العدد رقم - 3
�آذار 2014
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق �أمني البا�شا عن احلرب العاملية والفن وبريوت حممود حيدر ثورات م�ستباحة �إميل عكرا البعد االجتماعي لتك ّون املدينة حيدر حاج ا�سماعيل الفردية والنزعة الفردية مقابل حم ّبة الآخر (فيليا) وفيق غزيزي امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب
مئوية احلرب العاملية الأوىل
2014 - 1914
من املجاعة والتق�سيم �إىل تق�سيم التق�سيم
تقف اللجان بني �أخذ ورد وتقتل �أوقاتها مبناق�شات عقيمة وجمادالت �سقيمة واملوت يح�صد يف خالل هذه الفرتات الذهبية �صفوفه ح�صد ًا ،ومتى اتفقت �آرا�ؤهم قد ال يبقى من لزوم لر�أي على الإطالق، لأن الذين من �أجلهم �أقيمت اللجان واختلفت الآراء يكونون قد رحلوا �إىل ديار الأبدية الدكتور خليل �سعاده
العدد رقم - 3
�آذار 2014
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
املحتويات ر�أي من التق�سيم �إىل التفتيت �سليمان بختي
درا�سات و�أبحاث 3
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014–1914
ثورات م�ستباحة حممود حيدر
91
الفردية والنزعة الفردية مقابل حم ّبة الآخر (فيليا) 117 حيدر حاج ا�سماعيل
َخطب لبنان و�سوريا الدكتور خليل �سعاده
7
يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل جنيب ن�صري
11
حتوالت الفكرة القومية يف امل�شرق العربي قبيل احلرب العاملية الأوىل وبعدها �أ�سامة �سمعان
17
انعكا�سات نتائج احلرب العاملية االوىل على امل�شرق علوان نعيم �أمني الدين
41
عن احلرب العاملية والفن وبريوت �أمني البا�شا
ق�صة جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي ال�صحافية جنيب البعيني
51
امل�شرقي يف احلرب الأوىل الوجه ال ّثقا ّيف ّ ل�ؤي زيتوين
امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب 149 وفيق غزيزي
55
ال�شعر العربي احلديث حممود �شريح
67
مائة عام على «دمعة وابت�سامة» جلربان �سليمان بختي
83
االعالم :اال�ست�شراق اجلديد و�سام عبد اهلل
87
عمارة البعد االجتماعي لتك ّون املدينة �إميل عكرا
129
حتوالت �أدبية 141
وقائع م�شرقية امل�سيحية امل�شرقية ...حتديات وحلول و�سام عبد اهلل
157
حتوالت م�رشقية
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة
هيئة التحرير
فاتن املر عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
�سعاده م�صطفى �أر�شيد �سليمان بختي �سركي�س �أبو زيد
املدير امل�س�ؤول� :سركي�س �أبو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. االخراج الفني :عالء �صقر
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادر عن وزارة االعالم اللبناين
1981/7/6
ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى �أر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
اال�شرتاك ال�سنوي -لبنان
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
توزيع :النا�رشون
اال�شرتاك ال�سنوي -خارج لبنان
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -طابق هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خليوي)00961-3( 975033 :
4
للأفراد 100 :دوالر �أمريكي للم�ؤ�س�سات 200 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
ر�أي من التق�سيم �إىل التفتيت مائة عام م�ضت على احلرب العاملية الأوىل وما زال العامل يعي�ش �أ�سبابها ونتائجها وتداعياتها. وما زالت احلروب تولد يف عقول الرجال والن�ساء ومتوت فيها .مائة عام وما زلنا نحلم بعامل بال حروب ،بنظام عاملي بال ظلم ،مبجتمعات بال عنف ،بعامل عربي م�ستقر ،وال يزال الـدرب جمهو ًال. روى لنا غري مرة الدكتور زين نور الدين زين �أ�ستاذ التاريخ يف اجلامعة االمريكية يف بريوت �أنه كان يف زيارة �إىل �أحدى املتاحف يف النم�سا ووجد هناك العربة التي اغتيل فيها ويل عهد النم�سا االر�شيدوق فردنياند وزوجته يف حزيران 1914على يد �شبان متمردين من ال�صرب. وراح زين زين ي�ستعذب القول �إن التاريخ نلم�سه ونح�سه ون�شمه ونتذوقه ،وراح يتلم�س با�صابعه �آثار الر�صا�صات يف العربة ويقول «تلك الر�صا�صات �أ�شعلت احلرب العاملية االوىل». ولكنه وجد ر�صا�صتني وراح يفت�ش منهمكاً عن الر�صا�صتني الباقيتني م�ستذكراً �أنهم �أطلقوا عليه �أربع ر�صا�صات .ولبث يفت�ش ومل يجد حتى قالت له زوجته الر�صا�صة الثالثة والرابعة �أ�صابته و�أ�صابت زوجته و�أردتهما. وال�صحيح �أن تلك احلادثة كانت �سبباً مبا�شراً للحرب ولكن الأ�سباب االعمق كانت يف ال�سباق �إىل الت�سلح والتحالفات واالمربيالية والقوميات .وكل هذه املفاهيم ال تزال �سارية يف القرن احلادي والع�شرين واعادت ت�شكيله ولو مع فوارق على ما يقول الإجتهاديون .ولكن ماذا كان يحدث يف بالدنا؟ كانت املنطقة مع ظل احلكم العثماين (رجل ال�شرق املري�ض) وكان التململ يف �أوجه والبحث عن م�شاريع قومية �سورية وعربية خارج �إطار تركيا وغالباً مب�ساعدة قوى �أوروبية ( فرن�سا �أو بريطانيا) قيد التح�ضري والتداول. يف بريوت كان الوايل عزمي بك يوجه جهوده �إىل تطوير احلياة الزراعية يف والية بريوت. وتقررت ميزانية الزراعة اخل�صو�صية لوالية بريوت يف عام 1914بعدما تقرر ت�أ�سي�س مكتب زراعي يف كل لواء من �ألوية بريوت .و�أ�صدر الوايل امره بافتتاح مكتب االلبان يف ني�سان 1914 وكانت والية بريوت ت�صدر �إىل �أوروبا حوايل خم�سة ماليني بي�ضة يف ال�سنة .ونالت م�صنوعات 3
ر�أي
بريوت الف�ضية والذهبية رغبة واقباال يف �أوروبا على ما يذكر د.ع�صام �شبارو يف كتابه «تاريخ بريوت» �ص .213ويف خرب �آخر من كتاب «بريوت يف التاريخ واحل�ضارة والعمران» لطه الويل �ص 111انه كان هناك نزاع بني احلكومة العثمانية ميثلها مديراملالية (الدفرتدار) وبني بلدية بريوت على حرج ال�صنوبر (حرج بريوت) �إذا حاول مدير املالية اال�ستيالء على احلرج واعرت�ض جمل�س �إدارة البلدية م�سج ًال �أن احلرج هو ملك االهايل ومتنزههم الوحيد .وهكذا �سجل احلرج على �أنه من �أمالك البلدية. ويف بريوت �صدرت جملة «فتاة لبنان» يف كانون الثاين 1914وهي جملة �أدبية علمية روائية ملن�شئتها �سليمة �أبي را�شد. ويف العام 1914كان جربان خليل جربان يكتب يف بو�سطن كتابه «دمعة وابت�سامة» ويكتب الر�سائل �إىل مي زيادة وماري ها�سكل وير�سم الفنانة االمريكية روث �سان دني�س. ويف العام � 1914أنهى �أمني الريحاين روايته «زنبقة الغور» يف ماريدا -املك�سيك. ويف لبنان و�سوريا ومع دخول تركيا احلرب ا�ستفحلت معاناة اجلوع والهجرة و�سفربرلك والت�ضييق على احلريات. ويف العام 1914كانت القوى اال�ستعمارية تخطط وتدبر لزرع �إ�سرائيل يف املنطقة واال�ستيالء على النفط يف املنطقة وتق�سيم العامل العربي. يف بداية القرن املا�ضي كان هناك ثالثة م�شاريع ح�ضارية بح�سب ما يقول د.حممد عابد اجلابري «امل�شروع احل�ضاري العربي وامل�شروع الغربي االوروبي وامل�شروع اال�سرائيلي» �أين �أ�صبحت هذه امل�شاريع بعد مائة عام .كتب ال�شاعر العراقي �سعدي يو�سف ق�صيدة فيها الكثري مما حل يف العامل العربي «منذ العام 1916وحتى اليوم مل تزل االلغام على ال�سكة احلديد /ومل يزل لوران�س يقلب النظر يف ال�صحراء العربية» .مر القرن ومل يحدث �شيء. قرن من �أجل الال�شيء.
4
ر�أي
مئة عام على احلرب العاملية االوىل والعامل العربي ينتقل من التق�سيم والتجزئة �إىل التفتيت. ومن التفتيت �إىل �أين؟ والدم ميتزج بالنفط ،واليقني بالنفاق ،واحلقيقة بالزيف .والتاريخ بالأوهام والأ�ساطري. وال�س�ؤال ،كيف ميكن �أن ن�ستعيد �إرادة التغيري؟ كيف نعيد بناء م�شروعنا احل�ضاري ون�ست�أنف دورنا يف التاريخ؟ كيف نعيد بناء االن�سان -القيمة ودوره يف املجتمع ؟ كيف نعيد االعتبار للعقل واحلرية والكرامة االن�سانية؟ كيف ننتقل من القبيلة �إىل املدينة؟ كيف ن�ساعد املا�ضي �أن مي�ضي وامل�ستقبل �أن يولد؟ كيف نعيد ترتيب االولويات وحتديد االهداف والآليات ؟ �أ�سئلة كثرية حتتاج �إىل مدى زمني ولكن من قال �إن الهوية احل�ضارية ال ُتبنى يومياً ويف خ�ضم االحداث التحوالت التي جتبهنا. �سليمان بختي
5
�صدر حديثا ً
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
مئوية احلرب العاملية الأوىل
خَ طب لبنان و�سوريا
2014 – 1914
1
الدكتور خليل �سعاده
ال تزال الأنباء الواردة �إلينا من �أنحاء �شتى تدل على مبلغ ال�ضيق وال�شقاء النازلني بوطننا التع�س، ومع �أن الأخبار التي وردتنا �سابقاً فيها غلو ومبالغة ،فاحلقيقة �أن كثريين من ال�سوريني على نوع عام واللبنانيني على نوع خا�ص ميوتون جوعاً. �أطلعنا منذ ب�ضعة �أيام �أحد �أ�صدقائنا من م�شاهري جتار العا�صمة على كتاب ورده حديثاً من �أخيه يف املتني من قائم مقامية املنت يف لبنان جاء يف عر�ضه ما ي�أتي: «كل من يقدر على �إر�سال نقود �إىل �أهله ينقذهم من املوت جوعاً ،فالذي يحدث يومياً يف لبنان خا�صة ،ب�سبب اجلراد الذي �أتى �سابقاً وقلة الأمطار» وقد ق�ص املراقب ب�ضع كلمات منه. فمرور هذا الكتاب على يد املراقب ،وبقاء هذه ال�شذرة فيه دليل وا�ضح على مبلغ ال�شقاء الذي حل بالوطن ،وت�أييد للأنباء التي وردتنا من �أنحاء �شتى على ما �أملعنا �إليه يف حينه. فاملوت الأبي�ض حل ب�سوريا دون م�شاحة ،وال يزال يفتك بها فتكاً ذريعاً وكل من يرمي �إىل ت�سكني الأفكار الثائرة واخلواطر امل�ضطربة �ضرب من الت�سكني الذي ال يجوزه �شرع �أو عقل ،فالعاقل من فتح عينيه للخطر حتى يكون �أعرف بو�سائل اتقائه المن من �أغم�ضهما فيكون كالنعامة ت�ضع ر�أ�سها يف الرمال ال تب�صر ال�صياد الذي يجري القتنا�صها. ولقد كتبنا مراراً بهذا املو�ضوع ،ويف املرة الأخرية �أن �إر�سال املال �إىل الوطن هو الو�سيلة الوحيدة الآن لإنقاذ مواطنينا من املوت جوعاً ،فكل من يغرر باللبنانيني وال�سوريني ويزين لهم �أن ال جماعة
1
النداء الرابع الذي وجهه الدكتور خليل �سعاده يف ت�شرين الأول �سنة � 1916إىل �أبناء اجلالية ال�سورية يف الأرجنتني يحثّهم فيها بو�صفه رئي�ساً للجامعة ال�سورية على تقدمي العون وامل�ساعدة ملنكوبي املجاعة يف الوطن. ن�شر هذا النداء يف «املجلة» ،اجلزء الثامن ،ال�سنة الثانية ،بون�س �أير�س ،يف 1ت�شرين الأول �سنة .1916وي�صدر قريباً يف املجلد الأول من كتابات الدكتور �سعاده بعنوان «�سورية من احلرب واملجاعة �إىل م�ؤمتر ال�صلح». 7
يف الوطن يرتكب �إثماً نحو مواطنيه ،وكذلك كل من يقول �إن بعدم و�صول الإعانات خ�صو�صية كانت عمومية.
�إر�سال املال �إىل الوطن هو الو�سيلة الوحيدة الآن لإنقاذ مواطنينا من املوت جوع ًا ،فكل من يغرر باللبنانيني وال�سوريني ويزين لهم �أن ال جماعة يف الوطن يرتكب �أثم ًا نحو مواطنيه ن�شرنا لقراء املجلة كتاباً وردنا من ر�سل كارتر �أمني خزينة اجلمعية الأمريكية يف نيويورك يرى فيه املطالع بياناً �شافياً ملا حل بالأموال املر�سلة �إىل الوطن و�أن هذه الأموال مل ت�صل بدون �أدنى �شبهة �أو معار�ضة .وليكن ال�سوريون على ثقة من �أن الر�سالة الأمريكية التي وقفت نف�سها على عمل الرب ور�ضيت �أن تقوم لل�سوريني بهذه اخلدمة اجلليلة �شفقة ورحمة بنا ال تر�ضى حلظة واحدة �أن تكون و�سيلة البتزاز �أموالنا ونهب مواطنينا ،فلو ر�أت �إجحافاً بحقوقنا وجمازفة ب�إعاناتنا لكانت �أعلنت اجلوايل ال�سورية طراً بعدم قبولها تويل �إر�سال الأموال �سواء ذكرت ال�سبب الذي يحدو بها �إىل ذلك �أم مل تذكره ،كما فعلت جلنتها يف الأ�ستانة على ما جاءت تفا�صيله يف الكتاب امل�شار �إليه، ف�إن هذه اللجنة التي كانت تتوىل توزيع الإعانات على الأرمن �أعلنت ا�ضطرارها �إىل االنقطاع عن ذلك دون �أن ت�أتي على تف�صيل ما بهذا ال�صدد. املوقف موقف موت �أو حياة والنكبة ال مثيل لها يف تاريخنا ،وقد بد�أت تت�س ّرب �إلينا �أنباء الأوبئة فاحلمى التيفو�سية والتيفودية والدو�سنطاريا التي �أنب�أنا بحدوثها قبل �أن يردنا �شيء من �أخبارهاّ ، التي قلنا ٍ حينئذ �إنها من م�صاحبات ونتائج احلروب واملجاعات فتكت وال تزال تفتك مبواطنينا فتكاً ذريعاً ،وكان من تعا�سة وطننا �أن �أ�ضيف �إىل هذه الأوبئة وباءان �آخران هائالن هما الطاعون والهواء الأ�صفر.
متى ُفتحت الطريق بني �سوريا والعامل كان يف كل عائلة مناحة ويف كل �أ�سرة حداد ،لأن من مل يفقد �أب ًا �أو �أم ًا �أو �أخت ًا �أو ابن ًا فقد قريب ًا �أو �صديق ًا ،فاحلا�ضر قامت وامل�ستقبل مظلم
ال نظن �أن بالداً ُرزئت مبا ُرزئت به �سوريا دون �أن تنال عطفاً فعا ًال من الأمم ف�أ�صيبت البلجيك برزايا عظيمة ،وح ّلت بها نكبة قد تكون �أعظم نكبات العامل ولكن خطبها كان �أ�شبه بزوبعة هوجاء 8
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
هدمت املنازل واقتلعت الأ�شجار ولكنها مل تلبث �أن هجعت وعاد من بقي حياً من �أهلها يتن�شق ن�سمات ال�صباح ويجد قوتاً حلياته وطبيباً لأمرا�ضه ودواء لإنعا�شه .ح ّلت بال�صرب نوائب تذيب القلوب وتفتت الأكباد واجتاحتها احلمى التيفو�سية ،ولكنها وجدت عطفاً عليها من الغري ف�أر�سلت �إليها بعثات ال�صليب الأحمر تباعاً� .أما �سوريا املنكودة الطالع ف�إن �أهلها ميوتون بني براثن الوباء وخمالب املجاعة دون �أن ي�سمع العامل لهم �صوت ا�ستغاثة.ميوتون دون غذاء وال طبيب وال دواء. متى ُفتحت الطريق بني �سوريا والعامل كان يف كل عائلة مناحة ويف كل �أ�سرة حداد ،لأن من مل يفقد �أباً �أو �أماً �أو �أختاً �أو ابناً فقد قريباً �أو �صديقاً ،فاحلا�ضر قامت وامل�ستقبل مظلم. وبني عاملي الرجاء والي�أ�س يقف فريق كبري من �أفراد اجلوايل ال�سورية �صارفاً وقته الثمني بالأ�سئلة عن حقائق الأخبار وم�صادرها .مي�سك الرجاء �شماله وي�شل القنوط ميينه. تقف اللجان بني �أخذ ورد وتقتل �أوقاتها مبناق�شات عقيمة وجمادالت �سقيمة واملوت يح�صد يف خالل هذه الفرتات الذهبية �صفوفه ح�صداً ،ومتى اتفقت �آرا�ؤهم قد ال يبقى من لزوم لر�أي على الإطالق ،لأن الذين من �أجلهم �أقيمت اللجان واختلفت الآراء يكونون قد رحلوا �إىل ديار الأبدية.
تقف اللجان بني �أخذ ورد وتقتل �أوقاتها مبناق�شات عقيمة وجمادالت �سقيمة واملوت يح�صد يف خالل هذه الفرتات الذهبية �صفوفه ح�صد ًا ،ومتى اتفقت �آرا�ؤهم قد ال يبقى من لزوم لر�أي على الإطالق، لأن الذين من �أجلهم �أقيمت اللجان واختلفت الآراء يكونون قد رحلوا �إىل ديار الأبدية يجب �أو ًال �إر�سال الأموال دون �أدنى �إبطاء لأن املوت ال ينتظر �أحداً. من �أراد �أن ينقذ �أهله من املوت جوعاً فلري�سل �إليهم الآن ما ًال. �أتينا يف اجلزء املا�ضي على ذكر النب�أ الربقي القائل ب�أن احلكومة العثمانية �أذنت للواليات املتحدة ب�إر�سال �إعانات �إىل �سوريا تتوىل توزيعها جلنة �أمريكية ،وقلنا حينئذٍ �إننا ال نكون على ثقة يف �شيء من ذلك ما مل يردنا ثبت لهذا النب�أ من وزارة اخلارجية نف�سها .ومع �أن النب�أ الربقي امل�شار �إليه قد تكرر فال نزال بني ال�شك واليقني ،ونرجح عدم �صحته لأنه ال يقرب العقل �أن تكون احلكومة العثمانية قد �أذنت للواليات املتحدة دون �أن تردنا ر�سالة برقية بهذا ال�صدد من جلنة نيويورك �أو �سواها ،ولكننا نظن �أن احلكومة الأمريكية ال تزال متابعة �سعيها من هذا القبيل وال ندري ما تكون نتيجته. 9
وامل�أخوذ من روايات بع�ض الأمريكان الذي كانوا يف �سوريا �أن احلال فيها بالغة منتهى ال�شقاء ،فقد �شاهد بع�ضهم كثريين من الرجال والن�ساء ي�سقطون يف ال�شوارع وبينهم �أي�ضاً فريق من الأوالد، وكلهم يفت�شون عن ك�سرة من اخلبز ي�سدون بها الرمق.
ال يوجد �سوى مو�ضع واحد فيه احلبوب وهو عاليه ،و�أن احل�صول عليها متعذر، فيتقاطر اللبنانيون �إىل هناك زرافات وي�ضطرون �إىل االنتظار ردح ًا من الزمن قبل �أن يتمكنوا من احل�صول على �شيء قد ال يكون فيه كفاية له وظاهر من جممل الروايات �أن احلال يف لبنان �أ�شد منها حراجة يف �سائر املوا�ضع ،و�أن النا�س تهلك ب�سرعة �سواء بعامل اجلوع �أو الوباء وطبيعي �أن يكون ال�ضيق يف لبنان �أكرث منه يف بقية �أنحاء �سورية لأن �أرا�ضيه الزراعية قليلة جداً ال تكفي �سكانه ،واملوا�صالت بني جهاته متعذرة وهو يعتمد يف غذائه على ما كان يرده �سابقاً من حوران و�سهل البقاع. وقد قال بع�ض الأمريكيني الذين كانوا يف لبنان �أنه ال يوجد �سوى مو�ضع واحد فيه احلبوب وهو عاليه ،و�أن احل�صول عليها متعذر ،فيتقاطر اللبنانيون �إىل هناك زرافات وي�ضطرون �إىل االنتظار ردحاً من الزمن قبل �أن يتمكنوا من احل�صول على �شيء قد ال يكون فيه كفاية له. ومهما يكن من الأمر ،ف�إن احلال يف لبنان ال تزال على ما كانت عليه من ال�شقاء وال نرى باباً للفرج �إال �إذا �سمحت الدولة العثمانية للحكومة الأمريكية �أن تر�سل ما عندها من املواد الغذائية لتوزع على يد الأمريكان �أنف�سهم ،لأن الدولة �إذا مل تذعن ال ي�سمح للحلفاء بدخول �شيء من املواد �إىل �سوريا.
10
مئوية احلرب العاملية الأوىل
يف وداع املا�ضي وامل�ستقبل
2014 – 1914
احلرب العاملية الأوىل خداع ثقايف ب�شهادة احلا�رض
جنيب ن�صري -باحث
ميكن النظر �إىل احلروب من مئات الزوايا ح�سب املكان والزمان ،كما ميكن النظر �إليها من �شتى املنابت واملعايري الثقافية املعلوماتية واملعرفية ،فاحلرب حتى ولو مل تكن فع ًال ا�ستثنائيا يف احلياة الب�شرية� ،إال �أنها فعل �أق�صى ميلأ الفراغ بني النظري والعملي يف �سباق امل�صالح ،ولعل احلرب العاملية الأوىل كفعل «غربي» بامتياز كانت تعبرياً عن ذاك االحتقان الثقايف الذي �أنتجه فائ�ض امل�شخ�صة ،ما عرب عن ان�سداد ت�سويقي لثقافة القوة املعرفية يف جتلياتها التكنولوجية املجردة قبل ّ ع�صر النه�ضة وجتلياتها ونتائجها كمنتجات فائ�ضة ،لتو�صف هذه احلرب باحلرب من �أجل التجارة، من هذه الزاوية ميكننا النظر �إىل هذه احلرب كنتائج و م�آالت ثقافية �أودت بامل�شرق �إىل ما فيه الآن. فهذه احلرب د�شنت التغريات الثقافية اعتباراً من بدايتها ،بناء على احتياجات �أطرافها املحلية ال�صرفة يف �سباق حمموم نحو الأ�سواق؟ �إنها الأ�سواق التي حتتاج �إىل ثقافة من نوع معني ودرجة معينة كي ت�ستوعب ال�سلعة الغربية� ،أو بالأحرى �سلعة ع�صر الأنوار العاملية ،فهذه ال�سلع حتتاج م�شخ�صة ،دون املخاطرة بفقدان �إىل حد �أدنى من ثقافة ت�ؤ ّهلها ال�ستهالك بو�صفها تكنولوجيات ّ امل�ستهلك يف حال حاز على املعرفة الأنوارية ،فكلما ازدادت هذه املعرفة ارتقت وازدادت �أنواع ونوعيات الإ�ستهالك ،ومن هذه الزاوية ميكننا النظر(وتذكر) هذه احلرب ،فبينما كانت املدافع تق�صف كان امل�ست�شرقون ي�ستكملون درا�ساتهم الأنرتوبولوجية ،والإجتماعية يف العديد من مناطق العامل ،م�ستخدمني مناهجهم العلمية كتكنولوجيا ،تاركني عملية �إح�صاء وتقدير كمية ونوعية الأفواه التي �ستتناول منتجاتهم لدولهم التي ت�أ�س�ست على تكنولوجيات ع�صر الأنوار، مقرتحني �أجنع ال�سبل للو�صول �إىل تلك الأفواه وربطها مع فائ�ض القوة املعرفية املتمثلة بالإنتاج، حتى ال ي�صنع تكد�س فائ�ض القوة املعرفية هذا فراغاً يجب ميلأه العنف الإجتماعي على �أقل تقدير� ،أو الدويل على املدى الأبعد. يهمنا من ّ تذكر هذه احلرب ،يف ذكراها املئوية الأوىل ،هو م�آل منطقتنا التي مل ت�شارك يف هذه ما ّ احلرب كطرف ذي م�صلحة على الرغم من ت�أثّر م�صاحلها ب�شدة ،ال بل تقرر م�صريها (ورمبا �إىل الأبد) كمفعول به ،بناء على احليز الإنتاجي الذي �سوف ت�شغله م�ستقب ًال� ،أو ب�صياغة �أخرى، 11
تقدير معريف لفائ�ض القوة التي ميكن �أن تتوفر لديها م�ستقبال ،يف حتول بنيوي ملفهوم الإ�ستعمار وال�سيطرة ،الذي يت�ضمن وي�ضمن م�ستقبله �أي�ضاً ،الذي �سوف يتح ّول رويداً �إىل مفهوم «الرميوت كونرتولية» �أو ّ التحكم عن بعد ،الناجت عن الإقبال على ا�ستهالك امل�شخ�ص من التكنولوجيات والإعتياد عليها ،والإعرا�ض عن املجرد منها ككتلة معرفية �صعبة اله�ضم ،يف �إ�شارة �أنرتوبولوجية �إىل اجلينات الثقافية التي ميكن احلفاظ ذاتياً عليها دون تكاليف تذكر ،كب�ؤرة تلقي لأوامر التحكم عن بعد ،يف ا�ستخدام ما بعد كولونيايل لهذه اجلينات الثقافية املر�صودة واملدرو�سة وفق املناهج الأنوارية ،التي هي وباملنا�سبة ،مل تكن ممنوعة على �أحد من القادرين على حتمل اجلرعات العلمية ال�صادمة للجني الثقايف ،الذي تعر�ض الغرب نف�سه لها وا�ستطاع بجهد كبري تقبلها وتفعيلها خالل ال�سنوات التي تلت الثورة الفرن�سية. مل تكن هذه اجلرعات العلمية ،كتكنولوجيات جمردة ،بعيدة عن متناول املنطقة وال هي باملمنوعة عليها ،فع�صر النه�ضة ونخبته ،ابتداء من 1850كان قد تلقى هذه اجلرعات ،و�أعاد �إنتاجها نظرياً على الأقل ،يف خ�ضم ال�صراع الغربي على الأ�سواق الذي �أدى حتديث هذه الأ�سواق (قناة ال�سوي�س ،واخلط احلديدي برلني /دلهي ،مثا ًال) ولرمبا كان لفرن�سي�س مرا�ش احللبي ق�صب ال�سبق يف روايته (غابة احلق) حول الثقافة الت�أ�سي�سية ملجتمع احلداثة املطلوب ،عرب مقاربة مو�ضوع ترافق ا�ستخدام التكنولوجيات امل�شخ�صة واملج ّردة معاً وبال�ضرورة وبكل �إخال�ص ،حيث بدت تلك اجلرعات الثقافية والعمل عليها والأخذ بها ،كفر�صة من ال�صعب تكرارها ،ب�سبب طبيعتها الت�أ�سي�سية من جهة ،وب�سبب و�ضوح م�آالت الرتاكم املعريف العاملي التي �سوف يحوز عليها ويعيد �إنتاجها وا�ستخدامها ،من هو قادر على ممار�ستها والتفاعل معها وتفعيلها ل�صاحله ،كقوة ذكية بغ�ض النظر عن عنفها الفيزيائي �إذا وجد .ومع ح�ضور احلرب العاملية الأوىل بق�سرها الفيزيائي ،كانت البنية املعرفية ل�شرقنا العتيد قد هزمت وحت ّولت طوراً خائبا من �أطوار ثقافة ،مل حتتمل جيناتها اجلرعات املعرفية ،فف�شلت (وحتى الآن) يف ا�ستقبال �سايك�س /بيكو والحقاً وعد بلفور ومن قبلهما م�ؤمتر بال ال�صهيوين الأول 1897كتكنولوجيات جمردة قادرة على حتقيق �أهدافها على الأر�ض ،حيث �صدقت تقارير امل�ست�شرقني ودرا�ستهم عمليا وعلى �أر�ض الواقع ،ومل ي�ستطع امل�شرقيون حتى يومنا هذا (ح�سب توقعات ه�ؤالء امل�ست�شرقني) من ا�ستيعاب التكنولوجيات املج ّردة (من �أهمها املجتمع والدولة )ح ّتى يومنا هذا. عملياً تبدو «الثورة» العربية الكربى ،هي اجلزء امل�شرقي من الفعاليات احلربية للحرب العاملية الأوىل ،على اجلبهة الرتكية الإنكليزية حتديداً ،فهي من ناحية ت�أثريها التغيريي �أكرث و�ضوحا من ت�أثري حرب الرتعة (قناة ال�سوي�س) و�سفر برلك معاً على املنطقة ،هذه «الثورة» التي قادتها بريطانيا من موقعها امل�صري ،عرب مكماهون كتقني �سيا�سي خا�ضع ملكت�شفات امل�ست�شرقني الأنرتوبولوجيني العلمية ،ولوران�س العرب الذي قاد املعارك كتقني معريف عرف كيف يحرك الأمور بناء على علمه بالطبائع الثقافية لأهل املنطقة من بالد ال�شام حتى جند واحلجاز و�صحرائهما 12
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
املحيطة ،يف ا�ستخدام عملي للتكنولوجيا املجردة ،التي ترافقت مع العمليات احلربية كتكنولوجيا م�شخ�صة ،حيث ّ غطى الإنكليز النق�ص امل�شرقي يف هذه التكنولوجيا املجردة ،من حيث ت�أمني الأر�ضية الثقافية (العرب �أمة واحدة) ومن ثم ا�ستغاللها ،ليتم ت�صنيع �أر�ضية ثقافية �أيديولوجية مواربة وا�ستعمالية للح�صول على �أرا�ضي �سايك�س بيكو وتقا�سمها ،فتم ت�صنيع العروبة مبعناها البداهي ،غري الإرادي ،على �أ�سا�س �أننا �أمام �أ ّمة مكتملة ،من دون املرور يف حمطة املجتمع ،مبعنى �أن الأ ّمة الواحدة هي جمتمع واحد وهو �أمر ال يخفى على انرتوبولوجي �أو حقوقي! ،وا�ستعملت العروبة كو�صفة ثقافية مرجتلة تقوم مرحلياً (ريثما يتم الإقت�سام) بدورها كتكنولوجيا مب�سطة قابلة للإ�ستيعاب من قبل �شعوب مل تتعر�ض لإ�شعاع ع�صر الأنوار (وترف�ض التعر�ض �إىل يومنا هذا)، يف ا�ستثمار جمحف وغ�شا�ش لثقافة �شعبية ما قبل تكنولوجية ،ت�ستطيع منظومة �سايك�س /بيكو عربها تفكيك العالقة العثمانية مع �شعب املنطقة امل�سماة الهالل اخل�صيب ل�صالح مملكة عربية واحدة قوامها الزعامة الدينية /اللغوية ،يف وقت كانت �إنكلرتة والغرب عموما قد جتاوز و�أ�سقط من ح�سابه هكذا تكنولوجيات يف عملية ت�أ�سي�س جمتمعاتهم م�ستخدمني ثقافة حداثية �صاحلة لإقامة م�شروع املجتمع /الأمة املنتجة ،ولعل عملية اخلداع الكربى كانت ثقافية بامتياز ،عرب دعم حرمان الهالل اخل�صيب والعربة معاً من تكنولوجيات الإجتماع الب�شري ،التي عبرّ مبرارة عنها امللك في�صل الأول بخذالن الإنكليز والدول املنت�صرة يف احلرب بتخليهم عن هذه العروبة (بتن�صيبه ملكاً على مملكة عربية واحدة) -بنكوثهم بعهدهم بت�أ�سي�س �أمة عربية له ،يف هذااملجال بال�ضبط �أي يف املجال الثقايف حتديداً يظهر ا�ستثمار «الثورة» العربية كمعرفة تكنولوجية واهية( ،نظراً ل�ضرورة الثقايف حتى ولو كان واهياً) ،ولي�س يف تفكيك «الوحدة العربية» �أو بحرمانه من عر�ش هذه اململكة كما ر�آها جاللته ،وال يف ا�ستبدال الإحتالل الغربي بالإحتالل العثماين، والتي توجها (�أي اخلديعة الثقافية) امللك في�صل ذاته بتوقيع وثيقة في�صل/وايزمن ال�شهرية، ت�أكيداً على واهية اجلرعة املعرفية التي اعتمدت ك�أر�ضية تكنولوجية من النوع املجرد للثورة، والتي توازي وت�ساوي متاماً هزمية رجال النه�ضة و�سايك�س بيكو ووعد بلفور من حيث املبنى الثقايف لها ،التي انتهت �إىل احلرمان من تكنولوجيا ت�أ�سي�س املجتمعات ،حيث جتلت وب�سرعة نتائج ف�شل م�ساعي رجال النه�ضة (بعد الثورة) يف ا�ستحداث قابلية ال�ستعمال التكنولوجيات املجردة، لأ�سباب حملية متاماً ،مهدت وان�سجمت مع التطلعات الإ�ستعمارية بوجهه الإنتدابي ،وا�ستمرت العروبة كمنتج من منتجات احلرب العاملية الأوىل دون فعالية ايجابية تذكر ،على امل�ستويات البنيوية وغريها لغاية يومنا هذا ،حتى �أنها مل ت�ستطع حتى اليوم �أن حتقق �أدنى غاياتها بدائية �أو �أكرثها �أولوية بالن�سبة لها. يف امل�شهد الثاين من احلرب العاملية الأوىل وك�أحد نتائجها كانت ع�صبة الأمم ،وو�ضع مفهوم الإنتداب ،فع�صبة الأمم (كما الأمم املتحدة بعد احلرب العاملية الثانية) وجدت لتن�سيق امل�صالح واالقت�سامات بني املجتمعات املنتجة املتناف�سة ،خالقة حتديات احل�ضور احلقيقي للمجتمعات 13
النامية ،كغاية عليها الإجتاه نحوها بامل�سارعة �إىل ت�أ�سي�س املجتمع القادر على توليد دولة ،ولعل احلرد الثقايف� ،أو احلرد من ثقافة ع�صر الأنوار هو �سبب رئي�سي يف بقاء الهالل اخل�صيب يف هذا القاع احل�ضاري �إىل يومنا هذا ،و�أي�ضاً كان ال�سبب الرئي�سي يف اخرتاع فكرة الإنتداب، فالإنتداب قو ًال وفع ًال هو احتالل وا�ستعمار على كافة امل�ستويات ومبباركة ع�صبة الأمم من جهة ومبباركة الفراغ الثقايف من جهة �أخرى( ،امل�ضحك املبكي �أن هذه التجمهرات الب�شرية امل�شرقية كانت وما زالت ت�شعر بالإكتمال املعريف � ،)..إذ كان ال بد من ت�صنيع بنية تكنولوجية جمردة ولو كانت مب�سطة قادرة على الإرتقاء مب�ستوى الإ�ستهالك ،ليقارب بطريقة ما فوائ�ض الإنتاج لديها من التكنولوجيات امل�شخ�صة وهنا كانت اخلديعة الثقافية الثانية ،وب�سبب الإنتداب عرف امل�شرقيون الد�ستور والربملان وال�سلطات احلكومية واملدار�س ،يقابلها م�شخ�صا م�ؤ�س�سات املياه والكهرباء والرتومواي وال�سيارات وماكينات اخلياطة �إلخ ،وكل ما ميكن �أن تنتجه م�صانع ومزارع تلك الدول املنت�صرة من �سلع� ،سوف ي�صبح الإعتماد عليها هو مبثابة انتقال من ع�صر �إىل ع�صر، ولكن هذا الإنتقال مل يبد ارتقائياً باملرة ،ولهذا ال�سبب مل ي�ستطع امل�شرقيون ا�ستقبال «امل�ؤامرات» عليهم حتى لو اكت�شفوها� ،أو �أبلغت لهم ،لأن الأمر متعلق بالتكنولوجيات املجردة ،التي رف�ضوا الإن�صياع لها ،وظلوا يف �إطار املفعول به ،على الرغم من كل الفر�ص التنويرية الالحقة ،وعلى الرغم من ا�ستعمالهم لكل التكنولوجيات امل�شخ�صة و�إدمانهم عليها. مل تقم احلرب العاملية الأوىل على �سبب عاطفي ،وال على خالف ايديولوجي ديني �أو �أخالقي، بل قامت على امل�صالح الآنية منها واال�سرتاتيجية �أي�ضاً ،فمنطقة ال�شرق الأو�سط الواعدة على امل�ستوى اجليوتكتيكي ،ال ميكن الن�أي بها عن تلك امل�صالح ،خ�صو�صاً �أن اخلالفة العثمانية كانت قد بد�أت بالتحول �إىل الدولة ،ومل تنفع معها ال حماوالت التحديث الداخلية وال م�ساعدات الأملان يف التحديث �إذ بقيت هي �أي�ضاً يف جماالت التكنولوجيا امل�شخ�صة ،مل تكن �سايك�س بيكو �ضد �أو مع �شعوب هذه ال�سلطنة املحت�ضرة ،فهي ال حتبهم وال تكرههم ،وال تنوي الإعتداء عليهم �إال لق�سرهم على الإن�صياع ملخططات حتقيق م�صاحلها ،فالثورة العربية «املجيدة» متّت بت�سليح وم�شاركة اجلي�ش الربيطاين ،وهذا �أمر طاملا �أغفلته املنتجات «الثقافية» الناطقة بالعربية ،ولوال ذلك ملا ا�ستطاع املنت�صرون باحلرب النكث بوعودهم ،فهم يعرفون متاما مع من يتعاملون ،عند هذه النقطة بالذات توقف امل�شرقيون،عند هذه النقطة العاطفية الأخالقية رافعني النقيق وال�شكوى من الإحتقار والإعتداء ،على �أ�سا�س ما يقدرون على فهمه من توجهات ال�سيا�سة العاملية �آنذاك، ومل ينتبهوا �إىل احلقيقة الواقعية �إال مرات قليلة كان من ال�سهل �إجها�ضها (امل�ؤمتر ال�سوري الأول 8 �آذار 1920مثا ًال) ،م� ّؤ�س�سني لنظرية امل�ؤامرة من موقع �ضحل �أخالقياً ومعرفياً ،دون فعل ت�أ�سي�سي ليتم التعامل مع الكيانات الناجتة عن هذه احلرب يذكر(ح ّول فيما بعد الإ�ستقالالت �إىل ورطة)ّ ، ككيانات �أزلية غري قابلة للفناء �إال على يد من �أ�س�سها ،ومت التنظري لها و�أدجلتها على �أ�س�س غري جمتمعية ،ليعود ناجت اي حراك �أو �أي حماولة ارتقاء �إىل نقطة ال�صفر ،بالقوة الذاتية لثقافة هذه 14
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
الكيانات ،التي لن تقوى بعد تلك احلرب على ت�أ�سي�س جمتمعاتها ب�أية �صفة تقنية ،تودي �إىل توليد دولة معا�صرة ميكنها رعاية م�صالح «جمتمع» والدفاع عنه ،والتناف�س مبنتجاته ،من هنا تبدو ال�سنوات احلا�ضنة للحرب (� )1920 - 1910سنوات م� ّؤ�س�سة لعاهات امل�شرق ،بينما كانت هي نف�سها فرتة تثبيت ملنجزات الع�صر الأنواري يف العامل ،والإعالن عن عقد �أممي تناف�سي جديد يعبرّ عن حيويات الأمم ومكانتها ب�أدوات خمتلفة ومظاهر متحولة وقا�سرة ،بعيدة عن ترهات التف�سريات العواطفية والأخالقوية البدائية التي ا ّت�سمت بها كيانات منطقتنا ،لتظهر هذه الكيانات بعد احلرب كمح�صلة للتوازنات الأممية التناف�سية ،وك�أنها تع ّر�ضت �إىل تعديل يف اجلني الثقايف ر�ضيت به وذادت عنه. حتملت البلدان املهزومة التي ا�شرتكت يف احلرب العاملية الأوىل (خ�صو�صاً �أملانيا وتركيا) ،نتائج ّ هي �أق�سى بكثري مما تعر�ضت �إليه بلدان امل�شرق� ،إن كان عن طريق ع�صبة الأمم �أو عن طريق البلدان املنت�صرة منفردة �أو جمتمعة يف م�ؤمتر فر�ساي ،1919لدرجة �أنها كان من املمكن �أن ت�ستباح كغنائم حرب ،ولكن هذه البلدان مل تلق م�صري الهالل اخل�صيب� ،إما لثقافتها الأنوارية (�أملانيا) ذات املجتمع الذي مت ت�أ�سي�سه �سابقاً� ،أو بامل�سارعة �إىل الإلتحاق بالثقافة الأنوارية التي ت�ؤّ�س�س جمتمعاً بوا�سطة الثورة العلمانية التي قام بها �أتاتورك ،لتبدو ا�ستمرارية البلدين م� ّؤ�س�سة على الثقافة واملعرفة بفرعيها امل�شخ�ص واملجرد ،لدرجة �أن �أملانيا وخالل ع�شرين �سنة ا�ستطاعت �أن تخو�ض حرباً وا�سعة يف حماولة ال�ستعادة مكانتها ،يف املقابل بد�أ امل�شرق يف ت�سجيل تراجعات ح�ضارية وا�ضحة على الرغم من مقدرته اجلزئية على ا�ستهالك التكنولوجيات امل�شخ�صة ،متثل ذلك يف الق�ضاء املربم على كل النخب واحلراكات الأنوارية الواعدة من رجال نه�ضة وما تالهم من رجال تنوير ،لت�ستقر م�صائر البلدان بني �أيدي املثقفني (الع�سكر طليعتهم) الذين مار�سوا توفيقية تلفيقية بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة ت�شبه متاما التلفيقية التي مار�سها املنت�صرون يف احلرب العاملية الأوىل جتاه «الثورة» العربية الكربى ،و�شعب الهالل اخل�صيب ،ما يعيدنا �إىل الرميوتكونرتولية �أو ّ التحكم عن بعد امل�ؤ�س�س لها يف احلرب العاملية الأوىل ،ورمبا كانت التجربة النا�صرية كجمهورية ،وال�سعودية كملكية ،مثا ًال باهراً على الدمج التلفيقي (ال�شفهي اللغوي على �أبعد تقدير ثقايف) بني التكنولوجيات املجردة وامل�شخ�صة ،حيث بدت كل تكنولوجيا جمردة (كالدولة ،واملجتمع ،والأحزاب ،والعقد الإجتماعي واحلرية امل�س�ؤولة �إلخ� ..إلخ) موجودة ومفقودة يف �آن معا ،مبعنى �أنها وهمية وقابلة للإنهيار بلحظات وبقواها الذاتية ،وهنا يبدو الفارق املعريف �شا�سعاً ،بني البلدان التي مار�ست ال�شعارات وراكمتها ،وبني البلدان التي راكمت املعرفة ومار�ستها ،حتى ليبدو ّ للمطلع على �آخر املعارف �أنّ الفارق �أ�صبح فلكياً و�أن العامل �سينق�سم (�إذا مل يكن قد انق�سم وانتهى) �إىل نوعني ب�شريني� ،أحدهما قادر على حتمل م�س�ؤولية احلياة و�آخر يواجه الإ�صطفاء الطبيعي ،لذلك تبدو احلرب العاملية الأوىل ونتائجها كمفرتق �أ�سا�سي وعميق، مل ي�ستطع هذا امل�شرق التع�س اللحاق به لأ�سباب ذاتية �أو ًال ،وبرعاية املنت�صرين يف هذه احلرب. 15
لكي تكون رابحاً �أو خا�سراً يف �أية لعبة يجب �أن تكون م�شاركاً فيها �أو ًال ،يف احلرب العاملية الأوىل، مل تكن بالد الهالل اخل�صيب وال العربة م�شاركة ،وهذا ما جت ّلى يف م�ؤمتر فر�ساي ،1919عرب احل�ضور الفكاهي ملمثلي امل�شرق ،حيث تب ّلغ امللك في�صل ر�سمياً نتائج تلك احلرب ،مطلقاً �شعاره املرير (لي�س بالإمكان �أف�ضل مما كان) لندخل يف د ّوامات ومعارك ثقافية جزافية ،كاملفا�ضلة بني الإ�ستعمار العثماين والغربي� ،أو بني العروبة البدهية والأقليمية املعقدة� ،أو بني الرتاث واملعا�صرة، نا�سني متاماً الق�ضية الأ�سا�سية هي ت�أ�سي�س املجتمع مبعناه الأنواري حتديداً ،كي ن�ستطيع الإ�ستجابة للتحديات ون�صبح م�شاركني يف اللعبة التناف�سية للأمم بهيئتنا الإجتماعية القادرة على الإنتاج، وهكذا مت تق�سيم البالد وت�ساقطت �أجزا�ؤها (فل�سطني -كيليكيا� -إ�سكندرون -الأحواز) دون جمري من الداخل �أو اخلارج ،ودون �أن ي�ؤثّر هذا الت�ساقط على ال�سريورة املتفاخرة «للدول» ف�صلها الإنتداب ثقافياً بناء على درا�ساته الإ�ست�شراقية ،واليوم نرفل بحروب �أهلية طائفية كما ّ تعبرّ بال�ضرورة عن ثقافتنا البهية التي رف�ضت وملا تزل ثقافة ع�صر الأنوار وتكنولوجياته كطريق للإ�شرتاك يف احلياة ،وهي الآن غري قادرة حتى على التعاي�ش مع �أي �آخر ورمبا مع نف�سها �أي�ضاً، ت�أ�سي�ساً على وعد بذله االنكليز يف احلرب العاملية الأوىل بت�أ�سي�س �أمة ودولة ولكن بال جمتمع . مل تكن احلرب العاملية الأوىل من الوجهة الثقافية� ،إال الإعالن عن تبلور مفهوم الأمة/الدولة، ب�صفتها الق�صدية الإرادية املبينة على املعرفة ،وهي بذلك كانت فر�صة للإنتقال من املفهوم العثماين (الرتاثي) للدولة امل�ؤ�س�س على الغلبة �إىل املفهوم احلديث امل�ؤ�س�س على الثقافة احلقوقية، ته ّيئاً للدخول �إىل قوام عاملي تناف�سي ،ال مكان �أو مكانة فيه ل�ضعيف ......معرف ّياً.
16
2014 – 1914
مئوية احلرب العاملية الأوىل
حتوالت الفكرة القومية يف امل�رشق العربي قبيل احلرب العاملية الأوىل وبعدها
�أ�سامة �سمعان -باحث و�أكادميي
مقدمة
تعددت �آراء الباحثني حول ظهور الفكرة القومية لدى الأمم ،فمنهم من قال �إن الفكرة القومية ظهرت منذ القدم ،ومنهم من حدد القرن التا�سع ع�شر ع�صراً لظهور القومية عموماً. وحيث �أنه ال يوجد معايري موحدة لظهور القومية� ،سوى �أنها ظاهرة اجتماعية�-إن�سانية ،وهي نتاج لتطور عوامل معقدة ولطيفة يف �آن من اقت�صادية واجتماعية ونف�سية وثقافية. �إن وجود القومية �ش�أن ال ريب يف وجوده ،كونها �شعور الفرد ب�شخ�صية �أمته بالإ�ضافة �إىل �شعوره ب�شخ�صيته ،ولهذا ف�إنني �أميل �إىل االعتقاد بقدم القومية ال�سورية يف الهالل اخل�صيب ،التي رمبا ولدت� ،إبان الدولة الأمورية -البابلية الأوىل ( ،)2006-1758وحتديداً يف فرتة حكم حمورابي ( )1792-1750الذي ا�ستطاع بعبقريته الفذة ،لي�س يف فر�ض �سلطانه على م�ساحة الوطن ال�سوري كله ،بل يف قدرته على توحيد خمتلف العنا�صر امل�ؤلفة لل�شعب يف هيئة واحدة من بوحدة الوالء للدولة ،من خالل الت�شريع الواحد ،املنزل من الإله الواحد «مردوخ». ولكن الثابت �أي�ضاً� ،أن ال�شعوب عندما ت�ضعف الفكرة القومية لديها تفقد �سيادتها القومية وعندما تفقد �سيادتها ت�صحو الفكرة القومية من غفوتها .فثمة عالقة تفاعلية ،بني ال�سيادة القومية وال�شعور القومي ،كون الدولة هي �صورة املجتمع ومثاله يف كل الأحوال. ولذلك �أميل �إىل االعتقاد بان الفكرة القومية لدى ال�شعب ال�سوري تعر�ضت ُل�سبات عميق ا�ستغرق حوايل �ألف عام ،ابتداء عام 1017م ،عندما �صدرت الوثيقة القادرية عن اخلليفة العبا�سي القادر ،التي �أطلقت على الأمة ال�سورية والعاملني العربي والإ�سالمي �أكرب عملية �إرهاب فكري، مبا تبعها من حترمي للتفكري بغري الت�صوف ،وما حتقق من عمليات اغتيال لكل من حاول التفكري يف �أي جمال غري الت�صوف ،وما ن�شهده اليوم يف لبنان وال�شام والعراق من �إرهاب تكفريي� ،إمنا هو من تداعيات تلك الوثيقة. 17
�إن جمال بحثنا يف هذه العجالة ،يتناول الفكرة ال�سورية القومية املعا�صرة ،التي بد�أت �صحوتها عام 1860م ،وما طر�أ عليها من حتوالت خطرية ،كادت �أن تلغي الوجدان الذي �أنتج �صحوتها. �إذ كانت �صحوة الفكرة القومية ال�سورية املعا�صرة ،يف ظل الدولة الإ�سالمية العثمانية ،القائمة على فكرة العبودية ،والتي مل ت�شذ عما �سبقها من الدول الإ�سالمية ،التي اعتمدت يف حكمها جميع �آليات العبودية ،وهي ال تزال موجودة حتى اليوم يف النموذج ال�سعودي ،حيث �أن اململكة للقبيلة ولي�ست لل�شعب ،وحيث ال يوجد د�ستور للبالد وال جمل�س نواب للأمة ،وبالتايل ال وجود لرت�شيح وانتخابات .وكل ما هو موجود ،هو امللك ر�أ�س القبيلة الذي يتحكم برقاب جميع �أفراد ال�شعب ،بحجة متثيله �سلطة اهلل ،ال كما يريد اهلل ،وال كما يريد ال�شعب �أن يحيا. لقد كان من نتائج �سيطرة الدولة العثمانية على �سوريا ،ظهور �أزمات عديدة ،متثلت بتدمري �ألفي قرية يف بالد ال�شام عام 1847على يد قبيلة عنزة املدفوعة باجلوع من اجلزيرة العربية ،ناهيك عن الأحداث اجل�سام على �أر�ضها� ،إبان الغزو امل�صري لبالد ال�شام ،1840-1831ف�ض ًال عما �أ�صابها من تراجع اقت�صادي �أ�صاب الدولة العثمانية بعد حتويل طرق التجارة ،وفتح قناة ال�سوي�س ،مما �أدى �إىل انخفا�ض النمو ال�سكاين ،وتف�شي املجاعات يف �سورية كلها ،يف ظل تدين التعليم ،والهجرة �إىل اخلارج� ،إىل �أن بلغت الدولة العثمانية الإفال�س عام ،1875وما �أعقب ذلك من توافد هجرات �إىل �سورية من اجلراك�سة والأرمن واليهود ،و�إذ حاولت الدولة �إ�صالح نف�سها بقوانني م�ستوردة من �أوروبا ،ف�إنها �أ�ضافت �إىل م�شكالتها م�شاكل جمة ،حيث مل تكن القوانني الإ�صالحية عاجزة عن حماكاة الأزمات وح�سب ،بل �أثارت حفيظة العثمانيني كونها �صادرة من خارج �أحكام القر�آن وال�سنة ،مما �أحدث ا�ضطراباً على امل�ستويني الديني وال�سيا�سي الداخل� ،أدى �إىل ن�شوء معار�ضة داخلية �شديدة. ولكن حماوالت الإ�صالح مل ت�صطدم باملعار�ضة الداخلية التي ارتبطت م�صاحلها بالأو�ضاع القائمة ،بل ا�صطدمت مبعار�ضة الدول الأجنبية التي وجدت يف �أمالك الدولة العثمانية هدفاً ال�ستعمارها منذ غزو نابليون م�صر يف العام 1798وا�ستيالئه عليها ،ولوال تدمري �أ�سطوله من قبل القوات البحرية الربيطانية ملا �أجرب على االن�سحاب منها .ويف العام 1830غزت فرن�سا اجلزائر وا�ستولت عليها فيما ا�ستولت بريطانيا على عدن عام 1839لتجعلها قاعدة لتموين �سفنها يف طريقها �إىل م�ستعمراتها يف الهند .و�إذ خا�ضت فرن�سا وبريطانيا حرب القرم ( )1856-1854لتمنعا رو�سيا من اال�ستيالء على ا�سطنبول وو�صولها �إىل املياه الدافئة ،ظلت عملية االقتطاع م�ستمرة ،فا�ستولت بريطانيا على قرب�ص عام . 1878بينما احتلت رو�سيا مناطق مهمة يف القفقا�س والأنا�ضول ،ويف عام 1876و�صلت اجليو�ش الرو�سية �إىل �ضواحي ا�سطنبول ناهيك عن التدخالت الأوروبية ()1
()2
2 1
18
مراد ،حممد عدنان .بريطانيا والعرب ،دار طال�س ،دم�شق � ،1989ص.84 املحامي .مرجع �سابق� ،ص .670
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ال�سافرة ب�ش�ؤون الدولة العثمانية التي احتاجت �إىل معونة بع�ضها ،فقد �سبق لها �أن ا�ستعانت بالرو�س ملنع جي�ش حممد علي من دخول ا�سطنبول ،وا�ستعانت باجليو�ش الربيطانية لإخراج اجليو�ش امل�صرية من �سورية ،كما تدخلت فرن�سا �إبان احلرب الأهلية يف لبنان 1860بحجة حماية امل�سيحيني .ف�ضال عن التدخل الأوروبي يف تق�سيم �إمارة جبل لبنان �إىل قائممقاميتني ،ومن ثم و�ضع نظام مت�صرفية جبل لبنان . ()3
�أوالً -بدايات النهو�ض القومي يف ظل الإ�صالحات العثمانية
عن طريق الإ�صالحات العثمانية �أخذت الآراء الغربية ،مبا فيها مفاهيم احلرية وامل�ساواة والوطنية، ت�صل �إىل الأو�ساط ال�شعبية ،منذ الن�صف الأول من القرن الثامن ع�شر وجتد تعابريها يف اللغتني الرتكية والعربية ،وذلك عن طريق البعثات واملدار�س الع�سكرية ،ف�أنتجت ،مع الوقت ،نخبة مطلعة على جوانب الثقافة الغربية والفكر الليربايل ،ولهذا بد�أ مع ال�سبعينات من القرن التا�سع ع�شر النظر يف حتديد ال�سلطة املطلقة لل�سلطان ،ومتثل ذلك لدى بع�ض املفكرين الأتراك مثل �شنا�سي، و�ضيا با�شا ونامق كمال ،وهم ممن غلب عليهم االلتزام بالإ�سالم وو�ضع مفاهيم احلرية و�سيادة ال�شعب يف �إطار �إ�سالمي (ال�شورى ،البيعة) وظهر مثل هذا الفكر يف بع�ض املناطق العربية مثل م�صر وبالد ال�شام يف الن�صف الثاين من القرن التا�سع ع�شر . �إزاء هذه الأو�ضاع ،هبت الرياح القومية يف ال�سلطنة العثمانية�( ،سواء تركيا �أو البالد العربية)، وكانت �أول حماولة عثمانية للعمل املنظم بهدف مواجهة التحديات (حزيران )1865يوم �أن�ش�أ �ستة �شبان �أتراك جمعية �سرية �أطلقوا عليها ا�سم «العثمانيون الفتيان» �سنة 1867و�أ�صدروا جريدة «احلرية» عام ،1868وقد جعلوا �أ�سا�س برناجمهم «حب الوطن من الإميان» و«�شاورهم يف الأمر» وا�ستمروا يف ن�شاطهم من الآ�ستانة وباري�س حتى حل �أول جمل�س «للمبعوثان» �سنة 1878لينهي عملهم يف الآ�ستانة ويبد�أ يف اخلارج با�سم (تركيا الفتاة) ،ولي�صبح فيما بعد «االحتاد والرتقي» . ()4
()5
-1بداية النهو�ض ال�سوري القومي 1860
وفيما كان امل�شرق العربي م�سرحاً لأحداث ج�سام متثلت بحملة حممد علي على بالد ال�شام والثورات التي واجهتها يف �سورية� ،سواء يف جبل لبنان �أو حوران .ثم ما �أعقبها من حروب طائفية 4 3
ال�صليبي ،كمال .تاريخ لبنان احلديث ،دار النهار ،بريوت � ،1978ص.148-147 الدوري ،عبد العزيز .التكوين التاريخي للأمة العربية ،درا�سة يف الهوية والوعي ،مركز درا�سات الوحدة العربية، بريوت � ،1986ص .142
Lewis, Bernard: The Emergence of Modern Turkey, Oxford University Press, 1961. pp. 81-194.
5
19
يف جبل لبنان ودم�شق عام ،1860برز بطر�س الب�ستاين عرب كتاباته مب�شراً بحب الوطن ،وامل�صاحلة، (ابتداء من �أيلول )1860دعا فيها لالتفاق بني وقد �أ�صدر لهذه الغاية �صحيفة «نفري �سورية» ً الطوائف مذكراً �أبناء الوطن �أنه يجمعهم وطن واحد .ولغـة واحـدة وعادات وم�صالح م�شرتكة . و�أن�ش�أ املدر�سة الوطنية يف بريوت لتعنى بلغة الوطن وتدعو �إىل حبه ،وت�شجع ال�صالت الوطنية بني طالبها ،و�أ�صدر الب�ستاين يف عام 1870جملة اجلنان ،وهي جملة �أدبية �سيا�سية ن�صف �شهرية، ا�ستمرت حتى عام 1886كما �أ�صدر «اجلنة» ثم «اجلنينة» والوطن عند الب�ستاين هو �سورية ولكن يف نطاق الدولة العثمانية ،وكان حري�صا على ربط اجلماعة الوطنية بالعروبة كون العربية لغة وثقافة قاعدة م�شرتكة لأبناء الوطن . وقد �أدت املجالت العلمية وال�صحف ال�سيا�سية دوراً ممتازاً يف ن�شر الفكرة القومية يف القرن التا�سع ع�شر ،كان �أبرزها جريدة «حديقة الأخبار» وهي �أول �صحيفة عربية �صدرت يف بريوت عام .1857 وجريدة «اجلوائب» الأ�سبوعية التي �أ�صدرها �أحمد ال�شدياق يف ا�سطنبول عام ،1861فكانت �أ�شهر ال�صحف العربية �آنذاك جلهة انت�شارها الوا�سع� ،إذ عنيت بال�سيا�سة الدولية .وجملتا «البيان» و«ال�ضياء» اللتان �أ�صدرهما �إبراهيم اليازجي عام . 1883 و�صدر عام 1869جريدة �أ�سبوعية با�سم «الب�شري» ،ويف عام � 1898صدرت جملة علمية ن�صف �شهرية دعيت « امل�شرق» ويف عام � 1874أ�صدر م�سلمو بريوت جريدة با�سم «ثمرات الفنون» ،وا�شرتك يف حتريرها نخبة من ال�شبان املثقفني يف طليعتهم �أديب ا�سحق .و�أ�س�س خليل �سركي�س ،جريدة ن�صف �شهرية عام 1877با�سم «ل�سان احلال» وحتولت �إىل يومية منذ 1894ويف عام � 1880أ�س�س املوارنة جريدة «امل�صباح» والربوت�ستانت «كوكب ال�صبح املنري» والأرثوذك�س «الهدية» .و�أ�صدرت، يف عام ،1886ال�سلطة العثمانية يف بريوت جريدة با�سم «بريوت» .وعلى الرغم من تنوع والءات هذه ال�صحف فقد �أ�سهمت يف غنى الفكر القومي . وبالإ�ضافة �إىل املجهود الفردي للأدباء واملفكرين عرب ال�صحف ،فقد برزت فكرة العمل اجلماعي عن طريق اجلمعيات وظهرت �أول جمعية يف بريوت عام 1847با�سم «جمعية الآداب والعلوم» و�ضمت بني �أع�ضائها بطر�س الب�ستاين ونا�صيف البازجي ،ثم قامت يف عام « 1850اجلمعية ال�شرقية» واقت�صرت ع�ضويتها على امل�سيحيني فقط ،وبحلهما قامت «اجلمعية العلمية ال�سورية» ()6
()7
()8
()9
( )10
()11
7 8 9 6
دي طرازي ،فيليب .تاريخ ال�صحافة العربية � 4أجزاء ،املطبعة الأدبية ،جزء ،1بريوت � .1933-1913ص 64و 89وما يليها. جملة اجلنان .ال�سنة � ،1870 – 1ص .71-70 املرجع نف�سه� ،ص.34 رافق .مرجع �سابق� ،ص.513
10 Hourani, Albert: Arabic Thought in the Liberal Age, 1798-1939, London, Oxford University Press, 1962, p. 98.
� 11أنظر حول ال�صحافة العربية بعامة :دي طرازي ،مرجع �سابق جزء ، 3بريوت .1933-1913 20
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
التي ظهرت عام 1857يف غمرة احلوادث الطائفية يف جبل لبنان ،وقد �ضمت يف �صفوفها طوائف عدة ،وبلغ عدد �أع�ضائها 150ع�ضواً ،ورمبا جاء ت�شكيلها على هذا النحو بفعل املر�سوم الذي �أ�صدره ال�سلطان عبد املجيد الأول ( )1861-1839يف العام 1856الذي ت�ضمن اعرتافاً �صريحاً بامل�ساواة الكاملة بني جميع الأديان يف الإمرباطورية العثمانية . كان �إبراهيم اليازجي �أحد �أع�ضاء اجلمعية ،وهو الذي طاملا تغنى مبجد العرب ،و�أ�شار �إىل تفوقهم العلمي ،ور�أى �أن ت�أخرهم جاء ب�سبب �إهمالهم العلوم و�إحالل التع�صب الأعمى حمل الدين . ولعل �أعمال اجلمعية ون�شاطها �أنتج دالالت عدة� ،إذ ي�شري القن�صل الرو�سي (ك م .بازيلي) ،الذي عمل يف �سورية خالل الفرتة املمتدة ما بني ،1853-1839يف تقرير له �سنة � 1868إىل االجتماعات الأدبية يف بريوت التي كانوا يتحدثون خاللها عن الأجماد ال�سورية-العربية� ،إ ّال �أن الأحاديث كانت تتناول الظلم الرتكي . الوا�ضح هو �أن الإطار ثقايف االجتاه ،ولي�س من دعوة لكيان �سيا�سي ،والتطلعات كانت يف نطاق �سوري ،والفكرة العثمانية كانت ال تزال هي ال�سائدة يف تلك الفرتة . هذا الواقع الثقايف يخفي وراءه عوامل خمتلفة من القلق يف �سورية ،مت�صلة بالتطورات االقت�صادية- االجتماعية ،من تراجع يف النظام الإقطاعي� ،إىل ظهور ملكيات فردية كبرية ،وفئات من امل�سيحيني ترتبط بامل�صالح التجارية وال�صناعية الغربية ،ومن ردود فعل من امل�سلمني للنظام اجلديد الذي �أحدثتها الإ�صالحات كونه �أدى �إىل تقلي�ص دور ال�شريعة الإ�سالمية. ويجدر بنا �أن نعرف �أين تقف احلركة ال�سورية من تياري الفكر الي�ساري املدين واليميني الديني� ،إذ �أفادت احلركة ال�سورية من االجتاهني ومل تذب يف �أي منهما ،وعملت على ا�ستقطابهما لهدف �سوري واحد. ا�شتهر يف اجلانب الي�ساري العلماين كل من فرن�سي�س مرا�ش و�شبلي �شميل وفرح �أنطون ،يف حني ا�شتهر بني دعاة الإ�صالح الديني من العروبيني عبد الرحمن الكواكبي ،الذي �شكل حلقة الو�صل ،يف جمال الفكر الديني ،بني احلركة ال�سورية الالطائفية واحلركة الدينية اليمينية ال�سلفية الداعية للجامعة الإ�سالمية التي متثلت بجمال الدين الأفغاين وحممد عبده ومبحمد ر�ضا . ()12
()13
()14
( )15
()16
� 12أنطونيو�س ،جورج .يقظة العرب ،دار العلم للماليني ،بريوت� ،1987 ،ص .123 1 3راجع� :سابا ،عي�سى ميخائيل .ال�شيخ �إبراهيم اليازجي� ،سل�سلة نوابغ الفكر العربي ،14 ،دار املعارف ،بريوت، � ،1955ص 51-49و .74-71 � 14أزاكوفيت�ش ،ليفني زملان :الفكر االجتماعي وال�سيا�سي احلديث يف لبنان � -سورية -م�صر ،ترجمه عن الرو�سية ب�شري ال�سباعي ،دار ابن خلدون ،بريوت� ،1978 ،ص.77 Dawn, Emest. From Ottomanism to Arabism: Essays on the Origins of Arab Nationalism, University of Illinois Press 1973. p. 132.
15
1 6رافق .مرجع �سابق� ،ص .516 21
ولد فرن�سي�س مرا�ش يف حلب 1836ودر�س الطب يف باري�س ،وترك كتابني «غابة احلق» و»م�شهد الأحوال» وكان كتاب غابة احلق على �شكل حوار ،تدور موا�ضيعه حول �إقامة «مملكة احل�ضارة واحلرية» ويظهر فيه �أثر الفكر الأوروبي املعا�صر لتلك الفرتة ،من خالل دعوته �إىل احلرية وامل�ساواة والق�ضاء على الرق .وقال� :إن العرب يحتاجون قبل كل �شيء �إىل مدار�س حديثة وحب للوطن خال من االعتبارات الدينية . �إىل جانب مرا�ش كان �سوري �آخر يدعى �شبلي ال�شميل الذي �آمن بقوة اجلماهري ال�شعبية ،وب�أهمية ويعد «�أول من ن�شر بالعربية فكرة اال�شرتاكية، التعليم يف �إنهاء �أيام الطغاة ،كما �آمن باال�شرتاكية ّ و�إن مل يكن �أول من �سماها بهذا اال�سم» . ونادى بالعلمانية من طرابل�س ال�شام ،فرح �أنطون ( )1922-1872الذي نزح �إىل م�صر ،وكان من �أ�شهر �أعماله �إ�صداره جملة «اجلامعة يف م�صر ،ون�شره كتاب ابن ر�شد وفل�سفته» وقد دعا فرح �أنطون يف كتاباته �إىل ف�صل الدين عن الدولة ،وهاجم اال�ستبداد ،و�آمن باال�شرتاكية العلمية . ويف اجلانب املقابل وقف مفكر �سوري �آخر هو حممد ر�شيد ر�ضا ( )1935-1865يدعو �إىل بعث الأمة الإ�سالمية ،وتطبيق املبادئ الإ�سالمية الأوىل ،كما يف عهد ال�سلف ال�صالح ،و�إىل التوفيق بني العلم احلديث والدين� ،آمن بالقومية العربية التي جتمع �أبناء الأمة الواحدة .وقد �أ�صدر حممد ر�شيد ر�ضا جريدة «املنار» وترك عدداً من الكتب و�أ�شهر م�ؤلفاته «تاريخ الأ�ستاذ الإمام» ،ترجم فيه �أ�ستاذه حممد عبده. وقف ر�شيد ر�ضا �إىل جانب ال�سوريني �ضد العثمانيني وهاجم ال�سلطان العثماين عبد احلميد الثاين ( ،)1909-1876ودعا جميع العثمانيني ال�ستبدال احلكم اال�ستبدادي بحكومة ال�شورى. و�أدى دوراً ف ّعا ًال يف الدفاع عن ا�ستقالل العرب ،و�أ�صبح رئي�ساً للم�ؤمتر ال�سوري يف 1920وع�ضواً يف امل�ؤمتر ال�سوري -الفل�سطيني املنعقد يف جنيف يف 1921وع�ضواً يف اللجنة التنفيذية التي �أقامها امل�ؤمتر يف القاهرة ،التي �أيدت اال�ستقالل ال�سوري الفل�سطيني. وعلى الرغم من التغريات التي طر�أت على �أفكار ر�شيد ر�ضا ،ف�إن هدفه يف حتقيق خري الإ�سالم كان م�ؤكداً ،وهو �إذ يربر موقفه امل�ؤيد للدولة العربية امل�ستقلة يقول� « :إن م�صلحة العرب ال�سيا�سية هي م�صلحة الأمة مبجموعها� ،إذ من �ش�أن الدولة العربية امل�ستقلة �أن حتيي لغة الإ�سالم و�شريعته» . ()17
()18
()19
()20
17الكيايل� ،سامي .احلركة الأدبية يف حلب ،القاهرة� ،1957 ،ص .517 1 8حوراين� ،ألربت .الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة ،1939-1798 ،تعريب كرمي عزقول ،طبعة ،4دار النهار للن�شر، بريوت� ،1986 ،ص .302 � 19أنظر �آراء فرح �أنطون و�شرحها يف :حوراين .مرجع �سابق� ،ص 310-303 2 0حوراين .مرجع �سابق� ،ص .365 22
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ظهر �أول عمل �سيا�سي منظم عام ،1875امل�صادف تاريخ �إعالن الدولة العثمانية �إفال�سها ،عندما �أ�س�س بع�ض ال�شباب املثقف من �أع�ضاء «اجلمعية العلمية ال�سورية» «جمعية �سرية» يف بريوت، وو�ضعوا برناجماً قومياً م ّتبعني طريقة جديدة للت�صريح به بوا�سطة الن�شرات الثورية التي علقت على اجلدران �سراً يف مدن واليتي دم�شق وبريوت. ُع ّلقت املنا�شري يف العام ،1880بعد خ�سارة الدولة العثمانية احلرب مع رو�سيا التي بد�أت يف العام ،1877وانتهت عام ،1878وبعدما انح�سرت الإمرباطورية العثمانية عن �أوروبا ،حيث مل يبق للدولة فيها �إ ّال �أربع قطع �صغرية ال ات�صال بني ثالث منها �إال طريق البحر .و ذلك بعد تعليق الد�ستور العثماين ،1878واحتالل بريطانيا جلزيرة قرب�ص .فاجتهت احلركة اال�ستقاللية يف العامل العربي �إىل الدعوة ال�ستقالل �سورية ،فالتذمر والقلق يف �سورية �أ�صبح وا�ضحاً .والدولة العثمانية يف انحدار رغم الإ�صالحات ،و�أ ّزم ذلك �ضغط الدول الغربية ،ومع حر�ص امل�سلمني على �سالمة الدولة �أمام اخلطر اخلارجي ،ف�إن ال�شعور بعجز الدولة عن حماية البالد كان �سبباً للقلق والتفكري بامل�صري . لذلك ت�ضمن املن�شور الأول 1880ال�صادر عن «اجلمعية ال�سرية» لوماً لأهل ال�شام ال�ستكانتهم وا�ست�سالمهم لطغيان الأتراك فيما هم نهباً ملطامع الدول الأوروبية ،داعياً �إىل الوحدة م�ؤكداً قيمتها و�ضرورتها. وت�ضمن املن�شور الثاين املطالبة ال�صريحة بتحقيق اال�ستقالل الذاتي للبالد ال�شامية وي�ؤكد عزم كتبته على العمل يف �سبيل وطنهم مهما يكلفهم ذلك� ،أما املن�شور الثالث والأكرث �أهمية ،فقد ت�ضمن برناجماً �سيا�سياً على النحو التايل: منح �سورية (الطبيعية) اال�ستقالل متحدة مع جبل لبنان ،واالعرتاف باللغة العربية لغة ر�سمية يف البالد .ورفع الرقابة والقيود الأخرى التي حتد من حرية التعبري ون�شر التعليم .وا�ستخدام القوات املجندة من �أهل البالد يف املهام الع�سكرية الداخلية فيها فقط . يبدو وا�ضحاً ،رف�ض �صريح لربتوكول مت�صرفية جبل لبنان وف�صلها �إدارياً عن �سورية ،لأنه جزء من تعديالت �إدارية من وحي �أوروبي يهدف �إىل تق�سيم امل�شرق العربي والعامل العربي ب�أ�سره، والطلب لتعزيز اللغة العربية بهدف حتقيق نه�ضة فكرية عربية ،وتعزيز احلرية التي بدونها ال تقوم نه�ضة �شاملة� ،أما البند الأخري من الربنامج يبدو �أن كتبته كانوا يتوج�سون من احتمال تدخل ()21
()22
()23
()24
21املحامي .مرجع �سابق� ،ص .664 2 2املرجع ال�سابق� ،ص .670 23ح�صل اثر قيام حرب القرم �سنة 1856ما ي�شبه هذا املوقف يف حلب� .أنظر:ال�صلح ،عادل� .سطور من الر�سالة: تاريخ حركة ا�ستقالل قامت يف امل�شرق العربي �سنة ،1877مطابع دار العلم للماليني ،بريوت� ،1966 ،ص .128 � 24أنطونيو�س .مرجع �سابق� ،ص .155-153 23
�أوروبي يف بالدهم فهم يريدون بقاء اجلي�ش يف البالد العربية للدفاع عنها يف وجه املطامع الأوروبية. �شهدت احلركة ال�سورية بعد العام 1880تطوراً بطيئاً ب�سبب الإجراءات الإدارية وال�سيا�سة اال�ستبدادية والهجمة اال�ستعمارية التي �شهدها العامل العربي ،ففي العام 1882احتلت بريطانيا م�صر ثم ال�سودان ،1899وكانت فرن�سا قد احتلت تون�س عام ،1881الأمر الذي ج ّز�أ الن�ضال العربي ،ففي م�صر ولدت القومية امل�صرية املطالبة بجالء القوات الربيطانية .وقد وطدت الإدارة العثمانية �سيطرتها على امل�شرق العربي بتق�سيمات �إدارية ،1887فيما قمع احلريات �سائر على قدم و�ساق وقد عقد بطء االت�صاالت الأمور ،ولذلك بقي الأمر �شبه م�ستكني ،ولكنه كاجلمر حتت الرماد �إىل �أن �سقط اال�ستبداد احلميدي عام ،1909حيث بد�أ عهد جديد من الن�ضال القومي يف امل�شرق العربي مع ن�شوء اجلمعيات ال�سيا�سية. -2الفكرة القومية :مباد�ؤها واجتاهاتها
يت�ضح مما تقدم �أن تركيبة الفكرة القومية يف هذه املرحلة كانت تقوم على املبادئ التالية: رف�ض الع�صبيات الطائفية واملذهبية ،التي ت�سببت بحروب �أهلية ،طائفية �أ�سهمت يف �إ�ضعاف ال�سوريني ،و�إحالل ع�صبية قومية توحيدية بد ًال عنها ،خا�صة و�أن الأ�سباب مل تكن دينية، �إمنا كانت اقت�صادية اجتماعية متمثلة باال�ضطهاد الإقطاعي للفالحني ،وغريها من �أ�ساليب اال�ستغالل للفئات الفقرية يف املجتمع. رف�ض الرابطة العثمانية الدينية ،و�إحالل الرابطة ال�سورية. رف�ض النظام العثماين اال�ستبدادي ،و�إحالل النظام الدميقراطي الذي تخ�ضع فيه ال�سلطة التنفيذية لل�سلطة الت�شريعية. الدعوة �إىل �إقامة دولة علمانية. الوطن القومي هو �سورية (الطبيعية) التي ت�شمل ال�شام ولبنان وفل�سطني والأردن. �أما اجتاهات الفكر ال�سيا�سي يف امل�شرق العربي ،فيمكن حتديدها بثالثة: االجتاه الأول� :إ�سالمي �سلفي يدعو �إىل �إبقاء الرابطة العثمانية و�إ�صالح الدولة العثمانية ،وقد عرب عنه حممد ر�شيد ر�ضا. االجتاه الثاين :قومي علماين يدعو �إىل �إقامة الدولة القومية الدميقراطية العلمانية ،وقد عرب عنه �شبلي ال�شميل وفرح �أنطون. 24
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
االجتاه الثالث :توفيقي� ،شكل حلقة ربط بني االجتاهني ال�سابقني ،وقد عرب عنه عبد الرحمن الكواكبي بدعوته لإقامة خالفة عربية تقوم �أ�س�س االحتاد فيها على قواعد علمانية. خالل املرحلة التي �أعقبت العام � 1880شهد الفكر القومي وال�سيا�سي حتوالت فكرية مهمة �سيكون لها ت�أثري كبري يف جمرى الأحداث التي تلت� ،سواء ما �أقدم عليه القوميون من عقد م�ؤمتر يف باري�س � ،1913أو �إعالن الثورة العربية الكربى عام ،1916و�سنحاول تلم�س االجتاهات اجلديدة من خالل ثالثة مفكرين عا�صروا املرحلة هم :عبد الرحمن الكواكبي ،جنيب عازوري ،عبد الغني العري�سي. مع عبد الرحمن الكواكبي ( ،)1902-1849يتعاظم ال�شعور القومي عمن �سبقه من املفكرين عد الكواكبي رائداً يف معاجلة املفهوم القوميني ،وهو الذي بد�أ حياته يف ال�صحافة والقانون� ،إذ ُي ّ القومي احلديث للقومية ،وقد ف ّرق بني مفهوم احلركة ال�سورية -العربية وفكرة اجلامعة الإ�سالمية، وانتقد الدولة العثمانية التي ف ّرقت بني القوميات واتبعت �سيا�سة متميزة �ضد القوميات غري الرتكية ،ونادى ب�إعادة اخلالفة �إىل العرب داعياً �إىل اجل�سد الإ�سالمي ،ويف كتابه �أم القرى ذكر �أن «العرب هم �أحر�ص الأمم على احرتام العهود عز ًة ،واحرتام الذمة �إن�سانية ،واحرتام اجلوار �شهامة، واملعروف مروءة ».ويف كالم الكواكبي عن �أهمية اللغة العربية ذكر �أنها «من �أغنى لغات امل�سلمني يف املعارف وهي م�صونة بالقر�آن الكرمي من �أن متوت» . فوجه نداءه ال�شهري« :يا قوم، �آمن الكواكبي بالرابطة القومية ونادى بها بني جميع �أبناء الأمة ّ و�أعني بكم الناطقني بال�ضاد من غري امل�سلمني� ،أدعوكم �إىل تنا�سي الإ�ساءات والأحقاد ،وما جناه الأبناء والأجداد ،فقد كفى ما فعل ذلك على �أيدي املثريين ،و�أجلكم �أن ال تهتدوا �إىل و�سائل االحتاد و�أنتم املتن ّورون ال�سابقون . »...كما �آمن باال�شرتاكية ،وقد طالب « �أن تكون الأرا�ضي والأمالك الثابتة والآالت واملعامل ال�صناعية م�شرتكة ال�شيوع بني عامة الأمة ،و�أن الأعمال والثمرات تكون موزعة بوجوه متقاربة بني اجلميع ،و�أن احلكومة ت�ضع القوانني لل�ش�ؤون قاطبة حتى اجلزئيات وتقوم بتنفيذها» . �أما جنيب عازوري ( )1916- 1870املولود يف قرية عازور يف جنوب لبنان ،فقد ن�شر كتابه «يقظة الأمةالعربية» . 1904الذي يتن ّب�أ فيه عازوري ب�أن ال�سلطان عبد احلميد الثاين �سيكون �آخر ()25
()26
()27
()28
25 26 2 7 2 8
الكواكبي ،عبد الرحمن .الأعمال الكاملة ،ن�شر حممد عمارة ،القاهرة� 1970 ،ص .304-303 الكواكبي ،عبد الرحمن .طبائع اال�ستبداد وم�صارع اال�ستعباد ،دار النفائ�س ،بريوت� ،1993 ،ص .121 املرجع نف�سه� ،ص .79 ويلد� ،ستيفان .جنيب عازوري وكتابه يقظة الأمم العربية ،يف� :أوين ،روجر .و�آخرون .احلياة الفكرية يف امل�شرق العربي ،مركز درا�سات الوحدة العربية� ،إعداد مروان بحريي ،ترجمة عطا عبد الوهاب ،بريوت � ،1983ص .110 25
حكام الأتراك لأنه �أخبثهم .ويقول حول �سبب تطلعات العرب القومية ب�أنها حتركت بفعل حماولة الأتراك ا�ستعباد الأمم العربية يف �سياق �سحقها للثورات التي �أ�شعلها الأكراد والأرمن . ويحدد عازوري العامل العربي حيث �ستقام دولة �إمرباطورية عربية متتد من دجلة والفرات �إىل برزخ ال�سوي�س ،ومن املتو�سط �إىل بحر عمان ،بعبارة �أخرى �ست�ضم هذه الإمرباطورية العراق و�سورية و�شبه اجلزيرة العربية ،و�ستحرتم احلكم الذاتي للبنان وا�ستقالل �إمارات اليمن وجند والعراق، و�سرتف�ض هذه الإمرباطورية فكرة الوحدة مع م�صر« ،لأن امل�صريني ال ينتمون �إىل العرق العربي ، فهم من عائلة الربابرة الأفريقيني واللغة التي كانوا يتكلمونها قبل الإ�سالم ال ت�شبه العربية قط» . ويظل هذا الر�أي مرتبطاً بنجيب عازوري ،لأن املعطيات القومية ال�سورية العربية يف م�صر وال�سودان واملغرب العربي ت�ؤكد على عروبة هذه املنطقة من الوطن منذ �أقدم الع�صور ،جغرافياً وتاريخياً، بكل امل�ضمون التاريخي من مقومات الروابط بني وال�شعوب. يريد عازوري قيام دولة عربية باحلدود املب ّينة ،ولكنها حتت �إر�شاد دولة �أوروبية ،فيقول «ال ميلك �أحد احلق يف حكمنا غري فرن�سا ،ولن ُيهتف بحرارة لأي دولة غريها �إذا نزلت يف البلدان العربية يوم يتقرر جتزئة الإمرباطورية الرتكية» . برزت امليول الغربية لدى عازوري يف �أكرث من مكان يف كتابه� ،إذ تبدو تطلعاته العربية �ضمن �إطار امل�صالح الأوروبية يف املنطقة ،فهو يربر احتالل بريطانيا جلزيرة قرب�ص «لأن هذه القاعدة تتيح للبحرية الربيطانية الدفاع عن «الدردنيل» وخليج «اال�سكندرونة» ووادي الفرات (هذه املفاتيح الثالثة �إىل �آ�سيا واملتو�سط) �ضد اندفاع رو�سي» .وهو يربر لفرن�سا احتاللها للجزائر لي�س من �أجل بناء م�ستعمرة بقدر ما هو تخلي�ص للمتو�سط من قر�صنة الربابرة التي فتكت بالتجارة الدولية ودمرتها ،وهو من �شدة تع ّلقه العاطفي بفرن�سا وجد بالأمة الفرن�سية �أمة نبيلة «�أن الأمة الفرن�سية يف جوهرها �أمة نبيلة ،وقد تو ّلت فرن�سا احلروب ال�صليبية ،وهي حمالت خطرة ،فعادت نتائجها باخلري على العامل ب�أ�سره» .والواقع �أن نتائج احلروب ال�صليبية عادت بنتائج مهمة لأوروبا ،مبا نهب من ال�شرق من ثروات ،ما ت�سببت لل�شرق من خ�سائر فادحة. ()29
()30
()31
()32
()33
()34
()35
29
3 1 32 3 3 3 4 3 5 30
26
عازوري ،جنيب .يقظة الأمم العربية ،تعريب وتقدمي �أحمد بو ملحم ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات ،بريوت د.ت �ص .182 امل�صدر نف�سه� ،ص .212 امل�صدر نف�سه �ص .119 عازوري .م�صدر �سابق� ،ص .133 امل�صدر ال�سابق� ،ص .111 امل�صدر نف�سه� ،ص .115 امل�صدر نف�سه� ،ص .115
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
وينربي عازوري ملعاجلة كيفية ف�صل ال�سلطة الروحية عن ال�سلطة الدنيوية في�ؤكد �أن اخلليفة لن �سيقدم كذلك اخلالفة الدينية العامة تكون له �سلطة دنيوية خارج والية احلجاز ،فالعامل العربي ّ على الإ�سالم� ،إىل ذلك ال�شريف �سليل النبي الذي �سيحت�ضن ق�ض ّيته ب�إخال�ص ويكر�س نف�سه لهذا العمل .و�سيحظى اخلليفة الديني باعتباره دولة �سيا�سية تامة اال�ستقالل بوالية احلجاز الفعلية ب�أ�سرها ،من �ضمنها املدينة املنورة و�إقليمها حتى العقبة� .أنه �سيتمتع مبظاهر التكرمي الذي يتمتع بها امللك ،كما �سيتم ّتع ب�سلطة �أدبية حقيقية على جميع امل�سلمني يف العامل . ولعل �أكرث ما �أبرز �شهرة جنيب عازوري هو ما جاء يف كتابه من حتذير للتط ّلعات ال�صهيونية من �أجل �إقامة وطن قومي يف فل�سطني وكالمه يكاد يالم�س التنب�ؤات �إذ يقول يف هذا املجال «�إن ظاهرتني هامتني ،مت�شابهتي الطبيعة ،بيد �أنهما متعار�ضتان ،مل جتذبا انتباه �أحد حتى الآن تت�ضحان يف هذه الآونة يف تركيا الآ�سيوية� ،أعني :يقظة الأمم العربية وجهود اليهود اخلفي لإعادة تكوين مملكة «�إ�سرائيل» القدمية على نطاق وا�سع .وم�صري هاتني احلركتني هو �أن تتعاركا با�ستمرار حتى تنت�صر �إحداهما على الأخرى ،وبالنتيجة النهائية لهذا ال�صراع بني هذين ال�شعبني اللذين ميثالن مبد�أين مت�ضاربني يتعلق م�صري العامل ب�أ�سره» .وعلى الرغم من �أهمية قوله هذا ،مل يدرك عازوري� ،أو �أنه جتاهل ،التزاوج بني الفكر اليهودي و�أهداف الر�أ�سمالية اال�ستعمارية الذي �أدى �إىل ن�شوء الفكر ال�صهيوين. ()36
()37
-3العرب يف مواجهة �سيا�سة الترتيك
بتاريخ 23-21متوز 1908حدث تط ّور بالغ اخلطورة يف عا�صمة الدولة العثمانية ،مف�صحاً عن جناح االنقالب الذي قامت به جماعة االحتاد والرتقي. هلل العرب باالنقالب اجلديد وو�سط حما�س عارم �أعلن ت�أ�سي�س �أول جمعية عربية «الإخاء العربي العثماين» .من �أغرا�ضها :حماية الد�ستور ،و�صهر العرب والعثمانيني ،وم�ساواة املقاطعات العربية مع غريها ،وا�ستعمال اللغة العربية يف التعليم . ولكن هذا احلما�س ا�صطدم مع �أول انتخاب مع الربملان اجلديد� ،إذ حدد �أع�ضاء النواب العرب ب�ستني مقعداً من �أ�صل 245مقعداً ،يف وقت كان عدد العرب ،حوايل ن�صف �سكان الإمرباطورية وكان التمييز بادياً بعد خلع عبد احلميد ،واعتماد االحتاد والرتقي �سيا�سة «طورانية» لتدعيم القومية الرتكية . ()38
()39
37 3 8 3 9 36
امل�صدر نف�سه� ،ص .220 عازوري .م�صدر �سابق� ،ص .41 رافق .مرجع �سابق� ،ص .534 املرجع ال�سابق� ،ص .535 27
تعاظمت �سيا�سة الترتيك بعد عام 1912وخ�سارة الدولة العثمانية احلرب مع دول البلقان التي انف�صلت نهائياً عن الدولة العثمانية ،وتعاظمت الكراهية العربية للأتراك بعد هزمية تركيا يف ليبيا �أمام الإيطاليني عام .1911 يف غمرة هذه الأجواء ت�أ�س�س املنتدى الأدبي يف ا�سطنبول عام 1909ب�أهداف غري �سيا�سية ،ولكنه �أ�سهم يف مناق�شة الق�ضايا العربية يف فروعه املنت�شرة يف البالد العربية . ويف العام � 1912أ�س�س ال�سوريون يف القاهرة حزب الالمركزية الإدارية العثمانية ،كان من �أبرز �أهدافه تعبئة الر�أي العام لت�أييد الالمركزية .ويف العام نف�سه ت�أ�س�ست جمعية بريوت الإ�صالحية التي حلها العثمانيون عام .1913هذا على �صعيد اجلمعيات العلنية� ،أما اجلمعيات ال�سرية التي ظهرت فيما بعد كان �أبرزها :اجلمعية القحطانية التي دعت �إىل جعل الإمرباطورية العثمانية ملكية ثنائية عربية وتركية ،وت�أ�س�ست العربية الفتاة يف باري�س عام 1911ثم انتقلت �إىل بريوت فدم�شق، ويف عام � 1914أ�س�س عزيز علي امل�صري جمعية العهد .وكانت �أهداف اجلمعيتني الأخريتني العمل على ا�ستقالل العرب وانف�صالهم عن الدولة العثمانية. تعدد هذه اجلمعيات لي�س �إ ّال دلي ًال على بروز حيوية جديدة يف الوعي القومي الذي القى �إن ّ جتاوباً مع ال�شعب العربي يف امل�شرق ،وترتقي اجلهود فتعقد هذه اجلمعيات م�ؤمتراً قومياً عربياً يف باري�س عام .1913 وجد بع�ض الأحرار العرب �أن ت�أ�سي�س الق�ضية العربية يق�ضي بنقلها �إىل امل�ستوى الدويل ،فت�ألفت جلنة حت�ضريية وقررت عقد م�ؤمتر يف باري�س ،ووجهت الدعوات �إىل اجلمعيات العربية املحلية واالغرتابية حل�ضوره .وقد جاء يف الأ�سباب املوجبة لعقده« :وي�صارحون العامل كله ب�أن الالمركزية هي قوام حياة العرب ،و�أنهم �شركاء يف هذه اململكة بل هم الأكرثية املطلقة فيها . كانت النية تتجه يف البداية �إىل �أن يعالج امل�ؤمتر الق�ضايا املتعلقة ب�سورية فقط ،ثم قرر �أن يعالج الق�ضايا العربية كلها .وكان جميع �أع�ضاء امل�ؤمتر من بالد ال�شام واثنان من العراق . ()40
()41
()42
()43
()44
()45
� 40أنطونيو�س .مرجع �سابق� ،ص .148 4 1كان من بني م�ؤ�س�سي حزب الالمركزية رفيق العظم (دم�شق) ،ر�شيد ر�ضا (طرابل�س ال�شام) ،ا�سكندر عمون (جبل لبنان) ،ف�ؤاد اخلطيب (جبل لبنان)� ،سليم عبد الهادي (جنني) ،حافظ ال�سعيد (يافا) ،نايف تللو (دم�شق) ،علي الن�شا�شيبي (القد�س). � 42أنطونيو�س .مرجع �سابق� ،ص .185 43جريدة امل�ؤيد ،القاهرة� 27 ،آذار .1913 44ذكر مو�سى .مرجع �سابق� ،ص .37ب�أن توفيق ال�سويدي وهو عراقي كان طالباً يف باري�س يف �أثناء انعقاد امل�ؤمتر، ف�أقنع زمالءه ب�أن يطلقوا على امل�ؤمتر ا�سم «امل�ؤمتر العربي» بدل «امل�ؤمتر ال�سوري». 4 5املرجع ال�سابق� ،ص .37 28
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
من بني الذين �ألقوا خطباً يف امل�ؤمتر ،كان عبد الغني العري�سي 1916-1891الذي يكت�سب احلديث عنه �أهمية خا�صة ،ملا يعبرّ من خالله عن جمعية العربية الفتاة التي �أ�س�سها �شبان �سوريون تعلموا يف فرن�سا ،وهم يف ذروة احلما�س القومي. �سافر �إىل فرن�سا عام 1912لدرا�سة ال�صحافة و�شارك يف امل�ؤمتر العربي يف باري�س ،و �ألقى خطابا افتتاحيا يف االجتماع الأول للم�ؤمتر .ثم عاد �إىل بريوت �أواخر �سنة ،1913وكانت حركة القومية ال�سورية -العربية قد بلغت حتو ًال من ظاهرة ثقافية قومية �إىل حركة �سيا�سية حتررية. ويف العام 1911ومبنا�سبة يوم املولد النبوي حممد(�ص) ،يكتب عبد الغني العري�سي من �أجل التفاهم العربي -الرتكي على �أ�سا�س القبول مبطالب العرب اخلا�صة ،ويف طليعتها احرتام اللغة العربية� ،إذ ميتزج الدين الإ�سالمي الذي ي�شكل الرابطة العثمانية باللغة العربية ،ومي�ضي مف�صحاً عن ر�سالة قومية ،ي�ستخدم الدين ليربز الوطن والقومية فيقول�« :إن قومنا ال ي�شعرون بالأ�شياء �إ ّال ب�صددها الديني ولذا يجب علينا ا�ستخدام �شعائر الدين و�أعظمها اخلالفة ...بيد �أن الدين ال ينفي الوطن ،فالإ�سالم دين وقومية� ...أن الدين الإ�سالمي ال ينكر الوطنية ،بل �إنه يحرتم �أخوة املواطنني من غري امل�سلمني باعتباره �ضمانة مل�ساواتهم وقيماً على حريتهم� ،إن لنا ما لهم وعلينا ما عليهم» . و�إذ يرف�ض العري�سي اال�ستبداد الرتكي فهو يرف�ض بحزم اال�ستعمار الأوروبي الذي يقرتب من احتالل البالد العربية ،وهذا موقف يتما�شى مع تفكريه على الرغم من �إظهاره احرتامه العميق نداء ملفاهيم ال�سيا�سة الغربية ،ولذلك نراه يكتب ،غداة احتالل �إيطاليا لطرابل�س الغرب ً ،1911 حلمل ال�سالح حتت عنوان «موت م�ش ّرف» فو�صف التربير الإيطايل لغزو ليبيا وهو «واجب �إيطاليا «الإن�ساين» ب�أنه «�إن�سانية الظامل»� ...إنهم يريدون لهم �أن يعي�شوا كما يعي�ش اجلزائريون يف ظل «الإن�سانية» الفرن�سية ،وهم يريدون �أن يقتلوا ،با�سم «الإن�سانية» ع�شرة منا ج ّراء موت واحد منهم، كما يقتل امل�صريون يف ظل «الإن�سانية» الإنكليزية» .وحمل عبد الغني العري�سي على اال�ستبداد الرتكي مطالباً بالدميقراطية� ،إذ �أن الإ�صالحات يجب �أن ال تتم حتت �ضغط القوى اخلارجية ،بل ب�إرادة الأكرثية ال�شعبية ،فيقول» كان تطبيقا لإ�صالحات يف ال�سابق يتم نتيجة جلهود �أوروبا� ،أما الآن فهي نتيجة ل�شعب مفكر ي�صوغ الإ�صالحات بيديه ،وهو حدث يقف بني �أعظم الأحداث يف التاريخ العثماين ب�أ�سره� ..إن حكم العدد الأكرب قد بد�أ مفعوله بالظهور ،وعلى عقالء الأمة �إ�سناد هذا احلكم حتى ت�صبح الدولة دميقراطية ،وتعمل ل�صالح جميع النا�س ،ال ل�صالح رجل واحد ،وال ل�صالح عدد �صغري من الب�شر» . ()46
()47
()48
46امل�صدر نف�سه ،العدد 723تاريخ .1911/6/20 47العري�سي ،م�صدر �سابق ،العدد 795تاريخ .1911/10/1 48العري�سي ،امل�صدر ال�سابق ،العدد 1431تاريخ .1913/11/23 29
ويتقدم تفكري عبد الغني العري�سي لي�ضع تعريفاً للقومية العربية يف افتتاحية بتاريخ 15كانون الأول 1913فيقول «ونق�صد بالعربي كل من يرتبط بهذه الأمة بوحدة اللغة ،وروابط القرابة، ونزعة العرب» . يبدو اال�ضطراب الفكري عند عبد الغني العري�سي ورفاقه يف العربية الفتاة وا�ضحا» يف فرتة ما قبل احلرب العاملية الأوىل ،فاالقتبا�س عن املفاهيم الغربية �إىل حدود تبنيها �أحياناً كان بيناً ،كما عند عازوري ،فكيف يظهرون احرتامهم للمفاهيم ال�سيا�سية الغربية؟! وهي نف�سها التي كان لها انعكا�سها ال�سلوكي يف البالد العربية التي احتلوها ،وهم �إذ ي�ستخدمون الدين يف بناء فكرة قومية يجهلون �أن القومية ال تت�أ�س�س على الدين الذي له طابعه العاملي .ولعل الت�أثر باملفاهيم الغربية كان ب�سبب الإر�ساليات الأجنبية من جهة ،ومن جهة �أخرى تلقي العلم باجلامعات الغربية ،حيث ّاطلعوا على الأفكار التي رافقت قيام الوحدة الإيطالية ،1919-1860والأفكار التي رافقت الوحدة الأملانية 1871-1866دون درا�سة الظروف ال�سيا�سية واالجتماعية واالقت�صادية التي رافقت بلوغ الدولة يف �أوروبا مرحلة الدولة القومية ،وهي ظروف تختلف عن ظروف تطور املجتمع ال�سوري العربي. وعندما بد�أت احلرب العاملية الأوىل و�أُر�سل جمال با�شا قائداً للجي�ش الرابع الراب�ض يف البالد العربية، مار�س �سيا�سة البط�ش والتنكيل ،و�أعدم جمموعة من �شباب احلركةالقومية ال�سورية العربية ،ما كان له �أثر يف التطلع نحو ال�شريف ح�سني الذي كان قد بد�أ ات�صاالته بالغرب ،ممث ًال بربيطانيا للتحالف معه على �أمل امل�ساعدة يف ا�ستقالل البالد العربية ،مما �أحدث حتو ًال يف واقع الفكرة القومية. لقد جاءت ت�سمية اجلمعية القحطانية مبثابة الرد االنفعايل على الطورانية ،وجاءت جمعية الفتاة العربية الرد االنفعايل على جمعية الفتاة الرتكية ،ويف كال الردين االنفعاليني كان الإطاحة بالهوية ال�سورية ،لتحل حملها هوية �أخرى. ()49
()50
ثانيا ً -الفكرة القومية خالل احلرب العاملية الأوىل 1918-1914
تبني �أن �أ�صحاب االجتاهات العروبية من امل�سلمني يف العهد العثماين ،قبل بداية احلرب العاملية الأوىل� ،إنهم مل يطرحوا فكرة القومية ال�سورية العربية �أو الوحدة العربية �أو فكرة االنف�صال عن الدولة املركزية العثمانية با�ستثناء قلة منهم ،فيما كان رواد القومية ال�سورية العربية والعاملني من �أجل االنف�صال عن الدولة العثمانية واالحتاد على �أ�سا�س املفاهيم القومية ولي�ست الدينية ،هم امل�سيحيون العرب الذين نادوا بالفكر القومي العربي -الآ�سيوي و�ضرورة التخلي عن الوحدة 49امل�صدر نف�سه ،العدد 1435تاريخ .1913/12/15 50راجع :نوار ،عبد العزيز .التاريخ املعا�صر �أوروبا :من الثورة الفرن�سية �إىل احلرب العاملية الثانية ،دار النه�ضة العربية ،بريوت � ،1973ص 265-243و .290-267 30
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
القائمة على الفكر الديني .وعندما وقع امل�شرق العربي حتت االحتالل الغربي حدثت حتوالت �سيا�سية واقت�صادية مهمة� ،شكلت عوامل دفع يف نهو�ض الفكرة القومية خالل احلرب ،و�إىل ما بعدها والتي جت�سدت على �أر�ض الواقع. ()51
-1التغيريات االقت�صادية وال�سيا�سية وانعكا�ساتها على الفكرة القومية خالل احلرب العاملية الأوىل 1918-1914
تبي ب�أن فكرة الوطن ال�سوري هي �أول فكرة ا�ستقاللية طرحت منذ الإرها�صات الأوىل للحركة نَّ القومية ،1860كما �سبق �إي�ضاحه ،ثم تطورت هذه الفكرة ،خالل احلرب العاملية الأوىل ،حيث عانى العرب من ويالتها� ،سواء من الوجهة االقت�صادية وتوقف حركة الت�صدير واال�سترياد عرب البحر املتو�سط الذي �أ�صبح حتت �سيطرة احللفاء� ،أو جلهة التدابري االقت�صادية التي قامت بها ال�سلطة العثمانية ب�إ�صدار النقد الورقي الذي ي�ساوي النقد الذهبي ،والذي �سرعان ما هبطت قيمته ال�شرائية� ،أو جلهة موجات اجلراد التي عرفتها �سورية وجوارها ،كل ذلك �أحدث �أزمة اقت�صادية كان لها نتائجها اخلطرية من حدوث جماعة كبرية وتف�شي الأمرا�ض املعدية مما ت�سبب بحدوث وفيات كثرية ب�سبب اجلوع ،ناهيك عن احلملة الإرهابية التي قام بها جمال با�شا �ضد الوطنيني والتي ذهب �ضحيتها �أكرث من ثالثني منا�ض ًال قومياً �أعدموا على دفعتني ( 1915و)1916 يف �ساحتي ال�شهداء يف بريوت و�ساحة املرجة يف دم�شق ،وكان لهذه الأحداث نتائج �سيا�سية واقت�صادية واجتماعية خطرية متثلت بتف�شي البطالة ،وتوقف التعليم ،وزيادة الهجرة �إىل اخلارج، ف�أحدثت هذه الوقائع حتو ًال فكرياً ،مل يكن متوقعاً ،ال�سيما لدى جمعية العربية الفتاة وكان التحول يف ما عرف مبيثاق دم�شق ،الذي ر�سم حدود العامل العربي املطلوب ا�ستقالله ،على �أ�سا�س التحالف مع بريطانيا وخو�ض احلرب معها �ضد الدولة العثمانية ،وقيام دولة عربية �ضمن هذا الوطن ،على ال�شكل التايل: �شما ًال :خط مر�سني� -أ�ضنة �إىل ما يوازي خط العر�ض � 37شما ًال ،ومن هناك على طول خط :بريجيك� ،أورفه ،ماردين ميدبات ،جزيرة ابن عمرو� ،أماديا واحلدود الفار�سية يف ال�شرق :من احلدود الفار�سية حتى خليج الب�صرة. يف اجلنوب :املحيط الهندي (با�ستثناء عدن حيث يحافظ على و�ضعها اخلا�ص). يف الغرب� :شواطئ البحر الأحمر واملتو�سط حتى مر�سني» . ()52
5 1حالق ،ح�سان .م�ؤمترات ال�ساحل والأق�ضية الأربعة ،1936الدار اجلامعي للطباعة والن�شر ،بريوت � ،1983ص.7 � 52أنطونيو�س .مرجع �سابق� ،ص � .241أي�ضاً :مو�سى ،مرجع �سابق� ،ص 721-621راجع:خريطة الدولة العربية كما حددها ميثاق دم�شق امللحق رقم (.)1 31
ويف حتديد جمعية العربية الفتاة حدود الوطن على هذا النحو ،كانت الإطاحة الثانية بجغرافية الوطن ال�سوري ،بعد االطاحة الأوىل بهوية الوطن ال�سوري .وهذا مل يكن بدافع من تطور قومي يف الفكر بقدر ما كان تلبية مل�شروع قبلي يقوده ال�شريف ح�سني الها�شمي. وبذلك نت�ساءل: كيف مت تركيب الفكرة القومية يف العقل العربي حتى و�صل وا�ضعو امليثاق �إىل احلدود التي ر�سموها؟ وملاذا حتول امل�سلمون من مطلب الإ�صالح �إىل مطلب اال�ستقالل؟ وملاذا ا�ستثنت احلركة العربية اجلانب العربي الأفريقي من م�شروعها ،وا�ستثنت عدن التي حتتل موقع القلب يف اجلزيرة العربية ؟ و�إذا كانت البواعث الأوىل ليقظة الفكر القومي هو القلق على امل�صري العربي يف مواجهة اخلطر الأوروبي اال�ستعماري ،فكيف انخرط القوميون يف التحالف مع هذا اخلطر؟ اعتمد عبد الغني العري�سي يف خطابه يف م�ؤمتر باري�س 1913مفهوما ليربالياً لتعريف الأمة على �آراء علماء الأملان ،والعلماء الإيطاليني ومذهب �سيا�سة الفرن�سيني وتو�صل �إىل القول�« :إذا نظرنا �إىل العرب من هذه الوجوه الثالثة علمنا �أنّ العرب جتمعهم وحدة لغة ووحدة عن�صر ،ووحدة تاريخ، ووحدة عادات ووحدة مطمح �سيا�سي ،فلهم حق جماعة ،حق �شعب حق �أمة .والعرب يطلبون حقهم ك�شركاء يف هذه الدولة� ،شركاء يف القوة الإجرائية� ،شركاء يف القوة الت�شريعية �شركاء يف الإدارات العامة� ،أما يف داخلية بالدهم فهم �شركاء �أنف�سهم» . اال�ضطراب وا�ضح يف كالم عبد الغني العري�سي ،فالعربي ح�سب ما ورد �سابقاً يف كتاباته حول �أفعال اال�ستعمار يف اجلزائر وليبيا وم�صر تدل على �إدراكه واقع وحدة الأمم العربية من حميطها �إىل خليجها ،ويف خطابه يف م�ؤمتر باري�س اقت�صر حديثه على العرب الذين ي�شرتكون مع العثمانيني يف دولة واحدة. فالعرب من وجهة نظر العري�سي هم �أمة ذات �شخ�صية خا�صة ،وهم �أي�ضاً عثمانيون � .أما ندره عد مطران الذي عرب يف امل�ؤمتر عن طموحات �سيا�سية فقد حددها يف �إطار �سورية الطبيعية� ،إذ ّ ال�سوريني� ،ضمناً� ،أمة خ�ضعت ل�سيطرة الأتراك املبا�شرة ،دون �أن يدعو �صراحة �إىل االنف�صال . �سجل موقفان لدى العرب ،فريق م�سلم يتكلم عن �أمة عربية ،وفريق م�سيحي يتكلم عن �أمة وهنا ُي ّ �سورية .وامل�شرتك عند الفريقني هو التخل�ص من اال�ستبداد الرتكي. ()53
()54
()55
53قلعجي .مرجع �سابق� ،ص .113-108 54قلعجي .مرجع �سابق� ،ص .107 5 5املرجع ال�سابق� ،ص .113-112 32
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
-2اجتاهات الفكر ال�سيا�سي العربي بعد دخول ال�سلطنة العثمانية احلرب 1918-1914
ولكن ثمة حتو ًال �سيطر على الفكر ال�سيا�سي العربي بعد دخول الدول العثمانية احلرب �إىل جانب �أملانيا ،فقد ترك الأمري في�صل دم�شق حام ًال مذكرة قادة العربية الفتاة يف نهاية كانون الأول ،1915 �أي بعد حملة جمال با�شا الإرهابية �ضد الإ�صالحيني « .ويف هذا ال�سياق و�ضعت احلركة القومية ال�سورية العربية يف امل�شرق حداً لرتددها وقررت القطيعة مع الأتراك وتبني امل�شروع الإنكليزي- ال�شريفي الذي كان ُيح�ضر يف ذات الوقت» . ومن خالل املرا�سالت التي ح�صلت بني ال�شريف ح�سني ومكماهون يتبني �أن ال�شريف ح�سني ي�ؤكد بتاريخ � 9أيلول ،1915ا�ستقالل الأرا�ضي العربية اخلا�ضعة للدولة العثمانية مبا فيها بريوت (الوالية) ،راف�ضاً ال�سيطرة الفرن�سية عليها ،ثم يرتاجع لي�ؤكد قبو ًال م�ؤقتاً فيقول «ما ندعه الآن لفرن�سا يف بريوت و�سواحلها» �سنطالب به كون «وجود ه�ؤالء اجلريان» �سيقلق �أفكارنا ،وال ميكن ال�سماح لفرن�سا باال�ستيالء على قطعة �صغرية من تلك املنطقة» .فيظهر ال�شريف ح�سني ،وهو املفاو�ض با�سم العرب ،جهله القاعدة التي تقول :ب�أن اجلي�ش الذي يدخل البالد مبوافقتها ال يخرج منها بطلب منها .وهذا يدل على عجز يف الثقافة ال�سيا�سية التفاو�ضية. ويف 24ت�شرين الأول � 1915أجاب هرني مكماهون على ر�سالة ال�شريف معلناً ا�ستعداد بريطانيا االعرتاف با�ستقالل الواليات العربية التي يطلبها ال�شريف ح�سني» ...فربيطانيا العظمى م�ستعدة ب�أن تعرتف با�ستقالل العرب وت�ؤيد ذلك اال�ستقالل يف جميع الأقاليم الداخلة يف احلدود التي يطلبها �شريف مكة . ولكن ال�شريف ح�سني �أبدى ت�ساه ًال يف جوابه امل�ؤرخ يف 5ت�شرين الثاين �إىل مكماهون ،1915 �إذ يوافقه بعدم الإحلاح يف �إدخال مر�سني و�أ�ضنة يف �أق�سام اململكة العربية ،ولكنه يبدي مت�سكه بواليتي حلب وبريوت و�سواحلهما كونها «عربية حم�ضة وال فرق بني العربي امل�سيحي وامل�سلم ف�إنهما �أبناء جد واحد» . ويف 14كانون الأول � 1915أو�ضح مكماهون مف�صحاً عن �سروره بتخلي ال�شريف ح�سني عن مر�سني و�أ�ضنه فيقول�« :سرين ما ر�أيت فيه من قبولكم �إخراج واليتي مر�سني و�أ�ضنه من حدود البالد العربية� ...أما ب�ش�أن واليتي حلب وبريوت ،فحكومة بريطانيا العظمى قد فهمت كل ما ذكرمت ب�ش�أنهما ،ودونت ذلك عندي بعناية تامة ،ولكن ملا كانت م�صالح حليفتها فرن�سا داخلة فيها ()56
()57
()58
()59
()60
5 7 58 5 9 60 56
�سعيد� ،أمني� .أ�سرار الثورة العربية الكربى وم�أ�ساة ال�شريف ح�سني ،دار الكتاب العربي ،بريوت � ،1940ص .57 كوثراين ،مرجع �سابق� ،ص .272 ن�ص ر�سالة ال�شريف ح�سني �إىل مكماهون .م�ؤرخة يف� 9 :أيلول 1915راجع :امللحق رقم()2 زين .مرجع �سابق� ،ص .68 ن�ص ر�سالة ال�شريف ح�سني �إىل مكماهون .م�ؤرخة يف 5ت�شرين الثاين .1915راجع :امللحق رقم()3 33
فامل�س�ألة حتتاج �إىل نظر دقيق و�سنخابركم بهذا ال�ش�أن مرة �أخرى يف الوقت املنا�سب» . على الرغم مما ذكره ال�شريف ح�سني يف ر ِّده على ر�سائل مكماهون التي �أكد فيها على عدم قبول �سيطرة فرن�سا على بريوت و�سواحلها بعد انتهاء احلرب ،يتبني� ،أن احلركة العربية كانت ت�ست�سهل التنازل عن احلقوق العربية ،فتنازلت عن عدن يف البداية ثم �أتبعتها مبر�سني و�أ�ضنه. ويت�ضح ق�صور الوعي القومي لدى بع�ض القادة �آنذاك ،يف فهم طبيعة اال�ستعمار ،وعدم االتعاظ من التجارب التي تعر�ض لها ال�شعب العربي يف اجلزائر وليبيا وم�صر من قبل .ناهيك ما يظهر من ق�صور يف الوعي ال�سيا�سي التفاو�ضي� ،إذ غابت عن املفاو�ض العربي قواعد �أ�سا�سية ال ميكن �إغفالها. �إن املوافقة على وجود جي�ش فرن�سي يف بريوت ،ي�سهل وجود اجلي�ش ،ولكن خروجه ال يتم بطلب من الذي ا�ستدعى اجلي�ش �أو قبل بوجوده ،ومن جهة ثانية ال يوجد حتالف بني طرف قوي و�آخر �ضعيف �إذ �أن القوي هو القائد وال�ضعيف هو التابع ،والقوي هو القادر على تعديل وتغيري مواقفه والرتاجع عن وعوده �ساعة ي�شاء وال�ضعيف ال ي�ستطيع فعل ذلك. مكامن القوة العربية غائبة كلياً عن ذهن ال�شريف ح�سني� ،إذ لو كانت حا�ضرة ملا تابع املفاو�ضات بعد ورود الإبهام يف ر�سالة مكماهون امل�ؤرخة يف 14كانون الأول .1915 لو �أظهر العرب قوتهم لربيطانيا ملا �أقدمت مع فرن�سا ورو�سيا على �إبرام اتفاقية �سايك�س -بيكو التي جز�أت مبوجبها امل�شرق العربي وملا جتر�أت على وعد بلفور ب�إعطاء اليهود فل�سطني وطناً لهم على ح�ساب العرب. لقد �أحدثت اتفاقية �سايك�س -بيكو 1916ووعد بلفور 1917زلزا ًال �سيا�سياً قلب املقايي�س ر�أ�ساً على عقب ،وجعل الفكر العربي يف حالة ا�ضطراب ،ومل يكن �أمامه �إ ّال انتزاع �أدوات ن�ضال جديدة من الواقع اجلديد الذي فر�ضه االحتالل الغربي على امل�شرق العربي. ()61
()62
ثالثا ً :الفكرة القومية ال�سورية-العربية وواقعها 1922-1918
وقعت �أحداث مهمة يف امل�شرق العربي ،يف الفرتة الواقعة ما بني احلربني العامليتني ،كان �أبرزها فر�ض االنتداب الربيطاين على فل�سطني و�شرقي الأردن والعراق ،واالنتداب الفرن�سي على �سورية ولبنان ،فا�ستبدل النظام العثماين الإقطاعي -الع�سكري بنظام ع�سكري احتاليل ،كان له نتائج �سيا�سة خطرية� ،أبرزها ،تق�سيم امل�شرق العربي �إىل دويالت �ضعيفة ،و�أخطرها ،التمهيد لقيام دولة 61ن�ص ر�سالة مكماهون �إىل ال�شريف ح�سني .م�ؤرخة يف 14كانون الأول .1916راجع امللحق رقم()4 62راجع :خريطة تق�سيم امل�شرق العربي مبوجب اتفاقية �سايك�س -بيكو .1916امللحق رقم()5 34
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
يهودية� -صهيونية على �أر�ض فل�سطني .مما ي�ؤ�س�س �إىل تعقيدات �سيا�سية الحقة �سيكون لها �أبلغ الأثر على تعرث امل�شاريع الوحدوية العربية وبالتايل �إحداث ا�ضطرابات يف الفكر القومي. -1التحوالت ال�سيا�سية يف امل�رشق العربي
انتهت احلرب العاملية الأوىل ،وعقدت الهدنة بني احللفاء و�أملانيا بتاريخ 11ت�شرين الثاين ،1918 وبات العرب ينتظرون حتقيق احللفاء لوعودهم با�ستقالل البالد العربية ،و�شكل م�ؤمتر ال�صلح1919 الذي ح�ضره الأمري في�صل رئي�ساً للوفد احلجازي وممث ًال لوالده ال�شريف ح�سني ،حيث القى �صعوبات كثرية �أثارتها فرن�سا وبريطانيا ،من عدم االعرتاف به ،واعرتا�ضها على ت�سلمه البالد ال�سورية (الطبيعية) ،وجمابهته باتفاقية �سايك�س -بيكو وق�ضية فل�سطني وما يحيط بها من �ضغط �صهيوين وا�ستعماري ،ثم �شارك يف امل�ؤمتر بعد تراجع فرن�سا عن موقفها� .أما الأحزاب التي برزت بعد ف�شل ال�شريف ح�سني يف نيل االعرتاف به ملكاً على العرب من فرن�سا وبريطانيا ،فهي :حزب ال�شريف ح�سني يف احلجاز ،احلزب ال�سوري الذي كان يرف�ض اية و�صاية �أجنبية ،واحلزب العراقي الذي كانت له خماوف من �سيطرة االنكليز على العراق ،وكان ين�شد وحدة اقت�صادية مع ال�شام.. -2فر�ض الهيمنة اال�ستعمارية على امل�رشق العربي
وعلى الرغم من اجلهود التي بذلها في�صل ،وتذكريه بحقوق العرب يف الوحدة واال�ستقالل، ومطالبته احللفاء بتنفيذ وعودهم للعرب ،اتخذ م�ؤمتر ال�صلح قراراً بتاريخ 30كانون الثاين عام 1919بف�صل لبنان و�سورية وفل�سطني والعراق عن ال�سلطنة العثمانية ،على �أن تكون حتت �إ�شراف و�صي يعمل با�سم ع�صبة الأمم وفق ميثاقها امل�ؤلف من 26مادة والتي ن�صت املادة 22منه على نظام االنتداب. تقدم الأمري في�صل باقرتاح �إىل م�ؤمتر ال�صلح ،ب�إر�سال جلنة حتقيق للوقوف على رغبات ال�سكان يف البالد ،وفيما �أيده الرئي�س الأمريكي «ودرو ول�سن» Woodrow Wilson 1920-1912قابلته بريطانيا وفرن�سا بفتور وا�ضح ،فت�شكلت جلنة «كينغ -كرين» King-Craneمن �أمريكيني ،و�إزاء و�ضوح موقف فرن�سا وبريطانيا ،تنادى امل�ؤمتر ال�سوري يف 8حزيران 1919وا�شرتك فيه ممثلون من خمتلف املناطق ال�سورية ،واتخذ امل�ؤمترون قرارات مهمة كان �أبرزها :اال�ستقالل التام للبالد ال�سورية ،ورف�ض االنتداب واالدعاءات الفرن�سية بحقوق لها يف �سورية ،ورف�ض ف�صل فل�سطني عن �سورية ورف�ض مطالب ال�صهيونيني فيها .واملطالبة با�ستقالل العراق ،ورف�ض اتفاقية �سايك�س-بيكو . ()63
63جريدة املنار ،جزء � ،1919 ،21ص 223-221يف :خوري ،يو�سف .امل�شاريع العربية الوحدوية ،1989-1913 م�ؤ�س�سة درا�سات الوحدة العربية ،بريوت� ،1990 ،ص .26 35
ا�ستفتاء �شعبياً وا�سعاً ورفعت تقريرها �إىل الرئي�س ول�سن الذي �أر�سل بدوره �أجرت جلنة التحقيق ً ن�سخاً منه �إىل الدول احلليفة ،وقد ت�ضمن اقرتاحات �أبرزها :تكوين احتاد بني لبنان و�سورية وفل�سطني و �شرقي الأردن ،تتوىل زعامته �إحدى هذه الدول ،وتتفق فيما بينها ،و�أن تكون الو�صاية (مبعنى امل�ساعدة الفنية) لأمريكا �أو بريطانيا ،وحذر التقرير من قيام دولة يهودية ،ولكن احللفاء �أهملوا التقرير ومل ي�أخذوا به .ويف �شهر �شباط 1920عاد في�صل �إىل دم�شق حام ًال م�شروع اتفاق بينه وبني كليمن�صو يت�ضمن اعرتاف في�صل بف�صل لبنان عن �سورية بحماية فرن�سا ،مقابل االعرتاف با�ستقالل �سورية وم�ساعدتها على توحيد نف�سها على �أن تلبي امل�صالح الفرن�سية ،ليح�صل من قادة ال�شعب ال�سوري على التفوي�ض بعقد االتفاق نهائياً ،الأمر الذي رف�ضه امل�ؤمتر ال�سوري املنعقد يف � 8آذار 1920مكرراً مطالبه يف امل�ؤمتر ال�سابق ،معلناً امللكية يف �سورية بزعامة في�صل . جاء رد احللفاء على مقررات امل�ؤمتر ال�سوري �سريعاً ،فعقد املجل�س الأعلى م�ؤمتراً يف �سان رميو بتاريخ 25ني�سان 1920تقرر فيه :فر�ض االنتداب الفرن�سي على �سورية ولبنان ،واالنتداب الربيطاين على �شرقي الأردن والعراق وفل�سطني على �أن ينفذ وعد بلفور .وتنازلت فرن�سا عن منطقة املو�صل و�أحلقت بالعراق مقابل ح�صة نفطية منه. �أطلقت فرن�سا يد غورو Gouraudقائدها يف ال�شرق لفر�ض االنتداب ،فوجه �إنذاراً �إىل احلكومة ال�سورية مدته �أربعة �أيام يطلب فيه :و�ضع �سكة حديد رياق -حلب حتت ت�صرف الفرن�سيني ،قبول االنتداب� ،إلغاء التجنيد الإجباري ،ت�سريح املجندين ،قبول الأوراق النقدية التي �أ�صدرها بنك �سورية و لبنان ،معاقبة «املجرمني» الذين ا�سرت�سلوا يف معاداة فرن�سا . رف�ض ال�شعب ال�سوري قبول الإنذار فيما اجته امللك في�صل لقبول الإنذار وطلب متديد املهلة يومني �إ�ضافيني .ولكن ال�سلطة الفرن�سية �أمرت جنودها بالزحف من لبنان باجتاه دم�شق ،وعندما علمت احلكومة بالنوايا الفرن�سية ا�ستنفرت عدداً من اجلنود ليتقابل اجلي�شان يف مي�سلون حيث �سقط وزير الدفاع يو�سف العظمة �شهيداً مع معظم جنوده ،دخل على �أثرها الفرن�سيون �إىل دم�شق وطلبوا من في�صل مغادرة �سورية ،فغادرها �إىل فل�سطني ثم �أوروبا. وق�سمت �سورية �إىل دويالت نفذت فرن�سا و�صايتها على �سورية ولبنان قبل �صدور �صك االنتداب ّ طائفية ،و�أعلنت قيام دولة لبنان الكبري. �أما يف منطقة النفوذ الربيطاين فقد دفعت بريطانيا بقواتها الع�سكرية بقيادة اجلرنال «مود» maud ()64
()65
()66
6 4راجع� :سعيد� ،أمني .الثورة العربية الكربى :تاريخ مف�صل جامع للق�ضية العربية يف ربع قرن ،من�شورات عي�سى البابي احللبي ،م�صر جزء 2د .ت �ص .71و قدورة ،زاهية :تاريخ العرب احلديث ،دار النه�ضة العربية ،بريوت، � 1985ص .258 65مقررات امل�ؤمتر :جريدة املنار ،جزء � ،1920 ، 21ص � 444 - 441أي�ضاً :خوري ،مرجع �سابق� ،ص .340 66احل�صري� ،ساطع .يوم مي�سلون� :صفحة من تاريخ العرب احلديث ،مكتبة الك�شاف ،بريوت � ،1964ص .118 36
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
باجتاه العراق فاحتلت بغداد بتاريخ � 11آذار ،1917وبعد يومني �أ�صدر اجلرنال مود من�شوراً يهدف �إىل التقرب من �أهل العراق جاء فيه�« :إننا مل ندخل بالدكم �أعداء فاحتني� ،إمنا دخلناها حمررين» . وا�ستكملت �سيطرتها على العراق مبا فيه املو�صل ،بتاريخ �إعالن الهدنة يف 11ت�شرين الثاين .1918 وكان �أول بيان ر�سمي و�صريح حول م�ستقبل العراق قد و�ضعته احلكومة الربيطانية عام � ،1918إذ �أمرت ب�إجراء ا�ستفتاء عام يحدد فيه العراقيون اختيارهم لنظام احلكم مع الت�أكيد على �أن الو�ضع النهائي للبالد العربية �سيقرر نهائياً يف م�ؤمتر ال�صلح ،فلم ير�ض ذلك العراقيني ،ف�أبرقت وزارة امل�ستعمرات الربيطانية �إىل النائب العام يف � 14شباط ،1919مطالبة �إياه بتقدمي د�ستور حلكومة عربية م�ستندة �إىل رغبة ال�سكان ،وخا�ضع لل�سيطرة الربيطانية وفيه من املرونة ما يف�سح املجال ال�شرتاك �أهل البالد .ولكن ال�سلطات الربيطانية و�ضعت �أ�س�ساً ا�ستعمارية فا�ستبدلته ب�سبب معار�ضة بع�ض الربيطانيني ،فجاء امل�شروع اجلديد �شام ًال مبادئ االنتداب ،وما �إن �أعلنت مقررات �سان رميو 1920حتى اندلعت ثورة عارمة �شملت كل �أنحاء العراق ،م�ستمدة زخمها من جذوة ن�ضالية عالية امل�ستوى ،ومن جتربة ال�سوريني و �إعالنهم اال�ستقالل بزعامة في�صل ،ويزيد يف �إ�ضرام نارها فتاوى علماء الدين وعلى ر�أ�سهم املجتهد ال�شريازي . وملا مل تتمكن بريطانيا من تهدئة الثورة ،عينت حاكماً مدنياً على العراق ،فات�صل ب�أعيان البالد ،وت�ألفت وزارة برئا�سة عبد الرحمن الكيالين نقيب بغداد 23ت�شرين �أول ،1920ولكن الهيمنة الربيطانية كانت باقية عليها. وعندما غادر امللك في�صل �سورية بعد معركة مي�سلون ،كان الربيطانيون يرون فيه ح ًال ملع�ضالتهم يف العراق ،فانعقد م�ؤمتر يف القاهرة 1921برئا�سة وزير امل�ستعمرات «ون�ستون ت�شر�شل» ( )1965-1871وح�ضور م�س�ؤولني �إنكليز وعراقيني ،حيث مت تر�شيح امللك في�صل ملكاً على العراق . ()67
()68
()69
()70
()71
67
68 6 9
71 70
املحا�سني ،زكي .النه�ضة العربية احلديثة (العراق) ،درا�سات تاريخية يف النه�ضة العربية احلديثة ،كتبها حممد بديع �شريف ،زكي املحا�سني� ،أحمد عزت عبد الكرمي ،و�ضع خطتها وقام برتجمتها وترتيبها حممد �شفيق غربال جامعة الدول العربية الإدارة الثقافية ،القاهرة� ،1960 ،ص 272 املحا�سني .مرجع �سابق� ،ص.295 هو حممد تقي بن حمب علي بن حممد علي كل�شن احلائري ال�شريازي :جمتهد �إمامي ،من �أركان الثورة العراقية على الإنكليز �سنة ،1920و�أول من دعا �إليها من رجال الدين .ولد ب�شرياز ،ون�ش�أ يف احلائر ،و�أقام يف �سامراء .و ّاله حملة الفكرة اال�ستقاللية يف النجف ،زعامتهم الدينية ،فانتقل �إىل كربالء ،و�أ�صدر فتواه يف� :أن امل�سلم ال يجوز �أن يختار غري امل�سلم حاكماً عليه .راجع( :الزركلي ،خري الدين .الأعالم ،دار العلم للماليني، بريوت .)1980 هو «بري�سي كوك�س» « »Percy Coxوقد عُينّ بتاريخ 11ت�شرين الأول .1920 الريحاين� ،أمني :ملوك العرب :رحلة يف البالد العربية ،اجلزء ،2دار اجليل ،بريوت � ،1951ص .377 37
و�صدر عن ع�صبة الأمم �صك االنتداب الربيطاين على فل�سطني و�شرقي الأردن عام ،1922ويف وقت الحق ف�صل �شرق الأردن عن فل�سطني ،و�أخطر ما جاء يف �صك االنتداب هو يف كون الوكالة اليهودية �شريكاً لربيطانيا يف �إدارة فل�سطني ،لكي تتمكن بريطانيا من حتقيق وعد بلفور ب�إقامة وطن قومي لليهود على ار�ض فل�سطني. خامتة
بعد هذا التخبط الذي ح�سمه �سعاده فيما بعد ( )1949-1932ب�إبعاد العقيدة الفكرة القومية عن االنفعالية ،و�إخ�ضاعها للعقالنية والعلم .و�أر�سى الفكرة ال�سورية على قواعد �صحيحة ،وعلى الرغم من ا�ستمرار النهج االنفعايل مب�سريته التي مل تنتج �سوى اخليبات� .أعاد الكثريون النظر بواقع الفكرة القومية ،بعد مرور عقود طويلة ،وتو�صلوا �إىل ما تو�صل �إليه �سعاده العظيم منذ عقود وهذه عينة منهم: يقول كمال جنبالط يف و�صيته املن�شورة بعد ا�ست�شهاده :واحلق �أن التق�سيم( ،تق�سيم �سورية الطبيعية) كان ا�صطناعياً حم�ضاً ،وكان ينبغي لفل�سطني االنتدابية ولبنان االنتدابي والأردن االنتدابي� ،أن تكون دولة واحدة .كما كان ب�إمكان الأقليات كاف ًة يف �إطار كهذا� -أن تتخل�ص من مراودة التع�صب الطائفي لها عن نف�سها و�أن ت�سلك �سبيل القومية ال�سورية -العربية ،التي كانت �ستمثل جوهر وخمرية خمتلف ال�صراعات اال�ستقاللية القائمة منذ �1200سنة ،واعتقادي �أن هذه القومية هي القومية الوحيدة القابلة للحياة يف هذه املنطقة .فقد جرى ا�صطناع قومية لبنانية و�أخرى فل�سطينية وثالثة �سورية (�شامية)� ،إال �أن كل ذلك كان معادياً للقومية وي�سري عك�س وجهة فل�سفة التاريخ . ويقول الباحث غ�سان �سالمة يف كتابه املجتمع والدولة يف امل�شرق العربي :وكون فكرة الوحدة العربية «�شامية» املن�ش�أُ ،يطرح ال�س�ؤال التايل :ما مدى ا�ستعداد منطقة «الهالل اخل�صيب» ومدى قدرتها على هذا االجتاه ؟ وي�أتي اجلواب�« ،شكلياً يبدو �أن الأقطار «الهاللية» هي الأقرب �إىل الوحدة العربية ،فهي تبدو على الإطالق �أكرث البلدان العربية احت�ضاناً للفكرة ومت�سكاً بها� .إذ �أنّ التناحر بني حملة الفكرة الواحدة ي�ؤدي بها �إىل قدر هائل من التهافت وال�ضعف ،ولكي تت�صلب الفكرة العربية ال�سيما يف «الهالل اخل�صيب» الذي انطلقت منه ،ينبغي �إعادة ت�أهيل عميقة لها قبل �أن ت�ؤخذ يف احل�سبان ،كفكرة راقية �أو على الأقل قابلة للتحقيق . ()72
()73
72جنبالط .كمال ،هذه و�صيتي ،م�ؤ�س�سة «الوطن العربي» للطباعة والن�شرة ومن�شورات �ستوك ،باري�س� 1978 ،ص .68-67 � 73سالمة ،غ�سان .املجتمع والدولة يف امل�شرق العربي ،مركز درا�سات الوحدة العربية ،بريوت� .2008 ،ص .287 38
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
�أما الدكتور يا�سني �سويد القومي العربي فيقول يف ندوة فكرية على منرب حزب البعث العربي اال�شرتاكي عام ُ « 2004يدخل «�أنطون �سعاده» م�ؤ�س�س «احلزب ال�سوري القومي االجتماعي»، عامل «اجلغرافيا» كعن�صر �أ�سا�سي ،مهم وثابت ،يف تكوين الأمة ،ويف �صميم الفكرة القومية، بحيث « حتدد البيئة اجلماعة من عدة وجوه� ،أولها :حدود الإقليم اجلغرايف ،وثانيها :طبيعة الإقليم ...وثالثها� :شكل الإقليم (�أو طوبوغرافيته)» ،ذلك �أن احلدود اجلغرافية حتفظ وحدة اجلماعة ،لأنها جتمعها �ضمنها ،وتكون العامل الأول يف املحافظة عليها» �سعادة ،ن�شوء الأمم� ،ص .45ال�شك بان �سعادة على حق يف اعتباره العامل اجلغرايف يف تكوين الأمة عام ًال مهماً و�أ�سا�سياً». ويتابع �إن الوحدة املمكنة ،واملرجتاة ،بني �أقطارنا ،هي الوحدة االحتادية ،وهي على ال�شكل التايل: وحدة بالد ال�شام والعراق (�سورية ولبنان وفل�سطني و�شرق الأردن والعراق). وحدة �شبه اجلزيرة العربية ( اململكة العربية ال�سعودية واليمن وعمان والإمارات العربية املتحدة وقطر والبحرين والكويت). وحدة وادي النيل (م�صر وال�سودان و�أريرتيا). وحدة املغرب العربي( ليبيا وتون�س واجلزائر واملغرب وموريتانيا وال�صحراء الغربية). وحدة جيبوتي وال�صومال .بحيث يحتفظ كل قطر ب�سلطته ،ويتبع ،فيما تبقى� ،إىل ال�سلطة املركزية لالحتاد. ()74
()75
�أعود ف�أقول ب�أن العقائد التي تخ�ضع للعواطف وامل�شاعر وتتغري كلما هبت عا�صفة م�ؤثرة على امل�شاعر لتتحول �إىل غري حال ،ثم ت�صبح املقد�س الذي يتحجر به النا�س ،ال حت�صد غري اخليبات، فيما العقائد اخلا�ضعة للعقل والعلم ،هي العقائد ال�صحيحة ،املنت�صرة ،لأنها قابلة للتطور االيجابي املفيد ،العا�صية على التقدي�س ،وال ميكنها �أن حتجر �أتباعها بفعل «ديناميتها» املتطورة �صعداً من جناح �إىل جناح.
� 7 4سويد .يا�سني ،ا�ستعادة الوعي القومي ،يف :ندوة البعث احلوارية يف الفكر القومي ،حزب البعث العربي اال�شرتاكي ،القيادة القومية ،مكتب الأمانة العامة ،جلنة الدرا�سات والأبحاث ،رقم 1دم�شق� 2008 ،ص .120 7 5املرجع نف�سه� ،ص .137 39
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
2014 – 1914
مئوية احلرب العاملية الأوىل
انعكا�سات نتائج احلرب العاملية االوىل على امل�رشق علوان نعيم �أمني الدين -باحث يف العالقات الدولية
يظن الكثريون �أن التطرق ملثل هذا املو�ضوع هو نب�ش يف التاريخ لي�س �إال ،ومل يعد هناك من فائدة للبحث والتمحي�ص حوله ،غري �أن تدعيات احلرب العاملية االوىل ( )1918-1914ال تزال تنعك�س على املنطقة امل�شرقية يف كثري من النواحي واملجاالت ،ولو �أن عدداً من التغيريات قد طر�أت عليها� ،إال �إن البع�ض يتعرب �أن لهذه احلرب «نتائج كارثية» .فالرغم من مرور حوايل مائة عام على قيامها ،ال نزال نعي�ش حتت وط�أة الكثري من املتغريات ،ال �سيما ال�سيا�سية ،التي تفرعت عنها والتي �أدخلت دول امل�شرق يف �آتون النزاعات وال�صراعات التي قد تبقى وت�ستمر �إىل عقود مقبلة ما مل يتم اال�ستفادة واخذ العرب والعمل على ازالة تلك الآثار والعمل على قيام م�شرق جديد ي�ستعيد مكانته جمدداً ليكون العباً حمورياً يف �صراع االمم. بالبحث عن هذا املو�ضوع ومع �إجراء بع�ض املقابالت اخلا�صة (نظراً لقلة املعلومات يف بع�ض النواحي خا�صة االقت�صادية منها) ،يظهر العديد من املعلومات عن �أحداث تاريخية ،يف تلك الآونة ،ال يعرفها �سوى قليلني ،وهي بالت�أكيد �سوف تعطي بعداً جديداً يف�سر وقائعاً كانت نوعاً ما حمل غمو�ض وابهام. .1الآثار ال�سيا�سية واجليو �سيا�سية
تعترب اتفاقية �سايك�س-بيكو ( )1916من �أهم نتائج احلرب العاملية االوىل على ال�صعيدين ال�سيا�سي واجليو �سيا�سي ،فلقد �شكلت مدخ ًال ال�ستعمار امل�شرق وال�سيطرة على ثرواته من خالل تق�سيمه و�ضرب �أوا�صله التاريخية ،وما زلنا حتى يوم هذا نعي�ش �آثارها وتفرعاتها �سيما عند احلديث عن وعد بلفور يف 2ت�شرين الثاين/نوفمرب ،1917والذي �أدخل عن�صراً طارئاً على املنطقة باعطاء وعد بن�شوء كيان «دولة �إ�سرائيل» التي كان الق�صد منه ت�شكيل «ذارع» �أوروبي للهيمنة على املقدرات االقت�صادية املوجودة يف امل�شرق. 41
هنا ،بد�أت احلركة ال�صهونية جتني ثمار �سنوات من اجلهد ،وكان ثمرة ذلك لقاء جمع بني االمري في�صل ابن ال�شريف ح�سني (امللك في�صل الحقاً) وممثل احلركة ال�صهونية وقتها الربوف�سور حاييم وايزمان يف خيمته يف العقبة قبل زحف االمري على �شرق االردن ،ففي �أوا�سط حزيران/يونيو ملح و�ضغط متزايد من احلكومة الربيطانية ،داخل « 1918ا�ستقبل االمري الربوف�سور بعد طلب ّ خيمته امل�ضروبة على تلة تقع على ُبعد ب�ضعة �أميال �إىل ال�شمال من املدينة .ويقول ال�شهود �إن حاييم وايزمان �أكد لالمري في�صل �أن ال�صهيونيني ال ين�سون �أن يعملوا على �إن�شاء حكومة يهودية يف فل�سطني ،و�أن كل ما يرغبون فيه هو �أن ي�ساعدوا يف تطوير البالد ،قدر ا�ستطاعتهم ،دون �أذى ي�صيب امل�صالح العربية امل�شروعة». وكانت نتيجة مثل هذه اللقاءات توقيع اتفاق م�شرتك بتاريخ 3كانون الثاين/يناير 1919ن�شرت م�ضونه �صحيفة «التاميز» اللندنية عام ،1936اعرتف من خالله االمري بحق اليهود يف �أر�ض فل�سطني .هذا ن�ص االتفاق: (مقدمة)
«�إن �صاحب ال�سمو امللكي االمري في�صل ممثل اململكة العربية احلجازية بالعمل والنيابة عنها، والدكتور حاييم وايزمان ممثل املنظمة ال�صهونية والقائم باالعمال عنها ،و�إدراكاً منهما لقرابة الدم والروابط القدمية بني ال�شعبني العربي واليهودي ،واعرتافاً ب�أن الو�سائل االكيدة لتحقيق طموحاتهما الوطنية هو عرب التعاون الوثيق يف تطوير الدولة العربية وفل�سطني ورغبة منهما يف ت�أكيد التفاهم القائم بينهما اتفقا على ما ي�أتي: املادة االوىل :ت�سود العالقات وااللتزامات بني البلدين امل�شاعر الودية وال�صراحة والتفاهم ولتحقيق ذلك ف�إن ممثلني عرباً ويهوداً �سيتم تبادلهم يف كال اجلانبني. املادة الثانية :يتم بعد االنتهاء من مداوالت م�ؤمتر ال�سالم تقرير احلدود بني الدولة العربية وفل�سطني من قبل جلنة يتم االتفاق على ت�شكيلها بني الأطراف امل�شرتكة. املادة الثالثة :كل االجراءات املتفق عليها �سوف يبقي عليها الد�ستور وتتبناها حكومة فل�سطني و�ستتمتع احلكومة بكافة ال�ضمانات من �أجل الو�ضع مو�ضع التنفيذ ،وعد احلكومة الربيطانية ال�صادر يف ت�شرين الثاين .1917 املادة الرابعة� :سوف تتخذ جميع االجراءات الالزمة لت�شجيع وت�سريع هجرة اليهود �إىل فل�سطني على نطاق وا�سع وب�أ�سرع ما ميكن �سوف يتم توطني املهاجرين اليهود يف االر�ض من خالل �إقامة م�ستوطنات لهم وتكثيف ا�ستغالل االر�ض و�سوف ت�صان حقوق املزارعني وال�سكان العرب وتقدم لهم امل�ساعدات لتطوير اقت�صادهم. 42
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
املادة اخلام�سة :ال يجب �أن حتول �أو تتدخل �أية �إجراءات �أو قوانني ب�أية طريقة من الطرق يف ممار�سة املواطنني لدياناتهم و�سوف يتمتع املواطنون دائماً مبمار�سة طقو�سهم وعباداتهم بدون متييز او تف�ضيل وال يطلب من �أحد �أن ميتحن يف دينه من �أجل ممار�سة حقوقة ال�سيا�سية واملدنية. املادة ال�ساد�سة :تكون االماكن اال�سالمية املقد�سة حتت �إدارة �إ�سالمية. املادة ال�سابعة :تقرتح املنظمة ال�صهيونية �أن تر�سل جلنة من اخلرباء �إىل فل�سطني للقيام مب�سح للأماكن االقت�صادية يف البالد ولو�ضع تقرير حول �أف�ضل الو�سائل لتطوير هذه االمكانات و�سوف ت�ضع املنظمة ال�صهيونية اللجنة املذكورة يف ت�صرف الدولة العربية من �أجل القيام مب�سح اقت�صادي للدولة العربية وت�ضع تقريراً حول �أف�ضل الو�سائل لتطوير هذه االمكانات و�سوف تبذل املنظمة ال�صهيونية كل جهودها مل�ساعد الدولة العربية يف تطوير م�صادرها الطبيعية وامكاناتها االقت�صادية. املادة الثامنة :توافق االطراف املجتمعة هنا �أن تعمل يف ان�سجام ووفاق تام من اجل و�ضع امل�سائل التي بحثت يف م�ؤمتر ال�سالم مو�ضع التنفيذ. املادة التا�سعة :يلج�أ الطرفان يف ما قد ين�ش�أ من نزاع حول امل�سائل املتفق عليها �إىل احلكومة الربيطانية للتحكيم». 1
يروي لنا اخلبري يف االقت�صاد وال�سيا�سة اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح عن والده هاين (والذي واكب الثورة العربية وعر�ض عليه امللك في�صل تويل وزارة يف حكومته لكنه رف�ض) «�أن م�صطفى كمال �أتاتورك (عندما كان �ضابطاً يف اجلي�ش الرتكي) ات�صل بالأمري في�صل طالباً لقاءه يف اال�سكندورن، وذلك بعد دخول القوات العربية �إىل بالد ال�شام ،من �أجل التكافل والتعاون على طرد الفرن�سيني وحترير املنطقة منهم� ،إال �أن الأمري في�صل رف�ض اللقاء به .وبعد طرد في�صل من منطقة بالد ال�شام، جيء به �إىل العراق لقمع الثورات التي حدثت �ضد االجنليز يف حينها». هناك حمطة مهمة يجب اال�شارة �إليها هنا .انها جلنة كينغ-كراين التي �شكلها الرئي�س الأمريكي �آنذاك وودورد ول�سون ،خالل انعقاد م�ؤمتر ال�صلح يف باري�س عام ،1919بهدف الوقوف على ر�أي القاطنني يف املنطقة (لبنان�-سوريه-فل�سطني) .فلقد جاء تقرير اللجنة على �شكل «وثيقة �سيا�سية هامة على جانب كبري من املو�ضوعية والتفهم .واعتربها بع�ض امل�ؤرخني مرجعاً هاماً من مراجع الق�ضية الفل�سطينية يف تلك املرحلة .طالبت اللجنة يف تقريرها بوحدة �سورية ب�أقاليمها الثالثة فل�سطني ولبنان و�سورية ،مع �إعطاء لبنان حكماً ذاتياً يف �إطار الوحدة ال�سورية .وقالت �إن �سورية ال ترحب باالنتداب ،ولكنها ترحب باملعونة اخلارجية .واقرتحت �إعطاء االنتداب على �سورية 1
كتاب ال�صراع العربي اال�سرائيلي مل�ؤلفه جون نورثون مور ،نقال عن كتاب :املفاو�ضات العربية اال�سرائيلية -1949 1991ال�صادر عن املركز العربي لالبحاث والتوثيق ،الطبعة االوىل ،بريوت-لبنان� ،1992 ،صفحة.21-20 : 43
لأمريكا ،وعلى العراق لربيطانيا .وحذرت من فر�ض االنتداب الفرن�سي على �سورية .وقررت اللجنة �أن العداء لل�صهيونية ال يقت�صر على فل�سطني بل ي�شمل �سورية كلها ،و�أن هناك �إجماعاً على رف�ض الربنامج ال�صهيوين رف�ضاً باتاً .وجاء يف التقرير �أن اليهود فقط هم الذين ي�ؤيدون ال�صهيونية، و�أنهم ي�شكلون حوايل %10من ال�سكان الفل�سطينيني ،و�أنهم يتفقون على جعل فل�سطني وطناً قومياً لهم و�إن اختلفوا على بع�ض التفا�صيل والو�سائل املتعلقة بزمن �إقامة الدولة اليهودية ومدى ارتباطها بالدين اليهودي وغري ذلك .وقال التقرير �إن اليهود متفقون على �أن تكون بريطانيا هي الو�صية على فل�سطني لأنها �ست�ساعدهم يف حتقيق م�آربهم بت�سهيل الهجرة و�إباحة �شراء الأرا�ضي. واعرتفت اللجنة ب�أنها مل�ست بو�ضوح �أجماع ال�صهيونيني على �إجالء �سكان فل�سطني عن �أرا�ضيهم بعد جتريدهم منها ولو عن طريق ال�شراء .وحذرت اللجنة م�ؤمتر ال�صلح من جتاهل �شعور الأهلني العدائي جتاه ال�صهيونية .كما حذرت من نية بريطانيا تنفيذ الربنامج ال�صهيوين بالقوة امل�سلحة. وقالت �إن مطالب ال�صهيونيني يف فل�سطني مبنية على كونهم احتلوها قبل �ألفي �سنة ،وهذه دعوة ال ت�ستوجب االكرتاث واالهتمام .ثم �أوجزت اللجنة التو�صيات التالية بالن�سبة �إىل فل�سطني: )1وجوب حتديد الهجرة اليهودية �إىل فل�سطني والعدول نهائياً عن اخلطة التي ترمي �إىل جعلها دولة يهودية. � )2ضم فل�سطني �إىل دولة �سورية املتحدة لتكون ق�سماً منها �ش�أنها يف ذلك �ش�أن الأق�سام الأخرى. )3و�ضع الأماكن املقد�سة يف فل�سطني حتت �إدارة جلنة دولية دينية ت�شرف عليها الدولة املنتدبة وع�صبة الأمم وميثل اليهود فيها ع�ضو واحد. قوبل تقرير اللجنة مبعار�ضة �شديدة من فرن�سا وبريطانيا واحلركة ال�صهيونية .و�أما الرئي�س الأمريكي ول�سون الذي كان من �أ�شد املتحم�سني يف م�ؤمتر ال�صلح لإر�سال جلنة فقد قابل هو الآخر التقرير بعدم اكرتاث .ويعزو بع�ض امل�ؤرخني هذا التحول يف املوقف الأمريكي �إىل ال�ضغوط ال�صهيونية التي تعر�ض لها ول�سون ،و�إىل تدخل املخابرات الأمريكية يف الق�ضية الفل�سطينية ل�صالح ال�صهيونية. ولذلك ظل تقرير اللجنة طي اخلفاء �أكرث من ثالث �سنوات حتى �أذن الرئي�س الأمريكي ول�سون ب�إذاعته يف كانون الأول ».1922 يف املقابل ،يرى اخلبري اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح �إىل �أن تقرير جلنة كينغ-كراين (وفق معلومات لديه) «ت�ضمن ما يلي: �إن�شاء وطن قومي لليهود يف فل�سطني؛ �إن�شاء وطن قومي للم�سحيني يف لبنان؛ �إن�شاء وطن قومي للأرمن ميتد من البحر الأ�سود �إىل اال�سكندرون على �شكل «ر�أ�س ح�صان» 44
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
يف�صل بني امل�سلمني االتراك وامل�سلمني الباقني يف بالد ال�شام ،و�إعطاء الواليات املتحدة الو�صايا عليها ،لكن الأخرية رف�ضته لعدم جدواه ،فيما �أيدته كل من فرن�سا وبريطانيا. وهذا هو ال�سبب ،يف ر�أي اال�ستاذ �أبو م�صلح ،وراء ان�سحاب الواليات املتحدة من امل�ؤمترات وانكفائها عن املنطقة والعودة �إىل االهتمام بالقارة االمريكية وتطبيق مبد�أ مرنو». لقد �ساهمت �سايك�س-بيكو يف تفتيت املنطقة املوحدة بفعل اجلغرافيا �إىل دول ذات حدود م�صطنعة، وغري قابلة للحياة مبفردها ،ناهيك عن تقطيع �أو�صال الدولة الواحدة �إىل دويالت على غرار ما حدث يف �سوريه� ،إذ مت تف�سيمها �إىل �أربع دويالت :دم�شق ،حلب ،دولة العلويني ودولة الدروز. ويرى الباحث يف التاريخ اال�ستاذ ندمي حمزة �أن ثورة �سلطان با�شا الأطر�ش وبرغم ف�شلها «كانت من القواعد التي انطلقت منها بداية الوحدة ال�سورية �آنذالك� ».إ�ضافة �إىل ذلك ،يرى اال�ستاذ ندمي حمزة ب�أن االردن هو «�أكرث الكيانات امل�صطنعة يف امل�شرق ،حيث كان يعتمد على الدول اال�ستعمارية ب�شكل �أ�سا�سي ،وهو ما يف�سر بقاء قيادة اجلي�ش االردين بيد غلوب با�شا ،و�سيطرة االجنليز عليه حتى �شن العدوان الثالثي على م�صر عام ».1956 بعد �سقوط الدولة العثمانية ،مت تق�سيم �أرا�ضيها بني املنت�صرين يف احلرب ،و�أخرجت من مناطق تعتربها �ضمن �أرا�ضيها ولها حق ال�سيطرة عليها .ويرى الدكتور جمال واكيم ا�سا�س ذلك يف «ا�ستمرار تركيا باملطالبة باملو�صل وكركوك العراقيتني ،وال�سيطرة على اال�سكندرون هو نتيجة لذلك ».ومع ظهور احلركة «الكمالية» وقيام الدولة العلمانية على يد م�صطفى كمال اتاتورك والغائه للخالفة العثمانية ،ا�ستطاعت تركيا املحافظة على نوع من التمايز يف �شخ�صية فريدة بني امل�شرق واوروبا .يرى الدكتور جمال واكيم �أن «هناك العديد من العوامل التي �ساهمت يف �إبراز الهوية الرتكية اهمها: فر�ض الهوية فر�ضاً من خالل قيام امل�ؤ�س�سات كافة؛ وجود الدين اال�سالمي كدين جامع لغالبية مواطنيها؛ النجاح يف خلق لغة م�شرتكة (لغة تركية وحروف خا�صة)». ويرى اال�ستاذ ندمي حمزه «�أن احلفاظ على تركيا كان من م�صلحة الدول اال�ستعمارية ب�شكل مبا�شر �أو غري مبا�شر بناء على املرتكزات التالية: اعتبار العلمانية «دين» واجلي�ش حامي النظام؛ االندفاع الرتكي نحو �أوروبا اليوم وال�سعي �إىل الدخول يف احتادها؛ 45
ان�ضمام تركيا �إىل حلف �شمال االطل�سي (الناتو) واعتبارها موقعاً متقدماً له؛ ن�شر ق�سم من الدرع ال�صاروخي للحلف على �أرا�ضيها موجه نحو ال�شرق». .2الآثار االقت�صادية
مع مرور الزمن ،يت�ضح جلياً ب�أن الهدف الكامن وراء �إقرار �صك االنتداب على امل�شرق العربي هو اال�ستعمار بلبا�س قانوين دويل لل�سيطرة على هذه املنطقة احليوية من العامل وتفكيكها �إىل كيانات لي�سهل التعامل معها ،وهي التي تختزن العديد من الرثوات الطبيعية واعتبارها عقدة املوا�صالت بني ال�شرق والغرب. بالن�سبة �إىل االقت�صاد ،يتحدث اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح ،وبرغم قلة املعلومات املتوافرة عن هذه املنطقة يف تلك الفرتة الزمنية ،عن الرتابط يف االقت�صاد بني لبنان وفل�سطني ،فلقد كانت هناك «عالقات اقت�صادية زراعية خ�صو�صاً مع ا�شتهار الفل�سطينيني بالزراعة وحتديداً احلم�ضيات ،وظهر ذلك بعد ن�شوء الكيان «اال�سرائيلي» وتهجري الفل�سطينيني �إىل لبنان والدول املجاورة� ،إذ �ساهمت خربة اليد العاملة الفل�سطينية يف الزراعة اللبنانية ب�شكل مبا�شر وكبري ،كذلك الطافات الب�شرية يف املو�ضوع االقت�صادي حيث مت ت�أ�سي�س عدد من امل�صارف (بنك �أنرتا ل�صاحبه يو�سف بيد�س) التي مازال بع�ضها م�ستمر يف املل حتى اليوم (البنك العربي ،بنك عودة)». كما يذكر اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح الرتابط االقت�صادي بني كل من لبنان و�سوريه الذي «عرب عنه وجود بنك مركزي م�شرتك ال�صدار العملة ،وجهاز جمركي موحد �إىل �أن انف�صال يف العام ،1952 ب�سبب اختالف وجهات النظر االقت�صادية وتركيز كال الدولتني على منط معني من االقت�صاد، حيث ظهرت يف لبنان «برجوازية جتارية» ت�ستند �إىل تاريخ لبنان واحرتافه التجارة منذ القدم (الفنيقيني) وهو ما ا�ستفاد منه مرحلياً يف بدايات ال�صراع «العربي-اال�سرائيلي» كممر للم�شرق، بينما يف �سوريه «برجوازية انتاجية» (زراعية و�صناعية) جعل لها قوة اقت�صادية مبنية على االقت�صاد املوجه املنتج بدال من االعتماد على االقت�صاد الريعي» .ومن �أبرز االمثلة على ذلك ت�أ�سي�س ال�شركة الوطنية ل�صناعة اال�سمنت ومواد البناء عام 1930يف دمر قرب دم�شق ،وت�أ�سي�س �شركة املغازل واملنا�سج ،وان�شاء املرافئ التجارية على غرار ميناء الالذقية الذي �أ�صبح يناف�س ميناء بريوت. ال �شك ب�أن تفتيت املنطقة وتدمري اقت�صادها كانا من �أهم �أ�سباب �إيجاد الكيان «الإ�سرائيلي» ،وهو عالوة على ذلك �أي�ضاً اع ُترب الذراع الع�سكرية للغرب يف لل�سيطرة على ثروات امل�شرق او على االقل منع �أ�صحابها من ا�ستغاللها ،وهو ما ت�ؤكده احلقائق التاريخية لكون بريطانيا من م�ؤ�س�سي 46
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
هذا الكيان باعطاء وعد بلفور وو�ضع فل�سطني حتت �سيطرتها وت�شجيع الهجرة اليهودية اليها ،لرتثه الواليات املتحدة بعد �سقوط اال�ستعمار الربيطاين والفرن�سي غداة العدوان الثالثي على م�صر عام .1956 وتقع �أهمية امل�شرق �أي�ضاً يف كونه ي�شكل جزءاً من «طريق احلرير» التاريخية التي ت�صل ال�شرق االق�صى ب�أوروبا ،فهو عقدة املوا�صالت بني ال�شرق والغرب ،والتي تالقت عليه �أطماع الدول الكربى .فمن ي�سيطر على هذا اجلزء ي�ستطيع التحكم بتجارة العامل ،ناهيك عما يختزن من ثروات اكت�شفت �سابقاً ومت الك�شف عنها اليوم .وهذا ما يف�سر ال�صراع احلايل على املنطقة وحماولة ال�سيطرة عليها ،فما ي�شهده امل�شرق اليوم من هجوم عليه تعود �إىل �أنه ميثل عقدة موا�صالت للطاقة واداة للتحكم ب�أوروبا حتديداً من خالل تزويدها مبا حتتاجه حلياتها اليومية يف كافة املجاالت. �أما �أحد �أهم �أ�سباب ال�صراع على امل�شرق بعد احلرب العاملية االوىل فيتلخ�ص يف النفط �أو «الذهب اال�سود» .ولقد كان العراق من �أبرز الدول امل�شرقية التي ظهر فيه النفط حينها ،لهذا مت االتفاق بني كل من فرن�سا وبريطانيا على تقا�سمه .ففي «عام � 1918أ�صبح مو�ضوع النفط طاغيا .وبح�سب االتفاق ت�سيطر فرن�سا على املو�صل حيث يوجد خمزون كبري لكن الربيطانيني يح�صلون على االمتيازات النفطية .اراد جورج كليمن�صو تلبية �ضغوط املجموعات اال�ستعمارية لكن بتحديد ال�سيطرة الفرن�سية يف «�سوريا املفيدة» التي ال ت�شتمل على فل�سطني ولكن ت�سمح بالو�صول �إىل املوارد النفطية .فالتو�سع املفرط على االر�ض من �ش�أنه زيادة الكلفة االدارية ب�شكل ال يتنا�سب ت�سمى مع العائدات املحتملة .كان ذلك مبثابة التخلي عن �سوريا الكاملة �أو «�سوريا الكربى» كما ّ اليوم .وغداة الهدنة راح كليمن�صو يتفاو�ض مبا�شرة مع لويد جورج حول تق�سيم ال�شرق االو�سط يف غياب اي �شهود». يذكر الباحث حيدر على الدليمي �أنه وعندما «و�ضعت احلرب العاملية الأوىل �أوزارها ا�ستطاع الباحثون عن النفط �أن يكت�شفوه يف املناطق القريبة من ايران واملتاخمة للعراق ،وكان ال�سيا�سيون االوربيون يقت�سمون �أمالك الدولة العثمانية التي انح�سرت �إىل تركيا احلالية ،ال بل �إن بريطانيا وفرن�سا �أعادتا بعد �أنت�صارهما يف احلرب العاملية الأوىل وبالتحديد يف نهاية اكتوبر/ت�شرين الأول من عام 1918نقل والية املو�صل من �سيطرة النفوذ الفرن�سي �إىل الربيطاين بد ًال من �سوريا ب�شرط منح الفرن�سني ح�صة يف نفط املو�صل ،وهكذا مت اعداد اتفاقيات بريينغر -لونغ و�سان رميو و�سايك�س بيكو ...ورغم تفجر النفط بكميات كبريه يف �أكتوبر /ت�شرين الأول 1927من بئر بابا كركر يف منطقة كركوك �إال �أن عملية �أنتاج النفط ت�أخرت حتى بداية الثالثينات �أي �إىل حني االتفاق ثم االنتهاء من مد �أول خطوط نقل النفط غرباً باجتاه �سوريا ولبنان واللتان كانتا خا�ضعتان للأنتداب الفرن�سي ...كانت ح�صة الدولة العراقية احلديثة (�شلنات عن الربميل الواحد) ظلت تزداد حتى نهاية احلرب العاملية الثانية حتى و�صلت �إىل ما يقارب الدوالر الواحد عن كل برميل». 47
.3الآثار االجتماعية
لعب اال�ستعمار على الوتر الطائفي وا�ستغل ذلك كله يف خدمة م�صلحته ،فبث الفرقة يف املجتمع وبني �أفراد البيئة الواحدة .و�أبرز مثال على ذلك تق�سيم �سوريه �إىل�أاربع دويالت على �أ�سا�س ديني (الدولة العلوية والدولة الدرزية) حماو ًال بذلك �ضرب قدرة الوطنيني ومنعهم من جتميع قواهم لطرد اال�ستعمار من البالد .كما �أ�س�س لكيانات م�صطنعة (لبنان�-سورية) مع �أن هناك العديد من الروابط ،وخا�صة الأ�سرية منها ،التي جتمع بني البيئتني .وما بني �سوريه والعراق لي�س �أقل �أهمية، فالقبائل املنت�شرة بني الكيانني والتي كانت جتوب املنطقة ال تعرتف مبثل تلك احلدود ،فهي وعلى مر عقود من الزمن كانت تعرب هذه املناطق وتعتربها ار�ضاً واحدة. �أ�ضافة �إىل ذلك� ،أيقظ اال�ستعمار الطائفية واملذهبية بني �أبناء البيئة الواحدة والتي اعتمد عليها منذ قرون لتثبيت مكانته يف املنطقة (فلقد حمت فرن�سا على �سبيل املثال املوارنة يف لبنان)، وجعلها مكر�سة قانوناً وعرفاً .ولعل لبنان من �أبرز الأمثلة احلية على ذلك ،وظهر من خالل قانون االنتخابات النيابية الذي �أعطى للم�سيحيني مقاعد نيابية زيادة على املقاعد النيابية للم�سلمني كونهم كانوا ي�شكلون �أغلبية عددية بح�سب �إح�صاء عام .1932وتكر�س هذا الو�ضع �إىل يومنا هذا، ولكن بامل�ساواة بني كال الطائفتني .وهناك حادثة من املهم اال�شارة �إليها يف هذا ال�سياق متثلت يف تعليق املفو�ض ال�سامي هرني بون�سو للد�ستور بعدما تر�شح ال�شيخ حممد اجل�سر ملن�صب رئي�س اجلمهورية ،هذا من جانب. من جانب �آخر ،يتمحور التغيري الدميغرايف الأبرز يف وجود الكيان «اال�سرائيلي» و�إن�شائه على �أ�سا�س ديني (و�سعي قادته الد�ؤوب اىل ك�سب اعرتاف دول العامل به على �أ�سا�س ديني) ،والذي �أخذ امل�شرق �إىل ناحية وجودية خطرة ،و�أوجد �صراعات ق�سمت املق�سم فيه� .إن للهجرة اليهودية �إىل فل�سطني الأثر الكبري يف نزاعات املنطقة كونها غريبة عن بيئته ،تغذية «�إ�سرائيل» لل�صراعات الداخلية واال�ستفادة منها بهدف «تفتيت املفتت» (احلرب اللبنانية ودخولها كحليف وممول وم�ساند لطرف �ضد �آخر) ،وبث روح النقمة على املهجرين الفل�سطينيني يف الدول التي جل�أووا �إليها حيث دارت معارك �شر�سة (تل الزعرت يف لبنان ،حرب املخيمات يف لبنان ،وجمزرتي �صربا و�شايتال) ،جعلت من ال�صديق عدواً ،وغريت البو�صلة من ال�صراع «العربي-اال�سرائيلي» (والذي هو اال�سا�س مل�شكلة الفل�سطينيني) �إىل �صراع عربي-عربي ،و�صراع طائفي-طائفي كان جل امثلته ما حدث يف لبنان من حرب �أهلية ( )1990-1975ق�ضت على الكثري من الروابط االجتماعية بني النا�س.
48
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
خال�صة
�إن االحداث الدولية احلا�صلة يف يومنا هذا متهد �إىل �سقوط اتفاقية �سايك�س بيكو ،و�إن�شاء و�ضع دويل جديد على ال�ساحة الدولية خ�صو�صاً بعد ظهور تطورات جديدة تتمثل يف عدد من االمور: التوجه االمريكي اجلديد «�إىل ال�شرق» وحماولة ترتيب ملفاتها يف املنطقة لعدد من االهداف �أهمها �ضمان �أمن «�إ�سرائيل» وترك �صداقات مع دول نا�صبتها العداء (اجلمهورية اال�سالمية يف �إيران واتفاق جنيف 2013حول امللف النووي االيراين)؛ ت�ضا�ؤل اهتمام الواليات املتحدة باخلليج بعدما االكت�شافات النفظية ال�ضخمة فيها؛ ت�ضا�ؤل �أهمية امل�ضائق الدولية املوجودة يف املنطقة مع الوقت (م�ضيق هرمز ،باب املندب ،قناة ال�سوي�س) لناحية املوارد الطبيعية واالجتاه �إىل مد �شبكة من االنابيب تكون بديال عنها واكرث �أماناً خ�صو�صاً يف االزمات؛ اعتماد طرق موا�صالت جديدة تغني عن الطرق املعتمدة يف امل�شرق ،ومثال ذلك اخلط البحري التي تعتزم رو�سيا اعتماده �إىل �أوروبا عرب املحيط املتجمد ال�شمايل بوقت وم�سافة �أقل؛ �سري الن�سق الدويل يف «ال قطبية دولية» بعدما كان لأكرث من عقد ي�سري �ضمن قطبية واحدة (الواليات املتحدة) ،وهذا الواقع الدويل اجلديد يعترب من �أخطر االو�ضاع كون امل�ستقبل مل يتبلور بعد ،وعادة ما ي�صعب التنب�ؤ مبا �سيحدث من تطورات يف مثل هذه الظروف. ال تزال بع�ض من نتائج احلرب العاملية االوىل ت�سيطر على امل�شرق وت�ؤثر فيه ،فهل نحن امام �صراعات جديدة مقبلة على امل�شرق خ�صو�صاً مع احداث «الربيع العربي» التي اجتاح العديد من دوله؟ هل بقيت ال�سيا�سات الدولية كما هي ولكن تغريت طريقة التعاطي مع االحداث؟ هل هناك من خطوات يجب اتخاذها على �صعيد الدول وال�شعوب من �أجل تغيري هذا الواقع الدويل و�إقامة واقع جديد يتالئم مع املنطقة وطبيعتها؟ هل تكون االحداث التي �أملت وتلم به اليوم مدخال لقيام م�شرق جديد؟ �أ�سئلة بر�سم امل�ستقبل.
49
املراجع:
-
- -
فواز طرابل�سي ،تاريخ لبنان احلديث من االمارة �إىل اتفاق الطائف ،الطبعة الثالثة ،دار ريا�ض الري�س للكتب والن�شر ،بريوت لبنان.2011 ، نيل غرانت ونركي ال�ضاهر� ،صراعات القرن الع�شرين � 2000-1900صور و�أحداث ،تعريب �أياد ملحم ،الطبعة االوىل ،دار ال�شفى للطابعة والن�شر ودار احل�سام للطباعة والن�شر والتوزيع ،بريوت لبنان.2001 ، املفاو�ضات العربية -اال�سرائيلية ،1991-1949الطبعة االوىل ،املركز العربي لالبحاث والتوثيق ،بريوت - لبنان.1992 ، الك�سندر دوغني� ،أ�س�س اجليوبوليتيكا -م�ستقبل رو�سيا اجليوبوليتيكي ،ترجمة وتعريب د .عماد حامت ،دار الكتاب اجلديد املتحدة ،بريوت لبنان.2004 ، موريال مرياك -فاي�سباخ وجمال واكيم ،ال�سيا�سة اخلارجية الرتكية جتاه القوى العظمى والبالد العربية منذ � ،2002شركة املطبوعات للتوزيع والن�شر ،بريوت لبنان ،الطبعة االوىل .2014 مقابلة خا�صة مع الدكتور جمال واكيم (بع�ض الفقرات املتعلقة برتكيا) �أجريت يف .2013/11/26 مقابلة خا�صة مع الباحث يف التاريخ اال�ستاذ ندمي حمزة �أجريت بتاريخ .2013/11/28 مقابلة خا�صة من اخلبري االقت�صادي وال�سيا�سي اال�ستاذ غالب �أبو م�صلح �أجريت بتاريخ .2013/11/30 علي �صبح ،ال�سيا�سات الدولية بني احلربني العامليتني ،1939-1914الطبعة االوىل ،دار املنهل اللبناين ،بريوت لبنان.2003 ،دزموند �ستيورت ،تاريخ ال�شرق االو�سط احلديث معبد جانو�س ،تعريب زهدي جار اهلل ،الطبعة الثانية ،دار النهار للن�شر.1981 ، املجتمع العربي والق�ضية الفل�سطينية ،عدد من الكتاب ،دار النه�ضة العربية للطباعة والن�شر ،بريوت-لبنان.1971 ، مطيع النون ،نقاط للتاريخ يف العالقات اللبنانية ال�سورية ( :)2الزعيم هدد بقطع االت�صاالت...وخالد العظم �أعلن االنف�صال اجلمركي فوقع اخلالف االول ،جريدة احلياة ،2005/2/11على الرابط التايل: http://saidacity.net
هرني لورن�س ،كيف جرى تق�سيم ال�سلطنة العثمانية ،على الرابط التايل: -حيدر على الدليمي ،نبذة عن نفط العراق ،احلوار املتمدن ،2011/4/4 ،على الرابط التايل:
http://www.mondiploar.com
http://www.ahewar.org
علوان نعيم �أمني الدين ،اجلرف االورا�سي :حمور ال�صراع الدويل ،2013/11/14 ،على الرابط التايل:http://www.khabaronline.com
علوان نعيم �أمني الدين� ،أنابيب الطاقة :الت�أثريات اال�سرتاتيجية على املمرات الدولية ،2013/11/19 ،علىالرابط التايلhttp://www.khabaronline.com : -علوان نعيم �أمني الدين ،هل انتهى دور «الكيان اللبناين؟» ،2013/10/2 ،على الرابط التايل:
- 50
http://www.khabaronline.com www1.amalnet.k12.il http://www.group194.net http://ar.wikipedia.org
2014 – 1914
مئوية احلرب العاملية الأوىل
عن احلرب العاملية والفن وبريوت �أمني البا�شا -فنان ت�شكيلي وكاتب
عندما انتهت احلرب العاملية االوىل و�ساد ال�سالم اله�ش ب�ضع �سنوات وقعت احلرب العاملية الثانية ،ووقع الهم الكبري يف العامل العربي وخا�صة يف �سوريا الطبيعية� ،إذ �أر�سل الغرب نا�ساً ملمومني من ال�شرق االوروبي وغربه ليحتلوا فل�سطني ،وما زلنا يف حروب وخالفات �إىل اليوم، منذ وجود «�إ�سرائيل» الغرب ،امريكا واوروبا ت�ساعد هذه «الدولة» ومتّدها باملال وبال�سالح وبال�سيا�سة .ن�ستطيع �أن نقول �إن الغرب حتت �أمرها وليموت العرب يف غيظهم .ال ّبد من هذه املقدمة «فنب غوريون» عندما احتلت فل�سطني �أ ّول ما �أمر بالبناء ،بناء متحف «لإ�سرائيل» .واجلدير بالذكر �أن الفن احلديث l’art moderneقد ظهر يف باري�س على يد Picassoبيكا�سو وماتي�س ،Matisseواول امل�شجعني لهما هم العائالت اليهودية الرثية ..عائلة �شتاين Steinوعائلة غوغنهامي ،Gyuggenheimوهذه الأخرية متاحفها يف اكرث بلدان العامل من اخلليج العربي. �إبان احلرب العاملية االوىل كانت باري�س يف �أوج ن�شاطها وازدهارها ،الفنون جميعاً مزدهرة فيها ،من ر�سم ومو�سيقى و�أدب و�شعر ،وكان ي�ؤمها فنانون من العامل �أجمع ،من ال�شرق ومن الغرب .ومنهم ( Pablo Picassoبابلو بيكا�سو) الفنان العاملي ال�شهري الذي كان يتنقل من بر�شلونا �إىل باري�س �إىل �أن ق ّرر املكوث يف باري�س حيث ت�ألفت جمموعة من الفنانني وكان يرت�أ�سهم ب�شخ�صيته وبجر�أته وبفنه اجلديد .هنا ،ال بد من ذكر الكبري «هرني ماتي�س» الر�سام املثقف الذي �أوجد طريقاً جديدة يف الت�أليف والتلوين والذي عاي�ش وعا�شر بيكا�سو والذي �أثّر لونياً ببع�ض �أعمال هذا الأخري... هنا ال نن�سى �أن بيكا�سو هو �أندل�سي ...وبقي ا�سبانياً حتى مماته يف باري�س ،بعد ان طبع فن القرن الع�شرين بطابعه وتاركاً ت�أثريه بالفن والفنانني واالجتاهات الفنية. لبنان و�سوريا وم�صر مل يكونوا غرباء عما يجري يف باري�س ،و�إن كان �أكرثهم مل ميا�شوا ومل يت�أثروا مبا يح�صل يف مدينة الفن ،بل تو�صلوا فقط �إىل مرحلة «االنطباعية» ،ار�ضا ًء للربجوازية اللبنانية التي ال تر�ضى �سوى بهذه املرحلة من الفن. من الر�سامني الذين هاجروا �إىل اوروبا �أذكر عمر الأن�سي ،م�صطفى فروح� ،صليبا الدويهي وقبلهم 51
جربان خليل جربان �إىل �أمريكا حيث كتب ور�سم بعد درا�سته الفن يف باري�س .وميخائيل نعيمه يف رو�سيا ،والنحات احلويك وغريهم ،ويف �أوائل اخلم�سينيات من القرن الع�شرين كرث عدد من راح �إىل باري�س وروما ،يف ذلك الوقت افتتحت يف بريوت �صاالت للعر�ض وكرثت املعار�ض وال�صالونات ال�سنوية فيها ،و�أ ّم بريوت فنانون �أوروبيون للعر�ض يف مدينة بريوت التي �أ�صبح ا�سمها معروفاً يف العامل الفني الأوروبي ،وال بد من ذكر افتتاح االكادميية اللبنانية للفنون اجلميلة بوا�سطة الك�سي بطر�س وبع�ض املرا�سم منها مر�سم «الر�سام �سرور» والر�سام الوافد من �أمريكا خليل ال�صليبي. يف ال�شعر والأدب ملع ا�سم ال�شاعر جورج �شحاده يف باري�س ويف لبنان حيث �أتى �أواخر عمره و�سكن يف بريوت مع زوجته الفرن�سية. كان لالر�ساليات االجنبية و�سفاراتها دور يف �إقامة املعار�ض وتقدمي املنح� .أذكر منها �سفارة فرن�سا وايطاليا وا�سبانيا .ويف �صالونات هذه ال�سفارات كانت تقام معار�ض مهمة� ،أذكر �سفارة �أو املركز الثقايف اال�سباين حيث ر�أيت ر�سوم وحمفورات العبقري « غويا» . ال بد هنا من القول ب�أن االر�ساليات االجنبية التي حلت يف بريوت كان لها دوران ،دور ثقايف ودور �سيا�سي� .إذ �أن اجلامعة االمريكية �أتت حاملة معها لغتها ولهجتها وتفكريها وفكرها وطريقة عي�شها، ف�أ�صبح اللبناين «املتعلم» يتكلم الفرن�سية واالنكليزية والطليانية ،ومن هاجر �إىل �أمريكا الالتينية هرباً من الفقر عاد باللغة اال�سبانية وهذا عال ،فاللبناين يحب اللغات! لكن لبنان �أ�صبح كربج بابل! وامل�ضحك ان �أكرث اللبنانيني ال يتفوهون بجملة اال ويدخلوا فيها yes , so , of course, .ok , noغري هذه الكلمات العبقرية� ..أما اللغة العربية ،لغة االم ،فال �أم لها وال �أب .ناهيك عن االذاعات والتلفزيونات واملقدمني واملقدمات الذين ميزجون العربية بكل ما يعرفون من لغة �أجنبية ..وال من ينتقد وال من رقيب» �أو ح�سيب. وك�أن اللبناين اليوم يرف�ض حاله ،يرف�ض نف�سه ،يرف�ض لغته� ،إال �إذا �شتم و�سب ،فلغته ٍ عندئذ وا�ضحة جداً ومعربة جداً... بريوت بالن�سبة للفنانني العرب كانت كباري�س بالن�سبة للفنانني اللبنانيني .العرب الذين يبحثون عن ال�شهرة كانوا ي�أتون �إىل بريوت ،وي�ؤمون مقاهيها خا�صة مقهى« :الهور�س �شو» املقهى الذي كان مكاناً للقاء الر�سامني وال�شعراء واملو�سيقيني،فرتى الفنان الفل�سطيني وامل�صري والعراقي وال�سوري تعج بال�شعراء والك ّتاب والفنانني وال�صحافيني وال�سوداين .فاملقاهي يف تلك املرحلة كانت ّ وامل�سرحيني ،كانت بريوت بحق يف اخلم�سينات وال�ستينات حتى �أوائل ال�سبعينات باري�س يتجدد فيها واملجالت االدبية� .أما يف جتديد ال�شرق ،يف �صاالتها ومعار�ضها والكتب وال�شعر الذي ّ وحتديث ال�شعر فهو جمرد رف�ض ما�ضي ال�شعر العربي وكان حمارب َا من فئة من ال�شعراء الذين 52
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
رف�ضوا كل ما هو �شعر كال�سيكي عربي .للأ�سف �أقول ..لأين كنت من حم ّبي ال�شعر ...ال�شعر.. �سموه ال�شعر املنثور ..فال�شعر �شعر والنرث نرث. القوايف ولي�س ما ّ قلت �إن من كان يبحث عن ال�شهرة من ال�شعراء والر�سامني العرب كان ي�أتي �إىل بريوت ،من الر�سامني العراقي �ضياء العزاوي ،والرافعي و�آل �سعيد وغريهم� ،أما من كان ن�شيطاً بينهم فهو ال ّعزاوي� .أما ال�شعر فقد �أتى من قرية �سورية �أحمد علي �سعيد�( ،أعتقد هذا ا�سمه احلقيقي) مر�س ًال قبل جميئه �إىل بريوت ق�صيدة بهذا اال�سم .فرف�ضت ،لكنه ولأنه ذكي ويعرف كيف يتعامل� ،أر�سل نف�س الق�صيدة با�سم �أدوني�س فقبلت ..و�أ�صبح �أدوني�س ال�شاعر العبقري واملفكر الكبري والفيل�سوف الذي ال ي�ضاهيه فيل�سوف واملنتظر جائزة نوبل ..واالنتظار طال.. هنا ال بد من ذكر هجرة ر�سامني و�شعراء وم�سرحيني من قراهم اللبنانية و�سكنوا بريوت واختلطوا بالفنانني البيارته والفنانني الآتني من كل القرى اللبنانية والعربية واملدن. كل هذه املجموعات جعلت من بريوت مزدانة بافكار وثقافات ح ّولتها �إىل خمترب فكري وف ّني �إىل ان ظهرت بوادر احلرب االهلية اللبنانية التي هدمت كل �شيء ،كل حرف ،كل لون ،كل فكر، وبقيت بريوت الآن .حتى الآن �أحرفها مغلوطة ،و�ألوانها و�سخة ،وفكرها بال فكر.
53
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
2014 – 1914
مئوية احلرب العاملية الأوىل
الوجه الثّقا ّ امل�رشقي يف احلرب الأوىل يف ّ
«دمعة وابت�سامة»
ل�ؤي زيتوين -باحث و�أكادميي
تعدتها ال�سيا�س ّية واالقت�صاد ّية ،بل ّ مل تكن ت�أثريات احلرب العامل ّية الأوىل مقت�صر ًة على اجلوانب ّ م�ست كافّة جماالت ال ّن�شاط �إىل جوانب ثقاف ّية وف ّن ّية متن ّوعة ،لتتح ّول �إىل نقطة حت ّولٍ جذر ّي ًة ّ ٍ تغيريات يف بنية الفكري� ،إىل جانب ما �شهده العامل عموماً وامل�شرق خ�صو�صاً من ين االن�سا ّ ّ الدول ّية .ومن هذا املنطلق ،ال ّبد من ال ّنظر �إىل يا�سي والع�سكري ،ويف لعبة ال ّتوازنات ّ ّ ال ّنفوذ ّ ال�س ّ اريخي لي�س بو�صفه بداية مرحل ٍة جديد ٍة بال ّن�سبة مل�ستقبل الأمم �آنذاك فح�سب، هذا احلدث ال ّت ّ لكن بو�صفه حلظ ًة تاريخ ّي ًة حا�سم ًة لناحية الت�أثري يف وجود الإن�سان وكيانه؛ وبال ّتايل يف نتاجاته الفن ّية ،والأدب ّية منها ،ا�ستناداً �إىل تك ّون ر ً�ؤى جديد ًة نحو احلياة والكون ّ والفن ،وذلك تبعاً لل ّتغيرّ وبناء عليه ،ميكن مقاربة احل�ضور الأدبي وخ�صائ�صه �إ ّبان احلرب اجلغرا ّيف واالجتماعي ّ وال�س ّ ّ يا�سيً . العامل ّية الأوىل ،ال �س ّيما يف البالد امل�شرق ّية. العاملي �شهد انحرافاً كبرياً يف مفاهيمه �آنذاك� ،إذ �أ ّننا ّ والبد يف البداءة من الإ�شارة �إىل �أنّ الأدب ّ أدبي جديدٍ يعبرّ عن الي�أ�س من ما و�صلت �إليه نعرث يف مرحلة احلرب تلك على والدة ٍ مذهب � ٍّ ين الدادائ ّية التي عبرّ ت عن عبث ّية الوجود الإن�سا ّ الإن�سان ّية يف جمال القتل والفتك ،وهو مذهب ّ ال�سوريال ّية� .إ�ضاف ًة �إىل �أنّ هذه احلقبة ٍ ب�شكل ّ خا�ص ،عرب حركة «دادا» التي حت ّولت يف ما بعد �إىل ّ الفردي عرفت ن�شاط احلركة ال ّتعبري ّية الأملان ّية التي �أ�سهمت يف خلق خ�صو�ص ّية �أكرب للإبداع ّ الغربي مرحلة ما بعد احلداثة .ولن نن�سى يف هذا أدبي ّ يف الأدب ،والتي �س ّهلت دخول النتاج ال ّ للدرا�سات ال ّلغو ّية التي �أ�س�ست لعلم ال�سياق �أن نذكر ما حملته تلك املرحلة ال ّزمن ّية من ظهو ٍر ّ ّ الدرا�سة الأدب ّية القائمة الأل�سن ّية العا ّمة ،وال ّت�أثري الذي �أتت به جلهة �إف�ساح املجال �أمام ن�شوء مناهج ّ حتد ٍ يات خللق اجلديد يف ال ّتعبري. أدبي �أمام ّ على العنا�صر ال ّلغو ّية ،وهو الأمر الذي و�ضع الإبداع ال ّ احل�ضاري-الثّقا ّيف الذي كان قد بلغه الغرب �آنذاك مل يكن قد بلغته البالد العرب ّية، �إ ّال �أنّ ال ّتط ّور ّ وبال ّتايل ف�إنّ الواقع الذي كان �سائداً يف امل�شرق مل يكن م�ؤ ّه ًال بعد لتلقّف تلك احلركات التي احل�ضاري الذي �سيطر على هذه البالد تو ّلدت يف تلك املرحلة ،ولذلك ينبغي ال ّنظر يف الواقع ّ ح ّتى ّ نتمكن من ا�ستيعاب طبيعة الوجه الثّقا ّيف للحرب العامل ّية الأوىل هنا. 55
احل�ضارية ما قبل احلرب -1املرحلة ّ
ين ،قد بد�أت تخرج لت ّوها من كانت البلدان امل�شرق ّية التي ان�ضوت لقرونٍ طويل ٍة حتت احلكم العثما ّ العربي ع�صر اجلمود وانعدام االنتاج ،وهو الع�صر الذي ُعرف بـ «االنحطاط» .فقد تراوح ال�شّ عر ّ بني تقليد املعاين القدمية وبني االهتمام بال ّزرك�شة وال ّزخارف ال ّلفظ ّية وال ّت نّفن يف �أ�ساليب البديع التي تطغى على الفكرة يف معظم الأحيانّ ، «وظل ال�شّ عر العربي يدور يف هذا الفراغ ،جم ّرتاً ّ املعاين القدمية �ساتراً عوراته بال ّزرك�شة ح ّتى �أواخر القرن ال ّتا�سع ع�شر. »... العربي يف ذلك القرن� .إذ ميكننا ميكننا يف هذا ّ ال�سياق �أن نر�صد عمل ّية ال ّتط ّور التي م ّر بها الفكر ّ �أن نالحظ مرحل ًة �أ ّول ّي ًة متثّلت يف عمل ّية رد الفعل على الثّقافة الغرب ّية وحماولة فهم معايريها .تبعتها العربي .وانتهت مرحلة ال ّن�شاط الفاعل للإر�سال ّيات الأجنب ّية ،وبال ّتايل ظهور حال من ال ّتنوير ّ بخ�ضوع غري مبا�شر لل ّنفوذ الغربي �أو ّ بت�شكل �أقاليم �إقطاع ّية� ،إىل جانب تنامي �أفكا ٍر م�ستق ّلة ٍ ري. ر ح ت ال العمل وحول ة ي ين الد أو � ة ي القوم االجتاهات حول ر تتمح ّو ّ ّ ّ ّ ّ ّ �إ ّال �أنّ ذلك املدى ّ العربي يف االنحطاط ،وبفعل هذا ال ّتط ّور يف الفكر الطويل الذي عا�شه ال�شّ عر ّ جيل الحقٍ قاد ٍر على ال ّنهو�ض العربي� ،شهد بع�ض املحاوالت التي �أف�سحت يف املجال �أمام ٍ ّ ال�صعيد ،ميكننا �أن نقر�أ بع�ض ال ّتجارب التي عملت هذا وعلى جديد. من عجلته ودفع عر بال�شّ ّ وال�ضعف التي رزحت حتتها طيلة ع�صورّ . ولعل �أبرزها على تطوير ال ّلغة ورفعها عن حال ال ّركاكة ّ جتربة نا�صيف اليازجي الذي ُيعزى �إليه الف�ضل يف �إحياء ال ّلغة العرب ّية« ،فقد عمل على بعثها من قرب ال ّركاكة وال ّرطانة .فهو من هذه ال ّناحية ال ّلغو ّية فقط �أ�سهم بطريقة غري مبا�شرة يف ن�شوء ال ّنه�ضة ال�شّ عر ّية احلديثة» . 1
2
العربي قبل احلرب قيامة الأدب ّ
ٍ متعدد ًة لل ّنهو�ض يف الأدب ،منها ما على �أنّ املرحلة التي �أعقبت ذلك �شهدت حماوالت ّ ال�سائد .فنعرث على مل ُيك َتب له ال ّنجاح ،ومنها ما ّمتكن من �إحداث خرقٍ مه ٍّم يف اجلمود ّ ٍ العربي ،وبال ّتايل �إىل �إخراج ال�شّ عر من دائرة كلي يف ال�شّ عر ّ حماوالت �ساعية �إىل ال ّتغيري ال�شّ ّ اخلليلي ح�سون بال ّنظم على الوزن ال�س ّ وري رزق اهلل ّ اجلمود والزخرفة .ومنها جتربة ال�شّ اعر ّ ّ املر�سل» ،وذلك يف ديوانه «�أ�شعر ال�شّ عر» الذي �صدر يف دون قافية ،وهو ما ُيط َلق عليه «ال�شّ عر َ لندن عام .1869تبعه يف ذلك ال�شّ اعر جميل �صدقي ال ّزهاوي بتجرب ٍة م�شابه ٍة يف ديوانه الأ ّول 2 1
56
العربي املعا�صر .بريوت� ،ص.17 ّ حممد حمود :احلداثة يف ال�شّ عر ّ العربي املعا�صر� .ص.18 عر يف احلداثة حمود: د حمم ال�شّ ّ ّ
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ال�صادر عام ُ .1908ت�ضاف �إىل تلك ،حماولة يف تنويع الأوزان قام بها �أحمد «الكلم املنظوم» ّ عد عم ًال غري فار�س ال�شّ دياق من خالل ال ّنظم على ثالثة بحور خمتلفة يف الق�صيدة نف�سها ما ُي ّ مثيلي مع ال�شّ اعر جنيب م�سبوقٍ يف ال�شّ عر ّ العربي .عدا عن ح�ضور حماوالت لكتابة ال�شّ عر ال ّت ّ احلداد من خالل ت أ�ثّره بالقراءات الغرب ّية . ّ غري �أنّ تلك املحاوالت ،مع كونها ّ أهم ّية اخلروج من حال االنحطاط وعي ل ّ �شكلت �إ�شارات ٍ اخلا�ص ،مل ُتك َّلل بال ّنجاح من ناحية ا ّت�ساع ال ّتجربة وح�ضورها الف ّن ّي يف ال ّلغة أهم ّية خلق �أدبنا ّ و� ّ العرب ّية .لك ّننا نعرث على جتارب �أخرى ّ العربي ،منها ما يقع يف دائرة �شكلت عالم ًة فارق ًة يف الأدب ّ ال ّتقليد واملحاكاة ،مثال حممود �سامي البارودي وحافظ ابراهيم و�أحمد �شوقي يف مراحله الأوىل، ال�سبك واملعجم حيث ا ّت�سمت الق�صيدة بال ّن�سج على منوال الق�صائد العرب ّية امل�شهورة من ناحية ّ وطبيعة القوايف ،وكذلك با ّتباع مو�ضوعاتها الأ�سا�س ّية عند العديد من ال�شّ عراء� ،إ�ضاف ًة �إىل �إدخال املو�ضوع الوطني عند البع�ض ،ومنها ق�صائد البارودي التي تقع يف خانة الثّورة العراب ّية . ّ ال�سياق �أمام جترب ٍة �شعر ّي ٍة خمتلف ٍة ا�ستطاعت �أن تحُ دِ ث تغيرياً يف معامل ال�شّ عر �إ ّال �أ ّننا نقف يف هذا ّ العربي� ،أعني جتربة خليل مطران .فهو عمل يف نتاجاته الأوىل التي �سبقت احلرب العامل ّية ،والتي ّ ل و ل أ ا ديوانه يف ت ُجمِ َع ال�صادر عام ،1908على الإفادة من ما خربه عن ال ّتجارب الأوروب ّية ّ ّ خا�ص ٍة به مم ّهداً ملا حلقه من جتارب .ومن هذه املالمح ،الترّ كيز على وح ّولها �إىل مالمح �شعر ّية ّ وحدة الق�صيدة وجعلها ك ًل متكام ًال� ،إ�ضاف ًة �إىل �إدخال بع�ض املالمح الرومان�س ّية املتع ّلقة باخليال أوروبي� ،إ�ضاف ًة �إىل كونه وبتو�سيع ح ّيز العاطفة ،و�إن مل تكن متح ّرر ًة على الإطالق كما ال ّنموذج ال ّ الق�ص�صي بو�صفه �شعراً قادراً على ال ّت�أثري يف املجتمع وعلى طرح ا�ستطاع ال ّنجاح يف �إبراز ال�شّ عر ّ اجليو�سي« :مل ينجح [خليل مطران] اجلد ّية .ولذلك ت�ص ّرح الباحثة �سلمى اخل�ضراء م�شاكله ّ ّ ب�إنعا�ش العاطفة يف ال�شّ عر و�إطالقه قو ّياً متو ّهجاً .غري �أ ّننا جند يف �أعماله ميزات �أخرى :جندفيها تو�سعاً يف اهتمامات ال�شّ اعر العا ّمة ،و�إنعا�شاً لعن�صر اخليال يف ال�شّ عر ،كما جند فيها بع�ض ّ الطرافة ّ �أي�ضاً .لقد كان عن�صر اخليال يف �شعره من الق ّوة بحيث ميكننا القول �إنّ هذا ال�شّ اعر هو الذي و�ضع حجر الأ�سا�س لكث ٍري من من ال�شّ عر القائم على اخليال يف حقبة الع�شرينات والثّالثينات من هذا القرن [الع�شرين] .وكان يف حتديده املبكر لأهدافه ال�شّ عر ّية �سابقاً لأوانه ،وكذلك يف اكت�شافه حلقل ٍ الق�ص�صي» . جديد من ال ّتجربة ال�شّ عر ّية هو احلقل ٍ ّ 3
4
5
6
7
3
5 6 7 4
العربي املعا�صر .بريوت ،مركز درا�سات الوحدة �سلمى اخل�ضراء اجليو�سي :االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ العرب ّيةّ ، الطبعة الأوىل� ،أيار/مايو � ،2001ص.190 غايل �شكري� :شعرنا احلديث �إىل �أين؟ القاهرة ،دار املعارف ،طبعة غري حمددة� ،1968 ،ص.106 املرجع نف�سه� ،ص .107-106 ميكن مراجعة� :شوقي �ضيف :البارودي رائد ال�شعر احلديث .القاهرة ،دار املعارف ،طبعة.1988 ،1 العربي املعا�صر� .ص.98 �سلمى اخل�ضراء اجليو�سي :االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ ّ 57
على ٍ ين أدبي لأمني ال ّريحا ّ �صعيد �آخر ،نرى ح�ضوراً �أدب ّياً من ٍ نوع �آخر متثّل يف ال ّن�شاط ال ّ الذي ا�ستطاع �أن ّ العربي .فهو� ،إ�ضاف ًة �إىل كونه عري ي�شكل نوعاً من ال ّتم ّرد على الترّ اث ال�شّ ّ ّ العربي يف بداية م�سريته� ،أ ّول َمن عمل على �أ�سهم يف �إدخال املالمح الرومان�س ّية �إىل الأدب ّ ب�شكل عام ،وال�شّ عر كتابة ال�شّ عر املنثور بال ّلغة العرب ّية .عدا عن �آرائه ال ّنقد ّية يف جمال الأدب ٍ بخا�صة . ّ عدة يف �سياقٍ �آخر ،ال ّبد من ت�سليط ّ ال�ضوء على ازدهار ّفن املقال يف بالد امل�شرق على يد �أعالم ّ ين الذي الفن بطر�س الب�ستا ّ ال�صحافة على نح ٍو وا�سع .وميكننا �أن نذكر يف �إطار هذا ّ بنتيجة انت�شار ّ �أظهر ٍ الدين عن قدرات وا�ضح ًة ومرونة يف ا�ستعمال ال ّلغة يف �سبيل �إي�صال �أفكاره حول ف�صل ّ الدولة ووحدة الأ ّمة ،وهو ما نقر�أه يف «نفري �سورية» . ّ وال ّبد من الإ�شارة �إىل �أنّ �أ ّول جمموعة ق�ص�ص ّية �صدرت عام 1905بال ّلغة العرب ّية كانت جمموعة باحلب اخلالد عرب «عرائ�س املروج» جلربان خليل جربان ،التي طرحت موا�ضيع �إن�سان ّية تتع ّلق ّ الدين ّية وحاجة الإن�سان للعودة �إىل ال�سلطة ّ ال ّزمن �أو بال ّت ّ وح�ش الكامن يف ذات الإن�سان �أو غطر�سة ّ القيم الإن�سان ّية العليا . العربي وميكننا ،كذلك� ،أن نرى يف ما ّقدمه م�صطفى لطفي املنفلوطي حماول ًة لل ّنهو�ض بالأدب ّ من خالل حماكاته لبع�ض الأعمال ال ّروائية والق�ص�ص ّية الغرب ّية ،ال �س ّيما الرومان�س ّية منها ،وكتابتها العربي .وجتدر ّ بال�صيغة العرب ّية� ،إذ �أ ّنه ّمتكن من �إدخال ٍّفن مل يكن معروفاً من قبل يف الأدب ّ ال�سياق �إىل �أنّ �أوىل ال ّروايات العرب ّية قد ظهرت عمل ّياً قبيل احلرب العامل ّية الأوىل، الإ�شارة يف هذا ّ على يد ٍّ حممد ح�سني هيكل بعنوان «زينب» وجربان خليل جربان بعنوان كل من الكاتبني ّ املتك�سرة» وذلك يف العام .1912 «الأجنحة ّ 8
9
10
11
12
8املرجع نف�سه� ،ص.123 9بطر�س الب�ستاين :نفري �سورية .بريوت ،دار فكر للأبحاث وال ّن�شرّ ، الطبعة الأوىل.1990 ، مقدمة ميخائيل نعيمة .بريوت ،دار �صادرّ ، الطبعة 1 0جربان خليل جربان :املجموعة الكاملة (املج ّلد الأ ّول)ّ . الثانية� ،1996 ،ص.14 - 10 عمان ،دار البريوين لل ّن�شر 1 1مه ّند يون�س :ال ّتقاليد ال ّروائ ّية وال ّر�ؤية ّ اخلا�صة -قراءة يف مناذج من الرواية العرب ّيةّ . والتوزيعّ ، الطبعة � ،2008 ،1ص.42 �أحمد ثائر 100« :عام من الرواية ( ..زينب ) حممد ح�سني هيكل يف احتاد الأدباء» .بغداد� ،صحيفة امل�ؤمتر ،عدد 12 ،2876كانون الأ ّول .2013 ال�س ّيد 12 ،فرباير 1 2ليلى ال�س ّيد :بنية اخلطاب ّ ال�سردي عند جربان خليل جربان -عر�ش املوت منوذجاً .موقع ليلى ّ http://www.alrawya.com/Tajarib/Tajarib_Derasat/Tajarib_Derasat_1.htm .2001 58
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ظهور ر�ؤى خمتلفة حول الأدب
�صعيد �آخر ،ميكننا �أن نر�صد �آراء و�أفكاراً يف هذه احلقبة من ال ّزمن� ،أظهرت وعياً وا�ضحاً على ٍ ٍ إرها�صات نعد هذه الأفكار � مبفهوم الأدب ،و�إن كان �أ ّول ّياً وغري متكامل .ويجوز يف هذا الإطار �أن ّ فعل ّي ٍة للأفكار النا�ضجة التي �أخذت تتبلور منذ احلرب الأوىل. مقدمة فنقر�أ على �سبيل املثال لدى فرن�سي�س م ّرا�ش احللبي ّن�صاً �صريحاً حول ر�أيه يف ال�شّ عر يف ّ الديوان] على حروف الهجاء منجرداً عن املدح والهجاء. �أحد دواوينه� ،إذ يقول« :وقد ر ّتبته [ ّ ف�إنّ املدح �إطراء ورياء والقدح ح�سد وعياء .فما �أحوجني اهلل �إىل بيع ماء املح ّيا يف �سوق ال�شّ عر... فواغنب �شاعر �س ّود باملدائح بيا�ض القرطا�س وباع كرامي ال�شّ عر وذهبه يف �سوق ال ّزجاج وال ّنحا�س. وهمة قا�صرة» .وهنا نالحظ املرحلة ال ّتاريخ ّية التي �أتاحت لل�شّ اعر واهلل �إنّ تلك جتارة خا�سرة ّ ّ االطالع على �آداب �أخرى ،وا�ستطاع من خاللها تكوين ر�ؤية نقد ّي ٍة تتع ّلق ب�شعري املدح والهجاء بو�صفهما جن�سني يجب التخ ّلي عنهما يف ع�صرنا احلايل لأنّ فيهما �إ�ساءة �إىل ذات ال�شّ اعر و�إىل عري. الفن ال�شّ ّ ّ اجلزئي ،دعوة للكاتب جنيب �شاهني يف يناير (كانون الثّاين) من العام ،1902 يعا�ضد هذا ال ّر�أي ّ عري القدمي ونبذ �أ�شكاله اجلاهزة� ،إ�ضاف ًة يف جم ّلة املقتطف امل�صر ّية �إىل اخلروج على ال ّنموذج ال�شّ ّ الدعوة ملجاراة الع�صر الذي يعي�ش فيه ال�شّ اعر . �إىل ّ ين يف جمال نظرته نحو الأدب. ف�ض ًال عن ذلك ،ال ّبد من �أن نن ّوه بالعمل الذي قام به �أمني ال ّريحا ّ �إذ �أ ّنه ر�سم �صور ًة متكامل ًة للأدب عمل على تطبيقها عمل ّياً ،خ�صو�صاً يف مو�ضوع ال�شّ عر .فقد طرح ثور ًة على ّ يحدد موا�صفات ال�شّ اعر من الطرق القدمية املوروثة يف كتابة الأدب ،وا�ستطاع �أن ّ بخا�صة� ،إذ كانت ر�ؤيته ال ّنقد ّية ّ الغربي ،واالجتاه ت�شكل ابتعاداً الرومان�سي ّ ّ خالل معرفته بال�شّ عر ّ العربي . عن الوجه املعروف للترّ اث ال�شّ ّ عري ّ 13
14
15
-2ال ّتح ّوالت يف الأدب العربي � ّإبان احلرب
على �أنّ احلرب العامل ّية الأوىل بدت بو�صفها عالم ًة فارق ًة� ،أو ربمّ ا نقطة حت ّول مف�صل ّية يف الأدب ين .فمع �أ ّنها كانت امتداداً للمرحلة أ�سلوبي �أو امل�ضمو ّ العربي �سواء على ّ كلي �أو ال ّ ال�صعيد ال�شّ ّ ّ ّ ٍ التي �سبق ذكرها� ،إال �أ ّنها ا ّت�سمت بخ�صو�صية ال ّبد من الوقوف عندها نظراً لأثرها يف املراحل ال�سنة ال ّرابعة ،خريف � ،1960ص .114 1 3غازي براك�س :جم ّلة �شعر .عدد ّ ،16 14غايل �شكري� :شعرنا احلديث �إىل �أين؟ �ص.107 العربي املعا�صر� .ص.123 � 15سلمى اخل�ضراء اجليو�سي :االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ 59
العربي احلديث .ويف هذا ال�سياق ميكننا �أن من ّيز جمموع ًة من املفارقات ال ّالحقة من تاريخ الأدب ّ ال ّتاريخ ّية املنح�صرة يف زمن احلرب ا�ستطاعت �أن ّ العربي ،وبفعل ت�شكل تغيرياً عا ّماً الأدب ّ ّ االطالع املكثّف والأكرث وعياً على الثّقافة الغرب ّية. ّ لعل امللفت يف هذا املجال �صدور كتاب «دمعة وابت�سامة» جلربان خليل جربان مع بداية احلرب، تت�ضمن عاطفة الكاتب الف ّيا�ضة، �أي يف العام ،1914وهو عبارة عن 60مقطوعة من ال�شّ عر املنثور ّ و�شراراته الفكر ّية الو ّهاجة وخياالته املتم ّوجة .عدا عن �أنّ �سنوات احلرب حملت جربان على كتابة ن�صو�ص وجدان ّية رومان�س ّية ،ومنها مقطوعتا «مات �أهلي» �أو «يف ظالم ال ّليل» اللتان كتبهما يف �ضوء امل�أ�ساة التي عا�شتها بالده من ج ّراء احل�صار واجلوع والأحكام العرف ّية � .إىل جانب كونها دفعته �إىل ّ الفل�سفي الذي �أنتج املط ّولة ال�شّ عر ّية «املواكب» ،والتي التوغل يف املنحى الت�أ ّم ّلي ّ راعي بني فكرتني ذات ّيتني تتجاذبان جربان كما ميكن �أن تتجاذبا ّ كل �إن�سان، �أبرزت امل�سار ّ ال�ص ّ بالدرام ّية يف مرحلة اخلم�سينات من القرن املا�ضي. يعد دخو ًال �صريحاً يف ما ُعرف ّ والذي ميكن �أن ّ ال�سلطات الربيطان ّية مع ي�ضاف �إىل ذلك ،حدث حم ّو ّ ري يف حياة ال�شّ اعر �أحمد �شوقي ،فقد قامت ّ بداية احلرب بنفيه �إىل �إ�سبانيا ب�سبب عالقته الوطيدة باخلديوي املخلوع ع ّبا�س� .إ ّال �أنّ هذا ال ّنفي تاريخي يف حياة ال�شّ اعر ،بل ّ مل يكن جم ّرد ٍ عري� ،إذ حادث �شكل نقطة حت ّولٍ جذر ّية يف موقفه ال�شّ ّ ٍّ نقلته من �صورة �شاعر البالط �إىل �شاعر ي�سعى �إىل الإحاطة بهموم ال ّنا�س .من هنا دخل مو�ضوع عري نحو الق�صيدة الوطن ّية-القوم ّية ونحو �إطالق ال�شّ عر تو�سع ن�شاطه ال�شّ ّ احلنني �إىل الوطنّ ،ثم ّ امل�سرحي . ّ أدبي فاعل مثّله ّ كل من عبد ال ّرحمن �شكري وابراهيم عبد يطالعنا ،من ناحي ٍة �أخرى ،ن�شاط � ّ حممود العقّاد ،وهم الذين ّ �شكلوا نواة املجموعة التي ُدعيت يف ما بعد القادر املازين وع ّبا�س ّ موجه ًة �أو دافع ًة للحياة بجماعة ّ جمع ،لتكون ّ «الديوان» .واجلدير ذكره �أنّ اجلماعة تخطت معنى ال ّت ّ الأدب ّية يف م�صر ،فطغى على �شعرهم عن�صر ّ الذات ،بحيث بات معبرّ اً عن امل�شاعر ال�شخ�ص ّية اخلا�صة بعيداً عن الوقوف عند احلدث العا ّم الذي ت ّت�سم به الق�صيدة الكال�سيك ّية . والأفكار ّ �إ�ضاف ًة �إىل ذلك ،يح�ضر ال�شّ اعر ن�سيب عري�ضة ليطرح منوذجاً �شعر ّياً «ثور ّياً» من ناحية ال�شّ كل يف مرحلة احلرب� ،إذ �أنّ واحداً من �أحداث احلرب ك ّون حافزاً لكتابة ق�صيدة «ال ّنهاية» التي ظهرت ين بعد حملة الإعدامات يف �ضد اال�ستكانة واال�ست�سالم ل�سلطة االحتالل العثما ّ بو�صفها �صرخ ًة ّ 16
17
18
19
20
16 17 1 8 19 2 0 60
مقدمة نعيمة� ،ص.21 جربان خليل جربان :املجموعة الكاملة (املج ّلد الأول)ّ ، ال�ساد�س)� .ص.69 جربان خليل جربان :املجموعة الكاملة (املج ّلد ّ املرجع نف�سه (املج ّلد الأ ّول)� ،ص 23-و(املج ّلد الثّالث)� ،ص.83 العربي املعا�صر� .ص.74 �سلمى اخل�ضراء اجليو�سي :االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ املرجع نف�سه� ،ص.211 - 206
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ب�شكل يخرج ال�سفّاح عام ،1916وقد كتبها ال�شّ اعر ٍ �ساحتي املرجة وال�شّ هداء من قبل جمال ّ عن ال ّنظم امل�ألوف ك ّل ّياً وي�سبق ع�صره ليكون �أقرب �إىل �شكل ق�صيدة ال ّتفعيلة التي �أخذت تتبلور مع نهاية الأربعينات من القرن الع�شرين. ال�صعيد بنية الق�صيدة ور�ؤيتها لدى ومن املالحظ �أي�ضاً يف هذه املرحلة تط ّور املنحى ال�شّ عري على ّ ميخائيل نعيمة الذي كتب يف العام 1917ق�صيدة «�أخي» ال�شّ هرية .وهي ق�صيدة متتلك وعياً اجتماع ّياً و�إن�سان ّياً نابعاً من موقف ال�شّ اعر نحو امل�آ�سي التي جلبتها احلرب الأوىل على ال�شّ عوب، رامي يف ط ّياته ،مبا ي�سبق ال�سياق ّ ونحو احلرب ب�صف ٍة عا ّمة� .إ�ضاف ًة �إىل كوننا نعرث على �شي ٍء من ّ الد ّ ما �أتت به حركة احلداثة. تقدم يبقى يف �إطار احلاالت التي قد ُت َع ّد فرد ّي ًة �أو ا�ستثنائ ّي ًة ،وبال ّتايل فقد تبدو هذه الأمثلة لكن ما ّ ّ ال�سياق العا ّم لتلك املرحلة .وعليه ،ال ّبد من �إظهار املالمح العا ّمة لأدب احلرب جمتز�أ ًة من ّ العامل ّية الأوىل يف بالدنا والأثر الذي تركته يف �أدبنا بعا ّم ٍة. 21
22
العربي خالل احلرب الأوىل عامة للأدب -3مالمح ّ ّ
العربي يف تلك انطالقاً ّمما ّ تقدم ،ميكننا �أن نر�صد جمموع ًة من املالحظات التي م ّيزت الأدب ّ التبا�س مع مراحل تاريخ ّي ٍة �أخرى� ،إذ �أنّ ال ّر�ؤى املرحلة .ولكن ر�صدنا هذا ال يجب �أن ي�صاب ب� ّأي ٍ التي تو ّلدت �آنذاك مل ت ّت�سم بال ّتكامل ،بل كانت عبارة عن خطوات فتحت ّ الطريق �أمام تراكم جتمع «�شعر» وجم ّلته .لذلك يجب ال ّتجارب ح ّتى و�صلت �إىل احلقبة الأكرث ن�ضجاً مع حداثة ّ علينا �أن نتعامل مع مرحلة احلرب الأوىل تلك بو�صفها ال ّلحظة ال ّتاريخ ّية التي �أدخلت �إىل الأدب ور�سخت فيه ما مل ي�سبق �أن عرفه من قبل ،وهو ما ّ �شكل تهيئ ًة للمراحل اللاّ حقة .ومن العربي ّ ّ املالحظ �أنّ ال ّت ّعمق يف الثّقافة الغرب ّية هو العامل الأ ّول يف خطوات ال ّتط ّور تلك ،ولذلك كانت َ خا�ص َمن ن�شط منهم يف �أمِريكا ال�شّ مال ّية ،ي�ضاف ال ّريادة يف هذه اخلطوات لأدباء املهجر، ٍ وب�شكل ّ الغربي .لكن دون �أن نغفل عن عامل �آخر جت ّلى يف �إليهم بع�ض املت�أثّرين بالغرب �أو �أبناء ال ّتعليم ّ تنامي ال ّروح القوم ّية واالجتماع ّية ٍ حث على قيامة حيا ٍة �أدب ّي ٍة «قوم ّي ٍة» تواكب حينئذ ،الأمر الذي ّ ما و�صل �إليه الغرب وتفيد منه ،وبال ّتايل ت�سهم فيه ،وال تقف عند حدود املعطيات املوروثة عن ع�صور ما قبل االنحطاطّ . ولعل هذا ما ين�سجم مع �آراء بع�ض الباحثني يف القول�« :إنّ ال�شّ رق ماوي و�أ ّول َمن دعاه �إىل ال�س ّ كان �أ ّول َمن انت�صر للإن�سان و�أ ّول َمن اعرتف بنبعته الإله ّية وغايته ّ حماربة الغرائز احليوان ّية و�أدباء املهجر �أبناء ال�شّ رق �سكنت روحان ّيته �أرواحهم فلم تق َو املا ّدة على 21ن�سيب عري�ضة :الأرواح احلائرة .نيويورك ،طبعة غري حمددة.1946 ، 22ميخائيل نعيمة :ديوان هم�س اجلفون .بريوت ،م�ؤ�س�سة نوفل ،الطبعة ال�ساد�سة� ، 2004 ،ص .13 - 12 61
�أن تطغى عليها وملأت حكمة العرب عقولهم ف�أدركوا �أنّ �سعادة الفرد ال قيمة لها �إ ّال ب�سعادة وبناء عليه ،ميكن حتديد معامل عا ّمة قومه و�سعادة القوم ال تكمل �إ ّال ب�سعادة الإن�سان ّية جمعاء» ً . العربي �إ ّبان احلرب العامل ّية الأوىلّ ، أهمها: لعل � ّ وظواهر �أبرزها الأدب ّ عري ،نرى �أنّ احلركة الأدب ّية وال ّنقد ّية التي ظهرت يف تلك املرحلة ا�ستطاعت على �صعيد البناء ال�شّ ّ اخلليلي� ،إذ �أ ّننا نقر�أ مناذج �شعر ّية العمودي والوزن �أن جتابه ال ّنظرة التي تربط ال�شّ عر بال�شّ كل ّ ّ ناجحة تدمج بني وزنني يف الق�صيدة الواحدة ،كمط ّولة «املواكب» جلربان� ،أو تعمد �إىل تفكيك اخلليلي يف بنائها ،كق�صيدتي «�أخي» مليخائيل نعيمة و»ال ّنهاية» لن�سيب عري�ضة، ال ّنظام العمودي ّ قد �سبق لنا ذكرها .ومع ال ّنقد الذي ُو ِّجه �إىل هذه ال ّنماذج� ،إ ّال �أنّ �أحداً مل يكن لي�ضعها خارج �إطار ال�شّ عر .وهذا ما يت� ّأكد عند ّ قدي يف هذا املجال« :فال الأوزان وال االطالع على ر�أي نعيمة ال ّن ّ القوايف من �ضرورة ال�شّ عر كما �أنّ املعابد ّ والطقو�س لي�ست من �ضرور ّيات العبادة. »... على ٍ �صعيد �آخرّ ،متكنت مواهب تلك احلقبة من تقدمي � ٍ راعي نظراً يو�صف ّ أدب ميكن �أن َ بال�ص ّ �صراع بني ق ّوتني متناق�ضتني ،وهو الأمر الذي نراه يف لكونه مت ّيز بالبنية ّ الدرام ّية القائمة على ٍ �أدب جربان ،ال�س ّيما يف ال ّن�صو�ص املتع ّلقة مب�آ�سي وطنه ،كن�صو�ص ال�شّ عر املنثور« :يف ظالم ال ّليل» و»مات �أهلي» و»الأ�ضرا�س امل�س ّو�سة» و»حفّار القبور» وغريها من ن�صو�ص كتاب «العواطف»، املتجمد» و»�أخي» �أو كمط ّولة «املواكب» .وين�سحب ذلك على �أدب املهجر كق�صيدتي «ال ّنهر ّ مليخائيل نعيمة. العربي مع خليل بالإ�ضافة �إىل ذلك ،ومع �أنّ الق�ص�ص ال�شّ ّ عري كان قد �سبق له �أن دخل الأدب ّ مطران ،غري �أ ّنه مل يتح ّول �إىل نزع ٍة وا�سعة ال ّنطاق �إ ّال مع �شعراء املهجر� .إذ �أنّ ه�ؤالء جعلوا من الغرامي ،وتدور موا�ضيع بع�ضهم عري ف ّناً متم ّيزاً ،ينحو بع�ض ال�شّ عراء فيه املنحى هذا ال ّنوع ال�شّ ّ ّ حول ت�أ ّمالت فكر ّية ترتبط بالوجود والإن�سان .ويف هذا املجال ميكننا �أن نقر�أ «ال�شّ هيدان» ّ و»وكل ح ٍّر يف دولة ّ الظلم جانٍ » لل�شّ اعر اليا�س فرحات ،و»ال�شّ يخ والفتاة» و»ابنة الكوخ» لر�شيد �أ ّيوب . ترت�سخ يف الأدب من ناحي ٍة �أخرى� ،أ�سهمت هذه الفرتة ال ّزمن ّية يف جعل املدر�سة الرومان�س ّية ّ اجلزئي العربي على نح ٍو متكامل ،من خالل جمموع ٍة من ال�شّ عراء والأدباء؛ بخالف احل�ضور ّ ّ ّ و�سع يف اخليال الواعي ت وال ات، للذ العميق احل�ضور نرى فنحن ابقة. ال�س املرحلة يف ملالحمها ّ ّ ّ ّ ال ّنافذ� ،إ�ضاف ًة �إىل العاطفة اجل ّيا�شة .ولعل �أبرز مطلقي ذلك املذهب كان جربان خليل جربان نف�سه 23
24
25
الدرا�سات العامل ّيةّ ، الطبعة الأوىل،1956 ، 2 3جورج �صيدح� :أدبنا و�أدبا�ؤنا يف املهاجر الأمرييك ّية .بريوت ،معهد ّ �ص.42 24ميخائيل نعيمة :الغربال .بريوت ،م�ؤ�س�سة نوفلّ ، الطبعة � ،1978 ،11ص.122 2 5غازي الرباك�س :جم ّلة �شعر� .ص.123 62
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ومان�سي �إىل ن�ست�شف نزوعه ال ّر الذي م ّهد ل�شعراء الرومان�س ّية املعروفني يف ما بعد .وميكننا �أن ّ ّ املتك�سرة» ،ن�صو�صه املتع ّلقة باحلنني للوطن والأهل �أ ّيام املجاعة واحل�صار، جانب روايته «الأجنحة ّ باحلب والأمل يف جمموعة ال�س ّيما «يف ظالم ال ّليل» و«مات �أهلي»� ،أو تلك ال ّن�صو�ص املتع ّلقة ّ الديوان يف م�صر . «دمعة وابت�سامة» .ف�ض ًال عن �أ ّننا جند بع�ضاً من تلك املالمح لدى جماعة ّ عري يف كتاب «العوا�صف»، تو�سعاً يف ال ّلجوء �إىل ال ّنرث ال�شّ ّ وميكننا من خالل جربان نف�سه �أن جند ّ �أو ح ّتى يف «البدائع ّ والطرائف» بعده� .أو ا�ستكمال م�شروع ال ّريحاين يف ال�شّ عر املنثور الذي جل�أ كتب �أخرى وغريهما من الأدباء. �إليه جربان نف�سه كذلك يف ٍ ابتداء من عدا عن ذلك ،ف�إنّ احلراك ال ّ أدبي يف هذه املرحلة م ّهد للمدر�سة ال ّرمز ّية التي ازدهرت ً �أواخر العقد الثّالث للقرن الع�شرين .فيمكننا على �سبيل املثال �أن نعرث على ال ّرمز يف ن�ص «حفّار بحد ذاته ّ ي�شكل رمزاً اجتماع ّياً ونقد ّياً ،وينطبق ذلك على رمز ّية القبور»� ،إذ ن�ستنتج �أنّ العنوان ّ ال�سنة اجلديدة لدى ميخائيل نعيمة؛ ف�ض ًال عن رموز ّ املخدرات واملبا�ضع جلربان �أي�ض ّاً ،ورمز ّية ّ ال�سنبلة �أو الغابة... ال ّليل �أو العا�صفة �أو ال ّنهر �أو ّ أ�سطوري يف ق�صائد ن�سيب عري�ضة ،ومنها ق�صيدة «على طريق �إ َرم»، كما ميكن �أن ن�ستطلع ال ّرمز ال ّ �إىل جانب ال ّرمز ّ يني الذي يتج ّلى يف �صورة ي�سوع امل�سيح �أو مرمي العذراء �أو غريهما .وانطالقاً الد ّ العربي رمز ع�شرتوت على �سبيل املثال� ،أو رمز الفرعونّ . ولعل من ذلك ،بات يطالعنا يف الأدب ّ ال�صومعة- هذا ما دفع البع�ض �إىل القول« :وقد جاء رف�ض ال ّتقاليد ،والإ�صرار على �إبقائها خارج ّ القلب ،يف املرحلة عينها التي ر�أينا فيها العقل ينفتح على جماالت امليثولوجيا . الفكري أدبي ،لي�صل �إىل الإطار ّ يدخلنا هذا املو�ضوع يف ظاهرة �أخرى تتجاوز خطورته املنحى ال ّ ت�ضم ٍ ثقافات ت�سبق املرحلة أدبي �آنذاك �أو�صل يف بع�ض جوانبه �إىل ر�ؤي ٍة فكر ّي ٍة ّ العا ّم .فال ّن�شاط ال ّ ال�سياق� ،صرنا ن�شهد ح�ضور العرب ّية لتكوين ثقاف ٍة �أكرث �شمول ّي ًة ميكن ت�سميتها بامل�شرق ّية .ويف هذا ّ يعد خطو ًة نوع ّي ًة ت�سمح بتغي ٍري الثّقافات الكلدان ّية �أو الكنعان ّية يف الكتابات العرب ّية ،وهو ما ّ جذري يف طبيعة ال ّتفكري ،ال يف الأدب فح�سب. ٍّ العربي، على �أنّ هذه اجلر�أة �شهدت ذروتها يف �إدخال الكثري من املفاهيم التي مل يعرفها الأدب ّ خا�ص على احل�ضارات العربي ،من قبل .فقد كان النفتاح �أدباء املهجر ٍ ب�شكل ّ �أو ح ّتى الفكر ّ العربي ب�أفكا ٍر جديد ٍة وجريئ ٍة يف الآن عينه� .إذ نرى ،على �سبيل الأخرى �أثر يف تعريف القارئ ّ 26
27
28
29
27 28 29 26
مارون ع ّبود :جدد وقدماء .بريوت ،دار الثّقافةّ ، الطبعة الأوىل� ،1954 ،ص.72 العربي املعا�صر� .ص.210 �سلمى اخل�ضراء اجليو�سي :االجتاهات واحلركات يف ال�شّ عر ّ ربيعة �أبي فا�ضل :يف �أدب ال ّنه�ضة واملهجر .بريوت ،دار ال ّركنّ ، الطبعة الأوىل� ،2005 ،ص.46 وهيب كريوز :عامل جربان .جم ّلد � ،2ص ،396هام�ش 93-جم ّلد � ،1ص.190 للطباعةّ ، الدار ال�شّ رق ّية ّ الطبعةالأوىل� ،1966 ،ص.196 - 195 توفيق �صايغ� :أ�ضواء جديدة على جربان .بريوتّ ، 63
املثال ،ح�ضوراً لفكرة «ال ّت ّقم�ص» يف بع�ض كتابات ميخائيل نعيمة ،كــــــ»مرداد» �أو «لقاء» � ،أو العربي الذي بقي لدى جربان يف «رماد الأجيال وال ّنار اخلالدة» ،وهي فكرة جريئة بال ّن�سبة للفكر ّ الدين ّية لعقود. ال�سلطة ّ حتت �سقف ّ ب�شكل وثيق� ،إذ متحو الفا�صل بني �إ�ضاف ًة �إىل ذلك ،ميكننا �أن نرى �أفكاراً تربط بني اهلل والإن�سان ٍ اخلالق واملخلوق لتعطي للأخري �صفات الأ ّول ،وهي �أفكار ذات ٍ بوذي .ف�ض ًال عن ما قد جنده بعد ّ من �أفكا ٍر هندو�س ّي ٍة �أو غنو�ص ّي ٍة يف نتاجات البع�ض . تعدته لتحارب املفاهيم يبقى �أن ن�شري �إىل �أنّ جر�أة تلك املرحلة مل تقف عند ذلك احلد ،بل ّ ال�سائدة ال ّتقليد ّية البالية واملعتقدات ال ّتجزيئ ّية وال ّتفتيت ّية يف املجتمع ،عدا عن الأفكار ّ الدين ّية .وهذا ما قد نقر�أه يف م�سرح ّية «الآباء والبنون» وق�صتي «�سنتها وال�سلطة ّ حول ّ الدين ّ اجلديدة» و»العاقر» لنعيمة� ،أو يف ق�ص�ص «الأرواح املتم ّردة» ون�صو�ص «العوا�صف» جلربان� ،أو يف �شعر «ن�سيب عري�ضة» حول ا�ستكانة ال�شّ عب .مع الإ�شارة �إىل �أ ّنها ر�ؤًى قد نكون بحاج ٍة �إليها ح ّتى �أيامنا هذه. 30
31
32
33
حمورية املرحلة «دمعة وابت�سامة» -4 ّ
العربي� ،أكرث ّمما كانت ميكن القول �إنّ مرحلة احلرب العامل ّية الأوىل كانت حمور ّي ًة يف تط ّور الأدب ّ أدبي بل ّ �شكلت «ابت�سام ًة» الغربي ،لأ ّنها مل تكن فقط «دمع ًة» حم ّر�ض ًة للإنتاج ال ّ بال ّن�سبة للأدب ّ ٍ خطوات حا�سم ٍة من ال ّتط ّور يف الأ�ساليب وال ّر�ؤيا فارق ًة يف تاريخنا لكونها فتحت الباب �أمام واالجتاهات. امل�شرقي تقدم ،نالحظ �أنّ تلك املرحلة �أدخلت بذاراً جديد ًة يف الأدب فبنظر ٍة �سريع ٍة �إىل ما ّ ّ ٍ حا�سم يف املراحل ال ّالحقة .ومن ذلك، ا�ستطاعت �أن تنبت حركات ّ متقدم ًة ومذاهب متّيزت ب�أث ٍر ٍ ابتداء على �سبيل املثال ،احل�ضور الفاعل للمذهب ال ّر ّ ومان�سي ولغته ال�شّ عر ّية التي �أخذت تتنامى ً من العقد ال ّتايل مع �أ�سماء من �أمثال اليا�س �أبي �شبكة� ...أ�ضف �إىل ذلك ظهور املالمح ال ّرمز ّية التي ازدهرت يف ما بعد مع �أديب مظهر ّثم مع �سعيد عقل. عدا عن ذلك ،نرى تط ّوراً يف ال ّتوظيف الف ّن ّي لل ّرمز ال أ�سطوري ّ ّ يني� ،إذ �أ ّننا �أخذنا نرى �صوراً والد ّ عن امل�سيح �أو �إليعازر� ،أو عن رموز االنبعاث واخل�صب ...وهي ك ّلها فتحت الباب على م�صراعيه 30 31 32 3 3 64
ربيعة �أبي فا�ضل :يف �أدب ال ّنه�ضة واملهجر� .ص.149 جربان خليل جربان :املجموعة الكاملة (املج ّلد الأ ّول)� .ص.23 ربيعة �أبي فا�ضل :يف �أدب ال ّنه�ضة واملهجر� .ص.163 املرجع نف�سه� ،ص.159 -158
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
�أمام حركة احلداثة للإفادة من ّ الطبيعة ال ّت�أثري ّية لتلك ال ّرموز ،وخللق ت ّيار الق�صيدة ال ّت ّموز ّية يف اخلم�سينات من القرن املا�ضي. وال نن�سى الثّورة الفكر ّية التي �أحدثتها تلك املرحلة على �صعيدين �أ�سا�س ّيني :متثّل الأ ّول يف إ�سالمي ،وال ّت ّعمق فيه لي�صبح مك ّوناً �أ�سا�س ّياً من االلتفات �إىل الترّ اث الذي ي�سبق الفتح ال ّ ال�صعيد الثّاين فتج ّلى يف �إدخال مفاهيم فل�سف ّي ٍة بعيد ٍة �أو مك ّونات الثّقافة املجتمع ّية امل�شرق ّية� .أ ّما ّ إ�سالمي. ح ّتى متناق�ضة مع ّ العربي ال ّ ال�سائد يف العقل ّ ا�ستناداً �إىل ذلك ،ال ّبد من القول �إنّ مرحلة احلرب العامل ّية الأوىل ّ نوعي �شكلت نقطة حت ّولٍ ٍّ خا�ص ،لأنّ املراحل اللاّ حقة التي يف الثّقافة امل�شرق ّية بعا ّم ٍة ،والأدب املكتوب بالعرب ّية ٍ ب�شكل ّ ب�شكل �أو ب�آخر مرتبط ًة بهذه املرحلة. �شهدت ال ّتط ّورات احلا�سمة يف �أدبنا كانت ٍ أ�سا�سي ملا حملته تلك املرحلة كان من خالل وجتدر الإ�شارة يف هذا ّ ال�سياق �إىل �أنّ الثّقل ال ّ أ�سا�سي اال ّت�صال بالغرب �أو ال ّتثقّف بثقافته .من هذا املنطلق ميكننا �أن نالحظ �أنّ احلراك ال ّ ارتكز �إىل ن�شاط املهجر ّيني من منطقة بالد ال�شّ ام يف �أمريكا ال�شّ مال ّية ،والذين ّ �شكلوا بعد احلرب املجموعة الأدب ّية املعروفة با�سم «ال ّرابطة القلم ّية». على �أنّ ر�صد ما مت ّيزت به تلك املرحلة من خ�صائ�ص وخطوات جتديد ّية يبقى جمزوءاً ما مل الدرا�سة ال ّن�ص ّية لنماذج معروف ٍة من تلك املرحلة تبينّ ال ّت ّقدم نوع �آخر يتمثّل يف ّ يع�ضده بحث من ٍ الف ّن ّي الذي بلغته ال ّنتاجات الأدب ّية �آنذاك. ومع ذلك ،يجب القول �إنّ احلياة الأدب ّية ،مع �شهدته احلرب العامل ّية الأوىل من دموع وم� ٍآ�س ،قد مت ّتعت بح�ضو ٍر بار ٍز ا�ستطاع الو�صول �إىل اجلمهور وال ّت�أثري فيه ،كما ا�ستطاعت �أن نتنج �أدباً مقاوماً ن�سمي الوجه الثّقا ّيف لتلك املرحلة بـ «دمعة وابت�سامة». لل ّزمن ،ما ا�ستدعى ّ بحق �أن ّ
65
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
66
مئوية احلرب العاملية الأوىل
ال�شعر العربي احلديث
2014 – 1914
مقدمة تاريخية وفكرية 1964 - 1921 حممود �شريح -ناقد و�أكادميي
تفاعل الرافد الغربي باملوروث ال�رشقي
كان للحملة الفرن�سية على م�صر ( )1801-1798بقيادة نابوليون �أثر بعيد يف ايقاظ م�صر من �سباتها ودفعها امل�شرق العربي �إىل البحث عن ه ّويته وحمايتها �أمام امل�ؤثرات اخلارجية .كانت احلملة تهديداً لل�شرق وتالياً حتفّزاً لوثوبه� ،إذ خ ّلفت حركة فكرية ح ّية مبا �أن�ش�أته من �أبحاث ومن مدار�س ومعاهد وما حملته من كتب و�صحف وخمتربات علمية وم�ست�شرقني وعلماء ،ومطبعة .ومع ذلك ف�إن النه�ضة العلمية والفكرية يف ال�شرق فيما بعد كانت احلا�صل املنطقي لتفاعل احلافز الواعي الوارد من الغرب والطاقة البدائية الكامنة يف ال�شرق (اليازجي� ،1962 ،ص 109-107؛ املقد�سي، � ،1982ص 370-368؛ �أنطونيو�س� ،1982 ،ص .)126-121 �شيوع الفكر التحرري يف امل�رشق العربي
و�صوب نهاية القرن التا�سع انت�شرت بني �صفوف ّ املفكرين العرب حيثما ح ّلوا �آراء ومبادئ الثورة الفرن�سية ودعوتها �إىل احلرية واالخاء وامل�ساواة ،ثم قويت الدعوة يف �أدب العائدين من �أوروبا. ر�أى �شبلي �شم ّيل ( )1917-1860يف الثورة الفرن�سية مرحلة من مراحل التط ّور الب�شري ال�سائر نحو اال�شرتاكية فيما تعبق بواكري جربان ( )1931-1883ب�أنفا�سها (كرم� ،1980 ،ص 79؛ حوراين، � ،1977ص .)108-89 من كال�سيكية البارودي �إىل رومنطيقية مطران
التح ّول ال�شعري من القدمي �إىل احلديث قام به حممود �سامي البارودي ( )1904-1840فر ّد ال�شعر �إىل التجربة الذاتية البكر .ثم � ّ أطل �أحمد �شوقي فامتاز باخليال واملو�سيقى والعاطفة الرقيقة 67
وتوجه معا�صره حافظ ابراهيم �إىل اجلمهور واالح�سا�س فكان خامتة ال�شعر املدر�سي الكال�سيكي ّ . فكان �شعره �أكرث و�ضوحاً و�أقرب فهماً ،اذ ب�سط لغته و�أ�ساليبهّ ، متو�سطة بني من ف�شكل حلقة ّ �سبقوه ومن تلوه يف جميع درجات التطور واالنتقال (دياب� ،1968 ،ص .)65-63 �أحدث خليل مطران ( )1949-1871رائد الرومنطيقية العربية انقالباً يف ال�شعر العربي احلديث ّ وا�ستقل مقدمة ديوانه قائ ًال [لنكتب �أفكاراً جديدة بلغة قدمية]. حني �أطلق بيانه ال�شعري يف ّ لنف�سه يف عدد من ق�صائده مثل [امل�ساء] و [نريون] و [الأ�سد الباكي] و [مقتل بزرجمهر] بوحدة متما�سكة الأجزاء ومتكاملة . ثورة جماعة [الديوان] ال�شعرية وثقافتها النقدية
لكن ثورة تكثيف امل�ضمون ال�شعري و�إغنائه فكرياً نه�ض بها جماعة [الديوان] (�شكري ،املازين، العقّاد) الذين نزعوا منزعاً رومان�سياً و�أعجبوا باللون الغنائي الذاتي لغة ع�صرية ب�سيطة (العقّاد، � ،1965ص 193-192؛ �صايغ� ،1959 ،ص . )73 تبلورت منهجية هذه الثورة ال�شعرية وا�ضحة يف دعوة جماعة [الديوان] �إىل ال�صدق يف االح�سا�س وال�صدق يف التعبري� .أوجز عبد الرحمن �شكري ( )1958-1886طبيعة ال�شعر يف �صدر ديوانه [�ضوء الفجر] (:)1909 الفردو�س �إنّ ال�شّ عر وجدانُ (يف� :ضيف� ،1974 ،ص .)89-88 �أال يا طائ َر ِ ون�شر ع ّبا�س حممود العقّاد ( )1964-1889وابراهيم عبد القادر املازين ( )1949-1890معاً كتاباً �سمياه [الديوان] ( )1921يف نقد �شوقي وحافظ وحماولة حتطيمهما .تثقّف �شكري واملازين ّ والعقّاد ثقافة عميقة بالآداب االجنليزية و�شعرها الغنائي (العقّاد� ،1965 ،ص 193-192؛ ال�سحرتي، � ،1948ص .)158 جربان واملهجريون مدر�سة منف�صلة
ت�أثّر �شعراء املهجر االمريكي بالرومنطيقية الغربية واملثالية االمريكية ،كما يف مناذج �إمر�سون وثورو ولونغفيلو وويتمان ،لكن املالمح الرومان�سية يف ال�شعر املهجري مر ّدها الغربة والوحدة يف املهجر واحلنني وال�شوق �إىل الوطن ،وامتاز �شعر املهاجرة بتمجيد روحانية ال�شرق ومقت ماد ّية الغرب، ففي [املواكب] ( )1918دعا جربان �إىل العودة �إىل الطبيعة ،والدعوة رومان�سية ّ تذكر ب�صوفية بليك وبتمجيد نيت�شه للطبيعة (خوري� ،1960 ،ص 37-6؛ ديب� ،1955 ،ص . )144-77 68
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
واهتم كان جربان يقوم يف �أمريكة ال�شمالية مبا كان يقوم به العقّاد واملازين و�شكري يف م�صر يف �آن ّ غريه من املهاجرة بالت�أ ّمل الفل�سفي ومن هنا و�إعجابهم ببع�ض ال�شعراء العبا�سيني ،مثل املع ّري، وخري مثال على هذا االجتاه ق�صيدة [الطال�سم] ( )1925اليليا �أبو ما�ضي ( ،)1957-1889وترجم �أمني الريحاين (� )1940-1876إىل االجنليزية رباع ّيات �أبي العالء ( )1903ثم لزومياته ()1918 (�صيدح� ،1979 ،ص 230-229؛ الأ�شرت� ،1961 ،ص . )35-28 الرابطة القلمية واحللف الرومنطيقي املق ّد�س مع جماعة الديوان
ال�صحف واملجالت والن�شرات واملطابع العربية يف املهجر ال�شمايل �أداة �شيوع ال�شعر املغرتب، ومر�آته التي �أو�ضحت تناغماً يف الفكر واملنهج لدى ر ّواده ،فتنادوا �إىل التعا�ضد .هكذا حتالف ال�شعراء املهجر ّيون يف امريكة ال�شمالية ف�أ ّلفوا يف ني�سان [ 1920الرابطة القلمية] واتخذوا نيويورك مق ّراً لن�شر م�ؤ ّلفات �أع�ضائها ،فكانت هذه الرابطة �أول مدر�سة �أدبية ّ منظمة يف الأدب العربي احلديث تنزع �إىل تكوين طابع مم ّيز وخا�ص ،يف �أمناط التفكري وو�سائل التعبري .واملدافع عن �أدب الرابطة ّ واملنظر له كان ميخائيل نعيمة (( )1988-1889ع ّبود� ،1979 ،ص 247؛ �ضيف� ،1979 ،ص 247-246؛ مندور� ،1963 ،ص 162؛ ال�سحرتي� ،1948 ،ص � .)158أ�صدر كتابه النقدي [لغربال] (القاهرة )1923 ،فحمل حمالت �شعواء على املحافظني واملتزمتني ،وطالب مبقايي�س جديدة للأدب ،فتالقت دعوته مع حملة جماعة [الديوان] يف القاهرة التي طالبت باالنقالب على �ص َور م�ستمدة من �أمناط وافدة من الغرب عرب نفَ�س رومان�سي، ال�شعر القدمية والتح ّول �إىل �ص َور جديدة ّ حب الطبيعة والعودة �إىل ونادى جربان بقوالب وم�ضامني حديثة ،وثار على حياة املدينة فدعا اىل ّ الغاب حيث الكمال املطلق: لي�س يف الغابات موت ال وال فيها القبو ْر َ مل ميت معه ال�سرور فاذا ني�سان ولىّ طي ال�صدور �إن هول املوت وه ٌ م ينثني ّ فالذي عا�ش ربيعاً كالذي عا�ش الدهور (املواكب� ،1923 ،ص .)28 [الع�صبة االندل�سية] و [الرابطة االدبية] يف املهجر اجلنوبي
يف مطلع الثالثينات �أقفلت مدر�سة �أمريكة ال�شمالية �أبوابها وبرزت يف املهجر اجلنوبي يف �أمريكة الالتينية نخبة ممتازة من ال�شعراء ان�ضووا حتت لواء [الع�صبة الأندل�سية] واتخذوا �سان باولو قاعدة، 69
وح ّلق فيها جميدون من مثل ر�شيد �سليم اخلوري (ال�شاعر القروي) واليا�س فرحات وفوزي املعلوف ونعمة قازان وريا�ض املعلوف و�شفيق املعلوف ومي�شال املعلوف و�شكر اهلل اجل ّر وعقل اجل ّر وقي�صر �سليم اخلوري (ال�شاعر املدين) وغريهم .وتابعت م�سريتها [الرابطة الأدبية] بدءاً من 1949 و�ضمت �أي�ضاً اليا�س قن�صل يف منزل جورج �صيدح يف بيون�س �إير�س وكان دعا �إليها وليم �صعب ّ وجورج �صوايا وزكي قن�صل وغريهم (ح�سني� ،1957 ،ص 174؛ �صيدح� ،ص . )297 ال�شعر املهمو�س يف ق�صائد املهجريني
ولرمبا كان ر�شيد �أيوب (� )1941-1871أعمق املهجريني �شكوى و�أنفذهم اح�سا�ساً بالغربة والوحدة. غ ّنى بالده ربيعاً وخريفاً ،وجتاوب مع ميوله الذات ّيةّ ، فتح�سر: تذكر ّ جت �أ�شجاين يا ثلج قد ه ّي َ ّذكرتني �أهلي بلبنانِ باهلل قل ع ّني لإخواين ما زال يرعى حرمة العهدِ يا ثلج قد ّذكرتني �أ ّمي �أيام تق�ضي َ همي الليل يف ّ �ضمي م�شغوفة وحتار يف ّ علي خمافة الرب ِد (�أغاين الدروي�ش� ،1928 ،ص .)70 حتنو ّ وكان حممد مندور (� )1965-1907أطلق لقب [ال�شّ عر املهمو�س] على �شعر نعيمة واملهجريني لغياب اال�سلوب اخلطابي عنه ومت ّيزه بالتقارب بني ال�شاعر والقارئ .اال�سلوب هادئ ورقيق ،يوحي ويرمز ،ويهم�س للف�ؤاد (مندور� ،1963 ،ص .)162 حتالف ال�شعراء الرومنطيقيون العرب يف نيويورك والقاهرة وبريوت على العزوف عن اخلطابة ونبذ َ �أغرا�ض ال�شعر القدمية و�أ�ضفوا على الق�صيدة بعداً روح ّياً عبرْ تركيزهم على التجربة الذاتية ،فكان ال ُب ّد� ،إذن ،من البحث عن قوالب جديدة ت�ستقبل هذه التجارب احلديثة ،ف�ص ّرفوا يف �أوزان الق�صيدة الواحدة ون ّوعوا قوافيها (بدوي� ،1967 ،ص ،107-106الد�سوقي� ،1971 ،ص . )34 70
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
التيار القومي والرافد املارك�سي جبهة النقد تواكب تنامي ّ
�شهدت ثالثينات القرن الع�شرين حت ّوالت جذرية يف بنية املجتمع العربي ،ذلك �أن تط ّور ال�صراع املث ّلث على ال�ساحة االوروبية (الليربايل /القومي /املارك�سي) انعك�س يف �أذهان املثقّفني العرب فدفعهم �إخفاق الليربالية وتعثرّ الدميقراطية �إىل �إعادة النظر يف مكت�سبهم الغربي ويف موروثهم ال�شرقي ،فكانت املرحلة �إذن ،يف بع�ضها ،ت�صفية ح�سابات مع الغرب ،وكانت يف بع�ضها الآخر انفتاحاً عليه� ،أو �أخذاً عنه (ال�صليبي� ،1978 ،ص 191-159؛ الأن�صاري� ،1980 ،ص .)181-180 املد القومي مع ق�سطنطني زريق و�أنطون �سعادة ومي�شال عفلق وجورج حب�ش ،فيما م ّهد وتنامى ّ الت ّيار املارك�سي مع �سالمة مو�سى وخالد بكدا�ش لقيام الواقعية اال�شرتاكية الحقاً .ويف جمال حتديث النقد االدبي وجتديده قام مارون ع ّبود يف لبنان يف الثالثينات مبا قام به طه ح�سني يف م�صر مقدمة �سليمان الب�ستاين ( )1925-1856لرتجمته يف الع�شرينات .وكان النقد الأدبي العربي منذ ّ �إلياذة هومريو�س ( )1904اتخذ م�ساراً جديداً بت�أثري الفكر الغربي وممثّليه .وبني 1934و 1939ن�شر مارون ع ّبود مقاالت نقدية تناولت ق�صائد ب�شارة عبد اهلل اخلوري (الأخطل ال�صغري) و�شفيق (جمعت هذه املقاالت الحقاً يف [على املعلوف وخليل مطران وعبا�س حممود العقّاد ،وغريهم ُ ّ املحك] ،بريوت. )1946 ، الرومنطقية من القاهرة �إىل بريوت وتاجها اليا�س �أبو �شبكة
ت�ضافرت وت�آينت جهود الرومنطيقيني يف القاهرة وبريوت ،ثم ه ّبت ن�سمات املهجريني على العا�صمتني وتفاعلت ،فما لبثت الرومنطيقية �أن هيمنت على ال�ساحة الأدبية يف الأقطار العربية خالل الثالثينات والأربعينات ،وكانت الأ�صوات ال�شعرية اجلديدة يف هذا امل�ضمار تق ّر بجهود مطران وف�ضله يف �إر�ساء الت ّيار الرومنطقي (بالطة� ،1960 ،ص .)129-128جد ّد الرومنطيقيون يف وتفن يف الوزن ال�شّ عر من حيث العرو�ض فكتب ال�شابي ( )1934-1909على منط املو�شّ حات نّ والقافية (هدارة� ،1970 ،ص .)183-164ون�سج �إبراهيم ناجي ( )1953-1898على هذا املنوال �أما علي حممود طه (� )1949-1901صاحب «�أغنية اجلندول يف كرنفال فيني�سيا» فا�ستطاع �أن ي�ؤ ّلف لنف�سه معجماً لغوياً م�ضيئاً وخالباً �ألفاظه ذات بريق و�ألوان ،فال تبقى هناك �أفكار وم�شاعر: نختال ع َرب ْه �آه لو كنت معي الأجنم �إث َر ْه ب�شراع ت�سبح حيث يروي املوج يف �أرخم ن َرب ْه حلم ليل من ليايل كليوبرته (يف :ديوان علي حممود طه� ،1972 ،ص .)228 َ 71
ولربمّ ا تكون هذه الظاهرة هي التي دفعت بع�ض النقّاد �إىل القول �إنه بدون علي حممود طه ،مل يكن ظهور ق ّباين وال�س ّياب ممكناً (� ،Badawi 1975ص ;145الد�سوقي� ،1971 ،ص .)135-134 يرى �صالح لبكي ( )1955-1906يف «لبنان ال�شاعر» (� )1954أن املنقّبني غداً يجدون �أن ب�شارة عبد اهلل اخلوري (الأخطل ال�صغري) ( )1968-1885يف لبنان هو نف�سه �أبو الرومنطيقية والرمزية فيه، �أو قد يق ّررون �أنه ر ّدة عليه ونقي�ضاً له� ،أو قد يق ّررون بعد � -أن �أحدهما ر ّدة على الآخر .وجهة نظر حتتاج �إىل وقفة ملا فيها من مغزى ،ذلك �أن الأخطل ال�صغري بثورته االجتماعية وتغ ّنيه بالطبيعة ومناداته بالقومية ،عرب لغة �صافية ذات نغم عذب ،ه ّي�أ مناخاً فكرياً مالئماً لن�شوء رومنطيقية �أجزل منت يف ثناياها مدر�سة جديدة هي الرمزية .ومذهبا الرومنطيقية والرمزية ظهرا معاً وتواكبا ،وبدوا جت�سد يف فر�سان هاتني املدر�ستني. ك�أنهما ردة على الأدب امل�سيطر واملتالزم للرومنطيقية والرمزية ّ تف ّتحت الرمزية مع �أديب مظهر ( )1928-1898وجت ّلت الرومنطيقية يف نتاج �إليا�س �أبو �شبكة (� ،)1947-1903أما يو�سف غ�صوب (ّ )1972-1893 فظل حائراً بني النزعتني تتجاذبانه (لبكي، ،1954يف الأعمال الكاملة� ،1982 ،ص 178؛ كرم� ،1949 ،ص 115؛ مو�سى� ،1980 ،ص .)51-49 فر�سخ الرمزية: وكانت �سنة 1937ون�شر �سعيد عقل «املجدل ّية»ّ ، مرمي املجدل ّية ر�أت النور ،عهد ال يتعب النو ْر وعهد الدنيا له ،والع�صو ْر وتل ّوت يف مهدها فكرة بي�ضاء خم�ضوبة بوهج اللذة متلأ اجل ّو الع�شر يف �أ�صابعها ْ فملهى ال�ضحى ع�شر (املجدل ّية� ،1937 ،ص .)60 �أ�صابع ْ ولكن ال ي�ص ّنف �أمني نخلة ( )1976-1901مع غريه يف مدر�سة �شعرية ،فهو ن�سيج وحده� .شاعر معا�صر يكتب بنف�س �شعراء بني الع ّبا�س (لبكي ،1954 ،يف الأعمال الكاملة� ،1982 ،ص .)289 72
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
يف �شعر �إليا�س �أبو �شبكة حتققت الرومنطيقية العربية على �أكمل وجهها ،فنحن هنا مع �شاعر تن ّوعت ثقافته :عربية وفرن�سية ،وتوراتية � -إجنيلية (من�صور� ،1978 ،ص 47-44؛ مو�سى� ،1980 ،ص � . )117-112أما الأثر الأكرث �شيوعاً يف �شعره ف�أثر دوفيني ( .)1863-1797كتب �أبو �شبكة مقدمة ديوانه «�أفاعي الفردو�س» ( )1938يف قانون العودة املطلقة �إىل الذات و�إىل الطبيعة ينبوع ال�شعر، جلي يف ق�صيدته «�أحلان القرية» : كما هو ّ يا دهر يف لبنان �أرجع لنا ما كان �أحالمنا واملنى كانت لنا واجلرن واملهباج �أرجع �إلينا ال�صاج ال�سراج وخ�صبنا يف الربى ونورنا يف ّ وا�سرتجع الكهربا وكاذبات الغنى (الأحلان� ،1938 ،ص .)49-48 ثورة ال�شعر العربي احلديث ()1957-1947
ت�أثر ال�شعراء العرب املعا�صرون الذين ظهروا بعد احلرب العاملية الثانية ،مبنجزات الرومان�سية والرمزية اللتني �شاعتا يف مرحلة ما بني احلربني العامليتني :ال�س ّياب والب ّياتي واملالئكة وق ّباين وعبد ال�صبور واحليدري وحجازي ،غرفوا من تقنيات الرومان�سية وموا�ضيعها .حاوي و�أدوني�س واخلال ورفقة و�صايغ وجربا ا�ستفادوا من الرمزية العربية ومن نظريتها الغربية� ،إذ �أتاح لهم ا ّت�صالهم املبا�شر بالثقافتني الأوروبية والأمريكية الوقوف على م�صادر حفزتهم على البحث عن �شكل جديد ل�صياغة موا�ضيع حيات ّية جديدة ،و�أن�سي احلاج و�شوقي �أبي �شقرا نهال من املدار�س ال�شعر ّية الفرن�سية التي �إن�شقّت عن الرمزية �أو جاءت ر ّدة عليها ،و�إذا ق�صائدهما تخلق لغة �شعرية جديدة (�ساعي� ،1978 ،ص 197؛ الب�صري� ،1968 ،ص 16؛ اخلياط� ،1970 ،ص 160؛ املقالح� ،1981 ،ص 41؛ ن�شاوي� ،1980 ،ص .)394-393وكان ظهور ديوان نزار ق ّباين «قالت يل ال�سمراء» ( )1944داللة على بدء الفرتة الواقعية اللغو ّية �إذ تط ّورت فكرة «اللفظة ال�شعرية» فلم تعد تعني تلك «اللوحة» التي تكاد تكون وحدها �شعراً قبل �أن تنتظم يف الق�صيدة ،بل �أ�ضحت تكت�سب «�شعر ّيتها» من موقعها يف الق�صيدة وت�شابكها مع ما يجاورها من الألفاظ وعالقاتها الداخلية الأخرى: �أريدكِ �أعرف �أين �أريد املحال و�أنك فوق ادعاء اخليال 73
وفوق احليازة ،فوق النوال و�أطيب ما يف الطيوب و�أجمل ما يف اجلمال (قالت يل ال�سمراء ،1944 ،يف الأعمال الكاملة ،مج � ،1998 ،1ص .)31 يف مرحلة ما بعد 1947نه�ض ال�شّ عر العربي �إىل �إيقاع الأفكار القائم على التوازن والرتداد ليحقّق االن�سجام والوحدة والتعوي�ض عن فقدان االنتظام يف طول الأبيات و�أمناط التقفية وكذلك �إىل املعجم ال�شعري الب�سيط والكالم اليومي الذي ي ّت�سم بالب�ساطة ،وي�ستخدم �أي�ضاً املعادل املو�ضوعي والرمز والأ�سطورة وال�صور اليوم ّية واحلوار الداخلي (ل�ؤل�ؤة� ،1983 ،ص . )59 يف مطلع الأربعينات �صدر «الفكر العربي احلديث� :أثر الثورة الفرن�سية يف توجيهه ال�سيا�سي واالجتماعي» لرئيف خوري ( )1967-1913و «روابط الفكر والروح بني العرب والفرجنة» لإليا�س �أبو �شبكة ( )1947-1903و «ال�صراع الفكري يف الأدب ال�سوري» لأنطون �سعادة ()1949-1904 .وهذه الكتب ّ �شكلت معامل رئي�سية �أ�ضاءت الدرب �أمام النقد الأدبي احلديث الذي ازدهر يف منحى عقائدي . اخلم�سينات وال�ستينات ،ال �س ّيما ما ارتكز منه على ً �شهد العقد الثاين من الأربعينات ثورة ال�شّ عر العربي احلديث املعا�صرة بعد �أن ا�ستكملت الكال�سيكية اجلديدة ثم الرومان�سية ثورتهما املحدودة يف جمال املو�ضوعات .وال�شّ عر العربي احل ّر بزغ يف العراق بني 1947و 1950ور ّواده الأوائل ال�س ّياب واملالئكة و�شاذل طاقة .والناقد �إح�سان ع ّبا�س انربى للدفاع عن هذا ال�شعر عرب درا�سة لديوان الب ّياتي «�أباريق مه�شّ مة» ()1954 (� ،Badawi 1977ص ;205-181كمال خريبك� ،1982 ،ص . )89-87 انقالب جماعة [�شعر] واخرتاق جدار اللغة
ثم انتمت ب�أ�صالة �إىل جمرى ال�شّ عر العربي احلديث جماعة تطالب ّ بتخطي واقع ال�شعر العربي الكال�سيكي وجتاوزه وب�ضرورة تخ ّلي ال�شاعر املعا�صر عن عرو�ض البيت �إىل عرو�ض الق�صيدة، وهي جماعة «�شعر» التي �أ�صدرت جم ّلتها يف بريوت من � 1957إىل ،1964ومن � 1967إىل .1969 ثم جاءت «ال�شّ عر» القاهرية و «مواقف» لأدوني�س لكن مل تفلح جم ّلة يف مثل ما �أجنزته «�شعر». متخ�ص�صة مبو�ضوع النقد الأدبي .ال�شاعر يو�سف اخلطيب مثّل يف «�شعر» برزت خالدة �سعيد ّ املجددين الذين �سلكوا نهجاً و�سطاً بني العمودية والتح ّرر (ال�سوافريي� ،1963 ،ص .)309-242 ّ الر ّواد العراقيون هم احللقة الأوىل يف ت�سل�سل ال�شعر العربي احلديث بعد .1947م ّهدوا الدرب �أمام جماعة «�شعر»� .أ�ستاذهم كان بدر �شاكر ال�سياب الذي حظي باهتمام احليدري والبياتي. 74
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
من بني الر ّواد العراقيني تظل نازك املالئكة �أكرثهم توفيقاً يف تقنني املفاهيم اخلا�صة بالدعوة اجلديدة و�أ�سرعهم يف نقدها وبيان عيوبها وميزاتها و�أ�ضعفهم ق�صيدة و�أعجزهم عن تطوير املنحى الذي دعت �إليه . بلند احليدري عبرّ بالرمز عن رومان�سية و�س�أم وقلق وجودي .لكن احليدري و�إن بد�أ رمزياً ا�ستق ّر على الواقعية احلديثة .وقف ال�س ّياب يف طليعة حركة ال�شّ عر العربي املعا�صر .تد ّرج يف الرومان�سية �إىل الواقعية فاال�شرتاكية الرمزية وانتهى بامل�أ�ساوية (ن�شاوي� ،1980 ،ص 394-393؛ الب�صري،1968 ، �ص 11-10؛ علوان� ،1975 ،ص 373؛ اخلياط� ،1970 ،ص . )46جتربته غن ّية يف احلياة وال�سيا�سة والت�ش ّرد والنفي واملر�ض� ،ص ّبها �شعراً ،فكانت «�أن�شودة املطر» («الآداب» ،حزيران )1954عالمة بارزة يف م�سار ال�شّ عر احلديث .املطلع هادئ وجميل والنهر يجري بوداعة وتنعك�س فيه النجوم: عيناكِ غابتا نخيل �ساعة ال�سحر �أو �شرفتان راح ين�أى عنهما القمر عيناكِ حني تب�سمان تورق الكروم وترق�ص الأ�ضواء كالأقمار يف نهر يرجه املجذاف وهناً �ساعة ال�سحر ّ ك�أنمّ ا تنب�ض يف غوريهما النجوم (�أن�شودة املطر ،1960 ،يف ديوان بدر �شاكر ال�س ّياب ،مج ،1974 ،1 �ص . )474 على �أن هذا الهدوء ي�ستبق العا�صفة .يعبرّ ال�سياب يف «�أن�شودة املطر» عن اجلدب والعقم يف حياة بتجمع الربوق والرعود والغيوم العراق عرب �صور اجلفاف وانحبا�س املطر ،ولكنه ،ويف �آن ،يوحي ّ املثقلة بالأمطار بني جبال العراق وفوق وديانه ،وهي املقابل املو�ضوعي امل�ألوف للثورة الو�شيكة يف �شعر �شيلي وعا ّمة الرومان�سيني. بدءاً من 1949ق�صيدة خليل حاوي تومئ �إىل املنعطف اخلطري
وملّا كانت 1945وانتهت احلرب العاملية الثانية وبد�أ االنتداب ينح�سر عن �سوريا ولبنان وم�صر ،بدت يف االفق غيوم �سوداء ما لبثت �أن هطلت ظالماً فا�ستعماراً جديداً على فل�سطني (كرم� ،1980 ،ص 77-74؛ الأن�صاري� ،1980 ،ص .)181فا�شتعلت حرب و�سقطت �أنظمة ،وكرثت انقالبات ،فما �إن �سدة احلكم حتى ت�أ ّرخت بداية مرحلة جديدة كانت 1952وو�صل عبد النا�صر (� )1970-1918إىل ّ 75
على م�سرح العرب ال�سيا�سي واالقت�صادي واالجتماعي والفكري ،و�أعدم �سعادة يف بريوت يف متوز 1949فوجد خليل حاوي يف �إعدام رئي�س احلزب ال�سوري القومي االجتماعي منكراً طا�شت �ألبابه �إثره ،فرثاه يف �إحدى ق�صائده من بواكري �شعره الف�صيح ،وقال فيها: ترجي ال�ضياء وعقّي بالداً ّ ّ امل�ستهل وتق�ضي على الفجر يف بالداً بجوهرها تكفر فج ّبارها الأ�سمر ُيغال بليل �أباح ال�ضمائر ل�شهوة غادر فويل وويل �إذا نغفر تثور ال�سماء وت�ستنكر هو ا ّلليل يحدو �إىل م�سمعي ال�ضحايا بوجه الردى املزبد هتاف ّ �شدد يدي فيا �شبح املوت ّ �أنا واملنايا على موعد (يف� :إيليا حاوي� ،1978 ،ص .)72 ت�ضم بع�ض قدامى احلزب ال�سوري القومي ممن ما �أن �صدرت «�شعر» يف بداية 1957حتى ظهر �أ ّنها ّ كانوا يف بريوت �أو ممن وفدوا �إليها من دم�شق �إثر ق�ضية املالكي [العظمة � /أدوني�س /خالدة �سعيد /حممد املاغوط] .ن�شر حاوي ق�صيدة يتيمة يف املج ّلة [العدد ،2ربيع ،1957ظهرت الق�صيدة يف «�شعر» بعنوان «ال�سجني» ،وهي نف�سها ق�صيدة «�ضحكات ال�صغار» يف نهر الرماد] و�أ�صدر «نهر ال�صلة نهائياً بينه وبني القائمني على «�شعر» ،ثم حت ّولت القطيعة اىل الرماد» عن دارها ،وانقطعت ّ عداوة. قبل ذلك كان حاوي م�ؤتلفاً مع جماعة «�شعر» يتباحث معهم يف ندواتهم يف مفهوم الق�صيدة يكن احرتاماً خا�صاً لل�س ّياب الذي كان يبعث للمج ّلة بق�صائده من العراقّ ،ثم احلديثة ،وكان ّ وجتمعه وحتالف مع «الآداب» التي �أ�صدرها �سهيل �إدري�س يف ،1953 خرج حاوي عن «�شعر» ّ تعم الهالل اخل�صيب با�سم �سوريا واحل�ضارة ال�سور ّية يجب �أن تكون لإميانه �أنّ الدعوة �إىل وحدة ّ با�سم العروبة. 76
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
وكان حاوي قبل ظهور «�شعر» قد ّر�سخ وجوده يف «الآداب» ،فن�شر فيها بني نهاية 1953ونهاية 1957اثنتي ع�شرة ق�صيدة ّ �شكل معظمها �أنا�شيد «نهر الرماد». ميتد من بداية اخلم�سينات �إىل بداية حت ّو ُل حاوي باجتاه «الآداب» والقوم ّية العربية خالل عقد ّ يعن �إ�سقاطه ملبادئ �أنطون �سعادةّ . ال�ساحة العربية ال�س ّتينات مل ِ ظل وف ّياً لهاّ . لكن ما طر�أ على ّ جتمع «العروة من ّ تبدالت جذر ّية �أيقظت فيه وعياً جديداً .فمنذ انخراطه �أواخر الأربعينات يف ّ الوثقى» يف اجلامعة الأمريكية جنح باجتاه فكرة القوم ّية العربية بت�أثري نكبة فل�سطني ،لكن بقيت ال�صفة احلزبية ال�سور ّية معروفة فيه بني �صحبه. ظهرت جم ّلة «�شعر» ( )1957يف وقت وجد ال�شعراء اللبنانيون �أنف�سهم وقد جتاوزتهم موجة ال�شّ عر اجلديد يف العراق و�سورية وم�صر .يف لبنان كان �سعيد عقل ال يزال ّ مقدمة امل�شهد ال�شعري يحتل ّ بني جمهرة من النيوكال�سيني ،على ال ّأقل يف ال�شكل ال�شعري ،مثل �أمني نخلة و�صالح لبكي و�شفيق املعلوف وبول�س �سالمة ويو�سف غ�صوب ،وكانت هناك جمهرة �أخرى من «�شيوخ» الق�صيدة التقليدية ،مثل :ميخائيل نعيمة والأخطل ال�صغري وال�شاعر القروي .عام ظهور جم ّلة ال�سلطان ال�شعري متقا�سماً بني التقليديني «�شعر» �شهد وفاة �إيليا �أبو ما�ضي� .أما يف �سورية فكان ّ ي�شق (بدوي اجلبل� ،أبو ري�شة) والنيوكال�سيني (�سليمان العي�سى وعزيزة هارون) ،وكان نزار ق ّباين ّ طريقاً �شعري ًة مغاير ًة للم�ألوف ،من حيث املو�سيقى واملو�ضوع .يف فل�سطني والأردن كان معني ب�سي�سو وفدوى طوقان و�سلمى اخل�ضرا اجل ّيو�سي ويو�سف اخلطيب وهارون ها�شم ر�شيد يحقّقون تط ّوراً �شكلياً باجتاه احلداثة ال�شّ عرية� .إىل جانب الر ّواد العراقيني (ال�س ّياب ،املالئكة ،احليدري، الب ّياتي) ظهر �صفاء احليدري وكاظم جواد و�سعدي يو�سف و�صالح نيازي .يف م�صر وال�سودان فجددوا بجر�أة ،مثل �صالح عبد ال�صبور و�أحمد عبد املعطي ثار �شعراء �ش ّبان على �سيادة العقّاد ّ حجازي وجماهد عبد املنعم جماهد وحممد الفيتوري وحمي الدين فار�س وجيلي عبد الرحمن. هذا هو الإطار الذي ولدت فيه «�شعر» (خريبك� ،1982 ،ص .)89-87 �صحيح �أن جماعة «�شعر» جاءوا مت� ّأخرين باملقارنة مع الر ّواد العراقيني� ،إال �أن جميع ال�شعراء العرب وجدوا يف املجالت اللبنانية جما ًال رحباً لتجاربهم يف م�ضمون الق�صيدة و�شكلها .ن�شروا يف «الأديب» و»الآداب» وكانت هذه الأخرية قد لعبت الدور الأ�سا�سي يف ن�شر بدايات احلركة احلديثة قبل ظهور «�شعر». يف 1956كان يو�سف اخلال قد عاد من �أمريكا بعد �إقامة طويلة ويف ن ّيته جتديد ال�شعر العربي .يف البدء تعاون مع خليل حاوي� ،إال �أن هذا ال�شاعر املبدع ان�سحب فلم يكن من جماعة «�شعر» ،وال هو �أراد .وا ّتفق �أن التج�أ �إىل بريوت عدد من �شعراء �سورية كان �أغلبهم �أع�ضاء يف احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،مثل �أدوني�س ونذير العظمة وحممد املاغوط وخالدة �سعيد .هكذا اكتملت التجمع الذي �أعلن عن النواة ثم ان�ضم �إليها �أ�سعد رزوق و�شوقي �أبي �شقرا و�أن�سي احلاج ،فكان ّ 77
ت�أ�سي�س جم ّلة «�شعر» التي تخدم ال�شّ عر احلديث وتدافع عنه ،و�أ�صبح اخلال رئي�ساً لتحريرها (�صدر العدد الأول يف كانون الثاين . )1957 �أهم �إجناز لغوي � -أدبي حققته جم ّلة «�شعر» يكمن يف بلورة ق�صيدة النرث� .صحيح �أن �ألبري �أديب و�إبراهيم �شكر اهلل وجربا �إبراهيم جربا ن�شروا مناذج من النرث ال�شعري� ،إال �أن ق�ضية ق�صيدة النرث مل تعالج �إال مع و�صول ال�شاعر ال�سوري حممد املاغوط �إىل بريوت وان�ضمامه �إىل «�شعر» ،ذلك تفجر املنحى ال�صوري - «�أن ق�صائده احل ّرة ،املج ّردة من االيقاع العرو�ضي ومن القافية -والتي ّ التجمع �إىل االمتيازات الكبرية التي يتيحها لل�شاعر تخ ّليه الكامل عن قد لفتت انتباه �أع�ضاء ّ ال�شكل التقليدي» .فج�أة دار النقا�ش حول ق�صيدة النرث ،وظهرت �أواخر اخلم�سينات ومطلع تر�سخ املنحى هذا ،دفع بها � -إ�ضافة �إىل املاغوط («حزن يف �ضوء القمر») ال�ستينات جماميع �شعريةّ ، احلاج («لن») وجربا («متوز يف املدينة») وتوفيق �صايغ («الق�صية ك») و�أبي �شقرا («ماء �إىل ح�صانالعائلة») وهرني حاماتي («�إىل الفقر») ومي�شيل كمال («رحلة العودة») و�أدوني�س («�أغاين مهيار الدم�شقي») (خريبك� ،1982 ،ص .)93 يرى كمال خري بك يف �أثره النفي�س «حركة احلداثة يف ال�شعر العربي املعا�صر» �أن �أعمال �شعراء را�سخني كال�سياب و�أدوني�س وخليل حاوي قد تط ّورت من قبل ،يف اجتاه ق�صيدة النرث �إال �أن االنعطاف الأهم والأكرث ح�سماً يف التطور ال�صوري لل�شعر العربي الطليعي قد حتقّق يف ق�صائد حممد املاغوط ،وبدءاً من هذا االنعطاف �أخذت ال�صورة ذات االنزياح املرتفع بل الأق�صى �أحياناً، تربز يف �إنتاج �شعراء احلداثة ،بل ت�صبح مفتاح التعبري ال�شعري وعن�صره الأ�سا�سي .جاءت ق�صائد املاغوط تفتح درباً جديداً: نعدو كاخليول الوح�ش ّية على �صفحات التاريخ (حزن يف �ضوء القمر ،بريوت� ،1959 ،ص .)30 جددت ق�صيدة النرث يف هيئة الق�صيدة وبنيتها اخلارجية و�شحنت مفرداتها مبعنى مل حتمله من ّ قبل ،فالبحر ي�صري غرب ًة تطهري ّية عند �أدوني�س: �أيها البحر ،يا �صديق اجلرح (�أوراق يف الريح ،بريوت� ،1958 ،ص .)158 والدم رحلة يف التاريخ عند �أبي �شقرا: فدمي لونٌ غريب وع�صو ٌر مقفرة (خطوات امللك ،بريوت� ،1960 ،ص .)39 وهكذا �صار البيت ال�شّ عري احلديث �سطراً نرثياً يحمل «�صيغة بنائية» يف «اجلملة الكبرية» للق�صيدة احلديثة ،كما عند احلاج: 78
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
قمت من النوم خلنج� ،أظن � ِ أ�شتهيك (من ق�صيدة [�شوكة] ،يف جملة �شعر� ،1964 ،32/31 ،ص .)14 وعند اخلال و�أدوني�س �صار البيت ال�شعري مندجماً يف بناء الق�صيدة باعتبارها «عقدة حية وع�ضوية» .وعند ع�صام حمفوظ تكثيفاً داللياً: والقمر ال�ش ّرير ّ ين�سل من �شباكهم ويرقد (�أع�شاب ال�صيف ،بريوت� ،1961 ،ص .)52 �أما ف�ؤاد رفقة فقد حافظ على كال�سيك ّية معتدلة �إذا ما قورن بجماعة ق�صيدة النرث ،وهو �أقرب �إىل خليل حاوي يف �سعيه �إىل �إ�شادة البناء الهند�سي و�إبقائه على وزن ومو�سيقى داخليني ،وحتميل مفرداته �شحنات فكرية وتراثية: هنا ت�سقط النجوم ت�سقط العالمة الكبرية وترحل الف�صول وكل �شيء ينحني يف جزر الرياح لل�سفينة الأخرية (يف ق�صيدة [رحيل الف�صول] ،يف جملة �شعر� ،1968 ،37 ،ص .)32-31 يخت�ص بالتنقيط والتوزيع يف الق�صيدة، ا�ستفاد جماعة «�شعر» من نتاج الدادائية وال�سوريالية فيما ّ وهذا ما ّ حطم العبارة التقليدية .جل�أ بع�ضهم �إىل �إذابة اجلمل وا�ستبعاد احلدود الفا�صلة بينها، و�إىل ا�ستعمال اجلملة غري التامة وتب�سيط اخلطاب ال�شّ عري .ا�ستفادوا من ترجمة ال�شعر الأجنبي الن�ص وحافظوا على بنيته بهدف القب�ض على خ�صائ�ص ال�شاعر البنائية واحلذاقة واحرتموا ّ والأ�سلوبية لرتكيبه ال�شّ عري (خريبك� ،1982 ،ص 161؛ � ،Jayyusi 1977ص 181 - 205؛ 1975 � ،Badawiص .)172 - 178 79
امل�صادر واملراجع
�أحمد ّب�سام ال�ساعي .حركة ال�شعر احلديث يف �سورية من خالل �أعالمه .دم�شق� .1978 ،أحمد اجلندي� .شعراء �سورية .بريوت� .1965 ،ألربت حوراين .الفكر العربي يف ع�صر النه�ضة -1798 .1939ترجمة كرمي عزقول .بريوت( 1977 ،طبعة ثالثة)� .ألفرد خوري .الكلمة العربية يف املهجر. بريوت� .1960 ،أنطون غطا�س كرم .الرمزية واالدب العربي احلديث .بريوت� .1949 ،أنطون غطا�س كرم .مالمح االدب العربي احلديث .بريوت� .1980 ،أني�س �صايغ .الفكرة العربية يف م�صر .بريوت، � .1959أني�س اخلوري املقد�سي .االجتاهات االدبية يف العامل العربي احلديث .بريوت( 1982 ،طبعة �سابعة)� .إيليا حاوي .مع خليل حاوي يف م�سرية حياته و�شعره .بريوت .1978 ،جالل اخلياط. ال�شعر العراقي احلديث :مرحلة وتط ّور .بريوت .1970 ،جورج �أنطونيو�س .يقظة العرب :تاريخ حركة العرب القومية .ترجمة �إح�سان عبا�س ونا�صر الدين الأ�سد .تقدمي نبيه �أمني فار�س .بريوت، ( 1982طبعة �سابعة) .جورج �صيدح� .أدبنا و�أدبا�ؤنا يف املهاجر الأمريكية .القاهرة( 1979 ،طبعة ثالثة)� .شوقي �ضيف .االدب العربي املعا�صر يف م�صر .القاهرة( 1974 ،طبعة خام�سة) .حممد هدارة .درا�سات يف ال�شعر العربي .الإ�سكندرية� .1970 ،صالح لبكي .لبنان ال�شاعر. م�صطفى ّ بريوت .1954 ،عبا�س حممود العقاد� .شعراء م�صر وبيئاتهم يف اجليل املا�ضي .القاهرة1965 ، (طبعة ثالثة) .عبد اجلبار داود الب�صري .مقال يف ال�شعر العراقي احلديث .بغداد .1968 ،عبد احلي دياب .الرتاث النقدي قبل مدر�سة اجليل اجلديد .القاهرة .1968 ،عبد العزيز الد�سوقي .جماعة �أبولو و�أثرها يف ال�شعر احلديث .القاهرة( 1971 ،طبعة ثانية) .عبد العزيز املقالح .ال�شعر بني الر�ؤيا والت�شكيل .بريوت .1981 ،عبد الواحد ل�ؤل�ؤة .البحث عن معنى :درا�سات نقدية .بريوت1983 ، (طبعة �أوىل بغداد .)1973علي عبا�س علوان .تطور ال�شعر العربي احلديث يف العراق :اجتاهات الر�ؤيا وجماالت الن�سيج .بغداد .1975 ،كمال خري بك .حركة احلداثة يف ال�شعر العربي املعا�صر: درا�سة حول االطار االجتماعي -الثقايف لالجتاهات والبنى االدبية .ترجمة جلنة من ا�صدقاء امل�ؤلف .بريوت .1982 ،كامل ال�سوافريي .ال�شعر العربي احلديث يف م�أ�ساة فل�سطني-1917 : .1955القاهرة .1963 ،كمال ال�صليبي .تاريخ لبنان احلديث .ترجمة يو�سف اخلال .بريوت1978 ، (طبعة رابعة) .كمال اليازجي .ر ّواد النه�ضة االدبية يف لبنان احلديث .1900-1800 :بريوت، جمددون وجم ّرتون .بريوت( 1979 ،طبعة خام�سة) .حممد جابر الأن�صاري. .1962مارون ع ّبودّ . حت ّوالت الفكر وال�سيا�سة يف ال�شرق العربي .1970-1930الكويت .1980 ،حممد م�صطفى بدوي.
80
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
خمتارات من ال�شعر العربي احلديث .بريوت /اك�سفورد .1969 ،حممد م�صطفى هدارة .التجديد يف �شعر املهجر .القاهرة .1957 ،حممد مندور .النقد والنقّاد املعا�صرون .القاهرة .1963 ،م�صطفى عبد اللطيف ال�سحرتي .ال�شعر املعا�صر على �ضوء النقد احلديث .القاهرة .1948 ،مناف من�صور. االن�سان وعامل املدينة يف ال�شعر العربي احلديث .بريوت .1978 ،منيف مو�سى .ال�شعر العربي احلديث يف لبنان :بحث يف �شعراء لبنان اجلدد مرحلة ما بني احلربني العامليتني .بريوت.1980 ، ن�سيب ن�شاوي .مدخل �إىل درا�سة املدار�س االدبية يف ال�شعر العربي املعا�صر .دم�شق .1980 ،وديع ديب .ال�شعر العربي يف املهجر الأمريكي .بريوت. 1955 ، Badawi, M. M. Modern Arabic Poetry. Cambridge University Press, 1975. Jayyusi, S. K. Trends and Movements in Modern Arabic Poetry. E. J. Brill Leiden, 1977.
81
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
2014 – 1914
مئوية احلرب العاملية الأوىل
مائة عام على «دمعة وابت�سامة« جلربان ال�شعاع واالفق
�سليمان بختي -كاتب ونا�شر
مئة عام م�ضت على �صدور كتاب «دمعة وابت�سامة» جلربان خليل جربان فهو �صدر يف العام من � 197صفحة وهو كتابه الرابع يف العربية بعد «املو�سقى» 1905و «عرائ�س املروج» 1906و «االرواح املتمردة» 1908و «االجنحة املتك�سرة» .1912 وي�ضم الكتاب عدداً من املقاالت والق�ص�ص والق�صائد كان جربان قد كتبها جلريدة «املهاجر» ل�صاحبها �أمني غريب ما بني 1903و 1908وجمعت ون�شرت يف كتاب �سنة � .1914أما �أهداء الكتاب فهواىل MEHماري ها�سكل ،ويقول يف االهداء «�أقدم هذا الكتاب وهو �أول ن�سخة من عا�صفة حياتي اىل الروح النبيلة التي حتب الن�سمات وت�سري مع العوا�صف» .ومثبت يف �سرية جربان ووقائع حياته الدور الفاعل واال�سا�سي الذي لعبته ماري ها�سكل يف دعم جربان لتحقيق مواهبه واثبات نف�سه .وثمة مقالة يف الكتاب بعنوان «جمال املوت» ويرفعها �إىل ماري ها�سكل �أي�ضاً. يف هذا الكتاب تتمحور مقاالت جربان حول املوا�ضيع التالية :الطبيعة ،احلب املجتمع والوجود. ينحاز جربان يف كتاباته على م�ألوفه اىل جانب املظلومني وامل�ضطهدين وي�سمى الفقري «يا خليلي الفقري» معترباً �أن حياة الفقري طاهرة و�شريفة ومثالية. يقد�س جربان االمل ويت�سق يف ذلك مع ع�صره �ش�أنه �ش�أن الرومن�سيني الذين يعتربون �أن الأمل يطهر االن�سان من الف�ساد وال�شرور والنزعات املادية .وجربان املتمرد يقول« :ر�أيت االبتذال ي�سري مبوكب عظيم والنا�س يدعونه احلرية .ر�أيت الدين مدفوناً طي الكتاب والوهم قائماً مقامه»... وي�س�أل «�أهذه هي االر�ض يا ابنة الآلهة ؟ �أهذا هو االن�سان». ويف توطئة الكتاب نعرف ملاذا �سمى جربان كتابه « دمعة وابت�سامة» فهو يقول�« :أمتنى �أن تبقى حياتي دمعة وابت�سامة .دمعة تطهر قلبي وتفهمنى �أ�سرار احلياة وغوام�ضها ،وابت�سامة تدنيني من 1914
83
�أبناء بجدتي وتكون رمز متجيدي الآلهة .دمعة �أ�شارك بها م�ستحقي القلب ،وابت�سامة تكون عنوان فرحي بوجودي». يظهر جربان مراجعه يف هذا الكتاب وتظهر �أي�ضاً ت�أثراته بالرومن�سية وال�صوفية واالفالطونية واالفلوطنية وامل�سيحية والفل�سفات ال�شرقية .يقول�« :سمعت تعاليم كنفو�شيو�س ،وا�صغيت حلكمة برهما ،وجل�ست بقرب بوذا حتت �شجرة املعرفة ،وها �أنا الآن �أغالب اجلهل واجلحود ،وكنت على الطور اذ جتلى يهوه ملو�سى ،ويف عرب االردن ر�أيت معجزات النا�صري ،ويف املدينة �سمعت �أقوال ر�سول العرب ،وها �أنا الآن �أ�سري احلرية» .ولكن جربان ي�ؤكد يف مكان �آخر ان�سانيته العاملية «االر�ض كلها وطني وجميع الب�شر مواطني» �أو «جئت لأكون للكل وبالكل». يف مقالة يوم مولدي «نلم�س عاطفة جربان وحمبته للآخر ،للنا�س �إذ يقول« :وقد احببت النا�س، احببتهم كثريا ،والنا�س يف �شرعي ثالثة :واحد يلعن احلياة ،وواحد يباركها ،وواحد يت�أمل بها. فقد �أحببت االول لتعا�سته ،والثاين ل�سماحته والثالث ملداركه» .ويف الكتاب �آراء وا�ضحة جلربان يف مفاهيم متعددة وعلى طريقته فهو يرى �أن «اجلمال هو ما تراه وتود ان تعطي ال �أن ت�أخذ» و�أن «ال�سعادة تتبدىء يف قد�س �أقدا�س النف�س وال ت�أتي من اخلارج». ويف نظرته �إىل ال�سيا�سة يقول «�أعفني من م�آتي ال�سيا�سة واخبار ال�سلطة .لأن الأر�ض كلها وطني وجميع الب�شر مواطني» .ويف عبارة مقطوفة من الرتاث ال�صويف يقول� :سر �إىل االمام فاالمام هو الكمال» وهي ت�شبه ما قاله �أحد كبار ال�صوفيني «االمام ال يلتفت» ولكن بني الواقع واالحالم جتنح عبارة جربان جمنحة على هذا النحو «من ال ي�صرف االيام على م�سرح االحالم كان عبد االيام». ويزين جربان مقدمات مقاالته ب�أقوال مثل «�إن اجلمال دين احلكماء» وهي ل�شاعر هندي �أو جلان كيت�س «هنا رفات من كتب ا�سمه مباء» وتذكرنا هذه العبارة ب�شطر من ق�صيدته ال�شهرية «�أعطني وغن» والتي �أن�شدتها فريوز بلحن من جنيب حنك�ش وتوزيع االخوين رحباين �إذ يقول�« :إمنا الناي ِّ النا�س �سطور لكن مباء». ويف �شبه تنا�ص يكتب جربان �أي�ضاً منهياً مقالته «احفروا على لوح قربي ،هنا بقايا من كتب ا�سمه على ادمي ال�سماء ب�أحرف من نار» .او «ر�أيت كل االعمال التي عملت حتت ال�شم�س فاذا الكل باطل وقب�ض الريح» .والقول موقع من اجلامعة� .أو «يف نظرات احليوان االبكم كالم تفهمه نف�س احلكيم ،وهي اي�ضا ل�شاعر هندي وي�ست�شهد بكالم القر�آن الكرمي «وكنتم امواتاً ف�أحياكم ثم مييتكم ثم يحييكم ثم �إليه ترجعون». يظهر الكتاب �أي�ضاً �شعور جربان املتعاظم بالغربة يف تلك الفرتة في�صف نف�سه بانه «نبي منبوذ يف �أمته و�شاعر غريب بني �أهله». 84
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
ولكن ما هو موقف جربان من الوطن (عن بعد)؟ يذكرجربان الكثري من الأماكن يف لبنان ويحن اليها حنينا �صادقا ويرى �أن الوطن «�سيعود اىل الرقي بعد فرتات االنحطاط» .ومثلما «الزهرة ال تعود اىل احلياة اال بعد املوت» .ويناجي �سوريا «�إىل اللقاء يا �سوريا �إىل اللقاء» ويعني لقاء الرقي والنه�ضة والتقدم .ويت�ساءل ملاذا يهدم االن�سان ما تبنيه الطبيعة. يف ق�صة «بني اخلرائب» يعود جربان �إىل مو�ضوعه االحلى� ،إىل احلب رافعاً من قيمة احلب و�أنه ال يبقى �إال وحده» انقر�ضت الدولة العظيمة التي �أ�س�سها �سليمان وانقا�ض الهيكل ،ونفدت حكمته قيمتها ومل يبق غري حبه وانا�شيد حبه� .إذ ال حتفظ «االبدية �إال املحبة لأنها مثلها» .ويف خامتة الكتاب يقول جربان كلمته اخلالدة التي �ستظهر فيما بعد بقوة «جئت القول كلمة و�س�أقولها واذا �أرجعني املوت قبل �أن الفظها يقولها الغد» هكذا ر�أى نف�سه يف الآن والغد ،وهكذا كان . جربان يف «دمعة وابت�سامة «يف مرانه و�صعوبته ،ويف رقته ومترده ،ويف طريقه الطويل �إىل حتفته «النبي» يف اللغة والفكر واملقاربة ،ويف الطريق نحو قراره اخلطري �أن يبد�أ بالكتابة والن�شر باالنكليزية .وهذا ما فعله فيما بعد بدءاً من كتاب «املواكب» 1919والعوا�صف 1920والبدائع والطرائف .1923 كتاب «دمعة وابت�سامة» 1914وحتى 2014ال مير الزمان على اال�صيل وال ُيبلى بل لعل الأيام تزيده توهجاً وملعاناً و�شع�شعة مثل ال�شعاع املر�سل نحو الأفق.
85
الدولية للمعلومات �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينinfointl@information-international.com : املوقع الإلكرتوينwww.information-international.com :
مئوية احلرب العاملية الأوىل
االعالم :اال�ست�رشاق اجلديد
2014 – 1914
ما بعد احلرب العاملية االوىل حتى الآن.. و�سام عبد اهلل � -إعالمي
طبع يف الغرب بني عام 1800و 1950حوايل � 60ألف كتاب تهتم ب�ش�ؤون ال�شرق من خالل درا�سات ومقاالت وابحاث كتبها رحالة ومب�شرين وم�ستعمرين وغريهم ممن زار ال�شرق االدنى وال�شرق االو�سط من �أوروبا و�أمريكا ،عدد الكتب املطبوعة يعطي فكرة وا�ضحة عن االهتمام الغربي بالبحث والتعمق يف احلياة ال�شرقية فيما مل يكن هذا مماثال يف الطرف االخر. اال�ست�شراق هو ال�سيا�سة الثقافية �إن �صح التعبري التي تعبرّ عن عالقة الغرب بال�شرق من خالل جمموعة من الدار�سات والأبحاث التي قام ب�إعدادها العديد من ال�شخ�صيات التي عا�شت يف ال�شرق عن طريق احلمالت الع�سكرية والتجارية والبعثات الثقافية وغريها من الطرق التي تواجد فيها الغرب يف منطقتنا على مدى عقود طويلة من الزمن. �أهم املدار�س اال�ست�شراقية هي الربيطانية والفرن�سية (وهما االقدم) واالمريكية (وهي حديثة العهد ن�سبتا لهما) ،مل ت�شكل تلك املدار�س جمرد �أبحاث و�أفكار جمردة ،و�إمنا ا�ستطاعت العمل على خلق نظرة اجتاه ال�شرق بو�صفه تابعا للغرب وهو بحاجة له كونه االقوى واالكرث تقدما، وقد مت تطبيق هذه النظرة من خالل العملية ال�سيا�سية التي كان ينتهجها الغرب .فقد �أ�س�ست بريطانيا مراكز الدرا�سات العربية يف جامعة اوك�سفورد عام 1636وجامعة كامربدج عام 1632وكان الهدف منها تب�شريي للتعرف على اللغة العربية ولكن بعد حرب ال�سنوات ال�سبع ()1763-1756 وتراجع النفوذ الفرن�سي يف الهند وازدياد االهتمام باملنطقة العربية �أ�صبحت بريطانيا م�ضطرة �أن حتافظ على كافة خطوط توا�صلها مع حدود امرباطوريتها ،فا�ستعمرت املناطق ون�شرت فيها عمالئها وجوا�سي�سها� .إن االهتمام الفرن�سي والربيطاين بامل�شرق العربي ازداد يف الربع االول من القرن الع�شرين من خالل الدخول يف تفا�صيل احلياة والثقافة والعادات امل�شرقية ،هذه املعرفة التي بنيت على قرون من العمل اال�ست�شراقي كان من نتائجها اتفاقية �سايك�س -بيكو التق�سيمية. بعد انتهاء احلربني العامليتني �سيطرة الواليات املتحدة االمريكية على اال�ست�شراق ،وقد كان املخزون الفكري االمريكي اال�ست�شراقي يت�صف بقلة املعرفة مما دفعهم التباع �أ�سلوب «درا�سات املناطق» يقوم على ت�شكيل وحدات بحثية ت�ضم جمموعة من الباحثني تتوىل كل منها درا�سة 87
منطقة معينة� .أي �أن اال�ست�شراق �أخذ نف�س الهدف ولكن ب�أ�سلوب و�أدوات خمتلفة عن ما �سبقه وخا�صة مع تطور و�سائل االعالم واالت�صال والتوا�صل. اال�ست�شراق مل ينت ِه مع ظهور و�سائل التوا�صل العاملية عن طريق االنرتنت واالعالم والف�ضائيات، بل �أ�صبحت هذه الو�سائل هي �أحد �أنواع اال�ست�شراق احلديث بو�صفه منظومة مت�شابكة من النظرة التي يتعامل من خاللها الغرب مع �سكان هذه املنطقة من خالل العالقات االقت�صادية وال�سيا�سية والثقافية واالجتماعية والدينية. ي�صنف املفكر الفل�سطيني �إدوارد �سعيد اال�ست�شراق �إىل ثالث حماور �أ�سا�سية �إن جاز التعبري وهي املعرفة ،ال�سلطة ،االن�شاء ،ونحن بدورنا �سن�أخذ هذا الت�صنيف الثالثي لإ�سقاطه على عالقة الغرب مع ال�شرق وخا�صة من خالل و�سائل الإعالم. املعرفة� ...صياغة ال�صورة
الفئة التي يتوجه �إليها اال�ست�شراق هي الغرب بو�صفه تعريفاً لهذا الآخر املختلف واملتناق�ض ،مع الإ�ضافات الأخرى من الإرهابي والقاتل ،فالعملية يف بداية الأمر تكون من خالل �صياغة �صورة لل�شرق ،يتم تقدميها لل�شعوب الغربية مبا يتوافق مع م�صالح تلك الدول .تتم ال�صياغة بو�صف الطرف الغربي يعترب نف�سه هو القوة وبذلك هو من ميتلك حق املعرفة وبالتايل حق �أن يتوىل بذاته �صياغة هويات العامل �إن �صح التعبري ،فمث ًال عبارة العامل االول والعامل الثالث هي حم�ض ا�ستخدام للقوة يف ميدان املعرفة. يتم تقدمي املعرفة من خالل و�سائل الإعالم عن طريق جمموعة من ال�صور التي تحُ فر يف ذهن املتلقي الغربي� ،صورة قد ال حتتاج �إىل كثري من النقد من قبله فهو يتعامل مع هذه الو�سائل املعرفية بح�سب ما تقدمه له يف �ش�ؤونه الداخلية حيث الثقة هي اال�سا�س يف موقفه من هذه الو�سائل، وبالتايل تكون معرفة ال�شرق بالن�سبة له عن طريقها مبنية عن ثقة تامة بكلمتها الإعالمية . تبنى ال�صورة من خالل طريقة اللبا�س �إىل احلياة اليومية وطريقة التفكري وهذه جميعها تظهر ب�شكل رئي�سي يف �أهم م�صنع للمعرفة ال�سينما ،وهنا يربز بالت�أكيد دور هوليوود حيث �أحد وجوهها هو «اال�ست�شراق الأمريكي» ،فيتم تقدمي يف مدة �ساعتني ون�صف حياة املخل�ص الأمريكي للعامل وبالت�أكيد مع املحافظة على �صورة العرب وهم على جِ مالهم ويف خيامهم . وقد �أخذت املعرفة منحى جديداً من بعد �أحداث احلادي ع�شر من �أيلول ،ف ُر�سم يف العقل الغربي �صورة ال�شرقي الإرهابي وخا�صة امل�سلم ،وبهذا �أ�صبحت املعرفة مبنية على عالقة بني الدين 88
مئوية احلرب العاملية الأوىل 2014 – 1914
والإرهاب وهذا التناق�ض يف القيم بني العاملني الغربي وال�شرقي كما �أرادوا �صياغتها هذه ال�صياغة املعرفية القائمة على �صدام احل�ضارات ونهاية التاريخ. اال�ست�شراق يف هدفه الرئي�سي هو موجه نحو الغرب ولكنه يف الوقت نف�سه تطور مع مرور الوقت لي�صبح بذلك اال�ست�شراق الغربي الذي يتحدث بلغة �أهل ال�شرق عن هويتهم ،وهنا دخل ع�صر االنرتنت واالعالم الف�ضائي ب�صيغة العامل املنتج �إىل العامل امل�ستهلك� ،أي �أن ال�شرق يعرب عن هويته ب�أدوات غربية �إن جاز التعبري. ال�سلطة ...قوة املعرفة
�أحد �أهم نتائج القوة املعرفية هي الإح�سا�س بال�سلطة لي�س مبعناها امل�ؤ�س�ساتي �ضمن املجتمع بل تتعداها �إىل ال�سلطة على باقي ال�شعوب بو�صفها خا�ضعة معرفيا لهذه القوة .وهذا ما ُينتج لدى هذه ال�سلطات الإدراك �أن هناك �شعوب هي بحاجة �إليها وال ميكنها اال�ستغناء عنها. هذه �إحدى فل�سفات ما بعد احلرب العاملية الأوىل حيث كانت بريطانيا وفرن�سا هما �أحد ال�سلطات التي تريد �إخراج ما كان حتت حكم الإمرباطورية العثمانية من �أمرا�ضه فكانت هي احلل املقدم لهذه ال�شعوب ،هذا احلل الذي مل ي� ِأت م�صادفة بل كان على مراحل تاريخية عديدة ا�ستطاعت من خالله هذه الدول الدخول يف تفا�صيل ال�شرق املجتمعية وامل�س�ألة ال�شرقية عام 1860هي �أكرب دليل على هذا الدخول. ُتكمل فل�سفة ال�سلطة املعرفية عملها �إىل ما بعد احلرب العاملية الثانية لتجتمع هذه ال�سلطات حتت ما ي�سمى االمم املتحدة وت�صبح ال�سلطات املنت�صرة هي حاكمة العامل بو�صفها القوة التي لها احلق �أن تقرر م�صري �شعوب الدنيا. �إذا �أردنا عر�ض �صورة لل�سلطة يف ال�سنني املا�ضية حتى هذه الأيام فيجب �أن ن�ضع نقطتني هامتني وهما� :أوال ال�سلطة املوجودة يف ال�شرق التي هي نتاج معاهدات دولية بني الدول املنت�صرة هي �أنظمة مركبة وهذا الت�أ�سي�س جاء باالعتماد على الدرا�سات اال�ست�شراقية منذ القرن ال�سابع ع�شر والثامن ع�شر ،ال�سلطة التي تعتمد على ردات الفعل هي يف معظمها انعكا�س مل�صالح الدول ولي�ست تعبري مل�صالح �شعوبها .النقطة الثانية هي ال�سلطة املعرفية التكنولوجية والإعالمية جعلت من الف�ضاء حتت �أمرة جهات معينة تتحكم بالأفكار وطريقة احلياة ،هذا التحكم القادم من قوة هذه اجلهات و�ضعف الإنتاج ال�شرقي �سمح لفرتة من �أحادية الت�سلط من قبل دول معينة.
89
االن�شاء ...التدمري والبناء
العامل الثالث لي�س جمرد مقولة عددية تدل كما نعتقد على تقدم دول وت�أخر دول� ،إن عمق هذه املقولة هو الطرف الثالث الغريب واملجهول خارج (�أنا و�أنت) فالعامل الثالث يكون (هو) ،هذه املقولة التي تغريت على مر الع�صور حيث كان الأوروبيون يطلقون على كل �شعب خارج حافة القارة الأوروبية «ال�سكان اال�صليون» .هذه املقولة التي عملت الدول ونحن تبنيناه عن جهل يف �إن�شاء طريقة تفكري ب�أننا ننتمي �إىل هذا العامل الذي ال ميكنه �أن يتطور و�أننا من هذا العامل الذي يجب عليه لكي يتقدم �أن ي�صبح مثل باقي الدول يف ذلك العامل .تعمل الدول ب�شكل م�ستمر على �إن�شاء تق�سيمات جغرافية تتنا�سب مع م�صاحلها مثل ال�شرق الأدنى التي هي عبارة فرن�سية - بريطانيا ومت ا�ستخدامها لتق�سيم مناطق النفوذ .وبهذا الإن�شاء تذوب الهويات القومية لتن�ش ْا مكانها هويات متقاتلة على رقعة جغرافية حتددها لها باقي الأمم. �سقوط الأنظمة و اختفاء املعرفة ي�ؤديان �إىل �إن�شاء جمتمع و�أنظمة على �إيقاع املخططات الغربية، �إن هذا الإن�شاء يقوم على مبد�أ ا�ستغالل فر�صة الدمار للبناء ،و�إن مل يكن هناك دماء يتم خلقه و�إيجادها ،يف عام 1982كتب ميلتون فريدمان الدكتور يف الق�سم االقت�صادي بجامعة �شيكاغو يف �أمريكا و زعيم ما ي�سمى �صبيان �شيكاغو «وحدها الأزمة ،الواقعة �أو املنظورة ،هي التي حتدث تغيرياً فعلياً». الإن�شاء الإعالمي (�إدارة الر�أي العام) يقوم على مراحل عديدة من تقدمي املعرفة من خالل خمتلف لغات املعرفة (االنرتنت -االفالم -ال�صحف� ،)...إىل تثبيت ال�صورة يف عقله ويف املرحلة التالية تدمري كيانه لتبد�أ مرحلة البناء وفق قيم ومبادئ جديدة .لقد كانت �أول عملية دعائية حكومية يف الع�صر احلديث هي يف ع�صر الرئي�س االمريكي وودرو ويل�سون املنتخب �سنة 1916يف منت�صف احلرب العاملية االوىل ،وكان االمريكيون ال يرون �سببا لدخولهم احلرب االوروبية بينما كانت �إدارة ويل�سون ملتزمة بدخولها ،فقامت بت�أ�سي�س (جلنة كربل) وهي جلنة للدعاية احلكومية وجنحت هذه اللجنة خالل �ستة �أ�شهر ب�إقناع غالبية االمريكيني ب�ضرورة الدخول يف احلرب و�إنقاذ العامل.
90
م�سعى تنظريي لفهم احلادث التاريخي العربي يف بعده ال�سو�سيو�-أيديولوجي
حممود حيدر -باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية
مل يكن حلادث تاريخي �أن يحظى بتلك الوفرة من اجلدل حول ماهيته وهويته وم�آالته املنتظرة، كاحلادث املتمادي على م�ساحة العامل العربي منذ بداية العام .2011 حمدداً لها. وال غل ّو يف القول� ،إ ّنا مررنا،وملّا نزل ،ب�إزاء «جيولوجيا �سيا�سية» ،ال تعريف واحداً �أو َّ ٍ وتعليالت أحكام فلقد بدا كل تعريف ُن�سِ ب �إليها م�شوباً بالنق�ص .ذاك �أنه ي�صدر من ر� ًؤى و� ٍ تعك�س �إىل هذا احلد �أو ذاك� ،آراء ومواقع وم�صالح ،وحت ّيزات الفاعلني فيها .فالذين ذهبوا اىل تو�صيفها بـ«ثورات الربيع العربي» �سيكون لهم من الأ�سباب والتقديرات ما يحملهم على ذلك. و الذين م�ضوا �إىل قراءة معاك�سة ،نظروا �إىل تلك «اجليولوجيا» ،مبا هي امتداد جيو�-سرتاتيجي، لهيمنة خارجية تتغ ّيا تفكيك و�إعادة تركيب االقليم العربي تبعاً مل�صاحلها .ولهذه القراءة كذلك، ٌّ حظ من ال�صواب ،مبا تقدمه من �شواهد على �أو�صاف ونعوت ال تخلو من منطق ي�ؤيدها وي�سبغ عليها امل�شروعيةّ .ثمة �آخرون انربوا �إىل ما يتعدى التف�سري امل�ألوف للثورات واملنعطفات الكربى، فر�أوا �إليها كم�صادفة تاريخية نبتت على �أر�ض ال�ضرورة ،لكنها فاج�أت الكل ،و�أنتجت لنف�سها ح ّيزاً خارج التوقّع. هنالك �إذاً ،م�شكلة فهم ،تكثرّ ت �أ�سبابها ودواعيها .منها من اعترب �أن م�شكلة الفهم هذه، ناجمة من تعدد الفاعلني يف دوائر التحوالت ..ومنها من ق ّرر �أن هذه الأخرية هي حا�صل واقع ت�صدعات الإ�ضطراب الذي يحكم ا�صطفاف الأحالف ...ومنها ثالثاً من ر�أى �إليها على �أنها ّ جمتمعية حتمية� ،إفرت�ضتها حقبة �إنتقالية دولية �شديدة ال ّتعقيد ،و متتلئ بعوامل متناق�ضة من الفو�ضى ،والإ�ستقرار ،وعدم اليقني. �شكل املعريف ،فلكي نن ّبه �إىل �صعوبة �أكيدة يف تظهري فهم م�شرتك وحيث ن�شري �إىل مثل هذا املَ ِ و دقيق حلا�ضر وم�آل احلوادث اجلارية� .أما داف ُعنا �إىل هذا التنبيه ،فمرده �إىل التبا�س املفاهيم، ومتو�ضعها �ضمن حقول ا�ستعمال ،بدت معها على نقي�ض غايتها الأ�صلية. 91
درا�سات وابحاث
ثورات م�ستباحة
على �سبيل املثال والإ�شارة
لو �أخذنا ّمدعى الدميقراطية ،كمعيار وقيمة �سيا�سية و�أخالقية مركزية يف احلادث العربي امل�ستمر، املدعى يجري فلن نكون حتت �أي تقدير �أمام �أطروحة بريئة .و�سنجد على الإجمال� ،أن هذا ّ الداعني �إليه .و تو�ضيح ذلك� ،أن الدعوة �إىل التغيري الدميقراطي، توظيفه نحو مقا�صد و�أهداف ّ الت�صدي لتحديات اال�ستبداد يف احلياة ال�سيا�سية الوطنية ،هي دعوة مو�صولة مب�ؤثرات بدعوى ّ جيو�-سرتاتيجية ،وحمكومة ب�إعتباراتها ،وب�شطر وازن من �شروطها .ثم �إنها دعوة داخلة يف �صلب «جيولوجيا الأفكار» التي �ضربت الثقافة ال�سيا�سية العربية وقلبتها ر�أ�ساً على عقب .حيث �أن ا�ستح�ضار قيم الثورة الدميقراطية ،على �أهميتها املعرفية و�ضرورتها املعرفية و التاريخية ،ال يتعدى يف �أكرث من �آنٍ و مكان� ،إجراء حتويالت جوهرية يف �أنظمة ال�سيا�سة والأمن�،أو الإ�ستيالء على ال�سلطة ب�أي ثمن. من �أظهر جتليات الإ�ستقطاب املندرج على خط التوظيف :عزل الأطروحة الدميقراطية والإ�صالح ال�سيا�سي يف الدائرة العربية،عن الإخت�صام مع �إ�سرتاتيجيات الهيمنة ب�صيغتها النيو�-إمربيالية .و ال ّالفت �أن هذا العزل طفق يتحول ،ويف خالل زمن قيا�سي� ،إىل ثقافة �سارية لدى نخب وا�سعة يف العاملني العربي والإ�سالمي� .أما احل�صاد املبا�شر ملثل العزل ،فحدوث انقالب عميق الغور �سيكون له �أثر بينّ على حزمة من امل�س ّلمات ،يف مقدمها خلخلة الوالءات الوطنية،حتى باملعنى الذي ت�أ�س�ست قواعده على ن�صاب الدر�س التاريخي للفل�سفة ال�سيا�سية احلديثة. من داخل هذا املنف�سح ينعقد �إ�شكال بني �ضرورتني متالزمتني :تنمية احلياة ال�سيا�سية الداخلية، و املحافظة على ال�سيادة الوطنية .فلقد �أظهر امل�شهد العربي العام ،تناق�ضاً جدياً َع َ�ص َف بال�ضرورتني معاً ،و �أوجد خل ًال يف وحدتهما املفرت�ضة ،ودفع بهما يف اجتاهني متعاك�سني: حدين � :إما اال�ستغراق الأول :ا�ضطراب يف التحول الداخلي� ،أدى اىل و�ضع حركة التغيري �أمام ّ يف الفو�ضى و العنف� ،أو امل�صادرة والإحتواء .وهو ما �ألفيناه جلياً يف اختبارات م�صر وتون�س واليمن و ليبيا ،ولو بوقائع و�صور متباينة. الثاين :احتدام يف ف�ضاء الإقليم ،بلغ ذروته مع ترتيبات دولية م�ست�أنفة،غايتها �إعادة ت�شكيل مظ ّلة �أمنية �إ�سرتاتيجية ،تغطي �شبه القارة ال�شرق �أو�سطية ،وتركز ب�صفة خا�صة على البلدان العربية املحيطة بالدولة اليهودية يف فل�سطني. بني هذين الإجتاهني� ،ستظهر �إرها�صات زمن رمادي من عالماته الفارقة ،ع�سر الوالدة الطبيعية لربيع ثوري عربي ،ميلك َّ حظ اال�ستقالل عن املداخالت اجليوبوليتيكية والتح ّرر من م�ؤثراتها. الإختبار الليبي يف هذا الزمن جاء منوذجياً و�صارخاً :لي�أتي التحول يف نظام هذا البلد ال�سيا�سي والإجتماعي كحا�صل مد ًّو لغزو خارجي ،مبا كان لذلك من تداعيات جعلت �إعادة تكوين جماعاته 92
درا�سات و�أبحاث
الوطنية �أمراً يدنو من امل�ستحيل� .أما االختبار ال�سوري -وعلى الرغم من تالزم ال�ضرورتني امل�شار �إليهما �آنفاً -فقد انطوى منذ البداية على خا�ص ّية ،تقدمه كمثال بينّ ٍ على طغيان العامل اجليو- �سرتاتيجي ،ومفاعيله املد َّوية يف م�سار التحول الداخلي... يف �أي حال ال يرمي هذا التقدمي� ،إىل توقيع االختام النهائية على املقدمات والنتائج التي ت�شهدها التحوالت .فما م ّر معنا ،يبدو �ضرورياً ملقاربة ما �سميناه زمناً قلقاً ،حيث ال تنفك امليادين العربية ت�ستغرق فيه ب�صورة هي يف غاية احل�سا�سية والتعقيد. ت�شتمل هذه املقاربة على جمموعة من العناوين وجدنا �أن نر ّتبها على َف َر�ضية م�ؤ ّداها � :أن زمناً عربياً حممل باحتماالت ووعود و�آمال �ش ّتى .و ما �سنوليه عنايتنا هنا، م�ستحدثاً راح ي�شق جمراه ،وهو ّ هو النظر �إىل تلك الإحتماالت والوعود والآمال ،يف �إطار عناوين ت�ؤلف العنا�صر الأ�سا�سية للزمن امل�ستحدث ،و ت�شكل مدخ ًال لفهم مقدماته وبواعثه وم�آالته... و العناوين التي ن�ستدرجها يف هذا البحث ،هي �أدنى �إىل مفاتيح معرفية ،يراد منها الإحاطة بالتحوالت و �إ�ستقرائها ..وذلك على نحو ُتف�ضي فيه عند معاينتها� ،إىل فهم بواعث احلدث وم�ؤ ّدياته القريبة واملتو�سطة و البعيدة .و هي على الوجه التايل: .1ثورات وثورات م�ضادة يف منزل واحد(.ر�ؤية تو�صيفية) .2التحوالت و �أ�سئلة النه�ضة ..يف ح�ضورها ،و يف غيبتها. .3ح�ضور الأيديولوجي �أو عودة املثقف املتح ّيز. .4انت�صار االيديولوجيا على ال�شارع. .5منطِ ق التح ّيز يف التح ّوالت العربية. .6تفا�ؤل بعد ي�أ�س� ..أو الطريق �إىل ج ّنة املواجهة. تو�صيفية) .1ثورات وثورات م�ضادة يف منزل واحد (ر�ؤية ّ
لو كان لنا من ر�ؤية �إجمال ّية و�صفية ملحركات الثقافة ال�سيا�سية العربية ،لوجدنا ما ي�شهد على ح�ضور ثالثة �سياقات ي�سابق الفاعلون فيها بع�ضهم بع�ضاًّ ، وكل فاعل ،حممول على �شغف امل�شاركة يف �صناعة حقائق الزمن اجلديد : الأول� :سياق الإ�ستتباع ،و يقوم على الر�ضى بتوقيعات املوجة النيوليربالية املتمادية ،مع ما ُيفرت�ض باملنخرطني يف هذا ال�سياق من قبول مب�شروعية الدولة اليهودية ،وهي تقطع �آخر �أطوارها يف رحلة الإ�ستيالء على فل�سطني ،و تبديل هويتها اال�صلية. 93
الثاين� :سياق املقاومة :وهو �سياق ٌيقر�أ انطالقاً مما ظهر من جتاربها املعا�صرة ،ال�سيما جلهة النظر �إليها كمنظومة كفاحِ ّية و نه�ضو ّية و �أخالق ّية ،ترمي �إىل حترير الإن�سان والأر�ض ،و�إىل حتقيق ال�سيادة والكرامة الوطنية. الثالث� :سياق التغيري :و يجري على نحو ما جرت وقائعه حتت ظل حالة رمادية تغ�شى الو�ضع العربي امل�ضطرب وتطبعه بطبائعها .وهو �سياقٌ يك�شف عن نف�سه يف الغالب الأعم ،بقول �سيا�سي �إجمايل قوامه ،الرغبة املحمومة يف تغيري �أنظمة احلكم. من مفارقات هذا ال�سياق �أنه يبدو خُ لواً من الأبنية الفكرية التي ك ّنا �ألِفناها يف الثورات الوطنية والإ�شرتاكية والدينية املُن�صرمة .و يف الآن عينه ،يفتقر اىل �إ�سرتاتيجيات وا�ضحة املعامل ،تف�صح عن الت�صورات املفرت�ضة حول طبيعة ال�سلطة ،و نظام الدولة املن�شود... مل ت� ِأت التح ّوالت العرب ّية املت�أخرة� ،إ ّال ٍّ كتجل �صريح الحتدام هذا املثلث من ال�سياقات .لكنه ُيف�ضي على وجه الإجمال� ،إىل ن�شوء وعي جديد من� ٍ هم ال�سيطرة أخذ ّ بهمينْ تاريخ َّيني متالزمني ّ : هم الإ�ستبداد الداخلي. الإ�ستعمارية ،و ّ أ�شد خطراً يف امل�شهد ،ما ُيرتجمه امل�سعى الذي تتو ّاله املوجة الفكرية النيوليربالية ،يف الوجه ال ّ ما ن�سميه بـ»احلرب على املعنى» .و هي موجة راحت ت�ستهدف اغتيال الوالء للهويات الوطنية، وتفكيك منظومات القيم الفكرية الدينية و الأخالقية ،خ�صو�صاً تلك التي �أ�س�ست لتلك الهويات ،ومنحتها الت�سديد والت�أييد على �إمتداد �أجيالٍ كاملة .فلئن كانت الغاية الإبتدائية من وراء هذه املوجة� ،صناعة وعي عام قابل للإذعان،ف�إن غايتها الق�صوى تتمثّل يف جعل اجلمهور �ستهدف را�ضياً مبا هو عليه ،و ممتنعا» ب�إرادته عن الت�سا�ؤل والنقد والإعرتا�ض .و �أما حا�صل ما املُ َ تن�شده ،هو �أن حتيل املهي َمن عليه �إىل و�ضعية جتعله غافال» عما هو فيه ،وتدفعه نحو قناعات ُتف�ضي به اىل الإ�ست�سالم والإ�صغاء والتمثّل. يف الو�ضع ّية العربية� ،سنالحظ �أن وقائع «احلرب على املعنى» تتح ّرك على ثالثة حماور: الأ ّول :م�صادر ُة � ّأي �إحتمال للتغيري ،من �ش�أنه �أن ي�ضع �شعوب املنطقة على �صراط ال�سيادة الكاملة. الثاين� :إ�ستئناف العقل النيو�-إمربيايل ،ممار�سة «لعبة الفو�ضى والتفكيك» ك�إ�ستمرار للمرياث ال�سيا�سي والع�سكري الذي ظهر بقوة يف حقبة املحافظني الأمريكيني اجلدد .لكن هذه اللعبة، �سوف تتح ّرك جمدداً على �شكل حروب متالزمة من الإحتالل والغزو املبا�شر� ،إىل تغذية املنازعات الطائفية واملذهبية ،و بالتايل �إىل الدفع باحلروب الأهلية املفتوحة. و � ّأما املحور الثالث :فيق�صد ال�ساعون �إليه ،احتواء م�شاعر التفا�ؤل بالن�صر لدى �شعوب املنطقة؛ وذلك ما يظهر ب�صورة جلية يف تبهيت ال ُبعد الوطني والأخالقي والإمياين لثقافة مقاومة 94
درا�سات و�أبحاث
الإحتالل .ويف مناخ الإنت�صارات التي حقّقتها املقاومة يف لبنان عام ،2006ويف فل�سطني عام � ،2009سرنى كيف ت�ضاعفت وتائر الإحتواء حتى بلغت الذروة .ول�سوف نتبينّ ذلك ،يف النموذج املد ّوي الذي �أظهرته احلمالت الإعالمية امل�ستهدِ فة معنى الإنت�صار على العدو .وهو ما نراه بو�ضوح عرب م�سعى �سيا�سي و فكري و ثقايف معاك�س م�ؤاده � :إجراء حتويالت عميقة يف الوعي العربي والإ�سالمي ي�صل مداه �إىل «عقلنة» الأطروحة الإ�سرائيلية ،من خالل جعلها جزءاً من احلالة احل�ضارية ،والدينية ،وال�سيا�سية ل�شعوب املنطقةّ . ولعل ما ن�شهده من تداعيات� ،إن جلهة تعميم القيم الليربالية ،و الأخذ بثقافة املجتمع املفتوح� ،أو لناحية تفعيل عمل ّيات التطبيع، �إمنا ُيظهر املقا�صد احلقيق ّية ملا ُ ا�صطلح عليه بـ «الثورات امللونة» .وهي الثورات التي احت ّلت ثقافتها م�ساكن الفكر يف عاملنا العربي و الإ�سالمي ،حتت عناوين احلرية والدميقراطية وحقوق الإن�سان. وملّا كانت قيم كهذه ذات قابل ّية ا�ستثنائية للإ�ستخدام يف لعبة التوظيف ،كانت النتيجة �إ�سباغ ال�شرع ّية على ما ال �شرعية لوجوده ،بحيث ال ي�ؤدي �أي تغيري ثوري �إىل و�ضع املجتمعات العربية والإ�سالمية ،ومراكز القرار فيها ،يف مواجهة تاريخية مع ال�سيطرة الثقافية الإ�ستعمارية ،وبالتايل مع الدولة اليهودية يف فل�سطني. �إذا كانت هذه هي ال�سِ مات الإجمال ّية للتح ّول العربي ،فالذي يبدو من �صورته امل�ستخل�صة هو الإنباء عن زمن ا�ستثنائي وجديد من املواجهات. الإ�ستثنائية و اجلدة ،ك�صفتني مالزمتني للزمن اجلديد ،جتعالنه زمناً �إنتقالياً هو �أ�شبه برحلة قلقة والتقدم والت� ّأخر ،وال ّن�صر والهزمية .ذاك �أن ال�سمة الالفتة فيه �أنه يت�ساوى فيها اخلوف والرجاءّ ، زمن مركب و متح ّول ،و �أن جالء �صورته النهائية� ،أمر متع ّلق باحل�صاد الإجمايل للإحتدام بني عنا�صره و مكوناته وقواه .ومثلما يحمل زمناً كهذا وعوداً ب�آمال كربى ،ف�إنه ينطوي يف الآن عينه، على روح مت�شائمة قد حتجب طول الأمل بثقافة الإحياء احل�ضاري لدى نخب الأمة وجماهريها. تاريخي رخ ٌو تتعادل منف�سح ترتيباً على �صفات الزمن امل�ستحدث هذا� ،سوف ينك�شف �أمامنا ٌ ٌّ فيه رهانات النه�ضة مع هواج�س النكو�ص و الإحباط .ولنا �أن نالحظ ظهورات هذا املنف�سح من زاويتني: �أو ًال� :إن �س�ؤال النه�ضة ،ما عاد بالن�سبة لل ّنخب ،جمرد خطبة �إفرتا�ضية �شكلت على مدى �أحقاب طويلة منعقداً لفظياً ال طائل منه ..ف�إن املز ّية الأبرز للحراك اجلاري تكمن يف تنبيه الفكر العربي التقدم على قاعدة التفا�ؤل. املثقل بالت�شا�ؤم� ،إىل وجود �إ�ضاءات تدفعه نحو �إعادة �صياغة بيان ّ ومثل هذا التنبيه �سيكون له �أثر حا�سم يف �إمداد التح ّيزات والوالءات الوطنية ب�آمال اخلروج من اخلوف وعدم الثقة وعقدة الهزمية. 1
1
قد تكون والدة هذا املنف�سح الرمادي يف مناخ تاريخي عربي ممتلئ باملتناق�ضات الداخلية وامل�ؤثرات اخلارجية, هي التي جعلت القلق عنواناً مهيمناً تدور حتت �سطوته جممل حتوالت ال�شارع العربي. 95
الثانية �« :أن من ب ّينات هذا املنف�سح� ،إ�ستئناف ال�شعور بعدم قابلية البيئة العربية لإجناز والدات التقدم احل�ضاري العربي �أطروحة راهنة .مر ُّد هذا فكرية و�سيا�سية وثقافيةُ ،تف�ضي �إىل جعل فكرة ّ ال�صدع ،الذي �ضرب البنية املفاهيمية التقليدية ال�سائدة ،مل يكن وليد اللحظة الراهنة ،و�إمنا ح�صيلة �سل�سلة من الإحتقانات والإحباطات املرتاكمة ،لعل �أكرثها مدعاة للنقا�ش ما تع ّلق منها بالهويات ال�ضائعة ،والوالءات املم ّزقة على مدار املنطقة والعامل. ملء الفراغ ك�ضرورة وحاجة ن�صيب مع انب�ساط ال�صورة على هذا النحو من عدم اليقني� ،سيكون لعاملنا العربي و الإ�سالمي ٌ وافر من �آثارها وتداعياتها .فقد جرى التعامل مع اجلغرافيا الثقافية العربية كميدان خ�صيب للإختبارات املدوية التي �أجرتها النيوليربالية ،يف جماالت احلرب ،و ال�سيا�سة ،والإقت�صاد، و�أنظمة القيم .ول�سوف تف�صح امليادين امل�سكونة بالإ�ضطراب عما ميكن و�صفه بـ«مبادرات ملء الفراغ» .فلو ّ دل ذلك على معنى ،فعلى ا�ستجابة لواقع بدا معه نق�ض الإ�ستبداد الداخلي وال ّتبع ّية للخارج ،حاجة راهنة و�ضرورة تاريخية يف �آن .لقد متثّلت تلك املبادرات بانخراط ال ُّنخب يف عملية �إ�ستقطاب مل يكن من جمال فيها للمواقف املحايدة .بل يجوز القول� ،إنها جرت على نحو مياثل يف حيويته احلقبة الرومان�سية الثورية ،التي �شهدت �صعود حركات الي�سار العربي القومي كتل واملارك�سي يف خم�سينيات و�ستينيات القرن الفائت .و البينّ من الوقائع اجلارية ،هو �إن�صراف ٍ ثقافية و�سيا�سية وا�سعة ن�سبياً� ،إىل مراجعة حمموالت �أيديولوجية ،وقناعات فكرية ،كانت بالن�سبة �إليها مبثابة يقينيات ،ثم �إ�ستحالت ب�سبب من �إخفاقها ،ذريعة لعزوفها عن العمل ال�سيا�سي .مثل هذه املراجعة مل تقت�صر على ُك ٍتل و جمموعات و�أحزاب بعينها ،بل هي �ستتح ّول مو�ضوعياً �إىل طاقة جاذبة ملاليني عرثت -عن طريقها -على فر�صتها النادرة ال�ستعادة هوياتها امل�سلوبة. فلو عاي ّنا هذا التح ّول النت�صبت �أمامنا حت ّيزات فريدة طغت على احلياة ال�سيا�سية ،و دفعت بها �إىل احلدود الق�صوى من التعبري عن هوياتها ووالءاتها� .أما فرادة التعبري ،فهي يف ا�شتمالها على جممل ال�شرائح والفئات والطبقات الإجتماعية وال�سيا�سية والثقافية ،حيث وجدت يف التح ّيز والإ�صطفاف،منف�سحاً لإثبات ح�ضورها يف ميادين املواجهة. ال ّالفت يف تلك التح ّيزات التي حواها ذلك املنف�سح� ،أنها تقاطعت �إجما ًال على الوالء لهوية تنا�سب كل حت ّيز منها .من مفارقات هذا التقاطع ،الذي برز يف التجارب العربية الأخرية ،هو الإمتزاج والتداخل العجيبان يف الأهداف والغايات بني «�أهل الثورات» و «�أهل الثورات امل�ضادة». و�سيكون لنا مما تر�سله البيئات الفكرية و ال�سيا�سية املختلفة من مواقف وخُ طب ،الكثري من ال�شواهد على ظاهرة الوالء ،و الوالء امل�ضاد ،حول ق�ضية �سيا�سية واحدة ،هي ق�ضية الدميقراطية، واحلرية ،والتغيري ،والإ�صالح ،و الكرامة الوطنية .و ّثمة حاالت من «الوالء امل�ستحدث» ،نبتت 96
درا�سات و�أبحاث
وتن�صلها من مرياث اللغة ال�سيا�سية امل�ألوفة، على �ضفاف الثورات ،لكنها رغم ّمدعياتها الليربالية ّ كانت تكتظ ب�إن�شاءات ايديولوجية ت ّربر والءاتها ،وت�سبغ على حركتها �شرعية احل�ضور. فلو اختربنا فو�ضى الوالءات ،لظهر و�سط امليادين اجتاهان يتقاطعان حول �شعارات التغيري ،لكنهما يتعاك�سان يف الأهداف و امل�آالت .ففيما يتمث ُّل الإتجّ ا ُه الأول ،ال�سياق النيوليربايل للتغيري ،ينربي الإجتا ُه الثاين �إىل الأخذ بال�سياق الثوري الكال�سيكي متوخياً حتقيق �شعائر و�شعارات النه�ضة ال�شاملة للأمة .و�أ ّنى كانت م�آالت كل من هذين الإجتاهني ،ف�إن م�ساراً راح يعرب عن نف�سه بحيو ّيات �سيا�سية� ،أخذت حتفر جمراها نحو طور تاريخي جديد .فعلى الرغم مما �إمتلأت به احلقبة احلا�ضرة من عمليات احتواء وا�سعة النطاق من طرف ما ي�سمى بـ «الثورة امل�ضادة» ،فقد د ّلت احليويات ال�سيا�سية امل�ست�أنفة على �أ�صالة الإحتمال الثوري كم�ؤ�س�س للعملية النه�ضوية املن�شودة. �أحد �أبرز العناوين الكربى التي ارتفعت يف �سماء التحوالت ،يتمثّل بعودة �س�ؤال النه�ضة ،ال بو�صفه �س�ؤا ًال �إفرتا�ضياً طال الكالم عليه بني ال ُّنخب العربية ،و�إمنا كق�ضية لها حظوظها يف �أر�ض الواقع .مل تكن هذه «العودة» ب�إطاللتها اجلديدة جم ّرد �إ�ستعادة لأفكار و�آمال �سبق تداولها... و�إمنا كانت ترجمة لتحول يف الأحداث والأفكار واملفاهيم ال نظري له .بالطبع ،ال يتع ّلق الأمر هنا، بالكالم على «لعبة حظ تاريخية» ،طاملا جرى ا�ستح�ضارها يف معر�ض الت�سا�ؤل عن العلل التي والتقدم .حتى لقد غلب الظن حالت دون قدرة النخب العربية على الإم�ساك مبفاتيح الإ�ستقالل ُّ لدى جمع من املفكرين العرب املعا�صرين ،ليجدوا �ضا ّلتهم مبا اعتربوه عيباً تكوينياً �أ�صاب العقل العربي وال �سبيل له من �شفاء .لكن واقع احلال� ،سريفع من�سوب التفا�ؤل برجوع الكالم على مقولة النه�ضة ،ولو من قبيل «الظن املعاك�س» .وعليه �سنكون م�سوقني �إىل التعامل مع هذه املقولة م�سددة هذه املرة بالإرادة ،وم�ؤيدة بجرعة وافية من العقالنية. مبا هي م�ؤ�شر �إىل «رجعة ميمونة»ّ ، ترتجح بني امل�ستحيل والإمكان� ،إ ّال �أنه ومع �أن تفا�ؤ ًال كهذا مل ينفك عن كونه حالة جنينية ّ يدل على حيازتها جاذبية ا�ستثنائية ،يف عامل بلغت �أزماته ال�سيا�سية واملجتمعية والأخالقية م�ستويات غري م�سبوقة .و�إذا كان من بديهيات الفل�سفة ال�سيا�سية ،احلديث عن �إمكان ا�ستعادة ق�ضايا تاريخية كلية لل�شعوب العربية ،مثل الهوية القومية ،وال�سيادة ،والوالء ،والإنتماء للوطن، فالثابت �أن هذه الق�ضايا �ست�ؤلف على اجلملة ،متك�آت ال�سريورة النه�ضوية امل�أمولة ،و ذلك على نحو يجعل الكالم على عودة املثقف العربي املتح ّيز لق�ضاياه الكربى و ال�صغرى ،كالماً مطابقاً للواقع بدرجة الإمتياز. .2التحوالت و �أ�سئلة النه�ضة :يف ح�ضورها ،ويف غيبتها
�إذا كان من امل�س ّلمات املنطقية� ،أن من�ضي �إىل انتزاع وعود النه�ضة ،من ف�ضاء الإحتماالت التي ابتعثتها «اجليولوجيا ال�سيا�سية العربية» املتقادمة ،فال يعني ذلك �أن يندفع الآخذون بتلك 97
امل�س ّلمات نحو التفا�ؤل املفرط .فالكالم على �س�ؤال النه�ضة ،لدى تناهيه �إىل ال�سمع يف احلقول القلقة ،يحمل على الإ�ستغراب من �أكرث من وجه: �أو ًال :لأنه ينطوي على ا�ستدارج لنقا�ش ،نكاد ال جند ظهوراً له يف املطارح التي يفرت�ض �أن ت�شكل أ�شق الإبتالءات التي �سكنت التجربة جماالت لنمو الأفكار وتفاعلها .ذلك عائد اىل واحدة من � ّ الفكرية العربي ة لزمن مديد ،وهي القطيعة بني الفكر والواقع ..وا�ستطراداً حالة الإنف�صام بني التنظري الفكري واحلادث ال�سيا�سي .حتى لك�أن �شيطان الوهم قد �إ�ستحكم ب�آلة التفكري ،فدعاها ب�ضرب من «املياومة ال�سيا�سية» ،لإعتقادها بال جدوى ،والت�أ ّمل بحقائق الأحداث �إىل الإن�شغال ٍ وتد ّبرها ،و�سط عامل جتتاحه العوا�صف ال�سيا�سية من كل جانب... ثانياً :لأن �س�ؤال النه�ضة ،و�إن كان يحظى باحلقّانية على امل�ستويني النظري والعملي ،فقد بدا وك�أنه يولد خارج ال�سياق .ومرجع الأمر �إما لكون الذين ي�شتغلون عادة بعامل الأفكار ،تر ّفعوا عن احلادث الذي ت�ضج به امليادين ،فالتب�س الأمر عليهم ،ف�أرج�أوا ما كان ينبغي لهم �أن يقولوه اىل �أجل الحق ..و�إما لأن �شريحة وا�سعة من هوالء قد �أخذتهم الده�شة باحلادث اليومي فا�ستغرقوا فيه. ثالثاً :لأن �س�ؤا ًال كهذا ،ينتمي �إىل مرتبة من الفهم ال ينا ُلها �إ ّال الأقلون� .أولئك الذين �ألزموا �أنف�سهم ا�ستقراء احلادث ال�سيا�سي ليتب َّينوا �ضمريه امل�سترت ،ثم ليدركوا منتهاه ،فيبنون على ذلك املنتهى مقت�ضاه .و الدليل� ،أ ّنا لو عدنا �إىل �أزمنة احلداثة وما بعدها ،لكان لنا ما ال ح�صر له من الأمثلة التي ت�شري �إىل تلك املرتبة من الوعي التاريخي .حيث كان من �ش�أن املنعطفات مهما بدت جزئية �أن تطلق عاملاً رحباً من املفاهيم والأفكار .ويف هذا املقام من املفيد �أن من ّر علىثالثة مناذج، ي�ضيء كل منها على ما ي�سمى بـ«ديالكتيك التوا�صل» بني الفكرة واحلدث ،بقدر ما يف�صح عن كيفية �إنتزاع املفاهيم الكربى من جزئيات احلادث ال�سيا�سي: كان هيغل يرى �إىل انت�صار نابليون يف معركة �إيينا ،ا�ستئنافاً تاريخياً حلداثة الغرب ،وا�صفاً �إياه وهو ي�ستعر�ض جنوده يف احتفال الن�صر ،بـ«التاريخ الذي يعتلي ح�صاناً». يتحدث بفخ ٍر عن عمال كومونة باري�س ،الذين ه ُّبوا القتحام ال�سماء ح�سب و كان مارك�س ّ و�صفه ،رغم �أنهم قاموا بانتفا�ضة يائ�سة لأنها جاءت يف غري وقتها ،ومن قبل �أن تتوفر لها مقومات الن�صر احلا�سم. �أما الفيل�سوف الفرن�سي مي�شيل فوكو ،فقد و�صف الثورة الإ�سالمية يف �إيران ب�أنها �آخر ثورات ما بعد احلداثة .وملَّا �سئل -ب�إ�ستهجان من �سائله -عن �سبب زيارته �إىل طهران بعد �أ�سابيع قليلة من �سقوط ال�شاه� ،أجاب« :ال ُب ّد لنا من �أن نتواجد حيث تولد الأفكار» . 2
2
98
مغزى اال�شارة اىل مواقف هيغل ومارك�س وفوكو حيال �أحداث مف�صلية جرت يف حياتهم ,يعود �إىل الت�أكيد على �أ�صالة الواقع يف ا�ستيالد املفاهيم وعلى �أهمية احلادث ال�سيا�سي مهما كان جزئياً يف �إنتاج فل�سفة �سيا�سية ت�ؤ�س�س لتاريخ جديد.
درا�سات و�أبحاث
ما كان للمرور على تلك النماذج الثالثة� ،إ ّال لبيان �أن يجعل من ٍ حدث ما �أو من جمموعة �أحداث منف�سحاً للت�أ ّمل ينطوي على قابلية توليد املعارف والنظريات واملفاهيم من رحم الأحداث نف�سها. كان الفيل�سوف الفرن�سي جيل دولوز ،يرى �أنّ على املفكر نف�سه �أن يفكر كحدث «Les Antites .»des Evenement كذلك كان يفعل الرواقيون ملا � ّأ�س�سوا يف مقابل الأفالطونية ،فيزياء معرف ّية تقوم على الأفعال والأحداث ،ولي�س على املحموالت .ويبدو �أن دولوز و�سواه كثريون من فال�سفة ما بعد احلداثة، وجدوا يف هذه املرجعية الدعامة النظرية الأوىل يف الت�أ�سي�س لفكرة احلدث. فاحلدث يو ّلد احلقائق بقدر ما ي�ستدعي �شك ًال جديداً من التفكري،ومن يقر�أ احلدث ُين�شئ عالقة مغايرة مع احلقيقة بقدر ما ميار�س وجوده بطريقة جديدة .من هنا يتغيرّ مع كل حدث م�شهد العامل، بقدر ما يحدث انقطاع يف جمرى الأ�شياء� ،أو انعطاف يف م�سار الأفعال� ،أو حت ّول يف م�صائر الذوات والهويات ،هو يف نف�سه تغري يف خارطة الأفكار واملفاهيم( )...واحلال ،فاحلدث يغري عالقة املرء بذاته وبغريه ،بقدر ما ُي�سفر عن �أ�شكال جديدة للتوا�صل والتفاهم . يف احلادث العربي املتمادي مل ي� ِأت من يغامر ب�أطروحة نه�ضوية� ،أو بفكرة �إحيائية تتعدى حدود الرواية ال�سيا�سية اليومية. ك�سل فكري يلف حتت �أجنحته �أكرث رابعاً :من املفارقات الغريبة �أن ُيطرح �س�ؤال النه�ضة و�سط ٍ امل�شتغلني العرب بعامل الأفكار .ولو َّ دل هذا على �شيء ،فعلى حالتني :الأوىل ،على النظر �إىل ال�س�ؤال ك�أمر مي�ؤو�س منه ،بعد م�سل�سل الإحباط الذي م ّر فيه منذ �سقوط اخلالفة العثمانية وبداية ع�صر الإمربياليات احلديثة .والثانية :هبوط م�شهود يف املرجعيات الأيديولوجية التقليدية (القومية والليربالية واملارك�سية)... و�إذ ن�شري �إىل م�س�ؤولية تلك املرجعيات يف �إعادة �إنتاج الك�سل امل�شار �إليه ،فلأنها تو َّلت على �إمتداد قرن كامل تداول ال�س�ؤال النه�ضوي ،ورفعه �إىل مرتبة املقد�س ،من دون �أن ّ تتمكن من جعله �س�ؤا ًال متحقّقاً يف الواقع .حتى �إذا ا�ستح َّلت العوملة النيوليربالية عر�ش العامل ،مل يعد لذاك فرت�ض ملُه ِّمة ال�س�ؤال من حمل يف الإعراب� .أما الإ�سالم الإيديولوجي،الذي ّقدم نف�سه كحامل ُم ٍ ٍ ينج على اجلملة من اللحظة ال�سيا�سية وفرو�ضها .ففي اخلطبة االيديولوجية للإ�سالم النهو�ض ،فلم ُ ال�سيا�سي مل يغادر �س�ؤال النه�ضة غواية التوظيف ،بل �إنه مكث يف الدائرة ال�ضيقة لثقافة �سيا�سية تبدو يف الغالب �إ�ستهالكية .وعلى �سبيل الإ�شارة ،لقد �إنربت حركات �سيا�سية �إ�سالمية يف مواطن كثرية� ،إىل الأخذ بالفكرة الإحيائية لت�سوغ م�سعاها �إىل ال�سلطة� ،أو لتمنح نف�سها ما ي�ؤول �إىل 3
3
علي حرب ،الفكر واحلدث ،حوارات وحماور ،دار الكنوز االدبية ،بريوت � ،1997ص
.9
99
االعرتاف بها كمك ّون من مك ّونات املجتمع ال�سيا�سي .من بع�ض اختبارات الإ�سالم ال�سيا�سي، �شق عليه الإمتحان� .إذ حاملا �أجنزت ما �سعت �إليه� ،أي بلوغ �سلطة القرار �سوف نالحظ �أن منها من َّ يف الدولة واملجتمع� ،أخذ قولها النه�ضوي يتح ّول �إىل تقنية لفظية مت�شظية داخل ثقافتها العامة. وعلى الإجمال ،مل يرقَ �س�ؤال النه�ضة يف �إن�شاءات النخب العربية مبنوعاتها القومية ،والعلمانية، م�سددة ب�إ�سرتاتيجية ف�ض ًال عن الإ�سالمية� ،إىل املقام الذي ي�صبح فيه عنواناً لفل�سفة �سيا�سيةَّ ، �إحيائية تامة القوام... خام�ساً :ثقافة الغرب يف العقل النخبوي للحداثويني العرب ،ال تزال ت�ستعاد على الن�ش�أة التي ّقدمها �أ�صحابها الأ�صليون قبل �أكرث من �أربعة قرونّ .ثم� ،إن العقل امل�شار �إليه ،وعلى الرغم من املرياث النقدي الهائل الذي زخر به تاريخ احلداثة ،بقي حري�صاً على التعلق مبحموالت احلداثة ُ ت�ستنقذ العامل من فو�ضاه الأوىل ومقالتها البكر� :أي بو�صفها �أطروحة « عن مدينة فا�ضلة» جاءت و جاهليته .ذلك يعني �أن عق ًال ظل حبي�س ده�شته الأوىل بنه�ضة الغرب ،ال ي�ستطع �أن ينظر �إىل احلداثة� ،إ ّال بو�صفها عاملاً متخي ًال يريد �إ�سقاطه على عامله اخلا�ص. يفعل ذلك املعا�صرون من املثقفني العرب كما فعل �أوائلهم من قبل� .أولئك الذين اجتمعوا على مقالة النه�ضة ،حتى �سمي الزمن الذي عا�شوه با�سمها .فكان ختام القرن التا�سع ع�شر وم�ستهل القرن الع�شرين ،عامراً يف دنيا العاملني العربي والإ�سالمي بفردو�س ال�شعارات الكربى :الدولة الأمة ،والدميقراطية ،واملجتمع املدين ،والتحرر من الإ�ستعمار ،والعدالة االجتماعية ،والتعددية، ونقد طبائع الإ�ستبداد� .أما احل�صاد فقد جاء خائباً على اجلملة .كما لو عادت ال ُّنخب مجُ ّدداً لتعي�ش احل�سرة على الفردو�س املفقود .رمبا يعود ال�سبب� ،إىل �أن �أكرث الذين حملوا �س�ؤال النه�ضة على ح�سن الظن و�سالمة النية ،مل يفارقوا ده�شة الأنوار فوقعوا يف ال�شبهة .بع�ضهم مل يدرك �إ ًال مت� ّأخراً �أن �أنوار الغرب مكثت يف الغرب ،ومل يروا من ح�صادها �سوى �شراهة ال�سيطرة الكولونيالية وت�أبيد الت�أخرورعاية الإ�ستبداد .و �إىل ذلك فلقد �أَجروا �س�ؤال النه�ضة على ن�صاب ما حمله �إلينا الإ�ست�شراق ،فقر�أوا التاريخ قراءة الغائب ،حتى �صاروا ينظرون �إىل ح�ضور �إ�سالمهم يف تلك القراءة ،كمثل ما نظرت �أوروبا العلمانية �إىل م�سيحيتها وهي تختزلها بـ «نزع اخلرافة عن العامل» ـ �أو بثنائية ف�صل الدولة عن الدين. 4
4
100
�سنعود بعد قليل �إىل جتربة الإ�سالم الأيديولوجي يف التح ّوالت العربية ,ل ُنبينّ كيف ان�صاع ال�شارع ل�سطوة الأيديولوجيا.
درا�سات و�أبحاث
املتحيز .3ح�ضور االيديولوجي �أو عودة املثقّف ّ
يف زمن الثورات القلقة� ،سيظهر لنا كيف �أن ال�سواد الأعظم من املثقفني العرب راحوا يغ ّيبون ال�س�ؤال النه�ضوي ،ويعاملونه كحا�صل ثقافة فات �أوانها ..بل ،و ي�ستغربونه كما لو كان فائ�ضاً عن احلاجة. التقدم على هذا النحو .م�ؤداها على وجه الإجمال� ،أنها دواع �ش ّتى �أ ّدت �إىل التعامل مع مقولة ّ ٍ تطرح يف ف�ضاء ثورات يجتاحها القلق من كل جانب ،و تغلب اليوميات ال�سيا�سية فيها على وعي النخب ،حتى �إن ق�ضية ال�سلطة و العالقة معها �سلباً �أو �إيجاباً غدت هي الق�ضية املهيمنة ،الأمر الذي انتهى �إىل �سيادة نزعة اختزالية �أف�ضت �إىل الإ�ستغراق يف ثنايا اللحظة ،والإنحكام �إىل �صغائرها وتكتيكاتها ،و تالياً �إىل ان�سدال ُح ُجب رماد ّية ،ع ّوقت والدة وعي تاريخي ي�ؤ�س�س للزمن احل�ضاري اجلديد. �أ� -أيديولوجيون جدد مل يكن التح ّيز الذي ظهر على �صورة «الالمتنامي» يف بع�ض ال�ساحات العربية ،مبن�أى من جاذبية االيديولوجيا .فالأغطية الليربالية التي ا�ستظ َّلت بها منظمات املجتمع املدين ،والتيارات الفكرية املوازية لها ،مل ْتخ ِف رغبتها بالإ�صطفاف اجلماعي لتحقيق �أهدافها .لعل يف اختبارات الإجتماع وتوحدت على هدف وغاية، همت اجلماعات ب�أمرهاّ ، ال�سيا�سي ما ي�ؤكد هذه احلقيقة� .إذ متى ّ ح ّلقت الأيديولوجيا يف �سمائها لتمنحها بالغة القول و ف�صل اخلطاب. من عظيم ما �أجنزته التحوالت العربية� ،أنها دفعت باجلميع �أفراداً و جماعات نحو دوائر الإ�ستقطاب. وبذلك مل يعد من �أحد يتحرك يف ال�شارع وهو �أعزل من وال ٍء ما .و تبعاً لهذا ،راح كثريون من مثقفي امليادين العربية ي�أتن�سون �إىل �صفة خلعوها على �أنف�سهم وهي انت�سابهم اىل قيم «ما بعد احلداثة» .وما ذاك �إ ّال لأن هذا الإنت�ساب مينحهم الإح�سا�س بالتح ّرر من النمطية الأيديولوجية التي عاي�شوها ردحاً طوي ًال من �أعمارهم . متعددة الأ�صول واملنابت .فقد وجدوا غالب ه�ؤالء :مثقفون انحدروا من �ساللة الي�سار العربي ّ يف خماطبات الليربالية اجلديدة و�أفعالها� ،سبي ًال للإنعتاق من قهرية « ال�سرديات الكربى» املتمثلة بالأيديولوجيات املارك�سية والقومية ،و الإ�شرتاكية الدميقراطية على خمتلف �ألوانها التقليدية و امل�ستحدثة. 5
5
ظهر امل�شهد التاريخي للفكر العربي املعا�صر م�ستعيداً مناخات ن�ش�أته الأوىل جلهة متثّل قيم التجربة الغربية. فمثلما وقع يف املا�ضي حتت �سحر احلداثة و�أنوارها ,وحتت وط�أة هزائمه االيديولوجية ,ها هو اليوم يقع �أ�سري املباغتة الكربى ملوجات ما بعد احلداثة يف جمال ال�سيا�سة واحلرب ووح�شية االقت�صاد النيو-ليربايل. 101
ما كاد مثقفو هذا ال�صنف ،يقطعون م�سافة ي�سرية ملغادرة تلك ال�سرديات� ،أو الن�أي ب�أنف�سهم عن �أدبياتها ،حتى وقعوا يف الأ�سر االيديولوجي ك ّرة ثانية .فـ«حداثة املابعد» التي مل تعرف ت�أ�صي ًال حمدداً ووا�ضحاً ملفهومها النظري� ،ستجد هويتها الفعلية يف املجال ال�سيا�سي ،وبالتايل �ست�شكل منطقة الإ�ستقطاب الأكرث حرارة بالن�سبة �إىل النخب امل�شار �إليها .ذلك �سي�ؤكد �أن م�شكلة ما بعد احلداثة يف الفكر العربي امل�ستحدث ،هي م�شكلة �سيا�سية ب�إمتياز .فلو �شئت �أن تتبينّ �صفات ومزايا املثقف العربي «املابعد حداثي» ،باملعنى الذي �شاع مع الزحف املد ّوي حلركة العوملة، لظهرت لك بجالء يف امليدان ال�سيا�سي. وملا كانت �إ�سرتاتيجيات ما بعد احلداثة قد انب�سطت يف ن�شاطها ال�سيا�سي على الهيمنة ،و�إعادة ت�شكيل العامل تبعاً لغاياتها وم�صاحلها ،ف�سنالحظ كيف حت ّولت مقولة الدميقراطية يف �أعمال «ما بعد احلداثة العربية»� ،إىل املثال الأكرث ح�ضوراً يف ف�ضاء ال�سيا�سة� .إذ عن طريقها �سين�ش�أ لدى النخب العربية النيوليربالية ،قناعات هي �أقرب �إىل يقينيات «الالهوت الديني» .حيث حت�صل ذلك يجري النظر �إىل الدميقراطية بو�صفها �شريعة �سيا�سية ينبغي الأخذ بنا�صيتها ،ولو ّ من طريق الغزو اخلارجي �أو النزاعات الأهلية الداخلية .وتلك «اليقينيات» مل تتوقف عند كونها جمرد انفعال و ّلدته «ديكتاتورية ال�سرديات الكربى» وخيباتها ،بل هي �ستتحول مع كثافة الزمن ال�سيا�سي وت�سارعه� ،إىل منظومة �أيديولوجية م�سكونة بخا�ص ّيتني مرتابطتني: اخلا�صة الأوىل ،احل�ضور يف امليدان واحل�صول على �شهادة الإعرتاف ،والثانية :ال�سعي قوام ّ املحموم ،لبلوغ فردو�س ال�سلطة .وملا كانت عوامل ما بعد احلداثة غري ثابتة ،وحمكومة باحلراك الدائم ،وقائمة على مبد�أ تفكيك القناعات ،وزلزلة الإجماع الوطني ...ف�سيجد من يعي�ش هذه حج َته يف ما �آلت �إليه �أحوال عامل نهاية القرن الع�شرين من ف�صام و�شتات وال يقني .املهم العواملَّ ، بالن�سبة �إىل ه�ؤالء�،أن عامل ما بعد احلداثة ،و�إن كان يطوي ن�صاً �إمربيالياً ثقيل احلمل ،ف�إنه بالأ�صل ومتعدد ي�سمح بتعاي�ش اال�ضداد ،ولو حتت �سقوف وهذا هو املهم بالن�سبة �إليهم،-عامل مفتوح ّدول و جمتمعات منزوعة ال�سيادة. ب -الإنحياز بو�صفه م�ستحي ً ال �أتينا قبل قليل على بع�ض مزايا و �صفات ما بعد احلداثة العربية ،لنالحظ �أنها تعك�س رغبة حممومة �إىل التح ّيز .و �ستك�شف التحوالت العربية عن �سرعة الفتة يف ديناميات الإ�ستقطاب، مل يعد معها الكالم على احلياد �أمراً منطقياً .فالتح ّيز �صار �سيد البيئات الثقافية والفكرية ،على اختالف اجتهاداتها و�أهوائها وميولها؛ بل رمبا مل تعرف الإحتدامات املجتمعية العربية من قبل، مثل هذا النوع من التح ّيز الذي ُيرتجم ا�ستقطاباً �شديد التباين والإ�ضطراب. 102
درا�سات و�أبحاث
بقطع النظر عن املناحي والإتجّ اهات التي �سلكها م�سار «الإ�ستقطاب امل�ضطرِب» ،فقد لوحظ �أن النخب العربية ب�ألوانها وميولها املتناق�ضة ،قد غادرت ،حالة الك�سل التي �ض ّللتها لفرتة طويلة .و لقد ت�أكدت الأطروحة التي تقول �إن من املحال على املثقف �أن يكون حيادياً ..بل �إنه حتى يف قراءته للظواهر و الأحداث ،ولو من قبيل التو�صيف ،مل تفارق معايريه وت�ص ّوراته اخلا�صة .وعليه، فال تكاد ت�ستوي �أحكامه ور�ؤاه على ن�صاب منطقي حتى يكون له فيها وجهة نظر� ،أو ر�أي ...ومع هذا �سينربي كثريون �إىل ر�ؤية الإ�ستقطابات احلا�صلة خارج �سياقها الطبيعي ،والنظر �إليها على �أنها انعطاف تاريخي� ،إ ّال �أنه من ّزه هذه املرة عن الوالءات الأيديولوجية. ال�سجال الفكري ،و ال�سيا�سي ،و الإعالمي ،كان ّثمة ما يعك�س هذه النظرة .و�سنالحظ يف زحمة ّ قو ًال �شائعاً م�ؤاده� :إنها ثورة �شباب جاءتنا على حني بغتة ..ثورة ال قبليات �أيديولوجية لها ،وال زعامات و قيادات كمثل ما ن�ألفه يف الإنتفا�ضات والثورات ال�شعب ّية املن�صرمة...ولقد ظهر من تداعيات هذا القول ،كما لو �أنّ احلادث العربي على �ضخامة مفاعيله،يجري على ن�صاب الق ََدر ّية وامل�صادفة. ولأن واقع الأمر لي�س كذلك - ،كما تبينه «خارطة اال�ستقطاب امل�ضطرب» ،-فال نفع -يف ما نت�ص ّور -من ا�ستئناف ّ هدى �أو بيان. الظنون ب�أن الطور العربي امل�ستحدث ،يتح ّرك على غري ً فلقد انربى بع�ض ال ُن ّظار �إىل قول معاك�س ،فالحظوا �أن امليادين العربية �أَ ْخبرَ َ ت عن «�أمر جلل». و �أن لهذا الأمر اجللل منطقه الداخلي يف املقدمات واملقا�صد ،و�أنه �شديد الرتكيب واملزاوجة والتداخل بني قواه وحمركاته .ولأنه كذلك ،ف�إن املفارقة التي مت ّيزه ،هي احليوية الإيديولوجية ي�ضج الظاهرة من خالل مرموزات اخلارطة امل�شار �إليها .و�إذن ،فهي حيوية ملتب�سة ميتلئ بها �شارع ّ بر�ؤى واهواء وت�صورات ،مع ما حتفل به من حوامل االرتياب وعدم اليقني. و�أ ّنى كان الو�ضع ،ف�إن ح�صيلة «الإ�ستقطاب» ،تف�ضي �إىل حت ّيزات �أكيدة .وال ي�ستثنى من هذا احلكم من �أنكر على قيادة ال�شارع حت ّيزها .ذاك �أن �إنكار خالء ال�ساحات من امل�سبقات بحد نف�سه �إنكار ذو طبيعة ايديولوجية ،لأنه ينطوي على ع�صب خا�ص يرتجم الإيديولوجية ،هو ّ �أهواء املنكرين وغاياتهم. يف�سر كل حدث ،مهما كان ب�سيطاً �أو حمدوداً تبعاً ملعايريه الذاتية ،ومبا فااليديولوجي «املتح ّيز» ّ يوافق مزاج وهوى �أتباعه ب�صرف النظر عن عقالنية هذا التف�سري �أو �صحته املنطقية .وقد يكون التلفيق الإعالمي ،وت�شكيل حر�س هائل من االكاذيب لتغذية هدف معينّ ،هو �أكرث ما مي ّيز ُ�ص َور التح ّيز االيديولوجي يف امليادين العربية .يف هذا ال�صدد �سنقع على �أمر الفت ،يتوقف على �إدراك معانيه ،فهم �أحد �أبرز بواعث ال�صدع املجتمعي يف العامل العربي .م�ؤ ّدى هذا الأمر� ،أن النمو االيديولوجي ي�أتي على قاعدة انفجار الهويات الفرعية ،و على �سعي كل منها �إىل �إعادة تظهري 103
«ب�صمتها» ال َعقَدية والثقافية الأ�صلية .ولذا فما من هوية فرعية ت�ستنبتها حركة التحوالت� ،إ ّال ولها ما ينا�سبها من �إن�شاءات وعناوين و�أفكار و �شعارات . تبدل العامل ،لينعقد على ن�صاب العوملة قبل نحو عقدين من ال�سنوات ،كان كل �شيء يجري ملّا َّ حتت ذريعة نهاية زمن الأيديولوجيا .قيل يومها �إن الدنيا �صارت واحدة ،وال حاجة ٍ بعدئذ �إىل �إبراز الهويات ،و�صياغة العقائد ال�سيا�سية .لكن بعد قليل من ال�سنوات� ،سيظهر لنا �أن «دراما» الإنهاء -التي �أخرجها اجلهاز الفكري لليربالية اجلديدة ب�إتقان� -سرعان ما ذوت حتت وط�أة الإن�شاء الإيديولوجي امل�ست�أنف .يف ذلك الوقت ،مل يق�صد الذين تو َّلوا تظهري فل�سفة النهايات، �سوى تعميق ال�صدع الذي ّ حل ك�إع�صار على الهويات ،والوالءات ،واملذاهب ال�سيا�سية .يومها �أي�ضاً دعا بع�ض الذين �أُخذوا ب�أوهام النهايات من مثقّفي العاملني العربي والإ�سالمي� ،إىل قطع وح ّجتهم� ،أن الو�صل بينهما �سيف�ضي �إىل ا�ستئناف اال�ستبداد ب�ألوانه ال�صلة بني الثقافة وال�سيا�سةُ . ّ جمدداً �إىل معاقل املختلفة.ولقد فعلوا ذلك ،ظناً منهم �أن التح ّيز يف املجال ال�سيا�سي �سي�أخذهم ّ الأيديولوجيا .و من ه�ؤالء من حت ّولت الأوهام لديهم �إىل قناعات �آلت يف كثري من الأحيان� ،إىل ت�أليف حركات �سيا�سية ليربالية راحت تنمو على ال�ضفة املعاك�سة ،ملا �سبق �أن كانوا عليه من ثوابت وم�س ّلمات تنتمي على اجلملة �إىل عامل الي�سار ب�صنوفه الفكرية املختلفة. الذي يحدث اليوم �سي�أتينا مبعايري نظر جديدة .فحاملا حتركت �صفائح «اجليولوجيا ال�سيا�سية �ضيات وان�ساقٌ �شتى .ومن املنطقي العربية»� ،سيو ّلد زمن �آخر� ،أخذت تنكفئ معه �أوها ٌم و َف َر ٌ ٍ حالئذ� ،أن نطالع لغة مل نكن ن�ألفها منذ ال�صعود املد ّوي للفكر النيوليربايل يف ختام القرن الع�شرين .مز ّي ُة هذه اللغة� ،أنها بقدر ما تغتذي من طبائع الأيديولوجيات التقليدية ،بقدر ما ُتظه ُر قو ًال �سيا�سياً وثقافياً جديداً ...قو ًال يبدو يف ظاهره عابراً للأطر الأيديولوجية� ،إ ّال �أنه يف الواقع لي�س كذلك ،لأنه �صادر من بيئات تعيد �إنتاج خطبتها الأيديولوجية ب�أ�ساليب مغايرة للتقليد. وهكذا فال يكاد النا�شطون اجلدد -حني ينف�صلون عن اخلطبة التقليدية التي اعتادت عليها التيارات القومية واملارك�سية والدينية زمناً طوي ًال ،-حتى يرجعوا �إىل طراز جديد من التح ّيز ولو برداء ليربايل هذه املرة .وعلى نح ٍو كهذا ،مل تكن �صورة ال�شارع العربي وهو يف�صح عن نف�سه بالإحتجاج ال�سلمي حيناً ،والعنيف حيناً �آخر� ،سوى ترجمة لطور م�ست�أنف من �أطوار احلكاية الإيديولوجية .ولكي ال تلتب�س ترجمة ال�صورة ،على من �أَلِف الأمناط امل�شهورة لظهورات الفكر الأيديولوجي يف القرن الع�شرين ،ن�شري �إىل �أن من �سمات الطور امل�ست�أنف لهذه احلكاية ،هو �أنه 6
6
104
�أفلحت فل�سفة الفو�ضى خالل متريناتها االخرية داخل اجلغرافيات العربية واال�سالمية يف تفجري ع�صبيات كامنة (طائفية ومذهبية وقبلية وع�شائرية وعرقية) وقامت برعايتها والعناية بها ف�ض ًال عن ت�سويق ون�شر ثقافاتها, �إىل احلد الذي باتت معه ثقافة هذه الع�صبيات ف�ص ًال ا�ضافياً �صارخاً يف الرياء االيديولوجي الذي متار�سه نخب ما بعد احلداثة العربية.
درا�سات و�أبحاث
طور عابر للأيديولوجيا كما ذكرنا ،لكنه م ّت�صل بها وعائد �إليها يف الآن عينه .ففي مقام التجربة العربية الراهنة� ،سيظهر لنا ح�ضو ٌر ّ توحده ع�صبية معاداة مرك ٌب يعرب عن نف�سه بخطاب م�شرتكّ ، الإ�ستبداد وتف ّرقه الر�ؤى والت�صورات املتعلقة بهوية النظام الذي تتط ّلع �إليه ثورة ال�شارع .هذا احل�ضور يظهر بو�ضوح على �ضفتي اال�ستقطاب� .أحزاب وجماعات قومية وي�سارية ودينية تقليدية، من ناحية ..و�أفراد و م�ؤ�س�سات �أهلية وليربالية من ناحية ثانية .وهذا ما متثّل بـ«الإندفاع اجلماهريي املُ�ستهدِ ف» الذي يجد تف�سريه يف ما تظهره �سايكولوجية «�إ�شغال املكان من جانب اجلمهور»..، طلباً حل ّيز مكاين ينالون فيه �شرف احل�ضور و�شرع ّية الإحتجاج ،و ي�ضفون عليه �ألواناً خمتلفة من الروحانية ال�سيا�سية. مع هذا الإ�شغال� ،سرنى كيف غدت امليادين وال�ساحات� ،أقرب �إىل مرموزات �أيديولوجية تعك�س طموحات و�آمال و�أفكار �شاغليها ،على �إختالف �إتجّ اهاتهم ،ور�ؤاهم ،ومقا�صدهم .ثم جاءت ال�صورة امل�ستهدف ل ُتف�صح عن منظومة كاملة من امل�شاعر وال ّتط ّلعات ،غايتها �إبطال البناء الإيديولوجي َ (بفتح الدال)� .أي احلكم ببطالن بنية النظام ال�سيا�سي والثقافة التي تربر �إ�ستمراره ،متهيدا» لإقامة احلد عليه. ولو نحن انتقلنا من جمال تو�صيف ال�صورة ،اىل الوقوف على مغزاها ،ل َبدا لنا من �سايكولوجية احل�شود ما ُيف�صح عن «بهجة التح ّيز» .ثم لوجدنا منظومة من الرموز والكلمات ال يدرك �س ُّرها �إ ّال من �إ ّتخذ لنف�سه �سبي ًال �إىل «جنة املواجهة» .و نق�صد بهم �أولئك الذين منا وعيهم يف خمترب حمتج يعي و ُيدرك �ضرورة التغيري وحتم ّيته. الإحتدام ،حتى بلغوا الدرجة التي جعلت كل ٍ تتوحد فيها الإرادة بالوعي� ،سوف تتوفر ل�شاغلي امليدان �شروط يف رحاب تلك املنظومة التي ّ القدرة على �صناعة احلقائق اجلديدة .فالبينّ من حركة ال�شارع� ،أنّ كل فاعل فيها �صار ي�شعر بنعمة احل�ضور ،و�أنه يغادر خوفه و�صمته ٍ ب�شغف النظري له .وب�أنه ينتقل من الهام�ش �إىل املنت لي�صري يف قلب احلدث .وعند هذه النقطة ال تعود احلرية بالن�سبة �إليه جم ّرد قيمة �إفرتا�ضية ،بل هي �أم�ست ح�ضوراً ف ّعا ًال داخل احل ّيز الذي تخيرّ ه لها عن �سابق ت�صور و ت�صميم .فاحلرية التي حتقّقت بانخراط كل فرد داخل احل�شود ،هي احلا�ضر الأبرز يف منطقة التح ّيز� .إذ �سيجد كل متح ّيز ،وك�أنه �شريك يف ق�ض ّية عادلة ت�ست�أهل منه �أعلى درجات الت�ضحية .بل �إن �شعوره باحل�ضور �سيتحول �إىل فكرة عملية ذات جاذبية فريدة .بها ت ّتحد التجربة باملعرفة ،وفيها ي�صبح املجرب عارفاً بحقيقة املخاطرة التي اندفع �إليها .ومعها يزول منه خوفه ،وينفك من عقدته املزمنة ،وي�صري �شريكاً يف احلدث لي�سهم مع ال�شركاء الآخرين يف ال ّتغيري ال�شامل.
105
بني التح ّيز والعنف �إذا كان التح ّيز يجري على هذا النحو وفق الو�ضع الطبيعي ،ف�إن ا ّتخاذه ُ�س ُب ًال عنيفة كما هو حال بع�ض امليادين العربية ،جعله حت ّيزاً مق ّيداً بفو�ضى الدم ،ومفتوحاً على الفتنة الأهلية امل�س ّلحة .فعلى الرغم مما ينطوي عليه التح ّيز من ممار�سة احلرية ،ف�إنه يفتقد يف املقابل �إىل �أع ّز غاياته ،وهي الإنتقال بوا�سطته �إىل زمن جديد من الأمان الفردي والإ�ستقرار املجتمعي. يف الو�ضعية العربية �سوف نالحظ كيف �إمتزجت الثورات باحلروب� ،إمتزاجاً بدا معه التح ّيز، وك�أنه ميتنع عن �أن يكون نظرياً للحرية .بل لقد بات العنف ُّ ثقيل فوق جغرافيا احلال كحمل ٍ ٍ الثورات ،هو احلاكم على كل حت ّيز داخلي ،مهما َم َل َك املتح ّيزون من فهم لغاياتهم ،ومن قدرة على توجيه �أهدافهم يف االتجّ اه ال�صحيح. لقد �أ ّدى امتزاج عقل الفتنة بعقل الثورة ،وب�سبب من التقائهما على �أر�ض واحدة� ..إىل �إفقاد الثورات �أحد �أهم �أ�سباب انت�صارها وهي اال�ستقالل .ونعني باال�ستقالل هنا ،حترر قوى التغيري الوطني الدميقراطي من م�ؤثرات العاملني الإقليمي والدويل� .إن ما تعي�شه الثورات العربية من هذه الناحية ،على الرغم من خ�صو�صيته ،هو �إ�ستثناء يثبت القاعدة ،ال�سيما لناحية التقاء عنف اخلارج وثورات الداخل �ضمن ح ّيز مكاين وزماين م�شرتك. لقد كانت م�ساحة الده�شة التي رافقت بدايات كل ثورة من ثورات العامل العربي ،قوية �إىل الدرجة التي غاب معها الإح�سا�س بخطر العنف واحلروب الأهلية الداخلية على ظهور زمن احلريات و العدالة الإجتماعية. على امل�ستوى النظري ميكن القول� ،أنه بالرغم من احلاجة املا�سة �إىل التمييز بني احلرب والثورة مع وجود الرتابط الوثيق بينهما ،ف�إن علينا -كما تقول حنة �أرندت � -أن نالحظ حقيقة واقعية وهي �أن الثورات واحلروب ،ال ميكن �أن تقع خارج نطاق العنف ،و�أن هذه احلقيقة كافية لأن جتعلهما يف معزل عن الظواهر ال�سيا�سية الأخرى .وقد يكون من الع�سري علينا �أن ننكر �أن من الأ�سباب التي �أدت �إىل هذه ال�سهولة يف حتول احلروب �إىل ثورات ،و�إىل �أن ُتظهر الثورات هذا امليل امل�ش�ؤوم �إىل �إطالق احلروب من عقالها ،هو �أن العنف نف�سه م�ؤ�شر م�شرتك لهما معاً .و مثلما �شكل العنف الذي �أطلقته احلرب العاملية الأوىل عام ًال كافياً لتوليد الثورات ،حتى ولو مل يكن ثمة تقاليد ثورية ،فقد ّ �شكل العنف الذي �أطلقته العوملة ،دلي ًال على عمق الترّ ابط بني حراك الداخل و�إ�ستباحة ال�سيادات الوطنية من اخلارج. الت�صدي لهما يف املخترب هنا بال�ضبطَ ،و َج َب التمييز بني م�شكلتي التحرر واحلرية ،ال ّلتني ينبغي ّ العربي .هاتان امل�شكلتان تندرجان يف مقدم امل�شكالت التي يتوقف على �إدراكها فهم التحوالت، 7
7
106
حماد ،دار الكتب والوثائق القومية ،القاهرة� 2011 ،ص .20 حنة ارندت ،ر�أي يف الثورات ،ترجمة خريي ّ
درا�سات و�أبحاث
والتع ّرف على القوى الفاعلة فيها ،و املحركة لإجتاهاتها .وهذا ما يحيلنا مرة �أخرى �إىل �أ�صل الق�ضية التي م ّر ذكرها يف م�ستهل بحثنا ،وهي �ضرورة البحث عن �إ�سرتاتيجية معرفية ُتوازِن بني ال�سيادة الوطنية ،والتغيري الداخلي مبعزل من العنف .واملعني بالعنف هنا ،لي�س ذاك الذي تلج�أ �إليه ال�سلطة احلاكمة �ضد معار�ضيها عندما تو�شك على ال�سقوط�،أو ذاك ال�صنف من العنف الذي متار�سه املعار�ضة �ضد احلكم ...و�إمنا ذاك العنف املتد ِّفق من اخلارج ،والذي غالباً ما يح�صل بوا�سطة حتالف دويل لتبديل وجهة النظام وموقعيته اجليو�-سرتاتيجية .ولنا من الأمثلة القريبة ما يكفي حني ن�ستذكر الإحتالل الأطل�سي لدول مثل يوغو�سالفيا و�أفغان�ستان والعراق وليبيا. ومن هنا تربز الأهمية الق�صوى لفهم م�شكلة ثورات ما بعد العوملة ،وخ�صو�صاً لناحية عدم توافق فكرة احلرية مع فكرة التحرر من امل�ؤثر اخلارجي .وهي امل�شكلة التي ينبغي ح�سمها على النحو الذي ال يكون فيها اخلارج عام ًال حا�سماً يف ر�سم الهند�سة الداخلية للحياة ال�سيا�سية الوطنية اجلديدة... لذا ف�إن من الأوليات امل�سلم بها �أن يكون التحرر من امل�ؤثرين الإقليمي والدويل ،هو الإ�شرتاط الرئي�سي لوجود احلرية يف املجتمع ال�سيا�سي وداخل الدائرة الوطنية ،و�إن كان ال يقود �إليها ب�صورة �آلية رتيبة. � .4إنت�صار االيديولوجيا على ال�شارع
هل ا�ستطاعت الثورات العربية �إ�ستناداً �إىل النتائج الأولية التي �آلت �إليها �أن تنجو من العنف، وت� ّؤ�س�س لنموذج ثوري يحقق التوازن بني �ضف َت ْي ال�سيادة والدميقراطية ..وبالتايل بني حلم ال�شارع و�إغواءات الو�صول �إىل احلكم؟ لو �أن من ا�ستنتاج جدير باملالحظة يف �ساحات الإحتدام العربي ،ف�سيكون يف الكيفية التي ا�ستطاع فيها االيديولوجيون �إحتواء ال�شارع ،وحتويل فعالياته �إىل طريق �سريع لو�صولهم �إىل ال�سلطة. د ّلت التجربة امل�صرية ،وال �سيما بعد و�صول الأخوان امل�سلمني �إىل رئا�سة الدولة ،على �أ�صالة االيديولوجيا ومكانتها يف الواقع ال�سيا�سي .ما يعني يف احل�صيلة املنطقية� ،أن ميدان التحرير كان �أ�شبه بجواز مرور فعلي ّ مكنهم -مبا ميتلكونه من مرياث فكري وتنظيمي ذي جذور تاريخية �ضاربة� -أن يعربوا من خالله �إىل فردو�س احلكم. لي�س من العقالنية يف �شيء� ،أن ُتعزى هذه احل�صيلة -كما يزعم حمللون� -إىل حماولة التفاف «�أخوانية» ناجحة على «ثورة �شبابية �ساذجة» .امل�س�ألة �أبعد من هذا ،فهي ال ُتختزل مبجرد القول، �إنها عملية ت�سلل حمكمة الإتقان نفّذها الأخوان وح�صدوا نبات ما زرعه �سواهم .ذلك �أن واقع احلال لي�س على هذا النحو من التب�سيط .كل ما قيل عن �شارع مليوين حتركه تقنيات ،الإنرتنت، 107
لها ما َل َها من وزن يف حتويل احلدث اجلماهريي �إىل «خطب جلل» ،ال يتوقف عند هذا احلد. فالذي يحرك احل�شود وي�ضبط م�شاعرها ،هو ذاك الذي يقدر على �أن ي�صنع لها الكلمات واملواقف وير�سم لغ�ضبها العارم خطوط النهاية .وهذا هو ال�شيء الذي ب ّينته النتائج على الإجمال ...حيث وجدنا كيف ا�ستكان ال�شارع ل�ضراوة الفاعل الأيديولوجي ،وكيف اطم�أن �إىل �سحر خطابه .املثل التون�سي �أي�ضاً �سيفتح الطريق على حالة عيانية م�شابهة ،كانت فاحت ُتها البطولة الرتاجيدية ملحمد بوعزيزي .تلك احلالة التي مل تفت�أ حتى ن ّبهت العقل ال�سيا�سي حلركة النه�ضة� ،أن ال�ساعة �أذنت �سيقدر حلركة النه�ضة، له للقب�ض على نا�صية املجتمع و الدولة .وكما �سيطر الأخوان يف م�صرّ ، وهي �سليلة الف�ضاء الأيديولوجي نف�سه� ،أن حتقق ما كان بالن�سبة �إليها ولزعيمها را�شد الغنو�شي حلماً بعيد املنال. �سوف لن جند كثري م�شقة ،لنتعرف �إىل املغزى الذي �آلت فيه حركة ال�شارع �إىل ح�صنها الأيديولوجي .ذلك ،على الرغم من �شجاعة «�شباب الثورة» الذين ك�سروا اخلوف ووا�صلوا الزحف برباعة نادرة. واحلث على ملء امل�سددة بتكنولوجيا التوا�صلِّ ، لكن الق�ضية ال تتوقف عند حدود البطولة َّ ال�ساحات ب�أ�صداء احلناجر .فلقد بدا كما لو �أن ال�شارع يجري وراء االيديولوجيا ،ليملأ بوا�سطتها فراغاً مل يفلح مبلئه طليعيو امليادين الأوائل� .أولئك الذي د�أبوا على �إظهار �شغفهم بالتغيري من خالل عوامل افرتا�ضية مل تفت�أ حتى حت ّولت مع �سواهم �إىل حقائق دامغة .ال�شيء ال ّالفت �أن الكل كان يعمل �ضمن �ساحة مفتوحة على االحتماالت .فما من �أحد كان يت�صور م�شهد النهاية الذي �سوف تر�سو عليه حركة ال�شارع ،ال �شباب الثورة ،وال اجلهاز االيديولوجي لتيار الأخوان. لكن كل �شيء كان يجري جمرى العقل ال�صارم ،على الرغم مما �أظهرته ال�صورة ،وك�أنه انعكا�س النفعاالت اجلماهري وعواطفها. من هذا الوجه مل يكن املنخرط يف املواجهات� ،أ ّياً كانت هويته االجتماعية وال�سيا�سية ،غاف ًال عن الأهداف التي حت ّيز لها .فالذي �إختار امليدان م�سرحاً للعبة احلرية كان يعي ويدرك ما ي�صنع رغم خطورتها .كان العقل حا�ضراً بقوة لديه ،لكي يحقق الغاية التي من �أجلها خاطر باملنازلة .فامل�س�ألة يف ح�ساباته ال تتعلق مبدى واقعية تلك الغاية �أو �إمكان حتقُّقها ..املهم بالن�سبة �إىل املتح ّيز � -سواء كان منتمياً �إىل حزب �أو جماعة� ،أو كان فرداً غري منتم لإطار تنظيمي �أو تيار ايديولوجي � -أنه يقوم باختباراته وهو يف متام وعيه .فال �ضري عنده �أن ي�ضفي املعقولية على ما ال يعترب معقو ًال يف ح�سابات اخل�سارة والربح .فاملعقول عند «نزيل ال�شارع» هو ما يفكر فيه ويرنو �إليه بو�صف كونه �سبي ًال خلال�صه ال�سيا�سي .وهذا ال�سلوك هو �سمة الزمة للممار�سة االيديولوجية التي من �أبرز مزاياها ،اجلمع بني التعقُّل جلهة ح�سبان الأمور �صغريها وكبريها،و بني الرغبة اجلاحمة يف الو�صول �إىل الهدف .ولذلك فهي مزيج بني الأمرين معاً ،حتى لو جاءت الرغبة خمالفة منطقياً لأحكام العقل جلهة �إمكان تطبيقها .فااليديولوجية قد ال ت�شعر مب�شكلة احلدود بينها وبني العقل ،بقدر ما 108
درا�سات و�أبحاث
ي�شعر العقل بتلك امل�شكلة حني ي�ستقل بنف�سه .ذلك لأنه لي�س من م�صلحة الأيديولوجيا �إزالة الإلتبا�س ،الذي ي�سمح لها بهام�ش وا�سع من املناورة واملراوغة جتاه العقل .بل من م�صلحتها الإبقاء على �صورتها العقالنية ،وتقدمي نف�سها كمنظومة من احلقائق الدافعة والفاعلة يف الوقت عينه. يف وقائع التحوالت ،ما ي�ؤكد �أن ال�سيا�سة ،هي مركز اجلاذبية لكل فاعل �أيديولوجي .ذاك �أن مقا�صد االيديولوجيا كامنة بالأ�سا�س يف العناية املطلقة بال�ش�أن ال�سيا�سي الذي ال يعادله �ش�أن �آخر .بل يجوز القول �إن تلك املقا�صد� ،شكلت الهند�سة املعرفية التي يتد ّرع بها كل نا�شط يف احلقل العام حتقيقاً لأغرا�ضه ال�سيا�سية .و ّثمة من يرى� ،أن ما حتوز عليه الأجهزة االيديولوجية من قدرات يف احتواء اجلماهري وتوظيف انفعاالتها ،متتد اىل النقطة التي ي�صبح فيها العقل عبداً ملقت�ضيات ال�سيا�سة� .أي للغاية الفعلية التي ي�سعى اليها املتح ّيز يف ن�ضاله ال�سيا�سي وهي :احل�ضور الفعال يف خارطة التوازنات ،و�صو ًال �إىل امل�شاركة يف ال�سلطة �أو ال�سيطرة عليها. ولأن االيديولوجيا ذات طبيعة عملية ،ف�إن فكرها هو من �سليل هذه الطبيعة ..مبا يعني �أن هذا الفكر ميثل يف مقام التطبيق ،التجلي الفعلي للرباغماتية ال�سيا�سية .وبهذا املعنى فهو «فكر ال يبحث �أولياً عن احلقيقة املجردة يف كمال ذاتها ،و�إمنا عن الفكرة النافعة» ،فقد تكون الفكرة النافعة حقيقة �أو ن�صف حقيقة� ،أو ظناً� ،أو ت�شويهاً� ،أو ت�شكيكاً� ،أو متويهاً� ،أو �ضال ًال من ال�ضالالت �أو وهماً من الأوهام .ولكن النافع يف ال�سيا�سة هو يف الدرجة الأوىل ما ي�ساعد على الو�صول �إىل احلكم� ،أو على املحافظة عليه .وكل تفكري ايديولوجي يف ال�سيا�سة هو تفكري انتفاعي ،ولي�س ذلك �سوى نتيجة لطبيعة ال�سيا�سة نف�سها. ال ن�سوق هذه التغطية النظرية لطبائع االيديولوجيا وممار�ستها� ،إ ّال لنبينّ الكيفية التي �آل �إليها التح ّول الثوري يف عدد من البالد العربية .فلقد ظهر يف التجربة ،وامل�صرية منها على اخل�صو�ص، املح�صنة بالفكر االيديولوجي على الإحاطة بال�شروط الداخلية للحراك ،ومن ثم قدرة الفعاليات ّ �إحتوا�ؤه بالكامل على نحو متد ّرج. احلادث العربي الإجمايل ال يفارق �سقف هذا التنظري .ف�إن خال�صته ت�شري �إىل قدرة اجلهاز االيديولوجي على التهام كل ما هو �أدنى حيلة منه ،وال �سيما جلهة ق�صور من مل تكتمل عمارته االيديولوجية ،عن تفجري الب�ؤر الكامنة يف الوجدان العام .ونق�صد به�ؤالء ،عموم البيئة الليربالية 8
9
10
8نا�صيف ن�صار ،الأيديولوجية على املحك ،ف�صول جديدة يف حتليل االيديولوجيا ونقدها ،دار الطليعة بريوت � 1994ص.39 9با�سكال حلود ،التفكري على ال�شفري ،م�س�ألة الطائفية يف فكر نا�صيف ن�صار = ف�صل من كتاب «ا�سم علم» نا�صيف ن�صار ،علم اال�ستقالل الفل�سفي ،من�شورات اجلامعة االنطونية � 2008ص .166 10نا�صيف ن�صار ،الفل�سفة يف معركة االيديولوجيا ،دار الطليعة ،بريوت � 1980ص .257 109
غري املنتمية ،و التي وجدت �ضا ّلتها يف منظمات املجتمع املدين ..مع الإ�شارة اىل �أن هذه البيئة على �سعتها وتن ّوع �شاغليها -ت�ستعمل العناوين نف�سها التي ت�شكل �أر�ضية العمل الأ�سا�سيةللجهاز املذكور .مع ذلك ف�إن هذه البيئة مل تغادر االيديولوجيا باملطلق ،وكان ذلك وا�ضحاً يف �شعاراتها ذات الوقع الرومان�سي الثوري،التي ملأت �صفحات املواقع االلكرتونية و مرايا الأثري ال ّالمتناهي ...ولذا فما كان ينطبق على الأحزاب ذات ال�سرية االيديولوجية العريقة( ،قومية و�إ�شرتاكية و�إ�سالمية) ينطبق �أي�ضاً ومن �أوجه كثرية على «�شباب الثورة» وغريهم ممن ينتمون �إىل «جيل الفاي�سبوك» و «التويرت» ،و�سائر تقنيات التوا�صل ال�سيا�سي و الإجتماعي ..علماً �أن �أبناء هذا اجليل مل يظهر ما يدل على �إمتالكهم مالمح ايديولوجية وا�ضحة يف مبادراتهم الثورية. اجلدير مالحظته يف عامل ه�ؤالء� ،أنهم وهم مي ّيزون �أنف�سهم عن القوى ال�سيا�سية وااليديولوجية التقليدية بادروا اىل الإحتجاج ،وملأوا ال�ساحات وامليادين ،و�أفلحوا يف �إجتياز خرائط التحالفات والتوازنات التقليدية ،حيث ف�شل الآخرون .بل �إن جيل الفاي�سبوك �سي�سهم يف حتطيم ُج ُد ِر اخلوف ،ومي ّهد ال�سبيل للكتلة االيديولوجية التقليدية (الأخوان امل�سلمون �أ�سا�ساً )�،أن تتو ّغل يف �أعماق ال�شارع الثوري ّ وتتحكم ب�إيقاعاته ووقائعه. يف ميدان التحرير على �سبيل املثال كان «املم ِّهدون» ينفذون اجلانب العملي من املهمة املفرت�ضة للجهاز االيديولوجي.و بهذه الطريقة كانوا ميار�سون �ضرباً من ايديولوجية خم�صو�صة ،من �أهم خوا�صها �أولوية العمل على �سحر اخلطاب.. ّ لقد �أجنز �شباب الثورة يف ميدان التحرير ما كان ينبغي على اجلهاز االيديولوجي والتنظيمي للأخوان �أن ينجزه حتى يت�س ّنى له �إدارة االنتقال املعقد من ال�شارع امللتهب �إىل الق�صر الرئا�سي. و عند هذه النقطة من زحف االيديولوجيا املد ّوي �سوف ن�س ّلم ب�أن املهمة كانت تاريخية ومعقّدة و�شاقّة ،ولكنها تتم ّتع بقدرات �إ�ضافية على املناورة .ذاك �أن «حركة الأخوان» ملَّا ّ حطت الرحال يف وي�سدد �أفعالها، مقام الرئا�سة مل تغادر ال�شارع ،ومل تقطع معه �صالت الو�صل .فهو معها ي�ؤازرها ّ و�ستعود �إليه وقت ال�ضرورة عندما ت�ست�شعر خطراً على �سلطتها قد ي�أتيها من ال�شارع نف�سه. التحيز يف التح ّوالت العربية .5منطق ّ
من يكتب على نف�سه التح ّيز ،هو على يقني من �أنه �أخذ بال�صواب .حتى �أولئك الذين مار�سوا لعبة العبور االيديولوجي من الي�سار الثوري �إىل اليمني املحافظ ،ودخلوا يف �إطار ما ا�صطلحنا عليه بـ»مثقفي ما بعد احلداثة العربية»� ،صار من ّ املتعذر حماكاتهم تبعاً ل�شروط ومعايري ثقافتهم الفائتة .امل�س�ألة تبدو ن�سبية بامتياز ،ويف مترينات احلقل العربي املفتوح ،ال تفت�أ هذه الن�سبية حتى تت�أكد على نح ٍو بينِّ ٍ .ومن هذا الوجه ،رمبا علينا �أن ننطلق لإي�ضاح �أمرين متالزمني ،يفرت�ضهما الكالم على التح ّيز : 110
درا�سات و�أبحاث
الأول :وجوب حتديد معنى التح ّيز ودالالته النظرية ...والثاين :وجوب التمييز بني التح ّيز اخل ّالق والتح ّيز املذموم. �أ -يف املعنى والداللة غالباً ما تفلح منطقة التح ّيز يف اجلمع بني املتباينات ،ويف التقريب بني املتباعدات ،ويف حتقيق الوئام والتفاعل ينب الوحدة والكرثة .وهذا بالفعل ،ما نرمي �إليه حني نتحدث عن املُمار�سة اخل ّالقة مت�سام بالأحداث� ،أو عن ٍ نبيل مبتعث ٍ للمثقّف املتح ّيز .تلك املمار�سة التي ت�صدر منه عن ُّ تب�صر ٍ �أخذ به لتحقيق غاياته الكربى. فالتح ّيز باملعنى الذي نتناوله ،هو من �صميم املعطى الإن�ساين ومرتبط ب�إن�سانية الإن�سان ،فكل حددنا احل�ضارة ب�أنها ما هو �إن�ساين يحوي قدراً من التف ّرد والذاتية ،ومن ّثم التح ّيز .و�إذا ما ّ ج�سد كل ما�صنعته يد الإن�سان ،ف�إنّ املثقف هو بال�ضرورة متح ّيز.بل �إن ما يوجد يف الطبيعة ُي ّ حت ُّيزا»�،إذ �إن الإن�سان هو الذي يجد ال�شيء الطبيعي حتى لو عرث عليه بال�صدفة .وهذه لي�ست عملية ع�شوائية،و�إمنا هي نتيجة �إدراك �إن�ساين ف ّعال ،وحينما يجد الإن�سان ال�شيء الطبيعي ف�إنه ي�سميه�،أي �أنه يدخله يف �شبكة �إدراكه ،وينقله من عامل الطبيعة والأ�شياء �إىل عامل الإن�سان. ّ لكن من املفيد الإ�ضاءة و جمدداً على املفهوم ،ونحن نتحدث عن التحيزات التي ع�صفت بالبيئات الثقافية العربية. �إذا كان التح ّيز من بديه ّيات التفاعل الإجتماعي ،ومبا هو حا�صل التن ّوع والتعدد يف عامل الكرثة فهو بالن�سبة للإن�سان ،فرداً �أو جماعة ،نظري قانون اجلاذبية بالن�سبة اىل عامل الطبيعةّ . فكل ما فيه حمكوم بهذا املبد�أ التكويني ،وواجب عليه ا�ستطراداً ،التك ُّيف مع قوانينه ومقت�ضياته. ذلك يعني �أنّ التح ّيز هو ح�ضور يف ال�س ّنة التاريخية ،بينما ي�شري عدم التح ّيز -وذاك حمال كما مر يظن فاعلها مهمة ّ معنا� -إىل مفارقة لهذا احل�ضور ،بل هو يف �أف�ضل �أحوالهُ ، �ضرب من ال ّت ّنحي عن ّ �أنه يح�سن �صنعاً حني ُيعر�ض عن �ش�أنٍ ال يعنيه .ومهما ا ّت�سعت �أر�ض احليلة لدى «ال ّالمتح َّيز» ،من عائد �إىل حت ّي ٍز ما .ابتغا ًء لغر�ض �أجل �أن يعلن �أمام امللأ حياده ،فلن يقدر على ذلك .ف�إنه ال منا�ص ٌ �أو م�صلحة �أو فتنة .ففي احلقول ال�سيا�سية العربية املحتدمة ما ي�شيء بك ًّم هائل من القيم القائمة على املنفعة .وهي حني تظهر يف ال�سلوك العام الفردي واجلماعي ،ف�إمنا على �صورة رياء �سيا�سي منقطع النظري .و هذه اخل�صي�صة املذمومة (الرياء) ،غالباً ما تكون م�ستورة يف مقام اجلماعات، 11
1 1عبد الوهاب امل�سريي ,فقه التح ّيز� ,ضمن �أوراق ندوة�:إ�شكالية التح ّيز ،ر�ؤية معرفية ودعوة للإجتهاد ,حترير عبد الوهاب امل�سريي ,اجلزء الأول ,املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي ,فريجينيا ,الواليات املتحدة الأمريكية,1997 , �ص .20 - 19 111
بادية وجلية يف حياة الأفراد .ولقد بينّ علماء الأخالق �أن «املُرائي» هو من ُيظهر اجلميل لكي اخلي فله �أو�صاف مغايرة ،وهو يبلغ غايته ،حتى لو جاءت ح�صيلة عمله غري �أخالقية� ..أما التح ّيز رَّ ما يرتجمه الوالء اىل ق�ضية تنت�سب اىل اخلري العام ،حيث يعمل املتح ّيز ،على العناية بها والكفاح من �أجلها ،وال�شهادة عليها بالقول والعمل .وهو �إذ يفعل ذلك ال يبتغي الثناء من �أحد على ما فعل ،و�إمنا يكون عمله كله حتقيقاً للخري العام�،إنطالقاً من �صدق �إميانه بالق�ضية التي واالها وحت ّيز �إليها ب�صدق .وبذلك ي�صح �أن نطلق على هذا النوع من الوالء بـ«التح ّيز اخل ّالق»� .إذ من مزايا تتوحد م�ساعيه مع غاياته �إىل املدى املتح ّيز داخل هذا املقام الأخذ با َخليرْ ّية �سبي ًال ومق�صداً ،حيث ّ التب�صر ا ُخل ُلقي، الذي تكون فيه مقولة الإحياء احل�ضاري ،يف حركته ون�شاطه ،حممولة على ن�صاب ُّ ك�سياق �ضروري لبلوغ اخلامتة ال�سعيدة للتاريخ. ب -يف التح ّيز اخل ّ الق والتح ّيز املذموم من الب ّينات العملية عما نحن ب�صدده �أن طائفة وا�سعة ن�سبياً من املثقفني العرب ومثقفني من بالد �إ�سالمية ذات �صلة باحلادث العربي ،انربت �إىل اعتماد منهج ذرائعي ي�سوغ النقالباتها ال�سيا�سية و الفكرية ،ويلبي حاجتها �إىل مظ ّلة �أيديولوجية متنحها القدرة على تغطية مواقفها. وال �ضري لدى هذه «الطائفة من املثقفني» لو َخ َلع خ�صومها عليها ما هو مرذول من ال�صفات: كاالرتداد على البديهيات� ،أو الإعرا�ض عن الوالء للق�ضايا الوطنية� ،أو قبول االحتالل الأجنبي. و هذه ال�صفات تكاد ت�شمل �سائر الأطياف ّ امل�شكلة لهذه الطائفة� .إذ غالباً ما ُيظهر ه�ؤالء قو ًال التدخل الأجنبي بذريعة م�ؤداها« :الإلتقاء املو�ضوعي مع الغرب على �أر�ض �سيا�سياً ي ّربرون فيه ّ م�شرتكة» ،يف �سبيل �إ�سقاط النظام الإ�ستبدادي. و�إذ مي�ضي هذا «النوع الثقايف» �إىل ما يخالف البديهيات ،ف�إنه ال يفت�أ حتى ي�ضطر اىل البحث يف قوامي�س الفكر ال�سيا�سي ليعرث على ما يوفّر له ظ ًال ايديولوجياً مينحه اليقني. يف �إختبارات التحول العربي �صار اجلميع �أمام املعادلة الآتية: �أنت متحيز ،فهذا معناه �أنك حا�ض ٌر يف الزمان .و�أنك قاب�ض على نا�صية �أمرك مهما انقلبت املوازين �أو اخت َّلت �شروط املواجهة .ومتى كنت كذلك ،ف�إنك لن تخ�سر من قناعاتك مقدار �أمنلة .ف�أنت على والئك ،ولن ميلك عد ُّوك ان يثنيك عنه .وحتى لو غلبك هذا العدو �أو تف ُّوق عليك يف برهة من زمن ،ف�إنك حممول مبا �أنت عليه من يقني ،على قلب ال�صورة .فل�سوف ت�سعى بوالئك هذا �إىل �أن متحو َغـ َلـ َبـته عليك بغلبتك عليه.
112
درا�سات و�أبحاث
.6تفا�ؤل بعد ي�أ�س� ...أو الدخول �إىل ج ّنة املواجهة
ال بد من العودة مرة �أخرى �إىل �أ�صل الإ�شكالية الأوىل ،وهو ما ُن َلخِّ ُ�ص ُه بال�س�ؤال حول �إمكان �إجناز التحول الدميقراطي يف العامل العربي -الإ�سالمي ،مبعزل عن اخل�صومة مع ال�سيطرة الإمربيالية ،و بالأخ�ص خارج نطاق ال�صراع التاريخي مع الدولة اليهودية الإ�ستيطانية يف فل�سطني؟ ت�أ�سي�ساً على ما م ّر� ،سوف ت�شكل الإجابة على ال�س�ؤال ،بداية التفكري مبا ميكن �أن ن�سميه بـ«ال�صواب التاريخي» .و�إذا كان ال منا�ص لكل مقولة من خارطة ،فلي�س ملقولة الإحياء احل�ضاري يف املدى العربي �سوى �إجناز الإ�ستقالل املعريف ،ك�شرط �ضروري و�أ�سا�سي لبلوغ «ال�صواب» املُ�شار �إليه. نقطة البداية يف رحلة اال�ستقالل املعريف ،تكمن يف العثور على منطقة �إدراك ت�ستوي فيه �ضرورتان تاريخيتان على ن�صاب واحد� :أ�-ضرورة التغيري ال�سيا�سي الداخلي ،و�ضرورة الوالء للهوية وال�سيادة الوطنية يف مواجهة الإحتالل والغزو و الهيمنة اخلارجية. �إجتماع هاتني ال�ضروريتني ،يقابلهما منطق معاك�س م�ؤداه عدم �إجتماع نقي�ضني ،وذلك بذريعة مبتدعة قوامها الف�صل بني الثورة الدميقراطية و ال�سيادة الوطنية. فالثورة -كما يروى يف الأدب ال�سيا�سي الكال�سيكي -هي نتيجة �أفعالها .فلو قام فعلها على ن�صاب التكامل بني مقولتي الدميقراطية والوطنية،لفارقت حريتها وا�ضطرابهاّ ،ثم النف�سحت �أمام التقدم احل�ضاري .وعلى هذا املعنى ميكن لنا �أن ننظر �إىل حتوالت ال�شارع العربي. ابنائها وعود ّ ف�إذا كانت رحلة التحوالت قد بد�أت فع ًال� ،أقله يف اجلانب املتع ّلق منها ب�إ�سقاط �أنظمة وتفكيك �أحالف ،و�إ�ستبدال مفاهيم ،ف�إن ت�أ�صيل م�سارات الإحتدام على قاعدة التح ّرر من الهيمنة يعد بحق املدخل الواقعي لت ّتخذ الأطروحة اال�ستعمارية و التناق�ض التكويني مع دولة الإ�ستيطانُّ ، النه�ضوية قوامها ال�س ّوي .مبعنى �أن يجري �إدخا ُلها يف ما �سميناه بـ«ال�صواب التاريخي» .ولعل من اجلائز �أن من�ضي �أبعد من ذلك ،لرنى �إىل حقيقة �أ�سا�سية يتوقف على �إدراكها جدوى �أي م�شروع للإحياء احل�ضاري ،عنينا بها التناق�ض اجلوهري بني وجود �إ�سرائيل ك�سليل لإمربيالية ما بعد احلداثة ،و �أي م�سار نه�ضوي ل�شعوب املنطقة. �إن ما مينح امل�شروعية املعرفية لب�سط النقا�ش يف هذا املجال ،هو �إ�ستحالة اجلمع بني الوجود الإ�سرائيلي يف املنطقة ،وا�ستئناف امل�شروع احل�ضاري يف جمتمعاتنا .ولنا يف امل�شهد الإجمايل حلركة التحول العربي ما يف�صح جمدداً عن هذه احلقيقة. التقدم والت� ُّأخر التي حتكم هناك ،بالفعل�،أطروحتان ت�ؤلفان معا» وحدة قيا�س معرفية لفهم جدلية ّ الزمن املعا�صر لبالدنا :حقيقة النه�ضة و وجود �إ�سرائيل كنقي�ضني ال يقبالن اللقاء وامل�صاحلة.
113
�إذ مع �صعود حركة احلداثة يف الغرب من القرن ال�سابع ع�شر �إىل بداية القرن الع�شرين ،ظهرت �أ�سئلة الإ�ستنها�ض يف بالدنا لت�شهد مع تلك احلركة ،منواً موازياًّ .ثمة من �أ�سئلة النخب العربية ما انعقد على �سرية احلداثة� ،سعياً �إىل الأخذ ب�أنوارها ،ومتثُّل �أحوالها وحوادثها ...ومنها ما انعقد على حذر وتر ُّي ٍب و�شك حيال طوفانها الإمربيايل. والأ�سئلة يف احلالني جرت على ن�ش�أة �سالبة .ففي الأوىل كانت ان�سحاراً مبا جاء به الغرب �إلينا فيما نحن يف ظالمة اال�ستبداد .ويف الثانية �ست�شهد ائتالفاً لقوى راحت تخترب بياناتها الإيديولوجية و�شعاراتها الثورية يف حقل املواجهة لواقع حداثوي امربيايل �أخذ يتمدد لتوطني قِيمِ ِه بقوة احلديد والنار. احلالتان �ست�ؤ�س�سان لأزمنة ثقافية،غالباً ما كان ُيعاد �إنتاجها على ن�صاب الأ�سئلة ال�سالبة نف�سها. وبدا لو كما �أن �س�ؤال الإحياء احل�ضاري ،ال ي�ستعاد �إال لرت َّد احلملة احلداثية الإمربيالية على �أعقابها .غري �أن حا�صل االحتدام ظل على الدوام� ،ضمن �سياقه االعتيادي .فجدالية التقدم والت�أخر �أخذت �سبيلها �إىل الر�سوخ ،فيما �أ�سئلة النه�ضة �صارت �أ�شبه ب�أوعية مثقوبة ،فال ت�صلح للمراكمة والتوالد... كل �شيء �سيعود مع التوليد املتمادي للأطروحة الإ�سرائيلية �إىل حقل الت�صادم .ولقد �صار الكالم على الثقايف ،واملعريف ،والفكري ،والتنموي ،والإحيائي ،كالماً غري ذي وزن ،ما دام يتحرك خارج حقول املواجهات ب�أ�شكالها كافة. �إبتدا ًء من الظاهرة الإ�سرائيلية� ،سوف ُتختزل كل الأ�سئلة املتعلقة بالنه�ضة �ضمن ت�سا�ؤل �إجمايل عما �إذا بالإمكان و انطالقاً من فل�سفة الإخت�صام الوجودي مع اليهودية ال�سيا�سية ككيان ي�صد الهيمنة اال�ستعمارية بن�سختها الليربالية اجلديدة و�أيديولوجيا ...،ا�ستيالد م�سار ح�ضاريّ ، ويتوازن معها. لقد ظل الت�سا�ؤل �سارياً بني النخب العربية من دون �أن يتعينّ حمل الإ�شكال الفعلي .فيما �أكدت الوقائع التاريخية املتعاقبة حقيقة كون الظاهرة الإ�سرائيلية هي الظاهرة الأكرث تعبرياً عن �إمربيالية ما بعد احلداثة وفعالياتها الثقافية والفكرية وال�سيا�سية يف بالدنا. ما ن�شهده الآن ،طو ٍر �آخرٍ ،من احلراك حول وجود �إ�سرائيل� .إذ بقدر ما يت�سم هذا الطور باحلد الأعلى من العداء لهذا الوجود ،ف�إنه ينب�سط �أي�ضاً على فر�ضية الإلتقاء وامل�صاحلة معها .وهذه الفر�ضية تنطرح اليوم على �أكرث من ن�صاب� :أكرثها حيوية وخطورة ما يجري على ما ي�سمى بـ «خطوط ال�سالم املزعومة» حيث ت�ست�أنف هذه اخلطوط حركتها املر�سومة ب�إتقان ،بدءاً من �إنهاء �ضرب من «ح�سن جوار» ،حيث ُيعمل على العداء ،عبوراً �إىل �إنهاء اخل�صومة ،ثم لي�صَّ اعد �إىل ٍ
114
درا�سات و�أبحاث
�أن تت�آلف الأطروحة الإ�سرائيلية مع العرب وامل�سلمني� ،ضمن ما ي�سمى باجلغرافيا الإ�سرتاتيجية الكربى لل�شرق الأو�سط اجلديد.. ف�إذا كان الوالء يعني تفاين الذات جتاه ق�ضية معينة ،فذلك ي�سري على جممل الق�ضايا ،التي ت�ستحق هذا الوالء. وكلما كان خيار الوالء على النحو الأكمل ،كان التفا�ؤل لدى حامله عن�صراً م�ؤ�س�ساً يف القول و تقدم ح�ضاري ،و هو بال�ضبط ما ذهبنا �إىل و�صفه العمل .ذاك �أن «التفا�ؤل املدرِك» هو �شرط كل ّ بـ «ال�صراع من �أجل املعنى» ،ذلك �أن �سمة املتفائل �أن يحيا �ضو�ضاء الهزمية وعتمتها «مثلما يحيا بهجة الإنت�صار و�شم�سه ال�ساطعة». ذلكم هو �أ�صل الإ�شكال الذي يتوقف على تد ّبره والبناء عليه ،خروج ال�شارع العربي من حريته و مغادرة ثوراته قلقها املقيم...
115
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
درا�سات وابحاث
حمبة الآخر (فيليا) الفردية والنزعة الفردية مقابل ّ حيدر حاج �إ�سماعيل -باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية
الف�صل الأول .1الفردية
كان �أبرز من كتب عن الفردية ( )individualismيف العقود الأخرية وح ّللها وو�صف عيوبها واثبت �أنها الأ�سا�س الذي تقوم عليه احل�ضرة الغربية ،بخا�صة ،يف جميع نواحيها العملية والثقافة هو فيل�سوف الأخالق الأ�سدير ماكنتاير ( )Alasdair MacIntyreيف كتابه :بعد الف�ضيلة (After .)Virtueلذا �ستكون بدايتنا من هناك. نبد�أ من ذكر املبادئ التي منها انطلق وعليها ا�ستند �أال�سدير ماكنتاير لت�أ�سي�س نقا�شاته ،تقييماته، وانتقاداته للف�ضيلة ال�سائدة يف زمنه وقبل زمنه ،منذ ما بعد الفيل�سوف اليوناين �أر�سطو طالي�س و�إىل اليوم .وهي: املبد�أ الأول مبد�أ �سو�سيولوجي مفاده �أن املجتمع قبل الفرد ،فاملجتمع ّ يحتل مرتبة الأولو ّية يف الواقع ويف االعتبار ،يف حني يحتل الفرد املرتبة الثانوية. املبد�أ الثاين مبد�أ تاريخي وعنى �أن الأخالق تابعة للتاريخ �أو لها عالقة بالتاريخ ،فف�ضائلها تتغري زمن �إىل زمن .فلي�س هناك ف�ضائل �أخالقية مطلقة. من ٍ املبد�أ الثالث مبد�أ غائي (� )telosأي �أن للف�ضائل غايات ترمي �إليها ولي�ست بالأمور االعتباطية املرتوكة للفرد �أو الأفراد ونزواتهم وتق ّلباتها. املبد�أ الرابع مبد�أ �أخالقي ،وباملعنى الدقيق ،ومفاده ،م�صلحة املجتمع فوق كل م�صلحة .وهو مبد�أ �أر�سطو. 1
1
ماكنتاير فيل�سوف ا�سكتلندي عمل �أ�ستاذاً يف جامعة نوتردام وله م�ؤلفات يف الأخالق وال�سيا�سة. 117
َّ و�شكلت هذه املبادئ ما ي�شبه املطرقة النيت�شوية بها نزل ماكنتاير على الفل�سفات الفردية من �أولها �إىل �آخرها ،وبخا�صة بعد �إخفاق م�شروع ع�صر التنوير (� )The Enlightenmentأيمّ ا �إخفاق، ّ فحطمها حتطيماً. �أذكر ،على �سبيل املثال ،ال احل�صر ،مذهب املنفعة ( )utilitarianismالذي و�ضعه جريمي بنثام ( )Jeremy Benthamالذي قال بال�سعادة الكربى للعدد الأكرب ،يف كتابه :مبادئ الأخالق والت�شريع قا�صداً العدد الأكرب من الأفراد .كما �أذكر مذهب الفيل�سوف الأملاين َك ْن ْت ()Kant الذي قال بالواجب املطلق �أو الآمر الأخالقي املطلق الذي يجب �أن يلتزم به الفرد. ومثال �آخر يذكره ماكنتاير �إخت�ص مبا عرف با�سم العقود االجتماعية فذكر اثنني منها هما العقد االجتماعي الذي و�ضعه هوب�س ( )Hobbesوالعقد االجتماعي الذي و�ضعه لوك (.)Locke وكالهما يقومان على الأفراد وقرار الأفراد. ويجدر ،يف هذه املنا�سبة� ،أن �أذكر �أن العقود االجتماعية التي و�ضعها الفال�سفة� ،إىل الآن ،هي �ستة عقود ،وت�ص َّنف �إىل �صنفني هما: رو�سو ()Rousseau العقود الواقعية (كما يظن) وهي �أربعة ،ووا�ضعوها الفال�سفة هوب�س ،لوكّ ، وهيربما�س (.)Habermas والعقود االفرتا�ضية وهي عقدان ذكر �أحدهما الفيل�سوف الأملاين َك ْن ْت ()Kantوذكر الثاين الفيل�سوف الأمريكي رولز (.)Rawls ويف �سياق هجومه النقدي على الفردية ومذهبها مل يوفّر مارك�س .فقد اعترب ماكنتاير الطبقة عند مارك�س لي�ست �إ ّال جمموعاً من الأفراد ،ولي�ست املجتمع الواقعي الطبيعي. علي �أن �أعود ،الآن� ،إىل امليدان الأخالقي ،ح�صراً ،الذي هو ميدان كتاب بعد الف�ضيلة .ويف هذه َّ َّ العودة ال َّبد يل من �شرح املبد�أ الرابع الذي اعتمد عليه ماكنتاير� ،أعني مبد�أ �أر�سطو .وهذا يتطلب منا النظر يف ما و�ضعه �أر�سطو عن الأخالق ،وبخا�صة ،يف م�ؤلفاته( .وهو ما مل يفعله ماكنتاير ،رمبا افرتا�ضاً منه مبعرفة القراء بتفا�صيل ذلك املبد�أ). �أذكر ،بدايةً� ،أنه وردت يف م�ؤلفات �أر�سطو الأخالقية وال�سيا�سية فكرة فيليا (� )philiaأو املحبة التي ُع ِّرفت يف كتاب :ال�سيا�سة ب�أنها «�إرادة العي�ش معاً» . فتكون النتيجة املبا�شرة لتعريف فيليا بتلك الطريقة هي اعتبارها واجتماعية الإن�سان �شيئاً واحداً. وعالوة على ذلك ،جند �أر�سطو ،ويف كتاب ال�سيا�سة ( )Politicsمم ِّيزاً بني منطني للحياة الإن�سانية، 2
Richard McKeon, (ed.), The Basic Works of Aristotle, (New York: Random House, 1968, Politics, III, 9, 128 ob.
118
2
درا�سات و�أبحاث
هما :العي�ش �أي جمرد العي�ش وهو �صفة القرية واملنزل واحلياة اجل ّيدة التي هي �صفة جمتمع املدينة وحده (. )polis يف جمتمع املدينة ت�صري فيليا �أكرث تعقيداً ،فهنا جند العدالة (ولي�س احلب املبني على القرابة ،كما هو احلال يف املنزل ويف القرية) هي الأقرب �إىل مفهوم فيليا. ويف كتاب الأخالق النيقوماخ ّية ( )Nicomachean Ethicsيذكر �أر�سطو �أن فيليا والعدالة ي�شتمالن على امل�ساواة . �أما يف كتاب الأخالق اليودمي ّية ( )Eudemian Ethicsفي�صف �أر�سطو فيليا ب�أنها عدالة خا�صة يف حني ي�صفها يف الأخالق النيقوماخ ّية بالقول �إنها توازي ،مبعنى ت�شبه ،العدالة .ويف الكتابني تت�ضمن العدالة . املذكورين كليهما قيل� ،إن فيليا َّ ويذكر �أر�سطو ما يفيد �أنه� ،إذا كان جميع الب�شر حمبني ،افرتا�ضاً ،فال حاجة للقانون لأن حياتهم �ستكون عادلة. يعدد �أر�سطو الفروق بني فيليا والعدالة فيذكر �أنها تتمثَّل يف طبيعتيهما املختلفتني: بعد ذلك ِّ فالأوىل �شخ�صية والثانية جمعية .ففيليا (املحبة) بني �أ�شخا�ص بينما العدالة ت�شتمل على جمموعة من القوانني ُتطبق على جميع مواطني جمتمع املدينة. وقد كان �أر�سطو على ب ّين ٍة من هذا الفرق حتى �أنه و�صف فيليا بالقول �إنها عدالة خا�صة «تعتمد على نفو�سنا وحدها». املحب ذاته الأخرى . ويذكر مما يذكر يف الأخالق النيقوماخية �أن الإن�سان الفا�ضل يعترب ّ �أكتفي بهذا املقدار من التعريف بفل�سفة �أر�سطو الأخالقية ،وبخا�صة مرتبة فيليا فيها ،وذلك ت�سديداً للنق�ص الذي وجدته يف كتاب بعد الف�ضيلة واملتعلق بها. مع ذلك �أ� ِّؤكد على �أهمية الكتاب جلهة ثرائه الفكري وغناه النقا�شي و�سعة ميدانه ،و�أن هدف �صاحبه الرئي�سي كان النقد والنق�ض ملذهب الفردية املتف�شى يف زماننا وامل َّتخذ �صوراً و�أ�شكا ًال �ش ّتى ،ومغرية �أحيانا ،رغم ت�ضليلها ،مثل الليربالية وما قارن. طبعاً ،تع َّر�ض كتاب بعد الف�ضيلة فور �صدوره النتقادات عديدة بع�ضها مغر�ض وبع�ضها حمق ذكر 3
4
5
6
7
8
9
10
III,5, 1278 b 20-25.املرجع السابق Nicomachean Ethics, VIII, 9, b 29-30, VIII, 7, 1159 a 1-5. Eudemian Ethics, VII, 1, 1234 b 30-31, VIII, II, 1161 a 101-11. Nicomachean Ethics, VIII, 9, 1159 b 25-27, VIII, 11, 1161 A 10-11. ، VIII,1, 1155 a 22-28 and Eudemian Ethics, VII, 1, 1234 b 24, 29-30.املرجع السابق Nicomachean Ethics, VIII,1, 1155 a 26; VIII,9, 1159 b 25. Eudemian Ethics, VII,1, X, 9, 1170 b 6-7. Nicomachean Ethics, 1 x, 9, 1170 b 6-7.
3 4 5 6 7 8 9 10
119
الكاتب بع�ضها يف ملحق الكتاب الذي حمل عنوان« :ملحق للطبعة الثانية». وقبل اخلتام جتدر الإ�شارة �إىل �أن �أهمية الفكرة فيليا مبعنى املحبة جت ّلت �أي�ضاً يف ا�سم الفل�سفة ( )philosophyذاته الذي يت�ألف من كلمتني يونانيتني هما فيليا ( )philiaو�صوفيا (،)Sophia الأوىل عنت املحبة والثانية عنت احلكمة .ومن هنا كان تعريف العرب للفل�سفة ب�أنها حمبة احلكمة. كما جتدر الإ�شارة �إىل �أن كلمة فيليا ،ولأهميتها التي ذكرناها ،ا َّتخذت عند زينون الرواقي (الفينيقي الأ�صل) ،بعد �أر�سطو بحوايل العام ،معنى الأخ ّوة ،وذلك يف تعبريه اجلديد� ،أعني كوزموبول�س ( )cosmopolisالذي عنى به الأخ ّوة الب�شرية �أو كل الب�شر �أخوة ،فكان به الت�أ�سي�س احلقيقي لعلم الأخالق. �أعود لأ�ؤكد ،من جديد �أن الف�ضيلة التي هاجمها ،كانت تلك الف�ضيلة الفردية ،و�أنه جنح ومبقدار كبري ،يف الك�شف عن عيوبها وخماطرها ،رغم جميع ردود الفعل ال�سلبية و�إنحيازاتها الليربالية الفردية. بلى ،الأخالق� ،سواء �أقال بها �أر�سطو �أو غري �أر�سطو و� َّأكدها ماكنتاير هي :م�صلحة املجتمع فوق كل م�صلحة. بعد عر�ضنا للفردية ونقد ماكنتاير لها بعد �إثباته �أنها �أ�سا�س احل�ضارة والثقافة الغربيتني نو ّد �أن ندعم وجهة النظر هذه باال�ست�شهاد ال�سو�سيولوجي واالقت�صادي جوزيف �شومبيرت (Joseph A. :)Schumpeter �أ ّدى املقاول يف نظرية �شومبري اخلا�صة بالتطور االقت�صادي دوراً �أ�سا�سياًَ ،ب ْل َه الدور الذي ما بعده دور ،فهو البطل املغوار الذي ي�شرح ذلك التطور. وهو الذي يغيرّ جمدداً ما ي�سميه �شوبيرت التدفق الثابت (� ،)Stationary Flowأي «منوذج العملية االقت�صادية غري املتغيرّ ة والتي تتدفق مبعدالت ثابتة يف الزمن وتعيد �إنتاج نف�سها ويف مو�ضع �آخر ي�صف �شومبيرت املقاول بقوله �إنه ال�سبب املنتج «لتغري تلقائي ومتقطع يف تيارات التدفق ،وا�ضطراب يف التوازن يغري ،و�إىل الأبد ،ويزيل حالة التوازن املوجودة �سابقاً» ويذكر من املبتدعات التي يدخلها املقاول ال�صناعة اجلديدة ،والأ�سواق اجلديدة ،والطرق اجلديدة، 11
12
13
11 Joseph Alois Schumpeter, The Theory of Economic Development: An Inquiry into Profits, Capital, Credit, Interest, and the Business Cycle, Translated from the German by Redvers Opie (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1934), pp. 60-61. 12 Schumpeter, A business Cycles: A Theoretical, Historical, and Statistical Analysis of the Capitalist Process, pp. 36-37, and p. 102. 13 Schumpeter, The Theory of Economic Development, An Inquiry into Profits, Capital, Credit, Interest, and the Business Cycle, p. 64.
120
درا�سات و�أبحاث
وال�سلع اجلديدة ،واال�ستيالء على م�صادر متوين جديدة ،وتنظيم جديد لل�صناعة. ومن الطريف �أن جند من قارن مقاول �شومبيرت والقائد ذا الكارزما عند عامل االجتماع ماك�س فيرب الذي قال بتغيرُّ الأنظمة االجتماعية وب�أنّ �سببها الفاعل هو ال�شخ�ص الكارزمي� .أما الفرق بني االثنني ف َي ْمث ُُل ،وب�صورة رئي�سة ،يف �أن بطل �شومبيرت �سبب باطني يف النظام ()Endogenous بينما بطل فيرب �سبب خارجي ( .)Exogenousهذا ،بالإ�ضافة �إىل فروق �أخرى. �أ�صل املقاول ن�س�أل ما هو �أ�صل م�صطلح املقاول؟ وماذا يفيد يف زماننا من معانٍ ؟ وما قرابة كل ذلك مبفهومه عند �شومبيرت؟ �أول ما يفهم من املقاول �أنه ذلك الذي ّ يوظف نف�سه ( ،)Self-Employedفهو امل�ستخدم ذاته الذي ال ي�ستخدمه �أحد .فهو ،بهذا املعنى م�ستقل ا�ستقال ًال تاماً ،وميكنه �أن يقوم مببادرات .وهناك من ع ّرفه مببادراته �أي بوظائفه ،فقال �إنه من ِّ ويتحمل املخاطر املرت ِّتبة ينظم عم ًال جديداً ،وي�شغِّلهّ ، على م�شروعه اجلديد. و ُيذكر �أن هناك نوعني من املقاولني :الأول تكراري ( )Replicativeين�شئ �شركة جديدة وينظمها على غرار �شركات موجودة .والثاين مبدع ين�شئ وينظم م�شروعاً جديداً ومقاربة جديدة لل�سوق... الخ .ولي�س من ال�ضروري �أن يكون الإبداع اجلديد منتجاً �أو نافعاً .ريت�شارد كنت ّيون (Richard ( )Cantillonوهو �أحد االقت�صاديني الأوائل الكبار) يتحدث عن مقاولني ل�صو�ص . ولغاية القرن الع�شرين كانت الكتابات عن املقاول ،يف اللغة الإنكليزية ،ت�صفه ب�أنه «املقامر» �أو «املتع ّهد». يف زماننا مل يعد املقاول مرئياً يف النظرية االقت�صادية ال�سائدة ،تعني مبعنى املبادر وامل�ؤثر يف العملية االقت�صادية �إبداعاً وتطوراً. 14
15
16
17
18
امل�صدر نف�سه� ،ص .
73 14 15 Max Weber, Economy and Society: An Outline of Interpretive Sociology, Edited by Guenther Roth and Claus Wittich, Translated by Ephraim Fischoff [and others} (New York: Bedminster Press, 1968), pp. 758 ff. 16 Steven N. Dulauf and Lawrence E. Blume, ed., The New Palgrave Dictionary of Economics, 2nd Edition (Basingstoke, Hampshire; New York: Palgrave Macmillan, 2008), vol. 2, p. 874.
امل�صدر نف�سه� ،ص
.
874 17 18 Alfred Marshall, Industry and Trade: A Study of Industrial Technique and Business Organization (London: Macmillan and co.; Limited, 1923) p. 172.
121
.2النزعة الفردية
�أفتكر �أن �أنطون �سعاده ،زعيم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،كان الوحيد الذي كتب عن النزعة الفردية كظاهرة اجتماعية عموماً ،ويف �شعبنا خ�صو�صاً ،وعلى خماطرها املد ِّمرة .وكان ذلك يف عام � ،1942أي قبل الفيل�سوف الأخالقي �أال�سدير ماكنتاير ب�أكرث من 60عاماً .وقد حاربها �سعاده فل�سفياً بو�ضعه الفل�سفة القومية االجتماعية وتاج مبادئها مبد�أ :امل�صلحة العامة للأمة وللبالد فوق كل م�صلحة ،وعملياً بت�أ�سي�سه حزباً �سيا�سياً (لي�س ك�سواه من الأحزاب ال�سيا�سية) مهمته بعث نه�ضة عامة ب�أخالق امل�صلحة العامة. وجت ّلت كتابات �سعاده حول مو�ضوع النزعة الفردية يف مقالني هما« :النزعة الفردية يف �شعبنا» و»عودة على النزعة الفردية يف �شعبنا.؟ وفيما ي�أتي �سنعمل على حتليل هذين املقالني وت�سليط ال�ضوء على �أهم ما ورد فيهما من �أفكار. يبد�أ �سعاده مقاله الأول بذكر مالحظته فيقول�« :إن يف حياتنا االجتماعية ،يف الوطن ويف املغرتب، جدية هي ظاهرة النزعة الفردية يف ت�صرفاتنا االجتماعية ظاهرة ت�ستحق اهتماماً كبري ُا ومعاجلة ّ و�أفكارنا وميولنا»... ويرى �سعاده �أن الع ّلة تبد�أ يف الأ�سرة ،فيقول« :هنا �أ�سا�س الداء .فالفرد الذي يتع َّود �أن ال ي�سمع ر�أياً غري ر�أيه و�أن ال ي�شعر باحلاجة �إىل الإلفة والتفاهم ال يحرتم ر�أي �أحد»... ويقول �سعاده �إن امل�صاب بالنزعة الفردية يح�سب العمل كله «دائرة واحدة يجول فيها تفكريه» مهم ًال �أو نا�سياً �أن «العمل العام دوائر �صغرى يف دائرة كربى و�أن كل فرد يجب �أن يعمل �ضمن الدائرة التي يقع فيها اخت�صا�صه وكفاءته» وي�ضيف �سعاده قائ ًال :النزعة الفردية تقود حتماً �إىل عدم ال�شعور بامل�س�ؤولية» حتى عندما يرتبط بعهد مع �سواه ،وحتى لو كان ارتباطه مع نظام من الأنظمة .ف�صاحب النزعة الفردية «يح�سب كرامته اخلا�صة ،كما يراها هو ،فوق كل الكرامات». ويقول �سعاده� ،إن النزعة الفردية «لي�ست طبيعة يف ال�سوري و�إن تكن متف�شّ ية يف �أبناء اجليل احلا�ضر». 19
20
21
22
23
24
� 19أنطون �سعاده ،الآثار الكاملة � ،1942 ،10سعاده يف مغرتبه الق�سري ،مقال« :النزعة الفردية يف �شعبنا»� ،ص .34 2 0امل�صدر ال�سابق� ،ص .34 2 1امل�صدر ال�سابق� ،ص .35 2 2امل�صدر ال�سابق� ،ص .36 2 3امل�صدر ال�سابق� ،ص .37 2 4امل�صدر ال�سابق� ،ص .37 122
درا�سات و�أبحاث
ويرى �سعاده �أن طريق ال�شفاء من مر�ض النزعة الفردية هي طريق ال�شفاء من جميع الأمرا�ض ذاتها ،وت�شمل« .1 :االعرتاف بوجود املر�ض» « .2قبول العالج ،حلواً كان �أو م ّراً». وينهي �سعاده مقاله الأول هذا بالأمر الآتي «يجب على القوميني االجتماعيني �أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم االحتالل الأجنبي» .ويف هذا القول تلخي�ص ملذاحة خطر النزعة الفردية. يف مقاله الثاين الذي حمل عنوان« :عودة على النزعة الفردية يف �شعبنا» ،يبد�أ �سعاده بالقول الآتي« :النزعة الفردية جتعل الفرد وميوله غاية كل فكرة ونهاية كل عمل» وي�شرحه قائ ًال� ،إن «طبيعتها خمالفة لطبيعة االجتماع» � .أما الغريية «فمحدودة جداً لذوي النزعة الفردية» وهي، تعني الغريية ،غري �ضرورية وميكن اال�ستغناء عنها. ببع�ض من جتارب حزبه ال�سوري القومي االجتماعي طبعاً ،ا�ست�شهد �سعاده يف املقالني املذكورين ٍ بع�ض من الذين انتموا �إليه وجنحت ثقافة احلزب ونظامه الدقيق يف تربيتهم تربية اجتماعية مع ٍ ع�صرية راقية تقوم على مبد�أ امل�صلحة العامة �أو ًال. وجتدر الإ�شارة �إىل �أن �سعاده مل يقت�صر على ذلكما املقالني يف حماربته النزعة الفردية يف �شعبنا ويف داخل حزبه ذاته ،ففي حما�ضراته 8 :و 9و 10عاد �إىل الهجوم على تلك النزعة .وفيما ي�أتي بع�ض التفا�صيل :يف حما�ضرته الثامنة يقول ما ي�أتي: «ال�سيا�سة لي�ست نفوذاً لأ�شخا�ص �أو �أفراد �أو عائالت .ال�سيا�سة فن بلوغ الأغرا�ض القومية وحتقيق الغايات القومية التي يجب على كل فرد �أن يرتبط فيها �أنها رابطة املجتمع .ال�سيا�سة عندنا و�سيلة ال غاية ،و�سيلة لبلوغ الأغرا�ض القومية ب�أقرب الطرق و�أقل التكاليف .ولي�ست ال�سيا�سة �سيا�سة لنف�سها ومهنة خا�صة يحرتفها بع�ض الأفراد ويحتكرون بوا�سطتها النفوذ وتقرير م�صري ال�شعب». ويف حما�ضرته التا�سعة ن�سمعه يقول ،وب�شكل وا�ضح ال لب�س فيه: «نحن حركة هجومية ال حركة دفاعية .نهاجم بالفكر والروح ،ونهاجم بالأعمال والأفعال �أي�ضاً. نحن نهاجم الأو�ضاع الفا�سدة القائمة التي متنع �أمتنا من النمو ومن ا�ستعمال ن�شاطها وقوتها. نهاجم املفا�سد االجتماعية والروحية وال�سيا�سية. نهاجم احلزبيات الدينية، نهاجم الأقطاع املتحكم بالفالحني، 25
26
27
28
2 6 2 7 28 25
امل�صدر ال�سابق� ،ص .43 امل�صدر ال�سابق� ،ص .43 امل�صدر ال�سابق� ،ص .44 �سعاده ،املحا�ضرات الع�شر ،املحا�ضرة � ،8ص .153 123
نهاجم الر�أ�سمالية الفردية الطاغية، نهاجم العقليات املتحجرة املتجمدة، نهاجم النظرة الفردية .ون�ستعد ملهاجمة الأعداء الذين ي�أتون ليجتاحوا بالدنا بغية الق�ضاء علينا، لنق�ضي عليهم. هذه هي وجهة �سرينا .هذا موقفنا يف امل�شاكل ال�سيا�سية الكربى املحيطة بنا� .إذا كان ال بد من هالكنا يجب �أن نهلك كما يليق بالأحرار ال كما يليق بالعبيد .نحن ال نعني بحركتنا لعباً وال ت�سلية». ويف املحا�ضرة العا�شرة ي�ؤكد على رف�ضه للفردية ونزعتها التخريبية عندما يقول: الغارقة يف فرديتها ،اخلارجة على املجتمع ووحدته وم�صريه». كل ذلك ال يعني ب�أي �شكل من الأ�شكال �أن �سعاده �ضد الفرد ،فر�أيه يف الفرد �أو�ضحه يف مقدمته لكتابه :ن�شوء الأمم حيث نقر�أ ما ي�أتي: «�إن الوجدان القومي هو �أعظم ظاهرة اجتماعية يف ع�صرنا ،وهي الظاهرة التي ي�صطبغ بها هذا الع�صر على هذه الدرجة العالية من التمدن .ولقد كان ظهور �شخ�صية الفرد حادثاً عظيماً يف ارتقاء النف�سية الب�شرية وتطور االجتماع الإن�ساين� .أما ظهور �شخ�صية اجلماعة ف�أعظم حوادث التطور الب�شري �ش�أناً و�أبعدها نتيجة و�أكرثها دقة ولطاقة و�أ�شدها تعقداً� ،إذ �أن هذه ال�شخ�صية مركب اجتماعي -اقت�صادي -نف�ساين يتطلب من الفرد �أن ي�ضيف �إىل �شعوره ب�شخ�صيته �شعوره ب�شخ�صية جماعته� ،أمته ،و�أن يزيد على �إح�سا�سه بحاجاته �إح�سا�سه بحاجات جمتمعه و�أن يجمع �إىل فهمه نف�سه فهمه نف�سية متحده االجتماعي و�أن يربط م�صاحله مب�صالح قومه و�أن ي�شعر مع ابن جمتمعه ويهتم به ويود خريه ،كما يود اخلري لنف�سه». هل يوجد كالم �أو�ضح من هذا الكالم ،بل هل يوجد فكر �أرقى من هذا الفكر؟ خال�صة الكالم هي �أن املجتمع ،عند �سعاده« ،لي�س جمرد جمموع عددي من النا�س» .فالأفراد ي�أتون ويذهبون �أما املجتمع فيبقى جي ًال بعد جيل. 29
30
31
32
29امل�صدر ال�سابق ،املحا�ضرة � ،9ص .67 30امل�صدر ال�سابق ،املحا�ضرة � ،10ص .176 � 31أنطون �سعاده ،الآثار الكاملة ،1ن�شوء الأمم ،املقدِّ مة� ،ص .14 - 13 32كتاب� :شروح يف العقيدة� ،آذار ،1958 ،مقال :اجلموع واملجتمع ل�سعاده� ،ص .171 124
درا�سات و�أبحاث
رو�سو و�أولوية املجتمع على الفرد ّ
رو�سو الوحيد ،و�إن مل يكن الوحيد ،قد يكون الأقدر من بني املفكرين الغربيني الذي قد يكون ّ �أعلن بو�ضوح وقوة �أولوية املجتمع على الفرد. رو�سو ( )J.J. Rousseauكان �أحد املفكرين ال�ستة الذين كتبوا يف العقود االجتماعية وجان جاك ّ ون�شوء الدولة وفقاً لها وهم :هوب�س ( ،)Hobbesلوك ( ،)Lockeهيربما�س (َ ،)Habermasك ْن ْت، ورو�سو املعجب ب�أفالطون يظنون �أن كتابه :اجلمهورية هو كتاب �سيا�سي ،يف حني رولز (ّ )Rawls �أنه كان حول الرتبية .وال�سيا�سة ،عند رو�سو هي الرتبية العامة .لذا ،ف�إن ال�س�ؤال عن �أف�ضل رو�سو مبا ي�أتي�« :أي نوع من احلكومة ...ي�شكل �أف�ضل �شعب؟». احلكومات املمكنة ،اختزله ّ رو�سو �أن «الفرد الفا�ضل هو وقال مما قالْ �« : إخلق مواطنني تذهب ال�صعوبات جميعها» .واعتقد ّ الذي يجعل حاجاته يف خدمة الآخرين». تقدمها �أف�ضل امل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية احلديثة مثل ال�سالم، ي�س�أل�« :أي قيمة للخدمات التي ّ الأمن ،تطبيق القانون ،ازدهار الآداب والعلوم ،الق�ضاء على العبودية وحماية امللكية اخلا�صة وحماية حرية التعبري واالعتقاد ،عندما تعمل على ت�شويهي؟». رو�سو ،يف عقده االجتماعي ،من الفرد �أن يتخ ّلى كلياً عن حقوقه للمجتمع الذي لذلك ،طلب ّ �سيقوم لهدف حتقيق حريته ال�سيا�سية – الأخالقية وكرامته الإن�سانية. لرو�سو كان يف �أملانيا القرن الثامن ع�شر .فال�شعراء الأملان وجتدر الإ�شارة �إىل �أن الت�أثري الأعظم ّ مثل غوته ( ،)Goetheو�ش ّلر ( )Schillerوهولدرل ِْن ( ،)Holderlinوالفال�سفة الأملان مثل ك ْن ْت ( ،)Kantفخته ( )Fichteوهيجل ( )Hegelكانوا يعتربون �أنف�سهم من تالمذته. رو�سو �إىل �أنه كان يعترب املجتمع ذا �أولوية على الفرد ،و�أن م�صلحة املجتمع نخل�ص من كالمنا على ّ رو�سو فوق كل م�صلحة ،مما يق ِّربه كثرياً من فكر �أنطون �سعاده� ،أو يق ِّرب فكر �أنطون �سعاده من فكر ّ كثرياً. 33
34
35
36
Rousseau, Emile, 4: 250; 40. Rousseau, Confessions, 1: 404-405; 417-418. Rousseau, Discourse on Political Economy, 3: 254,259, 218,222. Rousseau, Dialogues, 1: 823-824.
33 34 35 36
125
الف�صل الثاين املحبة فيليا (� )Philiaأو ّ
عند الرواقيني وعلى ر�أ�سهم معلمهم زينون الرواقي وجدت نظرة جديدة �إىل الإن�سان .فالفكرتان املفيدتان هو ،جوهرياً ،ب�أنه حيوان �سيا�سي �أو اجتماعي مديني واملدينة حمل القيم كلها فكرتان تبدلت جذرياً لدرجة �أننا مل نعد نقع مل يعد ممكناً الدفاع عنهما .والواقع هو �أن عقلية القدماء كلها ّ على اهتماماتهم ،وم�سائلهم وعلى �أي ّ حل من حلولهم الأ�سا�سية. فبد ًال من املدينة ( )Polisمبعناها املحلي املحدود ،و�ضع الرواقيون فكرة الكوزموبول�س (� )Cosmopolisأي املدينة الكونيةّ ، وحمل اجلزئي و�ضعوا الكلي ،والروابط الإن�سانية التي كانت أكد عليها �أفالطون ّ تعددية عند �أر�سطو ،اختزلت �إىل رابطة واحدة هي العقل .والعدالة التي � َّ ح ّلت حم ّلها املحبة. والآن ن�س�أل ماذا تعني فكرة الكوزموبول�س؟ وجنيب بالقول� ،إن هذه الفكرة ال ميكن فهمها من عندئذ� ،سنجد �أن الكوزموبول�س ٌ منظور الوقائع املاثلة ،و�إمنا من منظور القيمٍ . مثل �أعلى �أخالقي. هذا الت�أويل مهم جداً ،لأنه ي�سهم يف فهمنا لفرق كبري بني فهم �أر�سطو ل ِـ فيليا ( )Philiaوفهم الرواقيني لها .ففيليا عند �أر�سطو بدت مفهوماً �سو�سيولوجياً� ،أي حقيقة ولي�س بف�ضيلة �أخالقية. فيليا عند الرواقيني ف�ضيلة �أخالقية. وكون فيليا قيمة �أخالقية هي نظام من الواجبات .وكون الب�شر مواطنني يف مدينة كونية واحدة فقيمهم مت�ساوية ،فهم ،جميعهم ،عقالء وهم ،جميعهم� ،إخوة ،ينتمون �إىل العقل الكوين ال�شامل .لذا ،يجب على الأخوة �أن يح ّبوا واحدهم الآخر .وقد قال زينون «الإن�سان العاقل احلكيم �سوف يحب» .وقال مارك�س �أوريليو�س (« :)Marcus Aureliusال �أ�ستطيع �أن �أغ�ضب على �شقيقي �أو �أ�سخر منه ،لأننا خلقنا لنعمل معاً ،مثل يدي الإن�سان ،قدميه �أو جفني عينيه �أو مثل �صفّي �أ�سنانه العايل وال�سفلي .ف�إعاقة واحدهما الآخر م�ضا ّدة لقانون الطبيعة». 37
38
39
37 Marcus Aurelius, Meditations, Trans. By Maxwell Staniforth (Baltimore, Maryland: Penguin Books, 1967, BK. VII, par. 55. ، BK IV, par. 4, BK II, par. 16.املصدر السابق 38 39 Marcus Aurelius, BK. II, par. 1.
126
درا�سات و�أبحاث
هذا احلب الكوين متحر ِّر من كل قيود عن�صرية ،اقت�صادية �أو حملية .فالب�شر ،جميعهم ،مت�ساوون، احلد الذي ا َّتخذ عند ماركو�س وب�شكل مطلق .مثل هذا احلب توحيدي ،نبيل و�سخي �إىل ّ ّ �أوريليو�س (الإمرباطور) �صورة ال�صالة. وباخت�صار نقول� ،إن ماركو�س �أوريليو�س اعتقد �أن املحبة (فيليا) هي الغاية الأخرية ،والتي ما بعدها غاية ،للمخلوقات ،لأن «الوجود» معناه الوجود من �أجل غاية ،والوجود هو احلب. ذلكم ما قال وما اعتقد الإمرباطور الروماين ماركو�س �أوريليو�س الزينوين الرواقي ،والذي منح حقوق املواطنية جلميع �أفراد الإمرباطورية الرومانية يف زمانه تطبيقاً لذلك االعتقاد. �أما الرواقي الآخر الكبري فكان العبد �إبيكتيت�س ( )Epictetusالذي مل ّ يقل كالمه عن �أن تعريف الإن�سان هو �أن يكون ع�ضواً يف جمتمع العامل كله .قال مما قال�« :إذ ما هو الإن�سان؟ هو جزء من دولة ،من دولة �أوىل م�ؤلفة من الآلهة والب�شر ،ثم من تلك التي تدعى تالية لها ،والتي هي �صور م�صغرة عن الدولة الكونية ال�شاملة». �أما مفهوم الع�ضوية يف املجتمع فقد فهمه �إبيكتيت�س ب�أنه ال يقت�صر على العمل االجتماعي ،و�إمنا ي�شمل املعاناة� ،أي�ضاً ،من �أجل املجتمع الإن�ساين ،قال ،مما قال: «من �أجل ّ الكل ،عليك ،مرةً� ،أن تكون مري�ضاً ،وحيناً �آخر �أن تكون ت�سافر وتتع َّر�ض للخطر ،ومر ًة �أن تقع يف عوزٍ ،وحيناً �أن متوت قبل الأوان». لذا نقول� ،إن مبد�أ ّ الكل من �أجل الكل هو املبد�أ الأخالقي الرواقي .وعندما يقول �إبيكتيت�س �أن على الإن�سان �أن يعاين �آالماً �أو ي�ست�شهد ،قبل انق�ضاء عمره من �أجل ّ الكل ،ف�إن ما كان يدور يف خلده هو الرغبة يف الت�أكيد على املعنى والأهمية الأخالقيتني خلدمة الكل .واحلق� ،إنه ،عندما يحب كل �إن�سان كل �إن�سان �آخر ويعمل بروح ذلك اخلري ،ف�إن املجتمع ال يعود حمتاجاً لأن يعاين �أي واحد من �أع�ضائه �شيئاً .فاملعاناة تتوقف ،وي�صري املجتمع ،تبعاً لذلك� ،صورة �أر�ضية عن الفردو�س� ،أو كما قال الرواقيون :مدينة زو�س (.)Zeus وبالعودة �إىل الت�أكيد على املجتمع الكوين واجتماعية الإن�سان نقر�أ ما ي�أتي عند �إبيكتيت�س �« :أال تعرف� ،أنه ،كما �أن القدم ال تعود قدماً� ،إذا ُف ِ�صلت عن اجل�سم ،كذلك �أنت ال تعود �إن�ساناً �إذا ُف�صلت عن الب�شر الآخرين». 40
41
42
43
44
45
، BK IV, par. 23.املصدر السابق 40 ، BK. IX, par. 9, BK. XII, par. 30, BK VII, par. 55.املصدر السابق 41 42 Epictetus, Discourses, Trans. by George Long (New York, D. Appleton and Co., 1990, BK II, ch. 5 p. 106.
4 3امل�صدر ال�سابق بر ّمته. 4 4زو�س ( )Zeusيف ذلك الزمان عنت ا�سم رئي�س الآلهة القدمية عند اليونانيني.
45 Epictetus, Discourses, BKII, ch. 5, par. 106.
وتذكر الإ�شارة �إىل �أن الإمرباطور ماركو�س �أوريليو�س َّوظف نف�س الت�شبيه. 127
ونقر�أ ما ي�أتي عند ماركو�س �أوريليو�س :الإن�سان املنعزل هو مثل غ�صن مقطوع من �شجرة ،م ّيت. واعتقد ماركو�س �أوريليو�س �أن اللطف هو غاية ال�سلوك الإن�ساين .فعلى الإن�سان �أن يكون لطيفاً وعوناً حتى حلظاته .وهذا الواجب الأخالقي يجب �أن ي�ؤ ّدى من دون توقع م�صلحة ،قال ،وباحلرف الواحد: «هل تطلب العني تعوي�ضاً لر�ؤيتها� ،أو القدم مل�شيها؟ ...كذلك الإن�سان خلق ليكون لطيفاً.»... نكتفي بهذا املقدار من الكالم على مفهوم املحبة (فيليا) عند زينون الرواقي و�أتباعه م�ضيفني، فقط ،املالحظات الآتية: �أنطون �سعاده ،وحده ،من بني ك ّتاب ومفكري بالدنا هو الذي �أ�شار �إىل ،بل ذكر ،بل � ّأكد على �أهمية االطالع على فكر زينون حتى �أنه ذكره يف �شرح املبد�أ ال�سابع حلزبه ال�سوري القومي ن�ص على ما ي�أتي« :ت�ستمد النه�ضة ال�سورية القومية االجتماعية روحها من االجتماعي الذي ّ مواهب الأمة ال�سورية وتاريخها الثقايف ال�سيا�سي القومي». نذكر �أن كتاب تاريخ الفكر الغربي ،من اليونان القدمية �إىل القرن الع�شرين مل�ؤلفيه ُغنار �سكريبك ( )Gunnar Skirbekkونلز غيلجي ( )Nils Giljeا�شتمل على احلقيقة املفيدة الآتية ،وهي: ي�ستثن الأكرثية ال�ساحقة من كبار املفكرين والفال�سفة الأوروبيني كانوا زينونيني رواقيني ،ومل ِ مونت�سكيو نف�سه وفال�سفة العقود االجتماعية. كما نو ّد �أن نب�شِّ ر رفقاءنا و�أبناءهم يف الوطن ويف املغرتبات ممن ال يجيد اللغة العربية ،ونب�شر �أفراد �شعبنا كله ،من جميع الأعمار الرا�شدة ممن ال يتقنون اللغة العربية ل�سبب من الأ�سباب �أننا �أ�ضفنا ملحقاً لهذا الكتاب خمت�صاً فقط باملفهوم الرواقي للحجة (فيليا) يكون باللغة الإنكليزية ويحمل العنوان الآتي.The Stoic Conception of Philia : 46
47
48
49
50
46 Marcus Aurelius, Meditations, BK. XI, par. 8. ، BK. IX, par. 42.املصدر السابق 47
� 48أنطون �سعاده ،تعاليم ود�ستور احلزب ال�سوري القومي االجتماعي ،املبد�أ ال�سابع� ،ص .51 ُ 4 9غنار �سكريبك ،نلز غيجلي ،تاريخ الفكر الغربي ،من اليونان القدمية �إىل القرن الع�شرين ،ترجمة د .حيدر حاج �إ�سماعيل ،املنظمة العربية للرتجمة ،بريوت ،الطبعة الأوىل ،ني�سان .2012 ،وجتدر الإ�شارة �أن الكتاب �صدر باللغة الإنكليزية يف عام .2001 5 0جتدر الإ�شارة �إىل �أن هذا امللحق هو ،يف حقيقته ،الف�صالن الثالث والرابع من �أطروحتي التي ّقدمتها لنوال درجة ماج�ستري ( )M.Aيف الفل�سفة من اجلامعة الأمريكية يف بريوت يف �شهر �آب ،عام ،1972ونلتها� .أما عنوان الأطروحة فهو � The Concept of Philia in Aristotle and the Stoicsأي مفهوم املحبة عند �أر�سطو وعند الرواقيني. وجتدر املالحظة �أن الذي كان له الف�ضل ،وال �سواه ،يف تعريفي على الفيل�سوف زينون الرواقي و�أهميته هو زعيم احلزب ال�سوري القومي االجتماعي �أنطون �سعاده ،من خالل كتاباته. 128
عمارة
البعد االجتماعي لتك ّون املدينة؛ جبيل مثاالً
1
�إميل عكرا -رئي�س احتاد املعماريني العرب
-I-
جتمعه يف املدينة و اتحّ اده مع �أترابه يف البدء كانت املدينة؛ ذلك �أنّ بدء احل�ضارة ن�ش�أ فيها ،فقبل ّ امتد ع�شرات الآالف من ال�سنني؛ جتاربه كانت فردية تقدمت معارف الإن�سان ببطء كبري ّ فيها ّ غالباً وجماعية بع�ض الأحيان �ضمن جماعات �صغرية م�ؤ ّلفة من العائلة الكبرية �أو من بع�ض العائالت املرتبطة بالقربى �أو بامل�صلحة؛ وعلى هذه التجارب اجلماعية ت� ّأ�س�ست حالة ن�شوء التجمعات الكربى الأوىل ،فت� ّأ�س�ست القرى امل ّتكلة على ن�شاط اقت�صادي واحد كالزراعة مث ًال �أو ّ ن�سبي معي�شي اكتفاء من و أمن � من البدائية أوىل ل ا عات التجم هذه نته م � أ ما و أ�سماك؛ ل ا �صيد ّ ّ ّ ّ �شكل احلافز الأ�سا�سي لتح ّولها �إىل م ّتحدات ريفية بدئية ،تعقدت خاللها العالقات و ت�ش ّعبت واغتنت واتجّ هت بفعل التط ّور نحو �إر�ساء قواعد امل ّتحدات املدينية البدئية فكانت �أور Ourو �أوروك Ouroukو ماري Mariو جبيل Gbaylو عدد من امل�ستوطنات الب�شرية الكبرية التي حت ّولت �إىل بت�شكلها ،تاريخ احتالل �إن�سان معينّ لأر�ض مع ّينة ،و �أثّر ّ مدن و حوا�ضر كتبتّ ، ت�شكلها على �شخ�صية هذا الإن�سان الذي ابتدعها ،فط ّورته و ط ّورها ،و ال تزال هذه املعادلة باالتجّ اهني ّ متحكمة بحالة املجتمعات املعا�صرة ،فهي حالة ع�ضوية بنيوية مت� ّأ�صلة يف الب�شر. أخ�ص ن�شوء املدن و تك ّونها االجتماع �إذن هو يف �أ�صل تط ّور � ّأي ظاهرة من ظواهر احل�ضارة و بال ّ املهمة تو ّزع املهام و ن�شوء االخت�صا�ص و تن ّوع املهن و بالتايل وتط ّورها .و من مفاعيل هذا االجتماع ّ حتدد مقام ّ كل فرد يف اجلماعة .و ما طال الأمر ح ّتى ت� ّأكدت الفروقات التي بروز تراتبية مع ّينة ّ ظهرت يف املجتمع القروي ،فالتزم املحارب الدفاع عن املدينة و �سيطر على �أهلها بق ّوة ال�سالح، و �أكمل الكاهن ،الذي ورث ال�ساحر ،و�ساطته بني النا�س و الإله ف�سيطر عليهم برهبة الدين، تكد�ست الق ّوة االقت�صادية ب�أيدي ق ّلة منهمّ ، فتحكم ر�أ�س املال مبعي�شة النا�س و برزت ومع الزمن ّ
1
�ألقيت هذه املحا�ضرة �ضمن م�ؤمتر «العمارة و امل�شهد ،قراءة مدينة» يف دم�شق يو َمي 17و 18ت�شرين الثاين .2008 129
ال�سيطرة الثالثة ّ فتحكم �أ�صحاب الر�ساميل يف م�صري النا�س و جمتمعاتهم .و يف غياب قوانني الب�شري من وجهة �إن�سانية عادلة ،برزت الفروقات الطاغية بني و�أنظمة حكم ناظمة لالجتماع ّ ت�شكل العمارة و بالتايل على ّ الب�شر فطغَت على ّ ت�شكل املدينة ...و باختزالٍ �شديد ن�ستطيع القول �إ ّنه �إذا كانت التح�صينات العامة� ،أي الأ�سوار املحيطة باملدينة و القالع �أو احل�صون املنت�شِ رة يف احليوي هي �ش�أن عام ومن طبيعة الأمور و تدخل �ضمن منظور حقوق املواطن وواجباته، جمالها ّ ف�إنّ قلعة احلاكم يف قلب املدينة �أو يف �أطرافها ال تدخل �ضمن هذه ال�ضرورات� ،أنها تعبري عن �سطوته على ّ الت�صدي للمعتدي �سكانها و جت�سيد ل�سيطرته عليها �أو ًال وقبل فعل الدفاع عنها و ّ عليها .و�إذا كانت الهياكل ودور العبادة مبن ّية للنا�س ح ّتى يعبدوا فيها �آلهتهم ،وحت ّولت بفعل مقد�سة عامة ،هي من ال�ش�أن العام و�ضرورة له ،ف�إنّ ق�صور كبار الكهنة و �أمراء ذلك �إىل �أماكن ّ املعابد لي�ست من ال�ش�أن العام ب�شيء ،فهي من�ش�أة حل�صر العالقة فيما بني النا�س والإله بالو�سيط ال�ساحر -الكاهن و اعتباره نائباً عن الإله جتاه النا�س وح�صر الإرادة الإلهية مبا يقوله ويفعله وح�ض النا�س على الطاعة العمياء له .و �إذا كانت �إدارة املال احلكيمة وعدم التبذير �صفة حميدة ّ ومفيدة لل�صالح اخلا�ص ولل�صالح العام ،ف�إنّ االحتكار وتكدي�س ر�أ�س املال هو �آفة اجتماعية و�سيا�سية و�أخالقية ،ذلك �أنّ هذا الفعل الظامل ي�سمح ٍ ب�شطط كبري خا�ص ًة مبا له عالقة بتقدير ح�صة املنتج بج�سده والفاعل إنتاج ما� ،إذ لي�س من العدل مبكان �أن تكون ّ ّ ح�صة امل�ساهمني يف � ٍ ّ ح�صة الذي م َّول هذا الإنتاج والذي �أداره. بفكره �أقل من ّ -II-
مهما يكن من �أمر ،و ملّا كنت هنا يف معر�ض تقدير ما نتج عن هذه احلال و لي�س تقييمه ،ف�إ ّنني�أنطلق من هذا الواقع و �أ�ستعر�ض نتائجه يف مدينة جبيل ،املدينة التي �أنا منها ،ذلك �أنّ عمرها َ عدة تركت ب�صمات قو ّية على املوقع و�أثراً وا�ضحاً يف تك ّونها و يف كبري جداً و م ّر تاريخها مبراحل ّ تط ّورها .نبد�أ من املرحلة الأوىل حيث ارتقت قرية �ص ّيادي ال�سمك الكبرية �إىل م�صاف املدن، وكان ذلك �أواخر الألف الرابع قبل امليالد .فبدءاً من 3200ق.م .ارت�سمت ال�شوارع و تث ّبتت، جتمعت الأحياء حولها و حول احل ِّيز الكبري املحيط بـ «بري امللوك» ،وبد�أت �أعمال ت�أهيل هذا و ّ النبع ف�ش ّيدت اجلدران الداعمة جلوانب احلفرة التي حت�ضنه وو�صلت الأدراج ال�ساحة املحيطة بربكة جتميع مياه النبع الواقعة على حوايل ع�شرة �أمتار �أدنى من م�ستوى �ساحة املعابد التي ّ حتتل و�سط املدينة .ويف الوقت ذاته ُب ِن َيت املعابد بطريقة �أمنت و �أ�سلم من ال�سابقَ ،كبرُ َ حجمها و تو�ضح ّ م�سطحها وثبت على مبد�أ احل ِّيزات الثالثة :الباحة الأوىل وهي للعامة ،الباحة الثانية وهي ّ َ للم�صطفني ،والباحة الثالثة وهي قد�س الأقدا�س ال يدخلها �إ ّال الطاهرون و الرا�سخون يف العلم م�ستوى �أي الكهنة و بع�ض الع ّرافني� .أما ق�صر امللك املوجود عاد ًة مبعية املعبد الأ�سا�سي وعلى ً 130
عمارة
�أدنى منه ولو بقليل ،يرت ّبع هنا على التلة ال�صخرية الأعلى يف املدينة ،وهي تلة مك َّونة من احلجر للمتو�سط ،ا�ستعملت لفرتة �سابقة الرملي Grès dunaireاملنت�شر على غالبية ال�شاطىء ال�شرقي ّ مقلعاً لهذه املادة ،و يبدو من املكت�شفات �أنّ الفجوات التي نتجت عن �أعمال القلع ا�ستعملها ب ّنا�ؤو الق�صر �أقبية له و �شادوا �أجنحة الق�صر عليها؛ و من نوعية البناء املتبقي من هذا الق�صر ميكننا ا�ستنتاج التقنية العالية التي مت ّتع بها �أولئك الب ّنا�ؤون ،فاحلجارة كبرية احلجم و م�صقولة بعناية وتلتحم مع بع�ضها بدقة كبرية ت�شري �إىل مت ّلكهم علم اجليومرتيا �إ�ضاف ًة �إىل تقنيات القطع املهم يف املو�ضوع هو مكان ق�صر احلكم هذا وم�ستوى املكان الطبيعي الذي �شُ ِّيد عليه؛ والر�صفّ . �إ ّنه �أعلى مكان يف املدينة ،ي�شرف من اجلهة ال�شمالية الغربية على امليناء حو�ضاً ومدخ ًال و م�سلكاً، ومن جهة ال�شرق ي�شرف على الهياكل و ال�ساحة الكبرية التي جتمعها وجتمع �أمكنة التجارة والتبادل ،وي�شرف على مدخل املدينة الأ�سا�سي الوحيد ،وهو من جهة ال�شرق �أي�ضاً وحم�صَّ ن ب�شكل ا�ستثنائي؛ و�إذا �أ�ضفنا �إىل هذه ال�صفات �إ�شراف املوقع على كامل �أحياء املدينة و على جممل �أ�سوارها و �أحاطته التامة بالأفق البحري من �أق�صى اجلنوب �إىل �أق�صى ال�شمال ،تو�ضح املمتدة من أهمية ال�سلطة ال�سيا�سية احلاكمة يف هذه املدينة الكنعانية الكربى يف املرحلة ّ لنا مدى � ّ �أوا�سط الألف الثالث ح ّتى �أوا�سط الألف الثاين قبل امليالد .ال ّ �شك يف �أنّ الرتاتبية االجتماعية للنا�س من جهة و مفاهيمهم الإميانية و ال�سيا�سية و االقت�صادية من جهة �أخرى هي التي �أملت هذا التكوين املعماري و العمراين للمدينة .ف�إذا ا�ستعدنا ،باخت�صا ٍر �شديد ،الرتاتبية املكانية للن�سيج العمراين املديني للموقع يف تلك احلقبة من الألف الثالث قبل امليالد ،ر�أينا �أنّ ق�صر احلكم يقع على �أعلى ت ّل ٍة (�صخرية) ترتفع عن �سطح البحر حوايل خم�سة وع�شرين مرتاً ،وعلى مقرب ٍة منه �شرقاً ،و على م�ستوى �أدنى بحوايل مرتين و ن�صف يقع املعبد الأ�سا�سي ،و هو لبعلة جبيل الإلهة الأم �شفيعة املدينة ،و يف نف�س االتجّ اه و على م�ستوى �أدنى بحوايل املرتين و ن�صف �أي�ضاً يقع معبد «ر�شف � »Rechefإله احلرب و حامي املدينة .يرتدي مكان معبد «ر�شف» رمزية هامة ،فهو من ناحية ال�شرق يواجه مدخل املدينة املح�صَّ ن ،يف�صله عنه �ساحة وا�سعة ت�ستقبل الوافدينّ ،جتاراً حجاجاً ،الفتاً بذلك انتباههم �إىل �أنَّ ا�ستعداد �أهل املدينة للتبادل و للتجارة كانوا �أم �صناعيني �أم َّ و لل�سالم ال يوازيه ت�صميماً �سوى ا�ستعدادهم للحرب و للدفاع عن �أنف�سهم؛ �أ ّما من ناحية الغرب مائي مثلث الأ�ضالع ّ فهو يواجه معبد البعلة ،يف�صله عنه َّ ي�شكل �ضلعه الثالث من جهة م�سطح ّ الظن الطاغي ب�أ ّنها دينية الطابع ،فتكتمل بذلك وحدة املكان مبنى غام�ض الوظيفة ،مع ّ ال�شمال ً مقد�س يظ ِّهر قد�سية احلياة مائي ّ الدينية و الرمزية امل�ؤ ّلفة من ثالثة �أبنية للعبادة ي�صل بينها مثلث ّ و نوامي�سها .زاوية املثلث اجلنوبية ت ّتجه نحو «بري امللوك» �أي نبع املدينة و م�صدر احلياة فيها ،و زاويته حممي بالأ�سوار املهم امل ّت�صل بامليناء ال�شمايل من خالل ٍ احلي ال�شمايل ّ �شارع ٍّ ال�شمالية ت ّتجه نحو ّ يتبدى امل�شهد للقادم �إىل املدينة ب ّراً على مت�صل مبم ٍّر مد َّرج و حم�صَّ ن ي�صل املدينة مبينائهاَّ . و ٍ ٌ مقبي وحم�صَّ ن، ال�شكل التايل� :أ�سوا ٌر عالية يخرقها من اجلهة ال�شمالية ال�شرقية مدخل ٌ واحد ٌّ 131
يتم الو�صول �إليه �صعوداً و بتد ّرج ،و الدخول فيه برهب ٍة مترحلها ب ّوابات �سبع ال تزال عتباتها بادي ًة ّ للعيان ،و الولوج منه �إىل الداخل من خالل منحد ٍر متد ّرج ي�صل �إىل ال�ساحة العامة حيث يتتاىل غرباً �أمام ناظ َريه معبد «ر�شف» �إله احلرب ومن َّثم معبد البعلة الإلهة الأم على م�صطب ٍة �أعلى ومن َّثم الق�صر امللكي مركز احلكم يت ِّوج ّ متتد الأحياء ال�سكنية الكل .ومن اجلهتني ،مييناً و ي�ساراًّ ، يتخ ّللها بع�ض املتاجر و املحرتفات و املخازن ،يخرقها ارتفاعاً و حجماً بع�ض بيوت الأغنياء مثل مبنى ذلك َّ امل�سمى «املق ّر الكبري »La grande résidence ،و املوجود يف غرب ِّ احلي اجلنوبي ،وهو ً مر ّبعاً تقريباً بطول خم�سة و ثالثني مرتاً و عر�ض �إثنني و ثالثني �أي مب�ساحة �ألف مرت مر ّبع تقريباً؛ احلي ال�شمايل و التي ومن املفيد ،يف �إطار مو�ضوعنا ،مقارنته مبنزلٍ من منازل العامة املنت�شِ رة يف ّ ترتاوح م�ساحتها بني اخلم�سني واملائة مرتاً مر ّبعاً .يبقى �أن �أ�شري �إىل �أنَّ �شوارع هذا الن�سيج املديني عدة مرتاً و ن�صف املرت ،فيما ترتفع عتبات املداخل يتعدى عر�ض بع�ضها يف �أماكن ّ �ض ِّيقة جداً ال ّ ب�شكل وا�ضح عن م�ستوى ال�شارع ب�سبب �أمطار ال�شتاء الغزيرة ،ذلك �أنّ ال�شوارع تتح َّول ب�سرع ٍة ٍ بع�ض منها لت�صريف مياه ال�شتاء� .أوا�سط الألف �إىل �سواقٍ ّملد ٍة ق�صرية رغم وجود جمارير يف ٍ الأول قبل امليالد طر�أ تغي ٌري على ن�سيج املدينة املبني ،نتيجة �سيطرة الفر�س على كامل مدن ودول الهالل اخل�صيب ،ف�ساد الطرز الفار�سي على البناء و خا�ص ًة العام منه ،وما بقي من هذه املرحلة ت�ضم �صالة كبرية للعر�ش « »Apadanaو بع�ض قواعد الأعمدة .و ّ ي�شكل موقع يتمثل بالقلعة التي ّ هذه القلعة -الق�صر دالل ًة مهمة على تغي ٍري يف مفهوم عالقة ال�سلطة بال�شعب ،ذلك �أ ّنها مبن ّية على الق�سم ال�شرقي من ال�سور كما هي العادة يف مدن وادي الرافدين و يف مدن فار�س .هناك � ّأ�س�ست املدن القوية �أمرباطوريات يقت�ضي برو ُزها مركزي ًة �صارمة للحكم ،و هنا بقيت املدن دو ًال �صغرية منتخبة ت�ساعد امللك يف �إدارة �ش�ؤون احلكم. �ضعيفة لها جمال�س �شعب َ احل�سي ،و برغم اختزاله بعد هذا العر�ض ال�سريع ،و الذي وجدت نف�سي م�ضط ّراً له بداعي التبيان ّ جوانب عديدة من حالة العمران يف جبيل تلك املرحلة ،ن�ستطيع ،و دون مغامر ٍة كبرية ،الو�صول ٍ ا�ستنتاجات ن�سوق بع�ضها فيما يلي: �إىل -III-
حتددت مها ُمها من جه ٍة و �أماكن �سكناها من جه ٍة �أخرى. لقد انفرزت طبقات املجتمع بو�ضوح ،و َّ و ظهرت الفروقات االجتماعية فيما بني ّ تو�ضحت احلكام وال�شعب ،وفيما بينه و بني الكهنة ،و ّ التجار ،وبرزت، العمال و فيما بني ه�ؤالء وبني ّ يف ال�شعب نف�سِ ه الفروقات فيما بني املهنيني و ّ متقدم ًة على ّ البحارة �أ�صحاب املراكب و �أ ّمارها ،و يظهر ذلك وا�ضحاً من ِّ كل َمن �سبق ،طبقة ّ املقدمة �إىل املعابد على �شكل نذورات و «� »ex-votoأي خالل املرا�سي واليواطر املحفورة بت�أنٍّ و َّ قائمقامني .و انر�سم ّ احلي ال�شمايل هي من كل ذلك يف العمارة �أو ًال ،فمواد بناء بيوت العامة يف ّ 132
عمارة
تر�صف على هواها بوا�سطة حلولٍ من الطني الكل�سي ،و تو َّرق الحقاً بنف�س املواد احلجارة امللمومة َ ب�سائل من املاء والكل�س وامللح ُي�ضاف �إليه يف بع�ض الأحيان ٌ قليل من الزيت الذي يق ّوي و ُتطلى ٍ لزاج َته و الت�صاقَه على اجلدران� .أ ّما مواد بناء الق�صر امللكي فهي من احلجر املقطوع و امل�صقول واملر�صوف بوا�سطة الطني الكل�سي بحيث تتماهى ُ حلول الر�صف الرقيقة ،فتظ ِّهر �شخ�صية ّ كل حجر على حدة .و �إذا كانت الأعمدة ال�سبعة كافي ًة حلمل �سقف بيوت النا�س العاديني ،ف�إنَّ تقدر مبائ ٍة و ع�شرين جذع �شجرة كانت �ضرورية حلمل �سقف «املق ّر الكبري». غاب ًة من الأعمدة َّ لقد ّ �شكلت هذه العمارة و ذلك الرتتيب ،املُ�شار �إليه �سابقاً ،مدين َة ذلك الزمن ،فظهرت كدائر ٍة يطل على البحر و على مينائها و ُي�شرف على ال�سهول املحيطةُّ ، حم�صَّ ن ٍة تعتلي مرتفعاً ُّ يحتل نب ُع املاء مرك َزها و ينت�شر يف و�سطها ق�ص ُر احلكم و ُ هياكل العبادة و تقوم �ساحة التبادل و التجارة للحي الغربي باال�ستقبال عند مدخلِها و تتو َّزع الأحياء حول الو�سط و �ضمن الأ�سوار مع متيي ٍز ِّ بيوت الطبقة املقتدرة ...وال ّبد هنا من الإ�شارة �إىل �أنَّ موقع احلي اجلنوبي حيث تنت�شر ُ وجلز ٍء من ِّ احلا�ضرة الكنعانية ّ مرتا�صة ت�ساهم يف امل�شهد العمراين اجلبيلي ي�شكل و بقاياها الكثرية وحد ًة ّ يتم العي�ش فيه اليوم بل بجانبه� ،إذ �أن ال�سور ال�شمايل كما هي� ،أي متحفاً يف الهواء الطلق ال ّ للمدينة الكنعانية ّ متتد �شكل �أ�سا�ساً لبناء ال�سور اجلنوبي للمدينة القرو�سطية امل�سكونة دوماً و التي ّ يف املنخف�ض الطبيعي �شمايل املدينة الكنعانية .و قبل الكالم عن املدينة القرو�سطية امل�سكونة دون انقطاع منذ ّ ا�ستعرا�ض �سريع للمراحل الفا�صلة فيما بني املرحلتني ال�سابق َتي ت�شكلها ،ال ّبد من ٍ الذكر. -IV-
ُتعترب املرحلة الفينيقية الكال�سيكية توا�ص ًال طبيعياً للمرحلة الكنعانية على نف�س املوقع و بنف�س الروح ،و ُيعترب منت�صف القرن الرابع قبل امليالد� ،أي مع الفتح اله ّليني بقيادة الإ�سكندر املكدوين ،هو تاريخ انتهاء تلك املرحلة و بدء املرحلة اله ّلين�ستية ،حيث �أخذت بع�ض املفاهيم و الط ُرز اليونانية تهيمن على �ش�ؤون احلياة العامة و على ر�أ�سها الرتتيب املديني و العمارة .و مع الفتح الروماين �أوا�سط القرن الأول قبل امليالد تك ّر�ست هذه احلالة و �أ�صبحت مدننا ،و لو ب�ألوانها اخلا�صة ،تت�شابه مع غالبية مدن حو�ض البحر املتو�سط� .أ ّما يف جبيل ،فما تبقّى من هذه املرحلة لي�س بالكثري ،لكن ت�أث َريه على امل�شهد العمراين لي�س قلي ًال ،و يظهر ذلك يف الأمكنة التي تتطابق فيها �أم تتوازى تخطيطات ال�ساحات و ال�شوارع و الطرقات الالحقة مع تلك التي من تلك املبدل و قلب املدينة بائن بفعل توازي الو�صلتني فيما بني ِّ احلقبة؛ و املثال الراهن على هذا الأمر ٌ املعمد و هو الـ « »Cardoامل ّتجه نحو ال�شمال ال�شرقي؛ �أ ّما ال�شارع املتقاطع مع ال�شارع الروماين َّ يحدد اتجّ اه بزاوية قائمة مع هذا الأخري و هو الـ « »Decumanusو امل ّتجِ ه نحو ال�شمال الغربي ،فهو ّ 133
ال�شارع الرئي�سي احلايل يف املدينة املعا�صرة املوجود �شرقه على �أمتار قليلة و مبوازاته .و ن�ستطيع القول �إن ال�شارع الأ�سا�سي الأول� ،أي امل ّتجه نحو ال�شمال ال�شرقي الـ « »Cardoو املنطلق من «�ساحة احلوريات « »Place du Nymphéeاملوجودة قرب الربج ال�شمايل ال�شرقي للقلعة ال�صليبية، ي�ساهم بجزء كبري منه بر�سم امل�شهد العمراين للمدينة املعا�صرة ،ذلك �أن هذا اجلزء املمتد من مبدل الطريق ال�سريع املعا�صر ،يحتفظ التقاطع ال�صرحي « »Tetrapileاملن العهد الروماين نحو ِّ بعد ٍد من �أعمدته اجلرانيتية الأ�سوانية الداكنة ِ املنت�صبة على قواعدها الرخامية البي�ضاء ،معتمر ًة تيجانها الكورنتية الرخامية البي�ضاء؛ كما و �أن م�ساح ًة من الر�صف احلجري ال�ضخم ال زالت يف مكانها على �أر�ض ال�شارع و عالمات عجالت عربات اخليل حافرة فيها �أخاديد تنبىء عن عمر خدمتها .جمموع ٌة �أخرى من هذه الأعمدة موجود ٌة على الت ّلة ال�صخرية حيث كان الق�صر امللكي حتدد ال�شارع الفخم الذي كان ي�صل «�ساحة احلور ّيات» بهيكل البعلة املُعاد بنا�ؤه القدمي ،و هي ِّ ح�سب الطراز ال�سائد يومها .عدا عن هذه البقايا الثالث امل�ؤثِّرة يف هيكلية املدينة ،لي�س هنالك يف جبيل من �آثار �أخرى من تلك احلقبة �سوى عديد من العنا�صر املعمارية التف�صيلية املبعرثة ٍ حقبات الحقة كالقلعة و الأ�سوار و بع�ض �أقبية بيوت مدينة القرون واملُعاد ا�ستعمالها يف �أبني ٍة من تقدم ،و بغياب بقايا كافية كما هي احلال يف تدمر و يف �أفاميا ،ال ن�ستطيع الو�سطى .انطالقاً ّمما َّ اجلزم مباه ّية امل�شهد العمراين جلبيل خالل املرحلة اله ّلين�ستية و ما تبعها من مرحل ٍة رومانية .لك ّننا باملتو�سط ،الذي حت َّول وباال�ستناد �إىل ما نعرفه عن حالة العمران يف مناطق ال�سلم الروماين املحيطة ّ عدة من الزمن بحري ًة رومانية ،ن�ستطيع التقدير القريب جداً من الواقع �أنَّ م�شهد املدينة مل لقرونٍ ّ َ بتفا�صيل لها عالق ٌة بطبيعة املوقع املكانية يختلف ع�ضوياً عن مثيالتها يف املنطقة املذكورة �سوى يبق عندنا �سوى كني�سة �سيدة قرب من البحر و ما �شابه .من املرحلة البيزنطية مل َ من ت�ضاري�س و ٍ البحر الواقعة يف و�سط املدينة القرو�سطية ،مط ّلة على امليناء و مندجمة يف م�شهد عمارة القرون الو�سطى حتى التماهي معها ،ذلك �أنه من ال�صعب متييزها عن مثيالتها التي من اخلم�سة �أو ال�ستة قرون الالحقة و التي مل ت�شهد عمارتها تغيرياً ملحوظاً يف مواد البناء و تقنياته .و حتتفظ املدينة �أي�ضاً بجز ٍء من �أ�سوار املرحلة العربية الإ�سالمية ،و خا�ص ًة من احلقبة الفاطمية التي �سبقت الفتح عمار؛ ال�صليبي مبا�شرةً ،عندما كانت جبيل من �أعمال طرابل�س التي كانت حتت حكم بني ّ فغالبية الأ�سوار املبن ّية من احلجر الرملي ال�صغري القطع هي من تلك احلقبة ،بينما تعود الأبراج بقطع كبري ،و غالباً ما التي تتخ ّللها �إىل املرحلة ال�صليبية حيث ّمت بنا�ؤها بنف�س النوع من احلجر �إنمّ ا ٍ ّمت يف هذا البنيان �إعادة ا�ستعمال احلجارة امله ّيئة �سلفاً و املوجودة يف الأبنية ال�سابقة ،خا�ص ًة تلك التي من املرحلة الفار�سية املتمثلة ب�صالة العر�ش و التح�صينات املحيطة بها؛ و يبدو �أنَّ الأبنية تلك ّ �شكلت املقلع اجلاهز للق�سم الأكرب من مواد بناء القلعة ال�صليبية و �أبراج ال�سور حامي املدينة.
134
عمارة
-V-
ّ ت�شكل مدينة القرون الو�سطى جزءاً �أ�سا�سياً من حياة املدينة احلالية العامة؛ فهي الآن مركز رئي�سي يف الن�سيج العمراين .و حدود هذه املدينة ال لب�س فيها ،فهي منت�شرة �ضمن ٍ ا�ستقطاب ّ ب�شكل م�ستطيل طوله من ال�شرق �إىل الغرب حوايل ثالثماية مرتاً و عر�ضه من ال�شمال �أ�سوارها ِ �إىل اجلنوب حوايل مائة و خم�سني مرتاًّ . حتتل القلعة -مركز احلكم الزاوية اجلنوبية ال�شرقية من واحد �صوب ال�شمال و هو ال�ضلع ال�شرقي هذا امل�ستطيل ،و ينطلق منها �ضلعان من �أ�سوار املدينةٌ ، و ينتهي عند الربج الكبري الذي ّ ي�شكل احل�صن الأ�سا�سي عند زاوية املدينة ال�شمالية ال�شرقية، وثانٍ �صوب الغرب و هو ال�ضلع اجلنوبي و ينتهي عند احل�صن البحري اجلنوبي الذي يحمي امليناء من جهة اجلنوب .ينطلق من برج الزاوية الكبري �ضل ٌع ثالث من الأ�سوار باتجّ اه الغرب م�سطح �صخري كا�س ٍر للأمواجّ ، وهو ال�ضلع ال�شمايل و ينتهي على ّ ي�شكل �أ�سا�ساً له ،و ينعطف جنوباً ّ املبني على ّ امل�سطح ال�صخري املُ�شار لي�شكل ال�ضل َع الرابع للأ�سوار و هو ال�ضل ُع الغربي ّ �إليه و ينتهي باحل�صن البحري ال�شمايل حامي امليناء من جهة ال�شمال .و �إذا كان هذا الأخري ال زال منت�صباً على ال�ضفة ال�شمالية من مدخل امليناء ،ف�إنَّ زمي َله على ال�ضفة اجلنوبية مهدو ٌم ح ّتى املدماك الأول الظاهرة بقاياه ملت�صقة ّ يبق من ال�ضلع بامل�سطح ال�صخري امل� َّؤ�س�س عليه .مل َ لكن ال�ضلع ال�شمايل ال زال واقفاً على الغربي �سوى بع�ض املداميك على �أجزاء من م�سارهَّ ، كامل طوله و يتخ ّلله بويبتان وخم�سة �أبراج ،تقع البويبة الأوىل بني الربج الأول و الربج الثاين انطالقاً من البحر ،و تقع البويبة الثانية بني الربج الثالث و الربج الرابع .كذلك الأمر بالن�سبة برج واحد كبري يف و�سطه و ب ّوابة املدينة لل�ضلع ال�شرقي ،فهو موجو ٌد على كامل م�ساره و يتخ ّلله ٌ الأ�سا�سية الوحيدة التي تخرتق ال�سور عند الربع الأول من طوله انطالقاً من القلعة و بحمايتها. برج يقع عند منت�صفه و ما تبقّى من �أ�سا�س ال�ضل ُع اجلنوبي اختفى كلياً ما عدا اجلزء الأ�سفل من ٍ احل�صن البحري اجلنوبي املُ�شار �إليه �سابقاً .من ال�سهل يف هذه احلالة ت�ص ّور الأجزاء املهدومة كامل ًة و القول �إ ّنه هكذا بدت املدينة من اخلارج خالل القرنني الثاين ع�شر و الثالث ع�شر على الأقل، �أ ّما من الداخل فالعنا�صر الأ�سا�سية التي هيكلتها ،باال�ستناد �إىل ما زال بادياً ،هي التالية� :ساحة القلعة و هي التي ت�ستقبل الداخل من الب ّوابة ال�شرقية الوحيدة للمدينة ،و ال�شارع الذي ينطلق ٍ انعطاف منها غرباً و مبا�شر ًة نحو املرف�أ ،و ذلك الذي ينطلق منها �شما ًال باتجّ اه الربج الكبري ،و بعد بزاوي ٍة قائم ٍة نحو الغرب ،ي�صل �إىل املرف�أ �أي�ضاً ،و يتف ّرع منه �سويق ًة تخدم البويبة الأوىل املفتوحة تلتف بالتوازي مع هذا ال�سورّ . ي�شكل امليناء الواقع غرب املدينة يف ال�سور ال�شمايل ،و �أخرى ّ ا�ستقطاب �أ�سا�سية فهو ،بالن�سبة للقادم من البحر ،الب ّوابة الوحيدة للدخول �إىل املدينة ،وهو نقطة ٍ رئتها الوحيدة مع العامل اخلارجي زمن احلروب ال ّربية كما هي احلال بالن�سبة للب ّوابة ال�شرقية 135
زمن احلروب البحرية .و ال ّبد من الإ�شارة هنا �إىل �أنّ ال�صليبيني مل ي�ستطيعوا احتالل جبيل، ٍ ٍ ح�صارات دامت حوايل الع�شر �سنوات� ،إ ّال عند حما�صرتها ب ّراً و بحراً يف نف�س مناو�شات و رغم الوقت ...بالإ�ضافة �إىل �شبكة الطرقات و املنافذ هذه ،هنالك عن�صران ال زاال ّ ي�شكالن ع�صباً �أ�سا�سياً يف الن�سيج احلايل و هما كني�سة مار يوح ّنا ماركو�س ،كاتدرائية املدينة �سابقاً و تقع يف املركز الهند�سي للمدينة و هي من القرن الثاين ع�شر ،و كني�سة �س ّيدة النجاة �أو �س ّيدة البحر ،و هي من القرن ال�سابع و ت�شرف على امليناء� .إنّ بع�ض املعامل املعمارية املنت�شرة يف �أ�سا�سات بع�ض البيوت و �أقبيتها و طوابقها الأر�ضية ي�سمح لنا بتقدير ّ تركز بيوت بع�ض الطبقة احلاكمة حول املرف�أ و حول كاتدرائية مار يوح ّنا ماركو�س و قرب برج الزاوية الكبري� ،أ ّما �أحياء العا ّمة ّ فت�شكل طوقاً متوازياً مع الأ�سوار و يف ظ ّلها ينحدر مع توبوغرافية الأر�ض نحو امليناء. وا�ضح �أنّ التغيري البنيوي الذي طر�أ على هيكلية املدينة يعود بالدرجة الأوىل �إىل التغيري الكبري ٌ الذي طر�أ على الأو�ضاع العامة يف منطقتنا بعد تقهقر حالة الإمرباطورية الإ�سالمية مبرك َزيها الأ�صليني دم�شق و بغداد ،و هي الإمرباطورية التي ورثت كثرياً من بنى و هيكلية الإمرباطورية البيزنطية الوريثة امل�سيحية للإمرباطورية الرومانية التي كانت امل� ِّؤ�س�سة الأوىل لعامل حو�ض البحر املتو�سط� .إنّ حالة التقهقر تلك �أعادت حالة املدن ال�سيا�سية و االجتماعية و االقت�صادية �إىل حال ٍة ّ م�شابهة لتلك التي كانت عليها يف املرحلة الكنعانية :مدن دويالت �ضعيفة متحاربة ا�ستعادت اللجوء �إىل التح�صينات املدينية مع بني ٍة �إقطاعية هرمية �صارمة يلعب �سادتها غالباً دور �أمراء احلرب املتبدل على الو�ضع االقت�صادي املرتزقة « .»Condotierriلقد ان�سحب الو�ضع ال�سيا�سي القلِق و ِّ تبدلٍ درامي و بالتايل على الو�ضع االجتماعي العام ،و نظراً �إىل ِ�صغر املدينة� ،أ ّدت هذه احلالة �إىل ُّ تبدلهم هم ،فنزح قو ٌم و وف ََد يف �أو�ضاع النا�س املعي�شية و احلياتية ،و يف بع�ض الأحيان �أ ّدت �إىل ّ قو ٌم �آخر ،و غالباً ما كانت �أحياء العامة من النا�س هي التي تدفع ثمن التغيريات الكربى ،ف ُتح َرق ن�سيج �آخر �أو ُيعاد ترتي ُبها ل�صالح املقتدرين اجلدد من حماربني و ّجتار و حرفيني، و ُيبنى مكانها ٌ ف ُيعاد ّ ٍ مبنظورات �أخرى تختلف عن �سابقاتها بالطرز و بتقنيات البناء و ما �شابه من ت�شكل املدينة االبتكارات اجلديدة ،لك ّنها ال تختلف �إطالقاً عنها مبعانيها و بدالالتها .ا�ستعادت القلعة دو َرها و مكانَها على ال�سور ،و ا�ستعاد الهيكل دو َره و مكانَه يف مركز املدينة ،و كذلك بيوت الأعيان حول هذين املركزين و قرب الأمكنة اال�سرتاتيجية من ب ّوابات الأ�سوار و املوانىء ،كما و بقيت منازل العا ّمة منت�شر ًة يف ّ يبدله �سوى ارتقا ٍء ظل الأ�سوار حتيط مبراكز ال�سلطة بتوا�ضع و بان�سحاق ال ّ ٍ لبع�ض من �أفرادِها يتمظهر بعمار ٍة خمتلفة تق ّلد الغنية و نادراً ما ترتقي �إىل م�ستواها. مرحلي ٍ ّ
136
عمارة
-VI-
�أر�ست املرحلة العثمانية ،منذ مطلع القرن ال�ساد�س ع�شر حتى مطلع الع�شرين ،حال ًة من اال�ستقرار تقدم و�سائل الن�سبي �أعادت احلياة املنفتحة �إىل معظم مدن و مناطق الهالل اخل�صيب .و �ساعد ّ احلرب و تقنياتها و فنونِها على �ضمور �أهمية التح�صينات املدينية (�أي �أ�سوار املدن) مع احتفاظ انفتاحها على ِ بع�ضها .ظهر انفتاح املدن على ريفِها و َ أهميتها؛ و قد �س ّهلت هذه احلالة َ القلعة ب� ّ ال�شارع التجاري الأ�سا�سي ،الوا�صل بني امليناء و �ساحة القلعة� ،إىل امتد ذلك جلياً يف جبيل� ،إذ َّ ُ �شارع انتظمت حوله خارج الأ�سوار ،فتح َّول الطريقُ اخلارجي امل�ؤ ّدي �إىل ب ّوابة املدينة ال�شرقية �إىل ٍ املح ّالت التجارية و حمرتفات املهنيني .و ُفتِحت ب ّواب ٌة كبرية يف و�سط ال�سور ال�شمايل لت�س ِّهل االت�صال مبدينة طرابل�س ،و ن�ش�أ ،انطالقاً منها ،حمو ُر مرو ٍر يف اتجّ اه الداخل و اخلارج حت ّوال �سريعاً �شارع جتاري و حر ّيف .و بد�أ يف القرن الثامن ع�شر هد ُم ال�ضلع اجلنوبي من الأ�سوار و انفتحت �إىل ٍ املدينة على ّ عدة �أمتا ٍر من التل اجلنوبي ،موقع املدينة الكنعانية القدمية املطمورة منذ زمن حتت ّ بورجوازي، حي ّ الردم؛ و على هذا املوقع اجلميل امل�شرِف على البحر و على املدينة القرو�سطية ن�ش�أ ٌّ التجار و امل ّالكني و ال�صناعيني ،و هي البيوت و انت�شرت عليه خالل القرن التا�سع ع�شر ُ حارات ّ ناجح من ا�ستعمال موا ٍد حملي ٍة املر ّبعة و املقر َمدة ذات الطراز مزج ٍ املحلي الناجت عن ٍ ال�ساحلي ّ ّ كاحلجر الرملي امل�صقول و موا ٍد م�ستور َدة كالقرميد الأحمر من مر�سيليا ،و َّمت ذلك بوا�سطة تقنيات تعدى ُ بع�ض حم ّلية ا�شتهر بها ب ّنا�ؤو ال�شاطىء ال�شرقي للمتو�سط منذ قرون .و يف نف�س املرحلة َّ ّ املقتدرين على �أجزاء �أخرى من الأ�سوار ،ف ُب ِن َيت ُ بع�ض البيوت على ال�ضلع ال�شرقي و ُفتِح يف �صف من ِّ �شارع �أخ ُر، و�سطه مم ٌّر دون ب ّوابة ،و الت�صق به من اخلارج ٌّ املحال التجارية ارت�سم �أمامها ٌ عفوي حتى طريق طرابل�س -بريوت القدمية التي �أ�صبحت و ا�ستم َّر العمرانُ ُّ ميتد �شرقاً و ٍ ب�شكل ٍّ مت ُّر اليو َم يف و�سط املدينة ِ لكن املعا�صرة .مل ّ متتد املدينة بكثافة خارج ال�ضلع ال�شمايل من �أ�سوارها َّ ّ ال�سكانَ ا�ستعملوا حجار َة الأ�سوار لبناء م�ساكِ نِهم ،فتع َّرت هذه من حجارتِها امل�صقولة ،و ُهدِ َمت الأجزاء العليا من بع�ض �أبراجها و ُفت َِح مم ٌّر �ض ّي ٌق قرب برج الزاوية الكبري دون ب ّوابة .و تعاطى ّ برج املرف�أ ال�شمايل ال�سكان بنف�س الطريقة مع ال�ضلع الغربي فهدموه و انفتحوا على البحر تاركني َ واقفاً ال�ستعماله منارةً ،لك ّنهم عادوا و رممَّ وا اجلز َء احلامي للميناء منه ل�ضرورة ا�ستعمالِ هذا الأخري، الذي تقهقر مع الزمن و �أ�صبح ،مطلع القرن الع�شرين ،مربطاً �صغرياً لزوارق �ص ّيادي الأ�سماك ولندر ٍة من املراكب ال�صغرية احلجم التي مل تكن ت�ستطيع جتاو َز مدخلِه� .شهِدت هذه املرحل ُة �أي�ضاً مبنى �أ�سا�سي على الن�سيج املديني� ،أال و هو امل�سجد ّ املطل على �ساحة القلعة ،و هو من �إ�ضاف َة ً للبحارة و لل�ص ّيادين على جنب ر�صيف امليناء. القرن ال�سابع ع�شر ،كما و ا�س ُتحدِ ث م�ص ّلى �صغري ّ �إنَّ هذا ّ الت�شكل الأخري � ّأ�س�س للمدينة احلالية ،فهي تكمل ٌة له ،و من ّوها ّمت انطالقاً من الثوابت التي 137
�أر�ساها ،و هي املعامل و العنا�صر املذكورة �سابقاً .بدءاً من الربع الأول من القرن الع�شرين بد أ� التح ّو ُل احلديث للمدينة ،فانت�شرت قواها احل ّية املنتِجة� ،أي حرف ّيوها و ّجتا ُرها ،خارج �أ�سوارها على نطاقٍ وا�سع؛ و كان املزارعون �أ�ص ًال موجودين يف ال�سهل الزراعي املحيط بها .فتح َّولت بذلك أ�سا�سي ،و بد�أت تتف ّر ُع منه ،باتجّ اه ال�سهل� ،أ�سواقٌ �صغرية �شارع ٍّ طريقُ طرابل�س -بريوت �إىل ٍ جتاري � ٍّ ما لبثت �أن كبرُ َ ت و تف ّرعت �أي�ضاًَّ .مت ُّ كل ذلك على ح�ساب ال�سهيل ال�صغري اخل�صب الذي يف�صل املدينة عن اجلبال ،حارماً ّ ال�سكان من الرئة اخل�ضراء ال�ضرورية لبيئته الطبيعية .و اخلطور ُة املديني كلياً ،و الأم ُر �أ�صبح املبني بالأمر ُ ُّ تكمن مبحدودية م�ساح ِة هذا ال�سهيل ،فحينما يحت ُّله ُّ َ على و�شك احلدوث ،تحُ َرم املدين ُة من هذه الرئة التي ال غنى عنها� .إنَّ احتالل مدنِ ال�شاطىء اللبناين للطرقات التي ت�ص ُلها ِ �شوارع� ،أ ّدى ببع�ضها و �ضمن نطاق جمالِها احليوي ،و حتويلِها �إىل َ خالل �ستينيات القرن املا�ضي �إىل اختناقٍ لل�سري العابر للمدن ،فكان ُّ احلل �إن�شا َء طريقٍ �سريع �سمى بالأوتو�سرتاد احلايل ،على ح�ساب ال�سهل ال�ساحلي القليل العر�ض �ساحلي �آخر ،و هو ما ُي ّ ّ املمتد على طولِ �شاطئنا .و كانت النتيجةُ ،على م�ستوى املدن ال�ساحلية� ،أنَّ العمرانَ غ َري املنظمَّ ّ نف�سها ،و ّ �شوارع الطريق و ح َّوله يف بع�ض الأماكن �إىل احتل هذا َ َ و غ َري الهادف ك َّرر الظاهر َة َ أماكن �أخرى ،كمدينة جبيل ،فقد ّ �شكل هذا الطريقُ جرحاً جتاري ٍة مكتظ ٍة �ألغت �أهدافَه؛ �أ ّما يف � َ املديني و االجتماعي� ،ش ّلع املدين َة و �أفقدها وحد َتها و تناغ َمها .املدين ُة اليوم بليغاً يف الن�سيج ّ املبد ُل الوحيد و الآخر هو ج�س ٌر أحدهما هو ِّ ق�سمان ال يلتقيان �إ ّال من خالل طريقني لل�س ّيارات � ُ عادي ال يتجاو ُز ُ وحيد �أي�ضاً يقع جنو َبها .و ي�ستم ُّر عر�ضه �س ّت َة �أمتا ٍر يقع �شما َلها ،و مم ٌّر �آخ ُر للم�شاة ٌ ٌّ الفو�ضوي باالنت�شار قا�ضماً ال�سهيل و مت�س ّلقاً العمرانُ لكن بع�ضاً من القواعد ُّ اله�ضاب امل�شرفةَّ ، َ يعد لها �أث ٌر ،فال�سلط ُة املركزية مث ًال ال ت�أبه بامتالكِ مقر مم ّيز ي�ؤثّر يف املواطنني ،و ال�سلط ُة القدمية مل ُ املح ّلي ُة عاجز ٌة عن تزويد املدينة باملراكز الثقافية و االجتماعية و الإدارية الالزمة .لك ّننا جند يف الهيكليات الديني َة ُ ٍ ِ املقابل �أنّ بدرجات تهتم بالتعليم الديني الكنائ�س و تن�شط و تبني َ امل�ساجد و ُّ َ افتتاح فروع للم�صارف ،و �إن�شاء الأبنية ال�سكنية متفاوتة� .أ ّما ُ الهيكليات االقت�صادي ُة فمن�صرف ٌة �إىل ِ و التجارية للبيع ،و بناء منازلِها الفخمة على التالل املحيطة باملدينة؛ و يف الوقت الذي ينمو فيه ت�شهد الزراع ُة تقهقراً كبرياً قد ي�ؤ ّدي �إىل قطاع املطاعم و الفنادق و مراك ِز اال�ستجمام البحريةُ ، ُ انهيارِها يف ٍ قطاع اخلدمات املهنية العريقة ،كاملحاماة و الطب وقت قريب؛ يبقى �أن ن�ش َري �إىل �أنَّ َ إمكانات العمل يف اخلليج. والهند�سة ،ي�شكو من تخم ٍة ت�ستوع ُبها وقتياً � ُ
138
عمارة
-VII-
القول �إنَّ جمتمعاً ّ يف اخلال�صة� ،أ�ستطيع َ مفككاً �إجتماعياً و بالتايل �سيا�سياً ال ي�ستطيع ،و لو انتع�ش لي�صبح بالتايل منا�سباً يبني ن�سيجاً مدينياً من�سجماً و متنا�سقاً و قوياً َ اقت�صادياً يف مرحل ٍة ما� ،أن َ التقنيات م�ستوردة و جمي ًال .ف�إذا كانت املوا ُد م�ستورد ًة و غالباً من النوع العادي ،و �إذا كانت ُ �أي�ضاً دون روحِ ها ،ذلك �أنَّ ال�ستريا ِد الأخرية ٌ �شروط لي�ست متوافرة عندنا ،و �إذا كانت ال ُ أهداف أ�سباب عديد ٍة ال َ ٍ جمال لذكرِها الآن ،و �إذا ت�ضامن و االجتماعية من م�ساوا ٍة و ٍ تعا�ضد مفقودة ل ٍ ٍ كانت ال ُ انحطاط أهداف ال�سيا�سية من ح ّري ٍة و ا�ستقاللٍ و منع ٍة و ق ّو ٍة مفقودة هي الأخرى ب�سبب جمتمعي خط ٍري مت ُّر به الأمةُ ،ف�إنَّ املديني يبدو كما هو با ٍد يف غالبي ٍة مدنِنا و بلداتِنا و قرانا: الن�سيج َ ٍّ َّ ينٌ � ، املكد�سة ال عالق َة لها باملكان و بنا�سِ ه انت�شا ٌر �سطحي �سرطا ٌّ أ�شكال غريب ٌة عجيب ٌة من املوا ِد َّ ٌّ ت�صح ُر فينا العاطف َة و ّ اللذةَ .لقد ن�سينا �أنَّ املدنَ هي التي وبزمانِهم ،و �صحاري من الباطون امل�س ّلح ِّ �أن�شات َ الدول و لي�س العك�س ،و على دولِنا الآنَ االنتباه �إىل هذه املعادلة ،ف�إذا َّ انحطت املدنُ َ َ انحطاط و َ َّ انحطاط الدول ال ي�ستتب ُع حكماً زوال لكن انحطت الدول و منها ما زال عن الوجودَّ ، املدن ،ف�إنَّ لدى هذه الأخرية من احليو ّي ِة و العراق ِة ما ِّميك ُنها من �إن�شا ِء الدول من جديد .معادل ٌة الزمن ال�صعب الذي نعي�ش :عندما مت ُّر الأ ُمم احل ّي ُة ب�أزمن ٍة �صعب ٍة �أخرى ال ّبد من التذك ِري بها يف هذا ِ وحدها الكفيل ُة با�سرتدا ِد الذات خروج لها منها �سوى باملقاومة� .إنَّ املقاوم َة هي َ مليئ ٍة باملِحن ،فال َ حتديات �سبل الع ّز ِة و الكرام ِة و التوازنِ و احلياة .و �إذا مل يكن �أما َمنا من ّ و االنطالق َّ جمدداً يف ِ ين ّ املذل امل�سيطر على م ّتحداتِنا ،فال َ للخروج منه و ا�ستعاد ِة ذواتِنا �سبيل لنا �سوى التط ّور ال�سرطا ّ ِ اخلا�صة و ذاتِنا العامة �سوى باملقاومة .فنحن بحاج ٍة �إىل عمار ٍة مقاوِم ٍة يف �إطا ِر عمرانٍ مقاوم. جبيل يف 13ت�شرين الثاين
2008
139
ي�صدر قريبا ً
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
جنيب البعيني -كاتب و�صحايف
ق�صة جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي ال�صحافية ( )1956-1865التي �صرف يف جمعها ما يزيد على خم�سني �سنة متوا�صلة ق�صة ممتعة ،هي االعداد االوىل التي جمع فيها �أكدا�ساً مكد�سة من ال�صحف واملجالت ،تعترب ذات قيمة ثمينة بارزة يف ع�صرنا احلا�ضر� ،إذ لوالها ملا كان عندنا معر�ض تراثي �صحايف فكري ،بالتعاون مع نخبة من �أهل الر�أي والفكر يف لبنان .وهو معر�ض �أقيم يف الأ�سواق التجارية يف بريوت منذ فرتة ،حتت عنوان: «ال�صحافة اللبنانية يف ن�صف قرن من الزمان». معر�ض دائم ي�ضم الأعداد الأوىل من كل �صحيفة وجملة �أدبية برزت يف وقت �صدورها ،وعلى م�سافة عدة �أمتار من بلدية ،بريوت املمتازة « يف �أ�سواق بريوت ي�ؤمه يومياً ع�شرات الزوار وال�سياح. هذه املجموعة كادت �أن ت�ضيع يف زحمة الآف من الكتب التي كان ميلكها الفيكونت فيليب دي طرازي يف حياته .وقد طلب من الدكتور ف�ؤاد غ�صن �أن يكون و�ساطة خري لبيع جمموعته التي لديه و�سط الدكتور غ�صن �أ�صدقاءه امل�صريني. لقاء مبلغ من املال قدره �ألفا جنيه م�صري .ولهذه الغاية ّ وكان �أن عر�ض هذا الأمر على الدكتور علي با�شا ابراهيم رئي�س اجلامعة امل�صرية ،ويعود ذلك �إىل نهاية عام 1945وبداية العام .1946وعن ذلك يورد الدكتور ف�ؤاد غ�صن �أخبار هذه الو�ساطة عرب مرا�سالت ذكرها يف «املذكرات» التي ن�شرها يف كتاب� ،صدر عن دار الريحاين للطباعة والن�شر يف بريوت يف �سنة .1967ومن خالل هذه املرا�سالت يتبني لنا �أن هذه املجموعة كادت �أن تباع لقاء مبلغ من املال قدره �ألفا جينه م�صري ملجموعة الفيكونت طرازي ال�صحافية .ذهب الدكتور ف�ؤاد غ�صن �إىل منزل الفيكونت فيليب دي طرازي ليبلغه جواب اجلامعة امل�صرية ب�ش�أن بيعها ،فوجده نائماً يف ال�سرير ،وقد بلغ من العمر �إحدى وثمانني �سنة ،فعر�ض له اجلواب ،فما كان من طرازي �إال �أن ه�ش وب�ش لذلك .بعد �أن قر�أ له الكتاب الوارد عن اجلامعة وهو املوافقة على طلبه يف 19 كانون االول �سنة 1945ور�سالة �أي�ضاً بتاريخ 17كانون الثاين يف �سنة .1946 وقد ذكرت اجلرائد يف حينه ،ومنها جريدة «بريوت» ل�صاحبها حميي الدين الن�صويل بتاريخ 18 حزيران يف �سينة 1946حتت عنوان « هل ي�صل اخلالف �إىل الق�ضاء؟» ما مفاده: 141
حتوالت �أدبية
ق�صة جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي ال�صحافية
«�إن املفو�ضية امل�صرية وجهت تقريراً �ضافياً عن عقد البيع الذي يجعل جمموعة الفيكونت طرازي ال�صحفية ملكاً لها ال ينازعها فيه منازع �إىل وزارة اخلارجية اللبنانية تب�سط له الق�ضية منذ �أن كلفت جامعة ف�ؤاد الأول املواطن ف�ؤاد غ�صن ب�شراء هذه املجموعة ال�صحفية ب�ألفي جينه م�صري �أي بثمانية ع�شر الف لرية لبنانية �إىل �أن عاد الفيكونت طرازي عن هذا العقد وباع املجموعة لدار الكتب الوطنية (كانت قرب الربملان اللبناين) ب�ست وثالثني الف لرية لبنانية». تو�سطه ويقول املندوب اللبناين�« :إن �سعادة وزير م�صر املفو�ض تلقى تعليمات من حكومة لبنان ّ لإنهاء هذا اخلرف ودياً قبل االلتجاء �إىل الق�ضاء» .وجاء يف عدد جريدة «بريوت» 2548بتاريخ 21 حزيران �سنة ،1946ما مفاده: «قلنا يف عدد فائت �إن احلكومة امل�صرية كلفت �سعادة وزيرها املفو�ض ب�سوريا ولبنان ب�أن يبذل اجلهد بالطرق الدبلوما�سية ليحمل احلكومة اللبنانية على �إعادة جمموعة ال�صحف التي كان �سعادة الفيكونت دي طرازي قد باعها جلامعة ف�ؤاد الأول يف القاهرة بو�ساطة املواطن الدكتور ف�ؤاد غ�صن بالفي جينه �أي ما يعادل ثمانية ع�شر الف لرية لبنانية .وقد قام �سعادة وزير م�صر املفو�ض بهذه املهمة التي �ألقتها حكومته على عاتقه ،وو�صع تقريراً �ضافياً مدعوماً باالدلة والرباهني مفاده ان ال�صفقة متت �شرعاً وعرفاً .ثم طلب يف نهايته اعادة املجموعة اىل ا�صحابها ال�شرعيني� ،أي جامعة ف�ؤاد الأول. ويظهر �أن وزارة اخلارجية اللبنانية در�ست هذا التقرير درا�سة مف�صلة من جميع النواحي وا�ستقر ر�أي الوزير على م�شاطرة احلكومة امل�صرية وجهة ر�أيها بهذا اخلالف النا�شب بني القطرين ال�شقيقني». وهناك مطالعة من وزير اخلارجية اللبناين �أحالها �إىل جمل�س الوزراء للبت بهذه الق�ضية .وتقول املطالعة ان يرتفع ال�سعر من 18الفا اىل 36الفاً .ويتلخ�ص ر�أي الوزير فيليب تقال باعادة املجموعة ال�صحافية �إىل �أ�صحابها ال�شرعيني �أي جامعة ف�ؤاد االول. وهناك ت�سا�ؤل وجهته اجلريدة املذكورة �إىل �أ�صحاب ال�ش�أن يف عدد 2548بتاريخ 21حزيران �سنة ،1946قالت فيه: «لت�سمح لنا احلكومة من جهة �أن نت�ساءل عن املوقف الذي �سوف تقفه من هذه الق�ضية وكيف متت ،وملاذا دفعت احلكومة �ستة وثالثني الف لرية لبنانية ثمناً لهذه املجموعة على الرغم من �أنها كانت تعلم �أن جامعة ف�ؤاد االول قد ابتاعها بثماين ع�شر �ألف لرية لبنانية ال غري». وكان ان ّتدخل يف الأمر فخامة رئي�س اجلمهورية اللبنانية ال�شيخ ب�شارة اخلوري ،وكان �أن توا�سط مع احلكومة امل�صرية اللغاء القيود التي ح�صلت بني جامعة ف�ؤاد الأول ،ب�شخ�ص رئي�سها ومديرها الدكتور علي ابراهيم وبني الكونت فيليب .وعاد كل �شيء �إىل حاله دون �أن تتم �صفقة البيع ومت �إلغا�ؤها نهائياً. وهنا ،نت�ساءل :ما هي تلك املجموعة ال�صحافية .وما هو الكتاب الذي وجهه الفيكونت فيليب دي طرازي �إىل ال�شيخ ب�شارة اخلوري؟ 142
حتوالت �أدبية
هي جمموعة �صحافية يربو عددها على �سبعة الآف وخم�سمائة �صحيفة خمتلفة العناوين .ت�شتمل على منوذج من كل جريدة �أو جملة ظهرت يف انحاء املعمور بالل�سان العربي وبجميع اللغات ال�شرقية ،ومزيتها اخلا�صة �أن ذلك الأمنوذج هو �أول عد ٍد من اجلرائد واملجالت اللبنانية والعربية. وتعترب هذه املجموعة فريدة يف العامل مبا حوته من نوادر ال�صحف القدمية وبواقع ال�صحف احلديثة. وهي مرتبة ترتيباً جغرافياً تاريخياً يدعو �إىل االعجاب ويربهن على �سالمة الذوق وميهد ال�سبيل للوقوف على حالة ال�صحف منذ ن�ش�أتها اىل وقتنا احلا�ضر. وهذه املجموعة ،منذ �أن و�ضع رئي�س اجلمهورية ال�شيخ ب�شارة اخلوري ،يده عليها� ،أ�صبحت يف حوزة اجلمهورية اللبنانية .وقد �ضمتها دار الكتب الوطنية يف حينها ،وهي التي كان مقرها بجانب جمل�س النواب احلايل (وقد قلنا ذلك قبل االحداث الدامية يف لبنان) .وقررت احلكومة �آنذاك �أن ي�ستفيد منها اجلمهور اللبناين ،والقارىء اللبناين والعربي ،وتكون معر�ضاً يتوافد �إليه الأدباء وال�صحافيون والعلماء وطالب العلم واملعرفة وا�ساتذة ا�ست�شراق للنظر فيها وا�ستفادة من قدمها وندرة وجودها. وكان �أن وجه الفيكونت �إىل فخامة رئي�س اجلمهورية اللبنانية عري�ضة �ص ّرح فيها لفخامته بخطورة املجموعة راغباً منه ا�صدار الأوامر ب�إبقائها يف لبنان واحلر�ص عليها حر�صاً �شديداً خوفاً من �ضياعها. ن�ص العري�ضة املذكورة بتاريخ 16متوز �سنة 1946ما يلي: فكان ّ «بعد ت�أدية فرو�ض االجالل واالخال�ص .طالعت يف بع�ض اجلرائد �أن جمل�س الوزراء قرر �أن تدر�س ق�ضية جمموعة ال�صحف ليتبني هل يجب �أن تعترب يف جملة الآثار �أم ال ؟ ف�إذا كان االول حتم ان يحتفظ بهاعم ًال بقانون :حفظ الآثار .و�إلأ فمن اجلائز الت�سامح باخراجها من لبنان. �أ�ست�أذنكم يا �صاحب الفخامة يف الت�صريح ب�أن جمموعة ال�صحف امل�شار اليها يجب ان تعترب بكل حق من �أثمن الآثار التي يفر�ض على لبنان ان يحر�ص عليها لكونها فريدة من نوعها وال نظري لها يف بالد ال�شرق والغرب على االطالق. لعمري كيف ال تعترب هذه املجموعة يف حكم «الآثار « .وقد حوت العدد االول فقط �أو االقدم من كل جريدة ومن كل جملة عربية و�شرقية ظهرت يف اخلافقني؟ ولقد التقطتها بعناء ج�سيم من �أطراف �آ�سيا و�أفريقيا و�أوروبا و�أمريكا ال�شمالية واجلنوبية .وق�ضيت �ستني �سنة كاملة عاكفاً ليل نهار على البحث والتنقيب واملرا�سلة حتى تي�سر يل الظفر بفرائدها وخرائدهاّ .ثم نظمتها تنظيماً جغرافياً وتاريخياً حمكماً لت�سهيل مطالعتها �أو قرائتها؟ ال يخفى على فخامتكم �أن كل كن ٍز ثمني قل من يكرتث له �أو يعرف قيمته ما دام حمتجباً عن االنظار واالب�صار. ولكنه متى عر�ض للعيان جتلت خطورته وتهافت الغادي والرائح لال�شراف عليه والتثبت من حقيقة �ش�أنه. 143
�أعتقد يا �صاحب الفخامة اعتقاداً را�سخاً ان احلكومة اللبنانية متى ت�س ّنى لها تنظيم تلك اجلواهر الثمينة النف�سية ب�شكل معر�ض يف (دار الكتب) تقاطرت جماهري الأدباء وال�صحافيني وعلماء امل�شرقيات من كل حدب و�صوب ليطلعوا عليها وي�ستفيدوا من م�ضامينها ويطلقوا الأل�سنة بالثناء عليها وت�شبت �أقطاب لبنان وقادتها ببقائها يف وطنهم االم. وح�سبي �أن �أذكر لفخامتكم على �سبيل املثل جريدة «لبنان» التي �أ�س�سها يف عام � 1867سلفكم داود با�شا املغفور له ون�شرها باللغتني العربية والفرن�سية يف «بيت الدين» .عا�صمته .فهي بال ريب قطعة �أثرية ثمينة ال نظري لها البتة .وهيهات ثم هيهات �أن تفوز احلكومة اللبنانية يف عهدنا مبثال منها ولئن بذلت مليوناً من اللريات ثمناً لها. قي�سوا عليها مئات و�ألوفاً من ال�صحف الثمينة التي انطم�س خربها وباء �أثرها ومل تبق مكنوزة �إ ّال يف هذه املجموعة فقط. ل�ست �أغايل يا �صاحب الفخامة �أن ّ�صرحت ب�أنه ي�ستحيل على دول الأر�ض طراً �أن تكون جمموعة حتاكي هذه املجموعة بعددها و�أهميتها وترتيبها وكمالها .لأن �أغلب تلك ال�صحف كما تعلمون دخل يف خرب كان و ُن�سجت عليه عناكب الن�سيان .وقد �سبق فريق من هواة الآثار فده�شوا مبا �شاهدوا بينها من �صحف جمة نادرة الوجود منقطة النظري وجاهروا على ر�ؤو�س الأ�شهاد ب�أنه يتعذر احل�صول على النموذج منها ولو ُبذل يف �سبيل م�شرتاه غنى ك�سروان ومال قارون بعد هذا الت�صريح نرى البع�ض واقفني باملر�صاد يحاولون انتزاع هذه املجموعة الفريدة من يد احلكومة اللبنانية بعدما ق ّرر فخامتكم ان ميتلكها ويحر�ص عليها كل احلر�ص. ف�أرجو كل الرجاء من فخامتكم بل �أ�ستحلفكم ب�أع ّز ما لديكم �أن حتولوا دون اال�ستهتار مبثل هذا وت�شددوا الأوامر بابقائها حتت راية الأرز املباركة والعزيزة على قلبكم وعلى ّ كل اجلواهر اليتيمة ّ لبناين خمل�ص� .أطال اهلل تعاىل بقاكم ذخراً وفخراً. فيليب دي طرازي بريوت 16متوز 1946 وكانت هناك جهود مثمرة للفيكونت يف عامل الت�أليف ي�أتي يف مقدمتها :كتابة النفي�س حتت عنوان «تاريخ ال�صحافة العربية» يف �أربعة �أجزاء .وكان باكورة ت�آليفه «تاريخ الدولة امل�صرية يف عهد ال�ساللة املحمدية العلوية» ّمدته خمطوطاً �إىل عبا�س الثاين خديوي م�صر يف عام « ،1899القالدة النفي�سة يف فقيد العلم والكني�سة» .وهو ترجمة الع ّالمة �إقليم�س يو�سف داود مطران دم�شق. واردفها مبراثي املطران يف 20لغة �شرقية وغربية. 144
حتوالت �أدبية
«ع�صر العرب الذهبي» «ع�صر ال�سريان الذهبي» «ملحة تاريخية يف دار الكتب الوطنية» «بحث علمي يف تاريخ القر�آن» .وهناك كتب خمطوطة تركها مل تطبع وال نعلم م�صريها؟. وقد ت ّوج �أعماله الباهرة بت�أ�سي�س دار الكتب الوطنية ووقف عليها تفكريه وعلمه ووقته وماله .و ّعني �أميناً عاماً لدار الكتب من عام 1921اىل العام .1940وكان الرئي�س كميل منر �شمعون موظفاً عند الفيكونت من �سنة 1922اىل �سنة 1924وكانت مهمته در�س الكتب الفرن�سية وتن�سيقها .كما زين دار الكتب ب�ستني �صورة زيتيه متثل م�شاهري علماء لبنان ونوابغه و�أمرائه وحكامه .قد جه ّزها من جيبه اخلا�ص دون �أن يكلف اخلزينة غر�شاً واحداً من �أثمانها. والدته
ولد الفيكونت فيليب يف � 28أيار .1865دخل املدر�س البطريركية يف بريوت يف �سنة .1873مدة �سنتني ،ثم دخل كلية الآباء الي�سوعيني يف بريوت حيث �أم�ضى فيها ثماين �سنوات �إىل �سنة .1883نال على اثرها ال�شهادة العلمية .اتقن اللغات العربية والفرن�سية والالتينية واليونانية .ثم ان�صرف �إىل االعمال التجارية يف مكتب والده الكونت ن�صراهلل .وكان كلما منا يف العمر منا معه حب الدر�س واملطالعة والتناف�س يف جميع الكتب واقتنائها ال يقعده ذلك عن خدمة االن�سانية وامل�صالح الوطنية وجمال�سة الأدباء وال�شعراء ومرا�سلة العلماء والر�ؤ�ساء. تزوج �أوجيني ب�سول يف � 19شباط �سنة .1900 تكرميه
اعتزل الفيكونت �أمانة دار الكتب الوطنية ،وجميع املنا�صب التي تبو�أها يف حياته و�آثر العزلة يف بيته بعيداً عن �أعني النا�س. ولكنه بعد اعتزاله دار الكتب الوطنية يف بريوت� ،آثر ذوو الف�ضل واملروءة �إال �أن يقيموا له احتفاال تكرمييا يف دار الكتب الوطنية بتاريخ اجلمعة � 23شباط �سنة ،1940يليق مبكانته ورفعته برئا�سة الوزير ح�سني االحدب الذي قال فيه : جده وعباته.... «� ....إن ما قام به الفيكونت من العمل الباهر يف دار الكتب الوطنية �آية من �آيات ّ ويا ليت احلكومة ...و�ضعت ت�شريعا خا�صا ا�ستثنت به الفيكونت من قانون بلوغ ال�سن ريثما يتمكن من حتقيق �أمانيه ...وال �سيما ما برح يتمتع بن�ضارة العقل وهمة ال�شباب وامل ّنة هلل تعاىل». ثم تك ّلم بونور م�ست�شار وزارة املعارف اللبنانية واال�ساتذة :عمر فاخوري واليا�س �أبو �شبكة وحليم 145
دمو�س ونور الدين بيهم وهكتورخالط .وختم املحتفى به احلفل مقدما ال�شكر للعزة الآلهية التي �شملته بعني عنايتها وقي�ضت له �أن ينه�ض بتلك اخلدمة ال�شريفة لالمة اللبنانية التي �أ�شادت بناء فخما لت�أمني م�ستقبل دار الكتب وتعزيز مكانتها». ثم �شكر اخلطباء على عواطفهم النبيلة واحل�ضور على حمبتهم م�ؤم ًال ممن خلفوه ومن �سائر املوظفني �أن يثابروا على العمل مبا عهده فيهم من ال�شهامة واالماين والتفاين واالخال�ص». جهوده املثمرة
�أثنى النا�س عليه وعلى �أعماله وان�ضمامه �إىل عدد من اجلمعيات واالندية وامل�ساعي اخلريية التي قام بها .وتعدُ يف طليعة اجلمعيات التي �ساهم فيها «�شركة من�صور دي بول» التي تر�أ�سها ثماين �سنوات ( )1898-1906كما قام بت�أ�سي�س «جمعية امل�ساعي اخلريية ال�سريانية» .وكان والده خري معوان لها يف م�شاريعها اخلريية واالن�سانية و «جمعية العائلة املقد�سة» .وقد توىل رئا�سة كلتيهما زمناً طوي ًال. وجتلت �أريحيته يف �أثناء احلرب الكونية االوىل ( .)1918-1914وقد �ساعد البائ�سني واملنكوبني. ف�أطعم اجلياع وك�سى العراة وتفقد املر�ضى واعطى م�ساعدات مر�ضية لهم ومل مييز طوال حياته بني مذهب ومذهب ودين ودين .وقد ن�شر عنه العامل حممد كرد علي رئي�س املجمع العلمي العربي بدم�شق ،يف جريدته «املقتب�س» يف 11كانون الثاين �سنة ،1918مقاال م�ستفي�ضا عن حمامده ومكارمه ومزاياه ،حتت عنوان «املح�سنون» قال فيه : ومل نر رج ًال مثل الكونت فيليب دي طرازي يف بريوت الذي مل يدع �ستارا يف بيته �إال خاطه �ألب�سة للمحتاجني .وقد جعل ديونه �صباح م�ساء �أن يوزع اخلبز والطحني وااللب�سة على الفقراء واملحتاجني من �أبناء بلدته». �أما جهوده الفكرية املثمرة يف �أثناء وظيفته يف دار الكتب .فقد نه�ض بها نه�ضة مباركة و�ضحى يف �سبيل �إجناحها وثباته باملال الوافر وم�ساعيه امل�ستمرة للعمل. وميكننا تلخي�ص اعماله الباهرة بالآتي: �أحتف دار الكتب الوطنية بخم�سة الآف جملد ونيف بني مطبوع وخمطوط نقلها �إليها تدريجاً من خزائن كتبه منذ العام ،1922وما بعد. ّجهز دار الكتب يف عهدها االول بخزائن ومكاتب ومقاعد وخرائط وطناف�س و�سجوف و�سجالت. دفع من جيبه اخلا�ص رواتب خم�سة موظفني ورواتب حاجبيها مدة �سنتني ،قبل �أن تت�سلمها احلكومة اللبنانية .ويت�ضح هذا من وثائق ر�سمية حمفوظة يف دار الكتب ويف خزائن الفيكونت. 146
حتوالت �أدبية
مل ِ احلمية والغرية �إىل تعاطي ق�سم من تلك يكتف بتعاطي الأعمال يف دار الكتب ،بل دفعته ّ الأ�شغال يف منزله �أيام الراحة والفراغ. ذهب �إىل �أوروبا وم�صر ومعظم البلدان ال�شرقية وح�صل على م�ؤلفات وجمموعات كبرية من الكتب ج ّهز بها دار الكتب .وكان يدفع نفقات رحالته دون �أن يك ّلف اخلزينة فل�ساً واحداً. بلغ جمموع ما ّقدمه �إىل دار الكتب نحو اثنني وثالثني جملداً جمعها كتاباً فكتاباً وكرا�ساً ح�صلها من �أهله و�أ�صدقائه ومن املعاهد فكرا�ساً .فالت�سعة والع�شرون الف جملد �أهداها او ّ العلمية و�أرباب ال�سماحة والف�ضل. �أما الآالف الثالثة الباقية فقد دفعت تكاليفها احلكومة اللبنانية. ز ّين دار الكتب ب�ستني �صورة زيتية متثل امل�شاهري من الرجال والقادة قدمها منن ماله اخلا�ص. �أن�ش�أ يف املكتبة معر�ضا خا�صا �أودعه حتفاً اثرية وكتابية وفنية بينها ما ن�سج بالف�ضة والذهب او ر�صع باللآىلء واجلواهر الثمينة. ّ و�ضع دلي ًال خا�صا باملكتبة مبثابة تن�سيق للكتب العربية مبنيا على العلم واملعرفة والفن واملنطق دعاه�« :إر�شاد االعارب �إىل تن�سيق الكتب يف املكاتب» .و�ضع بت�صرف القراء و�أهل العلم واملعرفة و�أ�صحاب االخت�صا�ص. و�ضع الفيكونت كتابا نفي�سا عنوانه «خزائن الكتب العربية يف اخلانتني»� .ضم ّنه �أخبار املكتبات العربية قدميها وحديثها يف زهاء �ألف ومائتي �صفحة كبرية .وا�ستند يف رواياته اىل م�صنفات االقدمني واملت�أخرين .وكانت املراجع وامل�صادر التي اعتمد عليها تربو على �ستمائة مرجع. وتت�ضح خطورة هذا الكتاب من مطالعة عناوين �أبوابه وف�صوله و�سائر مواده يف فهر�س عام �شامل. وفاته
تويف الفيكونت فيليب يف م�صيفه يف «عاليه» بجبل لبنان .يف منت�صف ليل الثالثاء يف � 7آب �سنة . 1956وكان لوفاته رنة حزن و�أ�سى يف جميع االو�ساط التي ّقدرت �إجنازاته وكان لها �أبعد الأثر. ومن م�آثره الوطنية �أن هناك �أي�ضاً جمموعة خطوط يف ثالثة جملدات انطوت على كتابات مل�شاهري الرجال والن�ساء يف ال�شرق من �سالطني و�أمراء ووزاء وعلماء و�شعراء .وكل من تلك اخلطوط مكتوب بيد �صاحبه ّ ومذيل بتوقيعه .وهناك جمموعة حتت عنوان« :العقد الفريد» .ا�شتملت على ثالثة ع�شر جملداً ت�ضمنت نخبة من ر�سائل كتبها كبار القادة والر�ؤ�ساء �إىل عائلة �آل طرازي يف القرنني التا�سع ع�شر ومطالع القرن الع�شرين .كما �أنه ح�صل على القاب علمية كثرية نالها من 147
�أ�صحاب ال�ش�أن منها :لقب «فيكنت» من بابا روما الون الثالث ،وح�صل على عدة او�سمة من عدة بلدان منها :و�سام جنمة ال�صباح من �سلطان حلج ،والو�سام العثماين الثاين من ال�سلطنة العثمانية، والو�سام املجيدي الثاين من ال�سلطنة العثمانية ،وو�سام ني�شان االفتخار من رتبة كومندور من باي تون�س ،وو�سام اال�ستحقاق اللبناين ،وو�سام االرز من اجلمهورية اللبنانية ،وو�سام املجمع العلمي الفرن�سي. ولي�س لنا يف هذا املجال �إال �أن ن�شري �إىل بيتي ال�شعر اللذين كتبهما حتت �صورته: يا مع�شر ال�صحب ِ ذا ر�سم به اقرتنت ر�سومكم وبها قد �صــــــــــار مزدانا ت�ضـــم معــاً رغما عن الدهر يف ذا ال�سفر �إخوانا فتلك �آثارنا �أ�ضحـــــــت ُ ح�صل من العلوم واملعارف اللغوية والثقافة العالية اويف هذا هو الفيكونت فيليب دي طرزي الذي ّ ن�صيب .وكان كلما كرب يف ال�سن كلما ازدادت حما�سنه و�صفاته و�أخالقه ومزاياه. كانت له �صفاته احلميدة و�أخالقة العالية التي قلما اعتد بها �أو ت�أفف يف ملب�سه ويف م�أكله وم�شربه. ال يخ�ضع �إال للحق ويعامل النا�س معاملة واحدة �سواء اختلفوا يف الر�أي والدين �أو �أتفقوا لأنه يعدهم واحداً يف االن�سانية ويف املجتمع. ا�ستفاد من �سفراته �إىل اخلارج .واح�ضر معه مئات الك ّتاب وامل�صنفات يف �سبيل �إغناء مكتبته بجميع الكتب االدبية والثقافية والفنية والعلمية والطبية. ونقول يف ختام هذا املو�ضوع: �أين �أ�صبحت جمموعة الفيكونت فيليب دي طرازي؟ هل ال تزال باقية ليزين وجودها (املكتبة الوطنية اجلديدة) التي تزمع احلكومة القيام بها �أو �أن�شاءها �أم اختفت و�سرقت ،بع�ضها �أو ق�سم منها ،وال يعلم �إال اهلل �سبحانه تعاىل مكان وجودها� .أم ماذا؟ امل�صادر واملراجع
مو�سوعة �أدباء لبنان و�شعرائه ،دارنوبلي�س ،بريوت .2006 تاريخ ال�صحافة اللبنانية ،ت�أليف فيليب دي طرازي ،بريوت .1913 تنوير االذهان يف تاريخ لبنان ،ابراهيم اال�سود� ،سنة .1927
148
حتوالت �أدبية
امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب
1
وفيق غزيزي � -شاعر ،ناقد وباحث
هذه الدرا�سة حتية �إىل روحه و�إىل �إبداعه
يتعر�ض الناقد الدكتور جان نعوم طنو�س لديوان «املحربة» ،لل�شاعر جوزف حرب ،وامل�ؤلف لي�س م�س�ؤوال عن �آراء ال�شاعر حرب ،بل عمد �إىل غربلتها متخذاً موقفاً نقدياً ،بعيداً عن املدح املقنع، والهجاء ال�ساخر �أو امل�سترت� .إن مهمته �صعبة وجليلة ،ومراده �أن ي�ستخل�ص من تلك الذهنية املانوية التي عمت بالدنا كالوباء :تنزيه الذات وحتقري الآخر� .إن مطلب احلقيقة هو الذي يحررنا من �أغالل البيئة وروا�سبها ».ولئن �صح �أن املجتمع عامة ،واال�سرة خا�صة يبنيان الفرد ب�شكل �أو ب�آخر فال�صحيح �أي�ضا �أن التوق �إىل املعرفة هو من يربي ال�شخ�صية على نحو مغاير فك�أنه يقوم مقام الأبويني والو�سط البيئي». املقد�س واملدن�س
من الواجب �إعادة النظر يف م�سائل ثنائية كاالميان وال�شك ،واجل�سد والروح ،واالر�ض وال�سماء، فكلها مت�ألقات ال متناق�ضات .ولعل �شاعرنا جوزف حرب ي�صدر عن هذا االجتاه معتمداً على حد�سه اال�صيل ،وعلى خمزونه الثقايف ،وجتاربه احلياتية .فكيف نظر حرب �إىل ق�ضية املقد�س ،وما يتفرع عنها من ق�ضايا؟ ! يقول امل�ؤلف« :بداية يرى حرب �أن االنبياء والقدي�سني تعذبوا وا�ضطهدوا يف �سبيل مبد�أ �أعلى يهب احلياة لكل �شيء .غري �أن االر�ض تكاثرت خطاياها ،وكانت هذه االخرية قبل جميئهم والذنب هنا ال يعود اىل ال�شرائع بقدر ما يعود اىل عوامل عديدة ي�صعب ح�صرها منها عمل ّ الكهان
1
جان نعوم طنو�س ،امل�س�ألة الفل�سفية يف �شعر جوزف حرب ،دار النه�ضة العربية ،بريوت .2014
-للأ�سف ال�شديد ،تويف ال�شاعر جوزف حرب عندما كان هذا العدد ماث ًال للطباعة.
149
املجاين للر�سالة ال�سماوية» .والالفت �أن يتغنى ب�شرائع االنبياء �إىل حد مذهل وينعتها بكل �صفة ايجابية كاملالئكة ،واخل�صب ،والعدل ،وال�سالم ،و�سرعان ما ينتف�ض على ذاته �إىل حد الت�شكيك بهذا التمجيد ال�سابق. وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن احلياة اخل�صبة ال تظهر عند حرب يف كبت �أو قمع امليول احليوية ،بل يف التعبري عنها ،وهو التعبري الذي ي�سمى خطيئة .املقد�س عنده لي�س تعزيز الروح على ح�ساب اجل�سد ،بل انطالقة اجل�سد واحلب والغواية �إىل حد يجوز القول ،عنده �أن املبارك الروحي منف�صال عن الغريزي هو ملعون كما �أن هذا امللعون «�إذا نظر �إليه على �أنه ممار�سة احلياة ،هو املبارك عينه وبكلمة ،املقد�س عند حرب هو احلياة نف�سها ،وال �سيما ما يت�صل ب�أهوائها الطيبة وك�أن الدين عنده هو دين اخلطيئة ولي�س دين التقوى والزهد». كما �أن ال�شاعر جوزف حرب يرف�ض ديانة اخلوف التي تن�شىء عبيدا ال �أحرارا ،فك�أنه يردد مع االمام علي بن �أبي طالب�« :إن قوماً عبدوا اهلل خ�شية ،فتلك ديانة العبيد ،و�إن قوماً عبدوه حمبة وتلك ديانة االحرار» .و�إذا قلنا اخلوف قلنا �سلطة مت�سلطة ال ت�شل العقل فقط بل ت�شل ال�شعور واالرادة ولكن نقي�ض اخلوف هو احلب وقد قال هيغل يف هذا ال�سياق�« :إن اهلل هو احلب حل احلب ّ واحلب هو اهلل ،وال يوجد الهوت �آخر غري احلب ..ف�إذا ّ وحل اهلل بني الب�شر هكذا ميكن �أن توجد �آلهة» .اخلوف من وجهة نظر امل�ؤلف موت النف�س ي�ستحق العقل ومييت الأ�شواق اخلرية وبد ًال من ان تنفتح ورود اجلمال واحلبُ ،يغل االن�سان يف قيود الكراهية والتبعية والتمرد ال�سلبي. اجلن�س املقد�س
يرى بع�ض الفال�سفة واملفكرين قدمياً وحديثا �أن امل�سيحية قلبت ر�أ�سا على عقب القيم الدينية الوثنية و�أف�سدت العالقة بني املقد�س واملدن�س .فبد ًال من متجيد اجل�سد وتكرمي املر�أة ،نادى �آباء الكني�سة بالويل والثبور ،حتى �أنهم حقّروا الغرائز وازدروا االنوثة .وعو�ضا عن احرتام العقل وقدرته على ت�صحيح �أخطائه ،ب�شروا ب�سلطة اميانية تفر�ض على النا�س قر�ضاً ،خلقوا ّهوة �شا�سعة بني العقل واملمار�سة وبني الوثنية والدين النا�شىء .ويذهب ه�ؤالء الفال�سفة واملفكرين �إىل �أن املقد�س امل�سيحي هو املدن�س عينه كما �أن املدن�س الوثني الذي طاملا نظر �إليه با�ستخفاف هو املقد�س احلقيقي .ويرى البع�ض بوجود تيارين متناق�ضني :عبادة اجل�سد عند الوثنني ثم عبادة الروح عند امل�سيحيني.
150
حتوالت �أدبية
و�إزاء هذه اال�شكالية يت�ساءل امل�ؤلف« :فما هي نظرة جوزف حرب للج�سد والعبادات القدمية؟ وهل �ألغى ثنائية الروح والدين ،ومن ثم الغى ال�صراع العقيم بني قطبي النف�س الب�شرية؟ و�إىل �أي حد ن�ستطيع التمييز الفا�صل بني احلب اجلن�سي والتهتك االباحي؟ لعل يف ف�صل «ال�سيدة ال�شجرة» وف�صل «ال�سيد الف�أ�س» الواردين يف املحربة ما يجيب عن �أ�سئلة مقلقة قد تهز وجدان امل�ؤمن هزاً عميقاً». فاللذة لي�ست هدفا يف حد ذاتها و�إال حتولت �إىل �إباحية� .إنها ح�سب ر�أي امل�ؤلف هذه املر�أة مرتبطة بطقو�س دينية وثنية هي طقو�س اخل�صب .فالكون عبارة عن تالقح الذكورة باالنوثة ،واالن�سان بوا�سطة اجل�سد هو الذي يعني الطبيعة على خ�صبها ويجددها« .ولعل االن�سان املعا�صر ي�ستخف بتلك الطقو�س ،ولكنها قدميا كانت تكت�سي بطابع مقد�س» .وعلى هذا النحو �أ�صبحت املر�أة تتكافل مع االر�ض تكافال �سريا ،وبدت الوالدة على �أنها �صورة من �صور اخل�صب االر�ضي باملقيا�س الب�شري ،وان جلميع التجارب الدينية املت�صلة باخل�صب وباملولد ،بنية كونية� .إن قدا�سة املر�أة ترتبط بقدا�سة االر�ض .وللخ�صب الن�سوي ! منوذجاً كوين! منوذج االر�ض! الأم الكلية .وهكذا يقول امل�ؤلف «تعطي امر�أة �شاعرنا عطاء كلياً ،فلي�س فيها ما هو غري طبيعي ،الن الالطبيعي هو الذي ي�سري عك�س جمرى الطبيعي .وامل�س�ألة هنا ال تتعلق بثنائية العهارة والطهارة ،فرمبا ي�ؤدي الكبت املت�شدد اىل �ضربني متناق�ضني ومتكاملني :الطهارة التي قد تنقلب �إىل �إباحية .وهذه االخرية قد ت�ؤول �إىل روحانية مف�صولة عن اجل�سد». �إن القيم امل�سيحية هي التي ر ّو�ضت الوح�ش الروماين ،وقل�صت �أظافره وزرعت يف تربته القاحلة �شيئاً من الروحانية ،ول�سنا جند حيال م�شاهد الت ّعهر واالغت�صاب ،ما نقوله غريكلمات القدي�س بول�س« :لو كنت �أنطق ب�أل�سنة النا�س واملالئكة ومل تكن يف املحبة فامنا �أنا نحا�س يطن �أو �صناج يرن .ولو كانت ّيف النبوة ،وكنت �أعلم جميع اال�سرار والعلم كله ،ومل تكن ّيف املحبة ،فل�ست ب�شيء .املحبة تت�أنى وترفق .املحبة ال حت�سد .املحبة ال تتباهى .ال ت�أتي قباحة وال تطلب ما لنف�سها. ال حتتد وال تظن ال�سوء .ال تفرح بالظلم ،بل تفرح باحلق»ّ . ويعظم جوزف حرب املر�أة يف الع�صر االموي تعظيما �شبه �أ�سطوري على عادة ال�شعراء الرومانطيقيني وال�سرياليني. والالفت ح�سب اعتقاد امل�ؤلف �أنه يقيم تناق�ضاً ،ولو خفياً ،بني دين اللذة ودين التقوى فاالول رمزه �أدوني�س وديوتي�سو�س ،والثاين رمزه القدي�سون االطهار« ،الدين االول �أموي بامتياز لإت�صاله باالر�ض واجل�سد والغرائز ،بينما الدين الثاين ذكوري الت�صاله بال�سماء والروح والت�سامي .فلي�س غريبا �أن يعبد الرجل املر�أة مع �أنه قدميا عبد �آلهة ذكوراً» .ال�شاعر جوزف حرب منحاز �إىل االنوثة، ويرى ال�سعادة يف اجل�سد ال يف الت�سامي والكتب ،يف االر�ض ولي�س يف ال�سماء.
151
الفناء املرعب
�إن �شاعرنا �صادق مع نف�سه ال يكبت م�شاعره فقد ا�ستطاع �أن يبدع لنا ن�صاً من ن�صو�صه ال�ساحرة فاخلوف من املوت هو اخلوف على احلياة نف�سها ،ومن ال ي�شعر بهذا اخلوف من ال�صعب القول �أنه عا�شر احلياة ب�ألوانها املختلفة .ويلفت امل�ؤلف النظر �إىل �أن �صاحب املحربة ال يطيق الوداع والتخلي عن هذه االر�ض لو بعث من عامل �آخر �أكرث جماال� ،أو �أكرث �سوءاً من عاملنا هذا .فمن يخيرّ بني ممار�سة اجلن�س وجمع �أموال الدنيا وبني حب البقاء؟ «فهذا النزوع هو الذي يجعل ال�شاعر مت�شبثا يف�ضل «الهنا» على «الهناك» ،وال عجب ف�إن اخلوف من املوت يف ر�أي املاديني هو موجد باحلياة ّ العوامل املاورائية وع ّلة ن�شوء الأديان فما يتمناه حرب هو العي�ش على هذه االر�ض �شريطة ان تن�أى عنه عاهات الروح واجل�سد على �أن هذا التمني نابع من جزع الرحيل وهو �شعور �صادق طبيعي». �إن حرب كما نرى ال يطيق فراق هذه االر�ض التي يراها احلقيقة االوىل واالخرية وكيف يفارقها وهو ال ي�ؤمن بعوامل �أخرى ،وال ثقة له بكالم قدي�س �أو كاهن؟ وباعتقاد امل�ؤلف �أن م�س�ألة خلود الروح هي عند جوزف حرب �أمر م�ضحك ولو عرب حرب عن �شكوكه لكان االمر مقبوال �أما �أن يعد املاورائيات �شيئا �سخيفا فكالم يفتقر �إىل اجلدية والعمق خ�صو�صا �أن فال�سفة عظاماً كانت لهم �آراء ذات �ش�أن يف هذه امل�س�ألة اخلطرية ولعل م ّرد هذا اال�ستهزاء بقول امل�ؤلف «يعود �إىل املادية الغليظة التي متّ�سك بها حرب ،وك�أنها احلقيقة املطلقة التي ال ي�أتيها الريب من �أمامها ومن خلفها». �إن تنطح العقل ال�ستجالء �أ�سرار احلياة واملوت �أمر خميف ،يورث الدوار ورمبا اخليال .فكيف ن�ستطيع االميان مبا هو فوق املح�سو�س ما دمنا ا�سرى هذا املح�سو�س؟ وكيف نتف ّلت عن قيد الزمان واملكان ونحن قد كبلنا انف�سنا بهما؟ لقد فقد حرب كما يراه الدكتور جان نعوم طنو�س ،جتربة الرجاء التي تختلف عن االمل ،فهذا االخريمت�صلب �أمنيات قد تتحقق� .أما الرجاء « فهو االمل ادلهم الظالم ،و�أحاطت بنا احلرية .ولعل تاريخ ب�أمور غري يقينية ،وقد ي�شتد هذا الأمل كلما ّ ال�شعوب والأفراد �شاهد على هذا االميان الذي يزحزح اجلبال» فحيثما طالعتنا االنقا�ض ،ر�أينا االن�سان وينتف�ض على الدمار واملوت. غمو�ض املطلق
ما ت�صور الب�شر اهلل �إال �أ�سقطوا عليه جتاربهم الب�شرية ،حتى لي�صح قول �أحد املت�صوفني« :ما و�ضعناه بو�صف �إال كنا نحن ذلك الو�صف» .لكن املطلق يتعاىل على الق�صورات الب�شرية ،على نقي�ض ما ذهب �إليه الفيل�سوف فيورباخ القائل �إن �سر اهلل هو �سر االن�سان نف�سه .فهذا الفيل�سوف يف ر�أيه ،هو 152
حتوالت �أدبية
الذي �أخرتع الفكرة االلهية ،و�أفرغ فيها �صفات االن�سان وميوله اخلا�صة .ومن وجهة نظر امل�ؤلفني هذا الر�أي فيه �شيء من احلقيقة ،بدليل �أن اهلل يرتاءى تبعا للحالة احل�ضارية ،رباً �شبيها بالطاغية، كما يرتاءى �أي�ضا �إلها حنونا يرت�أف ب�أبنائه فالثابت ان املجتعات امل�ستبدة وامل�ستغلة تنتج �إلها على �شاكلتها ،يف حني �أن املجتمعات العادلة ال ترى فيه اال طاقة حمبة ورحمة .غري �أن لالن�سان نف�سه دوراً يف هذا ال�ش�أن فكل معبود ي�شابه عابده. ولكن جوزف حرب يخطىء �إذا يدعو اهلل «�أنا» ذلك �أن كل �إجناز عظيم يتجاوز «الأنا» على الرغم من جذوره ال�ضاربة فيها «العالقة ب «الأنت» هي �سر العاطفة الدينية التي تتجلى يف عالقة االن�سان ب�أخيه االن�سان ،وبالطبيعة وباهلل»� .إن اهلل يف ذات االن�سان ولكنه لي�س ذات هذا االن�سان حتديدا فهو ما يتجاوزها. واملثري للده�شة �أن جوزف حرب تارة ي ّنزه الن�ص الديني من كل عنف و�إرهاب ،وتارة �أخرى يتهمه بالطغيان والق�سوة .هذا التناق�ض بني ال�سلب وااليجاب يطبقه على اهلل نف�سه ،وجودا ونفيا اهلل حمبة وال�شرائع يجب ان ت�ستلهم .ذلك ال�شعور ال�سامي الذي ي�صيرّ االن�سان �إن�سانا واهلل متجليا يف خملوقاته على �أن �شاعرنا يذكر م�شكلة االمل التي ال حل لها وا�ضحا يف هذه الدنيا الفانية. ويقول امل�ؤلف« :لعلنا ن�شاطر ال�شاعر قلقه فال حل جذريا� ،أو عقليا مل�شكلة الأمل وال�شر» .وثم من يقول :وان وجود ال�شر لي�س عقبة تعرت�ض االميان باهلل ،وامنا ال�شر برهان على وجود اهلل ،وحتد للعودة اىل من ينت�صر فيه احلب على البغ�ض واالحتاد على االنق�سام واحلياة االبدية على املوت». ان جوزف حرب م�ؤمن على طريقته اخلا�صة ،ولكنه م�ؤمن ي�شك بالت�صورات الدينية ال�شائعة �أن يف �أعماقه بذرة �إلهية ال متوت .ولعلها هي التي دفعته اىل كتابة «املحربة» رغبة يف اكمال عملية اخللق .وبعد�« ،أال يتجلى اهلل يف ال�شك والعذاب والتوق اىل االكتمال؟ �أيكون اهلل مع الغني املطمئن اىل اقواله ،وال يكون مع الفقراء القلقني على اوالدهم؟ �أن امل�ؤمن الالمبايل ،امل�ؤمن الرنج�سي� ،أبعد ما يكون عن اخلري املطلق �أما ال�شاعر ال�شكاك فهو االقرب �إليه لأنه يفت�ش عن احلقيقة حتى لو مل ي�صل �إليها». كتاب الكون وت�صحيحه
يلج�أ الفكر احلديث �إىل عملية قلب القيم ال�سائدة منذ ن�شوء االديان التوحيدية ف�إذا كان اهلل يق�ض حمور الوجود قدمياً فاالن�سان هو الذي يقوم الآن بهذا الدور و�إذا كانت اخلطيئة �شبحاً مرعباً ّ امل�ضاجع ،ف�إنها ت�صبح يف هذا الع�صر عودة �إىل الرباءة وكماال لل�شخ�ص الب�شري �أما اجل�سد الذي ُرذل قدميا ف�إنه ي�ستعيد مكانته ليجوز القول ان ح�ضارتنا هي ح�ضارة اجل�سد ويقول الدكتور جان 153
نعوم طنو�س يف هذا املجال« :لي�س غريبا �أن جند �شعراء ومفكرين ي�ؤثرون قابني على هابيل واحلياة املغوية على بالدة �آدم كما ي�ؤثرون التمرد على الطاعة ال�سلبية والعقل على االميان وقل االمر نف�سه يف اجلنة واجلحيم فلم يعودا مكانني يف العامل املاورائي ،و�إمنا هما حالتان نف�سيتان معي�شتان على هذه االر�ض .وها هو �إبلي�س �أو ال�شيطان ي�ستحيل كائنا نورانيا نبيال عند ال�شعراء الرومانطيفيني. وال �سيما عند بايرونو وهوغو ودوفيني». ويف �سياق تيار احلداثة كتب ال�شاعر جوزف حرب «املحربة» وفيها ف�صل عن ابلي�س بعنوان «الناقد» غري �أنه ال يعتقد بوجوده امليتافيزيقي بقدر ما اتخذه رمزاً �إىل االن�سان املت�سائل ال�شاك املنقّح لكتاب الكون ،وما يت�ضمن من ت�صورات ب�شرية ودينية �شائعة. وعندما ننزع �صفة املقد�س ح�سب اعتقاد امل�ؤلف نتيح للعقل �أن ي�شك وينقّح باب التجارب التي ال حت�صى تلك هي اخلطوة االول التي تعيد �إ�صالح الكون� ،إن �صح التعبري. ففي مقابل املطلق حيث ال نقا�ش وال حوار يحل الن�سبي مبا ينطوي عليه من وعد وامكانات خبيئة من هنا يرى �إبلي�س ال�شاعر �أن ن�ص اخلالق �سبحانه وتعاىل قليل الفعالية ولعله ي�شري �إىل الت�صورات الدينية ال�سائدة. ويف احلقيقة ال يكفي �أن نف�سر العامل ولكن علينا بقول امل�ؤلف« :تغيريه تلك هي �صرخة �إبلي�س يف �شعر جوزف حرب .فلقد كان ال�شيطان مغريا للعامل ولكنه مل يدع �إىل ال�شر كما يقول ال�شاعر فما �أغرى �أحدا بارتكاب االثم وال �أقام �سحرا ومل ينب معبدا ومل ين�شر اخلطيئة»� .إنه �إذاً العقل الب�شري الذي �صوره الكهان ب�صورة �إبلي�س. و�إذا كان جوزف حرب يقر�أ �أعمال العقل فان الكثري من الفال�سفة والالهوتيني ال يف�صلون بني مملكة العقل ومملكة الروح �شريطة ان تكون االخرية متفتحة وال نهائية .وبكلمة موجزة العلماء والفال�سفة �أ�صدقاء احلقيقة االميانية �شريطة ان تكون منفتحة فلي�س بعجيب �أن يت�سبب حرب ب�آثار العقل ويجد فيها ما يخدم االن�سان اكرث من احلقائق الدينية التي حنطها رجال الدين. الأر�ض هي املهد والقرب معاً. طاملا كانت االر�ض مو�ضع ازدراء عند بع�ض الفال�سفة ك�أفالطون الذي ف�صل ف�صال تاما بني عامل املح�سو�سات وعامل املثل فامتهن املادة وما يت�صل بها من رغبات يراها �شريرة فا�سدة ومل ي�سلم املت�صوفة من هذه النظرة ال�سلبية ف�أداروا ظهورهم للدنيا الفانية �أو لوادي الدموع كما يقولون وتاقوا �إىل دنيا البقاء �إىل دائرة النور متذرعني �أن احلياة الدنيوية تخلو من ال�سعادة احلقيقية وما من هجاء وجه �إىل املادة حتى �أن الالهوت امل�سيحي احلديث قام بنوع من الثورة �أعظم من هذا الذي ّ اجلديدة حماوال التوفيق بني ما ّعد متناق�ضات ال �سبيل �إىل التوفيق بينها. 154
حتوالت �أدبية
ولعل كلمة االر�ض يقول امل�ؤمن :قد تعني �أمورا كثرية� .إنها تعنى اجل�سد والغرائز واملر�أة �إ�ضاعة �إىل الهدف االق�صى للحياة من الطبيعي �إذن� ،أن يت�شبث الفكر املعا�صر مبا رذل وقمع قدميا واذا باملقايي�س تنقلب ر�أ�ساً على عقب فتغدو االر�ض مطلقا جديدا وترتاجع الدوافع الروحية واذا باالن�سان نف�سه حفنة من الرتاب ت�أويه يف قربتنهي فيه الآمال». تلك هي الفل�سفة املادية التي ي�ؤمن بها بع�ض �أرباب احلداثة الفكرية وال�شعرية ومنهم �شاعرنا جوزف حرب. وي�شري امل�ؤلف �إىل �أن الأر�ض يف ن�صو�ص املحربة حلرب هي اخلالقة ،وباعثة احلياة يف كل �شيء يف حني ان الت�صور الديني يغزو قوة اخللق اىل اهلل �سبحانه وتعاىل حتى ليبدو �سيد االر�ض وال�سماء ولي�س يف �شعر حرب ما يغيد وجود قدرة تعلو على املادة بل �إن الأر�ض تكت�سي �أبعاداً رمبا ال تخطر على بال فرنى االر�ض �إمر�أة بنوع من الت�شخي�ص ال�شعري تعاين �سبق ال�شهوة « وت�سكنها امومتها للكائنات.نهدها يدر لبنا وعيناها برئيتان �سماويتان فال �إثم فيها وال خطيئة ورمبا �أوما ال�شاعر �إىل عملية اخل�صب يف الطبيعة فك�أن مواليدها (�أ�شجار والنباتات والنا�س) ال يخلقون �إال بعد �شهوة جن�سية كاملر�أة متاماً �إىل �أن حتني حلظة الو�ضع «ح�سب قول امل�ؤلف». ما ينطبق على ربات اخل�صب واجلن�س ينطبق على ع�شيقة �شاعرنا وال عجب ف�أولئك الإالهات يرمزن �إىل الأر�ض نف�سها فهن عذراوات يحبلن وهن االمهاب يلدن ورمبا تكون هذه الفقرة را�سخة عند عدد من ال�شعراء واالدباء. �إن فكرة االر�ض العذراء االم .من منظور امل�ؤلف غائرة من القدم وقد ا�ستهوت خيال ال�شاعر حرب خ�صو�صا �أنه ي�صدر �أحيانا عن نظرة مادية فكيف ال ّميجد الأر�ض وهو فيها و�إليها يعود بعيدا من �أي عزاء ما ورائي� .إن �أمومة الأر�ض را�سخة يف العقل البدائي واملخيلة ال�شعرية� ،إن جوزف حرب يرى يف االر�ض حبيبة النه يجب احلياة احللوة فيها فلوالها ال�ستحال البقاء حتما. ويرى امل�ؤلف �أن االر�ض ترتاءى لل�شاعر حرب.النبع االبدي والبيت الكوين وحار�سة احلياة من الفناء �أما عري�سها فهو املاء املخ�صب وما اجلبال �إال بطون هذه االر�ض بينما ميثل الطني �أداة اخللق والتوليد.
155
دار كتب للن�شر �ش.م.ل.
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
وقائع م�رشقية
امل�سيحية امل�رشقية ...حتديات وحلول و�سام عبد اهلل � -إعالمي
ارتفع ال�صوت يف الآونة االخرية حول امل�سيحية امل�شرقية مبا تت�ضمنه من حتذير للخطر الذي يتعر�ض لها امل�سيحيون امل�شرقيون من تهجري يف خمتلف البلدان ولأ�سباب خمتلفة ،ففي فل�سطني �أ�صبح عدد امل�سيحني على �أبواب القد�س وبيت حلم �أقل من عدد ال�سياح الذي يزورونها، يف العراق هجرة جماعية منذ االحتالل االمريكي مبا يعادل املليون م�سيحي ،يف لبنان هاجر امل�سيحيون ب�سبب احلرب االهلية وي�ستمر النزف نتيجة احلياة ال�سيا�سية واالقت�صادية املرتدية يف البالد ،و�أخرياً يف �سوريا وب�سبب املعارك التي جتري يف البالد مل ترتك كني�سة وديراً من نارها .و�إن خطر ا�ستمرارية الوجود يف املجتمعات امل�شرقية ي�أتي من طرفني االول هو االحتالل الإ�سرائيلي وممار�ساته على االر�ض ،والثاين هو من دخول احلركات املتطرفة اال�صولية على خط االزمات مما �شكل تهديدا لكل املجتمعات ،فكانت حادثة خطف مطراين حلب للروم الأرثوذك�س وال�سريان الكاثوليك وتدمري الكنائ�س يف معلوال واال�ضرحة واجلامع االموي يف حلب �أبلغ ر�سالة عن خطر هذه املجموعات. كل هذه املخاطر تطلب من منظمات وكتاب ومفكرين و�سيا�سيني لكي يتداعوا بالكلمة والعمل للتحذير من هذه املخاطر وطرح م�شاريع لوقفها قدر االمكان. امل�ؤمتر العام االول مل�سيحي امل�رشق
عقد يف بريوت يف 2ت�شرين الثاين امل�ؤمتر العام االول مل�سيحيي امل�شرق بدعوة من اللقاء امل�سيحي بيت عنيا يف لبنان ،وكان امل�ؤمتر مب�شاركة ممثلي دول لبنان و�سوريا واالردن وفل�سطني والعراقوم�صر .ي�شري امل�شاركون يف امل�ؤمتر �أن �سبب هذا اللقاء هو نتيجة الظروف التي متر بها املنطقة من ازمات وحروب داخلية وا�ستمرار االحتالل اال�سرائيلي مبمار�سة �سيا�سته القمعية ،بالإ�ضافة �إىل دخول العامل التكفريي على �أزمات امل�شرق مما �شكال تهديدا لكيان الدول واملجتمعات ب�شكل عام وعلى امل�سيحيني ب�شكل خا�ص نتيجة ا�ستهدافهم ب�شكل وا�ضح وممنهج. 157
و�ألقت الوفود امل�شاركة كلمات �أو�ضحت وجهة نظرها يف كيفية احلل ق�ضية الوجود امل�سيحي يف امل�شرق ،ف�أكدت على �أهمية تعزيز مفهوم املواطنة و�إقامة الدولة الوطنية اجلامعة و�ضرورة مواجهة االخطار املحدقة من احلركات التكفريية ،كما �شددت على �ضرورة وقف هجرة امل�سيحيني عرب جعلهم �شركاء حقيقيني يف القرارات ويف احلكم. وقد �ألقى النائب العماد مي�شيل عون كلمة �أ�شار فيها �إىل �أن مقاربة الواقع امل�شرقي من منطلق �أقليات واكرثيات هي مقاربة خاطئة «فهذه البالد منذ فجر التاريخ هي ثمرة تراكم معريف ثقايف ل�شعوب كثرية وديانات �شتى منذ ما قبل التوحيد .تراكم جمعته الأقليات والأكرثيات معاً يف مزيج عز نظريه ،وتقلبات غريت التوجهات ال�سيا�سية و�أبقت على التنوع املجتمعي والثقايف داخل اجلغرافيا ،ولطاملا كانت هناك اكرثية باتت �أقلية ،وبالعك�س ،وهذا منوذج فريد للغنى الروحي والثقايف واملعريف ،يقت�ضي منا جميعا املحافظة عليه وحمايته يف �إطار احرتام حرية املعتقد والر�أي والتعبري وحق االختالف ،مع الت�شبث بهذا امل�شرق». و�أو�ضح �أن تخطي اال�صولية التكفريية واالنتقال �إىل الدميقراطية املدنية لي�س بامل�ستحيل «نحن فنقول �إن الإن�سانية مل حتقق �شيئا مل يبد يف البدء م�ستحيال �أو �شبه م�ستحيل؛ من الغو�ص يف عمق البحار �إىل ا�ستك�شاف الكون ،مرورا بجميع االخرتاعات التي بدلت وجه احلياة االن�سانية. وما نتمناه اليوم قد تخطته �شعوب كثرية وكان حلمنا منذ قرن ونيف ،فهل يجوز �أن نبقى يف تلك امل�ستنقعات؟». �ألقى كلمات الوفود ،الوفد الأردين الوزير ال�سابق وا�صف عازر ،والوفد ال�سوري النائب الدكتورة ماريا �سعادة ،والوفد العراقي الوزيرة ال�سابقة حلقوق الإن�سان وجدان ميخائيل �سامل ،والوفد الفل�سطيني ع�ضو اللجنة التنفيذية ملنظمة التحرير الفل�سطينية حنا عمرية والوفد امل�صري رئي�س احتاد املنظمات القبطية مدحت قالدة. واختتم اللقاء بالتوافق على �إن�شاء اللقاء امل�سيحي امل�شرقي واعتبار املجتمعني اليوم نواته الت�أ�سي�سية الأوىل مع ترك باب االن�ضمام �إليه مفتوحا ،وت�شكيل جلنة متابعة �ضمنها �أمانة �سر للقاء تت�ألف من مندوبني عن كل وفد م�شرقي ملتابعة تو�صيات اللقاء وخطط العمل املقرتحة. كتبوا عن امل�سيحية امل�رشقية..
كتب رودولف القارح يف جريدة االخبار يف عددها ال�صادر يف � 19أيلول 2013مقاال بعنوان «امل�شرقيون امل�سيحيون والتحديات الوجودية» وهي ورقة قدمت للقاء بيت عنيا الذي تناول ق�ضية الوجود امل�سيحي امل�شرقي� ،أ�شار الكاتب يف مقالته ب�أن املجتمعات العربية امل�شرقية تواجه بكامل مك ّوناتها ومنها املك ّون امل�سيحي حتديات وجودية تطال عي�شها وكينونتها وم�صريها يف ظروف من 158
وقائع م�رشقية
العنف املبا�شر املد ِّمر ،و�أو�ضح الكاتب ب�أن املجتمعات العربية وحتديدا امل�شرقية تتميز» مبوروث غني عن القول �إن عوامل ُّ ت�شكل ب�شري تعددي �أنتجته حركة تاريخ �شديد الغنى والتع ُقّدٌّ ... �صانع �أحادي فح�سب ،بل هي نتيجة تفاعل عنا�صر عدة من اجتماعية هذه ال�شخ�صية ال تعود �إىل ٍ وثقافية وفكرية وتربوية ودينية و�إميانية و�أخالقية ونف�سية». يقول الكاتب ب�أن املنطقة امل�شرقية تتعر�ض منذ �سنني حلركتني متناق�ضتني ،الأوىل «حركة التجمع التف�سخ والتم ّزق والت�شرذم املجتمعي ،غايتها االرتداد �إىل �أمناط من ّ تهدف �إىل ّ ال�سابق لبناء الدول واملجتمعات الراهنة -وهو وهم على �أية حال»� ،أما الدينامية الثانية التي ُ والتوحد (�أجل�أ �إىل هذه العبارة هنا ملا والتعا�ضد ي�شري �إليها فهي «دينامية التكامل والت�شا ُرك ّ التوحد، واع وعقالين) .هذه الدينامية اجلامعة القائمة على �إرادة ّ ترمز �إليه من قرار �إراديٍ ، تهدف �إىل تطوير املجتمعات والدول امل�شرقية دون تقوي�ضها وتدمريها ،حمرتم ًة املوروث الذي بناه التاريخ دون جتميد». عما ميكن ت�سميته ا�ست�سها ًال الوجود امل�سيحي يف امل�شرق العربي» هو ي�ؤكد الكاتب «�أن الدفاع ّ يف احلقيقة دفاع عن املجتمعات العربية امل�شرقية بر ّمتها ،وهي امل�ستهدفة بالتحديد» ،كما �أكد على «�إنّ املجتمعات امل�شرقية يجب �أن حتمي نف�سها بنف�سها ،فتحمي بالتايل مك ّوناتها التاريخية املوروثة، وذلك من خالل بناء َ املواطنة القائمة على �سيادة القانون العام امل�شرتك ،وتفعيل امل�ؤ�س�سات اجلامعة». وي�شري �إىل �ضرورة الدفاع عن الفل�سطينيني امل�سيحيني �ضمن �إطار الدفاع عن الق�ضية الفل�سطينية، «نكاد نقول �إنّ خط الدفاع الأول عن العرب وامل�شرقيني امل�سيحيني كان يجب �أن يكون بادئ ذي بدء يف فل�سطني وعرب الدفاع عن ق�ضيتهاّ ،مما كان وفّر على اجلميع امل�شهد ال�سائد راهناً». حتت عنوان «حقائق ومغالطات حول تاريخ امل�سيحية امل�شرقية :الوجود والدور «كتبت اال�ستاذة اجلامعية حياة احلريري مقالة يف جريدة «االخبار» يف عددها ال�صادر يف 11ت�شرين الثاين ،2013 «تعمقوا يف الديانة الإ�سالمية وتعاليمها جلهة ف�أ�شارت �إىل الدور امل�سيحي مع ظهور الإ�سالم ّ االنتماء العربي ،وان�صهروا يف جمتمعاتها مع احلفاظ على انتمائهم الديني .ومل يكن هذا الوجود �شكلياً ،بل ّ �شكل امل�سيحيون مدماك احل�ضارة العربية الإ�سالمية عرب الدور الذي لعبوه يف حركات الرتجمة والتي �ساعدت امل�سلمني على ن�شر ح�ضارتهم وثقافتهم ،ويف تب ّوء عدد منهم املنا�صب الر�سمية». و�أو�ضحت �أن �أبرز �إجنازاتهم منذ بدايات القرن التا�سع ع�شر هو �إدخال ال�صحافة «�أبرز �إجنازات امل�سيحيني يف امل�شرق العربي و�صو ًال �إىل م�صر كان �إدخالهم ال�صحافة على املجتمعات العربية، والتي لعبوا من خاللها دوراً بارزاً يف احلفاظ على اللغة العربية والتم�سك بها ،ويف ن�شر الوعي القومي بني جميع مكونات املجتمع العربي عرب الدفاع عن الق�ضايا العربية الوطنية ،ال �سيما حماربة 159
االحتالالت الأجنبية بدءاً من ال�سلطنة العثمانية و�صو ًال �إىل االنتدابني الفرن�سي والإنكليزي، فمحاربة �إ�سرائيل». و�أكدت الكاتبة �أن النكبة التي تعر�ضت لها فل�سطني على �أيدي االحتالل اال�سرائيلي كانت «يهدد املجتمعات العربية ال�شرارة االوىل لهجرة امل�سيحيني من فل�سطني ،كما �أ�شارت �أن اخلطر ّ كافة ،امل�سيحية والإ�سالمية .لذا ،ف�إن امل�س�ؤولية ال تقع على امل�سيحيني وحدهم يف حماية وجودهم، بل �أي�ضاً على امل�سلمني يف الدفاع عنهم ،لأنهم �أبناء هذه الأر�ض العربية ،وحاملو ق�ضاياها الوطنية وفكرها القومي منذ القدم».
160
مت اكت�شاف هذه القطع الأثرية يف تل براك (جنر قدمياً)� ،سوريا .وتعود للفرتة 3500-3700قبل امل�سيح .نقّب يف هذا املوقع الأرخيولوجي «ماك�س مالوان »Max Mallowanيف العامني 1937و .1938ولقد وجد معظم هذا النوع من الآثار يف «معبد العني» ،ويرتاوح حجم كل من هذه املج�سمات الثالث بني 10و� 20سم .وجم�سمات العيون ترمز �إىل االنتباه �إىل الآلهة يف ح�ضارات ما بني النهرين. (جمموعة خا�صة)
�سورية من احلرب واملجاعة �إىل م�ؤمتر ال�صلح
املجلد الأول من كتابات الدكتور خليل �سعاده� .سي�صدر قريباً عن م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة. يحوي هذا املجلد على تعليقات امل�ؤلف على املجاعة التي اجتاحت �سورية خالل احلرب الكربى� ،إ�ضافة �إىل �سل�سلة من الأبحاث والدرا�سات التي ن�شرها يف مغرتبه الأمريكي اجلنوبي ما بني ال�سنوات 1914و.1920 لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم
العدد �آذار
2014