اإلعالم الجديد ...كتاب الشھر ..يوليو ٢٠١٣ مقاالت مختارة للكاتب ابراھيم العريس تسعى مجموعة االعالم الجديد ..الى اصدار كتب وكتيبات وملفات الكترونية للقراءة مجانا ..ليس بھدف الربح ..وانما لنشر الوعي والمعرفة ..وتعريف القاريء على افضل ما يبدعه العقل العربي في مختلف الميادين االدارة.. يوليو ٢٠١٣
مقاالت مختارة للكاتب ابراھيم العريس
اﻻﻋﻼم اﻟﺠﺪﻳﺪ ...ﻛﺘﺎب اﻟﺸﻬﺮ تسعى مجموعة االعالم الجديد ..الى اصدار كتب وكتيبات وملفات الكترونية للقراءة مجانا ..ليس بھدف الربح ..وانما لنشر الوعي والمعرفة ..وتعريف القاريء على افضل ما يبدعه العقل العربي في مختلف الميادين
2
ابراھيم العريس )(١ مجموعة مختارة من مقاالت االستاذ ابراھيم العريس . إبراھيم العريس :باحث في التاريخ الثقافي وصحافي وناقد سينمائي ومترجم ولد في بيروت ،١٩٤٦درس اإلخراج السينمائي في روما والسيناريو والنقد في لندن .يعمل بالصحافة منذ عام .١٩٧٠يرأس حاليًا القسم السينمائي في جريدة »الحياة« كما يكتب فيھا زاوية يومية حول التراث اإلنساني وتاريخ الثقافة العالمية .ترجم نحو أربعين كتابًا عن الفرنسية واإلنجليزية واإليطالية في السينما والفلسفة واالقتصاد والنقد والتاريخ ،من أھم مؤلفاته :رحلة في السينما العربية ،مارتن سكورسيزي: سيرة سينمائية
محتويات الكتاب : »تقسيم العالم« لماركو بولو :الشرق يوقظ مخيّلة أوروبا »قطار اسطنبول« لغراھام غرين :صورة لمجابھات الحياة نفسھا »يوجين أونيغن« لبوشكين :الروح العميقة للشعب الروسي »علم األحالم« لفرويد :إنھا رغبات النھار ومخاوف العيش »نزوة بونابرت« لتزفايغ :استبداد الحاكم ومھنة معاونيه »رحلة إلى الشرق« لدي نرفال :االستشراق بال أفكار مسبقة »البرج الزھر« لدي كيريكو :ظالل مرعبة وفراغ رھيب »مقالة عن العصيان المدني« لھنري ثورو :العدل قبل القانون أحيانا ً »كينغ كونغ« لشودساك وكوبر :من ھو الوحش الحقيقي؟ »تأمالت حول الثورة الفرنسية« لمدام دي ستايل :امرأة تبحث عن دور.
»الشاھنامه« ألبي القاسم الفردوسي :أبعد من تاريخ الملوك والدول ومقاالت اخرى
3
تقسيم العالم« لماركو بولو :الشرق يوقظ مخ ّيلة أوروبا اإلثنين ١٥يوليو ٢٠١٣
إذا كانت الدراسات »المعمقة« الحديثة قد نحت إلى إثبات أن ماركو بولو لم يكن صادقا ً في معظم ما ورد في كتابه األشھر »تقسيم العالم« ،فإن ما ال بد من التوقف عنده ھنا ،أنه على رغم شھرة الكتاب منذ اللحظة التي نشر فيھا وعرف على نطاق واسع ،وحتى قبل أن يترجم خالل القرون التالية إلى معظم لغات العالم ،كان ھناك من نظر إليه على انه ال يحمل سوى مجموعة من األكاذيب ،وان نصه الرئيس لم يكن أكثر من وليد خيال أسير واسع األفق جلس ذات يوم في سجنه ليروي أموراً سمع عنھا وأحداثا ً عاشھا آخرون مدعيا ً أنه عاشھا وخبرھا ھو شخصيا ً .كان كثر في البداية ومن معاصري ماركو بولو ،يرون ھذا الرأي :بين من ينحون إلى بأن الرجل لم يقم بكل تلك الرحالت كما قال ،وآخر يرى استحالة أن يكون شخص واحد قد عاش حقا ً تلك »التجارب« التي يتحدث عنھا الكاتب في مئات الصفحات ،وثالث كان يرى أن صورة الشرق كما يقدمھا ماركو بولو ھي »بالتأكيد« أجمل من أن تكون حقيقية! ولقد كان شاعر إيطاليا الكبير دانتي أليغييري )صاحب »الكوميديا اإللھية«( والذي عاش في زمن ماركو بولو نفسه ،من أصحاب بعض ھذه اآلراء مجتمعة .ولكن سواء أكان كتاب »تقسيم العالم« صحيح النسب ،مبنيا ً على حقائق معيشة من قبل مؤلفه ،أم كان نصا ً خيالياً ،فإن ما ال شك فيه ھو أن ھذا الكتاب لعب دوراً أساسا ً في »تصنيع المخيلة االستشراقية« لدى أوروبيي العصور الوسطى ،الذين كانوا خرجوا لتوھم من أزمان الظالم والرعب مما مثلته الحضارة اإلسالمية بالنسبة اليھم ،إذ تھجم عليھم بكل أنواع جديدھا كاشفة تأخرھم من دون أن يعرفوا طريقة للحاق بھا ،ما جعلھم يشعرون أنھم إن استسلموا أمام تلك الحضارة ،فإنھم سيكونون قد انفتحوا على عوالم مجھولة ليس لھم إمكانية التأقلم معھا .أما اآلن ،وقد صدر ھذا الكتاب -كما كان بعضھم يقول ،-فإن في اإلمكان االنفتاح على عوالم أخرى ربما ستكون أقل وطأة من العالم الموعودين به .ومن ھنا ،كانت المسألة بالنسبة اليھم االستفادة من وجود شرقين ال شرق واحد ،ثم التعرّف إلى العدو كي يمكن تدبير الوسائل للتصدي له .كان بعض تلك الوسائل .وبالتأكيد -وفق كثر على أي حالّ ،- خير مثل »تقسيم العالم« االنفتاح عليه َ َ وسيلة لذلك االنفتاح ،إذ أخبرھم عن وجود حضارات أخرى غير حضارتھم الملتبسة وحضارة المسلمين التي أقضّت مضاجعھم. < مھما يكن من أمر ،فإننا نعرف -كما كان األوروبيون يعرفون -أن كثيرين زاروا ،وقبل ماركو بولو ،بلدان الشرق األقصى ،كما كتب كثيرون عنھا ،لكن أصوات ھؤالء كانت على الدوام خفيضة ،ولم تساھم الظروف في انتشارھا .ما حدث مع ماركو بولو كان العكس :انتشر كتابه، الذي سيظھر أنه ُكتب بالفرنسية أوالً ،وقرأه األوروبيون وتع ّرفوا من خالله على صين كوبالي خان ،الذي صار منذ ذلك الحين أشبه بالشخصية األسطورية ،وتعرّ فوا كذلك إلى اليابان ،التي 4
راحوا منذ ذلك الحين يسمونھا بالد الشمس المشرقة ،والتي كانوا نادراً ما سمعوا بھا من قبل، وتعرفوا إلى حياة القصور والشعوب والعادات والتقاليد واالختراعات وضروب التقدم في مجاھل آسيا ،وأيضا ً في وسطھا ،وفي الشرق األدنى وشرق أفريقيا .ومن المؤكد أن األوروبيين ،وبالنسبة الى ھذين الحيّزين الجغرافيين األخيرين )الشرق األدنى وشمال إفريقيا( ،سوف يتلمسّون في ثنايا كتاب ماركو بولو صورة مختلفة كثيراً عن تلك الصورة التي كانت لديھم مستقا ًة من رحالة ومبشرين ورجال دين زاروا المناطق وعادوا منھا بانطباعات أق ّل ما يمكن أن يقال عنھا أنھا كانت مخيفة تنذر باألھوال!!. < فما الذي يصفه ماركو بولو في كتابه )الذي يميل باحثون عرب وكثر من غير العرب أيضاً، إلى أن جزءاً كبيراً منه مستقى من رحالت ابن بطوطة(؟ إن ماركو بولو يصف في كتابه ذلك العالم ،وال سيما سنوات إقامته ھو فيه ،وإقامة عمه وأبيه ھناك طوال ما يقرب من ربع قرن .لكنه اكثر من ھذا ،وبين السطور ،يصف الحياة في أوروبا نفسھا ،ألنه في كل مرة يبدي اندھاشه بما يراه وبما يسمعه في بالد الحضارات البعيدة ،إنما يعبر عما ينقص موطنه .ولعل في ھذه المقارنة بين بالد التاتار والمغول والصين وفارس واليابان وازدھار حضاراتھا ،وبين ما ينقص أوروبا، تكمن أھمية ھذا الكتاب ،وتحريك المخيلة األوروبية ،ھذه المخيلة التي لم تكف منذ ذلك الحين عن االھتمام بالشرق ،اوالً من موقع الصدمة وبعد ذلك من موقع التوق الرومانطيقي .وفي ھذا اإلطار، لم يكن صدفة أن يلعب كوبالي خان دوراً كبيراً في مخيلة األوروبيين االستشراقية .وتص َّدرت من بعد نصّ ماركو بولو »الرائد« ھذا في مجال التعريف به ،كتبٌ كثيرة ،شعرية ونثرية تحوله من إمبراطور صيني الى اسطورة. < قام ماركو بولو بالرحلة الى الصين عبر آسيا ،مع أبيه وعمه بين العامين ١٢٧١و.١٢٩٥ وكان األب والعم ،وھما تاجران من البندقية ،قد سبق لھما أن زارا الصين قبل اصطحاب ماركو الشاب اليھا ،وكان كوبالي خان ،إمبراطور البالد قد استقبلھما بكل احترام وكلفھما حتى بإيصال رسالة منه إلى البابا .وحين أوصل الرجالن الرسالة يبدو أن البابا أحب أن يجيب عليھا بأحسن منھا ،وقد سرّته تلك المبادرة تأتي من المكان البعيد ،فكلف بإيصال الرد إلى والد ماركو بولو وعمه ،اللذين إذ عادا بالجواب إلى كوبالي خان ،اصطحبا معھما ھذه المرة ماركو الشاب ،في رحلة عبروا خاللھا طوال فترة ال بأس بھا من الزمن مناطق عديدة في كل من أرمينيا وفارس وصوالً إلى الھند والصين ،مروراً ببلدان »مدھشة لم نكن سمعنا بھا من قبل« ،كما يشير ماركو بولو في إحدى صفحات الكتاب .كما ويخبرنا أنھم كانوا طوال الطريق يتفحصون منتجات البلدان والمدن التي يزورونھا ويسجلون انطباعاتھم عنھا ،عازمين على المتاجرة بھا مستقبالً .وفي الصين ،وجد البندقيون الثالثة أنفسھم في بالد ھادئة ووسط شعب مھذب ،وعاشوا في بيوت مرفھة تحف بھا طرقات أنيقة مزروعة باألشجار على جانبيھا .باختصار ،سيقول آل بولو إنھم إذ ذھبوا أوالً وھم يعتقدون انھم سيلتقون قوما ً ھمجيين ،إنما التقوا بدالً من ذلك شعوبا ً متحضرة في شكل استثنائي »شعوبا ً تفوق أخالقھا وعوائدھا ما في بلداننا تقدما ً« .المھم أن كوبالي أبقاھم لديه 5
عشرين سنة أخرى ،ثم حين أعلنوا عزمھم الرحيل سلمھم ابنته دليالً على ثقته بھم .وھذه االبنة ھي التي سيقول ماركو الحقا ً إنه اصطحبھا إلى فارس. < اذا كانت حكاية الرحلة تنتھي بالعودة في العام ،١٢٩٥فإن حكاية الكتاب تبدأ بعد ذلك مباشرة، إذ تقول الحكاية إنه حين عاد ماركو بولو إلي إيطاليا ،وجد نفسه ،وھو البندقي ،منخرطا ً في معركة بحرية ضد سفن مدينة جنوى المنافسة .وھو أُسر خالل المعركة وأودع السجن في ھذه المدينة ،وھناك في السجن تعرف إلى أسير يدعى روستيسيان البيزي ،وأملى عليه فصول الكتاب، الذي أطلق عليه أول األمر اسم »المليوني« )لسبب ال يزال غامضاً ،وربما يحمل إشارة إلى طول الطريق التي قطعھا في رحلته (...ثم عرف باسم »تقسيم العالم« ،وكذلك باسم »كتاب العجائب«. وكما أشرنا نال الكتاب منذ نشره شھرة كبيرة ،وانقسم إزاءه الناس بين مصدق لكل ما فيه ،بانيا ً على ذلك أحالما ً وخياالت ،ومكذ ٍ ب رأى أن ماركو بولو اخترع معظم ما يرويه ،أو ھو -على األق ّل -سرق مشاھدات أبيه وعمه .ومھما يكن من األمر ،فإن ماركو بولو عمّر عقوداً بعد ذلك، وعاد إلى مدينته إثر إطالق سراحه ،وعاش حياة ھادئة يتاجر بما أتى به أبوه وعمه ويروي حكايته لمن يحب أن يسمع حتى رحل في العام ١٣٢٣عن عمر يناھز السبعين
قطار اسطنبول« لغراھام غرين :صورة لمجابھات الحياة نفسھا السبت ١٣يوليو ٢٠١٣
في رواية أغاثا كريستي التي تدور أحداثھا في قطار الشرق السريع ،جريمة تحدث داخل حافلة القطار ،ومجموعة من الناس يسعون لمعرفة من ھو القاتل ،في الوقت الذي يمكن القاتل أن يكون أي واحد منھم ...أو جميعھم .في ذلك المكان المغلق من الداخل ،والمنفتح على أوروبا كلھا من الخارج ،وضعت سيدة الرواية البوليسية شخصياتھا وجعلتھم جميعا ً يتحلقون من حول الحدث، بحيث إن القطار صار مكانا ً ال أكثر .وفي رواية غراھام غرين »قطار اسطنبول« ،ھناك ھذا القطار نفسه ،وھناك أيضا ً شخصيات متعددة تتقاطع وتتصادم في ما بينھا .لكن الرحلة ھذه المرة، من اوستاند في بلجيكا ،الى اسطنبول في تركيا ،تصبح ھي الحكاية .لم تعد مجرد مكان ،صارت كناية عن صورة تخيلھا الكاتب ،للعالم ،وھو في الثامنة والعشرين من عمره ...حين كان ال يزال يخطو خطوات مبكرة في عالم الكتابة الروائية الذي جعل منه واحداً من أبرز كتاب القرن العشرين 6
وأكثرھم شعبية .ذلك أن غراھام غرين ،على رغم امتالء رواياته باالفكار -واالفكار الصعبة المنال أحيانا ً -حرص دائما ً على أن يكون كالسيكيا ً في سرده ،بسيطا ً في االطار العام لموضوعاته ،وواضحا ً في رسمه لسيكولوجيات شخصياته ودوافعھا .فھو ،وكما سيقول الحقا ً عشرات المرات ،كان يكتب لكي يُقرأ ،ال لمجرد أن يكتب .وھو بھذا انتمى في القرن الفائت الى ذلك الرھط من الك ّتاب الذين أوجدوا كالسيكية العصر وبيعت أعمالھم بعشرات ماليين النسخ وحُوّ لت أفالما ً ومسلسالت تلفزيونية كشفت دائما ً عن أن ذلك النوع من األدب يولد مباشرة من رحم الحياة وتجاربھا ،ال من رحم األفكار .لذلك ،حتى وإن كان غراھام غرين قد نال حظوة لدى النقاد الجادين -مثله في ھذا مثل لورانس داريل ،وألبرتو مورافيا ،وجوزف كونراد وھنري جيمس ،-فإنه أص ّر دائما ً على ان يلحق النقاد ونظرياتھم بأدبه ،ال أن يقوم ھو بمطاردتھم. < والحال ان »قطار اسطنبول« تقول ھذا كله ،حتى وإن كانت ال تبدو على قوة أعمال اخرى الحقة لغراھام غرين .وال ننسى ھنا أن ھذه الرواية كانت ،في عام صدورھا ،١٩٣٢ثالث رواية يكتبھا غرين وينشرھا ...بل األولى بين رواياته الكبرى ،إذ إن الروايتين اللتين سبقتاھا »الرجل في الداخل« ) (١٩٢٩و »اسم الفعل« ) ،(١٩٣٠ستعتبران أعماالً أولية ثانوية في مسيرة غرين. ومن ھنا ،فإن جزءاً من مكانة »قطار اسطنبول« يكمن في أنھا العمل الذي مھّد ألعمال غرين الكبيرة التالية. < ومع ھذا ليست »قطار اسطنبول« في سمتھا الخارجية الظاھرة ،على األقل ،سوى رواية مغامرات وأحداث متالحقة ...وھذه األحداث تدور خالل ثالثة أيام ،وھي أحداث شيقة تقطع على القارئ أنفاسه وتجعله متطلعا ً أمام كل حدث وموقف ،لمعرفة المزيد واالنتقال الى ما يليه .غير ان ھذا ليس سوى اإلطار الخارجي للعمل ...ذلك ان االحداث التي نشير اليھا ھي أحداث تدور من حوله شخصيات محددة :ھي شخصيات اجتمعت ھنا بمحض الصدفة ،كما يحدث ألي مجموعة من ھذا النوع .وحّد بينھا كونھا التقت في القطار المتجه عبر األراضي األوروبية .وألن ھذا القطار يواصل رحلته ليالً ونھاراً ،مع توقف ھنا أو ھناك ،تضحى عربة القطار أشبه بعالم مغلق على ذاته ،وأيضا ً عالم يغلق الشخصيات على ذاتھا ،ليجعل كالً منھا على مجابھة مع الشخصيات األخرى .وليس بالضرورة بالمعنى الصراعي للكلمة .فليس ھنا ثمة ،على أي حال ،محاور لصراع ...ومثل ھذه الرحلة ھو أمر يحدث كل يوم ،فال داعي الى ان تكون له أبعاد استثنائية. وھكذا يصبح ما نشھده في ذلك القطار ،موقفا ً عاديا ً لشخصيات عادية ،بل إن اكثر األحداث غرابة وتشويقاً ،تظھر كأحداث عادية .ما يعني اننا ھنا في جانب ھنري جيمس ،أكثر مما نحن في جانب جوزف كونراد ،الذي كان غراھام غرين يعتبره استاذاً كبيراً له .ولكن ،ألن كل عادي يحمل في طيّاته ما ھو غير عادي ،يصبح المحور ھنا ھو تلك اللقاءات بين شخصيات أساسية تقدمھا لنا الرواية تباعا ً :من مايات الى السيد أوبي ،الى كورا الى ماسكر ومس وارن وبيترز :كلھم أناس عاديون ،في رحلة عادية ...ولعل ھذه العادية ھي ما يعطي العمل قوته ويعطي اللقاءات قوة التعبير عن الحياة .إذ اننا بعد تعارفات اللحظات األولى ،نجدنا أمام الحياة نفسھا ...أمام الحياة وقد 7
تنبھنا ،من خالل الموقف العام ،اننا في خضم عيشنا لھا ،ننسى تفاصيلھا ،ثم ننسى وجودھا. وغراھام غرين ھو ھنا ،ليذكرنا بذلك الوجود من خالل شخصيات ھذه الحياة :إذ اننا ،وبسرعة، نجدنا ،من خالل تقاطع الشخصيات وحواراتھا وردود أفعالھا على أي شيء يحدث ،شھوداً على المجابھة بين المال والفقر ،بين القوة والضعف ،بين الغيبية المطلقة والمادية المطلقة ...أو ،كما يقول دارسو أعمال غرين :في ھذا القطار من أوستاند الى اسطنبول ،يتجابه كل شيء وصوالً الى تلك المجابھة بين ما ھو تقليدي وامتثالي ،وما ھو ثوروي متمرد .صحيح ان ھؤالء الدارسين نفسھم يأخذون على الرواية شيئا ً من الثقل في التعبير عن الرموز والكنايات )ولكن ماذا نريد يا ترى من عمل كتبه في العام ١٩٣٢شاب عشريني كان اكتشف اإليمان الكاثوليكي حديثاً ،وأراد أن يعبّر عنه من خالل المھنة الوحيدة التي كان يشعر انه يتقنھا في ذلك الحين :مھنة الكتابة الروائية؟( ،غير ان ھذا بالذات ھو ما جعل عيون النقاد تنفتح على ذلك الكاتب الشاب ،اذ تحدثوا عن »تأرجح خالق لديه بين كونراد وھنري جيمس« ،في اشارة لعلھا األولى في ذلك الحين الى ضرورة ان يكون التعاطي مع أدب غرين ،جديا ً للغاية. < فكيف إذا عرفنا أيضا ً ان »قطار اسطنبول« التي كتبت ونشرت قبل سبعة أعوام من اندالع الحرب العالمية الثانية ،أتت وكأنھا تتحدث عن بذور تلك الحرب؟ كيف اذا رأينا -في نھاية األمر في المجابھة -السلمية وإنما الحادة -بين الشخصيات ،صورة مخففة وتنبؤية في اآلن عينه،للصراع المقبل؟ < ھذه الصورة رسمھا غراھام غرين من خالل سبره جوّ انية الشخصيات ،ومن خالل تحديده البيّن للخلفيات االجتماعية التي ،الى سيكولوجيتھا ،ھي ما يحكم تصرفاتھا ،حتى وإن كان ھذا التحديد، ال يزال ھنا بدائياً ،مقارنة بما سيصير عليه في روايات مقبلة لغرين .وفي المقابل ،نجد أن البعد الروحي الجوّ اني للعمل ،يبدو تأسيسيا ً وعلى أحسن ما يكون .أما المفصل األھم في »قطار اسطنبول« فھو رجال الشرطة الذين يطاردون مجرماً ،ما يخلق ردود فعل متنوعة لدى الركاب، ألن من خالل ھذه المطاردة تبرز حكاية تھريب األسلحة عشية الحرب ...ومن ھنا نجد الشخصيات نفسھا على تماسّ مباشر مع الحرب ...وال تعود الحرب مجرد خوف يعتري الشخصيات ،بل شعور عارم ...تصبح ھي الشر معبَّراً عنه بجماھير غامضة تلوح من خالل نوافذ القطار ،مھددة مھددة ،في انتظار شيء ما ...ولعل ھذا االنتظار يشكل أقوى ما في ھذه الرواية، اضافة الى ما سنكتشفه من استحواذ صورة أب شنق ألسباب سياسية على ابنه ،الذي ھو مرافق، المجرم المطارد .وھكذا ،ينبثق الشر فجأة وسط الرواية ،ليواصل حضوره بعد ذلك في عالم غراھام غرين الروائي حتى النھاية. < غراھام غرين ) (١٩٩١ - ١٩٠٤ھو ،كما نعرف ،أحد كبار كتاب االنكليز ،وتميزت كتابته دائما ً بتأثره بالمذھب الكاثوليكي الذي اعتنقه باكراً في حياته ،كنوع من االحتجاج على جمودية بريطانيا المذھبية ...ومع ھذا ،لم يتوان غرين عن خدمة بريطانيا ھذه ،كعميل سري في واحد من 8
أزمان مساره الحياتي والمھني ،ما ش ّكل خلفية أسفاره الكثيرة التي كانت بدورھا في خلفية أبرز أعماله الروائية التي طبعت القرن العشرين ،ومنھا »جوھر المسألة« و»القوة والمجد« و»األميركي الھادئ« و»الخاسر يأخذ كل شيء« و»العامل االنساني«.
»يوجين أونيغن« لبوشكين :الروح العميقة للشعب الروسي الجمعة ١٢يوليو ٢٠١٣
ھي الرواية التي يقول الباحث الروسي ف .إيفانوف في صددھا »مع ھذا العمل الكبير بدأ ازدھار الرواية في روسيا .وھذا االزدھار كان واحداً من األحداث األكثر داللة التي عرفتھا الثقافة األوروبية المعاصرة« .أما المؤرخ كليوتشفسكي ،فرأى أن في إمكاننا أن نعتبر »يوجين أونيغن« »وثيقة تاريخية بفضل ما فيھا من تصوير للبيئة الروسية« ،فإذا أضفنا إلى ھذا أن الكاتب الكبير دوستويفسكي كان ال يكف عن امتداح ما في ھذه الرواية من »إخالص لروح الشعب الروسي«، يمكننا أن نفھم ،حقاً ،المكانة التي تحتلھا »يوجين أونيغن« في أدب روسيا .انھا مكانة مؤسّسة، طالما أن الرواية في روسيا كانت قبل ذلك شيئا ً آخر تماما ً .من ھنا ،حين الح للموسيقي الكبير تشايكوفسكي ،وھو في قمة اھتمامه بأن يكتب أعماالً موسيقية تعبّر عن روح الشعب الذي ينتمي إليه ،لم يتردد لحظة في اختيار »يوجين أونيغن« ما أسفر عن واحدة من أجمل األوبرات في تاريخ ھذا الفن. < كان ألكسندر بوشكين ،الذي سيعرف دائما ً بـ »شاعر روسيا األعظم« في الثانية والثالثين من عمره حين كتب رواية »يوجين أونيغن« .أو باألحرى حين أنجز كتابتھا ونشرھا في طبعة أولى. فالحال أنه إنما بدأ كتابتھا قبل ذلك بكثير :في عام ،١٨٢٢وكان بعد في الثالثة والعشرين .وقد استغرقته كتابتھا على الشكل الذي انتھت إليه كما في الطبعة األولى ،أكثر من عشر سنوات .أما الطبعة المكتملة لھا فلم تصدر إال في عام ،١٨٣٣لتطبع بعدھا وبسرعة أكثر من عشر طبعات ويتلقفھا القراء متلھفين. < تمتلئ رواية »يوجين أونيغن« بالشخصيات ،على عكس ما ستكون عليه األوبرا المقتبسة عنھا، إذ إن تشايكوفسكي اكتفى بشخصيات رئيسة حرك من خاللھا الفصول الثالثة التي قسم األوبرا إليھا .أما بالنسبة إلى بوشكين فإن النص الروائي ،لكي يكون أشبه بفسيفساء تق ّدم صورة للحياة الروسية في كل تجلياتھا وطبقاتھا وصراعاتھا وحدتھا المزاجية ،يتعيّن عليه أن يمتلئ بعشرات الشخصيات التي يعبر كل منھا عن نوازع معينة .ومع ھذا نجد أن التركيز ،في الرواية األصلية 9
كما كتبھا بوشكين ينحصر في أربع شخصيات مھمة ،تتمحور األحداث حولھا» :يوجين أونيغن« نفسه ،ابن المجتمع المترف ،العابث وغير العابئ بأية قيم حقيقية ،ومن بعده يأتي الشاعر الرومانطيقي فالديمير لينسكي .ثم الشقيقتان الحسناوان تاتيانا وأولغا الرين .وفي مجال األھمية نفسھا ھناك شخصية خامسة لھا دور أساسي في الرواية لكنھا مخبوءة في ثنايا العمل ال تظھر - عرضا ً -إال في حاالت وأحداث معينة ،وھذه الشخصية ھي شخصية المؤلف نفسه .وھي شخصية لن نشعر بأي وجود لھا في أوبرا تشايكوفسكي .وإن كان وجودھا يضاھي وجود القارئ ذي العين البصاصة في الرواية .الشخصية الرئيسة بين ھذه الشخصيات ،وكما يدلنا عنوان الرواية ،ھي، إذاً ،شخصية »يوجين أونيغن« ،ابن المجتمع الالھي والثري ،والذي يرث ثروة طائلة عن ع ّم له تجبره على مبارحة العاصمة سانت بطرسبرغ والعيش في الريف .وھو أمر يؤلمه أول األمر فھو ُربّي أصالً على الطريقة الفرنسية وكون لنفسه في العاصمة عالما ً من األصدقاء والتابعين .فما الذي سيفعله في الريف؟ لكنه ،وعلى طريقة مجبر أخاك ال بطل ،ينتقل فعالً إلى األمالك التي ورثھا في ذلك الريف ،وھنا يلتقي بالشاعر الرومانسي المثالي النتسكي ،وفي معيته يبدأ بارتياد دارة السيدة الرين التي لديھا فتاتان حسناوان ھما الرومانسية المكتئبة دائما ً تاتيانا ،والمرحة ذات الحيوية أولغا .ونعرف بسرعة أن التسكي قد خطب لنفسه ھذه األخيرة .أما تاتيانا فسرعان ما تھيم حبا ً بيوجين وتعترف إليه بحبھا عبر رسالة ساذجة ترسلھا إليه .وھو ما إن يتلقى الرسالة حتى يرسل إلى تاتيانا رداً مليئا ً بالمواعظ األخالقية المتحدثة عن األخطار التي تتعرض لھا الفتيات حين يتركن أنفسھن في مھب ھواھنّ .ومن الواضح أن دافع يوجين إلى ھذا الموقف ،ليس أخالقه ،بل كونه يفضل أولغا المرحة على تاتيانا الحالمة .وھذا ما نكتشفه خالل حفل راقص يقام ،وخالله يبدأ يوجين مغازلته أولغا ،ما يثير غضب النتسكي وغيرته ،ويبدأ بين االثنتين تح ٍّد ينتھي إلى مبارزة يقتل خاللھا يوجين ،الشاعر المثالي .ويتوقف الجزء األول من األحداث ھنا ،لتمر سنوات ،ونجدنا مع يوجين في العاصمة سانت بطرسبرغ .ونجده يلتقي تاتيانا من جديد .لكنھا اآلن صارت سيدة مجتمع كبيرة متزوجة بجنرال في الجيش ،ولم تعد -ظاھريا ً -تلك الفتاة المنطوية الخجول .وفور اللقاء يدرك يوجين ھذا التحول لديھا ،فيولع بھا ،ھو الذي كان في الماضي قد احتقرھا بصفتھا ريفية ساذجة .ويصارحھا اآلن بحبه مرات عدة لكنھا تصده وقد أضحت المبادرة ھذه المرة في يدھا .وذات يوم يتمكن من االستفراد بھا في منزلھا .وھنا يسقط القناع الجديد عن وجه تاتيانا وال تتمالك نفسھا :تصارحه بحبھا له ،وتقول له إنھا أبداً ما توقفت عن حبه ،لكن ھذا الحب لن يودي بھما إلى أي مكان ،طالما أن ليس من أخالقھا أن تخون زوجھا ،الرجل الذي احتضنھا والذي يضع فيھا ثقته كلھا. < منذ صدورھا للمرة األولى فتنت ھذه الرواية القراء والنقاد سواء بسواء .ومن بين المفتونين بھا الناقد بيلنسكي ،الذي غمر ظله الكبير األدب الروسي كله في القرن التاسع عشر ،وبيلنسكي قال عن رواية ألكسندر بوشكين ھذه إنھا »رواية حقيقية من ناحية حبكتھا ،وقصيدة شاعرية من ناحية بنيتھا واألجواء التي تصفھا لنا« مؤكداً أن ھذا النص إنما ھو ،في نھاية األمر ،مطبوع بذلك الدفق 10
الشاعري الذي ارتبط به عمل بوشكين ككل .ومن بعد بيلنسكي رأى الباحثون أن رواية »يوجين أونيغن« فريدة من نوعھا ليس في األدب الروسي وحده .وھو ما كان متضمناً ،حتى في كتابة بيلنسكي عن الرواية إذ قال إنھا »النص األكثر جماالً وإلھاما ً الذي كتبه بوشكين طوال حياته. واإلبداع األكثر كماالً الذي أبدعته مخيلته .وھو العمل الذي عبرت فيه شخصيته عن نفسه بأفضل مما فعلت في أي نص آخر له« .ذلك أن بيلنسكي ،مثل اآلخرين ،اعتبر أن »يوجين أونيغن« ال يمكن أن يكون -على رغم مساوئه كلھا -شخصا ً آخر غير بوشكين نفسه .ما يعني أنھا كانت واحدة من المرات األولى التي يسم فيھا كاتب نفسه -أو أناه اآلخر -في رواية يكتبھا بمثل ھذه الصفات السلبية .مع ھذا ،قد يكون من المفيد أن نضيف ھنا أن سلبية »يوجين أونيغن« ليست مطلقة ،ذلك أن األحداث تشكل في نھاية األمر نوعا ً من المطھر بالنسبة إليه .كما أن غرامه بتاتيانا ،في المرة الثانية على األقل ،ال يمكنه إال أن يكون غراما ً حقيقياً ،بل لعله يكون صورة الشيطان المغوي الذي قد تحل عليه اللعنة ،لكنه في نھاية األمر ،قدم نفسه فداء لكي يظھر بطولته البريئة وإنسانيته. < عاش ألكسندر بوشكين ) (١٨٣٧ - ١٧٨٨ثمانية وثالثين عاماً ،كانت من األعوام األكثر صخبا ً وغرابة في التاريخ الروسي ،ذلك أنھا تحلقت حول الحملة النابوليونية وأحداثھا العاصفة. لكن تلك السنوات التي عاشھا بوشكين ،كانت ،على قلّتھا ،كافية لكي تصنع منه شاعر روسيا األكبر ومؤسس أدبھا الحديث ،باعتراف الجميع .وھو ولد في موسكو ،ليموت في سانت بطرسبرغ خالل مبارزة خاضھا ألسباب نسائية .وھو ما كان يمكن تو ّقعه له كنھاية منذ بداياته العابثة والمليئة بالعواطف واألھواء .ولقد خلّف بوشكين الكثير من األعمال الشعرية والروائية والمسرحية التي لم تجعل منه كاتبا ً كبيراً فقط ،بل بطالً قوميا ً أيضا ً .إذ تماما ً كما كان يقال إن الرواية الروسية كلھا قد خرجت من »معطف« غوغول ،كذلك قيل دائما ً إن األدب الروسي الحديث كله قد خرج من تحت يراع بوشكين .ولئن كانت رواية »يوجين أونيغن« تعتبر األشھر بين أعمال بوشكين، وربما في األدب الروسي كافة ،فإن ھذا الشاعر خلق أعماالً أخرى كبيرة منھا »رسالن ولودميال« وأشعار الـ »غابرلياد« وكتاب »الغجر« و »أفريقي بطرس األكبر« و »حكايات بلكين« و »بيت في كولومنا« و »ابنة الكابتن« وغيرھا من أعمال جعلت القيصر نيقوال األول يقول عنه ذات يوم إنه ،بالنسبة اليه» ،الرجل األكثر ذكاء في روسيا«
»علم األحالم« لفرويد :إنھا رغبات النھار ومخاوف العيش الخميس ١١يوليو ٢٠١٣
يعتبر كتاب »علم األحالم« لمبتدع التحليل النفسي في الفكر العالمي ،النمسوي سيغموند فرويد، واحداً من أشھر الكتب العلمية في تاريخ البشرية .وھو يأتي ،بعد الكتب المقدسة وأعمال شكسبير بالطبع ،في مقدمة الكتب التي تترجم إلى شتى لغات العالم ،غير أن ھذا الكتاب المتوافر في 11
عشرات ماليين النسخ ومئات الترجمات ،ال يقرأه كل ھذا العدد من البشر بصفته كتابا ً علمياً ،بل بصفته كتابا ً في تفسير األحالم .بل إن ھذا ھو العنوان الذي يق َّدم به في بعض ترجماته ،ومنھا الترجمة العربية .والحقيقة أن ھذا الكتاب الضخم الحجم والسھل القراءة -على غير عادة فرويد في كتبه -يحتوي على الكثير من تفاسير األحالم ،بل إن تفسيرھا يكاد يكون موضوعه الرئيسي ،ولكن طبعا ً -ليس بالمعنى الذي يتوخاه منه عامة القراء .ذلك أن فرويد لم يكن مھتما ً حين وضع الكتابعند النقطة الزمنية الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين ،بأن يوفر للحالمين نصوصا ً تمكنھم من أن يحصلوا من قلب األحالم على نظرة تحدثھم عما سوف يحصل في الغد ،فتطمئنھم أو تخيفھم ،كونھا مادة تعزز فكرتھم عن الحلم ودوره في حياة اإلنسان ،نعرف طبعا ً أن ھؤالء قد ّ مثل الحلم بالنسبة اليھم دائما ً إشارة إلى ما سيحدث في المستقبل .أما فرويد في كتابه ،فكان ھمه أن يبحث في شكل علمي ،عالق َة الحلم بصاحبه وبشخصيته وبمزاجه وبما كان حدث له في اليوم السابق على الحلم ،أو في الزمن السابق عليه في شكل عام .ومن خالل الحلم ووصفه ،كان فرويد متھما ً باإلمعان في تحليله النفسي لشخصية صاحب الحلم ال أكثر وال أق ّل. < ومن ھنا يعتبر كتاب فرويد ھذا ،والذي نشر في العام ١٩٠٠تحديداً ،أو َل محاولة علمية لدراسة الحلم بصفته فعالً نفسانياً ،مرتبطا ً بالحياة الواعية .وأكثر من ھذا :أول محاولة للبرھان على صواب أن نكتشف »في الحلم داللة تسمح بالتأكيد على أن النوم ليس سوى استمرار لحياة اليقظة« .ويرى الباحثون أن قيمة ھذا العمل -حتى وإن كانت الدراسات العلمية الالحقة عليه طوال القرن العشرين قد تجاوزته -إنما تأتي من »رفض اعتبار النوم مجرد ظاھرة فيزيائية بسيطة وعمياء«. < يتضمن كتاب »علم األحالم« في صفحاته الكثيرة أوالً ،جزءاً تاريخيا ً يتعلق بدراسة األحالم، وھو الجزء الذي ال تزال له كل أھميته حتى أيامنا ھذه ،والى ھذا ،يتضمن »تحليالً للعناصر المكوّ نة للحلم بأشكالھا األساسية البسيطة ولكن أيضا ً بأشكالھا المركبة ،ثم نظرية حول تش ّكل الحلم وسيرورته واألسباب التي تحدده ،وخصوصا ً الدالالت التي يرتديھا« .ويرى فرويد ،من خالل ھذا كله أن الحلم إنما ھو ،في شكل جوھري ،تمثيل للرغبة المتحققة :فالجائع أو العطش ،يحلم بأنه يأكل أو يشرب .واألطفال يحلمون بأن يحصلوا على الدمى التي يتوقون إلى الحصول عليھا ،فإذا تجاوزنا ھذه البنى األولية إلى أحالم أكثر تركيبية ،كما يقول دارسو فرويد ،نجد أن »أوالية الحلم يترتب عليھا إبدال للقيم :فھنا يمكن اعتبار الحلم فكرة تترجم إلى صور .وبما أن عناصر الرغبة ال يمكنھا كلھا أن تكون ذات شكل بصري ،يحدث لتلك الرغبة أن تنقل أو تبدل على شكل تمثيل رمزي :وھنا نكون قد حصلنا على صيغة أولية لمحتوى الحلم« .وبعد أن يشرح فرويد ھذا كله ينتقل ،ودائما ً وفق باحثي عمله ،إلى مستوى آخر أكثر أھمية بكثير ،بين المستويات التي »تتدخل في سيرورة وجود الحلم :إنه المستوى ذو العالقة بالحياة األخالقية ،أي غير المادية :فحين تكون رغبتنا ذات طبيعة تدفع حسّنا األخالقي إلى إدانتھا ،تأتي نشاطاتنا الواعية لتمارس على تلك الرغبة »رقابة« مشددة ...غير أن ھذه الرقابة ال يمكنھا أن تمحو الرغبة .ھذه الرغبة التي تتمكن 12
عند ذلك ،وعلى رغم كل شيء ،من التعبير عن نفسھا بواسطة بدائل تتخذ أشكال كفاية ومظھراً بريئا ً« .وفي الحلم ،وفق فرويد» ،يتعين التمييز بين المحتوى الظاھر والمحتوى المبطن .فاألول يتشكل من عناصر بصرية تحيل إلى صور ومشاعر راھنة ...وھي في مجموعھا تشكل المادة الخام التي يتكون منھا الجوھر التمثيلي الرمزي للحلم ،وتخدم في ترجمة القيم التي ال يمكن تمثيلھا :أما المحتوى الثاني -أي المحتوى المبطن ،-فإنه يتكون بفضل داللته العميقة والخبيثة«. < لكن فــرويــــد إذ يصـــل إلى ھذا التفريق الواعي بين المحتويين ،يسعى على الفور إلى توحــــيد داللتيھما :وھو خالل مسعاه يتمكن من العثور على الجوھر األساس المشترك الذي يجـــمع بيـــن األحـــالم كافة :إنه الرغبة الجنسية ،فـ »تماما ً كما أن الصور الراھنة ھـي الوسيلة التي يمتلكھا الحلم من أجل تمكنه من تمثيل رغبتنا مھما كان شأنھا ،ال تكون ھــذه الرغـبــة بدورھـــا سوى الوسيلة التي يعبَّر بھا عن غريزتنا الجنسية األكثر عمقا ً وانغـــرازاً فيـــنا« ،ومن ھنا يرى فرويد -ودائما ً وفق دارسيه ومفسري أعماله ،وھم كثر ،ال سيما بالنــــسبة إلى كتابه األشھر ھذا ،كثرة معارضي الكتاب وناقديه ورافضيه كليا ً -أن الحلم يمثل طبقات عدة ،وللوصول إلى اللب يجب اجتياز الكثير من ھذه الطبقات ،ذلك أن تمثيل رغبة ما سرعان ما يتحول إلى رمز لرغبة أخرى ليست في حقيقتھا سوى رمز لرغبة ثالثة ،تتبعھا رابعة وخامسة ...وھكذا ،حتى الوصول في نھاية األمر إلى الرغبة الجوھرية المختبئة خلف رمزية الرغبات األخرى جميعاً، وھي الرغبة الجنسية« .ويرى فرويد أن األمر يكون على ھذا النحو خصوصا ً حين تمارس ً رقابة مشددة النفس ،إذ تستنكف في شكل خاص عن االعتراف بوجود ھذه الغريزة في داخلھا، على التمثيالت التي يمكنھا الكشف عنھا كافة» :وعند ھذا نصل إلى الرغبة المدفوعة أو المطرودة ،أي إلى الفعل الذي به يدفع المرء إحساسه الجنسي إلى عمق ظلمات وعيه الباطني أو الوعيه .وفي مثل ھذه الحال ،تحيل ذھانيات اإلنسان حين يتصرف داخل الحلم ،حساسيته الجنسية ھذه إلى اشياء رمزية ذات ايحاءات سرية.«... < ويرى الباحثون أن ھــــذه االستنتــــاجات األخيرة ،والتــي تحـــتــــوي وفق رأي فرويــــد جوھــــر نظريتـــه كلھا ،تبدت دائما ً األكثر ضعفا ً بين كل ما يقدم في ھذا الكتاب ،ذلك أن »إعـــادة الحيــــاة السريـــة التـــي يعيشھا عقلنا كلھا ،إلى حساسية أساسية )ليبيدو( ،معناه حصر الفكر في نزعة وضعية كان فرويد نفسه ينوي تجاوزھا« وفق واحد من الباحثين. < ولكن علــــى رغـــم ھــــذا كله ،نال ھذا الكتاب شھرة واسعة وقرئ كما أشرنا ،على نطـــاق واسع ،بل إن ثمة من يرى فيه جذور الكثير من النزعات الفنية واألدبية في القرن العشـــرين ،وال سيما التيار السوريالي وتيار الدادائية ،ذلك أن ھذين التيارين قاما على التوغل في قضية الحلم، وتفسير األحالم ،كما على أحالم اليقظة ،والدوافع الجنسية لإلبداع ...بالتوازي مع الدوافع الجنسية للحلم ،حيث ال يعود ثمة ما يميز بين اإلبداع والحلم.
13
< وسيغمـوند فرويد ) (١٩٣٩-١٨٥٦ھو كما نعرف مؤسس تيار التحليل النفسي ،وليس مؤسس علم النفس ،كما ترى الصيغة الشعبية .وھو مارس الكتابة والتحليل النفسي والتدريس في فيينا وأسس الجمعيات وكان له تالمذة وحواريون ،ويعتبر ،في شكل من األشكال ،أحد كبار المؤسسين للفكر الحديث في الكثير من المجاالت .وكتبه الكثيرة ،التي صيغ اكثرھا في األساس على شكل محاضرات ودراسات مطولة ،ترجمت إلى شتى اللغات ،ومنھا العربية ،حيث توجد ترجمات عدة لمعظمھا ،منھا ترجمة حققھا الباحث جورج طرابيشي ،اما كتاب »علم األحالم« فقد ترجمه إلى العربية الباحث المصري مصطفى صفوان ،وصدر في طبعات عدة ،أما بالنسبة إلى فرويد ،فال بد من أن نذكر أنه عورض كثيراً في حياته وبعد مماته ،وكان من ابرز معارضيه تلميذاه يونغ وآدلر
»نزوة بونابرت« لتزفايغ :استبداد الحاكم ومھنة معاونيه األربعاء ١٠يوليو ٢٠١٣
نعرف أن ستيفان تزفايغ ،الكاتب النمسوي الذي كان واحداً من أكثر ك ّتاب اللغة األلمانية شعبية في العالم خالل النصف األول من القرن العشرين ،كتب الكثير من السير لبعض عظماء زمنه واألزمان الماضية .وھو كتب السير كما كتب الرواية ،والشعراء والنصوص المسرحية، والمذكرات .ولئن كانت كتاباته اإلبداعية اتسمت دائما ً ببعد ميلودرامي خلّف مدرسة في ھذا المجال ،في القرن العشرين ،فإن حياته نفسھا كما نعرف انتھت نھاية ميلودرامية ،بل درامية حقيقية .وإذا كان تزفايغ قد اختار أن يضع نھاية لحياته وحياة زوجته معه ،فيما كانا يقيمان في البرازيل خالل السنوات األولى للحرب العالمية الثانية ،فإن تلك النھاية -عن طريق االنتحار -لم تأت ،بحسب معظم المصادر ،بسبب ظروف عائلية أو خاصة ،بل انطالقا ً من رؤية سوداوية متشائمة ألحوال عالم بدأت تسيطر عليه الفاشيات وال سيما النازية .ففي العام ،١٩٤٢الذي انتحر فيه ھذا الكاتب ذو الحساسية المفرطة ،كان ھتلر يسجل أكبر انتصاراته العسكرية على الجبھات كافة ،بحيث بدا من المؤكد ان ليس في ھذا العالم قوى قادرة على ر ّده .وبالنسبة الى تزفايغ، الكاتب النمسوي المنفي قسراً في البرازيل ،كان مثل ذلك االنتصار للدكتاتور النازي يعني نھاية العالم )وھو عنوان واحد من كتبه األخيرة( ...اذ ،ما أبشع عالم يسيطر عليه الفاشيون ويتحكم به الدكتاتوريون!
14
< ومھما يكن من أمر ،فإن القراء الذين عرفوا أدب ستيفان تزفايع ،من طريق رواياته العاطفية والميلودرامية ،مثل » ٢٤ساعة من حياة امرأة« و«حذار من الشفقة« و«السيدة المجھولة« ،ما كان في امكانھم أبداً أن يخمنوا ان السياسة ومصائر العالم كانت تشغل بال ھذا المؤلف الى ھذا الحد .غير ان ھذه الفرضية كانت تعني في الواقع ان أولئك القراء كانوا يتوقفون عند سطح كتابات تزفايغ ،غير قادرين على التوغل في جوھر ما يريد قوله ،ناھيك بأنھا كانت تعني ان جزءاً أساسيا ً من انتاج ھذا الكاتب كان مجھوالً بالنسبة اليھم .وھم كانوا معذورين في ھذا ،اذ ان الفارق في الشھرة بين أعمال تزفايغ العاطفية الشعبية ،وبين كتاباته األخرى ،سواء انتمت الى كتب السيرة أو الى المسرح ،أو الى نوع خاص من كتابات نظرية كان يغوص فيه بين الحين واآلخر ،ذلك الفارق كان كبيراً .ومن ھنا القول ان جزءاً كبيراً من نتاج صاحب »حذار من الشفقة« ال يزال شبه مجھول حتى اآلن .وفي يقيننا انه الجزء األھم. < من ھذا الجزء مسرحية كتبھا تزفايغ في العام ،١٩٢٩أي بالتزامن مع صعود الدكتاتوريات الفاشية في روما )موسوليني( وموسكو )ستالين( وبرلين )ھتلر( ...لكن المسرحية ال تتخذ من أي من ھؤالء بطالً لھا .بل تعقد البطولة لنابوليون ...قبل أن يصبح نابوليون الذي نعرف ،أي حين كان ال يزال الجنرال بونابرت ،ويعيش صعوداً مؤكداً ،سيقوده قريبا ً الى أن يصبح إمبراطوراً. إذاً ،الزمن الذي تجري فيه أحداث ھذه المسرحية ،كان ال يزال زمن ما -بعد الثورة الفرنسية مباشرة ،حين تولى بونابرت قيادة الحملة العسكرية على مصر .أما مكان األحداث فھو مصر نفسھا. < حملت المسرحية في أصلھا األلماني عنوان »خروف اإلنسان المسكين« ،لكنھا عرفت في أوروبا باالسم الذي أعطي لترجمتھا الفرنسية الحقاً ،وھو »نزوة بونابرت« .وللوھلة األولى تبدو المسرحية »غرامية« في شكل أو في آخر ،ذلك ان موضوعھا ،المأخوذ من حادثة حقيقية ،شھدتھا أعلى أوساط القيادة العسكرية الفرنسية في مصر في ذلك الحين ،يتناول وله القائد بونابرت بزوجة حسناء ،لواحد من ضباطه ،وھو المالزم فوريس .ولقد كان ھذا المالزم ،واحداً من أكثر الضباط في الحملة إخالصا ً للثورة الفرنسية وقيادتھا ومبادئھا ،وبالتالي كان كلي اإلعجاب ببونابرت، مواليا ً له .ومن ھنا أسقط في يده تماماً ،ولم يعد يعرف كيف يتعين عليه أن يتصرف ،اذ عرف بأمر اعجاب بونابرت بزوجته .اذ ازاء ذلك ،راحت تمزقه األفكار وضروب الحيرة ...ھو الذي كان ينظر الى قائده على أساس أنه التجسيد الحي للثورة ...واإلنسان -مثله ،أي مثل المالزم -اذا كان مستعداً لبذل روحه وكل غال ونفيس لديه من أجل الثورة ،ھل يبخل بزوجته على من يجسّدھا؟ لقد ملكت الحيرة فؤاد ذلك المالزم الشاب ،في وقت راح فيه الضباط يجابھون األمور بواقعية :اذا كان القائد األكبر قد اختار تلك المرأة ،ما على المالزم سوى الطاعة ...وليس له اال ان يطلق زوجته كي يتمكن القائد من الحصول عليھا شرعا ً.أما في النھاية فكان ال بد مما ليس منه بد: يقرر المالزم أن يطلق زوجته فداء للثورة وقائدھا .ولكن ،في الوقت نفسه ،يكون بونابرت قد نسي الموضوع برمته ،ولم يعد راغبا ً في تلك السيدة .كان األمر -بالنسبة اليه -مجرد نزوة عابرة. 15
واآلن لم يعد أمام القيادة اال ان تنھي الموضوع على أحسن ما يرام .ويتولى الجنرال نوشيه تسوية القضية ،محيطا ً األمر كله بستار من الكتمان. < من الواضح ھنا ،أن ستيفان تزفايغ لم يرغب في كتابة مسرحية عاطفية ،أو عمل من النوع الفرنسي القائم على الثالثي الشھير :الزوج -الزوجة -والعشيق .فالكاتب منذ قرأ عن تلك القضية في سيرة نابوليون ،أدرك على الفور مقدار ما تحتويه من أبعاد شديدة األھمية في دراسة شخصية الدكتاتور ،كل دكتاتور وليس بونابرت وحده .ومن ھنا ،استعار ذلك الموضوع ،ليطرح من خالله بعض المسائل المھمة مثل مصلحة الدولة العليا ،اذ تتجسد في رغبات الحاكم الفرد )القيادة العسكرية حين تطلب من المالزم فوريس أن يطلق زوجته ،تأتي على ذكر مصلحة الدولة ،ال على ذكر َو َله بونابرت بالسيدة( ...ومصلحة الدولة ھنا تتمثل طبعا ً في االستجابة لنزوات سيد الدولة - وبونابرت حين كان قائداً للحملة على مصر ،كان يعامل كسيد للدولة ،استعداداً لتحوّ له الى سيد حقيقي لھا ،الحقا ً حين يعود الى فرنسا .-ومن ھنا واضح أيضا ً أن الكاتب ،كان أھم ما يھمه في ذلك العمل ھو الدراسة العملية للكيفية التي تصاغ بھا عبادة الزعيم في الدول التوتاليتارية .بالنسبة اليه ،عبادة الزعيم ھذه يُشتغل عليھا ،ودائما ً من قبل مجموعة من أشخاص يحيطون بالحاكم، يحمونه ،يستجيبون لرغباته ،يُخضعون كل اآلخرين لتلك الرغبات ،ويتحولون ھم أنفسھم الى حكام باسمه معبرين في كل لحظة عن ارادته ...وھذا ما يجعل ثمة وحدة تذويبية ،بين الدكتاتور الحاكم وأعوانه المحيطين به ...وھذا األمر ينظر اليه تزفايغ ھنا على أنه بديھي ...بمعنى ان الدكتاتور حين يحكم ،ويملي ويريد ويظلم ويقتل ،ال يقوم بأي من ھذه األعمال وحيداً ،بل وسط مجموعة من معاونين يصبح ھو بمثابة العقل والقلب بالنسبة اليھم ويصبحون ھم ،بمثابة الجسد .وھكذا يصبح من العبث المضحك ،تبرئة الدكتاتور من تصرفات معاونيه ،أو اعتبار تصرفاتھم وما يفعلون، أموراً نابعة من مصالحھم الخاصة التي قد تتعارض أحيانا ً مع مصالح الحاكم الدكتاتور. < إذاً ،نحن ھنا -في حقيقة األمر -أمام دراسة معمقة لعبادة الفرد وكيف تصنع .وما ينطبق على بونابرت في ھذا السياق ،ينطبق على كل ذلك النوع من الحكام .وإذ يقول ستيفان تزفايغ ھذا ،كان يقوله -كما أشرنا -من منطلق معايشته لصعود دكتاتوريات قائمة أصالً على عبادة الفرد. وستيفان تزفايغ ) ،(١٩٤٢ - ١٨٨١اذا كان عرف بخاصة كروائي وشاعر ،وكاتب سير ،فإن له في الكتابة المسرحية جھوداً ،ال تقل أھمية عن جھوده األخرى ...بل كانت أكثر جدية في مواضيعھا من رواياته .ومن أبرز مسرحيات ھذا الكاتب ،اضافة إلى نزوة بونابرت ھذه» :بيت قرب البحر« عن الحرب الثورية األميركية ،و »ترسينس« عن القوة الروحية التي يمكن أن يتمتع بھا كل شخص قد يكون ضعيفا ً جسدياً ،و »جريميا« وھي مسرحية اقتبس الكاتب أحداثھا من العھد القديم ،لكي يتحدث من خاللھا عن نظرته الشاجبة للحرب العالمية األولى
16
رحلة إلى الشرق« لدي نرفال :االستشراق بال أفكار مسبقة الثالثاء ٩يوليو ٢٠١٣
أُثر عن الجنرال ديغول أنه كان ينصح المتوجھين إلى الشرق األوسط بأن يذھبوا إلى تلك المنطقة المعقدة بال أفكار مسبقة ...وھذا النصيحة ال شك يتذكرھا المرء حين يقرأ العبارات التالية في سياق حديث كاتب وشاعر فرنسي عن رحلته إلى الشرق» :ما يھمني ھنا ھو أن أروي لك ،كيفما اتفق ،كل ما يحدث معي ،سواء أكان ذا أھمية أم ال ،ويوما ً بيوم إن كان ھذا في مستطاعي ،على طريقة الكابتن كوك ،الذي يكتب أنه شاھد ھذا اليوم طائر نورس أو بطريقاً ،لكنه في اليوم التالي لم ير سوى جذع شجرة عائم ،واصفا ً كيف أن البحر كان ھنا ھادئا ً صافياً ،وھناك عكراً .لقد فعل ھذا ،لكنه عبر ھذه اإلمارات العابثة ،عبر ھذه األمواج المتغيرة ،كان يحلم بجزر مجھولة ومعطرة ،لينتھي به األمر إلى أن يصل ذات مساء في انطواءاته ،إلى حب خالص وجمال خالد«. بھذه العبارات التي تتصدر كتابه األشھر »رحلة إلى الشرق« عبر جيرار دي نرفال عن عالقته بھذا الكتاب ،وعن الرغبة التي كمنت لديه خلف وضعه .وكان قد سبق لھذا الكاتب الذي عاش مأساة غرام انتھت بموت حبيبته أوريليا ،أن كتب في واحدة من صفحات الرواية التي كرسھا لحكاية الغرام ھذه» :إلى أين أنت ذاھب؟ قال لي - .إلى الشرق! وفيما كان يرافقني ،رحت أبحث في السماء عن نجمة كنت أعتقد أنني أعرفھا ،كما لو كان لھا تأثير ما على مصيري .وإذ وجدتھا، تابعت سيري في االتجاه الذي كانت تبدو لي فيه مرئية - ،سائراً -إن جاز لي القول -نحو مصيري«. < بالنسبة إلى مؤرخي األدب من الذين اھتموا دائما ً بأدب الرحالت الذي كثرت آثاره ،ألسباب رومانطيقية غالباً ،في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ،تختلف رحلة دي نرفال إلى الشرق عن بقية الرحالت التي قام بھا كتاب مواطنون له أو أوروبيون .ذلك أن رحلة دي نرفال كانت أبعد ما تكون عن ذلك البعد المادي واالستكشافي الذي طبع رحالت اآلخرين .فھو كان ھاربا ً من مأساته، راكضا ً وراء مصيره في رحلته الشرقية ،ولم يكن ليسعى إلى تأكيد شيء أو التعرف إلى أي شيء .من ھنا ،حتى وإن بدت رحلته منتظمة في خط سيرھا -طالما أن ھذا األمر بالذات لم يكن في يده ،-فإنھا بدت عشوائية في توجھھا العام ،وفي النظرة التي راح دي نرفال يلقيھا على ما حوله طوال زمن الرحلة ومسافاتھا. < لم تكن رحلة دي نرفال إلى الشرق أول رحالته ،فھو كان بعد في أواسط العشرينات من عمره حين بدأ يتجول في أوروبا ،وحده حيناً ،وفي رفقة ألكسندر دوماس في أحيان أخرى ،لكن تلك الرحلة الشرقية كانت األوسع في حياته واألطول .وكان دي نرفال الذي وصل فيينا أواخر عام ١٨٣٩قد ارتبط ھناك بحلقة أصدقاء من بينھم فرانز ليست ،ولكي يعيش تعاون مع بعض الصحف النمسوية ،غير أنه بعد شھور اضطر إلى العودة إلى باريس ،سيراً على األقدام تقريباً، بسبب إفالسه .وفي عام ١٩٤١بدأت تصيبه أولى أزمات الجنون الذي سوف يصاحبه طوال 17
الخمسة عشر عاما ً المتبقية من حياته .وھكذا ،إذ ماتت صديقته جيني كولون أواخر عام ،١٨٤٢ راح يتنقل ھائما ً على وجھه فتوجه إلى مرسيليا ومنھا إلى مالطا ،ومن ھنا ركب البحر إلى اإلسكندرية التي أقام فيھا أسبوعين قبل أن يتوجه إلى القاھرة حيث أقام ثالثة أشھر توجّه بعدھا إلى دمياط ومن ھناك إلى بيروت ،مارا بيافا فعكا .وھو أمضى في بيروت شھراً ونصف لم يمنعه مرضه خاللھما من القيام برحالت إلى المناطق الجبلية .ثم واصل تجواله فوصل القسطنطينية حيث أقام بضعة شھور عاد بعدھا إلى مالطا فنابولي ...وأخيراً حين وصل إلى باريس مجدداً عكف على كتابة نص رحلته على شكل حلقات صغيرة بعنوان »ذكريات الشرق« وكان ذلك في عام .١٨٤٤وفي عام ١٨٤٨نشر جزءاً أول يضم تلك الحلقات تحت عنوان »مشاھد من الحياة الشرقية :نساء القاھرة« .غير أن الكتاب لم يحقق الصدى المطلوب ،إذ إن فرنسا كانت في ذلك الحين تعيش ثورة عارمة .وفي عام ،١٨٥٠وبعد أن نشر بعض أعماله األدبية والمسرحية ،عاد دي نرفال ونشر جزءاً ثانيا ً من رحلته الشرقية بعنوان» :مشاھد من الحياة الشرقية ،نساء لبنان«. وفي العام التالي اتخذ العمل كله شكله النھائي تحت عنوان »رحلة إلى الشرق« .وبدأ االھتمام بالكتاب يتجدد واإلقبال عليه يتزايد ليتخذ حياته الخاصة بعد ذلك ،ويصبح واحداً من أشھر كتب دي نرفال .لكن الكاتب لن يتمتع بثمرة ذلك النجاح طويالً ،إذ أنه ،على رغم مواصلته الكتابة، غرق في المرض والجنون ليموت أول عام ١٨٥٥موتا ً عنيفا ً :إذ وجد فجر يوم ٢٦كانون الثاني )يناير( مشنوقا ً في شارع جانبي في باريس. < صحيح أن دي نرفال كان ،طوال رحلته الشرقية ،ال يتوقف عن معاناة أزماته الصحية والعقلية، غير أن ھذا بالكاد يبدو من خالل نصوص الكتاب .فالكاتب يسجل بدقة ووعي كل ما يراه وكل ما يحدث معه :لقد آلى على نفسه أن يراقب كل شيء وأن يرصد الحياة التي تدور من حوله .إن ما يراه يختلف تماما ً عن كل ما كان خبره في حياته .فھنا ،ھا ھو في إزاء عالم غريب ،مدھش، يختلط فيه القديم بالجديد ،والمدينة بالريف ،والطوائف باألديان ،والداخل المحرّم بالخارج المباح. وھذا كله يجعل دي نرفال شديد الحساسية أمام التفاصيل الصغيرة ،أمام كل رائحة يشمھا ،وأمام كل تفصيل صغير يراه .بل إن مخطط جوالته ،التي تبدو وكأنھا ظاھريا ً تخاض كيفما اتفق ،تبدو شديدة األھمية .وفي ھذا اإلطار يحدثنا دومنيك شيفالييه عن كيف أن دي نرفال ،في تجواله في بيروت مثالً ،لم يسلك الطريق المعھودة التي كان يرسمھا غيره من الرحالة ،إذ ينطلقون من المرفأ وصوالً إلى الداخل ،بل فعل العكس :انطلق من الداخل من أعلى المدينة ليصل إلى المرفأ. وراح في حركته الھبوطية يرصد مزاجية الناس وتغيراتھم .بل أنه في طريقه يقدم لنا ما يكاد يشبه تقارير استخباراتية ،مثالً ،حين يلتقي بـ »مراسل« إنكليزي سرعان ما يشتبه في كونه ،أصالً، جاسوسا ً لبالده ...ويروح ھذا يحدثه عما ھو مقبل على ھذا البلد من حروب أھلية تدعم دول الخارج خاللھا الطوائف ،بمعدل طائفة لكل دولة ...ومن ھنا يتخذ الكتاب سمات متعددة في الوقت نفسه ،فھو رصد اجتماعي وسجل سياسي وتاريخي ،ووصف جغرافي -اجتماعي -ديموغرافي،
18
في الوقت نفسه الذي يبدو على شكل رحلة تعليمية ھروبية في آن معاً ،تقوم بھا روح الكاتب الھائمة المشردة التي تبدأ تجوالھا من دون أن تعرف إلى أين سوف يقودھا. < ولعل األھم في ھذا كله ھو أن دي نرفال ال يبدو صاحب أفكار مسبقة عن ھذه المنطقة من العالم ،يريد أن يجمع من األدلة ما يبرھن على صحتھا ،كما كانت حال المارتين أو شاتوبريان أو غيرھما .فإذا كان ھؤالء ،في رأي نقادھم »غير قادرين خالل تجوالھم ورصدھم على الخروج من شرنقة رجال القرن التاسع عشر الفرنسيين ،فجاؤوا ھنا لكي يتحققوا فقط من صحة أحكامھم المسبقة على الشرق« ،فإن دي نرفال يبدو رحالة نزيھاً ،فضوليا ً ...لذلك بدالً من أن يشھد وينبھر، ھا ھو يرى ويندمج ،من دون أن يفقد حس التحليل العقالني .كذلك فإن دي نرفال لم يكن »مثل فلوبير ،راكضا ً وراء مواد تساعده في أعماله األدبية« .كان فقط مثل سابح ماھر ألقى نفسه في الماء من دون ھدف إال اإلحساس بعذوبة الماء وغرابته وجماله. < ولد جيرار البروني )الذي سيتخذ لنفسه وقد جاوز العشرين اسم دي نرفال( في عام ١٨٠٨ ألب جنوبي وأم شمالية .ولقد تلقى الفتى تعليمه في باريس حيث كان من بين رفاقه تيوفيل غوتييه. وبدأ باكراً بكتابة محاوالت أدبية .وفي عام ١٨٢٨أنجز ترجمة لـ »فاوست« غوته أدخلته الحلقات األدبية ،فراح ينشر ويرتبط بصداقات .وھو عاش ألدبه ومن أدبه خالل الثالثة عقود التالية ،وقام برحالت عدة .ومن أشھر مؤلفات دي نرفال» :أوريليا« و »المركيزة فابول« و »لوريلي« و »بنات النار« و »األوھام« ...وكان جزءا »أوريليا« آخر ما صدر له إذ صدر الجزء األول قبل موته بثالثة أسابيع ،والثاني بعده بأسبوعين ونصف ...في عام .١٨٥٥
»البرج الزھر« لدي كيريكو :ظالل مرعبة وفراغ رھيب اإلثنين ٨يوليو ٢٠١٣
قبل السورياليين بعقد ونصف العقد من السنين على األقل ،اكتشف الفنان اإليطالي جورجيو دي كيريكو بعض األسس الالواعية لما سماه ،مع زميله كارا ،الرسم الميتافيزيقي ،حيث صارت اللوحة بين يديه مكانا ً لتصوير الحلم ،ليصبح الحلم نفسه مكانا ً لتأكيد الوجود .والحقيقة ان رواية دي كيريكو ،التي سيرويھا الحقا ً بنفسه ،حول التجربة المتعلقة بواحدة من أولى لوحاته »الميتافيزيقية« وھي لوحة »البرج الزھر« ،تكشف الكثير عن المسيرة التكوينية لھذا الفنان .ومن األمور ذات الداللة ھنا ان يكون دي كيريكو قد ح ّدد زمن اكتشافه ذاك ،وسط مرحلة من حياته تميزت بالعديد من االضطرابات النفسانية والجسدية التي أرھقته حقا ً .ومن ھنا القول إن تجربة الرسم الميتافيزيقي كما عبر عنھا دي كيريكو ،يمكن ان ُتقرأ وكأنھا محاولة لتجميد الدوخان الذي يثيره الموضوع المرسوم ...او كأنھا إمارات على واقع سرعان ما سيتفكك .اللوحة تأتي ھنا لتوفر لتلك األمارات مكانا ً وحجما ً وديمومة زمنية .غير ان لوحة دي كيريكو ،إذ تبدو مثل آلة من تلك 19
اآلالت الخرافية التي تمكن اإلنسان من الذھاب صعوداً في الزمن ،-فإنھا تبدو في الوقت نفسه ذات موضوع بالغ األھمية بالنسبة الى التحليل النفسي ،ومن دون ان تكف في الوقت نفسه عن استعراض »سماتھا« الجمالية والتاريخية ،فضالً عن السمات المتعلقة بالسيرة الذاتية للرسام .فمن تصوير »اعماق النفس« بصورة رمزية الى تصوير الخواء البراني ،ومن تذبذب الدال في اللوحة الى تجم ّده في صورة ذاتية ،بالتضافر مع روح تھكمية ،يتبدى معه الحلم في اللوحة وكأنه انقطع فجأة ،-تبدو اعمال دي كيريكو بصورة عامة منتمية الى عالم بيّن التأرجح .وفي ھذا المجال ،من الواضح ان الحديث عن ھذه اللوحات لدي كيريكو ،يحيلنا على الفور الى الحديث عن دوخان المساحات الكبيرة الخاوية ،وعن المدن المھجورة ذات الحيز الالنھائي ،عن الساحات المقفرة، وعن الشوارع المحفوفة بالقناطر ذات الظالل غير المتساوقة .إن في اعمال دي كيريكو عالما ً بأسره من التماثيل والدمى وضروب الموديالت ،واألشياء المجمدة وسط ضوء ثابت متماثل غالبا ً ما ينتمي الى عالم الغسق .وإذا كان ھذا كله ينطبق على العديد من لوحات جورجيو دي كيريكو، خالل مرحلته األولى على األقل ،أي خالل السنوات السابقة والتالية مباشرة للحرب العالمية األولى ،فإنه ينطبق بخاصة على لوحة له تعتبر نموذجية في ھذا اإلطار ،وھي تحديداً» ،البرج الزھر« التي رسمھا في العام ،١٩١٣لكنھا مع ھذا تبدو بالنسبة الى الدارسين وكأنھا رسمت بعد الحرب ،او في اثنائھا .لماذا؟ < ألن فن جورجيو دي كيريكو ،الذي تزامن تقريبا ً مع ظھور فن »الدادا« ،ينتمي اصالً الى تيار قام ،مثل الدادا ،على طابع يظھر الرعب إزاء الحياة الحديثة .ولقد ظھر ھذا التيار خصوصا ً في ايطاليا في ذلك الحين ...وكان دي كيريكو اباه المؤسس ،كما كان ھو الذي اطلق عليه اسم »الفن الميتافيزيقي« .اما موضوع ھذا الفن فكان االستالب والتغريب الحتميين والقاتلين اللذين يحسھما اإلنسان تجاه األشياء المألوفة التي كانت ،وحتى ذلك الحين ،تمثل المرجعيات العادية لوجوده اليومي .وحتى اذا كان توجه دي كيريكو في ھذا السبيل استبق الحرب العالمية األولى ،برؤيوية الفنان وحساسيته المفرطة ،فلسوف يقال ان الفنانين الذين كانوا شاركوا في الحرب ،راحوا ما ان عادوا منھا ،ينظرون حتى الى األشياء المألوفة ،بل بخاصة الى األشياء المألوفة ،نظرة مختلفة: بدأوا يجدون الحياة المدنية »حياة عبثية ،بل عبثية بشكل مغرق في مأسويته« ،وفق ما سيكتب النقاد اإليطاليون ،ومن بينھم شقيق دي كيريكو نفسه ،الحقا ً .وھذا الرعب او القلق ھو ما راح الفنانون يرغبون في التعبير عنه .والمدھش ان دي كيريكو لم ينتظر اندالع الحرب وعودته المقلقة منھا لكي يعبر عن ذاته .فھو كان قرأ »تفسير األحالم« لفرويد باكرا ،وتضافر ذلك لديه مع »ذكريات« قراءاته المبكرة لكل من نيتشه وشوبنھاور .كل ھذا جعل دي كيريكو يعبّر ،باكراً ،عما سيصبح التعبير عنه ،بعيد الحرب ،مألوفا ً .ويتجلى ھذا بخاصة في لوحة »البرج الزھر« ،التي تبدو ھنا وكأنھا تطبيق مسبق ،لما سيقوله جاك الكان ،احد كبار مفسري فرويد الفرنسيين ،ومن الذين اھتموا بقضايا الحلم وعالقته بالفن» :ان ما يميز الصورة في الحلم ،ھي انھا قبل أي شيء آخر تشير ،أي تدل ،وتظھر :عودوا مثالً الى نص حلم ما ،وموضعوا النص ضمن اطاره المنطقي 20
وضمن اطار معطياته العديدة ستجدون ان ما يشير ويظھر ھو الذي يأتي في المقدمة ،ويأتي في المقدمة مع كل المميزات الخاصة به :ومنھا غياب األفق ،وانغالق ما كان جرى تأمله في حال اليقظة ،اضافة الى سمتي االنبثاق والتناقض الكلي ،وسمة التلطخ اللوني التي تطغى على الصور مكثفة الوانھا ،ما يجعل موقعنا من الحلم في نھاية األمر موقع ذاك الذي ال يرى شيئا ً«. < من الواضح ان ھذا الوصف الذي يورده الكان ،يبدو وكأنه يصف فن دي كيريكو ،وخصوصا ً لوحة »البرج الزھر« حيث نجد اإلحالة مباشرة الى اعادة الحلم ،والالوعي ،الى عالم اللغة... وكان ھذا ،في حقيقة األمر ،يشكل اساسيات الرسم الميتافيزيقي ،حيث تلوح أسبقية اللغوي على البصري ،والكلمات على الصورة ،والمدلول على الدال .وفي ھذا اإلطار قد يكون من المفيد اإلشارة الى اھمية العناوين في لوحات دي كيريكو ،في شكل عام ،وكذلك الى »الشاعرية« التي تميز اعمال ھذا الفنان .وكل ھذا لن يكون من التعسف اإلشارة الى وجوده في تلك اللوحة المبكرة التي اتت ،على الضد من فنون الطليعة التكعيبية وعلى الضد من تجريدييھا الذين انعتقوا بسرعة من اللفظي ،مستديرين في اتجاه الرسم البحت ،أي نقاوة ما ھو تصويري .اما ،في عودتنا الى دي كيريكو ،فمن المناسب ھنا ان نشير الى واحدة من مقوالته األساسية ھو الذي كتب يوما ً بأن »الغموض الموجود في ظل كائن يسير تحت اشعة الشمس ،يفوق كل الغموض الذي حفلت به كل عقائد العالم ،ماضيا ً وحاضراً ومستقبالً«. < تقول لنا سيرة جورجيو دي كيريكو ،على اي حال ،انه لم يواصل غوصه في الفن »الميتافيزيقي« طويالً بعد ذلك ،اذ ما إن حلت سنوات العشرين ،وانقضت »صدمة« الحرب العالمية األولى ،حتى راح يتخلى بالتدريج عن ذلك الفن الذي مارسه ودعا إليه طوال نحو عقد من السنين ،لصالح ايمان متجدد بعصر النھضة ،بل انه سرعان ما راح يعتبر نفسه فنانا ً كالسيكياً، اضافة الى إمعانه في نوع جديد من الفن الذاتي رفعه الى رسم نفسه وبورتريھات شخصية له في اكثر من ثالثين لوحة ،ما اوصل نقاده الى حدود الحديث عن نرجسية مفرطة لديه ...غير ان ھذا موضوع آخر ،اما موضوعنا ھنا ،فھو تلك المرحلة األولى واألساسية من مسار دي كيريكو ،حيث رسم لوحات عديدة صوّ رت ،الى الفراغ والالنھائية ،وعبر اسلوب شاعري مغرق في حداثته، اكتشاف اإلنسان لرعب األشياء المحيطة به .وما الرعب سوى اإلحساس الصارخ المتمثل في لوحة »البرج الزھر« حيث من الالفت ان العنصر األساس في اللوحة انما ھو ظل األشياء ،ال صورتھا الحقيقية ...حتى وإن كان البرج الزھر في خلفية اللوحة ھو ما اعطاھا اسمھا. < ولد جورجيو دي كيريكو في اليونان ،في العام ،١٨٨٨ورحل عن عالمنا في العام ،١٩٧٨ وھو ،على رغم والدته اليونانية كان فنانا ً ايطاليا ً .اتجه في بداياته الى الفلسفة واألدب ،ما ظل اثره مطبوعا ً في اعماله التشكيلية طوال حياته ،ودرس خصوصا ً فلسفة التشاؤم .وبعد ذلك اتجه الى دراسة الفن التشكيلي ،في ألمانيا ،حيث انضم الى األكاديمية الملكية في ميونيخ .مھتما ً بالرسم األلماني في القرن التاسع عشر ،وخصوصا ً بأعمال آرنولد بوكلين ،الذي سيرتبط به فنه خالل 21
مرحلة طويلة من مسار ذلك الفن .ولقد شارك دي كيريكو في الحرب العالمية األولى وواصل الرسم خاللھا ،بحيث اسس تيار الرسم الميتافيزيقي ،بصورة رسمية بعد إرھاصات اولى ،مع زميله كارلو كارا .عاش في باريس ردحا ً قبل عودته الى ايطاليا في العام ،١٩٤٠حيث واصل الرسم حتى رحيله ،منصرفا ً بين الحين واآلخر الى كتابة خواطر ودراسات حول فنه ...والفن عموما ً
»مقالة عن العصيان المدني« لھنري ثورو :العدل قبل القانون أحيانا ً السبت ٦يوليو ٢٠١٣
ذات يوم عند أواسط القرن التاسع عشر ،كان الكاتب والفيلسوف األميركي ھنري دافيد ثورو في السجن ينفذ عقوبة صدرت في حقه .وحدث يومھا أن زاره صديقه وأستاذه الشاعر الكبير أميرسون .وما إن التقيا عبر القضبان حتى صرخ ھذا األخير بالكاتب السجين» :ھنري ...ماذا تصنع ھنا خلف القضبان؟« ،فكان جواب ثورو سؤاالً طرحه بدوره على صديقه ،ولكن في لھجة أكثر استنكاراً» :بل أنت يا والدو ...ما الذي تصنعه خارج القضبان؟« .ولم يكن ذلك الحوار بين االثنين عبثيا ً أو كافكاوياً ،ألن ثورو كان يقصد بالتحديد أن يذ ّكر صديقه وأستاذه بأنه ،أي أميرسون و »كل فرد آخر ممن يؤمن بحقوق اإلنسان الطبيعية وفي حريته الفردية ،ال يجوز له أن يستسلم لدولة تجنح عن طريق الصواب كما يمليه الضمير الحر ،وإن أدى به عصيانه إلى السجن« ،أو ھذا على األقل ما يمكننا أن نفھمه من ذلك »الحوار« وفق تفسير الدكتور زكي نجيب محمود في دراسة له عن »ھنري دافيد ثورو والفردية المتطرفة« .ولئن كان مفكرنا العربي أصاب في تفسيره الحوار بين أميرسون وثورو ،فإنه لم يكن دقيقا ً في العنوان الذي أعطاه لدراسته. إذ صحيح أن ثورو كان يدعو إلى الـــفردية ...ولكن ،ليس إلى فردية متطرفة ،ھو الذي كان لسان حاله يقول دائما ً إن »الحياة الطليقة في ظــــل حكومة ظالمة ھي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدالً« .في كتاباته كلھا ،خصوصا ً في نصه األشھر ،والذي كان ذا تأثير كبير على الكثير من الحركات االحتجاجية في القرن التاسع عشر» ،مقالة عن العصيان المدني« ،لم يكن ثورو يدعو إلى أية فردية مطلقة بل إلى ثورة من دون عنف ،وإلى عدالة اجتماعية من دون ضغوط .وھو في ھذا اإلطار كتب في واحد من فصول نصه الشھير »مقالة عن العصيان المدني« يقول» :إن القول إن الفرد خلق ليعيش في مجتمع أكذوبة كبرى ،والعكس ھو األقرب إلى الصواب ،فقد خلق المجتمع من أجل الفرد ) .(...إن الناس يريدون أن يحتفظوا بما يسمونه سالمة المجتمع -بسكوتھم عما يُقترف باسم القانون -من أعمال العنف كل يوم .فانظر إلى الشرطة وما تحمل من عصي وما تعده للناس من أغالل .انظر إلى السجون والمقاصل ) (...إننا نعطي الحكم للغالبية ال ألنھا أكثر منا حكمة ،بل ألنھا أقوى منا بكثير«.
22
< إزاء مثل ھذه اآلراء الواضحة ھل سيكون غريبا ً أن نرى المھاتما غاندي ،محرر الھند في القرن العشرين ،يص ّرح دائما ً وعلنا ً بأن أفكار ھنري دافيد ثورو شكلت مكونا ً أساسيا ً من مكوناته الفكرية؟ غير أن غاندي لم يكن الوحيد الذي »أعاد اكتشاف« ثورو في القرن العشرين ،ذلك أن أنصار البيئة المتكاثرين عدداً وقوة خالل النصف الثاني من القرن المنصرم بدوا منذ وقت مبكر أنھم إنما يتبنون أفكار ثورو الطبيعية المبكرة ،سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا به .ففي كتابين له على األقل ،وھما »والدن ...أو الحياة في الغابات« ) (١٨٤٩و »غابات مين« ) (١٨٦٤أشار ثورو إلى الطريق القادرة على إنقاذ البشرية :الطريق إلى أحضان الطبيعة وأسلوب الحفاظ على البيئة .لقد كان ھذان الكتابان من أھم ما كتب ثورو ،غير أن ما يھمنا ھنا إنما ھو كتابه عن »العصيان المدني«. < ھذا الكتاب الذي وضعه ھنري دافيد ثورو ونشره في عام ،١٨٤٩كان عنوانه في األصل »مقاومة الحكومة المدنية« لكنه سرعان ما بدل عنوانه بسبب ما قد يبدو في ھذا العنوان من التباس ،كما قال الحقا ً .أما الموضوعة األساسية في الكتاب فھي »حق الفرد في الخروج على الدولة« ...ولكن ليس أي دولة وال كل دولة بالطبع .وھذا األمر توضحه طبعاً ،ظروف وضع الكتاب ،في شكل بيان سياسي آنيّ .فالواقع أن ثورو كتب ھذا الكتاب بعد أن رأى أمته التي كان يؤمن بقيمھا كثيراً ،ويؤمن بأفكار مؤسسيھا اإلنسانية »تنحرف عن العدالة والحق« كما يراھما، وذلك »في حرب المكسيك ،وفي مسألة العبيد ،وفي معاملة الھنود الحمر ســكان البالد األصليين« .ھكذا ،إذ أمعن المفكر النظر -كما سيؤكد الحقا ً -في مجـــمل ھــــذه القضايا اتخذ بينه وبين نفسه قراراً حاسما ً فحواه أن من حقه أال يدفع الضرائب إلى الحكومة ،معلناً ،بذلك احتجاجه ،فكان أن سجن .وھو لم يطلق سراحه إال بعد ذلك حين تقدم عــــدد من أصدقائه ودفعوا الضريبة عنه .غير أن ھذا لم يمنع السؤال األساسي من أن يظل قائما ً في نظره :ھل للفرد حق االمتناع عن دفع ضرائبه إلى الحكومة إن ھو وجدھا انحرفت عن الحق والعدالة؟ ولإلجابة على ھذا السؤال ،كان الكتاب. منضو تحت سلطة الدولة )أو باألحرى :الحكومة( < رأى ثورو في كتابه أن للفرد ھذا الحق »ألنه ٍ باختياره ،وتبعا ً لشروط تعاقدية معينة« ،لذلك فإنه »وباختياره ،وكر ٍّد على إخالل الدولة بتلك الشروط ،يمكنه االنشقاق عنھا والخروج عليھا« .بل إن ثورو رأى أن ذلك ليس من حق الفرد فقط ،بل من واجبه أيضا ً .وإلى ھذا قال ثورو في صفحات كتابه ،على سبيل االستنتاج إن »أفضل الحكومات ھي حكومة ال تحكم على اإلطالق .وھذه الحكومة ھي التي ستكون حكومة الناس في المستقبل ،شرط أن يع ّد الناس أنفسھم لھا« .أما الدولة الحرة المستنيرة فإنھا »لن تقوم ،بمعناھا الصحيح ،إال إذا اعترفت ھذه الدولة بأن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتھا ،تستمد ھي منه كل ما لھا من قوة وسلطان« .وإذ يصل ثورو إلى ھذا الحد من تفكيره يتساءل» :أليس من الجائز أن يصيب الفرد وتخطئ الحكومة؟ ھل يجب أن نفرض القوانين على الناس فرضاً ،ال لشيء إال ألنھا صيغت على ھذا النحو ،وألن نفراً من الناس قد قرر أنھا على صواب؟ ھل ثمة ما يحتم على الفرد أن 23
يكون أداة تنفذ عمالً ال يوافق عليه؟« ويخلص ثورو موجھا ً كالمه إلى المجتمعات قائالً» :ال يتعين أن تعلّموا الناشئة احترام القانون بمقدار ما ينبغي أن تعلموھم احترام الحق .إن النتيجة الحتمية الحترام القانون بغير ما ھو موجب ،ھي أن نرى األفراد المج ّندين في ھذه الصفوف من الضباط والجنود يســـيرون في نظام عجيب غريب وانضباط أعجب وأغرب ،فوق السھول والجبال ،إلى حـــومات القتال على رغم إرادتھم .نعم ،على رغم إرادتھم وعلى رغم إدراكھم الفطري الســـليم ،وعلى رغم ما تمليه عليھم ضمائرھم ...والحال أن ھذا اإلدراك الواعي ھو ما يجعل سيرھم ھذا شاقا ً عسيراً ،أشد ما يكون العسر والشقاء ...يجعله سيراً تلھث منه القلوب«. < ولد ھنري دافيد ثورو عام ١٨١٧في مدينة كونكورد في والية ماساتشوستس األميركية .ومنذ شبابه صار تلميذاً لوالدو أميرسون وصديقا ً له .وھو عرّ ف نفسه ذات يوم بقوله »أنا متصوّ ف، تجاوزي وفيلسوف طبيعة من قمة رأسي إلى أخمص قدميّ « .وھو على غرار غيره من المؤلفين األميركيين تنقل بين مھن عدة ،على رغم أنه لم يعش سوى ٤٥عاماً ،قضى معظمھا نزيل الغابات في أحضان الطبيعة يعيش متفرداً مھتما ً بدراسة النباتات والحيوانات ،وھو ما عبر عنه في معظم كتبه .غير أنه قبل ذلك ،ومنذ عام ،١٨٤٣كان شديد االحتجاج على حرب المكسيك الظالمة وعلى سوء معاملة العبيد وإفناء الھنود الحمر ...ما أدى إلى سجنه .ولم يكن من الصدفة أن يكون الك ّتاب اإلنكليز ،ال األميركيون ،أفضل وأول من اكتشف فلسفة ثورو .أما أعماله ،ال سيما يومياته )١٤ مجلداً( وكتاباته المختارة فلم تنشر على نطاق واسع إال مع بداية القرن العشرين ،أي أربعين سنة بعد موته في عام .١٨٦٢
»كينغ كونغ« لشودساك وكوبر :من ھو الوحش الحقيقي؟ الجمعة ٥يوليو ٢٠١٣
من الناحية التقنية يبدو اليوم فيلم »كينغ كونغ« أشبه بلعبة أطفال .لكنه في الزمن الذي حقق فيه، أي في العام ،١٩٣٣كان يعتبر مأثرة تقنية ع ّز نظيرھا منذ ابتكارات الفرنسي جورج ميلياس عند 24
بدايات السينما وبدايات القرن العشرين .قد تبدو كلفة الفيلم اليوم مضحكة ) ٧٥ألف دوالر( ،لكنھا في ذلك الحين كانت تعتبر شديدة الضخامة الى درجة ان موزعي الفيلم ركزوا على حجمھا في دعاياتھم ،بمقدار ما ركزوا على حجم ذلك القرد الضخم ،بطل الفيلم الحقيقي ،الذي زرع الرعب في نفوس المتفرجين في الصاالت ،بقدر ما زرعه -على الشاشة -في قلوب أھالي نيويورك حين اعتلى اضخم ناطحات سحابھا وراح يھدد ويتوعد مطالباً ،ليس فقط بحريته ،بل بأن تعاد اليه حبيبته .وحبيبته ليست سوى امرأة حسناء من لحم ودم ،أوقعه القدر في مصيدة غرامھا فـ ...قضى عليه ،ھو الذي كان يفترض به ان يقضي على الجميع. * في ظاھره ،اذاً ،يبدو فيلم »كينغ كونغ« فيلم رعب ،يقوم على مبدأ التفاوت الكبير بين حجم القرد البدائي فيه ،وحجم الناس اآلخرين .ذلك ان ھذا القرد انما ينتمي كما يقول لنا الفيلم ،أصالً، الى جزيرة تعيش فيھا مجموعة من حيوانات انقرضت في كل مكان في العالم إال ھناك .أما القرد كونغ ،فإنه االضخم من بينھا ،ومن ھنا ،في موطنه األول في تلك الجزيرة ،صير الى تبجيله سيداً للجزيرة ولقومھا البدائيين .ولقد كان يمكنه ان يظل ھكذا سيداً الى األبد ،لوال الغرام .تماما ً كما كان يمكن الجزيرة نفسھا ان تبقى فردوسية لوال المستكشفون السينمائيون البيض .ومن ھنا يلتف الفيلم ليتخذ سمات اخرى غير السمات التي يعد بھا :ھنا نجدنا أمام نسخة مع ّدلة بعض الشيء من حكاية »جميلة والوحش« -ولكن مع نھاية أشد سوداوية بالطبع ،-كما نجدنا امام فيلم يناصر البيئة ،قبل والدة االھتمام المعاصر بالبيئة ...ناھيك بأن الفيلم يقترح علينا في الوقت نفسه ،ان نقف ،في المقارنة بين أدغال المدينة )نيويورك ھنا( وبين األدغال البدائية ،مناصرين ھذه االخيرة .وفي المحصلة االخيرة ھو ،ايضا ً وبخاصة ،فيلم عن السينما واالستعراض .أو لعل ھذا ھو جوھره الخفي. * ح ّقق فيلم »كينغ كونغ« في العام ،١٩٣٣اذاً ،انطالقا ً من فكرة للكاتب ادغار واالس ،الذي عرف برواياته البوليسية اضافة الى كتابته روايات المغامرات ،غير ان الفكرة التي كان يتعين عليھا ان تكون فكرة فيلم مغامرات ورعب ،سرعان ما اتخذت بين يدي مخرج الفيلم ومعاونته، ارنست شودساك وماريان كوبر ،منحى آخر تماماً ،ھو المنحى الذي اقترحته الفقرات السابقة. وھذا األمر لم يخف عن ھواة ھذا الفيلم الذين كانوا كثراً يوم عرض ،وتكاثر عددھم اكثر مع مرور العقود .اما الجمھور العريض ،فإنه اكتفى بالنظر اليه باعتباره فيلم رعب ومغامرات رائداً وتجديديا ً في زمنه... < تدور حكاية »كينغ كونغ« من حول فريق من السينمائيين توجه الى ماليزيا لكي يحقق فيلما ً عن عادات بعض القبائل البدائية ھناك ،ومعتقداتھا .وھذه الرحلة االستكشافية قادت الفريق ،وفي عداده ممثلة حسناء وعاطلة من العمل منذ زمن ،الى زاوية من تلك البالد ،تعيش في أدغال غاباتھا حيوانات ضخمة من النوع الذي انقرض في كل مكان آخر .ومن بين ھذه الحيوانات ،اذاً ،ذلك القرد الضخم الذي اعتاد أھل الجزيرة ان يقدموا اليه خطيبة حسناء قربانا ً في كل مرة زمجر فيھا 25
غضبه .وإذ يبدي القرد »كونغ« غضبه بعنف ھذه المرة ،اذ اكتشف حضور فريق التصوير ،يقرر السكان ان يخصّوه بالممثلة الشابة خطيبة له ،وھكذا ُتخطف الفتاة من بين رفاقھا وتوضع بين يدي »كينغ كونغ« ...وعلى الفور ما إن تلتقي عينا القرد بعيني الحسناء ،حتى يبدو واضحا ً انه قد وقع في غرامھا ،وبات يص ّر على ان تبقى معه .لكن رفاق الفتاة ال يرون االمور من ھذا المنظور ،بل يسعون بالقوة او بالحيلة او باالثنتين معاً ،الى تخليصھا ،فال يتمكنون من ھذا فقط في نھاية األمر، بل انھم يتمكنون من تقييد القرد العمالق ومن ثم ينقلونه على متن السفينة الى نيويورك ليقدموه فرجة استعراضية أمام عيون الجمھور المفتون والمرعوب في اآلن معا ً .وھكذا يجد القرد نفسه وقد نقل من ادغاله البدائية حيث كان سيداً ،الى »ادغال« نيويورك حيث صار مجرد فرجة. فيغضب ويكسر ذات يوم قيوده ويبدأ البحث عن فاتنته فالتا ً من مطارديه معتليا ً أعلى ناطحات السحاب في المدينة .ولم يكن من شأن ھذا ،في طبيعة الحال ،إال ان يزرع الرعب بين السكان، وسط دھشة الحيوان نفسه ،الذي تنم عيناه بكل براءة وفي كل لحظة ،انه في الحقيقة ال يريد األذى ألحد ،وال يريد سوى حبيبته وحريته .ولكن أ ّنى ألھل ادغال العصور الحديثة ان يفھموا ھذا؟ أ ّنى لقلوبھم الجلفة ان تفھم الحب وأن تفھم رغبات الطبيعة؟ أ ّنى لھا ان ترى في القرد سوى حيوان، إما ان تقيده وتستعبده وإما ان ترتعب أمامه؟ وھكذا تنطلق المدينة كلھا في مطاردة عنيفة للقرد ال رحمة فيھا وال ھوادة .وھو ،ھنا ،اذ يخرّب ويدمّر ،من الواضح -ووفق منظور الفيلم -انه انما يفعل ھذا دفاعا ً عن نفسه ضد ھمجية »رجل االدغال الحديثة« -ولسنا ھنا بعيدين جداً من سلسلة من أفالم وأعمال أتت تالية ودانت االنسان نفسه في تعامله مع كل ما ھو بدائي ،ومن ھذه االعمال »عصافير« ألفريد ھيتشكوك بالطبع .-المھم ان االنسان المتحضر ينتھي به االمر الى االستعانة بسرب من الطائرات الحربية يدور ويدور من حول ناطحة السحاب التي لجأ اليھا »كينغ كونغ« حتى يتمكن في نھاية األمر من اصابته فيسقط مضرجا ً بدمائه فيما عيناه تعلنان بصمته الحزين، لوعته لفقد حبيبته. < من الواضح ان فيلم »كينغ كونغ« على رغم بساطة أحداثه وأسلوبه الخطي ،الذي ال لبس فيه وال غموض ،يمكن قراءته ضمن اطار الكثير من األبعاد ،المباشرة وغير المباشرة ،بل إن في االمكان ايضا ً قراءته ،على ضوء الصدمة االقتصادية الكبرى التي كانت اصابت الواليات المتحدة قبل تحقيق الفيلم بسنوات قليلة ،انطالقا ً من بورصة نيويورك نفسھا ،ما أوقع الناس في رعب من المجھول ومن المستقبل .غير ان الجديد في ذلك كله ،كان المنظور الذي به نظر الى الحكاية صانعو الفيلم :انه منظور مفاجئ ومبكر يقف في خط فكري واضح -من غير ترتيب مسبق على األرجح -مع مدرسة االنثروبولوجيا الحديثة التي بدأت مع بواس وصوالً الى كلود ليفي ستراوس، لتكف عن ان ترى في حضارة الرجل األبيض ترياقا ً للبشرية وتخلفھا .فاألبيض ھنا ھو الوحش، ھو الھمجي الذي يفتري على الطبيعة البكر .وحتى إن لم يكن ھذا األمر جديداً تماماً ،في ذلك الحين ،فإن أھمية »كينغ كونغ« تكمن في انه نقله من حيز االفالم النخبوية الخجولة في تعبيرھا
26
عن ھذا االمر ،الى حيز السينما الشعبية .وليس ادل على ھذا من صحافة ذلك الزمن التي راحت، يومھا ،تسھب في وصف الدموع التي انھالت على الوجنات حزنا ً على مصير الوحش العاشق. < بقي ان نشير الى ان أعماالً عدة بعد »كينغ كونغ« أتت مقلدة له ،في شكله الخارجي ،ولكن كذلك في مضمونه .ومع ھذا ظلت لھذا الفيلم مكانته بحيث انه يعتبر حتى اليوم واحداً من أجمل االفالم في تاريخ السينما ،حتى وإن كان النسيان قد طوى مخرجيه الذين لم يؤثر عنھما أعمال كبيرة تضاھي ھذا الفيلم .كل ما في األمر ان احدھما ،سودشاك ،حقق بعده افالم رعب وتجارية عدة من بينھا »مطاردة الكونت زاروف«
»تأمالت حول الثورة الفرنسية« لمدام دي ستايل :امرأة تبحث عن دور الخميس ٤يوليو ٢٠١٣
من ناحية مبدئية ،إذا كان التاريخ يذكر كتاب »تأمالت حول الثورة الفرنسية« للكاتبة مدام دي ستايل ،فإنه باألحرى ال يذكره إال بصفته الكتاب الذي أثار غيظ ستاندال وجعله ،بين العامين ١٨١٧و ،١٨١٨ينفق زمنا ً لتأليف كتاب عن نابوليون ير ّد فيه على بعض ما جاء في كتاب دي ستايل .وكتاب ستاندال ھذا ھو غير كتابه اآلخر عن »حياة نابوليون« الذي ألفه بعد عشرين سنة، وضم إليه النص األول الذي لم يكن أصالً قد اكتمل بسبب الظروف السياسية التي عاشتھا فرنسا في زمن كتابة النص األول ھذا .المھم أن كتاب ستاندال سيعيش .أما كتاب مدام دي ستايل ،فإنه بعد حياة عاشھا طوال عقود من القرن التاسع عشر ،طواه النسيان التام منذ آخر طبعة له ،في ذلك الحين ،في العام ،١٨٨١ليعود ويحيا من جديد بعد ذلك بمئة عام ولكن كطرفة أدبية -تاريخية ،ال ككتاب تاريخي يُعتمد .خصوصا ً أن الكاتبة لم تكن »منصفة« تجاه اإلمبراطور ،وال حتى تجاه الثورة الفرنسية التي جعلت كتابھا كلّه محاولة لتھشيمھا ،حتى من دون أن تدعو صراحة إلى عودة الملكية والتخلي عن مكاسب الثورة. 27
< إذاً ،لم يكن ھذا الكتاب الذي أثار غيظ ستاندال وحرك قلمه في حينه ،كتابا ً عن نابوليون ،بل كتابا ً عن الثورة الفرنسية ككل ،كما انه لم ينشر كامالً للمرة األولى إال بعد موت مؤلفته ،حين نشره ابنھا البارون أوغست ،وصھرھا فكتور دي برولي ،الذي سيصبح رئيسا ً للحكومة الفرنسية. ويربط كثر من المؤرخين بين كتاب مدام دي ستايل ھذا ،وكتاب آخر لھا ،نشر أيضا بعد موتھا، وھو » ١٠سنوات في المنفى« الذي أتى أكثر ذاتية من األول .وفي األحوال كلھا ،من الواضح أن ھذه السيدة حين وضعت الكتابين قبل رحيلھا في العام ،١٨١٧إنما وضعتھما ضمن توجه عام لديھا يمليه حب الظھور والرغبة في أن ينظر إليھا اآلخرون كأديبة ومفكرة ،إذ إن دي ستايل ،ما كانت لترغب إال في شيء واحد ،وھو أن تلعب في باريس دوراً سياسيا ً وأدبياً ،وان تستقبل في صالونھا وزراء وأعيانا ً تدلي أمامھم بآرائھا ،زاعمة الحقا ً أنھا ھي التي »تؤثر« في رجال القرار في فرنسا .ومن ھنا ،فان كتاب »تأمالت حول الثورة الفرنسية« أكثر مما يضعنا على تماس مع ھذه الثورة ،يم ّكننا من أن نتسلل إلى داخل أفكار مدام دي ستايل وشخصيتھا ،حتى وان كانت بصفتھا ابنة مصرفي من جنيف كثيراً ما استدعاه الملك لويس السادس عشر إلنقاذ حكومته ماليا ً من اإلفالس ،كانت مؤھلة في شكل جيد لتعرف بعض خفايا بداية الثورة ...ونعرف من خالل سيرة حياتھا أنھا عايشت بشكل مباشر بعض األحداث الكبرى مثل افتتاح »األركان العامة« ونقل العائلة المالكة إلى باريس ،وعيد الفيديرالية .كما أنھا كانت في باريس أيام أحداث ١٨برومير، كما كانت في موسكو العام ١٨١٣عند وصول القوات الفرنسية إليھا. < ومع ھذا كله ،فإن معظم ما ترويه السيدة في كتابھا ال يبدو دقيقا ً .وذلك بكل بساطة ،ألن دي ستايل ،حتى وإن زعمت أنھا تؤرخ ،لم يكن يھمھا سوى أمرين :أولھما أن تحيي ذكرى أبيھا، مضفية إليه دوراً كبيراً واصلة في بعض األحيان إلى تصوير تصديه البطولي لمخططات نابوليون الماكيافيلية ،بل حتى إلرادة لويس السادس عشر االستبدادية ،وثانيھما أن تقدم كـ »عالمة في فن السياسة« تفسيراً للثورة الفرنسية يحاول أن يكون وسطا ً بين االنحراف اإلرھابي اليعقوبي للثورة وبين رد الفعل الملكي ...وھما أمران يبدو في صفحات كتابھا أنھا كانت ترفضھما .لكن الكتاب لم يحو ھذا فقط ،بل ضم في قسمه السادس ،دراسة ميدانية عن أحوال إنكلترا في ذلك الزمن نفسه ،إذ نعرف أن مدام دي ستايل عاشت سنوات عدة منفية ھناك .ولقد مكنھا ھذا من أن تجعل من الفصل المخصص لبلد منفاھا درسا ً في أفضل طرق الحكم من طريق ملكية دستورية مستعادة. < مھما يكن ،فان الثورة الفرنسية بالنسبة إلى مدام دي ستايل ليست »حادثا ً فضائحيا ً« -بحسب ما كان يراه أبناء الطبقة التي تنتمي إليھا الكاتبة .بل كانت »حادثا ً منطقيا ً« يجد جذوره في تاريخ النظام الملكي الفرنسي ،وفي نضال الفرنسيين من أجل الحرية ...وھا ھي تقول في ھذا المجال: »إن الخطأ األكبر الذي اقترفه أھل البالط ،ھو أنھم سعوا دائما ً إلى أن يبحثوا في تفاصيل صغيرة، عن أسباب المشاعر الكبيرة التي كانت تعبّر عنھا أمة بأكملھا« .وھكذا عبر مثل ھذه العبارات، عرفت الكاتبة كيف تبدأ كتابھا بإدانة النظام القديم كله ،ولكن بخاصة نظام الملك لويس الرابع عشر .فترا ُكم األخطاء إذاً ھو ھنا ،وليس في ما فعله خلفاؤه ..إذ إن ھؤالء لم يفعلوا اكثر من أنھم 28
حاولوا ترقيع األمور .ومن ھنا ،إذا كانت الثورة تبدو منطقية بشكل أو بآخر في نظرھا ...فإنھا ثورة متأخرة ،وتأخرھا ھو الذي غيّر من الھوية المنطقية للذين كان يجدر بھم أن يقوموا بھا... ذلك أن ھذا التأخير ھو الذي »ھبط بالمستوى األخالقي للثائرين« ما أسفر عن قيام اإلرھاب اليعقوبي الذي أبدت الكاتبة تجاھه كل احتقار .فاإلرھاب ھذا ليس في حقيقته سوى أزمة مرعبة وتعبير عن التعصب السياسي المطلق وعن عنف األھواء الشعبية. < غير أن نابوليون ،الذي ال تسميه دي ستايل إال بونابرت ،ھو العدو األكبر ...وھو الوجه السلبي ،واألكثر سلبية في خضم ھذا التاريخ كله ...حتى وإن كانت وقفت في البداية موقفا ً فيه بعض اإليجابية إزاء الجنرال حين كان ال يزال قائداً للحملة على إيطاليا ...لكنه الحقا حين صار »قنصالً« ثم إمبراطوراً يشن الحمالت شرقا ً وغرباً ،صار في نظرھا ديكتاتوراً طفيليا ً ال أكثر.. وصار في وسعھا أن ترسم له صورة غير معھودة :فھو تحت قلم مدام دي ستايل صار طاغية مستبداً تھزه وحدته المطلقة وعزلته الخانقة ،ديكتاتوراً يفرض على حاشيته قواعد سلوك غريبة ومذلة ،كما يفرض على الشعب كله رقابة »ال سابق لھا في التاريخ الفرنسي الحديث« ،ونظاما ً بوليسيا ً قمعيا ً مرعبا ً. < وھذا ما يسمح للكاتبة بأن تقول إن »بونابرت قد صاغ لنفسه فكرة الوصول إلى ثورة -مضادة، ال يستفيد منھا أحد غيره ،غير تارك من عناصر الدولة الجديدة إال شخصه الكريم« ...أي إنه أعاد قديما ً ال جديد فيه سوى ھو نفسه :أعاد العرش والكھنوت والنبالء ..أسس ملكية ال شرعية وال حدود لھا ،وكھنوتا ً يدعو إلى عبادته والتمتع بطغيانه ،ونبالء ينتمون إلى عائالت قديمة وجديدة، »لكنھم ال يفيدون الدولة والشعب في شيء ،بل ھمھم الوحيد أن يخدموا صاحب السلطة المطلقة«. < وإذ تصف مدام دي ستايل ھذا كله وتتوسع في وصفه ،تعمد في النھاية إلى مقارنته بالنظام الشرعي الملكي الدستوري في إنكلترا ،لتخرج باستنتاجات حول »فلسفة التاريخ« تعتمد على ما تسميه »مسيرة الروح اإلنسانية« للوصول إلى الحرية المستعادة ،مؤكدة أن الحرية ھي الشيء القديم العريق ،أما االستبداد فھو األمر الجديد ،خالصة إلى أن »تقدم النظام االجتماعي ال يمكن فصله عن تقدم اآلداب وضروب التنوير« ،مؤكدة أن »االستبداد ال يتعايش أبدا مع األدب والفكر«. < ولدت جرمان دي ستايل العام ١٧٦٦في باريس ألسرة ثرية وذات مكانة نبيلة .وھي ،انطالقا ً من رغبات أدبية تجلت لديھا باكراً -لكنھا لم تستند الى موھبة حقيقية على أي حال -ارتبطت منذ صباھا بالصالونات األدبية النسائية التي كانت مزدھرة لدى نساء طبقات النبالء في فرنسا ذلك الحين .ولقد كتبت مدام دي ستايل العديد من النصوص والرسائل طوال حياتھا ،ومنھا أعمال اشتھرت ،إذ تدرّس لدى طالب المدارس الثانوية .ومن كتبھا ،إضافة إلى ما ذكرنا» :حول ألمانيا« ) (١٨١٠و »كورين أو ايطاليا« ) (١٨٠٧و »دلفين« ) (١٨٠٢و«عن األدب منظوراً إليه في عالقته مع المؤسسات االجتماعية« ).(١٨٠٠ 29
»الليالي البيضاء« لدوستويفسكي :اختصار الحياة وسعاداتھا في لحظات مدھشة الثالثاء ١١يونيو ٢٠١٣
للوھلة األولى تبدو رواية دوستويفسكي »الليالي البيضاء« بسيطة وذات شخصيات مكشوفة للقارئ تماماً ،وفيھا أحداث يمكن تو ّقعھا منذ البداية .فما الذي فتن الكثيرين في ھذه الرواية القصيرة التي كانت ثاني عمل يكتبه دوستويفسكي؟ ولماذا حفظ ھذا العمل الھادئ والحنون فتنته كلھا على رغم مرور السنين ،وجعل قراء أجيال متعاقبة يقبلون عليه ،ومبدعين كثراً يقلدونه أو يقتبسونه في أفالم ومسرحيات؟ < ربما يكون الجواب :بساطة الرواية ھي ما فعل ھذا كله .وربما أيضا ً كون الشخصية التي صوّ رھا دوستويفسكي في الرواية ،شخصية الحالم العاشق الذي لن تعرف له اسماً ،والذي يجمع كاتبو سيرة صاحب »اإلخوة كارامازوف« و »الجريمة والعقاب« على أنه مستقى مباشرة من شخصية الكاتب نفسه ،طالما أن ظروف االثنين متشابھة ،ونظرتھما إلى الحب متشابھة ،ومتشابھة كذلك عالقة كل منھما بمدينة بطرسبرغ التي تدور أحداث الرواية فيھا على مدى أربع ليالي »بيضاء« .ووصف الليالي بالبياض ھذا ،ومنذ عنوان الرواية ،يستجيب في اآلن عينه ،إلى عاملين :األول ھو ذاك المرتبط بما يُعرف حقا ً باسم الليالي البيضاء ،حين يطول النھار في شكل غير طبيعي عند بدايات الصيف في تلك المنطقة من العالم ،ما يجعل ظالم الليل ال يستغرق سوى ساعتين أو ثالث ،وثانيھما مرتبط بنوعية العالقة البريئة على رغم ليليتھا ،العالقة »البيضاء« التي تقوم خالل تلك الليالي بين بطلي الرواية :الشاب الحالم ،والفتاة الحسناء التي يلتقيھا ويعيش معھا ،من طرف واحد كما سيتبين لنا الحقاً ،حكاية حب ساحرة ومؤلمة في الوقت نفسه. < إذاً ،وكما نفھم ھنا ،تدور رواية »الليالي البيضاء« حول لقاء بين اثنين في زمن استثنائي ومكان استثنائي .ومن ھنا ،إذا كان دوستويفسكي قد وصف دائما ً روايته ھذه بأنھا »رواية عاطفية« فإن النقاد آثروا أن يصفوھا بأنھا »فانتازيا رومانسية« ،حتى وإن كانوا يُجمعون على أنھا تشكل ،في حقيقة األمر ،فصالً من سيرة كاتبھا الذاتية .سيرته حين كان في مطلع شبابه ووصل إلى تلك المدينة الغريبة عليه ،ليعيش فيھا سنوات طويلة من دون أصدقاء ،غارقا ً في أحالمه حالما ً بكل شيء ،سائراً على غير ھدى في طرقات ال تنتھي يختلط لديه الليل بالنھار .انه كان خالل تجواله ،ال يأبه كثيراً بالبشر ،بل يھتم بالمدينة ،بشوارعھا بمبانيھا بنھرھا بحوانيتھا وساحاتھا .وھو كان يعرف ذلك كله عن ظھر قلب وبالتفاصيل .وكان يشعر أن ھذه العالقة الحميمة التي يقيمھا مع المدينة تغنيه عن العالقة مع البشر .غير أن إھماله ھؤالء لم يكن يمنعه من 30
أن يخترع لھم ،في خياله ،عالقات وصداقات وأحزانا ً وأفراحا ً مسقطا ً على بعضھم أحالمه الخاصة وخيباته .وكما كان حال دوستويفسكي الشاب في عالقته مع المدينة ،كان حال بطل »الليالي البيضاء« الذي تعمّد الكاتب أال يكون له اسم .طبعاً ،نحن لن نعرف أبداً ما إذا كان دوستويفسكي قد عاش حقا ً تلك المغامرة العاطفية التي عاشھا بطله ،لكننا نعرف أنه يمكن أن يكون قد عاشھا ألن إقامة التوازي بين الشخصيتين :الكاتب والبطل ،تسفر عن تشابه تام .ثم ألن ھذه المغامرة العاطفية نفسھا كانت قد رسمت ،وإن بأشكال أخرى ،في رواية دوستويفسكي األولى »الفقراء« وسترسم مرات ومرات في روايات الحقة له. < غير أن المھم ،حقاً ،في ھذا كله ،ھو أن بطل »الليالي البيضاء« في عالقته مع أحالمه ومع المدينة سيكون إرھاصا ً حقيقيا ً بوالدة الكثير من األبطال المستوحشين الوحيدين الذين سيمألون جزءاً أساسيا ً من القرن العشرين ،حتى وإن ندر أن كان ألي منھم ذلك البعد الرومانطيقي الذي ميّز بطل دوستويفسكي .وكذلك االستسالم أمام المصير الذي عاشه وسط أحزانه وخيباته ،ھو الذي يقول الكاتب على لسانه في آخر فقرات الرواية ...» :ونظرت من خالل النافذة فبدا لي المنزل المقابل )ال أدري لماذا( قد دلف إلى الشيخوخة وحال لونه ھو أيضاً ،وتقشرت أعمدته وصارت جدرانه ضاربة إلى احمرار بعد أن كانت صفراء قاتمة ...فإما أن شعاعا ً من شمس كان قد شق الغيوم لحظة ثم عاد يختبئ تحت السحب المثقلة بالمطر ،فإذا كل شيء يرتد مظلما ً قاتما ً في نظري .وإما أنني أدركت في طرفة عين آفاق مستقبلي الحزين فرأيت نفسي على نحو ما أنا اآلن بعد انقضاء خمسة عشر عاما ً على ذلك العھد ،وقد شخت في ھذه الغرفة نفسھا ،على ھذه العزلة نفسھا ،مع »ماتريونا« ھذه نفسھا التي لم تجعلھا ھذه السنون كلھا أكثر رھافة .وقد قلت لنفسي يومئذ :كفاني يا ناستنكا! ال أريد أن أنكأ جرحي بالذكرى .ال لن أحمل غيوما ً قاتمة إلى سعادتك المضيئة الساجية .لن أوقظ في قلبك الحسرات بمالمات مرة .ال ولن أثير فيه ظالً خفيا ً من عذاب الضمير .لن اضطره أن يخفق حزينا ً في لحظات سعادتك وھناءتك .ال ،لن أجعد الزھرات الحلوة التي ستضيفينھا إلى ضفائرك السود يوم تجيئين معه إلى الھيكل للزفاف .ال لن أفعل ھذا أبداً! أال فلتظل سماؤك مضيئة .أال فلتظل بسمتك مشرقة مطمئنة ،وبوركت يا من وھبت لحظة من ھناءة وسعادة لقلبي الممتن الذي يعيش في وحشة العزلة! ...لحظة بكاملھا من سعادة ...رباه ھل تحتاج حياة إنسان إلى أكثر من ھذا؟«. < و »ناستنكا« ھي طبعا ً الحبيبة التي التقاھا بطلنا في أول تلك الليالي البطرسبرغية البيضاء األربع .حين التقاھا ،وكان كعادته ھائما ً على وجھه يتفرس في المدينة وفي المتنزھين عند ضفة النھر ،كانت غارقة في اليأس والحزن فعرض عليھا ،من دون أن يفكر طويالً ،مساعدته وتلقت ھي يده الممدودة .وعلى الفور قامت بينھما صداقة صادقة وبدأت ھي تحدثه عن أسباب حزنھا :إنه حبيبھا الذي يعيش في مدينة أخرى بعد أن تركھا وھي اآلن تنتظر عودته واليأس قد بدأ يتسرب إليھا .وخالل الليالي التالية يتكرر اللقاء بين الحالم والعاشقة الحزينة .وال يفعل االثنان خالل اللقاءات ثم الكالم ...يروي كل منھما لآلخر أشياء كثيرة عن حياته .غير أن الفتاة )ناستنكا( تؤثر 31
دائما ً خالل الحديث أن تعود إلى سيرة حبيبھا الغائب ،واجدة في الكالم المستديم عنه عزاء لھا، وربما وسيلة غامضة إلعادته إليھا .وفي تلك األثناء يكون شعور الصداقة والتعاطف الذي خامر الراوي تجاھھا قد تحول إلى حب عنيف .وھو ،ضمن معمعة أحالمه بدأ اآلن يحلم بأن تصبح ناستنكا حبيبته ،إذ إن ھذا الحب الذي أضاء حياته فجأة مثل شمس ساطعة ،صار عزاء له كبيراً في وحدته وغربته .صحيح أن ناستنكا أدركت ھذا كله .لكنھا كانت تعرف في أعماقھا أنه حب بال أمل طالما أنھا مشغوفة بحبيبھا الحقيقي تنتظر عودته .وھي ال تحاول منع الراوي من أن يحبھا، بل سيبدو لنا أنھا تستمرئ اللعبة ،ببراءة ،خصوصا ً حين يقوم الراوي بدبج رسائل تريد بعثھا إلى حبيبھا .وھنا تصبح الرسائل ،جزءاً من حبه لھا ،ويكبر حلمه ووھمه .ولكن في الليلة البيضاء الرابعة ،يعود الحبيب األول بالفعل وتركض الصبية لرمي نفسھا بين ذراعيه ،فيما صاحبنا الراوي يجد أحالمه كلھا وقد تحطمت ...فيعود إلى وحدته وإلى فراغه .ذلك الفراغ الذي عرف دوستويفسكي ،بعبقريته االستثنائية ،كيف يصفه ويجعل منه محور الرواية األساسي ،من دون أن يأخذ على بطله عجزه البيّن عن التأقلم مع أي واقع يومي ،وھبوطه ذلك الجحيم الذي يجعل أحالمه تبتلعه من دون أن تقدم إليه أي عزاء. < رواية »الليالي البيضاء« التي كان اإليطالي لوتشينوفيسكونتي والفرنسي روبير بريسون من أشھر ناقليھا إلى الشاشة الكبيرة ،نشرھا فيودور دوستويفسكي وھو بعد في السابعة والعشرين من عمره .صحيح أنھا يومھا لم تحقق ذلك النجاح الذي كان يمكن توقعه لھا .لكنھا الحقاً ،حظيت باھتمام كبير من قبل القراء والنقاد واعتبرت مؤسّسة للكثير من األجواء والشخصيات التي رسمھا دوستويفسكي في بعض أجمل رواياته الالحقة .ودوستويفسكي ) (١٨٨١-١٨٢١الذي يبدو ھنا في غاية الرومانسية ،سيكون خالل العقود التالية من حياته ،مبدع أعمال روائية رائعة تفيض قسوة وتختفي منھا الرومانسية كليا ً مثل »الشياطين« و »األبله« و »الجريمة والعقاب« و »اإلخوة كارمازوف« بالطبع.
األمل« ألندريه مالرو :أسئلة الثورة والحرب وبطوالتھما الخميس ٢٠يونيو ٢٠١٣
الذين يعرفون الكاتب والمفكر الفرنسي اندريه مالرو كانوا يعرفون أنه ،إلى مواقعه السياسية المناصرة للجنرال ديغول والتي جعلته رفيقا ً له خالل السنوات األكبر من حياته وعمله الفكري والسياسي ،كاتبا ً من كبار كتاب القرن العشرين في فرنسا .وھي مكانة لم ينقص من شأنھا تو ّقفه خالل العقود األخيرة من حياته ،وال سيما حين صار وزيراً للثقافة ،عن كتابة الروايات ،وال حتى 32
اشتداد شتى أنواع الھجوم عليه لمواقفه السياسية ،من قبل الفنانين والكتاب اليساريين ،ال سيما إبان أحداث »أيار /مايو «١٩٦٨في فرنسا. < وروايات اندريه مالرو ،وكتبه الفكرية األخرى معروفة ومقروءة على نطاق واسع ومن بينھا »الشرط اإلنساني« و«األمل« و«المتحف المتخيل« ...وعشرات غيرھا من الكتب والدراسات التي جعلت له مكانة متقدمة في العديد من األنواع األدبية والنقدية ،غير أن ما ال يعرفه كثر ھو أن اندريه مالرو اشتغل ،لمرة واحدة من حياته على األقلّ ،في اإلخراج السينمائي ...ولكن ليس كمخرج محترف ،بل كفنان صاحب قضية ملحة وآنية يريد التعبير عنھا .كان ذلك في العام ١٩٣٨ والقضية كانت قضية الجمھوريين اإلسبان الذين كانوا يخوضون حربا ً أھلية عنيفة في ذلك الحين ضد الدكتاتور اليميني الفاشي فرانكو وجماعته المدعومين من ألمانيا الھتلرية وإيطاليا موسوليني. < في ذلك الحين ،لم يكن اندريه مالرو المبدع األجنبي الوحيد الذي وقف إلى جانب الجمھوريين، فكريا ً ونضاليا ً ولكن في شكل ميداني أيضا ً .حيث كان واحداً َ◌ من عشرات من الكتاب والفنانين األوروبيين واألميركيين الذين سارعوا إلى نجدة »قوى التقدم« ضد »القوى الفاشية« وفق تعابير تلك المرحلة .ومن بين ھؤالء جورج اورويل وارنست ھمنغواي وغيرھما .ولئن كان بعض المبدعين رأى في حمل السالح بشكل فعليّ وسيلة لمناصرة اخوانه ورفاقه في الفكر ،وانتصاراً لشعب يريد الحرية والتقدم والتخلص من الدكتاتورية المحلية المرتبطة بقوى عظمى فاشية عالمية، فإن اندريه مالرو وجد أن احسن ما يفعله المبدع في ھذا المجال ،ھو وضع إبداعه في خدمة القضية .وھو ،لئن كان كتب قبل ذلك رواية »األمل« عن بدايات الحرب األھلية اإلسبانية ،فإنه في المرحلة التالية آثر أن يجرب حظه في السينما وھكذا أخرج فيلمه الوحيد» :األمل :سييرا دي ترويل« الذي كان يفترض به أن يكون ملحقا ً برواية »األمل« ،لكنه سرعان ما تحول خالل االشتغال عليه ،ليصبح ،انطالقا ً من فصل واحد من فصول »األمل« ،فيلما ً قائما ً في ذاته ،يختلط فيه المتخيل بالواقعي ،والممثلون بالمقاتلين الحقيقيين ،واألحداث المركبة المبتدعة باألحداث التي عاشھا مالرو او شھدھا شخصياً ،او تلك التي رُويت له .لكن الفيلم جاء فوق ھذا كله أشبه بتأمل عن مفھوم الحرب نفسھا :لماذا الحرب؟ ھل ھي جديرة بأن تخاض ،أم أنھا مجرد عبث كان يمكن االستغناء عنه؟ والحقيقة أن الحرب التي أتت لتتحدث عنھا تلك التأمالت لم تكن ،في الطبع، الحرب اإلسبانية وحدھا ،بل الحرب في شكل عام. < منذ البداية ال بد من القول ان ليس لفيلم اندريه مالرو ھذا ،خط حدثي واضح .انه ،باألحرى، يتألف من مجموعة من الخيوط والمشاھدات .وكأنه اشبه بيوميات س ّجلت خالل أيام الحرب ،لتأتي في نھاية األمر شاھداً على بعض مالمحھا .وھكذا تتتابع امام أعين المشاھدين على مدى نحو ساعة وربع الساعة )ھي مدة عرض الفيلم( ،مشاھد تدور في اسبانيا العام :١٩٣٨مشاھد النضال الذي يخوضه الجمھوريون ضد الفرنكويين .مشھد طائرة تحترق وھي تتحطم على المدرج الذي كان ينبغي أن تھبط عليه بسالم ،فيما المقاتلون الحاضرون يركضون نحو حطام الطائرة ليلقوا 33
تحية التكريم على طيارھا القتيل .بعد ذلك تطالعنا مشاھد القتال )حرب الشوارع( في طرقات ترويل وأزقتھا .ومن أبرز ھذه المشاھد ذلك الذي يتعين فيه على المقاتلين الجمھوريين ان يضعوا خارج المعركة مدفعا ً ركز عند مدخل المدينة وراح يصليھم ناراً ،حتى تتحرك سيارة انتحارية يقودھا مقاتل وتصدم الھدف وتدمره .في المشھد التالي فالح نراه داخل طائرة قاذفة تابعة للجمھوريين .في البداية يعجز الفالح ،الذي مھمته تحديد موقع مطار معاد ،عن التعرف على ارضه الخاصة من أعلى .وإذ يتعرف عليھا ،في لمسة شاعرية ،يحدد موقع المطار المقصود ويتوجه الطيارون لقصفه ...وھم يھبطون بالطائرات حين تغيب الشمس فوق ارض تضيئھا مصابيح السيارات .وإذ ينجحون في تنفيذ العملية ،يحدث وھم ينطلقون عائدين ان تصطدم احدى الطائرات بجبل قريب ،فيسرع الجمھوريون الى تنظيم اعمال اإلغاثة ويجمعون جثث القتلى ويصطحبون الجرحى ھابطين الجبل نحو الوادي حيث من المفترض انھم سوف يكونون في أمان. وفي طريقھم يتجمع الفالحون إللقاء التحية عليھم جميعاً ،في مشھد أ ّخاذ .غير ان ھذه الحماسة ال تمنع بعض المشاركين في القتال من التساؤل عن جدوى ذلك كله. < عندما انتھى مالرو من تصوير فيلمه ھذا ،كان الطاغية فرانكو قد انتصر وسحق الجمھوريين داخالً بكل انتصار الى برشلونة .وحين أريد عرض الفيلم في فرنسا ،منعته الرقابة ،فظل في علبه حتى انتھت الحرب العالمية الثانية وتحقق تحرير فرنسا من االحتالل األلماني الذي كان رابضا ً على صدور ابنائھا ،فعرض الفيلم وحقق نجاحا ً كبيراً ،إذ اعتبر من الكالسيكيات ،لكن بعض األوساط اليسارية ھاجمت تساؤالته عن جدوى الحرب .مھما يكن فإن مالرو ،من بعده ،لم يعد الى السينما مخرجاً ،وال عاد الى األدب روائيا ً .وكأن ھذا الفيلم كان وصيته اإلبداعية .وھنا نذكر ان ناقداً سويسريا ً كتب حين عرض الفيلم يقول» :ان العالم يبدو وكأنه يقلد ابداع اندريه مالرو«. < ال بد من أن نذكر ھنا ان مالرو حقق الفيلم بناء على طلب السلطات الجمھورية اإلسبانية التي، في سبيل تحقيقه قدمت له المتطوعين واألسلحة وكل اإلمكانات السينمائية )الفقيرة( التي كانت تمتلكھا ،بما فيھا استوديو بائس في برشلونة ) ُقصف الحقا ً و ُدمّر( .بشكل رئيسي كان المطلوب من الفيلم ،طبعاً ،تمجيد الحرب والنضال العادل ،لكن مالرو ،كمبدع حقيقي ،تجاوز ھذا كما أشرنا ليطرح اسئلته الحائرة عن الحرب كمكان للقتل وعن البطولة وما خلفھا .وكان مالرو على أية حال ،واحداً من عدد كبير من األدباء آثروا يوما ً ان يجربوا حظھم في اإلخراج السينمائي ،مثله في ھذا مثل جان كوكتو الذي كان أكثر نجاحا ً منه وأكثر استمرارية ،ومثل اإليطالي كورزيو ماالبارتي ،ثم الفرنسي جان جيونو ،قديما ً .وآالن روب غرييه ومارغريت دورا في زمن أقرب إلينا .واألميركي بول اوستر في زمننا .كل ھؤالء استبدلوا الكاميرا بالقلم يوماً ،وكان نجاحھم في ذلك متفاوتا ً ومثيراً للسجال .أما »األمل« لمالرو ،فقد حقق إجماعا ً إيجابياً ،على رغم االعتراضات على بعض حيرته السياسية.
34
< مھما يكن من أمر سيكون من غير المجدي طبعا ً البحث عن اسم اندريه مالرو في الموسوعات السينمائية .ففيلم »األمل« وحده لم يكن كافيا ً لجعله يعتبر واحداً من أساطين الفن السابع .من ھنا يظل اندريه مالرو ،أوالً وأخيراً ،أديبا ً فرنسيا ً كبيراً ،وباحثاص في علم الجمال ،ثم وزيراً للثقافة تثير ممارساته السجال واالعتراض. < ولد اندريه مالرو العام ١٩٠١في باريس ،ومات فيھا في العام .١٩٧٦وھو منذ صباه اختلط لديه حب األدب بالولع بالعمل السياسي والديبلوماسي .وكان لعمله الديبلوماسي والسياسي ،المباشر أو غير المباشر ،في الصين ثم في إسبانيا ،الفضل في كتابته روايتيه األشھر »الشرط اإلنساني« عن الثورة الصينية ،و«األمل« عن الثورة اإلسبانية .أما ولعه بالسينما فقاده العام ١٩٤٠إلى كتابة نص /مرجع ھو »تخطيط لدراسة سيكولوجية السينما« .ومن ناحية أخرى لعل مالرو يعتبر من أكثر الك ّتاب تأمالً في قضية البطولة والثورة ،ولكن في قضية الفن أيضا ً .وكتاباته في الفن تعتبر من األشھر في القرن العشرين ومن أھم كتبه في ھذا السياق »صوت الصمت« .أما أبرز كتبه األخيرة فكان »مذكرات مضادة«
»أوراق العشب« لوالت ويتمان :أميركا التي كانت حلما ً األربعاء ١٩يونيو ٢٠١٣
عندما كان شعراء جيل »البيت« في الواليات المتحدة ،وعلى رأسھم أالن غينسبرغ وغاري سنايدر ،يصرخون في أوائل ستينات القرن العشرين غاضبين »أميركا ماذا فعلت بحلمك الجميل؟ أميركا ،أعطيناك كل شيء ولم تعطنا شيئا ً ،«...كانوا من دون أدنى ريب ،يتذكرون سلفا ً كبيراً لھم كان قبلھم بأكثر من قرن من الزمن قد صرخ في وجه أميركا صرخة أخرى ،بعبارات من نوع آخر :صرخة أمل بعبارات تفاؤل .كان ذلك السلف ال يزال يحلم بأميركا الرواد والطبيعة والتآخي بين البشر .إنه والت ويتمان .أما صرخته ،فقد حملت عنوانا ً ال تزال له قوته التعبيرية وحضوره الطاغي حتى يومنا ھذا» :أوراق العشب« تلك »القصيدة« الطويلة المتعددة التي لم يتوقف ويتمان عن كتابتھا واإلضافة إليھا منذ وعى كونه شاعراً للمرة األولى وحتى وفاته» .أوراق العشب« كانت ،على أي حال ،القصيدة األميركية األولى ،بالمعنى الذي يمكننا اليوم أن نسبغه على ھذه الكلمة .من ھنا ،إذا كان العديد من الشعراء والك ّتاب األميركيين قد رجموا ويتمان واعتبروه نشازاً وفاسداً وشاعراً سيئا ً حين أصدر »أنشودة نفسي« ،التي ستشكل جزءاً أساسيا ً الحقا ً من »أوراق العشب« ،فإن إمرسون ،كاتب أميركا وشاعرھا األكبر في ذلك الحين ،لم يكن بعيداً من الصواب حين صرخ يقول بعدما قرأ القصيدة» :اآلن يمكن األميركيين الذين آثروا العيش في الخارج أن يعودوا ...لقد ولد لدينا فنان كبير« .في ذلك الحين كان إمرسون الوحيد القادر على الدفاع عن »أوراق العشب« وعن والت ويتمان ...ولكن الحقاً ،وعلى رغم كل شيء ،صارت »أوراق العشب« أشبه بنشيد جماعي لرفعة أميركا وعظمتھا .وصارت المعادل الموضوعي الداعي إلى 35
ترسيخ قيم الطبيعة واإلنسان والفن واإلخاء والصداقة والحب والديموقراطية ،في الوقت الذي كانت فيه اآلالت الضخمة والجرافات بدأت تحطم الطبيعة وتقطع األشجار وتردم ضفاف األنھار لكي تقيم الجسور والطرقات والمصانع ...وكل تلك األمور التي أنھت ،إلى األبد ،فكرة كان والت ويتمان نفسه يحملھا عن أميركا التي يريد ،أميركا التي »وضعھا داخل كتاب أشعاره قبل أن تضيع إلى األبد«. < في أواخر سبعينات القرن العشرين ،حين نقل الشاعر العراقي سعدي يوسف إلى العربية بعض مقاطع أوراق العشب« -ولم يكن ھو بالطبع أول من ق ّدم ھذا العمل إلى قراء العربية ،-تساءل في نھاية مقدمته التوضيحية ،التي غفلت على أي حال عما يعتبره النقاد الغربيون أساسيا ً في حياة ويتمان وشعره :فلسفته للمثلية الجنسية ،تساءل» :ما أھمية والت ويتمان للقارئ العربي والشعر العربي؟ وأجاب» :في رأيي أن تقديم ويتمان إلى قارئنا وشعرنا في ھذه المرحلة بالذات له أھمية كبرى ،فھو أوالً نسمة شعرية صحية بين الكثير الكثير مما يترجم من شعر الى لغتنا .وھو ثانيا ً شاعر أمة في دور النھوض ،ما يقدم لشعرنا المتطلع إلى أن يكون المعبّر عن نھوضنا ،أنموذجا ً عاليا ً .وھو ثالثا ً شاعر ثورة شعرية امتدت إلى أوروبا ،وآتت أكلھا ،فقصيدة النثر ما كان لھا أن تشق سبيلھا األوروبي لوال إسھامة ويتمان الكبرى .وھو رابعا ً شاعر المحسوس والواقع المعيش والمفردة السائرة ،وما أحوجنا وأحوج شعرنا إلى المحسوس والمعيش والمفردة السائرة«. < والواقع أن األديب الفرنسي فاليري الربو الذي كان من أفضل من قدموا ويتمان إلى القارئ الفرنسي في القرن العشرين سبق سعدي يوسف إلى ھذا الرأي ،وكان يرى أيضا ً أن »طموح ً فلسفة ودينا ً« .ولكن ،وكما يحدث عادة في والت ويتمان كان يكمن في إعطاء أميركا مثالً أعلى، مثل ھذه األحوال ،لم يكن األميركيون أول وأفضل من استقبل شعر ويتمان ،سبقھم األوروبيون إلى ذلك ،على رغم حماسة إمرسون الفائقة ،وفاقوھم فيه ،إذ كان اإلنكليز -وبأقل منھم الفرنسيون- أول من احتفى بشعر ويتمان ،وفي مقدمھم روزيتي وسوينبرن )الذي لم يفته أن يقارن ويتمان بويليام بليك( .أما الحقاً ،فقد كان كبيراً عدد أولئك األدباء والشعراء الذين »وُ لدوا« من رحم شعر ويتمان ،وحسبنا أن نذكر ھنا أسماء ھنري ميلر ود .ھـ .لورانس وشعراء »جيل البيت« ،لكي نموضع شعر ويتمان في مكانه الصحيح. < ولكن بعد ھذا ،ما ھي »أوراق العشب«؟ ببساطة ،ھي مجموعة قصائد تؤلف في نھاية األمر قصيدة واحدة .والعمل ھو من نوع ذاك الذي ينمو عاما ً بعد عام ،ففي البداية في تموز )يوليو( ،١٨٥٥صدرت الطبعة األولى من »أوراق العشب« مؤلفة من ١٢قصيدة أساسية ،ھي التي رأى فيھا إمرسون باكراً »أعظم قطعة حكم أنتجتھا أميركا حتى اآلن« .وفي العام التالي ،في طبعة ثانية ،أضاف ويتمان ٢١قصيدة .وفي العام ١٨٦٠أصدر طبعة ثالثة تحمل ١٢٢قصيدة إضافية، من بينھا المجموعة التي تحمل عنوان »فاالموس« )تلك المجموعة التي أدانھا نقاد كثيرون حين أصدورھا مضافة ،إذ رأوا فيھا تمجيداً من ويتمان بمثليته الجنسية ،فيما رأى نقاد أقل عداء لويتمان 36
أنھا إنما تحتفي »بتعاطف اإلنسان مع أخيه اإلنسان ال أكثر«( .ولسوف تظھر في حياة ويتمان ست طبعات أخرى ،تضاف إلى كل منھا قصائد جديدة ،بحيث ضمت المجموعة في نھاية األمر ٤١١قصيدة ھي التي تؤلف اليوم متن »أوراق العشب« النھائي .والالفت ھو أن ھذه المجموعة، على رغم أنھا كتبت طوال عشرات السنين ،وحكمت بعضھا ظروف تختلف عن التي حكمت بعضھا اآلخر ،تحمل في نھاية األمر وحدة عضوية ،من ناحية الشكل كما من ناحية المضمون، بحيث تبدو لنا اليوم عمالً متكامالً واحداً بالكاد يمكن انتزاع مقطع منه ،وھي في شكلھا النھائي تبدو أقرب إلى أن تكون سيرة ذاتية للحلم األميركي ...ألميركا كما آلت على نفسھا أن تكون وكما كان يجب عليھا أن تكون .ويتجلى ھذا أكثر ما يتجلى في »أنشودة نفسي« ،التي تبدو كنشيد للثقة بالنفس ،ودعوة إلى كل إنسان لكي يموضع نفسه في تيار الطبيعة الكوني .والحال أن ھذه »األنشودة« تبدو في نھاية األمر وكأنھا محور الكتاب كله .والمكان الذي تلتقي فيه الذات باآلخر: الفرد بالمجموع ،ليؤلف االثنان بوتقة واحدة تنطلق مما كان بحثا ً عما سوف يكون .وويتمان يبدو في ھذا السياق واضحاً ،إذ يقول )بترجمة سعدي يوسف( في واحد من أقوى مقاطع »أنشودة نفسي«» :أرحل كالھواء /وأھز خصالتي البيض للشمس الھاربة /أھرق لحمي مياھاً ،في جداول مسكرة /أوحّد نفسي بالتراب ،ال نجم من العشب الذي أحب /فإن أردتني ثانية فابحث عني تحت نعل حذائك /قد ال تعرف من أكون وما أعني /لكني سأكون لك العافية /ونقاء الدم ونسيجه /إن لم تجدني أوالً فال تيأس /إن افتقدتني في مكان فابحث عن مكان آخر /ولتجدنني أنتظرك في مكان ثالث«. < وحياة والت ويتمان نفسھا تكاد تكون أشبه بخالصة للحياة التي عاشھا من قبله وسيعيشھا من بعده عشرات الكتاب العصاميين من الذين صنعوا مجد أميركا األدبي .فھو ،الذي ولد العام ١٨١٩ في لونغ آيالند ،لم تدم دراسته طويال ،إذ سرعان ما نراه يلتحق بالعمل صبي مكتب ،ثم عامل طباعة ثم معلما ً في مدرسة ثم صحافيا ً متجوالً ،وينخرط بعد ذلك في السياسة عضواً في التجمعات الديموقراطية ،ويبدأ بنشر كتاباته ،وأھمھا في ذلك الحين الطبعة األولى من »أوراق العشب«. وحين تندلع الحرب األھلية يج ّند كمسعف ويعيش بين القتلى والجرحى تجربة قاسية سوف تطبعه دائما ً .وبعد انقضاء الحرب يعود سيرته ويصدر كتابا ً عن الحرب كما يكتب مرثاة ألبراھام لنكولن حين يُغتال .وفي العام ١٨٧١يصدر »الرواية الديموقراطية« .وفي العام ١٨٧٣يصاب بالشلل ويستقر في نيوجيرزي .ويمضي السنوات العشرين األخيرة من حياته وحتى رحيله في العام ،١٨٩٢في مستقره ال يقطعه سوى تأرجح بين تجوال سريع وبين اھتمام بنشر كتبه وطبعات »أوراق العشب« المتتالية
37
»بحيرة الشيطان« لجورج صاند :الحب الصامت في ھدأة الليل الثالثاء ١٨يونيو ٢٠١٣
ھل كان على الكاتبة الفرنسية جورج صاند أن تنتظر اقترابھا من سن األربعين وانتھاء عالقاتھا الصاخبة بعدد من كتاب عصرھا وفنانيه ،وخيبة أحالمھا االشتراكية الكبيرة ،قبل أن تبدأ كتابة رواياتھا الكبرى ،أو األكثر عمقاً؟ الحقيقة أن جورج صاند ،على رغم أنھا كانت نشرت قبل ذلك بعض أعمالھا التي أسبغت عليھا شھرة كبيرة ،تأخرت في االنصراف الى كتابة روايات تمزج فيھا بين المثل األعلى الرومانسي الذي يسيطر عليھا كلياً ،وبين نزوعھا المتجدد الى الغوص في العواطف االنسانية ،ألنھا قبل ذلك ،حتى وإن كانت رومانسيتھا وُ جدت دائماً ،كان ھمّھا األول من الكتابة الدنو من المجتمع كحيّز تنمو فيه الشخصيات ،بالتناسق معه أو بالتعارض ،حيث إن حياة المجتمع نفسه تشكل جزءاً من حياة األفراد ،ال العكس تماما ً .وفي ھذا اإلطار بالتحديد ،يمكننا ان نعثر على الفوارق الرئيسة بين روايات لجورج صاند كتبت في ثالثينات القرن التاسع عشر )مثل »انديانا« و »ليليا«( وبين روايات اخرى لھا كتبت في أربعينات القرن نفسه ،وبخاصة بعدما سئمت الكاتبة المناضلة ،حياة باريس واجتماعياتھا وحكايات الغرام المدمرة ،لتنصرف الى العيش في منطقة ريفية ھي نوھان )في منطقة بيري الريفية الزراعية( ،والى الكتابة مُنتجة أعماالً متميزة ھمّھا األساس تقديم حكايات على خلفية وصف الحياة الريفية ،في قوالب فكرية مستقاة ھذه المرة، مباشرة ،من نزعة جان -جاك روسو الداعية للعودة الى الطبيعة .ولكن ھنا ،يجب أال يعتقد القارئ ان اعمال جورج صاند تحولت الى بيانات اجتماعية ،بل العكس ،ھنا زادت كثافة البعد الروائي، وصارت الشخصيات مقدمة من لحم ودم ،ال من أفكار .ولعل رواية »بحيرة الشيطان« خير مثال على ذلك التوجه الجديد. < كتبت جورج صاند »بحيرة الشيطان« في العام ،١٨٤٦أي بعد المرحلة التي كانت قد تأثرت فيھا بأفكار الكاتب السان -سيموني بيار ليرو ،وراحت تقترب من نزعة صوفية كاثوليكية تغمرھا ليبرالية واضحة .وحتى لئن كان العام الذي كتبت فيه جورج صاند »بحيرة الشيطان« سابقا ً عامين على الخيبة الكبيرة التي اعترتھا إزاء فشل ثورة ،١٨٤٨فإن في تو ّجه الكاتبة العام في الرواية ،ما يشي بأن الخيبة إزاء العمل السياسي االشتراكي كانت منذ ذلك الوقت المبكر بدأت تترسخ لديھا .وھذا الترسخ لم يط ّل من خالل موضوع الرواية وأفكارھا ،وإنما من خالل ابتعاد الكاتبة ھنا عن أي موضوع يشي باھتماماتھا السابقة ،مكتفية بتقديم حكاية غرام ريفية طيبة ،بل أكثر من ھذا ،مكتفية ،كجوھر للرواية ،بوصف ليلة واحدة جعلت منھا محور العمل وأجمل ما فيه. < تدور رواية »بحيرة الشيطان« من حول جرمان ،الفالح الشاب الھادئ والبسيط الذي يرمّله وفاة زوجته التي ماتت مخلّفة له ثالثة أطفال يتعين عليه العناية بھم ...لكن جرمان يبدو عاجزاً عن التوفيق بين ما يقتضيه منه عمله من تفرغ ،وبين ضرورة العناية باألطفال ،فال يكون من حميّه، 38
إال أن يشير عليه ذات يوم بأن الوقت قد حان لكي يتخذ لنفسه زوجة ،ليس حبا ً بالزواج وبملذاته، بل لكي تكون لديه في البيت امرأة طيبة تعنى به وبصغاره .وبعد تردد ،يرى جرمان ان األمر ممكن ،وأن عليه أن يكون واقعيا ً .ويتفق مع أھل فتاة شابة يعيشون في منطقة بعيدة بعض الشيء من البلدة التي يعيش ھو فيھا .وھكذا يتوجه ذات يوم بصحبة أصغر أبنائه ،وفي رفقتھما الخادمة المراھقة ماري ،وھي في األصل مزارعة أحوجتھا الضرورة لكي تعمل في منزل أسرة تقيم في المنطقة التي يقصدھا جرمان وطفله .وھكذا يبدأ الثالثة رحلتھم .ولكن بعد حين تثور عاصفة عاتية تجبر الثالثة على أن يلتجئوا الى غابة صغيرة يعرف جرمان ان االختباء فيھا وسط تلك الظروف يقيھم المخاطر ...وتقع تلك الغابة في منطقة يطلق عليھا اسم »بحيرة الشيطان« )ومن ھنا عنوان الرواية( .وإذ يصل الثالثة الى مكان يؤويھم ،يسود صمت ليلي حيث يشعل جرمان وماري ناراً يتدفأون من حولھا ...وھنا ،إزاء تلك الوضعية التي تولد ما يكفي من عواطف ،يتوجه جرمان بحديثه الى ماري عارضا ً عليھا حبّه وأن تصبح ھي زوجته .لكن الفتاة تسارع الى االستنكار وقد ھالھا فارق السن بين جرمان وبينھا .وكذلك اتساع ھوة الوضع االجتماعي بينھما ...ولسوف ندرك الحقا ً ان استنكار الفتاة لم يكن يعني في الحقيقة رفضا كليا ً للفكرة ،ذلك أن ماري في عمق أعماقھا كانت ممتلئة باالعجاب إزاء ھذا الرجل الطيّب والبسيط .أما استنكارھا فإنما كان بفعل المفاجأة وكذلك بفعل شيء من الحياء استب ّد بھا فجأة .بيد أن جرمان ،لحيائه ھو اآلخر ،لم يل ّح ...وما ان حل الصباح حتى واصل الثالثة رحلتھم ،وقد استب ّد شيء من الحزن بجرمان ...ال سيما حينما وصلت ماري الى نھاية الدرب الذي ترافقه فيه ،إذ بات عليھا أن تنفصل عن األب وابنه لوصولھا الى منطقة بيت مخدومھا الجديد. < المھم ان جرمان حين يصل الى عروسه العتيدة ،يخيب أمله تماما ً إزاء شخصيتھا الوقحة وجشعھا ،فيقرر أال يتمم ذلك الزواج ،وفي الوقت نفسه ال يكون وضع ماري مع مخدوميھا أفضل، خصوصا ً ان سيدھا الجديد ،ما إن وصلت ،حتى راح يراودھا عن نفسھا .وھكذا في الوقت نفسه يعود جرمان الى قريته خائب المسعى ،وتعود ماري الى القرية وقد قررت االستغناء عن خدمة أسيادھا الجدد .وإذ يلتقي جرمان وماري في القرية من جديد يكتشفان ان العواطف بينھما متبادلة وانھما معا ً تعبا من التجربة التي خاضھا كل منھما .وھكذا »يعودان« الى بعضھما بعضا ً ليستأنفا تلك العالقة الغرامية العذبة التي كانت بدأت تولد بينھما خالل تلك الليلة التي قضياھا قرب بحيرة الشيطان. < من الجلي ان الموضوع في حد ذاته وكما تقدمه الرواية ،ال يخلو من بساطة تجعله جديراً، مثالً ،بفيلم ميلودرامي مصري ينتمي الى سنوات الخمسين .ولكن من الواضح في الوقت نفسه ان قوة ھذه الرواية ليست في موضعھا ،بل في أجوائھا .إذ في شكل عام عرفت جورج صاند كيف تق ّدم ھنا عمالً تصف فيه الحياة الريفية بتفاصيلھا الصغيرة ،بما في ذلك اإلطالل على طيبة أبناء الريف وبساطتھم .وھو ما فعلته في الكثير من الروايات التي كتبتھا خالل تلك المرحلة األخيرة من حياتھا .أما في شكل خاص ،فإن قوة ھذه الرواية تتركز على تفاصيل تلك الليلة التي قضاھا 39
الريفيون الثالثة في الغابة مختبئين من العاصفة :لقد كانت ساعات قليلة شحنتھا الكاتبة بمقدار ھائل من العواطف والتفاصيل الصغيرة ...وبالحوارات الليلية التي دارت بين جرمان وماري ھناك... حيث يُبرز الجو مناخا ً من الھدوء والدعة والسالم قلّما حفل به عمل أدبي ،وحيث بدت الشخصيتان األساسيتان جزءاً من األرض والطبيعة في عتمة الليل. < حينما كتبت »بحيرة الشيطان« ،كانت جورج صاند )المولودة أورور دوبان في باريس عام (١٨٠٤في الثانية واألربعين من العمر ،كانت بعيدة -بالنسبة إليھا -تلك األزمان التي صارت فيھا ،بالزواج ،البارونة دوديفان ،ثم باالرتباط مع جول صاند ،كاتبة اختارت لنفسھا اسما ً مستعاراً ھو جورج صاند ،قبل أن تصبح على التوالي عشيقة ألفريد دو موسيه ثم الموسيقي البولندي الكبير شوبان .في ذلك الحين ،كانت انصرفت كليا ً للكتابة ولتأمل حياة الناس ،بعيداً من صخبھا السياسي واالجتماعي القيّم .كتبت جورج صاند خالل مراحل متفرقة من حياتھا ،عدداً كبيراً من الروايات، من أبرزھا ،عدا ما ذكرنا» :مويرا« ) (١٨٣٧و »كونسويلو« ) (١٨٤٣ - ١٨٤٢و »فرانسوا لي شامبي« ) (١٨٤٨و »فاديت الصغيرة« ) .(١٨٤٩وھي عاشت حتى العام .١٨٧٦
»بيغماليون« لجورج برنارد شو :العلم وحده ال يكفي السبت ٨يونيو ٢٠١٣
الحكاية في األصل ھي حكاية نحات قبرصي يدعى بيغماليون ،وحكاية فاتنته أفروديت وبينھما التمثال الذي نحته لھا مخلّدا جمالھا .لكن ھذه الحكاية التي قد تبدو بسيطة أول األمر فتنت الك ّتاب ودفعتھم إلى سن أقالمھم وأفكارھم ،وھكذا ،من أوفيد إلى جان جاك روسو ،ومن اإلسباني جاسنتو غرو ،إلى كاتبنا العربي توفيق الحكيم ،نعرف أن عدداً كبيراً من الك ّتاب جرب حظه مع ھذا العمل ...بل وصل األمر إلى الموسيقيين والرسامين .ولكن الحقيقة تقول لنا إن أيا ً من ھؤالء لم يوصل »أسطورة بيغماليون« إلى النجاح الذي أوصلھا إليه ،وإن في شكل موارب ،الكاتب الكبير جورج برنارد شو .ذلك أن مسرحية »بيغماليون« كما كتبھا ونشرھا شو في عام ،١٩١٢وقدمت للمرة األولى في باريس في عام ،١٩٢٣تظل األقوى واألقدر على استخراج كل المعاني الرمزية لھذه القطعة االبداعية .ولقد زاد من أھمية »بيغماليون« وشھرتھا ،خالل النصف الثاني من القرن العشرين تحويلھا فيلما ً عنوانه »سيدتي الجميلة« )ماي فير ليدي( مثلته أودري ھيبورن وكان أنجح فيلم أميركي في زمنه ،حتى وإن كان مناخه إنكليزيا ً .المھم أن »بيغماليون« كما كتبھا 40
جورج برنارد شو ،تختلف في الشكل عن األسطورة األصلية ،لكنھا ال تختلف عنھا في المضمون أو في المعنى ...وبالتحديد ألن في ھذا العمل األصلي من المعاني المرتبطة باإلنسان وخلقه والعالقات البشرية ومفاھيم التربية ،ما ال يضاھيه في أي عمل آخر من ھذا النوع .ولعل أھمية عمل شو تكمن أساسا ً في كونه َعصْ رن األسطورة وجعل أبطالھا أشخاصا ً من لحم ودم يعيشون بيننا وكأنھم منا. < تبدأ مسرحية »بيغماليون« كما كتبھا جورج برنارد شو ،برھان يقوم بين العالم األرستقراطي الظريف والصلف في الوقت نفسه ،ھنري ھيغنز ،وصديقه الكولونيل بيكرنغ من حول فتاة ھي اليزا دوليتل ،يلتقيانھا ذات يوم فتلفت لھجتھا المبتذلة وأسلوبھا المشاكس الوضيع في التصرف، نظرھما .وھنا يقول ھيغنز لصديقه إن في إمكانه ،خالل أسابيع قليلة ،أن يحوّ ل ھذه الفتاة الشعبية المبتذلة إلى ليدي أرستقراطية حقيقية ،ويضيف أن طريقه إلى ذلك إنما ھو االھتمام بتعليمھا أناقة الحديث وأسرار اللھجة الراقية وبقية ما تبقى من سلوكات وعوائد اجتماعية .وإذ يقول له الكولونيل إن ھذا غير ممكن ،منطقياً ،يقوم الرھان بين الرجلين .وعلى أثر ذلك يدنو ھنري ھيغنز من بائعة الزھور الصبية اليزا ،ويعرض عليھا أن يعلمھا المنطق مقابل بعض مال يعطيه لھا ومال آخر يعطيه ألبيھا .وھكذا يصطحبھا ،في كل براءة ،إلى منزله ،وتبدأ التمارين على الفور ،فيما يشعر ھيغنز أنه يسابق الزمن طالما أن الرھان م ّدته ستة أسابيع. < غير أن اليزا لم تخيب أمل ھيغنز ،بل تجاوبت معه ومع ما يريد تماما ً إلى درجة أنھا خالل التمارين أبدت من الفھم والحذاقة والذكاء واالستعداد الفطري ما أذھل أستاذھا .وھكذا خالل الفترة المحددة ،بل خالل فترة أقل ،نجحت اليزا في االختبارات التي أجريت لھا ،وتحسّن نطقھا... ولسوف نرى أن النطق لم يكن وحده ما تحسّن لديھا .ولقد تجلى ذلك كله خالل حفلة صاخبة أقيمت في حديقة منزل سفير من أصدقاء ھنري ھيغنز .فإلى تلك الحفلة اصطحب ھيغنز تلميذته النجيبة ليقدمھا إلى الحفل على أساس أنھا دوقة ،من دون أن يكشف سرّھا ألحد ...وبالفعل منذ لحظة وصولھا إلى القصر وھي في غاية األناقة واألبھة إضافة إلى جمالھا ،تتصرف اليزا مثل دوقة حقيقية ،نطقا ً ولكن فھما ً أيضا ً وأناقة :تبدو وسط ذھول ھيغنز والكولونيل صديقه ،وكأنھا طالعة من فورھا من أرقى العائالت والمدارس األرستقراطية .وإذ يروح األستاذ والكولونيل يھنئان نفسيھما بذلك االنتصار الكبير ،وبنجاح التلميذة وقدرتھا على إقناع الجميع بأنھا ليدي حقيقية ،تكون اليزا قد أضحت في عالم آخر تماماً ،فھي انتبھت فجأة إلى أن الرجلين ال يقيمان أي وزن لدورھا في النصر .حسناً ،قد ال تكون مھتمة كثيراً بموقف الكولونيل على رغم و ّده تجاھھا، لكن موقف ھنري ھيغنز يغيظھا إلى حد الحزن والدمار ...ذلك أن الرجل ،خالل أسابيع العمل معاً ،كان قد استھواھا إلى درجة أنھا وقعت في غرامه ،من دون أن يالحظ ھو شيئا ً ...وھا ھو اآلن يتجاھلھا تماما ً كامرأة من لحم ودم ،معتبراً إياھا مجرد مادة أجرى عليھا اختباراً ناجحا ً. صحيح أنھا كانت مادة طيعة بين يديه ،مثل المادة التي صنع منھا بيغماليون األصلي منحوتته، لكنھا في نھاية األمر ،كائن بشري ...تحب وتحزن .ھي تعرف تماما ً أنھا ليست مجرد دمية 41
مصنوعة .والحال أن ھذا كله تحسه اليزا اآلن ،بينما تجد أن ھنري ھيغنز يعيش خارجه تماماً، فھو المھووس دائما ً بعلمه وبانتصاره ،ما كان ليخطر في باله أن للمادة التي اشتغل عليھا ،أي حياة أو مشاعر خاصة .ما كان ليخطر في باله انه في الوقت الذي كان ينمي لديھا مقدرات لغوية واجتماعية ،كان يبعث في فؤادھا دفء الحب .واليزا إذ تيأس من قدرة ھيغنز على فھم ما بھا ،بعد انتصاره الكبير ،تلجأ إلى منزل والدته ،السيدة الليبرالية الواعية .وھذه إذ تؤنب ابنھا على التفاوت بين نجاحه العلمي وتفاھته اإلنسانية ،تدفعه إلى التفكير في األمر مليا ً ...ليدرك -فقط -أن اليزا باتت جزءاً أساسيا ً من حياته ،ولكن ليس على النحو الذي كانت تأمله اليزا .وھكذا ،حين يتوجه إليھا في صبيحة اليوم التالي«تائبا ً« »مستغفراً« ال يكون منه إال أن يعرض عليھا -وھو يعتقد أن ھذا قمة األريحية والحب من جانبه -أن تعود إلى منزله لتعيش معه ومع صديقه الكولونيل كثالثي عازب .وھنا يبلغ الغضب بالفتاة مبلغا ً كبيراً ،وال تشعر فقط أن ھيغنز يغدر بحبھا ،بل إنه يغدر بكرامتھا أيضاً ،وھكذا ترفض عرضه ،فھي ال تسعى إلى الحصول على صداقة أو حياة مترفة، بل إن ما يھمھا ھو الحنان ،يھمھا أن ينظر إليھا بحب ...لكنه ،ھو ،يرفض ھذا تماماً ،محاوالً إقناعھا بأن ھذا األمر يتعارض تمام التعارض مع طبيعته نفسھا .وإزاء ھذا كله لم يعد في وسع اليزا التي صارت اآلن أكثر ثقة بنفسھا وقدرة على مجابھة الحياة ،إال أن تخطو خارج حياة أستاذھا ،معلنة أمامه -وسط دھشته الحمقاء -بأنھا ستتزوج شابا ً صديقا ً له ھو فريدي كان يطاردھا منذ زمن بعيد .كما أنھا تعلن أمام ھيغنز أنھا ،من اآلن وصاعداً ،إذ لم تعد راغبة في العودة إلى بيع الزھور -طالما أن لھجتھا الجديدة ال تمكنھا من ھذا -ستصبح أستاذة صوتيات، مثل ھيغنز تماماً ،بل في التنافس معه. < إذاً ،ھذه المسرحية الطريفة والعميقة في اآلن معاً ،اعتبرت ،وال تزال ،واحدة من أفضل المسرحيات التي كتبھا جورج برنارد شو خالل تاريخه االبداعي الطويل ...إذ أن النقاد والمتفرجين وجدوا فيھا ،خارج إطار المسرح الذي طبعھا ،نزعة إنسانية عميقة ندر أن تجلت لدى كاتب على مثل ھذه البساطة :نزعة إنسانية تدفع المؤلف إلى التعبير عن تعاطفه التام مع المخلوق ولو ضد عملية الخلق نفسھا أو ضد الفنان المبدع .وكذلك وجدوا فيھا تبجيالً لقوة اللغة انطالقا ً من فكرة أن من يعلم امرأً كيف يتكلم ،يعلمه أيضا كيف يفكر وكيف يعي وكيف يستقل بفكره ونفسه، خارجا ً من بيولوجيته البحتة. < وجورج برنارد شو ) (١٩٥٠-١٨٥٦ھو بالطبع ،الكاتب المسرحي والمفكر اإلرلندي الذي مأل الدنيا وشغل الناس ،بكتاباته وحكاياته ومشاكساته ،خالل عقود طويلة من السنين ،وال يزال حاضراً اليوم بھذه األعمال ،ولكن أيضا ً بشخصيته بعد مضيّ أكثر من ستين عاما ً من رحيله .ومن أعمال شو الكبيرة كتب عن الرأسمالية واالشتراكية ،ومسرحيات مثل »كاترين العظمى« و »اندروكلس واألسد« و »الماجور بربارا« و »اإلنسان والسوبرمان« و »جزيرة جون بول األخرى« و »رجل األقدار« و »تلميذ الشيطان« وغيرھا 42
»ثالثية البحر« لكلود ديبوسي :روح الموسيقى في األزرق الكبير الجمعة ٧يونيو ٢٠١٣
بين عامي ١٩٠٣و ١٩٠٥وإذ بات في قمة نضجه وقد بدأ يعثر على ضروب إلھامه في النزعة االنطباعية ،بعدما كان نوع من الرومانطيقية ھيمن عليه حتى كتابته أوبرا »بلياس وميليزاند«، حاول كلود ديبوسي ان يكتب عمالً سيمفونيا ً يربط فيه بين نزعة ھيامه بالطبيعة والعقالنية الجديدة المرتبطة بوصول القرن العشرين -والتي كانت بدأت تشغل فكره حقا ً ...لكنه ابداً لم يتمكن منإنجاز ذلك العمل :بدأه ثالث مرات على األقل خالل تلك االعوام ،لكنه كان في كل مرة يتوقف ّ يخط الصفحات األولى للعمل المنشود .وھكذا ،عند نھاية تلك الحقبة ،بدالً من ويغير اتجاھه بعدما ان يجد نفسه وقد أنجز سيمفونية كبيرة كانت ھي تلك التي يحلم بھا ،وجد نفسه أمام ثالثة أعمال تمھيدية يحمل كل منھا -على طريقته -طابعا ً سيمفونيا ً أوّ لياً ،لكن ايا ً منھا ال يعطي المؤلف إمكان ان يواصله ليطلع منه بذلك العمل المتكامل .وھكذا ،إذ راح ديبوسي يتأمل تلك األعمال الثالثة، وجد في نھاية األمر ان في إمكانه ان يقدمھا معاً ،على شكل ثالثية ...وقدمھا ،بالفعل ،على ذلك النحو ،للمرة األولى في باريس ،عام ،١٩٠٥أي في العام نفسه الذي أنجز فيه القسم الثالث .وھو أعطى الثالثية عنوانا ً شامالً ھو »البحر« الذي باتت تحمله منذ ذلك الحين و ُتق ّدم به .أما الحقيقة فھي ان لكل واحد من أقسام الثالثية عنوانه وأجواءه الخاصة :القسم االول يحمل عنوان »من الفجر حتى الظھيرة فوق سطح البحر« ،فيما يحمل الثاني عنوان» :لعبة االمواج« والثالث »حوار الريح والبحر« .وال بد من االشارة ھنا الى انه يحدث كثيراً ،أن يقدم كل عمل من ھذه االعمال الثالثة بمفرده ،ولكن دائما ً مع االشارة الى انه يشكل جزءاً من الثالثية ،ما صاغ مع مرور الزمن الوحدة المطلقة ،بين اجزاء ھذه الثالثية ،وجعل ديبوسي يعتبر واحداً من كبار الموسيقيين الذين كتبوا للبحر وعبّروا عنه. < ومع ھذا ال بد من ان نشير ھنا الى ان ھذا الفنان ذا الخيال المبدع ،لم يكتب اي جملة موسيقية من جمل »البحر« وھو عند شاطئ بحر :كتب معظمھا في باريس نفسھا ،كما كتب بعض األلحان في قرى ومناطق جبلية وريفية ال عالقة لھا بالبحر على االطالق .وقال ديبوسي تعليقا ً على ھذا انه إذ َبعُد عن البحر جسدياً ،تمكن اكثر من االرتباط به ،روحيا ً وفي خياله ما مكنه من التعبير عنه في شكل أفضل .ونحن ،اذ نستمع الى كل لحن من ألحان ھذا العمل االنطباعي الكبير يمكننا ان نرى ان ديبوسي كان محقا ً قي ما قاله :لقد جاء التعبير عن البحر أعمق وأكثر شفافية ،بحيث 43
يدرك المرء ان الموسيقي حين راح يكتب ھذا العمل لم يكن يتأمل بحراً م َُح َّدداً يح ّد خياله به ،بل استعاد في ذھنه كل بحر وكل البحار ،وتجريدية المياه الممتدة الى ما ال نھاية. < إن أول ما يلفت النظر في كل اجزاء ھذا العمل ،ھو تلك العالقة التي ينم عن قيامھا بين المؤلف والطبيعة :فھي عالقة صاخبة مطلقة وذاتية ،تشبه الى حد بعيد عالقة اول الرسامين االنطباعيين )رينوار ومونيه( كما عالقة آخر رسامي ما بعد االنطباعية )فان غوغ وسيزان( بالطبيعة ،عالقة قائمة على اعادة اختراع ألوان الطبيعة والتوغل في تفاصيل روحھا وكأن الفنان أراد ان يقول انه، والطبيعة ،صارا شيئا ً واحداً .واألجمل من ھذا ان االنطباعات التي تتركھا الترجمة الموسيقية لھذه العالقة ،ال تشبه االنطباعات التي تتركھا االعمال الرومانطيقية »الطبيعية« .فھنا ال ينجرف المستمع في لحظات حزن او فرح ،أو لحظات حنان مألوفة )مثل تلك التي قد تنتجھا اعمال سابقة لديبوسي وعلى رأسھا »ليْليّتاه« .NOCTURNESإن ما يجد الفنان نفسه في خضمه اآلن -بحسب كبار دارسيه ومحللي أعماله -ھو عالم أوسع بكثير :عالم الروح وقد امتزجت بالطبيعة ،فعانقتھا واندمجت بھا ،بعيداً من مؤثرات العواطف الميلودرامية .وألن الروح ھي القطب الفاعل ھنا ،يكاد المستمع يحسّ معاناة تلك الروح وھي تندمج في الطبيعة ،ويكاد يحسّ في األلحان تعبير تلك الروح كما كل روح وثابة لكل فنان حقيقي -عن عدم رضاھا الدائم .فالروح ،عبر الموسيقى ھنا،تسعى في كل لحظة الى الوصول الى كمال واكتمال ال يمكنھا -تعريفا ً -ان تصل اليھما ابداً... لذلك تظل ھائمة وراءھما راكضة الى األمام ،خالقة عبر ھذا الھيام لحظاتھا الموسيقية التي ساع وراء سموھا ،غير مدرك لما يبحث عنه أصالً ،في سرعان ما يشعر المستمع انه مندمج فيھاٍ ، حركة صعود دائمة. < بالنسبة الى كلود ديبوسي ،يقوم األمر ھنا ،اذاً ،في ذلك المسعى وفي ذلك المسار نفسيھما ،مع العلم المسبق أن ليس ثمة إمكان للوصول الى أي نھاية مرسومة سلفا ً ...ومن ھنا ذلك الشعور الذي يخالج المرء في ان المھم ھو البنيان المرسوم والذي ھو بنيان يكاد يكون لولبيا ً ...ما يعني ان الموضوع المحدد -ذا البداية والوسط والنھاية -غائب ھنا تماماً ،كغيابه بالنسبة الى الطبيعة وغيابه بالنسبة الى تطلعات الروح .اما ما ھو حاضر فإنه المشاعر المتأرجحة وصورة الطبيعة في امتداد بحري ال نھائي .والحال ان يقينية ھذا االمتداد ،بالنسبة الى المؤلف ،ھي التي تعطيه حرية الكتابة الموسيقية التي توصل العمل بالنتيجة الى نوع من التحرر المطلق من القيود الھارمونية ،خالقة عفوية تضفي على بنيان العمل شبه اللولبي ،حرية ابداع استثنائية ،بخاصة ان ديبوسي ھنا ،اذ يجد ان في امكانه التمتع بھذه الحرية الى أقصى الحدود ،يغوص -في كل جزء من اجزاء »الثالثية« -في تعددية المواضيع ،وفي نسيج بوليفوني يبدو ھنا جديداً تماما ً عليه ،بل على الموسيقى الفرنسية عموماً ،ولسوف يبرز واضحا ً خالل العقد التالي من السنين في اعمال العديد من موسيقيي فيينا ،لكن ھذه حكاية اخرى.
44
< المھم ھنا ان كلود ديبوسي ،في ھذا العمل الساحر واأل ّخاذ ،عرف كيف يحرر موسيقاه تماما ً من كل ضغط ،او إرث مكبّل ،حتى من دون ان يطالب عمله نفسه بأن يكون ارثا ً ألي موسيقي يأتي من بعده ،ويحاول ان يسعى مسعاه ...فديبوسي كان في تلك المرحلة من حياته ومن مسار ابداعه، بدأ يؤمن بأن كل عمل فني حقيقي يجب ان يكون فريداً ،ال يشبه ما قبله ،وال يؤسس حتى لما بعده، وإال تحوّ ل الى عمل حرفي ...ومن ھنا كان ذلك االصرار لديه ،في ھذا العمل القصير زمنياً ،مع انه استغرقه ثالث سنوات حتى ينجز ،على تحويل الطابع االنطباعي للعمل ،والذي كان يخدم من قبل ذلك في عملية خلق أجواء غير محددة تغلف اللحن وتزينه ،بل حتى تعطيه طابعه المطلق في الزمان ،تحويله الى موضوع اساسي والى حامل يوفر للعمل الموسيقي ليونة تامة وحركة ديناميكية متواصلة أللحان تتقاطع مع بعضھا البعض وتتالى ،في شكل يخلق للمستمع عالما ً يغرق فيه تماماً ،حتى من دون ان يبارح عقالنيته ولو للحظة... < كلود ديبوسي ) (١٩١٨-١٨٦٢حينما كتب »ثالثية البحر« كان على اي حال ،شغوفا ً بأعمال كل من فان غوغ وسيزان ،في مجال الفن التشكيلي ،وكانت تسحره تلك العالقة العقالنية التي قامت بين مشاھدي لوحات ھذين الفنانين واالعمال التي يشاھدونھا .وكان من الواضح انه انما شاء ان يوجد في الموسيقى معادالً لتلك االعمال ،إنما من دون ان يقطع مع نزعة انطباعية لحساب نزعة ما بعد االنطباعية ،ومن ھنا أتى ذلك العمل الغريب ،الذي قال البعض انه يمزج بين برليوز وآلبن برغ ،فيما قال آخرون انه عرف كيف يجمع بين رينوار وسيزان ،والمعنى واحد في الحالين .اما »ثالثية البحر« فإنھا ،على اي حال ،تشكل فقط جزءاً من انتاج ديبوسي الضخم، والذي يضم أعماالً ال تزال تعتبر في قمة الحداثة ،على رغم مرور اكثر من قرن على ابداعھا، مثل »علبة األلعاب« و »خمس قصائد من بودلير« و »باألبيض واألسود« و »االبن الضال« و »ليليات« و »مقدمة لبعد ظھر حيواني« و » ٣قصائد لستيفان ماالرمي« وغيرھا
»المفكر« لرودان :ذاك المنحني مف ّكراً عند أبواب الجحيم اإلثنين ٣يونيو ٢٠١٣
إذا استثنينا بعض التماثيل والمنحوتات الكبيرة العائدة إلى عنصر النھضة اإليطالي ،وإذا استثنينا كذلك تمثال الحرية الضخم الذي يطال الواصلين إلى مدينة نيويورك من أوروبا وغيرھا من ناحية البحر ،لكن قيمته ليست فنية أو تاريخية خالصة ،يمكننا أن نقول إن تمثال النحات الفرنسي رودان، المعروف بـ »المفكر« ھو األشھر واألكثر شعبية بين شتى التماثيل المنصوبة في أنحاء العالم... 45
وھو شھير إلى درجة أن من أوائل األسئلة التي تطرح على متحدث زار فرنسا ھي» :ھل شاھدت برج إيفل؟ ھل شاھدت قوس النصر؟ ھل شاھدت تمثال المفكر؟«. < والحال أن شھرة تمثال »المفكر« الفائقة جعلت الناس جميعا ً يتخيّلون أنه تمثال مستقل قائم في ذاته .ومن ھنا تكون مفاجأتھم كبيرة حين يخبرھم الزائر أن التمثال ال وجود مستقالً له :إنه جزء من ك ّل يفوقه حجما ً وأھمية .وإن لم يفقه شھرة بالطبع .ذلك أن تمثال رودان الشھير ھذا ،يشكل الجزء األساسي والمركزي في منحوتة ضخمة ومدھشة لرودان تحمل اسم »األبواب« .وھي منحوتة على شكل باب ضخم يبلغ ارتفاعھا أكثر من ستة أمتار وعرضھا نحو تسعة وعمقھا قرابة المتر. < أما الجزء األساس من المنحوتة الضخمة والذي عرف منذ زمن بعيد باسم »المفكر« فإنه تمثال يعلو المنحوتة ،شاغالً وسط جزئھا الفوقي وبالكاد يصل ارتفاعه إلى مترين .لكنه ،على أي حال، القطعة األبرز في العمل اإلجمالي. < أما »األبواب« المعنية ھنا والتي حمّل رودان اسمھا لمنحوتته ،فھي أبواب الجحيم ،التي صوّ رھا رودان في منحوتته استناداً إلى قراءته المعمقة للقسم المتعلق بالجحيم في »الكوميديا اإلنسانية« لدانتي ،ما يعني بالتالي أنه حين الحديث عن الفنانين من رسامين ونحاتين ،استوحوا منذ عصر النھضة وحتى أزماننا الحديثة مشاھد من سفر دانتي العظيم ،ال بد دائما ً من وضع رودان وعمله ھذا في الصف األول إلى جانب أعمال لدومييه وسلفادور دالي وغيرھما .ومن المعروف من الناحية التاريخية وباالستناد إلى شتى كتب السير التي وضعھا المؤرخون والنقاد عن رودان أنه ظل يعمل على ھذه المنحوتة طوال ما يقرب من أربعين عاما ً .بل إنه حينما وصل إلى نھاية أيامه وأحس بدنوّ أجله ،كان يھمه أن يقول إلى المحيطين به أنه ال يزال يشعر بأنه أبداً لم ينجز ذلك العمل ،وال يزال لديه ما يريد بعد أن يضيف .والحال أن »األبواب« ھو من تلك األعمال التي يمكن لصاحبھا أن يعلن أنھا منجزة في أي لحظة ،كما يمكنه أن يعلن أنه عمل ال يمكن أن ينجز أبداً .ومع ھذا يمكننا أن نراه اليوم منتصباً ،داالً على عبقرية رودان وجھده الفني... ولكن أيضاً ،وربما قبل ذلك وأھ ّم من ذلك ،على نظرته المتشائمة والسوداوية إلى الشرط اإلنساني. إذ ،إن كان لنا أن ننظر إلى تمثال »المفكر« وأن نتأمله بشكل عميق وبشيء من اإلعجاب والحيادية ،إذا أخذناه بمفرده ،فإن علينا ،في المقابل ،حينما نأخذه في إجمالية العمل ،أن نجده معبراً عن وجھة نظر ما ،بل وجھة نظر شديدة القسوة والتشاؤم في مجال تعبيره الذي ال يخفى عن المصير والشرط اإلنسانيين .ومن ھنا يمكن القول في نھاية األمر ،أمام مثل ھذا العمل ،ككل ،أنه ال بد أن يت ّم التعامل معه على أنه وصية لرودان تعكس لنا إيمانه بأن الجحيم ليس بؤرة يتعذب فيھا األموات فقط ،بل إنه يشكل عذابا ً لألحياء أيضا ً :الجحيم ھو ملكوت اآلمال الخائبة والمساعي الجوفاء واألحالم واألھواء التي ال يمكن لھا أبداً أن تتحقق .ومن ھنا يبدو العمل صورة لخيبة اإلنسان ودماره النھائي. 46
< والالفت حقا ً ھو أن رودان استطاع أن ينقل ھذه الرؤية إلى عمل لم يكن ذاتيا ً في األصل. فالعمل كان رودان قد أُوصي على صنعه في ١٨٨٠ليشكل مدخالً لمشروع إقامة متحف لفنون الديكور .ولما كان رودان خالل تلك الفترة من حياته منكبا ً حقا ً على قراءة كتاب »الكوميديا اإللھية« لدانتي غائصا ً في حال تتراوح بين معاناة شخصية وجودية ،وإحساس بالتشاؤم إزاء المصير اإلنساني ،قرر أن يجعل من ذلك العمل الموصى عليه ،صورة النشغاالته الفكرية والوجودية في ذلك الحين .وھكذا بدأ عمله من دون أن يشعر ،في لحظة من اللحظات ،أن عليه أن يتممه. < ومن ھنا شغل ھذا العمل النصف األخير من حياة رودان بأسرھا .وال بد من أن نذكر ھنا بأن النصب البرونزي القائم حاليا ً انطالقا ً من عمل رودان ومنحوتاته المتتالية ،لم يصبّ إال بعد رحيله ،بمعنى أن رودان لم يتمكن أبداً من مشاھدة ھذا العمل كما يمكن لنا نحن اليوم أن نشاھده. فھو في األصل راح يشتغل على المنحوتات قطعة قطعة ،يشكلھا ويرتبھا ويعيد ترتيبھا في ما بينھا ،مثل موسيقي يشتغل على جمله الموسيقية منقالً إياھا بين الحركة واألخرى تبعا ً للمعنى الذي يتوخاه ...بل ال بد من أن نذكر ھنا أن عدداً من تلك المنحوتات الصغيرة التي أدمجھا في العمل ككل ،سيعود خالل فترات الحقة من حياته وعمله إلى استخدامھا كأساس لمنحوتات أخرى مستقلة له .غير أن ھذا ال يعني أبداً أن الترتيب الذي توخاه للشخوص في إطار العمل ككل ،كان عشوائيا ً ...بل أنه كان مخططا ً سلفاً ،لكن إعادة الترتيب كانت أمراً اقتضاه مزاج رودان المتقلب خالل العقود التالية من حياته ،علما ً بأن الفترة الزمنية الطويلة التي اشتغل رودان خاللھا على المنحوتة ككل كانت من أقسى فترات حياته ...وبشكل أكثر تحديداً حياته العائلية التي من الصعب إيجاد حياة لنحات آخر في زمنه تشبھھا .ومن المنطقي أن ھذا األمر ھو الذي جعل الكتاب والسينمائيين يقدمون في أعمالھم درامات شديدة القسوة مستقاة من حياة الرجل بما في ذلك عالقته بكاميل كلوديل ،الفنانة وأخت الشاعر والكاتب بول كلوديل العالقة التي دمّرته ودم ّرت كاميل نفسھا. < أما بالنسبة إلى المنحوتة نفسھا فإنھا تبدو لنا وكأنھا مقسومة قسمين ،من ناحية معناھا :فھناك الشخوص التي تعاني من جحيمھا ،من دون أن نعرف حقا ً ما إذا كان جحيما ً بعد الموت أو قبله، وھناك ذلك الشخص المركزي »المفكر« الذي يبدو في جلسته ،أكثر حياة وحضوراً ،ويبدو كما لو أنه يتأمل في المشھد ليحكم عليه وعلى مآل اإلنسان في شكل عام. < والحقيقة ھي أن »المفكر« نفسه لطالما كان لغزاً شغل المحللين والمؤرخين :فمن ھو؟ وماذا يفعل ھنا؟ لقد خلص ھؤالء إلى أنه كان على األرجح رودان نفسه ،إذ صوّ ر الفنان عبر شخصيته، قدرة اإلنسان على مجابھة جحيمه بفعل استخدامه عقله وملكة اإلبداع لديه بصفتھما آخر سالح يمكنه أن يقاوم ليحتفظ بإنسانيته وسط عالم -وجحيم -ال يكف عن انتزاع إنسانيته منه .فـ »المفكر« ھنا يبدو في تأمله وكأن ھمه الوحيد أن يحكم على نفسه وعلى إخوانه في اإلنسانية. 47
والمدھش ھنا ھو أن رودان صوّ ر ،عبر فعل التفكير وحده ،قدرة ھذا الفعل على تحريك جسد »المفكر« وجعله مملوءاً بالقوة والحيوية والوجود ،ولكأنه في ھذا يترجم بصريا ً مقولة ديكارت الشھيرة »أنا أفكر إذاً أنا موجود«. < أوغوست رودان ) (١٩١٧-١٨٤٠ھو أشھر المبدعين في فن النحت الفرنسي ،ومن أشھر النحاتين في تاريخ ھذا الفن في العالم ،ولد وعاش في باريس وانتمى منذ سن الرابعة عشرة إلى مدرسة الفنون التزيينية في العاصمة الفرنسية .انصرف إلى الرسم والنحت باكراً .عاش حياة مضطربة وقلقة ،وتوّ ج قلقه فيھا عالقته مع زميلته كاميل كلوديل )وھي عالقة عبر عنھا في شكل رائع فيلم فرنسي مثله جيرار ديبارديو وايزابيل أدجاني( .ولقد اشتھرت لرودان تماثيل عدة، أبرزھا ،طبعا ً »المفكر« و »األبواب« في شكل عام .وھناك أيضا ً تمثال »القبلة« وتمثال »فيكتور ھوغو« و »بلزاك« إضافة إلى الكثير من المنحوتات الدينية
دنيوي باإلنسان والطبيعة »الفصول األربعة« لفيفالدي :احتفال ّ السبت ١يونيو ٢٠١٣
حتى زمن فيفالدي ،كانت الكنيسة الكاثوليكية ،ال تزال مسيطرة تماما ً على التأليف الموسيقي. وحتى وإن كان ثمة بين الحين واآلخر موسيقيون يجربون حظھم في التأليف الدنيوي ،سواء أكان ذلك ألسباب جمالية أم ألسباب مزاجية ،أم أحيانا ً ألسباب أيديولوجية تتعلق بالرغبة في المشاكسة على رغبات الكنيسة وإمالءاتھا ،فإن ھؤالء كانوا سرعان ما يرعوون ويعودون الى احضان الكنيسة مستغفرين تائبين .وھذا الكالم ينطبق خصوصا ً على ما كان يحدث في ھذا المجال في ايطاليا ما بعد عصر النھضة ،حيث ان دراسة تاريخية مقارنة ستقول لنا بسرعة كيف ان الموسيقى تأخرت عن فن الرسم في التركيز على الطابع اإلنساني لعملية اإلبداع الفني .وليس ھذا باألمر الغريب طالما ان الموسيقى كان ال يمكن االستماع اليھا في شكل عام ،إال في واحد من مكانين :الكنيسة أو قصور علية القوم .طبعا ً كانت للشعب ،في الحانات والبيوت واألعياد، موسيقاه ،لكنھا كانت »موسيقى متدنية« بالكاد يمكن اطالق اسم على مؤلف لھا ،فھي لم تكن أكثر 48
من »موسيقى الحثالة« وأنغام السكارى وفق مؤرخي تلك العصور ،أي قبل زمن بعيد من الوقت المتأخر الذي راح يعاد فيه اكتشاف بعض روائع تلك الموسيقى ويعاد اليھا االعتبار ،غير ان تلك حكاية أخرى ليست ھي موضوعنا ھنا .موضوعنا ھنا يتعلق بالموسيقى األخرى التي لم تكن دينية تماما ً وال شعبية بالمعني الذي نقصده ھنا .في زمن فيفالدي وما قبله ،إذاً ،كان المصدر الذي يحدد للموسيقى دورھا ويصدر عليھا حكمه ھو الكنيسة .وكان أي خروج على النظرة التي تفرضھا الكنيسة وتنظر بھا الى الفن تبعا ً لما كان يعتبر قوانينھا الصارمة يعتبر تجديفا ً .وھكذا ،حين اتجه فيفالدي ،الى كتابة موسيقى غير كنسية ،موسيقى تمجّد اإلنسان والطبيعة من خالل نظرة اإلنسان اليھا ،كان من الطبيعي ان تضطھده الكنيسة ،لكن الالفت في ھذا ھو ان الكنيسة في ذلك الحين ،لم تكن من القوة المطلقة الى درجة ان تعلن مباشرة عداءھا لفيفالدي بسبب موسيقاه ،وإنما الت ّفت على األمر محاكمة الرجل تحت ذريعة تتعلق بعالقته مع مغنية فرنسية األصل كان يحضنھا ،كما يقول. وال بد من ان نشير ھنا في ھذا السياق الى ان الغضب على فيفالدي كان مزدوجاً ،ذلك أن »الفاسق« كان في الوقت نفسه راھباً ،كما كان موظفا ً في ملجأ الرحمة الذي يديره باسم الكنيسة ويستقبل فيه فقراء المدينة محاوالً في الوقت نفسه ان يعلم اطفالھم الموسيقى ،والموسيقى الدينية بالتالي على وجه الخصوص. < لكن فيفالدي كان راھبا ً غريب األطوار ،حتى في شكله ،إذ كان شعره أصھب اللون ما جعله يعرف على الدوام بـ »الراھب األصھب« .غير ان ذلك كان أقل عالمات غرابته ،ھو الذي ما إن انتصف به العمر ،حتى خاض )ضاربا ً موقف رؤسائه في الكنيسة منه ،عرض الحائط( الموسيقى الميلودرامية وراح يكتب موسيقى ألوبرات تاريخية معظمھا كان يعتبر مارقا ً من جانب الكنيسة، مثل »األولمبياد« و »تيمورلنك« و »أورالندو فوريوزو« .لكن ھذا التأليف الذي سيعتبر دنيويا ً كله إنما كان بعد زمن من بداية غضب الكنيسة عليه .أما البداية فكانت مع »ثورته« الجمالية والفكرية التي أطلقھا في أعماله الموسيقية ،حتى حين كان يكتب موسيقى ال تزال توصف حتى اليوم بأنھا ذات نفس إلھي .وحسبنا اليوم ان نصغي بدقة الى أشھر أعماله ،وربما الى األشھر قاطبة بين الكونشيرتات في تاريخ الموسيقى ونعني بھذا بالطبع ،كونشرتو »الفصول األربعة«، حتى ندرك من فورنا مدى ما باتت موسيقى ھذا الفن تحمله من »تجديف« وخروج عن القوانين والتعاليم الموسيقية للكنيسة. < مھما يكن من أمر ھنا ،سنتوقف عند »الفصول األربعة« الذي سوف يقول عنه الموسيقي الروسي ايغور سترافنسكي في القرن العشرين» :انني اعتقد جازما ً بأنھم قد بالغوا كثيراً في تقدير فيفالدي ،فھو ليس اكثر من انسان ممل كتب كونشرتو واحداً ،ثم أعاد تأليفه ستمئة مرة على التوالي« .والحقيقة أن الحقيقة الوحيدة التي يمكن ان تستشف من ھذا الكالم الذي يلوح تھافته وتحديداً من خالل اضفاء ھذه المكانة بشكل مغرض على »الفصول األربعة« ،ھي الكم الھائل من األعمال الموسيقية التي وضعھا فيفالدي طوال حياته ،وھي أعمال ال تزال ُتكتشف ،بدھشة كبيرة، حتى اليوم .غير ان »الفصول األربعة« ،ھذا الكونشرتو الرباعي األجزاء ،يبقى األشھر ،وليس 49
فقط ألن فيفالدي طبّق فيه ابتكاراً عاما ً وھائالً في عالم كتابة الكونشرتو :فھو تخلى عن البداية البطيئة الحركة التي كانت تميز دائما ً الحركة األولى في أي كونشرتو )غروسو ،خصوصا ً( يكتب من قبل .ھنا ،وفي األجزاء األربعة )»الربيع« و »الصيف« و »الخريف« و »الشتاء«( التي يتألف منھا ھذا العمل الذي يستغرق عزفه قرابة األربعين دقيقة ،أبدل فيفالدي النسق ،فصار كل كونشرتو يبدأ بـ »اليغرو« وينتھي بـ »اليغرو« آخر ،وفي الوسط الثالثي يضع إما »اداجيو« وإما »الرغو« وفق الموضوع .وھذا النسق ھو الذي اتبعه دائما ً ذلك المؤلف الذي كان لوالدته في البندقية وعيشه الى جوار بحرھا المتموج الصاخب باستمرار ،أثر كبير في اھتماماته باإليقاع ما جعله يتعلم باكراً ،وكما يقول الروائي والناقد الموسيقي البرتو سافينيو ،ان ينقل حركة البحر. ويقينا ً ان ھذه الحركة المتوالية المتموجة ھي ما يميز ،ليس فقط كونشرتات فيفالدي بل أيضا ً كونشرتات كوريللي ،ومعظم أعمال سكارالتي .إذاً ،من روح الطبيعة وحركتھا استقى فيفالدي إلھامه األول .وھو في ھذا ذھب الى الحدود القصوى لما كان يمكن التھاون معه في أيامه. < ان فيفالدي الذي قيل عنه دائما ً انه كان يأنف اللجوء الى الينابيع االرستقراطية ،بل الميتافيزيقيا، لإللھام الفني ،وعرف دائما ً كيف ينھل من الحياة ،جعل من »الفصول األربعة« نشيداً لھذه الحياة، وللبشر أصحاب الحياة أنفسھم .ھنا كل واحد من الكونشرتات األربعة التي يتألف منھا العمل يحمل اسم فصل من فصول السنة ويؤدى من مجموع يتكون من كمان رئيسية )سوليست( وكمانات أولى وثانية ،اضافة الى تشيلوات وكونترباص ،مع باص متواصل يؤدى على األرغن أو الكالفيسان. والمجابھة تكون ھنا دائما ً بين الكمانات األولى والثانية التي بين حركة وأخرى تروح منفصلة عن الكمان الرئيسية ،لتعود وتلتقي بھا ،في حركة تعطي ما يشبه نبض الحياة .ودائما ً تبعا ً للمخطط الرئيسي التقريبي »اليغرو -اداجيو – اليغرو« .وفي كل مقطع حاول فيفالدي بنجاح ان يقلد مزاج الفصل الذي يتحدث عنه ،جاعالً الموسيقى تعكس حركة المياه والريح ،حفيف االشجار وزقزقة العصافير ،ثم خصوصا ً مشاعر االنسان الذي ھو المعني األول في ھذا كله ،من فرح الناس بقدوم الربيع ،الى رعب الراعي أمام مقدم العاصفة ،الى انزواء القرويين في بيوتھم في مواسم البرد واألمطار .لكل شعور من ھذه المشاعر حرك فيفالدي آالته ،وجعل كمان »السوليست دائم التأھب للتعبير المنفرد ،الذي يقول :ھنا بزغت الشمس ،ھنا اكفھرت السماء ،ھنا خرج الفالحون ،ھنا انزوى الرعاة ...الخ .ويقينا ً ان ما من عمل في تاريخ الموسيقى عبر ،أكثر من »الفصول األربعة« عن عالقة اإلنسان العضوية بالطبيعة وتقلباتھا. < ولد انطونيو فيفالدي في العام ١٦٧٥على األرجح ،ومات في العام .١٧٢٥بدأ حياته خادما ً في الكنيسة والتحق بسلك الكھنوت في العام .١٦٩٣وبعد ان رُسم قسيساً ،أُلحق كمعلم فيوال في ملجأ الرحمة ،وبعد ذلك بعشرة أعوام بارح الملجأ ،من دون أن يتخلى عن مرتبه فيه ،واھتم بإدارة مسرح قدمت عليه أوبراته ،ولم يعرف بسلوكه الحسن في تلك اآلونة .وھو في ذلك العمل ،ثم عبر االلتحاق بقصور األمراء ،حقق ثروة كبيرة ،وتنقل كثيراً وكتب مئات القطع الموسيقية وعشرات 50
األوبرات .لكنه حين مات في فيينا ،حيث أمضى سنواته األخيرة ،قضى معدما ً ودفن في مقابر الفقراء.
»الشاھنامه« ألبي القاسم الفردوسي :أبعد من تاريخ الملوك والدول الجمعة ٣١مايو ٢٠١٣
ُترى ،حين فرغ الشاعر والكاتب الفارسي الكبير أبو القاسم الفردوسي من كتابة سِ ْفره الكبير »الشاھنامه« )أو »كتاب الملوك« كما يُعرف عادة في اللغة العربية ،التي احتضنته باكراً كما يبدو( أوائ َل العام الميالدي ) ١٠١٠الھجري ،(٤٠٠ھل كان يرى في شكل تلقائي أنه أنجز مھمة أساسية بالنسبة إليه ،تقوم على كتابة تاريخ ملوك األمة الفارسية منذ فجر التاريخ حتى الفتح العربي لفارس؟ بكلمات أخرى :ھل كانت غاية شاعر الفرس األكبر أن يضع كتابا ً يسلسل فيه الملوك واألباطرة الذين تعاقبوا على وطنه؟ ظاھريا ً قد يكون الجواب :نعم ،فالكتاب كما وصل إلينا ،وإلى غيرنا في نھاية األمر ،ھو في شكل أساسي وواضح وفي نھاية أمره ،كتاب عن الملوك ،حياتھم ،مآثرھم ،وسنوات ملكھم ...غير أن نظرة معمقة إلى الطريقة التي يسرد بھا الفردوسي ملحمته األساسية ھذه –ولنعط أنفسنا الحق ھنا في أن نصف الكتاب بأنه كتاب ملحمي، وبالتالي اعتباره ملحمة اللغة الفارسية الكبرى ،تماما ً كما كانت »غلغامش« ملحمة السومريين و »اإللياذة« و »األوديسة« ملحمتي اليونانيين ...وما إلى ذلك.- < نحن نعرف اليوم ،ومنذ زمن بعيد ،أن ملحمة الشاھنامه ھذه تعتبر أعظم كتاب وضع في الفارسية ،أما القراءة المعمقة لصفحات الكتاب ،فسوف تقول لنا إن الھدف منه لم يكن في أي حال من األحوال كتاب َة تاريخ ملوك وحسب ،بل بعْ ث نھض ِة أم ٍة من رما ِد ما كانت قد آلت اليه من ھبوط واندحار بعد ذلك المجد الطويل الذي عاشته منذ أزمان موغلة عمقا ً في التاريخ وحتى مجيء الفتح العربي ،الذي أزال اإلمبراطورية ومجدھا من الوجود ،ونتحدث ھنا طبعا ً عن األمة الفارسية .ومن ھنا ،لن يكون من قبيل الصدفة أن يكون الفردوسي وضع كتابه الضخم والفريد من نوعه في تاريخ األمم وھو يستظل -وفق المعلومات التاريخية -تلك الرغبة التي أبداھا َ ذات حقبة من الزمن الخليف ُة العباسي المأمون ،وھي على األرجح رغبة سعى اليھا المأمون قبل مولد شعور عظم ٍة لدى أمة رأى المأمون الفردوسي بمسافة زمنية ال بأس فيھا ،وكانت تقوم على خلق ِ أنھا يمكن أن تكون رديفة ألمته وأرضا ً خصبة إلسالم متطور وشامل ،ولعل المأمون كان في تلك الساعة يستعيد في ذھنه فكر ًة كان من خير المعبرين عنھا الشاعر العربي من اصل فارسي مھيار الديلمي ،الذي يقول في قصيدة له عرفت بعنوان »أعجبت بي« منذ غ ّنى محمد عبدالوھاب بعض أبياتھا: 51
قد قبست المجد عن خير أب وقبست الدين عن خير نبي وبلغت المجد من أطرافه سؤدد الفرس ودين العرب < فالحال أن المأمون كان في ھذا السياق يحلم بأمة مجيدة تجمع الفرس والعرب تحت مظلة دين واحد وإمبراطورية فسيحة موحّدة .ولما كان َيعرف أن الوحدة الحقيقية ال يمكن ان تقوم بين غالب ومغلوب ،أو بين شعبين متعاديينَ ،ف ِھ َم أن عليه ان يخفف عن الفرس ،أقربائه من ناحية أمه، شعورھم بالغبن وبأن العرب إنما ھم محتلون لديارھم ،ومن ھنا كانت الفكرة األساسية ،وربما َ الخفية ،التي كمنت وراء تلك الرغبة الخليفية في تأليف كتاب »الشاھنامه« في المجد ً اإلمبراطوري الفارسي ،ناھيك بأن ثمة في األمر أيضا ً غاية أخرى أكثر وضوحا ً يصح التوقف عندھا في ھذا السياق ،وتكمن في أن رغبة المأمون من وضع ھذا النص التاريخي كانت في الوقت نفسه أن يضع تاريخ األمة الفارسية ومجدھا في مجابھة مع األمة الطورانية ،التي كانت بدأت تشرئب بعنقھا ،وكانت المسألة من ھذه الناحية إذاً ،مسأل َة وضع الفرس في مقابل الترك ،وكان المعني بھا الشعب الفارسي ،الطرف الذي تتوجّه اليه الرسالة ،والذي أراد الفردوسي أن يعكس إيغاله في التاريخ ،من خالل مآثر قادته ،وبالتالي وضعه على تقارب مع سلطات عربية من الواضح أن الفردوسي راح يخدمھا من خالل عمل يؤدي إلى التقارب بين الفرس والعرب ،على الضد من تلك الھيمنة التركية ،التي كانت تتغلغل أكثر وأكثر في مفاصل الدولة ،مزيحة في طريقھا كل ما كانت العناصر الفارسية تحققه من مكاسب .وطبعا ً قد يكون من المغاالة ھنا الزعم بأن كتابا ً واحداً كان كفيالً بتحقيق ذلك ،ولكن من المؤكد أن مساھمته في األمر وفي ذلك الصراع التالعبي ،كان حقيقيا ً. < وانطالقا ً من ھذا كله ،بإمكاننا أن نخلص ھنا في ھذا التحليل الجيوستراتيجي ،الذي قد يبدو في بعض األحيان معقداً ،وفائضا ً عن حجم الدور الذي يمكن الفكر أن يلعبه ،إلى أن تلك اإلرادة قد أنتجت في نھاية األمر ملحمة استثنائية من الصعب اليوم على أحد أن يقرأھا من ألفھا إلى يائھا ،إذ تتألف من ٥٥ألف مقطع وتنقسم إلى كتب كثيرة ،ولكن يمكن أن يختار أي فصل من فصولھا ليقرأه كحكاية متصلة-منفصلة ،وكفنٍّ خالص .األھم من ھذا كله ،أن كتاب الفردوسي خلق يومھا واحداً من األعمال األولى في لغ ٍة )الفارسية( كانت بدأت تنبعث في ذلك الحين ،أيام السلطان محمود الغزنوي ،الذي من الواضح أن الفردوسي كتب ملحمته تحت رعايته ،وربما لكي يذكره بما كان عليه أسالفه. < من ھنا ،لم يكن غريبا ً لكتاب الملوك ھذا أن يتحدث عن تاريخ ھؤالء ،ولكن ضمن إطار تاريخ البشرية كالً :إذ ھل يمكن كتابا ً يتحدث عن خمسين ملكا ً تتابعوا منذ فجر تاريخ فارس حتى زمن 52
الفتح العربي ،أال ّ يكون كتابا ً عن اإلنسانية وحضارتھا؟ لم تكن صدفة أن تأتي أوصاف الفردوسي للملوك وبطوالتھم لتركز على الطابع اإلنساني لكل منھم ،وھنا لم نعد أمام ما يشبه مالحم اليونانيين ،التي تجعل الملوك واألبطال أنصاف آلھة وأھل خوارق ،بل نجدنا في مواجھة أبطال من لحم ودم ،تم ّر عليھم لحظات في غاية الصعوبة ،تكشف ضعفھم اإلنساني وكم يتحولون إلى بشر ضعفاء حين يكون عليھم أن يتخذوا قرارات دقيقة ليسوا واثقين من صحتھا أو من صحة النھاية التي ستؤدي إليھا. < وھنا ال بد من أن نشير إلى أن الفردوسي لم يخترع ذلك التاريخ ،بل استخدم التاريخ الحقيقي الممتد من »بداية التاريخ القومي« ،أي من عصر أبطال أسطوريين ،مثل جمشيد وفريدون وسام وزان ورستم ...وغيرھم ،وصوالً الى الملوك الساسانيين ،مروراً بتاريخ اإلسكندر )المقدوني(، الذي غزا فارس ذات يوم .ھذا التاريخ استخدمه الفردوسي ورواه بتفاصيله )المملة أحيانا ً( ،في لغة أنيقة يمكن أن يقال عنھا اليوم إنھا كانت لغة مؤسِّسة ،من تلك التي تولد وتنمو في لحظات انعطافية من حياة الشعوب. < والحال أن العالم ،الذي نقلت »الشاھنامه« إلى العديد من لغاته ،نظر إليھا دائما ً باعتبارھا واحداً من األعمال األساسية التي أنتجتھا العبقرية الشرقية ،لكنه نظر إليھا في الوقت نفسه بوصفھا رؤية شاعر مسلم من شعراء العصر العباسي إلى تاريخ أمته األصلية ،من دون أن تكون لديه أي رغبة في إقامة أي مجابھة بين األمة التي ينتمي إليھا جذوراً واألمة اإلسالمية التي ينتمي إليھا حضارة ودينا ً. < الفردوسي حين نظم »الشاھنامه« كان في األربعين من عمره ،غير أنه حين أنجز العمل بدأ يشكو من جحود الناس ،الذين لم يقابلوا جھده بما يستحقه .ومع ھذا ،ما إن مرت السنوات واألجيال ،حتى صارت »الشاھنامه« كتاب الفرس القومي ،وأحد الكتب األساسية المنتمية إلى مزيج من الحضارتين العربية والفارسية ،وراح رسامو المنمنمات يتفننون في تصويرھا ،وھي حين وصلت إلى ثقافة العالم وصارت جزءاً من ثقافة اإلنسان عن طريق ترجمتھا إلى شتى اللغات واالحتفال بھا ،اع ُتبرت عمالً كبيراً يضاھي المالحم اإلغريقية والھندية ،وعمالً ميزته أنه يعطي اإلنسان مكانا ً مميزاً.
53
من اصدارات الكاتب : يوسف شاھين :نظرة الطفل وقبضة المتمرد إبراھيم العريس by published 2009
لغة الذات و الحداثة الدائمة إبراھيم العريس by published 2006
توماس ,ابراھيم الخليل التسامح بين الشرق والغرب :دراسات في التعايش والقبول باآلخر بالدوين )ترجمة( إبراھيم العريس by published 1992
حوارات النھضة الثانية إبراھيم العريس by published 2011
وجوه من زمن النھضة إبراھيم العريس by published 2011
سينما اإلنسان إبراھيم العريس by 0.00 avg rating — 0 ratings — published 2003
0.0 of 5 s tars
السينما التاريخ والعالم إبراھيم العريس by 0.00 avg rating — 0 ratings — published 2008
0.0 of 5 s tars
علم جمال السّينما )ترجمة( إبراھيم العريس by Henri Agel, 0.00 avg rating — 0 ratings — published 2005
0.0 of 5 s tars
ترقبوا اصداراتنا الجديدة ..سوف نعلن عنھا على صفحة االعالم الجديد
h ps://www.facebook.com/groups/344581335642063/
54