العملي .واحلقيقة �أن فاعلية الدولة كانت �أقوى من فاعلية الدين نف�سه ،بل �صارت �آيات الدولة عند العرب يف مقام الدين ومل يقدروا �أن يفهموه
املسيحية واحملمدية والقومية
173
�إال بها ،فاهتدت الر�سالة �إىل منهاجها العملي يف بيئتها ف�سارت عليه بخطوات �أكيدة .وبتقدمها مل يعد يجد الوحي حاجة للتودد �إىل «�أهل الكتاب» العرب والت�ساهل معهم ،ف�صارت لهجة �سلطة الدولة حتل رويداً رويداً حمل لهجة من ال �سند له غري عقيدته .فكرث التحري�ض على القتال وخرجت الر�سالة �إىل طلب �إعالء الإ�سالم املحمدي على الأديان جميعها{ :هو الذي �أر�سل ر�سوله بالهدى ودين احلق ليظهره على الدين كله ولو كره امل�شركون} (ال�صف، .)9وهذه الآية مكررة يف «الفتح» ويف «التوبة» .ولكن هذا القول مل يبطل �صحة الإ�سالم امل�سيحي والإ�سالم اليهودي ،كما ب ّينا يف احللقة ال�سابقة� ،إذ وردت بعد �سورتي «ال�صف» و«الفتح» �سورة «املائدة» التي �أثبتت وجوب اعتبار التوراة والإجنيل �صحيحني لأهلهما .ونظراً لورود هذه الآيات يف كتاب واحد فاالرتباط بينها وثيق وال ميكن اعتماد مبد�أ الن�سخ لإبطال الآيات املتعلقة ب�صحة التوراة والإجنيل ،ف�إن هذا املبد�أ ينقلب �ضد هذا اال�ستنتاج ويجعل حكم �آيتي «ال�صف» و«الفتح» من�سوخاً بحكم �آيات «املائدة» ،لأنها بعدهما� .أما �سورة «التوبة» فمختلف فيها ويرجح �إحلاقها ب�سورة «الأنفال» .وهذه ال�سورة عينها« ،التوبة» ،ت�ؤكد �صحة التوراة والإجنيل بالعودة �إىل اال�ستناد �إليهما مع القر�آن بقول الآية�{ :إن اهلل ا�شرتى من امل�ؤمنني �أنف�سهم و�أموالهم ب�أن لهم اجلنة يقاتلون يف �سبيل اهلل ف َيقتلون و ُيقتلون وعداً عليه حقاً يف التوراة والإجنيل والقر�آن ومن �أوفى بعهده من اهلل( }...الآية .)111وهو يثبت �أن ما �أعلنه اهلل يف التوراة والإجنيل ثابت عنده .وقد �أظهرنا يف حلقة �سابقة ف�ساد مبد�أ الن�سخ لأنه يع ّر�ض كالم اهلل كله والإميان كله لل�شك ،فال يعلم امل�ؤمن على وجه التحقيق ما هو ثابت من كالم اهلل وما هو غري ثابت .و�إذا كان اهلل يقول قو ًال غري �أكيد وال ثابت ،فلماذا يقوله؟ وملاذا قال�{ :أفت�ؤمنون ببع�ض الكتاب وتكفرون ببع�ض فما جزاء من يفعل ذلك منكم �إال خزي يف احلياة الدنيا ويوم القيامة يردون �إىل �أ�شد العذاب( }...البقرة.)85 ، احلقيقة يف هذه الأمور �أن �ضروريات قيام الدولة ونف�سية العرب هما غري الدعوة الدينية. والدولة قامت لإثبات الدين و�آياته ولي�س لنفيها وال لن�سخها .والقتال فر�ض �ضد الذين «يقاتلون يف الدين»� ،أما حيث ال قتال يف الدين {فال تعتدوا} .وهذا ن�ص وا�ضح ال جدال فيه ،ف�إذا كانت هذه الآيات باطلة لأنها من �سورة «البقرة» و�سورة «املمتحنة» ،فلماذا ال تكون
174
�أنطون �سعادة
هاتان ال�سورتان باطلتني فتحذفان ويحذف الق�سم املكي كله من القر�آن؟ وما هي حاجة امل�ؤمن �إىل وجود كالم باطل يف كتاب اهلل؟ و�إذا كان الإ�سالم املحمدي يجيز االميان ببع�ض القر�آن والكفر ببع�ضه ،فكيف يطا ِلب امل�سلمني املو�سويني �أو امل�سلمني امل�سيحيني بوجوب �إقامة التوراة �أو �إقامة الإجنيل كاملني؟ وجميع �آي الق�سم املدين ال تن�ص ن�صاً �صريحاً على �إبطال املذهب امل�سيحي يف �شيء منه ،بل بالعك�س تطلب احلكم بكتابه� .أما ما يتذرع به بع�ض املنافقني ليوهموا امل�سلمني املحمديني �أنه قد �أبطلت املحمدية امل�سيحية كقوله�{ :إن الدين عند اهلل الإ�سالم} (�آل عمران،)19 ، يبتغ غري الإ�سالم ديناً فلن يقبل منه وهو يف الآخرة من اخلا�سرين} (�آل وقوله{ :ومن ِ عمران ،)85 ،فهو على غري ما ي�ؤولونه لأغرا�ضهم .فالإ�سالم لي�س خمت�صاً باملحمديني ،بل يطلق على اليهود وامل�سيحيني كذلك ،لأنه ح�سب رواية القر�آن نف�سه ،ابتد�أ ب�إبراهيم ،وال ميكن ه�ؤالء املعوجني للإميان �أن يثبتوا �إدعاءهم الباطل �إال ب�إعالن الكفر ببع�ض القر�آن نف�سه، فليقولوا قو ًال �صريحاً �أي ق�سم من القر�آن يجب �أن يكفر به امل�ؤمنون وينبذوه َظهرياً نقل لهم ٍ حينئذ يف �أي �ضالل يعمهون. �أال �أن غر�ض احلياة الدنيا بغيتهم ،يرا�ؤون يف الدين ،والدين بعيد عن قلوبهم ،هو مينعهم من الفتنة وهم يطلبونها. قال يف القر�آن{ :كتب هلل لأغلنب �أنا ور�سلي �إن اهلل قوي عزيز} (املجادلة ،)21 ،وهي من �أواخر العهد املدين .ويقول املنافقون�« :إ ّنا قد حمونا ما كتب اهلل» عليهم لعنة اهلل والنا�س �أجمعني مبا يقولون على اهلل غري احلق. �إن القول« :الديانة الإ�سالمية ُو�ضع �أ�سا�سها على طلب الغلب وال�شوكة واالفتتاح والعزة، ورف�ض كل قانون يخالف �شريعتها ونبذ كل �سلطة ال يكون القائم بها �صاحب الوالية على تنفيذ �أحكامها»( ) هو قول ا�ستبدادي ال يعبرّ عن حقيقة الديانة الإ�سالمية بل عن ف�ساد ت�أويلها ببع�ض �آيها .وكذلك القول« :هل ن�سوا وعد اهلل لهم ب�أن يرثوا الأر�ض وهم العباد ال�صاحلون؟»( ) فهو باطل ،ف�إن اهلل وعد بني �إ�سرائيل بتمكينهم يف الأر�ض وذلك يف عهده 2
3
املسيحية واحملمدية والقومية
175
ام�ش يف الأر�ض طولها وعر�ضها لأين لك �أعطيها» (تكوين:13 ، لإبراهيم ويعقوب« :قم ِ { ،)17نتلو عليك من نب�أ مو�سى وفرعون باحلق لقوم ي�ؤمنون �إن فرعون عال يف الأر�ض وجعل �أهلها �شيعاً ي�ست�ضعف طائفة منهم يذبح �أبناءهم وي�ستحيــي ن�ساءهم �إنه كان من املف�سدين. منن على الذين ا�ست�ضعفوا يف الأر�ض وجنعلهم �أئمة وجنعلهم الوارثنيّ . ومنكن لهم ونريد �أن ّ يف الأر�ض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} (الق�ص�ص،)6 - 3 ، {ولقد كتبنا يف الزبور من بعد الذكر �أن الأر�ض يرثها عبادي ال�صاحلون} (الأنبياء،)105 ، وقال كذلك{ :وعد اهلل الذين �آمنوا منكم وعملوا ال�صاحلات لي�ستخلفنهم يف الأر�ض كما ا�ستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارت�ضى لهم وليبدل ّنهم من بعد خوفهم �أمناً يعبدونني ال ي�شركون بي �شيئاً ومن كفر بعد ذلك ف�أولئك هم الفا�سقون} (النور،)55 ، فب�أي وعد يجب التم�سك؟ ف�إذا كان الوعد الأخري هو للم�سلمني املحمديني فقط فما هي قيمة ما ورد يف التوراة ويف �سورة «الق�ص�ص»؟ هل وعد اهلل بني �إ�سرائيل بالباطل؟ ف�إذا كان الأمر هكذا �أفال يجب �أن يكون الوعد الأخري من نوع الوعد الأول ،لأن اهلل الذي يعد ويخلف مرة، يعد ويخلف مرة �أخرى .والذي نراه �أن هذا الوعد يتعلق ب�أر�ض اجلنة ،والدليل قوله{ :و�سيق الذين اتقوا ربهم �إىل اجلنة زمراً حتى �إذا جا�ؤوها وفتحت �أبوابها وقال لهم خزنتها �سالم عليكم طبتم فادخلوها خالدين .وقالوا احلمد هلل الذي �صدقنا وعده و�أورثنا الأر�ض نتبو�أ من اجلنة حيث ن�شاء فنعم �أجر العاملني} (الزمر .)74 - 73 ،فالأر�ض ،يف الق�سم الديني املنزه عن الأغرا�ض الدنيوية ،هي اجلنة ال غريها .و�أهل الدين ال�صحيح هم الذين يرثون اجلنة ال الأر�ض الدنيا لأن هذه لي�ست غر�ض الدين .و�أما قوله{ :و�أورثكم �أر�ضهم وديارهم و�أموالهم و�أر�ضاً مل تط�أوها وكان اهلل على كل �شي قديراً} (الأحزاب ،)27 ،فهو من �ش�ؤون الدولة واحلرب مع امل�شركني وهو �شبيه بخطط اليهود «يطرد الرب جميع ه�ؤالء ال�شعوب من �أمامكم فرتثون �شعوباً �أكرب و�أعظم منكم» (تثنية .)23 : 11 ،وها قد مرت �آالف ال�سنني على وعد اهلل لإبراهيم ويعقوب ومو�سى ،وها الألف الثاين يزول على وعد اهلل ملحمد ،ومل يتحقق من هذين الوعدين �سوى ما كان �ضرورياً لإقامة الدولة الدينية �ضمن نطاق بيئتها .واليهود ال يزالون يت�شبثون بوعد اهلل لهم بتمليكهم الأر�ض كلها ،والطامعون بالتملك با�سم الدين من امل�سلمني
176
�أنطون �سعادة
املحمديني يزدادون ت�شبثاً بوعد اهلل امل�ؤ َّول عندهم ليحر�ضوا امل�ؤمنني على ت�أييدهم يف طلب امللك و�إقامتهم يف احلكم .ولو �شاء اهلل �إيفاء وعده على ما ي�شتهي املت�شبثون لكان فعل منذ زمان يف �أول عهد االميان ال�صايف اململوء حمية ،يف زمن فتوة الدعوة ،حني كان االميان جديداً، قوياً حاراً .وهو �أجمله و�أف�ضله .واحلقيقة �أن اهلل قد ب ّر بوعده و�أعطى اليهود واملحمديني ما ق�سم لهم ،فنال الأولون نظاماً و�شرائع ومرتزقاً؛ ونال الآخرون نظاماً و�شرائع ومرتزقاً ون�صرة على عبدة الأ�صنام فورثوا �أر�ضهم وديارهم و ّمت الدين�{ :إذا جاء ن�صر اهلل والفتح ور�أيت النا�س يدخلون يف دين اهلل �أفواجاً ف�سبح بحمد ربك وا�ستغفره �إنه كان تواباً} (الن�صر .)3 - 1 ،فقد جاء الن�صر على �أهل ال�شرك ودخلوا يف دين اهلل وبادت عبادة الأ�صنام من ال ُعربة ،فتم العهد املدين و�أ�صبح من الالزم العودة �إىل �إقامة الدين بالت�سبيح واال�ستغفار التي كانت الأ�صل والغاية من الدعوة .فما جاء يف �سورة «النور» وهو قوله{ :وعد اهلل الذين �آمنوا منكم وعملوا ال�صاحلات لي�ستخلفنهم يف الأر�ض كما ا�ستخلف الذين من قبلهم ول ُيمكنن لهم دينهم الذي ارت�ضى لهم ول ُيبدلنهم من بعد خوفهم �أمناً يعبدونني وال ي�شركون بي �شيئاً ومن كفر بعد ذلك ف�أولئك هم الفا�سقون} (الآية )55قد ح�صل بتمامه ،فقد ا�ستخلف اهلل املحمديني يبق بعد ذلك غري عبادة اهلل واتقائه يف �أر�ض الوثنيني وورثوهم وجاء ن�صر اهلل والفتح ،ومل َ حق تقاته{ :اليوم �أكملت لكم دينكم و�أمتمت عليكم نعمتي ور�ضيت لكم الإ�سالم ديناً} (املائدة .)3 ،والذين يبغون وراء ذلك هم الذين يريدون �إخ�ضاع الدين ل�شهواتهم الدنيوية ويرف�ضون �أن يخ�ضعوا لأوامر الدين وتعاليمه العلوية.
اهلوامش - 1ح�سب الت�سل�سل الزمني للنزول ،ولي�س كما هو موجود يف امل�صحف. « - 2العروة الوثقى» �سنة ،1936ال�صفحة .77 - 3امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .149
املسيحية واحملمدية والقومية
177
الدين والدولة ر�أينا يف ما تقدم �أن الق�صد من �إقامة الدولة الإ�سالمية املحمدية هو �إقامة الدين الإلهي يف �أر�ض كان �أهلها ال يزالون يف �ضالل مبني عن اهلل وكلمته ،فالدولة �أن�شئت لغر�ض الدين ولي�س الدين هو الذي �أن�شيء لغر�ض الدولة .وهذه القاعدة هي �أ�سا�س كل فكرة دينية يف االجتماع وال�سيا�سة .وال ميكن �أن يكون العك�س �إال بهدم الفكرة الدينية الأ�سا�سية و�إبطال الدين ،فا�ستخدام الدين للدولة معناه �أن الدين وا�سطة ال غاية .والوا�سطة تزول� ،أما الغاية فتبقى .ف�إذا كان الدين وا�سطة فقد �أ�صبح زائ ًال بعد �إقامة الدولة� ،أو على الأقل �أ�صبح �آلة ثنوية ،و�إذا كان الأمر كذلك وجب �أن ننظر �إىل االجتماع ك�أ�سا�س ،وبنا ًء عليه ال يعود من املمكن االحتجاج بالآيات الدينية لت�سيري املجتمع ،لأن هذه الآيات تكون قد فقدت �صفتها الدينية .و�أقل نتيجة لهذه الطريقة التفكريية هي الق�ضاء على الدين .وملا كان ق�صد ر�سالة حممد الدين ولي�س ال�سيا�سة� ،أو فل�سفة االجتماع التي ترتقي بالعلوم االجتماعية ،فال بد من الت�سليم ب�أن الدولة هي الوا�سطة للدين الذي هو الغاية ،و�أن قيمتها ال ميكن �أن تكون، من الوجهة الدينية� ،أكرث من قيمة وا�سطة .وبنا ًء عليه تكون الدولة ال�شيء الثنوي القابل للزوال عندما ال تبقى حاجة �إليه �ش�أن كل �آلة �أو وا�سطة �أدت الغر�ض من وجودها .ويف متاحف العامل الآلية قاطرات بخارية ومراكب من كل �صنف قد �أدت خدمتها ومل تعد �صاحلة لال�ستخدام لوجود �آالت حديثة �أح�سن منها. وكذلك يف متاحف العامل االجتماعية دول كثرية معرو�ضة لدر�س تطور االجتماع الإن�ساين، ومل تعد ت�صلح لغري ذلك ،ومن جملتها الدولة الدينية التي �أدت غر�ضها من زمان و�أ�صبح يوجد
178
�أنطون �سعادة
�أح�سن منها الآن خلدمة املجتمع الإن�ساين فلم يبقَ حاجة �إليها لغري الدر�س ومعرفة التاريخ. الدولة الدينية املحمدية كان غر�ضها الو�صول �إىل �إبادة عبادة الأ�صنام يف ال ُعربة ،و�إقامة دين اهلل. وقد حققت هذا الغر�ض فبادت عبادة الأ�صنام ،ودخل النا�س يف دين اهلل �أفواجاً .والإ�سالم املحمدي هو اليوم دين يعتنقه ماليني النا�س ،وال خطر عليه من �صناديد قري�ش �أو غريهم. والإن�سانية ت�سري اليوم على غري طريق التطاحن الديني ،ومعظم النا�س وكل املتمدنني يحرتمون ويتعلمون احرتام عقائد بع�ضهم البع�ض املتعلقة بالنف�س واخللود واهلل .وامل�سلم املحمدي يقدر �أن ميار�س دينه يف �أي قطر نزل فيه و�إن يكن غري حممدي .ولوال ا�ضطهاد قري�ش النبي وال�صحابة ملا كان هنالك �سبب للهجرة �إىل املدينة وا�ستغالل ميل �أهلها �إىل مناف�سة قري�ش لإن�شاء دولة حممدية حتارب قري�شاً وتخ�ضعهم .فلما ث ّبتت الدولة الدين مت غر�ضها ،و�أ�صبح على النا�س االهتمام ب�ش�ؤون دينهم اجلوهرية التي هي عبادة اهلل وال�سري ح�سب و�صاياه ،فال قتال مع الذين ال يقاتلون امل�ؤمنني ،وال �إخراج ملن ال يريد �إخراجهم من ديارهم با�سم الدين �أو لغاية دينية: {وما اختلفتم فيه من �شيء فحكمه �إىل اهلل} (ال�شورى.)10 ، هذا ما يجب �أن يعلمه امل�سلمون املحمديون وامل�سلمون امل�سيحيون وامل�سلمون الدروز ،والدروز قد �أقفلوا باب الدعوة ليكون لكل �إن�سان ما اعتقد. بيد �أن رجال ال�سيا�سة ال�شخ�صية الذين ال يهمهم دين وال دنيا �إال ما �شاءت �أهوا�ؤهم، ورجال العلم القليل ،يقولون بالعك�س ،ويح ّرفون الكلم عن موا�ضعه وي�ؤولون الدين على ح�سب �أهوائهم .و�صاحبا مدر�سة الرجوع �إىل الدولة الدينية املحمدية وتالميذهما �أمثال ال�سيد �شكيب �أر�سالن ي�ؤولون الآية{ :وقاتلوهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل} (الأنفال )39 ،على هذه الوجهة ال�سيا�سية« :ومن الأوامر ال�شرعية �أن ال يدع امل�سلمون تنمية م ّلتهم حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله هلل» .وهذا االجتهاد باطل ،فالآية ال تقول: «�أن ال يدع امل�سلمون تنمية م ّلتهم» (بالقتال �ضمناً) بل �أوجبت مقاتلة{ :الذين يقاتلونكم} (البقرة )190 ،يف الدين ،وهذا ال�شرط هو �سابق جلميع �آيات القتال ،فهو �شرط لها كلها ،وما جاء بعد يجب فهمه بهذا ال�شرط ويف ظروفه .ولوال ذلك لأمكن القول �إن جميع املحمديني الذين عا�شوا منذ مئات ال�سنني ال يقاتلون جريانهم وال يكرهونهم على الإ�سالم املحمدي
املسيحية واحملمدية والقومية
179
هم كفار ،وبذلك انتفاء وجود امل ّلة املحمدية ،وهو قول باطل لكل متدبر للقر�آن ،غري �آخذ ببع�ضه دون بع�ض .وقد قال �صاحبا «العروة الوثقى» هذا القول الباطل بهذا ال�شكل« :كل اعتذار يف القعود عن ن�صرة اهلل فهو �آية النفاق وعالمة البعد عن اهلل» .فمن هو الذي يهاجم اهلل اليوم؟ {�إن اهلل ا�شرتى من امل�ؤمنني �أنف�سهم} (التوبة )111 ،لإقامة الدين والكتاب حيث ال دين وال كتاب .وفيما �سوى ذلك ف�إن اهلل« :غني عن العاملني ومن جاهد ف�إمنا يجاهد لنف�سه»� .أما قولهما« :فما لنا نرى الأجانب ي�صولون البالد الإ�سالمية �صولة بعد �صولة» فهو حمال ،لأن الأجانب مل يخت�صوا وال يخت�صون بالد املحمديني بال�صولة عليها ،بل ي�صولون على كل بالد �أمكنهم �إخ�ضاعها ،م�سيحية كانت �أو حممدية �أو بوذية �أو برهمانية �أو غري ذلك� .إنهم ال يقاتلون يف الدين. �إن ه�ؤالء الذين ال يتدبرون الدين ينق�ضون الدين بت�سخريه للدولة ،غري مهتمني �إال بالن�صو�ص الدولية التي وجدت لغر�ض معني قد ّمت .ثم يحتجون بالدين لإقامة �سف�سطتهم، فك�أنهم يريدون من الدين �أن يوافقهم على �إبطاله� ،أي �أن ينتحر ،بينما هم ّيدعون �أن يف قتل الدين �إحياء الدين! �إنهم ال يفت�أون يرددون مثل هذه الآية ترديد الببغاوات{ :ومن يبتغ غري الإ�سالم ديناً فلن ُيقبل منه} (�آل عمران ،)85 ،والآية�{ :إن الدين عند اهلل الإ�سالم} (�آل عمران ،)19 ،والآية{ :هو الذي �أر�سل ر�سوله بالهدى ودين احلق ليظهره على الدين كله} (التوبة .)33 ،وقد ر�أينا يف ما تقدم من هذه احللقات �أن الإ�سالم لي�س خمت�صاً باملحمديني، بل �شام ًال �أهل الكتاب من �أيام �إبراهيم .فاملو�سويون م�سلمون [هلل]( ) وامل�سيحيون م�سلمون هلل واملحمديون م�سلمون هلل� .أما قوله{ :هو الذي �أر�سل ر�سوله بالهدى ودين احلق ليظهره على الدين كله} فجواب على الذين قالوا �إنه ّ كذاب ،وتقوية لروح �أتباعه و�إن كان فيه متابعة لإجنيل برنابا الذي كان يف امل�سيحية �أ�شبه مب�سيلمة يف املحمدية ،فقال �إن ي�سوع لي�س امل�سيح، وو�ضعه من امل�سيح ،الذي �سي�أتي بعد ،على ر�أيه ،يف مقام يوحنا املعمدان من امل�سيح .وقال �إن امل�سيح الذي ي�أتي بعد ي�سوع يدعى مبا ي�صح �أن يرتجم مبحمد و�أنه يكون فوق جميع الر�سل .ويف كل حال ال ينق�ض هذا القول �إن اهلل �أنزل التوراة والإجنيل وقوله{ :قل يا �أهل الكتاب ل�ستم على �شيء حتى تقيموا التوراة والإجنيل وما �أنزل �إليكم من ربكم} 1
180
�أنطون �سعادة
(املائدة ،)68 ،وقوله�{ :إن الذين �آمنوا والذين هادوا وال�صابئون والن�صارى من �آمن باهلل واليوم الآخر (�أ�سلم) وعمل �صاحلاً فال خوف عليهم وال هم يحزنون} (املائدة ،)69 ،وقوله: {وال جتادلوا �أهل الكتاب �إال بالتي هي �أح�سن �إال الذين ظلموا منهم وقولوا �آمنا بالذي �أُنزل �إلينا و�أُنزل �إليكم و�إلهنا و�إلهكم واحد ونحن له م�سلمون} (العنكبوت .)46 ،وهذه الآية الأخرية هي من �أواخر العهد املكي� ،أي بعد نحو ثالث ع�شرة �سنة من اال�ستنزال ،وفيها ن�ص �صريح ب�أن الإ�سالم هو لإله واحد للمحمديني وامل�سيحيني ،فكل من �آمن به فهو م�سلم �سواء �أكان م�سيحياً �أو حممدياً� .أما �أن اهلل وعد ب�أنه يورث امل�ؤمنني الأر�ض فمخت�ص يف هذه الدنيا ب�أر�ض الوثنيني ،وفيما �سوى ذلك املق�صود به اجلنة بعد املوت{ :وقالوا احلمد هلل الذي �صدقنا وعده و�أورثنا الأر�ض نتبو�أ من اجلنة حيث ن�شاء} (الزمر ،)74 ،فالأر�ض هي �أر�ض اجلنة ،وت�أويل الوعد خالفاً لهذا الن�ص ال�صريح �إمنا هو خمالف لغر�ض الدين و�إبعاد للم�ؤمنني عن طلب ر�ضى اهلل ب�إقامة جوهر الدين الذي هو �شيء روحي مرتفع عن القتال ،وهو�س احلزبيات ّ املعكر على امل�ؤمنني �سكينتهم و�إ�سالمهم لربهم{ :لي�س ب�أمانيكم وال �أماين �أهل الكتاب ،من يعمل �سوءاً ُيجز به وال يجد له من دون اهلل ولياً وال ن�صرياً .ومن يعمل من ال�صاحلات من ذكر �أو �أنثى وهو م�ؤمن ف�أولئك يدخلون اجلنة وال يظلمون نقريا} (الن�ساء، .)124 - 123فدخول اجلنة ،يف التعليم الديني ،هو للذين اتقوا ربهم وعملوا ال�صاحلات، ولي�س للذين يطلبون قتال من ال يقاتلون يف الدين بنا ًء على ت�أويل فا�سد كالذي وجدناه يف «العروة الوثقى» ،وهو الذي يجعل الديانة الإ�سالمية ديانة فتنة وا�ضطهاد وحرب بالقول �إن �أ�سا�سها و�ضع على طلب الغلبة ومنازعة كل ذي �شوكة يف �شوكته ،وهو قول فا�سد ،باطل. فالديانة الإ�سالمية و�ضع �أ�سا�سها على عبادة اهلل واتقائه وا�ستباق اخلريات� .أما احلرب فقد ُفر�ضت لرفع اال�ضطهاد ودفع الفتنة ولي�س لإلقاء اال�ضطهاد و�إثارة الفتنة .هذا هو الت�أويل ال�صحيح لقوم يعقلون وال يريدون �إبطال الدين وت�ضحيته على مذبح ال�سيا�سة والدولة �أو تفكيك وحدة الدين التي ال تقوم ببع�ض �آيات دون بع�ض .ولكن �إذا كانت الدولة غايتهم الق�صوى ،فلماذا يرا�ؤون يف الدين ويتظاهرون بالرجوع �إىل الدين وكتاب اهلل؟ �إنهم ميوهون غاياتهم بادعاء �أنهم يريدون �إقامة دين اهلل� .أال �إن دين اهلل قائم واهلل يف غنى عن مقا�صدهم.
املسيحية واحملمدية والقومية
181
فبعد فتح مكة و�إبادة عبادة الأ�صنام �أ�صبح دين اهلل قائماً .وقد قلنا �إنه ال خالف ديني بني الإ�سالم امل�سيحي والإ�سالم املحمدي �إال يف �صفة ي�سوع و�صفة حممد ،فامل�سيحيون يعتقدون �أن ي�سوع هو املخل�ص و�أنه كلمة اهلل وروحه و�أنه اهلل املتج�سد يف الإن�سان ،ولذلك هو �أ�سمى من هبط من املحل الأرفع .واملحمديون يعتقدون �أن حممداً هو ر�سول اهلل املقدم على جميع الر�سل ومن �ضمنهم ي�سوع ،و�أن به اخلال�ص ،وهذا معنى قولهم {خامت النبيني} يعد م�صدراً (الأحزاب .)40 ،وهذا االعتقاد التقليدي جما ٍر ملا ورد يف �إجنيل برنابا الذي ّ لهذا االعتقاد ،فربنابا يقول �إن ي�سوع لي�س امل�سيح (م�سيا) و�إن هذا املوعود �سي�أتي فيما بعد .قال برنابا�« :أجاب ي�سوع :ال ت�ضطرب قلوبكم وال تخافوا لأين ل�ست �أنا الذي خلقكم بل اهلل الذي خلقكم يحميكم �أما من خ�صو�صي ف�إين قد �أتيت لأهييء الطريق لر�سول اهلل الذي �سي�أتي بخال�ص العامل ،ولكن احذروا �أن ُتغ�شوا لأنه �سي�أتي �أنبياء كذبة كثريون ي�أخذون كالمي وينج�سون �إجنيليٍ . حينئذ قال �أندراو�س :يا معلم اذكر لنا عالمة لنعرفه، �أجاب ي�سوع� :إنه ال ي�أتي يف زمنكم ،بل ي�أتي بعدكم بعدة �سنني حينما يبطل �إجنيلي وال يكاد يوجد ثالثون م�ؤمناً يف ذلك الوقت يرحم اهلل العامل فري�سل ر�سوله الذي ت�ستقر على ر�أ�سه غمامة بي�ضاء يعرفه �أحد خمتاري اهلل وهو �سيظهره للعامل» (برنابا .)14 - 8 :72 ،وجاء كذلك �أنه عندما خاطب ي�سوع ال�سامرية قال لها بعد �أن �س�ألته :لعلك �أنت م�سيا �أيها ال�سيد، �أجاب ي�سوع�« :إين حقاً �أر�سلت �إىل بيت �إ�سرائيل نبي خال�ص ،ولكن �سي�أتي بعدي م�سيا من اهلل لكل العامل الذي لأجله خلق اهلل العامل» (برنابا.)17- 15 :82 ، (مالحظة :عندما ذكرنا برنابا و�إجنيله لأول مرة يف هذا البحث مل تكن لدينا ن�سخة منه لنطالعها فاكتفينا بذكر ما ك ّنا قد الحظناه من قبل من قراءة ب�ضع �صفحات من �آخره� .أما الآن فقد �صارت ن�سخة الإجنيل املذكور بني �أيدينا فطالعناها ووجدنا فيها م�ستندات ومراجع كثرية تدل على ارتباط وثيق للتقاليد املحمدية بها ،و�سنعود �إىل تف�صيل ذلك يف حمله حني مراجعة هذا البحث لتنقيحه). بنا ًء على ما تقدم وعلى اال�ستناد �إىل رواية برنابا لإقامة اعتقادات حممدية كثرية ،يكون اخلالف منح�صراً يف هل ي�سوع هو امل�سيح الذي به اخلال�ص �أو هو حممد؟ وهذه ق�ضية
182
�أنطون �سعادة
يبت بها �إن�سان باحلجة واملنطق والرباهني ،فهي م�س�ألة اعتقاد ال م�س�ألة تقرير ال ميكن �أن ّ �أمر تاريخي ،واحلكم فيها يجب �أن يرتك هلل كما ورد يف القر�آن ،فهو وحده يقدر �أن ينبيء املختلفني ما هم فيه يختلفون .ولكن يظهر �أن تالمذة املدر�سة الرجعية ال يريدون �أن يرتكوا هلل �شيئاً حتى وال قوة احلكم .فهم يريدون �إبطال احل�شر لأنهم يريدون �أن يحا�سبوا امل�ؤمنني من م�سيحيني وحممديني على كيفية �إ�سالمهم .ومتى فعلوا ذلك فماذا يبقى هلل يوم الدينونة؟ وما الفائدة من ح�شر النفو�س؟ وما هي القيمة التي تبقى للآيات املنذرة للنا�س بعقاب اهلل؟ �إن دعوة �أ�ساتذة «اجلن�سية الدينية» �إىل �إعادة دولة الدين املحمدي قد باءت باخليبة ،كما باءت باخليبة دعوة الدين امل�سيحي .فقد دعا �صاحبا «العروة الوثقى» العلماء (علماء الدين) لفعل اخلري الذي هو يف عرفهما اخلري كله وهو« :جمع كلمة امل�سلمني» .وناديا ،يف مقالة «التع�صب»« :هذه هي روابطكم الدينية ال تغ ّرنكم الو�ساو�س وال ت�ستهوي ّنكم ال ّرتهات وال تده�ش ّنكم زخارف الباطل .ارفعوا غطاء الوهم عن با�صرة الفهم واعت�صموا بحبال الرابطة الدينية التي هي �أحكم رابطة اجتمع فيها الرتكي بالعربي والفار�سي بالهندي وامل�صري باملغربي»( )! فلم يكن وه ٌم �أعظم من وهم هذه الرابطة الدينية يف معرتك حياة الأمم ،ومل يكن غرو ٌر �أ�سو�أ م�صرياً من هذا الغرور .فهل اجتمع الرتكي بالعربي والفار�سي بالهندي وامل�صري باملغربي؟ كال .ذلك لأن الروابط اجلغرافية وال�ساللية واالجتماعية واالقت�صادية كانت �أقوى من الرابطة الدينية يف جميع الأديان على ال�سواء .وحني كانت اخلالفة العثمانية قائمة مل يكن للرابطة الدينية من غر�ض غري ت�سخري ال�شعوب الإ�سالمية الأخرى خلدمة م�صلحة تركية فقط .ولذلك انتف�ضت الأقطار العربية على تركية حمالفة �أمماً م�سيحي ًة �ضدها. ويف حني كانت الرابطة الدينية و�سيلة لب�سط النفوذ الرتكي كانت يف الوقت عينه عبئاً على ال�سلطة العثمانية التي رزحت حتته �إذ مل ت�ستطع �أن تك ّون من اجلماعات الإ�سالمية �شعوراً واحداً وفكراً واحداً يف امل�سائل ال�سيا�سية واالقت�صادية الإنرتنا�سيونية ،فكان ذلك برهاناً قاطعاً ّ يكذب قول �صاحبي «العروة الوثقى» وهو« :لهذا ترى العربي ال ينفر من �سلطة الرتكي، والفار�سي يقبل �سيادة العربي ،والهندي يذعن لرئا�سة الأفغاين». الرابطة الدينية لها قيمة فعلية يف ال�ش�ؤون الدينية البحتة فقط� ،أما يف �ش�ؤون احلياة االجتماعية 2
املسيحية واحملمدية والقومية
183
ـ االقت�صادية وتقدم الأمم ،فالرابطة القومية ،كما هي م�شروحة يف كتاب «ن�شوء الأمم» بقلم زعيم النه�ضة ال�سورية القومية ،هي الرابطة الوحيدة التي تكفل حرية الأمم وحقوقها ،وجتهزها بجميع و�سائل الفالح .وحيث تخيب الرابطة القومية ال ميكن �أن ت�صيب الرابطة الدينية، لأن الرابطة الدينية تهمل اجلغرافية والتاريخ وال�ساللة واالجتماع واالقت�صاد والنف�سية االجتماعية� ،أي جميع العوامل التي توجد الواقع االجتماعي وتتكفل بحفظه. حبط م�شروع اجلن�سية الدينية والوحدة الإ�سالمية املحمدية حبوطاً تاماً لأنه م�شروع خارج عن ال�ش�ؤون الدينية البحتة ،وداخل يف م�سائل ال ي�صلح الدين حللها لأنها لي�ست م�سائل دينية ،فلم ميكن التوفيق بني مطامح ال�سوري ومثله العليا ومطامح الرتكي ومثله العليا ،ومل ميكن توحيد عقليات اجلماعات الإ�سالمية من هندية وعربية وفار�سية وتركية وغريها ،وال توحيد �شعورها وحاجاتها وم�شاربها ،فكان ال بد من حبوط فكر الع�صبية الدينية والدولة الدينية .وال نقول �إن فكرة الدولة الدينية ال ميكن �أن تقوم يف الإ�سالم املحمدي فقط ،بل يف الإ�سالم امل�سيحي �أي�ضاً ويف كل دين على الإطالق. بعد حبوط دعوة مدر�سة الدولة الدينية واجلن�سية الدينية �إىل «جمع كلمة امل�سلمني» وتوحيد ال�سوريني والأتراك وامل�صريني والفر�س والأفغانيني واملغربيني والهنود �إلخ ،ر�أى �أتباع هذه املدر�سة �أن يلج�أوا �إىل مبد�أ البدل �أو التعوي�ض ،فقرروا املناداة بجامعة حممدية �أقل ات�ساعاً من مدى الفكرة الأوىل .فنادوا بالعروبة على �أ�سا�س املحمدية متخذين من العن�صر اللغوي دعامة جديدة لفكرتهم الأوىل الدينية املعدلة بعد اخليبة .وهذا التعوي�ض باجلامعة الدينية اللغوية عن اجلامعة الدينية البحتة مل يكن الق�صد منه التخلي عن الفكرة الأوىل بالكلية، بل الق�صد منه االقتناع بالأقل ال�ستحالة الأكرث .ويف بع�ض جمادالت �أ�صحاب هذه املدر�سة ال يندر �أن جتد هذا التعبري «وطن امل�سلمني (املحمديني) القر�آن» .وهم يجدون يف «العروبة» بد ًال ظاهرياً ال يبعد عن الفكرة الأ�سا�سية ،بل �صاحلاً كل ال�صالح لها� ،إذ مل يكن للعرب �ش�أن تاريخي �إال بوا�سطة الدين ،ومل تنت�شر اللغة العربية �إال بالدين .فالعروبة عندهم ال تعني �شيئاً غري احلركة الدينية التي قام بها حممد .ولذلك ال تخلو كتاباتهم وخطاباتهم من �إيراد الإ�سالم (املحمدي) مقروناً بلفظة العروبة �أو العرب �إال يف ما ندر .ومع ذلك ف�أكرثهم يحاولون
184
�أنطون �سعادة
�أن يكونوا دبلوما�سيني ماهرين فيقولون �إن العروبة ال تعني املحمدية و�إنه ال دخل للدين فيها، �أي �أنها دعوة ميكن �أن ت�شرتك فيها الأقطار العربية بكل جماعاتها الدينية بدون متييز بني دين ودين ،ظانني �أن مثل هذا الكالم الب�سيط يكفي خلدع اجلماعات غري املحمدية .فهم يجهلون �أن مثل هذه احليلة ال يجوز على املحقق يف العلوم االجتماعية وال�سيا�سية ،و�إن جاز على بع�ض الب�سطاء� .إن احتاد �أقطار ال رابطة بينها يف اجلغرافية �أو االجتماع �أو االقت�صاد �أو النف�سية ،وال �صلة لها بع�ضها ببع�ض �إال �صلة الدين املدعومة ب�شيوع اللغة ،ال ميكن �أن يكون له غر�ض �آخر غري غر�ض الدين .و�إن اجلماعات القليلة التي تنتمي �إىل �أديان �أخرى ال ميكن �أن يكون لها �أي �ش�أن �أو حقوق يف دولة دينية لي�ست من دينها ،خ�صو�صاً و�أ�صحاب نظرية هذه الدولة الدينية يجاهرون �أن الغر�ض من دولتهم الدينية هو التغلب على �أهل الأديان الأخرى «منازعة كل ذي �شوكة يف �شوكته»« ،و�إن الديانة الإ�سالمية ُو�ضع �أ�سا�سها على طلب الغلب وال�شوكة واالفتتاح». وملا مل تكن الدعوة «العروبية» غري بدل من الدعوة �إىل الدولة الدينية املحمدية ،مل تتمكن من تعيني �أ�صول ثابتة لفكرتها املوهومة .لذلك ترى �أ�صحاب هذه الدعوة يلج�أون �إىل التعديل والبدل عند كل �صعوبة ت�صطدم بها دعوتهم ،فهم تارة يطلقون القول على جميع ال�شعوب املتكلمة العربية ،وطوراً يح�صرونه يف منطقة وهمية �أ�صغر ،فيقولون بت�شكيل دولة واحدة من �سورية وم�صر والعراق وال ُعربة� ،أي ب�إخراج القريوان وطرابل�س الغرب وتون�س واجلزائر ومراك�ش .ثم ي�صغّرون هذه املنطقة عند اال�ضطرار فيجعلونها مقت�صرة على �سورية والعراق وال ُعربة .هذا يجري «للعروبيني» يف �سورية� .أما يف الأقطار الأخرى امل�ستقلة فقد حتولت «العروبة» �إىل لفظة يق�صد بها الدعاوة للدولة القائمة والتغرير بال�سوريني وغريهم .ففي م�صر ،مث ًال ،العروبة على �أنواع .فمنها العروبة امل�صرية االقت�صادية التي تق�صد �إدخال �سورية والعراق وغريهما حتت �سلطة الر�أ�سمال امل�صري بوا�سطة امل�صارف وغريها من ال�شركات، ومنها العروبة امل�صرية ال�سيا�سية وغر�ضها �إيجاد خالفة حممدية يف م�صر ت�ضم �إليها ما �أمكن من الأقطار املجاورة .وقد ذ ّر قرن هذه العروبة بطلب �إحلاق فل�سطني مب�صر وتفكيك الوحدة ال�سورية .ونكتفي بهذين املثلني اللذين ميكن اتخاذهما قيا�ساً للعروبات يف الأقطار الأخرى.
املسيحية واحملمدية والقومية
185
وهذه احلقيقة تو�ضح مقدار الت�صادم بني اجلن�سية االجتماعية �أو الع�صبية القومية واجلن�سية الدينية ،ففي م�صر توجد دولة حممدية ويف ال ُعربة توجد دولة حممدية وكذلك يف العراق. وال يوجد بني هذه الدول خالف على الر�سول وال على القر�آن ،ومع ذلك ف�إن الدين مل ي�ستطع توحيد هذه الدول ،وال�سبب هو العوامل اجلغرافية وال�ساللية والتاريخية واالقت�صادية وال�سيا�سية والنف�سية وغريها .وهذه العوامل هي التي لها الغلب على الدين يف ال�ش�ؤون الدولية لأن الدولة �شيء اجتماعي ـ اقت�صادي ـ �سيا�سي قبل كل �شيء. العروبة لي�ست �سوى حلم دولة دينية حممدية حمدودة بد ًال من الدولة الدينية املحمدية املطلقة التي حلم بها �أ�صحاب مدر�سة الرجعة .وهذه العروبة الدينية التي تزيد ال�شقاق والتناف�س بني الأقطار العربية ،ومتنع التفكري القومي من النمو وفتح الآفاق للأمم العربية الل�سان هي نكبة �أو لعنة جلميع الأقطار العربية على ال�سواء ،كما �أنها تغرير بامل�سلمني املحمديني لي�سيئوا َفهم دينهم وي�ضحوا روحية الدين يف �سبيل �أغرا�ض دولة دينية ،ال حمل لها �إال يف الأقوام غري املتمدنة التي ال تقوم لها قائمة بغري الدين النعدام �أ�سباب العمران عندها.
اهلوامش - 1كلمة [هلل] �أ�ضيفت اىل الن�ص من قبل حمرري جمموعة «الأعمال الكاملة» متا�شياً مع ما ي�أتي يف �سياق اجلملة ،علماً ب�أن �سعادة مل ي�شر بت�صحيحها ال يف «�سورية اجلديدة» وال يف ر�سائله �آنذاك .ونحن نعتقد �أن �سعادة ق�صد العبارة كما هي لأنه يرى �أن اليهود مل «ي�سلموا» هلل كما امل�سيحيني واملحمديني ،و�إمنا «�أ�سلموا» اىل يهوه الذي يختلف عن اهلل من حيث �أنه «رب بني �إ�سرائيل» ولي�س «رب العاملني» .ويف ف�صول «جنون اخللود» الأخرى �إي�ضاحات �أكرث لهذه النقطة. « - 2العروة الوثقى» �سنة ،1936ال�صفحة .112
186
�أنطون �سعادة
العروبة الزائفة والعروبة الصحيحة �أظهرنا يف احللقة ال�سابقة بطالن حجة �أ�صحاب فكرة اجلن�سية الدينية والدولة الدينية املحمدية الذين حاولوا ت�أويل القر�آن على هواهم وتف�سري الدين مبا ينطبق على �أغرا�ضهم ،وقلنا �إن اجتهادهم امل�ستند �إىل بع�ض �آي القر�آن دون بع�ض هو اجتهاد باطل ،لأنه يلغي فكرة وحدة الكتاب ووحدة الدين ،ويجري �ضد غاية الدين الأ�صلية ،ويحاول التغرير بامل�ؤمنني حتى تختلط عليهم �أغرا�ض الدين و�أغرا�ض الدولة فال مييزوا بني تلك وهذه ،وهو غاية ال�ضالل. وقد جئنا ب�شواهد كثرية من القر�آن على ف�ساد ت�أويل �صاحبي «العروة الوثقى» لغر�ض الدين وعلى �أن «تنمية امل ّلة» كان �أمراً �ضرورياً وفر�ضاً على امل�ؤمنني لتثبيت دينهم يف �أر�ض ال�شرك (الوثنية) ،ولإزالة �أخطار الوثنيني عليه .و�أثبتنا �أن فر�ض القتال كان للتغلب على الذين يقاتلون امل�ؤمنني يف الدين .ونزيد هنا على ما �أثبتناه �أنه ال يجوز االحتجاج ب�آية{ :قاتلوا الذين ال ي�ؤمنون باهلل وال باليوم الآخر وال يح ّرمون ما ح ّرم اهلل ور�سوله وال يدينون دين احلق من الذين �أوتوا الكتاب حتى يعطوا اجلزية عن يد وهم �صاغرون} (التوبة ،)29 ،فهذه الآية وردت �إ ّبان التحري�ض على قتال امل�شركني والذين ظاهروهم من �أهل الكتاب على قتال �أتباع حممد وا�ضطهاد دعوته .فهي من ق�سم نق�ض العهد مع امل�شركني من �سورة «الأنفال» التي فيها ن�ص �صريح بالتحري�ض على القتال .والآية ظرفية بحتة ومتعلقة باحلرب بني حممد و�أعداء دعوته يف ال ُعربة .وتخ�صي�ص �أهل الكتاب بدفع اجلزية بد ًال من وجوب تغيري �صالتهم ومعتقدهم هو برهان قاطع على �أن احلرب بني املحمديني وبينهم مل تكن على �أ�سا�س ف�ساد دينهم واعتقادهم باهلل� ،إذ �أن القر�آن جاء {م�صدقاً ملا معهم} (البقرة ،)91 ،بل على �أ�سا�س
املسيحية واحملمدية والقومية
187
تكذيبهم ملحمد ومعاونة امل�شركني عليه ،وهو خمت�ص بالعرب من �أهل الكتاب الذين جعلوا ثالثة �آلهة يف حمل اهلل الواحد وقالوا ب�ألوهية مرمي ،وف�سروا امل�سيحية على ما ال ينطبق على تعاليمها ،فحكم الآية املذكورة مقيد بظرف الزمان وظرف املكان .والربهان على ذلك هو وجود �آيات كثرية مك ّية ومدنية ال جتيز �إطالقها ك�آية�{ :أف�أنت تكره النا�س حتى يكونوا م�ؤمنني} (يون�س ،)99 ،و�آية {وقولوا �آم ّنا بالذي �أنزل �إلينا و�أنزل �إليكم و�إلهنا و�إلهكم واحد ونحن له م�سلمون} (العنكبوت ،)46 ،و�آية{ :ال �إكراه يف الدين قد تبني الر�شد من ين �أهل الكتاب} (الن�ساء،)123 ، الغي} (البقرة ،)256 ،و�آية{ :لي�س ب�أمانيكم وال �أما ّ ّ و�آية{ :اهلل يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون} (احلج ،)69 ،وغريها كثري ي�ضيق عنه هذا املجال .وانظر الفرق بني �آية قبول اجلزية من الذين{ :ال يدينون دين احلق من الذين �أوتوا الكتاب} (التوبة ،)29 ،واملق�صود بع�ض �أهل الكتاب ولي�س كلهم ،و�آية قتال امل�شركني حتى يتوبوا وي�ؤمنوا وهي من ال�سورة عينها قال{ :ف�إذا ان�سلخ الأ�شهر احلرم فاقتلوا امل�شركني حيث وجدمتوهم وخذوهم واح�صروهم واقعدوا لهم كل مر�صد ف�إن تابوا و�أقاموا ال�صالة و�آتوا الزكاة فخلوا �سبيلهم �إن اهلل غفور رحيم} (التوبة .)5 ،فمحاربة{ :الذين ال يدينون دين احلق من الذين �أوتوا الكتاب} ال تتناول جميع �أهل الكتاب ،بل تقت�صر على الذين �أ�سا�ؤوا فهم دينهم من العرب الذين و�صفنا �أمرهم و�صفاً م�ؤيداً ب�شواهد .وتخ�صي�ص الذين {ال يدينون دين احلق} يعني �أنه يوجد من يدينون هذا الدين مبوجب كتابهم� .أما ت�أويل املعنى على غري هذا الوجه فاجتهاد بعيد جداً ،والعمل باالجتهاد غري واجب ،لأن املجتهد يقول مبا ي�صل �إليه �إدراكه وق�صده ،فكالمه ر�أي �شخ�صي ال يلزم الن�ص �إذ هو يف غري مقام النبوة والوحي .وامل�صيبة كانت دائماً يف الذين يريدون �أن يجعلوا اجتهادهم يف مقام الوحي والنبوة ،ويطلبون من امل�ؤمنني ترك الن�ص والتعويل على اجتهادهم. �إن �أ�صحاب فكرة اجلن�سية الدينية والدولة الدينية من املجتهدين يف تف�سري القر�آن وت�أويله، وهم �أ�صحاب غاية ال�سلطان واملطامع يف احلكم عن طريق الدين ،مل يحاولوا التفكري يف ما هو �أبعد من الطفرة الوقتية وال يف طبائع الدول واملجتمعات الإن�سانية .و�أغرب من ذلك �أنهم مل يهتموا بدر�س ن�ش�أة دولة الدين املحمدي وتال�شيها ،وال بدر�س ن�ش�أة دولة الدين
188
�أنطون �سعادة
امل�سيحي وانقرا�ضها .ولذلك يعزون تفكك وحدة الدولة الدينية املحمدية �إىل «تخالف طالب امللك وتنازع الأمراء» ،فقد قال �صاحبا «العروة الوثقى» ،وهما �أ�ستاذا هذه املدر�سة الفكرية «الع�صرية» يف مقالة «الوحدة الإ�سالمية»: «نعم يوجد للتق�صري يف �إمناء العلوم ولل�ضعف يف القوة �أ�سباب �أعظمها تخالف طالب امللك فيهم (املحمديني) ،لأ ّنا ب ّينا �أن ال جن�سية للم�سلمني �إال يف دينهم فتعدد امللكة عليهم كتعدد الر�ؤ�ساء يف قبيلة واحدة وال�سالطني يف جن�س واحد ،مع تباين الأغرا�ض وتعار�ض الغايات، ف�شغلوا �أفكار الكافة مبظاهرة كل خ�صم على خ�صمه ،و�ألهوا العامة بتهيئة و�سائل املغالبة وقهر بع�ضهم لبع�ض .ف�أدت هذه املغالبات وهي �أ�شبه �شيء باملنازعات الداخلية �إىل الذهول عما نالوا من العلوم وال�صنائع ،ف�ض ًال عن التق�صري يف طلب ما مل ينالوا منها واالنح�سار دون الرتقي يف عواليها .ون�ش�أ من هذا ما نراه من الفاقة واالحتياج ،وعقبه ال�ضعف يف القوة واخللل يف النظام ،وجلب تنازع الأمراء على امل�سلمني تف ّرق الكلمة وان�شقاق الع�صا»( ). ثم ت�أتي فقرة �أخرى من املقالة عينها يف جملة «العروة الوثقى» وهذا ن�صها: «�إن رعاة امل�سلمني ،ف�ض ًال عمن عالهم ،تت�صاعد زفراتهم وتفي�ض �أعينهم من الدمع حزناً وبكا ًء على ما �أ�صاب م ّلتهم من تفرق الآراء وت�ضارب الأهواء ،ولوال وجود الغواة من الأمراء ذوي املطامع يف ال�سلطة بينهم الجتمع �شرقيهم بغربيهم و�شماليهم بجنوبيهم ول ّبى جميعهم ندا ًء واحداً»( ). �أول ما يظهر التحقيق العلمي بعده عن حقائق العلم ال�صحيح ،من كالم «العروة الوثقى» املثبت قبل هذه الفقرة ،هو عزو انفراط وحدة الدولة الدينية املحمدية �إىل «تخالف طالب امللك» يف املحمديني .ف�صاحب هذا الكالم ال يعرف من �أ�سباب االجتماع الإن�ساين وروابطه غري �سبب الدين الإلهي ورابطته ،مع �أن االجتماع الزم الب�شرية منذ �أقدم �أزمنة وجودها ،ومع �أن التاريخ يخربنا عن دولة عظيمة �أقامت النظام وفتحت الفتوحات البعيدة قبل عهد الكتب املنزلة والتب�شري بالإله ال�سماوي الواحد ،كما جرى للدول ال�سورية منذ العهد الفينيقي �إىل �آخر العهد ال�سلوقي .واالمرباطورية ال�سورية ال�شرقية التي ابتد�أت 1
2
املسيحية واحملمدية والقومية
189
ب�صور ،بعد �صيدا ،وانتهت بنهاية الدولة ال�سلوقية ،واالمرباطورية ال�سورية الغربية ،وقاعدتها قرطا�ضة ،قد عمرتا �أكرث من �أية دولة �أو �إمرباطورية دينية ،وكانت لكل منهما وحدة ورابطة مل تنل مثلهما الدول الدينية .فتخالف طالب امللك وتنازع الأمراء قد يكونان ال�سبب الأعظم لف�شل دولة من الدول االجتماعية وتخاذلها ،ولكنهما لي�سا ال�سبب الأعظم وال الها ّم يف تال�شي الدولة الدينية ،لأن طبيعة االجتماع الإن�ساين غري طبيعة الدين والإميان .فامل�ؤمنون من كل دين �أخوة باملعنى الروحي فقط� ،أما باملعنى االجتماعي ـ االقت�صادي فالأخوة هم فقط �أبناء املجتمع الواحد الذين �أ ّلفت بينهم البيئة وجمعتهم �أ�سباب العي�ش ومطالب احلياة ال �أ�سباب ال�سماء ومطالب الإميان. الدولة الدينية املحمدية ن�ش�أت ون�ش�أ االختالف بني الأمراء معها يف �أ�صولها ،فاختالف ال�صحابة وتنازعهم الأمر وحروبهم مل تكن على ن�ص ديني وال على غاية دينية ،بل على ال�سلطة والنفوذ ،فطبيعة حياتهم العربية وتقاليد العرب وقبائلهم وعاداتهم ومطالبهم هي �سبب هذه املنازعات بني ال�صحابة التي امتدت �إىل كل مكان دخله العن�صر العربي .وهذه املنازعات مل تكن منازعات يف الدولة املحمدية ،بل يف البيئة واملجاميع العربية ،فال ي�صح �إطالقها على جميع املنازعات التي �أدت �إىل تفكك دولة الدين املحمدي .ف�إن �أ�سباب هذه املنازعات الأخرية التي تفككت من جرائها وحدة الدولة الدينية املحمدية هي عينها �أ�سباب املنازعات التي انتهت بتفكك وحدة الدولة الدينية امل�سيحية� ،أي الأ�سباب القومية. فالقومية قد انت�صرت على الدولة الدينية .فلم يطق ال�سوري اخل�ضوع لدولة فار�سية با�سم الدين وال لآية دولة دينية غري �سورية ،ومل يطق الفر�س اخل�ضوع للعرب ،ومل تطق �سورية وغريها من الأقطار العربية اخل�ضوع لرتكية .فاختالف الأجنا�س والعقليات والبيئات ال ميكن �أن يزول بوحدة الدين �أو بوحدة ال�شرع ،لأنه من طبيعة الواقع االجتماعي .وجهل هذه القاعدة االجتماعية هو الذي جعل �صاحبي «العروة الوثقى» يقوالن �إن ال�سبب الأعظم لتف ّرق كلمة املحمديني هو «تخالف طالب امللك وتنازع الأمراء» و�إنه« :ال جن�سية للم�سلمني (املحمديني) �إال يف دينهم» .وكالمهما يدل على جهل بن�ش�أة الدولة الدينية املحمدية ونهايتها .فهل كان اخلالف اجلن�سي العظيم بني ال�شعوبيني والعروبيني جمرد تنازع �أمراء
190
�أنطون �سعادة
وتخالف طالب امللك؟ �أيظن �أ�صحاب فكرة اجلن�سية الدينية املحمدية �أنه لو عم الدين املحمدي العامل لأمكن �إن�شاء دولة واحدة ت�ضم الإن�سانية كلها؟ �إنهم يظنون هذا الظن وينادون بوجوب الدعوة �إىل هذا الوهم ،غري معتربين بعلم وال بتاريخ .فاختالف �أمزجة ال�شعوب وطبائعها وتباين مراميها وتعار�ض غاياتها لي�س من�ش�ؤه «وجود الغواة من الأمراء ذوي املطامع يف ال�سلطة» ،بل اختالف الأقاليم والأجنا�س والبيئات وتباين املطالب العمومية ،وتعار�ض الغايات ال�شعوبية وتنائي الأقطار .ولذلك ال ميكن التفكري ب�ضم �أبناء دين واحد منت�شر يف الأ�صقاع يف دولة واحدة �إال على �أ�سا�س اجلهل والغرور .وقد يحتج ب�أن املحمديني ينق�صهم ازدياد املعارف والفنون ليتحدوا يف دولة واحدة .واحلقيقة �أن هذا ينق�صهم ليعلموا بطالن هذه الفكرة .فال�شعوب امل�سيحية التي بلغت ذروة التمدن و�أق�صى العلم مل يكن احتادها يف دولة واحدة مع �أن امل�سيحيني يعدون �أنف�سهم �إخوة يف الدين ،وتعاليم دينهم �أو�صتهم بالأخ ّوة ،ذلك لأن �أخ ّوة الدين ال ميكنها �أن حتل حمل الأخ ّوة القومية واحلاجات واملطالب ال�شعوبية .ولذلك خابت الدولة الدينية العامة املطلقة يف جميع الأديان على ال�سواء .وكل دعوة لإعادة هذه الدولة هي تغرير و�شعوذة .وااللتجاء �إىل مبد�أ البدل لإقامة دولة دينية حمدودة بد ًال من الدولة الدينية العامة هو �شعوذة �أخرى ،لأن هذا البدل هو دليل على ف�ساد الفكرة الأ�سا�سية ،التي هي فكرة ت�أ�سي�س الدولة على الدين ،وا�ستحالة حتقيقها .فلو كانت الفكرة �صحيحة للزم عدم انهيار الدولة الدينية بعد ت�أ�سي�سها وعدم االقت�صار على بع�ض �أهل الدين دون بع�ض. وقد �أو�ضحنا يف احللقة ال�سابقة ف�ساد ق�ضية الدعوة �إىل �إن�شاء دولة دينية حمدودة ،بد ًال من �إن�شاء دولة دينية عامة .ف�أثبتنا عدم وجود وعدم �إمكان تعيني �أ�صول ثابتة لفكرة الدولة العربية التي يتخيل الداعون الأ�سا�سيون لها �إمكان جمع جميع الأمم املتكلمة العربية والدائنة باملحمدية حتت لوائها .وب ّينا عدم ا�ستقرار هذه الدعوة على فكرة وا�ضحة واملجال الوا�سع للت�أويل فيها .فبما �أنها لي�ست �سوى بدل من عقيدة فا�سدة مل ت�صلح لتكون عقيدة يف ذاتها ولذلك مل يتمكن �أ�صحابها من توليد حركة واحدة عامة يف جميع الأقطار الداخلة �ضمن نطاق عامل اللغة العربية والدين املحمدي.
املسيحية واحملمدية والقومية
191
العروبة التي تهمل املباديء اجلغرافية واالقليمية وال�ساللية والتاريخية واالجتماعية واالقت�صادية والنف�سية االجتماعية� ،أي جميع العوامل التي توجد الواقع االجتماعي وتتكفل بحفظه وال ت�ستند �إال �إىل الدين و�إىل اللغة مبقدار هي عروبة زائفة ال نتيجة لها غري عرقلة �سري املباديء القومية ال�صحيحة يف �سورية والأقطار العربية عامة ،و�إعطاء الدول الأجنبية كل فر�صة للت�سلط على �أمم العامل العربي ،والتغرير بها و�إذاللها ،هي عروبة زائفة لأنها ال ترمي �إىل نهو�ض �أمم العامل العربي ،بل �إىل �إيقاد نار الفتنة الدينية واحلرب الداخلية يف كل �أمة م�ؤلفة من �أكرث من م ّلة املحمديني. �إن �أ�صحاب هذه العروبة هم �أعداء العرب احلقيقيون لأنهم �أعداء ن�شوء القومية ال�صحيحة يف كل �أمة من �أمم العامل العربي ،و�أعداء نهو�ض كل من هذه الأمم كرجل واحد لنيل �سيادتها وحقوقها ،واالرتقاء نحو مطالبها العليا املكونة من ن�سيج �شعورها و�آمالها ومطاحمها و�أ�شواقها الأ�صيلة يف نف�س كل �أمة ومزاجها .وهم يتوهمون ،جلهلهم الفنون والعلوم ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية والنف�سية� ،أن الأكرثية امل ّلية تغني عن الواقع االجتماعي وعن الوحدة القومية املطلقة التامة. �إن ه�ؤالء «العروبيني» قد زيفوا القومية وو�ضعوها يف ال�سوق للتداول ،عو�ضاً عن القومية احلقيقية التي هي �شعور كل �أمة ب�شخ�صيتها ونف�سيتها وحقوقها ومطالبها .وكما يلتب�س على غري اخلرباء بالعملة والطباعة املالية �أمر العملة الزائفة ،كذلك يلتب�س على غري اخلرباء بالعلوم االجتماعية وال�سيا�سية وغري املمار�سني للقومية ال�صحيحة �أمر القومية الزائفة ،فهم قد جعلوا العروبة يف مقام الرابطة الدينية ،ثم طلوها �أو ر�سموها بر�سوم القومية زيادة يف التمويه والت�ضليل. قلنا �إن القومية هي ال�شعور ب�شخ�صية الأمة وحقوقها ومثلها العليا ،وهي يف احلقيقة �شخ�صية املجتمع ونف�سيته فال تطلق �إال على املجتمع املك ّون �شخ�صية فيزيائية ونف�سية واحدة .وملا مل يكن العامل العربي قطراً واحداً وبيئ ًة واحدة و�ساللة واحدة وجمتمعاً واحداً فال ميكن �أن تكون له �شخ�صية فيزيائية ونف�سية واحدة ،ومن ثم ال ميكن �أن تكون له قومية واحدة ومطالب واحدة ونظرة واحدة �إىل احلياة والفن.
192
�أنطون �سعادة
العامل العربي م�ؤلف من �أقطار متباعدة ،و�أق�سام كبرية منه تتخللها �أو ت�ؤلفها ال�صحارى القاحلة غري ال�صاحلة للعمران .و�إذا كانت قد دخلت هذه الأقطار ن�سبة دموية عربية قليلة، فو�ضعها اجلغرايف ومعدل كثافة �سكانها و�إمكانياتها االقت�صادية مل ت�ؤهل هذه الأقطار لإن�شاء جمتمع واحد مرتابط بدورة دموية واجتماعية ـ اقت�صادية منتظمة .فلم تن�ش�أ فيها نف�سية متمدنة واحدة وال نظرة �إىل احلياة واحدة ،فهي لي�ست بيئة واحدة ،و�سكانها ال ي�ؤلفون �أمة واحدة ،وت�سمية �شعوب العامل العربي �أمة هي من باب �إطالق الأ�سماء على خالف مدلوالتها ومعانيها. العامل العربي بيئات متباينة وجمتمعات متباعدة ،وحاجات كل جمتمع ومطالبه العليا ونظرته �إىل احلياة والكون تختلف عن حاجات الآخر ومطالب كل منها ونظرته �إىل احلياة والكون .وبنا ًء عليه يكون العامل العربي �أمماً ال �أمة .وهذه الأمم لها �صالت لغوية ودينية بع�ضها ببع�ض توجب عليها �سلوك خطة التقارب والتفاهم ما �أمكن ،والتعاون على ن�سبة اال�شرتاك يف بع�ض ال�ش�ؤون ال�سيا�سية �أو الثقافية �أو االقت�صادية التي ميكن �أن توجد يف ما بينها .والطريق الوحيدة حل�صول هذا التقارب وهذا التفاهم وهذا التعاون هو �أن تنه�ض كل �أمة بنف�سها وتفهم و�ضعها وحاجاتها ومثلها العليا ويتمرن �أفرادها على ممار�سة احلقوق املدنية وال�سيا�سية ،فت�صبح قادرة على �إدراك ما ميكنها �أن ت�شرتك فيه مع �أمم العامل العربي ويتفق مع حاجاتها ورغباتها ،وما هو الن�صيب الذي تقدر على القيام به وما ال ميكنها اال�شرتاك فيه وال يتفق مع حاجاتها ورغباتها .وهذه هي العروبة ال�صحيحة التي جتمع بني املحافظة على �شخ�صيات �أمم العامل العربي وحرياتها وحقوقها من جهة ،والتعاون الطوعي �أو االختياري يف جميع امل�صالح املتبادلة يف ما بينها من جهة �أخرى .هذه هي العروبة ال�صحيحة التي و�ضع ين�س مركز �سورية قواعدها املتينة احلزب ال�سوري القومي الذي ،مع عمله لنه�ضة �سورية ،مل َ يف العامل العربي وما تقدر �أن تفعله �سورية للعامل العربي. كل وحدة فعلية ،لكي تثبت على زعازع االنقالبات ال�سيا�سية ،يجب �أن تكون طبيعية ال ا�صطناعية .فاالمرباطورية العربية ـ املحمدية كانت وحدة �سيا�سية دينية ا�صطناعية اجتماعياً، لأنها ن�ش�أت بالفتح ولي�س برغبة واختيار الذين ان�ضووا حتتها .فما كادت �سورة الفتح تخمد
املسيحية واحملمدية والقومية
193
حتى ذ ّر قرن املنازعات ال�شعوبية ،وا�ستفاق كل �شعب �إىل حاجاته ورغباته اخل�صو�صية، فتفككت الوحدة اال�صطناعية وانهارت االمرباطورية .وال ميكن قيامها من جديد �إال بالطريقة التي قامت بها من قبل� ،أي بالقوة والفتح� ،إذ ال ينتظر �أن تكون وحدة اجتماعية ـ اقت�صادية ـ نف�سية ـ جغرافية نظراً للأ�سباب التي تقدم ذكرها .وم�س�ألة الفتح تبقى من �ش�ؤون الفاحت، فهي م�س�ألة �سيا�سية �إنرتنا�سيونية ال م�س�ألة قومية� .إنها م�س�ألة تقرير م�صري �أمم و�أقطار ال م�س�ألة نه�ضة �أمة واحدة ب�إرادة واحدة. النظرية ال�سورية القومية يف هذه امل�س�ألة هي :النهو�ض القومي ب�سورية �أو ًال ثم �سلك �سيا�سة تعاونية خلري العامل العربي .ونه�ضة الأمة ال�سورية حترر القوة ال�سورية من �سلطة الأجانب وحتولها �إىل حركة فعالة لإنها�ض بقية الأمم العربية وم�ساعدتها على الرقي. وهذه العروبة ال�سورية القومية هي العروبة ال�صحيحة ال�صريحة غري امللتوية ،هي العروبة العملية التي توجد �أكرب م�ساعدة للعامل العربي و�أفعل طريقة لنهو�ضه. �إنها لي�ست عروبة دينية وال عروبة ر�أ�سمالية نفعية وال عروبة �سيا�سية مرائية� :إنها عروبة مثلية خلري العامل العربي كله.
اهلوامش « - 1العروة الوثقى» ،ال�صفحة .150 - 2امل�صدر ال�سابق ،ال�صفحة .153
194
�أنطون �سعادة
العروبة الدينية والدعاوات األجنبية قلنا يف احللقة ال�سابقة �إن العروبة التي تهمل مباديء النظام االجتماعي ونوامي�س االجتماع، وال ت�ستند �إال �إىل الدين و�إىل اللغة مبقدار ،هي عروبة زائفة ال نتيجة لها غري عرقلة �سري املباديء القومية ال�صحيحة يف �سورية والأقطار العربية عامة ،و�إعطاء الدول الأجنبية كل فر�صة للت�سلط على �أمم العامل العربي والتغرير بها و�إذاللها .و�سنو�ضح يف ما يلي كيف �أن العروبة الدينية �صارت �أف�ضل و�سيلة خلدمة �أغرا�ض الدول اال�ستعمارية الكربى. قد ب ّينا يف املقال املتقدم غلط الفكرة القائلة �إن ما ينق�ص املحمديني لإن�شاء دولة واحدة عامة، �أو دولة واحدة للعامل العربي وحده فقط ،هو املعارف والفنون .وقلنا �إن نق�ص العلم هو �سبب ت�شبث املهوو�سني بهذه الفكرة الفا�سدة .وقد عرفت الدول اال�ستعمارية الكربى ف�ساد هذه الدعوة وعدم �إمكان حتقيقها ،فر�أت �أن تتخذها ذريعة ملقا�صدها فتعمل لإبقاء الأمم العربية اجلديرة بالنهو�ض حتت �سلطان �سحرها ،تائهة يف �صحراء فكرتها �سعياً وراء �سرابها ،فت�أمن بذلك ا�ستيقاظ هذه الأمم ل�شخ�صياتها احلقيقية وقواها الكامنة فيها .فما دامت هذه الأمم �ساعية وراء جامعة قد م�ضت �أيامها وزالت �أ�سبابها ،بقيت بعيدة عن جمرى احلياة القومية ال�صحيحة ،وعن التفكري الو�ضعي الذي به يكون التمييز بني احلقائق الفعلية والأوهام. املخ�ضعة (بفتح ال�ضاد) �إىل الأوهام. ولي�س �أف�ضل للدول اال�ستعمارية من ا�ست�سالم الأمم َ لأن هذه كانت دائماً و�ستبقى �أبداً �أفعل يف تقوي�ض الأجماد و�إذالل النا�س من جميع املعدات احلربية والقوات الربية والبحرية واجلوية .وهي يف حالة كحالة �أمتنا تغني عن االلتجاء �إىل القوة امل�سلحة لإبقاء �شعبنا يف ذلة اال�ستعباد .فلما �أدركت الدول اال�ستعمارية هذه احلقيقة
املسيحية واحملمدية والقومية
195
وعرفت داءنا املقعد تف ّرغ اخت�صا�صيوها ال�ستنباط املخدرات لعقولنا واملح ّر�ضات لدائنا. فكلما وجدوا �أن الداء يكاد ي�ضعف حقنوا �أجهزتنا الفكرية مبا يهيج جراثيمه الفتاكة ،في�صدر يف �إحدى العوا�صم اال�ستعمارية مقال �أو كتاب عن خطر الإ�سالم املحمدي الذي يهدد �أوروبة وعن خطر العروبة الدينية على ال�سيا�سات اال�ستعمارية ،فتتناوله �صحافتنا التي يقوم عليها يف الغالب �أ�شخا�ص عدميو �أو قليلو العلم ،يف نفو�سهم مر�ض وعلى عقولهم غ�شاوة، في�صيحون« :ها �أوروبة ب�أ�سرها ترتعد اليوم فرقاً من فكرة وحدة �أقطارنا وقيام جامعتنا الدينية اللغوية»� ،أو كما قال �صاحبا «العروة الوثقى»( ): «نعم �إن الإفرجن ت�أكد لديهم �أن �أقوى رابطة بني امل�سلمني �إمنا هي الرابطة الدينية و�أدركوا �أن قوتهم ال تكون �إال بالع�صبية االعتقادية ،ولأولئك الإفرجن مطامع يف ديار امل�سلمني (املحمديني) و�أوطانهم ،فتوجهت عنايتهم �إىل بث هذه الأفكار ال�ساقطة (التع�صب اجلن�سي وحمبة الوطن) بني �أرباب الديانة الإ�سالمية (املحمدية) وزينوا لهم هجرة هذه ال�صلة املقد�سة وف�صم حبالها ،لينق�ضوا بذلك بناء امل ّلة الإ�سالمية (املحمدية) وميزقوها �شيعاً و�أحزاباً ،ف�إنهم علموا كما علمنا وعلم العقالء �أجمعون �أن امل�سلمني (املحمديني) ال يعرفون لهم جن�سية �إال يف دينهم واعتقادهم� ،إلخ». هذا الكالم غاية يف ال�سف�سطة وف�ساد اال�ستنتاج .فلو �أن رابطة الدين واالعتقاد تقوم مقام النوامي�س االجتماعية لكان الإفرجن الذين نالوا �أعظم حظ من العلم يف القرون الأخرية، جل�أوا �إليها واتخذوها �أ�سا�ساً لتفكريهم هم وقيام دولتهم .فالع�صبية القومية عند «الإفرجن» مل تكن بدعة ق�صدوا تغرير الأمم العربية بها ،بل كانت �شعوراً �صادقاً بوحدة كل �أمة من �أممهم و�شخ�صيتها وحقوقها وحاجاتها وم�صاحلها .وهذه هي الع�صبية التي �أنقذت �أمم «الإفرجن» من انق�ساماتها الداخلية الدينية ،وجعلت كل �أمة يداً واحدة على �أعدائها .و�إننا مل جند كتاباً واحداً كتبه �أحد من «الإفرجن» بق�صد تفكيك ع�صبية املحمديني الدينية دون ع�صبية غريهم من امللل� ،إال �أن يكون رجل دين �أو متع�صباً �ضد املحمديني .ودار�س التاريخ يعلم �أن انق�سام الدولة الدينية املحمدية بعد الفتح املحمدي مل يكن بدعاوات «الإفرجن» للع�صبية القومية، بل بانت�صار العامل القومي يف ال�شعوب التي �شملها الفتح على عامل الرابطة الدينية ،من 1
196
�أنطون �سعادة
غري دعاوة من اخلارج .وقد ذكر هذه احلقيقة العالمِ االجتماعي وامل�ؤرخ �إبن خلدون يف ٍ ومقاالت عديدة يف املجالت وال�صحف التي تعنى مقدمته ال�شهرية .ولكننا جند كتباً كثري ًة ب�ش�ؤون �إفريقية وال�شعوب ال�شرقية ،الق�صد منها �إبعاد عقول هذه ال�شعوب عن التفكري القومي الع�صري .وال ميتنع وجود �سيا�سي �أوروبي يخ�شى على فوائد دولته اال�ستعمارية من هياج ديني يف امل�ستعمرات فيكتب ،ولكن بني �أ�ضرار الهياج الديني على دولة ا�ستعمارية والعمل التعمريي لإن�شاء دولة واحدة من جميع �أبناء م ّلة واحدة فرقاً كبرياً جداً. �إن م�س�ألة القومية لي�ست م�س�ألة حممديني وم�سيحيني بل م�س�ألة واقع اجتماعي له حكم واحد .وقد ب ّينا يف احللقة ال�سابقة تباين �أقطار العامل العربي و ُبعد امل�سافة بني قطر وقطر واختالف حاجات هذه الأقطار وعقلياتها .وهذه �أمور لي�س من�ش�ؤها الدعاوة الأجنبية ،بل الو�ضع اجلغرايف والإقليمي واملزيج ال�ساليل املختلف يف كل قطر عن غريه ،ونوع حياة �سكان كل قطر ودرجة متدنهم ومقدار ثقافتهم ومعدل كثافة ال�سكان ومبلغ العمران .و�إذا نظرنا �إىل مواقع الأقطار العربية على اخلريطة ،ور�أينا تنائيها وترامي حدودها البحرية وال�صحارى التي تتخللها ،ثم �إذا در�سنا �إمكانيات هذه الأقطار االقت�صادية وحاجاتها الإدارية واحلربية ،تبينّ لنا كم يبعد خيال جعل هذه ال�شعوب �أمة واحدة ودولة واحدة عن احلقيقة الفعلية. الواغلون على املوا�ضيع االجتماعية وال�سيا�سية وحدهم يظنون �أن الأمم تن�ش�أ بالأهواء والرغبات اال�ستبدادية ،ال بالنوامي�س االجتماعية ،و�أن الدول تقوم على الهو�س الديني بال�ش�ؤون املخت�صة مبا وراء املادة ،ال على القواعد ال�سيا�سية ـ االقت�صادية� .إن تباعد الأقطار العربية اجلغرايف و�ضعف العمران يف �أكرثها واختالف الأجنا�س وتباين احلاجات واملطالب العليا� ،أو تزاحمها وت�صادمها ،ال ت�سمح بتكوين �أمة واحدة من �شعوب هذه الأقطار ذات دورة اجتماعية ـ اقت�صادية تامة ،والذين يقولون« :هذه �أملانية كانت دو ًال واحتدت .وعلى هذا القيا�س ميكن توحيد الأقطار العربية» ال يفهمون �شيئاً من الأمور الو�ضعية والقواعد القيا�سية .فنظرة واحدة على اخلريطة ،ومقابلة واحدة بني هيئة �أملانية وحدودها وكثافة �سكانها ،وهيئة الأقطار العربية وحدودها وكثافة �سكانها تظهران اختالل القيا�س بني الهيئتني وو�ضع كل منهما و�إمكانياته ومقوماته اختال ًال كبرياً .وحجج ه�ؤالء الأ�ساطني يف ال�سف�سطة
املسيحية واحملمدية والقومية
197
هي يف الغالب �صبيانية .فمنها �أن الأقطار ال�شا�سعة �شتات البعد فيما بينها ميكن ربطها ب�سكك احلديد والطيارات واملراكب البحرية .ولكنهم ال يكلفون �أنف�سهم در�س حاجات هذه الو�سائل ومقوماتها .ف�سكك احلديد �إذا مل توجد لها الإمكانيات االقت�صادية الكافية من م�شحونات املحا�صيل الزراعية واملنتوجات ال�صناعية وحركة تنقل �سريعة ،فال ميكن �أن تعمر ،على افرتا�ض وجدت الر�ساميل الكافية ملدها من جبال البختي�شوه وخليج فار�س �إىل ّ طيطوان على الأطل�سي .والطيارات لي�ست �صاحلة لإيجاد دورة اجتماعية ـ اقت�صادية ،فال ت�صلح حلمل �أبناء القرى ال�ضعيفة وبناتها من قطر �إىل قطر ليتزاوجوا وين�شئوا الأندية الثقافية واالجتماعية ،ولي�شرتكوا يف حياة فعلية واحدة .وما يقال يف قطر احلديد والطيارات يقال يف املراكب البحرية ،خ�صو�صاً و�أن حما�صيل �أكرث الأقطار العربية مت�شابهة .فال يحتاج �أبناء قطر من قطر �آخر �شيئاً يذكر من حما�صيله الزراعية �أو منتوجاته ال�صناعية .ف�أهل �سورية ال يحتاجون �إىل قمح �أو عد�س �أو بقول مراك�ش لأن �أر�ضهم تعطي ما يزيد عنهم من هذه الغالل. و�إذا ن�ش�أت يف �سورية نه�ضة �صناعية ب�سبب وجود النفط والأمالح الكيمياوية ومقدار قليل من احلديد والفحم احلجري ف�ستحتاج �إىل �أ�سواق ملنتوجاتها ال�صناعية يف اخلارج ،ولكنها لن حتتاج �إىل املحا�صيل الزراعية ،والأرجح �أن �أ�سواقها الطبيعية �ستكون يف اجتاه العراق و�إيران و�أفغان�ستان �أكرث مما تكون يف اجتاه القريوان وطرابل�س الغرب وتون�س ومراك�ش .ويف ما خال �سورية ،فالأقطار العربية عدمية املعادن ال�صاحلة لل�صناعات الثقيلة ،فال تقدر �أن تبني قطرها ومراكبها من مواردها الطبيعية وال �أن ت�صنع معداتها احلربية من بنادق ومدافع وذخرية وما �إىل ذلك .فكل خط حديدي تريد �إن�شاءه �ست�ضطر لت�سليمه �إىل �شركات �أجنبية �أو �إىل �شرائه من اخلارج ،وكذلك القطارات والطائرات واملراكب .فب�أية عملية اقت�صادية ميكنها فعل ذلك؟ ولكن هذا ال�س�ؤال و�أمثاله �سخيف جداً يف نظر �أرباب العروبة الدينية اخليالية. �أما الوجهة احلربية ومقت�ضياتها الدفاعية ـ الهجومية يف طول ال�شواطيء واحلدود ،خ�صو�صاً �شواطيء �إفريقية املحاذية لأوروبة حيث ال�صناعات ال�ضخمة وكثافة ال�سكان العظيمة ،ف�أمر يكاد ي�ستحيل النظر فيه على قاعدة تفكري �أ�صحاب العروبة الدينية بدون حتقري للمدارك الإن�سانية العادية. و�أما الوجهة ال�سيا�سية فمرمى نظرها من �أ�سو�أ املرامي .ف�أكرث الأقطار العربية موجود حتت
198
�أنطون �سعادة
�سلطان �أو نفوذ دول كبرية ذات �صناعات �ضخمة وقوات حربية عظيمة ،وبع�ض هذه الدول يزيد عدد �سكان الدولة الواحدة منها على جمموع �سكان جميع الأقطار العربية .وتعلو درجة ثقافتهم وا�ستعداداتهم التكنيكية من كل نوع على درجة ثقافة وا�ستعدادات جميع الأقطار املذكورة .و�أية حركة �سيا�سية واحدة يف الأقطار العربية عامة ال ت�صطدم بدولة واحدة من هذه الدول الأوروبية ال�ضخمة فقط ،بل ب�أكرثها .ال بد حلركة �سيا�سية عامة يف جميع الأقطار العربية من اال�صطدام لي�س بربيطانية وحدها ،وال بفرن�سة وحدها ،وال ب�إيطالية وحدها ،وال ب�إ�سبانية وحدها ،بل بجميع هذه الدول دفعة واحدة .فالذين يقولون �إن احتاد جميع الأقطار هو �أ�ضمن طريقة لنيل اال�ستقالل ،و�إن ا�ستقالل �سورية وحدها غري ممكن ،هم ،بالكثري، �أطفال يف ال�سيا�سة .ف�إن ا�ستقالل �سورية املوحدة يف نه�ضة قومية �أكرث �إمكانية و�أقرب منا ًال من ا�ستقالل جميع الأقطار العربية دفعة واحدة بحركة واحدة .ف�سورية ،بو�ضعها اجلغرايف ومقدرتها املادية والروحية� ،أقوى� ،سيا�سياً ،من جميع الأقطار العربية متحدة ،لأنها ،بنه�ضتها القومية ،قد ت�صطدم بدولة �أو دولتني �أوروبيتني على الكثري ،وميكنها يف مقابل ذلك اكت�ساب �صداقة وتعاون دولة �أو دولتني �أو �أكرث من طراز عد ّوتها �أو عد ّواتها .ولكن حركة واحدة يف جميع الأقطار العربية �ست�صطدم حتماً مبعظم الدول الأوروبية ،وهي جميعها �صانعة �أ�سلحة () ومعدات ،والأقطار العربية ال ت�صنع �شيئاً منها .وقد كادت ثورة عبد الكرمي [اخلطابي] تنجح يف مراك�ش الإ�سبانية فلما امتدت �إىل مراك�ش الفرن�سية عظمت قوة العدو عليها، ومل تكن قد �أعدت �أ�صدقاء ملعاونتها حربياً و�سيا�سياً ،فان�سحقت ب�سرعة .ولو امتدت الثورة املذكورة �إىل تون�س وطرابل�س الغرب والقريوان لوجدت �إيطالية واقفة مع فرن�سة و�إ�سبانية �صفاً واحداً .ولو تو�سعت �إىل م�صر و�سورية لوجدت االمرباطورية الربيطانية قد �صارت مع الدول الثالث ال�سابقة يداً واحدة .ولكن نه�ضة قومية يف �سورية قد جتد دولتني �ضدها ،ولكنها تتمكن من �إيجاد دول معها واختيار الظروف املنا�سبة لتحقيق �أغرا�ضها .ومتى حتررت �سورية �أمكنها ٍ حينئذ �أن تنظر يف كيفية م�ساعدة الأقطار العربية قطراً قطراً ح�سب الظروف والفر�ص والإمكانيات .فالذين يقولون �إن النه�ضة ال�سورية القومية «عدوة للعرب» هم ممخرقون وم�شعوذون .وقد ب ّينا باحلقائق العلمية �أنهم هم �أعداء العرب و�أعداء نه�ضة العامل العربي. 2
املسيحية واحملمدية والقومية
199
واحلقيقة �أنه لو ُق ِّدر للنه�ضة ال�سورية القومية �أن تن�ش�أ على العهد الرتكي ،بد ًال من حركة «الوحدة العربية» اخليالية ،لكانت �سورية خرجت من احلرب العاملية املا�ضية دولة م�ستقلة ذات �سيادة تامة على جميع حدودها الطبيعية� .إن �أ�صحاب فكرة «الوحدة العربية» الدينية زينوا لها حدوث نه�ضة وا�سعة عظيمة ت�سحق اجليو�ش وتهلك الأ�ساطيل وتفتح الفتوحات، فقعد �شباب �سورية القوي البنية ال يفكر �إال بانتظار تلك النه�ضة اخليالية التي �صوروها له وهو ال يعلم كيف �ستحدث وال متى حتدث ،فن�ش�أت يف اجليل ال�سوري املا�ضي روح اتكالية منعت كل طموح �صحيح وكل فكرة جيدة وكل تفكري عملي ،ومل تن�شط غري اخلمول. �إذا �س ّلمنا ،جد ًال ،ب�إمكان ح�صول حركة واحدة يف �آنٍ واحد يف جميع الأقطار العربية و�إمكان جناحها ال�سيا�سي -احلربي ،فهذا النجاح ال يحقق «الوحدة العربية» بجعل �شعوب العامل العربي �أمة واحدة ودولة واحدة ،فهذان �أمران يتعلقان بالنوامي�س االجتماعية ،ال باحلوادث ال�سيا�سية الوقتية وال بالرغبات اخل�صو�صية �أو اال�ستبدادية .وقد قام على �صحة هذا النظر الدليل التاريخي� ،إذ تفككت الدولة الدينية املحمدية بعد خمود �سورة الفتح من تلقاء ذاتها، ولي�س بدعاوة «�إفرجنية» �أو غريها .ثم عادت فانهارت مرة �أخرى على يد اخلالفة الرتكية. وتركية مل تتمكن من النهو�ض ،بعد �أن رزحت حتت عبء الدولة الدينية و�سيا�سة اخلالفة، �إال برتك فكرة الدولة الدينية واالعتماد على نه�ضة تركية قومية تنظم ال�شعب الرتكي وتقوي معنوياته .فخرجت تركية القومية دولة �أقوى بكثري من ال�سلطنة العثمانية التي جمعت بني الدين والدولة وظنت �أن رابطة الدين من �أهم مقوماتها. �أدرك �سيا�سيو الدول الكربى اال�ستعمارية ما يف دعاوة «الوحدة العربية» الدينية من خطل الر�أي وق�صر النظر ونق�ص العلم ،ف�أخذوا يحدثون الأحداث النف�سية التي تزيد امل�شغوفني بهذه الدعاوة الفا�سدة �شغفاً ،فتارة يظهرون االحرتام لهذه الفكرة وطوراً يتظاهرون بالوجل والف َرق منها وحيناً يرا�ؤون بتحبيذها ،و�آناً ميثلون دور الغا�ضب املهدد ،ولكنهم يغتبطون �سراً بت�سلط هذا الوهم على عقول �شباب الأمم العربية وما يجره من انق�سامات داخلية وحتزبات �أهلية ،لأن �أ�سا�سه فكرة �سيا�سية م ّلية .ونحن نعلم اليوم كم ُتخرج مطابع بريطانية و�أملانية و�إيطالية و�إ�سبانية من الكتب واملقاالت املو�ضوعة خ�صي�صاً لإغراء �شعوب العامل العربي
200
�أنطون �سعادة
بخيال الدولة الدينية الوا�سعة ،وللإيحاء النف�سي العلمي �إليها بامل�ضي يف طلب هذا ال�سراب الذي ي�صرفها عن �إدراك حقيقة طبائعها و�إمكانياتها .وقد ا�ستخدمت بريطانية الكاتب املعروف �أمني الريحاين ،الذي قام برحلته امل�شهورة يف ال ُعربة وو�ضع كتابه «ملوك العرب» باالتفاق مع الإنكليز ،لتغذية خيال «الوحدة العربية» .وا�ستخدمته للغر�ض عينه �إ�سبانية التي دعته لإلقاء حما�ضرات يف مراك�ش .و�إ�سبانية �أوجدت يف عا�صمتها جمعية ا�سمها «اجلمعية الإ�سالمية» جللب نظر املحمديني �إىل �إ�سبانية .وبع�ض ك ّتابها ي�ؤلفون الآن عدداً من الكتب عن تاريخ العرب وعظمة الإمرباطورية املحمدية ال�سالفة ،و�إمكان العودة �إىل �إحياء تلك الدولة واالجتاه نحو �إ�سبانية التي ت�صبح مبثابة طليعة �أو «مقدمة املجد العربي يف �أوروبة»! �إىل �آخر هذه التعابري ال�سيكولوجية املق�صود منها الت�أثري على نف�سيات �شعوب العامل العربي، للو�صول �إىل �أغرا�ض خارجة عن نطاق الأمم العربية وم�صاحلها. يف �سورية مل تالحق الدولتان املنتدبتان �أية فئة «عروبية» تنادي باالمرباطورية العربية، ولكنهما حاربتا كل عمل وحركة يق�صد منهما �إيجاد وحدة قومية متينة يف ال�شعب ال�سوري. وبريطانية قد ا�ستعملت بنجاح كبري خيال «الوحدة العربية» لتثبيت �سيا�ستها اال�ستعمارية يف �سورية .فبعد �أن ا�ستفحل �أمر ثورة فل�سطني �سنة ،1936بدخول العنا�صر ال�سورية القومية يف تلك الثورة وعلى ر�أ�سها القائد ال�سوري القومي امل�أ�سوف عليه �سعيد العا�ص ،ور�أت بريطانية �أن ال�شعب ال�سوري �سيلتهب كله يف منطقتي االنتداب ،جل�أت �إىل «ملوك العرب» وطلبت فتدخل �أولئك امللوك ووعدوا تدخلهم با�سم العروبة لرفع احلرب ونزع �سالح جي�ش الثورةّ . ّ ب�أن يتولوا حتقيق مطالب الثورة بالطرائق ال�سيا�سية ف�سلمت «اللجنة العربية العليا» بذلك، وفوق هذه اللجنة مفتي فل�سطني احلاج �أمني احل�سيني ،فخرج الأمر من يد ال�سوريني .وما كاد جي�ش الثورة ي�س َّرح ،بعد تلف املوا�سم وزهق النفو�س ونزف الدماء ،حتى وفدت اللجنة الربيطانية التي و�ضعت مر�سوم تق�سيم فل�سطني و�إيجاد دولة يهودية يف الق�سم اخل�صب منها!
املسيحية واحملمدية والقومية
201
اهلوامش « - 1العروة الوثقى» ،ال�صفحة .107 - 2حممد عبد الكرمي اخلطابي ( .)1963 - 1882ولد يف �أغادير ب�شمال املغرب ،وقاوم الإحتاللني الإ�سباين والفرن�سي بني 1921و .1926بعد هزميته يف �سنة ،1926نفاه الفرن�سيون اىل جزيرة رينيون يف املحيط الهندي ،وظل فيها حتى �سنة 1947عندما �أعلنت باري�س �إطالق �سراحه .لكن اخلطابي طلب اللجوء اىل م�صر عندما توقفت �سفينته يف بور �سعيد ،وعا�ش يف القاهرة اىل حني وفاته يف �شباط .1963
202
�أنطون �سعادة
العروبة كقوة إذاعية للمطامع السياسية الفردية ملّا مل تكن العروبة املق�صود بها وحدة الأقطار العربية الل�سان واملحمدية الدين �سوى لفظة مبدلة من الوحدة الدينية املحمدية ،لتدل على وحدة دينية حمدودة باللغة ،بد ًال من الوحدة الدينية املطلقة التي كانت غر�ض الدعاوة الرجعية الأوىل �إىل �إعادة �إن�شاء الدولة الدينية ،كانت لفظة ذات قوة �إذاعية عظيمة يف الغوغاء يح ّر�ض بها ويحرك ويثار .وهذا ما تنبه له ال�سيا�سيون ال�شخ�صيون ذوو املطامح واملطامع ال�سيا�سية الفردية الذين يهمهم ا�ستثمار الدهماء وبناء املجد ال�شخ�صي قبل �إفادة الأمة وبناء املجد القومي. �أكرث ال�سيا�سيني ال�سوريني الذين تقدموا عهد احلركة ال�سورية القومية �أو انحرفوا عنها هم �إ ّما �شخ�صيون ،وه�ؤالء معظمهم ،و�إ ّما رجعيون� ،أو �شخ�صيون ورجعيون معاً .ومن ه�ؤالء ال�سيا�سيني من �أدرك عقم فكرة الوحدة العربية كعبد الرحمن ال�شهبندر( ) وها�شم الأتا�سي( ) وغريهما. ولل�شهبندر مقال ن�شر يف عدد مار�س (�آذار) �سنة 1934من جملة «املقتطف»( ) يقول فيه با�ستحالة اجلمع بني بع�ض �أقوام العامل العربي وبع�ضها الآخر .ولكن حني عاد ال�شهبندر �إىل ميدان ال�سيا�سة ال�سورية بعد �إعالن العفو �سنة � ،1937أخذ يخطب يف �أحياء دم�شق داعياً �إىل العروبة الدينية ووطن القر�آن والوحدة العربية واالمرباطورية العربية ،جامعاً حوله عدداً من الذين يوافقونه يف هذه ال�سيا�سة �أو يذهبون هذا املذهب على غري هدى .واحلقيقة هي �أن غر�ضه مل يكن توحيد العامل العربي وال �إن�شاء االمرباطورية العربية املوهومة ،بل كان الو�صول �إىل مثار ال�شعور عند الغوغاء ،وا�ستفزازه للأخذ بنا�صره لي�ستظهر على «الكتليني» وجميع الأحزاب الأخرى ،وي�صل �إىل رئا�سة الدولة �أو رئا�سة احلكومة عن طريق الدعوة �إىل 1
2
3
املسيحية واحملمدية والقومية
203
اعتقاد مل يكن ي�ؤمن به الداعي ،بل كان نبذه .ففي مقالة ال�شهبندر امل�شار �إليها يقول: «فمن اخلطل ال�سيا�سي االجتماعي العظيم �إذن �أن يتوهم �أحد من رجال النه�ضة يف العامل العربي �أنه يف حيز الإمكان ت�أليف دولة عربية مركزية دميقراطية ت�ضم منذ الآن بني دفتي د�ستور واحد دم�شق والكويت وعنيزة والع�سري واملكال .فهذه بلدان ،و�إن جمعت بينها اللغة والعقيدة (والأرجح �أنه يعني بالعقيدة الدين) ،وت�شاركت يف كثري من �أطوارها التاريخية� ،إال �أن العادات والتقاليد املحلية ،واختالف درجة الثقافة العامة وما �إىل ذلك من مقومات العقل االجتماعي الذي ال بد منه لت�أليف الوحدة ال�سيا�سية ،جعلت �شقة اخلالف يف ما بينها �أبعد من �أن ي�ضمها جمل�س ت�شريعي واحد� ،أو يلم �شتاتها �إرادة �سلطانية واحدة». ومع �أن هذا الكالم ناق�ص جداً� ،إذ مل يتناول الوجهة اجلغرافية وال بقية النظرة ال�سيا�سية وال الناحية االجتماعية وال القواعد االقت�صادية وال الوجه احلربي ،التي �أملمنا بها �إملاماً يف احللقة ال�سابقة ،ف�إنه ي�ؤكد عدم الإميان بالعروبة كعقيدة جتمع الأقطار العربية اللغة واملحمدية الدين يف �أمة واحدة ودولة واحدة .ولكن عبد الرحمن ال�شهبندر كان من ال�صنف ال�سيا�سي العتيق الذي �أقام حاجزاً منيعاً بني ال�سيا�سة والعقيدة ال�سلبية التي انتهى �إليها ووقف عندها. فال�سيا�سة لرجال هذا ال�صنف كانت ذات قاعدة �شخ�صية بحتة ،ولذلك كانوا يجرونها على معتقدات ال�سواد من النا�س املدعوين ،مهما كانت بعيدة عن ال�صواب ،ال على معتقداتهم هم .وهذا ما عناه� ،أو بع�ض ما عناه ،زعيم النه�ضة ال�سورية القومية ،يف الب�سط والإي�ضاح املوجز الذي و�ضعه يف �سجنه الأول عن الأ�سباب التي دفعته �إىل �إن�شاء احلزب ال�سوري القومي .فقد �أظهر الزعيم �أن ال�سيا�سة عنده هي خلدمة العقيدة القومية امل�شتملة على ق�ضية وا�ضحة جلية معينة ،ولي�ست ملجرد ال�سيا�سة �أو لق�ضية �شخ�صية .العقيدة ل�سعادة هي الغاية، وال�سيا�سة هي الوا�سطة� .أما رجال ال�سيا�سة الالقوميون فال�سيا�سة عندهم هي الغاية والعقائد لي�ست لهم �سوى و�سائط ،ولذلك هم يبدلونها ،فيقولون اليوم مبا �أنكروه بالأم�س ،ويغيرّ ون غداً العقيدة التي نادوا بها اليوم .ولذلك مل يكن �أن تن�ش�أ من الفو�ضى والبلبلة نه�ضة قومية. اختار �أكرث ال�سيا�سيني ال�سوريني اخل�صو�صيني العروبة �أ�سا�ساً لإذاعاتهم ،و�أكرثوا من الكالم على الوحدة العربية و�إغراء النا�س بها ،لي�س لأنهم يعتقدون ب�صحتها و�إمكان حتقيقها ،بل
204
�أنطون �سعادة
لأنهم وجدوا �أكرث العامة ال�سورية الباقني على معتقدات قدمية قابلني للت�أثر بها .ف�أكرثية ال�شعب ال�سوري هي من املحمديني الذين حفظوا يف �أذهانهم �صورة الدولة الدينية واخلالفة و�إمارة امل�ؤمنني ،ومل يحيوا قط ،ال هم وال غريهم من امللل الأخرى ،حياة قومية �صحيحة. وهم لذلك �أ�سهل انقياداً لدعوة �إىل الدولة الدينية منهم �إىل دعوة قومية �إ�صالحية لي�س لهم بها �سابق اختبار �أو معرفة .وملّا مل يكن ال�سيا�سيون القدماء يرمون يف الدرجة الأوىل �إىل �إ�صالح عقائد ال�شعب وتوحيدها و�إن�شاء نه�ضة قومية �صحيحة فيه ،بل �إىل ا�ستغالل عقائده القدمية خلططهم ال�سيا�سية ال�شخ�صية ،مل يكن يهمهم ماذا ي�صيب ال�شعب ،مع تقادم العهد، يبق لها حمل يف �صراع احلياة من امل�صائب ب�سبب بقائه على عقائد ونظريات رجعية مل َ والتفوق بني الأمم ،فكان كل همهم من�صرفاً �إىل بلوغ مطاحمهم ومطامعهم ال�سيا�سية �أو ًال ،ثم النظر ،على قدر معرفتهم وفهمهم ،يف ما يفيد ال�شعب ثانياً. هذا هو �سبب اندفاع �سيا�سيني �شخ�صيني ونفعيني م�سيحيني يف دعاوة العروبة والوحدة العربية ،مع �أنهم ال يدينون باملحمدية ،فهم قد ا�ستخدموا العروبة والوحدة العربية كقوة �إذاعية بني �سواد ال�شعب .ولكن ال هم وال ال�سيا�سيون املحمديون كانوا مقتنعني مبا يقولون. ومع ذلك فقد غرروا بق�سم كبري من ال�شعب ،وحملوا عدداً من �سليمي النية على االعتقاد، ب�إخال�ص ونزاهة ،ب�صحة الدعوة العروبية امل�ؤ�س�سة على الدين املحمدي ،فال يخلو الأمر من رجعيني خمل�صني يف رجعيتهم الوبيلة. ملّا �أ�س�س �سعادة احلزب ال�سوري القومي ،وتولدت من مبادئه النه�ضة ال�سورية القومية، ازداد فزع ال�سيا�سيني ال�شخ�صيني �إىل العروبة والوحدة العربية ليتخذوا منهما قوة �إذاعية بني الأكرثية املحمدية يف �سورية �ضد انت�شار مباديء احلزب ال�سوري القومي .كما فزع ال�سيا�سيون ال�شخ�صيون االنف�صاليون املتدرعون بدرع «ا�ستقالل لبنان امل�سيحي» �إىل الدعوة لهذا اال�ستقالل «وعدم �إمكان امل�سيحيني �أن يحيوا مع املحمديني يف دولة واحدة» ،ليحاربوا امتداد حركة احلزب ال�سوري القومي بني امل�سيحيني يف ال�ساحل الأو�سط اجلبلي من �سورية .وكما �أن الأكرثية املحمدية كان �شعور عامتها نا�شئاً عن النعرة الدينية ،كذلك الأقلية امل�سيحية وغريها كان �شعور عامتها نا�شئاً عن النعرة الدينية .وال�سيا�سيون ال�شخ�صيون ر�أوا يف
املسيحية واحملمدية والقومية
205
النعرات الدينية عند العامة القوة الإذاعية الوحيدة التي ميكن ا�ستعمالها ب�شيء من النجاح الوقتي� ،ضد مباديء احلزب ال�سوري القومي القومية اجلامعة جميع ملل ال�شعب ال�سوري يف عقيدة واحدة توحدهم اجتماعياً و�سيا�سياً .فالذين ا�ستعملوا النعرة املحمدية العروبية ا�ستعملوها ريا ًء لتوطيد نفوذهم ال�شخ�صي عند عامة املحمديني وبلوغ مراميهم اخل�صو�صية، وهذا هو �سر هذا التحري�ض «العروبي» �ضد احلركة ال�سورية القومية. احلزب ال�سوري القومي ن�ش�أ ليكون �س ّلماً يرقى عليها ال�شعب ال�سوري �إىل ذروة احلياة اجليدة .وال�سيا�سيون ال�شخ�صيون واخل�صو�صيون والنفعيون �أرادوا �أن يكون ال�شعب �س ّلماً يرقون عليها �إىل مطاحمهم ومطامعهم الفردية .زعامة احلزب ال�سوري القومي تريد �أن تقود ال�شعب يف طريق جديدة �إىل عهد جديد وحياة مثلى ،وزعامات الرجعية وال�شخ�صية تريد �أن يبقى ال�شعب حيث هو يف حني ّتدعي �أنها تعمل على �إنقاذه. العاجزون عن حل م�شاكل ال�شعب الداخلية وعن �شق طريق جديدة حلياته وارتقائه يلج�أون �إىل نعرات ال�شعب القدمية الهدامة ،ليتخذوا منها �سالحاً يحاربون به من �أوجد ق�ضية ال�شعب احلقيقية� .إنه �سالح يف ا�ستعماله مقدار من الفطنة العادية غري كبري كما قد يتوهم� .إنه ،يف كل حال� ،سالح العاجزين الفا�شلني الذين يظهر عجزهم يف نوع ال�سالح الذي يلج�أون �إليه قبل �أن يظهر يف انخذالهم النهائي القريب. من هذه الناحية كان دعاة العروبة يف �سورية حلفاء للإرادات الأجنبية يف مقاومة النه�ضة ال�سورية القومية ،كما كان دعاة االنف�صال امل�سيحي اللبناين حلفاء هذه الإرادات املعادية لنه�ضة ال�شعب ال�سوري ووحدته التي يقدر بها �أن ينال �سيادته ،وي�سيطر على كل �ش�أن يهمه من �ش�ؤون ال�شرق الأدنى والبحر املتو�سط ،نظراً ملواهبه املمتازة وخطورة موقع بالده اال�سرتاتيجي. �إن الدول اال�ستعمارية مل تقاوم فكرة الوحدة العربية الوهمية الدينية الأ�سا�س ،بل �شجعتها. والدولتان «املنتدبتان» يف �سورية مل تقاوما الدعوة العروبية بل �شجعتاها لأنهما وجدتا فيها عام ًال هاماً يف �إحداث االنق�سام الداخلي يف �سورية ،و�إيجاد الأحقاد بني �أبناء الأمة الواحدة واحلركات االنف�صالية املجزئة ال�شعب والبالد .فمذهب العروبة �أو «القومية العربية» عند
206
�أنطون �سعادة
املحمديني كان جوابه مذهب «القومية اللبنانية» عند امل�سيحيني ،ومذهب «اال�ستقالل الدرزي» عند الدروز .وهذا �أف�ضل ما ميكن �أن ينتظره اال�ستعمار الذي انتهز هذه الفر�صة لي�شجع جميع احلركات املت�ضادة يف �آنٍ واحد. مل تهتم الدولتان اال�ستعماريتان يف �سورية حلركة �سيا�سية مثل اهتمامهما حلركة احلزب ال�سوري القومي .فبينما رجال «الكتلة الوطنية» ،الذين كانوا �أحياناً عروبيني و�أحياناً غري عروبيني ي�سرحون وميرحون ويخطبون عن «الوحدة الكربى» وحتويل االنتداب �إىل معاهدة ،وبينما كان يعطى الدكتور عبد الرحمن ال�شهبندر احلرية التامة ليخطب يف �أحياء دم�شق عن العروبة والوطن الديني املمثل بالقر�آن والدولة العربية الكربى ،كانت ال�سلطة الفرن�سية واحلكومات املحلية يف لبنان وال�شام توجه القوات الع�سكرية بال�سالح والعتاد ملنع �أي جتمهر يف بريوت ودم�شق ل�سماع خطاب واحد يلقيه زعيم احلزب ال�سوري القومي .ومل يقت�صر اهتمام ال�سلطة على منع ال�شعب يف املدن الكربى من �سماع �صوت الزعيم ،بل تعدى ذلك �إىل الأق�ضية التي ال يحدث فيها جتمهر كالذي يحدث يف املدن .وجميع الذين تتبعوا حركة احلزب ال�سوري القومي يعرفون �أمر القوات اجلندية التي وجهت على طرطو�س وعلى عماطور ال�شوف وعلى بكفيا املنت التي جرت فيها مناو�شة بني القوميني واجلند و�سقط فيها عدد من اجلرحى. مل حتكم املحاكم الفرن�سية الع�سكرية على رجال «ع�صبة العمل القومي» التي �شعارها «العروبة» و�سعيها لالمرباطورية العربية ،ومل ت�صدر �أي حكم كالذي �أ�صدرته على زعيم احلزب ال�سوري القومي ومعاونيه يف �إدارة احلركة القومية على �أحد من رجال ال�سيا�سة ال�سورية� .أما الأحكام التي �صدرت بحق عدد من الأ�شخا�ص يف دم�شق فعائدة �إىل وجود حماولة اغتيال �ضد رئي�س جمل�س املديرين ولي�س �إىل م�س�ؤولية حركة قومية منظمة� .أما رجال «العروبة» فقد كانت ال�سلطة ت�شجعهم وتطلق لهم احلرية طاملا عملهم يتعلق ب�أ�سا�س فكرتهم، �أي جمع كلمة الأمم وال�شعوب العربية ،وال يتحول �إىل عمل خمت�ص بال�شعب ال�سوري. ملاذا الحقت ال�سلطتان االنتدابيتان حركة احلزب ال�سوري القومي هذه املالحقة ال�شديدة منذ اكت�شفتا �أمره؟ وملاذا تخافان من خُ َطب الزعيم وال تخ�شيان خُ َطب «العروبيني» حتى �أنها �أطلقت احلرية جلميع ال�سيا�سيني الذين عادوا بعد �إبعادهم باخلطابة يف اجلوامع وال�ساحات
املسيحية واحملمدية والقومية
207
العمومية ،ومل متنع �أحداً يريد التكلم على «الوحدة العربية» والدعوة �إليها؟ اجلواب وا�ضح :لأن خُ طب الزعيم قائمة على ق�ضية �صحيحة ميكن بها توحيد ال�شعب ال�سوري و�إطالق قوة ال�شباب ال�سوري من عقالها� ،أما خُ طب جميع ال�سيا�سيني الآخرين فهي حتدث االنق�سام الديني يف الداخل وحتاول جمع امل�ستحيل يف اخلارج. �إن الق�ضية التي يحملها احلزب ال�سوري القومي هي ق�ضية �أمة موجودة بالقوة على �أ�سا�س النوامي�س االجتماعية ،ف�أخرجها احلزب ال�سوري القومي من ح ّيز القوة �إىل حيز الفعل مببادئه القومية ال�صحيحة التي �أزالت كل �سبب من �أ�سباب التفرقة �ضمن ال�شعب ال�سوري. احلركة ال�سورية القومية مل تن�ش�أ ن�ش�أة حركة م ّلية حممدية �أو م�سيحية �أو درزية ،حتاول الظهور مبظهر �شبه قومي ،بل ن�ش�أت حركة قومية جامعة ،دخلت فيها ،منذ بدء تكوينها ،عنا�صر من جميع ملل البالد ،فكان فيها الي�سوعي وكان فيها املحمدي وكان فيها الدرزي .وكونها حركة وجه دعوته �إىل جميع �أبناء �أمته بال فارق مذهبي �أزال عنها كل �صفة تكتلية ملية ولدها فرد ّ و�أوجد ال�ضمان لعدم ن�شوء تكتالت ملية يف داخلها. يف احلركة ال�سورية القومية ال يقول ال�سوريون القوميون من امللة املحمدية ب�إن�شاء دولة دينية على �أ�سا�س «اجلن�سية الدينية» التي يقول بها الرجعيون ،يعي�ش فيها �أبناء امللل الأخرى حتت كنف �أبناء امللة املحمدية ورحمتهم وحمايتهم .وال يقول ال�سوريون القوميون الي�سوعيون �أو الدروز ب�إن�شاء دولة دينية م�سيحية �أو درزية باالتفاق مع دول �أجنبية م�سيحية يعي�ش املحمديون يف كنفها حتت رحمة امل�سيحيني وحمايتهم .كال ،ال �شيء من ذلك� .إن جميع ال�سوريني القوميني ي�ؤمنون �أنهم �أبناء �أمة واحدة هي الأمة ال�سورية ،جتمعهم عقيدة واحدة وم�صلحة واحدة و�إرادة واحدة. فهم جميعهم يريدون اجلميع �أحراراً مت�ساوين يف احلقوق والواجبات ويرف�ضون �أن يكون بع�ض الأمة عبداً لبع�ض �أو عالة على بع�ض �أو حتت رحمة وت�ساهل بع�ض� .إنهم يخجلون من �أن يروا �أحداً من �أبناء �أمتهم غري حر متمتع بجميع احلقوق املدنية وال�سيا�سية التي لهم يف الدولة. �إن احلزب ال�سوري القومي يقول �إنه يجب �أن يكون لكل فرد من �أفراد الأمة ال�سورية احلق واحلرية ليعتقد يف ال�ش�ؤون املتعلقة مبا وراء املادة ،كاهلل وال�سماء واجلحيم واخللود والفناء ،كما
208
�أنطون �سعادة
يريد ،وال يطلب منه �إال �أن يكون قومياً �صحيحاً خمل�صاً لأمته ووطنه. يعد ولكننا نرى هنا �أن نقول ب�صورة خ�صو�صية ال دخل للحزب فيها �إنه من امل�ستح�سن �أن ّ امل�سيحيون املدنيون �أو العلمانيون� ،إذا مل ي�ش�أ الإكلريو�س ،حممداً ر�سو ًال �إلهياً ودينه ديناً �صحيحاً لي�شعر املحمديون �أن امل�سيحيني ال يكفّرونهم يف دينهم وال يحطون من قدر نبيهم .كما �أنه يعد املحمديون دين الي�سوعيني �صحيحاً و�أن يرتكوا الت�أويالت التي تكفّرهم. يح�سن �أن ّ �إن ال�سوريني القوميني يحرتمون معتقدات بع�ضهم بع�ضا ،وال يخطر يف بال �أحد مدرك منهم �أن ي�سفّه مذهب غريه الديني ،ولكن ما ارت�أيناه هنا هو �شيء عام ال يخرج منه الالقوميون. يجب علينا �أن ننه�ض ك�أمة حية و�أن نزيل من طريقنا جميع ال�صعوبات التي تعرقل �أو متنع نهو�ضنا .و�أهم ما يجب �أن نزيله من ال�صعوبات �صعوبة الفتنة الدينية و�صعوبة الفتنة االجتماعية ـ االقت�صادية .و�إزالتهما تكون باعتناق مباديء احلزب ال�سوري القومي املوحدة، ال مبحاربة هذه املباديء املقد�سة كما يفعل اجلهال اخلالون من امل�س�ؤولية.
اهلوامش -1عبد الرحمن ال�شهبندر (� ،)1940 - 1879سيا�سي دم�شقي تخرج طبيباً من اجلامعة الأمريكية يف بريوت �سنة .1906توىل من�صب وزير اخلارجية يف حكومة ها�شم الأتا�سي �سنة � .1920إن�ضم اىل الثورة ال�سورية �سنة ،1925لكنه �إ�ضطر للهرب اىل الأردن بعد �صدور حكم غيابي عليه بالإعدام� .ألغي احلكم الحقاً ،فعاد اىل دم�شق �سنة 1937 لي�ست�أنف عمله ال�سيا�سي .مت �إغتياله يف عيادته يف 6متوز .1940 - 2ها�شم الأتا�سي ( ،)1960 - 1875م�ؤ�س�س ورئي�س حزب «الكتلة الوطنية» .توىل رئا�سة اجلمهورية ال�سورية يف ثالث فرتات.1955 - 1954 ،1951 - 1949 ،1939 - 1936 : - 3عبد الرحمن ال�شهبندر« :عوامل التجان�س»« ،املقتطف» اجلزء � 85سنة ،1934ال�صفحة .7
املسيحية واحملمدية والقومية
209
التعنتات املسيحية -خالصة مما تقدم من هذا البحث يتبني �أن الغر�ض الأخري له هو :قمع الفتنة الدينية بني �أبناء �أمتنا قبل ا�ستعار �أوارها ،ودعوة ال�سوريني جميعهم من ر�سوليني وم�سيحيني ودروز �إىل رابطة العقيدة االجتماعية الواحدة� ،إىل عقيدة القومية ال�سورية التي جتمعهم يف وطن واحد وم�صري واحد. وقد نبهنا ،من قبل ،يف احللقة ال�ساد�سة والع�شرين (احللقة 15بالرتتيب اجلديد)� ،إىل �أنه ال يوجد يف هذا البحث غر�ض فرعي كالذي قد يكون توهمه املتعنتون امل�سيحيون الذين يظنون �أن ت�سفيه ر�أي �أ�صحاب الدولة الدينية الر�سولية ،يف امل�سيحية ،ويف غر�ض الدين املحمدي كان بق�صد �إظهار �أن الدين امل�سيحي هو الدين ال�صحيح الوحيد ،و�أن الدين املحمدي ،يجب �أن يزول .و�أظهرنا يف عدة �أماكن �سابقة �أن تخ�صي�ص هذه ال�سل�سلة من الأبحاث الفل�سفية االجتماعية والدينية بنق�ض مذهب �أ�صحاب «اجلن�سية الدينية» املحمدية وت�سفيه مطاعنهم يف امل�سيحية ،ور ّد دعوتهم �إىل الع�صبية الدينية وتهو�سهم العظيم ال�ضرر بالقومية وم�صري الأمة ال�سورية ،مل يكن �إال بق�صد منع الفتنة الدينية التي قام بنف�ض الرماد عن بقية نارها نفر من ذوي املطامع الذين ي�ستبيحون دماء �أبناء الأمة من �أجل �أغرا�ضهم الذاتية احلقرية ،ولإقامة احلد وكبح جماح حملة رجعية �إذاعية �شبه منظمة لتحري�ض الغوغاء املحمدي و�إثارة نعرته الدينية ،وحتريكه نحو املطامع ال�سيا�سية ال�شخ�صية با�سم الدين .وهذه هي الفتنة عينها .فبقدر ما يحر�ض الرجعيون والنفعيون اجلماعات الر�سولية ويثريونها يحدث رد فعل يف اجلماعات امل�سيحية والدرزية .وال يقف الأمر عند هذا احلد ،بل ي�صل �إىل اجلماعات املحمدية ال�صغرى �أي�ضاً كالعلويني وال�شيعة ،فهذه ال�شيع قد وقع عليها اال�ضطهاد من اجلماعة املحمدية الكربى
210
�أنطون �سعادة
ال�س َّنة .وب�سبب هذه العداوة �أمكن ف�صل منطقة الالذقية ومنطقة جبل يف �سورية من �أهل ُ حوران� ،إدارياً و�سيا�سياً ،عن بقية البالد كما ف�صل لبنان عنها. �إننا ب ّينا �أغالط املهوو�سني والرجعيني املحمديني والأ�ضرار العظيمة التي جتلبها دعاوتهم على نه�ضة �أمتنا احلديثة ،ومتكنا من �إثبات وجوب ف�صل املوا�ضيع املل ّية عن العمل القومي �إثباتاً ال يقبل النق�ض .وهذا الغر�ض بعيد عن حماولة احلط من �أ�صول الدين املحمدي الأ�سا�سية، و�إننا نعتقد �أننا قد بلغنا هذه الغاية يف ما تقدم من حلقات هذا البحث. بقي �أن نقول قو ًال يتعلق باجلهة املقابلة للحزبية املل ّية املحمدية� ،أي باجلهة الي�سوعية ،ف�إن �أعما ًال رجعية كثرية قد جرت يف اجلماعات امل�سيحية لي�ست كلها عائدة �إىل «اتقاء الهو�س الديني املحمدي» ،وهذه الأعمال الرجعية لي�ست �أقل �سوءاً من �أعمال الرجعيني املحمديني. �إننا نعتقد �أن الغلط ال ي�صلح بغلط من نوعه ،و�إيجاد حركة رجعية م�سيحية ال يعدم احلركة الرجعية الر�سولية بل يزيد هذه احلركة احتداماً .ولكن الرجعيني امل�سيحيني مل يكونوا ،يف �شيء� ،أقل هو�ساً من الرجعيني الر�سوليني ،والرجعة امل�سيحية ال تقل ت�سرتاً بالوطنية و«القومية اللبنانية» عن الرجعة الر�سولية بالوطنية و«القومية العربية» .وكلتا القوميتني خرافيتان يف ما يخت�ص بالأمة ال�سورية والوطن ال�سوري الذي يك ّون لبنان جزءاً منه. ومع �أنه ال جمال يف هذا البحث املخ�ص�ص بالرجعة املحمدية و�أ�صول معتقداتها ال�سيا�سية ـ االجتماعية ـ الدينية للتطويل يف �ش�ؤون الرجعة الي�سوعية التي و�إن مل تظهر منها دعوات �صريحة ،علنية ،كدعوات �أ�صحاب الرجعة املحمدية املعتزين ب�أكرثيتهم العددية ،ف�إنها لي�ست �أقل �أهمية من هذه ،فال بد من تناول ما مل يح�ضرنا ذكره يف احللقة ال�ساد�سة والع�شرين (احللقة .)15ف�إن دعاة االنف�صال امل�سيحي يف لبنان يوردون حججاً �أكرثها �أقوال �شفوية يتناقلونها يف �أو�ساطهم ،يجب �إ�سقاطها وت�سفيهها لعدم �صحتها وعدم �صوابيتها .وقد �أ�سقطنا بع�ضها و�سفّهناه يف احللقة ال�سابقة ،امل�شار �إليها ،ونتناول هنا ما يح�ضرنا من هذه احلجج: �سمعنا �أكرث من مرة يف بع�ض املحا�ضر �أ�شخا�صاً م�سيحيني ير ّدون على الدعوة �إىل االحتاد القومي بهذه الأقوال« :املحمديون متع�صبون وال ميكن االحتاد معهم» ،وت�أييد هذا القول
املسيحية واحملمدية والقومية
211
ي�أتي يف الأقوال الأخرى كهذا القول« :ال �سبيل للتفاهم معهم �أو حلفظ كرامتنا عندهم ،فهم �إذا جاء �أحد منهم يزور واحداً منا ا�ستقبله هذا مع �أهله وعياله ،فتجل�س له زوجة امل�سيحي وبناته و�أخواته ،ولكن حني يذهب امل�سيحي لريد زيارة املحمدي ف�إنه ي�ستقبله دون �أهله وعياله ويحجب عنه امر�أته وبناته ،فكيف ميكن التفاهم واالتفاق مع الذين هذا �ش�أنهم» .و�إننا نالحظ �أن الذين يقولون هذه الأقوال يدلون بها بلهجة من قد �أعطى القول الف�صل واحلجة التي ال تدفع .وهذا دليل على مبلغ الهو�س واجلهل .ف�إن متحي�ص هذه احلجة يثبت بطالنها و�سخف �أ�صحابها ،ف�إن املحمدي ال يحجب امر�أته وبناته عن الي�سوعي فقط ،بل عن ابن م ّلته نف�سها .ففي ن�صو�ص ال�شرع املحمدي ال يجوز �أن ت�سفر املر�أة �إال لزوجها وابنها و�أخيها ومن هم مبنزلة �أقرب القرابة ،و�سواء �أكان �سواهم من م ّلتها �أو من غري م ّلتها فهي ال ت�سفر وال جتل�س لهم .فهذه املعاملة ال يق�صد منها �إهانة الزائر امل�سيحي وال رف�ض مودته ،ولكنها عادة ت�ستند �إىل ال�شرع� .أما لزوم هذا ال�شرع �أو عدم لزومه فم�س�ألة �أخرى .ودليل �آخر على ف�ساد ادعاء �أ�صحاب هذه احلجة هو �أنه �إذا جاء زائر م�سيحي �إىل دار �صديق ر�سويل وجلب معه امر�أته فامر�أة الر�سويل ال متتنع عن ا�ستقبالها يف مكان احلرمي و�إكرامها. ومن �أقوال ه�ؤالء املتعنتني�« :إننا قد لقينا كثرياً من اال�ضطهاد من املحمديني ،وحرمنا م�ساواة احلقوق والتماثل يف املواقف ،فال ميكننا �أن نن�سى ما جرى لبع�ضنا ولآبائنا من االهانة واال�ضطهاد� ،إلخ» .ومع �أن حجة اال�ضطهاد �صحيحة فلي�س �صواباً اتخاذها ذريعة �أو م�ستنداً جلعل املا�ضي يحكم على احلا�ضر وامل�ستقبل ،ف�إعدام امل�ستقبل ب�سبب جهاالت املا�ضي هو �أ�سو�أ ال�ضالل� :إنه االنتحار واالنعدام ،وال ي�سعى نحوه �إال كل �سيىء امل�صري� .إنه جرمية تتناول الأبناء والأحفاد الأبرياء ،و�أي جهالة ميكن �أن تكون �شراً من هذه اجلهالة؟ ماذا كان يحدث لأملانية لو ظل بروت�ستنتيوها وكاثوليكيوها يقولون مثل هذا القول� ،أي �أنهم ال ي�ستطيعون ن�سيان الأحقاد واال�ضطهادات القدمية بني تينك ال�شيعتني امل�سيحيتني ،التي ولدت بينهما ما يعرف يف التاريخ بحرب الثالثني �سنة؟ �أجل� ،إن حرب الثالثني �سنة الدينية التي ن�شبت بني الذين اعتنقوا مذهب لوثر الإ�صالحي وال�سلطة الكاثوليكية و�أتباعها ،هي حرب مل ين�شب مثلها يف بالدنا بني امل�سيحيني والر�سوليني.
212
�أنطون �سعادة
�إنها حرب �شديدة كرثت وقائعها امل�شهورة و�سالت فيها الدماء �ش�آبيب ،وتهدمت املدن يبق يف �أملانية مدينة �أو بلدة �إال ولب�ست احلداد و�أقيمت فيها املناحات. وخربت الديار .ومل َ فلو بقي �أحفاد املتقاتلني الأملان يقولون �إىل اليوم ما يقوله �أحفاد املتقاتلني ال�سوريني� ،أي« :ال ميكننا �أن نن�سى ما جرى لآبائنا و�ضحايانا»� ،أكانت تقوم لأملانية قائمة؟ �إال �أن ما م�ضى قد م�ضى ،والأمة يجب �أن حتيا للحا�ضر وامل�ستقبل ،ولي�س للما�ضي .و�إذا نظرنا �إىل املا�ضي فلننظر ال�ستخراج العرب واملغازي ولي�س الرجوع �إىل حالة املا�ضي امل�ؤ�سفة. ومن �أقوال جهلة امل�سيحيني �إن ما ُيرى من �شدة تع�صب العامة املحمدية هو دليل على عدم �إمكان االتفاق واالحتاد مع املحمديني ،فك�أنهم يقولون �إن املحمديني خلقوا جامدين على حالتهم غري قابلني للتطور .وهذا جهل وخطل يف الر�أي ،ف�إذا رجعنا �إىل �أزمنة التع�صب امل�سيحي وجدنا �أنها ال تختلف يف �شيء عن �أزمنة التع�صب الر�سويل� ،إذا مل تكن فاقتها �شدة وق�سوة .فلنعترب مبا جرى يف () �أملانية ثم مبا جرى يف فرن�سة من اال�ضطهاد الديني الذي بلغ قمته يف مذبحة برتلماو�س ال�شهرية التي ظهرت فيها فظاعة الغدر واحلقد الديني ب�أقبح مظهر .وقد ر�أينا بعد ذلك �أن النا�س تركوا هذه الأمور .فهل يظن �أحد من ذوي الإدراك العادي �أن امل�سيحيني وحدهم قابلون للتطور و�أن املحمديني �سيبقون جامدين يف حالة الهو�س الديني و�أوهامه؟ نن�س �أن �أكرث املحمديني �إن ال�سوريني املحمديني قابلون للتطور كال�سوريني امل�سيحيني ،وال َ ال�سوريني كانوا من قبل م�سيحيني ثم اعتنقوا املحمدية مف�ضلينها مع احلرية على امل�سيحية مع العبودية ،لأن الفتح املحمدي خيرَّ �أهل البالد بني الدخول يف الدين الر�سويل ونيل جميع حقوق �أتباعه وبني البقاء على دينهم ودفع اجلزية و�إبطال حقوقهم املدنية وال�سيا�سية. �أما ما نراه من �شدة هو�س اجلماعات املحمدية يف �سورية فهو �أمر طبيعي جرى مثله يف جميع امللل ،وهو عائد �إىل قرب عهدهم بالتع�صب الديني وانعدام العلوم الفل�سفية والعلمية من نن�س �أن ت�ساهل امل�سيحيني احلايل عائد �أو�ساطهم ،ولي�س �إىل طبيعة فيهم ال تتبدل وال تتغري .فال َ �إىل �سبقهم الر�سوليني �إىل العلوم واملعارف الع�صرية مبا ن�ش�أ يف �أو�ساطهم من مدار�س وخ�صو�صاً ما ن� أش� يف املدة الأخرية من املدار�س املدنية .وحيث ن�ش�أت يف �أو�ساط ر�سولية مدار�س مدنية عنيت 1
املسيحية واحملمدية والقومية
213
بتدري�س العلوم احلديثة جند تبد ًال كبرياً يف نظر التالميذ املحمديني �إىل احلياة االجتماعية .ويف احلركة ال�سورية القومية جرى التغيرّ والتطور جمرى واحداً بني امل�سيحيني والر�سوليني والدروز. معلوم �أن الر�سولية ت�أخرت عن امل�سيحية يف �سورية نحو �سبعة قرون ،وفرق هذه املدة يف التطور يجب �أال يذهب بدون مالحظة .ثم جند �أن التع�صب الديني امل�سيحي مل يبتديء يخف �إال بعد ن�شوء املدار�س العلمانية� ،أما حني كان التعليم دينياً بحتاً كان التع�صب الديني ّ امل�سيحي مثل التع�صب الديني الر�سويل .و�شدة التع�صب الر�سويل التي ال تزال ظاهرة بني حممديي �سورية عائدة �إىل ت�أخر ن�شوء املدار�س العلمانية عندهم وقلة عددها بالن�سبة �إىل املدار�س الدينية والتعليم الديني املح�شو هو�ساً وتع�صباً دينياً. �إذا و�ضعنا عدداً مت�ساوياً من التالميذ امل�سيحيني والر�سوليني والدروز حتت ثقافة واحدة ف�إننا جند النتائج واحدة ،وال تختلف �إال بتعر�ض التالميذ لت�أثريات �أخرى يف بيوتهم .ومع ذلك فاالختالف ي�ضعف رويداً مع ا�ستمرار الثقافة حتى يتال�شى ويزول بامل ّرة. وقد �شاهدنا �أطوار هذا ال�صراع الطويل بني الثقافة القومية الواحدة التي �أن�ش�أها احلزب ال�سوري القومي وعوامل البيئات املل ّية .ويف �أوائل �أطوار هذا ال�صراع ظهر ك�أن عوامل احلياة املل ّية �ستغلب دوافع احلياة القومية وثقافتها .ولكن مل يطل الأمر حتى �أخذت الثقافة القومية تتغلب على الثقافة املل ّية ،و�صارت دوافع احلياة القومية متحق عوامل احلياة املل ّية حتى �أتت عليها .وقد اقت�ضى ذلك مقداراً عظيماً من ال�صرب واحلنكة و ُبعد النظر وح�سن ال�سيا�سة وال�سهر يف �إدارة احلزب ال�سوري القومي العليا ،فكانت النتيجة باهرة ال يت�صور الالقوميون ر�ؤيتها وال يف املنام. وال يظنن �أحد �أن جميع مفكري املحمديني هم من نوع ال�شيخ حممد عبده وال�سيد جمال الدين الأفغاين ،فهذان املفكران الرجعيان غري ال�سوريني ال ميكنهما ادعاء احتكار التفكري املحمدي الع�صري .وقد قلنا �إنه من امل�ؤ�سف �أن مفكراً �سورياً حممدياً هو ال�سيد الفراتي عبد الرحمن الكواكبي مل يذهب �صيته ذهاب �صيت �إما َمي الرجعة املذكورين مع �أنه �أحق بهداية النفو�س منهما� ،إذ نظر �إىل احلياة االجتماعية وال�سيا�سية من جهة التفكري ال�سوري املرتقي .و�إليك فقرة مما قاله يف كتابه «طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد»:
214
�أنطون �سعادة
«يا قوم ،و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني( ،وهو قول �سوري موجه �إىل ال�سوريني بالدرجة الأوىل و�إن يكن القول عاماً الناطقني بال�ضاد) �أدعوكم �إىل تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد وما جناه الآباء والأجداد .فقد كفى ما فعل ذلك على �أيدي املثريين ،و�أج ّلكم من �أن ال تهتدوا لو�سائل االحتاد و�أنتم املتنورون ال�سابقون .فهذه �أمم �أو�سرتيه و�أمريكة قد هداها العلم لطرائق �شتى و�أ�صول را�سخة لالحتاد الوطني دون الديني والوفاق اجلن�سي دون املذهبي ،واالرتباط ال�سيا�سي من دون الإداري(؟) فما بالنا نحن ال نفتكر يف �أن نتبع �إحدى تلك الطرائق �أو �شبهها .فيقول عقال�ؤنا ملثريي ال�شحناء من الأعجام والأجانب :دعونا يا ه�ؤالء ،نحن ندبر �ش�أننا ،نتفاهم بالف�صحاء ونرتاحم بالإخاء ونتوا�سى يف ال�ض ّراء ونت�ساوى يف ال�س ّراء .دعونا ندبر حياتنا الدنيا وجنعل الأديان حتكم يف الأخرى فقط .دعونا جنتمع على فلنحي طلقاء �أعزاء!». فليحي الوطنَ . فلتحي الأمةَ . كلمات �سواء �أال وهيَ : هذا كالم رجل من املحمديني عرف معنى الإ�سالم ال�صحيح وقال قو ًال جعله يف طالئع العهد القومي ،و�إن كان النا�س ا ّتبعوا من هو (الكواكبي) �أحق بالتقدم عليه .ولكن النه�ضة ال�سورية القومية جاءت تنف�ض غبار الأوهام عن �أذهان النا�س ليميزوا بني قول احلق وقول الباطل .فرحم اهلل ال�سيد الفراتي مبا قال ،وفيه زبدة تفكري را�سخ وت�أمل نا�ضج« :دعونا ندبر حياتنا الدنيا وجنعل الأديان حتكم يف الأخرى فقط» .فهذا قول تتبناه احلركة ال�سورية القومية بحرفيته ،وتخ ّلد به ذكرى الإمام الكواكبي الذي نظر يف مقت�ضيات الدين والدنيا فقال فيها هذا القول الف�صل.
اخلالصة:
قد تبني من هذا الدر�س ،املخت�صر على طوله� ،أن الدعوة الرجعية �إىل دولة الدين الر�سويل هي فا�سدة وم�ستندة �إىل جهل يف الدين والدنيا ،كما �أن الدعوة الرجعية �إىل دولة الدين امل�سيحي هي فا�سدة وم�ستندة �إىل جهل يف الدين والدنيا. وات�ضح �أن التع�صبات الدينية واحلزبيات املل ّية هي بالء هذه الأمة ال�سورية الذي ال بالء بعده، و�أن ال دافع لهذا البالء وغريه عن الأمة غري دافع القومية ال�سورية التي جعلها احلزب ال�سوري
املسيحية واحملمدية والقومية
215
القومي دين الدنيا لل�سوريني .وقد توفرت الأدلة والرباهني النظرية والعملية على �صحة هذا الدين القومي الذي يجعل ال�سوريني ع�صبة واحدة ال تف ّرق بينهم يف الدنيا �أية فكرة حملها يف الآخرة ،وال يتميز بينهم �أحد �إال مبقدار ما يجاهد ويبذل خلري الأمة ال�سورية حميعها. �إن النتائج الفعلية التي ح�صلت بن�شوء القومية ال�سورية و�سري احلركة ال�سورية القومية هي تعم ال�شعب ،لينه�ض كله نه�ضة واحدة بعقيدة واحدة و�إميان نتائج �أكيدة ال ينق�صها �إال �أن ّ واحد ،في�صري قادراً على ال�صرب والثبات يف معرتك الأمم والتقدم يف م�ضمار احلياة .والو�صول �إىل هذه احلالة ال�سعيدة التي ال ي�شتهيها عدو ل�سورية يقت�ضي تلبية وا�سعة �سريعة من الأو�ساط والعنا�صر املدركة التي ر�أت �صحة الر�سالة ال�سورية القومية ،لإمداد احلركة ال�سورية القومية باملال الالزم لن�شر ر�سالتها و�إذاعة مبادئها ونظرياتها وتلقني تعاليمها للجماعات العط�شانة �إىل املعرفة امل�شتاقة �إىل نور اليقني ،ولت�أييد هذه احلركة املباركة معنوياً ومادياً وم�ساعدتها على مهاجمة الدعاوات الت�ضليلية وحماربة الأفكار ال�ساقطة واملذاهب االنحطاطية ،فيكون من وراء ذلك تغيري الأمة من حال االن�شقاق والتخاذل والتحاقد وال�ضعف �إىل حال االتفاق والتعاون والتعا�ضد والقوة والتغلب واملجد. �إن الق�ضاء على الت�ضليل وامل�ضللني ،وجلب �سواد ال�شعب �إىل �صراط احلقيقة واحلق، يحتاج لبث املعرفة يف جميع الأو�ساط .وهذا عمل كبري يف حد ذاته يقت�ضي و�سائل كثرية من الإذاعة اخلطابية والكتابية .والتفكري يف هذا امل�شروع وحده ومقت�ضياته يجعلنا ندرك كم هو �ضروري الإقبال على منا�صرة احلركة ال�سورية القومية مادياً ومعنوياً .ولو �أن التلبية الفعلية امتدت ب�سرعة يف الوطن واملهجر وح�صلت للحركة املقومات املادية الكافية لإذاعة وا�سعة ،وبث الك ّتاب واخلطباء يف جميع الأنحاء ،وطبع الكتب واملنا�شري واخلطب وتوزيعها بع�شرات الألوف ،و�إن�شاء ال�صحف واملجالت لإمداد النا�س باملعلومات الوثيقة والتوجيهات ال�صحيحة ،لكان من املحتمل �أو املرجح �أن يكون موقف �سورية يف هذه احلرب غري موقف ال�شلل الذي تقفه ب�سبب كرثة الدعاوات والإذاعات امل�ضللة التي تقوم بها عنا�صر ال�سيا�سة ال�شخ�صية والرجعية ،وتغذيها الإرادات الأجنبية التي� ،أياً كان م�صدرها ،ال ترغب يف �أن ترى الأمة ال�سورية موحدة العقيدة والإرادة لكي ال تفوتها مطامعها فيها.
216
�أنطون �سعادة
�إن كل �سوري و�سورية يغاران فع ًال على �شرف قوميتهما وم�صلحة �شعبهما ورفاهية وطنهما يجب �أن يعلما �أن �أمانيهما خلري �أمتهما ووطنهما ال تتحقق بالك�سل والالمباالة وال مبجرد التمني ،بل بدر�س الق�ضية القومية املقد�سة در�ساً �صحيحاً يف مبادئها التي ن�ش�أت عليها، دجايل الوطنية والأدب وم�شعوذي العلم والفن. وبالقيام بالواجب نحو هذه الق�ضية ،ومبحاربة ّ بهذه الطريقة يتم الوعي القومي و ُتخ ّل�ص الأمة ال�سورية من ق�ضية احلزبيات املل ّية ومن مظامل االقطاعية ،فتقف �صفوفاً واحدة مرتبة بني �صفوف الأمم الباقية ويف مقدمة هذه الأمم جميعها مبا لها من مثل عليا فائقة اجلمال وف�ضل على الثقافة والتمدن الإن�سانيني. �إن القواعد ال�صحيحة لنه�ضة �سورية قومية عظيمة قد و�ضعت ،والنه�ضة العظيمة قد ابتد�أت بالفعل يبق �إال �أن حت�صل التلبية الوا�سعة ل�سري �سورية �إىل املجد الذي ينتظرها. منذ نحو ع�شر �سنني ،فلم َ فيا �أيها ال�سوريون املقيمون واملهاجرون ،ارحموا �أنف�سكم وعيالكم وذريتكم يرحمكم اهلل، انبذوا الذين يريدون بكم �شقاقاً والتفوا حول الذين يريدون بكم وفاقاً ،واتركوا ق�ضايا الآخرة للآخرة ،وتعالوا �إىل كلمة �سواء جتمع �شملنا وتعيد �إلينا وطننا و�أهلنا وع ّزنا وكرامتنا وحقوقنا وم�صاحلنا� ،إىل القومية ال�سورية االجتماعية ،التي هي رابطة كل �سوري و�سورية بكل �سوري و�سورية ،ورابطة الأجيال ال�سورية املا�ضية واحلا�ضرة واملقبلة. �أيها ال�سوريون: ان�صروا قوميتكم وتع�صبوا لها وحدها فهي مبد�ؤكم ومعادكم يف الدنيا وبها تنت�صرون وتنالون املجد. �إنتهى البحث ويف العدد القادم كلمة اخلتام.
اهلوامش -1مذبحة ارتكبها الكاثوليك بحق الربوت�ستانت يف فرن�سا �سنة ،1572وراح �ضحيتها ما بني � 5إىل � 30ألفاً.
املسيحية واحملمدية والقومية
217
اخلامتة :خلود اجلنون �إن من ي�ستعر�ض ،بروية و�إدراك ،احللقات ال�سابقة من هذا البحث وينظر يف �أ�سبابها املبا�شرة ويعرف �أهميتها الكبرية لغر�ض «ت�صفية العقائد» البالية املت�ضاربة ،الذي �أعلنه زعيم النه�ضة ال�سورية القومية يف خطابه �أول حزيران 1935ويف ب�سطه و�إي�ضاحه الذي و�ضعه يف �سجن الرمل �أوائل كانون الثاين �سنة ،1936يرى بجالء عظيم الفرق بني �إيقاد النار و�إخمادها. فالأول عمل هينّ ال يندر �أن يكون رمية طي�ش ونفخة جهل ،وهو يف مقدور النابغ واخلامل على ال�سواء� .أما الثاين فعمل �شاق ،كثري اجلهد يحتاج فيه �إىل العلم والتنظري وال�صرب واملثابرة .والنار الكالمية �أو الفكرية �أ�صعب عالجاً من النار املادية لأنها تتناول النفو�س وتركيبها املعقد وعوامل عقليتها .ومن و�ضوح هذا الفرق بني طبيعة العملني يدرك الدار�س الفطن �سهولة تبجح املخربني بتخريبهم و�صعوبة �إجناز التجديد واال�صالح يف بيئة يكرث فيها اجلهلة ،الطائ�شون ،املخربون. �إىل جانب هذه احلقيقة نرى حقيقة �أخرى وهي �أن التبجح بالتخريب ينتهي باخلراب ،و�أن اجلنون باخللود ال يو�صل �إال �إىل اجلنون. كما �أن النف�سية العامة هي ّ مركب معقد كذلك النف�سية الفردية .ف�إن من غريب �أمر ر�شيد �سليم اخلوري الناظم املعروف بِــ«ال�شاعر القروي» و�أ�ضرابه ك�إليا�س فرحات و�إيليا �أبي ما�ضي �أنهم ل�شدة مر�ض نفو�سهم و�إعجابهم بذواتهم �أخذوا يظنون �أن املباديء والتعاليم االجتماعية ال �صحة �أو حقيقة لها يف نف�سها و�أنه ،لذلك ،ميكن هدمها بالهجو والقدح والطعن اللئيم ب�أ�صحابها ،ثم �إ�شادة فكر و�أوهام خاطئة يف حملها بالتعظيم واملدح .وتوهموا �أن �شعور ال�شعب
218
�أنطون �سعادة
و�أمانيه لي�ست ذات �أ�صول نف�سية حقيقية بل جمرد حاالت عار�ضة ميكن التالعب بها بالق�صائد واخلطب ،فلم يعودوا يقيمون حرمة لعلم وال وزناً لتعليم �أو مبد�أ. بهذا التفكري ال�سخيف املمزوج بحالة من �أ�صعب حاالت اجلنون باخللود ومطامع مادية ،مالية وغريها� ،أذعن ر�شيد �سليم اخلوري �إىل �إغراء الذين باعهم نف�سه وقلمه ليحمل على مباديء احلركة ال�سورية القومية و�شخ�صية زعيمها التي كان يعرف هو حقيقة قوتها ،وليدعو �إىل بع�ض ال�شخ�صيات الرجعية التي تقلبت يف مذاهبها ومواقفها االجتماعية وال�سيا�سية ،وتلونت يف غاياتها العمومية ب�ألوان �شتى كال�سيد �شكيب �أر�سالن الذي حمل على �إيطالية �سنة 1931 ب�سبب �سيا�ستها اال�ستعمارية يف طرابل�س الغرب والقريوان ،ثم عاد �سنة 1939وما بعدها يخف على فمدح اال�ستعمار الإيطايل و�أفا�ض يف و�صف العمران الذي قام به يف �إفريقية ،ومل َ املراقبني �أن انقالبه كان لأن الطليان ا�ستمالوه باملال .ثم عاد �إىل الوطن �سنة 1937بعد و�ضع املعاهدة ال�شامية ـ الفرن�سية و�أيد �سيا�سة «الكتلة الوطنية» و�سيا�سة فرن�سة ،وكان الفرن�سيون قد ا�ستمالوه كما ا�ستماله الطليان .ثم انقلب بعد �إعالن احلرب احلا�ضرة على رجال «الكتلة الوطنية» الذين كانوا لعهد قريب �إخوانه و�أخدانه ،وعلى �سيا�سة فرن�سة ،ف�أخذ يطعن فيهم وفيها .ومل يكن يف كتاباته �ضد �سيا�سة فرن�سة �سوى معيد بع�ض ما كان �أعلنه الدكتور خليل �سعادة وجاهر به من النقد ل�سيا�ستها يف �سورية .و�سبب هذا االنقالب هو �أن الإذاعة الأملانية ا�ستمالته �إليها وا�شرتت �إم�ضاءه ومقاالته التي حتمل مزيجاً جز�ؤه الأول ما ت�شري به �إدارة الإذاعة الأملانية وجز�ؤه الثاين مطامعه ال�شخ�صية يف اخلالفة املحمدية .ناهيك عن مواقفه الغريبة ،يف العهد الرتكي ،البعيدة عن كل �شعور وطني نبيل وعن كل �إدراك قومي �صحيح. بالتفكري العقيم امل�شار �إليه ،قام ر�شيد اخلوري ينق�ض �سراً وجهراً يف بع�ض احلاالت ،ما كان قد �أثبته كتابة يف �صدد �شخ�صية م�ؤ�س�س النه�ضة ال�سورية القومية .و�إثباته الكتابي املذكور هو ما ن�شره يف �صحيفة «الرابطة» التي عهدت �إليه رئا�سة حتريرها بعد وفاة الدكتور خليل �سعادة والد الزعيم ،يف عددها ال�صادر يوم ال�سبت يف 1فرباير (�شباط) 1936بتوقيع «القروي». و�إليك بع�ض ما قاله يف املقالة االفتتاحية امل�شار �إليها: «و�أنطون ذلك الفتى النجيب الذي يعرفه الو�سط ال�سوري ال�سانباويل �إذ كان يعاون املرحوم
املسيحية واحملمدية والقومية
219
�أباه يف حترير «اجلريدة» وملا يكد يجاوز ن�صف العقد الثاين من عمره النافع الطويل �إن �شاء اهلل. وهمه �أبعد من �سنه ومراده �أكرب من ج�سمه .وكان بع�ض «عرفنا الفتى �أنطون يف هذه احلا�ضرة ّ املتعنتني من الأدباء (ولعل �إليا�س فرحات �أولهم) ي�ستثقلون ظله حل�شره نف�سه بني جماعة املن�شئني والك ّتاب النا�ضجني .وكان كاتب هذه ال�سطور (ر�شيد اخلوري) يناق�ش عنه ملا كان يتو�سم فيه من خمائل النجابة التي �أمهلها اهلل مب ّنه حتى �صارت �شمائل حلوة رائعة تدعو �إىل الده�شة والإعجاب». هذا بع�ض ما كتبه اخلوري بوجدان نزيه و�صراحة تامة يف �أوائل �سنة .1936ولكن يف �أوائل �سنة � 1939أخذت احلالة تتبدل ،فلم يعد �أنطون �سعادة ذلك الفتى البعيد الفهم والكبري املراد ،وال ذا خمائل النجابة التي �أمهلها اهلل مب ّنه حتى �صارت «�شمائل حلوة رائعة تدعو �إىل الده�شة والإعجاب» .كال ،مل يعد �أنطون �سعادة لر�شيد اخلوري �سوى م�ضلل لي�س فيه �شيء رائع يدعو �إىل الده�شة والإعجاب! ملاذا؟ لأن ر�شيد �سليم اخلوري و�ضع نف�سه حتت ت�صرف �إرادات خفية غام�ضة ت�شتغل وراء �شكيب �أر�سالن �أو ُت�شغله! يف احللقات الأوىل من هذه ال�سل�سلة ( ُن�شرت يف ق�سم «جنون اخللود») �أوردنا بع�ض مطاعن ر�شيد اخلوري يف احلزب ال�سوري القومي و�شخ�صية زعيمه ،ولكن فاتنا �أن نذكر هناك ناحية الد�س الدال على اختبار طويل العهد يف هذا الفن اللئيم .فمن و�سائل �إلقاء ال�شبهة من ّ والريبة ،بطريقة لبقة على درجة عالية من الإتقان ،قول ر�شيد اخلوري لبع�ض الذين ا�ست�صوبوا غاية احلزب ال�سوري القومي وعرفوا قدر مبادئه ال�سامية التي و�ضعها له الزعيم�« :سواء �أكانت هذه املباديء و�شروحها من �إن�شاء الزعيم نف�سه �أو مما نقله �أو �أخذه الزعيم من م�صادر �أجنبية، فال �شك �أن احلزب ال�سوري القومي �أوجد نظاماً جيداً و�أ�شياء مفيدة يح�سن اكت�سابها!». الد�س على احلركة ال�سورية القومية والعمل �إىل هذا املدى البعيد و�صلت وقاحة اخلوري يف ّ على هدم ع�صمتها وحمق الإميان بها! �أال يعرف ر�شيد اخلوري نف�سه حق املعرفة �أن مباديء احلزب ال�سوري القومي و�شروحها هي من �إن�شاء الزعيم وال ميكن �أن تكون �إال من �إن�شائه؟
220
�أنطون �سعادة
بلى ،هو يعرف ذلك حق املعرفة .فهو قد احتك ب�أفكار �أنطون �سعادة االجتماعية ـ ال�سيا�سية قبل مغادرته الربازيل عائداً �إىل الوطن ليعمل على �إنها�ضه .وال نظنه ين�سى حديث الزعيم �إليه يف �أحد الأم�ساء قرب ج�سر �أنينغباهو يف �سان باولو على فكرته ال�سورية القومية ،وكان ذلك قبل �سنة .1930وال نخاله ين�سى مقال �أنطون �سعادة املثبت يف اجلزء الأول من «املجلة» �سنة 1924عن الق�ضية ال�سورية( ) ،وال خطابه الذي �ألقاه �سنة 1924با�سم «الرابطة الوطنية ال�سورية» التي كان و�ضع لها مبادئها ومنهاجها وغايتها حني �أ�س�سها ب�شكل �سري. وال يجوز �أن يجهل الناظم القروي �أن يف �سان باولو �أ�شخا�صاً ذوي �أدب ومركز اجتماعي يعرفون بع�ض �أفكار الزعيم القومية قبل عودته �إىل الوطن �سنة ،1930نذكر منهم الدكتور عبده جزرة الذي كان �صديقاً حميماً لوالد الزعيم ،ثم متكنت �صداقته مع الزعيم نف�سه فك�شف له الزعيم عن عزمه على العودة �إىل الوطن للعمل على �إحياء �سورية و�إنها�ضها وحتريرها ،و�أطلعه على بع�ض �أفكاره ،فكان جواب الدكتور جزرة له بهذا املعنى« :ال �أريد �أن �أثبط عزمك ولكني �أقول �إنك �ستجد �صعوبات كثرية وتالقي نكران اجلميل وحماربة من نواح كثرية وتتعذب كثرياً» .والأدلة الوثيقة ،التي تثبت �أن مباديء احلزب ال�سوري القومي ٍ ن�ش�أت بتفكري الزعيم امل�ستقل الذي مل يكن يقبل امل�ؤثرات اخلارجية ،متوفر عند ر�شيد اخلوري بع�ض خربها ،حتى �أنه �شهد للزعيم يف مقالته امل�شار �إليها �آنفاً .فال ي�سوغ عباراته املثرية ال�شكوك يف �سالمة مباديء احلزب ال�سوري القومي غري ت�أجريه نف�سه للعمل �ضد هذه املباديء كما ظهر من �أعماله الأخرية. الد�س اللئيم �أو على الأقل من ّ احلط قد مير بقول اخلوري الب�سطاء فال يجدون فيه �شيئاً من ّ الد�س القاتل يف معر�ض املدح من قدر تعاليم احلزب ال�سوري القومي .وهذا نتيجة �إتقان فن ّ الك�سيح .فر�شيد اخلوري يريد بهذا القول �أن يلقي يف روع ال�سامعني �أنه و�إن يكن ال�شك يف م�صدر تعاليم احلزب ال�سوري القومي واجباً� ،أي �أنه يوجد جمال وا�سع لالعتقاد �أن مباديء النه�ضة ال�سورية القومية لي�ست من �إبداع الفتى النجيب �أنطون �صاحب «ال�شمائل احللوة الرائعة التي تدعو �إىل الده�شة والإعجاب» ،فال ب�أ�س باقتبا�س بع�ض التنظيمات التي �أوجدها! 1
املسيحية واحملمدية والقومية
221
حتويل االهتمام باحلزب ال�سوري القومي ،الذي جاءت مبادئه القومية االجتماعية جتلو ظلمات الق�ضية ال�سورية ،عن هذه املباديء املحيية �إىل الأ�شكال الرتتيبية ،ال�شكلية ،هو �آخر �سالح جل�أ �إليه الذين عجزوا عن الوقوف يف وجه احلركة ال�سورية القومية .وهذا ال�سالح اللئيم بعينه مل يكن لر�شيد اخلوري ف�ضل فيه .فقد �سبقه �إىل �إيجاده عدد من م�ستغلي «دولة لبنان الكبري» الد�س واملطاعن اللئيمة مل يكن ر�شيد اخلوري مبتكراً! و«االمرباطورية العربية» .حتى يف ّ �إن جميع دجايل الوطنية ومنافقي القومية يقولون لل�سوريني القوميني االجتماعيني�« :أعطونا نظامكم البديع ف�إننا نقدر �أن ن�ستخدمه يف م�آربنا �ضد حياة الأمة ،ولكن �أبعدوا مبادئكم القومية االجتماعية عنا وعن ال�شعب لئال ي�ستيقظ ويعرف �إثمنا نحوه فينقلب ويتحرر من تدجيلنا وميزقنا كل ممزق!». �أما احلزب ال�سوري القومي فيقول لهم� :إين ال �أقدر �أن �أنزع نظامي عن مبادئي فهما كالدورة الدموية والأع�صاب للج�سم فال يحيا ويتحرك �إال بهما كليهما� .إن النظام وحده ال يحييكم� ،إن �إك�سري احلياة يف مبادئي� ،أما نظامي فلي�س �سوى اجلهاز الذي يتم به نقل الإك�سري �إىل الأج�سام! ثم كان �أن ر�شيد اخلوري انتهز فر�صة االحتفال باملولد الر�سويل يف �سان باولو ،الربازيل� ،سنة وعدتها له �صحيفة وعدها ّ 1940فكتب مقالة خطابية طويلة يف مو�ضوع «امل�سيحية والإ�سالم» ّ «الرابطة» ،التي ن�شرتها له ابتدا ًء من عددها ال�صادر يف الثامن من يونيو (حزيران) من ال�سنة املذكورة« ،حما�ضرة» ،تط ّرق فيها �إىل احلركة ال�سورية القومية وتناولها بالقدح والذم� .أما �أ�سا�س مو�ضوع حار�ضته التي �سماها حما�ضرة فقد ب ّينا يف �سياق املقاالت املتقدمة مقدار جهله �ش�ؤونه ،و�أو�ضحنا �أنه مل يكن مفكراً مبتكراً يف �شيء من مقالته ،بل كان ناق ًال ،على عادته ،بت�صرف ،كالم �أ�ستاذي الرجعة �إىل الدولة الدينية املحمدية ال�سيد جمال الدين الأفغاين وال�شيخ حممد عبده .و�أما ما تناول به احلزب ال�سوري القومي وعقيدته ال�صحيحة من الذم والهجو فقد ظهر على �ضوء ما تقدم من هذه ال�سل�سلة مبلغ �ضالله وخبطه فيه على غري هدى وب�شيء كثري من اجلهل واحلماقة.
222
�أنطون �سعادة
ومن غريب �أمر هذا اخلوري ،الذي �صار «حاجاً» ر�سولياً ثم عاد خورياً م�سيحياً� ،أنه مل يكد يقر�أ �أول رد جريء قوي على غوايته ن�شر يف «�سورية اجلديدة» بقلم الرفيق وليم بحلي�س الذي دافع عن الوجهة القومية ،وردود الق�س خليل الرا�سي الذي تقدم للدفاع عن امل�سيحية التي قام اخلوري يجردها بنفاقه من فوائدها وف�ضائلها امل�شهورة ،ظناً منه �أنه يح�سن الزلفى ،على هذه الطريقة� ،إىل الذين انحاز �إىل هو�سهم الديني وم�آربهم فبدل فيها ليجعل ال�سفلية ،حتى �أوقف ن�شر الأق�سام الأخرية من حار�ضته وعمد �إليها ّ كالمه مت�ضمناً رداً احتيالياً على ما �أو�ضح من خبطه وجهله و�سوء ق�صده ،فكان من اجلنب واخلوف يف حالة حملته على تزييف كالمه .وهذا عمل ال ي�أتيه �أديب �شريف يخدم فكرة يعتقد بها مهما �أحدث كالمه من �ضجة .ولو �أن فئة الأدباء وامل�ست�أدبني التي �أطلقت على نف�سها ا�سم «الع�صبة الأندل�سية» �أوجدت م�ؤ�س�سة �صحيحة ذات غاية ونظام ،لكانت ر�أت من واجبها ،حر�صاً على �سمعتها واملنزلة التي توخت احتاللها� ،أن تدعو اخلوري ،وهو ع�ضو فيها� ،إىل جل�سة ُي�ستجوب فيها عن كيفية تزييف الق�سم الأخري من حار�ضته التي �سميت ،جه ًال ،حما�ضرة ،وتتخذ بحقه قرار طرد عند ثبوت التزييف. ولكن «الع�صبة الأندل�سية» كانت خليطاً ال �شكل موحداً لها .ونحن نعرف من �أع�ضائها �أديباً �شاعراً واحداً ي�صح �أن يحمل هذا اللقب ،وقد يكون هنالك واحد �أو اثنان �آخران ميكن ح�سبانهما يف م�صاف الأدباء� ،أما الباقون فهم �صيادو �ألفاظ ومرتجمو �أو ما�سخو مقاالت و�أفكار لغريهم وحمبو ظهور حتت ا�سم الأدب. لقد مدح اخلوري �شكيب �أر�سالن يف حار�ضته فقال عنه �إنه «فتى فتيان العرب» .ونحن نعلم �أن «�أر�سالن» لي�س ا�سماً عربياً ،بل �سلجوقياً ،ونعلم �أن �شكيب �أر�سالن العربي الذي يريد �أن يطهر العامل العربي من الأجنا�س غري العربية ،مل يتزوج امر�أة عربية ،بل �سورية �شرك�سية .ونعلم فوق ذلك �أن غالباً ابن �شكيب �أر�سالن ،ال يرى يف �أبيه ما يدعوه �إىل حمبته واحرتامه فهو على خالف معه ويقول �إنه قد تعب من تل ّون �أبيه وريائه. وقد مدح �شكيب �أر�سالن ر�شيد اخلوري ،رياء ،فقال عنه يف املقالة التي ن�شرتها له «العامل العربي»
املسيحية واحملمدية والقومية
223
يف عددها ال�صادر يف 13نوفمرب (ت�شرين الثاين) � ،1940إنه ال�شاعر ال�شهري الذي خدم الإ�سالم (املحمدي) برباهينه ال�ساطعة وحججه الدامغة(!!) �أكرث مما خدمه مئات �ألوف من امل�سلمني (املحمديني) �أنف�سهم .وعاد ر�شيد اخلوري �إىل مدح �أر�سالن يف بوان�س �آير�س فقال عنه �إنه ذاك املقيم يف �أوروبة «يكفكف يداً وميد �أخرى» ...واملطلعون على حركات �شكيب �أر�سالن مل يعرفوه �إال مكفكفاً يداً وماداً �أخرى كل حياته! قلنا �إن الرجعة حتارب حربها الأخرية .وها جبهة كاملة تنهار يف املهجر� :إليا�س فرحات ،ر�شيد اخلوري� ،إيليا �أبي ما�ضي ،عبد امل�سيح حداد .وهذه اجلبهة لي�ست �سوى حلقة من حلقات �سل�سلة الرجعة والبلبلة والتدجيل ،ومنها حلقة �شكيب �أر�سالن و�أ�ضرابه. �إن النه�ضة ال�سورية القومية ت�أ�سف ل�سقوط ه�ؤالء املبوقني .فهي قد حاولت �إنقاذهم من م�صريهم ال�سيىء .ولكن ال بد للنه�ضة القومية من �ضرب كل من يحاول الوقوف يف وجهها! �إن �إجناد �إيليا �أبي ما�ضي للخوري و�إجناد عبد امل�سيح حداد لإيليا �أبي ما�ضي مل يحوال دون �إطباق جنون اخلوري على خلوده ،وال دون �إطباق �سف�سطة �أبي ما�ضي على �صيته ،وال دون �إحلاق عبد امل�سيح حداد ب�صاحبيه ومقا�سميه �سوء طالعه. ال نزعم �أننا قد ق�ضينا على اجلنون باخللود ولكننا نزعم �أننا قد �أزلنا خطر املجانني باخللود عن ق�ضية �أمتنا ووطننا .فهم يقدرون �أن ي�صخبوا وي�ضجوا وراء حواجز احلديد التي �أقمناها لهم، و�أن ي�صل�صلوا بقيودهم ما �شا�ؤوا� .إنهم �أحرار يف كل ذلك ،ولكنهم مل يبقوا قادرين على �إيذاء الق�ضية القومية االجتماعية املقد�سة. و�إذا كانت م�صيبتهم ب�إدراكهم ،بعد كل هذا العمر� ،أن املجانني ال يخلدون يف الدنيا فيمكنهم �أن يتعزوا ب�أن اجلنون نف�سه خالد فهو باقٍ ما بقي النا�س .فال بد من ظهور جمانني باخللود وبغري اخللود بني الفينة والفينة ،ولكن االن�سانية تتقدم يف علومها النف�سية جي ًال بعد جيل وتزيد و�سائل الوقاية من خطر املجانني.
224
�أنطون �سعادة
ولعل �أ�صعب م�س�ألة يف �أمر ه�ؤالء هي :كيف ميكن وقاية املجانني بع�ضهم من بع�ض؟ ولكن هذه امل�س�ألة �إذا مل تتمكن االن�سانية من حلها ح ًال تاماً فالباقي منه يبقى حله للمجانني �أنف�سهم! فله�ؤالء �ساعات يثور فيها جنونهم والويل ٍ حينئذ لبع�ضهم من بع�ض! انتهى
اهلوامش � - 1أنطون �سعادة ،الأعمال الكاملة -اجلزء الأول ال�صفحة .81م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة، بريوت .2001
فهرس األمساء أ
�إبن خلدون196 ،53 ،51 ،50 : �أبو بكر47 ،46 ،43 :
�أبو حنيفة104 :
�أبو �سفيان122 ،44 :
�أبو عبيدة �إبن اجلراح81 ،80 ،47 ،46 : �أبو هريرة47 :
�أبي ما�ضي� ،إيليا223 ،217 ،66 : �أتاتورك ،كمال93 :
الأتا�سي ،ها�شم208 ،202 : �أحمد بن حنبل104 :
�أر�سالن� ،شكيب،178 ،100 ،66 ،21 : 223 ،222 ،219 ،218 �أر�سالن ،غالب222 : الأ�سود العنزي121 : الأفغاين ،جمال الدين،100 ،95 ،14 : ،133 ،111 ،108 ،103 ،101 221 ،213 ،148 ،147 ،143 �أمل�ستد� ،ألربت53 ،50 :
ب
بحلي�س ،وليم221 ،36 ،8 :
بر�ستد ،جيم�س هرني53 ،50 :
بندقي ،توفيق8 ،7 :
بندقي ،جورج13 ،8 ،7 :
بندقي ،ف�ؤاد8 ،7 :
البي�ضاوي ،عبداهلل بن عمر،73 ،71 : 130 ،120 ،118
ج
جزرة ،عبده220 :
ح
حبيبة بنت زيد72 :
حداد ،عبد امل�سيح223 :
احل�سيني ،احلاج �أمني200 :
خ
خالد بن الوليد،79 ،47 ،46 ،45 ،44 : 81 ،80 اخلطابي ،عبد الكرمي201 ،198 :
د
دي لبال�ش ،ويدال33 :
ر
الرا�سي ،خليل222 :
رافع بن عمرية45 ،43 : ربيعة بن عامر43 : ر�ضا ،ر�شيد100 :
روما�س ،البطريق80 ،79 : الريحاين� ،أمني200 :
ز
زيد بن حارثة112 :
زينون الرواقي69 ،26 :
س
�سعادة� ،إدوار8 :
�سعادة ،خليل218 :
�سعد بن الربيع72 :
ش
ال�شافعي ،حممد بن �إدري�س104 :
ال�شهبندر ،عبد الرحمن،203 ،202 : 208 ،206
ص
�صفوان بن عمرو80 :
ال�صرييف ،ح�سن كامل91 :
ض
�ضرار بن الأزور81 ،79 :
ع
العا�ص� ،سعيد200 :
عبد الرحمن بن �أبي بكر81 ،79 : عبداهلل بن �أني�س47 :
عبداهلل بن جعفر47 :
عبداهلل بن �سعد121 :
عبده ،ال�شيخ حممد،100 ،95 ،14 ،9 : ،143 ،111 ،108 ،103 ،101 221 ،213 ،148 ،147 الع�سراوي ،جنيب9 : علي بن �أبي طالب147 ،32 ،12 : عمر بن اخلطاب،52 ،51 ،47 ،46 ،44 : 53
عمرو بن مالك52 :
غ
غيتاين ،ليون53 ،49 :
الغيداق بن وائل44 :
ف
فرحات� ،إليا�س223 ،219 ،217 :
ك
كرد علي ،حممد100 :
كعب بن الأ�شرف221 :
الكندي ،عبد امل�سيح137 ،136 :
الكواكبي ،عبد الرحمن،213 ،104 : 214
كريوز ،حبيب12 :
م
مارتل� ،شارل82 :
بن �أن�س124 ،104 :
مالك جماع�ص� ،سليم10 : م�سوح ،جربان9 : م�سيلمة121 : معاوية145 :
ن
نا�صيف ،يعقوب9 :
هـ
هاين بعل90 :
و
الواقدي،52 ،47 ،46 ،45 ،44 ،43 : 80 ،79 ،53
ي
يزيد بن �أبي �سفيان43 :
يون�س ،الق�سي�س80 ،46 ،45 ،44 :
السور القرآنية حسب ترتيب النزول -1العلق -2القلم -3املزمل -4املدثر -5الفاحتة -6امل�سد -7التكوير -8الأعلى -9الليل -10الفجر -11ال�ضحى -12ال�شرح -13الع�صر -14العاديات -15الكوثر -16التكاثر -17املاعون -18الكافرون -19الفيل -20الفلق -21النا�س -22الإخال�ص -23النجم -24عب�س -25القدر -26ال�شم�س -27الربوج -28التني -29قري�ش
-30القارعة -31القيامة -32الهمزه -33املر�سالت -34ق -35البلد -36الطارق -37القمر � -38ص -39الأعراف -40اجلن -41ي�س -42الفرقان -43فاطر -44مرمي -45طه -46الواقعة -47ال�شعراء -48النمل -49الق�ص�ص -50الإ�سراء -51يون�س -52هود -53يو�سف -54احلجر -55الأنعام -56ال�صافات -57لقمان � -58سب�أ
-59الزمر -60غافر ُ -61ف�صلت -62ال�شورى -63الزخرف -64الدخان -65اجلاثية -66االحقاف -67الذاريات -68الغا�شية -69الكهف -70النحل -71نوح � -72إبراهيم -73الأنبياء -74امل�ؤمنون -75ال�سجدة -76الطور -77امللك -78احلاقة -79املعارج -80النب�أ -81النازعات -82االنفطار -83االن�شقاق -84الروم -85العنكبوت -86املطففني -87البقرة
-88الأنفال � -89آل عمران -90الأحزاب -91املمتحنة -92الن�ساء -93الزلزلة -94احلديد -95حممد -96الرعد -97الرحمن -98الإن�سان -99الطالق -100البينة -101احل�شر -102النور -103احلج -104املنافقون -105املجادلة -106احلجرات -107التحرمي -108التغابن -109ال�صف -110اجلمعة -111الفتح -112املائدة -113التوبة -114الن�صر