تحولات مشرقية - العدد 3

Page 1

‫العدد رقم ‪- 3‬‬

‫�آذار ‪2014‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬ ‫�أمني البا�شا‬ ‫عن احلرب العاملية والفن وبريوت‬ ‫حممود حيدر‬ ‫ثورات م�ستباحة‬ ‫�إميل عكرا‬ ‫البعد االجتماعي لتك ّون املدينة‬ ‫حيدر حاج ا�سماعيل‬ ‫الفردية والنزعة الفردية‬ ‫مقابل حم ّبة الآخر (فيليا)‬ ‫وفيق غزيزي‬ ‫امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫‪2014 - 1914‬‬

‫من املجاعة والتق�سيم �إىل تق�سيم التق�سيم‬


‫تقف اللجان بني �أخذ ورد وتقتل �أوقاتها مبناق�شات‬ ‫عقيمة وجمادالت �سقيمة واملوت يح�صد يف خالل‬ ‫هذه الفرتات الذهبية �صفوفه ح�صد ًا‪ ،‬ومتى اتفقت‬ ‫�آرا�ؤهم قد ال يبقى من لزوم لر�أي على الإطالق‪،‬‬ ‫لأن الذين من �أجلهم �أقيمت اللجان واختلفت‬ ‫الآراء يكونون قد رحلوا �إىل ديار الأبدية‬ ‫الدكتور خليل �سعاده‬


‫العدد رقم ‪- 3‬‬

‫�آذار ‪2014‬‬

‫فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق‬

‫املحتويات‬ ‫ر�أي‬ ‫من التق�سيم �إىل التفتيت‬ ‫�سليمان بختي‬

‫درا�سات و�أبحاث‬ ‫‪3‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014–1914‬‬

‫ثورات م�ستباحة‬ ‫حممود حيدر‬

‫‪91‬‬

‫الفردية والنزعة الفردية مقابل حم ّبة‬ ‫الآخر (فيليا)‬ ‫‪117‬‬ ‫حيدر حاج ا�سماعيل‬

‫َخطب لبنان و�سوريا‬ ‫الدكتور خليل �سعاده‬

‫‪7‬‬

‫يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل‬ ‫جنيب ن�صري‬

‫‪11‬‬

‫حتوالت الفكرة القومية يف امل�شرق العربي قبيل‬ ‫احلرب العاملية الأوىل وبعدها‬ ‫�أ�سامة �سمعان‬

‫‪17‬‬

‫انعكا�سات نتائج احلرب العاملية االوىل على امل�شرق‬ ‫علوان نعيم �أمني الدين‬

‫‪41‬‬

‫عن احلرب العاملية والفن وبريوت‬ ‫�أمني البا�شا‬

‫ق�صة جمموعة الفيكونت فيليب دي‬ ‫طرازي ال�صحافية‬ ‫جنيب البعيني‬

‫‪51‬‬

‫امل�شرقي يف احلرب الأوىل‬ ‫الوجه ال ّثقا ّيف‬ ‫ّ‬ ‫ل�ؤي زيتوين‬

‫امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب‬ ‫‪149‬‬ ‫وفيق غزيزي‬

‫‪55‬‬

‫ال�شعر العربي احلديث‬ ‫حممود �شريح‬

‫‪67‬‬

‫مائة عام على «دمعة وابت�سامة» جلربان‬ ‫�سليمان بختي‬

‫‪83‬‬

‫االعالم‪ :‬اال�ست�شراق اجلديد‬ ‫و�سام عبد اهلل‬

‫‪87‬‬

‫عمارة‬ ‫البعد االجتماعي لتك ّون املدينة‬ ‫�إميل عكرا‬

‫‪129‬‬

‫حتوالت �أدبية‬ ‫‪141‬‬

‫وقائع م�شرقية‬ ‫امل�سيحية امل�شرقية‪ ...‬حتديات وحلول‬ ‫و�سام عبد اهلل‬

‫‪157‬‬


‫حتوالت م�رشقية‬

‫ف�صلية‪ ،‬فكرية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة‬

‫هيئة التحرير‬

‫فاتن املر‬ ‫عاطف عطية‬ ‫ح�سن حماده‬ ‫ن�صري ال�صايغ‬

‫�سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫�سليمان بختي‬ ‫�سركي�س �أبو زيد‬

‫املدير امل�س�ؤول‪� :‬سركي�س �أبو زيد‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪abouzeid@gmail.com :‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 751541 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-7179 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫االخراج الفني‪ :‬عالء �صقر‬

‫ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‬

‫بناية ر�سامني‪� ،‬شارع احلمرا‪ ،‬ر�أ�س بريوت‪،‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 113-5557 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)00961-1( 753363 :‬‬ ‫فاك�س‪)00961-1( 753364 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪saadehcf@idm.net.lb :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.saadehcf.org :‬‬ ‫ت�صدر مبوجب قرار رقم ‪ 82‬تاريخ‬ ‫�صادر عن وزارة االعالم اللبناين‬

‫‪1981/7/6‬‬

‫ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان‬ ‫مدير عام طبعة فل�سطني‪� :‬سعاده م�صطفى �أر�شيد‬ ‫هاتف‪0599305248 :‬‬ ‫�صندوق بريد‪ 41 :‬جنني ‪ -‬فل�سطني‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬لبنان‬

‫للأفراد‪ 50 :‬دوالراً �أمريكياً‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬

‫توزيع‪ :‬النا�رشون‬

‫اال�شرتاك ال�سنوي ‪ -‬خارج لبنان‬

‫بريوت ‪ -‬امل�شرفية‪� ،‬سنرت ف�ضل اهلل ‪ -‬طابق‬ ‫هاتف وفاك�س‪)00961-1( 277007 - 277088 :‬‬ ‫خليوي‪)00961-3( 975033 :‬‬

‫‪4‬‬

‫للأفراد‪ 100 :‬دوالر �أمريكي‬ ‫للم�ؤ�س�سات‪ 200 :‬دوالر �أمريكي‬

‫املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها‬


‫ر�أي‬ ‫من التق�سيم �إىل التفتيت‬ ‫مائة عام م�ضت على احلرب العاملية الأوىل وما زال العامل يعي�ش �أ�سبابها ونتائجها وتداعياتها‪.‬‬ ‫وما زالت احلروب تولد يف عقول الرجال والن�ساء ومتوت فيها‪ .‬مائة عام وما زلنا نحلم بعامل‬ ‫بال حروب‪ ،‬بنظام عاملي بال ظلم‪ ،‬مبجتمعات بال عنف‪ ،‬بعامل عربي م�ستقر‪ ،‬وال يزال الـدرب‬ ‫جمهو ًال‪.‬‬ ‫روى لنا غري مرة الدكتور زين نور الدين زين �أ�ستاذ التاريخ يف اجلامعة االمريكية يف بريوت‬ ‫�أنه كان يف زيارة �إىل �أحدى املتاحف يف النم�سا ووجد هناك العربة التي اغتيل فيها ويل عهد‬ ‫النم�سا االر�شيدوق فردنياند وزوجته يف حزيران ‪ 1914‬على يد �شبان متمردين من ال�صرب‪.‬‬ ‫وراح زين زين ي�ستعذب القول �إن التاريخ نلم�سه ونح�سه ون�شمه ونتذوقه‪ ،‬وراح يتلم�س‬ ‫با�صابعه �آثار الر�صا�صات يف العربة ويقول «تلك الر�صا�صات �أ�شعلت احلرب العاملية االوىل»‪.‬‬ ‫ولكنه وجد ر�صا�صتني وراح يفت�ش منهمكاً عن الر�صا�صتني الباقيتني م�ستذكراً �أنهم �أطلقوا‬ ‫عليه �أربع ر�صا�صات‪ .‬ولبث يفت�ش ومل يجد حتى قالت له زوجته الر�صا�صة الثالثة والرابعة‬ ‫�أ�صابته و�أ�صابت زوجته و�أردتهما‪.‬‬ ‫وال�صحيح �أن تلك احلادثة كانت �سبباً مبا�شراً للحرب ولكن الأ�سباب االعمق كانت يف‬ ‫ال�سباق �إىل الت�سلح والتحالفات واالمربيالية والقوميات‪ .‬وكل هذه املفاهيم ال تزال �سارية يف‬ ‫القرن احلادي والع�شرين واعادت ت�شكيله ولو مع فوارق على ما يقول الإجتهاديون‪ .‬ولكن ماذا‬ ‫كان يحدث يف بالدنا؟ كانت املنطقة مع ظل احلكم العثماين (رجل ال�شرق املري�ض) وكان‬ ‫التململ يف �أوجه والبحث عن م�شاريع قومية �سورية وعربية خارج �إطار تركيا وغالباً مب�ساعدة‬ ‫قوى �أوروبية ( فرن�سا �أو بريطانيا) قيد التح�ضري والتداول‪.‬‬ ‫يف بريوت كان الوايل عزمي بك يوجه جهوده �إىل تطوير احلياة الزراعية يف والية بريوت‪.‬‬ ‫وتقررت ميزانية الزراعة اخل�صو�صية لوالية بريوت يف عام ‪ 1914‬بعدما تقرر ت�أ�سي�س مكتب‬ ‫زراعي يف كل لواء من �ألوية بريوت‪ .‬و�أ�صدر الوايل امره بافتتاح مكتب االلبان يف ني�سان ‪1914‬‬ ‫وكانت والية بريوت ت�صدر �إىل �أوروبا حوايل خم�سة ماليني بي�ضة يف ال�سنة‪ .‬ونالت م�صنوعات‬ ‫‪3‬‬


‫ر�أي‬

‫بريوت الف�ضية والذهبية رغبة واقباال يف �أوروبا على ما يذكر د‪.‬ع�صام �شبارو يف كتابه «تاريخ‬ ‫بريوت» �ص ‪ .213‬ويف خرب �آخر من كتاب «بريوت يف التاريخ واحل�ضارة والعمران» لطه‬ ‫الويل �ص ‪ 111‬انه كان هناك نزاع بني احلكومة العثمانية ميثلها مديراملالية (الدفرتدار) وبني‬ ‫بلدية بريوت على حرج ال�صنوبر (حرج بريوت) �إذا حاول مدير املالية اال�ستيالء على احلرج‬ ‫واعرت�ض جمل�س �إدارة البلدية م�سج ًال �أن احلرج هو ملك االهايل ومتنزههم الوحيد‪ .‬وهكذا‬ ‫�سجل احلرج على �أنه من �أمالك البلدية‪.‬‬ ‫ويف بريوت �صدرت جملة «فتاة لبنان» يف كانون الثاين ‪ 1914‬وهي جملة �أدبية علمية روائية‬ ‫ملن�شئتها �سليمة �أبي را�شد‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1914‬كان جربان خليل جربان يكتب يف بو�سطن كتابه «دمعة وابت�سامة» ويكتب‬ ‫الر�سائل �إىل مي زيادة وماري ها�سكل وير�سم الفنانة االمريكية روث �سان دني�س‪.‬‬ ‫ويف العام ‪� 1914‬أنهى �أمني الريحاين روايته «زنبقة الغور» يف ماريدا ‪ -‬املك�سيك‪.‬‬ ‫ويف لبنان و�سوريا ومع دخول تركيا احلرب ا�ستفحلت معاناة اجلوع والهجرة و�سفربرلك‬ ‫والت�ضييق على احلريات‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1914‬كانت القوى اال�ستعمارية تخطط وتدبر لزرع �إ�سرائيل يف املنطقة واال�ستيالء‬ ‫على النفط يف املنطقة وتق�سيم العامل العربي‪.‬‬ ‫يف بداية القرن املا�ضي كان هناك ثالثة م�شاريع ح�ضارية بح�سب ما يقول د‪.‬حممد عابد‬ ‫اجلابري «امل�شروع احل�ضاري العربي وامل�شروع الغربي االوروبي وامل�شروع اال�سرائيلي» �أين‬ ‫�أ�صبحت هذه امل�شاريع بعد مائة عام‪ .‬كتب ال�شاعر العراقي �سعدي يو�سف ق�صيدة فيها‬ ‫الكثري مما حل يف العامل العربي «منذ العام ‪ 1916‬وحتى اليوم مل تزل االلغام على ال�سكة‬ ‫احلديد ‪ /‬ومل يزل لوران�س يقلب النظر يف ال�صحراء العربية»‪ .‬مر القرن ومل يحدث �شيء‪.‬‬ ‫قرن من �أجل الال�شيء‪.‬‬

‫‪4‬‬


‫ر�أي‬

‫مئة عام على احلرب العاملية االوىل والعامل العربي ينتقل من التق�سيم والتجزئة �إىل التفتيت‪.‬‬ ‫ومن التفتيت �إىل �أين؟ والدم ميتزج بالنفط‪ ،‬واليقني بالنفاق‪ ،‬واحلقيقة بالزيف‪ .‬والتاريخ‬ ‫بالأوهام والأ�ساطري‪.‬‬ ‫وال�س�ؤال‪ ،‬كيف ميكن �أن ن�ستعيد �إرادة التغيري؟ كيف نعيد بناء م�شروعنا احل�ضاري ون�ست�أنف‬ ‫دورنا يف التاريخ؟ كيف نعيد بناء االن�سان ‪ -‬القيمة ودوره يف املجتمع ؟ كيف نعيد االعتبار‬ ‫للعقل واحلرية والكرامة االن�سانية؟ كيف ننتقل من القبيلة �إىل املدينة؟ كيف ن�ساعد املا�ضي‬ ‫�أن مي�ضي وامل�ستقبل �أن يولد؟ كيف نعيد ترتيب االولويات وحتديد االهداف والآليات ؟‬ ‫�أ�سئلة كثرية حتتاج �إىل مدى زمني ولكن من قال �إن الهوية احل�ضارية ال ُتبنى يومياً ويف‬ ‫خ�ضم االحداث التحوالت التي جتبهنا‪.‬‬ ‫�سليمان بختي‬

‫‪5‬‬


‫�صدر حديثا ً‬

‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫خَ طب لبنان و�سوريا‬

‫‪2014 – 1914‬‬

‫‪1‬‬

‫الدكتور خليل �سعاده‬

‫ال تزال الأنباء الواردة �إلينا من �أنحاء �شتى تدل على مبلغ ال�ضيق وال�شقاء النازلني بوطننا التع�س‪،‬‬ ‫ومع �أن الأخبار التي وردتنا �سابقاً فيها غلو ومبالغة‪ ،‬فاحلقيقة �أن كثريين من ال�سوريني على نوع‬ ‫عام واللبنانيني على نوع خا�ص ميوتون جوعاً‪.‬‬ ‫�أطلعنا منذ ب�ضعة �أيام �أحد �أ�صدقائنا من م�شاهري جتار العا�صمة على كتاب ورده حديثاً من �أخيه‬ ‫يف املتني من قائم مقامية املنت يف لبنان جاء يف عر�ضه ما ي�أتي‪:‬‬ ‫«كل من يقدر على �إر�سال نقود �إىل �أهله ينقذهم من املوت جوعاً‪ ،‬فالذي يحدث يومياً يف لبنان‬ ‫خا�صة‪ ،‬ب�سبب اجلراد الذي �أتى �سابقاً وقلة الأمطار» وقد ق�ص املراقب ب�ضع كلمات منه‪.‬‬ ‫فمرور هذا الكتاب على يد املراقب‪ ،‬وبقاء هذه ال�شذرة فيه دليل وا�ضح على مبلغ ال�شقاء الذي‬ ‫حل بالوطن‪ ،‬وت�أييد للأنباء التي وردتنا من �أنحاء �شتى على ما �أملعنا �إليه يف حينه‪.‬‬ ‫فاملوت الأبي�ض حل ب�سوريا دون م�شاحة‪ ،‬وال يزال يفتك بها فتكاً ذريعاً وكل من يرمي �إىل ت�سكني‬ ‫الأفكار الثائرة واخلواطر امل�ضطربة �ضرب من الت�سكني الذي ال يجوزه �شرع �أو عقل‪ ،‬فالعاقل من‬ ‫فتح عينيه للخطر حتى يكون �أعرف بو�سائل اتقائه المن من �أغم�ضهما فيكون كالنعامة ت�ضع‬ ‫ر�أ�سها يف الرمال ال تب�صر ال�صياد الذي يجري القتنا�صها‪.‬‬ ‫ولقد كتبنا مراراً بهذا املو�ضوع‪ ،‬ويف املرة الأخرية �أن �إر�سال املال �إىل الوطن هو الو�سيلة الوحيدة‬ ‫الآن لإنقاذ مواطنينا من املوت جوعاً‪ ،‬فكل من يغرر باللبنانيني وال�سوريني ويزين لهم �أن ال جماعة‬ ‫ ‬

‫‪1‬‬

‫ ‬

‫النداء الرابع الذي وجهه الدكتور خليل �سعاده يف ت�شرين الأول �سنة ‪� 1916‬إىل �أبناء اجلالية ال�سورية يف‬ ‫الأرجنتني يحثّهم فيها بو�صفه رئي�ساً للجامعة ال�سورية على تقدمي العون وامل�ساعدة ملنكوبي املجاعة يف الوطن‪.‬‬ ‫ن�شر هذا النداء يف «املجلة»‪ ،‬اجلزء الثامن‪ ،‬ال�سنة الثانية‪ ،‬بون�س �أير�س‪ ،‬يف ‪ 1‬ت�شرين الأول �سنة ‪ .1916‬وي�صدر‬ ‫قريباً يف املجلد الأول من كتابات الدكتور �سعاده بعنوان «�سورية من احلرب واملجاعة �إىل م�ؤمتر ال�صلح»‪.‬‬ ‫‪7‬‬


‫يف الوطن يرتكب �إثماً نحو مواطنيه‪ ،‬وكذلك كل من يقول �إن بعدم و�صول الإعانات خ�صو�صية‬ ‫كانت عمومية‪.‬‬

‫�إر�سال املال �إىل الوطن هو الو�سيلة الوحيدة الآن‬ ‫لإنقاذ مواطنينا من املوت جوع ًا‪ ،‬فكل من يغرر‬ ‫باللبنانيني وال�سوريني ويزين لهم �أن ال جماعة يف‬ ‫الوطن يرتكب �أثم ًا نحو مواطنيه‬ ‫ن�شرنا لقراء املجلة كتاباً وردنا من ر�سل كارتر �أمني خزينة اجلمعية الأمريكية يف نيويورك يرى فيه‬ ‫املطالع بياناً �شافياً ملا حل بالأموال املر�سلة �إىل الوطن و�أن هذه الأموال مل ت�صل بدون �أدنى �شبهة‬ ‫�أو معار�ضة‪ .‬وليكن ال�سوريون على ثقة من �أن الر�سالة الأمريكية التي وقفت نف�سها على عمل الرب‬ ‫ور�ضيت �أن تقوم لل�سوريني بهذه اخلدمة اجلليلة �شفقة ورحمة بنا ال تر�ضى حلظة واحدة �أن تكون‬ ‫و�سيلة البتزاز �أموالنا ونهب مواطنينا‪ ،‬فلو ر�أت �إجحافاً بحقوقنا وجمازفة ب�إعاناتنا لكانت �أعلنت‬ ‫اجلوايل ال�سورية طراً بعدم قبولها تويل �إر�سال الأموال �سواء ذكرت ال�سبب الذي يحدو بها �إىل‬ ‫ذلك �أم مل تذكره‪ ،‬كما فعلت جلنتها يف الأ�ستانة على ما جاءت تفا�صيله يف الكتاب امل�شار �إليه‪،‬‬ ‫ف�إن هذه اللجنة التي كانت تتوىل توزيع الإعانات على الأرمن �أعلنت ا�ضطرارها �إىل االنقطاع عن‬ ‫ذلك دون �أن ت�أتي على تف�صيل ما بهذا ال�صدد‪.‬‬ ‫املوقف موقف موت �أو حياة والنكبة ال مثيل لها يف تاريخنا‪ ،‬وقد بد�أت تت�س ّرب �إلينا �أنباء الأوبئة‬ ‫فاحلمى التيفو�سية والتيفودية والدو�سنطاريا‬ ‫التي �أنب�أنا بحدوثها قبل �أن يردنا �شيء من �أخبارها‪ّ ،‬‬ ‫التي قلنا ٍ‬ ‫حينئذ �إنها من م�صاحبات ونتائج احلروب واملجاعات فتكت وال تزال تفتك مبواطنينا‬ ‫فتكاً ذريعاً‪ ،‬وكان من تعا�سة وطننا �أن �أ�ضيف �إىل هذه الأوبئة وباءان �آخران هائالن هما الطاعون‬ ‫والهواء الأ�صفر‪.‬‬

‫متى ُفتحت الطريق بني �سوريا والعامل كان‬ ‫يف كل عائلة مناحة ويف كل �أ�سرة حداد‪ ،‬لأن‬ ‫من مل يفقد �أب ًا �أو �أم ًا �أو �أخت ًا �أو ابن ًا فقد قريب ًا �أو‬ ‫�صديق ًا‪ ،‬فاحلا�ضر قامت وامل�ستقبل مظلم‬

‫ال نظن �أن بالداً ُرزئت مبا ُرزئت به �سوريا دون �أن تنال عطفاً فعا ًال من الأمم ف�أ�صيبت البلجيك‬ ‫برزايا عظيمة‪ ،‬وح ّلت بها نكبة قد تكون �أعظم نكبات العامل ولكن خطبها كان �أ�شبه بزوبعة هوجاء‬ ‫‪8‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫هدمت املنازل واقتلعت الأ�شجار ولكنها مل تلبث �أن هجعت وعاد من بقي حياً من �أهلها يتن�شق‬ ‫ن�سمات ال�صباح ويجد قوتاً حلياته وطبيباً لأمرا�ضه ودواء لإنعا�شه‪ .‬ح ّلت بال�صرب نوائب تذيب‬ ‫القلوب وتفتت الأكباد واجتاحتها احلمى التيفو�سية‪ ،‬ولكنها وجدت عطفاً عليها من الغري ف�أر�سلت‬ ‫�إليها بعثات ال�صليب الأحمر تباعاً‪� .‬أما �سوريا املنكودة الطالع ف�إن �أهلها ميوتون بني براثن الوباء‬ ‫وخمالب املجاعة دون �أن ي�سمع العامل لهم �صوت ا�ستغاثة‪.‬ميوتون دون غذاء وال طبيب وال دواء‪.‬‬ ‫متى ُفتحت الطريق بني �سوريا والعامل كان يف كل عائلة مناحة ويف كل �أ�سرة حداد‪ ،‬لأن من مل‬ ‫يفقد �أباً �أو �أماً �أو �أختاً �أو ابناً فقد قريباً �أو �صديقاً‪ ،‬فاحلا�ضر قامت وامل�ستقبل مظلم‪.‬‬ ‫وبني عاملي الرجاء والي�أ�س يقف فريق كبري من �أفراد اجلوايل ال�سورية �صارفاً وقته الثمني بالأ�سئلة‬ ‫عن حقائق الأخبار وم�صادرها‪ .‬مي�سك الرجاء �شماله وي�شل القنوط ميينه‪.‬‬ ‫تقف اللجان بني �أخذ ورد وتقتل �أوقاتها مبناق�شات عقيمة وجمادالت �سقيمة واملوت يح�صد يف‬ ‫خالل هذه الفرتات الذهبية �صفوفه ح�صداً‪ ،‬ومتى اتفقت �آرا�ؤهم قد ال يبقى من لزوم لر�أي على‬ ‫الإطالق‪ ،‬لأن الذين من �أجلهم �أقيمت اللجان واختلفت الآراء يكونون قد رحلوا �إىل ديار الأبدية‪.‬‬

‫تقف اللجان بني �أخذ ورد وتقتل �أوقاتها مبناق�شات‬ ‫عقيمة وجمادالت �سقيمة واملوت يح�صد يف خالل‬ ‫هذه الفرتات الذهبية �صفوفه ح�صد ًا‪ ،‬ومتى اتفقت‬ ‫�آرا�ؤهم قد ال يبقى من لزوم لر�أي على الإطالق‪،‬‬ ‫لأن الذين من �أجلهم �أقيمت اللجان واختلفت‬ ‫الآراء يكونون قد رحلوا �إىل ديار الأبدية‬ ‫يجب �أو ًال �إر�سال الأموال دون �أدنى �إبطاء لأن املوت ال ينتظر �أحداً‪.‬‬ ‫من �أراد �أن ينقذ �أهله من املوت جوعاً فلري�سل �إليهم الآن ما ًال‪.‬‬ ‫�أتينا يف اجلزء املا�ضي على ذكر النب�أ الربقي القائل ب�أن احلكومة العثمانية �أذنت للواليات املتحدة‬ ‫ب�إر�سال �إعانات �إىل �سوريا تتوىل توزيعها جلنة �أمريكية‪ ،‬وقلنا حينئذٍ �إننا ال نكون على ثقة يف �شيء من‬ ‫ذلك ما مل يردنا ثبت لهذا النب�أ من وزارة اخلارجية نف�سها‪ .‬ومع �أن النب�أ الربقي امل�شار �إليه قد تكرر‬ ‫فال نزال بني ال�شك واليقني‪ ،‬ونرجح عدم �صحته لأنه ال يقرب العقل �أن تكون احلكومة العثمانية‬ ‫قد �أذنت للواليات املتحدة دون �أن تردنا ر�سالة برقية بهذا ال�صدد من جلنة نيويورك �أو �سواها‪ ،‬ولكننا‬ ‫نظن �أن احلكومة الأمريكية ال تزال متابعة �سعيها من هذا القبيل وال ندري ما تكون نتيجته‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫وامل�أخوذ من روايات بع�ض الأمريكان الذي كانوا يف �سوريا �أن احلال فيها بالغة منتهى ال�شقاء‪ ،‬فقد‬ ‫�شاهد بع�ضهم كثريين من الرجال والن�ساء ي�سقطون يف ال�شوارع وبينهم �أي�ضاً فريق من الأوالد‪،‬‬ ‫وكلهم يفت�شون عن ك�سرة من اخلبز ي�سدون بها الرمق‪.‬‬

‫ال يوجد �سوى مو�ضع واحد فيه احلبوب‬ ‫وهو عاليه‪ ،‬و�أن احل�صول عليها متعذر‪،‬‬ ‫فيتقاطر اللبنانيون �إىل هناك زرافات‬ ‫وي�ضطرون �إىل االنتظار ردح ًا من الزمن‬ ‫قبل �أن يتمكنوا من احل�صول على �شيء قد‬ ‫ال يكون فيه كفاية له‬ ‫وظاهر من جممل الروايات �أن احلال يف لبنان �أ�شد منها حراجة يف �سائر املوا�ضع‪ ،‬و�أن النا�س تهلك‬ ‫ب�سرعة �سواء بعامل اجلوع �أو الوباء وطبيعي �أن يكون ال�ضيق يف لبنان �أكرث منه يف بقية �أنحاء �سورية‬ ‫لأن �أرا�ضيه الزراعية قليلة جداً ال تكفي �سكانه‪ ،‬واملوا�صالت بني جهاته متعذرة وهو يعتمد يف‬ ‫غذائه على ما كان يرده �سابقاً من حوران و�سهل البقاع‪.‬‬ ‫وقد قال بع�ض الأمريكيني الذين كانوا يف لبنان �أنه ال يوجد �سوى مو�ضع واحد فيه احلبوب وهو‬ ‫عاليه‪ ،‬و�أن احل�صول عليها متعذر‪ ،‬فيتقاطر اللبنانيون �إىل هناك زرافات وي�ضطرون �إىل االنتظار ردحاً‬ ‫من الزمن قبل �أن يتمكنوا من احل�صول على �شيء قد ال يكون فيه كفاية له‪.‬‬ ‫ومهما يكن من الأمر‪ ،‬ف�إن احلال يف لبنان ال تزال على ما كانت عليه من ال�شقاء وال نرى باباً‬ ‫للفرج �إال �إذا �سمحت الدولة العثمانية للحكومة الأمريكية �أن تر�سل ما عندها من املواد الغذائية‬ ‫لتوزع على يد الأمريكان �أنف�سهم‪ ،‬لأن الدولة �إذا مل تذعن ال ي�سمح للحلفاء بدخول �شيء من‬ ‫املواد �إىل �سوريا‪.‬‬

‫‪10‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل‬

‫‪2014 – 1914‬‬

‫احلرب العاملية الأوىل خداع ثقايف ب�شهادة احلا�رض‬

‫جنيب ن�صري ‪ -‬باحث‬

‫ميكن النظر �إىل احلروب من مئات الزوايا ح�سب املكان والزمان‪ ،‬كما ميكن النظر �إليها من �شتى‬ ‫املنابت واملعايري الثقافية املعلوماتية واملعرفية‪ ،‬فاحلرب حتى ولو مل تكن فع ًال ا�ستثنائيا يف احلياة‬ ‫الب�شرية‪� ،‬إال �أنها فعل �أق�صى ميلأ الفراغ بني النظري والعملي يف �سباق امل�صالح‪ ،‬ولعل احلرب‬ ‫العاملية الأوىل كفعل «غربي» بامتياز كانت تعبرياً عن ذاك االحتقان الثقايف الذي �أنتجه فائ�ض‬ ‫امل�شخ�صة‪ ،‬ما عرب عن ان�سداد ت�سويقي لثقافة‬ ‫القوة املعرفية يف جتلياتها التكنولوجية املجردة قبل ّ‬ ‫ع�صر النه�ضة وجتلياتها ونتائجها كمنتجات فائ�ضة‪ ،‬لتو�صف هذه احلرب باحلرب من �أجل التجارة‪،‬‬ ‫من هذه الزاوية ميكننا النظر �إىل هذه احلرب كنتائج و م�آالت ثقافية �أودت بامل�شرق �إىل ما فيه الآن‪.‬‬ ‫فهذه احلرب د�شنت التغريات الثقافية اعتباراً من بدايتها‪ ،‬بناء على احتياجات �أطرافها املحلية‬ ‫ال�صرفة يف �سباق حمموم نحو الأ�سواق؟ �إنها الأ�سواق التي حتتاج �إىل ثقافة من نوع معني ودرجة‬ ‫معينة كي ت�ستوعب ال�سلعة الغربية‪� ،‬أو بالأحرى �سلعة ع�صر الأنوار العاملية‪ ،‬فهذه ال�سلع حتتاج‬ ‫م�شخ�صة‪ ،‬دون املخاطرة بفقدان‬ ‫�إىل حد �أدنى من ثقافة ت�ؤ ّهلها ال�ستهالك بو�صفها تكنولوجيات ّ‬ ‫امل�ستهلك يف حال حاز على املعرفة الأنوارية‪ ،‬فكلما ازدادت هذه املعرفة ارتقت وازدادت �أنواع‬ ‫ونوعيات الإ�ستهالك‪ ،‬ومن هذه الزاوية ميكننا النظر(وتذكر) هذه احلرب‪ ،‬فبينما كانت املدافع‬ ‫تق�صف كان امل�ست�شرقون ي�ستكملون درا�ساتهم الأنرتوبولوجية‪ ،‬والإجتماعية يف العديد من‬ ‫مناطق العامل‪ ،‬م�ستخدمني مناهجهم العلمية كتكنولوجيا‪ ،‬تاركني عملية �إح�صاء وتقدير كمية‬ ‫ونوعية الأفواه التي �ستتناول منتجاتهم لدولهم التي ت�أ�س�ست على تكنولوجيات ع�صر الأنوار‪،‬‬ ‫مقرتحني �أجنع ال�سبل للو�صول �إىل تلك الأفواه وربطها مع فائ�ض القوة املعرفية املتمثلة بالإنتاج‪،‬‬ ‫حتى ال ي�صنع تكد�س فائ�ض القوة املعرفية هذا فراغاً يجب ميلأه العنف الإجتماعي على �أقل‬ ‫تقدير‪� ،‬أو الدويل على املدى الأبعد‪.‬‬ ‫يهمنا من ّ‬ ‫تذكر هذه احلرب‪ ،‬يف ذكراها املئوية الأوىل‪ ،‬هو م�آل منطقتنا التي مل ت�شارك يف هذه‬ ‫ما ّ‬ ‫احلرب كطرف ذي م�صلحة على الرغم من ت�أثّر م�صاحلها ب�شدة‪ ،‬ال بل تقرر م�صريها (ورمبا �إىل‬ ‫الأبد) كمفعول به‪ ،‬بناء على احليز الإنتاجي الذي �سوف ت�شغله م�ستقب ًال‪� ،‬أو ب�صياغة �أخرى‪،‬‬ ‫‪11‬‬


‫تقدير معريف لفائ�ض القوة التي ميكن �أن تتوفر لديها م�ستقبال‪ ،‬يف حتول بنيوي ملفهوم الإ�ستعمار‬ ‫وال�سيطرة‪ ،‬الذي يت�ضمن وي�ضمن م�ستقبله �أي�ضاً‪ ،‬الذي �سوف يتح ّول رويداً �إىل مفهوم «الرميوت‬ ‫كونرتولية» �أو ّ‬ ‫التحكم عن بعد‪ ،‬الناجت عن الإقبال على ا�ستهالك امل�شخ�ص من التكنولوجيات‬ ‫والإعتياد عليها‪ ،‬والإعرا�ض عن املجرد منها ككتلة معرفية �صعبة اله�ضم‪ ،‬يف �إ�شارة �أنرتوبولوجية‬ ‫�إىل اجلينات الثقافية التي ميكن احلفاظ ذاتياً عليها دون تكاليف تذكر‪ ،‬كب�ؤرة تلقي لأوامر التحكم‬ ‫عن بعد‪ ،‬يف ا�ستخدام ما بعد كولونيايل لهذه اجلينات الثقافية املر�صودة واملدرو�سة وفق املناهج‬ ‫الأنوارية‪ ،‬التي هي وباملنا�سبة‪ ،‬مل تكن ممنوعة على �أحد من القادرين على حتمل اجلرعات العلمية‬ ‫ال�صادمة للجني الثقايف‪ ،‬الذي تعر�ض الغرب نف�سه لها وا�ستطاع بجهد كبري تقبلها وتفعيلها خالل‬ ‫ال�سنوات التي تلت الثورة الفرن�سية‪.‬‬ ‫مل تكن هذه اجلرعات العلمية‪ ،‬كتكنولوجيات جمردة‪ ،‬بعيدة عن متناول املنطقة وال هي باملمنوعة‬ ‫عليها‪ ،‬فع�صر النه�ضة ونخبته‪ ،‬ابتداء من ‪ 1850‬كان قد تلقى هذه اجلرعات‪ ،‬و�أعاد �إنتاجها نظرياً‬ ‫على الأقل‪ ،‬يف خ�ضم ال�صراع الغربي على الأ�سواق الذي �أدى حتديث هذه الأ�سواق (قناة‬ ‫ال�سوي�س‪ ،‬واخلط احلديدي برلني ‪/‬دلهي‪ ،‬مثا ًال) ولرمبا كان لفرن�سي�س مرا�ش احللبي ق�صب ال�سبق‬ ‫يف روايته (غابة احلق) حول الثقافة الت�أ�سي�سية ملجتمع احلداثة املطلوب‪ ،‬عرب مقاربة مو�ضوع ترافق‬ ‫ا�ستخدام التكنولوجيات امل�شخ�صة واملج ّردة معاً وبال�ضرورة وبكل �إخال�ص‪ ،‬حيث بدت تلك‬ ‫اجلرعات الثقافية والعمل عليها والأخذ بها‪ ،‬كفر�صة من ال�صعب تكرارها‪ ،‬ب�سبب طبيعتها‬ ‫الت�أ�سي�سية من جهة‪ ،‬وب�سبب و�ضوح م�آالت الرتاكم املعريف العاملي التي �سوف يحوز عليها ويعيد‬ ‫�إنتاجها وا�ستخدامها‪ ،‬من هو قادر على ممار�ستها والتفاعل معها وتفعيلها ل�صاحله‪ ،‬كقوة ذكية بغ�ض‬ ‫النظر عن عنفها الفيزيائي �إذا وجد‪ .‬ومع ح�ضور احلرب العاملية الأوىل بق�سرها الفيزيائي‪ ،‬كانت‬ ‫البنية املعرفية ل�شرقنا العتيد قد هزمت وحت ّولت طوراً خائبا من �أطوار ثقافة‪ ،‬مل حتتمل جيناتها‬ ‫اجلرعات املعرفية‪ ،‬فف�شلت (وحتى الآن) يف ا�ستقبال �سايك�س‪ /‬بيكو والحقاً وعد بلفور ومن‬ ‫قبلهما م�ؤمتر بال ال�صهيوين الأول ‪ 1897‬كتكنولوجيات جمردة قادرة على حتقيق �أهدافها على‬ ‫الأر�ض‪ ،‬حيث �صدقت تقارير امل�ست�شرقني ودرا�ستهم عمليا وعلى �أر�ض الواقع‪ ،‬ومل ي�ستطع‬ ‫امل�شرقيون حتى يومنا هذا (ح�سب توقعات ه�ؤالء امل�ست�شرقني) من ا�ستيعاب التكنولوجيات‬ ‫املج ّردة (من �أهمها املجتمع والدولة )ح ّتى يومنا هذا‪.‬‬ ‫عملياً تبدو «الثورة» العربية الكربى‪ ،‬هي اجلزء امل�شرقي من الفعاليات احلربية للحرب العاملية‬ ‫الأوىل‪ ،‬على اجلبهة الرتكية الإنكليزية حتديداً‪ ،‬فهي من ناحية ت�أثريها التغيريي �أكرث و�ضوحا‬ ‫من ت�أثري حرب الرتعة (قناة ال�سوي�س) و�سفر برلك معاً على املنطقة‪ ،‬هذه «الثورة» التي قادتها‬ ‫بريطانيا من موقعها امل�صري‪ ،‬عرب مكماهون كتقني �سيا�سي خا�ضع ملكت�شفات امل�ست�شرقني‬ ‫الأنرتوبولوجيني العلمية‪ ،‬ولوران�س العرب الذي قاد املعارك كتقني معريف عرف كيف يحرك‬ ‫الأمور بناء على علمه بالطبائع الثقافية لأهل املنطقة من بالد ال�شام حتى جند واحلجاز و�صحرائهما‬ ‫‪12‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫املحيطة‪ ،‬يف ا�ستخدام عملي للتكنولوجيا املجردة‪ ،‬التي ترافقت مع العمليات احلربية كتكنولوجيا‬ ‫م�شخ�صة‪ ،‬حيث ّ‬ ‫غطى الإنكليز النق�ص امل�شرقي يف هذه التكنولوجيا املجردة‪ ،‬من حيث ت�أمني‬ ‫الأر�ضية الثقافية (العرب �أمة واحدة) ومن ثم ا�ستغاللها‪ ،‬ليتم ت�صنيع �أر�ضية ثقافية �أيديولوجية‬ ‫مواربة وا�ستعمالية للح�صول على �أرا�ضي �سايك�س بيكو وتقا�سمها‪ ،‬فتم ت�صنيع العروبة مبعناها‬ ‫البداهي‪ ،‬غري الإرادي‪ ،‬على �أ�سا�س �أننا �أمام �أ ّمة مكتملة‪ ،‬من دون املرور يف حمطة املجتمع‪ ،‬مبعنى‬ ‫�أن الأ ّمة الواحدة هي جمتمع واحد وهو �أمر ال يخفى على انرتوبولوجي �أو حقوقي!‪ ،‬وا�ستعملت‬ ‫العروبة كو�صفة ثقافية مرجتلة تقوم مرحلياً (ريثما يتم الإقت�سام) بدورها كتكنولوجيا مب�سطة قابلة‬ ‫للإ�ستيعاب من قبل �شعوب مل تتعر�ض لإ�شعاع ع�صر الأنوار (وترف�ض التعر�ض �إىل يومنا هذا)‪،‬‬ ‫يف ا�ستثمار جمحف وغ�شا�ش لثقافة �شعبية ما قبل تكنولوجية‪ ،‬ت�ستطيع منظومة �سايك�س‪ /‬بيكو‬ ‫عربها تفكيك العالقة العثمانية مع �شعب املنطقة امل�سماة الهالل اخل�صيب ل�صالح مملكة عربية‬ ‫واحدة قوامها الزعامة الدينية‪ /‬اللغوية‪ ،‬يف وقت كانت �إنكلرتة والغرب عموما قد جتاوز و�أ�سقط‬ ‫من ح�سابه هكذا تكنولوجيات يف عملية ت�أ�سي�س جمتمعاتهم م�ستخدمني ثقافة حداثية �صاحلة‬ ‫لإقامة م�شروع املجتمع‪ /‬الأمة املنتجة‪ ،‬ولعل عملية اخلداع الكربى كانت ثقافية بامتياز‪ ،‬عرب‬ ‫دعم حرمان الهالل اخل�صيب والعربة معاً من تكنولوجيات الإجتماع الب�شري‪ ،‬التي عبرّ مبرارة‬ ‫عنها امللك في�صل الأول بخذالن الإنكليز والدول املنت�صرة يف احلرب بتخليهم عن هذه العروبة‬ ‫(بتن�صيبه ملكاً على مملكة عربية واحدة)‪ -‬بنكوثهم بعهدهم بت�أ�سي�س �أمة عربية له‪ ،‬يف هذا‬‫املجال بال�ضبط �أي يف املجال الثقايف حتديداً يظهر ا�ستثمار «الثورة» العربية كمعرفة تكنولوجية‬ ‫واهية‪( ،‬نظراً ل�ضرورة الثقايف حتى ولو كان واهياً)‪ ،‬ولي�س يف تفكيك «الوحدة العربية» �أو بحرمانه‬ ‫من عر�ش هذه اململكة كما ر�آها جاللته‪ ،‬وال يف ا�ستبدال الإحتالل الغربي بالإحتالل العثماين‪،‬‬ ‫والتي توجها (�أي اخلديعة الثقافية) امللك في�صل ذاته بتوقيع وثيقة في�صل‪/‬وايزمن ال�شهرية‪،‬‬ ‫ت�أكيداً على واهية اجلرعة املعرفية التي اعتمدت ك�أر�ضية تكنولوجية من النوع املجرد للثورة‪،‬‬ ‫والتي توازي وت�ساوي متاماً هزمية رجال النه�ضة و�سايك�س بيكو ووعد بلفور من حيث املبنى الثقايف‬ ‫لها‪ ،‬التي انتهت �إىل احلرمان من تكنولوجيا ت�أ�سي�س املجتمعات‪ ،‬حيث جتلت وب�سرعة نتائج‬ ‫ف�شل م�ساعي رجال النه�ضة (بعد الثورة) يف ا�ستحداث قابلية ال�ستعمال التكنولوجيات املجردة‪،‬‬ ‫لأ�سباب حملية متاماً‪ ،‬مهدت وان�سجمت مع التطلعات الإ�ستعمارية بوجهه الإنتدابي‪ ،‬وا�ستمرت‬ ‫العروبة كمنتج من منتجات احلرب العاملية الأوىل دون فعالية ايجابية تذكر‪ ،‬على امل�ستويات‬ ‫البنيوية وغريها لغاية يومنا هذا‪ ،‬حتى �أنها مل ت�ستطع حتى اليوم �أن حتقق �أدنى غاياتها بدائية �أو‬ ‫�أكرثها �أولوية بالن�سبة لها‪.‬‬ ‫يف امل�شهد الثاين من احلرب العاملية الأوىل وك�أحد نتائجها كانت ع�صبة الأمم‪ ،‬وو�ضع مفهوم‬ ‫الإنتداب‪ ،‬فع�صبة الأمم (كما الأمم املتحدة بعد احلرب العاملية الثانية) وجدت لتن�سيق امل�صالح‬ ‫واالقت�سامات بني املجتمعات املنتجة املتناف�سة‪ ،‬خالقة حتديات احل�ضور احلقيقي للمجتمعات‬ ‫‪13‬‬


‫النامية‪ ،‬كغاية عليها الإجتاه نحوها بامل�سارعة �إىل ت�أ�سي�س املجتمع القادر على توليد دولة‪ ،‬ولعل‬ ‫احلرد الثقايف‪� ،‬أو احلرد من ثقافة ع�صر الأنوار هو �سبب رئي�سي يف بقاء الهالل اخل�صيب يف‬ ‫هذا القاع احل�ضاري �إىل يومنا هذا‪ ،‬و�أي�ضاً كان ال�سبب الرئي�سي يف اخرتاع فكرة الإنتداب‪،‬‬ ‫فالإنتداب قو ًال وفع ًال هو احتالل وا�ستعمار على كافة امل�ستويات ومبباركة ع�صبة الأمم من جهة‬ ‫ومبباركة الفراغ الثقايف من جهة �أخرى‪( ،‬امل�ضحك املبكي �أن هذه التجمهرات الب�شرية امل�شرقية‬ ‫كانت وما زالت ت�شعر بالإكتمال املعريف ‪� ،)..‬إذ كان ال بد من ت�صنيع بنية تكنولوجية جمردة‬ ‫ولو كانت مب�سطة قادرة على الإرتقاء مب�ستوى الإ�ستهالك‪ ،‬ليقارب بطريقة ما فوائ�ض الإنتاج‬ ‫لديها من التكنولوجيات امل�شخ�صة وهنا كانت اخلديعة الثقافية الثانية‪ ،‬وب�سبب الإنتداب عرف‬ ‫امل�شرقيون الد�ستور والربملان وال�سلطات احلكومية واملدار�س‪ ،‬يقابلها م�شخ�صا م�ؤ�س�سات املياه‬ ‫والكهرباء والرتومواي وال�سيارات وماكينات اخلياطة �إلخ‪ ،‬وكل ما ميكن �أن تنتجه م�صانع ومزارع‬ ‫تلك الدول املنت�صرة من �سلع‪� ،‬سوف ي�صبح الإعتماد عليها هو مبثابة انتقال من ع�صر �إىل ع�صر‪،‬‬ ‫ولكن هذا الإنتقال مل يبد ارتقائياً باملرة‪ ،‬ولهذا ال�سبب مل ي�ستطع امل�شرقيون ا�ستقبال «امل�ؤامرات»‬ ‫عليهم حتى لو اكت�شفوها‪� ،‬أو �أبلغت لهم‪ ،‬لأن الأمر متعلق بالتكنولوجيات املجردة‪ ،‬التي رف�ضوا‬ ‫الإن�صياع لها‪ ،‬وظلوا يف �إطار املفعول به‪ ،‬على الرغم من كل الفر�ص التنويرية الالحقة‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم من ا�ستعمالهم لكل التكنولوجيات امل�شخ�صة و�إدمانهم عليها‪.‬‬ ‫مل تقم احلرب العاملية الأوىل على �سبب عاطفي‪ ،‬وال على خالف ايديولوجي ديني �أو �أخالقي‪،‬‬ ‫بل قامت على امل�صالح الآنية منها واال�سرتاتيجية �أي�ضاً‪ ،‬فمنطقة ال�شرق الأو�سط الواعدة على‬ ‫امل�ستوى اجليوتكتيكي‪ ،‬ال ميكن الن�أي بها عن تلك امل�صالح‪ ،‬خ�صو�صاً �أن اخلالفة العثمانية كانت‬ ‫قد بد�أت بالتحول �إىل الدولة‪ ،‬ومل تنفع معها ال حماوالت التحديث الداخلية وال م�ساعدات‬ ‫الأملان يف التحديث �إذ بقيت هي �أي�ضاً يف جماالت التكنولوجيا امل�شخ�صة‪ ،‬مل تكن �سايك�س بيكو‬ ‫�ضد �أو مع �شعوب هذه ال�سلطنة املحت�ضرة‪ ،‬فهي ال حتبهم وال تكرههم‪ ،‬وال تنوي الإعتداء عليهم‬ ‫�إال لق�سرهم على الإن�صياع ملخططات حتقيق م�صاحلها‪ ،‬فالثورة العربية «املجيدة» متّت بت�سليح‬ ‫وم�شاركة اجلي�ش الربيطاين‪ ،‬وهذا �أمر طاملا �أغفلته املنتجات «الثقافية» الناطقة بالعربية‪ ،‬ولوال ذلك‬ ‫ملا ا�ستطاع املنت�صرون باحلرب النكث بوعودهم‪ ،‬فهم يعرفون متاما مع من يتعاملون ‪ ،‬عند هذه‬ ‫النقطة بالذات توقف امل�شرقيون‪،‬عند هذه النقطة العاطفية الأخالقية رافعني النقيق وال�شكوى‬ ‫من الإحتقار والإعتداء‪ ،‬على �أ�سا�س ما يقدرون على فهمه من توجهات ال�سيا�سة العاملية �آنذاك‪،‬‬ ‫ومل ينتبهوا �إىل احلقيقة الواقعية �إال مرات قليلة كان من ال�سهل �إجها�ضها (امل�ؤمتر ال�سوري الأول ‪8‬‬ ‫�آذار ‪ 1920‬مثا ًال)‪ ،‬م� ّؤ�س�سني لنظرية امل�ؤامرة من موقع �ضحل �أخالقياً ومعرفياً‪ ،‬دون فعل ت�أ�سي�سي‬ ‫ليتم التعامل مع الكيانات الناجتة عن هذه احلرب‬ ‫يذكر(ح ّول فيما بعد الإ�ستقالالت �إىل ورطة)‪ّ ،‬‬ ‫ككيانات �أزلية غري قابلة للفناء �إال على يد من �أ�س�سها‪ ،‬ومت التنظري لها و�أدجلتها على �أ�س�س غري‬ ‫جمتمعية‪ ،‬ليعود ناجت اي حراك �أو �أي حماولة ارتقاء �إىل نقطة ال�صفر‪ ،‬بالقوة الذاتية لثقافة هذه‬ ‫‪14‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫الكيانات‪ ،‬التي لن تقوى بعد تلك احلرب على ت�أ�سي�س جمتمعاتها ب�أية �صفة تقنية‪ ،‬تودي �إىل‬ ‫توليد دولة معا�صرة ميكنها رعاية م�صالح «جمتمع» والدفاع عنه‪ ،‬والتناف�س مبنتجاته‪ ،‬من هنا تبدو‬ ‫ال�سنوات احلا�ضنة للحرب (‪� )1920 - 1910‬سنوات م� ّؤ�س�سة لعاهات امل�شرق‪ ،‬بينما كانت هي‬ ‫نف�سها فرتة تثبيت ملنجزات الع�صر الأنواري يف العامل‪ ،‬والإعالن عن عقد �أممي تناف�سي جديد يعبرّ‬ ‫عن حيويات الأمم ومكانتها ب�أدوات خمتلفة ومظاهر متحولة وقا�سرة‪ ،‬بعيدة عن ترهات التف�سريات‬ ‫العواطفية والأخالقوية البدائية التي ا ّت�سمت بها كيانات منطقتنا‪ ،‬لتظهر هذه الكيانات بعد‬ ‫احلرب كمح�صلة للتوازنات الأممية التناف�سية‪ ،‬وك�أنها تع ّر�ضت �إىل تعديل يف اجلني الثقايف ر�ضيت‬ ‫به وذادت عنه‪.‬‬ ‫حتملت البلدان املهزومة التي ا�شرتكت يف احلرب العاملية الأوىل (خ�صو�صاً �أملانيا وتركيا)‪ ،‬نتائج‬ ‫ّ‬ ‫هي �أق�سى بكثري مما تعر�ضت �إليه بلدان امل�شرق‪� ،‬إن كان عن طريق ع�صبة الأمم �أو عن طريق‬ ‫البلدان املنت�صرة منفردة �أو جمتمعة يف م�ؤمتر فر�ساي ‪ ،1919‬لدرجة �أنها كان من املمكن �أن ت�ستباح‬ ‫كغنائم حرب‪ ،‬ولكن هذه البلدان مل تلق م�صري الهالل اخل�صيب‪� ،‬إما لثقافتها الأنوارية (�أملانيا)‬ ‫ذات املجتمع الذي مت ت�أ�سي�سه �سابقاً‪� ،‬أو بامل�سارعة �إىل الإلتحاق بالثقافة الأنوارية التي ت�ؤّ�س�س‬ ‫جمتمعاً بوا�سطة الثورة العلمانية التي قام بها �أتاتورك‪ ،‬لتبدو ا�ستمرارية البلدين م� ّؤ�س�سة على‬ ‫الثقافة واملعرفة بفرعيها امل�شخ�ص واملجرد‪ ،‬لدرجة �أن �أملانيا وخالل ع�شرين �سنة ا�ستطاعت �أن‬ ‫تخو�ض حرباً وا�سعة يف حماولة ال�ستعادة مكانتها‪ ،‬يف املقابل بد�أ امل�شرق يف ت�سجيل تراجعات‬ ‫ح�ضارية وا�ضحة على الرغم من مقدرته اجلزئية على ا�ستهالك التكنولوجيات امل�شخ�صة‪ ،‬متثل‬ ‫ذلك يف الق�ضاء املربم على كل النخب واحلراكات الأنوارية الواعدة من رجال نه�ضة وما تالهم‬ ‫من رجال تنوير‪ ،‬لت�ستقر م�صائر البلدان بني �أيدي املثقفني (الع�سكر طليعتهم) الذين مار�سوا‬ ‫توفيقية تلفيقية بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة ت�شبه متاما التلفيقية التي مار�سها املنت�صرون‬ ‫يف احلرب العاملية الأوىل جتاه «الثورة» العربية الكربى‪ ،‬و�شعب الهالل اخل�صيب‪ ،‬ما يعيدنا �إىل‬ ‫الرميوتكونرتولية �أو ّ‬ ‫التحكم عن بعد امل�ؤ�س�س لها يف احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬ورمبا كانت التجربة‬ ‫النا�صرية كجمهورية‪ ،‬وال�سعودية كملكية‪ ،‬مثا ًال باهراً على الدمج التلفيقي (ال�شفهي اللغوي‬ ‫على �أبعد تقدير ثقايف) بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة‪ ،‬حيث بدت كل تكنولوجيا‬ ‫جمردة (كالدولة‪ ،‬واملجتمع‪ ،‬والأحزاب‪ ،‬والعقد الإجتماعي واحلرية امل�س�ؤولة �إلخ‪� ..‬إلخ) موجودة‬ ‫ومفقودة يف �آن معا‪ ،‬مبعنى �أنها وهمية وقابلة للإنهيار بلحظات وبقواها الذاتية‪ ،‬وهنا يبدو الفارق‬ ‫املعريف �شا�سعاً‪ ،‬بني البلدان التي مار�ست ال�شعارات وراكمتها ‪ ،‬وبني البلدان التي راكمت املعرفة‬ ‫ومار�ستها‪ ،‬حتى ليبدو ّ‬ ‫للمطلع على �آخر املعارف �أنّ الفارق �أ�صبح فلكياً و�أن العامل �سينق�سم (�إذا‬ ‫مل يكن قد انق�سم وانتهى) �إىل نوعني ب�شريني‪� ،‬أحدهما قادر على حتمل م�س�ؤولية احلياة و�آخر‬ ‫يواجه الإ�صطفاء الطبيعي‪ ،‬لذلك تبدو احلرب العاملية الأوىل ونتائجها كمفرتق �أ�سا�سي وعميق‪،‬‬ ‫مل ي�ستطع هذا امل�شرق التع�س اللحاق به لأ�سباب ذاتية �أو ًال‪ ،‬وبرعاية املنت�صرين يف هذه احلرب‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫لكي تكون رابحاً �أو خا�سراً يف �أية لعبة يجب �أن تكون م�شاركاً فيها �أو ًال‪ ،‬يف احلرب العاملية الأوىل‪،‬‬ ‫مل تكن بالد الهالل اخل�صيب وال العربة م�شاركة‪ ،‬وهذا ما جت ّلى يف م�ؤمتر فر�ساي ‪ ،1919‬عرب‬ ‫احل�ضور الفكاهي ملمثلي امل�شرق‪ ،‬حيث تب ّلغ امللك في�صل ر�سمياً نتائج تلك احلرب‪ ،‬مطلقاً �شعاره‬ ‫املرير (لي�س بالإمكان �أف�ضل مما كان) لندخل يف د ّوامات ومعارك ثقافية جزافية‪ ،‬كاملفا�ضلة بني‬ ‫الإ�ستعمار العثماين والغربي‪� ،‬أو بني العروبة البدهية والأقليمية املعقدة‪� ،‬أو بني الرتاث واملعا�صرة‪،‬‬ ‫نا�سني متاماً الق�ضية الأ�سا�سية هي ت�أ�سي�س املجتمع مبعناه الأنواري حتديداً‪ ،‬كي ن�ستطيع الإ�ستجابة‬ ‫للتحديات ون�صبح م�شاركني يف اللعبة التناف�سية للأمم بهيئتنا الإجتماعية القادرة على الإنتاج‪،‬‬ ‫وهكذا مت تق�سيم البالد وت�ساقطت �أجزا�ؤها (فل�سطني ‪ -‬كيليكيا‪� -‬إ�سكندرون ‪ -‬الأحواز) دون‬ ‫جمري من الداخل �أو اخلارج‪ ،‬ودون �أن ي�ؤثّر هذا الت�ساقط على ال�سريورة املتفاخرة «للدول»‬ ‫ف�صلها الإنتداب ثقافياً بناء على درا�ساته الإ�ست�شراقية‪ ،‬واليوم نرفل بحروب �أهلية طائفية‬ ‫كما ّ‬ ‫تعبرّ بال�ضرورة عن ثقافتنا البهية التي رف�ضت وملا تزل ثقافة ع�صر الأنوار وتكنولوجياته كطريق‬ ‫للإ�شرتاك يف احلياة‪ ،‬وهي الآن غري قادرة حتى على التعاي�ش مع �أي �آخر ورمبا مع نف�سها �أي�ضاً‪،‬‬ ‫ت�أ�سي�ساً على وعد بذله االنكليز يف احلرب العاملية الأوىل بت�أ�سي�س �أمة ودولة ولكن بال جمتمع ‪.‬‬ ‫مل تكن احلرب العاملية الأوىل من الوجهة الثقافية‪� ،‬إال الإعالن عن تبلور مفهوم الأمة‪/‬الدولة‪،‬‬ ‫ب�صفتها الق�صدية الإرادية املبينة على املعرفة‪ ،‬وهي بذلك كانت فر�صة للإنتقال من املفهوم‬ ‫العثماين (الرتاثي) للدولة امل�ؤ�س�س على الغلبة �إىل املفهوم احلديث امل�ؤ�س�س على الثقافة احلقوقية‪،‬‬ ‫ته ّيئاً للدخول �إىل قوام عاملي تناف�سي‪ ،‬ال مكان �أو مكانة فيه ل�ضعيف‪ ......‬معرف ّياً‪.‬‬

‫‪16‬‬


‫‪2014 – 1914‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫حتوالت الفكرة القومية يف امل�رشق العربي‬ ‫قبيل احلرب العاملية الأوىل وبعدها‬

‫�أ�سامة �سمعان ‪ -‬باحث و�أكادميي‬

‫مقدمة‬

‫تعددت �آراء الباحثني حول ظهور الفكرة القومية لدى الأمم‪ ،‬فمنهم من قال �إن الفكرة القومية‬ ‫ظهرت منذ القدم‪ ،‬ومنهم من حدد القرن التا�سع ع�شر ع�صراً لظهور القومية عموماً‪.‬‬ ‫وحيث �أنه ال يوجد معايري موحدة لظهور القومية‪� ،‬سوى �أنها ظاهرة اجتماعية‪�-‬إن�سانية‪ ،‬وهي نتاج‬ ‫لتطور عوامل معقدة ولطيفة يف �آن من اقت�صادية واجتماعية ونف�سية وثقافية‪.‬‬ ‫�إن وجود القومية �ش�أن ال ريب يف وجوده‪ ،‬كونها �شعور الفرد ب�شخ�صية �أمته بالإ�ضافة �إىل �شعوره‬ ‫ب�شخ�صيته‪ ،‬ولهذا ف�إنني �أميل �إىل االعتقاد بقدم القومية ال�سورية يف الهالل اخل�صيب‪ ،‬التي رمبا‬ ‫ولدت‪� ،‬إبان الدولة الأمورية ‪ -‬البابلية الأوىل (‪ ،)2006-1758‬وحتديداً يف فرتة حكم حمورابي‬ ‫(‪ )1792-1750‬الذي ا�ستطاع بعبقريته الفذة‪ ،‬لي�س يف فر�ض �سلطانه على م�ساحة الوطن ال�سوري‬ ‫كله‪ ،‬بل يف قدرته على توحيد خمتلف العنا�صر امل�ؤلفة لل�شعب يف هيئة واحدة من بوحدة الوالء‬ ‫للدولة‪ ،‬من خالل الت�شريع الواحد‪ ،‬املنزل من الإله الواحد «مردوخ»‪.‬‬ ‫ولكن الثابت �أي�ضاً‪� ،‬أن ال�شعوب عندما ت�ضعف الفكرة القومية لديها تفقد �سيادتها القومية‬ ‫وعندما تفقد �سيادتها ت�صحو الفكرة القومية من غفوتها‪ .‬فثمة عالقة تفاعلية‪ ،‬بني ال�سيادة القومية‬ ‫وال�شعور القومي‪ ،‬كون الدولة هي �صورة املجتمع ومثاله يف كل الأحوال‪.‬‬ ‫ولذلك �أميل �إىل االعتقاد بان الفكرة القومية لدى ال�شعب ال�سوري تعر�ضت ُل�سبات عميق‬ ‫ا�ستغرق حوايل �ألف عام‪ ،‬ابتداء عام ‪ 1017‬م‪ ،‬عندما �صدرت الوثيقة القادرية عن اخلليفة العبا�سي‬ ‫القادر‪ ،‬التي �أطلقت على الأمة ال�سورية والعاملني العربي والإ�سالمي �أكرب عملية �إرهاب فكري‪،‬‬ ‫مبا تبعها من حترمي للتفكري بغري الت�صوف‪ ،‬وما حتقق من عمليات اغتيال لكل من حاول التفكري‬ ‫يف �أي جمال غري الت�صوف‪ ،‬وما ن�شهده اليوم يف لبنان وال�شام والعراق من �إرهاب تكفريي‪� ،‬إمنا هو‬ ‫من تداعيات تلك الوثيقة‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫�إن جمال بحثنا يف هذه العجالة‪ ،‬يتناول الفكرة ال�سورية القومية املعا�صرة ‪ ،‬التي بد�أت �صحوتها‬ ‫عام ‪1860‬م‪ ،‬وما طر�أ عليها من حتوالت خطرية‪ ،‬كادت �أن تلغي الوجدان الذي �أنتج �صحوتها‪.‬‬ ‫�إذ كانت �صحوة الفكرة القومية ال�سورية املعا�صرة‪ ،‬يف ظل الدولة الإ�سالمية العثمانية‪ ،‬القائمة‬ ‫على فكرة العبودية‪ ،‬والتي مل ت�شذ عما �سبقها من الدول الإ�سالمية‪ ،‬التي اعتمدت يف حكمها‬ ‫جميع �آليات العبودية‪ ،‬وهي ال تزال موجودة حتى اليوم يف النموذج ال�سعودي‪ ،‬حيث �أن اململكة‬ ‫للقبيلة ولي�ست لل�شعب‪ ،‬وحيث ال يوجد د�ستور للبالد وال جمل�س نواب للأمة‪ ،‬وبالتايل ال وجود‬ ‫لرت�شيح وانتخابات‪ .‬وكل ما هو موجود‪ ،‬هو امللك ر�أ�س القبيلة الذي يتحكم برقاب جميع �أفراد‬ ‫ال�شعب‪ ،‬بحجة متثيله �سلطة اهلل‪ ،‬ال كما يريد اهلل‪ ،‬وال كما يريد ال�شعب �أن يحيا‪.‬‬ ‫لقد كان من نتائج �سيطرة الدولة العثمانية على �سوريا‪ ،‬ظهور �أزمات عديدة‪ ،‬متثلت بتدمري �ألفي‬ ‫قرية يف بالد ال�شام عام ‪1847‬على يد قبيلة عنزة املدفوعة باجلوع من اجلزيرة العربية‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫الأحداث اجل�سام على �أر�ضها‪� ،‬إبان الغزو امل�صري لبالد ال�شام ‪ ،1840-1831‬ف�ض ًال عما �أ�صابها‬ ‫من تراجع اقت�صادي �أ�صاب الدولة العثمانية بعد حتويل طرق التجارة‪ ،‬وفتح قناة ال�سوي�س‪ ،‬مما �أدى‬ ‫�إىل انخفا�ض النمو ال�سكاين‪ ،‬وتف�شي املجاعات يف �سورية كلها‪ ،‬يف ظل تدين التعليم‪ ،‬والهجرة‬ ‫�إىل اخلارج‪� ،‬إىل �أن بلغت الدولة العثمانية الإفال�س عام ‪ ،1875‬وما �أعقب ذلك من توافد هجرات‬ ‫�إىل �سورية من اجلراك�سة والأرمن واليهود‪ ،‬و�إذ حاولت الدولة �إ�صالح نف�سها بقوانني م�ستوردة من‬ ‫�أوروبا‪ ،‬ف�إنها �أ�ضافت �إىل م�شكالتها م�شاكل جمة‪ ،‬حيث مل تكن القوانني الإ�صالحية عاجزة عن‬ ‫حماكاة الأزمات وح�سب‪ ،‬بل �أثارت حفيظة العثمانيني كونها �صادرة من خارج �أحكام القر�آن‬ ‫وال�سنة‪ ،‬مما �أحدث ا�ضطراباً على امل�ستويني الديني وال�سيا�سي الداخل‪� ،‬أدى �إىل ن�شوء معار�ضة‬ ‫داخلية �شديدة‪.‬‬ ‫ولكن حماوالت الإ�صالح مل ت�صطدم باملعار�ضة الداخلية التي ارتبطت م�صاحلها بالأو�ضاع‬ ‫القائمة‪ ،‬بل ا�صطدمت مبعار�ضة الدول الأجنبية التي وجدت يف �أمالك الدولة العثمانية هدفاً‬ ‫ال�ستعمارها منذ غزو نابليون م�صر يف العام ‪ 1798‬وا�ستيالئه عليها‪ ،‬ولوال تدمري �أ�سطوله من قبل‬ ‫القوات البحرية الربيطانية ملا �أجرب على االن�سحاب منها‪ .‬ويف العام ‪ 1830‬غزت فرن�سا اجلزائر‬ ‫وا�ستولت عليها فيما ا�ستولت بريطانيا على عدن عام ‪ 1839‬لتجعلها قاعدة لتموين �سفنها يف طريقها‬ ‫�إىل م�ستعمراتها يف الهند ‪ .‬و�إذ خا�ضت فرن�سا وبريطانيا حرب القرم (‪ )1856-1854‬لتمنعا رو�سيا‬ ‫من اال�ستيالء على ا�سطنبول وو�صولها �إىل املياه الدافئة‪ ،‬ظلت عملية االقتطاع م�ستمرة‪ ،‬فا�ستولت‬ ‫بريطانيا على قرب�ص عام ‪ . 1878‬بينما احتلت رو�سيا مناطق مهمة يف القفقا�س والأنا�ضول‪ ،‬ويف‬ ‫عام ‪ 1876‬و�صلت اجليو�ش الرو�سية �إىل �ضواحي ا�سطنبول ناهيك عن التدخالت الأوروبية‬ ‫(‪)1‬‬

‫(‪)2‬‬

‫ ‬ ‫‪ 2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪18‬‬

‫مراد‪ ،‬حممد عدنان‪ .‬بريطانيا والعرب‪ ،‬دار طال�س‪ ،‬دم�شق ‪� ،1989‬ص‪.84‬‬ ‫املحامي‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.670‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ال�سافرة ب�ش�ؤون الدولة العثمانية التي احتاجت �إىل معونة بع�ضها‪ ،‬فقد �سبق لها �أن ا�ستعانت‬ ‫بالرو�س ملنع جي�ش حممد علي من دخول ا�سطنبول‪ ،‬وا�ستعانت باجليو�ش الربيطانية لإخراج‬ ‫اجليو�ش امل�صرية من �سورية‪ ،‬كما تدخلت فرن�سا �إبان احلرب الأهلية يف لبنان ‪ 1860‬بحجة حماية‬ ‫امل�سيحيني‪ .‬ف�ضال عن التدخل الأوروبي يف تق�سيم �إمارة جبل لبنان �إىل قائممقاميتني‪ ،‬ومن ثم‬ ‫و�ضع نظام مت�صرفية جبل لبنان ‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫�أوالً ‪ -‬بدايات النهو�ض القومي يف ظل الإ�صالحات العثمانية‬

‫عن طريق الإ�صالحات العثمانية �أخذت الآراء الغربية‪ ،‬مبا فيها مفاهيم احلرية وامل�ساواة والوطنية‪،‬‬ ‫ت�صل �إىل الأو�ساط ال�شعبية‪ ،‬منذ الن�صف الأول من القرن الثامن ع�شر وجتد تعابريها يف اللغتني‬ ‫الرتكية والعربية‪ ،‬وذلك عن طريق البعثات واملدار�س الع�سكرية‪ ،‬ف�أنتجت‪ ،‬مع الوقت‪ ،‬نخبة مطلعة‬ ‫على جوانب الثقافة الغربية والفكر الليربايل‪ ،‬ولهذا بد�أ مع ال�سبعينات من القرن التا�سع ع�شر‬ ‫النظر يف حتديد ال�سلطة املطلقة لل�سلطان‪ ،‬ومتثل ذلك لدى بع�ض املفكرين الأتراك مثل �شنا�سي‪،‬‬ ‫و�ضيا با�شا ونامق كمال‪ ،‬وهم ممن غلب عليهم االلتزام بالإ�سالم وو�ضع مفاهيم احلرية و�سيادة‬ ‫ال�شعب يف �إطار �إ�سالمي (ال�شورى‪ ،‬البيعة) وظهر مثل هذا الفكر يف بع�ض املناطق العربية مثل‬ ‫م�صر وبالد ال�شام يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر ‪.‬‬ ‫�إزاء هذه الأو�ضاع‪ ،‬هبت الرياح القومية يف ال�سلطنة العثمانية‪�( ،‬سواء تركيا �أو البالد العربية)‪،‬‬ ‫وكانت �أول حماولة عثمانية للعمل املنظم بهدف مواجهة التحديات (حزيران ‪ )1865‬يوم �أن�ش�أ‬ ‫�ستة �شبان �أتراك جمعية �سرية �أطلقوا عليها ا�سم «العثمانيون الفتيان» �سنة ‪ 1867‬و�أ�صدروا جريدة‬ ‫«احلرية» عام ‪ ،1868‬وقد جعلوا �أ�سا�س برناجمهم «حب الوطن من الإميان» و«�شاورهم يف الأمر»‬ ‫وا�ستمروا يف ن�شاطهم من الآ�ستانة وباري�س حتى حل �أول جمل�س «للمبعوثان» �سنة ‪ 1878‬لينهي‬ ‫عملهم يف الآ�ستانة ويبد�أ يف اخلارج با�سم (تركيا الفتاة)‪ ،‬ولي�صبح فيما بعد «االحتاد والرتقي» ‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫(‪)5‬‬

‫‪ -1‬بداية النهو�ض ال�سوري القومي ‪1860‬‬

‫وفيما كان امل�شرق العربي م�سرحاً لأحداث ج�سام متثلت بحملة حممد علي على بالد ال�شام‬ ‫والثورات التي واجهتها يف �سورية‪� ،‬سواء يف جبل لبنان �أو حوران‪ .‬ثم ما �أعقبها من حروب طائفية‬ ‫ ‬ ‫‪ 4‬‬ ‫‪3‬‬

‫ال�صليبي‪ ،‬كمال‪ .‬تاريخ لبنان احلديث‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بريوت ‪� ،1978‬ص‪.148-147‬‬ ‫الدوري‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬التكوين التاريخي للأمة العربية‪ ،‬درا�سة يف الهوية والوعي‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪،‬‬ ‫بريوت ‪� ،1986‬ص ‪.142‬‬

‫‪Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press, 1961. pp. 81-194.‬‬

‫ ‪5‬‬

‫‪19‬‬


‫يف جبل لبنان ودم�شق عام ‪ ،1860‬برز بطر�س الب�ستاين عرب كتاباته مب�شراً بحب الوطن‪ ،‬وامل�صاحلة‪،‬‬ ‫(ابتداء من �أيلول ‪ )1860‬دعا فيها لالتفاق بني‬ ‫وقد �أ�صدر لهذه الغاية �صحيفة «نفري �سورية»‬ ‫ً‬ ‫الطوائف مذكراً �أبناء الوطن �أنه يجمعهم وطن واحد‪ .‬ولغـة واحـدة وعادات وم�صالح م�شرتكة ‪.‬‬ ‫و�أن�ش�أ املدر�سة الوطنية يف بريوت لتعنى بلغة الوطن وتدعو �إىل حبه‪ ،‬وت�شجع ال�صالت الوطنية‬ ‫بني طالبها‪ ،‬و�أ�صدر الب�ستاين يف عام ‪ 1870‬جملة اجلنان‪ ،‬وهي جملة �أدبية �سيا�سية ن�صف �شهرية‪،‬‬ ‫ا�ستمرت حتى عام ‪ 1886‬كما �أ�صدر «اجلنة» ثم «اجلنينة» والوطن عند الب�ستاين هو �سورية ولكن‬ ‫يف نطاق الدولة العثمانية‪ ،‬وكان حري�صا على ربط اجلماعة الوطنية بالعروبة كون العربية لغة وثقافة‬ ‫قاعدة م�شرتكة لأبناء الوطن ‪.‬‬ ‫وقد �أدت املجالت العلمية وال�صحف ال�سيا�سية دوراً ممتازاً يف ن�شر الفكرة القومية يف القرن التا�سع‬ ‫ع�شر‪ ،‬كان �أبرزها جريدة «حديقة الأخبار» وهي �أول �صحيفة عربية �صدرت يف بريوت عام ‪.1857‬‬ ‫وجريدة «اجلوائب» الأ�سبوعية التي �أ�صدرها �أحمد ال�شدياق يف ا�سطنبول عام ‪ ،1861‬فكانت‬ ‫�أ�شهر ال�صحف العربية �آنذاك جلهة انت�شارها الوا�سع‪� ،‬إذ عنيت بال�سيا�سة الدولية‪ .‬وجملتا «البيان»‬ ‫و«ال�ضياء» اللتان �أ�صدرهما �إبراهيم اليازجي عام ‪. 1883‬‬ ‫و�صدر عام ‪ 1869‬جريدة �أ�سبوعية با�سم «الب�شري»‪ ،‬ويف عام ‪� 1898‬صدرت جملة علمية ن�صف �شهرية‬ ‫دعيت « امل�شرق» ويف عام ‪� 1874‬أ�صدر م�سلمو بريوت جريدة با�سم «ثمرات الفنون»‪ ،‬وا�شرتك يف‬ ‫حتريرها نخبة من ال�شبان املثقفني يف طليعتهم �أديب ا�سحق ‪ .‬و�أ�س�س خليل �سركي�س‪ ،‬جريدة‬ ‫ن�صف �شهرية عام ‪ 1877‬با�سم «ل�سان احلال» وحتولت �إىل يومية منذ ‪ 1894‬ويف عام ‪� 1880‬أ�س�س‬ ‫املوارنة جريدة «امل�صباح» والربوت�ستانت «كوكب ال�صبح املنري» والأرثوذك�س «الهدية»‪ .‬و�أ�صدرت‪،‬‬ ‫يف عام ‪ ،1886‬ال�سلطة العثمانية يف بريوت جريدة با�سم «بريوت»‪ .‬وعلى الرغم من تنوع والءات‬ ‫هذه ال�صحف فقد �أ�سهمت يف غنى الفكر القومي ‪.‬‬ ‫وبالإ�ضافة �إىل املجهود الفردي للأدباء واملفكرين عرب ال�صحف‪ ،‬فقد برزت فكرة العمل اجلماعي‬ ‫عن طريق اجلمعيات وظهرت �أول جمعية يف بريوت عام ‪ 1847‬با�سم «جمعية الآداب والعلوم»‬ ‫و�ضمت بني �أع�ضائها بطر�س الب�ستاين ونا�صيف البازجي‪ ،‬ثم قامت يف عام ‪« 1850‬اجلمعية‬ ‫ال�شرقية» واقت�صرت ع�ضويتها على امل�سيحيني فقط‪ ،‬وبحلهما قامت «اجلمعية العلمية ال�سورية»‬ ‫(‪)6‬‬

‫(‪)7‬‬

‫(‪)8‬‬

‫(‪)9‬‬

‫( ‪)10‬‬

‫(‪)11‬‬

‫ ‬ ‫‪ 7‬‬ ‫‪ 8‬‬ ‫‪ 9‬‬ ‫‪6‬‬

‫دي طرازي‪ ،‬فيليب‪ .‬تاريخ ال�صحافة العربية ‪� 4‬أجزاء‪ ،‬املطبعة الأدبية‪ ،‬جزء ‪ ،1‬بريوت ‪� .1933-1913‬ص ‪ 64‬و‪ 89‬وما يليها‪.‬‬ ‫جملة اجلنان‪ .‬ال�سنة ‪� ،1870 – 1‬ص ‪.71-70‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.34‬‬ ‫رافق‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.513‬‬

‫‪10 Hourani, Albert: Arabic Thought in the Liberal Age, 1798-1939, London, Oxford University‬‬ ‫‪Press, 1962, p. 98.‬‬

‫‪� 11‬أنظر حول ال�صحافة العربية بعامة‪ :‬دي طرازي‪ ،‬مرجع �سابق جزء ‪ ، 3‬بريوت ‪.1933-1913‬‬ ‫‪20‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫التي ظهرت عام ‪ 1857‬يف غمرة احلوادث الطائفية يف جبل لبنان‪ ،‬وقد �ضمت يف �صفوفها طوائف‬ ‫عدة‪ ،‬وبلغ عدد �أع�ضائها ‪ 150‬ع�ضواً‪ ،‬ورمبا جاء ت�شكيلها على هذا النحو بفعل املر�سوم الذي‬ ‫�أ�صدره ال�سلطان عبد املجيد الأول (‪ )1861-1839‬يف العام ‪ 1856‬الذي ت�ضمن اعرتافاً �صريحاً‬ ‫بامل�ساواة الكاملة بني جميع الأديان يف الإمرباطورية العثمانية ‪.‬‬ ‫كان �إبراهيم اليازجي �أحد �أع�ضاء اجلمعية‪ ،‬وهو الذي طاملا تغنى مبجد العرب‪ ،‬و�أ�شار �إىل تفوقهم‬ ‫العلمي‪ ،‬ور�أى �أن ت�أخرهم جاء ب�سبب �إهمالهم العلوم و�إحالل التع�صب الأعمى حمل الدين ‪.‬‬ ‫ولعل �أعمال اجلمعية ون�شاطها �أنتج دالالت عدة‪� ،‬إذ ي�شري القن�صل الرو�سي (ك م‪ .‬بازيلي)‪ ،‬الذي‬ ‫عمل يف �سورية خالل الفرتة املمتدة ما بني ‪ ،1853-1839‬يف تقرير له �سنة ‪� 1868‬إىل االجتماعات‬ ‫الأدبية يف بريوت التي كانوا يتحدثون خاللها عن الأجماد ال�سورية‪-‬العربية‪� ،‬إ ّال �أن الأحاديث‬ ‫كانت تتناول الظلم الرتكي ‪.‬‬ ‫الوا�ضح هو �أن الإطار ثقايف االجتاه‪ ،‬ولي�س من دعوة لكيان �سيا�سي‪ ،‬والتطلعات كانت يف نطاق‬ ‫�سوري‪ ،‬والفكرة العثمانية كانت ال تزال هي ال�سائدة يف تلك الفرتة ‪.‬‬ ‫هذا الواقع الثقايف يخفي وراءه عوامل خمتلفة من القلق يف �سورية‪ ،‬مت�صلة بالتطورات االقت�صادية‪-‬‬ ‫االجتماعية‪ ،‬من تراجع يف النظام الإقطاعي‪� ،‬إىل ظهور ملكيات فردية كبرية‪ ،‬وفئات من امل�سيحيني‬ ‫ترتبط بامل�صالح التجارية وال�صناعية الغربية‪ ،‬ومن ردود فعل من امل�سلمني للنظام اجلديد الذي‬ ‫�أحدثتها الإ�صالحات كونه �أدى �إىل تقلي�ص دور ال�شريعة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫ويجدر بنا �أن نعرف �أين تقف احلركة ال�سورية من تياري الفكر الي�ساري املدين واليميني الديني‪� ،‬إذ �أفادت‬ ‫احلركة ال�سورية من االجتاهني ومل تذب يف �أي منهما‪ ،‬وعملت على ا�ستقطابهما لهدف �سوري واحد‪.‬‬ ‫ا�شتهر يف اجلانب الي�ساري العلماين كل من فرن�سي�س مرا�ش و�شبلي �شميل وفرح �أنطون‪ ،‬يف‬ ‫حني ا�شتهر بني دعاة الإ�صالح الديني من العروبيني عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬الذي �شكل حلقة‬ ‫الو�صل‪ ،‬يف جمال الفكر الديني‪ ،‬بني احلركة ال�سورية الالطائفية واحلركة الدينية اليمينية ال�سلفية‬ ‫الداعية للجامعة الإ�سالمية التي متثلت بجمال الدين الأفغاين وحممد عبده ومبحمد ر�ضا ‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫(‪)13‬‬

‫(‪)14‬‬

‫( ‪)15‬‬

‫(‪)16‬‬

‫‪� 12‬أنطونيو�س‪ ،‬جورج‪ .‬يقظة العرب‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪� ،1987 ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪ 1 3‬راجع‪� :‬سابا‪ ،‬عي�سى ميخائيل‪ .‬ال�شيخ �إبراهيم اليازجي‪� ،‬سل�سلة نوابغ الفكر العربي‪ ،14 ،‬دار املعارف‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪� ،1955‬ص ‪ 51-49‬و ‪.74-71‬‬ ‫‪� 14‬أزاكوفيت�ش‪ ،‬ليفني زملان‪ :‬الفكر االجتماعي وال�سيا�سي احلديث يف لبنان ‪� -‬سورية ‪ -‬م�صر‪ ،‬ترجمه عن الرو�سية‬ ‫ب�شري ال�سباعي‪ ،‬دار ابن خلدون‪ ،‬بريوت‪� ،1978 ،‬ص‪.77‬‬ ‫‪Dawn, Emest. From Ottomanism to Arabism: Essays on the Origins of Arab Nationalism, University‬‬ ‫‪of Illinois Press 1973. p. 132.‬‬

‫ ‪15‬‬

‫‪ 1 6‬رافق‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.516‬‬ ‫‪21‬‬


‫ولد فرن�سي�س مرا�ش يف حلب ‪ 1836‬ودر�س الطب يف باري�س‪ ،‬وترك كتابني «غابة احلق» و»م�شهد‬ ‫الأحوال» وكان كتاب غابة احلق على �شكل حوار‪ ،‬تدور موا�ضيعه حول �إقامة «مملكة احل�ضارة‬ ‫واحلرية» ويظهر فيه �أثر الفكر الأوروبي املعا�صر لتلك الفرتة‪ ،‬من خالل دعوته �إىل احلرية وامل�ساواة‬ ‫والق�ضاء على الرق‪ .‬وقال‪� :‬إن العرب يحتاجون قبل كل �شيء �إىل مدار�س حديثة وحب للوطن‬ ‫خال من االعتبارات الدينية ‪.‬‬ ‫�إىل جانب مرا�ش كان �سوري �آخر يدعى �شبلي ال�شميل الذي �آمن بقوة اجلماهري ال�شعبية‪ ،‬وب�أهمية‬ ‫ويعد «�أول من ن�شر بالعربية فكرة اال�شرتاكية‪،‬‬ ‫التعليم يف �إنهاء �أيام الطغاة‪ ،‬كما �آمن باال�شرتاكية ّ‬ ‫و�إن مل يكن �أول من �سماها بهذا اال�سم» ‪.‬‬ ‫ونادى بالعلمانية من طرابل�س ال�شام‪ ،‬فرح �أنطون (‪ )1922-1872‬الذي نزح �إىل م�صر‪ ،‬وكان من‬ ‫�أ�شهر �أعماله �إ�صداره جملة «اجلامعة يف م�صر‪ ،‬ون�شره كتاب ابن ر�شد وفل�سفته» وقد دعا فرح �أنطون‬ ‫يف كتاباته �إىل ف�صل الدين عن الدولة‪ ،‬وهاجم اال�ستبداد‪ ،‬و�آمن باال�شرتاكية العلمية ‪.‬‬ ‫ويف اجلانب املقابل وقف مفكر �سوري �آخر هو حممد ر�شيد ر�ضا (‪ )1935-1865‬يدعو �إىل بعث‬ ‫الأمة الإ�سالمية‪ ،‬وتطبيق املبادئ الإ�سالمية الأوىل‪ ،‬كما يف عهد ال�سلف ال�صالح‪ ،‬و�إىل التوفيق‬ ‫بني العلم احلديث والدين‪� ،‬آمن بالقومية العربية التي جتمع �أبناء الأمة الواحدة‪ .‬وقد �أ�صدر حممد‬ ‫ر�شيد ر�ضا جريدة «املنار» وترك عدداً من الكتب و�أ�شهر م�ؤلفاته «تاريخ الأ�ستاذ الإمام»‪ ،‬ترجم فيه‬ ‫�أ�ستاذه حممد عبده‪.‬‬ ‫وقف ر�شيد ر�ضا �إىل جانب ال�سوريني �ضد العثمانيني وهاجم ال�سلطان العثماين عبد احلميد‬ ‫الثاين (‪ ،)1909-1876‬ودعا جميع العثمانيني ال�ستبدال احلكم اال�ستبدادي بحكومة ال�شورى‪.‬‬ ‫و�أدى دوراً ف ّعا ًال يف الدفاع عن ا�ستقالل العرب‪ ،‬و�أ�صبح رئي�ساً للم�ؤمتر ال�سوري يف ‪ 1920‬وع�ضواً‬ ‫يف امل�ؤمتر ال�سوري ‪ -‬الفل�سطيني املنعقد يف جنيف يف ‪ 1921‬وع�ضواً يف اللجنة التنفيذية التي �أقامها‬ ‫امل�ؤمتر يف القاهرة‪ ،‬التي �أيدت اال�ستقالل ال�سوري الفل�سطيني‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من التغريات التي طر�أت على �أفكار ر�شيد ر�ضا‪ ،‬ف�إن هدفه يف حتقيق خري الإ�سالم‬ ‫كان م�ؤكداً‪ ،‬وهو �إذ يربر موقفه امل�ؤيد للدولة العربية امل�ستقلة يقول‪� « :‬إن م�صلحة العرب ال�سيا�سية‬ ‫هي م�صلحة الأمة مبجموعها‪� ،‬إذ من �ش�أن الدولة العربية امل�ستقلة �أن حتيي لغة الإ�سالم و�شريعته» ‪.‬‬ ‫(‪)17‬‬

‫(‪)18‬‬

‫(‪)19‬‬

‫(‪)20‬‬

‫‪ 17‬الكيايل‪� ،‬سامي‪ .‬احلركة الأدبية يف حلب‪ ،‬القاهرة‪� ،1957 ،‬ص ‪.517‬‬ ‫‪ 1 8‬حوراين‪� ،‬ألربت‪ .‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة‪ ،1939-1798 ،‬تعريب كرمي عزقول‪ ،‬طبعة ‪ ،4‬دار النهار للن�شر‪،‬‬ ‫بريوت‪� ،1986 ،‬ص ‪.302‬‬ ‫‪� 19‬أنظر �آراء فرح �أنطون و�شرحها يف‪ :‬حوراين‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪310-303‬‬ ‫‪ 2 0‬حوراين‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.365‬‬ ‫‪22‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ظهر �أول عمل �سيا�سي منظم عام ‪ ،1875‬امل�صادف تاريخ �إعالن الدولة العثمانية �إفال�سها‪ ،‬عندما‬ ‫�أ�س�س بع�ض ال�شباب املثقف من �أع�ضاء «اجلمعية العلمية ال�سورية» «جمعية �سرية» يف بريوت‪،‬‬ ‫وو�ضعوا برناجماً قومياً م ّتبعني طريقة جديدة للت�صريح به بوا�سطة الن�شرات الثورية التي علقت‬ ‫على اجلدران �سراً يف مدن واليتي دم�شق وبريوت‪.‬‬ ‫ُع ّلقت املنا�شري يف العام ‪ ،1880‬بعد خ�سارة الدولة العثمانية احلرب مع رو�سيا التي بد�أت يف‬ ‫العام ‪ ،1877‬وانتهت عام ‪ ،1878‬وبعدما انح�سرت الإمرباطورية العثمانية عن �أوروبا‪ ،‬حيث مل‬ ‫يبق للدولة فيها �إ ّال �أربع قطع �صغرية ال ات�صال بني ثالث منها �إال طريق البحر ‪ .‬و ذلك بعد‬ ‫تعليق الد�ستور العثماين ‪ ،1878‬واحتالل بريطانيا جلزيرة قرب�ص ‪ .‬فاجتهت احلركة اال�ستقاللية‬ ‫يف العامل العربي �إىل الدعوة ال�ستقالل �سورية‪ ،‬فالتذمر والقلق يف �سورية �أ�صبح وا�ضحاً‪ .‬والدولة‬ ‫العثمانية يف انحدار رغم الإ�صالحات‪ ،‬و�أ ّزم ذلك �ضغط الدول الغربية‪ ،‬ومع حر�ص امل�سلمني على‬ ‫�سالمة الدولة �أمام اخلطر اخلارجي‪ ،‬ف�إن ال�شعور بعجز الدولة عن حماية البالد كان �سبباً للقلق‬ ‫والتفكري بامل�صري ‪.‬‬ ‫لذلك ت�ضمن املن�شور الأول ‪ 1880‬ال�صادر عن «اجلمعية ال�سرية» لوماً لأهل ال�شام ال�ستكانتهم‬ ‫وا�ست�سالمهم لطغيان الأتراك فيما هم نهباً ملطامع الدول الأوروبية‪ ،‬داعياً �إىل الوحدة م�ؤكداً قيمتها‬ ‫و�ضرورتها‪.‬‬ ‫وت�ضمن املن�شور الثاين املطالبة ال�صريحة بتحقيق اال�ستقالل الذاتي للبالد ال�شامية وي�ؤكد عزم‬ ‫كتبته على العمل يف �سبيل وطنهم مهما يكلفهم ذلك‪� ،‬أما املن�شور الثالث والأكرث �أهمية‪ ،‬فقد‬ ‫ت�ضمن برناجماً �سيا�سياً على النحو التايل‪:‬‬ ‫منح �سورية (الطبيعية) اال�ستقالل متحدة مع جبل لبنان‪ ،‬واالعرتاف باللغة العربية لغة ر�سمية يف‬ ‫البالد‪ .‬ورفع الرقابة والقيود الأخرى التي حتد من حرية التعبري ون�شر التعليم‪ .‬وا�ستخدام القوات‬ ‫املجندة من �أهل البالد يف املهام الع�سكرية الداخلية فيها فقط ‪.‬‬ ‫يبدو وا�ضحاً‪ ،‬رف�ض �صريح لربتوكول مت�صرفية جبل لبنان وف�صلها �إدارياً عن �سورية‪ ،‬لأنه جزء‬ ‫من تعديالت �إدارية من وحي �أوروبي يهدف �إىل تق�سيم امل�شرق العربي والعامل العربي ب�أ�سره‪،‬‬ ‫والطلب لتعزيز اللغة العربية بهدف حتقيق نه�ضة فكرية عربية‪ ،‬وتعزيز احلرية التي بدونها ال تقوم‬ ‫نه�ضة �شاملة‪� ،‬أما البند الأخري من الربنامج يبدو �أن كتبته كانوا يتوج�سون من احتمال تدخل‬ ‫(‪)21‬‬

‫(‪)22‬‬

‫(‪)23‬‬

‫(‪)24‬‬

‫‪ 21‬املحامي‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.664‬‬ ‫‪ 2 2‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.670‬‬ ‫‪ 23‬ح�صل اثر قيام حرب القرم �سنة ‪ 1856‬ما ي�شبه هذا املوقف يف حلب‪� .‬أنظر‪:‬ال�صلح‪ ،‬عادل‪� .‬سطور من الر�سالة‪:‬‬ ‫تاريخ حركة ا�ستقالل قامت يف امل�شرق العربي �سنة ‪ ،1877‬مطابع دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪� ،1966 ،‬ص ‪.128‬‬ ‫‪� 24‬أنطونيو�س‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.155-153‬‬ ‫‪23‬‬


‫�أوروبي يف بالدهم فهم يريدون بقاء اجلي�ش يف البالد العربية للدفاع عنها يف وجه املطامع الأوروبية‪.‬‬ ‫�شهدت احلركة ال�سورية بعد العام ‪ 1880‬تطوراً بطيئاً ب�سبب الإجراءات الإدارية وال�سيا�سة‬ ‫اال�ستبدادية والهجمة اال�ستعمارية التي �شهدها العامل العربي‪ ،‬ففي العام ‪ 1882‬احتلت بريطانيا‬ ‫م�صر ثم ال�سودان‪ ،1899‬وكانت فرن�سا قد احتلت تون�س عام ‪ ،1881‬الأمر الذي ج ّز�أ الن�ضال‬ ‫العربي‪ ،‬ففي م�صر ولدت القومية امل�صرية املطالبة بجالء القوات الربيطانية‪ .‬وقد وطدت الإدارة‬ ‫العثمانية �سيطرتها على امل�شرق العربي بتق�سيمات �إدارية ‪ ،1887‬فيما قمع احلريات �سائر على قدم‬ ‫و�ساق وقد عقد بطء االت�صاالت الأمور‪ ،‬ولذلك بقي الأمر �شبه م�ستكني‪ ،‬ولكنه كاجلمر حتت‬ ‫الرماد �إىل �أن �سقط اال�ستبداد احلميدي عام ‪ ،1909‬حيث بد�أ عهد جديد من الن�ضال القومي يف‬ ‫امل�شرق العربي مع ن�شوء اجلمعيات ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫‪ -2‬الفكرة القومية‪ :‬مباد�ؤها واجتاهاتها‬

‫يت�ضح مما تقدم �أن تركيبة الفكرة القومية يف هذه املرحلة كانت تقوم على املبادئ التالية‪:‬‬ ‫ رف�ض الع�صبيات الطائفية واملذهبية‪ ،‬التي ت�سببت بحروب �أهلية‪ ،‬طائفية �أ�سهمت يف �إ�ضعاف‬ ‫ال�سوريني‪ ،‬و�إحالل ع�صبية قومية توحيدية بد ًال عنها‪ ،‬خا�صة و�أن الأ�سباب مل تكن دينية‪،‬‬ ‫�إمنا كانت اقت�صادية اجتماعية متمثلة باال�ضطهاد الإقطاعي للفالحني‪ ،‬وغريها من �أ�ساليب‬ ‫اال�ستغالل للفئات الفقرية يف املجتمع‪.‬‬ ‫ رف�ض الرابطة العثمانية الدينية‪ ،‬و�إحالل الرابطة ال�سورية‪.‬‬ ‫ رف�ض النظام العثماين اال�ستبدادي‪ ،‬و�إحالل النظام الدميقراطي الذي تخ�ضع فيه ال�سلطة‬ ‫التنفيذية لل�سلطة الت�شريعية‪.‬‬ ‫ الدعوة �إىل �إقامة دولة علمانية‪.‬‬ ‫ الوطن القومي هو �سورية (الطبيعية) التي ت�شمل ال�شام ولبنان وفل�سطني والأردن‪.‬‬ ‫�أما اجتاهات الفكر ال�سيا�سي يف امل�شرق العربي‪ ،‬فيمكن حتديدها بثالثة‪:‬‬ ‫االجتاه الأول‪� :‬إ�سالمي �سلفي يدعو �إىل �إبقاء الرابطة العثمانية و�إ�صالح الدولة العثمانية‪ ،‬وقد‬ ‫عرب عنه حممد ر�شيد ر�ضا‪.‬‬ ‫االجتاه الثاين‪ :‬قومي علماين يدعو �إىل �إقامة الدولة القومية الدميقراطية العلمانية‪ ،‬وقد عرب عنه‬ ‫�شبلي ال�شميل وفرح �أنطون‪.‬‬ ‫‪24‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫االجتاه الثالث‪ :‬توفيقي‪� ،‬شكل حلقة ربط بني االجتاهني ال�سابقني‪ ،‬وقد عرب عنه عبد الرحمن‬ ‫الكواكبي بدعوته لإقامة خالفة عربية تقوم �أ�س�س االحتاد فيها على قواعد علمانية‪.‬‬ ‫خالل املرحلة التي �أعقبت العام ‪� 1880‬شهد الفكر القومي وال�سيا�سي حتوالت فكرية مهمة‬ ‫�سيكون لها ت�أثري كبري يف جمرى الأحداث التي تلت‪� ،‬سواء ما �أقدم عليه القوميون من عقد م�ؤمتر‬ ‫يف باري�س ‪� ،1913‬أو �إعالن الثورة العربية الكربى عام ‪ ،1916‬و�سنحاول تلم�س االجتاهات اجلديدة‬ ‫من خالل ثالثة مفكرين عا�صروا املرحلة هم‪ :‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬جنيب عازوري‪ ،‬عبد‬ ‫الغني العري�سي‪.‬‬ ‫مع عبد الرحمن الكواكبي (‪ ،)1902-1849‬يتعاظم ال�شعور القومي عمن �سبقه من املفكرين‬ ‫عد الكواكبي رائداً يف معاجلة املفهوم‬ ‫القوميني‪ ،‬وهو الذي بد�أ حياته يف ال�صحافة والقانون‪� ،‬إذ ُي ّ‬ ‫القومي احلديث للقومية ‪ ،‬وقد ف ّرق بني مفهوم احلركة ال�سورية‪ -‬العربية وفكرة اجلامعة الإ�سالمية‪،‬‬ ‫وانتقد الدولة العثمانية التي ف ّرقت بني القوميات واتبعت �سيا�سة متميزة �ضد القوميات غري‬ ‫الرتكية‪ ،‬ونادى ب�إعادة اخلالفة �إىل العرب داعياً �إىل اجل�سد الإ�سالمي‪ ،‬ويف كتابه �أم القرى ذكر �أن‬ ‫«العرب هم �أحر�ص الأمم على احرتام العهود عز ًة‪ ،‬واحرتام الذمة �إن�سانية‪ ،‬واحرتام اجلوار �شهامة‪،‬‬ ‫واملعروف مروءة‪ ».‬ويف كالم الكواكبي عن �أهمية اللغة العربية ذكر �أنها «من �أغنى لغات امل�سلمني‬ ‫يف املعارف وهي م�صونة بالقر�آن الكرمي من �أن متوت» ‪.‬‬ ‫فوجه نداءه ال�شهري‪« :‬يا قوم‪،‬‬ ‫�آمن الكواكبي بالرابطة القومية ونادى بها بني جميع �أبناء الأمة ّ‬ ‫و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني‪� ،‬أدعوكم �إىل تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد‪ ،‬وما جناه‬ ‫الأبناء والأجداد‪ ،‬فقد كفى ما فعل ذلك على �أيدي املثريين‪ ،‬و�أجلكم �أن ال تهتدوا �إىل و�سائل‬ ‫االحتاد و�أنتم املتن ّورون ال�سابقون‪ . »...‬كما �آمن باال�شرتاكية‪ ،‬وقد طالب « �أن تكون الأرا�ضي‬ ‫والأمالك الثابتة والآالت واملعامل ال�صناعية م�شرتكة ال�شيوع بني عامة الأمة‪ ،‬و�أن الأعمال‬ ‫والثمرات تكون موزعة بوجوه متقاربة بني اجلميع‪ ،‬و�أن احلكومة ت�ضع القوانني لل�ش�ؤون قاطبة حتى‬ ‫اجلزئيات وتقوم بتنفيذها» ‪.‬‬ ‫�أما جنيب عازوري (‪ )1916- 1870‬املولود يف قرية عازور يف جنوب لبنان‪ ،‬فقد ن�شر كتابه «يقظة‬ ‫الأمةالعربية» ‪ . 1904‬الذي يتن ّب�أ فيه عازوري ب�أن ال�سلطان عبد احلميد الثاين �سيكون �آخر‬ ‫(‪)25‬‬

‫(‪)26‬‬

‫(‪)27‬‬

‫(‪)28‬‬

‫‪ 25‬‬ ‫‪ 26‬‬ ‫‪2 7‬‬ ‫‪2 8‬‬

‫الكواكبي‪ ،‬عبد الرحمن‪ .‬الأعمال الكاملة‪ ،‬ن�شر حممد عمارة‪ ،‬القاهرة‪� 1970 ،‬ص ‪.304-303‬‬ ‫الكواكبي‪ ،‬عبد الرحمن‪ .‬طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد‪ ،‬دار النفائ�س‪ ،‬بريوت‪� ،1993 ،‬ص ‪.121‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.79‬‬ ‫ويلد‪� ،‬ستيفان‪ .‬جنيب عازوري وكتابه يقظة الأمم العربية‪ ،‬يف‪� :‬أوين‪ ،‬روجر‪ .‬و�آخرون‪ .‬احلياة الفكرية يف امل�شرق‬ ‫العربي‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪� ،‬إعداد مروان بحريي‪ ،‬ترجمة عطا عبد الوهاب‪ ،‬بريوت ‪� ،1983‬ص ‪.110‬‬ ‫‪25‬‬


‫حكام الأتراك لأنه �أخبثهم ‪ .‬ويقول حول �سبب تطلعات العرب القومية ب�أنها حتركت بفعل‬ ‫حماولة الأتراك ا�ستعباد الأمم العربية يف �سياق �سحقها للثورات التي �أ�شعلها الأكراد والأرمن ‪.‬‬ ‫ويحدد عازوري العامل العربي حيث �ستقام دولة �إمرباطورية عربية متتد من دجلة والفرات �إىل برزخ‬ ‫ال�سوي�س‪ ،‬ومن املتو�سط �إىل بحر عمان‪ ،‬بعبارة �أخرى �ست�ضم هذه الإمرباطورية العراق و�سورية‬ ‫و�شبه اجلزيرة العربية‪ ،‬و�ستحرتم احلكم الذاتي للبنان وا�ستقالل �إمارات اليمن وجند والعراق‪،‬‬ ‫و�سرتف�ض هذه الإمرباطورية فكرة الوحدة مع م�صر‪« ،‬لأن امل�صريني ال ينتمون �إىل العرق العربي ‪،‬‬ ‫فهم من عائلة الربابرة الأفريقيني واللغة التي كانوا يتكلمونها قبل الإ�سالم ال ت�شبه العربية قط» ‪.‬‬ ‫ويظل هذا الر�أي مرتبطاً بنجيب عازوري‪ ،‬لأن املعطيات القومية ال�سورية العربية يف م�صر وال�سودان‬ ‫واملغرب العربي ت�ؤكد على عروبة هذه املنطقة من الوطن منذ �أقدم الع�صور‪ ،‬جغرافياً وتاريخياً‪،‬‬ ‫بكل امل�ضمون التاريخي من مقومات الروابط بني وال�شعوب‪.‬‬ ‫يريد عازوري قيام دولة عربية باحلدود املب ّينة‪ ،‬ولكنها حتت �إر�شاد دولة �أوروبية‪ ،‬فيقول «ال ميلك‬ ‫�أحد احلق يف حكمنا غري فرن�سا‪ ،‬ولن ُيهتف بحرارة لأي دولة غريها �إذا نزلت يف البلدان العربية‬ ‫يوم يتقرر جتزئة الإمرباطورية الرتكية» ‪.‬‬ ‫برزت امليول الغربية لدى عازوري يف �أكرث من مكان يف كتابه‪� ،‬إذ تبدو تطلعاته العربية �ضمن �إطار‬ ‫امل�صالح الأوروبية يف املنطقة‪ ،‬فهو يربر احتالل بريطانيا جلزيرة قرب�ص «لأن هذه القاعدة تتيح‬ ‫للبحرية الربيطانية الدفاع عن «الدردنيل» وخليج «اال�سكندرونة» ووادي الفرات (هذه املفاتيح‬ ‫الثالثة �إىل �آ�سيا واملتو�سط) �ضد اندفاع رو�سي» ‪ .‬وهو يربر لفرن�سا احتاللها للجزائر لي�س من‬ ‫�أجل بناء م�ستعمرة بقدر ما هو تخلي�ص للمتو�سط من قر�صنة الربابرة التي فتكت بالتجارة الدولية‬ ‫ودمرتها ‪ ،‬وهو من �شدة تع ّلقه العاطفي بفرن�سا وجد بالأمة الفرن�سية �أمة نبيلة «�أن الأمة الفرن�سية‬ ‫يف جوهرها �أمة نبيلة‪ ،‬وقد تو ّلت فرن�سا احلروب ال�صليبية‪ ،‬وهي حمالت خطرة‪ ،‬فعادت نتائجها‬ ‫باخلري على العامل ب�أ�سره» ‪ .‬والواقع �أن نتائج احلروب ال�صليبية عادت بنتائج مهمة لأوروبا‪ ،‬مبا‬ ‫نهب من ال�شرق من ثروات‪ ،‬ما ت�سببت لل�شرق من خ�سائر فادحة‪.‬‬ ‫(‪)29‬‬

‫(‪)30‬‬

‫(‪)31‬‬

‫(‪)32‬‬

‫(‪)33‬‬

‫(‪)34‬‬

‫(‪)35‬‬

‫ ‬

‫‪29‬‬

‫ ‬ ‫‪3 1‬‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪3 3‬‬ ‫‪3 4‬‬ ‫‪3 5‬‬ ‫‪30‬‬

‫‪26‬‬

‫عازوري‪ ،‬جنيب‪ .‬يقظة الأمم العربية‪ ،‬تعريب وتقدمي �أحمد بو ملحم‪ ،‬امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات‪ ،‬بريوت د‪.‬ت‬ ‫�ص ‪.182‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.212‬‬ ‫امل�صدر نف�سه �ص ‪.119‬‬ ‫عازوري‪ .‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪.133‬‬ ‫امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.111‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.115‬‬ ‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.115‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫وينربي عازوري ملعاجلة كيفية ف�صل ال�سلطة الروحية عن ال�سلطة الدنيوية في�ؤكد �أن اخلليفة لن‬ ‫�سيقدم كذلك اخلالفة الدينية العامة‬ ‫تكون له �سلطة دنيوية خارج والية احلجاز‪ ،‬فالعامل العربي ّ‬ ‫على الإ�سالم‪� ،‬إىل ذلك ال�شريف �سليل النبي الذي �سيحت�ضن ق�ض ّيته ب�إخال�ص ويكر�س نف�سه‬ ‫لهذا العمل‪ .‬و�سيحظى اخلليفة الديني باعتباره دولة �سيا�سية تامة اال�ستقالل بوالية احلجاز الفعلية‬ ‫ب�أ�سرها‪ ،‬من �ضمنها املدينة املنورة و�إقليمها حتى العقبة‪� .‬أنه �سيتمتع مبظاهر التكرمي الذي يتمتع بها‬ ‫امللك‪ ،‬كما �سيتم ّتع ب�سلطة �أدبية حقيقية على جميع امل�سلمني يف العامل ‪.‬‬ ‫ولعل �أكرث ما �أبرز �شهرة جنيب عازوري هو ما جاء يف كتابه من حتذير للتط ّلعات ال�صهيونية من �أجل‬ ‫�إقامة وطن قومي يف فل�سطني وكالمه يكاد يالم�س التنب�ؤات �إذ يقول يف هذا املجال «�إن ظاهرتني‬ ‫هامتني‪ ،‬مت�شابهتي الطبيعة‪ ،‬بيد �أنهما متعار�ضتان‪ ،‬مل جتذبا انتباه �أحد حتى الآن تت�ضحان يف‬ ‫هذه الآونة يف تركيا الآ�سيوية‪� ،‬أعني‪ :‬يقظة الأمم العربية وجهود اليهود اخلفي لإعادة تكوين مملكة‬ ‫«�إ�سرائيل» القدمية على نطاق وا�سع ‪ .‬وم�صري هاتني احلركتني هو �أن تتعاركا با�ستمرار حتى تنت�صر‬ ‫�إحداهما على الأخرى‪ ،‬وبالنتيجة النهائية لهذا ال�صراع بني هذين ال�شعبني اللذين ميثالن مبد�أين‬ ‫مت�ضاربني يتعلق م�صري العامل ب�أ�سره» ‪ .‬وعلى الرغم من �أهمية قوله هذا‪ ،‬مل يدرك عازوري‪� ،‬أو‬ ‫�أنه جتاهل‪ ،‬التزاوج بني الفكر اليهودي و�أهداف الر�أ�سمالية اال�ستعمارية الذي �أدى �إىل ن�شوء‬ ‫الفكر ال�صهيوين‪.‬‬ ‫(‪)36‬‬

‫(‪)37‬‬

‫‪ -3‬العرب يف مواجهة �سيا�سة الترتيك‬

‫بتاريخ ‪ 23-21‬متوز ‪ 1908‬حدث تط ّور بالغ اخلطورة يف عا�صمة الدولة العثمانية‪ ،‬مف�صحاً عن جناح‬ ‫االنقالب الذي قامت به جماعة االحتاد والرتقي‪.‬‬ ‫هلل العرب باالنقالب اجلديد وو�سط حما�س عارم �أعلن ت�أ�سي�س �أول جمعية عربية «الإخاء‬ ‫العربي العثماين»‪ .‬من �أغرا�ضها‪ :‬حماية الد�ستور‪ ،‬و�صهر العرب والعثمانيني‪ ،‬وم�ساواة املقاطعات‬ ‫العربية مع غريها‪ ،‬وا�ستعمال اللغة العربية يف التعليم ‪.‬‬ ‫ولكن هذا احلما�س ا�صطدم مع �أول انتخاب مع الربملان اجلديد‪� ،‬إذ حدد �أع�ضاء النواب العرب ب�ستني‬ ‫مقعداً من �أ�صل ‪ 245‬مقعداً‪ ،‬يف وقت كان عدد العرب‪ ،‬حوايل ن�صف �سكان الإمرباطورية وكان التمييز‬ ‫بادياً بعد خلع عبد احلميد‪ ،‬واعتماد االحتاد والرتقي �سيا�سة «طورانية» لتدعيم القومية الرتكية ‪.‬‬ ‫(‪)38‬‬

‫(‪)39‬‬

‫ ‬ ‫‪ 37‬‬ ‫‪3 8‬‬ ‫‪3 9‬‬ ‫‪36‬‬

‫امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.220‬‬ ‫عازوري‪ .‬م�صدر �سابق‪� ،‬ص ‪.41‬‬ ‫رافق‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.534‬‬ ‫املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.535‬‬ ‫‪27‬‬


‫تعاظمت �سيا�سة الترتيك بعد عام ‪ 1912‬وخ�سارة الدولة العثمانية احلرب مع دول البلقان التي‬ ‫انف�صلت نهائياً عن الدولة العثمانية‪ ،‬وتعاظمت الكراهية العربية للأتراك بعد هزمية تركيا يف ليبيا‬ ‫�أمام الإيطاليني عام ‪.1911‬‬ ‫يف غمرة هذه الأجواء ت�أ�س�س املنتدى الأدبي يف ا�سطنبول عام ‪ 1909‬ب�أهداف غري �سيا�سية‪ ،‬ولكنه‬ ‫�أ�سهم يف مناق�شة الق�ضايا العربية يف فروعه املنت�شرة يف البالد العربية ‪.‬‬ ‫ويف العام ‪� 1912‬أ�س�س ال�سوريون يف القاهرة حزب الالمركزية الإدارية العثمانية‪ ،‬كان من �أبرز‬ ‫�أهدافه تعبئة الر�أي العام لت�أييد الالمركزية‪ .‬ويف العام نف�سه ت�أ�س�ست جمعية بريوت الإ�صالحية‬ ‫التي حلها العثمانيون عام ‪ .1913‬هذا على �صعيد اجلمعيات العلنية‪� ،‬أما اجلمعيات ال�سرية التي‬ ‫ظهرت فيما بعد كان �أبرزها‪ :‬اجلمعية القحطانية التي دعت �إىل جعل الإمرباطورية العثمانية ملكية‬ ‫ثنائية عربية وتركية‪ ،‬وت�أ�س�ست العربية الفتاة يف باري�س عام ‪ 1911‬ثم انتقلت �إىل بريوت فدم�شق‪،‬‬ ‫ويف عام ‪� 1914‬أ�س�س عزيز علي امل�صري جمعية العهد ‪ .‬وكانت �أهداف اجلمعيتني الأخريتني‬ ‫العمل على ا�ستقالل العرب وانف�صالهم عن الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫تعدد هذه اجلمعيات لي�س �إ ّال دلي ًال على بروز حيوية جديدة يف الوعي القومي الذي القى‬ ‫�إن ّ‬ ‫جتاوباً مع ال�شعب العربي يف امل�شرق‪ ،‬وترتقي اجلهود فتعقد هذه اجلمعيات م�ؤمتراً قومياً عربياً يف‬ ‫باري�س عام ‪.1913‬‬ ‫وجد بع�ض الأحرار العرب �أن ت�أ�سي�س الق�ضية العربية يق�ضي بنقلها �إىل امل�ستوى الدويل‪ ،‬فت�ألفت‬ ‫جلنة حت�ضريية وقررت عقد م�ؤمتر يف باري�س‪ ،‬ووجهت الدعوات �إىل اجلمعيات العربية املحلية‬ ‫واالغرتابية حل�ضوره‪ .‬وقد جاء يف الأ�سباب املوجبة لعقده‪« :‬وي�صارحون العامل كله ب�أن الالمركزية‬ ‫هي قوام حياة العرب‪ ،‬و�أنهم �شركاء يف هذه اململكة بل هم الأكرثية املطلقة فيها ‪.‬‬ ‫كانت النية تتجه يف البداية �إىل �أن يعالج امل�ؤمتر الق�ضايا املتعلقة ب�سورية فقط‪ ،‬ثم قرر �أن يعالج‬ ‫الق�ضايا العربية كلها ‪ .‬وكان جميع �أع�ضاء امل�ؤمتر من بالد ال�شام واثنان من العراق ‪.‬‬ ‫(‪)40‬‬

‫(‪)41‬‬

‫(‪)42‬‬

‫(‪)43‬‬

‫(‪)44‬‬

‫(‪)45‬‬

‫‪� 40‬أنطونيو�س‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.148‬‬ ‫‪ 4 1‬كان من بني م�ؤ�س�سي حزب الالمركزية رفيق العظم (دم�شق)‪ ،‬ر�شيد ر�ضا (طرابل�س ال�شام)‪ ،‬ا�سكندر عمون‬ ‫(جبل لبنان)‪ ،‬ف�ؤاد اخلطيب (جبل لبنان)‪� ،‬سليم عبد الهادي (جنني)‪ ،‬حافظ ال�سعيد (يافا)‪ ،‬نايف تللو‬ ‫(دم�شق)‪ ،‬علي الن�شا�شيبي (القد�س)‪.‬‬ ‫‪� 42‬أنطونيو�س‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.185‬‬ ‫‪ 43‬جريدة امل�ؤيد‪ ،‬القاهرة‪� 27 ،‬آذار ‪.1913‬‬ ‫‪ 44‬ذكر مو�سى‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪ .37‬ب�أن توفيق ال�سويدي وهو عراقي كان طالباً يف باري�س يف �أثناء انعقاد امل�ؤمتر‪،‬‬ ‫ف�أقنع زمالءه ب�أن يطلقوا على امل�ؤمتر ا�سم «امل�ؤمتر العربي» بدل «امل�ؤمتر ال�سوري»‪.‬‬ ‫‪ 4 5‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪28‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫من بني الذين �ألقوا خطباً يف امل�ؤمتر‪ ،‬كان عبد الغني العري�سي ‪ 1916-1891‬الذي يكت�سب احلديث‬ ‫عنه �أهمية خا�صة‪ ،‬ملا يعبرّ من خالله عن جمعية العربية الفتاة التي �أ�س�سها �شبان �سوريون تعلموا‬ ‫يف فرن�سا‪ ،‬وهم يف ذروة احلما�س القومي‪.‬‬ ‫�سافر �إىل فرن�سا عام ‪ 1912‬لدرا�سة ال�صحافة و�شارك يف امل�ؤمتر العربي يف باري�س‪ ،‬و �ألقى خطابا‬ ‫افتتاحيا يف االجتماع الأول للم�ؤمتر‪ .‬ثم عاد �إىل بريوت �أواخر �سنة ‪ ،1913‬وكانت حركة القومية‬ ‫ال�سورية‪ -‬العربية قد بلغت حتو ًال من ظاهرة ثقافية قومية �إىل حركة �سيا�سية حتررية‪.‬‬ ‫ويف العام ‪ 1911‬ومبنا�سبة يوم املولد النبوي حممد(�ص)‪ ،‬يكتب عبد الغني العري�سي من �أجل‬ ‫التفاهم العربي‪ -‬الرتكي على �أ�سا�س القبول مبطالب العرب اخلا�صة‪ ،‬ويف طليعتها احرتام اللغة‬ ‫العربية‪� ،‬إذ ميتزج الدين الإ�سالمي الذي ي�شكل الرابطة العثمانية باللغة العربية‪ ،‬ومي�ضي مف�صحاً‬ ‫عن ر�سالة قومية‪ ،‬ي�ستخدم الدين ليربز الوطن والقومية فيقول‪�« :‬إن قومنا ال ي�شعرون بالأ�شياء‬ ‫�إ ّال ب�صددها الديني ولذا يجب علينا ا�ستخدام �شعائر الدين و�أعظمها اخلالفة‪ ...‬بيد �أن الدين ال‬ ‫ينفي الوطن‪ ،‬فالإ�سالم دين وقومية‪� ...‬أن الدين الإ�سالمي ال ينكر الوطنية‪ ،‬بل �إنه يحرتم �أخوة‬ ‫املواطنني من غري امل�سلمني باعتباره �ضمانة مل�ساواتهم وقيماً على حريتهم‪� ،‬إن لنا ما لهم وعلينا ما‬ ‫عليهم» ‪.‬‬ ‫و�إذ يرف�ض العري�سي اال�ستبداد الرتكي فهو يرف�ض بحزم اال�ستعمار الأوروبي الذي يقرتب من‬ ‫احتالل البالد العربية‪ ،‬وهذا موقف يتما�شى مع تفكريه على الرغم من �إظهاره احرتامه العميق‬ ‫نداء‬ ‫ملفاهيم ال�سيا�سة الغربية‪ ،‬ولذلك نراه يكتب‪ ،‬غداة احتالل �إيطاليا لطرابل�س الغرب ‪ً ،1911‬‬ ‫حلمل ال�سالح حتت عنوان «موت م�ش ّرف» فو�صف التربير الإيطايل لغزو ليبيا وهو «واجب �إيطاليا‬ ‫«الإن�ساين» ب�أنه «�إن�سانية الظامل»‪� ...‬إنهم يريدون لهم �أن يعي�شوا كما يعي�ش اجلزائريون يف ظل‬ ‫«الإن�سانية» الفرن�سية‪ ،‬وهم يريدون �أن يقتلوا‪ ،‬با�سم «الإن�سانية» ع�شرة منا ج ّراء موت واحد منهم‪،‬‬ ‫كما يقتل امل�صريون يف ظل «الإن�سانية» الإنكليزية» ‪ .‬وحمل عبد الغني العري�سي على اال�ستبداد‬ ‫الرتكي مطالباً بالدميقراطية‪� ،‬إذ �أن الإ�صالحات يجب �أن ال تتم حتت �ضغط القوى اخلارجية‪ ،‬بل‬ ‫ب�إرادة الأكرثية ال�شعبية‪ ،‬فيقول» كان تطبيقا لإ�صالحات يف ال�سابق يتم نتيجة جلهود �أوروبا‪� ،‬أما‬ ‫الآن فهي نتيجة ل�شعب مفكر ي�صوغ الإ�صالحات بيديه‪ ،‬وهو حدث يقف بني �أعظم الأحداث يف‬ ‫التاريخ العثماين ب�أ�سره‪� ..‬إن حكم العدد الأكرب قد بد�أ مفعوله بالظهور‪ ،‬وعلى عقالء الأمة �إ�سناد‬ ‫هذا احلكم حتى ت�صبح الدولة دميقراطية‪ ،‬وتعمل ل�صالح جميع النا�س‪ ،‬ال ل�صالح رجل واحد‪ ،‬وال‬ ‫ل�صالح عدد �صغري من الب�شر» ‪.‬‬ ‫(‪)46‬‬

‫(‪)47‬‬

‫(‪)48‬‬

‫‪ 46‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬العدد ‪ 723‬تاريخ ‪.1911/6/20‬‬ ‫‪ 47‬العري�سي‪ ،‬م�صدر �سابق‪ ،‬العدد ‪ 795‬تاريخ ‪.1911/10/1‬‬ ‫‪ 48‬العري�سي‪ ،‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬العدد ‪ 1431‬تاريخ ‪.1913/11/23‬‬ ‫‪29‬‬


‫ويتقدم تفكري عبد الغني العري�سي لي�ضع تعريفاً للقومية العربية يف افتتاحية بتاريخ ‪ 15‬كانون‬ ‫الأول ‪ 1913‬فيقول «ونق�صد بالعربي كل من يرتبط بهذه الأمة بوحدة اللغة‪ ،‬وروابط القرابة‪،‬‬ ‫ونزعة العرب» ‪.‬‬ ‫يبدو اال�ضطراب الفكري عند عبد الغني العري�سي ورفاقه يف العربية الفتاة وا�ضحا» يف فرتة ما‬ ‫قبل احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬فاالقتبا�س عن املفاهيم الغربية �إىل حدود تبنيها �أحياناً كان بيناً‪ ،‬كما‬ ‫عند عازوري‪ ،‬فكيف يظهرون احرتامهم للمفاهيم ال�سيا�سية الغربية؟! وهي نف�سها التي كان لها‬ ‫انعكا�سها ال�سلوكي يف البالد العربية التي احتلوها‪ ،‬وهم �إذ ي�ستخدمون الدين يف بناء فكرة قومية‬ ‫يجهلون �أن القومية ال تت�أ�س�س على الدين الذي له طابعه العاملي‪ .‬ولعل الت�أثر باملفاهيم الغربية كان‬ ‫ب�سبب الإر�ساليات الأجنبية من جهة‪ ،‬ومن جهة �أخرى تلقي العلم باجلامعات الغربية‪ ،‬حيث ّاطلعوا‬ ‫على الأفكار التي رافقت قيام الوحدة الإيطالية ‪ ،1919-1860‬والأفكار التي رافقت الوحدة الأملانية‬ ‫‪ 1871-1866‬دون درا�سة الظروف ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية التي رافقت بلوغ الدولة يف‬ ‫�أوروبا مرحلة الدولة القومية‪ ،‬وهي ظروف تختلف عن ظروف تطور املجتمع ال�سوري العربي‪.‬‬ ‫وعندما بد�أت احلرب العاملية الأوىل و�أُر�سل جمال با�شا قائداً للجي�ش الرابع الراب�ض يف البالد العربية‪،‬‬ ‫مار�س �سيا�سة البط�ش والتنكيل‪ ،‬و�أعدم جمموعة من �شباب احلركةالقومية ال�سورية العربية‪ ،‬ما كان‬ ‫له �أثر يف التطلع نحو ال�شريف ح�سني الذي كان قد بد�أ ات�صاالته بالغرب‪ ،‬ممث ًال بربيطانيا للتحالف معه‬ ‫على �أمل امل�ساعدة يف ا�ستقالل البالد العربية‪ ،‬مما �أحدث حتو ًال يف واقع الفكرة القومية‪.‬‬ ‫لقد جاءت ت�سمية اجلمعية القحطانية مبثابة الرد االنفعايل على الطورانية‪ ،‬وجاءت جمعية الفتاة‬ ‫العربية الرد االنفعايل على جمعية الفتاة الرتكية‪ ،‬ويف كال الردين االنفعاليني كان الإطاحة بالهوية‬ ‫ال�سورية‪ ،‬لتحل حملها هوية �أخرى‪.‬‬ ‫(‪)49‬‬

‫(‪)50‬‬

‫ثانيا ً‪ -‬الفكرة القومية خالل احلرب العاملية الأوىل ‪1918-1914‬‬

‫تبني �أن �أ�صحاب االجتاهات العروبية من امل�سلمني يف العهد العثماين‪ ،‬قبل بداية احلرب العاملية‬ ‫الأوىل‪� ،‬إنهم مل يطرحوا فكرة القومية ال�سورية العربية �أو الوحدة العربية �أو فكرة االنف�صال عن‬ ‫الدولة املركزية العثمانية با�ستثناء قلة منهم‪ ،‬فيما كان رواد القومية ال�سورية العربية والعاملني من‬ ‫�أجل االنف�صال عن الدولة العثمانية واالحتاد على �أ�سا�س املفاهيم القومية ولي�ست الدينية‪ ،‬هم‬ ‫امل�سيحيون العرب الذين نادوا بالفكر القومي العربي ‪ -‬الآ�سيوي و�ضرورة التخلي عن الوحدة‬ ‫‪ 49‬امل�صدر نف�سه‪ ،‬العدد ‪ 1435‬تاريخ ‪.1913/12/15‬‬ ‫‪ 50‬راجع‪ :‬نوار‪ ،‬عبد العزيز‪ .‬التاريخ املعا�صر �أوروبا‪ :‬من الثورة الفرن�سية �إىل احلرب العاملية الثانية‪ ،‬دار النه�ضة‬ ‫العربية‪ ،‬بريوت ‪� ،1973‬ص ‪ 265-243‬و ‪.290-267‬‬ ‫‪30‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫القائمة على الفكر الديني ‪ .‬وعندما وقع امل�شرق العربي حتت االحتالل الغربي حدثت حتوالت‬ ‫�سيا�سية واقت�صادية مهمة‪� ،‬شكلت عوامل دفع يف نهو�ض الفكرة القومية خالل احلرب‪ ،‬و�إىل ما‬ ‫بعدها والتي جت�سدت على �أر�ض الواقع‪.‬‬ ‫(‪)51‬‬

‫‪ -1‬التغيريات االقت�صادية وال�سيا�سية وانعكا�ساتها على الفكرة القومية خالل احلرب‬ ‫العاملية الأوىل ‪1918-1914‬‬

‫تبي ب�أن فكرة الوطن ال�سوري هي �أول فكرة ا�ستقاللية طرحت منذ الإرها�صات الأوىل للحركة‬ ‫نَّ‬ ‫القومية ‪ ،1860‬كما �سبق �إي�ضاحه‪ ،‬ثم تطورت هذه الفكرة‪ ،‬خالل احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬حيث‬ ‫عانى العرب من ويالتها‪� ،‬سواء من الوجهة االقت�صادية وتوقف حركة الت�صدير واال�سترياد عرب‬ ‫البحر املتو�سط الذي �أ�صبح حتت �سيطرة احللفاء‪� ،‬أو جلهة التدابري االقت�صادية التي قامت بها‬ ‫ال�سلطة العثمانية ب�إ�صدار النقد الورقي الذي ي�ساوي النقد الذهبي‪ ،‬والذي �سرعان ما هبطت‬ ‫قيمته ال�شرائية‪� ،‬أو جلهة موجات اجلراد التي عرفتها �سورية وجوارها‪ ،‬كل ذلك �أحدث �أزمة‬ ‫اقت�صادية كان لها نتائجها اخلطرية من حدوث جماعة كبرية وتف�شي الأمرا�ض املعدية مما ت�سبب‬ ‫بحدوث وفيات كثرية ب�سبب اجلوع‪ ،‬ناهيك عن احلملة الإرهابية التي قام بها جمال با�شا �ضد‬ ‫الوطنيني والتي ذهب �ضحيتها �أكرث من ثالثني منا�ض ًال قومياً �أعدموا على دفعتني (‪ 1915‬و‪)1916‬‬ ‫يف �ساحتي ال�شهداء يف بريوت و�ساحة املرجة يف دم�شق‪ ،‬وكان لهذه الأحداث نتائج �سيا�سية‬ ‫واقت�صادية واجتماعية خطرية متثلت بتف�شي البطالة‪ ،‬وتوقف التعليم‪ ،‬وزيادة الهجرة �إىل اخلارج‪،‬‬ ‫ف�أحدثت هذه الوقائع حتو ًال فكرياً‪ ،‬مل يكن متوقعاً‪ ،‬ال�سيما لدى جمعية العربية الفتاة وكان‬ ‫التحول يف ما عرف مبيثاق دم�شق‪ ،‬الذي ر�سم حدود العامل العربي املطلوب ا�ستقالله‪ ،‬على‬ ‫�أ�سا�س التحالف مع بريطانيا وخو�ض احلرب معها �ضد الدولة العثمانية‪ ،‬وقيام دولة عربية �ضمن‬ ‫هذا الوطن‪ ،‬على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫ �شما ًال‪ :‬خط مر�سني‪� -‬أ�ضنة �إىل ما يوازي خط العر�ض ‪� 37‬شما ًال‪ ،‬ومن هناك على طول‬ ‫خط‪ :‬بريجيك‪� ،‬أورفه‪ ،‬ماردين ميدبات‪ ،‬جزيرة ابن عمرو‪� ،‬أماديا واحلدود الفار�سية‬ ‫ يف ال�شرق‪ :‬من احلدود الفار�سية حتى خليج الب�صرة‪.‬‬ ‫ يف اجلنوب‪ :‬املحيط الهندي (با�ستثناء عدن حيث يحافظ على و�ضعها اخلا�ص)‪.‬‬ ‫ يف الغرب‪� :‬شواطئ البحر الأحمر واملتو�سط حتى مر�سني» ‪.‬‬ ‫(‪)52‬‬

‫‪ 5 1‬حالق‪ ،‬ح�سان‪ .‬م�ؤمترات ال�ساحل والأق�ضية الأربعة ‪ ،1936‬الدار اجلامعي للطباعة والن�شر‪ ،‬بريوت ‪� ،1983‬ص‪.7‬‬ ‫‪� 52‬أنطونيو�س‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪� .241‬أي�ضاً‪ :‬مو�سى‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪ 721-621‬راجع‪:‬خريطة الدولة العربية كما‬ ‫حددها ميثاق دم�شق امللحق رقم (‪.)1‬‬ ‫‪31‬‬


‫ويف حتديد جمعية العربية الفتاة حدود الوطن على هذا النحو‪ ،‬كانت الإطاحة الثانية بجغرافية‬ ‫الوطن ال�سوري‪ ،‬بعد االطاحة الأوىل بهوية الوطن ال�سوري‪ .‬وهذا مل يكن بدافع من تطور قومي‬ ‫يف الفكر بقدر ما كان تلبية مل�شروع قبلي يقوده ال�شريف ح�سني الها�شمي‪.‬‬ ‫وبذلك نت�ساءل‪:‬‬ ‫كيف مت تركيب الفكرة القومية يف العقل العربي حتى و�صل وا�ضعو امليثاق �إىل احلدود التي‬ ‫ر�سموها؟ وملاذا حتول امل�سلمون من مطلب الإ�صالح �إىل مطلب اال�ستقالل؟ وملاذا ا�ستثنت احلركة‬ ‫العربية اجلانب العربي الأفريقي من م�شروعها‪ ،‬وا�ستثنت عدن التي حتتل موقع القلب يف اجلزيرة‬ ‫العربية ؟ و�إذا كانت البواعث الأوىل ليقظة الفكر القومي هو القلق على امل�صري العربي يف مواجهة‬ ‫اخلطر الأوروبي اال�ستعماري‪ ،‬فكيف انخرط القوميون يف التحالف مع هذا اخلطر؟‬ ‫اعتمد عبد الغني العري�سي يف خطابه يف م�ؤمتر باري�س ‪ 1913‬مفهوما ليربالياً لتعريف الأمة على �آراء‬ ‫علماء الأملان‪ ،‬والعلماء الإيطاليني ومذهب �سيا�سة الفرن�سيني وتو�صل �إىل القول‪�« :‬إذا نظرنا �إىل‬ ‫العرب من هذه الوجوه الثالثة علمنا �أنّ العرب جتمعهم وحدة لغة ووحدة عن�صر‪ ،‬ووحدة تاريخ‪،‬‬ ‫ووحدة عادات ووحدة مطمح �سيا�سي‪ ،‬فلهم حق جماعة ‪،‬حق �شعب حق �أمة‪ .‬والعرب يطلبون‬ ‫حقهم ك�شركاء يف هذه الدولة‪� ،‬شركاء يف القوة الإجرائية‪� ،‬شركاء يف القوة الت�شريعية �شركاء يف‬ ‫الإدارات العامة‪� ،‬أما يف داخلية بالدهم فهم �شركاء �أنف�سهم» ‪.‬‬ ‫اال�ضطراب وا�ضح يف كالم عبد الغني العري�سي‪ ،‬فالعربي ح�سب ما ورد �سابقاً يف كتاباته حول‬ ‫�أفعال اال�ستعمار يف اجلزائر وليبيا وم�صر تدل على �إدراكه واقع وحدة الأمم العربية من حميطها‬ ‫�إىل خليجها‪ ،‬ويف خطابه يف م�ؤمتر باري�س اقت�صر حديثه على العرب الذين ي�شرتكون مع العثمانيني‬ ‫يف دولة واحدة‪.‬‬ ‫فالعرب من وجهة نظر العري�سي هم �أمة ذات �شخ�صية خا�صة‪ ،‬وهم �أي�ضاً عثمانيون ‪� .‬أما ندره‬ ‫عد‬ ‫مطران الذي عرب يف امل�ؤمتر عن طموحات �سيا�سية فقد حددها يف �إطار �سورية الطبيعية‪� ،‬إذ ّ‬ ‫ال�سوريني‪� ،‬ضمناً‪� ،‬أمة خ�ضعت ل�سيطرة الأتراك املبا�شرة‪ ،‬دون �أن يدعو �صراحة �إىل االنف�صال ‪.‬‬ ‫�سجل موقفان لدى العرب‪ ،‬فريق م�سلم يتكلم عن �أمة عربية‪ ،‬وفريق م�سيحي يتكلم عن �أمة‬ ‫وهنا ُي ّ‬ ‫�سورية‪ .‬وامل�شرتك عند الفريقني هو التخل�ص من اال�ستبداد الرتكي‪.‬‬ ‫(‪)53‬‬

‫(‪)54‬‬

‫(‪)55‬‬

‫‪ 53‬قلعجي‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.113-108‬‬ ‫‪ 54‬قلعجي‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.107‬‬ ‫‪ 5 5‬املرجع ال�سابق‪� ،‬ص ‪.113-112‬‬ ‫‪32‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫‪ -2‬اجتاهات الفكر ال�سيا�سي العربي بعد دخول ال�سلطنة العثمانية احلرب ‪1918-1914‬‬

‫ولكن ثمة حتو ًال �سيطر على الفكر ال�سيا�سي العربي بعد دخول الدول العثمانية احلرب �إىل جانب‬ ‫�أملانيا‪ ،‬فقد ترك الأمري في�صل دم�شق حام ًال مذكرة قادة العربية الفتاة يف نهاية كانون الأول ‪،1915‬‬ ‫�أي بعد حملة جمال با�شا الإرهابية �ضد الإ�صالحيني ‪« .‬ويف هذا ال�سياق و�ضعت احلركة القومية‬ ‫ال�سورية العربية يف امل�شرق حداً لرتددها وقررت القطيعة مع الأتراك وتبني امل�شروع الإنكليزي‪-‬‬ ‫ال�شريفي الذي كان ُيح�ضر يف ذات الوقت» ‪.‬‬ ‫ومن خالل املرا�سالت التي ح�صلت بني ال�شريف ح�سني ومكماهون يتبني �أن ال�شريف ح�سني‬ ‫ي�ؤكد بتاريخ ‪� 9‬أيلول ‪ ،1915‬ا�ستقالل الأرا�ضي العربية اخلا�ضعة للدولة العثمانية مبا فيها بريوت‬ ‫(الوالية)‪ ،‬راف�ضاً ال�سيطرة الفرن�سية عليها‪ ،‬ثم يرتاجع لي�ؤكد قبو ًال م�ؤقتاً فيقول «ما ندعه الآن‬ ‫لفرن�سا يف بريوت و�سواحلها» �سنطالب به كون «وجود ه�ؤالء اجلريان» �سيقلق �أفكارنا‪ ،‬وال ميكن‬ ‫ال�سماح لفرن�سا باال�ستيالء على قطعة �صغرية من تلك املنطقة» ‪ .‬فيظهر ال�شريف ح�سني‪ ،‬وهو‬ ‫املفاو�ض با�سم العرب‪ ،‬جهله القاعدة التي تقول‪ :‬ب�أن اجلي�ش الذي يدخل البالد مبوافقتها ال‬ ‫يخرج منها بطلب منها‪ .‬وهذا يدل على عجز يف الثقافة ال�سيا�سية التفاو�ضية‪.‬‬ ‫ويف ‪ 24‬ت�شرين الأول ‪� 1915‬أجاب هرني مكماهون على ر�سالة ال�شريف معلناً ا�ستعداد بريطانيا‬ ‫االعرتاف با�ستقالل الواليات العربية التي يطلبها ال�شريف ح�سني»‪ ...‬فربيطانيا العظمى م�ستعدة‬ ‫ب�أن تعرتف با�ستقالل العرب وت�ؤيد ذلك اال�ستقالل يف جميع الأقاليم الداخلة يف احلدود التي‬ ‫يطلبها �شريف مكة ‪.‬‬ ‫ولكن ال�شريف ح�سني �أبدى ت�ساه ًال يف جوابه امل�ؤرخ يف ‪ 5‬ت�شرين الثاين �إىل مكماهون ‪،1915‬‬ ‫�إذ يوافقه بعدم الإحلاح يف �إدخال مر�سني و�أ�ضنة يف �أق�سام اململكة العربية‪ ،‬ولكنه يبدي مت�سكه‬ ‫بواليتي حلب وبريوت و�سواحلهما كونها «عربية حم�ضة وال فرق بني العربي امل�سيحي وامل�سلم‬ ‫ف�إنهما �أبناء جد واحد» ‪.‬‬ ‫ويف ‪ 14‬كانون الأول ‪� 1915‬أو�ضح مكماهون مف�صحاً عن �سروره بتخلي ال�شريف ح�سني عن‬ ‫مر�سني و�أ�ضنه فيقول‪�« :‬سرين ما ر�أيت فيه من قبولكم �إخراج واليتي مر�سني و�أ�ضنه من حدود‬ ‫البالد العربية‪� ...‬أما ب�ش�أن واليتي حلب وبريوت‪ ،‬فحكومة بريطانيا العظمى قد فهمت كل ما‬ ‫ذكرمت ب�ش�أنهما‪ ،‬ودونت ذلك عندي بعناية تامة‪ ،‬ولكن ملا كانت م�صالح حليفتها فرن�سا داخلة فيها‬ ‫(‪)56‬‬

‫(‪)57‬‬

‫(‪)58‬‬

‫(‪)59‬‬

‫(‪)60‬‬

‫ ‬ ‫‪5 7‬‬ ‫‪ 58‬‬ ‫‪5 9‬‬ ‫‪ 60‬‬ ‫‪56‬‬

‫�سعيد‪� ،‬أمني‪� .‬أ�سرار الثورة العربية الكربى وم�أ�ساة ال�شريف ح�سني‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بريوت ‪� ،1940‬ص ‪.57‬‬ ‫كوثراين‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.272‬‬ ‫ن�ص ر�سالة ال�شريف ح�سني �إىل مكماهون‪ .‬م�ؤرخة يف‪� 9 :‬أيلول ‪ 1915‬راجع‪ :‬امللحق رقم(‪)2‬‬ ‫زين‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.68‬‬ ‫ن�ص ر�سالة ال�شريف ح�سني �إىل مكماهون‪ .‬م�ؤرخة يف ‪ 5‬ت�شرين الثاين ‪ .1915‬راجع‪ :‬امللحق رقم(‪)3‬‬ ‫‪33‬‬


‫فامل�س�ألة حتتاج �إىل نظر دقيق و�سنخابركم بهذا ال�ش�أن مرة �أخرى يف الوقت املنا�سب» ‪.‬‬ ‫على الرغم مما ذكره ال�شريف ح�سني يف ر ِّده على ر�سائل مكماهون التي �أكد فيها على عدم قبول‬ ‫�سيطرة فرن�سا على بريوت و�سواحلها بعد انتهاء احلرب‪ ،‬يتبني‪� ،‬أن احلركة العربية كانت ت�ست�سهل‬ ‫التنازل عن احلقوق العربية‪ ،‬فتنازلت عن عدن يف البداية ثم �أتبعتها مبر�سني و�أ�ضنه‪.‬‬ ‫ويت�ضح ق�صور الوعي القومي لدى بع�ض القادة �آنذاك‪ ،‬يف فهم طبيعة اال�ستعمار‪ ،‬وعدم االتعاظ‬ ‫من التجارب التي تعر�ض لها ال�شعب العربي يف اجلزائر وليبيا وم�صر من قبل‪ .‬ناهيك ما يظهر‬ ‫من ق�صور يف الوعي ال�سيا�سي التفاو�ضي‪� ،‬إذ غابت عن املفاو�ض العربي قواعد �أ�سا�سية ال ميكن‬ ‫�إغفالها‪.‬‬ ‫�إن املوافقة على وجود جي�ش فرن�سي يف بريوت‪ ،‬ي�سهل وجود اجلي�ش‪ ،‬ولكن خروجه ال يتم بطلب‬ ‫من الذي ا�ستدعى اجلي�ش �أو قبل بوجوده‪ ،‬ومن جهة ثانية ال يوجد حتالف بني طرف قوي و�آخر‬ ‫�ضعيف �إذ �أن القوي هو القائد وال�ضعيف هو التابع‪ ،‬والقوي هو القادر على تعديل وتغيري مواقفه‬ ‫والرتاجع عن وعوده �ساعة ي�شاء وال�ضعيف ال ي�ستطيع فعل ذلك‪.‬‬ ‫مكامن القوة العربية غائبة كلياً عن ذهن ال�شريف ح�سني‪� ،‬إذ لو كانت حا�ضرة ملا تابع املفاو�ضات‬ ‫بعد ورود الإبهام يف ر�سالة مكماهون امل�ؤرخة يف ‪ 14‬كانون الأول ‪.1915‬‬ ‫لو �أظهر العرب قوتهم لربيطانيا ملا �أقدمت مع فرن�سا ورو�سيا على �إبرام اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو‬ ‫التي جز�أت مبوجبها امل�شرق العربي وملا جتر�أت على وعد بلفور ب�إعطاء اليهود فل�سطني وطناً لهم‬ ‫على ح�ساب العرب‪.‬‬ ‫لقد �أحدثت اتفاقية �سايك�س‪ -‬بيكو ‪ 1916‬ووعد بلفور ‪ 1917‬زلزا ًال �سيا�سياً قلب املقايي�س ر�أ�ساً‬ ‫على عقب‪ ،‬وجعل الفكر العربي يف حالة ا�ضطراب‪ ،‬ومل يكن �أمامه �إ ّال انتزاع �أدوات ن�ضال‬ ‫جديدة من الواقع اجلديد الذي فر�ضه االحتالل الغربي على امل�شرق العربي‪.‬‬ ‫(‪)61‬‬

‫(‪)62‬‬

‫ثالثا ً‪ :‬الفكرة القومية ال�سورية‪-‬العربية وواقعها ‪1922-1918‬‬

‫وقعت �أحداث مهمة يف امل�شرق العربي‪ ،‬يف الفرتة الواقعة ما بني احلربني العامليتني‪ ،‬كان �أبرزها‬ ‫فر�ض االنتداب الربيطاين على فل�سطني و�شرقي الأردن والعراق‪ ،‬واالنتداب الفرن�سي على �سورية‬ ‫ولبنان‪ ،‬فا�ستبدل النظام العثماين الإقطاعي‪ -‬الع�سكري بنظام ع�سكري احتاليل‪ ،‬كان له نتائج‬ ‫�سيا�سة خطرية‪� ،‬أبرزها‪ ،‬تق�سيم امل�شرق العربي �إىل دويالت �ضعيفة‪ ،‬و�أخطرها‪ ،‬التمهيد لقيام دولة‬ ‫‪ 61‬ن�ص ر�سالة مكماهون �إىل ال�شريف ح�سني‪ .‬م�ؤرخة يف ‪ 14‬كانون الأول ‪ .1916‬راجع امللحق رقم(‪)4‬‬ ‫‪ 62‬راجع‪ :‬خريطة تق�سيم امل�شرق العربي مبوجب اتفاقية �سايك�س ‪ -‬بيكو ‪ .1916‬امللحق رقم(‪)5‬‬ ‫‪34‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫يهودية‪� -‬صهيونية على �أر�ض فل�سطني‪ .‬مما ي�ؤ�س�س �إىل تعقيدات �سيا�سية الحقة �سيكون لها �أبلغ‬ ‫الأثر على تعرث امل�شاريع الوحدوية العربية وبالتايل �إحداث ا�ضطرابات يف الفكر القومي‪.‬‬ ‫‪ -1‬التحوالت ال�سيا�سية يف امل�رشق العربي‬

‫انتهت احلرب العاملية الأوىل‪ ،‬وعقدت الهدنة بني احللفاء و�أملانيا بتاريخ ‪ 11‬ت�شرين الثاين ‪،1918‬‬ ‫وبات العرب ينتظرون حتقيق احللفاء لوعودهم با�ستقالل البالد العربية‪ ،‬و�شكل م�ؤمتر ال�صلح‪1919‬‬ ‫الذي ح�ضره الأمري في�صل رئي�ساً للوفد احلجازي وممث ًال لوالده ال�شريف ح�سني‪ ،‬حيث القى‬ ‫�صعوبات كثرية �أثارتها فرن�سا وبريطانيا‪ ،‬من عدم االعرتاف به‪ ،‬واعرتا�ضها على ت�سلمه البالد‬ ‫ال�سورية (الطبيعية)‪ ،‬وجمابهته باتفاقية �سايك�س ‪ -‬بيكو وق�ضية فل�سطني وما يحيط بها من �ضغط‬ ‫�صهيوين وا�ستعماري‪ ،‬ثم �شارك يف امل�ؤمتر بعد تراجع فرن�سا عن موقفها‪� .‬أما الأحزاب التي برزت‬ ‫بعد ف�شل ال�شريف ح�سني يف نيل االعرتاف به ملكاً على العرب من فرن�سا وبريطانيا‪ ،‬فهي‪ :‬حزب‬ ‫ال�شريف ح�سني يف احلجاز‪ ،‬احلزب ال�سوري الذي كان يرف�ض اية و�صاية �أجنبية‪ ،‬واحلزب العراقي‬ ‫الذي كانت له خماوف من �سيطرة االنكليز على العراق‪ ،‬وكان ين�شد وحدة اقت�صادية مع ال�شام‪..‬‬ ‫‪ -2‬فر�ض الهيمنة اال�ستعمارية على امل�رشق العربي‬

‫وعلى الرغم من اجلهود التي بذلها في�صل‪ ،‬وتذكريه بحقوق العرب يف الوحدة واال�ستقالل‪،‬‬ ‫ومطالبته احللفاء بتنفيذ وعودهم للعرب‪ ،‬اتخذ م�ؤمتر ال�صلح قراراً بتاريخ ‪ 30‬كانون الثاين عام‬ ‫‪ 1919‬بف�صل لبنان و�سورية وفل�سطني والعراق عن ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬على �أن تكون حتت �إ�شراف‬ ‫و�صي يعمل با�سم ع�صبة الأمم وفق ميثاقها امل�ؤلف من ‪ 26‬مادة والتي ن�صت املادة ‪ 22‬منه على‬ ‫نظام االنتداب‪.‬‬ ‫تقدم الأمري في�صل باقرتاح �إىل م�ؤمتر ال�صلح‪ ،‬ب�إر�سال جلنة حتقيق للوقوف على رغبات ال�سكان يف‬ ‫البالد‪ ،‬وفيما �أيده الرئي�س الأمريكي «ودرو ول�سن» ‪ Woodrow Wilson 1920-1912‬قابلته بريطانيا‬ ‫وفرن�سا بفتور وا�ضح‪ ،‬فت�شكلت جلنة «كينغ ‪-‬كرين» ‪ King-Crane‬من �أمريكيني‪ ،‬و�إزاء و�ضوح موقف‬ ‫فرن�سا وبريطانيا‪ ،‬تنادى امل�ؤمتر ال�سوري يف ‪ 8‬حزيران ‪ 1919‬وا�شرتك فيه ممثلون من خمتلف املناطق‬ ‫ال�سورية‪ ،‬واتخذ امل�ؤمترون قرارات مهمة كان �أبرزها‪ :‬اال�ستقالل التام للبالد ال�سورية‪ ،‬ورف�ض االنتداب‬ ‫واالدعاءات الفرن�سية بحقوق لها يف �سورية‪ ،‬ورف�ض ف�صل فل�سطني عن �سورية ورف�ض مطالب‬ ‫ال�صهيونيني فيها‪ .‬واملطالبة با�ستقالل العراق‪ ،‬ورف�ض اتفاقية �سايك�س‪-‬بيكو ‪.‬‬ ‫(‪)63‬‬

‫‪ 63‬جريدة املنار‪ ،‬جزء ‪� ،1919 ،21‬ص ‪ 223-221‬يف‪ :‬خوري‪ ،‬يو�سف‪ .‬امل�شاريع العربية الوحدوية ‪،1989-1913‬‬ ‫م�ؤ�س�سة درا�سات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪� ،1990 ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪35‬‬


‫ا�ستفتاء �شعبياً وا�سعاً ورفعت تقريرها �إىل الرئي�س ول�سن الذي �أر�سل بدوره‬ ‫�أجرت جلنة التحقيق‬ ‫ً‬ ‫ن�سخاً منه �إىل الدول احلليفة‪ ،‬وقد ت�ضمن اقرتاحات �أبرزها‪ :‬تكوين احتاد بني لبنان و�سورية وفل�سطني‬ ‫و �شرقي الأردن‪ ،‬تتوىل زعامته �إحدى هذه الدول‪ ،‬وتتفق فيما بينها‪ ،‬و�أن تكون الو�صاية (مبعنى‬ ‫امل�ساعدة الفنية) لأمريكا �أو بريطانيا‪ ،‬وحذر التقرير من قيام دولة يهودية‪ ،‬ولكن احللفاء �أهملوا‬ ‫التقرير ومل ي�أخذوا به ‪ .‬ويف �شهر �شباط ‪ 1920‬عاد في�صل �إىل دم�شق حام ًال م�شروع اتفاق بينه‬ ‫وبني كليمن�صو يت�ضمن اعرتاف في�صل بف�صل لبنان عن �سورية بحماية فرن�سا‪ ،‬مقابل االعرتاف‬ ‫با�ستقالل �سورية وم�ساعدتها على توحيد نف�سها على �أن تلبي امل�صالح الفرن�سية‪ ،‬ليح�صل من قادة‬ ‫ال�شعب ال�سوري على التفوي�ض بعقد االتفاق نهائياً‪ ،‬الأمر الذي رف�ضه امل�ؤمتر ال�سوري املنعقد يف‬ ‫‪� 8‬آذار ‪ 1920‬مكرراً مطالبه يف امل�ؤمتر ال�سابق‪ ،‬معلناً امللكية يف �سورية بزعامة في�صل ‪.‬‬ ‫جاء رد احللفاء على مقررات امل�ؤمتر ال�سوري �سريعاً‪ ،‬فعقد املجل�س الأعلى م�ؤمتراً يف �سان رميو بتاريخ‬ ‫‪ 25‬ني�سان ‪ 1920‬تقرر فيه‪ :‬فر�ض االنتداب الفرن�سي على �سورية ولبنان‪ ،‬واالنتداب الربيطاين‬ ‫على �شرقي الأردن والعراق وفل�سطني على �أن ينفذ وعد بلفور‪ .‬وتنازلت فرن�سا عن منطقة املو�صل‬ ‫و�أحلقت بالعراق مقابل ح�صة نفطية منه‪.‬‬ ‫�أطلقت فرن�سا يد غورو ‪ Gouraud‬قائدها يف ال�شرق لفر�ض االنتداب‪ ،‬فوجه �إنذاراً �إىل احلكومة‬ ‫ال�سورية مدته �أربعة �أيام يطلب فيه‪ :‬و�ضع �سكة حديد رياق‪ -‬حلب حتت ت�صرف الفرن�سيني‪ ،‬قبول‬ ‫االنتداب‪� ،‬إلغاء التجنيد الإجباري‪ ،‬ت�سريح املجندين‪ ،‬قبول الأوراق النقدية التي �أ�صدرها بنك‬ ‫�سورية و لبنان‪ ،‬معاقبة «املجرمني» الذين ا�سرت�سلوا يف معاداة فرن�سا ‪.‬‬ ‫رف�ض ال�شعب ال�سوري قبول الإنذار فيما اجته امللك في�صل لقبول الإنذار وطلب متديد املهلة‬ ‫يومني �إ�ضافيني‪ .‬ولكن ال�سلطة الفرن�سية �أمرت جنودها بالزحف من لبنان باجتاه دم�شق‪ ،‬وعندما‬ ‫علمت احلكومة بالنوايا الفرن�سية ا�ستنفرت عدداً من اجلنود ليتقابل اجلي�شان يف مي�سلون حيث‬ ‫�سقط وزير الدفاع يو�سف العظمة �شهيداً مع معظم جنوده‪ ،‬دخل على �أثرها الفرن�سيون �إىل دم�شق‬ ‫وطلبوا من في�صل مغادرة �سورية‪ ،‬فغادرها �إىل فل�سطني ثم �أوروبا‪.‬‬ ‫وق�سمت �سورية �إىل دويالت‬ ‫نفذت فرن�سا و�صايتها على �سورية ولبنان قبل �صدور �صك االنتداب ّ‬ ‫طائفية‪ ،‬و�أعلنت قيام دولة لبنان الكبري‪.‬‬ ‫�أما يف منطقة النفوذ الربيطاين فقد دفعت بريطانيا بقواتها الع�سكرية بقيادة اجلرنال «مود» ‪maud‬‬ ‫(‪)64‬‬

‫(‪)65‬‬

‫(‪)66‬‬

‫‪ 6 4‬راجع‪� :‬سعيد‪� ،‬أمني‪ .‬الثورة العربية الكربى‪ :‬تاريخ مف�صل جامع للق�ضية العربية يف ربع قرن‪ ،‬من�شورات عي�سى‬ ‫البابي احللبي‪ ،‬م�صر جزء ‪ 2‬د‪ .‬ت �ص ‪ .71‬و قدورة‪ ،‬زاهية‪ :‬تاريخ العرب احلديث‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬بريوت‪،‬‬ ‫‪� 1985‬ص ‪.258‬‬ ‫‪ 65‬مقررات امل�ؤمتر‪ :‬جريدة املنار‪ ،‬جزء ‪� ،1920 ، 21‬ص ‪� 444 - 441‬أي�ضاً‪ :‬خوري‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.340‬‬ ‫‪ 66‬احل�صري‪� ،‬ساطع‪ .‬يوم مي�سلون‪� :‬صفحة من تاريخ العرب احلديث‪ ،‬مكتبة الك�شاف‪ ،‬بريوت ‪� ،1964‬ص ‪.118‬‬ ‫‪36‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫باجتاه العراق فاحتلت بغداد بتاريخ ‪� 11‬آذار ‪ ،1917‬وبعد يومني �أ�صدر اجلرنال مود من�شوراً يهدف‬ ‫�إىل التقرب من �أهل العراق جاء فيه‪�« :‬إننا مل ندخل بالدكم �أعداء فاحتني‪� ،‬إمنا دخلناها حمررين» ‪.‬‬ ‫وا�ستكملت �سيطرتها على العراق مبا فيه املو�صل‪ ،‬بتاريخ �إعالن الهدنة يف ‪ 11‬ت�شرين الثاين ‪.1918‬‬ ‫وكان �أول بيان ر�سمي و�صريح حول م�ستقبل العراق قد و�ضعته احلكومة الربيطانية عام ‪� ،1918‬إذ‬ ‫�أمرت ب�إجراء ا�ستفتاء عام يحدد فيه العراقيون اختيارهم لنظام احلكم مع الت�أكيد على �أن الو�ضع‬ ‫النهائي للبالد العربية �سيقرر نهائياً يف م�ؤمتر ال�صلح‪ ،‬فلم ير�ض ذلك العراقيني‪ ،‬ف�أبرقت وزارة‬ ‫امل�ستعمرات الربيطانية �إىل النائب العام يف ‪� 14‬شباط ‪ ،1919‬مطالبة �إياه بتقدمي د�ستور حلكومة‬ ‫عربية م�ستندة �إىل رغبة ال�سكان‪ ،‬وخا�ضع لل�سيطرة الربيطانية وفيه من املرونة ما يف�سح املجال‬ ‫ال�شرتاك �أهل البالد ‪ .‬ولكن ال�سلطات الربيطانية و�ضعت �أ�س�ساً ا�ستعمارية فا�ستبدلته ب�سبب‬ ‫معار�ضة بع�ض الربيطانيني‪ ،‬فجاء امل�شروع اجلديد �شام ًال مبادئ االنتداب‪ ،‬وما �إن �أعلنت مقررات‬ ‫�سان رميو ‪ 1920‬حتى اندلعت ثورة عارمة �شملت كل �أنحاء العراق‪ ،‬م�ستمدة زخمها من جذوة‬ ‫ن�ضالية عالية امل�ستوى‪ ،‬ومن جتربة ال�سوريني و �إعالنهم اال�ستقالل بزعامة في�صل‪ ،‬ويزيد يف �إ�ضرام‬ ‫نارها فتاوى علماء الدين وعلى ر�أ�سهم املجتهد ال�شريازي ‪.‬‬ ‫وملا مل تتمكن بريطانيا من تهدئة الثورة‪ ،‬عينت حاكماً مدنياً على العراق ‪ ،‬فات�صل ب�أعيان‬ ‫البالد‪ ،‬وت�ألفت وزارة برئا�سة عبد الرحمن الكيالين نقيب بغداد ‪ 23‬ت�شرين �أول ‪ ،1920‬ولكن‬ ‫الهيمنة الربيطانية كانت باقية عليها‪.‬‬ ‫وعندما غادر امللك في�صل �سورية بعد معركة مي�سلون‪ ،‬كان الربيطانيون يرون فيه ح ًال‬ ‫ملع�ضالتهم يف العراق‪ ،‬فانعقد م�ؤمتر يف القاهرة ‪ 1921‬برئا�سة وزير امل�ستعمرات «ون�ستون‬ ‫ت�شر�شل» (‪ )1965-1871‬وح�ضور م�س�ؤولني �إنكليز وعراقيني‪ ،‬حيث مت تر�شيح امللك في�صل‬ ‫ملكاً على العراق ‪.‬‬ ‫(‪)67‬‬

‫(‪)68‬‬

‫(‪)69‬‬

‫(‪)70‬‬

‫(‪)71‬‬

‫ ‬

‫‪67‬‬

‫‪ 68‬‬ ‫‪6 9‬‬

‫ ‬ ‫‪ 71‬‬ ‫‪70‬‬

‫املحا�سني‪ ،‬زكي‪ .‬النه�ضة العربية احلديثة (العراق)‪ ،‬درا�سات تاريخية يف النه�ضة العربية احلديثة‪ ،‬كتبها حممد‬ ‫بديع �شريف‪ ،‬زكي املحا�سني‪� ،‬أحمد عزت عبد الكرمي‪ ،‬و�ضع خطتها وقام برتجمتها وترتيبها حممد �شفيق‬ ‫غربال جامعة الدول العربية الإدارة الثقافية‪ ،‬القاهرة‪� ،1960 ،‬ص ‪272‬‬ ‫املحا�سني‪ .‬مرجع �سابق‪� ،‬ص‪.295‬‬ ‫هو حممد تقي بن حمب علي بن حممد علي كل�شن احلائري ال�شريازي‪ :‬جمتهد �إمامي‪ ،‬من �أركان الثورة‬ ‫العراقية على الإنكليز �سنة ‪ ،1920‬و�أول من دعا �إليها من رجال الدين‪ .‬ولد ب�شرياز‪ ،‬ون�ش�أ يف احلائر‪ ،‬و�أقام يف‬ ‫�سامراء‪ .‬و ّاله حملة الفكرة اال�ستقاللية يف النجف‪ ،‬زعامتهم الدينية‪ ،‬فانتقل �إىل كربالء‪ ،‬و�أ�صدر فتواه يف‪� :‬أن‬ ‫امل�سلم ال يجوز �أن يختار غري امل�سلم حاكماً عليه‪ .‬راجع‪( :‬الزركلي‪ ،‬خري الدين‪ .‬الأعالم‪ ،‬دار العلم للماليني‪،‬‬ ‫بريوت ‪.)1980‬‬ ‫هو «بري�سي كوك�س» «‪ »Percy Cox‬وقد عُينّ بتاريخ ‪ 11‬ت�شرين الأول ‪.1920‬‬ ‫الريحاين‪� ،‬أمني‪ :‬ملوك العرب‪ :‬رحلة يف البالد العربية‪ ،‬اجلزء ‪ ،2‬دار اجليل‪ ،‬بريوت ‪� ،1951‬ص ‪.377‬‬ ‫‪37‬‬


‫و�صدر عن ع�صبة الأمم �صك االنتداب الربيطاين على فل�سطني و�شرقي الأردن عام ‪ ،1922‬ويف‬ ‫وقت الحق ف�صل �شرق الأردن عن فل�سطني‪ ،‬و�أخطر ما جاء يف �صك االنتداب هو يف كون‬ ‫الوكالة اليهودية �شريكاً لربيطانيا يف �إدارة فل�سطني‪ ،‬لكي تتمكن بريطانيا من حتقيق وعد بلفور‬ ‫ب�إقامة وطن قومي لليهود على ار�ض فل�سطني‪.‬‬ ‫خامتة‬

‫بعد هذا التخبط الذي ح�سمه �سعاده فيما بعد (‪ )1949-1932‬ب�إبعاد العقيدة الفكرة القومية‬ ‫عن االنفعالية‪ ،‬و�إخ�ضاعها للعقالنية والعلم‪ .‬و�أر�سى الفكرة ال�سورية على قواعد �صحيحة‪ ،‬وعلى‬ ‫الرغم من ا�ستمرار النهج االنفعايل مب�سريته التي مل تنتج �سوى اخليبات‪� .‬أعاد الكثريون النظر‬ ‫بواقع الفكرة القومية‪ ،‬بعد مرور عقود طويلة‪ ،‬وتو�صلوا �إىل ما تو�صل �إليه �سعاده العظيم منذ عقود‬ ‫وهذه عينة منهم‪:‬‬ ‫يقول كمال جنبالط يف و�صيته املن�شورة بعد ا�ست�شهاده‪ :‬واحلق �أن التق�سيم‪( ،‬تق�سيم �سورية‬ ‫الطبيعية) كان ا�صطناعياً حم�ضاً‪ ،‬وكان ينبغي لفل�سطني االنتدابية ولبنان االنتدابي والأردن‬ ‫االنتدابي‪� ،‬أن تكون دولة واحدة‪ .‬كما كان ب�إمكان الأقليات كاف ًة يف �إطار كهذا‪� -‬أن تتخل�ص من‬ ‫مراودة التع�صب الطائفي لها عن نف�سها و�أن ت�سلك �سبيل القومية ال�سورية‪ -‬العربية‪ ،‬التي كانت‬ ‫�ستمثل جوهر وخمرية خمتلف ال�صراعات اال�ستقاللية القائمة منذ ‪�1200‬سنة‪ ،‬واعتقادي �أن‬ ‫هذه القومية هي القومية الوحيدة القابلة للحياة يف هذه املنطقة‪ .‬فقد جرى ا�صطناع قومية لبنانية‬ ‫و�أخرى فل�سطينية وثالثة �سورية (�شامية)‪� ،‬إال �أن كل ذلك كان معادياً للقومية وي�سري عك�س وجهة‬ ‫فل�سفة التاريخ ‪.‬‬ ‫ويقول الباحث غ�سان �سالمة يف كتابه املجتمع والدولة يف امل�شرق العربي‪ :‬وكون فكرة الوحدة‬ ‫العربية «�شامية» املن�ش�أ‪ُ ،‬يطرح ال�س�ؤال التايل‪ :‬ما مدى ا�ستعداد منطقة «الهالل اخل�صيب» ومدى‬ ‫قدرتها على هذا االجتاه ؟ وي�أتي اجلواب‪�« ،‬شكلياً يبدو �أن الأقطار «الهاللية» هي الأقرب �إىل‬ ‫الوحدة العربية‪ ،‬فهي تبدو على الإطالق �أكرث البلدان العربية احت�ضاناً للفكرة ومت�سكاً بها‪� .‬إذ �أنّ‬ ‫التناحر بني حملة الفكرة الواحدة ي�ؤدي بها �إىل قدر هائل من التهافت وال�ضعف‪ ،‬ولكي تت�صلب‬ ‫الفكرة العربية ال�سيما يف «الهالل اخل�صيب» الذي انطلقت منه‪ ،‬ينبغي �إعادة ت�أهيل عميقة لها‬ ‫قبل �أن ت�ؤخذ يف احل�سبان‪ ،‬كفكرة راقية �أو على الأقل قابلة للتحقيق ‪.‬‬ ‫(‪)72‬‬

‫(‪)73‬‬

‫‪ 72‬جنبالط‪ .‬كمال‪ ،‬هذه و�صيتي‪ ،‬م�ؤ�س�سة «الوطن العربي» للطباعة والن�شرة ومن�شورات �ستوك‪ ،‬باري�س‪� 1978 ،‬ص‬ ‫‪.68-67‬‬ ‫‪� 73‬سالمة‪ ،‬غ�سان‪ .‬املجتمع والدولة يف امل�شرق العربي‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪� .2008 ،‬ص ‪.287‬‬ ‫‪38‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫�أما الدكتور يا�سني �سويد القومي العربي فيقول يف ندوة فكرية على منرب حزب البعث العربي‬ ‫اال�شرتاكي عام ‪ُ « 2004‬يدخل «�أنطون �سعاده» م�ؤ�س�س «احلزب ال�سوري القومي االجتماعي»‪،‬‬ ‫عامل «اجلغرافيا» كعن�صر �أ�سا�سي‪ ،‬مهم وثابت‪ ،‬يف تكوين الأمة‪ ،‬ويف �صميم الفكرة القومية‪،‬‬ ‫بحيث « حتدد البيئة اجلماعة من عدة وجوه‪� ،‬أولها‪ :‬حدود الإقليم اجلغرايف‪ ،‬وثانيها‪ :‬طبيعة الإقليم‬ ‫‪...‬وثالثها‪� :‬شكل الإقليم (�أو طوبوغرافيته)»‪ ،‬ذلك �أن احلدود اجلغرافية حتفظ وحدة اجلماعة‪ ،‬لأنها‬ ‫جتمعها �ضمنها‪ ،‬وتكون العامل الأول يف املحافظة عليها» �سعادة‪ ،‬ن�شوء الأمم‪� ،‬ص ‪ .45‬ال�شك بان‬ ‫�سعادة على حق يف اعتباره العامل اجلغرايف يف تكوين الأمة عام ًال مهماً و�أ�سا�سياً‪».‬‬ ‫ويتابع �إن الوحدة املمكنة‪ ،‬واملرجتاة‪ ،‬بني �أقطارنا‪ ،‬هي الوحدة االحتادية‪ ،‬وهي على ال�شكل التايل‪:‬‬ ‫ وحدة بالد ال�شام والعراق (�سورية ولبنان وفل�سطني و�شرق الأردن والعراق)‪.‬‬ ‫ وحدة �شبه اجلزيرة العربية ( اململكة العربية ال�سعودية واليمن وعمان والإمارات العربية‬ ‫املتحدة وقطر والبحرين والكويت)‪.‬‬ ‫ وحدة وادي النيل (م�صر وال�سودان و�أريرتيا)‪.‬‬ ‫ وحدة املغرب العربي( ليبيا وتون�س واجلزائر واملغرب وموريتانيا وال�صحراء الغربية)‪.‬‬ ‫ وحدة جيبوتي وال�صومال‪ .‬بحيث يحتفظ كل قطر ب�سلطته‪ ،‬ويتبع‪ ،‬فيما تبقى‪� ،‬إىل ال�سلطة‬ ‫املركزية لالحتاد‪.‬‬ ‫(‪)74‬‬

‫(‪)75‬‬

‫�أعود ف�أقول ب�أن العقائد التي تخ�ضع للعواطف وامل�شاعر وتتغري كلما هبت عا�صفة م�ؤثرة على‬ ‫امل�شاعر لتتحول �إىل غري حال‪ ،‬ثم ت�صبح املقد�س الذي يتحجر به النا�س‪ ،‬ال حت�صد غري اخليبات‪،‬‬ ‫فيما العقائد اخلا�ضعة للعقل والعلم‪ ،‬هي العقائد ال�صحيحة‪ ،‬املنت�صرة‪ ،‬لأنها قابلة للتطور االيجابي‬ ‫املفيد‪ ،‬العا�صية على التقدي�س‪ ،‬وال ميكنها �أن حتجر �أتباعها بفعل «ديناميتها» املتطورة �صعداً من‬ ‫جناح �إىل جناح‪.‬‬

‫‪� 7 4‬سويد‪ .‬يا�سني‪ ،‬ا�ستعادة الوعي القومي‪ ،‬يف‪ :‬ندوة البعث احلوارية يف الفكر القومي‪ ،‬حزب البعث العربي‬ ‫اال�شرتاكي‪ ،‬القيادة القومية‪ ،‬مكتب الأمانة العامة‪ ،‬جلنة الدرا�سات والأبحاث‪ ،‬رقم ‪ 1‬دم�شق‪� 2008 ،‬ص ‪.120‬‬ ‫‪ 7 5‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.137‬‬ ‫‪39‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪2014 – 1914‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫انعكا�سات نتائج احلرب العاملية االوىل على امل�رشق‬ ‫علوان نعيم �أمني الدين ‪ -‬باحث يف العالقات الدولية‬

‫يظن الكثريون �أن التطرق ملثل هذا املو�ضوع هو نب�ش يف التاريخ لي�س �إال‪ ،‬ومل يعد هناك من‬ ‫فائدة للبحث والتمحي�ص حوله‪ ،‬غري �أن تدعيات احلرب العاملية االوىل (‪ )1918-1914‬ال تزال‬ ‫تنعك�س على املنطقة امل�شرقية يف كثري من النواحي واملجاالت‪ ،‬ولو �أن عدداً من التغيريات قد‬ ‫طر�أت عليها‪� ،‬إال �إن البع�ض يتعرب �أن لهذه احلرب «نتائج كارثية»‪ .‬فالرغم من مرور حوايل مائة عام‬ ‫على قيامها‪ ،‬ال نزال نعي�ش حتت وط�أة الكثري من املتغريات‪ ،‬ال �سيما ال�سيا�سية‪ ،‬التي تفرعت عنها‬ ‫والتي �أدخلت دول امل�شرق يف �آتون النزاعات وال�صراعات التي قد تبقى وت�ستمر �إىل عقود مقبلة‬ ‫ما مل يتم اال�ستفادة واخذ العرب والعمل على ازالة تلك الآثار والعمل على قيام م�شرق جديد‬ ‫ي�ستعيد مكانته جمدداً ليكون العباً حمورياً يف �صراع االمم‪.‬‬ ‫بالبحث عن هذا املو�ضوع ومع �إجراء بع�ض املقابالت اخلا�صة (نظراً لقلة املعلومات يف بع�ض‬ ‫النواحي خا�صة االقت�صادية منها)‪ ،‬يظهر العديد من املعلومات عن �أحداث تاريخية‪ ،‬يف تلك‬ ‫الآونة‪ ،‬ال يعرفها �سوى قليلني‪ ،‬وهي بالت�أكيد �سوف تعطي بعداً جديداً يف�سر وقائعاً كانت نوعاً ما‬ ‫حمل غمو�ض وابهام‪.‬‬ ‫‪ .1‬الآثار ال�سيا�سية واجليو �سيا�سية‬

‫تعترب اتفاقية �سايك�س‪-‬بيكو (‪ )1916‬من �أهم نتائج احلرب العاملية االوىل على ال�صعيدين ال�سيا�سي‬ ‫واجليو �سيا�سي‪ ،‬فلقد �شكلت مدخ ًال ال�ستعمار امل�شرق وال�سيطرة على ثرواته من خالل تق�سيمه‬ ‫و�ضرب �أوا�صله التاريخية‪ ،‬وما زلنا حتى يوم هذا نعي�ش �آثارها وتفرعاتها �سيما عند احلديث عن‬ ‫وعد بلفور يف ‪ 2‬ت�شرين الثاين‪/‬نوفمرب ‪ ،1917‬والذي �أدخل عن�صراً طارئاً على املنطقة باعطاء وعد‬ ‫بن�شوء كيان «دولة �إ�سرائيل» التي كان الق�صد منه ت�شكيل «ذارع» �أوروبي للهيمنة على املقدرات‬ ‫االقت�صادية املوجودة يف امل�شرق‪.‬‬ ‫‪41‬‬


‫هنا‪ ،‬بد�أت احلركة ال�صهونية جتني ثمار �سنوات من اجلهد‪ ،‬وكان ثمرة ذلك لقاء جمع بني االمري‬ ‫في�صل ابن ال�شريف ح�سني (امللك في�صل الحقاً) وممثل احلركة ال�صهونية وقتها الربوف�سور حاييم‬ ‫وايزمان يف خيمته يف العقبة قبل زحف االمري على �شرق االردن‪ ،‬ففي �أوا�سط حزيران‪/‬يونيو‬ ‫ملح و�ضغط متزايد من احلكومة الربيطانية‪ ،‬داخل‬ ‫‪« 1918‬ا�ستقبل االمري الربوف�سور بعد طلب ّ‬ ‫خيمته امل�ضروبة على تلة تقع على ُبعد ب�ضعة �أميال �إىل ال�شمال من املدينة‪ .‬ويقول ال�شهود �إن‬ ‫حاييم وايزمان �أكد لالمري في�صل �أن ال�صهيونيني ال ين�سون �أن يعملوا على �إن�شاء حكومة يهودية‬ ‫يف فل�سطني‪ ،‬و�أن كل ما يرغبون فيه هو �أن ي�ساعدوا يف تطوير البالد‪ ،‬قدر ا�ستطاعتهم‪ ،‬دون �أذى‬ ‫ي�صيب امل�صالح العربية امل�شروعة‪».‬‬ ‫وكانت نتيجة مثل هذه اللقاءات توقيع اتفاق م�شرتك بتاريخ ‪ 3‬كانون الثاين‪/‬يناير ‪ 1919‬ن�شرت‬ ‫م�ضونه �صحيفة «التاميز» اللندنية عام ‪ ،1936‬اعرتف من خالله االمري بحق اليهود يف �أر�ض‬ ‫فل�سطني‪ .‬هذا ن�ص االتفاق‪:‬‬ ‫(مقدمة)‬

‫«�إن �صاحب ال�سمو امللكي االمري في�صل ممثل اململكة العربية احلجازية بالعمل والنيابة عنها‪،‬‬ ‫والدكتور حاييم وايزمان ممثل املنظمة ال�صهونية والقائم باالعمال عنها‪ ،‬و�إدراكاً منهما لقرابة‬ ‫الدم والروابط القدمية بني ال�شعبني العربي واليهودي‪ ،‬واعرتافاً ب�أن الو�سائل االكيدة لتحقيق‬ ‫طموحاتهما الوطنية هو عرب التعاون الوثيق يف تطوير الدولة العربية وفل�سطني ورغبة منهما يف ت�أكيد‬ ‫التفاهم القائم بينهما اتفقا على ما ي�أتي‪:‬‬ ‫املادة االوىل‪ :‬ت�سود العالقات وااللتزامات بني البلدين امل�شاعر الودية وال�صراحة والتفاهم‬ ‫ولتحقيق ذلك ف�إن ممثلني عرباً ويهوداً �سيتم تبادلهم يف كال اجلانبني‪.‬‬ ‫املادة الثانية‪ :‬يتم بعد االنتهاء من مداوالت م�ؤمتر ال�سالم تقرير احلدود بني الدولة العربية‬ ‫وفل�سطني من قبل جلنة يتم االتفاق على ت�شكيلها بني الأطراف امل�شرتكة‪.‬‬ ‫املادة الثالثة‪ :‬كل االجراءات املتفق عليها �سوف يبقي عليها الد�ستور وتتبناها حكومة فل�سطني‬ ‫و�ستتمتع احلكومة بكافة ال�ضمانات من �أجل الو�ضع مو�ضع التنفيذ‪ ،‬وعد احلكومة الربيطانية‬ ‫ال�صادر يف ت�شرين الثاين ‪.1917‬‬ ‫املادة الرابعة‪� :‬سوف تتخذ جميع االجراءات الالزمة لت�شجيع وت�سريع هجرة اليهود �إىل فل�سطني‬ ‫على نطاق وا�سع وب�أ�سرع ما ميكن �سوف يتم توطني املهاجرين اليهود يف االر�ض من خالل �إقامة‬ ‫م�ستوطنات لهم وتكثيف ا�ستغالل االر�ض و�سوف ت�صان حقوق املزارعني وال�سكان العرب‬ ‫وتقدم لهم امل�ساعدات لتطوير اقت�صادهم‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫املادة اخلام�سة‪ :‬ال يجب �أن حتول �أو تتدخل �أية �إجراءات �أو قوانني ب�أية طريقة من الطرق يف‬ ‫ممار�سة املواطنني لدياناتهم و�سوف يتمتع املواطنون دائماً مبمار�سة طقو�سهم وعباداتهم بدون متييز او‬ ‫تف�ضيل وال يطلب من �أحد �أن ميتحن يف دينه من �أجل ممار�سة حقوقة ال�سيا�سية واملدنية‪.‬‬ ‫املادة ال�ساد�سة‪ :‬تكون االماكن اال�سالمية املقد�سة حتت �إدارة �إ�سالمية‪.‬‬ ‫املادة ال�سابعة‪ :‬تقرتح املنظمة ال�صهيونية �أن تر�سل جلنة من اخلرباء �إىل فل�سطني للقيام مب�سح‬ ‫للأماكن االقت�صادية يف البالد ولو�ضع تقرير حول �أف�ضل الو�سائل لتطوير هذه االمكانات و�سوف‬ ‫ت�ضع املنظمة ال�صهيونية اللجنة املذكورة يف ت�صرف الدولة العربية من �أجل القيام مب�سح اقت�صادي‬ ‫للدولة العربية وت�ضع تقريراً حول �أف�ضل الو�سائل لتطوير هذه االمكانات و�سوف تبذل املنظمة‬ ‫ال�صهيونية كل جهودها مل�ساعد الدولة العربية يف تطوير م�صادرها الطبيعية وامكاناتها االقت�صادية‪.‬‬ ‫املادة الثامنة‪ :‬توافق االطراف املجتمعة هنا �أن تعمل يف ان�سجام ووفاق تام من اجل و�ضع‬ ‫امل�سائل التي بحثت يف م�ؤمتر ال�سالم مو�ضع التنفيذ‪.‬‬ ‫املادة التا�سعة‪ :‬يلج�أ الطرفان يف ما قد ين�ش�أ من نزاع حول امل�سائل املتفق عليها �إىل احلكومة‬ ‫الربيطانية للتحكيم‪».‬‬ ‫‪1‬‬

‫يروي لنا اخلبري يف االقت�صاد وال�سيا�سة اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح عن والده هاين (والذي واكب‬ ‫الثورة العربية وعر�ض عليه امللك في�صل تويل وزارة يف حكومته لكنه رف�ض) «�أن م�صطفى كمال‬ ‫�أتاتورك (عندما كان �ضابطاً يف اجلي�ش الرتكي) ات�صل بالأمري في�صل طالباً لقاءه يف اال�سكندورن‪،‬‬ ‫وذلك بعد دخول القوات العربية �إىل بالد ال�شام‪ ،‬من �أجل التكافل والتعاون على طرد الفرن�سيني‬ ‫وحترير املنطقة منهم‪� ،‬إال �أن الأمري في�صل رف�ض اللقاء به‪ .‬وبعد طرد في�صل من منطقة بالد ال�شام‪،‬‬ ‫جيء به �إىل العراق لقمع الثورات التي حدثت �ضد االجنليز يف حينها‪».‬‬ ‫هناك حمطة مهمة يجب اال�شارة �إليها هنا‪ .‬انها جلنة كينغ‪-‬كراين التي �شكلها الرئي�س الأمريكي‬ ‫�آنذاك وودورد ول�سون‪ ،‬خالل انعقاد م�ؤمتر ال�صلح يف باري�س عام ‪ ،1919‬بهدف الوقوف على ر�أي‬ ‫القاطنني يف املنطقة (لبنان‪�-‬سوريه‪-‬فل�سطني)‪ .‬فلقد جاء تقرير اللجنة على �شكل «وثيقة �سيا�سية‬ ‫هامة على جانب كبري من املو�ضوعية والتفهم‪ .‬واعتربها بع�ض امل�ؤرخني مرجعاً هاماً من مراجع‬ ‫الق�ضية الفل�سطينية يف تلك املرحلة‪ .‬طالبت اللجنة يف تقريرها بوحدة �سورية ب�أقاليمها الثالثة‬ ‫فل�سطني ولبنان و�سورية‪ ،‬مع �إعطاء لبنان حكماً ذاتياً يف �إطار الوحدة ال�سورية‪ .‬وقالت �إن �سورية‬ ‫ال ترحب باالنتداب‪ ،‬ولكنها ترحب باملعونة اخلارجية‪ .‬واقرتحت �إعطاء االنتداب على �سورية‬ ‫ ‪1‬‬

‫كتاب ال�صراع العربي اال�سرائيلي مل�ؤلفه جون نورثون مور‪ ،‬نقال عن كتاب‪ :‬املفاو�ضات العربية اال�سرائيلية ‪-1949‬‬ ‫‪ 1991‬ال�صادر عن املركز العربي لالبحاث والتوثيق‪ ،‬الطبعة االوىل‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪� ،1992 ،‬صفحة‪.21-20 :‬‬ ‫‪43‬‬


‫لأمريكا‪ ،‬وعلى العراق لربيطانيا‪ .‬وحذرت من فر�ض االنتداب الفرن�سي على �سورية‪ .‬وقررت‬ ‫اللجنة �أن العداء لل�صهيونية ال يقت�صر على فل�سطني بل ي�شمل �سورية كلها‪ ،‬و�أن هناك �إجماعاً على‬ ‫رف�ض الربنامج ال�صهيوين رف�ضاً باتاً‪ .‬وجاء يف التقرير �أن اليهود فقط هم الذين ي�ؤيدون ال�صهيونية‪،‬‬ ‫و�أنهم ي�شكلون حوايل ‪ %10‬من ال�سكان الفل�سطينيني‪ ،‬و�أنهم يتفقون على جعل فل�سطني وطناً‬ ‫قومياً لهم و�إن اختلفوا على بع�ض التفا�صيل والو�سائل املتعلقة بزمن �إقامة الدولة اليهودية ومدى‬ ‫ارتباطها بالدين اليهودي وغري ذلك‪ .‬وقال التقرير �إن اليهود متفقون على �أن تكون بريطانيا هي‬ ‫الو�صية على فل�سطني لأنها �ست�ساعدهم يف حتقيق م�آربهم بت�سهيل الهجرة و�إباحة �شراء الأرا�ضي‪.‬‬ ‫واعرتفت اللجنة ب�أنها مل�ست بو�ضوح �أجماع ال�صهيونيني على �إجالء �سكان فل�سطني عن �أرا�ضيهم‬ ‫بعد جتريدهم منها ولو عن طريق ال�شراء‪ .‬وحذرت اللجنة م�ؤمتر ال�صلح من جتاهل �شعور الأهلني‬ ‫العدائي جتاه ال�صهيونية‪ .‬كما حذرت من نية بريطانيا تنفيذ الربنامج ال�صهيوين بالقوة امل�سلحة‪.‬‬ ‫وقالت �إن مطالب ال�صهيونيني يف فل�سطني مبنية على كونهم احتلوها قبل �ألفي �سنة‪ ،‬وهذه دعوة‬ ‫ال ت�ستوجب االكرتاث واالهتمام‪ .‬ثم �أوجزت اللجنة التو�صيات التالية بالن�سبة �إىل فل�سطني‪:‬‬ ‫‪ )1‬وجوب حتديد الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني والعدول نهائياً عن اخلطة التي ترمي �إىل جعلها‬ ‫دولة يهودية‪.‬‬ ‫‪� )2‬ضم فل�سطني �إىل دولة �سورية املتحدة لتكون ق�سماً منها �ش�أنها يف ذلك �ش�أن الأق�سام الأخرى‪.‬‬ ‫‪ )3‬و�ضع الأماكن املقد�سة يف فل�سطني حتت �إدارة جلنة دولية دينية ت�شرف عليها الدولة املنتدبة‬ ‫وع�صبة الأمم وميثل اليهود فيها ع�ضو واحد‪.‬‬ ‫قوبل تقرير اللجنة مبعار�ضة �شديدة من فرن�سا وبريطانيا واحلركة ال�صهيونية‪ .‬و�أما الرئي�س الأمريكي‬ ‫ول�سون الذي كان من �أ�شد املتحم�سني يف م�ؤمتر ال�صلح لإر�سال جلنة فقد قابل هو الآخر التقرير‬ ‫بعدم اكرتاث‪ .‬ويعزو بع�ض امل�ؤرخني هذا التحول يف املوقف الأمريكي �إىل ال�ضغوط ال�صهيونية التي‬ ‫تعر�ض لها ول�سون‪ ،‬و�إىل تدخل املخابرات الأمريكية يف الق�ضية الفل�سطينية ل�صالح ال�صهيونية‪.‬‬ ‫ولذلك ظل تقرير اللجنة طي اخلفاء �أكرث من ثالث �سنوات حتى �أذن الرئي�س الأمريكي ول�سون‬ ‫ب�إذاعته يف كانون الأول ‪».1922‬‬ ‫يف املقابل‪ ،‬يرى اخلبري اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح �إىل �أن تقرير جلنة كينغ‪-‬كراين (وفق معلومات‬ ‫لديه) «ت�ضمن ما يلي‪:‬‬ ‫ �إن�شاء وطن قومي لليهود يف فل�سطني؛‬ ‫ �إن�شاء وطن قومي للم�سحيني يف لبنان؛‬ ‫ �إن�شاء وطن قومي للأرمن ميتد من البحر الأ�سود �إىل اال�سكندرون على �شكل «ر�أ�س ح�صان»‬ ‫‪44‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫يف�صل بني امل�سلمني االتراك وامل�سلمني الباقني يف بالد ال�شام‪ ،‬و�إعطاء الواليات املتحدة‬ ‫الو�صايا عليها‪ ،‬لكن الأخرية رف�ضته لعدم جدواه‪ ،‬فيما �أيدته كل من فرن�سا وبريطانيا‪.‬‬ ‫وهذا هو ال�سبب‪ ،‬يف ر�أي اال�ستاذ �أبو م�صلح‪ ،‬وراء ان�سحاب الواليات املتحدة من امل�ؤمترات‬ ‫وانكفائها عن املنطقة والعودة �إىل االهتمام بالقارة االمريكية وتطبيق مبد�أ مرنو‪».‬‬ ‫لقد �ساهمت �سايك�س‪-‬بيكو يف تفتيت املنطقة املوحدة بفعل اجلغرافيا �إىل دول ذات حدود م�صطنعة‪،‬‬ ‫وغري قابلة للحياة مبفردها‪ ،‬ناهيك عن تقطيع �أو�صال الدولة الواحدة �إىل دويالت على غرار ما حدث‬ ‫يف �سوريه‪� ،‬إذ مت تف�سيمها �إىل �أربع دويالت‪ :‬دم�شق‪ ،‬حلب‪ ،‬دولة العلويني ودولة الدروز‪.‬‬ ‫ويرى الباحث يف التاريخ اال�ستاذ ندمي حمزة �أن ثورة �سلطان با�شا الأطر�ش وبرغم ف�شلها «كانت‬ ‫من القواعد التي انطلقت منها بداية الوحدة ال�سورية �آنذالك‪� ».‬إ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬يرى اال�ستاذ‬ ‫ندمي حمزة ب�أن االردن هو «�أكرث الكيانات امل�صطنعة يف امل�شرق‪ ،‬حيث كان يعتمد على الدول‬ ‫اال�ستعمارية ب�شكل �أ�سا�سي‪ ،‬وهو ما يف�سر بقاء قيادة اجلي�ش االردين بيد غلوب با�شا‪ ،‬و�سيطرة‬ ‫االجنليز عليه حتى �شن العدوان الثالثي على م�صر عام ‪».1956‬‬ ‫بعد �سقوط الدولة العثمانية‪ ،‬مت تق�سيم �أرا�ضيها بني املنت�صرين يف احلرب‪ ،‬و�أخرجت من مناطق‬ ‫تعتربها �ضمن �أرا�ضيها ولها حق ال�سيطرة عليها‪ .‬ويرى الدكتور جمال واكيم ا�سا�س ذلك يف‬ ‫«ا�ستمرار تركيا باملطالبة باملو�صل وكركوك العراقيتني‪ ،‬وال�سيطرة على اال�سكندرون هو نتيجة‬ ‫لذلك‪ ».‬ومع ظهور احلركة «الكمالية» وقيام الدولة العلمانية على يد م�صطفى كمال اتاتورك‬ ‫والغائه للخالفة العثمانية‪ ،‬ا�ستطاعت تركيا املحافظة على نوع من التمايز يف �شخ�صية فريدة بني‬ ‫امل�شرق واوروبا‪ .‬يرى الدكتور جمال واكيم �أن «هناك العديد من العوامل التي �ساهمت يف �إبراز‬ ‫الهوية الرتكية اهمها‪:‬‬ ‫ فر�ض الهوية فر�ضاً من خالل قيام امل�ؤ�س�سات كافة؛‬ ‫ وجود الدين اال�سالمي كدين جامع لغالبية مواطنيها؛‬ ‫ النجاح يف خلق لغة م�شرتكة (لغة تركية وحروف خا�صة)‪».‬‬ ‫ويرى اال�ستاذ ندمي حمزه «�أن احلفاظ على تركيا كان من م�صلحة الدول اال�ستعمارية ب�شكل‬ ‫مبا�شر �أو غري مبا�شر بناء على املرتكزات التالية‪:‬‬ ‫ اعتبار العلمانية «دين» واجلي�ش حامي النظام؛‬ ‫ االندفاع الرتكي نحو �أوروبا اليوم وال�سعي �إىل الدخول يف احتادها؛‬ ‫‪45‬‬


‫ ان�ضمام تركيا �إىل حلف �شمال االطل�سي (الناتو) واعتبارها موقعاً متقدماً له؛‬ ‫ ن�شر ق�سم من الدرع ال�صاروخي للحلف على �أرا�ضيها موجه نحو ال�شرق‪».‬‬ ‫‪ .2‬الآثار االقت�صادية‬

‫مع مرور الزمن‪ ،‬يت�ضح جلياً ب�أن الهدف الكامن وراء �إقرار �صك االنتداب على امل�شرق العربي هو‬ ‫اال�ستعمار بلبا�س قانوين دويل لل�سيطرة على هذه املنطقة احليوية من العامل وتفكيكها �إىل كيانات‬ ‫لي�سهل التعامل معها‪ ،‬وهي التي تختزن العديد من الرثوات الطبيعية واعتبارها عقدة املوا�صالت‬ ‫بني ال�شرق والغرب‪.‬‬ ‫بالن�سبة �إىل االقت�صاد‪ ،‬يتحدث اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح‪ ،‬وبرغم قلة املعلومات املتوافرة عن هذه‬ ‫املنطقة يف تلك الفرتة الزمنية‪ ،‬عن الرتابط يف االقت�صاد بني لبنان وفل�سطني‪ ،‬فلقد كانت هناك‬ ‫«عالقات اقت�صادية زراعية خ�صو�صاً مع ا�شتهار الفل�سطينيني بالزراعة وحتديداً احلم�ضيات‪ ،‬وظهر‬ ‫ذلك بعد ن�شوء الكيان «اال�سرائيلي» وتهجري الفل�سطينيني �إىل لبنان والدول املجاورة‪� ،‬إذ �ساهمت‬ ‫خربة اليد العاملة الفل�سطينية يف الزراعة اللبنانية ب�شكل مبا�شر وكبري‪ ،‬كذلك الطافات الب�شرية‬ ‫يف املو�ضوع االقت�صادي حيث مت ت�أ�سي�س عدد من امل�صارف (بنك �أنرتا ل�صاحبه يو�سف بيد�س)‬ ‫التي مازال بع�ضها م�ستمر يف املل حتى اليوم (البنك العربي‪ ،‬بنك عودة)‪».‬‬ ‫كما يذكر اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح الرتابط االقت�صادي بني كل من لبنان و�سوريه الذي «عرب عنه‬ ‫وجود بنك مركزي م�شرتك ال�صدار العملة‪ ،‬وجهاز جمركي موحد �إىل �أن انف�صال يف العام ‪،1952‬‬ ‫ب�سبب اختالف وجهات النظر االقت�صادية وتركيز كال الدولتني على منط معني من االقت�صاد‪،‬‬ ‫حيث ظهرت يف لبنان «برجوازية جتارية» ت�ستند �إىل تاريخ لبنان واحرتافه التجارة منذ القدم‬ ‫(الفنيقيني) وهو ما ا�ستفاد منه مرحلياً يف بدايات ال�صراع «العربي‪-‬اال�سرائيلي» كممر للم�شرق‪،‬‬ ‫بينما يف �سوريه «برجوازية انتاجية» (زراعية و�صناعية) جعل لها قوة اقت�صادية مبنية على االقت�صاد‬ ‫املوجه املنتج بدال من االعتماد على االقت�صاد الريعي»‪ .‬ومن �أبرز االمثلة على ذلك ت�أ�سي�س‬ ‫ال�شركة الوطنية ل�صناعة اال�سمنت ومواد البناء عام ‪ 1930‬يف دمر قرب دم�شق‪ ،‬وت�أ�سي�س �شركة‬ ‫املغازل واملنا�سج‪ ،‬وان�شاء املرافئ التجارية على غرار ميناء الالذقية الذي �أ�صبح يناف�س ميناء‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫ال �شك ب�أن تفتيت املنطقة وتدمري اقت�صادها كانا من �أهم �أ�سباب �إيجاد الكيان «الإ�سرائيلي»‪ ،‬وهو‬ ‫عالوة على ذلك �أي�ضاً اع ُترب الذراع الع�سكرية للغرب يف لل�سيطرة على ثروات امل�شرق او على‬ ‫االقل منع �أ�صحابها من ا�ستغاللها‪ ،‬وهو ما ت�ؤكده احلقائق التاريخية لكون بريطانيا من م�ؤ�س�سي‬ ‫‪46‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫هذا الكيان باعطاء وعد بلفور وو�ضع فل�سطني حتت �سيطرتها وت�شجيع الهجرة اليهودية اليها‪ ،‬لرتثه‬ ‫الواليات املتحدة بعد �سقوط اال�ستعمار الربيطاين والفرن�سي غداة العدوان الثالثي على م�صر‬ ‫عام ‪.1956‬‬ ‫وتقع �أهمية امل�شرق �أي�ضاً يف كونه ي�شكل جزءاً من «طريق احلرير» التاريخية التي ت�صل ال�شرق‬ ‫االق�صى ب�أوروبا‪ ،‬فهو عقدة املوا�صالت بني ال�شرق والغرب‪ ،‬والتي تالقت عليه �أطماع الدول‬ ‫الكربى‪ .‬فمن ي�سيطر على هذا اجلزء ي�ستطيع التحكم بتجارة العامل‪ ،‬ناهيك عما يختزن من‬ ‫ثروات اكت�شفت �سابقاً ومت الك�شف عنها اليوم‪ .‬وهذا ما يف�سر ال�صراع احلايل على املنطقة وحماولة‬ ‫ال�سيطرة عليها‪ ،‬فما ي�شهده امل�شرق اليوم من هجوم عليه تعود �إىل �أنه ميثل عقدة موا�صالت للطاقة‬ ‫واداة للتحكم ب�أوروبا حتديداً من خالل تزويدها مبا حتتاجه حلياتها اليومية يف كافة املجاالت‪.‬‬ ‫�أما �أحد �أهم �أ�سباب ال�صراع على امل�شرق بعد احلرب العاملية االوىل فيتلخ�ص يف النفط �أو «الذهب‬ ‫اال�سود»‪ .‬ولقد كان العراق من �أبرز الدول امل�شرقية التي ظهر فيه النفط حينها‪ ،‬لهذا مت االتفاق‬ ‫بني كل من فرن�سا وبريطانيا على تقا�سمه‪ .‬ففي «عام ‪� 1918‬أ�صبح مو�ضوع النفط طاغيا‪ .‬وبح�سب‬ ‫االتفاق ت�سيطر فرن�سا على املو�صل حيث يوجد خمزون كبري لكن الربيطانيني يح�صلون على‬ ‫االمتيازات النفطية‪ .‬اراد جورج كليمن�صو تلبية �ضغوط املجموعات اال�ستعمارية لكن بتحديد‬ ‫ال�سيطرة الفرن�سية يف «�سوريا املفيدة» التي ال ت�شتمل على فل�سطني ولكن ت�سمح بالو�صول �إىل‬ ‫املوارد النفطية‪ .‬فالتو�سع املفرط على االر�ض من �ش�أنه زيادة الكلفة االدارية ب�شكل ال يتنا�سب‬ ‫ت�سمى‬ ‫مع العائدات املحتملة‪ .‬كان ذلك مبثابة التخلي عن �سوريا الكاملة �أو «�سوريا الكربى» كما ّ‬ ‫اليوم‪ .‬وغداة الهدنة راح كليمن�صو يتفاو�ض مبا�شرة مع لويد جورج حول تق�سيم ال�شرق االو�سط‬ ‫يف غياب اي �شهود‪».‬‬ ‫يذكر الباحث حيدر على الدليمي �أنه وعندما «و�ضعت احلرب العاملية الأوىل �أوزارها ا�ستطاع‬ ‫الباحثون عن النفط �أن يكت�شفوه يف املناطق القريبة من ايران واملتاخمة للعراق‪ ،‬وكان ال�سيا�سيون‬ ‫االوربيون يقت�سمون �أمالك الدولة العثمانية التي انح�سرت �إىل تركيا احلالية‪ ،‬ال بل �إن بريطانيا‬ ‫وفرن�سا �أعادتا بعد �أنت�صارهما يف احلرب العاملية الأوىل وبالتحديد يف نهاية اكتوبر‪/‬ت�شرين الأول‬ ‫من عام ‪ 1918‬نقل والية املو�صل من �سيطرة النفوذ الفرن�سي �إىل الربيطاين بد ًال من �سوريا ب�شرط‬ ‫منح الفرن�سني ح�صة يف نفط املو�صل‪ ،‬وهكذا مت اعداد اتفاقيات بريينغر‪ -‬لونغ و�سان رميو و�سايك�س‬ ‫بيكو‪ ...‬ورغم تفجر النفط بكميات كبريه يف �أكتوبر‪ /‬ت�شرين الأول ‪ 1927‬من بئر بابا كركر يف‬ ‫منطقة كركوك �إال �أن عملية �أنتاج النفط ت�أخرت حتى بداية الثالثينات �أي �إىل حني االتفاق ثم‬ ‫االنتهاء من مد �أول خطوط نقل النفط غرباً باجتاه �سوريا ولبنان واللتان كانتا خا�ضعتان للأنتداب‬ ‫الفرن�سي‪ ...‬كانت ح�صة الدولة العراقية احلديثة (�شلنات عن الربميل الواحد) ظلت تزداد حتى‬ ‫نهاية احلرب العاملية الثانية حتى و�صلت �إىل ما يقارب الدوالر الواحد عن كل برميل‪».‬‬ ‫‪47‬‬


‫‪ .3‬الآثار االجتماعية‬

‫لعب اال�ستعمار على الوتر الطائفي وا�ستغل ذلك كله يف خدمة م�صلحته‪ ،‬فبث الفرقة يف املجتمع‬ ‫وبني �أفراد البيئة الواحدة‪ .‬و�أبرز مثال على ذلك تق�سيم �سوريه �إىل�أاربع دويالت على �أ�سا�س ديني‬ ‫(الدولة العلوية والدولة الدرزية) حماو ًال بذلك �ضرب قدرة الوطنيني ومنعهم من جتميع قواهم‬ ‫لطرد اال�ستعمار من البالد‪ .‬كما �أ�س�س لكيانات م�صطنعة (لبنان‪�-‬سورية) مع �أن هناك العديد من‬ ‫الروابط‪ ،‬وخا�صة الأ�سرية منها‪ ،‬التي جتمع بني البيئتني‪ .‬وما بني �سوريه والعراق لي�س �أقل �أهمية‪،‬‬ ‫فالقبائل املنت�شرة بني الكيانني والتي كانت جتوب املنطقة ال تعرتف مبثل تلك احلدود‪ ،‬فهي وعلى‬ ‫مر عقود من الزمن كانت تعرب هذه املناطق وتعتربها ار�ضاً واحدة‪.‬‬ ‫�أ�ضافة �إىل ذلك‪� ،‬أيقظ اال�ستعمار الطائفية واملذهبية بني �أبناء البيئة الواحدة والتي اعتمد عليها‬ ‫منذ قرون لتثبيت مكانته يف املنطقة (فلقد حمت فرن�سا على �سبيل املثال املوارنة يف لبنان)‪،‬‬ ‫وجعلها مكر�سة قانوناً وعرفاً‪ .‬ولعل لبنان من �أبرز الأمثلة احلية على ذلك‪ ،‬وظهر من خالل قانون‬ ‫االنتخابات النيابية الذي �أعطى للم�سيحيني مقاعد نيابية زيادة على املقاعد النيابية للم�سلمني‬ ‫كونهم كانوا ي�شكلون �أغلبية عددية بح�سب �إح�صاء عام ‪ .1932‬وتكر�س هذا الو�ضع �إىل يومنا هذا‪،‬‬ ‫ولكن بامل�ساواة بني كال الطائفتني‪ .‬وهناك حادثة من املهم اال�شارة �إليها يف هذا ال�سياق متثلت‬ ‫يف تعليق املفو�ض ال�سامي هرني بون�سو للد�ستور بعدما تر�شح ال�شيخ حممد اجل�سر ملن�صب رئي�س‬ ‫اجلمهورية‪ ،‬هذا من جانب‪.‬‬ ‫من جانب �آخر‪ ،‬يتمحور التغيري الدميغرايف الأبرز يف وجود الكيان «اال�سرائيلي» و�إن�شائه على‬ ‫�أ�سا�س ديني (و�سعي قادته الد�ؤوب اىل ك�سب اعرتاف دول العامل به على �أ�سا�س ديني)‪ ،‬والذي‬ ‫�أخذ امل�شرق �إىل ناحية وجودية خطرة‪ ،‬و�أوجد �صراعات ق�سمت املق�سم فيه‪� .‬إن للهجرة اليهودية‬ ‫�إىل فل�سطني الأثر الكبري يف نزاعات املنطقة كونها غريبة عن بيئته‪ ،‬تغذية «�إ�سرائيل» لل�صراعات‬ ‫الداخلية واال�ستفادة منها بهدف «تفتيت املفتت» (احلرب اللبنانية ودخولها كحليف وممول‬ ‫وم�ساند لطرف �ضد �آخر)‪ ،‬وبث روح النقمة على املهجرين الفل�سطينيني يف الدول التي جل�أووا‬ ‫�إليها حيث دارت معارك �شر�سة (تل الزعرت يف لبنان‪ ،‬حرب املخيمات يف لبنان‪ ،‬وجمزرتي �صربا‬ ‫و�شايتال)‪ ،‬جعلت من ال�صديق عدواً‪ ،‬وغريت البو�صلة من ال�صراع «العربي‪-‬اال�سرائيلي» (والذي‬ ‫هو اال�سا�س مل�شكلة الفل�سطينيني) �إىل �صراع عربي‪-‬عربي‪ ،‬و�صراع طائفي‪-‬طائفي كان جل امثلته‬ ‫ما حدث يف لبنان من حرب �أهلية (‪ )1990-1975‬ق�ضت على الكثري من الروابط االجتماعية‬ ‫بني النا�س‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫خال�صة‬

‫�إن االحداث الدولية احلا�صلة يف يومنا هذا متهد �إىل �سقوط اتفاقية �سايك�س بيكو‪ ،‬و�إن�شاء و�ضع‬ ‫دويل جديد على ال�ساحة الدولية خ�صو�صاً بعد ظهور تطورات جديدة تتمثل يف عدد من االمور‪:‬‬ ‫التوجه االمريكي اجلديد «�إىل ال�شرق» وحماولة ترتيب ملفاتها يف املنطقة لعدد من االهداف �أهمها‬ ‫�ضمان �أمن «�إ�سرائيل» وترك �صداقات مع دول نا�صبتها العداء (اجلمهورية اال�سالمية يف �إيران‬ ‫واتفاق جنيف ‪ 2013‬حول امللف النووي االيراين)؛‬ ‫ت�ضا�ؤل اهتمام الواليات املتحدة باخلليج بعدما االكت�شافات النفظية ال�ضخمة فيها؛‬ ‫ت�ضا�ؤل �أهمية امل�ضائق الدولية املوجودة يف املنطقة مع الوقت (م�ضيق هرمز‪ ،‬باب املندب‪ ،‬قناة‬ ‫ال�سوي�س) لناحية املوارد الطبيعية واالجتاه �إىل مد �شبكة من االنابيب تكون بديال عنها واكرث �أماناً‬ ‫خ�صو�صاً يف االزمات؛‬ ‫اعتماد طرق موا�صالت جديدة تغني عن الطرق املعتمدة يف امل�شرق‪ ،‬ومثال ذلك اخلط البحري‬ ‫التي تعتزم رو�سيا اعتماده �إىل �أوروبا عرب املحيط املتجمد ال�شمايل بوقت وم�سافة �أقل؛‬ ‫�سري الن�سق الدويل يف «ال قطبية دولية» بعدما كان لأكرث من عقد ي�سري �ضمن قطبية واحدة‬ ‫(الواليات املتحدة)‪ ،‬وهذا الواقع الدويل اجلديد يعترب من �أخطر االو�ضاع كون امل�ستقبل مل يتبلور‬ ‫بعد‪ ،‬وعادة ما ي�صعب التنب�ؤ مبا �سيحدث من تطورات يف مثل هذه الظروف‪.‬‬ ‫ال تزال بع�ض من نتائج احلرب العاملية االوىل ت�سيطر على امل�شرق وت�ؤثر فيه‪ ،‬فهل نحن امام‬ ‫�صراعات جديدة مقبلة على امل�شرق خ�صو�صاً مع احداث «الربيع العربي» التي اجتاح العديد من‬ ‫دوله؟ هل بقيت ال�سيا�سات الدولية كما هي ولكن تغريت طريقة التعاطي مع االحداث؟ هل‬ ‫هناك من خطوات يجب اتخاذها على �صعيد الدول وال�شعوب من �أجل تغيري هذا الواقع الدويل‬ ‫و�إقامة واقع جديد يتالئم مع املنطقة وطبيعتها؟ هل تكون االحداث التي �أملت وتلم به اليوم‬ ‫مدخال لقيام م�شرق جديد؟ �أ�سئلة بر�سم امل�ستقبل‪.‬‬

‫‪49‬‬


‫املراجع‪:‬‬

‫‪ -‬‬

‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‬‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬

‫فواز طرابل�سي‪ ،‬تاريخ لبنان احلديث من االمارة �إىل اتفاق الطائف‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار ريا�ض الري�س للكتب‬ ‫والن�شر‪ ،‬بريوت لبنان‪.2011 ،‬‬ ‫نيل غرانت ونركي ال�ضاهر‪� ،‬صراعات القرن الع�شرين ‪� 2000-1900‬صور و�أحداث‪ ،‬تعريب �أياد ملحم‪ ،‬الطبعة‬ ‫االوىل‪ ،‬دار ال�شفى للطابعة والن�شر ودار احل�سام للطباعة والن�شر والتوزيع‪ ،‬بريوت لبنان‪.2001 ،‬‬ ‫املفاو�ضات العربية ‪ -‬اال�سرائيلية ‪ ،1991-1949‬الطبعة االوىل‪ ،‬املركز العربي لالبحاث والتوثيق‪ ،‬بريوت ‪-‬‬ ‫لبنان‪.1992 ،‬‬ ‫الك�سندر دوغني‪� ،‬أ�س�س اجليوبوليتيكا ‪ -‬م�ستقبل رو�سيا اجليوبوليتيكي‪ ،‬ترجمة وتعريب د‪ .‬عماد حامت‪ ،‬دار‬ ‫الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬بريوت لبنان‪.2004 ،‬‬ ‫موريال مرياك ‪ -‬فاي�سباخ وجمال واكيم‪ ،‬ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية جتاه القوى العظمى والبالد العربية منذ‬ ‫‪� ،2002‬شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر‪ ،‬بريوت لبنان‪ ،‬الطبعة االوىل ‪.2014‬‬ ‫مقابلة خا�صة مع الدكتور جمال واكيم (بع�ض الفقرات املتعلقة برتكيا) �أجريت يف ‪.2013/11/26‬‬ ‫مقابلة خا�صة مع الباحث يف التاريخ اال�ستاذ ندمي حمزة �أجريت بتاريخ ‪.2013/11/28‬‬ ‫مقابلة خا�صة من اخلبري االقت�صادي وال�سيا�سي اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح �أجريت بتاريخ ‪.2013/11/30‬‬ ‫علي �صبح‪ ،‬ال�سيا�سات الدولية بني احلربني العامليتني ‪ ،1939-1914‬الطبعة االوىل‪ ،‬دار املنهل اللبناين‪ ،‬بريوت‬ ‫ لبنان‪.2003 ،‬‬‫دزموند �ستيورت‪ ،‬تاريخ ال�شرق االو�سط احلديث معبد جانو�س‪ ،‬تعريب زهدي جار اهلل‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار‬ ‫النهار للن�شر‪.1981 ،‬‬ ‫املجتمع العربي والق�ضية الفل�سطينية‪ ،‬عدد من الكتاب‪ ،‬دار النه�ضة العربية للطباعة والن�شر‪ ،‬بريوت‪-‬لبنان‪.1971 ،‬‬ ‫مطيع النون‪ ،‬نقاط للتاريخ يف العالقات اللبنانية ال�سورية (‪ :)2‬الزعيم هدد بقطع االت�صاالت‪...‬وخالد العظم‬ ‫�أعلن االنف�صال اجلمركي فوقع اخلالف االول‪ ،‬جريدة احلياة ‪ ،2005/2/11‬على الرابط التايل‪:‬‬ ‫‪http://saidacity.net‬‬

‫ هرني لورن�س‪ ،‬كيف جرى تق�سيم ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬على الرابط التايل‪:‬‬‫‪ -‬حيدر على الدليمي‪ ،‬نبذة عن نفط العراق‪ ،‬احلوار املتمدن‪ ،2011/4/4 ،‬على الرابط التايل‪:‬‬

‫‪http://www.mondiploar.com‬‬

‫ ‬ ‫ ‬

‫‪http://www.ahewar.org‬‬

‫ علوان نعيم �أمني الدين‪ ،‬اجلرف االورا�سي‪ :‬حمور ال�صراع الدويل‪ ،2013/11/14 ،‬على الرابط التايل‪:‬‬‫‪http://www.khabaronline.com‬‬

‫ علوان نعيم �أمني الدين‪� ،‬أنابيب الطاقة‪ :‬الت�أثريات اال�سرتاتيجية على املمرات الدولية‪ ،2013/11/19 ،‬على‬‫الرابط التايل‪http://www.khabaronline.com :‬‬ ‫‪ -‬علوان نعيم �أمني الدين‪ ،‬هل انتهى دور «الكيان اللبناين؟»‪ ،2013/10/2 ،‬على الرابط التايل‪:‬‬

‫ ‬ ‫ ‪-‬‬ ‫ ‬‫ ‬‫‪50‬‬

‫‪http://www.khabaronline.com‬‬ ‫‪www1.amalnet.k12.il‬‬ ‫‪http://www.group194.net‬‬ ‫‪http://ar.wikipedia.org‬‬


‫‪2014 – 1914‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫عن احلرب العاملية والفن وبريوت‬ ‫�أمني البا�شا ‪ -‬فنان ت�شكيلي وكاتب‬

‫عندما انتهت احلرب العاملية االوىل و�ساد ال�سالم اله�ش ب�ضع �سنوات وقعت احلرب العاملية‬ ‫الثانية‪ ،‬ووقع الهم الكبري يف العامل العربي وخا�صة يف �سوريا الطبيعية‪� ،‬إذ �أر�سل الغرب نا�ساً‬ ‫ملمومني من ال�شرق االوروبي وغربه ليحتلوا فل�سطني‪ ،‬وما زلنا يف حروب وخالفات �إىل اليوم‪،‬‬ ‫منذ وجود «�إ�سرائيل» الغرب‪ ،‬امريكا واوروبا ت�ساعد هذه «الدولة» ومتّدها باملال وبال�سالح‬ ‫وبال�سيا�سة‪ .‬ن�ستطيع �أن نقول �إن الغرب حتت �أمرها وليموت العرب يف غيظهم‪ .‬ال ّبد من هذه‬ ‫املقدمة «فنب غوريون» عندما احتلت فل�سطني �أ ّول ما �أمر بالبناء‪ ،‬بناء متحف «لإ�سرائيل»‪ .‬واجلدير‬ ‫بالذكر �أن الفن احلديث ‪ l’art moderne‬قد ظهر يف باري�س على يد ‪ Picasso‬بيكا�سو وماتي�س‬ ‫‪ ،Matisse‬واول امل�شجعني لهما هم العائالت اليهودية الرثية‪ ..‬عائلة �شتاين ‪ Stein‬وعائلة غوغنهامي‬ ‫‪ ،Gyuggenheim‬وهذه الأخرية متاحفها يف اكرث بلدان العامل من اخلليج العربي‪.‬‬ ‫�إبان احلرب العاملية االوىل كانت باري�س يف �أوج ن�شاطها وازدهارها‪ ،‬الفنون جميعاً مزدهرة فيها‪ ،‬من‬ ‫ر�سم ومو�سيقى و�أدب و�شعر‪ ،‬وكان ي�ؤمها فنانون من العامل �أجمع‪ ،‬من ال�شرق ومن الغرب‪ .‬ومنهم‬ ‫‪( Pablo Picasso‬بابلو بيكا�سو) الفنان العاملي ال�شهري الذي كان يتنقل من بر�شلونا �إىل باري�س‬ ‫�إىل �أن ق ّرر املكوث يف باري�س حيث ت�ألفت جمموعة من الفنانني وكان يرت�أ�سهم ب�شخ�صيته وبجر�أته‬ ‫وبفنه اجلديد‪ .‬هنا‪ ،‬ال بد من ذكر الكبري «هرني ماتي�س» الر�سام املثقف الذي �أوجد طريقاً جديدة‬ ‫يف الت�أليف والتلوين والذي عاي�ش وعا�شر بيكا�سو والذي �أثّر لونياً ببع�ض �أعمال هذا الأخري‪...‬‬ ‫هنا ال نن�سى �أن بيكا�سو هو �أندل�سي‪ ...‬وبقي ا�سبانياً حتى مماته يف باري�س‪ ،‬بعد ان طبع فن القرن‬ ‫الع�شرين بطابعه وتاركاً ت�أثريه بالفن والفنانني واالجتاهات الفنية‪.‬‬ ‫لبنان و�سوريا وم�صر مل يكونوا غرباء عما يجري يف باري�س‪ ،‬و�إن كان �أكرثهم مل ميا�شوا ومل يت�أثروا مبا‬ ‫يح�صل يف مدينة الفن‪ ،‬بل تو�صلوا فقط �إىل مرحلة «االنطباعية»‪ ،‬ار�ضا ًء للربجوازية اللبنانية التي‬ ‫ال تر�ضى �سوى بهذه املرحلة من الفن‪.‬‬ ‫من الر�سامني الذين هاجروا �إىل اوروبا �أذكر عمر الأن�سي‪ ،‬م�صطفى فروح‪� ،‬صليبا الدويهي وقبلهم‬ ‫‪51‬‬


‫جربان خليل جربان �إىل �أمريكا حيث كتب ور�سم بعد درا�سته الفن يف باري�س‪ .‬وميخائيل نعيمه‬ ‫يف رو�سيا‪ ،‬والنحات احلويك وغريهم‪ ،‬ويف �أوائل اخلم�سينيات من القرن الع�شرين كرث عدد من‬ ‫راح �إىل باري�س وروما‪ ،‬يف ذلك الوقت افتتحت يف بريوت �صاالت للعر�ض وكرثت املعار�ض‬ ‫وال�صالونات ال�سنوية فيها‪ ،‬و�أ ّم بريوت فنانون �أوروبيون للعر�ض يف مدينة بريوت التي �أ�صبح‬ ‫ا�سمها معروفاً يف العامل الفني الأوروبي‪ ،‬وال بد من ذكر افتتاح االكادميية اللبنانية للفنون اجلميلة‬ ‫بوا�سطة الك�سي بطر�س وبع�ض املرا�سم منها مر�سم «الر�سام �سرور» والر�سام الوافد من �أمريكا‬ ‫خليل ال�صليبي‪.‬‬ ‫يف ال�شعر والأدب ملع ا�سم ال�شاعر جورج �شحاده يف باري�س ويف لبنان حيث �أتى �أواخر عمره‬ ‫و�سكن يف بريوت مع زوجته الفرن�سية‪.‬‬ ‫كان لالر�ساليات االجنبية و�سفاراتها دور يف �إقامة املعار�ض وتقدمي املنح‪� .‬أذكر منها �سفارة فرن�سا‬ ‫وايطاليا وا�سبانيا‪ .‬ويف �صالونات هذه ال�سفارات كانت تقام معار�ض مهمة‪� ،‬أذكر �سفارة �أو املركز‬ ‫الثقايف اال�سباين حيث ر�أيت ر�سوم وحمفورات العبقري « غويا» ‪.‬‬ ‫ال بد هنا من القول ب�أن االر�ساليات االجنبية التي حلت يف بريوت كان لها دوران‪ ،‬دور ثقايف ودور‬ ‫�سيا�سي‪� .‬إذ �أن اجلامعة االمريكية �أتت حاملة معها لغتها ولهجتها وتفكريها وفكرها وطريقة عي�شها‪،‬‬ ‫ف�أ�صبح اللبناين «املتعلم» يتكلم الفرن�سية واالنكليزية والطليانية‪ ،‬ومن هاجر �إىل �أمريكا الالتينية‬ ‫هرباً من الفقر عاد باللغة اال�سبانية وهذا عال‪ ،‬فاللبناين يحب اللغات! لكن لبنان �أ�صبح كربج‬ ‫بابل! وامل�ضحك ان �أكرث اللبنانيني ال يتفوهون بجملة اال ويدخلوا فيها ‪yes , so , of course,‬‬ ‫‪ .ok , no‬غري هذه الكلمات العبقرية‪� ..‬أما اللغة العربية‪ ،‬لغة االم‪ ،‬فال �أم لها وال �أب‪ .‬ناهيك‬ ‫عن االذاعات والتلفزيونات واملقدمني واملقدمات الذين ميزجون العربية بكل ما يعرفون من لغة‬ ‫�أجنبية‪ ..‬وال من ينتقد وال من رقيب» �أو ح�سيب‪.‬‬ ‫وك�أن اللبناين اليوم يرف�ض حاله‪ ،‬يرف�ض نف�سه‪ ،‬يرف�ض لغته‪� ،‬إال �إذا �شتم و�سب‪ ،‬فلغته ٍ‬ ‫عندئذ‬ ‫وا�ضحة جداً ومعربة جداً‪...‬‬ ‫بريوت بالن�سبة للفنانني العرب كانت كباري�س بالن�سبة للفنانني اللبنانيني‪ .‬العرب الذين يبحثون‬ ‫عن ال�شهرة كانوا ي�أتون �إىل بريوت‪ ،‬وي�ؤمون مقاهيها خا�صة مقهى‪« :‬الهور�س �شو» املقهى الذي كان‬ ‫مكاناً للقاء الر�سامني وال�شعراء واملو�سيقيني‪،‬فرتى الفنان الفل�سطيني وامل�صري والعراقي وال�سوري‬ ‫تعج بال�شعراء والك ّتاب والفنانني وال�صحافيني‬ ‫وال�سوداين‪ .‬فاملقاهي يف تلك املرحلة كانت ّ‬ ‫وامل�سرحيني‪ ،‬كانت بريوت بحق يف اخلم�سينات وال�ستينات حتى �أوائل ال�سبعينات باري�س‬ ‫يتجدد فيها واملجالت االدبية‪� .‬أما يف جتديد‬ ‫ال�شرق‪ ،‬يف �صاالتها ومعار�ضها والكتب وال�شعر الذي ّ‬ ‫وحتديث ال�شعر فهو جمرد رف�ض ما�ضي ال�شعر العربي وكان حمارب َا من فئة من ال�شعراء الذين‬ ‫‪52‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫رف�ضوا كل ما هو �شعر كال�سيكي عربي‪ .‬للأ�سف �أقول‪ ..‬لأين كنت من حم ّبي ال�شعر‪ ...‬ال�شعر‪..‬‬ ‫�سموه ال�شعر املنثور‪ ..‬فال�شعر �شعر والنرث نرث‪.‬‬ ‫القوايف ولي�س ما ّ‬ ‫قلت �إن من كان يبحث عن ال�شهرة من ال�شعراء والر�سامني العرب كان ي�أتي �إىل بريوت‪ ،‬من‬ ‫الر�سامني العراقي �ضياء العزاوي‪ ،‬والرافعي و�آل �سعيد وغريهم‪� ،‬أما من كان ن�شيطاً بينهم فهو‬ ‫ال ّعزاوي‪� .‬أما ال�شعر فقد �أتى من قرية �سورية �أحمد علي �سعيد‪�( ،‬أعتقد هذا ا�سمه احلقيقي)‬ ‫مر�س ًال قبل جميئه �إىل بريوت ق�صيدة بهذا اال�سم‪ .‬فرف�ضت‪ ،‬لكنه ولأنه ذكي ويعرف كيف‬ ‫يتعامل‪� ،‬أر�سل نف�س الق�صيدة با�سم �أدوني�س فقبلت‪ ..‬و�أ�صبح �أدوني�س ال�شاعر العبقري واملفكر‬ ‫الكبري والفيل�سوف الذي ال ي�ضاهيه فيل�سوف واملنتظر جائزة نوبل‪ ..‬واالنتظار طال‪..‬‬ ‫هنا ال بد من ذكر هجرة ر�سامني و�شعراء وم�سرحيني من قراهم اللبنانية و�سكنوا بريوت واختلطوا‬ ‫بالفنانني البيارته والفنانني الآتني من كل القرى اللبنانية والعربية واملدن‪.‬‬ ‫كل هذه املجموعات جعلت من بريوت مزدانة بافكار وثقافات ح ّولتها �إىل خمترب فكري وف ّني �إىل‬ ‫ان ظهرت بوادر احلرب االهلية اللبنانية التي هدمت كل �شيء‪ ،‬كل حرف‪ ،‬كل لون‪ ،‬كل فكر‪،‬‬ ‫وبقيت بريوت الآن‪ .‬حتى الآن �أحرفها مغلوطة‪ ،‬و�ألوانها و�سخة‪ ،‬وفكرها بال فكر‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪2014 – 1914‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫الوجه الثّقا ّ‬ ‫امل�رشقي يف احلرب الأوىل‬ ‫يف‬ ‫ّ‬

‫«دمعة وابت�سامة»‬

‫ل�ؤي زيتوين ‪ -‬باحث و�أكادميي‬

‫تعدتها‬ ‫ال�سيا�س ّية واالقت�صاد ّية‪ ،‬بل ّ‬ ‫مل تكن ت�أثريات احلرب العامل ّية الأوىل مقت�صر ًة على اجلوانب ّ‬ ‫م�ست كافّة جماالت ال ّن�شاط‬ ‫�إىل جوانب ثقاف ّية وف ّن ّية متن ّوعة‪ ،‬لتتح ّول �إىل نقطة حت ّولٍ جذر ّي ًة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تغيريات يف بنية‬ ‫الفكري‪� ،‬إىل جانب ما �شهده العامل عموماً وامل�شرق خ�صو�صاً من‬ ‫ين‬ ‫االن�سا ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدول ّية‪ .‬ومن هذا املنطلق‪ ،‬ال ّبد من ال ّنظر �إىل‬ ‫يا�سي‬ ‫والع�سكري‪ ،‬ويف لعبة ال ّتوازنات ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنفوذ ّ‬ ‫ال�س ّ‬ ‫اريخي لي�س بو�صفه بداية مرحل ٍة جديد ٍة بال ّن�سبة مل�ستقبل الأمم �آنذاك فح�سب‪،‬‬ ‫هذا احلدث ال ّت ّ‬ ‫لكن بو�صفه حلظ ًة تاريخ ّي ًة حا�سم ًة لناحية الت�أثري يف وجود الإن�سان وكيانه؛ وبال ّتايل يف نتاجاته‬ ‫الفن ّية‪ ،‬والأدب ّية منها‪ ،‬ا�ستناداً �إىل تك ّون ر ً�ؤى جديد ًة نحو احلياة والكون ّ‬ ‫والفن‪ ،‬وذلك تبعاً لل ّتغيرّ‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬ميكن مقاربة احل�ضور الأدبي وخ�صائ�صه �إ ّبان احلرب‬ ‫اجلغرا ّيف‬ ‫واالجتماعي ّ‬ ‫وال�س ّ‬ ‫ّ‬ ‫يا�سي‪ً .‬‬ ‫العامل ّية الأوىل‪ ،‬ال �س ّيما يف البالد امل�شرق ّية‪.‬‬ ‫العاملي �شهد انحرافاً كبرياً يف مفاهيمه �آنذاك‪� ،‬إذ �أ ّننا‬ ‫ّ‬ ‫والبد يف البداءة من الإ�شارة �إىل �أنّ الأدب ّ‬ ‫أدبي جديدٍ يعبرّ عن الي�أ�س من ما و�صلت �إليه‬ ‫نعرث يف مرحلة احلرب تلك على والدة ٍ‬ ‫مذهب � ٍّ‬ ‫ين‬ ‫الدادائ ّية التي عبرّ ت عن عبث ّية الوجود الإن�سا ّ‬ ‫الإن�سان ّية يف جمال القتل والفتك‪ ،‬وهو مذهب ّ‬ ‫ال�سوريال ّية‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل �أنّ هذه احلقبة‬ ‫ٍ‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫خا�ص‪ ،‬عرب حركة «دادا» التي حت ّولت يف ما بعد �إىل ّ‬ ‫الفردي‬ ‫عرفت ن�شاط احلركة ال ّتعبري ّية الأملان ّية التي �أ�سهمت يف خلق خ�صو�ص ّية �أكرب للإبداع‬ ‫ّ‬ ‫الغربي مرحلة ما بعد احلداثة‪ .‬ولن نن�سى يف هذا‬ ‫أدبي ّ‬ ‫يف الأدب‪ ،‬والتي �س ّهلت دخول النتاج ال ّ‬ ‫للدرا�سات ال ّلغو ّية التي �أ�س�ست لعلم‬ ‫ال�سياق �أن نذكر ما حملته تلك املرحلة ال ّزمن ّية من ظهو ٍر ّ‬ ‫ّ‬ ‫الدرا�سة الأدب ّية القائمة‬ ‫الأل�سن ّية العا ّمة‪ ،‬وال ّت�أثري الذي �أتت به جلهة �إف�ساح املجال �أمام ن�شوء مناهج ّ‬ ‫حتد ٍ‬ ‫يات خللق اجلديد يف ال ّتعبري‪.‬‬ ‫أدبي �أمام ّ‬ ‫على العنا�صر ال ّلغو ّية‪ ،‬وهو الأمر الذي و�ضع الإبداع ال ّ‬ ‫احل�ضاري‪-‬الثّقا ّيف الذي كان قد بلغه الغرب �آنذاك مل يكن قد بلغته البالد العرب ّية‪،‬‬ ‫�إ ّال �أنّ ال ّتط ّور‬ ‫ّ‬ ‫وبال ّتايل ف�إنّ الواقع الذي كان �سائداً يف امل�شرق مل يكن م�ؤ ّه ًال بعد لتلقّف تلك احلركات التي‬ ‫احل�ضاري الذي �سيطر على هذه البالد‬ ‫تو ّلدت يف تلك املرحلة‪ ،‬ولذلك ينبغي ال ّنظر يف الواقع‬ ‫ّ‬ ‫ح ّتى ّ‬ ‫نتمكن من ا�ستيعاب طبيعة الوجه الثّقا ّيف للحرب العامل ّية الأوىل هنا‪.‬‬ ‫‪55‬‬


‫احل�ضارية ما قبل احلرب‬ ‫‪ -1‬املرحلة‬ ‫ّ‬

‫ين‪ ،‬قد بد�أت تخرج لت ّوها من‬ ‫كانت البلدان امل�شرق ّية التي ان�ضوت لقرونٍ طويل ٍة حتت احلكم العثما ّ‬ ‫العربي‬ ‫ع�صر اجلمود وانعدام االنتاج‪ ،‬وهو الع�صر الذي ُعرف بـ «االنحطاط»‪ .‬فقد تراوح ال�شّ عر ّ‬ ‫بني تقليد املعاين القدمية وبني االهتمام بال ّزرك�شة وال ّزخارف ال ّلفظ ّية وال ّت نّفن يف �أ�ساليب البديع‬ ‫التي تطغى على الفكرة يف معظم الأحيان‪ّ ،‬‬ ‫«وظل ال�شّ عر‬ ‫العربي يدور يف هذا الفراغ‪ ،‬جم ّرتاً‬ ‫ّ‬ ‫املعاين القدمية �ساتراً عوراته بال ّزرك�شة ح ّتى �أواخر القرن ال ّتا�سع ع�شر‪. »...‬‬ ‫العربي يف ذلك القرن‪� .‬إذ ميكننا‬ ‫ميكننا يف هذا ّ‬ ‫ال�سياق �أن نر�صد عمل ّية ال ّتط ّور التي م ّر بها الفكر ّ‬ ‫�أن نالحظ مرحل ًة �أ ّول ّي ًة متثّلت يف عمل ّية رد الفعل على الثّقافة الغرب ّية وحماولة فهم معايريها‪ .‬تبعتها‬ ‫العربي‪ .‬وانتهت‬ ‫مرحلة ال ّن�شاط الفاعل للإر�سال ّيات الأجنب ّية‪ ،‬وبال ّتايل ظهور حال من ال ّتنوير ّ‬ ‫بخ�ضوع غري مبا�شر لل ّنفوذ الغربي �أو ّ‬ ‫بت�شكل �أقاليم �إقطاع ّية‪� ،‬إىل جانب تنامي �أفكا ٍر م�ستق ّلة‬ ‫ٍ‬ ‫ري‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫العمل‬ ‫وحول‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫ين‬ ‫الد‬ ‫أو‬ ‫�‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫القوم‬ ‫االجتاهات‬ ‫حول‬ ‫ر‬ ‫تتمح ّو‬ ‫ّ ّ ّ‬ ‫ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫�إ ّال �أنّ ذلك املدى ّ‬ ‫العربي يف االنحطاط‪ ،‬وبفعل هذا ال ّتط ّور يف الفكر‬ ‫الطويل الذي عا�شه ال�شّ عر ّ‬ ‫جيل الحقٍ قاد ٍر على ال ّنهو�ض‬ ‫العربي‪� ،‬شهد بع�ض املحاوالت التي �أف�سحت يف املجال �أمام ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ال�صعيد‪ ،‬ميكننا �أن نقر�أ بع�ض ال ّتجارب التي عملت‬ ‫هذا‬ ‫وعلى‬ ‫جديد‪.‬‬ ‫من‬ ‫عجلته‬ ‫ودفع‬ ‫عر‬ ‫بال�شّ‬ ‫ّ‬ ‫وال�ضعف التي رزحت حتتها طيلة ع�صور‪ّ .‬‬ ‫ولعل �أبرزها‬ ‫على تطوير ال ّلغة ورفعها عن حال ال ّركاكة ّ‬ ‫جتربة نا�صيف اليازجي الذي ُيعزى �إليه الف�ضل يف �إحياء ال ّلغة العرب ّية‪« ،‬فقد عمل على بعثها من‬ ‫قرب ال ّركاكة وال ّرطانة ‪ .‬فهو من هذه ال ّناحية ال ّلغو ّية فقط �أ�سهم بطريقة غري مبا�شرة يف ن�شوء ال ّنه�ضة‬ ‫ال�شّ عر ّية احلديثة» ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬

‫العربي قبل احلرب‬ ‫قيامة الأدب‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫متعدد ًة لل ّنهو�ض يف الأدب‪ ،‬منها ما‬ ‫على �أنّ املرحلة التي �أعقبت ذلك �شهدت‬ ‫حماوالت ّ‬ ‫ال�سائد‪ .‬فنعرث على‬ ‫مل ُيك َتب له ال ّنجاح‪ ،‬ومنها ما ّمتكن من �إحداث خرقٍ مه ٍّم يف اجلمود ّ‬ ‫ٍ‬ ‫العربي‪ ،‬وبال ّتايل �إىل �إخراج ال�شّ عر من دائرة‬ ‫كلي يف ال�شّ عر‬ ‫ّ‬ ‫حماوالت �ساعية �إىل ال ّتغيري ال�شّ ّ‬ ‫اخلليلي‬ ‫ح�سون بال ّنظم على الوزن‬ ‫ال�س ّ‬ ‫وري رزق اهلل ّ‬ ‫اجلمود والزخرفة‪ .‬ومنها جتربة ال�شّ اعر ّ‬ ‫ّ‬ ‫املر�سل»‪ ،‬وذلك يف ديوانه «�أ�شعر ال�شّ عر» الذي �صدر يف‬ ‫دون قافية‪ ،‬وهو ما ُيط َلق عليه «ال�شّ عر َ‬ ‫لندن عام ‪ .1869‬تبعه يف ذلك ال�شّ اعر جميل �صدقي ال ّزهاوي بتجرب ٍة م�شابه ٍة يف ديوانه الأ ّول‬ ‫ ‬ ‫ ‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪56‬‬

‫العربي املعا�صر‪ .‬بريوت‪� ،‬ص‪.17‬‬ ‫ّ‬ ‫حممد حمود‪ :‬احلداثة يف ال�شّ عر ّ‬ ‫العربي املعا�صر‪� .‬ص‪.18‬‬ ‫عر‬ ‫يف‬ ‫احلداثة‬ ‫حمود‪:‬‬ ‫د‬ ‫حمم‬ ‫ال�شّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ال�صادر عام ‪ُ .1908‬ت�ضاف �إىل تلك‪ ،‬حماولة يف تنويع الأوزان قام بها �أحمد‬ ‫«الكلم املنظوم» ّ‬ ‫عد عم ًال غري‬ ‫فار�س ال�شّ دياق من خالل ال ّنظم على ثالثة بحور خمتلفة يف الق�صيدة نف�سها ما ُي ّ‬ ‫مثيلي مع ال�شّ اعر جنيب‬ ‫م�سبوقٍ يف ال�شّ عر ّ‬ ‫العربي ‪ .‬عدا عن ح�ضور حماوالت لكتابة ال�شّ عر ال ّت ّ‬ ‫احلداد من خالل ت أ�ثّره بالقراءات الغرب ّية ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫غري �أنّ تلك املحاوالت‪ ،‬مع كونها ّ‬ ‫أهم ّية اخلروج من حال االنحطاط‬ ‫وعي ل ّ‬ ‫�شكلت �إ�شارات ٍ‬ ‫اخلا�ص‪ ،‬مل ُتك َّلل بال ّنجاح من ناحية ا ّت�ساع ال ّتجربة وح�ضورها الف ّن ّي يف ال ّلغة‬ ‫أهم ّية خلق �أدبنا ّ‬ ‫و� ّ‬ ‫العرب ّية‪ .‬لك ّننا نعرث على جتارب �أخرى ّ‬ ‫العربي‪ ،‬منها ما يقع يف دائرة‬ ‫�شكلت عالم ًة فارق ًة يف الأدب ّ‬ ‫ال ّتقليد واملحاكاة‪ ،‬مثال حممود �سامي البارودي وحافظ ابراهيم و�أحمد �شوقي يف مراحله الأوىل‪،‬‬ ‫ال�سبك واملعجم‬ ‫حيث ا ّت�سمت الق�صيدة بال ّن�سج على منوال الق�صائد العرب ّية امل�شهورة من ناحية ّ‬ ‫وطبيعة القوايف‪ ،‬وكذلك با ّتباع مو�ضوعاتها الأ�سا�س ّية عند العديد من ال�شّ عراء‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل �إدخال‬ ‫املو�ضوع‬ ‫الوطني عند البع�ض‪ ،‬ومنها ق�صائد البارودي التي تقع يف خانة الثّورة العراب ّية ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ال�سياق �أمام جترب ٍة �شعر ّي ٍة خمتلف ٍة ا�ستطاعت �أن تحُ دِ ث تغيرياً يف معامل ال�شّ عر‬ ‫�إ ّال �أ ّننا نقف يف هذا ّ‬ ‫العربي‪� ،‬أعني جتربة خليل مطران‪ .‬فهو عمل يف نتاجاته الأوىل التي �سبقت احلرب العامل ّية‪ ،‬والتي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ا‬ ‫ديوانه‬ ‫يف‬ ‫ت‬ ‫ُجمِ َع‬ ‫ال�صادر عام ‪ ،1908‬على الإفادة من ما خربه عن ال ّتجارب الأوروب ّية‬ ‫ّ ّ‬ ‫خا�ص ٍة به مم ّهداً ملا حلقه من جتارب‪ .‬ومن هذه املالمح‪ ،‬الترّ كيز على‬ ‫وح ّولها �إىل مالمح �شعر ّية ّ‬ ‫وحدة الق�صيدة وجعلها ك ًل متكام ًال‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل �إدخال بع�ض املالمح الرومان�س ّية املتع ّلقة باخليال‬ ‫أوروبي‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل كونه‬ ‫وبتو�سيع ح ّيز العاطفة‪ ،‬و�إن مل تكن متح ّرر ًة على الإطالق كما ال ّنموذج ال ّ‬ ‫الق�ص�صي بو�صفه �شعراً قادراً على ال ّت�أثري يف املجتمع وعلى طرح‬ ‫ا�ستطاع ال ّنجاح يف �إبراز ال�شّ عر‬ ‫ّ‬ ‫اجليو�سي‪« :‬مل ينجح [خليل مطران]‬ ‫اجلد ّية‪ .‬ولذلك ت�ص ّرح الباحثة �سلمى اخل�ضراء‬ ‫م�شاكله ّ‬ ‫ّ‬ ‫ب�إنعا�ش العاطفة يف ال�شّ عر و�إطالقه قو ّياً متو ّهجاً‪ .‬غري �أ ّننا جند يف �أعماله ميزات �أخرى‪ :‬جندفيها‬ ‫تو�سعاً يف اهتمامات ال�شّ اعر العا ّمة‪ ،‬و�إنعا�شاً لعن�صر اخليال يف ال�شّ عر‪ ،‬كما جند فيها بع�ض ّ‬ ‫الطرافة‬ ‫ّ‬ ‫�أي�ضاً‪ .‬لقد كان عن�صر اخليال يف �شعره من الق ّوة بحيث ميكننا القول �إنّ هذا ال�شّ اعر هو الذي و�ضع‬ ‫حجر الأ�سا�س لكث ٍري من من ال�شّ عر القائم على اخليال يف حقبة الع�شرينات والثّالثينات من هذا‬ ‫القرن [الع�شرين]‪ .‬وكان يف حتديده املبكر لأهدافه ال�شّ عر ّية �سابقاً لأوانه‪ ،‬وكذلك يف اكت�شافه‬ ‫حلقل ٍ‬ ‫الق�ص�صي» ‪.‬‬ ‫جديد من ال ّتجربة ال�شّ عر ّية هو احلقل‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫‪7‬‬

‫ ‬

‫‪3‬‬

‫ ‬ ‫‪ 5‬‬ ‫ ‪6‬‬ ‫ ‪7‬‬ ‫‪4‬‬

‫العربي املعا�صر‪ .‬بريوت‪ ،‬مركز درا�سات الوحدة‬ ‫�سلمى اخل�ضراء اجليو�سي‪ :‬االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ‬ ‫العرب ّية‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،‬أيار‪/‬مايو ‪� ،2001‬ص‪.190‬‬ ‫غايل �شكري‪� :‬شعرنا احلديث �إىل �أين؟ القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬طبعة غري حمددة‪� ،1968 ،‬ص‪.106‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص ‪.107-106‬‬ ‫ميكن مراجعة‪� :‬شوقي �ضيف‪ :‬البارودي رائد ال�شعر احلديث‪ .‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬طبعة‪.1988 ،1‬‬ ‫العربي املعا�صر‪� .‬ص‪.98‬‬ ‫�سلمى اخل�ضراء‬ ‫اجليو�سي‪ :‬االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪57‬‬


‫على ٍ‬ ‫ين‬ ‫أدبي لأمني ال ّريحا ّ‬ ‫�صعيد �آخر‪ ،‬نرى ح�ضوراً �أدب ّياً من ٍ‬ ‫نوع �آخر متثّل يف ال ّن�شاط ال ّ‬ ‫الذي ا�ستطاع �أن ّ‬ ‫العربي‪ .‬فهو‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل كونه‬ ‫عري‬ ‫ي�شكل نوعاً من ال ّتم ّرد على الترّ اث ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫العربي يف بداية م�سريته‪� ،‬أ ّول َمن عمل على‬ ‫�أ�سهم يف �إدخال املالمح الرومان�س ّية �إىل الأدب‬ ‫ّ‬ ‫ب�شكل عام‪ ،‬وال�شّ عر‬ ‫كتابة ال�شّ عر املنثور بال ّلغة العرب ّية‪ .‬عدا عن �آرائه ال ّنقد ّية يف جمال الأدب ٍ‬ ‫بخا�صة ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عدة‬ ‫يف �سياقٍ �آخر‪ ،‬ال ّبد من ت�سليط ّ‬ ‫ال�ضوء على ازدهار ّفن املقال يف بالد امل�شرق على يد �أعالم ّ‬ ‫ين الذي‬ ‫الفن بطر�س الب�ستا ّ‬ ‫ال�صحافة على نح ٍو وا�سع‪ .‬وميكننا �أن نذكر يف �إطار هذا ّ‬ ‫بنتيجة انت�شار ّ‬ ‫�أظهر ٍ‬ ‫الدين عن‬ ‫قدرات وا�ضح ًة ومرونة يف ا�ستعمال ال ّلغة يف �سبيل �إي�صال �أفكاره حول ف�صل ّ‬ ‫الدولة ووحدة الأ ّمة‪ ،‬وهو ما نقر�أه يف «نفري �سورية» ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وال ّبد من الإ�شارة �إىل �أنّ �أ ّول جمموعة ق�ص�ص ّية �صدرت عام ‪ 1905‬بال ّلغة العرب ّية كانت جمموعة‬ ‫باحلب اخلالد عرب‬ ‫«عرائ�س املروج» جلربان خليل جربان‪ ،‬التي طرحت موا�ضيع �إن�سان ّية تتع ّلق ّ‬ ‫الدين ّية وحاجة الإن�سان للعودة �إىل‬ ‫ال�سلطة ّ‬ ‫ال ّزمن �أو بال ّت ّ‬ ‫وح�ش الكامن يف ذات الإن�سان �أو غطر�سة ّ‬ ‫القيم الإن�سان ّية العليا ‪.‬‬ ‫العربي‬ ‫وميكننا‪ ،‬كذلك‪� ،‬أن نرى يف ما ّقدمه م�صطفى لطفي املنفلوطي حماول ًة لل ّنهو�ض بالأدب ّ‬ ‫من خالل حماكاته لبع�ض الأعمال ال ّروائية والق�ص�ص ّية الغرب ّية‪ ،‬ال �س ّيما الرومان�س ّية منها‪ ،‬وكتابتها‬ ‫العربي‪ .‬وجتدر‬ ‫ّ‬ ‫بال�صيغة العرب ّية‪� ،‬إذ �أ ّنه ّمتكن من �إدخال ٍّفن مل يكن معروفاً من قبل يف الأدب ّ‬ ‫ال�سياق �إىل �أنّ �أوىل ال ّروايات العرب ّية قد ظهرت عمل ّياً قبيل احلرب العامل ّية الأوىل‪،‬‬ ‫الإ�شارة يف هذا ّ‬ ‫على يد ٍّ‬ ‫حممد ح�سني هيكل بعنوان «زينب» وجربان خليل جربان بعنوان‬ ‫كل من الكاتبني ّ‬ ‫املتك�سرة» وذلك يف العام ‪.1912‬‬ ‫«الأجنحة ّ‬ ‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫‪ 8‬املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.123‬‬ ‫ ‪ 9‬بطر�س الب�ستاين‪ :‬نفري �سورية‪ .‬بريوت‪ ،‬دار فكر للأبحاث وال ّن�شر‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪.1990 ،‬‬ ‫مقدمة ميخائيل نعيمة‪ .‬بريوت‪ ،‬دار �صادر‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة‬ ‫‪ 1 0‬جربان خليل جربان‪ :‬املجموعة الكاملة (املج ّلد الأ ّول)‪ّ .‬‬ ‫الثانية‪� ،1996 ،‬ص‪.14 - 10‬‬ ‫عمان‪ ،‬دار البريوين لل ّن�شر‬ ‫‪ 1 1‬مه ّند يون�س‪ :‬ال ّتقاليد ال ّروائ ّية وال ّر�ؤية ّ‬ ‫اخلا�صة‪ -‬قراءة يف مناذج من الرواية العرب ّية‪ّ .‬‬ ‫والتوزيع‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة ‪� ،2008 ،1‬ص‪.42‬‬ ‫ �أحمد ثائر‪ 100« :‬عام من الرواية ‪( ..‬زينب ) حممد ح�سني هيكل يف احتاد الأدباء»‪ .‬بغداد‪� ،‬صحيفة امل�ؤمتر‪ ،‬عدد‬ ‫‪ 12 ،2876‬كانون الأ ّول ‪.2013‬‬ ‫ال�س ّيد‪ 12 ،‬فرباير‬ ‫‪ 1 2‬ليلى ال�س ّيد‪ :‬بنية اخلطاب‬ ‫ّ‬ ‫ال�سردي عند جربان خليل جربان‪ -‬عر�ش املوت منوذجاً‪ .‬موقع ليلى ّ‬ ‫‪http://www.alrawya.com/Tajarib/Tajarib_Derasat/Tajarib_Derasat_1.htm .2001‬‬ ‫‪58‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ظهور ر�ؤى خمتلفة حول الأدب‬

‫�صعيد �آخر‪ ،‬ميكننا �أن نر�صد �آراء و�أفكاراً يف هذه احلقبة من ال ّزمن‪� ،‬أظهرت وعياً وا�ضحاً‬ ‫على ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫إرها�صات‬ ‫نعد هذه الأفكار �‬ ‫مبفهوم الأدب‪ ،‬و�إن كان �أ ّول ّياً وغري متكامل‪ .‬ويجوز يف هذا الإطار �أن ّ‬ ‫فعل ّي ٍة للأفكار النا�ضجة التي �أخذت تتبلور منذ احلرب الأوىل‪.‬‬ ‫مقدمة‬ ‫فنقر�أ على �سبيل املثال لدى فرن�سي�س م ّرا�ش احللبي ّن�صاً �صريحاً حول ر�أيه يف ال�شّ عر يف ّ‬ ‫الديوان] على حروف الهجاء منجرداً عن املدح والهجاء‪.‬‬ ‫�أحد دواوينه‪� ،‬إذ يقول‪« :‬وقد ر ّتبته [ ّ‬ ‫ف�إنّ املدح �إطراء ورياء والقدح ح�سد وعياء‪ .‬فما �أحوجني اهلل �إىل بيع ماء املح ّيا يف �سوق ال�شّ عر‪...‬‬ ‫فواغنب �شاعر �س ّود باملدائح بيا�ض القرطا�س وباع كرامي ال�شّ عر وذهبه يف �سوق ال ّزجاج وال ّنحا�س‪.‬‬ ‫وهمة قا�صرة» ‪ .‬وهنا نالحظ املرحلة ال ّتاريخ ّية التي �أتاحت لل�شّ اعر‬ ‫واهلل �إنّ تلك جتارة خا�سرة ّ‬ ‫ّ‬ ‫االطالع على �آداب �أخرى‪ ،‬وا�ستطاع من خاللها تكوين ر�ؤية نقد ّي ٍة تتع ّلق ب�شعري املدح والهجاء‬ ‫بو�صفهما جن�سني يجب التخ ّلي عنهما يف ع�صرنا احلايل لأنّ فيهما �إ�ساءة �إىل ذات ال�شّ اعر و�إىل‬ ‫عري‪.‬‬ ‫الفن ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫اجلزئي‪ ،‬دعوة للكاتب جنيب �شاهني يف يناير (كانون الثّاين) من العام ‪،1902‬‬ ‫يعا�ضد هذا ال ّر�أي ّ‬ ‫عري القدمي ونبذ �أ�شكاله اجلاهزة‪� ،‬إ�ضاف ًة‬ ‫يف جم ّلة املقتطف امل�صر ّية �إىل اخلروج على ال ّنموذج ال�شّ ّ‬ ‫الدعوة ملجاراة الع�صر الذي يعي�ش فيه ال�شّ اعر ‪.‬‬ ‫�إىل ّ‬ ‫ين يف جمال نظرته نحو الأدب‪.‬‬ ‫ف�ض ًال عن ذلك‪ ،‬ال ّبد من �أن نن ّوه بالعمل الذي قام به �أمني ال ّريحا ّ‬ ‫�إذ �أ ّنه ر�سم �صور ًة متكامل ًة للأدب عمل على تطبيقها عمل ّياً‪ ،‬خ�صو�صاً يف مو�ضوع ال�شّ عر‪ .‬فقد‬ ‫طرح ثور ًة على ّ‬ ‫يحدد موا�صفات ال�شّ اعر من‬ ‫الطرق القدمية املوروثة يف كتابة الأدب‪ ،‬وا�ستطاع �أن ّ‬ ‫بخا�صة‪� ،‬إذ كانت ر�ؤيته ال ّنقد ّية ّ‬ ‫الغربي‪ ،‬واالجتاه‬ ‫ت�شكل ابتعاداً‬ ‫الرومان�سي ّ‬ ‫ّ‬ ‫خالل معرفته بال�شّ عر ّ‬ ‫العربي ‪.‬‬ ‫عن الوجه املعروف للترّ اث ال�شّ ّ‬ ‫عري ّ‬ ‫‪13‬‬

‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫‪ -2‬ال ّتح ّوالت يف الأدب العربي � ّإبان احلرب‬

‫على �أنّ احلرب العامل ّية الأوىل بدت بو�صفها عالم ًة فارق ًة‪� ،‬أو ربمّ ا نقطة حت ّول مف�صل ّية يف الأدب‬ ‫ين‪ .‬فمع �أ ّنها كانت امتداداً للمرحلة‬ ‫أ�سلوبي �أو امل�ضمو ّ‬ ‫العربي �سواء على ّ‬ ‫كلي �أو ال ّ‬ ‫ال�صعيد ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫التي �سبق ذكرها‪� ،‬إال �أ ّنها ا ّت�سمت بخ�صو�صية ال ّبد من الوقوف عندها نظراً لأثرها يف املراحل‬ ‫ال�سنة ال ّرابعة‪ ،‬خريف ‪� ،1960‬ص ‪.114‬‬ ‫‪ 1 3‬غازي براك�س‪ :‬جم ّلة �شعر‪ .‬عدد ‪ّ ،16‬‬ ‫‪ 14‬غايل �شكري‪� :‬شعرنا احلديث �إىل �أين؟ �ص‪.107‬‬ ‫العربي املعا�صر‪� .‬ص‪.123‬‬ ‫‪� 15‬سلمى اخل�ضراء اجليو�سي‪ :‬االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ‬ ‫‪59‬‬


‫العربي احلديث‪ .‬ويف هذا ال�سياق ميكننا �أن من ّيز جمموع ًة من املفارقات‬ ‫ال ّالحقة من تاريخ الأدب ّ‬ ‫ال ّتاريخ ّية املنح�صرة يف زمن احلرب ا�ستطاعت �أن ّ‬ ‫العربي‪ ،‬وبفعل‬ ‫ت�شكل تغيرياً عا ّماً الأدب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫االطالع املكثّف والأكرث وعياً على الثّقافة الغرب ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لعل امللفت يف هذا املجال �صدور كتاب «دمعة وابت�سامة» جلربان خليل جربان مع بداية احلرب‪،‬‬ ‫تت�ضمن عاطفة الكاتب الف ّيا�ضة‪،‬‬ ‫�أي يف العام ‪ ،1914‬وهو عبارة عن ‪ 60‬مقطوعة من ال�شّ عر املنثور ّ‬ ‫و�شراراته الفكر ّية الو ّهاجة وخياالته املتم ّوجة ‪ .‬عدا عن �أنّ �سنوات احلرب حملت جربان على‬ ‫كتابة ن�صو�ص وجدان ّية رومان�س ّية‪ ،‬ومنها مقطوعتا «مات �أهلي» �أو «يف ظالم ال ّليل» اللتان كتبهما‬ ‫يف �ضوء امل�أ�ساة التي عا�شتها بالده من ج ّراء احل�صار واجلوع والأحكام العرف ّية ‪� .‬إىل جانب كونها‬ ‫دفعته �إىل ّ‬ ‫الفل�سفي الذي �أنتج املط ّولة ال�شّ عر ّية «املواكب» ‪ ،‬والتي‬ ‫التوغل يف املنحى الت�أ ّم ّلي‬ ‫ّ‬ ‫راعي بني فكرتني ذات ّيتني تتجاذبان جربان كما ميكن �أن تتجاذبا ّ‬ ‫كل �إن�سان‪،‬‬ ‫�أبرزت امل�سار ّ‬ ‫ال�ص ّ‬ ‫بالدرام ّية يف مرحلة اخلم�سينات من القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫يعد دخو ًال �صريحاً يف ما ُعرف ّ‬ ‫والذي ميكن �أن ّ‬ ‫ال�سلطات الربيطان ّية مع‬ ‫ي�ضاف �إىل ذلك‪ ،‬حدث حم ّو ّ‬ ‫ري يف حياة ال�شّ اعر �أحمد �شوقي‪ ،‬فقد قامت ّ‬ ‫بداية احلرب بنفيه �إىل �إ�سبانيا ب�سبب عالقته الوطيدة باخلديوي املخلوع ع ّبا�س‪� .‬إ ّال �أنّ هذا ال ّنفي‬ ‫تاريخي يف حياة ال�شّ اعر‪ ،‬بل ّ‬ ‫مل يكن جم ّرد ٍ‬ ‫عري‪� ،‬إذ‬ ‫حادث‬ ‫�شكل نقطة حت ّولٍ جذر ّية يف موقفه ال�شّ ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫نقلته من �صورة �شاعر البالط �إىل �شاعر ي�سعى �إىل الإحاطة بهموم ال ّنا�س‪ .‬من هنا دخل مو�ضوع‬ ‫عري نحو الق�صيدة الوطن ّية‪-‬القوم ّية ونحو �إطالق ال�شّ عر‬ ‫تو�سع ن�شاطه ال�شّ ّ‬ ‫احلنني �إىل الوطن‪ّ ،‬ثم ّ‬ ‫امل�سرحي ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أدبي فاعل مثّله ّ‬ ‫كل من عبد ال ّرحمن �شكري وابراهيم عبد‬ ‫يطالعنا‪ ،‬من ناحي ٍة �أخرى‪ ،‬ن�شاط � ّ‬ ‫حممود العقّاد‪ ،‬وهم الذين ّ‬ ‫�شكلوا نواة املجموعة التي ُدعيت يف ما بعد‬ ‫القادر املازين وع ّبا�س ّ‬ ‫موجه ًة �أو دافع ًة للحياة‬ ‫بجماعة ّ‬ ‫جمع‪ ،‬لتكون ّ‬ ‫«الديوان»‪ .‬واجلدير ذكره �أنّ اجلماعة تخطت معنى ال ّت ّ‬ ‫الأدب ّية يف م�صر‪ ،‬فطغى على �شعرهم عن�صر ّ‬ ‫الذات‪ ،‬بحيث بات معبرّ اً عن امل�شاعر ال�شخ�ص ّية‬ ‫اخلا�صة بعيداً عن الوقوف عند احلدث العا ّم الذي ت ّت�سم به الق�صيدة الكال�سيك ّية ‪.‬‬ ‫والأفكار ّ‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ ،‬يح�ضر ال�شّ اعر ن�سيب عري�ضة ليطرح منوذجاً �شعر ّياً «ثور ّياً» من ناحية ال�شّ كل يف‬ ‫مرحلة احلرب‪� ،‬إذ �أنّ واحداً من �أحداث احلرب ك ّون حافزاً لكتابة ق�صيدة «ال ّنهاية» التي ظهرت‬ ‫ين بعد حملة الإعدامات يف‬ ‫�ضد اال�ستكانة واال�ست�سالم ل�سلطة االحتالل العثما ّ‬ ‫بو�صفها �صرخ ًة ّ‬ ‫‪16‬‬

‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫‪19‬‬

‫‪20‬‬

‫‪ 16‬‬ ‫‪ 17‬‬ ‫‪1 8‬‬ ‫‪ 19‬‬ ‫‪2 0‬‬ ‫‪60‬‬

‫مقدمة نعيمة‪� ،‬ص‪.21‬‬ ‫جربان خليل جربان‪ :‬املجموعة الكاملة (املج ّلد الأول)‪ّ ،‬‬ ‫ال�ساد�س)‪� .‬ص‪.69‬‬ ‫جربان خليل جربان‪ :‬املجموعة الكاملة (املج ّلد ّ‬ ‫املرجع نف�سه (املج ّلد الأ ّول)‪� ،‬ص‪ 23-‬و(املج ّلد الثّالث)‪� ،‬ص‪.83‬‬ ‫العربي املعا�صر‪� .‬ص‪.74‬‬ ‫�سلمى اخل�ضراء اجليو�سي‪ :‬االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.211 - 206‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ب�شكل يخرج‬ ‫ال�سفّاح عام ‪ ،1916‬وقد كتبها ال�شّ اعر ٍ‬ ‫�ساحتي املرجة وال�شّ هداء من قبل جمال ّ‬ ‫عن ال ّنظم امل�ألوف ك ّل ّياً وي�سبق ع�صره ليكون �أقرب �إىل �شكل ق�صيدة ال ّتفعيلة التي �أخذت تتبلور‬ ‫مع نهاية الأربعينات من القرن الع�شرين‪.‬‬ ‫ال�صعيد بنية الق�صيدة ور�ؤيتها لدى‬ ‫ومن املالحظ �أي�ضاً يف هذه املرحلة تط ّور املنحى ال�شّ عري على ّ‬ ‫ميخائيل نعيمة الذي كتب يف العام ‪ 1917‬ق�صيدة «�أخي» ال�شّ هرية ‪ .‬وهي ق�صيدة متتلك وعياً‬ ‫اجتماع ّياً و�إن�سان ّياً نابعاً من موقف ال�شّ اعر نحو امل�آ�سي التي جلبتها احلرب الأوىل على ال�شّ عوب‪،‬‬ ‫رامي يف ط ّياته‪ ،‬مبا ي�سبق‬ ‫ال�سياق ّ‬ ‫ونحو احلرب ب�صف ٍة عا ّمة‪� .‬إ�ضاف ًة �إىل كوننا نعرث على �شي ٍء من ّ‬ ‫الد ّ‬ ‫ما �أتت به حركة احلداثة‪.‬‬ ‫تقدم يبقى يف �إطار احلاالت التي قد ُت َع ّد فرد ّي ًة �أو ا�ستثنائ ّي ًة‪ ،‬وبال ّتايل فقد تبدو هذه الأمثلة‬ ‫لكن ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سياق العا ّم لتلك املرحلة‪ .‬وعليه‪ ،‬ال ّبد من �إظهار املالمح العا ّمة لأدب احلرب‬ ‫جمتز�أ ًة من ّ‬ ‫العامل ّية الأوىل يف بالدنا والأثر الذي تركته يف �أدبنا بعا ّم ٍة‪.‬‬ ‫‪21‬‬

‫‪22‬‬

‫العربي خالل احلرب الأوىل‬ ‫عامة للأدب‬ ‫‪ -3‬مالمح ّ‬ ‫ّ‬

‫العربي يف تلك‬ ‫انطالقاً ّمما ّ‬ ‫تقدم‪ ،‬ميكننا �أن نر�صد جمموع ًة من املالحظات التي م ّيزت الأدب ّ‬ ‫التبا�س مع مراحل تاريخ ّي ٍة �أخرى‪� ،‬إذ �أنّ ال ّر�ؤى‬ ‫املرحلة‪ .‬ولكن ر�صدنا هذا ال يجب �أن ي�صاب ب� ّأي ٍ‬ ‫التي تو ّلدت �آنذاك مل ت ّت�سم بال ّتكامل‪ ،‬بل كانت عبارة عن خطوات فتحت ّ‬ ‫الطريق �أمام تراكم‬ ‫جتمع «�شعر» وجم ّلته‪ .‬لذلك يجب‬ ‫ال ّتجارب ح ّتى و�صلت �إىل احلقبة الأكرث ن�ضجاً مع حداثة ّ‬ ‫علينا �أن نتعامل مع مرحلة احلرب الأوىل تلك بو�صفها ال ّلحظة ال ّتاريخ ّية التي �أدخلت �إىل الأدب‬ ‫ور�سخت فيه ما مل ي�سبق �أن عرفه من قبل‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫�شكل تهيئ ًة للمراحل اللاّ حقة‪ .‬ومن‬ ‫العربي ّ‬ ‫ّ‬ ‫املالحظ �أنّ ال ّت ّعمق يف الثّقافة الغرب ّية هو العامل الأ ّول يف خطوات ال ّتط ّور تلك‪ ،‬ولذلك كانت‬ ‫َ‬ ‫خا�ص َمن ن�شط منهم يف �أمِريكا ال�شّ مال ّية‪ ،‬ي�ضاف‬ ‫ال ّريادة يف هذه اخلطوات لأدباء املهجر‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وب�شكل ّ‬ ‫الغربي‪ .‬لكن دون �أن نغفل عن عامل �آخر جت ّلى يف‬ ‫�إليهم بع�ض املت�أثّرين بالغرب �أو �أبناء ال ّتعليم ّ‬ ‫تنامي ال ّروح القوم ّية واالجتماع ّية ٍ‬ ‫حث على قيامة حيا ٍة �أدب ّي ٍة «قوم ّي ٍة» تواكب‬ ‫حينئذ‪ ،‬الأمر الذي ّ‬ ‫ما و�صل �إليه الغرب وتفيد منه‪ ،‬وبال ّتايل ت�سهم فيه‪ ،‬وال تقف عند حدود املعطيات املوروثة عن‬ ‫ع�صور ما قبل االنحطاط‪ّ .‬‬ ‫ولعل هذا ما ين�سجم مع �آراء بع�ض الباحثني يف القول‪�« :‬إنّ ال�شّ رق‬ ‫ماوي و�أ ّول َمن دعاه �إىل‬ ‫ال�س ّ‬ ‫كان �أ ّول َمن انت�صر للإن�سان و�أ ّول َمن اعرتف بنبعته الإله ّية وغايته ّ‬ ‫حماربة الغرائز احليوان ّية و�أدباء املهجر �أبناء ال�شّ رق �سكنت روحان ّيته �أرواحهم فلم تق َو املا ّدة على‬ ‫‪ 21‬ن�سيب عري�ضة‪ :‬الأرواح احلائرة‪ .‬نيويورك‪ ،‬طبعة غري حمددة‪.1946 ،‬‬ ‫‪ 22‬ميخائيل نعيمة‪ :‬ديوان هم�س اجلفون‪ .‬بريوت‪ ،‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ ،‬الطبعة ال�ساد�سة‪� ، 2004 ،‬ص ‪ .13 - 12‬‬ ‫‪61‬‬


‫�أن تطغى عليها وملأت حكمة العرب عقولهم ف�أدركوا �أنّ �سعادة الفرد ال قيمة لها �إ ّال ب�سعادة‬ ‫وبناء عليه‪ ،‬ميكن حتديد معامل عا ّمة‬ ‫قومه و�سعادة القوم ال تكمل �إ ّال ب�سعادة الإن�سان ّية جمعاء» ‪ً .‬‬ ‫العربي �إ ّبان احلرب العامل ّية الأوىل‪ّ ،‬‬ ‫أهمها‪:‬‬ ‫لعل � ّ‬ ‫وظواهر �أبرزها الأدب ّ‬ ‫عري‪ ،‬نرى �أنّ احلركة الأدب ّية وال ّنقد ّية التي ظهرت يف تلك املرحلة ا�ستطاعت‬ ‫على �صعيد البناء ال�شّ ّ‬ ‫اخلليلي‪� ،‬إذ �أ ّننا نقر�أ مناذج �شعر ّية‬ ‫العمودي والوزن‬ ‫�أن جتابه ال ّنظرة التي تربط ال�شّ عر بال�شّ كل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ناجحة تدمج بني وزنني يف الق�صيدة الواحدة‪ ،‬كمط ّولة «املواكب» جلربان‪� ،‬أو تعمد �إىل تفكيك‬ ‫اخلليلي يف بنائها‪ ،‬كق�صيدتي «�أخي» مليخائيل نعيمة و»ال ّنهاية» لن�سيب عري�ضة‪،‬‬ ‫ال ّنظام العمودي‬ ‫ّ‬ ‫قد �سبق لنا ذكرها‪ .‬ومع ال ّنقد الذي ُو ِّجه �إىل هذه ال ّنماذج‪� ،‬إ ّال �أنّ �أحداً مل يكن لي�ضعها خارج‬ ‫�إطار ال�شّ عر‪ .‬وهذا ما يت� ّأكد عند ّ‬ ‫قدي يف هذا املجال‪« :‬فال الأوزان وال‬ ‫االطالع على ر�أي نعيمة ال ّن ّ‬ ‫القوايف من �ضرورة ال�شّ عر كما �أنّ املعابد ّ‬ ‫والطقو�س لي�ست من �ضرور ّيات العبادة‪. »...‬‬ ‫على ٍ‬ ‫�صعيد �آخر‪ّ ،‬متكنت مواهب تلك احلقبة من تقدمي � ٍ‬ ‫راعي نظراً‬ ‫يو�صف ّ‬ ‫أدب ميكن �أن َ‬ ‫بال�ص ّ‬ ‫�صراع بني ق ّوتني متناق�ضتني‪ ،‬وهو الأمر الذي نراه يف‬ ‫لكونه مت ّيز بالبنية ّ‬ ‫الدرام ّية القائمة على ٍ‬ ‫�أدب جربان‪ ،‬ال�س ّيما يف ال ّن�صو�ص املتع ّلقة مب�آ�سي وطنه‪ ،‬كن�صو�ص ال�شّ عر املنثور‪« :‬يف ظالم ال ّليل»‬ ‫و»مات �أهلي» و»الأ�ضرا�س امل�س ّو�سة» و»حفّار القبور» وغريها من ن�صو�ص كتاب «العواطف»‪،‬‬ ‫املتجمد» و»�أخي»‬ ‫�أو كمط ّولة «املواكب»‪ .‬وين�سحب ذلك على �أدب املهجر كق�صيدتي «ال ّنهر ّ‬ ‫مليخائيل نعيمة‪.‬‬ ‫العربي مع خليل‬ ‫بالإ�ضافة �إىل ذلك‪ ،‬ومع �أنّ الق�ص�ص ال�شّ ّ‬ ‫عري كان قد �سبق له �أن دخل الأدب ّ‬ ‫مطران‪ ،‬غري �أ ّنه مل يتح ّول �إىل نزع ٍة وا�سعة ال ّنطاق �إ ّال مع �شعراء املهجر‪� .‬إذ �أنّ ه�ؤالء جعلوا من‬ ‫الغرامي‪ ،‬وتدور موا�ضيع بع�ضهم‬ ‫عري ف ّناً متم ّيزاً‪ ،‬ينحو بع�ض ال�شّ عراء فيه املنحى‬ ‫هذا ال ّنوع ال�شّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫حول ت�أ ّمالت فكر ّية ترتبط بالوجود والإن�سان‪ .‬ويف هذا املجال ميكننا �أن نقر�أ «ال�شّ هيدان» ّ‬ ‫و»وكل‬ ‫ح ٍّر يف دولة ّ‬ ‫الظلم جانٍ » لل�شّ اعر اليا�س فرحات‪ ،‬و»ال�شّ يخ والفتاة» و»ابنة الكوخ» لر�شيد �أ ّيوب ‪.‬‬ ‫ترت�سخ يف الأدب‬ ‫من ناحي ٍة �أخرى‪� ،‬أ�سهمت هذه الفرتة ال ّزمن ّية يف جعل املدر�سة الرومان�س ّية ّ‬ ‫اجلزئي‬ ‫العربي على نح ٍو متكامل‪ ،‬من خالل جمموع ٍة من ال�شّ عراء والأدباء؛ بخالف احل�ضور ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫و�سع يف اخليال الواعي‬ ‫ت‬ ‫وال‬ ‫ات‪،‬‬ ‫للذ‬ ‫العميق‬ ‫احل�ضور‬ ‫نرى‬ ‫فنحن‬ ‫ابقة‪.‬‬ ‫ال�س‬ ‫املرحلة‬ ‫يف‬ ‫ملالحمها‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّنافذ‪� ،‬إ�ضاف ًة �إىل العاطفة اجل ّيا�شة‪ .‬ولعل �أبرز مطلقي ذلك املذهب كان جربان خليل جربان نف�سه‬ ‫‪23‬‬

‫‪24‬‬

‫‪25‬‬

‫الدرا�سات العامل ّية‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪،1956 ،‬‬ ‫‪ 2 3‬جورج �صيدح‪� :‬أدبنا و�أدبا�ؤنا يف املهاجر الأمرييك ّية‪ .‬بريوت‪ ،‬معهد ّ‬ ‫�ص‪.42‬‬ ‫‪ 24‬ميخائيل نعيمة‪ :‬الغربال‪ .‬بريوت‪ ،‬م�ؤ�س�سة نوفل‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة ‪� ،1978 ،11‬ص‪.122‬‬ ‫‪ 2 5‬غازي الرباك�س‪ :‬جم ّلة �شعر‪� .‬ص‪.123‬‬ ‫‪62‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ومان�سي �إىل‬ ‫ن�ست�شف نزوعه ال ّر‬ ‫الذي م ّهد ل�شعراء الرومان�س ّية املعروفني يف ما بعد ‪ .‬وميكننا �أن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املتك�سرة»‪ ،‬ن�صو�صه املتع ّلقة باحلنني للوطن والأهل �أ ّيام املجاعة واحل�صار‪،‬‬ ‫جانب روايته «الأجنحة‬ ‫ّ‬ ‫باحلب والأمل يف جمموعة‬ ‫ال�س ّيما «يف ظالم ال ّليل» و«مات �أهلي»‪� ،‬أو تلك ال ّن�صو�ص املتع ّلقة ّ‬ ‫الديوان يف م�صر ‪.‬‬ ‫«دمعة وابت�سامة»‪ .‬ف�ض ًال عن �أ ّننا جند بع�ضاً من تلك املالمح لدى جماعة ّ‬ ‫عري يف كتاب «العوا�صف»‪،‬‬ ‫تو�سعاً يف ال ّلجوء �إىل ال ّنرث ال�شّ ّ‬ ‫وميكننا من خالل جربان نف�سه �أن جند ّ‬ ‫�أو ح ّتى يف «البدائع ّ‬ ‫والطرائف» بعده‪� .‬أو ا�ستكمال م�شروع ال ّريحاين يف ال�شّ عر املنثور الذي جل�أ‬ ‫كتب �أخرى وغريهما من الأدباء‪.‬‬ ‫�إليه جربان نف�سه كذلك يف ٍ‬ ‫ابتداء من‬ ‫عدا عن ذلك‪ ،‬ف�إنّ احلراك ال ّ‬ ‫أدبي يف هذه املرحلة م ّهد للمدر�سة ال ّرمز ّية التي ازدهرت ً‬ ‫�أواخر العقد الثّالث للقرن الع�شرين‪ .‬فيمكننا على �سبيل املثال �أن نعرث على ال ّرمز يف ن�ص «حفّار‬ ‫بحد ذاته ّ‬ ‫ي�شكل رمزاً اجتماع ّياً ونقد ّياً‪ ،‬وينطبق ذلك على رمز ّية‬ ‫القبور»‪� ،‬إذ ن�ستنتج �أنّ العنوان ّ‬ ‫ال�سنة اجلديدة لدى ميخائيل نعيمة؛ ف�ض ًال عن رموز‬ ‫ّ‬ ‫املخدرات واملبا�ضع جلربان �أي�ض ّاً‪ ،‬ورمز ّية ّ‬ ‫ال�سنبلة �أو الغابة‪...‬‬ ‫ال ّليل �أو العا�صفة �أو ال ّنهر �أو ّ‬ ‫أ�سطوري يف ق�صائد ن�سيب عري�ضة‪ ،‬ومنها ق�صيدة «على طريق �إ َرم»‪،‬‬ ‫كما ميكن �أن ن�ستطلع ال ّرمز ال‬ ‫ّ‬ ‫�إىل جانب ال ّرمز ّ‬ ‫يني الذي يتج ّلى يف �صورة ي�سوع امل�سيح �أو مرمي العذراء �أو غريهما‪ .‬وانطالقاً‬ ‫الد ّ‬ ‫العربي رمز ع�شرتوت على �سبيل املثال‪� ،‬أو رمز الفرعون‪ّ .‬‬ ‫ولعل‬ ‫من ذلك‪ ،‬بات يطالعنا يف الأدب ّ‬ ‫ال�صومعة‪-‬‬ ‫هذا ما دفع البع�ض �إىل القول‪« :‬وقد جاء رف�ض ال ّتقاليد‪ ،‬والإ�صرار على �إبقائها خارج ّ‬ ‫القلب‪ ،‬يف املرحلة عينها التي ر�أينا فيها العقل ينفتح على جماالت امليثولوجيا ‪.‬‬ ‫الفكري‬ ‫أدبي‪ ،‬لي�صل �إىل الإطار‬ ‫ّ‬ ‫يدخلنا هذا املو�ضوع يف ظاهرة �أخرى تتجاوز خطورته املنحى ال ّ‬ ‫ت�ضم ٍ‬ ‫ثقافات ت�سبق املرحلة‬ ‫أدبي �آنذاك �أو�صل يف بع�ض جوانبه �إىل ر�ؤي ٍة فكر ّي ٍة ّ‬ ‫العا ّم‪ .‬فال ّن�شاط ال ّ‬ ‫ال�سياق‪� ،‬صرنا ن�شهد ح�ضور‬ ‫العرب ّية لتكوين ثقاف ٍة �أكرث �شمول ّي ًة ميكن ت�سميتها بامل�شرق ّية‪ .‬ويف هذا ّ‬ ‫يعد خطو ًة نوع ّي ًة ت�سمح بتغي ٍري‬ ‫الثّقافات الكلدان ّية �أو الكنعان ّية يف الكتابات العرب ّية ‪ ،‬وهو ما ّ‬ ‫جذري يف طبيعة ال ّتفكري‪ ،‬ال يف الأدب فح�سب‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫العربي‪،‬‬ ‫على �أنّ هذه اجلر�أة �شهدت ذروتها يف �إدخال الكثري من املفاهيم التي مل يعرفها الأدب ّ‬ ‫خا�ص على احل�ضارات‬ ‫العربي‪ ،‬من قبل‪ .‬فقد كان النفتاح �أدباء املهجر ٍ‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫�أو ح ّتى الفكر ّ‬ ‫العربي ب�أفكا ٍر جديد ٍة وجريئ ٍة يف الآن عينه‪� .‬إذ نرى‪ ،‬على �سبيل‬ ‫الأخرى �أثر يف تعريف القارئ ّ‬ ‫‪26‬‬

‫‪27‬‬

‫‪28‬‬

‫‪29‬‬

‫ ‬ ‫‪ 27‬‬ ‫‪ 28‬‬ ‫‪ 29‬‬ ‫‪26‬‬

‫ ‬

‫مارون ع ّبود‪ :‬جدد وقدماء‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الثّقافة‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،1954 ،‬ص‪.72‬‬ ‫العربي املعا�صر‪� .‬ص‪.210‬‬ ‫�سلمى اخل�ضراء اجليو�سي‪ :‬االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ‬ ‫ربيعة �أبي فا�ضل‪ :‬يف �أدب ال ّنه�ضة واملهجر‪ .‬بريوت‪ ،‬دار ال ّركن‪ّ ،‬‬ ‫الطبعة الأوىل‪� ،2005 ،‬ص‪.46‬‬ ‫وهيب كريوز‪ :‬عامل جربان‪ .‬جم ّلد ‪� ،2‬ص ‪ ،396‬هام�ش ‪ 93-‬جم ّلد ‪� ،1‬ص‪.190‬‬ ‫للطباعة‪ّ ،‬‬ ‫الدار ال�شّ رق ّية ّ‬ ‫الطبعةالأوىل‪� ،1966 ،‬ص‪.196 - 195‬‬ ‫توفيق �صايغ‪� :‬أ�ضواء جديدة على جربان‪ .‬بريوت‪ّ ،‬‬ ‫‪63‬‬


‫املثال‪ ،‬ح�ضوراً لفكرة «ال ّت ّقم�ص» يف بع�ض كتابات ميخائيل نعيمة‪ ،‬كــــــ»مرداد» �أو «لقاء» ‪� ،‬أو‬ ‫العربي الذي بقي‬ ‫لدى جربان يف «رماد الأجيال وال ّنار اخلالدة» ‪ ،‬وهي فكرة جريئة بال ّن�سبة للفكر ّ‬ ‫الدين ّية لعقود‪.‬‬ ‫ال�سلطة ّ‬ ‫حتت �سقف ّ‬ ‫ب�شكل وثيق‪� ،‬إذ متحو الفا�صل بني‬ ‫�إ�ضاف ًة �إىل ذلك‪ ،‬ميكننا �أن نرى �أفكاراً تربط بني اهلل والإن�سان ٍ‬ ‫اخلالق واملخلوق لتعطي للأخري �صفات الأ ّول‪ ،‬وهي �أفكار ذات ٍ‬ ‫بوذي ‪ .‬ف�ض ًال عن ما قد جنده‬ ‫بعد ّ‬ ‫من �أفكا ٍر هندو�س ّي ٍة �أو غنو�ص ّي ٍة يف نتاجات البع�ض ‪.‬‬ ‫تعدته لتحارب املفاهيم‬ ‫يبقى �أن ن�شري �إىل �أنّ جر�أة تلك املرحلة مل تقف عند ذلك احلد‪ ،‬بل ّ‬ ‫ال�سائدة‬ ‫ال ّتقليد ّية البالية واملعتقدات ال ّتجزيئ ّية وال ّتفتيت ّية يف املجتمع‪ ،‬عدا عن الأفكار ّ‬ ‫الدين ّية‪ .‬وهذا ما قد نقر�أه يف م�سرح ّية «الآباء والبنون» وق�صتي «�سنتها‬ ‫وال�سلطة ّ‬ ‫حول ّ‬ ‫الدين ّ‬ ‫اجلديدة» و»العاقر» لنعيمة‪� ،‬أو يف ق�ص�ص «الأرواح املتم ّردة» ون�صو�ص «العوا�صف» جلربان‪� ،‬أو‬ ‫يف �شعر «ن�سيب عري�ضة» حول ا�ستكانة ال�شّ عب‪ .‬مع الإ�شارة �إىل �أ ّنها ر�ؤًى قد نكون بحاج ٍة‬ ‫�إليها ح ّتى �أيامنا هذه‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫‪31‬‬

‫‪32‬‬

‫‪33‬‬

‫حمورية املرحلة «دمعة وابت�سامة»‬ ‫‪-4‬‬ ‫ّ‬

‫العربي‪� ،‬أكرث ّمما كانت‬ ‫ميكن القول �إنّ مرحلة احلرب العامل ّية الأوىل كانت حمور ّي ًة يف تط ّور الأدب ّ‬ ‫أدبي بل ّ‬ ‫�شكلت «ابت�سام ًة»‬ ‫الغربي‪ ،‬لأ ّنها مل تكن فقط «دمع ًة» حم ّر�ض ًة للإنتاج ال ّ‬ ‫بال ّن�سبة للأدب ّ‬ ‫ٍ‬ ‫خطوات حا�سم ٍة من ال ّتط ّور يف الأ�ساليب وال ّر�ؤيا‬ ‫فارق ًة يف تاريخنا لكونها فتحت الباب �أمام‬ ‫واالجتاهات‪.‬‬ ‫امل�شرقي‬ ‫تقدم‪ ،‬نالحظ �أنّ تلك املرحلة �أدخلت بذاراً جديد ًة يف الأدب‬ ‫فبنظر ٍة �سريع ٍة �إىل ما ّ‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫حا�سم يف املراحل ال ّالحقة‪ .‬ومن ذلك‪،‬‬ ‫ا�ستطاعت �أن تنبت‬ ‫حركات ّ‬ ‫متقدم ًة ومذاهب متّيزت ب�أث ٍر ٍ‬ ‫ابتداء‬ ‫على �سبيل املثال‪ ،‬احل�ضور الفاعل للمذهب ال ّر‬ ‫ّ‬ ‫ومان�سي ولغته ال�شّ عر ّية التي �أخذت تتنامى ً‬ ‫من العقد ال ّتايل مع �أ�سماء من �أمثال اليا�س �أبي �شبكة‪� ...‬أ�ضف �إىل ذلك ظهور املالمح ال ّرمز ّية‬ ‫التي ازدهرت يف ما بعد مع �أديب مظهر ّثم مع �سعيد عقل‪.‬‬ ‫عدا عن ذلك‪ ،‬نرى تط ّوراً يف ال ّتوظيف الف ّن ّي لل ّرمز ال‬ ‫أ�سطوري ّ‬ ‫ّ‬ ‫يني‪� ،‬إذ �أ ّننا �أخذنا نرى �صوراً‬ ‫والد ّ‬ ‫عن امل�سيح �أو �إليعازر‪� ،‬أو عن رموز االنبعاث واخل�صب‪ ...‬وهي ك ّلها فتحت الباب على م�صراعيه‬ ‫‪ 30‬‬ ‫‪ 31‬‬ ‫‪ 32‬‬ ‫‪3 3‬‬ ‫‪64‬‬

‫ربيعة �أبي فا�ضل‪ :‬يف �أدب ال ّنه�ضة واملهجر‪� .‬ص‪.149‬‬ ‫جربان خليل جربان‪ :‬املجموعة الكاملة (املج ّلد الأ ّول)‪� .‬ص‪.23‬‬ ‫ربيعة �أبي فا�ضل‪ :‬يف �أدب ال ّنه�ضة واملهجر‪� .‬ص‪.163‬‬ ‫املرجع نف�سه‪� ،‬ص‪.159 -158‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫�أمام حركة احلداثة للإفادة من ّ‬ ‫الطبيعة ال ّت�أثري ّية لتلك ال ّرموز‪ ،‬وخللق ت ّيار الق�صيدة ال ّت ّموز ّية يف‬ ‫اخلم�سينات من القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫وال نن�سى الثّورة الفكر ّية التي �أحدثتها تلك املرحلة على �صعيدين �أ�سا�س ّيني‪ :‬متثّل الأ ّول يف‬ ‫إ�سالمي‪ ،‬وال ّت ّعمق فيه لي�صبح مك ّوناً �أ�سا�س ّياً من‬ ‫االلتفات �إىل الترّ اث الذي ي�سبق الفتح ال ّ‬ ‫ال�صعيد الثّاين فتج ّلى يف �إدخال مفاهيم فل�سف ّي ٍة بعيد ٍة �أو‬ ‫مك ّونات الثّقافة املجتمع ّية امل�شرق ّية‪� .‬أ ّما ّ‬ ‫إ�سالمي‪.‬‬ ‫ح ّتى متناق�ضة مع ّ‬ ‫العربي ال ّ‬ ‫ال�سائد يف العقل ّ‬ ‫ا�ستناداً �إىل ذلك‪ ،‬ال ّبد من القول �إنّ مرحلة احلرب العامل ّية الأوىل ّ‬ ‫نوعي‬ ‫�شكلت نقطة حت ّولٍ ٍّ‬ ‫خا�ص‪ ،‬لأنّ املراحل اللاّ حقة التي‬ ‫يف الثّقافة امل�شرق ّية بعا ّم ٍة‪ ،‬والأدب املكتوب بالعرب ّية ٍ‬ ‫ب�شكل ّ‬ ‫ب�شكل �أو ب�آخر مرتبط ًة بهذه املرحلة‪.‬‬ ‫�شهدت ال ّتط ّورات احلا�سمة يف �أدبنا كانت ٍ‬ ‫أ�سا�سي ملا حملته تلك املرحلة كان من خالل‬ ‫وجتدر الإ�شارة يف هذا ّ‬ ‫ال�سياق �إىل �أنّ الثّقل ال ّ‬ ‫أ�سا�سي‬ ‫اال ّت�صال بالغرب �أو ال ّتثقّف بثقافته‪ .‬من هذا املنطلق ميكننا �أن نالحظ �أنّ احلراك ال ّ‬ ‫ارتكز �إىل ن�شاط املهجر ّيني من منطقة بالد ال�شّ ام يف �أمريكا ال�شّ مال ّية‪ ،‬والذين ّ‬ ‫�شكلوا بعد احلرب‬ ‫املجموعة الأدب ّية املعروفة با�سم «ال ّرابطة القلم ّية»‪.‬‬ ‫على �أنّ ر�صد ما مت ّيزت به تلك املرحلة من خ�صائ�ص وخطوات جتديد ّية يبقى جمزوءاً ما مل‬ ‫الدرا�سة ال ّن�ص ّية لنماذج معروف ٍة من تلك املرحلة تبينّ ال ّت ّقدم‬ ‫نوع �آخر يتمثّل يف ّ‬ ‫يع�ضده بحث من ٍ‬ ‫الف ّن ّي الذي بلغته ال ّنتاجات الأدب ّية �آنذاك‪.‬‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬يجب القول �إنّ احلياة الأدب ّية‪ ،‬مع �شهدته احلرب العامل ّية الأوىل من دموع وم� ٍآ�س‪ ،‬قد‬ ‫مت ّتعت بح�ضو ٍر بار ٍز ا�ستطاع الو�صول �إىل اجلمهور وال ّت�أثري فيه‪ ،‬كما ا�ستطاعت �أن نتنج �أدباً مقاوماً‬ ‫ن�سمي الوجه الثّقا ّيف لتلك املرحلة بـ «دمعة وابت�سامة»‪.‬‬ ‫لل ّزمن‪ ،‬ما ا�ستدعى ّ‬ ‫بحق �أن ّ‬

‫‪65‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬

‫‪66‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫ال�شعر العربي احلديث‬

‫‪2014 – 1914‬‬

‫مقدمة تاريخية وفكرية ‪1964 - 1921‬‬ ‫حممود �شريح ‪ -‬ناقد و�أكادميي‬

‫تفاعل الرافد الغربي باملوروث ال�رشقي‬

‫كان للحملة الفرن�سية على م�صر (‪ )1801-1798‬بقيادة نابوليون �أثر بعيد يف ايقاظ م�صر من �سباتها‬ ‫ودفعها امل�شرق العربي �إىل البحث عن ه ّويته وحمايتها �أمام امل�ؤثرات اخلارجية‪ .‬كانت احلملة‬ ‫تهديداً لل�شرق وتالياً حتفّزاً لوثوبه‪� ،‬إذ خ ّلفت حركة فكرية ح ّية مبا �أن�ش�أته من �أبحاث ومن مدار�س‬ ‫ومعاهد وما حملته من كتب و�صحف وخمتربات علمية وم�ست�شرقني وعلماء‪ ،‬ومطبعة ‪ .‬ومع ذلك‬ ‫ف�إن النه�ضة العلمية والفكرية يف ال�شرق فيما بعد كانت احلا�صل املنطقي لتفاعل احلافز الواعي‬ ‫الوارد من الغرب والطاقة البدائية الكامنة يف ال�شرق (اليازجي‪� ،1962 ،‬ص ‪109-107‬؛ املقد�سي‪،‬‬ ‫‪� ،1982‬ص ‪370-368‬؛ �أنطونيو�س‪� ،1982 ،‬ص ‪.)126-121‬‬ ‫�شيوع الفكر التحرري يف امل�رشق العربي‬

‫و�صوب نهاية القرن التا�سع انت�شرت بني �صفوف ّ‬ ‫املفكرين العرب حيثما ح ّلوا �آراء ومبادئ الثورة‬ ‫الفرن�سية ودعوتها �إىل احلرية واالخاء وامل�ساواة‪ ،‬ثم قويت الدعوة يف �أدب العائدين من �أوروبا‪.‬‬ ‫ر�أى �شبلي �شم ّيل (‪ )1917-1860‬يف الثورة الفرن�سية مرحلة من مراحل التط ّور الب�شري ال�سائر‬ ‫نحو اال�شرتاكية فيما تعبق بواكري جربان (‪ )1931-1883‬ب�أنفا�سها (كرم‪� ،1980 ،‬ص ‪79‬؛ حوراين‪،‬‬ ‫‪� ،1977‬ص ‪.)108-89‬‬ ‫من كال�سيكية البارودي �إىل رومنطيقية مطران‬

‫التح ّول ال�شعري من القدمي �إىل احلديث قام به حممود �سامي البارودي (‪ )1904-1840‬فر ّد‬ ‫ال�شعر �إىل التجربة الذاتية البكر‪ .‬ثم � ّ‬ ‫أطل �أحمد �شوقي فامتاز باخليال واملو�سيقى والعاطفة الرقيقة‬ ‫‪67‬‬


‫وتوجه معا�صره حافظ ابراهيم �إىل اجلمهور‬ ‫واالح�سا�س فكان خامتة ال�شعر املدر�سي الكال�سيكي ‪ّ .‬‬ ‫فكان �شعره �أكرث و�ضوحاً و�أقرب فهماً‪ ،‬اذ ب�سط لغته و�أ�ساليبه‪ّ ،‬‬ ‫متو�سطة بني من‬ ‫ف�شكل حلقة ّ‬ ‫�سبقوه ومن تلوه يف جميع درجات التطور واالنتقال (دياب‪� ،1968 ،‬ص ‪.)65-63‬‬ ‫�أحدث خليل مطران (‪ )1949-1871‬رائد الرومنطيقية العربية انقالباً يف ال�شعر العربي احلديث‬ ‫ّ‬ ‫وا�ستقل‬ ‫مقدمة ديوانه قائ ًال [لنكتب �أفكاراً جديدة بلغة قدمية]‪.‬‬ ‫حني �أطلق بيانه ال�شعري يف ّ‬ ‫لنف�سه يف عدد من ق�صائده مثل [امل�ساء] و [نريون] و [الأ�سد الباكي] و [مقتل بزرجمهر] بوحدة‬ ‫متما�سكة الأجزاء ومتكاملة ‪.‬‬ ‫ثورة جماعة [الديوان] ال�شعرية وثقافتها النقدية‬

‫لكن ثورة تكثيف امل�ضمون ال�شعري و�إغنائه فكرياً نه�ض بها جماعة [الديوان] (�شكري‪ ،‬املازين‪،‬‬ ‫العقّاد) الذين نزعوا منزعاً رومان�سياً و�أعجبوا باللون الغنائي الذاتي لغة ع�صرية ب�سيطة (العقّاد‪،‬‬ ‫‪� ،1965‬ص ‪193-192‬؛ �صايغ‪� ،1959 ،‬ص ‪. )73‬‬ ‫تبلورت منهجية هذه الثورة ال�شعرية وا�ضحة يف دعوة جماعة [الديوان] �إىل ال�صدق يف االح�سا�س‬ ‫وال�صدق يف التعبري‪� .‬أوجز عبد الرحمن �شكري (‪ )1958-1886‬طبيعة ال�شعر يف �صدر ديوانه‬ ‫[�ضوء الفجر] (‪:)1909‬‬ ‫الفردو�س �إنّ ال�شّ عر وجدانُ (يف‪� :‬ضيف‪� ،1974 ،‬ص ‪.)89-88‬‬ ‫�أال يا طائ َر‬ ‫ِ‬ ‫ون�شر ع ّبا�س حممود العقّاد (‪ )1964-1889‬وابراهيم عبد القادر املازين (‪ )1949-1890‬معاً كتاباً‬ ‫�سمياه [الديوان] (‪ )1921‬يف نقد �شوقي وحافظ وحماولة حتطيمهما‪ .‬تثقّف �شكري واملازين‬ ‫ّ‬ ‫والعقّاد ثقافة عميقة بالآداب االجنليزية و�شعرها الغنائي (العقّاد‪� ،1965 ،‬ص ‪193-192‬؛ ال�سحرتي‪،‬‬ ‫‪� ،1948‬ص ‪.)158‬‬ ‫جربان واملهجريون مدر�سة منف�صلة‬

‫ت�أثّر �شعراء املهجر االمريكي بالرومنطيقية الغربية واملثالية االمريكية‪ ،‬كما يف مناذج �إمر�سون وثورو‬ ‫ولونغفيلو وويتمان‪ ،‬لكن املالمح الرومان�سية يف ال�شعر املهجري مر ّدها الغربة والوحدة يف املهجر‬ ‫واحلنني وال�شوق �إىل الوطن‪ ،‬وامتاز �شعر املهاجرة بتمجيد روحانية ال�شرق ومقت ماد ّية الغرب‪،‬‬ ‫ففي [املواكب] (‪ )1918‬دعا جربان �إىل العودة �إىل الطبيعة‪ ،‬والدعوة رومان�سية ّ‬ ‫تذكر ب�صوفية بليك‬ ‫وبتمجيد نيت�شه للطبيعة (خوري‪� ،1960 ،‬ص ‪37-6‬؛ ديب‪� ،1955 ،‬ص ‪. )144-77‬‬ ‫‪68‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫واهتم‬ ‫كان جربان يقوم يف �أمريكة ال�شمالية مبا كان يقوم به العقّاد واملازين و�شكري يف م�صر يف �آن ّ‬ ‫غريه من املهاجرة بالت�أ ّمل الفل�سفي ومن هنا و�إعجابهم ببع�ض ال�شعراء العبا�سيني‪ ،‬مثل املع ّري‪،‬‬ ‫وخري مثال على هذا االجتاه ق�صيدة [الطال�سم] (‪ )1925‬اليليا �أبو ما�ضي (‪ ،)1957-1889‬وترجم‬ ‫�أمني الريحاين (‪� )1940-1876‬إىل االجنليزية رباع ّيات �أبي العالء (‪ )1903‬ثم لزومياته (‪)1918‬‬ ‫(�صيدح‪� ،1979 ،‬ص ‪230-229‬؛ الأ�شرت‪� ،1961 ،‬ص ‪. )35-28‬‬ ‫الرابطة القلمية واحللف الرومنطيقي املق ّد�س مع جماعة الديوان‬

‫ال�صحف واملجالت والن�شرات واملطابع العربية يف املهجر ال�شمايل �أداة �شيوع ال�شعر املغرتب‪،‬‬ ‫ومر�آته التي �أو�ضحت تناغماً يف الفكر واملنهج لدى ر ّواده‪ ،‬فتنادوا �إىل التعا�ضد‪ .‬هكذا حتالف‬ ‫ال�شعراء املهجر ّيون يف امريكة ال�شمالية ف�أ ّلفوا يف ني�سان ‪[ 1920‬الرابطة القلمية] واتخذوا نيويورك‬ ‫مق ّراً لن�شر م�ؤ ّلفات �أع�ضائها‪ ،‬فكانت هذه الرابطة �أول مدر�سة �أدبية ّ‬ ‫منظمة يف الأدب العربي‬ ‫احلديث تنزع �إىل تكوين طابع مم ّيز وخا�ص‪ ،‬يف �أمناط التفكري وو�سائل التعبري‪ .‬واملدافع عن �أدب‬ ‫الرابطة ّ‬ ‫واملنظر له كان ميخائيل نعيمة (‪( )1988-1889‬ع ّبود‪� ،1979 ،‬ص ‪247‬؛ �ضيف‪� ،1979 ،‬ص‬ ‫‪247-246‬؛ مندور‪� ،1963 ،‬ص ‪162‬؛ ال�سحرتي‪� ،1948 ،‬ص ‪� .)158‬أ�صدر كتابه النقدي [لغربال]‬ ‫(القاهرة‪ )1923 ،‬فحمل حمالت �شعواء على املحافظني واملتزمتني‪ ،‬وطالب مبقايي�س جديدة‬ ‫للأدب‪ ،‬فتالقت دعوته مع حملة جماعة [الديوان] يف القاهرة التي طالبت باالنقالب على �ص َور‬ ‫م�ستمدة من �أمناط وافدة من الغرب عرب نفَ�س رومان�سي‪،‬‬ ‫ال�شعر القدمية والتح ّول �إىل �ص َور جديدة‬ ‫ّ‬ ‫حب الطبيعة والعودة �إىل‬ ‫ونادى جربان بقوالب وم�ضامني حديثة‪ ،‬وثار على حياة املدينة فدعا اىل ّ‬ ‫الغاب حيث الكمال املطلق‪:‬‬ ‫لي�س يف الغابات موت ال وال فيها القبو ْر‬ ‫َ‬ ‫مل ميت معه ال�سرور‬ ‫فاذا ني�سان ولىّ ‬ ‫طي ال�صدور‬ ‫�إن هول املوت وه ٌ م‬ ‫ينثني ّ‬ ‫فالذي عا�ش ربيعاً‬ ‫ ‬ ‫كالذي عا�ش الدهور (املواكب‪� ،1923 ،‬ص ‪.)28‬‬ ‫[الع�صبة االندل�سية] و [الرابطة االدبية] يف املهجر اجلنوبي‬

‫يف مطلع الثالثينات �أقفلت مدر�سة �أمريكة ال�شمالية �أبوابها وبرزت يف املهجر اجلنوبي يف �أمريكة‬ ‫الالتينية نخبة ممتازة من ال�شعراء ان�ضووا حتت لواء [الع�صبة الأندل�سية] واتخذوا �سان باولو قاعدة‪،‬‬ ‫‪69‬‬


‫وح ّلق فيها جميدون من مثل ر�شيد �سليم اخلوري (ال�شاعر القروي) واليا�س فرحات وفوزي‬ ‫املعلوف ونعمة قازان وريا�ض املعلوف و�شفيق املعلوف ومي�شال املعلوف و�شكر اهلل اجل ّر وعقل اجل ّر‬ ‫وقي�صر �سليم اخلوري (ال�شاعر املدين) وغريهم ‪ .‬وتابعت م�سريتها [الرابطة الأدبية] بدءاً من ‪1949‬‬ ‫و�ضمت �أي�ضاً اليا�س قن�صل‬ ‫يف منزل جورج �صيدح يف بيون�س �إير�س وكان دعا �إليها وليم �صعب ّ‬ ‫وجورج �صوايا وزكي قن�صل وغريهم (ح�سني‪� ،1957 ،‬ص ‪174‬؛ �صيدح‪� ،‬ص ‪. )297‬‬ ‫ال�شعر املهمو�س يف ق�صائد املهجريني‬

‫ولرمبا كان ر�شيد �أيوب (‪� )1941-1871‬أعمق املهجريني �شكوى و�أنفذهم اح�سا�ساً بالغربة والوحدة‪.‬‬ ‫غ ّنى بالده ربيعاً وخريفاً‪ ،‬وجتاوب مع ميوله الذات ّية‪ّ ،‬‬ ‫فتح�سر‪:‬‬ ‫تذكر ّ‬ ‫جت �أ�شجاين‬ ‫يا ثلج قد ه ّي َ‬ ‫ّذكرتني �أهلي بلبنانِ‬ ‫باهلل قل ع ّني لإخواين‬ ‫ما زال يرعى حرمة العهدِ‬ ‫يا ثلج قد ّذكرتني �أ ّمي‬ ‫�أيام تق�ضي َ‬ ‫همي‬ ‫الليل يف ّ‬ ‫�ضمي‬ ‫م�شغوفة وحتار يف ّ‬ ‫علي خمافة الرب ِد‬ ‫(�أغاين الدروي�ش‪� ،1928 ،‬ص ‪.)70‬‬ ‫حتنو ّ‬ ‫وكان حممد مندور (‪� )1965-1907‬أطلق لقب [ال�شّ عر املهمو�س] على �شعر نعيمة واملهجريني‬ ‫لغياب اال�سلوب اخلطابي عنه ومت ّيزه بالتقارب بني ال�شاعر والقارئ‪ .‬اال�سلوب هادئ ورقيق‪ ،‬يوحي‬ ‫ويرمز‪ ،‬ويهم�س للف�ؤاد (مندور‪� ،1963 ،‬ص ‪.)162‬‬ ‫حتالف ال�شعراء الرومنطيقيون العرب يف نيويورك والقاهرة وبريوت على العزوف عن اخلطابة ونبذ‬ ‫َ‬ ‫�أغرا�ض ال�شعر القدمية و�أ�ضفوا على الق�صيدة بعداً روح ّياً عبرْ تركيزهم على التجربة الذاتية‪ ،‬فكان‬ ‫ال ُب ّد‪� ،‬إذن‪ ،‬من البحث عن قوالب جديدة ت�ستقبل هذه التجارب احلديثة‪ ،‬ف�ص ّرفوا يف �أوزان‬ ‫الق�صيدة الواحدة ون ّوعوا قوافيها (بدوي‪� ،1967 ،‬ص ‪ ،107-106‬الد�سوقي‪� ،1971 ،‬ص ‪. )34‬‬ ‫‪70‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫التيار القومي والرافد املارك�سي‬ ‫جبهة النقد تواكب تنامي ّ‬

‫�شهدت ثالثينات القرن الع�شرين حت ّوالت جذرية يف بنية املجتمع العربي‪ ،‬ذلك �أن تط ّور ال�صراع‬ ‫املث ّلث على ال�ساحة االوروبية (الليربايل ‪ /‬القومي ‪ /‬املارك�سي) انعك�س يف �أذهان املثقّفني العرب‬ ‫فدفعهم �إخفاق الليربالية وتعثرّ الدميقراطية �إىل �إعادة النظر يف مكت�سبهم الغربي ويف موروثهم‬ ‫ال�شرقي‪ ،‬فكانت املرحلة �إذن‪ ،‬يف بع�ضها‪ ،‬ت�صفية ح�سابات مع الغرب‪ ،‬وكانت يف بع�ضها الآخر‬ ‫انفتاحاً عليه‪� ،‬أو �أخذاً عنه (ال�صليبي‪� ،1978 ،‬ص ‪191-159‬؛ الأن�صاري‪� ،1980 ،‬ص ‪.)181-180‬‬ ‫املد القومي مع ق�سطنطني زريق و�أنطون �سعادة ومي�شال عفلق وجورج حب�ش‪ ،‬فيما م ّهد‬ ‫وتنامى ّ‬ ‫الت ّيار املارك�سي مع �سالمة مو�سى وخالد بكدا�ش لقيام الواقعية اال�شرتاكية الحقاً ‪ .‬ويف جمال‬ ‫حتديث النقد االدبي وجتديده قام مارون ع ّبود يف لبنان يف الثالثينات مبا قام به طه ح�سني يف م�صر‬ ‫مقدمة �سليمان الب�ستاين (‪ )1925-1856‬لرتجمته‬ ‫يف الع�شرينات ‪ .‬وكان النقد الأدبي العربي منذ ّ‬ ‫�إلياذة هومريو�س (‪ )1904‬اتخذ م�ساراً جديداً بت�أثري الفكر الغربي وممثّليه‪ .‬وبني ‪ 1934‬و ‪ 1939‬ن�شر‬ ‫مارون ع ّبود مقاالت نقدية تناولت ق�صائد ب�شارة عبد اهلل اخلوري (الأخطل ال�صغري) و�شفيق‬ ‫(جمعت هذه املقاالت الحقاً يف [على‬ ‫املعلوف وخليل مطران وعبا�س حممود العقّاد‪ ،‬وغريهم ُ‬ ‫ّ‬ ‫املحك]‪ ،‬بريوت‪. )1946 ،‬‬ ‫الرومنطقية من القاهرة �إىل بريوت وتاجها اليا�س �أبو �شبكة‬

‫ت�ضافرت وت�آينت جهود الرومنطيقيني يف القاهرة وبريوت‪ ،‬ثم ه ّبت ن�سمات املهجريني على‬ ‫العا�صمتني وتفاعلت‪ ،‬فما لبثت الرومنطيقية �أن هيمنت على ال�ساحة الأدبية يف الأقطار العربية‬ ‫خالل الثالثينات والأربعينات‪ ،‬وكانت الأ�صوات ال�شعرية اجلديدة يف هذا امل�ضمار تق ّر بجهود‬ ‫مطران وف�ضله يف �إر�ساء الت ّيار الرومنطقي (بالطة‪� ،1960 ،‬ص ‪ .)129-128‬جد ّد الرومنطيقيون يف‬ ‫وتفن يف الوزن‬ ‫ال�شّ عر من حيث العرو�ض فكتب ال�شابي (‪ )1934-1909‬على منط املو�شّ حات نّ‬ ‫والقافية (هدارة‪� ،1970 ،‬ص ‪ .)183-164‬ون�سج �إبراهيم ناجي (‪ )1953-1898‬على هذا املنوال �أما‬ ‫علي حممود طه (‪� )1949-1901‬صاحب «�أغنية اجلندول يف كرنفال فيني�سيا» فا�ستطاع �أن ي�ؤ ّلف‬ ‫لنف�سه معجماً لغوياً م�ضيئاً وخالباً �ألفاظه ذات بريق و�ألوان‪ ،‬فال تبقى هناك �أفكار وم�شاعر‪:‬‬ ‫نختال ع َرب ْه‬ ‫ ‬ ‫�آه لو كنت معي‬ ‫الأجنم �إث َر ْه‬ ‫ ‬ ‫ب�شراع ت�سبح‬ ‫حيث يروي املوج يف �أرخم ن َرب ْه‬ ‫ ‬ ‫حلم ليل من ليايل‬ ‫كليوبرته (يف‪ :‬ديوان علي حممود طه‪� ،1972 ،‬ص ‪.)228‬‬ ‫َ‬ ‫‪71‬‬


‫ولربمّ ا تكون هذه الظاهرة هي التي دفعت بع�ض النقّاد �إىل القول �إنه بدون علي حممود طه‪ ،‬مل يكن‬ ‫ظهور ق ّباين وال�س ّياب ممكناً (‪� ،Badawi 1975‬ص ‪ ;145‬الد�سوقي‪� ،1971 ،‬ص ‪.)135-134‬‬ ‫يرى �صالح لبكي (‪ )1955-1906‬يف «لبنان ال�شاعر» (‪� )1954‬أن املنقّبني غداً يجدون �أن ب�شارة‬ ‫عبد اهلل اخلوري (الأخطل ال�صغري) (‪ )1968-1885‬يف لبنان هو نف�سه �أبو الرومنطيقية والرمزية فيه‪،‬‬ ‫�أو قد يق ّررون �أنه ر ّدة عليه ونقي�ضاً له‪� ،‬أو قد يق ّررون بعد ‪� -‬أن �أحدهما ر ّدة على الآخر ‪ .‬وجهة نظر‬ ‫حتتاج �إىل وقفة ملا فيها من مغزى‪ ،‬ذلك �أن الأخطل ال�صغري بثورته االجتماعية وتغ ّنيه بالطبيعة‬ ‫ومناداته بالقومية‪ ،‬عرب لغة �صافية ذات نغم عذب‪ ،‬ه ّي�أ مناخاً فكرياً مالئماً لن�شوء رومنطيقية �أجزل‬ ‫منت يف ثناياها مدر�سة جديدة هي الرمزية‪ .‬ومذهبا الرومنطيقية والرمزية ظهرا معاً وتواكبا‪ ،‬وبدوا‬ ‫جت�سد يف فر�سان هاتني املدر�ستني‪.‬‬ ‫ك�أنهما ردة على الأدب امل�سيطر واملتالزم للرومنطيقية والرمزية ّ‬ ‫تف ّتحت الرمزية مع �أديب مظهر (‪ )1928-1898‬وجت ّلت الرومنطيقية يف نتاج �إليا�س �أبو �شبكة‬ ‫(‪� ،)1947-1903‬أما يو�سف غ�صوب (‪ّ )1972-1893‬‬ ‫فظل حائراً بني النزعتني تتجاذبانه (لبكي‪،‬‬ ‫‪ ،1954‬يف الأعمال الكاملة‪� ،1982 ،‬ص ‪178‬؛ كرم‪� ،1949 ،‬ص ‪115‬؛ مو�سى‪� ،1980 ،‬ص ‪.)51-49‬‬ ‫فر�سخ الرمزية‪:‬‬ ‫وكانت �سنة ‪ 1937‬ون�شر �سعيد عقل «املجدل ّية»‪ّ ،‬‬ ‫مرمي املجدل ّية‬ ‫ر�أت النور‪ ،‬عهد ال يتعب النو ْر‬ ‫وعهد الدنيا له‪ ،‬والع�صو ْر‬ ‫وتل ّوت‬ ‫يف مهدها‬ ‫فكرة بي�ضاء‬ ‫خم�ضوبة بوهج اللذة‬ ‫متلأ اجل ّو‬ ‫الع�شر‬ ‫يف �أ�صابعها ْ‬ ‫فملهى ال�ضحى‬ ‫ع�شر‬ ‫(املجدل ّية‪� ،1937 ،‬ص ‪.)60‬‬ ‫�أ�صابع ْ‬ ‫ولكن ال ي�ص ّنف �أمني نخلة (‪ )1976-1901‬مع غريه يف مدر�سة �شعرية‪ ،‬فهو ن�سيج وحده‪� .‬شاعر‬ ‫معا�صر يكتب بنف�س �شعراء بني الع ّبا�س (لبكي‪ ،1954 ،‬يف الأعمال الكاملة‪� ،1982 ،‬ص ‪.)289‬‬ ‫‪72‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫يف �شعر �إليا�س �أبو �شبكة حتققت الرومنطيقية العربية على �أكمل وجهها‪ ،‬فنحن هنا مع �شاعر‬ ‫تن ّوعت ثقافته‪ :‬عربية وفرن�سية‪ ،‬وتوراتية ‪� -‬إجنيلية (من�صور‪� ،1978 ،‬ص ‪47-44‬؛ مو�سى‪� ،1980 ،‬ص‬ ‫‪� . )117-112‬أما الأثر الأكرث �شيوعاً يف �شعره ف�أثر دوفيني (‪ .)1863-1797‬كتب �أبو �شبكة مقدمة‬ ‫ديوانه «�أفاعي الفردو�س» (‪ )1938‬يف قانون العودة املطلقة �إىل الذات و�إىل الطبيعة ينبوع ال�شعر‪،‬‬ ‫جلي يف ق�صيدته «�أحلان القرية» ‪:‬‬ ‫كما هو ّ‬ ‫يا دهر يف لبنان‬ ‫ ‬ ‫�أرجع لنا ما كان‬ ‫ �أحالمنا واملنى‬ ‫كانت لنا‬ ‫واجلرن واملهباج‬ ‫ ‬ ‫�أرجع �إلينا ال�صاج‬ ‫ال�سراج‬ ‫ ‬ ‫وخ�صبنا يف الربى‬ ‫ونورنا يف ّ‬ ‫ ‬ ‫وا�سرتجع الكهربا‬ ‫وكاذبات الغنى (الأحلان‪� ،1938 ،‬ص ‪.)49-48‬‬ ‫ثورة ال�شعر العربي احلديث (‪)1957-1947‬‬

‫ت�أثر ال�شعراء العرب املعا�صرون الذين ظهروا بعد احلرب العاملية الثانية‪ ،‬مبنجزات الرومان�سية‬ ‫والرمزية اللتني �شاعتا يف مرحلة ما بني احلربني العامليتني‪ :‬ال�س ّياب والب ّياتي واملالئكة وق ّباين‬ ‫وعبد ال�صبور واحليدري وحجازي‪ ،‬غرفوا من تقنيات الرومان�سية وموا�ضيعها‪ .‬حاوي و�أدوني�س‬ ‫واخلال ورفقة و�صايغ وجربا ا�ستفادوا من الرمزية العربية ومن نظريتها الغربية‪� ،‬إذ �أتاح لهم ا ّت�صالهم‬ ‫املبا�شر بالثقافتني الأوروبية والأمريكية الوقوف على م�صادر حفزتهم على البحث عن �شكل‬ ‫جديد ل�صياغة موا�ضيع حيات ّية جديدة‪ ،‬و�أن�سي احلاج و�شوقي �أبي �شقرا نهال من املدار�س ال�شعر ّية‬ ‫الفرن�سية التي �إن�شقّت عن الرمزية �أو جاءت ر ّدة عليها‪ ،‬و�إذا ق�صائدهما تخلق لغة �شعرية جديدة‬ ‫(�ساعي‪� ،1978 ،‬ص ‪ 197‬؛ الب�صري‪� ،1968 ،‬ص ‪16‬؛ اخلياط‪� ،1970 ،‬ص ‪160‬؛ املقالح‪� ،1981 ،‬ص‬ ‫‪41‬؛ ن�شاوي‪� ،1980 ،‬ص ‪ .)394-393‬وكان ظهور ديوان نزار ق ّباين «قالت يل ال�سمراء» (‪ )1944‬داللة‬ ‫على بدء الفرتة الواقعية اللغو ّية �إذ تط ّورت فكرة «اللفظة ال�شعرية» فلم تعد تعني تلك «اللوحة»‬ ‫التي تكاد تكون وحدها �شعراً قبل �أن تنتظم يف الق�صيدة‪ ،‬بل �أ�ضحت تكت�سب «�شعر ّيتها» من‬ ‫موقعها يف الق�صيدة وت�شابكها مع ما يجاورها من الألفاظ وعالقاتها الداخلية الأخرى‪:‬‬ ‫�أريدكِ‬ ‫�أعرف �أين �أريد املحال‬ ‫و�أنك فوق ادعاء اخليال‬ ‫‪73‬‬


‫وفوق احليازة‪ ،‬فوق النوال‬ ‫و�أطيب ما يف الطيوب‬ ‫و�أجمل ما يف اجلمال (قالت يل ال�سمراء‪ ،1944 ،‬يف الأعمال الكاملة‪ ،‬مج ‪� ،1998 ،1‬ص ‪.)31‬‬ ‫يف مرحلة ما بعد ‪ 1947‬نه�ض ال�شّ عر العربي �إىل �إيقاع الأفكار القائم على التوازن والرتداد ليحقّق‬ ‫االن�سجام والوحدة والتعوي�ض عن فقدان االنتظام يف طول الأبيات و�أمناط التقفية وكذلك �إىل‬ ‫املعجم ال�شعري الب�سيط والكالم اليومي الذي ي ّت�سم بالب�ساطة‪ ،‬وي�ستخدم �أي�ضاً املعادل املو�ضوعي‬ ‫والرمز والأ�سطورة وال�صور اليوم ّية واحلوار الداخلي (ل�ؤل�ؤة‪� ،1983 ،‬ص ‪. )59‬‬ ‫يف مطلع الأربعينات �صدر «الفكر العربي احلديث‪� :‬أثر الثورة الفرن�سية يف توجيهه ال�سيا�سي‬ ‫واالجتماعي» لرئيف خوري (‪ )1967-1913‬و «روابط الفكر والروح بني العرب والفرجنة» لإليا�س‬ ‫�أبو �شبكة (‪ )1947-1903‬و «ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري» لأنطون �سعادة (‪)1949-1904‬‬ ‫‪ .‬وهذه الكتب ّ‬ ‫�شكلت معامل رئي�سية �أ�ضاءت الدرب �أمام النقد الأدبي احلديث الذي ازدهر يف‬ ‫منحى عقائدي ‪.‬‬ ‫اخلم�سينات وال�ستينات‪ ،‬ال �س ّيما ما ارتكز منه على ً‬ ‫�شهد العقد الثاين من الأربعينات ثورة ال�شّ عر العربي احلديث املعا�صرة بعد �أن ا�ستكملت‬ ‫الكال�سيكية اجلديدة ثم الرومان�سية ثورتهما املحدودة يف جمال املو�ضوعات ‪ .‬وال�شّ عر العربي‬ ‫احل ّر بزغ يف العراق بني ‪ 1947‬و ‪ 1950‬ور ّواده الأوائل ال�س ّياب واملالئكة و�شاذل طاقة ‪ .‬والناقد‬ ‫�إح�سان ع ّبا�س انربى للدفاع عن هذا ال�شعر عرب درا�سة لديوان الب ّياتي «�أباريق مه�شّ مة» (‪)1954‬‬ ‫(‪� ،Badawi 1977‬ص ‪ ;205-181‬كمال خريبك‪� ،1982 ،‬ص ‪. )89-87‬‬ ‫انقالب جماعة [�شعر] واخرتاق جدار اللغة‬

‫ثم انتمت ب�أ�صالة �إىل جمرى ال�شّ عر العربي احلديث جماعة تطالب ّ‬ ‫بتخطي واقع ال�شعر العربي‬ ‫الكال�سيكي وجتاوزه وب�ضرورة تخ ّلي ال�شاعر املعا�صر عن عرو�ض البيت �إىل عرو�ض الق�صيدة‪،‬‬ ‫وهي جماعة «�شعر» التي �أ�صدرت جم ّلتها يف بريوت من ‪� 1957‬إىل ‪ ،1964‬ومن ‪� 1967‬إىل ‪.1969‬‬ ‫ثم جاءت «ال�شّ عر» القاهرية و «مواقف» لأدوني�س لكن مل تفلح جم ّلة يف مثل ما �أجنزته «�شعر»‪.‬‬ ‫متخ�ص�صة مبو�ضوع النقد الأدبي‪ .‬ال�شاعر يو�سف اخلطيب مثّل‬ ‫يف «�شعر» برزت خالدة �سعيد ّ‬ ‫املجددين الذين �سلكوا نهجاً و�سطاً بني العمودية والتح ّرر (ال�سوافريي‪� ،1963 ،‬ص ‪.)309-242‬‬ ‫ّ‬ ‫الر ّواد العراقيون هم احللقة الأوىل يف ت�سل�سل ال�شعر العربي احلديث بعد ‪ .1947‬م ّهدوا الدرب‬ ‫�أمام جماعة «�شعر»‪� .‬أ�ستاذهم كان بدر �شاكر ال�سياب الذي حظي باهتمام احليدري والبياتي‪.‬‬ ‫‪74‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫من بني الر ّواد العراقيني تظل نازك املالئكة �أكرثهم توفيقاً يف تقنني املفاهيم اخلا�صة بالدعوة‬ ‫اجلديدة و�أ�سرعهم يف نقدها وبيان عيوبها وميزاتها و�أ�ضعفهم ق�صيدة و�أعجزهم عن تطوير املنحى‬ ‫الذي دعت �إليه ‪.‬‬ ‫بلند احليدري عبرّ بالرمز عن رومان�سية و�س�أم وقلق وجودي ‪ .‬لكن احليدري و�إن بد�أ رمزياً ا�ستق ّر‬ ‫على الواقعية احلديثة ‪ .‬وقف ال�س ّياب يف طليعة حركة ال�شّ عر العربي املعا�صر ‪ .‬تد ّرج يف الرومان�سية‬ ‫�إىل الواقعية فاال�شرتاكية الرمزية وانتهى بامل�أ�ساوية (ن�شاوي‪� ،1980 ،‬ص ‪394-393‬؛ الب�صري‪،1968 ،‬‬ ‫�ص ‪ 11-10‬؛ علوان‪� ،1975 ،‬ص ‪373‬؛ اخلياط‪� ،1970 ،‬ص ‪ . )46‬جتربته غن ّية يف احلياة وال�سيا�سة‬ ‫والت�ش ّرد والنفي واملر�ض‪� ،‬ص ّبها �شعراً‪ ،‬فكانت «�أن�شودة املطر» («الآداب»‪ ،‬حزيران ‪ )1954‬عالمة‬ ‫بارزة يف م�سار ال�شّ عر احلديث ‪ .‬املطلع هادئ وجميل والنهر يجري بوداعة وتنعك�س فيه النجوم‪:‬‬ ‫عيناكِ غابتا نخيل �ساعة ال�سحر‬ ‫�أو �شرفتان راح ين�أى عنهما القمر‬ ‫عيناكِ حني تب�سمان تورق الكروم‬ ‫وترق�ص الأ�ضواء كالأقمار يف نهر‬ ‫يرجه املجذاف وهناً �ساعة ال�سحر‬ ‫ّ‬ ‫ك�أنمّ ا تنب�ض يف غوريهما النجوم (�أن�شودة املطر‪ ،1960 ،‬يف ديوان بدر �شاكر ال�س ّياب‪ ،‬مج ‪،1974 ،1‬‬ ‫�ص ‪. )474‬‬ ‫على �أن هذا الهدوء ي�ستبق العا�صفة ‪ .‬يعبرّ ال�سياب يف «�أن�شودة املطر» عن اجلدب والعقم يف حياة‬ ‫بتجمع الربوق والرعود والغيوم‬ ‫العراق عرب �صور اجلفاف وانحبا�س املطر‪ ،‬ولكنه‪ ،‬ويف �آن‪ ،‬يوحي ّ‬ ‫املثقلة بالأمطار بني جبال العراق وفوق وديانه‪ ،‬وهي املقابل املو�ضوعي امل�ألوف للثورة الو�شيكة يف‬ ‫�شعر �شيلي وعا ّمة الرومان�سيني‪.‬‬ ‫بدءاً من ‪ 1949‬ق�صيدة خليل حاوي تومئ �إىل املنعطف اخلطري‬

‫وملّا كانت ‪ 1945‬وانتهت احلرب العاملية الثانية وبد�أ االنتداب ينح�سر عن �سوريا ولبنان وم�صر‪ ،‬بدت‬ ‫يف االفق غيوم �سوداء ما لبثت �أن هطلت ظالماً فا�ستعماراً جديداً على فل�سطني (كرم‪� ،1980 ،‬ص‬ ‫‪77-74‬؛ الأن�صاري‪� ،1980 ،‬ص ‪ .)181‬فا�شتعلت حرب و�سقطت �أنظمة‪ ،‬وكرثت انقالبات‪ ،‬فما �إن‬ ‫�سدة احلكم حتى ت�أ ّرخت بداية مرحلة جديدة‬ ‫كانت ‪ 1952‬وو�صل عبد النا�صر (‪� )1970-1918‬إىل ّ‬ ‫‪75‬‬


‫على م�سرح العرب ال�سيا�سي واالقت�صادي واالجتماعي والفكري‪ ،‬و�أعدم �سعادة يف بريوت يف‬ ‫متوز ‪ 1949‬فوجد خليل حاوي يف �إعدام رئي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي منكراً طا�شت‬ ‫�ألبابه �إثره‪ ،‬فرثاه يف �إحدى ق�صائده من بواكري �شعره الف�صيح‪ ،‬وقال فيها‪:‬‬ ‫ترجي ال�ضياء‬ ‫وعقّي بالداً ّ‬ ‫ّ‬ ‫امل�ستهل‬ ‫وتق�ضي على الفجر يف‬ ‫بالداً بجوهرها تكفر‬ ‫فج ّبارها الأ�سمر‬ ‫ُيغال بليل �أباح ال�ضمائر‬ ‫ل�شهوة غادر‬ ‫فويل وويل �إذا نغفر‬ ‫تثور ال�سماء وت�ستنكر‬ ‫هو ا ّلليل يحدو �إىل م�سمعي‬ ‫ال�ضحايا بوجه الردى املزبد‬ ‫هتاف ّ‬ ‫�شدد يدي‬ ‫فيا �شبح املوت ّ‬ ‫�أنا واملنايا على موعد (يف‪� :‬إيليا حاوي‪� ،1978 ،‬ص ‪.)72‬‬ ‫ت�ضم بع�ض قدامى احلزب ال�سوري القومي ممن‬ ‫ما �أن �صدرت «�شعر» يف بداية ‪ 1957‬حتى ظهر �أ ّنها ّ‬ ‫كانوا يف بريوت �أو ممن وفدوا �إليها من دم�شق �إثر ق�ضية املالكي [العظمة ‪� /‬أدوني�س ‪ /‬خالدة �سعيد‬ ‫‪ /‬حممد املاغوط]‪ .‬ن�شر حاوي ق�صيدة يتيمة يف املج ّلة [العدد ‪ ،2‬ربيع ‪ ،1957‬ظهرت الق�صيدة‬ ‫يف «�شعر» بعنوان «ال�سجني»‪ ،‬وهي نف�سها ق�صيدة «�ضحكات ال�صغار» يف نهر الرماد] و�أ�صدر «نهر‬ ‫ال�صلة نهائياً بينه وبني القائمني على «�شعر»‪ ،‬ثم حت ّولت القطيعة اىل‬ ‫الرماد» عن دارها‪ ،‬وانقطعت ّ‬ ‫عداوة‪.‬‬ ‫قبل ذلك كان حاوي م�ؤتلفاً مع جماعة «�شعر» يتباحث معهم يف ندواتهم يف مفهوم الق�صيدة‬ ‫يكن احرتاماً خا�صاً لل�س ّياب الذي كان يبعث للمج ّلة بق�صائده من العراق‪ّ ،‬ثم‬ ‫احلديثة‪ ،‬وكان ّ‬ ‫وجتمعه وحتالف مع «الآداب» التي �أ�صدرها �سهيل �إدري�س يف ‪،1953‬‬ ‫خرج حاوي عن «�شعر» ّ‬ ‫تعم الهالل اخل�صيب با�سم �سوريا واحل�ضارة ال�سور ّية يجب �أن تكون‬ ‫لإميانه �أنّ الدعوة �إىل وحدة ّ‬ ‫با�سم العروبة‪.‬‬ ‫‪76‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫وكان حاوي قبل ظهور «�شعر» قد ّر�سخ وجوده يف «الآداب»‪ ،‬فن�شر فيها بني نهاية ‪ 1953‬ونهاية‬ ‫‪ 1957‬اثنتي ع�شرة ق�صيدة ّ‬ ‫�شكل معظمها �أنا�شيد «نهر الرماد»‪.‬‬ ‫ميتد من بداية اخلم�سينات �إىل بداية‬ ‫حت ّو ُل حاوي باجتاه «الآداب» والقوم ّية العربية خالل عقد ّ‬ ‫يعن �إ�سقاطه ملبادئ �أنطون �سعادة‪ّ .‬‬ ‫ال�ساحة العربية‬ ‫ال�س ّتينات مل ِ‬ ‫ظل وف ّياً لها‪ّ .‬‬ ‫لكن ما طر�أ على ّ‬ ‫جتمع «العروة‬ ‫من ّ‬ ‫تبدالت جذر ّية �أيقظت فيه وعياً جديداً‪ .‬فمنذ انخراطه �أواخر الأربعينات يف ّ‬ ‫الوثقى» يف اجلامعة الأمريكية جنح باجتاه فكرة القوم ّية العربية بت�أثري نكبة فل�سطني‪ ،‬لكن بقيت‬ ‫ال�صفة احلزبية ال�سور ّية معروفة فيه بني �صحبه‪.‬‬ ‫ظهرت جم ّلة «�شعر» (‪ )1957‬يف وقت وجد ال�شعراء اللبنانيون �أنف�سهم وقد جتاوزتهم موجة ال�شّ عر‬ ‫اجلديد يف العراق و�سورية وم�صر‪ .‬يف لبنان كان �سعيد عقل ال يزال ّ‬ ‫مقدمة امل�شهد ال�شعري‬ ‫يحتل ّ‬ ‫بني جمهرة من النيوكال�سيني‪ ،‬على ال ّأقل يف ال�شكل ال�شعري‪ ،‬مثل �أمني نخلة و�صالح لبكي‬ ‫و�شفيق املعلوف وبول�س �سالمة ويو�سف غ�صوب‪ ،‬وكانت هناك جمهرة �أخرى من «�شيوخ»‬ ‫الق�صيدة التقليدية‪ ،‬مثل‪ :‬ميخائيل نعيمة والأخطل ال�صغري وال�شاعر القروي‪ .‬عام ظهور جم ّلة‬ ‫ال�سلطان ال�شعري متقا�سماً بني التقليديني‬ ‫«�شعر» �شهد وفاة �إيليا �أبو ما�ضي‪� .‬أما يف �سورية فكان ّ‬ ‫ي�شق‬ ‫(بدوي اجلبل‪� ،‬أبو ري�شة) والنيوكال�سيني (�سليمان العي�سى وعزيزة هارون)‪ ،‬وكان نزار ق ّباين ّ‬ ‫طريقاً �شعري ًة مغاير ًة للم�ألوف‪ ،‬من حيث املو�سيقى واملو�ضوع‪ .‬يف فل�سطني والأردن كان معني‬ ‫ب�سي�سو وفدوى طوقان و�سلمى اخل�ضرا اجل ّيو�سي ويو�سف اخلطيب وهارون ها�شم ر�شيد يحقّقون‬ ‫تط ّوراً �شكلياً باجتاه احلداثة ال�شّ عرية‪� .‬إىل جانب الر ّواد العراقيني (ال�س ّياب‪ ،‬املالئكة‪ ،‬احليدري‪،‬‬ ‫الب ّياتي) ظهر �صفاء احليدري وكاظم جواد و�سعدي يو�سف و�صالح نيازي‪ .‬يف م�صر وال�سودان‬ ‫فجددوا بجر�أة‪ ،‬مثل �صالح عبد ال�صبور و�أحمد عبد املعطي‬ ‫ثار �شعراء �ش ّبان على �سيادة العقّاد ّ‬ ‫حجازي وجماهد عبد املنعم جماهد وحممد الفيتوري وحمي الدين فار�س وجيلي عبد الرحمن‪.‬‬ ‫هذا هو الإطار الذي ولدت فيه «�شعر» (خريبك‪� ،1982 ،‬ص ‪.)89-87‬‬ ‫�صحيح �أن جماعة «�شعر» جاءوا مت� ّأخرين باملقارنة مع الر ّواد العراقيني‪� ،‬إال �أن جميع ال�شعراء‬ ‫العرب وجدوا يف املجالت اللبنانية جما ًال رحباً لتجاربهم يف م�ضمون الق�صيدة و�شكلها‪ .‬ن�شروا‬ ‫يف «الأديب» و»الآداب» وكانت هذه الأخرية قد لعبت الدور الأ�سا�سي يف ن�شر بدايات احلركة‬ ‫احلديثة قبل ظهور «�شعر»‪.‬‬ ‫يف ‪ 1956‬كان يو�سف اخلال قد عاد من �أمريكا بعد �إقامة طويلة ويف ن ّيته جتديد ال�شعر العربي‪ .‬يف‬ ‫البدء تعاون مع خليل حاوي‪� ،‬إال �أن هذا ال�شاعر املبدع ان�سحب فلم يكن من جماعة «�شعر»‪ ،‬وال‬ ‫هو �أراد‪ .‬وا ّتفق �أن التج�أ �إىل بريوت عدد من �شعراء �سورية كان �أغلبهم �أع�ضاء يف احلزب ال�سوري‬ ‫القومي االجتماعي‪ ،‬مثل �أدوني�س ونذير العظمة وحممد املاغوط وخالدة �سعيد‪ .‬هكذا اكتملت‬ ‫التجمع الذي �أعلن عن‬ ‫النواة ثم ان�ضم �إليها �أ�سعد رزوق و�شوقي �أبي �شقرا و�أن�سي احلاج‪ ،‬فكان ّ‬ ‫‪77‬‬


‫ت�أ�سي�س جم ّلة «�شعر» التي تخدم ال�شّ عر احلديث وتدافع عنه‪ ،‬و�أ�صبح اخلال رئي�ساً لتحريرها (�صدر‬ ‫العدد الأول يف كانون الثاين ‪. )1957‬‬ ‫�أهم �إجناز لغوي ‪� -‬أدبي حققته جم ّلة «�شعر» يكمن يف بلورة ق�صيدة النرث‪� .‬صحيح �أن �ألبري �أديب‬ ‫و�إبراهيم �شكر اهلل وجربا �إبراهيم جربا ن�شروا مناذج من النرث ال�شعري‪� ،‬إال �أن ق�ضية ق�صيدة النرث‬ ‫مل تعالج �إال مع و�صول ال�شاعر ال�سوري حممد املاغوط �إىل بريوت وان�ضمامه �إىل «�شعر»‪ ،‬ذلك‬ ‫تفجر املنحى ال�صوري ‪-‬‬ ‫«�أن ق�صائده احل ّرة‪ ،‬املج ّردة من االيقاع العرو�ضي ومن القافية ‪ -‬والتي ّ‬ ‫التجمع �إىل االمتيازات الكبرية التي يتيحها لل�شاعر تخ ّليه الكامل عن‬ ‫قد لفتت انتباه �أع�ضاء ّ‬ ‫ال�شكل التقليدي»‪ .‬فج�أة دار النقا�ش حول ق�صيدة النرث‪ ،‬وظهرت �أواخر اخلم�سينات ومطلع‬ ‫تر�سخ املنحى هذا‪ ،‬دفع بها ‪� -‬إ�ضافة �إىل املاغوط («حزن يف �ضوء القمر»)‬ ‫ال�ستينات جماميع �شعرية‪ّ ،‬‬ ‫ احلاج («لن») وجربا («متوز يف املدينة») وتوفيق �صايغ («الق�صية ك») و�أبي �شقرا («ماء �إىل ح�صان‬‫العائلة») وهرني حاماتي («�إىل الفقر») ومي�شيل كمال («رحلة العودة») و�أدوني�س («�أغاين مهيار‬ ‫الدم�شقي») (خريبك‪� ،1982 ،‬ص ‪.)93‬‬ ‫يرى كمال خري بك يف �أثره النفي�س «حركة احلداثة يف ال�شعر العربي املعا�صر» �أن �أعمال �شعراء‬ ‫را�سخني كال�سياب و�أدوني�س وخليل حاوي قد تط ّورت من قبل‪ ،‬يف اجتاه ق�صيدة النرث �إال �أن‬ ‫االنعطاف الأهم والأكرث ح�سماً يف التطور ال�صوري لل�شعر العربي الطليعي قد حتقّق يف ق�صائد‬ ‫حممد املاغوط‪ ،‬وبدءاً من هذا االنعطاف �أخذت ال�صورة ذات االنزياح املرتفع بل الأق�صى �أحياناً‪،‬‬ ‫تربز يف �إنتاج �شعراء احلداثة‪ ،‬بل ت�صبح مفتاح التعبري ال�شعري وعن�صره الأ�سا�سي‪ .‬جاءت ق�صائد‬ ‫املاغوط تفتح درباً جديداً‪:‬‬ ‫نعدو كاخليول الوح�ش ّية على �صفحات التاريخ (حزن يف �ضوء القمر‪ ،‬بريوت‪� ،1959 ،‬ص ‪.)30‬‬ ‫جددت ق�صيدة النرث يف هيئة الق�صيدة وبنيتها اخلارجية و�شحنت مفرداتها مبعنى مل حتمله من‬ ‫ّ‬ ‫قبل‪ ،‬فالبحر ي�صري غرب ًة تطهري ّية عند �أدوني�س‪:‬‬ ‫ ‬ ‫�أيها البحر‪ ،‬يا �صديق اجلرح‬ ‫(�أوراق يف الريح‪ ،‬بريوت‪� ،1958 ،‬ص ‪.)158‬‬ ‫والدم رحلة يف التاريخ عند �أبي �شقرا‪:‬‬ ‫فدمي لونٌ غريب وع�صو ٌر مقفرة (خطوات امللك‪ ،‬بريوت‪� ،1960 ،‬ص ‪.)39‬‬ ‫وهكذا �صار البيت ال�شّ عري احلديث �سطراً نرثياً يحمل «�صيغة بنائية» يف «اجلملة الكبرية»‬ ‫للق�صيدة احلديثة‪ ،‬كما عند احلاج‪:‬‬ ‫‪78‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫قمت من النوم خلنج‪� ،‬أظن � ِ‬ ‫أ�شتهيك‬ ‫(من ق�صيدة [�شوكة]‪ ،‬يف جملة �شعر‪� ،1964 ،32/31 ،‬ص ‪.)14‬‬ ‫وعند اخلال و�أدوني�س �صار البيت ال�شعري مندجماً يف بناء الق�صيدة باعتبارها «عقدة حية‬ ‫وع�ضوية»‪ .‬وعند ع�صام حمفوظ تكثيفاً داللياً‪:‬‬ ‫والقمر ال�ش ّرير‬ ‫ّ‬ ‫ين�سل من �شباكهم‬ ‫ويرقد (�أع�شاب ال�صيف‪ ،‬بريوت‪� ،1961 ،‬ص ‪.)52‬‬ ‫�أما ف�ؤاد رفقة فقد حافظ على كال�سيك ّية معتدلة �إذا ما قورن بجماعة ق�صيدة النرث‪ ،‬وهو �أقرب �إىل‬ ‫خليل حاوي يف �سعيه �إىل �إ�شادة البناء الهند�سي و�إبقائه على وزن ومو�سيقى داخليني‪ ،‬وحتميل‬ ‫مفرداته �شحنات فكرية وتراثية‪:‬‬ ‫هنا ت�سقط النجوم‬ ‫ت�سقط العالمة الكبرية‬ ‫وترحل الف�صول‬ ‫وكل �شيء ينحني‬ ‫يف جزر الرياح‬ ‫لل�سفينة الأخرية (يف ق�صيدة [رحيل الف�صول]‪ ،‬يف جملة �شعر‪� ،1968 ،37 ،‬ص ‪.)32-31‬‬ ‫يخت�ص بالتنقيط والتوزيع يف الق�صيدة‪،‬‬ ‫ا�ستفاد جماعة «�شعر» من نتاج الدادائية وال�سوريالية فيما ّ‬ ‫وهذا ما ّ‬ ‫حطم العبارة التقليدية‪ .‬جل�أ بع�ضهم �إىل �إذابة اجلمل وا�ستبعاد احلدود الفا�صلة بينها‪،‬‬ ‫و�إىل ا�ستعمال اجلملة غري التامة وتب�سيط اخلطاب ال�شّ عري‪ .‬ا�ستفادوا من ترجمة ال�شعر الأجنبي‬ ‫الن�ص وحافظوا على بنيته بهدف القب�ض على خ�صائ�ص ال�شاعر البنائية واحلذاقة‬ ‫واحرتموا ّ‬ ‫والأ�سلوبية لرتكيبه ال�شّ عري (خريبك‪� ،1982 ،‬ص ‪161‬؛ ‪� ،Jayyusi 1977‬ص ‪181 - 205‬؛ ‪1975‬‬ ‫‪� ،Badawi‬ص ‪.)172 - 178‬‬ ‫‪79‬‬


‫امل�صادر واملراجع‬

‫�أحمد ّب�سام ال�ساعي‪ .‬حركة ال�شعر احلديث يف �سورية من خالل �أعالمه‪ .‬دم�شق‪� .1978 ،‬أحمد‬ ‫اجلندي‪� .‬شعراء �سورية‪ .‬بريوت‪� .1965 ،‬ألربت حوراين‪ .‬الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ‪-1798‬‬ ‫‪ .1939‬ترجمة كرمي عزقول‪ .‬بريوت‪( 1977 ،‬طبعة ثالثة)‪� .‬ألفرد خوري‪ .‬الكلمة العربية يف املهجر‪.‬‬ ‫بريوت‪� .1960 ،‬أنطون غطا�س كرم‪ .‬الرمزية واالدب العربي احلديث‪ .‬بريوت‪� .1949 ،‬أنطون غطا�س‬ ‫كرم‪ .‬مالمح االدب العربي احلديث‪ .‬بريوت‪� .1980 ،‬أني�س �صايغ‪ .‬الفكرة العربية يف م�صر‪ .‬بريوت‪،‬‬ ‫‪� .1959‬أني�س اخلوري املقد�سي‪ .‬االجتاهات االدبية يف العامل العربي احلديث‪ .‬بريوت‪( 1982 ،‬طبعة‬ ‫�سابعة)‪� .‬إيليا حاوي‪ .‬مع خليل حاوي يف م�سرية حياته و�شعره‪ .‬بريوت‪ .1978 ،‬جالل اخلياط‪.‬‬ ‫ال�شعر العراقي احلديث‪ :‬مرحلة وتط ّور‪ .‬بريوت‪ .1970 ،‬جورج �أنطونيو�س‪ .‬يقظة العرب‪ :‬تاريخ‬ ‫حركة العرب القومية‪ .‬ترجمة �إح�سان عبا�س ونا�صر الدين الأ�سد‪ .‬تقدمي نبيه �أمني فار�س‪ .‬بريوت‪،‬‬ ‫‪( 1982‬طبعة �سابعة)‪ .‬جورج �صيدح‪� .‬أدبنا و�أدبا�ؤنا يف املهاجر الأمريكية‪ .‬القاهرة‪( 1979 ،‬طبعة‬ ‫ثالثة)‪� .‬شوقي �ضيف‪ .‬االدب العربي املعا�صر يف م�صر‪ .‬القاهرة‪( 1974 ،‬طبعة خام�سة)‪ .‬حممد‬ ‫هدارة‪ .‬درا�سات يف ال�شعر العربي‪ .‬الإ�سكندرية‪� .1970 ،‬صالح لبكي‪ .‬لبنان ال�شاعر‪.‬‬ ‫م�صطفى ّ‬ ‫بريوت‪ .1954 ،‬عبا�س حممود العقاد‪� .‬شعراء م�صر وبيئاتهم يف اجليل املا�ضي‪ .‬القاهرة‪1965 ،‬‬ ‫(طبعة ثالثة)‪ .‬عبد اجلبار داود الب�صري‪ .‬مقال يف ال�شعر العراقي احلديث‪ .‬بغداد‪ .1968 ،‬عبد احلي‬ ‫دياب‪ .‬الرتاث النقدي قبل مدر�سة اجليل اجلديد‪ .‬القاهرة‪ .1968 ،‬عبد العزيز الد�سوقي‪ .‬جماعة‬ ‫�أبولو و�أثرها يف ال�شعر احلديث‪ .‬القاهرة‪( 1971 ،‬طبعة ثانية)‪ .‬عبد العزيز املقالح‪ .‬ال�شعر بني الر�ؤيا‬ ‫والت�شكيل‪ .‬بريوت‪ .1981 ،‬عبد الواحد ل�ؤل�ؤة‪ .‬البحث عن معنى‪ :‬درا�سات نقدية‪ .‬بريوت‪1983 ،‬‬ ‫(طبعة �أوىل بغداد ‪ .)1973‬علي عبا�س علوان‪ .‬تطور ال�شعر العربي احلديث يف العراق‪ :‬اجتاهات‬ ‫الر�ؤيا وجماالت الن�سيج‪ .‬بغداد‪ .1975 ،‬كمال خري بك‪ .‬حركة احلداثة يف ال�شعر العربي املعا�صر‪:‬‬ ‫درا�سة حول االطار االجتماعي ‪ -‬الثقايف لالجتاهات والبنى االدبية‪ .‬ترجمة جلنة من ا�صدقاء‬ ‫امل�ؤلف‪ .‬بريوت‪ .1982 ،‬كامل ال�سوافريي‪ .‬ال�شعر العربي احلديث يف م�أ�ساة فل�سطني‪-1917 :‬‬ ‫‪ .1955‬القاهرة‪ .1963 ،‬كمال ال�صليبي‪ .‬تاريخ لبنان احلديث‪ .‬ترجمة يو�سف اخلال‪ .‬بريوت‪1978 ،‬‬ ‫(طبعة رابعة)‪ .‬كمال اليازجي‪ .‬ر ّواد النه�ضة االدبية يف لبنان احلديث‪ .1900-1800 :‬بريوت‪،‬‬ ‫جمددون وجم ّرتون‪ .‬بريوت‪( 1979 ،‬طبعة خام�سة)‪ .‬حممد جابر الأن�صاري‪.‬‬ ‫‪ .1962‬مارون ع ّبود‪ّ .‬‬ ‫حت ّوالت الفكر وال�سيا�سة يف ال�شرق العربي ‪ .1970-1930‬الكويت‪ .1980 ،‬حممد م�صطفى بدوي‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫خمتارات من ال�شعر العربي احلديث‪ .‬بريوت ‪ /‬اك�سفورد‪ .1969 ،‬حممد م�صطفى هدارة‪ .‬التجديد‬ ‫يف �شعر املهجر‪ .‬القاهرة‪ .1957 ،‬حممد مندور‪ .‬النقد والنقّاد املعا�صرون‪ .‬القاهرة‪ .1963 ،‬م�صطفى‬ ‫عبد اللطيف ال�سحرتي‪ .‬ال�شعر املعا�صر على �ضوء النقد احلديث‪ .‬القاهرة‪ .1948 ،‬مناف من�صور‪.‬‬ ‫االن�سان وعامل املدينة يف ال�شعر العربي احلديث‪ .‬بريوت‪ .1978 ،‬منيف مو�سى‪ .‬ال�شعر العربي‬ ‫احلديث يف لبنان‪ :‬بحث يف �شعراء لبنان اجلدد مرحلة ما بني احلربني العامليتني‪ .‬بريوت‪.1980 ،‬‬ ‫ن�سيب ن�شاوي‪ .‬مدخل �إىل درا�سة املدار�س االدبية يف ال�شعر العربي املعا�صر‪ .‬دم�شق‪ .1980 ،‬وديع‬ ‫ديب‪ .‬ال�شعر العربي يف املهجر الأمريكي‪ .‬بريوت‪. 1955 ،‬‬ ‫‪Badawi, M. M. Modern Arabic Poetry. Cambridge University Press, 1975.‬‬ ‫‪Jayyusi, S. K. Trends and Movements in Modern Arabic Poetry. E. J. Brill Leiden, 1977.‬‬

‫‪81‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫‪2014 – 1914‬‬

‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫مائة عام على «دمعة وابت�سامة« جلربان‬ ‫ال�شعاع واالفق‬

‫�سليمان بختي ‪ -‬كاتب ونا�شر‬

‫مئة عام م�ضت على �صدور كتاب «دمعة وابت�سامة» جلربان خليل جربان فهو �صدر يف العام‬ ‫من ‪� 197‬صفحة وهو كتابه الرابع يف العربية بعد «املو�سقى» ‪ 1905‬و «عرائ�س املروج» ‪ 1906‬و‬ ‫«االرواح املتمردة» ‪ 1908‬و «االجنحة املتك�سرة» ‪.1912‬‬ ‫وي�ضم الكتاب عدداً من املقاالت والق�ص�ص والق�صائد كان جربان قد كتبها جلريدة «املهاجر»‬ ‫ل�صاحبها �أمني غريب ما بني ‪ 1903‬و ‪ 1908‬وجمعت ون�شرت يف كتاب �سنة ‪� .1914‬أما �أهداء‬ ‫الكتاب فهواىل ‪ MEH‬ماري ها�سكل‪ ،‬ويقول يف االهداء «�أقدم هذا الكتاب وهو �أول ن�سخة من‬ ‫عا�صفة حياتي اىل الروح النبيلة التي حتب الن�سمات وت�سري مع العوا�صف»‪ .‬ومثبت يف �سرية‬ ‫جربان ووقائع حياته الدور الفاعل واال�سا�سي الذي لعبته ماري ها�سكل يف دعم جربان لتحقيق‬ ‫مواهبه واثبات نف�سه‪ .‬وثمة مقالة يف الكتاب بعنوان «جمال املوت» ويرفعها �إىل ماري ها�سكل‬ ‫�أي�ضاً‪.‬‬ ‫يف هذا الكتاب تتمحور مقاالت جربان حول املوا�ضيع التالية ‪ :‬الطبيعة‪ ،‬احلب املجتمع والوجود‪.‬‬ ‫ينحاز جربان يف كتاباته على م�ألوفه اىل جانب املظلومني وامل�ضطهدين وي�سمى الفقري «يا خليلي‬ ‫الفقري» معترباً �أن حياة الفقري طاهرة و�شريفة ومثالية‪.‬‬ ‫يقد�س جربان االمل ويت�سق يف ذلك مع ع�صره �ش�أنه �ش�أن الرومن�سيني الذين يعتربون �أن الأمل‬ ‫يطهر االن�سان من الف�ساد وال�شرور والنزعات املادية‪ .‬وجربان املتمرد يقول‪« :‬ر�أيت االبتذال ي�سري‬ ‫مبوكب عظيم والنا�س يدعونه احلرية‪ .‬ر�أيت الدين مدفوناً طي الكتاب والوهم قائماً مقامه‪»...‬‬ ‫وي�س�أل «�أهذه هي االر�ض يا ابنة الآلهة ؟ �أهذا هو االن�سان»‪.‬‬ ‫ويف توطئة الكتاب نعرف ملاذا �سمى جربان كتابه « دمعة وابت�سامة» فهو يقول‪�« :‬أمتنى �أن تبقى‬ ‫حياتي دمعة وابت�سامة‪ .‬دمعة تطهر قلبي وتفهمنى �أ�سرار احلياة وغوام�ضها‪ ،‬وابت�سامة تدنيني من‬ ‫‪1914‬‬

‫‪83‬‬


‫�أبناء بجدتي وتكون رمز متجيدي الآلهة ‪ .‬دمعة �أ�شارك بها م�ستحقي القلب‪ ،‬وابت�سامة تكون عنوان‬ ‫فرحي بوجودي»‪.‬‬ ‫يظهر جربان مراجعه يف هذا الكتاب وتظهر �أي�ضاً ت�أثراته بالرومن�سية وال�صوفية واالفالطونية‬ ‫واالفلوطنية وامل�سيحية والفل�سفات ال�شرقية‪ .‬يقول‪�« :‬سمعت تعاليم كنفو�شيو�س‪ ،‬وا�صغيت‬ ‫حلكمة برهما‪ ،‬وجل�ست بقرب بوذا حتت �شجرة املعرفة‪ ،‬وها �أنا الآن �أغالب اجلهل واجلحود‪ ،‬وكنت‬ ‫على الطور اذ جتلى يهوه ملو�سى‪ ،‬ويف عرب االردن ر�أيت معجزات النا�صري‪ ،‬ويف املدينة �سمعت‬ ‫�أقوال ر�سول العرب‪ ،‬وها �أنا الآن �أ�سري احلرية»‪ .‬ولكن جربان ي�ؤكد يف مكان �آخر ان�سانيته العاملية‬ ‫«االر�ض كلها وطني وجميع الب�شر مواطني» �أو «جئت لأكون للكل وبالكل»‪.‬‬ ‫يف مقالة يوم مولدي «نلم�س عاطفة جربان وحمبته للآخر‪ ،‬للنا�س �إذ يقول‪« :‬وقد احببت النا�س‪،‬‬ ‫احببتهم كثريا‪ ،‬والنا�س يف �شرعي ثالثة‪ :‬واحد يلعن احلياة‪ ،‬وواحد يباركها‪ ،‬وواحد يت�أمل بها‪.‬‬ ‫فقد �أحببت االول لتعا�سته‪ ،‬والثاين ل�سماحته والثالث ملداركه»‪ .‬ويف الكتاب �آراء وا�ضحة جلربان‬ ‫يف مفاهيم متعددة وعلى طريقته فهو يرى �أن «اجلمال هو ما تراه وتود ان تعطي ال �أن ت�أخذ» و�أن‬ ‫«ال�سعادة تتبدىء يف قد�س �أقدا�س النف�س وال ت�أتي من اخلارج»‪.‬‬ ‫ويف نظرته �إىل ال�سيا�سة يقول «�أعفني من م�آتي ال�سيا�سة واخبار ال�سلطة‪ .‬لأن الأر�ض كلها وطني‬ ‫وجميع الب�شر مواطني»‪ .‬ويف عبارة مقطوفة من الرتاث ال�صويف يقول‪� :‬سر �إىل االمام فاالمام هو‬ ‫الكمال» وهي ت�شبه ما قاله �أحد كبار ال�صوفيني «االمام ال يلتفت» ولكن بني الواقع واالحالم‬ ‫جتنح عبارة جربان جمنحة على هذا النحو «من ال ي�صرف االيام على م�سرح االحالم كان عبد‬ ‫االيام»‪.‬‬ ‫ويزين جربان مقدمات مقاالته ب�أقوال مثل «�إن اجلمال دين احلكماء» وهي ل�شاعر هندي �أو جلان‬ ‫كيت�س «هنا رفات من كتب ا�سمه مباء» وتذكرنا هذه العبارة ب�شطر من ق�صيدته ال�شهرية «�أعطني‬ ‫وغن» والتي �أن�شدتها فريوز بلحن من جنيب حنك�ش وتوزيع االخوين رحباين �إذ يقول‪�« :‬إمنا‬ ‫الناي ِّ‬ ‫النا�س �سطور لكن مباء»‪.‬‬ ‫ويف �شبه تنا�ص يكتب جربان �أي�ضاً منهياً مقالته «احفروا على لوح قربي‪ ،‬هنا بقايا من كتب ا�سمه‬ ‫على ادمي ال�سماء ب�أحرف من نار»‪ .‬او «ر�أيت كل االعمال التي عملت حتت ال�شم�س فاذا الكل‬ ‫باطل وقب�ض الريح»‪ .‬والقول موقع من اجلامعة‪� .‬أو «يف نظرات احليوان االبكم كالم تفهمه نف�س‬ ‫احلكيم‪ ،‬وهي اي�ضا ل�شاعر هندي وي�ست�شهد بكالم القر�آن الكرمي «وكنتم امواتاً ف�أحياكم ثم مييتكم‬ ‫ثم يحييكم ثم �إليه ترجعون»‪.‬‬ ‫يظهر الكتاب �أي�ضاً �شعور جربان املتعاظم بالغربة يف تلك الفرتة في�صف نف�سه بانه «نبي منبوذ يف‬ ‫�أمته و�شاعر غريب بني �أهله»‪.‬‬ ‫‪84‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫ولكن ما هو موقف جربان من الوطن (عن بعد)؟ يذكرجربان الكثري من الأماكن يف لبنان ويحن‬ ‫اليها حنينا �صادقا ويرى �أن الوطن «�سيعود اىل الرقي بعد فرتات االنحطاط»‪ .‬ومثلما «الزهرة ال‬ ‫تعود اىل احلياة اال بعد املوت»‪ .‬ويناجي �سوريا «�إىل اللقاء يا �سوريا �إىل اللقاء» ويعني لقاء الرقي‬ ‫والنه�ضة والتقدم‪ .‬ويت�ساءل ملاذا يهدم االن�سان ما تبنيه الطبيعة‪.‬‬ ‫يف ق�صة «بني اخلرائب» يعود جربان �إىل مو�ضوعه االحلى‪� ،‬إىل احلب رافعاً من قيمة احلب و�أنه ال‬ ‫يبقى �إال وحده» انقر�ضت الدولة العظيمة التي �أ�س�سها �سليمان وانقا�ض الهيكل‪ ،‬ونفدت حكمته‬ ‫قيمتها ومل يبق غري حبه وانا�شيد حبه‪� .‬إذ ال حتفظ «االبدية �إال املحبة لأنها مثلها»‪ .‬ويف خامتة‬ ‫الكتاب يقول جربان كلمته اخلالدة التي �ستظهر فيما بعد بقوة «جئت القول كلمة و�س�أقولها واذا‬ ‫�أرجعني املوت قبل �أن الفظها يقولها الغد» هكذا ر�أى نف�سه يف الآن والغد‪ ،‬وهكذا كان ‪.‬‬ ‫جربان يف «دمعة وابت�سامة «يف مرانه و�صعوبته‪ ،‬ويف رقته ومترده‪ ،‬ويف طريقه الطويل �إىل حتفته «النبي»‬ ‫يف اللغة والفكر واملقاربة‪ ،‬ويف الطريق نحو قراره اخلطري �أن يبد�أ بالكتابة والن�شر باالنكليزية‪ .‬وهذا‬ ‫ما فعله فيما بعد بدءاً من كتاب «املواكب» ‪ 1919‬والعوا�صف ‪ 1920‬والبدائع والطرائف ‪.1923‬‬ ‫كتاب «دمعة وابت�سامة» ‪ 1914‬وحتى ‪ 2014‬ال مير الزمان على اال�صيل وال ُيبلى بل لعل الأيام‬ ‫تزيده توهجاً وملعاناً و�شع�شعة مثل ال�شعاع املر�سل نحو الأفق‪.‬‬

‫‪85‬‬


‫الدولية للمعلومات �ش‪.‬م‪.‬ل‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪infointl@information-international.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.information-international.com :‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل‬

‫االعالم‪ :‬اال�ست�رشاق اجلديد‬

‫‪2014 – 1914‬‬

‫ما بعد احلرب العاملية االوىل حتى الآن‪..‬‬ ‫و�سام عبد اهلل ‪� -‬إعالمي‬

‫طبع يف الغرب بني عام ‪ 1800‬و‪ 1950‬حوايل ‪� 60‬ألف كتاب تهتم ب�ش�ؤون ال�شرق من خالل‬ ‫درا�سات ومقاالت وابحاث كتبها رحالة ومب�شرين وم�ستعمرين وغريهم ممن زار ال�شرق االدنى‬ ‫وال�شرق االو�سط من �أوروبا و�أمريكا‪ ،‬عدد الكتب املطبوعة يعطي فكرة وا�ضحة عن االهتمام‬ ‫الغربي بالبحث والتعمق يف احلياة ال�شرقية فيما مل يكن هذا مماثال يف الطرف االخر‪.‬‬ ‫اال�ست�شراق هو ال�سيا�سة الثقافية �إن �صح التعبري التي تعبرّ عن عالقة الغرب بال�شرق من خالل‬ ‫جمموعة من الدار�سات والأبحاث التي قام ب�إعدادها العديد من ال�شخ�صيات التي عا�شت يف‬ ‫ال�شرق عن طريق احلمالت الع�سكرية والتجارية والبعثات الثقافية وغريها من الطرق التي تواجد‬ ‫فيها الغرب يف منطقتنا على مدى عقود طويلة من الزمن‪.‬‬ ‫�أهم املدار�س اال�ست�شراقية هي الربيطانية والفرن�سية (وهما االقدم) واالمريكية (وهي حديثة‬ ‫العهد ن�سبتا لهما)‪ ،‬مل ت�شكل تلك املدار�س جمرد �أبحاث و�أفكار جمردة‪ ،‬و�إمنا ا�ستطاعت العمل‬ ‫على خلق نظرة اجتاه ال�شرق بو�صفه تابعا للغرب وهو بحاجة له كونه االقوى واالكرث تقدما‪،‬‬ ‫وقد مت تطبيق هذه النظرة من خالل العملية ال�سيا�سية التي كان ينتهجها الغرب‪ .‬فقد �أ�س�ست‬ ‫بريطانيا مراكز الدرا�سات العربية يف جامعة اوك�سفورد عام ‪ 1636‬وجامعة كامربدج عام ‪ 1632‬وكان‬ ‫الهدف منها تب�شريي للتعرف على اللغة العربية ولكن بعد حرب ال�سنوات ال�سبع (‪)1763-1756‬‬ ‫وتراجع النفوذ الفرن�سي يف الهند وازدياد االهتمام باملنطقة العربية �أ�صبحت بريطانيا م�ضطرة �أن‬ ‫حتافظ على كافة خطوط توا�صلها مع حدود امرباطوريتها‪ ،‬فا�ستعمرت املناطق ون�شرت فيها عمالئها‬ ‫وجوا�سي�سها‪� .‬إن االهتمام الفرن�سي والربيطاين بامل�شرق العربي ازداد يف الربع االول من القرن‬ ‫الع�شرين من خالل الدخول يف تفا�صيل احلياة والثقافة والعادات امل�شرقية‪ ،‬هذه املعرفة التي‬ ‫بنيت على قرون من العمل اال�ست�شراقي كان من نتائجها اتفاقية �سايك�س ‪-‬بيكو التق�سيمية‪.‬‬ ‫بعد انتهاء احلربني العامليتني �سيطرة الواليات املتحدة االمريكية على اال�ست�شراق‪ ،‬وقد كان‬ ‫املخزون الفكري االمريكي اال�ست�شراقي يت�صف بقلة املعرفة مما دفعهم التباع �أ�سلوب «درا�سات‬ ‫املناطق» يقوم على ت�شكيل وحدات بحثية ت�ضم جمموعة من الباحثني تتوىل كل منها درا�سة‬ ‫‪87‬‬


‫منطقة معينة‪� .‬أي �أن اال�ست�شراق �أخذ نف�س الهدف ولكن ب�أ�سلوب و�أدوات خمتلفة عن ما �سبقه‬ ‫وخا�صة مع تطور و�سائل االعالم واالت�صال والتوا�صل‪.‬‬ ‫اال�ست�شراق مل ينت ِه مع ظهور و�سائل التوا�صل العاملية عن طريق االنرتنت واالعالم والف�ضائيات‪،‬‬ ‫بل �أ�صبحت هذه الو�سائل هي �أحد �أنواع اال�ست�شراق احلديث بو�صفه منظومة مت�شابكة من‬ ‫النظرة التي يتعامل من خاللها الغرب مع �سكان هذه املنطقة من خالل العالقات االقت�صادية‬ ‫وال�سيا�سية والثقافية واالجتماعية والدينية‪.‬‬ ‫ي�صنف املفكر الفل�سطيني �إدوارد �سعيد اال�ست�شراق �إىل ثالث حماور �أ�سا�سية �إن جاز التعبري‬ ‫وهي املعرفة‪ ،‬ال�سلطة‪ ،‬االن�شاء‪ ،‬ونحن بدورنا �سن�أخذ هذا الت�صنيف الثالثي لإ�سقاطه على عالقة‬ ‫الغرب مع ال�شرق وخا�صة من خالل و�سائل الإعالم‪.‬‬ ‫املعرفة‪� ...‬صياغة ال�صورة‬

‫الفئة التي يتوجه �إليها اال�ست�شراق هي الغرب بو�صفه تعريفاً لهذا الآخر املختلف واملتناق�ض‪ ،‬مع‬ ‫الإ�ضافات الأخرى من الإرهابي والقاتل‪ ،‬فالعملية يف بداية الأمر تكون من خالل �صياغة �صورة‬ ‫لل�شرق‪ ،‬يتم تقدميها لل�شعوب الغربية مبا يتوافق مع م�صالح تلك الدول‪ .‬تتم ال�صياغة بو�صف‬ ‫الطرف الغربي يعترب نف�سه هو القوة وبذلك هو من ميتلك حق املعرفة وبالتايل حق �أن يتوىل‬ ‫بذاته �صياغة هويات العامل �إن �صح التعبري‪ ،‬فمث ًال عبارة العامل االول والعامل الثالث هي حم�ض‬ ‫ا�ستخدام للقوة يف ميدان املعرفة‪.‬‬ ‫يتم تقدمي املعرفة من خالل و�سائل الإعالم عن طريق جمموعة من ال�صور التي تحُ فر يف ذهن‬ ‫املتلقي الغربي‪� ،‬صورة قد ال حتتاج �إىل كثري من النقد من قبله فهو يتعامل مع هذه الو�سائل املعرفية‬ ‫بح�سب ما تقدمه له يف �ش�ؤونه الداخلية حيث الثقة هي اال�سا�س يف موقفه من هذه الو�سائل‪،‬‬ ‫وبالتايل تكون معرفة ال�شرق بالن�سبة له عن طريقها مبنية عن ثقة تامة بكلمتها الإعالمية‪ .‬‬ ‫تبنى ال�صورة من خالل طريقة اللبا�س �إىل احلياة اليومية وطريقة التفكري وهذه جميعها تظهر‬ ‫ب�شكل رئي�سي يف �أهم م�صنع للمعرفة ال�سينما‪ ،‬وهنا يربز بالت�أكيد دور هوليوود حيث �أحد وجوهها‬ ‫هو «اال�ست�شراق الأمريكي»‪ ،‬فيتم تقدمي يف مدة �ساعتني ون�صف حياة املخل�ص الأمريكي للعامل‬ ‫وبالت�أكيد مع املحافظة على �صورة العرب وهم على جِ مالهم ويف خيامهم‪ .‬‬ ‫وقد �أخذت املعرفة منحى جديداً من بعد �أحداث احلادي ع�شر من �أيلول‪ ،‬ف ُر�سم يف العقل الغربي‬ ‫�صورة ال�شرقي الإرهابي وخا�صة امل�سلم‪ ،‬وبهذا �أ�صبحت املعرفة مبنية على عالقة بني الدين‬ ‫‪88‬‬


‫مئوية احلرب العاملية الأوىل ‪2014 – 1914‬‬

‫والإرهاب وهذا التناق�ض يف القيم بني العاملني الغربي وال�شرقي كما �أرادوا �صياغتها هذه ال�صياغة‬ ‫املعرفية القائمة على �صدام احل�ضارات ونهاية التاريخ‪.‬‬ ‫اال�ست�شراق يف هدفه الرئي�سي هو موجه نحو الغرب ولكنه يف الوقت نف�سه تطور مع مرور الوقت‬ ‫لي�صبح بذلك اال�ست�شراق الغربي الذي يتحدث بلغة �أهل ال�شرق عن هويتهم‪ ،‬وهنا دخل ع�صر‬ ‫االنرتنت واالعالم الف�ضائي ب�صيغة العامل املنتج �إىل العامل امل�ستهلك‪� ،‬أي �أن ال�شرق يعرب عن‬ ‫هويته ب�أدوات غربية �إن جاز التعبري‪.‬‬ ‫ال�سلطة‪ ...‬قوة املعرفة‬

‫�أحد �أهم نتائج القوة املعرفية هي الإح�سا�س بال�سلطة لي�س مبعناها امل�ؤ�س�ساتي �ضمن املجتمع بل‬ ‫تتعداها �إىل ال�سلطة على باقي ال�شعوب بو�صفها خا�ضعة معرفيا لهذه القوة‪ .‬وهذا ما ُينتج لدى‬ ‫هذه ال�سلطات الإدراك �أن هناك �شعوب هي بحاجة �إليها وال ميكنها اال�ستغناء عنها‪.‬‬ ‫هذه �إحدى فل�سفات ما بعد احلرب العاملية الأوىل حيث كانت بريطانيا وفرن�سا هما �أحد ال�سلطات‬ ‫التي تريد �إخراج ما كان حتت حكم الإمرباطورية العثمانية من �أمرا�ضه فكانت هي احلل املقدم‬ ‫لهذه ال�شعوب‪ ،‬هذا احلل الذي مل ي� ِأت م�صادفة بل كان على مراحل تاريخية عديدة ا�ستطاعت‬ ‫من خالله هذه الدول الدخول يف تفا�صيل ال�شرق املجتمعية وامل�س�ألة ال�شرقية عام ‪ 1860‬هي �أكرب‬ ‫دليل على هذا الدخول‪.‬‬ ‫ُتكمل فل�سفة ال�سلطة املعرفية عملها �إىل ما بعد احلرب العاملية الثانية لتجتمع هذه ال�سلطات حتت‬ ‫ما ي�سمى االمم املتحدة وت�صبح ال�سلطات املنت�صرة هي حاكمة العامل بو�صفها القوة التي لها احلق‬ ‫�أن تقرر م�صري �شعوب الدنيا‪.‬‬ ‫�إذا �أردنا عر�ض �صورة لل�سلطة يف ال�سنني املا�ضية حتى هذه الأيام فيجب �أن ن�ضع نقطتني هامتني‬ ‫وهما‪� :‬أوال ال�سلطة املوجودة يف ال�شرق التي هي نتاج معاهدات دولية بني الدول املنت�صرة هي‬ ‫�أنظمة مركبة وهذا الت�أ�سي�س جاء باالعتماد على الدرا�سات اال�ست�شراقية منذ القرن ال�سابع ع�شر‬ ‫والثامن ع�شر‪ ،‬ال�سلطة التي تعتمد على ردات الفعل هي يف معظمها انعكا�س مل�صالح الدول‬ ‫ولي�ست تعبري مل�صالح �شعوبها‪ .‬النقطة الثانية هي ال�سلطة املعرفية التكنولوجية والإعالمية جعلت‬ ‫من الف�ضاء حتت �أمرة جهات معينة تتحكم بالأفكار وطريقة احلياة‪ ،‬هذا التحكم القادم من قوة‬ ‫هذه اجلهات و�ضعف الإنتاج ال�شرقي �سمح لفرتة من �أحادية الت�سلط من قبل دول معينة‪.‬‬

‫‪89‬‬


‫االن�شاء‪ ...‬التدمري والبناء‬

‫العامل الثالث لي�س جمرد مقولة عددية تدل كما نعتقد على تقدم دول وت�أخر دول‪� ،‬إن عمق هذه‬ ‫املقولة هو الطرف الثالث الغريب واملجهول خارج (�أنا و�أنت) فالعامل الثالث يكون (هو)‪ ،‬هذه‬ ‫املقولة التي تغريت على مر الع�صور حيث كان الأوروبيون يطلقون على كل �شعب خارج حافة‬ ‫القارة الأوروبية «ال�سكان اال�صليون»‪ .‬هذه املقولة التي عملت الدول ونحن تبنيناه عن جهل يف‬ ‫�إن�شاء طريقة تفكري ب�أننا ننتمي �إىل هذا العامل الذي ال ميكنه �أن يتطور و�أننا من هذا العامل الذي‬ ‫يجب عليه لكي يتقدم �أن ي�صبح مثل باقي الدول يف ذلك العامل‪ .‬تعمل الدول ب�شكل م�ستمر‬ ‫على �إن�شاء تق�سيمات جغرافية تتنا�سب مع م�صاحلها مثل ال�شرق الأدنى التي هي عبارة فرن�سية ‪-‬‬ ‫بريطانيا ومت ا�ستخدامها لتق�سيم مناطق النفوذ‪ .‬وبهذا الإن�شاء تذوب الهويات القومية لتن�ش ْا مكانها‬ ‫هويات متقاتلة على رقعة جغرافية حتددها لها باقي الأمم‪.‬‬ ‫�سقوط الأنظمة و اختفاء املعرفة ي�ؤديان �إىل �إن�شاء جمتمع و�أنظمة على �إيقاع املخططات الغربية‪،‬‬ ‫�إن هذا الإن�شاء يقوم على مبد�أ ا�ستغالل فر�صة الدمار للبناء‪ ،‬و�إن مل يكن هناك دماء يتم خلقه‬ ‫و�إيجادها‪ ،‬يف عام ‪ 1982‬كتب ميلتون فريدمان الدكتور يف الق�سم االقت�صادي بجامعة �شيكاغو‬ ‫يف �أمريكا و زعيم ما ي�سمى �صبيان �شيكاغو «وحدها الأزمة‪ ،‬الواقعة �أو املنظورة‪ ،‬هي التي حتدث‬ ‫تغيرياً فعلياً»‪.‬‬ ‫الإن�شاء الإعالمي (�إدارة الر�أي العام) يقوم على مراحل عديدة من تقدمي املعرفة من خالل‬ ‫خمتلف لغات املعرفة (االنرتنت ‪ -‬االفالم ‪ -‬ال�صحف‪� ،)...‬إىل تثبيت ال�صورة يف عقله ويف املرحلة‬ ‫التالية تدمري كيانه لتبد�أ مرحلة البناء وفق قيم ومبادئ جديدة‪ .‬لقد كانت �أول عملية دعائية‬ ‫حكومية يف الع�صر احلديث هي يف ع�صر الرئي�س االمريكي وودرو ويل�سون املنتخب �سنة ‪ 1916‬يف‬ ‫منت�صف احلرب العاملية االوىل‪ ،‬وكان االمريكيون ال يرون �سببا لدخولهم احلرب االوروبية بينما‬ ‫كانت �إدارة ويل�سون ملتزمة بدخولها‪ ،‬فقامت بت�أ�سي�س (جلنة كربل) وهي جلنة للدعاية احلكومية‬ ‫وجنحت هذه اللجنة خالل �ستة �أ�شهر ب�إقناع غالبية االمريكيني ب�ضرورة الدخول يف احلرب و�إنقاذ‬ ‫العامل‪.‬‬

‫‪90‬‬


‫م�سعى تنظريي لفهم احلادث التاريخي العربي يف بعده ال�سو�سيو‪�-‬أيديولوجي‬

‫حممود حيدر ‪ -‬باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية‬

‫مل يكن حلادث تاريخي �أن يحظى بتلك الوفرة من اجلدل حول ماهيته وهويته وم�آالته املنتظرة‪،‬‬ ‫كاحلادث املتمادي على م�ساحة العامل العربي منذ بداية العام ‪.2011‬‬ ‫حمدداً لها‪.‬‬ ‫وال غل ّو يف القول‪� ،‬إ ّنا مررنا‪،‬وملّا نزل‪ ،‬ب�إزاء «جيولوجيا �سيا�سية»‪ ،‬ال تعريف واحداً �أو َّ‬ ‫ٍ‬ ‫وتعليالت‬ ‫أحكام‬ ‫فلقد بدا كل تعريف ُن�سِ ب �إليها م�شوباً بالنق�ص‪ .‬ذاك �أنه ي�صدر من ر� ًؤى و� ٍ‬ ‫تعك�س �إىل هذا احلد �أو ذاك‪� ،‬آراء ومواقع وم�صالح‪ ،‬وحت ّيزات الفاعلني فيها‪ .‬فالذين ذهبوا اىل‬ ‫تو�صيفها بـ«ثورات الربيع العربي» �سيكون لهم من الأ�سباب والتقديرات ما يحملهم على ذلك‪.‬‬ ‫و الذين م�ضوا �إىل قراءة معاك�سة‪ ،‬نظروا �إىل تلك «اجليولوجيا»‪ ،‬مبا هي امتداد جيو‪�-‬سرتاتيجي‪،‬‬ ‫لهيمنة خارجية تتغ ّيا تفكيك و�إعادة تركيب االقليم العربي تبعاً مل�صاحلها‪ .‬ولهذه القراءة كذلك‪،‬‬ ‫ٌّ‬ ‫حظ من ال�صواب‪ ،‬مبا تقدمه من �شواهد على �أو�صاف ونعوت ال تخلو من منطق ي�ؤيدها وي�سبغ‬ ‫عليها امل�شروعية‪ّ .‬ثمة �آخرون انربوا �إىل ما يتعدى التف�سري امل�ألوف للثورات واملنعطفات الكربى‪،‬‬ ‫فر�أوا �إليها كم�صادفة تاريخية نبتت على �أر�ض ال�ضرورة‪ ،‬لكنها فاج�أت الكل‪ ،‬و�أنتجت لنف�سها‬ ‫ح ّيزاً خارج التوقّع‪.‬‬ ‫هنالك �إذاً‪ ،‬م�شكلة فهم‪ ،‬تكثرّ ت �أ�سبابها ودواعيها‪ .‬منها من اعترب �أن م�شكلة الفهم هذه‪،‬‬ ‫ناجمة من تعدد الفاعلني يف دوائر التحوالت‪ ..‬ومنها من ق ّرر �أن هذه الأخرية هي حا�صل واقع‬ ‫ت�صدعات‬ ‫الإ�ضطراب الذي يحكم ا�صطفاف الأحالف‪ ...‬ومنها ثالثاً من ر�أى �إليها على �أنها ّ‬ ‫جمتمعية حتمية‪� ،‬إفرت�ضتها حقبة �إنتقالية دولية �شديدة ال ّتعقيد‪ ،‬و متتلئ بعوامل متناق�ضة من‬ ‫الفو�ضى‪ ،‬والإ�ستقرار‪ ،‬وعدم اليقني‪.‬‬ ‫�شكل املعريف‪ ،‬فلكي نن ّبه �إىل �صعوبة �أكيدة يف تظهري فهم م�شرتك‬ ‫وحيث ن�شري �إىل مثل هذا املَ ِ‬ ‫و دقيق حلا�ضر وم�آل احلوادث اجلارية‪� .‬أما داف ُعنا �إىل هذا التنبيه‪ ،‬فمرده �إىل التبا�س املفاهيم‪،‬‬ ‫ومتو�ضعها �ضمن حقول ا�ستعمال‪ ،‬بدت معها على نقي�ض غايتها الأ�صلية‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫درا�سات وابحاث‬

‫ثورات م�ستباحة‬


‫على �سبيل املثال والإ�شارة‬

‫لو �أخذنا ّمدعى الدميقراطية‪ ،‬كمعيار وقيمة �سيا�سية و�أخالقية مركزية يف احلادث العربي امل�ستمر‪،‬‬ ‫املدعى يجري‬ ‫فلن نكون حتت �أي تقدير �أمام �أطروحة بريئة‪ .‬و�سنجد على الإجمال‪� ،‬أن هذا ّ‬ ‫الداعني �إليه‪ .‬و تو�ضيح ذلك‪� ،‬أن الدعوة �إىل التغيري الدميقراطي‪،‬‬ ‫توظيفه نحو مقا�صد و�أهداف ّ‬ ‫الت�صدي لتحديات اال�ستبداد يف احلياة ال�سيا�سية الوطنية‪ ،‬هي دعوة مو�صولة مب�ؤثرات‬ ‫بدعوى ّ‬ ‫جيو‪�-‬سرتاتيجية‪ ،‬وحمكومة ب�إعتباراتها‪ ،‬وب�شطر وازن من �شروطها‪ .‬ثم �إنها دعوة داخلة يف �صلب‬ ‫«جيولوجيا الأفكار» التي �ضربت الثقافة ال�سيا�سية العربية وقلبتها ر�أ�ساً على عقب‪ .‬حيث �أن‬ ‫ا�ستح�ضار قيم الثورة الدميقراطية‪ ،‬على �أهميتها املعرفية و�ضرورتها املعرفية و التاريخية‪ ،‬ال يتعدى‬ ‫يف �أكرث من �آنٍ و مكان‪� ،‬إجراء حتويالت جوهرية يف �أنظمة ال�سيا�سة والأمن‪�،‬أو الإ�ستيالء على‬ ‫ال�سلطة ب�أي ثمن‪.‬‬ ‫من �أظهر جتليات الإ�ستقطاب املندرج على خط التوظيف‪ :‬عزل الأطروحة الدميقراطية والإ�صالح‬ ‫ال�سيا�سي يف الدائرة العربية‪،‬عن الإخت�صام مع �إ�سرتاتيجيات الهيمنة ب�صيغتها النيو‪�-‬إمربيالية‪ .‬و‬ ‫ال ّالفت �أن هذا العزل طفق يتحول‪ ،‬ويف خالل زمن قيا�سي‪� ،‬إىل ثقافة �سارية لدى نخب وا�سعة يف‬ ‫العاملني العربي والإ�سالمي‪� .‬أما احل�صاد املبا�شر ملثل العزل‪ ،‬فحدوث انقالب عميق الغور �سيكون‬ ‫له �أثر بينّ على حزمة من امل�س ّلمات‪ ،‬يف مقدمها خلخلة الوالءات الوطنية‪،‬حتى باملعنى الذي‬ ‫ت�أ�س�ست قواعده على ن�صاب الدر�س التاريخي للفل�سفة ال�سيا�سية احلديثة‪.‬‬ ‫من داخل هذا املنف�سح ينعقد �إ�شكال بني �ضرورتني متالزمتني ‪ :‬تنمية احلياة ال�سيا�سية الداخلية‪،‬‬ ‫و املحافظة على ال�سيادة الوطنية‪ .‬فلقد �أظهر امل�شهد العربي العام‪ ،‬تناق�ضاً جدياً َع َ�ص َف بال�ضرورتني‬ ‫معاً‪ ،‬و �أوجد خل ًال يف وحدتهما املفرت�ضة‪ ،‬ودفع بهما يف اجتاهني متعاك�سني‪:‬‬ ‫حدين ‪� :‬إما اال�ستغراق‬ ‫الأول‪ :‬ا�ضطراب يف التحول الداخلي‪� ،‬أدى اىل و�ضع حركة التغيري �أمام ّ‬ ‫يف الفو�ضى و العنف‪� ،‬أو امل�صادرة والإحتواء‪ .‬وهو ما �ألفيناه جلياً يف اختبارات م�صر وتون�س‬ ‫واليمن و ليبيا‪ ،‬ولو بوقائع و�صور متباينة‪.‬‬ ‫الثاين‪ :‬احتدام يف ف�ضاء الإقليم‪ ،‬بلغ ذروته مع ترتيبات دولية م�ست�أنفة‪،‬غايتها �إعادة ت�شكيل مظ ّلة‬ ‫�أمنية �إ�سرتاتيجية‪ ،‬تغطي �شبه القارة ال�شرق �أو�سطية‪ ،‬وتركز ب�صفة خا�صة على البلدان العربية‬ ‫املحيطة بالدولة اليهودية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫بني هذين الإجتاهني‪� ،‬ستظهر �إرها�صات زمن رمادي من عالماته الفارقة‪ ،‬ع�سر الوالدة الطبيعية‬ ‫لربيع ثوري عربي‪ ،‬ميلك َّ‬ ‫حظ اال�ستقالل عن املداخالت اجليوبوليتيكية والتح ّرر من م�ؤثراتها‪.‬‬ ‫الإختبار الليبي يف هذا الزمن جاء منوذجياً و�صارخاً ‪ :‬لي�أتي التحول يف نظام هذا البلد ال�سيا�سي‬ ‫والإجتماعي كحا�صل مد ًّو لغزو خارجي‪ ،‬مبا كان لذلك من تداعيات جعلت �إعادة تكوين جماعاته‬ ‫‪92‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫الوطنية �أمراً يدنو من امل�ستحيل‪� .‬أما االختبار ال�سوري ‪ -‬وعلى الرغم من تالزم ال�ضرورتني امل�شار‬ ‫�إليهما �آنفاً‪ -‬فقد انطوى منذ البداية على خا�ص ّية‪ ،‬تقدمه كمثال بينّ ٍ على طغيان العامل اجليو‪-‬‬ ‫�سرتاتيجي‪ ،‬ومفاعيله املد َّوية يف م�سار التحول الداخلي‪...‬‬ ‫يف �أي حال ال يرمي هذا التقدمي‪� ،‬إىل توقيع االختام النهائية على املقدمات والنتائج التي ت�شهدها‬ ‫التحوالت‪ .‬فما م ّر معنا‪ ،‬يبدو �ضرورياً ملقاربة ما �سميناه زمناً قلقاً‪ ،‬حيث ال تنفك امليادين العربية‬ ‫ت�ستغرق فيه ب�صورة هي يف غاية احل�سا�سية والتعقيد‪.‬‬ ‫ت�شتمل هذه املقاربة على جمموعة من العناوين وجدنا �أن نر ّتبها على َف َر�ضية م�ؤ ّداها ‪� :‬أن زمناً عربياً‬ ‫حممل باحتماالت ووعود و�آمال �ش ّتى‪ .‬و ما �سنوليه عنايتنا هنا‪،‬‬ ‫م�ستحدثاً راح ي�شق جمراه‪ ،‬وهو ّ‬ ‫هو النظر �إىل تلك الإحتماالت والوعود والآمال‪ ،‬يف �إطار عناوين ت�ؤلف العنا�صر الأ�سا�سية للزمن‬ ‫امل�ستحدث‪ ،‬و ت�شكل مدخ ًال لفهم مقدماته وبواعثه وم�آالته‪...‬‬ ‫و العناوين التي ن�ستدرجها يف هذا البحث‪ ،‬هي �أدنى �إىل مفاتيح معرفية‪ ،‬يراد منها الإحاطة‬ ‫بالتحوالت و �إ�ستقرائها‪ ..‬وذلك على نحو ُتف�ضي فيه عند معاينتها‪� ،‬إىل فهم بواعث احلدث‬ ‫وم�ؤ ّدياته القريبة واملتو�سطة و البعيدة‪ .‬و هي على الوجه التايل‪:‬‬ ‫ ‪ .1‬ثورات وثورات م�ضادة يف منزل واحد‪(.‬ر�ؤية تو�صيفية)‬ ‫ ‪ .2‬التحوالت و �أ�سئلة النه�ضة‪ ..‬يف ح�ضورها‪ ،‬و يف غيبتها‪.‬‬ ‫ ‪ .3‬ح�ضور الأيديولوجي �أو عودة املثقف املتح ّيز‪.‬‬ ‫ ‪ .4‬انت�صار االيديولوجيا على ال�شارع‪.‬‬ ‫ ‪ .5‬منطِ ق التح ّيز يف التح ّوالت العربية‪.‬‬ ‫ ‪ .6‬تفا�ؤل بعد ي�أ�س‪� ..‬أو الطريق �إىل ج ّنة املواجهة‪.‬‬ ‫تو�صيفية)‬ ‫‪ .1‬ثورات وثورات م�ضادة يف منزل واحد (ر�ؤية‬ ‫ّ‬

‫لو كان لنا من ر�ؤية �إجمال ّية و�صفية ملحركات الثقافة ال�سيا�سية العربية‪ ،‬لوجدنا ما ي�شهد على‬ ‫ح�ضور ثالثة �سياقات ي�سابق الفاعلون فيها بع�ضهم بع�ضاً‪ّ ،‬‬ ‫وكل فاعل ‪ ،‬حممول على �شغف‬ ‫امل�شاركة يف �صناعة حقائق الزمن اجلديد ‪:‬‬ ‫الأول‪� :‬سياق الإ�ستتباع‪ ،‬و يقوم على الر�ضى بتوقيعات املوجة النيوليربالية املتمادية‪ ،‬مع ما‬ ‫ُيفرت�ض باملنخرطني يف هذا ال�سياق من قبول مب�شروعية الدولة اليهودية‪ ،‬وهي تقطع �آخر �أطوارها يف‬ ‫رحلة الإ�ستيالء على فل�سطني‪ ،‬و تبديل هويتها اال�صلية‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫الثاين‪� :‬سياق املقاومة ‪ :‬وهو �سياق ٌيقر�أ انطالقاً مما ظهر من جتاربها املعا�صرة‪ ،‬ال�سيما جلهة النظر‬ ‫�إليها كمنظومة كفاحِ ّية و نه�ضو ّية و �أخالق ّية ‪ ،‬ترمي �إىل حترير الإن�سان والأر�ض‪ ،‬و�إىل حتقيق‬ ‫ال�سيادة والكرامة الوطنية‪.‬‬ ‫الثالث‪� :‬سياق التغيري‪ :‬و يجري على نحو ما جرت وقائعه حتت ظل حالة رمادية تغ�شى الو�ضع‬ ‫العربي امل�ضطرب وتطبعه بطبائعها‪ .‬وهو �سياقٌ يك�شف عن نف�سه يف الغالب الأعم‪ ،‬بقول �سيا�سي‬ ‫�إجمايل قوامه‪ ،‬الرغبة املحمومة يف تغيري �أنظمة احلكم‪.‬‬ ‫من مفارقات هذا ال�سياق �أنه يبدو خُ لواً من الأبنية الفكرية التي ك ّنا �ألِفناها يف الثورات الوطنية‬ ‫والإ�شرتاكية والدينية املُن�صرمة‪ .‬و يف الآن عينه‪ ،‬يفتقر اىل �إ�سرتاتيجيات وا�ضحة املعامل‪ ،‬تف�صح‬ ‫عن الت�صورات املفرت�ضة حول طبيعة ال�سلطة‪ ،‬و نظام الدولة املن�شود‪...‬‬ ‫مل ت� ِأت التح ّوالت العرب ّية املت�أخرة‪� ،‬إ ّال ٍّ‬ ‫كتجل �صريح الحتدام هذا املثلث من ال�سياقات‪ .‬لكنه‬ ‫ُيف�ضي على وجه الإجمال‪� ،‬إىل ن�شوء وعي جديد من� ٍ‬ ‫هم ال�سيطرة‬ ‫أخذ ّ‬ ‫بهمينْ تاريخ َّيني متالزمني ‪ّ :‬‬ ‫هم الإ�ستبداد الداخلي‪.‬‬ ‫الإ�ستعمارية‪ ،‬و ّ‬ ‫أ�شد خطراً يف امل�شهد‪ ،‬ما ُيرتجمه امل�سعى الذي تتو ّاله املوجة الفكرية النيوليربالية‪ ،‬يف‬ ‫الوجه ال ّ‬ ‫ما ن�سميه بـ»احلرب على املعنى»‪ .‬و هي موجة راحت ت�ستهدف اغتيال الوالء للهويات الوطنية‪،‬‬ ‫وتفكيك منظومات القيم الفكرية الدينية و الأخالقية‪ ،‬خ�صو�صاً تلك التي �أ�س�ست لتلك‬ ‫الهويات‪ ،‬ومنحتها الت�سديد والت�أييد على �إمتداد �أجيالٍ كاملة‪ .‬فلئن كانت الغاية الإبتدائية من‬ ‫وراء هذه املوجة‪� ،‬صناعة وعي عام قابل للإذعان‪،‬ف�إن غايتها الق�صوى تتمثّل يف جعل اجلمهور‬ ‫�ستهدف را�ضياً مبا هو عليه‪ ،‬و ممتنعا» ب�إرادته عن الت�سا�ؤل والنقد والإعرتا�ض‪ .‬و �أما حا�صل ما‬ ‫املُ َ‬ ‫تن�شده‪ ،‬هو �أن حتيل املهي َمن عليه �إىل و�ضعية جتعله غافال» عما هو فيه‪ ،‬وتدفعه نحو قناعات ُتف�ضي‬ ‫به اىل الإ�ست�سالم والإ�صغاء والتمثّل‪.‬‬ ‫يف الو�ضع ّية العربية‪� ،‬سنالحظ �أن وقائع «احلرب على املعنى» تتح ّرك على ثالثة حماور‪:‬‬ ‫الأ ّول‪ :‬م�صادر ُة � ّأي �إحتمال للتغيري‪ ،‬من �ش�أنه �أن ي�ضع �شعوب املنطقة على �صراط ال�سيادة‬ ‫الكاملة‪.‬‬ ‫الثاين‪� :‬إ�ستئناف العقل النيو‪�-‬إمربيايل‪ ،‬ممار�سة «لعبة الفو�ضى والتفكيك» ك�إ�ستمرار للمرياث‬ ‫ال�سيا�سي والع�سكري الذي ظهر بقوة يف حقبة املحافظني الأمريكيني اجلدد‪ .‬لكن هذه اللعبة‪،‬‬ ‫�سوف تتح ّرك جمدداً على �شكل حروب متالزمة من الإحتالل والغزو املبا�شر‪� ،‬إىل تغذية‬ ‫املنازعات الطائفية واملذهبية‪ ،‬و بالتايل �إىل الدفع باحلروب الأهلية املفتوحة‪.‬‬ ‫و � ّأما املحور الثالث‪ :‬فيق�صد ال�ساعون �إليه‪ ،‬احتواء م�شاعر التفا�ؤل بالن�صر لدى �شعوب‬ ‫املنطقة؛ وذلك ما يظهر ب�صورة جلية يف تبهيت ال ُبعد الوطني والأخالقي والإمياين لثقافة مقاومة‬ ‫‪94‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫الإحتالل‪ .‬ويف مناخ الإنت�صارات التي حقّقتها املقاومة يف لبنان عام ‪ ،2006‬ويف فل�سطني عام‬ ‫‪� ،2009‬سرنى كيف ت�ضاعفت وتائر الإحتواء حتى بلغت الذروة ‪ .‬ول�سوف نتبينّ ذلك‪ ،‬يف‬ ‫النموذج املد ّوي الذي �أظهرته احلمالت الإعالمية امل�ستهدِ فة معنى الإنت�صار على العدو‪ .‬وهو‬ ‫ما نراه بو�ضوح عرب م�سعى �سيا�سي و فكري و ثقايف معاك�س م�ؤاده ‪� :‬إجراء حتويالت عميقة يف‬ ‫الوعي العربي والإ�سالمي ي�صل مداه �إىل «عقلنة» الأطروحة الإ�سرائيلية‪ ،‬من خالل جعلها جزءاً‬ ‫من احلالة احل�ضارية‪ ،‬والدينية‪ ،‬وال�سيا�سية ل�شعوب املنطقة‪ّ .‬‬ ‫ولعل ما ن�شهده من تداعيات‪� ،‬إن‬ ‫جلهة تعميم القيم الليربالية‪ ،‬و الأخذ بثقافة املجتمع املفتوح‪� ،‬أو لناحية تفعيل عمل ّيات التطبيع‪،‬‬ ‫�إمنا ُيظهر املقا�صد احلقيق ّية ملا ُ‬ ‫ا�صطلح عليه بـ «الثورات امللونة»‪ .‬وهي الثورات التي احت ّلت ثقافتها‬ ‫م�ساكن الفكر يف عاملنا العربي و الإ�سالمي‪ ،‬حتت عناوين احلرية والدميقراطية وحقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫وملّا كانت قيم كهذه ذات قابل ّية ا�ستثنائية للإ�ستخدام يف لعبة التوظيف‪ ،‬كانت النتيجة �إ�سباغ‬ ‫ال�شرع ّية على ما ال �شرعية لوجوده ‪ ،‬بحيث ال ي�ؤدي �أي تغيري ثوري �إىل و�ضع املجتمعات العربية‬ ‫والإ�سالمية‪ ،‬ومراكز القرار فيها‪ ،‬يف مواجهة تاريخية مع ال�سيطرة الثقافية الإ�ستعمارية‪ ،‬وبالتايل مع‬ ‫الدولة اليهودية يف فل�سطني‪.‬‬ ‫�إذا كانت هذه هي ال�سِ مات الإجمال ّية للتح ّول العربي‪ ،‬فالذي يبدو من �صورته امل�ستخل�صة هو‬ ‫الإنباء عن زمن ا�ستثنائي وجديد من املواجهات‪.‬‬ ‫الإ�ستثنائية و اجلدة‪ ،‬ك�صفتني مالزمتني للزمن اجلديد‪ ،‬جتعالنه زمناً �إنتقالياً هو �أ�شبه برحلة قلقة‬ ‫والتقدم والت� ّأخر‪ ،‬وال ّن�صر والهزمية‪ .‬ذاك �أن ال�سمة الالفتة فيه �أنه‬ ‫يت�ساوى فيها اخلوف والرجاء‪ّ ،‬‬ ‫زمن مركب و متح ّول‪ ،‬و �أن جالء �صورته النهائية‪� ،‬أمر متع ّلق باحل�صاد الإجمايل للإحتدام بني‬ ‫عنا�صره و مكوناته وقواه‪ .‬ومثلما يحمل زمناً كهذا وعوداً ب�آمال كربى‪ ،‬ف�إنه ينطوي يف الآن عينه‪،‬‬ ‫على روح مت�شائمة قد حتجب طول الأمل بثقافة الإحياء احل�ضاري لدى نخب الأمة وجماهريها‪.‬‬ ‫تاريخي رخ ٌو تتعادل‬ ‫منف�سح‬ ‫ترتيباً على �صفات الزمن امل�ستحدث هذا‪� ،‬سوف ينك�شف �أمامنا‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫فيه رهانات النه�ضة مع هواج�س النكو�ص و الإحباط ‪ .‬ولنا �أن نالحظ ظهورات هذا املنف�سح من‬ ‫زاويتني‪:‬‬ ‫�أو ًال‪� :‬إن �س�ؤال النه�ضة‪ ،‬ما عاد بالن�سبة لل ّنخب‪ ،‬جمرد خطبة �إفرتا�ضية �شكلت على مدى �أحقاب‬ ‫طويلة منعقداً لفظياً ال طائل منه‪ ..‬ف�إن املز ّية الأبرز للحراك اجلاري تكمن يف تنبيه الفكر العربي‬ ‫التقدم على قاعدة التفا�ؤل‪.‬‬ ‫املثقل بالت�شا�ؤم‪� ،‬إىل وجود �إ�ضاءات تدفعه نحو �إعادة �صياغة بيان ّ‬ ‫ومثل هذا التنبيه �سيكون له �أثر حا�سم يف �إمداد التح ّيزات والوالءات الوطنية ب�آمال اخلروج من‬ ‫اخلوف وعدم الثقة وعقدة الهزمية‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 1‬‬

‫قد تكون والدة هذا املنف�سح الرمادي يف مناخ تاريخي عربي ممتلئ باملتناق�ضات الداخلية وامل�ؤثرات اخلارجية‪,‬‬ ‫هي التي جعلت القلق عنواناً مهيمناً تدور حتت �سطوته جممل حتوالت ال�شارع العربي‪.‬‬ ‫‪95‬‬


‫الثانية ‪�« :‬أن من ب ّينات هذا املنف�سح‪� ،‬إ�ستئناف ال�شعور بعدم قابلية البيئة العربية لإجناز والدات‬ ‫التقدم احل�ضاري العربي �أطروحة راهنة‪ .‬مر ُّد هذا‬ ‫فكرية و�سيا�سية وثقافية‪ُ ،‬تف�ضي �إىل جعل فكرة ّ‬ ‫ال�صدع‪ ،‬الذي �ضرب البنية املفاهيمية التقليدية ال�سائدة‪ ،‬مل يكن وليد اللحظة الراهنة‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ح�صيلة �سل�سلة من الإحتقانات والإحباطات املرتاكمة‪ ،‬لعل �أكرثها مدعاة للنقا�ش ما تع ّلق منها‬ ‫بالهويات ال�ضائعة‪ ،‬والوالءات املم ّزقة على مدار املنطقة والعامل‪.‬‬ ‫ملء الفراغ ك�ضرورة وحاجة‬ ‫ن�صيب‬ ‫مع انب�ساط ال�صورة على هذا النحو من عدم اليقني‪� ،‬سيكون لعاملنا العربي و الإ�سالمي ٌ‬ ‫وافر من �آثارها وتداعياتها‪ .‬فقد جرى التعامل مع اجلغرافيا الثقافية العربية كميدان خ�صيب‬ ‫للإختبارات املدوية التي �أجرتها النيوليربالية‪ ،‬يف جماالت احلرب‪ ،‬و ال�سيا�سة‪ ،‬والإقت�صاد‪،‬‬ ‫و�أنظمة القيم‪ .‬ول�سوف تف�صح امليادين امل�سكونة بالإ�ضطراب عما ميكن و�صفه بـ«مبادرات ملء‬ ‫الفراغ»‪ .‬فلو ّ‬ ‫دل ذلك على معنى‪ ،‬فعلى ا�ستجابة لواقع بدا معه نق�ض الإ�ستبداد الداخلي وال ّتبع ّية‬ ‫للخارج‪ ،‬حاجة راهنة و�ضرورة تاريخية يف �آن‪ .‬لقد متثّلت تلك املبادرات بانخراط ال ُّنخب يف‬ ‫عملية �إ�ستقطاب مل يكن من جمال فيها للمواقف املحايدة‪ .‬بل يجوز القول‪� ،‬إنها جرت على نحو‬ ‫مياثل يف حيويته احلقبة الرومان�سية الثورية‪ ،‬التي �شهدت �صعود حركات الي�سار العربي القومي‬ ‫كتل‬ ‫واملارك�سي يف خم�سينيات و�ستينيات القرن الفائت‪ .‬و البينّ من الوقائع اجلارية‪ ،‬هو �إن�صراف ٍ‬ ‫ثقافية و�سيا�سية وا�سعة ن�سبياً‪� ،‬إىل مراجعة حمموالت �أيديولوجية‪ ،‬وقناعات فكرية‪ ،‬كانت بالن�سبة‬ ‫�إليها مبثابة يقينيات‪ ،‬ثم �إ�ستحالت ب�سبب من �إخفاقها‪ ،‬ذريعة لعزوفها عن العمل ال�سيا�سي‪ .‬مثل‬ ‫هذه املراجعة مل تقت�صر على ُك ٍتل و جمموعات و�أحزاب بعينها‪ ،‬بل هي �ستتح ّول مو�ضوعياً‬ ‫�إىل طاقة جاذبة ملاليني عرثت ‪ -‬عن طريقها ‪ -‬على فر�صتها النادرة ال�ستعادة هوياتها امل�سلوبة‪.‬‬ ‫فلو عاي ّنا هذا التح ّول النت�صبت �أمامنا حت ّيزات فريدة طغت على احلياة ال�سيا�سية‪ ،‬و دفعت بها‬ ‫�إىل احلدود الق�صوى من التعبري عن هوياتها ووالءاتها‪� .‬أما فرادة التعبري‪ ،‬فهي يف ا�شتمالها على‬ ‫جممل ال�شرائح والفئات والطبقات الإجتماعية وال�سيا�سية والثقافية‪ ،‬حيث وجدت يف التح ّيز‬ ‫والإ�صطفاف‪،‬منف�سحاً لإثبات ح�ضورها يف ميادين املواجهة‪.‬‬ ‫ال ّالفت يف تلك التح ّيزات التي حواها ذلك املنف�سح‪� ،‬أنها تقاطعت �إجما ًال على الوالء لهوية‬ ‫تنا�سب كل حت ّيز منها‪ .‬من مفارقات هذا التقاطع‪ ،‬الذي برز يف التجارب العربية الأخرية‪ ،‬هو‬ ‫الإمتزاج والتداخل العجيبان يف الأهداف والغايات بني «�أهل الثورات» و «�أهل الثورات امل�ضادة»‪.‬‬ ‫و�سيكون لنا مما تر�سله البيئات الفكرية و ال�سيا�سية املختلفة من مواقف وخُ طب‪ ،‬الكثري من‬ ‫ال�شواهد على ظاهرة الوالء‪ ،‬و الوالء امل�ضاد‪ ،‬حول ق�ضية �سيا�سية واحدة‪ ،‬هي ق�ضية الدميقراطية‪،‬‬ ‫واحلرية‪ ،‬والتغيري‪ ،‬والإ�صالح‪ ،‬و الكرامة الوطنية‪ .‬و ّثمة حاالت من «الوالء امل�ستحدث»‪ ،‬نبتت‬ ‫‪96‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫وتن�صلها من مرياث اللغة ال�سيا�سية امل�ألوفة‪،‬‬ ‫على �ضفاف الثورات‪ ،‬لكنها رغم ّمدعياتها الليربالية ّ‬ ‫كانت تكتظ ب�إن�شاءات ايديولوجية ت ّربر والءاتها‪ ،‬وت�سبغ على حركتها �شرعية احل�ضور‪.‬‬ ‫فلو اختربنا فو�ضى الوالءات‪ ،‬لظهر و�سط امليادين اجتاهان يتقاطعان حول �شعارات التغيري‪ ،‬لكنهما‬ ‫يتعاك�سان يف الأهداف و امل�آالت‪ .‬ففيما يتمث ُّل الإتجّ ا ُه الأول‪ ،‬ال�سياق النيوليربايل للتغيري‪ ،‬ينربي‬ ‫الإجتا ُه الثاين �إىل الأخذ بال�سياق الثوري الكال�سيكي متوخياً حتقيق �شعائر و�شعارات النه�ضة‬ ‫ال�شاملة للأمة‪ .‬و�أ ّنى كانت م�آالت كل من هذين الإجتاهني‪ ،‬ف�إن م�ساراً راح يعرب عن نف�سه‬ ‫بحيو ّيات �سيا�سية‪� ،‬أخذت حتفر جمراها نحو طور تاريخي جديد‪ .‬فعلى الرغم مما �إمتلأت به احلقبة‬ ‫احلا�ضرة من عمليات احتواء وا�سعة النطاق من طرف ما ي�سمى بـ «الثورة امل�ضادة»‪ ،‬فقد د ّلت‬ ‫احليويات ال�سيا�سية امل�ست�أنفة على �أ�صالة الإحتمال الثوري كم�ؤ�س�س للعملية النه�ضوية املن�شودة‪.‬‬ ‫�أحد �أبرز العناوين الكربى التي ارتفعت يف �سماء التحوالت‪ ،‬يتمثّل بعودة �س�ؤال النه�ضة‪ ،‬ال‬ ‫بو�صفه �س�ؤا ًال �إفرتا�ضياً طال الكالم عليه بني ال ُّنخب العربية‪ ،‬و�إمنا كق�ضية لها حظوظها يف �أر�ض‬ ‫الواقع ‪ .‬مل تكن هذه «العودة» ب�إطاللتها اجلديدة جم ّرد �إ�ستعادة لأفكار و�آمال �سبق تداولها‪...‬‬ ‫و�إمنا كانت ترجمة لتحول يف الأحداث والأفكار واملفاهيم ال نظري له‪ .‬بالطبع‪ ،‬ال يتع ّلق الأمر هنا‪،‬‬ ‫بالكالم على «لعبة حظ تاريخية»‪ ،‬طاملا جرى ا�ستح�ضارها يف معر�ض الت�سا�ؤل عن العلل التي‬ ‫والتقدم‪ .‬حتى لقد غلب الظن‬ ‫حالت دون قدرة النخب العربية على الإم�ساك مبفاتيح الإ�ستقالل ُّ‬ ‫لدى جمع من املفكرين العرب املعا�صرين‪ ،‬ليجدوا �ضا ّلتهم مبا اعتربوه عيباً تكوينياً �أ�صاب العقل‬ ‫العربي وال �سبيل له من �شفاء‪ .‬لكن واقع احلال‪� ،‬سريفع من�سوب التفا�ؤل برجوع الكالم على‬ ‫مقولة النه�ضة‪ ،‬ولو من قبيل «الظن املعاك�س»‪ .‬وعليه �سنكون م�سوقني �إىل التعامل مع هذه املقولة‬ ‫م�سددة هذه املرة بالإرادة‪ ،‬وم�ؤيدة بجرعة وافية من العقالنية‪.‬‬ ‫مبا هي م�ؤ�شر �إىل «رجعة ميمونة»‪ّ ،‬‬ ‫ترتجح بني امل�ستحيل والإمكان‪� ،‬إ ّال �أنه‬ ‫ومع �أن تفا�ؤ ًال كهذا مل ينفك عن كونه حالة جنينية ّ‬ ‫يدل على حيازتها جاذبية ا�ستثنائية‪ ،‬يف عامل بلغت �أزماته ال�سيا�سية واملجتمعية والأخالقية‬ ‫م�ستويات غري م�سبوقة‪ .‬و�إذا كان من بديهيات الفل�سفة ال�سيا�سية‪ ،‬احلديث عن �إمكان ا�ستعادة‬ ‫ق�ضايا تاريخية كلية لل�شعوب العربية‪ ،‬مثل الهوية القومية‪ ،‬وال�سيادة‪ ،‬والوالء‪ ،‬والإنتماء للوطن‪،‬‬ ‫فالثابت �أن هذه الق�ضايا �ست�ؤلف على اجلملة‪ ،‬متك�آت ال�سريورة النه�ضوية امل�أمولة‪ ،‬و ذلك على‬ ‫نحو يجعل الكالم على عودة املثقف العربي املتح ّيز لق�ضاياه الكربى و ال�صغرى‪ ،‬كالماً مطابقاً‬ ‫للواقع بدرجة الإمتياز‪.‬‬ ‫‪ .2‬التحوالت و �أ�سئلة النه�ضة‪ :‬يف ح�ضورها‪ ،‬ويف غيبتها‬

‫�إذا كان من امل�س ّلمات املنطقية‪� ،‬أن من�ضي �إىل انتزاع وعود النه�ضة‪ ،‬من ف�ضاء الإحتماالت التي‬ ‫ابتعثتها «اجليولوجيا ال�سيا�سية العربية» املتقادمة‪ ،‬فال يعني ذلك �أن يندفع الآخذون بتلك‬ ‫‪97‬‬


‫امل�س ّلمات نحو التفا�ؤل املفرط‪ .‬فالكالم على �س�ؤال النه�ضة‪ ،‬لدى تناهيه �إىل ال�سمع يف احلقول‬ ‫القلقة‪ ،‬يحمل على الإ�ستغراب من �أكرث من وجه‪:‬‬ ‫�أو ًال‪ :‬لأنه ينطوي على ا�ستدارج لنقا�ش‪ ،‬نكاد ال جند ظهوراً له يف املطارح التي يفرت�ض �أن ت�شكل‬ ‫أ�شق الإبتالءات التي �سكنت التجربة‬ ‫جماالت لنمو الأفكار وتفاعلها‪ .‬ذلك عائد اىل واحدة من � ّ‬ ‫الفكرية العربي ‌ة لزمن مديد‪ ،‬وهي القطيعة بني الفكر والواقع‪ ..‬وا�ستطراداً حالة الإنف�صام بني‬ ‫التنظري الفكري واحلادث ال�سيا�سي‪ .‬حتى لك�أن �شيطان الوهم قد �إ�ستحكم ب�آلة التفكري‪ ،‬فدعاها‬ ‫ب�ضرب من «املياومة ال�سيا�سية»‪ ،‬لإعتقادها بال جدوى‪ ،‬والت�أ ّمل بحقائق الأحداث‬ ‫�إىل الإن�شغال ٍ‬ ‫وتد ّبرها‪ ،‬و�سط عامل جتتاحه العوا�صف ال�سيا�سية من كل جانب‪...‬‬ ‫ثانياً‪ :‬لأن �س�ؤال النه�ضة‪ ،‬و�إن كان يحظى باحلقّانية على امل�ستويني النظري والعملي‪ ،‬فقد بدا‬ ‫وك�أنه يولد خارج ال�سياق‪ .‬ومرجع الأمر �إما لكون الذين ي�شتغلون عادة بعامل الأفكار‪ ،‬تر ّفعوا عن‬ ‫احلادث الذي ت�ضج به امليادين‪ ،‬فالتب�س الأمر عليهم‪ ،‬ف�أرج�أوا ما كان ينبغي لهم �أن يقولوه اىل �أجل‬ ‫الحق‪ ..‬و�إما لأن �شريحة وا�سعة من هوالء قد �أخذتهم الده�شة باحلادث اليومي فا�ستغرقوا فيه‪.‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬لأن �س�ؤا ًال كهذا‪ ،‬ينتمي �إىل مرتبة من الفهم ال ينا ُلها �إ ّال الأقلون‪� .‬أولئك الذين �ألزموا‬ ‫�أنف�سهم ا�ستقراء احلادث ال�سيا�سي ليتب َّينوا �ضمريه امل�سترت‪ ،‬ثم ليدركوا منتهاه‪ ،‬فيبنون على ذلك‬ ‫املنتهى مقت�ضاه‪ .‬و الدليل‪� ،‬أ ّنا لو عدنا �إىل �أزمنة احلداثة وما بعدها‪ ،‬لكان لنا ما ال ح�صر له من‬ ‫الأمثلة التي ت�شري �إىل تلك املرتبة من الوعي التاريخي‪ .‬حيث كان من �ش�أن املنعطفات مهما بدت‬ ‫جزئية �أن تطلق عاملاً رحباً من املفاهيم والأفكار‪ .‬ويف هذا املقام من املفيد �أن من ّر على‌ثالثة مناذج‪،‬‬ ‫ي�ضيء كل منها على ما ي�سمى بـ«ديالكتيك التوا�صل» بني الفكرة واحلدث‪ ،‬بقدر ما يف�صح عن‬ ‫كيفية �إنتزاع املفاهيم الكربى من جزئيات احلادث ال�سيا�سي‪:‬‬ ‫ كان هيغل يرى �إىل انت�صار نابليون يف معركة �إيينا‪ ،‬ا�ستئنافاً تاريخياً حلداثة الغرب‪ ،‬وا�صفاً �إياه‬ ‫وهو ي�ستعر�ض جنوده يف احتفال الن�صر‪ ،‬بـ«التاريخ الذي يعتلي ح�صاناً»‪.‬‬ ‫يتحدث بفخ ٍر عن عمال كومونة باري�س‪ ،‬الذين ه ُّبوا القتحام ال�سماء ح�سب‬ ‫ و كان مارك�س ّ‬ ‫و�صفه‪ ،‬رغم �أنهم قاموا بانتفا�ضة يائ�سة لأنها جاءت يف غري وقتها‪ ،‬ومن قبل �أن تتوفر لها‬ ‫مقومات الن�صر احلا�سم‪.‬‬ ‫ �أما الفيل�سوف الفرن�سي مي�شيل فوكو‪ ،‬فقد و�صف الثورة الإ�سالمية يف �إيران ب�أنها �آخر ثورات‬ ‫ما بعد احلداثة‪ .‬وملَّا �سئل ‪ -‬ب�إ�ستهجان من �سائله‪ -‬عن �سبب زيارته �إىل طهران بعد �أ�سابيع قليلة‬ ‫من �سقوط ال�شاه‪� ،‬أجاب‪« :‬ال ُب ّد لنا من �أن نتواجد حيث تولد الأفكار» ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫ ‬

‫‪2‬‬

‫‪98‬‬

‫مغزى اال�شارة اىل مواقف هيغل ومارك�س وفوكو حيال �أحداث مف�صلية جرت يف حياتهم ‪ ,‬يعود �إىل الت�أكيد على �أ�صالة‬ ‫الواقع يف ا�ستيالد املفاهيم وعلى �أهمية احلادث ال�سيا�سي مهما كان جزئياً يف �إنتاج فل�سفة �سيا�سية ت�ؤ�س�س لتاريخ جديد‪.‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫ما كان للمرور على تلك النماذج الثالثة‪� ،‬إ ّال لبيان �أن يجعل من ٍ‬ ‫حدث ما �أو من جمموعة �أحداث‬ ‫منف�سحاً للت�أ ّمل ينطوي على قابلية توليد املعارف والنظريات واملفاهيم من رحم الأحداث نف�سها‪.‬‬ ‫كان الفيل�سوف الفرن�سي جيل دولوز‪ ،‬يرى �أنّ على املفكر نف�سه �أن يفكر كحدث «‪Les Antites‬‬ ‫‪.»des Evenement‬‬ ‫كذلك كان يفعل الرواقيون ملا � ّأ�س�سوا يف مقابل الأفالطونية‪ ،‬فيزياء معرف ّية تقوم على الأفعال‬ ‫والأحداث‪ ،‬ولي�س على املحموالت‪ .‬ويبدو �أن دولوز و�سواه كثريون من فال�سفة ما بعد احلداثة‪،‬‬ ‫وجدوا يف هذه املرجعية الدعامة النظرية الأوىل يف الت�أ�سي�س لفكرة احلدث‪.‬‬ ‫فاحلدث يو ّلد احلقائق بقدر ما ي�ستدعي �شك ًال جديداً من التفكري‪،‬ومن يقر�أ احلدث ُين�شئ عالقة‬ ‫مغايرة مع احلقيقة بقدر ما ميار�س وجوده بطريقة جديدة‪ .‬من هنا يتغيرّ مع كل حدث م�شهد العامل‪،‬‬ ‫بقدر ما يحدث انقطاع يف جمرى الأ�شياء‪� ،‬أو انعطاف يف م�سار الأفعال‪� ،‬أو حت ّول يف م�صائر الذوات‬ ‫والهويات‪ ،‬هو يف نف�سه تغري يف خارطة الأفكار واملفاهيم(‪ )...‬واحلال‪ ،‬فاحلدث يغري عالقة املرء‬ ‫بذاته وبغريه‪ ،‬بقدر ما ُي�سفر عن �أ�شكال جديدة للتوا�صل والتفاهم ‪.‬‬ ‫يف احلادث العربي املتمادي مل ي� ِأت من يغامر ب�أطروحة نه�ضوية‪� ،‬أو بفكرة �إحيائية تتعدى حدود‬ ‫الرواية ال�سيا�سية اليومية‪.‬‬ ‫ك�سل فكري يلف حتت �أجنحته �أكرث‬ ‫رابعاً‪ :‬من املفارقات الغريبة �أن ُيطرح �س�ؤال النه�ضة و�سط ٍ‬ ‫امل�شتغلني العرب بعامل الأفكار‪ .‬ولو َّ‬ ‫دل هذا على �شيء‪ ،‬فعلى حالتني‪ :‬الأوىل‪ ،‬على النظر �إىل‬ ‫ال�س�ؤال ك�أمر مي�ؤو�س منه‪ ،‬بعد م�سل�سل الإحباط الذي م ّر فيه منذ �سقوط اخلالفة العثمانية وبداية‬ ‫ع�صر الإمربياليات احلديثة‪ .‬والثانية‪ :‬هبوط م�شهود يف املرجعيات الأيديولوجية التقليدية (القومية‬ ‫والليربالية واملارك�سية)‪...‬‬ ‫و�إذ ن�شري �إىل م�س�ؤولية تلك املرجعيات يف �إعادة �إنتاج الك�سل امل�شار �إليه‪ ،‬فلأنها تو َّلت على‬ ‫�إمتداد قرن كامل تداول ال�س�ؤال النه�ضوي‪ ،‬ورفعه �إىل مرتبة املقد�س‪ ،‬من دون �أن ّ‬ ‫تتمكن من‬ ‫جعله �س�ؤا ًال متحقّقاً يف الواقع‪ .‬حتى �إذا ا�ستح َّلت العوملة النيوليربالية عر�ش العامل‪ ،‬مل يعد لذاك‬ ‫فرت�ض ملُه ِّمة‬ ‫ال�س�ؤال من حمل يف الإعراب‪� .‬أما الإ�سالم الإيديولوجي‪،‬الذي ّقدم نف�سه‬ ‫كحامل ُم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ينج على اجلملة من اللحظة ال�سيا�سية وفرو�ضها‪ .‬ففي اخلطبة االيديولوجية للإ�سالم‬ ‫النهو�ض‪ ،‬فلم ُ‬ ‫ال�سيا�سي مل يغادر �س�ؤال النه�ضة غواية التوظيف‪ ،‬بل �إنه مكث يف الدائرة ال�ضيقة لثقافة �سيا�سية‬ ‫تبدو يف الغالب �إ�ستهالكية‪ .‬وعلى �سبيل الإ�شارة‪ ،‬لقد �إنربت حركات �سيا�سية �إ�سالمية يف مواطن‬ ‫كثرية‪� ،‬إىل الأخذ بالفكرة الإحيائية لت�سوغ م�سعاها �إىل ال�سلطة‪� ،‬أو لتمنح نف�سها ما ي�ؤول �إىل‬ ‫‪3‬‬

‫ ‬

‫‪3‬‬

‫علي حرب‪ ،‬الفكر واحلدث‪ ،‬حوارات وحماور‪ ،‬دار الكنوز االدبية‪ ،‬بريوت ‪� ،1997‬ص‬

‫‪.9‬‬

‫‪99‬‬


‫االعرتاف بها كمك ّون من مك ّونات املجتمع ال�سيا�سي ‪ .‬من بع�ض اختبارات الإ�سالم ال�سيا�سي‪،‬‬ ‫�شق عليه الإمتحان‪� .‬إذ حاملا �أجنزت ما �سعت �إليه‪� ،‬أي بلوغ �سلطة القرار‬ ‫�سوف نالحظ �أن منها من َّ‬ ‫يف الدولة واملجتمع‪� ،‬أخذ قولها النه�ضوي يتح ّول �إىل تقنية لفظية مت�شظية داخل ثقافتها العامة‪.‬‬ ‫وعلى الإجمال‪ ،‬مل يرقَ �س�ؤال النه�ضة يف �إن�شاءات النخب العربية مبنوعاتها القومية‪ ،‬والعلمانية‪،‬‬ ‫م�سددة ب�إ�سرتاتيجية‬ ‫ف�ض ًال عن الإ�سالمية‪� ،‬إىل املقام الذي ي�صبح فيه عنواناً لفل�سفة �سيا�سية‪َّ ،‬‬ ‫�إحيائية تامة القوام‪...‬‬ ‫خام�ساً‪ :‬ثقافة الغرب يف العقل النخبوي للحداثويني العرب‪ ،‬ال تزال ت�ستعاد على الن�ش�أة التي‬ ‫ّقدمها �أ�صحابها الأ�صليون قبل �أكرث من �أربعة قرون‪ّ .‬ثم‪� ،‬إن العقل امل�شار �إليه‪ ،‬وعلى الرغم من‬ ‫املرياث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ احلداثة‪ ،‬بقي حري�صاً على التعلق مبحموالت احلداثة‬ ‫ُ‬ ‫ت�ستنقذ العامل من فو�ضاه‬ ‫الأوىل ومقالتها البكر‪� :‬أي بو�صفها �أطروحة « عن مدينة فا�ضلة» جاءت‬ ‫و جاهليته‪ .‬ذلك يعني �أن عق ًال ظل حبي�س ده�شته الأوىل بنه�ضة الغرب‪ ،‬ال ي�ستطع �أن ينظر �إىل‬ ‫احلداثة‪� ،‬إ ّال بو�صفها عاملاً متخي ًال يريد �إ�سقاطه على عامله اخلا�ص‪.‬‬ ‫يفعل ذلك املعا�صرون من املثقفني العرب كما فعل �أوائلهم من قبل‪� .‬أولئك الذين اجتمعوا على‬ ‫مقالة النه�ضة‪ ،‬حتى �سمي الزمن الذي عا�شوه با�سمها‪ .‬فكان ختام القرن التا�سع ع�شر وم�ستهل‬ ‫القرن الع�شرين‪ ،‬عامراً يف دنيا العاملني العربي والإ�سالمي بفردو�س ال�شعارات الكربى‪ :‬الدولة‬ ‫الأمة‪ ،‬والدميقراطية‪ ،‬واملجتمع املدين‪ ،‬والتحرر من الإ�ستعمار‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪ ،‬والتعددية‪،‬‬ ‫ونقد طبائع الإ�ستبداد‪� .‬أما احل�صاد فقد جاء خائباً على اجلملة‪ .‬كما لو عادت ال ُّنخب مجُ ّدداً‬ ‫لتعي�ش احل�سرة على الفردو�س املفقود‪ .‬رمبا يعود ال�سبب‪� ،‬إىل �أن �أكرث الذين حملوا �س�ؤال النه�ضة‬ ‫على ح�سن الظن و�سالمة النية‪ ،‬مل يفارقوا ده�شة الأنوار فوقعوا يف ال�شبهة‪ .‬بع�ضهم مل يدرك �إ ًال‬ ‫مت� ّأخراً �أن �أنوار الغرب مكثت يف الغرب‪ ،‬ومل يروا من ح�صادها �سوى �شراهة ال�سيطرة الكولونيالية‬ ‫وت�أبيد الت�أخر‌ورعاية الإ�ستبداد‪ .‬و �إىل ذلك فلقد �أَجروا �س�ؤال النه�ضة على ن�صاب ما حمله �إلينا‬ ‫الإ�ست�شراق‪ ،‬فقر�أوا التاريخ قراءة الغائب‪ ،‬حتى �صاروا ينظرون �إىل ح�ضور �إ�سالمهم يف تلك‬ ‫القراءة‪ ،‬كمثل ما نظرت �أوروبا العلمانية �إىل م�سيحيتها وهي تختزلها بـ «نزع اخلرافة عن العامل» ـ‬ ‫�أو بثنائية ف�صل الدولة عن الدين‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫ ‬

‫‪4‬‬

‫‪100‬‬

‫�سنعود بعد قليل �إىل جتربة الإ�سالم الأيديولوجي يف التح ّوالت العربية‪ ,‬ل ُنبينّ كيف ان�صاع ال�شارع ل�سطوة‬ ‫الأيديولوجيا‪.‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫املتحيز‬ ‫‪ .3‬ح�ضور االيديولوجي �أو عودة املثقّف‬ ‫ّ‬

‫يف زمن الثورات القلقة‪� ،‬سيظهر لنا كيف �أن ال�سواد الأعظم من املثقفني العرب راحوا يغ ّيبون‬ ‫ال�س�ؤال النه�ضوي‪ ،‬ويعاملونه كحا�صل ثقافة فات �أوانها‪ ..‬بل‪ ،‬و ي�ستغربونه كما لو كان فائ�ضاً عن‬ ‫احلاجة‪.‬‬ ‫التقدم على هذا النحو‪ .‬م�ؤداها على وجه الإجمال‪� ،‬أنها‬ ‫دواع �ش ّتى �أ ّدت �إىل التعامل مع مقولة ّ‬ ‫ٍ‬ ‫تطرح يف ف�ضاء ثورات يجتاحها القلق من كل جانب‪ ،‬و تغلب اليوميات ال�سيا�سية فيها على وعي‬ ‫النخب‪ ،‬حتى �إن ق�ضية ال�سلطة و العالقة معها �سلباً �أو �إيجاباً غدت هي الق�ضية املهيمنة‪ ،‬الأمر‬ ‫الذي انتهى �إىل �سيادة نزعة اختزالية �أف�ضت �إىل الإ�ستغراق يف ثنايا اللحظة‪ ،‬والإنحكام �إىل‬ ‫�صغائرها وتكتيكاتها‪ ،‬و تالياً �إىل ان�سدال ُح ُجب رماد ّية‪ ،‬ع ّوقت والدة وعي تاريخي ي�ؤ�س�س للزمن‬ ‫احل�ضاري اجلديد‪.‬‬ ‫�أ‪� -‬أيديولوجيون جدد‬ ‫مل يكن التح ّيز الذي ظهر على �صورة «الالمتنامي» يف بع�ض ال�ساحات العربية‪ ،‬مبن�أى من جاذبية‬ ‫االيديولوجيا‪ .‬فالأغطية الليربالية التي ا�ستظ َّلت بها منظمات املجتمع املدين‪ ،‬والتيارات الفكرية‬ ‫املوازية لها‪ ،‬مل ْتخ ِف رغبتها بالإ�صطفاف اجلماعي لتحقيق �أهدافها‪ .‬لعل يف اختبارات الإجتماع‬ ‫وتوحدت على هدف وغاية‪،‬‬ ‫همت اجلماعات ب�أمرها‪ّ ،‬‬ ‫ال�سيا�سي ما ي�ؤكد هذه احلقيقة‪� .‬إذ متى ّ‬ ‫ح ّلقت الأيديولوجيا يف �سمائها لتمنحها بالغة القول و ف�صل اخلطاب‪.‬‬ ‫من عظيم ما �أجنزته التحوالت العربية‪� ،‬أنها دفعت باجلميع �أفراداً و جماعات نحو دوائر الإ�ستقطاب‪.‬‬ ‫وبذلك مل يعد من �أحد يتحرك يف ال�شارع وهو �أعزل من وال ٍء ما‪ .‬و تبعاً لهذا‪ ،‬راح كثريون من‬ ‫مثقفي امليادين العربية ي�أتن�سون �إىل �صفة خلعوها على �أنف�سهم وهي انت�سابهم اىل قيم «ما بعد‬ ‫احلداثة»‪ .‬وما ذاك �إ ّال لأن هذا الإنت�ساب مينحهم الإح�سا�س بالتح ّرر من النمطية الأيديولوجية‬ ‫التي عاي�شوها ردحاً طوي ًال من �أعمارهم ‪.‬‬ ‫متعددة الأ�صول واملنابت‪ .‬فقد وجدوا‬ ‫غالب ه�ؤالء‪ :‬مثقفون انحدروا من �ساللة الي�سار العربي ّ‬ ‫يف خماطبات الليربالية اجلديدة و�أفعالها‪� ،‬سبي ًال للإنعتاق من قهرية « ال�سرديات الكربى» املتمثلة‬ ‫بالأيديولوجيات املارك�سية والقومية‪ ،‬و الإ�شرتاكية الدميقراطية على خمتلف �ألوانها التقليدية و‬ ‫امل�ستحدثة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫ ‬

‫‪5‬‬

‫ظهر امل�شهد التاريخي للفكر العربي املعا�صر م�ستعيداً مناخات ن�ش�أته الأوىل جلهة متثّل قيم التجربة الغربية‪.‬‬ ‫فمثلما وقع يف املا�ضي حتت �سحر احلداثة و�أنوارها ‪ ,‬وحتت وط�أة هزائمه االيديولوجية‪ ,‬ها هو اليوم يقع �أ�سري‬ ‫املباغتة الكربى ملوجات ما بعد احلداثة يف جمال ال�سيا�سة واحلرب ووح�شية االقت�صاد النيو‪-‬ليربايل‪.‬‬ ‫‪101‬‬


‫ما كاد مثقفو هذا ال�صنف‪ ،‬يقطعون م�سافة ي�سرية ملغادرة تلك ال�سرديات‪� ،‬أو الن�أي ب�أنف�سهم عن‬ ‫�أدبياتها‪ ،‬حتى وقعوا يف الأ�سر االيديولوجي ك ّرة ثانية‪ .‬فـ«حداثة املابعد» التي مل تعرف ت�أ�صي ًال‬ ‫حمدداً ووا�ضحاً ملفهومها النظري‪� ،‬ستجد هويتها الفعلية يف املجال ال�سيا�سي‪ ،‬وبالتايل �ست�شكل‬ ‫منطقة الإ�ستقطاب الأكرث حرارة بالن�سبة �إىل النخب امل�شار �إليها‪ .‬ذلك �سي�ؤكد �أن م�شكلة ما بعد‬ ‫احلداثة يف الفكر العربي امل�ستحدث‪ ،‬هي م�شكلة �سيا�سية ب�إمتياز‪ .‬فلو �شئت �أن تتبينّ �صفات‬ ‫ومزايا املثقف العربي «املابعد حداثي»‪ ،‬باملعنى الذي �شاع مع الزحف املد ّوي حلركة العوملة‪،‬‬ ‫لظهرت لك بجالء يف امليدان ال�سيا�سي‪.‬‬ ‫وملا كانت �إ�سرتاتيجيات ما بعد احلداثة قد انب�سطت يف ن�شاطها ال�سيا�سي على الهيمنة‪ ،‬و�إعادة‬ ‫ت�شكيل العامل تبعاً لغاياتها وم�صاحلها‪ ،‬ف�سنالحظ كيف حت ّولت مقولة الدميقراطية يف �أعمال‬ ‫«ما بعد احلداثة العربية»‪� ،‬إىل املثال الأكرث ح�ضوراً يف ف�ضاء ال�سيا�سة‪� .‬إذ عن طريقها �سين�ش�أ‬ ‫لدى النخب العربية النيوليربالية‪ ،‬قناعات هي �أقرب �إىل يقينيات «الالهوت الديني»‪ .‬حيث‬ ‫حت�صل ذلك‬ ‫يجري النظر �إىل الدميقراطية بو�صفها �شريعة �سيا�سية ينبغي الأخذ بنا�صيتها‪ ،‬ولو ّ‬ ‫من طريق الغزو اخلارجي �أو النزاعات الأهلية الداخلية‪ .‬وتلك «اليقينيات» مل تتوقف عند كونها‬ ‫جمرد انفعال و ّلدته «ديكتاتورية ال�سرديات الكربى» وخيباتها‪ ،‬بل هي �ستتحول مع كثافة الزمن‬ ‫ال�سيا�سي وت�سارعه‪� ،‬إىل منظومة �أيديولوجية م�سكونة بخا�ص ّيتني مرتابطتني‪:‬‬ ‫اخلا�صة الأوىل‪ ،‬احل�ضور يف امليدان واحل�صول على �شهادة الإعرتاف‪ ،‬والثانية‪ :‬ال�سعي‬ ‫قوام ّ‬ ‫املحموم‪ ،‬لبلوغ فردو�س ال�سلطة‪ .‬وملا كانت عوامل ما بعد احلداثة غري ثابتة‪ ،‬وحمكومة باحلراك‬ ‫الدائم‪ ،‬وقائمة على مبد�أ تفكيك القناعات‪ ،‬وزلزلة الإجماع الوطني‪ ...‬ف�سيجد من يعي�ش هذه‬ ‫حج َته يف ما �آلت �إليه �أحوال عامل نهاية القرن الع�شرين من ف�صام و�شتات وال يقني‪ .‬املهم‬ ‫العوامل‪َّ ،‬‬ ‫بالن�سبة �إىل ه�ؤالء‪�،‬أن عامل ما بعد احلداثة‪ ،‬و�إن كان يطوي ن�صاً �إمربيالياً ثقيل احلمل‪ ،‬ف�إنه بالأ�صل‬ ‫ومتعدد ي�سمح بتعاي�ش اال�ضداد‪ ،‬ولو حتت �سقوف‬ ‫وهذا هو املهم بالن�سبة �إليهم‪،-‬عامل مفتوح ّ‬‫دول و جمتمعات منزوعة ال�سيادة‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الإنحياز بو�صفه م�ستحي ً‬ ‫ال‬ ‫�أتينا قبل قليل على بع�ض مزايا و �صفات ما بعد احلداثة العربية‪ ،‬لنالحظ �أنها تعك�س رغبة‬ ‫حممومة �إىل التح ّيز ‪ .‬و �ستك�شف التحوالت العربية عن �سرعة الفتة يف ديناميات الإ�ستقطاب‪،‬‬ ‫مل يعد معها الكالم على احلياد �أمراً منطقياً‪ .‬فالتح ّيز �صار �سيد البيئات الثقافية والفكرية‪ ،‬على‬ ‫اختالف اجتهاداتها و�أهوائها وميولها؛ بل رمبا مل تعرف الإحتدامات املجتمعية العربية من قبل‪،‬‬ ‫مثل هذا النوع من التح ّيز الذي ُيرتجم ا�ستقطاباً �شديد التباين والإ�ضطراب‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫بقطع النظر عن املناحي والإتجّ اهات التي �سلكها م�سار «الإ�ستقطاب امل�ضطرِب»‪ ،‬فقد لوحظ �أن‬ ‫النخب العربية ب�ألوانها وميولها املتناق�ضة‪ ،‬قد غادرت‪ ،‬حالة الك�سل التي �ض ّللتها لفرتة طويلة‪ .‬و‬ ‫لقد ت�أكدت الأطروحة التي تقول �إن من املحال على املثقف �أن يكون حيادياً‪ ..‬بل �إنه حتى يف‬ ‫قراءته للظواهر و الأحداث‪ ،‬ولو من قبيل التو�صيف‪ ،‬مل تفارق معايريه وت�ص ّوراته اخلا�صة‪ .‬وعليه‪،‬‬ ‫فال تكاد ت�ستوي �أحكامه ور�ؤاه على ن�صاب منطقي حتى يكون له فيها وجهة نظر‪� ،‬أو ر�أي‪ ...‬ومع‬ ‫هذا �سينربي كثريون �إىل ر�ؤية الإ�ستقطابات احلا�صلة خارج �سياقها الطبيعي‪ ،‬والنظر �إليها على �أنها‬ ‫انعطاف تاريخي‪� ،‬إ ّال �أنه من ّزه هذه املرة عن الوالءات الأيديولوجية‪.‬‬ ‫ال�سجال الفكري‪ ،‬و ال�سيا�سي‪ ،‬و الإعالمي‪ ،‬كان ّثمة ما يعك�س هذه النظرة‪ .‬و�سنالحظ‬ ‫يف زحمة ّ‬ ‫قو ًال �شائعاً م�ؤاده‪� :‬إنها ثورة �شباب جاءتنا على حني بغتة‪ ..‬ثورة ال قبليات �أيديولوجية لها‪ ،‬وال‬ ‫زعامات و قيادات كمثل ما ن�ألفه يف الإنتفا�ضات والثورات ال�شعب ّية املن�صرمة‪...‬ولقد ظهر من‬ ‫تداعيات هذا القول‪ ،‬كما لو �أنّ احلادث العربي على �ضخامة مفاعيله‪،‬يجري على ن�صاب الق َ​َدر ّية‬ ‫وامل�صادفة‪.‬‬ ‫ولأن واقع الأمر لي�س كذلك‪ - ،‬كما تبينه «خارطة اال�ستقطاب امل�ضطرب» ‪ ،-‬فال نفع‪ -‬يف ما‬ ‫نت�ص ّور ‪ -‬من ا�ستئناف ّ‬ ‫هدى �أو بيان‪.‬‬ ‫الظنون ب�أن الطور العربي امل�ستحدث‪ ،‬يتح ّرك على غري ً‬ ‫فلقد انربى بع�ض ال ُن ّظار �إىل قول معاك�س‪ ،‬فالحظوا �أن امليادين العربية �أَ ْخبرَ َ ت عن «�أمر جلل»‪.‬‬ ‫و �أن لهذا الأمر اجللل منطقه الداخلي يف املقدمات واملقا�صد‪ ،‬و�أنه �شديد الرتكيب واملزاوجة‬ ‫والتداخل بني قواه وحمركاته‪ .‬ولأنه كذلك‪ ،‬ف�إن املفارقة التي مت ّيزه‪ ،‬هي احليوية الإيديولوجية‬ ‫ي�ضج‬ ‫الظاهرة من خالل مرموزات اخلارطة امل�شار �إليها‪ .‬و�إذن‪ ،‬فهي حيوية ملتب�سة ميتلئ بها �شارع ّ‬ ‫بر�ؤى واهواء وت�صورات‪ ،‬مع ما حتفل به من حوامل االرتياب وعدم اليقني‪.‬‬ ‫و�أ ّنى كان الو�ضع‪ ،‬ف�إن ح�صيلة «الإ�ستقطاب»‪ ،‬تف�ضي �إىل حت ّيزات �أكيدة‪ .‬وال ي�ستثنى من‬ ‫هذا احلكم من �أنكر على قيادة ال�شارع حت ّيزها‪ .‬ذاك �أن �إنكار خالء ال�ساحات من امل�سبقات‬ ‫بحد نف�سه �إنكار ذو طبيعة ايديولوجية‪ ،‬لأنه ينطوي على ع�صب خا�ص يرتجم‬ ‫الإيديولوجية‪ ،‬هو ّ‬ ‫�أهواء املنكرين وغاياتهم‪.‬‬ ‫يف�سر كل حدث‪ ،‬مهما كان ب�سيطاً �أو حمدوداً تبعاً ملعايريه الذاتية‪ ،‬ومبا‬ ‫فااليديولوجي «املتح ّيز» ّ‬ ‫يوافق مزاج وهوى �أتباعه ب�صرف النظر عن عقالنية هذا التف�سري �أو �صحته املنطقية‪ .‬وقد يكون‬ ‫التلفيق الإعالمي‪ ،‬وت�شكيل حر�س هائل من االكاذيب لتغذية هدف معينّ ‪ ،‬هو �أكرث ما مي ّيز ُ�ص َور‬ ‫التح ّيز االيديولوجي يف امليادين العربية‪ .‬يف هذا ال�صدد �سنقع على �أمر الفت‪ ،‬يتوقف على �إدراك‬ ‫معانيه‪ ،‬فهم �أحد �أبرز بواعث ال�صدع املجتمعي يف العامل العربي‪ .‬م�ؤ ّدى هذا الأمر‪� ،‬أن النمو‬ ‫االيديولوجي ي�أتي على قاعدة انفجار الهويات الفرعية‪ ،‬و على �سعي كل منها �إىل �إعادة تظهري‬ ‫‪103‬‬


‫«ب�صمتها» ال َعقَدية والثقافية الأ�صلية‪ .‬ولذا فما من هوية فرعية ت�ستنبتها حركة التحوالت‪� ،‬إ ّال ولها‬ ‫ما ينا�سبها من �إن�شاءات وعناوين و�أفكار و �شعارات ‪.‬‬ ‫تبدل العامل‪ ،‬لينعقد على ن�صاب العوملة قبل نحو عقدين من ال�سنوات‪ ،‬كان كل �شيء يجري‬ ‫ملّا َّ‬ ‫حتت ذريعة نهاية زمن الأيديولوجيا‪ .‬قيل يومها �إن الدنيا �صارت واحدة‪ ،‬وال حاجة ٍ‬ ‫بعدئذ �إىل‬ ‫�إبراز الهويات‪ ،‬و�صياغة العقائد ال�سيا�سية‪ .‬لكن بعد قليل من ال�سنوات‪� ،‬سيظهر لنا �أن «دراما»‬ ‫الإنهاء ‪ -‬التي �أخرجها اجلهاز الفكري لليربالية اجلديدة ب�إتقان‪� -‬سرعان ما ذوت حتت وط�أة‬ ‫الإن�شاء الإيديولوجي امل�ست�أنف‪ .‬يف ذلك الوقت‪ ،‬مل يق�صد الذين تو َّلوا تظهري فل�سفة النهايات‪،‬‬ ‫�سوى تعميق ال�صدع الذي ّ‬ ‫حل ك�إع�صار على الهويات‪ ،‬والوالءات‪ ،‬واملذاهب ال�سيا�سية‪ .‬يومها‬ ‫�أي�ضاً دعا بع�ض الذين �أُخذوا ب�أوهام النهايات من مثقّفي العاملني العربي والإ�سالمي‪� ،‬إىل قطع‬ ‫وح ّجتهم‪� ،‬أن الو�صل بينهما �سيف�ضي �إىل ا�ستئناف اال�ستبداد ب�ألوانه‬ ‫ال�صلة بني الثقافة وال�سيا�سة‪ُ .‬‬ ‫ّ‬ ‫جمدداً �إىل معاقل‬ ‫املختلفة‪.‬ولقد فعلوا ذلك‪ ،‬ظناً منهم �أن التح ّيز يف املجال ال�سيا�سي �سي�أخذهم ّ‬ ‫الأيديولوجيا‪ .‬و من ه�ؤالء من حت ّولت الأوهام لديهم �إىل قناعات �آلت يف كثري من الأحيان‪� ،‬إىل‬ ‫ت�أليف حركات �سيا�سية ليربالية راحت تنمو على ال�ضفة املعاك�سة‪ ،‬ملا �سبق �أن كانوا عليه من‬ ‫ثوابت وم�س ّلمات تنتمي على اجلملة �إىل عامل الي�سار ب�صنوفه الفكرية املختلفة‪.‬‬ ‫الذي يحدث اليوم �سي�أتينا مبعايري نظر جديدة‪ .‬فحاملا حتركت �صفائح «اجليولوجيا ال�سيا�سية‬ ‫�ضيات وان�ساقٌ �شتى‪ .‬ومن املنطقي‬ ‫العربية»‪� ،‬سيو ّلد زمن �آخر‪� ،‬أخذت تنكفئ معه �أوها ٌم و َف َر ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫حالئذ‪� ،‬أن نطالع لغة مل نكن ن�ألفها منذ ال�صعود املد ّوي للفكر النيوليربايل يف ختام القرن‬ ‫الع�شرين‪ .‬مز ّي ُة هذه اللغة‪� ،‬أنها بقدر ما تغتذي من طبائع الأيديولوجيات التقليدية‪ ،‬بقدر ما ُتظه ُر‬ ‫قو ًال �سيا�سياً وثقافياً جديداً‪ ...‬قو ًال يبدو يف ظاهره عابراً للأطر الأيديولوجية‪� ،‬إ ّال �أنه يف الواقع لي�س‬ ‫كذلك‪ ،‬لأنه �صادر من بيئات تعيد �إنتاج خطبتها الأيديولوجية ب�أ�ساليب مغايرة للتقليد‪.‬‬ ‫وهكذا فال يكاد النا�شطون اجلدد ‪-‬حني ينف�صلون عن اخلطبة التقليدية التي اعتادت عليها‬ ‫التيارات القومية واملارك�سية والدينية زمناً طوي ًال‪ ،-‬حتى يرجعوا �إىل طراز جديد من التح ّيز ولو‬ ‫برداء ليربايل هذه املرة‪ .‬وعلى نح ٍو كهذا‪ ،‬مل تكن �صورة ال�شارع العربي وهو يف�صح عن نف�سه‬ ‫بالإحتجاج ال�سلمي حيناً‪ ،‬والعنيف حيناً �آخر‪� ،‬سوى ترجمة لطور م�ست�أنف من �أطوار احلكاية‬ ‫الإيديولوجية‪ .‬ولكي ال تلتب�س ترجمة ال�صورة‪ ،‬على من �أَلِف الأمناط امل�شهورة لظهورات الفكر‬ ‫الأيديولوجي يف القرن الع�شرين‪ ،‬ن�شري �إىل �أن من �سمات الطور امل�ست�أنف لهذه احلكاية‪ ،‬هو �أنه‬ ‫‪6‬‬

‫ ‬

‫‪6‬‬

‫‪104‬‬

‫�أفلحت فل�سفة الفو�ضى خالل متريناتها االخرية داخل اجلغرافيات العربية واال�سالمية يف تفجري ع�صبيات‬ ‫كامنة (طائفية ومذهبية وقبلية وع�شائرية وعرقية) وقامت برعايتها والعناية بها ف�ض ًال عن ت�سويق ون�شر ثقافاتها‪,‬‬ ‫�إىل احلد الذي باتت معه ثقافة هذه الع�صبيات ف�ص ًال ا�ضافياً �صارخاً يف الرياء االيديولوجي الذي متار�سه نخب‬ ‫ما بعد احلداثة العربية‪.‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫طور عابر للأيديولوجيا كما ذكرنا‪ ،‬لكنه م ّت�صل بها وعائد �إليها يف الآن عينه‪ .‬ففي مقام التجربة‬ ‫العربية الراهنة‪� ،‬سيظهر لنا ح�ضو ٌر ّ‬ ‫توحده ع�صبية معاداة‬ ‫مرك ٌب يعرب عن نف�سه بخطاب م�شرتك‪ّ ،‬‬ ‫الإ�ستبداد وتف ّرقه الر�ؤى والت�صورات املتعلقة بهوية النظام الذي تتط ّلع �إليه ثورة ال�شارع‪ .‬هذا‬ ‫احل�ضور يظهر بو�ضوح على �ضفتي اال�ستقطاب‪� .‬أحزاب وجماعات قومية وي�سارية ودينية تقليدية‪،‬‬ ‫من ناحية‪ ..‬و�أفراد و م�ؤ�س�سات �أهلية وليربالية من ناحية ثانية‪ .‬وهذا ما متثّل بـ«الإندفاع اجلماهريي‬ ‫املُ�ستهدِ ف» الذي يجد تف�سريه يف ما تظهره �سايكولوجية «�إ�شغال املكان من جانب اجلمهور»‪..،‬‬ ‫طلباً حل ّيز مكاين ينالون فيه �شرف احل�ضور و�شرع ّية الإحتجاج‪ ،‬و ي�ضفون عليه �ألواناً خمتلفة من‬ ‫الروحانية ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫مع هذا الإ�شغال‪� ،‬سرنى كيف غدت امليادين وال�ساحات‪� ،‬أقرب �إىل مرموزات �أيديولوجية تعك�س‬ ‫طموحات و�آمال و�أفكار �شاغليها‪ ،‬على �إختالف �إتجّ اهاتهم‪ ،‬ور�ؤاهم‪ ،‬ومقا�صدهم‪ .‬ثم جاءت ال�صورة‬ ‫امل�ستهدف‬ ‫ل ُتف�صح عن منظومة كاملة من امل�شاعر وال ّتط ّلعات‪ ،‬غايتها �إبطال البناء الإيديولوجي‬ ‫َ‬ ‫(بفتح الدال)‪� .‬أي احلكم ببطالن بنية النظام ال�سيا�سي والثقافة التي تربر �إ�ستمراره‪ ،‬متهيدا»‬ ‫لإقامة احلد عليه‪.‬‬ ‫ولو نحن انتقلنا من جمال تو�صيف ال�صورة‪ ،‬اىل الوقوف على مغزاها‪ ،‬ل َبدا لنا من �سايكولوجية‬ ‫احل�شود ما ُيف�صح عن «بهجة التح ّيز»‪ .‬ثم لوجدنا منظومة من الرموز والكلمات ال يدرك �س ُّرها‬ ‫�إ ّال من �إ ّتخذ لنف�سه �سبي ًال �إىل «جنة املواجهة»‪ .‬و نق�صد بهم �أولئك الذين منا وعيهم يف خمترب‬ ‫حمتج يعي و ُيدرك �ضرورة التغيري وحتم ّيته‪.‬‬ ‫الإحتدام‪ ،‬حتى بلغوا الدرجة التي جعلت كل ٍ‬ ‫تتوحد فيها الإرادة بالوعي‪� ،‬سوف تتوفر ل�شاغلي امليدان �شروط‬ ‫يف رحاب تلك املنظومة التي ّ‬ ‫القدرة على �صناعة احلقائق اجلديدة‪ .‬فالبينّ من حركة ال�شارع‪� ،‬أنّ كل فاعل فيها �صار ي�شعر‬ ‫بنعمة احل�ضور‪ ،‬و�أنه يغادر خوفه و�صمته ٍ‬ ‫ب�شغف النظري له‪ .‬وب�أنه ينتقل من الهام�ش �إىل املنت‬ ‫لي�صري يف قلب احلدث‪ .‬وعند هذه النقطة ال تعود احلرية بالن�سبة �إليه جم ّرد قيمة �إفرتا�ضية‪ ،‬بل‬ ‫هي �أم�ست ح�ضوراً ف ّعا ًال داخل احل ّيز الذي تخيرّ ه لها عن �سابق ت�صور و ت�صميم‪ .‬فاحلرية التي‬ ‫حتقّقت بانخراط كل فرد داخل احل�شود‪ ،‬هي احلا�ضر الأبرز يف منطقة التح ّيز‪� .‬إذ �سيجد كل‬ ‫متح ّيز‪ ،‬وك�أنه �شريك يف ق�ض ّية عادلة ت�ست�أهل منه �أعلى درجات الت�ضحية‪ .‬بل �إن �شعوره باحل�ضور‬ ‫�سيتحول �إىل فكرة عملية ذات جاذبية فريدة‪ .‬بها ت ّتحد التجربة باملعرفة‪ ،‬وفيها ي�صبح املجرب عارفاً‬ ‫بحقيقة املخاطرة التي اندفع �إليها‪ .‬ومعها يزول منه خوفه‪ ،‬وينفك من عقدته املزمنة‪ ،‬وي�صري �شريكاً‬ ‫يف احلدث لي�سهم مع ال�شركاء الآخرين يف ال ّتغيري ال�شامل‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫بني التح ّيز والعنف‬ ‫�إذا كان التح ّيز يجري على هذا النحو وفق الو�ضع الطبيعي‪ ،‬ف�إن ا ّتخاذه ُ�س ُب ًال عنيفة كما هو حال‬ ‫بع�ض امليادين العربية‪ ،‬جعله حت ّيزاً مق ّيداً بفو�ضى الدم‪ ،‬ومفتوحاً على الفتنة الأهلية امل�س ّلحة‪ .‬فعلى‬ ‫الرغم مما ينطوي عليه التح ّيز من ممار�سة احلرية‪ ،‬ف�إنه يفتقد يف املقابل �إىل �أع ّز غاياته‪ ،‬وهي الإنتقال‬ ‫بوا�سطته �إىل زمن جديد من الأمان الفردي والإ�ستقرار املجتمعي‪.‬‬ ‫يف الو�ضعية العربية �سوف نالحظ كيف �إمتزجت الثورات باحلروب‪� ،‬إمتزاجاً بدا معه التح ّيز‪،‬‬ ‫وك�أنه ميتنع عن �أن يكون نظرياً للحرية‪ .‬بل لقد بات العنف ُّ‬ ‫ثقيل فوق جغرافيا‬ ‫احلال‬ ‫كحمل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الثورات‪ ،‬هو احلاكم على كل حت ّيز داخلي‪ ،‬مهما َم َل َك املتح ّيزون من فهم لغاياتهم‪ ،‬ومن قدرة على‬ ‫توجيه �أهدافهم يف االتجّ اه ال�صحيح‪.‬‬ ‫لقد �أ ّدى امتزاج عقل الفتنة بعقل الثورة‪ ،‬وب�سبب من التقائهما على �أر�ض واحدة‪� ..‬إىل �إفقاد‬ ‫الثورات �أحد �أهم �أ�سباب انت�صارها وهي اال�ستقالل‪ .‬ونعني باال�ستقالل هنا‪ ،‬حترر قوى التغيري‬ ‫الوطني الدميقراطي من م�ؤثرات العاملني الإقليمي والدويل‪� .‬إن ما تعي�شه الثورات العربية من‬ ‫هذه الناحية‪ ،‬على الرغم من خ�صو�صيته‪ ،‬هو �إ�ستثناء يثبت القاعدة‪ ،‬ال�سيما لناحية التقاء عنف‬ ‫اخلارج وثورات الداخل �ضمن ح ّيز مكاين وزماين م�شرتك‪.‬‬ ‫لقد كانت م�ساحة الده�شة التي رافقت بدايات كل ثورة من ثورات العامل العربي‪ ،‬قوية �إىل‬ ‫الدرجة التي غاب معها الإح�سا�س بخطر العنف واحلروب الأهلية الداخلية على ظهور زمن‬ ‫احلريات و العدالة الإجتماعية‪.‬‬ ‫على امل�ستوى النظري ميكن القول‪� ،‬أنه بالرغم من احلاجة املا�سة �إىل التمييز بني احلرب والثورة مع‬ ‫وجود الرتابط الوثيق بينهما‪ ،‬ف�إن علينا ‪ -‬كما تقول حنة �أرندت ‪� -‬أن نالحظ حقيقة واقعية وهي‬ ‫�أن الثورات واحلروب‪ ،‬ال ميكن �أن تقع خارج نطاق العنف‪ ،‬و�أن هذه احلقيقة كافية لأن جتعلهما‬ ‫يف معزل عن الظواهر ال�سيا�سية الأخرى‪ .‬وقد يكون من الع�سري علينا �أن ننكر �أن من الأ�سباب‬ ‫التي �أدت �إىل هذه ال�سهولة يف حتول احلروب �إىل ثورات‪ ،‬و�إىل �أن ُتظهر الثورات هذا امليل امل�ش�ؤوم‬ ‫�إىل �إطالق احلروب من عقالها‪ ،‬هو �أن العنف نف�سه م�ؤ�شر م�شرتك لهما معاً ‪ .‬و مثلما �شكل‬ ‫العنف الذي �أطلقته احلرب العاملية الأوىل عام ًال كافياً لتوليد الثورات‪ ،‬حتى ولو مل يكن ثمة‬ ‫تقاليد ثورية‪ ،‬فقد ّ‬ ‫�شكل العنف الذي �أطلقته العوملة‪ ،‬دلي ًال على عمق الترّ ابط بني حراك الداخل‬ ‫و�إ�ستباحة ال�سيادات الوطنية من اخلارج‪.‬‬ ‫الت�صدي لهما يف املخترب‬ ‫هنا بال�ضبط‪َ ،‬و َج َب التمييز بني م�شكلتي التحرر واحلرية‪ ،‬ال ّلتني ينبغي ّ‬ ‫العربي‪ .‬هاتان امل�شكلتان تندرجان يف مقدم امل�شكالت التي يتوقف على �إدراكها فهم التحوالت‪،‬‬ ‫‪7‬‬

‫ ‬

‫‪7‬‬

‫‪106‬‬

‫حماد‪ ،‬دار الكتب والوثائق القومية‪ ،‬القاهرة‪� 2011 ،‬ص ‪.20‬‬ ‫حنة ارندت ‪ ،‬ر�أي يف الثورات‪ ،‬ترجمة خريي ّ‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫والتع ّرف على القوى الفاعلة فيها‪ ،‬و املحركة لإجتاهاتها‪ .‬وهذا ما يحيلنا مرة �أخرى �إىل �أ�صل‬ ‫الق�ضية التي م ّر ذكرها يف م�ستهل بحثنا‪ ،‬وهي �ضرورة البحث عن �إ�سرتاتيجية معرفية ُتوازِن بني‬ ‫ال�سيادة الوطنية‪ ،‬والتغيري الداخلي مبعزل من العنف‪ .‬واملعني بالعنف هنا‪ ،‬لي�س ذاك الذي تلج�أ‬ ‫�إليه ال�سلطة احلاكمة �ضد معار�ضيها عندما تو�شك على ال�سقوط‪�،‬أو ذاك ال�صنف من العنف‬ ‫الذي متار�سه املعار�ضة �ضد احلكم‪ ...‬و�إمنا ذاك العنف املتد ِّفق من اخلارج‪ ،‬والذي غالباً ما يح�صل‬ ‫بوا�سطة حتالف دويل لتبديل وجهة النظام وموقعيته اجليو‪�-‬سرتاتيجية‪ .‬ولنا من الأمثلة القريبة ما‬ ‫يكفي حني ن�ستذكر الإحتالل الأطل�سي لدول مثل يوغو�سالفيا و�أفغان�ستان والعراق وليبيا‪.‬‬ ‫ومن هنا تربز الأهمية الق�صوى لفهم م�شكلة ثورات ما بعد العوملة‪ ،‬وخ�صو�صاً لناحية عدم توافق‬ ‫فكرة احلرية مع فكرة التحرر من امل�ؤثر اخلارجي‪ .‬وهي امل�شكلة التي ينبغي ح�سمها على النحو‬ ‫الذي ال يكون فيها اخلارج عام ًال حا�سماً يف ر�سم الهند�سة الداخلية للحياة ال�سيا�سية الوطنية‬ ‫اجلديدة‪...‬‬ ‫لذا ف�إن من الأوليات امل�سلم بها �أن يكون التحرر من امل�ؤثرين الإقليمي والدويل‪ ،‬هو الإ�شرتاط‬ ‫الرئي�سي لوجود احلرية يف املجتمع ال�سيا�سي وداخل الدائرة الوطنية‪ ،‬و�إن كان ال يقود �إليها ب�صورة‬ ‫�آلية رتيبة‪.‬‬ ‫‪� .4‬إنت�صار االيديولوجيا على ال�شارع‬

‫هل ا�ستطاعت الثورات العربية �إ�ستناداً �إىل النتائج الأولية التي �آلت �إليها �أن تنجو من العنف‪،‬‬ ‫وت� ّؤ�س�س لنموذج ثوري يحقق التوازن بني �ضف َت ْي ال�سيادة والدميقراطية‪ ..‬وبالتايل بني حلم ال�شارع‬ ‫و�إغواءات الو�صول �إىل احلكم؟‬ ‫لو �أن من ا�ستنتاج جدير باملالحظة يف �ساحات الإحتدام العربي‪ ،‬ف�سيكون يف الكيفية التي‬ ‫ا�ستطاع فيها االيديولوجيون �إحتواء ال�شارع‪ ،‬وحتويل فعالياته �إىل طريق �سريع لو�صولهم �إىل ال�سلطة‪.‬‬ ‫د ّلت التجربة امل�صرية‪ ،‬وال �سيما بعد و�صول الأخوان امل�سلمني �إىل رئا�سة الدولة‪ ،‬على �أ�صالة‬ ‫االيديولوجيا ومكانتها يف الواقع ال�سيا�سي‪ .‬ما يعني يف احل�صيلة املنطقية‪� ،‬أن ميدان التحرير‬ ‫كان �أ�شبه بجواز مرور فعلي ّ‬ ‫مكنهم ‪ -‬مبا ميتلكونه من مرياث فكري وتنظيمي ذي جذور تاريخية‬ ‫�ضاربة‪� -‬أن يعربوا من خالله �إىل فردو�س احلكم‪.‬‬ ‫لي�س من العقالنية يف �شيء‪� ،‬أن ُتعزى هذه احل�صيلة ‪-‬كما يزعم حمللون‪� -‬إىل حماولة التفاف‬ ‫«�أخوانية» ناجحة على «ثورة �شبابية �ساذجة»‪ .‬امل�س�ألة �أبعد من هذا‪ ،‬فهي ال ُتختزل مبجرد القول‪،‬‬ ‫�إنها عملية ت�سلل حمكمة الإتقان نفّذها الأخوان وح�صدوا نبات ما زرعه �سواهم‪ .‬ذلك �أن واقع‬ ‫احلال لي�س على هذا النحو من التب�سيط‪ .‬كل ما قيل عن �شارع مليوين حتركه تقنيات‪ ،‬الإنرتنت‪،‬‬ ‫‪107‬‬


‫لها ما َل َها من وزن يف حتويل احلدث اجلماهريي �إىل «خطب جلل»‪ ،‬ال يتوقف عند هذا احلد‪.‬‬ ‫فالذي يحرك احل�شود وي�ضبط م�شاعرها‪ ،‬هو ذاك الذي يقدر على �أن ي�صنع لها الكلمات واملواقف‬ ‫وير�سم لغ�ضبها العارم خطوط النهاية‪ .‬وهذا هو ال�شيء الذي ب ّينته النتائج على الإجمال‪ ...‬حيث‬ ‫وجدنا كيف ا�ستكان ال�شارع ل�ضراوة الفاعل الأيديولوجي‪ ،‬وكيف اطم�أن �إىل �سحر خطابه‪ .‬املثل‬ ‫التون�سي �أي�ضاً �سيفتح الطريق على حالة عيانية م�شابهة‪ ،‬كانت فاحت ُتها البطولة الرتاجيدية ملحمد‬ ‫بوعزيزي‪ .‬تلك احلالة التي مل تفت�أ حتى ن ّبهت العقل ال�سيا�سي حلركة النه�ضة‪� ،‬أن ال�ساعة �أذنت‬ ‫�سيقدر حلركة النه�ضة‪،‬‬ ‫له للقب�ض على نا�صية املجتمع و الدولة‪ .‬وكما �سيطر الأخوان يف م�صر‪ّ ،‬‬ ‫وهي �سليلة الف�ضاء الأيديولوجي نف�سه‪� ،‬أن حتقق ما كان بالن�سبة �إليها ولزعيمها را�شد الغنو�شي‬ ‫حلماً بعيد املنال‪.‬‬ ‫�سوف لن جند كثري م�شقة‪ ،‬لنتعرف �إىل املغزى الذي �آلت فيه حركة ال�شارع �إىل ح�صنها‬ ‫الأيديولوجي‪ .‬ذلك‪ ،‬على الرغم من �شجاعة «�شباب الثورة» الذين ك�سروا اخلوف ووا�صلوا‬ ‫الزحف برباعة نادرة‪.‬‬ ‫واحلث على ملء‬ ‫امل�سددة بتكنولوجيا التوا�صل‪ِّ ،‬‬ ‫لكن الق�ضية ال تتوقف عند حدود البطولة َّ‬ ‫ال�ساحات ب�أ�صداء احلناجر‪ .‬فلقد بدا كما لو �أن ال�شارع يجري وراء االيديولوجيا‪ ،‬ليملأ بوا�سطتها‬ ‫فراغاً مل يفلح مبلئه طليعيو امليادين الأوائل‪� .‬أولئك الذي د�أبوا على �إظهار �شغفهم بالتغيري من‬ ‫خالل عوامل افرتا�ضية مل تفت�أ حتى حت ّولت مع �سواهم �إىل حقائق دامغة‪ .‬ال�شيء ال ّالفت �أن‬ ‫الكل كان يعمل �ضمن �ساحة مفتوحة على االحتماالت‪ .‬فما من �أحد كان يت�صور م�شهد النهاية‬ ‫الذي �سوف تر�سو عليه حركة ال�شارع‪ ،‬ال �شباب الثورة‪ ،‬وال اجلهاز االيديولوجي لتيار الأخوان‪.‬‬ ‫لكن كل �شيء كان يجري جمرى العقل ال�صارم‪ ،‬على الرغم مما �أظهرته ال�صورة‪ ،‬وك�أنه انعكا�س‬ ‫النفعاالت اجلماهري وعواطفها‪.‬‬ ‫من هذا الوجه مل يكن املنخرط يف املواجهات‪� ،‬أ ّياً كانت هويته االجتماعية وال�سيا�سية‪ ،‬غاف ًال عن‬ ‫الأهداف التي حت ّيز لها‪ .‬فالذي �إختار امليدان م�سرحاً للعبة احلرية كان يعي ويدرك ما ي�صنع رغم‬ ‫خطورتها‪ .‬كان العقل حا�ضراً بقوة لديه‪ ،‬لكي يحقق الغاية التي من �أجلها خاطر باملنازلة‪ .‬فامل�س�ألة‬ ‫يف ح�ساباته ال تتعلق مبدى واقعية تلك الغاية �أو �إمكان حتقُّقها‪ ..‬املهم بالن�سبة �إىل املتح ّيز ‪� -‬سواء‬ ‫كان منتمياً �إىل حزب �أو جماعة‪� ،‬أو كان فرداً غري منتم لإطار تنظيمي �أو تيار ايديولوجي ‪� -‬أنه‬ ‫يقوم باختباراته وهو يف متام وعيه‪ .‬فال �ضري عنده �أن ي�ضفي املعقولية على ما ال يعترب معقو ًال يف‬ ‫ح�سابات اخل�سارة والربح‪ .‬فاملعقول عند «نزيل ال�شارع» هو ما يفكر فيه ويرنو �إليه بو�صف كونه‬ ‫�سبي ًال خلال�صه ال�سيا�سي‪ .‬وهذا ال�سلوك هو �سمة الزمة للممار�سة االيديولوجية التي من �أبرز‬ ‫مزاياها‪ ،‬اجلمع بني التعقُّل جلهة ح�سبان الأمور �صغريها وكبريها‪،‬و بني الرغبة اجلاحمة يف الو�صول‬ ‫�إىل الهدف‪ .‬ولذلك فهي مزيج بني الأمرين معاً‪ ،‬حتى لو جاءت الرغبة خمالفة منطقياً لأحكام‬ ‫العقل جلهة �إمكان تطبيقها‪ .‬فااليديولوجية قد ال ت�شعر مب�شكلة احلدود بينها وبني العقل‪ ،‬بقدر ما‬ ‫‪108‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫ي�شعر العقل بتلك امل�شكلة حني ي�ستقل بنف�سه‪ .‬ذلك لأنه لي�س من م�صلحة الأيديولوجيا �إزالة‬ ‫الإلتبا�س‪ ،‬الذي ي�سمح لها بهام�ش وا�سع من املناورة واملراوغة جتاه العقل ‪ .‬بل من م�صلحتها‬ ‫الإبقاء على �صورتها العقالنية‪ ،‬وتقدمي نف�سها كمنظومة من احلقائق الدافعة والفاعلة يف الوقت‬ ‫عينه‪.‬‬ ‫يف وقائع التحوالت‪ ،‬ما ي�ؤكد �أن ال�سيا�سة‪ ،‬هي مركز اجلاذبية لكل فاعل �أيديولوجي‪ .‬ذاك �أن‬ ‫مقا�صد االيديولوجيا كامنة بالأ�سا�س يف العناية املطلقة بال�ش�أن ال�سيا�سي الذي ال يعادله �ش�أن‬ ‫�آخر‪ .‬بل يجوز القول �إن تلك املقا�صد‪� ،‬شكلت الهند�سة املعرفية التي يتد ّرع بها كل نا�شط يف‬ ‫احلقل العام حتقيقاً لأغرا�ضه ال�سيا�سية‪ .‬و ّثمة من يرى‪� ،‬أن ما حتوز عليه الأجهزة االيديولوجية‬ ‫من قدرات يف احتواء اجلماهري وتوظيف انفعاالتها‪ ،‬متتد اىل النقطة التي ي�صبح فيها العقل‬ ‫عبداً ملقت�ضيات ال�سيا�سة‪� .‬أي للغاية الفعلية التي ي�سعى اليها املتح ّيز يف ن�ضاله ال�سيا�سي‬ ‫وهي‪ :‬احل�ضور الفعال يف خارطة التوازنات‪ ،‬و�صو ًال �إىل امل�شاركة يف ال�سلطة �أو ال�سيطرة عليها‪.‬‬ ‫ولأن االيديولوجيا ذات طبيعة عملية‪ ،‬ف�إن فكرها هو من �سليل هذه الطبيعة‪ ..‬مبا يعني �أن‬ ‫هذا الفكر ميثل يف مقام التطبيق‪ ،‬التجلي الفعلي للرباغماتية ال�سيا�سية‪ .‬وبهذا املعنى فهو‬ ‫«فكر ال يبحث �أولياً عن احلقيقة املجردة يف كمال ذاتها‪ ،‬و�إمنا عن الفكرة النافعة»‪ ،‬فقد تكون‬ ‫الفكرة النافعة حقيقة �أو ن�صف حقيقة‪� ،‬أو ظناً‪� ،‬أو ت�شويهاً‪� ،‬أو ت�شكيكاً‪� ،‬أو متويهاً‪� ،‬أو �ضال ًال‬ ‫من ال�ضالالت �أو وهماً من الأوهام‪ .‬ولكن النافع يف ال�سيا�سة هو يف الدرجة الأوىل ما ي�ساعد‬ ‫على الو�صول �إىل احلكم‪� ،‬أو على املحافظة عليه‪ .‬وكل تفكري ايديولوجي يف ال�سيا�سة هو تفكري‬ ‫انتفاعي‪ ،‬ولي�س ذلك �سوى نتيجة لطبيعة ال�سيا�سة نف�سها‪.‬‬ ‫ال ن�سوق هذه التغطية النظرية لطبائع االيديولوجيا وممار�ستها‪� ،‬إ ّال لنبينّ الكيفية التي �آل �إليها‬ ‫التح ّول الثوري يف عدد من البالد العربية‪ .‬فلقد ظهر يف التجربة‪ ،‬وامل�صرية منها على اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫املح�صنة بالفكر االيديولوجي على الإحاطة بال�شروط الداخلية للحراك‪ ،‬ومن ثم‬ ‫قدرة الفعاليات ّ‬ ‫�إحتوا�ؤه بالكامل على نحو متد ّرج‪.‬‬ ‫احلادث العربي الإجمايل ال يفارق �سقف هذا التنظري‪ .‬ف�إن خال�صته ت�شري �إىل قدرة اجلهاز‬ ‫االيديولوجي على التهام كل ما هو �أدنى حيلة منه‪ ،‬وال �سيما جلهة ق�صور من مل تكتمل عمارته‬ ‫االيديولوجية‪ ،‬عن تفجري الب�ؤر الكامنة يف الوجدان العام‪ .‬ونق�صد به�ؤالء‪ ،‬عموم البيئة الليربالية‬ ‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ 8‬نا�صيف ن�صار‪ ،‬الأيديولوجية على املحك‪ ،‬ف�صول جديدة يف حتليل االيديولوجيا ونقدها‪ ،‬دار الطليعة بريوت‬ ‫‪� 1994‬ص‪.39‬‬ ‫‪ 9‬با�سكال حلود‪ ،‬التفكري على ال�شفري‪ ،‬م�س�ألة الطائفية يف فكر نا�صيف ن�صار = ف�صل من كتاب «ا�سم علم»‬ ‫نا�صيف ن�صار‪ ،‬علم اال�ستقالل الفل�سفي‪ ،‬من�شورات اجلامعة االنطونية ‪� 2008‬ص ‪.166‬‬ ‫‪ 10‬نا�صيف ن�صار‪ ،‬الفل�سفة يف معركة االيديولوجيا‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت ‪� 1980‬ص ‪.257‬‬ ‫‪109‬‬


‫غري املنتمية‪ ،‬و التي وجدت �ضا ّلتها يف منظمات املجتمع املدين‪ ..‬مع الإ�شارة اىل �أن هذه البيئة‬ ‫ على �سعتها وتن ّوع �شاغليها ‪ -‬ت�ستعمل العناوين نف�سها التي ت�شكل �أر�ضية العمل الأ�سا�سية‬‫للجهاز املذكور‪ .‬مع ذلك ف�إن هذه البيئة مل تغادر االيديولوجيا باملطلق‪ ،‬وكان ذلك وا�ضحاً يف‬ ‫�شعاراتها ذات الوقع الرومان�سي الثوري‪،‬التي ملأت �صفحات املواقع االلكرتونية و مرايا الأثري‬ ‫ال ّالمتناهي‪ ...‬ولذا فما كان ينطبق على الأحزاب ذات ال�سرية االيديولوجية العريقة‪( ،‬قومية‬ ‫و�إ�شرتاكية و�إ�سالمية) ينطبق �أي�ضاً ومن �أوجه كثرية على «�شباب الثورة» وغريهم ممن ينتمون �إىل‬ ‫«جيل الفاي�سبوك» و «التويرت»‪ ،‬و�سائر تقنيات التوا�صل ال�سيا�سي و الإجتماعي‪ ..‬علماً �أن �أبناء‬ ‫هذا اجليل مل يظهر ما يدل على �إمتالكهم مالمح ايديولوجية وا�ضحة يف مبادراتهم الثورية‪.‬‬ ‫اجلدير مالحظته يف عامل ه�ؤالء‪� ،‬أنهم وهم مي ّيزون �أنف�سهم عن القوى ال�سيا�سية وااليديولوجية‬ ‫التقليدية بادروا اىل الإحتجاج‪ ،‬وملأوا ال�ساحات وامليادين‪ ،‬و�أفلحوا يف �إجتياز خرائط التحالفات‬ ‫والتوازنات التقليدية‪ ،‬حيث ف�شل الآخرون‪ .‬بل �إن جيل الفاي�سبوك �سي�سهم يف حتطيم ُج ُد ِر‬ ‫اخلوف‪ ،‬ومي ّهد ال�سبيل للكتلة االيديولوجية التقليدية (الأخوان امل�سلمون �أ�سا�ساً )‪�،‬أن تتو ّغل يف‬ ‫�أعماق ال�شارع الثوري ّ‬ ‫وتتحكم ب�إيقاعاته ووقائعه‪.‬‬ ‫يف ميدان التحرير على �سبيل املثال كان «املم ِّهدون» ينفذون اجلانب العملي من املهمة املفرت�ضة‬ ‫للجهاز االيديولوجي‪.‬و بهذه الطريقة كانوا ميار�سون �ضرباً من ايديولوجية خم�صو�صة‪ ،‬من �أهم‬ ‫خوا�صها �أولوية العمل على �سحر اخلطاب‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫لقد �أجنز �شباب الثورة يف ميدان التحرير ما كان ينبغي على اجلهاز االيديولوجي والتنظيمي‬ ‫للأخوان �أن ينجزه حتى يت�س ّنى له �إدارة االنتقال املعقد من ال�شارع امللتهب �إىل الق�صر الرئا�سي‪.‬‬ ‫و عند هذه النقطة من زحف االيديولوجيا املد ّوي �سوف ن�س ّلم ب�أن املهمة كانت تاريخية ومعقّدة‬ ‫و�شاقّة‪ ،‬ولكنها تتم ّتع بقدرات �إ�ضافية على املناورة‪ .‬ذاك �أن «حركة الأخوان» ملَّا ّ‬ ‫حطت الرحال يف‬ ‫وي�سدد �أفعالها‪،‬‬ ‫مقام الرئا�سة مل تغادر ال�شارع‪ ،‬ومل تقطع معه �صالت الو�صل‪ .‬فهو معها ي�ؤازرها ّ‬ ‫و�ستعود �إليه وقت ال�ضرورة عندما ت�ست�شعر خطراً على �سلطتها قد ي�أتيها من ال�شارع نف�سه‪.‬‬ ‫التحيز يف التح ّوالت العربية‬ ‫‪ .5‬منطق‬ ‫ّ‬

‫من يكتب على نف�سه التح ّيز‪ ،‬هو على يقني من �أنه �أخذ بال�صواب‪ .‬حتى �أولئك الذين مار�سوا لعبة‬ ‫العبور االيديولوجي من الي�سار الثوري �إىل اليمني املحافظ‪ ،‬ودخلوا يف �إطار ما ا�صطلحنا عليه بـ»مثقفي‬ ‫ما بعد احلداثة العربية»‪� ،‬صار من ّ‬ ‫املتعذر حماكاتهم تبعاً ل�شروط ومعايري ثقافتهم الفائتة‪ .‬امل�س�ألة تبدو‬ ‫ن�سبية بامتياز‪ ،‬ويف مترينات احلقل العربي املفتوح‪ ،‬ال تفت�أ هذه الن�سبية حتى تت�أكد على نح ٍو بينِّ ٍ ‪ .‬ومن‬ ‫هذا الوجه‪ ،‬رمبا علينا �أن ننطلق لإي�ضاح �أمرين متالزمني‪ ،‬يفرت�ضهما الكالم على التح ّيز ‪:‬‬ ‫‪110‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫الأول‪ :‬وجوب حتديد معنى التح ّيز ودالالته النظرية‪ ...‬والثاين ‪ :‬وجوب التمييز بني التح ّيز‬ ‫اخل ّالق والتح ّيز املذموم‪.‬‬ ‫�أ‪ -‬يف املعنى والداللة‬ ‫غالباً ما تفلح منطقة التح ّيز يف اجلمع بني املتباينات‪ ،‬ويف التقريب بني املتباعدات‪ ،‬ويف حتقيق الوئام‬ ‫والتفاعل ينب الوحدة والكرثة‪ .‬وهذا بالفعل‪ ،‬ما نرمي �إليه حني نتحدث عن املُمار�سة اخل ّالقة‬ ‫مت�سام بالأحداث‪� ،‬أو عن ٍ‬ ‫نبيل‬ ‫مبتعث ٍ‬ ‫للمثقّف املتح ّيز‪ .‬تلك املمار�سة التي ت�صدر منه عن ُّ‬ ‫تب�صر ٍ‬ ‫�أخذ به لتحقيق غاياته الكربى‪.‬‬ ‫فالتح ّيز باملعنى الذي نتناوله‪ ،‬هو من �صميم املعطى الإن�ساين ومرتبط ب�إن�سانية الإن�سان‪ ،‬فكل‬ ‫حددنا احل�ضارة ب�أنها‬ ‫ما هو �إن�ساين يحوي قدراً من التف ّرد والذاتية‪ ،‬ومن ّثم التح ّيز‪ .‬و�إذا ما ّ‬ ‫ج�سد‬ ‫كل ما�صنعته يد الإن�سان‪ ،‬ف�إنّ املثقف هو بال�ضرورة متح ّيز‪.‬بل �إن ما يوجد يف الطبيعة ُي ّ‬ ‫حت ُّيزا»‪�،‬إذ �إن الإن�سان هو الذي يجد ال�شيء الطبيعي حتى لو عرث عليه بال�صدفة‪ .‬وهذه لي�ست‬ ‫عملية ع�شوائية‪،‬و�إمنا هي نتيجة �إدراك �إن�ساين ف ّعال‪ ،‬وحينما يجد الإن�سان ال�شيء الطبيعي ف�إنه‬ ‫ي�سميه‪�،‬أي �أنه يدخله يف �شبكة �إدراكه‪ ،‬وينقله من عامل الطبيعة والأ�شياء �إىل عامل الإن�سان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫لكن من املفيد الإ�ضاءة و جمدداً على املفهوم‪ ،‬ونحن نتحدث عن التحيزات التي ع�صفت‬ ‫بالبيئات الثقافية العربية‪.‬‬ ‫�إذا كان التح ّيز من بديه ّيات التفاعل الإجتماعي‪ ،‬ومبا هو حا�صل التن ّوع والتعدد يف عامل الكرثة‬ ‫فهو بالن�سبة للإن�سان‪ ،‬فرداً �أو جماعة‪ ،‬نظري قانون اجلاذبية بالن�سبة اىل عامل الطبيعة‪ّ .‬‬ ‫فكل ما فيه‬ ‫حمكوم بهذا املبد�أ التكويني‪ ،‬وواجب عليه ا�ستطراداً‪ ،‬التك ُّيف مع قوانينه ومقت�ضياته‪.‬‬ ‫ذلك يعني �أنّ التح ّيز هو ح�ضور يف ال�س ّنة التاريخية‪ ،‬بينما ي�شري عدم التح ّيز ‪-‬وذاك حمال كما مر‬ ‫يظن فاعلها‬ ‫مهمة ّ‬ ‫معنا‪� -‬إىل مفارقة لهذا احل�ضور‪ ،‬بل هو يف �أف�ضل �أحواله‪ُ ،‬‬ ‫�ضرب من ال ّت ّنحي عن ّ‬ ‫�أنه يح�سن �صنعاً حني ُيعر�ض عن �ش�أنٍ ال يعنيه‪ .‬ومهما ا ّت�سعت �أر�ض احليلة لدى «ال ّالمتح َّيز»‪ ،‬من‬ ‫عائد �إىل حت ّي ٍز ما‪ .‬ابتغا ًء لغر�ض‬ ‫�أجل �أن يعلن �أمام امللأ حياده‪ ،‬فلن يقدر على ذلك‪ .‬ف�إنه ال منا�ص ٌ‬ ‫�أو م�صلحة �أو فتنة‪ .‬ففي احلقول ال�سيا�سية العربية املحتدمة ما ي�شيء بك ًّم هائل من القيم القائمة‬ ‫على املنفعة‪ .‬وهي حني تظهر يف ال�سلوك العام الفردي واجلماعي‪ ،‬ف�إمنا على �صورة رياء �سيا�سي‬ ‫منقطع النظري‪ .‬و هذه اخل�صي�صة املذمومة (الرياء)‪ ،‬غالباً ما تكون م�ستورة يف مقام اجلماعات‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪ 1 1‬عبد الوهاب امل�سريي‪ ,‬فقه التح ّيز‪� ,‬ضمن �أوراق ندوة‪�:‬إ�شكالية التح ّيز‪ ،‬ر�ؤية معرفية ودعوة للإجتهاد‪ ,‬حترير عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي‪ ,‬اجلزء الأول‪ ,‬املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي‪ ,‬فريجينيا‪ ,‬الواليات املتحدة الأمريكية‪,1997 ,‬‬ ‫�ص ‪.20 - 19‬‬ ‫‪111‬‬


‫بادية وجلية يف حياة الأفراد‪ .‬ولقد بينّ علماء الأخالق �أن «املُرائي» هو من ُيظهر اجلميل لكي‬ ‫اخلي فله �أو�صاف مغايرة‪ ،‬وهو‬ ‫يبلغ غايته‪ ،‬حتى لو جاءت ح�صيلة عمله غري �أخالقية‪� ..‬أما التح ّيز رَّ‬ ‫ما يرتجمه الوالء اىل ق�ضية تنت�سب اىل اخلري العام‪ ،‬حيث يعمل املتح ّيز‪ ،‬على العناية بها والكفاح‬ ‫من �أجلها‪ ،‬وال�شهادة عليها بالقول والعمل‪ .‬وهو �إذ يفعل ذلك ال يبتغي الثناء من �أحد على ما‬ ‫فعل‪ ،‬و�إمنا يكون عمله كله حتقيقاً للخري العام‪�،‬إنطالقاً من �صدق �إميانه بالق�ضية التي واالها وحت ّيز‬ ‫�إليها ب�صدق‪ .‬وبذلك ي�صح �أن نطلق على هذا النوع من الوالء بـ«التح ّيز اخل ّالق»‪� .‬إذ من مزايا‬ ‫تتوحد م�ساعيه مع غاياته �إىل املدى‬ ‫املتح ّيز داخل هذا املقام الأخذ با َخليرْ ّية �سبي ًال ومق�صداً‪ ،‬حيث ّ‬ ‫التب�صر ا ُخل ُلقي‪،‬‬ ‫الذي تكون فيه مقولة الإحياء احل�ضاري‪ ،‬يف حركته ون�شاطه‪ ،‬حممولة على ن�صاب ُّ‬ ‫ك�سياق �ضروري لبلوغ اخلامتة ال�سعيدة للتاريخ‪.‬‬ ‫ب‪ -‬يف التح ّيز اخل ّ‬ ‫الق والتح ّيز املذموم‬ ‫من الب ّينات العملية عما نحن ب�صدده �أن طائفة وا�سعة ن�سبياً من املثقفني العرب ومثقفني من بالد‬ ‫�إ�سالمية ذات �صلة باحلادث العربي‪ ،‬انربت �إىل اعتماد منهج ذرائعي ي�سوغ النقالباتها ال�سيا�سية‬ ‫و الفكرية‪ ،‬ويلبي حاجتها �إىل مظ ّلة �أيديولوجية متنحها القدرة على تغطية مواقفها‪.‬‬ ‫وال �ضري لدى هذه «الطائفة من املثقفني» لو َخ َلع خ�صومها عليها ما هو مرذول من ال�صفات‪:‬‬ ‫كاالرتداد على البديهيات‪� ،‬أو الإعرا�ض عن الوالء للق�ضايا الوطنية‪� ،‬أو قبول االحتالل الأجنبي‪.‬‬ ‫و هذه ال�صفات تكاد ت�شمل �سائر الأطياف ّ‬ ‫امل�شكلة لهذه الطائفة‪� .‬إذ غالباً ما ُيظهر ه�ؤالء قو ًال‬ ‫التدخل الأجنبي بذريعة م�ؤداها‪« :‬الإلتقاء املو�ضوعي مع الغرب على �أر�ض‬ ‫�سيا�سياً ي ّربرون فيه ّ‬ ‫م�شرتكة»‪ ،‬يف �سبيل �إ�سقاط النظام الإ�ستبدادي‪.‬‬ ‫و�إذ مي�ضي هذا «النوع الثقايف» �إىل ما يخالف البديهيات‪ ،‬ف�إنه ال يفت�أ حتى ي�ضطر اىل البحث يف‬ ‫قوامي�س الفكر ال�سيا�سي ليعرث على ما يوفّر له ظ ًال ايديولوجياً مينحه اليقني‪.‬‬ ‫يف �إختبارات التحول العربي �صار اجلميع �أمام املعادلة الآتية‪:‬‬ ‫�أنت متحيز‪ ،‬فهذا معناه �أنك حا�ض ٌر يف الزمان‪ .‬و�أنك قاب�ض على نا�صية �أمرك مهما انقلبت املوازين‬ ‫�أو اخت َّلت �شروط املواجهة‪ .‬ومتى كنت كذلك‪ ،‬ف�إنك لن تخ�سر من قناعاتك مقدار �أمنلة‪ .‬ف�أنت‬ ‫على والئك‪ ،‬ولن ميلك عد ُّوك ان يثنيك عنه‪ .‬وحتى لو غلبك هذا العدو �أو تف ُّوق عليك يف برهة‬ ‫من زمن‪ ،‬ف�إنك حممول مبا �أنت عليه من يقني‪ ،‬على قلب ال�صورة‪ .‬فل�سوف ت�سعى بوالئك هذا �إىل‬ ‫�أن متحو َغـ َلـ َبـته عليك بغلبتك عليه‪.‬‬

‫‪112‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫‪ .6‬تفا�ؤل بعد ي�أ�س‪� ...‬أو الدخول �إىل ج ّنة املواجهة‬

‫ال بد من العودة مرة �أخرى �إىل �أ�صل الإ�شكالية الأوىل‪ ،‬وهو ما ُن َلخِّ ُ�ص ُه بال�س�ؤال حول �إمكان �إجناز‬ ‫التحول الدميقراطي يف العامل العربي ‪ -‬الإ�سالمي‪ ،‬مبعزل عن اخل�صومة مع ال�سيطرة الإمربيالية‪ ،‬و‬ ‫بالأخ�ص خارج نطاق ال�صراع التاريخي مع الدولة اليهودية الإ�ستيطانية يف فل�سطني؟‬ ‫ت�أ�سي�ساً على ما م ّر‪� ،‬سوف ت�شكل الإجابة على ال�س�ؤال‪ ،‬بداية التفكري مبا ميكن �أن ن�سميه بـ«ال�صواب‬ ‫التاريخي»‪ .‬و�إذا كان ال منا�ص لكل مقولة من خارطة‪ ،‬فلي�س ملقولة الإحياء احل�ضاري يف املدى‬ ‫العربي �سوى �إجناز الإ�ستقالل املعريف‪ ،‬ك�شرط �ضروري و�أ�سا�سي لبلوغ «ال�صواب» املُ�شار �إليه‪.‬‬ ‫نقطة البداية يف رحلة اال�ستقالل املعريف‪ ،‬تكمن يف العثور على منطقة �إدراك ت�ستوي فيه �ضرورتان‬ ‫تاريخيتان على ن�صاب واحد‪� :‬أ‪�-‬ضرورة التغيري ال�سيا�سي الداخلي‪ ،‬و�ضرورة الوالء للهوية‬ ‫وال�سيادة الوطنية يف مواجهة الإحتالل والغزو و الهيمنة اخلارجية‪.‬‬ ‫�إجتماع هاتني ال�ضروريتني‪ ،‬يقابلهما منطق معاك�س م�ؤداه عدم �إجتماع نقي�ضني‪ ،‬وذلك بذريعة‬ ‫مبتدعة قوامها الف�صل بني الثورة الدميقراطية و ال�سيادة الوطنية‪.‬‬ ‫فالثورة ‪ -‬كما يروى يف الأدب ال�سيا�سي الكال�سيكي‪ -‬هي نتيجة �أفعالها‪ .‬فلو قام فعلها على‬ ‫ن�صاب التكامل بني مقولتي الدميقراطية والوطنية‪،‬لفارقت حريتها وا�ضطرابها‪ّ ،‬ثم النف�سحت �أمام‬ ‫التقدم احل�ضاري‪ .‬وعلى هذا املعنى ميكن لنا �أن ننظر �إىل حتوالت ال�شارع العربي‪.‬‬ ‫ابنائها وعود ّ‬ ‫ف�إذا كانت رحلة التحوالت قد بد�أت فع ًال‪� ،‬أقله يف اجلانب املتع ّلق منها ب�إ�سقاط �أنظمة وتفكيك‬ ‫�أحالف‪ ،‬و�إ�ستبدال مفاهيم‪ ،‬ف�إن ت�أ�صيل م�سارات الإحتدام على قاعدة التح ّرر من الهيمنة‬ ‫يعد بحق املدخل الواقعي لت ّتخذ الأطروحة‬ ‫اال�ستعمارية و التناق�ض التكويني مع دولة الإ�ستيطان‪ُّ ،‬‬ ‫النه�ضوية قوامها ال�س ّوي‪ .‬مبعنى �أن يجري �إدخا ُلها يف ما �سميناه بـ«ال�صواب التاريخي»‪ .‬ولعل من‬ ‫اجلائز �أن من�ضي �أبعد من ذلك‪ ،‬لرنى �إىل حقيقة �أ�سا�سية يتوقف على �إدراكها جدوى �أي م�شروع‬ ‫للإحياء احل�ضاري‪ ،‬عنينا بها التناق�ض اجلوهري بني وجود �إ�سرائيل ك�سليل لإمربيالية ما بعد‬ ‫احلداثة‪ ،‬و �أي م�سار نه�ضوي ل�شعوب املنطقة‪.‬‬ ‫�إن ما مينح امل�شروعية املعرفية لب�سط النقا�ش يف هذا املجال‪ ،‬هو �إ�ستحالة اجلمع بني الوجود‬ ‫الإ�سرائيلي يف املنطقة‪ ،‬وا�ستئناف امل�شروع احل�ضاري يف جمتمعاتنا‪ .‬ولنا يف امل�شهد الإجمايل‬ ‫حلركة التحول العربي ما يف�صح جمدداً عن هذه احلقيقة‪.‬‬ ‫التقدم والت� ُّأخر التي حتكم‬ ‫هناك‪ ،‬بالفعل‪�،‬أطروحتان ت�ؤلفان معا» وحدة قيا�س معرفية لفهم جدلية ّ‬ ‫الزمن املعا�صر لبالدنا‪ :‬حقيقة النه�ضة و وجود �إ�سرائيل كنقي�ضني ال يقبالن اللقاء وامل�صاحلة‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫�إذ مع �صعود حركة احلداثة يف الغرب من القرن ال�سابع ع�شر �إىل بداية القرن الع�شرين‪ ،‬ظهرت‬ ‫�أ�سئلة الإ�ستنها�ض يف بالدنا لت�شهد مع تلك احلركة‪ ،‬منواً موازياً‪ّ .‬ثمة من �أ�سئلة النخب العربية ما‬ ‫انعقد على �سرية احلداثة‪� ،‬سعياً �إىل الأخذ ب�أنوارها‪ ،‬ومتثُّل �أحوالها وحوادثها‪ ...‬ومنها ما انعقد على‬ ‫حذر وتر ُّي ٍب و�شك حيال طوفانها الإمربيايل‪.‬‬ ‫والأ�سئلة يف احلالني جرت على ن�ش�أة �سالبة‪ .‬ففي الأوىل كانت ان�سحاراً مبا جاء به الغرب �إلينا فيما‬ ‫نحن يف ظالمة اال�ستبداد‪ .‬ويف الثانية �ست�شهد ائتالفاً لقوى راحت تخترب بياناتها الإيديولوجية‬ ‫و�شعاراتها الثورية يف حقل املواجهة لواقع حداثوي امربيايل �أخذ يتمدد لتوطني قِيمِ ِه بقوة احلديد‬ ‫والنار‪.‬‬ ‫احلالتان �ست�ؤ�س�سان لأزمنة ثقافية‪،‬غالباً ما كان ُيعاد �إنتاجها على ن�صاب الأ�سئلة ال�سالبة نف�سها‪.‬‬ ‫وبدا لو كما �أن �س�ؤال الإحياء احل�ضاري‪ ،‬ال ي�ستعاد �إال لرت َّد احلملة احلداثية الإمربيالية على‬ ‫�أعقابها‪ .‬غري �أن حا�صل االحتدام ظل على الدوام‪� ،‬ضمن �سياقه االعتيادي‪ .‬فجدالية التقدم‬ ‫والت�أخر �أخذت �سبيلها �إىل الر�سوخ‪ ،‬فيما �أ�سئلة النه�ضة �صارت �أ�شبه ب�أوعية مثقوبة‪ ،‬فال ت�صلح‬ ‫للمراكمة والتوالد‪...‬‬ ‫كل �شيء �سيعود مع التوليد املتمادي للأطروحة الإ�سرائيلية �إىل حقل الت�صادم‪ .‬ولقد �صار الكالم‬ ‫على الثقايف‪ ،‬واملعريف‪ ،‬والفكري‪ ،‬والتنموي‪ ،‬والإحيائي‪ ،‬كالماً غري ذي وزن‪ ،‬ما دام يتحرك خارج‬ ‫حقول املواجهات ب�أ�شكالها كافة‪.‬‬ ‫�إبتدا ًء من الظاهرة الإ�سرائيلية‪� ،‬سوف ُتختزل كل الأ�سئلة املتعلقة بالنه�ضة �ضمن ت�سا�ؤل‬ ‫�إجمايل عما �إذا بالإمكان و انطالقاً من فل�سفة الإخت�صام الوجودي مع اليهودية ال�سيا�سية ككيان‬ ‫ي�صد الهيمنة اال�ستعمارية بن�سختها الليربالية اجلديدة‬ ‫و�أيديولوجيا‪ ...،‬ا�ستيالد م�سار ح�ضاري‪ّ ،‬‬ ‫ويتوازن معها‪.‬‬ ‫لقد ظل الت�سا�ؤل �سارياً بني النخب العربية من دون �أن يتعينّ حمل الإ�شكال الفعلي‪ .‬فيما �أكدت‬ ‫الوقائع التاريخية املتعاقبة حقيقة كون الظاهرة الإ�سرائيلية هي الظاهرة الأكرث تعبرياً عن �إمربيالية‬ ‫ما بعد احلداثة وفعالياتها الثقافية والفكرية وال�سيا�سية يف بالدنا‪.‬‬ ‫ما ن�شهده الآن‪ ،‬طو ٍر �آخرٍ‪ ،‬من احلراك حول وجود �إ�سرائيل‪� .‬إذ بقدر ما يت�سم هذا الطور باحلد‬ ‫الأعلى من العداء لهذا الوجود‪ ،‬ف�إنه ينب�سط �أي�ضاً على فر�ضية الإلتقاء وامل�صاحلة معها‪ .‬وهذه‬ ‫الفر�ضية تنطرح اليوم على �أكرث من ن�صاب‪� :‬أكرثها حيوية وخطورة ما يجري على ما ي�سمى بـ‬ ‫«خطوط ال�سالم املزعومة» حيث ت�ست�أنف هذه اخلطوط حركتها املر�سومة ب�إتقان‪ ،‬بدءاً من �إنهاء‬ ‫�ضرب من «ح�سن جوار»‪ ،‬حيث ُيعمل على‬ ‫العداء‪ ،‬عبوراً �إىل �إنهاء اخل�صومة‪ ،‬ثم لي�صَّ اعد �إىل ٍ‬

‫‪114‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫�أن تت�آلف الأطروحة الإ�سرائيلية مع العرب وامل�سلمني‪� ،‬ضمن ما ي�سمى باجلغرافيا الإ�سرتاتيجية‬ ‫الكربى لل�شرق الأو�سط اجلديد‪..‬‬ ‫ف�إذا كان الوالء يعني تفاين الذات جتاه ق�ضية معينة‪ ،‬فذلك ي�سري على جممل الق�ضايا‪ ،‬التي‬ ‫ت�ستحق هذا الوالء‪.‬‬ ‫وكلما كان خيار الوالء على النحو الأكمل‪ ،‬كان التفا�ؤل لدى حامله عن�صراً م�ؤ�س�ساً يف القول و‬ ‫تقدم ح�ضاري‪ ،‬و هو بال�ضبط ما ذهبنا �إىل و�صفه‬ ‫العمل‪ .‬ذاك �أن «التفا�ؤل املدرِك» هو �شرط كل ّ‬ ‫بـ «ال�صراع من �أجل املعنى»‪ ،‬ذلك �أن �سمة املتفائل �أن يحيا �ضو�ضاء الهزمية وعتمتها «مثلما يحيا‬ ‫بهجة الإنت�صار و�شم�سه ال�ساطعة»‪.‬‬ ‫ذلكم هو �أ�صل الإ�شكال الذي يتوقف على تد ّبره والبناء عليه‪ ،‬خروج ال�شارع العربي من حريته‬ ‫و مغادرة ثوراته قلقها املقيم‪...‬‬

‫‪115‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫درا�سات وابحاث‬

‫حمبة الآخر (فيليا)‬ ‫الفردية والنزعة الفردية مقابل ّ‬ ‫حيدر حاج �إ�سماعيل ‪ -‬باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية‬

‫الف�صل الأول‬ ‫‪ .1‬الفردية‬

‫كان �أبرز من كتب عن الفردية (‪ )individualism‬يف العقود الأخرية وح ّللها وو�صف عيوبها‬ ‫واثبت �أنها الأ�سا�س الذي تقوم عليه احل�ضرة الغربية‪ ،‬بخا�صة‪ ،‬يف جميع نواحيها العملية والثقافة‬ ‫هو فيل�سوف الأخالق الأ�سدير ماكنتاير (‪ )Alasdair MacIntyre‬يف كتابه‪ :‬بعد الف�ضيلة (‪After‬‬ ‫‪ .)Virtue‬لذا �ستكون بدايتنا من هناك‪.‬‬ ‫نبد�أ من ذكر املبادئ التي منها انطلق وعليها ا�ستند �أال�سدير ماكنتاير لت�أ�سي�س نقا�شاته‪ ،‬تقييماته‪،‬‬ ‫وانتقاداته للف�ضيلة ال�سائدة يف زمنه وقبل زمنه‪ ،‬منذ ما بعد الفيل�سوف اليوناين �أر�سطو طالي�س‬ ‫و�إىل اليوم‪ .‬وهي‪:‬‬ ‫املبد�أ الأول مبد�أ �سو�سيولوجي مفاده �أن املجتمع قبل الفرد‪ ،‬فاملجتمع ّ‬ ‫يحتل مرتبة الأولو ّية يف‬ ‫الواقع ويف االعتبار‪ ،‬يف حني يحتل الفرد املرتبة الثانوية‪.‬‬ ‫املبد�أ الثاين مبد�أ تاريخي وعنى �أن الأخالق تابعة للتاريخ �أو لها عالقة بالتاريخ‪ ،‬فف�ضائلها تتغري‬ ‫زمن �إىل زمن‪ .‬فلي�س هناك ف�ضائل �أخالقية مطلقة‪.‬‬ ‫من ٍ‬ ‫املبد�أ الثالث مبد�أ غائي (‪� )telos‬أي �أن للف�ضائل غايات ترمي �إليها ولي�ست بالأمور االعتباطية‬ ‫املرتوكة للفرد �أو الأفراد ونزواتهم وتق ّلباتها‪.‬‬ ‫املبد�أ الرابع مبد�أ �أخالقي‪ ،‬وباملعنى الدقيق‪ ،‬ومفاده‪ ،‬م�صلحة املجتمع فوق كل م�صلحة‪ .‬وهو مبد�أ �أر�سطو‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫ ‬

‫‪1‬‬

‫ماكنتاير فيل�سوف ا�سكتلندي عمل �أ�ستاذاً يف جامعة نوتردام وله م�ؤلفات يف الأخالق وال�سيا�سة‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫َّ‬ ‫و�شكلت هذه املبادئ ما ي�شبه املطرقة النيت�شوية بها نزل ماكنتاير على الفل�سفات الفردية من‬ ‫�أولها �إىل �آخرها‪ ،‬وبخا�صة بعد �إخفاق م�شروع ع�صر التنوير (‪� )The Enlightenment‬أيمّ ا �إخفاق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫فحطمها حتطيماً‪.‬‬ ‫�أذكر‪ ،‬على �سبيل املثال‪ ،‬ال احل�صر‪ ،‬مذهب املنفعة (‪ )utilitarianism‬الذي و�ضعه جريمي بنثام‬ ‫(‪ )Jeremy Bentham‬الذي قال بال�سعادة الكربى للعدد الأكرب‪ ،‬يف كتابه‪ :‬مبادئ الأخالق‬ ‫والت�شريع قا�صداً العدد الأكرب من الأفراد‪ .‬كما �أذكر مذهب الفيل�سوف الأملاين َك ْن ْت (‪)Kant‬‬ ‫الذي قال بالواجب املطلق �أو الآمر الأخالقي املطلق الذي يجب �أن يلتزم به الفرد‪.‬‬ ‫ومثال �آخر يذكره ماكنتاير �إخت�ص مبا عرف با�سم العقود االجتماعية فذكر اثنني منها هما العقد‬ ‫االجتماعي الذي و�ضعه هوب�س (‪ )Hobbes‬والعقد االجتماعي الذي و�ضعه لوك (‪.)Locke‬‬ ‫وكالهما يقومان على الأفراد وقرار الأفراد‪.‬‬ ‫ويجدر‪ ،‬يف هذه املنا�سبة‪� ،‬أن �أذكر �أن العقود االجتماعية التي و�ضعها الفال�سفة‪� ،‬إىل الآن‪ ،‬هي �ستة‬ ‫عقود‪ ،‬وت�ص َّنف �إىل �صنفني هما‪:‬‬ ‫رو�سو (‪)Rousseau‬‬ ‫العقود الواقعية (كما يظن) وهي �أربعة‪ ،‬ووا�ضعوها الفال�سفة هوب�س‪ ،‬لوك‪ّ ،‬‬ ‫وهيربما�س (‪.)Habermas‬‬ ‫والعقود االفرتا�ضية وهي عقدان ذكر �أحدهما الفيل�سوف الأملاين َك ْن ْت (‪)Kant‬وذكر الثاين‬ ‫الفيل�سوف الأمريكي رولز (‪.)Rawls‬‬ ‫ويف �سياق هجومه النقدي على الفردية ومذهبها مل يوفّر مارك�س‪ .‬فقد اعترب ماكنتاير الطبقة عند‬ ‫مارك�س لي�ست �إ ّال جمموعاً من الأفراد‪ ،‬ولي�ست املجتمع الواقعي الطبيعي‪.‬‬ ‫علي �أن �أعود‪ ،‬الآن‪� ،‬إىل امليدان الأخالقي‪ ،‬ح�صراً‪ ،‬الذي هو ميدان كتاب بعد الف�ضيلة‪ .‬ويف هذه‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫العودة ال َّبد يل من �شرح املبد�أ الرابع الذي اعتمد عليه ماكنتاير‪� ،‬أعني مبد�أ �أر�سطو‪ .‬وهذا يتطلب‬ ‫منا النظر يف ما و�ضعه �أر�سطو عن الأخالق‪ ،‬وبخا�صة‪ ،‬يف م�ؤلفاته‪( .‬وهو ما مل يفعله ماكنتاير‪ ،‬رمبا‬ ‫افرتا�ضاً منه مبعرفة القراء بتفا�صيل ذلك املبد�أ)‪.‬‬ ‫�أذكر‪ ،‬بدايةً‪� ،‬أنه وردت يف م�ؤلفات �أر�سطو الأخالقية وال�سيا�سية فكرة فيليا (‪� )philia‬أو املحبة التي‬ ‫ُع ِّرفت يف كتاب‪ :‬ال�سيا�سة ب�أنها «�إرادة العي�ش معاً» ‪.‬‬ ‫فتكون النتيجة املبا�شرة لتعريف فيليا بتلك الطريقة هي اعتبارها واجتماعية الإن�سان �شيئاً واحداً‪.‬‬ ‫وعالوة على ذلك‪ ،‬جند �أر�سطو‪ ،‬ويف كتاب ال�سيا�سة (‪ )Politics‬مم ِّيزاً بني منطني للحياة الإن�سانية‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪Richard McKeon, (ed.), The Basic Works of Aristotle, (New York: Random House, 1968, Politics,‬‬ ‫‪III, 9, 128 ob.‬‬

‫‪118‬‬

‫ ‪2‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫هما‪ :‬العي�ش �أي جمرد العي�ش وهو �صفة القرية واملنزل واحلياة اجل ّيدة التي هي �صفة جمتمع‬ ‫املدينة وحده (‪. )polis‬‬ ‫يف جمتمع املدينة ت�صري فيليا �أكرث تعقيداً‪ ،‬فهنا جند العدالة (ولي�س احلب املبني على القرابة‪ ،‬كما‬ ‫هو احلال يف املنزل ويف القرية) هي الأقرب �إىل مفهوم فيليا‪.‬‬ ‫ويف كتاب الأخالق النيقوماخ ّية (‪ )Nicomachean Ethics‬يذكر �أر�سطو �أن فيليا والعدالة‬ ‫ي�شتمالن على امل�ساواة ‪.‬‬ ‫�أما يف كتاب الأخالق اليودمي ّية (‪ )Eudemian Ethics‬في�صف �أر�سطو فيليا ب�أنها عدالة خا�صة‬ ‫يف حني ي�صفها يف الأخالق النيقوماخ ّية بالقول �إنها توازي‪ ،‬مبعنى ت�شبه‪ ،‬العدالة‪ .‬ويف الكتابني‬ ‫تت�ضمن العدالة ‪.‬‬ ‫املذكورين كليهما قيل‪� ،‬إن فيليا َّ‬ ‫ويذكر �أر�سطو ما يفيد �أنه‪� ،‬إذا كان جميع الب�شر حمبني‪ ،‬افرتا�ضاً‪ ،‬فال حاجة للقانون لأن حياتهم‬ ‫�ستكون عادلة‪.‬‬ ‫يعدد �أر�سطو الفروق بني فيليا والعدالة فيذكر �أنها تتمثَّل يف طبيعتيهما املختلفتني‪:‬‬ ‫بعد ذلك ِّ‬ ‫فالأوىل �شخ�صية والثانية جمعية‪ .‬ففيليا (املحبة) بني �أ�شخا�ص بينما العدالة ت�شتمل على جمموعة‬ ‫من القوانني ُتطبق على جميع مواطني جمتمع املدينة‪.‬‬ ‫وقد كان �أر�سطو على ب ّين ٍة من هذا الفرق حتى �أنه و�صف فيليا بالقول �إنها عدالة خا�صة «تعتمد‬ ‫على نفو�سنا وحدها»‪.‬‬ ‫املحب ذاته الأخرى ‪.‬‬ ‫ويذكر مما يذكر يف الأخالق النيقوماخية �أن الإن�سان الفا�ضل يعترب ّ‬ ‫�أكتفي بهذا املقدار من التعريف بفل�سفة �أر�سطو الأخالقية‪ ،‬وبخا�صة مرتبة فيليا فيها‪ ،‬وذلك‬ ‫ت�سديداً للنق�ص الذي وجدته يف كتاب بعد الف�ضيلة واملتعلق بها‪.‬‬ ‫مع ذلك �أ� ِّؤكد على �أهمية الكتاب جلهة ثرائه الفكري وغناه النقا�شي و�سعة ميدانه‪ ،‬و�أن هدف‬ ‫�صاحبه الرئي�سي كان النقد والنق�ض ملذهب الفردية املتف�شى يف زماننا وامل َّتخذ �صوراً و�أ�شكا ًال‬ ‫�ش ّتى‪ ،‬ومغرية �أحيانا‪ ،‬رغم ت�ضليلها‪ ،‬مثل الليربالية وما قارن‪.‬‬ ‫طبعاً‪ ،‬تع َّر�ض كتاب بعد الف�ضيلة فور �صدوره النتقادات عديدة بع�ضها مغر�ض وبع�ضها حمق ذكر‬ ‫‪3‬‬

‫‪4‬‬

‫‪5‬‬

‫‪6‬‬

‫‪7‬‬

‫‪8‬‬

‫‪9‬‬

‫‪10‬‬

‫‪ III,5, 1278 b 20-25.‬املرجع السابق‬ ‫‪Nicomachean Ethics, VIII, 9, b 29-30, VIII, 7, 1159 a 1-5.‬‬ ‫‪Eudemian Ethics, VII, 1, 1234 b 30-31, VIII, II, 1161 a 101-11.‬‬ ‫‪Nicomachean Ethics, VIII, 9, 1159 b 25-27, VIII, 11, 1161 A 10-11.‬‬ ‫‪، VIII,1, 1155 a 22-28 and Eudemian Ethics, VII, 1, 1234 b 24, 29-30.‬املرجع السابق‬ ‫‪Nicomachean Ethics, VIII,1, 1155 a 26; VIII,9, 1159 b 25.‬‬ ‫‪Eudemian Ethics, VII,1, X, 9, 1170 b 6-7.‬‬ ‫‪Nicomachean Ethics, 1 x, 9, 1170 b 6-7.‬‬

‫ ‪3‬‬ ‫ ‪4‬‬ ‫ ‪5‬‬ ‫ ‪6‬‬ ‫ ‪7‬‬ ‫ ‪8‬‬ ‫ ‪9‬‬ ‫ ‪10‬‬

‫‪119‬‬


‫الكاتب بع�ضها يف ملحق الكتاب الذي حمل عنوان‪« :‬ملحق للطبعة الثانية»‪.‬‬ ‫وقبل اخلتام جتدر الإ�شارة �إىل �أن �أهمية الفكرة فيليا مبعنى املحبة جت ّلت �أي�ضاً يف ا�سم الفل�سفة‬ ‫(‪ )philosophy‬ذاته الذي يت�ألف من كلمتني يونانيتني هما فيليا (‪ )philia‬و�صوفيا (‪،)Sophia‬‬ ‫الأوىل عنت املحبة والثانية عنت احلكمة‪ .‬ومن هنا كان تعريف العرب للفل�سفة ب�أنها حمبة احلكمة‪.‬‬ ‫كما جتدر الإ�شارة �إىل �أن كلمة فيليا‪ ،‬ولأهميتها التي ذكرناها‪ ،‬ا َّتخذت عند زينون الرواقي‬ ‫(الفينيقي الأ�صل)‪ ،‬بعد �أر�سطو بحوايل العام‪ ،‬معنى الأخ ّوة‪ ،‬وذلك يف تعبريه اجلديد‪� ،‬أعني‬ ‫كوزموبول�س (‪ )cosmopolis‬الذي عنى به الأخ ّوة الب�شرية �أو كل الب�شر �أخوة‪ ،‬فكان به الت�أ�سي�س‬ ‫احلقيقي لعلم الأخالق‪.‬‬ ‫�أعود لأ�ؤكد‪ ،‬من جديد �أن الف�ضيلة التي هاجمها‪ ،‬كانت تلك الف�ضيلة الفردية‪ ،‬و�أنه جنح ومبقدار‬ ‫كبري‪ ،‬يف الك�شف عن عيوبها وخماطرها‪ ،‬رغم جميع ردود الفعل ال�سلبية و�إنحيازاتها الليربالية‬ ‫الفردية‪.‬‬ ‫بلى‪ ،‬الأخالق‪� ،‬سواء �أقال بها �أر�سطو �أو غري �أر�سطو و� َّأكدها ماكنتاير هي‪ :‬م�صلحة املجتمع فوق‬ ‫كل م�صلحة‪.‬‬ ‫بعد عر�ضنا للفردية ونقد ماكنتاير لها بعد �إثباته �أنها �أ�سا�س احل�ضارة والثقافة الغربيتني نو ّد �أن‬ ‫ندعم وجهة النظر هذه باال�ست�شهاد ال�سو�سيولوجي واالقت�صادي جوزيف �شومبيرت (‪Joseph A.‬‬ ‫‪:)Schumpeter‬‬ ‫�أ ّدى املقاول يف نظرية �شومبري اخلا�صة بالتطور االقت�صادي دوراً �أ�سا�سياً‪َ ،‬ب ْل َه الدور الذي ما بعده‬ ‫دور‪ ،‬فهو البطل املغوار الذي ي�شرح ذلك التطور‪.‬‬ ‫وهو الذي يغيرّ جمدداً ما ي�سميه �شوبيرت التدفق الثابت (‪� ،)Stationary Flow‬أي «منوذج العملية‬ ‫االقت�صادية غري املتغيرّ ة والتي تتدفق مبعدالت ثابتة يف الزمن وتعيد �إنتاج نف�سها‬ ‫ويف مو�ضع �آخر ي�صف �شومبيرت املقاول بقوله �إنه ال�سبب املنتج «لتغري تلقائي ومتقطع يف تيارات‬ ‫التدفق‪ ،‬وا�ضطراب يف التوازن يغري‪ ،‬و�إىل الأبد‪ ،‬ويزيل حالة التوازن املوجودة �سابقاً»‬ ‫ويذكر من املبتدعات التي يدخلها املقاول ال�صناعة اجلديدة‪ ،‬والأ�سواق اجلديدة‪ ،‬والطرق اجلديدة‪،‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪12‬‬

‫‪13‬‬

‫‪11 Joseph Alois Schumpeter, The Theory of Economic Development: An Inquiry into Profits,‬‬ ‫‪Capital, Credit, Interest, and the Business Cycle, Translated from the German by Redvers Opie‬‬ ‫‪(Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1934), pp. 60-61.‬‬ ‫‪12 Schumpeter, A business Cycles: A Theoretical, Historical, and Statistical Analysis of the Capitalist‬‬ ‫‪Process, pp. 36-37, and p. 102.‬‬ ‫‪13 Schumpeter, The Theory of Economic Development, An Inquiry into Profits, Capital, Credit,‬‬ ‫‪Interest, and the Business Cycle, p. 64.‬‬

‫‪120‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫وال�سلع اجلديدة‪ ،‬واال�ستيالء على م�صادر متوين جديدة‪ ،‬وتنظيم جديد لل�صناعة‪.‬‬ ‫ومن الطريف �أن جند من قارن مقاول �شومبيرت والقائد ذا الكارزما عند عامل االجتماع ماك�س‬ ‫فيرب الذي قال بتغيرُّ الأنظمة االجتماعية وب�أنّ �سببها الفاعل هو ال�شخ�ص الكارزمي‪� .‬أما الفرق‬ ‫بني االثنني ف َي ْمث ُ​ُل‪ ،‬وب�صورة رئي�سة‪ ،‬يف �أن بطل �شومبيرت �سبب باطني يف النظام (‪)Endogenous‬‬ ‫بينما بطل فيرب �سبب خارجي (‪ .)Exogenous‬هذا‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل فروق �أخرى‪.‬‬ ‫�أ�صل املقاول‬ ‫ن�س�أل ما هو �أ�صل م�صطلح املقاول؟ وماذا يفيد يف زماننا من معانٍ ؟ وما قرابة كل ذلك مبفهومه‬ ‫عند �شومبيرت؟‬ ‫�أول ما يفهم من املقاول �أنه ذلك الذي ّ‬ ‫يوظف نف�سه (‪ ،)Self-Employed‬فهو امل�ستخدم ذاته‬ ‫الذي ال ي�ستخدمه �أحد‪ .‬فهو‪ ،‬بهذا املعنى م�ستقل ا�ستقال ًال تاماً‪ ،‬وميكنه �أن يقوم مببادرات‪ .‬وهناك‬ ‫من ع ّرفه مببادراته �أي بوظائفه‪ ،‬فقال �إنه من ِّ‬ ‫ويتحمل املخاطر املرت ِّتبة‬ ‫ينظم عم ًال جديداً‪ ،‬وي�شغِّله‪ّ ،‬‬ ‫على م�شروعه اجلديد‪.‬‬ ‫و ُيذكر �أن هناك نوعني من املقاولني‪ :‬الأول تكراري (‪ )Replicative‬ين�شئ �شركة جديدة وينظمها‬ ‫على غرار �شركات موجودة‪ .‬والثاين مبدع ين�شئ وينظم م�شروعاً جديداً ومقاربة جديدة لل�سوق‪...‬‬ ‫الخ‪ .‬ولي�س من ال�ضروري �أن يكون الإبداع اجلديد منتجاً �أو نافعاً‪ .‬ريت�شارد كنت ّيون (‪Richard‬‬ ‫‪( )Cantillon‬وهو �أحد االقت�صاديني الأوائل الكبار) يتحدث عن مقاولني ل�صو�ص ‪.‬‬ ‫ولغاية القرن الع�شرين كانت الكتابات عن املقاول‪ ،‬يف اللغة الإنكليزية‪ ،‬ت�صفه ب�أنه «املقامر» �أو‬ ‫«املتع ّهد»‪.‬‬ ‫يف زماننا مل يعد املقاول مرئياً يف النظرية االقت�صادية ال�سائدة‪ ،‬تعني مبعنى املبادر وامل�ؤثر يف العملية‬ ‫االقت�صادية �إبداعاً وتطوراً‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫‪15‬‬

‫‪16‬‬

‫‪17‬‬

‫‪18‬‬

‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص ‪.‬‬

‫‪73‬‬ ‫‪14‬‬ ‫‪15 Max Weber, Economy and Society: An Outline of Interpretive Sociology, Edited by Guenther‬‬ ‫‪Roth and Claus Wittich, Translated by Ephraim Fischoff [and others} (New York: Bedminster‬‬ ‫‪Press, 1968), pp. 758 ff.‬‬ ‫‪16 Steven N. Dulauf and Lawrence E. Blume, ed., The New Palgrave Dictionary of Economics, 2nd‬‬ ‫‪Edition (Basingstoke, Hampshire; New York: Palgrave Macmillan, 2008), vol. 2, p. 874.‬‬

‫ امل�صدر نف�سه‪� ،‬ص‬

‫‪.‬‬

‫‪874‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪18 Alfred Marshall, Industry and Trade: A Study of Industrial Technique and Business Organization‬‬ ‫‪(London: Macmillan and co.; Limited, 1923) p. 172.‬‬

‫‪121‬‬


‫‪ .2‬النزعة الفردية‬

‫�أفتكر �أن �أنطون �سعاده‪ ،‬زعيم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬كان الوحيد الذي كتب عن‬ ‫النزعة الفردية كظاهرة اجتماعية عموماً‪ ،‬ويف �شعبنا خ�صو�صاً‪ ،‬وعلى خماطرها املد ِّمرة‪ .‬وكان ذلك‬ ‫يف عام ‪� ،1942‬أي قبل الفيل�سوف الأخالقي �أال�سدير ماكنتاير ب�أكرث من ‪ 60‬عاماً‪ .‬وقد حاربها‬ ‫�سعاده فل�سفياً بو�ضعه الفل�سفة القومية االجتماعية وتاج مبادئها مبد�أ‪ :‬امل�صلحة العامة للأمة‬ ‫وللبالد فوق كل م�صلحة‪ ،‬وعملياً بت�أ�سي�سه حزباً �سيا�سياً (لي�س ك�سواه من الأحزاب ال�سيا�سية)‬ ‫مهمته بعث نه�ضة عامة ب�أخالق امل�صلحة العامة‪.‬‬ ‫وجت ّلت كتابات �سعاده حول مو�ضوع النزعة الفردية يف مقالني هما‪« :‬النزعة الفردية يف �شعبنا»‬ ‫و»عودة على النزعة الفردية يف �شعبنا‪.‬؟ وفيما ي�أتي �سنعمل على حتليل هذين املقالني وت�سليط‬ ‫ال�ضوء على �أهم ما ورد فيهما من �أفكار‪.‬‬ ‫يبد�أ �سعاده مقاله الأول بذكر مالحظته فيقول‪�« :‬إن يف حياتنا االجتماعية‪ ،‬يف الوطن ويف املغرتب‪،‬‬ ‫جدية هي ظاهرة النزعة الفردية يف ت�صرفاتنا االجتماعية‬ ‫ظاهرة ت�ستحق اهتماماً كبري ُا ومعاجلة ّ‬ ‫و�أفكارنا وميولنا‪»...‬‬ ‫ويرى �سعاده �أن الع ّلة تبد�أ يف الأ�سرة‪ ،‬فيقول‪« :‬هنا �أ�سا�س الداء‪ .‬فالفرد الذي يتع َّود �أن ال ي�سمع‬ ‫ر�أياً غري ر�أيه و�أن ال ي�شعر باحلاجة �إىل الإلفة والتفاهم ال يحرتم ر�أي �أحد‪»...‬‬ ‫ويقول �سعاده �إن امل�صاب بالنزعة الفردية يح�سب العمل كله «دائرة واحدة يجول فيها تفكريه»‬ ‫مهم ًال �أو نا�سياً �أن «العمل العام دوائر �صغرى يف دائرة كربى و�أن كل فرد يجب �أن يعمل �ضمن‬ ‫الدائرة التي يقع فيها اخت�صا�صه وكفاءته»‬ ‫وي�ضيف �سعاده قائ ًال‪ :‬النزعة الفردية تقود حتماً �إىل عدم ال�شعور بامل�س�ؤولية» حتى عندما يرتبط‬ ‫بعهد مع �سواه‪ ،‬وحتى لو كان ارتباطه مع نظام من الأنظمة‪ .‬ف�صاحب النزعة الفردية «يح�سب‬ ‫كرامته اخلا�صة‪ ،‬كما يراها هو‪ ،‬فوق كل الكرامات»‪.‬‬ ‫ويقول �سعاده‪� ،‬إن النزعة الفردية «لي�ست طبيعة يف ال�سوري و�إن تكن متف�شّ ية يف �أبناء اجليل‬ ‫احلا�ضر»‪.‬‬ ‫‪19‬‬

‫‪20‬‬

‫‪21‬‬

‫‪22‬‬

‫‪23‬‬

‫‪24‬‬

‫‪� 19‬أنطون �سعاده‪ ،‬الآثار الكاملة ‪� ،1942 ،10‬سعاده يف مغرتبه الق�سري‪ ،‬مقال‪« :‬النزعة الفردية يف �شعبنا»‪� ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪ 2 0‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪ 2 1‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪ 2 2‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪ 2 3‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪ 2 4‬امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪122‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫ويرى �سعاده �أن طريق ال�شفاء من مر�ض النزعة الفردية هي طريق ال�شفاء من جميع الأمرا�ض‬ ‫ذاتها‪ ،‬وت�شمل‪« .1 :‬االعرتاف بوجود املر�ض» ‪« .2‬قبول العالج‪ ،‬حلواً كان �أو م ّراً»‪.‬‬ ‫وينهي �سعاده مقاله الأول هذا بالأمر الآتي «يجب على القوميني االجتماعيني �أن يكافحوا النزعة‬ ‫الفردية مكافحتهم االحتالل الأجنبي»‪ .‬ويف هذا القول تلخي�ص ملذاحة خطر النزعة الفردية‪.‬‬ ‫يف مقاله الثاين الذي حمل عنوان‪« :‬عودة على النزعة الفردية يف �شعبنا»‪ ،‬يبد�أ �سعاده بالقول‬ ‫الآتي‪« :‬النزعة الفردية جتعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل» وي�شرحه قائ ًال‪� ،‬إن‬ ‫«طبيعتها خمالفة لطبيعة االجتماع» ‪� .‬أما الغريية «فمحدودة جداً لذوي النزعة الفردية» وهي‪،‬‬ ‫تعني الغريية‪ ،‬غري �ضرورية وميكن اال�ستغناء عنها‪.‬‬ ‫ببع�ض من جتارب حزبه ال�سوري القومي االجتماعي‬ ‫طبعاً‪ ،‬ا�ست�شهد �سعاده يف املقالني املذكورين ٍ‬ ‫بع�ض من الذين انتموا �إليه وجنحت ثقافة احلزب ونظامه الدقيق يف تربيتهم تربية اجتماعية‬ ‫مع ٍ‬ ‫ع�صرية راقية تقوم على مبد�أ امل�صلحة العامة �أو ًال‪.‬‬ ‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن �سعاده مل يقت�صر على ذلكما املقالني يف حماربته النزعة الفردية يف �شعبنا ويف‬ ‫داخل حزبه ذاته‪ ،‬ففي حما�ضراته‪ 8 :‬و‪ 9‬و‪ 10‬عاد �إىل الهجوم على تلك النزعة‪ .‬وفيما ي�أتي بع�ض‬ ‫التفا�صيل‪ :‬يف حما�ضرته الثامنة يقول ما ي�أتي‪:‬‬ ‫«ال�سيا�سة لي�ست نفوذاً لأ�شخا�ص �أو �أفراد �أو عائالت‪ .‬ال�سيا�سة فن بلوغ الأغرا�ض القومية وحتقيق‬ ‫الغايات القومية التي يجب على كل فرد �أن يرتبط فيها �أنها رابطة املجتمع‪ .‬ال�سيا�سة عندنا و�سيلة‬ ‫ال غاية‪ ،‬و�سيلة لبلوغ الأغرا�ض القومية ب�أقرب الطرق و�أقل التكاليف‪ .‬ولي�ست ال�سيا�سة �سيا�سة‬ ‫لنف�سها ومهنة خا�صة يحرتفها بع�ض الأفراد ويحتكرون بوا�سطتها النفوذ وتقرير م�صري ال�شعب»‪.‬‬ ‫ويف حما�ضرته التا�سعة ن�سمعه يقول‪ ،‬وب�شكل وا�ضح ال لب�س فيه‪:‬‬ ‫«نحن حركة هجومية ال حركة دفاعية‪ .‬نهاجم بالفكر والروح‪ ،‬ونهاجم بالأعمال والأفعال �أي�ضاً‪.‬‬ ‫نحن نهاجم الأو�ضاع الفا�سدة القائمة التي متنع �أمتنا من النمو ومن ا�ستعمال ن�شاطها وقوتها‪.‬‬ ‫نهاجم املفا�سد االجتماعية والروحية وال�سيا�سية‪.‬‬ ‫نهاجم احلزبيات الدينية‪،‬‬ ‫نهاجم الأقطاع املتحكم بالفالحني‪،‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪26‬‬

‫‪27‬‬

‫‪28‬‬

‫ ‬ ‫‪2 6‬‬ ‫‪2 7‬‬ ‫‪ 28‬‬ ‫‪25‬‬

‫امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.43‬‬ ‫امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.43‬‬ ‫امل�صدر ال�سابق‪� ،‬ص ‪.44‬‬ ‫�سعاده‪ ،‬املحا�ضرات الع�شر‪ ،‬املحا�ضرة ‪� ،8‬ص ‪.153‬‬ ‫‪123‬‬


‫نهاجم الر�أ�سمالية الفردية الطاغية‪،‬‬ ‫نهاجم العقليات املتحجرة املتجمدة‪،‬‬ ‫نهاجم النظرة الفردية‪ .‬ون�ستعد ملهاجمة الأعداء الذين ي�أتون ليجتاحوا بالدنا بغية الق�ضاء علينا‪،‬‬ ‫لنق�ضي عليهم‪.‬‬ ‫هذه هي وجهة �سرينا‪ .‬هذا موقفنا يف امل�شاكل ال�سيا�سية الكربى املحيطة بنا‪� .‬إذا كان ال بد من‬ ‫هالكنا يجب �أن نهلك كما يليق بالأحرار ال كما يليق بالعبيد‪ .‬نحن ال نعني بحركتنا لعباً وال‬ ‫ت�سلية‪».‬‬ ‫ويف املحا�ضرة العا�شرة ي�ؤكد على رف�ضه للفردية ونزعتها التخريبية عندما يقول‪:‬‬ ‫الغارقة يف فرديتها‪ ،‬اخلارجة على املجتمع ووحدته وم�صريه‪».‬‬ ‫كل ذلك ال يعني ب�أي �شكل من الأ�شكال �أن �سعاده �ضد الفرد‪ ،‬فر�أيه يف الفرد �أو�ضحه يف مقدمته‬ ‫لكتابه‪ :‬ن�شوء الأمم حيث نقر�أ ما ي�أتي‪:‬‬ ‫«�إن الوجدان القومي هو �أعظم ظاهرة اجتماعية يف ع�صرنا‪ ،‬وهي الظاهرة التي ي�صطبغ بها هذا‬ ‫الع�صر على هذه الدرجة العالية من التمدن‪ .‬ولقد كان ظهور �شخ�صية الفرد حادثاً عظيماً يف‬ ‫ارتقاء النف�سية الب�شرية وتطور االجتماع الإن�ساين‪� .‬أما ظهور �شخ�صية اجلماعة ف�أعظم حوادث‬ ‫التطور الب�شري �ش�أناً و�أبعدها نتيجة و�أكرثها دقة ولطاقة و�أ�شدها تعقداً‪� ،‬إذ �أن هذه ال�شخ�صية‬ ‫مركب اجتماعي ‪ -‬اقت�صادي ‪ -‬نف�ساين يتطلب من الفرد �أن ي�ضيف �إىل �شعوره ب�شخ�صيته �شعوره‬ ‫ب�شخ�صية جماعته‪� ،‬أمته‪ ،‬و�أن يزيد على �إح�سا�سه بحاجاته �إح�سا�سه بحاجات جمتمعه و�أن يجمع‬ ‫�إىل فهمه نف�سه فهمه نف�سية متحده االجتماعي و�أن يربط م�صاحله مب�صالح قومه و�أن ي�شعر مع ابن‬ ‫جمتمعه ويهتم به ويود خريه‪ ،‬كما يود اخلري لنف�سه‪».‬‬ ‫هل يوجد كالم �أو�ضح من هذا الكالم‪ ،‬بل هل يوجد فكر �أرقى من هذا الفكر؟‬ ‫خال�صة الكالم هي �أن املجتمع‪ ،‬عند �سعاده‪« ،‬لي�س جمرد جمموع عددي من النا�س»‪ .‬فالأفراد‬ ‫ي�أتون ويذهبون �أما املجتمع فيبقى جي ًال بعد جيل‪.‬‬ ‫‪29‬‬

‫‪30‬‬

‫‪31‬‬

‫‪32‬‬

‫‪ 29‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬املحا�ضرة ‪� ،9‬ص ‪.67‬‬ ‫‪ 30‬امل�صدر ال�سابق‪ ،‬املحا�ضرة ‪� ،10‬ص ‪.176‬‬ ‫‪� 31‬أنطون �سعاده‪ ،‬الآثار الكاملة ‪ ،1‬ن�شوء الأمم‪ ،‬املقدِّ مة‪� ،‬ص ‪.14 - 13‬‬ ‫‪ 32‬كتاب‪� :‬شروح يف العقيدة‪� ،‬آذار‪ ،1958 ،‬مقال‪ :‬اجلموع واملجتمع ل�سعاده‪� ،‬ص ‪.171‬‬ ‫‪124‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫رو�سو و�أولوية املجتمع على الفرد‬ ‫ّ‬

‫رو�سو الوحيد‪ ،‬و�إن مل يكن الوحيد‪ ،‬قد يكون الأقدر من بني املفكرين الغربيني الذي‬ ‫قد يكون ّ‬ ‫�أعلن بو�ضوح وقوة �أولوية املجتمع على الفرد‪.‬‬ ‫رو�سو (‪ )J.J. Rousseau‬كان �أحد املفكرين ال�ستة الذين كتبوا يف العقود االجتماعية‬ ‫وجان جاك ّ‬ ‫ون�شوء الدولة وفقاً لها وهم‪ :‬هوب�س (‪ ،)Hobbes‬لوك (‪ ،)Locke‬هيربما�س (‪َ ،)Habermas‬ك ْن ْت‪،‬‬ ‫ورو�سو املعجب ب�أفالطون يظنون �أن كتابه‪ :‬اجلمهورية هو كتاب �سيا�سي‪ ،‬يف حني‬ ‫رولز (‪ّ )Rawls‬‬ ‫�أنه كان حول الرتبية‪ .‬وال�سيا�سة‪ ،‬عند رو�سو هي الرتبية العامة‪ .‬لذا‪ ،‬ف�إن ال�س�ؤال عن �أف�ضل‬ ‫رو�سو مبا ي�أتي‪�« :‬أي نوع من احلكومة‪ ...‬ي�شكل �أف�ضل �شعب؟»‪.‬‬ ‫احلكومات املمكنة‪ ،‬اختزله ّ‬ ‫رو�سو �أن «الفرد الفا�ضل هو‬ ‫وقال مما قال‪ْ �« :‬‬ ‫إخلق مواطنني تذهب ال�صعوبات جميعها»‪ .‬واعتقد ّ‬ ‫الذي يجعل حاجاته يف خدمة الآخرين»‪.‬‬ ‫تقدمها �أف�ضل امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية احلديثة مثل ال�سالم‪،‬‬ ‫ي�س�أل‪�« :‬أي قيمة للخدمات التي ّ‬ ‫الأمن‪ ،‬تطبيق القانون‪ ،‬ازدهار الآداب والعلوم‪ ،‬الق�ضاء على العبودية وحماية امللكية اخلا�صة‬ ‫وحماية حرية التعبري واالعتقاد‪ ،‬عندما تعمل على ت�شويهي؟»‪.‬‬ ‫رو�سو‪ ،‬يف عقده االجتماعي‪ ،‬من الفرد �أن يتخ ّلى كلياً عن حقوقه للمجتمع الذي‬ ‫لذلك‪ ،‬طلب ّ‬ ‫�سيقوم لهدف حتقيق حريته ال�سيا�سية – الأخالقية وكرامته الإن�سانية‪.‬‬ ‫لرو�سو كان يف �أملانيا القرن الثامن ع�شر‪ .‬فال�شعراء الأملان‬ ‫وجتدر الإ�شارة �إىل �أن الت�أثري الأعظم ّ‬ ‫مثل غوته (‪ ،)Goethe‬و�ش ّلر (‪ )Schiller‬وهولدرل ِْن (‪ ،)Holderlin‬والفال�سفة الأملان مثل ك ْن ْت‬ ‫(‪ ،)Kant‬فخته (‪ )Fichte‬وهيجل (‪ )Hegel‬كانوا يعتربون �أنف�سهم من تالمذته‪.‬‬ ‫رو�سو �إىل �أنه كان يعترب املجتمع ذا �أولوية على الفرد‪ ،‬و�أن م�صلحة املجتمع‬ ‫نخل�ص من كالمنا على ّ‬ ‫رو�سو‬ ‫فوق كل م�صلحة‪ ،‬مما يق ِّربه كثرياً من فكر �أنطون �سعاده‪� ،‬أو يق ِّرب فكر �أنطون �سعاده من فكر ّ‬ ‫كثرياً‪.‬‬ ‫‪33‬‬

‫‪34‬‬

‫‪35‬‬

‫‪36‬‬

‫‪Rousseau, Emile, 4: 250; 40.‬‬ ‫‪Rousseau, Confessions, 1: 404-405; 417-418.‬‬ ‫‪Rousseau, Discourse on Political Economy, 3: 254,259, 218,222.‬‬ ‫‪Rousseau, Dialogues, 1: 823-824.‬‬

‫ ‪33‬‬ ‫ ‪34‬‬ ‫ ‪35‬‬ ‫ ‪36‬‬

‫‪125‬‬


‫الف�صل الثاين‬ ‫املحبة‬ ‫فيليا (‪� )Philia‬أو‬ ‫ّ‬

‫عند الرواقيني وعلى ر�أ�سهم معلمهم زينون الرواقي وجدت نظرة جديدة �إىل الإن�سان‪ .‬فالفكرتان‬ ‫املفيدتان هو‪ ،‬جوهرياً‪ ،‬ب�أنه حيوان �سيا�سي �أو اجتماعي مديني واملدينة حمل القيم كلها فكرتان‬ ‫تبدلت جذرياً لدرجة �أننا مل نعد نقع‬ ‫مل يعد ممكناً الدفاع عنهما‪ .‬والواقع هو �أن عقلية القدماء كلها ّ‬ ‫على اهتماماتهم‪ ،‬وم�سائلهم وعلى �أي ّ‬ ‫حل من حلولهم الأ�سا�سية‪.‬‬ ‫فبد ًال من املدينة (‪ )Polis‬مبعناها املحلي املحدود‪ ،‬و�ضع الرواقيون فكرة الكوزموبول�س‬ ‫(‪� )Cosmopolis‬أي املدينة الكونية‪ّ ،‬‬ ‫وحمل اجلزئي و�ضعوا الكلي‪ ،‬والروابط الإن�سانية التي كانت‬ ‫أكد عليها �أفالطون‬ ‫ّ‬ ‫تعددية عند �أر�سطو‪ ،‬اختزلت �إىل رابطة واحدة هي العقل‪ .‬والعدالة التي � َّ‬ ‫ح ّلت حم ّلها املحبة‪.‬‬ ‫والآن ن�س�أل ماذا تعني فكرة الكوزموبول�س؟ وجنيب بالقول‪� ،‬إن هذه الفكرة ال ميكن فهمها من‬ ‫عندئذ‪� ،‬سنجد �أن الكوزموبول�س ٌ‬ ‫منظور الوقائع املاثلة‪ ،‬و�إمنا من منظور القيم‪ٍ .‬‬ ‫مثل �أعلى �أخالقي‪.‬‬ ‫هذا الت�أويل مهم جداً‪ ،‬لأنه ي�سهم يف فهمنا لفرق كبري بني فهم �أر�سطو ل ِـ فيليا (‪ )Philia‬وفهم‬ ‫الرواقيني لها‪ .‬ففيليا عند �أر�سطو بدت مفهوماً �سو�سيولوجياً‪� ،‬أي حقيقة ولي�س بف�ضيلة �أخالقية‪.‬‬ ‫فيليا عند الرواقيني ف�ضيلة �أخالقية‪.‬‬ ‫وكون فيليا قيمة �أخالقية هي نظام من الواجبات‪ .‬وكون الب�شر مواطنني يف مدينة كونية واحدة‬ ‫فقيمهم مت�ساوية‪ ،‬فهم‪ ،‬جميعهم‪ ،‬عقالء وهم‪ ،‬جميعهم‪� ،‬إخوة‪ ،‬ينتمون �إىل العقل الكوين‬ ‫ال�شامل‪ .‬لذا‪ ،‬يجب على الأخوة �أن يح ّبوا واحدهم الآخر‪ .‬وقد قال زينون «الإن�سان العاقل‬ ‫احلكيم �سوف يحب»‪ .‬وقال مارك�س �أوريليو�س (‪« :)Marcus Aurelius‬ال �أ�ستطيع �أن �أغ�ضب على‬ ‫�شقيقي �أو �أ�سخر منه‪ ،‬لأننا خلقنا لنعمل معاً‪ ،‬مثل يدي الإن�سان‪ ،‬قدميه �أو جفني عينيه �أو مثل �صفّي‬ ‫�أ�سنانه العايل وال�سفلي‪ .‬ف�إعاقة واحدهما الآخر م�ضا ّدة لقانون الطبيعة»‪.‬‬ ‫‪37‬‬

‫‪38‬‬

‫‪39‬‬

‫‪37 Marcus Aurelius, Meditations, Trans. By Maxwell Staniforth (Baltimore, Maryland: Penguin‬‬ ‫‪Books, 1967, BK. VII, par. 55.‬‬ ‫‪، BK IV, par. 4, BK II, par. 16.‬املصدر السابق ‪38‬‬ ‫‪39 Marcus Aurelius, BK. II, par. 1.‬‬

‫‪126‬‬


‫درا�سات و�أبحاث‬

‫هذا احلب الكوين متحر ِّر من كل قيود عن�صرية‪ ،‬اقت�صادية �أو حملية‪ .‬فالب�شر‪ ،‬جميعهم‪ ،‬مت�ساوون‪،‬‬ ‫احلد الذي ا َّتخذ عند ماركو�س‬ ‫وب�شكل مطلق‪ .‬مثل هذا احلب توحيدي‪ ،‬نبيل‬ ‫و�سخي �إىل ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أوريليو�س (الإمرباطور) �صورة ال�صالة‪.‬‬ ‫وباخت�صار نقول‪� ،‬إن ماركو�س �أوريليو�س اعتقد �أن املحبة (فيليا) هي الغاية الأخرية‪ ،‬والتي ما‬ ‫بعدها غاية‪ ،‬للمخلوقات‪ ،‬لأن «الوجود» معناه الوجود من �أجل غاية‪ ،‬والوجود هو احلب‪.‬‬ ‫ذلكم ما قال وما اعتقد الإمرباطور الروماين ماركو�س �أوريليو�س الزينوين الرواقي‪ ،‬والذي منح‬ ‫حقوق املواطنية جلميع �أفراد الإمرباطورية الرومانية يف زمانه تطبيقاً لذلك االعتقاد‪.‬‬ ‫�أما الرواقي الآخر الكبري فكان العبد �إبيكتيت�س (‪ )Epictetus‬الذي مل ّ‬ ‫يقل كالمه عن �أن تعريف‬ ‫الإن�سان هو �أن يكون ع�ضواً يف جمتمع العامل كله‪ .‬قال مما قال‪�« :‬إذ ما هو الإن�سان؟ هو جزء من‬ ‫دولة‪ ،‬من دولة �أوىل م�ؤلفة من الآلهة والب�شر‪ ،‬ثم من تلك التي تدعى تالية لها‪ ،‬والتي هي �صور‬ ‫م�صغرة عن الدولة الكونية ال�شاملة»‪.‬‬ ‫�أما مفهوم الع�ضوية يف املجتمع فقد فهمه �إبيكتيت�س ب�أنه ال يقت�صر على العمل االجتماعي‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ي�شمل املعاناة‪� ،‬أي�ضاً‪ ،‬من �أجل املجتمع الإن�ساين‪ ،‬قال‪ ،‬مما قال‪:‬‬ ‫«من �أجل ّ‬ ‫الكل‪ ،‬عليك‪ ،‬مرةً‪� ،‬أن تكون مري�ضاً‪ ،‬وحيناً �آخر �أن تكون ت�سافر وتتع َّر�ض للخطر‪ ،‬ومر ًة‬ ‫�أن تقع يف عوزٍ‪ ،‬وحيناً �أن متوت قبل الأوان»‪.‬‬ ‫لذا نقول‪� ،‬إن مبد�أ ّ‬ ‫الكل من �أجل الكل هو املبد�أ الأخالقي الرواقي‪ .‬وعندما يقول �إبيكتيت�س �أن‬ ‫على الإن�سان �أن يعاين �آالماً �أو ي�ست�شهد‪ ،‬قبل انق�ضاء عمره من �أجل ّ‬ ‫الكل‪ ،‬ف�إن ما كان يدور يف‬ ‫خلده هو الرغبة يف الت�أكيد على املعنى والأهمية الأخالقيتني خلدمة الكل‪ .‬واحلق‪� ،‬إنه‪ ،‬عندما‬ ‫يحب كل �إن�سان كل �إن�سان �آخر ويعمل بروح ذلك اخلري‪ ،‬ف�إن املجتمع ال يعود حمتاجاً لأن‬ ‫يعاين �أي واحد من �أع�ضائه �شيئاً‪ .‬فاملعاناة تتوقف‪ ،‬وي�صري املجتمع‪ ،‬تبعاً لذلك‪� ،‬صورة �أر�ضية عن‬ ‫الفردو�س‪� ،‬أو كما قال الرواقيون‪ :‬مدينة زو�س (‪.)Zeus‬‬ ‫وبالعودة �إىل الت�أكيد على املجتمع الكوين واجتماعية الإن�سان نقر�أ ما ي�أتي عند �إبيكتيت�س ‪�« :‬أال‬ ‫تعرف‪� ،‬أنه‪ ،‬كما �أن القدم ال تعود قدماً‪� ،‬إذا ُف ِ�صلت عن اجل�سم‪ ،‬كذلك �أنت ال تعود �إن�ساناً �إذا‬ ‫ُف�صلت عن الب�شر الآخرين»‪.‬‬ ‫‪40‬‬

‫‪41‬‬

‫‪42‬‬

‫‪43‬‬

‫‪44‬‬

‫‪45‬‬

‫‪، BK IV, par. 23.‬املصدر السابق ‪40‬‬ ‫‪، BK. IX, par. 9, BK. XII, par. 30, BK VII, par. 55.‬املصدر السابق ‪41‬‬ ‫‪42 Epictetus, Discourses, Trans. by George Long (New York, D. Appleton and Co., 1990, BK II, ch. 5 p. 106.‬‬

‫‪ 4 3‬امل�صدر ال�سابق بر ّمته‪.‬‬ ‫‪ 4 4‬زو�س (‪ )Zeus‬يف ذلك الزمان عنت ا�سم رئي�س الآلهة القدمية عند اليونانيني‪.‬‬

‫‪45 Epictetus, Discourses, BKII, ch. 5, par. 106.‬‬

‫ ‬

‫وتذكر الإ�شارة �إىل �أن الإمرباطور ماركو�س �أوريليو�س َّوظف نف�س الت�شبيه‪.‬‬ ‫‪127‬‬


‫ونقر�أ ما ي�أتي عند ماركو�س �أوريليو�س‪ :‬الإن�سان املنعزل هو مثل غ�صن مقطوع من �شجرة‪ ،‬م ّيت‪.‬‬ ‫واعتقد ماركو�س �أوريليو�س �أن اللطف هو غاية ال�سلوك الإن�ساين‪ .‬فعلى الإن�سان �أن يكون لطيفاً‬ ‫وعوناً حتى حلظاته‪ .‬وهذا الواجب الأخالقي يجب �أن ي�ؤ ّدى من دون توقع م�صلحة‪ ،‬قال‪ ،‬وباحلرف‬ ‫الواحد‪:‬‬ ‫«هل تطلب العني تعوي�ضاً لر�ؤيتها‪� ،‬أو القدم مل�شيها؟‪ ...‬كذلك الإن�سان خلق ليكون لطيفاً‪.»...‬‬ ‫نكتفي بهذا املقدار من الكالم على مفهوم املحبة (فيليا) عند زينون الرواقي و�أتباعه م�ضيفني‪،‬‬ ‫فقط‪ ،‬املالحظات الآتية‪:‬‬ ‫�أنطون �سعاده‪ ،‬وحده‪ ،‬من بني ك ّتاب ومفكري بالدنا هو الذي �أ�شار �إىل‪ ،‬بل ذكر‪ ،‬بل � ّأكد على‬ ‫�أهمية االطالع على فكر زينون حتى �أنه ذكره يف �شرح املبد�أ ال�سابع حلزبه ال�سوري القومي‬ ‫ن�ص على ما ي�أتي‪« :‬ت�ستمد النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية روحها من‬ ‫االجتماعي الذي ّ‬ ‫مواهب الأمة ال�سورية وتاريخها الثقايف ال�سيا�سي القومي»‪.‬‬ ‫نذكر �أن كتاب تاريخ الفكر الغربي‪ ،‬من اليونان القدمية �إىل القرن الع�شرين مل�ؤلفيه ُغنار �سكريبك‬ ‫(‪ )Gunnar Skirbekk‬ونلز غيلجي (‪ )Nils Gilje‬ا�شتمل على احلقيقة املفيدة الآتية‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫ي�ستثن‬ ‫الأكرثية ال�ساحقة من كبار املفكرين والفال�سفة الأوروبيني كانوا زينونيني رواقيني‪ ،‬ومل ِ‬ ‫مونت�سكيو نف�سه وفال�سفة العقود االجتماعية‪.‬‬ ‫كما نو ّد �أن نب�شِّ ر رفقاءنا و�أبناءهم يف الوطن ويف املغرتبات ممن ال يجيد اللغة العربية‪ ،‬ونب�شر �أفراد‬ ‫�شعبنا كله‪ ،‬من جميع الأعمار الرا�شدة ممن ال يتقنون اللغة العربية ل�سبب من الأ�سباب �أننا �أ�ضفنا‬ ‫ملحقاً لهذا الكتاب خمت�صاً فقط باملفهوم الرواقي للحجة (فيليا) يكون باللغة الإنكليزية ويحمل‬ ‫العنوان الآتي‪.The Stoic Conception of Philia :‬‬ ‫‪46‬‬

‫‪47‬‬

‫‪48‬‬

‫‪49‬‬

‫‪50‬‬

‫‪46 Marcus Aurelius, Meditations, BK. XI, par. 8.‬‬ ‫‪، BK. IX, par. 42.‬املصدر السابق ‪47‬‬

‫‪� 48‬أنطون �سعاده‪ ،‬تعاليم ود�ستور احلزب ال�سوري القومي االجتماعي‪ ،‬املبد�أ ال�سابع‪� ،‬ص ‪.51‬‬ ‫‪ُ 4 9‬غنار �سكريبك‪ ،‬نلز غيجلي‪ ،‬تاريخ الفكر الغربي‪ ،‬من اليونان القدمية �إىل القرن الع�شرين‪ ،‬ترجمة د‪ .‬حيدر حاج‬ ‫�إ�سماعيل‪ ،‬املنظمة العربية للرتجمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬ني�سان‪ .2012 ،‬وجتدر الإ�شارة �أن الكتاب �صدر‬ ‫باللغة الإنكليزية يف عام ‪.2001‬‬ ‫‪ 5 0‬جتدر الإ�شارة �إىل �أن هذا امللحق هو‪ ،‬يف حقيقته‪ ،‬الف�صالن الثالث والرابع من �أطروحتي التي ّقدمتها لنوال درجة‬ ‫ماج�ستري (‪ )M.A‬يف الفل�سفة من اجلامعة الأمريكية يف بريوت يف �شهر �آب‪ ،‬عام ‪ ،1972‬ونلتها‪� .‬أما عنوان الأطروحة‬ ‫فهو ‪� The Concept of Philia in Aristotle and the Stoics‬أي مفهوم املحبة عند �أر�سطو وعند الرواقيني‪.‬‬ ‫ وجتدر املالحظة �أن الذي كان له الف�ضل‪ ،‬وال �سواه‪ ،‬يف تعريفي على الفيل�سوف زينون الرواقي و�أهميته هو زعيم‬ ‫احلزب ال�سوري القومي االجتماعي �أنطون �سعاده‪ ،‬من خالل كتاباته‪.‬‬ ‫‪128‬‬


‫عمارة‬

‫البعد االجتماعي لتك ّون املدينة؛ جبيل مثاالً‬

‫‪1‬‬

‫�إميل عكرا ‪ -‬رئي�س احتاد املعماريني العرب‬

‫‪-I-‬‬

‫جتمعه يف املدينة و اتحّ اده مع �أترابه‬ ‫يف البدء كانت املدينة؛ ذلك �أنّ بدء احل�ضارة ن�ش�أ فيها‪ ،‬فقبل ّ‬ ‫امتد ع�شرات الآالف من ال�سنني؛ جتاربه كانت فردية‬ ‫تقدمت معارف الإن�سان ببطء كبري ّ‬ ‫فيها ّ‬ ‫غالباً وجماعية بع�ض الأحيان �ضمن جماعات �صغرية م�ؤ ّلفة من العائلة الكبرية �أو من بع�ض‬ ‫العائالت املرتبطة بالقربى �أو بامل�صلحة؛ وعلى هذه التجارب اجلماعية ت� ّأ�س�ست حالة ن�شوء‬ ‫التجمعات الكربى الأوىل‪ ،‬فت� ّأ�س�ست القرى امل ّتكلة على ن�شاط اقت�صادي واحد كالزراعة مث ًال �أو‬ ‫ّ‬ ‫ن�سبي‬ ‫معي�شي‬ ‫اكتفاء‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫أمن‬ ‫�‬ ‫من‬ ‫البدائية‬ ‫أوىل‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫عات‬ ‫التجم‬ ‫هذه‬ ‫نته‬ ‫م‬ ‫�‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫أ�سماك؛‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫�صيد‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫�شكل احلافز الأ�سا�سي لتح ّولها �إىل م ّتحدات ريفية بدئية‪ ،‬تعقدت خاللها العالقات و ت�ش ّعبت‬ ‫واغتنت واتجّ هت بفعل التط ّور نحو �إر�ساء قواعد امل ّتحدات املدينية البدئية فكانت �أور ‪ Our‬و �أوروك‬ ‫‪ Ourouk‬و ماري ‪ Mari‬و جبيل ‪ Gbayl‬و عدد من امل�ستوطنات الب�شرية الكبرية التي حت ّولت �إىل‬ ‫بت�شكلها‪ ،‬تاريخ احتالل �إن�سان معينّ لأر�ض مع ّينة‪ ،‬و �أثّر ّ‬ ‫مدن و حوا�ضر كتبت‪ّ ،‬‬ ‫ت�شكلها على‬ ‫�شخ�صية هذا الإن�سان الذي ابتدعها‪ ،‬فط ّورته و ط ّورها‪ ،‬و ال تزال هذه املعادلة باالتجّ اهني ّ‬ ‫متحكمة‬ ‫بحالة املجتمعات املعا�صرة‪ ،‬فهي حالة ع�ضوية بنيوية مت� ّأ�صلة يف الب�شر‪.‬‬ ‫أخ�ص ن�شوء املدن و تك ّونها‬ ‫االجتماع �إذن هو يف �أ�صل تط ّور � ّأي ظاهرة من ظواهر احل�ضارة و بال ّ‬ ‫املهمة تو ّزع املهام و ن�شوء االخت�صا�ص و تن ّوع املهن و بالتايل‬ ‫وتط ّورها‪ .‬و من مفاعيل هذا االجتماع ّ‬ ‫حتدد مقام ّ‬ ‫كل فرد يف اجلماعة‪ .‬و ما طال الأمر ح ّتى ت� ّأكدت الفروقات التي‬ ‫بروز تراتبية مع ّينة ّ‬ ‫ظهرت يف املجتمع القروي‪ ،‬فالتزم املحارب الدفاع عن املدينة و �سيطر على �أهلها بق ّوة ال�سالح‪،‬‬ ‫و �أكمل الكاهن‪ ،‬الذي ورث ال�ساحر‪ ،‬و�ساطته بني النا�س و الإله ف�سيطر عليهم برهبة الدين‪،‬‬ ‫تكد�ست الق ّوة االقت�صادية ب�أيدي ق ّلة منهم‪ّ ،‬‬ ‫فتحكم ر�أ�س املال مبعي�شة النا�س و برزت‬ ‫ومع الزمن ّ‬ ‫ ‬

‫‪1‬‬

‫�ألقيت هذه املحا�ضرة �ضمن م�ؤمتر «العمارة و امل�شهد‪ ،‬قراءة مدينة» يف دم�شق يو َمي ‪ 17‬و ‪ 18‬ت�شرين الثاين ‪.2008‬‬ ‫‪129‬‬


‫ال�سيطرة الثالثة ّ‬ ‫فتحكم �أ�صحاب الر�ساميل يف م�صري النا�س و جمتمعاتهم‪ .‬و يف غياب قوانني‬ ‫الب�شري من وجهة �إن�سانية عادلة‪ ،‬برزت الفروقات الطاغية بني‬ ‫و�أنظمة حكم ناظمة لالجتماع‬ ‫ّ‬ ‫ت�شكل العمارة و بالتايل على ّ‬ ‫الب�شر فطغَت على ّ‬ ‫ت�شكل املدينة‪ ...‬و باختزالٍ �شديد ن�ستطيع القول‬ ‫�إ ّنه �إذا كانت التح�صينات العامة‪� ،‬أي الأ�سوار املحيطة باملدينة و القالع �أو احل�صون املنت�شِ رة يف‬ ‫احليوي هي �ش�أن عام ومن طبيعة الأمور و تدخل �ضمن منظور حقوق املواطن وواجباته‪،‬‬ ‫جمالها‬ ‫ّ‬ ‫ف�إنّ قلعة احلاكم يف قلب املدينة �أو يف �أطرافها ال تدخل �ضمن هذه ال�ضرورات‪� ،‬أنها تعبري عن‬ ‫�سطوته على ّ‬ ‫الت�صدي للمعتدي‬ ‫�سكانها و جت�سيد ل�سيطرته عليها �أو ًال وقبل فعل الدفاع عنها و ّ‬ ‫عليها‪ .‬و�إذا كانت الهياكل ودور العبادة مبن ّية للنا�س ح ّتى يعبدوا فيها �آلهتهم‪ ،‬وحت ّولت بفعل‬ ‫مقد�سة عامة‪ ،‬هي من ال�ش�أن العام و�ضرورة له‪ ،‬ف�إنّ ق�صور كبار الكهنة و �أمراء‬ ‫ذلك �إىل �أماكن ّ‬ ‫املعابد لي�ست من ال�ش�أن العام ب�شيء‪ ،‬فهي من�ش�أة حل�صر العالقة فيما بني النا�س والإله بالو�سيط‬ ‫ال�ساحر‪ -‬الكاهن و اعتباره نائباً عن الإله جتاه النا�س وح�صر الإرادة الإلهية مبا يقوله ويفعله‬ ‫وح�ض النا�س على الطاعة العمياء له‪ .‬و �إذا كانت �إدارة املال احلكيمة وعدم التبذير �صفة حميدة‬ ‫ّ‬ ‫ومفيدة لل�صالح اخلا�ص ولل�صالح العام‪ ،‬ف�إنّ االحتكار وتكدي�س ر�أ�س املال هو �آفة اجتماعية‬ ‫و�سيا�سية و�أخالقية‪ ،‬ذلك �أنّ هذا الفعل الظامل ي�سمح ٍ‬ ‫ب�شطط كبري خا�ص ًة مبا له عالقة بتقدير‬ ‫ح�صة املنتج بج�سده والفاعل‬ ‫إنتاج ما‪� ،‬إذ لي�س من العدل مبكان �أن تكون ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح�صة امل�ساهمني يف � ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ح�صة الذي م َّول هذا الإنتاج والذي �أداره‪.‬‬ ‫بفكره �أقل من ّ‬ ‫‪-II-‬‬

‫ مهما يكن من �أمر‪ ،‬و ملّا كنت هنا يف معر�ض تقدير ما نتج عن هذه احلال و لي�س تقييمه‪ ،‬ف�إ ّنني‬‫�أنطلق من هذا الواقع و �أ�ستعر�ض نتائجه يف مدينة جبيل‪ ،‬املدينة التي �أنا منها‪ ،‬ذلك �أنّ عمرها‬ ‫َ‬ ‫عدة تركت ب�صمات قو ّية على املوقع و�أثراً وا�ضحاً يف تك ّونها و يف‬ ‫كبري جداً و م ّر تاريخها‬ ‫مبراحل ّ‬ ‫تط ّورها‪ .‬نبد�أ من املرحلة الأوىل حيث ارتقت قرية �ص ّيادي ال�سمك الكبرية �إىل م�صاف املدن‪،‬‬ ‫وكان ذلك �أواخر الألف الرابع قبل امليالد‪ .‬فبدءاً من ‪ 3200‬ق‪.‬م‪ .‬ارت�سمت ال�شوارع و تث ّبتت‪،‬‬ ‫جتمعت الأحياء حولها و حول احل ِّيز الكبري املحيط بـ «بري امللوك»‪ ،‬وبد�أت �أعمال ت�أهيل هذا‬ ‫و ّ‬ ‫النبع ف�ش ّيدت اجلدران الداعمة جلوانب احلفرة التي حت�ضنه وو�صلت الأدراج ال�ساحة املحيطة‬ ‫بربكة جتميع مياه النبع الواقعة على حوايل ع�شرة �أمتار �أدنى من م�ستوى �ساحة املعابد التي‬ ‫ّ‬ ‫حتتل و�سط املدينة‪ .‬ويف الوقت ذاته ُب ِن َيت املعابد بطريقة �أمنت و �أ�سلم من ال�سابق‪َ ،‬كبرُ َ حجمها و‬ ‫تو�ضح ّ‬ ‫م�سطحها وثبت على مبد�أ احل ِّيزات الثالثة‪ :‬الباحة الأوىل وهي للعامة‪ ،‬الباحة الثانية وهي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫للم�صطفني‪ ،‬والباحة الثالثة وهي قد�س الأقدا�س ال يدخلها �إ ّال الطاهرون و الرا�سخون يف العلم‬ ‫م�ستوى‬ ‫�أي الكهنة و بع�ض الع ّرافني‪� .‬أما ق�صر امللك املوجود عاد ًة مبعية املعبد الأ�سا�سي وعلى‬ ‫ً‬ ‫‪130‬‬


‫عمارة‬

‫�أدنى منه ولو بقليل‪ ،‬يرت ّبع هنا على التلة ال�صخرية الأعلى يف املدينة‪ ،‬وهي تلة مك َّونة من احلجر‬ ‫للمتو�سط‪ ،‬ا�ستعملت لفرتة �سابقة‬ ‫الرملي ‪ Grès dunaire‬املنت�شر على غالبية ال�شاطىء ال�شرقي‬ ‫ّ‬ ‫مقلعاً لهذه املادة‪ ،‬و يبدو من املكت�شفات �أنّ الفجوات التي نتجت عن �أعمال القلع ا�ستعملها‬ ‫ب ّنا�ؤو الق�صر �أقبية له و �شادوا �أجنحة الق�صر عليها؛ و من نوعية البناء املتبقي من هذا الق�صر‬ ‫ميكننا ا�ستنتاج التقنية العالية التي مت ّتع بها �أولئك الب ّنا�ؤون‪ ،‬فاحلجارة كبرية احلجم و م�صقولة‬ ‫بعناية وتلتحم مع بع�ضها بدقة كبرية ت�شري �إىل مت ّلكهم علم اجليومرتيا �إ�ضاف ًة �إىل تقنيات القطع‬ ‫املهم يف املو�ضوع هو مكان ق�صر احلكم هذا وم�ستوى املكان الطبيعي الذي �شُ ِّيد عليه؛‬ ‫والر�صف‪ّ .‬‬ ‫�إ ّنه �أعلى مكان يف املدينة‪ ،‬ي�شرف من اجلهة ال�شمالية الغربية على امليناء حو�ضاً ومدخ ًال و م�سلكاً‪،‬‬ ‫ومن جهة ال�شرق ي�شرف على الهياكل و ال�ساحة الكبرية التي جتمعها وجتمع �أمكنة التجارة‬ ‫والتبادل‪ ،‬وي�شرف على مدخل املدينة الأ�سا�سي الوحيد‪ ،‬وهو من جهة ال�شرق �أي�ضاً وحم�صَّ ن‬ ‫ب�شكل ا�ستثنائي؛ و�إذا �أ�ضفنا �إىل هذه ال�صفات �إ�شراف املوقع على كامل �أحياء املدينة و على‬ ‫جممل �أ�سوارها و �أحاطته التامة بالأفق البحري من �أق�صى اجلنوب �إىل �أق�صى ال�شمال‪ ،‬تو�ضح‬ ‫املمتدة من‬ ‫أهمية ال�سلطة ال�سيا�سية احلاكمة يف هذه املدينة الكنعانية الكربى يف املرحلة ّ‬ ‫لنا مدى � ّ‬ ‫�أوا�سط الألف الثالث ح ّتى �أوا�سط الألف الثاين قبل امليالد‪ .‬ال ّ‬ ‫�شك يف �أنّ الرتاتبية االجتماعية‬ ‫للنا�س من جهة و مفاهيمهم الإميانية و ال�سيا�سية و االقت�صادية من جهة �أخرى هي التي �أملت هذا‬ ‫التكوين املعماري و العمراين للمدينة‪ .‬ف�إذا ا�ستعدنا‪ ،‬باخت�صا ٍر �شديد‪ ،‬الرتاتبية املكانية للن�سيج‬ ‫العمراين املديني للموقع يف تلك احلقبة من الألف الثالث قبل امليالد‪ ،‬ر�أينا �أنّ ق�صر احلكم يقع‬ ‫على �أعلى ت ّل ٍة (�صخرية) ترتفع عن �سطح البحر حوايل خم�سة وع�شرين مرتاً‪ ،‬وعلى مقرب ٍة منه‬ ‫�شرقاً‪ ،‬و على م�ستوى �أدنى بحوايل مرتين و ن�صف يقع املعبد الأ�سا�سي‪ ،‬و هو لبعلة جبيل الإلهة‬ ‫الأم �شفيعة املدينة‪ ،‬و يف نف�س االتجّ اه و على م�ستوى �أدنى بحوايل املرتين و ن�صف �أي�ضاً يقع معبد‬ ‫«ر�شف ‪� »Rechef‬إله احلرب و حامي املدينة‪ .‬يرتدي مكان معبد «ر�شف» رمزية هامة‪ ،‬فهو من‬ ‫ناحية ال�شرق يواجه مدخل املدينة املح�صَّ ن‪ ،‬يف�صله عنه �ساحة وا�سعة ت�ستقبل الوافدين‪ّ ،‬جتاراً‬ ‫حجاجاً‪ ،‬الفتاً بذلك انتباههم �إىل �أنَّ ا�ستعداد �أهل املدينة للتبادل و للتجارة‬ ‫كانوا �أم �صناعيني �أم َّ‬ ‫و لل�سالم ال يوازيه ت�صميماً �سوى ا�ستعدادهم للحرب و للدفاع عن �أنف�سهم؛ �أ ّما من ناحية الغرب‬ ‫مائي مثلث الأ�ضالع ّ‬ ‫فهو يواجه معبد البعلة‪ ،‬يف�صله عنه َّ‬ ‫ي�شكل �ضلعه الثالث من جهة‬ ‫م�سطح ّ‬ ‫الظن الطاغي ب�أ ّنها دينية الطابع‪ ،‬فتكتمل بذلك وحدة املكان‬ ‫مبنى غام�ض الوظيفة‪ ،‬مع ّ‬ ‫ال�شمال ً‬ ‫مقد�س يظ ِّهر قد�سية احلياة‬ ‫مائي ّ‬ ‫الدينية و الرمزية امل�ؤ ّلفة من ثالثة �أبنية للعبادة ي�صل بينها مثلث ّ‬ ‫و نوامي�سها‪ .‬زاوية املثلث اجلنوبية ت ّتجه نحو «بري امللوك» �أي نبع املدينة و م�صدر احلياة فيها‪ ،‬و زاويته‬ ‫حممي بالأ�سوار‬ ‫املهم امل ّت�صل بامليناء ال�شمايل من خالل ٍ‬ ‫احلي ال�شمايل ّ‬ ‫�شارع ٍّ‬ ‫ال�شمالية ت ّتجه نحو ّ‬ ‫يتبدى امل�شهد للقادم �إىل املدينة ب ّراً على‬ ‫مت�صل مبم ٍّر مد َّرج و حم�صَّ ن ي�صل املدينة مبينائها‪َّ .‬‬ ‫و ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫مقبي وحم�صَّ ن‪،‬‬ ‫ال�شكل التايل‪� :‬أ�سوا ٌر عالية يخرقها من اجلهة ال�شمالية ال�شرقية‬ ‫مدخل ٌ‬ ‫واحد ٌّ‬ ‫‪131‬‬


‫يتم الو�صول �إليه �صعوداً و بتد ّرج‪ ،‬و الدخول فيه برهب ٍة مترحلها ب ّوابات �سبع ال تزال عتباتها بادي ًة‬ ‫ّ‬ ‫للعيان‪ ،‬و الولوج منه �إىل الداخل من خالل منحد ٍر متد ّرج ي�صل �إىل ال�ساحة العامة حيث يتتاىل‬ ‫غرباً �أمام ناظ َريه معبد «ر�شف» �إله احلرب ومن َّثم معبد البعلة الإلهة الأم على م�صطب ٍة �أعلى ومن‬ ‫َّثم الق�صر امللكي مركز احلكم يت ِّوج ّ‬ ‫متتد الأحياء ال�سكنية‬ ‫الكل‪ .‬ومن اجلهتني‪ ،‬مييناً و ي�ساراً‪ّ ،‬‬ ‫يتخ ّللها بع�ض املتاجر و املحرتفات و املخازن‪ ،‬يخرقها ارتفاعاً و حجماً بع�ض بيوت الأغنياء مثل‬ ‫مبنى‬ ‫ذلك َّ‬ ‫امل�سمى «املق ّر الكبري‪ »La grande résidence ،‬و املوجود يف غرب ِّ‬ ‫احلي اجلنوبي‪ ،‬وهو ً‬ ‫مر ّبعاً تقريباً بطول خم�سة و ثالثني مرتاً و عر�ض �إثنني و ثالثني �أي مب�ساحة �ألف مرت مر ّبع تقريباً؛‬ ‫احلي ال�شمايل و التي‬ ‫ومن املفيد‪ ،‬يف �إطار مو�ضوعنا‪ ،‬مقارنته مبنزلٍ من منازل العامة املنت�شِ رة يف ّ‬ ‫ترتاوح م�ساحتها بني اخلم�سني واملائة مرتاً مر ّبعاً‪ .‬يبقى �أن �أ�شري �إىل �أنَّ �شوارع هذا الن�سيج املديني‬ ‫عدة مرتاً و ن�صف املرت‪ ،‬فيما ترتفع عتبات املداخل‬ ‫يتعدى عر�ض بع�ضها يف �أماكن ّ‬ ‫�ض ِّيقة جداً ال ّ‬ ‫ب�شكل وا�ضح عن م�ستوى ال�شارع ب�سبب �أمطار ال�شتاء الغزيرة‪ ،‬ذلك �أنّ ال�شوارع تتح َّول ب�سرع ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫بع�ض منها لت�صريف مياه ال�شتاء‪� .‬أوا�سط الألف‬ ‫�إىل �سواقٍ ّملد ٍة ق�صرية رغم وجود جمارير يف ٍ‬ ‫الأول قبل امليالد طر�أ تغي ٌري على ن�سيج املدينة املبني‪ ،‬نتيجة �سيطرة الفر�س على كامل مدن ودول‬ ‫الهالل اخل�صيب‪ ،‬ف�ساد الطرز الفار�سي على البناء و خا�ص ًة العام منه‪ ،‬وما بقي من هذه املرحلة‬ ‫ت�ضم �صالة كبرية للعر�ش «‪ »Apadana‬و بع�ض قواعد الأعمدة‪ .‬و ّ‬ ‫ي�شكل موقع‬ ‫يتمثل بالقلعة التي ّ‬ ‫هذه القلعة‪ -‬الق�صر دالل ًة مهمة على تغي ٍري يف مفهوم عالقة ال�سلطة بال�شعب‪ ،‬ذلك �أ ّنها مبن ّية على‬ ‫الق�سم ال�شرقي من ال�سور كما هي العادة يف مدن وادي الرافدين و يف مدن فار�س‪ .‬هناك � ّأ�س�ست‬ ‫املدن القوية �أمرباطوريات يقت�ضي برو ُزها مركزي ًة �صارمة للحكم‪ ،‬و هنا بقيت املدن دو ًال �صغرية‬ ‫منتخبة ت�ساعد امللك يف �إدارة �ش�ؤون احلكم‪.‬‬ ‫�ضعيفة لها جمال�س �شعب َ‬ ‫احل�سي‪ ،‬و برغم اختزاله‬ ‫بعد هذا العر�ض ال�سريع‪ ،‬و الذي وجدت نف�سي م�ضط ّراً له بداعي التبيان ّ‬ ‫جوانب عديدة من حالة العمران يف جبيل تلك املرحلة‪ ،‬ن�ستطيع‪ ،‬و دون مغامر ٍة كبرية‪ ،‬الو�صول‬ ‫ٍ‬ ‫ا�ستنتاجات ن�سوق بع�ضها فيما يلي‪:‬‬ ‫�إىل‬ ‫‪-III-‬‬

‫حتددت مها ُمها من جه ٍة و �أماكن �سكناها من جه ٍة �أخرى‪.‬‬ ‫لقد انفرزت طبقات املجتمع بو�ضوح‪ ،‬و َّ‬ ‫و ظهرت الفروقات االجتماعية فيما بني ّ‬ ‫تو�ضحت‬ ‫احلكام وال�شعب‪ ،‬وفيما بينه و بني الكهنة‪ ،‬و ّ‬ ‫التجار‪ ،‬وبرزت‪،‬‬ ‫العمال و فيما بني ه�ؤالء وبني ّ‬ ‫يف ال�شعب نف�سِ ه الفروقات فيما بني املهنيني و ّ‬ ‫متقدم ًة على ّ‬ ‫البحارة �أ�صحاب املراكب و �أ ّمارها‪ ،‬و يظهر ذلك وا�ضحاً من‬ ‫ِّ‬ ‫كل َمن �سبق‪ ،‬طبقة ّ‬ ‫املقدمة �إىل املعابد على �شكل نذورات و «‪� »ex-voto‬أي‬ ‫خالل املرا�سي واليواطر املحفورة بت�أنٍّ و َّ‬ ‫قائمقامني‪ .‬و انر�سم ّ‬ ‫احلي ال�شمايل هي من‬ ‫كل ذلك يف العمارة �أو ًال‪ ،‬فمواد بناء بيوت العامة يف ّ‬ ‫‪132‬‬


‫عمارة‬

‫تر�صف على هواها بوا�سطة حلولٍ من الطني الكل�سي‪ ،‬و تو َّرق الحقاً بنف�س املواد‬ ‫احلجارة امللمومة َ‬ ‫ب�سائل من املاء والكل�س وامللح ُي�ضاف �إليه يف بع�ض الأحيان ٌ‬ ‫قليل من الزيت الذي يق ّوي‬ ‫و ُتطلى ٍ‬ ‫لزاج َته و الت�صاقَه على اجلدران‪� .‬أ ّما مواد بناء الق�صر امللكي فهي من احلجر املقطوع و امل�صقول‬ ‫واملر�صوف بوا�سطة الطني الكل�سي بحيث تتماهى ُ‬ ‫حلول الر�صف الرقيقة‪ ،‬فتظ ِّهر �شخ�صية ّ‬ ‫كل‬ ‫حجر على حدة‪ .‬و �إذا كانت الأعمدة ال�سبعة كافي ًة حلمل �سقف بيوت النا�س العاديني‪ ،‬ف�إنَّ‬ ‫تقدر مبائ ٍة و ع�شرين جذع �شجرة كانت �ضرورية حلمل �سقف «املق ّر الكبري»‪.‬‬ ‫غاب ًة من الأعمدة َّ‬ ‫لقد ّ‬ ‫�شكلت هذه العمارة و ذلك الرتتيب‪ ،‬املُ�شار �إليه �سابقاً‪ ،‬مدين َة ذلك الزمن‪ ،‬فظهرت كدائر ٍة‬ ‫يطل على البحر و على مينائها و ُي�شرف على ال�سهول املحيطة‪ُّ ،‬‬ ‫حم�صَّ ن ٍة تعتلي مرتفعاً ُّ‬ ‫يحتل نب ُع‬ ‫املاء مرك َزها و ينت�شر يف و�سطها ق�ص ُر احلكم و ُ‬ ‫هياكل العبادة و تقوم �ساحة التبادل و التجارة‬ ‫للحي الغربي‬ ‫باال�ستقبال عند مدخلِها و تتو َّزع الأحياء حول الو�سط و �ضمن الأ�سوار مع متيي ٍز ِّ‬ ‫بيوت الطبقة املقتدرة‪ ...‬وال ّبد هنا من الإ�شارة �إىل �أنَّ موقع‬ ‫احلي اجلنوبي حيث تنت�شر ُ‬ ‫وجلز ٍء من ِّ‬ ‫احلا�ضرة الكنعانية ّ‬ ‫مرتا�صة ت�ساهم يف امل�شهد العمراين اجلبيلي‬ ‫ي�شكل و بقاياها الكثرية وحد ًة ّ‬ ‫يتم العي�ش فيه اليوم بل بجانبه‪� ،‬إذ �أن ال�سور ال�شمايل‬ ‫كما هي‪� ،‬أي متحفاً يف الهواء الطلق ال ّ‬ ‫للمدينة الكنعانية ّ‬ ‫متتد‬ ‫�شكل �أ�سا�ساً لبناء ال�سور اجلنوبي للمدينة القرو�سطية امل�سكونة دوماً و التي ّ‬ ‫يف املنخف�ض الطبيعي �شمايل املدينة الكنعانية‪ .‬و قبل الكالم عن املدينة القرو�سطية امل�سكونة دون‬ ‫انقطاع منذ ّ‬ ‫ا�ستعرا�ض �سريع للمراحل الفا�صلة فيما بني املرحلتني ال�سابق َتي‬ ‫ت�شكلها‪ ،‬ال ّبد من‬ ‫ٍ‬ ‫الذكر‪.‬‬ ‫‪-IV-‬‬

‫ُتعترب املرحلة الفينيقية الكال�سيكية توا�ص ًال طبيعياً للمرحلة الكنعانية على نف�س املوقع و‬ ‫بنف�س الروح‪ ،‬و ُيعترب منت�صف القرن الرابع قبل امليالد‪� ،‬أي مع الفتح اله ّليني بقيادة الإ�سكندر‬ ‫املكدوين‪ ،‬هو تاريخ انتهاء تلك املرحلة و بدء املرحلة اله ّلين�ستية‪ ،‬حيث �أخذت بع�ض املفاهيم‬ ‫و الط ُرز اليونانية تهيمن على �ش�ؤون احلياة العامة و على ر�أ�سها الرتتيب املديني و العمارة‪ .‬و‬ ‫مع الفتح الروماين �أوا�سط القرن الأول قبل امليالد تك ّر�ست هذه احلالة و �أ�صبحت مدننا‪ ،‬و لو‬ ‫ب�ألوانها اخلا�صة‪ ،‬تت�شابه مع غالبية مدن حو�ض البحر املتو�سط‪� .‬أ ّما يف جبيل‪ ،‬فما تبقّى من هذه‬ ‫املرحلة لي�س بالكثري‪ ،‬لكن ت�أث َريه على امل�شهد العمراين لي�س قلي ًال‪ ،‬و يظهر ذلك يف الأمكنة التي‬ ‫تتطابق فيها �أم تتوازى تخطيطات ال�ساحات و ال�شوارع و الطرقات الالحقة مع تلك التي من تلك‬ ‫املبدل و قلب املدينة‬ ‫بائن بفعل توازي الو�صلتني فيما بني ِّ‬ ‫احلقبة؛ و املثال الراهن على هذا الأمر ٌ‬ ‫املعمد و هو الـ «‪ »Cardo‬امل ّتجه نحو ال�شمال ال�شرقي؛ �أ ّما ال�شارع املتقاطع‬ ‫مع ال�شارع الروماين َّ‬ ‫يحدد اتجّ اه‬ ‫بزاوية قائمة مع هذا الأخري و هو الـ «‪ »Decumanus‬و امل ّتجِ ه نحو ال�شمال الغربي‪ ،‬فهو ّ‬ ‫‪133‬‬


‫ال�شارع الرئي�سي احلايل يف املدينة املعا�صرة املوجود �شرقه على �أمتار قليلة و مبوازاته‪ .‬و ن�ستطيع‬ ‫القول �إن ال�شارع الأ�سا�سي الأول‪� ،‬أي امل ّتجه نحو ال�شمال ال�شرقي الـ «‪ »Cardo‬و املنطلق من‬ ‫«�ساحة احلوريات «‪ »Place du Nymphée‬املوجودة قرب الربج ال�شمايل ال�شرقي للقلعة ال�صليبية‪،‬‬ ‫ي�ساهم بجزء كبري منه بر�سم امل�شهد العمراين للمدينة املعا�صرة‪ ،‬ذلك �أن هذا اجلزء املمتد من‬ ‫مبدل الطريق ال�سريع املعا�صر‪ ،‬يحتفظ‬ ‫التقاطع ال�صرحي «‪ »Tetrapile‬املن العهد الروماين نحو ِّ‬ ‫بعد ٍد من �أعمدته اجلرانيتية الأ�سوانية الداكنة ِ‬ ‫املنت�صبة على قواعدها الرخامية البي�ضاء‪ ،‬معتمر ًة‬ ‫تيجانها الكورنتية الرخامية البي�ضاء؛ كما و �أن م�ساح ًة من الر�صف احلجري ال�ضخم ال زالت يف‬ ‫مكانها على �أر�ض ال�شارع و عالمات عجالت عربات اخليل حافرة فيها �أخاديد تنبىء عن عمر‬ ‫خدمتها‪ .‬جمموع ٌة �أخرى من هذه الأعمدة موجود ٌة على الت ّلة ال�صخرية حيث كان الق�صر امللكي‬ ‫حتدد ال�شارع الفخم الذي كان ي�صل «�ساحة احلور ّيات» بهيكل البعلة املُعاد بنا�ؤه‬ ‫القدمي‪ ،‬و هي ِّ‬ ‫ح�سب الطراز ال�سائد يومها‪ .‬عدا عن هذه البقايا الثالث امل�ؤثِّرة يف هيكلية املدينة‪ ،‬لي�س هنالك‬ ‫يف جبيل من �آثار �أخرى من تلك احلقبة �سوى عديد من العنا�صر املعمارية التف�صيلية املبعرثة‬ ‫ٍ‬ ‫حقبات الحقة كالقلعة و الأ�سوار و بع�ض �أقبية بيوت مدينة القرون‬ ‫واملُعاد ا�ستعمالها يف �أبني ٍة من‬ ‫تقدم‪ ،‬و بغياب بقايا كافية كما هي احلال يف تدمر و يف �أفاميا‪ ،‬ال ن�ستطيع‬ ‫الو�سطى‪ .‬انطالقاً ّمما َّ‬ ‫اجلزم مباه ّية امل�شهد العمراين جلبيل خالل املرحلة اله ّلين�ستية و ما تبعها من مرحل ٍة رومانية‪ .‬لك ّننا‬ ‫باملتو�سط‪ ،‬الذي حت َّول‬ ‫وباال�ستناد �إىل ما نعرفه عن حالة العمران يف مناطق ال�سلم الروماين املحيطة ّ‬ ‫عدة من الزمن بحري ًة رومانية‪ ،‬ن�ستطيع التقدير القريب جداً من الواقع �أنَّ م�شهد املدينة مل‬ ‫لقرونٍ ّ‬ ‫َ‬ ‫بتفا�صيل لها عالق ٌة بطبيعة املوقع املكانية‬ ‫يختلف ع�ضوياً عن مثيالتها يف املنطقة املذكورة �سوى‬ ‫يبق عندنا �سوى كني�سة �سيدة‬ ‫قرب من البحر و ما �شابه‪ .‬من املرحلة البيزنطية مل َ‬ ‫من ت�ضاري�س و ٍ‬ ‫البحر الواقعة يف و�سط املدينة القرو�سطية‪ ،‬مط ّلة على امليناء و مندجمة يف م�شهد عمارة القرون‬ ‫الو�سطى حتى التماهي معها‪ ،‬ذلك �أنه من ال�صعب متييزها عن مثيالتها التي من اخلم�سة �أو ال�ستة‬ ‫قرون الالحقة و التي مل ت�شهد عمارتها تغيرياً ملحوظاً يف مواد البناء و تقنياته‪ .‬و حتتفظ املدينة‬ ‫�أي�ضاً بجز ٍء من �أ�سوار املرحلة العربية الإ�سالمية‪ ،‬و خا�ص ًة من احلقبة الفاطمية التي �سبقت الفتح‬ ‫عمار؛‬ ‫ال�صليبي مبا�شرةً‪ ،‬عندما كانت جبيل من �أعمال طرابل�س التي كانت حتت حكم بني ّ‬ ‫فغالبية الأ�سوار املبن ّية من احلجر الرملي ال�صغري القطع هي من تلك احلقبة‪ ،‬بينما تعود الأبراج‬ ‫بقطع كبري‪ ،‬و غالباً ما‬ ‫التي تتخ ّللها �إىل املرحلة ال�صليبية حيث ّمت بنا�ؤها بنف�س النوع من احلجر �إنمّ ا ٍ‬ ‫ّمت يف هذا البنيان �إعادة ا�ستعمال احلجارة امله ّيئة �سلفاً و املوجودة يف الأبنية ال�سابقة‪ ،‬خا�ص ًة تلك‬ ‫التي من املرحلة الفار�سية املتمثلة ب�صالة العر�ش و التح�صينات املحيطة بها؛ و يبدو �أنَّ الأبنية تلك‬ ‫ّ‬ ‫�شكلت املقلع اجلاهز للق�سم الأكرب من مواد بناء القلعة ال�صليبية و �أبراج ال�سور حامي املدينة‪.‬‬

‫‪134‬‬


‫عمارة‬

‫‪-V-‬‬

‫ّ‬ ‫ت�شكل مدينة القرون الو�سطى جزءاً �أ�سا�سياً من حياة املدينة احلالية العامة؛ فهي الآن مركز‬ ‫رئي�سي يف الن�سيج العمراين‪ .‬و حدود هذه املدينة ال لب�س فيها‪ ،‬فهي منت�شرة �ضمن‬ ‫ٍ‬ ‫ا�ستقطاب ّ‬ ‫ب�شكل م�ستطيل طوله من ال�شرق �إىل الغرب حوايل ثالثماية مرتاً و عر�ضه من ال�شمال‬ ‫�أ�سوارها ِ‬ ‫�إىل اجلنوب حوايل مائة و خم�سني مرتاً‪ّ .‬‬ ‫حتتل القلعة‪ -‬مركز احلكم الزاوية اجلنوبية ال�شرقية من‬ ‫واحد �صوب ال�شمال و هو ال�ضلع ال�شرقي‬ ‫هذا امل�ستطيل‪ ،‬و ينطلق منها �ضلعان من �أ�سوار املدينة‪ٌ ،‬‬ ‫و ينتهي عند الربج الكبري الذي ّ‬ ‫ي�شكل احل�صن الأ�سا�سي عند زاوية املدينة ال�شمالية ال�شرقية‪،‬‬ ‫وثانٍ �صوب الغرب و هو ال�ضلع اجلنوبي و ينتهي عند احل�صن البحري اجلنوبي الذي يحمي‬ ‫امليناء من جهة اجلنوب‪ .‬ينطلق من برج الزاوية الكبري �ضل ٌع ثالث من الأ�سوار باتجّ اه الغرب‬ ‫م�سطح �صخري كا�س ٍر للأمواج‪ّ ،‬‬ ‫وهو ال�ضلع ال�شمايل و ينتهي على ّ‬ ‫ي�شكل �أ�سا�ساً له‪ ،‬و ينعطف‬ ‫جنوباً ّ‬ ‫املبني على ّ‬ ‫امل�سطح ال�صخري املُ�شار‬ ‫لي�شكل ال�ضل َع الرابع للأ�سوار و هو ال�ضل ُع الغربي ّ‬ ‫�إليه و ينتهي باحل�صن البحري ال�شمايل حامي امليناء من جهة ال�شمال‪ .‬و �إذا كان هذا الأخري‬ ‫ال زال منت�صباً على ال�ضفة ال�شمالية من مدخل امليناء‪ ،‬ف�إنَّ زمي َله على ال�ضفة اجلنوبية مهدو ٌم‬ ‫ح ّتى املدماك الأول الظاهرة بقاياه ملت�صقة ّ‬ ‫يبق من ال�ضلع‬ ‫بامل�سطح ال�صخري امل� َّؤ�س�س عليه‪ .‬مل َ‬ ‫لكن ال�ضلع ال�شمايل ال زال واقفاً على‬ ‫الغربي �سوى بع�ض املداميك على �أجزاء من م�ساره‪َّ ،‬‬ ‫كامل طوله و يتخ ّلله بويبتان وخم�سة �أبراج‪ ،‬تقع البويبة الأوىل بني الربج الأول و الربج الثاين‬ ‫انطالقاً من البحر‪ ،‬و تقع البويبة الثانية بني الربج الثالث و الربج الرابع‪ .‬كذلك الأمر بالن�سبة‬ ‫برج واحد كبري يف و�سطه و ب ّوابة املدينة‬ ‫لل�ضلع ال�شرقي‪ ،‬فهو موجو ٌد على كامل م�ساره و يتخ ّلله ٌ‬ ‫الأ�سا�سية الوحيدة التي تخرتق ال�سور عند الربع الأول من طوله انطالقاً من القلعة و بحمايتها‪.‬‬ ‫برج يقع عند منت�صفه و ما تبقّى من �أ�سا�س‬ ‫ال�ضل ُع اجلنوبي اختفى كلياً ما عدا اجلزء الأ�سفل من ٍ‬ ‫احل�صن البحري اجلنوبي املُ�شار �إليه �سابقاً‪ .‬من ال�سهل يف هذه احلالة ت�ص ّور الأجزاء املهدومة كامل ًة‬ ‫و القول �إ ّنه هكذا بدت املدينة من اخلارج خالل القرنني الثاين ع�شر و الثالث ع�شر على الأقل‪،‬‬ ‫�أ ّما من الداخل فالعنا�صر الأ�سا�سية التي هيكلتها‪ ،‬باال�ستناد �إىل ما زال بادياً‪ ،‬هي التالية‪� :‬ساحة‬ ‫القلعة و هي التي ت�ستقبل الداخل من الب ّوابة ال�شرقية الوحيدة للمدينة‪ ،‬و ال�شارع الذي ينطلق‬ ‫ٍ‬ ‫انعطاف‬ ‫منها غرباً و مبا�شر ًة نحو املرف�أ‪ ،‬و ذلك الذي ينطلق منها �شما ًال باتجّ اه الربج الكبري‪ ،‬و بعد‬ ‫بزاوي ٍة قائم ٍة نحو الغرب‪ ،‬ي�صل �إىل املرف�أ �أي�ضاً‪ ،‬و يتف ّرع منه �سويق ًة تخدم البويبة الأوىل املفتوحة‬ ‫تلتف بالتوازي مع هذا ال�سور‪ّ .‬‬ ‫ي�شكل امليناء الواقع غرب املدينة‬ ‫يف ال�سور ال�شمايل‪ ،‬و �أخرى ّ‬ ‫ا�ستقطاب �أ�سا�سية فهو‪ ،‬بالن�سبة للقادم من البحر‪ ،‬الب ّوابة الوحيدة للدخول �إىل املدينة‪ ،‬وهو‬ ‫نقطة‬ ‫ٍ‬ ‫رئتها الوحيدة مع العامل اخلارجي زمن احلروب ال ّربية كما هي احلال بالن�سبة للب ّوابة ال�شرقية‬ ‫‪135‬‬


‫زمن احلروب البحرية‪ .‬و ال ّبد من الإ�شارة هنا �إىل �أنّ ال�صليبيني مل ي�ستطيعوا احتالل جبيل‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ح�صارات دامت حوايل الع�شر �سنوات‪� ،‬إ ّال عند حما�صرتها ب ّراً و بحراً يف نف�س‬ ‫مناو�شات و‬ ‫رغم‬ ‫الوقت‪ ...‬بالإ�ضافة �إىل �شبكة الطرقات و املنافذ هذه‪ ،‬هنالك عن�صران ال زاال ّ‬ ‫ي�شكالن ع�صباً‬ ‫�أ�سا�سياً يف الن�سيج احلايل و هما كني�سة مار يوح ّنا ماركو�س‪ ،‬كاتدرائية املدينة �سابقاً و تقع يف املركز‬ ‫الهند�سي للمدينة و هي من القرن الثاين ع�شر‪ ،‬و كني�سة �س ّيدة النجاة �أو �س ّيدة البحر‪ ،‬و هي من‬ ‫القرن ال�سابع و ت�شرف على امليناء‪� .‬إنّ بع�ض املعامل املعمارية املنت�شرة يف �أ�سا�سات بع�ض البيوت‬ ‫و �أقبيتها و طوابقها الأر�ضية ي�سمح لنا بتقدير ّ‬ ‫تركز بيوت بع�ض الطبقة احلاكمة حول املرف�أ و حول‬ ‫كاتدرائية مار يوح ّنا ماركو�س و قرب برج الزاوية الكبري‪� ،‬أ ّما �أحياء العا ّمة ّ‬ ‫فت�شكل طوقاً متوازياً مع‬ ‫الأ�سوار و يف ظ ّلها ينحدر مع توبوغرافية الأر�ض نحو امليناء‪.‬‬ ‫وا�ضح �أنّ التغيري البنيوي الذي طر�أ على هيكلية املدينة يعود بالدرجة الأوىل �إىل التغيري الكبري‬ ‫ٌ‬ ‫الذي طر�أ على الأو�ضاع العامة يف منطقتنا بعد تقهقر حالة الإمرباطورية الإ�سالمية مبرك َزيها‬ ‫الأ�صليني دم�شق و بغداد‪ ،‬و هي الإمرباطورية التي ورثت كثرياً من بنى و هيكلية الإمرباطورية‬ ‫البيزنطية الوريثة امل�سيحية للإمرباطورية الرومانية التي كانت امل� ِّؤ�س�سة الأوىل لعامل حو�ض البحر‬ ‫املتو�سط‪� .‬إنّ حالة التقهقر تلك �أعادت حالة املدن ال�سيا�سية و االجتماعية و االقت�صادية �إىل حال ٍة‬ ‫ّ‬ ‫م�شابهة لتلك التي كانت عليها يف املرحلة الكنعانية‪ :‬مدن دويالت �ضعيفة متحاربة ا�ستعادت‬ ‫اللجوء �إىل التح�صينات املدينية مع بني ٍة �إقطاعية هرمية �صارمة يلعب �سادتها غالباً دور �أمراء احلرب‬ ‫املتبدل على الو�ضع االقت�صادي‬ ‫املرتزقة «‪ .»Condotierri‬لقد ان�سحب الو�ضع ال�سيا�سي القلِق و ِّ‬ ‫تبدلٍ درامي‬ ‫و بالتايل على الو�ضع االجتماعي العام‪ ،‬و نظراً �إىل ِ�صغر املدينة‪� ،‬أ ّدت هذه احلالة �إىل ُّ‬ ‫تبدلهم هم‪ ،‬فنزح قو ٌم و وف َ​َد‬ ‫يف �أو�ضاع النا�س املعي�شية و احلياتية‪ ،‬و يف بع�ض الأحيان �أ ّدت �إىل ّ‬ ‫قو ٌم �آخر‪ ،‬و غالباً ما كانت �أحياء العامة من النا�س هي التي تدفع ثمن التغيريات الكربى‪ ،‬ف ُتح َرق‬ ‫ن�سيج �آخر �أو ُيعاد ترتي ُبها ل�صالح املقتدرين اجلدد من حماربني و ّجتار و حرفيني‪،‬‬ ‫و ُيبنى مكانها ٌ‬ ‫ف ُيعاد ّ‬ ‫ٍ‬ ‫مبنظورات �أخرى تختلف عن �سابقاتها بالطرز و بتقنيات البناء و ما �شابه من‬ ‫ت�شكل املدينة‬ ‫االبتكارات اجلديدة‪ ،‬لك ّنها ال تختلف �إطالقاً عنها مبعانيها و بدالالتها‪ .‬ا�ستعادت القلعة دو َرها‬ ‫و مكانَها على ال�سور‪ ،‬و ا�ستعاد الهيكل دو َره و مكانَه يف مركز املدينة‪ ،‬و كذلك بيوت الأعيان‬ ‫حول هذين املركزين و قرب الأمكنة اال�سرتاتيجية من ب ّوابات الأ�سوار و املوانىء‪ ،‬كما و بقيت‬ ‫منازل العا ّمة منت�شر ًة يف ّ‬ ‫يبدله �سوى ارتقا ٍء‬ ‫ظل الأ�سوار حتيط مبراكز ال�سلطة‬ ‫بتوا�ضع و بان�سحاق ال ّ‬ ‫ٍ‬ ‫لبع�ض من �أفرادِها يتمظهر بعمار ٍة خمتلفة تق ّلد الغنية و نادراً ما ترتقي �إىل م�ستواها‪.‬‬ ‫مرحلي ٍ‬ ‫ّ‬

‫‪136‬‬


‫عمارة‬

‫‪-VI-‬‬

‫�أر�ست املرحلة العثمانية‪ ،‬منذ مطلع القرن ال�ساد�س ع�شر حتى مطلع الع�شرين‪ ،‬حال ًة من اال�ستقرار‬ ‫تقدم و�سائل‬ ‫الن�سبي �أعادت احلياة املنفتحة �إىل معظم مدن و مناطق الهالل اخل�صيب‪ .‬و �ساعد ّ‬ ‫احلرب و تقنياتها و فنونِها على �ضمور �أهمية التح�صينات املدينية (�أي �أ�سوار املدن) مع احتفاظ‬ ‫انفتاحها على ِ‬ ‫بع�ضها‪ .‬ظهر‬ ‫انفتاح املدن على ريفِها و َ‬ ‫أهميتها؛ و قد �س ّهلت هذه احلالة َ‬ ‫القلعة ب� ّ‬ ‫ال�شارع التجاري الأ�سا�سي‪ ،‬الوا�صل بني امليناء و �ساحة القلعة‪� ،‬إىل‬ ‫امتد‬ ‫ذلك جلياً يف جبيل‪� ،‬إذ َّ‬ ‫ُ‬ ‫�شارع انتظمت حوله‬ ‫خارج الأ�سوار‪ ،‬فتح َّول الطريقُ اخلارجي امل�ؤ ّدي �إىل ب ّوابة املدينة ال�شرقية �إىل ٍ‬ ‫املح ّالت التجارية و حمرتفات املهنيني‪ .‬و ُفتِحت ب ّواب ٌة كبرية يف و�سط ال�سور ال�شمايل لت�س ِّهل‬ ‫االت�صال مبدينة طرابل�س‪ ،‬و ن�ش�أ‪ ،‬انطالقاً منها‪ ،‬حمو ُر مرو ٍر يف اتجّ اه الداخل و اخلارج حت ّوال �سريعاً‬ ‫�شارع جتاري و حر ّيف‪ .‬و بد�أ يف القرن الثامن ع�شر هد ُم ال�ضلع اجلنوبي من الأ�سوار و انفتحت‬ ‫�إىل ٍ‬ ‫املدينة على ّ‬ ‫عدة �أمتا ٍر من‬ ‫التل اجلنوبي‪ ،‬موقع املدينة الكنعانية القدمية املطمورة منذ زمن حتت ّ‬ ‫بورجوازي‪،‬‬ ‫حي‬ ‫ّ‬ ‫الردم؛ و على هذا املوقع اجلميل امل�شرِف على البحر و على املدينة القرو�سطية ن�ش�أ ٌّ‬ ‫التجار و امل ّالكني و ال�صناعيني‪ ،‬و هي البيوت‬ ‫و انت�شرت عليه خالل القرن التا�سع ع�شر ُ‬ ‫حارات ّ‬ ‫ناجح من ا�ستعمال موا ٍد حملي ٍة‬ ‫املر ّبعة و املقر َمدة ذات الطراز‬ ‫مزج ٍ‬ ‫املحلي الناجت عن ٍ‬ ‫ال�ساحلي ّ‬ ‫ّ‬ ‫كاحلجر الرملي امل�صقول و موا ٍد م�ستور َدة كالقرميد الأحمر من مر�سيليا‪ ،‬و َّمت ذلك بوا�سطة تقنيات‬ ‫تعدى ُ‬ ‫بع�ض‬ ‫حم ّلية ا�شتهر بها ب ّنا�ؤو ال�شاطىء ال�شرقي‬ ‫للمتو�سط منذ قرون‪ .‬و يف نف�س املرحلة َّ‬ ‫ّ‬ ‫املقتدرين على �أجزاء �أخرى من الأ�سوار‪ ،‬ف ُب ِن َيت ُ‬ ‫بع�ض البيوت على ال�ضلع ال�شرقي و ُفتِح يف‬ ‫�صف من ِّ‬ ‫�شارع �أخ ُر‪،‬‬ ‫و�سطه مم ٌّر دون ب ّوابة‪ ،‬و الت�صق به من اخلارج ٌّ‬ ‫املحال التجارية ارت�سم �أمامها ٌ‬ ‫عفوي حتى طريق طرابل�س‪ -‬بريوت القدمية التي �أ�صبحت‬ ‫و ا�ستم َّر العمرانُ ُّ‬ ‫ميتد �شرقاً و ٍ‬ ‫ب�شكل ٍّ‬ ‫مت ُّر اليو َم يف و�سط املدينة ِ‬ ‫لكن‬ ‫املعا�صرة‪ .‬مل ّ‬ ‫متتد املدينة بكثافة خارج ال�ضلع ال�شمايل من �أ�سوارها َّ‬ ‫ّ‬ ‫ال�سكانَ ا�ستعملوا حجار َة الأ�سوار لبناء م�ساكِ نِهم‪ ،‬فتع َّرت هذه من حجارتِها امل�صقولة‪ ،‬و ُهدِ َمت‬ ‫الأجزاء العليا من بع�ض �أبراجها و ُفت َِح مم ٌّر �ض ّي ٌق قرب برج الزاوية الكبري دون ب ّوابة‪ .‬و تعاطى‬ ‫ّ‬ ‫برج املرف�أ ال�شمايل‬ ‫ال�سكان بنف�س الطريقة مع ال�ضلع الغربي فهدموه و انفتحوا على البحر تاركني َ‬ ‫واقفاً ال�ستعماله منارةً‪ ،‬لك ّنهم عادوا و رممَّ وا اجلز َء احلامي للميناء منه ل�ضرورة ا�ستعمالِ هذا الأخري‪،‬‬ ‫الذي تقهقر مع الزمن و �أ�صبح‪ ،‬مطلع القرن الع�شرين‪ ،‬مربطاً �صغرياً لزوارق �ص ّيادي الأ�سماك‬ ‫ولندر ٍة من املراكب ال�صغرية احلجم التي مل تكن ت�ستطيع جتاو َز مدخلِه‪� .‬شهِدت هذه املرحل ُة �أي�ضاً‬ ‫مبنى �أ�سا�سي على الن�سيج املديني‪� ،‬أال و هو امل�سجد ّ‬ ‫املطل على �ساحة القلعة‪ ،‬و هو من‬ ‫�إ�ضاف َة ً‬ ‫للبحارة و لل�ص ّيادين على جنب ر�صيف امليناء‪.‬‬ ‫القرن ال�سابع ع�شر‪ ،‬كما و ا�س ُتحدِ ث م�ص ّلى �صغري ّ‬ ‫�إنَّ هذا ّ‬ ‫الت�شكل الأخري � ّأ�س�س للمدينة احلالية‪ ،‬فهي تكمل ٌة له‪ ،‬و من ّوها ّمت انطالقاً من الثوابت التي‬ ‫‪137‬‬


‫�أر�ساها‪ ،‬و هي املعامل و العنا�صر املذكورة �سابقاً‪ .‬بدءاً من الربع الأول من القرن الع�شرين بد أ�‬ ‫التح ّو ُل احلديث للمدينة‪ ،‬فانت�شرت قواها احل ّية املنتِجة‪� ،‬أي حرف ّيوها و ّجتا ُرها‪ ،‬خارج �أ�سوارها على‬ ‫نطاقٍ وا�سع؛ و كان املزارعون �أ�ص ًال موجودين يف ال�سهل الزراعي املحيط بها‪ .‬فتح َّولت بذلك‬ ‫أ�سا�سي‪ ،‬و بد�أت تتف ّر ُع منه‪ ،‬باتجّ اه ال�سهل‪� ،‬أ�سواقٌ �صغرية‬ ‫�شارع ٍّ‬ ‫طريقُ طرابل�س‪ -‬بريوت �إىل ٍ‬ ‫جتاري � ٍّ‬ ‫ما لبثت �أن كبرُ َ ت و تف ّرعت �أي�ضاً‪َّ .‬مت ُّ‬ ‫كل ذلك على ح�ساب ال�سهيل ال�صغري اخل�صب الذي‬ ‫يف�صل املدينة عن اجلبال‪ ،‬حارماً ّ‬ ‫ال�سكان من الرئة اخل�ضراء ال�ضرورية لبيئته الطبيعية‪ .‬و اخلطور ُة‬ ‫املديني كلياً‪ ،‬و الأم ُر �أ�صبح‬ ‫املبني‬ ‫بالأمر ُ‬ ‫ُّ‬ ‫تكمن مبحدودية م�ساح ِة هذا ال�سهيل‪ ،‬فحينما يحت ُّله ُّ‬ ‫َ‬ ‫على و�شك احلدوث‪ ،‬تحُ َرم املدين ُة من هذه الرئة التي ال غنى عنها‪� .‬إنَّ‬ ‫احتالل مدنِ ال�شاطىء‬ ‫اللبناين للطرقات التي ت�ص ُلها ِ‬ ‫�شوارع‪� ،‬أ ّدى‬ ‫ببع�ضها و �ضمن نطاق جمالِها احليوي‪ ،‬و حتويلِها �إىل َ‬ ‫خالل �ستينيات القرن املا�ضي �إىل اختناقٍ لل�سري العابر للمدن‪ ،‬فكان ُّ‬ ‫احلل �إن�شا َء طريقٍ �سريع‬ ‫�سمى بالأوتو�سرتاد احلايل‪ ،‬على ح�ساب ال�سهل ال�ساحلي القليل العر�ض‬ ‫�ساحلي �آخر‪ ،‬و هو ما ُي ّ‬ ‫ّ‬ ‫املمتد على طولِ �شاطئنا‪ .‬و كانت النتيجةُ‪ ،‬على م�ستوى املدن ال�ساحلية‪� ،‬أنَّ العمرانَ غ َري املنظمَّ‬ ‫ّ‬ ‫نف�سها‪ ،‬و ّ‬ ‫�شوارع‬ ‫الطريق و ح َّوله يف بع�ض الأماكن �إىل‬ ‫احتل هذا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫و غ َري الهادف ك َّرر الظاهر َة َ‬ ‫أماكن �أخرى‪ ،‬كمدينة جبيل‪ ،‬فقد ّ‬ ‫�شكل هذا الطريقُ جرحاً‬ ‫جتاري ٍة مكتظ ٍة �ألغت �أهدافَه؛ �أ ّما يف � َ‬ ‫املديني و االجتماعي‪� ،‬ش ّلع املدين َة و �أفقدها وحد َتها و تناغ َمها‪ .‬املدين ُة اليوم‬ ‫بليغاً يف الن�سيج‬ ‫ّ‬ ‫املبد ُل الوحيد و الآخر هو ج�س ٌر‬ ‫أحدهما هو ِّ‬ ‫ق�سمان ال يلتقيان �إ ّال من خالل طريقني لل�س ّيارات � ُ‬ ‫عادي ال يتجاو ُز ُ‬ ‫وحيد �أي�ضاً يقع جنو َبها‪ .‬و ي�ستم ُّر‬ ‫عر�ضه �س ّت َة �أمتا ٍر يقع �شما َلها‪ ،‬و مم ٌّر �آخ ُر للم�شاة ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫الفو�ضوي باالنت�شار قا�ضماً ال�سهيل و مت�س ّلقاً‬ ‫العمرانُ‬ ‫لكن بع�ضاً من القواعد‬ ‫ُّ‬ ‫اله�ضاب امل�شرفة‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫يعد لها �أث ٌر‪ ،‬فال�سلط ُة املركزية مث ًال ال ت�أبه بامتالكِ مقر مم ّيز ي�ؤثّر يف املواطنني‪ ،‬و ال�سلط ُة‬ ‫القدمية مل ُ‬ ‫املح ّلي ُة عاجز ٌة عن تزويد املدينة باملراكز الثقافية و االجتماعية و الإدارية الالزمة‪ .‬لك ّننا جند يف‬ ‫الهيكليات الديني َة ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫املقابل �أنّ‬ ‫بدرجات‬ ‫تهتم بالتعليم الديني‬ ‫الكنائ�س و‬ ‫تن�شط و تبني‬ ‫َ‬ ‫امل�ساجد و ُّ‬ ‫َ‬ ‫افتتاح فروع للم�صارف‪ ،‬و �إن�شاء الأبنية ال�سكنية‬ ‫متفاوتة‪� .‬أ ّما‬ ‫ُ‬ ‫الهيكليات االقت�صادي ُة فمن�صرف ٌة �إىل ِ‬ ‫و التجارية للبيع‪ ،‬و بناء منازلِها الفخمة على التالل املحيطة باملدينة؛ و يف الوقت الذي ينمو فيه‬ ‫ت�شهد الزراع ُة تقهقراً كبرياً قد ي�ؤ ّدي �إىل‬ ‫قطاع املطاعم و الفنادق و مراك ِز اال�ستجمام البحرية‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫انهيارِها يف ٍ‬ ‫قطاع اخلدمات املهنية العريقة‪ ،‬كاملحاماة و الطب‬ ‫وقت قريب؛ يبقى �أن ن�ش َري �إىل �أنَّ َ‬ ‫إمكانات العمل يف اخلليج‪.‬‬ ‫والهند�سة‪ ،‬ي�شكو من تخم ٍة ت�ستوع ُبها وقتياً � ُ‬

‫‪138‬‬


‫عمارة‬

‫‪-VII-‬‬

‫القول �إنَّ جمتمعاً ّ‬ ‫يف اخلال�صة‪� ،‬أ�ستطيع َ‬ ‫مفككاً �إجتماعياً و بالتايل �سيا�سياً ال ي�ستطيع‪ ،‬و لو انتع�ش‬ ‫لي�صبح بالتايل منا�سباً‬ ‫يبني ن�سيجاً مدينياً من�سجماً و متنا�سقاً و قوياً‬ ‫َ‬ ‫اقت�صادياً يف مرحل ٍة ما‪� ،‬أن َ‬ ‫التقنيات م�ستوردة‬ ‫و جمي ًال‪ .‬ف�إذا كانت املوا ُد م�ستورد ًة و غالباً من النوع العادي‪ ،‬و �إذا كانت‬ ‫ُ‬ ‫�أي�ضاً دون روحِ ها‪ ،‬ذلك �أنَّ ال�ستريا ِد الأخرية ٌ‬ ‫�شروط لي�ست متوافرة عندنا‪ ،‬و �إذا كانت ال ُ‬ ‫أهداف‬ ‫أ�سباب عديد ٍة ال َ‬ ‫ٍ‬ ‫جمال لذكرِها الآن‪ ،‬و �إذا‬ ‫ت�ضامن و‬ ‫االجتماعية من م�ساوا ٍة و‬ ‫ٍ‬ ‫تعا�ضد مفقودة ل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كانت ال ُ‬ ‫انحطاط‬ ‫أهداف ال�سيا�سية من ح ّري ٍة و ا�ستقاللٍ و منع ٍة و ق ّو ٍة مفقودة هي الأخرى ب�سبب‬ ‫جمتمعي خط ٍري مت ُّر به الأمةُ‪ ،‬ف�إنَّ‬ ‫املديني يبدو كما هو با ٍد يف غالبي ٍة مدنِنا و بلداتِنا و قرانا‪:‬‬ ‫الن�سيج‬ ‫َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫ين‪ٌ � ،‬‬ ‫املكد�سة ال عالق َة لها باملكان و بنا�سِ ه‬ ‫انت�شا ٌر‬ ‫�سطحي �سرطا ٌّ‬ ‫أ�شكال غريب ٌة عجيب ٌة من املوا ِد َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫ت�صح ُر فينا العاطف َة و ّ‬ ‫اللذةَ‪ .‬لقد ن�سينا �أنَّ املدنَ هي التي‬ ‫وبزمانِهم‪ ،‬و �صحاري من الباطون امل�س ّلح ِّ‬ ‫�أن�شات َ‬ ‫الدول و لي�س العك�س‪ ،‬و على دولِنا الآنَ االنتباه �إىل هذه املعادلة‪ ،‬ف�إذا َّ‬ ‫انحطت املدنُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫انحطاط و َ‬ ‫َّ‬ ‫انحطاط الدول ال ي�ستتب ُع حكماً‬ ‫زوال‬ ‫لكن‬ ‫انحطت الدول و منها ما زال عن الوجود‪َّ ،‬‬ ‫املدن‪ ،‬ف�إنَّ لدى هذه الأخرية من احليو ّي ِة و العراق ِة ما ِّميك ُنها من �إن�شا ِء الدول من جديد‪ .‬معادل ٌة‬ ‫الزمن ال�صعب الذي نعي�ش‪ :‬عندما مت ُّر الأ ُمم احل ّي ُة ب�أزمن ٍة �صعب ٍة‬ ‫�أخرى ال ّبد من التذك ِري بها يف هذا ِ‬ ‫وحدها الكفيل ُة با�سرتدا ِد الذات‬ ‫خروج لها منها �سوى باملقاومة‪� .‬إنَّ املقاوم َة هي َ‬ ‫مليئ ٍة باملِحن‪ ،‬فال َ‬ ‫حتديات‬ ‫�سبل الع ّز ِة و الكرام ِة و التوازنِ و احلياة‪ .‬و �إذا مل يكن �أما َمنا من ّ‬ ‫و االنطالق َّ‬ ‫جمدداً يف ِ‬ ‫ين ّ‬ ‫املذل امل�سيطر على م ّتحداتِنا‪ ،‬فال َ‬ ‫للخروج منه و ا�ستعاد ِة ذواتِنا‬ ‫�سبيل لنا‬ ‫�سوى التط ّور ال�سرطا ّ‬ ‫ِ‬ ‫اخلا�صة و ذاتِنا العامة �سوى باملقاومة‪ .‬فنحن بحاج ٍة �إىل عمار ٍة مقاوِم ٍة يف �إطا ِر عمرانٍ مقاوم‪.‬‬ ‫جبيل يف ‪ 13‬ت�شرين الثاين‬

‫‪2008‬‬

‫‪139‬‬


‫ي�صدر قريبا ً‬

‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫جنيب البعيني ‪ -‬كاتب و�صحايف‬

‫ق�صة جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي ال�صحافية (‪ )1956-1865‬التي �صرف يف جمعها ما‬ ‫يزيد على خم�سني �سنة متوا�صلة ق�صة ممتعة‪ ،‬هي االعداد االوىل التي جمع فيها �أكدا�ساً مكد�سة‬ ‫من ال�صحف واملجالت‪ ،‬تعترب ذات قيمة ثمينة بارزة يف ع�صرنا احلا�ضر‪� ،‬إذ لوالها ملا كان عندنا‬ ‫معر�ض تراثي �صحايف فكري‪ ،‬بالتعاون مع نخبة من �أهل الر�أي والفكر يف لبنان‪ .‬وهو معر�ض �أقيم‬ ‫يف الأ�سواق التجارية يف بريوت منذ فرتة‪ ،‬حتت عنوان‪:‬‬ ‫«ال�صحافة اللبنانية يف ن�صف قرن من الزمان»‪.‬‬ ‫معر�ض دائم ي�ضم الأعداد الأوىل من كل �صحيفة وجملة �أدبية برزت يف وقت �صدورها‪ ،‬وعلى‬ ‫م�سافة عدة �أمتار من بلدية‪ ،‬بريوت املمتازة « يف �أ�سواق بريوت ي�ؤمه يومياً ع�شرات الزوار وال�سياح‪.‬‬ ‫هذه املجموعة كادت �أن ت�ضيع يف زحمة الآف من الكتب التي كان ميلكها الفيكونت فيليب دي‬ ‫طرازي يف حياته‪ .‬وقد طلب من الدكتور ف�ؤاد غ�صن �أن يكون و�ساطة خري لبيع جمموعته التي لديه‬ ‫و�سط الدكتور غ�صن �أ�صدقاءه امل�صريني‪.‬‬ ‫لقاء مبلغ من املال قدره �ألفا جنيه م�صري‪ .‬ولهذه الغاية ّ‬ ‫وكان �أن عر�ض هذا الأمر على الدكتور علي با�شا ابراهيم رئي�س اجلامعة امل�صرية‪ ،‬ويعود ذلك �إىل‬ ‫نهاية عام ‪ 1945‬وبداية العام ‪ .1946‬وعن ذلك يورد الدكتور ف�ؤاد غ�صن �أخبار هذه الو�ساطة عرب‬ ‫مرا�سالت ذكرها يف «املذكرات» التي ن�شرها يف كتاب‪� ،‬صدر عن دار الريحاين للطباعة والن�شر يف‬ ‫بريوت يف �سنة ‪ .1967‬ومن خالل هذه املرا�سالت يتبني لنا �أن هذه املجموعة كادت �أن تباع لقاء‬ ‫مبلغ من املال قدره �ألفا جينه م�صري ملجموعة الفيكونت طرازي ال�صحافية‪ .‬ذهب الدكتور ف�ؤاد‬ ‫غ�صن �إىل منزل الفيكونت فيليب دي طرازي ليبلغه جواب اجلامعة امل�صرية ب�ش�أن بيعها‪ ،‬فوجده‬ ‫نائماً يف ال�سرير‪ ،‬وقد بلغ من العمر �إحدى وثمانني �سنة‪ ،‬فعر�ض له اجلواب‪ ،‬فما كان من طرازي‬ ‫�إال �أن ه�ش وب�ش لذلك‪ .‬بعد �أن قر�أ له الكتاب الوارد عن اجلامعة وهو املوافقة على طلبه يف ‪19‬‬ ‫كانون االول �سنة ‪ 1945‬ور�سالة �أي�ضاً بتاريخ ‪ 17‬كانون الثاين يف �سنة ‪.1946‬‬ ‫وقد ذكرت اجلرائد يف حينه‪ ،‬ومنها جريدة «بريوت» ل�صاحبها حميي الدين الن�صويل بتاريخ ‪18‬‬ ‫حزيران يف �سينة ‪ 1946‬حتت عنوان « هل ي�صل اخلالف �إىل الق�ضاء؟» ما مفاده‪:‬‬ ‫‪141‬‬

‫حتوالت �أدبية‬

‫ق�صة جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي ال�صحافية‬


‫«�إن املفو�ضية امل�صرية وجهت تقريراً �ضافياً عن عقد البيع الذي يجعل جمموعة الفيكونت طرازي‬ ‫ال�صحفية ملكاً لها ال ينازعها فيه منازع �إىل وزارة اخلارجية اللبنانية تب�سط له الق�ضية منذ �أن‬ ‫كلفت جامعة ف�ؤاد الأول املواطن ف�ؤاد غ�صن ب�شراء هذه املجموعة ال�صحفية ب�ألفي جينه م�صري‬ ‫�أي بثمانية ع�شر الف لرية لبنانية �إىل �أن عاد الفيكونت طرازي عن هذا العقد وباع املجموعة لدار‬ ‫الكتب الوطنية (كانت قرب الربملان اللبناين) ب�ست وثالثني الف لرية لبنانية»‪.‬‬ ‫تو�سطه‬ ‫ويقول املندوب اللبناين‪�« :‬إن �سعادة وزير م�صر املفو�ض تلقى تعليمات من حكومة لبنان ّ‬ ‫لإنهاء هذا اخلرف ودياً قبل االلتجاء �إىل الق�ضاء»‪ .‬وجاء يف عدد جريدة «بريوت» ‪ 2548‬بتاريخ ‪21‬‬ ‫حزيران �سنة ‪ ،1946‬ما مفاده‪:‬‬ ‫«قلنا يف عدد فائت �إن احلكومة امل�صرية كلفت �سعادة وزيرها املفو�ض ب�سوريا ولبنان ب�أن يبذل اجلهد‬ ‫بالطرق الدبلوما�سية ليحمل احلكومة اللبنانية على �إعادة جمموعة ال�صحف التي كان �سعادة‬ ‫الفيكونت دي طرازي قد باعها جلامعة ف�ؤاد الأول يف القاهرة بو�ساطة املواطن الدكتور ف�ؤاد غ�صن‬ ‫بالفي جينه �أي ما يعادل ثمانية ع�شر الف لرية لبنانية‪ .‬وقد قام �سعادة وزير م�صر املفو�ض بهذه املهمة‬ ‫التي �ألقتها حكومته على عاتقه‪ ،‬وو�صع تقريراً �ضافياً مدعوماً باالدلة والرباهني مفاده ان ال�صفقة‬ ‫متت �شرعاً وعرفاً‪ .‬ثم طلب يف نهايته اعادة املجموعة اىل ا�صحابها ال�شرعيني‪� ،‬أي جامعة ف�ؤاد الأول‪.‬‬ ‫ويظهر �أن وزارة اخلارجية اللبنانية در�ست هذا التقرير درا�سة مف�صلة من جميع النواحي وا�ستقر ر�أي‬ ‫الوزير على م�شاطرة احلكومة امل�صرية وجهة ر�أيها بهذا اخلالف النا�شب بني القطرين ال�شقيقني»‪.‬‬ ‫وهناك مطالعة من وزير اخلارجية اللبناين �أحالها �إىل جمل�س الوزراء للبت بهذه الق�ضية‪ .‬وتقول‬ ‫املطالعة ان يرتفع ال�سعر من ‪ 18‬الفا اىل ‪ 36‬الفاً‪ .‬ويتلخ�ص ر�أي الوزير فيليب تقال باعادة املجموعة‬ ‫ال�صحافية �إىل �أ�صحابها ال�شرعيني �أي جامعة ف�ؤاد االول‪.‬‬ ‫وهناك ت�سا�ؤل وجهته اجلريدة املذكورة �إىل �أ�صحاب ال�ش�أن يف عدد ‪ 2548‬بتاريخ ‪ 21‬حزيران �سنة‬ ‫‪ ،1946‬قالت فيه‪:‬‬ ‫«لت�سمح لنا احلكومة من جهة �أن نت�ساءل عن املوقف الذي �سوف تقفه من هذه الق�ضية وكيف‬ ‫متت‪ ،‬وملاذا دفعت احلكومة �ستة وثالثني الف لرية لبنانية ثمناً لهذه املجموعة على الرغم من �أنها‬ ‫كانت تعلم �أن جامعة ف�ؤاد االول قد ابتاعها بثماين ع�شر �ألف لرية لبنانية ال غري»‪.‬‬ ‫وكان ان ّتدخل يف الأمر فخامة رئي�س اجلمهورية اللبنانية ال�شيخ ب�شارة اخلوري‪ ،‬وكان �أن توا�سط مع‬ ‫احلكومة امل�صرية اللغاء القيود التي ح�صلت بني جامعة ف�ؤاد الأول‪ ،‬ب�شخ�ص رئي�سها ومديرها الدكتور‬ ‫علي ابراهيم وبني الكونت فيليب‪ .‬وعاد كل �شيء �إىل حاله دون �أن تتم �صفقة البيع ومت �إلغا�ؤها نهائياً‪.‬‬ ‫وهنا‪ ،‬نت�ساءل‪ :‬ما هي تلك املجموعة ال�صحافية ‪ .‬وما هو الكتاب الذي وجهه الفيكونت فيليب‬ ‫دي طرازي �إىل ال�شيخ ب�شارة اخلوري؟‬ ‫‪142‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫هي جمموعة �صحافية يربو عددها على �سبعة الآف وخم�سمائة �صحيفة خمتلفة العناوين‪ .‬ت�شتمل‬ ‫على منوذج من كل جريدة �أو جملة ظهرت يف انحاء املعمور بالل�سان العربي وبجميع اللغات‬ ‫ال�شرقية‪ ،‬ومزيتها اخلا�صة �أن ذلك الأمنوذج هو �أول عد ٍد من اجلرائد واملجالت اللبنانية والعربية‪.‬‬ ‫وتعترب هذه املجموعة فريدة يف العامل مبا حوته من نوادر ال�صحف القدمية وبواقع ال�صحف احلديثة‪.‬‬ ‫وهي مرتبة ترتيباً جغرافياً تاريخياً يدعو �إىل االعجاب ويربهن على �سالمة الذوق وميهد ال�سبيل‬ ‫للوقوف على حالة ال�صحف منذ ن�ش�أتها اىل وقتنا احلا�ضر‪.‬‬ ‫وهذه املجموعة‪ ،‬منذ �أن و�ضع رئي�س اجلمهورية ال�شيخ ب�شارة اخلوري‪ ،‬يده عليها‪� ،‬أ�صبحت يف حوزة‬ ‫اجلمهورية اللبنانية‪ .‬وقد �ضمتها دار الكتب الوطنية يف حينها‪ ،‬وهي التي كان مقرها بجانب جمل�س‬ ‫النواب احلايل (وقد قلنا ذلك قبل االحداث الدامية يف لبنان)‪ .‬وقررت احلكومة �آنذاك �أن ي�ستفيد‬ ‫منها اجلمهور اللبناين‪ ،‬والقارىء اللبناين والعربي‪ ،‬وتكون معر�ضاً يتوافد �إليه الأدباء وال�صحافيون‬ ‫والعلماء وطالب العلم واملعرفة وا�ساتذة ا�ست�شراق للنظر فيها وا�ستفادة من قدمها وندرة وجودها‪.‬‬ ‫وكان �أن وجه الفيكونت �إىل فخامة رئي�س اجلمهورية اللبنانية عري�ضة �ص ّرح فيها لفخامته بخطورة‬ ‫املجموعة راغباً منه ا�صدار الأوامر ب�إبقائها يف لبنان واحلر�ص عليها حر�صاً �شديداً خوفاً من �ضياعها‪.‬‬ ‫ن�ص العري�ضة املذكورة بتاريخ ‪ 16‬متوز �سنة ‪ 1946‬ما يلي‪:‬‬ ‫فكان ّ‬ ‫«بعد ت�أدية فرو�ض االجالل واالخال�ص‪ .‬طالعت يف بع�ض اجلرائد �أن جمل�س الوزراء قرر �أن تدر�س‬ ‫ق�ضية جمموعة ال�صحف ليتبني هل يجب �أن تعترب يف جملة الآثار �أم ال ؟ ف�إذا كان االول حتم ان‬ ‫يحتفظ بهاعم ًال بقانون‪ :‬حفظ الآثار‪ .‬و�إلأ فمن اجلائز الت�سامح باخراجها من لبنان‪.‬‬ ‫�أ�ست�أذنكم يا �صاحب الفخامة يف الت�صريح ب�أن جمموعة ال�صحف امل�شار اليها يجب ان تعترب بكل‬ ‫حق من �أثمن الآثار التي يفر�ض على لبنان ان يحر�ص عليها لكونها فريدة من نوعها وال نظري لها‬ ‫يف بالد ال�شرق والغرب على االطالق‪.‬‬ ‫لعمري كيف ال تعترب هذه املجموعة يف حكم «الآثار «‪ .‬وقد حوت العدد االول فقط �أو االقدم‬ ‫من كل جريدة ومن كل جملة عربية و�شرقية ظهرت يف اخلافقني؟ ولقد التقطتها بعناء ج�سيم من‬ ‫�أطراف �آ�سيا و�أفريقيا و�أوروبا و�أمريكا ال�شمالية واجلنوبية‪ .‬وق�ضيت �ستني �سنة كاملة عاكفاً ليل‬ ‫نهار على البحث والتنقيب واملرا�سلة حتى تي�سر يل الظفر بفرائدها وخرائدها‪ّ .‬ثم نظمتها تنظيماً‬ ‫جغرافياً وتاريخياً حمكماً لت�سهيل مطالعتها �أو قرائتها؟‬ ‫ال يخفى على فخامتكم �أن كل كن ٍز ثمني قل من يكرتث له �أو يعرف قيمته ما دام حمتجباً عن‬ ‫االنظار واالب�صار‪.‬‬ ‫ولكنه متى عر�ض للعيان جتلت خطورته وتهافت الغادي والرائح لال�شراف عليه والتثبت من‬ ‫حقيقة �ش�أنه‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫�أعتقد يا �صاحب الفخامة اعتقاداً را�سخاً ان احلكومة اللبنانية متى ت�س ّنى لها تنظيم تلك اجلواهر‬ ‫الثمينة النف�سية ب�شكل معر�ض يف (دار الكتب) تقاطرت جماهري الأدباء وال�صحافيني وعلماء‬ ‫امل�شرقيات من كل حدب و�صوب ليطلعوا عليها وي�ستفيدوا من م�ضامينها ويطلقوا الأل�سنة بالثناء‬ ‫عليها وت�شبت �أقطاب لبنان وقادتها ببقائها يف وطنهم االم‪.‬‬ ‫وح�سبي �أن �أذكر لفخامتكم على �سبيل املثل جريدة «لبنان» التي �أ�س�سها يف عام ‪� 1867‬سلفكم‬ ‫داود با�شا املغفور له ون�شرها باللغتني العربية والفرن�سية يف «بيت الدين»‪ .‬عا�صمته‪ .‬فهي بال ريب‬ ‫قطعة �أثرية ثمينة ال نظري لها البتة‪ .‬وهيهات ثم هيهات �أن تفوز احلكومة اللبنانية يف عهدنا مبثال‬ ‫منها ولئن بذلت مليوناً من اللريات ثمناً لها‪.‬‬ ‫قي�سوا عليها مئات و�ألوفاً من ال�صحف الثمينة التي انطم�س خربها وباء �أثرها ومل تبق مكنوزة �إ ّال‬ ‫يف هذه املجموعة فقط‪.‬‬ ‫ل�ست �أغايل يا �صاحب الفخامة �أن ّ�صرحت ب�أنه ي�ستحيل على دول الأر�ض طراً �أن تكون جمموعة‬ ‫حتاكي هذه املجموعة بعددها و�أهميتها وترتيبها وكمالها‪ .‬لأن �أغلب تلك ال�صحف كما تعلمون‬ ‫دخل يف خرب كان و ُن�سجت عليه عناكب الن�سيان‪ .‬وقد �سبق فريق من هواة الآثار فده�شوا مبا‬ ‫�شاهدوا بينها من �صحف جمة نادرة الوجود منقطة النظري وجاهروا على ر�ؤو�س الأ�شهاد ب�أنه‬ ‫يتعذر احل�صول على النموذج منها ولو ُبذل يف �سبيل م�شرتاه غنى ك�سروان ومال قارون بعد هذا‬ ‫الت�صريح نرى البع�ض واقفني باملر�صاد يحاولون انتزاع هذه املجموعة الفريدة من يد احلكومة‬ ‫اللبنانية بعدما ق ّرر فخامتكم ان ميتلكها ويحر�ص عليها كل احلر�ص‪.‬‬ ‫ف�أرجو كل الرجاء من فخامتكم بل �أ�ستحلفكم ب�أع ّز ما لديكم �أن حتولوا دون اال�ستهتار مبثل هذا‬ ‫وت�شددوا الأوامر بابقائها حتت راية الأرز املباركة والعزيزة على قلبكم وعلى ّ‬ ‫كل‬ ‫اجلواهر اليتيمة ّ‬ ‫لبناين خمل�ص‪� .‬أطال اهلل تعاىل بقاكم ذخراً وفخراً‪.‬‬ ‫فيليب دي طرازي‬ ‫بريوت ‪ 16‬متوز ‪1946‬‬ ‫وكانت هناك جهود مثمرة للفيكونت يف عامل الت�أليف ي�أتي يف مقدمتها‪ :‬كتابة النفي�س حتت‬ ‫عنوان «تاريخ ال�صحافة العربية» يف �أربعة �أجزاء‪ .‬وكان باكورة ت�آليفه «تاريخ الدولة امل�صرية يف عهد‬ ‫ال�ساللة املحمدية العلوية» ّمدته خمطوطاً �إىل عبا�س الثاين خديوي م�صر يف عام ‪« ،1899‬القالدة‬ ‫النفي�سة يف فقيد العلم والكني�سة»‪ .‬وهو ترجمة الع ّالمة �إقليم�س يو�سف داود مطران دم�شق‪.‬‬ ‫واردفها مبراثي املطران يف ‪ 20‬لغة �شرقية وغربية‪.‬‬ ‫‪144‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫«ع�صر العرب الذهبي» «ع�صر ال�سريان الذهبي» «ملحة تاريخية يف دار الكتب الوطنية» «بحث‬ ‫علمي يف تاريخ القر�آن»‪ .‬وهناك كتب خمطوطة تركها مل تطبع وال نعلم م�صريها؟‪.‬‬ ‫وقد ت ّوج �أعماله الباهرة بت�أ�سي�س دار الكتب الوطنية ووقف عليها تفكريه وعلمه ووقته وماله‪ .‬و ّعني‬ ‫�أميناً عاماً لدار الكتب من عام ‪ 1921‬اىل العام ‪ .1940‬وكان الرئي�س كميل منر �شمعون موظفاً عند‬ ‫الفيكونت من �سنة ‪ 1922‬اىل �سنة ‪ 1924‬وكانت مهمته در�س الكتب الفرن�سية وتن�سيقها‪ .‬كما زين‬ ‫دار الكتب ب�ستني �صورة زيتيه متثل م�شاهري علماء لبنان ونوابغه و�أمرائه وحكامه‪ .‬قد جه ّزها من‬ ‫جيبه اخلا�ص دون �أن يكلف اخلزينة غر�شاً واحداً من �أثمانها‪.‬‬ ‫والدته‬

‫ولد الفيكونت فيليب يف ‪� 28‬أيار ‪ .1865‬دخل املدر�س البطريركية يف بريوت يف �سنة ‪ .1873‬مدة‬ ‫�سنتني‪ ،‬ثم دخل كلية الآباء الي�سوعيني يف بريوت حيث �أم�ضى فيها ثماين �سنوات �إىل �سنة‬ ‫‪ .1883‬نال على اثرها ال�شهادة العلمية‪ .‬اتقن اللغات العربية والفرن�سية والالتينية واليونانية‪ .‬ثم‬ ‫ان�صرف �إىل االعمال التجارية يف مكتب والده الكونت ن�صراهلل‪ .‬وكان كلما منا يف العمر منا معه‬ ‫حب الدر�س واملطالعة والتناف�س يف جميع الكتب واقتنائها ال يقعده ذلك عن خدمة االن�سانية‬ ‫وامل�صالح الوطنية وجمال�سة الأدباء وال�شعراء ومرا�سلة العلماء والر�ؤ�ساء‪.‬‬ ‫تزوج �أوجيني ب�سول يف ‪� 19‬شباط �سنة ‪.1900‬‬ ‫تكرميه‬

‫اعتزل الفيكونت �أمانة دار الكتب الوطنية‪ ،‬وجميع املنا�صب التي تبو�أها يف حياته و�آثر العزلة يف‬ ‫بيته بعيداً عن �أعني النا�س‪.‬‬ ‫ولكنه بعد اعتزاله دار الكتب الوطنية يف بريوت‪� ،‬آثر ذوو الف�ضل واملروءة �إال �أن يقيموا له احتفاال‬ ‫تكرمييا يف دار الكتب الوطنية بتاريخ اجلمعة ‪� 23‬شباط �سنة ‪ ،1940‬يليق مبكانته ورفعته برئا�سة‬ ‫الوزير ح�سني االحدب الذي قال فيه ‪:‬‬ ‫جده وعباته‪....‬‬ ‫«‪� ....‬إن ما قام به الفيكونت من العمل الباهر يف دار الكتب الوطنية �آية من �آيات ّ‬ ‫ويا ليت احلكومة‪ ...‬و�ضعت ت�شريعا خا�صا ا�ستثنت به الفيكونت من قانون بلوغ ال�سن ريثما‬ ‫يتمكن من حتقيق �أمانيه‪ ...‬وال �سيما ما برح يتمتع بن�ضارة العقل وهمة ال�شباب وامل ّنة هلل تعاىل»‪.‬‬ ‫ثم تك ّلم بونور م�ست�شار وزارة املعارف اللبنانية واال�ساتذة‪ :‬عمر فاخوري واليا�س �أبو �شبكة وحليم‬ ‫‪145‬‬


‫دمو�س ونور الدين بيهم وهكتورخالط‪ .‬وختم املحتفى به احلفل مقدما ال�شكر للعزة الآلهية التي‬ ‫�شملته بعني عنايتها وقي�ضت له �أن ينه�ض بتلك اخلدمة ال�شريفة لالمة اللبنانية التي �أ�شادت بناء‬ ‫فخما لت�أمني م�ستقبل دار الكتب وتعزيز مكانتها»‪.‬‬ ‫ثم �شكر اخلطباء على عواطفهم النبيلة واحل�ضور على حمبتهم م�ؤم ًال ممن خلفوه ومن �سائر املوظفني‬ ‫�أن يثابروا على العمل مبا عهده فيهم من ال�شهامة واالماين والتفاين واالخال�ص»‪.‬‬ ‫جهوده املثمرة‬

‫�أثنى النا�س عليه وعلى �أعماله وان�ضمامه �إىل عدد من اجلمعيات واالندية وامل�ساعي اخلريية التي قام‬ ‫بها ‪ .‬وتعدُ يف طليعة اجلمعيات التي �ساهم فيها «�شركة من�صور دي بول» التي تر�أ�سها ثماين �سنوات‬ ‫(‪ )1898-1906‬كما قام بت�أ�سي�س «جمعية امل�ساعي اخلريية ال�سريانية»‪ .‬وكان والده خري معوان لها يف‬ ‫م�شاريعها اخلريية واالن�سانية و «جمعية العائلة املقد�سة»‪ .‬وقد توىل رئا�سة كلتيهما زمناً طوي ًال‪.‬‬ ‫وجتلت �أريحيته يف �أثناء احلرب الكونية االوىل (‪ .)1918-1914‬وقد �ساعد البائ�سني واملنكوبني‪.‬‬ ‫ف�أطعم اجلياع وك�سى العراة وتفقد املر�ضى واعطى م�ساعدات مر�ضية لهم ومل مييز طوال حياته بني‬ ‫مذهب ومذهب ودين ودين‪ .‬وقد ن�شر عنه العامل حممد كرد علي رئي�س املجمع العلمي العربي‬ ‫بدم�شق‪ ،‬يف جريدته «املقتب�س» يف ‪ 11‬كانون الثاين �سنة ‪ ،1918‬مقاال م�ستفي�ضا عن حمامده‬ ‫ومكارمه ومزاياه‪ ،‬حتت عنوان «املح�سنون» قال فيه ‪:‬‬ ‫ومل نر رج ًال مثل الكونت فيليب دي طرازي يف بريوت الذي مل يدع �ستارا يف بيته �إال خاطه‬ ‫�ألب�سة للمحتاجني‪ .‬وقد جعل ديونه �صباح م�ساء �أن يوزع اخلبز والطحني وااللب�سة على الفقراء‬ ‫واملحتاجني من �أبناء بلدته»‪.‬‬ ‫�أما جهوده الفكرية املثمرة يف �أثناء وظيفته يف دار الكتب ‪ .‬فقد نه�ض بها نه�ضة مباركة و�ضحى يف‬ ‫�سبيل �إجناحها وثباته باملال الوافر وم�ساعيه امل�ستمرة للعمل‪.‬‬ ‫وميكننا تلخي�ص اعماله الباهرة بالآتي‪:‬‬ ‫ �أحتف دار الكتب الوطنية بخم�سة الآف جملد ونيف بني مطبوع وخمطوط نقلها �إليها تدريجاً‬ ‫من خزائن كتبه منذ العام ‪ ،1922‬وما بعد‪.‬‬ ‫ ّجهز دار الكتب يف عهدها االول بخزائن ومكاتب ومقاعد وخرائط وطناف�س و�سجوف‬ ‫و�سجالت‪.‬‬ ‫ دفع من جيبه اخلا�ص رواتب خم�سة موظفني ورواتب حاجبيها مدة �سنتني‪ ،‬قبل �أن تت�سلمها‬ ‫احلكومة اللبنانية‪ .‬ويت�ضح هذا من وثائق ر�سمية حمفوظة يف دار الكتب ويف خزائن الفيكونت‪.‬‬ ‫‪146‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ مل ِ‬ ‫احلمية والغرية �إىل تعاطي ق�سم من تلك‬ ‫يكتف بتعاطي الأعمال يف دار الكتب‪ ،‬بل دفعته ّ‬ ‫الأ�شغال يف منزله �أيام الراحة والفراغ‪.‬‬ ‫ ذهب �إىل �أوروبا وم�صر ومعظم البلدان ال�شرقية وح�صل على م�ؤلفات وجمموعات كبرية من‬ ‫الكتب ج ّهز بها دار الكتب‪ .‬وكان يدفع نفقات رحالته دون �أن يك ّلف اخلزينة فل�ساً واحداً‪.‬‬ ‫ بلغ جمموع ما ّقدمه �إىل دار الكتب نحو اثنني وثالثني جملداً جمعها كتاباً فكتاباً وكرا�ساً‬ ‫ح�صلها من �أهله و�أ�صدقائه ومن املعاهد‬ ‫فكرا�ساً‪ .‬فالت�سعة والع�شرون الف جملد �أهداها او ّ‬ ‫العلمية و�أرباب ال�سماحة والف�ضل‪.‬‬ ‫ �أما الآالف الثالثة الباقية فقد دفعت تكاليفها احلكومة اللبنانية‪.‬‬ ‫ ز ّين دار الكتب ب�ستني �صورة زيتية متثل امل�شاهري من الرجال والقادة قدمها منن ماله اخلا�ص‪.‬‬ ‫ �أن�ش�أ يف املكتبة معر�ضا خا�صا �أودعه حتفاً اثرية وكتابية وفنية بينها ما ن�سج بالف�ضة والذهب او‬ ‫ر�صع باللآىلء واجلواهر الثمينة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ و�ضع دلي ًال خا�صا باملكتبة مبثابة تن�سيق للكتب العربية مبنيا على العلم واملعرفة والفن واملنطق‬ ‫دعاه‪�« :‬إر�شاد االعارب �إىل تن�سيق الكتب يف املكاتب»‪ .‬و�ضع بت�صرف القراء و�أهل العلم‬ ‫واملعرفة و�أ�صحاب االخت�صا�ص‪.‬‬ ‫ و�ضع الفيكونت كتابا نفي�سا عنوانه «خزائن الكتب العربية يف اخلانتني»‪� .‬ضم ّنه �أخبار املكتبات‬ ‫العربية قدميها وحديثها يف زهاء �ألف ومائتي �صفحة كبرية‪ .‬وا�ستند يف رواياته اىل م�صنفات‬ ‫االقدمني واملت�أخرين ‪ .‬وكانت املراجع وامل�صادر التي اعتمد عليها تربو على �ستمائة مرجع‪.‬‬ ‫وتت�ضح خطورة هذا الكتاب من مطالعة عناوين �أبوابه وف�صوله و�سائر مواده يف فهر�س عام‬ ‫�شامل‪.‬‬ ‫وفاته‬

‫تويف الفيكونت فيليب يف م�صيفه يف «عاليه» بجبل لبنان‪ .‬يف منت�صف ليل الثالثاء يف ‪� 7‬آب �سنة‬ ‫‪ . 1956‬وكان لوفاته رنة حزن و�أ�سى يف جميع االو�ساط التي ّقدرت �إجنازاته وكان لها �أبعد الأثر‪.‬‬ ‫ومن م�آثره الوطنية �أن هناك �أي�ضاً جمموعة خطوط يف ثالثة جملدات انطوت على كتابات مل�شاهري‬ ‫الرجال والن�ساء يف ال�شرق من �سالطني و�أمراء ووزاء وعلماء و�شعراء‪ .‬وكل من تلك اخلطوط‬ ‫مكتوب بيد �صاحبه ّ‬ ‫ومذيل بتوقيعه‪ .‬وهناك جمموعة حتت عنوان‪« :‬العقد الفريد»‪ .‬ا�شتملت على‬ ‫ثالثة ع�شر جملداً ت�ضمنت نخبة من ر�سائل كتبها كبار القادة والر�ؤ�ساء �إىل عائلة �آل طرازي يف‬ ‫القرنني التا�سع ع�شر ومطالع القرن الع�شرين‪ .‬كما �أنه ح�صل على القاب علمية كثرية نالها من‬ ‫‪147‬‬


‫�أ�صحاب ال�ش�أن منها‪ :‬لقب «فيكنت» من بابا روما الون الثالث‪ ،‬وح�صل على عدة او�سمة من عدة‬ ‫بلدان منها‪ :‬و�سام جنمة ال�صباح من �سلطان حلج‪ ،‬والو�سام العثماين الثاين من ال�سلطنة العثمانية‪،‬‬ ‫والو�سام املجيدي الثاين من ال�سلطنة العثمانية‪ ،‬وو�سام ني�شان االفتخار من رتبة كومندور من باي‬ ‫تون�س‪ ،‬وو�سام اال�ستحقاق اللبناين‪ ،‬وو�سام االرز من اجلمهورية اللبنانية‪ ،‬وو�سام املجمع العلمي‬ ‫الفرن�سي‪.‬‬ ‫ولي�س لنا يف هذا املجال �إال �أن ن�شري �إىل بيتي ال�شعر اللذين كتبهما حتت �صورته‪:‬‬ ‫يا مع�شر ال�صحب ِ ذا ر�سم به اقرتنت ر�سومكم وبها قد �صــــــــــار مزدانا‬ ‫ت�ضـــم معــاً رغما عن الدهر يف ذا ال�سفر �إخوانا‬ ‫فتلك �آثارنا �أ�ضحـــــــت‬ ‫ُ‬ ‫ح�صل من العلوم واملعارف اللغوية والثقافة العالية اويف‬ ‫هذا هو الفيكونت فيليب دي طرزي الذي ّ‬ ‫ن�صيب‪ .‬وكان كلما كرب يف ال�سن كلما ازدادت حما�سنه و�صفاته و�أخالقه ومزاياه‪.‬‬ ‫كانت له �صفاته احلميدة و�أخالقة العالية التي قلما اعتد بها �أو ت�أفف يف ملب�سه ويف م�أكله وم�شربه‪.‬‬ ‫ال يخ�ضع �إال للحق ويعامل النا�س معاملة واحدة �سواء اختلفوا يف الر�أي والدين �أو �أتفقوا لأنه‬ ‫يعدهم واحداً يف االن�سانية ويف املجتمع‪.‬‬ ‫ا�ستفاد من �سفراته �إىل اخلارج‪ .‬واح�ضر معه مئات الك ّتاب وامل�صنفات يف �سبيل �إغناء مكتبته‬ ‫بجميع الكتب االدبية والثقافية والفنية والعلمية والطبية‪.‬‬ ‫ونقول يف ختام هذا املو�ضوع‪:‬‬ ‫�أين �أ�صبحت جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي؟ هل ال تزال باقية ليزين وجودها (املكتبة‬ ‫الوطنية اجلديدة) التي تزمع احلكومة القيام بها �أو �أن�شاءها �أم اختفت و�سرقت‪ ،‬بع�ضها �أو ق�سم‬ ‫منها‪ ،‬وال يعلم �إال اهلل �سبحانه تعاىل مكان وجودها‪� .‬أم ماذا؟‬ ‫امل�صادر واملراجع‬

‫مو�سوعة �أدباء لبنان و�شعرائه‪ ،‬دارنوبلي�س‪ ،‬بريوت ‪.2006‬‬ ‫تاريخ ال�صحافة اللبنانية‪ ،‬ت�أليف فيليب دي طرازي‪ ،‬بريوت ‪.1913‬‬ ‫تنوير االذهان يف تاريخ لبنان‪ ،‬ابراهيم اال�سود‪� ،‬سنة ‪.1927‬‬

‫‪148‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب‬

‫‪1‬‬

‫وفيق غزيزي ‪� -‬شاعر‪ ،‬ناقد وباحث‬

‫هذه الدرا�سة حتية �إىل روحه و�إىل �إبداعه‬

‫يتعر�ض الناقد الدكتور جان نعوم طنو�س لديوان «املحربة»‪ ،‬لل�شاعر جوزف حرب‪ ،‬وامل�ؤلف لي�س‬ ‫م�س�ؤوال عن �آراء ال�شاعر حرب‪ ،‬بل عمد �إىل غربلتها متخذاً موقفاً نقدياً‪ ،‬بعيداً عن املدح املقنع‪،‬‬ ‫والهجاء ال�ساخر �أو امل�سترت‪� .‬إن مهمته �صعبة وجليلة‪ ،‬ومراده �أن ي�ستخل�ص من تلك الذهنية‬ ‫املانوية التي عمت بالدنا كالوباء‪ :‬تنزيه الذات وحتقري الآخر‪� .‬إن مطلب احلقيقة هو الذي يحررنا‬ ‫من �أغالل البيئة وروا�سبها‪ ».‬ولئن �صح �أن املجتمع عامة‪ ،‬واال�سرة خا�صة يبنيان الفرد ب�شكل �أو‬ ‫ب�آخر فال�صحيح �أي�ضا �أن التوق �إىل املعرفة هو من يربي ال�شخ�صية على نحو مغاير فك�أنه يقوم مقام‬ ‫الأبويني والو�سط البيئي»‪.‬‬ ‫املقد�س واملدن�س‬

‫من الواجب �إعادة النظر يف م�سائل ثنائية كاالميان وال�شك‪ ،‬واجل�سد والروح‪ ،‬واالر�ض وال�سماء‪،‬‬ ‫فكلها مت�ألقات ال متناق�ضات‪ .‬ولعل �شاعرنا جوزف حرب ي�صدر عن هذا االجتاه معتمداً على‬ ‫حد�سه اال�صيل‪ ،‬وعلى خمزونه الثقايف‪ ،‬وجتاربه احلياتية‪ .‬فكيف نظر حرب �إىل ق�ضية املقد�س‪ ،‬وما‬ ‫يتفرع عنها من ق�ضايا؟ !‬ ‫يقول امل�ؤلف‪« :‬بداية يرى حرب �أن االنبياء والقدي�سني تعذبوا وا�ضطهدوا يف �سبيل مبد�أ �أعلى‬ ‫يهب احلياة لكل �شيء‪ .‬غري �أن االر�ض تكاثرت خطاياها‪ ،‬وكانت هذه االخرية قبل جميئهم‬ ‫والذنب هنا ال يعود اىل ال�شرائع بقدر ما يعود اىل عوامل عديدة ي�صعب ح�صرها منها عمل ّ‬ ‫الكهان‬ ‫ ‬

‫‪1‬‬

‫ ‬

‫جان نعوم طنو�س‪ ،‬امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب‪ ،‬دار النه�ضة العربية‪ ،‬بريوت ‪.2014‬‬

‫‪ -‬للأ�سف ال�شديد‪ ،‬تويف ال�شاعر جوزف حرب عندما كان هذا العدد ماث ًال للطباعة‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫املجاين للر�سالة ال�سماوية»‪ .‬والالفت �أن يتغنى ب�شرائع االنبياء �إىل حد مذهل وينعتها بكل �صفة‬ ‫ايجابية كاملالئكة‪ ،‬واخل�صب‪ ،‬والعدل‪ ،‬وال�سالم‪ ،‬و�سرعان ما ينتف�ض على ذاته �إىل حد الت�شكيك‬ ‫بهذا التمجيد ال�سابق‪.‬‬ ‫وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن احلياة اخل�صبة ال تظهر عند حرب يف كبت �أو قمع امليول احليوية‪ ،‬بل يف‬ ‫التعبري عنها‪ ،‬وهو التعبري الذي ي�سمى خطيئة‪ .‬املقد�س عنده لي�س تعزيز الروح على ح�ساب‬ ‫اجل�سد‪ ،‬بل انطالقة اجل�سد واحلب والغواية �إىل حد يجوز القول‪ ،‬عنده �أن املبارك الروحي منف�صال‬ ‫عن الغريزي هو ملعون كما �أن هذا امللعون «�إذا نظر �إليه على �أنه ممار�سة احلياة‪ ،‬هو املبارك عينه‬ ‫وبكلمة‪ ،‬املقد�س عند حرب هو احلياة نف�سها‪ ،‬وال �سيما ما يت�صل ب�أهوائها الطيبة وك�أن الدين عنده‬ ‫هو دين اخلطيئة ولي�س دين التقوى والزهد»‪.‬‬ ‫كما �أن ال�شاعر جوزف حرب يرف�ض ديانة اخلوف التي تن�شىء عبيدا ال �أحرارا‪ ،‬فك�أنه يردد‬ ‫مع االمام علي بن �أبي طالب‪�« :‬إن قوماً عبدوا اهلل خ�شية‪ ،‬فتلك ديانة العبيد‪ ،‬و�إن قوماً عبدوه‬ ‫حمبة وتلك ديانة االحرار»‪ .‬و�إذا قلنا اخلوف قلنا �سلطة مت�سلطة ال ت�شل العقل فقط بل ت�شل‬ ‫ال�شعور واالرادة ولكن نقي�ض اخلوف هو احلب وقد قال هيغل يف هذا ال�سياق‪�« :‬إن اهلل هو احلب‬ ‫حل احلب ّ‬ ‫واحلب هو اهلل‪ ،‬وال يوجد الهوت �آخر غري احلب‪ ..‬ف�إذا ّ‬ ‫وحل اهلل بني الب�شر هكذا‬ ‫ميكن �أن توجد �آلهة»‪ .‬اخلوف من وجهة نظر امل�ؤلف موت النف�س ي�ستحق العقل ومييت الأ�شواق‬ ‫اخلرية وبد ًال من ان تنفتح ورود اجلمال واحلب‪ُ ،‬يغل االن�سان يف قيود الكراهية والتبعية والتمرد‬ ‫ال�سلبي‪.‬‬ ‫اجلن�س املقد�س‬

‫يرى بع�ض الفال�سفة واملفكرين قدمياً وحديثا �أن امل�سيحية قلبت ر�أ�سا على عقب القيم الدينية‬ ‫الوثنية و�أف�سدت العالقة بني املقد�س واملدن�س‪ .‬فبد ًال من متجيد اجل�سد وتكرمي املر�أة‪ ،‬نادى �آباء‬ ‫الكني�سة بالويل والثبور‪ ،‬حتى �أنهم حقّروا الغرائز وازدروا االنوثة‪ .‬وعو�ضا عن احرتام العقل‬ ‫وقدرته على ت�صحيح �أخطائه‪ ،‬ب�شروا ب�سلطة اميانية تفر�ض على النا�س قر�ضاً‪ ،‬خلقوا ّهوة �شا�سعة‬ ‫بني العقل واملمار�سة وبني الوثنية والدين النا�شىء‪ .‬ويذهب ه�ؤالء الفال�سفة واملفكرين �إىل �أن‬ ‫املقد�س امل�سيحي هو املدن�س عينه كما �أن املدن�س الوثني الذي طاملا نظر �إليه با�ستخفاف هو‬ ‫املقد�س احلقيقي‪ .‬ويرى البع�ض بوجود تيارين متناق�ضني‪ :‬عبادة اجل�سد عند الوثنني ثم عبادة‬ ‫الروح عند امل�سيحيني‪.‬‬

‫‪150‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫و�إزاء هذه اال�شكالية يت�ساءل امل�ؤلف‪« :‬فما هي نظرة جوزف حرب للج�سد والعبادات القدمية؟‬ ‫وهل �ألغى ثنائية الروح والدين‪ ،‬ومن ثم الغى ال�صراع العقيم بني قطبي النف�س الب�شرية؟ و�إىل‬ ‫�أي حد ن�ستطيع التمييز الفا�صل بني احلب اجلن�سي والتهتك االباحي؟ لعل يف ف�صل «ال�سيدة‬ ‫ال�شجرة» وف�صل «ال�سيد الف�أ�س» الواردين يف املحربة ما يجيب عن �أ�سئلة مقلقة قد تهز وجدان‬ ‫امل�ؤمن هزاً عميقاً»‪.‬‬ ‫فاللذة لي�ست هدفا يف حد ذاتها و�إال حتولت �إىل �إباحية‪� .‬إنها ح�سب ر�أي امل�ؤلف هذه املر�أة مرتبطة‬ ‫بطقو�س دينية وثنية هي طقو�س اخل�صب‪ .‬فالكون عبارة عن تالقح الذكورة باالنوثة‪ ،‬واالن�سان‬ ‫بوا�سطة اجل�سد هو الذي يعني الطبيعة على خ�صبها ويجددها‪« .‬ولعل االن�سان املعا�صر ي�ستخف‬ ‫بتلك الطقو�س‪ ،‬ولكنها قدميا كانت تكت�سي بطابع مقد�س»‪ .‬وعلى هذا النحو �أ�صبحت املر�أة تتكافل‬ ‫مع االر�ض تكافال �سريا‪ ،‬وبدت الوالدة على �أنها �صورة من �صور اخل�صب االر�ضي باملقيا�س‬ ‫الب�شري‪ ،‬وان جلميع التجارب الدينية املت�صلة باخل�صب وباملولد‪ ،‬بنية كونية‪� .‬إن قدا�سة املر�أة ترتبط‬ ‫بقدا�سة االر�ض‪ .‬وللخ�صب الن�سوي ! منوذجاً كوين! منوذج االر�ض! الأم الكلية‪ .‬وهكذا يقول‬ ‫امل�ؤلف «تعطي امر�أة �شاعرنا عطاء كلياً‪ ،‬فلي�س فيها ما هو غري طبيعي‪ ،‬الن الالطبيعي هو الذي‬ ‫ي�سري عك�س جمرى الطبيعي‪ .‬وامل�س�ألة هنا ال تتعلق بثنائية العهارة والطهارة‪ ،‬فرمبا ي�ؤدي الكبت‬ ‫املت�شدد اىل �ضربني متناق�ضني ومتكاملني ‪ :‬الطهارة التي قد تنقلب �إىل �إباحية‪ .‬وهذه االخرية قد‬ ‫ت�ؤول �إىل روحانية مف�صولة عن اجل�سد»‪.‬‬ ‫�إن القيم امل�سيحية هي التي ر ّو�ضت الوح�ش الروماين‪ ،‬وقل�صت �أظافره وزرعت يف تربته القاحلة‬ ‫�شيئاً من الروحانية‪ ،‬ول�سنا جند حيال م�شاهد الت ّعهر واالغت�صاب‪ ،‬ما نقوله غريكلمات القدي�س‬ ‫بول�س‪« :‬لو كنت �أنطق ب�أل�سنة النا�س واملالئكة ومل تكن يف املحبة فامنا �أنا نحا�س يطن �أو �صناج‬ ‫يرن‪ .‬ولو كانت ّيف النبوة ‪ ،‬وكنت �أعلم جميع اال�سرار والعلم كله‪ ،‬ومل تكن ّيف املحبة‪ ،‬فل�ست‬ ‫ب�شيء‪ .‬املحبة تت�أنى وترفق‪ .‬املحبة ال حت�سد‪ .‬املحبة ال تتباهى‪ .‬ال ت�أتي قباحة وال تطلب ما لنف�سها‪.‬‬ ‫ال حتتد وال تظن ال�سوء‪ .‬ال تفرح بالظلم‪ ،‬بل تفرح باحلق»‪ّ .‬‬ ‫ويعظم جوزف حرب املر�أة يف الع�صر‬ ‫االموي تعظيما �شبه �أ�سطوري على عادة ال�شعراء الرومانطيقيني وال�سرياليني‪.‬‬ ‫والالفت ح�سب اعتقاد امل�ؤلف �أنه يقيم تناق�ضاً‪ ،‬ولو خفياً‪ ،‬بني دين اللذة ودين التقوى فاالول‬ ‫رمزه �أدوني�س وديوتي�سو�س‪ ،‬والثاين رمزه القدي�سون االطهار‪« ،‬الدين االول �أموي بامتياز لإت�صاله‬ ‫باالر�ض واجل�سد والغرائز‪ ،‬بينما الدين الثاين ذكوري الت�صاله بال�سماء والروح والت�سامي‪ .‬فلي�س‬ ‫غريبا �أن يعبد الرجل املر�أة مع �أنه قدميا عبد �آلهة ذكوراً»‪ .‬ال�شاعر جوزف حرب منحاز �إىل االنوثة‪،‬‬ ‫ويرى ال�سعادة يف اجل�سد ال يف الت�سامي والكتب ‪ ،‬يف االر�ض ولي�س يف ال�سماء‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫الفناء املرعب‬

‫�إن �شاعرنا �صادق مع نف�سه ال يكبت م�شاعره فقد ا�ستطاع �أن يبدع لنا ن�صاً من ن�صو�صه ال�ساحرة‬ ‫فاخلوف من املوت هو اخلوف على احلياة نف�سها‪ ،‬ومن ال ي�شعر بهذا اخلوف من ال�صعب القول �أنه‬ ‫عا�شر احلياة ب�ألوانها املختلفة‪ .‬ويلفت امل�ؤلف النظر �إىل �أن �صاحب املحربة ال يطيق الوداع والتخلي‬ ‫عن هذه االر�ض لو بعث من عامل �آخر �أكرث جماال‪� ،‬أو �أكرث �سوءاً من عاملنا هذا‪ .‬فمن يخيرّ بني‬ ‫ممار�سة اجلن�س وجمع �أموال الدنيا وبني حب البقاء؟ «فهذا النزوع هو الذي يجعل ال�شاعر مت�شبثا‬ ‫يف�ضل «الهنا» على «الهناك»‪ ،‬وال عجب ف�إن اخلوف من املوت يف ر�أي املاديني هو موجد‬ ‫باحلياة ّ‬ ‫العوامل املاورائية وع ّلة ن�شوء الأديان فما يتمناه حرب هو العي�ش على هذه االر�ض �شريطة ان تن�أى‬ ‫عنه عاهات الروح واجل�سد على �أن هذا التمني نابع من جزع الرحيل وهو �شعور �صادق طبيعي»‪.‬‬ ‫�إن حرب كما نرى ال يطيق فراق هذه االر�ض التي يراها احلقيقة االوىل واالخرية وكيف يفارقها‬ ‫وهو ال ي�ؤمن بعوامل �أخرى‪ ،‬وال ثقة له بكالم قدي�س �أو كاهن؟‬ ‫وباعتقاد امل�ؤلف �أن م�س�ألة خلود الروح هي عند جوزف حرب �أمر م�ضحك ولو عرب حرب عن‬ ‫�شكوكه لكان االمر مقبوال �أما �أن يعد املاورائيات �شيئا �سخيفا فكالم يفتقر �إىل اجلدية والعمق‬ ‫خ�صو�صا �أن فال�سفة عظاماً كانت لهم �آراء ذات �ش�أن يف هذه امل�س�ألة اخلطرية ولعل م ّرد هذا‬ ‫اال�ستهزاء بقول امل�ؤلف «يعود �إىل املادية الغليظة التي متّ�سك بها حرب‪ ،‬وك�أنها احلقيقة املطلقة‬ ‫التي ال ي�أتيها الريب من �أمامها ومن خلفها»‪.‬‬ ‫�إن تنطح العقل ال�ستجالء �أ�سرار احلياة واملوت �أمر خميف‪ ،‬يورث الدوار ورمبا اخليال‪ .‬فكيف‬ ‫ن�ستطيع االميان مبا هو فوق املح�سو�س ما دمنا ا�سرى هذا املح�سو�س؟ وكيف نتف ّلت عن قيد الزمان‬ ‫واملكان ونحن قد كبلنا انف�سنا بهما؟ لقد فقد حرب كما يراه الدكتور جان نعوم طنو�س‪ ،‬جتربة‬ ‫الرجاء التي تختلف عن االمل‪ ،‬فهذا االخريمت�صلب �أمنيات قد تتحقق‪� .‬أما الرجاء « فهو االمل‬ ‫ادلهم الظالم‪ ،‬و�أحاطت بنا احلرية‪ .‬ولعل تاريخ‬ ‫ب�أمور غري يقينية‪ ،‬وقد ي�شتد هذا الأمل كلما ّ‬ ‫ال�شعوب والأفراد �شاهد على هذا االميان الذي يزحزح اجلبال» فحيثما طالعتنا االنقا�ض‪ ،‬ر�أينا‬ ‫االن�سان وينتف�ض على الدمار واملوت‪.‬‬ ‫غمو�ض املطلق‬

‫ما ت�صور الب�شر اهلل �إال �أ�سقطوا عليه جتاربهم الب�شرية‪ ،‬حتى لي�صح قول �أحد املت�صوفني‪« :‬ما و�ضعناه‬ ‫بو�صف �إال كنا نحن ذلك الو�صف»‪ .‬لكن املطلق يتعاىل على الق�صورات الب�شرية‪ ،‬على نقي�ض ما‬ ‫ذهب �إليه الفيل�سوف فيورباخ القائل �إن �سر اهلل هو �سر االن�سان نف�سه‪ .‬فهذا الفيل�سوف يف ر�أيه‪ ،‬هو‬ ‫‪152‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫الذي �أخرتع الفكرة االلهية‪ ،‬و�أفرغ فيها �صفات االن�سان وميوله اخلا�صة‪ .‬ومن وجهة نظر امل�ؤلفني‬ ‫هذا الر�أي فيه �شيء من احلقيقة‪ ،‬بدليل �أن اهلل يرتاءى تبعا للحالة احل�ضارية‪ ،‬رباً �شبيها بالطاغية‪،‬‬ ‫كما يرتاءى �أي�ضا �إلها حنونا يرت�أف ب�أبنائه فالثابت ان املجتعات امل�ستبدة وامل�ستغلة تنتج �إلها على‬ ‫�شاكلتها‪ ،‬يف حني �أن املجتمعات العادلة ال ترى فيه اال طاقة حمبة ورحمة‪ .‬غري �أن لالن�سان نف�سه‬ ‫دوراً يف هذا ال�ش�أن فكل معبود ي�شابه عابده‪.‬‬ ‫ولكن جوزف حرب يخطىء �إذا يدعو اهلل «�أنا» ذلك �أن كل �إجناز عظيم يتجاوز «الأنا» على الرغم‬ ‫من جذوره ال�ضاربة فيها «العالقة ب «الأنت» هي �سر العاطفة الدينية التي تتجلى يف عالقة‬ ‫االن�سان ب�أخيه االن�سان‪ ،‬وبالطبيعة وباهلل»‪� .‬إن اهلل يف ذات االن�سان ولكنه لي�س ذات هذا االن�سان‬ ‫حتديدا فهو ما يتجاوزها‪.‬‬ ‫واملثري للده�شة �أن جوزف حرب تارة ي ّنزه الن�ص الديني من كل عنف و�إرهاب‪ ،‬وتارة �أخرى يتهمه‬ ‫بالطغيان والق�سوة‪ .‬هذا التناق�ض بني ال�سلب وااليجاب يطبقه على اهلل نف�سه‪ ،‬وجودا ونفيا اهلل‬ ‫حمبة وال�شرائع يجب ان ت�ستلهم‪ .‬ذلك ال�شعور ال�سامي الذي ي�صيرّ االن�سان �إن�سانا واهلل متجليا‬ ‫يف خملوقاته على �أن �شاعرنا يذكر م�شكلة االمل التي ال حل لها وا�ضحا يف هذه الدنيا الفانية‪.‬‬ ‫ويقول امل�ؤلف‪« :‬لعلنا ن�شاطر ال�شاعر قلقه فال حل جذريا‪� ،‬أو عقليا مل�شكلة الأمل وال�شر»‪ .‬وثم‬ ‫من يقول‪ :‬وان وجود ال�شر لي�س عقبة تعرت�ض االميان باهلل‪ ،‬وامنا ال�شر برهان على وجود اهلل‪ ،‬وحتد‬ ‫للعودة اىل من ينت�صر فيه احلب على البغ�ض واالحتاد على االنق�سام واحلياة االبدية على املوت»‪.‬‬ ‫ان جوزف حرب م�ؤمن على طريقته اخلا�صة‪ ،‬ولكنه م�ؤمن ي�شك بالت�صورات الدينية ال�شائعة �أن‬ ‫يف �أعماقه بذرة �إلهية ال متوت‪ .‬ولعلها هي التي دفعته اىل كتابة «املحربة» رغبة يف اكمال عملية‬ ‫اخللق‪ .‬وبعد‪�« ،‬أال يتجلى اهلل يف ال�شك والعذاب والتوق اىل االكتمال؟ �أيكون اهلل مع الغني‬ ‫املطمئن اىل اقواله‪ ،‬وال يكون مع الفقراء القلقني على اوالدهم؟ �أن امل�ؤمن الالمبايل‪ ،‬امل�ؤمن‬ ‫الرنج�سي‪� ،‬أبعد ما يكون عن اخلري املطلق �أما ال�شاعر ال�شكاك فهو االقرب �إليه لأنه يفت�ش عن‬ ‫احلقيقة حتى لو مل ي�صل �إليها»‪.‬‬ ‫كتاب الكون وت�صحيحه‬

‫يلج�أ الفكر احلديث �إىل عملية قلب القيم ال�سائدة منذ ن�شوء االديان التوحيدية ف�إذا كان اهلل‬ ‫يق�ض‬ ‫حمور الوجود قدمياً فاالن�سان هو الذي يقوم الآن بهذا الدور و�إذا كانت اخلطيئة �شبحاً مرعباً ّ‬ ‫امل�ضاجع‪ ،‬ف�إنها ت�صبح يف هذا الع�صر عودة �إىل الرباءة وكماال لل�شخ�ص الب�شري �أما اجل�سد الذي‬ ‫ُرذل قدميا ف�إنه ي�ستعيد مكانته ليجوز القول ان ح�ضارتنا هي ح�ضارة اجل�سد ويقول الدكتور جان‬ ‫‪153‬‬


‫نعوم طنو�س يف هذا املجال‪« :‬لي�س غريبا �أن جند �شعراء ومفكرين ي�ؤثرون قابني على هابيل واحلياة‬ ‫املغوية على بالدة �آدم كما ي�ؤثرون التمرد على الطاعة ال�سلبية والعقل على االميان وقل االمر نف�سه‬ ‫يف اجلنة واجلحيم فلم يعودا مكانني يف العامل املاورائي‪ ،‬و�إمنا هما حالتان نف�سيتان معي�شتان على‬ ‫هذه االر�ض‪ .‬وها هو �إبلي�س �أو ال�شيطان ي�ستحيل كائنا نورانيا نبيال عند ال�شعراء الرومانطيفيني‪.‬‬ ‫وال �سيما عند بايرونو وهوغو ودوفيني»‪.‬‬ ‫ويف �سياق تيار احلداثة كتب ال�شاعر جوزف حرب «املحربة» وفيها ف�صل عن ابلي�س بعنوان‬ ‫«الناقد» غري �أنه ال يعتقد بوجوده امليتافيزيقي بقدر ما اتخذه رمزاً �إىل االن�سان املت�سائل ال�شاك‬ ‫املنقّح لكتاب الكون‪ ،‬وما يت�ضمن من ت�صورات ب�شرية ودينية �شائعة‪.‬‬ ‫وعندما ننزع �صفة املقد�س ح�سب اعتقاد امل�ؤلف نتيح للعقل �أن ي�شك وينقّح باب التجارب التي‬ ‫ال حت�صى تلك هي اخلطوة االول التي تعيد �إ�صالح الكون‪� ،‬إن �صح التعبري‪.‬‬ ‫ففي مقابل املطلق حيث ال نقا�ش وال حوار يحل الن�سبي مبا ينطوي عليه من وعد وامكانات خبيئة‬ ‫من هنا يرى �إبلي�س ال�شاعر �أن ن�ص اخلالق �سبحانه وتعاىل قليل الفعالية ولعله ي�شري �إىل الت�صورات‬ ‫الدينية ال�سائدة‪.‬‬ ‫ويف احلقيقة ال يكفي �أن نف�سر العامل ولكن علينا بقول امل�ؤلف‪« :‬تغيريه تلك هي �صرخة �إبلي�س‬ ‫يف �شعر جوزف حرب‪ .‬فلقد كان ال�شيطان مغريا للعامل ولكنه مل يدع �إىل ال�شر كما يقول ال�شاعر‬ ‫فما �أغرى �أحدا بارتكاب االثم وال �أقام �سحرا ومل ينب معبدا ومل ين�شر اخلطيئة»‪� .‬إنه �إذاً العقل‬ ‫الب�شري الذي �صوره الكهان ب�صورة �إبلي�س‪.‬‬ ‫و�إذا كان جوزف حرب يقر�أ �أعمال العقل فان الكثري من الفال�سفة والالهوتيني ال يف�صلون بني‬ ‫مملكة العقل ومملكة الروح �شريطة ان تكون االخرية متفتحة وال نهائية‪ .‬وبكلمة موجزة العلماء‬ ‫والفال�سفة �أ�صدقاء احلقيقة االميانية �شريطة ان تكون منفتحة فلي�س بعجيب �أن يت�سبب حرب ب�آثار‬ ‫العقل ويجد فيها ما يخدم االن�سان اكرث من احلقائق الدينية التي حنطها رجال الدين‪.‬‬ ‫الأر�ض هي املهد والقرب معاً‪.‬‬ ‫طاملا كانت االر�ض مو�ضع ازدراء عند بع�ض الفال�سفة ك�أفالطون الذي ف�صل ف�صال تاما بني عامل‬ ‫املح�سو�سات وعامل املثل فامتهن املادة وما يت�صل بها من رغبات يراها �شريرة فا�سدة ومل ي�سلم‬ ‫املت�صوفة من هذه النظرة ال�سلبية ف�أداروا ظهورهم للدنيا الفانية �أو لوادي الدموع كما يقولون وتاقوا‬ ‫�إىل دنيا البقاء �إىل دائرة النور متذرعني �أن احلياة الدنيوية تخلو من ال�سعادة احلقيقية وما من هجاء‬ ‫وجه �إىل املادة حتى �أن الالهوت امل�سيحي احلديث قام بنوع من الثورة‬ ‫�أعظم من هذا الذي ّ‬ ‫اجلديدة حماوال التوفيق بني ما ّعد متناق�ضات ال �سبيل �إىل التوفيق بينها‪.‬‬ ‫‪154‬‬


‫حتوالت �أدبية‬

‫ولعل كلمة االر�ض يقول امل�ؤمن‪ :‬قد تعني �أمورا كثرية‪� .‬إنها تعنى اجل�سد والغرائز واملر�أة �إ�ضاعة‬ ‫�إىل الهدف االق�صى للحياة من الطبيعي �إذن‪� ،‬أن يت�شبث الفكر املعا�صر مبا رذل وقمع قدميا واذا‬ ‫باملقايي�س تنقلب ر�أ�ساً على عقب فتغدو االر�ض مطلقا جديدا وترتاجع الدوافع الروحية واذا‬ ‫باالن�سان نف�سه حفنة من الرتاب ت�أويه يف قربتنهي فيه الآمال»‪.‬‬ ‫تلك هي الفل�سفة املادية التي ي�ؤمن بها بع�ض �أرباب احلداثة الفكرية وال�شعرية ومنهم �شاعرنا‬ ‫جوزف حرب‪.‬‬ ‫وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن الأر�ض يف ن�صو�ص املحربة حلرب هي اخلالقة‪ ،‬وباعثة احلياة يف كل �شيء يف‬ ‫حني ان الت�صور الديني يغزو قوة اخللق اىل اهلل �سبحانه وتعاىل حتى ليبدو �سيد االر�ض وال�سماء‬ ‫ولي�س يف �شعر حرب ما يغيد وجود قدرة تعلو على املادة بل �إن الأر�ض تكت�سي �أبعاداً رمبا ال تخطر‬ ‫على بال فرنى االر�ض �إمر�أة بنوع من الت�شخي�ص ال�شعري تعاين �سبق ال�شهوة « وت�سكنها امومتها‬ ‫للكائنات‪.‬نهدها يدر لبنا وعيناها برئيتان �سماويتان فال �إثم فيها وال خطيئة ورمبا �أوما ال�شاعر �إىل‬ ‫عملية اخل�صب يف الطبيعة فك�أن مواليدها (�أ�شجار والنباتات والنا�س) ال يخلقون �إال بعد �شهوة‬ ‫جن�سية كاملر�أة متاماً �إىل �أن حتني حلظة الو�ضع «ح�سب قول امل�ؤلف»‪.‬‬ ‫ما ينطبق على ربات اخل�صب واجلن�س ينطبق على ع�شيقة �شاعرنا وال عجب ف�أولئك الإالهات‬ ‫يرمزن �إىل الأر�ض نف�سها فهن عذراوات يحبلن وهن االمهاب يلدن ورمبا تكون هذه الفقرة را�سخة‬ ‫عند عدد من ال�شعراء واالدباء‪.‬‬ ‫�إن فكرة االر�ض العذراء االم‪ .‬من منظور امل�ؤلف غائرة من القدم وقد ا�ستهوت خيال ال�شاعر‬ ‫حرب خ�صو�صا �أنه ي�صدر �أحيانا عن نظرة مادية فكيف ال ّميجد الأر�ض وهو فيها و�إليها يعود‬ ‫بعيدا من �أي عزاء ما ورائي‪� .‬إن �أمومة الأر�ض را�سخة يف العقل البدائي واملخيلة ال�شعرية‪� ،‬إن‬ ‫جوزف حرب يرى يف االر�ض حبيبة النه يجب احلياة احللوة فيها فلوالها ال�ستحال البقاء حتما‪.‬‬ ‫ويرى امل�ؤلف �أن االر�ض ترتاءى لل�شاعر حرب‪.‬النبع االبدي والبيت الكوين وحار�سة احلياة من‬ ‫الفناء �أما عري�سها فهو املاء املخ�صب وما اجلبال �إال بطون هذه االر�ض بينما ميثل الطني �أداة اخللق‬ ‫والتوليد‪.‬‬

‫‪155‬‬


‫دار كتب للن�شر �ش‪.‬م‪.‬ل‪.‬‬

‫بناية الربج‪ ،‬الطابق الرابع‪� ،‬ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‬ ‫�صندوق بريد‪ ،11-4353 :‬بريوت ‪ -‬لبنان‪.‬‬ ‫هاتف‪)961-1( 983008 /9 :‬‬ ‫فاك�س‪)961-1( 980630 :‬‬ ‫الربيد الإلكرتوين‪kutub@kutubltd.com :‬‬ ‫املوقع الإلكرتوين‪www.kutubltd.com :‬‬


‫وقائع م�رشقية‬

‫امل�سيحية امل�رشقية‪ ...‬حتديات وحلول‬ ‫و�سام عبد اهلل ‪� -‬إعالمي‬

‫ارتفع ال�صوت يف الآونة االخرية حول امل�سيحية امل�شرقية مبا تت�ضمنه من حتذير للخطر الذي‬ ‫يتعر�ض لها امل�سيحيون امل�شرقيون من تهجري يف خمتلف البلدان ولأ�سباب خمتلفة‪ ،‬ففي فل�سطني‬ ‫�أ�صبح عدد امل�سيحني على �أبواب القد�س وبيت حلم �أقل من عدد ال�سياح الذي يزورونها‪،‬‬ ‫يف العراق هجرة جماعية منذ االحتالل االمريكي مبا يعادل املليون م�سيحي‪ ،‬يف لبنان هاجر‬ ‫امل�سيحيون ب�سبب احلرب االهلية وي�ستمر النزف نتيجة احلياة ال�سيا�سية واالقت�صادية املرتدية يف‬ ‫البالد‪ ،‬و�أخرياً يف �سوريا وب�سبب املعارك التي جتري يف البالد مل ترتك كني�سة وديراً من نارها‪ .‬و�إن‬ ‫خطر ا�ستمرارية الوجود يف املجتمعات امل�شرقية ي�أتي من طرفني االول هو االحتالل الإ�سرائيلي‬ ‫وممار�ساته على االر�ض‪ ،‬والثاين هو من دخول احلركات املتطرفة اال�صولية على خط االزمات مما‬ ‫�شكل تهديدا لكل املجتمعات‪ ،‬فكانت حادثة خطف مطراين حلب للروم الأرثوذك�س وال�سريان‬ ‫الكاثوليك وتدمري الكنائ�س يف معلوال واال�ضرحة واجلامع االموي يف حلب �أبلغ ر�سالة عن خطر‬ ‫هذه املجموعات‪.‬‬ ‫كل هذه املخاطر تطلب من منظمات وكتاب ومفكرين و�سيا�سيني لكي يتداعوا بالكلمة والعمل‬ ‫للتحذير من هذه املخاطر وطرح م�شاريع لوقفها قدر االمكان‪.‬‬ ‫امل�ؤمتر العام االول مل�سيحي امل�رشق‬

‫عقد يف بريوت يف ‪ 2‬ت�شرين الثاين امل�ؤمتر العام االول مل�سيحيي امل�شرق بدعوة من اللقاء امل�سيحي‬ ‫ بيت عنيا يف لبنان‪ ،‬وكان امل�ؤمتر مب�شاركة ممثلي دول لبنان و�سوريا واالردن وفل�سطني والعراق‬‫وم�صر‪ .‬ي�شري امل�شاركون يف امل�ؤمتر �أن �سبب هذا اللقاء هو نتيجة الظروف التي متر بها املنطقة من‬ ‫ازمات وحروب داخلية وا�ستمرار االحتالل اال�سرائيلي مبمار�سة �سيا�سته القمعية‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل‬ ‫دخول العامل التكفريي على �أزمات امل�شرق مما �شكال تهديدا لكيان الدول واملجتمعات ب�شكل‬ ‫عام وعلى امل�سيحيني ب�شكل خا�ص نتيجة ا�ستهدافهم ب�شكل وا�ضح وممنهج‪.‬‬ ‫‪157‬‬


‫و�ألقت الوفود امل�شاركة كلمات �أو�ضحت وجهة نظرها يف كيفية احلل ق�ضية الوجود امل�سيحي يف‬ ‫امل�شرق‪ ،‬ف�أكدت على �أهمية تعزيز مفهوم املواطنة و�إقامة الدولة الوطنية اجلامعة و�ضرورة مواجهة‬ ‫االخطار املحدقة من احلركات التكفريية‪ ،‬كما �شددت على �ضرورة وقف هجرة امل�سيحيني عرب‬ ‫جعلهم �شركاء حقيقيني يف القرارات ويف احلكم‪.‬‬ ‫وقد �ألقى النائب العماد مي�شيل عون كلمة �أ�شار فيها �إىل �أن مقاربة الواقع امل�شرقي من منطلق‬ ‫�أقليات واكرثيات هي مقاربة خاطئة «فهذه البالد منذ فجر التاريخ هي ثمرة تراكم معريف ثقايف‬ ‫ل�شعوب كثرية وديانات �شتى منذ ما قبل التوحيد‪ .‬تراكم جمعته الأقليات والأكرثيات معاً يف‬ ‫مزيج عز نظريه‪ ،‬وتقلبات غريت التوجهات ال�سيا�سية و�أبقت على التنوع املجتمعي والثقايف داخل‬ ‫اجلغرافيا‪ ،‬ولطاملا كانت هناك اكرثية باتت �أقلية‪ ،‬وبالعك�س‪ ،‬وهذا منوذج فريد للغنى الروحي‬ ‫والثقايف واملعريف‪ ،‬يقت�ضي منا جميعا املحافظة عليه وحمايته يف �إطار احرتام حرية املعتقد والر�أي‬ ‫والتعبري وحق االختالف‪ ،‬مع الت�شبث بهذا امل�شرق‪».‬‬ ‫و�أو�ضح �أن تخطي اال�صولية التكفريية واالنتقال �إىل الدميقراطية املدنية لي�س بامل�ستحيل «نحن‬ ‫فنقول �إن الإن�سانية مل حتقق �شيئا مل يبد يف البدء م�ستحيال �أو �شبه م�ستحيل؛ من الغو�ص يف‬ ‫عمق البحار �إىل ا�ستك�شاف الكون‪ ،‬مرورا بجميع االخرتاعات التي بدلت وجه احلياة االن�سانية‪.‬‬ ‫وما نتمناه اليوم قد تخطته �شعوب كثرية وكان حلمنا منذ قرن ونيف‪ ،‬فهل يجوز �أن نبقى يف تلك‬ ‫امل�ستنقعات؟»‪.‬‬ ‫�ألقى كلمات الوفود‪ ،‬الوفد الأردين الوزير ال�سابق وا�صف عازر‪ ،‬والوفد ال�سوري النائب الدكتورة‬ ‫ماريا �سعادة‪ ،‬والوفد العراقي الوزيرة ال�سابقة حلقوق الإن�سان وجدان ميخائيل �سامل‪ ،‬والوفد‬ ‫الفل�سطيني ع�ضو اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير الفل�سطينية حنا عمرية والوفد امل�صري رئي�س‬ ‫احتاد املنظمات القبطية مدحت قالدة‪.‬‬ ‫واختتم اللقاء بالتوافق على �إن�شاء اللقاء امل�سيحي امل�شرقي واعتبار املجتمعني اليوم نواته الت�أ�سي�سية‬ ‫الأوىل مع ترك باب االن�ضمام �إليه مفتوحا‪ ،‬وت�شكيل جلنة متابعة �ضمنها �أمانة �سر للقاء تت�ألف من‬ ‫مندوبني عن كل وفد م�شرقي ملتابعة تو�صيات اللقاء وخطط العمل املقرتحة‪.‬‬ ‫كتبوا عن امل�سيحية امل�رشقية‪..‬‬

‫كتب رودولف القارح يف جريدة االخبار يف عددها ال�صادر يف ‪� 19‬أيلول ‪ 2013‬مقاال بعنوان‬ ‫«امل�شرقيون امل�سيحيون والتحديات الوجودية» وهي ورقة قدمت للقاء بيت عنيا الذي تناول ق�ضية‬ ‫الوجود امل�سيحي امل�شرقي‪� ،‬أ�شار الكاتب يف مقالته ب�أن املجتمعات العربية امل�شرقية تواجه بكامل‬ ‫مك ّوناتها ومنها املك ّون امل�سيحي حتديات وجودية تطال عي�شها وكينونتها وم�صريها يف ظروف من‬ ‫‪158‬‬


‫وقائع م�رشقية‬

‫العنف املبا�شر املد ِّمر‪ ،‬و�أو�ضح الكاتب ب�أن املجتمعات العربية وحتديدا امل�شرقية تتميز» مبوروث‬ ‫غني عن القول �إن عوامل ُّ‬ ‫ت�شكل‬ ‫ب�شري تعددي �أنتجته حركة تاريخ �شديد الغنى والتع ُقّد‪ٌّ ...‬‬ ‫�صانع �أحادي فح�سب‪ ،‬بل هي نتيجة تفاعل عنا�صر عدة من اجتماعية‬ ‫هذه ال�شخ�صية ال تعود �إىل ٍ‬ ‫وثقافية وفكرية وتربوية ودينية و�إميانية و�أخالقية ونف�سية»‪.‬‬ ‫يقول الكاتب ب�أن املنطقة امل�شرقية تتعر�ض منذ �سنني حلركتني متناق�ضتني‪ ،‬الأوىل «حركة‬ ‫التجمع‬ ‫التف�سخ والتم ّزق والت�شرذم املجتمعي‪ ،‬غايتها االرتداد �إىل �أمناط من ّ‬ ‫تهدف �إىل ّ‬ ‫ال�سابق لبناء الدول واملجتمعات الراهنة ‪ -‬وهو وهم على �أية حال»‪� ،‬أما الدينامية الثانية التي‬ ‫ُ‬ ‫والتوحد (�أجل�أ �إىل هذه العبارة هنا ملا‬ ‫والتعا�ضد‬ ‫ي�شري �إليها فهي «دينامية التكامل والت�شا ُرك‬ ‫ّ‬ ‫التوحد‪،‬‬ ‫واع وعقالين)‪ .‬هذه الدينامية اجلامعة القائمة على �إرادة ّ‬ ‫ترمز �إليه من قرار �إرادي‪ٍ ،‬‬ ‫تهدف �إىل تطوير املجتمعات والدول امل�شرقية دون تقوي�ضها وتدمريها‪ ،‬حمرتم ًة املوروث الذي‬ ‫بناه التاريخ دون جتميد»‪.‬‬ ‫عما ميكن ت�سميته ا�ست�سها ًال الوجود امل�سيحي يف امل�شرق العربي» هو‬ ‫ي�ؤكد الكاتب «�أن الدفاع ّ‬ ‫يف احلقيقة دفاع عن املجتمعات العربية امل�شرقية بر ّمتها‪ ،‬وهي امل�ستهدفة بالتحديد»‪ ،‬كما �أكد على‬ ‫«�إنّ املجتمعات امل�شرقية يجب �أن حتمي نف�سها بنف�سها‪ ،‬فتحمي بالتايل مك ّوناتها التاريخية املوروثة‪،‬‬ ‫وذلك من خالل بناء َ‬ ‫املواطنة القائمة على �سيادة القانون العام امل�شرتك‪ ،‬وتفعيل امل�ؤ�س�سات‬ ‫اجلامعة»‪.‬‬ ‫وي�شري �إىل �ضرورة الدفاع عن الفل�سطينيني امل�سيحيني �ضمن �إطار الدفاع عن الق�ضية الفل�سطينية‪،‬‬ ‫«نكاد نقول �إنّ خط الدفاع الأول عن العرب وامل�شرقيني امل�سيحيني كان يجب �أن يكون بادئ ذي‬ ‫بدء يف فل�سطني وعرب الدفاع عن ق�ضيتها‪ّ ،‬مما كان وفّر على اجلميع امل�شهد ال�سائد راهناً»‪.‬‬ ‫حتت عنوان «حقائق ومغالطات حول تاريخ امل�سيحية امل�شرقية‪ :‬الوجود والدور «كتبت اال�ستاذة‬ ‫اجلامعية حياة احلريري مقالة يف جريدة «االخبار» يف عددها ال�صادر يف ‪ 11‬ت�شرين الثاين ‪،2013‬‬ ‫«تعمقوا يف الديانة الإ�سالمية وتعاليمها جلهة‬ ‫ف�أ�شارت �إىل الدور امل�سيحي مع ظهور الإ�سالم ّ‬ ‫االنتماء العربي‪ ،‬وان�صهروا يف جمتمعاتها مع احلفاظ على انتمائهم الديني‪ .‬ومل يكن هذا الوجود‬ ‫�شكلياً‪ ،‬بل ّ‬ ‫�شكل امل�سيحيون مدماك احل�ضارة العربية الإ�سالمية عرب الدور الذي لعبوه يف حركات‬ ‫الرتجمة والتي �ساعدت امل�سلمني على ن�شر ح�ضارتهم وثقافتهم‪ ،‬ويف تب ّوء عدد منهم املنا�صب‬ ‫الر�سمية»‪.‬‬ ‫و�أو�ضحت �أن �أبرز �إجنازاتهم منذ بدايات القرن التا�سع ع�شر هو �إدخال ال�صحافة «�أبرز �إجنازات‬ ‫امل�سيحيني يف امل�شرق العربي و�صو ًال �إىل م�صر كان �إدخالهم ال�صحافة على املجتمعات العربية‪،‬‬ ‫والتي لعبوا من خاللها دوراً بارزاً يف احلفاظ على اللغة العربية والتم�سك بها‪ ،‬ويف ن�شر الوعي‬ ‫القومي بني جميع مكونات املجتمع العربي عرب الدفاع عن الق�ضايا العربية الوطنية‪ ،‬ال �سيما حماربة‬ ‫‪159‬‬


‫االحتالالت الأجنبية بدءاً من ال�سلطنة العثمانية و�صو ًال �إىل االنتدابني الفرن�سي والإنكليزي‪،‬‬ ‫فمحاربة �إ�سرائيل»‪.‬‬ ‫و�أكدت الكاتبة �أن النكبة التي تعر�ضت لها فل�سطني على �أيدي االحتالل اال�سرائيلي كانت‬ ‫«يهدد املجتمعات العربية‬ ‫ال�شرارة االوىل لهجرة امل�سيحيني من فل�سطني‪ ،‬كما �أ�شارت �أن اخلطر ّ‬ ‫كافة‪ ،‬امل�سيحية والإ�سالمية‪ .‬لذا‪ ،‬ف�إن امل�س�ؤولية ال تقع على امل�سيحيني وحدهم يف حماية وجودهم‪،‬‬ ‫بل �أي�ضاً على امل�سلمني يف الدفاع عنهم‪ ،‬لأنهم �أبناء هذه الأر�ض العربية‪ ،‬وحاملو ق�ضاياها الوطنية‬ ‫وفكرها القومي منذ القدم»‪.‬‬

‫‪160‬‬


‫مت اكت�شاف هذه القطع الأثرية يف تل براك (جنر قدمياً)‪� ،‬سوريا‪ .‬وتعود للفرتة ‪ 3500-3700‬قبل امل�سيح‪ .‬نقّب يف هذا‬ ‫املوقع الأرخيولوجي «ماك�س مالوان ‪ »Max Mallowan‬يف العامني ‪ 1937‬و‪ .1938‬ولقد وجد معظم هذا النوع من‬ ‫الآثار يف «معبد العني»‪ ،‬ويرتاوح حجم كل من هذه املج�سمات الثالث بني ‪ 10‬و‪� 20‬سم‪ .‬وجم�سمات العيون ترمز‬ ‫�إىل االنتباه �إىل الآلهة يف ح�ضارات ما بني النهرين‪.‬‬ ‫(جمموعة خا�صة)‬


‫�سورية من احلرب واملجاعة �إىل م�ؤمتر ال�صلح‬

‫املجلد الأول من كتابات الدكتور خليل �سعاده‪� .‬سي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة‪.‬‬ ‫يحوي هذا املجلد على تعليقات امل�ؤلف على املجاعة التي اجتاحت �سورية خالل احلرب‬ ‫الكربى‪� ،‬إ�ضافة �إىل �سل�سلة من الأبحاث والدرا�سات التي ن�شرها يف مغرتبه الأمريكي اجلنوبي‬ ‫ما بني ال�سنوات ‪ 1914‬و‪.1920‬‬ ‫لبنان ‪ 5000‬لرية | الأردن‪ 2 :‬دينار | �سوريا‪ 100 :‬لرية | م�صر‪ 10 :‬جنيه | تون�س ‪ 1.5 :‬دينار | املغرب‪ 20 :‬درهم | م�سقط‪ 1 :‬ريال‬ ‫ال�سعودية‪ 10 :‬ريال | البحرين‪ 1.5 :‬دينار | الكويت‪ 1.5 :‬دينار | قطر‪ 10 :‬ريال | الإمارات‪ 10 :‬درهم‬


‫العدد‬ ‫�آذار‬

‫‪2014‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.