جنون اخللود �أنطون �سعادة �صدر هذا الكتاب عن م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة جميع احلقوق حمفوظة لعائلة �أنطون �سعادة ال ي�سمح ب�إعادة طبع هذا الكتاب �أو �أي جزء منه �أو تخزينه يف نطاق ا�ستعادة املعلومات �أو نقله ب�أي و�سيلة �سواء ال ّت�صويرية �أم االلكرتونية �أم امليكانيكية .مبا يف ذلك الن�سخ الفوتوغرايف والت�سجيل على �أ�شرطة �أو �سواها وحفظ املعلومات وا�سرتجاعها دون �إذن خطي من العائلة.
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت� ،صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : الطبعة الأوىل ،بريوت 2012 ISBN: 978-9953-419-18-3
احملتوى الفهرس
مقدمة النا�شر جنون اخللود املثل الدنيا وتكلف ال�شعر القول لي�س �شعراً �إ�ضطراب وهذيان «حتية الأندل�س» �أ�سباب و�أ�سباب �أ�سباب و�أ�سباب �أي�ضاً �أ�سباب و�أ�سباب �أي�ضاً و�أي�ضاً الباطل �سالح العاجز نرث النظم التحري�ض اململ «ع ّالك» �أوزان يف جمال حما�ضر فهر�س الأ�سماء
رقمالصفحة 7 17 25 34 43 48 55 61 68 75 79 85 90 97
7
مقدمة الناشر يف مطلع �آب �سنة ،1940تناهى �إىل �أنطون �سعادة م�ؤ�س�س احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي يف مغرتبه الق�سري بالأرجنتني �أن جريدة «الرابطة» ال�صادرة يف الربازيل تن�شر على حلقات «حما�ضرة» �ألقاها ر�شيد �سليم اخلوري الذي �أطلق على نف�سه ا�سم (ال�شاعر القروي) بعنوان «امل�سيحية والإ�سالم» ،فكتب �إىل جورج بندقي يف �سان باولو ر�سالة بتاريخ � 4آب يقول فيها: «مل يخطر لك يف بال �أن تر�سلها �إ ّيل (�أي املحا�ضرة) مع �أنها هامة يل .وقد وردين معظمها وبقي الق�سم الأخري ( )...ف�أريد �أن تر�سل هذا الق�سم �إ ّيل �سريعاً». كان �سعادة �آنذاك ي�ستعد لإ�صدار جريدة «الزوبعة» يف بوان�س �أير�س ،وقد �صدر العدد الأول فع ًال يف � 10آب .1940غري �أنه قرر مناق�شة «حما�ضرة» ر�شيد �سليم اخلوري ب�سل�سلة من املقاالت ين�شرها على �صفحات جريدة «�سورية اجلديدة» ال�صادرة يف �سان باولو ،التي كان قد اتفق مع �صاحبيها ف�ؤاد وتوفيق بندقي على �أن يتوليا هما الإدارة يف حني تكون ال�سيا�سة التحريرية خا�ضعة لإ�شراف القيادة احلزبية .ولذلك كتب �إىل جورج بندقي بتاريخ � 23آب يقول« :و�ضعت لك منذ يومني ،يف الربيد العادي امل�سجل ،مغلفاً ي�شتمل على املقالني الأولني من �سل�سلة مقاالت يف ر�شيد �سليم اخلوري ومنظوماته و«حما�ضرته» الأخرية بعنوان «جنون اخللود» ،ف�أكرر هنا وجوب التدقيق يف الأغالط املطبعية»... و�أرفق �سعادة هذين املقالني بتعليمات وا�ضحة حمددة لطريقة الن�شر يف �صدر ال�صفحة الأوىل من «�سورية اجلديدة».
8
لكن الن�شر مل يتم يف الوقت املعني ،فكتب مرة �أخرى �إىل جورج بندقي بتاريخ � 9أيلول...« : وردين الربيد هذا اليوم وفيه العدد 82من «�سورية اجلديدة» فوجدته خالياً من املقال الأول من �سل�سلة «جنون اخللود» ،وقد كنت �أتوقع �صدوره يف هذا العدد (� )...أكتب و�أبلغني عن م�صري املقالني املر�سلني لأتخذ ما يلزم» .ويو�ضح �سعادة يف هذه الر�سالة �أهمية ال�سل�سلة التي يعكف على كتابتها بالقول�« :إن «حما�ضرة» ر�شيد �سليم اخلوري هي اختيار للحرب حتى يتم لنا الن�صر .وهذه املعارك الفكرية تفيد احلركة وبالتايل اجلريدة فائدة معنوية وح�سية لأنها تنبه الر�أي العام وتك�شف عن �شعوذة �أعدائنا الذين يحاربوننا ب�سالح الأوهام الباطلة». ومع ذلك مل تن�شر «�سورية اجلديدة» املقالني ،وا�ستلم �سعادة يف منت�صف �أيلول ر�سالة من �أخيه �إدوار املقيم يف �سان باولو يخربه فيها �أن جورج بندقي «مل ي�ستطع ن�شر املقالني» ،فقرر التحرك باجتاهني :الأول «ت�أ�سي�س مطبعة �صاحلة تكفي لإ�صدار «الزوبعة» ( )...فت�صبح هي اجلريدة �شبه الر�سمية للحركة القومية» ،والثاين الطلب من �أخيه �سحب املقالني من «�سورية اجلديدة» بانتظار �أن يعالج الإ�شكاالت الإدارية واحلزبية العالقة مع ف�ؤاد وتوفيق بندقي. وبالفعل با�شرت «الزوبعة» ن�شر حلقات «جنون اخللود» ابتداء من العدد ال�ساد�س ال�صادر بتاريخ 15ت�شرين الأول ،1940بتوقيع «هاين بعل». ال تعنينا كثرياً هنا الطريقة التي ُعوجلت بها الحقاً م�شكلة جمل�س �إدارة «�سورية اجلديدة»، لكن �سعادة كتب �إىل وليم بحلي�س بتاريخ � 3شباط ...« :1941وبعد قليل ميكن «�سورية اجلديدة» مبا�شرة نقل مقاالت «الزوبعة» يف «جنون اخللود» ،و�أنا �أر�سل جمموعة هذه املقاالت منقحة» .ويف � 22شباط 1941ن�شرت «�سورية اجلديدة» احللقة الأوىل من «جنون اخللود»، وا�ستمرت على هذا املنوال حتى احللقة ال�ساد�سة والثالثني ،وهي الأخرية .وكان �سعادة ينقح ما ُين�شر يف «الزوبعة» ويعيد �إر�ساله بالربيد �إىل «�سورية اجلديدة» دفعة بعد �أخرى. مل تكن ت�صحيحات �سعادة وتنقيحاته جذرية ،بني «الزوبعة» و«�سورية اجلديدة» ،و�إن كان ي�ؤكد يف �أكرث من منا�سبة على رغبته يف املزيد من التو�سع يف معاجلة املو�ضوع ،كما جاء يف ر�سالة �إىل وليم بحلي�س بتاريخ � 23أيلول .1941
9
ونظراً �إىل االهتمام الوا�سع بني املهاجرين ال�سوريني الذي �أثارته ال�سل�سلة يف الربازيل والأرجنتني ،فقد اقرتح بع�ض ال�سوريني املتمولني طبع «جنون اخللود» يف كتاب لتوزيعه على نطاق وا�سع ،ويقول �سعادة يف الر�سالة ذاتها« :قد يكون الأف�ضل جعل �أقل عدد ُيطبع خم�سة �آالف لكي ُير�سل منها �إىل الوطن وم�صر والعراق بعد احلرب ،لأن البحث يجب �أن ي�صل �إىل ال�شبيبة القومية يف الوطن حيث تكون النتيجة �أكرب». ويف ر�سالة �إىل جنيب الع�سراوي بتاريخ � 21آذار 1942يقول �سعادة« :قررت طبع �سل�سلة «جنون اخللود» يف كتابني :الواحد �أدبي ويتعلق مبنظومات ر�شيد اخلوري كدرا�سة �أدبية، والثاين يخت�ص مبو�ضوع امل�سيحية واملحمدية �أو الي�سوعية واملحمدية والع�صبية القومية .وقد ر�أيت �أن يحمل الكتاب الأول فقط عنوان «جنون اخللود»� ،أما الكتاب الثاين ف�س�أجد له عنواناً من مو�ضوعه». ومع �أن م�شروع �إ�صدار الكتاب يف الربازيل �أو الأرجنتني مل يتحقق� ،إال �أن الفكرة ظلت تلح على �سعادة فرتة بعد �أخرى .ففي الر�سالة املذكورة �أعاله لنجيب الع�سراوي يعرب عن �أ�سفه لأنه مل يتمكن «من الوقوف على كتابات �أخرى يف هذا املو�ضوع ككتاب ال�شيخ حممد لدي امل�صادر وامل�ستندات عبده يف «امل�سيحية والإ�سالم» وغريه ( )...وكان بودي لو تتوفر ّ وال�شواهد العديدة ،ولكن مكاتب الأرجنتني ال�سورية فقرية جداً يف الكتب ،وحالة احلرب مل ت�سمح بجلب �شيء جديد ،وال �أدري ما يوجد يف �سان باولو وكيف ومتى ُير�سل ،فا�ضطررت للإقت�صار على �أ�سا�س املو�ضوع وما وقفت عليه من �آراء وحجج �أ�صحاب الدولة الدينية املحمدية». �إن ال�ضجة التي �أحدثتها �سل�سلة «جنون اخللود» يف املهجر الأمريكي الالتيني ،والإهتمام الذي �أثارته يف �صفوف امل�ؤيدين واملعار�ضني ،جعال �سعادة يفكر جدياً يف «تو�سيع البحث عند تنقيحه» ،كما جاء يف ر�سالته �إىل يعقوب نا�صيف بتاريخ � 7آب .1942بل نراه ي�ؤكد يف ر�سالة �أخرى �إىل جربان م�سوح بتاريخ � 15أيلول �« :1943أخذت م�ؤخراً �أهتم بكتب ال�سري واحلديث املحمدية لأعود �إىل بحث امل�سيحية واملحمدية .»...لكننا نعرف �أن عدم ا�ستطاعة �سعادة احل�صول على مراجع رئي�سية لإكمال البحث من جهة ،و�ضغوط العمل
10
احلزبي ،واحل�صار الذي فر�ضه �أ�صحاب املطابع العربية على �سعادة يف املهجر منعت من حتقيق رغبته� .أما يف الوطن بعد العودة �سنة ،1947ف�إن ظروف ال�صراع ال�سيا�سي العنيف الذي خا�ضه �سعادة واحلزب حالت دون �إجناز تلك الرغبة ،فبقيت كتابات �سل�سلة «جنون اخللود» حمدودة الإنت�شار يف املغرتب فقط� ،إىل �أن �أعيد ن�شر 12حلقة منها للمرة الأوىل يف الوطن يف جملة «النظام اجلديد» ال�صادرة يف دم�شق �سنة � .1951أما الأق�سام الباقية فقد ُن�شرت يف كتاب و�ضع له عنوان «الإ�سالم يف ر�سالتيه امل�سيحية واملحمدية» بطبعاته املختلفة يف دم�شق وبريوت .ومل ت�صدر ال�سل�سلة كلها يف كتاب واحد (خارج �سياق عملية جمع الآثار الكاملة ل�سعادة التي بد�أت �سنة � )1975إال �سنة 1978عندما توىل الأمني ال�شهيد حبيب كريوز الإ�شراف على طبعة جديدة اعتماداً على الن�ص الأ�صلي املن�شور يف «الزوبعة». تقول املقدمة التي و�ضعها الدكتور �سليم جماع�ص لتلك الطبعة �إن �سل�سلة «جنون اخللود» يف كال ال�شكلني تعر�ضت «�إىل الكثري من احلذف والتحوير مما حولها �إىل كتابات خمتلفة عن الن�صو�ص الأ�صلية .حتى �أنه عند مراجعة الكتاب لإعداده للن�شر ،وعند مقارنته مع الأ�شكال املعروفة ،تبني �أنه مل ُ تخل �صفحة مطبوعة من احلذف والتحوير لأكرث من ثالث كلمات ولأكرث من جملتني» .و�إ�ضافة �إىل ت�صحيح مكامن اخللل الذي �أ�صاب ال�سل�سلة يف طبعاتها املختلفة ،متيزت هذه الطبعة بو�ضع ثبت باملراجع ،ون�شر الوثائق املتعلقة بالبحث، و�إعداد فهار�س متنوعة ،وكذلك و�ضع مالحق ذات عالقة مبحتويات الكتاب. و�أ�صبحت طبعة العام 1978منوذجاً ُيحتذى ،خ�صو�صاً يف جمموعة «الأعمال الكاملة» التي �أ�صدرتها «م�ؤ�س�سة �سعادة للثقافة» يف بريوت �سنة .2001ومع ذلك ،توجد حاجة ما�سة لطبعة جديدة تبني على ما �أجنز حتى الآن ،وتتجاوز النواق�ص التي اعرتت تينك الطبعتني .وال�سبب يف ذلك هو �أن طبعة العام 1978ذاتها تعر�ضت يف �أق�سام منها «للحذف والتحوير» ،وكذلك مل ُيتح للم�شرفني عليها التدقيق اللغوي والتحريري نظراً �إىل الظروف الأمنية يف لبنان يف تلك املرحلة ،ولعدم توافر جمموعة «�سورية اجلديدة» �آنذاك .يف حني �أن طبعة «الأعمال الكاملة» اهتمت كثرياً بتحقيق الن�ص ،ونق�صد بذلك املقارنة بني ما ُن�شر يف «الزوبعة» وما �أعيد ن�شره يف «�سورية اجلديدة» ،ما جعل الكتاب مليئاً باملالحظات الإي�ضاحية
11
التي تفيد الباحث املدقق ،لكنها قد ُتثقل على القارىء العادي. هذه الطبعة ترتكز �إىل طبعتي 1978و ،2001لكنها تتجاوزهما يف ناحيتني �أ�سا�سيتني :عاجلنا النواق�ص والتدخالت التي اعرتت الطبعة الأوىل ،و�أ�سقطنا من الثانية كل ما من �ش�أنه �أن يعرقل �سياق مرونة الن�ص وان�سيابه الطبيعي .مثال على ذلك �أن حمرر طبعة 1978كان يتعامل بح�سا�سية مفرطة مع مو�ضوع العراق ،فيعمل قلمه تعدي ًال وتبدي ًال كلما �شعر �أن ذلك «ي�شوه» الفهم القومي الإجتماعي جلغرافية الوطن ال�سوري .يف حني �أن حمرر طبعة 2001كان ي�صر دائماً على الإ�شارة �إىل كل التغيريات بني ما ُن�شر يف «الزوبعة» وما �أعيد ن�شره يف «�سورية اجلديدة» بعد الت�صحيح والتنقيح ،علماً ب�أن �سعادة هو الذي �أقدم على �إجراء تلك الت�صحيحات والتعديالت. والطبعة هذه تعتمد ما كان �سعادة ينوي القيام به من حيث تق�سيم ال�سل�سلة الدرا�سية �إىل كتابني :الأول �أدبي مناقبي يحمل العنوان الذي كان �سعادة قد قرر ا�ستعماله وي�ضم 12 حلقة ،كل منها بعنوان خمتلف ،ن�شرت يف �إطار العنوان الرئي�سي «جنون اخللود»� .أما الكتاب الثاين ،وهو ي�ضم باقي حلقات البحث ،فقد و�ضعنا له عنواناً م�ستمداً مما كان ينوي �سعادة الت�أ�سي�س عليه وهو «امل�سيحية واملحمدية والقومية». والكتاب هذا هو «جنون اخللود» الذي يت�ضمن الإثنتي ع�شرة حلقة الأوىل من ال�سل�سلة. وقد التزمت هذه الطبعة باملعايري التالية: � - 1إعتماد الطبعتني امل�شار �إليهما �أعاله ،والعودة �إىل الن�صو�ص الأ�صلية كلما دعت احلاجة �أو واجهتنا عبارات �أو كلمات غام�ضة. � - 2إلغاء كل الهوام�ش التي تو�ضح تعديالت �أدخلها �سعادة ،والإكتفاء مبا ن�شر يف «�سورية اجلديدة» مع الأخذ يف الإعتبار ما �أ�شار �إليه �سعادة يف ر�سائله �آنذاك ويتعلق ببع�ض الأخطاء �أو الت�صحيحات. - 3كان �سعادة ي�ستعمل �أ�سماء الأ�شهر الإفرجنية (مار�س� ،أبريل� )...أثناء �إقامته يف الأرجنتني، ثم عاد �إىل ا�ستعمال �أ�سماء الأ�شهر ال�سورية (�آذار ،ني�سان )...يف الوطن .لذلك �أوردنا يف هذه الطبعة الإ�سم الإفرجني �أو ًال ،وو�ضعنا بني قو�سني ( ) الإ�سم ال�سوري املرادف له.
12
� - 4سعينا �إىل توحيد بع�ض املفردات التي كانت تطبع ب�أ�شكال خمتلفة بني «�سورية اجلديدة» و«الزوبعة» .ومن الأمثلة على ذلك :بحت -بحتة� ،أوربا � -أوروبا� ،أمريكا � -أمريكا ،دبلوماتية دبلوما�سية ،الإنقليز -الإنكليز� ...إلخ. - 5ا�ستخدمنا الأ�سلوب املعا�صر يف عملية التنقيط نظراً �إىل غياب ذلك يف معظم ما ن�شرته «�سورية اجلديدة» �أو «الزوبعة». - 6مل نورد مراجع الآيات القر�آنية �أو الآيات التوراتية والإجنيلية يف الهام�ش �أ�سفل كل �صفحة كما يف طبعة � ،2001أو يف �آخر كل حلقة كما يف طبعة .1978بل و�ضعناها يف ال�سطر نف�سه على ال�شكل التايل« :البقرة� »112 ،أي «�سورة البقرة الآية .»112وال�شيء نف�سه ينطبق على الآيات التوراتية والإجنيلية« :لوقا� »5 : 1 ،أي «�إجنيل لوقا ،الإ�صحاح الأول ،الآية .»5 � - 7أ�ضفنا �شروحات ل�شخ�صيات و�أحداث وكتب مل تكن الطبعات ال�سابقة قد و�ضعت �أية تعريفات لها. هذا من حيث تاريخ �سل�سلة «جنون اخللود» واملراحل املختلفة لن�شرها ،فماذا عن م�ضمون هذا اجلزء والغاية الأ�سا�سية منه؟ ي�صف �سعادة «جنون اخللود» ب�أنها «�سل�سلة درا�سية» الغر�ض منها « :قمع الفتنة الدينية بني �أبناء �أمتنا قبل ا�ستعار �أوارها ،ودعوة ال�سوريني جميعهم من ر�سوليني وم�سيحيني ودروز �إىل رابطة العقيدة الإجتماعية الواحدة� :إىل عقيدة القومية ال�سورية التي جتمعهم يف وطن واحد وم�صري واحد» (احللقة .)35و�إذا كانت «حما�ضرة» ر�شيد �سليم اخلوري التي ا�شتملت �أي�ضاً على تهجمات رخي�صة �ضد احلزب ال�سوري القومي الإجتماعي وزعيمه هي التي دفعت �سعادة �إىل املبا�شرة بكتابة هذه ال�سل�سلة� ،إال �أن املق�صود مل يكن �شخ�ص اخلوري حتديداً. فاخلوري هو ع ّينة من مناذج بع�ض ال�صحافيني واملثقفني والك ّتاب الذين فجروا �أحقادهم مبئات املقاالت �ضد النه�ضة ال�سورية القومية الإجتماعية .فالغاية من هذه الأبحاث كانت توجيه �ضربة قا�صمة �إىل �أعداء النه�ضة القومية الإجتماعية الذين كانوا ي�ستخدمون �سالح الفتنة الدينية بني ال�سوريني من �أجل حتقيق مكا�سب �سيا�سية فردية.
13
وما كادت احللقات الأوىل ت�صدر يف «الزوبعة» ومن ثم يف «�سورية اجلديدة» حتى جرت ات�صاالت مع �سعادة ،و ُبذلت و�ساطات وتدخالت من قبل مواطنني مقربني ورفقاء قوميني، لتخفيف وط�أة احلملة على اخلوري و�أ�ضرابه من الأدباء بحجة �أنها قد ُتعترب «مهاترات �شخ�صية» .لكن رد �سعادة يف �سياق احللقات ،ويف ر�سائله �أي�ضاً ،كان وا�ضحاً وحازماً� ،إذ �أكد على �أن «مهاجمة نف�سية عتيقة جامدة» لي�ست مهاترات �شخ�صية .م�شدداً على �أنه «ملا كانت مهمتنا الأوىل ك�شف القناع عن �سِ حن امل�شعوذين «الوطنيني» احلقيقية ،ف�إننا ال ن�ستطيع �إنقاذ ال�شعب من �شعوذاتهم بال�سكوت عليها ،لتحقيق ر�صانة جوفاء ونظرية خرقاء .وما هي النتيجة التي نتوخاها من �إطباق جفوننا على القذى؟» (ر�سالة �إىل جورج بندقي بتاريخ 2ت�شرين الأول .)1940 يتناول هذا الكتاب م�س�ألتني مهمتني بالن�سبة �إىل �سعادة :الإنحطاط الأدبي الذي ميثله «القروي» و�أ�ضرابه ،والإنحطاط املناقبي امل�ست�شري يف بع�ض �أو�ساط اجلاليات ال�سورية يف الوطن واملغرتبات .وما كان �سعادة ليعطي �أية �أهمية للتهجمات ال�شخ�صية ال�سخيفة التي ا�ستهدفت النه�ضة القومية الإجتماعية وم�ؤ�س�سها لوال �أن «القروي هو واحد من الذين مل ي�ستطيعوا �أن يعملوا �شيئاً حقيقياً �أمام البالد فاكتفوا ب�أن يخربوا م�ساعي العاملني .ثم قاموا ي�سمون هذا التخريب «عم ًال» ي�ستحقون عليه املجد وال�شهرة ..واخللود» ،كما جاء يف تعليق ن�شرته «الزوبعة» يف عددها العا�شر بتاريخ 15كانون الأول � ،1940أي بعد �صدور �أربع حلقات من ال�سل�سلة. وي�ضيف ذلك التعليق الذي مل يحمل توقيعاً �أن «هذه الطبقة من «قواد الفكر» هم �أكرب م�صائب البالد على الإطالق لأن غايتهم لي�ست م�صلحة البالد بل هم يحاولون املحافظة على جمد �أنف�سهم .هم يريدون �أن يقولوا عن تفكريهم �إنه �صحيح مهما قامت الأدلة على ف�ساده ( )...هم يريدون �أن تبقى عقليتهم القدمية خالدة ولو بقيت الأمة خالدة ب�شقائها وفقرها وتعا�ستها وب�ؤ�سها». ويختتم التعليق ،الذي حظي مبوافقة �سعادة بال ريب ،بالعبارة التالية التي تلخ�ص جوهر �سل�سلة «جنون اخللود» كلها�« :إن «الزوبعة» جتعل من ر�شيد اخلوري �أمثولة لكل «قواد الفكر»
14
الذين من طبقته (� )...إن القوميني ال يعتدون على �أحد ،ولكنهم يطلبون من �أن�صار الرجعة �أن ال يقفوا يف طريقهم .هم يريدون بقاء كل �شيء على حاله ويقاومون كل فكرة جديدة. ونحن نرتكهم يف جمودهم ليموتوا موتاً طبيعياً .ولكن الذي يطرح نف�سه بني �أنياب الأ�سد ليموت قبل �أجله يجب �أن ال يلوم غري نف�سه»! بريوت 16 -ت�شرين الثاين 2012
املقال الأول من �سل�سلة «جنون اخللود» كما ن�شر يف جريدة «الزوبعة» ال�صادرة يف بوان�س �أيري�س
جنون اخللود
17
جنون اخللود وكورك فوق طويل املطا وقد يف�سد الفكر يف حالة �سقاك املنى فتمن ّيتها
و�سرجك فوق �شديد القرا فيوهمك الد ّر قطر ال�سرا و�صاغ لك الطيف حتى انربا املعري ّ
يف الأبيات املتقدمة التي هي من �صياغة ال�شاعر الفل�سفي ال�سوري اخلالد �أبي العالء املع ّري، و�صف �شعري بديع حلالة من حاالت ف�ساد الفكر ت�شبه نوعاً ما احلالة التي �سنعاجلها يف ما ٌ يلي .ولكي تكون ال�صورة التي �صورها املع ّري وا�ضحة لكل قاريء يجب تف�سري البيت الأول ،ففيه �ألفاظ ال مير بها نظر كل قاريء يف مثل هذا اال�ستعمال ،ومعناه م�شهد رجل و�ضع الرحل على ظهر الفر�س ،وو�ضع ال�سرج على ظهر البعري .ومن كان هذا �ش�أنه ال يكون طوي ًال �شوطه� ،سواء �أركب الفر�س �أم ركب البعري .وال حاجة لتف�سري البيتني التاليني فمعناهما وا�ضح. كد بلغ ر�شيد �سليم اخلوري امللقب بال�شاعر القروي من النظم مبلغاً �أجاز نعته بال�شاعر بعد ٍّ ونَ َ�صب وعرق وتعب ،فهو لي�س �شاعراً مفطوراً على ال�شعر ،بل �شاع ٌر� ،صار �شاعراً باالجتهاد والتح�صيل .فهو كان يف �أول عهده بالقري�ض ،و�إىل مدة غري ق�صرية ،ينظم البيت والبيتني يف �أي فكرة عامية ب�سيطة عر�ضت له� ،أو الق�صيدة التقليدية يف غزل مبتذل �أو احلما�سة .ويحفظ
18
�أنطون �سعادة
ذلك كمن يحفظ درة ثمينة .وقد �أخرج لنا من هذه الدرر ال�صدفية ديوانني جمعهما ،توا�ضعاً منه ،يف ديوان واحد جعله جزئني .هذا الديوان هو «الر�شيديات» ،وتكلف ال�شعر تكلفاً ظاهراً فيه .و�إىل القاريء �أمثال منه:
يف معبد
�أ�س ّر يل ال�صديق وقد ر�آها فقلت له وهل �أمر غريب
جثت يف معبد هذي «�أني�سه» �إذا �ص ّلى مالك يف كني�سه؟؟!
ظل هذا �ش�أن اخلوري �إىل �أن جاء الربازيل املغفور له الع ّالمة الدكتور خليل �سعادة ،و�أن� أش� �سنة « 1920اجلريدة» و�أطلق بوا�سطتها من قلمه تياراً من ال�شعور الوطني ال�صحيح كهرب النفو�س و�أثار فيها احلمية .وكانت مقاالت الدكتور �سعادة ال�صاعقية التي حمل بها على اخلمول واخليانة والتذبذب يف الوطنية واخلنوع واال�ست�سالم للأجنبي ،وناق�ش بها موقف امل�سيحيني من الإ�ستقالل وم�س�ألة لبنان ،منذ عهد «املجلة» يف الأرجنتني �إىل عهد «اجلريدة» يف الربازيل ،ال�صورة الأوىل للأخالق الوطنية ال�صحيحة املنزهة عن كل م�أرب خ�صو�صي التي عرفها املهاجرون ،وكان من �سوء حظ املقيمني �أال يعرفوها حتى �سنوات قالئل م�ضت، والقوة الفكرية املوجهة للأدباء وال�شعراء والنور الذي قب�سوا منه وا�ستناروا به يف �أدبهم و�شعرهم الوطنيني. ال ينكر �إال كل مكابر �أثر الدكتور خليل �سعادة يف تكوين النف�سية الوطنية اجلديدة و�شق طريق الروحية الوطنية ال�صحيحة وو�ضع قواعد العقلية ال�سيا�سية املتينة. وقد �أ�صاب ر�شيد �سليم اخلوري و�إليا�س فرحات ن�صيب وافر من ت�أثري الدكتور �سعادة ،وهذا لي�س قدحاً فيهما ،بل مدحاً لهما� ،إذ هما �شاعران ،كانا وال يزاالن يحتاجان �إىل قائد للفكر يف ال�ش�ؤون االجتماعية وال�سيا�سية التي يطرقانها ب�شعرهما ف�ض ًال عن �أي �ش�أن من �ش�ؤون الفل�سفة.
جنون اخللود
19
جارى ر�شيد اخلوري احلوادث الوطنية كما كان ير�سمها قلم الدكتور �سعادة ،كما كان يجاري من قبل الدكتور �سعادة ،كما �سيجيء ،وو�ضع نف�سه يف جمرى كل تيار عاطفي وطني ون�شر الكثري من �شعره يف «اجلريدة» .و�شيئاً ف�شيئاً �أخذت منظوماته ت�صري وطنية يف معظمها ثم وطنية ـ �سيا�سية ،ويظهر يف هذه املنظومات ت�أثره ب�شعراء العرب ولغتهم وطرائقهم و�أ�ساليبهم ومناحي �شعورهم. ولي�س للخوري �أي معرفة حقيقية �أو ثابتة ب�أدب غري عربي ،فهو ال يعرف لغات �أجنبية ،غري الربتغالية التي اكت�سبها يف الربازيل ،معرفة تخ ّوله قراءة �آدابها ودرا�سة فنونها .و�إذا كان قد بلغه �شيء من هذه الآداب والفنون بطريق النقل �إىل العربية فهو لي�س �إال و�ش ًال من بحر و�أكرثه مم�سوخ �أو جمتز�أ ب�صورة ال تظهر كل حقيقته وق ّوته. لي�س ق�صدنا هنا �إعطاء ترجمة كاملة حلياة ر�شيد �سليم اخلوري و�شعره ،ولكننا ر�أينا �إيراد هذه اللمح ملا لها من العالقة الوثيقة بالطور اجلديد الذي يدخله يف نظمه ونرثه. �إرتقى ر�شيد اخلوري من ناظم �أبيات متفرقة مبعرثة يتخذ جوهراً لها بع�ض �أفكار عامية �أو �إعتيادية �أو عار�ضة� ،إىل درجة ناظم ق�صائد وطنية .ف�صار ينظم يف كل حادثة وكل �أمر وي�ؤيد وميدح كل حركة تن�شر ال�صحف عنها �أنها وطنية دون حت ّيز ،مقتنعاً ب�أن يكون هدفه ت�أييد الأعمال الوطنية بال فارق بني جماعة وجماعة �أو بني حزب وحزب �إال حني ي�ست�شعر يف ال�صحف نعت «خونة» �أو ت�شهري «خارجني على الوطنية» .وكان �إىل هذا احلد ناظماً ال ب�أ�س ب�سماع �شعره مع الإغ�ضاء عن عواهنه. ولكنه ما كاد ي�ست�شعر حتبيذاً «لوطنية» ق�صائده حتى �أخذت نف�سه حتدثه «باخللود» ،و�أ�صبح هم �آخر يف �أدبه �أو �شعره غري طلب اخللود بكل و�سيلة. يف املدة الأخرية ال يكاد يكون له ّ و�صار يرى نف�سه جديراً جداً باخللود ،خ�صو�صاً بعد �أن �سمع مديحاً و�إطناباً دبلوما�سيني من �أمثال املري �شكيب �أر�سالن .و�سمع العامة متدح «ال�شاعر القروي» ومنظوماته «الوطنية» ،حتى �أنه خرج �إىل الدعوى ال�صريحة فقال« :وك ّر�ست نف�سي لتحرير �شعبي»! ُمظهراً جه ًال فا�ضحاً ملا تكون مهمة حترير ال�شعب وكيف يكون تكري�س النف�س لهذه املهمة العظيمة التي ينزلها
20
�أنطون �سعادة
عادي ب�سيط. بهذه العبارة الإعتباطية منزلة �شيء ٍ كان التعبري املذكور �أول خروج اخلوري �إىل الدعوى الطويلة العري�ضة يف ا�ستحقاق «اخللود» ب�صفة «مك ّر�س نف�سه لتحرير �شعبه» .و�إذا كان اخللود ي�أتي مبجرد القول ،فقد �أ�صبح ر�شيد اخلوري خالداً اخللود املنطبق عليه. الولع باخللود ي�صري نوعاً من الهو�س �أو مر�ضاً نف�سياً كمر�ض جنون العظمة الذي ي�صيب املولعني بها وبالظهور مبظاهرها .ومما ال �شك فيه �أن هذا الهو�س جعل اخلوري ميعن يف الدعوى ويطلب املواقف التي يرى فيها ما قد ي�سوغ دعواه .فهو اليوم ال يريد �أن يقف عند حد ناظم ين�شيء الق�صائد يف الأعمال واحلوادث الوطنية اجلارية ،بل يريد �أن يظهر �أمام الر�أي العام مبظهر �صاحب دعوى� ،أو على الأقل مبظهر �أرخون من �أراخنة «الق�ضية الوطنية» �أو من �أركان «العروبة» فال يكون من �أتباع �سعادة م�ؤ�س�س النه�ضة ال�سورية القومية .و�إرادته هذه تظهر بو�ضوح يف «حما�ضرته» التي �أعدها ملولد النبي حممد ون�شرتها «الرابطة» �إبتدا ًء من العدد 527ال�صادر يف 8يونيو (حزيران) .1940 يف هذه «املحا�ضرة» خرج ر�شيد �سليم اخلوري من دائرة الإذاعة ال�سرية �ضد احلزب ال�سوري القومي ،و�ضد زعيم احلركة ال�سورية القومية� ،إىل اجلهر بعداوته والإذاعة علناً طمعاً باخللود كمدافع عن «العروبة والإ�سالم» عند الأكرثية امل�سلمني. ولكي ال يتوهم القاريء �أن ت�شخي�صنا مر�ض الولع باخللود امل�صاب به ر�شيد اخلوري مبني على �إ�ستنتاجات بعيدة م�أخوذة من دليل واحد م�ؤ َّول على هذا الوجه نورد هذه احلقيقة: حتدث ر�شيد اخلوري �أكرث من مرة ومرتني ،لعدد من �أ�صدقائه ،عن خلوده ببيت من ال�شعر قاله يف ال َع َلم ال�سوري وهو: �إن كنت للحق فلتخ�ضع لك الأمم �أو كنت للظلم ال ُح ّييت ،يا َع َلم فلننظر يف هذا البيت الذي يجعله اخلوري �أ�سا�ساً يبني عليه جمده وخلوده :لي�س يف هذا البيت �شعر �أو معنى �شعري ،فهو كالم ب�سيط ال يختلف عن كل كالم �آخر �إال يف �أنه منظوم.
جنون اخللود
21
�أما فكرته فلي�ست فكرة �شعرية ،وهي فكرة قدمية وردت يف �أ�شكال كثرية كقولك «العدل �أ�سا�س امللك». �أما من حيث �أنه قيل يف َع َلم ال�شعب الذي ينتمي �إليه الناظم فهو �إهانة لهذا ال َع َلم ول�شعور ال�شعب الذي ميثله ،ذلك �أنه يوحي ال�شك بروح ال�شعب الرافع ال َع َلم وباحلق الذي ميثله ال َع َلم. �إن النف�سية العتيقة الرازحة التي ميثلها ر�شيد اخلوري يف �أدبه ،والتي تظهر يف هذا البيت احلقري من نظمه ،لي�س لها وعي يدفعها �إىل رف�ضه وازدراء �أدب �صاحبه .ولكن النف�سية اجلديدة القومية الواعية ترى �أنه لو قيل هذا البيت يف َع َلم النه�ضة القومية ال�ستحق �صاحبه �أن يجلد علناً يف ال�ساحات العمومية ،ليتعلم احرتام �إرادة الأمة وتقدي�س رمز وحدتها وقوتها وجمدها وحقها يف احلياة. و�إن �أدباً بهذا املقدار من الذلة وال�شك واحلقارة يراه «الأديب من �إخواننا يف الربازيل» املرجح �أنه ر�شيد اخلوري و�صاحبه وزميله زكي قن�صل� ،أدباً خالداً يعلو على املعتقدات الب�شرية. �أما احلزب ال�سوري القومي فرياه �أدباً �سخيفاً ميثل عقلية �صبيانية ويرى �أنه عبء ثقيل على كواهلنا ،يجب �أن نطرحه �إىل الأر�ض لن�سري بقوة نحو مثل حياتنا اجلديدة العليا .و�أ�صحاب هذا الأدب �أ�صبحوا يدركون �أن نف�سيتهم عتيقة ،جامدة ،ال قبل لها بالتجان�س مع النف�سية اجلديدة وال�سري معها ،ويوقنون �أن ال�صراع الذي �أعلنه �سعادة ،و�أ�شارت �إليه «�سورية اجلديدة» يف افتتاحيتها «ال�صراع بني جيلني ،جيل يريد مقوياً ينع�ش قواه املنهوكة وي�ساعده على اال�ستمرار يف خ�صو�صياته ،وجيل يريد �سحق اخل�صو�صيات وي�شعر يف قوته القدرة على تنفيذ ما يريد»( ) لي�س �شيئاً خيالياً غيبياً ،بل �أمراً ح�سياً واقعياً ،و�شيئاً �آخر �أدركه �أ�صحاب هذا الأدب املائت هو �أن احلرب بني النه�ضة القومية والرجعة الدينية ـ االقطاعية هي حرب حقيقية لها معاركها و�أبطالها وانت�صاراتها ولها �أي�ضاً ،وهو ال�شيء املخيف لهم ،قتالها وجرحاها وانك�ساراتها ،فعمدوا �إىل مبا�شرة �أ�سباب الدفاع و�إعداد ال�سالح ل�صد الهجوم. احلرب بني النه�ضة القومية ونف�سيتها ومناقبها من جهة ،والرجعة ونف�سيتها وخ�صو�صياتها من جهة �أخرى كانت �أمراً متوقعاً عند �سعادة ،لأنه يعرف طبيعة الرجعة ونف�سيتها ،ويعلم �أن 1
22
�أنطون �سعادة
�أ�صحاب املكانة املبنية على �أ�سا�س املناقب التقليدية الفا�سدة لن يلقوا �سالحهم وي�سلموا الأمر �إىل القيادة القومية .وهو يعلم ويقول �إنه ال فائدة من التوفيق بني النف�سية اجلديدة والنف�سية العتيقة ،و�إن احلرب �شرط للن�صر .وقد �أعلن يف خطابه �إىل اجلالية ال�سورية يف الربازيل املن�شور يف العدد 16من «�سورية اجلديدة»( ) �أنه ال يريد «�إنت�صاراً بارداً هيناً دون حرب». وملا كانت احلرب بني النه�ضة القومية و�أعدائها� ،أ�صحاب اخل�صو�صيات والرجعة ،واقعة، فال بد �أن ت�شمل الأدب �أي�ضاً ،لأنها حرب ك ّلية بني نف�سيتني وما فيهما من قوى وعنا�صر. وقد �أيقن بذلك �أ�صحاب خ�صو�صيات اخللود كما �أيقن به �أ�صحاب خ�صو�صيات ال�شهرة والعظمة وامل�آرب النفعية .و�شعروا باخلطر العظيم على خ�صو�صياتهم منذ ظهور �أول عدد من «�سورية اجلديدة»( ) حام ًال االفتتاحية املذكورة �آنفاً التي يعلن �سعادة فيها املوقف ال�صريح احلا�سم الذي �ستقفه النه�ضة القومية من �أ�صحاب اخل�صو�صيات ومن الروحية العتيقة. كان ر�شيد اخلوري يف عداد �أ�صحاب اخل�صو�صيات الأُ َول الذين �شعروا بهذا اخلطر على «خلودهم» .وقد بلغ الزعيم ،حني كان يف �سان باولو� ،شيء مما يقوله اخلوري يف بع�ض املجتمعات ولبع�ض �إخوانه �ضد احلركة القومية والزعيم .ثم جاء خرب ما كتبه اخلوري �إىل �أحد �أ�صدقائه يف الوطن ب�ش�أن توقيف الزعيم هنا ،فاكتفى بتكذيبه لــ «�سورية اجلديدة» فقط مع �أن الواجب كان يق�ضي عليه بتكذيبه ل�صحف الوطن �أي�ضاً .و�سواء �أكانَ �صحيحاً ما يعدها كذبه اخلوري �أم مل يكن ،ففي االكتفاء بتكذيبه لــ «�سورية اجلديدة» فقط دبلوما�سية ّ وتعدها النف�سية اجلديدة ر َيا ًء وغ�شاً .والنتيجة التي تتوخاها �أ�صحاب النف�سية العتيقة «دهاء» ّ هذه الدبلوما�سية هي: � -1إكت�ساب ر�ضى الفئات القوية التي تقاوم هجوم احلركة القومية. � -2إكت�ساب ر�ضى القوميني بن�شر كلمة ُت ْ�س ِك ُن غ�ضبهم يف �صحيفة قومية. -3حفظ خط الرجعة يف كلتا احلالتني. هذه هي خطط تفكري دبلوما�سية النف�سية العتيقة وهذا هو مبلغ دهائها. �إ�ستمر ر�شيد اخلوري يغتاب احلركة القومية والزعيم على ال�صورة املو�صوفة �آنفاً ،طول املدة 2
3
جنون اخللود
23
ال�سابقة لـ «حما�ضرته» التي خرج بها �إىل اجلهر .و�إليك� ،أيها القاريء ،ن�سخة من بع�ض �أقوال اخلوري: «ما معنى هجر �سوري بالده ،تاركاً وراءه �إمر�أته و�أوالده؟ �ألي�س هذا �ش�أن �أنطون �سعادة ،وقد ترك رفقاءه يتحملون ويالت احلالة احلا�ضرة يف الوطن وجاء يتنقل �سليماً(!) يف املهاجر الأمريكية؟» (وقد �أخذ هذه الفكرة عن ر�شيد اخلوري اخلائن خالد �أديب ،من غري �أن يعرتف بحقوق النقل �أو يراعيها). «�إذا كان �سعادة ال ي�ؤمن ب�أعمال الأحزاب ال�سورية الأخرى ورجالها (يعني �أ�صحابه «الدهاقنة» من «الكتلة الوطنية» التي �سقطت �سقوطاً معيباً يف عني ال�شعب �أو غريهم من النف�سية ذاتها) فنحن �أي�ضاً ال ن�ؤمن ب�أعماله». «ملاذا هذه ال�ضجة القوية يف �صحافة الأرجنتني ويف «�سورية اجلديدة» من �أجل تقدمي كتاب جربان م�سوح �إىل الزعيم يف حني �أن �أحد ال�شعراء يف الأرجنتني (يعني �صديقه وزميله زكي قن�صل) قدم ديوانه �إ ّيل ومل ت�شر �إىل ذلك �صحيفة واحدة؟». «من �أين للقوميني هذا املال الكثري؟» (ومل يبني اخلوري مقدار هذا املال الكثري ،ومل يكلف نف�سه �س�ؤال دائرة التحقيق يف �سان باولو عن م�صدر «املال الكثري»). «�إن ر�شيد �شكور ترك اجلريدة �أو ًال ثم ترك املنظمة» (هنا �صار ر�شيد �شكور «وطنياً عظيماً عند ر�شيد اخلوري ،بعد �أن كان يطعن فيه عند الزعيم ويقول عنه �إنه �سخيف و�إنه كان يحاول بلع �أموال «كتلة الدفاع الوطني» املرحومة ،وقد كاد ينجح يف ذلك لوال تدارك اخلوري املال و�إر�ساله �إياه �إىل نبيه العظمة يف دم�شق). «�إن ما�ضي �أنطون �سعادة معروف .وماذا تنتظر من رجل كان ي�ضرب �أباه؟.».. هذا قليل من كثري كان يد�سه ر�شيد اخلوري يف �أحاديثه اخل�صو�صية عن الزعيم. �أما �سبب هذا الد�س فكان ما ر�آه من عدم وجود حمل «ل�شعره» يف النه�ضة القومية و�إظهار الزعيم عدم ر�ضاه عنه .وقد يكون بلغ اخلوري �أن الزعيم �أمر ،يف اجتماع قومي يف برمانا ،مبنع
24
�أنطون �سعادة
قراءة «الأعا�صري»� .أو قد يكون هناك �سبب �آخر �سينجلي. و�أما �سبب خروجه �إىل اجلهر �ضد احلركة القومية فالأرجح �أنه خرب من �صديقه زكي قن�صل يقول له فيه �إن الزعيم ا�ست�شهد ببع�ض ق�صائده على الأدب الذي يراه �ضاراً بالروحية القومية.
اهلوامش �« - 1سورية اجلديدة»� ،سان باولو ،العدد الأول تاريخ � 11آذار .1939 - 2امل�صدر ال�سابق ،العدد 16تاريخ 24حزيران .1939 � - 3صدر العدد الأول من «�سورية اجلديدة» يف �سان باولو ،يف � 11آذار .1939
جنون اخللود
25
الـمثُل الدنيا وتكلف الشعر �إذا كان �إليا�س فرحات �شاعراً بالفطرة منعته ظروف م�ش�ؤومة من احل�صول على ثقافة عالية تفتح له ممراً �إىل �أ�سرار النف�س الإن�سانية ،وحاالت االجتماع الب�شري ،و�ألوان الفن ال�شعري، ف�إن لر�شيد اخلوري فطرة الإن�شاد .فهو من�شد ،ال �شاعر� .أو �إن �شعره يتجه بكليته �إىل الإن�شاد والرتمن .وهو ك�صديقه �إليا�س فرحات مل يح�صل على ثقافة را�سخة تك�شف له قوة الفن الذي فطر عليه ،ولكنه كان �أ�سبق من فرحات و�أعظم حظاً يف ح�صوله على �صناعة النظم قبله .ف�سلك طريق النظم وهو يح�سبها طريق ال�شعر .و�إن من يتتبع ن�ش�أته ال�شعرية يجد �أن «�شعره» كان جمرد حماكاة وانعكا�س من دواوين ال�شعر االبتدائي الذي مل يكن له غر�ض يف احلياة �أو معنى ،غري الت�شبيب والغزل واملديح والهجو و�شيء من احلما�سة والفخر .وهكذا تراه يف «الر�شيديات» ال هم له وال دافع غري تقليد جماعة ال�شعراء الذين اقت�صر �شعرهم على ما تقدم ذكره ،من �أجل «اخللود على الأر�ض بوا�سطة املطابع» كما يقول يف مقدمته ِلــ «الر�شيديات». لو �أن ر�شيد اخلوري تبع دوافع موهبته ،بد ًال من االجتهاد يف اكت�ساب موهبة غريه ،خلرج �شاعراً من�شداً يغني ويحمل ال�شعب كله على غناء جمال �سورية وعظمة ال�شعب ال�سوري. ولكن االن�شاد كان يح�سب من �سقط املتاع وال يعد �صاحبه من ذوي ال�ش�أن واملكانة .ومل يكن اخلوري ذلك الواعي اخلارج على التقليد ،ال�شاعر بحاجة ال�شعب �إىل �أنا�شيد حياته، فلم يفرق بني ما هو موهبي وما هو ك�سبي ،بل اختلط عليه الأمران ّ ف�ضل و�أخذ يخبط على غري هدى ،حتى بلغ �إىل الدعوى وو�ضع نف�سه يف غري ما يحتاج �إليه وتلزمه موهبته.
26
�أنطون �سعادة
يف املقال الأول من هذه ال�سل�سلة �أعطينا القاريء منوذجاً من بالدة التقليد املبتذل يف نظم ر�شيد اخلوري يف �أوائل عهده بالقري�ض .والآن ال بد من تقدمي مثال من �شعره احلقيقي املوهوب له ،وهو مما نظمه ووقّعه على العود لين�شد وعنوانه «حنني �إىل الأوطان»: هلل تلك اجلبال تلك الذرى ذاك املعني الزالل لـ ّما ج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرى تلك الربى والتالل تـلك القرى «�صنني» «�ضهر الق�ضيب» تلك القـ ـ ــنن «�سهل البقاع» اخل�صيب «نبع اللـ ـ ـ ــنب» هلل ذاك الغدير ما �أعذبـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا هلل تلك الزهور ما �أط ـ ـ ـ ـي ـ ـ ـ ـ ـ ــبا هلل تلك الطيور ما �أط ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــربا من كل �شاد عجيب ينفي ال�شجن يف �شدوه للقلوب �سلوى ومن إياك يهوى الف�ؤاد � ِ
جنون اخللود
27
يا �أ ّمـ ـ ـ ـ ـن ـ ـ ـ ـ ـ ــا من دون كل البالد �أن ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــت املنى هل يا ترى من معاد يوم ـ ـ ـ ـ ـ ًا لنـ ـ ـ ـ ـ ــا يا ح�سن يوم ت�ؤوب فين ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــا ال�سفن ن�شتم قبل الغروب ّ ريح الوطن يف هذه املقاطع حت�س موهبة ر�شيد �سليم اخلوري اجلميلة التي كان يجب �أن ت�سد فراغاً عظيماً يف حياتنا .ف�أي �سوري ر�أى النور يف �سورية وترعرع فيها ثم ن�أى عنها وي�سمع هذه املقاطع تن�شد وال تهتز نف�سه من �أعماقها؟ �إن املقطعني الأولني من هذا الن�شيد ،ومل نثبتهما هنا ،لي�سا يف هذه الدرجة من �صدق ال�شعور وحترره من التكلف ،ولكن هذه املقاطع الثالثة فيها كل ال�صدق يف ال�شعور والإح�سا�س باحلياة واجلمال. هذه املقاطع الثالثة هي كل ال�شعر الذي يقع عليه متح�س�س اجلمال يف اجلزء الأول من «الر�شيديات» ،وهو كتاب غري �صغري ،من �شعور الناظم .وهنالك �شعر �آخر يف هذا الكتاب ولكنه نظم �شعور �إن�سان �آخر هو ال�شاعر الربازيلي كازمريو دي �أبرايو عنوانه�« :سنواتي الثماين الأوىل» ،وما تبقى فهو ترديد ممل ملنظومات زمن عتيق وا�ستمرار ملثله الدنيا. اال�ستمرار يف ُمثُل الزمن العتيق الدنيا وتكلف نظم الق�صائد هما ال�صفتان الثابتتان يف منظومات ر�شيد اخلوري .و�شذ عنها يف �أنا�شيده فقط .ولي�س �أدل على ذلك اال�ستمرار وذاك التكلف من �سلوكه م�سلك الغزل والت�شبيب ،ن�سجاً على منوال �شعراء العرب املتغزلني.
28
�أنطون �سعادة
والغزل والت�شبيب هما مدار �شعور ال�شعوب غري املثقفة ويغلب فيهما الإح�سا�س املادي على ال�شعور الروحي .و�إذا در�سنا جيداً بع�ض منظومات ر�شيد اخلوري يف هذا الباب وجدنا �أنه وق�صر عن ال�شعراء الذين حاول تقليدهم ،و�إليك هذا املثال: �أغرق يف املادية ّ ثملني يف الغ�ض الندي كج�سمك ثم ارمتينا فوق �أغ�صان الربى �أعجزت �ألبق �شاعر عن نظمك وغدوت كالعقد النثري على الرثى البيت الثاين ،الذي كان ينتظر ،بعد التمهيد يف البيت الأول وما قبله� ،أن يكون غاية يف املثالية وتف ّوق الروحية ،لي�س �سوى مادية جمردة نظمت فهوت بال�شعر �إىل احل�ضي�ض .فيه ترى احليوانية املادية جمردة حتى من روعة الوح�شية� .أو قل هي وح�شية منحطة ،مم�سوخة، خلت من �سذاجة الوح�شية الأ�صلية و�سحرها الطبيعي الرائع ف�أ�صبحت حيوانية . وانظر قوله يف الق�صيدة عينها: من ذاق �شهدك مل ْ يخف من ُ�س ّمك يا نخلة دون ا لأزاهر هجتها �أي �أنه ما رام منها غري ق�ضاء وطره ف�إذا ق�ضاه فال يهمه غ�ضبها .وهذا وا�ضح لي�س بتف�سري هذا البيت فقط بل بقوله ال�صريح يف البيت الذي قبله: غ�ضب ًة �إ َّ �سه ٌم فوا�شوق الف�ؤاد ل�سهمك يل ف�صابني فرنوت ُم ِ ِ هم الناظم من الفتاة هو �أن تكون قد جددت �صباه لي�شتهيها من غري �أن يراعي �شعورها وكل ّ بدليل قوله يف البيت الأخري: بر�ضاك عني تارة وبرغمك ال بدع �أن جددت يل عهد ال�صبا والق�صيدة كلها ت�صور �شخ�صي حلالة خ�صو�صية تتعلق بالناظم وحده .وكان يجب �أن تبقى من خ�صو�صياته الداخلية التي ال لزوم لإطالع غريه عليها ،لأنها ال متثل �شيئاً يهم غريه من احلادثة التي ي�صفها. و�إنك �إذا ح ّللت الق�صائد التي �أراد ر�شيد اخلوري �أن يجعلها روحية �شعورية وجدت �أن فكرتها و�صورها مادية� ،إال ما كان منها مرتجماً �أو م�أخوذاً معناه عن �آخرين .وقد عودنا ر�شيد اخلوري اقتبا�س كل فكرة �أو خاطر لغريه �سمعه يف جممع ونظمه ،حتى بتنا ن�شك كثرياً يف
جنون اخللود
29
�أن له هو معاين �شعرية .ي�ساعدنا على هذا ال�شك تبلبل �أفكار منظوماته وت�ضاربها و�سطحية معظمها .و�إذا كان له معانٍ �شعرية فهي نادرة يف غري الإن�شاد. وكان ر�شيد اخلوري يف باديء �أمره وقبل �أن ي�أخذه هو�س «اخللود»� ،إذا ترجم �شعراً لأحد ال�شعراء الغربيني لزم الأمانة وذكر الرتجمة واملرتجم عنه .ولكنه بعد �أن �أ�صبح يف عرف ال�صحف ،التي ال نقّاد للأدب عندها ي�صح �أن تطلق عليهم هذه الت�سمية« ،ال�شاعر النابغ» الذي ي�شري �إليه �صديق له وللدكتور جورج �صوايا يف ب�شمزين ،ا�سمه �سليم غازي على هذه الكيفية« :ابتهجت للحفالت النادرة املثال التي �أوجدتها ل�صديقنا «ال�شاعر القروي» واحلق يقال قد �سما وحلق وربح اخللود(!!) وكم �أبتهج عندما �أراك تعزز حلقتنا القدمية املتينة كداود وفلك�س وماري ور�شيد� ،إلخ»( .من ر�سالة الكاتب املذكور �إىل الدكتور �صوايا) ـ نقول �إنه عندما �أ�صبح ر�شيد اخلوري يف هذه احلالة ر�أى �أن �شهرته قد �أغنته عن �أمانة النقل ف�صار يقتب�س ويرتجم وينقل بال ح�ساب .وقد ك�شف لنا حمرر «اجلامعة ال�سريانية» يف الأرجنتني الذي يطعن فيه اخلوري يف «حما�ضرته» امل�شار �إليها لهذا ال�سبب ،عن اقتبا�س �أ�صبح يعد �سرقة بعد �أن �سكت املقتب�س على اقتبا�سه وادعى االبتكار .هو ق�صيدة ر�شيد اخلوري بعنوان« :ال�شاعر املبتلى والطبيب» .ويف ما يلي الق�صيدة من نظم «القروي» مع الق�صيدة الأ�صلية التي اقتب�س ر�شيد اخلوري معانيها وبع�ض عباراتها وهي بالإ�سبانية لل�شاعر املك�سيكي املعروف خوان دي ديو�س بي�سا. «ال�شاعر املبتلى والطبيب» لر�شيد �سليم اخلوري ،ال�شاعر القروي: يتداوى عنده القلب احلزين يا طبيب اخلري يا خري طبيب ظاميء الأح�شاء ريان اجلفون �أوما عندك لل�صب الكئيب من دواء؟ فمرير العي�ش يحلو بالنقل �أيها العاين تن ّقل يف البالد و�شفا لل�صدر من داء امللل �إنّ يف الأ�سفار �سلوى للف�ؤاد �ش ّر داء فلأدع �أمري لأحكام القدر يا طبيب اخلري قد ع ّز الدواء
30
�أنطون �سعادة
و�أنا ّ ق�ضيت عمري بال�سفر كيف بالأ�سفار يرجى يل �شفاء والتنائي �سوف ي�شفيك التداين يا غريب يا غري ًبا ي�شتكي مر النوى ورجا �إن فرغت ّ كف الطبيب يف ربى لبنان للم�ضنى دوا من رجاء وانطفا كل رجاء بالبقا يا طبيبي اليوم قد جف ال�سراج ل�شقائي هو �أ�صل ال�شقا فالذي حت�سبه خري عالج والبالء فكره بالدمع حتى ال �شرر بهت الآ�سي وقد ب ّل زناد م�شرق الوجه رجاء كالقمر وم�ضى عني كئيب ًا ثم عاد يف ال�سماء فهو كالبل�سم للقلب اجلريح قال يا �إبني �إنّ لل�صوت عجب مثلما تلم�سه كف امل�سيح ُر َّب حلن هز ميت ًا فوثب بال�شفاء �شاعر ًا ينفي عن القلب الهموم ولقد تلقى ب�سنبولو فتى وجال عن �أفق ال�صدر غيوم و�إذا غنى على العود فنت بالغناء غري ذا� ،إن مل يزل ع ّني العنا؟ �أوما يل من دواء �آخر قال يدعى «املبتلى»! ويلي �أنا؟ قال كال! قلت ما ا�سم ال�شاعر وا�شقائي �أنا من ترجو لإبراء ال�سقم �أو�أنت «املبتلى» �أنت؟ �أجل رب عني خففت عنا الأمل فبكى الآ�سي معي ميت الأمل ّ بالبكاء
31
REÍR LLORANDO Viendo a Garrick -actor de la Inglaterrael pueblo al aplaudirlo le decía: “Eres el más gracioso de la tierra, y más feliz…” y el cómico reía. Víctimas del spleen, los altos lores en sus noches más negras y pesadas, iban a ver al rey de los actores, y cambiaban su spleen en carcajadas. Una vez, ante un médico famoso, llegóse un hombre de mirar sombrío: sufro -le dijo-, un mal tan espantoso como esta palidez del rostro mío. Nada me causa encanto ni atractivo; no me importan mi nombre ni mi suerte; en un eterno spleen muriendo vivo, y es mi única pasión la de la muerte. Viajad y os distraeréis. -Tanto he viajado! Las lecturas buscad. -Tanto he leído! Que os ame una mujer. -Si soy amado! Un título adquirid. -Noble he nacido! Pobre seréis quizá? -Tengo riquezas. De lisonjas gustáis? -Tantas escucho!
جنون اخللود
�أنطون �سعادة Qué tenéis de familia? -Mis tristezas. Vais a los cementerios? -Mucho… mucho. De vuestra vida actual tenéis testigos? Sí, mas no dejo que me impongan yugos: yo les llamo a los muertos mis amigos; y les llamo a los vivos, mis verdugos. Me deja -agrega el médico- perplejo vuestro mal, y no debe acobardaros; tomad hoy por receta este consejo “Sólo viendo a Garrick podréis curaros”. A Garrik? -Sí, a Garrick… La más remisa y austera sociedad le busca ansiosa; todo aquel que lo ve muere de risa; Tiene una gracia artística asombrosa! Y a mí me hará reír? -Ah! sí, os lo juro; Él sí; nada más él; más… qué os inquieta? Así -dijo el enfermo-, no me curo: Yo soy Garrick!… Cambiadme la receta. Cuántos hay que, cansados de la vida, enfermos de pesar, muertos de tedio, hacen reír como el actor suicida, sin encontrar para su mal remedio! Ay! Cuántas veces al reír se llora! Nadie en lo alegre de la risa fíe, porque en los seres que el dolor devora el alma llora cuando el rostro ríe!
32
33
جنون اخللود
Si se muere la fe, si huye la calma, si sólo abrojos nuestra planta pisa, lanza a la faz la tempestad del alma un relámpago triste: la sonrisa. El carnaval del mundo engaña tanto, que las vidas son breves mascaradas; aquí aprendemos a reír con llanto, y también a llorar con carcajadas.
Juan de Dios Peza
34
�أنطون �سعادة
القول ليس شعرا ً لي�س هذا املجال ،كما قلنا يف البدء ،خم�ص�صاً لدر�س منظومات «ال�شاعر القروي» فنقف يف كالمنا على �شعره الالوطني عند احلد الذي بلغناه يف املقالني ال�سابقني ،لنخ�ص هذا املقال مبنظوماته «الوطنية». ن�ش�أ ر�شيد اخلوري يف زمن �إبتداء االختالجات ال�سيا�سية يف �سورية ،ب�شكل دعوة الأمم العربية �إىل االحتاد �ضد ال�سلطة العثمانية ،زمن «دع جمل�س الغيد الأوان�س»( ) ،و«تنبهوا وا�ستفيقوا �أيها العرب»( ) ،و«بالدي ال �أرى فيك االقامة ملن يهوى التعزز والكرامة»( ) ،وغري ذلك من املوا�ضيع ال�سيا�سية الأوىل التي رافقت تلك االختالجات .فانطبعت مظاهر االختالجات املذكورة على نف�سه .ومتى عرفنا من الدر�س واملقابلة �أن ر�شيد اخلوري مكت�سب يف ال�شعر، ال موهوب ،عرفنا �أي�ضاً بالفح�ص واملقابلة �أن نزعاته «الوطنية» يف نظمه هي تقليد لنزعات غريه .وهكذا ترى ق�صيدته التي مطلعها�« :أبيت جوارها �أر�ضا بغري الذل ال تر�ضى» ،فهذه الق�صيدة هي مزيج من �أفكار �صاحب «بالدي ال �أرى فيك االقامة» و�إح�سا�سات �صاحب «دعاين �أجرع الغما» .و�أف�ضل ق�صائده الوطنية مل تتجاوز �أن تكون قب�ساً من «دع جمل�س الغيد الأوان�س» و«تنبهوا وا�ستفيقوا �أيها العرب». �إن منظومات ر�شيد اخلوري «الوطنية» لي�ست �سوى �صدى ما يقال وي�سمع يف بيئة الناظم� ،أي �أنها منظومات ال فكر مولد فيها وال فكرة وا�ضحة لها .كل ما ميكن �أن ت�شعر به فيها هو �أنها �صادرة عن رجل يحب احلرية واال�ستقالل ويطلبهما ككل �إن�سان �آخر� ،أو ككل حيوان على 1
2
3
جنون اخللود
35
االطالق .فمحبة احلرية وطلبها لي�سا �ش�أنني من �ش�ؤون النا�س فقط بل هما من �ش�ؤون احليوان �أي�ضاً� .أال ترى كيف يجول الأ�سد �أو النمر امل�أ�سور يف قف�صه يطلب خمرجاً وجما ًال حلركته بعد �أن �ضاق ذرعاً ب�أ�سره وعيل �صربه؟ �أو الع�صفور كيف ميد منقاره من هنا ومن هناك طالباً االفالت من القف�ص الذي �سجن فيه؟ نقول �إن ق�صائد اخلوري الوطنية لي�ست �سوى �صدى ما يقال وي�سمع� ،أي �إنها ق�صائد مل ت�شتمل على غري �صدى ق�صائد قدمية وغري الأفكار وال ِف َكر الب�سيطة ،العامية ،ال�شائعة ،وهذا يعني �أنها تابعة ال متبوعة .كل فكر �أو ر�أي ي�سمعه اخلوري يف �سهرة عائلية �أو اجتماع �أدباء يد ّونه �أو يحفظه ثم ينظمه ق�صيدة من «بنات �أفكاره» .فالعقائد القومية �أو الوطنية الغام�ضة عد «ال�شرق» تنعك�س على ق�صائد ر�شيد اخلوري بكل غمو�ضها .وحني كان الزمن زمن ّ موطناً وال�شرقيني جماعة �أو «�أمة» ،نظم ر�شيد اخلوري ق�صيدة بعنوان «�أمة ال�شرق» جمع فيها الرتك والعرب يف �أمة واحدة جعلها «�أمة ال�شرق»! يف ذلك العهد كان ال فرق بني قولك «�أمة ال�شرق» وقولك «�أمة العرب» ولذلك ترى اخلوري قد ا�ستعمل القولني؛ فهو قد ر�أى ال�شرق كله وطناً واحداً و�أمة واحدة ثم عاد فر�أى العامل العربي كله وطناً واحداً و�أمة واحدة .ويف كل ما نظم من «الوطنيات» ال جتد فكرة وا�ضحة للوطن �أو للوطنية املن�سوبة �إليه .فالوطن له هو حيناً اجلزء الأ�صغر من الوطن القومي ،هو لبنان ،وحيناً �آخر هو «�سورية الوطن» كما يف «الر�شيديات» .ولكن الوطنية ظلت لفظة فو�ضوية �شاردة ال تعرف وطناً ذا حدود وال تعني االنت�ساب �إىل وطن معني .وقاريء ق�صائد ر�شيد اخلوري ال يجد فكرة وطنية نهائية ثابتة ي�ستقر عليها ،بل هو يجد �أن الوطنية قد حتولت عن معناها الأ�صلي �إىل لفظة مرادفة للحرية املطلقة ،الفو�ضوية� ،أو لبغ�ض الغربيني ،وبنا ًء على هذا اال�ستعمال غري امل�ضبوط �سميت منظومات اخلوري «ق�صائد وطنية». جمع ر�شيد �سليم اخلوري فئة خمتارة من منظوماته «الوطنية» يف كتاب �سماه «الأعا�صري». لنتناول هذا الكتاب ،الذي هو زبدة «ال�شعر الوطني» الذي و�صف به «القروي» وفيه �أن�ضج ما نظم اخلوري يف هذا الباب.
36
�أنطون �سعادة
نتناول ،قبل كل جهة �أخرى ،الناحية ال�شعرية .واحلقيقة �أننا نقول «الناحية ال�شعرية» من باب �أن ال�شعر قيمة نف�سية �سامية �أدركتها فطرتنا املمتازة منذ قرون متطاولة يف القدم ،ال من باب �أن ال�شعر موجود يف «الأعا�صري» .ففي جمموعة «الأعا�صري» كلها ال يعرث القاريء على غري حماولة واحدة �ضعيفة لن�سج بردة �شعرية ،هذه املحاولة هي يف ق�صيدة «نكبة ال�شام» ،ويف ما �سوى هذه املحاولة ال جتد �أثراً وا�ضحاً لل�شعر يف «الأعا�صري» ،ولو �شنق نف�سه الكاتب امل�صري ح�سن كامل ال�صرييف� ،أو ندب حظه �أمني الريحاين( )� ،أو �أعلن نقمته �أمري البيان املري �شكيب �أر�سالن� ،أو حملق كثرياً توفيق قربان بعينيه من وراء نظاراته� ،أو حتولت فل�سفة «ال�شاعر القروي» القائلة «�إن اخللود يكون بوا�سطة املطابع» �إىل �سراب يف ال�صحراء ّ ل�ضال جمهد! �أبدع ق�صائد «الأعا�صري» «احلما�سية» تبلغ ،يف العلو ،حد التق�صيد الزيري( ) ،على طريقة تعبري الرفيق وليم بحلي�س� ،أو حد «قول» القوالني امل�شهور �أمرهم .و�إذا كان «القول» يبلغ �أحياناً حد ال�شعر باملعاين التي تعطي �صورة جمازية جميلة لفكرة �أو �شعور حقيقي ،ف�إن �صفاته الأ�سا�سية جتتمع يف االندفاع يف املظاهر الوهمية وترك كل ن�سبة �أو قيا�س بني الوهم والواقع� ،شرط �أن يكون معنى القول مغرياً مبا يفتح من �أبواب خداع الوهم املجرد �أو يقفل من �أبواب البداهة .كل مظهر اعتباطي ،مهما كان مبتذ ًال �أو �سخرياً ،جائز يف القول .وهكذا يف «الأعا�صري» و�إليك املثال: خذ ق�صيدته «الرجاء الوطني»( ) التي ق�صد منها �أن تكون �شعوراً جمي ًال يربط االن�سان بوطنه ،وهذه بع�ض �أبياتها: قل للربازيل �أن متحال غر�ست بلبنان ورد الأمل قل للأمازون �أن يبخال وجدت عليه مبزن املقل قل لليايل �أمطري حنظال وحليت قلبي «بنبع الع�سل» هذه الأبيات هي «قول» �أو «تق�صيد» جمرد من كل �صورة �شعرية ،وال�صورة التي تر�سمها من �أ�سخف ما ميكن �أن تت�صوره خميلة ق ّوال ب�سيط .ملاذا يجب �أن متحل الربازيل �إذا كان الناظم قد غر�س ورد الأمل بلبنان؟ وما هو اجلمال ال�شعري يف �سقي الأمل مبزن املقل وبخل الأمازون؟ وما هي الفائدة احلقيقية �أو اخليالية وما هو �سر اجلمال يف �سقي ورد الأمل مبزن 4
5
6
جنون اخللود
37
املقل �إذا عز الو�صول �إىل ماء الأمازون؟ الباكي فوق ورد الأمل ماذا تكون حالته وماذا ينتظر �أن تكون نهاية �أمله؟ وملاذا يجب �أن يزدري خ�صب الربازيل وغزارة �أمازونها؟ املقطع الأخري من املو�شح يقول : يحطم فوق �صخور الغد و�إن كاد ُفلكي ببحر الدجى ال من يد تتلقى يدي ومل �أ َر من ملتجى مرجتى وقلت ملوج الأ�سى� :أزبد �شددت «ب�صنني» حبل الرجا البيتان الأوالن ميهدان ل�صورة �شعرية حملقة ،ولكن البيت الأخري ي�سف �إ�سفافاً يولد يف نف�س القاريء ال�شاعر خيب ًة وانقبا�ضاً عظيمني :احلالة النف�سية التي تتطلب مثا ًال نف�سياً ـ روحياً من نوعها ال جتد �سوى خاطر مادي� ،إ�ستبدادي ،ال منطق يجيز �إنتهاءها �إليه .فلو قال الناظم مث ًال� ..« :شددت حبل الرجا بتلك القوة اخلفية ،العجيبة يف وطني التي كتب لها اخللود» لكان هنالك وجه للرجاء الوطني .ولكن ما هي املوحيات الفكرية يف «�صنني» جلعل الرجاء الوطني يرتبط به حني يكاد فلك حياة املرء يحطم فوق ال�صخور التي تخبئها الأيام؟ هذا املو�شح يدل على �أن الناظم يريد �أن يفر�ض علينا �سخافاته وخ�صو�صياته «ال�شعرية» فر�ضاً ،فهو هنا كما يف ق�صيدته التي تناولناها يف املقالة ال�سابقة القائل فيها« :من ذاق �شهدك �سمك» يريد �أن يكلفنا قراءة املنظومات املتعلقة بخ�صو�صيات نف�سيته ،وهي مل يخف من ّ �أمور كان يجب �أن تبقى بني الناظم ونف�سه �أو ،على الكثري ،بينه وبني خالنه الذين ي�شاركونه يف م�ستوى �أفكاره و ُمثُله ويف �إح�سا�ساته ومطالبها. �شد ر�شيد اخلوري حبل رجائه ب�صنني �أو بحرمون �أو بجبال ماذا يهمنا نحن �أو يفيدنا �إذا ّ العكام (�أمانو�س)؟ وماذا يهمنا من ا�ستغنائه بدمعه الهاطل على ورد �أمله عن �أمواه الأمازون؟ وهل بلغ بهذا الناظم ال�سخف حد ت�صور �أننا مثله عاجزون عن �سقي ورد �أملنا يف وطننا بغري دموعنا؟ �أولي�س عندنا نهر �أدوني�س (�إبراهيم) الغني ب�أ�ساطري احلياة ،ونهر العا�صي ونهر دجلة ونهر الفرات ونهر الأردن وغريها من �أنهرنا ن�سقي منها �سهول �آمالنا املُوجِ دة اخل�صبة ،حتى نقف كالن�ساء اللواتي �أ�سقط يف �أيديهن نبكي على ورد �أمل غر�سناه لنعتز به ،ال لنهان ونتعر�ض لل�شماتة؟
38
�أنطون �سعادة
وماذا يهم العموم من حملالت ر�شيد اخلوري وحمرماته حتى ينظم للنا�س كيف �أجاز لنف�سه ب�سم غ�ضبها ما دام يتمكن من ذوق انتهاز فر�صة �ضعف فتاة وغلبها على �أمرها غري مبالٍ ّ �شهدها؟ �ألي�ست هذه حالة من حاالت ف�ساد الفكر التي ي�صورها املع ّري اخلالد �أوهمت الناظم �أن قطر ال�سرى د ٌّر يح�سن �أن يعر�ضه على النا�س؟ يف «الأعا�صري» ق�صيدة بعنوان «ال�شهداء»( ) مطلعها تكلف ظاهر وقول عادي وهذا هو: خري املطالع ت�سليم على ال�شهدا �أزكى ال�صالة على �أرواحهم �أبدا واخلوري يحاول فيها بلوغ ال�شعر بكل و�سيلة فينتقل �إىل املجاز ليربز �صورة �شعرية ويقول : منها الرثيا ّ تلظى �صدرها ح�سدا بل ع ّلقوكم ب�صدر الأفق �أو�سمة ولكننا ال جند ظاهرة واحدة �أو �شك ًال يرمز �إىل تلظي �صدر الرثيا ح�سداً .و�إخراج الرمز يظل منوطاً باجتهاد كل قاريء يف تخيل ال�صور والأ�شكال. وهنالك ق�صيدة يف «وعد بلفور»( ) ال تختلف عن قول القرادي يف �شيء .ت�أمل هذه الأبيات: فاح�سب ح�ساب احلق يا متجرب احلق منك ومن وعودك �أكرب مهج العباد خ�سئت يا م�ستعمر تعد الوعود وتقت�ضي �إجنازها من جيب غريك حم�سن ًا يا بلفر لو كنت من �أهل املكارم مل تكن �إىل �آخر الق�صيدة .وفيها �أبيات قرادية تخرج عن كل فكر جدي كهذه : فليخلعنَّ الغمد هذا الأبرت �أما وقد خلع املرائي ثوبه تطوى على هام الرجال وتن�شر وليلب�سنّ الأرجوان غاللة يحجبهم دم ال عثري حتى ولتعركنّ الظاملني �سنابك ّ وهي ،لفقد كل ن�سبة �صحيحة فيها �إىل حقيقة املوقف ،ال تر�سم غري �صورة «دنكيخوطية» ][Don Quixoteتدعو �إىل الهزء وال�سخرية .وق�س على ما تقدم ففيه كفاية لتبيان قيمة منظومات ر�شيد �سليم اخلوري من الوجهة ال�شعرية. وال بد ،قبل ختام الكالم على هذه الناحية ،من ذكر �أنه يوجد يف ق�صيدة «ال�شهداء» ظل ل�صورة �شعرية هي من �إبداع الوطني الكبري املرحوم الدكتور خليل �سعادة ،الذي �أنذر 7
8
جنون اخللود
39
امل�ستعمرين بالهالك ّ فتهكم على �سعيهم ،وناداهم �أن يبادروا �إىل نق�ش �آثارهم �إىل جانب الآثار التي نق�شتها على �صخورنا الأمم البائدة. نرتك ،عند هذا احلد ،الناحية ال�شعرية ونتناول ناحية الروحية الوطنية يف ق�صائد «الأعا�صري». الروحية ال�سائدة يف الق�صائد املذكورة ،كما يف غريها من ق�صائد «القروي» الوطنية ،هي روح النوح والبكاء والندب وال�صخب والزحري .روحية رازحة ،عاجزة ،يائ�سة ،ال متلك �أمرها وال تدرك موقفها .روحية �أكرث �ضعفاً و�أقل ثقة من روحية عامو�س اليهودي بعد �أن �ضرب ملك دم�شق ،هدد عزر ،اليهود �ضربة عظيمة ،روحية لعنة ل�شعبه ووطنه ال ترى بعثاً وال �أم ًال. ميكن ال�شعور بهذه الروح من �أول الكتاب� .أنظر البيتني اللذين �أهدى بهما الكتاب �إىل «�شهداء الوطنية»( ): مبعد ًا ،عاطل ال ُّرمو�س ن�س ّيا يا رفات ًا حتت الرمال دفينا مل �أجد يف البالد غريك ح ّيا لك �أهدي هذا الكتاب لأين فهو ال يهدي الكتاب �إىل ال�شهداء من �أجل نبالة ت�ضحيتهم ،بل يهديه �إىل رفاتهم لأنه مل يجد حياة يف �شيء غريه! وهو ال يق�صر هذا املعنى القاتل الأمل على احلا�ضر ،بل يتناول به امل�ستقبل �أي�ضاً يف ق�صيدته «ال�شهداء» يف ال�صفحة 59حيث يقول: للحرب �أمثالهم �أُ ٌّم ولن تلدا تلك اجلبابرة الأبطال ما ولدت وترى �أنه جعل من تقدير ال�شهداء املق�صود مدحهم و�سيلة للحط من الأبطال الذين تقدموهم .وهكذا حما الناظم املا�ضي ودفن احلا�ضر و�أعدم امل�ستقبل .و�أين هذا القول الزري ،يف معر�ض االعتزاز والفخر ،من قول القائل�« :إذا مات منا �سيد قام �سيد» الذي يرفع املعنويات ويقوي ثقة املرء مب�ستقبل قومه وح�سن م�آلهم؟ ف�إذا كانت الأمهات مل تلد ولن تلد �أمثال �أولئك الأبطال فب�أي �شيء يكون رجا�ؤنا للغد؟ �أبحبل رجاء ر�شيد اخلوري امل�شدود ب�صخور �صنني؟! و�إليك هذا املثال على العجز والي�أ�س( ): 9
10
40
�أنطون �سعادة
يدعوك �شعبك يا �صالح الدين قم ت�أبى املروءة �أن تنام وي�سهروا فالناظم ال يرى �أم ًال وال مقدرة يف غري قيام �صالح الدين من قربه ،وال ميكن �أن يحمل هذا البيت على حممل رمز �إىل ما �سيجيء ب�سبب ما يليه وهو : قبل الرحيل فعد �إليهم يذكروا ن�سي ال�صليبيون ما علمتهم فلي�س�ألوه لعله ال ينكر ريكارد�س �أدرى ب�سيفك منهمو وعلى افرتا�ض �أن هذه الأبيات رمز ،وهو ما ال وجه قيا�سي �أو منطقي الفرتا�ضه ،فبئ�سما هو هذا الرمز ،الذي مغزاه الرجعة �إىل القدمي .وهذه الروحية الرجعية ،التي هي نتيجة روحية العجز والي�أ�س ،تتجلى مبظاهرها الباهرة يف الق�صيدة ال�شائنة «حتية الأندل�س» يف قوله( ): موطن ال�شعر وديوان العلوم ف�إذا بغداد عادت كالقدمي مرجف ًا باحلب �أع�صاب النجوم و�إذا رنّ بها عود الندمي الرجوع �إىل املا�ضي و�صوره ،هذا �ش�أن جميع العاجزين عن االن�شاء واالبداع والتقدم واالرتقاء .وق�صيدة «حتية الأندل�س» املعيبة حتتاج در�ساً خا�صاً �سي�أتي .والعجز والقنوط وال�شكوى تظهر بو�ضوح يف ق�صيدته على غالف «الأعا�صري»: على وطني ور ّد له الأيادا �إلهي ر ّد ما لك من �أياد و�ألب�ست القطني به احلدادا خلعت على رباه احل�سن فذا فهذان البيتان لي�سا �إعالن ثقة باهلل من قبل جماهد عزوم ،بل هما �ضراعة يائ�س عاجز عن �إدراك الأ�سباب .فهو يقول �إن اهلل هو الذي ق�ضى ب�إلبا�س مواطنيه احلداد باملرتبة عينها التي ق�ضى فيها �أن يكون وطنه جمي ًال� .إذاً فالأ�سباب كلها من عند اهلل وال ميكننا �أن ننتظر �شيئاً �إال �أن يلب�سنا اهلل الأثواب الزاهية بد ًال من احلداد ،فهو وحده على كل �شيء قدير بذاته .وال يكفي �أنه خلقنا و�أعطانا من املواهب بقدر ما �أعطى غرينا و�أكرث ،و�أنه يعيننا �إذا توكلنا عليه يف خطة و�سعي وجهاد .ثم �إن الناظم يتحول ،يف عجزه وبعد �ضراعته اليائ�سة �إىل «�شبول الأرز» ويطلب منهم �أن: عيون ال ُبطل �إن كنتم رمادا فكونوا النار حترق �أو قذى يف 11
جنون اخللود
41
والناظم يريد �أن يوهمنا �أن مناداته حمية .وقد يكون هنالك من ح�سبها حمية ،وال وجه لهذا االعتبار ،لأن الناظم ال يدل «�شبول الأرز» على الكيفية التي ي�صريون بها ناراً حترق، وال على الطريقة التي يكونون بها قذى يف عيون البطل متى كانوا رماداً ال يف هذه الق�صيدة وال يف غريها .ف�صيحته �صيحة عاجز ،خامل ،يخبط على غري هدى وي�ستعمل كالماً يف غري مو�ضعه ،كما و�ضع لق�صيدة يف فتاة �إنكليزية عنوان «�صيحة للجهاد» وهي ق�صيدة ال �صيحة فيها للجهاد �أو لغريه و�إمنا جرى فيها ذكر وجود �صيحة للجهاد يف كل مكان غري الق�صيدة! والعي والقنوط يف عدة �أماكن من «الأعا�صري» ،وتكاد مظاهر تطل علينا روحية الزحري ّ هذه الروحية اليهودية تكون ن�سخة طبق الأ�صل عن روحية عامو�س �أو �إرميا .فالناظم يهدد الأعداء بقوة اهلل وي�شتم ويلعن� ،ش�أن كل عاجز( ): عدد ال�سفني فعند ربك �أكرث يا ربة الد�أماء مهما تكرثي 12
***
�إن كنت منذرة ففوقك منذر هددت بالأ�سطول �أرواح الورى و�إنك ترى ال�سباب واللعن يف �أقبح �صورة يف ق�صيدة «م�آ�سد ال مراع»: كل�ؤمك يف الغرائز والطباع فكنت لئيم ًة حرب ًا و�سلم ًا ***
ك�أن ال�شام عر�ضك يا لكاع عر�ضت ال�شام موطننا لبيع نقف عند هذا احلد يف �إظهار الروحية ال�سائدة يف منظومات ر�شيد �سليم اخلوري «الوطنية» ب�صورة عامة ،على �أن نعود يف ختام هذا املو�ضوع �إىل تناول ق�صيدته املجرمة «حتية الأندل�س». وننتقل الآن �إىل ناحية �أخرى هي ناحية الفكر.
42
�أنطون �سعادة
اهلوامش - 1ال�شيخ �إبراهيم اليازجي« ،العقد» -دار مارون عبود ،بريوت .1983ال�صفحة .83 - 2املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .25 - 3خطاب بول�س اخلويل ،جملة «املقتطف» ،اجلزء ،)1903( 28ال�صفحات .918 - 913 « - 4كتبت هذا املقال قبل ورود نعي الريحاين» [ورد هذا الهام�ش يف «�سورية اجلديدة» العدد ،103تاريخ � 8آذار .]1941 - 5املق�صود بذلك ال�شعر الهجني بني العامية والف�صحى الذي متتاز به الق�صائد ال�شعبية مثل «�سرية الزير �سامل �أبو ليلى املهلهل» وما �شابه. - 6ر�شيد �سليم اخلوري« ،الأعا�صري» ،ال�صفحة ،32مطبعة ال�شرق � -سان باولو .1933 « - 7الأعا�صري» ،ال�صفحات .60 - 55 - 8املرجع ال�سابق ،ال�صفحات .84 - 71 - 9املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .3 - 10املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .75 - 11املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .22 - 12املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .76
جنون اخللود
43
إضطراب وهذيان الأفكار نادرة جداً يف منظومات ر�شيد �سليم اخلوري ،وهي ،على قلتها� ،شعث غري ملموم ،بل هي ف�سيف�ساء �أفكار عامية ،يف الغالب� ،أو �شائعة .فهو �إذا ذكر باال�ستقالل ال يراه �آتياً �إال على يد العرب فيطلب من ال�سوريني �أن يتجهوا بكليتهم �إىل ال�صحراء ،كما يف «حتية الأندل�س»( ): ناف�ض ًا عن �أربع الفيحاء ذال و�إذا ال�سيف من ال�صحراء �سال وكما يف قوله يف ت�أبني الوطني الكبري املرحوم الدكتور خليل �سعادة: ميزق عن عيونكم احلجاب �سنقتلكم ونحييكم �إىل �أن على �صهواتها �شبوا و�شابوا غداة نر ّو ع الدنيا بجن له يف �ضفة «ال�سني» ا�ضطراب ويجرفكم من ال�صحراء �سيل ظننتم كل ما فيها �سراب ًا �سي�شرب بحركم هذا ال�سراب يف بدء هذه الأبيات يظن القاريء �أن الناظم يرى ر�ؤيا جميلة تب�شر بنهو�ضنا نحن ،فتخرج الأبطال اجلبابرة من مدننا وقرانا ،من جبالنا و�سهولنا و�أوديتنا .فال تكاد نف�سه ت�ستب�شر لذة الأمل بالنهو�ض حتى يقطع الناظم �أملها بو�ضعه الرجاء يف ال�صحراء و�أهلها ،ال فينا! وهو �إذا فكر بالبطولة وال�شجاعة والكرامة ردد �أفكار زمن االنحطاط العامية التي ن�سبت الذل �إىل تعليم امل�سيح�« :أحبوا بع�ضكم بع�ضاً» وانتهى �إىل هذه احلكمة التي �أخفيت عن العقالء و�أعطيت للجهال( ): ب�سيف حممد اهجر ي�سوعا �إذا حاولت رفع ال�ضيم فا�ضرب 1
2
44
�أنطون �سعادة
بها ذئب ًا فما ّ جنت قطيعا
«�أحبوا بع�ضكم بع�ض ًا» وعظنا وقوله( ): خلق «الكمال» لهم من النق�صان وال�سيف ال عي�سى وال �أ�ضرابه ومن هذا النوع العامي االنحطاطي تفكريه يف �ش�أن املباديء و�أهميتها( ): وقيل لنا من الأخالق واقي �أوا�شنطون كان بال خالق وهل قهر العدى يوم التالقي بتلك ال�سمر والبي�ض الرقاق وعلم احلرب �أو علم املبادي؟ وهذا التفكري �سخيف م�ؤ�س�س على جهل مطبق� ،إذ لوال املباديء ملا ظهر وا�شنطن وال غريه من العظماء .فاملباديء والإميان كانت وراء �شراذم وا�شنطن ،كما كانت وراء �شراذم خوار�س. والإميان واملباديء كانت وراء امل�سيح و�أتباعه .والإميان واملباديء ،قبل احل�سام ،كانت وراء حممد و�أتباعه .و�إن ال�سمر والبي�ض الرقاق وعلم احلرب �إذا مل ت�ستند �إىل روحية قوية من الأخالق واملباديء واملناقب كانت عدمية اجلدوى .ولي�ست املباديء مبانعة من امت�شاق احل�سام .وال�سيف ،يف احلاالت امل�ؤاتية ،ي�ؤلف جزءاً من الأخالق واملباديء ،فال وجه �إذن للأخذ بذاك وترك هاته. وقوله يف الأغنياء وم�صري �أموالهم بعد موتهم( ): �إال لكي مينحوهم كل ما جمعوا مل مينعوا النا�س يوم ًا بع�ض ما جمعوا لي�س �سوى نظم فكرة عامية متداولة عند الب�سطاء ي�سمعها املرء يف جمال�سهم و�سمرهم، ولي�س فيها مغزى مفيد يف جمتمعنا الع�صري املركب. ويف ق�صيدته «هنا وهناك» من �سخف الفكر ما يحار املرء يف بلوغه هذا املبلغ الزري( ): وم ّلكوهم رقاب ًا حقها النطع �إن كرموا العجم و ّلوهم ظهورهم 3
4
5
6
جنون اخللود
45
والناظم ي�شرح قوله «و ّلوهم ظهورهم» هكذا« :من عادات �شعبنا �أنهم يحملون من يرومون تكرميه على �أعناقهم �أو يجرون مركبته» ،فهل هذا �صحيح؟ �صحيح �أن من عادات �شعبنا �أن يرفعوا �أبطالهم على �أيديهم و�أكتافهم يف ظروف من حما�س �شديد ولكنه لي�س �صحيحاً �أن «من عادات �شعبنا» �أن يجروا مركبة من يرومون �إكرامه من العجم ،وال عربة بحادث من هذا النوع جرى يف زحلة وكان خروجاً على عادات �شعبنا ،ال عم ًال بها. والظاهر من هذا االختالق ومن غريه �أن الناظم يروم رمي �شعبه بكل حقارة ون�سبة كل �صغارة �إليه ،ليظهر هو مبظهر الأبي الأوحد وليتمكن من القول( ): فيا رباه ل�ست �أنا البالدا �أال ذ ّو قتهم �أملي فثاروا وهو يريد �أنه الوحيد من �أبناء ال�شعب املت�أمل ت�أملاً �شديداً ملا ّ حمله حل بالوطن ،و�أن اهلل قد ّ وحده عذاب البالد كلها! الناظم يحقر ال�شعب كله ليظهر مبظهر وطني كرمي فيقول يف قومه( ): يرنو الإباء �إليهم ،دمعه ٌ لهب � ،أح�شا �ؤه قطع برك، �أنفا�سه ٌ وهو دائماً ينعى لبنان ويرى يف عدم ثورانه انتفاء الإباء والكرامة منه ،ال حالة �سيا�سية ـ اجتماعية خا�صة ،فيقول فيه( ): لو قلت يا بلد ًا بال �سكان! لبنان يا لبنان بل ما �ضرين ثم ي�سمع الناظم �أن م�صيبة ال�شعب من تف ّرق مذاهب دينية فيقول( ): ومن �أجلها افطر ومن �أجلها �صم قد مها على كل م ّلة بالدك ِّ 7
8
9
10
***
فقد مزقت هذه املذاهب �شملنا فر يوحد بيننا �سال ٌم على ُك ِ
وقد حطمتنا بني ناب ومن�سم و �أه ًال و�سه ًال بعده بجهنم
46
�أنطون �سعادة
ويف ق�صيدة «ال�شهداء» يقول الناظم( ): وعقد ٍة وحدت للعرب معتقدا أكر ْم بحبل غدا للعرب رابطة � ِ وهو يريد بهذا البيت �أن ا�ست�شهاد الرجال ال�سوريني الذين �سعوا للثورة على احلكم الرتكي، ولتحرير �سورية والأقطار العربية الأخرى منه ،قد �صار رابطة ل�شعوب العامل العربي .وهي فكرة تعد ه�ؤالء ال�شهداء �شهداءها وهمية خادعة ،فكيف و�أين وجد الناظم �أن �أمم العامل العربي ّ هي وحتيــي ذكرى م�آمتهم؟! وهل تقام لذكراهم املجال�س وامل�آمت يف مكة واملدينة و�صنعاء ويف القاهرة والإ�سكندرية ودمياط واخلرطوم ويف فا�س والرباط وتون�س واجلزائر واملر�سى الكبري ويف بغداد والنجف والب�صرة وكربالء؟ �أ َويكفي �أن يتبع الناظم بالبيت املتقدم بيتاً �آخر يقول فيه: ـ ــحرام �أ ّنا جمعنا الأرز والبلدا يا زائر الأرز خبرّ زائر البلد ال ـ ـ لتكون الرابطة بني الأقطار العربية قد متت وتكون معتقدات الأمم العربية قد توحدت؟ و�إذا حملنا معنى هذين البيتني على حممل ال�شعور بد ًال من حممل الفكر ف�إنناٍ ، حينئذ، نحتاج �إىل �أحد علماء مدر�سة فرويد يف التحليل النف�سي ليعلل لنا �أ�سباب هذا االختالل الكبري يف �شعور الناظم و�إح�سا�سه ،ف�إن علماء هذه املدر�سة النف�سية قد �أظهروا لنا �أمثلة غريبة على ا�ستبدال خمت ّلي ال�شعور �أوهاماً غريبة الأ�شكال باحلقائق التي هي باحلقيقة غر�ض �شعورهم الأ�صلي! روى �أحد علماء هذه املدر�سة ال�سيكولوجية �أن �إحدى العوان�س كانت تعبرّ عن دوافع �شوقها وحنينها �إىل والدة ولد ب�أحالم غريبة ،منها حلم هذا م�ضمونه :حلمت هذه العان�س �أنها ا�ستدعت خبرياً ب�أوتار البيانو لي�صلح خل ًال طر�أ على الأ�صوات ،فلما فتح الرجل �صندوق البيانو وظهرت الأ�سالك نظرت العان�س فر�أت بذوراً كثري ًة تت�ساقط خاللها! كانت هذه املر�أة حتت مراقبة �أحد خرباء مدر�سة التحليل النف�سي الذي حلل حلمها و�أحالمها الأخرى �إىل �أجزائها ،و�أبان كيف �أن اختالل �شعور املري�ضة النف�سي ـ الع�صبي جعل �صور �شعورها الأ�صلي ت�ضطرب وت�أخذ �أ�شكا ًال غريبة بعيدة عن احلقيقة. 11
جنون اخللود
47
بالعي والعجز وفقد و�أفرت�ض �أننا و�ضعنا ر�شيد �سليم اخلوري �أو واحداً �آخر من امل�صابني ّ الرجولة احلقيقية� ،أما كان حتليله لأقواله يعطي هذه النتيجة؟ �إن ر�شيد اخلوري �أحد الذين ي�صبون وي�شتاقون �إىل الإح�سا�س ب�أنهم ينتمون �إىل دولة �سائدة ذات حول وطول ،ولكنهم ،لعجزهم عن �إ�شباع هذه احلاجة يف نفو�سهم مبمار�سة �أعمال فيها بطولة و�شعور حقيقي بالقوة ،فقد �إختل �شعور الرجولة فيهم حتى �أنهم �أخذوا يحلمون الأحالم الغريبة ،ويت�صورون الت�صورات العجيبة لي�ستعي�ضوا عن احلقيقة املفقودة!
اهلوامش « -1الأعا�صري» ،م�صدر �سبق ذكره ،ال�صفحة .23 - 2ق�صيدة «�سلطان با�شا الأطر�ش والتنك»« ،الأعا�صري» ال�صفحة .27 - 3ق�صيدة «الإ�ستقالل حق ال هبة»« ،الأعا�صري» ال�صفحة .34 - 4ق�صيدة «لبنان وثورة حوران»« ،الأعا�صري» ال�صفحة .63 - 5ق�صيدة «هنا وهناك»« ،الأعا�صري» ال�صفحة .63 - 6املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .68 - 7غالف «الأعا�صري». - 8املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .68 - 9املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .40 - 10ق�صيدة «عيد الفطر»« ،الأعا�صري» ال�صفحتان .111 - 110 - 11املرجع ال�سابق ،ال�صفحة .50
48
�أنطون �سعادة
«حتية األندلس» «حتية الأندل�س» هي الق�صيدة التي يعدها ر�شيد �سليم اخلوري من عيون ق�صائده الوطنية �أو احلما�سية ،ولذلك ح ّلى بها جيد ديوانه «الأعا�صري» .وقد ا�ستوحى الناظم مو�ضوع هذه الق�صيدة من احلفلة التكرميية التي �أحييت لل�شاعر الإ�سباين فرن�سي�سكو بليا �أ�سب�سه يف مدينة �سان باولو ـ الربازيل ،مبنا�سبة �إلقائه حما�ضرات يف تلك املدينة ن ّوه يف بع�ضها مب�آثر العرب يف �إ�سبانية وزعم �أنه هو يتحدر من �أ�صل عربي. ر�أى ر�شيد �سليم اخلوري بعني �شاعريته �أن يتمثل الأندل�س يف �شخ�ص املحتفى به ،حتى �أنه ن�سي هذا ال�شخ�ص باملرة ،ور�أى كذلك �أن ميثل هو �سورية حتى ن�سي �أنه هو املتكلم ال �سورية .و�إذن فالق�صيدة ،كما ت�صورها الناظم� ،أو كما �أرادها ،متثل وقفة �سورية �أمام الأندل�س على مر�أى وم�سمع من العامل. يفتتح اخلوري ق�صيدته با�سم ال�سوريني فيقول ،خماطباً الأندل�س( ): طيب الن�شر ك�أنفا�س اخلزامى خربينا كيف نقريك ال�سالما غادر ال�شام وبريوت وهاما وال�شذا املحيــي ب�سورية العظاما و�أنوف مل يقبلن الرغاما حتن هاما يف بالد حرة مل ِ خربينا كيف نقريك ال�سالما؟ هذا هو املقطع الأول من هذه الق�صيدة النادرة ،وندورها لي�س يف جمالها ،بل يف قبحها ،وال يف عزها ،بل يف ذلها .فقلما وقف �إن�سان ميثل �أمته جتاه �أمة غريبة وفاه مبثل هذا القول املخزي. �إن الناظم يقول لإ�سبانية� :إننا نحن ال�سوريني نخجل من �أن نقف موقف امل�سلم عليك �أنت حتن هاماً ومل تق ّبل �أنوف بنيك الرغام» ال يوم افتتح �أر�ضك جدودنا الأمة احلرة التي «مل ِ 1
جنون اخللود
49
الكنعانيون الفينيقيون وال يوم افتتحها العرب ،وال يوم اجتاحها الوندال وال يوم �أخ�ضعها الرومان ،وال يوم اكت�سحها نابليون وال يوم قهرها الإنكليز .ونحن ،نحن الذين ملكنا البحار دهراً و�سيطرنا على �إ�سبانية يف جملة الأر�ض الوا�سعة التي ملكناها ،نحن الذين ع ّلمنا �أمم الأر�ض معنى الوطنية ،نحن نحار كيف نتجر�أ على الإقرتاب منك وال�سالم عليك!! نحن ل�سنا �إال عبيداً .فلله د ّر ر�شيد �سليم اخلوري ،الذي ميثلنا عبيداً �إذ يقول: راية حمراء حتميها املدافع؟ �أمن «امليما�س» حيث العلج رافع �أم من الأرز وليث الأرز خا�ضع؟ �أم من ال�شام وطرف ال�شام دامع؟ خا�شع الر�أ�س ذلي ًال يرتامى �أم من الأردن والأردن �ضارع �أمن العبدان تر�ضني �سالما!! �أيتها الأمة ال�سورية العظيمة! �أيتها الأمة ال�سورية العظيمة التي ذقت لذة املجد ومرارة املحن التي تنزل بالأمم العظيمة! ما �أ�سو�أ طالعك بفئة زرية من �أبنائك! �إن العبد الذليل ال ميكنه �أن ميثل �أمة حرة ،ف�إنه يذلها. كم من حر عظيم وقف وقفة �أن�صف بها �أمة منكودة احلظ عاثرة اجلد ،وكم من عبد ذليل وقف وقفة ظلم بها �أمة عظيمة و�أذلها. �أجل� ،أيتها الأم العظيمة� ،إن من �سوء حظك ونكد الدنيا عليك �أن تبني جمداً بلغ اجلوزاء وتورثي �أجيالك فخراً مل يكن قبله وال حدث بعده فخر ي�ضاهيه ،فيقوم نفر من �أبنائك لي�سوا �أه ًال بحمل ا�سمك وال جديرين باملرياث اخلالد الذي �أورثته فريتدون عليك يف �سقطة لك مل تنج منا �أمة من الأمم العظيمة ،ولكنها �أعظم من جميع ال�سقطات التي عرفت يف التاريخ، ويطعنونك يف �أح�شائك ويزيدون جراحك ويلطمونك على وجهك النبيل ب�أيديهم الأثيمة ثم يقفون �أمام العامل منحازين عنك متن�صلني من كل م�س�ؤولية تقع عليهم ،ناعني عليك �سقطتك ،غا�سلني �أيديهم من دماء جراحك وقائلني للنا�س :نحن رجال هذه الأمة وممثلوها ونحن نعلن للملأ �أنها �أمة عبيد!! ما �أعظم �آالمك �أيتها الأمة العظيمة التي يقف ذليل منت�سب �إليك فريميك بالعبودية وي�ضرع
50
�أنطون �سعادة
�إىل اهلل ،هو امليت الوجدان ،قائ ًال: فيا رباه ل�ست �أنا البالدا(!!) �أال ذوقتهم �أملي فثاروا رجل من رجال البطولة القزمية امل ّيتي الوجدان ،العدميي ال�شعور ب�آالمك ،يقف فوق جراحك النازفة ويقول� :أنا هو املت�أمل �أما هذه الأمة فلي�ست يف حمنة بل هي �أمة عبيد ال ت�ستحق �أن ت�صافح �أمة حرة!! �أيها القاريء! �إذا كنت حتى الآن مل ت َر عظمة نف�س ذليلة يف �أوج ذلها وت�سكعها ،فانتبه لئال مير بك جالل هذه العظمة الذليلة التي ميثلها «ال�شاعر الذي ربح اخللود» يف املقطع التايل من «حتية الأندل�س» دون �أن تراه: مل تزل حتمي ذرى الق�صر املنيفه �إن باحلمراء �أرواح ًا مطيفه نظرات هنّ لعنات خميفه �أر�سلت من بينها عني اخلليفه �أبعدوا لبنان عني وال�ش�آما ال يح ّييني �سوى نف�س �شريفه! من ربوع الذل ال �أر�ضى �سالما! �أر�أيت� ،أيها القاريء ال�سيء الطالع ذ ًال �أعظم من هذا الذل؟ هل ر�أيت وحتققت الآن �أن للذل عظمة وجال ًال ،بعد �أن كنت تتوهم �أن العظمة واجلالل هما للعزة والكرامة والبطولة والإباء؟ يقول هذا الناظم ،الذي كان من �سوء طالع �سورية �أن ت�سمح له عقلية �سخيفة بتمثيلها يف موقف مثل هذا املوقف� ،إن باحلمراء �أرواحاً مطيفة مل تزل حتمي ق�صراً زال عز تلك الأرواح منه و�أ�صبح من الآثار الباقية الدالة على ع ّز الأمة التي طردت تلك الأرواح. ويقول �أي�ضاً �إن عني «اخلليفة» تر�سل من بني تلك الأرواح نظرات هن «لعنات خميفة» تقول: �أبعدوا �سورية عني ف�إين ال �أر�ضى �سالماً من هذه البالد �أو الأمة الذليلة! �أما ملاذا يجب �أن يقول «اخلليفة» هذا القول فمن الإبداع الذي يدل على عظمة الذل وذل العظمة ،لأنه متى نه�ض قزم و�أخذ يتبخرت ويتخيل �أنه جبار ،فالعز ي�صري ذ ًال والذل ي�صري عزاً! �إن «اخلليفة» الذي يريد الناظم �أن يرعبنا «بنظراته» يجب �أن يغ�ضي حيا ًء وخج ًال ويط�أطيء خ�شوعاً وانك�ساراً .ف�إن عظمة احلمراء مل تبلغ يوماً عظمة �سلطان الفيحاء ،ف�إذا كانت احلمراء
جنون اخللود
51
�سيطرت مدة على الأندل�س فدم�شق �سيطرت على جميع الأقطار التي دخلها جي�ش �إ�سالمي �أو عربي ،وعلى جميع اجليو�ش �أ ّنى توجهت. كيف يحق «للخليفة» الأندل�سي �أن ينعت �سورية «بربوع الذل» وهو يرى ذل احلمراء بعد عزها� .ألي�س الأجدر به �أن يوجه «نظراته املخيفة» �إىل قومه الذين ف�شلوا وخ�سروا ملكاً وبالداً مل يكونوا جديرين باالحتفاظ بهما؟ �أال يعلم ذلك «اخلليفة» �أنه �سوري �أموي و�أن الف�ضل يف تبوئه عر�ش �إمارته ومقام خالفته عائد �إىل �سورية التي كانت �أ�سا�س الإمرباطورية الإ�سالمية والقوة الوحيدة التي متكنت من �أن ت�ضم �أطراف تلك الإمرباطورية املرتامية الأطراف حتت كنفها ،حتى �إذا زال الأمر منها وقامت الدولة العبا�سية يف بغداد ر�أينا تلك الإمرباطورية التي كانت �شيئاً حقيقياً تتفكك وتتف�سخ ويقب�ض على مركزها العجم والديلم والرتك ،بينما اخللفاء الهون بلب�س عباءة النبي وبال�شعراء والندماء واجلواري والقيان؟ و�إذا مل يكن �سورياً� ،أفال يعلم ذاك «اخلليفة» �أن الأر�ض التي بنيت عليها احلمراء ر�أت عز الإمرباطورية ال�سورية الغربية (قرطا�ضة) قبل �أن ر�أت عز العرب و�أنه فيها قام قواد �سوريون مل يقهرهم قائد �أو ملك �إ�سباين قط؟ و�أي خليفة هو هذا «اخلليفة» الذي يبلغ به التهور حداً ت�س ّول له نف�سه عنده �إر�سال تلك «النظرات املخيفة»؟ �ألعله ذاك الذي قالت له �أمه عند وداع غرناطةِ �« : إبك� ،أيها الأمري ،كما يليق بالن�ساءُ ،ملكاً مل تقدر �أن حتافظ عليه كما يليق بالرجال!». �إن الناظم الذي ال يعرف للخيال عالقة باحلقيقة يخاطب الأندل�س كما لو كانت ال تزال يف قب�ضة العرب ،وين�سى �أنه يحيي الآن �أندل�س الأمة التي طردت العرب. و�إذا كان الأمر كذلك فلماذا ال يتابع خياله ويخاطب �سورية كما لو كانت ال تزال قاعدة الإمرباطورية الإ�سالمية ،من عا�صمتها ت�صدر الأوامر �إىل قادة اجليو�ش ّ واحلكام ،و�إليها جتبى ال�ضرائب ومنها ت�سري اجليو�ش الظافرة التي تخ�ضع حتى مكة نف�سها؟ �أخ�شفاً و�سوء كيلة؟
52
�أنطون �سعادة
�أ�إىل هذا الدرك الذليل يريد �أن ينزلنا «ال�شاعر الذي ربح اخللود» باختالل �شعوره وا�ضطراب خياله� ،أم يظن �أن بليا �أ�سب�سه عامل بالأمرا�ض النف�سية والع�صبية وكذلك جميع الق ّراء في�ستخرجون احلقائق من فو�ضى خياله و�شعوره؟ بعد بلوغ الأوج يف املقطع املتقدم ي�أخذ الناظم ي�سري الهويناء يف املقطع الآتي: مل تزل فيك من املجد بقيه يا ابنة الزهراء يا �أندل�سيه �ضاربات بزنود عربيه ملعت فيها ال�سيوف امل�شرفيه ب�أكف مل يجردن ح�ساما فعلى مثلك ال تلقى التحيه خربينا كيف نقريك ال�سالما؟ ولعل الناظم يريد ،بهذا املقطع� ،أن يقول �إنه ملا كان بع�ض الإ�سبان فيه عرق عربي مبا حدث من االمتزاج يف �أثناء قيام الدولة العربية يف الأندل�س ،ومبا �أن هذا البع�ض الذي له �صلة بدم عربي هو اليوم جزء من �أمة حرة ،فهم ميثلون بقية املجد العربي الذي زال .ويف هذا اال�ستنتاج ت�أويل غريب �ضرب بكل منطق عر�ض احلائط .ف�إ�سبانية احلرة اليوم لي�ست مدينة بحريتها لبقية املجد الذي ي�شري �إليها الناظم ،بل للزنود الإ�سبانية التي انت�صرت على الزنود العربية .وبقية هذه الزنود يف �إ�سبانية ال متثل جمداً ،بل متثل ما �أ�صاب ذلك املجد ،لأن جمد �إ�سبانية احلا�ضرة قام على خذالن جمد الزنود العربية� ،إال �أن يكون �سقوط غرناطة نتيجة خالف ب�سيط بني �أبناء �أعمام وخاالت وعمات ،وليذهب التاريخ �إىل جهنم! وهذه البقية من املجد الزائل العائ�شة يف كنف املجد الإ�سباين احلديث ال يجوز لنا �أن نلقي عليها ال�سالم ،لأننا ال نعي�ش يف �إ�سبانية م�ساهمني يف جمد الزنود الإ�سبانية! ولكي تقبل �إ�سبانية ،التي يتخيلها الناظم ،يف ا�ضطراب فكره ،ال تزال معلوة بال�سيوف العربية� ،أن نلقي عليها ال�سالم يجب �أن نرجع �إىل الوراء ،ال �أن نتقدم �إىل الأمام: موطن ال�شعر وديوان العلوم ف�إذا بغداد عادت كالقدمي مرجف ًا باحلب �أع�صاب النجوم و�إذا رنّ بها عود الندمي ومدير ًا �أدمع الفجر مداما ومثري ًا لوعة الليل البهيم عند هذا �سوف نهديك ال�سالما
جنون اخللود
53
ال يرى الناظم �أن تنه�ض �سورية وتبني جمداً جديداً كما كان لها جمد قدمي ،بالعك�س يرى �أنه يجب �أن ترجع �إىل عهد قدمي .ومع ما يف هذه الفكرة من العجز واخلمول فلنفر�ض �أنها فكرة جميلة ،ولكن ماذا متثل هذه الفكرة لنا نحن ال�سوريني ،الذين كان من نكد الدنيا علينا �أن يقف هذا الناظم للتكلم با�سمنا يف مثل هذا املوقف؟ بل ماذا متثل للعامل العربي �إجما ًال؟ �إن الرجوع �إىل بغداد هو رجوع �إىل عهد انحطاط الدولة الإ�سالمية ،فبينما كان اخللفاء يف بغداد الهني عن �إدارة املُلك بق�صائد ال�شعراء و�أعواد الندماء ،كانت عوامل التفكك تتناول �أجزاء الإمرباطورية بالهدم .هذا من الوجهة العربية العامة� ،أما من الوجهة ال�سورية فماذا متثل بغداد ل�سورية؟ �أمتثل �شيئاً غري زوال �سلطة دم�شق وت�أخر البالد ال�سورية عمرانياً و�أفول جنم عزها؟ فكيف يعتز ال�سوريون بقيام الدولة القدمية التي متثل جمداً غري جمدهم ،وقيام �أمراء عليهم من الذين خاطبهم احلجاج يف خطبته امل�شهورة التي �أولها :يا �أهل العراق! ولو �أن الناظم قال :ف�إذا الفيحاء عادت كالقدمي ،لكان هنالك وجه ،ولكنه ال يرى الفيحاء ت�ستحق هذه العودة .ولعل الزلفى لفي�صل �أو لغازي �أو لبع�ض �أهل الأمر يف العراق هي التي دفعته �إىل هذا التف�ضيل لبغداد على دم�شق .فانظر �إىل املنزلة التي ي�ضع دم�شق فيها: عن �سماها �أثقل الرايات ظال و�إذا بريوت� ،أم النور ،ول ناف�ض ًا عن �أربع الفيحاء ذال و�إذا ال�سيف من ال�صحراء �سال فلب�سنا العز �أو متنا كراما و�إذا لبنان بالأمر ا�ستقال عند هذا �سوف نهديك ال�سالما! ال ندخل هنا يف بحث �سبب جعل ظل الراية الفرن�سية �أثقل من ظل الراية الإنكليزية وظل الراية الرتكية ،ولكننا نتناول ما يتعلق بنف�ض الذل عن �أربع الفيحاء .فالناظم بعد �أن يجعل لبغداد حظ العودة �إىل �سالف عزها دون حاجة �إىل �سيوف ال�صحراء يجعل دم�شق يف مقام العجز عن النهو�ض بنف�سها ،فهي ال رجاء لها بنف�ض الذل �إال �أن تفد عليها جنود الوهابية. وبهذا يكون الناظم قد بلغ ما ق�صد من الزلفى �إىل �أهل العراق و�إىل �إبن ال�سعود .ولكن �أال تبقى الفيحاء ذليلة بعد �أن يقع عليها ظل الراية العربية ال�سعودية بد ًال من ظل الراية
54
�أنطون �سعادة
الفرن�سية؟ �أوال تبقى �سورية �أمة لي�س لها يف نف�سها زنود جديرة باملجد؟ وكيف يجوز ٍ حينئذ �أن ي�ست�أهل ال�سوريون �شرف �إلقاء ال�سالم على �إ�سبانية وهم ال يزالون كما يقول فيهم الناظم، ظلماً وعدواناً« ،ب�أكف مل يج ّردن ح�ساما»؟ و�أما قوله «و�إذا لبنان بالأمر ا�ستقال» فظاهر فيه ا�سرت�ضاء اللبنانيني ب�إقراره ف�صل لبنان عن �سورية ،وهكذا يكون قد �أر�ضى امل�سلمني العروبيني وامل�سيحيني املتلبننني و«ربح اخللود»! �إن هذه الق�صيدة احلقرية «حتية الأندل�س» كان يجب �أن يكون عنوانها «نف�س ذليلة تت�سكع �أمام الأندل�س» .ولقد ر�أى ما يف هذه الق�صيدة من العيب والعار �إليا�س فرحات ،الذي �أخذ در�ساً يف املا�ضي يف وجوب املحافظة على الكرامة القومية ،فنظم ق�صيدة بعنوان «حتية الأندل�س» عار�ض فيها ق�صيدة اخلوري ،وعلت روحيته على ح�ساب �سقوط روحية اخلوري. وقد جاءت ق�صيدة فرحات ح�سنة الروحية ولكنها مل تخرج يف فكرتها عن ا�ستمرار بع�ض التقاليد املكت�سبة.
اهلوامش « - 1الأعا�صري» ،م�صدر �سبق ذكره ،ال�صفحة .18
ر�سالة �سعادة �إىل جورج بندقي بتاريخ � 4آب 1940
ر�سالة �سعادة �إىل جورج بندقي بتاريخ � 9أيلول 1940
ر�سالة �سعادة �إىل جورج بندقي بتاريخ � 16أيلول 1940
جنون اخللود
55
أسباب وأسباب ر�سالة الزعيم �إىل القروي من قراءة النقد امل�ستعجل لديوان «الأعا�صري» خا�صة «ول�شعر» ر�شيد �سليم اخلوري عامة، الذي تقدم هذه املقالة ،يدرك القاريء الأ�سباب اجلوهرية التي دعت الزعيم ملنع قراءة «الأعا�صري» يف الأو�ساط القومية ،ودفعته �إىل حماولة �إنقاذ �صديقه قدمياً الذي كان �أديباً ب�سلوكه ،عارفاً حده قبل �أن ي�أخذه الهو�س «باخللود» ،ر�شيد �سليم اخلوري ،فكتب �إليه من الأرجنتني الكتاب الآتي ن�صه: «�صديقي العزيز ر�شيد �سليم اخلوري، «مل �أ�سرع يف �أمر الكتابة �إليك ،لأن �أموراً ملح ًة كانت تتطلب عنايتي واهتمامي كل املدة التي م�ضت على مغادرتي �سان باولو .والأمور امللحة يف �شعبنا املائع النف�سية ،املبلبل الفكر، كثرية جداً ومعقدة جداً ويزيدها تعقداً كرثة من يعيث فيها من ال�سف�سطائيني والنفعيني والرجعيني املو ّلدين فو�ضى ت�ضيع فيها املناقب والأخالق واملواهب واملطالب. «كان �سروري كبرياً ب�إعادة عهد �صداقتنا الأوىل� ،صداقة الثقة واحلب والأخالق ،وهذه ال�صورة هي التي �أريد �أن �أحتفظ بها ملا فيها من دقائق جمال �سوري نف�سي� .إنها �صورة ميتزج فيها مظهر الوطني وال�شاعر امتزاجاً ال ي�ؤثر على خ�صائ�صها امل�ستقلة .و�أنا �أفهم الوطنية غري ال�سيا�سة ،و�أفهم ال�شعر هنا غري املوا�ضيع التي تعاجلها ال�شاعرية.
56
�أنطون �سعادة
«�إنك �أهديت �إ ّيل «الأعا�صري» و�أنا بعد يف الوطن ،ال يعرف �أ�صدقائي الأُول عني �سوى �أين «�أديب وطني» .ولكنك مل تتناول مني كتاب �شكر �أو تهنئة �أو ترحيب ،وال ر�أيت يل مقا ًال �أو كلمة يف ديوانك اجلديد ،كما كان ينتظر من «�أديب وطني» و�صديق لل�شاعر .ثم كان �أنك �أهديت �إ ّيل ن�سخة ممتازة التجليد يف �سان باولو �س�أحتفظ بها ما �أمكنني ذلك و�سط هذا الإ�ضطراب العظيم يف حياتي و�ش�ؤونها. «�إين �أقدر هذه الهدية و�أرى فيها روح ال�صديق ال�شاعر ،وال �أكتمك �أين ال �أود �أن �أقر�أ مقاطع معينة من «الأعا�صري» كالتي جتعلنا �أحقر من �أن نهدي �إىل الأندل�س ال�سالما وال ت�شري ،ولو من طرف خفي� ،إىل القوى الكامنة فينا وقرب نه�ضتنا التي ن�ؤمن بها .وعندما �أقول «فينا» �أعني نحن باحلقيقة� ،أي نحن ال�سوريني الذين �أنت �أي�ضاً تعنيهم حني تقول «خربينا كيف نقريك ال�سالما». «�إين �أرى حال انحطاط �شعبنا قد طغت على �شاعريتك وخنقت ال�شعور بقوى الأمة ال�سورية الكامنة وبوجود الطبيعة ال�سورية .فخرجت «الأعا�صري» وغريها من �شعرك اجلميل �شعراً جمي ًال من حيث هو مظهر فني من مظاهر ال�شعور ،ولكنه �شعر م�ؤمل للنف�س ال�سورية امل�ستفيقة لأنه �شعر ي�صفعها ويرذلها ويحقرها ويزيد يف �إفقادها الثقة بنف�سها .وكم وددت �أن يتناولك الوعي القومي فت�ستفيق �شاعريتك لنف�سيتك ال�سورية وللنف�سية ال�سورية بذاتها فيخرج لنا �شعر �آخر �إمتزج فيه الوعي بال�شاعرية ،ف�إذا هو مزيج متجان�س جتان�ساً بعيداً ينتج حرارة لذيذة مقوية ونوراً هادياً ،وهو غري املزيج الذي ال يولد غري اللهيب الالذع ،القاتل. «منذ �آخر مرة حتدثت فيها معك يف �ش�ؤون الوطن م ّر وقت تطور فيه املوقف تطوراً خطرياً. ومن نظرة تلقيها على املوقف اجلديد تدرك �أن جميع تقديراتي مل�ؤمتر م�صر وم�ؤمتر لندن ،يف �صدد م�س�ألة جنوب �سورية وغريها من امل�سائل ال�سيا�سية ،قد �أ�صابت كبد احلقيقة .و�أمتنى �أن تكون قد اقتنعت كل االقتناع ب�أن الق�ضية ال�سورية هي ق�ضية قومية يجب �أن يقوم بها ال�سوريون باعتبارهم �أمة موحدة امل�صالح واحلقوق والإرادة .و�إنه �إذا كان �سيا�سيو الأقطار العربية يريدون جناح ق�ضيتنا فما عليهم �إال �أن ي�ؤيدوا مواقفنا ،ال �أن يتناولوا هم �أنف�سهم ق�ضيتنا ويجعلوها جزءاً من ق�ضاياهم اخلا�صة� .أمل ي�ؤملك �أن يتبادل وزير خارجية م�صر ووزير
جنون اخللود
57
خارجية تركية الأنخاب بزوال وحدة ال�شام وفكرة الوحدة ال�سورية يف الوقت الذي ي�س ّلم فيه لواء الإ�سكندرون الغني �إىل الأتراك؟ «قد قدرت موقفك يف رد �أكاذيب الذين �أرادوا �أن ي�ستغلوا ا�سمك كما ا�ستغلوا �أ�سماء غريك للطعن يف احلزب ال�سوري القومي وزعيمه (�إ�شارة �إىل تكذيبه يف «�سورية اجلديدة» ما ن�شر يف �صحافة الوطن من الأخبار املغر�ضة التي قالت ال�صحافة املذكورة �إنها واردة يف كتاب من ال�سيد ر�شيد اخلوري �إىل �أحد �أ�صدقائه يف الوطن) ،وو�صول املو�سى �إىل ذقنك يجعلك تدرك بو�ضوح نوع ال�سالح الذي يحاربون به احلزب ال�سوري القومي ونه�ضة الأمة ال�سورية». وتاريخ هذا الكتاب يف � 16أغ�سط�س (�آب) �سنة .1939وقد ورد الزعيم جواب ال�سيد ر�شيد �سليم اخلوري وهو م�ؤرخ يف 1939/9/20وقد قلد فيه اخلوري �أ�سلوب الزعيم وانتحل بع�ض مواقفه .فقال �إن كتاب الزعيم ورده وهو «يف غمرة من ال�ش�ؤون املرهقة التي ال تقبل الت�أجيل» ،وق ّلده يف الإ�شارة �إىل تبلبل احلالة النف�سية .و�إننا نقتب�س الق�سم الأخري من كتاب اخلوري وهو الق�سم الذي له عالقة باملو�ضوع العام: «لقد ب�سطت من �أمري لك ما ال يهم غري الأ�صدقاء مثلك وفيه �إقامة العذر لت�أخر جوابي. وال �أكتمك �أين كنت �شديد الرغبة يف معرفة �أخبارك ومدى رجائك انت�صار ق�ضيتك التي �أ�سفت �أ�سفاً �شديداً �أنني مل �أقتنع ب�صواب كل نظرياتها لأقف عليها جهدي الأدبي والروحي ،و�أر�ضي نف�سي بالعمل جلانب ال�صديق احلميم القدمي ال�سوري ال ّأبي اخلليق بالزعامة .ولكني مع هذا الأ�سف �أتعزى برباطتي واحتمايل الوخزات املبا�شرة وغري املبا�شرة من جانب بع�ض ك ّتاب احلزب ،و�إين كنت وال �أزال �أحاول تهدئة ثائر بع�ض الرفاق الناقمني ومنعهم بدالة الإخاء عن �إ�شهار احلرب على احلزب خوفاً من �أن يكون �صوابه �أكرث من خط�أه فن�ضر من حيث نق�صد النفع ،ومرجع هذا الرتدد هو �إىل �سبب اختالط الأمور وت�شعب املذاهب ال�سيا�سية وعدم ا�ستقرار احلالة يف هذه الأيام البابلية. «�إين ب�إهدائي كتابي �إليك مل �أفعل غري واجبي نحو كل �أديب وخ�صو�صاً �إذا كان �صديقاً، و�أما نقدك بع�ض النقط الفكرية يف �شعري ف�أ�شكره لك بنا ًء على ح�سن ظني بغايتك وع�سى
58
�أنطون �سعادة
�أن يتاح لنا الإجتماع مرة �أخرى ليت�سع جمال القول يف هذا املو�ضوع و�سواه ،ف�إىل اللقاء �أيها ال�صديق ب�إذن اهلل». �أخوك املخل�ص
رشيد سليم اخلوري
من مقابلة هذين الكتابني تت�ضح عظمة نف�س الزعيم وقوة مناقبه وكرم �أخالقه ،وينجلي موقف رجل م�شو�ش الفكر م�ضطرب النف�س يحاول التوفيق بني ال�ضالل والهدى وترقيع حالة رثة ظهرت فيها اخلروق وك�شفت ما حتتها. قلنا �إنه كان قد بلغ الزعيم ،وهو بعد يف �سان باولو ،بع�ض ما كان ر�شيد �سليم اخلوري يغتابه به ولكنه مل ي�ش�أ �أن يدع �صديقه القدمي ينحدر �إىل هاوية املنافقني والزنادقة ،من غري �أن يحاول �إنقاذه ورده �إىل جادة ال�صواب .وقد حتققنا �أن ر�شيد �سليم اخلوري �أنكر يف ح�ضرة الزعيم �أنه يغتابه ويغتاب احلركة القومية واعرتف فقط مبوقف املرتدد الذي يثبته يف كتابه املتقدم .ومما يجدر بالذكر �أنه حني قدم الزعيم الربازيل ،وبعد �أن فرغ من الإ�ستقباالت الأوىل لوجوه اجلالية ال�سورية يف �سان باولو و�أدبائها ،افتقد �صديقه القدمي ر�شيد �سليم اخلوري ،فبلغه �أنه فخف �إىل زيارته واالهتمام ب�أمره .فما كاد ي�ستقر به املقام ويتطرق مري�ض مالزم فرا�شهّ ، احلديث �إىل امل�س�ألة القومية حتى قدم لزيارته الأديب ال�سيد ميخائيل فرح �صاحب «مكتبة فرح» .وبعد جلو�س هذا الأخري عاد البحث �إىل امل�س�ألة القومية ،ف�أخذ الزعيم ي�شرح حقيقة احلركة القومية ومراميها .وللحال �أخذ ر�شيد اخلوري ي�س�أل ملاذا «العداء للعرب والعروبة» الأمر الذي دل على �أن اخلوري كان يقبل بال روية �أو فح�ص ما يختلقه �أعداء احلزب ال�سوري القومي عنه ،فا�ستغرب الزعيم ذلك و�شرح موقف احلزب من العامل العربي و�أو�ضح �أن غايته �إنها�ض �سورية �أو ًال لت�صري قوية وقادرة على معاجلة �ش�ؤون العامل العربي الذي هي فيه ،و�أن مباديء احلزب و�شرحها تعلن �أن �سورية �إحدى الأمم العربية و�أنها لن تتنازل عن مركزها يف العامل العربي وعن ر�سالتها �إىل العامل العربي .وعتب على اخلوري لقبوله الإ�شاعات من غري
جنون اخللود
59
روية وال بحث عن احلقيقةٍ ، حينئذ اعتذر اخلوري ب�أن املهاجرين كانوا يجهلون حقيقة احلزب ال�سوري القومي وغايته ،و�أنهم قر�أوا كتابات كثرية �ضده .وبهذا االعرتاف من اخلوري غادره الزعيم وخرج معه ال�سيد فرح الذي رافقه �إىل مركز املدينة. يف الأيام التالية ،بعد �أن تعافى اخلوري و�أخذ يجتمع ب�إخوانه� ،أخذ يطعن �سراً يف احلركة القومية وي�ؤيد موقف املقاومني الذين كانوا يتخذون من الإ�شاعات امللفقة عن «عداوة» احلزب ال�سوري القومي للعرب والإ�سالم �سالحاً يحاربونه به عند العامة اجلاهلة حقائق الأمور .وحني يجتمع بالزعيم كان يطري على مواهبه ومقدرته وجهاده ،وميدح احلزب ال�سوري القومي وغايته ب�شيء من املواربة و«دهاء» الدبلوما�سية العتيقة .فكان الزعيم يحاول دائماً �أن يجد يف تردده ومواربته نتيجة ق�صر مداركه يف الأمور االجتماعية وال�سيا�سية وقلة علومه و�سطحية تفكريه. يد�س على الزعيم يف الأو�ساط البعيدة عنه ،كان يتظاهر يف الأو�ساط وبينما كان اخلوري ّ العالية القريبة منه بتقدير عظيم للزعيم وحركته وحتبيذه كما جرى تكراراً يف منزل الأديب والتاجر املعترب ال�سيد �إليا�س عا�صي وبح�ضور عدد من الأ�صدقاء .و�أحياناً كان اخلوري يتجاوز هذا املوقف �إىل التظاهر باحلملة على ناكثي عهد ال�صداقة مع الزعيم ،كما ح�صل يف �أثناء رده زيارة الزعيم لبع�ض ال�صحافيني .كما حمل على «�صديقه» �إليا�س فرحات و�أخذ يغتابه. وحكاية الأمر �أن الزعيم قرر رد الزيارة لأحد ال�صحافيني ال�سوريني وكان ر�شيد �سليم اخلوري يغتاب هذا ال�صحايف ويطعن يف �سلوكه .فلما ا�ستقر به املقام عنده �إذا بر�شيد اخلوري يدخل الغرفة من ال�شرفة املطلة على احلديقة وهي غري عالية .فتعجب الزعيم من هذه احلالة ،وازداد تعجبه من �أمر اخلوري حني �أخذ ،يف عر�ض احلديث ،يغت�صب املواقف لإطراء ال�صحايف امل�شار �إليه .ويف �أثناء احلديث روى ذلك ال�صحايف ق�صة ن�شر كتاب فرحات �إىل �صديق له وفيه طعن يف الزعيم ويف احلزب ال�سوري القومي ،وقال �إن فرحات �أ ّلح بطلب ن�شر كتابه «لأن له م�صلحة يف ذلك»ٍ . عندئذ �صاح اخلوري «�أهذا هو الوفاء لل�صداقة التي يذكرها فرحات يف كتابه �إىل الزعيم يف �سجنه معلناً �أنه جندي من جنود �سعادة؟». جتاه هذه املظاهر من ر�شيد اخلوري كان الزعيم يعتقد �أنه ميكن انت�شال اخلوري من ح�ضي�ض
60
�أنطون �سعادة
املثالب االنحطاطية الذي انحدر �إليه ،وتلم�س له الأعذار وحمل بع�ض ما بلغه على حممل املبالغة ولذلك وجدنا الزعيم يف كتابه املثبت �آنفاً يتجاوز عن كل ما �سمع ويخاطب ر�شيد اخلوري خماطبة من هو يف منزلة ال�صديق.
جنون اخللود
61
أسباب وأسباب أيضاً قلنا يف املقالة ال�سابقة �إن الزعيم �أراد ،وقد بوغت برتجرج نف�سية ر�شيد �سليم اخلوري وتبلبل �أفكاره� ،أن يقوم مبحاولة �أوىل و�أخرية لإنقاذه من حم�أة النفاق والزندقة التي �أخذ يتمرغ فيها ويهبط غائ�صاً يف �أر�ضها الدلغانية ،فكتب �إليه كتابه البليغ املن�شور يف عر�ض املقالة ال�سابقة. وكان ذلك قبل �أن يقف على مبلغ تورطه يف حم�أة النفاق بدخوله يف م�س�ألة املعتقدات الدينية يف خطبه و«حما�ضراته» التع�صبية ،و�إثارته الفتنة بني �أبناء �أمتنا ال�سيئة الطالع به وب�أمثاله ،وا�ستحقاقه القول« :الفتنة نائمة لعن اهلل موقظها» ،وقبل �أن يقف على ق�صيدته التي �سمك» .ومما ال م�شاحة فيه �أن الزعيم لو كان ن�شرها بعنوان «من ذاق �شهدك مل يخف من ّ وقف على هذه الق�صيدة املثالبية ملا كان �أقدم على حماولته املذكورة ،وملا كان كلف نف�سه عناء الكتابة �إىل �شخ�ص زال من نف�سه كل �شعور بالكرامة الإن�سانية فاندفع يف طريق املثالب ال يبايل ب�شيء جميل �أو قبيح ،لقاء �إ�شباع �شهواته. و�إن من ت�أمل يف �أبيات الق�صيدة املذكورة املعربة عن نف�سية الناظم تعبرياً �صادقاً يك�شف عن �شهواتها الدنيئة التي تقز منها النف�س� ،شعر �أنه جتاه نف�سية فقدت كل �إدراك للقيم الروحية وكل �شعور بجمال املثل العليا .وقد ن�شرنا يف املقالة الثانية من هذه ال�سل�سلة �أهم �أبيات الق�صيدة امل�شار �إليها .ومنها يظهر جلياً �أن ر�شيد اخلوري ال يهمه �شعور �أي �شخ�ص �آخر و�إح�سا�ساته ،وال يهمه �شيء �آخر غري ق�ضاء لبانته منه ف�إذا ق�ضاها ،حتى ولو كان ذلك بوا�سطة التذلل والتزلف واملداهنة ،وقف وقفة اجلبان املنت�صر و�أخذ يباهي ويعتز .و�أي جنب �أذل من وقفة جبان غدر بفتاة ركنت �إىل الثقة ب�ضمري امريء ف�سلبها عاطفتها ق�سراً ثم وقف حمتقراً
62
�أنطون �سعادة
�شعورها ،مزدرياً �آالمها ونظم يف حيوانيته القبيحة ق�صيدة حاول �أن ي�ضاهي بها ق�صيدة ب�شر بن عوانة( ) بعد قتله الأ�سد! و�أي جبان �أنذل من جبان يعتز با�ست�ضعافه امر�أة ويفاخر بغلبها باحليلة واملراوغة والغدر. و�إن رج ًال ال ي�ستنكف مع هذه القباحة مع امر�أة �ساقها نكد طالعها �إىل الوثوق بوداده� ،أية ف�ضيلة �إن�سانية بقيت يف قلبه؟ وماذا يق�صد حني يقف متودداً �إىل جماعة دينية ،مثرياً الفتنة بينها وبني جماعة دينية �أخرى؟ و�إن الذي يحتقر �سالمة نية امر�أة و�شعورها هل يحرتم �سالمة نية رجل و�شعوره حني تكون له غاية خ�صو�صية؟ �أجل� ،إن الزعيم لو كان وقف على حقيقة نفاق ر�شيد اخلوري وتدجيله الديني الذي �سيجيء حتليله ،ملا كان خطر له ،وال يف احللم� ،أن يكتب �إليه ،لأن من بلغ يف النفاق والتدجيل هذا املبلغ فقد �أ�ضله اهلل {�أتريدون �أن تهدوا من �أ�ضل اهلل ومن ي�ضلل اهلل فلن جتد له �سبي ًال} (الن�ساء.)88 ، وظاهر �أن الزعيم جل�أ ،يف كتابه �إىل اخلوري� ،إىل ال�صراحة ،ف�أ�شار �إىل ف�ساد ال�سف�سطائيني لين ّبه «القروي» ويحمله على جتنب الوقوع فيه .و�صرح له �أنه ال يعلق �أهمية ما على «�شاعرية» اخلوري املوهومة ،و�أنه يريد �أن يرى فيه ال�صديق احلبيب ذا الأخالق اجلديرة بالثقة .و�أعلن له ب�صراحة را�ض عن «�شعره الوطني» ال�سخيف ،وبينّ له الأ�سباب اجلوهرية التي نادرة املثال �أنه غري ٍ �أوجبت عدم ر�ضاه و�أهمها� :إهانته الأمة ال�سورية التي ينت�سب �إليها جتاه �أمة غريبة ،وحتقريه وعدهم عبيداً �أذالء ،وبثه روح القنوط واخليبة وفقد الثقة� ،إلخ .وقد جتنب الزعيم ،ما ال�سوريني ّ �أمكن� ،إبداء ر�أيه يف «�شاعرية» اخلوري ،لكي ال ي�صغر «القروي» يف عني نف�سه ويقع يف مر�ض املكابرة الع�سري ال�شفاء .فوا�ضح �إذن �أن الأ�سباب التي دعت الزعيم �إىل كتابة كتابه امل�شار �إليه �إىل ر�شيد اخلوري هي �أ�سباب �إ�صالحية فيها قول احلق ب�صراحة ومبا �أمكن من اللطف. ووا�ضح �أي�ضاً �أن الزعيم مل يلج�أ �إىل خداع ر�شيد اخلوري بعبارات دبلوما�سية مفعمة بالإطناب الكالمي الفارغ «ب�شاعريته» كما فعل عدد من امل�شتغلني بال�سيا�سة ال�شخ�صية بق�صد اكت�ساب مودة «القروي» وا�ستغالل موقفه. 1
جنون اخللود
63
و�إن الأ�سباب اجلوهرية التي عمل بها الزعيم تختلف كل االختالف عن الأ�سباب التي دعت �أمثال املري �شكيب �أر�سالن و�أمني الريحاين املتويف حديثاً �إىل كتابة كتب دبلوما�سية العبارة يف مديح «الأعا�صري» .وال حاجة للإطالة يف �أن هذه الكتب الدبلوما�سية دعت �إليها ال�سيا�سة ال�شخ�صية .فقد ظهر من الأمثلة التي قدمناها يف املقاالت ال�سابقة �أن نظم «القروي» ال ميثل غري ال�صخب والعي والزحري .و�إذا نظرنا �إىل احلملة الالذعة التي قام بها �أمني الريحاين يف خطب ويف كتابه «�أنتم ال�شعراء» على الباكني والنائحني وجدنا �أنه يف كتابه �إىل ر�شيد اخلوري ،قال غري ما يعتقد يف ال�شعر ومدح اخلوري لأ�سباب �سيا�سية �شخ�صية ،ال لأ�سباب �شعرية �أو �أدبية ،وق�س على ذلك. ماذا كانت املقابلة من جانب اخلوري لإغ�ضاء الزعيم عن هفواته الأدبية و�سقطاته الأخالقية، وملقابلته مواربة اخلوري ورياءه بال�صراحة واحلق ،والهتمامه ب�أمر �إ�صالحه و�إنقاذه؟ كانت �أن ر�شيد اخلوري �أخذ ميعن يف اغتياب الزعيم والطعن به والد�س عليه يف �أثناء جتواله التجاري يف �أنحاء الربازيل! و�إذا قابلنا بني كتاب ر�شيد اخلوري �إىل الزعيم واملطاعن التي كان يد�سها بني معارفه �ضد الزعيم ،تبني لنا �أن اخلوري كان ،يف كل موقف ،ذا وجهني ول�سانني .فهو يف كتابه يعرتف �أن �سعادة هو «ال�سوري الأبي اخلليق بالزعامة» .ولكنه كان يريد ،قبل الإقدام على العمل «�إىل جانبه»� ،أن يعرف «مدى رجاء الزعيم انت�صار ق�ضيته» .وهذا يعني �أنه لو ر�أى ر�شيد اخلوري اجلماعات ال�سورية يف املهجر ترتك عنعناتها الدينية ب�سهولة وتقبل على النه�ضة القومية ب�سرعة لكان له موقف غري هذا املوقف .ثم هو يتظاهر بالغرية على احلزب ال�سوري القومي، ويدعي �أنه «كان وال يزال يحاول تهدئة ثائر بع�ض الرفاق الناقمني ومنعهم بدا ّلة الإخاء عن ّ �إ�شهار احلرب على احلزب ،خوفاً من �أن يكون �صوابه �أكرث من خط�أه فن�ض ّر من حيث نق�صد النفع» .ويف الق�سم الأول من عبارته �شيء ي�شبه التهديد ك�أنه مل يقر�أ يف «�سورية اجلديدة» قول �سعادة املن�شور تكراراً�« :إين ال �أريد انت�صاراً بارداً ،ه ّيناً دون حرب» ،وك�أنه مل يقر�أ �أي�ضاً �أن �سعادة يرف�ض التوفيق بني النف�سية اجلديدة والنف�سية العتيقة ،ويرف�ض �إيقاف ال�صراع بني جيلني «جيل قدمي يريد مقوياً ينع�ش قواه املنهوكة وي�ساعده على اال�ستمرار يف خ�صو�صياته،
64
�أنطون �سعادة
وجيل جديد يريد �سحق اخل�صو�صيات وي�شعر يف ق ّوته القدرة على تنفيذ ما يريد». �إن احلركة ال�سورية القومية التي هي حركة حماربة ،مهاجمة ،ال تخ�شى «�إ�شهار احلرب» من قبل بع�ض «رفاق» اخلوري .ولكن ر�شيد اخلوري كان مراوغاً ومنافقاً يف ما يقول .ففيما هو ويعد العدة يتظاهر ب�أنه ال يريد مقاومة احلزب ال�سوري القومي ،كان ّيد�س على الزعيم �سراً ّ «لإ�شهار احلرب» على احلزب يف «املحا�ضرة» التع�صبية التي �أعدها ملولد النبي حممد ،وطعن فيها الإ�سالم وامل�سيحية معاً كما �سيجيء! وقد تقدم لنا القول �إن �أ�سباب الهو�س «باخللود» هي التي دفعت ر�شيد اخلوري �إىل اجلهر بعداوته للحزب ال�سوري القومي ،الذي يعرتف هو �صراحة بجهله «�صوابه وخط�أه» .والذي يطعن عن جهل بداع غري داعي احلق ما هي قيمته؟ ولكننا قد اكت�شفنا �أ�سباباً �أخرى هي �أ�سباب �سيا�سية ،ال عالقة لها باملباديء والنظريات .وحقيقة �أمر هذه الأ�سباب �أن ر�شيد اخلوري يخدع املري �شكيب �أر�سالن ،مبقدرته على ا�ستغالل فكرة امل�ؤمتر ال�سوري الذي ن�شرت «�سورية اجلديدة» منذ نحو �سنة �أو �أكرث �أن عنا�صر �سورية قومية والقومية ت�سعى لعقده مبنا�سبة وجود زعيم ق�ضية ال�شعب ال�سوري وحقوقه يف هذا املهجر .و�أخذ يغري املري �شكيب مبزاحمة احلزب ال�سوري القومي على هذا امل�ؤمتر .ويف الوقت عينه ،وبعد �أن نال �شيئاً من التحبيذ، �أخذ ي�شدد كالمه لإثارة فتنة التع�صب الديني ،خادعاً �أحد الفريقني الدينيني �أنه يف�ضل دينه على دين الفريق الآخر لي�ستند على حركة تع�صب ديني ي�ستغلها مل�آربه امل�ستورة ،كما �سيجيء در�سه. وملا كان ر�شيد اخلوري عاجزاً ،كما كان عاجزاً غريه ،عن نقد مباديء احلزب ال�سوري القومي و�إظهار �أي �ضعف فيها ،فقد كانت دعاوته مبنية على االختالقات التي ال يوجد ن�ص �أو حادث يثبتها .وكان الد�س ال�سري �أهم �سالح ا�ستعمله للطعن يف �شخ�صية الزعيم .وقد �أثبتنا يف املقالة الأوىل من هذه ال�سل�سلة ن�سخة من �أهم �أقوال اخلوري �ضد الزعيم واحلركة القومية وال بد لنا من تناولها هنا ،لأنها �أ�صبحت مثا ًال ملا ي�شيعه �أعداء احلزب ال�سوري القومي عنه.
جنون اخللود
65
من �أهم مطاعن ر�شيد اخلوري يف الزعيم قوله« :ما معنى هجر �سوري بالده ،تاركاً وراءه امر�أته و�أوالده �ألي�س هذا �ش�أن �أنطون �سعادة ،وقد ترك رفقاءه يتحملون ويالت احلالة احلا�ضرة يف الوطن وجاء يتنقل �سليماً يف املهاجر الأمريكية؟». ر�شيد اخلوري الذي هجر بالده ،بعد �أن م ّنت عليه بكل �سعادة ،وهو ي�شتمها ويلعنها ويقول فيها�« :أبيت جوارها �أر�ضا بغري الذل ال تر�ضى» و�أ ّم �أمريكة �سعياً وراء الأرباح التجارية و�أخذ يتجول للتجارة يف �أنحاء الربازيل يدعي �أن هجره وطنه و�سعيه وراء الربح ال�شخ�صي هو «تكري�س نف�سه لتحرير �شعبه» .ويقول يف �أنطون �سعادة الذي جاء املهجر ال�سوري عم ًال بخطة مر�سومة ومقررة يف احلزب ال�سوري القومي ،حام ًال احلرب بني النه�ضة القومية و«النه�ضة الرجعية» �إىل اجلاليات ال�سورية لي�شق طريق العمل القومي ال�صحيح �أمام عنا�صرها اجليدة، وي�ضرب بيد من حديد على �أيدي جتار الوطنية وب�ضاعة الأدب الفا�سد� ،إنه قد تخلى عن رفقائه يف الوطن وجاء �أمريكة ليتنقل �سليماً(!) فيها بينما رفقا�ؤه يف الوطن يتحملون جور احلالة احلا�ضرة! وال ي�ستحيي ر�شيد اخلوري من احلقائق التي جتيء كل يوم بال�شاهد تلو ال�شاهد على �إفكه وبهتان قوله .فقد �أذاع احلزب ال�سوري القومي يف الوطن ،بعد �سفر الزعيم� ،إذاعة ر�سمية تعلن للقوميني �أ�سباب رحلته �إىل �أوروبة واملهجر .وهذه الإذاعة الر�سمية وزعت يف جميع �أنحاء الوطن ون�شرتها �صحف يف الوطن واملهجر .وقراءة هذه الإذاعة تثبت �أن الزعيم على اتفاق تام مع رفقائه و�أنه مل يرتكهم وال يرتكهم ولن يرتكهم و�أنهم هم مل يرتكوه وال يرتكونه ولن يرتكوه. �أنحتاج ،لإثبات هذه احلقيقة وتكذيب مطاعن ر�شيد �سليم اخلوري الأثيمة� ،إىل غري �إذاعة احلزب ال�سوري القومي نف�سه امل�شار �إليها ،وغري البيان الذي �أذاعه نامو�س املجل�س الأعلى العميد الأمني م�أمون �أيا�س ون�شرته «الزوبعة» يف �أول عدد �صدر منها نق ًال عن �صحيفة «الب�شري» ال�صادرة يف بريوت يف الثامن من �شهر نوفمرب (ت�شرين الثاين) 1939؟ �إننا نعيد ،هنا ،ن�شر الفقرتني الهامتني من البيان املذكور لكي ال يبقى وجه للت�أويل املغر�ض:
66
�أنطون �سعادة
«�إنني �أحتدى ال�صحافة �أن تن�شر �صور الوثائق التي تدعي وجودها لتثبت �أن م�ؤ�س�سة احلزب ال�سوري القومي تعمل ل�سوى املباديء ال�صحيحة التي �أعلنتها مراراً� ...أو تثبت �أن للحزب عالقة بدولة �أجنبية. «�إن ال�سوريني القوميني عموماً ي�ضعون بزعيم نه�ضتهم ثقة تامة ال تتزعزع ،و�إنني �أ�صرح با�سمهم �أننا ن�شارك زعيمنا احلر كل م�س�ؤولية يتعر�ض لها� .إن �سعادة واحلزب ال�سوري القومي وجميع القوميني ي�شكلون وحدة ال تتجز�أ». الإم�ضاء
مأمون أياس
النامو�س الأول للحزب ال�سوري القومي والآن ميكن الق ّراء �أن يحكموا بني احلقيقة ال�صادرة من مراجع ر�سمية يف احلزب ال�سوري القومي والأكاذيب التي اختلقها ر�شيد �سليم اخلوري ل ُيظهر الزعيم مبظهر من قد تخلى عن رفقائه وتخلى رفقا�ؤه عنه ،و�أن ين�صفوا بني كالم �سوري قومي حر� ،شجاع ،و�سوري القومي ذليل جبان. وكم هو ظاهر الل�ؤم يف قول ر�شيد �سليم اخلوري �إن الزعيم «جاء يتنقل �سليماً يف املهاجر الأمريكية» ولي�س �أبعد عن احلقيقة امل�ؤيدة بالوقائع من هذا الإفك .فقد تعر�ض الزعيم ويتعر�ض يف املهاجر الأمريكية ملثل ما تعر�ض له يف الوطن من خيانة اخلائنني و�سعي ال�ساعني �أمثال ر�شيد اخلوري .وقد �سجن يف الربازيل موقوفاً بتهم غريبة د�سها د�سا�سون �سوريون �أمثال «ال�شاعر القروي» ،ومل يطل الأمر حتى �أظهر التحقيق بطالنها( )� .أيعقل �أن رج ًال يعرف احلق ،وهو غري لئيم ،يعود ،بعد قيام هذه الرباهني ال�ساطعة� ،إىل اختالق مثل هذه الإ�شاعات املغر�ضة ،الأثيمة؟ �إننا نعلم �أنه ي�سوء كل منافق دجال يف الوطنية �أن يوجد الزعيم يف املهجر الآن يحارب حرب 2
جنون اخللود
67
الق�ضية القومية ويعمل على �شق طريق احلركة القومية بني املهاجرين ويق�ضي على تدجيل الدجالني ،ولكن ذلك لي�س مبانع الزعيم من متابعة عمله. ليقل لنا ر�شيد اخلوري ماذا يعمل هو نف�سه يف املهاجر الأمريكية ،غري املتاجرة بالب�ضاعة ال�صناعية وب�صناعة الأدب وغري �سرقة �أفكار الآخرين ونظمها وانتحالها لنف�سه ،وليقل لنا كم مرة �سجن ونفي وا�ضطهد وذاق غري لذة الفخر بغدره بامر�أة يف �ساعة �ضعفها؟
اهلوامش - 1ب�شر بن عوانة العبدي من ال�شعراء ال�صعاليك يف اجلاهلية� ،إ�شتهر بق�صيدة مطلعها «�أفاطم لو �شهدت ببطن خبت» ي�صف فيها قتله ا�سداً يف ال�صحراء. � - 2إعتقلت ال�سلطات الربازيلية �سعادة يف � 23آذار 1939و�أطلقت �سراحه يف �آخر ني�سان .1939
68
�أنطون �سعادة
أسباب وأسباب أيضاً وأيضاً ر�أينا يف املقالة ال�سابقة نبالة الأ�سباب التي دعت الزعيم �إىل الإغ�ضاء عن زالت ر�شيد �سليم اخلوري وحماولة �إنقاذه ،ودناءة الأ�سباب التي حملت ر�شيد اخلوري على اختالق املطاعن ود�سها �سراً يف �أو�ساط ال�سوريني املهاجرين ،وخ�صو�صاً النازلني يف الربازيل .ويف يف الزعيم ّ هذه املقالة نتابع در�س هذه الأ�سباب ونتائجها. وقد �أعدنا ،يف املقالة الأخرية ،ن�شر الت�أويل الفا�سد لرحلة الزعيم �إىل املهجر الذي �أخذ ر�شيد اخلوري ين�شره بني معارفه ولكننا ملّا ننته من حتليله. يف الت�أويل امل�شار �إليه يقول اخلوري �إن �ش�أن الزعيم يف �أمريكة ك�ش�أن رجل هجر بالده متخلياً عن �إمر�أته و�أوالده ،وهذا القول كله تغر�ض .الزعيم مل يهجر وطنه قط ،فقد جاء �سعادة املهجر ال�سوري مرة �أوىل وهو يف نحو اخلام�سة ع�شرة من عمره ،عم ًال بدعوة �أبيه الذي كلفه جلب �إخوته ال�صغار معه بعيد احلرب العاملية املا�ضية .ولكنه مل يتخذ لنف�سه �صفة املهاجر، بل �أخذ يعمل مع �أبيه الطيب الذكر العالمة الدكتور خليل �سعادة يف �سبيل وطنه ،ويرتقب الفر�صة ال�سانحة ليعود �إليه ويعمل على �إنها�ضه ،حتى �سنحت هذه الفر�صة ال�سعيدة �سنة 1930ف�سافر من الربازيل تواً عائداً �إىل وطنه ،وكان و�صوله �إىل بريوت يف 30يوليو (متوز) من ال�سنة املذكورة. وكان الزعيم قد ك ّر�س نف�سه لتوحيد �شعبه و�إنها�ضه وحتريره ،فاندفع يف هذا ال�سبيل مدركاً كل الإدراك وعورة امل�سلك و�أن عليه �أن يقتحم �شباك اجلوا�سي�س ومعاقل الرجعيني وفخاخ
جنون اخللود
69
النفعيني ولدغ ال�سعاة ،و�ألف �ألف لون من �ألوان الإنحطاط املناقبي الذي �أ�صاب ال�شعب ال�سوري يف زمن فقده �سيادته القومية .فعمل عم ًال� ،إذا قي�س ب�أعمال �أبطال الأمم احلية ال�سابقة يف االرتقاءُ ،ع َّد معجزة من املعجزات النادرة. وقد �أثبتنا يف ما تقدم من هذه ال�سل�سلة �أن الزعيم مل ي� ِأت �أمريكة مهاجراً ،بل جاءها بنا ًء على خطة مر�سومة قرر تنفيذها لي�شرك ال�سوريني املهاجرين يف نه�ضة �أمتهم ،ولينقذهم من الطبقة النفعية املف�سدة التي تتالعب ب�شعورهم ال�صادق. و�إذا كان الزعيم قد ا�ضطر للبقاء يف الأرجنتني ب�سبب رف�ض الفرن�سيني ،الذين ال يزالون �أ�صحاب الأمر يف �شمال �سورية ،متديد جواز �سفره ،فهو مقيم �إقامة م�ضطر ،ال خمتار� .أ�ضف �إىل ذلك الأحكام العرفية الأخرية ،ال�صادرة من املحكمة الع�سكرية يف بريوت ب�سجنه ع�شرين �سنة ونفيه ع�شرين �سنة. ولكن املهاجر احلقيقي الذي هجر بالده خمتاراً �سعياً وراء النفع ال�شخ�صي ،العناً �أمته، �شامتاً وطنه ،متنق ًال �سليماً يف �أمريكة «مغرداً» لآالم �سورية ،مبتعداً عن اجل ّلى وم�سرعاً �إىل �سمك» هو ر�شيد �سليم اخلوري اخلنا ،كما تدل ق�صيدته «من ذاق �شهدك مل يخف من ّ نف�سه .ومن نكد الدنيا �أن هذا املهاجر الذي �أنفق �شبابه يف التجول التجاري ونظم الق�صائد التقليدية ابتغاء حظوة يف عني امر�أة� ،أو زلفى �إىل جمتمع بق�صد ك�سب املنافع املادية التي ك ّر�س نف�سه لها ،يريد �أن يعيرّ الزعيم مبا يجب �أن يكون عاراً عليه هو نف�سه ،ر�شيد اخلوري، دون �أن يحم ّر له وجه �أو يندى له جبني .ولو كان يف ر�شيد اخلوري مقدار حبة خردل فقط من �ضمري حي لكان كافياً ملنعه عن تناول �سعادة مبثل هذا القول اللئيم� ،إذ �أن �سعادة هو الرجل الذي يحمل يف نف�سه �آالم �أمته ،مقدماً نف�سه حلمل ال�ضيم عنها ،جماهداً بالفعل لإنها�ضها وحتريرها ،متعر�ضاً للد�سائ�س واخليانة من مواطنيه ولل�سجن والنفي واال�ضطهاد يف �سبيل �شرف كل �سوري مقيم �أو مهاجر .ور�شيد اخلوري يف عداد املدينني ل�سعادة ب�إنقاذه �شرف اجلن�س ال�سوري من ح�ضي�ض االنحطاط الذي �ألقاه فيه م�شعوذو ال�سيا�سة ودجالو الوطنية الذين �أح ّلوا النفاق حمل �صحة الأخالق ،و�أقاموا ال�شعوذة مقام اجلهاد!
70
�أنطون �سعادة
ال تقت�صر عبارة ر�شيد اخلوري الت�أويلية على �إفادة ما ذكرناه يف املقالة ال�سابقة ويف هذه املقالة، وهو �أن الزعيم «تخلى عن رفقائه» و�أنه «هجر» وطنه وحزبه ،بل تتعدى ذلك �إىل معنى �آخر م�ستور .فر�شيد اخلوري يريد بقوله �إن الزعيم «ترك رفقاءه يتحملون ويالت احلالة احلا�ضرة يف الوطن ،وجاء يتنقل �سليماً يف املهاجر الأمريكية» �أن �سعادة هرب من وجه ال�ضغط وامل�س�ؤولية. وال �شك يف �أن اخلوري ق�صد �إدخال هذا املعنى احلاد يف �أذهان معارفه من املهاجرين ،ا�ستناداً �إىل �أنهم يجهلون تاريخ �أنطون �سعادة و�أفعاله الكبرية الدالة على كرم �أخالقه و�شجاعته وعدم مباالته باملوت .ولكي ال يظن الق ّراء �أن ما نقوله هنا هو جمرد افرتا�ض نروي لهم كيفية توقيف الزعيم للمرة الثانية يف يونيو (حزيران) .1936 بعد �أن ق�ضى الزعيم مدة �ستة �أ�شهر يف �سجن الرمل وهي املدة التي حكم عليه فيها يف يناير (كانون الثاين) 1936خرج من �سجنه لريى �أن احلزب قد ت�ضاعف عدده مرات، بف�ضل دفاعه املجيد �أمام املحكمة املختلطة .وهذا ما كانت قد حتققته احلكومة �أي�ضاً .وخ�شي الفرن�سيون ا�ستفحال �أمر احلزب ال�سوري القومي بعد عودة �سعادة �إىل حومة اجلهاد ،ف�أوعزوا �إىل احلكومة اللبنانية �أن ت�أمر ال�صحف بالكف عن ن�شر ت�صريحات الزعيم وخطبه و�أعمال احلزب و�أن ت�شجعها على ن�شر الأخبار امللفقة التي من �ش�أنها ت�شويه �سمعته .ويف الوقت عينه كلف املكتب الثاين يف دائرة �أركان حرب جي�ش ال�شرق الفرن�سي ،العامل حل�ساب هذا املكتب ،املحامي عزيز الها�شم القيام بحملة لت�شويه �سمعة احلزب .ف�أخذ امل�أجور املذكور ين�شر يف �صحيفة «امل�ساء» حكايات غريبة �إ ّدعى �أنها وقائع حقيقية ،متهماً احلزب بالعمل مل�صلحة �إيطالية ومدعياً �أنه واقف على ما يثبت ذلك .ويف الوقت عينه كان الكاتب امل�ست�شرك يف �صحيفة «الرابطة ال�شرقية» �إبراهيم حداد ين�شر يف هذه ال�صحيفة الأخرية مقاالت ّيدعي فيها �أنه واقف على ما يثبت �أن احلزب ال�سوري القومي يعمل ب�إيعاز من �أملانية. ف�أر�سلت دوائر حزبية م�س�ؤولة تكاذيب مدعومة برباهني موثوقة �إىل ال�صحيفتني املذكورتني و�إىل �صحف �أخرى ،ولكن ال�صحف امتنعت جميعها عن ن�شر التكاذيب وا�ستمرت ال�صحيفتان امل�شار �إليهما يف مطاعنهما .ف�ساء ذلك �أع�ضاء احلزب ال�سوري القومي و�أدى الت�شوي�ش الذي �أحدثته مقاالت تينك ال�صحيفتني �إىل هياج يف الأو�ساط القومية ،كان من ورائه �أن عدداً
جنون اخللود
71
من الأع�ضاء يف بريوت اجتمعوا وقرروا ،على م�س�ؤوليتهم ،ت�أديب �صاحب �صحيفة «امل�ساء» عارف الغريب ،كما اجتمع عدد �آخر وقرروا ت�أديب الكاتب يف �صحيفة «الرابطة ال�شرقية» �إبراهيم حداد .و�سعى ه�ؤالء لتنفيذ ق�صدهم يف احلال فتعقبوا �إبراهيم حداد ولكنهم مل يظفروا به يف فر�صة منا�سبة ف�أ�ضرموا النار يف مطبعة �صحيفة «الرابطة ال�شرقية» و�أحرقوها. وواحد منهم كان �سائق �سيارة اتفق له �أن ر�أى �إبراهيم حداد يف ال�شارع فهجم عليه ب�سيارته يريد ده�سه فانحاز عنها حداد ف�أ�صابه جانبها و�ألقاه و�أ�صيب بر�ضو�ض� .أما الأُ َول فراقبوا عارف الغريب حتى ر�أوه يدخل بيته لي ًال فاقتحموا املنزل ودخلوا غرفته و�أخرجوه من �سريره و�ضربوه �ضرباً مربحاً �أبقاه طريح الفرا�ش نحو ع�شرة �أيام يف �أحد م�ست�شفيات بريوت. وقد �أعطى هذا الت�أديب نتيجة جيدة ،فال�صحافيون الآخرون الذين كانوا يفكرون باختالق الإ�شاعات الكاذبة عن احلزب ال�سوري القومي تهيبوا املوقف و�سكتوا �سكوتاً عميقاً مدة طويلة. �سعت احلكومة وراء الذين نفذوا الت�أديب ،وبوا�سطة �إف�شاء امر�أة �أحد الذين اجتمع الأع�ضاء يف منازلهم متكنت من �إم�ساك طرف احلبل .وبالتدريج �أخذ التحري يقب�ضون على من تبلغهم �أ�سما�ؤهم من رجال احلزب وعلى غريهم ممن يظنون به .وذات يوم دهموا مكتب جورج حداد وقب�ضوا عليه ووجدوا يف جيب جبته ن�سخة «مر�سوم الطواريء» امل�شار �إليه .وقد وجدت هذه الن�سخة معه خالفاً للتعليمات ال�صادرة �إليه ب�إخفائها يف احلال يف مكان �أمني، ف�ساقوه �إىل ال�سجن و�صادروا املر�سوم الذي كان و�سيلة لفتح حتقيق جديد يف ق�ضية احلزب ال�سوري القومي ،ومبا �أن املر�سوم يحمل توقيع الزعيم فقد �صدرت �أوامر احلكومة اللبنانية بتوقيفه. ويف �صباح اخلام�س والع�شرين �أو ال�ساد�س والع�شرين من يونيو (حزيران) 1936خرج القوم�سيار فريد �شهاب يف نحو ع�شرين من رجال التحري يق�صد منزل الزعيم جتاه اجلامعة الأمريكانية يف بريوت .فلما بلغه ،وكان الزعيم فيه ،و�ضع عدداً من الرجال حول املنزل و�أخذ عدداً �آخر وتقدم بهم من باب منزل الزعيم وطرقه ،فلما فتح الباب دخل تواً برجاله �إىل داخل املنزل .وكان دخوله جمازفة كبرية ،لأن منزل الزعيم كان خمفوراً من الداخل
72
�أنطون �سعادة
بجريدة من الأ�شداء امل�سلحني بامل�سد�سات الأوطماطية [الأتوماتيكية] ،فما كاد القوم�سيار هب احلر�س ب�صفرة من حار�س الباب وخرجوا من الغرفة الأمامية ي�صبح يف بهو الدار حتى ّ و�أحاطوا برجال التحري .فارتفعت �ضجة جعلت الزعيم يخرج من غرفته لريى ما اخلرب، فوجد رجاله يطوقون رجا ًال غرباء دخلوا بال ا�ستئذان وهم معهم يف جدال ،وللحال تقدم كبري احلر�س من الزعيم و�أخربه بحقيقة الأمر فتقدم الزعيم و�س�أل من هو املقدم على التحري ف�أجابه �شاب �أنه هو ،وقال �آخر من رجال التحري م�شرياً �إىل ال�شاب« :هذا القوم�سيار املري فريد �شهاب» ف�س�أله الزعيم« :ماذا تريد وما �ش�أن ه�ؤالء الرجال هنا؟» فقال« :نحن مر�سلون من قبل العدلية ل�س�ؤالكم احل�ضور �أمام قا�ضي التحقيق» .فقال الزعيم« :وما �ش�أنكم مع رجال احلزب هنا وملاذا تثريون هذه ال�ضجة وكيف جتر�ؤون على دخول منزيل دون ا�ستئذان؟» ف�أجاب القوم�سيار« :قلنا لهم �أن ال يعرت�ضونا و�أن يدعونا ننفذ مهمتنا». فغ�ضب الزعيم لهذه الوقاحة وانتهر قوم�سيار التحري قائ ًال« :يف هذا املنزل ال يحكم �أحد �سواي وعلى ه�ؤالء الرفقاء ال يوجد �أمري غريي ،ف�إذا كنتم ترغبون بتجنب العواقب الوخيمة التي ال بد �أن تعود عليكم ف�أن�صح لكم باخلروج من حيث �أتيتم يف احلال قبل �أن ميزقكم ه�ؤالء الأبطال ،ومن كان منكم يحمل ر�سالة �إ ّيل فلي�س له طريقة غري اال�ستئذان حتى ي�أتيه �سماحي ،فماذا تختارون؟». وكان عدد من رجال احلر�س قد �أخذوا مراكز يتمكنون من ال�سيطرة منها مب�سد�ساتهم على املوقف ،فخاف رجال التحري العاقبة فان�سحبوا وبعد قليل �أقبل القوم�سيار وحده م�ست�أذناً بالدخول فجاءه الإذن بالدخول �إىل غرفة الإنتظار .ويف هذه الأثناء وفد على الزعيم بع�ض العمد كالأمني م�أمون �أيا�س والأمني جورج عبد امل�سيح ،ثم وفد رئي�س جمل�س العمد الأمني نعمة ثابت ونامو�س الزعيم الأمني فخري معلوف ،وجرت خمابرات تليفونية بني مقر الزعامة وبع�ض مراكز احلزب واتخذت تدابري احتياطية عظيمة وجاءت قوة من رجال احلزب ورابطت على مقربة من منزل الزعيم ،وجاء قائد القوة ليخرب الزعيم بالتدابري التي اتخذت وب�أن القوة القومية م�ستعدة لتنظيف �شوارع بريوت من النا�س ليتوجه الزعيم �أنى ي�شاء .وكان هذا القائد يحمل رجاء الرجال املرابطني �إىل الزعيم �أال ي�سمح هذه املرة بو�صول يد احلكومة �إليه.
جنون اخللود
73
املوقف �أ�صبح وا�ضحاً :الزعيم يعلم �أن التحري جا�ؤوا لتوقيفه ،لأنه بلغه توقيف جورج حداد وعيونه �أخربته بوقوع مر�سوم الطواريء يف يد التحري ،ولكن قوة احلزب م�سيطرة على املوقف والنفو�س م�ستعدة للثورة .و�إذا �شاء الزعيم �أمكنه �شق طريقه �إىل اجلبل حيث جتتمع لديه قوة م�سلحة ال تقل عن ثالثة �آالف يف يوم �أو يومني .والزعيم كان يعلم �أنه لو �أن الأمر مع احلكومة اللبنانية وحدها لكانت م�س�ألة انت�صار احلزب النهائي م�س�ألة �ساعات �أو �أيام قليلة ،ولكن امل�س�ألة لي�ست مع احلكومة اللبنانية وحدها بل مع الدولة الفرن�سية املت�سرتة وراء احلكومة اللبنانية .وكان الزعيم يعلم �أي�ضاً �أن قوة اجلي�ش الفرن�سي يف البالد تبلغ نحو ال�ستني �ألفاً جمهزين ب�أحدث الأ�سلحة وب�أدق و�سائل املخابرات واملوا�صالت وباخلرباء لكل نوع من �أنواع ال�سالح ،و�أن قوة احلزب ال�سوري القومي املادية لي�ست �شيئاً مذكوراً بالن�سبة �إىل الفرن�سيني ،مع العلم �أن املدد ميكن �أن ي�أتي الفرن�سيني ب�سرعة من �إفريقية �أو فرن�سة .و�أن نوع ال�سالح املوجود يف �سورية هو البنادق وهي كلها من الطراز القدمي ،لأنها بقايا ما خ ّلفه اجلي�ش الأملاين ـ الرتكي يف احلرب املا�ضية .فالثورة يف هذه الظروف ال �سبيل لفوزها النهائي وال نتيجة لها غري تقتيل عدد كبري من رجال الأمة ،كما جرى يف الثورات االعتباطية التي ن�شبت يف املا�ضي يف ال�شام وفل�سطني .ومل يكن غر�ض الزعيم �إن�شاء بطولة وهمية على جماجم الأبطال فدر�س املوقف مع الأركان الذين ح�ضروا ،وقرر �أال يجيب رجاء العمد و�ضباط احلزب �أن ي�صون نف�سه .فو�ضع الزعيم املرا�سيم التي يعينّ فيها جمرى الأمور يف �أثناء توقيفه ويعينّ الهيئات املتعاقبة على الأمر ،ثم �أذن لقوم�سيار التحري بالدخول عليه فدخل، ف�س�أله ما يريد فب ّلغه ر�سالة قا�ضي التحقيق فنه�ض الزعيم وهو هاديء مبت�سم ابت�سام الظافر على اجلنب واخلوف ودعا القوم�سيار لريافقه وتوجه معه �إىل دار الق�ضاء حيث �أ�صدر قا�ضي التحقيق مذكرة غري موقتة بتوقيفه و�أودع ال�سجن. هذه البطولة الهادئة احلكيمة التي تظهر لنا نف�ساً عظيمة ت�أنف من الإلتجاء �إىل املحاوالت العقيمة التي ي�سرت بها ال�صغار �ضعفهم وجبنهم ،هي �أعظم من كل بطولة ظهرت يف املعارك الدموية الهزيلة التي جرت يف �سورية حتت الإنتداب. �إن �سعادة مل ي�ش�أ �أن يجعل احلزب حامياً له ،بل �شاء �أن يكون هو حامياً للحزب بنف�سه .ولو
74
�أنطون �سعادة
�شاء الزعيم لأ�ضرم ثورة مل ت َر لها �سورية مثي ًال ،وملا عاد �إىل ال�سجن ثانية. �إننا وجدنا رجا ًال �آخرين يهربون عند كل �شدة ويتخلون عن م�س�ؤولياتهم ،هم �أ�صحاب البطولة القزمية� ،أما �أنطون �سعادة فيعلو علواً كبرياً على هذه البطولة احلقرية. فهل يوجد ما هو �أ�شد م�ضا�ضة على النف�س الأبية من رمي الرجل الذي �شق طريق النه�ضة ال�سورية القومية بنف�سه وج�سده ،مهاجماً بتلك ودافعاً بهذا ،بتهمة الهرب التي يجب �أن تل�صق بجميع املتزعمني امل�شعوذين الذين ال حمل لهم يف النه�ضة ال�سورية القومية؟ وهل توجد يف العامل قباحة �أ�شد من قباحة الطعن من الوراء يف كرامة �أعظم قائد ظهر يف �سورية منذ عهد هاين بعل �إىل اليوم؟ �أهكذا يكاف�أ البطل الذي �أوجد الق�ضية القومية وقام يدافع عن كرامة الأمة بنف�سه ،مقدماً للجيل اجلديد �أعظم �أمثولة يف النزاهة وال�شجاعة والإقدام والت�ضحية وال�صرب واملثابرة؟
جنون اخللود
75
الباطل سالح العاجز تناولنا يف املقالني ال�سابقني �أهم قول حاول ر�شيد �سليم اخلوري �أن يطعن به �سراً الزعيم، حماو ًال �أن يل�صق به تهمة الهرب من الوطن والتخلي عن رفقائه .و�إذا كان ال بد من قول كلمة ختامية للبحث املتقدم فلي�س �أجدر من الإ�شارة �إىل �أنه ال ميكن ر�شيد اخلوري ،وال بوجه من الوجوه� ،أن ينفي �أنه هو قد تخلى عن وطنه منذ زمان و�أنه كان �أبعد النا�س عن اجلهاد يف �سبيل ع ّزه ،ومن �أكرثهم عم ًال على �إذالله. و�إذا كان يوجد �سيا�سيون �سوريون هربوا من حومة اجلهاد هرباً فعلياً ال �شك فيه ،فهم ال�سيا�سيون الذين يريد ر�شيد اخلوري �أن يجعل الإميان بهم �شرطاً للإميان ب�سعادة! ننتقل يف هذه املقالة �إىل تناول الأقوال الأخرى التي �أوردها اخلوري يف معر�ض الطعن ب�سعادة ،من غري �أن نقف طوي ًال عندها ليت�سنى لنا �إعطاء وقت �أكرث للبحث الرئي�سي املق�صود من هذه ال�سل�سلة. يقول اخلوري�« :إذا كان �سعادة ال ي�ؤمن ب�أعمال الأحزاب ال�سورية الأخرى ورجالها ،فنحن �أي�ضاً ال ن�ؤمن ب�أعماله» وهو قول ال يدل ،ب�سذاجته� ،إال على ق�صر مدارك قائله. جعل اخلوري الإميان برجال الأحزاب ال�سورية الذين �أو�صلوا ال�شعب ال�سوري ،ب�شعوذاتهم، �إىل ح�ضي�ض الفقر والعجز �شرطاً للإميان ب�سعادة و�أعماله .ولكن اخلوري ال يقيم دلي ًال واحداً على ال�سبب املوجب لهذا ال�شرط ،ف�ض ًال عن �أنه ال يبني لنا من هم الرجال الذين يعنيهم، ف�إذا كان يعني رجال «الكتلة الوطنية» املرحومة ف�أين هم ه�ؤالء الرجال الذين ادعوا ،ليخدعوا
76
�أنطون �سعادة
يبق من خالف بينهم وبينها �إال ال�شعب� ،أنهم لن ينفكوا عن حماربة فرن�سة حتى ولو مل َ على عقال؟! ه�ؤالء الرجال هم يف طليعة ال�سيا�سيني الدهاقنة الذين هربوا وتخلوا عن م�س�ؤولياتهم يف �ساعة ال�شدة ،و�ألقوا �سالحهم �أمام الأجنبي املحتل ورموا مبا ادعوا �أنه ق�ضية يعملون لها �إىل الأر�ض. و�إذا كان يعني غريهم فليذكرهم لنا ب�أ�سمائهم وليبني لنا ما و�ضعوا من مباديء وقواعد وما قاموا به من �أعمال غري حتري�ض الغوغاء املتع�صب على القالقل وبلبلة احلالة ،لي�ستطيعوا �أن يقولوا �إنهم ذوو ت�أثري و�ش�أن. العميان ،ف�ض ًال عن املب�صرين ،يدركون �أنه لو كان ل�سعادة �شيء من الثقة بهذه الطبقة ال�سيا�سية التي حت�سب نف�سها فوق ال�شعب وتتخذه و�سيلة لق�ضاء لباناتها ملا كان وجد حاجة به لإن�شاء احلزب ال�سوري القومي ،و�شق طريق جديدة ت�سري عليها الأمة ال�سورية نحو امل�ستوى الالئق بها ،بل لكان تبع رجال الطبقة املذكورة وانخرط يف �إحدى ال�شركات ال�سيا�سية التي �أن�ش�أوها للم�ضاربة يف امل�ساومة والبيع وال�شراء. �ألي�س جمرد �إن�شاء احلزب ال�سوري القومي على �أ�سا�سه القومي املتني دلي ًال كافياً على �أن �سعادة قد رف�س برجله كل ركام الب�ضاعة ال�سيا�سية التي جمعها �أولئك امل�شعوذون ،وجميع العقاقري وق�شور البطيخ التي و�ضعوها عند �سرير الأمة املري�ضة يجرعونها منها ال�سموم املخدرة والقاتلةّ ،مدعني �أنها �أدوية ناجعة جلميع الأمرا�ض والأو�صاب ،فكيف يعقل �أن يعود باعث النه�ضة ال�سورية القومية �إىل الت�أمني على تدجيل �أولئك الدجالني والقول بح�سن عالجهم و�صواب طرقهم؟ �إن عق ًال �سخيفاً ،عاجزاً كعقل ر�شيد �سليم اخلوري فقط يجيز مثل القول الواهي الذي �أراد �أن يطعن به الزعيم يف ناحية منيعة من نواحي تفكريه وعمله. ال نتناول بكثري وال بقليل امتعا�ض ر�شيد �سليم اخلوري من الإ�ستح�سان الذي القاه �إهداء الأديب القومي الكبري جربان م�سوح كتابه «القامو�س احلزين» �إىل الزعيم.
جنون اخللود
77
كذلك ال نقف كثرياً عند قوله« :من �أين للقوميني هذا املال الكثري؟» فقد ع ّلقنا على هذا القول يف احللقة الأوىل من هذه ال�سل�سلة بهذه العبارة� :إن اخلوري مل يبني مقدار ما �سماه «املال الكثري» ومل يكلف نف�سه �س�ؤال دائرة التحقيق يف �سان باولو ،حيث �أوقف الزعيم ،عن م�صدر «املال الكثري»! �إن تهمة ت�س ّلم «مال كثري» هي �آخر تهمة ميكن �أن يلج�أ منافق �إىل حماولة �إل�صاقها باحلزب ال�سوري القومي .ف�إن متتبع تاريخ جهاد احلزب ال�سوري القومي منذ �أول ن�ش�أته �إىل اليوم يجد �أن قلة املال كانت �أكرب �صعوبة واجهها احلزب ،وتغلب عليها بت�ضحيات عظيمة .ولو كان للقوميني «مال كثري» كما ّيدعي ،باط ًال ،ر�شيد اخلوري ،لكان املوقف تغري من زمان ،من جميع الوجوه .و�أكرب برهان على �أنه لي�س للقوميني «مال كثري» يبذرونه هو �أن ر�شيد اخلوري قام يعاديهم ويطعن يف زعيمهم بعد �أن كان مدحه يف مقالة �أظهر فيها مناقب الزعيم وم�ؤهالته الفكرية وال�شخ�صية لإبداع النه�ضة ال�سورية القومية!! ما تبقى من �أقوال ر�شيد اخلوري ال ميكن �أن يو�صف ب�أكرث من �أنه حجة جل�أ �إليها اللئام ،وال عالقة لها البتة ب�ش�أن احلزب ال�سوري القومي ،ووا�ضح فيها كل الو�ضوح االختالق بق�صد الطعن يف �شخ�صية الزعيم كقوله« :وماذا تنتظر من رجل كان ي�ضرب �أباه؟» وهو يعني به ما�ض نا�صع كله ت�ضحية يف �سبيل راحة �أبيه و�إخوته ال�صغار الزعيم .فما�ضي �أنطون �سعادة ٍ الذين كان �أباً لهم حني كانوا بعيدين عن �أبيهم ،وكان �ساعد �أبيه الأمين يف �إن�شاء و�إدارة «اجلريدة» و»املجلة» .وجميع املقربني �إىل املغفور له العالمة الدكتور خليل �سعادة يعلمون �أنه تويف قرير العني لوثوقه ب�أن ابنه �أنطون �سيحقق ما كان يتوق لر�ؤياه وما بذل هو كل حياته، عملياً ،يف �سبيل �إر�ضاء نف�سه الطموحة به. ولوال انحطاط مثالبي عظيم يف نف�س ر�شيد اخلوري ملا �سولت له رمي الزعيم مبثل هذا االختالق الذي يعرف اخلوري نف�سه بطالنه ،وهو الذي كان يزور الدكتور �سعادة وابنه �أنطون يف منزله ويف �إدارة «اجلريدة» .وكان يرى الوئام والتعاون بينهما ،وهو اختالق ال ت�سول نف�س لها مقدار حبة خردل من نبالة الأخالق ل�صاحبه �إتيانه ،من �أجل �شفاء حزازة �صدر �أو نيل فائدة مادية .وهذا �صحيح ،حتى ولو كان املق�صود الطعن فيه غريباً وغري ذي تاريخ جهادي
78
�أنطون �سعادة
عظيم ومقام قومي �أعلى يف �صميم ال�شعب ،فكيف واملق�صود الطعن فيه له هذا التاريخ وهذه املنزلة والطاعن يقول �إنه �صديقه؟! ولو كان �سعادة كما يرميه ر�شيد اخلوري فكيف يكتب له اخلوري بلهجة ال�صديق احلميم، ويطلعه على ما ال يطلع غري الأ�صدقاء ال�شرفاء على مثله من �ش�ؤون حياته اخل�صو�صية ،كما يقول له يف جوابه على كتاب الزعيم �إليه املن�شور الق�سم العمومي منه يف عر�ض مقالة �سابقة؟ الباطل �سالح العاجز وكيد يرتد يف نحر الكائد ،و�ساء م�صري املنافقني.
جنون اخللود
79
نثر النظم �إي�ضاح ال بد منه: ت�ساءل �أنا�س كثريون وال يزالون يت�ساءلون :ملاذا هذه احلملة على ر�شيد �سليم اخلوري؟ فك�أن جميع الأ�سباب الأدبية واالجتماعية والثقافية وال�سيا�سية الواردة يف �سياق هذه املقاالت لي�ست �سبباً كافياً التخاذ هذا املوقف الذي ي�ضع حداً للتدجيل الأدبي وال�سيا�سي وللفو�ضى الثقافية يف نطاق وا�سع يف اجلوايل ال�سورية. والظاهر �أن ه�ؤالء املت�سائلني ال يزالون يقي�سون بالأقي�سة العتيقة ويبحثون عن «ال�سبب ال�شخ�صي» الذي يربر �إن�شاء هذه ال�سل�سلة الدرا�سية .كل م�س�ألة من هذا النوع تقت�ضي «�سبباً �شخ�صياً» عندهم ،ولذلك يقولون «�إي�ش عمل ر�شيد اخلوري حتى ا�ستحق ها احلملة»، وهم يعنون الذنب الذي ارتكبه ر�شيد اخلوري �ضد الزعيم �شخ�صياً. احلقيقة �أنه لو بقيت الأ�سباب �شخ�صية ملا كنا نعريها كل هذه الأهمية ونحن نعلم �أن الزعيم مل يبالِ قط باملطاعن التي توجهها �إليه� ،سراً وجهراً ،طائفة من �أ�شكال وطبقات غريبة ،من بقية �أجيال االنحطاط ،وفيها التاجر الأدبي والتاجر ال�سيا�سي والطامع املغرور واملتعي�ش ال�صحايف وغريهم من النفعيني. و�إننا ما عر�ضنا يف املقاالت الثالث الأخرية للمطاعن ال�شخ�صية التي وجهها ر�شيد �سليم اخلوري �إىل الزعيم �إال ل�ضرورة ك�شف ناحية من نواحي نف�سية اخلوري ،لتكمل الدرا�سة يف العقلية املنحطة الفا�سدة التي تعرقل نه�ضة الأمة و�سريها نحو مثل حياتها اجلديدة .ور�شيد
80
�أنطون �سعادة
اخلوري هو منوذج بارز منها ي�صح �أن يتخذ قيا�ساً لغريه فيها. فالأ�سباب الأ�سا�سية لهذه املقاالت ،كما هو وا�ضح ،من قراءتها والتمعن فيها ،هي �أ�سباب امل�صلحة العمومية ،ال �أ�سباب �شخ�صية. والآن نتقدم �إىل املو�ضوع. مل نطل ال�شرح يف املقاالت املا�ضية يف تبيان جميع عيوب منظومات ر�شيد �سليم اخلوري، والنظر يف عيوبها جميعها �أمر يطول �شرحه .فتكاد ال تخلو ق�صيدة من ق�صائده من �صورة م�شوهة �أو فكرة برتاء منتحلة .وقد �سبق لنا القول �إن الأفكار يف منظومات اخلوري هي �شعث غري ملموم ،فلي�س فيها فكرة واحدة �أ�سا�سية ترجع �إليها الأفكار املتفرقة� .أما ال�صراخ والزحري والتحري�ض على اال�ستقالل من غري �صورة وا�ضحة �أو فكرة �صريحة ،فال متثل غري �ش�أن العاجز اخلامل املولول كالن�ساء اجلاهالت. �إذا انتقلنا من نظم ر�شيد اخلوري �إىل نرثه مل جند غري ما وجدناه يف نظمه ،ولعل �أهم نرث قاله �أو كتبه واجتهد �أن يلب�سه حلة من �سعة الإطالع ون�ضج التفكري هو مقدمته ملجموعة «الأعا�صري» .وقد ر�أينا يف املقاالت ال�سابقة ما هي هذه املجموعة التي يقول «القروي» يف مقدمته �إنها «خمتارات من �شعره الوطني» .ومع �أنه ن�شر ق�صائد «الأعا�صري» يف ال�صحف قبل جمعها فهو يغفل هذه الناحية ويقول �إنه «مل يخ�صها بالن�شر» قبل غريها �إال «العتقاده» �أن هذه الق�صائد ،التي ر�أينا يف احللقات املتقدمة كيف ت�صفع �شرف ال�شعب ال�سوري �صفعاً ك�شعب خالٍ من كل كرامة ومن كل �شرف ،مت�سكع وتطعن الأمة يف كرامتها ،وكيف متثلنا ٍ �أمام �أي غريب ،كما وجدنا ذلك ب�صورة باهرة يف ق�صيدته ،التي حلى بها جيد ديوانه« ،حتية الأندل�س» ،هي �شيء نحتاجه «ليقوي الع�صبية» فينا .واحلقيقة �أن هذه الق�صائد هي لإ�ضعاف ع�صبيتنا ولبلبلة روحيتنا و�أفكارنا ،ومراجعة الدرو�س املا�ضية يف هذه املقاالت ال تبقي جما ًال لل�شك يف �أنها عامل من عوامل ف�ساد روحية ال�شعب. وكما ر�أينا «القروي» ينتحل �أفكار غريه لينظم ق�صائده كذلك نراه ينتحل �أفكار غريه ومي�سخها ليجعل منها نرثه .وملا كانت حاجة النرث �إىل الفكر �أكرث من حاجة النظم �إليه فقد جمع
جنون اخللود
81
اخلوري �أ�شتاتاً من الأفكار ونرثها يف نحو ع�شر �صفحات يف مقدمة «الأعا�صري». يف الفقرة الثانية من هذه املقدمة الف�سيف�سائية مي�سخ «القروي» �أفكاراً و�صوراً كثرية وردت يف مقاالت عديدة للعالمة املغفور له الدكتور خليل �سعادة خ�صو�صاً حيث يقول« :وقد بلغنا من �إنكار النف�س والتطوع بخدمة الغرباء ...فبد ًال من �أن يتكلف القنا�صون م�شقة ن�صب الفخاخ لنا �أو مطاردتنا ورهقنا ،باتوا وجهادهم حم�صور يف كيف يتقون تهافتنا عليهم ووقوعنا على �أقدامهم� ،إلخ». و�أية مراجعة م�ستعجلة ملقاالت الدكتور خليل �سعادة التي حمل بها على املتزلفني للم�ستعمرين تو�ضح للقاريء من �أين �أخذ «ال�شاعر ال�شهري الأ�ستاذ ر�شيد �سليم اخلوري» �أفكار هذه الفقرة و�صورها غري جمتهد �إال يف تغيري بع�ض الألفاظ. كذلك قوله يف الفقرة الثانية« :ونحن �أ�صح اخللق �أبداناً و�أرجحهم عقو ًال� ،إلخ» .فهذا القول يكاد يكون م�أخوذاً باحلرف الواحد من مقالة ف�سيولوجية طبية للدكتور �سعادة تكلم فيها على ال�سوريني من الوجهة الت�شريحية وتركيب �أج�سامهم وحكم ،وهو العامل املدقق ،ب�أنهم من �أكمل اخللق تركيباً وميتازون يف معظم الأمم من الوجهة الت�شريحية .ولو مل يكن قال هذا القول عامل كبري كالدكتور خليل �سعادة ماذا كانت قيمة هذا الكالم اخلطابي الذي ير�سله ر�شيد اخلوري من غري تقيد ب�أ�صول؟ كان الواجب على ر�شيد اخلوري �أن يدرك على الأقل �أن ال�ش�ؤون العلمية لها �ضوابط و�أ�صول منها �أنه يجب �إ�سناد القول العلمي �إىل قائله ،بد ًال من طم�س ا�سم القائل وانتحال القول ،لأن االنتحال ال نتيجة له غري �سقوط القيمة .و�إن رج ًال كر�شيد اخلوري الذي ال دخل له يف �أي علم اخت�صا�صي يحكم يف �أي ال�شعوب �أ�صح �أبداناً و�أرجحهم عقو ًال ال يكون �إال مت�شدقاً ال يجوز �إ�ضاعة الوقت يف النظر �إىل ما يقول .واحلكم يف �صحة �أج�سام ال�سوريني ورجاحة عقولهم الذي هو من مو�ضوعات علوم الت�شريح والإن�سان والأقوام الب�شرية� ،إذا �صدر عن عامل كالدكتور خليل �سعادة �أو �أ�سند �إليه كانت له قيمته العلمية املحرتمة� ،أما �صدوره عن ر�شيد اخلوري فماذا يجعل له من القيمة العلمية؟ تخ ّر�ص وتبجح ال يليقان �إال باجلهلة من النا�س.
82
�أنطون �سعادة
يف هذه الفقرة التي نحن ب�صددها يقول «ال�شاعر الذي ربح اخللود» هذا القول�« :أما واهلل لو كنت �شاعراً فرن�سياً �أو �إنكليزياً حلب�ست النف�س على التب�شري بال�سالم ووقفت القلم على الدعوة �إىل الر�أفة واحلنان» ،وهو يف هذا القول يهذي هذياناً كما يف �أكرث �أقواله .و�إال فكيف يوفق بني ما يقول هنا ومدحه الفتوحات العربية التي �أخ�ضعت �أمماً كثرية حلكمها ،كما ال يزال الإنكليز والفرن�سيون خم�ضعني �أمماً كثري ًة حلكمهم؟ وهل �صحيح �أنه لو �أتيح لر�شيد اخلوري �أن يولد يف �سورية وهي يف �أوج جمدها و�أ�ساطيلها البحرية ت�سيطر على البحار ،و�أعالمها الظافرة ت�سري �إىل الهند ،وجيو�شها ت�سيطر على �إفريقية و�إ�سبانية ويعرب قائدها العبقري هاين بعل جبال الألب ال�شاهقة ويجتاح �إيطالية وي�سيطر فيها عقداً ونيفاً من ال�سنني ،مهاجماً الرومانيني يف عقر دورهم وحما�صراً رومة العظيمة ،بائعاً ق�صورها من على �أ�سوارها باملزاد العلني� ،أقول �أ�صحيح �أنه لو كان الناظم ر�شيد اخلوري �أحد �أفراد الإمرباطورية ال�سورية ال�شرقية �أو �أحد �أفراد الإمرباطورية ال�سورية الغربية لكان �صار �شاعراً يحب�س نف�سه على التب�شري بال�سالم والتخلي عن جمد الأمة وحقوق الدولة؟ بعد القول املتقدم من الفقرة التي نحن ب�صددها يقول اخلوري�« :أما و�أنا �سوري ،ومن لبنان، ف�إين ال غر�ض يل يف احلياة �أ�شرف من دعوة �شعبي �إىل بغ�ض ال�شعوب وال َ مثل عندي �أعلى من ا�ستنها�ض �أمتي ملحاربة الأمم» .وهنا يعرتف اخلوري �صريحاً �أنه ،يف الوطنية� ،سوري و�أن �شعبه هو ال�شعب ال�سوري و�أن �أمته هي الأمة ال�سورية ،التي يقوم اليوم ،لغر�ض يف نف�سه، ويدعي �أنه لي�س �سورياً من لبنان ،بل وطنياً عربياً ،من �سورية! و�أن ينكر وجودها ون�سبته �إليها ّ �شعبه هو «ال�شعب العربي» و�أمته هي «الأمة العربية». ويف �آخر الفقرة الثالثة هذه يجاري اخلوري املفكرين ال�سوريني فيقول �إن �شلل �سورية هو من «قيود التقاليد الرثة والتع�صبات العتيقة» .وهذه العبارة تكاد تكون حرفية من بع�ض �أقوال الدكتور خليل �سعادة. ويف الفقرة الرابعة ينادي اخلوري «�أبناء وطنه» �سورية قائ ًالَ « :ل َك ْم جتدون بينكم من دعاة الإ�ستعمار نفراً ...يجل�س واحدهم ...ويقول ،خاف�ضاً �صوته :ما لكم وله�ؤالء ال�شعراء� ،إن
جنون اخللود
83
هم �إال ع�صبة �أغرار يحر�ضونكم على املطالبة باحلرية وال �سالح لديهم غري �أل�سنتهم� ،إلخ». الوا�ضح كل الو�ضوح يف هذا القول �أن اخلوري يحاول �أن يكون لبقاً يف لفت الأنظار �إليه. فهو مل يقل «يقول واحدهم :ما لكم ولهذا ال�شاعر؟» �إال لكي يتجنب �إبالغ الوقاحة �إىل حد يعك�س الآية ،فجعل التخ�صي�ص باملطالبة باحلرية لل�شعراء وحدهم .وملا كان يعد نف�سه «�شاعر الوطنية» مل يجد حاجة لت�ضييق نطاق التخ�صي�ص �أكرث من هذا احلد ،خ�صو�صاً وخطابه موجه �إىل الذين يقر�أون ق�صائده .وهكذا نرى ر�شيد اخلوري املثال ال�صحيح لطائفة من ل�صو�ص الأفكار الذين يتوددون �إىل عظماء الفكر �أو ًال ليتمكنوا من ثقة النا�س حتى �إذا مت لهم ذلك انتحلوا �آراء و�أفكار �أولئك العظماء ونبذوهم وراءهم ظهرياً ،و�سارعوا �إىل ن�سيانهم بعد وفاتهم! �ألي�س هذا ما فعله اخلوري يف مقدمة «الأعا�صري» حني �أخذ عبارات الدكتور �سعادة وعظاته الوطنية وتنا�سى �إ�سنادها �إىل ذلك الوطني الكبري؟ من �أين جاء ر�شيد اخلوري بهذه العبارة التهكمية«ِ :كلوا �أمركم �إىل ولية الأمر فيكم �إنها �أمكم احلنون وحا�شا لأمكم احلنون �أن تريد بكم �شراً»� ،ألي�س من مقاالت الدكتور خليل �سعادة امل�شهورة يف هذا الباب؟ ولكن اخلوري ال يريد �أن يعرتف بذلك ،لأنه يطمح يف اخللود ك�صاحب دعوة ولهذا ال�سبب مزج بع�ض �ألفاظ قر�آنية يف الق�سم التايل من هذه العبارة التي هي من �أقوال الدكتور خليل �سعادة امل�شهورة فقال متابعاً� :إن الأم احلنون «تهيء لكم خرياً جزي ًال ،تدربكم على احلرية ف�إذا �صرمت لفظتي «�أجراً و�شكوراً» لكي لها �أه ًال وهبتها لكم لوجه اهلل ال تبغي �أجراً وال �شكوراً» ف�أدخل ّ ي�ضلل الق ّراء فال يعرفون �أن القول للدكتور خليل �سعادة. ولكن ر�شيد اخلوري قد �صدق يف التعبري عن نف�سه و�أمثاله من غري �أن يدري ،فقد و�صف نف�سه ور�صفاءه النظامني بهذا الو�صف الذي �أجراه على ل�سان من يتهكم عليهم�« :إن هم �إال �صبية �أغرار يحر�ضونكم على املطالبة باحلرية» .فالتحري�ض على املطالبة باحلرية مع جهل بالعوامل والأ�سباب واملقت�ضيات هو ال�صفة الثابتة يف ق�صائد الناظمني «الوطنيني» الذين ظنوا «الوطنية» ق�صائد حتري�ضية ،يطعنون بها كرامة ال�شعب النبيل الذي مل مينعه من جمد اجلهاد غري االن�شقاق الداخلي وف�ساد النظام االجتماعي ـ االقت�صادي ،ولي�س ما يقوله
84
�أنطون �سعادة
اخلوري �إننا عبيد و�إننا «�أ�سل�س املطايا» وغري ذلك من �أقواله الوقحة التي يقلل فيها من ثقة ال�شعب بنف�سه. وهذه العبارة�« :إن �صراخ �سورية وعويلها» �ألي�ست هذه للدكتور خليل �سعادة؟ وو�صف هذا ال�صراخ وهذا العويل �ألي�س هو �أي�ضاً للدكتور خليل �سعادة؟ �ألي�ست �أفكار الدكتور خليل �سعادة هي الأفكار ال�صحيحة الوحيدة املوجودة يف «مقدمة» «الأعا�صري» وقد �أحاطها ر�شيد اخلوري بطائفة من الألفاظ التي �ش ّوهت معانيها و�شو�شت جالءها؟ وبعد كل هذه ال�سرقة القبيحة يجيز ر�شيد اخلوري لنف�سه التجاوز عن ذكر ا�سم الدكتور عده يف مقدمة الك ّتاب الذين ما كان يجب �أن خليل �سعادة ،والتجاوز حتى عن وجوب ّ يبخ�سهم حقهم ،وهم الذين كانوا �أ�سبق من ّ يعدهم �شعراء ليح�سب نف�سه النظامني الذين ّ �شاعراً بينهم ،لوال �أنانية حقرية وخ�شية من �أن ي�ضيع «ال�شعراء» الذين ي�سرقون مادة الكتاب ليح�شوا ق�صائدهم بها متى ذكر �أرباب الفكر؟ �أبهذه القدوة يف ه�ضم «�أدبائنا» غري الأديبني حقوق �أدبائنا احلقيقيني ي�صري ال�سوريون �أمة حية ناه�ضة؟ �إن الأمة التي يكرث فيها �أمثال ر�شيد اخلوري الذين يطم�سون م�آثر عظمائها لي�شيدوا لأنف�سهم عظمة قزمية حقرية ،ويرمون الأمة كلها بتهمة العبودية ليدعوا �أنهم «الأحرار» الوحيدون فيها هي �أمة من �أتع�س الأمم حظاً ونه�ضتها ال تكون مبا يقوله ر�شيد اخلوري ،بل برف�س هذا الأدب املزيف الذي �أن�ش�أه ل�صو�ص بارعون كر�شيد اخلوري و�أ�ضرابه!
جنون اخللود
85
التحريض اململ ر�أينا يف املقالة ال�سابقة �أن ر�شيد اخلوري و�صف نف�سه ّ والنظامني الذين على �شاكلته و�صفاً �صحيحاً حني ن�سب �إىل من يتهكم عليهم هذا القول�« :إن هم �إال �صبية �أغرار يحر�ضونكم (�أي ّ النظامون) على املطالبة باحلرية» .وقلنا يف التعليق على هذا الو�صف الذي ا�ست�سخفه اخلوري من غري نظر يف انطباقه على الواقع« :فالتحري�ض على املطالبة باحلرية مع جهل بالعوامل والأ�سباب واملقت�ضيات هو ال�صفة الثابتة يف ق�صائد الناظمني «الوطنيني» الذين ظنوا الوطنية جمرد ق�صائد حتري�ضية ،يطعنون بها كرامة ال�شعب النبيل الذي مل مينعه من جمد اجلهاد غري االن�شقاق الداخلي وف�ساد النظام االجتماعي ـ االقت�صادي». �إن اللوم والتحري�ض ورمي ال�شعب بطبيعة العبودية هي �أبعد الأ�سباب عن توليد نه�ضة �أو �إ�ضرام نار ثورة يف �شعب عملت فيه �أيدي التفرقة الدينية ،و�سحقه الطغيان االقت�صادي ـ االجتماعي الداخلي .فعدم قيام ال�شعب دفعة واحدة لرفع نري اال�ستعباد الأجنبي عنه لي�س �سببه عدم وجود حمر�ض بالق�صائد واخلطب واملقاالت اخلطابية ،بل كان �سببه ،قبل ن�شوء النه�ضة ال�سورية القومية ،عدم وجود قاعدة قومية �إجتماعية ـ �إقت�صادية ـ فكرية ـ حقوقية تقيم العدل على �أ�سا�س احلق ليطمئن كل ذي حق يف الأمة �إىل حقه بعد جهاده ،ويكون من وراء ذلك غ�سل القلوب من ال�ضغائن والأحقاد وتوحيد ال�شعور والإرادة. النه�ضة القومية ال ميكن �أن تكون م�سببة عن بلبلة فكرية وعدم اطمئنان نف�سي .ولكن ذوي التفكري الأويل ال�سطحي� ،أمثال ر�شيد �سليم اخلوري ،العاجزين عن طلب احلقائق
86
�أنطون �سعادة
الأ�سا�سية ،مل يتعلموا �شيئاً غري ال�صخب وال�ضجيج واال�ستفزاز اعتباطاً .وال مغاالة يف القول و�صمت �إن كرثة الذين اندفعوا يحر�ضون ال�شعب وي�ستفزونه على غري هدى قد زادت البلبلة ّ �آذان ق�سم كبري من ال�شعب ،كان من نكد طالعه �أن يقع حتت ت�أثريهم عن �سماع �صوت الهداية القومية ال�صحيحة. ولو كانت النه�ضة �أو الثورة تقوم بال�صخب والتحري�ض لكانت �أطنان املقاالت والق�صائد واخلطب التحري�ضية التي �صبها املحر�ضون على ال�شعب ال�سوري وجالياته املوزعة يف الأقطار الأمريكية كفتنا ،من زمان ،م�ؤونة �سماع ق�صائد ر�شيد اخلوري وخطبه التحري�ضية التقليدية. لو كان التحري�ض على املطالبة باال�ستقالل يولد اال�ستقالل لكنا ا�ستقللنا من زمان! �إن ر�شيد اخلوري لي�س �أول حمر�ض ظن �أن التحري�ض وطنية و�أنه وقع على اكت�شاف خطري كان جمهو ًال من قبل ،ولكنه قد يكون �أول حمر�ض �أو يف عداد �أول املح ّر�ضني ال�ضاجني ال�صاخبني الذين وهموا �أن التحري�ض يقيمهم قادة على ال�شعب وممثلني لق�ضيته! وبنا ًء على هذا الوهم الفا�سد قال يف ق�صيدته على غالف «الأعا�صري»: ك�أنني املنادي واملنادى �أهيب بهم فال �ألقى �سميع ًا �صخاب ومع �أن هذا القول هو اعرتاف �صريح ب�أن ال�شعب ال ي�صيخ ال�سمع لكل حمر�ض ّ دعي مغرور يظن �أن ال�شعوب املتمدنة التي تتطلب حكمة وفهماً وحنك ًة يف وال ينقاد لكل ّ معاجلة ق�ضاياها و�سيا�سة �أمورها ،هي كالقبائل الرببرية التي جتمعها الرابطة الدموية فقط، عد �إعرا�ض النا�س عن مناداته ي�ستنفرها كل �صائح ويدفعها كل حم ّر�ض ،ف�إن ر�شيد اخلوري ّ عيباً فيهم ال فيه هو ،و�ص ّورهم خالني من ال�شعور يف البيت التايل الذي قال فيه: فيا ر ّباه ل�ست �أنا البالدا �أال ذ ّو قتهم �أملي فثاروا يت�سن له بالنظم يناله بالنرث ،فو�ضع مقدمته ِلــ«الأعا�صري». وقد وهم �أخرياً «القروي» �أن ما مل َّ وملا مل يكن اخلوري من �أهل الفكر وكان يف هذا الباب كالطفيليات �أو كاحللميات ميت�ص مادة �إنتاجه من غريه ف�إنه �سلك يف نرثه امل�سلك عينه الذي �سلكه يف نظمه فعدا على �أفكار غريه ،خ�صو�صاً على الأفكار التي كان ي�ستوثق من �شدة قبولها عند ال�شعب وت�أثريها فيه،
جنون اخللود
87
ك�أفكار الدكتور خليل �سعادة ،فلم ميهله حتى وفاته و�أخذ من �أفكاره و�أقواله ما �شاء معتمداً على �سخاء ذلك املفكر الكبري وت�ساهله يف حقوقه مع امل�ست�أدبني من مواطنيه ،فح�شا ببع�ضها بع�ض ق�صائده وح�شا البع�ض الآخر بع�ض نرثه ،ومل يقت�صر على �أفكار الدكتور خليل �سعادة كما �سيجيء. الإقتبا�س ال يغري طبيعة املقتب�س ،وكما �أن �أ�شجاراً معينة لي�ست �صاحلة لإنبات و�إنتاج «طعم» من �أ�شجار �أخرى معينة كذلك بع�ض الك ّتاب وال�شعراء لي�سوا �صاحلني لتنمية الأفكار التي يقتب�سونها من بع�ض الك ّتاب الآخرين فيبقون على طبيعتهم التي تطل من ثنايا الكالم املق�صود تغطيتها باقتبا�سه وانتحاله. عي ر�شيد اخلوري يطل من ثنايا الأفكار وال�صور التي �أخذها عن الدكتور خليل هكذا نرى ّ �سعادة ليوهم النا�س �أنه كاتب مفكر ف�ض ًال عن كونه «�شاعراً مف ِلقاً». �إىل �أية نتيجة ينتهي ر�شيد اخلوري من انتحاله تهكم الوطني الكبري ،الدكتور �سعادة ،على الذين طلبوا من ال�شعب �أن يثق «بالأم احلنون»؟ �إذا كانت جمموعة كتابات العالمة الدكتور خليل �سعادة لي�ست �أمامنا الآن فقريباً يكون ٍ وحينئذ ندل الق ّراء على �صور الأفكار واملعاين كما ر�سمها قلم ق�سم كبري منها بني �أيدينا ذلك الوطني الكبري الذي ي�سميه ر�شيد اخلوري نف�سه ،يف ق�صيدته الت�أبينية له «�أبا الأحرار». ولكن يح�ضرنا الآن بيتان من ق�صيدته الثورية التي نظمها وهو بعد يف بوي ُن�س �آير�س قبل انتقاله �إىل الربازيل وهما هذان: و�أم ًا حنون ًا حت�ضن الطفل مر�ضعا يقول لكم قوم :نريد حماية �شببنا عن الأطواق �إ ّنا لأم ٌة لها �ساعد يفري احلديد املدرعا ونحن نعلم علم اليقني �أن ر�شيد اخلوري قر�أ هذه الق�صيدة ،كما قر�أ كل ما كتبه الدكتور �سعادة يف الربازيل وكثرياً مما كتبه يف الأرجنتني. ومع �أن اخلوري اقتب�س هذا املعنى وغريه من املعاين الروحية اجلليلة للدكتور �سعادة وانتحلها لنف�سه ،ف�إن النتيجة التي انتهى �إليها هي نتيجة زرية ،هي هذه النتيجة« :ذودوا عن بيوت
88
�أنطون �سعادة
�آبائكم و�أجدادكم! و�إذا كان ي�شق على �أيديكم احلريرية الناعمة �أن جتلد بال�سياط وت�ضرب () بال�سيوف فحاربوا ب�سعف النخل و�أغ�صان الزيتون! حاربوا بال�سالم! حاربوا بالغندية!» وهذا القول يقوله اخلوري يف معر�ض الكتابة النرثية! والنرث لي�س كالنظم فال �أوزان وال روي حتول دون �إف�صاح الكاتب عن كيفية املحاربة ب�سعف النخل و�أغ�صان الزيتون قوايف وال ّ واملحاربة بال�سالم ،وعن النتيجة العملية التي ت�ؤدي �إليها هذه املحاربة! لقد حارب ال�سوريون حروباً غري قليلة بالبنادق التي هي �أفعل كثرياً من �سعف النخل و�أغ�صان الزيتون ،فكيف ينكر عليهم «القروي» حروبهم ويجهل �أو يتجاهل نتيجة تلك احلروب؟ نحن ال نطلب منه �أكرث من االعرتاف بهذه احلقيقة ،وال نطلب منه تبيان الأ�سباب التي انتهت بتلك احلروب �إىل الف�شل واخل�سران� .إننا ال نطلب من اخلوري ما هو فوق طاقته العقلية التي قام الدليل تلو الدليل على �أنها حمدودة جداً وال ميكن تو�سيعها. طبيعة ال�صخب والزحري والتحري�ض العاجزة تعود فتظهر من حتت ما جمع ر�شيد اخلوري فوقها من �أقوال عظماء املفكرين .وهو ،لي�سرت عجزه ،ال ينفك يرمي غريه بالعجز ،بل هو يرمي ال�شعب كله باحلقارة .فهو الذي نادى اهلل �أن يذوق �أبناء وطنه �أمله ليثوروا� ،أما كان الأحرى ٌ ماخ�ض به �أن يلطم وجهه ويندب حظه بد ًال من تعيري �آخرين� .أنظر �إليه يقول« :فالبالد باحلوادث اجل�سام تنتابها اخلطوب عدد �أنفا�سها ،و�أبنا�ؤها بني متهافت على وظيفة يخ�سر نف�سه لريبحها وعابد بغياً ي�سفح �شبابه على �أقدامها و«عالك» �أوزان ...واقف وقفة الغ ّر الأبله». ف�أين هو و�أين كان هو؟ �إنه يقول يف مقالة �أر�سلها م�ؤخراً �إىل «العامل العربي» وهي ال�صحيفة الوحيدة التي بقيت �سني لتعزيته� ،إن ق�صيدته املعيبة «من ذاق �شهدك مل يخف من ّ �سمك» هي من منظومات ِّ العقد الثاين الأوىل من حياته .ف�إذا كان ذلك �صحيحاً فال يكون هو �إال يف مقدمة من ينعى عليهم �إ�ضاعة زهرة �شبابهم يف الرذائل. �إن �إبن �إثنتني وع�شرين �سنة �إذا كانت له نف�س �سامية فهي ترتدع عن �إتيان املنكر وتتجه نحو املثل العليا اجلميلة. 1
جنون اخللود
89
لن�صغ �إىل الزحري والندب ول َرن كيف يقدر «ال�شاعر القروي» على رمي القيم العالية �أخرياً ِ �إىل احل�ضي�ض ،فهو يقول يف ختام مقدمته�« :أال لبيك �أيتها الأم ال�شاكية يف وحدتها ،الباكية يف وح�شتها� ،إننا على ما بيننا من �شا�سع البعد نتلقى روحك الذائبة مبيازيب �أجفاننا ،ونرافق �أ ّناتك املذيبة بوجيب �صدورنا ،نحن بني غربة تدمي قلوبنا ،وجهاد يدمي �أقدامنا ،وحرمان يدمي عيوننا� ،إلخ». �إن العاجز ال يقدر على م�ساعدة وطنه بغري النحيب ووجيب ال�صدر .وهذا �أمر مقرر عند علماء النف�س� .أما ت�سمية الكدح وراء الرزق والأرباح التجارية «جهاداً» فابتكار يف حتقري القيم الروحية العالية يجب �أن ن�سجله ملن قد كوى حب اخللود قلبه. و�إن من الوقاحة املتناهية �أن يرمي هذا العاجز عن �إجناد وطنه بغري دموعه زعيم احلركة ال�سورية القومية الذي �أجاب ا�ستغاثة وطنه بالعودة �إليه بعد ق�ضاء واجب عائلي والقيام ب�أعظم نه�ضة يف تاريخ �سورية وال�شرق الأدنى!
اهلوامش - 1املق�صود الزعيم الهندي غاندي ( )1948 - 1869الذي واجه اال�ستعمار الربيطاين بالن�ضال ال�سلمي.
90
�أنطون �سعادة
«عالك» أوزان يف جمال حماضر قلنا يف املقالة الأوىل من هذا ال�سل�سلة �إنه مل يكن ب�أ�س ،حني كان ر�شيد �سليم اخلوري ناظماً يحبذ ،على طريقته ،كل حركة �أو مظهر وطني ،ب�سماع منظوماته مع الإغ�ضاء عن عواهنها .وهكذا �أخذ اخلوري ُيكرث من النظم ،وكان النظامون يف الربازيل قليلني .وكانت كل جمعية ،خريية كانت �أم �أدبية �أو �سيا�سية ،تدعوه لإلقاء ق�صيدة يف حفلة تقيمها ،وذلك جرياً على القاعدة املدر�سية القدمية التي تقول بوجوب تخلل الق�صائد اخلطب لكي ت�أتي احلفلة �أنيقة متنوعة فكان ال بد من الإلتجاء �إىل ناظم يل ّبي الطلب .وكان ر�شيد اخلوري �أكرث تلبية ،لأن ال�شهرة غرارة مغرية ،ف�صار يقف على املنابر يف احلفالت الت�أبينية والإكرامية ويف الوالئم والأعرا�س .وال�صحف كانت تن�شر يف �أخبارها املحلية حوادث احلفالت واخلطب والق�صائد التي قيلت .وبالتدرج �صار ر�شيد اخلوري معروفاً يف جميع �أو�ساط الربازيل ،ثم �صار يت�صل ببع�ض ال�صحف واملجالت يف م�صر وير�سل �إليها الق�صائد فكانت تن�شرها له كما تن�شر مقاالت لأي �شخ�ص يقدر �أن يدبر لها م�شرتكني ويقوم بالإذاعة لها .وكم من ق�صيدة �أر�سلها ر�شيد اخلوري �إىل �أكرث من �صحيفة عار�ضاً عليها �أن تن�شرها «�إذا راقت لها». والظاهر �أن ر�شيد اخلوري ن�سي هذه احلقائق حني كتب �إىل «العامل العربي» يف هذه املدينة (بوي ُن�س �آير�س) مقالته التي ن�شرتها له ال�صحيفة املذكورة يف عددها ال�صادر يف 5مار�س (�آذار) املا�ضي ،خ�صو�صاً حني قال هذه العبارة عن نف�سه� ،إنه ال يجوز لأحد �أن يظهر عيوب �أدبه ،لأن ذلك يكون «ا�ستخفافاً بعقول ع�شرات فحول الأدب الذين �شهدوا له بال�شاعرية ومبئات و�ألوف غريهم من الأدباء واملت�أدبني الذين يتنا�سخون ق�صائده ويحفظونها عن ظهر
جنون اخللود
91
قلب .وب�شتى ال�صحف واملجالت يف ال�شرق والغرب التي تتناقل �شعره ونرثه». �أما «ع�شرات فحول الأدب» الذين يعنيهم فهم �أمثال �شكيب �أر�سالن و�أمني الريحاين من �سيا�سيـي الأدب ،و�أمثال ح�سن كامل ال�صرييف املطلوب منه تقريظ الكتب التي ترد �إىل بع�ض املجالت امل�صرية بق�صد اكت�ساب مودة �أ�صحابها ،وبع�ض �أدباء الطراز العتيق الذين مل يكونوا يرون ال�شعر غري �أوزان متنا�سقة و�ألفاظ جزلة ٍ وقواف �سهلة ون�سيب جميل وغزل ممتع وهجو �شديد ،وغري ذلك من الأدب اللفظي الذي ال عالقة له بقوة الت�صور وابتداع الفكرة. وقد عر�ضنا له�ؤالء «الفحول» يف احللقة الثالثة فلرياجعها من يهمه الأمر هناك. و�أما «�شتى ال�صحف واملجالت» فقد ذكرنا حقيقة �أمرها يف ما تقدم من هذا املقال وفيه كفاية ملن مل يكن ق�صده اجلدل اململ بق�صد املماحكة. بقي �أن نقول �إنه وردت يف مقالة اخلوري املذكورة عبارات �أر�سلها اعتباطاً كعادته ،فخرج من دائرة البحث الأدبي �إىل دائرة �أخرى يلذ له الدوران فيها ،فتكلم على «ناه�شي �أعرا�ض ك�أرذل الغوغاء» وهو يريد كاتب هذا البحث .وال�سبب يف التجائه �إىل هذا ال�سب ،على ما يظهر ،هو تناولنا بالبحث ق�صيدته التي يروي فيها حادثة وقعت له مع فتاة �أو ت�صور جمال �سمك» .والتجا�ؤه �إىل هذه وقوعها له وهي التي يقول فيها« :من ذاق �شهدك مل يخف من ّ الطريقة لتربير �س ّبه لي�س �سوى دليل جديد على ا�ضطراب �شعوره واختالل منطقه .فنحن مل نَ ْق ِف �أثراً من �آثار حياته اخلا�صة ومل نرمه ،ال �سراً وال جهراً ،ب�شيء من �أ�شيائه اخل�صو�صية كما حاول �أن يفعل هو �ضد زعيم احلركة ال�سورية القومية باختالقه �أ�شياء عن خ�صو�صياته اختالقاً ،ولكننا تناولنا فقط ما �أبداه هو من قول �أو كتابة مما له عالقة وثيقة بالأمور العمومية. نحن مل نتناول �سرية ر�شيد اخلوري الداخلية ،مع �أنه عندنا منها بع�ض اخلرب مما و�صل �إلينا اتفاقاً .و�إذا كانت طبيعة ر�شيد اخلوري قد انك�شفت بوا�سطة هذه املقاالت و�إذا كانت حيوانية ت�صوراته قد ظهرت بهذا املظهر الباهر ،فذلك لأنه هو الذي هتك �سرته بيده وخرق عر�ضه بقلمه� .إنه هو الذي نظم تلك الق�صيدة احليوانية املعيبة التي �ص ّور بها �شهواته و�إح�سا�ساته �أبدع ت�صوير .ونحن مل نتناول احلادثة بالذات ،بل تناولنا الق�صيدة التي نظمها هو نف�سه
92
�أنطون �سعادة
يف احلادثة ،لأن هذه الق�صيدة هي جزء من منظوماته التي نعاجلها .ف�إذا كان هنالك نه�ش �أعرا�ض (وهذه العبارة قد نقلها نق ًال ،على عادته ،عن بع�ض مقاالت قومية كتبت يف بع�ض املطرودين الذين �أخذوا ينتقمون بنه�ش الأعرا�ض) فهو هو الناه�ش ال غريه. وقد حاول �أن ي�سرت «ال�شاعر ال�شهري» ف�ضيحته بن�سبته تلك الق�صيدة �إىل «�أوائل العقد الثاين» من عمره� ،إىل �سن ترتاوح بني احلادية ع�شرة والثالثة ع�شرة .ونحن قد لطفنا هذا املقدار يف املقال ال�سابق فجعلنا العقد الثالث يف مكان الثاين ،وتكلمنا عن �إبن �إثنتني وع�شرين �سنة من اجلهل .ف�إذا �شاء �أن نعود عن هذا التلطيف كان ذلك �شراً له ،لأنه �إذا كان �صحيحاً �سني الطهارة واملحبة �أن الق�صيدة املذكورة نظمت يف �سني العقد الثاين الأوىل وهي بعد ّ ال�ساذجة ،فيا بئ�س ناظم �شب على هذه ال�شهوات والت�صورات القبيحة! وحاول �أن يجد «القروي» م�سوغاً لن�شر تلك الق�صيدة التي تك�شف ناحية عميقة من نف�سيته املادية بالقول �إنه« :حر�ص على �إثباتها مع ذكريات تلك ال�سن» .ولو كان هذا هو ال�صحيح لكان املنطق يق�ضي عليه بتخبئتها بني حمفوظاته اخل�صو�صية ،كما �أ�شرنا منذ البدء ،يف املقالة الثانية التي ذكرنا فيها هذه الق�صيدة لأول مرة .فنحن كنا غيورين على عر�ضه �أكرث من غريته هو عليه حني قلنا يف هذا ال�صدد يف املقالة الثانية املن�شورة يف العدد 102من «�سورية اجلديدة» هذه العبارة« :والق�صيدة كلها ت�صور �شخ�صي حلالة خ�صو�صية تتعلق بالناظم وحده .وكان يجب �أن تبقى من خ�صو�صياته الداخلية التي ال لزوم لإطالع غريه عليها». وال نتناول باقي مقال اخلوري �إىل «العامل العربي» بكثري �أو قليل ،لأنه ال ميثل غري ادعاء �سخيف هو مزيج من مكابرة ال�صغار وحنق القا�صرين .وفيه حماولة هزيلة لتقليد كتابة كاتب هذا البحث وانتحال عباراته كقوله «حني �أرى و�أ�سمع عرباً ي�س ّبون جن�سهم وقومهم �أقبح ال�سب» الذي لي�س �سوى تقليد ملا �أظهرناه يف املقاالت ال�سابقة من التجاء ر�شيد اخلوري ،يف ّ كل منا�سبة� ،إىل حتقري ال�سوريني ورميهم بطبيعة العبودية ليظهر هو مبظهر الأبي الأوحد .وال حاجة للعودة بالق ّراء �إىل جميع ال�شواهد التي تقدمت. ويجب �إ�ضافة هذا التعليق على مقال اخلوري وهو �أنه يرى الأبحاث الأدبية نوعاً من الرتامي
جنون اخللود
93
ال�شخ�صي باملهاترة .فهو يتكلم عن «ر�شق النا�س من وراء جدران الأ�سماء»� ،أي خيفة من �أن يتعر�ض الرا�شقون للر�شق .فامل�س�ألة عنده هي م�س�ألة ترا�شق �شخ�صي .وهذا يعني �أنه ،لعجزه عن الدفاع عن منظوماته ومنثوراته يف ذاتها ،يريد �أن ير�شق الذي �أبان عيبها للنا�س كما يثبت ذلك يف قوله« :ولقد يروقني �أحياناً �أن �أت�سلى بهجو بع�ض هذه الغيامل التي يزعجني نقيقها ليل نهار ،والهجو باب من �أبواب ال�شعر العربي (ومن �أبواب النرث �أي�ضاً يا نا�سي) ينفتح يل على م�صراعيه عندما �أريد� ،إلخ» .فالتطاحن ال�شخ�صي بالهجو هو كل ما فهمه ويفهمه اخلوري من غر�ض النقد الأدبي .ولقد قلنا يف املقالة ال�سابقة �إننا ال نكلف اخلوري فليهج �سراً وعلناً ما طاب له الهجو وما وجد لتفريج كربه به �سبي ًال فلي�س ما هو فوق طاقته ُ ذلك مبانعنا عن متابعة بحثنا لإي�ضاح احلقائق و�إرجاع القيم الأدبية �إىل منزلتها ال�سامية التي حطها عنها «عالكو» الأوزان الذين ميثلهم ر�شيد اخلوري �أح�سن متثيل ،وهو ما يجعلنا ن�سهب يف هذا البحث ،لأن امل�س�ألة لي�ست م�س�ألة «عالك» �أوزان واحد يتهم غريه «بعلك» الأوزان ليدفع الأنظار عنه ،بل م�س�ألة «عالكني». نعود الآن �إىل متابعة البحث يف غر�ض هذه املقاالت الأ�سا�سي الذي هو تبيان الأدب االنحطاطي و�أ�ضراره على نف�سية ال�شعب وتبيان عوامل النف�سية املخربة التي تدفع �أ�صحاب هذا الأدب �إىل العيث ف�ساداً يف ال�شعب ،والعبث ُمبثله العليا و�إرجاعه �إىل الفتنة والأحقاد الدينية التي �أتلفت الزرع و�أهلكت ال�ضرع. وبعد �أن فرغنا من �إي�ضاح حقيقة «�شاعرية» ر�شيد اخلوري و�إعطاء منظوماته الوطنية والالوطنية قيمتها ،مند هذا الدر�س يف الأدب �إىل «حما�ضرته» التي ن�شرها يف �صحيفة «الرابطة» التي ت�صدر يف �سان باولو ،الربازيل ،يف �سل�سلة �أعداد ابتدا ًء من العدد 527ال�صادر يف 8يونيو (حزيران) املا�ضي وانتها ًء يف العدد 541ال�صادر يف � 14سبتمرب ( �أيلول) املا�ضي وعدد �أق�سامها �ستة .ومو�ضوع «املحا�ضرة» املذكورة «امل�سيحية والإ�سالم» وغر�ضها تف�ضيل الدين الإ�سالمي على الدين امل�سيحي. �إن هذه «املحا�ضرة» التي تعيد تفكرينا �إىل العهود الأولية امل�ش�ؤومة اجلديرة بالنقد الدرا�سي، لأنها من �أف�ضل الأمثلة على قحة «الواغلني» على الأدب الذين يذكرهم ر�شيد اخلوري وال
94
�أنطون �سعادة
يذكر نف�سه بينهم ،كما �أغفل ذكر نف�سه مع «عالكي» الأوزان الذين �أ�شار �إليهم يف مقدمة «�أعا�صريه» ،وعلى �سف�سطة القافزين فوق �سياجات العلم والفل�سفة. �إن البحث يف طبيعة دينني جليلني كامل�سيحية والإ�سالم يجب �أن ت�ستتب له �شروط �سابقة من الت�ضلع يف العلم والفل�سفة .ففي هذا البحث ال يكفي الغو�ص على املفردات اللغوية والتدقيق يف �أ�شكال العرو�ض ،وال يفي به اال�ستعارات من كبار الك ّتاب وال جتدي �أ�ساليب البيان والبالغة يف �صوغ العبارة. وقد عرفنا ر�شيد �سليم اخلوري ناظماً وناثراً ولكننا مل نعرفه من �أهل الفكر والبحث ،فهو �أبعد ما يكون عن التفكري والبحث والدرا�سة واال�ستق�صاء .وقد ر�أينا من الدرا�سة املتقدمة ملنظوماته �أنه لي�ست لها فكرة �أ�سا�سية و�أن موا�ضيعها م�ستمدة من ال ِف َكر ال�شائعة يف بيئته، ولكنه �أبى �إال �أن يغل على املباحث الفل�سفية والعلمية ظاناً �أن الكالم فيها كالكالم يف غريها« ،وكله عند العرب �صابون». قر�أنا «حما�ضرة» اخلوري يف امل�سيحية والإ�سالم فوجدناها �أبعد ما يكون عن �أ�صول املحا�ضرات و�شروطها و�أجدر �أن ت�سمى باحلار�ضة من �أن ت�سمى حما�ضرة .وما �أقدم ر�شيد اخلوري على ح�سبان كالمه حما�ضرة �إال جلهله مفاد لفظة املحا�ضرة العلمي و�أ�صولها و�شروطها .فاملحا�ضرة ا�صطالح علمي يقابل ا�صطالح الفرجن على لفظة «كنفرن�سيا» وهي عند العلماء يف دوائرهم ا�سم نوع للأبحاث اجلليلة التي يقوم بها علماء و�أهل الدر�س والبحث والتنقيب ،بق�صد الو�صول �إىل حقيقة �أ�سا�سية �أو نتيجة علمية باال�ستقراء والتحليل والتعليل يف جو من العلم والفل�سفة هاديء ،بعيد عن النعرات من ّزه عن التع�صب .ومن �أهم �شروط املحا�ضرة وامتيازها على اخلطاب �أنها تكون در�ساً هادئاً ال التجاء فيه �إىل ا�ستفزاز ال�شعور وال�ضرب على الوتر احل�سا�س من حزبية �أو ع�صبية عند اجلمهور �أو ميول جاحمة .ومن �شروط املحا�ضر �أن يتجنب كل ما من �ش�أنه �إثارة ال�شعور والتحري�ض والتهو�س .ف�إذا خلت هذه ال�شروط مل تكن هنالك حما�ضرة .وملا كان ر�شيد اخلوري يجهل هذه الأغرا�ض العلمية ال�سامية ويجهل �أ�صول املحا�ضرة و�شروطها والفرق بينها وبني اخلطاب فقد ظن �أن الفرق بني املحا�ضرة واخلطاب هو يف الطول والق�صر وعدد الكلمات .ف�إذا كان اخلطاب طوي ًال �صار ،يف عرفه ،حما�ضرة .و�إذا
جنون اخللود
95
كانت املحا�ضرة ق�صرية كانت ،يف عرفه ،خطاباً. واحلقيقة التي ن�ستخرجها من درا�ستنا ل�شخ�صية ر�شيد اخلوري الأدبية هي �أنه ال مييز يف كل ما يقال ويكتب �إال بني �شيئني :النظم والنرث .فما كان مرتباً يف �أوزانٍ ٍ وقواف فهو نظم وما كان مر�س ًال عبارات وجم ًال تامة باملعنى واملبنى من غري ترتيب �أوزان وال تن�سيق ٍ قواف فهو نرث. فكل كالم غري موزون لي�س له عنده غري �صفة النرث .وهكذا الأدب والعلم والفل�سفة والفن لي�ست عنده �سوى �أ�شكال من النظم والنرث ،ولذلك �سمى نرثه يف امل�سيحية والإ�سالم حما�ضرة� ،أي نرثاً طوي ًال! يقول ر�شيد اخلوري �إن الهجو ينفتح له على م�صراعيه عندما يريد ،وهذا هو الواقع .والواقع �أي�ضاً �أنه ميال �إىل الهجو و�أنه يرتدد كثرياً بني الهجو واملدح .وكالمه على امل�سيحية والإ�سالم لي�س �سوى هجو للم�سيحية ومدح للإ�سالم يف �شكل نرثي ،فهو ال ي�صح �أن ي�سمى خطاباً يثري ال�شعور احلي لق�ضية حقة ،ف�ض ًال عن �أنه ال ي�صح �أن ي�سمى حما�ضرة. وفيما ر�شيد اخلوري يظن �أنه ميدح الإ�سالم �صدقاً ويهجو امل�سيحية حقاً� ،إذا به يطعن الإ�سالم يف �صميم عقيدته من حيث ال يدري ،لأنه يعتقد �أن التدجيل والرياء ي�سرتان القبائح ،ونحن ال ن�صدق �أن م�سلماً واحداً مدركاً حلقيقة ر�سالة النبي العربي يقبل كالم اخلوري الذي ظاهره ت�أييد للإ�سالم وباطنه هدم للعقائد الإ�سالمية ال�صحيحة ،و�سيجيء تبيان ذلك( ). 1
اهلوامش - 1الق�سم الثاين من هذه ال�سل�سلة ُين�شر م�ستق ًال يف كتاب يتناول «امل�سيحية واملحمدية والقومية».
فهرساألمساء �أ
�إبن �سعود53 : �أديب ،خالد23 :
خ
اخلويل ،بول�س42 :
د
�أر�سالن� ،شكيب91 ،64 ،63 ،36 ،19 : �أ�سب�سه ،فرن�سي�سكو بليا52 ،48 : �أيا�س ،م�أمون72 ،66 ،65 :
دي �أبرايو ،كازمريو27 :
دي ديو�س بي�سا ،خوان29 :
ب
ر
بحلي�س ،وليم36 ،8 : ب�شر بن عوامة67 ،62 : بندقي ،توفيق8 ،7 : بندقي ،جورج13 ،8 ،7 : بندقي ،ف�ؤاد8 ،7 :
ث
ثابت ،نعمة72 :
ح
حداد� ،إبراهيم71 ،70 : حداد ،جورج73 ،71 :
الريحاين� ،أمني91 ،63 ،36 :
�س
�سعادة� ،إدوار8 :
�سعادة ،خليل،68 ،43 ،38 ،19 ،18 : 87 ،84 ،83 ،82 ،81 ،77
�ش
�شكور ،ر�شيد23 : �شهاب ،فريد72 ،71 :
�ص
�صوايا ،جورج29 :
ال�صرييف ،ح�سن كامل91 ،36 :
ع
عا�صي� ،إليا�س59 :
عبد امل�سيح ،جورج72 : عبده ،ال�شيخ حممد9 : الع�سراوي ،جنيب9 : العظمة ،نبيه23 :
غ
امللك غازي53 : غازي� ،سليم29 : غاندي89 : الغريب ،عارف71 :
ف
فرح ،ميخائيل59 ،58 : فرحات� ،إليا�س59 ،54 ،25 ،18 : فرويد� ،سيغموند46 : امللك في�صل53 :
ق
قربان ،توفيق36 : قن�صل ،زكي23 ،21 :
ك
كريوز ،حبيب10 :
م
جماع�ص� ،سليم10 : م�سوح ،جربان76 ،23 ،9 : املعري� ،أبو العالء38 ،17 : معلوف ،فخري72 :
ن
نا�صيف ،يعقوب9 :
هـ
الها�شم ،عزيز70 : هاين بعل82 :
ي
اليازجي� ،إبراهيم42 :