كتاب مقالات مختارة ابراهيم العريس الاعلام الجديد

Page 1

‫اإلعالم الجديد ‪ ...‬كتاب الشھر ‪ ..‬يوليو‬ ‫‪٢٠١٣‬‬ ‫مقاالت مختارة للكاتب ابراھيم العريس‬ ‫تسعى مجموعة االعالم الجديد ‪ ..‬الى اصدار كتب وكتيبات وملفات‬ ‫الكترونية للقراءة مجانا ‪ ..‬ليس بھدف الربح ‪ ..‬وانما لنشر الوعي والمعرفة‬ ‫‪ ..‬وتعريف القاريء على افضل ما يبدعه العقل العربي في مختلف الميادين‬ ‫االدارة‪..‬‬ ‫يوليو ‪٢٠١٣‬‬


‫مقاالت مختارة للكاتب ابراھيم العريس‬

‫اﻻﻋﻼم اﻟﺠﺪﻳﺪ ‪ ...‬ﻛﺘﺎب اﻟﺸﻬﺮ‬ ‫تسعى مجموعة االعالم الجديد ‪ ..‬الى اصدار كتب وكتيبات وملفات الكترونية للقراءة مجانا ‪ ..‬ليس بھدف الربح ‪ ..‬وانما لنشر‬ ‫الوعي والمعرفة ‪ ..‬وتعريف القاريء على افضل ما يبدعه العقل العربي في مختلف الميادين‬

‫‪2‬‬


‫ابراھيم العريس )‪(١‬‬ ‫مجموعة مختارة من مقاالت االستاذ ابراھيم العريس ‪.‬‬ ‫إبراھيم العريس‪ :‬باحث في التاريخ الثقافي وصحافي وناقد سينمائي‬ ‫ومترجم ولد في بيروت ‪ ،١٩٤٦‬درس اإلخراج السينمائي في روما‬ ‫والسيناريو والنقد في لندن‪ .‬يعمل بالصحافة منذ عام ‪ .١٩٧٠‬يرأس حاليًا‬ ‫القسم السينمائي في جريدة »الحياة« كما يكتب فيھا زاوية يومية حول‬ ‫التراث اإلنساني وتاريخ الثقافة العالمية‪ .‬ترجم نحو أربعين كتابًا عن‬ ‫الفرنسية واإلنجليزية واإليطالية في السينما والفلسفة واالقتصاد والنقد‬ ‫والتاريخ‪ ،‬من أھم مؤلفاته‪ :‬رحلة في السينما العربية‪ ،‬مارتن سكورسيزي‪:‬‬ ‫سيرة سينمائية‬

‫محتويات الكتاب ‪:‬‬ ‫»تقسيم العالم« لماركو بولو‪ :‬الشرق يوقظ مخيّلة أوروبا‬ ‫»قطار اسطنبول« لغراھام غرين‪ :‬صورة لمجابھات الحياة نفسھا‬ ‫»يوجين أونيغن« لبوشكين‪ :‬الروح العميقة للشعب الروسي‬ ‫»علم األحالم« لفرويد‪ :‬إنھا رغبات النھار ومخاوف العيش‬ ‫»نزوة بونابرت« لتزفايغ‪ :‬استبداد الحاكم ومھنة معاونيه‬ ‫»رحلة إلى الشرق« لدي نرفال‪ :‬االستشراق بال أفكار مسبقة‬ ‫»البرج الزھر« لدي كيريكو‪ :‬ظالل مرعبة وفراغ رھيب‬ ‫»مقالة عن العصيان المدني« لھنري ثورو‪ :‬العدل قبل القانون أحيانا ً‬ ‫»كينغ كونغ« لشودساك وكوبر‪ :‬من ھو الوحش الحقيقي؟‬ ‫»تأمالت حول الثورة الفرنسية« لمدام دي ستايل‪ :‬امرأة تبحث عن دور‪.‬‬

‫»الشاھنامه« ألبي القاسم الفردوسي‪ :‬أبعد من تاريخ الملوك والدول‬ ‫ومقاالت اخرى‬

‫‪3‬‬


‫تقسيم العالم« لماركو بولو‪ :‬الشرق يوقظ مخ ّيلة أوروبا‬ ‫اإلثنين ‪ ١٥‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫إذا كانت الدراسات »المعمقة« الحديثة قد نحت إلى إثبات أن ماركو بولو لم يكن صادقا ً في معظم‬ ‫ما ورد في كتابه األشھر »تقسيم العالم«‪ ،‬فإن ما ال بد من التوقف عنده ھنا‪ ،‬أنه على رغم شھرة‬ ‫الكتاب منذ اللحظة التي نشر فيھا وعرف على نطاق واسع‪ ،‬وحتى قبل أن يترجم خالل القرون‬ ‫التالية إلى معظم لغات العالم‪ ،‬كان ھناك من نظر إليه على انه ال يحمل سوى مجموعة من‬ ‫األكاذيب‪ ،‬وان نصه الرئيس لم يكن أكثر من وليد خيال أسير واسع األفق جلس ذات يوم في سجنه‬ ‫ليروي أموراً سمع عنھا وأحداثا ً عاشھا آخرون مدعيا ً أنه عاشھا وخبرھا ھو شخصيا ً‪ .‬كان كثر‬ ‫في البداية ومن معاصري ماركو بولو‪ ،‬يرون ھذا الرأي‪ :‬بين من ينحون إلى بأن الرجل لم يقم بكل‬ ‫تلك الرحالت كما قال‪ ،‬وآخر يرى استحالة أن يكون شخص واحد قد عاش حقا ً تلك »التجارب«‬ ‫التي يتحدث عنھا الكاتب في مئات الصفحات‪ ،‬وثالث كان يرى أن صورة الشرق كما يقدمھا‬ ‫ماركو بولو ھي »بالتأكيد« أجمل من أن تكون حقيقية! ولقد كان شاعر إيطاليا الكبير دانتي‬ ‫أليغييري )صاحب »الكوميديا اإللھية«( والذي عاش في زمن ماركو بولو نفسه‪ ،‬من أصحاب‬ ‫بعض ھذه اآلراء مجتمعة‪ .‬ولكن سواء أكان كتاب »تقسيم العالم« صحيح النسب‪ ،‬مبنيا ً على حقائق‬ ‫معيشة من قبل مؤلفه‪ ،‬أم كان نصا ً خيالياً‪ ،‬فإن ما ال شك فيه ھو أن ھذا الكتاب لعب دوراً أساسا ً‬ ‫في »تصنيع المخيلة االستشراقية« لدى أوروبيي العصور الوسطى‪ ،‬الذين كانوا خرجوا لتوھم من‬ ‫أزمان الظالم والرعب مما مثلته الحضارة اإلسالمية بالنسبة اليھم‪ ،‬إذ تھجم عليھم بكل أنواع‬ ‫جديدھا كاشفة تأخرھم من دون أن يعرفوا طريقة للحاق بھا‪ ،‬ما جعلھم يشعرون أنھم إن استسلموا‬ ‫أمام تلك الحضارة‪ ،‬فإنھم سيكونون قد انفتحوا على عوالم مجھولة ليس لھم إمكانية التأقلم معھا‪ .‬أما‬ ‫اآلن‪ ،‬وقد صدر ھذا الكتاب ‪-‬كما كان بعضھم يقول‪ ،-‬فإن في اإلمكان االنفتاح على عوالم أخرى‬ ‫ربما ستكون أقل وطأة من العالم الموعودين به‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬كانت المسألة بالنسبة اليھم االستفادة من‬ ‫وجود شرقين ال شرق واحد‪ ،‬ثم التعرّف إلى العدو كي يمكن تدبير الوسائل للتصدي له‪ .‬كان‬ ‫بعض تلك الوسائل‪ .‬وبالتأكيد ‪-‬وفق كثر على أي حال‪ّ ،-‬‬ ‫خير‬ ‫مثل »تقسيم العالم«‬ ‫االنفتاح عليه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وسيلة لذلك االنفتاح‪ ،‬إذ أخبرھم عن وجود حضارات أخرى غير حضارتھم الملتبسة وحضارة‬ ‫المسلمين التي أقضّت مضاجعھم‪.‬‬ ‫< مھما يكن من أمر‪ ،‬فإننا نعرف ‪-‬كما كان األوروبيون يعرفون‪ -‬أن كثيرين زاروا‪ ،‬وقبل ماركو‬ ‫بولو‪ ،‬بلدان الشرق األقصى‪ ،‬كما كتب كثيرون عنھا‪ ،‬لكن أصوات ھؤالء كانت على الدوام‬ ‫خفيضة‪ ،‬ولم تساھم الظروف في انتشارھا‪ .‬ما حدث مع ماركو بولو كان العكس‪ :‬انتشر كتابه‪،‬‬ ‫الذي سيظھر أنه ُكتب بالفرنسية أوالً‪ ،‬وقرأه األوروبيون وتع ّرفوا من خالله على صين كوبالي‬ ‫خان‪ ،‬الذي صار منذ ذلك الحين أشبه بالشخصية األسطورية‪ ،‬وتعرّ فوا كذلك إلى اليابان‪ ،‬التي‬ ‫‪4‬‬


‫راحوا منذ ذلك الحين يسمونھا بالد الشمس المشرقة‪ ،‬والتي كانوا نادراً ما سمعوا بھا من قبل‪،‬‬ ‫وتعرفوا إلى حياة القصور والشعوب والعادات والتقاليد واالختراعات وضروب التقدم في مجاھل‬ ‫آسيا‪ ،‬وأيضا ً في وسطھا‪ ،‬وفي الشرق األدنى وشرق أفريقيا‪ .‬ومن المؤكد أن األوروبيين‪ ،‬وبالنسبة‬ ‫الى ھذين الحيّزين الجغرافيين األخيرين )الشرق األدنى وشمال إفريقيا(‪ ،‬سوف يتلمسّون في ثنايا‬ ‫كتاب ماركو بولو صورة مختلفة كثيراً عن تلك الصورة التي كانت لديھم مستقا ًة من رحالة‬ ‫ومبشرين ورجال دين زاروا المناطق وعادوا منھا بانطباعات أق ّل ما يمكن أن يقال عنھا أنھا كانت‬ ‫مخيفة تنذر باألھوال!!‪.‬‬ ‫< فما الذي يصفه ماركو بولو في كتابه )الذي يميل باحثون عرب وكثر من غير العرب أيضاً‪،‬‬ ‫إلى أن جزءاً كبيراً منه مستقى من رحالت ابن بطوطة(؟ إن ماركو بولو يصف في كتابه ذلك‬ ‫العالم‪ ،‬وال سيما سنوات إقامته ھو فيه‪ ،‬وإقامة عمه وأبيه ھناك طوال ما يقرب من ربع قرن‪ .‬لكنه‬ ‫اكثر من ھذا‪ ،‬وبين السطور‪ ،‬يصف الحياة في أوروبا نفسھا‪ ،‬ألنه في كل مرة يبدي اندھاشه بما‬ ‫يراه وبما يسمعه في بالد الحضارات البعيدة‪ ،‬إنما يعبر عما ينقص موطنه‪ .‬ولعل في ھذه المقارنة‬ ‫بين بالد التاتار والمغول والصين وفارس واليابان وازدھار حضاراتھا‪ ،‬وبين ما ينقص أوروبا‪،‬‬ ‫تكمن أھمية ھذا الكتاب‪ ،‬وتحريك المخيلة األوروبية‪ ،‬ھذه المخيلة التي لم تكف منذ ذلك الحين عن‬ ‫االھتمام بالشرق‪ ،‬اوالً من موقع الصدمة وبعد ذلك من موقع التوق الرومانطيقي‪ .‬وفي ھذا اإلطار‪،‬‬ ‫لم يكن صدفة أن يلعب كوبالي خان دوراً كبيراً في مخيلة األوروبيين االستشراقية‪ .‬وتص َّدرت من‬ ‫بعد نصّ ماركو بولو »الرائد« ھذا في مجال التعريف به‪ ،‬كتبٌ كثيرة‪ ،‬شعرية ونثرية تحوله من‬ ‫إمبراطور صيني الى اسطورة‪.‬‬ ‫< قام ماركو بولو بالرحلة الى الصين عبر آسيا‪ ،‬مع أبيه وعمه بين العامين ‪ ١٢٧١‬و‪.١٢٩٥‬‬ ‫وكان األب والعم‪ ،‬وھما تاجران من البندقية‪ ،‬قد سبق لھما أن زارا الصين قبل اصطحاب ماركو‬ ‫الشاب اليھا‪ ،‬وكان كوبالي خان‪ ،‬إمبراطور البالد قد استقبلھما بكل احترام وكلفھما حتى بإيصال‬ ‫رسالة منه إلى البابا‪ .‬وحين أوصل الرجالن الرسالة يبدو أن البابا أحب أن يجيب عليھا بأحسن‬ ‫منھا‪ ،‬وقد سرّته تلك المبادرة تأتي من المكان البعيد‪ ،‬فكلف بإيصال الرد إلى والد ماركو بولو‬ ‫وعمه‪ ،‬اللذين إذ عادا بالجواب إلى كوبالي خان‪ ،‬اصطحبا معھما ھذه المرة ماركو الشاب‪ ،‬في‬ ‫رحلة عبروا خاللھا طوال فترة ال بأس بھا من الزمن مناطق عديدة في كل من أرمينيا وفارس‬ ‫وصوالً إلى الھند والصين‪ ،‬مروراً ببلدان »مدھشة لم نكن سمعنا بھا من قبل«‪ ،‬كما يشير ماركو‬ ‫بولو في إحدى صفحات الكتاب‪ .‬كما ويخبرنا أنھم كانوا طوال الطريق يتفحصون منتجات البلدان‬ ‫والمدن التي يزورونھا ويسجلون انطباعاتھم عنھا‪ ،‬عازمين على المتاجرة بھا مستقبالً‪ .‬وفي‬ ‫الصين‪ ،‬وجد البندقيون الثالثة أنفسھم في بالد ھادئة ووسط شعب مھذب‪ ،‬وعاشوا في بيوت مرفھة‬ ‫تحف بھا طرقات أنيقة مزروعة باألشجار على جانبيھا‪ .‬باختصار‪ ،‬سيقول آل بولو إنھم إذ ذھبوا‬ ‫أوالً وھم يعتقدون انھم سيلتقون قوما ً ھمجيين‪ ،‬إنما التقوا بدالً من ذلك شعوبا ً متحضرة في شكل‬ ‫استثنائي »شعوبا ً تفوق أخالقھا وعوائدھا ما في بلداننا تقدما ً«‪ .‬المھم أن كوبالي أبقاھم لديه‬ ‫‪5‬‬


‫عشرين سنة أخرى‪ ،‬ثم حين أعلنوا عزمھم الرحيل سلمھم ابنته دليالً على ثقته بھم‪ .‬وھذه االبنة‬ ‫ھي التي سيقول ماركو الحقا ً إنه اصطحبھا إلى فارس‪.‬‬ ‫< اذا كانت حكاية الرحلة تنتھي بالعودة في العام ‪ ،١٢٩٥‬فإن حكاية الكتاب تبدأ بعد ذلك مباشرة‪،‬‬ ‫إذ تقول الحكاية إنه حين عاد ماركو بولو إلي إيطاليا‪ ،‬وجد نفسه‪ ،‬وھو البندقي‪ ،‬منخرطا ً في‬ ‫معركة بحرية ضد سفن مدينة جنوى المنافسة‪ .‬وھو أُسر خالل المعركة وأودع السجن في ھذه‬ ‫المدينة‪ ،‬وھناك في السجن تعرف إلى أسير يدعى روستيسيان البيزي‪ ،‬وأملى عليه فصول الكتاب‪،‬‬ ‫الذي أطلق عليه أول األمر اسم »المليوني« )لسبب ال يزال غامضاً‪ ،‬وربما يحمل إشارة إلى طول‬ ‫الطريق التي قطعھا في رحلته‪ (...‬ثم عرف باسم »تقسيم العالم«‪ ،‬وكذلك باسم »كتاب العجائب«‪.‬‬ ‫وكما أشرنا نال الكتاب منذ نشره شھرة كبيرة‪ ،‬وانقسم إزاءه الناس بين مصدق لكل ما فيه‪ ،‬بانيا ً‬ ‫على ذلك أحالما ً وخياالت‪ ،‬ومكذ ٍ‬ ‫ب رأى أن ماركو بولو اخترع معظم ما يرويه‪ ،‬أو ھو ‪-‬على‬ ‫األق ّل‪ -‬سرق مشاھدات أبيه وعمه‪ .‬ومھما يكن من األمر‪ ،‬فإن ماركو بولو عمّر عقوداً بعد ذلك‪،‬‬ ‫وعاد إلى مدينته إثر إطالق سراحه‪ ،‬وعاش حياة ھادئة يتاجر بما أتى به أبوه وعمه ويروي‬ ‫حكايته لمن يحب أن يسمع حتى رحل في العام ‪ ١٣٢٣‬عن عمر يناھز السبعين‬

‫قطار اسطنبول« لغراھام غرين‪ :‬صورة لمجابھات الحياة نفسھا‬ ‫السبت ‪ ١٣‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫في رواية أغاثا كريستي التي تدور أحداثھا في قطار الشرق السريع‪ ،‬جريمة تحدث داخل حافلة‬ ‫القطار‪ ،‬ومجموعة من الناس يسعون لمعرفة من ھو القاتل‪ ،‬في الوقت الذي يمكن القاتل أن يكون‬ ‫أي واحد منھم‪ ...‬أو جميعھم‪ .‬في ذلك المكان المغلق من الداخل‪ ،‬والمنفتح على أوروبا كلھا من‬ ‫الخارج‪ ،‬وضعت سيدة الرواية البوليسية شخصياتھا وجعلتھم جميعا ً يتحلقون من حول الحدث‪،‬‬ ‫بحيث إن القطار صار مكانا ً ال أكثر‪ .‬وفي رواية غراھام غرين »قطار اسطنبول«‪ ،‬ھناك ھذا‬ ‫القطار نفسه‪ ،‬وھناك أيضا ً شخصيات متعددة تتقاطع وتتصادم في ما بينھا‪ .‬لكن الرحلة ھذه المرة‪،‬‬ ‫من اوستاند في بلجيكا‪ ،‬الى اسطنبول في تركيا‪ ،‬تصبح ھي الحكاية‪ .‬لم تعد مجرد مكان‪ ،‬صارت‬ ‫كناية عن صورة تخيلھا الكاتب‪ ،‬للعالم‪ ،‬وھو في الثامنة والعشرين من عمره‪ ...‬حين كان ال يزال‬ ‫يخطو خطوات مبكرة في عالم الكتابة الروائية الذي جعل منه واحداً من أبرز كتاب القرن العشرين‬ ‫‪6‬‬


‫وأكثرھم شعبية‪ .‬ذلك أن غراھام غرين‪ ،‬على رغم امتالء رواياته باالفكار ‪ -‬واالفكار الصعبة‬ ‫المنال أحيانا ً ‪ -‬حرص دائما ً على أن يكون كالسيكيا ً في سرده‪ ،‬بسيطا ً في االطار العام‬ ‫لموضوعاته‪ ،‬وواضحا ً في رسمه لسيكولوجيات شخصياته ودوافعھا‪ .‬فھو‪ ،‬وكما سيقول الحقا ً‬ ‫عشرات المرات‪ ،‬كان يكتب لكي يُقرأ‪ ،‬ال لمجرد أن يكتب‪ .‬وھو بھذا انتمى في القرن الفائت الى‬ ‫ذلك الرھط من الك ّتاب الذين أوجدوا كالسيكية العصر وبيعت أعمالھم بعشرات ماليين النسخ‬ ‫وحُوّ لت أفالما ً ومسلسالت تلفزيونية كشفت دائما ً عن أن ذلك النوع من األدب يولد مباشرة من‬ ‫رحم الحياة وتجاربھا‪ ،‬ال من رحم األفكار‪ .‬لذلك‪ ،‬حتى وإن كان غراھام غرين قد نال حظوة لدى‬ ‫النقاد الجادين ‪ -‬مثله في ھذا مثل لورانس داريل‪ ،‬وألبرتو مورافيا‪ ،‬وجوزف كونراد وھنري‬ ‫جيمس ‪ ،-‬فإنه أص ّر دائما ً على ان يلحق النقاد ونظرياتھم بأدبه‪ ،‬ال أن يقوم ھو بمطاردتھم‪.‬‬ ‫< والحال ان »قطار اسطنبول« تقول ھذا كله‪ ،‬حتى وإن كانت ال تبدو على قوة أعمال اخرى‬ ‫الحقة لغراھام غرين‪ .‬وال ننسى ھنا أن ھذه الرواية كانت‪ ،‬في عام صدورھا ‪ ،١٩٣٢‬ثالث رواية‬ ‫يكتبھا غرين وينشرھا‪ ...‬بل األولى بين رواياته الكبرى‪ ،‬إذ إن الروايتين اللتين سبقتاھا »الرجل‬ ‫في الداخل« )‪ (١٩٢٩‬و »اسم الفعل« )‪ ،(١٩٣٠‬ستعتبران أعماالً أولية ثانوية في مسيرة غرين‪.‬‬ ‫ومن ھنا‪ ،‬فإن جزءاً من مكانة »قطار اسطنبول« يكمن في أنھا العمل الذي مھّد ألعمال غرين‬ ‫الكبيرة التالية‪.‬‬ ‫< ومع ھذا ليست »قطار اسطنبول« في سمتھا الخارجية الظاھرة‪ ،‬على األقل‪ ،‬سوى رواية‬ ‫مغامرات وأحداث متالحقة‪ ...‬وھذه األحداث تدور خالل ثالثة أيام‪ ،‬وھي أحداث شيقة تقطع على‬ ‫القارئ أنفاسه وتجعله متطلعا ً أمام كل حدث وموقف‪ ،‬لمعرفة المزيد واالنتقال الى ما يليه‪ .‬غير ان‬ ‫ھذا ليس سوى اإلطار الخارجي للعمل‪ ...‬ذلك ان االحداث التي نشير اليھا ھي أحداث تدور من‬ ‫حوله شخصيات محددة‪ :‬ھي شخصيات اجتمعت ھنا بمحض الصدفة‪ ،‬كما يحدث ألي مجموعة من‬ ‫ھذا النوع‪ .‬وحّد بينھا كونھا التقت في القطار المتجه عبر األراضي األوروبية‪ .‬وألن ھذا القطار‬ ‫يواصل رحلته ليالً ونھاراً‪ ،‬مع توقف ھنا أو ھناك‪ ،‬تضحى عربة القطار أشبه بعالم مغلق على‬ ‫ذاته‪ ،‬وأيضا ً عالم يغلق الشخصيات على ذاتھا‪ ،‬ليجعل كالً منھا على مجابھة مع الشخصيات‬ ‫األخرى‪ .‬وليس بالضرورة بالمعنى الصراعي للكلمة‪ .‬فليس ھنا ثمة‪ ،‬على أي حال‪ ،‬محاور‬ ‫لصراع‪ ...‬ومثل ھذه الرحلة ھو أمر يحدث كل يوم‪ ،‬فال داعي الى ان تكون له أبعاد استثنائية‪.‬‬ ‫وھكذا يصبح ما نشھده في ذلك القطار‪ ،‬موقفا ً عاديا ً لشخصيات عادية‪ ،‬بل إن اكثر األحداث غرابة‬ ‫وتشويقاً‪ ،‬تظھر كأحداث عادية‪ .‬ما يعني اننا ھنا في جانب ھنري جيمس‪ ،‬أكثر مما نحن في جانب‬ ‫جوزف كونراد‪ ،‬الذي كان غراھام غرين يعتبره استاذاً كبيراً له‪ .‬ولكن‪ ،‬ألن كل عادي يحمل في‬ ‫طيّاته ما ھو غير عادي‪ ،‬يصبح المحور ھنا ھو تلك اللقاءات بين شخصيات أساسية تقدمھا لنا‬ ‫الرواية تباعا ً‪ :‬من مايات الى السيد أوبي‪ ،‬الى كورا الى ماسكر ومس وارن وبيترز‪ :‬كلھم أناس‬ ‫عاديون‪ ،‬في رحلة عادية‪ ...‬ولعل ھذه العادية ھي ما يعطي العمل قوته ويعطي اللقاءات قوة‬ ‫التعبير عن الحياة‪ .‬إذ اننا بعد تعارفات اللحظات األولى‪ ،‬نجدنا أمام الحياة نفسھا‪ ...‬أمام الحياة وقد‬ ‫‪7‬‬


‫تنبھنا‪ ،‬من خالل الموقف العام‪ ،‬اننا في خضم عيشنا لھا‪ ،‬ننسى تفاصيلھا‪ ،‬ثم ننسى وجودھا‪.‬‬ ‫وغراھام غرين ھو ھنا‪ ،‬ليذكرنا بذلك الوجود من خالل شخصيات ھذه الحياة‪ :‬إذ اننا‪ ،‬وبسرعة‪،‬‬ ‫نجدنا‪ ،‬من خالل تقاطع الشخصيات وحواراتھا وردود أفعالھا على أي شيء يحدث‪ ،‬شھوداً على‬ ‫المجابھة بين المال والفقر‪ ،‬بين القوة والضعف‪ ،‬بين الغيبية المطلقة والمادية المطلقة‪ ...‬أو‪ ،‬كما‬ ‫يقول دارسو أعمال غرين‪ :‬في ھذا القطار من أوستاند الى اسطنبول‪ ،‬يتجابه كل شيء وصوالً الى‬ ‫تلك المجابھة بين ما ھو تقليدي وامتثالي‪ ،‬وما ھو ثوروي متمرد‪ .‬صحيح ان ھؤالء الدارسين‬ ‫نفسھم يأخذون على الرواية شيئا ً من الثقل في التعبير عن الرموز والكنايات )ولكن ماذا نريد يا‬ ‫ترى من عمل كتبه في العام ‪ ١٩٣٢‬شاب عشريني كان اكتشف اإليمان الكاثوليكي حديثاً‪ ،‬وأراد‬ ‫أن يعبّر عنه من خالل المھنة الوحيدة التي كان يشعر انه يتقنھا في ذلك الحين‪ :‬مھنة الكتابة‬ ‫الروائية؟(‪ ،‬غير ان ھذا بالذات ھو ما جعل عيون النقاد تنفتح على ذلك الكاتب الشاب‪ ،‬اذ تحدثوا‬ ‫عن »تأرجح خالق لديه بين كونراد وھنري جيمس«‪ ،‬في اشارة لعلھا األولى في ذلك الحين الى‬ ‫ضرورة ان يكون التعاطي مع أدب غرين‪ ،‬جديا ً للغاية‪.‬‬ ‫< فكيف إذا عرفنا أيضا ً ان »قطار اسطنبول« التي كتبت ونشرت قبل سبعة أعوام من اندالع‬ ‫الحرب العالمية الثانية‪ ،‬أتت وكأنھا تتحدث عن بذور تلك الحرب؟ كيف اذا رأينا ‪ -‬في نھاية األمر‬ ‫ في المجابھة ‪ -‬السلمية وإنما الحادة ‪ -‬بين الشخصيات‪ ،‬صورة مخففة وتنبؤية في اآلن عينه‪،‬‬‫للصراع المقبل؟‬ ‫< ھذه الصورة رسمھا غراھام غرين من خالل سبره جوّ انية الشخصيات‪ ،‬ومن خالل تحديده البيّن‬ ‫للخلفيات االجتماعية التي‪ ،‬الى سيكولوجيتھا‪ ،‬ھي ما يحكم تصرفاتھا‪ ،‬حتى وإن كان ھذا التحديد‪،‬‬ ‫ال يزال ھنا بدائياً‪ ،‬مقارنة بما سيصير عليه في روايات مقبلة لغرين‪ .‬وفي المقابل‪ ،‬نجد أن البعد‬ ‫الروحي الجوّ اني للعمل‪ ،‬يبدو تأسيسيا ً وعلى أحسن ما يكون‪ .‬أما المفصل األھم في »قطار‬ ‫اسطنبول« فھو رجال الشرطة الذين يطاردون مجرماً‪ ،‬ما يخلق ردود فعل متنوعة لدى الركاب‪،‬‬ ‫ألن من خالل ھذه المطاردة تبرز حكاية تھريب األسلحة عشية الحرب‪ ...‬ومن ھنا نجد‬ ‫الشخصيات نفسھا على تماسّ مباشر مع الحرب‪ ...‬وال تعود الحرب مجرد خوف يعتري‬ ‫الشخصيات‪ ،‬بل شعور عارم‪ ...‬تصبح ھي الشر معبَّراً عنه بجماھير غامضة تلوح من خالل نوافذ‬ ‫القطار‪ ،‬مھددة مھددة‪ ،‬في انتظار شيء ما‪ ...‬ولعل ھذا االنتظار يشكل أقوى ما في ھذه الرواية‪،‬‬ ‫اضافة الى ما سنكتشفه من استحواذ صورة أب شنق ألسباب سياسية على ابنه‪ ،‬الذي ھو مرافق‪،‬‬ ‫المجرم المطارد‪ .‬وھكذا‪ ،‬ينبثق الشر فجأة وسط الرواية‪ ،‬ليواصل حضوره بعد ذلك في عالم‬ ‫غراھام غرين الروائي حتى النھاية‪.‬‬ ‫< غراھام غرين )‪ (١٩٩١ - ١٩٠٤‬ھو‪ ،‬كما نعرف‪ ،‬أحد كبار كتاب االنكليز‪ ،‬وتميزت كتابته‬ ‫دائما ً بتأثره بالمذھب الكاثوليكي الذي اعتنقه باكراً في حياته‪ ،‬كنوع من االحتجاج على جمودية‬ ‫بريطانيا المذھبية‪ ...‬ومع ھذا‪ ،‬لم يتوان غرين عن خدمة بريطانيا ھذه‪ ،‬كعميل سري في واحد من‬ ‫‪8‬‬


‫أزمان مساره الحياتي والمھني‪ ،‬ما ش ّكل خلفية أسفاره الكثيرة التي كانت بدورھا في خلفية أبرز‬ ‫أعماله الروائية التي طبعت القرن العشرين‪ ،‬ومنھا »جوھر المسألة« و»القوة والمجد«‬ ‫و»األميركي الھادئ« و»الخاسر يأخذ كل شيء« و»العامل االنساني«‪.‬‬

‫»يوجين أونيغن« لبوشكين‪ :‬الروح العميقة للشعب الروسي‬ ‫الجمعة ‪ ١٢‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫ھي الرواية التي يقول الباحث الروسي ف‪ .‬إيفانوف في صددھا »مع ھذا العمل الكبير بدأ ازدھار‬ ‫الرواية في روسيا‪ .‬وھذا االزدھار كان واحداً من األحداث األكثر داللة التي عرفتھا الثقافة‬ ‫األوروبية المعاصرة«‪ .‬أما المؤرخ كليوتشفسكي‪ ،‬فرأى أن في إمكاننا أن نعتبر »يوجين أونيغن«‬ ‫»وثيقة تاريخية بفضل ما فيھا من تصوير للبيئة الروسية«‪ ،‬فإذا أضفنا إلى ھذا أن الكاتب الكبير‬ ‫دوستويفسكي كان ال يكف عن امتداح ما في ھذه الرواية من »إخالص لروح الشعب الروسي«‪،‬‬ ‫يمكننا أن نفھم‪ ،‬حقاً‪ ،‬المكانة التي تحتلھا »يوجين أونيغن« في أدب روسيا‪ .‬انھا مكانة مؤسّسة‪،‬‬ ‫طالما أن الرواية في روسيا كانت قبل ذلك شيئا ً آخر تماما ً‪ .‬من ھنا‪ ،‬حين الح للموسيقي الكبير‬ ‫تشايكوفسكي‪ ،‬وھو في قمة اھتمامه بأن يكتب أعماالً موسيقية تعبّر عن روح الشعب الذي ينتمي‬ ‫إليه‪ ،‬لم يتردد لحظة في اختيار »يوجين أونيغن« ما أسفر عن واحدة من أجمل األوبرات في‬ ‫تاريخ ھذا الفن‪.‬‬ ‫< كان ألكسندر بوشكين‪ ،‬الذي سيعرف دائما ً بـ »شاعر روسيا األعظم« في الثانية والثالثين من‬ ‫عمره حين كتب رواية »يوجين أونيغن«‪ .‬أو باألحرى حين أنجز كتابتھا ونشرھا في طبعة أولى‪.‬‬ ‫فالحال أنه إنما بدأ كتابتھا قبل ذلك بكثير‪ :‬في عام ‪ ،١٨٢٢‬وكان بعد في الثالثة والعشرين‪ .‬وقد‬ ‫استغرقته كتابتھا على الشكل الذي انتھت إليه كما في الطبعة األولى‪ ،‬أكثر من عشر سنوات‪ .‬أما‬ ‫الطبعة المكتملة لھا فلم تصدر إال في عام ‪ ،١٨٣٣‬لتطبع بعدھا وبسرعة أكثر من عشر طبعات‬ ‫ويتلقفھا القراء متلھفين‪.‬‬ ‫< تمتلئ رواية »يوجين أونيغن« بالشخصيات‪ ،‬على عكس ما ستكون عليه األوبرا المقتبسة عنھا‪،‬‬ ‫إذ إن تشايكوفسكي اكتفى بشخصيات رئيسة حرك من خاللھا الفصول الثالثة التي قسم األوبرا‬ ‫إليھا‪ .‬أما بالنسبة إلى بوشكين فإن النص الروائي‪ ،‬لكي يكون أشبه بفسيفساء تق ّدم صورة للحياة‬ ‫الروسية في كل تجلياتھا وطبقاتھا وصراعاتھا وحدتھا المزاجية‪ ،‬يتعيّن عليه أن يمتلئ بعشرات‬ ‫الشخصيات التي يعبر كل منھا عن نوازع معينة‪ .‬ومع ھذا نجد أن التركيز‪ ،‬في الرواية األصلية‬ ‫‪9‬‬


‫كما كتبھا بوشكين ينحصر في أربع شخصيات مھمة‪ ،‬تتمحور األحداث حولھا‪» :‬يوجين أونيغن«‬ ‫نفسه‪ ،‬ابن المجتمع المترف‪ ،‬العابث وغير العابئ بأية قيم حقيقية‪ ،‬ومن بعده يأتي الشاعر‬ ‫الرومانطيقي فالديمير لينسكي‪ .‬ثم الشقيقتان الحسناوان تاتيانا وأولغا الرين‪ .‬وفي مجال األھمية‬ ‫نفسھا ھناك شخصية خامسة لھا دور أساسي في الرواية لكنھا مخبوءة في ثنايا العمل ال تظھر ‪-‬‬ ‫عرضا ً ‪ -‬إال في حاالت وأحداث معينة‪ ،‬وھذه الشخصية ھي شخصية المؤلف نفسه‪ .‬وھي شخصية‬ ‫لن نشعر بأي وجود لھا في أوبرا تشايكوفسكي‪ .‬وإن كان وجودھا يضاھي وجود القارئ ذي العين‬ ‫البصاصة في الرواية‪ .‬الشخصية الرئيسة بين ھذه الشخصيات‪ ،‬وكما يدلنا عنوان الرواية‪ ،‬ھي‪،‬‬ ‫إذاً‪ ،‬شخصية »يوجين أونيغن«‪ ،‬ابن المجتمع الالھي والثري‪ ،‬والذي يرث ثروة طائلة عن ع ّم له‬ ‫تجبره على مبارحة العاصمة سانت بطرسبرغ والعيش في الريف‪ .‬وھو أمر يؤلمه أول األمر فھو‬ ‫ُربّي أصالً على الطريقة الفرنسية وكون لنفسه في العاصمة عالما ً من األصدقاء والتابعين‪ .‬فما‬ ‫الذي سيفعله في الريف؟ لكنه‪ ،‬وعلى طريقة مجبر أخاك ال بطل‪ ،‬ينتقل فعالً إلى األمالك التي‬ ‫ورثھا في ذلك الريف‪ ،‬وھنا يلتقي بالشاعر الرومانسي المثالي النتسكي‪ ،‬وفي معيته يبدأ بارتياد‬ ‫دارة السيدة الرين التي لديھا فتاتان حسناوان ھما الرومانسية المكتئبة دائما ً تاتيانا‪ ،‬والمرحة ذات‬ ‫الحيوية أولغا‪ .‬ونعرف بسرعة أن التسكي قد خطب لنفسه ھذه األخيرة‪ .‬أما تاتيانا فسرعان ما تھيم‬ ‫حبا ً بيوجين وتعترف إليه بحبھا عبر رسالة ساذجة ترسلھا إليه‪ .‬وھو ما إن يتلقى الرسالة حتى‬ ‫يرسل إلى تاتيانا رداً مليئا ً بالمواعظ األخالقية المتحدثة عن األخطار التي تتعرض لھا الفتيات حين‬ ‫يتركن أنفسھن في مھب ھواھنّ ‪ .‬ومن الواضح أن دافع يوجين إلى ھذا الموقف‪ ،‬ليس أخالقه‪ ،‬بل‬ ‫كونه يفضل أولغا المرحة على تاتيانا الحالمة‪ .‬وھذا ما نكتشفه خالل حفل راقص يقام‪ ،‬وخالله يبدأ‬ ‫يوجين مغازلته أولغا‪ ،‬ما يثير غضب النتسكي وغيرته‪ ،‬ويبدأ بين االثنتين تح ٍّد ينتھي إلى مبارزة‬ ‫يقتل خاللھا يوجين‪ ،‬الشاعر المثالي‪ .‬ويتوقف الجزء األول من األحداث ھنا‪ ،‬لتمر سنوات‪ ،‬ونجدنا‬ ‫مع يوجين في العاصمة سانت بطرسبرغ‪ .‬ونجده يلتقي تاتيانا من جديد‪ .‬لكنھا اآلن صارت سيدة‬ ‫مجتمع كبيرة متزوجة بجنرال في الجيش‪ ،‬ولم تعد ‪ -‬ظاھريا ً ‪ -‬تلك الفتاة المنطوية الخجول‪ .‬وفور‬ ‫اللقاء يدرك يوجين ھذا التحول لديھا‪ ،‬فيولع بھا‪ ،‬ھو الذي كان في الماضي قد احتقرھا بصفتھا‬ ‫ريفية ساذجة‪ .‬ويصارحھا اآلن بحبه مرات عدة لكنھا تصده وقد أضحت المبادرة ھذه المرة في‬ ‫يدھا‪ .‬وذات يوم يتمكن من االستفراد بھا في منزلھا‪ .‬وھنا يسقط القناع الجديد عن وجه تاتيانا وال‬ ‫تتمالك نفسھا‪ :‬تصارحه بحبھا له‪ ،‬وتقول له إنھا أبداً ما توقفت عن حبه‪ ،‬لكن ھذا الحب لن يودي‬ ‫بھما إلى أي مكان‪ ،‬طالما أن ليس من أخالقھا أن تخون زوجھا‪ ،‬الرجل الذي احتضنھا والذي يضع‬ ‫فيھا ثقته كلھا‪.‬‬ ‫< منذ صدورھا للمرة األولى فتنت ھذه الرواية القراء والنقاد سواء بسواء‪ .‬ومن بين المفتونين بھا‬ ‫الناقد بيلنسكي‪ ،‬الذي غمر ظله الكبير األدب الروسي كله في القرن التاسع عشر‪ ،‬وبيلنسكي قال‬ ‫عن رواية ألكسندر بوشكين ھذه إنھا »رواية حقيقية من ناحية حبكتھا‪ ،‬وقصيدة شاعرية من ناحية‬ ‫بنيتھا واألجواء التي تصفھا لنا« مؤكداً أن ھذا النص إنما ھو‪ ،‬في نھاية األمر‪ ،‬مطبوع بذلك الدفق‬ ‫‪10‬‬


‫الشاعري الذي ارتبط به عمل بوشكين ككل‪ .‬ومن بعد بيلنسكي رأى الباحثون أن رواية »يوجين‬ ‫أونيغن« فريدة من نوعھا ليس في األدب الروسي وحده‪ .‬وھو ما كان متضمناً‪ ،‬حتى في كتابة‬ ‫بيلنسكي عن الرواية إذ قال إنھا »النص األكثر جماالً وإلھاما ً الذي كتبه بوشكين طوال حياته‪.‬‬ ‫واإلبداع األكثر كماالً الذي أبدعته مخيلته‪ .‬وھو العمل الذي عبرت فيه شخصيته عن نفسه بأفضل‬ ‫مما فعلت في أي نص آخر له«‪ .‬ذلك أن بيلنسكي‪ ،‬مثل اآلخرين‪ ،‬اعتبر أن »يوجين أونيغن« ال‬ ‫يمكن أن يكون ‪ -‬على رغم مساوئه كلھا ‪ -‬شخصا ً آخر غير بوشكين نفسه‪ .‬ما يعني أنھا كانت‬ ‫واحدة من المرات األولى التي يسم فيھا كاتب نفسه ‪ -‬أو أناه اآلخر ‪ -‬في رواية يكتبھا بمثل ھذه‬ ‫الصفات السلبية‪ .‬مع ھذا‪ ،‬قد يكون من المفيد أن نضيف ھنا أن سلبية »يوجين أونيغن« ليست‬ ‫مطلقة‪ ،‬ذلك أن األحداث تشكل في نھاية األمر نوعا ً من المطھر بالنسبة إليه‪ .‬كما أن غرامه‬ ‫بتاتيانا‪ ،‬في المرة الثانية على األقل‪ ،‬ال يمكنه إال أن يكون غراما ً حقيقياً‪ ،‬بل لعله يكون صورة‬ ‫الشيطان المغوي الذي قد تحل عليه اللعنة‪ ،‬لكنه في نھاية األمر‪ ،‬قدم نفسه فداء لكي يظھر بطولته‬ ‫البريئة وإنسانيته‪.‬‬ ‫< عاش ألكسندر بوشكين )‪ (١٨٣٧ - ١٧٨٨‬ثمانية وثالثين عاماً‪ ،‬كانت من األعوام األكثر‬ ‫صخبا ً وغرابة في التاريخ الروسي‪ ،‬ذلك أنھا تحلقت حول الحملة النابوليونية وأحداثھا العاصفة‪.‬‬ ‫لكن تلك السنوات التي عاشھا بوشكين‪ ،‬كانت‪ ،‬على قلّتھا‪ ،‬كافية لكي تصنع منه شاعر روسيا‬ ‫األكبر ومؤسس أدبھا الحديث‪ ،‬باعتراف الجميع‪ .‬وھو ولد في موسكو‪ ،‬ليموت في سانت بطرسبرغ‬ ‫خالل مبارزة خاضھا ألسباب نسائية‪ .‬وھو ما كان يمكن تو ّقعه له كنھاية منذ بداياته العابثة‬ ‫والمليئة بالعواطف واألھواء‪ .‬ولقد خلّف بوشكين الكثير من األعمال الشعرية والروائية والمسرحية‬ ‫التي لم تجعل منه كاتبا ً كبيراً فقط‪ ،‬بل بطالً قوميا ً أيضا ً‪ .‬إذ تماما ً كما كان يقال إن الرواية الروسية‬ ‫كلھا قد خرجت من »معطف« غوغول‪ ،‬كذلك قيل دائما ً إن األدب الروسي الحديث كله قد خرج‬ ‫من تحت يراع بوشكين‪ .‬ولئن كانت رواية »يوجين أونيغن« تعتبر األشھر بين أعمال بوشكين‪،‬‬ ‫وربما في األدب الروسي كافة‪ ،‬فإن ھذا الشاعر خلق أعماالً أخرى كبيرة منھا »رسالن‬ ‫ولودميال« وأشعار الـ »غابرلياد« وكتاب »الغجر« و »أفريقي بطرس األكبر« و »حكايات‬ ‫بلكين« و »بيت في كولومنا« و »ابنة الكابتن« وغيرھا من أعمال جعلت القيصر نيقوال األول‬ ‫يقول عنه ذات يوم إنه‪ ،‬بالنسبة اليه‪» ،‬الرجل األكثر ذكاء في روسيا«‬

‫»علم األحالم« لفرويد‪ :‬إنھا رغبات النھار ومخاوف العيش‬ ‫الخميس ‪ ١١‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫يعتبر كتاب »علم األحالم« لمبتدع التحليل النفسي في الفكر العالمي‪ ،‬النمسوي سيغموند فرويد‪،‬‬ ‫واحداً من أشھر الكتب العلمية في تاريخ البشرية‪ .‬وھو يأتي‪ ،‬بعد الكتب المقدسة وأعمال شكسبير‬ ‫بالطبع‪ ،‬في مقدمة الكتب التي تترجم إلى شتى لغات العالم‪ ،‬غير أن ھذا الكتاب المتوافر في‬ ‫‪11‬‬


‫عشرات ماليين النسخ ومئات الترجمات‪ ،‬ال يقرأه كل ھذا العدد من البشر بصفته كتابا ً علمياً‪ ،‬بل‬ ‫بصفته كتابا ً في تفسير األحالم‪ .‬بل إن ھذا ھو العنوان الذي يق َّدم به في بعض ترجماته‪ ،‬ومنھا‬ ‫الترجمة العربية‪ .‬والحقيقة أن ھذا الكتاب الضخم الحجم والسھل القراءة ‪-‬على غير عادة فرويد في‬ ‫كتبه‪ -‬يحتوي على الكثير من تفاسير األحالم‪ ،‬بل إن تفسيرھا يكاد يكون موضوعه الرئيسي‪ ،‬ولكن‬ ‫طبعا ً‪ -‬ليس بالمعنى الذي يتوخاه منه عامة القراء‪ .‬ذلك أن فرويد لم يكن مھتما ً حين وضع الكتاب‬‫عند النقطة الزمنية الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين‪ ،‬بأن يوفر للحالمين نصوصا ً‬ ‫تمكنھم من أن يحصلوا من قلب األحالم على نظرة تحدثھم عما سوف يحصل في الغد‪ ،‬فتطمئنھم‬ ‫أو تخيفھم‪ ،‬كونھا مادة تعزز فكرتھم عن الحلم ودوره في حياة اإلنسان‪ ،‬نعرف طبعا ً أن ھؤالء قد‬ ‫ّ‬ ‫مثل الحلم بالنسبة اليھم دائما ً إشارة إلى ما سيحدث في المستقبل‪ .‬أما فرويد في كتابه‪ ،‬فكان ھمه أن‬ ‫يبحث في شكل علمي‪ ،‬عالق َة الحلم بصاحبه وبشخصيته وبمزاجه وبما كان حدث له في اليوم‬ ‫السابق على الحلم‪ ،‬أو في الزمن السابق عليه في شكل عام‪ .‬ومن خالل الحلم ووصفه‪ ،‬كان فرويد‬ ‫متھما ً باإلمعان في تحليله النفسي لشخصية صاحب الحلم ال أكثر وال أق ّل‪.‬‬ ‫< ومن ھنا يعتبر كتاب فرويد ھذا‪ ،‬والذي نشر في العام ‪ ١٩٠٠‬تحديداً‪ ،‬أو َل محاولة علمية لدراسة‬ ‫الحلم بصفته فعالً نفسانياً‪ ،‬مرتبطا ً بالحياة الواعية‪ .‬وأكثر من ھذا‪ :‬أول محاولة للبرھان على‬ ‫صواب أن نكتشف »في الحلم داللة تسمح بالتأكيد على أن النوم ليس سوى استمرار لحياة‬ ‫اليقظة«‪ .‬ويرى الباحثون أن قيمة ھذا العمل ‪-‬حتى وإن كانت الدراسات العلمية الالحقة عليه طوال‬ ‫القرن العشرين قد تجاوزته‪ -‬إنما تأتي من »رفض اعتبار النوم مجرد ظاھرة فيزيائية بسيطة‬ ‫وعمياء«‪.‬‬ ‫< يتضمن كتاب »علم األحالم« في صفحاته الكثيرة أوالً‪ ،‬جزءاً تاريخيا ً يتعلق بدراسة األحالم‪،‬‬ ‫وھو الجزء الذي ال تزال له كل أھميته حتى أيامنا ھذه‪ ،‬والى ھذا‪ ،‬يتضمن »تحليالً للعناصر‬ ‫المكوّ نة للحلم بأشكالھا األساسية البسيطة ولكن أيضا ً بأشكالھا المركبة‪ ،‬ثم نظرية حول تش ّكل الحلم‬ ‫وسيرورته واألسباب التي تحدده‪ ،‬وخصوصا ً الدالالت التي يرتديھا«‪ .‬ويرى فرويد‪ ،‬من خالل ھذا‬ ‫كله أن الحلم إنما ھو‪ ،‬في شكل جوھري‪ ،‬تمثيل للرغبة المتحققة‪ :‬فالجائع أو العطش‪ ،‬يحلم بأنه‬ ‫يأكل أو يشرب‪ .‬واألطفال يحلمون بأن يحصلوا على الدمى التي يتوقون إلى الحصول عليھا‪ ،‬فإذا‬ ‫تجاوزنا ھذه البنى األولية إلى أحالم أكثر تركيبية‪ ،‬كما يقول دارسو فرويد‪ ،‬نجد أن »أوالية الحلم‬ ‫يترتب عليھا إبدال للقيم‪ :‬فھنا يمكن اعتبار الحلم فكرة تترجم إلى صور‪ .‬وبما أن عناصر الرغبة ال‬ ‫يمكنھا كلھا أن تكون ذات شكل بصري‪ ،‬يحدث لتلك الرغبة أن تنقل أو تبدل على شكل تمثيل‬ ‫رمزي‪ :‬وھنا نكون قد حصلنا على صيغة أولية لمحتوى الحلم«‪ .‬وبعد أن يشرح فرويد ھذا كله‬ ‫ينتقل‪ ،‬ودائما ً وفق باحثي عمله‪ ،‬إلى مستوى آخر أكثر أھمية بكثير‪ ،‬بين المستويات التي »تتدخل‬ ‫في سيرورة وجود الحلم‪ :‬إنه المستوى ذو العالقة بالحياة األخالقية‪ ،‬أي غير المادية‪ :‬فحين تكون‬ ‫رغبتنا ذات طبيعة تدفع حسّنا األخالقي إلى إدانتھا‪ ،‬تأتي نشاطاتنا الواعية لتمارس على تلك‬ ‫الرغبة »رقابة« مشددة‪ ...‬غير أن ھذه الرقابة ال يمكنھا أن تمحو الرغبة‪ .‬ھذه الرغبة التي تتمكن‬ ‫‪12‬‬


‫عند ذلك‪ ،‬وعلى رغم كل شيء‪ ،‬من التعبير عن نفسھا بواسطة بدائل تتخذ أشكال كفاية ومظھراً‬ ‫بريئا ً«‪ .‬وفي الحلم‪ ،‬وفق فرويد‪» ،‬يتعين التمييز بين المحتوى الظاھر والمحتوى المبطن‪ .‬فاألول‬ ‫يتشكل من عناصر بصرية تحيل إلى صور ومشاعر راھنة‪ ...‬وھي في مجموعھا تشكل المادة‬ ‫الخام التي يتكون منھا الجوھر التمثيلي الرمزي للحلم‪ ،‬وتخدم في ترجمة القيم التي ال يمكن‬ ‫تمثيلھا‪ :‬أما المحتوى الثاني ‪-‬أي المحتوى المبطن‪ ،-‬فإنه يتكون بفضل داللته العميقة والخبيثة«‪.‬‬ ‫< لكن فــرويــــد إذ يصـــل إلى ھذا التفريق الواعي بين المحتويين‪ ،‬يسعى على الفور إلى‬ ‫توحــــيد داللتيھما‪ :‬وھو خالل مسعاه يتمكن من العثور على الجوھر األساس المشترك الذي‬ ‫يجـــمع بيـــن األحـــالم كافة‪ :‬إنه الرغبة الجنسية‪ ،‬فـ »تماما ً كما أن الصور الراھنة ھـي الوسيلة‬ ‫التي يمتلكھا الحلم من أجل تمكنه من تمثيل رغبتنا مھما كان شأنھا‪ ،‬ال تكون ھــذه الرغـبــة‬ ‫بدورھـــا سوى الوسيلة التي يعبَّر بھا عن غريزتنا الجنسية األكثر عمقا ً وانغـــرازاً فيـــنا«‪ ،‬ومن‬ ‫ھنا يرى فرويد ‪-‬ودائما ً وفق دارسيه ومفسري أعماله‪ ،‬وھم كثر‪ ،‬ال سيما بالنــــسبة إلى كتابه‬ ‫األشھر ھذا‪ ،‬كثرة معارضي الكتاب وناقديه ورافضيه كليا ً‪ -‬أن الحلم يمثل طبقات عدة‪ ،‬وللوصول‬ ‫إلى اللب يجب اجتياز الكثير من ھذه الطبقات‪ ،‬ذلك أن تمثيل رغبة ما سرعان ما يتحول إلى رمز‬ ‫لرغبة أخرى ليست في حقيقتھا سوى رمز لرغبة ثالثة‪ ،‬تتبعھا رابعة وخامسة‪ ...‬وھكذا‪ ،‬حتى‬ ‫الوصول في نھاية األمر إلى الرغبة الجوھرية المختبئة خلف رمزية الرغبات األخرى جميعاً‪،‬‬ ‫وھي الرغبة الجنسية«‪ .‬ويرى فرويد أن األمر يكون على ھذا النحو خصوصا ً حين تمارس‬ ‫ً‬ ‫رقابة مشددة‬ ‫النفس‪ ،‬إذ تستنكف في شكل خاص عن االعتراف بوجود ھذه الغريزة في داخلھا‪،‬‬ ‫على التمثيالت التي يمكنھا الكشف عنھا كافة‪» :‬وعند ھذا نصل إلى الرغبة المدفوعة أو‬ ‫المطرودة‪ ،‬أي إلى الفعل الذي به يدفع المرء إحساسه الجنسي إلى عمق ظلمات وعيه الباطني أو‬ ‫الوعيه‪ .‬وفي مثل ھذه الحال‪ ،‬تحيل ذھانيات اإلنسان حين يتصرف داخل الحلم‪ ،‬حساسيته الجنسية‬ ‫ھذه إلى اشياء رمزية ذات ايحاءات سرية‪.«...‬‬ ‫< ويرى الباحثون أن ھــــذه االستنتــــاجات األخيرة‪ ،‬والتــي تحـــتــــوي وفق رأي فرويــــد‬ ‫جوھــــر نظريتـــه كلھا‪ ،‬تبدت دائما ً األكثر ضعفا ً بين كل ما يقدم في ھذا الكتاب‪ ،‬ذلك أن‬ ‫»إعـــادة الحيــــاة السريـــة التـــي يعيشھا عقلنا كلھا‪ ،‬إلى حساسية أساسية )ليبيدو(‪ ،‬معناه حصر‬ ‫الفكر في نزعة وضعية كان فرويد نفسه ينوي تجاوزھا« وفق واحد من الباحثين‪.‬‬ ‫< ولكن علــــى رغـــم ھــــذا كله‪ ،‬نال ھذا الكتاب شھرة واسعة وقرئ كما أشرنا‪ ،‬على نطـــاق‬ ‫واسع‪ ،‬بل إن ثمة من يرى فيه جذور الكثير من النزعات الفنية واألدبية في القرن العشـــرين‪ ،‬وال‬ ‫سيما التيار السوريالي وتيار الدادائية‪ ،‬ذلك أن ھذين التيارين قاما على التوغل في قضية الحلم‪،‬‬ ‫وتفسير األحالم‪ ،‬كما على أحالم اليقظة‪ ،‬والدوافع الجنسية لإلبداع‪ ...‬بالتوازي مع الدوافع الجنسية‬ ‫للحلم‪ ،‬حيث ال يعود ثمة ما يميز بين اإلبداع والحلم‪.‬‬

‫‪13‬‬


‫< وسيغمـوند فرويد )‪ (١٩٣٩-١٨٥٦‬ھو كما نعرف مؤسس تيار التحليل النفسي‪ ،‬وليس مؤسس‬ ‫علم النفس‪ ،‬كما ترى الصيغة الشعبية‪ .‬وھو مارس الكتابة والتحليل النفسي والتدريس في فيينا‬ ‫وأسس الجمعيات وكان له تالمذة وحواريون‪ ،‬ويعتبر‪ ،‬في شكل من األشكال‪ ،‬أحد كبار المؤسسين‬ ‫للفكر الحديث في الكثير من المجاالت‪ .‬وكتبه الكثيرة‪ ،‬التي صيغ اكثرھا في األساس على شكل‬ ‫محاضرات ودراسات مطولة‪ ،‬ترجمت إلى شتى اللغات‪ ،‬ومنھا العربية‪ ،‬حيث توجد ترجمات عدة‬ ‫لمعظمھا‪ ،‬منھا ترجمة حققھا الباحث جورج طرابيشي‪ ،‬اما كتاب »علم األحالم« فقد ترجمه إلى‬ ‫العربية الباحث المصري مصطفى صفوان‪ ،‬وصدر في طبعات عدة‪ ،‬أما بالنسبة إلى فرويد‪ ،‬فال بد‬ ‫من أن نذكر أنه عورض كثيراً في حياته وبعد مماته‪ ،‬وكان من ابرز معارضيه تلميذاه يونغ وآدلر‬

‫»نزوة بونابرت« لتزفايغ‪ :‬استبداد الحاكم ومھنة معاونيه‬ ‫األربعاء ‪ ١٠‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫نعرف أن ستيفان تزفايغ‪ ،‬الكاتب النمسوي الذي كان واحداً من أكثر ك ّتاب اللغة األلمانية شعبية في‬ ‫العالم خالل النصف األول من القرن العشرين‪ ،‬كتب الكثير من السير لبعض عظماء زمنه‬ ‫واألزمان الماضية‪ .‬وھو كتب السير كما كتب الرواية‪ ،‬والشعراء والنصوص المسرحية‪،‬‬ ‫والمذكرات‪ .‬ولئن كانت كتاباته اإلبداعية اتسمت دائما ً ببعد ميلودرامي خلّف مدرسة في ھذا‬ ‫المجال‪ ،‬في القرن العشرين‪ ،‬فإن حياته نفسھا كما نعرف انتھت نھاية ميلودرامية‪ ،‬بل درامية‬ ‫حقيقية‪ .‬وإذا كان تزفايغ قد اختار أن يضع نھاية لحياته وحياة زوجته معه‪ ،‬فيما كانا يقيمان في‬ ‫البرازيل خالل السنوات األولى للحرب العالمية الثانية‪ ،‬فإن تلك النھاية ‪ -‬عن طريق االنتحار ‪-‬لم‬ ‫تأت‪ ،‬بحسب معظم المصادر‪ ،‬بسبب ظروف عائلية أو خاصة‪ ،‬بل انطالقا ً من رؤية سوداوية‬ ‫متشائمة ألحوال عالم بدأت تسيطر عليه الفاشيات وال سيما النازية‪ .‬ففي العام ‪ ،١٩٤٢‬الذي انتحر‬ ‫فيه ھذا الكاتب ذو الحساسية المفرطة‪ ،‬كان ھتلر يسجل أكبر انتصاراته العسكرية على الجبھات‬ ‫كافة‪ ،‬بحيث بدا من المؤكد ان ليس في ھذا العالم قوى قادرة على ر ّده‪ .‬وبالنسبة الى تزفايغ‪،‬‬ ‫الكاتب النمسوي المنفي قسراً في البرازيل‪ ،‬كان مثل ذلك االنتصار للدكتاتور النازي يعني نھاية‬ ‫العالم )وھو عنوان واحد من كتبه األخيرة(‪ ...‬اذ‪ ،‬ما أبشع عالم يسيطر عليه الفاشيون ويتحكم به‬ ‫الدكتاتوريون!‬

‫‪14‬‬


‫< ومھما يكن من أمر‪ ،‬فإن القراء الذين عرفوا أدب ستيفان تزفايع‪ ،‬من طريق رواياته العاطفية‬ ‫والميلودرامية‪ ،‬مثل »‪ ٢٤‬ساعة من حياة امرأة« و«حذار من الشفقة« و«السيدة المجھولة«‪ ،‬ما‬ ‫كان في امكانھم أبداً أن يخمنوا ان السياسة ومصائر العالم كانت تشغل بال ھذا المؤلف الى ھذا‬ ‫الحد‪ .‬غير ان ھذه الفرضية كانت تعني في الواقع ان أولئك القراء كانوا يتوقفون عند سطح كتابات‬ ‫تزفايغ‪ ،‬غير قادرين على التوغل في جوھر ما يريد قوله‪ ،‬ناھيك بأنھا كانت تعني ان جزءاً أساسيا ً‬ ‫من انتاج ھذا الكاتب كان مجھوالً بالنسبة اليھم‪ .‬وھم كانوا معذورين في ھذا‪ ،‬اذ ان الفارق في‬ ‫الشھرة بين أعمال تزفايغ العاطفية الشعبية‪ ،‬وبين كتاباته األخرى‪ ،‬سواء انتمت الى كتب السيرة أو‬ ‫الى المسرح‪ ،‬أو الى نوع خاص من كتابات نظرية كان يغوص فيه بين الحين واآلخر‪ ،‬ذلك الفارق‬ ‫كان كبيراً‪ .‬ومن ھنا القول ان جزءاً كبيراً من نتاج صاحب »حذار من الشفقة« ال يزال شبه‬ ‫مجھول حتى اآلن‪ .‬وفي يقيننا انه الجزء األھم‪.‬‬ ‫< من ھذا الجزء مسرحية كتبھا تزفايغ في العام ‪ ،١٩٢٩‬أي بالتزامن مع صعود الدكتاتوريات‬ ‫الفاشية في روما )موسوليني( وموسكو )ستالين( وبرلين )ھتلر(‪ ...‬لكن المسرحية ال تتخذ من أي‬ ‫من ھؤالء بطالً لھا‪ .‬بل تعقد البطولة لنابوليون‪ ...‬قبل أن يصبح نابوليون الذي نعرف‪ ،‬أي حين‬ ‫كان ال يزال الجنرال بونابرت‪ ،‬ويعيش صعوداً مؤكداً‪ ،‬سيقوده قريبا ً الى أن يصبح إمبراطوراً‪.‬‬ ‫إذاً‪ ،‬الزمن الذي تجري فيه أحداث ھذه المسرحية‪ ،‬كان ال يزال زمن ما ‪ -‬بعد الثورة الفرنسية‬ ‫مباشرة‪ ،‬حين تولى بونابرت قيادة الحملة العسكرية على مصر‪ .‬أما مكان األحداث فھو مصر‬ ‫نفسھا‪.‬‬ ‫< حملت المسرحية في أصلھا األلماني عنوان »خروف اإلنسان المسكين«‪ ،‬لكنھا عرفت في‬ ‫أوروبا باالسم الذي أعطي لترجمتھا الفرنسية الحقاً‪ ،‬وھو »نزوة بونابرت«‪ .‬وللوھلة األولى تبدو‬ ‫المسرحية »غرامية« في شكل أو في آخر‪ ،‬ذلك ان موضوعھا‪ ،‬المأخوذ من حادثة حقيقية‪ ،‬شھدتھا‬ ‫أعلى أوساط القيادة العسكرية الفرنسية في مصر في ذلك الحين‪ ،‬يتناول وله القائد بونابرت بزوجة‬ ‫حسناء‪ ،‬لواحد من ضباطه‪ ،‬وھو المالزم فوريس‪ .‬ولقد كان ھذا المالزم‪ ،‬واحداً من أكثر الضباط‬ ‫في الحملة إخالصا ً للثورة الفرنسية وقيادتھا ومبادئھا‪ ،‬وبالتالي كان كلي اإلعجاب ببونابرت‪،‬‬ ‫مواليا ً له‪ .‬ومن ھنا أسقط في يده تماماً‪ ،‬ولم يعد يعرف كيف يتعين عليه أن يتصرف‪ ،‬اذ عرف‬ ‫بأمر اعجاب بونابرت بزوجته‪ .‬اذ ازاء ذلك‪ ،‬راحت تمزقه األفكار وضروب الحيرة‪ ...‬ھو الذي‬ ‫كان ينظر الى قائده على أساس أنه التجسيد الحي للثورة‪ ...‬واإلنسان ‪ -‬مثله‪ ،‬أي مثل المالزم ‪ -‬اذا‬ ‫كان مستعداً لبذل روحه وكل غال ونفيس لديه من أجل الثورة‪ ،‬ھل يبخل بزوجته على من‬ ‫يجسّدھا؟ لقد ملكت الحيرة فؤاد ذلك المالزم الشاب‪ ،‬في وقت راح فيه الضباط يجابھون األمور‬ ‫بواقعية‪ :‬اذا كان القائد األكبر قد اختار تلك المرأة‪ ،‬ما على المالزم سوى الطاعة‪ ...‬وليس له اال ان‬ ‫يطلق زوجته كي يتمكن القائد من الحصول عليھا شرعا ً‪.‬أما في النھاية فكان ال بد مما ليس منه بد‪:‬‬ ‫يقرر المالزم أن يطلق زوجته فداء للثورة وقائدھا‪ .‬ولكن‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬يكون بونابرت قد نسي‬ ‫الموضوع برمته‪ ،‬ولم يعد راغبا ً في تلك السيدة‪ .‬كان األمر ‪ -‬بالنسبة اليه ‪ -‬مجرد نزوة عابرة‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫واآلن لم يعد أمام القيادة اال ان تنھي الموضوع على أحسن ما يرام‪ .‬ويتولى الجنرال نوشيه تسوية‬ ‫القضية‪ ،‬محيطا ً األمر كله بستار من الكتمان‪.‬‬ ‫< من الواضح ھنا‪ ،‬أن ستيفان تزفايغ لم يرغب في كتابة مسرحية عاطفية‪ ،‬أو عمل من النوع‬ ‫الفرنسي القائم على الثالثي الشھير‪ :‬الزوج ‪ -‬الزوجة ‪ -‬والعشيق‪ .‬فالكاتب منذ قرأ عن تلك القضية‬ ‫في سيرة نابوليون‪ ،‬أدرك على الفور مقدار ما تحتويه من أبعاد شديدة األھمية في دراسة شخصية‬ ‫الدكتاتور‪ ،‬كل دكتاتور وليس بونابرت وحده‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬استعار ذلك الموضوع‪ ،‬ليطرح من خالله‬ ‫بعض المسائل المھمة مثل مصلحة الدولة العليا‪ ،‬اذ تتجسد في رغبات الحاكم الفرد )القيادة‬ ‫العسكرية حين تطلب من المالزم فوريس أن يطلق زوجته‪ ،‬تأتي على ذكر مصلحة الدولة‪ ،‬ال على‬ ‫ذكر َو َله بونابرت بالسيدة(‪ ...‬ومصلحة الدولة ھنا تتمثل طبعا ً في االستجابة لنزوات سيد الدولة ‪-‬‬ ‫وبونابرت حين كان قائداً للحملة على مصر‪ ،‬كان يعامل كسيد للدولة‪ ،‬استعداداً لتحوّ له الى سيد‬ ‫حقيقي لھا‪ ،‬الحقا ً حين يعود الى فرنسا ‪ .-‬ومن ھنا واضح أيضا ً أن الكاتب‪ ،‬كان أھم ما يھمه في‬ ‫ذلك العمل ھو الدراسة العملية للكيفية التي تصاغ بھا عبادة الزعيم في الدول التوتاليتارية‪ .‬بالنسبة‬ ‫اليه‪ ،‬عبادة الزعيم ھذه يُشتغل عليھا‪ ،‬ودائما ً من قبل مجموعة من أشخاص يحيطون بالحاكم‪،‬‬ ‫يحمونه‪ ،‬يستجيبون لرغباته‪ ،‬يُخضعون كل اآلخرين لتلك الرغبات‪ ،‬ويتحولون ھم أنفسھم الى حكام‬ ‫باسمه معبرين في كل لحظة عن ارادته‪ ...‬وھذا ما يجعل ثمة وحدة تذويبية‪ ،‬بين الدكتاتور الحاكم‬ ‫وأعوانه المحيطين به‪ ...‬وھذا األمر ينظر اليه تزفايغ ھنا على أنه بديھي‪ ...‬بمعنى ان الدكتاتور‬ ‫حين يحكم‪ ،‬ويملي ويريد ويظلم ويقتل‪ ،‬ال يقوم بأي من ھذه األعمال وحيداً‪ ،‬بل وسط مجموعة من‬ ‫معاونين يصبح ھو بمثابة العقل والقلب بالنسبة اليھم ويصبحون ھم‪ ،‬بمثابة الجسد‪ .‬وھكذا يصبح‬ ‫من العبث المضحك‪ ،‬تبرئة الدكتاتور من تصرفات معاونيه‪ ،‬أو اعتبار تصرفاتھم وما يفعلون‪،‬‬ ‫أموراً نابعة من مصالحھم الخاصة التي قد تتعارض أحيانا ً مع مصالح الحاكم الدكتاتور‪.‬‬ ‫< إذاً‪ ،‬نحن ھنا ‪ -‬في حقيقة األمر ‪ -‬أمام دراسة معمقة لعبادة الفرد وكيف تصنع‪ .‬وما ينطبق على‬ ‫بونابرت في ھذا السياق‪ ،‬ينطبق على كل ذلك النوع من الحكام‪ .‬وإذ يقول ستيفان تزفايغ ھذا‪ ،‬كان‬ ‫يقوله ‪ -‬كما أشرنا ‪ -‬من منطلق معايشته لصعود دكتاتوريات قائمة أصالً على عبادة الفرد‪.‬‬ ‫وستيفان تزفايغ )‪ ،(١٩٤٢ - ١٨٨١‬اذا كان عرف بخاصة كروائي وشاعر‪ ،‬وكاتب سير‪ ،‬فإن له‬ ‫في الكتابة المسرحية جھوداً‪ ،‬ال تقل أھمية عن جھوده األخرى‪ ...‬بل كانت أكثر جدية في‬ ‫مواضيعھا من رواياته‪ .‬ومن أبرز مسرحيات ھذا الكاتب‪ ،‬اضافة إلى نزوة بونابرت ھذه‪» :‬بيت‬ ‫قرب البحر« عن الحرب الثورية األميركية‪ ،‬و »ترسينس« عن القوة الروحية التي يمكن أن يتمتع‬ ‫بھا كل شخص قد يكون ضعيفا ً جسدياً‪ ،‬و »جريميا« وھي مسرحية اقتبس الكاتب أحداثھا من‬ ‫العھد القديم‪ ،‬لكي يتحدث من خاللھا عن نظرته الشاجبة للحرب العالمية األولى‬

‫‪16‬‬


‫رحلة إلى الشرق« لدي نرفال‪ :‬االستشراق بال أفكار مسبقة‬ ‫الثالثاء ‪ ٩‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫أُثر عن الجنرال ديغول أنه كان ينصح المتوجھين إلى الشرق األوسط بأن يذھبوا إلى تلك المنطقة‬ ‫المعقدة بال أفكار مسبقة‪ ...‬وھذا النصيحة ال شك يتذكرھا المرء حين يقرأ العبارات التالية في‬ ‫سياق حديث كاتب وشاعر فرنسي عن رحلته إلى الشرق‪» :‬ما يھمني ھنا ھو أن أروي لك‪ ،‬كيفما‬ ‫اتفق‪ ،‬كل ما يحدث معي‪ ،‬سواء أكان ذا أھمية أم ال‪ ،‬ويوما ً بيوم إن كان ھذا في مستطاعي‪ ،‬على‬ ‫طريقة الكابتن كوك‪ ،‬الذي يكتب أنه شاھد ھذا اليوم طائر نورس أو بطريقاً‪ ،‬لكنه في اليوم التالي‬ ‫لم ير سوى جذع شجرة عائم‪ ،‬واصفا ً كيف أن البحر كان ھنا ھادئا ً صافياً‪ ،‬وھناك عكراً‪ .‬لقد فعل‬ ‫ھذا‪ ،‬لكنه عبر ھذه اإلمارات العابثة‪ ،‬عبر ھذه األمواج المتغيرة‪ ،‬كان يحلم بجزر مجھولة‬ ‫ومعطرة‪ ،‬لينتھي به األمر إلى أن يصل ذات مساء في انطواءاته‪ ،‬إلى حب خالص وجمال خالد«‪.‬‬ ‫بھذه العبارات التي تتصدر كتابه األشھر »رحلة إلى الشرق« عبر جيرار دي نرفال عن عالقته‬ ‫بھذا الكتاب‪ ،‬وعن الرغبة التي كمنت لديه خلف وضعه‪ .‬وكان قد سبق لھذا الكاتب الذي عاش‬ ‫مأساة غرام انتھت بموت حبيبته أوريليا‪ ،‬أن كتب في واحدة من صفحات الرواية التي كرسھا‬ ‫لحكاية الغرام ھذه‪» :‬إلى أين أنت ذاھب؟ قال لي‪ - .‬إلى الشرق! وفيما كان يرافقني‪ ،‬رحت أبحث‬ ‫في السماء عن نجمة كنت أعتقد أنني أعرفھا‪ ،‬كما لو كان لھا تأثير ما على مصيري‪ .‬وإذ وجدتھا‪،‬‬ ‫تابعت سيري في االتجاه الذي كانت تبدو لي فيه مرئية‪ - ،‬سائراً ‪ -‬إن جاز لي القول ‪ -‬نحو‬ ‫مصيري«‪.‬‬ ‫< بالنسبة إلى مؤرخي األدب من الذين اھتموا دائما ً بأدب الرحالت الذي كثرت آثاره‪ ،‬ألسباب‬ ‫رومانطيقية غالباً‪ ،‬في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر‪ ،‬تختلف رحلة دي نرفال إلى الشرق عن‬ ‫بقية الرحالت التي قام بھا كتاب مواطنون له أو أوروبيون‪ .‬ذلك أن رحلة دي نرفال كانت أبعد ما‬ ‫تكون عن ذلك البعد المادي واالستكشافي الذي طبع رحالت اآلخرين‪ .‬فھو كان ھاربا ً من مأساته‪،‬‬ ‫راكضا ً وراء مصيره في رحلته الشرقية‪ ،‬ولم يكن ليسعى إلى تأكيد شيء أو التعرف إلى أي‬ ‫شيء‪ .‬من ھنا‪ ،‬حتى وإن بدت رحلته منتظمة في خط سيرھا ‪ -‬طالما أن ھذا األمر بالذات لم يكن‬ ‫في يده ‪ ،-‬فإنھا بدت عشوائية في توجھھا العام‪ ،‬وفي النظرة التي راح دي نرفال يلقيھا على ما‬ ‫حوله طوال زمن الرحلة ومسافاتھا‪.‬‬ ‫< لم تكن رحلة دي نرفال إلى الشرق أول رحالته‪ ،‬فھو كان بعد في أواسط العشرينات من عمره‬ ‫حين بدأ يتجول في أوروبا‪ ،‬وحده حيناً‪ ،‬وفي رفقة ألكسندر دوماس في أحيان أخرى‪ ،‬لكن تلك‬ ‫الرحلة الشرقية كانت األوسع في حياته واألطول‪ .‬وكان دي نرفال الذي وصل فيينا أواخر عام‬ ‫‪ ١٨٣٩‬قد ارتبط ھناك بحلقة أصدقاء من بينھم فرانز ليست‪ ،‬ولكي يعيش تعاون مع بعض‬ ‫الصحف النمسوية‪ ،‬غير أنه بعد شھور اضطر إلى العودة إلى باريس‪ ،‬سيراً على األقدام تقريباً‪،‬‬ ‫بسبب إفالسه‪ .‬وفي عام ‪ ١٩٤١‬بدأت تصيبه أولى أزمات الجنون الذي سوف يصاحبه طوال‬ ‫‪17‬‬


‫الخمسة عشر عاما ً المتبقية من حياته‪ .‬وھكذا‪ ،‬إذ ماتت صديقته جيني كولون أواخر عام ‪،١٨٤٢‬‬ ‫راح يتنقل ھائما ً على وجھه فتوجه إلى مرسيليا ومنھا إلى مالطا‪ ،‬ومن ھنا ركب البحر إلى‬ ‫اإلسكندرية التي أقام فيھا أسبوعين قبل أن يتوجه إلى القاھرة حيث أقام ثالثة أشھر توجّه بعدھا‬ ‫إلى دمياط ومن ھناك إلى بيروت‪ ،‬مارا بيافا فعكا‪ .‬وھو أمضى في بيروت شھراً ونصف لم يمنعه‬ ‫مرضه خاللھما من القيام برحالت إلى المناطق الجبلية‪ .‬ثم واصل تجواله فوصل القسطنطينية‬ ‫حيث أقام بضعة شھور عاد بعدھا إلى مالطا فنابولي‪ ...‬وأخيراً حين وصل إلى باريس مجدداً‬ ‫عكف على كتابة نص رحلته على شكل حلقات صغيرة بعنوان »ذكريات الشرق« وكان ذلك في‬ ‫عام ‪ .١٨٤٤‬وفي عام ‪ ١٨٤٨‬نشر جزءاً أول يضم تلك الحلقات تحت عنوان »مشاھد من الحياة‬ ‫الشرقية‪ :‬نساء القاھرة«‪ .‬غير أن الكتاب لم يحقق الصدى المطلوب‪ ،‬إذ إن فرنسا كانت في ذلك‬ ‫الحين تعيش ثورة عارمة‪ .‬وفي عام ‪ ،١٨٥٠‬وبعد أن نشر بعض أعماله األدبية والمسرحية‪ ،‬عاد‬ ‫دي نرفال ونشر جزءاً ثانيا ً من رحلته الشرقية بعنوان‪» :‬مشاھد من الحياة الشرقية‪ ،‬نساء لبنان«‪.‬‬ ‫وفي العام التالي اتخذ العمل كله شكله النھائي تحت عنوان »رحلة إلى الشرق«‪ .‬وبدأ االھتمام‬ ‫بالكتاب يتجدد واإلقبال عليه يتزايد ليتخذ حياته الخاصة بعد ذلك‪ ،‬ويصبح واحداً من أشھر كتب‬ ‫دي نرفال‪ .‬لكن الكاتب لن يتمتع بثمرة ذلك النجاح طويالً‪ ،‬إذ أنه‪ ،‬على رغم مواصلته الكتابة‪،‬‬ ‫غرق في المرض والجنون ليموت أول عام ‪ ١٨٥٥‬موتا ً عنيفا ً‪ :‬إذ وجد فجر يوم ‪ ٢٦‬كانون الثاني‬ ‫)يناير( مشنوقا ً في شارع جانبي في باريس‪.‬‬ ‫< صحيح أن دي نرفال كان‪ ،‬طوال رحلته الشرقية‪ ،‬ال يتوقف عن معاناة أزماته الصحية والعقلية‪،‬‬ ‫غير أن ھذا بالكاد يبدو من خالل نصوص الكتاب‪ .‬فالكاتب يسجل بدقة ووعي كل ما يراه وكل ما‬ ‫يحدث معه‪ :‬لقد آلى على نفسه أن يراقب كل شيء وأن يرصد الحياة التي تدور من حوله‪ .‬إن ما‬ ‫يراه يختلف تماما ً عن كل ما كان خبره في حياته‪ .‬فھنا‪ ،‬ھا ھو في إزاء عالم غريب‪ ،‬مدھش‪،‬‬ ‫يختلط فيه القديم بالجديد‪ ،‬والمدينة بالريف‪ ،‬والطوائف باألديان‪ ،‬والداخل المحرّم بالخارج المباح‪.‬‬ ‫وھذا كله يجعل دي نرفال شديد الحساسية أمام التفاصيل الصغيرة‪ ،‬أمام كل رائحة يشمھا‪ ،‬وأمام‬ ‫كل تفصيل صغير يراه‪ .‬بل إن مخطط جوالته‪ ،‬التي تبدو وكأنھا ظاھريا ً تخاض كيفما اتفق‪ ،‬تبدو‬ ‫شديدة األھمية‪ .‬وفي ھذا اإلطار يحدثنا دومنيك شيفالييه عن كيف أن دي نرفال‪ ،‬في تجواله في‬ ‫بيروت مثالً‪ ،‬لم يسلك الطريق المعھودة التي كان يرسمھا غيره من الرحالة‪ ،‬إذ ينطلقون من‬ ‫المرفأ وصوالً إلى الداخل‪ ،‬بل فعل العكس‪ :‬انطلق من الداخل من أعلى المدينة ليصل إلى المرفأ‪.‬‬ ‫وراح في حركته الھبوطية يرصد مزاجية الناس وتغيراتھم‪ .‬بل أنه في طريقه يقدم لنا ما يكاد يشبه‬ ‫تقارير استخباراتية‪ ،‬مثالً‪ ،‬حين يلتقي بـ »مراسل« إنكليزي سرعان ما يشتبه في كونه‪ ،‬أصالً‪،‬‬ ‫جاسوسا ً لبالده‪ ...‬ويروح ھذا يحدثه عما ھو مقبل على ھذا البلد من حروب أھلية تدعم دول‬ ‫الخارج خاللھا الطوائف‪ ،‬بمعدل طائفة لكل دولة‪ ...‬ومن ھنا يتخذ الكتاب سمات متعددة في الوقت‬ ‫نفسه‪ ،‬فھو رصد اجتماعي وسجل سياسي وتاريخي‪ ،‬ووصف جغرافي ‪ -‬اجتماعي ‪ -‬ديموغرافي‪،‬‬

‫‪18‬‬


‫في الوقت نفسه الذي يبدو على شكل رحلة تعليمية ھروبية في آن معاً‪ ،‬تقوم بھا روح الكاتب‬ ‫الھائمة المشردة التي تبدأ تجوالھا من دون أن تعرف إلى أين سوف يقودھا‪.‬‬ ‫< ولعل األھم في ھذا كله ھو أن دي نرفال ال يبدو صاحب أفكار مسبقة عن ھذه المنطقة من‬ ‫العالم‪ ،‬يريد أن يجمع من األدلة ما يبرھن على صحتھا‪ ،‬كما كانت حال المارتين أو شاتوبريان أو‬ ‫غيرھما‪ .‬فإذا كان ھؤالء‪ ،‬في رأي نقادھم »غير قادرين خالل تجوالھم ورصدھم على الخروج من‬ ‫شرنقة رجال القرن التاسع عشر الفرنسيين‪ ،‬فجاؤوا ھنا لكي يتحققوا فقط من صحة أحكامھم‬ ‫المسبقة على الشرق«‪ ،‬فإن دي نرفال يبدو رحالة نزيھاً‪ ،‬فضوليا ً‪ ...‬لذلك بدالً من أن يشھد وينبھر‪،‬‬ ‫ھا ھو يرى ويندمج‪ ،‬من دون أن يفقد حس التحليل العقالني‪ .‬كذلك فإن دي نرفال لم يكن »مثل‬ ‫فلوبير‪ ،‬راكضا ً وراء مواد تساعده في أعماله األدبية«‪ .‬كان فقط مثل سابح ماھر ألقى نفسه في‬ ‫الماء من دون ھدف إال اإلحساس بعذوبة الماء وغرابته وجماله‪.‬‬ ‫< ولد جيرار البروني )الذي سيتخذ لنفسه وقد جاوز العشرين اسم دي نرفال( في عام ‪١٨٠٨‬‬ ‫ألب جنوبي وأم شمالية‪ .‬ولقد تلقى الفتى تعليمه في باريس حيث كان من بين رفاقه تيوفيل غوتييه‪.‬‬ ‫وبدأ باكراً بكتابة محاوالت أدبية‪ .‬وفي عام ‪ ١٨٢٨‬أنجز ترجمة لـ »فاوست« غوته أدخلته الحلقات‬ ‫األدبية‪ ،‬فراح ينشر ويرتبط بصداقات‪ .‬وھو عاش ألدبه ومن أدبه خالل الثالثة عقود التالية‪ ،‬وقام‬ ‫برحالت عدة‪ .‬ومن أشھر مؤلفات دي نرفال‪» :‬أوريليا« و »المركيزة فابول« و »لوريلي«‬ ‫و »بنات النار« و »األوھام«‪ ...‬وكان جزءا »أوريليا« آخر ما صدر له إذ صدر الجزء األول‬ ‫قبل موته بثالثة أسابيع‪ ،‬والثاني بعده بأسبوعين ونصف‪ ...‬في عام ‪.١٨٥٥‬‬

‫»البرج الزھر« لدي كيريكو‪ :‬ظالل مرعبة وفراغ رھيب‬ ‫اإلثنين ‪ ٨‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫قبل السورياليين بعقد ونصف العقد من السنين على األقل‪ ،‬اكتشف الفنان اإليطالي جورجيو دي‬ ‫كيريكو بعض األسس الالواعية لما سماه‪ ،‬مع زميله كارا‪ ،‬الرسم الميتافيزيقي‪ ،‬حيث صارت‬ ‫اللوحة بين يديه مكانا ً لتصوير الحلم‪ ،‬ليصبح الحلم نفسه مكانا ً لتأكيد الوجود‪ .‬والحقيقة ان رواية‬ ‫دي كيريكو‪ ،‬التي سيرويھا الحقا ً بنفسه‪ ،‬حول التجربة المتعلقة بواحدة من أولى لوحاته‬ ‫»الميتافيزيقية« وھي لوحة »البرج الزھر«‪ ،‬تكشف الكثير عن المسيرة التكوينية لھذا الفنان‪ .‬ومن‬ ‫األمور ذات الداللة ھنا ان يكون دي كيريكو قد ح ّدد زمن اكتشافه ذاك‪ ،‬وسط مرحلة من حياته‬ ‫تميزت بالعديد من االضطرابات النفسانية والجسدية التي أرھقته حقا ً‪ .‬ومن ھنا القول إن تجربة‬ ‫الرسم الميتافيزيقي كما عبر عنھا دي كيريكو‪ ،‬يمكن ان ُتقرأ وكأنھا محاولة لتجميد الدوخان الذي‬ ‫يثيره الموضوع المرسوم‪ ...‬او كأنھا إمارات على واقع سرعان ما سيتفكك‪ .‬اللوحة تأتي ھنا لتوفر‬ ‫لتلك األمارات مكانا ً وحجما ً وديمومة زمنية‪ .‬غير ان لوحة دي كيريكو‪ ،‬إذ تبدو مثل آلة من تلك‬ ‫‪19‬‬


‫اآلالت الخرافية التي تمكن اإلنسان من الذھاب صعوداً في الزمن‪ ،-‬فإنھا تبدو في الوقت نفسه ذات‬ ‫موضوع بالغ األھمية بالنسبة الى التحليل النفسي‪ ،‬ومن دون ان تكف في الوقت نفسه عن‬ ‫استعراض »سماتھا« الجمالية والتاريخية‪ ،‬فضالً عن السمات المتعلقة بالسيرة الذاتية للرسام‪ .‬فمن‬ ‫تصوير »اعماق النفس« بصورة رمزية الى تصوير الخواء البراني‪ ،‬ومن تذبذب الدال في اللوحة‬ ‫الى تجم ّده في صورة ذاتية‪ ،‬بالتضافر مع روح تھكمية‪ ،‬يتبدى معه الحلم في اللوحة وكأنه انقطع‬ ‫فجأة ‪ ،-‬تبدو اعمال دي كيريكو بصورة عامة منتمية الى عالم بيّن التأرجح‪ .‬وفي ھذا المجال‪ ،‬من‬ ‫الواضح ان الحديث عن ھذه اللوحات لدي كيريكو‪ ،‬يحيلنا على الفور الى الحديث عن دوخان‬ ‫المساحات الكبيرة الخاوية‪ ،‬وعن المدن المھجورة ذات الحيز الالنھائي‪ ،‬عن الساحات المقفرة‪،‬‬ ‫وعن الشوارع المحفوفة بالقناطر ذات الظالل غير المتساوقة‪ .‬إن في اعمال دي كيريكو عالما ً‬ ‫بأسره من التماثيل والدمى وضروب الموديالت‪ ،‬واألشياء المجمدة وسط ضوء ثابت متماثل غالبا ً‬ ‫ما ينتمي الى عالم الغسق‪ .‬وإذا كان ھذا كله ينطبق على العديد من لوحات جورجيو دي كيريكو‪،‬‬ ‫خالل مرحلته األولى على األقل‪ ،‬أي خالل السنوات السابقة والتالية مباشرة للحرب العالمية‬ ‫األولى‪ ،‬فإنه ينطبق بخاصة على لوحة له تعتبر نموذجية في ھذا اإلطار‪ ،‬وھي تحديداً‪» ،‬البرج‬ ‫الزھر« التي رسمھا في العام ‪ ،١٩١٣‬لكنھا مع ھذا تبدو بالنسبة الى الدارسين وكأنھا رسمت بعد‬ ‫الحرب‪ ،‬او في اثنائھا‪ .‬لماذا؟‬ ‫< ألن فن جورجيو دي كيريكو‪ ،‬الذي تزامن تقريبا ً مع ظھور فن »الدادا«‪ ،‬ينتمي اصالً الى تيار‬ ‫قام‪ ،‬مثل الدادا‪ ،‬على طابع يظھر الرعب إزاء الحياة الحديثة‪ .‬ولقد ظھر ھذا التيار خصوصا ً في‬ ‫ايطاليا في ذلك الحين‪ ...‬وكان دي كيريكو اباه المؤسس‪ ،‬كما كان ھو الذي اطلق عليه اسم »الفن‬ ‫الميتافيزيقي«‪ .‬اما موضوع ھذا الفن فكان االستالب والتغريب الحتميين والقاتلين اللذين يحسھما‬ ‫اإلنسان تجاه األشياء المألوفة التي كانت‪ ،‬وحتى ذلك الحين‪ ،‬تمثل المرجعيات العادية لوجوده‬ ‫اليومي‪ .‬وحتى اذا كان توجه دي كيريكو في ھذا السبيل استبق الحرب العالمية األولى‪ ،‬برؤيوية‬ ‫الفنان وحساسيته المفرطة‪ ،‬فلسوف يقال ان الفنانين الذين كانوا شاركوا في الحرب‪ ،‬راحوا ما ان‬ ‫عادوا منھا‪ ،‬ينظرون حتى الى األشياء المألوفة‪ ،‬بل بخاصة الى األشياء المألوفة‪ ،‬نظرة مختلفة‪:‬‬ ‫بدأوا يجدون الحياة المدنية »حياة عبثية‪ ،‬بل عبثية بشكل مغرق في مأسويته«‪ ،‬وفق ما سيكتب‬ ‫النقاد اإليطاليون‪ ،‬ومن بينھم شقيق دي كيريكو نفسه‪ ،‬الحقا ً‪ .‬وھذا الرعب او القلق ھو ما راح‬ ‫الفنانون يرغبون في التعبير عنه‪ .‬والمدھش ان دي كيريكو لم ينتظر اندالع الحرب وعودته المقلقة‬ ‫منھا لكي يعبر عن ذاته‪ .‬فھو كان قرأ »تفسير األحالم« لفرويد باكرا‪ ،‬وتضافر ذلك لديه مع‬ ‫»ذكريات« قراءاته المبكرة لكل من نيتشه وشوبنھاور‪ .‬كل ھذا جعل دي كيريكو يعبّر‪ ،‬باكراً‪ ،‬عما‬ ‫سيصبح التعبير عنه‪ ،‬بعيد الحرب‪ ،‬مألوفا ً‪ .‬ويتجلى ھذا بخاصة في لوحة »البرج الزھر«‪ ،‬التي‬ ‫تبدو ھنا وكأنھا تطبيق مسبق‪ ،‬لما سيقوله جاك الكان‪ ،‬احد كبار مفسري فرويد الفرنسيين‪ ،‬ومن‬ ‫الذين اھتموا بقضايا الحلم وعالقته بالفن‪» :‬ان ما يميز الصورة في الحلم‪ ،‬ھي انھا قبل أي شيء‬ ‫آخر تشير‪ ،‬أي تدل‪ ،‬وتظھر‪ :‬عودوا مثالً الى نص حلم ما‪ ،‬وموضعوا النص ضمن اطاره المنطقي‬ ‫‪20‬‬


‫وضمن اطار معطياته العديدة ستجدون ان ما يشير ويظھر ھو الذي يأتي في المقدمة‪ ،‬ويأتي في‬ ‫المقدمة مع كل المميزات الخاصة به‪ :‬ومنھا غياب األفق‪ ،‬وانغالق ما كان جرى تأمله في حال‬ ‫اليقظة‪ ،‬اضافة الى سمتي االنبثاق والتناقض الكلي‪ ،‬وسمة التلطخ اللوني التي تطغى على الصور‬ ‫مكثفة الوانھا‪ ،‬ما يجعل موقعنا من الحلم في نھاية األمر موقع ذاك الذي ال يرى شيئا ً«‪.‬‬ ‫< من الواضح ان ھذا الوصف الذي يورده الكان‪ ،‬يبدو وكأنه يصف فن دي كيريكو‪ ،‬وخصوصا ً‬ ‫لوحة »البرج الزھر« حيث نجد اإلحالة مباشرة الى اعادة الحلم‪ ،‬والالوعي‪ ،‬الى عالم اللغة‪...‬‬ ‫وكان ھذا‪ ،‬في حقيقة األمر‪ ،‬يشكل اساسيات الرسم الميتافيزيقي‪ ،‬حيث تلوح أسبقية اللغوي على‬ ‫البصري‪ ،‬والكلمات على الصورة‪ ،‬والمدلول على الدال‪ .‬وفي ھذا اإلطار قد يكون من المفيد‬ ‫اإلشارة الى اھمية العناوين في لوحات دي كيريكو‪ ،‬في شكل عام‪ ،‬وكذلك الى »الشاعرية« التي‬ ‫تميز اعمال ھذا الفنان‪ .‬وكل ھذا لن يكون من التعسف اإلشارة الى وجوده في تلك اللوحة المبكرة‬ ‫التي اتت‪ ،‬على الضد من فنون الطليعة التكعيبية وعلى الضد من تجريدييھا الذين انعتقوا بسرعة‬ ‫من اللفظي‪ ،‬مستديرين في اتجاه الرسم البحت‪ ،‬أي نقاوة ما ھو تصويري‪ .‬اما‪ ،‬في عودتنا الى دي‬ ‫كيريكو‪ ،‬فمن المناسب ھنا ان نشير الى واحدة من مقوالته األساسية ھو الذي كتب يوما ً بأن‬ ‫»الغموض الموجود في ظل كائن يسير تحت اشعة الشمس‪ ،‬يفوق كل الغموض الذي حفلت به كل‬ ‫عقائد العالم‪ ،‬ماضيا ً وحاضراً ومستقبالً«‪.‬‬ ‫< تقول لنا سيرة جورجيو دي كيريكو‪ ،‬على اي حال‪ ،‬انه لم يواصل غوصه في الفن‬ ‫»الميتافيزيقي« طويالً بعد ذلك‪ ،‬اذ ما إن حلت سنوات العشرين‪ ،‬وانقضت »صدمة« الحرب‬ ‫العالمية األولى‪ ،‬حتى راح يتخلى بالتدريج عن ذلك الفن الذي مارسه ودعا إليه طوال نحو عقد من‬ ‫السنين‪ ،‬لصالح ايمان متجدد بعصر النھضة‪ ،‬بل انه سرعان ما راح يعتبر نفسه فنانا ً كالسيكياً‪،‬‬ ‫اضافة الى إمعانه في نوع جديد من الفن الذاتي رفعه الى رسم نفسه وبورتريھات شخصية له في‬ ‫اكثر من ثالثين لوحة‪ ،‬ما اوصل نقاده الى حدود الحديث عن نرجسية مفرطة لديه‪ ...‬غير ان ھذا‬ ‫موضوع آخر‪ ،‬اما موضوعنا ھنا‪ ،‬فھو تلك المرحلة األولى واألساسية من مسار دي كيريكو‪ ،‬حيث‬ ‫رسم لوحات عديدة صوّ رت‪ ،‬الى الفراغ والالنھائية‪ ،‬وعبر اسلوب شاعري مغرق في حداثته‪،‬‬ ‫اكتشاف اإلنسان لرعب األشياء المحيطة به‪ .‬وما الرعب سوى اإلحساس الصارخ المتمثل في‬ ‫لوحة »البرج الزھر« حيث من الالفت ان العنصر األساس في اللوحة انما ھو ظل األشياء‪ ،‬ال‬ ‫صورتھا الحقيقية‪ ...‬حتى وإن كان البرج الزھر في خلفية اللوحة ھو ما اعطاھا اسمھا‪.‬‬ ‫< ولد جورجيو دي كيريكو في اليونان‪ ،‬في العام ‪ ،١٨٨٨‬ورحل عن عالمنا في العام ‪،١٩٧٨‬‬ ‫وھو‪ ،‬على رغم والدته اليونانية كان فنانا ً ايطاليا ً‪ .‬اتجه في بداياته الى الفلسفة واألدب‪ ،‬ما ظل اثره‬ ‫مطبوعا ً في اعماله التشكيلية طوال حياته‪ ،‬ودرس خصوصا ً فلسفة التشاؤم‪ .‬وبعد ذلك اتجه الى‬ ‫دراسة الفن التشكيلي‪ ،‬في ألمانيا‪ ،‬حيث انضم الى األكاديمية الملكية في ميونيخ‪ .‬مھتما ً بالرسم‬ ‫األلماني في القرن التاسع عشر‪ ،‬وخصوصا ً بأعمال آرنولد بوكلين‪ ،‬الذي سيرتبط به فنه خالل‬ ‫‪21‬‬


‫مرحلة طويلة من مسار ذلك الفن‪ .‬ولقد شارك دي كيريكو في الحرب العالمية األولى وواصل‬ ‫الرسم خاللھا‪ ،‬بحيث اسس تيار الرسم الميتافيزيقي‪ ،‬بصورة رسمية بعد إرھاصات اولى‪ ،‬مع‬ ‫زميله كارلو كارا‪ .‬عاش في باريس ردحا ً قبل عودته الى ايطاليا في العام ‪ ،١٩٤٠‬حيث واصل‬ ‫الرسم حتى رحيله‪ ،‬منصرفا ً بين الحين واآلخر الى كتابة خواطر ودراسات حول فنه‪ ...‬والفن‬ ‫عموما ً‬

‫»مقالة عن العصيان المدني« لھنري ثورو‪ :‬العدل قبل القانون أحيانا ً‬ ‫السبت ‪ ٦‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫ذات يوم عند أواسط القرن التاسع عشر‪ ،‬كان الكاتب والفيلسوف األميركي ھنري دافيد ثورو في‬ ‫السجن ينفذ عقوبة صدرت في حقه‪ .‬وحدث يومھا أن زاره صديقه وأستاذه الشاعر الكبير‬ ‫أميرسون‪ .‬وما إن التقيا عبر القضبان حتى صرخ ھذا األخير بالكاتب السجين‪» :‬ھنري‪ ...‬ماذا‬ ‫تصنع ھنا خلف القضبان؟«‪ ،‬فكان جواب ثورو سؤاالً طرحه بدوره على صديقه‪ ،‬ولكن في لھجة‬ ‫أكثر استنكاراً‪» :‬بل أنت يا والدو‪ ...‬ما الذي تصنعه خارج القضبان؟«‪ .‬ولم يكن ذلك الحوار بين‬ ‫االثنين عبثيا ً أو كافكاوياً‪ ،‬ألن ثورو كان يقصد بالتحديد أن يذ ّكر صديقه وأستاذه بأنه‪ ،‬أي‬ ‫أميرسون و »كل فرد آخر ممن يؤمن بحقوق اإلنسان الطبيعية وفي حريته الفردية‪ ،‬ال يجوز له أن‬ ‫يستسلم لدولة تجنح عن طريق الصواب كما يمليه الضمير الحر‪ ،‬وإن أدى به عصيانه إلى‬ ‫السجن«‪ ،‬أو ھذا على األقل ما يمكننا أن نفھمه من ذلك »الحوار« وفق تفسير الدكتور زكي نجيب‬ ‫محمود في دراسة له عن »ھنري دافيد ثورو والفردية المتطرفة«‪ .‬ولئن كان مفكرنا العربي‬ ‫أصاب في تفسيره الحوار بين أميرسون وثورو‪ ،‬فإنه لم يكن دقيقا ً في العنوان الذي أعطاه لدراسته‪.‬‬ ‫إذ صحيح أن ثورو كان يدعو إلى الـــفردية‪ ...‬ولكن‪ ،‬ليس إلى فردية متطرفة‪ ،‬ھو الذي كان لسان‬ ‫حاله يقول دائما ً إن »الحياة الطليقة في ظــــل حكومة ظالمة ھي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة‬ ‫عدالً«‪ .‬في كتاباته كلھا‪ ،‬خصوصا ً في نصه األشھر‪ ،‬والذي كان ذا تأثير كبير على الكثير من‬ ‫الحركات االحتجاجية في القرن التاسع عشر‪» ،‬مقالة عن العصيان المدني«‪ ،‬لم يكن ثورو يدعو‬ ‫إلى أية فردية مطلقة بل إلى ثورة من دون عنف‪ ،‬وإلى عدالة اجتماعية من دون ضغوط‪ .‬وھو في‬ ‫ھذا اإلطار كتب في واحد من فصول نصه الشھير »مقالة عن العصيان المدني« يقول‪» :‬إن القول‬ ‫إن الفرد خلق ليعيش في مجتمع أكذوبة كبرى‪ ،‬والعكس ھو األقرب إلى الصواب‪ ،‬فقد خلق‬ ‫المجتمع من أجل الفرد )‪ .(...‬إن الناس يريدون أن يحتفظوا بما يسمونه سالمة المجتمع ‪ -‬بسكوتھم‬ ‫عما يُقترف باسم القانون ‪ -‬من أعمال العنف كل يوم‪ .‬فانظر إلى الشرطة وما تحمل من عصي وما‬ ‫تعده للناس من أغالل‪ .‬انظر إلى السجون والمقاصل )‪ (...‬إننا نعطي الحكم للغالبية ال ألنھا أكثر‬ ‫منا حكمة‪ ،‬بل ألنھا أقوى منا بكثير«‪.‬‬

‫‪22‬‬


‫< إزاء مثل ھذه اآلراء الواضحة ھل سيكون غريبا ً أن نرى المھاتما غاندي‪ ،‬محرر الھند في‬ ‫القرن العشرين‪ ،‬يص ّرح دائما ً وعلنا ً بأن أفكار ھنري دافيد ثورو شكلت مكونا ً أساسيا ً من مكوناته‬ ‫الفكرية؟ غير أن غاندي لم يكن الوحيد الذي »أعاد اكتشاف« ثورو في القرن العشرين‪ ،‬ذلك أن‬ ‫أنصار البيئة المتكاثرين عدداً وقوة خالل النصف الثاني من القرن المنصرم بدوا منذ وقت مبكر‬ ‫أنھم إنما يتبنون أفكار ثورو الطبيعية المبكرة‪ ،‬سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا به‪ .‬ففي كتابين له‬ ‫على األقل‪ ،‬وھما »والدن‪ ...‬أو الحياة في الغابات« )‪ (١٨٤٩‬و »غابات مين« )‪ (١٨٦٤‬أشار‬ ‫ثورو إلى الطريق القادرة على إنقاذ البشرية‪ :‬الطريق إلى أحضان الطبيعة وأسلوب الحفاظ على‬ ‫البيئة‪ .‬لقد كان ھذان الكتابان من أھم ما كتب ثورو‪ ،‬غير أن ما يھمنا ھنا إنما ھو كتابه عن‬ ‫»العصيان المدني«‪.‬‬ ‫< ھذا الكتاب الذي وضعه ھنري دافيد ثورو ونشره في عام ‪ ،١٨٤٩‬كان عنوانه في األصل‬ ‫»مقاومة الحكومة المدنية« لكنه سرعان ما بدل عنوانه بسبب ما قد يبدو في ھذا العنوان من‬ ‫التباس‪ ،‬كما قال الحقا ً‪ .‬أما الموضوعة األساسية في الكتاب فھي »حق الفرد في الخروج على‬ ‫الدولة«‪ ...‬ولكن ليس أي دولة وال كل دولة بالطبع‪ .‬وھذا األمر توضحه طبعاً‪ ،‬ظروف وضع‬ ‫الكتاب‪ ،‬في شكل بيان سياسي آنيّ ‪ .‬فالواقع أن ثورو كتب ھذا الكتاب بعد أن رأى أمته التي كان‬ ‫يؤمن بقيمھا كثيراً‪ ،‬ويؤمن بأفكار مؤسسيھا اإلنسانية »تنحرف عن العدالة والحق« كما يراھما‪،‬‬ ‫وذلك »في حرب المكسيك‪ ،‬وفي مسألة العبيد‪ ،‬وفي معاملة الھنود الحمر ســكان البالد‬ ‫األصليين«‪ .‬ھكذا‪ ،‬إذ أمعن المفكر النظر ‪ -‬كما سيؤكد الحقا ً ‪ -‬في مجـــمل ھــــذه القضايا اتخذ‬ ‫بينه وبين نفسه قراراً حاسما ً فحواه أن من حقه أال يدفع الضرائب إلى الحكومة‪ ،‬معلناً‪ ،‬بذلك‬ ‫احتجاجه‪ ،‬فكان أن سجن‪ .‬وھو لم يطلق سراحه إال بعد ذلك حين تقدم عــــدد من أصدقائه ودفعوا‬ ‫الضريبة عنه‪ .‬غير أن ھذا لم يمنع السؤال األساسي من أن يظل قائما ً في نظره‪ :‬ھل للفرد حق‬ ‫االمتناع عن دفع ضرائبه إلى الحكومة إن ھو وجدھا انحرفت عن الحق والعدالة؟ ولإلجابة على‬ ‫ھذا السؤال‪ ،‬كان الكتاب‪.‬‬ ‫منضو تحت سلطة الدولة )أو باألحرى‪ :‬الحكومة(‬ ‫< رأى ثورو في كتابه أن للفرد ھذا الحق »ألنه‬ ‫ٍ‬ ‫باختياره‪ ،‬وتبعا ً لشروط تعاقدية معينة«‪ ،‬لذلك فإنه »وباختياره‪ ،‬وكر ٍّد على إخالل الدولة بتلك‬ ‫الشروط‪ ،‬يمكنه االنشقاق عنھا والخروج عليھا«‪ .‬بل إن ثورو رأى أن ذلك ليس من حق الفرد‬ ‫فقط‪ ،‬بل من واجبه أيضا ً‪ .‬وإلى ھذا قال ثورو في صفحات كتابه‪ ،‬على سبيل االستنتاج إن »أفضل‬ ‫الحكومات ھي حكومة ال تحكم على اإلطالق‪ .‬وھذه الحكومة ھي التي ستكون حكومة الناس في‬ ‫المستقبل‪ ،‬شرط أن يع ّد الناس أنفسھم لھا«‪ .‬أما الدولة الحرة المستنيرة فإنھا »لن تقوم‪ ،‬بمعناھا‬ ‫الصحيح‪ ،‬إال إذا اعترفت ھذه الدولة بأن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتھا‪ ،‬تستمد ھي منه كل ما لھا‬ ‫من قوة وسلطان«‪ .‬وإذ يصل ثورو إلى ھذا الحد من تفكيره يتساءل‪» :‬أليس من الجائز أن يصيب‬ ‫الفرد وتخطئ الحكومة؟ ھل يجب أن نفرض القوانين على الناس فرضاً‪ ،‬ال لشيء إال ألنھا صيغت‬ ‫على ھذا النحو‪ ،‬وألن نفراً من الناس قد قرر أنھا على صواب؟ ھل ثمة ما يحتم على الفرد أن‬ ‫‪23‬‬


‫يكون أداة تنفذ عمالً ال يوافق عليه؟« ويخلص ثورو موجھا ً كالمه إلى المجتمعات قائالً‪» :‬ال‬ ‫يتعين أن تعلّموا الناشئة احترام القانون بمقدار ما ينبغي أن تعلموھم احترام الحق‪ .‬إن النتيجة‬ ‫الحتمية الحترام القانون بغير ما ھو موجب‪ ،‬ھي أن نرى األفراد المج ّندين في ھذه الصفوف من‬ ‫الضباط والجنود يســـيرون في نظام عجيب غريب وانضباط أعجب وأغرب‪ ،‬فوق السھول‬ ‫والجبال‪ ،‬إلى حـــومات القتال على رغم إرادتھم‪ .‬نعم‪ ،‬على رغم إرادتھم وعلى رغم إدراكھم‬ ‫الفطري الســـليم‪ ،‬وعلى رغم ما تمليه عليھم ضمائرھم‪ ...‬والحال أن ھذا اإلدراك الواعي ھو ما‬ ‫يجعل سيرھم ھذا شاقا ً عسيراً‪ ،‬أشد ما يكون العسر والشقاء‪ ...‬يجعله سيراً تلھث منه القلوب«‪.‬‬ ‫< ولد ھنري دافيد ثورو عام ‪ ١٨١٧‬في مدينة كونكورد في والية ماساتشوستس األميركية‪ .‬ومنذ‬ ‫شبابه صار تلميذاً لوالدو أميرسون وصديقا ً له‪ .‬وھو عرّ ف نفسه ذات يوم بقوله »أنا متصوّ ف‪،‬‬ ‫تجاوزي وفيلسوف طبيعة من قمة رأسي إلى أخمص قدميّ «‪ .‬وھو على غرار غيره من المؤلفين‬ ‫األميركيين تنقل بين مھن عدة‪ ،‬على رغم أنه لم يعش سوى ‪ ٤٥‬عاماً‪ ،‬قضى معظمھا نزيل الغابات‬ ‫في أحضان الطبيعة يعيش متفرداً مھتما ً بدراسة النباتات والحيوانات‪ ،‬وھو ما عبر عنه في معظم‬ ‫كتبه‪ .‬غير أنه قبل ذلك‪ ،‬ومنذ عام ‪ ،١٨٤٣‬كان شديد االحتجاج على حرب المكسيك الظالمة وعلى‬ ‫سوء معاملة العبيد وإفناء الھنود الحمر‪ ...‬ما أدى إلى سجنه‪ .‬ولم يكن من الصدفة أن يكون الك ّتاب‬ ‫اإلنكليز‪ ،‬ال األميركيون‪ ،‬أفضل وأول من اكتشف فلسفة ثورو‪ .‬أما أعماله‪ ،‬ال سيما يومياته )‪١٤‬‬ ‫مجلداً( وكتاباته المختارة فلم تنشر على نطاق واسع إال مع بداية القرن العشرين‪ ،‬أي أربعين سنة‬ ‫بعد موته في عام ‪.١٨٦٢‬‬

‫»كينغ كونغ« لشودساك وكوبر‪ :‬من ھو الوحش الحقيقي؟‬ ‫الجمعة ‪ ٥‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫من الناحية التقنية يبدو اليوم فيلم »كينغ كونغ« أشبه بلعبة أطفال‪ .‬لكنه في الزمن الذي حقق فيه‪،‬‬ ‫أي في العام ‪ ،١٩٣٣‬كان يعتبر مأثرة تقنية ع ّز نظيرھا منذ ابتكارات الفرنسي جورج ميلياس عند‬ ‫‪24‬‬


‫بدايات السينما وبدايات القرن العشرين‪ .‬قد تبدو كلفة الفيلم اليوم مضحكة )‪ ٧٥‬ألف دوالر(‪ ،‬لكنھا‬ ‫في ذلك الحين كانت تعتبر شديدة الضخامة الى درجة ان موزعي الفيلم ركزوا على حجمھا في‬ ‫دعاياتھم‪ ،‬بمقدار ما ركزوا على حجم ذلك القرد الضخم‪ ،‬بطل الفيلم الحقيقي‪ ،‬الذي زرع الرعب‬ ‫في نفوس المتفرجين في الصاالت‪ ،‬بقدر ما زرعه ‪ -‬على الشاشة ‪ -‬في قلوب أھالي نيويورك حين‬ ‫اعتلى اضخم ناطحات سحابھا وراح يھدد ويتوعد مطالباً‪ ،‬ليس فقط بحريته‪ ،‬بل بأن تعاد اليه‬ ‫حبيبته‪ .‬وحبيبته ليست سوى امرأة حسناء من لحم ودم‪ ،‬أوقعه القدر في مصيدة غرامھا فـ‪ ...‬قضى‬ ‫عليه‪ ،‬ھو الذي كان يفترض به ان يقضي على الجميع‪.‬‬ ‫* في ظاھره‪ ،‬اذاً‪ ،‬يبدو فيلم »كينغ كونغ« فيلم رعب‪ ،‬يقوم على مبدأ التفاوت الكبير بين حجم‬ ‫القرد البدائي فيه‪ ،‬وحجم الناس اآلخرين‪ .‬ذلك ان ھذا القرد انما ينتمي كما يقول لنا الفيلم‪ ،‬أصالً‪،‬‬ ‫الى جزيرة تعيش فيھا مجموعة من حيوانات انقرضت في كل مكان في العالم إال ھناك‪ .‬أما القرد‬ ‫كونغ‪ ،‬فإنه االضخم من بينھا‪ ،‬ومن ھنا‪ ،‬في موطنه األول في تلك الجزيرة‪ ،‬صير الى تبجيله سيداً‬ ‫للجزيرة ولقومھا البدائيين‪ .‬ولقد كان يمكنه ان يظل ھكذا سيداً الى األبد‪ ،‬لوال الغرام‪ .‬تماما ً كما كان‬ ‫يمكن الجزيرة نفسھا ان تبقى فردوسية لوال المستكشفون السينمائيون البيض‪ .‬ومن ھنا يلتف الفيلم‬ ‫ليتخذ سمات اخرى غير السمات التي يعد بھا‪ :‬ھنا نجدنا أمام نسخة مع ّدلة بعض الشيء من حكاية‬ ‫»جميلة والوحش« ‪ -‬ولكن مع نھاية أشد سوداوية بالطبع ‪ ،-‬كما نجدنا امام فيلم يناصر البيئة‪ ،‬قبل‬ ‫والدة االھتمام المعاصر بالبيئة‪ ...‬ناھيك بأن الفيلم يقترح علينا في الوقت نفسه‪ ،‬ان نقف‪ ،‬في‬ ‫المقارنة بين أدغال المدينة )نيويورك ھنا( وبين األدغال البدائية‪ ،‬مناصرين ھذه االخيرة‪ .‬وفي‬ ‫المحصلة االخيرة ھو‪ ،‬ايضا ً وبخاصة‪ ،‬فيلم عن السينما واالستعراض‪ .‬أو لعل ھذا ھو جوھره‬ ‫الخفي‪.‬‬ ‫* ح ّقق فيلم »كينغ كونغ« في العام ‪ ،١٩٣٣‬اذاً‪ ،‬انطالقا ً من فكرة للكاتب ادغار واالس‪ ،‬الذي‬ ‫عرف برواياته البوليسية اضافة الى كتابته روايات المغامرات‪ ،‬غير ان الفكرة التي كان يتعين‬ ‫عليھا ان تكون فكرة فيلم مغامرات ورعب‪ ،‬سرعان ما اتخذت بين يدي مخرج الفيلم ومعاونته‪،‬‬ ‫ارنست شودساك وماريان كوبر‪ ،‬منحى آخر تماماً‪ ،‬ھو المنحى الذي اقترحته الفقرات السابقة‪.‬‬ ‫وھذا األمر لم يخف عن ھواة ھذا الفيلم الذين كانوا كثراً يوم عرض‪ ،‬وتكاثر عددھم اكثر مع‬ ‫مرور العقود‪ .‬اما الجمھور العريض‪ ،‬فإنه اكتفى بالنظر اليه باعتباره فيلم رعب ومغامرات رائداً‬ ‫وتجديديا ً في زمنه‪...‬‬ ‫< تدور حكاية »كينغ كونغ« من حول فريق من السينمائيين توجه الى ماليزيا لكي يحقق فيلما ً عن‬ ‫عادات بعض القبائل البدائية ھناك‪ ،‬ومعتقداتھا‪ .‬وھذه الرحلة االستكشافية قادت الفريق‪ ،‬وفي عداده‬ ‫ممثلة حسناء وعاطلة من العمل منذ زمن‪ ،‬الى زاوية من تلك البالد‪ ،‬تعيش في أدغال غاباتھا‬ ‫حيوانات ضخمة من النوع الذي انقرض في كل مكان آخر‪ .‬ومن بين ھذه الحيوانات‪ ،‬اذاً‪ ،‬ذلك‬ ‫القرد الضخم الذي اعتاد أھل الجزيرة ان يقدموا اليه خطيبة حسناء قربانا ً في كل مرة زمجر فيھا‬ ‫‪25‬‬


‫غضبه‪ .‬وإذ يبدي القرد »كونغ« غضبه بعنف ھذه المرة‪ ،‬اذ اكتشف حضور فريق التصوير‪ ،‬يقرر‬ ‫السكان ان يخصّوه بالممثلة الشابة خطيبة له‪ ،‬وھكذا ُتخطف الفتاة من بين رفاقھا وتوضع بين يدي‬ ‫»كينغ كونغ«‪ ...‬وعلى الفور ما إن تلتقي عينا القرد بعيني الحسناء‪ ،‬حتى يبدو واضحا ً انه قد وقع‬ ‫في غرامھا‪ ،‬وبات يص ّر على ان تبقى معه‪ .‬لكن رفاق الفتاة ال يرون االمور من ھذا المنظور‪ ،‬بل‬ ‫يسعون بالقوة او بالحيلة او باالثنتين معاً‪ ،‬الى تخليصھا‪ ،‬فال يتمكنون من ھذا فقط في نھاية األمر‪،‬‬ ‫بل انھم يتمكنون من تقييد القرد العمالق ومن ثم ينقلونه على متن السفينة الى نيويورك ليقدموه‬ ‫فرجة استعراضية أمام عيون الجمھور المفتون والمرعوب في اآلن معا ً‪ .‬وھكذا يجد القرد نفسه‬ ‫وقد نقل من ادغاله البدائية حيث كان سيداً‪ ،‬الى »ادغال« نيويورك حيث صار مجرد فرجة‪.‬‬ ‫فيغضب ويكسر ذات يوم قيوده ويبدأ البحث عن فاتنته فالتا ً من مطارديه معتليا ً أعلى ناطحات‬ ‫السحاب في المدينة‪ .‬ولم يكن من شأن ھذا‪ ،‬في طبيعة الحال‪ ،‬إال ان يزرع الرعب بين السكان‪،‬‬ ‫وسط دھشة الحيوان نفسه‪ ،‬الذي تنم عيناه بكل براءة وفي كل لحظة‪ ،‬انه في الحقيقة ال يريد األذى‬ ‫ألحد‪ ،‬وال يريد سوى حبيبته وحريته‪ .‬ولكن أ ّنى ألھل ادغال العصور الحديثة ان يفھموا ھذا؟ أ ّنى‬ ‫لقلوبھم الجلفة ان تفھم الحب وأن تفھم رغبات الطبيعة؟ أ ّنى لھا ان ترى في القرد سوى حيوان‪،‬‬ ‫إما ان تقيده وتستعبده وإما ان ترتعب أمامه؟ وھكذا تنطلق المدينة كلھا في مطاردة عنيفة للقرد ال‬ ‫رحمة فيھا وال ھوادة‪ .‬وھو‪ ،‬ھنا‪ ،‬اذ يخرّب ويدمّر‪ ،‬من الواضح ‪ -‬ووفق منظور الفيلم ‪ -‬انه انما‬ ‫يفعل ھذا دفاعا ً عن نفسه ضد ھمجية »رجل االدغال الحديثة« ‪ -‬ولسنا ھنا بعيدين جداً من سلسلة‬ ‫من أفالم وأعمال أتت تالية ودانت االنسان نفسه في تعامله مع كل ما ھو بدائي‪ ،‬ومن ھذه االعمال‬ ‫»عصافير« ألفريد ھيتشكوك بالطبع ‪ .-‬المھم ان االنسان المتحضر ينتھي به االمر الى االستعانة‬ ‫بسرب من الطائرات الحربية يدور ويدور من حول ناطحة السحاب التي لجأ اليھا »كينغ كونغ«‬ ‫حتى يتمكن في نھاية األمر من اصابته فيسقط مضرجا ً بدمائه فيما عيناه تعلنان بصمته الحزين‪،‬‬ ‫لوعته لفقد حبيبته‪.‬‬ ‫< من الواضح ان فيلم »كينغ كونغ« على رغم بساطة أحداثه وأسلوبه الخطي‪ ،‬الذي ال لبس فيه‬ ‫وال غموض‪ ،‬يمكن قراءته ضمن اطار الكثير من األبعاد‪ ،‬المباشرة وغير المباشرة‪ ،‬بل إن في‬ ‫االمكان ايضا ً قراءته‪ ،‬على ضوء الصدمة االقتصادية الكبرى التي كانت اصابت الواليات المتحدة‬ ‫قبل تحقيق الفيلم بسنوات قليلة‪ ،‬انطالقا ً من بورصة نيويورك نفسھا‪ ،‬ما أوقع الناس في رعب من‬ ‫المجھول ومن المستقبل‪ .‬غير ان الجديد في ذلك كله‪ ،‬كان المنظور الذي به نظر الى الحكاية‬ ‫صانعو الفيلم‪ :‬انه منظور مفاجئ ومبكر يقف في خط فكري واضح ‪ -‬من غير ترتيب مسبق على‬ ‫األرجح ‪ -‬مع مدرسة االنثروبولوجيا الحديثة التي بدأت مع بواس وصوالً الى كلود ليفي ستراوس‪،‬‬ ‫لتكف عن ان ترى في حضارة الرجل األبيض ترياقا ً للبشرية وتخلفھا‪ .‬فاألبيض ھنا ھو الوحش‪،‬‬ ‫ھو الھمجي الذي يفتري على الطبيعة البكر‪ .‬وحتى إن لم يكن ھذا األمر جديداً تماماً‪ ،‬في ذلك‬ ‫الحين‪ ،‬فإن أھمية »كينغ كونغ« تكمن في انه نقله من حيز االفالم النخبوية الخجولة في تعبيرھا‬

‫‪26‬‬


‫عن ھذا االمر‪ ،‬الى حيز السينما الشعبية‪ .‬وليس ادل على ھذا من صحافة ذلك الزمن التي راحت‪،‬‬ ‫يومھا‪ ،‬تسھب في وصف الدموع التي انھالت على الوجنات حزنا ً على مصير الوحش العاشق‪.‬‬ ‫< بقي ان نشير الى ان أعماالً عدة بعد »كينغ كونغ« أتت مقلدة له‪ ،‬في شكله الخارجي‪ ،‬ولكن‬ ‫كذلك في مضمونه‪ .‬ومع ھذا ظلت لھذا الفيلم مكانته بحيث انه يعتبر حتى اليوم واحداً من أجمل‬ ‫االفالم في تاريخ السينما‪ ،‬حتى وإن كان النسيان قد طوى مخرجيه الذين لم يؤثر عنھما أعمال‬ ‫كبيرة تضاھي ھذا الفيلم‪ .‬كل ما في األمر ان احدھما‪ ،‬سودشاك‪ ،‬حقق بعده افالم رعب وتجارية‬ ‫عدة من بينھا »مطاردة الكونت زاروف«‬

‫»تأمالت حول الثورة الفرنسية« لمدام دي ستايل‪ :‬امرأة تبحث عن دور‬ ‫الخميس ‪ ٤‬يوليو ‪٢٠١٣‬‬

‫من ناحية مبدئية‪ ،‬إذا كان التاريخ يذكر كتاب »تأمالت حول الثورة الفرنسية« للكاتبة مدام دي‬ ‫ستايل‪ ،‬فإنه باألحرى ال يذكره إال بصفته الكتاب الذي أثار غيظ ستاندال وجعله‪ ،‬بين العامين‬ ‫‪ ١٨١٧‬و‪ ،١٨١٨‬ينفق زمنا ً لتأليف كتاب عن نابوليون ير ّد فيه على بعض ما جاء في كتاب دي‬ ‫ستايل‪ .‬وكتاب ستاندال ھذا ھو غير كتابه اآلخر عن »حياة نابوليون« الذي ألفه بعد عشرين سنة‪،‬‬ ‫وضم إليه النص األول الذي لم يكن أصالً قد اكتمل بسبب الظروف السياسية التي عاشتھا فرنسا‬ ‫في زمن كتابة النص األول ھذا‪ .‬المھم أن كتاب ستاندال سيعيش‪ .‬أما كتاب مدام دي ستايل‪ ،‬فإنه‬ ‫بعد حياة عاشھا طوال عقود من القرن التاسع عشر‪ ،‬طواه النسيان التام منذ آخر طبعة له‪ ،‬في ذلك‬ ‫الحين‪ ،‬في العام ‪ ،١٨٨١‬ليعود ويحيا من جديد بعد ذلك بمئة عام ولكن كطرفة أدبية ‪ -‬تاريخية‪ ،‬ال‬ ‫ككتاب تاريخي يُعتمد‪ .‬خصوصا ً أن الكاتبة لم تكن »منصفة« تجاه اإلمبراطور‪ ،‬وال حتى تجاه‬ ‫الثورة الفرنسية التي جعلت كتابھا كلّه محاولة لتھشيمھا‪ ،‬حتى من دون أن تدعو صراحة إلى عودة‬ ‫الملكية والتخلي عن مكاسب الثورة‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫< إذاً‪ ،‬لم يكن ھذا الكتاب الذي أثار غيظ ستاندال وحرك قلمه في حينه‪ ،‬كتابا ً عن نابوليون‪ ،‬بل‬ ‫كتابا ً عن الثورة الفرنسية ككل‪ ،‬كما انه لم ينشر كامالً للمرة األولى إال بعد موت مؤلفته‪ ،‬حين‬ ‫نشره ابنھا البارون أوغست‪ ،‬وصھرھا فكتور دي برولي‪ ،‬الذي سيصبح رئيسا ً للحكومة الفرنسية‪.‬‬ ‫ويربط كثر من المؤرخين بين كتاب مدام دي ستايل ھذا‪ ،‬وكتاب آخر لھا‪ ،‬نشر أيضا بعد موتھا‪،‬‬ ‫وھو »‪ ١٠‬سنوات في المنفى« الذي أتى أكثر ذاتية من األول‪ .‬وفي األحوال كلھا‪ ،‬من الواضح أن‬ ‫ھذه السيدة حين وضعت الكتابين قبل رحيلھا في العام ‪ ،١٨١٧‬إنما وضعتھما ضمن توجه عام‬ ‫لديھا يمليه حب الظھور والرغبة في أن ينظر إليھا اآلخرون كأديبة ومفكرة‪ ،‬إذ إن دي ستايل‪ ،‬ما‬ ‫كانت لترغب إال في شيء واحد‪ ،‬وھو أن تلعب في باريس دوراً سياسيا ً وأدبياً‪ ،‬وان تستقبل في‬ ‫صالونھا وزراء وأعيانا ً تدلي أمامھم بآرائھا‪ ،‬زاعمة الحقا ً أنھا ھي التي »تؤثر« في رجال القرار‬ ‫في فرنسا‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬فان كتاب »تأمالت حول الثورة الفرنسية« أكثر مما يضعنا على تماس مع‬ ‫ھذه الثورة‪ ،‬يم ّكننا من أن نتسلل إلى داخل أفكار مدام دي ستايل وشخصيتھا‪ ،‬حتى وان كانت‬ ‫بصفتھا ابنة مصرفي من جنيف كثيراً ما استدعاه الملك لويس السادس عشر إلنقاذ حكومته ماليا ً‬ ‫من اإلفالس‪ ،‬كانت مؤھلة في شكل جيد لتعرف بعض خفايا بداية الثورة‪ ...‬ونعرف من خالل‬ ‫سيرة حياتھا أنھا عايشت بشكل مباشر بعض األحداث الكبرى مثل افتتاح »األركان العامة« ونقل‬ ‫العائلة المالكة إلى باريس‪ ،‬وعيد الفيديرالية‪ .‬كما أنھا كانت في باريس أيام أحداث ‪ ١٨‬برومير‪،‬‬ ‫كما كانت في موسكو العام ‪ ١٨١٣‬عند وصول القوات الفرنسية إليھا‪.‬‬ ‫< ومع ھذا كله‪ ،‬فإن معظم ما ترويه السيدة في كتابھا ال يبدو دقيقا ً‪ .‬وذلك بكل بساطة‪ ،‬ألن دي‬ ‫ستايل‪ ،‬حتى وإن زعمت أنھا تؤرخ‪ ،‬لم يكن يھمھا سوى أمرين‪ :‬أولھما أن تحيي ذكرى أبيھا‪،‬‬ ‫مضفية إليه دوراً كبيراً واصلة في بعض األحيان إلى تصوير تصديه البطولي لمخططات نابوليون‬ ‫الماكيافيلية‪ ،‬بل حتى إلرادة لويس السادس عشر االستبدادية‪ ،‬وثانيھما أن تقدم كـ »عالمة في فن‬ ‫السياسة« تفسيراً للثورة الفرنسية يحاول أن يكون وسطا ً بين االنحراف اإلرھابي اليعقوبي للثورة‬ ‫وبين رد الفعل الملكي‪ ...‬وھما أمران يبدو في صفحات كتابھا أنھا كانت ترفضھما‪ .‬لكن الكتاب لم‬ ‫يحو ھذا فقط‪ ،‬بل ضم في قسمه السادس‪ ،‬دراسة ميدانية عن أحوال إنكلترا في ذلك الزمن نفسه‪ ،‬إذ‬ ‫نعرف أن مدام دي ستايل عاشت سنوات عدة منفية ھناك‪ .‬ولقد مكنھا ھذا من أن تجعل من الفصل‬ ‫المخصص لبلد منفاھا درسا ً في أفضل طرق الحكم من طريق ملكية دستورية مستعادة‪.‬‬ ‫< مھما يكن‪ ،‬فان الثورة الفرنسية بالنسبة إلى مدام دي ستايل ليست »حادثا ً فضائحيا ً« ‪ -‬بحسب ما‬ ‫كان يراه أبناء الطبقة التي تنتمي إليھا الكاتبة‪ .‬بل كانت »حادثا ً منطقيا ً« يجد جذوره في تاريخ‬ ‫النظام الملكي الفرنسي‪ ،‬وفي نضال الفرنسيين من أجل الحرية‪ ...‬وھا ھي تقول في ھذا المجال‪:‬‬ ‫»إن الخطأ األكبر الذي اقترفه أھل البالط‪ ،‬ھو أنھم سعوا دائما ً إلى أن يبحثوا في تفاصيل صغيرة‪،‬‬ ‫عن أسباب المشاعر الكبيرة التي كانت تعبّر عنھا أمة بأكملھا«‪ .‬وھكذا عبر مثل ھذه العبارات‪،‬‬ ‫عرفت الكاتبة كيف تبدأ كتابھا بإدانة النظام القديم كله‪ ،‬ولكن بخاصة نظام الملك لويس الرابع‬ ‫عشر‪ .‬فترا ُكم األخطاء إذاً ھو ھنا‪ ،‬وليس في ما فعله خلفاؤه‪ ..‬إذ إن ھؤالء لم يفعلوا اكثر من أنھم‬ ‫‪28‬‬


‫حاولوا ترقيع األمور‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬إذا كانت الثورة تبدو منطقية بشكل أو بآخر في نظرھا‪ ...‬فإنھا‬ ‫ثورة متأخرة‪ ،‬وتأخرھا ھو الذي غيّر من الھوية المنطقية للذين كان يجدر بھم أن يقوموا بھا‪...‬‬ ‫ذلك أن ھذا التأخير ھو الذي »ھبط بالمستوى األخالقي للثائرين« ما أسفر عن قيام اإلرھاب‬ ‫اليعقوبي الذي أبدت الكاتبة تجاھه كل احتقار‪ .‬فاإلرھاب ھذا ليس في حقيقته سوى أزمة مرعبة‬ ‫وتعبير عن التعصب السياسي المطلق وعن عنف األھواء الشعبية‪.‬‬ ‫< غير أن نابوليون‪ ،‬الذي ال تسميه دي ستايل إال بونابرت‪ ،‬ھو العدو األكبر‪ ...‬وھو الوجه‬ ‫السلبي‪ ،‬واألكثر سلبية في خضم ھذا التاريخ كله‪ ...‬حتى وإن كانت وقفت في البداية موقفا ً فيه‬ ‫بعض اإليجابية إزاء الجنرال حين كان ال يزال قائداً للحملة على إيطاليا‪ ...‬لكنه الحقا حين صار‬ ‫»قنصالً« ثم إمبراطوراً يشن الحمالت شرقا ً وغرباً‪ ،‬صار في نظرھا ديكتاتوراً طفيليا ً ال أكثر‪..‬‬ ‫وصار في وسعھا أن ترسم له صورة غير معھودة‪ :‬فھو تحت قلم مدام دي ستايل صار طاغية‬ ‫مستبداً تھزه وحدته المطلقة وعزلته الخانقة‪ ،‬ديكتاتوراً يفرض على حاشيته قواعد سلوك غريبة‬ ‫ومذلة‪ ،‬كما يفرض على الشعب كله رقابة »ال سابق لھا في التاريخ الفرنسي الحديث«‪ ،‬ونظاما ً‬ ‫بوليسيا ً قمعيا ً مرعبا ً‪.‬‬ ‫< وھذا ما يسمح للكاتبة بأن تقول إن »بونابرت قد صاغ لنفسه فكرة الوصول إلى ثورة ‪ -‬مضادة‪،‬‬ ‫ال يستفيد منھا أحد غيره‪ ،‬غير تارك من عناصر الدولة الجديدة إال شخصه الكريم«‪ ...‬أي إنه أعاد‬ ‫قديما ً ال جديد فيه سوى ھو نفسه‪ :‬أعاد العرش والكھنوت والنبالء‪ ..‬أسس ملكية ال شرعية وال‬ ‫حدود لھا‪ ،‬وكھنوتا ً يدعو إلى عبادته والتمتع بطغيانه‪ ،‬ونبالء ينتمون إلى عائالت قديمة وجديدة‪،‬‬ ‫»لكنھم ال يفيدون الدولة والشعب في شيء‪ ،‬بل ھمھم الوحيد أن يخدموا صاحب السلطة المطلقة«‪.‬‬ ‫< وإذ تصف مدام دي ستايل ھذا كله وتتوسع في وصفه‪ ،‬تعمد في النھاية إلى مقارنته بالنظام‬ ‫الشرعي الملكي الدستوري في إنكلترا‪ ،‬لتخرج باستنتاجات حول »فلسفة التاريخ« تعتمد على ما‬ ‫تسميه »مسيرة الروح اإلنسانية« للوصول إلى الحرية المستعادة‪ ،‬مؤكدة أن الحرية ھي الشيء‬ ‫القديم العريق‪ ،‬أما االستبداد فھو األمر الجديد‪ ،‬خالصة إلى أن »تقدم النظام االجتماعي ال يمكن‬ ‫فصله عن تقدم اآلداب وضروب التنوير«‪ ،‬مؤكدة أن »االستبداد ال يتعايش أبدا مع األدب‬ ‫والفكر«‪.‬‬ ‫< ولدت جرمان دي ستايل العام ‪ ١٧٦٦‬في باريس ألسرة ثرية وذات مكانة نبيلة‪ .‬وھي‪ ،‬انطالقا ً‬ ‫من رغبات أدبية تجلت لديھا باكراً ‪-‬لكنھا لم تستند الى موھبة حقيقية على أي حال‪ -‬ارتبطت منذ‬ ‫صباھا بالصالونات األدبية النسائية التي كانت مزدھرة لدى نساء طبقات النبالء في فرنسا ذلك‬ ‫الحين‪ .‬ولقد كتبت مدام دي ستايل العديد من النصوص والرسائل طوال حياتھا‪ ،‬ومنھا أعمال‬ ‫اشتھرت‪ ،‬إذ تدرّس لدى طالب المدارس الثانوية‪ .‬ومن كتبھا‪ ،‬إضافة إلى ما ذكرنا‪» :‬حول‬ ‫ألمانيا« )‪ (١٨١٠‬و »كورين أو ايطاليا« )‪ (١٨٠٧‬و »دلفين« )‪ (١٨٠٢‬و«عن األدب منظوراً‬ ‫إليه في عالقته مع المؤسسات االجتماعية« )‪.(١٨٠٠‬‬ ‫‪29‬‬


‫»الليالي البيضاء« لدوستويفسكي‪ :‬اختصار الحياة وسعاداتھا في لحظات مدھشة‬ ‫الثالثاء ‪ ١١‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫للوھلة األولى تبدو رواية دوستويفسكي »الليالي البيضاء« بسيطة وذات شخصيات مكشوفة‬ ‫للقارئ تماماً‪ ،‬وفيھا أحداث يمكن تو ّقعھا منذ البداية‪ .‬فما الذي فتن الكثيرين في ھذه الرواية‬ ‫القصيرة التي كانت ثاني عمل يكتبه دوستويفسكي؟ ولماذا حفظ ھذا العمل الھادئ والحنون فتنته‬ ‫كلھا على رغم مرور السنين‪ ،‬وجعل قراء أجيال متعاقبة يقبلون عليه‪ ،‬ومبدعين كثراً يقلدونه أو‬ ‫يقتبسونه في أفالم ومسرحيات؟‬ ‫< ربما يكون الجواب‪ :‬بساطة الرواية ھي ما فعل ھذا كله‪ .‬وربما أيضا ً كون الشخصية التي‬ ‫صوّ رھا دوستويفسكي في الرواية‪ ،‬شخصية الحالم العاشق الذي لن تعرف له اسماً‪ ،‬والذي يجمع‬ ‫كاتبو سيرة صاحب »اإلخوة كارامازوف« و »الجريمة والعقاب« على أنه مستقى مباشرة من‬ ‫شخصية الكاتب نفسه‪ ،‬طالما أن ظروف االثنين متشابھة‪ ،‬ونظرتھما إلى الحب متشابھة‪ ،‬ومتشابھة‬ ‫كذلك عالقة كل منھما بمدينة بطرسبرغ التي تدور أحداث الرواية فيھا على مدى أربع ليالي‬ ‫»بيضاء«‪ .‬ووصف الليالي بالبياض ھذا‪ ،‬ومنذ عنوان الرواية‪ ،‬يستجيب في اآلن عينه‪ ،‬إلى‬ ‫عاملين‪ :‬األول ھو ذاك المرتبط بما يُعرف حقا ً باسم الليالي البيضاء‪ ،‬حين يطول النھار في شكل‬ ‫غير طبيعي عند بدايات الصيف في تلك المنطقة من العالم‪ ،‬ما يجعل ظالم الليل ال يستغرق سوى‬ ‫ساعتين أو ثالث‪ ،‬وثانيھما مرتبط بنوعية العالقة البريئة على رغم ليليتھا‪ ،‬العالقة »البيضاء«‬ ‫التي تقوم خالل تلك الليالي بين بطلي الرواية‪ :‬الشاب الحالم‪ ،‬والفتاة الحسناء التي يلتقيھا ويعيش‬ ‫معھا‪ ،‬من طرف واحد كما سيتبين لنا الحقاً‪ ،‬حكاية حب ساحرة ومؤلمة في الوقت نفسه‪.‬‬ ‫< إذاً‪ ،‬وكما نفھم ھنا‪ ،‬تدور رواية »الليالي البيضاء« حول لقاء بين اثنين في زمن استثنائي‬ ‫ومكان استثنائي‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬إذا كان دوستويفسكي قد وصف دائما ً روايته ھذه بأنھا »رواية‬ ‫عاطفية« فإن النقاد آثروا أن يصفوھا بأنھا »فانتازيا رومانسية«‪ ،‬حتى وإن كانوا يُجمعون على‬ ‫أنھا تشكل‪ ،‬في حقيقة األمر‪ ،‬فصالً من سيرة كاتبھا الذاتية‪ .‬سيرته حين كان في مطلع شبابه‬ ‫ووصل إلى تلك المدينة الغريبة عليه‪ ،‬ليعيش فيھا سنوات طويلة من دون أصدقاء‪ ،‬غارقا ً في‬ ‫أحالمه حالما ً بكل شيء‪ ،‬سائراً على غير ھدى في طرقات ال تنتھي يختلط لديه الليل بالنھار‪ .‬انه‬ ‫كان خالل تجواله‪ ،‬ال يأبه كثيراً بالبشر‪ ،‬بل يھتم بالمدينة‪ ،‬بشوارعھا بمبانيھا بنھرھا بحوانيتھا‬ ‫وساحاتھا‪ .‬وھو كان يعرف ذلك كله عن ظھر قلب وبالتفاصيل‪ .‬وكان يشعر أن ھذه العالقة‬ ‫الحميمة التي يقيمھا مع المدينة تغنيه عن العالقة مع البشر‪ .‬غير أن إھماله ھؤالء لم يكن يمنعه من‬ ‫‪30‬‬


‫أن يخترع لھم‪ ،‬في خياله‪ ،‬عالقات وصداقات وأحزانا ً وأفراحا ً مسقطا ً على بعضھم أحالمه‬ ‫الخاصة وخيباته‪ .‬وكما كان حال دوستويفسكي الشاب في عالقته مع المدينة‪ ،‬كان حال بطل‬ ‫»الليالي البيضاء« الذي تعمّد الكاتب أال يكون له اسم‪ .‬طبعاً‪ ،‬نحن لن نعرف أبداً ما إذا كان‬ ‫دوستويفسكي قد عاش حقا ً تلك المغامرة العاطفية التي عاشھا بطله‪ ،‬لكننا نعرف أنه يمكن أن يكون‬ ‫قد عاشھا ألن إقامة التوازي بين الشخصيتين‪ :‬الكاتب والبطل‪ ،‬تسفر عن تشابه تام‪ .‬ثم ألن ھذه‬ ‫المغامرة العاطفية نفسھا كانت قد رسمت‪ ،‬وإن بأشكال أخرى‪ ،‬في رواية دوستويفسكي األولى‬ ‫»الفقراء« وسترسم مرات ومرات في روايات الحقة له‪.‬‬ ‫< غير أن المھم‪ ،‬حقاً‪ ،‬في ھذا كله‪ ،‬ھو أن بطل »الليالي البيضاء« في عالقته مع أحالمه ومع‬ ‫المدينة سيكون إرھاصا ً حقيقيا ً بوالدة الكثير من األبطال المستوحشين الوحيدين الذين سيمألون‬ ‫جزءاً أساسيا ً من القرن العشرين‪ ،‬حتى وإن ندر أن كان ألي منھم ذلك البعد الرومانطيقي الذي‬ ‫ميّز بطل دوستويفسكي‪ .‬وكذلك االستسالم أمام المصير الذي عاشه وسط أحزانه وخيباته‪ ،‬ھو الذي‬ ‫يقول الكاتب على لسانه في آخر فقرات الرواية‪ ...» :‬ونظرت من خالل النافذة فبدا لي المنزل‬ ‫المقابل )ال أدري لماذا( قد دلف إلى الشيخوخة وحال لونه ھو أيضاً‪ ،‬وتقشرت أعمدته وصارت‬ ‫جدرانه ضاربة إلى احمرار بعد أن كانت صفراء قاتمة‪ ...‬فإما أن شعاعا ً من شمس كان قد شق‬ ‫الغيوم لحظة ثم عاد يختبئ تحت السحب المثقلة بالمطر‪ ،‬فإذا كل شيء يرتد مظلما ً قاتما ً في‬ ‫نظري‪ .‬وإما أنني أدركت في طرفة عين آفاق مستقبلي الحزين فرأيت نفسي على نحو ما أنا اآلن‬ ‫بعد انقضاء خمسة عشر عاما ً على ذلك العھد‪ ،‬وقد شخت في ھذه الغرفة نفسھا‪ ،‬على ھذه العزلة‬ ‫نفسھا‪ ،‬مع »ماتريونا« ھذه نفسھا التي لم تجعلھا ھذه السنون كلھا أكثر رھافة‪ .‬وقد قلت لنفسي‬ ‫يومئذ‪ :‬كفاني يا ناستنكا! ال أريد أن أنكأ جرحي بالذكرى‪ .‬ال لن أحمل غيوما ً قاتمة إلى سعادتك‬ ‫المضيئة الساجية‪ .‬لن أوقظ في قلبك الحسرات بمالمات مرة‪ .‬ال ولن أثير فيه ظالً خفيا ً من عذاب‬ ‫الضمير‪ .‬لن اضطره أن يخفق حزينا ً في لحظات سعادتك وھناءتك‪ .‬ال‪ ،‬لن أجعد الزھرات الحلوة‬ ‫التي ستضيفينھا إلى ضفائرك السود يوم تجيئين معه إلى الھيكل للزفاف‪ .‬ال لن أفعل ھذا أبداً! أال‬ ‫فلتظل سماؤك مضيئة‪ .‬أال فلتظل بسمتك مشرقة مطمئنة‪ ،‬وبوركت يا من وھبت لحظة من ھناءة‬ ‫وسعادة لقلبي الممتن الذي يعيش في وحشة العزلة!‪ ...‬لحظة بكاملھا من سعادة‪ ...‬رباه ھل تحتاج‬ ‫حياة إنسان إلى أكثر من ھذا؟«‪.‬‬ ‫< و »ناستنكا« ھي طبعا ً الحبيبة التي التقاھا بطلنا في أول تلك الليالي البطرسبرغية البيضاء‬ ‫األربع‪ .‬حين التقاھا‪ ،‬وكان كعادته ھائما ً على وجھه يتفرس في المدينة وفي المتنزھين عند ضفة‬ ‫النھر‪ ،‬كانت غارقة في اليأس والحزن فعرض عليھا‪ ،‬من دون أن يفكر طويالً‪ ،‬مساعدته وتلقت‬ ‫ھي يده الممدودة‪ .‬وعلى الفور قامت بينھما صداقة صادقة وبدأت ھي تحدثه عن أسباب حزنھا‪ :‬إنه‬ ‫حبيبھا الذي يعيش في مدينة أخرى بعد أن تركھا وھي اآلن تنتظر عودته واليأس قد بدأ يتسرب‬ ‫إليھا‪ .‬وخالل الليالي التالية يتكرر اللقاء بين الحالم والعاشقة الحزينة‪ .‬وال يفعل االثنان خالل‬ ‫اللقاءات ثم الكالم‪ ...‬يروي كل منھما لآلخر أشياء كثيرة عن حياته‪ .‬غير أن الفتاة )ناستنكا( تؤثر‬ ‫‪31‬‬


‫دائما ً خالل الحديث أن تعود إلى سيرة حبيبھا الغائب‪ ،‬واجدة في الكالم المستديم عنه عزاء لھا‪،‬‬ ‫وربما وسيلة غامضة إلعادته إليھا‪ .‬وفي تلك األثناء يكون شعور الصداقة والتعاطف الذي خامر‬ ‫الراوي تجاھھا قد تحول إلى حب عنيف‪ .‬وھو‪ ،‬ضمن معمعة أحالمه بدأ اآلن يحلم بأن تصبح‬ ‫ناستنكا حبيبته‪ ،‬إذ إن ھذا الحب الذي أضاء حياته فجأة مثل شمس ساطعة‪ ،‬صار عزاء له كبيراً‬ ‫في وحدته وغربته‪ .‬صحيح أن ناستنكا أدركت ھذا كله‪ .‬لكنھا كانت تعرف في أعماقھا أنه حب بال‬ ‫أمل طالما أنھا مشغوفة بحبيبھا الحقيقي تنتظر عودته‪ .‬وھي ال تحاول منع الراوي من أن يحبھا‪،‬‬ ‫بل سيبدو لنا أنھا تستمرئ اللعبة‪ ،‬ببراءة‪ ،‬خصوصا ً حين يقوم الراوي بدبج رسائل تريد بعثھا إلى‬ ‫حبيبھا‪ .‬وھنا تصبح الرسائل‪ ،‬جزءاً من حبه لھا‪ ،‬ويكبر حلمه ووھمه‪ .‬ولكن في الليلة البيضاء‬ ‫الرابعة‪ ،‬يعود الحبيب األول بالفعل وتركض الصبية لرمي نفسھا بين ذراعيه‪ ،‬فيما صاحبنا الراوي‬ ‫يجد أحالمه كلھا وقد تحطمت‪ ...‬فيعود إلى وحدته وإلى فراغه‪ .‬ذلك الفراغ الذي عرف‬ ‫دوستويفسكي‪ ،‬بعبقريته االستثنائية‪ ،‬كيف يصفه ويجعل منه محور الرواية األساسي‪ ،‬من دون أن‬ ‫يأخذ على بطله عجزه البيّن عن التأقلم مع أي واقع يومي‪ ،‬وھبوطه ذلك الجحيم الذي يجعل أحالمه‬ ‫تبتلعه من دون أن تقدم إليه أي عزاء‪.‬‬ ‫< رواية »الليالي البيضاء« التي كان اإليطالي لوتشينوفيسكونتي والفرنسي روبير بريسون من‬ ‫أشھر ناقليھا إلى الشاشة الكبيرة‪ ،‬نشرھا فيودور دوستويفسكي وھو بعد في السابعة والعشرين من‬ ‫عمره‪ .‬صحيح أنھا يومھا لم تحقق ذلك النجاح الذي كان يمكن توقعه لھا‪ .‬لكنھا الحقاً‪ ،‬حظيت‬ ‫باھتمام كبير من قبل القراء والنقاد واعتبرت مؤسّسة للكثير من األجواء والشخصيات التي رسمھا‬ ‫دوستويفسكي في بعض أجمل رواياته الالحقة‪ .‬ودوستويفسكي )‪ (١٨٨١-١٨٢١‬الذي يبدو ھنا في‬ ‫غاية الرومانسية‪ ،‬سيكون خالل العقود التالية من حياته‪ ،‬مبدع أعمال روائية رائعة تفيض قسوة‬ ‫وتختفي منھا الرومانسية كليا ً مثل »الشياطين« و »األبله« و »الجريمة والعقاب« و »اإلخوة‬ ‫كارمازوف« بالطبع‪.‬‬

‫األمل« ألندريه مالرو‪ :‬أسئلة الثورة والحرب وبطوالتھما‬ ‫الخميس ‪ ٢٠‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫الذين يعرفون الكاتب والمفكر الفرنسي اندريه مالرو كانوا يعرفون أنه‪ ،‬إلى مواقعه السياسية‬ ‫المناصرة للجنرال ديغول والتي جعلته رفيقا ً له خالل السنوات األكبر من حياته وعمله الفكري‬ ‫والسياسي‪ ،‬كاتبا ً من كبار كتاب القرن العشرين في فرنسا‪ .‬وھي مكانة لم ينقص من شأنھا تو ّقفه‬ ‫خالل العقود األخيرة من حياته‪ ،‬وال سيما حين صار وزيراً للثقافة‪ ،‬عن كتابة الروايات‪ ،‬وال حتى‬ ‫‪32‬‬


‫اشتداد شتى أنواع الھجوم عليه لمواقفه السياسية‪ ،‬من قبل الفنانين والكتاب اليساريين‪ ،‬ال سيما إبان‬ ‫أحداث »أيار‪ /‬مايو ‪ «١٩٦٨‬في فرنسا‪.‬‬ ‫< وروايات اندريه مالرو‪ ،‬وكتبه الفكرية األخرى معروفة ومقروءة على نطاق واسع ومن بينھا‬ ‫»الشرط اإلنساني« و«األمل« و«المتحف المتخيل«‪ ...‬وعشرات غيرھا من الكتب والدراسات‬ ‫التي جعلت له مكانة متقدمة في العديد من األنواع األدبية والنقدية‪ ،‬غير أن ما ال يعرفه كثر ھو أن‬ ‫اندريه مالرو اشتغل‪ ،‬لمرة واحدة من حياته على األقلّ‪ ،‬في اإلخراج السينمائي‪ ...‬ولكن ليس‬ ‫كمخرج محترف‪ ،‬بل كفنان صاحب قضية ملحة وآنية يريد التعبير عنھا‪ .‬كان ذلك في العام ‪١٩٣٨‬‬ ‫والقضية كانت قضية الجمھوريين اإلسبان الذين كانوا يخوضون حربا ً أھلية عنيفة في ذلك الحين‬ ‫ضد الدكتاتور اليميني الفاشي فرانكو وجماعته المدعومين من ألمانيا الھتلرية وإيطاليا موسوليني‪.‬‬ ‫< في ذلك الحين‪ ،‬لم يكن اندريه مالرو المبدع األجنبي الوحيد الذي وقف إلى جانب الجمھوريين‪،‬‬ ‫فكريا ً ونضاليا ً ولكن في شكل ميداني أيضا ً‪ .‬حيث كان واحداً َ◌ من عشرات من الكتاب والفنانين‬ ‫األوروبيين واألميركيين الذين سارعوا إلى نجدة »قوى التقدم« ضد »القوى الفاشية« وفق تعابير‬ ‫تلك المرحلة‪ .‬ومن بين ھؤالء جورج اورويل وارنست ھمنغواي وغيرھما‪ .‬ولئن كان بعض‬ ‫المبدعين رأى في حمل السالح بشكل فعليّ وسيلة لمناصرة اخوانه ورفاقه في الفكر‪ ،‬وانتصاراً‬ ‫لشعب يريد الحرية والتقدم والتخلص من الدكتاتورية المحلية المرتبطة بقوى عظمى فاشية عالمية‪،‬‬ ‫فإن اندريه مالرو وجد أن احسن ما يفعله المبدع في ھذا المجال‪ ،‬ھو وضع إبداعه في خدمة‬ ‫القضية‪ .‬وھو‪ ،‬لئن كان كتب قبل ذلك رواية »األمل« عن بدايات الحرب األھلية اإلسبانية‪ ،‬فإنه‬ ‫في المرحلة التالية آثر أن يجرب حظه في السينما وھكذا أخرج فيلمه الوحيد‪» :‬األمل‪ :‬سييرا دي‬ ‫ترويل« الذي كان يفترض به أن يكون ملحقا ً برواية »األمل«‪ ،‬لكنه سرعان ما تحول خالل‬ ‫االشتغال عليه‪ ،‬ليصبح‪ ،‬انطالقا ً من فصل واحد من فصول »األمل«‪ ،‬فيلما ً قائما ً في ذاته‪ ،‬يختلط‬ ‫فيه المتخيل بالواقعي‪ ،‬والممثلون بالمقاتلين الحقيقيين‪ ،‬واألحداث المركبة المبتدعة باألحداث التي‬ ‫عاشھا مالرو او شھدھا شخصياً‪ ،‬او تلك التي رُويت له‪ .‬لكن الفيلم جاء فوق ھذا كله أشبه بتأمل‬ ‫عن مفھوم الحرب نفسھا‪ :‬لماذا الحرب؟ ھل ھي جديرة بأن تخاض‪ ،‬أم أنھا مجرد عبث كان يمكن‬ ‫االستغناء عنه؟ والحقيقة أن الحرب التي أتت لتتحدث عنھا تلك التأمالت لم تكن‪ ،‬في الطبع‪،‬‬ ‫الحرب اإلسبانية وحدھا‪ ،‬بل الحرب في شكل عام‪.‬‬ ‫< منذ البداية ال بد من القول ان ليس لفيلم اندريه مالرو ھذا‪ ،‬خط حدثي واضح‪ .‬انه‪ ،‬باألحرى‪،‬‬ ‫يتألف من مجموعة من الخيوط والمشاھدات‪ .‬وكأنه اشبه بيوميات س ّجلت خالل أيام الحرب‪ ،‬لتأتي‬ ‫في نھاية األمر شاھداً على بعض مالمحھا‪ .‬وھكذا تتتابع امام أعين المشاھدين على مدى نحو‬ ‫ساعة وربع الساعة )ھي مدة عرض الفيلم(‪ ،‬مشاھد تدور في اسبانيا العام ‪ :١٩٣٨‬مشاھد النضال‬ ‫الذي يخوضه الجمھوريون ضد الفرنكويين‪ .‬مشھد طائرة تحترق وھي تتحطم على المدرج الذي‬ ‫كان ينبغي أن تھبط عليه بسالم‪ ،‬فيما المقاتلون الحاضرون يركضون نحو حطام الطائرة ليلقوا‬ ‫‪33‬‬


‫تحية التكريم على طيارھا القتيل‪ .‬بعد ذلك تطالعنا مشاھد القتال )حرب الشوارع( في طرقات‬ ‫ترويل وأزقتھا‪ .‬ومن أبرز ھذه المشاھد ذلك الذي يتعين فيه على المقاتلين الجمھوريين ان يضعوا‬ ‫خارج المعركة مدفعا ً ركز عند مدخل المدينة وراح يصليھم ناراً‪ ،‬حتى تتحرك سيارة انتحارية‬ ‫يقودھا مقاتل وتصدم الھدف وتدمره‪ .‬في المشھد التالي فالح نراه داخل طائرة قاذفة تابعة‬ ‫للجمھوريين‪ .‬في البداية يعجز الفالح‪ ،‬الذي مھمته تحديد موقع مطار معاد‪ ،‬عن التعرف على‬ ‫ارضه الخاصة من أعلى‪ .‬وإذ يتعرف عليھا‪ ،‬في لمسة شاعرية‪ ،‬يحدد موقع المطار المقصود‬ ‫ويتوجه الطيارون لقصفه‪ ...‬وھم يھبطون بالطائرات حين تغيب الشمس فوق ارض تضيئھا‬ ‫مصابيح السيارات‪ .‬وإذ ينجحون في تنفيذ العملية‪ ،‬يحدث وھم ينطلقون عائدين ان تصطدم احدى‬ ‫الطائرات بجبل قريب‪ ،‬فيسرع الجمھوريون الى تنظيم اعمال اإلغاثة ويجمعون جثث القتلى‬ ‫ويصطحبون الجرحى ھابطين الجبل نحو الوادي حيث من المفترض انھم سوف يكونون في أمان‪.‬‬ ‫وفي طريقھم يتجمع الفالحون إللقاء التحية عليھم جميعاً‪ ،‬في مشھد أ ّخاذ‪ .‬غير ان ھذه الحماسة ال‬ ‫تمنع بعض المشاركين في القتال من التساؤل عن جدوى ذلك كله‪.‬‬ ‫< عندما انتھى مالرو من تصوير فيلمه ھذا‪ ،‬كان الطاغية فرانكو قد انتصر وسحق الجمھوريين‬ ‫داخالً بكل انتصار الى برشلونة‪ .‬وحين أريد عرض الفيلم في فرنسا‪ ،‬منعته الرقابة‪ ،‬فظل في علبه‬ ‫حتى انتھت الحرب العالمية الثانية وتحقق تحرير فرنسا من االحتالل األلماني الذي كان رابضا ً‬ ‫على صدور ابنائھا‪ ،‬فعرض الفيلم وحقق نجاحا ً كبيراً‪ ،‬إذ اعتبر من الكالسيكيات‪ ،‬لكن بعض‬ ‫األوساط اليسارية ھاجمت تساؤالته عن جدوى الحرب‪ .‬مھما يكن فإن مالرو‪ ،‬من بعده‪ ،‬لم يعد الى‬ ‫السينما مخرجاً‪ ،‬وال عاد الى األدب روائيا ً‪ .‬وكأن ھذا الفيلم كان وصيته اإلبداعية‪ .‬وھنا نذكر ان‬ ‫ناقداً سويسريا ً كتب حين عرض الفيلم يقول‪» :‬ان العالم يبدو وكأنه يقلد ابداع اندريه مالرو«‪.‬‬ ‫< ال بد من أن نذكر ھنا ان مالرو حقق الفيلم بناء على طلب السلطات الجمھورية اإلسبانية التي‪،‬‬ ‫في سبيل تحقيقه قدمت له المتطوعين واألسلحة وكل اإلمكانات السينمائية )الفقيرة( التي كانت‬ ‫تمتلكھا‪ ،‬بما فيھا استوديو بائس في برشلونة ) ُقصف الحقا ً و ُدمّر(‪ .‬بشكل رئيسي كان المطلوب من‬ ‫الفيلم‪ ،‬طبعاً‪ ،‬تمجيد الحرب والنضال العادل‪ ،‬لكن مالرو‪ ،‬كمبدع حقيقي‪ ،‬تجاوز ھذا كما أشرنا‬ ‫ليطرح اسئلته الحائرة عن الحرب كمكان للقتل وعن البطولة وما خلفھا‪ .‬وكان مالرو على أية‬ ‫حال‪ ،‬واحداً من عدد كبير من األدباء آثروا يوما ً ان يجربوا حظھم في اإلخراج السينمائي‪ ،‬مثله في‬ ‫ھذا مثل جان كوكتو الذي كان أكثر نجاحا ً منه وأكثر استمرارية‪ ،‬ومثل اإليطالي كورزيو‬ ‫ماالبارتي‪ ،‬ثم الفرنسي جان جيونو‪ ،‬قديما ً‪ .‬وآالن روب غرييه ومارغريت دورا في زمن أقرب‬ ‫إلينا‪ .‬واألميركي بول اوستر في زمننا‪ .‬كل ھؤالء استبدلوا الكاميرا بالقلم يوماً‪ ،‬وكان نجاحھم في‬ ‫ذلك متفاوتا ً ومثيراً للسجال‪ .‬أما »األمل« لمالرو‪ ،‬فقد حقق إجماعا ً إيجابياً‪ ،‬على رغم االعتراضات‬ ‫على بعض حيرته السياسية‪.‬‬

‫‪34‬‬


‫< مھما يكن من أمر سيكون من غير المجدي طبعا ً البحث عن اسم اندريه مالرو في الموسوعات‬ ‫السينمائية‪ .‬ففيلم »األمل« وحده لم يكن كافيا ً لجعله يعتبر واحداً من أساطين الفن السابع‪ .‬من ھنا‬ ‫يظل اندريه مالرو‪ ،‬أوالً وأخيراً‪ ،‬أديبا ً فرنسيا ً كبيراً‪ ،‬وباحثاص في علم الجمال‪ ،‬ثم وزيراً للثقافة‬ ‫تثير ممارساته السجال واالعتراض‪.‬‬ ‫< ولد اندريه مالرو العام ‪ ١٩٠١‬في باريس‪ ،‬ومات فيھا في العام ‪ .١٩٧٦‬وھو منذ صباه اختلط‬ ‫لديه حب األدب بالولع بالعمل السياسي والديبلوماسي‪ .‬وكان لعمله الديبلوماسي والسياسي‪ ،‬المباشر‬ ‫أو غير المباشر‪ ،‬في الصين ثم في إسبانيا‪ ،‬الفضل في كتابته روايتيه األشھر »الشرط اإلنساني«‬ ‫عن الثورة الصينية‪ ،‬و«األمل« عن الثورة اإلسبانية‪ .‬أما ولعه بالسينما فقاده العام ‪ ١٩٤٠‬إلى كتابة‬ ‫نص‪ /‬مرجع ھو »تخطيط لدراسة سيكولوجية السينما«‪ .‬ومن ناحية أخرى لعل مالرو يعتبر من‬ ‫أكثر الك ّتاب تأمالً في قضية البطولة والثورة‪ ،‬ولكن في قضية الفن أيضا ً‪ .‬وكتاباته في الفن تعتبر‬ ‫من األشھر في القرن العشرين ومن أھم كتبه في ھذا السياق »صوت الصمت«‪ .‬أما أبرز كتبه‬ ‫األخيرة فكان »مذكرات مضادة«‬

‫»أوراق العشب« لوالت ويتمان‪ :‬أميركا التي كانت حلما ً‬ ‫األربعاء ‪ ١٩‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫عندما كان شعراء جيل »البيت« في الواليات المتحدة‪ ،‬وعلى رأسھم أالن غينسبرغ وغاري‬ ‫سنايدر‪ ،‬يصرخون في أوائل ستينات القرن العشرين غاضبين »أميركا ماذا فعلت بحلمك الجميل؟‬ ‫أميركا‪ ،‬أعطيناك كل شيء ولم تعطنا شيئا ً‪ ،«...‬كانوا من دون أدنى ريب‪ ،‬يتذكرون سلفا ً كبيراً لھم‬ ‫كان قبلھم بأكثر من قرن من الزمن قد صرخ في وجه أميركا صرخة أخرى‪ ،‬بعبارات من نوع‬ ‫آخر‪ :‬صرخة أمل بعبارات تفاؤل‪ .‬كان ذلك السلف ال يزال يحلم بأميركا الرواد والطبيعة والتآخي‬ ‫بين البشر‪ .‬إنه والت ويتمان‪ .‬أما صرخته‪ ،‬فقد حملت عنوانا ً ال تزال له قوته التعبيرية وحضوره‬ ‫الطاغي حتى يومنا ھذا‪» :‬أوراق العشب« تلك »القصيدة« الطويلة المتعددة التي لم يتوقف ويتمان‬ ‫عن كتابتھا واإلضافة إليھا منذ وعى كونه شاعراً للمرة األولى وحتى وفاته‪» .‬أوراق العشب«‬ ‫كانت‪ ،‬على أي حال‪ ،‬القصيدة األميركية األولى‪ ،‬بالمعنى الذي يمكننا اليوم أن نسبغه على ھذه‬ ‫الكلمة‪ .‬من ھنا‪ ،‬إذا كان العديد من الشعراء والك ّتاب األميركيين قد رجموا ويتمان واعتبروه نشازاً‬ ‫وفاسداً وشاعراً سيئا ً حين أصدر »أنشودة نفسي«‪ ،‬التي ستشكل جزءاً أساسيا ً الحقا ً من »أوراق‬ ‫العشب«‪ ،‬فإن إمرسون‪ ،‬كاتب أميركا وشاعرھا األكبر في ذلك الحين‪ ،‬لم يكن بعيداً من الصواب‬ ‫حين صرخ يقول بعدما قرأ القصيدة‪» :‬اآلن يمكن األميركيين الذين آثروا العيش في الخارج أن‬ ‫يعودوا‪ ...‬لقد ولد لدينا فنان كبير«‪ .‬في ذلك الحين كان إمرسون الوحيد القادر على الدفاع عن‬ ‫»أوراق العشب« وعن والت ويتمان‪ ...‬ولكن الحقاً‪ ،‬وعلى رغم كل شيء‪ ،‬صارت »أوراق‬ ‫العشب« أشبه بنشيد جماعي لرفعة أميركا وعظمتھا‪ .‬وصارت المعادل الموضوعي الداعي إلى‬ ‫‪35‬‬


‫ترسيخ قيم الطبيعة واإلنسان والفن واإلخاء والصداقة والحب والديموقراطية‪ ،‬في الوقت الذي‬ ‫كانت فيه اآلالت الضخمة والجرافات بدأت تحطم الطبيعة وتقطع األشجار وتردم ضفاف األنھار‬ ‫لكي تقيم الجسور والطرقات والمصانع‪ ...‬وكل تلك األمور التي أنھت‪ ،‬إلى األبد‪ ،‬فكرة كان والت‬ ‫ويتمان نفسه يحملھا عن أميركا التي يريد‪ ،‬أميركا التي »وضعھا داخل كتاب أشعاره قبل أن تضيع‬ ‫إلى األبد«‪.‬‬ ‫< في أواخر سبعينات القرن العشرين‪ ،‬حين نقل الشاعر العراقي سعدي يوسف إلى العربية بعض‬ ‫مقاطع أوراق العشب« ‪-‬ولم يكن ھو بالطبع أول من ق ّدم ھذا العمل إلى قراء العربية‪ ،-‬تساءل في‬ ‫نھاية مقدمته التوضيحية‪ ،‬التي غفلت على أي حال عما يعتبره النقاد الغربيون أساسيا ً في حياة‬ ‫ويتمان وشعره‪ :‬فلسفته للمثلية الجنسية‪ ،‬تساءل‪» :‬ما أھمية والت ويتمان للقارئ العربي والشعر‬ ‫العربي؟ وأجاب‪» :‬في رأيي أن تقديم ويتمان إلى قارئنا وشعرنا في ھذه المرحلة بالذات له أھمية‬ ‫كبرى‪ ،‬فھو أوالً نسمة شعرية صحية بين الكثير الكثير مما يترجم من شعر الى لغتنا‪ .‬وھو ثانيا ً‬ ‫شاعر أمة في دور النھوض‪ ،‬ما يقدم لشعرنا المتطلع إلى أن يكون المعبّر عن نھوضنا‪ ،‬أنموذجا ً‬ ‫عاليا ً‪ .‬وھو ثالثا ً شاعر ثورة شعرية امتدت إلى أوروبا‪ ،‬وآتت أكلھا‪ ،‬فقصيدة النثر ما كان لھا أن‬ ‫تشق سبيلھا األوروبي لوال إسھامة ويتمان الكبرى‪ .‬وھو رابعا ً شاعر المحسوس والواقع المعيش‬ ‫والمفردة السائرة‪ ،‬وما أحوجنا وأحوج شعرنا إلى المحسوس والمعيش والمفردة السائرة«‪.‬‬ ‫< والواقع أن األديب الفرنسي فاليري الربو الذي كان من أفضل من قدموا ويتمان إلى القارئ‬ ‫الفرنسي في القرن العشرين سبق سعدي يوسف إلى ھذا الرأي‪ ،‬وكان يرى أيضا ً أن »طموح‬ ‫ً‬ ‫فلسفة ودينا ً«‪ .‬ولكن‪ ،‬وكما يحدث عادة في‬ ‫والت ويتمان كان يكمن في إعطاء أميركا مثالً أعلى‪،‬‬ ‫مثل ھذه األحوال‪ ،‬لم يكن األميركيون أول وأفضل من استقبل شعر ويتمان‪ ،‬سبقھم األوروبيون‬ ‫إلى ذلك‪ ،‬على رغم حماسة إمرسون الفائقة‪ ،‬وفاقوھم فيه‪ ،‬إذ كان اإلنكليز ‪-‬وبأقل منھم الفرنسيون‪-‬‬ ‫أول من احتفى بشعر ويتمان‪ ،‬وفي مقدمھم روزيتي وسوينبرن )الذي لم يفته أن يقارن ويتمان‬ ‫بويليام بليك(‪ .‬أما الحقاً‪ ،‬فقد كان كبيراً عدد أولئك األدباء والشعراء الذين »وُ لدوا« من رحم شعر‬ ‫ويتمان‪ ،‬وحسبنا أن نذكر ھنا أسماء ھنري ميلر ود‪ .‬ھـ‪ .‬لورانس وشعراء »جيل البيت«‪ ،‬لكي‬ ‫نموضع شعر ويتمان في مكانه الصحيح‪.‬‬ ‫< ولكن بعد ھذا‪ ،‬ما ھي »أوراق العشب«؟ ببساطة‪ ،‬ھي مجموعة قصائد تؤلف في نھاية األمر‬ ‫قصيدة واحدة‪ .‬والعمل ھو من نوع ذاك الذي ينمو عاما ً بعد عام‪ ،‬ففي البداية في تموز )يوليو(‬ ‫‪ ،١٨٥٥‬صدرت الطبعة األولى من »أوراق العشب« مؤلفة من ‪ ١٢‬قصيدة أساسية‪ ،‬ھي التي رأى‬ ‫فيھا إمرسون باكراً »أعظم قطعة حكم أنتجتھا أميركا حتى اآلن«‪ .‬وفي العام التالي‪ ،‬في طبعة‬ ‫ثانية‪ ،‬أضاف ويتمان ‪ ٢١‬قصيدة‪ .‬وفي العام ‪ ١٨٦٠‬أصدر طبعة ثالثة تحمل ‪ ١٢٢‬قصيدة إضافية‪،‬‬ ‫من بينھا المجموعة التي تحمل عنوان »فاالموس« )تلك المجموعة التي أدانھا نقاد كثيرون حين‬ ‫أصدورھا مضافة‪ ،‬إذ رأوا فيھا تمجيداً من ويتمان بمثليته الجنسية‪ ،‬فيما رأى نقاد أقل عداء لويتمان‬ ‫‪36‬‬


‫أنھا إنما تحتفي »بتعاطف اإلنسان مع أخيه اإلنسان ال أكثر«(‪ .‬ولسوف تظھر في حياة ويتمان‬ ‫ست طبعات أخرى‪ ،‬تضاف إلى كل منھا قصائد جديدة‪ ،‬بحيث ضمت المجموعة في نھاية األمر‬ ‫‪ ٤١١‬قصيدة ھي التي تؤلف اليوم متن »أوراق العشب« النھائي‪ .‬والالفت ھو أن ھذه المجموعة‪،‬‬ ‫على رغم أنھا كتبت طوال عشرات السنين‪ ،‬وحكمت بعضھا ظروف تختلف عن التي حكمت‬ ‫بعضھا اآلخر‪ ،‬تحمل في نھاية األمر وحدة عضوية‪ ،‬من ناحية الشكل كما من ناحية المضمون‪،‬‬ ‫بحيث تبدو لنا اليوم عمالً متكامالً واحداً بالكاد يمكن انتزاع مقطع منه‪ ،‬وھي في شكلھا النھائي‬ ‫تبدو أقرب إلى أن تكون سيرة ذاتية للحلم األميركي‪ ...‬ألميركا كما آلت على نفسھا أن تكون وكما‬ ‫كان يجب عليھا أن تكون‪ .‬ويتجلى ھذا أكثر ما يتجلى في »أنشودة نفسي«‪ ،‬التي تبدو كنشيد للثقة‬ ‫بالنفس‪ ،‬ودعوة إلى كل إنسان لكي يموضع نفسه في تيار الطبيعة الكوني‪ .‬والحال أن ھذه‬ ‫»األنشودة« تبدو في نھاية األمر وكأنھا محور الكتاب كله‪ .‬والمكان الذي تلتقي فيه الذات باآلخر‪:‬‬ ‫الفرد بالمجموع‪ ،‬ليؤلف االثنان بوتقة واحدة تنطلق مما كان بحثا ً عما سوف يكون‪ .‬وويتمان يبدو‬ ‫في ھذا السياق واضحاً‪ ،‬إذ يقول )بترجمة سعدي يوسف( في واحد من أقوى مقاطع »أنشودة‬ ‫نفسي«‪» :‬أرحل كالھواء‪ /‬وأھز خصالتي البيض للشمس الھاربة‪ /‬أھرق لحمي مياھاً‪ ،‬في جداول‬ ‫مسكرة‪ /‬أوحّد نفسي بالتراب‪ ،‬ال نجم من العشب الذي أحب‪ /‬فإن أردتني ثانية فابحث عني تحت‬ ‫نعل حذائك‪ /‬قد ال تعرف من أكون وما أعني‪ /‬لكني سأكون لك العافية‪ /‬ونقاء الدم ونسيجه‪ /‬إن لم‬ ‫تجدني أوالً فال تيأس‪ /‬إن افتقدتني في مكان فابحث عن مكان آخر‪ /‬ولتجدنني أنتظرك في مكان‬ ‫ثالث«‪.‬‬ ‫< وحياة والت ويتمان نفسھا تكاد تكون أشبه بخالصة للحياة التي عاشھا من قبله وسيعيشھا من‬ ‫بعده عشرات الكتاب العصاميين من الذين صنعوا مجد أميركا األدبي‪ .‬فھو‪ ،‬الذي ولد العام ‪١٨١٩‬‬ ‫في لونغ آيالند‪ ،‬لم تدم دراسته طويال‪ ،‬إذ سرعان ما نراه يلتحق بالعمل صبي مكتب‪ ،‬ثم عامل‬ ‫طباعة ثم معلما ً في مدرسة ثم صحافيا ً متجوالً‪ ،‬وينخرط بعد ذلك في السياسة عضواً في التجمعات‬ ‫الديموقراطية‪ ،‬ويبدأ بنشر كتاباته‪ ،‬وأھمھا في ذلك الحين الطبعة األولى من »أوراق العشب«‪.‬‬ ‫وحين تندلع الحرب األھلية يج ّند كمسعف ويعيش بين القتلى والجرحى تجربة قاسية سوف تطبعه‬ ‫دائما ً‪ .‬وبعد انقضاء الحرب يعود سيرته ويصدر كتابا ً عن الحرب كما يكتب مرثاة ألبراھام لنكولن‬ ‫حين يُغتال‪ .‬وفي العام ‪ ١٨٧١‬يصدر »الرواية الديموقراطية«‪ .‬وفي العام ‪ ١٨٧٣‬يصاب بالشلل‬ ‫ويستقر في نيوجيرزي‪ .‬ويمضي السنوات العشرين األخيرة من حياته وحتى رحيله في العام‬ ‫‪ ،١٨٩٢‬في مستقره ال يقطعه سوى تأرجح بين تجوال سريع وبين اھتمام بنشر كتبه وطبعات‬ ‫»أوراق العشب« المتتالية‬

‫‪37‬‬


‫»بحيرة الشيطان« لجورج صاند‪ :‬الحب الصامت في ھدأة الليل‬ ‫الثالثاء ‪ ١٨‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫ھل كان على الكاتبة الفرنسية جورج صاند أن تنتظر اقترابھا من سن األربعين وانتھاء عالقاتھا‬ ‫الصاخبة بعدد من كتاب عصرھا وفنانيه‪ ،‬وخيبة أحالمھا االشتراكية الكبيرة‪ ،‬قبل أن تبدأ كتابة‬ ‫رواياتھا الكبرى‪ ،‬أو األكثر عمقاً؟ الحقيقة أن جورج صاند‪ ،‬على رغم أنھا كانت نشرت قبل ذلك‬ ‫بعض أعمالھا التي أسبغت عليھا شھرة كبيرة‪ ،‬تأخرت في االنصراف الى كتابة روايات تمزج فيھا‬ ‫بين المثل األعلى الرومانسي الذي يسيطر عليھا كلياً‪ ،‬وبين نزوعھا المتجدد الى الغوص في‬ ‫العواطف االنسانية‪ ،‬ألنھا قبل ذلك‪ ،‬حتى وإن كانت رومانسيتھا وُ جدت دائماً‪ ،‬كان ھمّھا األول من‬ ‫الكتابة الدنو من المجتمع كحيّز تنمو فيه الشخصيات‪ ،‬بالتناسق معه أو بالتعارض‪ ،‬حيث إن حياة‬ ‫المجتمع نفسه تشكل جزءاً من حياة األفراد‪ ،‬ال العكس تماما ً‪ .‬وفي ھذا اإلطار بالتحديد‪ ،‬يمكننا ان‬ ‫نعثر على الفوارق الرئيسة بين روايات لجورج صاند كتبت في ثالثينات القرن التاسع عشر )مثل‬ ‫»انديانا« و »ليليا«( وبين روايات اخرى لھا كتبت في أربعينات القرن نفسه‪ ،‬وبخاصة بعدما‬ ‫سئمت الكاتبة المناضلة‪ ،‬حياة باريس واجتماعياتھا وحكايات الغرام المدمرة‪ ،‬لتنصرف الى العيش‬ ‫في منطقة ريفية ھي نوھان )في منطقة بيري الريفية الزراعية(‪ ،‬والى الكتابة مُنتجة أعماالً متميزة‬ ‫ھمّھا األساس تقديم حكايات على خلفية وصف الحياة الريفية‪ ،‬في قوالب فكرية مستقاة ھذه المرة‪،‬‬ ‫مباشرة‪ ،‬من نزعة جان ‪ -‬جاك روسو الداعية للعودة الى الطبيعة‪ .‬ولكن ھنا‪ ،‬يجب أال يعتقد القارئ‬ ‫ان اعمال جورج صاند تحولت الى بيانات اجتماعية‪ ،‬بل العكس‪ ،‬ھنا زادت كثافة البعد الروائي‪،‬‬ ‫وصارت الشخصيات مقدمة من لحم ودم‪ ،‬ال من أفكار‪ .‬ولعل رواية »بحيرة الشيطان« خير مثال‬ ‫على ذلك التوجه الجديد‪.‬‬ ‫< كتبت جورج صاند »بحيرة الشيطان« في العام ‪ ،١٨٤٦‬أي بعد المرحلة التي كانت قد تأثرت‬ ‫فيھا بأفكار الكاتب السان ‪ -‬سيموني بيار ليرو‪ ،‬وراحت تقترب من نزعة صوفية كاثوليكية تغمرھا‬ ‫ليبرالية واضحة‪ .‬وحتى لئن كان العام الذي كتبت فيه جورج صاند »بحيرة الشيطان« سابقا ً‬ ‫عامين على الخيبة الكبيرة التي اعترتھا إزاء فشل ثورة ‪ ،١٨٤٨‬فإن في تو ّجه الكاتبة العام في‬ ‫الرواية‪ ،‬ما يشي بأن الخيبة إزاء العمل السياسي االشتراكي كانت منذ ذلك الوقت المبكر بدأت‬ ‫تترسخ لديھا‪ .‬وھذا الترسخ لم يط ّل من خالل موضوع الرواية وأفكارھا‪ ،‬وإنما من خالل ابتعاد‬ ‫الكاتبة ھنا عن أي موضوع يشي باھتماماتھا السابقة‪ ،‬مكتفية بتقديم حكاية غرام ريفية طيبة‪ ،‬بل‬ ‫أكثر من ھذا‪ ،‬مكتفية‪ ،‬كجوھر للرواية‪ ،‬بوصف ليلة واحدة جعلت منھا محور العمل وأجمل ما فيه‪.‬‬ ‫< تدور رواية »بحيرة الشيطان« من حول جرمان‪ ،‬الفالح الشاب الھادئ والبسيط الذي يرمّله‬ ‫وفاة زوجته التي ماتت مخلّفة له ثالثة أطفال يتعين عليه العناية بھم‪ ...‬لكن جرمان يبدو عاجزاً عن‬ ‫التوفيق بين ما يقتضيه منه عمله من تفرغ‪ ،‬وبين ضرورة العناية باألطفال‪ ،‬فال يكون من حميّه‪،‬‬ ‫‪38‬‬


‫إال أن يشير عليه ذات يوم بأن الوقت قد حان لكي يتخذ لنفسه زوجة‪ ،‬ليس حبا ً بالزواج وبملذاته‪،‬‬ ‫بل لكي تكون لديه في البيت امرأة طيبة تعنى به وبصغاره‪ .‬وبعد تردد‪ ،‬يرى جرمان ان األمر‬ ‫ممكن‪ ،‬وأن عليه أن يكون واقعيا ً‪ .‬ويتفق مع أھل فتاة شابة يعيشون في منطقة بعيدة بعض الشيء‬ ‫من البلدة التي يعيش ھو فيھا‪ .‬وھكذا يتوجه ذات يوم بصحبة أصغر أبنائه‪ ،‬وفي رفقتھما الخادمة‬ ‫المراھقة ماري‪ ،‬وھي في األصل مزارعة أحوجتھا الضرورة لكي تعمل في منزل أسرة تقيم في‬ ‫المنطقة التي يقصدھا جرمان وطفله‪ .‬وھكذا يبدأ الثالثة رحلتھم‪ .‬ولكن بعد حين تثور عاصفة عاتية‬ ‫تجبر الثالثة على أن يلتجئوا الى غابة صغيرة يعرف جرمان ان االختباء فيھا وسط تلك الظروف‬ ‫يقيھم المخاطر‪ ...‬وتقع تلك الغابة في منطقة يطلق عليھا اسم »بحيرة الشيطان« )ومن ھنا عنوان‬ ‫الرواية(‪ .‬وإذ يصل الثالثة الى مكان يؤويھم‪ ،‬يسود صمت ليلي حيث يشعل جرمان وماري ناراً‬ ‫يتدفأون من حولھا‪ ...‬وھنا‪ ،‬إزاء تلك الوضعية التي تولد ما يكفي من عواطف‪ ،‬يتوجه جرمان‬ ‫بحديثه الى ماري عارضا ً عليھا حبّه وأن تصبح ھي زوجته‪ .‬لكن الفتاة تسارع الى االستنكار وقد‬ ‫ھالھا فارق السن بين جرمان وبينھا‪ .‬وكذلك اتساع ھوة الوضع االجتماعي بينھما‪ ...‬ولسوف ندرك‬ ‫الحقا ً ان استنكار الفتاة لم يكن يعني في الحقيقة رفضا كليا ً للفكرة‪ ،‬ذلك أن ماري في عمق أعماقھا‬ ‫كانت ممتلئة باالعجاب إزاء ھذا الرجل الطيّب والبسيط‪ .‬أما استنكارھا فإنما كان بفعل المفاجأة‬ ‫وكذلك بفعل شيء من الحياء استب ّد بھا فجأة‪ .‬بيد أن جرمان‪ ،‬لحيائه ھو اآلخر‪ ،‬لم يل ّح‪ ...‬وما ان‬ ‫حل الصباح حتى واصل الثالثة رحلتھم‪ ،‬وقد استب ّد شيء من الحزن بجرمان‪ ...‬ال سيما حينما‬ ‫وصلت ماري الى نھاية الدرب الذي ترافقه فيه‪ ،‬إذ بات عليھا أن تنفصل عن األب وابنه لوصولھا‬ ‫الى منطقة بيت مخدومھا الجديد‪.‬‬ ‫< المھم ان جرمان حين يصل الى عروسه العتيدة‪ ،‬يخيب أمله تماما ً إزاء شخصيتھا الوقحة‬ ‫وجشعھا‪ ،‬فيقرر أال يتمم ذلك الزواج‪ ،‬وفي الوقت نفسه ال يكون وضع ماري مع مخدوميھا أفضل‪،‬‬ ‫خصوصا ً ان سيدھا الجديد‪ ،‬ما إن وصلت‪ ،‬حتى راح يراودھا عن نفسھا‪ .‬وھكذا في الوقت نفسه‬ ‫يعود جرمان الى قريته خائب المسعى‪ ،‬وتعود ماري الى القرية وقد قررت االستغناء عن خدمة‬ ‫أسيادھا الجدد‪ .‬وإذ يلتقي جرمان وماري في القرية من جديد يكتشفان ان العواطف بينھما متبادلة‬ ‫وانھما معا ً تعبا من التجربة التي خاضھا كل منھما‪ .‬وھكذا »يعودان« الى بعضھما بعضا ً ليستأنفا‬ ‫تلك العالقة الغرامية العذبة التي كانت بدأت تولد بينھما خالل تلك الليلة التي قضياھا قرب بحيرة‬ ‫الشيطان‪.‬‬ ‫< من الجلي ان الموضوع في حد ذاته وكما تقدمه الرواية‪ ،‬ال يخلو من بساطة تجعله جديراً‪،‬‬ ‫مثالً‪ ،‬بفيلم ميلودرامي مصري ينتمي الى سنوات الخمسين‪ .‬ولكن من الواضح في الوقت نفسه ان‬ ‫قوة ھذه الرواية ليست في موضعھا‪ ،‬بل في أجوائھا‪ .‬إذ في شكل عام عرفت جورج صاند كيف‬ ‫تق ّدم ھنا عمالً تصف فيه الحياة الريفية بتفاصيلھا الصغيرة‪ ،‬بما في ذلك اإلطالل على طيبة أبناء‬ ‫الريف وبساطتھم‪ .‬وھو ما فعلته في الكثير من الروايات التي كتبتھا خالل تلك المرحلة األخيرة من‬ ‫حياتھا‪ .‬أما في شكل خاص‪ ،‬فإن قوة ھذه الرواية تتركز على تفاصيل تلك الليلة التي قضاھا‬ ‫‪39‬‬


‫الريفيون الثالثة في الغابة مختبئين من العاصفة‪ :‬لقد كانت ساعات قليلة شحنتھا الكاتبة بمقدار ھائل‬ ‫من العواطف والتفاصيل الصغيرة‪ ...‬وبالحوارات الليلية التي دارت بين جرمان وماري ھناك‪...‬‬ ‫حيث يُبرز الجو مناخا ً من الھدوء والدعة والسالم قلّما حفل به عمل أدبي‪ ،‬وحيث بدت الشخصيتان‬ ‫األساسيتان جزءاً من األرض والطبيعة في عتمة الليل‪.‬‬ ‫< حينما كتبت »بحيرة الشيطان«‪ ،‬كانت جورج صاند )المولودة أورور دوبان في باريس عام‬ ‫‪ (١٨٠٤‬في الثانية واألربعين من العمر‪ ،‬كانت بعيدة ‪ -‬بالنسبة إليھا ‪ -‬تلك األزمان التي صارت‬ ‫فيھا‪ ،‬بالزواج‪ ،‬البارونة دوديفان‪ ،‬ثم باالرتباط مع جول صاند‪ ،‬كاتبة اختارت لنفسھا اسما ً مستعاراً‬ ‫ھو جورج صاند‪ ،‬قبل أن تصبح على التوالي عشيقة ألفريد دو موسيه ثم الموسيقي البولندي الكبير‬ ‫شوبان‪ .‬في ذلك الحين‪ ،‬كانت انصرفت كليا ً للكتابة ولتأمل حياة الناس‪ ،‬بعيداً من صخبھا السياسي‬ ‫واالجتماعي القيّم‪ .‬كتبت جورج صاند خالل مراحل متفرقة من حياتھا‪ ،‬عدداً كبيراً من الروايات‪،‬‬ ‫من أبرزھا‪ ،‬عدا ما ذكرنا‪» :‬مويرا« )‪ (١٨٣٧‬و »كونسويلو« )‪ (١٨٤٣ - ١٨٤٢‬و »فرانسوا لي‬ ‫شامبي« )‪ (١٨٤٨‬و »فاديت الصغيرة« )‪ .(١٨٤٩‬وھي عاشت حتى العام ‪.١٨٧٦‬‬

‫»بيغماليون« لجورج برنارد شو‪ :‬العلم وحده ال يكفي‬ ‫السبت ‪ ٨‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫الحكاية في األصل ھي حكاية نحات قبرصي يدعى بيغماليون‪ ،‬وحكاية فاتنته أفروديت وبينھما‬ ‫التمثال الذي نحته لھا مخلّدا جمالھا‪ .‬لكن ھذه الحكاية التي قد تبدو بسيطة أول األمر فتنت الك ّتاب‬ ‫ودفعتھم إلى سن أقالمھم وأفكارھم‪ ،‬وھكذا‪ ،‬من أوفيد إلى جان جاك روسو‪ ،‬ومن اإلسباني جاسنتو‬ ‫غرو‪ ،‬إلى كاتبنا العربي توفيق الحكيم‪ ،‬نعرف أن عدداً كبيراً من الك ّتاب جرب حظه مع ھذا‬ ‫العمل‪ ...‬بل وصل األمر إلى الموسيقيين والرسامين‪ .‬ولكن الحقيقة تقول لنا إن أيا ً من ھؤالء لم‬ ‫يوصل »أسطورة بيغماليون« إلى النجاح الذي أوصلھا إليه‪ ،‬وإن في شكل موارب‪ ،‬الكاتب الكبير‬ ‫جورج برنارد شو‪ .‬ذلك أن مسرحية »بيغماليون« كما كتبھا ونشرھا شو في عام ‪ ،١٩١٢‬وقدمت‬ ‫للمرة األولى في باريس في عام ‪ ،١٩٢٣‬تظل األقوى واألقدر على استخراج كل المعاني الرمزية‬ ‫لھذه القطعة االبداعية‪ .‬ولقد زاد من أھمية »بيغماليون« وشھرتھا‪ ،‬خالل النصف الثاني من القرن‬ ‫العشرين تحويلھا فيلما ً عنوانه »سيدتي الجميلة« )ماي فير ليدي( مثلته أودري ھيبورن وكان‬ ‫أنجح فيلم أميركي في زمنه‪ ،‬حتى وإن كان مناخه إنكليزيا ً‪ .‬المھم أن »بيغماليون« كما كتبھا‬ ‫‪40‬‬


‫جورج برنارد شو‪ ،‬تختلف في الشكل عن األسطورة األصلية‪ ،‬لكنھا ال تختلف عنھا في المضمون‬ ‫أو في المعنى‪ ...‬وبالتحديد ألن في ھذا العمل األصلي من المعاني المرتبطة باإلنسان وخلقه‬ ‫والعالقات البشرية ومفاھيم التربية‪ ،‬ما ال يضاھيه في أي عمل آخر من ھذا النوع‪ .‬ولعل أھمية‬ ‫عمل شو تكمن أساسا ً في كونه َعصْ رن األسطورة وجعل أبطالھا أشخاصا ً من لحم ودم يعيشون‬ ‫بيننا وكأنھم منا‪.‬‬ ‫< تبدأ مسرحية »بيغماليون« كما كتبھا جورج برنارد شو‪ ،‬برھان يقوم بين العالم األرستقراطي‬ ‫الظريف والصلف في الوقت نفسه‪ ،‬ھنري ھيغنز‪ ،‬وصديقه الكولونيل بيكرنغ من حول فتاة ھي‬ ‫اليزا دوليتل‪ ،‬يلتقيانھا ذات يوم فتلفت لھجتھا المبتذلة وأسلوبھا المشاكس الوضيع في التصرف‪،‬‬ ‫نظرھما‪ .‬وھنا يقول ھيغنز لصديقه إن في إمكانه‪ ،‬خالل أسابيع قليلة‪ ،‬أن يحوّ ل ھذه الفتاة الشعبية‬ ‫المبتذلة إلى ليدي أرستقراطية حقيقية‪ ،‬ويضيف أن طريقه إلى ذلك إنما ھو االھتمام بتعليمھا أناقة‬ ‫الحديث وأسرار اللھجة الراقية وبقية ما تبقى من سلوكات وعوائد اجتماعية‪ .‬وإذ يقول له الكولونيل‬ ‫إن ھذا غير ممكن‪ ،‬منطقياً‪ ،‬يقوم الرھان بين الرجلين‪ .‬وعلى أثر ذلك يدنو ھنري ھيغنز من بائعة‬ ‫الزھور الصبية اليزا‪ ،‬ويعرض عليھا أن يعلمھا المنطق مقابل بعض مال يعطيه لھا ومال آخر‬ ‫يعطيه ألبيھا‪ .‬وھكذا يصطحبھا‪ ،‬في كل براءة‪ ،‬إلى منزله‪ ،‬وتبدأ التمارين على الفور‪ ،‬فيما يشعر‬ ‫ھيغنز أنه يسابق الزمن طالما أن الرھان م ّدته ستة أسابيع‪.‬‬ ‫< غير أن اليزا لم تخيب أمل ھيغنز‪ ،‬بل تجاوبت معه ومع ما يريد تماما ً إلى درجة أنھا خالل‬ ‫التمارين أبدت من الفھم والحذاقة والذكاء واالستعداد الفطري ما أذھل أستاذھا‪ .‬وھكذا خالل الفترة‬ ‫المحددة‪ ،‬بل خالل فترة أقل‪ ،‬نجحت اليزا في االختبارات التي أجريت لھا‪ ،‬وتحسّن نطقھا‪...‬‬ ‫ولسوف نرى أن النطق لم يكن وحده ما تحسّن لديھا‪ .‬ولقد تجلى ذلك كله خالل حفلة صاخبة‬ ‫أقيمت في حديقة منزل سفير من أصدقاء ھنري ھيغنز‪ .‬فإلى تلك الحفلة اصطحب ھيغنز تلميذته‬ ‫النجيبة ليقدمھا إلى الحفل على أساس أنھا دوقة‪ ،‬من دون أن يكشف سرّھا ألحد‪ ...‬وبالفعل منذ‬ ‫لحظة وصولھا إلى القصر وھي في غاية األناقة واألبھة إضافة إلى جمالھا‪ ،‬تتصرف اليزا مثل‬ ‫دوقة حقيقية‪ ،‬نطقا ً ولكن فھما ً أيضا ً وأناقة‪ :‬تبدو وسط ذھول ھيغنز والكولونيل صديقه‪ ،‬وكأنھا‬ ‫طالعة من فورھا من أرقى العائالت والمدارس األرستقراطية‪ .‬وإذ يروح األستاذ والكولونيل‬ ‫يھنئان نفسيھما بذلك االنتصار الكبير‪ ،‬وبنجاح التلميذة وقدرتھا على إقناع الجميع بأنھا ليدي‬ ‫حقيقية‪ ،‬تكون اليزا قد أضحت في عالم آخر تماماً‪ ،‬فھي انتبھت فجأة إلى أن الرجلين ال يقيمان أي‬ ‫وزن لدورھا في النصر‪ .‬حسناً‪ ،‬قد ال تكون مھتمة كثيراً بموقف الكولونيل على رغم و ّده تجاھھا‪،‬‬ ‫لكن موقف ھنري ھيغنز يغيظھا إلى حد الحزن والدمار‪ ...‬ذلك أن الرجل‪ ،‬خالل أسابيع العمل‬ ‫معاً‪ ،‬كان قد استھواھا إلى درجة أنھا وقعت في غرامه‪ ،‬من دون أن يالحظ ھو شيئا ً‪ ...‬وھا ھو‬ ‫اآلن يتجاھلھا تماما ً كامرأة من لحم ودم‪ ،‬معتبراً إياھا مجرد مادة أجرى عليھا اختباراً ناجحا ً‪.‬‬ ‫صحيح أنھا كانت مادة طيعة بين يديه‪ ،‬مثل المادة التي صنع منھا بيغماليون األصلي منحوتته‪،‬‬ ‫لكنھا في نھاية األمر‪ ،‬كائن بشري‪ ...‬تحب وتحزن‪ .‬ھي تعرف تماما ً أنھا ليست مجرد دمية‬ ‫‪41‬‬


‫مصنوعة‪ .‬والحال أن ھذا كله تحسه اليزا اآلن‪ ،‬بينما تجد أن ھنري ھيغنز يعيش خارجه تماماً‪،‬‬ ‫فھو المھووس دائما ً بعلمه وبانتصاره‪ ،‬ما كان ليخطر في باله أن للمادة التي اشتغل عليھا‪ ،‬أي حياة‬ ‫أو مشاعر خاصة‪ .‬ما كان ليخطر في باله انه في الوقت الذي كان ينمي لديھا مقدرات لغوية‬ ‫واجتماعية‪ ،‬كان يبعث في فؤادھا دفء الحب‪ .‬واليزا إذ تيأس من قدرة ھيغنز على فھم ما بھا‪ ،‬بعد‬ ‫انتصاره الكبير‪ ،‬تلجأ إلى منزل والدته‪ ،‬السيدة الليبرالية الواعية‪ .‬وھذه إذ تؤنب ابنھا على التفاوت‬ ‫بين نجاحه العلمي وتفاھته اإلنسانية‪ ،‬تدفعه إلى التفكير في األمر مليا ً‪ ...‬ليدرك ‪ -‬فقط ‪ -‬أن اليزا‬ ‫باتت جزءاً أساسيا ً من حياته‪ ،‬ولكن ليس على النحو الذي كانت تأمله اليزا‪ .‬وھكذا‪ ،‬حين يتوجه‬ ‫إليھا في صبيحة اليوم التالي«تائبا ً« »مستغفراً« ال يكون منه إال أن يعرض عليھا ‪ -‬وھو يعتقد أن‬ ‫ھذا قمة األريحية والحب من جانبه ‪ -‬أن تعود إلى منزله لتعيش معه ومع صديقه الكولونيل كثالثي‬ ‫عازب‪ .‬وھنا يبلغ الغضب بالفتاة مبلغا ً كبيراً‪ ،‬وال تشعر فقط أن ھيغنز يغدر بحبھا‪ ،‬بل إنه يغدر‬ ‫بكرامتھا أيضاً‪ ،‬وھكذا ترفض عرضه‪ ،‬فھي ال تسعى إلى الحصول على صداقة أو حياة مترفة‪،‬‬ ‫بل إن ما يھمھا ھو الحنان‪ ،‬يھمھا أن ينظر إليھا بحب‪ ...‬لكنه‪ ،‬ھو‪ ،‬يرفض ھذا تماماً‪ ،‬محاوالً‬ ‫إقناعھا بأن ھذا األمر يتعارض تمام التعارض مع طبيعته نفسھا‪ .‬وإزاء ھذا كله لم يعد في وسع‬ ‫اليزا التي صارت اآلن أكثر ثقة بنفسھا وقدرة على مجابھة الحياة‪ ،‬إال أن تخطو خارج حياة‬ ‫أستاذھا‪ ،‬معلنة أمامه ‪ -‬وسط دھشته الحمقاء ‪ -‬بأنھا ستتزوج شابا ً صديقا ً له ھو فريدي كان‬ ‫يطاردھا منذ زمن بعيد‪ .‬كما أنھا تعلن أمام ھيغنز أنھا‪ ،‬من اآلن وصاعداً‪ ،‬إذ لم تعد راغبة في‬ ‫العودة إلى بيع الزھور ‪ -‬طالما أن لھجتھا الجديدة ال تمكنھا من ھذا ‪ -‬ستصبح أستاذة صوتيات‪،‬‬ ‫مثل ھيغنز تماماً‪ ،‬بل في التنافس معه‪.‬‬ ‫< إذاً‪ ،‬ھذه المسرحية الطريفة والعميقة في اآلن معاً‪ ،‬اعتبرت‪ ،‬وال تزال‪ ،‬واحدة من أفضل‬ ‫المسرحيات التي كتبھا جورج برنارد شو خالل تاريخه االبداعي الطويل‪ ...‬إذ أن النقاد‬ ‫والمتفرجين وجدوا فيھا‪ ،‬خارج إطار المسرح الذي طبعھا‪ ،‬نزعة إنسانية عميقة ندر أن تجلت لدى‬ ‫كاتب على مثل ھذه البساطة‪ :‬نزعة إنسانية تدفع المؤلف إلى التعبير عن تعاطفه التام مع المخلوق‬ ‫ولو ضد عملية الخلق نفسھا أو ضد الفنان المبدع‪ .‬وكذلك وجدوا فيھا تبجيالً لقوة اللغة انطالقا ً من‬ ‫فكرة أن من يعلم امرأً كيف يتكلم‪ ،‬يعلمه أيضا كيف يفكر وكيف يعي وكيف يستقل بفكره ونفسه‪،‬‬ ‫خارجا ً من بيولوجيته البحتة‪.‬‬ ‫< وجورج برنارد شو )‪ (١٩٥٠-١٨٥٦‬ھو بالطبع‪ ،‬الكاتب المسرحي والمفكر اإلرلندي الذي مأل‬ ‫الدنيا وشغل الناس‪ ،‬بكتاباته وحكاياته ومشاكساته‪ ،‬خالل عقود طويلة من السنين‪ ،‬وال يزال‬ ‫حاضراً اليوم بھذه األعمال‪ ،‬ولكن أيضا ً بشخصيته بعد مضيّ أكثر من ستين عاما ً من رحيله‪ .‬ومن‬ ‫أعمال شو الكبيرة كتب عن الرأسمالية واالشتراكية‪ ،‬ومسرحيات مثل »كاترين العظمى« و‬ ‫»اندروكلس واألسد« و »الماجور بربارا« و »اإلنسان والسوبرمان« و »جزيرة جون بول‬ ‫األخرى« و »رجل األقدار« و »تلميذ الشيطان« وغيرھا‬ ‫‪42‬‬


‫»ثالثية البحر« لكلود ديبوسي‪ :‬روح الموسيقى في األزرق الكبير‬ ‫الجمعة ‪ ٧‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫بين عامي ‪ ١٩٠٣‬و‪ ١٩٠٥‬وإذ بات في قمة نضجه وقد بدأ يعثر على ضروب إلھامه في النزعة‬ ‫االنطباعية‪ ،‬بعدما كان نوع من الرومانطيقية ھيمن عليه حتى كتابته أوبرا »بلياس وميليزاند«‪،‬‬ ‫حاول كلود ديبوسي ان يكتب عمالً سيمفونيا ً يربط فيه بين نزعة ھيامه بالطبيعة والعقالنية الجديدة‬ ‫ المرتبطة بوصول القرن العشرين ‪ -‬والتي كانت بدأت تشغل فكره حقا ً‪ ...‬لكنه ابداً لم يتمكن من‬‫إنجاز ذلك العمل‪ :‬بدأه ثالث مرات على األقل خالل تلك االعوام‪ ،‬لكنه كان في كل مرة يتوقف‬ ‫ّ‬ ‫يخط الصفحات األولى للعمل المنشود‪ .‬وھكذا‪ ،‬عند نھاية تلك الحقبة‪ ،‬بدالً من‬ ‫ويغير اتجاھه بعدما‬ ‫ان يجد نفسه وقد أنجز سيمفونية كبيرة كانت ھي تلك التي يحلم بھا‪ ،‬وجد نفسه أمام ثالثة أعمال‬ ‫تمھيدية يحمل كل منھا ‪ -‬على طريقته ‪ -‬طابعا ً سيمفونيا ً أوّ لياً‪ ،‬لكن ايا ً منھا ال يعطي المؤلف إمكان‬ ‫ان يواصله ليطلع منه بذلك العمل المتكامل‪ .‬وھكذا‪ ،‬إذ راح ديبوسي يتأمل تلك األعمال الثالثة‪،‬‬ ‫وجد في نھاية األمر ان في إمكانه ان يقدمھا معاً‪ ،‬على شكل ثالثية‪ ...‬وقدمھا‪ ،‬بالفعل‪ ،‬على ذلك‬ ‫النحو‪ ،‬للمرة األولى في باريس‪ ،‬عام ‪ ،١٩٠٥‬أي في العام نفسه الذي أنجز فيه القسم الثالث‪ .‬وھو‬ ‫أعطى الثالثية عنوانا ً شامالً ھو »البحر« الذي باتت تحمله منذ ذلك الحين و ُتق ّدم به‪ .‬أما الحقيقة‬ ‫فھي ان لكل واحد من أقسام الثالثية عنوانه وأجواءه الخاصة‪ :‬القسم االول يحمل عنوان »من‬ ‫الفجر حتى الظھيرة فوق سطح البحر«‪ ،‬فيما يحمل الثاني عنوان‪» :‬لعبة االمواج« والثالث »حوار‬ ‫الريح والبحر«‪ .‬وال بد من االشارة ھنا الى انه يحدث كثيراً‪ ،‬أن يقدم كل عمل من ھذه االعمال‬ ‫الثالثة بمفرده‪ ،‬ولكن دائما ً مع االشارة الى انه يشكل جزءاً من الثالثية‪ ،‬ما صاغ مع مرور الزمن‬ ‫الوحدة المطلقة‪ ،‬بين اجزاء ھذه الثالثية‪ ،‬وجعل ديبوسي يعتبر واحداً من كبار الموسيقيين الذين‬ ‫كتبوا للبحر وعبّروا عنه‪.‬‬ ‫< ومع ھذا ال بد من ان نشير ھنا الى ان ھذا الفنان ذا الخيال المبدع‪ ،‬لم يكتب اي جملة موسيقية‬ ‫من جمل »البحر« وھو عند شاطئ بحر‪ :‬كتب معظمھا في باريس نفسھا‪ ،‬كما كتب بعض األلحان‬ ‫في قرى ومناطق جبلية وريفية ال عالقة لھا بالبحر على االطالق‪ .‬وقال ديبوسي تعليقا ً على ھذا‬ ‫انه إذ َبعُد عن البحر جسدياً‪ ،‬تمكن اكثر من االرتباط به‪ ،‬روحيا ً وفي خياله ما مكنه من التعبير‬ ‫عنه في شكل أفضل‪ .‬ونحن‪ ،‬اذ نستمع الى كل لحن من ألحان ھذا العمل االنطباعي الكبير يمكننا‬ ‫ان نرى ان ديبوسي كان محقا ً قي ما قاله‪ :‬لقد جاء التعبير عن البحر أعمق وأكثر شفافية‪ ،‬بحيث‬ ‫‪43‬‬


‫يدرك المرء ان الموسيقي حين راح يكتب ھذا العمل لم يكن يتأمل بحراً م َُح َّدداً يح ّد خياله به‪ ،‬بل‬ ‫استعاد في ذھنه كل بحر وكل البحار‪ ،‬وتجريدية المياه الممتدة الى ما ال نھاية‪.‬‬ ‫< إن أول ما يلفت النظر في كل اجزاء ھذا العمل‪ ،‬ھو تلك العالقة التي ينم عن قيامھا بين المؤلف‬ ‫والطبيعة‪ :‬فھي عالقة صاخبة مطلقة وذاتية‪ ،‬تشبه الى حد بعيد عالقة اول الرسامين االنطباعيين‬ ‫)رينوار ومونيه( كما عالقة آخر رسامي ما بعد االنطباعية )فان غوغ وسيزان( بالطبيعة‪ ،‬عالقة‬ ‫قائمة على اعادة اختراع ألوان الطبيعة والتوغل في تفاصيل روحھا وكأن الفنان أراد ان يقول انه‪،‬‬ ‫والطبيعة‪ ،‬صارا شيئا ً واحداً‪ .‬واألجمل من ھذا ان االنطباعات التي تتركھا الترجمة الموسيقية لھذه‬ ‫العالقة‪ ،‬ال تشبه االنطباعات التي تتركھا االعمال الرومانطيقية »الطبيعية«‪ .‬فھنا ال ينجرف‬ ‫المستمع في لحظات حزن او فرح‪ ،‬أو لحظات حنان مألوفة )مثل تلك التي قد تنتجھا اعمال سابقة‬ ‫لديبوسي وعلى رأسھا »ليْليّتاه« ‪ .NOCTURNES‬إن ما يجد الفنان نفسه في خضمه اآلن ‪ -‬بحسب‬ ‫كبار دارسيه ومحللي أعماله ‪ -‬ھو عالم أوسع بكثير‪ :‬عالم الروح وقد امتزجت بالطبيعة‪ ،‬فعانقتھا‬ ‫واندمجت بھا‪ ،‬بعيداً من مؤثرات العواطف الميلودرامية‪ .‬وألن الروح ھي القطب الفاعل ھنا‪ ،‬يكاد‬ ‫المستمع يحسّ معاناة تلك الروح وھي تندمج في الطبيعة‪ ،‬ويكاد يحسّ في األلحان تعبير تلك الروح‬ ‫ كما كل روح وثابة لكل فنان حقيقي ‪ -‬عن عدم رضاھا الدائم‪ .‬فالروح‪ ،‬عبر الموسيقى ھنا‪،‬‬‫تسعى في كل لحظة الى الوصول الى كمال واكتمال ال يمكنھا ‪ -‬تعريفا ً ‪ -‬ان تصل اليھما ابداً‪...‬‬ ‫لذلك تظل ھائمة وراءھما راكضة الى األمام‪ ،‬خالقة عبر ھذا الھيام لحظاتھا الموسيقية التي‬ ‫ساع وراء سموھا‪ ،‬غير مدرك لما يبحث عنه أصالً‪ ،‬في‬ ‫سرعان ما يشعر المستمع انه مندمج فيھا‪ٍ ،‬‬ ‫حركة صعود دائمة‪.‬‬ ‫< بالنسبة الى كلود ديبوسي‪ ،‬يقوم األمر ھنا‪ ،‬اذاً‪ ،‬في ذلك المسعى وفي ذلك المسار نفسيھما‪ ،‬مع‬ ‫العلم المسبق أن ليس ثمة إمكان للوصول الى أي نھاية مرسومة سلفا ً‪ ...‬ومن ھنا ذلك الشعور الذي‬ ‫يخالج المرء في ان المھم ھو البنيان المرسوم والذي ھو بنيان يكاد يكون لولبيا ً‪ ...‬ما يعني ان‬ ‫الموضوع المحدد ‪ -‬ذا البداية والوسط والنھاية ‪ -‬غائب ھنا تماماً‪ ،‬كغيابه بالنسبة الى الطبيعة‬ ‫وغيابه بالنسبة الى تطلعات الروح‪ .‬اما ما ھو حاضر فإنه المشاعر المتأرجحة وصورة الطبيعة‬ ‫في امتداد بحري ال نھائي‪ .‬والحال ان يقينية ھذا االمتداد‪ ،‬بالنسبة الى المؤلف‪ ،‬ھي التي تعطيه‬ ‫حرية الكتابة الموسيقية التي توصل العمل بالنتيجة الى نوع من التحرر المطلق من القيود‬ ‫الھارمونية‪ ،‬خالقة عفوية تضفي على بنيان العمل شبه اللولبي‪ ،‬حرية ابداع استثنائية‪ ،‬بخاصة ان‬ ‫ديبوسي ھنا‪ ،‬اذ يجد ان في امكانه التمتع بھذه الحرية الى أقصى الحدود‪ ،‬يغوص ‪ -‬في كل جزء‬ ‫من اجزاء »الثالثية« ‪ -‬في تعددية المواضيع‪ ،‬وفي نسيج بوليفوني يبدو ھنا جديداً تماما ً عليه‪ ،‬بل‬ ‫على الموسيقى الفرنسية عموماً‪ ،‬ولسوف يبرز واضحا ً خالل العقد التالي من السنين في اعمال‬ ‫العديد من موسيقيي فيينا‪ ،‬لكن ھذه حكاية اخرى‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫< المھم ھنا ان كلود ديبوسي‪ ،‬في ھذا العمل الساحر واأل ّخاذ‪ ،‬عرف كيف يحرر موسيقاه تماما ً من‬ ‫كل ضغط‪ ،‬او إرث مكبّل‪ ،‬حتى من دون ان يطالب عمله نفسه بأن يكون ارثا ً ألي موسيقي يأتي‬ ‫من بعده‪ ،‬ويحاول ان يسعى مسعاه‪ ...‬فديبوسي كان في تلك المرحلة من حياته ومن مسار ابداعه‪،‬‬ ‫بدأ يؤمن بأن كل عمل فني حقيقي يجب ان يكون فريداً‪ ،‬ال يشبه ما قبله‪ ،‬وال يؤسس حتى لما بعده‪،‬‬ ‫وإال تحوّ ل الى عمل حرفي‪ ...‬ومن ھنا كان ذلك االصرار لديه‪ ،‬في ھذا العمل القصير زمنياً‪ ،‬مع‬ ‫انه استغرقه ثالث سنوات حتى ينجز‪ ،‬على تحويل الطابع االنطباعي للعمل‪ ،‬والذي كان يخدم من‬ ‫قبل ذلك في عملية خلق أجواء غير محددة تغلف اللحن وتزينه‪ ،‬بل حتى تعطيه طابعه المطلق في‬ ‫الزمان‪ ،‬تحويله الى موضوع اساسي والى حامل يوفر للعمل الموسيقي ليونة تامة وحركة‬ ‫ديناميكية متواصلة أللحان تتقاطع مع بعضھا البعض وتتالى‪ ،‬في شكل يخلق للمستمع عالما ً يغرق‬ ‫فيه تماماً‪ ،‬حتى من دون ان يبارح عقالنيته ولو للحظة‪...‬‬ ‫< كلود ديبوسي )‪ (١٩١٨-١٨٦٢‬حينما كتب »ثالثية البحر« كان على اي حال‪ ،‬شغوفا ً بأعمال‬ ‫كل من فان غوغ وسيزان‪ ،‬في مجال الفن التشكيلي‪ ،‬وكانت تسحره تلك العالقة العقالنية التي‬ ‫قامت بين مشاھدي لوحات ھذين الفنانين واالعمال التي يشاھدونھا‪ .‬وكان من الواضح انه انما شاء‬ ‫ان يوجد في الموسيقى معادالً لتلك االعمال‪ ،‬إنما من دون ان يقطع مع نزعة انطباعية لحساب‬ ‫نزعة ما بعد االنطباعية‪ ،‬ومن ھنا أتى ذلك العمل الغريب‪ ،‬الذي قال البعض انه يمزج بين برليوز‬ ‫وآلبن برغ‪ ،‬فيما قال آخرون انه عرف كيف يجمع بين رينوار وسيزان‪ ،‬والمعنى واحد في‬ ‫الحالين‪ .‬اما »ثالثية البحر« فإنھا‪ ،‬على اي حال‪ ،‬تشكل فقط جزءاً من انتاج ديبوسي الضخم‪،‬‬ ‫والذي يضم أعماالً ال تزال تعتبر في قمة الحداثة‪ ،‬على رغم مرور اكثر من قرن على ابداعھا‪،‬‬ ‫مثل »علبة األلعاب« و »خمس قصائد من بودلير« و »باألبيض واألسود« و »االبن الضال« و‬ ‫»ليليات« و »مقدمة لبعد ظھر حيواني« و »‪ ٣‬قصائد لستيفان ماالرمي« وغيرھا‬

‫»المفكر« لرودان‪ :‬ذاك المنحني مف ّكراً عند أبواب الجحيم‬ ‫اإلثنين ‪ ٣‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫إذا استثنينا بعض التماثيل والمنحوتات الكبيرة العائدة إلى عنصر النھضة اإليطالي‪ ،‬وإذا استثنينا‬ ‫كذلك تمثال الحرية الضخم الذي يطال الواصلين إلى مدينة نيويورك من أوروبا وغيرھا من ناحية‬ ‫البحر‪ ،‬لكن قيمته ليست فنية أو تاريخية خالصة‪ ،‬يمكننا أن نقول إن تمثال النحات الفرنسي رودان‪،‬‬ ‫المعروف بـ »المفكر« ھو األشھر واألكثر شعبية بين شتى التماثيل المنصوبة في أنحاء العالم‪...‬‬ ‫‪45‬‬


‫وھو شھير إلى درجة أن من أوائل األسئلة التي تطرح على متحدث زار فرنسا ھي‪» :‬ھل شاھدت‬ ‫برج إيفل؟ ھل شاھدت قوس النصر؟ ھل شاھدت تمثال المفكر؟«‪.‬‬ ‫< والحال أن شھرة تمثال »المفكر« الفائقة جعلت الناس جميعا ً يتخيّلون أنه تمثال مستقل قائم في‬ ‫ذاته‪ .‬ومن ھنا تكون مفاجأتھم كبيرة حين يخبرھم الزائر أن التمثال ال وجود مستقالً له‪ :‬إنه جزء‬ ‫من ك ّل يفوقه حجما ً وأھمية‪ .‬وإن لم يفقه شھرة بالطبع‪ .‬ذلك أن تمثال رودان الشھير ھذا‪ ،‬يشكل‬ ‫الجزء األساسي والمركزي في منحوتة ضخمة ومدھشة لرودان تحمل اسم »األبواب«‪ .‬وھي‬ ‫منحوتة على شكل باب ضخم يبلغ ارتفاعھا أكثر من ستة أمتار وعرضھا نحو تسعة وعمقھا قرابة‬ ‫المتر‪.‬‬ ‫< أما الجزء األساس من المنحوتة الضخمة والذي عرف منذ زمن بعيد باسم »المفكر« فإنه تمثال‬ ‫يعلو المنحوتة‪ ،‬شاغالً وسط جزئھا الفوقي وبالكاد يصل ارتفاعه إلى مترين‪ .‬لكنه‪ ،‬على أي حال‪،‬‬ ‫القطعة األبرز في العمل اإلجمالي‪.‬‬ ‫< أما »األبواب« المعنية ھنا والتي حمّل رودان اسمھا لمنحوتته‪ ،‬فھي أبواب الجحيم‪ ،‬التي‬ ‫صوّ رھا رودان في منحوتته استناداً إلى قراءته المعمقة للقسم المتعلق بالجحيم في »الكوميديا‬ ‫اإلنسانية« لدانتي‪ ،‬ما يعني بالتالي أنه حين الحديث عن الفنانين من رسامين ونحاتين‪ ،‬استوحوا‬ ‫منذ عصر النھضة وحتى أزماننا الحديثة مشاھد من سفر دانتي العظيم‪ ،‬ال بد دائما ً من وضع‬ ‫رودان وعمله ھذا في الصف األول إلى جانب أعمال لدومييه وسلفادور دالي وغيرھما‪ .‬ومن‬ ‫المعروف من الناحية التاريخية وباالستناد إلى شتى كتب السير التي وضعھا المؤرخون والنقاد عن‬ ‫رودان أنه ظل يعمل على ھذه المنحوتة طوال ما يقرب من أربعين عاما ً‪ .‬بل إنه حينما وصل إلى‬ ‫نھاية أيامه وأحس بدنوّ أجله‪ ،‬كان يھمه أن يقول إلى المحيطين به أنه ال يزال يشعر بأنه أبداً لم‬ ‫ينجز ذلك العمل‪ ،‬وال يزال لديه ما يريد بعد أن يضيف‪ .‬والحال أن »األبواب« ھو من تلك‬ ‫األعمال التي يمكن لصاحبھا أن يعلن أنھا منجزة في أي لحظة‪ ،‬كما يمكنه أن يعلن أنه عمل ال‬ ‫يمكن أن ينجز أبداً‪ .‬ومع ھذا يمكننا أن نراه اليوم منتصباً‪ ،‬داالً على عبقرية رودان وجھده الفني‪...‬‬ ‫ولكن أيضاً‪ ،‬وربما قبل ذلك وأھ ّم من ذلك‪ ،‬على نظرته المتشائمة والسوداوية إلى الشرط اإلنساني‪.‬‬ ‫إذ‪ ،‬إن كان لنا أن ننظر إلى تمثال »المفكر« وأن نتأمله بشكل عميق وبشيء من اإلعجاب‬ ‫والحيادية‪ ،‬إذا أخذناه بمفرده‪ ،‬فإن علينا‪ ،‬في المقابل‪ ،‬حينما نأخذه في إجمالية العمل‪ ،‬أن نجده معبراً‬ ‫عن وجھة نظر ما‪ ،‬بل وجھة نظر شديدة القسوة والتشاؤم في مجال تعبيره الذي ال يخفى عن‬ ‫المصير والشرط اإلنسانيين‪ .‬ومن ھنا يمكن القول في نھاية األمر‪ ،‬أمام مثل ھذا العمل‪ ،‬ككل‪ ،‬أنه‬ ‫ال بد أن يت ّم التعامل معه على أنه وصية لرودان تعكس لنا إيمانه بأن الجحيم ليس بؤرة يتعذب فيھا‬ ‫األموات فقط‪ ،‬بل إنه يشكل عذابا ً لألحياء أيضا ً‪ :‬الجحيم ھو ملكوت اآلمال الخائبة والمساعي‬ ‫الجوفاء واألحالم واألھواء التي ال يمكن لھا أبداً أن تتحقق‪ .‬ومن ھنا يبدو العمل صورة لخيبة‬ ‫اإلنسان ودماره النھائي‪.‬‬ ‫‪46‬‬


‫< والالفت حقا ً ھو أن رودان استطاع أن ينقل ھذه الرؤية إلى عمل لم يكن ذاتيا ً في األصل‪.‬‬ ‫فالعمل كان رودان قد أُوصي على صنعه في ‪ ١٨٨٠‬ليشكل مدخالً لمشروع إقامة متحف لفنون‬ ‫الديكور‪ .‬ولما كان رودان خالل تلك الفترة من حياته منكبا ً حقا ً على قراءة كتاب »الكوميديا‬ ‫اإللھية« لدانتي غائصا ً في حال تتراوح بين معاناة شخصية وجودية‪ ،‬وإحساس بالتشاؤم إزاء‬ ‫المصير اإلنساني‪ ،‬قرر أن يجعل من ذلك العمل الموصى عليه‪ ،‬صورة النشغاالته الفكرية‬ ‫والوجودية في ذلك الحين‪ .‬وھكذا بدأ عمله من دون أن يشعر‪ ،‬في لحظة من اللحظات‪ ،‬أن عليه أن‬ ‫يتممه‪.‬‬ ‫< ومن ھنا شغل ھذا العمل النصف األخير من حياة رودان بأسرھا‪ .‬وال بد من أن نذكر ھنا بأن‬ ‫النصب البرونزي القائم حاليا ً انطالقا ً من عمل رودان ومنحوتاته المتتالية‪ ،‬لم يصبّ إال بعد‬ ‫رحيله‪ ،‬بمعنى أن رودان لم يتمكن أبداً من مشاھدة ھذا العمل كما يمكن لنا نحن اليوم أن نشاھده‪.‬‬ ‫فھو في األصل راح يشتغل على المنحوتات قطعة قطعة‪ ،‬يشكلھا ويرتبھا ويعيد ترتيبھا في ما‬ ‫بينھا‪ ،‬مثل موسيقي يشتغل على جمله الموسيقية منقالً إياھا بين الحركة واألخرى تبعا ً للمعنى الذي‬ ‫يتوخاه‪ ...‬بل ال بد من أن نذكر ھنا أن عدداً من تلك المنحوتات الصغيرة التي أدمجھا في العمل‬ ‫ككل‪ ،‬سيعود خالل فترات الحقة من حياته وعمله إلى استخدامھا كأساس لمنحوتات أخرى مستقلة‬ ‫له‪ .‬غير أن ھذا ال يعني أبداً أن الترتيب الذي توخاه للشخوص في إطار العمل ككل‪ ،‬كان‬ ‫عشوائيا ً‪ ...‬بل أنه كان مخططا ً سلفاً‪ ،‬لكن إعادة الترتيب كانت أمراً اقتضاه مزاج رودان المتقلب‬ ‫خالل العقود التالية من حياته‪ ،‬علما ً بأن الفترة الزمنية الطويلة التي اشتغل رودان خاللھا على‬ ‫المنحوتة ككل كانت من أقسى فترات حياته‪ ...‬وبشكل أكثر تحديداً حياته العائلية التي من الصعب‬ ‫إيجاد حياة لنحات آخر في زمنه تشبھھا‪ .‬ومن المنطقي أن ھذا األمر ھو الذي جعل الكتاب‬ ‫والسينمائيين يقدمون في أعمالھم درامات شديدة القسوة مستقاة من حياة الرجل بما في ذلك عالقته‬ ‫بكاميل كلوديل‪ ،‬الفنانة وأخت الشاعر والكاتب بول كلوديل العالقة التي دمّرته ودم ّرت كاميل‬ ‫نفسھا‪.‬‬ ‫< أما بالنسبة إلى المنحوتة نفسھا فإنھا تبدو لنا وكأنھا مقسومة قسمين‪ ،‬من ناحية معناھا‪ :‬فھناك‬ ‫الشخوص التي تعاني من جحيمھا‪ ،‬من دون أن نعرف حقا ً ما إذا كان جحيما ً بعد الموت أو قبله‪،‬‬ ‫وھناك ذلك الشخص المركزي »المفكر« الذي يبدو في جلسته‪ ،‬أكثر حياة وحضوراً‪ ،‬ويبدو كما لو‬ ‫أنه يتأمل في المشھد ليحكم عليه وعلى مآل اإلنسان في شكل عام‪.‬‬ ‫< والحقيقة ھي أن »المفكر« نفسه لطالما كان لغزاً شغل المحللين والمؤرخين‪ :‬فمن ھو؟ وماذا‬ ‫يفعل ھنا؟ لقد خلص ھؤالء إلى أنه كان على األرجح رودان نفسه‪ ،‬إذ صوّ ر الفنان عبر شخصيته‪،‬‬ ‫قدرة اإلنسان على مجابھة جحيمه بفعل استخدامه عقله وملكة اإلبداع لديه بصفتھما آخر سالح‬ ‫يمكنه أن يقاوم ليحتفظ بإنسانيته وسط عالم ‪ -‬وجحيم ‪ -‬ال يكف عن انتزاع إنسانيته منه‪ .‬فـ‬ ‫»المفكر« ھنا يبدو في تأمله وكأن ھمه الوحيد أن يحكم على نفسه وعلى إخوانه في اإلنسانية‪.‬‬ ‫‪47‬‬


‫والمدھش ھنا ھو أن رودان صوّ ر‪ ،‬عبر فعل التفكير وحده‪ ،‬قدرة ھذا الفعل على تحريك جسد‬ ‫»المفكر« وجعله مملوءاً بالقوة والحيوية والوجود‪ ،‬ولكأنه في ھذا يترجم بصريا ً مقولة ديكارت‬ ‫الشھيرة »أنا أفكر إذاً أنا موجود«‪.‬‬ ‫< أوغوست رودان )‪ (١٩١٧-١٨٤٠‬ھو أشھر المبدعين في فن النحت الفرنسي‪ ،‬ومن أشھر‬ ‫النحاتين في تاريخ ھذا الفن في العالم‪ ،‬ولد وعاش في باريس وانتمى منذ سن الرابعة عشرة إلى‬ ‫مدرسة الفنون التزيينية في العاصمة الفرنسية‪ .‬انصرف إلى الرسم والنحت باكراً‪ .‬عاش حياة‬ ‫مضطربة وقلقة‪ ،‬وتوّ ج قلقه فيھا عالقته مع زميلته كاميل كلوديل )وھي عالقة عبر عنھا في شكل‬ ‫رائع فيلم فرنسي مثله جيرار ديبارديو وايزابيل أدجاني(‪ .‬ولقد اشتھرت لرودان تماثيل عدة‪،‬‬ ‫أبرزھا‪ ،‬طبعا ً »المفكر« و »األبواب« في شكل عام‪ .‬وھناك أيضا ً تمثال »القبلة« وتمثال‬ ‫»فيكتور ھوغو« و »بلزاك« إضافة إلى الكثير من المنحوتات الدينية‬

‫دنيوي باإلنسان والطبيعة‬ ‫»الفصول األربعة« لفيفالدي‪ :‬احتفال‬ ‫ّ‬ ‫السبت ‪ ١‬يونيو ‪٢٠١٣‬‬

‫حتى زمن فيفالدي‪ ،‬كانت الكنيسة الكاثوليكية‪ ،‬ال تزال مسيطرة تماما ً على التأليف الموسيقي‪.‬‬ ‫وحتى وإن كان ثمة بين الحين واآلخر موسيقيون يجربون حظھم في التأليف الدنيوي‪ ،‬سواء أكان‬ ‫ذلك ألسباب جمالية أم ألسباب مزاجية‪ ،‬أم أحيانا ً ألسباب أيديولوجية تتعلق بالرغبة في المشاكسة‬ ‫على رغبات الكنيسة وإمالءاتھا‪ ،‬فإن ھؤالء كانوا سرعان ما يرعوون ويعودون الى احضان‬ ‫الكنيسة مستغفرين تائبين‪ .‬وھذا الكالم ينطبق خصوصا ً على ما كان يحدث في ھذا المجال في‬ ‫ايطاليا ما بعد عصر النھضة‪ ،‬حيث ان دراسة تاريخية مقارنة ستقول لنا بسرعة كيف ان‬ ‫الموسيقى تأخرت عن فن الرسم في التركيز على الطابع اإلنساني لعملية اإلبداع الفني‪ .‬وليس ھذا‬ ‫باألمر الغريب طالما ان الموسيقى كان ال يمكن االستماع اليھا في شكل عام‪ ،‬إال في واحد من‬ ‫مكانين‪ :‬الكنيسة أو قصور علية القوم‪ .‬طبعا ً كانت للشعب‪ ،‬في الحانات والبيوت واألعياد‪،‬‬ ‫موسيقاه‪ ،‬لكنھا كانت »موسيقى متدنية« بالكاد يمكن اطالق اسم على مؤلف لھا‪ ،‬فھي لم تكن أكثر‬ ‫‪48‬‬


‫من »موسيقى الحثالة« وأنغام السكارى وفق مؤرخي تلك العصور‪ ،‬أي قبل زمن بعيد من الوقت‬ ‫المتأخر الذي راح يعاد فيه اكتشاف بعض روائع تلك الموسيقى ويعاد اليھا االعتبار‪ ،‬غير ان تلك‬ ‫حكاية أخرى ليست ھي موضوعنا ھنا‪ .‬موضوعنا ھنا يتعلق بالموسيقى األخرى التي لم تكن دينية‬ ‫تماما ً وال شعبية بالمعني الذي نقصده ھنا‪ .‬في زمن فيفالدي وما قبله‪ ،‬إذاً‪ ،‬كان المصدر الذي يحدد‬ ‫للموسيقى دورھا ويصدر عليھا حكمه ھو الكنيسة‪ .‬وكان أي خروج على النظرة التي تفرضھا‬ ‫الكنيسة وتنظر بھا الى الفن تبعا ً لما كان يعتبر قوانينھا الصارمة يعتبر تجديفا ً‪ .‬وھكذا‪ ،‬حين اتجه‬ ‫فيفالدي‪ ،‬الى كتابة موسيقى غير كنسية‪ ،‬موسيقى تمجّد اإلنسان والطبيعة من خالل نظرة اإلنسان‬ ‫اليھا‪ ،‬كان من الطبيعي ان تضطھده الكنيسة‪ ،‬لكن الالفت في ھذا ھو ان الكنيسة في ذلك الحين‪ ،‬لم‬ ‫تكن من القوة المطلقة الى درجة ان تعلن مباشرة عداءھا لفيفالدي بسبب موسيقاه‪ ،‬وإنما الت ّفت على‬ ‫األمر محاكمة الرجل تحت ذريعة تتعلق بعالقته مع مغنية فرنسية األصل كان يحضنھا‪ ،‬كما يقول‪.‬‬ ‫وال بد من ان نشير ھنا في ھذا السياق الى ان الغضب على فيفالدي كان مزدوجاً‪ ،‬ذلك أن‬ ‫»الفاسق« كان في الوقت نفسه راھباً‪ ،‬كما كان موظفا ً في ملجأ الرحمة الذي يديره باسم الكنيسة‬ ‫ويستقبل فيه فقراء المدينة محاوالً في الوقت نفسه ان يعلم اطفالھم الموسيقى‪ ،‬والموسيقى الدينية‬ ‫بالتالي على وجه الخصوص‪.‬‬ ‫< لكن فيفالدي كان راھبا ً غريب األطوار‪ ،‬حتى في شكله‪ ،‬إذ كان شعره أصھب اللون ما جعله‬ ‫يعرف على الدوام بـ »الراھب األصھب«‪ .‬غير ان ذلك كان أقل عالمات غرابته‪ ،‬ھو الذي ما إن‬ ‫انتصف به العمر‪ ،‬حتى خاض )ضاربا ً موقف رؤسائه في الكنيسة منه‪ ،‬عرض الحائط( الموسيقى‬ ‫الميلودرامية وراح يكتب موسيقى ألوبرات تاريخية معظمھا كان يعتبر مارقا ً من جانب الكنيسة‪،‬‬ ‫مثل »األولمبياد« و »تيمورلنك« و »أورالندو فوريوزو«‪ .‬لكن ھذا التأليف الذي سيعتبر دنيويا ً‬ ‫كله إنما كان بعد زمن من بداية غضب الكنيسة عليه‪ .‬أما البداية فكانت مع »ثورته« الجمالية‬ ‫والفكرية التي أطلقھا في أعماله الموسيقية‪ ،‬حتى حين كان يكتب موسيقى ال تزال توصف حتى‬ ‫اليوم بأنھا ذات نفس إلھي‪ .‬وحسبنا اليوم ان نصغي بدقة الى أشھر أعماله‪ ،‬وربما الى األشھر‬ ‫قاطبة بين الكونشيرتات في تاريخ الموسيقى ونعني بھذا بالطبع‪ ،‬كونشرتو »الفصول األربعة«‪،‬‬ ‫حتى ندرك من فورنا مدى ما باتت موسيقى ھذا الفن تحمله من »تجديف« وخروج عن القوانين‬ ‫والتعاليم الموسيقية للكنيسة‪.‬‬ ‫< مھما يكن من أمر ھنا‪ ،‬سنتوقف عند »الفصول األربعة« الذي سوف يقول عنه الموسيقي‬ ‫الروسي ايغور سترافنسكي في القرن العشرين‪» :‬انني اعتقد جازما ً بأنھم قد بالغوا كثيراً في تقدير‬ ‫فيفالدي‪ ،‬فھو ليس اكثر من انسان ممل كتب كونشرتو واحداً‪ ،‬ثم أعاد تأليفه ستمئة مرة على‬ ‫التوالي«‪ .‬والحقيقة أن الحقيقة الوحيدة التي يمكن ان تستشف من ھذا الكالم الذي يلوح تھافته‬ ‫وتحديداً من خالل اضفاء ھذه المكانة بشكل مغرض على »الفصول األربعة«‪ ،‬ھي الكم الھائل من‬ ‫األعمال الموسيقية التي وضعھا فيفالدي طوال حياته‪ ،‬وھي أعمال ال تزال ُتكتشف‪ ،‬بدھشة كبيرة‪،‬‬ ‫حتى اليوم‪ .‬غير ان »الفصول األربعة«‪ ،‬ھذا الكونشرتو الرباعي األجزاء‪ ،‬يبقى األشھر‪ ،‬وليس‬ ‫‪49‬‬


‫فقط ألن فيفالدي طبّق فيه ابتكاراً عاما ً وھائالً في عالم كتابة الكونشرتو‪ :‬فھو تخلى عن البداية‬ ‫البطيئة الحركة التي كانت تميز دائما ً الحركة األولى في أي كونشرتو )غروسو‪ ،‬خصوصا ً( يكتب‬ ‫من قبل‪ .‬ھنا‪ ،‬وفي األجزاء األربعة )»الربيع« و »الصيف« و »الخريف« و »الشتاء«( التي‬ ‫يتألف منھا ھذا العمل الذي يستغرق عزفه قرابة األربعين دقيقة‪ ،‬أبدل فيفالدي النسق‪ ،‬فصار كل‬ ‫كونشرتو يبدأ بـ »اليغرو« وينتھي بـ »اليغرو« آخر‪ ،‬وفي الوسط الثالثي يضع إما »اداجيو«‬ ‫وإما »الرغو« وفق الموضوع‪ .‬وھذا النسق ھو الذي اتبعه دائما ً ذلك المؤلف الذي كان لوالدته في‬ ‫البندقية وعيشه الى جوار بحرھا المتموج الصاخب باستمرار‪ ،‬أثر كبير في اھتماماته باإليقاع ما‬ ‫جعله يتعلم باكراً‪ ،‬وكما يقول الروائي والناقد الموسيقي البرتو سافينيو‪ ،‬ان ينقل حركة البحر‪.‬‬ ‫ويقينا ً ان ھذه الحركة المتوالية المتموجة ھي ما يميز‪ ،‬ليس فقط كونشرتات فيفالدي بل أيضا ً‬ ‫كونشرتات كوريللي‪ ،‬ومعظم أعمال سكارالتي‪ .‬إذاً‪ ،‬من روح الطبيعة وحركتھا استقى فيفالدي‬ ‫إلھامه األول‪ .‬وھو في ھذا ذھب الى الحدود القصوى لما كان يمكن التھاون معه في أيامه‪.‬‬ ‫< ان فيفالدي الذي قيل عنه دائما ً انه كان يأنف اللجوء الى الينابيع االرستقراطية‪ ،‬بل الميتافيزيقيا‪،‬‬ ‫لإللھام الفني‪ ،‬وعرف دائما ً كيف ينھل من الحياة‪ ،‬جعل من »الفصول األربعة« نشيداً لھذه الحياة‪،‬‬ ‫وللبشر أصحاب الحياة أنفسھم‪ .‬ھنا كل واحد من الكونشرتات األربعة التي يتألف منھا العمل يحمل‬ ‫اسم فصل من فصول السنة ويؤدى من مجموع يتكون من كمان رئيسية )سوليست( وكمانات أولى‬ ‫وثانية‪ ،‬اضافة الى تشيلوات وكونترباص‪ ،‬مع باص متواصل يؤدى على األرغن أو الكالفيسان‪.‬‬ ‫والمجابھة تكون ھنا دائما ً بين الكمانات األولى والثانية التي بين حركة وأخرى تروح منفصلة عن‬ ‫الكمان الرئيسية‪ ،‬لتعود وتلتقي بھا‪ ،‬في حركة تعطي ما يشبه نبض الحياة‪ .‬ودائما ً تبعا ً للمخطط‬ ‫الرئيسي التقريبي »اليغرو ‪ -‬اداجيو – اليغرو«‪ .‬وفي كل مقطع حاول فيفالدي بنجاح ان يقلد مزاج‬ ‫الفصل الذي يتحدث عنه‪ ،‬جاعالً الموسيقى تعكس حركة المياه والريح‪ ،‬حفيف االشجار وزقزقة‬ ‫العصافير‪ ،‬ثم خصوصا ً مشاعر االنسان الذي ھو المعني األول في ھذا كله‪ ،‬من فرح الناس بقدوم‬ ‫الربيع‪ ،‬الى رعب الراعي أمام مقدم العاصفة‪ ،‬الى انزواء القرويين في بيوتھم في مواسم البرد‬ ‫واألمطار‪ .‬لكل شعور من ھذه المشاعر حرك فيفالدي آالته‪ ،‬وجعل كمان »السوليست دائم التأھب‬ ‫للتعبير المنفرد‪ ،‬الذي يقول‪ :‬ھنا بزغت الشمس‪ ،‬ھنا اكفھرت السماء‪ ،‬ھنا خرج الفالحون‪ ،‬ھنا‬ ‫انزوى الرعاة‪ ...‬الخ‪ .‬ويقينا ً ان ما من عمل في تاريخ الموسيقى عبر‪ ،‬أكثر من »الفصول‬ ‫األربعة« عن عالقة اإلنسان العضوية بالطبيعة وتقلباتھا‪.‬‬ ‫< ولد انطونيو فيفالدي في العام ‪ ١٦٧٥‬على األرجح‪ ،‬ومات في العام ‪ .١٧٢٥‬بدأ حياته خادما ً في‬ ‫الكنيسة والتحق بسلك الكھنوت في العام ‪ .١٦٩٣‬وبعد ان رُسم قسيساً‪ ،‬أُلحق كمعلم فيوال في ملجأ‬ ‫الرحمة‪ ،‬وبعد ذلك بعشرة أعوام بارح الملجأ‪ ،‬من دون أن يتخلى عن مرتبه فيه‪ ،‬واھتم بإدارة‬ ‫مسرح قدمت عليه أوبراته‪ ،‬ولم يعرف بسلوكه الحسن في تلك اآلونة‪ .‬وھو في ذلك العمل‪ ،‬ثم عبر‬ ‫االلتحاق بقصور األمراء‪ ،‬حقق ثروة كبيرة‪ ،‬وتنقل كثيراً وكتب مئات القطع الموسيقية وعشرات‬ ‫‪50‬‬


‫األوبرات‪ .‬لكنه حين مات في فيينا‪ ،‬حيث أمضى سنواته األخيرة‪ ،‬قضى معدما ً ودفن في مقابر‬ ‫الفقراء‪.‬‬

‫»الشاھنامه« ألبي القاسم الفردوسي‪ :‬أبعد من تاريخ الملوك والدول‬ ‫الجمعة ‪ ٣١‬مايو ‪٢٠١٣‬‬

‫ُترى‪ ،‬حين فرغ الشاعر والكاتب الفارسي الكبير أبو القاسم الفردوسي من كتابة سِ ْفره الكبير‬ ‫»الشاھنامه« )أو »كتاب الملوك« كما يُعرف عادة في اللغة العربية‪ ،‬التي احتضنته باكراً كما‬ ‫يبدو( أوائ َل العام الميالدي ‪) ١٠١٠‬الھجري ‪ ،(٤٠٠‬ھل كان يرى في شكل تلقائي أنه أنجز مھمة‬ ‫أساسية بالنسبة إليه‪ ،‬تقوم على كتابة تاريخ ملوك األمة الفارسية منذ فجر التاريخ حتى الفتح‬ ‫العربي لفارس؟ بكلمات أخرى‪ :‬ھل كانت غاية شاعر الفرس األكبر أن يضع كتابا ً يسلسل فيه‬ ‫الملوك واألباطرة الذين تعاقبوا على وطنه؟ ظاھريا ً قد يكون الجواب‪ :‬نعم‪ ،‬فالكتاب كما وصل‬ ‫إلينا‪ ،‬وإلى غيرنا في نھاية األمر‪ ،‬ھو في شكل أساسي وواضح وفي نھاية أمره‪ ،‬كتاب عن‬ ‫الملوك‪ ،‬حياتھم‪ ،‬مآثرھم‪ ،‬وسنوات ملكھم‪ ...‬غير أن نظرة معمقة إلى الطريقة التي يسرد بھا‬ ‫الفردوسي ملحمته األساسية ھذه –ولنعط أنفسنا الحق ھنا في أن نصف الكتاب بأنه كتاب ملحمي‪،‬‬ ‫وبالتالي اعتباره ملحمة اللغة الفارسية الكبرى‪ ،‬تماما ً كما كانت »غلغامش« ملحمة السومريين و‬ ‫»اإللياذة« و »األوديسة« ملحمتي اليونانيين‪ ...‬وما إلى ذلك‪.-‬‬ ‫< نحن نعرف اليوم‪ ،‬ومنذ زمن بعيد‪ ،‬أن ملحمة الشاھنامه ھذه تعتبر أعظم كتاب وضع في‬ ‫الفارسية‪ ،‬أما القراءة المعمقة لصفحات الكتاب‪ ،‬فسوف تقول لنا إن الھدف منه لم يكن في أي حال‬ ‫من األحوال كتاب َة تاريخ ملوك وحسب‪ ،‬بل بعْ ث نھض ِة أم ٍة من رما ِد ما كانت قد آلت اليه من‬ ‫ھبوط واندحار بعد ذلك المجد الطويل الذي عاشته منذ أزمان موغلة عمقا ً في التاريخ وحتى‬ ‫مجيء الفتح العربي‪ ،‬الذي أزال اإلمبراطورية ومجدھا من الوجود‪ ،‬ونتحدث ھنا طبعا ً عن األمة‬ ‫الفارسية‪ .‬ومن ھنا‪ ،‬لن يكون من قبيل الصدفة أن يكون الفردوسي وضع كتابه الضخم والفريد من‬ ‫نوعه في تاريخ األمم وھو يستظل ‪-‬وفق المعلومات التاريخية‪ -‬تلك الرغبة التي أبداھا َ‬ ‫ذات حقبة‬ ‫من الزمن الخليف ُة العباسي المأمون‪ ،‬وھي على األرجح رغبة سعى اليھا المأمون قبل مولد‬ ‫شعور عظم ٍة لدى أمة رأى المأمون‬ ‫الفردوسي بمسافة زمنية ال بأس فيھا‪ ،‬وكانت تقوم على خلق‬ ‫ِ‬ ‫أنھا يمكن أن تكون رديفة ألمته وأرضا ً خصبة إلسالم متطور وشامل‪ ،‬ولعل المأمون كان في تلك‬ ‫الساعة يستعيد في ذھنه فكر ًة كان من خير المعبرين عنھا الشاعر العربي من اصل فارسي مھيار‬ ‫الديلمي‪ ،‬الذي يقول في قصيدة له عرفت بعنوان »أعجبت بي« منذ غ ّنى محمد عبدالوھاب بعض‬ ‫أبياتھا‪:‬‬ ‫‪51‬‬


‫قد قبست المجد عن خير أب‬ ‫وقبست الدين عن خير نبي‬ ‫وبلغت المجد من أطرافه‬ ‫سؤدد الفرس ودين العرب‬ ‫< فالحال أن المأمون كان في ھذا السياق يحلم بأمة مجيدة تجمع الفرس والعرب تحت مظلة دين‬ ‫واحد وإمبراطورية فسيحة موحّدة‪ .‬ولما كان َيعرف أن الوحدة الحقيقية ال يمكن ان تقوم بين غالب‬ ‫ومغلوب‪ ،‬أو بين شعبين متعاديين‪َ ،‬ف ِھ َم أن عليه ان يخفف عن الفرس‪ ،‬أقربائه من ناحية أمه‪،‬‬ ‫شعورھم بالغبن وبأن العرب إنما ھم محتلون لديارھم‪ ،‬ومن ھنا كانت الفكرة األساسية‪ ،‬وربما‬ ‫َ‬ ‫الخفية‪ ،‬التي كمنت وراء تلك الرغبة الخليفية في تأليف كتاب »الشاھنامه« في المجد‬ ‫ً‬ ‫اإلمبراطوري الفارسي‪ ،‬ناھيك بأن ثمة في األمر أيضا ً‬ ‫غاية أخرى أكثر وضوحا ً يصح التوقف‬ ‫عندھا في ھذا السياق‪ ،‬وتكمن في أن رغبة المأمون من وضع ھذا النص التاريخي كانت في الوقت‬ ‫نفسه أن يضع تاريخ األمة الفارسية ومجدھا في مجابھة مع األمة الطورانية‪ ،‬التي كانت بدأت‬ ‫تشرئب بعنقھا‪ ،‬وكانت المسألة من ھذه الناحية إذاً‪ ،‬مسأل َة وضع الفرس في مقابل الترك‪ ،‬وكان‬ ‫المعني بھا الشعب الفارسي‪ ،‬الطرف الذي تتوجّه اليه الرسالة‪ ،‬والذي أراد الفردوسي أن يعكس‬ ‫إيغاله في التاريخ‪ ،‬من خالل مآثر قادته‪ ،‬وبالتالي وضعه على تقارب مع سلطات عربية من‬ ‫الواضح أن الفردوسي راح يخدمھا من خالل عمل يؤدي إلى التقارب بين الفرس والعرب‪ ،‬على‬ ‫الضد من تلك الھيمنة التركية‪ ،‬التي كانت تتغلغل أكثر وأكثر في مفاصل الدولة‪ ،‬مزيحة في‬ ‫طريقھا كل ما كانت العناصر الفارسية تحققه من مكاسب‪ .‬وطبعا ً قد يكون من المغاالة ھنا الزعم‬ ‫بأن كتابا ً واحداً كان كفيالً بتحقيق ذلك‪ ،‬ولكن من المؤكد أن مساھمته في األمر وفي ذلك الصراع‬ ‫التالعبي‪ ،‬كان حقيقيا ً‪.‬‬ ‫< وانطالقا ً من ھذا كله‪ ،‬بإمكاننا أن نخلص ھنا في ھذا التحليل الجيوستراتيجي‪ ،‬الذي قد يبدو في‬ ‫بعض األحيان معقداً‪ ،‬وفائضا ً عن حجم الدور الذي يمكن الفكر أن يلعبه‪ ،‬إلى أن تلك اإلرادة قد‬ ‫أنتجت في نھاية األمر ملحمة استثنائية من الصعب اليوم على أحد أن يقرأھا من ألفھا إلى يائھا‪ ،‬إذ‬ ‫تتألف من ‪ ٥٥‬ألف مقطع وتنقسم إلى كتب كثيرة‪ ،‬ولكن يمكن أن يختار أي فصل من فصولھا‬ ‫ليقرأه كحكاية متصلة‪-‬منفصلة‪ ،‬وكفنٍّ خالص‪ .‬األھم من ھذا كله‪ ،‬أن كتاب الفردوسي خلق يومھا‬ ‫واحداً من األعمال األولى في لغ ٍة )الفارسية( كانت بدأت تنبعث في ذلك الحين‪ ،‬أيام السلطان‬ ‫محمود الغزنوي‪ ،‬الذي من الواضح أن الفردوسي كتب ملحمته تحت رعايته‪ ،‬وربما لكي يذكره بما‬ ‫كان عليه أسالفه‪.‬‬ ‫< من ھنا‪ ،‬لم يكن غريبا ً لكتاب الملوك ھذا أن يتحدث عن تاريخ ھؤالء‪ ،‬ولكن ضمن إطار تاريخ‬ ‫البشرية كالً‪ :‬إذ ھل يمكن كتابا ً يتحدث عن خمسين ملكا ً تتابعوا منذ فجر تاريخ فارس حتى زمن‬ ‫‪52‬‬


‫الفتح العربي‪ ،‬أال ّ يكون كتابا ً عن اإلنسانية وحضارتھا؟ لم تكن صدفة أن تأتي أوصاف الفردوسي‬ ‫للملوك وبطوالتھم لتركز على الطابع اإلنساني لكل منھم‪ ،‬وھنا لم نعد أمام ما يشبه مالحم‬ ‫اليونانيين‪ ،‬التي تجعل الملوك واألبطال أنصاف آلھة وأھل خوارق‪ ،‬بل نجدنا في مواجھة أبطال‬ ‫من لحم ودم‪ ،‬تم ّر عليھم لحظات في غاية الصعوبة‪ ،‬تكشف ضعفھم اإلنساني وكم يتحولون إلى‬ ‫بشر ضعفاء حين يكون عليھم أن يتخذوا قرارات دقيقة ليسوا واثقين من صحتھا أو من صحة‬ ‫النھاية التي ستؤدي إليھا‪.‬‬ ‫< وھنا ال بد من أن نشير إلى أن الفردوسي لم يخترع ذلك التاريخ‪ ،‬بل استخدم التاريخ الحقيقي‬ ‫الممتد من »بداية التاريخ القومي«‪ ،‬أي من عصر أبطال أسطوريين‪ ،‬مثل جمشيد وفريدون وسام‬ ‫وزان ورستم‪ ...‬وغيرھم‪ ،‬وصوالً الى الملوك الساسانيين‪ ،‬مروراً بتاريخ اإلسكندر )المقدوني(‪،‬‬ ‫الذي غزا فارس ذات يوم‪ .‬ھذا التاريخ استخدمه الفردوسي ورواه بتفاصيله )المملة أحيانا ً(‪ ،‬في لغة‬ ‫أنيقة يمكن أن يقال عنھا اليوم إنھا كانت لغة مؤسِّسة‪ ،‬من تلك التي تولد وتنمو في لحظات‬ ‫انعطافية من حياة الشعوب‪.‬‬ ‫< والحال أن العالم‪ ،‬الذي نقلت »الشاھنامه« إلى العديد من لغاته‪ ،‬نظر إليھا دائما ً باعتبارھا واحداً‬ ‫من األعمال األساسية التي أنتجتھا العبقرية الشرقية‪ ،‬لكنه نظر إليھا في الوقت نفسه بوصفھا رؤية‬ ‫شاعر مسلم من شعراء العصر العباسي إلى تاريخ أمته األصلية‪ ،‬من دون أن تكون لديه أي رغبة‬ ‫في إقامة أي مجابھة بين األمة التي ينتمي إليھا جذوراً واألمة اإلسالمية التي ينتمي إليھا حضارة‬ ‫ودينا ً‪.‬‬ ‫< الفردوسي حين نظم »الشاھنامه« كان في األربعين من عمره‪ ،‬غير أنه حين أنجز العمل بدأ‬ ‫يشكو من جحود الناس‪ ،‬الذين لم يقابلوا جھده بما يستحقه‪ .‬ومع ھذا‪ ،‬ما إن مرت السنوات‬ ‫واألجيال‪ ،‬حتى صارت »الشاھنامه« كتاب الفرس القومي‪ ،‬وأحد الكتب األساسية المنتمية إلى‬ ‫مزيج من الحضارتين العربية والفارسية‪ ،‬وراح رسامو المنمنمات يتفننون في تصويرھا‪ ،‬وھي‬ ‫حين وصلت إلى ثقافة العالم وصارت جزءاً من ثقافة اإلنسان عن طريق ترجمتھا إلى شتى اللغات‬ ‫واالحتفال بھا‪ ،‬اع ُتبرت عمالً كبيراً يضاھي المالحم اإلغريقية والھندية‪ ،‬وعمالً ميزته أنه يعطي‬ ‫اإلنسان مكانا ً مميزاً‪.‬‬

‫‪53‬‬


‫من اصدارات الكاتب ‪:‬‬ ‫يوسف شاھين‪ :‬نظرة الطفل وقبضة المتمرد‬ ‫إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪published 2009‬‬

‫لغة الذات و الحداثة الدائمة‬ ‫إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪published 2006‬‬

‫توماس ‪,‬ابراھيم الخليل التسامح بين الشرق والغرب ‪ :‬دراسات في التعايش والقبول باآلخر‬ ‫بالدوين‬ ‫)ترجمة( إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪published 1992‬‬

‫حوارات النھضة الثانية‬ ‫إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪published 2011‬‬

‫وجوه من زمن النھضة‬ ‫إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪published 2011‬‬

‫سينما اإلنسان‬ ‫إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪0.00 avg rating — 0 ratings — published 2003‬‬

‫‪0.0 of 5 s tars‬‬

‫السينما التاريخ والعالم‬ ‫إبراھيم العريس ‪by‬‬ ‫‪0.00 avg rating — 0 ratings — published 2008‬‬

‫‪0.0 of 5 s tars‬‬

‫علم جمال السّينما‬ ‫)ترجمة( إبراھيم العريس ‪by Henri Agel,‬‬ ‫‪0.00 avg rating — 0 ratings — published 2005‬‬

‫‪0.0 of 5 s tars‬‬

‫ترقبوا اصداراتنا الجديدة ‪ ..‬سوف نعلن عنھا على صفحة االعالم الجديد‬

‫‪h ps://www.facebook.com/groups/344581335642063/‬‬

‫‪54‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.