موجز تاريخ الحضارة الساسانية اعداد الاعلام الجديد الاصدار 29

Page 1

‫موجز تاريخ الساسانيين‬

‫اﻋﺪاد ‪ :‬اﻻﻋﻼم اﻟﺠﺪﻳﺪ‬ ‫عند المؤرخ وول ديورانت في كتاب ِه قصة الحضارة‪ :‬وفيھا تكرار ما تذكره‬ ‫المصادر حول التسمية لالقوام التي عاشت في ايران والمناطق المحيطة بھا بالفرس‬ ‫‪،‬بدون ذكر للقوميات االخرى ولكننا نرى في ثنايا كتابت ِه توضيحا ً لتسمية المنطقة‬ ‫كلھا بمنطقة فارس التي يمكن ان تكون من أھم التوضيحات في ھذا المجال ‪.‬‬ ‫من وراء نھر الفرات أو دجلة وطوال تاريخ اليونان وروما كانت ھناك‬ ‫إمبراطورية تكاد تكون خافية على العالم الغربي‪،‬لبثت ألف عام تصد أوربا‬ ‫المتوسعة وجحافل آسية الھمجية‪ ،‬وال تنسى قط ما ورثته من مجد األكميمينيين\‬ ‫االخمينيين‪ ،‬وتنتعش على مھل مما أصابھا في حروب البارثيين‪ ،‬وتحتفظ في زھو‬ ‫وخيالء بثقافتھا األرستقراطية الفذة تحت حكم ملوكھا الساسانيين األشداء الشجعان‪،‬‬ ‫احتفاظا ً أمكنھا به أن تحول فتح المسلمين إليران إلى نھضة فارسية جليلة‬

‫‪1‬‬


‫الشأن‪.‬وكان لفظ إيران في القرن الثالث الميالدي أوسع معنى من لفظ إيران أو‬ ‫فارس في ھذه األيام‪.‬‬ ‫فقد كانت‪ ،‬كما يدل اسمھا اآلريين وكانت تشمل أفغانستان وبلوخستان‪ ،‬وسنجديانا‪،‬‬ ‫وبلخ والعراق‪ .‬ولم تكن فارس‪ ،‬وھي االسم القديم إلحدى الواليات الحديثة‪ ،‬إال‬ ‫جزءاً صغيراً يقع في الجنوب الشرقي من ھذه اإلمبراطورية‪ ،‬ولكن اليونان‬ ‫والرومان الذين لم يكونوا يعنون بشؤون البرابرة أطلقوا اسم الجزء على الكل‪.‬‬ ‫وكان يخترق إيران في وسطھا من الجنوب الشرقي لجبال ھماليا إلى الشمال‬ ‫الغربي لجبال القفقاس حاجز جبلي يقسم البالد قسمين‪ ،‬في الشرق منه ھضبة عالية‬ ‫جدباء‪ ،‬وفي الغرب وديان خضراء يسقيھا النھران التوأمان‪ ،‬ويجري ماء فيضانھما‬ ‫الموسمي في شبكة من القنوات تكسب البالد الخصب والنماء فتنتج أرضھا القمح‪،‬‬ ‫والبلح‪ ،‬والعنب‪ ،‬والفاكھة‪.‬‬ ‫وكان بين النھرين‪ ،‬وعلى ضفافھما‪ ،‬وفي ثنايا التالل‪ ،‬وواحات الصحراء‪ ،‬عدد ال‬ ‫حصر له من القرى وعشرات المئات من البلدان وعشرات من المدائن الكبيرة‪ :‬منھا‬ ‫إكباتانا‪ ،‬والري‪ ،‬وموصل‪ ،‬واصطخر )برسبوليس القديمة(‪ ،‬والسوس‪ ،‬وسلوقية‪،‬‬ ‫وطيسفون )المدائن( العظيمة عاصمة الملوك الساسانيين‪.‬ويصف أميانوس الفرس‬ ‫بأنھم نحاف األجسام‪ ،‬سمر البشرة لھم لحى وشعر طويل أشعث‪ .‬غير أن الطبقات‬ ‫العليا لم تكن ذات شعر أشعث‪ ،‬ولم يكن أفرادھا نحاف األجسام على الدوام يغلب‬ ‫عليھم الجمال ذوي أنفة وكبرياء ودماثة في األخالق‪ ،‬يميلون إلى الرياضة الشاقة‬ ‫والثياب الفخمة‪ .‬ورجالھم يلبسون العمائم على رءوسھم‪ ،‬والسراويل المنتفخة في‬ ‫سيقانھم‪ ،‬والصنادل أو األحذية ذات األربطة في أقدامھم‪ .‬وكان أغنيائھم يلبسون‬ ‫معاطف أو جالبيب من الصوف أو الحرير ويتمنطقون بمناطق يعلقون فيھا‬ ‫السيوف‪ .‬أما الفقراء فكانوا يقنعون بأثواب من القطن أو الشعر أو الجلد‪.‬‬ ‫وكانت النساء يلبسن أحذية طويلة‪ ،‬وسراويل قصيرة‪ ،‬وقمصانا ً واسعة‪ ،‬وعباءات أو‬ ‫أثوابا ً مھفھفة‪ ،‬ويعقصن الشعر األسود من األمام في غديرة يتركنھا تنوس خلفھن‬ ‫ويزينھا باألزھار‪.‬والكھنة والزرادشتيون المتحمسون يلبسون ثياب القطن األبيض‬ ‫التي ترمز إلى الطھارة وقواد الجنود كانوا يفضلون اللون األحمر‪ ،‬والملوك يميزون‬ ‫أنفسھم من سائر الطبقات باألحذية القصيرة الحمراء‪ ،‬والسراويل الزرقاء‪ ،‬وأغطية‬ ‫للرءوس تعلوھا كرات منتفخة أو رءوس حيوانات أو طيور‪.‬‬ ‫الرجل الفارسي العادي المتعلم سريع االنفعال شديد التحمس كثير التقلب يغلب عليه‬ ‫الخمول ال يخافه إال البعيدون عنه‪ .‬وفقراؤھم يشربون الجعة‪،‬والطبقات كلھا بما فيھا‬ ‫اآللھة يفضلون النبيذ‪ ،‬يصف المؤرخون الفرس في عصر الساسانيين بأنھم أغلظ‬ ‫‪2‬‬


‫أخالقا ً مما كانوا في عھد األكيمينيين‪ ،‬وأرق منھم في عھد البارثيين ولكن قصص‬ ‫بروكبيوس تحملنا على االعتقاد بأن الفرس ظلوا طوال العھود أحسن أخالقا ً من‬ ‫اليونان وملوكھم المتنافسون يخاطب بعضھم بعضا ً بلفظ األخ‪.‬‬ ‫ويضمنون للدبلوماسيين األجانب سالمتھم من االعتداء ومرورھم سالمين بأرضھم‪،‬‬ ‫ويعفونھم من التفتيش الجمركي‪ .‬وفي وسعنا أن نرجع التقاليد الدبلوماسية المتبعة في‬ ‫أوربا وأمريكا إلى األساليب التي كانت متبعة في بالط ملوك الفرس‪.‬ويقول أميانوس‬ ‫إن الفرس يسرفون في الجماع وأن اللواط والدعارة كانا أقل انتشاراً بينھم مما بين‬ ‫اليونان‪ .‬وكتب غماليل ان الفرس يستخدمون كل الوسائل لتشجيع الزواج وزيادة‬ ‫المواليد‪ ،‬حتى يكون لھم من األبناء ما يسد مطالب الحرب ولھذا كان إله الحب‬ ‫عندھم ھو المريخ الفينوس‪ .‬وكان الدين يأمر بالزواج وإذا لم يولد له أبناء من صلبه‬ ‫تبنى ولداً من أبناء غيره‪ .‬وكان اآلباء ھم الذين ينظمون عادة زواج أبنائھم يساعدھم‬ ‫في ھذا غالبا ً موثق رسمي لعقود الزواج‪ ،‬والمرأة بوسعھا أن تتزوج على خالف‬ ‫رغبة والديھا‪ .‬وكان يسمح للرجال بتعدد الزوجات‪ .‬وكان يوصي به إذا كانت‬ ‫الزوجة األولى عاقراً‪ .‬وكان الزنى منتشراً‪.‬‬ ‫وكان في وسع الزوج أن يطلق زوجته إذا خانته‪ ،‬كما كان في وسع الزوجة أن‬ ‫تطلق زوجھا إذا ھجرھا أو قسا عليھا‪ .‬وكان التسري مباحا ً‪ .‬وكان لھؤالء المحظيات‬ ‫كما كان لنظائرھن عند اليونان الحرية الكاملة في أن يسرن أمام الجماھير وأن‬ ‫يحضرن مآدب الرجال‪ .‬أما الزوجات الشرعيات فكن في العادة يبقين في أجنحة‬ ‫خاصة بھن في البيوت‪ ،‬وقد ورث المسلمون عن الفرس ھذه العادة القديمة‪ .‬وكانت‬ ‫نساء الفرس ذوات جمال بارع‪ .‬وكان كل ساساني يرى في الموسيقى عونا ً البد منه‬ ‫في شؤون الدين‪ ،‬والحب‪ ،‬وتؤكد الرواية المأثورة أن برباد مغني كسرى أبرويز‬ ‫ألف ‪ ٣٦٠‬أغنية‪ ،‬ظل يغني في كل ليلة واحدة منھا لسيده عاما ً كامال وكان مقر‬ ‫المدارس االبتدائية ھو أبنية الھياكل والكھنة يقومون بالتعليم في اآلداب‪ ،‬والطب‪،‬‬ ‫والعلوم‪ ،‬والفلسفة فكان يتلقى في دار المجمع العلمي الشھير في غندي سابور في‬ ‫سوريلنا‪.‬وظلت اللغة الفھلوية الھندي‪-‬أوروبية لغة فارس البارثية المستعملة في‬ ‫البالد‪.‬‬ ‫ولم يبق مما كتب بھا في ذلك العھد إال نحو ‪ ٦٠٠٫٠٠٠‬كلمة كلھا تقريبا ً تبحث في‬ ‫شؤون الدين‪ .‬لكننا نعلم أنھا كانت لغة واسعة غير أن الكھنة كانوا ھم حفظتھا‬ ‫وناقليھا‪ ،‬ولذلك تركوا الكثير مما كتب بھا في غير الدين يفنى على مر للزمان‪.‬‬ ‫وكان الملوك الساسانيون ملوكا ً مستنيرين يناصرون األدب والفلسفة و أكثرھم‬ ‫مناصرة لھا كسرى أنو شروان‪ ،‬فقد أمر بترجمة كتب أفالطون وأرسطو إلى اللغة‬ ‫‪3‬‬


‫الفھلوية‪ ،‬وبتدريسھا في غندي سابوروقرأھا بنفسه‪ .‬وقد كتب في عھده الكثير من‬ ‫المؤلفات التاريخية لم يبق منھا إال الكرنماكي‪-‬أرتخشتر أو أعمال أردشير وھو‬ ‫مزيج من التاريخ ولما أغلق جستنيان مدارس أثينة فر سبعة من أساتذتھا إلى فارس‬ ‫ووجدوا لھم في بالط كسرى ملجأ أمينا ً‪.‬‬ ‫ويؤم مدارسھا النساطرة المسيحيون‪ ،‬الذين جاءوا معھم بتراجم سريانية لكتب الطب‬ ‫والفلسفة اليونانية‪ .‬فامتزجت فيھا علوم الطب الھندية‪ ،‬والفارسية‪ ،‬والسورية‪،‬‬ ‫واليونانية وعن علم الفلك عند الفرس في ذلك الوقت احتفظ لھم بتقويم منظم‪ ،‬وأن‬ ‫سنتھم كانت تنقسم إلى اثني عشر شھراً في كل منھا ثالثون يوماً‪ ،‬وأن الشھر كان‬ ‫ينقسم إلى أربعة أسابيع‪ ،‬اثنان منھا يحتوي كل منھا على سبعة أيام واثنان في كل‬ ‫منھما ثمانية‪ ،‬وأنھم كانوا يضيفون خمسة أيام في آخر العام‪ .‬وكان التنجيم والسحر‬ ‫منتشر في البالد‪.‬وأعاد الملوك الساسانيون إلى الكھنة الزرادشتيين األراضي‬ ‫والعشور‪ ،‬وأسسوا نظام الحكم على أساس الدين كما كان الحال في أوربا‪ ،‬وعين‬ ‫كاھن أكبر ذو سلطان ال يفوقه سلطان الملك وكانت تشرف على جميع نواحي الحياة‬ ‫الذھنية في فارس وكانت تنذر كل من تحدثه نفسه باإلثم أو بالخروج على سلطان‬ ‫الدولة بالعذاب الدائم في الجحيم وظلت تسيطر على عقول الفرس وعلى جماھير‬ ‫الشعب مدى أربعة قرون‪.‬‬ ‫وقد بلغ ثراء ھذه الجماعة أن كان الملوك أنفسھم يستدينون أمواالً طائلة من خزائن‬ ‫الھياكل‪ .‬وكان مثراس إله الشمس المحبب للبارثيين بين عدد قليل من أفراد الشعب‬ ‫بوصفه مساعداً ألھورا‪ .‬ولكن الكھنة الزرداشتيين كانوا يعدونه خروج على الدين‬ ‫كما يعده المسيحيون‪ ،‬والمسلمون‪ ،‬واليھود جريمة كبرى يعاقب عليھا باإلعدام‪.‬وقد‬ ‫وجد كثير من اليھود ملجأ لھم في الواليات الغربية من اإلمبراطورية الفارسية‪.‬‬ ‫وكانت المسيحية قد ثبتت دعائمھا في تلك الواليات حين جلس الساسانيون على‬ ‫العرش‪.‬أمر شابور في عام ‪ ٣٤١‬م بذبح جميع المسيحيين الساكنين في‬ ‫اإلمبراطورية‪ ،‬ولما جلس يزدجر األول على العرش ‪٤٢٠-٣٣٩‬م ر ّدت للمسيحيين‬ ‫حريتھم الدينية‪.‬‬ ‫وكان الفالح الفارسي في أمس الحاجة إلى السلوى الروحية ألنه يعمل بوصفه‬ ‫مستأجراً ألرض األمير اإلقطاعي‪ ،‬ويؤد ضرائب ورسوم من المحاصيل يتراوح‬ ‫بين سدسه وثلثه‪.‬‬ ‫ونقل الفرس عن الھند حوالي عام ‪ ٤٥٠‬م استخراج السكر من القصب حتى لقد‬ ‫وجد اإلمبراطور الشرقي ھرقل مخازن مألى بالسكر في القصر الملكي بطيسفون‬ ‫)المدائن( ولما فتح العرب بالد فارس عرفوا كيف يزرعون القصب‪ ،‬وأدخلوا‬ ‫‪4‬‬


‫زراعته في مصر وصقلية‪ ،‬ومراكش‪ ،‬وأسبانيا ومنھا انتشرت في أوربا‪ ،‬وقد قدس‬ ‫الفرس الكلب لعظيم نفعه في حراسة قطعان الماشية والبيوت‪ ،‬وكان للقطة الفارسية‬ ‫شأن عظيم في كافة أنحاء البالد‪.‬‬ ‫وتطورت الصناعة في عھد الساسانيين فانتقلت من المنازل إلى الحوانيت في المدن‪.‬‬ ‫وكثرت نقابات الحرف‪ ،‬ووجدت في بعض البلدان جماعات ثورية من الصعاليك‪،‬‬ ‫إن الضرائب في الدولة الفارسية أقل إرھاقا ً مما كانت عليه في اإلمبراطورية‬ ‫الرومانية الشرقية أو الغربية‪ .‬ولقد كان في خزائن كسرى أبرويز في عام ‪ ٦٢٦‬م‬ ‫ما قيمته ‪ ٤٦٠،٠٠٠،٠٠٠‬دوالر أمريكي ووصف أميانوس الذي كان يحارب‬ ‫الفرس‪ ،‬قضاتھم بأنھم كانوا رجاال عدوال‪ ،‬ذوي تجربة وعلم بالقوانين وكان‬ ‫المعروف عن الفرس بوجه عام أنھم يحافظون على الوعد‪ .‬وكان وأد األطفال‬ ‫وإسقاط األجنة محرمين يعاقب من يرتكبھما باإلعدام‪ .‬وكان الزاني إذا عرف ينفى‬ ‫من البالد والزانية يجع أنفھا وتصلم أذناھا‪ .‬وكان في وسع المتقاضين أن يستأنفوا‬ ‫األحكام أمام محاكم عليا ولم يكن الحكم باإلعدام ينفذ إال إذا نظر فيه الملك‬ ‫وأقره‪.‬والملك يقول إنه يستمد سلطانه من اآللھة وإنه وليھم في األرض‪ ،‬ويضارعھم‬ ‫في قوة أحكامھم‪ ،‬وكان يلقب نفسه حين تسمح الظروف بملك الملوك‪ ،‬وملك اآلريين‬ ‫وغير اآلريين‪ ،‬وسيد الكون‪ ،‬وابن اآللھة وأضاف شابور الثاني إلى ھذه األلقاب‪:‬‬ ‫أخا الشمس والقمرورفيق النجوم‪ .‬وكان الملك الساساني مطلق السلطان بمشورة‬ ‫وزرائه الذين كانوا يؤلفون مجلسا ً للدولة‪ .‬كانت ال َم َلكِية في األوقات العادية وراثية‪،‬‬ ‫ولكن كان في وسع الملك أن يختار غير ابنه األكبر ليخلفه على العرش‪ .‬وجلست‬ ‫ملكتان على العرش في زمنين مختلفين؛ وإذا لم يترك الملك من بعده وليا ً من نسله‬ ‫اختار األشراف ورجال الدين حاكما ً على البالد‪ ،‬ولكنھم لم يكونوا يستطيعون أن‬ ‫يختاروا واحداً من غير األسرة المالكة‪ .‬وكان على الذين يدخلون على الملك أن‬ ‫يخروا سجداً أمامه‪ ،‬ويقبلوا األرض بين يديه‪ ،‬وأال يقفوا إال إذا أمرھم بالوقوف‪ ،‬وال‬ ‫يتحدثوا إليه إال وفي فمھم منديل خشية أن تعدي أنفاسھم الملك أو تدنسه‪.‬تقول‬ ‫الرواية الفارسية إن ساسان كان كاھنا ً في برسبوليس )اصطخر( وإن ابنه باباك كان‬ ‫أميراً صغيراً في خور‪ ،‬وإن باباك قتل جوزھر‪ ،‬حاكم الوالية الفارسية وأعلن نفسه‬ ‫ملكا ً على تلك الرواية‪ ،‬وأورث سلطانه ابنه شابور‪ ،‬وإن شابور مات نتيجة لحادثة‬ ‫وقعت في الوقت المناسب‪ ،‬فخلفه ابنه أردشير‪ .‬وأبى أرطبانوس الخامس آخر ملوك‬ ‫الفرس األرساسيين أو البارثيين أن يعترفوا بھذه األسرة المحلية الجديدة؛ فحاربه‬ ‫أردشير وھزمه وصار ملك الملوك وكسب تأييد رجال الدين وقد قام بحمالت‬ ‫خاطفة في الشمال إلى نھر جيحون‪ ،‬وفي الغرب إلى نھر الفرات‪ ،‬ووضع التاج قبل‬ ‫أن تدركه المنية في عام ‪ ٢٤١‬م على رأس ابنه شابور‪ ،‬وأمره أن يلقي باليونان‬ ‫‪5‬‬


‫والرومان في البحر‪ .‬ويقال إنه أعجب بحديث أوسطاثيوس السوفسطائي سفير‬ ‫اليونان إعجابا ً جعله يفكر في اعتزال الملك ليتفرغ للفلسفة وأطلق الحرية الكاملة‬ ‫لجميع األديان‪ ،‬وسمح لماني بأن يلقي مواعظه الدينية في بالطه وأعلن أن‬ ‫المجوس‪ ،‬والمانيين‪ ،‬واليھود‪ ،‬والنصارى‪ ،‬والناس جميعا ً أيا ً كان دينھم يجب أن‬ ‫يتركوا وشأنھم في جميع أنحاء إمبراطوريته‪ .‬وواصل ما بدأه أردشير من تنقيح‬ ‫األبستاق فأقنع الكھنة بأن يضموا إلى كتابھم المقدس أبوابا ً في غير شؤون الدين‬ ‫تشمل علوم ما بعد الطبيعة والفلك‪ ،‬والطب‪ ،‬معظمھا مأخوذ من بالد الھند واليونان‬ ‫وأقام عند ششتار على نھر قارون سداً يعد من أكبر األعمال الھندسية في التاريخ‬ ‫القديم‪ .‬وقد ظل ھذا السد يؤدي الغرض منه حتى ھذا القرن‪.‬غزا سوريا‪ ،‬ووصل في‬ ‫حملته إلى إنطاكية ولكنه ھزم في معركة مع جيش روماني فعقد مع روما صلحا ً‬ ‫استردت بمقتضاه جميع ما كان قد استولى عليه في حروبه‪ .‬غير أنه حقد على‬ ‫أرمينية ألتي تعاونت مع روما‪ ،‬فزحف عليھم وأقام فيھا أسرة صديقة لفارس ولما‬ ‫حمى بذلك جناحه األيمن‪ ،‬عاد إلى قتال روما‪ ،‬فھزم اإلمبراطور فلبريان وأسره‬ ‫ونھب إنطاكية‪ ،‬واستولى على آالف من األسرى سخرھم للعمل في إيران وخلفه‬ ‫على العرش فيما بين ‪٢٧٢‬و‪ ٣٠٢‬م ملوك لم يرق أحد منھم إلى ما فوق الدرجة‬ ‫الوسطى من الكفاية‪ .‬ويأتي بعد ھذا ھرمزد الثاني )‪(٣٠٩ -٣٠٢‬م الذي يشيد‬ ‫التاريخ بحكمه القصير األجل‪ ،‬والذي بدأ فيه طائفة من األعمال النافعة وبسط على‬ ‫البالد لواء السلم والرخاء‪ .‬وبذل الملك عناية كبيرة فى ترميم األبنية العامة‪،‬‬ ‫والمساكن الخاصة‪ ،‬موجھا ً أكبر اھتمامه إلى مساكن الفقراء‪ ،‬وكان ينفق على ھذه‬ ‫األعمال كلھا من أموال الدولة‪ .‬وأنشأ محكمة جديدة خصھا بسماع شكاوى الفقراء‬ ‫ضد األغنياء‪ ،‬وكثيراً ما كان يتولى رياستھا بنفسه‪ .‬ولسنا نعرف ھل كانت ھذه‬ ‫العادات الغريبة ھي التي حرمت ابنه من وراثة العرش؛ وسواء كان ذلك أو لم يكن‬ ‫فقد حدث على أثر وفاة ھورمزد أن زج النبالء بابنه في السجن‪ ،‬وأعطوا الملك‬ ‫البنه الذي لم يولد بعد‪ ،‬ولقبوه في ثقة واطمئنان بشابور الثاني‪ ،‬وأرادوا أال يتركوا‬ ‫في األمر مجاال للشك فتوجوا الجنين بأن علقوا التاج الملكي على رحم أمه ثم تولى‬ ‫شؤون الملك ونزل إلى ميدان القتال‪ ،‬فغزا شرقي جزيرة العرب وخرب حوالي‬ ‫عشرين قرية‪ ،‬وقتل آالفا ً من األسرى‪ ،‬وقاد ألفا ً غيرھم إلى األسر في حبال ربطھا‬ ‫بجروحھم‪ .‬وفي عام ‪ ٣٣٧‬م شن الحرب على روما للسيطرة على الطرق التجارية‬ ‫المؤدية إلى بالد الشرق األقصى وقد عقد جوفيان صلحا ً مع شابور نزل له‬ ‫بمقتضاه عن الواليات الرومانية الممتدة على نھر دجلة وعن أرمينية كلھا وانتقل‬ ‫ميدان الحرب في القرن التالي إلى حدود الفرس الشرقية‪ .‬فقد حدث حوالي عام‬ ‫‪ ٤٢٥‬م أن استولت على األقاليم المحصورة بين نھري سيحون وجيحون جماعات‬ ‫طورانية يطلق عليھا اليونان اسم اإلفثاليين ويلقبون خطأ باسم الھون البيض استولوا‬ ‫‪6‬‬


‫على اإلقليم المحصور بين نھري سيحون وجيحون وحاربھم الملك بھرام الخامس‬ ‫الساساني )‪(٤٣٨ -٤٢٠‬م‪ ،‬المعروف باسم الغور}مالحظة من المعد‪:‬خه ر{ أي‬ ‫الحمار الوحشي وانتصر عليھم‪ ،‬وبعد وفاته أخذوا ينتشرون في اإلقليم لكثرة تناسلھم‬ ‫وتفوقھم في القتال‪ ،‬وأنشئوا لھم إمبراطورية امتدت من بحر الخزر إلى نھر السند‪،‬‬ ‫وجعلوا عاصمتھا جرجران‪ ،‬وكانت أشھر مدنھا بلخ‪ ،‬وھزموا فيروز شاه وقتلوه‬ ‫)‪ (٤٨٤-٤٥٩‬م وأرغموا الشاه الذي خلفه على أداء الجزية‪.‬وبينما كان الخطر يتھدد‬ ‫فارس من جھة الشرق‪ ،‬إذ ضربت الفوضى أطنابھا في البالد‪ ،‬وفكر كفاده األول‬ ‫)‪ (٥٣١-٤٨٨‬في أن يضعف رجال الدين بمناصرة إحدى الحركات الشيوعية‬ ‫وتفصيل ذلك أن أحد رجال الدين الزرادشتيين المدعو مزدق قد أعلن في عام ‪٤٩٠‬‬ ‫م أنه مرسل من ‪ k‬للدعوة إلى عقيدة قديمة مضمونھا أن الناس جميعا ً يولدون أكفاء‬ ‫وأن الم ِْلكية والزواج من البدع التي ابتدعھا البشر ويقول عنه أعدائه إنه كان يجيز‬ ‫السرقة والزنى ومضاجعة المحارم ويتخذ ھذه األعمال وسيلته الطبيعية لمقاومة‬ ‫الملكية والزواج ‪.‬ثارت ثائرة األشراف فزجوا بكفاده في السجن وأجلسوا أخاه‬ ‫جامسب على العرش‪ .‬وقضى كفاده في قلعة النسيان ثالث سنين فر بعدھا من‬ ‫السجن‪ ،‬وھرب إلى اإلفثاليين‪ ،‬ورأى ھؤالء الفرصة سانحة ألن يكون حاكم بالد‬ ‫الفرس خاضعا ً لسلطانھم‪ ،‬فأمدوه بجيش وساعدوه على أخذ طيسفون عنوة‪ .‬ونزل‬ ‫جامسب عن العرش وفر األشراف إلى ضياعھم في الريف‪ ،‬وأصبح كفاده مرة‬ ‫أخرى ملك الملوك )‪ (٤٩٩‬م‪ .‬ولما استتب له األمر غدر بالشيوعيين‪ ،‬وقتل مزدق‬ ‫وآالفا ً من أتباعه وحكم كفاده بعد ذلك جيالً آخر؛ وحارب أصدقاءه اإلفثاليين‬ ‫وانتصر عليھم‪ ،‬وحارب روما حربا ً غير حاسمة‪ ،‬ثم مات وترك العرش البنه الثاني‬ ‫كسرى أعظم ملوك الساسانيين جميعا ً‪.‬كان خسرو األول أي صاحب المجد‬ ‫المتقى‪٥٧٩-٥٣١‬م يـــُعرف عند اليونانيين باسم كسروس وعند العرب باسم كسرى‬ ‫ولقبه الفرس بأنوشروان الروح الخالدة‪ .‬ولما أن ائتمر به اخوته األكبر منه سنا ً‬ ‫ليخلعوه قتل اخوته جميعا ولقبه رعاياه بالعادل ولعله يستحق ھذا اللقب إذا فرقنا بين‬ ‫العدالة والرحمة‪ .‬ويصفه بروكبيوس بأنه بارعا ً إلى أقصى حد في تصنع التقى وفي‬ ‫نكث العھد ولكن بروكبيوس من ألد أعدائه ونظم كسرى الحكومة كلھا على أساس‬ ‫جديد وأختار أعوانه لكفايتھم بصرف النظرعن طبقتھم وأنشأ نظاما ً عادالً للضرائب‬ ‫وحمل العزاب على الزواج بأن وھب البائنات للزوجات‪ ،‬وأمر بتعليم أبنائھم على‬ ‫نفقة الدولة وكان يسمح بانتشار المسيحية حتى بين حريمه ويمد بالمال المترجمين‬ ‫والمؤرخين‪ .‬وبلغت جامعة غنديسابور في أيامه ذروة مجدھا‪ .‬وكان يحرص كل‬ ‫الحرص على حماية األجانب في بالده فكان بالطه لھذا السبب غاصا ً على الدوام‬ ‫بكبار الزائرين من البالد األجنبية‪.‬ولما جلس على العرش جھر برغبته في أن يعقد‬ ‫الصلح مع روما‪ .‬ووافق جستنيان على ھذه الرغبة ألنه كان يعد العدة لغزو أفريقية‬ ‫‪7‬‬


‫وإيطاليا وفي عام ‪٥٣٢‬م عقد صلحا ً دائما ً وما أن سقطت أفريقية وإيطاليا في يد‬ ‫جستنيان طالب كسرى متفكھا ً بقسط من الغنيمة‪ ،‬وحجته أن بيزنطية لم تكن لتصل‬ ‫إلى ھذا النصر لو أن فارس لم تعقد معھا الصلح‪ ،‬فبعث إليه جستنيان ببعض الھدايا‬ ‫القيمة وفى عام ‪ ٥٣٩‬م أعلن كسرى الحرب على روما بحجة أن جستنيان قد أخل‬ ‫بشروط الصلح‪ ،‬ويؤيد بركبيوس ھذه التھمة‪ .‬لكن أكبر الظن أن كسرى قد رأى‬ ‫امتالك مناجم الذھب في طربزون وأن يكون لھا منفذ على البحر األسود فلھذا‬ ‫زحف على سوريا‪ ،‬وحاصر ھيرابوليس‪ ،‬وأباميا‪ ،‬وحلب‪ ،‬وتركھا وشأنھا بعد أن‬ ‫افتدت أنفسھا بكثير من المال‪ ،‬وسرعان ما وقف أمام إنطاكية‪.‬ث ّم ھجم على المدينة‬ ‫واستولى عليھا عنوة‪ ،‬ونھب كنوزھا‪ ،‬وأحرق جميع مبانيھا عدا كنيستھا الكبرى‪،‬‬ ‫وذبح عدداً كبيراً من أھلھا‪ ،‬وساق من بقي منھم ليعمروا إنطاكية أخرى في بالد‬ ‫الفرس‪ ،‬ثم نزل مبتھجا ً ليستحم في البحر المتوسط الذي كان في وقت من األوقات‬ ‫حد دولة الفرس الغربي‪ .‬وأرسل ‪ -‬جستنيان قائده بليساريوس لينقذ بالده‪ ،‬ولكن‬ ‫كسرى عبر الفرات على مھل مثقالً بالغنائم‪ ،‬وفضل القائد الحصيف أال يتبعه وقام‬ ‫كسرى بعدئذ بثالث غزوات على آسية الرومانية زحف فيھا على تلك البالد زحفا ً‬ ‫سريعاً‪ ،‬وحاصر عدداً من مدنھا‪ ،‬وأخذ منھا الفداء واألسرى‪ ،‬ونھب ريفھا‪ ،‬ثم ارتد‬ ‫عنھا في أمان )‪ (٥٤٣-٥٤٢‬م وأدى له جستنيان عام ‪٥٤٢‬م ألفي رطل من الذھب‬ ‫)نحو ‪ ٨٤٠٫٠٠٠‬دوالر أمريكي( ثمنا ً لھدنة تدوم خمسة أعوام على أن يؤدي إليه‬ ‫بعد انتھائھا ‪ ٢٦٠٠‬رطل أخرى نظير امتدادھا خمسة أعوام جديدة وبعد أن دامت‬ ‫الحرب بين العاھلين الطاعنين في السن جيالً من الزمان تعھد آخر األمرفي )‪(٥٦٢‬‬ ‫م بأن يحتفظا بالسلم خمسين عاماً‪ ،‬وتعھد جستنيان بأن يؤدي للفرس ثالثين قطعة‬ ‫من الذھب في كل عام )‪ ٧٫٥٠٠٫٠٠٠‬دوالر أمريكي(‪ ،‬ونزل كسرى عن حقه في‬ ‫جميع األقاليم المتنازع عليھا في بالد القوقاز والبحر األسود‪.‬ولكن كسرى لم يفرغ‬ ‫بھذا من حروبه كلھا‪ .‬فقد أرسل حوالي عام ‪ ٥٧٠‬م بناء على طلب الحميريين‬ ‫المقيمين في الجنوب الغربي من جزيرة العرب جيشا ً من عنده ليخلصھم من‬ ‫األحباش الذين فتحوا بالدھم‪ .‬فلما أنجى الفرس الحميريين من الغزاة‪ ،‬وجد ھؤالء‬ ‫أن بالدھم قد أضحت والية فارسية‪ .‬وكان جستنيان قد عقد حلفا ً مع بالد الحبشة‪،‬‬ ‫ورأى خلفه جستين الثاني أن طرد الفرس لألحباش من جزيرة العرب عمل عدائي‬ ‫موجه له‪ .‬ھذا إلى أن الترك الضاربين على الحدود الشرقية لبالد الفرس قد اتفقوا‬ ‫سراً أن ينضموا إلى من يھاجمون كسرى‪ .‬وأعلن جستين الحرب في عام ‪٥٧٢‬م‪.‬‬ ‫ونزل كسرى إلى الميدان بنفسه واستولى على مدينة دارا الواقعة على الحدود‬ ‫الرومانية؛ ولكن صحته خانته فھزم ألول مرة في حياته )‪ (٥٧٨‬م ‪ ،‬وارتد إلى‬ ‫طيسفون حيث وافته منيته في عام ‪٥٧٩‬م وحكم بعده ابنه ھرمز الرابع )‪-٥٧٩‬‬ ‫‪ (٥٨٩‬م ولكن قائده بھرام قوبين خلعه وأعلن نفسه وصيا ً على كسرى الثاني ابن‬ ‫‪8‬‬


‫ھرمز )‪ (٥٨٩‬م‪ ،‬ثم أعلن نفسه ملكا ً بعد عام واحد من ذلك الوقت‪ .‬ولما بلغ كسرى‬ ‫سن الرشد طالب بعرش أبيه؛ فرفض بھرام طلبه‪ ،‬ففر كسرى إلى ھيرابوليس في‬ ‫سوريا الرومانية وعرض عليه اإلمبراطور اليوناني موريس أن يعيده إلى ملكه إذا‬ ‫انسحب الفرس من أرمينية‪ .‬ووافق كسرى على ھذا الطلب وبلغ كسرى أبرويز‬ ‫)الظافر( درجة من السلطان لم يبلغھا ملك آخر من ملوك الفرس منذ أيام‬ ‫خشيارشاي‪ ،‬وقد مھد السبيل لسقوط دولته حين قتل فوفاس موريس وجلس مكانه‬ ‫على العرش فأعلن أبرويز الحرب على المغتصب انتقاما ً لصديقه ولكن الواقع أن‬ ‫الحرب لم تكن إال تجديداً للنزاع قديم‪ .‬وكانت الدولة البيزنطية قد مزقھا الشقاق‬ ‫والتحزب‪ ،‬فلم تجد جيوش الفرس صعوبة في االستيالء على دارا‪ ،‬وأميدا‪ ،‬والرھا‪،‬‬ ‫وھيرابوليس‪ ،‬وحلب‪ ،‬وأباميا‪ ،‬ودمشق )‪ (٦١٣-٦٠٥‬م‪ .‬وزاد ھذا النصر من حماسة‬ ‫أبرويز فأعلن الحرب الدينية على المسيحيين‪ ،‬وانضم ‪ ٢٦٫٠٠٠‬من اليھود إلى‬ ‫جيشه‪ ،‬ونھبت جيوشه المتحدة في عام ‪ ٦١٤‬م أورشليم‪ ،‬وقتلت ‪ ٩٠٫٠٠٠‬من‬ ‫المسيحيين وأحرقت كثيراً من كنائسھا ومن بينھا كنيسة الضريح المقدس‪ ،‬وأخذ‬ ‫الصليب الحق‪ ،‬وھو أعز أثر على المسيحيين‪ ،‬إلى بالد الفرس‪ .‬وأرسل أبرويز إلى‬ ‫ھرقل اإلمبراطور الجديد رسالة دينية قال فيھا‪ :‬من كسرى أعظم اآللھة وسيد‬ ‫األرض كلھا إلى ھرقل عبده الغبي الذليل‪ :‬إنك تقول إنك تعتمد على إلھك‪ ،‬فلم إذن‬ ‫لم ينقذ أورشليم من يدي‪ .‬واستولى جيش فارس على اإلسكندرية في عام ‪٦١٦‬م‪،‬‬ ‫ولم يحل عام ‪٦١٩‬م حتى دخلت مصر كلھا في حوزة ملك الملوك‪ ،‬وھو ما لم‬ ‫يحدث لھا منذ أيام دارا الثاني‪ .‬وفي ھذه األثناء كان جيش فارسي آخر يجتاح آسية‬ ‫الصغرى ويستولي على خلقيدون التي لم يكن يفصلھا عن القسطنطينية إال مضيق‬ ‫البسفور‪ .‬وكان أبرويز في ھذه السنين العشر يدمر الكنائس‪ ،‬وينقل ما فيھا من اآلثار‬ ‫الفنية والكنوز إلى بالد الفرس ثم ترك كسرى تصريف الحرب لقواده لينقلب في‬ ‫اللھو والترف في قصره بدستجرد )على بعد نحو ستين ميالً من طيسفون(؛ وقضى‬ ‫وقته بين الفن والحب‪ .‬وجمع المھندسين‪ ،‬والمثالين‪ ،‬والمصورين‪ ،‬ليجعل عاصمته‬ ‫الجديدة أعظم شأنا ً من عاصمته القديمة‪ ،‬ولينحت صوراً مشابھة لشيرين أجمل‬ ‫زوجاته الثالثة آالف وأحبھن إلى قلبه‪ .‬وشكا الفرس قائلين إنھا امرأة مسيحية‪.‬انتقم‬ ‫الفرس من اليونان لھزائمھم في مرثون‪ ،‬وسالميس‪ ،‬وبالتية‪ ،‬وأربيال‪.‬ولم يكن باقيا ً‬ ‫لإلمبراطورية البيزنطية إال عدد قليل من الثغور األسيوية وقليل من أرض إيطاليا‪،‬‬ ‫وأفريقية‪ ،‬وبالد اليونان‪ ،‬وأسطول لم يھزم بعد‪ ،‬وعاصمة محاصرة جن جنونھا من‬ ‫الرعب واليأس‪ .‬ولبث ھرقل عشر سنين ينشئ جيشا ً جديداً ودولة جديدة من أنقاض‬ ‫الجيش القديم والدولة القديمة‪ .‬فلما تم له ذلك لم يحاول عبور البسفور إلى خلقيدون‬ ‫بل تجنب ذلك العمل الكثير النفقة والمشقة‪ ،‬وأبحر بأسطوله إلى البحر األسود ثم‬ ‫اخترق أرمينية وھاجم بالد الفرس من خلفھا‪ ،‬ودمر كلورمية مسقط رأس زرادشت‪،‬‬ ‫‪9‬‬


‫كما ضرب كسرى من قبل مدينة أورشليم‪ ،‬وأطفأ نارھا المقدسة الخالدة وسير إليه‬ ‫كسرى الجيوش يتلو بعضھا بعضاً‪ ،‬ولكن ھرقل ھزمھا جميعاً‪ ،‬ولما تقدم اليونان فر‬ ‫كسرى إلى طيسفون‪ .‬وآلم قواده ما كان يوجھه إليھم من إھانات فانضموا إلى النبالء‬ ‫وخلعوه‪ ،‬ثم سجنوه ولم يطعموه إال الخبز القفار والماء‪ ،‬وذبحوا ثمانية عشر من‬ ‫أبنائه أمام عينيه‪ ،‬وانتھى أمره بأن قتله ابن من أبنائه يدعى شيروى‪ .‬طاق كسرى‬ ‫األول‪:‬ربما كان ھو البناء الذي وصفه المؤرخ يوناني في عام ‪ ٦٣٨‬م‪ :‬إن جستنيان‬ ‫بعث إلى كسرى برخام يوناني وصناع مھرة شادوا له قصراً على الطراز الروماني‬ ‫غير بعيد من طيسفون‪ ،‬ويصف الشاعر البحتري ما كان على جدران قصر المدائن‬ ‫من صور ملونة‪ .‬وكان من عاداتھم أنه إذا مات ملك من ملوك الساسانيين اس ُتدعي‬ ‫أعظم مصور في زمانه لرسم صورة له تضم إلى مجموعة الصور المحفوظة في‬ ‫الخزانة الملكية‪.‬لمــّا استولى ھرقل على قصر كسرى أبرويز في دستجرد كان من‬ ‫أثمن غنائمه أقمشة مطرزة رقيقة‪ ،‬وطنفسة كبيرة‪ .‬ومن التحف الذائعة الصيت‬ ‫طنفسة الشتاء لكسرى أنوشروان‪ .‬وقد نقشت ھذه الطنفسة لتنسيه نقوشھا التي تمثل‬ ‫مناظر الربيع والصيف برد الشتاء‪ .‬كان فيھا أزھار وفاكھة منسوجة من الياقوت‪،‬‬ ‫وكانت فيه ماسات تنمو بجوار جدران من الفضة وجداول من اللؤلؤ فوق أرضية‬ ‫من الذھب وكان مما يفخر به ھارون الرشيد طنفسة ساسانية كبيرة مرصعة‬ ‫بالجواھر‪.‬كانت النقود الساسانية تنافس النقود الرومانية في جمال منظرھا‪ ،‬كما‬ ‫تشھد بذلك عملة شابور األول‪ .‬والكتب الساسانية نفسھا يمكن أن تعد من التحف‬ ‫الفنية‪ .‬وتصف الروايات المتواترة كيف كان الذھب والفضة يجريان من جلود ماني‬ ‫حين أحرقت في الميادين العامة‪ .‬والمواد الثمينة أستخدمت في أثاث الساسانيين فأن‬ ‫كسرى األول كانت له منضدة من الذھب مرصعة بالحجارة الكريمة‪ ،‬وأن كسرى‬ ‫الثاني أرسل إلى منقذه اإلمبراطور موريس منضدة من الكھرمان قطرھا خمسة‬ ‫أقدام ذات قوائم من الذھب ومغلفة بالجواھروكان يصدر تحفه شرقا ً إلى بالد الھند‪،‬‬ ‫وإلى التركستان والصين‪ ،‬وغربا ً إلى سوريا وآسية الصغرى‪ ،‬والقسطنطينية‪،‬‬ ‫والبلقان‪ ،‬ومصر‪ ،‬وأسبانيا‪.‬وانتقلت البواكي وأنصاف القباب العظيمة من العمارة‬ ‫الساسانية إلى المساجد اإلسالمية وإلى القصور واألضرحة المغولية‪.‬ث ّم قتل شروى‬ ‫أباه وتوج ملكا ً باسم كفاده الثاني‪ ،‬ثم عقد الصلح مع ھرقل ونزل له عن مصر‪،‬‬ ‫وفلسطين‪ ،‬وسوريا‪ ،‬وآسية الصغرى‪ ،‬وغربي الجزيرة‪ ،‬وأعاد األسرى الذين أخذھم‬ ‫الفرس إلى بالدھم ور َّد إلى أورشليم بقايا الصليب المقدس‪ .‬وابتھج ھرقل ولم يكن‬ ‫يعرف أنه في اليوم الذي أعاد فيه الصليب المقدس إلى موضعه في الضريح عام‬ ‫‪٦٢٩‬م‪ ،‬قد ھاجمت سرية من العرب حامية يونانية بالقرب من نھر األردن‪ .‬وفي‬ ‫ذلك العام نفسه فشا وباء فاتك في بالد الفرس‪ ،‬أودى بحياة آالف من أھلھا ومنھم‬ ‫الملك نفسه‪ .‬وعلى أثر موته نودي بابنه أردشير الثالث ولم يكن قد جاوز السابعة‬ ‫‪10‬‬


‫من عمره ولكن قائداً يدعى شھربراز قتل الغالم واغتصب العرش‪ .‬ثم قُتِل شھربراز‬ ‫نفسه بأيدي جنوده‪ ،‬وج ّر أولئك الجنود جثته في شوارع المدائن وھم يصيحون‪:‬ھذا‬ ‫مصير كل من جلس على عرش بالد فارس ولم يكن يجري في عروقه الدم الملكي‬ ‫ث ّم قام تسعة من الحكام يتنازعون عرش البالد في خالل أربع سنوات‪ ،‬ثم اختفوا‬ ‫كلھم مقتولين أو ھاربين أو ميتين ميتة طبيعية أو شاذة‪ .‬وأعلنت بعض الواليات‪ ،‬بل‬ ‫بعض المدن نفسھا‪ ،‬استقاللھا عن الحكومة المركزية بعد أن عجزت ھذه الحكومة‬ ‫عن بسط سلطانھا على البالد‪ .‬ووضع التاج في عام ‪ ٦٣٤‬م على رأس يزدجرد‬ ‫الثالث سليل بيت ساسان وابن جارية زنجية‪ ،‬وفي عام ‪٦٣٢‬م توفي محمد )ص(‬ ‫وتل ّقى عُمر خليفته الثاني‪ ،‬رسالة من المثنى قائده في سوريا‪ ،‬يبلغه فيھا أن الفوضى‬ ‫ضاربة أطنابھا في بالد الفرس وأنه قد آن األوان لالستيالء عليھا فعھد عمر ھذا‬ ‫العمل إلى خالد بن الوليد فزحف خالد بإزاء الساحل الجنوبي للخليج الفارسي على‬ ‫رأس قوة من العرب البدو الذين ضرستھم الحروب والراغبين أشد الرغبة في‬ ‫الغنائم‪ ،‬ثم أرسل رسالة إلى ھورمزد حاكم الوالية القائمة على الحدود الفارسية‬ ‫يقول له فيھا‪:‬أسلم تسلم ودعاه ھورمزد إلى المبارزة وقبل خالد دعوته وقتله‪ .‬ث ّم‬ ‫تغلب المسلمون على كل ما واجھوه من مقاومة حتى وصلوا إلى نھر الفرات؛ ثم‬ ‫استدعي خالد لينقذ جيشا ً عربيا ً في الجبھة أخرى فتولى المثنى قيادة العرب وعبر‬ ‫النھر على جسر من القوارب‪ .‬وعھد يزدجرد الذي كان شابا ً في الثانية والعشرين‬ ‫بالقيادة العليا إلى رستم والي خراسان‪ ،‬وأمره أن يجند قوة ضخمة ينقذ بھا‬ ‫اإلمبراطورية‪ .‬والتقى الفرس بالعرب في موقعة الجسر وھزموھم وأعاد المثنى‬ ‫تنظيم صفوفه وھزم في واقعة البويب الجيش الفارسي ومات المثنى متأثراً بجراحه‪،‬‬ ‫ولكن الخليفة أرسل قائداً آخر أقدر منه يدعى سعد بن أبي وقاص على رأس جيش‬ ‫جديد قوامه ثالثون ألف رجل‪ .‬ورد يزدجرد على ھذا بأن أنزل إلى الميدان جيشا ً‬ ‫مؤلفا ً من ‪ ١٢٠٫٠٠٠‬من الفرس‪ .‬وعبر بھم رستم نھر الفرات وعسكر عند القادسية‬ ‫حيث دارت معركة وھبت في اليوم الرابع عاصفة رملية في وجوه الفرس‪ ،‬واغتنم‬ ‫العرب ھذه الفرصة وحملوا على أعدائھم الذين أعمتھم الرمال حملة صادقة‪ ،‬قتل‬ ‫فيھا رستم ومزق جيشه شر ممزق وزحف سعد بجنوده دون أن يلقى مقاومة تذكر‬ ‫حتى وصل إلى نھر دجلة‪ ،‬واجتازوه ودخل المدائن‪.‬وقضوا أربعة أيام يحاولون‬ ‫جمع غنائمھم‪ .‬ولعل ھذا ھو السبب الذي من أجله نھى عمر سعداً عن متابعة‬ ‫الزحف نحو الشرق وقال له إن في العراق ما يكفي ووافق سعد على أمر الخليفة‬ ‫وقضى الثالث السنين التالية يوطد دعائم حكم العرب في أرض الجزيرة‪ .‬وكان‬ ‫يزدجرد في ھذه األثناء ينشئ في والياته الشمالية جيشا ً جديداً قوامه ‪١٥٠٫٠٠٠‬‬ ‫مقاتل‪ .‬وبعث عمر لمالقاته ‪ ٣٠٫٠٠٠‬الف من رجاله‪ ،‬والتقى الجيشان عند نھاوند‪،‬‬ ‫وھزم العرب الفرس وسقطت بالد الفرس كلھا في أيدي العرب‪ ،‬وفر يزدجرد إلى‬ ‫‪11‬‬


‫بلخ وطلب إلى الصين أن تمد له يد المعونة؛ ولكن الصين لم تجبه إلى طلبه‪ ،‬ثم عاد‬ ‫فطلبھا إلى الترك‪ ،‬فأمدوه بقوة صغيرة‪ ،‬لكن الجنود الترك قتلوه طمعا ً في جواھره‬ ‫حين ھ ّم بالزحف ليبدأ الحرب من جديد في‪٦٥٢‬م وبذلك انتھى عھد الساسانيين‪.‬‬

‫‪12‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.