العدد االول � -أيار
2013
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
د .عادل �سمارة تركيا وكيل للمركز العميد الركن اليا�س فرحات الو�ضع الع�سكري االمريكي يف العامل �سركي�س �أبو زيد �سوريا والق�ضية الفل�سطينية حممود حيدر اجليو�سرتاتيجيا العراقية
ملف العدد : د .عادل �ضاهر د .عاطف عطية ن�صري ال�صايغ �سميح حمودة
عبداهلل حمودة املعاهدة االردنية اال�سرائيلية
العلمانية اليوم
الدين والدولة والعروبة بني الف�صل والو�صل
كنت قبل اليوم أنكر َصاحبي ُ كل ص ٍ ورة لقد َ صار قلبي قابالً َ ُ ألوثان وكعب ُة ط ٍ ٍ ـائف وبيت ٌ
هت بدين أدين ِ ِ توج ْ الحب أنّى ّ ُ
إذا لم يكن ديني إلى ِ دينه داني ْ
فمرعى ً وألواح ُ
ٍ ودير لرهب ِ ان لغزالن َ ٌ ُ َ ٍ ومصحف قرآن توراة ُ
وإيماني فالحب ديني ركائبه، ُّ ُ َ ابن عربي
العدد رقم � - 1أيــار 2013
املحتويات
فـ�صـل ـيـة فـكريـة ثـقافيـة تـعنى ب�ش ـ�ؤون امل�شــرق
امل�رشق
كلمة التحرير 3
النه�ضة �أوالً
العلمانية اليوم 7
81
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
95
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية
107
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
45
الدين والدولة والعلمانية
55
العروبة والدين والف�صل بينهما
71
االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية
بعد انق�ضاء ت�سعة ع�رش عاما ً على املعاهدة الأردنية -الإ�رسائيلية
املنطقة والعامل 113
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
129
أوروبيون ميانيون ال � الب َبر... رَ ّ ّ
141
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
حتوالت
ف�صلية ،فكرية ،ثقافية ،تعنى ب�ش�ؤون امل�شرق واملنطقة
هيئة التحرير
د .فاتن املر د .عاطف عطية ح�سن حماده ن�صري ال�صايغ
ت�صدر بالتعاون مع م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة �سعاده م�صطفى ر�شيد �سليمان بختي �سركي�س ابو زيد
ت�صميم الغالف :طالل يحفويف االخراج الفني :عالء �صقر املدير امل�س�ؤول� :سركي�س ابو زيد الربيد الإلكرتوينabouzeid@gmail.com : هاتف)00961-1( 751541 : �صندوق بريد 113-7179 :بريوت -لبنان. ت�صدر يف طبعتني من فل�سطني ولبنان مدير عام طبعة فل�سطني� :سعاده م�صطفى ر�شيد هاتف0599305248 : �صندوق بريد 41 :جنني -فل�سطني
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت، �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان. هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org : ت�صدر مبوجب قرار رقم 82تاريخ �صادرة عن وزارة االعالم اللبناين
1981/7/6
توزيع :النا�رشون
بريوت -امل�شرفية� ،سنرت ف�ضل اهلل -ط هاتف وفاك�س)00961-1( 277007 - 277088 : خليوي)00961-3( 975033 : اال�شرتاك ال�سنوي
للأفراد 50 :دوالراً �أمريكياً للم�ؤ�س�سات 100 :دوالر �أمريكي
املواد املن�شورة تعرب عن ر�أي كاتبها
4
3
كلمة التحرير النه�ضة �أوالً
مل حتقق النه�ضة العربية االوىل منوذجها .مل تتج�سد يف بيئتها ،وما ن�سب اليها كان م� ّشوهاً.... ا�ستدرجت النه�ضة اىل اختيارات انتقائية ،مزقت ن�سيجها الفكري الذي الت�أم يف �سياق نظري واحد ،كان يفرت�ض �أن يبقى موحداً ،من دون �أن يتعر�ض لتجزئة وا�ستالب .ن�سيجها املتما�سك، حرية ودميقراطية وعلمانية وقومية ووحدة .نه�ضة ،حولتها التجربة ال�سيا�سية �إىل �سلعة مرفو�ضة، فامل�ؤمنون بالوحدة �أطاحوا باحلرية والدميوقراطية ،ومل ينجزوا غري تكري�س التجزئة وتثبيتها وت�أبيدها، والداعون لتج�سيد احلرية والدميوقراطية ،مل يلتفتوا �إىل مبد�أ ال�سيادة ومواجهة االحتالل والهيمنة والنفوذ اخلارجي ،ف�أطاحوا باملقاومة من جهة وباملواطنة املج�سدة ملبد�أ العلمنة� ...إنه م�سار م�ضاد للنه�ضة ،ما �شهدته االمة وال تزال ،فانت�صرت املوروثات الدينية واملذهبية واالثنية على �أولوية العقل يف اعتباره ال�شرع واملرجع ،ك�ضامن حلرية التفكري و�إبداع احللول وجت�سيد الرغبات و�صيانة احلقوق وت�أمني االنخراط يف عملية التفاعل املجتمعي ،لت�أ�سي�س جمتمع تتناف�س فيه قواه وال تت�صارع ،تخ�ضع ل�سيادة القانون وال تتجاوزه ،معلية �ش�أن القيم واالن�سان يف املجتمع والأفراد. م�سار قاد االمة من مرتبة نظرية راقية وحمببة� ،إىل مرتبة التخلف ومهاوي التجزئة ومن�صات الديكتاتوريات وجماهل التعدد والتوح�ش� ،إثنياً وطائفياً ومذهبياً وجهوياً. لي�س يف ر�صيد امل�ؤ�س�سات واحلركات القومية ما يفيد �أنها ك�سبت جولة واحدة يف هذه املعركة، ولي�س يف ما و�صلت �إليه وما بلغته من �ضعف و�ضياع وهزال ما ي�شي ب�أنها قادرة على �إطالق مبادرة �إعادة ت�أ�سي�س �أو ت�أهيل جدية وطموحة .فال هي راجعت م�سارها .وال جتر�أت على نقد ل�سيا�ساتها و�أفكارها وبناها وخططها وعالقتها بالنا�س وباجلماهري التي ا�ستقلت عنها وا�ستقالت يف مهماتها بعد معاناة واحباط .جل ما قامت به هذه امل�ؤ�س�سات� ،إن�شاء حقل وا�سع من التربيرات التي ّ �شكلت العقيدة املربمة لالنظمة وامل�ؤ�س�سات. ف�شلت النه�ضة الأوىل يف حتقيق منوذجها :دولة الد�ستور والقوانني وامل�ؤ�س�سات ،دولة الوطن واملواطن ،دولة النظام الدميوقراطي امل�ؤ�س�س على مبد�أ املواطنة املرتكزة على االلتزام التام بامل�ساواة والعدالة وحرية االختيار ،دولة القوة القادرة على �صيانة حقوقها ومواجهة التحديات الكربى اخلارجية ...ف�شل النه�ضة هذا �أف�سح الطريق �أمام بدائل كارثية� :أنظمة ا�ستبدادية عدد رقم � | 1أيـار
2013
4 كلمة التحرير
قمعية ،كيانات قطرية انعزالية ،تنمية �إقت�صادية فا�شلة ،تنمية ب�شرية هجينية ،ما �أدى اىل ح�شر املجتمع يف م�سار التفكك الطائفي والأمني ،الذي ير�شح املجتمع ملزيد من احلروب العدوانية من اخلارج ،واحلروب امل�أ�ساوية امل�ؤ�س�سة على عنف اجلماعات االهلية ،القبلية ،الدينية، املذهبية ،الطائفية ،واالقليمية واالقوامية. مل تنج احلركات ال�سيا�سية من عواقب ف�شلها ،فهي التي رفعت يف بداياتها قيم النه�ضة واحت�ضانها والعمل لتج�سيد مبادئها ،وانتهت �إىل احزاب منكوبة من داخلها ،ل�سوء فهمها وخطل ادائها وانعدام اخال�صها. زمن ال�سقوط بلغ امتالءه ،بلغ مداه .زمن النه�ضة يعا�صر القرون الو�سطى ،ولقد �أزفت �ساعة �إ�سدال ال�ستارة على ما تبقى من �أوهام و�آمال خائبة� .إن الهاوية حتيق بامل�ستقبل العربي ،فما العمل؟ �أوالً� :إعادة قراءة منطلقات ومبادىء و�أفكار النه�ضة على قاعدة االنتماء الواعي لق�ضيتها وااللتزام ب�أولوياتها ،والعمل ن�ضاليا لتحقيقها� .أولوية النه�ضة تفرت�ض مواءمتها مع �أدوات الواقع التي ن�ضجت من خالل برامج مو�ضوعية حت�سب فيها القدرات واالمكانات والظروف يف حقل قوى مناف�سة تقاتل باملوروث والتخلف لتحقيق م�صالح فئوية متزمتة. ثانيا ً� :إن الوعي بق�ضية النه�ضة يفرت�ض عدم الت�ضحية ب�أي مبد�أ من مبادئها ،ل�صالح �أولويات م�ؤقتة .وال يجوز �أن حتذف �أولوية مفرت�ضة� ،أولويات العمل املتوازن واملت�ضامن ل�صالح اقرار وحتقيق اولويات تفر�ضها امل�ؤ�س�سات؟ طبيعة الق�ضية ومرحلتها .فالوحدة� ،إن اعتربت �أولوية ،ال تلغي الدميوقراطية واحلرية ،وهاتان ال تلغيان القومية وم�ستلزماتها .فالدميوقراطية بال مواطنة وبال هوية ،هروب بها �إىل اجلماعات القبلية التجزيئية .والوحدة بال حرية ومواطنة وتنمية وعدالة وم�ساواة ،تتحول ب�سرعة اىل �سلطة اعتباطية ا�ستئثارية تطيح بالوحدة والدميوقراطية وتهدد وحدة املجتمع يف ن�سيجه اال�صلي وفروعه الغنية. ثالثا ً :اعتبار العمل الثقايف ركناً من �أركان العقل النه�ضوي ،لأنه يفرت�ض �أن يعيد �إىل العقل مكانته و�شرعيته ،كونه املرجع يف بلورة فكر دميوقراطي وحدوي مواجه ومقاوم. رابعا ً :ال نه�ضة من دون قطع مع التخلف ومظاهره املت�شعبة ،ومن دون قطع مواز مع النفوذ والت�سلط اخلارجي ،وال ا�ستغالل وال �سيادة ،من دون القطع مع نظام العوملة النيوليربايل ،الذي يحيل اقت�صاد املجتمع �إىل اقت�صاد تبعي ا�ستهالكي ،ويجعل من ثقافة الأمة ،ثقافة التقليد واالقتبا�س بال �أي �إبداع
5 كلمة التحرير
وا�صالة و�أفق� .إن احللول ال�سيا�سية املتاحة على م�ستوى االمة معدومة .االبواب ال�سيا�سية مقفلة �أمام االنظمة القائمة واالحزاب والهيئات ال�سيا�سية .لذلك ف�إن جمتمعاً تو�صد يف وجه م�ؤ�س�ساته املخارج ال�سيا�سية ،ملزم ب�أن يعيد قراءة واقعة وح�ساب قواه ،ل�صياغة ردوده اال�سرتاتيجية ،م�ستعيناً بالثقافة والفكر ،لو�ضع ما ي�صل اليه ،يف برنامج مقاوم لأخطار اخلارج وكوارث الداخل. �صيغة هذه املقدمة ،لي�ست بياناً حلركة ،بل هي �إطار لعمل ي�ضع حجر الزاوية لنه�ضة قومية جديدة ،عرب ابتداع و�سائل تخدم �أغرا�ض االمة م�ستفيداً من اخلربات ال�سابقة ،وما �أجنزته مكت�سبات التقنيات احلديثة. «حتوالت م�شرقية» جملة دورية ت�صدر يف لبنان وفل�سطني ،ملتزمة بالنه�ضة واملقاومة والعروبة العلمانية ،ترف�ض التطبيع مع الكيان ال�صهيوين ب�أ�شكاله كافة ،و�ضد كل تبعية للخارج و�ضد كل تربير للتخلف و�ضد كل تهاون مع اال�ستبداد. و«حتوالت م�شرقية» هذه ،منفتحة على الفكر والثقافة والنقد والآخر .ال ت�ؤمن بوحدانية املناهج واحلقائق واالفكار .تدرك �أن ديكتاتورية الفكر وااليديولوجيا ،تقود �إىل ت�شريع اال�ستبداد والقمع .لذلك ،هي ت ّعول على امل�ساهمات الثقافية والفكرية وال�سيا�سية النقدية واال�سرتاتيجية ،وتن�أى عن الت�ضييق على احلرية ،وحتديداً احلرية الفكرية. وعليه ،فهي ملتقى تيارات خمتلفة ،وخمترب ل�صراع الأفكار احلرة امللتزمة �أ�سا�ساً بعملية النهو�ض والتغيري والتعبري احلر. «حتوالت م�شرقية» ت�ؤمن �أن ال�صراع الفكري من �أجل فهم �أعمق للواقع ،ومن �أجل العمل امل�شرتك نحو الغايات الف�ضلى ،هو من مهماتها وم�س�ؤولياتها .التزامها بالدميوقراطية واحلرية واالبداع والوحدة ،ال يلغي �أبداً حق االختالف وحق الدفاع عن هذا االختالف. �إنها جملة املواطن يف وطن .جملة االن�سان يف بيئته املجتمعية ،جملة امل�ؤمن باحلقوق االن�سانية وملتزمة بالدفاع عنها وباحلقوق الوطنية والعمل لن�صرتها ،وباحلقوق القومية والن�ضال من �أجل حتقيقها .فهي جملة احلرية ،ولهذا فهي حرة وال ترتبط ب�أي نظام �أو تنظيم �سيا�سي �أينما كان. ال زال يف هذا الزمن امل�أ�ساوي مكان لف�سحة �أمل وف�سحة قول وف�سحة فكر ،و«حتوالت» حتاول �أن تكون هذا االمل. التحرير
عدد رقم � | 1أيـار
2013
7
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية | د.عادل �ضاهر |
من الأطروحات التي تتك ّرر يف �أدبيات بع�ض منظري احلركات الإ�سالمية الأطروحة املتمثلة بالإدعاء ب�أن ا�ستهداف �إقامة دولة �إ�سالمية ال يت�ضمن العودة �إىل مفهوم الدولة الدينية ،كما عرفناه يف القرون الو�سطى امل�سيحية� .إن الدولة الإ�سالمية �أو(«دولة الإ�سالم» ،بح�سب و�صف را�شد الغنو�شي) ،املزمع �إقامتها ،لن تكون ،يف نظر ه�ؤالء املنظرين ،دولة كليانية ،بل دولة حُتفظ فيها احلريات واحلقوق الفردية ،مثلما حتفظ فيها حقوق الأقليات .وال غرابة �أن جند ه�ؤالء املنظرين ي�صفون نظام ال�شورى الإ�سالمي امل�ستهدفة �إقامته من قبلهم ب�أنه النظري الإ�سالمي للدميقراطية حد تبني الدميقراطية يف جميع وجوهها و�سماتها ،بل يعني، الغربية .ال يعني هذا �أنهم يذهبون اىل ّ على الأقل� ،أنهم يعتقدون (�أو رمبا يتظاهرون باالعتقاد) ب�أن النظام الإ�سالمي املنتظر �سيحت�ضن فكرة التمثيل ال�سيا�سي� ،إ�ضافة اىل حفاظه على العديد من احلريات الدميقراطية .بيت الق�صيد يف كل هذا �أن العلمانية هذا النظام لن ت�شكل عائقاً �أمام تزويده ببعد دميقراطي عاك�س خل�صو�صيات الإ�سالم والقيم الإ�سالمية. من اجلدير باملالحظة هنا �أن بع�ض املفكرين العرب الذين ال تربطهم باحلركات اال�سالمية �أي رابطة ،فال هم من منظريها وال من �آبائها الروحيني وال حتى من املتعاطفني معها ،يفرت�ضون ب�صورة م�ضمرة ،على الأقل� ،إمكان تعاي�ش الدميقراطية مع نظام �إ�سالمي ال علماين .يح�ضرين هنا ،بخا�صة ا�سم املفكر املغربي حممد عابد اجلابري .يعترب اجلابري �أن امل�شكلة الأ�سا�سية التي يواجهها العرب اليوم هي م�شكلة �إقامة نظام دميقراطي ،ال �إقامة نظام علماين .يف الواقع� ،إنه يعتقد �أن م�شكلة العلمانية (م�شكلة م�صطعنة)� .أنها اختلقت من قبل مفكرين م�سيحيني يف امل�شرق، ظناً منهم �أن العلمانية هي ال�ضمان حلقوق الأقليات �أو حلل م�شكلة احلريات واحلقوق عموماً . �إن خط�أهم ،يف اعتقاد اجلابري ،كامن يف �أنهم يح ّولون الأنظار عن احلل احلقيقي والوحيد مل�شكلة احلريات واحلقوق ،الفردية واجلمعية� ،أال وهو احلل الدميقراطي ،مت�صورين ،خط�أ� ،أن التهديد لهذه احلريات واحلقوق �آت ٍ عن عدم ف�صل اال�سالم عن ال�سيا�سة .هنا جند اجلابري ميا�شي اال�سالميني يف اعتقادهم ب�أن عدم وجود طبقة �إكلريو�س يف اال�سالم ميكن �أن ت�ست�أثر بال�سلطة ،كما ح�صل يف الغرب امل�سيحي ،لهو عامل م�ساعد على التوفيق بني اال�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية� ،أو على ()1
()2
عدد رقم � | 1أيـار
2013
8
العلمانية اليوم
�إقامة نظام �إ�سالمي دميقراطي .من هنا نفهم و�صفه م�شكلة العلمانية ب�أنها «م�شكلة م�صطعنة». ان املوقف الذي �سندافع عنه هنا هو �أن العلمانية �شرط �ضروري للدميقراطية ،و�إن مل يكن كافياً. مبعنى �آخر ،النظام الالعلماين نظام غري دميقراطي بال�ضرورة ،وال ي�صح العك�س� ،إذ بع�ض االنظمة العلمانية هي حتماً �أنظمة غري دميقراطية .والطابع الالدميقراطي للنظام الالعلماين ،كما �سنبينّ ،ال يرتبط ب�صورة من �صور هذا النظام دون �سواها� .إنه غري مق�صور ،مث ًال ،على ال�صورة التي يتخذها عندما ت�ست�أثر طبقة كطبقة االكلريو�س امل�سيحي بال�سلطة .ف�سواء وجدت طبقة كهذه �أو مل توجد، ف�إن ال علمانية النظام ال ميكن �أن يتولد عنها ،يف �أف�ضل حال� ،سوى دميقراطية �صورية ،ال دميقراطية باملعنى اجلوهري الذي �سيتو�ضح من خالل نقا�شنا ،ولذلك ،و�إن كان ميكن للدميقراطية �أن تت� ّأ�س�س يف جمتمع �إ�سالمي ،كما ت� ّأ�س�ست مث ًال يف جمتمعات م�سيحية �أو هندو�سية �أو بوذية� ،إال �أنها ال ميكن �أن تتعاي�ش مع اال�سالم ال�سيا�سي �أو ان تنمو وتزدهر يف ظل نظام يتخذ من الدين � -أي دين � -أ�سا�ساً له� .إذن ،بعك�س ما يعتقده اجلابري ،ال ميكن �أن تكون العلمانية «م�شكلة م�صطنعة» للعربي احلري�ص على �إقامة نظام دميقراطي حقيقي يف ظهرانينا حر�ص اجلابري نف�سه على ذلك، خ�صو�صاً و�أن فكرة كون الإ�سالم ديناً ودولة ما زالت فكرة ح ّية يف �أذهان الكثريين ،وما زال مطلب �إقامة دولة �إ�سالمية مطلباً ا�سا�سياً حلركات �شتى ال ُي�ستهان بقوتها. ال يعنيني هنا ما �إذا كان الإ�سالم الديني يت�ضمن �أفكاراً �أو مبادىء م�ساندة للدميقراطية� ،أو ما �إذا كان نظام ال�شورى هو النظري الإ�سالمي للدميقراطية الغربية ،فامل�س�ألة التي ت�ست�أثر باهتمامي ال تتعلق باال�سالم يف ذاته وبعقيدته الدينية وما يرتتب عليها من نتائج �سيا�سية ،واجتماعية ،وغري ذلك .فهذه امل�س�ألة �سبق وعاجلناها يف م�ؤلف �آخر ،حيث ب ّينا �أن املاهية العقدية لدين �سماوي كالإ�سالم ينتمي اىل التقليد الإبراهيمي ال ميكن �أن تكون ذات نتائج �سيا�سية واجتماعية من �أي نوع .كل ما ميكن قوله من �ضمن التقليد االبراهيمي ،وعلى �أ�سا�س الت�صور النابع منه للألوهة، هو انه �إذا كان نظام �سيا�سي معني هو النظام الذي ت�شري االعتبارات العقلية �إىل �ضرورة تبنيه يف ظل �شروط معينة ،دون �سواه من البدائل املتاحة لنا� ،إذن فال يعقل �أن يكون تبنيه خمالفاً للإرادة الإلهية .فال ميكن �أن يكون عمل ما هو �صحيح �أو واجب عق ًال �شيئاً ميكن لكائن مطلق الكمال �أن ينهى عنه .وهذا يعني �أنه �إذا كان اختيار النظام الدميقراطي هو االختيار ال�صحيح �أو الواجب عق ًال ،يف ظل �شروطنا الراهنة� ،إذن فهو اختيار يت�ساوق مع الإرادة االلهية بال�ضرورة .ولكن هذا ال يعني �أن �ضرورة اختيار هذا النظام م�شتقة من االعتقاد باهلل على نحو مبا�شر �أو غري مبا�شر ،بل من االعتبارات العقلية وحدها. يف الواقع ،ما نقوله عن اختيار النظام الدميقراطي ،جلهة عدم �إمكان ا�شتقاقه من االعتقاد باهلل، ميكن تعميمه على كل االختيارات الأخرى على امل�ستوى ال�سيا�سي -االجتماعي .فمن النافل القول �إن اختيارات كهذه م�شروطة ب�أو�ضاع الب�شراملتغرية و�أن ما هو �صحيح �أو واجب عق ًال ،بني يتم يف ظلها هذا االختيار هي ما هي، هذه االختيارات ،هو كذلك ،جزئياً ،لأن ال�شروط التي ّ ()3
(*)
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
9
ولو كانت خالف ما هي عليه ،ملا كان هذا االختيار هو االختيار ال�صحيح بال�ضرورة� .أن نفرت�ض، �إذن� ،أن ثمة �أمراً مطلقاً موجهاً �إلينا من ال�سماء ب�ضرورة القيام بهذا االختيار �أو ذاك على امل�ستوى الدنيوي هو �أن نفرت�ض �أن م�صدر هذا االمر يت�صرف على نحو حتكمي وع�شوائي .واالفرتا�ض االخري ،بدون �أدنى �شك ،خمالف لالعتقاد ب�أن اهلل بالذات هو م�صدر هذا الأمر .فمن املتناق�ض منطقياً �أن نفرت�ض �أن كائناً كام ًال على نحو مطلق ميكن �أن يت�صرف على نحو حتكمي وع�شوائي. اذن� ،إما �أمر كهذا لي�س �أمراً �إلهياً �أو لي�س مطلقاً� .أن نفرت�ض� ،إذن� ،أنه �أمر الهي هو �أن نفرت�ض بال�ضرورة �أنه �أمر م�شروط� ،أي �أن تنفيذه منوط بتوافر �شروط من نوع معني .ب�صورة �أخرى� ،إن اختيار العمل مبوجب هذا االمر هو اختيار �صحيح فقط يف ظل �شروط من نوع معني تتعلق ب�أو�ضاع الب�شر ،وظروف حياتهم ،وم�ستوى تطورهم ....الخ .من الوا�ضح� ،إذن� ،أنه ال ميكن ا�شتقاق كون هذا االختيار هو االختيار ال�صحيح فقط من االعتقاد بوجود اهلل ومن انه ي�أمرنا ب�أن نقوم بهذا االختيار .فنحن نحتاج لأن نعرف� ،إ�ضافة �إىل ذلك ،ما �إذا كانت �أو�ضاع الب�شر ،وظروف حياتهم، ومرحلة تطورهم هي من النوع الذي يوجب هذا االختيار �أو يجعله م�ستح�سناً ،على االقل� .إذن، ثمة اعتبارات م�ستقلة عن االوامر والنواهي االلهية تتق ّرر على �أ�سا�سها �صحة اختباراتنا على امل�ستوى ال�سيا�سي -االجتماعي ،كائنة ما كانت هذه االختبارات. لنرتك امل�س�ألة االخرية جانباً الآن ولرنكز على امل�س�ألة التي تعنينا ب�شكل �أ�سا�سي� ،أال وهي امل�س�ألة املتعلقة ب�إمكان التوفيق بني اال�سالم ال�سيا�سي (ولي�س اال�سالم الديني) والدميقراطية .فهل ميكن للدميقراطية �أن تكون �سمة للنظام ال�سيا�سي املزمع �إقامته من قبل اال�سالميني؟ جوابي هو بالنفي، و�أخل�ص �أ�سبابه على النحو الآتي .ال ميكن لنظام �سيا�سي دميقراطي �أن يجد تربة �صاحلة له يف الدولة الدينية (الالعلمانية) �أم�سيحية كانت ام ا�سالمية ،لأن الدولة الدينية متيل بطبيعتها لأن تكون دولة كليانية (توتاليتارية) ،والدولة الكليانية هي متاماً عك�س الدولة الدميقراطية .ومبا ان الغر�ض اال�سا�سي لال�سالم ال�سيا�سي هو �إقامة دولة �إ�سالمية � -أي دولة دينية � -إذن ال �أمل يف �أن تكون الدميقراطية �سمة للنظام ال�سيا�سي لهذه الدولة .ولكن ،قبل اخلو�ض يف امل�س�ألة االخرية على نحو �أكرث تف�صيال ،ال ّبد من تو�ضيح مفهوم الدولة الدينية ومفهوم الدولة الكليانية. يف مفهوم الدولة الدينية
يف حماولتنا تو�ضيح مفهوم الدولة الدينية ،ب�إمكاننا �أن نتخذ من الدولة امل�سيحية القرو�سطية منوذجاً للتحليل .ولكن ال ّبد من التحذير من املزالق املرتتبة على ا�ستعمال �أي حالة واقعية منوذجاً ال�ستخال�ص نتائج عامة بخ�صو�ص ما ي�شكل ال�سمات اجلوهرية للدولة الدينية .فاحلالة الواقعية معطاة لنا من خالل �سماتها اجلوهرية والعار�ضة ،و�إال فهي لي�ست حالة واقعية بل مثال نتوخ منتهى احلذر والدقة يف املالحظة ،يف تفح�صنا للحالة الواقعية� ،سنكون جمرد .ولذلك� ،إن مل َ عدد رقم � | 1أيـار
2013
10
العلمانية اليوم
مع ّر�ضني للخلط بني العار�ض واجلوهري ،فال ي�ؤدي جلو�ؤنا �إىل احلالة الواقعية �إىل �أي فائدة� .إن خلطاً كهذا هو ما جنده يف تناول اال�سالميني لطبيعة الدولة امل�سيحية القرو�سطية� ،إذ �إنهم خل�صوا �إىل النتيجة �أن املكون اجلوهري لها هو خ�ضوع مقدراتها ل�سيطرة رجال الدين من حيث كون االخريين ّيدعون لأنف�سهم دور الو�سطاء بني االن�سان وخالقه .ومن النتيجة االخرية ،م�ضافاً اليها �أنه ال مكان يف اال�سالم لطبقة كطبقة الإكلريو�س امل�سيحي ،خل�صوا �إىل نتيجة �أخرى� ،أال وهي �أن الدولة الإ�سالمية املتوخاة لي�ست من جن�س الدولة امل�سيحية القرو�سطية. �إن الأغلوطة الكبرية يف املحاجة ال�سابقة تكمن يف النظر �إىل �سمة عار�ضة كال�سمة املتعلقة ب�سيطرة الإكلريو�س على مقدرات الدولة الدينية يف القرون الو�سطى على �أنها املكون اجلوهري ملفهوم الدولة الدينية يف الغرب امل�سيحي� .إن ال�س�ؤال الذي له كل االهمية يف ال�سياق احلايل لي�س :ما هي اجلماعة �أو الطبقة التي ت�سيطر على مقدرات الدولة؟ بل :ما هو اال�سا�س الذي ت�سوغ عليه هذه ال�سيطرة؟ فتدخل الإكلريو�س يف ال�ش�ؤون ال�سيا�سية �أو جعلهم الكني�سة املرجع الأخري يف كل ال�ش�ؤون الدنيوية ،مثلما هي املرجع االخري يف كل ال�ش�ؤون الدينية ،يقوم على �أ�سا�س اعتقادهم ب�أن القوانني الإلهية حتيط بال�ش�ؤون الدينية والدنيوية على حد �سواء و�أنهم (�أو كني�ستهم ممثلة فيهم) هم تت�ضمنه بخ�صو�ص كيفية تدبري �ش�ؤوننا الدنيوية� .إنهم مل يقدموا الأقرب �إىل فهم هذه القوانني وما ّ �أنف�سهم� ،إذن ،على �أنهم خرباء يف �ش�ؤون الدنيا على �أ�سا�س �أنهم ذوو مرا�س طويل يف هذ ال�ش�ؤون �أو على �أ�سا�س �أنهم �أتقنوا من فنون ال�سيا�سة واالجتماع ما يفوق ما �أتقنه �سواهم ،بل على �أ�سا�س �أنهم ،دون �سواهم ،يعرفون ما يريده منا اهلل يف دنيانا ،مثلما يعرفون ما ينتظرنا يف �آخرتنا. �إن ثمة عدة افرتا�ضات �أ�سا�سية هنا ،و�س�أخت�صرها يف ثالثة .االفرتا�ض االول هو �أن العقيدة الدينية عقيدة �شاملة� .إنها حتيط بال�ش�ؤون الدنيوية مثلما حتيط بال�ش�ؤون الأخروية .واالفرتا�ض الثاين هو يخ�ص كيفية تنظيمنا ل�ش�ؤوننا الدنيوية. �أن القوانني الإلهية ،ال الإن�سانية ،هي مرجعنا االخري فيما ّ وهذا يعني �أنه ينبغي �إما ا�شتقاق القوانني االن�سانية من القوانني االلهية �أو ،يف حال تعذر ذلك، �ضمان عدم ت�ضارب ال�سابقة مع االخرية .واالفرتا�ض الثالث والأخري هو �أن القوانني االلهية املوحى بها �إىل االنبياء بحاجة �إىل ت�أويل ،خ�صو�صاً بالن�سبة ملا يرتتب عليها �أو ،باالحرى ،ملا يرتتب على التق ّيد بها على امل�ستوى الدنيوي ،و�أنه لي�س متاحاً جلميع الب�شر �أن يحتلوا الو�ضع املنا�سب لت�أويلها كما ينبغي بل لفئة خمتارة منهم .ما هو مهم يف هذا االفرتا�ض هو �أن كون القوانني االلهية، ال االن�سانية ،هي مرجعنا الأخري ،حتى على امل�ستوى الدنيوي ،ال يعني �أنه ال دور لالن�سان يف ف�ض مكنون القوانني االلهية ،كما هي معطاة ت�سيري �ش�ؤونه الدنيوية .فعلى االن�سان تقع م�س�ؤولية ّ يف الن�صو�ص املقد�سة ،وما يرتتب� ،سيا�سياً واجتماعياً ،على العمل مبوجبها ،و�ضمان عدم ت�ضارب القوانني االن�سانية مع م�ستلزماتها .ولكن االن�سان الذي تقع عليه هذه امل�س�ؤولية لي�س �أي ان�سان على االطالق ،بل �إن�سان تتوافر فيه موا�صفات معينة ت�ؤهلة �أكرث من �سواه ملعرفة ما يرتتب على تنفيذ القوانني الإلهية وت�ضمن عمله على تنفيذها بكل �إخال�ص وجترد .ال �أهمية هنا ،من الوجهة
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
11
املفهومية ،ملا �إذا كان هذا االن�سان يف جبة �إكلريكية �أم خالف ذلك ،بل ما له كل االهمية هو لف�ض مكنون القوانني الإلهية وا�ستعداده جلعل م�ستلزماتها نافذة بدون تر ّدد �أو �أهلية هذا االن�سان ّ حرج .وهذا ،ال �شك ،ينطوي على موقف نخبوي يف املجال ال�سيا�سي. تتحدد ،لي�س بكونها تخ�ضع ،على ما يت�ضح يف �ضوء حتليلنا ال�سابق هو �أن طبيعة الدولة الدينية ّ تتحدد نحو مبا�شر �أو غري مبا�شر ،ل�سلطة م�ؤ�س�سة دينية ما ،بل مبا هو �أعمق من ذلك بكثري� ،إنها ّ بثالثة مبادىء مرتابطة. ولن�سمه من الآن ف�صاعداً بـ «املبد�أ الكلياين». املبد�أ االول هو مبد�أ �شمولية العقيدة الدينية، ّ واملبد�أ الثاين هو املبد�أ الذي يق�ضي ب�إخ�ضاع قوانني الب�شر للقوانني الإلهية� ،أي مبد�أ «احلاكمية هلل» .واملبد�أ الثالث هو مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة .ال �شك �أن و�ضع هذه املبادىء الثالثة مو�ضع التنفيذ قد يقود ،يف ظل ظروف م�ؤاتية� ،إىل جعل امل�ؤ�س�سة الدينية ذات نفوذ كبري يف املجال ال�سيا�سي -االجتماعي� ،أو حتى �إىل جعل الدولة حتت �سيطرتها املبا�شرة ،كما هو احلال يف ايران مث ًال .ولكن يبقى ح�صول �شيء كهذا جمرد مظهر لكون الدولة تقوم على املبادىء الثالثة املذكورة .مبعنى �آخر� ،إنه لي�س مكوناً جوهرياً ملفهوم الدولة الدينية ،وال عالقة منطقية� ،إذن ،بني كون دول ٍة دولة دينية باملعنى احلق وكونها تخ�ضع ل�سيطرة امل�ؤ�س�سة الدينية� .إن عالقة كهذه� ،إن وجدت ،هي عالقة �ضرورية واقعياً �أو تاريخياً يف �أف�ضل حال. ال ينحرف اال�سالميون مطلقاً عن هذا الت�صور للدولة الدينية كما يتحدد باملبادىء الثالثة املذكورة .هذا ي�صدق على الذين ال يظهرون عداء للدميقراطية ،مثل الغنو�شي والرتابي ،مثلما ي�صدق على املعادين لها ،مثل �سيد قطب و�أنور اجلندي� .إنهم جميعهم ينطلقون من فكرة �أن اال�سالم دين ودولة ،وهي الفكرة التي تنطوي على املبد�أ االول ،املبد�أ الكلياين .لي�ست عالقة اال�سالم بالدولة �أو ال�سيا�سة ،يف نظرهم ،جمرد عالقة تاريخية �أملتها ظروف ن�ش�أة اال�سالم وال�صراعات التي خا�ضها ،بل �إنها ،كما ي�ص ّر ه�ؤالء اال�سالميون عالقة �ضرورية باملعنى املنطقي �أو املفهومي .ال معنى ،يف نظرهم ،للف�صل ،كما �أفعل �أنا او حممد �أحمد خلف اهلل �أو علي عبد الرازق ،بني اال�سالم ال�سيا�سي واال�سالم الديني� .إنهما وجهان لعملة واحدة .وهذا ال يعني لهم فقط �أن امل�سلم ملزم ،باعتباره م�سلماً ،ب�أن يقيم مواقفه من ق�ضايا ال�سيا�سة ،واالجتماع ،والقانون على �أ�سا�س اعتبارات م�ستمدة من تعاليم اال�سالم ،بل �أن ي�سعى �إىل �إقامة الدولة على ا�سا�س تعاليم اال�سالم .باخت�صار� ،إقامة دولة ا�سالمية هي واجب ديني. �إن االلتزام باملوقف االخري نابع بال�ضرورة من التزامهم باملبد�أ الثاين ،مبد�أ احلاكمية هلل .فال �شك �أن �سيد قطب كان ينطق بل�سان جميع اال�سالميني عندما �أعلن ،كما �أعلن من قبله �أبو علي املودودي�« ،إن احلاكمية ت�أتي يف ر�أ�س اخل�صائ�ص الإلهية� ،أي حق احلاكمية املطلقة الذي ين�ش�أ عنه حق الت�شريع للعباد ،وحق و�ضع املناهج حلياتهم ،وحق و�ضع القيم التي تقوم عليها هذه احلياة» . ()4
عدد رقم � | 1أيـار
2013
12
العلمانية اليوم
واحلاكمية ،يف نظره ،هي عك�س اجلاهلية .وهذا يعني له �أن اجلاهلية هي بال�ضرورة اخل�ضوع حلكم الب�شر ،لأن احلاكمية هي ،مفهومياً ،حكم اهلل. �إن فكرة كون احلاكمية هي هلل وحده وا�ضحة �أي�ضاً يف كتابات اخلميني ،و�أنور اجلندي ،وح�سن البنا ،و�سواهم .يقول اخلميني «�إن احلكم الذي يقوم على التوحيد ينطلق من مبد�أ �أوحد هو القانون الإلهي .احلكم هو حكم اهلل ،واالنبياء ال يفعلون �شيئاً �سوى تنفيذ القانون االلهي» . ويذهب �أنور اجلندي �إىل االعتقاد �أن اخلليفة ٍ وال يتمثل �إرادة اهلل بدرا�سته ال�شريعة وفهمه لها، يعاونه يف ذلك علماء الدين و�أعيان االمة بالن�صح وال�شورى .ويف جمع اخلليفة لل�سلطتني ،الروحية والزمنية ،فهو �إمنا ميثل �إرادة اهلل ،وبالتايل ،ال يفعل �أكرث من تنفيذ القانون االلهي .لي�ست الفكرة اال�سا�سية ،هنا ،كما يهيىء لنا �أنور اجلندي� ،أن حاكمية اهلل ال تتم �إال عن طريق ٍ وال يجمع ال�سلطتني ،الروحية والزمنية .ف�سواء �أخذ اال�سالمي بفكرة اخلالفة او بفكرة �سواها ،ف�إن امل�س�ألة اال�سا�سية له هي �أن اهلل وحده له احلق يف حكم الب�شر و�أن احلاكم الزمني� ،أخليفة كان �أم خالف ذلك ،ال يفعل �أو ،بالأحرى ،ال يجوز �أن يفعل �أكرث من متثيل ارادة اهلل� .إن واجبه ،كما ين ّبهنا ح�سن البنا ،هو الوقوف عند احلدود الربانية النبوية فال يق ّيدنا بغري ما يقيدنا به اهلل . من الوا�ضح �أن التزام اال�سالميني باملبد�أ الثاين يفر�ض حتويل الإلزام ال�سيا�سي �إىل �إلزام ديني. ف�إذا كانت احلاكمية ،مفهومياً ،هي هلل وحده� ،إذن االن�سان غري ملزم ب�أن يطيع احلاكم الزمني �إال �إذا كان ميثل �إرادة اهلل ويعمل فقط على تنفيذ القانون االلهي .اذن� ،إلزامه بالطاعة للحاكم الزمني يف�سر الطابع املطلق لاللزام ال�سيا�سي يف الدولة م�ستمد من كونه ملزماً ب�أن يطيع خالقه .وهذا ما ّ الدينية .فال ي�صدق على الدولة مفهوم الدولة الدينية �إال اذا كان احلاكم الزمني يحكم نيابة عن اهلل .وما دام االن�سان ملزماً ب�أن يطيع خالقه على نحو مطلق� ،أي ،كما يقول البنا« ،من غري تردد وال مراجعة وال �شك وال حرج»� .إذن الطابع املطلق لهذه الطاعة ال بد �أن ينتقل يف الدولة الدينية �إىل طاعة االن�سان للحاكم .ال ي�صبح االن�سان يف ّ حل من االلتزام بطاعة احلاكم �إال �إذا رف�ض الأخري �أن يحكم وفق ما يقت�ضيه القانون االلهي� ،إذ هو ،بذلك ،يلغي الطابع الديني للدولة بتقوي�ضه �أهم مبادئها� ،أي مبد�أ احلاكمية هلل. ي�ستمد احلاكم الزمني �شرعيته� ،إذن ،يف الدولة الدينية من كونه يحكم با�سم اهلل �أو نيابة عن اهلل. انها م�س�ألة عار�ضة متاماً �أن من يحكم با�سم اهلل هو من طبقة االكلريو�س �أو من طبقة �سواها� .إن طبيعة الدولة الدينية هي هي ،بغ�ض النظر عمن ّيدعي احلكم با�سم اهلل� :أنها دولة ال �أ�سا�س فيها لل�شرعية �سوى متثيل �إرادة اهلل ،وال معيار للإلزام ال�سيا�سي �سوى الإلزام الديني .وهذا يعني �أنه ما دام احلكم �شرعياً ،ف�إن االلتزام بطاعة احلاكم هو التزام مطلق .وما دامت امل�س�ألة اجلوهرية يف الدولة اال�سالمية �أو دولة اال�سالم هي متثيل احلاكم او امل�ش ّرع لإرادة اهلل او �ضمانه عدم ت�ضارب القانون االن�ساين مع القانون االلهي� ،إذن من املحتوم ان تقوم هذه الدولة على املبد�أ الثالث ،مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة .لي�س جميع الب�شر يف و�ضع ي�سمح لهم ب�أن يعرفوا ما هو م�ضمون القانون ()5
()6
()7
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
13
االلهي وما يرتتب عليه عملياً� ،أي ما يرتتب على تطبيقه يف املجال ال�سيا�سي والقانوين� .إ�ضافة �إىل ذلك ،ال يكفي العلم بالقانون االلهي وما يرتتب على تطبيقه من نتائج ،بل ثمة �شرط �آخر ال ميكن �أن تقوم للدولة اال�سالمية قائمة بدون توافره� ،أال وهو التزام احلاكم بتنفيذ هذا القانون باخال�ص وجترد .هذا ال�شرط ،مثله مثل ال�شرط ال�سابق (�شرط العلم بالقانون االلهي) ،ال ميكن �أن يتوافر �إال يف فئة خمتارة من الب�شر .ال يجتمع هذان ال�شرطان ب�صورة تامة �إال يف �شخ�ص نبي .ولكن يف غياب االنبياء ،اخليار الوحيد �أمامنا هو �أن جنعل احلكم والت�شريع من �ش�أن نخبة من الب�شر تقرتب، جميعاً ،من جمع هذين ال�شرطني يف ذاتها .ال ميكن ،عملياً� ،أال يكون لعلماء الدين والفقهاء دور �أ�سا�سي يف احلكم ،نظراً لأنهم الأكرث تبحراً يف �ش�ؤون الدين واالقرب من �سواهم من فهم م�ضمون القانون االلهي وما يرتتب على تطبيقه .ال يعني هذا بال�ضرورة الذهاب �إىل حد احت�ضان نظرية «والية الفقيه» اخلمينية ،بل يعني ،على االقل ،ما عناه لأنور اجلندي مث ًال� ،أن احلاكم ال ّبد �أن يحكم مبعاونة رجال الدين .حتى الغنو�شي مل ي َر منا�صاً من احت�ضان موقف اجلندي� .إنه يدعو �إىل حكم النخبة �ش�أن جميع اال�سالميني .متار�س هذه النخبة ال�سلطة باعتبارها هيئة مهيكلة تتكون من كبار الق�ضاة وعلماء الدين الذين �إذا ما اجتمعوا على حكم ي�صري هذا احلكم جزءاً من ال�شريعة ،و�إذا ما اجتمعوا على بيعة �إمام �صارت طاعته ملزمة للأمة كلها .ال نن�سى هنا �أن اجتماعها على بيعة �إمام هو مبثابة و�ضعها له يف و�ضع قمني مبمار�سته احلكم ،بالتعاون مع هذه الهيئة ،نيابة عن اهلل .هنا نرى بو�ضوح كيف يتحول الإلزام ال�سيا�سي �إىل �إلزام ديني. ()8
يف مفهوم الدولة الكليانية
ثمة موازاة �شبه تامة بني املبادىء التي تقوم عليها الدولة الدينية واملبادئ التي تقوم عليها الدولة الكليانية .لتو�ضيح ذلك ،لنن�صرف �أو ًال �إىل تناول مفهوم الدولة الكليانية� .أول ما يتبادر �إىل �أذهاننا ،يف تناولنا ملفهوم الدولة الكليانية ،هو مدى حداثة هذا املفهوم .فالب�شر مل يعرفوا الدولة الكليانية ويختربوا ويالتها �إال يف القرن الع�شرين الذي �شهد ظهور ال�ستالينية والنازية والفا�ش�ستية وما مثلته باعتبارها �أنظمة �سيا�سية .ل�سنا معنيني هنا طبعاً بال�شروط التاريخية لظهور الدولة الكليانية وملاذا مل يعرف هذا النوع من التنظيم ال�سيا�سي قبل القرن الع�شرين .ما يعنينا هو ال�س�ؤال :ما الذي ي�شكل املكونات اجلوهرية ملفهوم الدولة الكليانية على خمتلف جت�سداته املعروفة؟ ثمة مكونان جوهريان لهذا املفهوم .املك ّون االول هو �أن ال�سلطة يف الدولة الكليانية متار�س با�سم جماعة �إيديولوجية معينة ي�ؤول �إليها وحدها احلق يف احلكم .مبعنى �آخر ،املكون االول يتعلق با�ستئثار جماعة �إيديولوجية معينة بال�سلطة على نحو دائم .حقها يف احلكم هو غري حق حزب �سيا�سي يف احلكم يف االنظمة الدميقراطية .ففي احلالة االخرية ،احلق يف احلكم م�شروط بفوز احلزب على االحزاب املناف�سة يف االنتخابات العامة .و�إن اتفق �أن حزباً �آخر فاز يف انتخابات عامة عدد رقم � | 1أيـار
2013
14
العلمانية اليوم
الحقة ،ف�إن احلكم �سيكون من ن�صيبه ال من ن�صيب ال�سابق� .أما يف النظام النازي ،مث ًال ،ف�إن حق احلزب النازي يف احلكم غري م�شروط .ال �إمكان يف نظام كهذا لالعرتاف ب�شرعية �أي �أحزاب مناف�سة للحزب النازي ،وال معنى ،بالتايل ،للقول �إن احلق يف احلكم قد ي�ؤول �إىل حزب مناف�س، يف حال توافر �شروط معينة كفوزه يف االنتخابات �أو ما �شاكل ذلك .فرتكيبة النظام هي على نحو بحيث ميتنع من حيث املبد�أ توافر �شروط كهذه �ضمن هذا النظام .فمفهوم فوز حزب مناف�س يف االنتخابات العامة ،ولي�س مفهوم االنتخابات العامة نف�سه ،ال تطبيق له �ضمن هذا النظام ،ما دام ال يوجد اعرتاف ب�شرعية �أي حزب مناف�س .من الوا�ضح� ،إذن� ،أن النظام الكلياين هو نظام يتميز، بالتعريف ،با�ستئثار جماعة �إيديولوجية باحلق مبمار�سة ال�سلطة. املك ّون اجلوهري الثاين ملفهوم الدولة الكليانية هو �أن نطاق ال�سلطة ال�سيا�سية يف النظام الكلياين يت�سع حد يكاد ميتنع عنده الف�صل بني العام واخلا�ص .فال القيم (الأخالقية والفنية) وال االعتقاد وال �إىل ّ الفكر وال الدين وال حتى ممار�سات الفرد يف حياته اخلا�صة تقع خارج حدود ال�سلطة ال�سيا�سية .ويف النظامني الهتلري وال�ستاليني بوجه خا�ص ،مل يكن حتى العلم مبن�أى عن م�ؤثرات قرارات ال�سلطة ال�سيا�سية ومواقفها الر�سمية .فقد ُرف�ض ،مث ًال ،تدري�س النظرية الن�سبية يف االحتاد ال�سوفييتي يف العهد ال�ستاليني على �أ�سا�س قرار �سيا�سي ر�سمي ،مثلما رف�ض تدري�س نظرية مندل يف الوراثة على نف�س الأ�سا�س� .أما يف النظام النازي ف�إن النظرية العن�صرية ،كما هو معروف ،عوملت وك�أنها نظرية مثبتة علمياً ،ال ل�سبب �سوى �أن معاملتها كذلك هو ما اقت�ضاه املوقف الر�سمي لل�سلطة ال�سيا�سية منها. �إن تو�سيع نطاق ال�سلطة ال�سيا�سية يف الدولة الكليانية لي�شمل كل مناحي احلياة هو ،كما ي�ؤكد نا�صيف ن�صار ،مبثابة «دولنة للمجتمع» .مبعنى �آخر ،يت�شكل املجتمع بالدولة ،يف النظام الكلياين، وال تت�شكل الدولة باملجتمع ،وهو يت�شكل بالدولة وفق ما تقت�ضيه الإيديولوجيا الر�سمية للحزب احلاكم .و�إذا �أ�ضفنا �أن هذه االيديولوجيا تنطوي على نظرة �شاملة �إىل الكون ،والفن ،واحلياة، يت�ضح عندها �أن ما تقت�ضيه هذه االيديولوجيا هو �إعادة ت�شكيل �شبه تام للمجتمع .والنظرة ال�شاملة التي ت�شكل االطار املرجعي للحزب احلاكم ت�ؤخذ على �أنها جت�سيد حلقائق مطلقة ال يطالها النقد من حيث املبد�أ .وحده احلزب احلاكم ميتلك املعايري واملبادىء ال�صحيحة املطلوبة لتنظيم �ش�ؤون ال�سيا�سة ،واالجتماع ،واالقت�صاد ،و�ضبط الفكر ،وال�سلوك ،والذوق .من هنا يت�ضح �أن احتكار ال�سلطة ال�سيا�سية يف النظام الكلياين من قبل جماعة �إيديولوجية يقوم على افرتا�ضها احتكار احلقيقة يف كل جماالت احلياة .كل من هم خارج هذه اجلماعة الإيديولوجية هم بال�ضرورة خارج احلقيقة� .إن هذا متاماً ما يف�سر ملاذا الدولة الكليانية هي دولة غري مت�ساحمة قط مع من يتحدون �سيا�سات الطبقة احلاكمة فيها .من ينطلق من افرتا�ض عدم �إمكان وجود �أي خط�أ يف موقفه ال ميكنه �أن ينظر بت�سامح �إىل معار�ضيه لأنه ال يجوز الت�سامح مع اخلط�أ .و�إذا كان موقف الالمت�سامح هو مبثابة اعتقاد ديني لديه ،ف�إن االعرتا�ض عليه لي�س خط�أ فح�سب ،بل خطيئة ،مما ي�ضاعف مرات عديدة حجم الالت�سامح. ()9
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
15
بني الدولة الدينية والدولة الكليانية
من ال�سهل �أن نرى الآن ،يف �ضوء ما �سبق ،ان ثمة موازاة �شبه كاملة بني املبادىء التي تقوم عليها الدولة الدينية والتي تقوم عليها الدولة الكليانية. املبد�أ االول ،كما ر�أينا ،هو املبد�أ الكلياين .يف الدولة الكليانية ،كما عرفناها من خمتلف �أ�شكالها التي ظهرت فيها يف القرن املا�ضي ،ثمة �أيديولوجيا علمانية توجه الفكر والعمل وتطال كل �أوجه احلياة ،كما �سبق وب ّينا .تقابل هذه الأيديولوجيا يف الدولة الدينية عقيدة الدين الذي تتخذ تعاليمه �أ�سا�ساً للحكم وم�صدراً للت�شريع يف هذه الدولة� ،أي عقيدة هذا الدين بح�سب الفهم اخلا�ص لها من قبل اجلماعة االيديولوجية التي ت�ست�أثر بال�سلطة ال�سيا�سية يف هذه الدولة� .إن نظرة هذه اجلماعة لعقيدتها الدينية هي متاماً كنظرة الكلياين �إىل عقيدته العلمانية .يف كال احلالتني، ينظر كل فريق لعقيدته على �أنها �شاملة كل مناحي احلياة وتز ّودنا ،بالتايل ،باملعايري واملبادىء الالزمة لتوجيه و�ضبط الفكر ،وال�سلوك ،والذوق. املبد�أ الثاين الذي تقوم عليه الدولة الدينية ،كما ر�أينا ،هو مبد�أ «احلاكمية هلل»� .أما يف الدولة الكليانية يف �أ�شكالها املعروفة فاحلاكمية هي للحزب ،ف�أين هي املوازاة بني احلالتني هنا؟ اجلواب ب�سيط .يف الدولة الكليانية العلمانية يحكم احلزب وفق ما تقت�ضيه �أيديولوجيته ال�شاملة .ويف الدولة الدينية ،كما ر�أينا ،تتحول حاكمية اهلل �إىل حاكمية جماعة �أيديولوجية ّتدعي احلكم با�سم اهلل �أو نيابة عن اهلل� ،أي تدعي انها ال تفعل ما يخالف �أوامر اهلل .ولكن معرفة �أوامر اهلل ،من منظورها، يف�سر ذاته .فكما ن ّبهنا علي بن �أبي طالب «القر�آن ت�ستلزم العودة �إىل الن�ص الديني ،واالخري ال ّ كتاب م�سطور بني دفتني ال ينطق ،و�إمنا ينطق بها الرجال» .ولكن َمن مِن الرجال ينطق به؟ الت�أويل �أو االجتهاد ،نظرياً ،مفتوح للجميع ،ولكن ،عملياً وواقعياً ،هو لي�س فقط من احتكار الرجال دون الن�ساء ،بل ،يف ال�سياق الذي يعنينا ،هو من احتكار جماعة من الرجال دون اجلماعات الأخرى. �إذن ،ما يعنيه ،عمليا وواقعياً ،ت�أ�سي�س دولة على مبد�أ «احلاكمية هلل» هو �أن جماعة �أيديولوجية معينة ّتدعي لنف�سها ،دون �سواها ،احلق يف متثيل �إرادة اهلل هي التي �ستتوىل زمام احلكم على �أ�سا�س احتكارها للمعرفة ال�ضرورية مل�ضمون القانون االلهي وم�ستلزماته العملية وامتالك �أع�ضائها لل�صفات والف�ضائل ال�شخ�صية التي جتعل من املمتنع عليهم ع�صيان �أوامر ونواهي اهلل .ف�إن جماعة كهذه ال مربر لوجودها� ،أ�ص ًال� ،سوى اعتقاد عنا�صرها ب�أنهم وحدهم امل�ؤهلون ملعرفة ما يريد منا اهلل يف دنيانا ،ووحدهم القادرون على تنفيذ �أوامره ونواهيه ب�إخال�ص وجترد. ما يرتتب على كل هذا هو �أن الفهم اخلا�ص بجماعة معينة للعقيدة الدينية وما ت�ستوجبه على امل�ستوى ال�سيا�سي ،واالجتماعي ،والقانوين ،واالخالقي ،والفني هو ما يقابل الأيديولوجيا الكليانية العلمانية .الكالم على احلاكمية االلهية يرتجم ،يف هذه احلالة� ،إىل كالم على كون تخ�ص احلكم �أيديولوجيا اجلماعة الدينية امل�س ّي�سة للدين هي املرجع الأخري يف كل ال�ش�ؤون التي ّ عدد رقم � | 1أيـار
2013
16
العلمانية اليوم
وتنظيم املجتمع ،مثلما هي الأيديولوجيا النازية او ال�شيوعية ،مث ًال ،املرجع الأخري يف كل هذه ال�ش�ؤون يف النظام النازي �أو ال�شيوعي. بالن�سبة للمبد�أ الثالث والأخري ،مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة ،ال نحتاج �إىل كبري عناء لندرك مدى �أهميته لكال الدولة الدينية والدولة الكليانية العلمانية .ف�إذا كان احلكم ال�سوي يف كال احلالتني هو الذي ال يحيد عن الأيديولوجيا الر�سمية (الدينية �أو العلمانية) �إذن ،بطبيعة احلال ،ال يجوز �أن يحكم �إال من هو مزود بالفهم الالزم لاليديولوجيا الر�سمية ومتطلباتها العملية ،ومن هو ملتزم بعدم االنحراف عنها ،ومن له من ف�ضائله ومزاياه ال�شخ�صية ما ي�ضمن ثباته على التزامه هذا. ومن الوا�ضح �أنه غري متاح �سوى لفئة خمتارة من املنتمني للجماعة االيديولوجية اال�ستيفاء على ال�شروط املطلوبة .ال�سلطة �إذن هي �سلطة النخبة. �إن املوازاة بني املبادىء التي تقوم عليها الدولة الدينية والتي تقوم عليها الدولة الكليانية العلمانية ال بد ان تقود ،عملياً وواقعياً� ،إىل ا�شرتاكهما يف عدد من ال�سمات اال�سا�سية .ر�أينا يف تناولنا ملفهوم الدولة الكليانية �إنها ذات �سمتني جوهريتني ،ال�سمة املتعلقة باحتكار ال�سلطة ال�سيا�سية من قبل الطبقة احلاكمة وال�سمة املتعلقة بكون هذه ال�سلطة تطال كل مناحي احلياة وتكاد تزيل �أي حد فا�صل بني اخلا�ص والعام .ال ميكن ،يف نظري� ،سوى �أن جتتمع هاتان ال�سمتان يف الدولة الدينية. ولذلك �إن جناح �أي جماعة من اجلماعات املمثلة لال�سالم ال�سيا�سي يف �إحكام قب�ضتها على ال�سلطة ال�سيا�سية احكاماً تاماً ال ميكن ان يعني ،يف التحليل االخري� ،أقل من احتكارها املطلق لهذه ال�سلطة وتو�سيعها على النحو الذي يتواءم مع مقت�ضيات املبد�أ الكلياين .احتكارها ال�سلطة، فيما لو اتيحت لها الفر�صة لفعل ذلك ،هو �أمر متوقع بكل ت�أكيد� ،إذ ،من منظورها االيديولوجي، ال جماعة �سواها متثل ارادة اهلل .ولن يكون هذا االحتكار لل�سلطة ،من وجهة نظرها ،ترتيباً موقتاً، كاحتكار الربوليتاريا لل�سلطة يف النظرية املارك�سية ،بل �سيكون ترتيباً دائماً تفر�ضه طبيعة الب�شر من حيث هم ،بح�سب و�صف اخلميني« ،حيوانات بحاجة �إىل تروي�ض» بوا�سطة التعاليم الدينية . ومن تقع على �أكتافهم م�س�ؤولية «تروي�ض» الب�شر هم طبعاً الذين يدعون النف�سهم احلق يف متثيل �إرادة اهلل على �أ�سا�س كونهم اجتازوا مرحلة «الرتوي�ض» و�صاروا م�ستوفني لكل ال�شروط املطلوبة الكتمال �شخ�صيتهم اال�سالمية بكل ما يعنيه هذا من فهم و�إخال�ص لتعاليم دينهم ،وتفان يف خدمة ربهم ور�سوله ،وجترد يف تنفيذ �أوامره ونواهيه� .إنهم ،مبعنى �آخر ،الذين يفرت�ضون يف �أنف�سهم االهلية والقدرة على «تروي�ض» الب�شر� ،أي على خلق االن�سان املدين ال�صالح واملجتمع املدين ال�صالح بتعاليم الدين احلنيف. حد توحيد ر�سالتهم (= ايديولوجيتهم) بر�سالة اهلل من هنا نفهم ملاذا يذهب اال�سالميون �إىل ّ بالذات .فهذا �سيد قطب ،مث ًال ،ي�صف ر�سالة االخوان ب�أنها عينها ر�سالة اهلل «التي جاءت تعر�ض اال�سالم يف �صورته النهائية ...ليكون دين الب�شرية كلها ولتكن �شريعته هي �شريعة النا�س جميعاً ولتهيمن على كل من كان قبلها وتكون هي املرجع النهائي ولتقيم منهج احلياة الب�شرية حتى يرث ()10
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
17
اهلل الأر�ض ومن عليها» � .إن توحيد قطب بني �أيديولوجيا احلركة اال�سالمية التي ارتبط ا�سمه بها ،ور�سالة اهلل يجعل هذه االيديولوجيا مطلقة مبعنى مزدوج .فهي ،من جهة ،مطلقة مبعنى �أنها ت�شتمل على حقائق مطلقة ،مما يجعلها �صاحلة لكل زمان ومكان .وهي ،من جهة ثانية ،مطلقة مبعنى �أنها املرجع النهائي� ،أي �إن «احلقائق» التي ت�شتمل عليها هي اال�سا�س الأخري الذي ت�شتق منه كل احلقائق االخرى ،الدينية والدنيوية ،وهي لهذا ال�سبب ال تخ�ضع لأي معايري م�ستقلة. من النتائج املرتتبة على املوقف االخري النتيجة التي ر�آها قطب نف�سه بو�ضوح ،اال وهي �أن هذه االيديولوجيا ال ميكن �أن ت�سمح بالتعددية .فكما يقول قطب ،وك�أنه ينطق بل�سان جميع اال�سالميني�« ،إن هناك حزباً واحداً هلل ال يتعدد و�أحزاب �أخرى كلها لل�شيطان والطاغوت» .فاذا كانت هذه االيديولوجيا مطلقة باملعنى املزدوج الذي بيناه ،فهي كذلك لأنها متثل ،يف نظر دعاتها، ر�سالة اهلل التي ال تتعدد� .إذن من الطبيعي �أن ينظروا �إىل احلزب الذي يحمل هذه الر�سالة على �أنه حزب اهلل وانه ال �شرعية لأي حزب �آخر �سواه. ينم عن اعتقاد اال�سالميني بـ «الربانية» يف قادة و�أع�ضاء حركتهم .والرباين هو �إن هذا التفكري ّ املتم�سك بتعاليم اال�سالم ،واملتبحر فيه ،ومن ي�شعر ،بالتايل ،باال�ستعالء على �سواه باعتبار �أنه ميلك احلقيقة املطلقة كاملة لأنه من حزب اهلل ،بينما �سواه فاقد لها لأنه من حزب ال�شيطان. ولذلك جند �أن من االمور التي ي�شرتطها ح�سن البنا يف �أخذ البيعة على الأخوان التج ّرد وي�شرحه بقوله «ان تخل�ص لفكرتك من كل ما �سواها من املبادىء لأنها �أ�سمى الفكر و�أجمعها و�أعالها» . �إن هذا ي�شي بو�ضوح عن اليقني التام ب�أن اجلماعة بيدها احلقيقة املطلقة. ان �إ�ضفاء اال�سالميني على �أيديولوجيتهم هذا الطابع املطلق هو �أول خطوة هامة نحو الكليانية لأنه �سيقود ،ال حمالة ،يف حال ت�سلمهم زمام احلكم� ،إىل احتكار ال�سلطة ال�سيا�سية وقطع دابر �أي معار�ضة �سيا�سية .فال ميكن جلماعة تدعي لنف�سها فقط احلق يف متثيل �إرادة اهلل ،كائنة ما كانت هويتها الدينية� ،أن تقبل ،من حيث املبد�أ ،ان يكون لأي جماعة �سواها احلق يف �أن حتكم ،حتى و�إن ادعت االخرية �أنها ال تفعل �أكرث مما ي�ستلزمه القانون االلهي يف املجال الدنيوي ،ال�سيا�سي وغري ال�سيا�سي� .إذن ،املح�صلة االخرية لنجاح جماعة كهذه يف �إحكام قب�ضتها على زمام احلكم هي فر�ضها لفهمها االيديولوجي للقانون االلهي على املجتمع ب�أكمله عن طريق احتكارها لل�سلطة ال�سيا�سية .احلاكمية املطلقة �ست�ؤول اليها وحدها ،علمياً ،مهما بالغ قادتها ومنظروها يف ت�أكيدهم �أن احلاكمية هلل وحده و�أنهم جمرد وا�سطة لتنفيذ �أوامره ونواهيه. لن يقف الأمر ،كما ر�أينا ،عند حد احتكار جماعة �أيديولوجية كهذه لل�سلطة ال�سيا�سية با�سم الدين ،بل �إنه �سيتجاوز ذلك اىل قيام هذه اجلماعة بدولنة �شبه تامة للمجتمع� ،أي بتو�سيع دائرة ال�سلطة ال�سيا�سية �إىل حد يكاد يلتغي عنده التمييز بني العام واخلا�ص .فال�سلطة االلهية ،بح�سب فهمهم االيديولوجي لها� ،شاملة لكل مناحي احلياة ،الروحية والزمنية على حد �سواء .ولذلك ما ()11
()12
()13
عدد رقم � | 1أيـار
2013
18
العلمانية اليوم
�سيعنيه ،عملياً واقعياً ،احتكار هذه اجلماعة لل�سلطة ال�سيا�سية هو حتويل ال�سلطة االلهية ال�شاملة �إىل �سلطة �سيا�سية متار�سها فئة خمتارة من هذه اجلماعة� ،سلطة ال يفلت من هيمنتها �أي جانب من جوانب احلياة االجتماعية ،واالقت�صادية ،والرتبوية ،والفكرية ،والفنية .ومن الوا�ضح هنا �أن ترجمة ال�سلطة االلهية ال�شاملة �إىل �سلطة �سيا�سية تتم يف �ضوء قراءة �أيديولوجية خا�صة باجلماعة املعنية مل�ضمون القانون االلهي .وم�ؤدى هذا ت�سيي�س �أو �أدجلة لكل �ش�ؤون احلياة ،وتذويب للخا�ص يف العام ،وحتويل كامل للنظام ال�سيا�سي �إىل نظام كلياين. حزب النه�ضة التون�سي والدميقراطية
قد يتفق معنا عدد من الدار�سني بخ�صو�ص ادعائنا �أن الدولة املزمع �إقامتها من قبل اال�سالميني ال بد �أن جت�سد املبادىء الثالثة التي اعتربناها من املكونات اجلوهرية للدولة الدينية .وقد ال يجد ه�ؤالء �أي �سبب لالعرتا�ض على ادعائنا �أن هناك عالقة بني كون دولة تقوم على هذه املبادىء الثالثة دولة كليانية ،وبالتايل الدميقراطية� ،شريطة �أال نفهم هذه العالقة على �أنها واجبة منطقياً �أو مفهومياً، بل على �أنها ،يف �أف�ضل حال ،عالقة جائزة .مبعنى �آخر ،قد يقبل ه�ؤالء الدار�سون ادعاءنا االخري فقط �إذا فهمناه على �أنه ال يعني �أكرث من ان تطبيق املبادىء الثالثة املعنية هو �شرط �ضروري ال كاف لقيام نظام كلياين الدميقراطي .ومعنى هذا �أنه �إذا كان تطبيق هذه املبادىء �سيقود �إىل قيام نظام كالأخري �أم ال �أمر يتوقف على �شروط �أخرى� .أي �شروط هي هذه؟ اجلواب املحتمل هنا هو �أن هذه ال�شروط تخت�صر يف �شرط واحد �أ�سا�سي� ،أال وهو ال�شرط املتعلق بكيفية فهم املنادين ب�إقامة دولة ا�سالمية �أو «دولة اال�سالم» لهذه املبادىء الثالثة .قد ينطبق على اال�سالميني عموماً �أن ت�أويلهم لها يقودهم يف اجتاه كلياين ال دميقراطي ،ولكن ما ي�صدق على وجه العموم ال ي�صدق يف كل احلاالت .يف الواقع ،يعتقد ه�ؤالء الدار�سون �أن ثمة حركة ا�سالمية ت�ستثنى من هذا التعميم، �أال وهي احلركة اال�سالمية يف تون�س املمثلة بحزب النه�ضة الذي يقوده را�شد الغنو�شي .يعتقد بع�ضهم �أي�ضاً �أن احلركة التي يقودها ح�سن الرتابي يف ال�سودان هي ا�ستثناء �آخر . ال�س�ؤال املطروح الآن هو :كيف ،بل هل ميكن ت�أويل هذه املبادىء الثالثة على نحو يق ّرب النظام ال�سيا�سي املزمع �إقامته على هذه املبادىء من �أن يكون نظاماً دميقراطياً؟ �سنكتفي هنا بتناول �أفكار را�شد الغنو�شي لعدم وجود �أي فروقات جوهرية بينه وبني الرتابي� .سرنكز �أو ًال على كيف ميكن فهم املبادىء الثالثة املعنية يف �ضوء فكر الغنو�شي لننطلق من ثم �إىل معاجلة ال�س�ؤال :هل ميكن لفهمها على هذا النحو ان يق ّرب الدولة التي �ستقام عليها من �أن تكون دولة دميقراطية؟ ()14
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
19
الغنو�شي و«دولة اال�سالم»
ال �شك �أن الغنو�شي كما �أملحنا �سابقاً يتبنى املبادئ الثالثة املرتبطة مبفهوم الدولة الدينية .فهو ال يختلف عن �سائر اال�سالميني يف نظرته �إىل اال�سالم ال�سيا�سي� ،أو ب�صورة �أكرث تعميماً اال�سالم الثقايف ،على �أنه متمم �ضروري لال�سالم الديني .اال�سالم ،مبعنى �آخر ،ميثل له عقيدة �شاملة كل مناحي احلياة .وامل�سلم احلقيقي ،تبعا لذلك ،هو من يقي�س املواقف من الق�ضايا العامة او ال�ش�ؤون الزمنية مبقيا�س �إ�سالمي ،متاما مثلما يقي�س املواقف من الق�ضايا الروحية وال�ش�ؤون االخروية مبقيا�س �إ�سالمي .وهذا بدون �أدنى �شك يقب�ض على الفحوى الأ�سا�سية للمبد�أ الكلياين .فالنظر اىل العقيدة اال�سالمية على �أنها �شاملة لكل مناحي احلياة هو مبثابة �إلزام امل�سلم باملبد�أ :ينبغي جعل العقيدة اال�سالمية مرجعنا االخري يف كل ال�ش�ؤون الروحية والزمنية على حد �سواء� ،أي باملبد�أ الكلياين. وهو �أي�ضا يلتزم مببد�أ «احلاكمية هلل» و�إال ملا كان �أي معنى حلركتة امل�ستهدفة �إقامة ما ي�سميه بـ «دولة اال�سالم»� .إن و�صف الدولة املن�شودة بـ «دولة اال�سالم» كما ي�ؤكد لنا هو نف�سه ،هو لغر�ض حتديد اال�سالم بالذات على �أنه ميثل املرجعية االخرية للدولة .وهذا يعني �أن الت�شريع يف دولة اال�سالم مق ّيد بالقانون االلهي .وما يعنيه هذا ،عمليا ،هو عدم جواز جتاوز الهيئة الت�شريعية ملا جاء يف الن�صو�ص املقد�سة ،بح�سب القراءة الر�سمية لهذه الن�صو�ص .ولكن ما يعنينا الآن هو �أن الغنو�شي ال يحيد عن مبد�أ «احلاكمية هلل» ،اذ ا�صراره على جعل اال�سالم مرجعنا االخري حتى يف �ش�ؤون احلكم والت�شريع يف الدولة املن�شودة ،هو مبثابة جعل اهلل لي�س جمرد �شريك يف احلكم ،بل �صاحب القول الف�صل فيما يخ�ص �ش�ؤون احلكم و�صاحب احلق املطلق يف �إبطال ما ي�سنه الب�شر من قوانني وما يختطونه من �سيا�سات .ف�شرعية القوانني وال�سيا�سات يف دولة اال�سالم ،مثلها مثل �شرعية الدولة ذاتها ،منوطة بكونها ال حتيد عن القانون االلهي� ،أي عما ي�أمر به اهلل وعما ينهى عنه. كذلك ،ال �شك يف التزام الغنو�شي باملبد�أ الثالث مبد�أ مركزانية �سلطة النخبة� .إنه ،كما ر�أينا ،يدعو �إىل حكم النخبة �ش�أن جميع اال�سالميني .والنخبة هي هيئة مهيكلة تتكون ،كما ذكرنا �سابقا ،من كبار الق�ضاة والعلماء ،وال حدود ل�سلطاتها الت�شريعية �سوى ما يقيدها به القانون االلهي. لنن�صرف الآن �إىل تناول ال�س�ؤال اال�سا�سي الذي يعنينا هنا :كيف ميكن لـ «دولة اال�سالم» الغنو�شية ان تكون النظري اال�سالمي للدميقراطية الغربية ،ما دامت تقوم على املبادىء الثالثة االخرية؟ ال يدعي الغنو�شي طبعاً �إن «دولة اال�سالم» املن�شودة �ستكون دولة دميقراطية باملعنى الغربي املعروف� .أنه يك ّرر مقولة الكثري من اال�سالميني الذين يتظاهرون بالغرية على احلريات الدميقراطية �أن ملجتمعاتنا اال�سالمية ظروفها اخلا�صة ومبادئها وقيمها اخلا�صة التي جتعل من املتعذر �أخذ النظام الغربي بحذافريه .ما يهم الغنو�شي هو معنى الديقراطية الكامن يف كونها و�سيلة جلعل االرادة ال�شعبية حرة ونافذة على امل�ستوى ال�سيا�سي ،ولي�س معناها بو�صفها قيماً متخ�ضت عنها ()15
()16
عدد رقم � | 1أيـار
2013
20
العلمانية اليوم
جتارب الغربيني .قبول الدميقراطية ،مبعنى �آخر ،م�شروط بتجريدها من كل ما ال ين�سجم مع �أحكام اال�سالم ،مع قيم ومبادىء ومقا�صد اال�سالم. من الوا�ضح هنا �أن الغنو�شي� ،ش�أنه يف ذلك �ش�أن �أي �إ�سالمي «دميقراطي» ال يلتزم بالدميقراطية �أو ب�أي معنى من معانيها ،بدئياً ،على �أ�سا�س اعتبارات عقلية م�ستقلة� .إنه ي�شرط االلتزام بها �أو ب�أي معنى من معانيها بكون هذا االلتزام ال يخالف احكام اال�سالم ،و�إال ال يكون مت�سقاً مع ذاته ،نظراً لكونه يجعل اال�سالم املرجع االخري يف كل ال�ش�ؤون� .إن موقفاً كهذا ال يعني للغيورين على الدميقراطية �أي �ضمانات ان «دولة اال�سالم» املن�شودة �ستكون دميقراطية حتى باملعنى الذي احلد االدنى من ال�شروط ال�ضرورية لوجود نظام دميقراطي .وجود �أو عدم وجود نظام ي�ؤمن توافر ّ دميقراطي يف «دولة اال�سالم» �سيتوقف على كيفية فهم القيمني على �ش�ؤون الدولة لال�سالم و�أحكامه وما تنطوي عليه من قيم ومقا�صد .و�إذا كان فهم الغنو�شي ،كما ّيدعي هو نف�سه ،يتيح لنا التوفيق بني اال�سالم ومتثل بع�ض اجلوانب الهامة للدميقراطية الغربية ،ف�إنه ال �ضمان مطلقاً �أن هذا الفهم هو الذي �سيثبت لأن املجال وا�سع هنا لت�أويل الن�صو�ص الدينية على النحو الذي ينا�سب وجهة نظر امل�ؤول (املجتهد) .فمن امل�سائل التي لها �أهمية ق�صوى هنا �أن الذي يدخل لعبة اال�سالم ال�سيا�سي ال يحر�ص على �أي �شيء �أكرث من حر�صه على �أن يكون فهمه لتعاليم اال�سالم هو املوجه لعمله ال�سيا�سي .انه ،مبعنى �آخر ،ال يدخل هذه اللعبة حلر�صه على احلريات الدميقراطية وعلى امل�ساواة وغري ذلك مما نحر�ص عليه نحن الذين التزمنا بالدميقراطية� .إعالء �ش�أن اال�سالم وجعله املرجع االخري يف �ش�ؤون ال�سيا�سة واالجتماع هما هدفاه ،بغ�ض النظر عما اذا كان اال�سالم دميقراطياً �أم غري دميقراطي ،ين�سجم مع بع�ض جوانب الدميقراطية �أم ال ين�سجم مع �أي جانب منها .انه ال ي�شرتط لإقامة نظام العلماين �أال تتعار�ض �إقامته مع احلريات الدميقراطية ،بل العك�س هو ال�صحيح� :إنه ي�شرتط لإقامة نظام دميقراطي اال تتعار�ض اقامته مع م�ستلزمات النظام الالعلماين املن�شود .وهذا املوقف من الدميقراطية ال ميكن ان يكون موقف امللتزم بها او ببع�ض جوانبها او مبادئها .ال ميكن� ،إذن� ،أن ن�ضمن ،ولو قليال ،ان ما �سيعنيه هذا املوقف على م�ستوى املمار�سة �سيكون �أكرث من تظاهر بالتم�سك باحلريات الدميقراطية وامل�ساواة �أو �أكرث من �إعطاء والء كالمي كاذب لهذه االمور. على �أي حال ،هل ميكن ت�أويل املبادىء الثالثة التي ُيفرت�ض �أن تقوم عليها «دولة اال�سالم» ت�أويال ين�سجم مع الدميقراطية او بع�ض معانيها؟ لن�أخذ املبد�أ االول ،املبد�أ الكلياين .ال �أعرف كيف ميكن ت�أويل مبد�أ كهذا ت�أويال دميقراطيا �أو �شبه دميقراطي .فما دام هذا املبد�أ ،بح�سب فهم الغنو�شي له، ينطوي على النظر اىل تعاليم اال�سالم على �أنها تطال كل �ش�ؤون احلياة� ،إذن ما يقت�ضيه هذا املبد�أ على م�ستوى املمار�سة ال�سيا�سية هو حتويل الأيديولوجيا ال�سيا�سية حلزب «النه�ضة» �إىل �أيديولوجيا كليانية كااليديولوجيا النازية ،مثال .ومن الوا�ضح هنا �أنه ال ميكن ت�أمني حتى احلد االدنى من ال�شروط ال�ضرورية لإقامة نظام دميقراطي يف ظل حكم م�ؤ�س�س على �أيديولوجيا كليانية. ()17
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
21
ثمة احتماالن للرد على موقفنا .االحتمال الأول هو �أن ننظر �إىل موقف الغنو�شي ،كما توحي بع�ض ت�صريحاته ،على �أنه ال يطالب ب�أكرث من التق ّيد باملبادىء االخالقية العامة لال�سالم يف توجه حركته ال تطالب املجال ال�سيا�سي والت�شريعي .مبعنى �آخر� ،إن االيديولوجيا ال�سيا�سية التي ّ مثال بتطبيق ال�شريعة �أو بجعل اال�سالم مرجعنا االخري يف كل �ش�ؤون احلياة الدنيا بل فقط ب�ضرورة �إقامة «دولة اال�سالم» على القيم اال�سالمية اال�سا�سية .واالحتمال الثاين هو �أنّ تبنيه للمبد�أ الكلياين ال ي�ستبعد بال�ضرورة فكرة التعددية ال�سيا�سية� ،إذ �أنه يرتك املجال مفتوحا لوجود �أكرث من حزب �سيا�سي ي�ستوحي براجمه من تعاليم اال�سالم. لن�أخذ االحتمال االول .يف ت�صريح �أدىل به لالذاعة الفرن�سية ،نفى الغنو�شي �أن من مطالبه تطبيق ال�شريعة اال�سالمية .ونقر�أ له يف حاالت نادرة ما ي�شري �إىل �أنه ال يطالب ب�أكرث من التقيد باالخالق والقيم اال�سالمية .ولكن يجب �أال يعمينا هذا عن �أن امل�س�ألة الأبرز يف فكره والتي تظهر على نحو وا�ضح يف ّ جل كتاباته هي مت�سكه التام بفكرة ان اال�سالم دين ودولة وان ال�شريعة اال�سالمية تبقى اال�سا�س االخري الذي ي�شتق منه النظام القانوين للأمة ال�سيا�سية .كذلك ،ما ي�صدق على ال�شريعة هي �أنها «�شاملة ال تفرق بني �سيا�سة ودين� ،أو حياة عامة وخا�صة، ».... كما ر�أى بو�ضوح ح�سن الرتابي الذي تربطه بالغنو�شي قرابة فكرية متينة .من ال�صعب� ،إذن� ،أن ن�أخذ ت�صريحه ب�أنه ال يطالب بتطبيق ال�شريعة م�أخذ اجلد. ولكن لنفرت�ض الآن على �سبيل اجلدل �أن كل ما يطالب به الغنو�شي هو مراعاة املبادىء االخالقية العامة والقيم اال�سا�سية لال�سالم ال تطبيق ال�شريعة .ال�س�ؤال الذي يثور فوراً الآن هو التايل :ما دام الكالم الآن هو على املبادىء االخالقية العامة والقيم اال�سا�سية ،فهل من م ّربر للكالم عليها وك�أنها من خ�صو�صيات اال�سالم؟ هل جمرد ورودها يف القر�آن او احلديث �أو ارتباطها بالفقه اال�سالمي تاريخياً هو ما يجعلها من خ�صو�صيات اال�سالم؟ اذا �أخذنا ،مث ًال ،مبد�أ مثل مبد أ� ال �ضرر وال �ضرار ،الذي كان له دوره يف الفقه اال�سالمي ،فما هو املوجب العتباره خا�صاً باال�سالم؟ �ألي�س هذا املبد�أ �شبيهاً مببد�أ املنفعة العامة الذي جنده يف كتابات جرمي بنثام وجون �ستوارت مل؟ وماذا عن مبد أ� مثل مبد�أ ما ال يتم الواجب �إال به فهو واجب كان وما زال ذا �أهمية يف تفكري فقهاء وعلماء امل�سلمني؟ هل ميكن لعاقل� ،أم�سلماً كان ام م�سيحياً �أم بوذياً� ،أمتديناً كان �أم ملحداً� ،أن يجد اي �سبب عقلي وجيه لرف�ضه؟ ال �شك �أننا عندما ندخل مملكة املبادىء او القيم االخالقية اال�سا�سية فاننا نتجاوز الفروقات الثقافية والدينية بني الب�شر ونقرتب مما هو م�شرتك بينهم .والأهم من هذا �أن االخالق لي�ست بال�ضرورة �ش�أناً من �ش�ؤون التدين ،بل ان طبيعتها، كما ب ّينت يف كتابي االخالق والعقل ،تفر�ض ان تكون م�ستقلة منطقياً واب�ستمولوجياً عن الدين . فالعقل العملي هو طريقنا الوحيد �إىل تقرير ما ي�ستوجبه املنظور االخالقي� .أن يطالب الغنو�شي� ،إذن، ب�أن ت�ستوحي الدولة ت�شريعاتها و�سيا�ساتها من مبادىء اخالقية ال ميكن للعقالء �أن يختلفوا حولها، مهما كانت خلفياتهم الدينية �أو الثقافية ،يلغي احلاجة العتبار الدولة التي تنفذ ما يطالب به ذات هوية �إ�سالمية �أكرث مما هي ،مث ًال ،ذات هوية م�سيحية �أو بوذية �أو حتى العتبارها دينية �أكرث مما هي علمانية. ()18
()19
()20
عدد رقم � | 1أيـار
2013
22
العلمانية اليوم
ولكن ما دام ما يطالب به الغنو�شي ،يف املقام الأول ،هو �إقامة دولة ذات هوية ا�سالمية� ،إذن من الطبيعي �أال يقف عند حد املطالبة ب�أن تراعي الدولة املن�شودة ،يف ت�شريعاتها و�سيا�ساتها، مبادىء او قيماً �أخالقية �أ�سا�سية م�شرتكة بني امل�سلم وغري امل�سلم .انه ال ّبد �أن يطالب �أي�ضاً ب�أن تكون للمبادىء �أو القيم اال�سا�سية من منظور ا�سالمي ،ال �أي منظور �سواه ،االولوية بني املبادىء والقيم التي ينبغي �أن ت�ستوحي منها الدولة املن�شودة ت�شريعاتها و�سيا�ساتها .هل ثمة مبادىء �أو قيم يتوافر فيها هذا ال�شرط؟ قد يظن هنا �أن مبادىء �أو قيماً كهذه هي ما يتعلق مبا يعرف يف االدبيات اال�سالمية بامل�صالح املر�سلة �أو امل�صالح الكربى التي هي ،ح�صراً ،حفظ الدين ،وحفظ حت�ض على حفظ م�صالح كهذه ال ميكن العقل ،وحفظ الن�سل ،وحفظ املال .ولكن حتى مبادىء ّ احل�ض اعتبارها خا�صة باال�سالم �أو �أ�سا�سية فقط من منظور �إ�سالمي� ،إال �إذا كان الق�صد منها هو ّ على حفظ امل�صالح الكربى للم�سلمني دون �سواهم .ولكن اذا كان هذا هو الق�صد منها ،اذن ينتفي عنها ،بالتعريف ،ان تكون مبادىء اخالقية ،ا�سا�سية او غري ا�سا�سية� .أن ننظر �إليها على انها مبادىء اخالقية هو �أن ننظر اليها على �أنها تدعو اىل حفظ امل�صالح الكربى للب�شر ،بغ�ض النظر عن دينهم او جن�سهم او قوميتهم .ويف هذه احلالة ،ال �أظن �أن عاق ًال ميكنه �أن يرف�ض هذه املبادىء. ب�صورة �أخرى ان مبادىء كهذه ميكن ت�أويلها على نحو يجعلها مقبولة للعقل العملي ،باعتباره ذا ا�ستقاللية عن �أي منظور خا�ص ،ا�سالمي �أو غري ا�سالمي. ما زلنا� ،إذن مواجهني بال�س�ؤال :ما املبد�أ الذي ميكن �أن ي�صدق عليه انه خا�ص باال�سالم؟ �إن يوحد بني اخلري والتدين على الطريقة اال�سالمية مبد�أ كهذا ال بد ان ينطوي على ت�صور للخري ّ �أو يجعل هذا النمط من التدين ،على االقل ،من املك ّونات اجلوهرية للخري .ولكن قد يت�ساءل يح�ض عليه مبد�أ كهذا هو �أن يعتنق الب�شر اال�سالم القارىء -ما عالقة مبد�أ كهذا بال�سيا�سة؟ فما ّ وان ميار�سوا العبادة ،بالتايل ،وفق تعاليم اال�سالم ،و�إال فلن يحققوا اخلري لأنف�سهم ،على االقل، على النحو االكمل .والتب�شري ،ال ال�سيا�سة ،هو الو�سيلة امل�شروعة لدعوة الب�شر للعمل مبوجب هذا املبد�أُ .يهمل هذا الت�سا�ؤل االفرتا�ض الأ�سا�سي الذي ينطوي عليه موقف اال�سالميني� ،أال وهو �أنه ال تفرقة يف اال�سالم بني العبادة وال�سيا�سة .معنى هذا ،كما بينا يف الف�صل اخلام�س� ،إن تعاليم اال�سالم ،من منظور اال�سالميني ،تن�ص فيما تن�ص عليه ،على �ضرورة �إقامة الدولة على �أ�سا�س تعاليم الدين احلنيف .ال �أمل يف حتقق اخلري العام ،الذي هو غر�ض الدولة� ،إال با�شتقاقها ت�شريعاتها و�سيا�ساتها من تعاليم اال�سالم. من الوا�ضح هنا �أن االفرتا�ض االخري ال ّبد ان يعيدنا �إىل املوقف الكلياين الذي افرت�ضنا تخلي الغنو�شي عنه� ،أم ًال يف �أن يقود هذا �إىل التوفيق بني �إ�سالميته وبع�ض معاين الدميقراطية .فالكالم على ا�شتقاق الدولة ت�شريعاتها و�سيا�ساتها من تعاليم اال�سالم ال ميكن �أن يعني ،يف �ضوء ما قدمناه، فقط عودة احلكام وامل�ش ّرعني �إىل مبادىء اخالقية عامة كالتي ذكرناها ،لأن مبادىء كهذه لي�ست خا�صة باال�سالم .ما يق�ضيه حتقيق اخلري العام ،بح�سب الت�صور اال�سالمي اخلا�ص للخري ،هو �إذن،
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
23
العودة �إىل ال�شريعة ككل ،اذ بهذه العودة ووحدها تت�أكد �إ�سالمية الدولة .والعودة �إىل ال�شريعة هي ،كما بينا ،العودة �إىل املبد�أ الكلياين بكل ما يعنيه من نفي لأي معنى �أ�سا�سي من معاين الدميقراطية .ال مفر من هذه النتيجة ،ما دام ما له االولوية من منظور اال�سالمي ،هو �إعطاء الدولة هوية �إ�سالمية� .إنه ،لهذا ال�سبب ،دائماً مدفوع يف اجتاه طبع ت�شريعات و�سيا�سات الدولة بطابع اال�سالم اخلا�ص .ونظراً لتبنيه ايديولوجيا كليانية ،ف�إنه لن يكتفي ب�أ�سلمة ال�سيا�سة والق�ضاء بل من الطبيعي �أال يكتفي ب�أقل من �إحداث �أ�سلمة �شاملة تطال الرتبية ،واالخالق ،والفن ،والفكر. لتجنب النتيجة االخرية ،ينبغي �أن نخرج من الت�صور املقرتح للخري كل ما من �ش�أنه ان ي�ضيف �إىل الواجبات الدينية للم�سلم واجب �إقامة نظام �سيا�سي ي�ستمد ت�شريعاته و�سيا�ساته من ال�شريعة. ولكن عندما نعدل هذا الت�صور على النحو االخري ،ما يرتتب على ذلك هو �أنه ميكن للم�سلم �أن يقوم بكل واجباته الدينية يف ظل �أي نظام �سيا�سي ،ما دام هذا النظام يتيح له ممار�سة �شعائره الدينية بحر ّية .مبعنى �آخر ،ال يعود ثمة مربر ،يف هذه احلالة ،للغنو�شي �أو �سواه العتبار �إقامة دولة ذات هوية ا�سالمية واجباً دينياً .ولكن �إذا �أ�ص ّر اال�سالمي على �أن من واجباته باعتباره م�سلماً، �أن يعمل لي�س فقط على ن�شر اال�سالم ودعوة اجلميع لالن�ضواء حتت رايته ،بل �أن ي�ضمن ح�صول هذا ،و�إن �إقامة دولة ذات هوية ا�سالمية هي ال�سبيل الوحيد ل�ضمانه� ،إذن ف�إنه ،بهذا يك�شف بو�ضوح عن نواياه التوتاليتارية النافية لأي �أمل يف تعاي�ش الدميقراطية مع دولته املن�شودة. لن�أخذ الآن االحتمال الثاين لت�أويل املبد�أ الكلياين من وجهة نظر الغنو�شي .بناء على هذا االحتمال ،كما ر�أينا ،ال تعار�ض بني احت�ضان الغنو�شي للمبد�أ املذكور وفكرة التعددية ال�سيا�سية، ما دام يعرتف ب�أن هناك �أكرث من طريقة لفهم امل�ضمون ال�سيا�سي لتعاليم اال�سالم . ي�ضمن اعرتافه هذا ،ظاهرياً ،تعامله بت�سامح مع �أي طريقة غري طريقته لت�أويل امل�ضمون ال�سيا�سي للإ�سالم ويف�سح املجال ،من حيث املبد�أ ،لن�شوء �أكرث من حزب ا�سالمي ،وللتناف�س ال�سيا�سي واملعار�ضة ال�سيا�سية .من ال�سهل طبعاً االعرتاف ب�أن هناك �أكرث من ت�أويل لتعاليم اال�سالم �أو مل�ضمونها ال�سيا�سي .ولكن ما لي�س �سه ًال على اال�سالمي هو االعرتاف ب�أن ت�أويله قد ال يكون هو الت�أويل ال�صحيح .لي�س ما هو مهم هنا االعرتاف بوجود �أكرث من ت�أويل بل موقف امل�ؤول من ت�أويله مقابل �أي ت�أويل مناف�س له .قد يعرتف امل�ؤدلج مارك�سياً ،مثال� ،أن هناك ت�أويالت للمارك�سية مناف�سة لت�أويله ،ولكن ال ميكنه �أن يعرتف �أن ت�أويله قد ال يكون الت�أويل ال�صحيح .و�إذا كان هذا ي�صدق على من هو ملتزم ب�أيديولوجيا علمانية ،فمن باب �أوىل �أن ي�صدق� ،أي�ضاً ،وب�صورة �أقوى ،على من هو ملتزم ب�أيديولوجيا دينية .و�إن اتفق ان وجد �شخ�ص ،ولنقل انه الغنو�شي ،على ا�ستعداد لالعرتاف ب�أن ت�أويله مل�ضمون اال�سالم ال�سيا�سي لي�س ذا امتياز مطلق ،ف�إن هذا �أمر عار�ض وحالة �شاذة جداً .ما ي�صدق على اال�سالمي (= امل�ؤدلج ا�سالمياً) على العموم هو العك�س متاماً ،مما يعني �أنه ال مكان حقيقياً للتعددية ال�سيا�سية يف «دولة اال�سالم» املن�شودة على املدى البعيد. ()21
عدد رقم � | 1أيـار
2013
24
العلمانية اليوم
وحتى لو افرت�ضنا على �سبيل اجلدل �أن الفر�صة �أتيحت يف دولة اال�سالم لن�شوء �أحزاب �إ�سالمية متناف�سة فما الذي ميكن �أن يعنيه هذا للدميقراطية؟ ال يبدو �أنه ميكن �أن يعني �أكرث من تنوع �ضمن الوحدة .ولكن تنوعاً كهذا ال يختلف عن تنوع جنده حتى داخل احلزب الواحد ،ف�أين هي� ،إذن التعددية ال�سيا�سية احلقيقية؟ قد يجيب معرت�ض �أن الغنو�شي ال ميانع يف ن�شوء �أحزاب غري �إ�سالمية بدليل قوله «وال �ضري� ...أن توجد عندنا ...جماعات هام�شية ب�سبب عدم اندماجها يف التيار العام ،تيار اال�سالم» .لي�س هذا االعرتا�ض يف حمله على االطالق .فاذا �أخذنا يف االعتبار �أن ت�سامح الغنو�شي مع هذه اجلماعات مرده �إىل هام�شيتها ،فهل نتوقع منه �أن يبقى على ت�ساحمه هذا واال يرى «حاجة اىل �سلطان الدولة» لقمعها فيما لو مل تعد هام�شية و�أ�صبح لها ثقل �سيا�سي حقيقي؟ طبعا ال .فهو ال يختلف عن �سائر اال�سالميني يف �إ�صراره على �أنه ال مكان يف الدولة املن�شودة �سوى «(حلزب) واحد هو حزب اهلل» و�أن االختالف �ضمن هذا احلزب الواحد ،الذي قد يفرز تنظيمات �سيا�سية متعددة ،ال يطال الغايات بل فقط الو�سائل املطلوبة لتحقيقها .ما يعنيه هذا هو �أن التنظيمات التي قد تن�ش�أ والتي متثل جميعها ما يدعوه الغنو�شي بـ «اجلماعة الناجية» ت�شرتك يف نف�س االيديولوجيا الكليانية و�أن لهذه االيديولوجيا ال�سيطرة التامة على �ش�ؤون املجتمع .يقول الغنو�شي ...« :ميكن �أن تتنوع ا�ساليب الو�صول �إىل االهداف امل�شرتكة بني القادة اجلماهرييني �أو النخبة .فمن مائل �إىل ال�شدة ومائل اىل اللني ،ومن م�ؤثر للعجلة وم�ؤثر للتدرج ،ومن نازع اىل �شيء من الغلو �إىل مف�ضل لالعتدال .االختالف يف الر�أي حول اخلطط تلتف حولها ...فئات من ال�شعب والأ�ساليب بني النخبة جائز �أن ينتهي �إىل اجتهادات خمتلفة ّ تتناف�س لتحقيق الأهداف نف�سها ،فتن�ش�أ االحزاب وهي كلها ،يف احلقيقة ،حزب واحد هو حزب اهلل ،وكلهم اجلماعة الناجية» . من الوا�ضح يف �ضوء ما يقوله الغنو�شي� ،أنه ما دام التناف�س احلقيقي هو بني �أحزاب �سيا�سية ي�ستوحي كل حزب منها برناجمه ال�سيا�سي من نف�س االيديولوجيا الكليانية� ،إذن ال يت�سلم مقادير ال�سلطة يف دولة اال�سالم املن�شودة �إال من �سيحكم مبوجب �أيديولوجيا كليانية يذوب فيها اخلا�ص يف العام .يف ظل هيمنة هذه االيديولوجيا ،ال مكان للحريات الدميقراطية .التناف�س ،يف هذا احلالة ،هو تناف�س بني مواقف خمتلفة ال مت�س �أي ق�ضايا جوهرية .تتقل�ص احلريات الدميقراطية هنا �إىل حرية واحدة حمدودة جداً ،حرية االختيار بني الو�سائل البديلة املقرتحة لتحقيق االهداف االيديولوجية امل�شرتكة. وفوق كل هذا ،و�إن كان املبد�أ الكلياين ال ي�ستبعد بال�ضرورة التعددية ال�سيا�سية بهذا املعنى املحدود جداً� ،إال انه ي�ستبعد التعددية مبا هي تعددية ت�صورات �شاملة للخري� .إنه ،فيما لو و�ضع مو�ضع التطبيق ،ال بد �أن ي�ؤول �إىل فر�ض الت�صور اال�سالمي ال�شامل للخري على املجتمع ب�أكمله. املوجه اال�سا�سي والأخري ل�سيا�سات وت�شريعات الدولة ،ينتهي ففي جعل اال�سالمي لهذا الت�صور ّ �إىل فر�ض هيمنته الكاملة يف املجال العام على ح�ساب الت�صورات املناف�سة. ()22
()23
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
25
لننتقل الآن �إىل تناول الإ ّدعاء ب�أن مبد�أ احلاكمية ومبد�أ مركزانية �سلطة النخبة ال يتعار�ضان بال�ضرورة مع �إقامة نظام دميقراطي .ال �شك �أن الغنو�شي يتكلم يف �أحايني كثرية على «�سلطة االمة» و�سلطة ال�شعب ويلج�أ �إىل مفاهيم مثل مفهوم الإرادة العامة .وهو بذلك يختلف عن �إ�سالميني مثل �سيد قطب و�سواه .ولكن لي�س هذا االختالف �أكرث من اختالف لفظي .فهو ينظر �إىل الن�ص الديني « يا �أيها الذين �آمنوا �أطيعوا اهلل و�أطيعوا الر�سول و�أويل االمر منكم» (الن�ساء� ،آية )59على �أنه «�أ�سا�س نظام اال�سالم ال�سيا�سي واالجتماعي والديني كما �أنه حجر الزاوية القانوين يف الدولة «يحدد بو�ضوح مركز ال�سلطة العليا يف حياة اال�سالمية والد�ستور اال�سالمي» ،لأنه ،يف اعتقادهّ ، امل�سلمني و�أنها هلل ...و�أن طاعة الر�سول (�ص) هي ال�شكل العملي لطاعة اهلل» . ومع �أن الآية ال ُت�شري �إىل �سلطة الأمة ،ف�إنه يقر�أ فيها �إ�شارة م�ضمرة �إىل �سلطة الأمة باعتبارها ال�سلطة االقل �أهمية يف هذا الت�سل�سل الهرمي -ال�سلطوي .ولكن ال يجوز �أن يخدعنا الكالم على �سلطة االمة يف هذا ال�سياق� ،إذ ما �أن ي�أتي الغنو�شي على ذكر �سلطة االمة حتى ي�سارع �إىل تنبيهنا �إىل �أن جمال النفوذ امل�شروع لهذه ال�سلطة « ال يخرج عن �شريعة اهلل الواردة يف الكتاب وال�س ّنة» .واذا �أ�ضفنا الآن ما بيناه �سابقا من �أن تقييد االمة بال�شريعة «يرتجم» �سيا�سياً ،اىل تقييدها ب�إيديولوجيا كليانية ،اذن تتقل�ص �سلطتها اىل ال �شيء تقريباً ،وذلك ل�سببني ا�سا�سيني .ال�سبب االول هو �أن دور االن�سان ينح�صر يف ا�ستخال�ص احللول مل�شكالته وال�سيا�سات والت�شريعات الالزمة لتنظيم وت�سيري �أموره من هذه االيديولوجيا الكليانية .وال�سبب الثاين هو �أن الكالم على االن�سان يف هذا ال�سياق لي�س كالماً على اي �إن�سان� ،إذ فئة خمتارة من الب�شر فقط م�ؤهلة ال�ستخال�ص ما ميكن ا�ستخال�صه من حلول ،و�سيا�سات ،وت�شريعات من هذه االيديولوجيا الكليانية .فمن اال�ستخفاف بعقولنا التظاهر ب�أن كل م�سلم جمتهد .هنا ال يعود ثمة مفر من تبني فكرة حكم النخبة ،وهذا وا�ضح لدى الغنو�شي و�سائر الإ�سالميني ،كما ب ّينا .وبهذا نف�سح املجال على نحو وا�سع لقيام الطبقة احلاكمة يف دولة اال�سالم املن�شودة بال�سيطرة على الأمة حتت �ستار �أنها الأدرى مبا يريده منا اهلل يف دنيانا. �إن هذه النتيجة حمتومة ،ما دام اال�سالميون ينطلقون من االفرتا�ضات الثالثة الآتية .االفرتا�ض االول هو �أن العمل مبوجب اجلزء احلياتي من ال�شريعة واجب ديني .واالفرتا�ض الثاين هو �أن نخبة من الب�شر فقط م�ؤهلة لأن تعرف ما هي م�ستلزمات ال�شريعة على امل�ستوى ال�سيا�سي- القانوين-االجتماعي (�أي امل�ستوى احلياتي ،بعامة) وما هي حدود التق ّيد بها .واالفرتا�ض الثالث واالخري هو �أن الب�شر ،با�ستثناء فئة خمتارة منهم ،معر�ضون جداً للت�أثر مب�صاحلهم اخلا�صة وجعلها اال�سا�س لقراراتهم الفردية او اجلمعية ،وال �ضمان بالتايل يف �أن يكون الدافع اال�سا�سي لهم يف املجال العام هو احلر�ص على �أن ت�أتي اختياراتهم ال�سيا�سية متطابقة مع م�ستلزمات ال�شريعة ،على اجلد افرتا�ض �أنهم على دراية بهذه امل�ستلزمات .ال ميكن ملن ي�أخذ هذه االفرتا�ضات الثالثة م�أخذ ّ �أن يكون مت�سقاً مع ذاته فيما لو ترك م�س�ألة تقرير ما �إذا كان ينبغي ان نط ّبق ال�شريعة �أم ال �أو ما ()24
()25
عدد رقم � | 1أيـار
2013
26
العلمانية اليوم
ينبغي تطبيقه منها وما ال ينبغي تطبيقه لالرادة ال�شعبية .ف�إذا كان تطبيقها واجباً دينياً� ،إذن ال ميكن �أن يوجد �أي اعتبار مبطل له .و�إذا �أخذنا يف االعتبار الآن مبد�أ �أن ما ال يتم الواجب �إال به فهو واجب -وهو مبد�أ عزيز جداً على اال�سالميني ،مبا فيهم الغنو�شي � -إذن فهو واجب ديني �أي�ضاً ت�أمني ال�شروط التي ت�ضمن على النحو االف�ضل عدم االنحراف عن واجب تطبيق ال�شريعة. �إن هذا ما يكمن� ،أ�ص ًال ،وراء مطالبة الإ�سالميني ب�إقامة دولة �إ�سالمية .بقيام دولة كهذه ،تتهي�أ الفر�صة لت�أمني ال�شروط املعنية .و�إذا �أخذنا يف االعتبار الآن االفرتا�ضني الثاين والثالث� ،إذن ال نتوقع �أن يكون بني هذه ال�شروط �شرط �أن ُيرتك للعامة ان تقرر �أي �ش�أن يتعلق بتنفيذ هذا الواجب، ما دامت ال هي يف و�ضع ي�سمح لها ب�أن تعرف ما هي م�ستلزمات ال�شريعة وحدود تطبيقها وال هي ذات ا�ستعداد كاف ،حتى و�إن كانت تعرف هذه امل�ستلزمات ،لأن تقيم قرارتها على �أ�سا�س اعتبارات ال تنحرف بها عن هذا الواجب الديني املزعوم .يف �ضوء كل هذا� ،أي وزن يبقى لإرادة ال�شعب �أو «�سلطة االمة» و�أي دور يبقى ،بالتايل ،للممار�سة الدميقراطية يف دولة اال�سالم؟. الدولة الدينية واحلقوق والواجبات الدميقراطية
تناولنا حتى االن الإعتبارات اال�سا�سية التي تدعونا �إىل االعتقاد ب�أن املبادىء التي تقوم عليها الدولة الدينية هي نظري املبادىء التي تقوم عليها الدولة الكليانية .ننتقل يف هذا الق�سم �إىل تناول اعتبارات �إ�ضافية لتدعيم وجهة نظرنا بخ�صو�ص وجود تعار�ض بني الدولة الدينية والدميقراطية. ما �سيرتكز عليه نقا�شنا الآن هو �أن بع�ض احلقوق اال�سا�سية التي تفر�ضها املمار�سة الدميقراطية هي حقوق ال مكان لها يف الدولة الدينية .ومن االمور االخرى التي �سرنكز عليها يف ق�سم الحق هو يتم خرقها حتى مبجرد �أن بع�ض الواجبات املدنية اال�سا�سية التي تفر�ضها املمار�سة الدميقراطية ّ اللجوء اىل االعتبارات الدينية يف املجال العام .مبعنى �آخر ،لي�س خرقها منوطاً فقط بقيام دولة دينية ،بل �إنه يكفي خلرقها ان ُيقحم الدين يف ال�سيا�سة و�أن ت�صبح مواقف واحدنا من الق�ضايا العامة مواقف لي�س لها �أي �أ�سا�س معلن �سوى اال�سا�س الديني. على �أي حقوق وواجبات نتكلم هنا؟ حتى جنيب عن هذا ال�س�ؤال على نحو واف ٍ لنتناول باخت�صار �أو ًال ما الذي ي�شكل ،يف اعتقادنا ،املربر اال�سا�سي ( (raison d’êtreلوجود الدميقراطية .ال �أق�صد هنا تف�سر وجودها �أو ن�ش�أتها بل الكالم على علة reasonوجودهاُ .تخت�صر الكالم على اال�سباب التي ّ هذه العلة ،يف نظري ،يف االعتقاد ب�ضرورة م�شاركة كل �شخ�ص را�شد يف تقرير القيم وال�سيا�سات التي يفرت�ض �أن تنظم احلياة امل�شرتكة لأفراد املجتمع الواحد .ت�ستمد الدميقراطية ال�سيا�سية، يف خمتلف ال�صور التي عرفناها عليها ،م�شروعيتها من فكرة �أن ال �إن�سان ،مهما �سما ،هو من الذكاء واحلكمة والطيبة مبكان بحيث يكون م�سوغاً له �أن يحكم الآخرين بدون ر�ضاهم .واملدلول االيجابي لهذه الفكرة هو �أن كل الذين يت�أثرون بامل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية والقانونية واالجتماعية
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
27
من �أفراد املجتمع الرا�شدين لهم احلق يف �أن ي�شاركوا يف تكوين و�إدارة هذه امل�ؤ�س�سات .ال يوجد �شرط غري �شرط كون الفرد الرا�شد املنتمي �إىل جمتمع معني يت�أثر �أو ميكن �أن يت�أثر مب�ؤ�س�سات هذا املجتمع ما يعطيه حق امل�شاركة يف تكوينها وادارتها� .أن كونه يت�أثر بها وكونه ذا حق كالأخري هما وجهان لعملة واحدة. �إذن� ،إن الفحوى الأ�سا�سية لفكرة الدميقراطية ب�صفتها غاية ،كما يذكرنا جون ديوي ،هي فكرة امل�شاركة ،م�شاركة كل �أع�ضاء املجتمع يف تقرير �صورة واجتاهات امل�ؤ�س�سات التي لها م�سا�س بحياتهم امل�شرتكة � .أما الدميقراطية ال�سيا�سية من حيث هي ترتيبات م�ؤ�س�سية واجرائية معينة لإدارة دفّة االمور على امل�ستوى ال�سيا�سي ول�صنع القوانني وانتخاب امل�شرعني وغري ذلك ،فما هي �إال و�سيلة لتحقيق الدميقراطية ب�صفتها غاية. من �أهم الأ�س�س التي تقوم عليها فكرة الدميقراطية االعتقاد بقدرة العقل االن�ساين على �إيجاد احللول للم�شكالت العملية التي تواجه الب�شر من خالل العمل اجلماعي والتعاوين .الب�شر قادرون عن طريق �إعمالهم لقواهم العقلية وتوظيفهم ملواهبهم وتعاونهم مع بع�ض �أن ي�صلوا تدريجياً وعلى نحو مطرد �إىل احلكمة واملعرفة ال�ضروريتني لتوجيه العمل اجلماعي �إىل ما فيه م�صلحتهم باعتبارهم ي�شرتكون يف حياة واحدة . تقدم� ،أنه ال بد من مراعاة �أي نظام �سيا�سي لل�شروط الآتية من ال�سهل �أن نرى الآن ،يف �ضوء ما ّ حتى ي�ستحق ب�أن ُينعت ب�أنه دميقراطي: ال�شرط االول هو �شرط عدم ا�ستئثار �أي فرد �أو جماعة بال�سلطة� ،أي �شرط �أن تكون االرادة ال�شعبية وحدها م�صدراً لل�سلطة .وال�شرط الثاين هو �شرط تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي ،مما ي�ستوجب حياد الدولة �إزاء االيديولوجيات املت�صارعة .وال�شرط الثالث هو �إعطاء �أي مواطن احلد الأعلى من احلرية الذي يتفق مع �إعطاء حرية مماثلة لكل مواطن �سواه .وال�شرط الرابع هو ّ عدم حرمان �أي فرد يدخل يف معدودية الدولة من حق املواطنة على �أ�سا�س تع�سفي .وال�شرط اخلام�س واالخري هو �شرط التعاون ،وبالتايل ،ت�أمني االجواء املنا�سبة للحوار ال�سيا�سي بني خمتلف الفئات و�ضمان االحرتام املتبادل. ال ي�ستحق ال�شرط الأول الكثري من التعليق .فمن الوا�ضح �أن ال�شعب وحده �صاحب احلق يف النظام الدميقراطي ب�أن يق ّرر من يحكم با�سمه و�ضمن �أي حدود ولأية غاية .وا�ستئثار �أي جماعة �أو حزب �أو فرد بال�سلطة ال�سيا�سية يعني جتريد ال�شعب من هذا احلق .وقد �سبق وب ّينا ب�أي معنى يتعار�ض قيام دولة دينية مع هذا ال�شرط ،وال حاجة لقول املزيد. ال�شرط الثاين (�شرط تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي) ذو �أهمية بالغة .املربر اال�سا�سي لوجود الدميقراطية ،كما ر�أينا ،هو �أنه ال يجوز �أن يخ�ضع الب�شر حلكم �أحد بدون ر�ضاهم ،مما يعني انهم وحدهم �أ�صحاب احلق يف تقرير ال�سيا�سات والقيم التي يفرت�ض �أن تنظم حياتهم امل�شرتكة. ()26
()27
عدد رقم � | 1أيـار
2013
28
العلمانية اليوم
و�إذا �أ�ضفنا الآن �أن هذا احلق لي�س منوطاً �سوى بكون ال�شخ�ص را�شداً ويتميز باال�ستقاللية الذاتية� autonomy ،إذن لي�س هو حقاً لبع�ضهم �سوى �سواهم (�أي لفئة خمتارة منهم ،مث ًال) �أو حتى لأكرثيتهم دون �أقليتهم� .إنهم ميتلكون هذا احلق جميعاً ،مثلما ميتلكونه ا�ستغراقياً، وامتالكه جمعياً م�شتق ،ال �شك ،من امتالكه ا�ستغراقياً. �إذن ،هو ،يف �أ�سا�سه ،حق لكل فرد را�شد منهم للم�شاركة على قدم امل�ساواة يف العمل ال�سيا�سي، �أي حقه يف �أن تتاح له نف�س فر�ص العمل ال�سيا�سي املتاحة لأي �سواه .ولكن من الوا�ضح �أن الدولة التي ي�س ّوغ د�ستورها �أو االعراف القانونية املعمول بها عدم حيادها �إزاء وجهات النظر ال�سيا�سية املختلفة او �إزاء االيديولوجيات املتناف�سة يف املجال العام هي دولة تخرق على نحو فا�ضح مبد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي .فاالفراد الذين ينتمون �إىل التجمعات �أو االحزاب التي تقف الدولة منها موقفاً �سلبياً �أو معار�ضاً ال تتاح لهم نف�س الفر�ص للم�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية التي تتاح لالفراد الذين ينتمون اىل التجمع او احلزب املوايل لإيديولوجية الدولة. ال يحتاج واحدنا �إىل كبري عناء ليدرك مدى تعار�ض الدولة الدينية مع مبد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي .فدولة كهذه ذات هوية �أيديولوجية اتفق �أنها م�ستمدة من دين معني .ال يعني كونها ذات �أ�سا�س ديني ،حتى باملعنى االبراهيمي للدين� ،إن الدولة التي تعمل بوحيها حمايدة على �أ�سا�س �أن يوجه عمل الدولة ،وهو ،بالتعريف ،ال ميكن ان ينتج عنه حت ّيز لفريق �ضد القانون الإلهي هو الذي ّ فريق �أو �إجحاف بحق �أحد .فما ي�صح قوله هنا لي�س �أن الدولة تعمل بوحي القانون االلهي ،بل مبا يعتقد الذين على ر�أ�سها �أنه القانون االلهي ومبا يفرت�ضونه على انه امل�ضمون ال�سيا�سي -االجتماعي له .ان القانون الإلهي يتحول �إذن �إىل ايديولوجيا �سيا�سية -اجتماعية ،بح�سب فهم جماعة معينة له نابع من خ�صو�صياتها الدينية ،والثقافية ،وامل�صلحية .وما دامت هذه اجلماعة ال تعرتف ،بل ال ميكن �أن تعرتف ،ب�أنه متاح لأي جماعة �سواها ال ت�شاركها يف معتقدها الديني �أن تدرك ما هو القانون االلهي او ما يرتتب عليه �سيا�سياً واجتماعياً� ،إذن ف�إنها بذلك تعطي للدولة التي تعمل بوحي فهمها وتف�سريها اخل�صو�صيني للقانون االلهي طابعاً متحيزاً ي�ستدعي حرمان اجلماعات االخرى من امل�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية على قدم امل�ساواة مع اجلماعة احلاكمة واجلماعات املوالية لها .ما هو ن�صيب العلماين ،مث ًال، حتى وان كان م�سلماً ،يف امل�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية لدولة كهذه؟ وما هو ن�صيب اجلماعات الدينية االخرى ون�صيب الال�أدريني يف امل�شاركة يف هذه احلياة ال�سيا�سية؟ اجلواب وا�ضح :ال �شيء .ف�إذا كان وجود دولة كهذه هو تنفيذ لأمر �إلهي ،واذا كانت قوانينها و�سيا�ساتها حمكومة بالقانون االلهي ،اذن ال دور يبقى للذين يرف�ضون القانون االلهي �أ�سا�ساً للحكم �أو للذين ال يدينون بدين الدولة -ال دور يبقى لهم يف جمال الت�شريع وتقرير ال�سيا�سات .بل �إن «منطق» الدولة الدينية يفر�ض قمعهم فيما لو ينم عن معار�ضة للإيديولوجيا الر�سمية للدولة .فما دام الق ّيمون على �ش�ؤون قاموا ب�أي ن�شاط �سيا�سي ّ الدولة ي َرون اليها حمكومة بالقانون االلهي بناء على �أمر �إلهي� ،إذن ،لأن االمر االلهي ملزم على نحو مطلق ،ال يحق لأحد �أن يقوم ب�أي عمل يتعار�ض مع تنفيذ �أمر اهلل لنا بعدم خمالفة القانون االلهي (*)
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
29
ن�سن من قوانني ّ ونختط من �سيا�سات .ولكن ماذا ميكن �أن يعني هذا ،عملياً� ،سوى فر�ض حظر فيما ّ قانوين على كل الذين يعار�ضون االيديولوجيا الر�سمية للدولة � -أي قمعهم؟. ولكن -قد يت�ساءل بع�ضهم � -أال ي�صدق �شيء مماثل حتى على الدولة الدميقراطية ،دون �أن يعني هذا جتريدها من طابعها الدميقراطي؟ �ألي�ست الدولة الدميقراطية متحيزة للفكرة الدميقراطية وال تعطي ،بالتايل ،نف�س الفر�ص ال�سيا�سية للمعادين للدميقراطية التي تعطيها للموالني للدميقراطية؟ جوابي هو �أنه ال �شيء يف النظام الدميقراطي ،ب�صفته نظاماً دميقراطياً ،يحول دون قيام تنظيمات �سيا�سية ذات �أهداف يحتاج حتقيقها اىل اطار غري دميقراطي .والأكرث من ذلك ،ال ميكن �أن يكون م�سوغاً من منظور دميقراطي و�ضع العراقيل �أمام و�صول تنظيمات كهذه �إىل احلكم .هذه ،يف الواقع ،هي مفارقة الدميقراطية التي كانت مدار نقا�ش العديد من علماء وفال�سفة ال�سيا�سة� ،أي املفارقة الكامنة يف كون الفكرة الدميقراطية على م�ستوى املمار�سة حتمل يف تالفيفها �إمكان انتقائها. ال�صورة تختلف متاماً بالن�سبة للدولة الدينية .فهي ،كما ر�أينا واجبة ب�أمر �إلهي ،من وجهة نظر يهددون وجودها من داخلها. م�ؤيديها ،وال ميكن الت�ساهل ب�أي معنى من املعاين مع الذين ّ ولأنها واجبة ب�أمر �إلهي ،ف�إنها واجبة على نحو مطلق� .إذن «منطق» الدولة الدينية يفر�ض �أن يج ّرد العلماين �أو اللأدري �أو الذي ال يدين بدين الدولة من احلق يف امل�شاركة يف احلياة ال�سيا�سية لهذه الدولة. قد يعرت�ض معرت�ض على �أ�سا�س �أن الدميقراطية تعني حكم االكرثية .واذا اتفق �أن الأكرثية يف جمتمع ما م�سلمة ،مثال ،و�أن احلكم ميثل �إرادتها ،فكيف ميكن �أن يكون هذا احلكم ال دميقراطياً، حتى وان عنى ،عملياً ،تهمي�ش االقلية �سيا�سياً؟ مبعنى �آخر� ،إذا اختارت الأكرثية ب�صورة دميقراطية �أن يتخذ احلكم �صورة �إ�سالمية و�أن ُي�صار اىل التقيد بالقانون االلهي ،كما جنده يف القر�آن وال�س ّنة، يف كل املجاالت احلياتية فما هو املوجب ،يف حالة كهذه ،العتبار احلكم ال دميقراطياً؟. يف ر ّدنا على هذا االعرتا�ض ،ال بد �أو ًال من التو�ضيح �أن كون الطرق الدميقراطية هي التي تو�صل حزباً ما �إىل احلكم ال يعني بال�ضرورة �أن هذا احلزب ،بعد و�صوله �إىل احلكم ،لن يتحينّ الفر�ص لتقوي�ض النظام الدميقراطي الذي �أو�صله اىل احلكم .فاذا كان هذا احلزب ذا �أهداف ال تتحقق ظل نظام دميقراطي� ،إذن ال نتوقع ،يف حال و�صوله �إىل احلكم وجناحه يف حتقيق �أهدافه� ،أن ّ يف ّ يظل النظام الذي �أو�صله اىل احلكم حمافظاً على طابعه الدميقراطي. من امل�سائل االخرى ذات االهمية هنا �أن جمرد مطالبة اجلماعة التي ي�شكل املنتمون اليها �أكرثية تنم عن ميل معاد جداً للروح الدميقراطي عددية يف املجتمع �أن تتحول اىل اغلبية �سيا�سية حاكمة ّ والواجبات املدنية النابعة من فكرة الدميقراطية .ال فرق هنا �إن كانت هذه اجلماعة ت�شكل �أكرثية عرقية �أو �أكرثية دينية �أو �أكرثية تتحدد ثقافياً على نحو ما .لي�س من حق البي�ض يف الواليات املتحدة، مثال ،ان يطالبوا �أن يتحولوا �إىل �أغلبية �سيا�سية حاكمة ملجرد �أنهم ي�شكلون �أكرثية ال�سكان ،مثلما ()28
عدد رقم � | 1أيـار
2013
30
العلمانية اليوم
لي�س من حق اليهود يف «ا�سرائيل» �أن يطالبوا ب�شيء مماثل ل�سبب مماثل .فال من املنظور االخالقي وال من املنظور الدميقراطي ميكن ت�سويغ مطالبة كهذه. حتى تتو�ضح هذه امل�س�ألة �أكرث ،من ال�ضروري �أن نبد�أ بالتمييز بني املبادىء التي ينبغي التق ّيد بها يف �إطار املمار�سة الدميقراطية واملبادىء التي ينبغي التقيد بها للحفاظ على هذه املمار�سة وعلى ا�ستمرارية النظام الدميقراطي نف�سه .ما يهمنا ،بوجه خا�ص ،بني املبادىء التي جتد تطبيقها �ضمن املمار�سة الدميقراطية ،هو مبد�أ حكم االغلبية .ال مهرب من التقيد بهذا املبد�أ من الناحية العملية �ضمن نطاق النظام الدميقراطي ،لأن الإجماع على �أي ق�ضية لي�س باالمر املمكن عملياً �إال يف حاالت نادرة جداً� .إذن ،جعل الإجماع �أ�سا�ساً التخاذ قرارات �سيا�سية هو مبثابة تعطيل لالرادة ال�سيا�سية .ولكن �أن تتماهى االغلبية ال�سيا�سية ،د�ستورياً ،مع جماعة معينة عرقية �أو دينية او ثقافية ،هو خرق لأهم املبادىء املطلوبة للحفاظ على املمار�سة الدميقراطية ،بل وعلى يحدد امل�س�ؤوليات ،واحلقوق، النظام الدميقراطي نف�سه .وهذا املبد�أ هو �أن الد�ستور الذي ينبغي �أن ّ والواجبات لكل من احلكام واملحكومني ،يف �إطار املمار�سة الدميقراطية ،ال يجوز �أن يت�ضمن �أي بنود تقود ،او حتى قد تقود� ،إىل ترجيح م�صلحة فريق على م�صلحة �سائر الفرقاء �أو �إىل ح�صر ال�سلطة يف فريق دون �سائر الفرقاء �أو تقوية نفوذ فريق على ح�ساب كل فريق �آخر .ولذلك �أن يطالب فريق ،لأنه ميثل �أكرثية دينية �أو عرقية �أو غري ذلك� ،أن ي�ؤول احلكم �إليه على نحو دائم ال ميكن ان تكون له نتيجة ،يف حال متكن هذا الفريق من ت�سلم احلكم� ،سوى و�ضع د�ستور جديد يخالف املبد�أ املعني� .إن ما يق�ضي به هذا املبد�أ هو �ضرورة �إجماع جميع الفرقاء على الد�ستور الذي يفرت�ض �أن يكون احلكم االخري للجميع الذي يتعني على مبادئه تقرير م�شروعية �أو عدم جت�سد م�شروعية الت�شريعات التي يطال ت�أثريها جميع الفئات .من هنا يت�ضح �أن من ال�ضروري ان ّ بنوده مبادىء من�صفة للجميع وتنال ،بالتايل ،ثقة وت�أييد اجلميع .ولكن هذا ال ميكن ان ينطبق على د�ستور يعك�س ر�أي االكرثية الدينية ،مث ًال ،بخ�صو�ص ما ينبغي ان ي�شكل امل�صدر الأخري واحلكم الأخري ملا يجوز �س ّنه �أو عدم �س ّنه من قوانني ولكيف ينبغي ان تدار �ش�ؤون االمة ،لأن يج�سد ت�صو ًرا للحق واخلري خا�صاً باجلماعة الدينية التي اتفق انها متثل د�ستوراً كهذا ال بد �أن ّ �أكرثية عددية يف املجتمع .وو�ضع د�ستور كهذا مو�ضع التنفيذ هو مبثابة فر�ض هيمنة هذا الت� ّصور اخلا�ص للحق واخلري على املجتمع ب�أكمله .وال �شك �أن د�ستوراً كهذا يخالف على نحو �صارخ مبد�أ عدم جواز جت�سيد د�ستور الدولة الدميقراطية ملا يقود ،عملياً� ،إىل ترجيح م�صلحة جماعة على م�صلحة �سائر اجلماعات او تقوية نفوذها على ح�ساب كل جماعة �سواها. والأكرث من ذلك �أن د�ستوراً كهذا يخالف �أي�ضاً ال�شروط الثالثة االخرية ال�ضرورية لوجود نظام دميقراطي .ال�شرط الثالث من هذه ال�شروط هو �إعطاء كل فرد احلد االق�صى من احلرية الذي يتفق مع �إعطاء حرية مماثلة لكل من عداه .ما يعنينا الآن هو حق االعتقاد الذي يت�ضمن �إعطاء كل فرد احلرية يف �أن يعتقد فيما ي�شاء ،ما دام هذا ال يتعار�ض مع �إعطاء حرية مماثلة لكل من عداه. (**)
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
31
وهذا ي�شتمل على �إعطائه احلرية يف �أن يعتقد يف �أي دين ي�شاء �أو يف �أن يغري دينه �أو يف �أال يعتقد ب�أي دين على االطالق .ولكن هذا يفرت�ض م�سبقاً �ضرورة حياد الدولة �إزاء الدين واالديان املختلفة ،مثلما يفرت�ض حيادها ،كما بينا� ،إزاء االيديولوجيات املختلفة .ولكن الدولة الدينية، بالتعريف ،وكما ال بد �أن ين�ص عليه د�ستورها بو�ضوح ،منحازة لدين معني .فكيف ميكن لدولة هذا د�ستورها �أن ت�ضمن حرية االعتقاد الديني و�أن تكون عام ًال م�ساعداً على �إ�شاعة جو الت�سامح يف املجتمع بحيث ال يعود الفرد خا�ضعاً با�ستمرار ل�ضغوط غري عادية متنعه من تغيري اعتقاده الديني، �أن اتفق �أنه يدين بدين الدولة� ،أو جتعل بقاءه على دينه� ،إن اتفق �أنه ال يدين بدين الدولة� ،أمراً غري مرغوب قط؟ الغنو�شي نف�سه ،على الرغم من �إظهاره والء كالمياً حلرية االعتقاد ،ال يعطي للمولود لأب م�سلم حرية التخلي عن دين والده ،بدليل �أنه يعترب الردة جرمية ،و�إن مل يذهب اىل اعتبارها جرمية دينية ،بل اكتفى باعتبارها جرمية �سيا�سية .ما هو مهم هنا ،على �أي حال ،لي�س ما يقوله هذا املنظر اال�سالمي او ذاك بخ�صو�ص حرية االعتقاد ،بل «منطق» الدولة الدينية من حيث كونها تقوم على تعاليم دين معني وتظهر انحيازها الوا�ضح لهذا الدين� .إن «منطق» دولة كهذه ال ي�سمح بت�أمني ال�شروط املطلوبة ملمار�سة الذين ال ينت�سبون لدين الدولة حرية ال�ضمري واالعتقاد بدون اخل�ضوع ل�شتى الإكراهات وال�ضغوط .قد ال توجد قوانني متنعهم من ذلك ،و�إن كان هذا جد م�ستبعد .امل�شكلة لي�ست بال�ضرورة �إن الإكراهات وال�ضغوط التي يخ�ضع لها غري املدينني �أمراً ّ بدين الدولة نا�شئة عن قوانني معينة ،بل امل�شكلة ،يف �أ�سا�سها� ،أن انحياز الدولة ،من جهة ،ي�شجع على عدم ت�سامح االكرثية التي تدين بدين الدولة �إزاء من ال يدينون بهذا الدين ،واحلفاظ على الهوية الدينية للدولة ،من جهة ثانية ،يق�ضي ب�إعطاء االف�ضلية يف �شغل الوظائف املهمة يف القطاع العام للذين يدينون بدين الدولة .تن�ش�أ عن نزعة عدم الت�سامح العامة �شتى ال�ضغوط واالكراهات التي جتعل غري املت�سامح معهم يف و�ضع ّ يتعذر عليهم فيه �أن ميار�سوا بحرية تامة حقّهم يف االعتقاد. وال نتوقع هنا من دولة منحازة لدين غري املت�ساحمني ومتثل م�صاحلهم �أن حتمي بقوانينها حرية غري املت�سامح معهم يف ممار�سة �شعائرهم الدينية وحقهم يف االعتقاد .و�إعطاء الدولة الأف�ضلية يف �شغل املراكز والوظائف يف القطاع العام ملن يدينون بدينها هو عامل مولد ل�ضغط قوي على الذين ال يدينون بهذا الدين لتغيري دينهم والإنت�ساب �إىل دين الأكرثية .من هنا يت�ضح �أن «منطق» الدولة الدينية يتنافر مع مبد�أ تكاف�ؤ احلرية ،مثلما يتعار�ض مع مبد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي. وهو يتعار�ض �أي�ضاً مع ال�شرط الرابع الذي هو ،يف فحواه اال�سا�سي� ،شرط امل�ساواة يف احلقوق .ال يجوز ،بح�سب هذا ال�شرط ،حرمان �أي فرد يدخل يف معدودية الدولة من حقوق املواطنة على �أ�سا�س تع�سفي .ال نفرت�ض هنا طبع�أ ان حقوقاً كهذه� ،أو �أي حقوق �سواها ،مطلقة .ميكن ،من حيث املبد�أ� ،إيجاد �أ�سباب وجيهة حلرمان فرد من حقوقه ،ولكن دين الفرد ال ميكن �أن يكون من هذه الأ�سباب ،من منظور دميقراطي .كل من يدخل يف معدودية الدولة ،بغ�ض النظر عن ملته ،يت�أثر ب�سيا�سات وت�شريعات الدولة ،مما يعطيه من املنظور الدميقراطي ،كما ب ّينا �سابقاً ،احلق يف امل�شاركة (***)
()29
عدد رقم � | 1أيـار
2013
32
العلمانية اليوم
يف تقرير وادارة امل�ؤ�س�سات التي يخ�ضع لت�أثرياتها .لي�س دينه هو ما يجعله خا�ضعاً لت�أثري هذه امل�ؤ�س�سات بل كونه ي�شرتك يف حياة واحدة مع �سائر �أفراد املجتمع ،على خمتلف مللهم ونحلهم، الذين ت�شكل هذه امل�ؤ�س�سات م�صدر القيم والقواعد التي يفرت�ض �أن تنظم احلياة امل�شرتكة لهم. ولذلك� ،أن نعطي للدولة هوية دينية هو بال�ضرورة �أن جن ّرد الذين ال يدينون بدين الدولة من الذين يدخلون يف معدوديتها من الكثري من حقوق املواطنة التي يتم ّتع بها االخرون .يح ّرم على غري امل�سلم ،مث ًال ،يف دولة ذات هوية �إ�سالمية من �شغل منا�صب ومراكز معينة لها ارتباط مبا�شر بالهوية الدينية للدولة .بل يح ّرم هذا حتى على امل�سلم العلماين� ،إذ هو يف رف�ضه �أن تكون للدولة اي هوية دينية ،ي�شارك غري امل�سلم يف رف�ضه لأن تكون للدولة هوية ا�سالمية .من اجلدير باملالحظة هنا �أن الغنو�شي ال يعترب هذا احلرمان منطوياً على متييز بل على جمرد ت�صنيف ،وينفي ،بالتايل تعار�ضه مع مبد�أ امل�ساواة يف احلقوق � .إن هذا املوقف حميرّ جداً ،بالنظر �إىل �أن الغنو�شي يدرك بو�ضوح انه لي�س لغري امل�سلم ان يرف�ض �شرعية الدولة ومواطنيته تظل غري مكتملة بدون اعتناقه حمددة بالعقيدة مما يعني حرمان غري امل�سلم ،وحتى امل�سلم العلماين، اال�سالم .املواطنة وحقوقها ّ من حقوق تدخل يف اطار املواطنة العامة .والالم�ساواة وا�ضحة جداً هنا� :إنها الم�ساواة يف حقوق املواطنة .لي�س �أكرث من هراء� ،إذن ،ادعاء الغنو�شي �أنه لي�س يف ذلك خمالفة ملبد�أ امل�ساواة. لننتقل الآن اىل ال�شرط اخلام�س واالخري �شرط التعاون الذي ي�ستلزم ،بدوره ،خلق �أجواء منا�سبة للحوار بني جميع املواطنني وتقيدهم بواجبات املواطنة .ي�أتي يف ر�أ�س هذه الواجبات واجب احرتام كل جماعة لالعتقادات الدينية �أو الالهوتية �أو امليتافيزيقية لأي جماعة �سواها .امل ّربر اال�سا�سي للدميقراطية ال�سيا�سية ،كما ر�أينا ،هو االعتقاد ب�ضرورة ا�شرتاك كل االفراد �أو اجلماعات يف تقرير القيم ،وال�سيا�سات ،والقوانني التي يفرت�ض ان تنظم احلياة امل�شرتكة لهم باعتبارهم ي�شكلون جمتمعاً واحداً .وهذا ،كما �أو�ضحنا ،يفرت�ض قدرة العقل اجلمعي (�أو العقل العام) على �إيجاد احللول املنا�سبة للم�شكالت العملية التي تواجه الب�شر ،مما يجعل التعاون يف �أ�سا�س املمار�سة الدميقراطية والتدابر من �أ�سو�أ معرقالت هذه املمار�سة .ووا�ضح ان التعاون ممتنع� ،إال يف اجواء قمينة بتوليد ال�شروط ال�ضرورية لقيام تفاعل حواري بني خمتلف وجهات النظر واملواقف من الق�ضايا العامة� .أهم �شرط من هذه ال�شروط هو تق ّيد جميع الفئات مببد�أ االحرتام املتبادل الذي تناولناه بالتف�صيل يف الف�صل الثالث. من الوا�ضح �أن الدولة الدينية ال ميكن لها ،بحكم طبيعتها� ،سوى �أن ت�ستبعد من �سريورة التفاعل احلواري يف املجال العام كل الذين ال يدينون بدين الدولة وكذلك كل العلمانيني ،حتى و�إن كانوا يدينون بدينها .فال ميكن للأخريين �أن ي�شاركوا م�شاركة فعلية ،مع �سائر الفئات ،يف تقرير ال�سيا�سات العامة ،والقيم ،والقوانني التي يفرت�ض �أن تنظم احلياة امل�شرتكة داخل جمتمعهم وترتتب عليها نتائج ذات م�سا�س مب�صاحلهم .ففي دولة اال�سالم الغنو�شية ،مث َال ،اال�شرتاك يف احلوار ،يف اف�ضل حال ،متاح للإ�سالميني وحدهم (الذين ينتمون �إىل �أحزاب �إ�سالمية) وللموالني لاليديولوجيا الر�سمية من امل�سلمني ،وك�أنهم ال يرتبطون بالفئات االخرى يف جمتمعهم ب�أوا�صر احلياة امل�شرتكة. ()30
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
33
من الطبيعي �أال ت�شارك الفئات الأخرية يف �سريورة احلوار ال�سيا�سي حول الق�ضايا العامة و�أال يكون لها دور� ،أو �أال يكون لها ما ت�ساهم به ،يف تقرير ال�سيا�سات ،والقيم ،والقوانني التي �ستكون مطالبة باخل�ضوع لها ،ما دام ما تعنيه هذه امل�شاركة يف نهاية املطاف هو الو�صول �إىل اتفاق حول �أي ال�سيا�سات �أو الت�شريعات التي ينظر فيها ال يقود تبنيها �إىل خمالفة �أي ن�ص ديني �أو خمالفة �أي قيم من قيم اال�سالم اال�سا�سية .فمن الوا�ضح انه ال الذين يدينون بدين �آخر ويرف�ضون ،بالتايل، اللجوء اىل الن�صو�ص الدينية للإ�سالم وال امل�سلمون العلمانيون الذين يرف�ضون ا�شتقاق املواقف من الق�ضايا العامة من �أي ن�ص ديني ،ال �أولئك وال ه�ؤالء لديهم ما ي�ساهمون به يف املجال العام. �إنهم ُي�ستبعدون ب�صورة طبيعية من �سريورة التفاعل احلواري على خمتلف م�ستوياته يف املجالني ال�سيا�سي واالجتماعي .ي�صبح و�ضعهم �أ�شبه بو�ضع ال�شاهد �أو املتفرج على اجلدل الدائر على ال�ساحة العامة ال بو�ضع امل�شارك يف هذا اجلدل. والدولة الدينية ،وحتى جمرد الدعوة �إىل �إقامتها ،ت�شكل خرقاً فا�ضحاً ملبد�أ الإحرتام املتبادل. يقول هذا املبد�أ :ال تعامل �أفكار واعتقادات �سواك التي تفتقر �أ�س�سها �إىل ال�شفافية من منظورك اخلا�ص �إال بنف�س االحرتام الذي تريدهم �أن يعاملوا به �أفكارك واعتقاداتك التي تفتقر �أ�س�سها �إىل ال�شفافية من منظورهم هم .ما يرتتب على هذا املبد�أ هو �أنه ال يجوز لأي فريق �أن ّ يحل �سلطته املعرفية حمل ال�سلطة املعرفية للفريق املخالف له يف اعتقاده ،حيث تكون االعتقادات مو�ضوع اخلالف من النوع الذي يفتقر �إىل �أ�س�س �شفافة. ال ي�صدق ال�شيء نف�سه على احلاالت التي ال تكون فيها االعتقادات املختلف حولها ذات �أ�س�س غري �شفافة .االعتقادات العلمية هي �أف�ضل مثال على االعتقادات التي ال تفتقر �أ�س�سها �إىل ال�شفافية .ما يعنيه هذا هو �أن اخلالفات التي تن�ش�أ حولها هي خالفات ميكن احل�سم فيها ،من حيث املبد�أ ،عن طريق اللجوء اىل منهج معروف ،ومتفق عليه ،وموثوق فيه من قبل اجلميع� ،إال وهو املنهج العلمي .من ميتلك الدليل العلمي الكايف لدعم اعتقاده هو يف و�ضع معريف متفوق على و�ضع من هو ذو اعتقاد خمالف وال ميتلك �أي �أدلة كافية لت�سويغه .واالعتقاد املخالف على نحو �صارخ ملا هو ثابت علمياً ،كاالعتقاد ب�أن ال�شم�س تدور حول االر�ض �أو �أن االر�ض م�سطحة، ال ي�ستحق �أي احرتام� .إن و�ضع العامل �سلطته املعرفية حمل �أو فوق «ال�سلطة املعرفية» للجاهل يف �أمور العلم ال ي�شكل مطلقاً خرقاً ملبد�أ االحرتام املتبادل. تختلف ال�صورة كلياً عندما تتعامل مع اعتقادات من النوع الديني �أو امليتافيزيقي .ال توجد طرق معروفة ،ومتفق عليها ،وموثوق فيها من قبل اجلميع حل�سم اخلالفات التي قد تن�ش�أ حول اعتقادات من هذا النوع .ولذلك تظل اعتقادات كهذه مثرية للجدل على م ّر ال�سنني .ما يق�ضي به مبد�أ االحرتام املتبادل ،بخ�صو�ص اعتقادات كهذه ،هو �أنه يف حال ح�صول خالف حولها ،على كل طرف من �أطراف اخلالف �أن يحرتم حق كل طرف �آخر يف �أن يختار الطريق التي يراها منا�سبة
عدد رقم � | 1أيـار
2013
34
العلمانية اليوم
للو�صول �إىل «احلقيقة» � -أي حقه املعريف ولي�س فقط حقه االخالقي.ال �أحد ذو امتياز معريف epistemic privilegeيف حاالت كهذه .كل فريق ،ال �شك� ،سيتم�سك بعناد �شديد باعتقاداته على حمدد ومتفق عليه من اال�س�س التي يراها منا�سبة .ولكن ما دام ال وجود لـ(�ألغورثم) �أو منهج ّ قبل اجلميع حل�سم هذه اخلالفات� ،إذن ال �سبيل ل�ضبط التعامل بني الفرقاء ،يف هذه احلالة ،على نحو معقول ومن�صف للجميع �إال عن طريق مبد�أ االحرتام املتبادل .ال فريق ير�ضى ب�أن يتخلى عن �سلطته املعرفية لأي فريق �آخر� .إذن االن�صاف واملعقولية يق�ضيان ب�أال يحل �أي فريق �سلطته املعرفية حمل ال�سلطة املعرفية لأي فريق خمالف له. من ال�سهل �أن نرى الآن ملاذا الدولة الدينية ،او حتى جمرد الدعوة �إىل �إقامتها ،ت�شكل خرقاً ملبد�أ الإحرتام املتبادل .مبد�أ �أ�سا�سي من مبادىء الدولة الدينية ،كما ر�أينا ،هو مبد�أ احلاكمية. وما يعنيه هذا املبد�أ علمياً هو �ضرورة ت�أ�سي�س الدولة على تعاليم دين معني ،ال �سواه ،لأنها كما يزعم امل�ؤمنون بها ،التعاليم التي تنطوي على القوانني الإلهية التي ُيفرت�ض تقيدنا بها فيما ن�سن من قوانني ونختط من �سيا�سات� .إذن ،من يدعو �إىل تطبيق مبد�أ احلاكمية امنا يفرت�ض جواز �إحالل ال�سلطة املعرفية للجماعة الدينية التي ينتمي �إليها حمل ال�سلطة املعرفية لأي جماعة �أخرى ت�سلك طريقاً �آخر للو�صول �إىل معرفة القوانني الإلهية� .إنه ُيجيز لنف�سه ما ال يجيزه ل�سواه ممن هو يف و�ضع مماثل لو�ضعه .فلو طالب املنتمون �إىل جماعة دينية �أخرى ت�أ�سي�س الدولة على تعاليم دينهم ،لر�أيناه يحتج ،وبوجه حق ،على �أ�سا�س انهم يحلون �سلطتهم املعرفية حمل ال�سلطة املعرفية للجماعة الدينية التي ينتمي اليها .هل يعقل ان ير�ضى الغنو�شي ،مث ًال �أو �أي م�سلم �سواه� ،إن تقام الدولة يف الهند على �أ�سا�س تعاليم «رام» ،كما ي�صر الهندو�سيون املتطرفون فتحل بذلك ال�سلطة املعرفية للهندو�سي حمل ال�سلطة املعرفية للهندي امل�سلم ،والهندي البوذي ،والهندي العلماين؟ طبعاً ال .ولكن مثلما �أنه ال يجوز للهندو�سي �أن يقيم دولة على �أ�سا�س قيم م�ستمدة من الت�صور الهندو�سي اخلا�ص للخري واحلق ،فار�ضاً بذلك هيمنة هذا الت�صور يف املجال العام ،كذلك ال يجوز للم�سلم �أن يفعل �شيئاً مماث ًال .من هنا �أهمية مبد�أ االحرتام املتبادل الذي يق�ضي يف هذا احلالة ب�ضرورة حياد الدولة �إزاء الت�صورات الدينية املتعار�ضة للحق واخلري. ت�سيي�س الدين وواجبات املواطنة
ذكرت �سابقاً �أنه حتى جمرد اللجوء �إىل االعتبارات الدينية يف املجال العام هو دليل انعدام الروح الدميقراطي و�إخالل بواجبات املواطنة .ال يجوز �أن ُيفهم من هذا �أنه م�س ّوغ من منظور دميقراطي حترمي ت�سيي�س الدين قانونياً وجتريد امل�ؤمنني من حق اللجوء �إىل اعتبارات خا�صة بدينهم لت�سويغ مواقفهم من الق�ضايا العامة .املق�صود هو فقط �أن واجبات املواطنة يف جمتمع دميقراطي تق�ضي ،كما ب ّينا ،بالتقيد مببد�أ الإحرتام املتبادل باعتباره اخلطوة اال�سا�سية االوىل خللق �أجواء منا�سبة لن�شوء
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
35
تفاعل حواري بني خمتلف فئات املجتمع الواحد ،وتقريب وجهات نظرهم املتباينة ،وت�أمني �أف�ضل ال�شروط القمينة بتعاونهم .وال يجوز طبعاً حتويل واجبات املواطنة �إىل واجبات قانونية ،بل ُيرتك للفرد �أن يقرر كيف يت�صرف يف املجال العام بخ�صو�ص التقيد بواجبات املواطنة .ولذلك يبقى له احلق يف �أن يجعل الن�صو�ص املقد�سة لدينه املرجع االخري يف املجال العام و�أن يطالب الآخرين ب�أن ي�ؤيدوه يف موقفه هذا� .إن حقه هذا م�ستمد من كونه �شخ�صاً م�ستق ًال بذاته ،مثله مثل �أي �شخ�ص �آخر يف هذا الكون الوا�سع ،وال �أحد �سواه ميلك احلق يف �أن ميلي عليه كيف ينبغي �أن يدير �ش�ؤون حياته ،ويفكر ،ويقرر اجتاهاته ومواقفه� ،أو يحرمه من حرية اللجوء �إىل ما ي�شاء من م�سوغات ملواقفه من ق�ضايا ال�سيا�سة ،واالجتماع ،واالقت�صاد ،واالخالق .مبد�أ احرتام ا�ستقاللية ال�شخ�ص االن�ساين هو من �أهم املبادىء الدميقراطية ،وال�سماح بخرقه �أو الت�ساهل مع من يقومون بخرقه، وتبني ذلك �سيا�سة عامة ،يتعار�ضان ،ب�شكل �أ�سا�سي ،مع �شروط املمار�سة الدميقراطية .ولذلك من يتبنى الدميقراطية موقفاً ال ميلك �سوى �أن يعطي لأي �شخ�ص احلرية يف �أن يك ّون مواقفه واجتاهاته ال�سيا�سية وغري ال�سيا�سية على النحو الذي يعك�س قناعاته اخلا�صة ،وير�ضي �ضمريه اخلا�ص ،وينبع من تفكريه اخلا�ص. �أن ننطلق من النظر �إىل ال�شخ�ص باعتباره ذا ا�ستقاللية اخالقية يعني �أن ثمة اعتباراً اخالقياً لإعطائه احلق ب�صفته فاع ًال �سيا�سياً واجتماعياً� ،أي فاع ًال يف املجال العام ،يف �أن ي�ستمد مواقفه واجتاهاته من �أي م�صدر ي�شاء .ولكن هذا احلق ،مثل �أي حق �آخر لالن�سان ،هو حق للوهلة االوىل primafacie rightوال يرتجم عملياً ،بالتايل� ،سوى اىل حرية م�شروطة ،من الوجهة االخالقية. وهذا يعني ،مث ًال� ،أن حق اال�سالمي يف �أن ُيقحم الدين يف ال�سيا�سة و�أن يطرح �شعار «اال�سالم هو احلل» مل�شكالتنا ال�سيا�سية واالجتماعية ،و�إن كان ال ميارى فيه من الوجهة االخالقية ،بدليل وجود اعتبار اخالقي ل�صاحله� ،إال انه م�شروط بعدم وجود اعتبار �أخالقي �آخر مبطل لالعتبار االخالقي ل�صاحله. قد يت�ساءل واحدنا هنا عما ميكن ان ي�شكل ،من حيث املبد�أ ،اعتبا ًر اخالقياً مبط ًال لالعتبار الذي يقوم عليه احلق املذكور .جوابي هو �أن ثمة اعتبارات تتعلق باملمار�سة الدميقراطية والواجبات املدنية املرتتبة على هذه املمار�سة -اعتبارات نابعة من مبد�أ القابلية للكوننة - Universalizability ينبغي لواحدنا �أن يراعيها يف ممار�سته للحق املعني ،و�إال ف�إنه يفقد هذا احلق .ما يقوله مبد�أ القابلية للكوننة ،الذي هو عماد االخالق ،هو �أن احلاالت املت�ساوية يجب �أن تعامل بالت�ساوي و�أن �أي اختالف يف املعاملة يجب ان يعك�س اختالفاً منا�سباً بني احلاالت التي تعامل باختالف .والكالم على احلاالت املت�ساوية هنا هو كالم على احلاالت التي ت�شرتك يف نف�س ال�سمات املجردة� ،أي حتدد كونها من نوع معني ،ال من نوع �آخر� .إن كوين ،مث ًال� ،شخ�صاً را�شداً وذا ال�سمات التي ّ قدرة على التفكري على نحو م�ستقل وعلى الت�أمل املرتوي يف هذه امل�س�ألة �أو تلك للو�صول �إىل قرار بخ�صو�ص املوقف الذي ينبغي اتخاذه منها ،وكوين ذا قدرة على تقومي االمور و�إعادة النظر عدد رقم � | 1أيـار
2013
36
العلمانية اليوم
يف مواقفي ،عندما تدعو احلاجة �إىل ذلك ،وعلى معاندة �أهوائي وفهم نوازعي وحمركات �أفعايل، �إن هذه كلها من �سماتي املجردة التي ي�شاركني فيها كل الب�شر الذين بلغوا �سن الر�شد ولي�سوا من البلهاء �أو املختلني �أو ناق�صي العقول �أو املعاقني عقلياً �أو �أي �شيء �آخر من هذا القبيل .وهذه حتدد كوننا من نوع معني من الب�شر� ،أي النوع الرا�شد ،مقابل �أنواع �أخرى ،كالنوع الذي ال�سمات ّ يتحدد ب�سمة البالهة او نق�ص العقل او الق�صور .و�إذا كانت هذه ال�سمات هي ما يعطيني احلق يف ّ علي التحرر من و�صاية الآخرين ويف ا�ستقالليتي االخالقية� ،إذن ف�إن مبد�أ القابلية للكوننة يفر�ض ّ واجباً مدنياً �أ�سا�سياً ،واجب �إعطاء كل من ي�شاركني يف هذه ال�سمات نف�س احلق وعدم الت�صرف على �أي نحو يتعار�ض مع ممار�سته لهذا احلق .و�إذا كان حقي يف اال�ستقاللية االخالقية ،بدوره ،هو حقي ،بو�صفي فاع ًال �سيا�سياً واجتماعياً ،يف �أن �أك ّون مواقفي من الق�ضايا العامة و�سواها بح�سب قناعاتي اخلا�صة� ،إذن من الوا�ضح هنا ،يف �ضوء مبد�أ القابلية للكوننة� ،أن حرية ممار�ستي لهذا احلق م�شروطة ب�إعطاء حرية مماثلة لكل من ي�شاركني يف امتالك ال�سمات املجردة املذكورة .وما يرتتب ت�ضمنت حرماناً �أو ،على الأقل ،حماولة على ذلك طبعاً هو �أن ممار�سة واحدنا لهذه احلرية� ،إن ّ حلرمان �سواه من ممار�سة حرية مماثلة ،ف�إنها ،بذلك ،ت�شكل خرقاً ملبد�أ �أخالقي ا�سا�سي وملا يرتتب عليه من واجبات مدنية. لنحاول �أن نو�ضح الآن كيف ميكن �أن تت�ضمن ممار�سة واحدنا للحرية املعنية حماولة حلرمان �سواه من ممار�سة حرية مماثلة� .أول ما ينبغي التنبيه �إليه هنا �أن يجعل ممار�سة هذه احلرية من قبل بع�ضنا متعار�ضة مع ممار�سة حرية مماثلة من قبل �سواه لي�س �شيئاً مرتبطاً مبحتوى املوقف ال�سيا�سي �أو االجتماعي الذي تفرزه هذه املمار�سة ،بل مرتبط ،يف املقام االول ،بكون الفاعل ال�سيا�سي �أو الإجتماعي يعطي ملوقفه امتيازاً مطلقاً على كل املواقف املناف�سة له ،بحيث يو�صله هذا �إىل و�صم هذه املواقف االخرى بالالم�شروعية والعمل ،بالتايل ،على حرمان �أ�صحابها من حرية الت�صريح بها �أو الدعوة اليها ب�أي �شكل �أو ب�أي طريقة .لن�أخذ موقف اال�صويل يف الواليات املتحدة من يف�سر النزعة الإجها�ض للتمثيل .لي�س كون هذا املوقف موقفاً من الإجها�ض بالذات هو الذي ّ القوية لدى اال�صويل لإخرا�س كل اال�صوات املعار�ضة ملوقفه .فكم من �أمريكي يقف موقفاً معار�ضاً من الإجها�ض دون �أن ُيظهر �أي ميل على االطالق العتبار املوقف املناف�س جمرداً من �أي درجة من امل�شروعية �أو غري جدير ب�أي �شيء من االحرتام .قد ال يجد �أن الإعتبارات التي ُيقيم عليها موقفه تقود �إىل �أكرث من ترجيح �صحة موقفه على املوقف املناف�س له� .أما �إذا كان �صاحب هذا املوقف من اال�صوليني� ،أتباع االئتالف امل�سيحي يف الواليات املتحدة ( ما يعرف باليمني الديني) ،ف�إنه �سينظر �إىل الأ�سا�س الذي يقيم عليه موقفه (�أي اعتقاده �أن اهلل ينهى عن الإجها�ض) على �أنه ي�ضمن على نحو مطلق عدم احتمال وجود خط�أ يف هذا املوقف .هنا نتوقع �أن تختلف ال�صورة كلياً بخ�صو�ص ما تعنيه ممار�سته حلقه يف اال�ستقاللية بالن�سبة ملمار�سة �سواه حلق مماثل .ففي نظره �إىل موقفه على هذا النحو ،لن يكون ميا ًال على االطالق للنظر �إىل املوقف
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
37
املخالف ملوقفه على �أنه يت�سم ب�أي �شيء من امل�شروعية ،وبالتايل لإظهار �أي �شيء من الت�سامح مع هذا املوقف .من املالحظ هنا �أن امل�س�ألة اال�سا�سية ،من زاوية نظر هذا اال�صويل ،لي�ست فقط ان الر�أي املخالف لر�أيه يف االجها�ض غري م�صيب ،بل �إنه ال يعقل ،بل ال ميكن ،حتى من حيث املبد�أ� ،أن يكون م�صيباً ،ف�ض ًال عن �أنه ،ملخالفته امراً الهياً ،يرتكب خطيئة فادحة .ومن الوا�ضح �أن ما يرتتب على نظره اىل املوقف املخالف على هذا النحو هو اعتقاده ب�أن عدم جواز تبني هذا املوقف �أمر ال جدال فيه و�أن من يتبناه مطعون يف �أخالقه وقيمه .هنا� ،إذن ،جند حالة ُيعطي فيها ّ ي�ستقل بر�أيه فيما هو ،يف ممار�سته لهذا احلقُ ،يريد حرمان �سواه من �شخ�ص لنف�سه احلق يف �أن حق مماثل ،وك�أين به يقول ل�سواهّ :فكر كما �أفكر �أنا ،و�إال فال مكان لفكرك يف مملكة احلياة العامة. قلت لي�س م�ضمون املوقف بالذات هو ما له �أهمية يف حكمنا على ما �إذا كان �صاحب هذا املوقف ُي�سيء ا�ستعمال حقه يف ت�أ�سي�س مواقفه من الق�ضايا العامة على النحو الذي يروق له .كذلك، دعوين �أ�ؤكد ،لي�س اال�سا�س الذي ُ يقام عليه هذا املوقف هو ما له هذه االهمية يف حكمنا هذا. مبعنى �آخر ،ال فرق �إن كان املوقف م�ؤ�س�ساً على اعتبارات دينية �أو م�ؤ�س�ساً على اعتبارات علمانية بالن�سبة ملا �إذا كان �صاحبه ي�سيء ا�ستعمال احلق املعني .فما هو ذو �أهمية ق�صوى هنا هو كيفية نظر �صاحب املوقف �إىل موقفه .فكم من مارك�سي م�ؤدلج ،مث ًال ،يواجه من يخالفه الر�أي �أو خ�صومه احلزبيني بالإدعاء �أنه ال ينطق �إال بالعلم ،مما يعني ،من وجهة نظره� ،أن خ�صومه فاقدو العلم وال م�شروعية ملواقفهم ،بل هي �أدنى من ان تكون جديرة ب�أي احرتام. القول «�أنا ال �أنطق �إال بالعلم» مواز للقول «انا ال �أنطق �إال مبا �أوحى به اهلل» ،من حيث كونه �أداة حد لأي نقا�ش �أو حوار بينهما ،وللت�أكيد ي�ستعملها �صاحب القول لإخرا�س من يخالفه ،ولو�ضع ّ املطلق ان �صاحب القول املخالف على �ضالل مبني ،وال ينطق �إال بالهوى ،وال ي�ستحق موقفه، بالتايل� ،أي احرتام .ولقد خربت الب�شرية النتائج الوخيمة لهذه النزعة ،يف �أكرث من حالة و�أكرث من ع�صر� ،سواء اتخذت �صورة دينية �أو علمانية .فعندما ي�شرتك عدد ٍ كاف من الب�شر يف نزعة كهذه وتكون الظروف م�ؤاتية جلعلهم �إرادتهم نافذة يف مملكة احلياة العامة� ،أو لإعطائهم الفر�صة ملمار�سة نفوذ قوي ووا�سع على ال�ساحة العامة ،ف�إن النتيجة �شبه املحتومة لذلك هي �أن ترتجم هذه النزعة �إىل نظام كلياين ال يعطي �أي وزن للحق يف اال�ستقاللية� ،أو تقود يف �أف�ضل حال� ،إىل �إ�شاعة ج ّو من االرهاب والقمع ت�صبح ممار�سة الب�شر حلقهم يف اال�ستقاللية يف كنفه جمازفة فيها الكثري من اخلطورة. جد مهمة ال يجوز �إغفالها هنا .قد ينزع العلماين هذه النزعة �أو ال .يتوقف ولكن ثمة م�س�ألة ّ االمر ،بالدرجة االوىل ،على مدى اقرتابه من اال�صويل �أو املتدين ،بعامة ،يف كيفية نظر الأخري �إىل اعتقاده الديني .مبقدار ما يقرتب العلماين ،يف نظره �إىل اعتقاده العلماين ،من نظرة التقدي�س التي ينظر بها املتدين �إىل اعتقاده الديني مبقدار ما يقرتب من النزعة الإ�ستعالئية املعنية للأخري بكل ما
عدد رقم � | 1أيـار
2013
38
العلمانية اليوم
يف�سر� ،إذن ،وجود نزعة يرتتب عليها من ازدراء العتقادات الآخرين �أو �إنكار مطلق مل�شروعيتها .ما ّ املحدد ملواقفهم او بالإعتبارات كهذه لدى بع�ض العلمانيني لي�س �شيئاً متعلقاً بامل�ضمون العلماين ّ التي ُيقيمون عليها هذه املواقف ،بل بتغلب عقلية التدين عليهم يف تعاملهم مع مواقفهم واملواقف املخالفة لها .ولكن من الوا�ضح �أن هذه العقلية لي�ست من ن�صيب العلمانيني ب�صفتهم علمانيني، و�إمنا من ن�صيب امل�ؤدجلني بينهم .الت�أدلج هو من جن�س التدين� .إذا كان الت�أدلج من جن�س التدين، ينم عن تدين م�ضاعف .تلتقي يف هذا املوقف النزعة �إذن ف�إن موقف اال�صويل امل�س ّي�س للدين ّ النابعة من الت�أدلج نحو حت�صني العقيدة االجتماعية ل�صاحب هذا املوقف �ضد النقد على نحو مطلق مع النزعة النابعة من التدين نحو �إ�سباغ طابع مطلق على الأ�سا�س الديني الذي تقوم عليه هذه العقيدة .ومن التقاء النزعتني تنتج �أف�ضل ال�شروط القمينة بن�شوء عقلية توتاليتارية �أ�سرية لوهم قاتل ،وهم االعتقاد ب�أن ثمة طريقة وحيدة �سديدة للتفكري حول ال�ش�ؤون العامة هي طريقته، و�أن كل ما عدا ذلك باطل وال يعقل �سوى �أن يكون باط ًال. �إن تزاوج النزعتني الأخريتني ،كما هو حا�صل يف جميع احلركات امل�س ّي�سة للدين ،يف جميع �أ�شكالها وعلى خمتلف خلفياتها الدينية ،لهو دليل قاطع على انعدام الروح الدميقراطي يف هذه احلركات .فما يرتتب على تزاوج هاتني النزعتني ،كما ر�أينا ،هو ا�ستئثار اال�صويل للحق يف اال�ستقاللية� ،إذ ي�ضع �سلطته املعرفية فوق ال�سلطة املعرفية لكل من ال ي�شاركه يف تفكريه .وهذا ،ال �شك كفيل بخلق �شروط تتعار�ض مع مبد�أ امل�ساواة ال�سيا�سية الذي يق�ضي بت�أمني تكاف�ؤ الفر�ص �أمام كل الأفراد والفئات ملمار�سة حرياتهم ال�سيا�سية ،نظراً وقوال وعمال. ال نبد�أ ،يف املمار�سة الدميقراطية ،بافرتا�ض �أي امتياز مطلق ،معريف �أو �سوى ذلك ،لأي فكرة او م�شروع �سيا�سي �أو موقف من الق�ضايا العامة ،بل نبد�أ من واقعة ب�سيطة� ،أال وهي� ،أن هناك �أفكارا، وم�شروعات ،ومواقف متعددة جلماعات متعددة تتناف�س بحرية يف حلبة احلياة العامة .وما هو �صائب �أو غري �صائب من بينها ،من منظور دميقراطي خال�ص� ،أمر ال يتق ّرر قبلياً على �أ�سا�س معيار مطلق م�ستقل عن املمار�سة الدميقراطية بل يتق ّرر يف �سياق هذه املمار�سة بالذات� ،أي يف �سياق التناف�س احل ّر واملفتوح� ،ضمن �إطار من التفاعل احلواري بني اجلميع ،على ثقة وت�أييد املواطنني الأحرار .واحلكم اجلمعي -حكم الناخبني -الذي ينتهي �إليه هذا التناف�س هو ما ي�شكل املعيار الدميقراطي للخط�أ وال�صواب . عندما ُنقحم الدين يف ال�سيا�سة ،ن�ضع �أنف�سنا خارج اللعبة الدميقراطية رمة .فال ُيعقل ،من منظور الأ�صويل امل�س ّي�س للدين ،الإفرتا�ض �أن ثمة معياراً للخط�أ وال�صواب يف املجال ال�سيا�سي يعلو على امل�ستمد من الن�صو�ص الدينية التي ا ُتفق �إنها ت�شكل املرجع االخري لهذا اال�صويل .ال املعيار ّ ميكنه� ،إذن� ،إن يكون مت�سقاً مع ذاته �إذا �سلم بافرتا�ض الدميقراطي ان ما نبد�أ به قبلياً � -أي ب�صورة �سابقة على التناف�س ال�سيا�سي �ضمن �إطار من التفاعل احلواري بني اجلميع -هو فقط حق كل ()31
العلمانية اليوم
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
39
فريق من الفرقاء املتناف�سني يف �أن يطرح م�شروعه ال�سيا�سي بحرية لينظر فيها اجل�سم ال�سيا�سي ب�أكمله وي�صدر حكمه عليها� .إن افرتا�ضاً كهذا ي�ضع موقفه يف حماذاة املواقف املناف�سة ملوقفه و ُيخ�ضعه ،بالتايل ،لنف�س املعيار الذي تخ�ضع له كل املواقف االخرى� ،أال وهو املعيار الدميقراطي. ولكن «منطق» موقع اال�صويل ال ي�سمح له ب�أن يرى �إىل موقفه على �أنه يف حماذاة املواقف املناف�سة له ،مهما كانت خلفياتها وم�سوغاتها ،لأنه ي�ص ّر على �أنه ي�ستوحي موقفه من القانون االلهي (كما يف اال�صولية امل�سيحية �أو اليهودية �أو اال�سالمية) �أو تعاليم االله «رام» (كما يف الهندو�سية). وهذا يعني انه يوجد ،من وجهة نظره ،معيار قبلي يتق ّرر على �أ�سا�سه ما هو خط�أ او �صواب يف املجال ال�سيا�سي هو معيار االتفاق مع ما �أوحى به اهلل �أو «رام» �أو �أي م�صدر غيبي اخر اتفق انه ي�شكل ،يف اعتقاد هذا اال�صويل� ،سلطة مطلقة ومع�صومة .وبهذا ،فهو ال يجد نف�سه مدفوعاً بـ «منطق» موقفه فقط �إىل ا�ستبعاد املعيار الدميقراطي للخط�أ وال�صواب من املجال العام ،بل و�أي�ضاً اىل الإخالل بواجبات املواطنة اذ يجعل عدم التزامه مببد�أ تكاف�ؤ فر�ص العمل ال�سيا�سي خياره الوحيد -هذا �إن ابتغى عدم الوقوع يف تناق�ض ذاتي .فهل ميكن ،من منظور اال�سالم ال�سيا�سي، مث ًال ،و�ضع الفريق الذي ميثل مبعنى من املعاين« ،حزب اهلل» يف حماذاة �أي فريق علماين مناف�س ميثل ،بح�سب زعم اال�سالمي ،حزب الطاغوت.؟ هل يعقل ،من وجهة النظر هذه ،املكاف�أة بني «اخلري» و»ال�شر» ،بني «احلق» و «الباطل»؟. ينم �أي�ضاً عن عدم وجود ا�ستبعاد اال�صويل للمعيار الدميقراطي للخط�أ وال�صواب من املجال العام ّ �أي ميل لديه الحرتام الإرادة العامة الذي هو من �أهم واجبات املواطنة يف املجتمع الدميقراطي. �أي قيمة �أو �أي وزن يبقى لالختيار اجلمعي يف تقرير ال�سيا�سات والت�شريعات ،من وجهة نظره ،ما دامت الن�صو�ص املقد�سة هي مرجعه االخري ،حتى يف املجال العام؟ هل يعقل ،من وجهة النظر هذه ،و�ضع ما ي�صدر عن �سلطة مطلقة على املحك الدميقراطي ،حمك التناف�س احل ّر املفتوح� ،أي الإحتكام اىل الر�أي العام ب�ش�أنه ،ما دام تق ّرر م�سبقاً �أنه ذو م�صدر مطلق ،وبالتايل ،مع�صوم وال يحتاج �إىل اجتيازه �أي امتحان؟ �ألي�س العك�س متاماً هو ما تفر�ضه وجهة النظر اال�صولية� ،أي الإحتكام �إىل هذه ال�سلطة املطلقة للتثبت من عدم وجود �أي انحراف يف اختياراتنا اجلمعية من االوامر والنواهي ال�صادر عنها؟ ولكن ما الذي ميكن �أن يعنيه هذا ،على م�ستوى املمار�سة� ،سوى �إن �إرادة جماعة ايديولوجية (جماعة اال�صوليني الذين ينطلقون من فهم خا�ص بهم لدينهم وما يرتتب على تعاليمه �سيا�سياً) هي التي ينبغي االحتكام �إليها يف املجال العام ال الإرادة العامة؟ هل ميكن ت� ّصور عقلية تتنافر مع روح الدميقراطية �أكرث من تنافر هذه العقلية اال�صولية التي احلد؟ ماذا يبقى من معاين الدميقراطية عندما تو�ضع الإرادة يبلغ ا�ستخفافها باالرادة العامة هذا ّ اخلا�صة جلماعة فرعية تنتمي �إىل جمتمع ما فوق الإرادة العامة لهذا املجتمع؟ تتنافر هذه العقلية اال�صولية �أي�ضاً مع جانب هام جداً للممار�سة الدميقراطية� ،أال وهو اجلانب املتعلق بكون هذه املمار�سة ت�ستهدف و�صول كل الفرقاء املتناف�سني يف احللبة العامة �إىل ما يدعوه ()32
عدد رقم � | 1أيـار
2013
40
العلمانية اليوم
جون رولز �إجماعاً مت�شابكاً Overlapping consensusحول الق�ضايا العامة يتخطى كل الفروقات الفل�سفية والدينية بينهم .ال ت�ضمن املمار�سة الدميقراطية طبعاً و�صولهم �إىل �إجماع كهذا ،ولكنها توفر لهم� ،أكرث من �أي بديل �آخر ،ال�شروط القمينة باالقرتاب من حتقيق هذا الإجماع باعتباره مثاال �أعلى لأي جمتمع دميقراطي تعددي .و�إقحام الدين يف ال�سيا�سة ال يبعدنا عن حتقيق هذا املثال االعلى فح�سب ،بل �إنه يلغيه كلياً .فلو كان غر�ض اال�صويل الو�صول �إىل �إجماع كهذا حول الق�ضايا العامة لكان عليه �أن ي�ضع جانبا �أي اعتبارات ال تدخل �ضمن �إطار ما �صار ُيعرف يف االدبيات الفل�سفية بالعقل العام Public reasonولكن االعتبارات الدينية ،كما �أو�ضحنا ،ال تدخل �ضمن هذا االطار ،وكذلك هو �ش�أن الإعتبارات الفل�سفية امل�ستمدة من نظرات فل�سفية �شاملة ،كالإعتبارات امل�ستمدة مث ًال ،من ت�صور ميتافيزيقي �شامل للكون والفن واحلياة� .إن اعتبارات كهذه ،وبخا�صة ما هو ذو طابع ديني او ميتافيزيقي بينها ،لي�ست ،كما بينا �سابقاً� ،شفافة للذين ال ي�شاركون من يلج�ؤون �إليها موقفهم الديني �أو امليتافيزيقي .ولذلك ي�شكل اللجوء اليها عقبة ك�أداء �أمام الو�صول �إىل �إجماع حول الق�ضايا العامة ،بل ،الأ�سو�أ من ذلك� ،أنه يلغي �أي �أمل يف الو�صول �إىل �إجماع كهذا .من يقرر ،مثال ،منذ بداية دخوله احللبة العامة ان يكون املنظور الديني هو املنظور الذي تنبع منه االعتبارات التي يقيم عليها مواقفه من الق�ضايا العامة �إمنا يق ّرر �أن يكون منظوره الديني هو البديل للعقل العام .ولكن هذا هو مبثابة تخ ّليه عن الإجماع باعتباره مثا ًال �أعلى للمجتمع الدميقراطي التعددي .فمن ال ي�شاركه منظوره ال ميكن �أن يدخل معه يف �أي حوار مثمر حول الق�ضايا العامة .و�إن كان ال�سابق هو الذي ميلي �شروط الدخول يف حوار كهذا، �إذن ف�إنه يجعل كل الذين ال ي�شاركونه منظوره خارج �إطار التفاعل احلواري الذي ينبغي دخول كل الفرقاء فيه بغية الو�صول اىل الإجماع املعني او االقرتاب من حتقيقه�.إنه ،بذلك ،يلغي �إمكان قيام تفاعل حواري كهذا ب�إلغاء �أهم �شروطه .وب�إلغائه ،ال تبقى يف �أيدينا �أي و�سيلة لتحقيق �أو االقرتاب من حتقيق �إجماع كهذا ،فتفقد املمار�سة الدميقراطية معناها. الق�ضية الأ�سا�سية هنا تتعلق ب�ضرورة وجود �أر�ضية م�شرتكة بني الفرقاء (وهنا يكمن املجال لعمل العقل العام) ،و�إال ميتنع احلوار املثمر بينهم وميتنع ،بالتايل� ،إمكان و�صولهم �إىل اتفاق يعك�س وجهات النظر املختلفة ،ويتخطى الفروقات الفل�سفية والدينية بينهم .يف غياب �أي �أر�ضية م�شرتكة جراء �إقحام الدين يف ال�سيا�سة ،ت�صبح املمار�سة ال�سيا�سية نوعاً من املواجهة الدائمة بني الفرقاء، بحيث يكون غر�ض كل فريق فر�ض منظوره و�إرادته على اجلميع وخلق املجتمع ال�سيا�سي على �صورته ومثاله� .أي معنى يبقى للممار�سة الدميقراطية بعد ذلك؟. ()33
()34
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
41
هوام�ش ( .)1
( .)2
( .)3 ( .)4
را�شد الغنو�شي ،احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية (بريوت :مركز درا�سات الوحدة العربية � )1993ص .49 حممد عابد اجلابري« ،يف ق�ضايا الدين والفكر» (حوار �أجراه معه حممد جنجار ملجلة فكر ونقد ،ال�سنة االوىل ،العدد � )1988( 9ص .12 املرجع ال�سابق� ،ص 13-12 �سيد قطب ،هذا الدين (انديانا -الواليات املتحدة -االحتاد اال�سالمي العاملي للمنظمات اال�سالمية د.ت) �ص 15-16
(Ruholla Khomeini, the Religious Scholars Led the Revolt, In Islamic politics, ed.by .)5 A.C.Kimmens, new York: H.W. Wilson Co 1991 p.115.
(� .)6أنور اجلندي� ،سقوط العلمانية (بريوت :دار الكتاب اللبناين� )1973 ،ص - ( .)7ح�سن البنا ،جمموعة الر�سائل (بريوت :م�ؤ�س�سة الر�سالة ،د .ت) �ص .272 ( .)8را�شد الغنو�شي ،م�صدر �سابق� ،ص .110 ( .)9نا�صيف ن�صار�« ،إ�سهام يف نقد النظام الكلي» يف الفل�سفة العربية املعا�صرة ،بحوث امل�ؤمتر الفل�سفي العربي الثاين (بريوت :مركز درا�سات الوحدة العربية� ،)1988 ،ص .61 ( .)10اخلميني ،م�صدر �سابق. (� .)11سيد قطب ،يف ظالل القر�آن ،اجلزء ال�ساد�س (القاهرة :دار ال�شروق� )1982 ،ص .901 (� .)12سيد قطب ،معامل يف الطريق (القاهرة :مكتبة وهبة � )1968ص .136 ( .)13ح�سن البنا ،م�صدر �سابق� ،ص .20 ( .)14ثمة عدة ك ّتاب يعتقدون ب�أن �أفكار را�شد الغنو�شي وح�سن الرتابي تنجح ن�سبياً بالتوفيق بني اال�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية� .أنظر :زوبري عرو�س« ،االمة» ،املواطنة ،وق�ضايا «احلرية» يف اخلطاب اال�سالمي «املحلي» و«املحلي املجاور» ،يف :وعي املجتمع بذاته (عن املجتمع املدين يف املغرب العربي) ،ا�شراف عبداهلل حمودي (الدار البي�ضاء :دار توبقال للن�شر� )1998،ص ،152 - 135رجا بهلول ،دولة الدين ،دولة الدنيا (حول العالقة بني الدميقراطية والعلمانية) ،رام اهلل :مواطن -امل�ؤ�س�سة الفل�سطينية لدرا�سة الدميقراطية ،2000خالد اجلندي « ،The Rhetoric of Rashid Ghannushi - Arab Studies Journalالعدد الأول ،املجلد الثالث (ربيع � )1995ص .119-101 ( . )15را�شد الغنو�شي وح�سن الرتابي ،احلركة اال�سالمية والتحديث ( ،اخلرطوم :مكتبة دار الفكر � )1980ص .190 ( .)16را�شد الغنو�شي ،احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية ،م�صدر �سابق� ،ص .119 36 35
عدد رقم � | 1أيـار
2013
42
العلمانية اليوم
( .)17املرجع ال�سابق� ،ص .18 ( .)18عن :خالد اجلندي ،م�صدر �سابق� ،ص .107 ( .)19ح�سن الرتابي ،ق�ضايا احلرية والوحدة وال�شورى والدميقراطية (الدار ال�سعودية للن�شر والتوزيع د.م� )1987 .ص .64-63 ( .)20عادل �ضاهر ،االخالق والعقل (عمان -دار ال�شروق )1990 -الف�صل ال�سابع. ( .)21را�شد الغنو�شي« ،اال�سالميون واخليار الدميقراطي» ،يف قراءات �سيا�سية ،العدد � ،3ص .122 ( .)22را�شد الغنو�شي ،احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية � ،ص .295 ( .)23امل�صدر ال�سابق� ،ص .295 -294 ( .)24امل�صدر ال�سابق� ،ص .119 ( .)25امل�صدر ال�سابق.
(John dewey, «democracy», in exploring philosophy,ed.S.M.Cahn (oxford: oxford university .)26 press 2000) p. 321.
( .)27امل�صدر ال�سابق� ،ص - (*) �أو ال ُت�شاركها حتى يف فهمها للدين على �أنه �ضروري لل�سيا�سة. (� .)28إننا منا�شي هنا نا�صيف ن�صار يف متييزه الدقيق بني االكرثية واالغلبية� .أنظر ،نا�صيف ن�صار، منطق ال�سلطة -مدخل �إىل فل�سفة االمر ( -بريوت :دار �أمواج� ،)1995 ،ص .176-173 (**) ولكن الو�صول �إىل �إجماع ّ يظل مثا ًال �أعلى للممار�سة الدميوقراطية. (***) �أي الدولة الدميوقراطية. ( .)29را�شد الغنو�شي ،احلريات العامة يف الدولة اال�سالمية� ،ص . 50-49 ( .)30امل�صدر نف�سه� ،ص .157 ( .)31جتدر املالحظة هنا �أن احلكم اجلمعي يف النظام الدميقراطي هو معيار اخلط�أ وال�صواب ،مثلما هو ،مث ًال ،حكم املحلفني يف النظام القانوين الأجنلو � -أمريكي املعيار الذي يتعني عليه من هو جمرم ومن هو بريء .بالن�سبة للمماثلة بني النظام الدميقراطي ونظام هيئة املحلفني� ،أنظر، عادل �ضاهر« ،الدميوقراطية ونظرية االختيار االجتماعي» ،املواقف ،ال�سنة االوىل ،العدد الثاين (� )1987ص �ص .140-124 ( .)32الغنو�شي ،كما ر�أينا ،قد يقبل و�ضع موقفه يف حماذاة مواقف مناف�سة له فقط �إن كانت نابعة من تعاليم اال�سالم وال تختلف مع موقفه �سوى بالن�سبة للو�سائل املطلوبة لتحقيق الغايات املتفق عليها م�سبقاً. 323 322
(John Rawls, Politicial Liberalism (New York: Columbia University Press, 1993), pp. 150–154 .)33
ال توجد مماثلة ،ب�أي معنى من املعاين ،بني الإجماع املت�شابك والإجماع باملعنى الذي فهمه الغنو�شي �أو الرتابي ،كما يعتقد كاتب كرجا بهلول ( �أنظر رجا بهلول ،م�صدر �سابق� ،ص -52 .)65فالإجماع املت�شابك لي�س �شيئاً معطى م�سبقاً كالإجماع الديني ونا�شئاً عن جمرد كون
الإ�سالم ال�سيا�سي والدميقراطية
العلمانية اليوم
43
االطراف الداخلة فيه ت�شرتك يف نف�س الت�صور ال�شامل للحق واخلري �أو تلتزم بنف�س العقيدة الدينية� .إنه ي�أتي نتيجة لتداول جميع الأطراف معاً ،بغ�ض النظر عن خلفياتهم الدينية والفل�سفية� ،ضمن �إطار من التفاعل احلواري ال تطرح على ب�ساط التداول فيه �إال املقرتحات التي ميكن التحاور املثمر حولها .وهذا يعني �أنه ال مكان �ضمن هذا الإطار لأي مقرتحات هي من خ�صو�صيات الإميان الديني �أو من خ�صو�صيات النظرة الفل�سفية ال�شاملة لأي طرف من الأطراف ،وال �أهمية هنا ملا �إذا كان هذا الطرف ميثل �أكرثية عددية �أو ال� .إن مقرتحات كهذه لي�ست مما ميكن الإجماع حوله عن طريق تداول كهذا .من يدخل طرفاً يف �سريورة هذا التفاعل احلواري �إما ي�ضع جانباً كل ما ال ميكن قبوله من اقرتاحات من قبل �أي طرف �آخر ال ي�شاركه خ�صو�صياته العقدية التي ت�شكل الأ�سا�س لهذه االقرتاحات �أو يعرتف �أن غر�ضه لي�س الو�صول �إىل �إجماع ي�ضم جميع الأطراف وامنا الإنطالق من �إجماع متحقق م�سبقاً بني الذين �أتفق �أنهم ي�شاركونه اعتقاده الديني �أو الفل�سفي ال�شامل .و�إذا اتفق ان الأخريين ي�شكلون �أكرثية عددية ،فان املح�صلة االخرية جلعل �إجماعهم وحده ،احلا�صل ا�ص ًال ،خارج �أي �إطار من التفاعل احلواري� ،أ�سا�ساً للعمل يف املجال العام � -إن املح�صلة االخرية لذلك لي�ست �سوى فر�ض طرف ت�صوره ال�شامل للحق واخلري على االطراف االخرى .و�إجماع كهذا هو �إذن ،اجماع خا�ص بالفريق الأكرث عدداً ومعطى ب�صورة �سابقة على �أي تداول وخارج �أي اطار من التفاعل احلواري� .إنه م�ضاد على نحو تام للإجماع املت�شابك. ( .)34لي�س املق�صود باملجتمع التعددي ،كما يعتقد بع�ضهم ،فقط جمتمعاً متعدد االديان .كذلك، لي�س املجتمع التعددي ،كما يفهمه الغنو�شي �أو الرتابي ،جمتمعاً ال يتجاوز فيه اخلالف بني �أفراده �أو فئاته كونه خالفاً حول الو�سائل املطلوبة لتحقيق غايات متفق عليها� .أن ال�سمة اجلوهرية للمجتمع التعددي هي تعدد الت�صورات ال�شاملة للحق واخلري داخله .قد يكون تعدد االديان داخله هو م�صدر تعدد هذه الت�صورات ال�شاملة �أو قد يكون هذا امل�صدر �شيئاً اخر ذا طبيعة فل�سفية او �شبه فل�سفية .ولذلك ،حتى و�إن مل تتعدد االديان داخل جمتمع معني ،ف�إنه قد يكون ،مع ذلك ،جمتمعاً تعددياً باملعنى املق�صود هنا .فال عالقة �ضرورية بني الإ�شرتاك يف نف�س الإعتقاد الديني والإ�شرتاك يف نف�س الت�صور ال�شامل للحق واخلري مبا هو ت�صور يتعلق بال�ش�ؤون الدنيوية .هنا حت�ضرين نقطة مهمة جداً �أثارها نا�صيف ن�صار (انظر نا�صيف ن�صار ،منطق ال�سلطة� ،ص )172تتعلق ب�ضرورة عدم جت�سيد د�ستور �أي دولة لت�صور �شامل للحق واخلري كالذي ينبع من الدين لأن ت�صوراً كهذا ،فلأذكر القارىء ،ينبغي �أن ُيرتك للإختيار احل ّر .الدولة التي ال تكون حمايدة �إزاء الت�صورات ال�شاملة للحق واخلري� ،أال و�إن التعددية هي من طبيعة هذه الت�صورات ،هي دولة تق ّيد الب�شر فيما ال يجوز تقييدهم بخ�صو�صه.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
دار كتب للن�شر �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينkutub@kutubltd.com : املوقع الإلكرتوينwww.kutubltd.com :
45
العلمانية اليوم
الدين والدولة والعلمانية | د.عاطف عطيـّه |
يثري هذا العنوان م�سائل متعددة تتعلق ب�إ�شكاليات العالقة بني العلمانية والدين ،العلمانية والدولة ،العلمانية وال�سلطة .كما يثري ،يف الوقت نف�سه ،م�سائل �أخرى مت�صلة بال�سلطة والدولة، ال�سلطة والدين ،والدولة والدين .والعالقة بني كل من هذه الثنائيات يف عالقاتها الداخلية � ،إن كانت مت�صلة ،م�ؤتلفة� ،أو متعار�ضة ،تتطلب بحثاً م�ستق ًال ،وتفر�ض البحث يف �إ�شكالية العالقة بني كل منها ،من جهة؛ وبني الثنائيات الأخرى ،من جهة ثانية. والبحث يف �إ�شكاليات العالقة بني هذه الثنائيات ،جمتمعة ومنفردة ،يتطلب البحث يف من�ش�أ هذه املفاهيم ويف م�ضمونها ،ويف عالقاتها بنا ،كثقافة وانتماء وانت�ساب �إىل تاريخ و�إميان وتراث، ويف عالقاتنا بها ،كمفاهيم وحمددات ن�ش�أت �إما يف �سياق اجتماعي -تاريخي خم�صو�ص ومرهون بظروفه ومناخاته وحركته يف التاريخ� ،أو يف �سياق �آخر ي�ستجيب حلاجات وم�آالت مغايرة يف التاريخ واجلغرافيا واحل�ضارة. هذا الكالم يفر�ض نف�سه عند البحث يف �ش�ؤون العلمانية ويف �شجونها .كما يف ظروف ن�ش�أة ال�سلطة وحتوالتها .ويف كيفية ت�شكل الدولة والأ�س�س التي تقوم عليها ،والعالقة التي تربط الدين بالدولة وال�سلطة ،وم�سائل املواجهة ،املهادنة �أو املالءمة ،بني الدين والعلمانية. العلمانية مبعناها ال�شامل� ،أو �إذا �شئت الدنيوية ،هي موقف نظري وا�ضح وحمدد من طبيعة الدين، ومن طبيعة القيم واالن�سان وعالقته باهلل .والعلماين (�أو الدنيوي) �صاحب موقف مبدئي �ضد �أي جماعة ت�ؤمن �أن التعاليم الدينية ت�شكل املرجع الأخري لكل ما له عالقة بال�ش�ؤون الدينية والزمنية ب�صرف النظر عن �أي دين �أو جماعة ،وب�صرف النظر عن وجود رجال دين �أو عدم وجودهم. ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه الآن هو :هل الف�صل بني ال�سلطتني على ال�صعيد الإجرائي هو ما ا�صطلح على ت�سميته عندنا بالعلمانية؟ مبعنى �آخر ،هل الف�صل بني الدين وال�سيا�سة يعني العلمانية؟ و�إذا كان ذلك كذلك ،ف�أية علمانية نق�صد؟ هل العلمانية كما عرفتها املجتمعات الغربية ،امل�سيحية يف �أ�صولها� ،أم هي علمانية مغايرة؟ و�إذا كانت مغايرة ،فما هي حدودها ،وما هي �أ�صولها� ،إذا كان لها �أ�صول يف املجتمعات العربية اال�سالمية؟ 1
عدد رقم � | 1أيـار
2013
46
العلمانية اليوم
ال �شك �أن العلمانية مفهوم غربي كان لع�صر الأنوار والثورة الفرن�سية الف�ضل يف �صوغه واعتماده للف�صل بني �ش�ؤون الدين و�ش�ؤون ال�سيا�سة .وجاء تطبيقه كنتيجة ل�صراع طويل بني الكني�سة والدولة ،بني ال�سلطة الكن�سية الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية املدنية يف الغرب ،ويف �أوروبا خ�صو�صاً. وعن ا�ستح�ضار هذا املفهوم لدى البحث يف �إ�شكالية العالقة بني الدين والدولة عند امل�سلمني والعرب ،يبادر املفكرون اال�سالميون �إىل ا�ستبعاد مفهوم العلمانية باعتباره� ،أو ًال ،مفهوماً غربياً؛ وال معنى له يف اال�سالم ،ثانياً .ملاذا؟ لأن ال كهنوت يف اال�سالم ،وال �سلطة كن�سية فيه .وبالتايل اال�سالم منهج حياة ،دين ودنيا� ،أي يف الأخري دين و�سيا�سة وال ميكن الف�صل بينهما. �إال �أن هذه الأفكار ال حتوز على �إجماع املفكرين امل�سلمني .وال تزال هذه امل�س�ألة مدار نقا�ش بينهم .وهو نقا�ش ال يعود �إىل بدايات القرن الع�شرين مع ما طرحه علي عبد الرازق يف «اال�سالم و�أ�صول احلكم» فح�سب ،بل يعود �إىل بدايات النقا�ش الكالمي بني املعتزلة والأ�شاعرة حول �أولوية العقل �أو النقل يف اال�سالم ،وحول الأولوية يف تدبري �ش�ؤون امل�سلمني يف احلياة الدنيا ح�سب اهتمامات النا�س باعتبارها م�صالح متغرية ومتبدلة بتغري وتبدل الأمكنة والأزمنة .من هنا جاء تف�ضيلي مل�صطلح الدنيوية بدل العلمانية والدنيويني بدل العلمانيني ،رمبا للتخل�ص من ح�سا�سية مفهوم العلمانية . على �أي حال� ،إن �أهم نقطة يتداولها العلمانيون (الدنيويون) يف نقا�شهم مع اال�سالميني هي حتديد ال�سمات ال�ضرورية للعلمانية ،وهي ال�سمات التي ال ي�ستقيم معنى العلمانية بدونها .والتحديد هذا مهم جداً للعلمانيني لأنهم يعتربون �أن اال�سالميني اكتفوا ب�إحدى ال�سمات الأ�سا�سية للعلمانية وهي رف�ض �سيطرة الكني�سة ورجال الدين ،باعتبارها ت�ستنفد معنى العلمانية بكامله .بينما يعترب العلمانيون �أن ال�سمة ال�ضرورية للعلمانية هي رف�ض اعتبار التعاليم الدينية ت�شكل وحدها املرجع الأخري للق�ضايا الزمنية والروحية معاً .ويعتربون �أن املعنى الأول املعتمد من اال�سالميني يت�ضمن يف املعنى الثاين الذي يعتمدونه هم ،وناجت عنه ،ولي�س العك�س. �أما يف م�س�ألة ت�شكل مفهوم ال�سلطة ،فمما ال �شك فيه �أن الطبيعة الب�شرية وال�سلطة متالزمان. وال وجود ملجتمع �إن�ساين بدون �سلطة .وال�سلطة يف طبيعة وجودها �سابقة على وجود الدولة. وهي لذلك «قوة �إرادة حلكم جماعة من النا�س» .والقوة هذه تتيح لأ�صحابها فر�ض �أنف�سهم، و�سلطتهم ،مب�ساعدة موا�صفات �شخ�صية ،فردية �أو جماعية .وال ت�صري �أمراً واقعاً �إال بالقوة ذاتها التي تعمل مبوجب قانون ت�ضعه هي بنف�سها ،ويحوز على ر�ضى وموافقة املحكومني . هذا املفهوم لل�سلطة ،قدمياً وحديثاً ،يف بداية احلياة املجتمعية �أو يف حداثتها ،ال يزال هو نف�سه ،و�إن تغريت �آليات ممار�سة ال�سلطة� ،أو ا�ستحدثت م�ؤ�س�سات تطبيقها �أو مراقبتها� .إال �أن �أ�صلها مل يكن وتوحد الكالم عليها باعتبارها من منابع متعددة� ،إن كان يف الغرب� ،أو عندنا. من منبع واحدّ . فنظرية احلق االلهي ،الغربية يف من�شئها� ،أنتجت امللكية املطلقة من خالل االندماج بني ال�سلطة 2
3
4
5
العلمانية اليوم
الدين والدولة والعلمانية
47
الدينية وامللكية ،ومن ثم التحالف املتني بينهما .والأ�صل االلهي لل�سلطة جعل احلكم امللكي التج�سيد العملي للحكم االلهي ،كما �سمح للملك �أن يكون ظل اهلل على الأر�ض .والأ�صل االلهي نف�سه هو الذي حتول ،وب�شكل �أقرب �إىل الطبيعة الدنيوية� ،إىل احلق ال�سماوي باعتبار النظر �إىل تدبري �ش�ؤون الدنيا ما هو �إال تعبري عن رعاية جتليات االبداع االلهي يف العامل الدنيوي. والرعاية هذه ،يف الأخري ،ما هي �إال احلفاظ على ما �أبدعه اهلل من خالل تكليف الب�شر حكم انف�سهم مبا يرونه منا�سباً� ،أي العمل على رعاية �سعادة االن�سان باعتبارها حتقيقاً لالرادة االلهية، ولكن ب�أيدي الب�شر و�إرادتهم. رعاية االن�سان ،واحلفاظ على االرادة االلهية واحرتامها ،تتيح احلكم مبوجب ذلك ،و�إن كان بفر�ض اال�ستبداد واحلكم ال�شمويل طاملا ذلك يبقي على املجتمع يف االطار الذي ير�ضي اهلل وي�ؤ ّمن رعاية �ش�ؤون النا�س بالطريقة التي تعرب عن طاعة اهلل من خالل تعبري املوجودات بكل عنا�صرها عن عظمته .و�إذا كان املجتمع ،بكل فئاته وتفاوتاته وعنا�صره ،مقتنعاً مبا يقوم به احلكام للحفاظ على ما �أبدعه اهلل يف موجوداته ،فال معنى ،عندئذ ،لال�ستبداد وال�شمولية .ويف هذه احلالة يكون احلكم �سه ًال مبقدار طاعة املحكومني .ويتحول �إىل حكم �صعب يتو�سل ال�شمولية واال�ستبداد لت�سيري �ش�ؤونه مبقدار خروج املحكومني ،بالأقل �أو الأكرث ،عن طاعة احلكام . �إذا كان هذا �أ�صل ال�سلطة وف�صلها يف القرون الو�سطى الأوروبية ،ف�إن ع�صر الأنوار ،املمهد للثورة ال�صناعية وللع�صر احلديث� ،أعطى لل�سلطة معنى جديداً م�ستمداً من املجتمع ،من واقع العالقات االجتماعية .ال�سلطة التي ي�ستمدها احلكام من ال�شعب مبا�شرة� .سلطة ال�سيادة ال�شعبية� .إال �أن هذه ال�سلطة ،بحكم ت�شكلها ،ال حتوز على ر�ضى كل اجلماعة .وهي عاجزة ،يف كل حال ،عن ت�أمني االجماع .وميكن لهذه ال�سلطة �أن تتح�صل �أو ًال بالقوة من قبل الأقلية وخ�ضوع الأكرثية، قبل �أن تتطور من خالل �ضبط ممار�ستها ،على �أية �صورة كانت ،مل�صلحة اجلماعة ولت�أمني ال�صالح العام .وال يكون ذلك �إال بتطور ال�سلطة ذاتها عن طريق �صوغ الد�ساتري والت�شريعات والقوانني التي ت�سمح للدولة ،املمار�سة لهذه ال�سلطة ،باالنتقال من طور اال�ستبداد والفردية والطغيان، �إىل طور الدولة احلديثة مب�ؤ�س�ساتها ومبمار�ساتها الدميوقراطية القائمة على تداول ال�سلطة ،حكم/ معار�ضة ،وعلى ممار�سة احلرية والعدالة وامل�ساواة �أمام القانون. بهذه اخل�صائ�ص ،تكون الدولة احلديثة ،تف�صي ًال� ،صاحبة �سلطة هرمية جت�سدها امل�ؤ�س�سات ووظائفها من �أعلى الهرم ،ر�أ�س الدولة� ،إىل �صاحب املرتبة الدنيا يف �أجهزتها وم�ؤ�س�ساتها .وهي مركزية باعتبار �أنها تنطلق من مركز واحد يف �إدارة �ش�ؤون احلكم ،وهو حمور العمل ال�سيا�سي يف الدولة، و�إن كانت ذات نظام المركزي� ،سيا�سي و�/أو �إداري .وهي �سلطة �سيا�سية تدير كل ما ي�شكل عنا�صر املجتمع ال�سيا�سي ،وتعمل على �إتاحة املمار�سة ال�سيا�سية يف كل �أ�شكالها باحلرية الالزمة. وهي مدنية تقود ال�سلطة الع�سكرية ،وت�سمح لها باحلركة �ضمن ا�سرتاتيجيتها ال�سيا�سية ،وال تنقاد منها يف �أي ظرف من الظروف� ،إال يف �أوقات خم�صو�صة حتددها ال�سلطة ال�سيا�سية نف�سها. 6
عدد رقم � | 1أيـار
2013
48
العلمانية اليوم
وهي ال�سلطة التي حتتكر العنف املادي ومتار�سه بال�شرعية التي تتيحها ال�سلطة ال�سيا�سية بقوانينها وم�ؤ�س�ساتها .وهي ال�سلطة الزمنية التي ينف�صل فيها العمل بني ال�سلطة املدنية وال�سلطة الدينية. �إن من�ش�أ ال�سلطة يف املجتمع �ضروري �ضرورة املجتمع االن�ساين نف�سه .و�إذا كان «الوازع» هو بداءة ال�سلطة (بدايتها ،بداوتها) يف املجتمع الأويل للإن�سان ،فهي منذ حلظة ت�شكلها كوازع ،نواة الدولة. و�إذا كان الوازع �ضرورة اجتماعية ال وجود للمجتمع بدونه ،ف�إن الدولة هي �ضرورة �سيا�سية ،هي �ش�أن ثقايف .والدولة مبا �أنها �ش�أن �سيا�سي وثقايف ،فهي قبل هذا وذاك �ش�أن اجتماعي ،مبعنى �أن ال وجود لل�سيا�سة بدون االجتماع ،وال وجود للدولة �إال يف املجتمع . والدولة ك�ش�أن ثقايف ،هي ح�صيلة الثقافة االجتماعية ،ومرتبطة بالتطور االجتماعي العام .وهي، لذلك ،تندغم ،ك�ش�أن �سيا�سي ،باملجتمع .ويظهر االجتماع وال�سيا�سة ك�أنهما �ش�أن واحد يف حالة املجتمع البدوي(االبتدائي ،البدائي)� .إال �أن هذا التماثل واالندغام يبد�آن باالنف�صال مع ارتقاء املجتمع املتنا�سب مع تبلور �سلطة الدولة ونظامها ال�سيا�سي. �إال �أنه ال ميكن الكالم على دولة� ،أي دولة ،مبعزل عن املجتمع الذي يحملها وحتكمه وتقوده. لذلك ميكن القول �إنّ الدولة هي جمموعة ب�شرية على �أر�ض حمددة ذات �سلطة توجه هذه املجموعة مبوجب نظام اقت�صادي اجتماعي و�سيا�سي وحقوقي ت�سعى ال�سلطة �إىل حتقيقه. والدولة ،على �شتى هذه الوجوه واالحتماالت ،غري جمربة �أن تكون �ضد الدين� ،أو لي�س من ال�ضرورة �أن ت�ضع نف�سها يف مواجهة الدين .وعلى الدولة يف كل �أ�شكالها ،باعتبارها دولة ت�سيرّ �ش�ؤون النا�س يف حياتهم العملية ويف تفاعالتهم اليومية� ،أن تفر�ض وجودها ،و�أن يتم االعرتاف بها وب�صريورتها اخلا�صة ومنطقها ،حتى على الدين نف�سه .و�إال� ،إذا بقيت العالقة على �ضبابيتها بني الدين والدولة وعلى تداخلها فيما بينهما� ،سيتحول الدين ،يف تداخل العالقة هذه� ،إىل روح الدولة ،والدولة �إىل ج�سد الدين و�سالحه وذراعه .و�إذا تر�سخت العالقة بني الدين والدولة على هذه ال�صورة ،فال بد �أن ت�صبح ال�شريعة نظام الدولة وقانونها ،والدولة حامية لهذا النظام واملنفذة لهذا القانون. �أما عوائق ت�شكل الدولة فهي متعددة ،منها جغراف ّية (�أندوني�سيا والباك�ستان� ،أو عرقية (الهند والباك�ستان)� ،أو عن�صرية قبلية (الهند ،ال�صومال واملغرب العربي)� ،أو طائفية (لبنان ،قرب�ص ويوغو�سالفيا)� .إال �أن هذه العوائق ميكن �أن ت�ضمحل لظروف تاريخية ون�ضالية تتوجه وجهة اال�ستقالل و�إن�شاء الدولة .ولكن بزوال هذه الظروف ،تعود العوائق للظهور ،من جديد ،لعدم تبلور عنا�صر املجتمع ،وق�صوره عن الوعي بالذات ،وباملبد�أ الذي ير�سخ هذا الوعي ويقويه ،مبد�أ القومية. هنا تكمن اال�شكالية التي ت�شغل املفكرين العرب وامل�سلمني ،اال�سالميني منهم والليرباليني. وهي اال�شكالية التي ميكن �أن تخت�صر هنا ،و�إن تع�سفاً ،يف الت�سا�ؤل التايل :كيف ميكن مراقبة 7
العلمانية اليوم
الدين والدولة والعلمانية
49
الدولة� ،أو م�ساءلتها ،كمنفذة قهرية لل�شريعة ،وحمتكرة للعنف الر�سمي؟ ومن الذي ي�ستطيع �أن يراقب وي�س�أل يف ظل حكم اهلل ؟ هنا تظهر �ضرورة البحث يف �أ�شكال العالقة املمكنة بني الدين والدولة. اال�سالم دين ودنيا .هذا ما �آمن به امل�سلمون منذ بداية اال�سالم حتى الآن .وهذا ما �أقره الدار�سون، عرباً وغري عرب ،من خالل مقارباتهم للدين اال�سالمي واحل�ضارة اال�سالمية. ولكن �إذا كان اال�سالم ديناً ودنيا ،فهل يعني ذلك �أن اال�سالم دين ودولة؟ وهل هذا يعني �أن اال�سالم ال يكتمل �إال بنظام �سيا�سي يطبق ال�شريعة اال�سالمية ،ويحكم با�سم الدولة الدينية؟ �إن العالقة بني اال�سالم وال�سيا�سة هي عالقة �إ�شكالية ال تزال ت�شكل حمور اهتمام املفكرين العرب وامل�سلمني� ،إن كان على م�ستوى العالقة بني اال�سالم كدين وبني ال�سيا�سة� ،أو كان على م�ستوى العالقة بني الدين والدولة �أو بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية .وكان الهم الأ�سا�سي ،وال يزال ،هو كيفية بناء دولة دميوقراطية حديثة مع احلفاظ على املقا�صد الأ�سا�سية للدين� ،أو كيفية املواءمة بني اال�سالم كدين وح�ضارة ،ومفاهيم تتبناها الدولة احلديثة من مثل: الدميوقراطية وامل�ساواة يف احلقوق والواجبات وف�صل الدين عن الدولة والعلمنة والعدالة وغريها من املفاهيم . لي�س علينا يف هذا املقام �أن نتعر�ض لإ�شكالية العالقة بني الدين والدولة ،لأن هذه امل�س�ألة تعر�ض لها الكثريون من املفكرين ،وقدموا الأطروحات حولها � ،أو ًال؛ ولأننا هنا ،ويف جمال هذا املقال، نحاول البحث يف �إ�شكالية العالقة بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية ،ويف احلدود التي يتيحها هذا املقال ،ثانياً؛ دون ادعاء االحاطة باملو�ضوع من جوانبه كافة. هذا الكالم ي�سمح لنا بالقول �إنّ ثمة �أكرث من االندماج �أوالف�صل يف العالقة بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية� .إذ �إن �أ�شكال العالقة بني ال�سلطتني خم�سة .ف�إذا كان االندماج �أحد هذه الأ�شكال ،والف�صل ال�شكل الثاين ،ف�إن بقية الأ�شكال ترتاوح بني التحالف والإبعاد واالنكار .و�إذا كان التحالف �سائداً يف الأكرثية ال�ساحقة من البلدان العربية واال�سالمية دون حتديد وا�ضح لأ�س�س هذا التحالف �أو عنا�صره ،ف�إن الف�صل �أو اال�ستقالل بني ال�سلطتني غري موجود فعلياً .وما هو موجود يظهر �شكل الإبعاد «من فوق» ،كما هي احلال يف تون�س وتركيا قبل خما�ض الربيعني امل�سلمني العربي والرتكي ،بتبنيهما العلمنة ال�شاملة املبعدة للدين عن التدخل يف �ش�ؤون ال�سيا�سة ،ويف �ش�ؤون الأحوال ال�شخ�صية املدنية والدنيوية� .إال �أن هذا التبني كان قد بقي حم�صوراً يف دائرة اهتمامات الدولة وم�ؤ�س�ساتها ،و�شبه معزول عن نب�ض احلياة اليومية واملمار�سة العملية للمجتمع بهمومه وهواج�سه وق�ضاياه .لذلك بقي ه�شاً وقاب ًال لالنفراط ،ما �أدى �إىل التغيري و�إن كانت مل تت�ضح بعد وتتبلور معامل هذا التغيري. 8
9
10
11
عدد رقم � | 1أيـار
2013
50
العلمانية اليوم
والقول يف ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية يقت�ضي منا البحث يف غايات وو�سائل كل من ال�سلطتني .ف�إذا كانت ال�سلطة ال�سيا�سية تعمل يف الوجود من �أجل �سعادة االن�سان ،ف�إن ال�سلطة الدينية تعمل باالميان مبا هو خارج الوجود ،و�سيلتها الطاعة للأوامر االلهية من �أجل ك�سب الآخرة بتو�سل العمل ال�صالح يف الدنيا .من هنا جتمع الدنيا بني ال�سلطتني .ويح�صل التفاعل الذي يقوم على مقولة الدنيوية التي تراها كل �سلطة ح�سب مقت�ضى وجودها وم�صلحتها. من املهم الت�أكيد �أن ال�شكل االندماجي يجعل ال�سلطتني الدينية وال�سيا�سية وك�أنهما �سلطة واحدة .ذلك �أن الدولة تظهر بثوبها ال�سيا�سي و�سالحها وت�شريعاتها الالب�سة لبو�س ال�سيا�سة بروح وم�ضمون دينيني .وال فرق فيها بني كونها دولة دينية �أو دولة �سيا�سية ت�سود فيها ال�شريعة ن�صاً وروحاً؛ وال �ش�أن للدولة ،كجهاز� ،إال حرا�سة ال�شريعة الدينية ومراقبة ح�سن تطبيقها ،باعتبارها امل�صدر االلهي الوحيد ،وما يرتبط به من �ضروب الت�شريع الأخرى. �أما ال�شكل التحالفي ،فهو باال�ضافة �إىل كونه ال�سائد عملياً وتطبيقياً يف الكثري من البالد التي تدين باال�سالم ،يلحظ الفرق بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية مع وجود التحالف بينهما يف كل ما يخدم توجه ال�سلطة ال�سيا�سية من ناحية ،وما يخدم غايات ال�سلطة الدينية من ناحية ثانية .والعالقة بني ال�سلطتني يف �شكلها التحالفي هي دائم َا يف حالة رجراجة ،كرقا�ص ال�ساعة، ال ت�ستقيم على حال بحكم العالقة ذاتها ،املتغرية يف الأ�سا�س ،باعتبارها �سلطة زمنية �سيا�سية ت�ضعف �أو تقوى ،من ناحية؛ و�سلطة دينية ت�ضعف �أو تقوى ب�شكل معاك�س لل�سلطة ال�سيا�سية، من ناحية ثانية .وما يعنيه هذا القول� ،أنه �إذا قويت ال�سلطة ال�سيا�سية ،تطلب الدعم والفتوى من ال�سلطة الدينية لرت�سيخ القرارات وتثبيتها و�إ�ضفاء ال�شرعية «ال�شرعية» عليها؛ و�إذا قويت ال�سلطة الدينية ت�ضعف ال�سلطة ال�سيا�سية وحت�صل التبعية من هذه �إىل تلك ،ومييل احلكم ال�سيا�سي �إىل الفردانية وال�شمولية قبل �أن يتحول �إىل نظام الدولة الدينية واحلكم االلهي ،وقبل �أن يحكمها التع�صب الذي يطغى على �أي �شيء �آخر. �أما �شكال الإبعاد والإنكار ،فهما حا�صالن يف النظام الأيديولوجي الذي عليه �أن يطبق م�شروعاً ح�ضارياً و�سيا�سياً ي�ؤمن به هذا النظام .و�شكل العالقة هذا �إما يكون االنكار التام باعتبار �أن ال�سلطة الدينية معطلة للم�شروع احل�ضاري وخطرة عليه ،كما كانت احلال يف االحتاد ال�سوفياتي؛ �أو االبعاد باعتبار �أن ال�سلطة الدينية معرقلة مل�شروع العلمنة ال�شاملة كما ح�صل ،وال يزال يح�صل، و�إن ب�شكل �أخف يف تركيا. يبقى �شكل اال�ستقالل� ،أو الف�صل ،بني ال�سلطتني الدينية وال�سيا�سية .وهو ال�شكل الذي يختلف ب�شكل وا�ضح عن �شكلي الإبعاد والإنكار ،ويقرتب من �شكل التحالف� .إنه حتالف مع حفظ احلدود .لكل �سلطة ميدانها مع حلظ �إمكانية التعاون بينهما ملا فيه امل�صلحة العامة للمجتمع ،دينية كانت هذه امل�صلحة �أو �سيا�سية.
العلمانية اليوم
الدين والدولة والعلمانية
51
ت�أ�سي�ساً على �إ�شكالية العالقة بني �سلطة الدولة و�سلطة الدين ،ميكن القول �إن الدولة يف الغرب مل تكن دولة حديثة عندما مل ينوجد هذا الف�صل الدقيق بني ال�سلطات ،وخ�صو�صاً الف�صل بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية� ،أو بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الع�سكرية .لذلك كان الف�صل وا�ضحاً بني الدولة التقليدية والدولة احلديثة يف الغرب ،وخ�صو�صاً الأوروبي منه .وقد �أ�س�س لهذا الف�صل ع�صر الأنوار والثورة الفرن�سية ون�شوء الر�أ�سمالية؛ وهي املحطات الرئي�سة التي �أر�ست دعائم احلداثة. �إذا كانت الدولة احلديثة يف الغرب قد ن�ش�أت بناء على هذه االعتبارات التاريخية التي اخت�ص بها الغرب ،فكيف ميكن النظر �إىل الدولة التي تدين باال�سالم؟ من نافل القول الت�أكيد �أن االعتبارات التي �أدت �إىل ن�شوء الدولة احلديثة يف الغرب مل تعمل على �إن�شاء الدولة احلديثة يف العاملني العربي واال�سالمي فح�سب � -إذ لي�س عليها �أن تعمل على �إن�شاء مثل هذه الدولة ،ولي�س مبقدور هذه الدولة �أن تن�ش�أ ،الختالف الظروف والوقائع االجتماعية والتاريخية لكل من العاملني العربي واال�سالمي من ناحية ،والعامل االوروبي ،من ناحية ثانية؛ بل �إن �أنوار العامل االوروبي ما كان لها �أن ت�شع ،وثورته ال�صناعية ما كان لها �أن تغيرّ ، وحداثته ما كان لها �أن حت ّول منط احلياة يف �أوروبا ،لوال ا�ستعمار العاملني العربي واال�سالمي، وعوامل �أخرى مت�شابهة يف �أمناط حياتها ،ويف وقائعها االجتماعية والتاريخية ،ويف حالتها التقليدية ال�سابقة على احلداثة باملعنى واملقيا�س االوروبيني ،ومبعنى ال�سيطرة على الذات اجتماعياً و�سيا�سياً واقت�صادياً وثقافياً يف العاملني العربي واال�سالمي .فالعالقة غري املتكافئة بني هذه العوامل املختلفة �أنتجت جمتمعات هجينة ال هي باحلديثة وال بالتقليدية ،جمتمعات اكتفت مبا �أنتجته احلداثة يف ممار�ساتها اال�ستهالكية اليومية ،و�أبقت امل�ضمون غارقاً يف تقليديته احلائرة بني هذا القدر �أو ذاك من الرتاث والتقليد ومن الع�صرنة والتجديد. يف هذا املناخ التاريخي ن�ش�أت الدولة امل�سلمة يف العامل العربي ،وخارج هذا العامل .والدولة امل�سلمة هي التي ين�ص د�ستورها على �أن دينها الر�سمي هو اال�سالم .بهذا املعنى الدولة امل�سلمة هي لي�ست دولة �إ�سالمية ،بينما الدولة اال�سالمية هي دولة م�سلمة يف الأ�سا�س .وبهذا املعنى �أي�ضاً ،ميكن �أن يكون نظام الدولة امل�سلمة و�ضعياً� ،أي من �صنع الب�شر و�إن كان ي�ستمد بع�ض قوانينه من ال�شريعة اال�سالمية� ،أو جلها؛ والدولة اال�سالمية ت�ستند يف نظام حكمها على ال�شريعة اال�سالمية ب�صفته هذه ،وباعتبار �أن اهلل هو املرجع النهائي يف احلكم. هذا التحديد ي�سمح لنا بالت�سا�ؤل عن �إمكانية ن�شوء الدولة امل�سلمة احلديثة ،وبالتايل عن �إمكانية ن�شوء الدولة اال�سالمية احلديثة. هذا الت�سا�ؤل ي�ضعنا يف مواجهة مبا�شرة مع الدول العربية وغري العربية التي تدين باال�سالم دون �أن تكون �أنظمتها �إ�سالمية باملعنى املذكور �أعاله .واملواجهة هذه حتتم علينا البحث يف �إ�شكالية 12
13
عدد رقم � | 1أيـار
2013
52
العلمانية اليوم
العالقة بني الدين والدولة يف هذه الأنظمة من ناحية ،وبني الدين والدنيا من ناحية ثانية .وهنا، ال بد من الت�أكيد �أن �أكرث البلدان العربية وامل�سلمة تعلن عن دينها الر�سمي يف د�ساتريها دون �أن يعني ذلك �أن نظامها ال�سيا�سي هو نظام �إ�سالمي� ،أو يطبق ال�شريعة اال�سالمية يف نظامه ال�سيا�سي باعتبارها امل�صدر الوحيد .وهذه البلدان تعتمد يف �أكرثيتها ال�ساحقة �أي�ضاً على �أنظمة و�ضعية وم�ستمدة من الت�شريع الب�شري ،و�إن كانت ت�ستلهم بع�ض هذه الت�شريعات من ال�شرع الديني واحلكم االلهي .هذه البلدان مهي�أة مثل غريها لأن تعتمد احلداثة ،ولأن تكون الدول التي حتكمها حديثة .والتاريخ يطلعنا على �أن العرب كانوا يف قمة احلداثة يف القرن الرابع للهجرة مع القرون التي تلت .وماليزيا و�أندوني�سيا وغريهما يف ال�شرق الأق�صى ميكن اعتبارها دو ًال حديثة. �إال �أن اختالط الأمور يف م�صادر الت�شريع ،ويف �أنظمة احلكم ،املت�أتية من االختالط بني �أمور الدين و�أمور الدنيا ،ومن عدم و�ضوح احلدود بينهما يف البلدان التي تدين باال�سالم؛ باال�ضافة �إىل �أمور �أخرى� ،أتينا على ذكر بع�ضها �آنفاً؛ �أدت �إىل عرقلة ن�شوء احلداثة عندنا ،ومنعت ،حتى الآن ،ن�شوء الدولة احلديثة ،عربية كانت �أو م�سلمة .وهنا تندرج امل�سائل التي تتعلق ب�أمور التطاول على الدين، �أو القول بغري ما يقول الدين� ،أو االتهامات بالكفر والردة و�أحكام التطليق والتجديف ،ومن هم �أ�صحاب الف�صل يف ذلك ،وغريها من الأمور .هذا باال�ضافة �إىل امل�س�ألة ال�سيا�سية ،واعتبارات امل�صلحة التي تربط بني �أ�صحاب ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية ،وما ميكن ان ت�صل �إليه هذه االعتبارات يف العالقة بني الدولة واملجتمع� ،أو بني الدولة وفئات حمددة من املجتمع . �أما الدولة اال�سالمية مبعنى الدولة التي تطبق ال�شريعة اال�سالمية ،كنظام حكم ،على الأقل يف جتليات الأنظمة التي ت�صرح ب�أنها �إ�سالمية :نظام طالبان الذي حكم يف �أفغان�ستان ،ونظام احلكم يف ال�سودان ،وغريهما ...فمن ال�سهل احلكم عليها ب�أنها ال تقرتب من الدولة احلديثة� ،إن كان مبقيا�سها الغربي� ،أو ب�أي مقيا�س �آخر. يف النظر �إىل �إمكانية قبول اال�سالم للعلمانية� ،أو لأمور الدنيا با�ستقالل عن الدين ،يناق�ش العلمانيون الأ�صوليني يف م�س�ألة التناق�ض بني قولهم �إن اال�سالم دين العقل من ناحية ،وا�ستحالة �أن تكون الدولة يف ظل اال�سالم علمانية .وفحوى هذه املناق�شة هي املقارنة بني الفكرتني الآتيتني: اال�سالم يقدم امل�صلحة على الن�ص� ،أي يقدم العقل على النقل؛ وهي فكرة دنيوية (علمانية) يف الأ�سا�س؛ واال�سالم بطبيعته ال ي�سمح لأية اعتبارات م�صلحية �أو عقلية �أن تبطل االعتبارات الدينية النابعة منه ،ومنها :اال�سالم دين ودولة .وال ي�ستقيم الأمر هنا �إال ب�إلغاء �إحدى الفكرتني املتناق�ضتني. ومبا �أن اال�سالم دين العقل ،ومبا �أنه يقدم امل�صلحة على الن�ص ،فيمكن ،ب�سبب ذلك� ،أن تقوم الدولة العلمانية (الدنيوية) يف اال�سالم �إذا اقت�ضت امل�صلحة ذلك. 14
الدين والدولة والعلمانية
العلمانية اليوم
53
وهنا ال بد من التو�ضيح .ذلك �أن قوانني الدولة املتطابقة مع ال�شريعة ال تكفي لتكون هذه الدولة دولة دينية غري علمانية� ،أو غري دنيوية .فالأ�سا�س الذي يقوم عليه الت�شريع هو الذي يقرر �إذا كانت الدولة دينية �أو علمانية .وهذا الأ�سا�س هو �إما االعتبارات الدينية� ،أو االعتبارات العقلية (الدنيوية) .وعليه ،فكل دولة تعترب زمنية علمانية �إذا كانت �أحكامها م�ستمدة يف �شتى �ش�ؤون احلياة من العقل ال من الدين ،حتى و�إن كانت �أحكامها ب�أكرثيتها متطابقة مع ال�شرع الديني . انطالقاً من هذا التحديد ،ميكن العمل على بناء العالقة بني ال�سلطة الدينية وال�سلطة ال�سيا�سية انطالقاً من موقع التحالف ،كمرحلة �أوىل ،و� ً صوال �إىل موقع اال�ستقالل لكل من ال�سلطتني جتاه الأخرى .فالتحالف بـينّ َ ويـبينّ ،بالتجربة واملمار�سة ،مدى كثافة �ضبابية احلدود بني ال�سلطتني. وال ي�ستفيد من جتربته ،وال من خربته ،لينتقل ،كتحالف ،من �ضبابية العالقة واختالط املهام والغايات� ،إىل البدء يف ر�سم حدود املمار�سة لكل من احلقلني لت�صل هذه العالقة �إىل �إظهار ما هو ديني ،وما هو دنيوي ،ليمار�س كل منهما �سلطته دون طغيان �أو هيمنة من الآخر عليه .فيكون الدين ،وال�سلطة املنبثقة منه ،يف خدمة املجتمع مبا يقوم به من ن�شاط روحي و�أخالقي ،ومن متتني العالقة بني امل�ؤمن واخلالق .وتكون ال�سيا�سة يف خدمة املجتمع مبا تقوم به على �صعيد قيادة حياة النا�س يف جماري حياتهم اليومية باعتبارها �ش�ؤوناً دنيوية ،و�إن ا�ستوحت يف قيادتها ما تراه منا�سباً من مبادئ ال�شرع الديني. هذا االنتقال الهادئ واملت�أين من التحالف بني ال�سلطتني الدينية وال�سيا�سية �إىل ا�ستقالل الواحدة منهما عن الأخرى يف �ش�ؤون احلياة اليومية ،يعطي لل�سيا�سة االنفتاح الكامل لكل ما يتعلق ب�ش�ؤون الدنيا دون جتاهل �أو جتاوز الأمور الأخالقية والروحية .ويعطي للدين االهتمام بامل�سائل الأخالقية والروحية دون جتاهل �أو جتاوز الأمور ال�سيا�سية باعتبارها �ش�ؤوناً دنيوية ميكن ممار�ستها، ولي�س باعتبارها تكليفاً �شرعياً �أو دعوة للحكم االلهي. 15
عدد رقم � | 1أيـار
2013
العلمانية اليوم
54 الهوام�ش
.1عادل �ضاهر ،الأ�س�س الفل�سفية للعلمانية ،دار ال�ساقي ،1993 ،لندن� ،ص.39 : . 2علي عبد الرازق ،اال�سالم و�أ�صول احلكم ( ،)1925طبعة الهيئة امل�صرية العامة للكتاب ،1991،القاهرة� ،ص.103 : � .3أنظر يف هذا اخل�صو�ص ،ف�صل هراطقة و�أطهار ،الدنيويون والدينيون يف جمتمع متنوع ،يف: -عاطف عطيه ،يف االجتماع اللبناين ،جدلية الوحدة والتعدد ،دار االن�شاء ،2005 ،طرابل�س� ،ص.179 -169 : � .4أندريه هوريو ،القانون الد�ستوري وامل�ؤ�س�سات ال�سيا�سية ،اجلزء الأول ،ترجمة علي مقلد و�آخرون ،الأهلية للن�شر والتوزيع ،1974 ،بريوت� ،ص.106 : .5املرجع نف�سه� ،ص.107 : .6للتف�صيل حول الأ�صل ال�شعبي لل�سلطة وتطورها� ،أنظر: -املرجع نف�سه� ،ص.125 -107 : � .7أنطون �سعاده ،ن�شوء الأمم ،)1938(،طبعة ،1978بريوت� ،ص.90 : .8برهان غليون ،نقد ال�سيا�سة ،الدولة والدين ،الطبعة الثانية ،امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،1993 ،بريوت، �ص71 : � .9إيليا حريق ،الدميوقراطية وحتديات احلداثة بني ال�شرق والغرب ،دار ال�ساقي ،2001 ،بريوت� ،ص.249 -247 : � .10أنظر على �سبيل املثال ال احل�صر: -حممد عابد اجلابري ،العقل ال�سيا�سي يف اال�سالم ،مركز درا�سات الوحدة العربية ،1990 ،بريوت� ،ص.392 : -برهان غليون ،نقد ال�سيا�سة ،الدولة والدين ...مذكور �سابقاً؛ وحديثاً: -علي رحال ،الدين وال�سلطة ،درا�سة يف �إ�شكالية الفكر ال�سيا�سي اال�سالمي املعا�صر� ،أطروحة دكتوراه يف علم االجتماع ال�سيا�سي قدمت يف معهد العلوم االجتماعية ،اجلامعة اللبنانية ،العام اجلامعي .2002 -2001 .11للتف�صيل حول �أ�شكال العالقة بني ال�سلطة ال�سيا�سية وال�سلطة الدينية� ،أنظر: -نا�صيف ن�صار ،منطق ال�سلطة ،مدخل �إىل فل�سفة الأمر ،دار �أمواج ،1995 ،بريوت� ،ص.184 -143 : � .12أنظر يف هذا اخل�صو�ص ما يقوله ه�شام �شرابي حول ع�صر النه�ضة العربية ،يف: -ه�شام �شرابي ،مقدمات لدرا�سة املجتمع العربي ،دار نل�سن للن�شر ،الطبعة ال�ساد�سة ،1999 ،ال�سويد� ،ص: .89 -88 .13حول النظام الأبوي امل�ستحدث واملجتمع العربي الذي يجمع بني التقليد واحلداثة يف خليط هجني� ،أنظر: -ه�شام �شرابي ،النظام الأبوي و�إ�شكالية تخلف املجتمع العربي ،الطبعة الرابعة ،دار نل�سن ،2004 ،ال�سويد. .14الأمثلة على ذلك كثرية ،ن�صر حامد �أبو زيد وق�ضية تكفريه وتطليقه من زوجته ورف�ضها ذلك وتهجريهما من م�صر ،وق�ضية �إهدار دم �سلمان ر�شدي ،واتهام الكثريين بالكفر والردة من خالل �آرائهم الفكرية والأدبية. .15للتف�صيل حول هذه امل�سائل� ،أنظر: � -ضاهر ،الأ�س�س الفل�سفية للعلمانية ،مذكور �سابقاً� ،ص.59 :
55
العلمانية اليوم
العروبة والدين والف�صل بينهما | ن�صري ال�صايغ | .Iمن توما الر�سول� ...إىل مارك غرافيت�س
تقدم لنا رواية الإجنيل عن توما الر�سول� ،أمثولة ذات داللة .كان توما من ر�سل امل�سيح ،وعاي�شه وعرف منه ،ولي�س بالتواتر� ،أنه �سيموت وبعد ثالثة �أيام يقوم من بني الأموات .وملا انت�شر خرب قيامة امل�سيح ،وحده توما ،مل ي�صدق� .إىل �أن �أتيح اللقاء به يف العلية ...ومل ي�ؤمن �إال بعد و�ضع �إ�صبعه يف جرح يده. احلقيقة ال�صعبة ،التي حتتمل نقا�شات متعددة ،بحاجة �إىل معيار خارجي للت�أكد من ثباتها� ،أن تلم�س بالتجربة خري من �أن ت�ستنبط باملنطق. وعليه ،ف�أين تقيم هذه العروبة؟ �إنها موجودة كم�شروع مكتوب بغزارة الت�أليف ورغبة الطموح ون�ضال الطليعيني� .إنها موجودة يف امل�شتهى من امل�آالت ،ولكن البحث عنها اليوم ،ال يف�ضي �إىل طحني عروبي �صالح لأن يتح ّول �إىل خبز �سيا�سي ووليمة ثقافية ،العروبة املكتوبة ،بتياراتها املختلفة ،يف مكان .والعروبة الواقعية امللمو�سة ،قد ال تكون يف �أي مكان �آخر ،اليوم. من الأدلة ما يلي: كتب مارك غرافيت�س مقالة يف جريدة «ليربا�سيون» الفرن�سية بعد فوز «الت�ضامن» (�سوليدارنو�سك) يف بولونيا و�صعود جنم لي�ش فالي�سا ال�سيا�سي ،يتنب�أ فيها ب�أن القرن الواحد والع�شرين �سيحتفل بدخول �شعوب ودول حلبة التاريخ ،بينما �سيغيب العرب .لن يح�ضروا ،ولن يقرعوا الباب. فعال ،بعد ذلك التاريخ ،وبعد ت�ساقط الأمرباطورية ال�سوفياتية ،ح�ضر العرب دو ًال وكيانات ،ثم ا�ستبدل ح�ضورهم هذا ،با�ستقبال «لعرب» ،كجماعات دينية و�أثنية وطائفية ،ثم �أعيد ا�ستح�ضارهم ب�صفاتهم املنتقاة ،مت ّوجني مبا ال يليق بهم. فقد العرب ،القدرة على احل�ضور ،كعرب ومن دون عرب ،يف ال�سيا�سة والثقافة والإبداع ،ف�أين تكون العروبة؟
عدد رقم � | 1أيـار
2013
56
العلمانية اليوم
.IIعروبة بال عرب
�أ ـ كان العراق على و�شك ال�سقوط ،فانتف�ضت «البيئة ال�شعبية العاملية» ،و�سيرّ ت تظاهرات امتدت من �سان فرن�سي�سكو وباري�س وروما وميالنو ولندن ومدريد و�أثينا ،دفاعاً عن العراق .و�ضد الغزو اال�ستباقي .لقد كانت تلك املظاهرات عروبية بال عرب ،و�إ�سالمية بال م�سلمني ،قالوا .Noفيما كانت «البيئة العربية» تبحث عن الم �ألف (ال) وال جتد طريقا جلمعهما معاً ،يف موقف عروبي/ عربي راف�ض ،وهو �أقل الإميان يف عقيدة العروبة .لقد اغتال �أهل العروبة عروبتهم ،وباتوا يف العراء. ب ـ كانت بريوت حما�صرة �إثنان و�ستون يوماً ،وبريوت وحيدة .اثنان و�ستون يوماً من ق�صف بحري ،وبري وجوي ،بال ماء �أو خبز �أو دواء ...كان �أرييل �شارون هناك ،على و�شك «�صربا و�شاتيال» ،وكان العربي اللبناين ،مقاتال �أو قتيال ،وكان العربي الفل�سطيني ،مقاتال �أو قتيال ،وكان اجلي�ش العربي ال�سوري مقاتال �أو قتيال. مل يح�ضر عرب من �أي نوع او �صنف او مذهب �أو دين �أو عرق �أو ثقافة او حزب �أو ي�سار �أو ميني ،يف معركة عربية .ال قاتلوا معنا ،وال مللموا قتالنا .لكنهم ح�ضروا �إىل مائدة ال�سالم التي ُم ّد ف�سطاطها، لإطالق مبادرة الأمري فهد (ويل العهد �آنذاك) لل�سالم. ج ـ وكان لبنان ،مراراً ،عر�ضة العتداءات وا�سعة وحروب م�ستعادة ،وقد �أقدمت ا�سرائيل على حرب تدمريية ،فق�صفت بنى لبنان التحتية ،ودمرت �ضاحيته ،و�أ�صابت جنوبه باخلراب .وكانت املقاومة الإ�سالمية اللبنانية ،تنتهك امل�ستحيل لإجناز املمكن ،ومل يح�ضر �أحد( .دول املواجهة واملمانعة قامت بواجبها دعماً ت�سليماً واحت�ضاناً) .انتظرنا عربا ،فكانوا بائدة ،وانتظرنا م�سلمني، فكانوا على كفر مذهبي ،بع�ضهم يفتي بخطر الت�ش ّيع ،و�آخرون يفتون بالظروف املو�ضوعية وال�شروط ال�شرعية. ف�أي عروبة اليوم ،بل� ،أي �إ�سالم؟ �أي ثقافة و�أي لغة اليوم؟ بل �أي قيم؟. ما الذي يربطنا كقوم يف �أر�ض وم�صالح م�شرتكة. ما هويتي؟ �أي �سمة لها؟ ملاذا لي�ست بارزة املعامل يف املنعطفات العروبية احلا�سمة؟ ك�أننا يف حل من هوياتنا الواقعية. لذا ،فتاريخ العروبة مزدوج :عروبة انهزامية وعروبة ن�ضالية .الأوىل ت�شتيت وتفريع وجدل بيزنطوـ ا�سالمي ،والثانية ،جترتح االنتماء الفعلي ،من خالل ترجمة العروبة ن�ضاال والتزاما بالق�ضية. والق�ضية� ،أولها فل�سطني .دينها ،يعلو على قامات التمذهب والتطيف والتغرب والتعولمُ .دينها قوميتها ،والن�ضال فيها ومن �أجلها ،هو العروبة املج�سدة فع ًال.
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
57
.IIIالعروبة :يف البدء كانت الوحدة ومل َن ّت ِحد
العروبة ،يف الأ�سا�س واملنطلق ،بدءاً من بذور ع�صر النه�ضة الأوىل ،كانت دعوة لرابطة ،جتمع قوماً. �أو �أقواما ،يلتقون على انتماء لأر�ض وح�ضارة وثقافة وم�صالح ،لأمة ،ت�ستفيق من غفوتها ،وتنه�ض لتكون حرة ،موحدة ،تليق بالإن�سان العربي. كان �شعار العروبة الواقعية �آنذاك ،الوحدة والتحرر واال�ستقالل ،واال�شرتاك مع العامل ،عرب �شخ�صية عربية ح�ضارية ،طاعنة يف التاريخ والثقافة والإبداع والفكر. لقد �أبيد م�شروع العروبة الأول ،يف مي�سلون .هناك ،هزمت الأمة وانت�صر �سايك�س-بيكو ،بقيادة اجلرنال غورو .ومت بعد تلك املعركة الفا�صلة ،ت�أ�سي�س كيانات �سيا�سية ،مرجعيتها الأوىل والأخرية، �سايك�س وبيكوَ ,ج ّدا هذه الأمة املنكوبة بتنا�سل كياناتها ،وت�ش ّلع ن�سيجها �إىل فتات من قبائل حد من حدود �سايك�س بيكو .ولدت وع�شائر وطوائف ومذاهب و ...وتغري العامل مراراً ومل يتغري ّ دول وزالت �أمرباطوريات ،وتزعزعت عوامل ،وظ ّلت حدود �سايك�س-بيكو حمرو�سة وم�صانة العروبة النظرية والعروبة اللفظية. ماتت الدولة العربية الأوىل ،و�ألغي م�شروع د�ستورها العروبي العلماين احلديث ،وا�ستعي�ض عنه با�ستعمار انتدابي� ،أعقبته دول ال�شتات القومي ،م�شرقاً ومغرباً. حاولت قوى الأمة املنا�ضلة� ،أن تهزم م�شروع التجزئة ،عرب ثورات م�سلحة ا�شرتك فيها منا�ضلون من العراق و�سوريا وفل�سطني ولبنان ،من �أديان ومذاهب وم�شارب متعددة ،يلتقون حتت لواء قومي ،يحاول م�ستحي ًال « :ا�ستعادة دولة الوحدة واحلرية واال�ستقالل». ق�صروا عن الأوائل .ا�ستقروا يف كيانات و�أقطار ،تفوقت على الأمة ،التي ومن جا�ؤوا بعد ذلكّ ، مت تغييبها� ،إما عرب عروبة ال�شعار وقطرية املمار�سة� ،أو عرب التدخل الغربي (بتناوب مراكز القوى فيه) ،مانعاً �أي التقاء بني قطرين. ال مفر من العودة �إىل «اخلطيئة الأ�صلية» .ال�سقوط يف مي�سلون .من هناك ،ميكن ا�ست�شفاف �آليات النهو�ض وال�سقوط معاً� ...إذ ،مما مل يظهره التاريخ الر�سمي ،موقف القوى الوحدوية �آنذاك من �أ�سلوب املقاومة امل�سلحة .فقبل معركة مي�سلون ،ومن خالل منطق القبول بالتنازالت ،منعاً للمواجهة ،ف�ضلت حكومة في�صل املهادنة على املواجهة ،فا�ضطرت �إىل قبول ما ال يقبل من التنازالت .وقد ن�صت ر�سالة /االنذار التي �أر�سلها غورو �إىل في�صل� ،ضرورة ت�سريح اجلي�ش ال�سوري �آنذاك ،بعدما كانت قد ح�صلت منه على تنازل ق�ضى بالق�ضاء على املقاومة امل�سلحة يف مناطق عديدة من �سوريا ولبنان. لقد فقدت الوحدة �آنذاك� ،أداتها الن�ضالية الفعالة ،التي كانت قادرة ،رمبا ،على منع تنفيذ التجزئة ،وعلى �إنهاك االنتداب .ولعل ،يف تاريخ �إعالن غورو لدولة لبنان الكبري ،الذي �أعقب هزمية مي�سلون ،خري دليل على �أن الكيانات (عدو الوحدة) كانت على �أنقا�ض هزمية امل�شروع العربي الوحدوي واال�ستقاليل. عدد رقم � | 1أيـار
2013
58
العلمانية اليوم
.IVعلمانية �سابقة لزمننا ...قرنا ً من الزمن
�إن م�شروع د�ستور الدولة العربية الأوىل ،كان علمانياً بن�سبة متفوقة ...د�ستور ،مل ي� ِأت يف ن�صه على دين الدولة .اكتفى بتحديد دين امللك ،املحدودة �صالحياته الد�ستورية ،ب�سلطة الربملان املنتخب مبا�شرة من ال�شعب .امنا� ،أباح الد�ستور للمحاكم ال�شرعية �إدارة الأحوال ال�شخ�صية املذهبية، ب�شرط �أن ت�صدر القوانني اخلا�صة بها ،من امل�ؤمتر (جمل�س النواب العتيد). تكر مواد الد�ستور ( 147مادة) من دون �إ�شارة �إىل �أي توجه ديني �أو حما�ص�صة طائفية �أو مذهبية، با�ستثناء املادة ال�ساد�سة التي ن�صت على ق�سم امللك« :باحرتام ال�شرائع الإلهية وبالأمانة للأمة ومراعاة القانون الأ�سا�سي». وقد ن�ص الد�ستور على هوية «ال�سوري» (�سوريا العروبة) فهي تطلق على كل فرد من �أهل اململكة ال�سورية العربية ...وال�سوريون مت�ساوون �أمام القانون يف احلقوق والواجبات ،واحلرية ال�شخ�صية م�صونة ،وال يجوز التعر�ض حلرية املعتقدات الدينية ،وال منع احلفالت الدينية لطائفة من الطوائف ...واحلريات مكفولة �إىل جانب حرية الطباعة والزامية التعليم والرتبية يف املدار�س الر�سمية واخل�صو�صية على �أن يكون الربنامج موحداً وعلى �أ�سا�س املبادئ الوطنية يف جميع املقاطعات ال�سورية( .ال �إ�شارة البتة �إىل مبادئ الدين� ،أو �إىل دين احلكومة و�أع�ضائها� ،أو �إىل مذاهب الهيئات احلكومية) كان ذلك الد�ستور ،د�ستوراً ع�صرياً حديثاً وعلمانياً .غري �أن غورو العلماين� ،أ�سقط هذه احلكومة و�ألغى الد�ستور وفتح الباب �أمام ان�شاء كيانات على قيا�س طوائف ومذاهب يف كل من �سوريا ولبنان ،فيما تفردت بريطانيا باعطاء اليهود ،دولة يف فل�سطني. لبنان الطائفي ولد ،عندما دفنت دولة العروبة يف دم�شق .والكيانات القطرية ولدت وت�أبدت بعد و�أد العروبة يف مي�سلون. .Vلبنان ،دولة بال دين
علي .الوعي بامل�ساواة �أ�شار �إ ّيل �أن من معي ،مثلي ،و�أنا مثله. كنت �أعرف من �أنا .الكتب دلتني َّ نلتقي يف منعطفات احلياة ،ون�ستمر معاً من دون كثري �شرح ،كانت القومية �سلوكاً وطريقة حياة ،تنطلق من انتماء �شبه فطري� .إىل املجاعة يف �أر�ض ما .ويت�شعب االنتماء ويت�سع ،بات�ساع الأر�ض والب�شر، وهم على ت�شابك �أو ت�شابه معك. كنت �أعرف �أنني �إن�سان ،يفرت�ض ان �أعي�ش م�ساوياً ل�سواي يف رقعة تدعى وطن .والوطن ،يقر�أ يف كتاب ،قبل �أن يعا�ش يف التجربة ،وكان الوطن ،قادماً من تاريخنا القدمي واحلديث... علي مراراً ،ومل �أعد �أعرف من وكنت كلما تقدمت يف املعرفة� ،أنكر معرفتي ملن �أكون� ...أغم�ض َّ �أنا ...و�إذا جتر�أت مرة وقلت �أنا لبناين ،فال �أعرف كيف �أحدد لبنانيتي .وي�شبهني يف العجز املدين
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
59
كثريون .و�إذا قلت �أنا عروبي ،عجزت �أكرث ...ت�شعبت الأمور كثرياً .حملت هويات عديدة ،بهوية واحدة ال معلم حمدداً ووا�ضحاً لها. ولي�س هذا بغريب البتة .ف�أنا من القارة اللبنانية املرتامية الطوائف والهويات والنزعات والع�صبيات والثقافات والوالءات واالنهيارات والتباعدات وال�صدامات واحلروب ...لي�س غريباً �أن �أجهل ما �أنا ومن �أنا ،لأين حماط بالربع العربي اخلايل من دليل �أو �إ�شارة �إىل طريق ،يكرث �سالكوها �إىل هدف ،فال ي�ضيعون يف متاهات الديانات والطوائف والع�شائر والبطون والأفخاذ والأقوام واللغات، وكلها من �أرومات تاريخية ودينية ع�صبوية انتقائية ،ذات فرادة يف عنفها الذاتي .كلها �أرومات تت�سل�سل من عتمة ما�ضينا ،ال من �أ�ضوائه ،لتنجب واقعاً من بابل الهويات ،املكتوبة بطعنات اخلناجر ،وغدر الأفكار. حريتي يف هويتي ال مبالغة فيها ...ق�صدت من ير�شدين يف لبنان �إىل لبنانيتي (على الأقل). قلت ل�سماحة ال�شيخ حممد مهدي �شم�س الدين ،وقد كان من رعاة اتفاق الطوائف يف الطائف: «جئتك �أ�شكوك �إليك .ف�أنت متنع عني هويتي ولبنانيتي». �أجاب بود وح�سم« :يا �إبني ،كي تكون لبنانياً ،معرتفاً بك ،عليك �أن تكون �أو ًال طائفيا� ،أي منتمياً �إىل طائفتك .من طائفتك تعرب �إىل الوطن ...و�أنا ،الذي ال طائفة يل� ،أ�شعر ب�أنني دا�شر ومن الطفّار. �أنتقي مواقع لبنانية و�أنتمي �إليها من خالل ق�ضايا عروبتي .ال �أطالب بهوية .هويتي ،قيد �صناعتي.. النجاح غري م�ضمون� .أ�ستمد هويتي من املواقع التي �ألتزم بها� ،أو ت�ستدعيني ف�أ�ستجيب. فما لبنان هذا؟ لبنان ،دولة ال دينية .ال دين للدولة وال لرئي�سها .غري �أنها متعددة الآلهة ،وهذه ،ال وطناً واحداً جت�سدت يف طوائف ومذاهب ،وهي ،بحكم م�صاحلها وع�صبياتها ،عابرة للحدود يكفيها� ،آلهة ّ وللد�ستور وللجغرافيا. ال�س ّنة عا�صمتهم �إما دم�شق� ،أو القاهرة� ،أو الريا�ض. امل�سيحيون ،عا�صمتهم يف مكان ما خلف البحار. ال�شيعة ،وجدوا عا�صمتهم خارج اجلغرافيا العربية. دولة ال دينية ،تدين بالتع�صب والعن�صرية ...وعليه ،فالطوائف ال ق�ضايا لها .تبدل ق�ضاياها مراراً. فمن كان مع فل�سطني قد ي�صبح �ضدها ،ومن تخلى عنها ذات زمن طائفي ،يتوىل يف زمن �آخر قيادة املقاومة واال�ست�شهاد من �أجلها. ال ق�ضية تعلو فوق ق�ضية الطائفية. دولة علمانية يف ن�صها الد�ستوري ،لوال املادة ،95التي فتحت املجال ،الخرتاق طائفي كا�سح� ،أطاح عدد رقم � | 1أيـار
2013
60
العلمانية اليوم
بالد�ستور ،و�أقام �شرعة الغاب الطائفية مكانه ،لي�صار بعد كل «جولة مفرت�سة»� ،إىل اتفاق ،يئد �شيئا مقيتاً ،وال يلد �شيئاً جميال. ولأن لبنان متعدد الهويات ،وهويته العلمانية ن�ص على ورق ،فقد انق�سم اللبنانيون �سيا�سياً �إبان العدوان الثالثي على م�صر ب�شحنات طائفية ،ثم انق�سموا طائفياً �إزاء الوحدة بني �سوريا وم�صر ،ثم انق�سموا �إزاء نتائج هزمية حزيران ،ثم تناحروا مع و�ضد الكفاح الفل�سطيني امل�سلح ،وتذابحوا حتى اتفاق الطائف ...ومنذ ذلك االتفاق ،واللبنانيون ،يف كل وا ٍد �سيا�سي ،يهيمون. طوائف �صغرية جداً ،ترتكب الكبائر الكبرية جداً. هذا يف لبنان. امل�شهد العراقي ،كان بالأم�س لبنانياً ،ال�سودان منوذجاً ،اليمن كذلك ويخلق من ال�شبه �أربعني� ،أو �أقل قليال ،بعدد الكيانات العربية املتعاي�شة على زغل ،يف ظل الب�ؤ�س القومي ،والفقر الدميوقراطي ،و�أدقاع العلمانية املزمن. .VIعلمانية العروبة
العروبة ،عقيدة توحيد ،باملعرفة والوعي والعمل .هي ،يف النظرية على الأقل ،واجبة العالقة بكافة اجلماعات ،برغم تبايناتها ،امل�ضافة �إىل مبد�أ الهوية .ومهما كانت ت�أوالت والدتها ومفاهيمها وعالئقها، ال ميكن النظر �إليها� ،إال ك�أداة توحيد� ،أو على الأقل ،ك�إطار وحدوي ،متار�س يف اجلغرافيا (�أر�ض الأمة والوطن) وحتت�ضن �شعباً بكامله ،بتفرعاته املتعددة ،فال تنفي (�أي العروبة) جماعة عرقية (لأ�صولها االثنية ،احلقيقية �أو املزعومة) �أو جماعة دينية�( ،أكانت من طوائف متعددة �أو مذاهب خمتلفة). العروبة ،ق�سراً ،هي �إطار توحيدي لكافة العنا�صر املكونة لالجتماع (�أو االجتماعات) الب�شرية يف �أر�ض معينة تفاعلت معها ،يف ما بينها ،ب�أ�شكال متفاوتة ،بع�ضها �شديد الرثاء وبع�ضها �شديد اخل�صب ،وبع�ضها �إذا ا�ستعيد يف الذاكرة ،فلكي ال ي�ستعاد. يف هذا املنحى التف�سريي للعروبة الواقعية ،من املفرت�ض �إلزاماً ،العمل على الوحدة ،بو�سائل معرفية ون�ضالية ور�سولية ،لإزالة احلواجز اجلغرافية واحلدود اال�صطناعية والتق�سيمات املوروثة، كما من املفرت�ض �إلزاماً �أي�ضا� ،أن تزيل الفوا�صل بني اجلماعات وتوحد يف التعامل معها ،على قاعدة امل�ساواة ،و�إف�ساح املجال الرحب ل�ضخ خ�صو�صية اجلماعات ،يف عمومية العروبة. فالعروبة� ،إن كانت نفياً لق�سم من «�أبناء بالدها» ،ف�إنها تخون املبد�أ الأ�سمى يف الرابطة القومية ،وهو الوحدة .وعليه ،وت�أ�سي�ساً على هذا املنطق الوحدوي ،تكون العلمانية (دائرة التوحيد الفعلية) ،مبا هي ف�صل املجال الديني عن املجال ال�سيا�سي� ،أو ف�صل الدين (مب�ؤ�س�ساته �أو عقائده) عن الدولة،
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
61
(مب�ؤ�س�ساتها و�سيا�ساتها وقوانينها و�آليات العمل الت�شريعية ،امل�ستندة �إىل الدميوقراطية. العلمانية ،حاجة عربية �أكرث مما هي مبد�أ .وهي حاجة لغري الأقليات امل�سيحية املنت�شرة يف �أ�صقاع الأمة .ولقد حتولت ،بعد ا�ستعادة النزاعات ال�سنية ال�شيعية التاريخية واحاللها املكانة العنفية داخل الفعل ال�سيا�سي ،حاجة لكل من ال�سنة وال�شيعة ...حرب الألف وخم�سماية عام ،ت�ضع حداً لف�صولها الدامية �أو ال�ساخنة ،عندما جتد العلمانية طريقها �إىل جعل امل�ساواة مطلقة ،واالنتماء �أكرث واقعية ،و�أجدى فعليا ...الوريث للعروبة الالعلمانية ،الإ�سالم ال�سيا�سي بتفريعاته املتباينة، تكفرياً وزندقة وت�سعرياً وحذفاً والغا ًء. تتمة العروبة ،علمانيتها وتتمة علمانيتها دميوقراطيتها .ال وحدة من دون علمانية ،حت ّيد الدين عن ال�سيا�سة والدولة ،وترفعه �إىل مكانته العقدية وتفتح له املجال ،ليتنف�س امل�ؤمنون �إميانهم بنقاء يقربهم من �سماواتهم ورجاءاتهم الأخروية ...فمن دون �إلغاء احلواجز الفا�صلة ،اجتماعيا و�سيا�سيا وتربويا و�إداريا ،بني اجلماعات الدينية املختلفة ،ال وحدة �أبداً... �إذاً ،العروبة ،ال دين لها .ن�ستطيع تنقيتها مما علق بها من موروث ديني ،كان مقب ً وال ،بحكم انتماء جماعات كبرية من امل�سلمني ال�سنة لها ،قيادة وجماهري .ومراجعة كتاب فيليب خوري« ،االنتداب الفرن�سي على �سورية» تظهر انتماءات القيادات املحلية والقومية يف �أكرثيتها �إىل الإ�سالم ،بوجهه ال�سني ...كان ذلك طبيعياً� ،إمنا ،لي�س مقبوال ،ا�ستبقاء تلك احلالة التي ن�ش�أت يف ظروف ع�سكرية و�سيا�سية ،وك�أنها من متممات العروبة ،خا�صة ،و�أن العروبة حتولت بعد ذلك �إىل حركة عقدية ثقافية ح�ضارية ،تطمح �إىل مل �شمل اجلماعات الب�شرية ،املنغرزة تاريخيا وثقافيا واجتماعيا وح�ضاريا ،يف تراث هذه الأمة البعيد والو�سيط والقريب. العروبة� ،إذا ت�سننت لفرتة ،وبحكم التمو�ضع ال�سيا�سي وال�شعبي ،مل يعد جائزاً ،ا�ستبقا�ؤها يف �أ�سر هذه الو�ضعية ،بعد متظهر العروبة ،كحركة قومية وحدوية. �إذا تدينت العروبة ،اقرتفت التكفري ال�سيا�سي� .أ�صول العروبة لي�ست دينية فقط ،كما �أنها لي�ست من �صلب دين واحد ومذهب واحد ولغة واحدة ...تدين العروبة ،يبعد عنها من ال يدين بدينها وهذا �أمر طبيعي جداً .ال عالقة للأجنبي يف ت�أ�سي�سه� ،إمنا ،هو منا�سبة وفر�صة تتيح للأجنبي العزف على وتر التمييز واال�ستعالء واال�ضطهاد و«حقوق الإن�سان». العروبة املتدينة بدين ما ،حتيل من لي�س من دينها �إىل �أقلية ،وت�ضع النا�س يف �سل�سلة من الرتب، تبد�أ من الدرجة الثانية لت�صل �إىل ما دون ذلك بكثري. تفقد العروبة �صيغتها الوحدوية� ،إذا مل تكن علمانية� ،إمنا ،ال علمانية بالقوة ...دين العلمانية هو الدميوقراطية امل�ؤ�س�سة على مبد�أ امل�ساواة يف احلقوق والواجبات والت�ساوي �أمام القوانني ،التي ال متيز بني �أ�صحاب مذهب �أو عرق �أو دين. عدد رقم � | 1أيـار
2013
62
العلمانية اليوم
هكذا كانت العروبة يف بع�ض ف�صولها التاريخية املعا�صرة .وينبغي �أن تتقدم العروبة� ،إذا ا�ستعادت عافيتها ،لتكري�س هذا املبد�أ ،بجر�أة وجدارة ،من دون ممالأة ظرفية ،تقت�ضيها مرحلة نهو�ض الإ�سالم ال�سيا�سي والن�ضايل. �إن احرتام عقائد الإ�سالم ال�سيا�سي يف �صحوته اجلديدة ،ال ي�ستدعي البتة ،التفريط «بعقائد العروبة» وحتديداً التفريط بالعلمانية ،لك�سب ر�ضى جماهري «ال�صحوة الدينية» .ما تقت�ضيه ال�سيا�سة من تنازالت ،يفرت�ض تقدميها من احلقل ال�سيا�سي ،ولي�س من احلقل املبدئي. علمانية العروبة� ،إذا ُم ّ�ست ،فقدت العروبة قدرتها ومنعتها ،و�صارت ف�صيال ه�شاً من ف�صائل «ال�صحوة الإ�سالمية». كما تعلي «ال�صحوة الإ�سالمية» �ش�أن معتقدها ،على العروبة �أن تعلي �ش�أن معتقدها العلماين .من دون ذلك ،ت�صبح من جماعة «البدون»� ،أي ال هوية لها. .VIIجدل ٍ جمد عن جن�س املالئكة
ندخل يف الأ�سا�س ،و�أول الأ�سئلة« :هل الإ�سالم دين الأكرثية يف البالد العربية ،يجيز العلمانية»؟ اجلواب النظري« :يجيز �إن �شئنا ذلك ،وال يجيز �إن �شاء غرينا عك�س ذلك». الأكرثية ،ن�ش�أت وروجت ملقولة ،ال ن�ص عليها ،تقول« :الإ�سالم دين ودولة» .و�أقلية من املفكرين امل�سلمني اجلادين ،عملت على تظهري مقولة معاك�سة مفادها« :الإ�سالم دين بال دولة» ،والدولة كانت عر�ضا ،فر�ضته الظروف املحيطة بن�ش�أة الإ�سالم وتطوره� ..إ�ضافة �إىل خلو الن�ص القر�آين من �أي �إ�شارة �إىل املقولة الأوىل. فبالإمكان ،التعامل ،على امل�ستوى النظري ،مبقولتني متناق�ضتني ،وكل مقولة ،لها �شرعيتها الفكرية و�أ�صولها االجتهادية .فهناك من اجتهد و�أقر بدين الدولة ،وهناك من فكر و�أقر عك�س ذلك .ومن املفرت�ض �أن ي�ستمر النقا�ش واجلدل والفكر والنقد يف هذا امليدان� ،إىل زمن غري قريب وهذا لي�س من العيوب. غري �أن اجلدل ،مل يح�سمه الفكر واالجتهاد ،ومل مينعه �إقرار املفكرين ب�صواب مقولة «الإ�سالم دين ودولة» .بل لقد ح�سم ،عرب عمليات �ضغط وت�شهري وت�سفيه و�إجراء احلد. ك�أن ال انت�صار لأي فكرة على فكرة� ،أو مبقولة على مقولة ،يف دنيا العرب� ،إال بقوة امل�ؤ�س�سة الدينية، التي تفتي بالتكفري واخلروج ،فت�ؤلب العامة على ما لي�س من خا�صتها ،لتقف �إىل جانبها ،ا�ستعداداً ملنع الفتنة ب�إ�سكات الفكر.
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
63
�سي�ستمر النقا�ش بطيئاً ال جر�أة على التحدي ،ب�سبب تطاول امل�ؤ�س�سة الدينية املدعومة بالقب�ضة الأمنية الر�سمية املتواطئة� ...سي�ؤكد الإ�سالميون ،ومن تفقه منهم ،ب�أن العلمانية تنطبق على امل�سيحية ،وال يجوز تطبيقها على الإ�سالم ،حمتجني على ذلك ،بدعاوى متهافتة ،منها ،عدم وجود �إكلريو�س �أو كهنوت يف الإ�سالم ،يتحكم يف �ش�ؤون النا�س .امل�ؤ�س�سة الدينية يف �أي دين، �أعتى من الكهنوت .الكهنوت ميكنه �أن ي�ستمر من دون دولة .وبعد زوال الدول الدينية يف الغرب ،ا�ستمر الكهنوت. �سي�ستمر النقا�ش ،مع غلبة التيار الذي يقوم با�ستدعاء الن�صو�ص الدينية ،ملمار�سة القمع با�ستخدامات ملتوية ،ولت�أكيد احلاكمية يف الإ�سالم ،وفقدان هذه احلاكمية يف امل�سيحية ،التي «�أعطت ما لقي�صر لقي�صر وما هلل هلل». و�سي�ؤكد الإ�سالميون موقفهم املناه�ض للعلمانية ،بتف�سري ن�صو�ص دينية ،هي من �صنع نخب مف�سرة� ،أو جمتهدة ،ال من �صنع �إله .فالن�ص ال يف�سر ذاته .هو بحاجة �إىل ب�شر يف�سرونه« .فالقر�آن ّ خط م�سطور بني دفتني ال ينطق� .إمنا ينطقه الرجال» ،وفق قول الإمام علي بن �أبي طالب .ويف هذا ال�سياق �سنجد �أنف�سنا �أمام «طبقات» من علماء الدين والنخب الفقهية ،اتخذت لنف�سها �صفة املرجعية ،التي يعود �إليها وحدها ،البت باحلالل واحلرام ،واخلري وال�شر ،واجلائر واملمتنع ،واملمنوع وامل�سموح ،واجلائز وغري اجلائز� ،سيا�سياً وخلقياً واجتماعيا وتربويا ...وتقنياً. هذا «الكهنوت» الإ�سالمي� ،شبيه «بالكهنوت» امل�سيحي ،لأنه ي�شكل املرجعية املع�صومة ،علماً، �إن الكهنوت لي�س عاماً يف الكنائ�س كلها( ،كالربوت�ستانتية مث ًال) وال هو من�صو�ص عليه �إجنيلياً. الكهنوت ،هو م�ؤ�س�سة الدين ،ويف كل دين م�ؤ�س�سات .ولكل كهنوت اجتهاد خا�ص .لقد اعت�صمت الكني�سة بالع�صمة ،من خالل اجتهاد منها ولها .اتخذت �صفة املرجعية املطلقة ،ف�أفتت يف �أحايني �سيطرتها مبا يجوز وال يجوز ،فحللت املح ّرم ،وح ّرمت املحلل ...هي كني�سة من ب�شر جداً ،ون�صو�ص قابلة ب�أن تكون حتت �سلطة الرجال� ،إذ ال ت�ستطيع �أن تخدم نف�سها بنف�سها. �إن وجود كهنوت م�سيحي ،مرادف «لوجود طبقة يف الإ�سالم تدعي لنف�سها احلق املطلق يف التحليل والتحرمي ،انطالقا من �أن لها وحدها حق معرفة ما يريده اهلل منا يف هذه الدنيا ويف الآخرة» .وغالباً ما تتبو�أ هذه الطبقة مرتبة القدا�سة ،املوازية للن�ص املقد�س يف الكتاب. لقد امتد نفوذ هذه الطبقة �إىل ر�سم الأطر ال�سيا�سية لل�سلطة وكيفية ممار�سة احلكم ،وو�ضعت �شروطاً �صارمة لتنفيذ القوانني وال�شريعة واحلدود التي «ن�ص عليها الكتاب». من هذا «الكهنوت» الإ�سالمي ،ت�صدر الت�شريعات ،ومن يخالفها يقع يف املحظور ،ونبذه واجب... هذا يف احلدود الدنيا .ويف ظروف م�ؤاتية .يتحول النبذ �إىل تكفري يعقبه عقاب �صارم. كل تدخل بني النا�س واهلل ،كهنوت ما ،كل وا�سطة بني م�ؤمن وربه ،هي �إكلريو�س� ،أي طبقة نافذة، عدد رقم � | 1أيـار
2013
64
العلمانية اليوم
حتتكر معرفة ما يريده اهلل .وهذا �أ�شد وط�أة من كني�سة رومانية ،ادعت الع�صمة عن اخلط�أ ،باالعتماد على تدخل الروح القد�س ،يف �صياغة قرارات الكني�سة الرومانية. ويف ا�ستنتاج بديهي ن�صل �إىل �أن العلمانية لي�ست م�س�ألة خا�صة «باملجتمعات امل�سيحية» ،بل هي اخت�صا�ص بكل دين ،تنزع م�ؤ�س�ساته ونخبه �إىل التدخل املبا�شر بحياة النا�س ،وفر�ض تف�سرياتها املعتقدية على اتباعها ،بحجة ورود ن�ص مثبت� ،أو عن تف�سري ن�ص ،وفق �أهواء متباينة . �إن احتكار الفهم الديني وادعاء الع�صمة وال�صواب� ،أ ّديا اىل ن�شوء �أنظمة مت�سلطة ،ترفع العقوبة لواء ،واملمنوع بريقا ،واحلرام عقيدة الن�ص ال�صامت بني دفتي كتاب ،م�شاع ملراتب من العقول. فمنهم من يفهمه على ظاهره ،ومنهم على باطنه� ،أو بني بني .والفهم مذاهب �شتى ،ولي�س من حق احد االدعاء ب�أنه من الفرقة الناجية. الن�ص الديني م�شاع ملن ال عقل له ،كما هو اخت�صا�ص ملن كان يف رتبة الفال�سفة والفقهاء ،وملن تي�سر له من �أدوات معرفية .فللعامة دينها ،وللخا�صة دينها، وجد �إىل فهمه �سبيال ،اعتماداً على ما ّ وللفقهاء دينهم ،وللفال�سفة دينهم ،حتى ولو كانوا يقر�ؤون يف كتاب واحد. وعليه ،ف�إن ما و�صل �إليه ال�شيخ علي عبد الرازق بخ�صو�ص «�أ�صول احلكم» من نتائج ،يحوز على �شرعية توازي وقد ت�ضاهي وتتفوق على �شرعية خمالفيه ،ولو كانوا �أكرثية متكاثرة ،يف ظروف التزمت الديني واخلوف من احلرية. لقد ا�سكت عبد الرازق بالقوة والقمع والعقاب والتهديد ،مل يتم �إ�سكاته باحلجة �أبداً ،...ال�سلطة الدينية مل حتاوره .هي ت�أمر وعلى امل�ؤمنني طاعتها .ومن مل يلتزم ،خارج ومارق وحمكوم عليه باخلروج من اجلماعة ،ق�سراً. �أخت�صر: )1الإ�سالم دين ودولة� ،إن �شئت .ولك ملء احلق يف هذا االعتقاد. والإ�سالم لي�س ديناً ودولة� ،إن �شئت ،ولك ملء احلق يف هذا االعتقاد ،واعتبار الإ�سالم علمانيا، ن�صاً وممار�سة .وكاتب هذه الن�صو�ص ،على هذا االعتقاد يف الإ�سالم. )2يف امل�سيحية كهنوت والإكلريو�س ،لي�س من �صنع اهلل ،بل من �صنع الب�شر. وحا�صل امل�س�ألتني� ،أن امل�ؤ�س�سات يف الدينني ،مار�ست �أ�سلوباً يف ال�سيا�سة ،ال ي�شذ يف جوهره ،عن التطابق .ف�إذا تغريت الأ�سماء ،ف�إن ذلك ال يعني �أن الأفعال واملمار�سات قد اختلفت .فتدخل الدين يف امل�سيحية ،قبل بلوغ ع�صر العلمانية� ،شبيه بتدخل الإ�سالم بالدولة ...االختالف هو يف �آليات التدخل و�أ�شكاله و�أحجامه ...ويف النتيجة ،كانت العاقبة وخيمة على امل�سيحيني وامل�سلمني. ومع ذلك ،لن ينتهي النقا�ش ...بل ،فلي�ستمر� ،إمنا من دون تكفري �أو قمع او تهويل �أو حماكم تفتي�ش.
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
65
.VIIIالعلمانية تنت�رص بقوتها ال بحجتها
نتيجة لل�صراع بني �سلطة الكني�سة من جهة والبورجوازيات الأوروبية ال�صاعدة من جهة �أخرى، �سيقت الكني�سة عنوة �إىل قبول العلمانية .ا�ستعملت الكني�سة ،و�سائل القمع والتنكيل واحلرب، حلرا�سة «حقها االلهي» ولكنها� ،أُكرهت على التخلي عن وظيفتها التي ابتدعتها لنف�سها ،مبربرات دينية جاهزة غب الطلب واحلاجة ،من خالل ن�صو�ص �إجنيلية �أو من دون ن�صو�ص .لقد �ألزمت الكني�سة بتبني اخل�سارة ،فتخلت عن جربوت �سيا�ساتها و�سلطة قوانينها وت�شريعاتها ،وانتزعت منها الدولة التي كانت مطية لها ،بالقوة ولي�س بالإقناع. لقد �أق�صيت الكني�سة من خالل �إلزامها بقبول التعدد الديني .ا�ستبدل احلق االلهي املزعوم باحلق ال�شعبي .فالن�صو�ص ال�سيا�سية والد�ستورية والت�شريعية والقانونية تكتبها نخب منتخبة يف �صناديق االقرتاع .فال�شعب م�صدر الت�شريع ،ال �سواه .وله احلق يف �أن يقبل من التف�سريات الدينية ما ينا�سبه ،ويرف�ض ما يجده عابراً ومنتهي ال�صالحية. لقد انت�صر ال�سيا�سي على الديني ،بالفكر واملوقف .مل ت�شهر القوى ال�صاعدة ،فل�سفة دينية مناوئة لفل�سفة دينية .لقد انت�صرت يف معركة �شديدة التما�س مع القوى االجتماعية ال�صاعدة ،بفكرها امل�شتق من حاجاتها وتطلعاتها ،وما كانت تطمح �إليه من حريات. مل تكن هزمية الكني�سة ،فريدة من نوعها يف التاريخ .فقد �سبق �أن انت�صرت امل�سيحية عرب انتزاعها �صفة الديانة الر�سمية لالمرباطورية البيزنطية بوا�سطة ال�سلطة ... ،عممت ال�سلطة قرار اعتناق امل�سيحية، ف�صارت جزءاً من ال�سلطة ومن �سيا�ساتها وتقاليدها ،حتى يف اللبا�س الفخم ،املذهب وامللوكي. دخل امل�سيحيون ال�سلطة ،معذبني و�شهداء ومنبوذين ،وملا مار�سوها ،ا�ستغلوا قوتها اىل �أبعد احلدود ،فحولوا �أتباع الديانات االخرى �إىل �شهداء ومنبوذين ومعذبني. نبذوا كل من لي�س م�سيحياً ،وظلت بيزنطية حتت �أمرتهم �ألف عام .وات�سع نطاق نفوذ بيزنطية مع تبوء الكني�سة �صدارة ال�سيا�سة ،حروباً وفتاوى وم�صالح ...ومل تعد �إىل ر�شدها الواقعي� ،إال بعد �ضربات موجعة تلقتها على مدى عقود. الكني�سة يف �أوروبا ،كانت على م�ستوى هزميتها .عندما كانت تتعر�ض خل�سارة ،كانت ته�ضم خ�سارتها ،وتقرتب من انت�صارات �أخ�صامها� .أي ،كانت تتخلى عن كثري من ما�ضيها ،وتعيد ت�أهيل نف�سها بتبني ما ينا�سب واقعها ،و�صارت حت�ضر بحلة دينية جديدة ،تتفق مع طبيعة املجتمعات وجع ثم تتعافى بقوة ،وباتت ج�سماً طبيعيا ،يف جمتمع ت�أهل لأن املتجددة ...كانت ُت�ضرب وت َت ّ ي�أخذ كل فريق �أو حزب �أو دين �أو جماعة مكانه الطبيعي ،فال يكون ن�شازاً ،وال يكون منبوذاً. وهكذا ،كان الدين يتعافى عندما يتعافى املجتمع .و�أول عالمات العافية� ،إقامة الدين خارج ال�سيا�سة وخارج الدولة. عدد رقم � | 1أيـار
2013
66
العلمانية اليوم
�أما الإ�سالم ،كما ي�شري كل من الدكتور جورج قرم والدكتور حممد �أركون والروائي والكاتب �أمني معلوف ،فقد بد�أ م�سرية خمتلفة عن م�سار امل�سيحية ال�سيا�سي .بد�أ الإ�سالم م�ؤمنا وممار�ساً للتعدد الديني .كان م�ؤمنا بال�شورى وامل�ساواة والعدالة و«ال فرق بني عربي و�أعجمي �إال» .لقد ظهر يف مبادئه �أنه كوزموبوليتي وعاملي ،ت�صلح مبادئه ال�سامية لكل زمان ومكان ،لأنها مبادئ احلق الطبيعي ،وما تلزمه الفطرة. الغريب ،وتف�سريه ممكن� ،أن هذا الإ�سالم ،الذي ن�ش�أ على انفتاح وتعاي�ش ،وعلى بروتوكول ت�سامح فذ ،انتهى �إىل حاالت من التمذهب والتكفري والتع�صب والنبذ والإق�صاء .و�إىل �إ�صرار ال �سابقة له ،يف جعل امل�ستقبل� ،صورة للما�ضي ،وهذا من امل�ستحيالت ،و�أقرب �إىل تخريف املنجمني. �إن ديننا اليوم� ،أياً كان الدين الذي نعتقده ،ال ي�شبه دين �أجدادنا و�آبائنا ،ولن ي�شبه دين �أحفادنا وورثتنا يف هذه الدنيا... املا�ضي م�ضى بهم ،واحلا�ضر لي�س هذا املا�ضي ،وامل�ستقبل لن يكون هذا وال ذاك .على �أن بلوغ هذه القناعة ،يحتاج �إىل �أبعد من عملية تفكري .حتتاج �إىل عملية تغيري ،حتدث �صدمة كبرية ،لنقل الوعي الراب�ض على االطالل ،واالنق�ضا�ض على التقليد وعمليات الن�سخ والت�شويه ،لبلوغ �أ�صالة الإبداع والتجديد ،من دون اللجوء �إىل ن�سخ ال�صور العلمانية ملجتمعات غربية ،لها خ�صو�صياتها وحاجاتها وثقافاتها املتباينة. � .IXأتاتورك :فلتذهب اخلالفة �إىل ...فذهبت
هل ميكن عقد مقارنة ما ،بني عملية طرد الكني�سة من الدولة ،وعملية طرد اخلالفة عن ال�سلطة، وجعل الدين م�س�ألة �شخ�صية ،بني الإن�سان وربه؟ جائزة وجوه ال�شبه .على �أن النموذج الرتكي، يختلف عن النماذج الأوروبية ،املتعددة ،ب�أنه مار�س العلمانية كدين �سيا�سي ،يق�صي الدين الإ�سالمي. لكن �أحد وجوه ال�شبه التي افرت�ض �أننا بحاجة �إىل درا�ستها� ،أن �إقدام كمال �أتاتورك على علمنة تركيا ،جاء من موقع القوة التي ا�ستجمعها ،من خالل م�سرية �سيا�سية فذة .فقد ا�ستطاع �أتاتورك، ان يعيد توحيد منطقة الأنا�ضول بعد جتزئتها ،وحترير �أق�سام منها ،بعد احتاللها ،واخلروج من الهزمية املربمة لالمرباطورية العثمانية� ،إىل موقع املفاو�ض القوي مع الدول املنت�صرة عليه. لقد حقق انت�صارات �أك�سبته زعامة وظفها يف الق�ضاء على اخلالفة ،و�أو�صلته �إىل فر�ض العلمانية، كدين مدين للدولة الرتكية. كانت اخلالفة ،التي مل تنقطع عن احل�ضور تاريخيا ،قد هزلت وتخ ّلفت واهرت�أت .تطاول عليها
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
67
الطورانيون قبل احلرب ،ترنحت حتت وط�أة �إ�صالحات ابتزازية ،وملا بلغ فيها ال�ضعف غايته ،انق�ض عليها �أتاتورك و�ألغاها ،وال تزال ملغاة ،يف تركيا ،ويف غريها من البالد العربية والإ�سالمية. لقد �ألزمت اخلالفة الإ�سالمية باالختفاء .هزمت .مل تكن امل�س�ألة م�س�ألة جدال ونقا�ش يف الن�صو�ص الدينية .مل تكن امل�س�ألة بحاجة �إىل فتوى واجتهاد .حاجة تركيا �إىل دولة حديثة وقوية تفرت�ض �إقامة نظام علماين يف�صل الدين عن الدولة .من حيث �آلية احلدث الأتاتوركي، ف�إن انق�ضا�ضه على اخلالفة ،ي�شبه انق�ضا�ض البورجوازية على الكني�سة لإلغاء دورها وامتيازاتها وتدخلها يف الدولة وال�سيا�سة. عندما كانت العروبة يف �أوج ن�شاطها الن�ضايل وزهو تقدمها ،و�ضعت الدين بني قو�سني تقريباً. علمنت م�شروعها للدولة العربية بال �ضجيج وبال ا�ستفزاز ومن دون معارك .كانت العروبة تختزن مقوالت فكر النه�ضة :الد�ستور ،العلمانية ،الدميوقراطية ،العلم ،الوحدة ،احلرية ،اال�ستقالل وال�سيادة ،وقد ظهرت هذه املقوالت جلية يف كتاباتها و�آليات ن�ضاالتها وم�شاريع عملها. غري ان هذه العروبة الن�ضالية ،كانت قد قدمت تنازالت طفيفة كي ال تثري حفيظة العامة( ،خزان احل�سا�سيات التي تعزف عليها قيادات مذهبية رجعية) ،وجنحت يف جتريد ال�سلطات الدينية املتوارثة من �شذوذها عن القومية واحلرية واحلياة الد�ستورية املوعودة .لقد عزلتها عن مواقع الت�أثري املبا�شر و�أجل�أتها �إىل التق ّية. مل تفز هذه العروبة يف معركة العلمانية ،لأنها كانت بحاجة �أو ًال �إىل انت�صار قومي حا�سم .ف�شلت هذه العروبة االوىل ،املتج�سدة يف الثورة العربية ،ثم يف الثورة ال�سورية الكربى ،يف حتقيق ن�صر على اال�ستعمار ،وكانت ف�شلت يف خو�ض �صراع م�صريي يف فل�سطني� ،ضد احلركة ال�صهيونية، فرتاجعت �إجنازاتها وتخلفت عن خو�ض معركة الدميوقراطية والعلمانية ،يف ما خ ّلفه اال�ستعمار من كيانات قطرية ،ع�صية على الإجنازات احلا�سمة. ولت�أكيد ذلك ،ميكن مراجعة �أدبيات ومواقف احلركات العروبية .كانت م�شغولة مبقاومة م�شاريع الدول اال�ستعمارية العلمانية الدميوقراطية ،ومل تتي�سر لها فر�صة تطبيق ما كانت قد ر�ست عليه من ت�صورات ل�شكل وم�ضمون الدولة العربية العتيدة� ،إحدى جت�سيدات القومية والعروبة. .Xاخلامتة غري ال�سعيدة
مل تعد العروبة علمانية .لأنها ،مل تعد �أداة توحيد� .صارت �سالحاً ه�شاً يف يد جمموعات متباعدة، ال تلتقي �إال على عجز و�إدمان ال�شلل ...لقد غابت العروبة ،بعدما تقاتلت يف ما بينها ،وبعدما وهنت �أمام اخلارج ،وبعدما ف�شلت يف رفع التحديات ومواجهتها .لقد �شاخت العروبة على يد �شبابها ،وقتلت . عدد رقم � | 1أيـار
2013
68
العلمانية اليوم
�شروط البناء والتقدم كثرية� ،أبرزها ،حتقيق االنت�صار على العدو اخلارجي .وكل تقدم �آخر ،هو يف الق�شرة ،لأنه نتاج تبعية ،و�سيا�سات مفرو�ضة ،و�شعوب مغلولة. ولأن العروبة تغيبت ،طغت احلركات الدينية الدنيوية يف ال�سيا�سة ،وتراجعت املفاهيم العلمانية والدميوقراطية واحلرية. وبرغم احلاجة املا�سة للعلمانية .ف�إنها معزولة ومتهمة .بديلها هو الفنت املذهبية �إىل امتداد الأمة وجوارها. فهل من عودة؟ رمبا... فهل من حاجة؟ �أكيد؟ فمطلوب �إذاً� ،إ�صدار مذكرة جلب بحق العلمانية ،لتكون يف طليعة املطالب النه�ضوية والعروبية، خا�صة ،وانها الرديف الالزم ،حلركات التحرر وحركات املقاومة .كل مقاومة مبنية على مذهب �أو دين ،وبرغم تفوقها �أحياناً على العدو ،ف�إنها تبقى �أ�سرية اخلوف من ال�سقوط يف حمى الطائفية ودماء املذاهب. املزيد من اجلر�أة من �أجل املزيد من العلمانية .بال خجل وال خوف من تهمة .علينا �أن ننتهي من �أكذوبة بلقاء يرميها �أهل التدين الكاذب ،ب�أن العلمانية مرادف للإحلاد .العلمانية ال عالقة لها بالإميانيات ،فهناك علمانيون ملحدون ،وعلمانيون م�ؤمنون ،وعلمانيون على ال�صراط امل�ستقيم ...ال دين للعلمانية ،بل هي� ،إن �شئنا االجتهاد� ،أكرث الت�صاقا مبفهوم التوحيد القائم على مكافحة التمييز و�إلغاء الفروقات واالعرتاف بالآخر ،وتقدمي العقل على الببغائية النقلية الإرهابية. ال خوف من تكفري العلمانيني ،لأننا نعي�ش يف ظرف �سيا�سي ـ ديني ،يكفر فيه �أهل املذاهب �أهلهم يف املذهب عينه .ال خوف من �شتائم املتدينني ال�سيا�سيني ،لأنهم يت�شامتون وهم يقر�أون ّن�صاً واحداً ،وي�ؤمنون بكتاب واحد ،و�إله واحد. القارة العربية ملأى بذئاب الفتك الديني والطوائفي ...والدماء النازفة تب�صم على هذا الكفر بهذا الأ�سلوب االنحطاطي. ال خوف يف رفع مطالب علمانية يف كل قطر وكيان: تربية علمانية .برامج تدريب على العلمانية ،دعم العلمانية ،مدار�س علمانية( ،معلنة وعلى
العروبة والدين والف�صل بينهما
العلمانية اليوم
69
ر�ؤو�س اال�شهاد)( .لقد امتلأت القارة العربية باملعاهد الدينية واجلامعات .ف�أين الدعم للمدار�س واجلامعات العلمانية؟ نحن ،كعلمانيني ،لنا حقوق يف بالدنا ،نريدها غري منقو�صة. العلمانية والدميوقراطية ت�أخذان البالد العربية �إىل امل�ستقبل� ،سواها ،يعيدها �إىل اجلاهلية� ،إمنا، بثياب القرن الواحد والع�شرين ،وهي باملنا�سبة ،ثياب موقع عليها� :صنع يف الغرب.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
الدولية للمعلومات �ش.م.ل
بناية الربج ،الطابق الرابع� ،ساحة ال�شهداء الو�سط التجاري ،بريوت ،لبنان �صندوق بريد ،11-4353 :بريوت -لبنان. هاتف)961-1( 983008 /9 : فاك�س)961-1( 980630 : الربيد الإلكرتوينinfointl@information-international.com : املوقع الإلكرتوينwww.information-international.com :
71
العلمانية اليوم
االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية | �سميح ح ّمودة | 1جامعة بريزيت
لي�ست هذه املقالة ملجرد البحث العلمي والفكري ،بل هي �أ�سا�ساً لت�شييد م�ساحة لقاء وتوافق بني التيارات ال�سيا�سية التي تعترب نف�سها علمانية وتلك التي تعترب نف�سها �إ�سالمية من �أجل بناء م�ستقبل زاهر للعامل العربي ،فاملالحظ �أنّ كال الطرفني يعترب نف�سه منف�ص ًال عن الطرف الآخر ،بل نقي�ضه .ومع �أنّ هذا الف�صل احلا ّد يجد قب ً وال وا�سعاً ورمبا �شام ًال من الطرفني� ،إال �أ ّنه باعتقادنا يتناق�ض فل�سفياً مع حقيقة �أنّ حركات عديدة من الطرفني الإ�سالمي والعلماين تلتقي يف ال�سعي لتحقيق ا�ستقالل حقيقي للعامل العربي ،وللنهو�ض به ،ولتحريره من الهيمنة الغربية، نتاج خا�ص للتطور مبا فيها الفكرية واملعرفية .ووجه التناق�ض �أنّ الف�صل بني العلماين والديني هو ٌ الفكري-الفل�سفي واالقت�صادي-ال�سيا�سي يف الغرب ،وهو لي�س عاملياً بال�ضرورة ،فالقبول به ٌ قبول �أعمى باملنظومة الفل�سفية الغربية ،دون نقدها ومتحي�صها واختيار الإن�ساين منها. هذه املقالة حماولة لتعزيز تيار املقاومة للهيمنة الغربية بت�شكيالتها الع�سكرية ،واالقت�صادية- ال�سيا�سية ،والفل�سفية -الفكرية ،والقيمية-الأخالقية ،وت�ؤ�س�س ال�ستقالل معريف -فل�سفي عن املركزية الغربية يف الفكر واملعرفة ،فهي تنطلق من رف�ض الثنائيات الغربية التي ترى العامل وال�شعوب من منظار ثنائية «الأنا» مقابل «الآخر» ،وثنائيات «العقل» و«النقل»« ،التقدم» و«التنوير» و«احلداثة» للذات الغربية ،مقابل «التخلف» و»الظالمية» و«الرببرية» لذات الآخر ،وحني ُتطبق هذه الثنائيات على العامل العربي ف�إ ّنها ت�صوره من خالل ثنائيات «املعتدل» و«املتطرف»« ،الإ�سالمي» و«الوطني» ،و«الديني» و«العلماين» .واملقالة لي�ست من نوع مراجعة الدرا�سات املن�شورة والأفكار ال�شائعة حول املو�ضوع ،بل هي اقرتاح لقواعد �أح�سبها منطقية ،ت�صلح لأن ينطلق منها عمل �سيا�سي م�شرتك بني الفريقني يهدف لتحقيق �أهدافهما امل�شرتكة .وت�أ�سي�ساً لأطروحة االت�صال 2
1يعمل �سميح حمودة حما�ضراً يف دائرة العلوم ال�سيا�سية بجامعة بريزيت ،وهو حمرر جملة حوليات القد�س التي ت�صدر عن م�ؤ�س�سة الدرا�سات الفل�سطينية برام اهلل. 2مثل كتاب زكريا فايد ،العلمانية الن�ش�أة والأثر يف ال�شرق والغرب ،الزهراء للإعالم العربي ،القاهرة1988 ،؛ ودرا�سة د .عبد الرزاق التلحمي «العلمانية مدلوالتها وتطورها» ،املن�شورة يف كتاب� :أ�شقر ،حممود �سعيد ،وزواوي ،خالد (حمرران)� ،إ�شكالية العالقة بني الدين وال�سيا�سة -م�ؤمتر بيت املقد�س الإ�سالمي الدويل الثالث ،اجلزء الأول ،دولة فل�سطني-وزارة الأوقاف وال�شئون الإ�سالمية، القد�س-العيزرية� ،2012 ،ص.187-135 . عدد رقم � | 1أيـار
2013
72
العلمانية اليوم
بني العلمانية والإ�سالم �س�أ�ضع الأفكار واحلجج على �شكل مقوالت متتابعة. املقولة الأوىل :مثّلت العلمانية الغربية انف�صا ًال عن �سلطة الكني�سة �سيا�سياً وفكرياً ،ورف�ضاً للخ�ضوع لالهوتها وتف�سريها املحدد للدين ،ومل يكن املفكرون الغربيون الذين دعوا لهذا االنف�صال متماثلني يف �أطروحاتهم و�أفكارهم حول الدين ودوره ،فمنهم ،مثل ديدييه �إيرا�سم (ولد 1466م) ،من ت�صور جمتمعاً م�سيحياً جيداً يقوم على العقل والتعاليم امل�سيحية ،ومنهم من طرح تف�سرياً جديداً للدين ين�سجم مع قيم تكرمي الإن�سان والإقرار بحريته يف التفكري وحقه يف املعرفة الدينية عن طريق قراءة الكتاب املقد�س وفهمه وتف�سريه دون احلاجة للكني�سة ،وحقه بالإميان باالختيار الذاتي ،مثل حركة الإ�صالح الديني (الربوت�ستانتي) ،التي قام رائدها وم�ؤ�س�سها مارتن لوثر (1546-1483م) برتجمة الكتاب املقد�س ل ّلغة الأملانية حتى ي�صبح متوفراً �أمام جموع امل�ؤمنني لقراءته؛ وكان الفيل�سوف الإجنليزي املعروف جون لوك (1704-1632م) معروفاً ب�إميانه باهلل ،وقد ذهب �إىل �ضرورة توفري احلرية للعقائد الدينية ،با�ستثناء الكاثوليكية (دين الكني�سة) والإحلاد «ب�سبب خطرهما الداهم على ا�ستقرار املجتمع» .وذهب وليم هملتون (1856-1788م) �إىل �أن نهاية كل تفكري هي الدين ،و�أن التطور املنطقي للتفكري هو انتها�ؤه بهذا الدين .ومن املفكرين الغربيني من نادى بالدين الفطري مثل جان جاك رو�سو (1778-1712م) الذي �أ�صدر عام 1762م كتاب دين الفطرة ،وقد اعترب رو�سو �أن معا�صريه �أكرث ا�ستعداداً لقبول �إ�صالح ديني منه للم�صادقة على حتليالته ال�سيا�سية؛ �أ ّما فولتري (1778-1694م) فقد اعترب �أن الإميان بوجود اهلل ي�شكل �ضرورة اجتماعية حلفظ النظام بني الب�شر ،فبدونه ال ميكن للعالقات االجتماعية �أن ت�سود ،وح ّتى ميكافيللي (1527-1469م) الذي يعترب م�ؤ�س�ساً للنزعة العلمانية الغربية ،ومعادياً للكني�سة ،ف�إ ّنه مل ينكر ما للدين من �أهمية يف تر�سيخ ال�سلطة ال�سيا�سية و�شرعنتها؛ ولنا �أن نذكر يف هذا ال�سياق تيار الت�أليهيني الذي ظهر يف �أوروبا يف �أواخر القرن ال�سابع ع�شر وانت�شر و�شاع يف القرن الثامن ع�شر ،وكان يدعو �إىل الإميان باهلل ونبذ الإحلاد والوثنية ،ولكنه حارب الدين ب�صورته الكن�سية ،وك�شف تناق�ضات الكتاب املقد�س وخمالفته للحقائق العلمية والتاريخية ،نافياً عنه منحى �صفة الوحي الإلهي املقد�س .ومقابل ه�ؤالء كان من املفكرين من رف�ض الدين متاماً ،وتب ّنى ً مادياً خال�صاً ،مثل الفال�سفة املاديني الفرن�سيني :دولباك (1789-1723م) وبنتام (1832-1748م) وجيم�س مل (1836-1773م) ،والأملانيني هولباخ (1789-1723م) وكارل مارك�س (1883-1818م). لذا ال ميكن اعتبار العلمانية الغربية ف�ص ًال للدين «عموماً» عن ال�سيا�سة ،بل هي ٌ ف�صل لدين الكني�سة «خ�صو�صاً» عن ال�سيا�سة ،كما ال ميكن اعتبار كل روافدها الفكرية روافد �إحلادية منكرة للدين والإميان يف حياة املجتمع ونظامه ال�سيا�سي. 3
4
5
تقدم لنا درا�سة زكريا فايد �سابقة الذكر تلخي�صاً مفيداً للمواقف املختلفة جتاه الدين من قبل فال�سفة الغرب ومفكريه منذ القرن ّ 3 اخلام�س ع�شر حتى الن�صف الأول من القرن الع�شرين .انظر ال�صفحات .14-66 4راجع كتاب رم�سي�س عو�ض ،الإحلاد يف الغرب� ،سينا للن�شر ،القاهرة ،وم�ؤ�س�سة الإنت�شار العربي ،بريوت� ،1997 ،ص.62 . 5امل�صدر نف�سه� ،ص.115 .
العلمانية اليوم
االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية
73
املقولة الثانية� :أن قراءة التيارات العلمانية العربية للدين الإ�سالمي ،وقراءة التيارات الإ�سالمية للعلمانية ،كانتا جمتز�أتني ،وغري �شموليتني ،ومتناق�ضتني .فالعلمانية العربية �أ�سقطت الت�صور والفهم والتعريف الغربي للدين الكن�سي امل�سيحي على الإ�سالم نف�سه ،وتبنتها كلها دون ا�ستيعاب �أو �إدراك للفرق بني الإ�سالم بخا�صيته ال�شمولية لكافة �أنظمة احلياة ،وبني امل�سيحية املتمحورة حول القيم الروحانية والأخالقية ،كما تبنت اعرتا�ضات املفكرين العلمانيني على الكني�سة الغربية ،يف العامل الغربي ،واعتربتها اعرتا�ضات على الدين� ،أي دين .كما خلطت القراءة العلمانية للإ�سالم بني تخلف امل�سلِم وت�س ّلط احلاكم وا�ستبداده يف مراحل تاريخية معينة ،وبني الإ�سالم نف�سه، �سخر َّ كل جهوده فاعتربت الإ�سالم �سبباً للظواهر املَ َر�ضية .وظهر من املثقفني العلمانيني من ّ الفكرية ملهاجمة مبادئ الإ�سالم و�شريعته دون ا�ستيعاب للفرق بني ن�صو�ص الدين نف�سه وبني اجتهادات الفقهاء واملف�سرين وفهمهم اخلا�ص لهذه الن�صو�ص ،وبالتايل دون االلتفات لن�سبية التف�سري وتنوعه من عا ٍمل لآخر ومن زمن لآخر؛ ور ّدد الكثريون من ناقدي الإ�سالم الكثري من الإدعاءات اال�ست�شراقية الغربية املتحيزة التي انبثقت يف �أ�سا�سها الفل�سفي من �أطروحات املركزية الغربية ،وعمل قائلوها مع �أجهزة اال�ستعمار ،وخالفت يف �أطروحاتها احلقائق املعروفة، ومنها احلقيقة التاريخية ب�أن نه�ضة العرب الثقافية واحل�ضارية كانت نابعة من الإ�سالم .وال ّ �شك �أنّ هذا الهجوم على الإ�سالم املت�سرت بالعلمانية كان �سبباً �أ�سا�سياً يف حالة اخل�صام واالنف�صال بني التيارات الإ�سالمية والعلمانية. مقابل هذه القراءة الظاملة للإ�سالم يجد املت�أمل مل�ضامني العلمانية يف �سياقها الغربي �أنها تتقاطع ب�صورة كبرية مع املفاهيم الإ�سالمية ،وخ�صو�صاً دور العقل والعلم يف حياة الإن�سان ،حيث ي�شري القر�آن يف موا�ضع عديدة لأهمية التعقل والتفكر والتدبر والنظر والبحث ،ويف الأحاديث النبوية 6
7
6مث ًال موقف عزيز العظمة من احلدود يف الإ�سالم ،كحد ال�سرقة القا�ضي بقطع يد ال�سارق ،واعتباره هذا احلد بربرياً ووح�شياً ،وي�أتي هذا الر�أي تناغماً مع املوقف اال�ست�شراقي الغربي من احلدود يف الإ�سالم ،ولكنه يف�شل يف الأخذ باالعتبار �أنّ احلد يط ّبق يف ظروف الرخاء االقت�صادي ولي�س الع�سر والفقر ،و�أنّ من �ضمن م�س�ؤوليات احلاكم وواجبات املجتمع يف الإ�سالم توفري الطعام للفقراء واملحتاجني وعدم �إجلائهم لل�سرقة ،وبالتايل فالذي ي�سرق طمعاً وعدواناً على املجتمع وقيمه و�أمن �أفراده ي�ستحق هذه العقوبة الرادعة ،التي قررها اهلل تعاىل الذي وهب اليد للإن�سان كي يعمل وي�ستعمر الأر�ض ،ال كي يعيث بها ف�ساداً. � 7إن التفكري املنهجي والعقلي موجود يف ن�صو�ص الإ�سالم الأ�سا�سية ،القر�آن الكرمي والأحاديث النبوية ال�شريفة ،ومنها ا�ستمد امل�سلمون يف نه�ضتهم املنهج القومي للبحث والتفكري .يلخ�ص اللواء �أحمد عبد الوهاب (التغريب طوفان من الغرب ،القاهرة :مكتبة الرتاث الإ�سالمي� ،1990 ،ص )27-24 .بع�ضاً من املالمح الأ�سا�سية ملا ميكن ت�سميته باملنهج القر�آين يف البحث والتفكري ،وهو ما يطلق عليه هو التنوير من مفهوم �إ�سالمي .ففي القر�آن الكرمي �آيات تدل على حترير البحث الفكري من خالل: ّ مُتفُو َها -التحررمن تقاليد الأولني :كما يف الآية 23-24من �سورة الزخرفَ « :وك ََذل َِك َما �أَ ْر َ�س ْل َنا مِن َق ْبل َِك فيِ ق َْر َي ٍة ِّمن َّنذِ ي ٍر �إِال ق ََال رْ َ دت َع َل ْي ِه �آ َب ُ اءك ْم قَالُوا ِ�إ َّنا بمِ َا �أُ ْر�سِ ْل ُتم ِب ِه كَا ِف ُرونَ ». ِ�إ َّنا َو َج ْدنَا �آ َباءنَا َع َلى �أُ َّم ٍة َو ِ�إ َّنا َع َلى �آثَارِهِ م ُّم ْقتَدُ ونَ ( )24ق ََال �أَ َو َلوْ جِ ْئ ُت ُكم ِب�أَ ْه َدى ممِ َّا َو َج مُّ ْ َ ا�س ِبالحْ َ قِّ َوال َت َّتب ِِع التحرر من الهوى :كما يف الآية 26من �سورة �صَ « :يا َدا ُوو ُد �إِ َّنا َج َع ْل َن َاك خَ لِي َف ًة فيِ الأ ْر ِ�ض ف َْاح ُكم َبينْ َ ال َّن ِاب �شَ دِ ٌيد بمِ َا نَ�سُوا يَوْ َم الحْ َِ�س ِاب »،والآية 29من �سورة ِيل اللهَّ ِ �إِنَّ ا َّلذِ َين َي ِ�ضلُّونَ َعن َ�سب ِ ا ْل َه َوى َف ُي ِ�ض َّل َك َعن َ�سب ِ ِيل اللهَّ ِ َل ُه ْم َع َذ ٌ للهَُّ َ َ َ ِين». الرومَ « :ب ِل ا َّت َب َع ا َّلذِ َين َظ َلمُوا �أه َْواء ُهم ِبغ رْ َِي عِ ْل ٍم َف َمن َي ْهدِ ي َم ْن �أ�ضَ لَّ ا َو َما ل ُهم ِّمن َّن ِا�صر َ
عدد رقم � | 1أيـار
2013
74
العلمانية اليوم
ال�شريفة ما ي�شري ل�ضرورة اتباع العلم التجريبي يف ال�شئون الدنيوية ،مثل حديث ت�أبري النخل . 8
الظ َّن َو�إِنَّ َّ �إقامة املنهج العلمي على ترك الظن :كما يف الآية 28من �سورة النجمَ « :و َما َل ُهم ِب ِه م ِْن عِ ْل ٍم �إِن َي َّت ِبعُونَ �إِ ّال َّالظ َّن ال ُي ْغنِي م َِن الحْ َ قِّ �شَ ْي ًئا». َ َ َ َ َّ َ لجْ -و�إقامته على �ضرورة الربهان :كما يف الآية 111من �سورة البقرةَ « :وقَالُو ْا لن َيدْخُ َل ا َّن َة �إِال َمن كَانَ هُوداً �أ ْو نَ َ�صا َرى ِت ْلك �أ َما ِن ُّي ُه ْم قُلْ َهاتُو ْا ُب ْر َهانَ ُكم �إِن ُكن ُت ْم َ�صا ِد ِق َني »،والآية 75من �سورة الق�ص�صَ « :ونَ َز ْع َنا مِن ُك ِّل �أُ َّم ٍة �شَ هِي ًدا َف ُق ْل َنا َهاتُوا ُب ْر َهانَ ُكم َف َع ِلمُوا َ�أنَّ الحْ َ قَّ ا�س ق َْد َج ُ اءكم ُب ْر َهان ِّمن َّر ِّب ُك ْم َو�أَن َز ْل َنا �إِ َل ْي ُك ْم نُو ًرا ُّمبِي ًنا». للِهَّ ِ َو�ضَ لَّ َع ْن ُهم َّما كَانُوا َيفْترَُ ون »،والآية 174من �سورة الن�ساءَ « :يا �أَ ُّي َها ال َّن ُ ت�أ�سي�س قواعد �صحيحة وو�سائل �سليمة لتح�صيل العلم مثل:ُ َ َ ْ التعلم من ذي علم :كما يف الآية 14من �سورة فاطر�« :إِنْ َت ْدعُو ُه ْم ال َي ْ�س َمعُوا ُد َعا َء ُك ْم َولوْ َ�سمِ عُوا َما ْا�س َت َجابُوا لك ْم َويَوْ َم ال ِق َيا َم ِةهِم فَا�سْ�أَلُو ْا َي ْك ُف ُرونَ بِ�شِ ْركِ ُك ْم َو َال ُي َن ِّبئ َُك ِمث ُْل خَ بِري »،والآية 43من �سورة النحلَ « :و َما �أَ ْر َ�س ْل َنا مِن َق ْبل َِك ِ�إ َّال ر َِجا ًال نُّوحِ ي ِ�إ َل ْي ْ �أَ ْه َل ِّ الذ ْك ِر �إِن ُكن ُت ْم َال َت ْع َلمُون». اعتماد امل�شاهدة وا�ستخدام احلوا�س :كما يف الآية 19من �سورة الزخرفَ « :و َج َعلُوا المْ َالئ َِك َة ا َّلذِ َين ُه ْم عِ َبا ُد ال َّر ْح َمنِ �إِنَاثًاال�س َما َو ِات َوالأَ ْر ِ�ض َو َما ُت ْغنِي �أَ�شَ هِدُ وا خَ ْل َق ُهم َ�س ُت ْك َت ُب �شَ َها َد ُت ُه ْم َو ُي�سْ�أَلُونَ »،والآية 101من �سورة يون�س« :ق ُِل انْ ُظ ُروا َما َذا فيِ َّ الآ َي ُات َوال ُّن ُذ ُر َع ْن َقوْ ٍم ال ُي ْ�ؤمِنُونَ ». للهَُّ اب َوالحُْ ْك َم َوال ُّنب َُّو َة ث َُّم َيق َ ا�س ُول لِل َّن ِ الدرا�سة والتعليم :كما يف الآية 79من �سورة �آل عمرانَ « :ما كَانَ ِل َب�شَ ٍر �أَنْ ُي ْ�ؤ ِت َي ُه ا الْكِ َت َاب َوبمِ َا ُك ْن ُت ْم َت ْد ُر�سُونَ « ،والآية 44من �سورة �سب�أَ « :و َما كُونُوا عِ َبا ًدا ليِ م ِْن ُدونِ اللهَّ ِ َو َلكِ ْن كُونُوا َر َّبا ِن ِّي َني بمِ َا ُك ْن ُت ْم ُت َع ِّلمُونَ الْكِ َت َ هِم َق ْب َل َك م ِْن نَذِ يرٍ». �آَ َت ْي َنا ُه ْم م ِْن ُك ُت ٍب َي ْد ُر�سُونَ َها َو َما �أَ ْر َ�س ْل َنا �إِ َل ْي ْ ا�ستخدام املنطق :كما يف الآية 22من �سورة الأنبياءَ « :لوْ كَانَ فِي ِه َما �آَ ِل َه ٌة ِ�إ َّال اللهَُّ َلف ََ�س َد َتا ف َُ�س ْب َحانَ اللهَّ ِ َر ِّب ا ْل َع ْر ِ�ش َع َّما َي ِ�صفُونَ »،والآية 42من �سورة الإ�سراء« :قُلْ َلوْ كَانَ َم َع ُه َ�آ ِل َه ٌة َك َما َيقُولُونَ �إِ ًذا َال ْب َت َغوْ ا ِ�إلىَ ذِي ا ْل َع ْر ِ�ش َ�سبِي ًال». للهَُّ ا�ستخدام القيا�س :كما يف الآية 29من �سورة الأعراف« :قُلْ إِ�نْ ت ُْخفُوا َما فيِ �صُ دُ ور ُِك ْم �أَ ْو ُت ْبدُ و ُه ي ْع َل ْم ُه ا َو َي ْع َل ُم َما فيِال�س َما َو ِات َو َما فيِ الأَ ْر ِ�ض َواللهَُّ َع َلى ُك ِّل �شَ ْي ٍء قَدِ ي ٌر »،والآية 27من �سورة الروم« :قُلْ �أَ َم َر َر ِّبي بِا ْلق ِْ�سطِ َو�أَقِيمُوا ُوجُو َه ُك ْم عِ ْن َد َّ َ َ ُ َ دٍ ِ جِ ون». د ُو ع ت م ك � أ د ب ا م ك ين ه ل ني ِ�ص ل ه ُو ع د ا و �س م ل ُك ِّ َ ْ َ ْ ُ مخُْ َ ُ الدِّ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ا�ستخدام اال�ستنباط :كما يف الآية 83من �سورة الن�ساءَ « :و�إِ َذا َجا َء ُه ْم �أَ ْم ٌر م َِن ْالأ ْمنِ َ�أ ِو الخْ َ وْ ِف َ�أ َذاعُوا ِب ِه َو َلوْ َر ُّدو ُه �إِلىَ ال َّر�سُولَِو�إِلىَ �أُوليِ الأَ ْم ِر ِم ْن ُه ْم َل َع ِل َم ُه ا َّلذِ َين َي ْ�س َت ْن ِبطُونَ ُه ِم ْن ُه ْم َو َل َ وْال َف�ضْ ُل اللهَّ ِ َع َل ْي ُك ْم َو َر ْح َم ُت ُه ال َّت َب ْع ُت ُم ال�شَّ ْي َطانَ �إِ ّال َقلِي ًال». البحث واال�ستك�شاف :كما يف الآية 20من �سورة العنكبوت« :قُلْ �سِ ُريوا فيِ الأَ ْر ِ�ض فَانْ ُظ ُروا َك ْي َف َب َد َ�أ الخْ َ ْلقَ ث َُّم اللهَُّ ُي ْن�شِ ُئال َّن�شْ�أَ َة الآَخِ َر َة ِ�إنَّ اللهَّ َ َع َلى ُك ِّل �شَ ْي ٍء قَدِ ي ٌر». ِّ يو�ضح هوارد ترينر (العلوم عند امل�سلمني ،ترجمة فتح اهلل ال�شيخ ،القاهرة :املجل�س الأعلى للثقافة� )2004 ،أنّ التعاليم والو�صايا املخ�ص�صة للمعرفة عند املفكرين امل�سلمني .وتقول التعاليم الإ�سالمية املهمة ّ الواردة يف الأحاديث النبوية تبينِّ املكانة التاريخ ّية ّ «ب�أنّ كل الكون املادي دليل على وجود اهلل اخلالق القاب�ض عليه .وح ّتى تدرك الذات الإلهية ال ّبد من درا�سة كافة �أ�شكال اخللق، كل الظواهر املوجودة يف العامل من حيوانات وخ�ضروات ومعادن وكل ما يتعلق بحياة الإن�سان ،ومن الطبيعي �أن ت�شمل هذه الدرا�سة اجلن�س الب�شري نف�سه .وتبعاً للعقيدة الإ�سالم ّية ال�صحيحة ،ف�إنّ هذا اجلهد املبذول لإدراك الذات الإلهية هو �أمر �أ�سا�سي للتو�صل �إىل حياة دنيوية م�ستقيمة وعادلة كما بينّ الر�سول .ومن ال�صعب ت�صور واقع �أب�سط �أو �أكرث روحان ّية للبحث العلمي من ذلك ،ناهيك عن الدرا�سات امليتافيزيق ّية». 8هو حديث �صحيح ،روي من عدة طرق ،ومنها طريق عن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها ،وقد �أخرجه �أحمد يف م�سنده ( ،)24964وم�سلم ون�صه« :عن عائ�شة ر�ضي اهلل عنها �أَنّ ال َّنب َِّي َ�ص َّلى اللِهَّ ِ َع َل ْي ِه َو َ�س َّل َم َ�سمِ َع يف �صحيحه ( ،)2363كما ورد يف كتب �أخرى كثريةّ ، َ ْ ات؟» ،قَالُوا :ال َّن ْخ ُل َي�أْ ِب ُرونَ ُهَ ،فق ََالَ « :لوْ لمَْ َي ْف َعلُوا َل َ�ص ُل َح َذل َِك»َ ،ف�أ ْم َ�سكُواَ ،ف َل ْم َي�أ ِب ُروا َعا َّم َت ُه ،ف ََ�صا َر �أَ� َصْوا ًتاَ ،فق ََال« :ما هذِ ِه الأَ� َصْو ُ ي�صا ،ف َُذكِ َر َذل َِك لِل َّنب ِِّي َ�ص َّلى اللِهَّ ِ َع َل ْي ِه َو َ�س َّل َمَ ،فق ََال« :كَانَ �شَ ْي ٌء م ِْن �أَ ْم ِر ُدنْ َي ُاك ْم َف�شَ �أْن ُُك ْمَ ،وكَانَ �شَ ْي ٌء م ِْن َ�أ ْم ِر دِين ُِك ْم َف�إِليَ َّ » ،ويف �شِ ً لفظ م�سلمَ »:فق ََالَ :ما ِل َن ْخل ُِك ْم ،قَالُواُ :ق ْل َت ك ََذا َوك ََذا ،ق ََال� :أَ ْن ُت ْم َ�أ ْع َل ُم ِب�أَ ْم ِر ُدنْ َي ُاك ْم».
االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية
العلمانية اليوم
75
وهناك تقاطع �أي�ضاً يف اعتبار كرامة الإن�سان وحريته يف االعتقاد والعمل ،وحريته يف التعبري، �أ�سا�سية يف النظام االجتماعي وال�سيا�سي واالقت�صادي. يف اجلانب الآخر قر�أ الإ�سالميون العلمانية يف �إطار ت�شكلها الغربي على �أ ّنها الدينية�-إحلادية متمردة على اهلل تعاىل ووحيه ،وقبلوا فر�ضية اعتبار م�ضامينها �إنتاجاً غربياً خال�صاً ،فا�صلني لها عن ت�أثرها بالفكر العاملي واحل�ضارة الإن�سانية عموماً .واعترب الإ�سالميون �أنّ الدعوة لها يف العامل العربي والإ�سالمي مرتبطة مب�شروع الغرب للهيمنة وال�سيطرة على العرب وامل�سلمني وثرواتهم، ومل يقر�أوا يف ظهورها يف العامل الغربي دوافعها اخلرية ال�ساعية ل�سعادة الإن�سان الغربي وحترره الفكري وحقه يف البحث والتعبري عن نف�سه ،و�سعيها الزدهاره وحت�سن ظروفه احلياتية ،وهي دوافع تلتقي مع الإ�سالم ور�سالته ،ال بل تقع يف جوهر نظرة الر�سالة الإ�سالمية للإن�سان. املقولة الثالثة :العلمانية الغربية كانت نتاجاً لت�أثر �أوروبا بثقافات العامل الآخر ،و�أهمها الثقافة العربية-الإ�سالمية ،فال ميكن ف�صل الرتاث الغربي يف مرحلة ت�شكل العلمانية عن الرتاث العربي- ٌ منف�صل عن الفكر الإن�ساين عموماً� ،أو الفكر الإ�سالمي على غربي الإ�سالمي ،فال يوجد فك ٌر ٌ وجه اخل�صو�ص ،وت�أثري الإ�سالم على الغرب معروف يف ال�سياقات الفل�سفية والعلمية واملدنية ، وقد �صدرت ع�شرات الدرا�سات والأبحاث التي تناولت هذه الق�ضية بالتف�صيل .يف املقابل ،ال ميكن احلديث عن فكر �إ�سالمي خال�ص ،تطور عرب التاريخ مبعزل عن «الآخر» غري امل�سلم ،فهنا �أي�ضاً ُن�شرت ع�شرات الدرا�سات والأبحاث التي تبني انفتاح الفكر الإ�سالمي على الثقافات الهندية والفار�سية واليونانية والرومانية .فال ينبغي هنا رف�ض «العلمانية» ب�صورة كلية لأنها �إنتاج غربي، بل ينبغي التدقيق يف امل�ضامني التي حتويها ،وتتبع جذور هذه امل�ضامني الإن�سانية والإ�سالمية، واحلكم عليها عقلياً من جهة نفعها �أو �إ�ضرارها بالإن�سان واملجتمع والوطن .ويف احلقيقة �أنّ الأمر ذاته ينطبق على كافة االجتاهات والر�ؤى الفل�سفية الغربية والعاملية ،فباعتقادي �أن جوانب من النظرية املارك�سية ،مثل العدالة االجتماعية والدفاع عن املحرومني والفقراء ،ومنع اال�ستغالل والظلم االجتماعي واالقت�صادي ،تلتقي مع الإ�سالم ،رغم البون ال�شائع بني املارك�سية والإ�سالم. 9
10
9تو�ضح درا�سة �أ .ل .رانيال املا�ضي امل�شرتك بني العرب والغرب �أ�صول الآداب ال�شعبية الغربية ،الأر�ضية امل�شرتكة بني الثقافتني ال�شعبيتني الإجنليزية والعربية ،م�ؤكداً �أن ثقافة الغرب يف القرون الو�سطى كانت �إغريقية التينية عربية ،وبينّ الكاتب �أنّ �إ�سبانيا و�صقلية كانتا ج�سرين للم�شروعات ال�ضخمة للرتجمة يف القرن الثاين ع�شر التي انتقلت عربها املعارف العلمية من العرب �إىل غرب �أوروبا ،التي كانت �آنذاك يف مرحلة ابتدائية�( .ص� .)11 .صدر الكتاب من ترجمة د .نبيلة �إبراهيم� ،ضمن �سل�سلة كتب عامل املعرفة التي �أ�شرف عليها املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب ،الكويت ،كانون الثاين .1999 10ن�شري يف هذا ال�سياق للعمل الرائد للأملانية زيغريد هونكه �شم�س العرب ت�سطع على الغرب «�أثر احل�ضارة العربية يف �أوروبة» ،ترجمة فاروق بي�ضون وكمال د�سوقي ،دار الآفاق اجلديدة ،بريوت .1986 ،ولكتاب د .عبد الرحمن بدوي ،دور العرب يف تكوين الفكر الأوروبي ،وكالة املطبوعات ،الكويت ،ودار القلم ،بريوت .1979 ،والكتابان يف�صالن ت�أثري العرب على �أوروبة يف الريا�ضيات والفلك والأدب والفل�سفة والطب .وبح�سب ر�أي عبد الرحمن بدوي ف�إنّ «املذاهب الرئي�سية والتيارات الكربى يف الفكر الفل�سفي الأوروبي يف القرون من الثالث ع�شر حتى ال�ساد�س ع�شر تدين بوجودها و�آرائها اجلديدة الأ�صيلة للفال�سفة العرب» .وهذه هي الفرتة التي �شكلت �أ�سا�س نه�ضة �أوروبا. عدد رقم � | 1أيـار
2013
76
العلمانية اليوم
املقولة الرابعة� :صحيح �أنّ تياراً قوياً يف الفكر العلماين الغربي حاول تف�سري الكون واحلياة تف�سرياً مادياً خال�صاً ،و�أنّ هذا التيار ا�ستند للعلم التجريبي و�سطوته وقوته من �أجل تربير الإحلاد وا�ضح وكبري، ورف�ض الإميان باهلل تعاىل وبالأديان؛ ولكن �صحيح �أي�ضاً �أنّ هذا التيار تراجع ب�شكل ٍ و�أنّ �أغلب العلماء الغربيني وجدوا الإميان باهلل م َّربراً علمياً واعتربوه من احلقائق الرا�سخة. املقولة اخلام�سة :هناك خلل يف حتديد املفاهيم ومعانيها ،وخلل �آخر يف امليل �إىل �إ�ضفاء طابع ثابت جوهراين عليها ،بدل فهمها يف �سياقها التاريخي وطبيعتها الن�سبية ،فما هو الدين وما هي العلمانية؟ �إن دين الإن�سان هو منظومة املبادىء والأفكار واالعتقادات التي يدين لها ،والتي ي�ستلهمها وي�سرت�شد بها يف �سلوكه وعالقاته .وقد �أطلق القر�آن الكرمي م�صطلح الدين على الكفر ذاته ،و�ضمن حرية الإن�سان يف �أن يدين مبا ي�شاء ،فـ «ال �إكراه يف الدين» .وعليه ف�إن مفهوم الدين ي�شمل بذلك االعتقاد العلماين ،لأن العلمانية هي يف النهاية اعتقاد مببادىء معينة ،لكن ال ميكن اعتبار العلمانية ديناً م�ستنداً �إىل الوحي الإلهي مثل الإ�سالم وامل�سيحية واليهودية .بل هي دين ي�ستند �إىل العقل الب�شري وال ُيعترب الوحي مرجعي ًة له .ولكن هل يعني هذا انف�صا ًال تا ّماً بني الإ�سالم والعلمانية؟ اجلواب قطعاً ال ،وذلك ل�سببني :الأول لأنّ الوحي ال ينف�صل عن العقل ،فحتى ي�ؤمن الإن�سان ويدين بالوحي ال ّبد له من القناعة العقلية ب�صحة هذا الوحي و�أ ّنه �إلهي؛ و�أي�ضاً حتى يفهم الإن�سان الوحي وتعاليمه ،وينزلها يف حياته ،وي�ستنبط منها القوانني ،ال ّبد له من العقل� .أ ّما ال�سبب الثاين ف�إنّ الإ�سالم والعلمانية يلتقيان عند اعتماد القانون الطبيعي ،فكل القوانني ال�سائدة يف الدول العلمانية اليوم تعترب القانون الطبيعي �أ�سا�ساً من �أ�س�سها ،وت�ستنبط منه وت�ستند �إليه ،والإ�سالم يعترب ت�شريعاته ت�شريعات الفطرة ،املتالئمة مع الطبيعة الب�شرية ،فال ُين�سب املولود مث ًال لغري �أبيه و�أمه ،وال ُتهدر كرامة الإن�سان ولو كان كافراً� ،أو كان يدين بغري الإ�سالم ،وكال هذين املبد�أين مع َت َمدان يف القوانني العلمانية. باخت�صار ف�إنّ ما يفرق بني الدين والعلمانية مبفهومهما ال�شا�سع كامن يف نوع املبادىء التي يعتقدها الإن�سان�( ،سواء كان متدي ًنا �أم علمان ًيا) .وهذه املبادىء التي يعتقدها النا�س ت�شرتك ب�شكل كبري، �أي �أن الإن�سان الذي يعتقد بدين �إلهي معني ي�شرتك يف االعتقاد مببادىء كثرية مع الإن�سان الذي يعتقد بدين �إلهي �آخر� ،أو ال يعتقد ب�أي دين (مبفهومه ال�شا�سع) .كما �أن النا�س الذين يتبعون دي ًنا واح ًدا ،ال يعتقدون باملبادىء الدينية ب�صورة متطابقة متا ًما ،فداخل كل ديانة يوجد من ي�شرتك معهم يف مبادىء �أخرى. لذلك فقد جند متدي ًنا يعتقد مببادىء يعتقدها علماين وال يعتقدها علماين �آخر �أو متدين �آخر، فاالعتقادات واملبادئ التي ي�ؤمن بها الب�شر �أعقد من �أن ن�صنفها �ضمن ثنائية علماين-ديني. 11
12
� 1 1سورة الكافرون« :قل يا �أيها الكافرون....لكم دينكم ويل دين». الغي»� ،سورة البقرة ،الآية .256 « 1 2ال �إكراه يف الدين قد تبينّ الر�شد من ّ
االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية
العلمانية اليوم
77
�إذاً فالق�ضية يف التمييز بني الأفكار واملبادىء واالجتاهات واملواقف ال ميكن �أن تكون �صحيحة �إذا يف�سر اعتمدنا على �أ�سا�س ثنائية علماين -ديني ،بل يجب �أن ن�ستند �إىل �أ�سا�س �آخر ي�ستطيع �أن ّ لنا اختالف النا�س وتفرقهم يف الآراء ،فما هو هذا الأ�سا�س؟ �إن االعتقاد هو املحور الأ�سا�سي يف م�س�ألة التمييز بني الأفكار واملبادىء .واالعتقاد يقوم بالأ�سا�س على قناعات فكرية -عقلية� ،أو خماوف �أو رغبات نف�سية �إن�سانية ،ف�إميان الإن�سان بالعلوم التجريبية واقتناعه واعتقاده بخال�صاتها ونتائجها ناجم عن ا�ستنتاجات عقلية خال�صة ،تعتمد على احل�س واملنطق يف حني �أن االعتقاد بالأرواح ال�شريرة ناجم عن م�شاعر اخلوف والرهبة التي يعي�شها حني يواجه املر�ض �أو امل�صائب والكوارث. �إذاً يجب �أن نعتمد البحث يف الأ�سا�س الذي ينبع من االعتقاد الإن�ساين ،وهل هو عقلي؛ ح�سي- جتريبي؛ �أو منطقي برهاين؛ �أو نف�سي ناجم عن م�شاعر داخلية. املقولة ال�ساد�سة :هناك م�شاكل منهجية يقع فيها الدار�سون واملفكرون حني يتطرقون ملو�ضوع الدين .فهم ال مييزون بني دين و�آخر ،وال مييزون بني الدين يف طوره الأول (عند الوحي به) ويف �أطواره الالحقة املتطورة عن الأ�صل الأول ،وال يدر�سون ما فعله النا�س بالدين وكيف ّف�سروه واختلفوا يف فهمه. لذا ال ميكن احلديث عن تطابق املرحلة الأوىل من حياة اجلماعة الدينية و�أفكارها مع املراحل الالحقة ،ولذا ال ميكن احلديث عن كلية دينية ثابتة وجوهرية ال تتغري� ،إذ �أنه هناك جوهر ثابت يتمثل باالعتقادات املتعلقة باهلل واليوم الآخر وغريها من الق�ضايا ،ويوجد �إىل جانبه �أ�شكال ورموز وا�ستنباطات و�سلوكيات متغرية. �إذاً ما ميكن �أن نطلق عليه ديناً �سماوياً هو الوحي يف �صورته الأوىل ،ولي�س الرتاث املرتاكم حول فهم هذا الوحي يف �صورته الأوىل والأ�صلية. العلمانية :هل العلمانية �إذاً خروج عن جوهر الدين و�صورته الأوىل املوحى بها� ،أم �أنها خروج عن ت�أويالت النا�س عرب الع�صور لأ�سا�س الدين ،وفهمهم املتغري له؟ املقولة ال�سابعة :حني نطرح ال�س�ؤال هل ميكن ف�صل الدين عن ال�سيا�سة؟ ف�إنّ اجلواب هو ال قط ًعا ،وذلك للأ�سباب التالية: �أو ًال� ،إن الدين حاجة �إن�سانية ومنظومة �سلوك وقيم عاملية يتبعها الب�شر يف كل مكان ،وجندها يف كل مراحل التاريخ الب�شري وكافة املجتمعات الب�شرية .وال�سيا�سة كذلك نظام �أ�سا�سي يف احلياة الإن�سانية ،ال ميكن للمجتمع �أن يبقى وي�ستمر وينمو دون وجودها فكراً وممار�سة (حكماً). لذا فالدين وال�سيا�سة موجودان دائماً يف حياة الب�شرية ،ومل ينف�صال �أبداً ،بل كان الدين دائماً ركناً من �أركان الفكر ال�سيا�سي ،وكانت ال�سيا�سة دائماً ترتكز �إىل قوة الدين و�أثره يف املجتمع. عدد رقم � | 1أيـار
2013
78
العلمانية اليوم
ثان ًيا ،ت�ستند ال�سيا�سة يف جزء مهم منها �إىل منظومة وا�سعة من القيم واملفاهيم املتعلقة بالوالء والطاعة وااللتزام مب�صلحة اجلماعة ،وهي املنظومة التي ال تنف�صل �إطالقًا عن الدين ،واملجتمع الذي يفتقد هذه املنظومة ال ميكن له اال�ستقرار وال اال�ستمرار ،لذا فالدين يف جوهره الأخالقي والتعبوي مكون �أ�سا�سي لل�سيا�سة ،فكراً وحكماً (تطبيقاً) ،وتن�شئة .ولذا جند �أن هذا الدور كان حا�ضراً يف الفكر ال�سيا�سي من عهوده الأوىل القدمية حتى وقتنا احلا�ضر ،وال ي�ستثنى من ذلك حتى مفكري النه�ضة والعلمانية واحلداثة الأوروبية كميكافيللي ورو�سو ومونت�سكيو. اخلا�صة بالدول الغربية ،التي ّتدعي �أما يف جمال املمار�سة ،فالدين ي�ؤدي دوراً كبرياً يف ال�سيا�سة ّ �أنها علمانية تف�صل الدين عن ال�سيا�سة ،ويكفي �أن نت�ساءل عن الأ�س�س التي قامت عليها �إ�سرائيل و�أخذتها هذه الدول التي ّتدعي العلمانية( .دور حركة الإ�صالح الديني يف تقوية التيار العلماين و�إ�ضعاف الكني�سة). املقولة الثامنة :ال ي�صح تق�سيم ال�ساحة الفكرية العربية اليوم بني تيارين �أحدهما ليربايل علماين ينم و�آخر ديني�-إ�سالمي ،فال ما يطلق عليه التيار العلماين ،وال ما يطلق عليه التيار الإ�سالميُّ ، موحد يف الفكر والأهداف وال�سيا�سات واملواقف ،فهناك اختالفات �شديدة يف داخله عن ج�سم ّ وعميقة بني ت�شكالت وقوى موجودة داخل كل تيار من التيارين .لذا ف�إنّ التق�سيم الذي �أدعو �إىل تبنيه يف �سياق البحث بالعالقة بني الإ�سالم والعلمانية هو بني قوى وتيارات و�أحزاب وت�شكالت اجتماعية مرتبطة باخلارج اال�ستعماري/االمربيايل ارتباطاً تبعياً ،تفقد من خالله هويتها العربية و�أ�صالتها الثقافية/احل�ضارية ،وح�ضورها الوطني وم�سئوليتها جتاهه ،ومن هذه القوى من هو علماين ال�شكل وال�شعار ،ومنها ما هو �إ�سالمي ال�شكل وال�شعار؛ وبني قوى �أخرى مناه�ضة ومقاومة للهيمنة الغربية ،وهي �أي�ضاً تتنوع بني االنتماء العلماين والإ�سالمي .فال�شيخ تاج الدين احل�سني الذي تولىّ رئا�سة اجلمهورية ال�سورية حتت الرعاية والكفالة وال�سيادة اال�ستعمارية الفرن�سية ال ميثل ب�أي حالٍ من الأحوال حالة دينية�-إ�سالمية ،و�إن تز ّيا بها .وموقف احل�سني يتناق�ض مع جتارب املقاومة امل�ستندة �إىل الأ�سا�س الإ�سالمي يف العامل العربي ،مثل جتارب ال�سنو�سي واملهدي وعبد القادر اجلزائري وعبد الكرمي اخلطابي وعز الدين الق�سام وغريهم الكثري .هذه القيادات العلمائية التي وقفت يف وجه اال�ستعمار الفرن�سي والربيطاين والإمربيالية الأمريكية واال�ستعمار ال�صهيوين .و�أي�ضاً موقف قوى علمانية كثرية يف العامل العربي تدعو لالعرتاف ب�إ�سرائيل والتطبيع معها ال ميكن تعميمه على كل القوى العلمانية الأخرى التي ت�ساهم يف مواجهة �إ�سرائيل ومقاومة خمططاتها باملنطقة ،مثل احلزب ال�سوري القومي االجتماعي مث ًال .فال ي�صح �أن نقر�أ احلركات بنا ًء على مظهرها وز ّيها ،بل ينبغي درا�ستها بنا ًء على موقفها يف معركة الدفاع عن الأ ّمة والوطن يف وجه الغزاة الطامعني.
االت�صال واالنف�صال بني الإ�سالم والعلمانية
العلمانية اليوم
79
خال�صة:
�إذا كان من املمكن حتديد مفهوم العلمانية كما ن�ش�أت وتبلورت يف ال�سياق الغربي فهي ال تعدو كونها فل�سفة للحياة تت�ضمن ثالثة م�ضامني �أ�سا�سية :الأول الأخذ بالعلم التجريبي واالعتقاد بنتائجه؛ والثاين اعتماد العقل �أ�سا�ساً للتفكري والإميان ،فما قبله العقل ي�ؤخذ به ،وما رف�ضه فيرُ ف�ض؛ �أما امل�ضمون الثالث فهو الأخذ مبا يحقق امل�صلحة العا ّمة ،وهذه امل�ضامني الثالثة ال تتعار�ض مع الإ�سالم ،فالإ�سالم حني انت�شر يف العامل ن�شر معه املنهج العلمي التجريبي والتفكري احلر و�أكد رقي الإن�سان بالعقل و�أنه تكرمي من اهلل له ،كما جعل امل�صلحة العا ّمة �أ�سا�ساً يف الت�شريع وال�سيا�سة. لذا فالإ�سالم يلتقي يف الكثري من الأهداف والأ�س�س مع العلمانية ،فعلى القوى الوطنية والتقدمية ال�ساعية لنه�ضة العرب وامل�سلمني ورفعتهم �أن تقف مع القيم الإن�سانية والعقالنية التي جاء بها الوحي الإلهي ،و�أن متيز بني الوحي اخلال�ص وال�صادق وتبحث عن عالماته ودالالته العقلية ،وبني تف�سرياته املتع�سفة وغري العقلية؛ وعلى القوى الدينية �أن تخرج من دائرة االنغالق يف فهم الدين و�أن تراه �إن�سان ًيا �أكرث منه حملياً �أو حزبياً. امل�صادر واملراجع
بدوي ،عبد الرحمن ،دور العرب يف تكوين الفكر الأوروبي ،وكالة املطبوعات ،الكويت ،ودار القلم ،بريوت.1979 ، التلحمي ،عبد الرزاق« ،العلمانية مدلوالتها وتطورها» ،يف كتاب� :أ�شقر ،حممود �سعيد ،وزواوي، خالد (حمرران)� ،إ�شكالية العالقة بني الدين وال�سيا�سة -م�ؤمتر بيت املقد�س الإ�سالمي الدويل الثالث ،اجلزء الأول ،دولة فل�سطني-وزارة الأوقاف وال�شئون الإ�سالمية ،القد�س-العيزرية.2012 ، ترينر ،هوارد ،العلوم عند امل�سلمني ،ترجمة فتح اهلل ال�شيخ ،القاهرة :املجل�س الأعلى للثقافة.2004 ، رانيال� ،أ .ل ،.املا�ضي امل�شرتك بني العرب والغرب �أ�صول الآداب ال�شعبية الغربية ،ترجمة د .نبيلة �إبراهيم، مراجعة د .فاطمة مو�سى ،املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب ،الكويت ،كانون الثاين .1999 عبد الوهاب� ،أحمد ،التغريب طوفان من الغرب ،القاهرة :مكتبة الرتاث الإ�سالمي.1990 ، عو�ض ،رم�سي�س ،الإحلاد يف الغرب� ،سينا للن�شر ،القاهرة ،وم�ؤ�س�سة الإنت�شار العربي ،بريوت.1997 ، فايد ،زكريا ،العلمانية الن�ش�أة والأثر يف ال�شرق والغرب ،الزهراء للإعالم العربي ،القاهرة.1988 ، هونكه ،زيغريد� ،شم�س العرب ت�سطع على الغرب «�أثر احل�ضارة العربية يف �أوروبة» ،ترجمة فاروق بي�ضون وكمال د�سوقي ،دار الآفاق اجلديدة ،بريوت.1986 ،
عدد رقم � | 1أيـار
2013
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
81
م�رشوعات �أ�سئلة يف مناخ التحوالت الإقليمية والدولية | حممود حيدر | باحث يف الفل�سفة ال�سيا�سية -
امل�رشق
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
1
رئي�س مركز دلتا للأبحاث املع ّمقة -بريوت
�سوف يكون على قارئ امل�شهد العراقي �أن ي�أخذ بف�ضيلة ال�صرب ،وهو مي�ضي يف املالحظة .ف�إنه وقتئد ،ب�إزاء م�شهد حتكمه قوانني جيو�سرتاتيجية ال قبل له بها .ذاك �أن واقع احلال هو من الرتكيب والتعقيد ،والتداخل ،واملفارقة ،ما يجعل حا�ضر العراق ومقبله مفتوحني على �أ�سئلة ت�أ�سي�سية تت�صل بدول اجلوار ،مثلما تتعلق بتوا�صل وثيق مع املنظومة االجمالية التي حتكم العالقات الدولية. كل ما يف ال�صورة يجري جمرى التحول والتبدل وعدم الثبات .فلقد �أدرك الغرب ،ب�أمريكييه و�أوروبييه ،ناهيك ببقية العامل ،حقيقة �أن احلرب التي بد�أت بقرار مل تنته بقرار ..و�أن التاريخ الذي �شُ َّن ْت احلرب عليه بو�صفه تاريخ �صدام ح�سني ،مل ينته بانتهاء الأخري �إىل من�صة الإعدام. �أما اجلغرافيا التي قيل �إنها ا�ستبيحت و ُه ِز َم �أهلها ،فلم تلبث حتى عادت ت�ستنتج قوانني جديدة يف ال�صراع على املعنى ،وكذلك على التاريخ وال�سيا�سة والأمن واالقت�صاد واالجتماع. ترمي هذه الورقة �إىل االقرتاب من الو�ضعية اجليوبوليتيكية للعراق بعد التحرير .وهي حتاول تبعاً لذلك ،الإجابة على الت�سا�ؤالت التي تواجهها نخب املجتمع ال�سيا�سي العراقي وترتكز حول حمى التحوالت الكربى التي خريطة التمو�ضع التي �ستهتدي بها ل�صوغ ا�سرتاتيجياتها ،يف ّ ت�شهدها املنطقة. ولقد وجدنا �أن ن�ؤ�س�س هذا االقرتاب على فر�ضية م�ؤداها� :أن امل�ؤثر اجليو�سرتاتيجي املحيط بالعراق ،هو عامل �أ�سا�سي يف حتديد االجتاهات واخليارات املتخذة على ال�صعيد الوطني الداخلي، �أو يف ميدان العالقات الدولية. ومن البديهي �أن ت�أخذ هذه الفر�ضية وترية م�ضاعفة يف مناخ داخلي و�إقليمي ودويل ،ينطوي على �سمة انتقالية �شديدة احل�سا�سية والتعقيد� .أما �صورة امل�ؤثر اخلارجي فقد برزت كفاعل حا�سم يف ر�سم الهند�سة االجمالية لل�سيا�سات املعتمدة داخل دول الإقليم .حتى �إذا انفجرت التحوالت بعدد من دول امل�شرق العربي ومغربه مع بداية العام ،2001كانت �أدنى �إىل اختبارات تطبيقية للمدى الذي بلغه الت�أثري اجليو�سرتاتيجي على الكيانات الوطنية. مقدم اىل امل�ؤمتر العلمي ال�سنوي الثالث املنعقد يف بيت احلكمة -بغداد -حتت عنوان «النخبة والتح ّوالت االجتماعية يف 1بحث ّ العراق املعا�صر» 4-3ت�شرين الأول 2012 عدد رقم � | 1أيـار
2013
82
امل�رشق
ال ين�أى العراق عن هذه القاعدة ،بل قد يكون هو ال�صورة املثالية جلدلية الت�أثر والت�أثري بني احلالة الوطنية ،وحالتي الإقليم والعامل� .إىل درجة �أن غراهام فولر وهو �أحد �أبرز ا�سرتاتيجيي الأمن الأمريكيني ،ر�أى �إىل الو�ضعية العراقية على �أ�سا�س كونها حالة ا�ستثنائية يف منطق اجلغرافيا ال�سيا�سية. وقد جاء كالمه الفتاً يف معر�ض معاينته جلذرية الوطنية العراقية يف التعامل مع االحتالل .مالحظاً �أنّ ال�شيء الذي ال ت�ستطيع �أن تقوم به �أية قوة احتالل ،هو منع القوانني اجليوبوليتيكية للعراق من القيام بدورها .فهذا البلد (بر�أيه) لن يتوقف عن كونه العراق حتى بعد رحيل حاكمه الدموي. ولأن امل�س�ألة العراقية هي على هذا القدر من احليوية� ،سرنى �أي�ضاً كيف �أن كثريين من علماء اجليوبوليتيك ذهبوا �إىل و�صف احتالل العراق كحادث عاملي م�ؤ�س�س لأطروحة جديدة يف ال�سيا�سة والأمن ،ويف تداعيات اجلغرافيا الإ�سرتاتيجية على �أبواب القرن احلادي والع�شرين. ما مييز ال�صورة العراقية بعد التحرير ،هو انحكامها �إىل ثالثة م�ؤثرات تدفعها على الدوام نحو مواجهة اال�ستحقاق الأعظم ،وهو القلق املقيم على الأمن القومي وا�ستقرار املجتمع والدولة: امل�ؤثر الأول :حروب اال�ستنزاف الدموية املفتوحة على الدولة واملجتمع والوحدة الوطنية. الثاين :موجات االحتواء ال�سيا�سي املتواترة على النظام ،وم�ؤ�س�سات احلكم .الغاية منها على اجلملة ،هي احل�ؤول دون متكني عراق ما بعد االحتالل من اال�ستقالل مبوقعيته ال�سيادية يف �إطار حركة اال�ستقطاب والتحالفات التي �أخذت حتفر م�ساراتها املدوية يف املديني الإقليمي والدويل. الثالث :احتدام دويل يرتجم بال�صراع على الإقليم ،وهو احتدام يعك�س يف وجه من وجوهه ا�ستئنافاً حلرب باردة من نوع جديد. ي�سري هذا مبوازاة وج ٍه �آخر للعراق ال تنفك تظهر معامله مع تقادم الزمن ال�سيا�سي وكثافته .من �أظهر هذه املعامل ،الت�سا�ؤالت التي تنعقد اليوم حول �إمكان تطور موقعية العراق اجليو�سرتاتيجية، ليكون القطب العربي الأكرث �أهلية للعب دور حموري يف عمليات اال�ستقطاب و�أنظمة الأمن وال�سيا�سات الإ�سرتاتيجية واالقت�صادية يف املنطقة... �أما ال�سمات الأ�سا�سية لهذه املوقعية املفرت�ضة فل�سوف ت�ؤلف مبجملها العنا�صر املكونة للت�صور، التي تبتغي هذه الورقة تظهريها للنقا�ش. لقد اكت�سب العراق �صفة جيو�سرتاتيجية حمورية ،مرتني يف خالل �أقل من عقد من ال�سنوات. ال�سيا�سي وجغرافي ُته الوطنية �إىل ميدان ف�سيح حلرب عاملية رابعة، يف امل ّرة الأوىل ،ملّا حت ّول كيا ُنه ُ احلد على نحو ن�صف قرن من احلرب الباردة. بادرت �إليها الواليات امل ّتحدة الأمريكية بعدما �أقامت ّ ويف املرة الثانية ،ملّا حت ّرر �شعبه وكيانه ال�سيا�سي و�أر�ضه من االحتالل ،وتزامن مع حت ّوالت ي�شري عنوانها الإجمايل �إىل والدة زمن جديد من التوازنات واال�ستقطابات والأحالف.
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
امل�رشق
83
يف امل ّرتني كان العراق حا�ضراً يف موازين وح�سابات القوى ،حتى وهو ينوء ب�أثقال االحتالل وت�صدع م�ؤ�س�سات املجتمع والدولة .ولئن كان هذا احل�ضور �سلبي ّا �إ ّبان االحتالل ،فقد ظهر ّ �سينف�سح ل�شعبه ونخبه مع انكفاء املحت ّلني عن ترابه الوطني. مدى �آخ َر بو�ضوح بينِّ �أن ً ُ ولو �أنّ من ت�سا�ؤلٍ �إجمايل تدور هذه الورقة مداره ،فهو يف مدى توفّر الت� ّصور النظري والإمكان العملي النتقال العراق من اال�ستباحة والوهن �إىل طور ال�سيادة واالقتدار. وبعبارات �أكرث حتديداً :هل ميكن لدولة غادرت للت ّو جحيم االحتالل �أن تتحول �إىل حا�ضرة جيو�سرتاتيجية ت�ضطلع ك�شريك فاعل وم�ؤثر يف الإقليم �أوعلى نطاقٍ قاري؟ لقد انك�سف امل�شهد العراقي بعد زوال االحتالل عن توفّر معطيات مو�ضوعية متنح َ املد َيينْ اجليوبوليتيكي (الداخلي) واجليو�سرتاتيجي (دول اجلوار والنطاق الدويل) القدرة على احل�ضور يبيت ّ متعذراً والتمو�ضع والت�أثري .وب�سبب من تالزم َ املد َيينْ املذكورين يف ّ املقدمات والآليات والنتائج ُ احلديث عن اجليو�سرتاتيجيا من دون �أن متتلك النخبة الوطنية احلاكمة عوامل القوة التي ّمتكنها من �صوغ �سيا�سات م�ؤثرة يف حميطها .فبهذا املعنى يرتتب عليها يف �سياق ن�شاطها اجليوبوليتيكي حتقيق �سعي موا ٍز �إىل توفري العنا�صر ال�ضرورية التخاذ قرارات بعيدة املدى الربنامج الإ�سرتاتيجي الوطني ،مع ٍ على م�ستوى الإقليم ا�ستناداً �إىل القدرات الوطنية .ذاك �أنّ من �أهم القواعد التي يقوم عليها الواقع اجليوبوليتيكي هي �أن تر�سم النخب الوطنية اخلطط التي ينبغي تطوير الدولة على �أ�سا�سها ،و�أن ت�ضع ت� ّصوراً م�ستقبلياً حلالة هذه الدولة ،وكل ذلك يف نطاق حراك ال ينقطع يف احلياة ال�سيا�سية الوطنية. يف احلالة العراقية الراهنة ّثمة ما ميكن و�صفه بو�ضعية جيوبوليتيكية يف طور التكوين� .سوى �أنها و�ضعية حيوية ت�ستمد حركتها من التداخل الوثيق بني حراك الداخل وحت ّوالت الأمداء اخلارجية. لكن القول ب�أن اجليوبوليتيكا العراقية مل تنجز بعد ،هو قول م ّت�صل بانحكامها ل�شروط زمن انتقايل �شديد التعقيد .ف�سرنى بو�ضوح �أنّ من �أبرز �شواهده تركة النظام البائد ،ومرياث االحتالل وما ت�صدعات عميقة يف بنية املجتمع والدولة .وهو ما �سري ِّتب على النخب الوطنية �أعباء �أ َّديا �إليه من ّ ا�ستثنائية وهي مت�ضي �إىل و�ضع ا�سرتاتيجيات �إعادة البناء يف احلقول املختلفة. ولبيان ما نذهب �إليه يف معنى اجليوبوليتيك كم�صطلح تطبيقي عام ،وحلالة العراق بوجه خا�ص، هو «�سيا�سة اجلغرافيا الوطنية» املكان �أو مبعنى �أكرث دقّة «�إدارة املكان» من خالل تفعيل ما يحويه من �إمكانات وقدرات ،لي�صبح قادراً عرب نخبه وقواه ال�شعبية على �صنع وتوليد احلقائق ال�سيا�سية. وثمة من يرى -وذلك �صحيح يف املثال العراقي� -أن اجليوبوليتيك هي الأر�ض التي ال تهد�أ، فتثري بذلك ما تختزنه من عنا�صر وقدرات و�سيا�سات تفتح �أمام نخبها و�ساكنيها �آفاق التحرير والنمو الداخلي والتطوير الوطني ،وي�ضعها يف دائرة الت�أثري الإ�سرتاتيجي. هكذا تف�ضي �إعادة ت�شكيل اجليوبوليتيكا العراقية (�أي البناء الداخلي للعراق بحدوده املعرتف
عدد رقم � | 1أيـار
2013
امل�رشق
84
بها دولياً)� ،إىل حقل نقا�ش عميق وم�صريي حول ماهية البلد وهويته يف زمن ما بعد االحتالل. فلم يعد ثمة ريب لدى النخب الوطنية من وجود م�شكل جوهري يتع ّلق بالقواعد اجليوبوليتيكية التي قامت عليها الوالدة الثالثة للعراق احلديث بعد النظامني امللكي والتوتاليتاري اللذين حكماه على مدار القرن الع�شرين املن�صرم. عيوب زمن االنتقال
من بواعث الإ�شكال الراهن �أن «الوالدة العراقية الثالثة» مل تكن طبيعية بحال من الأحوال. وهو ما يجعلها يف مو�ضع ا�ستثنائي يوجب التعاطي معها بطريقة ا�ستثنائية .ف�إذا كان مقت�ضى م�سددة ب�إجماع اجليوبوليتيكا �أن يتوفّر للدولة املعنية دميقراطية تعددية تعبرّ عن نف�سها بحيوية ّ قومي ا�سرتاتيجي حول الق�ضايا ال�سيادية ،فقد متو�ضعت حالة العراق قبل و�أثناء االحتالل على خالف املقت�ضى امل�شار �إليه .ولذا قد يكون الأمر الذي ينبغي تفعيل النقا�ش ب�صدده هو �أن االنكفاء امليداين لالحتالل نقل الو�ضع �إىل طور جديد �سماته �أنه فتح الأبواب �أمام االحتمال الفعلي لإعادة ت�شكيل اجليوبوليتيكا العراقية. وعلى الرغم مما يكتنف العراق اليوم من عيوب تفرت�ضها مرحلة االنتقال ،ف�إنه يظهر كمنف�سح �صعيد ْين جيوبوليتيكي يزخر بوعود جدية لدور مفرت�ض على م�ستوى الإقليم .ولنا �أن ن�شري �إىل َ متواز َّيينْ ومتالزمَينْ : �أوالً -ال�صعيد الوطني:
وال مقب ً قد يبدو ما �سبق القول �إليه �إن اجليوبوليتيكا الوطنية مل تنجز بعد ،..ق ً وال من وجهة نظر الواقعية ال�سيا�سية ،لكن مقت�ضى الواقعية نف�سها يوجب التعامل معها� -أي و�ضع داخلي مع اجليوبوليتيكا العراقية بعد االحتالل -كحقيقة قطعت �شوطاً وازناً و�سط ٍ وحميط �إقليمي ّ يكتظ بالتعقيد والتناق�ض. ُّمتكن النخبة ال�سيا�سية احلاكمة مبكوناتها املختلفة من ا�ستيعاب املنعطف ال�سيا�سي الأمني الذي تزامن مع انكفاء االحتاللُّ ، ومتكنها بالتايل من �إر�ساء م�سارات ت�ؤمن احلدود املعقولة من اال�ستقرار لإدارة العملية ال�سيا�سية� .سوى �أنّ ما يجعل هذه امل�سارات �أكرث ر�سوخاً ح�سن توظيفها يف �إطار ا�سرتاتيجية وطنية تكت�سب م�شروعيتها عرب امل�ؤ�س�سات املُ ْن َت َخ َبة وتداول ال�سلطة. �إجماع عام على التعاطي مع فكرة الدولة ومنطق عملها كمرجعية حا�ضنة ل�سائر القوى ال�سيا�سية على الرغم من االختالف واخلالف حول هذه الفكرة بني القوى والأحزاب والتك ّتالت.
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
امل�رشق
85
ثانيا ً� -صعيد الإقليم والعامل:
ّ �شكل انكفاء االحتالل بالتوازي مع قدرة م�ؤ�س�سة احلكم على ملء الفراغ وتظهري القرارات ال�سيادية داخلياً وخارجياً ،..عالمة فارقة يف مناخ عربي و�إقليمي بدت فيه ال�سيادات الوطنية عر�ضة لالخرتاق واال�ستباحة .وثمة ما يحملنا على الظن �أنّ عراق ما بعد االحتالل ،قد يكون واحداً من بني الدول القليلة يف املنطقة والعامل ممن ُيف َتح لنخبها ال�سيا�سية الوطنية، باب الرهان على بناء دولة �سيدة م�ستق ّلة ،ذات ح�ضور م�ؤثّر على امل�ستوى اجليو�سرتاتيجي. �إنّ ما ت�شي به «اجليولوجيا ال�سيا�سية العربية» من تداعيات و�آثار� ،سيكون من �ش�أنه �أن ي�ضاعف من حيوية الرهان ال�سيادي للنخبة العراقية ،وال �سيما �إذا عرفنا �أن الإقليم ،ف�ض ًال عن العامل ،بد�أ ي�شهد تراجعاً ب ِّيناً للأحادية القطبية وحتكماتها يف قرارات احلرب وال�سلم واالقت�صاد و�أنظمة القيم. لي�ست لعبة م�صادفة �أن يتزامن االن�سحاب من العراق مع انكفاء الأحادية القطبية .فمثل هذا التزامن يرتجم املنطق الداخلي لل ّتحوالت التي ع�صفت ب�أمريكا مع حقبة املحافظني اجلدد ،وما تركته هذه احلقبة من نتائج قلقة على مهمة ودور �أمريكا يف العامل ،وجوهر هذين «املهمة والدور» ،يف زمني ما بعد احلرب الباردة واحلادي ع�شر من �أيلول�/سبتمرب.
الأ�سئلة املطروحة على �أمريكا اليوم كبرية وخطرية ،بقدر ما هي طبيعية ،فالدولة التي �أحرزت ن�صراً مد ّوياً على امل�ؤ�س�سة ال�شيوعية يف �شرق �أوروبا ،ال ي�سعها � اّإل �أن متلأ الفراغ الذي �أحدثه مثل هذا االنت�صار ،على النطاق العاملي ّ ككل .غري �أن ملء الفراغ نف�سه ،فكرة تبعث على احلرية والقلق ،وا�ستيالد الأ�سئلة ،و�إ�شارات اال�ستفهام .ذلك �أنّ الأمر يتعلق ب�شروط التك ُّيف مع الواقع العاملي اجلديد .وهي �شروط ُتلزم قبل كل �شيء وجوب االعرتاف ب�أنّ الن�صر كالهزمية له ثمن. وغالباً ما يكون ثم ُنه باهظاً� .إذ على املنت�صر �أن يفي ب�ضريبة تت�صاعد با�ستمرار ،ك ّلما كان له وحده الأمر والنهي يف ت�شكيل �أو �إعادة ت�شكيل ،منظومة العالقات الدولية. الهواج�س التي متكث النخب الأمريكية �ضمن دوائرها ،تت�صل عموماً ،باملهمة التي على الواليات امل ّتحدة �أن ت�ؤديها �إزاء نف�سها و�إزاء العامل يف �آنٍ واحد. ويف الهواج�س ت�سا�ؤالت مل ُي َجب عنها بعد: كيف ميكن لأمريكا �أن تقود العامل؟ وكيف ميكنها القبول بعامل متعدد الأقطاب؟ ثم كيف لها �أن تتك َّيف و�شروط زعامتها الدولية ،يف عامل زاخر بالتناق�ضات والال َيقني .ويف مناخ عاملي مملوء بركام هائل من النزاعات ،والتوترات ،والع�صبيات الإيديولوجية ،وكذلك الفو�ضى العارمة يف االقت�صاد وال�سيا�سة واالجتماع والأمن؟ عدد رقم � | 1أيـار
2013
86
امل�رشق
لي�س من الي�سري بلوغ �أجوبة وافية عن �أ�سئلة وت�سا�ؤالت من هذا النوع .حتى رموز الفكر ال�سيا�سي الأمريكي� ،سواء �أولئك الذين يف ال�سلطة ب�صفة م�ست�شارين للرئي�س� ،أو الذين يعملون ب�صفة �شبه ر�سمية يف مراكز التخطيط اال�سرتاتيجي ،ف�إنهم غري م ّتفقني يف الغالب على �سياق واحد من الأجوبة واالحتماالت .بني ه�ؤالء و�أولئك ،املت�شائم الذي ال يرى ملقبل الدولة الأمريكية � اّإل ما توقّعه لها ّ املفكر االقت�صادي بول كينيدي قبل ب�ضع �سنوات ،يف كتابه «�صعود و�سقوط القوى الكربى» ،وفيه �أنّ الإمرباطورية تنهار بعد �أن تتعاظم وتقوى ،حينما جتاوز التزاماتها حدود قدراتها .ويف تقدير �أن�صار وحجتهم يف هذا الر�أي� ،أنَّ الواليات امل ّتحدة الأمريكية اليوم ،هي متثيل منوذجي لنظرية كينيديّ . ذلك �أنّ �أمريكا �سارت يف طريق االنحدار ،بعدما �أ�صبحت ت�ستنزف نف�سها يف التزامات ع�سكرية واقت�صادية و�سيا�سية وا�سعة فوق طاقتها� .إنه الطريق نف�سه الذي �سلكته من قبل الإمرباطوريات الإ�سبانية والفرن�سية والربيطانية والرو�سية والعثمانية ثم �آلت اىل اال�ضمحالل . ولنا �أن ن�ستذكر يوماً لي�س ببعيدّ ، ويدل على الدرجة القيا�سية التي �أظهرها ّ اخلط البياين يف �صعود �أمريكا وانكفائها يف خالل العقدين املن�صرمني .فلقد �أُعلن عن غزو العراق بالرتافق مع الك�شف عن ا�سرتاتيجية �إدارة بو�ش للأمن القومي التي �شاعت حتت عبارة «الإ�سرتاتيجية الإمربيالية الكربى اجلديدة». م�ؤ ّدى هذه الإ�سرتاتيجية كما هو معروف :عزم الواليات امل ّتحدة الأمريكية ال�سيطرة على العامل، حتد حمتمل لهذه ال�سيطرة ،وال�سماح للأمم املتحدة �أن تكون ذات �صلة بها� ،إن هي وتدمري �أي ٍّ �أق ّرت مب�ضامينها �أو العمل بها ،و�أن يكون غزو العراق هو االختبار الأ ّول للمبد�أ اجلديد لإ�سرتاتيجية الأمن القومي القائم على ال�ضربات اال�ستباقية . الإ�سرتاتيجية �إياها �سيطلق عليها ّ املفكر الفرن�سي ف .ب .هويغيه عبارة «اجلنون الإ�سرتاتيجي». وهذه العبارة هي املعنى املوازي ملا �أُطلق عليه «احلرب اال�ستباقية» �أو «احلرب الالمتكافئة» .لكن حمملة بتغطية فكرية مهما كانت ت�سميتها ،فالثابت �أنها حرب ُولِدت على �أر�ض العراق ،وكانت ّ و�إعالمية وا�سعة النطاق عنوانها العام «احلرب �ضد الإرهاب» .ووفق مبد�أ ال�ضربة اال�ستباقية، ُيفرت�ض �أن ت�ؤدي هذه الإ�سرتاتيجية املجنونة -بح�سب هويغيه -وظيفة مث ّلثة الأبعاد: �أوالً :ا�سرتاتيجية ومادية :وتقوم على حرمان اخل�صم من قواه قبل �أن يتمكن من الو�صول �إىل الواليات امل ّتحدة وذلك عرب تدمري قواعده اخللفية. ثانيا ً :رمزية ورادعة :توجيه ر�سالة قوية للإرهابيني والدكتاتوريني و�إفهامهم �أنّ الواليات امل ّتحدة �سرتد على كل �ضربة ،وحتبط م�شاريعهم ومتنع انت�شارها باخلوف من القوة العظمى. 2
3
املعمقة - 2حممود حيدر -الهوت الغلبة -الت�أ�سي�س الديني للفل�سفة ال�سيا�سية الأمريكية -دار الفارابي ومركز دلتا للأبحاث ّ بريوت.2009 ، 3نعوم ت�شوم�سكي -من يدير العامل؟ -نق ً ال عن موقع zmag.org 7/6/2004
امل�رشق
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
87
ثالثا ً� :أيديولوجية و�سيا�سية :وخال�صتها ن�شر الدميقراطية يف العامل� ،أو ما ي�سمى باحلكم مقدمة لن�شر ال�صالح .ذلك يعني -كما يبينِّ اخلرباء � -أنّ ترويع �أعداء �أمريكا لي�س �سوى ّ احلكم ال�صالح يف الكرة الأر�ضية ك ّلها وتعميم ثقافة ال�سوق وحقوق الإن�سان .فامل�شروع يهدف وفق التعبري املعتمد �إىل جعل العامل مكاناً �أكرث �أماناً للدميقراطية ،وهذا يعني ب�شكل خا�ص �آمناً للواليات املتحدة .ولقد كانت هذه الإ�سرتاتيجية تنتظر يف �أدراج املحافظني اجلدد طيلة �أكرث من عقد من الزمن قبل و�صولهم اىل ال�سلطة .وهي يف جوهرها تطابق ما �سبق للفيل�سوفة الأملانية -الأمريكية حنة �أرندت � ،Hannah arendtأن ّنظرت له يف خالل حرب فيتنام« :يجب �أن جنعل من عر�ض �صورة معينة قاعدة ل�سيا�سة �شاملة ،ونعمل لي�س على غزو العامل ،بل على التفوُّ ق يف معركة ت�ستهدف عقول النا�س ،وهذا �شي ٌء جديد و�سط هذا الكم الهائل من �سجله التاريخ» . اجلنون الب�شري الذي ّ مل ي�ؤ ِّد التنظري الأمريكي على النحو الذي م ّر معنا �إىل �إعادة �إنتاج الف�ضاء العاملي على ن�صاب الهيمنة ال�شاملة .فمن املخترب العراقي �ستبد�أ �إرها�صات املراجعة اجلذرية حل�صاد التورط املجنون الذي بد�أت وقائعه املعا�صرة بعد احلادي ع�شر من �أيلول .2001ففي �سياق مطالعاته النقدية ل�سلوك املحافظني اجلدد ،يالحظ زبيغنيو بريجن�سكي جملة حتوالت رئي�سية �شهدها العامل منذ العام � ،1990أي خالل انح�سار التناف�س الدويل ،حيث مل ت�ستطع ال�سيا�سة اخلارجية الأمريكية اال�ستفادة منها �أو التفاعل معها على النحو الأف�ضل ،وهي :انهيار االحتاد ال�سوفياتي ،واالنت�صار الأمريكي الع�سكري يف حرب اخلليج الأوىل يف ،1991وات�ساع حلف «الناتو» �شرقاً بان�ضمام املزيد من دول �أوروبا ال�شرقية لي�صبح بذلك �أكرث التجمعات الدولية ت�أثرياً ونفوذاً على ال�ساحة العاملية .ويقارن بريجن�سكي بني �صورة الواليات املتحدة يف العامل عام 1989عند �سقوط حائط برلني وانهيار االحتاد ال�سوفياتي ،حني كانت �صورتها مقبولة يف كافة �أنحاء العامل بال مناف�سة �أو كراهية ،والو�ضع الذي ا�ستقرت عليه حالياً ،حيث باتت م�شاعر العداء لوا�شنطن القا�سم امل�شرتك بني معظم �شعوب العامل والعامل الإ�سالمي ب�صفة خا�صة .وي�صف حرب العراق بالكارثة اجليوبوليتيكية التي �صرفت االنتباه واملوارد عن جمابهة الإرهاب يف �أفغان�ستان وباك�ستان ،و�أدت �إىل زيادة التهديدات الإرهابية املوجهة �ضد الواليات امل ّتحدة ،معترباً �أنه لن يكون للواليات املتحدة ما هو �أ�سو�أ من تبنيها �سيا�سة ينظر �إليها العامل على �أنها امتداد للحقبة اال�ستعمارية. ثم يخل�ص بريجن�سكي �إىل �أن املوقف املتدهور لو�ضع الواليات املتحدة يف العامل الآن �سيحتاج ل�سنوات من العمل اجلاد واخلالق لإعادة االعتبار ل�شرعية وم�صداقية الواليات املتحدة كقائدة للعامل .وذلك يعني �ضرورة �أن يتحلى الرئي�س الأمريكي مبهارات دبلوما�سية ا�سرتاتيجية ،وغري تقليدية كي ي�صوغ �سيا�سة خارجية تتنا�سب مع التحوالت الكربى . 4
5
4ف .ب .هويغيه -اجلنون الإ�سرتاتيجي يف احلرب العاملية الرابعة -جملة «مدارات غربية» العدد الثاين -بريوت -متوز � -آب 5الكالم املن�سوب لربيجن�سكي نق ًال عن موقع «تقرير وا�شنطن» -راجع �أي�ضاً «ال�سفري» البريوتية -اخلمي�س 5ني�سان /ابريل
2004
2007
عدد رقم � | 1أيـار
2013
88
امل�رشق
ت�أ�سي�ساً على ت� ّصو ٍر كهذا ،ي�ستطيع العراق �أن ي ّتخذ لنف�سه منطقة و�سطى داخل فو�ضى اال�ستقطاب، من دون �أن يعني ذلك اعتماد �سيا�سة احلياد ال�سلبي يف الق�ضايا ذات الطابع امل�صريي للمنطقة، وخ�صو�صاً يف ما يتع ّلق بال�صراع العربي الإ�سرائيلي وحت ّوالت الق�ضية الفل�سطينية ،وحروب االحتالل والغزو والفنت الأهلية والتفتيت الوطني. املنطقة الو�سطى و�إدارة التعقيد
قد تكون �سرتاتيجية �إدارة التعقيد هي العنوان الأكرث تنا�سباً مع ما ذهبنا �إىل ت�سميته بـ «املنطقة ِ مقت�ضيات ا�سرتاتيجية كهذه توفري �آليات عمل ت ّت�سم باملرونة يف ميدان التو�سط الو�سطى»� .إذ من حلل امل�شكالت وت�سوية النزاعات .ويف املقابل ف�إنّ من املقت�ضيات اال�سرتاتيجية لدول ٍة تعترب ال�سيادة يف ر�أ�س �أولوياتها� ،أن تدخل بال حرج يف احلراك اجليو�سرتاتيجي الذي بدا �أن احلياد معه هو �أم ٌر م�ستحيل... وفقاً ملوقعيته اجليو�سرتاتيجية وتكوينه الدميغرايف الديني والثقايف ،واالجتاهات املتوقّعة ل�سيا�ساته اخلارجية ،ي�ستطيع العراق يف �إطار مهمة �إدارة التعقيد �أن ي�شكل �صلة الو�صل بني �إيران ودول اخلليج (وبع�ض حكومات العامل العربي) ،باجتاه خف�ض من�سوب التوتر املزمن بينهما .وعلى ال�ضفة الأخرى من احليوية املفرت�ضة للموقعية العراقية ،ف�إن من بديهيات التمو�ضع �أن تنحو النخبة احلاكمة نحو الدخول يف حركة التدافع وال�صراع ،التي ت�شهدها منطقة الفراغ الإ�سرتاتيجي ،التي يعي�شها عامل ما بعد الواحدية القطبية .ولذا �سيكون التح ُّيز يف ا�صطفافات نظام الأمن الإقليمي قدر العراق وخياره يف امل�ستقبل املنظور .ولقد بدا الفتاً للخرباء كيف �أمكن العراق وقد خرج لت ّوه من وط�أة االحتالل �أن ي ّتخذ مواقف دقيقة وح�سا�سة وذات طبيعة جيو�سرتاتيجية �صريحة الدالالت. فلقد جرى احلديث وملا يزل عن ت�شكيل املحور العربي القاري من رو�سيا وال�صني �إىل �إيران عرب العراق و�سوريا ،بالإ�ضافة �إىل حركات التحرير الوطني يف لبنان وفل�سطني .وهو حمور مفرت�ض ي�شكل تكت ًال جيو�سرتاتيجياً معادياً للأمركة. كان عامل اجليوبوليتيكا الرو�سي «�ألك�سندر دوغني» يرى �أنّ العامل الإ�سالمي مو ّزع يف نهاية القرن عدة اجتاهات :االجتاه الأ�صويل الثوري الإيراين؛ التيار العلماين الرتكي؛ التيار العروبي الع�شرين بني ّ العراقي ال�سوري؛ والتيار ال�سلفي ال�سعودي .و�إذ ُي�سقط �صاحب هذه النظرة من ح�سابه التيارين الرتكي وال�سعودي ،يروح ي�ؤكد على �أهمية احل�ضور الإيراين والعراقي وال�سوري ،ف�ض ًال عن تيار التحرير واملقاومة ،يف �إقامة حلف قاري مع رو�سيا وال�صني يف م�ستهل القرن احلادي والع�شرين. �أما ملاذا ذهب �إىل هذا ،وقد و�ضع ت�صنيفاته تلك قبل حت ّوالت املنطقة �إثر زلزال � 11أيلول ،2001فلأنه كان يبحث مدى جيو�سرتاتيجي لرو�سيا ما بعد املرحلة ال�سوفياتيةّ ،ميكنها من مواجهة احللف الغربي اليورو� -أمريكي. عن ً
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
امل�رشق
89
مثل هذا الت� ّصور يكت�سب اليوم �أهمية ا�ستثنائية بعد التح ّول العميق يف منظومات الأمن وال�سيا�سة ،خ�صو�صاً مع االنكفاء الأمريكي الغربي عن �أر�ض العراق ،وبداية متو�ضع هذا البلد �ضمن منف�سح تكثرُ فيه احتماالت بناء الدولة ووعود اال�ستقالل الوطني ،ومقومات الت�أثري يف عامل عربي يفتقد �إىل احلد الأدنى من املرجعية. لكن ال�س�ؤال الذي يظل ُيطرح يف كل اجتاه هو التايل: �إىل �أي م�سافة من الرهان ميكن للعراق �أن يتخذ لنف�سه موقعية جيو� -سرتاتيجية ذات �أثر وازن وحا�سم يف نظام الأمن الإقليمي يف الوقت الذي يحتاج فيه ككيان وطني �إىل هند�س ٍة معرفية تعيد ن�صاب جديد من الوحدة واالقتدار والت�أثري؟ �إنتاجه على ٍ التفكيك الوطني كعامل �إ�ضعاف للجيو� -سرتاتيجيا
ال يغرب عن وعي النخب العراقية م�س�ألة الإنتماء الوطني مبا هي م�س�ألة ت�أ�سي�سية لعراق ما بعد االحتالل .ويل �أن �أم�ضي �إىل ما مي�ضي �إليه جم ٌع وازن من النخب ،جلهة �أن الدولة كناظم د�ستوري �سيا�سي و�أمني تبقى امل�آل الأخري لأي م�شروع يعيد �إنتاج الهوية الوطنية اجلامعة. فما فعله االحتالل الأمريكي ،كمثل ما يفعله � ُّأي احتالل ،هو حتويل الو�ضع اجليوپوليتيكي للبالد �إىل ما هو �أ�شبه مب�ستوطنات تتوزعها �أعراق وطوائف متناحرة ،جاع ًال بن َي ِت ِه الدميوغرافية �أحياء مغلقة تقطنها جماعات م�سكونة باخلوف والهلع والتوج�س. وعلى امل�ستويني النظري والعملي يظل النكو�ص املجتمعي نحو هويات متعددة م�صدراً ل�صراعات متمادية بني �أهل البلد الواحد .وتدل الوقائع على �أنه من دون الإلتقاء الطوعي حول امل�شرتك الأعلى ،اي حول دولة كمرجعية ك ّلية ،لن يكون ثمة نهاية منظورة لالحرتاب الناجت عن احتدامها. لقد ّ �شكلت حقبة االحتالل متثي ًال منوذجياً للنكو�ص املجتمعي باجتاه الهويات الفرعية .كما �أفلح املحتل يف عمليات التفكيك على قاعدة الوهن الذي َّ حل على البنية العراقية منذ ما �سمي بـ «حرب اخلليج االوىل � .»1991أما الطور التايل من الغزو ال�شامل للبالد يف العام 2003فقد كان من �ش�أنه �أن ي�ضاعف من ال�صدع البنيوي الذي �سي�ضرب الدولة واملجتمع على نحو متوا ٍز ومنهجي يف الآن عينه. اذا كانت العمليات التفكيكية للهوية الدينية هي �أدنى �إىل جدا ٍر �إ�سمنتي يحول دون تبلور و�إجناز الإطار اجليوبوليتيكي الذي ُيفرت�ض �أن ي�ؤ�س�س لدولة موحدة ومن�سجمة ،فمن البديهي �أن تكون الغاية الق�صوى للنخب العراقية هي ك�سر هذا اجلدار من خالل ا�ستعادة مفهوم الدولة واملواطنة وو�ضعه على ن�صاب جديد. ولئن كان ثمة من باب ُيفتح على التفا�ؤل ،فهو يف ما انتهى اليه �سقوط الديكتاتورية ورحيل عدد رقم � | 1أيـار
2013
90
امل�رشق
االحتالل من حقائق وتبدالت .ن�شري يف هذا اخل�صو�ص �إىل �أن حترر احلالة العراقية اجلديدة من الواحدية االيديولوجية� ،سوف يتيح ملنظومة احلكم اجلديدة منف�سحاً تكون فيه مركز جاذبية ل�سائر االيديولوجيات امل�شاركة يف ال�سلطة .كما مينحها امل�شروعية الفعلية يف �إدارة التعقيد الذي يكتظ به املجتمع ال�سيا�سي العراقي بعد زوال االحتالل. وال تتوقف ح�سنات التحرر من الواحدية االيديولوجية عند هذا احلد ،بل هي متتد لتعني �سلطات الدولة على توفري التوا�صل بني �أقطاب وتكوينات الكرثة العراقية بتنوعاتها القومية والدينية وال�سيا�سية وااليديولوجية. وعلى الرغم مما يظهره ال�سجال الداخلي حيال م�ساوىء الد�ستور ومواطن الوهن فيه ،فهو يظل �إطاراً مرجعياً �ضرورياً لتوفري م�ستلزمات االنتقال �إىل و�ضعية م�ستقرة. لو �أجمع العراقيون عل ى مفهوم موحد للوطنية ،ف�إن لهم �أن ينظروا �إ ىل «الدولة املدنية» كمرجعية �سيا�سية حقوقية عليا تقدر على �أن حتكم بروح القانون وتف�صل فيما يختلفون فيه .وهو ما يرتب عل ى النخبة التاريخية يف العراق اجلديد القيام مبهمة تنظريية غايتها تظهري فكرة الدولة بو�صفها ق�ضية ثقافية ومعرفية و�أخالقية جامعة ملكونات املجتمعني ال�سيا�سي واملدين على ال�سواء. ت�ستطيع النخبة التاريخية العراقية لو �أفلحت يف القيام مبهمتها التنظريية تلك� ،أن تقدم منوذجاً للدولة واحلكم واملجتمع ال�سيا�سي مل ي�سبق �أن توفَّر له نظري يف دولة عربية من قبل� .إذ بهذا النموذج الذي ينبغي للنخب العراقية بذل اجلهد لإجنازه ميكن �أن ي�س ّوى م�شكل تكويني مزمن داخل البناء اجليوبولتيكي ملعظم دول امل�شرق .وهو امل�شكل املتمثل ب�صريورة الدولة معاد ًال ونظرياً للحاكم الفرد .وهو الأمر الذي �أ ّدى يف ما م�ضى ،ف�ض ًال عما ن�شهد اليوم� ،إىل فنت وحروب �أهلية وا�ستدعاءات للغزو الأجنبي .فالدولة املدنية ت�ؤ�س�س ل�سياق �آخر ولزمن جديد ،بحيث ال يعود املدى الوطني الداخلي مبجاالته ال�سيا�سية واالجتماعية والثقافية واملعرفية جمرد كهف مغلق يلغي التنوع ويقيم احلد على كل غريية واختالف. دولة العناية كمقرتح لال�ستثناء العراقي:
يقدمه العراقيون لأنف�سهم وللعرب ،هي منظومة تنتمي يف «الدولة املدنية» املقرتحة كنموذج ّ �صفاتها �إىل طراز يتعدى ال�شائع يف �أدبيات الفكر ال�سيا�سي الكال�سيكي� ،أو يف ما نالحظه من مداوالت بني النخب العربية واال�سالمية املعا�صرة. ف�إذا كانت �صورة اجلدل الذي ينمو بقوة يف الغرب تدور حول وجوب اعادة االعتبار لدولة الرعاية ،ف�إن ما تفرت�ضه اجليوبوليتيكا العراقية -ف�ض ًال عن ت�سييل هذا املفهوم ب�أبعاده وقواعده التقليدية -وجوب فتح الكالم على ما ن�سميه بــ«دولة العناية» .ومثل هذا املقرتح نفرت�ض �أنه
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
امل�رشق
91
ينا�سب احلاجات التي ت�ستلزمها الو�ضعية االنتقالية املعقدة التي يعربها عراق ما بعد االحتالل. ثقيل �إن ما يحملنا على هذا َّ كحمل ٍ املدعى هو مالحظتنا للمهمات ذات الطابع التاريخي امللقاة ٍ على االنتلجن�سيا العراقية املنخرطة يف �إدارة الدولة وم�ؤ�س�سات املجتمعني املدين وال�سيا�سي. ما ينبغي قوله يف هذا ال�ش�أن� ،إن قيام دولة العناية �أم ٌر م�شروط بتالزم ثالثة �أركان ال منا�ص من توافرها لعراق حديث و�سيد ومقتدر: الأول :ركن العلم واملعرفة:
وهو ما ال منا�ص من التوفر عليه لدولة تع�صف بها رياح مثلثة االجتاهات :اال�ستبداد ،واالحتالل، وفو�ضى �إعادة البناء .الغاية من هذا الركن بالن�سبة للنخبة العراقية هي ر�سم هند�سة معرفية م�ؤداها ما يلي� :إحالل املتحد ال�سيا�سي املتعدد االقطاب حمل �أحادية اال�ستبداد ..وب�سط ال�سيادة الوطنية حمل االحتالل ،و�صوغ ا�سرتاتيجيات التنمية ال�سيا�سية واالقت�صادية واالجتماعية مبن�أى من اال�ستتباع الق�سري �إىل املركز الر�أ�سمايل النيوليربايل. �أما مقت�ضى فالح النخبة يف �إجناز ا�ضالع هذا الركن ،فيقوم على �إيالء البحوث العلمية يف امليادين املختلفة مقاماً ا�ستثنائياً على نحو ي�ؤ ِّمن قواعد التنمية واالكتفاء الذاتي .كما يقوم على الإفادة من جتارب التنمية ال�شاملة يف البلدان واملجتمعات املتقدمة ،وفتح الآفاق على ما تنطوي عليه تلك التجارب من علم م�ستحدث يفتح �آفاق التقدم والتحديث والع�صرنة. الثاين :ركن الأخالق والقيم:
ركن يت�صل بعمق يف اجلواب على �س�ؤال الدولة جلهة ماهيتها وهويتها .ويف الو�ضعية العراقية وهو ٌ يت�ضاعف الرهان على هذا الركن كعامل حا�سم يف بلورة اجلواب على خا�ص َّية مركزية من خ�صائ�ص الدولة الناجحة� .أما الق�صد من تظهري هذه اخلا�ص َّية فيكمن يف مقدرة النخبة على ح�سم اجلدل ال�سلبي بني الديني والدنيوي .وذلك من خالل حتويل وجهي املعادلة �إىل طاقة حيوية خ ّالقة يف �إعادة ت�أ�سي�س الدولة واملجتمع وامل�ؤ�س�سات على ن�صاب النمو والتكامل واجلمع بني االميان الديني وال�سيا�سة املدنية و�صناعة اال�سرتاتيجيات الوطنية يف عامل ممتلىء بعوامل االحتدام .وما دمنا يف معر�ض الكالم على دولة العناية ،ف�إن كثرياً من ال�صفات التي ت�ستلزم جالء �صورتها� ،سوف حتتل مكاناً �أعلى مما نتخ َّيل .لعل ال�صفة االبرز يف �صفاتها املتعددة هي �أنها دولة مدنية بامتياز .فلئن كانت نظرية الدولة تطوي يف �أعماقها بعداً وجودياً بالن�سبة ملواطنيها ،فذلك يعني �أننا ب�إزاء ق�ضية فل�سفية مركبة .ولذا ف�إن �آليات التفكري التي ت�ضبط �سريورة ُّ �سيا�سية َّ التحكم بها �سوف تف�ضي بنا �إىل الدخول يف لعبة �سجالية جتري وقائعها �ضمن حقول امليتافيزيقا .فالقيادة اال�سرتاتيجية عندما جتد عدد رقم � | 1أيـار
2013
92
امل�رشق
نف�سها �أنها �أمام �أحد خيارين :الوجود والالوجود .احلياة واملوت ،ال�سيادة وال ّال�سيادة ،ف�إن معايري الر�ؤية وقواعد النظر �سوف تتبدل على اجلملة لت�ستوي على ن�صاب فوق عادي .فامل�س�ألة النووية مثال وهي امل�س�ألة الأكرث تهديداً مل�صري الب�شرية -ال تتوقف عند حدود ال�سيا�سة وح�سب ،بل كذلك وب�صورة �أعمق و�أ�شمل على امليتافيزيقا كما يبينِّ اال�سرتاتيجي الفرن�سي جان غيتون .ذلك �أنَّ الق�ضايا العليا املتعلقة مبعنى احلياة ،واالختيار بني الكل والال�شيء لي�ست َع َر�ضية .كذلك ال تعود الأخالق وامليتافيزيقا معزولة داخل ال�ضمائر الفردية� ،أو موقوفة على الأديان .بل �إنها تغادر �س ّر ال�ضمائر وتندرج يف التجربة ،يف ال�سيا�سة والق�ضايا الدولي ة وح�سابات اال�سرتاتيجيا . مثل هذه الإحالة �إىل املنطقة الق�صوى من ن�شاط الفكر اال�سرتاتيجي تبدو لنا �ضرورية يف معر�ض الكالم على «دولة العناية» .وما ذاك �إال لأن العراق واقع اقليمي ودويل ا�ستثنائي ،ميلي على ُن َخ ِب ِه الوطنية وقواه ال�سيا�سية �أفهاماً وتدبريات توازي هذا الواقع وت�ستجيب ل�ضروراته .ولأن دولة العناية تقع يف ر�أ�س هذه ال�ضرورات ،فمن البديهي �أن ُينظر اليها على �أنها الغاية التي ت�سعى الكتلة التاريخية العراقية الجنازها كنموذج وطني وجيو�سرتاتيجي وح�ضاري يف الآن عينه. 6
الثالث :ركن القدرة والتخطيط اال�سرتاتيجي:
وهو يجمع بني ركني العلم واالخالق ،ويقوم على ح�سن توظيف القوى والقدرات الكامنة يف املجتمع والدولة .ومن دواعي التفا�ؤل �أن عوامل القدرة يف العراق كثرية ..وهي ذات قيمة ا�ستثنائية يف تكوين هذا الركن ،حيث ميكن �إجمالها مبا يلي: العامل احل�ضاري التاريخي ،او ما ي�سمى باجلغرافيا التاريخية لبالد ما بني النهرين والأهمية العظمى التي ت�شكلها يف امليادين احل�ضارية والدينية واالقت�صادية واال�سرتاتيجية ،وبالتايل �أثرها احلا�سم يف املثلث القاري (�آ�سيا -افريقيا واوروبا املتو�سطية). العامل االقت�صادي ب�شطريه النفطي واملائي. العامل اجليو -ب�شري ،وغنى التنوع الدميغرايف. العامل ال�سيا�سي ،وما ينطوي عليه يف ف�ضاء التعددية احلزبية ،ويف انفتاح �أفق التنوع ال�سيا�سي والثقايف على والدات جديدة لفعاليات املجتمع املدين. العامل العلمي والثقايف يف ميادين االبداع والفن والبحوث العلمية. العامل الدويل/االقليمي وحاجته �إىل منطقة و�سطى ت�شكل جما ًال لإدارة الأزمات والت�سويات واحللول .ول�سوف تت�ضاعف احلاجة �إىل مثل هذه املنطقة الو�سطى يف مناخ جيو�سرتاتيجي 6جان غيتون-الفكر واحلرب -امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر -بريوت� 1988-ص
11
حراك اجليو�سرتاتيجيا العراقية
امل�رشق
93
م�شحون مب�شاريع احلروب وباحتماالت االنفجار كل حلظة .ولعل ا�ستقرا ًء �إجمالياً ملا م َّر معنا من خ�صو�صيات جيو�سرتاتيجية لعراق ما بعد الديكتاتورية واالحتالل� ،سوف يف�ضي �إىل �إمكان �أن ي�شكل تلك املنطقة الو�سطى ،من دون �أن يعني ذلك التمو�ضع خارج دوائر اال�ستقطاب والتح ُّيز. ت�ؤلف هذه االركان الثالثة وحدة عمل ا�سرتاتيجية لنخب احلكم واملعار�ضة يف �آنٍ واحد .فهي تر�سم للإجماع الوطني حدوده الكربى واال�سا�سية يف جدلية االتفاق واالختالف .كما ت�ؤ�س�س لقواعد عقالنية يف �إدارة التزاحم على ال�سلطة .و�أما التالزم بني مكارم االخالق وروح القانون يف دولة العناية فمن �ش�أنه �أن مينحها القدرة على �ضبط النخب �ضمن حدود التقوى ال�سيا�سية يف تدبري ال�ش�أن العام� .إذ عندما يتحقق التالزم امل�شار اليه ي�صري امل�سلك االخالقي والعمل ال�سيا�سي تبعاً لروح القانون واحداً ،فال يعود ثمة انف�صال بني الأمرين .يف املقابل ي�ؤدي هذا التالزم �إىل حترير دولة العناية من �إلزامات الدر�س «املقد�س» للماكيافيللية ،الذي غالباً ما يلقي بثقله على احلكام متى يجدون �أنف�سهم يف تلك املنطقة ال�صعبة بني الأخذ مبت�ساميات القيم، و�ضرورات احلفاظ على م�صاحلهم ال�سيا�سية� ،أو على امل�صالح الوطنية العليا للبالد. رب قائل �إن الأخذ بخيار دولة العناية هو �أدنى �إىل حلم رومان�سي كثرياً ما يلتجىء اليه اليائ�سون جلي من �أزمات الر�أ�سمالية النيوليربالية .امل�س�ألة تتجاوز من ا�صالح دولهم وهي ت�ستغرق يف بحر ٍّ مثل هذا التب�سيط .ذاك �أن دولة العناية و�إن بدت بعيدة املنال يف زمن اال�ستباحة الذي يع�صف ب�سيادات الدول /الأمم منذ نهايات القرن الع�شرين ،هي دولة واقعية لو توفرت لها �إرادة اال�شتغال على مثلث املعرفة والتب�صُّ ر ا ُخل ُلقي والتخطيط اال�سرتاتيجي. وهذه االرادة ممكنة .فعلى الرغم مما تظهره تداعيات ما بعد االحتالل من �سحب قامتة ،يبقى الف�ضاء مفتوحاً �أمام ن�شوء وتبلور كتلة تاريخية م�سكونة ب�شغف املبادرة �إىل عمل نه�ضوي ي�سمو فوق يوميات ال�سلطة ومنازعاتها ،ويتطلع �إىل دولة مدنية ع�صرية م�سددة بالإيثار الوطني ومنطق القوانني. ولأن دولة العناية ت�ستوجب قيادة اعتنائية مدركة وعاملة ومتلك �أهلية العقد واحلل ،ف�إن من �ش�أنها توليد و�إنتاج نخب تعمل على �شاكلتها ،وتلتزم قواعد االعتناء التي قامت عليها� ،سواء ما ات�صل منها ب�أنظمة القيم والقوانني اجلديدة� ،أو جلهة �صوغ اال�سرتاتيجيات ال�سيا�سية واالقت�صادية الآيلة �إىل حتقيق العدل يف توزيع الرثوة الوطنية ،والتوازن يف االجتماع ال�سيا�سي وتداول �سلطة احلكم. ولذا فامل�سار الذي حتفره دولة العناية على �صعيدي احلكم واملجتمع ،هو م�سار دميقراطي تراحمي تتالقى فيه �إرادة االعتناء يف مقام الغرية على الوحدة الوطنية والعدالة االجتماعية ،ب�إرادة االعرتاف وامل�ساحمة يف مقام العمل ال�سيا�سي وتدبري ال�ش�أن العام .لن�أخذ مث ًال يتعلق بال�سلم االهلي .فالكالم على ال�سالم يف دولة خارجة من عتمة اال�ستبداد واالحتالل كالعراق اليوم، يفرت�ض مواجهة �إ�شكالية العنف ،والكيفية التي ينبغي �أن تتم فيها هذه املواجهة.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
94
امل�رشق
�إذا كانت الدميقراطية الرتاحمية هي الطريق املفرت�ض حلالة كاحلالة العراقية ،فذلك ال يعني قيام هذا النوع من الدميقراطية على ال�سلبية واالمتثال لفو�ضى التدمري والت�شظي واالحرتاب االهلي ،..فدولة العناية املت�أ�س�سة على مثلث القانون واالخالق والتخطيط ،ت�ستطيع �إجراء تقدير دقيق بني ا�سرتاتيجية الالعنف الآيلة اىل حتقيق ال�سالم الوطني و�ضرورة مواجهة العنف الذي ال يزال يع�صف بالكيان الوطني عرب �آليات وطرق وكيفيات خمتلفة .واذاً ،فالدميقراطية الرتاحمية التي �أخذت بها دولة العناية �سبي ًال لإدارة تعقيداتها ،هي دميقراطية مو�صولة بالقدرة على ا�ستيالد الأمن كمك ِّون �سيادي يقع يف ا�صل والدتها .وعلى هذا اال�صل ال�سيادي ت�ستطيع دولة العناية اكت�شاف البدائل الالعنفية كا�سرتاتيجية عليا لها ،بد ًال من مواجهة العنف بعنف م�ضاد .وذلك ا�ستناداً �إىل القاعدة الكلية التي تقول �إن العنف املفتوح يف�ضي �إىل الفو�ضى املفتوحة .وهكذا ف�إن الو�صول �إىل ف�ضيلة ال�سالم العام وال�شامل يفرت�ض بال�ضرورة احتكار القدرة على �ضبط العنف حتت �سقف الد�ستور وروحانية االعتناء. بهذا املعنى �سيكون يف �إمكان دولة العناية �أن تو�صي بالعنف امل�شروع عند ال�ضرورة املطلقة� ،إما لتقاوم اعتداء دولة ما� ،أو لتكبح امتداد االرهاب الداخلي� ،أو لتواجه جرائم الإف�ساد والف�ساد والإ�ضرار بحقوق اجلماعات والأفراد .وف�ض ًال عن ذلك ،ف�إن فكرة «املهابة» بحد ذاتها ال تفارق نت به ،ا�ستحال تهومياً مبد�أ العناية ،بل هي يف وجه من وجوهها ،حت�صني لهذا املبد�أ الذي �إن مل ُيع َ ذهنياً ال يع َّول عليه .ولذا ف�إن مقت�ضى العناية بهذا املعنى هو �صون القيم واملعايري واالعراف والقوانني التي متنع العنف قبل وقوعه. �إن ما تفعله دميقراطية الرتاحم يف هذه املنزلة بالذات� ،أنها تقدم نف�سها كحا�صل القرتان روح القانون بالتب�صر االخالقي .ولذلك فهي دميقراطية تقوم على التنازل الطوعي من جانب قواها املتعددة� ،إىل الدولة الواحدة اجلامعة .ولئن ظهر وك�أننا ب�إزاء اطروحة لدميقراطية �سلبية ،لأنها تدعو �إىل تنازل كل فريق عن �شيء من امتيازاته ،فما ذاك يف حقيقة الأمر �سوى �إجراء خالق �أنتجته املنظومة ال�سيا�سية لدولة العناية .ف�إنها بهذا حتفظ للقوى ح�ضورها وفعالياتها وت�صلها مبرجعية الدولة ،مثلما حتفظ لهذه املرجعية دميومتها ور�سوخها واقتدارها. ُّ للت�شكل عند هذه الدرجة من الدميقراطية ذات ال�سمة االعتنائية ،تنفتح الآفاق الفعلية اجليوبوليتيكي الوطني كطور ال بد منه لتحقيق احل�ضور اجليو� -سرتاتيجي يف االقليم ف�ض ًال عن املجال الدويل االو�سع. �إن ما حتمله دولة العناية من وعود جلهة البناء الوطني واحل�ضور يف الأمداء اجليو�سرتاتيجية ،يعود بالتحديد �إىل قدرتها على التمو�ضع يف املنطقة الو�سطى التي ت�شكل �أر�ض اللقاء بني اجليوبوليتيك الوطني ،والقدرة على حتويله �إىل م�ؤثر اقليمي وقاري ودويل وازن يف انظمة الأمن وال�سيا�سة واالقت�صاد ،وبالتايل ك�شريك يف التنمية احل�ضارية لعامل القرن احلادي والع�شرين.
95
امل�رشق
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية | �سركي�س ابو زيد | قدّمت قي 2012/3/19يف ندوة «�سورية والق�ضية الفل�سطينية» مبكتبة الأ�سد -دم�شق
«�سوريا والق�ضية الفل�سطينية» عنوان غري دقيق ال بد من ا�ستبداله بعنوان �أ�صح وهو�« :سوريا وق�ضيتها» ،لأن فل�سطني هي جزء من الذات ال�سورية .فال فل�سطني ميكن �أن تتحرر من دون �سوريا. وال �سوريا قادرة �أن تدير ظهرها لفل�سطني وترفع �شعار �سوريا �أو ًال ،لأنها عندئذ تفقد معناها ودورها وذاتها .على عك�س غريها من الدول العربية التي فكت ارتباطها بالق�ضايا القومية امل�شرتكة وال �سيما امل�س�ألة املركزية فل�سطني. ال�صراع اليوم على �سوريا ويف �سوريا هو �صراع ب�سبب فل�سطني �أو ًال� .إنه �صراع من �أجل �ضمان �أمن �إ�سرائيل ،و ا�ستكمال �سلب كامل �أر�ض فل�سطني ،ما ي�ستلزم �إ�ضعاف �سوريا والهاءها مب�شاكلها الداخلية حتى تتمكن الدولة اليهودية من فر�ض م�شروعها وتو�سيعه تدريجياً بالتهويد واال�ستيطان حيناً .والتو�سع عندما تتاح الظروف واالمكانيات. بهذا املعنى ال�صراع يف املنطقة هو �صراع على وجودنا كهوية وحق وم�صري ،وهو لي�س جمرد �صراع على حدود الدولة اليهودية التي تر�سمها موازين القوى والت�سويات ال�سيا�سية املرحلية. �إنه �صراع وجود وم�صري بني م�شروعني: �إما �أن تكون �إ�سرائيل الكربى من النيل اىل الفرات وهو �شعار مرفوع فوق الكني�ست اال�سرائيلي وتطبيقه مرهون بقوة ا�سرائيل وقدرتها على التمدد. و�إما �أن تكون �سوريا الكربى �أو الطبيعية �أو الهالل اخل�صيب �أو �سوراقيا �أو امل�شرق العربي �أو اجلبهة ال�شرقية وهي �أ�سماء متعددة ملكان واحد ممتد من اخلليج �إىل املتو�سط ،ومن جبال طورو�س �إىل ال�سوي�س وحتقيقه مرهون بقوة الأمة وحيويتها وقدرتها على التغلب على انق�ساماتها الذاتية. بهذا املعنى احلروب التي خا�ضتها اجلمهورية العربية ال�سورية مل تكن حروباً للدفاع عن فل�سطني بل عن ذاتها ووجودها .كما �أن احلروب التي خي�ضت �ضدها ،وتخا�ض اليوم عليها ،لي�س املق�صود منها �إخ�ضاع �سوريا وتق�سيمها �أو احتواءها لذاتها ،بل ن�صرة للم�شروع ال�صهيوين اال�ستعماري الذي ي�ستهدف حماية �أمن �إ�سرائيل وم�صالح الر�أ�سمالية الغربية ،خا�صة الواليات املتحدة االمريكية ومنع �سورية من حتقيق ذاتها عرب تعطيل نه�ضتها وا�ستنزافها بفو�ضى وحروب �أهلية وفنت
عدد رقم � | 1أيـار
2013
96
امل�رشق
و�إغراقها يف فراغ القوة .وهي املخططات ال�صهيونية (اليهودية -الغربية -العربية) التي �شهدناها يف العراق وفل�سطني ولبنان ون�شهدها اليوم يف �سوريا. وعلى هذا اال�سا�س ُي�سمح ملجل�س التعاون اخلليجي �أن يجتمع و�أن يتحول �إىل احتاد ملمالك و�إمارات اجلزيرة العربية .كما ُ�سمح لت�شكيل احتاد املغرب العربي ،و�إعادة �إحيائه م�ؤخراً لدعم انظمته الفتية يف ليبيا وتون�س واملرتنحة يف املغرب واجلزائر .بينما كل اجلهود من�صبة ملنع �أي تقارب يف امل�شرق العربي ،والعمل على �إغراق دوله يف حروب داخلية تق�سيمية لتفكيك املجتمع وملزيد من التجزئة ،وكل ذلك ب�سبب وجود ار�ض واحدة ،يتنازع عليها م�شروعان متناق�ضان وجودياً: ا�سرائيل الكربى و�سوريا الكربى. من هذه الر�ؤية �سوف �أ�ستعر�ض الق�ضية ال�سورية ودورها يف ال�صراع الوجودي امل�صريي �ضد ا�سرائيل� ،صراع ق�ضيته اال�سا�سية وحدة الوجود القومي وم�س�ألته املركزية وقبلته فل�سطني� .إنه �صراع �سوري -ا�سرائيلي مو�ضوعه اال�سا�سي فل�سطني. هذه الدرا�سة موزعة على 6حماور ا�سا�سية: يف البدء كانت الوحدة ال�سورية
لن �أعود �إىل الوحدة عرب التاريخ القدمي يف هذه العجالة �س�أكتفي بالتذكري ب�أنه قبل والدة ا�سرائيل كانت فل�سطني وحميطها جزءاً من �سوريا يف االمرباطورية العثمانية. عمد العثمانيون بعد �سيطرتهم على بالد ال�شام يف موقعة مرج دابق عام � 1516إىل �إعادة تنظيم االدارة يف البالد املفتوحة ،ف�أبقوا على وجود ثالث واليات مع تعديل يف م�ساحاتها اجلغرافية والتنظيم الإداري ،فكانت والية ال�شام ووالية حلب ووالية طرابل�س� .ضمت والية دم�شق مركز الوالية دم�شق و�سناجق القد�س وغزة و�صفد ونابل�س وعجلون وتدمر و�صيدا وبريوت والكرك ولكن هذه التق�سيمات مل تكن نهائية فكثرياً ما كانت ُتدمج ال�سناجق �أو تلغى بح�سب الأو�ضاع امل�ستجدة وحدث عام 1660 �أن �شُ كلت والية رابعة هي والية �صيدا و�ضمت �سناجق �صفد و�صيدا مع بريوت .عمد الباب العايل �إىل �إن�شاء والية بريوت عام 1888و�أحلق بها �سناجق الالذقية وطرابل�س وعكا ونابل�س و�صيدا و�صور ومرجعيون وهكذا حلت بريوت ب�شكل كبري مكان واليتي �صيدا وطرابل�س. كانت هذه البالد منطقة جغرافية واحدة على م ّر التاريخ ،ال تف�صل بينها حدود �سيا�سية ،بل ما مييزها عن بع�ضها ا�سم الوايل احلاكم من قبل ال�سلطة احلاكمة ،وكان انتقال ال�سكان بني هذه املناطق يتم دون �أية عوائق .ومنذ قرن تقرر تق�سيم املنطقة وفقاً لالنتداب الأجنبي ،ودون الأخذ برغبة �شعوبها. من �أجل وراثة الرجل املري�ض �أي االمرباطورية العثمانية ،وحتى يتمكن اال�ستعمار االوروبي من
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية
امل�رشق
97
ال�سيطرة وزرع الدولة اليهودية مت ر�سم خمطط كامل من �سايك�س -بيكو ووعد بلفور وتواط�ؤ عربي �صهيوين (اتفاقية في�صل -وايزمن) حيث برزت بداية والدة ما �أ�سميه «ال�صهيونية العربية»،وهي ت�سمية العرب الذين يخدمون �أهداف ال�صهيونية وما �أكرثهم اليوم .كما جتلى غبا ٌء او تواط�ؤٌ عربي يف التعامل مع االنكليز وه�ؤالء قب�ضوا وعوداً مل ُتنفذ . الثورة العربية الكربى يف ذلك الزمان هي الربيع العربي االول :يف ظاهرها حترر من اال�ستبداد العثماين ويف النتائج �أدت خدمات لأهداف االنكليز واليهود ،رغم حتركات املقاومة ال�سورية لال�ستقالل ورف�ض االنتداب وقيام دولة اليهود. كل ذلك �أدى �إىل ظهور احلدود الداخلية للتجزئة ور�سم معامل الدولة اليهودية على ح�ساب �سوريا الطبيعية. �إنها معركة على الوجود واحلدود معاً. ظهور احلدود الداخلية
تطور تر�سيم احلدود بني لبنان و�سوريا وفل�سطني واالردن منذ مطلع القرن التا�سع ع�شر ،يف ظل االنتداب واال�ستقالل واحتالل فل�سطني .حيث �شهدت انتقال بع�ض املناطق والقرى من لبنان �أو �سوريا �إىل فل�سطني ،وكذلك مت تعديل م�سار اخلطوط احلدودية وفق م�صالح االنتداب واطماع ال�صهيونية. �إنه �صراع مزدوج على احلدود :من جهة نزاع على تداخل حدود لبنان و�سوريا واالردن وفل�سطني ومن جهة ثانية حرب تر�سيم حدود الت�سويات بني هذه الدول وا�سرائيل. خمططات تق�سيم �سوريا ور�سم حدود داخلية فيها ،وزرع ا�سرائيل يف جنوبها ُووجهت مبقاومة �شعبية اخذت ا�شكا ًال خمتلفة: فكانت الثورات واالحتجاجات ومنها الثورة ال�سورية الكربى عام 1925وثورات فل�سطني العامة واملختلفة. وعلى �إثر قيام ثورة عام 1936يف فل�سطني ،قامت بريطانيا بف�صل فل�سطني عن لبنان و�سوريا بحجة تنفيذ االتفاقيات املوقعة مع الفرن�سيني ،فيما هدفت يف الواقع �إىل منع ت�سلل املقاومني العرب من لبنان و�سوريا لتقدمي العون �إىل �أخوانهم الثوار يف فل�سطني ،وهكذا تكر�س الف�صل بني املنطقتني وظهرت احلدود بينهما. تكررت االقتطاعات الربيطانية ل�صالح فل�سطني على ح�ساب لبنان و�سوريا.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
98
امل�رشق والدة م�رشوع �إ�رسائيل الكربى
يزعم اليهود وجود ن�صو�ص يف التوراة تدعي �أن اهلل وعد اليهود بامتالك هذه الأر�ض دون �أن يحدد احلدود .وذكرت بع�ض امل�صادر ا�شتمالها على م�ساحة كبرية بني النيل والفرات. يف هذا ال�سياق تداول امل�ؤمتر ال�صهيوين الأول يف بال عام 1897مقررات تدعو ال�ستعمار فل�سطني و�سوريا و�آ�سيا ال�صغرى والعري�ش وقرب�ص. وخالل امل�ؤمتر ال�صهيوين الثالث ّركز امل�ؤمترون على �ضرورة �إدخال �سوريا �ضمن فل�سطني. وكان تيودور هرتزل يردد: «�سوف نطالب مبا نحتاج �إليه كلما ازداد عدد املهاجرين ازدادت حاجتنا للأر�ض». كما ُتبينّ �إحدى اخلرائط امل�ؤرخة بعام � 1904أن امل�ساحة املرتقبة لفل�سطني اليهودية هي بني النيل والفرات ومن الأنا�ضول حتى اخلط املمتد من الب�صرة على ال�شاطىء ال�شمايل للخليج العربي وق�سم من �شمايل احلجاز و� ً صوال حتى م�صر. ومن يومها اتخذ ال�صراع �شكل حروب على حدود مفتوحة لأن ال�صهيونية تطمع ب�أر�ض ا�سرائيل الكربى بينما ال�صراع يف جوهره هو حرب وجود الأمة ال�سورية على كامل �أر�ضها الطبيعية. تق�سيم �سوريا الكربى
يف البدء كانت الوحدة ال�سورية .ثم جاء التق�سيم .منذ � 100سنة �شهدت املنطقة حتوالت جذرية جمعت تفكيك ال�سلطنة العثمانية وهجمة اوروبا اال�ستعمارية و�أحالم الثورة العربية الكربى واخلائبة ،و�سلخ جنوب �سوريا لإن�شاء دولة يهودية .لذلك ال بد من �إعادة بناء امل�شهد كما تركب منذ قرن .وكم يت�شابه مع �صور اليوم ،وك�أن الربيع العربي الثاين هو تكرار ملا �سبقه. عقدت دول احللفاء العديد من االتفاقيات ال�سرية القت�سام الغنائم بعد احلرب ،فكانت اتفاقية �سايك�س -بيكو يف 16ايار .1916 ح�صل اليهود من االنكليز على وعد بلفور (وزير اخلارجية الربيطاين) يف ت�شرين الثاين 1917متخطني حمادثات ح�سني ـ مكماهون. وقّع في�صل ب�صفته ممثل اململكة احلجازية والدكتور حاييم وايزمان ممث ًال احلركة ال�صهيونية اتفاقاً يف �شباط ،1919ين�ص على �أن الوجود اليهودي يف فل�سطني �إمنا هو لإعمار فل�سطني وتطويرها ملا فيه م�صلحة العرب واليهود ب�شكل مت�ساو. رداً على اقت�سام �سوريا بني االنتدابني وال�صهيونية ،انعقد امل�ؤمتر ال�سوري العام ،يوم � 7آذار ،1920وا�صدر املجتمعون بياناً دعوا فيه ...« :نحن �أع�ضاء هذا امل�ؤمتر وب�صفتنا املمثلني
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية
امل�رشق
99
للأمة ال�سورية �أعلنا ب�إجماع الر�أي ا�ستقالل بالدنا �سوريا بحدودها الطبيعية ورف�ض املزاعم ال�صهيونية يف جعل فل�سطني وطناً للهجرة �أو حمل هجرة لهم». بعد معركة مي�سلون يف 25متوز ،1920فر�ضت فرن�سا �سيطرتها الع�سكرية على لبنان و�سوريا، و�أنهت �إدارة في�صل وحكومته .كما احتلت بريطانيا العراق وفل�سطني. معركة مي�سلون كانت فا�صلة يف حتديد حدود اال�ستعمار و�إ�سرائيل.
�سوريا تتوزع بني حدود ال�صهيونية وحدود االنتدابني
بد�أت مالمح االتفاقات احلدودية يف مناطق االنتدابني الفرن�سي والربيطاين يف بالد ال�شام تربز تباعاً .منها تو�سيع املت�صرفية �إىل اجلنوب حتى حدود فل�سطني. وللمرة الأوىل تظهر احلدود لتف�صل بني �أرا�ضي امل�شرق العربي املق�سمة بني نفوذين غريبني. �أ�صدر غورو يف 20ايلول 1920قراراً ّذكر فيه اللبنانيني «بح�سنة �ضم الأق�ضية الأربعة �إىل لبنان ملا يف ذلك من فوائد اقت�صادية وكذا جعل بريوت عا�صمة للبنان». كما عمد غورو �إىل تق�سيم �سوريا �إىل �أربع مناطق م�ستقلة عن بع�ضها وهي :دولة دم�شق ودولة حلب ودولة جبل الدروز ودولة بالد العلويني .وذلك ملنعها من التوحد �ضد الفرن�سيني والتوحد لرف�ض الوجود الفرن�سي يف �سوريا. من املالحظ هنا �أن القادة ال�صهاينة ا�ستمروا بلقاءاتهم مع بع�ض ال�شخ�صيات العربية �سراً يف �سبيل الو�صول �إىل حتقيق م�صاحلهم .ومن هذا اال�سا�س التقى �إلياهو �سا�سون ال�شيخ ب�شارة اخلوري عام 1941وريا�ض ال�صلح ،كما ت�سابقت الأنظمة العربية يف ال�سر ملحاولة توثيق العالقة مع الدولة اليهودية. هكذا ا�ستطاعت �إ�سرائيل عند قيامها ،اخت�صار احللم اليهودي وتبديد احللم العربي وبد�أت مرحلة جديدة من �سيا�سة ق�ضم الأرا�ضي العربية و�إن�شاء امل�ستوطنات عليها متهيداً القتطاع �آخر من هذه الأرا�ضي ،ويف ظل مطالبة م�ستمرة بتعديل احلدود مع لبنان و�سوريا لتحقيق ما يتنا�سب وال�سيا�سة التو�سعية الإ�سرائيلية. �سوريا تخ�رس جنوبها وجوالنها يف النكبة والنك�سة
يف البدء كانت الوحدة ال�سورية ثم جاء التق�سيم وقيام �إ�سرائيل ،ف�شهدت املنطقة نزاعاً فل�سطينياً - ا�سرائيلياً ا�ستغلته الرجعية العربية ،ما ادى اىل النكبة والنك�سة ب�سبب �ضعف املقاومة الفل�سطينية واجها�ض املقاومة القومية و�سيطرة العروبة التقليدية على ال�سيا�سات العربية وال �سيما جناحها عدد رقم � | 1أيـار
2013
100
امل�رشق
املقرر �أال وهو ال�صهيونية العربية. اخلطة العربية التي ُو�ضعت من قبل جامعة الدول العربية لتحرك اجليو�ش العربية �ضد القوات اليهودية يف فل�سطني ،مل تكن فعالة. �سرعان ما اختل ميزان القوى ل�صالح اليهود. من املعلوم �أن التخاذل العربي وال�صراع ال�شخ�صي بني القادة العرب لل�سيطرة على قيادة اجليو�ش العربية� ،ساهما ب�إ�ضعاف قوتهم وانهيار جبهتهم. بعد النكبة وتوقيع اتفاقيات الهدنة عام ،1949ا�ستمر النزاع على املناطق املنزوعة ال�سالح ،كما قامت ا�سرائيل بفر�ض �سيطرتها على بع�ض م�صادر املياه� .إىل �أن �شنت �صباح 4حزيران 1967 حرباً مفاجئة على العرب ،كان من نتائجها ازدياد حجم �إ�سرائيل وفر�ض �سيطرتها على الكثري من الأرا�ضي العربية. عرفت �سوريا �سل�سلة انقالبات بني 1949و 1970وكانت ب�سبب فل�سطني �أو من اجلها .فبذريعة التق�صري يف نكبة 1949قام ح�سني الزعيم قائد اجلي�ش ال�سوري بانقالب يف 11ني�سان 1949تبني فيما بعد انه مدعوم من الربيطانيني والعراقيني .و�آخر انقالب قاده الرئي�س الراحل حافظ الأ�سد عام 1970رداً على النك�سة وحت�ضرياً حلرب ت�شرين وت�أ�سي�ساً لتوازن ا�سرتاتيجي يكون قاعدة انطالق للمقاومة والتحرير. �سوريا تعمل من �أجل التوازن اال�سرتاتيجي
رد العرب بحرب عام 1973لتحريك عملية ال�سالم بالن�سبة مل�صر ،ولت�أ�سي�س توازن جديد للمقاومة والتحرير بالن�سبة ل�سوريا. بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بني م�صر و�إ�سرائيل عام ،1978وخروج م�صر من ال�صف العربي املواجه لإ�سرائيل ،انح�صر ال�صراع العربي مع �إ�سرائيل بني �سوريا واملقاومة الفل�سطينية مبختلف تياراتها واملقاومة الوطنية ومن ثم اال�سالمية يف لبنان. راجت معادلة تقول :ال حرب من دون م�صر وال �سالم من دون �سوريا .تبني على �أر�ض الواقع �أنه �شعار خاطىء لأن املقاومة ممكنة من دون م�صر وجتربة لبنان وفل�سطني �شاهدة على ذلك. من نتائج حرب ت�شرين ح�صول طالق بني نهجني عربيني :م�صر انحرفت باجتاه الت�سوية ،بينما اختارت �سوريا املمانعة ودعم املقاومة. ا�ستمرت �سوريا يف حماوالتها لتحقيق التوازن اال�سرتاتيجي لكن انهيار االحتاد ال�سوفياتي وتغيري املناخ الدويل ق�ضيا على هذا االحتمال وجعال احلرب النظامية والكال�سيكية م�ستبعدة .لذلك
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية
امل�رشق
101
اعتمدت �سوريا معادلة مركبة :العمل االيجابي من �أجل حل �سلمي عادل و�شامل ويف الوقت نف�سه توفري الدعم للمقاومة يف لبنان وفل�سطني. �سوريا يف خيار املقاومة
العمل الفدائي يف فل�سطني واالردن ولبنان جنح يف ت�أكيد الهوية الفل�سطينية و�أثار اهتمام العامل بامل�س�ألة الفل�سطينية .لكن ابتعاد �أطراف من القيادة الر�سمية عن عمقها القومي �س ّهل عزلها وحرفها .وت�أكد بالتايل ان حترير فل�سطني غري ممكن من دون حميطها .كما �أن الدول املحيطة بفل�سطني غري قادرة على �إدارة ظهرها وفك ارتباطها بامل�س�ألة املركزية للت�أثري املتبادل بينهما .لذلك عندما تختلف املقاومة مع �سوريا تتعرث .وكلما تكاملت وت�ساندت املقاومة مع �سوريا انت�صرت وهذا ما ح�صل يف لبنان عملياً. يف املقابل ظلت �إ�سرائيل متار�س �سيا�سة التو�سع داخل فل�سطني ،وتوا�صل اعتداءاتها على لبنان يف حماولة منها لإنهاء العمل الفدائي املنطلق من لبنان ،يف �سبيل حتقيق الفر�صة امل�ؤاتية لالنق�ضا�ض على لبنان ،وال�سيطرة على موارده املائية التي كانت تطمع بها منذ �أمد بعيد. منذ تلك الفرتة� ،أ�صبح لبنان طرفاً و�ساحة لل�صراع العربي ـ اال�سرائيلي .وقد توجت �إ�سرائيل اعتداءاتها على لبنان ب�ضربة قا�صمة ملنظمة التحرير الفل�سطينية ،وذلك ب�إخراجها من بريوت �إثر اجتياحها للبنان عام 1982وحماولتها فر�ض اتفاق �سالم عليه .لكنها عادت وقبلت باتفاقية لإخراج اجلي�ش الإ�سرائيلي من لبنان و�ضمن �شروط حمددة .واحلقيقة �أن اتفاق 17ايار الذي تو�صلت اليه �إ�سرائيل بعد مفاو�ضاتها مع لبنان ،مت �إ�سقاطه بعد �أقل من �سنة ،بف�ضل املقاومة الوطنية يف لبنان ودعم �سوريا. ا�شتدت �سطوة املقاومة و�شرا�ستها �ضد اجلي�ش اال�سرائيلي وعمالئه .وكانت قد بد�أت يف متوز 1982 فت�سببت لها بالكثري من اال�صابات واخل�سائر ،و�أدت �إىل خروج ا�سرائيل من لبنان عام .2000 تو�صل �إىل نوع من تطور عمل املقاومة يف لبنان ،بف�ضل حزب اهلل املدعوم من �سوريا و�إيران حتى ّ التوازن بني �إ�سرائيل واملقاومة� .ساهم هذا الو�ضع يف حترك املقاومة داخل فل�سطني لتعلن انتفا�ضة عام 1987التي �أربكت احلكومات اال�سرائيلية. ال�رصاع على �سوريا م�ستمر
تاريخ الت�آمر �ضد �سوريا مل يتوقف لأن موقعها اجليو �سيا�سي مفتاح ا�سرتاتيجي يف املنطقة� .س�أكتفي ب�أمثلة من املا�ضي واحلا�ضر: عدد رقم � | 1أيـار
2013
102
امل�رشق
يف عام � 1957سعت بريطانيا والواليات املتحدة �سراً �إىل غزو �سوريا «وتغيري النظام فيها» لأنهما اعتربتاها تهدد �إمدادات النفط املتوجهة للغرب .وهو خط الأنابيب الذي يربط حقول النفط العراقية-الرتكية. هذه اخلطة مل ُتنفذ لأن القوة الدولية مل ت�ستطع �إقناع جريان �سوريا العرب باتخاذ تلك الإجراءات، والهجوم الرتكي وحده مل يكن مقب ً وال. ك�شفت مذكرات مو�شي دايان م�ؤخراً عن خطة ر�سمت يف منت�صف اخلم�سينات حول تعاون �إ�سرائيل مع العراق الحتالل �سوريا .جاء فيها« :يدخل العراق ال�ضفة ال�شرقية ويبتلع �سوريا، وي�صبح لبنان دولة م�سيحية وحتتل �إ�سرائيل ال�ضفة الغربية وتتو�صل �إىل اتفاق مع نوري ال�سعيد تو�سع (رئي�س حكومة العراق) على �أن ُت�سكن ن�صف مليون الجئ بنفقة مالية �أمريكية و�أن ّ �إ�سرائيل حدودها حتى نهر الليطاين وحتتل غزة وجزءاً من �سيناء. من هي �سوريا بر�أي هرني كي�سنجر
قال كي�سنجر يف مقابلة مع �صحيفة نيوروركر الأمريكية : �أنا �أعرتف �أن حافظ الأ�سد هو ال�شخ�ص الوحيد الذي هزمني وقهرين يف حياتي كلها. �إن ثورة �سوريا �أ�صبحت منذ �آب 2011حرباً عاملية ثالثة باردة ،ولكنها �ست�سخن بعد عدة �شهور. املتحاربون هم ال�صني ورو�سيا والهند من جهة ومن جهة �أخرى نحن وحلفا�ؤنا. �سوريا الآن مركز اال�سالم املعتدل يف العامل .ويف الوقت نف�سه مركز امل�سيحية العاملية ،وال بد من تدمري مئات البنى العمرانية امل�سيحية وتهجري امل�سيحيني منها ،وهنا لب ال�صراع مع مو�سكو. فرو�سيا و�أوروبا ال�شرقية تدينان بالأرثوذك�سية وهي تابعة دينياً ل�سوريا وهذا �سر من �أ�سرار رو�سيا و�سوريا ،بالتايل «ف�إخواننا العرب» لو ر�شوا رو�سيا بكل نفطهم لن ي�ستطيعوا فعل �شيء. احتل هوالكو �أكرث من ن�صف �آ�سيا ولكنه ُهزم عند �أبواب دم�شق .بالد ال�شرق من املحيط الهادي حتى املتو�سط مرتابطة مع بع�ضها ك�أحجار الدومينو ،لقد حركنا �أفغان�ستان ف�أثر ذلك على ال�صني فما بالك ب�سوريا. ميكن لك �أن تالحظي �أن ال�صني والهند والباك�ستان دول متناف�سة متناحرة فيما بينها ولكن من يرى مناق�شات جمل�س الأمن حول �سوريا يظنها دولة واحدة بخطاباتها وت�صرفات مندوبيها وا�صرارهم على الرتحيب باجلعفري �أكرث من مرة ،رغم �أنه مندوب �سوريا الدائم. ما من حل ف�إما �ضرب �سوريا بال�صواريخ الذرية وهذا م�ستحيل لأن ا�سرائيل موجودة. و�إما احلل الآخر الوحيد ،هو �إحراق �سوريا من الداخل وهو ما يحدث الآن.
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية
امل�رشق
103
"اجلبهة ال�رشقية" :طريق �سوريا �إىل حترير فل�سطني
هل و�صلت املقاومة �إىل طريق م�سدود ،ومعها دول املمانعة التي تتعر�ض �إىل حماوالت لعزلها يف كيانها ال�سيا�سي لإخراجها من اال�سرتاتيجية القومية عرب فر�ض توازن رعب وحالة �ستاتيكو، ت�ؤدي اىل �إغراق هذه الدول يف م�شاكل داخلية وعقوبات دولية وح�صار مثلث من ال�صهيونية اليهودية الغربية العربية؟ ال�س�ؤال املطروح اليوم هو :كيف اخلروج من هذا امل�أزق؟ رئي�س الوزراء بنيامني نتنياهو يعترب �أن املنطقة متر مبرحلة انتقالية غري م�ستقرة قد ت�ستمر �سنوات عدة ،ور�أى �أن على «�إ�سرائيل» �أن جت ّهز نف�سها لكل تطور. من جهة اخرى� ،أعلن ال�سيد ح�سن ن�صر اهلل �صراحة �أن املقاومة على ا�ستعداد لتحرير �شمال �أرا�ضي فل�سطني املحتلة يف �أي حرب مقبلة .وقد �شكلت «معادلة اجلليل» رداً مبا�شراً على وزير الدفاع اال�سرائيلي حتدث عن اجتياح لبنان جمدداً .ما ي�ساعد على احتمال قيام «جبهة �شرقية» ت�ساعد �إيهود باراك حني ّ وت�ضمن جناح عملية اجلليل التحريرية. اجلبهة ال�شرقية هي اجلبهة العربية على احلدود ال�شرقية لإ�سرائيل من ميناء العقبة الأردين جنوباً �إىل الناقورة اللبناين �شما ًال .بعد حرب الأيام ال�ستة يف حزيران ،1967برزت دعوات �إىل جبهة �شرقية تتلخ�ص يف �إن�شاء وحدة ع�سكرية بني دول املواجهة يف امل�شرق العربي وهي �سوريا واالردن والعراق ومنظمة التحرير الفل�سطينية� .إال �أن �أحداث الأردن ،التي حتولت �صراعاً م�سلحاً بني ال�سلطات الأردنية ومنظمة التحرير الفل�سطينية عام ،1970وتردد لبنان وتخوفه من هجمات �إ�سرائيلية على �أرا�ضيه� ،صرفا نظر املعنيني عن هذه اجلبهة. بعد حرب ت�شرين عام � ،1973أعادت �سوريا طرح تكوين «اجلبهة ال�شرقية» وذلك بعد م�شاركة قوات عراقية و�أردنية وفل�سطينية يف احلرب �ضد ا�سرائيل على جبهة اجلوالن .لكن اجلبهة ال�شرقية مل ُيكتب لها اال�ستمرار بعد توقيع كل من م�صر واالردن مبادرة روجرز ورف�ض �سوريا لهذه املبادرة. هذه ال�صيغة عادت �إىل العلن من جديد .فقد الحظ ال�سيا�سي الإ�سرائيلي املخ�ضرم �أوري �أفرني �أن رئي�س حكومة العدو بنيامني نتنياهو بد�أ يف الآونة الأخرية ي ّلوح كثرياً «بفزاعة» جديدة ا�سمها «اجلبهة ال�شرقية». وال يرتك رئي�س الوزراء الإ�سرائيلي منا�سبة متر ،من دون �أن ّ يذكر حمدثيه ،ب�أن بالده تواجه خطر انبعاث «اجلبهة ال�شرقية» من جديد ،و�أن هذا اخلطر �سيتفاقم خ�صو�صاً بعد ا�ستكمال �سحب القوات الأمريكية من العراق ...و �سرعان ما ي�شرع يف احلديث عن احلاجة لالحتفاظ بـ«غور الأردن» لغر�ض جمابهة «اجلبهة ال�شرقية» التي متتد من �إيران �إىل غور الأردن.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
104
امل�رشق
يف ظل هذه التطورات ،هل �ستعود اجلبهة ال�شرقية �إىل الواجهة وهل دخلت املنطقة يف مرحلة جديدة وهي االنتقال من املقاومة اىل التحرير؟ اجلبهة ال�رشقية وم�ستقبل ال�رصاع مع �إ�رسائيل
يتخذ ال�صراع العربي -الإ�سرائيلي يف املرحلة القادمة �أبعاداً جديدة يف �ضوء م�ستقبل الدور الأمريكي يف املنطقة وانح�سار امل�شروع ال�صهيوين ال�شامل يف دولة يهودية م�صغرة يف فل�سطني. م�ؤخراً ،كرثت الدرا�سات التي تتوقع «نهاية احلقبة الأمريكية» وفق تعبري ّ املنظر ال�سيا�سي الأمريكي «ريت�شارد ها�س» ،حيث تعي�ش وا�شنطن يف م�أزق ا�سرتاتيجي منذ تورطها يف �أفغان�ستان والعراق، بالإ�ضافة �إىل �أزمتها املالية املتفاقمة ،و�صعود قوى املقاومة يف �إيران و�سوريا وفل�سطني ولبنان .عالوة على عودة الروح �إىل رو�سيا القومية يف نه�ضة جديدة ،وبروز القوى الآ�سيوية -ال�صني والهند حتديداً -كقوى دولية جديدة تناف�س الواليات املتحدة يف املجال ال�صناعي والع�سكري .بالإ�ضافة �إىل حتالف بريك�س. �إنها بداية لنهاية �أحادية القطبية الدولية -تبعاً لتحليل هرني ك�سينجر وت�صوره ،هو الذي يتنب�أ بعدم ا�ستقرار نظام �أحادي القطبية. من جهة �أخرى ،فقدت �إ�سرائيل �أهميتها اال�سرتاتيجية والأمنية بالن�سبة للواليات املتحدة الأمريكية يف ال�شرق الأو�سط ،منذ حرب اخلليج الثانية عام ،1991حيث ا�ضطرت الواليات املتحدة للتدخل الع�سكري املبا�شر يف اخلليج العربي حلماية م�صاحلها بعد �أن ف�شلت �إ�سرائيل يف اال�ستمرار كذراع �أمنية للم�صالح الأمريكية يف املنطقة. هذه البيئة اال�سرتاتيجية اجلديدة مرهونة ب�أهمية املوقف ال�سوري يف املنطقة وقوته ،وانتظار دور �سوري جديد يعيد ت�أ�سي�س النظام الإقليمي العربي وحتقيق توازن رعب مع �إ�سرائيل ،عرب �إعادة ت�شكيل جبهة �شرقية جديدة فاعلة ،ت�ستفيد من فر�صة االن�سحاب االمريكي من العراق وقدرة بالد الرافدين على ا�ستعادة ا�ستقاللها ووحدتها وفعاليتها ،وقدرة �سوريا على جتاوز �أزمتها الداخلية وتزخيم دورها القومي التاريخي. �إعادة ت�شكيل امل�رشق العربي
ال�سيناريو املتداول هو �أن الغرب نف�سه قد بد�أ يدمر اتفاقية �سايك�س -بيكو انطالقا من العراق رغم �أنه �صنعها بنف�سه بداية القرن املا�ضي .وذلك رغبة منه ب�إعادة تقطيع وتو�صيل املنطقة بالطريقة التي تتنا�سب مع م�صاحله ومع متغريات الع�صر. يف هذه اللحظة التاريخية التي ت�شبه من بع�ض اجلوانب حلظة نهاية احلرب العاملية الأوىل ،هل نرد
�سوريا والق�ضية الفل�سطينية
امل�رشق
105
على التحدي الأمريكي با�ستجابة ح�ضارية ،ون�ستغل فر�صة تهدمي الأمريكي ل�سايك�س -بيكو كي نعيد ت�شكيل املنطقة وفق م�صاحلنا ك�أمة واحدة كانت احلدود تخنقها ومتنع دورة حياتها وتوا�صلها احل�ضاري الروحي واالقت�صادي؟ �إن امل�شرق العربي هو قلب العاملني العربي والإ�سالمي ف�إذا نه�ض كتلة واحدة موحدة �شكل كياناً �صلباً ي�سيطر على �أكرب خطوط �إنتاج و�إمداد الطاقة يف العامل ،وله قاعدة ب�شرية متنوعة ،وميتلك �إمكانيات التحول �إىل قطب جاذب لباقي الأقطار العربية ،والقوميات املجاورة ،وهو �أمر كفيل بتغيري ميزان القوى يف العامل ل�صالح ال�شعوب املهم�شة .وهنا تكمن �أهمية التقارب ال�سوري - العراقي الذي ميكن �أن يعيد ت�شكيل العامل برمته ولنتذكر �أن ا�سرتداد بيت املقد�س وحت�صني املنطقة يف وجه الفرجنة قد بد�أ بجهد �أول و�أ�سا�سي على هذا املحور ،فمن املو�صل انطلق �آل الزنكي ليتوحدوا مع حلب ثم دم�شق وبعدها يكمل �صالح الدين م�سريتهم فيوحد �سوريا ويحرر فل�سطني من ممالك الفرجنة. يجب التفكري بحل من خارج الت�سليم بالأمرالواقع امل�أزوم من خارج البنية ال�سائدة واملقفلة، و�إبداع خمرج خالق. تعود الأحوال �إىل املربع الأول �إىل عام 1917فلنبد�أ من م�س ّلمة �أوىل �أننا كتلة واحدة يجب �أن جند احللول لها �ضمن بنية واحدة .ون�ستعيد ال�س�ؤال من نحن فنجيب ب�أننا �أمة واحدة وم�صرينا واحد. وعلى هذا الأ�سا�س ن�س�أل :كيف �ستخرج �سوريا من التحديات التي تواجهها؟ اجلواب ال ميكن �أن يكون اال من خالل ر�ؤية قومية ان�سانية لدور �سوريا ومعناها .الدفاع عن �سوريا يكون بتجديد �إطالق م�شروع قومي دميقراطي جديد حول املقاومة والنه�ضة معاً ،ينطلق من �سوريا وي�شمل �إعادة بناء جبهة �شرقية �ضمن م�شروع حرب حترير قومية جتمع املقاومة وحترير الأر�ض مع بناء دولة النه�ضة واالن�سان. بهذا املعنى �سقطت العروبة التقليدية اخليالية وجتري حماوالت لتفكيك العامل العربي �إىل حماور متنازعة و�إجها�ض اجلامعة العربية التي بد ًال من �أن تتطور باجتاه �صيغة احتادية تتكامل �أقاليمها يف جهة عربية موحدة �ضد امل�شروع ال�صهيوين اال�ستعماري ،ن�شهد موتها مل�صلحة حماور او اختزالها مب�شايخ و�أمراء .وهذا الواقع يفر�ض على �سوريا بالذات �أن ت�صارع من �أجل ذاتها ووجودها ومن �أجل عودة الروح �إىل العروبة الواقعية التي تنطلق من وحداتها الطبيعية املتقاربة جغرافياً لإعادة بناء البيت العربي على �أ�س�س جديدة تعيد االعتبار �إىل العروبة احل�ضارية . هذه هي �سوريا وهذه هي ق�ضيتها .ومن هنا طريق حترير فل�سطني.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
107
مالحظات على بنود املعاهدة الأردنية -الإ�رسائيلية
| الباحث عبداهلل حموده | باحث من فل�سطني
اال�ستيطان و�سالح الدمار ال�شامل خطران �صهيونيان على الأردن
وجود ن�ص ال يعار�ض التهجري الطوعي
االحتالل ال�صهيوين هو اخلطر الأمني وامل�صريي على الأردن
املعاهدة ت�ؤكد على توطني الالجئني ال يوجد �أي ن�ص على حق العودة
قانون تطبيق املعاهدة الإ�رسائيلي ي�ؤكد على عدم خ�ضوع �أمالك الالجئني يف 1948لقانون �أمالك الغائبني ال�سيادة القانونية للأرا�ضي الأردنية يف الباقورة ووادي عربة للقانون الإ�رسائيلي
عند النظر يف مقدمة معاهدة ال�سالم بني الأردن و(ا�سرائيل) ،نرى �أن املقدمة ت�ؤكد على حتقيق �سالم عادل ودائم و�شامل ،والآن بعد مرور � 19سنة على املعاهدة ،جند بلدنا �أبعد ما يكون عن ال�سالم ،ما دامت دولة العدو ال�صهيوين تبط�ش ب�شعبنا ،بالطائرات وال�صواريخ والدبابات وتقيم امل�ستوطنات وتزج بالآالف من املنا�ضلني يف ال�سجون وتدمر القرى واملزروعات بحيث حتولت فل�سطني �إىل �أكرب معتقل يف العامل. كما �أن املقدمة تن�ص على احلرية وامل�ساواة والعدل واحرتام حقوق الإن�سان ،ومن املعروف �أن �شعبنا الواقع يف ظل االحتالل يعاين من غياب كل هذه املبادئ الأ�سا�سية الأمر الذي ي�ؤكد عن�صرية دولة العدو. وت�ؤكد الفقرة الرابعة يف املقدمة على الإميان مببادئ ميثاق الأمم املتحدة والعي�ش ب�سالم مع كافة الدول �ضمن حدود �آمنة مع �أن �أكرث من � 19سنة م�ضت ت�ؤكد �أن دولة العدو ال حترتم ميثاق الأمم املتحدة وت�شن حرباً على �شعبنا يف فل�سطني وت�شكل خطراً على �أمتنا والوطن العربي. �إن ما جاء يف املقدمة ال ميكن �أن يعني �سالماً ،خا�صة و�أن الأردن جزء من الأمة العربية ،بح�سب الد�ستور الأردين ،وكحقيقة مو�ضوعية� ،إن املادة الأوىل من املعاهدة التي تعترب ال�سالم قائماً من عدد رقم � | 1أيـار
2013
امل�رشق
مبنا�سبة مرور (� )19سنة
108
امل�رشق
تاريخ تبادل وثائق الت�صديق على املعاهدة� ،أي �أن املادة الأوىل تطالب بالتطبيع مع دولة العدو ال�صهيوين بدون �أخذ احلقوق العربية ،تعني عدم احرتامها �أن الأردن جزء من الأمة العربية، وت�شن عدوانها امل�ستمر منذ �أكرث من 65عاماً. وهذا انطبق �أي�ضاً على املادة الثانية من املعاهدة التي تن�ص على مبادئ عامة مثل احرتام ال�سيادة، والعي�ش ب�سالم ،و�أنها �ضد حتركات ال�سكان الق�سرية ،بينما ما يجري من قتل ل�شعبنا العربي الفل�سطيني و�إقرار خطط التهجري من م�ؤ�س�سات بحثية �صهيونية ي�ؤكد �أن دولة العدو ال ميكن �أن حترتم �أي ميثاق ،كما تعني هذه املادة قبول الهجرة الطوعية. �أما املادة 3التي تتحدث عن احلدود والأو�ضاع اخلا�صة يف منطقة الباقورة ومنطقة الغمر فقد جاء عنها يف قانون تطبيق املعاهدة الإ�سرائيلية ،ن�ص على ت�أكيد �سيادة القانون الإ�سرائيلي ولي�س القانون الأردين. وتن�ص املادة الرابعة على عدم التهديد بالقوة واالمتناع عن الأعمال العدائية �أو ا�ستعمال الأ�سلحة التقليدية وغري التقليدية ،وي�شري البند الرابع �إىل االمتناع عن الدخول يف �أي ائتالف �أو تنظيم �أو حلف ع�سكري �أو ذي �صفة ع�سكرية �أو �أمنية مع طرف ثالث وعدم ال�سماح بدخول قوة ع�سكرية �أو معدات تعود لطرف ثالث على �أرا�ضيها. �إن ن�ص البند الرابع [(�أ) و (ب)] ي�ؤكد �أن عالقة ال�صداقة مع دولة العدو مطلقة وعالقتنا مع الدول العربية مرهونة بعدم عدائها لدولة العدو �أي �أن ن�ص املعاهدة مع دولة العدو ي�ؤكد �أن العالقة مع دولة العدو ا�سرتاتيجية. و�أما الفقرة (ب) من البند ال�سابع من املادة الرابعة فهي ت�ؤكد على �إيجاد منطقة خالية من �أ�سلحة الدمار ال�شامل التقليدية �أو غري التقليدية .ومن املعروف �أن دولة العدو هي التي متتلك �أ�سلحة الدمار ال�شامل .والأردن ال ميتلكها .وت�ؤكد كافة املعلومات �أن دولة العدو تخزن املزيد من �أ�سلحة الدمار ال�شامل والأ�سلحة غري التقليدية للعدوان على الأمة والوطن العربي والتهديد با�ستعمال القوة وهذا يجري كل يوم. �إن املادة الرابعة تطلب حماية احلدود ومنع الت�سلل الأمر الذي يعني �أن يقوم الأردن مبنع �أي عمل �ضد دولة العدو ،وعدم قيام �أعمال �ضد االحتالل ال�صهيوين ،وعدم ال�سماح لعمل �أي منظمة تهدد �أمن الطرف الآخر ،ومن املعلوم �أن منظمات �صهيونية تهدد �أمن الأردن وال يجري احلديث عن ذلك �أبداً. وتفر�ض املادة اخلام�سة عالقات دبلوما�سية وقن�صلية مع الطرف الآخر خالل �شهر من تاريخ تبادل وثائق الت�صديق على املعاهدة .وين�ص البند الثاين من املادة اخلام�سة على التطبيع الكامل االقت�صادي والثقايف.
بعد انق�ضاء ت�سعة ع�شر عاماً على املعاهدة الأردنية الإ�سرائيلية
امل�رشق
109
وتتحدث املادة ال�ساد�سة عن املياه ،وهذه حتتاج �إىل تف�صيل كبري حيث يتم نقل مياه الأمطار يف ال�شتاء للعدو .ون�أخذ جزءاً منها يف ال�صيف .وق�صة املياه امللوثة القادمة من طربيا معروفة. املادة ال�سابعة تتطرق �إىل العالقات االقت�صادية� ،أي عن �إنهاء املقاطعة االقت�صادية والعمل لإنهاء املقاطعة من قبل �أطراف ثالثة .وهذا يعني �أن يعمل الأردن لت�سويق �إ�سرائيل بني الدول والكف عن مقاطعتها كما جاء يف البند (�أ) من البند الثاين من املادة ال�سابعة .ومن املعروف �أن دولة االحتالل متنع الكثري من املواد عن الو�صول �إىل �أهلنا يف فل�سطني. املادة الثامنة :الالجئون والنازحون
حيث يذكر يف البند الأول من هذه املادة �أن على البلدين ال�سعي لتخفيف حدة امل�شاكل (الإن�سانية) لالجئني ،بينما دولة االحتالل تق�صف خميمات الالجئني يف جنني وغزة ورام اهلل ونابل�س ولبنان� .أي �أن ال�صهيونية متار�س طبيعتها العدوانية وال تلتزم ب�أي ن�ص .فكيف ت�ساهم يف التخفيف من حدة امل�شاكل لالجئني وهي حتتل وطنهم وتق�صف بيوتهم وت�سجن �أبناءهم؟ فهي ال�سبب يف كل معاناة الالجئني الذين يريدون العودة �إىل وطنهم حيث ال ميكن �أن ي�شعروا بالراحة وهم خارج وطنهم. وي�ؤكد البند (�أ) من النقطة الثانية يف املادة الثامنة �أن مو�ضوع النازحني يحل �ضمن جلنة رباعية، في�ؤكد على �إيجاد حلول متعددة الأطراف .وي�أتي الن�ص اخلطري يف الفقرة (ج) حول الالجئني الذي يقول ما يلي( :من خالل تطبيق برامج الأمم املتحدة املتفق عليها وغريها من الربامج االقت�صادية والدولية املتعلقة بالالجئني والنازحني مبا يف ذلك امل�ساعدة على توطينهم)� .إن املعاهدة تن�ص على التوطني. املادة التا�سعة :الأماكن ذات الأهمية التاريخية والدينية وحوار الأديان. �إن ن�ص هذه املادة يعطي لكل طرف حرية الو�صول للأماكن ذات الأهمية التاريخية والدينية وهذه املادة جاءت مطلق ًة �أن هناك �أماكن ذات �أهمية دينية وتاريخية لدولة العدو يف الأردن ،فما هي هذه الأماكن؟ وماذا جرى يف الت�سع ع�شرة �سنة املا�ضية حول هذا املو�ضوع؟ حيث تبني �أنه ال يوجد �أي �أثر عربي يف فل�سطني بعد 65عاماً من االحتالل والتنقيب والبحث ال�صهيوين .بينما هذه املادة تعرتف ب�أماكن ذات �أهمية دينية وتاريخية لل�صهاينة وال نعرف عنها �شيئاً. �أما عن احرتام الدور الأردين يف الأماكن الإ�سالمية املقد�سة يف القد�س ،ف�إننا نعرف كيف يتم االعتداء ال�صهيوين يومياً على هذه الأماكن .كما �أن الإدارة الأمريكية ممثلة بالكوجنر�س وبت�صديق الرئي�س الأمريكي بو�ش اعتمدت القد�س العا�صمة الأبدية لدولة العدوان .الأمر الذي يتناق�ض مع املعاهدة .وهذا اعتداء �صارخ على الوجود العربي -الإ�سالمي يف القد�س .و�أما التزام الطرفني عدد رقم � | 1أيـار
2013
110
امل�رشق
بتعزيز حوار الأديان فهو �أمر يعطي �شرعية لدولة االحتالل لفل�سطني واللقاء مع احلاخامات اليهود �أي تطبيع ديني مع حمتل وطننا. تطالب املادة العا�شرة بتطبيع ثقايف وعلمي ،الأمر الذي يقاومه �شعبنا باعتبار �أن حالة العداء لل�صهيونية العن�صرية املغت�صبة لفل�سطني لن تزول .و�سيبقى �شعبنا يعمل لتحرير فل�سطني راف�ضاً التطبيع االقت�صادي والثقايف والعلمي وكل �أنواع التطبيع. �أما املادة ( :)11التي تتحدث عن التفاهم املتبادل وعالقات ح�سن اجلوار :ف�إنها تطالب باتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية ملنع الثقافة الوطنية �ضد ال�صهيونية من قبل �أي تنظيم �أو فرد يف املناطق التابعة لأي منهما وتطالب خالل � 3شهور ب�إلغاء كافة الإ�شارات امل�ضادة واملعادية لل�صهيونية يف الت�شريع يف بلدنا ومنع العداء لل�صهيونية يف كافة املطبوعات احلكومية. وبالرغم من مرور � 19سنة على املعاهدة ف�إن القوانني ال�صهيونية العن�صرية �ضد �أبناء فل�سطني عام 48والالجئني والأفكار ال�صهيونية والقوانني التمييزية والأوامر الع�سكرية �ضد �شعبنا ما زالت متار�س كل يوم. املادة ( )12وعنوانها حماربة اجلرمية واملخدرات :وهل هناك جرمية �أكرب من احتالل وطن وت�شريد �شعب منذ 65عاماً حتى الآن ،حيث متار�س ال�صهيونية العن�صرية جرائمها يومياً �ضد �أ�صحاب الأر�ض ،وتهدد وجود الأمة العربية كلها. �أما املادة ( )13فتتحدث عن �أماكن العبور واتفاقيات النقل وترخي�ص املركبات و�شحن الب�ضائع. كما �أن البند الرابع من هذه املادة ين�ص على �إقامة طريق �سريع يربط بني الأردن وم�صر و(�إ�سرائيل). وكلنا يعلم �أنها ال ت�سمح بالتنقل من مدينة ومدينة وبني قرية وقرية ون�شاهد على التلفاز احلواجز ال�صهيونية .فكيف ن�شق هذا الطريق ال�سريع وقوات االحتالل ال�صهيوين تذبح �شعبنا يومياً؟ وتتطرق املادة (� )14إىل حرية املالحة والو�صول �إىل املوانئ فتعترب م�ضيق تريان وخليج العقبة ممرين خليجيني مفتوحني لكل الأمم وللطريان فوقهما بدون �إعاقة �أو توقف .فكيف �أ�صبح خليج العقبة العربي ممراً دولياً؟ وكم يعني هذا الن�ص من التزامات قانونية لدولة العدو. وتتحدث املادة ( )15عن الطريان املدين حيث تن�ص على �إقامة اتفاقية طريان مدين خالل مدة ال تزيد عن �ستة �أ�شهر من تاريخ ت�صديق املعاهدة .هذا الن�ص يعطي �شرعية ما للعدو يف املمرات اجلوية. كما �أن املادة ( )16التي تتحدث عن الربيد واالت�صاالت تفتح خطوط الهاتف والفاك�سميلي فيما بني البلدين ،والربط الربيدي و�إن�شاء ات�صاالت �سلكية وال�سلكية ،وخدمات الربط التلفزيوين. فهل ن�ستطيع التعامل مع العدو املحتل لوطننا بهذا ال�شكل. �أما املادة ( )17التي عنوانها ال�سياحة فتطلب الو�صول �إىل اتفاق يف فرتة ال تزيد عن � 3أ�شهر
بعد انق�ضاء ت�سعة ع�شر عاماً على املعاهدة الأردنية الإ�سرائيلية
امل�رشق
111
من تاريخ ت�صديق املعاهدة وت�شجيع ال�سياحة املتبادلة ولكن احلقيقة الكربى �أن �شعبنا الراف�ض للتطبيع رف�ض ب�شكل وا�ضح التعامل ال�سياحي مع دولة العدو. كذلك املادة ( )18عن البيئة� :إن �شعبنا يعترب دولة االحتالل �أكرب م�صدر لتخريب البيئة يف بالدنا .واالحتالل ميار�س يومياً تدمري البيئة الفل�سطينية. وتتحدث املادة ( )19عن الطاقة حيث تن�ص الفقرة الثانية من هذه املادة على ربط كهربائي يف منطقة العقبة� /إيالت وتو�سيع جمال الربط لل�شبكات الكهربائية واتفاقيات يف جمال الطاقة خالل � 3أ�شهر من تاريخ الت�صديق على املعاهدة. وورد يف املادة ( )20وهي بعنوان تنمية �أخدود وادي الأردن ن�ص عن تنمية متكاملة لوادي الأردن ب�إقامة م�شاريع اقت�صادية و�سياحية وللطاقة �آخذين بعني االعتبار االتفاق الذي مت التو�صل �إليه يف �إطار اللجنة االقت�صادية الثالثية الأردنية الإ�سرائيلية الأمريكية .وال�س�ؤال هنا ما هو ن�ص هذا الإطار؟ ومتى و ِّقع؟ وماذا يلزمنا يف بلدنا؟ وهل جلنة اقت�صادية �إ�سرائيلية�-أمريكية ممكن �أن تكون يف �صالح الأردن؟ ونحن نعرف �أن املوقف الأمريكي �أكرث �صهيونية من املوقف (الإ�سرائيلي). وت�ؤكد املادة ( )20على �ضرورة عمل �إتفاقية �صحية خالل � 9أ�شهر من ت�صديق املعاهدة ،فهل ممكن لأبناء هذا البلد �أن يقبلوا التعاون ال�صحي مع ال�صهاينة الذين يذبحون �شعبنا ويعتدون على �أمننا؟ وتتحدث املادة ( )22عن الزراعة وهناك حديث طويل عن حقيقة التعامل يف هذا املجال احليوي والذي كان له الأثر ال�سلبي على الكثري من امل�ؤ�س�سات التي تعاملت مع ال�صهاينة .وهنالك التجربة امل�صرية التي ت�ؤكد اخلراب الذي يتم على �أيدي ال�صهاينة. ويف املادة ( - )23العقبة و�إيالت -هناك حديث عن تنمية م�شرتكة ملدينتي العقبة و�إيالت يف ال�سياحة واجلمارك وعمل منطقة جتارة حرة وعن الطريان وحماربة التلوث والأمور البحرية وال�شرطة والر�سوم اجلمركية والتعامل ال�صحي �أي كونهما منطقة واحدة .فماذا جرى يف هذه امل�س�ألة؟ وهل ميكن التعامل مع العدو بكل هذه التفا�صيل؟ علماً ب�أن العدو ال�صهيوين عدو �أبدي لأمتنا. وجاء يف املادتني ( )24و (( :)25يتعهد الطرفان بعدم الدخول يف �أي التزام يتعار�ض مع هذه املعاهدة) هذا الن�ص الذي يتكرر كثرياً يف هذه املعاهدة ي�ؤكد على انتزاع الأردن من �أمته العربية حيث جرى الت�أكيد يف البند 6من املادة � 25أنه يف حالة تعار�ض التزامات الطرفني مبوجب هذه املعاهدة مع التزاماتهما الأخرى ف�إن االلتزامات مبوجب هذه املعاهدة �ستكون ملزمة و�ستنفذ. �أي ال يجوز �أن تكون لنا �أي عالقات حتى لو كانت بدولة عربية �إذا كانت هذه الدولة معادية لالحتالل� ،أي عالقتنا مع دولة االحتالل ا�سرتاتيجية ملزمة وعالقتنا مع الدول العربية تكتيكية. عدد رقم � | 1أيـار
2013
112
امل�رشق
�أما املادة ( )26فتن�ص على ما يلي: (يتعهد الطرفان خالل ثالثة �أ�شهر من تبادل وثائق الت�صديق على هذه املعاهدة بتبني الت�شريعات ال�ضرورية لتنفيذ هذه املعاهدة ولإنهاء �أي التزامات دولية و�إلغاء �أي ت�شريعات تتناق�ض مع هذه املعاهدة). لقد �أ�صدر الأردن تطبيقاً لهذا الن�ص قانوناً يق�ضي ب�إلغاء العداء «لإ�سرائيل» و�إلغاء املقاطعة معها وال�سماح لها بالتملك مثل �أي �أجنبي� .أما القانون الإ�سرائيلي الذي �صدر طبقاً لهذه املادة فن�ص على ال�سيطرة الع�سكرية واجلمركية وال�ضريبية والقانونية على الباقورة ومنطقة الغمر يف وادي عربة ولكن البند ال�ساد�س من القانون الإ�سرائيلي يقول�( :إن كل فل�سطيني تواجد يف الأردن بعد النكبة يطبق عليه قانون �أمالك الغائبني حتى � ،1994/11/10أي م�صادرة �شاملة للأمالك). وهكذا تن�ص املادة ( )8الفقرة (ج) على التوطني والقانون الإ�سرائيلي الذي �صدر مبوجب املادة 26 ي�ؤكد على م�صادرة �أمالك الغائبني� ،أي ت�أكيد �ضرورة التوطني مرة �أخرى. �أما املواد الأخرى فتتحدث عن املعاهدة والإجراءات امل�ؤقتة وحل النزاعات وت�سجيلها لدى الأمم املتحدة مبقت�ضى املادة ( )102من ميثاق الأمم املتحدة. �إن هذه القراءة ال�سريعة لهذه املعاهدة ت�أخذ عمقها مع قراءة كافة االتفاقيات التي جرى توقيعها مع ال�صهاينة حيث �سنبني تف�صيلياً خماطر هذه الن�صو�ص واالتفاقات مع دولة العدو ال�صهيوين الأمر الذي يحتاج �إىل كتاب م�ستقل يف هذا املو�ضوع.
113
| د .عادل �سمارة |
املنطقة والعامل
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية مف ّكر فل�سطيني
العرب والفر�س والرتك والأحبا�ش هي الأمم القدمية ذات الوجود املو�ضوعي يف الإقليم الذي يربط �آ�سيا و�إفريقيا و�أوروبا� .إقليم بحكم موقعه عا�ش تاريخياً �أمام �أحد حتديني �أكرث من كونهما جمرد خيارين على ال�صعيد العاملي :فهو �إما �أن ي�سيطر و�إما �أن ُيحكم. يف ال�صراع العاملي ،منذ الفراعنة فالأحبا�ش فاليونان فالرومان فالأمرباطورية العربية فال�صفويني فالأتراك و�أخرياً اال�ستعمار الأوروبي احلايل وهذا ال�صراع املتوا�صل ،والذي قررت املركزانية الأوروبية يف طبعتها فرجنة الإقطاع ومن ثم يف طبعتها احلالية فرجنة ر�أ�س املال ،تغليفه ب�صراع ثقايف �أو ديني ،هو يف جوهره كمختلف ال�صراعات يف العامل الإن�ساين املت�صارع بطبيعته على امل�صالح املادية -االقت�صادية .وهي م�صالح مت دوماً توريط �أمم ب�أكملها فيها ،ولكن حمركها كان دوماً م�صالح طبقات حاكمة/مالكة لل�سلطة والرثوة ،مبعنى �أن التاريخ ٌ �سجل لل�صراعات الطبقية ح�سب مارك�س ،ولكن �صراعات الأمم هي يف جوهرها �صراعات طبقية .كما مل يخرج اال�ستعمار العثماين للوطن العربي عن �سياق ا�ستخدام الإيديولوجيا ،حتت ت�سمية اخلالفة الإ�سالمية لت�سويق ا�ستعمار الوطن العربي. لعل من مفارقات التاريخ� ،أن هذه الأمم الأربع القدمية مل تن�سجم مع بع�ضها يف حتالف حتى لو دفاعي فقد حكمت عالقاتها �صراعات متوا�صلة حتى اليوم ،رغم وجود �أمثلة عدة معا�صرة ج�سدت تكتالت �إقت�صادية و�شبه �سيا�سية يف العامل رغم �صراعاتها التاريخية ،ومثال االحتاد الأوروبي وا�ضح يف هذا ال�سياق .ورمبا من املفيد الإ�شارة �إىل �أن الإ�سالم مل يتجاوز� ،أي مل ّ يحل حمل ،االنتماء القومي لدى الأمم الثالث التي تدين بالإ�سالم �إىل جانب �أجزاء كثرية من الأمة العربية تدين بالن�صرانية ،رمبا لأن الإ�سالم كدين يطرح �أممية/عاملية غالفها ثقايف ولكن جوهرها م�صالح طبقية لطبقة/ات حاكمة �ضمن دولة قومية ،وهذا ما التقطته الربجوازية يف الأمم الثالث الأخرى بينما يف الوطن العربي بقي الأمر خمتلفاً! .ميكننا القول ب�أن الأممية الأخالقية للدين ت�ساهم يف تف�سري تفكك الأمرباطورية العربية/الإ�سالمية والحقاً الإمرباطورية العثمانية �إىل دول 1
1لي�س هنا جمال مناق�شة الإ�شكالية القائمة يف الوطن العربي بني ا�ستبدال الإ�سالم كدين ب�إ�سالم قوى الدين ال�سيا�سي التي جعلت الدين مربراً ملعاداة وتقوي�ض امل�شروع القومي العربي ،بخالف تركيا و�إيران وحتى �إثيوبيا امل�سيحية. عدد رقم � | 1أيـار
2013
114
املنطقة والعامل
قومية ،وتركيا منوذج على هذا ،حيث عادت �إىل حجمها احلقيقي يف �آ�سيا ال�صغرى لي�س �أكرث. ويف هذا ال�سياق ،هناك مالحظة مف�صلية م�ضمونها �أن الأمة التي تتو�سط هذا الإقليم الرباعي هي الأمة العربية ،وب�أن دورها القيادي وحده الذي ميكن �أن يخلق يف الإقليم حالة من القوة واال�ستقرار وقدرة الدفاع .و�إذا كان هذا قد جتلى �سابقاً منذ م�صر الفرعونية و� ً صوال �إىل الإ�سالم العربي وحتى جتربة حممد علي وجتربة تدمريها و� ً صوال �إىل تدمري النا�صرية ،ف�إن ما ميكن ا�ستثماره اليوم من هذا هو امل�صالح املادية التي تربط الأمم الثالث الأخرى مع دولة عربية قوية ،ولي�س �سيطرة يف�سر ا�ست�شرا�س الغرب الر�أ�سمايل �ضد الأمة العربية ووجود عربية على هذه الأمم .ولكن هذا قد ِّ دور وموقع فيه لرتكيا. على �أن �أي حديث عن الع�صر احلديث وال�صراع اجلاري دولياً ال ميكنه قط االنح�صار يف هذا الإقليم ،بل �إن م�صري وحتى التطورات اليومية يف هذا الإقليم مقودان �إىل درجة كبرية باملركز الر�أ�سمايل العاملي الذي يعترب هذا الإقليم ميدان م�صاحله بل ع�صب ا�ستمراره .و�إذا مت�سكنا بالزعم �أن الأمة العربية هي مركز هذا الإقليم وب�أن تفتيتها هو �ضرورة لل�سيطرة الر�أ�سمالية الغربية ن�صل �إىل احلقيقة القا�سية وهي �أن هذه الأمة هي �أمة قيد اال�ستهداف الدائم ،وهذا ما ينق�ض عبارة �ستالني ب�أن« :الأمة العربية �أمة يف طور التكوين» ،فهي على الأقل من الأمم القدمية املمتدة �إىل احلا�ضر. على هذه القاعدة �أقام الغرب الر�أ�سمايل ا�سرتاتيجيته يف الإقليم على قائمتني: الأوىل :وجوب زرع كيان لتفجري الوطن العربي من داخله ،وهذا ما دعا له بداية مارتن لوثر قبل قرون من تبلور ال�صهيونية . والثانية :عالقاته بالأمم الثالث الأخرى مبا هي ،يف ظروف معينة ،عوامل م�ساعدة على تفكيك الأمة العربية و�إخ�ضاعها ،وهو ما يحقق عدة �أمور: احليلولة دون تناغم الإقليم على العك�س مما و�صلت �إليه �أوروبا يحقق للغرب الر�أ�سمايل ال�سيطرة والتفرد مبكونات هذا الإقليم فرادى �إحداث احرتابات بني مكونات هذا الإقليم عرب ل�صاحله ،وهذه املذبحة الكربى ودرجة التفاقم العليا عرب باالحرتاب مع ٍ وم�ؤخراً توكيل ٍ كما يح�صل �ضد �سوريا. 2
2انظر درا�سة حممد وِلد �إملي «الأ�صل غري اليهودي لل�صهيونية» يف جملة كنعان العدد 113ني�سان � ،2003ص 60-29ترجمة د� .إبراهيم مكاوي.
املنطقة والعامل
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
115
�إن قراءة هذا ،رمبا ت�سمح لنا بالتنبه �إىل االختالف الذي حكم عالقة املركز الر�أ�سمايل العاملي بالعرب مقارنة مع عالقته بالرتك والفر�س .مبعنى �أن ا�ستهداف الوطن العربي بالتق�سيم الدائم خمتلف عن عدم تق�سيم تركيا و�إيران ما قبل اجلمهورية الإ�سالمية احلالية بل وتقدمي جزء من �سوريا لرتكيا من قبل اال�ستعمار الفرن�سي عام � 1939ضمن �إ�صرار اال�ستعمار الفرن�سي على جتزيء �سوريا قبل �أن يخرج .وكل هذا جتلى يف العالقة احلميمة بني �إيران ال�شاه وتركيا من جهة وبني املركز الإمربيايل والكيان ال�صهيوين الإ�شكنازي من جهة ثانية. وقد تكون هذه امل�س�ألة هي حمرك �أو مفتاح احلديث عن تركيا التي هي بوابة هذا الإقليم �إىل �أوروبا والقاعدة ال�شرقية حلماية الكيان ال�صهيوين ما يفر�ض عليها دوراً ما ،هو ر�أ�س احلربة التي �إما �أن تُوجه �ضد �أوروبا م�ستخدمة �سيطرتها على الإقليم ،كما كان يف املا�ضي ،و�إما �أن تتبع لأوروبا فتتحول �ضد الأقليم كما هي اليوم. لقد و�ضعت احلرب العاملية الأوىل حداً للدور الأول لرتكيا ،فحني مت جتريدها من م�ستعمراتها �أُعيدت تركيا �إىل حجمها الطبيعي والذي بالت�أكيد ال ي�سمح لها بدور قيادي يف الإقليم ،فاختارت «مو�ضوعياً» التبعية لأوروبا �أو الغرب عامة .وبكالم �آخر ،فقد بينت احلرب العاملية الأوىل �أن تركيا قد فقدت عا ِم َل ْي القوة اللذين مكناها من �إقامة �إمرباطورية وهما: عامل املجتمع احلربي ( Warrior Societyكما ي�سميه �سمري �أمني ومك�سيم رودن�سون) الذي اعتمد على ما ي�ستلبه من الأمم اخلا�ضعة لها .فقدت هذا العامل لأنها� ،أي الأمرباطورية العثمانية ،مل توظف الفوائ�ض التي كانت ت�سلخها من �أنحاء الإمرباطورية �سوى يف �صعيدين: الإنفاق على اجليو�ش ال�ستمرار اال�ستعمار والإنفاق البذخي ولي�س التنموي ،وخا�صة يف م�ستعمراتها العربية ،ما ق َّو�ض مواقع الإنتاج يف هذه امل�ستعمرات و�أعاق تطورها الر�أ�سمايل مقارنة ب�أوروبا التي قاد تطورها الر�أ�سمالية �إىل تفوقها الع�سكري الت�سليحي كذاك. 3
ولأنها مل تكن تعي�ش ب�إمكاناتها ،فقد قادت هزميتها �إىل الرجوع �إىل حجمها الطبيعي. وعامل ا�ستخدام الدين لل�سيطرة على الوطن العربي و�شعوب م�سلمة �أخرى ،وذلك �أن هذه الأمم وجدت م�صاحلها يف اخلروج على �سيطر ِة العثمانية .ولي�س غريباً �أن من ابكر هذه املحاوالت كانت 3هناك توا�صل وتكامل بني كل من تركيا والكيان ونظام املغرب و�أنظمة النفط يف حماية الكيان وتثبيت م�صالح املركز يف الوطن العربي، ال�سنة وح�سب لذا لي�س غريباً �أن اقرتح جمل�س التعاون اخلليجي �ضم املغرب �إليه وذلك لي�س �أ�سا�ساً على �أر�ضية حتالف برجوازية طائفة ُ بقدر ما هو تنفيذ مل�شروع ال�شرق الأو�سط الأمريكي ،ومن �ضمنه اندماج الكيان ال�صهيوين اندماجاً مهيمناً يف الوطن العربي .ميكن الرجوع �إىل كتاب عادل �سمارة ثورة م�ضادة �إرها�صات �أم ثورة ،ال�صادر حديثاً عن دار ف�ضاءات يف عمان 2012لالطالع على �شبكة ال�شركات املمتدة من ال�سعودية وقطر والإمارات �إىل الكيان ال�صهيوين عرب ال�ضفة الغربية وقا�سمها امل�شرتك ر�أ�سماليون فل�سطينيون. عدد رقم � | 1أيـار
2013
116
املنطقة والعامل
م�صر حممد علي ،وهي التجربة التي ُتن�سب �إىل حممد علي كقائد فرد دون قراءة �أمرين مهمني كما يجب على الأقل: الأول :الدور املو�ضوعي عروبياً مل�صر مبا هي املهي�أة لتكون الدولة املركزية يف الإقليم منذ الفراعنة وهو ما �أتاح ملحمد علي جتريب طموحاته التي جنحت ب�شكل فذ ،والتي هي �أي�ضا كتجربة ناجحة دفعت بريطانيا والعثمانية لك�سر ظهر هذه التجربة ،وهي جتربة �أ�ضاءت على �أمر مهم من ال�سذاجة تغييبه ،وهو وقوف فرن�سا �إىل جانب العدوان الربيطاين العثماين وخذالنها ملحمد علي الأمر الذي يبني �أن �أوروبا الر�أ�سمالية ،والحقاً املركز الر�أ�سمايل ،هي عدو دائم للأمة العربية بغ�ض النظر عن بع�ض التباينات هنا وهناك .واملثري كذلك� ،أنه بعد احلرب العاملية الأوىل دخلت تركيا حتت جناح املركز ومل تتغري �سواء حكمها العلمانيون �أو الإ�سالميون مما ي�ؤكد الأر�ضية القومية ولي�س الدينية التي تتحكم ب�سيا�سات تركيا. والثاين� :أن حممد علي الألباين وامل�سلم ،ما كان ليخرج على تركيا لو مل تكن هناك مو�ضوعياً جاهزية م�صرية من جهة ،ولو كان مقوداً ب�إميانه بالثقافة الإ�سالمية التي مل تكن هي مكونه احلا�سم ،ملا كان ليخرج على «اخلالفة»!. العثمانية هي�أت الوطن العربي لال�ستعمار الأوروبي:
على امتداد � 400سنة من اال�ستعمار العثماين كان جوهر العالقة االقت�صادية بني ال�سلطة العثمانية والوطن العربي هي عالقة ا�ستخال�ص الفائ�ض من املنتج الزراعي ال�صغري �أو امل�ستقل عرب تغطية ذلك بت�شريع ق�ضائي لرتكيز العامل الإيديولوجي وامللخ�ص يف تربير �سلخ الفائ�ض با�سم اخلالفة التي تزعم انها متثل الإ�سالم وحماية ديار الإ�سالم .وهو فائ�ض يذهب �إىل ال�سلطة املركزية دون �أن ُيعاد بع�ضه كخدمات من املركز �إىل الأطراف .وبغ�ض النظر عن الت�سميات �سواء كانت الت�شكيالت االجتماعية االقت�صادية العثمانية ي�سيطر عليها منط الإنتاج الآ�سيوي �أو اخلراجي، و�إن كنا نف�ضل ت�سميته الإقطاع الع�سكري ال�شرقي بل املهم يف الأمر هو �سلخ الفائ�ض. باملعنى التاريخي كانت الإمرباطورية العثمانية متفردة يف كونها اعتمدت القوة الع�سكرية يف ب�سط نفوذها على الوطن العربي حيث بقايا املماليك معتمدة على وراثتها للخالفة �إيديولوجياً ،وعلى فرتة من التاريخ كان الغرب يخلو من مركز قوي يت�صدى لتو�سعاتها يف البلقان .ولعل ما �أطال عمرها هو هذه العوامل التي كانت يف فرتة من الزمن تتكون من انهيار الإمرباطورية العربية الإ�سالمية من جهة وانبعاث �أوروبا التدريجي واحرتاباتها الداخلية قبل دخولها ع�صر التنوير والثورة ال�صناعية من جهة ثانية� ،إىل �أن متكنت �أوروبا اال�ستعمارية من قتل الرجل املري�ض الذي 4
4انظر عادل �سمارة ،الر�أ�سمالية الفل�سطينية من الن�شوء التابع �إىل م�أزق اال�ستقالل .من�شورات مركز الزهراء ،القد�س .1990
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
املنطقة والعامل
117
ا�ستطال حتى احلرب العاملية الأوىل نظراً لتناق�ض م�صالح الدول الأوروبية وتوازن الرعب فيما بينها� .إذ و�صلت قوات احللفاء �أر�ض تركيا نف�سها واحتل اجلي�ش اليوناين جزءاً منها و�شكل احللفاء �سلطة تابعة لهم هناك �إىل �أن متكن م�صطفى كمال �أتاتورك من الو�صول �إىل احلكم بعد 1919يف �أنقرة ودحر اليونان من الأنا�ضول 1921-22وحقق �صلحا مقبوال للأتراك مبوجب اتفاقية لوزان ،1923والتي مت فيها جتريد العثمانية من كافة م�ستعمراتها وخا�صة العربية لتنكفىء على حدودها الطبيعية� ،أي بعد �أن قدمت م�ستعمراتها العربية ثمناً خلروج احللفاء من �أر�ضها .هذا هو الرتاث «العظيم» الذي خ َّلفته لنا اخلالفة العثمانية با�سم الإ�سالم! خالل احتاللها للوطن العربي ولكي متول ال�سلطة العثمانية دولتها الع�سكرية مل يكن �أمامها �سوى ا�ستخال�ص الفائ�ض من الفالحني كمالك م�ستقلني والربح من ال�ضرائب املفرو�ضة على التجار املتخ�ص�صني يف التجارة بعيدة املدى كي ُتنفق على اجلي�ش ورفاه الطبقة احلاكمة يف الآ�ستانة. من ناحية التطور االقت�صادي االجتماعي ،مل ُتقر العثمانية بع�ض قوانني الأرا�ضي مبعنى امللكية اخلا�صة �سوى مع �ستينات القرن التا�سع ع�شر وذلك حتت �ضغط احلاجة امللحة للمال لتغذية جيو�شها حيث وجدت يف حتديد امللكية طريقة �أكرث دقة يف مالحقة املنتجني ل�سلخ الفائ�ض منهم. فالعثمانية �إذن مبا هي ت�شكيالت من الإقطاع الع�سكري� ،أي الدولة احلربية ،وال�شرقي مبعنى االختالف عن الإقطاع الأوروبي الذي كان ا�شتمل على ت�شريع امللكية اخلا�صة والذي خدم كعامل �أ�سا�سي يف االنتقال من الإقطاع �إىل الر�أ�سمالية ،فهي كانت ُتعدم �إمكانات التحول �إىل الر�أ�سمالية باملعنى ال�صناعي على الأقل يف البلدان اخلا�ضعة لها وخا�صة الوطن العربي .وبالطبع، ف�إن تدمري جتربة حممد علي يف م�صر �شاهد جد وا�ضح على ذلك. �إن طبيعة الت�شكيالت العثمانية ك�إقطاع ع�سكري�/شرقي هي التي حددت �شكل انخراط العثمانية يف النظام العاملي انخراطاً تدريجياً ومتحفظاً وا�ضطرارياً ،ونق�صد هنا الر�سملة .فقد كان دخول الر�سملة �إىل العثمانية مت�أخراً وعرب جتارة التهريب ورمبا لهذا مل ترتك هذه الأمرباطورية وراءها �أي م�ستوى ح�ضاري ُيذكر وال �سيما يف الوطن العربي الذي كان يف معظمه خا�ضعاً لها لأربعة قرون ،والأجزاء التي مل ُتخ�ضع ق�ضت تلك الفرتة ُم�ستننزفة يف مقاومة الغزو العثماين مثال يف جبال اليمن ال�شاهقة. ويكفي للمقارنة �أن نقارن ما تركه العرب من ح�ضارة ُتعلن عن نف�سها حتى اليوم يف خمتلف جماالت الري والإنتاج والعمران والأدب والفن والفل�سفة ،يف الأندل�س خالل ا�ستعمارهم لها وبني انتهاء اال�ستعمار العثماين للوطن العربي كخرائب بلقعاً يف خمتلف جماالت احلياة .وبهذا فقد هي�أت العثمانية وطننا العربي للخ�ضوع لال�ستعمار الأوروبي الغربي جاهزية �سهلة. 5
5نف�س امل�صدر . عدد رقم � | 1أيـار
2013
118
املنطقة والعامل
قرن على االختيار الرتكي:
ُي�شيد كثري من العرب وخا�صة الإ�سالميني منهم ب�أن ال�سلطان عبد احلميد رف�ض عرو�ض ثيودور هرت�سل ب�ش�أن اال�ستيطان اليهودي يف فل�سطني .وهو رف�ض يجب قراءته يف �سياق موقف رجل الدولة من �إحدى مقاطعات دولته �سواء كانت جزءاً من الأر�ض القومية �أو امل�ستع َمرة .فلم يكن الأتراك يف غفلة عن الأهداف الأوروبية املعلنة يف تفكيك وراثة العثمانية. �أما الأمر الأهم فهو �أن اال�ستبداد العثماين يف الوطن العربي كان قد ه َّي�أ هذا الوطن بكامله للخ�ضوع لال�ستعمار الر�أ�سمايل الغربي ،كما �أ�شرنا �أعاله ،وخا�صة فل�سطني: فال دافعت العثمانية عن هذا الوطن بل انكف�أت على ذاتها وال كانت قد �أ�س�ست �أو �أبقت فيه ما يمُ ِّكنه �أو ي�ساعده على مقاومة امل�ستعمِ ر اجلديد ، وبالطبع ،ف�إن تاريخ التبعية للعثماين كان قد و َّلد نخباً عربية ترى يف التبعية خال�صها الأبدي وهي تق�سم �إىل فريقني: فريق قوى الدين ال�سيا�سي التي ت�صر حتى اليوم على �ضرورة العودة للخالفة �أي اخل�ضوع لال�ستعمار العثماين رغم تراث اال�ستغالل والقمع والتخلف الذي عا�شته الأمة العربية حتت نري العثمانيني. وفريق من اللرباليني املتغربنني الذين ينتمون �إىل تخليد الهزمية عرب التبعية لال�ستعمار الغربي الر�أ�سمايل وحتى ال�صهيوين وه�ؤالء حاملو ثقافة الإجنلو� -ساك�سون والفرانكفونية...الخ و�إذا كانت النخب العربية االقطاعية والتجارية والحقاً اللربالية ،بعد هزمية العثمانية يف احلرب العاملية الأوىل قد قررت اختيار التبعية للغرب الر�أ�سمايل �أو خُ دعت كما يزعم احل�سني بن علي، ف�إن تركيا مل تكن خارج هذا اخليار ،ولكن ب�شروط �أف�ضل .فقد متكن م�صطفى كمال �أتاتورك عما احتلته من تركيا والتو�صل ،كما �أ�شرنا� ،إىل اتفاق مقبول يف لوزان ،1923 من دحر اليونان ّ و�ضمن انبهاره بالغرب قرر دفع تركيا باجتاه الأوربة معتقداً �أن تقدمها �سيكون يف هذا التوجه �أو رمبا مقتنعاً �أن م�ستقبل تركيا هو يف م�أجورية للغرب .وهذا بالطبع مل ي�ضع ال العرب وال الأتراك يف موقع َي ْف�ضُ ل الآخر جتاه املركز الإمربيايل �سوى يف طبيعة القيادة املحلية لكل منهما من جهة، ودرجة وطريقة ا�ستهداف املركز الإمربيالية لكل منهما من جهة ثانية ،وهذا ما يرجح كفة �أتاتورك 6
6مل ٍ تكتف ال�سلطة العثمانية ب�سلخ ال�ضرائب من م�ستعمراتها بل كانت تفر�ض التجنيد الإجباري على رعاياها من تلك البلدان .فبما انها جمتمع حربي ومبا �أن عدد �سكانها ال يغطي حاجتها التجنيدية الع�سكرية جل�أت لتجنيد العرب يف جيو�شها ،وهي ال�سيا�سة التي افرزت الرف�ض ال�شعبي عرب هروب الكثريين من اجلندية فيما ُعرف كت�سمية �شعبية «فرارات» .فهل كان ال�سوري معنياً بالقتال يف البلقان �أو الفل�سطيني ليقاتل يف جبال اليمن با�سم الإ�سالم .لطاملا حدثني جدي لأمي الذي كان يحمل ا�سم عزيز �شاوي�ش يف اجلي�ش العثماين كيف هرب من اليمن ،وقد رحل عام 1963عن مئة وخم�س �سنوات؟ ل�ست �أدري �إن كان هناك تاريخ �شفوي لريوي هذه امل�آ�سي� .أذكر �أن معلم التاريخ وهو من الإخوان امل�سلمني طردين من ال�صف التوجيهي عام 1963حني قلت �إن تركيا كانت ا�ستعماراً.
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
املنطقة والعامل
119
على الأنظمة القُطرية العربية التي ولدتها اتفاقية �سايك�س -بيكو 1916والتي جاءت تهيئة لوعد بلفور 1917مما ي�ؤكد الت�آخي غري املعلن بني الدولة القُطرية والكيان ال�صهيوين حتى اليوم .وهذا اخليار التبعوي املزدوج واملتناف�س/املت�سابق على التبعية هو الذي ال يزال يحكم موقع الإقليم يف اال�سرتاتيجية الإمربيالية الغربية. ولكن ،ملاذا كان الغرب �أكرث مرونة جتاه تركيا رغم �أن مكوناتها ت�سمح بتق�سيمها على غرار تق�سيم الوطن العربي �إذا كانت «دائما» املكونات الطائفية والقومية والإثنية تعاند الوحدة كما ُيزعم دوماً �ضد الوطن العربي؟ وهل كان عامل تقوية تركيا اقت�صادياً ذا دور حا�سم يف عدم تفككها ،وهل هذا ما �أدركه احلكام الأتراك فقرروا الإبقاء على عالقة قوية ب�أوروبا مبا يخدمهم اقت�صادياً؟ ال �شك �أن للجغرافيا دورها يف حالة تركيا .فهي �أكرث متا�ساً و�أقرب �إىل قلب الوطن العربي من �إيران وهي بوابة �آ�سيا على �أوروبا ما يوفر فيها دور خادم �أف�ضل للمركز الر�أ�سمايل الغربي وال ي�سمح لها بالقدرة على ال�سيطرة على الإقليم ،كما �أنها ال تتمتع باالمتداد وال بالقوة الكامنة املوجودة يف الوطن العربي ما يجعل احتواءها �أكرث �سهولة ،وبالتايل ا�ستخدامها �أكرث �سهولة كذلك .ورمبا هذا ما �أدركه �أتاتورك بدوره حيث عمل ولو ب�شكل ق�سري على �أوربة تركيا. �إذن بني عجز تركيا �أن تكون قطباً يف مواجهة �أوروبا و�إدراك �أوروبا لذلك ،وجاهزية تركيا لتكون �أداة او �شريكاً و�ضيعاً لأوروبا �ضد العرب ،و�إدراك الأوروبيني والأتراك لذلك ،وافتقار تركيا لتاريخ وتراث عريقني ...الخ كل هذه ت�ساعد على فهم ملاذا كان هذا التقارب الرتكي الأوروبي �سريعاً وم�ستمراً .وبالطبع ،فهذه العوامل تتج�سد يف النهاية يف موقف عدائي م�شرتك �ضد الأمة العربية ال ينح�صر يف تفكيكها بل كذلك يف منع �أو احتجاز تطورها فرادى. لقد �أثبت القرن الع�شرون بامتداده �أن تركيا قد متثلت الدور الذي اقتنعت به م�ستثمرة موقعها اجلغرايف لتكون ر�أ�س ج�سر للعدوان الإمربيايل الغربي �ضد الوطن العربي ،وهو ما تال يف �سيا�ساتها �سواء يف ع�ضويتها يف الأطل�سي املوجه �ضد االحتاد ال�سوفييتي ال�سابق �أو اعرتافها وعالقتها بالكيان ال�صهيوين ودخولها الأحالف املوجهة �ضد الأمة العربية كحلف بغداد. وكل هذه ت�أكدت �أكرث ب�أن وا�صلت تركيا دورها الأداة والعدو يف نف�س الوقت بعد تفكك االحتاد ال�سوفييتي حيث وا�صلت ارتباطها بالأطل�سي ما �أكد �أنها تلعب دوراً �ضد نه�ضة االحتاد الرو�سي جمدداً ،كما �أنها وا�صلت عالقتها بالكيان ال�صهيوين وعززت تلك العالقة. جتدر الإ�شارة �أي�ضا �إىل �أن الدور التابع لرتكيا زودها بقبول دور براجماتي وا�ضح من الناحية الثقافية .ففي حني ما تزال ت�ستخدم م�س�ألة مركز اخلالفة الإ�سالمية ،ف�إنها� ،أي تركيا تقيم �أقوى العالقات مع الغرب غري امل�سلم ومع الكيان ال�صهيوين غري امل�سلم كذلك ،بينما تنا�صب الدول العربية وهي امل�سلمة العداء وهو الأمر الذي ي�ؤكد �أن ما يقود تركيا هو طموحها القومي ولي�س تراث اخلالفة الإ�سالمية الذي ا�ستخدمته ل�ستة قرون وحتاول جتديده ..اليوم. عدد رقم � | 1أيـار
2013
120
املنطقة والعامل
ميكننا القول ب�أن عالقة تركيا ب�أوروبا وبالأطل�سي ت�شرتط لها دوراً معادياً للأمة العربية ،وهو دور له ما ُيغري تركيا به ال �سيما وهي حتتل �أر�ضاً عربية هو لواء الإ�سكندرونة حيث يرى اال�سرتاتيجيون الأتراك ب�أن �أية وحدة عربية �سوف ت�ضعها �أمام ا�ستعادة العرب لهذا الإقليم .وهذا ما يدفعها خلدمة �سيطرة وعدوانية الإمربيالية �ضد الوطن العربي .وهذا ي�ؤكد �أنه ال امل�شرتك الإ�سالمي وال اجلوار اجلغرايف هما احلا�سمان يف عالقة تركيا بالعرب .كما �أنها تت�ساوى وت�شرتك مع الكيان ال�صهيوين الإ�شكنازي يف اغت�صاب �أر�ض عربية ناهيك عن عالقتهما باملركز الإمربيايل. وتبقى الإ�شارة �إىل مفارقة زعم الكثري من القوميني الأتراك ب�أن انحياز النخب العربية �ضد تركيا يف احلرب العاملية الأوىل كان �ضربة للخالفة الإ�سالمية على يد القومية العربية ،علماً ب�أن ال هذا وال ذاك كان �صحيحاً .فال متثل تركيا اخلالفة الإ�سالمية بل م�صلحتها القومية الطورانية بدليل �أن �أتاتورك حاول حمو الإ�سالم من تركيا ملدة قرن كامل ومل يجد حتى معار�ضة حقيقية من ال�شارع الرتكي ،كما �أن تركيا كانت قد �أنهكت الأمة العربية ما �أكد ب�أن ذلك الوجود العثماين يف الوطن العربي ال عالقة له بالإ�سالم. العالقة بالواليات املتحدة:
لي�ست لدينا �إجابة على عدم حماولة احللفاء اال�ستقرار يف تركيا �أو متكني اليونان من االحتفاظ مبا احتلته منها .كما لي�س �شرطاً �أن �إ�صالحات �أتاتورك هي التي حالت دون حماولة الغرب جتزئة تركيا كما فعلت يف الوطن العربي ،بل وحتى قيام فرن�سا ب�ضم �إقليم الإ�سكندرون �إىل تركيا عام ،1939وهل كان ذلك كي ال تدخل تركيا احلرب �إىل جانب املحور؟ �أم خللق ما ي�ؤبد عالقات عدائية بني تركيا و�سوريا؟ �أم �أن احللفاء كانوا يريدون تركيا غري جمز�أة للوقوف يف وجه االحتاد ال�سوفييتي وما كانوا ي�سمونه باملد ال�شيوعي. قد جند بع�ض الإجابة على هذه الأ�سئلة يف ان�ضمام تركيا املبكر �إىل حلف �شمال الأطل�سي عام � 1952أي مع بواكري احلرب الباردة وبواكري النه�ضة القومية العربية وبعد �سنوات قليلة على خلق الكيان ال�صهيوين يف فل�سطني .فهذه التطورات جميعاً تدعم اعتقادنا بتف�ضيل الغرب الإبقاء على تركيا متما�سكة خلدمة �أدوارها هذه على الوجه الأف�ضل. من الالفت �أن تركيا القوميني/الع�سكر وتركيا الإ�سالميني مل تختلفا فيما يخ�ص موقفهما من الغرب .ففي بداية ان�ضمام تركيا للأطل�سي كانت املخابرات االمريكية قد نقلت ال�سلطة من العلمانيني واجلي�ش �إىل جمموعة �إ�سالمية برئا�سة عدنان مندري�س ،والحقاً بعد �أن ا�سرتد اجلي�ش �سيطرته على تركيا مل تتغري عالقة تركيا بالأطل�سي .و�ضمن هذه العالقة بد�أت الواليات املتحدة
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
املنطقة والعامل
121
ب�إقامة القواعد الع�سكرية يف تركيا موجهة �ضد االحتاد ال�سوفييتي ،وخا�صة قاعدة �إجنرليك .ويف الفرتة نف�سها هددت تركيا النظام الوطني يف �سوريا الذي كان مقرباً من م�صر النا�صرية (كما يذكر د .موفق حمادين) ما ي�ؤكد الدور الرتكي املعادي للقومية العربية .ومع تطور عالقة تركيا بالأطل�سي �أ�صبحت دولة تابعة بالكامل لوا�شنطن ففي هذا العام ( )1969وقعت اتفاقية ُ�سمح مبوجبها للواليات املتحدة ب�إقامة (� )26ست وع�شرين قاعدة ع�سكرية بالإ�ضافة �إىل مراكز الر�صد والإنذار املبكر ومراكز االت�صاالت الال�سلكية وقواعد التج�س�س وجمع املعلومات ،وكذلك الت�سهيالت املوجهة �ضد امل�صالح العربية وخلدمة احللف الأمريكي -الإ�سرائيلي .وميكن القول �إنه منذ عام � 1969صارت ميداناً مفتوحاً لقوات الواليات املتحدة الأمريكية (كما يذكر د .حممد نور الدين). 7
العالقة بالكيان:
كانت تركيا �أول دولة �إ�سالمية تعرتف بالكيان ال�صهيوين (� 29آذار ،)1949وهي بالطبع دولة جوار عربي مبعنى �أنها على معرفة بال�سيا�سة الإمربيالية يف املنطقة وحقيقة �أن الكيان ما كان ليوجد لوال وجود الإمربيالية� ،أي الإمربيالية التي اختارت تركيا �أن تكون حليفها/الأداة ما ي�ؤكد القناعة العدوانية الرتكية للأمة العربية واعتبار �أن وجود الكيان يف الوطن العربي هو حالة حليفة لها تخدمها يف وجود وطن عربي �ضعيف .واالعرتاف بالكيان يك�شف ب�أن عدم ت�أييد تركيا لقرار تق�سيم فل�سطني ،1947مل يكن �سوى موقف عابر من تركيا ،رمبا لأنها مل تكن قد ت�أكدت من �إمكانية قيام الكيان. لقد ان�ضمت تركيا �إىل حلف بغداد املعادي مل�صر عبد النا�صر عام 1955و�أيدت العدوان الثالثي على م�صر عام ،1956والتدخل الأمريكي يف لبنان ون�شرت قوتها على احلدود العراقية للتدخل يف �إ�سقاط ثورة 14يوليو � 1958إ�ضافة �إىل تلويحها امل�ستمر بقطع املياه �أو تخفي�ض ح�صة �سوريا والعراق من املياه و�إن�شاء ال�سدود واخلزانات لإحلاق ال�ضرر بالزراعة يف العراق و�سوريا ،بل �أُحلق بها ال�ضرر فع ًال .وانتهاكها امل�ستمر حلرمة الأرا�ضي العراقية منذ عام 1991وحلد الآن بحجة مطاردة مقاتلي حزب العمال الكرد�ستاين. وقد يكون الفتاً �أن تركيا عدنان مندري�س قد وقّعت عام 1958مع الكيان بقيادة بن غوريون اتفاقية تعاون �ضد التطرف ونفوذ االحتاد ال�سوڤييتي يف ال�شرق الأو�سط ،ولكن هذا االتفاق كان قد مت يف نف�س عام الوحدة بني م�صر و�سوريا ،ما يك�شف نوايا تركيا التي تطالب بزعامة العامل الإ�سالمي عرب حتالفها الوثيق �ضد العرب وامل�سلمني! وباملنا�سبة ،ف�إن �أدنى عدد من امل�ستجلبني ال�صهاينة �إىل فل�سطني كان يف ال�سنوات الثالث للوحدة بني م�صر و�سوريا .وهي �أكرب �شريك ع�سكري للكيان 7زعمت تركيا �أنها مل ت�سمح عام 1991للواليات املتحدة با�ستخدام قاعدة اجنرليك يف العدوان على العراق! عدد رقم � | 1أيـار
2013
122
املنطقة والعامل
حيث يقوم الكيان ال�صهيوين بتدريب طريان يف �صحراء الأنا�ضول ويقوم ببيع طائرات بدون طيار لرتكيا وبتحديث طائرات �أف 15الرتكية املقاتلة. منذ 1يناير � ،2000أ�صبحت اتفاقية التجارة احلرة الإ�سرائيلية-الرتكية �سارية .و�ضمن عالقتهما التجاريةُ ،و�ضعت الدرا�سات لتنفيذ مد م�شروع «�أنابيب ال�سالم» يف �إقامة حمطة مبنطقة �شالالت مناوجات الرتكية لتزويد الكيان بكمية 50مليون طن �سنوياً من املياه ملدة 20عاماً .وي�ستند امل�شروع �إىل �ضخّ املياه يف �أنابيب برية عرب الأرا�ضي ال�سورية ،ثم دخولها �إىل �شمال لبنان �أو �شمال �شرق الأردن ،وبعدها �إىل الأرا�ضي الفل�سطينية� ،أو نقلها بحراً �إىل ال�ساحل الإ�سرائيلي يف حال عدم توقيع اتفاقية �سالم بني �إ�سرائيل وكل من �سوريا ولبنان .وت�شري م�صادر �إىل انتهاء بناء املحطة الرتكية ،مع بقاء تنفيذ امل�شروع معلقاً .م�شروع تبلغ تكلفته نحو مليار دوالر ،و ُو ِّق َع يف عهد �أجاويد ،علماً ب�أن �أوزال بد�أ يتحدث عنه منذ 1991بقوله امل�شهور «مثلما يبيع العرب البرتول، يجب على تركيا �أن تبيع برتولها� ،أي املياه» .وقد ّمت التوقيع على االتفاق يف �أغ�سط�س ،2002 ويرتدد اليوم �أن �أردوغان قد �أعطى �إ�شارة العمل الفوري فيه ب�أوامر �أمريكية وبروح برجماتية بحتة ال ترى تناق�ضاً بني ادعائه دعم ال�سالم وامل�سلمني وعالقاته ال�سيا�سية والع�سكرية مع �أعدائهم ،ال�صهاينة! و�إ�سراع �أردوغان يف هذا امل�شروع مرتبط بحلمه يف �سقوط �سوريا لربط العالقة الرتكية ال�صهيونية براً. �شهد حجم التبادل التجاري بني تركيا و�إ�سرائيل تطوراً هائ ًال فقد ارتفع من 300مليون دوالر يف � 1997إىل 3.1مليارات دوالر عام 2010وفيه بلغ حجم ال�صادرات الإ�سرائيلية لأنقرة مليارين وربع املليار دوالر. القفزة االقت�صادية الرتكية:
لي�س من ال�سهولة مبكان االقتناع ب�أن القفزة االقت�صادية الرتكية يف ال�سنوات الع�شر املا�ضية كانت بقوة دفع حم�ض ذاتية� ،أو نتاج عبقرية خا�صة كما تزعم امل�ؤ�س�سات املالية الدولية ال �سيما يف �ضوء الأزمة االقت�صادية يف املركز الر�أ�سمايل العاملي وهي يف عامها اخلام�س ،وال�س�ؤال هو :هل كان هناك جانب �سيا�سي يف التوجه اال�ستثماري الأوروبي يف تركيا؟ �أي هل لتو�سع ر�أ�س املال ك�سلوك طبيعي جانب �سيا�سي مق�صود به �إعطاء �أف�ضلية لرتكيا دون �إغفال االهتمام الأ�سا�س �أي حت�صيل معدل ربح �أعلى؟ .ورمبا يذكرنا هذا بنموذج الفرتينة الذي طبقته الإمربيالية يف بلدان النمور اال�سيوية الأربع حيث ُق�صد بذلك مواجهة النمو االقت�صادي الوا�سع يف ال�صني املاوية بنمو م�شابه لدى دول اختارت طريق اللحاق الر�أ�سمايل .ورمبا هذا ما يف�سر الدفوقات اال�ستثمارية �إىل تركيا على �شكل اال�ستثمار 8
8جتدر الإ�شارة �إىل �أن ال�صني ال�شعبية كانت حتقق منواً عالياً خالل فرتة الزعامة املاوية ،وهو منو ناجت عن تنمية �شعبية ا�شرتاكية متوازنة، وهذا ي�ؤكد �أن النمو ال�صيني احلايل هو امتداد للفرتة املاوية و�إن باجتاه ر�أ�سمايل.
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
املنطقة والعامل
123
الأجنبي املبا�شر .فقد مت �ضخ 110مليارات دوالر يف االقت�صاد الرتكي على �شكل ا�ستثمار �أجنبي مبا�شر يف ال�سنوات الع�شر الأخرية لأنه اقت�صاد مم�أ�س�س ح�صل على املرتبة الثالثة ع�شرة من حيث جذبه لال�ستثمار الأجنبي املبا�شر يف العامل» ((2012 A.T. Kearney FDI Confidence Index ولذا ،قفز الإنتاج املحلي الإجمايل الرتكي �إىل 722بليون دوالر عام 2011بعد �أن كان 231بليون عام .2002وهذا يربر لنا ال�س�ؤال ،هل كان �سبب ذلك �سيا�سات اقت�صادية ذات معنى و�أنظمة نقودية �صارمة� ،أم كذلك كانت هناك تف�ضيالت مق�صودة لرتكيا؟ فمن بني 68مليار دوالر هي ا�ستثمار �أجنبي مبا�شر يف تركيا يف الفرتة من 2011-2005كانت هناك 63مليار دوالر ا�ستثمارات لالحتاد الأوروبي مبعزل عن بقية �أوروبا .ومن بني جممل اال�ستثمارات العاملية يف تركيا يف نف�س الفرتة والبالغة 88.5مليار دوالر ،هناك 8مليارات دوالر من �أمريكا ال�شمالية (الواليات املتحدة وكندا) مقابل ح�صة االحتاد الأوروبي البالغة 63مليار دوالر . ال بد من الأخذ باالعتبار �أن تركيا ت�شكل موقعاً منا�سباً جداً لر�أ�س املال الأوروبي كي ينقل �صناعات تقليدية �إىل تركيا حيث تدين �أجرة العمال وتدين حقوقهم وقرب تركيا من الأ�سواق الأوروبية .وهذا يعني �أن الهدف الأ�سا�سي الذي و�ضعته الر�أ�سمالية الأوروبية �أبعد من تو�سع ر�أ�س املال capital Expansionباجتاه اال�ستثمار يف الأ�سواق الرتكية بل �أي�ضاً حتويل تركيا �إىل منوذج القت�صاد �إ�سالمي هو ر�أ�سمايل يف جوهره وال �سيما بعد تفكك االحتاد ال�سوفييتي لتكون تركيا ر�أ�س حربة الخرتاق الوطن العربي بقو ٍة اقت�صادية وب�إيديولوجيا الإ�سالم ال�سيا�سي مغلفة بدميقراطية «معتدلة» على �أن تكون �صادرات هذه القوة االقت�صادية �إىل الوطن العربي ولي�س �إىل �أوروبا .وهذا ما يف�سر عدم قبول تركيا يف االحتاد الأوروبي بو�ضوح ودون مواربة وانخراطها العدواين لتفكيك �سوريا .وبهذا يحقق تو�سع ر�أ�س املال من املركز الأوروبي عدة �أهداف معاً: ا�ستثمار يف بيئة تركية �أقل كلفة من حيث الأجور وحقوق العمالة، حماية �أ�سواق �أوروبا من ال�سلع امل�صنوعة يف تركيا رغم �أن ر�أ�س املال امل�ستثمر �أوروبي ب�شكل كبري. ت�سويق خمرجات اال�ستثمار ال�صناعي الأوروبي يف تركيا يف مناطق �أخرى وخا�صة الوطن العربي وهذا يحقق �سل�سلة من حاالت التبعية لأوروبا. 9
10
11
9تدفقت �إىل الكيان ال�صهيوين الإ�شكنازي بعد م�ؤمتر مدريد 1991واتفاق �أو�سلو 1993وحتى عام � 2006أكرث من 114مليار دوالر من اال�ستثمار الأجنبي املبا�شر حمفوزة ب�سالم ر�أ�س املال بني الكيان وقيادة منظمة التحرير والر�أ�سمالية الفل�سطينية التابعة. 10 Central Bank of the Republic of Turkey and http://www.invest.gov.tr/en-US/investmentguide/investorsguide/Pages/FDIinTurkey.aspx
1 1يف ا�ستغالل للإ�سالم� ،س�ألتني �سيدة من ال�سفارة الرتكية قبل �سبع �سنوات كم عدداً نطبع من جملة كنعان ،ف�أجبتها ب�أنني ال �أقدم معلومات لدول �أجنبية ،فقالت ولكن نحن م�سلمون ،فكنت م�ضطراً للرد ب�أن حكام العرب م�سلمون و�أغلبهم عمالء! عدد رقم � | 1أيـار
2013
124
املنطقة والعامل
لعل ما �أ�سعف تركيا �أن تدفق اال�ستثمار االجنبي املبا�شر تزايد مع بداية الألفية اجلديدة ،حيث تو�سع ر�أ�س املال بحثاً عن الربح الأعلى ،وهذا م�شابه ملا ح�صل يف ال�صني. من الوا�ضح �أن و�صول حزب العدالة والتنمية �إىل ال�سلطة ترافق مع الأزمة االقت�صادية الهائلة لعام ،2001التي �أفقدت اللرية الرتكية اجلزء الأكرب من قيمتها ال�شرائية .ولعل هذا ما فتح �شهية اال�ستثمار الأجنبي املبا�شر ال�ستغالل الطبقة العاملة هناك من جهة وهو الذي دفع االقت�صاد ملعدالت منو عالية رفعت من �أ�سهم احلزب احلاكم .وعليه ،يف حني دخل العامل �أزمته االقت�صادية احلادة عام 2008كان االقت�صاد الرتكي يحقق منواً عالياً ،وهو الأمر الذي قدم لقوى الدين ال�سيا�سي مادة دعائية كبرية. لذا ،عام 2009مث ًال ،كان لدى تركيا احتياطات من النقد الأجنبي �أكرب بثالثة �أ�ضعاف مما كانت عليه يف عام � .2002أ�ضف �أن حجم االقت�صاد الرتكي كان ال يتجاوز يف جمموعه 250مليار دوالر �أمريكي يف ،2002بينما اليوم جتاوز الناجت املحلي الإجمايل ال�سنوي لرتكيا 800مليار دوالر .كذلك حال الدخل يتعدى 3300دوالر عند الفردي ال�سنوي الذي يناهز اليوم � 11ألف دوالر للفرد الواحد ،بينما مل يكن ّ و�صول احلزب احلاكم �إىل ال�سلطة. ُ مداخيل ال�سياحة .فمن عدد زوا ٍر لرتكيا بلغ 1.5مليون عام من جهة �أخرى ،فقد �ساعدت تركيا � ،1983أدخلوا 411مليون دوالر ،وو�صل عدد زوار تركيا عام � 2009إىل 32مليون �شخ�ص �أدخلوا 21.1بليون دوالر ،بينما كان الدخل املت�أتي من ال�سياحة عام 2002هو 8.5باليني دوالر فقط .ويف عام � 2008أدت ال�سياحة دوراً يف �إغالق فجوة يف العجز يف امليزان التجاري الذي ازداد 31.3باملئة. ويف عام 2011و�صلت عائدات ال�سياحة �إىل 23بليون دوالر . وهكذا ،ميكن قراءة القفزة الرتكية كنموذج م�صغر للقفزة ال�صينية حيث توفر قوة عمل هائلة العدد �ضئيلة الأجور فر�ص َة �إغرا ٍء لر�أ�س املال الذي كان بني �إغراء التو�سع و�شروط الهروب من دول املركز .ومن يتابع اجلدل يف الواليات املتحدة اليوم يالحظ �أنه يرتكز على �ضرورة ا�سرتجاع ال�شركات الأمريكية التي هربت �إىل ال�صني. ولكن تهور حكومة �أردوغان يف العدوان على �سوريا ،ال بد �أن يحمل خماطر بدوره على االقت�صاد الرتكي ومن �ضمنها ح�سا�سية «الأموال ال�ساخنة »Hot Moneyذات اجلاهزية العالية للهروب من مناطق اخلطر والتوتر. «ُ ...تقر النظرية النيوكال�سيكية ب�أنه حينما ال تكون املدخرات الأهلية كافية ،ميكن للمدخرات الأجنبية �أن تكون اعتمادات هامة لال�ستثمارات والنمو» ()Yentürk 2003: 131وكنتيجة للعوملة االقت�صادية ،كان الهدف هو احل�صول على دفوقات ر�أ�س املال �إىل البلدان النامية كي ت�صل �إىل 12
)12 Source: IMF World Economic Outlook April 2012, Turkish Statistical Institute (TurkStat
املنطقة والعامل
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
125
م�ستوى ما و�صلت �إليه البلدان املتقدمة .ولكن الرغبة يف احل�صول على مداخيل للأمد الق�صري ت�سببت يف مناخ �سلبي على فر�ص اال�ستثمار احلقيقي .وقد ح�صل هذا �أي�ضاً يف تركيا .ففي خمتلف بلدان العامل بد�أ احلراك التمويلي يف الت�سعينات ،و�أظهر �أن منواً بطريقة ما ح�صل بعيداً عن التجارة احلقيقية� .أي �أن حركات ر�أ�س املال ق�صرية الأمد ،ما ت�سمى «النقد ال�ساخن» ،ت�ؤدي دوراً كبرياً يف التاريخ االقت�صادي احلديث يف تركيا . لكن اختبار الدور ال�سلبي للنقد ال�ساخن مل يت�ضح بعد على �ضوء التدخل الرتكي يف �سوريا، فهل بد�أت هذه الأموال بال�شعور ب�سخونة الو�ضع ومن ثم الهروب �أو اجلاهزية للهروب؟ �أم �أن م�سارعة �أردوغان لال�ستنجاد بالناتو لن�صب �صواريخ الباتريوت على احلدود ال�سورية جاء كذلك لتطمني ر�أ�س املال �أكرث مما هو لعدوان تركي �صرف على �سوريا؟ هذا ما �ستنبئنا به تطورات العدوان على �سوريا. �إن ال�صورة الوردية لالقت�صاد الرتكي ،ال تقلقها فقط املمار�سات احلربية �ضد �سوريا ،وح�سا�سية الأموال ال�ساخنة ،بل كذلك الفجوة االجتماعية يف بلد يحقق منواً عالياً ارتكازاً على �سيا�سات الرتاكم الأويل Primitive Accumulationالتي حتمل ع�سفاً �شديداً �ضد الطبقة العاملة وحتى املناطق املحرومة ب�أكملها. «بناء على الإح�صاءات الرتكية للعام املا�ضي ،2011ف�إن �سكان �أغنى خم�س مناطق يف تركيا يك�سبون دخ ًال هو ثمانية �أ�ضعاف� ،أو %46.7من ثروة البالد ،مقارنة مع �أفقر خم�س مناطق تك�سب ...%5.8وحتتل تركيا املركز 34ح�سب منظمة التعاون والتنمية الدولية على �سلم عدم ت�ساوي الدخل». «كما �أن الإنتاج الأهلي الإجمايل للمناطق الع�شر يف قمة املناطق الرتكية وهي ا�ستانبول� ،أنقرة، بور�سا� ،إ�شكهري ،بيليك ،كو�سيلي� ،سكاريا،بولو ،دز�شي ،ويالوفا ،ي�صل �إىل 376بليون دوالر، اي يتفوق على بع�ض البلدان الغنية مثل �سنغافورة ،والرنويج و�سوي�سرا من حيث احلجم االقت�صادي ». 13
14
تركيا والأزمة ال�سورية:
�شكل تورط �سوريا يف تبني �سيا�سة ال�سوق االجتماعي بجوهرها النيولربايل �سوقاً مفتوحاً للمنتجات الرتكية ،ما قوى منوها االقت�صادي على ح�ساب ال�صناعات املحلية ال�سورية .بل �إن 13 DO CAPİTAL INFLOWS PROVİDE ECONOMİC GROWTH: A CASE OF TURKEY BETWEEN 1984-2007 Serkan Dilek, Dr.,Beykent University Korkmaz Uluçay, Dr., Beykent University Corresponding Author: Serkan Dilek, Beykent University, Beylikdüzü YerleĢkesi, B:Çekmece- Ġstanbul, tel: 0212 867 5338, fax: 0212 867 5566, serkandilek@beykent.edu.tr 14 Source: OECD Economic Outlook No: 86
عدد رقم � | 1أيـار
2013
126
املنطقة والعامل
انفتاح �سوريا على تركيا بدءاً ب�ضبط حراك حزب العمال الكرد�ستاين وانتهاء بفتح الأ�سواق و�سع ال�سوق العربي عامة للمنتجات الرتكية ،ما خدم متاماً متطلبات النمو العايل ال�سورية قد َّ لالقت�صاد الرتكي وخدم من حيث ال دراية قوى الدين ال�سيا�سي التي هي نيولربالية اقت�صادياً وقرو�سطية فكرياً واجتماعياً. و�إذا كان هدف �سوريا هو ت�صفري امل�شاكل �ضمن خطة ُقطرية �سورية هدفت �إىل حتييد تركيا جتاه التحالف القوي بني �سوريا و�إيران �ضمن جبهة املقاومة واملمانعة ،فقد ات�ضح �أن هدف تركيا مل يتوقف ومل يهدف �أ�سا�ساً ال �إىل ال�صداقة مع �سوريا وال �إىل ح�صر العالقات يف �صداقة تركية �سورية .فتح�سن العالقة ال�سورية-الرتكية كان بالن�سبة لرتكيا جزءاً مكم ًال للدور الرتكي يف الوطن العربي الذي هو دور �أداة للم�شروع الأمريكي يف ال�شرق الأو�سط اجلديد تكون تركيا مكونه الإ�سالمي ورمبا الع�سكري طبقاً للتطورات ونوع ال�سالح الأف�ضل لال�ستخدام وا�ستخدام �سوريا لعبور مو�سع �إىل الوطن العربي. طِ بقاً للعالقة اجليدة التي ح�صلت بني تركيا و�سوريا ،وطبقاً للغ�ضبة «املُ�ضرية» التي لعبها �أردوغان �ضد بريي�س ث�أراً للفل�سطينيني ،وطبقاً لقيام قوات الكيان باختطاف �سفينة مرمرة وقتل م�ساملني �أتراكاً �أتوا للت�ضامن مع غزة ،و�أهم من كل ذلك بناء على امل�صلحة االقت�صادية لالخرتاق الرتكي لل�سوق ال�سوري وو�صول منتجات تركيا حتى لل�ضفة الغربية عرب �سوريا �إىل الأردن ويف النهاية عرب املوافقة ال�صهيوينة على اجل�سور �أو من خالل الكيان مبا�شرة �إىل �أ�سواق ال�ضفة الغربية ،طبقاً �أو بناء على كل هذا ،كان املفرت�ض �أن تلتزم تركيا احلياد جتاه الأزمة ال�سورية� ،إن مل نقل الوقوف �إىل جانب الدولة ال�سورية ممثلة يف قيادتها. ولكن� ،إذا اعتربنا التح�سن يف عالقات البلدين هو اال�ستثناء ،و�إذا اعتربنا �أن القاعدة هي كل ما �أو�ضحناه يف هذه املقالة ،ف�إن من الطبيعي �أن تنقلب ال�سلطة الرتكية للوقوف �ضد �سوريا كدولة وجمتمع .ولذا ،ال غرابة �أن ت�شكل تركيا ر�أ�س احلربة �ضد �سوريا ممثلة لتدخل الأطل�سي بكل الو�سائل املمكنة با�ستثناء الق�صف اجلوي .ونق�صد هنا ب�أن جتميع وتدريب وت�سليح وت�سهيل دخول امل�سلحني من 29دولة من تركيا �إىل �سوريا هو غزو بري بال رتو�ش .وعليه ،ف�إن حكام اخلليج النفطي العربي قد �أدوا دور املقاولني من حيث دفع النفقات والتحري�ض الإعالمي �ضد �سوريا وجتميع الوهابيني واالعتناء بو�صولهم �إىل تركيا ولبنان والأردن. وهنا ميكن الإ�شارة �إىل �أن ف�شل ال�سعودية يف �إخراج �سوريا من حتالف املمانعة واملقاومة ،ومن ثم احتفاظ �سوريا بدعمها حلزب اهلل قد دفع ال�سعودية لإ�شهار عدائها ل�سوريا م�ؤكدة بال مواربة �أنها جزء من امل�شروع ال�صهيوين ل�ضرب املقاومة .وقد ات�ضح موقف ال�سعودية منذ عدوان 2006الذي كانت نتيجته االنت�صار للمقاومة ،ما دفع الواليات املتحدة لتوظيف ال�سعودية ب�شكل مبا�شر �ضد �سوريا �أي ل�صالح الكيان ال�صهيوين ناهيك عن ا�ستخدام حزب «امل�ستقبل» يف لبنان حتت يافطة
تركيا...عدو تاريخي ووكيل للمركز �ضد الأمة العربية
املنطقة والعامل
127
طائفية .ونق�صد هنا �أن ال�سعودية بادرت بالعدوان �ضد �سوريا قبل �أن تفعل ذلك تركيا .وهذا يبني �أن املوقف الر�سمي للدول العربية هو �أخطر من موقف تركيا بل �إن املوقف العربي قد �شكل نقطة ارتكاز مهمة وقوية للعدوان الرتكي. وعليه ،ف�إن تركيا بني دورها التابع للمركز الر�أ�سمايل الغربي وبني م�صلحة الربجوازية الرتكية يف احللم ب�سيطرة على الوطن العربي هذه املرة باالقت�صاد وامتطاء الدين ،وبني تالقي م�صاحلها �ضد �أي نهو�ض عربي مع م�صالح الكيان ،وبني �شهوتها الجتثاث �آخر معقل قومي عربي ،ما كان �أمامها �سوى االنخراط يف العدوان واالندفاع فيه �إىل النهاية. ويبدو �أن ما حال دون تورط تركيا بعدوان ع�سكري مبا�شر بجي�شها على �سوريا هو توفر معلومات لديها ب�أن اجلي�ش ال�سوري قادر على �إحلاق دمار يف تركيا يقود �إىل �سقوط حكومة الإ�سالميني هناك وبالطبع هروب اال�ستثمارات الأجنبية وو�ضع حد لـ «املعجزة» االقت�صادية .وهذا ما دفع تركيا �إىل حماوالت عدة ال�ستدراج الأطل�سي �ضد �سوريا دون جدوى �سواء ب�سبب الفيتو الرو�سي- ال�صيني �أو ب�سبب فقدان قدرة الناتو على دخول حرب مكلفة �ضد �سوريا. من املهم الإ�شارة �إىل �أن هذا الدور العدواين الرتكي ال ميكن قراءته خارج �سياق ما حتدثنا عنه �أعاله من جهة ،ووجوب قراءته الحقاً يف �ضوء احلقيقة الأهم وهي �أن هذا العدوان متعدد الر�ؤو�س والروافد �ضد �سوريا هو عدوان �ضد امل�شروع القومي العربي يف طبعته احلالية �أي املقاومة واملمانعة مبا يخدم ت�صفية الق�ضية الفل�سطينية و�إدماج الكيان يف الوطن العربي اندماجاً مهيمناً ،كجزء �أ�سا�س من م�شروع ال�شرق الأو�سط اجلديد �إ�ضافة �إىل تفكيك �سوريا كدولة ترف�ض االعرتاف بالكيان وت�شكل نواة واقع عربي علماين يف مقبل الأيام .وهو م�شروع ال عالقة له بالدميقراطية وحقوق الإن�سان كما تثبت الوقائع. وعليه ،ف�إن ف�شل العدوان على �سوريا يعني و�ضع حد لقوى الدين ال�سيا�سي التي دخلت يف �صفقة �سيا�سية �سلطوية مع املركز الإمربيايل على �أ�سا�س لكم ال�سلطة وال�شريعة ولنا املوارد والأر�ض� .إن املواقف التي اتخذتها قوى الدين ال�سيا�سي و�أنظمته يف تون�س وليبيا وم�صر قد قدمت �إي�ضاحات �أكرث عن دور �أنظمة الريع النفطي التي هي بو�ضوح �ضد مع�سكر املقاومة واملمانعة .فقد حتولت هذه الأنظمة اجلديدة من حراك �شعبي �إىل مع�سكر الثورة امل�ضادة و�ساهمت بعالنية يف �إر�سال امل�سلحني والأ�سلحة لقوى الإرهاب �ضد الدولة ال�سورية .وحيث حافظت هذه الأنظمة على تبعيتها للمركز الإمربيايل وعلى عالقاتها مع الكيان ال�صهيوين وحتت يافطات الدين ال�سيا�سي، ف�إن هذا يك�شف عن ذلك التمدد الوا�سع لنموذج الإ�سالم ال�صهيوين .كما يك�شف كذلك عن 15
15رمبا بد�أ التح�ضري ملثل هذه ال�صفقة يف م�ؤمتر الدار البي�ضاء عام 1995الذي تال م�ؤمتر مدريد 1991واتفاق �أو�سلو ،1993والذي عربت فيه الواليات املتحدة عن �ضرورة تو�سيع قاعدة الأنظمة احلاكمة يف الوطن العربي بحيث ال تقت�صر على الع�سكر �أو النخب احلاكمة ،وهو ما تبلور يف �صفقات بني الواليات املتحدة وقوى الدين ال�سيا�سي وخا�صة الإخوان امل�سلمني. عدد رقم � | 1أيـار
2013
128
املنطقة والعامل
�إن قوى الدين ال�سيا�سي لو تفاوت تطرفها �شكلياً وعلى ال�سطح ،ف�إنها جوهريا تتبادل املواقف ب�سهولة ومرونة .ولعل خلق الإخوان امل�سلمني بقيادة فاروق طيفور جلبهة الن�صرة التي هي فكريا و�سيا�سيا وممار�سة ن�سخة من القاعدة دليل وا�ضح على هذا .وكان بالطبع من املفارقة �أن تقوم الواليات املتحدة باعتبار جبهة الن�صرة منظمة �إرهابية بينما يحتج على ذلك الإخوان امل�سلمون! ولعل ما هو �أكرث افت�ضاحاً من مواقف قوى الدين ال�سيا�سي يف هذه البلدان جتاه �سوريا هو موقف حركة حما�س بدءاً من الهروب املبكر لأمني �سرها خالد م�شعل �إىل قطر وذهابه ملبايعة �أردوغان وم�شاركة مقاتلني من حما�س يف القتال �ضد اجلي�ش العربي ال�سوري وخا�صة يف خميم الريموك. �إن نظرة دقيقة لهذا امل�شهد ت�شي ب�أن اال�شتباك لن يوقف قريباً وب�سهولة ،وب�أن �أمام �سوريا معركة ال منا�ص من االنت�صار فيها ،وب�أن املكون الرتكي يف العدوان هو الأ�سا�س نظراً للجوار اجلغرايف وللدور الذي حتلم به وتوكيل املركز الإمربيايل لها للقيام بهذا الدور .ولعل ما ي�ضع تركيا يف م�أزق �أ�شد �أن دورها «الوكيل للمركز الإمربيايل» ي�ضعها �أو يجدد دورها املعادي لالحتاد الرو�سي الذي تعمق حتالفه مع �سوريا .و�إذا و�ضعنا باالعتبار �أن املركز الإمربيايل يف م�أزق بدايته تراخي قب�ضته على �صعيد عاملي ،ف�إن هذا ال يحمل لرتكيا �أنباء م�ستقبل جيد .ولعل ما يقلق تركيا كذلك �أن الأزمة االقت�صادية املالية مل تنح�صر يف �سيدها الع�سكري �أي الواليات املتحدة بل تطول �سيدها االقت�صادي �أي االحتاد الأوروبي الذي يقف على طريق فقدان وليده املهتز اليورو. �أما واملعركة على �أ�شدها مع بداية العام ،2013كما �أن اال�صطفاف يف غاية الو�ضوح ،ف�إن ما يجب �إ�ضافته ملا ذكر هو التذكري بالأدوار املعادية للقومية العربية التي تقفها معظم الطبقات احلاكمة يف الوطن العربي مدعومة بفيالق من املثقفني املخروقني يف هذا الوطن والذين ال يقلون �سطحية وارتزاقاً عن ابطال الف�ضائيات و�أجهزة الإعالم التي ت�صطف يف جانب الثورة امل�ضادة .ولعل الالفت هو حال ال�سلطة واملعار�ضة والإعالم امل�صري حيث ال يجتمعون على م�صلحة م�صر بل �ضد �سوريا .لكن هذا حديث �آخر. وعود على بدء ،ف�إن ا�ستقرار وتقدم هذا الإقليم مرتبط بانت�صار حتالف املقاومة واملمانعة ما يخلق فر�صة تفاهم عربي� -إيراين و ُيبقي تركيا يف حجمها احلقيقي ناهيك عن حتجيم الكيان ال�صهيوين. وهذا التحالف ُمطالب اليوم ب�إدراك �أن ما ُيقال على �أل�سنة بع�ض املحللني العرب عن ان�سحاب الواليات املتحدة للتخ�ص�ص يف العدوان على ال�صني لي�س دقيقاً .فما يح�صل هو تق�سيم عمل بني ل�صو�ص الإمربيالية الذين ال يزالون مت�آخني ،وبالتايل ،ف�إن ما يح�صل هو تو�سيع للدور العدواين الأوروبي ،وهو باملنا�سبة �أخطر من الأمريكي نظراً لتال�صق احليز بني الإقليم و�أوروبا ونظراً لل�صراع التاريخي بني �أوروبا والأمة العربية ،وهو �صراع ال يحله قط �سوى مغادرة العامل للت�شكيالت االجتماعية االقت�صادية الر�أ�سمالية .فر�أ�س املال ال ُي�صالح وال ُي�سامل.
129
املنطقة والعامل
أوروبيون ميانيون ال � الب َبر... رَ ّ ّ
| املحامي �أحمد الدب�ش | نقابي وباحث من فل�سطني
ُ قوي البنية� ،صعب اِملرا�سُ ،عرف عند امل�ؤ ِّرخني القُدامى، ي�سكن ال�شمال الإفريقي �شعب ٌ يتحدثونَ عنه ،وقد اختلف واملُ ْحدِ ث َني با�سم الرببر ،وهذه الت�سمية يرويها امل�ؤ ِّرخون العرب ،عندما َّ الباحثون يف �أُ�صول ال�شعوب ،اختالفاً كبرياً ،يف ت ْعيني الأَ�صل الذي ا�ش ُت ٌق منه هذا ال�شعب، فمنهم من ر َّد ُه �إىل �أ�صل �سامي� ،أو يافثي ،وجاء الأوروبيون حديثاً ،فزادوا البحث ت�ش ٌعباً ،وا�ضطراباً، �سِ َّيما املُغر�ضني منهم� ،أولئك الذين مل يكونوا يبحثون عن احلقيقة لذاتها ،و�إمنا كانوا َيرمون �إىل ت�شكيك امل�ست�ض َعفني يف �أن�سابهم ،وحموْ االعتزاز بالآباء ،والأجداد من نفو�سهم� ،إخماداً جلِذو ِة وحما�ستهم ،وتروي�ضهم على اال�ستكانة ،والهوان. حِ ميتِهمَ ، نقدم هذه املادة ،يف �سياق الت�أكيد على عروبة كل الأر�ض العربية ،وعلى حقيقة الوجود القومي ِّ فثمة م�ؤامرة العربي ،من العراق ،وبالد ال�شام� ،إىل م�صر ،وال�سودان� ،إىل بلدان املغرب العربيَّ . اليوم ،لو�صف الوجود العربي ،خارج اجلزيرة العربية كاحتالل ،والخرتاع ه ِو ّيات حم ِّلية �أ�صيلة، ُمناهِ �ضة للعروبة ،و�سابِقة لها ،على ما زعموا ،يف كل �أقطار العرب ،خارج اجلزيرة العربية .و�إذ نقدم هنا �صفحات موثَّقة من عروبة الرببر (الأمازيغ) القدمية ،فلأن التاريخ القدمي للمغرب العربي ِّ يتع َّر�ض للت�شكيك ،والطعن بعروبته �أكرث من غريه� ،أكرث من العراق ،و�سوريا الكربى ،مث ًال، و�أكرث من م�صر ،وال�سودان .وامل�ست�شرقون الغرب ّيون حر�صوا على اخرتاع �أ�صول �أوروبية للأمازيع (الرببر) ،كجزء من م�شروع �شطب هوية الوطن العربي؛ القومية ،واحل�ضارية. ففي «مو�سوعة ويكيبيديا» على الإنرتنت ،مث ًال ،جتد بالإجنليزية حتت مدخل «بربر» ،تعريفاً يقول: يهدف ل�سلخ املغرِب «�أنهم قو ٌم �أقرب للأوروبيني ،منهم لل�ساميني ،والعرب» .وهو الأمر الذي ُ العربي الكبري عن �أ َّمت ُه . والدارِ�سون املُ ِ ن�صفون لل�شعب الرببري ،مل يوجد بينهم واحدُ ،ينكِ ر �أن يكون لبع�ض الرببر انتماء �سامي [جزري مبفهومنا] ،بل � َّأكد العديد منهم� ،أن �أكرث َّية القبائل الرببريةُ ،منحدِ رة من احلمري ّيني ُ�س ّكان اليمن .فقد روي عن م�ؤ ِّرخي العرب ،وعديد من م�ؤ ِّرخي الرببر املتع ِّربني ،من وتخليفهم بها ،عند رجوعهم جماعات غزو احلمري ّيني لبالد املغرب ،يف �أواخر الألف الثالثةْ ، منهم ،وفرية العدد ُهم �أ�صل بع�ض قبائله ،ول َن�شِ ْر �إىل �أحد م�ؤ ِّرخي اليمن ،وهو «حممد بن احل�سن عدد رقم � | 1أيـار
2013
130
املنطقة والعامل
�سمى بالإكليل ،ف�إنه بن �أحمد بن يعقوب الهمداين» ،الذي �أ�شار �إىل ذلك يف كتا ِب ِه احلافل ،املُ ّ ملّا َذكر قبيلة ملتونة ،التي منها الأ�سرة امللك َّية املرابِطة باملغرب ،قال �إنها فخذ من �صنهاجة ،و�إن �صهناجة من ولد عبد �شم�س بن وائل بن حِ ْمري ،و�إن امللك �أفريقي�ش بن �أبرهة ،ملّا ملك حمري فلما َّ توغل باملغرب بنى مدينة �أفريقية؛ هي م�شتقة خرج غازياً نحو بالد املغرب ،و�أر�ض �أفريقيةّ ، وخلف بها من قبائل حمري وزعمائها �صنهاجة ،لري ُّدوا الرببر على �شاكلتهم ،وي�أخذوا من ا�سمه؛ َ �سمى �سكان املغرب بربراً ،ف�إنه ملا غزاه خراجهم ،و ُيد ِّبروا �أمرهم .ويقال �إن �أفريقي�ش هو الذي َّ بقومه ا ِحل ْمرييني ،و�سمع رطانة ُ�س ّكان ُه ،قال ما �أكرث بربرتهمُ ،ف�س ّموا بربراً ،والرببرة يف اللغة ال َّل ُ غط، واختالط �أ�صوات غري مفهومة . �أما الع َّالمة «ابن خلدون» ،الذي َك َت َب تاريخه ،بعد «الهمداين» بنحو �أربعمائة عام ،فريى �أن الرببر ي�صلون �أن�سابهم ب�أن�ساب العرب من �أهايل اليمن .وال �أ�ستطيع �أن �أَنقِل كل ما ذكر ُه الع ّالمة «ابن خلدون» ،يف �أن�ساب الرببر ،ولكن �أَنقِل ما جاء يف اجلزء الثاين من تاريخه ،حيث قال�« :أول و�س ِّم َي ذا املنار؛ لأنه َرفع املنار التبابِعة باتفاق امل�ؤ ِّرخني احلارث الرائ�ش ...ثم َم َل َك بعده ذو املنارُ ... ليهتدي به ،ثم َم َل َك بعده ابنه �أفريقي�ش ،وهو الذي ذهب بقبائل العرب �إىل افريقية ،وبه ُ�س ِّم َي ْت، و�ساق الرببر �إليها من �أر�ض كنعان ،م َّر بها ،عندما غلبهم يو�شع ،وقتلهم ،فاحتمل �أفريقي�س الغل منهم ،و�ساقهم �إىل �أفريقية ،ف�أنزلهم بها ،وقتل ملكها جرجري ،ويقال �إنه الذي َ�س ّمى الرببر بهذا اال�سم ،لأنه ملا افتتح املغرب ،و�سمع رطانتهم قال :ما �أكرث بربرتهمُ ،ف�س ّموا الرببر ،والرببرة يف لغة العرب ،هي اختالط �أ�صوات غري مفهومة ،ومنه بربرة الأ�سد .وملَّا َرجع [�أفريقي�ش] من غزو املغرب، َترك هنالك من قبائل حمري �صنهاجة ،وكتامة ،فهم �إىل الآن بها ،ولي�سوا من نَ�سب الرببر . قال «ن�شوان احلمريي»« :امللك �أفريقي�س بن ذي املنار بن الرائ�ش ،غزا نحو املغرب عن ميني م�سري �أبيه ،حتى انتهى �إىل طنجة من �أر�ض املغرب ،فر�أى بالداً كثرية اخلري ،قليلة الأهل ،ف�أمر ببناء مدينة �إفريقية ،و�أ�سكن فيها قبائل من قو ِمهِ ،وهم ُكتامة ،و ُعهامة ،وزناتة ،ولُواتة ،و�صُ نهاجة ،قبائل �ضخمة يف املغرب من حمري ،ونقل الرببر ،وهم جيل من النا�س ،بق َّية َّممن قتلهم يو�شع بن نونَ ،هربت منهم طائفة �إىل ال�سواحل ،ثم رجعوا بعد ذلك �إليها ،فقتل �إفريقي�س منهم يف غزوته من قاتل ،ونقل بقيتهم ،ف�أ�سكنهم بحيث هم من بالد الرببر ،ويف ذلك يقول: 1
2
بربرت كنعان ملا �ساقها
للعي�ش اللجب من بال ِد املُلك ِ
(*)
1جم َّلة درا�سات مين َّية (�صنعاء) ،عبد الوهاب بن من�صور ،داللة املعمار اليمني على عروبة قبائل بربرية ،العدد الثامن والثالثون ،جم َّلة ف�صل َّية ت�صدر عن مركز الدرا�سات والبحوث اليمني� ،أكتوبر ـ نوفمرب ـ دي�سمرب� ،1989 ،ص (.)116-115 ( 2ابن خلدون) عبد الرحمن بن حممد ،تاريخ ابن خلدون ،املُج َّلد ال�ساد�س ،اجلزء الثاين ،م�صر ،مطبعة بوالق ،بدون تاريخ ن�شر� ،ص.51 * هنا خط�أ تاريخي ق�صد منه منطقة ميانية ،يراجع (الدب�ش) �أحمد ،كنعان وملوك بني �إ�سرائيل يف جزيرة العرب ،ط ،1دم�شق ،خطوات للن�شر والتوزيع.2006 ،
املنطقة والعامل
البرَ َبر ...ميان ّيون ال �أوروب ّيون
131
�أما «ابن عبد احلكم»؛ فيقول« :وكان الرببر بفل�سطني* ،وكان ملكهم جالوت ،ف ّلما قتله داود عليه متوجهني �إىل املغرب ،حتى انتهوا �إىل لوبية ،ومراقية ،وهما كورتان من كور ال�سالم ،خرج الرببر ِّ فتقدمت زناتة ،ومغلية م�صر الغربية ،مما ي�شرب من ماء ال�سماء ،وال ينالهما النيل .فتف َّرقوا هنالكَّ ، وتقدمت لواتة ،ف�سكنت �أر�ض انطابل�س وهي برقة ،وتفرقت يف هذا �إىل املغرب ،و�سكنوا اجلبالَّ ، املغرب وانت�شروا فيه حتى بلغوا ال�سو�س.ونزلت هوارة مدينة لبدة .ونزلت نفو�سة �إىل مدينة �سربة. وجال من كان بها من الروم من �أجل ذلك . قال «الذهبي» ،الرببر ،وبربر من َولد قيذار بن �إ�سماعيل؛«�إِنَّ َدار البرَْ َبر َكانَ ْت ِف َل ْ�سطِ ينْ َ ،و َمل ُِكهم ه َُو َجالُوتَ ،ف َل َّما قتله نَب ُِّي اهلل َدا ُو ِ د؛جلت البرَْ َب ُر �إِلىَ املَ ْغ ِربَ ،وانت�ش ُروا �إِلىَ ال�سو�س الأَ ْق َ�صىَ ،فطُول �أَ َرا�ضيهم نَح ٌْو م ِْن َ�ألف َفر�سخ» . وقال �أي�ضاَ « :ف�أَ ّول َم ْن كَانَ فِيهِ م امللك م َِن البرَْ َبر ِ�ص ْن َه َاجةُ ،ث َُّم ُك َتا َمة ،ث َُّم لمَْتُونَة ،ث َُّم م�صْ مو َدة ،ث َُّم زنَا َتةَ .وق َْد َذ َك َر ا ْب ُن ُد َر ْيد �أَنَّ ُك َتا َمةَ ،ولمَْتُونَةَ ،و َه َّوا َرة م ِْن حِ مِ رْيَ ،و َم ْن �سِ َوا ُهم ،فَمِ َن البرَْ َبرَ ،وبربر م ِْن َولد َ قيذار بن �إِ ْ�س َماعِ ْي َل» . يقول �صاحب كتاب «تاج العرو�س من جواهر القامو�س»َ « :ب ْرب ٌر :جِ ٌيل من النا�س ال تكا ُد قبائ ُله حام، َت ْن َح ِ�ص ُر ،كما قا َله ُ لل�س َه ْيل ِّي� :إ ّنهم ،وا َحل َب�شَ َة مِن َو َلدِ ٍ ابن َخ ْل ُدون يف ال ّتاريخ ،ويف ال َّر ْو�ض ُّ ويف ا ِمل�صْ باح �إ ّنه ُم َع َّر ٌب ،وقيل� :إ ّنهم َب ِق َّي ٌة من َن ْ�س ِل يُو�شَ َع ِبن نُونٍ ،مِن ال َع َماليقِ ا ِحلمْيرَ ِ َّيةِ ،وهم ال�س َم ْي َد ِع ،و�إنه َ�سمِ َع َلف َْظهم ،فقال :ما �أكثرَ َ َب ْر َب َر َتكمُ ،ف�سمُّوا البرَْ َبر َ ،وقيل غ ُري ذلك .البرَ ا ِب َر ُة َر ْه ُط َّ �شئت َح َذ ْف َتها ،وهم زا ُدوا الها َء فيه �إما لل ُع ْج َمةِ ،و�إ ّما لل َّن َ�س ِب وهو ال�صحيح .قال «اجلو َهر ُِّي» :و�إن َ ُ ُو�س ،وغ ِري َها ،متف ِّر َق ٌة يف �أطرافِها ،وهم َزنَانَةُ ،و َه ّوارة، �أي �أك ُرث قبائلِهم باملَ ْغر ِِب يف اجلِبال مِن �س َ ِ جالُوت ،فلما ُقت َِل و�ص ْن َه َاجةَ ،ونبزةُُ ،وك َتامةُ ،و َلوِات َه ،ومديونة ،و�شباته ،وكانوا كلهم ب ِف َل ْ�سطِ َني مع َ الد َر ِر َ ابن َح َجر . الكا ِم َنة للحافظِ ِ َت َف َّرقُوا ،كذا ُّ جند رواية �أخرى عند «�أحمد بن �أبي يعقوب بن وا�ضح» ،يف تاريخه امل�شهور بتاريخ اليعقوبي، غري هذه تقول« :وكانت الرببر ،والأفارقة ،وهم �أوالد فارق بن بي�صر بن حام بن نوح ،ملا ملك �إخوتهم ب�أر�ض م�صر ،ف�أخذوا من العري�ش �إىل �أ�سوان ط ً وال ،ومن �أيلة �إىل برقة عر�ضاً ،خرجوا نحو املغرب ،فلما جاوزوا �أر�ض برقة �أخذوا البالد ،فغلب كل قوم منهم على البلد ،حتى انت�شروا 3
4
5
6
3
4
5 6
(ابن عبد احلكم) عبد الرحمن بن عبد اهلل ،فتوح م�صر واملغرب ،اجلزء الأول ،حتقيق :عبد املنعم عامر ،القاهرة ،الهيئة العامة لق�صور الثقافة� ،1999 ،ص.229 َ (الذ َهبي) �شم�س الدين �أبو عبد اهلل حممد بن �أحمد� ،سري �أعالم النبالء ،اجلزء الثامن ع�شر ،حتقيق :جمموعة حمققني ب�إ�شراف �شعيب الأرنا�ؤوط ،بدون بلد ن�شر ،م�ؤ�س�سة الر�سالة� ،ص.429 امل�صدر نف�سه� ،ص.429 حممد بن عبد الر ّزاق احل�سيني �أبو الفي�ض ،تاج العرو�س من جواهر القامو�س ،اجلزء الأول،حتقيق :جمموعة حممد بن ّ (ال َّزبيدي) ّ من املحقِّقني ،بدون بلد ن�شر ،دار الهداية� ،ص (.)2503-2502 عدد رقم � | 1أيـار
2013
132
املنطقة والعامل
ب�أر�ض املغرب .ف�أ َّول من َملك منهم لواتة يف �أر�ضُ ،يقال لها �أجدابية من جبال برقة ،وملكت مزاته يف �أر�ضُ ،يقال لها ودان ،فن�سب ه�ؤالء القوم �إىل �أبيهم ،وجاز قوم منهم �إىل بلدُ ،يقال له تورغة، فملكوا هناك ،وهم هواره ،و�آخرون �إىل بالد �أرميك ،وهم بذرعه .و�سار قوم �إىل طرابل�سُ ،يقال لهم امل�صالني ،وجاز قوم �إىل غربي طرابل�سُ ،يقال لهم وهيلة . قال «ابن خلكان» ،يف َمعر�ض ذِكر �أ�صل امللثمني [الطوارق]�« :أ�صل ه�ؤالء القوم من حمري بن �سب�أ ،وهم �أ�صحاب خيل ،و�إبل ،و�شاء ،وي�سكنون ال�صحارى اجلنوبية ،وين َتقِلون من ماء �إىل ماء كالعرب ،وبيوتهم من ال�شعر ،والوبر . �أما «القلق�شندي» ،فقد َّخل�ص الآراء يف َن�سب الرببر ،قائ ًال« :والرببر فيهم خالف يرجع �إىل �أنهم ،هل الن�سابني هم من العرب� ،أو من غريهم؟ وقد اختلف يف ن�سبهم اختالفاً كثرياً ،فذهبت طائفة من ّ �إىل �أنهم من العرب ،ثم اخ ُتلف يف ذلك ،فقيل� :أوزاع من اليمن ،وقيل :من غ�سان ،وغريهم تف َّرقوا عند �سيل ال َعرم ،قاله امل�سعودي .وقيل :خ َّلفهم �أبرهة ذو املنار� ،أحد َتبابعة اليمن حني غزا العرب. وقيل :من ولد لقمان بن حِ ْمري بن �سب�أ ،بعث �سر ّية من بنيه �إىل املغرب ليعمروه فنزلوا وتنا�سلوا فيه. وجذام كانوا نازلني بفل�سطني من ال�شام� ،إىل �أن �أخرجهم منها بع�ض ملوك فار�س، وقيل :من خلمُ ، فلج�أوا �إىل م�صر ،فمنعهم ملوكها من نزولها ،فذهبوا �إىل الغرب ،فنزلوه .وذهب قوم �إىل �أنهم من ولد يق�شان بن �إبراهيم عليه ال�سالم .وذكر احلمداين �أنهم من ولد بر بن قيذار بن �إ�سماعيل بن �إبراهيم عليهما ال�سالم ،و�أنه كان قد ارتكب مع�صية فطرده �أبوه ،وقال له :الرب ،ال ّرب ،اذهب يا َبر ،فما �أنت َبر. وقيل :هم من ولد بربر بن ك�سلوحيم بن حام. وقيل :من ولد متيلة بن م�أرب بن قاران بن عمرو بن عمليق بن الوذ ابن �إرم بن �سام بن نوح. وقيل :من ولد قبط بن حام بن نوح. وقيل� :أخالط من كنعان والعماليق. وقيل :من حمري وم�صر ،والقبط. وقيل :من ولد جالوت ،ملك بني �إ�سرائيل ،و�أنه ملّا َق َت َل داود عليه ال�سالم جالوت ،تف َّرقوا يف و�سماهم الرببر. فلما غزا �إفريق�ش الغرب ،نقلهم من �سواحل ال�شام ،و�أ�سكنهم املغربّ ، البالدّ ، وقيل :بل �أخرجهم داود عليه ال�سالم من ال�شام ،ف�صاروا �إىل املغرب .وهم قبائل كثرية ،و�شعوب جمة ،وطوائف متف ِّرقة ،و�أكرثهم ببالد املغرب ،وقد �صار بع�ضهم من املغرب �إىل م�صر ،فنزلوا وتل َّب�سوا بالعرب ،بع�ضهم بالوجه البحري ،ببالد البحرية ،واملنوفية ،والغربية ،وبع�ضهم بالوجه 7
8
( 7اليعقوبي) عبد الرحمن بن حممد ،تاريخ اليعقوبي ،موقع الوراقhttp://www.alwarraq.com: ( 8ابن خلكان) �أبي العبا�س �شم�س الدين �أحمد بن حممد بن �أبي بكر ،وفيات الأعيان و�أنباء الزمان ،اجلزء ال�سابع ،حتقيق� :إح�سان عبا�س ،بدون بلد ن�شر ،دار الثقافة� ،1968 ،ص .128
املنطقة والعامل
البرَ َبر ...ميان ّيون ال �أوروب ّيون
133
القبلي باجليزة ،وبالد البهن�سا� ،إىل �أق�صى ال�صعيد .قال �صاحب العرب :وهي على كرثتها ترجع �إىل �أ�صلينْ ،ال تخرج عنهما ،وهم :الأول :الربان�س ،وهم بنو برن�س من بربر .والثاين :البرت ،وهم بنو مادغ�ش الأبرت بن بربر .قال :وبع�ضهم يقول� :إنهم يرجعون �إىل �سبعة �أ�صول ،وهم� :إردواحة، وم�صمودة ،و�أَ ْو َر َّبة ،وعجبةُ ،وكتامه ،و�صنهاجة ،و�أوريغة .ثم قال :وزاد بع�ضهم :ملطة ،وهك�سوره، وكزولة» . وقال ل�سان اليمن «الهمداين» ،يف نَ َ�س ِب قبائل الهمي�سع بن حمري الأكرب بن �سب�أ الأكرب ،ما يلي: «و�أما ُم ّرة بن عبد �شم�س فولده ـ كما ُيقال واهلل �أعلم ـ كتامة ،وعهامة ،و�صنهاجة ،ولواتة ،وزنيت، وهو زناتة .و ُهم ر�ؤ�ساء الرببرُ ،نقِلوا مع �س ِّيدهم كنيع بن يزيد ،يوم �أ�شْ َخ َ�صه �إفريقي�س� ،إىل �إفريقية، و�ص َرف املُنتاب عنها» . َ مقدمته ال�شهرية« :واحلق الذي ال ينبغي التعويل على غ ِري ِه ،يف �ش�أنهم يقول «ابن خلدون» ،يف ِّ �أنهم من َو َلدِ كنعان بن حام بن نوح عليه ال�سالم ...و�أن ا�سم �أبيهم �أمازيغ» . �إذن َت�سمِ يتهم «�أمازيغ» ،ف�أ�صلها من ا َجلد الأعلى للربان�س ،وهو «مازيغ بن كنعان»؛ ذكر ذلك ابن خلدون يف تاريخه ،نق ًال عن ّن�ساب ِة الرببر «هاين بن بكور ال�ضريبي» ،و»�سابق بن �سليمان املطماطي» ،و»كهالن بن �أبي ل�ؤي» ،و»�أيوب بن �أبي يزيد» ،وغريهم ،قال�« :إن الرببر ،فرقتان، وهما الربان�س والبرت ،فالبرت من ولد بر بن قي�س بن عيالن ،والربان�س بنو برن�س بن �سفجو بن ابزج بن جناح بن ،واليل بن �شراط بن تام بن دومي بن دام بن مازيغ بن كنعان بن حام ،وهذا الذي يعتمد ُه ّن�سابة الرببر» . ف�أغلب امل�ؤ ِّرخني العرب يرون�« :إن الرببر قدموا من اجلزيرة العربية ،يف زمن ال يقِل عن ثالثني قرناً ق.م ،.و�أن الفينيقيني اختلطوا بالرببر ،على طول ال�سواحل الأفريقية املغربية ،يف القرن الثاين ع�شر ق.م ،.وملّا كان الفينيقيون عرباً من كنعان ،فقد اختلطوا بالرببر ،الذين هم َعرب من العاربة القحطان َّية». يقول الكاتب الفرن�سي« ،فلوريان»« :التطا ُبق الكامل بني العرب والرببر ،فيما يلي� :أ�صل م�شرتك، لغة واحدة ،عواطف واحدة ،كل �شيء ُي�ساهِ م يف ربطها ربطاً متيناً» . يقول «عبد الرحمن باغي»« :علماء اجليولوجيا يعتربون اجلزيرة العربية ،امتداداً طبيعياً لأفريقيا، 9
10
11
12
13
9القلق�شندي ،قالئد اجلمان يف التعريف بقبائل عرب الزمان ،ن�سخة م� َّصورة ،بدون بلد ن�شر ،بدون دار ن�شر. ( 10الهمداين) احل�سن بن �أحمد بن يعقوب ،الأكليل ،اجلزء الثاين ،حتقيق :حممد بن علي الأكوع احلوايل ،ط ،3بريوت ،من�شورات املدينة� ،1986 ،ص.94 ( 1 1ابن خلدون) عبد الرحمن بن حممد ،مقدمة ابن خلدون ،بريوت ،دار اجليل ،بدون تاريخ ن�شر� ،ص.106 ( 1 2ابن خلدون) عبد الرحمن بن حممد ،تاريخ ابن خلدون ،اجلزء الرابع ،م�صر ،مطبعة بوالق ،بدون تاريخ ن�شر� ،ص.164 ( 1 3ال�سعدي) عثمان ،الرببر االمازيغ عرب عاربة ،ط ،2طرابل�س -ليبيا� ،شُ عبة التثقيف والتعبئة والإعالم� ،ص.28 عدد رقم � | 1أيـار
2013
134
املنطقة والعامل
ال يف�صلها عنها �سوى منبطح وادي النيل ،ومنخفَ�ض البحر الأحمر» . يقول امل�ؤ ِّرخ الأمريكي« ،وليم النغز» يف ت�أريخهِ« :و�إذن؛ فقد كان االجتاه العام للحركة احل�ضارية، من اجلنوب �إىل ال�شمال ،ومن ال�شرق �إىل الغرب ،ولهذا كانت املناطق اجلنوبية ،وال�شرقية ،يف �أي وقت م�ضى ،تتم َّتع بح�ضارات �أكرث ُر ِق ًّيا ،من ح�ضارات املناطق الهام�ش َّية ،يف ال�شمال الغربي» . ي� ِّؤكد هذا�ِ ،ص َّحة كون انتقال الرببر من اجلزيرة العربية� ،إىل �إفريقيا ،يف تلك الفرتة ،لعدم وجود عوارِ�ض لتلك الهِجرة� .إن هذا الكالم ال ينفي وجود اختالف يف الأقوام ،التي َّ �شكلت الرببر، ولكن هذا االختالف ،ال يخرج عن كو ِن ِه ُم�شابهاً لالختالف ،املوجود بني �سكان جزيرة العرب، �شمالها ،وجنوبها ،وما ي� ِّؤكد هذا الكالم ،ما قاله «ابن خلدون» ،الذي يرى يف الرببر ،ما يلي: «الرببر قبائل �ش ّتى ،من حمري ،وم�ضر ،ولقيط ،والعمالقة كنعان ،وقري�ش؛ تالقوا بال�شام ،ولغطوا، ف�سماهم �إفريق�ش بالرببر ،لكرثة كالمهم. »... ّ يختلف «الكلبي» مع بع�ض كالم «ابن خلدون»؛ فيقول�« :إن كتامة ،و�صنهاجة ،لي�ستا من قبائل الرببر ،و�إمنا هما من ال�شعوب اليمانية ،تركهما �إفريق�ش بن �صيفي ب�أفريقية ،مع من نَزل بها من حامية. »... الن�سابة العرب� ،إن جند «ابن خلدون» ي�ستطرد كالمه عن الرببر؛ فقال فيهم« :ال خالف بني ّ الن�سابة �شعوب الرببر ،الذين قدمنا ذك َرهم ،ك ّلهم من الرببر� ،إال �صنهاجة ،وكتامة ،ف�إن من بني ّ العرب خِ الفاً ،وامل�شهور �أنهم من اليمنية» . يف تو�ضيح لكالم «الكلبي» و«ابن خلدون» ،فالر�أي �إنهم عندما َّق�سموا الرببر �إىل عرب ،وغري عرب ،لي�س املعنى �أنهم قد قالوا بعدم عروبة الرببر ،و�إمنا قد ف�صلوا بني القبائل العربية ،التي كانت يف اجلزيرة العربية ،من حيث اللغة العربية ،التي كانت يلهجون بها ،من ناحية ،ومن حيث ت�أثري مناطق �سكناهم على �صفاتهم ،من ناحية �أخرى. هذا االختالف ال يخرج عن هذا الإطار� ،أما عن حتديد قبائل �صنهاجة ،وكتامة ،ب�أنهم من العرب، فاملق�صود �أنهم من قبائل اليمن� ،أما الباقي فهم من قبائل العرب يف بالد ال�شام. فاحلديث عن �شمال �أفريقي جزري ،ال يبد�أ مع دخول الفينيقيني ،يف �أوائل القرن الأول قبل امليالد ،و�إمنا يعود �إىل �أزمنة � ّأقدم بكثري ،وهذا ،بدو ِر ِه ،يجعلنا ننظر �إىل ال�شعب الذي �أُطلِق عليه 14
15
16
17
18
( 1 4ياغي) عبد الرحمن ،حياة القريوان ،بدون بلد ن�شر ،بدون دار ن�شر ،بدون تاريخ ن�شر� ،ص.13 ( 15النغر) وليم ،مو�سوعة تاريخ العامل ،اجلزء الأول ،ترجمة :د .حممد م�صطفى زيادة ،القاهرة ،مكتبة النه�ضة امل�صرية� ،1962 ،ص (.)26-25 1 6تاريخ ابن خلدون ،م�صدر �سبق ذكره� ،ص .177 17امل�صدر نف�سه�،ص .192 18امل�صدر نف�سه�،ص (.)185-184
املنطقة والعامل
البرَ َبر ...ميان ّيون ال �أوروب ّيون
135
لفظ بربري ،على �أنه ينتمي �إىل ال�شعوب اجلزر َّية. يف ذلك يقول«د.طيب تيزيني» ،يف مو�سوعة «م�شروع ر�ؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى املرحلة املعا�صرة ،اجلزء الثاين ،الفكر العربي يف بواكريه و�آفاقه الأوىل» ،ما يلي« :هكذا �إذن ،جند �أنف�سنا �أمام فكرة �أ َّو ِل َّيه محِور َّية؛ �أن الرببر ذوو جذور ،ترتد �إىل م�صادر �سام َّية [جزر َّية مبفهومنا]، ال تبد�أ مع نزوح الفينيقيني �إىل هناك ،وت�أ�سي�سهم م�ستوطنات خا�صة بهم (قرطاجة خ�صو�صاً)، يف القرن ال�سابع قبل امليالد ،كما ُيعلن جميع امل�ؤ ِّرخني ،والباحثني� .أن تلك ِ ال�ص َلة ،تغدو �ضمن ذلك املنظور� .أكرث ق َِدماً .بل �إنها تبدو بنوعية �أخرى ،تتحد بكون الرببر �أنف�سهم �سام ّيني [جزر ّيني مبفهومنا]� ،أو ذوي جذور �سام َّية [جزر َّية مبفهومنا] . ُتعترب هجرة الفينيقيني �إىل املغرب ،واحدة من هذه الهجرات املُت�أخِّ رة للأقوام العربية ،من اجلزيرة �سجل هجرة الفينيقيني .و َتنقُّل العربية ،التي ُ�سبِقت بهجرات �سابقة لها ،مل ُي ِّ �سجلها التاريخ ،كما َّ الفينيقيني ،من اجلزيرة العربية� ،إىل بالد ال�شام ،ومن بالد ال�شام� ،إىل املغرب العربي ،جاء عفوياً، املد الب�شري ،يف هذا احلو�ض احل�ضاري الكبري». لي� ِّؤكد تبا ُدل هذا ْ فمح ِّررو (مادة اجلزائر) ،يف املو�سوعة الفرن�سية (يونيفري�سالي�س )UNIVERSALIS؛ يقولون« :بد�أ تاريخ �سجلوا ح�ضارتهم ،ك�أول ح�ضارة باملدن ،حيث َتركت املغرب الأو�سط ،بو�صولِ الفينيق ّيني ،الذين َّ بها �آثاراً مكتوبة ،ف� َّأ�س�سوا ُم ِّبكراً ،يف القرون الأخرية ،للألف الثانية قبل امليالد ،مراكز جتارية. وتط َّور الفينيقيون �إىل قرطاجنيني ،ومل ي�ستعمروا داخل البالد ،ولكنهم ط َّوروا هذه املدن ال�ساحلية التجارية ،والتي ا�ستم َّرت قائمة ،حتى بعد تدمري قرطاج ،حتمِ ل ت�سميات �سام َّية ،كمدن را�سكورو (دل�س) ،ورو�س كاد (�سكيكدة) ،ورو�س قونية (ماتيفون) .وكان الر�ؤ�ساء الرببر ،امل�سيطرون على داخل البالد حلفاء ،وزبائن جتاريني للقرطاجنينيُّ ،ميدونهم بفِرق ع�سكرية ،وبخا�صة بالفر�سان النوميد ّيني امل�شهورين ،وبال ِف َيلة احلربية ،واجلنود .وانت�شرت ال ُلغة البونيق َّية (اللهجة الفينيقية الكنعانية ال�سائدة يف �شمال �أفريقيا -النا�سخ) ،واحل�ضارة الفينيق َّية بعمق يف البالد ،وظهرت مدناً للأهايل ،و�أ�ضرِحة ،ومزارات دينية ،ب ُنيت� ،أحياناً ،من طرف َف ِّنيني قرطاجنيني .وهكذا فقد كان الرببر تالميذ للفينيقيني ،الذين ع َّلموهم �أ�ساليب زراعية ،و�صناعية ،ك�صناعة الزيت، والنبيذ ،و�صناعة الأدوات من النحا�س؛ وع َّلموهم على اخل�صو�ص ديانتهم .وا�ستمر الرببر يعبدون �آلهة قرطاج ،حتى �أثناء االحتالل الروماين ،لدرجة �أن بع�ض امل�ؤ ِّرخني ،يرون �أن امل�سيحية ،ثم الإ�سالم ،مل ُيقبِال من الرببر ،بهذه ال�سهولة� ،إال ب�سبب دخول هذه الديانة القرطاجنية املغرب، التي هي ديانة �سام َّية .وا�ستمرت اللغة البونيق َّية متداولة ،حتى بعد القرن الثالث امليالدي ،حيث َلعبت دور الو�صلة �إىل اللغة العربية» . 19
20
( 1 9تيزيني) د .طيب ،م�شروع ر�ؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتى املرحلة املعا�صرة ,اجلزء الثاين ,الفكر العربي يف بواكريه و�آفاقه الأوىل ،ط ،1دم�شق ،دار دم�شق� ،1982 ،ص.67
20 Encyclopeadia Universalis, T1, P633.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
136
املنطقة والعامل
لقد خرج الرببر من الع�صر احلجري احلديث ،ودخلوا التاريخ ،والع�صر احل�ضاري عن طريق �إخوانهم املتخ�ص�ص يف الدرا�سات الرببرية« ،رونيه با�سيه» ( ،)R. Bassetيورِد الفينيقيني .فامل�ؤ ِّرخ الفرن�سي ِّ حقائق ت� ِّؤكد ذلك ،فيقول�« :إن ال ُلغة البونيق َّية ،مل تختف من املغرب� ،إال بعد دخول العرب .ومعنى هذا� ،أن هذه اللغة َبقِيت قائمة ،هذه املُ َّدة باملغرب ،لتِ�سعة ع�شر قرناً ،وهو �أمر عظيم .لقد ا�ستمر ت�أثري مدينة قرطاج قائماً ،حتى بعد تدمريها ،فقد حت َّولت (�سريتا) ،حتت حكم امللوك النوميد ّيني الرببر، �إىل مركز بونيقي ،بل �أن ا�سم �سريتا ،هو (قرطا)� ،أي املدينة بالبونيق َّية .لقد َعلم القرطاجنيون الربب َر الزراعةَ .فالرببر يك�سرون ال ُر ّمانة على مقب�ض املِحراث� ،أو يدفنونها يف �أول خط للحرث ،تفا�ؤ ًال ب�أن م�ستمدة من ثقافة قرطاج ،فال ُر ّمانة �سنابل احل َّبة املبذورة� ،ست�أتي كثرية ،بعدد ح ّبات ال ُر ّمانة .وهي عادة َّ لديهم رمز للخ�صوبة .و ُتعترب قرطاج ُمر ِّبية للرببر ،فقد ع َّلمتهم كيفية االعتناء بالزيتونة ،التي كانت موجودة باملغرب ،ك�شجرة وح�شِ َّية ،وكيف َّية ا�ستخراج الزيت منها .ويف�صل «غزيل» ( (Gsellهذه امل�س�ألة لغوياً؛ فيقول�[ :إن كلمة �أزمور بالرببرية ،تعني الزيتونة الوح�ش َّية ،وهو اال�سم الرببري لهذه ال�شجرة� .أما �إذا تك َّلموا عن الزيتونة امللقَّمة� ،أطلقوا عليها اال�سم ال�سامي (الزيتونة) ،وعلى �سائلها ا�سم الزيت.]...كما َع َّل َم الفينيقيون الرببر زراعة التينة ،التي كانت قبلهم موجودة باملغرب ،ك�شجرة وح�شِ َّية� ،أي�ضً ا ،وع َّلموهم زراعة الكرمة ،والر ّمانة ،وع َّلموهم ،عمو ًما ،فن زراعة ال�شجر املُثمر .وقد تبينَّ لنا الآن� ،أن الرببر كانوا على ا ِّت�صال بالفينيقيني منذ ما قبل التاريخ .و َع َّل َم الفينيقيون الرببر ال�صناعات القابِلة للت�صدير ،كال�سرياميك ،و�صناعة املعادن ،والن�سيج ،واملجوهرات :كاخلالخيل، والتيجان ،واخلالالت (امل�شابِك) ،التي ت�صنع يف �صورة كف مب�سوطة الأ�صابِع .والت�شا ُبه ِ وا�ضح ،بني جموهرات القبائل (باجلزائر) ،وال�سو�س (باملغرب) ،وبني املجوهرات القرطاجية� .أما ديانة قرطاج فهي التي كانت ُمنت�شرة باملغرب ،كالإله (بعل عمون) ،والإلهة (تانيت) ،وكان هذا الإله منت�شراً بالعامل العربي ك ّله ،الأمر الذي �أور َد ا�سمه القر�آن ،بالآية�« :أتدعون بعال وتذرون �أح�سن اخلالقني»؛ لدرجة �أن انت�شار الإ�سالم ب�شمال �أفريقيا عائد �إىل ما فعلته قرطاج يف هذه البالد� .أما عن ال ُلغة ،فقد جعل امللوك النوميديون الرببر ،يف العهود الأخرية ،من البونيقية ،لغتهم الر�سمية ،لدرجة �أنه كان النا�س ،يف بالد يتحدثون البونيق َّية� ،أكرث من الرببر َّية ،وحتى يف العهد الروماين� .إن الرببر ،ويف املدن على اخل�صو�صَّ ، املناطق التي انت�شرت فيها البونيق َّية �أكرث ،هي التي تع َّربت بالكامل.والبونيق َّية ُلغة قريبة من العربية، التي ما �إن دخلت املغرب ،حتى خ َّلفت البونيق َّية ،وب�سهولة ،كما �أن �آلهة قرطاج ،هي التي م َّهدت النت�صار الإ�سالم ،يف هذه البالد ،وال ُلغة القرطاجنية ،ع َّبدت الطريق للعربية .وخُ ال�صة القول� ،أن قرطاج مل جتلب �سوى اخلري للرببر ،فقد ع َّلمتهم غر�س الأ�شجار املثمِ رة ،ور َّبتهم روحياً ،ودينياً .ومن تعمق �أكرث ،بعد تدمري قرطاج .لقد د َّمرت روما �أ�سوار قرطاج ،لكنها ف�شلت يف الغريب �أن هذا الت�أثري َّ وتعمقت يف تدمري ت�أثريها يف نفو�س الرببر ،بل �إنه كلما ت� َّأ�س�س احتالل روما للمغرب ،كلما انت�شرتَّ ، نفو�س الرببر ُلغة قرطاج ،وعقائدها .وهل يختلف الو�ضع الآن عنه �آنذاك؟!» . 21
21 Rene Basset: Les Influences Puniques chez les Berberes, Revue Africaine, V.62 (1921), p.340.
املنطقة والعامل
البرَ َبر ...ميان ّيون ال �أوروب ّيون
137
وي� ِّؤكد م�ؤ ِّرخ �آخر فرن�سي ،هو «�سانتا�س» ))P. CINTAS؛ فيقول« :لقد ب َّينت الكتابات البونيق َّية املك َت�شَ فَة باملغرب ،والتي حتمِ ل تاريخ 162 و 147قبل امليالد (�أي حتت حكم ما�سينيا) ،مدى ارتباط الأهايل بقرطاج دينياً ،من خالل عبادتهم لبعل عمون ،الإله القرطاجي ،وهذا ي� ِّؤكد ال�سيطرة التحدث عن ا�ستمرار البونيق َّية ،فقد امل�ستدمية للديانة القرطاجية ،على ال�سكان املح ِّليني� .أريد ُ بقِيت منت�شرة باملغرب ،بعد تدمري قرطاجن ويف العهد الروماين ،وحتى بعد القدي�س �أوغ�سطني، الذي َذكر مراراً �أن ال�سكان الذين كانوا يحيطون به ،يتك َّلمون البونيق َّية� .إن ال ُّلغة البونيق َّية مقدمة لإلغاء الإ�سالم للم�سيحية ،وللثقافة ا�ستمرت بني بع�ض الرببر ،ك ُلغة ثقافة .بل �أن الدونات َّية ّ الرومانية باملغرب . فح�سب رواية «بروكوبيو�س» (� ،)Procopeأحدث احتالل يو�شع بن نون للأر�ض املوعودة ،رحيل الأقوام الذين كانوا يقطنون ال�شاطئ .وبعد �أن حاول ه�ؤالء اال�ستقرار يف م�صر ،ووجدوها مزدحمة توجهوا نحو ليبيا التي احتلوها حتى �أعمدة هرقل (م�ضيق جبل طارق) ،و� َّأ�س�سوا عدداً بال�سكانَّ ، كبرياً من املدن .ي� ِّؤكد «بروكوبيو�س» ،وقد َبق َِي فيها خلفهم ،ومازالوا يتك َّلمون لغة الفينيقيني ،حتى اليوم .وقد �ش َّيدوا� ،أي�ضاً ،ح�صناً يف نوميديا ،يف املكان الذي ترتفع فيه مدينة تيجي�سي�س (.)Tigisis وهناك ،بالقرب من العني الكبريةِ ، تنت�صب م�س َّلتان من احلجر الأبي�ضُ ،نق�ش عليهما بحروف فينيقية ،وبلغة الفينيقيني ،ما معناه :نحن الذين هربنا بعيداً ،من �أمام ال�شرير يو�شع بن نون. ت�ستند هذه الرواية ،كذلك ،على ب ِّينة �أخرى ،جند �أثرها ،قبل ذلك بقرن ،يف ر�سالة للقدي�س «�أوغ�سطني» ()Saint Augustin؛ جاء فيها�« :إذا �س�ألتم فالحينا من هم :يجيبون بالبونيقية �أنهم �شنانيون� ،أو ال يتفق هذا ال�شكل املح َّرف بلهجتهم مع كنعانيني؟» .ويذهب علماء كثريون ،مثل «�أ .دي فيتا» (� ،)A.di Vittaإىل تف�سري رواية «بروكوبيو�س» ( ،)Procopeبالذكرى الغام�ضة لأقدم تغلغُل فينيقي يف املغرب ،وكان �سابقاً لت�أ�سي�س قرطاج . َيذكر امل�ؤ ِّرخ الفرن�سي «رينان» (�« :)E. RENANأن الرببر اعتنقوا الإ�سالم ب�سهولة ،لأنهم كانوا يعرفون البونيق َّية» . متع�صب للرببرية« :كتب امل�ؤ ِّرخون العرب، ويقول «حممد �شفيق» ،من املغرب الأق�صى؛ وهو ِّ وتكمن فكرة الت�أكيد ،اليوم ،على القَرابة وجزموا ب�أن الرببر من �أ�صل مياين ،من العرب العاربةُ ، القدمية املحت َملة ،بني الأمازيغيني ،واليمانيني ،يف ثالث قرائن� :أو ًال� :أن عد ًدا ال ب�أ�س به من �أ�سماء الأماكن ،على الطريق الذي ميتد من املغرب الكبري ،واليمن ،لها ِ�صيغ �أمازيغية وا�ضحة .منها يف �صعيد م�صر (�أبنو� ،أ�سيوط) ،و�إيخيم ،وتيما ،يف جبل حوران ،يف �سوريا ،وتيما يف �شمال ال�سعودية، 22
23
24
22 P. Cintas: Ceramiques Puniques, Paris 1950. Revue Africaine, Vol. 100, 1956.
( 23ج.كامب) ،الرببر الذاكرة والهوية ،ترجمة :جاد اهلل عزوز الطلحي ،طرابل�س -ليبيا ،مركز جهاد الليبيني للدرا�سات التاريخية، � ،2005ص (.)52-51
24 E. Renan: Histoire Generale des Langues Semitiques 7eme edition, p.199.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
138
املنطقة والعامل
وتاركما ،و�أتبار ،وتيمرايني يف ال�سودان ،و�أك�سوم ،ب�أ�سمرا ،و�أكوال ،و�أكو�ؤدات (�أكو�ؤ�ضاد) ،يف �أريرتيا ،وجزيرة �أنتوفا�ش ،يف اليمن .ثانياً :لقد عثرَ ت على عدد من الألفاظ العربية التي قال ب�ش�أنها �صاحب ل�سان العرب� ،أنها حمري َّية� ،أو ميان َّية ،وهي الألفاظ التي لها وجود يف الأمازيغية؛ �إما مبدلولها احلمريي� ،أو مبدلول ُمعاك�س (الأ�ضداد) [ -درج العرب القدماء على و�صف الأ�شياء ب�أ�ضدادها -النا�سخ] ،ثالثاً :بني حروف التيفيناغ القدمية ،ومنها التوارق َّية ،وبني حروف احلمرييني (الأبجدية احلمري َّية -امل�سند) �شَ َبه ملحوظ» . يقول «حممد �شفيق» ...« :ت�سمى هذه احلروف تيفيناغ ،ولقد �أُ ِّو َل ْت هذه الت�سمية ت�أويالت خمتلفة� ،أ�سرعها �إىل الذهن هو �أن الكلمة م�شتقَّة من ‹فينيق ،فينيقيا› ،وما �إىل ذلك .قد ُيطابق رجح ذلك �أ�صل هذه الت�سمِ ية ،ولكن املحقَّق ،هو �أن الكتابة الأمازيغية غري منقولة عنها ،بل َ االعتقاد ب�أنها ،والفينيقية ،تنتمِ يان �إىل مناذج ،جد قدمية ،لها عالقة باحلروف التي اك ُت�شِ ف َْت ،يف جنوبي اجلزيرة العربية» . يقول �أي�ضً ا«:بني حروف «تيفيناغ» ،القدمية منها والتوار َكية ،وبني حروف احلمرييني� ،شَ َبه ملحوظ يف الأ�شكال ،لكنها ال تتقابل يف ت�أدِية الأ�صوات� ،إال يف حالتينْ اثنتينْ ،بتجا ُوز يف التدقيق» . جنوب اجلزيرة العربية، وي� ِّؤكد امل�ؤ ِّرخون� ،أن مدينة �سو�سة بتون�س ،بناها العرب القادمونَ من ِ قبل �أربعة �آالف �سنة ،و�أعطوها ا�سم (ح�ضرموت) .وتوجد �أ�سماء باليمن متطابِقة مع �أ�سماء جتمع كبري للقبائل الرببرية باملغرب لقبائل بربر َّية ،كالأ�شلوح؛ ا�سم قرية ،وقبيلة باليمن ،وال�شلوح ُّ الأق�صى .والأكنو�س ،ع�شرية من بني مهاجر باليمن ،ومكنا�سة باملغرب . ي�شري «عبد الوهاب بن من�صور» ،ع�ضو �أكادمي َّية اململكة املغرب َّية ،يف درا�سته الق ِّيمة «داللة املعمار اليمني ملحدثني ،عندما �أخ�ضعوا �أ�صل الرببر� ،أو �أ�صولهم للمقايي�س على عروبة قبائل بربرية»� ،إىل �أن العلماء ا ِّ العلم َّية اخلا�صة بهمَ ،ك َلون الب�شرة ،ونوع ال�شَ عر ،و�شكل اجلمجمة ،وبنية اجل�سم ،م�ضافة �إليها ال ُلغة، واملو�سيقا ،واملعمار ،والعادات ،واملعتقدات ،وجدوا بينْ بع�ض قبائل الرببر ،وقبائل العرب ،يف اليمن، وح�ضرموت� ،شبهاً كبرياً ،مالوا معه �إىل ت�صديق ما يروِيه كثري من ّن�سابة العرب ،والرببر ،وم�ؤ ِّرخيهم ،عن ف�شكل الإن�سان يف بع�ض القبائل الرببرية� ،شديد ال�شبه ْ ُعروبة الأرومة الرببريةْ ، ب�شكل الإن�سان العربي، يف اليمن ،وح�ضرموت؛ كما �أن ال�ش َبه قوي بني اللهجات الرببرية ،وبني اللغة العربية ،من حيث اال�شتقاق ،وت�صريف الكلمات ،ووجود حروف احل ْلق جمتمعة ،وهي ال جتتمِ ع �إال يف ال ُلغات ال�سام َّية [اجلزر َّية] ،وي�شتد على اخل�صو�ص بني اللهجات الرببرية ،وبني لغة املهرة ،يف غرب �سلطنة ُعمان. 25
26
27
28
�( 2 5شفيق) حممد ،ثالثة وثالثني قرناً من تاريخ الأمازيغيني ،الرباط ،بدون دار ن�شر� ،1989 ،ص (.)21-20 2 6ثالثة وثالثني قرناً من تاريخ الأمازيغيني ،م�صدر �سبق ذكره� ،ص .65 27امل�صدر نف�سه� ،ص .21 يراجع (النواي�سة) �أديب ،املعجم ال�شامل للقبائل العربية الرببرية، القبائل مع اليمنية اال�سماء تطابق عن 28ملزيد من التفا�صيل َ والأمازيغية ،ثالثة �أجزاء ،طَ ،1ع ّمان ،دار كنوز املعرفة.2007 ،
املنطقة والعامل
البرَ َبر ...ميان ّيون ال �أوروب ّيون
139
ومثل هذا الت�شابه يوجد� ،أي�ضً ا ،يف املو�سيقا ،فالر ّنات ،والأحلان ،يف مو�سيقا اجلنوبي العربي، و�أغانيه ،وكذلك الت�صفيق الرتيب ،المُ �صاحب ب�أيدي ،ت�شبه كلها الر ّنات ،والأحلان ،يف مو�سيقا، و�أغاين القبائل الرببرية ،باجلنوب املغربي ،وكذلك طريقه الأداء ،والإن�شاد ،وقد َدر�س كل ذلك، العالمِ الأملاين« ،كارل ولهم خلمان» (1793ـ ،)1851درا�سة ُم�ستفي�ضة ،واملو�سيقار النم�ساوي« ،فون الرحالة الأملاين« ،هانز هولفريتز» ،و�أ�شار �إليه ب�إ�سهاب ،يف هورن جو�ستل» (1877ـ ،)1935و َت َّفط َن له ّ كتابه املو�سوم اليمن من الباب اخل ْلفي. ولكن الذي لفت نظر الباحثني ،والدار�سني المُ عا�صرين ،الذين يعتمدون على الأ ِد َّلة العلم َّية، واملقايي�س العقل َّية ،وا�ستد ّلوا به على عروبة بع�ض قبائل الرببر ،يف �شمال �أفريقيا ،هو ت�شا ُبه املعمار اليمني ،واملعمار الرببري ،وتطبيقها؛ فقد قارنوا بني املباين العا ِل َية ،املوجودة يف جنوب اجلزيرة العربية ،وبني املباين العالية يف قلب احل�ضارة الرببرية ،ب�أعايل جبال الأطل�س ،فلم يجدوا بينهما وال�سمات الهند�س َّية نف�سها؛ كالنتوءات، فرقاً؛ فاملباين يف اجلهتينْ معاً ،تحَ مل املظاهر املعمار َّيةَّ ، والأنابيب اخل�شب َّية ،ل�صرف مياه الأمطار ،والكوات ،والثقوب؛ حتى �إنك لو َ�سكنت ،برهة من الزمان ،قلعة من قِالع جبال ت ُعز ،و�صعدة� ،أو �صرحاً �شاخماً من �صروحها؛ ثم انتقلت فج�أة �إىل قلعة من قِالع �أمزميز ،وتلوات ،بجبال الأطل�س الكبري ،باململكة املغربية؛ لتخ َّي ْلت �أنك ال تزال يف م�سكنك الأول؛ ال�شيء الذي ي� ِّؤكد االعتقاد ِب�ص َّحة ما ُير ِّدد ُه كثري من م�ؤ ِّرخي العرب ،والرببر، ون�سابيهم ،من انحدار الرببر� ،أو بع�ض من قبائلهم من �أرحام مين َّية! . ّ 29
(*) (احلمريي) ن�شوان ،خال�صة ال�سرية اجلامعة لعجائب �أخبار امللوك التبابعة،حتقيق :علي بن ا�سماعيل امل�ؤيد وا�سماعيل بن احمد اجلرايف ،ط ،2بريوت ،دار العودة� ،1978 ،ص.71 29جملة درا�سات مين َّية (�صنعاء) ،جم َّلة ف�صلية تَ�صدُ ر عن مركز الدرا�سات والبحوث اليمني ،عبد الوهاب بن من�صور ،داللة املعمار اليمني على عروبة قبائل بربر َّية ،العدد الثامن والثالثون� ،أكتوبر ـ نوفمرب ـ دي�سمرب� ،1989 ،ص (.)116-115
عدد رقم � | 1أيـار
2013
م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة
بناية ر�سامني� ،شارع احلمرا ،ر�أ�س بريوت ،لبنان �صندوق بريد 113-5557 :بريوت -لبنان هاتف)00961-1( 753363 : فاك�س)00961-1( 753364 : الربيد الإلكرتوينsaadehcf@idm.net.lb : املوقع الإلكرتوينwww.saadehcf.org :
141
املنطقة والعامل
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
| العميد املتقاعد اليا�س فرحات |
مل يعد االنت�شار الع�سكري يف العامل �ش�أنا �أمريكياً خا�صا وال من اهتمامات القطب الآخر يف النظام العاملي ال�سابق ثنائي القطبية� ،إنه �ش�أن جميع الدول وال�شعوب التي ي�شملها االنت�شار او االن�سحاب من االرا�ضي الوطنية واملياه االقليمية �أو الدولية القريبة. الواليات املتحدة �سيدة البحار من دون منازع جدي ،والدولة الوحيدة القادرة على التدخل الع�سكري ال�سريع يف جميع �أنحاء العامل هي اليوم �أمام حتديات ا�سرتاتيجية النت�شارها املفرط بامل�ساحة وحتديات ع�سكرية �أبرزها احلرب غري املتماثلة التي جل�أت اليها ال�شعوب يف افغان�ستان والعراق والتي فر�ضت عليها االن�سحاب من دون حتقيق �أهداف احلرب �أو االنت�شار الذي جرى يف تلك البالد .الواليات املتحدة ذكية والمعة و�سريعة يف الدخول الع�سكري �إىل �أي بلد ،لكنها غبية ومرتددة يف اخلروج وباتت ا�سرتاتيجية اخلروج �أمراً معقدا مل حت�سن الدوائر الع�سكرية اعداده،واالكرث من ذلك انها ف�شلت يف اعداد مثل هذه اال�سرتاتيجية يف منا�سبات عديدة لي�س �أقلها م�شهد الهروب على منت ال�سفن او�سالمل الطائرات من فيتنام �أو الوقفة الت�أملية يف العراق عندما اكت�شف �صناع القرار انهم ب�إزاحتهم نظام �صدام ح�سني ف�سحوا املجال لإيران للتمدد غربا نحو البالد العربية و�شرق �أفريقيا والبحر االحمر. نعر�ض �أدناه لال�سرتاتيجية االمريكية ولالنت�شار الع�سكري االمريكي الذي يعاين الكثري من ال�شوائب وامل�شاكل التي يغطيها عدم وجود قوة ع�سكرية دولية مناف�سة بعدما ف�شل االحتاد االوروبي يف �إن�شاء قوة تدخل يف العامل �أو يف حميطه القريب وبعدما تبني �أن الرو�س وال�صينيني ي�سريون كال�سلحفاة لتحقيق م�أربهم فيما يراوح االرنب االمريكي خطاه.
عدد رقم � | 1أيـار
2013
142
املنطقة والعامل
جاء يف ن�شرة ا�سرتاتيجية االمن القومي االمريكية ال�صادرة عن البيت االبي�ض« :يف مطلع القرن الواحد والع�شرين تواجه الواليات املتحدة جملة حتديات لأمنها القومي ,وكما جنحت يف امل�ساعدة على حتديد م�سار القرن الع�شرين فانها �سوف تبني م�صادر القوة والنفوذ وحتدد النظام العاملي القادرعلى التغلب على حتديات القرن الواحد والع�شرين» .بعد م�ضي عقدين على انتهاء احلرب الباردة يبدو م�شهد العامل املتغري كما يلي :منو كبري يف االقت�صاد العاملي ,التجارة الدولية تتحكم مب�صري معظم الدول ,تو�سعت دائرة الدول الدميوقراطية ,تراجع خطر املواجهة النووية ,الدميوقراطية تنت�شر وبات عدد ال�شعوب التي تتحكم مب�صريها �أكرب .يف املقابل هناك م�شاكل كبرية تواجه هذا العامل �أبرزها �أن احلرب على االيديولوجيات تراجعت لتحل مكانها احلروب الدينية واالثنية والقبلية,ارتفعت خماطر االنت�شار النووي ,ازداد عدم اال�ستقراراالقت�صادي وتراجعت امل�ساواة بني ال�شعوب .يت�شارك اجلميع خماطر تلوث البيئة وت�أثريها على الغذاء وال�صحة العامة .ميكن القول �إن �أدوات بناء الدول نف�سها ميكن �أن ت�ستخدم لتدمريها .ازاء هذا امل�شهد جاءت هجمات 11ايلول لتفتح �صفحة جديدة يف خيارات االمريكيني وهي حماربة االرهاب وما يرتتب عليها من �سيا�سات و ا�سرتاتيجيات جديدة ومكلفة .و�ضع البيت االبي�ض ا�سرتتيجية ثابتة للواليات املتحدة تخدم م�صاحلها االمنية وال�سيا�سية واالقت�صادية والثقافية انطالقا من التحديات التي يفر�ضها الواقع الدويل الراهن يف �أوائل القرن الواحد والع�شرين ومن الفر�ص التي ي�ؤمنها النظام العاملي اجلديد لتحقيق �أهداف وم�صالح �أمريكا. حدد البيت االبي�ض �أربعة �أهداف ثابتة لال�سرتاتيجة االمريكية هي االمن ويق�صد به �أمن الواليات املتحدة ومواطنيها وحلفائها و�شركائها .واالزدهار �أي حتقيق اقت�صاد �أمريكي قوي ومتطور وخالق �ضمن نظام دويل يوفر الفر�ص و�سبل التقدم .والقيم اي احرتام القيم العاملية داخل الواليات املتحدة وخارجها واحلفاظ على النظام العاملي بقيادة الواليات املتحدة الذي يحقق ال�سالم والأمن ويوفر الفر�ص من �أجل تعاون �أقوى ملواجهة التحديات العاملية. يف القوة الع�سكرية تعترب الواليات املتحدة من دون نقا�ش االقوى ع�سكريا يف العامل فهي �سيدة البحار ب�أ�ساطيلها املنت�شرة يف جميع البحار واملحيطات واقمارها اال�صطناعية يف الف�ضاء تراقب الكرة االر�ضية ب�أكملها وقواتها الربية منت�شرة يف نحو 550مكانا يف العامل وهي الدولة الوحيدة القادرة على التدخل الع�سكري التقليدي يف جميع �أنحاء العامل. تتمتع الواليات املتحدة بدبلوما�سية نا�شطة متحركة ال تهد�أ .ترى الدبلوما�سيني ي�أتون من وا�شنطن وين�ضمون �إىل ال�سفراء يف املناطق ال�ساخنة ويتابعون �أدق التفا�صيل ومي�سكون مبلفاتهم ويعاجلونها بجدية ويحر�صون على ا�ستمرارها عند كل تغيري لال�شخا�ص امل�س�ؤولني .على ال�صعيد اال�ستخباري يوجد يف الواليات املتحدة 17جهاز ا�ستخبارات تن�ضوي حتت �إمرة رئي�س املجموعة اال�ستخبارية (ا�ستحدث هذا التنظيم الرئي�س بو�ش الثاين بعد � 11أيلول) و�أهم الأجهزة ،وكالة املخابرات املركزية ووكالة الأمن القومي ووكاالت الدفاع واجلي�ش والقوات اجلوية والبحرية ()1
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
املنطقة والعامل
143
ومكتب التحقيق الفدرايل وغريها. حققت الواليات املتحدة تقدما �إقت�صادياً مذهال جعلها ترتبع على عر�ش االقت�صاد العاملي وتهيمن على اقت�صادات العامل وحتول الدوالر االمريكي �إىل عملة دولية .عام � 1972أعلن الرئي�س نيك�سون وقف االرتباط بني الدوالر والذهب ,معترباً �أن قوة االقت�صاد االمريكي هي م�صدر قوة الدوالر, وبعدها طرحت �أوراقها النقدية من دون تغطية .مل يت�أثر االقت�صاد االمريكي �إال قليال نتيجة احداث 11ايلول وبعد االع�صارات التي اجتاحت مناطق عديدة �أبرزها �إع�صار كاترينا الذي زادت خ�سائره على 100مليار دوالر .حتى االزمة املالية العاملية االخرية الناجتة عن افال�سات امل�صارف الكربى وتدهور �سوق العقارات ا�ستطاعت الواليات املتحدة مواجهتها باعمال حتفيز وهي كناية عن طرح مبالغ مالية هائلة يف اال�سواق وتعومي البنوك من �أجل حتريك االقت�صاد والتغلب على عدو االقت�صاد االول وهو اجلمود. بعد �سقوط االحتاد ال�سوفياتي وتفككه �أ�ضحت الواليات املتحدة القوة العظمى الوحيدة يف العامل وال�سلطة التي تتحكم يف م�صري الدول وال�شعوب .مع كل ذلك �أوقعت الواليات املتحدة نف�سها يف حربني تقليديتني يف �أفغان�ستان والعراق ا�ستنزفتا مواردها وامكاناتها الع�سكرية واالقت�صادية. وبدا ان هاتني احلربني �سوف تنتهيان بهزمية وا�ضحة للواليات املتحدة ب�سبب عدم حتقيق �أهدافها بل على العك�س حتققت �أهداف �أعدائها .ي�ضاف �إىل هاتني احلربني احلرب على االرهاب التي بد�أت بعد 11ايلول 2011ومل تنته بعد وال يقدر �أن تنتهي يف امل�ستقبل القريب. �شكل قرار الواليات املتحدة االن�سحاب من العراق يف نهاية 2011واالن�سحاب من �أفغان�ستان يف نهاية � 2014شبه هزمية ع�سكرية و�سيا�سية ,وقد �أملت املعطيات ال�سيا�سية و االقت�صادية على االدارة اتخاذ هذا القرار ووافق عليه الكونغر�س ب�سبب تفهمه للكلفة العالية للحربني .متتد ا�سرتاتيجية الواليات املتحدة �إىل خمتلف جماالت ال�سيا�سة واالمن والدفاع واالقت�صاد والثقافة وغريها ,وما يهمنا هو ا�سرتاتيجية االمن لأنها اال�سا�س يف املواجهة مع الهيمنة االمريكية. نعر�ض للو�ضع اال�سرتاتيجي االمريكي باال�ستناد �إىل اال�سرتاتيجية التي �أعدها البيت االبي�ض وامل�شار �إليها �آنفاً .يتميز عر�ض اال�سرتاتيجية بتف�صيل كل املوا�ضيع وك�أنها �أجندة عمل ,ال عجب, فتلك هي الرباغماتية االمريكية البعيدة عن االدبيات املطولة. اعترب البيت االبي�ض �أن التهديدات التي تواجهها الواليات املتحدة تغريت ب�شكل دراماتيكي خالل ال�سنوات الع�شرين املا�ضية ,فبدال عن خ�صم نووي واحد �أي االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق, تتعر�ض لتهديد انت�شار ا�سلحة نووية وو�صولها �إىل �أيدي متطرفني ال ميكن ردعهم عن ا�ستعمالها. وبدال من التعامل مع امرباطورية كبرية تو�سعية ,تواجه الواليات املتحدة عدداً من الدول التي تعتربها متطرفة ومارقة عن ال�شرعية الدولية �أو دول تتهاوى وت�شكل خطراً جراء تفككها .باال�ضافة �إىل مواجهة اعدائها يف امليدان التقليدي تواجه �أمريكا خطر احلرب غري املتماثلة (احلرب الثورية عدد رقم � | 1أيـار
2013
144
املنطقة والعامل
واالرهاب) وخطر حرب املعلوماتية .تبقى م�س�ؤولية الواليات املتحدة حماية مواطنيها واال�ضطالع مب�س�ؤولية احلفاظ على ال�سالم واالمن الدوليني .الواليات املتحدة هي الدولة الوحيدة يف العامل القادرة على ن�شر قوات ع�سكرية مقاتلة يف جميع �أنحاء العامل وحتتفظ بقدرات ع�سكرية متفوقة متكنها من �إحلاق الهزمية ب�أي عدو ,وردع �أي تهديد وت�أكيد م�صداقيتها جتاه حلفائها و�شركائها .يف الداخل تعمد االدارة على تكامل جهود االمن الوطني مع كل متطلبات االمن القومي وتعزيز جهوزية الوحدات املخت�صة ومرونتها يف العمل .يف اخلارج ,تعزز االدارة حتالفاتها وتقيم �شراكات جديدة وت�ستخدم �أدوات القوة االمريكية من �أجل حتقيق اهدافها ومن �ضمنها ا�ستخدام الدبلوما�سية و تقوية القواعد والنظم الدولية من �أجل عزل احلكومات التي ال تلتزم بها وح�شد التعاون الدويل �ضد الالعبني -غريالدول الذين يعر�ضون امنها للخطر. تتمثل تدابرياالمن يف اال�سرتاتيجية االمريكية النقاط التالية: تعزيز االمن واملرونة يف العمل على اجلبهة الداخلية:
تواجه الواليات املتحدة االخطار املهددة ملواطنيها وهي االرهاب والكوارث الطبيعية والهجمات االلكرتونية املعلوماتية وانت�شار االوبئة .ولهذه الغاية يجري تعزيز التدابرياالمنية يف الداخل لردع �أي هجمات وحماية البنى التحتية واملوانىء البحرية واجلوية والنقاط احلدودية وال�سواحل واالجواء وتن�سيق اجلهود الفدرالية واملحلية واالهلية لتحقيق هذه االهداف. �إتخاذ تدابري فعالة ملواجهة حاالت الطوارىء :تقوم االدارة ببناء كل االمكانات املطلوبة من اجل مواجهة الكوارث والتخفيف من �أ�ضرارها ,والت�أكد من توحيد كل اجلهود وامل�ؤ�س�سات املعنية بعمليات االنقاذ واالغاثة تطوير ,وتعزيز االمكانات التقنية واالت�صاالت وتخطيط برامج العمل على خمتلف امل�ستويات احلكومية من �أجل �سرعة املواجهة وجناحها. حت�صني املجتمع �ضد الراديكالية :ح�صلت م�ؤخرا �أعمال �إرهابية قام بها مت�شددون �أعدوا انف�سهم للعمل يف داخل البالد وخارجها وتبني �أنه قد مت تن�شئتهم يف داخل البالد .تقوم احلكومة الفدرالية باتخاذ تدابري لتوعية العائالت واملجتمعات وامل�ؤ�س�سات .تخ�ص�ص احلكومة الفدرالية جهودا ا�ستخبارية من �أجل تفهم هذا التهديد وحث املجتمعات على مواجهته واعداد برامج لهذه الغاية .وتقوم �أي�ضاً بناء على خربة الوكاالت احلكومية ومواردها ,باال�صغاء �إىل هواج�س املجتمع ومنع الهجمات على الداخل االمريكي و�إعداد �سيا�سات تتما�شى مع اهتمامات املجتمعات للحفاظ على التعددية واعتبارها م�صدر قوة �أمريكياً. حت�سني الليونة يف العمل من خالل �شراكة بني القطاعني اخلا�ص والعام :عند ح�صول حوادث يجب �أن تظهر االدارة مرونتها يف اخلروج من الو�ضع اال�ستثنائي واال�سراع يف العودة �إىل
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
املنطقة والعامل
145
احلياة الطبيعية .يجب االهتمام بالقطاع اخلا�ص لأنه ميتلك معظم موارد البالد وبناها التحتية ويلعب دورا هاما يف �أعمال االغاثة .يجب �إيجاد حوافز للحكومة والقطاع اخلا�ص من �أجل و�ضع هيكليات وخمططات وانظمة تخفف من التعر�ض لال�ضرار ,و ت�شجيع اال�ستثمار يف التح�سينات على البنى التحتية. التعامل مع اجلماعات واملواطنني :يجب الت�أكيد على واجب االفراد واجلماعات يف توفري املعلومات املطلوبة املتعلقة باالخطار الطارئة والت�شديد على اتخاذ خطوات عملية متكن جميع االمريكيني من حماية �أنف�سهم وعائالتهم و جريانهم وجمتمعهم.
تفكيك و�رضب تنظيم القاعدة والتنظيمات املتطرفة العنيفة التابعة له يف افغان�ستان وباك�ستان جميع انحاء العامل:
ت�شن الواليات املتحدة حربا وا�سعة على تنظيم القاعدة من �أجل الق�ضاء عليه وتعتمد يف هذه احلرب ا�سرتاتيجية احلماية يف الداخل واملحافظة على اال�سلحة الفتاكة ,ومنع و�صولها �إىل القاعدة ,ومنع القاعدة من احل�صول على مالذ �آمن يف العامل .وتعمل على بناء �شراكات ايجابية مع اجلماعات اال�سالمية يف جميع انحاء العامل .تلحظ اال�سرتاتيجية االمريكية يف حماربة القاعدة اجراءات عديدة هي: منع الهجمات على االرا�ضي االمريكية وداخلها :من �أجل منع العمليات االرهابية على االرا�ضي االمريكية يجب ت�ضافر جهود اال�ستخبارات وال�ضابطة العدلية وجهاز ال�شرطة والأمن الداخلي و�أن تت�شارك جميعها املعلومات اال�ستخبارية وتو�صلها �إىل م�س�ؤويل اال�ستخبارات واملحللني و�ضباط مكافحة االرهاب .يجب التن�سيق مع ال�شركاء يف اخلارج من �أجل حتديد م�صدر متويل االرهاب وتعقبه والو�صول �إليه .يجب تعزيز التعاون الثنائي مع الدول ومن خالل املنظمات االقليمية والدولية لتن�سيق اجلهود الدولية ملنع العمليات االرهابية. تقوية الأمن اجلوي :من املعروف �أن الطريان الدويل هو هدف �أ�سا�سي لتنظيم القاعدة والتنظيمات التي تدور يف فلكه .تقوم الواليات املتحدة بتعزيز االمن اجلوي يف العامل بالرتكيز على جمع املعلومات وفح�ص الركاب واجراءات التفتي�ش وا�ستخدام �أجهزة امل�سح املتطورة وتعزيز قواعد االمان يف الطريان الدويل. منع االرهابيني من الو�صول �إىل �أ�سلحة الدمار ال�شامل :من �أجل منع وقوع �أ�سلحة الدمار ال�شامل بيد االرهابيني تتخذ الواليات املتحدة حزمة اجراءات لتكثيف اجلهود حلماية جميع املواد النووية وفق برنامج زمني حتى نهاية العام 2013ومنع �إنت�شار اال�سلحة النووية .كما تتخذ �إجراءات حلماية االمكانات واملعلومات يف العلوم الكيميائية التي ت�ؤدي �إىل �إ�ساءة ا�ستعمالها. عدد رقم � | 1أيـار
2013
املنطقة والعامل
146
منع القاعدة من تهديد الواليات املتحدة ومواطنيها و�شركائها وحلفائها وم�صاحلها يف جميع �أنحاء العامل :تعمل الواليات املتحدة على منع القاعدة �أو �أي من حلفائها من �أن تكت�سب �أي قدرة على تخطيط وتنفيذ هجمات ارهابية خ�صو�صا �ضد الواليات املتحدة .يعد تنظيم القاعدة يف باك�ستان االخطر يف العامل ومع ذلك تواجه الواليات املتحدة تهديدات من �أماكن �أخرى يف العامل وت�سعى ال�سلطات االمريكية �إىل منع القاعدة واملنظمات التابعة لها من التخطيط والتدريب لالرهاب وتطويع االرهابيني ومتركزهم يف جميع بالد العامل ومن �ضمنها �أوروبا و�أمريكا ال�شمالية. باك�ستان و�أفغان�ستان :يعترب هذان البلدان مركز الثقل لتنظيم القاعدة .يف �أفغان�ستان ت�سعى الواليات املتحدة ملنع القاعدة من �أي مالذ �آمن ,ومنع طالبان من االطاحة باحلكومة االفغانية, ودعم قوات االمن االفغانية واحلكومة ,لتتمكن من تويل امل�س�ؤولية يف البالد .يف باك�ستان تعمل مع احلكومة الباك�ستانية ملواجهة التهديدات املحلية واالقليمية والدولية من االرهابيني. تتحقق هذه االهداف من خالل اخلطوات الثالث التالية: تتابع القوات االمريكية وقوات حلف �شمال االطل�سي «�إي�ساف» ا�ستهداف املتمردين وحماية املدن والتجمعات ال�سكنية وزيادة دعم تدريب القوات االفغانية من �أجل انتقال امل�س�ؤولية يف امل�ستقبل �إىل احلكومة االفغانية. العمل مع ال�شركاء يف االمم املتحدة واحلكومة االفغانية من اجل توفري خربة ودراية يف احلكم .تدعم الواليات املتحدة الرئي�س االفغاين واحلكومة والوزارات واملحافظني واحلكام املحليني ملكافحة الف�ساد وتقدمي اخلدمات الالزمة للمواطنني والت�أكيد على املحافظة على حقوق االن�سان لدى ال�شعب االفغاين -رجاال ون�ساء .ت�ؤكد الواليات املتحدة على ا�ستقرار �أفغان�ستان وازدهارها. تعزيز العالقة مع باك�ستان ا�ستنادا �إىل امل�صالح امل�شرتكة واالحرتام املتبادل .من �أجل التغلب على االرهابيني الذين يهددون البلدين �ستعزز الواليات املتحدة قدرة باك�ستان على ا�ستهداف االرهابيني داخل �أرا�ضيها وتقدم لها م�ساعدات امنية .كما �ستقدم م�ساعدات ل�سد احتياجات ال�شعب الباك�ستاين من �أجل بناء �شراكة ا�سرتاتيجية وتقوية التعاون يف جماالت عديدة. حرمان القاعدة من املالذات االمنة وتقوية الدول املهددة� :ستواجه الواليات املتحدة تنظيم القاعدة يف �أي مكان يقيم فيه مالذا �آمناً مثل اليمن وال�صومال واملغرب وال�ساحل االفريقي الغربي بكل ال�ضغوط .و�ستقوي �شبكة حلفائها من �أجل تعطيل القدرات الب�شرية واملالية واملخططات ,و�إحباط خمططات العمليات االرهابية قبل تنفيذها� .سترتكز اجلهود على تبادل املعلومات اال�ستخبارية والتعاون يف التحقيقات وخلق ممار�سات جديدة من التعاون ملواجهة الأعداء امل�شرتكني.
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
املنطقة والعامل
147
اعتماد معايري العدالة الثابتة واحلا�سمة :اعتماد مقاربات قانونية تن�سجم مع القيم االمريكية يف احتجاز املتهمني وا�ستجوابهم .يجب جلب االرهابيني �إىل العدالة وااللتزام بحكم القانون . مقاومة اخلوف واملبالغة يف ردود الفعل :من املعروف �أن هدف االعمال االرهابية هو بث الذعر فاذا اعرتانا اخلوف نكون قد حققنا هدف االرهابيني� .إن املبالغة يف ردود الفعل على العمليات االرهابية ت�ؤدي �إىل �شرخ بني الواليات املتحدة وبع�ض املناطق واالديان و�ست�ؤدي �إىل تقوي�ض عمل القيادة االمريكية وجتعل الواليات املتحدة �أقل �أمناً. التباين بني نوايا القاعدة بالتدمري واميان الواليات املتحدة بالبناء :فيما تعمد القاعدة على التدمري �سوف تو�ضح الواليات املتحدة نواياها يف بناء اجل�سور بني ال�شعوب من خمتلف املناطق واملعتقدات و�سوف ت�ستمر بالعمل حلل النزاع العربي-اال�سرائيلي الذي يعترب م�صدر توتر منذ زمن طويل .و�ستقف �إىل جانب حقوق كل ال�شعوب مبن فيهم الذين تختلف معهم. وتقيم �شراكات مع جمموعات ا�سالمية يف جميع انحاء العامل. يف جمال ال�صحة والتعليم واالبتكارات ,ويف جمال الت�أكيد على العالقة مع امل�سلمني �ست�ؤكد على التزامها بدعم تطلعات ال�شعوب لتحقيق الأمن وخلق الفر�ص .و�أخرياً ترف�ض الواليات املتحدة الكالم عن ان القاعدة متثل اية �سلطة دينية .وتعترب �أنها لي�ست القيادة الدينية بل جمموعة من القتلة لأن اال�سالم مثل �سائر االديان ال ير�ضى بقتل االبرياء. منع انت�شار اال�سلحة البيولوجية والنووية واملحافظة على املواد النووية:
�إن �أخطر ما يواجه ال�شعب االمريكي هو هجوم �إرهابي با�ستخدام ال�سالح النووي ,كما ي�ؤدي انت�شار اال�سلحة النووية �إىل تهديد لالمن وال�سالم الدوليني .بعد انتهاء احلرب الباردة ازداد خطر الهجوم با�ستخدام اال�سلحة النووية .بقي خمزون اال�سلحة النووية على حاله وامتلكت مزيد من الدول ال�سالح النووي .وا�ست�ؤنفت التجارب النووية� .شهدت ال�سوق ال�سوداء االجتار بالأ�سرار واملواد النووية وظهر ت�صميم االرهابيني على �شراء ال�سالح النووي �أو �صنعه �أو �سرقته� .ستبذل الواليات املتحدة �أق�صى جهودها من �أجل احتواء املواد النووية ,ولهذه الغاية تقوم مبا يلي: متابعة حتقيق هدف «عامل خال من الأ�سلحة النووية» :علما �أن هذا الهدف لن يتحقق يف والية هذه االدارة .تلتزم الواليات املتحدة ا�ستنادا �إىل معاهدة احلد من انت�شار اال�سلحة الكيماوية والبيولوجية والنووية �أن تتعاون مع رو�سيا والدول االخرى من �أجل زيادة امل�صداقية يف حما�سبة االخرين على التزامهم مبوجبات املعاهدة .طاملا �أنّ اال�سلحة النووية موجودة فان الواليات املتحدة تلتزم باالحتفاظ برت�سانة نووية كافية من �أجل ردع خ�صومها والت�أكيد حللفائها على احرتام التزاماتها االمنية .وقعت الواليات املتحدة مع رو�سيا معاهدة «�ستارت» عدد رقم � | 1أيـار
2013
املنطقة والعامل
148
للحد من انت�شار الأ�سلحة اال�سرتاتيجية التي حتدد عدد الر�ؤو�س النووية وو�سائل االطالق وطرق املراقبة .الواليات املتحدة ب�صدد تخفيف االعتماد على اال�سلحة النووية يف مقاربتها االمنية والت�أكيد على عدم ا�ستعمال اال�سلحة النووية �ضد الدول التي ال متتلكها وتلتزم مبوجبات معاهدة احلد من انت�شار اال�سلحة النووية وبعدم �إنتاج �سالح نووي .و�ستتابع م�صادقة الدول على معاهدة منع �إجراء التجارب النووية. تقوية العمل مبعاهدة منع انت�شار الأ�سلحة النووية� :إن جوهر معاهدة احلد من انت�شار اال�سلحة النووية هو ان الدول التي حتوزعلى هذه اال�سلحة تتجه �إىل نزعه والدول التي ال متتلك هذا ال�سالح متتنع عن حيازته وجلميع الدول حق احل�صول على الطاقة النووية ال�سلمية.من اجل تقوية هذه املعاهدة يجب �أن ت�سعى �إىل مزيد من ال�صالحيات واملوارد يف �أعمال التفتي�ش. يجب الت�أكد من �أن جميع الدول تفي بالتزاماتها يف هذه املعاهدة و�أن تتخذ تدابري �ضد الدول غري امللتزمة. تقدمي خيار وا�ضح اليران ولكوريا ال�شمالية :ت�سعى الواليات املتحدة �إىل �إزالة ال�سالح النووي من �شبه اجلزيرة الكورية ومنع �إيران من حيازته .انه لي�س ا�ستفرادا لدول لكن �إذا تخل�صت كوريا ال�شمالية من ال�سالح النووي وامتنعت ايران عن بناء �سالح نووي فهذا ي�ؤدي �إىل تكاملهما مع املجتمع الدويل� .أما �إذا مل يح�صل ذلك فان هناك و�سائل �أخرى لزيادة عزلهما حلني موافقتهما على التخل�ص من هذه اال�سلحة. املحافظة على اال�سلحة واملواد النووية املعر�ضة ل�سوء اال�ستخدام :يف عام 2010ومببادرة امريكية اجتمعت قمة االمن النووي العاملي بح�ضور 47دولة بهدف املحافظة على املواد النووية من خطر �سيطرة االرهابيني عليها .يف نهاية عام � 2013سوف ت�سعى الواليات املتحدة اىل الرتكيز على قيام جهود دولية من �أجل الت�أكد من املحافظة على املواد النووية املعر�ضة ل�سوء اال�ستخدام وتعزيز حمايتها و�إجراء م�ساءالت عنها بالتعاون مع امل�ؤ�س�سات الدولية, واقامة �شراكات جديدة القفال هذا املو�ضوع� .ستقوم الواليات املتحدة باطالق مبادرة �أمن انت�شار اال�سلحة النووية ,واملبادرة العاملية ملحاربة االرهاب النووي ,من �أجل البحث عن املواد النووية واعرتا�ضها اثناء نقلها ومنع االجتار بالتكنولوجيا النووية. دعم الطاقة النووية ال�سلمية :فيما تتحرك بع�ض الدول النتاج الكهرباء من الطاقة النووية يجب التحقق من �أن تلك الدول تطور بنى حتتية من �أجل �ضمان انتاج الطاقة ب�سالمة و�أمان. ت�سعى الواليات املتحدة من اجل توفريالهيئات املخت�صة وتدريب املوظفني املعنيني وتعميم قواعد االمان ملنع العمليات االرهابية يف املجال النووي وت�أمني التعامل ب�سالمه مع الوقود النووي يف �أول العمليات و�آخرها .
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
املنطقة والعامل
149
مواجهة التهديدات البيولوجية� :إن انت�شار العوامل البيولوجية القاتلة يف املناطق ال�سكنية ي�ؤدي �إىل موت �أعداد كبرية من ال�سكان وي�ؤثر على االو�ضاع االقت�صادية وال�سيا�سية واالجتماعية .تعمل االدارة االمريكية مع �شركاء يف الداخل واخلارج للحماية من التهديدات البيولوجية بن�شر قواعد ال�صحة العامة الدولية ,وتعزيز تدابري االمان واالطالع الدائم على املخاطر احلالية واملرتقبة وتعزيز القدرات من �أجل منع الهجمات البيولوجية ,وتوقيف من يقوم بهذا العمل ,وت�أمني االت�صال مع املعنيني باالخطار البيولوجية ,و�إطالق حوار دويل حول التهديدات البيولوجية.
دفع عملية ال�سالم واالمن وحتقيق الفر�ص يف ال�رشق االو�سط الكبري
متلك الواليات املتحدة م�صالح هامة يف ال�شرق االو�سط الكبري تت�ضمن: التعاون يف جماالت عديدة مع »�صديقتها املقربة �إ�سرائيل» وااللتزام الثابت بامنها. حتقيق تطلعات ال�شعب الفل�سطيني يف �إقامة دولته ,و�إتاحة الفر�ص �أمامه ,وحتقيق طموحاته املميزة. وحدة العراق و�أمنه ودعم الدميوقراطية فيه و�إعادة تكامله مع حميطه. حتويل ال�سيا�سة االيرانية بعيدا عن �سعيها المتالك اال�سلحة النووية ودعمها »االرهاب وتهديد الدول املجاورة». منع انت�شار اال�سلحة النووية والتعاون يف مكافحة االرهاب ,وا�ستك�شاف موارد الطاقة وتكامل املنطقة يف اال�سواق العاملية. �إن عالقة الواليات املتحدة مع ا�صدقائها اال�سرائيليني والعرب تتجاوز االلتزامات االمنية نحو التجارة والتبادل والتعاون يف م�سائل عديدة. �أهم الق�ضايا اال�سرتاتيجية �أمام الواليات املتحدة يف ال�شرق الأو�سط الكبري هي: مع نهاية احلرب يف العراق �إنهاء مرحلة انتقالية جادة :تعترب الواليات املتحدة �إن احلرب على العراق ت�شكل حتدياً كبرياً لها وللمجتمع الدويل ولل�شعب العراقي وللمنطقة بكاملها, وهي تهدف اىل عراق �سيد م�ستقل معتمد على نف�سه ,وت�سعى �إىل قيام حكومة عراقية متثل ال�شعب ,وتخ�ضع للم�ساءلة ومتنع االرهابيني من احل�صول على مالذ �آمن يف البالد .ت�سعى الواليات املتحدة لتحقيق هذه الأهداف باعتماد ا�سرتاتيجية تت�ألف من ثالثة مكونات:
عدد رقم � | 1أيـار
2013
املنطقة والعامل
150
�أ� -أمن املرحلة االنتقالية� :سوف ت�سحب الواليات املتحدة قواتها من العراق التزاما باالتفاقية املعقودة مع احلكومة العراقية� .سوف ت�ستمر بتدريب وجتهيز قوات االمن العراقية وتقدمي امل�شورة لها وتنفيذ مهمات حمددة ملكافحة االرهاب ,و�سوف تنقل امل�س�ؤولية الأمنية بكاملها �إىل احلكومة العراقية. ب -دعم امل�ؤ�س�سات املدنية :مع حت�سن الو�ضع االمني �سوف تتو�سع امل�ساعدات املدنية االمريكية للعراق و�سوف حتافظ الواليات املتحدة على ن�شاطها ال�سيا�سي والدبلوما�سي واملدين من �أجل حل اخلالفات بني العراقيني ,وتكامل الالجئني واملهجرين العائدين يف املجتمع ,وتطوير م�ؤ�س�سات دميوقراطية خا�ضعة للم�ساءلة� .ستعمل الواليات املتحدة مع احلكومة العراقية لتطبيق اتفاقية االطار اال�سرتاتيجي ,مع احلر�ص �أن تتوىل وزارة اخلارجية االمريكية زمام القيادة .تت�ضمن هذه االتفاقية التعاون يف جماالت الدفاع والأمن والدبلوما�سية وال�سيا�سة والتعليم وال�صحة والعلوم وحكم القانون. ج -الدعم يف جمال الدبلوما�سية االقليمية والتنمية� :سوف تتابع الواليات املتحدة ن�شاطها يف املنطقة للت�أكد من �أن ان�سحاب القوات االمريكية من العراق يوفر فر�صة لتثبيت اال�ستقرار والتنمية امل�ستدامة يف العراق ودول املنطقة�.ستحافظ الواليات املتحدة على وجود مدين يف املنطقة ي�ؤمن م�صاحلها اال�سرتاتيجية يف العراق واملنطقة. متابعة عملية ال�سالم العربية اال�سرائيلية :تعترب الواليات املتحدة �أنها و�إ�سرائيل والفل�سطينيني والدول العربية لها م�صلحة يف حتقيق ت�سوية �سلمية للنزاع العربي اال�سرائيلي تقوم عل حتقيق �آمال اال�سرائيليني والفل�سطينيني يف احلفاظ على �أمنهم وكرامتهم ,ويحقق ال�سرائيل ال�سالم ا ّالمن والدائم مع جميع جريانها .ت�سعى الواليات املتحدة �إىل حل دولتني تعي�شان جنبا �إىل جنب ب�سالم و�أمن :دولة يهودية تعي�ش يف �أمن حقيقي ومقبولة ويتمتع اال�سرائيليون فيها بجميع حقوقهم ودولة فل�سطينية يف االرا�ضي املجاورة و�إنهاء االحتالل الذي بد�أعام 1967 و حتقيق �آمال ال�شعب الفل�سطيني� .سوف ت�ستمر الواليات املتحدة بالعمل مع من و�صفتهم بال�شركاء الذين اعتربت بان «لهم ميولنا وعقليتنا» يف املنطقة من �أجل م�سائل الو�ضعية الدائمة وهي� :أمن �إ�سرائيل والفل�سطينيني ,واحلدود ,والالجئني ,والقد�س .وت�سعى �أي�ضاً �إىل احل�صول على دعم دويل لبناء م�ؤ�س�سات الدولة الفل�سطينية ودعم التنمية االقت�صادية. تعترب الواليات املتحدة �أن ال�سالم العربي اال�سرائيلي لن يكون دائما �إال �إذا انتهى التدخل االقليمي «امل�ؤذي» .فيما ت�سعى الواليات املتحدة �إىل �سالم فل�سطيني ا�سرائيلي فانها تعمل اي�ضا على �سالم ا�سرائيلي -لبناين وا�سرائيلي� -سوري و�سالم �شامل مع كل جريانها .وتتعاون الواليات املتحدة لهذه الغاية مع مبادرات �إقليمية وم�شاركات متعددة االطراف ومفاو�ضات ثنائية.
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
املنطقة والعامل
151
ال�سعي لتحويل �إيران �إىل دولة م�س�ؤولة :تعترب الواليات املتحدة �أن �إيران منذ عقود عر�ضت الأمن يف املنطقة ويف الواليات املتحدة للخطر وف�شلت يف االلتزام مب�س�ؤولياتها الدولية. باال�ضافة �إىل برناجمها النووي الغام�ض ,ف�إنها ت�ستمر بدعم االرهاب وتقوي�ض ال�سالم بني �إ�سرائيل والفل�سطينيني وحرمان �شعبها من حقوقه االن�سانية .م�ضت �سنوات عديدة على مقاطعة �إيران ومل تغري�سلوكها ,وعلى العك�س �أ�صبح هذا ال�سلوك ي�شكل تهديدا .ميكن �إجراء احلوار مع �إيران من دون وهم ,وميكن �أن يقدم لإيران طريق نحو م�ستقبل �إذا كان القادة الإيرانيون جاهزين لذلك وم�ستعدين لتغيري �سلوكهم وا�ستعادة ثقة املجتمع الدويل بهم و�أوفوا بالتزاماتهم الدولية .و�إذا �أ�صرت احلكومة الإيرانية على رف�ض االلتزامات الدولية فانها �سوف تواجه املزيد من العزل. ت�شكل الفقرات �أعاله دليل عمل الجهزة االدارة االمريكية يف التعامل مع االزمات وامل�شاكل وفقا للخطوط العامة .لكن ال ميكننا بكل ب�ساطة القبول ب�أن هذه هي اال�سرتاتيجية االمريكية رغم انها ر�سمية ومعتمدة يف االدارة .ت�شري تطور االحداث �إىل �أن هناك ا�سرتاتيجية غري معلنة تت�ضمن �سلوكا ا�ستخباريا ي�ؤدي �إىل تطورات �سيا�سية تتم معاجلتها وفقا لال�سرتاتيجية املعلنة� .صدرت عدة كتب لعمالء �سابقني يف وكالة اال�ستخبارات االمريكية حتدثوا فيها عن عمليات اغتيال وحتري�ض وقلب انظمة ور�شاوى قامت بها االدارة االمريكية يف عدد كبري من دول العامل و�أبرزها كتاب «ارث الرماد» ت�أليف تيم ويرن �صادر عام 2009وكتاب «احلجاب» لبوب وودورد �صادر عام .1988وهذا ما يدفعنا لالعتقاد �أن هناك ا�سرتاتيجية موازية تت�ضمن ا�ستخدام جميع ال�سبل من اجل مواكبة تنفيذ اال�سرتاتيجية املعلنة .ومثال على ذلك تواكب ن�شاطات �أجهزة اال�ستخبارات التدابري اال�سرتاتيجية املعلنة جتاه �إيران .يف ق�ضية الغمو�ض النووي ,ت�شن عمليات ا�ستخبارية من �أجل التعرف على الربنامج النووي ووقفه عند حد معني ,وفيما يتعلق باالرهاب تدفع الواليات املتحدة بكل طاقاتها من �أجل �شن عمليات ا�ستخبارية ملكافحة ما تعتربه االرهاب يف ايران والعامل .ينطبق هذا على ا�سرتاتيجية الواليات املتحدة يف النزاع العربي-اال�سرائيلي يف تكري�س اجلهد اال�ستخباري ملا ت�سميه مكافحة االرهاب والتدخالت االقليمية امل�ؤذية لعملية ال�سالم. بعد ان�سحاب القوات الع�سكرية االمريكية من العراق و�أفغان�ستان �ستتغري قواعد اللعبة ,لن يكون هناك تدخل ع�سكري جديد للواليات املتحدة على منط التدخل يف العراق وافغان�ستان ,ويح�ضر املثل الليبي للتدخل عن بعد با�ستخدام التكنولوجيا يف الطريان احلربي احلديث ورمبا �صواريخ كروز التي تطلق من الغوا�صات �أو ال�سفن احلربية لكن �إمكانية مواكبتها بعمليات برية مل تعد واردة� .سوف حتر�ص الواليات املتحدة على عدم الزج بقواتها الربية يف احتالالت ونزاعات جديدة. كيف حتقق الواليات املتحدة �أهدافها؟ بغياب �أي احتمال ل�ضربات ع�سكرية مرفقة بعمليات برية ميكن للواليات املتحدة اعتماد �أحد اخليارات التالية:
عدد رقم � | 1أيـار
2013
املنطقة والعامل
152
خيار الق�صف اجلوي والبحري املدمر �ضد دولة تعار�ض �سيا�ستها بغية �أرغامها على العودة �إىل احلظرية االمريكية .وهنا يبدو املثل االيراين حا�ضراً �أمامنا .هل توجه الواليات املتحدة �ضربة ع�سكرية �إىل �إيران؟ تتجه التقديرات �إىل ا�ستبعاد مثل هذه ال�ضربة لعدم اقت�صارها على الق�صف وتوفر امكانية عالية لتو�سع احلرب �إىل مواجهات برية وتهديدات للم�صالح االمريكية االمر الذي يحتم عليها التدخل الربي والتورط جمددا يف حرب لن تنتهي �إال بخ�سارتها, ف�ضال عن �أن االقت�صاد االمريكي امل�أزوم لن يتحمل مثل هذا التدخل. خيار م�ساندة ا�سرائيل يف توجيه �ضربة �إىل �إيران :لي�س �سراً �أن االدارة االمريكية احلالية وحتى ال�سابقة ال حتبذ �أية �ضربة ا�سرائيلية اىل ايران النها الترى فيها بوادر النجاح يف وقف الربنامج النووي ,ويح�ضرنا هنا قول وزير الدفاع االمريكي ليون بانيتا يف حما�ضرة له يف معهد بروكنغز ح�ضرها نخبة م�ؤيدي �إ�سرائيل يف الواليات املتحدة�« ,أن ال�ضربة الع�سكرية اليران توقف الربنامج النووي �سنة �أو اثنني على االكرث وانه يف�ضل ا�ستخدام الدبلوما�سية واالقت�صاد الرغام ايران على التخلي عن م�شروعها النووي». مبا �أن كال اخليارين �صعب �إىل درجة اال�ستبعاد فان الواليات املتحدة جل�أت �إىل نوع جديد من احلرب وهو احلرب الناعمة وهي احلرب با�ستخدام ال�سيا�سة والدبلوما�سية واالقت�صاد واملال واالعالم واال�ستخبارات والعمليات ال�سرية من �أجل الق�ضاء على النظام احلاكم يف الدولة املعار�ضة وتقوي�ض الالعبني من غري الدول .هذه احلرب هي جارية حاليا وتخو�ضها الواليات املتحدة بكل �إمكاناتها وقدراتها الذكية وعلى جميع اجلبهات املذكورة� .إنها ت�ستهدف نقاط ال�ضعف البنيوية يف الدول املعار�ضة من تركيبتها االثنية والدينية واملذهبية والقبلية �إىل امكاناتها االقت�صادية واملوارد ال�ضرورية والطاقة واالو�ضاع املالية �إىل العالقات ال�سيا�سية والدبلوما�سية مع املجتمع الدويل ودول االقليم واو�ضاع احلريات والدميوقراطية والثقافات واالو�ضاع االجتماعية .تلعب احلرب الناعمة على هذه االنق�سامات وت�ستح�ضر من التاريخ الوقائع واحلروب والنزاعات التي تلهب احلما�س فيما تغيب �أطول مراحل التاريخ التي �شهدت تعاي�شا و�سلما بني خمتلف الفئات� .إذا عدنا عقدين من الزمن للخلف نرى �أن االحتاد ال�سوفياتي ال�سابق قد انهزم يف هذه حرب كهذه و�سقط وتفكك ومل حتن له الفر�صة ال�ستخدام ال�سالح النووي وال التقليدي للدفاع عن نف�سه .واليوم ت�شكل احلرب على �سوريا منوذجا للحرب الناعمة فقد �شهدنا ا�ستخدام �سالح االعالم وال�سيا�سة والدبلوما�سية واالقت�صاد ب�شكل علني وفا�ضح �ضد �سوريا .مثل هذه احلرب متاما هو ما ت�سعى �إليه الواليات املتحدة وما بد�أته باال�شرتاك مع �إ�سرائيل منذ زمن طويل �ضد حركات املقاومة يف لبنان وفل�سطني ,حزب اهلل وحما�س وغريها .تختلف احلرب الناعمة عن احلرب الباردة الن االخرية كانت تعتمد حروبا اقليمية طاحنة وثورات وقلب �أنظمة بديال عن املواجهة بني القوتني العظميني نف�سيهما. تتميز هذه احلرب �أنها غري مكلفة مثل احلرب الع�سكرية و�أنها ال تلفت انتباه املواطن االمريكي ()2
املنطقة والعامل
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
153
الذي يتح�س�س ملقتل جنود وخ�سارة مئات املليارات من الدوالرات وهذا ال يح�صل يف احلرب الناعمة حيث تكون الكلفة املالية حمدودة وي�سهل حتملها. الو�ضع الع�سكري يف ال�رشق االو�سط وت�أثريات االن�سحاب من العراق وافغان�ستان على النفوذ االمريكي
بد�أت العالقات االمريكية يف املنطقة العربية قبيل انتهاء احلرب العاملية الثانية حني اجتمع امللك ال�سعودي عبد العزيز �آل �سعود بالرئي�س االمريكي روزفلت على منت املدمرة االمريكية كوين�سي يف البحريات املرة قرب قناة ال�سوي�س يف م�صر يف � 14شباط 1945وتباحثا يف «�ش�ؤون دولية وعربية», يف الوقت الذي كانت فيه منطقة ال�شرق االو�سط تخ�ضع النتداب بريطانيا وفرن�سا ونفوذهما.من املعروف �أن الهدف اال�سرتاتيجي االمريكي من االنت�شار يف منطقة ال�شرق االو�سط هو حماية م�صالح الواليات املتحدة يف احلرب الباردة و�ضمان �أمن �إ�سرائيل وامن تدفق النفط �إىل اال�سواق االمريكية والعاملية .عام 1958حدث �أول تدخل ع�سكري �أمريكي مبا�شر يف املنطقة عندما �أنزلت الواليات املتحدة قوات من اال�سطول ال�ساد�س على ال�شواطىء اللبنانية على خلفية االنقالب الذي اطاح بالنظام امللكي يف العراق وتخوف الغرب من ان�ضمام العراق �إىل الوحدة بني م�صر و�سوريا واخل�شية من �إ�سقاط الرئي�س اللبناين كميل �شمعون وكالم الرئي�س االمريكي عن ملء الفراغ الناجت عن تراجع الوجود الفرن�سي والربيطاين يف املنطقة واحتمال انحياز الدول العربية اىل االحتاد ال�سوفياتي يف احلرب الباردة. ()3
االنت�شار الع�سكري االمريكي يف اخلليج
عام 1971وبعدما نالت البحرين ا�ستقاللها ا�ست�أجرت البحرية االمريكية من بريطانيا قاعدة الدعم اللوج�ستي يف البحرين وتغري ا�سمها �إىل وحدة دعم البحرية االمريكية عام .1999ويف عام 1995 كلف اال�سطول اخلام�س وبحرية املنطقة الو�سطى بقيادة الوحدات البحرية االمريكية املتمركزة يف مهمات يف اخلليج والقادمة من املحيطني الهندي والهادىء ويف عام � 2002أعلن عن ت�شكيل قيادة القوات البحرية امل�شرتكة يف البحرين .تو�سع االنت�شار الع�سكري يف اخلليج وجاءت حرب �أفغان�ستان والعراق لت�صبح املهمة قتالية بعدما كانت ردعية دفاعية وذلك على ال�شكل التايل: البحرين: وهي مقر الأ�سطول البحري الأمريكي اخلام�س يف املنامة ,يعمل فيه 4200جندي �أمريكي ,وي�ضم حاملة طائرات �أمريكية وعدداً من الغوا�صات الهجومية واملدمرات البحرية و�أكرث من 70طائرة مقاتلة� ,إ�ضافة لقاذفات قنابل ومقاتالت تكتيكية وطائرات التزود بالوقود املتمركزة بقاعدة ال�شيخ عي�سى اجلوية. عدد رقم � | 1أيـار
2013
154
املنطقة والعامل
ال�سعودية: �إثر عملية عا�صفة ال�صحراء لتحرير الكويت ن�شرت القوات االمريكية مركزاً لقيادة القوات اجلوية الأمريكية الإقليمية داخل قاعدة الأمري �سلطان اجلوية يف الريا�ض وي�ضم 5000جندي تابعني للجي�ش والقوات اجلوية الأمريكية و�أكرث من 80طائرة مقاتلة ا�ستخدمت هذه القاعدة يف �إدارة الطلعات اجلوية ملراقبة حظر الطريان الذي كان مفرو�ضا على �شمال العراق وجنوبه خالل فرتة تنفيذ العقوبات الدولية ,كما كان املركز يعمل للتن�سيق بني عمليات جمع املعلومات واال�ستطالع واال�ستخبارات الأمريكية يف املنطقة .لكن ومنذ �أوا�سط العام 2003تقريبا ،انتقل نحو 4500جندي �أمريكي �إىل دولة قطر املجاورة ,وبقي يف ال�سعودية نحو 500جندي �أمريكي متمركزين فيما يعرف بـ«قرية الإ�سكان» وبذلك انتهى الوجود الع�سكري االمريكي يف قاعدة الأمري �سلطان اجلوية يف الريا�ض. قطر: انتقلت وحدات من القوات الأمريكية من ال�سعودية �إىل دولة قطر بعد حرب العراق وانتقل �إليها كذلك 600عن�صرتابعني ملركز القيادة الع�سكرية الأمريكية الو�سطى يف تامبا -فلوريدا .وتوجد يف قطر قاعدة العديد اجلوية التي ت�شمل مدرجاً للطائرات يعد من �أطول املدارج يف العامل, وهي قادرة على ا�ستيعاب �أكرث من 100طائرة على الأر�ض .وهذه القاعدة هي مقر جمموعة 319 لال�ستطالع اجلوي التي ت�ضم قاذفات ومقاتالت وطائرات ا�ستطالع �إ�ضافة لعدد من الدبابات ووحدات الدعم وخمزون من العتاد والتجهيزات الع�سكرية املتطورة ما جعل بع�ض اخلرباء يعتربونها �أكرب خمزن �إ�سرتاتيجي للأ�سلحة الأمريكية يف املنطقة. الكويت: تنت�شر يف الكويت الفرقة الثالثة املحمولة جواً من اجلي�ش االمريكي يف مع�سكر الدوحة ,و وت�ضم جتهيزات متنوعة من دبابات وعربات مدرعة و طائرات هليكوبرت و�أكرث من 80طائرة مقاتلة ووحدات من القوات اخلا�صة �سريعة االنت�شار .انتقلت بع�ض الوحدات من العراق �إىل الكويت �إثر ان�سحاب القوات االمريكية من العراق مما رفع عدد القوات املنت�شرة يف الكويت حاليا اىل � 23ألفاً. عمان: ت�ستخدم الواليات املتحدة يف عمان ثالثة مواقع متعددة املهام خلدمات دعم ج�سر جوي ,وت�أمني جميع امل�ستلزمات اللوج�ستية لثالث قواعد جوية من وقود و�آليات وخدمات طبية و�صيانة وا�صالح وتغذية . االمارات العربية املتحدة: ت�ستخدم الواليات املتحدة قاعدة جوية وم�ستودعات متعددة للدعم اللوج�ستي �إ�ضافة �إىل
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
املنطقة والعامل
155
ميناءين هامني يطالن على مياه اخلليج كما ت�ستخدم جميع املوانىء الغرا�ض التموين ولر�سو ال�سفن الع�سكرية الكبرية .كما تعتمد على �أنبوب من الفجرية �إىل جبل علي لنقل النفط يف حال �إقفال م�ضيق هرمز. ت�ستفيد الواليات املتحدة ت�سهيالت ع�سكرية يف االردن وم�صر� .أما العراق فقد ان�سحبت القوات االمريكية م�ؤخرا منه بعد احتالله منذ اذار 2003ويقت�صر الوجود الع�سكري االمريكي على حماية ال�سفارة واملراكز القن�صلية . ()4
مهمات القوات املنت�رشة:
كانت مهمة القوات االمريكية املنت�شرة يف ال�شرق االو�سط مماثلة لباقي القوات املنت�شرة يف �سائر �أنحاء العامل وهي العمل كقوة ردع ودعم للحلفاء يف فرتة احلرب الباردة .وما �أن انتهت هذه احلرب حتى تبلورت مهمة القوات يف ال�شرق االو�سط وهي �ضمان �أمن �إ�سرائيل و�أمن تدفق النفط .مل تت�أثر هاتني املهمتني بنهاية احلرب الباردة �إذ �أن النزاع العربي اال�سرائيلي مل ي�صل اىل ت�سوية ,وما زالت الواليات املتحدة تعترب ايران القوة الكبرية على ال�ضفة ال�شرقية للخليج ,دولة معادية وترى انها ت�شكل خطرا على م�صاحلها وعلى حلفائها .مل تظهر دول اخلليج �أية ا�ستعدادات عملية للتفاهم مع �إيران حول �أمن املنطقة ,وما فتىء قادة اخلليج يعربون يف غري منا�سبة عن مت�سكهم باحلماية االمريكية وعدم ثقتهم بايران رغم �إقامة عدد من هذه الدول عالقات �صداقة وتعاون مع ايران «بالتجزئة» مثل قطر وعمان والكويت. منذ عام 2002كانت مهمة القوات االمريكية التح�ضري لعملية الهجوم على العراق وبعدما دخلت هذه القوات �إىل العراق حتولت املهمة �إىل م�ساندة الوجود الع�سكري يف العراق. ي�شكل �أمن تدفق النفط �إحدى مهمتي القوات االمريكية يف ال�شرق االو�سط وجتوب البحرية االمريكية مياه منطقة اخلليج و ويحلق الطريان يف اجوائها للت�أكد من �أمن حركة نقل النفط. تعترب الواليات املتحدة �أن التهديد الذي يواجه النفط هو �إيران بالدرجة االوىل واحيانا تهديدات القاعدة اذ �سبق وان تعر�ضت ناقلة نفط يابانية �إىل عملية ارهابية يف مياه االمارات .ان عديد وجتهيز القوات املنت�شرة حاليا يكفي ملهمة حفظ امن النفط لكنه ال يكفي ل�شن عملية ع�سكرية �ضد �إيران .ت�ستوجب العملية الع�سكرية ,وهي يف الغالب �ضربات جوية و�صاروخية ,ح�شدا بحريا حلامالت طائرات وقوة عمل بحرية م�ؤلفة من مدمرات وغوا�صات ومراكب �إنزال وم�ساندة يجري اح�ضارها من القوات البحرية املنت�شرة يف املحيطني الهادىء والهندي. ال يبدو �أن هناك يف الوقت الراهن خطرا على تدفق النفط لأن ال م�صلحة �إيرانية بذلك وهي التي يعتمد اقت�صادها على النفط ب�شكل ا�سا�سي .لكن القادة االيرانيني حتدثوا مرارا عن احتمال عدد رقم � | 1أيـار
2013
املنطقة والعامل
156
اقفال م�ضيق هرمز �أمام املالحة وربطوا ذلك بتعر�ض �إيران لعمل ع�سكري �أمريكي �أو �إ�سرائيلي وم�ؤخراً حتدثوا عن اقفاله يف حال توقيف �صادرات النفط االيرانية� .أما تهديدات القاعدة فهي تعالج باال�ساليب االمنية ولي�س باالنت�شار الع�سكري. �أمن النفط بعد االن�سحاب من العراق و�أفغان�ستان :و�ضع نفطي جديد
يطل على �ضفاف اخلليج �أكرب جتمع لدول منتجة للنفط والغاز :ال�سعودية ,الكويت ,قطر االمارات العربية ,العراق ,ايران وبن�سب �أقل البحرين وعمان .ومتر �إمدادات النفط عرب م�ضيق هرمز اىل بحر العرب واملحيط الهندي ومنه �إىل اال�سواق العاملية .متتلك دول جمل�س التعاون اخلليجي نحو %45من احتياطي النفط الثابت يف العامل �إىل جانب %20من الغاز العاملي .وتنتج هذه الدول يف الوقت احلا�ضر 15مليون برميل يومياً من النفط �أي %20من �إجمايل �إنتاج العامل ي�ضاف اليها انتاج ايران الذي يبلغ نحو 4ماليني برميل يوميا (الدولة الثانية بعد ال�سعودية) وانتاج العراق الذي يبلغ مليوين برميل وهو قابل لالرتفاع عند اعادة ت�أهيل قطاع النفط يف ذلك البلد. يف عام � 2002أ�شار رئي�س مركز اخلليج للطاقة والدرا�سات اال�سرتاتيجية يف ال�سعودية عيد اجلهني �إىل �أن النفط اخلليجي �شكل %40من واردات العامل النفطية عام .1999واعتمدت الواليات املتحدة على الواردات لتغطية ن�سبة %60من احتياجاتها النفطية .هذا ما دفع الواليات املتحدة لالهتمام �أكرث ب�أمن تدفق النفط لأنها اعتربت �أنه مي�س بالأمن القومي االمريكي ولهذا كانت �أولوية االنت�شار كما �أ�سلفنا �أمن تدفق النفط .لكن وبعد نحو � 10سنوات قال الرئي�س االمريكي باراك اوباما يف ايار 2010 يف حديث اذاعي �إن الواليات املتحدة �ست�سعى لرفع �إنتاجها املحلي من النفط يف حماولة لتقليل اعتمادها على النفط امل�ستورد و ا�شار اوباما يف كلمته �إن انتاج الواليات املتحدة من النفط يف عام 2010 و�صل �إىل �أعلى م�ستوى له منذ �سبع �سنوات ولكنه �أ�ضاف «اعتقد ان علينا امل�ضي قدما يف التو�سع بانتاج النفط يف الواليات املتحدة ويف الوقت نف�سه نوا�صل االرتقاء مبعايري ال�سالمة يف القطاع النفطي» و�أ�ضاف �أن �إدارته قررت بيع عقود ايجار احلقول يف حممية اال�سكا النفطية ب�شكل �سنوي ,بينما �سيتم التعامل مع احلقول الواقعة يف املحيط االطل�سي ك�أولوية. يف عام 2008ح�صل تطور دراماتيكي يف م�س�ألة النفط يف الواليات املتحدة عندما ك�شف تقرير لوزارة الداخلية االمريكية � -إدارة امل�سح اجليولوجي عن وجود خمزون من النفط يف واليتي داكوتا ال�شمالية ومونتانا يبلغ من � 3إىل 4.3بليون برميل �أي �أكرث بـ 25مرة من تقديرات عام , 1995لكن املفاج�أة املذهلة كانت يف العام 2011عندما ك�شفت �إدارة امل�سح اجليولوجي عن وجود خمزون هائل يف والية وايومنغ يقدر بـ 969بليون برميل يف مناطق غرين ريفر وحو�ض وا�شاكي يف جنوب غربي الوالية .هذا وتقدر احتياط النفط يف دول اخلليج (ال�سعودية و�إيران والعراق والكويت واالمارات) بـ 715بليون برميل . ()5
()6
()7
()8
املنطقة والعامل
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
157
هذه االكت�شافات جتعل الواليات املتحدة يف نهاية العقد احلايل �أو يف العقد القادم م�ستقلة متاما يف الطاقة النفطية وال حتتاج �إىل �إنفاق املال على اال�ساطيل وانت�شار القوات من �أجل �أمن تدفق النفط. �سوف تعمد الرباغماتية االمريكية اىل االن�سحاب الع�سكري من اخلليج بعدما بات ال يعنيها امن النفط وترتك للم�ستفيدين �أمر تدبره .لن يكون هذا االن�سحاب مفاجئا و �سريعا لكن يرجح ح�صوله بعد دخول االنتاج النفطي االمريكي �إىل الأ�سواق االمريكية وخالل عقد من الزمن. نحو �آ�سيا والبا�سيفيك
يف ت�شرين الثاين 2011كتبت وزيرة اخلارجية االمريكية هيالري كلينتون مقاال يف جملة فورين بولي�سي بعنوان «قرن �أمريكا البا�سيفيكية» � .أعلنت كلينتون يف هذا املقال عن �سيا�سة جديدة للواليات املتحدة يف املحيط الهادىء ,واعتربت �أن م�ستقبل ال�سيا�سة العاملية �سوف يتقرر يف ا�سيا ولي�س يف افغان�ستان وال يف العراق ,و�أن الواليات املتحدة �ستكون يف قلب احلركة ال�سيا�سية هناك. وفيما احلرب يف العراق على و�شك نهايتها ,اعتربت �أن الواليات املتحدة تقف يف نقطة مف�صلية وهي ت�ستعد ل�سحب قواتها من افغان�ستان .يف ال�سنوات الع�شر املا�ضية خ�ص�صت �أمريكا موارد �ضخمة لهاتني احلربني ويف ال�سنوات الع�شر القادمة حتتاج �إىل ذكاء ومنهجية يف ا�ستثمار الوقت والطاقة لت�ضع نف�سها يف و�ضع حتافظ فيه على ريادتها وقيادتها وحتفظ م�صاحلها وقيمها .و�أ�ضافت �أن زيادة اال�ستثمار ال�سيا�سي واالقت�صادي واال�سرتاتيجي يف �آ�سيا واملحيط الهادىء هي االعلى يف �سلم اولويات ال�سيا�سة االمريكية يف العقد القادم .اعتربت كلينتون �أن منطقة �آ�سيا-املحيط الهادىء هي حمرك ا�سا�سي لل�سيا�سة الدولية .انها متتد من �شبه القارة الهندية اىل ال�سواحل الغربية للواليات املتحدة ومن على مدى املحيط الهادىء واملحيط الهندي اللذين يتحكمان باملالحة واال�سرتاتيجية .انها تت�سع لنحو ن�صف �سكان العامل وت�ضم املحركات اال�سا�سية لالقت�صاد العاملي وهي اكرث املناطق باعثة للغازات التي ت�سبب لالحتبا�س احلراري يف العامل� .إنها ت�ضم عددا من اكرب حلفاء الواليات املتحدة ,باال�ضافة اىل قوى �صاعدة مثل ال�صني و الهند واندوني�سيا. �أ�شارت كلينتون �إىل �أنه مع تفاقم االزمة االقت�صادية يف الداخل االمريكي ودخول العراق وافغان�ستان يف الفرتة االنتقالية تدعو بع�ض القوى ال�سيا�سية االمريكية االدارة للعودة اىل الداخل االمريكي ,وت�سعى لتخفي�ض حجم القوات الع�سكرية املنت�شرة يف اخلارج وزيادة االهتمام بال�ش�ؤون الداخلية .واعتربت انه ميكن تفهم هواج�س ه�ؤالء ,لكنهم لي�سوا بال�ضرورة على حق� ,أن مفتاح االمن واالزدهار االمريكي هو تو�سيع االهتمامات اخلارجية ,من خلق ا�سواق جديدة� ,إىل ال�سيطرة على االنت�شار النووي ,اىل املحافظة على حرية املالحة والتجارة .لقد بد�أت االدارة االمريكية فعال بالتحرك باجتاه املحيط الهادىء وبلغ عدد زيارات الوزيرة كلينتون �إىل املنطقة �سبعاً ناهيك عن زيارات الدبلوما�سيني املعاونني ووفود االخت�صا�صيني من �أجل املبا�شرة باعتماد هذه ال�سيا�سة .من ()9
عدد رقم � | 1أيـار
2013
158
املنطقة والعامل
املنطقي �أن يرتافق االهتمام االمريكي ب�آ�سيا والبا�سيفيك مع تراجع االهتمام بال�شرق االو�سط خ�صو�صا مع انح�سار االعتماد على النفط من تلك املنطقة .يبقى �أن جتد الواليات املتحدة و�سيلة ل�ضمان �أمن حليفتها �إ�سرائيل وال تغادر املنطقة متاما �إال بعد تيقنها من ذلك. �أين �أمن ا�رسائيل؟
من الزاوية اجلغرافية �إن التدخل االمريكي الع�سكري لدعم �إ�سرائيل ي�أتي حكما من البحر االبي�ض املتو�سط وهذا ما ح�صل فعال عام 1973عندما �أنزل االمريكيون �آليات وعتادا ع�سكريا للجي�ش اال�سرائيلي لدعمه يف حرب ت�شرين يف مواجهة القوات امل�صرية التي عربت قناة ال�سوي�س واندفعت يف �سيناء قبل �أن توقفها القوات اال�سرائيلية بعدما تلقت الدعم االمريكي .ثم �إن التدخل االمريكي يف لبنان عام 1958وعامي 1982و 1983جاء من اال�سطول ال�ساد�س الذي يجوب مياه البحر املتو�سط و لهذا فان ان�سحاب القوات االمريكية م�ستقبال لن ي�ؤثر من ناحية امل�ساندة الع�سكرية على �أمن �إ�سرائيل. ال �شك �أن االدارة االمريكية ت�سعى الحالل ال�سالم يف املنطقة وت�سوية النزاع العربي اال�سرائيلي, لكن ,ولتاريخه وفقا لل�شروط اال�سرائيلية التي رف�ضها الفل�سطينيون والتي يتعذر �أن يقبلوا بها م�ستقبال .احدثت هذه ال�شروط �ضيقا يف االدارة االمريكية التي ترغب بر�ؤية مفاو�ضات جتري بني الفل�سطينيني واال�سرائيليني كي تقنع العرب �أنها ما زالت حترتم وعودها يف ال�سعي حلل للق�ضية الفل�سطينية� .إال �أن االدارة االمريكية تكتفي ,وخ�صو�صا يف فرتة االنتخابات ,بالكالم عن مفاو�ضات فل�سطينية ا�سرائيلية من دون ان تورط نف�سها بعمل دبلوما�سي .لعل �أ�صدق تعبري عن هذا ال�ضيق هو كالم وزير لدفاع االمريكي ليون بانيتا يف معهد بروكنغز -مركز �صبان امام نخبة من قادة اليهود وم�ؤيدي ا�سرائيل حني قال :عودوا �إىل الطاولة امللعونة (يق�صد طاولة املفاو�ضات) يف دعوة �صريحة من �أجل ا�ستئناف املفاو�ضات مع الفل�سطينيني .ان الرتاخي العربي يف دعم الفل�سطينيني يف املقاومة ويف املفاو�ضة معا� ,أراح ال�سيا�سة االمريكية جتاه �إ�سرائيل ووفر على االدارة عناء حتقيق �إجناز مطلوب يف عملية ال�سالم ال يبدو �أن العرب ي�سعون وراءه ب�شكل جدي يف الوقت الراهن .لقد تراجعت الق�ضية الفل�سطينية ب�شكل مثري يف االهتمامات العربية �سواء على ال�صعيد الر�سمي �أو ال�شعبي مل�صلحة الربيع العربي الذي مل تت�ضح نتائجه بعد ,فيما انتقل االهتمام االمريكي �إىل متابعة احداث هذا الربيع للتغطية ما �أمكن على الف�شل يف عملية ال�سالم التي روجت الواليات املتحدة لها كثريا. ال تبدو �إ�سرائيل يف الو�ضع الراهن يف دائرة اخلطر ,لكن هناك احتمال كبري حل�صول تغيريات يف موازين القوى يف املنطقة ويف مواقف الدول العربية منها وبالتايل ف�إن �أمن �إ�سرائيل يبقى هاج�سا �أمريكيا يحتاج �إىل تدابري من �أجل تبديده ميكن اتخاذها بوا�سطة الأ�سطول ال�ساد�س عند احلاجة. ()10
املنطقة والعامل
الو�ضع اال�سرتاتيجي والع�سكري االمريكي يف العامل
159
ا�ستنتاج:
من املرتقب �أن ت�سحب الواليات املتحدة قواتها من �أفغان�ستان بعدما �أكملت ان�سحابها من العراق, وخالل العقد احلايل والعقد القادم يتحقق احلدث الكبري وهو االن�سحاب من اخلليج (ن�ضع هنا قرار جمل�س التعاون اخلليجي بالتحول ل�صيغة االحتاد يف اطار الهواج�س من ان�سحاب امريكي من اخلليج يف امل�ستقبل) ورمبا ا�ستطاعت �إحدى االدارات االمريكية القادمة حتقيق ت�سوية للنزاع العربي اال�سرائيلي ,لكن موازين القوى مقبلة على تغيري كبري لغري �صالح �إ�سرائيل التي لن يعود لها �أن تفر�ض �شروطا تعجيزية مثل التي تفر�ضها حاليا ,و�ست�ضطر �إىل �إقامة �سالم بغري �شروطها اذا تغريت �سيا�سة م�صر جتاهها� .أما �إذا تغريت �سيا�سة االردن فان انقالبا حقيقيا �سوف يح�صل يف موازين القوى يح�شر الدولة العربية يف زاوية �ضيقة ويبقى لال�سرائيليني خيار البقاء داخل دولة ينتهي فيها تفوقهم الع�سكري واالقت�صادي وبني عودة من يرغب �إىل �أوروبا وبالنتيجة �إنهاء دور ووظيفة �إ�سرائيل يف املنطقة.
( )1
نظرة عامة على ا�سرتاتيجية الأمن القومي الأمريكية .البيت الأبي�ض
( )2
�صحيفة وا�شنطن تاميز
http://www.whitehouse.gov/sites/default/files/rss_viewer/national_security_strategy.pdf
/http://m.washingtontimes.com/news/2011/dec/14/us-will-leave-iraqi-airspace-clear-for- strategic-i
http://www.susris.com/2011/02/14/today-in-history-king-abdulaziz-and-president-
( )3موقع ا�ستعالمات العالقات الأمريكية ال�سعودية ( )4
( )5
/roosevelt-meeting Global Security magazine
موقع �شركة برتول ابو ظبي الوطنية
http://www.adnoc.ae/arabic/content.aspx?newid=306&mid=306
http://www.usgs.gov/newsroom/article.asp?ID=1911
( )6تقرير �إدارة امل�سح اجليولوجي ( )7
تقرير �إدارة امل�سح اجليولوجي
( )8
موقع وكالة املخابرات املركزية
/http://pubs.usgs.gov/fs/2011/3113
https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/rankorder/2178rank.html?coun
tryName=Bahrain&countryCode=ba&regionCode=mde&rank=66#ba
( )9جملة فورين بولي�سي ت�شرين الثاين
2011
http://www.foreignpolicy.com/articles/2011/10/11/americas_pacific_century
http://edition.cnn.com/2011/12/02/world/meast/israel-peace-talks/index.tml
( ) 10من �شبكة «�سي� .إن� .إن ».كالم وزير الدفاع بانيتا
عدد رقم � | 1أيـار
2013
�آثار من فل�سطني� ،سلبها مو�شي دايان وا�سرتدت من قبل «م�ؤ�س�سة �سعاده للثقافة»
لبنان 5000لرية | الأردن 2 :دينار | �سوريا 100 :لرية | م�صر 10 :جنيه | تون�س 1.5 :دينار | املغرب 20 :درهم | م�سقط 1 :ريال ال�سعودية 10 :ريال | البحرين 1.5 :دينار | الكويت 1.5 :دينار | قطر 10 :ريال | الإمارات 10 :درهم