ﻗﺼﺔ ﺑﲑﻭﺕ ﻭﺣﻜﺎﻳﺔ ﻟﺒﻨﺎﻥ
ﻧﺼﻮﺹ ﻭ ﺷﻬﺎﺩﺍﺕ ..
ﻋﺎﺩﺍﺕ ﺇﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻟﺒﻨﺎﻧﻴﺔ ﻣﺤﻤﺪ أﺑﻲ ﺳﻤﺮا
اصدارات : االعالم الجديد
سائقو الجحيم ومضافات االحياء في بالد الفوضى والتسيب )(١
وسط ما يعيشه لبنان اليوم من تخبط في معضالت وحوادث وفوضى ويأس من عدم القدرة على التصدي لھا ومعالجتھا ،فينضاف جديدھا المفاجئ الى قديمھا المزمن، ھل يبدو ترفا ً وصف ما يبعثه سائقو الدراجات النارية من سُعار وفوضى ورعب في الشوارع ،وكيف يمكن وصف “المضافات” الشبابية ،األھلية واألمنية ،المتكاثرة في األحياء الشعبية؟ ً بداية ،أين الترف في مشھد شاب أو فتى مراھق ينطرح فجأ ًة على االسفلت ،وحيداً، مجھوالً ،وبال حراك ،بعدما كان قبل ھنيھات طائراً يسابق الھواء والزمن بد ّراجته النارية ،يطوّ ح بھا منتشيا ً وسط الشارع ،لتصدمه سيارة مسرعة ،وتقذفه مع د ّراجته ونشوته امتاراً في الھواء ،ليھوي ويرتطم رأسه باألرض الصلبة ،او بحافة الرصيف؟! إذذاك ،أال تتحطم حياة بكاملھا وسط جمھرة من العابرين الذين ربما تروّ عھم الحادثة المفاجئة ،وتروّ ع سائق السيارة الذي قد يحاول الھرب خائفا ً مذعوراً ،أو يترجل من سيارته مصعوقا ً ھلعا ً مسرعا ً نحو الشاب أو الفتى المجھول المنطرح ارضاً، يُحتضر مرتعشاً ،أو بال حراك؟
نعم ،إن سُعار استعمال الد ّراجات النارية وفوضاھا في الشوارع ،ھو واحدة من كوارثنا المتناسلة وسط دبيب الفوضى الوطنية والسياسية واألھلية واألخالقية والقانونية الكبرى التي تتخبط فيھا البالد كل يوم ،بل إنھا من نتائجھا المشھدية أو المشھودة .فسائقو ھذه الد ّراجات المتكاثرة كالفطر في الشوارع واألزقة وعلى األوتوسترادات كلھا ،يمتطونھا ويقودونھا مسعورين ،كأنھم يخوضون حربا ً أو يذھبون الى الحرب ،أو يفرّ ون من الحرب .المقصود بالحرب ھنا ،ليس كناية وال تشبيھا ً وال استعارة ،بل الحرب الحقيقية والفعلية .فالذاھبون الى الحرب ،أو الفارّون منھا ،تكاد تنطبق عليھم حال سائقي الد ّراجات النارية في شوارع لبنان :الذعر، الفوضى ،تعليق الزمن العادي والحياة العادية ،والقوانين والمسؤولية ،تضخيم الفردية واألنانية وانفجارھما على غير ھدىً في األماكن العامة والحياة العامة .كأنما العالم مشرف على ھاوية أو كارثة.
نشوات قاتلة الحق أن اللبنانيين حين يخرجون صباحا ً من بيوتھم ،يراودھم شعور بأنھم ينخرطون في متاھة من المفاجآت وغياب األمن واألمان في الشوارع المشرّعة على فوضى السير وازدحاماته ،وإغالق الكثير من الطرق بحواجز اإلسمنت واألمن الذاتي ،فتضيق مساحات المدن وضواحيھا وأحياؤھا وشوارعھا ،ويشعر كثيرون بأن عليھم أالّ يسلكوا طرقا ً وشوارع خارج مناطقھم األليفة .أما سائقو الد ّراجات النارية ،وھم في معظمھم من الشبان والفتيان ،فينفلتون كالجراد في االتجاھات كلھا على الشوارع والطرق ،بعدما يئست إدارة السير في قوى األمن الداخلي من حمالتھا الكثيرة المتعاقبة لتنظيم انفالتھم الفوضوي العارم ،وتقنينه والح ّد منه ،لتنصرف تلك القوى الى الغرق في مستنقع المعضالت المستجدة في كل يوم وساعة. ما إن يمتطي شبّان الد ّراجات النارية وفتيانھا ورجالھا أحياناً ،د ّراجاتھم ھذه ،حتى يصيروا في ح ٍّل من أي وازع قانوني وأخالقي عام أو خاص وذاتي :ال يتقيّدون باتجاھات السير ،وال باإلشارات الضوئية القليلة أصالً .يطلقون أبواق د ّراجاتھم متصل وسط السيارات المسرعة أو المتوقفة بفعل اإلشارات أو اإلزدحام. على نحو ٍ كأسھم نارية مفرقعة في الفسحات الضيقة يزاحمون السيارات ،يعبرون مسرعين ٍ بين أرتالھا ،يسيرون حذوھا ،ملتصقين بھا ،ينعطفون فجأ ًة أمامھا وفي ك ّل اتجاه، كأنما األرض تنشطر ويخرجون منھا مندفعين .بعضھم يحلو له أن يرفع عن األرض عجلة د ّراجته األمامية ،منتشيا ً بانطالقة عكس اتجاه السير ،متكالً على أن يتفاداه سائقوا السيارات ويفسحوا له لإليغال في نشوته ،فينعطفون بسياراتھم جانبا ً
خائفين ھلعين من تلك النشوة الرعناء التي تحمل بعض الد ّراجين على م ّد ألسنتھم خارج أفواھھم معلنين انتصارھم البذيء على سائقي السيارات ،أو يشتمونھم متوارين في الزحام. كثيرون ينطلقون بد ّراجاتھم على األرصفة فيروّ عون المارة من المشاة الذين ينصاعون عنوة ،ھاربين خائفين على أنفسھم من أن تعاجلھم صدمة الد ّراجين، فتوقعھم أرضا ً .ھناك بعض من مستعملي الد ّراجات يُركِبُ خلفه امرأة أو فتاة، زوجته أو أخته أو خطيبته أو صديقته ،ويضع أمامه بين جسمه ومقود الدرّاجة طفله الصغير ،واقفا ً أو قاعداً بين فخذيه .وأحيانا ً ترى طفلين اثنين على ھذه الحال .أما سائقو د ّراجات الديليفري ،فإن عملھم نفسه يتطلب السرعة في توصيل طلبات الزبائن المنتظرين .لكن بعضھم قد يتفادى السرعة ،لئال يتورط في حادثة تفقده عمله .وھذا ما ال يفعله من يحملون على د ّراجاتھم شعَّاالت الجمر المشرقط وسط الشوارع ،لتوصيلھا الى مد ّخني النراجيل في البيوت أو المتاجر أو على مضافات األرصفة.
ثارات الماضي والحاضر ھذه الحمّى اليومية الراھنة على صلة وثيقة بمھرجان فتيان الشوارع واألحياء المرتبطة بالمنازعات األھلية والحزبية منذ العام ٢٠٠٥وحتى اليوم .فزمر فتيان الد ّراجات النارية وشبّانھا ،غالبا ً ما استعملتھم القوى واألحزاب األھلية في احتقاناتھا وعراضاتھا وعداواتھا ،فأخذوا ينطلقون زمراً زمراً ،زاعقين في الشوارع واألزقة، بوصفھم مجموعات حماية واتصال وھجوم .قبل ذلك ،في أيام االحتالل السوري، ظھر فتيان الد ّراجات وشبّانھا ظھوراً قويا ً في الشوارع بعد مباريات كرة القدم وعراضات مش ّجعيھا المتصلة باالحتقان األھلي والطائفي الناجم عن النعرات المحلية ضد ممارسات رجال المخابرات السورية في األحياء. اليوم تجمعت ھذه األسباب والبواعث كلھا في خلفية السلوك الذي يسلكه مستعملو الد ّراجات النارية ،ثم أضيفت اليھا الفوضى العارمة التي تستنقع فيھا البالد بفعل الحروب في سوريا التي دفعت الى لبنان بأكثر من مليون ونصف المليون من الالجئين السوريين .على ھذا النحو تظھر حمّى استعمال الد ّراجات النارية كمرآة لما تتخبط فيه البالد .وكما كان مسلّحو الميليشيات في أيام حروبنا ،أعلى مرتبة وشأنا ً من المدنيين غير المسلحين ،فإن مستعملي الد ّراجات النارية اليوم يتمتعون بدالّ ٍة استثنائية على سائقي السيارات والمشاة .مصدر ھذه الدالة التي تجعل ھؤالء أشبه بـ”سائقي الجحيم” في ألعاب السيرك القديمة ،ھو شعورھم بأنھم متواضعو المرتبة
االجتماعية ،وبأنھم في ح ٍّل من المراتب واألخالقيات العامة المنحسرة أصالً ،ما إن يمتطون د ّراجاتھم التي بھا يثأرون من تواضعھم االجتماعي ،خارج أيّ وازع عام وذاتي في بالد الفوضى والتسيّب.
طغيان الذكورة ھناك فئة ال يستھان بعددھا من سائقي الدراجات النارية ،يغلب عليھا كونھا من َّ البطالين ،أو العاملين أعماالً يومية متقطعة متواضعة. فتيان األحياء والشوارع يتخلل ھذه الفئة شبان وفتيان يشكلون نوىً )جمع نواة( وعُصبا ً وشبكات من الجمھور الذكوري الطاغي على محازبي الجماعات األھلية في األحياء والشوارع. ھؤالء ھم غالبا ً المادة البشرية لـ”المضافات” األھلية الناشئة والمزدھرة والمنعقدة حلقاتھا اليومية في أماكن ثابتة على نواصي الشوارع واألرصفة في األحياء الداخلية وعلى تخومھا وأطرافھا .يتغذى انعقاد ھذه “المضافات” من مواسم االحتقانات األھلية ،ويزدھر في خضم حوادث سياسية وأمنية ،وكلما ألقى أحد زعماء الجماعات الطائفية الجماھيرية خطبة متلفزة ،غالبا ً ما استوجبت ً إطالق النار غضبا ً وابتھاجا ً ونكاية، وخصوصا ً في األحياء المختلطة طائفيا ً .كما أن االحتقانات ومناسباتھا تتغذى من انعقاد “المضافات” ،السيما بعد نشوء ظاھرة األمن الذاتي وشيوعھا ،في أعقاب التفجيرات األخيرة في ضاحية بيروت الجنوبية وطرابلس .للدراجات النارية مساھماتھا في ازدھار ھذه “المضافات” التي غالبا ً ما ُتر َكن الدراجات الكثيرة على ضفافھا ،و ُتالزم انعقادھا ،إلقامة جسور التواصل األھلي واألمني بينھا في أوقات من النھارات والليالي.
من الرخاء الى الفوضى )(٢ نستعير ھنا كلمة “مضافة” ذات الرجع والحمولة والداللة البدوية والعشائرية. فاإلجتماع العشائري ال تزال تقاليده وثقافته حيّة فاعلة في ثنايا شبكات االجتماع األھلي المحلي الفوضوي الراھن لكثير من الجماعات والتجمعات السكانية في الريف وضواحي المدن ،وفي األحياء العشوائية والشعبية المدينية المكتظة المختنقة.
ھذه غالبا ً ما تحاصر فوضاھا المنفجرة األحياء السكنية للفئات المتوسطة المجاورة لھا ،وتخنقھا ايضا ً. فسكان األحياء المدينية المتوسطة ليس من عاداتھم وثقافتھم أن تستولي دورةُ حياتھم اليومية على األماكن العامة في أحيائھم )األرصفة ،نواصي الشوارع ،مداخل ّ ومنظم ،منصرفين البنايات( .بل إنھم يرتادون ھذه األماكن على نحو وظيفي عابر الى أعمالھم ومشاغلھم ،من دون أن يخلّفوا أثراً واضحا ً أو ناتئا ً فيھا .فاإلنكفاء على ذات النفس ،الفردية واألسرية ،وعلى شبكات من العالقات الخاصة ،من سمات اجتماع الفئات المدينية المتوسطة والعليا ،من حيث المبدأ ،وخصوصا ً في أوقات حين وآخر ،على ما األزمات وتفشي االحتقانات األھلية واستنقاعھا وانفجارھا بين ٍ ھي عليه حال لبنان الممعن ،منذ سنوات ،في تفككه وتمزقه إربا ً مناطقية وأھلية وعصبية وطائفية متباعدة نفسيا ً على قاعدة الھويات الخاصة ،على الرغم من ضيق المساحات والمسافات بينھا ،فيظھر االحتقان والتمزق بين شارعين متجاورين في أحياء مختلطة طائفيا ً. تتكاثر مضافات الشبان والفتيان ،يخالطھم رجال وأوالد ،في األحياء الشعبية الصافية والمختلطة طائفيا ً .وقد تكون المضافة استعادة واستئنافا ً للحلقات التي كانت ُتعقد في ساحات القرى ،والتي تطورت في أيام الرخاء واإلصطياف اللبنانيين في الستينات والسبعينات من القرن العشرين ،فتحولت “كسدورة” على “الكروسة”، سيراً على األقدام أو في السيارات .وذلك في عصارى النھارات القروية ومساءاتھا الصيفية المقمرة التي كان يتخالط فيھا الشبان والصبايا العائدون من بيروت “متم ّدنين” وفي أزياء عصرية يتباھون بھا ويستعرضونھا صيفا ً في قراھم ،مع السيارات الجديدة التي غالبا ً ما يستعيرونھا من آبائھم ،للكسدرة بھا بين قرى االصطياف وبلداته المزدھرة .قد يكون لھذه العادات والطقوس المحدثة مصدرھا أو مرجعھا األقدم زمنا ً في القرى ،أيام كان ما يسمّى “طريق العين” في الفولكلور والغناء الفيروزي – الرحباني ،عالمة بارزة في االجتماع اللبناني الريفي.
في حماية الشباب ھذا كله قوّ ضته الحروب في لبنان ،ونقلت مجموعات كبرى من الفئات العمرية الشابة ،من تلك العادات والطقوس الرخيّة ،الى متاريس الحرب في المدن والبلدات. أما اليوم ،بعد مضي أكثر من عقدين على حروبنا ،فإن االجتماع الريفي أو القروي والمديني في لبنان يكاد يذوب في حمى بوتقة فوضوية واحدة متصلة من العمران،
الذي يختلط ماضيه المتداعي َ الخ ِرب بحاضره العشوائي ،لنقيم ونعيش في زمن اجتماعي وعمراني من سماته السُعا ُر والفوضى واالحتقان والكآبة. ليست الدراجات النارية وجحيمھا في الشوارع ،وكذلك المضافات األھلية الشبابية والذكورية الناشطة على األرصفة والنواصي في األحياء الشعبية ،إال من ظواھر زمننا االجتماعي والعمراني المستعر ھذا. قد تكون ھذه المضافات وليدة اإلستنقاع واالحتقان والسعار في حياتنا اليومية واالجتماعية .ربما ھي بديل من العراضات والمھرجانات الشبابية األھلية والحزبية التي شھدنا حوادثھا الكثيرة المتنقلة وخبرناھا ما بين ٢٠٠٥و ٢٠٠٨الذي انتھت حوادثه بـ”اتفاق الدوحة” بعد الحملة التأديبية العسكرية لـ”حزب ”eوحلفائه على كثير من المناطق ،السيما بيروت والجبل .فبعد تلك الحملة الدامية ،كثر الحديث عن احتالل بيروت أمنياً ،وعن الرغبة في إخالئھا من السالح .لكن تزاحم الحوادث الحقب وشعاراتھا، والمستجدات السياسية واألمنية في لبنان ،غالبا ً ما يطوي َ ويجعلھا من المنسيات ،فيما تتجدد األزمات والحوادث وتتراكم الى ما ال نھاية أو مستقر. نشأ عن الحملة العسكرية التأديبية على أحياء بيروت ما يشبه إذعانا ً أھليا ً محتقنا ً ومغلوبا ً على أمره ،في مقابل ھيمنة أھلية شبه أمنية لمحازبي الثنائي الشيعي“ ،أمل” و”حزب ،”eو”السوري القومي االجتماعي” ،وسواھم من الشراذم المحلية الملحقة بھم ،على كثير من األحياء البيروتية المختلطة طائفياً ،الشعبية منھا والمتوسطة، وصوالً الى األحياء ذات الماضي الكوزموبوليتي في رأس بيروت .مع مرور الوقت وتراجع االحتقان العام ،شكلت المضافات الشبابية في األحياء ،الوجه األھلي ُ تخفت حينا ً وتزدھر احياناً ،وفقا ً للظروف المخفف لتلك الھيمنة .ھذه المضافات والحوادث السياسية واألمنية المتناسلة .أما وظيفتھا وغاياتھا فمتنوعة ومتداخلة: إشعار األھالي أو السكان من لون طائفي معيّن بأنھم يسيطرون على األماكن العامة، ً مرفرفة على وبأنھم في “حماية الشباب” وصور الزعماء والقادة والشھداء المرفوعة المضافات ،الى جانب األعالم والشعارات الحزبية التي ال تخلو من التھديد والوعيد من أمثال“ :ويلكم اذا نفد صبره” .في مقابل وظيفة السيطرة والحماية ،ھنالك وظيفة أخرى معاكسة للمضافات الشبابية الحزبية :إشعار األھالي من لون طائفي آخر بأنھم مھ َّددون ومغلوبون على أمرھم ومرا َقبون ،بل في عراء من الحمايات األھلية، وعليھم االذعان واالنكفاء.
غلبة ومآرب أھلية في ھذا المعنى تشكل المضافات حاميات أھلية وأمنية لفئة مسيطرة من السكان، ومھ ِّددة وغالبة لفئة أخرى .أليست ،اذاً ،وجھا ً من وجوه غلبة أھلية ،وحرب أھلية خفيّة السالح الذي غالبا ً ما تنطلق في الھواء رشقات رصاصه من ھذه المضافات ً غاضبة محتفلة متوعدة ،في اثناء االطالالت الخطابية المتلفزة لھذا وجوارھا، الزعيم أو القائد المنتصر أو ذاك؟ ھذا فيما ھو يقول ألنصاره وجمھوره إن عليه إن يمتنع عن إطالق النار في مثل ھذه المناسبات ،كأنه في قوله ھذا يطلب عكسه ونقيضه! أليس ھذا مركبا ً اساسيا ً ومبدئيا ً في سياسات الجماعات اللبنانية التي غالبا ً ما تضمر خالف ما تنطق به من شعارات مستھلكة ،وتسلك وترسم مآربھا انطالقا ً مما تضمره ،استئناسا ً بسياسات الرياء والمراوغة والتقيّة؟
مستنقع اإلحباط والقنوط اذا كانت المضافات قد نشأت في ھذه الظروف والسياقات االجتماعية واألھلية المحتقنة ،فكيف يمكن وصف روّ ادھا وجمھورھا وصفا ً تفصيليا ً موضعيا ً وعيانياً؟ قد يحتاج مثل ھذا الوصف الى استطالعات ومشاھدات ميدانية يومية شبه إتنوغرافية. غالبا ً ما تنعقد المضافات وتزدھر في أوقات ما بعد الظھر واألمسيات والسھرة ،ألن ناشطيھا وروّ ادھا الشبان والفتيان والرجال ،يستغرقون في نوم متأخر في الصباحات .وھم في لقاءات المضافات ھذه ،تشتبك في صالتھم عالقات الجوار السكني في الحي بعالقات القربى والنسب واالنتماء الى قرية ومنطقة سابقتين على اإلقامة في األحياء المدينية .ويجمع ھذه الصالت ويش ّدھا الى بعضھا ويعضدھا االنتساب الى طائفة معينة ،والوالء لتنظيم أھلي طائفي معيّن. ھذا النسيج الفسيفسائي المتشابك يجد مظھراً مسرحيا ً وظائفيا ً النعقاده وتجلّيه في المضافات .فبدل أن يتفرق شبّان األحياء ك ٌّل الى غاية وشاغل وعمل ،يجدون في التئام المضافة في حيّھم السكني حضنا ً حميما ً وأليفا ً يعوّ ضھم عن البطالة والتشتت والذوبان في أدوار حياة مھنية واجتماعية قوامھا االنصراف الى سياقات ومسالك متباينة ومختلفة ،يفترضھا القيام بأود النفس الفردية والشخصية .غالبا ً ما يكون ھؤالء الشبّان والفتيان من أصحاب السير التعليمية والمدرسية المضطربة والمنقطعة وغير المكتملة .لذا ينصرفون الى أعمال ومھن صغيرة متواضعة ال تحتاج الى خبرات وتأھيل وإعداد ،إال في الحدود الدنيا .غير أنھم غالبا ً ما ال يستقرّ ون في ھذه األعمال والمھن ،فيتنقلون بينھا محبطين قانطين ،قبل أن يتركوھا الى بطالة تجد
مالذھا في شبكات العالقات والحياة على األرصفة في األحياء السكنية ،حيث تكون شبكات المنظمات األھلية وأجھزتھا الجماھيرية في انتظارھم ،فتتلقفھم وتدرجھم في أطرھا الفضفاضة التي يشكل الحي والشارع مسرحھا اليومي. الشبان والفتيان من إحباطھم وقنوطھم ،وتمنحھم ھكذا تنتشل ھذه األطر المفتوحة َ دوراً وقوة ومعنى ،فينخرطون فيھا انخراطا ً عضوياً ،يجعلونه ھوية لھم ومأوى ومالذاً .في ھذا السياق ينشئ ھؤالء الشبان والفتيان المضافات على األرصفة والنواصي في األحياء ،فيداومون على ارتيادھا وتكريسھا مكانا ً للقاءاتھم وجلساتھم اليومية :يلعبون الورق ،يشربون الشاي ،يأكلون المناقيش ،يتنقلون من مضافة الى مضافة على صھوات د ّراجاتھم النارية ،يجمع بينھم الوالء الى تنظيم أھلي واحد، يمكن تسميته مستنقع االحباط والقنوط.
العمران نموذجا ً لسياسات الخراب اللبنانية )(٢
ھل وصل لبنان إلى مرحلة استحالة تدارك سقوطه في مھاوي معضالت مزمنة؟ من زاوية ھذا السقوط ،أين ھي معضلة التكالب العشوائي على العمران والبناء؟ على الشواطئ والروابي والجبال ينصب اللبنانيون أبراج شموخھم وسط حفلة تنكرية يزدرون فيھا تراثھم الحضاري المعماري ،فيما ھم يتزاحمون على ھدمه، وعبادة كل ما ھو ھوية عصبوية خرافية من ھذا التراث ،ليظل لبنان بلداً منذوراً للحروب والدمار. على مدخل من مداخل زقاق البالط وأمثاله من األحياء البيروتية التي صمدت بعض بيوتھا وقصورھا التراثية المھجورة المھملة والمتداعية أمام زحف الھبّات العقارية المتعاقبة وتشييد األبراج المحدثة الشاھقة ،نصبت وزارة الثقافة اللبنانية الفتات
معدنية كتبت عليھا“ :حي ذو طابع تراثي”َ .نصْ بُ ھذه الالفتات ،وإعداد ما يسمّى “الئحة جرد” للبيوت والمباني التراثية ،ھو ما استطاعت الوزارة الجديدة ،شبه اإلسمية او االفتراضية في عملھا وسلطاتھا ،أن تفعله )مع مديرية اآلثار الملحقة بھا( في مجال المحافظة على بقايا التراث المعماري اآليل الى االنقراض المتسارع في لبنان ،لتبقى تلك الالفتات شاھداً على انقراضه ،كمعلّقات الوقوف على األطالل. ھذه الوظيفة لالفتات ليست مجازية قط .فالكثير من البيوت والقصور والمباني التراثية في األحياء المنصوبة فيھا الالفتات ،سارع وارثو مالّكھا أو وكالؤھم الى المساھمة ،خفية وبإرادة صلبة ،في تنشيط تداعيھا وانھيارھا ،فسيّجوھا وألصقوا على السياجات الفتات كتبوا عليھا“ :انتبه kھذا المبنى آيل الى االنھيار” أو “السقوط” .غاية ھذا اإلعالن ماكرة وخبيثة .ففي معرض إدعاء تنبيه العابرين قرب المبنى الى تالفي الخطر و”المحافظة على السالمة العامة” ،ال يشاء المعلنون رفع ً نكاية المسؤولية عنھم فحسب ،في حال انھيار المبنى على عابرين ،بل يتم ّنون، بالوزارة والفتاتھا والئحة جردھا ،أن ينھار المبنى في أسرع وقت ،ويؤذي عابرين لتتحمل الوزارة نفسھا نتائج إدعاء المحافظة الشكلية على التراث المعماري .وذلك بمنعھا أصحاب البيوت التراثية ،منعا ً ھمايونياً ،من التصرف بملكھم المھجور الخرب الذي لن يحرره سوى انھياره من الالئحة الھمايونية التي تجعله موقوفا ً وتحرمھم من أن يجنوا ثروات من بيعھم العقار أو من تشييدھم في مكانه بناية حديثة شاھقة في واحدة من الھبّات العقارية الملتھبة في بيروت ولبنان كله. في ما تظھره وتخفيه ،ال تل ّخص ھذه الوقائع ،السلوك الماكر لفئات واسعة من اللبنانيين ،وإلجراءات مؤسساتھم اإلدارية العامة ،في مجال العمارة والتنظيم المدني والعمراني ،بل ھي نموذجية في داللتھا الى ممارساتھم األخالقية والسياسية والحقوقية واالجتماعية والثقافية .المكر في ھذا السلوك ،قرينه الجشع واألنانية، و”من َبعد حماري ما ينبت حشيش” أو “الطوفان” ،على ما يقول المثل العامي الشائع والحبيب على قلوب معظم اللبنانيين ،والذي يكاد أن يكون االبرز واألقوى في فوضى سلوكھم وعالقاتھم وإدارتھم مؤسساتھم العامة ،منذ أزمنة بعيدة.
عشوائية مزمنة من نافل القول إن حروب اللبنانيين ) (١٩٩٠ – ١٩٧٥دمّرت مجتمعھم وعمران بلدھم ودولتھم التي ارتضوا بھا على مضض .لكن ھذا التدمير المديد ،كانت له سوابقه البطيئة ،وخصوصا على صعيد العمران والبيئة في المدن كما في األرياف. ففي دراسة وضعھا العام ١٩٩٦الخبير العمراني والبيئي الدكتور عادل مرتضى، نجد أن العامل األساسي المزمن في تردي األوضاع العمرانية والبيئية اللبنانية ،ھو بدائية التخطيط والتنظيم في تصنيف استخدام األراضي والعمران عليھا ،من دون تطوير وتحديث يذكران ،منذ نشوء الدولة اللبنانية الحديثة العام ١٩٢٠حتى اليوم. تتجلى البدائية المزمنة في وجھين اثنين الستخدام األراضي: ّ ومنظمة ،يُسمح بالبناء عليھا وفق معايير غائمة ،واھية وبدائية ،ال أراض مص ّنفة ٍتلحظ التوسع العمراني وال تحدده في المنطقة ومحيطھا ،وال تحدد العالقة بين المناطق وامتداداتھا المحتملة ،وال بين األبنية المتجاورة .إضافة الى ھذا اإلھمال البنيوي العام ،ھناك أيضا ً غياب كلّي لالھتمام بالمعايير الفنية والمعمارية والجمالية لألبينة ،وبعالقات التجانس والتالؤم بينھا وبين الفضاء العام ،من شوارع وطرق وسواھا من خدمات مشتركة .تبلغ مساحة األراضي المشمولة بھذا التصنيف عشر مساحة لبنان فقط. أراض غير مص ّنفة تشمل المساحة المتبقية من لبنان ،وينطبق عليھا قانون ٍاالستثمار العام البدائي ،أي الالقانون والالتنظيم ،ومن دون أي تمييز بين االستعماالت المختلفة لألراضي .ھذا ما أدى إلى ترك المبادرة لمالّك األراضي في استعمالھا كما يشاؤون ويرغبون ،بال حسيب أو رقيب ،وال تنظيم وتخطيط. ھذا التصنيف العام البدائي لألراضي ،ھو العامل البنيوي األبرز في الفوضى
العمرانية القائمة منذ خمسينات القرن العشرين والمستمرة حتى اليوم على حالھا ،في ظل عدم وضع مخطط توجيھي شامل ومتكامل ،متجانس ومركب ،للعمران في لبنان .بدون ھذا المخطط الذي ينسّق التوسع العمراني ،يستبقه ويرشده ،ويحدد استعماالت األراضي تحديداً دقيقاً ،سيبقى لبنان غارقا ً في عشوائية عمرانية ،صار من المستحيل تداركھا على األرجح ،إال على نحو جزئي .يشھد على ذلك ما نحن فيه اليوم من فوضى بلغت أش ّدھا في السنين االخيرة .وكان بعض االختصاصيين والمھندسين أشاروا إليه وتوقعوه منذ نھاية الخمسينات ،لكن من دون جدوى ،فبقيت المخططات التوجيھية عشوائية وجزئية وآنية ،ومحدودة التأثير في حركة العمران وتوسعه بقفزات مضاعفة.
تجار حروب ّ كان لغياب المخطط التوجيھي الشامل أثره البالغ في ما آلت إليه أحوال لبنان العمرانية والبيئية وفي نوعية الحياة .لكن ھذا الغياب الذي تقع مسؤوليته على اإلدارة العامة والعھود السياسية والحكومات المتعاقبة ،ال يعفي اللبنانيين ،مجتمعا ً وجماعات ومنظمات ناشطة في المجتمع المدني وت ّجار بناء وھيئات ونقابات ،من ھذه المسؤولية .فالمجتمع استغل غياب التخطيط والتنظيم والقوانين ،بل احتال على القليل القائم منھا ،وترك العمران والبناء يتوسع فوضويا ً وعشوائيا وفق حاجاته الملحة ،وفي خدمة مصالحه اآلنية واألنانية الخاصة والمدمرة .اذ يندر أن رفعت ً محتجة على ما تتعرض له جماعة أو ھيئة أو نقابة مھنية أو منظمة حقوقية صوتھا البالد من تشويه وتدمير عمرانيين وبيئيين ،اال اذا كان األمر يتعلق بشؤون جزئية أو فئوية خاصة .أما تلك الفئة من سماسرة العقارات وت ّجار البناء الجاھز ،فاستغلت غياب التخطيط والقوانين في أزمنة الحرب وقبلھا بسنين طويلة ،وراحت تشيّد المباني كيفما اتفق ،من دون أي حساب إال لألرباح السريعة .ھذه الظواھر كلھا ،لھا مصادرھا العميقة في الذھنية واألخالق اللبنانيتين .وھي تجلّت أبھى تجلّيھا في
مجال العمران والبناء ،فبنى اللبنانيون مدنھم وأحياءھم وقراھم ومساكنھم كأنھم “ت ّجار حرب” في بلد غير بلدھم وعلى أرض غير أرضھم. حين عصفت الحروب بلبنان وأھله ،وأخذت تدمّر عمرانه وتشرّد جماعاته وتھجّ رھا ،كان على اللبنانيين أن ينتظروا طوال عقدين من سنوات القتل والتدمير والتشرد والھجرات ،كي يستفيقوا من الكابوس على بلد صار نحو نصف شعبه من المھ ّجرين الذين احتل قسم كبير منھم بيوت اآلخرين ومنازلھم ،والذ قسم آخر ببنايات قيد االنشاء أو متصدعة ومبقورة في األحياء القريبة من خطوط التماس الحربية ،وخصوصا ً في وسط بيروت التجاري القديم وسواه من المناطق واألحياء الراقية التي ھجرھا ساكنوھا. في االثناء كانت أحياء وبلدات وقرى تدمَّر ويھجَّ ر أھلھا ،ويحتلّھا أھل آخرون، ينھبونھا ويقيمون في خرائبھا .أما الضواحي المدينية التي كان بعضھا ال يزال قرى ريفية ساحلية ،فتوسع فيھا العمران العشوائي على مثال مخيمات الالجئين الفلسطينيين ،من دون أن يتوقف ھذا النوع من العمران ،بل تزايد أضعافا ً مضاعفة في سنوات ما بعد الحرب ،فلم تبق في ھذه الضواحي مساحة صغيرة تخلو من اإلسمنت والجدران المتالصقة. حتى التالل والروابي والجبال القريبة من المدن الساحلية والداخلية ،انغرست فيھا البنايات انغراسا ً فوضويا ً ومتالصقا ً متشامخا ،بال تخطيط طرق وشوارع وال بنية خدمات تحتية ،إال ما جادت به ضرورات ت ّجار البناء الجاھز واألھالي المستعجلين، فنشأت كتل ضخمة من العمران العشوائي غير الرخيص في التكلفة المادية ،على التالل والجبال قبالة الساحل .ھذا كله لم يتوقف بعد الحرب ،بل استمر وال يزال قائما ً حتى اليوم .من نتائجه تقلص األراضي الزراعية من ٢٠ألف ھكتار عشية الحرب إلى ما يقل عن ٩آالف ھكتار .في سھل البقاع الزراعي أقيمت المباني شبه العشوائية على جانبي الطرق وسط السھل .ھكذا فقد لبنان في السنوات الثالثين المنصرمة معظم ثروته النباتية والحرجية التي تقلصت إلى ٤في المئة من مساحته اإلجمالية .وفي الجبال يقضي انتشار المقالع والكسّارات على األحراج المتبقية، ويغيّر معالم الطبيعة ويلوّ ث المحيط بالغبار. وبحسب نقابة المھندسين أصبحت مخططات ونظم عمران المدن والقرى اللبنانية قديمة ال تتماشى مع الظروف القائمة .فھناك مناطق كبرى كثيرة بُنيت بكاملھا، وأحياء سكنية وتجارية نشأت في زمن الحرب وما بعدھا ،ال تزال كلھا خالية تماما ً من البناء في سجالت الدوائر العقارية وفي مخططات التنظيم المدني .الضاحية الجنوبية مثالً ،ال تزال نسبة ٦٠في المئة من مساحتھا خالية من البناء في سجالت
الدوائر العقارية ،بينما تؤكد الوقائع اليومية والمشاھد العيانية أن المساحات القابلة للبناء فيھا يكاد يندر وجودھا.
عبادة الخاص :ازدراء العام وضعت الحرب أوزارھا ،واندفعت الھبّات العمرانية والعقارية بقوة فوضوية الفتة، لتعوّ ض ما فات من انكماش في زمن الحرب .فھا ھو الشريط الساحلي اللبناني الضيق والجبال المطلة عليه ،يتحوّ الن عقاراً واحداً موحداً تتناھبه فوضى اإلسمنت وتعدياته ،وفق روزنامة الجماعات المختلفة .فبعضھا يندفع تحت إلحاح توسع ديموغرافي وعمراني ،وفائض من القوة األھلية المسلحة في مناطق كثيرة .وبعضھا اآلخر ينكفئ ديموغرافيا ً وعمرانيا ً للدفاع عن ھوية وملك عقاري ،مھددين في مناطق أخرى ،ضعفت سطوة أھلھا وما عاد ينفعھم طلب الحماية من أجھزة ومؤسسات دولة سائبة وعلى حافة االنھيار .ھذا ما يجعل من لبنان العمراني والعقاري مرآة لجغرافيا بشرية وديموغرافية وسكانية لحروب اللبنانيين العلنية والخفية في أوقات سلمھم األھلي البارد ،ومرآة لنمط عيشھم و”تعايشھم” وأعمالھم المتدافعة لجعل العقار مصدراً أساسيا ً لإلستثمار واإلثراء السريع .وذلك حتى في مناطق العمران العشوائي المكتظة البائسة التي يستعمل أھلھا فائض قوتھم في التنافس المحموم على االستيالء على أمالك خاصة وعامة .العامل الحاسم في استثمار الھبّات العقارية والعمرانية ،العشوائية ،المشروعة منھا وغير المشروعة منھا ،ھو الفوضى والتربص والتحاسد والتسابق على اقتناص الفرص وصوالً الى ربح وإثراء سريعين. ھذه ھي حال بيروت الكبرى اليوم ،الممتدة من الدامور جنوبا ً وجونيه والمعاملتين شماالً وعاليه شرقاً ،حيث تغلب على العمران والبناء فوضى تشمل حتى المميز
والمرتفع األسعار والنخبوي منھما .فمن مفارقات حياتنا اللبنانية أن اللبنانيين على العموم ،يتشددون ويغالون في طلب الرفاه واألناقة في حياتھم الفردية والخاصة، سكنا ً وأثاثا ً وملبسا ً واقتناء سيارات فخمة وسواھا من سلع الرفاه واالستھالك ،في مقابل مغاالتھم في إھمال االھتمام بأيٍّ من شؤون الحياة العامة المشتركة ومستلزماتھا في العمران والبناء والخدمات وتنظيم السير وسواھا من وسائل النقل، وفي استعماالت األرصفة وأماكن االستراحة والترفيه العمومية .األرجح أن وج َھي المغاالة ھذين ،ليسا متعارضين إال شكلياً ،إذ ھما يتقاطعان ويتداخالن في صدورھما عن ثقافة وسلوك لبنانيين – وإن بتفاوت بين الجماعات – يحكمھما االستئثار واألنانية المستعجالن والمنفلتان من كل ضابط. وإال ،ما معنى اإلمعان في تدمير كل ما ھو مشترك وعمومي ،وفي أحسن األحوال إنعدام المسؤولية حياله ،وتركه لإلھمال والتأكل واالنحطاط ،في مقابل اإلمعان ال َم َرضي في طلب الرفاه الفردي والشخصي والخاص؟! كأن اللبنانيين ال يستثمرون طاقاتھم وجھودھم وما يتمتعون به من حرية وحس “جمالي” تزييني ،إال في المجال الفردي الخاص ،تاركين العام والمشرك إما للتسيب وإما لإلستيالء عليه والتصرف به كملك خاص .مثل ھذه الثقافة تنطوي على تقديس الخاص ونصبه وثنا ً للعبادة، في مقابل ازدراء العام والمشترك ومناصبته العداء والحرب. من األمثلة الراھنة والجزئية على ھذا السلوك ،ما يحدث في ساحة السوديكو نزوالً إلى تقاطع شارع بشارة الخوري مع طريق الشام .فالمنطقة ھذه لم تعثر على ھوية ووظيفة عمرانيتين .ساحة الشيخ الرئيس الراحل بشارة الخوري ،وتمثاله ،متروكان للتسيّب واإلھمال منذ سنين ،برغم أنھما مسرح تقاطع سير وعبور كثيف ما بين “البيروتين” ،وھما قريبان من وسط بيروت الجديد والفخم ،وتصب فيھما تقاطعات السوديكو ورأس النبع وحوض الوالية والخندق الغميق .لذا ھبّ العمران الخاص في جنبات الساحة ،مختلطا ً باإلنشاءات العامة )جسر ونفق كبيران( ،من دون أن تنبئ ھذه الھبّة بالھوية العمرانية للساحة ومحيطھا القريب .لكن األكيد والواضح أن العمران الجديد جرف عدداً من البيوت البيروتية القديمة أو التراثية التي ھُدمت وال تزال بقايا بعضھا تنتظر استكمال الھدم ،من دون أن يعبأ أحد بالفتات وزارة الثقافة وعبارتھا “حي ذو طابع تراثي”.
أبراج الشوارع الضيقة من الظواھر العمرانية والمعمارية المستجدة في بيروت السنوات الخمس عشرة األخيرة ،ظاھرة تشييد أبراج سكنية شاھقة على جنبات شوارع داخلية ضيقة ،وعلى واجھة العاصمة البحرية .األبراج ھذه يشيَّد ك ٌّل منھا على نحو مستقل عن شارعه ومحيطه ،فال يُحسب أيّ حساب لمقدرة الشارع والمحيط على استيعاب ما يحتاجه البرج من خدمات متنوعة ،كأنه يتعالى ويشھق وحيداً في صحراء .لكنه يتعالى ً حقيقة وواقعا ً في زحمة واختناق عمرانيين يضاعفھما البرج المتسامق في ويشھق صلف وفخامة ھما مرآة صورة من يشيَّد لھم عن أنفسھم وتمايزھم ،غير آبھين بما يحوط بالبرج من ازدحام واختناق عمراني .أما بحر بيروت ف ُس َّد بسلسلة من األبراج ال تقيم أيّ وزن للتآلف والتجانس مع تراث المدينة العمراني ،البحري والمتوسطي ،وال مع حاجات ساكنيھا .ھذا مع العلم بأن عدداً ال بأس به من شقق ھذه األبراج ال يزال شاغراً في انتظار زبائن من نخب تحصّل ثرواتھا في الخارج على األرجح ،وال تكلف نفسھا عناء االستثمار في غير العقار والمضاربات العقارية.
فخامة وفوضى أما المشروع العمراني األبرز في لبنان ما بعد الحرب ،فھو مشروع إعمار وسط بيروت الذي بدأت ترتسم مالمحه ومعالمه ووظائفه الجديدة الراھنة والمستقبلية .لقد مبان جديدة ،وظھرت األنشطة المدينية للوسط، ُرمّمت المباني التراثية ،وشيِّدت ٍ وأنشئت خدمات البنية التحتية بمواصفات رفيعة .لكن الالفت أن إدارة شؤون الوسط وخدماته التي ال تتوالھا شركة “سوليدير” بل تضطلع بھا المؤسسات العامة والحكومية ،بدأ يظھر أنھا تعاني من بعض الفوضى والتضارب اللذين ينعكسان سلبا ً
على الوظائف واألنشطة المدينية في الوسط الجديد .فالشوارع الكثيرة المحيطة بمجلس النواب ،مقفلة وال يسمح بالمرور فيھا لغير المشاة ،ألسباب “أمنية” تجعلھا أشبه بمنطقة مقتطعة من الوسط ،وتسري عليھا إجراءات استثنائية خاصة .الطرق التي تحوط مبنى اإلسكوا ،أقفلت أخيراً لألسباب نفسھا .وكانت أُقفلت شوارع إضافية قبل إقامة الرئيس سعد الحريري في ما يسمّى “بيت الوسط” .ھذا كله ضيّق مساحة الوسط المديني وقلل عدد الشوارع المفتوحة فيه. لكن ھذه أيضا ً تتكاثر على جنباتھا ،وفي وسطھا أحياناً ،الحواجز اإلسمنتية المصطفة لمنع إيقاف السيارات ،وألداء مھام تنظيمية في إدارة السير وتبديل اتجاھاته ،بديالً من اإلشارات الضوئية ومن وظائف شرطة السير .في ظھيرة كل نھار جمعة ،تق َفل الشوارع المحيطة بجامع محمد األمين ،وتتحول مرأبا ً ضخما ً لسيارات المصلّين في المسجد .وفي الشوارع التي تتكاثر فيھا المحال التجارية والمطاعم ،يأبى زبائنھا أن يمشوا خطوات قليلة للوصول اليھا ،ويصرّون على الخروج من سياراتھم الفخمة أمامھا .لذا غالبا ً ما يقوم “الفاليه الباركينغ” التابعون للمحال والمطاعم بالتواطؤ مع عناصر شرطة السير على أن يوقف الزبائن سياراتھم على جنبات الشوارع أمام المحال والمطاعم. ً مجتمعة الى اختناقات سير في الكثير من نواحي الوسط تؤدي ھذه الظواھر وشوارعه .في ھذا السياق تبرز ظاھرة تكشف عن حال من الفوضى التنظيمية واإلدارية واألمنية في تدبير شؤون حيّز مديني عام يعتبر األحدث واألكثر جدة في بيروت ،وال يزال الكثير من مرافقه ومبانيه قيد االنشاء والتجھيز .ھذا يبشر بأن التحديث والتجديد العمرانيين في ديارنا يقتصران على اإلطناب في فخامة الشكل، فيما ُتترك شؤون إدارة الفخامة المظھرية والشكلية وتنظيمھا لما ھي عليه مؤسسات الدولة وأجھزتھا اإلدارية واألمنية العامة من فوضى وتخلف واھتراء موروث من زمن الحرب ،ما قبلھا وبعدھا.
سياسات الخراب ھل وصلنا في لبنان اليوم إلى مرحلة استحالة تدارك السقوط في مھاوي معضالت مزمنة ،متراكمة ،متداخلة ،متناسلة ،لم نعد نقوى على جبھھا ،فيما ھي تكبر وتتضخم ككرة من الثلج ،فتتضاعف سرعتھا في تدحرجھا بنا إلى الھاوية؟ طوال العقد األخير من القرن العشرين حتى العام ،٢٠٠٥كان شعاران إثنان يتعايشان عنو ًة وقسراً تحت راية اإلحتالل السوري األسدي للبنان :إعادة إعمار ما دمّرته الحروب ،وبنا ُء جھاز مقاومة إسالمية ،فئوية و”سرّ ية” ،تديرھا إيران الخمينية وسوريا األسد ،باسم تحرير الجنوب وفلسطين ،ولو على جثة لبنان. ھا نحن اليوم على وشك أن ننسى أن تلك الحقبة انتھت بسلسلة من االغتياالت اإلجرامية التي لم يوقفھا إال “حرب الوعد الصادق” واحتالل وسط بيروت الجديد طوال ما يزيد على السنة ،من دون أن ينتھي ذلك االحتالل إال بحملة عسكرية تأديبية سمّاھا أصحابھا “عملية جراحية” صغيرة عابرة الستئصال “المرت ّدين الخونة” للمقاومة األبدية. ھي المقاومة نفسھا التي استدارت شرقا ً وشما ً ال لمساعدة األسد اإلبن في استئصال الغالبية الساحقة“ ،الخائنة والعميلة والتكفيرية” ،من الشعب السوري الذي أخذت شبّانه سكرة “الربيع العربي” الزاحف تحت شعار :الحرية والكرامة االنسانية والعدالة االجتماعية .فأيّ مقاومة ،ومقاومة َمن وماذا ،ھي ھذه المقاومة التي تنتقل ُغرق سوريا بالدماء ،يدمّر عمرانھا ،يبيد غوطة من بلد إلى بلد ،لنجدة مستبد س ّفاح ي ِ عاصمتھا بالغازات السامة ،يھ ّجر الماليين من شعبھا ،ليصل أكثر من مليونين بقليل الى لبنان الجئين عراة ،يبحثون عن مالذ ومأوى في بلد منھك تمزقت أوصاله، وتوشك دولته على االنھيار ،كي يظل بلد “وعد المقاومة الصادق” المنذور للحروب
والدمار؟! تقاتل المقاومة في سوريا ،يزداد عدد النازحين منھا الى لبنان .تدفقھم المستمر حليف المقاومة األكبر ،وأحد دھاقنة الحرب والسياسة في لبنان .رعبه ھذا يرعب َ يخرجه عن طوره ،وكعادته في إطالالته االسبوعية المتكررة ،يقف غاضبا ً متوعداً حاقداً صلفاً ،وكمن يدفن رأسه وغضبه في الرمال يقول :أال فل ُتنصب الخي ُم لالجئين السوريين في السرايا الحكومية .من قوله ھذا ينض ُح مقدار من العنصرية الدفينة والحقد والشماتة الصبيانية التي تزدري رئاسة الحكومة ما بعد اتفاق الطائف باعتبارھا حصنا ً منيعا ً يخصّ إحدى الجماعات الطائفية اللبنانية المرحبة باستضافة الالجئين السوريين. نسوق ھذه الوقائع المتدافعة بوصفھا نموذجا ً لسياسات دھاقنة السياسة والحرب والمعضالت التي يتخبط فيھا لبنان اليوم .ومن زاوية ھذه السياسة ومعضالتھا ،أين ھي معضلة التكالب العشوائي على العمران والبناء؟ أليست المظھر المادي األبرز إلجماع اللبنانيين على مراكمة المعضالت وتكديسھا ،ومعالجتھا بالھرب منھا الى األمام ،كمن يدفن رأسه في الرمال؟ على الشاطئ والروابي والجبال ينصبون أبراج شموخھم وھروبھم ،وسط حفلة تنكرية إلزدراء تراثھم الحضاري المعماري، متزاحمين على تقويضه وھدمه ،وعلى عبادة كل ما ھو ھوية جزئية ،عصبوية وخرافية ،من ھذا التراث الذي يرفعون على انقاضه صروح حداثتھم المظھرية التي تحجب البحر والسماء. ھل مصادفة أال تبقى في بيروت مساحة تذ ِّكر بذلك التراث ،سوى مساحة الجامعة تقو عليھا حداثة الخراب الزاحفة ،فصمدت األميركية في بيروت؟ كأنھا وحدھا لم َ على حالھا فسحة لعمارة “أميركية” من زمن التحديث العثماني.
السديم الفاشي )(٣ ھل من اسم محدد لما يعيشه اللبنانيون اليوم من تخبط واھتراء وخوف وھلع؟ إنه الفساد الذي يسمّيه الروائي والفيلسوف اإليطالي أمبرتو ايكو “الفاشية األصلية، البدائية واألبدية” ،بوصفھا خليطا ً متنافراً من افكار ومشاعر وممارسات متنافضة، تشكل نوعا ً من السديم الفاشي ،او الفاشية السديمية.
في ھدأة العصر من نھار السبت ٣١آب المنصرم ،لعلعت فجأة موجات متالحقة من الطلقات النارية في أرجاء واسعة من أحياء بيروتية .المرأة المسترخية المستمتعة استمتاعا ً حزينا ً وموحشا ً برشفات من شاي ما بعد القيلولة ،جالسة بين أصص نباتات بيتيّة على شرفة منزلھا العالية في حي من تلك األحياء ،ھرعت ھلعة، منحنية ،مطأطئة الرأس ،من الشرفة إلى صالون بيتھا .سھى ،سھى ،أين سھى؟! ً راكضة في أرجاء الصالون ،بحثا ً عن ھاتفھا اخذت تر ّدد في صوت مختنق، المحمول .كانت تعلم أن سھى ،ابنتھا الصبية ،خرجت من المنزل قبل ساعة أو اثنتين .رصاص ،رصاص ،إنه رصاص ،بدأت “الضربة”؟ ،ولولت وسط دويّ الطلقات المتمادي ،ثم صرخت قائلة لزوجھا في الصالون ،أن يش ّغ َل جھاز التلفزيون. فجأ ًة ظھرت على شاشة التلفزيون صورة للرئيس األبدي لمجلس النواب وحركة “أمل” .في أسفل الشاشة شريط ثابت مكتوب عليه :االستاذ نبيه بري يلقي كلمة متلفزة ،بعد إلغاء المھرجان الخطابي في الذكرى الـ ٣٥لتغييب اإلمام موسى الصدر ،بسبب الظروف األمنية في البالد .على شريط آخر متحرك أسفل الشاشة، ظھرت عبارة أخرى :طلق ناري أصاب امرأة في بعلبك أثناء تشييع مقاتل من “حزب ”eقُ ِت َل في سوريا .للحظ ٍة عابرة تخيّل زوج المرأة أن إطالق النار يشمل مناطق لبنانية كثيرة ،جنوبا ً وبقاعاً ،مروراً بالعاصمة وضاحيتھا الجنوبية ،ثم سمع، وسط تمادي موجات الرصاص ،صوت سيارة إسعاف في الشوارع القريبة التي تخيّلھا كئيبة خاوية .استعاد للمدينة صوراً تعود الى أواسط ثمانينات القرن الماضي، رسّختھا في مخيلته وحواسه نصوص تھ ّكمية سوداء ھاذية ،كتبھا الشاعر محمد العبد eفي عنوان “بعد ظھر نبيذ احمر /بعد ظھر خطأ كبير”.
في النص الذي حملت المجموعة عنوانه ،سجل العبد eصوراً عن أحوال مثقفين وأحزاب وقتلة وسماسرة وجماھير رعاعية وقادة ،وفساد ھائل يضرب جذوره عميقا ً عميقا ً في نسيح الحياة اليومية اللبنانية. *** حال المرأة الھلعة وسط دويّ الطلقات النارية ،وحال سواھا من الناس “المدنيين” القابعين في بيوتھم في سائر المناسبات المماثلة وغيرھا من يومياتنا اللبنانية المسمومة بدبيب الخوف من انفجارات السيارات المفخخة ،تذ ِّكر أيضا ً بمناخات فيلم صور مشاھد من الحياة اليومية “يوم خاص” للمخرج االيطالي إيتور سكوال الذي َّ في روما أيام الفاشية. اليوم ،ال يزال الفساد الھائل نفسه يضرب عميقا ً في نسيج حياتنا اللبنانية .وھو الفساد الذي يسمّيه الروائي والفيلسوف السيميولوجي االيطالي ،أمبرتو إيكو، “الفاشية األبدية” في كتابه “دروس في األخالق” .يرى إيكو أن “الفاشية عبارة عن كتلة توتاليتارية غامضة” ،ليست لھا “إيديولوجيا موحدة ،بل ھي خليط من أفكار” ومشاعر وممارسات “متنوعة ومليئة بالمتناقضات” .الخليط ھذا“ ،قابل للتكيف مع الوضعيات كلھا” .لذا يمكن التعرف إلى الفاشية في “الئحة من الخصائص النوعية” لما يسمّيه صاحب “إسم الوردة”“ ،الفاشية األصلية ،أي البدائية واألبدية” التي يستحيل أن “تجتمع” خصائصھا “في نظام واحد” .ذلك ألن معظم تلك الخصائص يناقض بعضھا البعض اآلخر“ ،لكن يكفي تحقق خاصية واحدة لكي نكون )في( سديم فاشي”. من ھذه الخصائص :عبادة اإلرث أو التراث .نزعة تقليدية ترفض العالم الحديث، وتعشق التكنولوجيا .نزعة العقالنية ترتبط بعبادة الفعل من أجل الفعل .إيمان باإلجماع يبحث عن استثمار الخوف من االختالف .كبت فردي واجتماعي ،ونداء الى الطبقات الوسطى المكبوتة التي ھمّشتھا األزمات أو اإلذالل السياسي ،ويضاف الى ذلك الرعب من الضغوط التي تمارسھا مجموعات اجتماعية دونية .كراھية اآلخر المنبعثة من مر ّكب ھوسي قوامه الخوف من المؤامرة ،ومن الشعور بالمھانة حيال غنى العدو وقوته .التسليم بمبدأ الحرب الدائمة والنظر الى النزعة السلمية بوصفھا تواطؤاً مع العدو .تمجيد البطولة المرتبط وثيقا ً بتمجيد الموت .فالبطل الفاشي يتمنى الموت ويستعجله ،ويمكن أن يقتل كثيرين في طريقه الى البطولة. الزعيم ھو الصوت المعبّر عن جموع الشعب التي ال تشكل سوى وظيفة أو دور مسرحي أو تلفزيوني.
في إيراده ھذه الخصائص التلفيقية للفاشية األصلية ،ينھي أمبرتو إيكو كالمه بعبارة: “ال تنسوا أن الحرية والتحرر واجب ال ينتھي أبداً” ،قبل أن يختم بمقتطف شعري لفرنكو فورتيني: “على حافة الجسر /رؤوس المشنوقين /في ماء العين لعاب المشنوقين /على بالط السوق أظفار المعدومين بالرصاص /على حشائش المرج الجافة /أسنان المعدومين بالرصاص /عُضَّ الھواء /عُضَّ الحجر /لحمنا لم يعد لحم اإلنسان /قلبنا لم يعد قلب اإلنسان /لكننا قرأنا في عيون الموتى /وعلى األرض /الحرية سنحققھا /ولكن قبضت عليھا أيدي الموتى”.
بالد العنف والجريمة )(٤
ً متنقلة في المدن والمناطق اللبنانية ،فتختلط تتكاثر حوادث العنف والقتل وتتناسل فيھا وتلتبس االسباب والدوافع الناجمة عن خالفات وخصومات ونكايات وثارات “فردية” وأھلية وعائلية وأسرية وزوجية ،حتى أن خالف أقارب أو جيران على ركن سيارة ،أو خالف شخصين غريبين على أفضلية المرور ،قد يؤدي الى شجارات تتشارك فيھا جموع ،و ُتستعمل فيھا بنادق حربية ،فتنتھي بقتيل أو أكثر، مما ينذر بتجددھا ثارات متناسلة .كأنما العنف اللفظي والمعنوي والجسماني والمسلح ،صار أحد متون لغة التعبير و”التواصل” في عالقاتنا وحياتنا اليومية التي تقيم في مفاصلھا وثناياھا ودوائرھا أطياف وظالل وركام من اجتماع قد يص ّح وصفه بالحربي المتمدن ،أو اجتماع التمدن الحربي.
حوادث العنف والقتل المتصلة بالعالقات والحياة الزوجية واألسرية والعاطفية ،التي غالبا ما تكون النساء ضحاياھا ،تثير صيحات ساخطة ومتھكمة أحيانا ً في مواقع التواصل االجتماعي االلكترونية .اما الصيحات التي يطلقھا ناشطات وناشطون في جمعيات ومنظمات مدنية وحقوقية ،فغالبا ً ما تتوسل بھذه الحوادث وتجعلھا مناسبات مؤاتية إلطالق حمالت استنكار واحتجاج تطالب بإقرار تشريعات وقوانين مدنية خاصة لحماية المرأة من العنف .غالبا ً ما تتلقف الناشطات أخبار الحوادث من وسائل االعالم التي تتسابق على نشرھا وإذاعتھا وتصويرھا وإجراء تحقيقات عنھا، من دون أن تغيب اإلثارة عن ھذا التسابق .يلي ذلك قيام الناشطات وجمعياتھن ومنظماتھن بإدراج الحوادث في توجھات وبرامج وحمالت ضد ما يسمّى “العنف الزوجي” أو “األسري” أو “المنزلي” أو “العنف ضد النساء” والتحرش بھن واغتصابھن .غالبا ً ما تتصدر الحمالت ھذه ،المظالم التي تتعرض لھا العامالت األجنبيات والنساء في حياتھن البيتية والزوجية. الالفت في ھذه البرامج والحمالت والمطالبات عزلھا ھذا النوع من العنف وجرائمه المتكاثرة في لبنان ،عن السياقات والظروف والمناخات االجتماعية والسياسية العامة السائدة في البالد ،والمتسمة بدبيب العنف المتمادي والمتناضح في شتى ميادين الحياة اليومية .العزل ھذا ،ھدفه حمل العنف ضد النساء وقتلھن على مجريات العيش في مجتمع مدني عادي أو طبيعي ،تحتاج النساء فيه لتشريعات حقوقية وقوانين مدنية خاصة ،لحمايتھن مما يتعرضن له في حياتھن الزوجية )الضرب المبرح حتى القتل احياناً ،االغتصاب الزوجي ،وسواھا من المظالم( ،وفي الشوارع )التحرش الجنسي ،اللفظي والجسماني ،واالغتصاب أحيانا ً( .كأن ھذه األنواع من العنف معزولة ومستقلة عن ثقافات الحياة اليومية ،االجتماعية والسياسية ،وأشكال التعبير والعالقات ،المشرعة على انتھاكات تبدو انھا األصل والمتن في المجتمع اللبناني الراھن. غاية الناشطات والناشطين المدنيين والحقوقيين وجمعياتھم ومنظماتھم ،من عزل العنف والمظالم الواقعة على النساء ،وتجريدھا من دبيب العنف العام ،استسھال توجيه الحمالت وصبّ المالمة والتبعات على غياب التشريعات والقوانين ،وعلى تقاعس األجھزة األمنية والمؤسسات القضائية واإلدارية ،وصوالً إلى معزوفة “غياب الدولة” اللبنانية عن تطبيق القوانين ومالحقة مرتكبي جرائم العنف والقتل ضد النساء ،واالقتصاص منھم .ھذا مع العلم بأن اللبنانيين ،جماعات وافراداً ،ال يتفقون على حقيقة في كالمھم اليومي ،اتفاقھم على حقيقة انھيار دولتھم وغيابھا، الى حد قولھم الدائم انھم يعيشون في مجتمع بال دولة وقوانين ،يتمتع بحريات فوضوية قصوى ،مدمرة وقاتلة .وبما أن ھذه الحرية الفوضوية أمست بنيوية في
معظم ميادين الحياة ،أمسى الكالم اليومي عنھا شبيھا ً بك ّفارة عامة يمارسھا كل من الجماعات واالفراد ،للتعايش مع الفوضى واالرتكابات والممارسات العنيفة ،كأنھا قدر لبناني محتوم ال را ّد له وال وازع.
ناشطو المجتمع المدني تجريد الجرائم وعزلھا من السياقات والظروف االجتماعية والسياسية العامة ،ومن ثقافة الحياة اليومية العامة السائدة في االجتماع اللبناني الراھن ،ينطويان على غايات متالزمة متداخلة: إضفاء طابع مدني على العنف والجرائم المرتكبة ضد النساء ،والتغاضي عنجذرھا العميق في ثقافة الجماعات األھلية وعالقاتھا. إرادة ھرب مزمنة ومتعمدة من النظر الى الجذر األھلي للعنف ،الذي صار يالبسثقافتنا االجتماعية والسياسية األھلية والعصبية ،وكذلك أشكال العالقات والتواصل والتعبير في كثير من دوائر حياتنا المحلية .فالعنف يكاد يكون الظاھرة األبرز في تصريف الخالفات والمنازعات بين الجماعات واألفراد ،وكذلك في التعبير عن األفراح واألتراح ،في الظروف اللبنانية الراھنة والمزمنة. حاجات الناشطات والناشطين في جمعيات الحقوق المدنية واالنسانية ومنظماتھاالمحلية الوثيقة الصالت بمنظمات دولية وغير حكومية ،أوروبية وغربية ،إلى تصوير المجتمع والدولة و”المواطنين” في لبنان تصويراً مجرداً أو متخيالً يناسب طموحاتھم وصورھم عن أنفسھم ونمط حياتھم وعالقاتھم الفردية والمدنية ،على
ھوامش الجماعات األھلية وثقافتھا العضوية العصبية التي تتوسل بالعنف والقتل في تصريف خالفاتھا ومنازعاتھا ،أحقادھا ونكاياتھا. حاجة الجمعيات والمنظمات المدنية والحقوقية ،وكذلك حاجة العاملين فيھا ،الىالتماسك والعمل في منأى من تجاذبات العصبيات واالنقسامات األھلية التي تھدد تماسكھم وعملھم ،خشية أن تتسلل إلى متن نشاطھم المدني والحقوقي.
ثقافة العنف ودھاقنته تتكامل ھذه العوامل وتبلغ غايتھا بإلقاء أسباب حوادث العنف وجرائمه وتبعاتھا على كيان معنوي مجرد وموحد :الدولة والقوانين والتشريعات المدنية الحقوقية .كأنما ھذا الكيان متفق على وجوده وعلى آليات عمله ،وعلى استقالله المعنوي عن الجماعات وعصبياتھا وثقافتھا األھلية العصبية السائدة ،التي غالبا ً ما تتوسل بالعنف وتمجده في شعاراتھا وخطب مق ّدميھا وزعمائھا ودھاقنتھا المفوّ ھين الصادحين على إيقاع ز ّخات رصاص األحقاد والثارات والغضب والفرح واالنتصارات واالحتفاالت، وانفجارات ألعابھا النارية في كثير من أحياء المدن والبلدات والقرى. الحق أن تراثنا عريق في ھذا المجال .ففي المرويات الزغرتاوية – اإلھدنية القديمة قول شائع مأثور يك ّني عن طرب االھالي بزخات الرصاص التي إذا ما سمعھا أحدھم من بعيد ،يقول مخاطبا ً الرصاص“ :صوتك حنون” .بلغ التغني بثقافة العنف ً وأدواته ذورته “السياسية” في القول المأثور األحدث زمنا ً وداللة جماھيرية: “السالح زينة الرجال” .في اثناء كتابة ھذه السطور ھا ھي ز ّخات الرصاص ال تتوقف عن الزغردة مع المفرقعات النارية من على الشرفات في كثير من أحياء بيروت ،تعبيراً عن احتفال بعض األھالي وفرحتھم بفوز أبنائھم وبناتھم في امتحانات الشھادات الرسمية .ر ّداً على ھذه االحتفاالت كتب أحدھم على صفحته في الـ”فايسبوك” متمنيا ً فشل أبناء المحتفلين في دراساتھم الجامعية .الالفت أن االحتفاالت الطروبة بدويّ الرصاص والمفرقعات ،لم تقتصر على أحياء شعبية ،بل تجاوزتھا الى أحياء لفئات اجتماعية متوسطة ،حيث اختلطت بدويّ المفرقعات الرمضانية في أمسيات ما بعد اإلفطارات العامرة. قبل أيام من ھذه االحتفاالت ،احتفلت عشيرتا زعيتر وحجوال في الليلكي ،بتجديد ثاراتھا المتناسلة فصولھا منذ ١٤شھراً ،على ما كتب عباس الصباع في “النھار” ) ٢٦حزيران ،(٢٠١٣مشيراً الى أن العشيرتين “تدينان بالوالء للثنائي الشيعي”، “امل” و”حزب .”eابتدأت فصول الثأر العشائري بـ”تالسن” بين شابين من العشيرتين سببه خالفھما على أفضلية “مرور سيارة” ،فأردى أحدھما اآلخر بطلقات
بندقية أو مسدس .أما الفصل األخير من عمليات الثأر ،فاستمرت اشتباكاته ثالثة أيام متصلة ،وتدخل مشايخ ونواب عبثا ً لوقفھا ،فتبادلت العشيرتان حرق محطة محروقات قرب “مدرسة االمام الخميني” ،ومطعم لشخص من آل زعيتر .قبل توقف االشتباكات بعد تدخل وحدات من الجيش اللبناني ،نزحت من الليلكي الى الحدت عائالت لتأمين الھدوء والسكينة ألبنائھا كي يتمكنوا من التحضير المتحانات الشھادات الرسمية التي ال بد من أن يكون الرصاص قد زغرد للناجحين فيھا. ير ُد ذكر ھذه االيقاعات الخلفية وغيرھا من أمثالھا ،للقول إن العنف الرمزي والمعنوي والمادي المسلح أصيل في ثقافات الجماعات المحلية في تعبيرھا عن أفراحھا وأتراحھا وأحقادھا وغضبھا وسخطھا وثاراتھا الھاجعة والمتجددة .فالثقافة ھذه تشكل ركنا ً تعبيريا ً أساسيا ً في االجتماع والسياسة ،وفي تصريف الجماعات واألفراد شؤون حياتھم اليومية ،فيسود اإلستقواء بالتضامن العصبي للخروج على الدولة ومؤسساتھا وقوانينھا وتشريعاتھا التي أمست صورية أصالً لكثرة ما تتعرض لالنتھاكات في ميادين الحياة اليومية المختلفة. الالفت في ھذا السياق أن إحدى الجمعيات المدنية والحقوقية البيروتية الناشطة في مجال مكافحة العنف االسري والزوجي ضد النساء ،قامت بتحريض نساء مع ّنفات لجأن اليھا واستنجدن بھا ،على توجيه رسائل )نشرتھا صحف بيروتية كثيرة( تستعطف الدھاقنة من زعماء الجماعات وأمراء الحرب والطوائف في لبنان، وتستجديھم ،إلقرار قانون ضد العنف األسري والزوجي في مجلس النواب .كأن الدھاقنة ھؤالء روّ اد مجتمع مدني وحقوق مدنية وانسانية .ھذا مع اإلشارة الى أن الجماعات التي وجھت تلك الرسائل منعھا خوفھا ورعبھا من توجيھھا الى كبير الدھاقنة اللبنانيين في الخروج على الدولة ومؤسساتھا التي اجتاحھا رجاله وسيطروا على مفاصلھا ،قبل خروج جيشه على حدودھا الجغرافية الدولية الواھية أصالً، لخوض حروب أھلية – إقليمية ،يجري وصفھا باالستباقية والجھادية والمقدسة، فتختلط في ھذه الصفات ومثيالتھا الحروب الدينية القديمة بالحروب االستعمارية، وبحروب أزمنة ما بعد الحداثة.
ماضي األيام اآلتية وسط ھذا االختالط الذي يق ّدس ثقافة العنف األھلي السياسي ،وينصّبھا مثاألً يمتنع التشكيك في مقدساته ،ال يبقى لناشطي المجتمع المدني وناشطاته ولإلعالميين أيضاً، اال ذلك الكيان المعنوي المغيّب والمسمّى الدولة ،لالحتجاج عليه وض ّده ،وتحميله المسؤولية عن حوادث العنف والقتل ذات الطابع “الفردي” و”الشخصي” في الحياة االجتماعية ونسيجھا المعتبر “مدنيا ً” ،على الرغم من أن تلك الحوادث وثيقة الصلة بجذور ثقافة العنف األھلي ،وبطاعون االنقسامات والعداوات السياسية. الشاعر محمد العبد eاكتشف ھذه الجذور في بدايات حروبنا الملبننة ،فكتب أنه استفاق مر ًة من نومه وخرج الى الشرفة ،فوجدھا حربا ً أھلية ،بعدما كان يحسبھا حربا ً طبقية ،على ما كان يتوھم “الرفاق الشيوعيون” وسواھم من اليساريين. أما وضاح شرارة فكان كتب قبل سنين كثيرة من كتابه “دولة حزب ،”eمقولته الشھيرة في “حروب االستتباع” ،فاستھلھا بالتنبه الى جذور العنف ودبيبه في نسيج ّ المغطى بقشرة رقيقة من العالقات الرأسمالية والمدنية المحدثة التي االجتماع األھلي سرعان ما تمزقت وتكشفت عن “مئات محمد دبوسي يعيشون بيننا”. دبوسي ھذا ھو أحد مرتكبي جرائم الشرف الكثيرة المدوية :قتل شقيقته على شاطئ خلده ،ما بين صروح الحداثة اللبنانية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته :المسابح الناشطة المزدھرة ،مطار بيروت الدولي ،وكلية العلوم في الشويفات .بعد غسله بالدم شرف الرجولة واألھل ،قطع دبوسي رأس ضحيته ،وحمله الى دارة المير مجيد ارسالن ،ليريه رأي العين الشرف المغسول ،كي يكون األمير سنده وظھره أمام القضاء. ذلك أيام كان اللبنانيون يتغ ّنون بازدھار بلدھم وحداثته وتقدمه ،من دون أن يروا في العنف األھلي وجرائمه اال بقايا ثقافة نافلة تتكفل العالقات الرأسمالية الزاحفة على المجتمع اللبناني تجفيفھا ومحوھا ،فإذا بتلك البقايا تستفيق استفاقة المكبوت ،وتجعل العالقات الرأسمالية والحداثة اللبنانية من أضغاث األوھام أو األحالم.
مجتمع التح ّلل العاري مقارنة سريعة بين أخبار حوادث العنف والترويع والخطف والقتل“ ،غير السياسية” أو غير المتصلة مباشرة بشبكات منظمات أمنية – سياسية ،في يوميات صحف النصف األول من سبعينات القرن العشرين اللبنانية ،وبين أخبار الحوادث المماثلة في صحفنا اليوم ،تبيّن أن حوادث عنف السبعينات في عشايا الحرب ) (١٩٧٥كانت
وثيقة الصلة بانتشار السالح الفلسطيني المقاوم ومنظماته الكثيرة وزبانيتھا اللبنانيين. ھذا إضافة إلى أن تلك الحوادث لم تكن تحظى باستنھاض علني واضح للعصبيات األھلية والمحلية والعائلية العارية التي تالبس حوادث العنف وتستنھضه في يومياتنا الراھنة. فما كان يبدو ضبابيا ً ويط ّل ضبابه من ثنايا العالقات االجتماعية والسياسية ونظامھا، تصلّب اليوم عميقا ً وطغى على النسيج االجتماعي ،فصارت التشكيالت والنعرات العصبية والعصبوية ،من طائفية ومناطقية وعشائرية وعائلية ،أقرب إلى تكوّ ن بنية تنظيمية أساسية في مجتمع متحلل .لذا أخذت تبرز حوادث القتل “الفردية” وسواھا من المنازعات اليومية في األزقة والشوارع واألحياء والقرى ،وصوالً الى تراشق مق ّدمي الطبقة السياسية ،ودھاقنتھا ،في ھيئة حوادث أھلية في مالبساتھا وفي ما تستنھضه من ردود فعل محلية تنخرط فيھا جموع من األھالي في األحياء والمناطق والقرى .كأن كل مجموعة من ھذه الجموع المتجاورة تسعى الى ترسيخ حقھا وسلطتھا المكتسبين بالقوة الذاتية العارية ،في غياب أي سلطة للقانون ومؤسسات الدولة والحكم .ھكذا ُتظھر حوادث العنف والقتل والخطف والمشاجرات الدابّة اليوم في المجتمع اللبناني ،أن ھذا المجتمع تحلل الى وحدات طائفية ومناطقية وجھوية وأھلية وعشائرية وعائلية ،عارية ومتنابذة ،ال يكاد يجمعھا جامع سوى تبادل الريبة والتربص والمخاوف واألحقاد التي تطابق الحدود الجغرافية أو العقارية للجماعات ووحداتھا الصغرى. الحوادث التي ُتظھر ھذه الحال من التحلل الفوضوي أكثر من أن تحصى .يبرز ھذا جليا ً في جريمة قتل شاب مصري وسحله في مھرجان أھلي غاضب وصاخب، وتعليق جثته على عمود إنارة في ساحة كترمايا ،وتصوير مشاھد ھذا المھرجان تصور األعراس ومواكب سياراتھا في بعدسات كاميرات الھواتف المحمولة ،كما َّ البلدات والقرى .الحال نفسھا تظھر أيضا ً في جريمة أخرى أحدث زمنا ً :بتر العضو الجنسي لشاب من الطائفة السنية من قرية عكارية ،ألنه تزوج فتاة من بلدة بيصور، رغما ً عن إرادة أھلھا الدروز. الحق أن ھذه الحادثة االخيرة التي لم تنته فصولھا حتى كتابة ھذه السطور ،تكاد أن تكون مرآة لألسوار األھلية ،المعنوية والمادية والجغرافية ،التي ترفعھا حولھا الجماعات اللبنانية الكبرى والصغرى ،من دون أيّ وازع من قانون ومؤسسات دولة جامعة .ففيما قوّ ضت شبكات التواصل اإللكتروني الحدود بين الجماعات واألفراد ،وأتاحت للشاب ربيع األحمد العكاري أن يتواصل مع الشابة ردينة مالعب في بلدة بيصور قرب عاليه ،فتزوجا خفية عن أھل الشابة ،وأقاما في منطقة بعيدة من أھلھما ،تمكن أشقاء الزوجة العروس من استدراج الزوجين الى مطعم في
بيصور ،حيث خطفوا الزوج واعتدوا عليه وحطموا أسنانه وبتروا عضوه التناسلي، قبل رميه في ساحة البلدة ،كناية عن غسلھم العار في العالنية العامة البلدية واألھلية. إحدى المحطات التلفزيونية ص ّدرت الخبر عن ھذه الحادثة في نشرتھا اإلخبارية المسائية ،كأنھا وقعت على صيد ثمين .وھي اعتمدت في عرضھا الخبر أسلوبا ً فجا ً في إثارته ،على ما تعوّ دت أن تفعل في كثير من أخبارھا ،لجذب المشاھدين الجائعين الى مثل ھذه اإلثارة ،ولزيادة رصيدھا اإلعالمي لديھم. بدأت المحطة نشرتھا اإلخبارية بالعبارة اآلتية“ :من الحب ما قطع” ،ثم نقلت عن الشاب األحمد قوله“ :شلّحوني ثيابي وقصّولي إياه” .وقد استغرق الخبر أربع دقائق في مستھل النشرة .متبادلو التعليقات على صفحات الـ”فايسبوك” ،جعل كثير منھم الحادثة مداراً لمزيج من السخرية والتھكم الجنسيين والطائفيين .إحدى الناشطات في مجال الحقوق المدنية ،أنشأت على الـ”فايسبوك” صفحة خاصة مستقلة أطلقت ً ناسية مأساة الشاب األحمد عبرھا “حملة ضغط للكشف عن مصير ردينة مالعب”، الذي تبيّن بعد أيام من خروجه من المستشفى ،أن مالك المنزل المتواضع الذي يستأجره في طبرجا ،رفض عودته إليه وطرده منه ،ألن أھل البلدة الساحلية يأبون أن يقيم بينھم شخص ساءت سمعته ،جراء الحادثة التي تعرض لھا ،على ما قال األحمد في تحقيق تلفزيوني رصين عن الحادثة وتداعياتھا وأمثالھا من حوادث العنف والقتلّ ،بثته محطة تلفزيونية محلية. وروى األحمد أيضا ً أن محاوالته استئجار مسكن في مناطق أخرى ،باءت بالفشل، ألن ال ُمالّك رفضوا طلبه فور تعرفھم إليه ومعرفتھم أنه “بطل” الحادثة التي أظھرته ً فضيحة في مشاھد كثيرة على شاشات التلفزة الجائعة والنھمة .لقد صار األحمد إذاً، أو عاراً اجتماعيا ً وتلفزيونياً ،بسبب براءته وعريه األھلي والعصبي اللذين حماله على الظھور المتكرر في العالنية العامة اإلعالمية ،راويا ً مأساته التي ستطويھا قريبا ً مآس أغرب منھا وأعصى على التوقع والتخيل في مجمتع سبّاق في فنون ٍ الجريمة ،وفي تحلّله المتمادي ،وتحويله المجاز والخيال وقائع مادية عارية. قد يالحظ المتتبع تفاوتا ً في أعداد حوادث العنف والقتل والثأر وتباينا ً في أنواعھا بين المناطق .أحيانا ً تتكاثر ھذه الحوادث في األحياء العشوائية من ضواحي ضاحية بيروت الجنوبية .وأحيانا ً تتصدر عكار وقراھا حوادث العنف والقتل .فبعد يومين من حادثة األحمد – مالعب“ ،تطور خالف بين أفراد من آل المصري في بلدة ببنين العكارية ،الى تبادل النار ،فقُتل عبد السالم المصري ،وجُرح خمسة آخرون من العائلة نفسھا )“النھار” ١٩تموز .(٢٠١٣
العنف والقتل في ھذه الحادثة عائليان ،حيث تتناسل العداوات والثارات في العائلة الواحدة ،من دون حاجة إلى عائلة أخرى لتبادل الثأر .ھذا فيما ال تزال حادثة قتل كرم البازي زوجته روال يعقوب في حلبا ،حيّة راعفة في البلدة العكارية وفي وسائل اإلعالم وحمالت الناشطين المدنيين. يبدو أن أعداد مثل ھذه الحوادث مرشحة الى االرتفاع في المقبل من األيام ،بعدما أظھرت إحصاءات أن امرأة ُتقتل شھريا ً في لبنان في السنوات األخيرة ،بسبب جرائم الشرف والخالفات العائلية والزوجية .فالتحقيقات القضائية لم تحسم بعد ما إذا كانت بثينة الزين قد انتحرت حرقا ً أم أن زوجھا أحرقھا ،بسبب زواجه من طليقة شقيقھا .في ٨شباط ٢٠١٣قُتلت بغداد العيسى في قرية الوزاني ،بطعنات س ّددھا شقيقھا الى خاصرتھا لدواعي غسل الشرف .أما صونيا ياغي فقتلھا شقيقھا أيضا ً بطلقات نارية في منطقة باب الرمل بطرابلس ،بعدما شاھدھا برفقة شاب في الشارع. لكن ،اذا كانت الثقافة المح ّرضة على ارتكاب جرائم الشرف والثارات العشائرية، تختلف عن بواعث الجرائم االخرى ،فإن حوادث العنف والقتل تتشابه في معظمھا في استسھال األفراد والجماعات اإلقدام على االحتكام إلى القوة الذاتية العارية، العضلية والمسلّحة غالباً ،في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحياة اليومية وشجونھا. في عراك ،بين أفراد عائلتين في بلدة بالنة الحيصة في عكار ،استعمِلت فيه العصي والسكاكين ،قُتِل شخص بضربة عصا على رأسه )“النھار” ٢٢ ،تموز .(٢٠١٣ وفيما قامت عائلة في بلدة شقرا الجنوبية ،محاطة برھط من مقاتلي “حزب ”e ومقدميه ،بتشييع ابنھا “المقاوم” الذي “سقط أثناء قيامه بواجبه الجھادي في سوريا” )“النھار” ٢٢ ،تموز “ ،(٢٠١٣ادعت النيابة العامة العسكرية على ستة موقوفين فاتھموا بـ”تأليف عصابة لبنانيين ضبطت في حوزتھم ثالث بنادق حربية وذخائر”ِ ، مسلحة للقيام بأعمال إرھابية”. لكن المتھمين “أفادوا أنھم يؤيدون المعارضة السورية” ،في إشارة منھم الى تبرير حيازتھم األسلحة )“النھار” ٢٠ ،تموز .(٢٠١٣ فبأيّ معايير قانونية وحقوقية ووطنية يُعتبر نصير المعارضة السورية المسلح “إرھابيا ً” ،قبل أن يستخدم سالحه في نصرتھا ،بينما يشيّع مقاتل “حزب ”eالى مثواه َّ معززاً مكرَّ ما ً بوصفه “جھاديا ً” ،بعد قتاله الى جانب النظام السوري؟!
في ھذه الحال ،ما الذي يحمل أھالي الموقوفين بتھمة “االرھاب” على القبول بھذه التھمة التي تنقلب “جھاداً مقدسا ً” في عقيدة “حزب ”e؟! وما الذي يحول دون إقدام أھالي “اإلرھابيين” وصحبھم وجماعتھم على نصرة أبنائھم الموقوفين بالسالح ،إذا استطاعوا الى ذلك سبيالً ،على ما فعل أحمد االسير وجماعته في صيدا؟! ھذا فيما حاصرت جماعة من أھالي بلدة بليدا الجنوبية دورية اسبانية تابعة لـ”اليونيفيل”“ ،لالشتباه في أن عناصرھا تقوم بالتقاط صور في البلدة ،فاستمر الحصار نحو ساعة حتى تدخل الجيش اللبناني” )“النھار” ٢٢ ،تموز ،(٢٠١٣من دون أن يعتقل الجيش أ ّيا ً من المحاصرين ،فيما “نفى مصدر في “اليونيفيل” أن تكون عناصر الدورية قد التقطت أيّ صور في البلدة” التي يبدو أنھا تتمتع بحكم ذاتي أھلي في حمى “الحزب المقاوم”. أما في حي آل الكيال في بعلبك ،فقد أقدم “مجھولون” على حرق “جرافة تابعة لبلدية المدينة ،وأقفلوا مكبّ النفايات” في الحي نفسه ،بعدما قامت “دورية من مخابرات الجيش اللبناني بتوقيف مطلوب بمذكرة توقيف” في الحي الذي اتھم أھله البلدية بـ”التورط في عملية التوقيف” )“النھار”٢٠ ، تموز .(٢٠١٣ في ھذه الحال ،كيف يكون مجھوالً من أقدم على حرق الجرافة؟! من يوميات حوادث العنف المتنقلة في الديار اللبنانية ،أقدم مسلحان يمتطيان دراجة نارية على إطالق النار على عناصر حاجز لقوى االمن الداخلي ،في محلة كورنيش المزرعة، بعد احتجاز عناصر الحاجز سيارة مخالفة ،زجاجھا “مفيّم” )داكن( ،فاضطر عناصر األمن الى الرد على مصادر النار ،مما أدى الى إصابة أحد المھاجمين، وتوقيف رفيقه )“النھار” ٢٠ ،تموز (٢٠١٣
صندوق الفرجة ھذا غيض من فيض يوميات حوادث العنف والقتل المتناسلة في مجتمع التحلّل، مجتمع التمدن البدائي والدبيب البطيء لعنف الحروب المتمدنة .مجتمع تھجم فيه
وسائل اإلعالم والتواصل االلكتروني ھجوما ً محموما ً على أخبار تحلّله الذي تحسب كل جماعة أنھا في منأى منه ،ويحسب الجميع أنه ال يصيبھم ،بل يصيب اآلخرين. كأن ھذه البالد صندوق للفرجة ،يھزج كثير من س ّكانه فرحين :تعا تفرّج يا سالم.
ٌ دولة خارجة على الدولة! )(٥ المبنى ب.
منذ العام ١٩٩٨تتسارع وتائر الشغب والتمرد في سجن رومية المركزي ،وكذلك حوادث الفرار ومحاوالت الفرار .معظم ھذه الحوادث مسرحھا المبنى ب .الذي “ينزل” فيه الموقوفون االسالميون ،وفي طليعتھم عناصر “فتح اإلسالم” .وفي ظل التسيب والفساد المستشريين في إدارة السجن ،يبدو حبل الشغب والتمرد والعنف والجريمة فيه مشرّع على الغارب. قبل انتفاضة السجناء في سجن رومية المركزي في نيسان ،١٩٩٨لم يكن الخبر ف عن السجون ونزالئھا وحوادثھا حاضراً في التداول اللبناني العمومي ،وال ع ُِر َ لبنان بوصفه بلد مداھمات أمنية واعتقاالت وسجون ،خالفا ً للبلدان العربية الشھيرة بأنظمتھا المخابراتية ومعتقالتھا وأدب سجونھا ،وخصوصا ً العراق البعثي الص ّدامي و”سوريا األسد” .لكن انتفاضات السجناء في رومية واالخبار المدوية عنھا لم تكرّ س للبنان صورة بلد اعتقاالت وسجون ،قدر ما كشفت عن حال اإلھمال والفوضى والتخلف في نظام ھذه السجون وإدارتھا ،وعن أن بلد “الحريات في الشرق” والحروب األھلية الملبننة لم يكن يوماً ،ولن يكون ،بلد اعتقاالت وسجون. بل ان ما حدث في ١٩٩٨افتتح سلسلة متتالية من االنتفاضات والفرار من سجن رومية ،ال تزال تتكرر فصولھا حتى اليوم ،وال يبدو أنھا ستتوقف في األيام المقبلة. في سنوات الحرب خلت السجون اللبنانية من نزالئھا تقريباً ،لكنھا راحت تغصُّ وتزدحم بھم في زمن الوصاية السورية على لبنان الذي ظلت سجونه على حالھا،
بل تدھورت أنظمتھا وخدماتھا وإدارتھا وضاقت مساحاتھا وازدادت قسوة وإھماالً عما كانت عليه قبل الحرب ،واستشرى فيھا الفساد الذي أخذ يضرب معظم مؤسسات الدولة ،بعدما دمرتھا الحرب ،من دون أن تقوى حكومات الوصاية على انتشالھا من لجة االنحطاط والفوضى والفساد. وھكذا جاءت انتفاضة سجناء رومية نذيراً من ذلك القاع االجتماعي الذي ُك ِّدس فيه من ساقتھم أقدارھم وأفعالھم الى بؤسه وقسوته ٣٠ :سجينا ً في زنزانة ال تستوعب أكثر من عشرة ،ثالثة آالف سجين ينتظرون المعاينة الصحية لدى طبيب واحد. أعداد كبرى من السجناء موقوفون منذ سنوات من دون محاكمة ،ومنھم مرتكبو مآس انسانية منھا الى جرائم .لم يكن بين السجناء جرائم مخدرات ھي أقرب الى ٍ المنتفضين آنذاك سوى ٢٣سجينا ً موقوفين بتھمة الخطف واالرھاب واالعتداء على أمن الدولة .وبعدما أحرق المنتفضون الفرش واألغطية وحطموا زجاج النوافذ وخلعوا بوابات الزنازين ،وشطب بعضھم جسمه بآال ٍ ت حادة ،أذاعوا مطالبھم، فجاوبھم وزير الداخلية ،ميشال المر آنذاك ،عبر مكبر للصوت قائالً إن ٨٠في المئة من المطالب محقة ،و ٩٥في المئة منھم يمكن أن يكونوا بريئين. ثم وعد بعرض أوضاع السجون في جلسة مجلس الوزراء ،بغية إصالحھا وتحسين خدماتھا وأنظمتھا ،لكن االنتفاضة تالشت بعد يومين ،وذھبت الوعود أدراج الرياح، وتفاقم االكتظاظ والبؤس واإلھمال في زنانين رومية التي استضافت في مطلع العام ٢٠٠١موجات متالحقة من المعتقلين والموقوفين اإلسالميين بتھم اإلرھاب واالعتداء على أمن الدولة في حادثة الضنيّة الشھيرة التي ھ ّزت لبنان في الليلة األخيرة من األلفية الثانية .ومذذاك برز “المبنى ب” بوصفه مرتعا ً للموقوفين االسالميين من دون محاكمات ،وأخذ أھالي ھؤالء ينظمون وقفات احتجاجية بمساعدة ھيئات دينية لإلسراع في محاكمة أبنائھم السجناء على ذمة التحقيق ،والذين قاموا بدورھم بحركات احتجاج داخل السجن ،منھا إضراب بعضھم عن الطعام في أيار ،٢٠٠٢عشية االعالن عن بدء محاكماتھم. لكن فصول موقوفي الضنية اإلسالميين ظلت مفتوحة حتى عشايا االنتخابات النيابية األولى من دون وصاية سورية في صيف ،٢٠٠٥والتي أدت الى عقد صفقة “سياسية” ضربت عرض الحائط باإلجراءات القضائية والقانونية ،فجرى اإلفراج عن عدد من الموقوفين اإلسالميين ألسباب انتخابية ،في مقابل اإلفراج عن قائد “القوات اللبنانية” سمير جعجع ،في عملية تذكير بتبادل طائفي للمخطوفين في زمن الحرب.
انتفاضات وفرار لم ينه ذلك قصة “المبنى ب ”.في سجن روميه ،بل ھو تكرس سجنا للموقوفين االسالميين قبيل انفجار حرب مخيم نھر البارد بين الجيش اللبناني ومسلحي منظمة “فتح االسالم” في ايار ،٢٠٠٧فتكدس في المبنى مئات من المعتقلين بتھمة االنتماء الى تلك المنظمة وسواھم من االسالميين. ھؤالء جلھم من الفلسطينيين والسورييين الى اسالميين طرابلسيين وعكاريين. وفي تقرير ُنشر على مدونة “الخيام لتأھيل ضحايا التعذيب” ،ورد ان ٥٠سجينا ً في روميه توفوا العام ٢٠٠٧نتيجة تدھور الخدمات الصحية في سجن اختصرت ادارته سبب وفاتھم بالسكتة القلبية ،من دون ان تجري تحقيقا ً في االمر. ومنذ مطالع العام ٢٠٠٨تتالت في السجن حوادث الشغب والتمرد في مبنيي المحكومين والموقوفين ،اضافة الى حوادث فرار ومحاوالت فرار من المبنى ب خصوصا ً. بدأ ذلك في ٢٤نيسان ٢٠٠٨بعملية شغب في مبنى المحكومين ،تحولت تمرداً احتجاجا ً على انعدام التدفئة والتبريد وسوء التغذية وغياب االس ّرة واھتراء المراحيض وعدم وجود مياه ساخنة في السجن ،فأحرق السجناء الفرش واألغطية. استمر التمرد حوالى ٩ساعات ،وتمكن السجناء من اسر عريف و ٥مجندين من قوى االمن ،فجرت مفاوضات بين ادارة السجن وقائدي التمرد ،احدھما فلسطيني واآلخر لبناني .وبيّنت تحقيقات صحافية ان االنقسامات والنعرات واالحتقانات القائمة في المجتمع اللبناني انتقلت الى السجناء وأخذت تحدث شجارات في ما بينھم، كما تر ّدد ان رجال االمن يعاملون السجناء بناء على انتماءاتھم الطائفية. أعقبت ھذا التمرد عملية فرار موقوف من “فتح االسالم” السوري طه احمد حاجي سليمان من “المبنى ب ”.فجر ١٨ايلول ،٢٠٠٩فيما قُبض على سبعة سجناء آخرين من المنظمة عينھا حاولوا الفرار بواسطة أغطية موصولة كحبال م ّدوھا من الطبقة الثالثة من مبنى المحكومين الى باحة السجن الرئيسة ،بعد قيامھم بقطع حديد نافذة القاووش بنصلة منشار .وتبيّن ان عملية قطع قضبان الحديد والتحضير للفرار استغرقتا اسبوعين ،وضع السجناء في اثنائھما معجونا ً اسود في مكان القضبان المقطوعة تضليالً للحراس .وصبيحة عيد االضحى في ٢٢تشرين الثاني ٢٠١٠ تمكن السجين وليد البستاني من الفرار ،فيما باءت بالفشل محاولة زميله السوري منجد الفحام اللحاق به.
كال السجينين من “فتح االسالم” ،وبيّنت تحقيقات المفتشية العامة في قوى االمن الداخلي تورط مجند في قوى االمن في تسھيل عملية الھرب ،بتأمينه للسجينين جھازا صامتا )صاروخا( لقطع الحديد يعمل على البطاريات ،فقطعا به حديد نافذة القاووش .وبواسطة حبل أمّنه لھما المج ّند تمكن البستاني من النزول من الطبقة الخامسة الى باحة السجن الخارجية .وھذا ما لم يستطعه الفحام بسبب انقطاع الحبل، فھوى الى الباحة واصيب بكسور في عظامه ادت الى بقائه مغميا ً عليه يئن حتى غروب نھار العيد ،فسمعت احدى الزائرات انينه وأبلغت الحراس الذين نقلوه الى مستشفى السجن .اما البستاني فكان انتظر خروج قوافل الزوار واندس بينھم وخرج من بوابة السجن الرئيسية.
حافال بالتمرد كان العام ٢٠١١حافال بتمرد سجناء رومية وبفرار بعضھم .ففي مطلع نيسان من ذلك العام بدأ السجناء تمرداً واسعا ً ضد ما اعتبروه إجراءات انتقامية قام بھا ضدھم ضابطان من قوى األمن الداخلي في بداية احتجاجھم على سوء المعاملة. استمر التمرد ثالثة أيام ما بين ٥نيسان و ٨منه ،أشعل السجناء في أثنائھا حرائق في المبنى ودمروا بعض محتوياته ،فقتل السجين روي عازار في انفجار قنبلة صوتية حاول رميھا على عناصر القوة األمنية أثناء قيامھا بعملية دھم السجن إلنھاء التمرد .أما السجين جميل أبو غني فقضى بأزمة قلبية حادة في نھاية عملية الدھم. لكن الجديد كان قيام أھالي السجناء بتجمعات احتجاجية أمام السجن ،وإذ لم ُيسمح لھم بالدخول إليه ،قاموا برشق رجال األمن بالحجار وقطعوا الطريق المجاورة للسجن ،ما حمل عسكريا ً من فوج المغاوير على قيادة سيارته مسرعا ً محاوال تفريق المعتصمين ،فصدم إمرأة ھوت إلى األرض وأصيبت برضوض في رجلھا ،فنقل االھالي االعتصام الى أمام مجلس النواب. بعد أربعة أشھر ،في منتصف ليل ١٣آب ،٢٠١١نشر خمسة سجناء في “المبنى ب” حديد شباك زنزانتھم ،وخرجوا منھا تباعا ً ھابطين بواسطة شراشف موصولة إلى باحة السجن الخارجية ،ثم إندسوا بين الزوار وفروا .ثالثة منھم ينتمون إلى “فتح اإلسالم” ،ھم السوريان عبد eسعد الدين الشكري وعبد العزيز أحمد المصري ،واللبناني عبد الناصر سنجر .أما اآلخران فھما موقوف سوداني وآخر كويتي من تنظيم “القاعدة” يدعى “أبو طلحة”. العام ٢٠١٢كان حافال بدوره بعمليات الفرار .فقبل فرار ثالثة سجناء من “المبنى ب” ،من دون أن تتمكن قوى األمن الداخلي من تحديد دقيق لطريقة فرارھم ،قامت
القوى األمنية في ١٩كانون الثاني ٢٠١٢بتوقيف امرأة حاولت إدخال أجھزة ھاتف خليوية في وجبة طعام تحملھا إلبنھا السجين. ما أن علم اإلبن بتوقيف أمه ،حتى عمد مع رفاقه السجناء إلى إثارة شغب في السجن ،استمر حتى السابعة مساء ،ولم يتوقف إال بعدما علم اإلبن بأن األم سيطلق سراحھا بسند إقامة .لكن الفضيحة تجلت في أن فرار السجناء الثالثة جرى بالتواطئ مع عناصر من قوى األمن ،وفي أن كاميرات المراقبة في السجن معطلة منذ العام .٢٠١٠ ھذا إضافة إلى قدرة السجناء الدائمة على االتصال عبر الھواتف المحمولة بالخارج وبنواب وسياسيين ومسؤولين كباراً .وفي ١تشرين الثاني ٢٠١٢أحبط رجال األمن محاولة فرار سجناء من “فتح اإلسالم” ،بعد ضبطھم شادوراً نسائيا ً وحباال في إحدى قواويش السجن .بعد حوالى شھر ،أي في ١٣كانون األول ،أحبطت قوى األمن محاولة فرار جماعية لعشرين موقوفا ً من “فتح اإلسالم” ،قاموا بقطع حديد نوافد مشغل السجن ،وبإحداث ثغرة في جدار يصلون عبرھا إلى مكتبته التي كانوا أحرقوھا في عمليات شغب سابقة .وفي ٢٣من الشھر عينه حدث تململ بين سجناء مبنى المحكومين ،بعد تلقيھم أوامر بنقلھم إلى مبنى آخر. في الشھر األول من العام الحالي تزايدت وتيرة الحوادث في السجن :في ٢كانون الثاني الماضي ،وقعت أعمال شغب وإحراق فرش وأغطية في “المبنى ب”. احتجاجا ً على انقطاع المياه ،وقام سجناء بخطف عسكريين من الحراس ،ثم أطلقوا سراحھم. لكن الحادثة األخيرة كانت االنتحار المشبوه للسجين الفلسطيني في المبنى ب غسان قندقلي الذي قيل إنه شنق نفسه بوشاح من الصوف في المرحاض في ١٧كانون الثاني الماضي .وثمة اعتقاد بأن قندقلي تم شنقه ،على ما ذھبت إليه الظنون الناجمة عن إحباط قوى األمن في ٢١من الشھر نفسه ،عملية فرار جماعي إلسالميين في “المبنى ب ،”.بعدما خططوا طوال ثالثة أشھر للعملية ،فقطعوا قضبان الحديد في الباب الفاصل ما بين المبنى وبرج المراقبة ،ونصبوا شراشف موصولة على أربعة خطوط بطول عشرات األمتار للتزحلق عليھا من البرج إلى الخارج .وشاع أن خلية أو حلقة من السجناء اإلسالميين أجرت محاكمة لقندقلي بعدما وجھت إليه تھمة اإلغتصاب والقتل ،وحكمت عليه باإلعدام ونفذته شنقا ً في المرحاض.
اإلھمال والتس ّيب تجمع األخبار والتحقيقات الصحافية ،وكذلك روايات بعض اإلسالميين المفرج عنھم من سجن رومية بعد قضائھم سنوات فيه ،على أن سجناء “فتح اإلسالم” وسواھم من أصحاب الميول اإلسالمية ،يقيمون ما يشبه إمارات داخل السجن ،أي خاليا دعوية وإرشادية ،فيصدرون فتاوى وأحكاما ً تتعلق بسلوك السجناء ،كأنھم امراء ودعاة في “مجتمع” إسالمي خاص بھم .وقد ساعدھم في ذلك ما قاموا به من أعمال تمرد وعصيان متعاقبة ،أرغمت إدارة السجن األمنية على تركھم وشأنھم وتالفي التدخل في شؤونھم .حتى ان بعض الروايات والشھادات يفيد بأن السجناء اإلسالميين صارت لھم كلمتھم في اختيار ضباط األمن الذين يشرفون على إدارة السجن. ولإلنتماءات والوالءات الطائفية نصيب وافر في تعاطف عناصر القوى األمنية مع السجناء وغض النظر عن أفعالھم وعما يصل إليھم من الخارج .ويبلغ التعاطف وغض النظر ح ّد تواطىء بعض رجال األمن مع اإلسالميين لقاء رشاوى ،مما يتيح للسجناء الحصول على ما يحتاجون إليه من أجھزة اتصال ،إلى آالت ووسائل يستعملونھا من عمليات الفرار .وحين أقيمت في “ساحة النور” )عبد الحميد كرامي سابقا ً( الطرابلسية خيمة إعتصم فيھا إسالميون قبل حوالى سنة ،من أجل تسريع محاكمة الموقوفين اإلسالميين ،كان التواصل الھاتفي يوميا ً ما بين المعتصمين وأحد مشايخ “فتح اإلسالم” في السجن ،فيتلقى المعتصمون منه إرشادات تتعلق بتصعيد اإلحتجاج والتظاھر ،ويطلعونه على ما يجري ويحدث في ساحة اإلعتصام.
في حال جمع ھذه الوقائع ،مع التسيب واإلھمال وسوء الخدمات في سجن رومية، يمكن القول إن ذلك السجن ليس أقل من قنبلة موقوتة قابلة إلنفجارات متتالية في ظروف ومواقيت ،يختارھا السجناء بالتنسيق مع أھلھم وجماعاتھم خارج السجن الذي تشبه اإلقامة فيه اإلقامة في الجحيم .فالقوانين واألنظمة المتعلقة بإدارة السجون وتصنيف السجناء غائبة تماما ً في لبنان ،على ما أشار عمر نشابه في كتابه “سجن روميه إن حكى”. والغياب يشمل تصنيف السجناء وفقا ً لجرائمھم وسجلھم اإلجتماعي والنفسي ،ويشمل كذلك برامج تأھيل وعناية تضمن إنزالق السجناء إلى العنف والشذوذ والجريمة داخل السجن .فقوى االمن الداخلي المولجة بادارة السجون في لبنان غير مؤھلة اصالً لھذه المھمة .والضباط المشرفون على االدارة ال يتلقون تدريبا ً مھنيا ً متخصصا ً للتعامل مع السجناء .فالقانون الصادر العام ١٩٦٤عھد إلى قوى االمن الداخلي ادارة السجون موقتاً ،واقترح انشاء مديرية خاصة لھذه الغاية ،على ان تخضع الدارة وزارة العدل .لكن ھذه المديرية ال تزال حبراً على ورق حتى الساعة .ومنذ افتتاحه في مطلع السبعينات ،ال تزال تجھيزات سجن رومية على حالھا من دون تجديد وال صيانة .ثم ان السلطات اللبنانية ال تولي اھتماما ً للحد االدنى من حقوق االنسان والمعايير الدولية في ادارة السجون.
الحلول المؤجلة المدير العام لقوى األمن الداخلي اللواء اشرف ريفي اشار بعد تمرد السجناء في مطلع نيسان ،٢٠١١إلى ان عددھم في روميه يبلغ ٣٧٠٠سجين ،وكاد تمردھم ان يصل إلى حد سيطرتھم على السجن .وقسم ريفي السجناء إلى “فئات ثالث متنافرة” تقوم بينھا عالقات قابلة النفجار عنيف قد يؤدي إلى “مذابح” .الفئة االولى ھي “المجموعة الجنائية” التي تشمل الموقوفين بجرائم قتل وسرقة وتعاطي مخدرات واإلتجار بھا .الفئتان االخريان تجتمعان تحت عنوان “ذوي الخصوصية االمنية”. االولى تضم عناصر “فتح االسالم” وسواھم من االسالميين ،والثانية تضم الموقوفين والمحكومين في جرائم التعامل مع العدو االسرائيلي .وتستفحل بين ھاتين الفئتين عداوات قابلة لالنفجار في اي لحظة .عدم وجود سجون خاصة ح ّتم وضع ھذه الفئات المتنافرة في سجن واحد ،بعد عزل كل فئة عن االخرى .لكن عمليات التمرد أدت إلى ازالة معظم األبواب الفاصلة بين ھذه الفئات ،من دون ان يعاد اصالح االبواب. في ٢٧آب ٢٠١٠وجه ريفي كتابا إلى مجلس الوزراء يحذر فيه من احتمال “انفجار” كبير في سجن رومية .استند الكتاب إلى تقرير اشار إلى الخطر المتفاقم
الناجم عن عدم احالة ٢٨٠موقوفا اسالميا إلى المحاكمة ،وعن عدم توزيعھم وعزلھم ،ما دامت التوجھات إياھا تجمع بينھم وتشكل خطراً عليھم وعلى سواھم من السجناء .واعترف االمنيون ،وفقا ً للتقرير ،بأن الفساد اصاب الجسم االمني في السجن ،مما سھل حصول السجناء على الھواتف الخليوية والحبوب المخدرة، وغيرھا من االدوات التي تم ّكنھم من الفرار .والمراقبة االلكترونية وسواھا من التجھيزات االمنية معدومة في سجن رومية ،وما استقدم منھا تبين أنه غير صالح للعمل .واذا اضيف إلى ھذا كله ان حوالى ٥آالف سجين محشورون في سجن ال يتسع ألكثر من الفين ،نعلم بماذا تنذر حال االھمال والتسيب القائمة في ھذا السجن. ومما اقترحه تقرير ريفي لحل ھذه المعضلة: استعجال القضاء في بت ملفات الموقوفين.ايجاد حل جذري لترحيل االجانب المنتھية محكومياتھم.االسراع في عملية الحاق ادارة السجون بوزارة العدل.العمل على ايجاد سجن خاص للموقوفين من ذوي الحاالت األمنية الخاصة.*********************
-------------------
الفولكلور اللبناني والتأريخ الغائب )(٦
الناطور من أشخاص الحنين في األغاني اللبنانية وفي لوحات المسرح الغنائي االستعراضي اللبناني في الربع الثالث من القرن العشرين .ھو في صور الحنين الفولكلوري تلك ،شخص مرسوم بألوان مائية رقيقة زاھية ،وجوّ اب دروب وبساتين وحقول ومزارع و”حفافي” أقنية ري .في خيمة “المنطرة” يُمضي ناطور األغاني واللوحات الفولكلورية أوقاتا ً من نھاراته ولياليه وحيداً أو مع رجل “برّ ي” مثله من الرعاة أو الم ّكارين العابرين .ضوء فانوس شحيح أو ظالل من ضوء القمر والنجوم البعيدة ،تنير الخيمة في عتمة األوقات الليلية. لكن الناطور في المرويات العامّية غيره في ھذه الصور واللوحات .من ھذه المرويات في قرى الساحل يطلع النواطير رجاالً اش ّداء ،غالبا ً ما يبدأون عملھم وافدين أو طارئين على دوائر االجتماع القروي ،فيؤھلھم دورھم وعملھم “البرّيان” وإقامتھم على تخوم تلك الدوائر ،لالنتقال الى أعمال وأدوار اخرى في خض ّم تغير نمط العيش والعالقات االجتماعية.
حماة السقي والنواطير في مرويات خليل الفغالي وميشال االبيض يستمد النواطير حضورھم من الوظيفة الحيوية التي يو ّكلھم بھا األھالي في نمط حياتھم القروية الزراعية :حماية البساتين، االشراف على توزيع مياه الري من االقنية ،ومراقبة تدفقھا وجريانھا فيھا، ووصولھا ،في مواقيت معينة الى اراضي السقي ،من سفوح الجبل )الحازمية، الحدت ،وكفرشيما( .كان عمل النواطير يتطلب نوعا ً من الرجال االش ّداء في مجتمع
كانت القوة العضلية او البدنية من اعمدة اعماله ومھنه وقيمه وعالقاته العاميّة. ال يخفى تأثير شخصية الناطور ودوره وحضوره في مجتمعه الزراعي وقيمه ،على نشأة الفغالي وميوله منذ طفولته التي ارتسم فيھا الناطور مثاالً له ولسواه من امثاله. فإبن عم والده ،المدعو مسعود ،والمولود عام ١٨٨٨في المريجة ،كان من ف ّتوات مرفأ بيروت منذ عشايا الحرب العالمية األولى حتى نھاية الحرب العالمية الثانية، قبل تعيينه ناطوراً على بساتين السقي في المريجة وتحويطة الغدير ،وصوالً إلى كروم الزيتون في صحراء الشويفات ،فانجذب الفغالي الفتى الى شخصية قريبه ودروه ،وحكاياته ورحالته :شاربان مفتوالن ،على خصره مسدس وخنجر وجناد من الخرطوش ،وبندقية صيد معلقة بكتفه .اثناء رحالتھما معا ً في الحقول والبساتين ،افتتن الفتى بحكايات الناطور القديمة ،ايام كان يھرّب في قاربه الصغير مھاجري جبل لبنان من المرفأ الى البواخر في عتمات الليل ،كما يھرّب اسلحة المھاجرين العائدين من أميركا الى لبنان. تبدو ھذه الصور كأنھا مستلة من فيلمي األخوين رحباني “سفر برلك” و”نجمة بنت الحارس” .لكن الالفت فيھا ھو خبر الفغالي عن اكتساب قريبه مسعود دور الف ّتوة خارج ضيعته المنقطع عنھا طوال عمله في المرفأ .ھذه الواقعة تتكرر ايضا ً في مرويات ميشال األبيض :بنية النواطير البدنية القوية التي تم ّكنھم من القيام بعملھم “البرّي” ،تصدر عن ميل فطري وعن عامل آخر اجتماعي :نشأة ھؤالء الرجال وإقامتھم خارج دوائر االجتماع ،وعلى تخومه ،كأنھم من الط ّفار أو الطيّاح التائھين في المرويات الشعبية اللبنانية في عشايا الحرب العالمية األولى وغداتھا .ھنا ايضا ً يحضر ما رواه منصور الرحباني من سيرة والده العائد من مصر وتيھه طيّاحاً ،قبل إنشائه مقھى على فوار انطلياس ،واستقراره في الضيعة الساحلية. في وجه من وجوھھا ،تشير ھذه المرويات والصور المتكررة في الفنون الفولكلورية ،الى أن النواطير وأصحاب المقاھي والخمّارات فيھا ،غالبا ً ما يشرعون في أعمالھم ھذه بعد عودتھم من رحالت تشرد وفرار ،لالقامة واالستقرار والتوطن ،أو بعد ھجرتھم لالقامة في موطن جديد ،لكن على تخوم دوائر السكن في مجتمع محلي اخذ ينحو نحو االستقرار ،وتنشأ فيه أعمال وأدوار جديدة ومتجددة، بعيد الحرب العالمية االولى .ھذا ما تنقل صور ًة عنه ومثاالً له السيرة العائلية آلل األبيض التي توطنت في السقي على تخوم دوائر السكن في حارة حريك. روى ميشال األبيض ان والده الياس ،المولود مطلع القرن العشرين في فالوغا بأعالي المتن ،اصطحبه من موطنه األول ھذا ،رجل من آل الدكاش )كبرى عائالت حارة كريك وأقدمھا توطنا ً فيھا( كان يصطاف وعائلته في فالوغا ،وش ّغله في
كرخانة للحرير في الحارة بعيد الحرب األولى .بعد مدة قصيرة اشترى عامل الكرخانة الشاب “عودة” )قطعة ارض صغيرة ،يكني اسمھا عن عودة من مھجر لالستقرار في موطن( على طرف بساتين سقي الحارة الشرقي الخالي من السكن، فأنشأ فيھا كوخاً ،واخذ يزرع العودة ،ثم سرعان ما استقدم زوجته وبكر اطفاله من فالوغا إلقامة زراعية دائمة في السقي ،حيث أنجب سبعة اوالد ،منھم الراوي المولود عام .١٩٣٠ في االثناء كان الياس األبيض قد استقدم ايضا ً الى موطنه الجديد إخوته الثالثة مع ابنائھم الذين تزايد عددھم ،فصار لكل من االخوة الثالثة ما بين خمسة أوالد وسبعة. ھكذا نشأت “ديرة” زراعية عائلية مع توسيع أمالك آل األبيض ،بعيداً من دوائر السكن في الحارة“ :على باب البوغاز )الخالء الذي تعبره الرياح قوية باردة في الشتاء( حيث ساعدتنا كثرتنا – قال الراوي – على التصدي للغرباء ،برغم كوننا أصغر عائلة في الحارة”. الغرباء ھؤالء ،ھم طالئع عشيرة آل المقداد النازلين من جرود جبيل ،الى الطرفين الشماليين لكل من برج البراجنة )الشيعية( وحارة حريك )المسيحية( ،في مطالع العشرينات من القرن العشرين ،وفقا ً لرواية رستم المقداد المولود في حي آل المقداد العشائري لجھة الحارة في العام .١٩٤٤ميشال األبيض الذي أبى ان يذكر من ھم “الغرباء” ،اكتفى بالقول انھم من “خارج” الحارة ،وكانت تحصل “بيننا وبينھم مناوشات” ،مشدداً على موقع اقامة عائلته الموسعة في “الخالء على الحدود ما بين الحارة والرويس وبرج البراجنة .وھذا ما ن َّشأنا – أضاف – على أدوار التصدي والمنازلة التي تتطلب الشدة والسطوة والبأس”. راوي آل المقداد ش ّدد على ذلك ايضا ً“ :كان رجال آل األبيض ّ بطاشين ال يرحمون” ،قال رستم ،من دون ان يتك ّتم عن انه كان من المعدن نفسه“ :شيخ شباب” عشائري في الحي العشائري على طرف حارة حريك ،غير بعيد من “ديرة” آل األبيض العائلية التي سميت حي األبيض في مواجھة حي المقداد. لم يقل راوي آل األبيض ان الدور الذي تص ّدت له عائلته ونشأت عليه ،ذوداً عن حارة حريك المسيحية ،ولحيازة االنتساب اليھا والتأصل فيھا ،شبيه بأدوار الحاميات العسكرية في الثغور التي يتكرر حضورھا في التراث العربي االسالمي ،ومنھا التراث العثماني المتأخر زمناً ،والذي كانت ظالله ال تزال ماثلة في االجتماع اللبناني.
الدور ھذا جعل آل األبيض أصحاب “صوالت وجوالت” في موطنھم الجديد ،أو “ديرتھم” – الحامية التي استمدت إسمھا من كنيتھم العائلية .الدور العائلي نفسه ھو الذي أھّل ع ّم الراوي ،حليم ،بكر إخوته الوافد من فالوغا ،ليعيّن ناطوراً على بساتين الحارة وأقنية مياه الري فيھا ،ألنه كان “صاحب أدوار ومراجل وقبضنة”، تعضدھا شكيمة رجال العائلة الموسعة وشبّانھا في السقي ،على تخوم المجتمع الذي وفدوا اليه ،وأقاموا نواة سكنية خارج مركزه السكني األقدم عھداً ،ودافعوا عنه، وعملوا في مھن تتطلب جھداً عضليا ً أكسبھم قوة وبأسا ً أقرب الى فطرة الطبيعة. والد الراوي ،بعد انھيار االعمال الزراعية والصناعية المتصلة بالحرير ،عمل “مو ّرق بناء” :تطيين جدران البيوت والمباني وسقوفھا باالسمنت .ھذه مھنة ،الى سواھا من أعمال البناء ،كالطرش والدھان ،راجت وانتشرت بين أبناء الفئات العامية في حارة حريك والمريجة ،وعمل فيھا اثنان من إخوة الياس األبيض وأوالدھما ،فصاروا من ملتزمي أعمال “التوريق” في المباني الجديدة ،الى جانب الزراعة وتربية األبقار وبيع حليبھا. بعدما كانت والدة الراوي تنقل على رأسھا الخضر في مواسمھا لبيعھا في سوق بيروت للخضر – مروراً بقصقص على حدود المدينة ،حيث كان يدفع الباعة “دخولية” ليُسمح لھم باجتياز الحدود – صار والده صاحب مزرعة أبقار )– ٤٠ ٥٠رأسا ً( من كبريات مزارع الحارة.
قبضايات مافيا محلية في مطلع األربعينات كان الراوي ميشال األبيض ال يزال في العاشرة من عمره، عندما أخذ عمّه الناطور يتعاطى تجارة السالح في بطانة رجل يدعى إميل الخوري، وحمايته .في مخيلة الراوي تبدو صورة الخوري أقرب الى نوع من رجال مافيا
محليين ،يكثر حضورھم في مرويات الفغالي المشغوف برواية أخبارھم .وھي أخبار تكشف عن نشوء ھذا النوع الجديد من الرجال في أدوارھم وشبكات عالقاتھم على مسرح الحياة العامة المحلية وفي كواليسه في قرى الساحل وأحياء بيروت. تحوي ھذه الشبكات رجاالً – وسطاء متنوّ عي األدوار ،أبرزھم من يسمّيھم الكالم اللبناني الدارج“ :المفاتيح االنتخابية” و”قبضايات األحياء” .ظھر ھؤالء الوسطاء في سياق تحوّ ل ھجين في بنية العالقات االجتماعية – السياسية مع قيام دولة لبنان الكبير ،وبلغ ذروته في العشايا والبدايات الستقالل لبنان عن االنتداب الفرنسي الذي ترك إدارة الحياة السياسية وتسيير دفة الحكم واالدارة العامة في الدولة الناشئة، ألقطاب الجماعات اللبنانية وزعمائھا السياسيين. بعد تفلتھم من قبضة المندوب السامي واالدارة الفرنسيين ،أخذ ھؤالء األقطاب والزعماء من دھاقنة السياسة األھلية يتنافسون ويختصمون على بناء عصبيات وشبكات أھلية وشعبية في النسيج االجتماعي للجماعات والمناطق ،لتكون – وفقا ً لسيرة الفغالي االجتماعية ومروياته – ركيزة زعاماتھم ومعاركھم وأحالفھم في االنتخابات النيابية. لعب األدوار األبرز في ھذه الشبكات والعصبيات :أقطاب العائالت ووجھاؤھا وأعيانھا المحليون ،المخاتير وأعضاء المجالس البلدية ،الموظفون اإلداريون، الفتوات و”مشايخ الشباب” والقبضايات في القرى والبلدات وأحياء المدن ،العاملون َّ في مھن النقل ومواقف السيارات .وفي ظل ضعف المنظمات والھيئات الحزبية المستقلة عن النسيج األھلي العصبي ،استعمل دھاقنة السياسة تلك الشبكات المتنوعة ً خدمة جسوراً لتجييش األھالي ،وفي إثارة ھياجھم في األحياء والشوارع ،وتھدئتھم لحاجاتھم ونفوذھم. كان ھنري فرعون وحبيب أبو شھال ورياض الصلح وسواھم ،من أقطاب ھذه المنافسات والمعارك ،فيما كانت قرى الساحل منقسمة معسكرين في والئھا االنتخابي :كتلوي ودستوري .األغلب أن فرعون كان صاحب النفوذ األوسع في تكوّ ن تلك الشبكات ،بسبب شبكة مصالحه وأعماله الواسعة ،والسيما قوة نفوذه في أعمال ميدان سباق الخيل وبين ُمالَّك الخيول ،ناھيك بقدرته المالية الكبيرة وتمويله المعارك االنتخابية للكتلة الدستورية. آل األبيض وإميل الخوري في حارة حريك من محازبي ھذه الكتلة .روى ميشال األبيض أن الخوري كان يستيقظ من نومه في الحادية عشرة ظھراً ،فيجد في صالون بيته جمعا ً من الناس ينتظرون خروجه من غرفة النوم “مط ّقما ً” :يرتدي بذلة
إفرنجية وربطة عنق ،ويعتمر طربوشه المائل .طلبا ً ألنواع شتى من الخدمات ،يأتي ھؤالء المنتظرون الى بيته ،تقودھم اعتبارات وعوامل متنوعة متداخلة :عضويته أو عضوية أخيه في مجلس حارة حريك البلدي ،نفوذه وسطوته وصيته بين أھاليھا، حظوته لدى أقطاب وزعماء سياسيين في الحكم يؤمّنون له شبكة عالقات بكبار الموظفين في االدارة العامة ومتوسطي مراتبھا ،وبالجھاز القضائي وبضباط في قوى األمن والجيش. رجال من ھذا النوع غالبا ً ما ال ُتعرف لھم مھنة وعمل علنيان محددان ،سوى الظھور المتدرج على مسرح الحياة العامة المحلية الذي تختفي دائما ً في كواليسه شبكة عالقات رمادية ومتشعبة ،بدونھا ال قيامة لذلك المسرح وأدواره العلنية ،وال قيامة لما يسمّى في لبنان عالقات وحياة سياسية قوامھا الخطوة والوالء واالستزالم والمحسوبية والشقاق واألحالف العائلية واألھلية. رجل مثل إميل الخوري الذي ال تغيب أخباره عن مرويات قدامى الح ّكائين العاميين في قرى الساحل ،كان صاحب دور فاعل على ذلك المسرح الرمادي وفي كواليسه، وصوالً الى بيروت وبلدات االصطياف كعاليه وبحمدون ،ما بين االربعينات والخمسينات. دوره ذاك ھو نسخة جديدة ومتطورة لدور آل األبيض وناطورھم كـ”حامية” محلية على تخوم حارة حريك أيام كانت ظالل الزمن العثماني وتقسيماته السلطانية االدارية )متصرفية جبل لبنان ،والية بيروت( ال تزال ماثلة في العالقة ما بين الجماعات اللبنانية ،وفي عالقاتھا الداخلية .وما انضمام الناطور األبيض الى حاشية الخوري وبطانته ،اال مرآة لسطوع نجم األخير كشخصية شبه مافيوية يشير اليھا مشھد حضوره في صالون بيته. ھذا ما يؤكده الراوية الفغالي بقوله :اميل الخوري “فرخ قبضاي” ظھر في حارة حريك في بدايات عھد االستقالل ،وكان ھنري فرعون وليّه وحاميه ،وراعي شبكة عالقاته ونفوذه في االدارة العامة لقاء تجيير الخوري حظوته وسطوته المحليتين لصالح القطب النيابي الكاثوليكي االبرز ،والذي به كان “شيخ الشباب” المافيوي الطابع في الحارة ،يستقوي ويتجرأ على اطالق النار من مسدسه في الھواء ترويعاً، أو مصيبا ً خصومه عندما تدعوه الحاجة والظروف. في المقابل كان وليّ أمر الرجل المافيوي ،يتكفل تخليصه من تبعات افعاله ،ويمده بأسباب الحظوة التي تم ّكنه من تلبية طالبي خدماته في صالون بيته :تصريف معامالتھم في االدارة العامة ،تخليصھم من احكام قضائية ،مساعدتھم في ارتكاب
مخالفات والتملص من القوانين ،السعي في حيازة ابنائھم وظائف حكومية kالى آخر قائمة ھذه األعمال واالدوار الرمادية التي غالبا ً ما تسيّر شؤون االدارة العامة اللبنانية ومعامالتھا الصغيرة منھا والكبيرة.
رحلة في منسيات “المكشوف” )(٧
لم أعثر على نسخ ورقية من أعداد “المكشوف” االسبوعية اللبنانية التي كانت تصدر في بيروت ما بين ١٩٣٥و ،١٩٤٩واشتھرت كجريدة أدبية رائدة لمؤسسھا وصاحبھا فؤاد حبيش ) (١٩٧٣ – ١٩٠٤بصفته “رئيس التحرير المسؤول” ،الى جانب التعريف بھا “جريدة أدب وفن وسياسة” ،على ما يتصدر غلف أعدادھا كلھا التي أمضيت بضعة نھارات أتصفح الكثير منھا على شاشة “ميكروفيلم” في مكتبة الجامعة االميركية في بيروت. من دون خطة مسبقة وبال نظام ،دوّ نت أثناء تصفحي وقراءتي المتقطعة ،طائفة مشتتة من عناوين أبواب ومقاالت ومقتطفات منھا ،وأسماء كتاب وشعراء وصحافيين ،ومالحظات وتعليقات وخواطر .ھي رغبة تقصي تراث الصحافة والحركة األدبيةً ، لغة وموضوعا ٍ ت وأعالماً ،ما قادني الى “المكشوف” التي لم أكن أعلم عنھا سوى أنھا كانت رائدة في صناعة الصحافة األدبية في لبنان طوال ١٥ سنة .ألوف من الصفحات والمقاالت ،مئات من االسماء والعناوين ،تواترت تباعا ً وسريعا ً أمام ناظريّ على شاشة جھاز “الميكروفيلم” ،فأصابني ما يشبه الدوار والضياع.
بعض الصفحات والموضوعات واالسماء م ّر بصري سريعا ً عليھا ،وبعضھا اآلخر استوقفني مطوّ الً ،فقرأت ھذا المقال أو ذاك ،ودوّ نت مالحظاتي آمالً في استعمالھا للتعريف بالمجلة القديمة .لكنني في الحالتين ،غرقت ھائما ً مأخوذاً بتلك اللذة الغريبة أثناء رحلتي على بساط ريح ،نسيجه الكلمات واالسماء المنبثقة من فجوة في الزمن، والمنداحة سريعا ً أو بطيئا ً أمام عينيّ ،مبعثرة كقطع بازل طالعة من ذلك الماضي البعيد اآلفل والمنقطع ،الذي تبعث محاولة تأليف صوره وعناوينه واتجاھاته، ّ المعذبة تشبه اختبار توليد زمن وحوادث وشخصيات وتأويلھا ،ضربا ً من المتعة وسياقات روائية. ھذه الحال الزمت قراءتي مدوّ نات الرحلة بعد الفراغ منھا ،للعثور على خيوط تمكنني من تنظيم قطع البازل المتناثرة التي جمعتھا من المتاھة ،علّھا تفضي الى رواية استقصائية وصفية لمالمح جزئية من تاريخ حقبة من الحياة الصحافية واألدبية المنصرمة في لبنان.
التاريخ المجھض في البداية ال بد من مالحظة أولى يخلص اليھا متصفح الدوريات القديمة كـ”المكشوف” وسواھا :تقنيات التوثيق واألرشفة ،وجمع المطبوعات والكتب وتنظيمھا وتبويبھا واستعمالھا في مكتبات الجامعات غير الحكومية ،متقدمة بأشواط على برامج التدريس والبحث وأساليبھما في مجاالت العلوم االنسانية في ھذه الجامعات.
أما استبعاد الجامعة اللبنانية من ھذه المقارنة ،فھو من تحصيل الحاصل ،وال يبعث على غير التذكير بالحال المزرية التي انحدرت اليھا ھذه الجامعة منذ بدايات الحرب ).(١٩٩٠ – ١٩٧٥ والحال ھذه تطاول أساليب التدريس والبحث واالدارة واختيار المدرّ سين ،وتبلغ ذروتھا في مجاالت التوثيق واألرشفة وجمع الكتب والمطبوعات وتنظيم المكتبات التي أُھملت محتوياتھا وبليت وغزاھا التلف والغبار من دون أن ُتستعمل في حال توافرھا في كليات الجامعة اللبنانية وفروعھا المتناسلة. “المكشوف” التي صانتھا تقنيات “الميكروفيلم” في مكتبة الجامعة االميركية ،بليت صفحاتھا الورقية واھترأت ،من دون أن تحظى بدراسة تعرّ ف بھا وتضعھا في سياق ال يزال مفقوداً للحياة الصحافية والثقافية التي لم يؤرخ بعد ألشكالھا الكتابية وموضوعاتھا وأعالمھا. أما مشروع إعادة طباعة منتخبات من أعداد “المكشوف” ،فقد أجھض قبل حوالى ١٠سنين من دون أن يبصر النور ،فذھب سدىً ،جھد االختيار والتبويب والطباعة األولية الذي أنجزه الشاعر أنسي الحاج ،ومات المشروع جنينا ً من دون أن يرثيه أحد ،في وقت درج صحافيون وك ّتاب وشعراء على رثاء مظاھر الحياة الثقافية وأماكنھا الراحلة ،والسيما المقاھي التي أُقفلت في شارع الحمراء. جاءت تلك المراثي شبيھة بالبكاء على االطالل في إطار ما يعتبره كثيرون أفول حقبة ثقافية بيروتية ولبنانية زاھية ،ھي ستينات القرن العشرين والنصف االول من سبعيناته التي رُفعت أعالمھا ورفعت نشاطاتھا وأماكنھا أنصابا ً للحنين والتبجيل، بدل التأريخ لھا ولھم وألدوارھم. لذا ظلت الصحافة والحركات األدبية وتياراتھا وأنواع الفنون المختلفة ،بال تأريخ ُكتبت منه شذرات ضئيلة مشتتة. ھذا ما يجعل تصفح “المكشوف” وتدوين مالحظات وانطباعات وخواطر حول مادتھا ،محاولة ال تتجاوز وضع إشارات وعالمات متباعدة مختنقة الضوء في ضباب تاريخ غائب وفي محاق عتمته .فالحساسية التاريخية ضعيفة في ثقافتنا العربية التي غالبا ً ما تعوّ ض عن ذلك الضعف باإلنشاء الخطابي واللفظي الممتلئ بفراغ اللغة من مادتھا الحيّة ومن الوقائع المتدافعة ،بدل أن تنجبل الكتابة ولغاتھا بمادة العيش والعالم المولّدة للروايات التاريخية.
المن ّ شط الثقافي :فاعلية الحضور الخفي لم ُتكتب لمؤسس “المكشوف” ،فؤاد حبيش ،وال لسواه من المؤسسين في الحياة الثقافية اللبنانية المعاصرة ،من أمثال ميشال أسمر ) ،(١٩٨٥ – ١٩١٤مؤسس “الندوة اللبنانية” ) ،(١٩٧٥ – ١٩٤٦سير تأريخية .فالرجالن يتميزان ويتشابھان في أن حضورھما الفاعل في الحركة الصحافية واألدبية والفكرية ،اختفى خلف نشاط المؤسسة التي أنشأھا ك ٌّل منھما ،والتصق بھا اسمه وحضوره حتى الذوبان واالمحاء .والحق أن ھذا النوع من الحضور – االختفاء ،أو الحضور الخفي، يختلف عن حضور االعالم – النجوم في أن كالً منھما لم تصدر شھرته عن إنتاجه الشخصي في مجال الصحافة واألدب والثقافة ،بل عن فاعلية مؤسسته ،وج َّدتھا وريادتھا ،بعد مبادرته الشخصية الى إنشائھا وإدارتھا بنفسه. قوة حضور مؤسستيھما وتأثيرھما في المجال العام ،أديا في حالة حبيش وأسمر الى صناعة اسم وشھرة لك ٍّل منھما ،مست َم َّدين من جھدھما ونشاطھما في استقطاب طاقات وأسماء أدبية وثقافية بارزة ،وفي إنشاء جسور للتفاعل بين ھذه الطاقات، وبينھا وبين جمھور واسع في الحياة العامة .لقد ذاب الرجالن واختفيا في عمل توليفي وتأطيري مر ّكب ،وحضرا في نسيجه ومفاصله كمح ّفزين ومن ّ شطين ،كأنھما جنديان مجھوالن ومعلومان في وقت واحد. مثل كل فكرة جديدة ومبادرة الى تجريبھا وتحقيقھا ،لم يكن مشروع ك ٌّل منھما واضح المعالم واألفق في بداياته .تجربتھما في العمل الصحافي والثقافي المزدھر والناشط في ثالثينات القرن العشرين ،كانت دليلھما الى توافر قابليات يمكن جذبھا الى مشروع جديد ،ما كان له أن يقوم وينطلق إال بمشاركة وجھود جماعية ،شغل
الرجالن دورين محوريين فيھا ،وكان استقطابھا في أصل مشروعيھما وفصليھما. وما إن نجح المشروعان وارتسم لھما أفق في الحياة الصحافية واألدبية والثقافية، حتى انعطفت حياة ك ٍّل منھما ونشاطه ومساره ومصيره انعطافا ً جديداً حاسماً، أخرجه من الظل واإلغفال الى الضوء والعلن في زمنه ،وبعد رحيله الى عالم الغيب. حين يقال “المكشوف” يحضر فوراً اسم فؤاد حبيش قبل كل اسم آخر من المساھمين في صناعة شھرتھا بعد استقطابھا نخبة واسعة من الكتاب والشعراء والصحافيين أمثال الياس أبو شبكة ورئيف خوري وعمر فاخوري ومارون عبود وسعيد عقل وتوفيق يوسف عواد وخليل تقي الدين وفؤاد أفرام البستاني وسواه من البساتنة، وكامل مروة ولويس الحاج وفؤاد حداد )أبو الحن( .ھؤالء وغيرھم كثر ،كان لھم حضورھم الدائم والمتقطع في “المكشوف” ،وساھموا في نھضتھا كما ساھمت ھي في شھرتھم طوال ١٥سنة. وال يمكن أن يقال “الندوة اللبنانية” من دون الحضور الفوري إلسم ميشال أسمر، قبل غابة من أسماء المثقفين والمفكرين والسياسيين الذين وقفوا على منبر “الندوة” محاضرين. دور ك ٍّل من حبيش وأسمر ونشاطه التأطيري ،وليدا خبرة وممارسة وعالقات وميول ثقافية سابقة في حياة الرجلين على إنشاء ك ٍّل منھما إطاراً منظما ً لنشاطات يشارك فيھا سواه من أمثاله .إنھما دور وإطار يشيران الى ما يسمّى “المن ّ شط/ المنسّق الثقافي” الذي ينصبُّ عمله على توظيف رؤيته وجھده وعالقاته في إقامة جسور وفضاءات للتعارف والتبادل والتفاعل والتثاقف ما بين ناشطين وفاعلين في ميادين الثقافة واالفكار واألدب والسياسة والصحافة. ھذه األطر والجسور ،أكانت مؤسسة أم منبر ًا أم صحيفة أم مجلة أم حلقة في مقھى ،ھي ما يسمّيھا المفكر االلماني يورغين ھابرماس “دوائر العالنية العامة” في كتاب له بھذا االسم ،معتبراً أن ال قيامة للمجتمع المديني ،المدني الديموقراطي ،من دون وجود ھذه الدوائر وتوسعھا ،وتكاثر روادھا وسجاالتھم ،وتع ّدد آرائھم وتفاعلھا .في قلب ھذه الدوائر المتناسلة ،المتقاطعة وغير الثابتة والزئبقية ،يولد ّ المؤطر أو المنسّق أو المن ّ شط ،ودوره كقطب يعمل على تشبيك مبادرات وعالقات ومراكمتھا وإطالقھا. ھذا ما باشره وبادر اليه فؤاد حبيش بعد سنة واحدة على إصداره “المكشوف” في العام .١٩٣٥وھذه حال ميشال أسمر حين تأسيسه “الندوة اللبنانية” بعد حوالى ١٠
سنين .لكن الدور الذي تصدى له ك ٌّل منھما لم يولد فجأة وال من فراغ ،بل سبقته خبرات وتجارب مھّدت له في حياة الرجلين الشخصية والمھنية والثقافية ،وفي التجربة التاريخية العامة التي تتجاوز حياتھما الى البيئة االجتماعية التي صدرا عنھا ونشأا فيھا وتفاعال في إطارھا الزمني )حقبة ما بين الحربين العالميتين( واالجتماعي )جبل لبنان وبيروت( والمھني )الصحافة ومنتدياتھا وحلقاتھا األدبية(. في ھاتين الحقبة والبيئة ،تكونت العوامل والخبرات والتجارب التي أدت ،على نحو بطيء ،الى نشوء دوائر العالنية العامة اللبنانية ،الثقافية والسياسية ،فنمت في ھذه الدوائر أشكال تعبير ومھن وأنماط تفكير وتذوق وتواصل وشبكات عالقات جديدة، نجمت كلھا عن تحوالت مديدة في جبل لبنان وبيروت ،اللذين قامت بينھما ،منذ أواسط القرن التاسع عشر ،جسور تواصل وتفاعل مھّدت لتكوّ ن النواة االجتماعية والسياسية والثقافية واالقتصادية لدولة لبنان الكبير الوليدة في العام .١٩٢٠ بدأت تلك الجسور والدوائر تنشأ وتنمو في إطار ما سمِّي التحديث أو االصالح العثماني ،وتزامن نموّ ھا مع منح السلطان العثماني امتيازات واسعة لقناصل الدول األوروبية وت ّجارھا وبعثاتھا التبشيرية والتعليمية وجالياتھا في واليات األمبراطورية طوال تفككھا المديد .وھذا ما أدى الى والدة نوع جديد وغير مسبوق من الحراك االجتماعي والحريات العامة. ولعل توسع قاعدة التعليم االرسالي األوروبي واالميركي ،ونشوء الصحف وتكاثرھا الى جانب المنتديات والجمعيات على اختالفھا ،ھي العالمات األبرز على ذلك الحراك وتلك الحريات في ك ٍّل من مجتمع جبل لبنان وبيروت التي توسعت عمرانيا ً وخرجت من أسوارھا القديمة ،وتكاثرت مدارسھا االرسالية ،ونشأت فيھا جامعتان سرعان ما صارتا ،بعد قيام دولة لبنان الكبير ،األھم في الشرق االوسط.
الضابط اليتيم في ح ّمى الصحافة واألدب
يحتاج انشاء سيرة تأريخية لفؤاد حبيش بوصفه من ّ شطا ً صحافيا ً وأدبياً ،ولدوره واثره في الحركة الصحافية واألدبية ،الى عمل تراكمي واسع ،بطيء ومتنوع المصادر ،يفوق ما يحتاج اليه انشاء سير ألعالم األدب والصحافة ونجومھما المكرسين مع إنتاجھم انصابا ً في الذاكرة الجماعية العامة. يقوم ھذا العمل على تقصي المعلومات واألخبار ،جمعھا وتنسيقھا ،تأويلھا واستدخال عناصرھا وخيوطھا في نسيج متنوع االلوان والسياقات .وھذا ال توفره اال مخيلة تأريخية تعتمد التأليف والتوليف والتركيب اسلوبا ً يقترب من الفن الروائي الذي يخالف اسلوب السرد الميكانيكي الحدثي المتسلسل والشائع تكراراً في المصادر المدرسية واالكاديمية .فھذه غالبا ً ما تحوّ ل التأريخ سلسلة من االخبار الجامدة عن الحوادث والوقائع ،تبدأ بوالدة االشخاص ،وتتوقف في محطات من حياتھم ،معروفة وشائعة كالمحفوظات ،وتنتھي بموتھم. اما السيرة التأريخية لألشخاص وأدوارھم ،فدأبھا االقتراب بھم ليكونوا شخصيات روائية ،وھذا ما ال ت ّدعيه ھذه المحاولة عن فؤاد حبيش الذي ولد العام ١٩٠٤في بلدة غزير الكسروانية صادراً عن عائلة من العائالت االقطاعية ،مضى اكثر من ٥٠سنة على بدايات تصدع عالمھا مع تصدع نظام االقطاع واالمارة ،بعد انطالق الحركات العامية الفالحية في جبل لبنان اواسط القرن التاسع عشر. سبق ھذا االنطالق بروز السلك الديني الكنسي والرھباني ودوره في التنظيم والتأطير االجتماعيين في مجتمع الجبل ،فتوسعت قاعدة التعليم المحدث المتصل بذلك السلك وبالبعثات التبشيرية والتعليمية االوروبية واألميركية ،وتراجع دور ملكية االرض والعالقات والعائالت االقطاعية في مراكمة القوة والثروة والنفوذ، وجرى توظيف ذلك الدور وتلك العالقات في سياقات جديدة مدارھا االرتقاء االجتماعي والثقافي والمھني عبر التعليم والتجارة. الشذرات القليلة المتداولة من سيرة فؤاد حبيش الحدثية ،تشكل مرآة لھذين الحراك والتحول .تروي سھام ايليا ابو جودة في بحثھا الجامعي حول “الحركة االدبية في لبنان ١٨٤٥ – ١٩٣٥من خالل جريدة “المكشوف” ،الذي أع ّدته العام ١٩٩٧في الجامعة االميركية في بيروت ،ان “الشيخ اسد حبيش )والد فؤاد( كان مدير القلم التركي في متصرفية جبل لبنان .وأتقن العربية والتركية وااليطالية” ،لكنه توفى حينما لم يكن ابنه فؤاد قد تجاوز الطفولة .بعد تعلمه االولي في مدرسة “المزار” بغزير ،أُدخل في العام ١٩١٣الى مدرسة الحكمة التي أسسھا في بيروت المطران يوسف الدبس ).(١٩٠٧ – ١٨٣٣
لكن سنوات الحرب العالمية االولى سرعان ما أعادت الفتى الى مسقطه واھله، حيث تابع تعليما ً بدائيا ً في “مدرسة تحت السنديانة” .ويبدو انه عاش فتوة ،بل طفولة ،شقية في تلك السنوات ،متنقال بين غزير وجونيه مع رفاق له يلعبون القمار والبليار وطاولة الزھر. ما ان انتھت الحرب حتى استدعاه ابناء عمومته الى القاھرة ،فسافر اليھا وامضى فيھا سنتين دراسيتين في “المدرسة العلمانية الفرنسية” قبل عودته الى لبنان العام ،١٩٢٢فلم يستطع الدخول الى كلية الحقوق في جامعة القديس يوسف .كان الجيش اللبناني في بداية تأسيسه غداة قيام دولة لبنان الكبير تحت سلطة االنتداب الفرنسي، فالتحق فؤاد حبيش بالمدرسة الحربية التي انشأھا الفرنسيون في دمشق ،وتخرج منھا برتبة ضابط مترجم العام ،١٩٢٤فأمضى ١٠اشھر على رأس قسم الترجمة العسكري في حماة ،قبل عودته الى بيروت. شبكة عالقات القربى لعبت دوراً في زواجه من يمنى لحود ابنة خالته زاھدة حبيش التي يعود نسب امھا الى عائلة الدحداح .للقربى حضورھا في صلة فؤاد حبيش بفؤاد شھاب )قائد الجيش اللبناني الحقا ً( الذي تنتسب امه الى آل حبيش. العائالت ھذه ،الى كسروانيتھا ،كانت من عائالت المقاطعجية التي تعلوھا مرتبة آل شھاب االميرية ،وأدى انھيار النظام االقطاعي ومراتبه الى تشتتھا في المھاجر واالعمال المحدثة ،ومنھا الصحافة التي استھوت فؤاد حبيش في وقت نشاطھا وازدھارھا القوي الالفت في العاصمة اللبنانية الجديدة آنذاك. ففي بيروت العشرينات كانت تصدر عشرات الجرائد التي اجتمعت معظم مكاتبھا في الوسط المديني حول ساحة الشھداء وفي االسواق .تحلّق في تلك المكاتب مئات من الشبّان المتعلمين ،مأخوذين بسحر الكلمة واالدب ،وبعھد جديد للحرية في التعبير والحراك االجتماعي والسياسي ،وفي تداول الرأي في العالنية العامة .وفي تلك المكاتب وعلى صفحات الجرائد ،تجاور وتخالط ابناء العائالت من اصحاب النسب والمراتب القديمة وابناء العامة العصاميين المتعلمين الذين كانت غالبيتھم من المسيحيين.
عصبة العشرة لم يبق فؤاد حبيش ھاويا ً للصحافة ،بل ترك عمله ضابطا ً مترجما ً في المؤسسة العسكرية ،وانخرط في المھنة الجديدة الواعدة ،فحرر في ما ال يقل عن اربع جرائد ،قبل ان يلتحق بـ”المعرض” الجريدة االسبوعية االدبية ،لمؤسسيھا وصاحبيھا ميشال ابو شھال ) (١٩٦٥ – ١٨٩٨وميشال زكور ) .(١٩٣٧ – ١٨٩٣كانت “المعرض” من اھم الجرائد في بيروت النصف الثاني من العشرينات والنصف االول من الثالثينات ،وتحلق على صفحاتھا وفي مكتبھا ك ّتاب بارزون ،انشأوا في العام ١٩٣٠شلة ادبية – صحافية ناشطة عُرفت وذاعت صيتھا باسم “عصبة العشرة” التي تألفت نواتھا من أربعة :ميشال ابو شھال ،الياس ابو شبكة ،خليل تقي الدين ،ولولبھم الصحافي فؤاد حبيش .احيانا ً يقال ان واحدھم كان يكتب ويو ّقع بعدد من اسماء مستعارة ،فصاروا عشرة على صفحات “المعرض” ،بينما ھم اربعة في مكاتبھا يتحلق حولھم :كرم ملحم كرم ،يوسف ابرھيم يزبك ،توفيق يوسف عواد، عبد eلحود ،ميشال اسمر )اسس الحقا ً عصبة ادبية ھي “ندوة االثني عشر ،قبل انفراده بتأسيس “الندوة اللبنانية” العام .(١٩٤٦ اما سادس الستة المتحلقين حول نواة “عصبة العشرة” فكان تقي الدين الصلح. والالفت ان الصلح كان يھوى التمثيل المسرحي قبل الصحافة والى جانبھا ،وفقا ً لما كتبه جان داية في “ملحق النھار” في ٢٣ايار .٢٠١٠ففي العام ١٩٢٤لعب تقي الدين الصلح ،ايام كان طالبا ً في الجامعة االميركية في بيروت ،الدور الرئيسي في مسرحية “قضي االمر” لكاتبھا سعيد تقي الدين ،رئيس جمعية “العروة الوثقى” في الجامعة.
ھذه االدوار والتجارب المتدافعة والمتقاطعة في مسارات ذلك الجيل الشاب: المسرح ،الصحافة ،الجمعيات او “العصب” االدبية والصحافية ،من عالمات والدة اطر ودوائر وشبكات متنامية في حياة مدينة جديدة مسرحھا وسط بيروت القديم، حيث توسع انتشار المسارح والمقاھي ودور السينما والمالھي ومكاتب الصحف التي كانت محطات في مسيرة كثيرين من شبّان العائالت القديمة والجديدة الى النيابة والوزارة والسلك الديبلوماسي الناشئ. خاضت “عصبة العشرة” على صفحات “المعرض” معارك ادبية حامية ضد التقليد في االدب والشعر “المخضرم” الذي كان يمثله بشارة الخوري )األخطل الصغير( صاحب جريدة “البرق” ،فشكلت تلك المعارك محوراً اساسيا ً في الحياة األدبية والصحافية آنذاك. مما كتبه الياس ابو شبكة عن لقاءات “عصبة العشرة” في مكتب ادارة تحرير “المعرض” حيث كانوا يتناولون طعام الغداء ويتناقشون في شؤون االدب والسياسة، يستشف القارئ أن النراجيل وكركراتھا ،وربما الطرابيش على بعض الرؤوس، كانت حاضرة في تلك الجلسات التي يسمّي شاعر “غلواء” و”أفاعي الفردوس” جالّسھا االعضاء “الجنود الروحيين )الذين( لن تقف عينك على مشھد ألطف وأكمل من مشھدھم” .وھم كانوا يكتبون مقاالتھم النقدية الالذعة بأسماء مستعارة“ :جوّ ابة”، “منخل” لفؤاد حبيش“ .غضبضب”“ ،رسام” اللياس ابو شبكة .كانت ھذه المقاالت تتصدى لـ”شيوخ االدب التقليدي” ولرجاالت السياسة الذين “ھجاھم” ابو شبكة في مقاالته ورسومه الكاريكاتورية لـ”ھتك ستورھم واقنعتھم المستعارة”. لذا ّ عطل رئيس الجمھورية شارل دباس “المعرض” ،فظلت صامتة حوالى سنتين اواسط الثالثينات .وحين عادت الى الصدور كان “فرسانھا قد تفرقوا ،فالتزمت جانب االعتدال واالتزان” ،قبيل الوفاة المفاجئة العام ١٩٣٧ألحد مؤسسيھا ،ميشال زكور ،وھو في منصب وزير في الحكومة ،فانتقل نشاط “عصبة العشرة” الى “المكشوف” التي اسسھا فؤاد حبيش.
شبكات عائلية ومؤسسات الالفت أن ھذه الشذرات من سيرة مؤسس “المكشوف” كتبھا عيسى فتوح في حزيران ٢٠٠٥في العدد ٢٤٠من “مجلة الجيش” اللبنانية ،ضمن تحقيق في ٤ حلقات عن “الصالونات االدبية في لبنان” .فما الذي يحمل مجلة عسكرية على كتابة مثل ھذه التحقيقات؟! الجواب :الى تخرجه ضابطا ً مترجما ً من المدرسة الحربية في دوراتھا األولى ،كانت تربط فؤاد حبيش صلة مصاھرة باللواء فؤاد شھاب .وھذه
واقعة جزئية من سلسلة من امثالھا تشير الى ان المدرسة الحربية في المؤسسة العسكرية اللبنانية منذ بدايات نشوئھا ،استقطبت شبانا ً من شبكات عائلية محددة تجمعھا عالقات القربى والمصاھرات .من ھذه الشبكات :آل البستاني ،آل لحود ،آل شھاب ،آل نجيم ،وسواھم من العائالت التي تكاثر ابناؤھا بين كبار الضباط والمراتب العسكرية القيادية العليا .والشبكات العائلية لھا دورھا المماثل تقريبا ً في سلك الرھبانيات الذي ش ّكل رافعة اساسية ألبناء ھذه الشبكات وسواھم من العامة في التعليم الرھباني واالرسالي في المجتمع المسيحي ،قبل أن تلتحق به )التعليم( وتستفيد منه فئات اجتماعية من المسلمين. لكن في حالة فؤاد حبيش ،ھنالك عامل اضافي مھني ّ وثق صلته بالمؤسسة العسكرية .فبعد تأسيسه“ دار المكشوف” للنشر ،تعھد اصدار مجالت كثيرة: “المدرسة” ،االذاعة”“ ،الراديو”“ ،الجندي اللبناني”“ ،الشرف العسكري”“ ،الحرب”، و”قرأت لك” .وھذا ما حمل “مجلة الجيش” على استذكاره في العام .٢٠٠٥ يبقى أن نشير في ھذا السياق الى أن “دار المكشوف” كانت “امبراطورية نشر” أدبي ولقطاعات مھنية وتربوية ما بين الثالثينات والخمسينات من القرن العشرين، ايام كانت الكلمة المكتوبة في الصحف والمجالت ،والكلمة المسموعة عبر االذاعات ،الفضاء االساسي األرحب للتواصل والتعبير والترفيه وتناقل المعلومات لدى الفئات االجتماعية والعمرية والمھنية المختلفة في تلك الحقبة التي شھدت طفرة في اصدار مجالت ومطبوعات ترفيھية واعالنية ومعرفية خاصة بقطاعات جديدة ناشئة ومتوسعة .لكن الالفت ان ھذه القطاعات المھنية والتربوية ،استنكفت عن انتاج ما تحتاجه من مطبوعات وعن اختبار طاقاتھا في نقل تجاربھا الى مجال الكتابة ،بتلزيم تحرير واصدار ما تتطلبه من المطبوعات الى ھيئات تحرير ومؤسسات نشر محترفة وغريبة عنھا وعن حاجاتھا وتجاربھا وخبراتھا المھنية. ھذا فيما كانت “دار المكشوف” اول دار لبنانية ارست تقاليد مؤسسية للنشر ،بفصلھا ھذه المھنة عن مھنتي الطباعة وبيع الكتب ،بعدما كان الناشرون أصحاب مطابع ومكتبات تجارية.
أخبار الشھوة المدبلجة
ال نملك معطيات وافية تمكننا من تقديم شبكة العوامل التي حملت الشيخ فؤاد حبيش حينما كان في مطلع الثالثين من عمره ،على الخروج على التقاليد السائرة في العمل الصحافي الناشط والمزدھر ،وعلى أنواع المادة التي كانت تقدمھا الجرائد إلى القراء في بيروت ثالثينات القرن العشرين. يتطلب تقديم تصور ما عن ھذه العوامل ،العودة الى ما كان يكتبه حبش وسواه في “المعرض” وسواھا ،كما يتطلب أيضا ً توافر سيرة اجتماعية – ثقافية ما ،حقيقية للرجل ،لم ُتكتب بعد ،شأن غيرھا من سير روّ اد الصحافة وك ّتابھا في تلك الحقبة، وشأن التأريخ الفعلي للصحافة والعمل الصحافي وموضوعاته .وفي ظل غياب مثل ھذه السير وذلك التأريخ ،يصعب اجالء دواعي فؤاد حبيش الى اصدار جريدة اسبوعية تبدو اليوم اقرب الى جريدة األمس لـ”االثارة الجنسية” ولما يحفّ بھا من صور وأھواء ومن حوادث وأصداء اجتماعية. ويظل ضربا ً من الحدس التقريبي التعرف إلى ما دار في وعي الرجل ومخيلته كي ينشئ تلك الجريدة التي ال ندري إن كان أحد ما في ثالثينات بيروت والقاھرة ،قد سبقه في انشاء مثيل له ،فاستلھمه حبيش ونسج على منواله :جريدة توقف مادتھا كلھا تقريبا ً على إثارة مدارھا ومحورھا النساء والجنس ،كما تحضر أخبارھن وأخباره في بعض الحصف والمطبوعات الغربية ،الشعبية والرائجة آنذاك ،على األرجح .إثارة يجري استلھامھا ،ترجمتھا ودبلجتھا )على نحو ما تجري اليوم دبلجة المسلسالت التلفزيونية المكسيكية والتركية( ،لتقديمھا في مطبوعة عربية اللغة والتھويم والتخييل االجتماعيين والثقافيين ،ليخالف حبيش في ھذا سربه الصحافي والكتابي في “عصبة العشرة” .يتبادر ھنا حدس ما ،بعيد ،بأن حبيش رغب في ان
يقدم مادة صحافية تكسر الجدية والرصانة السائدتين في الكتابة آنذاك .كما يتبادر حدس آخر بأن ما دار في وعيه ومخيلته ،استلھم على نحو معكوس أشعار صديقه في “العصبة” إلياس ابو شبكة. ففي مقابل حمّى الشھوات وفحيحھا األسود اآلثم والملتاع ،وفي مقابل آالم ح َُرقِھا الناجمة عن عدم تلبيتھا ج ّراء تم ّنع المرأة وامتناعھا وشبقھا المستتر مع “خيانتھا” واختبائھا خلف حجب التقاليد والحشمة والفضيلة ،كما في قصائد “أفاعي الفردوس” – التي يقال ان ابو شبكة كتبھا متأثراً بـ”أزھار الشر” البودليرية وبالرومنطيقية أو “الواقعية الرمزية” – في مقابل ھذا كله ،عمل فؤاد حبيش على دبلجة مادة صحافية عن فحيح الشھوات واألھواء وأصدائھا في أخبار الحوادث والوقائع االجتماعية والقصص االوروبية في حقبة ما بين الحربين العالميتين .لكنه نزع عن ذلك الفحيح مشاعر اإلثم واللوعة وآالم حرقھا ،وق ّدمه في أسلوب نثري ،قصصي وإخباري، يجمع اإلثارة والتشويق واللھو إلى واقعية حسية مفترضة.
رسول العري والبصبصة استھل فؤاد حبيش تسمية جريدته االسبوعية الجديدة “المكشوف” من فكرته وتصوّ ره عنھا وعن مادتھا ومتطلبات جمھورھا المفترض :الرغبة في ھتك األسرار والحجب عن المرأة وجسمھا .وذلك بتعريضھا في اإلخبار والقص المفترض انھما حدثيان وواقعيان ،إلى حساسية جديدة ھي وليدة السفور والتعرية، وفقا ً لمبدأ الواقع اإلباحي ،على خالف مبدأ اإلعالء الطھراني والروحاني للرغبات والشھوات ،وإلستتار النساء وأجسامھن خلف حجب التقاليد المحافظة والفضائل االخالقية واالجتماعية البالية. غداة تأسيسه “المكشوف” وإصدارھا ،نشر حبيش “بيانه التأسيسي” وبيان جريدته، في كتابين ھما “السجينات – بحث في حب النساء الشاذ” ،و”رسول العري” الذي
صار لقبا ً له ،وإسما ً آخر لجريدته التي جرى تداول اسمھا في صيغة المذ ّكر ،فقيل و ُكتب “ھذا المكشوف” ،بعدما صدرت اسبوعيا ً ابتدا ًء من أول أيار .١٩٣٥الالفت ان أعدادھا األولى خلت من اسماء ك ّتاب أو محرّري مادتھا ومدبلجيھا ،سوى اسم “محررھا المسؤول” فؤاد حبيش فقط. على صفتحھا األولى في عددھا األول “قصة لم يسبق نشرھا” ھي “قصة غرام النبيالت” إلى جانب صورة امرأة تنكشف أجزاء مثيرة من جسمھا .وتكرُّ سبحة أشباه ھذا العنوان على صفحات العدد األول كلھا“ :العري في الحب – أتفضل أن تكون عاريا ً أم البساً؟”“ ،الحب في الكتب” ،تحته عنوان فرعي“ :زوجة متط ّرفة في تقواھا” ،ثم “القضايا القذرة والمحاكمات السرية”“ ،مد ّرسة ال تكره الشھوات”. طوال السنة األولى من صدورھا تتع ّزز مثل ھذه العناوين واألبواب وتتناسل متزايدة ،كأنھا قصص وحكايات متسلسلة“ :قصة زواج حكيم” )طبيب(، “المطارحات الغرامية التي تفضلھا المرأة”“ ،كيف تحب رجالً متزوجا ً”“ ،العاشق الحقيقي :واجبه قبل الحب وفيه وبعده”“ ،جسد ملتھب”“ ،مخدر جديد يستعبد النساء ويوقظ شھواتھن”“ ،ما ھي اللذة التي تفضلھا في الحب :فوق الصخور ،القبلة الجارحة ،العضة في األذن؟”“ ،الغرام في اسبانيا يشمل الكبار والصغار”“ ،المغازلة في السينما :بغاء القاصرات ،أسعار الحب”“ ،كيف سحر ھتلر الفاتنة بريجيت”، “اللھو والحب في لندن”“ ،الجرائم في بولونيا”“ ،ريق امرأة يشفي من سم األفاعي”، “مومس تتحدث إلى ابنھا”“ ،السحاقيات عند اليونان”“ ،الفحش المقدس في بالد المھاتما غاندي” kإلخ. على صفحات ٣٣عدداً صدر األخير منھا في ٧كانون الثاني ،١٩٣٦ظل “مكشوف” فؤاد حبيش بوصفه “وان مان شو” تقريباً ،رسوالً لھذا النوع من العناوين والكتابة االسبوعية المترجمة والمدبلجة والمع ّدة والمنقولة عن صحف ومطبوعات أوروبية معظمھا فرنسية .إلى جانب ھذه العناوين وموضوعاتھا ،صور اباحية لنساء ومضاجعات شديدة اإلثارة ،يقوم بحفرھا على معدن الزنك حرفيّ أو ف ّنان “الزنكوغراف” ،فتشير “المكشوف” إليه في بعض أعدادھا باسم “بغدادي” الذي يبدو ان رقابة المطبوعات آنذاك أخذت تحذف بعض صوره الشديدة اإلباحية .لذا أصدرت الجريدة بعض أعدادھا بمساحات بيضاء على عدد من صفحاتھا ،بسبب حذف الرقابة تلك الصور.
المرأة محور اإلعالنات تتخلل ھذه العناوين والموضوعات المثيرة إعالنات محلية تشير الى ظھور مھن وخدمات وسلع جديدة متناسبة مع “ثقافة السفور اإلباحية” التي تشيعھا “المكشوف”: “الدكتور جرجي ربيز االختصاصي باألمراض التناسلية”“ ،عيادة طبيب األسنان” لطبيب في محطة الناصرة“ ،كريم ھالينا المزيل للنمش” .بعض االعالنات تحظى بمقدمات مثيرة مطولة“ :ماذا يحب الرجل في المرأة؟” ،والجواب“ :جمالھا الطبيعي الخالب ،صفاء الوجه ،نقاء البشرة” .عليك إذاً بـ”كريم سندس”. ثم دعاية لـ”الشوكوال الوطنية ،صنع معامل الجميل الشھيرة :تجدھا خصوصا ً في صيدلية الجميل بساحة الشھداء” .لالصطياف والفنادق والمطاعم والخمور حصتھا من الدعاية“ :نزل قاصوف في ضھور الشوير”“ ،فندق الھنود في دير القمر”، “عرق الزوق الفاخر”“ ،مطعم عارف الجديد المشرف على سينما روكسي”، “الويسكي اللذيذة الخالية من الضرر :أمباسادور”“ ،حتي إخوان ألوراق السفر إلى جميع أنحاء العالم” ،وإعالن عن شركة جديدة لنقل المصطافين ،وعن “دليل االصطياف لمؤلفه اسكندر يارد” ،ولالعالنات على صفحات “المكشوف” عليك ان “تخابر في شأنھا االدارة في سوق اياس – قرب البركة”. إلى جانب حلقات “رواية” متسلسلة عنوانھا “اإلغواء” ألنيس دية ،مقالة عن “بائعات اللذة في فرنسا ولبنان” ،يرد فيھا ان “حمالت الصحف واألحاديث الخاصة أثمرت اخيراً عن ضرورة التساھل بالسماح لبائعات اللذة ممارسة حرفتھن في أماكن االصطياف” ،حيث تنقل الجريدة أخبار انتخاب ملكات للجمال في حمّانا وضھور الشوير .لذا نشرت “المكشوف” مقابلة مع المنتخبة اآلنسة كيتا كفوري التي
قالت“ :تغريني المكشوف وأقرأھا بلذة ألنھا جريدة الجمال الحقيقي والفضيلة الحقيقية”.
استعارة أوروبا “السنوات المجنونة” ھذا غيض من فيض عناوين “عالم المكشوف” للسفور والعري في أعداد السنة االولى من صدورھا .يتخيل متصفح ھذه األعداد أن مادة الجريدة االسبوعية أثارت عاصفة في مجتمع ثالثينات المجتمع اللبناني والبيروتي .من الصعب التحقق من ھذا األمر من دون استطالعات واسعة تبيّن وقع تلك المادة الصحافية على جمھور ق ّراء تلك الحقبة التي عمل فؤاد حبيش فيھا على إعداد مواد صحافية وكتابات أوروبية مثيرة ،ترجمتھا وتلخيصھا ونشرھا في “المكشوف”. كان العالم آنذاك يعيش في حقبة ما ُسمّي في أوروبا “السنوات المجنونة” ،أي العشرينات التي أعقبت الحرب العالمية االولى ) .(١٩١٨ – ١٩١٤وھي سنوات مضطربة ومضطرمة بأنماط عيش وتفكير جديدة ،منھا رسوخ خروج المرأة الى العمل والحياة العامة واتساعه على نطاق جماھيري في البلدان األوروبية ،حيث شاع تحرر النساء من األزياء القديمة التي كانت تالفيفھا الكثيرة تغطي أجسامھن وتعوق حركتھا. ويبدو أن فؤاد حبيش زار ألمانيا في مطلع تلك السنوات األوروبية “المجنونة”، فتردد ھناك على “نوادي العراة” حيث “أفراد من طبقات اجتماعية مختلفة ،يمضون عطلھم ،رجاالً ونساء ،في الھواء الطلق ،عراة ،لتنقية أجسامھم من األمراض”، على ما كتب حبيش نفسه في مقدمة كتابه “رسول العري” واصفا ً رحلته األلمانية تلك التي كان قد نشر بعض فصولھا مقاالت في جريدة “األحرار المصورة” في عنوان “العري في ألمانيا” .أما ذلك الكتاب فكان حصيلة ترجمة وتلخيص لكتاب “بالد العري” للفرنسي شارل رواييه .كان دافع حبيش الى ذلك العمل “إيمان بأھمية
الثقافة الجنسية القائمة على قواعد طبية وصحية يتوجب تلقينھا للطلبة منذ نعومة أظفارھم” ،فا ّتھم ،بعد نشره الكتاب بـ”االنحراف الخلقي”. صديقه ادوار حنين قال في رثائه العام ١٩٧٤إنه كان “على ظاھر من التفلت منقطع النظير” ،لكنني “ما رأيته يوما ً إال في جانب الخلق النبيل ) (kمشدوداً الى الجبل بشروش ال أمتن :منھا آلل حبيش ومنھا آلل لحود ومنھا للصخرة التي أدمت قدميه صبيا ً في غزير” .أما عديله أنطون غطاس كرم فقال عنه في السياق الرثائي نفسه“ :إذا لقيته نضح بالبشر ثم ز ّفك العبث ،كأنما الدعابة )عنده( جسر الى الحميم، وانزالق اللسان أسلوب من المودة”. كثيرة ھي االشارات التي تؤكد أن حبيش كان سليط اللسان حتى “البذاءة” الساخرة، أو “الشتيمة بلھجته الكسروانية الشھيرة” ،على ما ذكر أنسي الحاج ،متذكراً “أناقته األريستوقراطية” .ھذه الصفات قد نجد مصدرھا في محطات سيرة حبيش االجتماعية والشخصية .فإبن عائلة المشايخ التي تف ّكك عالمھا القديم ،والمقامر الصغير في فتوّ ته أيام الحرب العالمية االولى ،والمتخرج من المدرسة الحربية ضابطا ً مترجماً ،قال عنه أنطون غطاس كرم إنه كان “في انضباط الجندي ،مؤرقا ً )من الورق( يفلي صحف العالم ،يخط باألحمر ،يترصد ثمار المطابع في كل فن، يجمع مختار الطرائف من المد العالمي ،يطوّ عه وفق قرائهّ ، يلطفه ،يضغطه مادة لصفحة” في جريدة ،أيام كانت الصحافة تنطلق ناشطة مزدھرة في بيروت ولبنان العشرينات والثالثينات. فھل استشفّ فؤاد حبيش أن سوق الصحافة وجمھورھا المحليين متعطشان توقا ً الى مطبوعة جديدة تتفرد في المجتمع المحلي بالتعبير عن شبق محموم ،مكبوب أو مكتوم ،يريد أن يسفر عن نفسه في العالنية العامة؟ لكن ال حبيش وال ذلك المجتمع كانا يمتلكان ثقافة وتجربة وخبرات ولغة تمكنھما ،بغير الترجمة والتلخيص والدوبالج ،من التعبير عن ذلك التوق الشبق الى السفور .لذا أقدم الصحافي، “رسول العري” ،وكذلك مجتمعه ،على استعارة مادة توقھما من أوروبا “السنوات المجنونة” .مذذاك ،قبله وبعده ،تعمل ثقافتنا ولغتنا العربيتان على استعارة عالم الحداثة األوروبية وترجمته على نحو سيئ غالباً ،ونشره في شتى ميادين حياتنا المحلية.
الخيال الصحافي الس ّباق في العدد ٣٣من “المكشوف” ،ذاك الذي سبق انقالبھا جريدة لألدب واألدباء في مطلع العام ،١٩٣٦حاول توفيق يوسف عواد إدخال استعارة فعل أوروبا في نسيج
االجتماع البيروتي ،فكتب في أسلوب قصصي تحقيقا ً عن “بنات المدينة” اللواتي يعملن في المؤسسات والمخازن والمكاتب ،كما يعمل الرجال .طائفة البنات العامالت “لم يكن لنا بھا عھد قبل الحرب الكونية االولى – كتب عواد – ويجب أن نحسب لھا حسابا ً اليوم” ،بعدما بلغ عددھا “المئات” في بيروت .وينقل الكاتب مقتطفات من محادثته بعض بنات ھذه الطائفة الجديدة. إحداھن تقول إنھا تعمل للحصول على مبلغ من المال لتشتري به “كل ما تشتھيه نفسي :فساتين ،برانيط ،عطور ،كلسات ،وبطاقات سينما” .وھي “تحب الجمال أكثر من التحصن في المنزل” .أخرى تقول إنھا “تحب الحرية ،الخروج وركوب الترامواي ،وأن يمشي ورائي شاب يسارقني النظر ،فأضحك عليه في سرّي، وأتمتع بتلك الرعشات تنزل من قلبي الى أخمص قدمي” .ثالثة تقول“ :أحب العودة ُ كنت ،فأجاوبه :كنت في الشغل” .رابعة تعمل في الى البيت ،ليسألني والدي أين مخزن وتتقاضى ١٠ليرات سورية في الشھر ،وتقول إنھا ُتعيل بھا أمھا األرملة وإخوتھا اليتامى. أخيراً يخلص عواد متسائالً“ :أنستطيع القول إن ٥٠في المئة من العامالت يحافظن على عفافھن؟” .جازما ً يجاوب “السالمات ال تتجاوز نسبتھن ٥في المئة .العذراء منھن نصف عذراء ،وھي تعطي كل شيء سوى خيط عنكبوت .التي تعطي بسخاء إنما تعطي مدير المكتب أو المخزن أو المؤسسة ،من دون أن تبخل في الشارع”. ويختتم الكاتب في أسلوبه القصصي“ :في الصباح والمساء ،عندما تتزاحم األقدام العالية والفساتين القصيرة على األرصفة ،تجد كثيرات يقفن في محطة ترامواي أو على ملتقى طرق ،ينتظرن العشاق .إنھا ظاھرة فرحة لذيذة ،لكنھا ال تخلو من خطر .ومتى كانت الحرية خالية من األخطار؟!”. رسول العري يستعيد صواب األدب
في عددھا األربعين مطالع أيار ١٩٣٦ص ّدرت “المكشوف” صفحتھا األولى ببيان أعلنت فيه “مفاجأة كبرى سارة لم يحلم بھا القراء” :سوف تصير “جريدة جديدة بشكلھا وروحھا ومادتھا وك ّتابھا” لتصبح لسان حال النھضة األدبية في ھذه الربوع بما تنشره من مقاالت تدبّجھا أقالم نخبة من أدباء ھذا الجيل. تطرق “المكشوف” “مواضيع السياسة بإخالص لخدمة البالد ،وتعالج مواضيع األدب )لـ( تحرير األدب العربي من عبودية التقليد وعبودية التجارة” .ويضيف البيان“ :ستبحث المكشوف في الفن والعلوم والسينما ،وقد تم ّكنا من االتفاق مع عدد من ك ّتابنا الممتازين )الذين( نفاجئ بھم قراءنا” .أما ما سينجم عن ھذا التغير ،بل اإلنقالب ،بعد أكثر من سنة على صدور الجريدة ،فيقصره البيان على أن “المكشوف ستصبح الجريدة التي تقرأھا العذراء في خدرھا دون أن تالقي في قراءتھا ما درجت عليه حتى اليوم) ،وھو( ما عزمنا على اھماله تماما ً”.
التدبيج والعذارى الى النبرة اإلعالنية الدعائية البارزة في مطلعه ،ينطوي القاموس اللغوي للبيان على عبارات وكلمات قد يكون جامعھا ما سمّي “النھضة األدبية” بوصفھا حركة عامة مستلھما ً حركة صِ يغ مفھومھا منذ نھايات القرن التاسع عشر ما بين مصر ولبنان، ِ التنوير األوروبي ،وصار دارجا ً بين المثقفين والك ّتاب واألدباء العرب واللبنانيين، ومدار سجاالتھم وانقساماتھم وحامل رغباتھم في التجديد والتقدم والتحرر ،طوال النصف األول من القرن العشرين. مثل معظم البيانات النھضوية األدبية العربية واللغة التي تعتمدھا ،تظھر في بيان “المكشوف” عبارات وكلمات وصياغات إنشائية تعود الى “الوعي لغوي” وتعبيري يُفترض أنه سابق على النھضة األدبية ،ويخالف مضمونھا الذي قد تكون العبارة اإلعالنية في مطلع البيان ھي األقرب إليه. أما العبارات والكلمات الصادرة عن “الوعي لغوي” مرسل ويخالف المضمون المفترض للنھضة ،فھي من أمثال“ :ھذه الربوع”“ ،تدبجھا أقالم”“ ،العذراء في خدرھا” .ذلك أن ھذه الكلمات تنتمي الى لغة عربية فائتة فقدت صلتھا بوقائع الحياة اليومية ومخيلتھا وأفعالھا وعالقاتھا السائرة ،وفقا ً لما رغبت “المكشوف” نفسھا ان تحمل رايته في حلّتھا السابقة على البيان بوصفھا “رسول العري” و”كشف الستر” عن الرغبة والوقائع والحوادث واألفعال والعالقات الناجمة عنھما في الحياة االجتماعية والخاصة .لكن مراجعة عناوين ومقتطفات من مادة “المكشوف”
الصحافية في سنة صدورھا األولى ،بيّنت أن تلك الرغبة – الرسالة جاءت مترجمة ومدبلجة عن مواد صحافية أوروبية )فرنسية غالبا ً( ،ومنقطعة الصلة بأحوال المجتمع المحلي ووقائعه وحوادثه في معظم الحاالت ،ما خال اإلصرار على طلب اإلثارة في ما يتصل بشؤون النساء وأجسامھن وملبسھن وشھواتھن وشھوات الرجال ،تلك التي دأبت الجريدة على نشر أخبارھا وحكاياتھا المترجمة في عالنية عامة ،صحافية ناشطة ومزدھرة في بيروت ثالثينات القرن العشرين. إذ كيف يمكن الحديث عن إرادة العري والسفور والرغبات والعالقات والحوادث الناجمة عنھما ،في لغة تستعيد كلمات مثل العذارى والخدور والتدبيج والربوع؟ والحق أن فعل التدبيج ينطبق تماما ً على معظم مقاالت “المكشوف” الصحافية المغفلة التوقيع في طورھا األول “رسوالً للعري” .الفعل نفسه حاضر في بيانھا األدبي الجديد الذي يزفّ الى قرائھا بشارة صيرورتھا جريدة أدبية ،استقطبت قوال وفعال نخبة واسعة من ك ّتاب لبنان أوالً ،وسوريا تالياً ،في األدب والصحافة في عقدَي الثالثينات واألربعينات من القرن العشرين ،على ما تبيّن مراجعة أعدادھا ما بين العدد ٣٣و ٥٠٠تقريباً ،قبل توقفھا عن الصدور مطلع الخمسينات.
“اليف ستايل” الثالثينات ال ريب في أن كاتب البيان األدبي ،أو المشارك في كتابته ،ھو مؤسس “المكشوف” الشيخ فؤاد حبيش الذي روى في صفحة داخلية من العدد المنشور فيه البيان ،أن “عائلة ھاي اليف” ،أي مرموقة اجتماعيا ً و”مثقفة” وتتألف من “أم وأب و ٧أوالد بينھم فتيات” ،كان “كل منھم يشترك سراً” في “المكشوف” التي ُترسل اليه أعدادھا “على عنوان خاص” به وحده منفرداً .تغيب في ھذا الخبر كلمتا العذارى والخدور، وتحضر كلمة فتيات وعبارة “ھاي اليف” األجنبية ،كما يقال اليوم “اليف ستايل” في
لغة االعالميات التلفزيونيات اللواتي غزا حضورھن وغزت لغتھن الصحافة المكتوبة .األرجح أن حبيش في “مكشوفه” في طورھا األول ما قبل األدبي ،ق ّدم في منتصف ثالثينات القرن العشرين مادة صحافية سبّاقة ورائدة من نمط “الاليف ستايل” ،مشوبا ً باإلثارة. ھذه الثقافة في نموذجھا اللبناني والعربي الراھن ،ھي شكل من أشكال ثقافة العولمة الما بعد حديثة )البوست مودرن( التي تختلط فيھا انماط تفكير وتعبير ونظر وسلوك غير متجانسة ،بل عشوائية ،صادرة عن “الوعي” مرسل ،كما كانت تختلط في الثالثينات في لغة فؤاد حبيش كلمات وعبارات “ھاي اليف” وفتيات وعذارى وخدور ،الصادر كل منھا عن فضاء لغوي مختلف عن اآلخر ،ومتعارض معه. كان يمكن ان نضرب صفحا ً عن ھذا التعارض العشوائي ،ونق ّدره تقديراً مختلفاً ،لو أننا في معرض من فنون التجھيز الرائجة منذ سنوات في الفنون البصرية الما بعد حديثة. عطفا ً على بيان “المكشوف” األدبي الجديد ،تفصح إشارة حبيش الى عائلة المشتركين السريين في جريدته حينما كانت “رسوالً للعري” ،عن أن العذارى كنَّ من قرائھا ،لكن خارج خدورھنّ البيتية والعائلية التي صار يمكنھن أن يقرأنھا فيھا مطمئنات بعد تحولھا جريدة أدبية. ھذا يشير الى أن “المكشوف” في حلتھا السابقة كانت علنية وسرية في وقت واحد: مطروحة علنا ً في سوق المطبوعات الناشطة ،وللمشتركين الذين يلتھمون مادتھا الصحافية كل بمفرده وفي السر أو الخفاء عن اآلخرين .وھذا يجعل القارئ بصَّاصا ً على ما يقرأ ،على رغم أن ما يقرأه مطروح علنا ً في السوق ،من دون أن تلغي ھذه العلنية والغفلية حذره من تداول الجريدة وقراءتھا .أما بعد تحولھا جريدة لألدب واألدباء فسيزول الخوف والتسري والقلق والالطمأنينة أثناء قراءتھا. وبسخريته الالذعة يؤكد حبيش أن “عائلة الھاي اليف” التي يصفھا بـ”المباركة” متھكماً“ ،ستشترك” علنا ً في “المكشوف” الجديدة “بعدد واحد فقط” ،ليصير عددھا األسبوعي مطروحا ً في البيت لجميع أفراد العائلة ،يتناوله كل منھم بدعة مطمئنة ،ال أثر فيھا لذلك القلق المشوّ ق المثير الذي كان يجعل الجريدة واسعة االنتشار كنار في الھشيم ،أو كسلعة ممنوعة – مرغوبة يجري تداولھا فرديا ً في سوق سوداء .وقد يكون ھذا مصدر قوة حضور “المكشوف” وانتشارھا السريع في سنتھا األولى ،قبل توسلھا بھذين الحضور واالنتشار وتوظيفھما في تحويلھا جريدة لألدباء واألدب في عالنية عامة “بيضاء” ال أثر فيھا للسر والتسري والبصبصة على انفراد وفي الخفاء .والحق أن ھذا ما يتحسر عليه فؤاد حبيس “رسول العري واإلثارة” ،تحسراً
موارباً ،ربما لم تشفِه منه القوة المعنوية الموعودة لجريدته التي قد يكون علَّل نفسه وواساھا بقوله في البيان الجديد إن العذارى سوف يواصلن قراءتھا ،لكن مطمئنات في خدورھن .لكن ھذا ليس أمراً مؤكداً ،إذ متى كان األدب وصحافته قبلة قلوب العذارى ورغباتھن؟ فحبيش يؤكد أن “المكشوف األدبية” ستتدنى مبيعاتھا وأعداد مشتركيھا .لكن المؤكد أيضا ً أنھا في الحالتين ،برغم قصر مدة حالتھا األولى، جعلت من فؤاد حبيش رائد صحافة ونشر طوال ما ال يقل عن ١٥سنة في حقبة سميت حقبة “المكشوف” في صناعة الصحافة والنشر األدبيين.
االنقالب األدبي صدر العدد األول من “المكشوف” في حلتھا األدبية الجديدة في ٥نيسان ،١٩٣٦ حامال الرقم .٤٣على صفحته األولى قائمة بأسماء األدباء والشعراء المشاركين في تحريره ،وفق الترتيب األبجدي .تلي القائمة افتتاحية غير مو ّقعة ،عنوانھا الفت: “دستور ١٩٢٦لألحوال الشخصية :تشريع الطوائف واالعتراف بھا”. موضوعات العدد تنبئ بأن مع ِّديه أصحاب خبرة ثقافية وأدبية ،وبذلوا جھداً في مناقشة مواده وموضوعاته واختيارھا واختيار ك ّتاب محددين لكتابتھا ،كي تطل الجريدة إطاللة مثقفة بالغة الرصانة والشمول والتنوع ،لكن المتجانسة في أسلوبھا ووجھتھا في ميادين األدب والفلسفة واالجتماعيات والشعر والقصة: فؤاد أفرام البستاني كتب في “نظرية جديدة في األدب الجاھلي” مناقشا ً طه حسين. قسطنطين زريق طرح على نفسه سؤاال: “ھل في العالم العربي اليوم فيلسوف؟” وجاوب عن السؤال ھذا في مقالة“ .الطبيعة والعمران في الشعر األندلسي” عنوان يقترب من اجتماعيات األدب لبطرس البستاني. في الميدان نفسه كتب الشاعر إلياس أبو شبكة “بين األدب والشعر والصحافة”، وكذلك ابرھيم سليم النجار الذي بحث في “أثر األدباء اللبنانيين والسوريين في السينما والمسرح العربيين” ،فيما كتب جبرائيل جبور عن “خدمات المستشرقين لألدب العربي”. عبد eلحود كتب مقالة تعريف بمارسيل بروست وأدبه .قيصر الجميل الذي لن يغيب اسمه عن “المكشوف” طوال عھدھا إال نادراً ،كاتبا ً وراسم بورتريھات لألدباء ،خصَّ العدد بمقالة عنوانھا “ھل يرى المصور في الطبيعة غير ما يراه عامة الناس؟” .في مجال الفن السابع ،درة حداثة القرن العشرين ،كتب كرم البستاني
عن “أسرار الجمال عند غادات السينما” اللواتي وضع الفيلسوف الفرنسي إدغار موران كتابا ً رائداً عنھن في الستينات عنوانه “نجوم السينما” بوصفھن صنيعة ظاھرة – “نظام” جديد يجعلھم “أنصاف آلھة” تعبدھا الجماھير المعاصرة. في مقالة حنا غصن “آفة المسايرة في حياتنا االجتماعية العامة” ،تحضر إرھاصات المعالجة األنثربولوجية في تناول العادات والتقاليد المحلية .ويشمل ھذا التناول مقالة مغفلة التوقيع عن األزياء عنوانھا “بين القبعة والفستان” بوصفھما عنوان انقالب الزي النسائي وعصريته تعبيراً عن شيوع سفور المرأة وخروجھا الى الفضاء العام .ھذا فيما كتب فؤاد حبيش “ ١٤وصية منقولة عن األديب الفرنسي موريس دير كويره ،لكي تكون المرأة محبوبة”. يقول صاحب “المكشوف” إنه يعرضھا “تفكھة للقراء” ،كأنه انتبه الى الرصانة والثقل الثقافيين في مواد جريدته في حلتھا الجديدة ،فأراد التخفيف من ج ِّديتھا الثقيلة معتذراً لقراءھا من النساء. للمواد الصحافية حضورھا الطفيف في عدد الجريدة ھذا ،لكنه في المقابل حضور نوعي في ج ّدته وداللته وتناوله السياسة الدولية في باب مستقل عنوانه “أخبار العالم في أسبوع” ،يع ّده ويحرره كامل مروة ،قبل أن يصير في األعداد التالية من نصيب لويس الحاج .الباب الصحافي األسبوعي اآلخر ھو أخبار الرياضة التي يستھلھا العدد بموضوع عنوانه “النھضة الرياضية في لبنان” .وھو عنوان ينبه الى أھمية العامل االجتماعي – السياسي في نھضة الرياضة المتزامنة في المجتمع المحلي مع نھضة رياضية عارمة في أوروبا ،حقبة ما بين الحربين العالميتين ،التي شھدت ظھور األحزاب الفاشية ومنظماتھا الشبابية العصبوية الفائضة التنظيم والعنف، والمرتبطة بالتربية الرياضية.
ضد امارة الشعر ال يغيب الشعر عن “المكشوف” في عددھا األدبي االول وأعدادھا الالحقة .سعيد عقل نشر قصيدته “عشتروت” في االول ،وكذلك ميخائيل نعيمه له قصيدة عنوانھا “قبور” .يتكرر حضور سعيد عقل الشعري المتقطع في الجريدة طوال سنتين او ثالث .اما الياس ابو شبكة فھو شاعر “المكشوف” في حضور قصائده على صفحاتھا ،اضافة الى مساھماته النثرية والنقدية المتكررة حتى وفاته المفاجئة العام .١٩٤٧فشاعر “غلواء” و”افاعي الفردوس” كان أحد اقطاب “عصبة العشرة” منذ نشأتھا في مكاتب جريدة “المعرض” ،وخوضھا مناظرات ومعارك ادبية على صفحاتھا ،قبل انتقال العصبة الى مكاتب “المكشوف” ومتابعتھا المناظرات والمعارك على صفحات ھذا المنبر الجديد الذي سرعان ما تص َّدر نشاط الصحافة االدبية .كانت العصبة قد و َّقعت باسمھا ،من دون ذكر اسماء اعضائھا ،المقال النقدي االدبي االفتتاحي في عدد “المكشوف” في حلتھا الجديدة ،وكان عنوانه “االدب العربي بين عبوديتين :عبودية التقليد القديمة وعبودية التجارة الحديثة”. المقال يشبه بيانا ً يستأنف سجاالت العصبة حول شعر المناسبات او “التشريفات” المنبرية ،على ما يسمّيه ن َّقاد “المكشوف” التي سخرت ،ربما بقلم ابو شبكة ،بھذا النوع من الشعر الذي كان يتصدره احمد شوقي ثم بشارة الخوري )االخطل الصغير( .لم تلبث الجريدة ان ل ّخصت على صفحاتھا “الحديث المشوِّ ق الذي تحدثه خليل تقي الدين في صالون شارل قرم )الشاعر الملھم( عن احمد شوقي وشاعريته العجيبة“ :من ّ نظام الى موظف الى شاعر الى امير الشعراء”. في مناسبة وفاة شوقي كتبت “المكشوف”“ :امير الشعراء يبكيه شاعران :بشارة الخوري وامين نخلة” ،كأنھا تومئ الى تسابق الشاعرين على حيازة اللقب او المنصب الذي شغر بوفاة متصدر “امارة الشعر العربي” .في منتصف االربعينات خصصت “المكشوف” جائزة سنوية كبرى مقدارھا الف ليرة لبنانية ألفضل مجموعة شعرية .لكن الجائزة شملت ،الى الشعر ،انواعا ً ادبية اخرى :رواية، قصص ،ودراسة عن شخصية ادبية او سياسية من لبنان ،على أن ينال الجائزة في كل سنة كتاب في نوع من ھذه االنواع ،لتتولى “دار المكشوف” طباعة ٣آالف نسخة من المخطوط الفائز.
خلق Gاالنسان في قصة على ان “المكشوف” كانت قد بادرت الى االحتفال باالدب القصصي وتشجيعه وتخصيص جائزة له منذ عددھا ٥٩في تموز ،١٩٣٦وكان مقدار الجائزة ٢٥ليرة سورية آنذاك. لم تغب القصة عن عدد الجريدة االدبي االول الذي نشر فيه توفيق يوسف عواد قصة عنوانھا “شھوة الدم” .فعواد الى جانب خليل تقي الدين ،وھما قصّاصان ،من اركان محرري “المكشوف” و”عصبة العشرة” ،لذا دعت الجريدة الك ّتاب الى نشر قصصھم على صفحاتھا للمشاركة في المباراة .تحفيزاً لھذا الفن الكتابي كتبت الجريدة في افتتاحية عددھا ٦٨انھا ترغب في أن “تفتح افقا ً جديداً لألدب”. في تح ّد لنجومية الشعر والشعراء على االرجح ،وخصوصا ً شعراء المناسبات والمراثي و”التشريفات” ،أشارت الى ذلك األفق في اسلوب فني اعالني باھر“ :خلق eاالنسان في )من( قصة منذ االدب المكتوب في التوراة الى يومنا ھذا” ،وذلك في استعارة ألسطورة آدم وحواء اإللھية. مع تأسيسھا دار نشر حملت اسمھا ،أعلنت “المكشوف” توزيعھا ھدية مجانية للمشتركين فيھا :نسخة من رواية “الصبي االعرج” التي نشرتھا الدار لتوفيق يوسف عواد ،ثم شرعت في نشر مقاالت على صفحاتھا تتناول “الصبي االعرج” واألدب القصصي. من مو ّقعي ھذه المقاالت :امين الريحاني ،ميخائيل نعيمة ،وميشال اسمر الذي ذيّل مقالته بإشارة الى أنه من “ندوة االثني عشر” الناشئة بعد “عصبة العشرة” ،وكان بعض من اعضائھا يدورون في فلكھا. جاءت مقالة اسمر الفتة في عنوانھا“ :اين نحن من القصة؟ كيف تولد شخصياتھا في نفس )وعي( المؤلف؟” .في اطار متابعته النشاط القصصي كتب فؤاد حداد )بو الحن( عن عدد مجلة “العروة الوثقى” )كانت تصدرھا جمعية بھذا االسم في الجامعة االميركية في بيروت( الخاص بـ”القصة ونھضتھا في البلدان العربية” .وسرعان ما اثمر تحفيز “المكشوف” نشر القصص على صفحاتھا وتخصيصھا جائزة سنوية لھا ،فبرزت اسماء قصصية سورية ،منھا جورج سالم ،خلدون ساطع الحصري الذي فازت قصة له منشورة باسم مستعار في “المكشوف” بالجائزة للعام .١٩٣٩ وقد تألفت لجنة التحكيم من :عمر فاخوري ،يوسف غصوب ،الياس ابو شبكة ،خليل تقي الدين ،رئيف خوري ،فؤاد افرام البستاني ،توفيق يوسف عواد ،شفيق جحا، وفؤاد حبيش.
ھؤالء جميعا ً وسواھم عشرات كانوا من المداومين على الكتابة في “المكشوف”. حتى مطالع االربعينات حظي الفن القصصي بوقفات نقدية متالحقة اكثر من كتابتھا مارون عبود الذي كانت له زاوية اسبوعية ثابتة في الجريدة عنوانھا “ادباؤنا” .اما الترجمات واالقتباسات القصصية عن القصة االوروبية ،وخصوصا ً الفرنسية ،فكان لھا حضور متصل على صفحات “المكشوف”. مذ نشرت بيان تحولھا جريدة اسبوعية لألدب واالدباء وصحافيّي الھوى األدبي في ايار ،١٩٣٦حتى توقفھا عن الصدور مطلع الخمسينات ،ظلت “المكشوف” جريدة ودار نشر ،محوراً للحركة االدبية وصحافتھا النشيطة والفاعلة في لبنان. “المكشوف” مع “الندوة اللبنانية” – بدأت نشاطھا في ،١٩٤٦وصدر مؤسسھا، مديرھا ومن ّ شطھا ،ميشال اسمر ،عن حلقات الحركة االدبية نفسھا وصحافتھا اللتين صدر عنھما كل من “المكشوف” ومؤسسھا المن ّ شط ،واستقطبت جريدته وداره للنشر معظم اعالم تلك الحركة ،ادباء وكتابا ً وصحافيين ،واضطلعت الدار بنشر الكثير من المطبوعات الصحافية القطاعية والمھنية – شكلت محاور ثالثة اساسية وفاعلة في الحياة الثقافية اللبنانية .فـ”المؤسسات” الثالث تقاطعت ادوارھا زمنيا ً وفي التعبير عن وجھة لبنانية في دوائر النشاط االدبي والصحافة االدبية والنشر ،وفي دوائر انتاج ثقافة سياسية لبنانية ،مستقلة ودستورية وديموقراطية في كثير من وجوھھا ،وتصدرتھا النخب المسيحية. تزامن نشاط “المكشوف” و”الندوة” في سنوات خمس ،انتھت في مطلع الخمسينات حين توقفت “المكشوف” عن الصدور بعد رحيل او انكفاء معظم أعالمھا االدبيين، وانتقال صحافييھا الى العمل في صحف يومية بيروتية .أما “الندوة” فتابعت نشاطھا حتى بدايات الحرب في .١٩٧٥ لكن “المؤسستين” شكلتا حلقتين اساسيتين في تاريخ الحياة الثقافية والثقافة السياسية في لبنان :شغلت “المكشوف” ،طوال ١٥سنة ،موقعا ً رائداً في التأريخ غير المكتوب بع ُد للحركة االدبية اللبنانية وصحافتھا .وشغلت “الندوة” دوراً اساسيا ً في انتاج ثقافة سياسية وادارية محورھا الدولة اللبنانية المستقلة ،وتمتين ركائزھا وحضورھا في ثقافة جماعات لبنان المتباينة ،قبل ان تقوّ ض ھذه الجماعات بحروبھا االھلية الملبننة تلك الدولة .واذا ق ّدر لذلك التأريخ ان يُكتب يوما ً ما ،فإن ھاتين “المؤسستين” ستكونان من مصادره المحورية. أعداد “المكشوف” وصفحاتھا ھي السجل المرجعي الوثائقي االوسع لحلقة من تاريخ الحركة األدبية اللبنانية غير المكتوب ،ألنھا المطبوعة االدبية األطول عمراً واألكثر استقطابا ً ألقالم اجيال متباينة في أعمارھا ،متقاربة ومتفاعلة في نشاطھا وذائقتھا
وتجاربھا ،في الحقبة األخيرة مما سمّي “عصر النھضة االدبية” البادئة في لبنان ومصر والمھجر االميركي منذ أواسط القرن التاسع عشر .واستلھاما ً لطريقة المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل في التأريخ للحقب المتصلة والمنقطعة على األمد الطويل ،شغلت “المكشوف” حلقة انتقالية وسيطة ما بين بدايات تلك النھضة ونھاياتھا ،ممھدة لما ُسمّي “الحداثة الثقافية” التي تص ّدرھا الشعر الحديث و”نجومه الرواد” في الخمسينات والستينات ،وشكلت بيروت ،في مجالتھا االدبية وصحافتھا الثقافية ونمط حياتھا الحر والمفتوح ،مساحة حرة وقطبا ً رحبا ً لتلك الحداثة ونجوم شعرھا حتى مطلع الثمانينات.
التعليم ،المدينة ،الصحافة جمعت “المكشوف” على صفحاتھا وفي منشورات دارھا حشداً كبيراً من اسماء االدباء والك ّتاب والصحافيين المنتمين الى اجيال متباينة .صدرت ھذه األجيال وتلك األسماء عن نھضة التعليم االرسالي المحدث واتساع قاعدته االجتماعية ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر .فشمل التعليم ،الى ابناء عائالت قدامى االقطاعيين والوجھاء والتجار والمھنيين الجدد ،ابناء فئات عاميّة واسعة في جبل لبنان وبيروت ،ومن المسيحيين خصوصاً ،وسواھم من الوافدين الى بيروت من بلدان المشرق ما بعد الحرب العالمية االولى. النھضة التعليمية ھذه كانت رافعتھا االساسية مدارس االرساليات وجامعتاھا المتنافستان في بيروت :القديس يوسف للمرسلين اليسوعيين الكاثوليك ،والجامعة االميركية للمرسلين االنجيليين البروتستانت .وقد تزامنت نھضة التعليم وشمولھا اجياالً متعاقبة ،مع نشوء الصحافة وازدھارھا في بيروت وحواضر جبل لبنان منذ عشايا الحرب العالمية االولى ،قبل ان تشھد توسعا ً نوعيا ً في بيروت غداة تلك الحرب .فبيروت عاشت منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر ،اكثر من نھضة مدينية وسّعت رقعة عمرانھا وأخرجته من انكفائه داخل اسوارھا القديمة .وفي كتيب عنوانه “الخروج من البوابات الثماني الى عمران المدينة” – ُنشر مرفقا ً بالعدد األول من مجلة جديدة صدرت في مطلع تشرين الثاني ،٢٠١٢عن “شركة اعمار وسط بيروت” )سوليدير( باسم “البوابة التاسعة” – وصف وضاح شرارة حلقات ذلك الخروج المتدرج: “كان عدد سكان بيروت “يناھز المئة الف نسمة في اوائل القرن العشرين ،بعدما كان ٦٠الفا في .″١٨٣٦قفزات تزايد سكان المدينة كانت سريعة ومضاعفة ايضا ً منذ مطالع القرن التاسع عشر .ويشدد الكاتب في ھذه الزيادة السكانية الكبيرة على
“ثقل الروافد الجبلية” ،اي المسيحية ،و”الخارجية” ،اي الھجرات المشرقية وتوافد الجاليات االجنبية .من األدلة على ذلك “حادثة طائفية أوقعت في بيروت سنة ١٩٠٣ نحو )١٥؟( قتيالً في اشتباك اشقياء برأس النبع ،معظمھم )؟( )أي القتلى( مسيحيون ،فترك بيروت الئذا بالجبل نحو ٣٠الف مسيحي بيروتي” .السكن المسيحي في بيروت تزايد ايضا ً بعد الحرب العالمية االولى وقيام دولة لبنان بعاصمته الجديدة التي خالطت سكانھا “روافد كثيرة ،غلب عليھا المصدر الجبلي”. ھذا كله ادخل “في صلب االسواق )البيروتية( تجاراً واصحاب مھن جديدة ،اطباء ومعالجين ووكالء ومقاولين وبيّاعي مفرق وموظفين اداريين ومترجمين وخبراء عمارة ورصف طرق” .كان قبل ذلك الميسورون في نواة السكن البيروتي القديم والمنكفئ ،يخرجون الى “الظواھر والمزارع والضواحي والروابي” القريبة من المدينة ،ويخالطون “المھاجرين من جبل لبنان ومن مدن الواليات العثمانية ومن المرافئ والحواضر االوروبية والغربية”. تأسيسا ً على ھجرات سابقة “التقت بشرق طريق الشام ،بين الصيفي والناصرة، وبزقاق البالط والقنطاري” ،نشأت مدينة بيروت المتجددة والمختلطة ،و”اقامت محل سورھا وخندقھا وھوية اھلھا مستودعات بضاعة ،ومسارح ومراقص ومقاه وشاشات )ودور سينما( ومحطات سفر” ،وكذلك مطاعم ووكاالت تجارية ومكاتب صحف. كان التعليم ركنا اساسيا في نھضة بيروت الحديثة ھذه وازدھارھا ،كما كانت نھضتھا وازدھارھا من عوامل تنامي التعليم وتوسعه وشموله النساء وخروجھن من كنف الحياة البيتية والعائلية الى الفضاء المديني العام .وكان صدور “المكشوف” جريدة لـ”العري” في سنتھا األولى عام ،١٩٣٥عالمة فاقعة ومثيرة لذلك الخروج وللتحريض عليه تحريضا ً استيھاميا ً مترجما ً ومدبلجا ً عن الصحافة األجنبية ،قبل أن تصير الجريدة جريدة لألدب واالدباء والك ّتاب ،شأن عشرات الصحف الناشئة والمتخذة مكاتب لھا في وسط بيروت المديني المتجدد منذ مطلع القرن العشرين. اجتمع والتقى وتعارف في مكاتب ھذه الصحف وعلى صفحاتھا عشرات ،وربما مئات من الك ّتاب المتفاوتي األجيال والتجارب والخبرات .في “المكشوف” وحدھا التقى بعض من أدباء وأعالم النھضة االدبية في لبنان والمھجر :أمين الريحاني، ميخائيل نعيمة ،عمر فاخوري ،الياس ابو شبكة ومارون عبود .ھؤالء ،على تفاوت أعمارھم ،كانت كتاباتھم تجتمع على صفحات “المكشوف” الى جانب كتابات أجيال اصغر منھم عمراً ،وتختلف عنھم في التجربة والتكوّ ن الثقافي :فؤاد حبيش ،ميشال أسمر ،لويس الحاج ،فؤاد حداد ،خليل تقي الدين ،توفيق يوسف عواد ،فؤاد أفرام
البستاني وسواه من البساتنة الك ّتاب .معظم ھؤالء اختلطت ميولھم األدبية بامتھان الصحافة والتعليم والترجمة ،وخالطھم في “المكشوف” ك ّتاب من الشبان الجدد وأصحاب الميل األدبي.
زمن اجتماعي صاعد كان األدب والتأدب والترجمة في أصل الرابطة العامة لمجموعات ھذه االجيال المتباينة وشللھا األدبية والصحافية التي انضوى بعضھا في “عصبة العشرة” و”ندوة اإلثني عشر” و”الثريا” و”أھل القلم” وسواھا .وجاء تحول “المكشوف” جريدة ادبية، إمارة على توسع ھذه الدوائر والروابط ،وعلى تفاعل االدباء والك ّتاب والصحافيين وأجيالھم المختلفة طوال ١٥سنة على صفحاتھا .في ھذا المعنى قيل ويُقال “زمن المكشوف” ،وكذلك “زمن الندوة اللبنانية” الحقا ً. دائرة أعالم األدب المتكونين في لبنان او المھجر ،البارزين على صفحات “المكشوف” )نعيمة ،الريحاني ،فاخوري ،أبو شبكة ،عبود ،ورئيف خوري( ،أخذ الموت يفاجىء بعضھم واحداً تلو آخر ،ابتداء من مطلع اربعينات القرن العشرين: في ٢٢تشرين األول ١٩٤٠خصصت “المكشوف” عددھا الـ ٢٧١لرثاء أمين الريحاني .وفي ١٨آذار ١٩٤٠خصت رشيد نخلة بعدد كامل ايضا ً .قبل ذلك ،في ٢٣كانون الثاني ،١٩٣٦وقفت عددھا كله للكتابة عن مدرسة “الحكمة” التي تخرج منھا ودرّ س فيھا كثيرون من ك ّتابھا وك ّتاب سواھا من الصحف ،فاستعاد المشاركون في كتابه العدد الخاص ،أھمية “الحكمة” وأفضالھا وريادتھا في حركة التعليم اللبناني. في ٣آب ١٩٤٦و ّدعت “المكشوف” عمر فاخوري بعدد خاص كامل تص ّدرته قصيدة رثائية اللياس ابو شبكة الذي لم تلبث الجريدة نفسھا ان ودعته بعدد خاص في ٣شباط .١٩٤٧ميخائيل نعيمة ،وھو من جيل النھضة األدبية األقدم ،عمَّر وتنسَّك في “شخروبه” ببسكنتا حتى مطالع الثمانينات ،مستمراً على نفور من المدينة اخترق الكثير من إنتاج األدب اللباني حتى عھد قريب .أما مارون عبود الكاتب والقاص الريفي الساخر والناقد األدبي و”معلم األجيال” في نھضة التعليم ،فاستمر اسمه حاضراً في “المكشوف” حتى عشايا توقفھا عن الصدور .رئيف خوري الناقد وصاحب “أديب في السوق” والمدرّ س وواضع كتب مناھج التعليم في آداب اللغة العربية ،ظل شأن عبود ،حاضر القلم في الخمسينات والستينات ،بعد مساھمته الدائمة في “المكشوف”.
كانت االربعينات ،إذاً ،خصوصا ً في نصفھا األول عھد إزھار “المكشوف” ،لكنھا كانت كلھا وفي بعض سنواتھا ،محطات لرحيل أعمدة الجريدة وبدايات انصرام عھد نوع من األدب والتأدب واألساتذة الذين كان صار كثيرون منھم مد ّرسين في الجامعة اللبنانية وكلياتھا الناشئة وفي دار المعلمين والمعلمات ،حيث ضلعوا في تربية أجيال جديدة من المتعلمين والمثقفين بثقافة أدبية جديدة عمادھا الشعر الحديث غالبا ً .فرفدت ثقافة ھؤالء الشبان الجدد صحافة الخمسينات والستينات والسبعينات األدبية وغير األدبية بطاقات جديدة .غلب على أولئك الشبان تعلمھم في الجامعة اللبنانية وتخرّ جھم منھا )خصوصا ً كليتي التربية واآلداب( ،وعملھم سنوات قليلة أو كثيرة في التعليم الرسمي في بدايات انھياره في عشايا الحروب الملبننة )(١٩٧٥ وأثنائھا .وغلب عليھم أيضا ً تحدرھم “العصامي” من بيئات اجتماعية ريفية مھاجرة الى المدينة. شجرة األنساب السريعة ھذه تشير الى خيط ما يخترق التكوّ ن االجتماعي – الثقافي المتقطع والمتحوّ ل ألجيال متالحقة من المتعلمين والمتثقفين ثقافة أدبية ،والعاملين في مھن الكتابة والصحافة والتعليم في حقب مديدة صاعدة وواعدة اجتماعيا ً وثقافياً، ومنحت أجيالھم المتعاقبة معنى وقيمة في سلّم االرتقاء االجتماعي ،المادي والمعنوي والرمزي ،منذ بدايات نھضة التعليم والنھضة األدبية في منتصف القرن التاسع عشر ،وطوال حوالى قرن ونصف القرن من زمن لبنان وبيروت االجتماعي واالقتصادي والثقافي المحدث والصاعد حتى عشايا الحرب.
منعطف سوري على عتبة االربعينات يستوقف منعطف جديد لـ”المكشوف” على صعيد الكتابة االدبية والصحافية :تكاثر اسماء الك ّتاب العرب على صفحاتھا ،وخصوصا ً السوريين ،من دون ان يغيب العراقيون والفلسطينيون .من االسماء المتكررة :نجاتي صدقي ،انور البرازي ،وصفي قرنفل ،نزيه الحكيم ،قدري قلعجي ،حيدر البرازي، انطون المقدسي ،سليم الجندي ،احمد عبد الجبار ،سعيد الجزائري ،انطوان موصلي ،ميشال الصراف ،اديب الداودي ،زھير الحمزاوي ،وفايز صايغ .بعض ھؤالء كتب – الى جانب متابعاته النشاط االدبي في المدن السورية ،والعراقية احيانا ً – في باب ش ّرعته “المكشوف” واسعا ً ودائما ً عنوانه “السرقات االدبية” الذي أرادته مثيراً وجاذبا ً لمناظرات ومعارك ادبية ،لتوسيع دوائر قرائھا في لبنان والعواصم العربية ،وخصوصا ً في المدن السورية ،دمشق وحمص وحلب.
يبرز في ھذا االطار شقاق ادبي ما بين الكتاب اللبنانيين والسوريين من جھة، والكتاب المصريين من جھة اخرى .في ھذا السياق كان الياس ابو شبكة قد كتب في العام ١٩٣٩مقالة طويلة عنوانھا “ابطال الحركة االوروبية في لبنان وسوريا” .ثم لم تلبث “المكشوف” ان اصدرت في ٢٧آذار من العام نفسه“ ،عدداً خاصا ً ممتازاً عن مظاھر الثقافة في سوريا” شاركت فيه كوكبة من الكتاب السوريين .لكن الجريدة سرعان ما بادرت في ١٠تموز ١٩٣٩ايضاً ،الى اصدار عدد مماثل “عن مظاھر الثقافة في مصر” شارك فيه كتاب مصريون.
التأريخ الغائب لبيروت
مذ نشرت بيان تحولھا جريدة اسبوعية لألدب واالدباء وصحافيّي الھوى األدبي في ايار ،١٩٣٦حتى توقفھا عن الصدور مطلع الخمسينات ،ظلت “المكشوف” جريدة ودار نشر ،محوراً للحركة االدبية وصحافتھا النشيطة والفاعلة في لبنان. “المكشوف” مع “الندوة اللبنانية” – بدأت نشاطھا في ،١٩٤٦وصدر مؤسسھا، مديرھا ومن ّ شطھا ،ميشال اسمر ،عن حلقات الحركة االدبية نفسھا وصحافتھا اللتين صدر عنھما كل من “المكشوف” ومؤسسھا المن ّ شط ،واستقطبت جريدته وداره للنشر معظم اعالم تلك الحركة ،ادباء وكتابا ً وصحافيين ،واضطلعت الدار بنشر الكثير من المطبوعات الصحافية القطاعية والمھنية – شكلت محاور ثالثة اساسية وفاعلة في الحياة الثقافية اللبنانية .فـ”المؤسسات” الثالث تقاطعت ادوارھا زمنيا ً وفي التعبير عن وجھة لبنانية في دوائر النشاط االدبي والصحافة االدبية والنشر ،وفي دوائر انتاج ثقافة سياسية لبنانية ،مستقلة ودستورية وديموقراطية في كثير من وجوھھا ،وتصدرتھا النخب المسيحية.
تزامن نشاط “المكشوف” و”الندوة” في سنوات خمس ،انتھت في مطلع الخمسينات حين توقفت “المكشوف” عن الصدور بعد رحيل او انكفاء معظم أعالمھا االدبيين، وانتقال صحافييھا الى العمل في صحف يومية بيروتية .أما “الندوة” فتابعت نشاطھا حتى بدايات الحرب في .١٩٧٥لكن “المؤسستين” شكلتا حلقتين اساسيتين في تاريخ الحياة الثقافية والثقافة السياسية في لبنان :شغلت “المكشوف” ،طوال ١٥سنة ،موقعا ً رائداً في التأريخ غير المكتوب بع ُد للحركة االدبية اللبنانية وصحافتھا .وشغلت “الندوة” دوراً اساسيا ً في انتاج ثقافة سياسية وادارية محورھا الدولة اللبنانية المستقلة ،وتمتين ركائزھا وحضورھا في ثقافة جماعات لبنان المتباينة ،قبل ان تقوّ ض ھذه الجماعات بحروبھا االھلية الملبننة تلك الدولة .واذا ق ّدر لذلك التأريخ ان يُكتب يوما ً ما ،فإن ھاتين “المؤسستين” ستكونان من مصادره المحورية. أعداد “المكشوف” وصفحاتھا ھي السجل المرجعي الوثائقي االوسع لحلقة من تاريخ الحركة األدبية اللبنانية غير المكتوب ،ألنھا المطبوعة االدبية األطول عمراً واألكثر استقطابا ً ألقالم اجيال متباينة في أعمارھا ،متقاربة ومتفاعلة في نشاطھا وذائقتھا وتجاربھا ،في الحقبة األخيرة مما سمّي “عصر النھضة االدبية” البادئة في لبنان ومصر والمھجر االميركي منذ أواسط القرن التاسع عشر. واستلھاما ً لطريقة المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل في التأريخ للحقب المتصلة والمنقطعة على األمد الطويل ،شغلت “المكشوف” حلقة انتقالية وسيطة ما بين بدايات تلك النھضة ونھاياتھا ،ممھدة لما ُسمّي “الحداثة الثقافية” التي تص ّدرھا الشعر الحديث و”نجومه الرواد” في الخمسينات والستينات ،وشكلت بيروت ،في مجالتھا االدبية وصحافتھا الثقافية ونمط حياتھا الحر والمفتوح ،مساحة حرة وقطبا ً رحبا ً لتلك الحداثة ونجوم شعرھا حتى مطلع الثمانينات.
جذر النھضة :لغوي – أدبي؟
في سياق التأريخ السريع لمحطات من الحياة األدبية وصحافتھا وأعالمھا على المدى الطويل ،يستوقف عدد خاص نشرته “المكشوف” في ١٥شباط ،١٩٤٦ لمناسبة مرور ٧٥سنة على وفاة الشيخ ناصيف اليازجي ،وإحياء لذكراه بصفته أحد األعالم الثالثة المؤسسين للنھضة األدبية واللغوية في لبنان .ھل النھضة ھذه أدبية ولغوية في جذرھا؟ أعالمھا في جيلھا األول ھم :الشيخ ناصيف اليازجي، نقوال الترك ،وبطرس كرامة .ويلحق بھم ويزامنھم لبعض الوقت في سياق آخر المعلم بطرس البستاني. ساھم في الكتابة عن اليازجي في عدد “المكشوف” الخاص به :مارون عبود، بطرس البستاني )ھو غير المعلم بطرس طبعا ً( ،إلياس ابو شبكة ،فؤاد افرام البستاني ،يوسف اسعد داغر وصالح الدين عالم .ھؤالء جميعا ً وسواھم برغم تفاوت أعمارھم ھم من األجيال األخيرة للنھضة األدبية ،وساھموا في إطالق “المكشوف” في ) ١٩٣٦لكن صالح الدين عالم قد يكون أحد اسمين مستعارين – اآلخر زھير زھير – استعملتھما “المكشوف” استعماالً دائما ً وكثيفا ً لكتابة مقاالت سجالية متعلقة بالفكرة اللبنانية وباالنقسامات الساخنة الدائرة حولھا .واالستعارة ھذه تطرح سؤاالً حول معنى ھذا التخ ّفي وداللته حين تصدي الجريدة لسجاالت اساسية ال يخفى بعدھا السياسي والطائفي( مقدمة العدد المغفلة التوقيع ،تشير الى ان دور اليازجي في النھضة كان “التبحّ ر في أسرار اللغة العربية ،تبسيطھا وتطويعھا لألفھام وتحبيبھا الى القلوب ،ونشرھا بين الجماھير” )غريب استعمال كلمة “الجماھير” في ھذا السياق ،قبل والدة الزمن الجماھيري وطغيانه بدءاً من الخمسينات( .أما “أبناء اليازجي وبناته )فانصرفوا( إلى مثل عمله انصراف العشرات من العيال )العائالت( اللبنانية :التحقيق والدرس
والنشر والتعليم” .لكن مارون عبود في مقالته عن اليازجي ،يخالف ھذه الوجھة النھضوية وينقضھا“ :كان شيخنا يستوحي الكتب القديمة ،ال يستلھم غيرھا في كل ما نظم وكتب .فكأني به ذات مجردة من المكان والزمان ،فما علق بشعره شيء منھما” .إنه ذات لغوية محضة أو خالصة إذاً .وھذا يؤكد الجذر اللغوي للنھضة. وبأسلوبه النقدي الثاقب والساخر ،يتابع عبود“ :من ال يعرف انه )اليازجي( نشأ في كفرشيما وشبّ واكتھل في بتدين )بيت الدين ،بديوان قصر األمير بشير الثاني( وشاخ في بيروت ،خاله من مواليد نجد واليمن” ،حيث المصدر البعيد للغة العرب. وتبلغ سخرية عبود ذروتھا ،فيكتب أن اليازجي وضع “مقامة في مجمع البحرين سمّاھا “المقامة اللبنانية” )لكن( ليس فيھا شيء من ريحة )رائحة( لبنان .فالمتنبي الذي مرَّ َع َرضا ً من وراء لبنان وشاھد قفاه أو قممه من حمص ،تأثر به أكثر من شيخنا” المساھم في تأسيس النھضة. بطرس البستاني )غير المعلم( يشير في مقالته عن اليازجي إلى “خدمته الفصحى وأبناءھا” )اللغة أيضا ً وأيضا( ،ثم إلى عمله في ديوان األمير بشير“ :قاعة العمود )حيث كانت تنعقد( حلقات )أميرية( للسياسة والتدبير وللك ّتاب والشعراء يرتفع فيھا صوت نقوال الترك وبطرس كرامة .أما رئيف خوري فكتب عن “يقظة الوعي العربي في مقامات اليازجي” :اليقظة والوعي ھذان ماذا يكونان في المقامات سوى لغويين؟ ھذا ما يؤكده الياس أبو شبكة حين يذكر ،في سياق مقالته عن اليازجي ،أن المعلم بطرس البستاني المولود سنة ،١٨٤٤مج ّد ٌد لغوي بامتياز .فھو “صاحب قاموس “محيط المحيط” و”دائرة المعارف” ،وأول من أنشأ جريدة عربية حرة في ھذه الديار”. الجريدة ھي “الجنان” التي أصدرھا البستاني سنة وفاة اليازجي ) ،(١٨٧١و”عھد تحريرھا البنه سليم البستاني ،فنشرت ترجمة لليازجي بقلم األديب سليم أفندي دياب”“ .المكشوف” ،بدورھا نقلت ھذه الترجمة عن “الجنان” وأثبتتھا في عددھا الخاص عن َع َلم النھضة ناصيف اليازجي .وھي ،بعد مرور حوالى مئة سنة على بدايات النھضة ،وعودتھا من سنة ضاللھا “رسوالً )صحافيا ً مترجما ً( للعري” ،لم تكن نھضتھا شيئا ً آخر غير نھضة أدبية – لغوية ،تشھد على ذلك عودتھا الى “جادة الصواب األدبي” ،مج ّددة في تناول الموضوعات األدبية وفي لغة الصحافة، ومساجلة في شؤون األدب واألدباء والشعراء وفي ما يتصل بذلك من قضايا واھتمامات. طوّ رت طوال عھدھا وجوھا ً كثيرة من العمل الصحافي ،فتابعت قضايا وقطاعات ونشاطات في الحياة االجتماعية والفنية )السينما خصوصا ً( ،وخصصت زوايا
لموضوعات إدارية ومعيشية ،ولشؤون السياسة الدولية ،لكن ھذا ال يقاس بمادتھا األدبية الطاغية .األدب ھنا ھو الكتابة األدبية التي تتناول موضوعات أدبية وتطلق سجاالت مدارھا األدب وحرفة األدب التي تبحر غالبا ً وتتبحر في ما يسمّى “العصور األدبية الكالسيكية” أو األقرب عھداً .التبحر في تلك العصور ،ما ھي مادته؟ اللغة طبعا ً )ألھذا شاعت في أدبيات الحداثة الشعرية المتأخرة زمنا ً عبارات مثل :تفجير اللغة؟ ( الى ھذا التبحر في مدارات األدب واللغة األدبية ،ھنالك الترحال في بعض إلنتاجات األدب العالمي ،قصة وشعراً ومقاالت صحافية ،اقتباسا ً وترجمة وتلخيصا ً .أما الغائب األكبر عن مدارات األدب ھذه ،فھو العالم المادي الحسي ،ھنا واآلن ،وھناك في األمس البعيد والقريب .وحين يجري تناول ھذا العالم الدنيوي ،غالبا ً ما تنتصب دونه غشاوات اإلنشاء األدبي .تغيب عن “المكشوف” )وغالبا ً عن صحافتنا اليوم( الكتابة الميدانية الحيّة التي تصف وقائع الحياة المادية واالجتماعية الزائلة، ظواھرھا ،حوادثھا ،تحوالتھا ،سياقاتھا .أي الكتابة التي تؤرخ وتطلق الوعي والمخيلة في النظر الى الوقائع ،بعيداً من االنشاء األدبي اللغوي .األرجح أن العوامل المؤسسة لھذا الغياب والباعثة عليه كثيرة متدافعة ،ومتعلقة بطبيعة الثقافة واللغة العربيتين النھضويتين ،وبطبيعة تكوّ ن الك ّتاب والصحافيين تكوّ نا ً أدبيا ً ومتأدباً ،كأن النھضة إحياء لغوي في جذرھا األساس. والحق أن معظم كتاب “المكشوف” يمتلك لغة أدبية متميزة في الكتابة التي تنأى من حيوية الوقائع الحسية وسيولتھا .كانت الحياة في “زمن المكشوف” قوية النبض والحوادث والتحوالت طوال ١٥سنة في المدينة وفي أرجاء لبنان ،لكن ھذا لم يحضر على صفحات الجريدة إال أدبيا ً وفي لغة أدبية .ولعل أمين الريحاني وعمر فاخوري ومارون عبود يخالفون ھذا المذھب في الكتابة .فـ”فيلسوف الفريكة” ليس فيلسوفا ً في الحقيقة ،بل أقرب الى رحالة يشاھد ويشھد ويؤرخ مشاھداته .أما فاخوري وعبود ،وكذلك رئيف خوري وتوفيق يوسف عواد ،فيتركون جانبا ً من أثقال لغة األدب االنشائية وتراثھا ،فيما ھم يكتبون متابعاتھم النقدية.
الحداثة الفردية المختنقة اعترض الروائي التشيكي والفرنسي الحقاً ،على التشوھات التي أدخلھا مترجم روايته “المزحة” من التشيكية الى الفرنسية .يقول كونديرا إنه كتب في روايته: السماء التشرينية زرقاء .المترجم الفرنسي كتب :السماء التشرينية ترفع رايتھا الباذخة .وكتب كونديرا :استولى عليّ الحزن ،أما المترجم فكتبَ :عل ُ ِقت في
أنشطوطة حزن عظيم .وحين كتب الروائي :النساء عاريات ،كتب المترجم :النساء يرتدين لباس حواء .ھذه التشوھات وأمثالھا الكثير حاضرة حضوراً طاغيا ً في أساليبنا الكتابية العربية حتى اليوم ومنذ ما قبل “المكشوف” التي تناول أحدھم فيھا الجنرال ديغول ،فكتب إن علينا أن “نحيّي فيه المِلح الخالدة” .آخر وصف الكاتب االميركي مارك توين بـ”ال َف ِك ْه” .ثالث أكثر من استعمال كلمات “الطرفة”، “ ُ الطرف” ،فيما ھو يكتب عن أشعار عزرا باوند. رابع وصف جنازة عمر فاخوري ،فكتب“ :كان نفر قليل يتناھد الى النعش” .خامس يخاطب اللبنانيين كاتبا ً – قائالً“ :الحلم الذي ھدھد المھ َد آلبائكم مئات السنين”، و”األمنية التي زغردتھا فتاة زغرتا لفتى األرز” ،قاصداً االستقالل بھذين الحلم واألمنية. لكن عمر فاخوري كتب وھو على فراش المرض قبيل أيام من رحيلهُ “ :ترى ھل نقضي العمر في التفلسف على الحياة من دون أن نحيا؟” .وكتب ايضا ً“ :نحن ال تاريخ لنا ألنه ال حياة .لكننا نؤرخ .نؤرخ اليأس”. قبل فاخوري ،غداة صدور كتاب ميشال أسمر “مذكرات ميشال زكور” عن “دار المكشوف” عام ،١٩٣٨علّق فؤاد حداد )أبو الحن( على الكتاب ،فاعتبر أنه مذكرات جيله وجيل أسمر ،المولود في الحرب العالمية األولى .وكتب حداد أن “األدب” الذي يكتبه ذلك الجيل الطالع في لبنان ،ھو “أدب األنانية” )األرجح أن الكاتب – المعلق كان يقصد باألنانية الذاتية أو الفردية( .وھا ھوذا يشرح معنى ذلك “األدب األناني” فيكتب أنه يعبّر عن“ :الضعف المستتر بالقوة ،الطھارة المغلّفة بالشھوات ،الحياة الراكدة تحت ھيجان المخيلة وغربة اإلحساس ،فيض الحب المھدور ،اإليمان المبطن بالكفر ،المجھول الشخصية )أي الغفل( ،برغم تع ّدد الشخصيات”. خلف ھذه الثنائيات التي ال يزال األدب اللبناني األحدث ،شعراً ونثراً ،يعتبرھا قدس أقداس الھوته التعبيري ،يكمن االختناق الجديد ،الفردي والذاتي ،بالفردية المقلقة أو الموقوفة .من االختناق ھذا يصدر معظم الالھوت – الجھاز التعبيري والفني الذي به تجاوزت الكتابة اللبنانية الحديثة االنشاء اللغوي للنھضة .ميشال أسمر يعبّر صادقا ً في مذكراته عن اختناقه بتلك الفردية األسيرة غير القابلة لالحتمال“ :آه منك يا نفسي! الى أين يقودني اھتمامي بكل نفثة من نفثاتك ونغمة من نغماتك؟ أنا مثقل بكِ ،متعب بنضجك”.
لماذا مُت ِعبٌ ھو النضج؟! ھل ال خالص من ھذه الحال إال ببراءة الطفولة أو بالنبوة الجبرانية أو بالموت؟
الحرية والتصدع األخالقي )(٨ أتذكر من “طواحين بيروت” صوراً ومواقف وعالقات لما يمكن تسميته “الضياع الوجودي” في المدينة )بيروت( ،كما صاغته المخيلة األدبية اللبنانية المحدثة في الستينات ومطالع السبعينات من القرن العشرين .عنوان الرواية يوحي أيضا ً بذلك النوع من الضياع :المدينة تطحن البشر ،أي تخلطھم ،تھصرھم ،تف ّككھم ،وتذرّرھم. لكن كلمة “طواحين” التي تك ّني ،في العنوان ،كناية مادية مباشرة عما تفعله المدينة بالبشر ،تحمل رجعا ً وأصداء من المخيلة األدبية القروية التي تشكل مصدراً أساسيا ً لألدب اللبناني ،في لغته وقيمه وقاموسه التعبيري ،حتى األمس القريب .وفي تلك المخيلة األدبية القروية ذات الجذر العامي الجبلي )المسيحي غالبا ً( يكثر حضور المدينة بوصفھا إطاراً للفساد والرذيلة والضياع ،في مقابل الطھر والنقاء والبراءة واألصالة القروية. في ما أتذكره من صور ومواقف روائية للضياع في “طواحين بيروت” حينما قرأتھا في مطالع السبعينات ،أن الضياع األخالقي والوجداني والعاطفي والجنسي نحو لشخصيات الرواية في بيروت ،لم يكن له مقابله ونقيضه القروي ،إال على ٍ خفيّ أو مضمر .لكن ذلك الضياع ،أو التمزق الوجودي الذي تعيشه تلك الشخصيات ،تق ّدمه الرواية بوصفه تص ّدعا ً قيميا ً وأخالقيا ً يل ّم بالوافدين الى المدينة، نتيجة انسالخھم عن بيئاتھم وثقافاتھم السابقة المستقرة اآلمنة والمطمئنة التي صدروا وانسلخوا عنھا. ھذه النظرة إلى المدينة )بيروت( حاضرة بقوة الفتة في موضوعات الشعر اللبناني. ففي مطلع سبعينات القرن العشرين كتب أحد الشعراء اللبنانيين الجنوبيين الشبان آنذاك قصيدة عنوانھا “بيروت” ،فشاعت مقاطع منھا على ألسنة جماعات طالبية واسعة )منھم كاتب ھذه السطور(“ :أيّ موت ش ّد يا بيروت رجليّ إلى ظھري/ ت أمي /بل خياناتي ألمي/ رماني /عند قدميك أبيع الضحك /أزني باألغاني /لس ِ
لملمي ثدييكِ /ثدياكِ زجاج /وشفاھي سئمت من حلمة الكاوتشوك /من رضع القناني”. الغريب أن صاحب “الرغيف” و”قميص الصوف” ،كان قبل أكثر من عقدين من نشره “طواحين بيروت” ،قد عبّر عن نظرة مختلفة تماما ً إلى المدينة ،حينما كتب في جريدة “المكشوف” منتصف ثالثينات القرن العشرين ،تحقيقا ً قصصي األسلوب عن بنات بيروت اللواتي خرجن إلى العمل في المكاتب والمخازن والمتاجر ،جازما ً بأن المحافظات منھن على “العفاف” ال تتجاوز نسبتھن الـ ٥في المئة .فـ”العذراء منھن تعطي كل شيء ما عدا خيط عنكبوت”. وھذا ،على ما يختم عواد تحقيقه“ ،ظاھرة جميلة ،فرحة ولذيذة .لكنھا ال تخلو من خطر” .لكنه يحرّض على اقتحام ھذا الخطر في سؤال ملھم“ :متى كانت الحرية خالية من األخطار؟” .أما في “طواحين بيروت” فألبس الروائي االخطار التي تنطوي عليھا الحرية في المدينة لبوس التص ّدع األخالقي.
مجتمع العمران البري والمنافي السكنية على تالل خلدة نموذج لالقتالع والتذرر وعنف الھويات المحتقنة )(٩
على تالل خلدة الساحلية – وھي كانت مقفرة يكسوھا غالف صخري تتخلله نباتات وشجيرات برية قبل عقدين من السنين او اكثر بقليل – ارتفعت بنايات العمران العشوائي شاھقة ،وتمددت تدريجا ً في القفر ،من دون نظام وال تصنيف الستعماالت
االراضي ،وقبل ترتيبھا وشق طرق وانشاء شبكات للخدمات فيھا .والمتجول العابر اليوم في السيارة على طرق تلك التالل ،بين البنايات العالية وورش البناء ،يصعب عليه تصنيف نوع العمران الناشئ والعثور على تسمية محددة له وفق التصنيفات العمرانية المعروفة: تالل مقفرة اجتاحتھا عشوائيا ً بنايات سكنية عالية ال يربط بينھا اي نظام سوى محاذاتھا طرق شقھا تجار البناء الجاھز والعقارات ،كل منھم على ھواه وكيفما اتفق وبأقل التكاليف الى بنايته وارضه وسط القفر .لكن تالل خلدة وجوارھا في خراج عرمون ال تنفرد وحدھا في لبنان اليوم بمثل ھذا النوع من العمران المنتشر كثيفا ً في ارجاء كثيرة من الجمھورية السائبة. فالناظر متأمالً في ما صار اليه عمران لبنان ،وفي انماط الحياة ودبيبھا فيه ،يدرك على اي حال من التمزق والفوضى العارمة يعيش اھالي ھذه البالد ويتدبرون شؤونھم العامة ويديرونھا .لذا ليس ما حدث ويحدث على تالل خلدة وعرمون اال نموذجا ً لما ھي عليه احوال العمران في مناطق لبنانية كثيرة ،مع بعض التفاوت واالختالف بين منطقة واخرى.
العمران البري ادى انشاء االوتوستراد الساحلي السريع الذي ربط بيروت بصيدا جنوباً ،الى فورة كثيفة من تشييد منشآت تجارية كبرى ومتوسطة وصغيرة على جانبيه .تبع ھذه الفورة تشييد بنايات سكنية خلف شريط المؤسسات التجارية ،ثم تمدد انشاء البنايات تدريجا ً على التالل ،فوصل اليوم الى اعاليھا ،وتوسعت الكتل العمرانية وتضخمت. وللوصول اليھا والخروج منھا ما بين مثلث خلدة ودوحة الحص ،تفرعت من وتعود االوتوستراد السريع طرق صغيرة شبه عشوائية ال يراھا سوى من خبرھا َّ االنعطاف اليھا .الطرق ھذه تتعرج على التالل بين البنايات وسط القفر بال ارصفة، وطبقة االسفلت عليھا رقيقة ھشة سرعان ما تتآكل وتغزوھا الحفر .الخدمات االساسية للبنايات ،من ماء وكھرباء ،وصرف صحي ،أُنشئت مثل الطرق ،بال تنظيم وال تخطيط :لكل بناية بئرھا االرتوازي للحصول على الماء ،وبئرھا او جورتھا لتجميع المياه المبتذلة والصرف الصحي ،ومولدھا لتوليد الطاقة الكھربائية، اضافة الى االتصال غير المنظم بالشبكة العامة. على مثال العمران الفوضوي على االراضي المشاع المقفرة بعدما صادرھا النافذون وجماعاتھم المسلحة في ضواحي المدن والبلدات والقرى ،فتقاسموھا اقتساما ً داميا في بعض األحيان وشيدوا عليھا متاجر وبيوتا وبنايات عشوائية في
أزمنة الحرب ،على ھذا المثال شيد تجار االراضي وسماسرتھا وتجار البناء الجاھز بناياتھم العالية على تالل خلدة ،فنشأ عن ذلك عمران بري وتجمعات سكنية ال تاريخ لھا وال نظام او نسيج عمراني يجمعھا .فقط طرق بدائية وبنايات في قفر لم يجر ترتيب اراضيه وانسنتھا ،ال قبل وضع اساسات المباني وال بعد انجازھا وبيعھا شققا ً سكنية جاھزة وانتقال اصحابھا ومستأجريھا لالقامة فيھا .بنايات مبعثرة على التالل بين الصخور ،وسكان بنايات في قفر ارسخ واقوى من العمران والسكان. واذا كانت ھذه حال العمران وساكنيه ،فان الحياة والعالقات االجتماعية ما بين السكان ال تختلف عن تلك الحال :اجتماع ومجتمع برِّ يان يقومان بين جدران الباطون والصخور وعلى منحدرات تشرف على بحر بعيد .واالقامة في ھذا المجتمع البري لھا طعم المنفى.
عرب المسلخ تبدأ حكاية عمران تالل خلدة المقفرة بلجوء مھجري “عرب المسلخ” النازلين قرب الكرنتينا شرق بيروت ،الى مسابح خلدة وشاليھاتھا في حرب السنتين )- ١٩٧٥ “ .(١٩٧٦الحزب التقدمي االشتراكي” نظم آنذاك اقامة المھجرين ورعاھا في تلك المسابح البحرية التي يوالي مالكھا ومالك االراضي المجاورة العائلة االرسالنية المناوئة للعائلة الجنبالطية التي تتصدر زعامتھا الحزب الجنبالطي “االشتراكي”. وسّع “عرب المسلخ” المھجرون مضاربھم خارج المسابح ،واقامت جماعة منھم مخيما ً لھا في القفر ،اسفل التالل الصخرية ،على مسافة قصيرة من الطريق الساحلي القديم السابق على انشاء االوتوستراد السريع الذي أزال انشاؤه المخيم. في االثناء ،اي في سنوات الحروب المتعاقبة ) ،(١٩٩٠ – ١٩٧٥ازدھرت تجارة اراضي التالل التي يروي قدامى العارفين بأحوال المنطقة وعقاراتھا ،ان مالكھا كانوا في معظمھم من المسيحيين والدروز .ھؤالء المالك ارغمتھم الحرب على بيع ارضھم المقفرة بأسعار متھاودة لمستثمرين كويتيين وتجار عقارات لبنانيين ،وذلك بعد شعورھم بغموض مصير امالكھم والمشاعات القريبة منھا ،حيث نزل مھجرو المسلخ وأقاموا مضاربھم. النافذون من المھجرين ،اولئك المستقوين بـ”الحزب التقدمي الجنبالطي ،برز دورھم كسماسرة عقارات في عمليات البيع والشراء ،ثم اشتروا بعض العقارات وضموا
اليھا مساحات من المشاعات على التالل القريبة ،فتحولوا شيئا ً فشيئا ً تجاراً ومالكا ً للعقارات .وللبناء عليھا ابتداء من مطالع التسعينات ،شاركوا تجار البناء الجاھز، وحصلوا على شقق سكنوھا في البنايات الجديدة.
صور ملحمية ابو ديب – وھو الوجه األبرز اليوم بين قدامى “عرب المسلخ” المقيمين في البنايات على تالل خلدة – اضفى صوراً ملحمية على كالمه عن عشيرته اثناء لقائنا معه في مضافته الزجاجية قرب سوبرماركت في الطبقة االرضية من احدى البنايات“ .كانت المدافع تقصف وتدمر ،فيما نحن ابناء العشيرة نشيّد البنايات في خلدة” ،قال .ھذه الصورة الملحمية كان ابو ديب قد استبقھا بأخرى تعود الى ايام الحروب الصليبية. جوابا ً منه على سؤالنا االول عن بداية العمران في خلدة ،قال ان عمرانھا عرف ثالث مراحل“ :في المرحلة االولى كنا نحن ابناء عشيرة زريقات من عرب الثغور واھلھا ،الى جانب التنوخيين ،في الدفاع عن السواحل ضد الغزاة الصليبيين. والمرحلة الثانية ھي مرحلة انشاء المسابح والفنادق على ساحل خلدة ابتداء من اوائل الستينات .اما المرحلة الثالثة فھي مرحلة الحرب عندما اشترى اھلنا ،عرب خلدة ،أراض على التالل من مالكھا االرسالنيين وسواھم من الدروز ،ثم شيدوا عليھا البنايات ،وباعوا قطعا ً منھا من مستثمرين وتجار عقارات” ،منھم حسين طعان ومحمد نائل. اثناء جلستنا دخل الى المضافة عدد من االوالد والفتيان ،تقدم كل منھم من ابو ديب وقبّل يده .اما الشاب الذي دخل اخيراً فوقف ابو ديب الستقباله وتبادال القبل على الخدين. سألنا ابو ديب عن حوادث وصدامات تحصل بين السكان في المنطقة ،ومنھا الحادثة التي قتل فيھا قبل أشھر شاب من آل شيخ موسى يدعى “كمال – ابو عدي” ،وكان سببھا المباشر شجار بين شبان نشب على خلفية تعليق صور والفتات ،فأدى الى تبادل اطالق نار ومطاردات. كان جواب محدثنا أن خلدة فيھا احزاب وتنشب خالفات ومنازعات بين احزابھا، كغيرھا من المناطق اللبنانية .اما “نحن عرب خلدة ،فنعالج الخالفات بروح عشائرية وننبذ األحزاب والحزبية”. ووفقا ً لكالم ابو دبيب يبلغ عدد الناخبين من عشيرة الزبقات في خلدة – بعد حملة التجنيس االخيرة في التسعينات – حوالى الف ناخب.
اما ابناء العشيرة المقيمين في بنايات المنطقة فيبلغ غددھم حوالى مئة الف نسمة. وھذه ارقام مبالغ فيھا كثيراً ،ألن ابو ديب نفسه قال ان ابناء عشيرته ال تتجاوز نسبتھم ٤او ٥في ا لمئة من اجمالي عدد سكان خلدة الذين توافد معظمھم من مناطق بيروت وضواحيھا واشتروا او استأجروا شققا في البنايات واقاموا فيھا.
خليط المنفى السكني في الروايات المختلفة التي جمعناھا عن إعمار تالل خلدة من بعض سكانھا المقيمين ،يتوارد ذكر ابو ديب بوصفه “شيخ العرب” وأحد كبار تجار العقارات والبناء الجاھز في المنطقة ،الى جانب آخرين كثيرين من آل الحسيني والخنسا والسعدي ونائل وعائالت اخرى .اما قطع االرض التي تشغلھا معارض لتجارة السيارات المستعملة الى جانب االوتوستراد ،فتعود ملكية معظمھا الى كويتيين اشتروھا في زمن الحرب او قبلھا من قدامى مالكھا المسيحيين او الدروز بأسعار بخسة عبر سماسرة من “عرب المسلخ” .وبعد انشاء االوتوستراد صادر نافذون في الميليشيات قطعا ً من االراضي المملوكة “الداشرة” واقاموا عليھا معارض تجارة السيارات .تزايدت على جانبي االوتوستراد المؤسسات التجارية ،ومنھا “افران شمسين” لصاحبھا ابو فادي الحلبي الذي يعمل في افرانه عمال سوريون كثيرون الى جانب غيرھم من العاملين في ورش البناء والمقيمين قربھا في غرف مؤقتة مشيدة على عجل .لكن العمال السوريين اخذوا يستأجرون في البنايات شققا ويستقدمون من سوريا نساءھم واوالدھم لالقامة فيھا ،فخالطوا “عرب المسلخ” وسواھم من سكان الشقق المباعة والمستأجرة. قبل العام ٢٠٠٠كانت غالبية سكان البنايات ،اضافة الى “عرب المسلخ” السنة ،من أسر س ّنية من العرقوب وأخرى بيروتية من الطريق الجديدة ال يم ّكنھا وضعھا االقتصادي من شراء شقق او استئجارھا في بيروت .وكانت تخالط ھذا الخليط اقلية شيعية وافدة من الضاحية الجنوبية أو الجنوب .فأسعار الشقق في خلدة ادنى بكثير منھا في العاصمة وضواحيھا .لكن الوافدين البيارتة للسكن في شققھم لم يألفوا االقامة ونمط العيش في الطبيعة البرية ،وال في بيئتھا االجتماعية الجديدة الشبيھة بالمنفى ،فقام كثيرون منھم بتأجير شققھم وعادوا لالقامة في احياء بيروت الشعبية. غير ان تجار العقارات والبناء الجاھز ثابروا على تشييد البنايات بما يفوق الطلب على الشقق التي يبيعونھا بالتقسيط و”على الخريطة” في اثناء الشروع ببنائھا.
األسعار المتھاودة للشقق السكنية في خلدة حملت فئات شعبية من صغار الم ّدخرين على شراء شقق يستثمرون بھا مدخراتھم في انتظار بيع الشقق بعد ارتفاع أسعارھا، أو تأجيرھا.
مشروع نائل كان “مشروع نائل” الذي يضم مجموعة كبرى من البنايات على منحدر غير بعيد من األوتوستراد ،من أضخم المشاريع العمرانية في خلدة قبيل العام ٢٠٠٠وبعده بقليل .يحوي المشروع مئات الشقق التي بيعت “على الخريطة” من صغار م ّدخرين سنة في غالبيتھم الساحقة .لكن محمد نائل توفي قبل إنجاز مشروعه ،فعمد مشترو الشقق في المجمع الكبير الى استكمال البناء وتجھيزه كل على ھواه ووفق إمكاناته المادية .نجم عن ذلك قيام مجمعات سكنية مشوھة غير مكتملة الخدمات .والمجتمع الناشىء في بنايات المجمع يشبه في اضطرابه وتمزقه وتذرره الوضع العمراني المشوه للمشروع :مياه الصرف الصحي تسيل على اسفلت الطرق الھش وتحفر فيھا أخاديد .امام البنايات وخلفھا ترعى بعض من األغنام والشاة .السكان خليط من “عرب المسلخ” وفقراء السنة الريفيين أو البيارته المھمشين .على الطريق الصاعدة الى خلدة من تحت جسر يعلو االوتوستراد ،نشأ ما يشبه سوق صغيرة غير بعيد من بنايات المجمع .روائح المياه المبتذلة السائلة على الطريق تفوح ن ّفاذة في األرجاء، وصوال الى أعلى المنحدر .المصلى أو الجامع الصغير أقيم الى جانب الطريق في جھة من السوق. ھذه المشاھد الجزئية تعود الى نھار جمعة من أواسط شھر تشرين الثاني الجاري. كان دبيب الحياة قويا ً في ظھيرة الجمعة تلك .رجال وشبان وفتيان ملتحون في غالبيتھم يتوافدون الى المصلى – المسجد .كثيرون منھم يرتدون دشاشيش، فيخلعون أحذيتھم ويدخلون الى باحة المصلى الداخلية ،حيث يفترشون الحصر. خطيب المسجد على منبر صغير في الزاوية يتحدث عما يفعله “اليھود المجرمون” في غزة .صوت الخطيب يختلط بصوت شيخ آخر كان قد ركن سيارته المرسيدس أمام مبنى المب ّرة او الحسينية ودخل اليھا على مسافة أمتار من المصلى .شيخ المبرة يتلو مقتطفات من السيرة الحسينية الكربالئية في عاشوراء .خلف األوتوستراد والمنشآت التجارية المحاذية له بنايات سكانھا في غالبيتھم من الشيعة .على مدخل المبرة الفتة رخامية مكتوب عليھا أنھا شيدت في العام .٢٠٠٣ شعور بالتوتر وعدم األمان يراود الغريب عن ھذه البيئة .لكن حركة السيارات والمشاة في المكان متسارعة ومضطربة ،وتخيم عليھا األصوات العالية المنبعثة من
المصلى والحسينية ،وصوال الى األرجاء المتباعدة في األعالي .في جولة في السيارة المبتاطئة في سيرھا على الطرق وسط بنايات “مجمع نائل” الكئيبة، الشاھقة ،كانت أصداء خطيب المصلى والحسينية تتردد قوية من مكبرات صوت منصوبة على أعالي البنايات .مياه الشطف والغسيل والصرف الصحي مندلعة على اسفلت الطريق ،وفي بورة صغيرة تحيطھا صخور تسرح دجاجات وصيصان.
جولة سريعة في جولة سابقة بالسيارة قبل شھرين أو ثالثة من نھار الجمعة ،كان الدليل المقيم في المنطقة منذ العام ) ٢٠٠٥علمت أخيراً أنه نزيل في سجن رومية( ،قد قال :أنظر، أنظر الى تلك المرأة التي تترجل من الرانج الروفر .إنھا تلبس بلوزة تنحسر عن بطنھا ،وھي زوجة مسؤول إحدى المنظمات الحزبية في خلدة .كانت السيارة تنطلق بنا من السوق في اتجاه مطعم “ھارون الرشيد” على تلة صغيرة .تالوة القرآن من الحسينية والمصلى كانت تتباعد خلفنا .ھنا سكان البنايات خليط من العرب والسنة والشيعة ،قال الدليل ،وتابع :ابن بيروت يشتري شقة ھنا ليؤجرھا أو ليبيعھا ويحصّل بعض األرباح ،فال يسكن فيھا ،ألن الجو ھنا ليس جوه .ھنالك في األعلى بعض الفيالت للبيع ،يتشارك في انشائھا مستثمرون كويتيون ومحليون ،منھم “شركة عقاريا”. تصعد السيارة على الطريق بين الروابي الصخرية والبنايات والورش المتباعدة. األعالم والالفتات الحركية والحزبية تشير الى ھوية المستثمرين والسكان ،قال الدليل .على ذلك الجدار فوق كلمة “أمل” كتبت كلمة “عمر” ،والعكس يحدث ايضا ً. األعالم ترفرف على كثير من أعمدة شبكة الطاقة الكھربائية .ابتعدت السيارة قليالً من العمران .ھذه المنطقة يسمنونھا “قبرص” ألنھا بعيدة ،تابع الدليل .أصوات جرافات تصل من البعيد .ذلك البناء الكبير كان مدرسة خاصة ،بعد موت صاحبھا اقتسمھا نجاله مدرستين“ :ال سيم” و”ال سيتيه” ،يأتي في األوتوكارات للتعلم فيھما تالمذة من إقليم الخروب وبلدات الجية والناعمة وحارة الناعمة التي تبدلت ھويتھا الديموغرافية تماماً ،قال الدليل ،وتابع :لقد ابتعدنا من خلدة قليالً ،وھذا خراج عرمون ،حيث مدرسة “البيادر” الخاصة على حدودھا ،وعلينا أن نعود نزوالً لنعبر في بنايات “مشروع نسيم البحر”.
مشروع نسيم البحر روى الدليل وسواه من سكان المنطقة ،أن موجة من تجارة العقارات وتشييد البنايات في خلدة ،ھبت قوية بعد تحرير الشريط الحدودي في العام .٢٠٠٠غلب الشيعة
على ھذه الموجة الصاعدة تدريجا ً من قرب األوتوستراد وصوالً الى التالل العالية، حيث نشأ المشروع األكبر المسمى “نسيم البحر” الذي قال أبو ديب إن االراضي التي أنشئ عليھا كان يملكھا األمير فيصل ارسالن ،فباعھا لتجار البناء الجاھز، وكان معظمھم من الطائفة الشيعية .وبعد تشييد الحسينية في أسفل السوق القريبة من األوتوستراد ،أخذت تنشأ مصلبات صغيرة في أسافل بنايات “نسيم البحر” الذي ضم عشرات البنايات المنحدرة من أعالي التالل حتى مضافة أبو ديب غير بعيد من “مشروع نائل”) .حين التقينا أبو ديب في مضافته ،كانت فرس مربوطة في فسحة أرض صغيرة أمام السوبر ماركت( .استمرت موجة البناء ھذه متصاعدة حتى العام ،٢٠٠٥فتوقفت أو ضمرت قليالً .وفي األثناء شيدت على تلة ما بين “نسيم البحر” و”مشروع نائل” ،بنايات “مجمع الطاھر” ألحد المشايخ األقطاب في الطائفة الدرزية .لكن شقق ھذا المجمع اشتراھا خليط من أبناء الطائفتين السنية والشيعية، الى قلة قليلة من الدروز. بعد أسابيع قليلة من نھاية حرب تموز ،٢٠٠٦ھبت موجة عمرانية جديدة في مجمع “نسيم البحر” ،فتزايدت بناياته) .في نھار من تلك االسابيع سجَّ ُ لت في منزل مقاتل من “حزب ”eيقيم في إحدى بنايات المجمع ،شھادة عن تلك الحرب التي شارك الرجل في معاركھا في الجنوب ،واستشھد له فيھا ولدان اثنان مقاتالن معه( .غداة تلك الحرب كانت الحياة في بنايات المجمع خافتة ،ومجللة باألعالم والرايات السود وال تزال.
التوتر واالحتقان في الزيارتين المتباعدتين لخلدة أخيراً ،روى الدليل أن تجار البناء الشيعة ما بين ٢٠٠٦و ،٢٠٠٨كانوا يشترون العقارات على تالل خلدة بأسعار عالية ،ويشيدون عليھا البنايات ،رغم تضخم عرض الشقق للبيع وزيادته عن طلب شرائھا .أبو ديب نفسه أكد ھذه الواقعة ونسبھا الى تسابق اللبنانيين على االستثمار في العقارات وتجارة البناء .الى جانب ھذه الظاھرة ،روى الدليل ايضا ً أن التسابق على شراء العقارات وصل الى بلدة الشويفات .ما بين حرب تموز ٢٠٠٦و ٧أيار ،٢٠٠٨ عاشت منطقة خلدة ومجمعاتھا السكنية توتراً على إيقاع الخطب المتعاقبة التي كان يلقيھا كل من السيد حسن نصر eوالرئيس فؤاد السنيورة أو سعد الحريري ،فيطلق شبان في المنطقة النار في الھواء احتفاالً بخطيبھم ونكاية بالخطيب اآلخر .حتى أن السالح بدأ يطھر في مناسبات كثيرة ،منھا أثناء صالة الجمع وخطبھا في المسجد والحسينية .وفي ھذه الحقبة بدأ يظھر تكاثر شبان من السلفيين الملتحين والمتطرفين جھاديا ً في بنايات “مجمع نائل”.
لكن شبان “حزب ”eكانوا يرصدون ھؤالء السلفيين وسالحھم ،وصوالً الى ٧أيار ،٢٠٠٨حينما قامت مجموعات مسلحة ومق ّنعة من “حزب ”eبدخول المجمع في سيارات ،طالبة من كل من لديه سالحا ً من سكانه أن يسلمه فوراً .وھذا ما حصل فعالً ،ألن المسلحين المھاجمين باغتوا سكان المجمع وكانوا أقدر تنظيما ً وإعداداً عسكرياً ،ويعرفون الشبان السلفيين ومن المسلح منھم ،ولديھم لوائح تفصيلية باسمائھم .وروى الدليل ايضا ً أن تجار سالح على صلة بـ”حزب ”eكانوا حتى عشية ٧أيار يقومون بشراء السالح بأسعار عالية ومغرية من المحازبين الدروز “االشتراكيين” في الشويفات وخلدة. بعد ذلك أخذ االحتقان يتزاد في خلدة ،معطوفا ً على موجة جديدة من تزايد البناء، وعلى فرز طائفي متفاقم بين السكان .قطبا ھذا االحتقان ھما “مجمع نائل” و”مجمع نسيم البحر” .أما االحتكاكات فغالبا ً ما تحدث في السوق ،حيث المسجد الذي يتكاثر فيه المصلون من شبان السلفية ،وحيث الحسينية في طرف السوق غير بعيد من األوتوستراد .الترصد مستمر بين شبان السلفية وشبان “حزب ،”eأما محازبوا “تيار المستقبل” فغالبا ً ما يلتزمون بيوتھم في أوقات االحتقان ،على ما روى الدليل، وأضاف أن للسلفية إمتداداتھا في الناعمة وحارة الناعمة ،فيما تشكل مناطق األوزاعي وحي السلم ومدينتي “الحسين” و”العباس” في صحراء الشويفات امتدادات لشبان “حزب ”eو”حركة أمل” في نسيم البحر وسواه من البنايات في خلدة. ھذا المجتمع البري أقرب الى منفى سكني .لذا يفتقد سكانه شروط إقامة “حضرية” تؤمن دورة حياة وفضاءات ووسائل وأطراً تتعدى السكن العاري في بنايات يحوطھا قفر طبيعي .في ھذا المنفى ينغلق العالم وتنغلق مخيلة الساكنين وعالقاتھم، وخصوصا ً الشبان والفتيان منھم ،على احتقان وعنف مقيمين ،ھما مرآة تلك االقامة العارية في قفر الجدران والطرق والصخور ،ومرآة مكبرة لفراغ نفسي وروحي يعيشه سكان مقتلعون ومنفيون الى مكان ال تاريخ عمرانيا ً واجتماعيا ً له سوى تاريخ الھويات المحتقنة.
االستھالك “المتقشف” للنخبة الطالبية في شارع بلس )(١٠
يبدو طلبة الجامعة االميركية على خالف الصورة الشائعة عنھم من أنھم مسرفون ّ مبذرون في مصاريفھم ،منظوراً اليھم من زاوية نمط االستھالك اليومي السريع، ومن طبيعة السلع والخدمات التي يقدمھا إليھم شارع بلس .ھذا ما تؤكده طبيعة المتاجر والمطاعم والخدمات في الشارع الجامعي الذي يتحكم السلوك االستھالكي “المتقشف” والنخبوي غير الباذخ للجمھرة الطالبية التي ترتاده طوال النھار .اما المكتبات وسواھا من مستلزمات الحياة الثقافية ،فيشير تضاؤلھا في بلس الى انصراف الطلبة عن االھتمام بالثقافة ،اال في دوائر طالبية ضيقة. في معالمه البارزة الراھنة وفي ما يقدمه من خدمات ،ال يشبه شارع بلس ،الشوارع المماثلة له في كثير من مدن العالم .فالمكتبات القليلة واقتصار بعضھا على تقديم خدمة االستنساخ ،وكذلك ندرة المؤسسات والمنتديات الثقافية في الشارع الجامعي، تعكس ضعف اھتمام الطلبة اليوم بالثقافة العامة ،المكتوبة أو الكتابية منھا على وجه الخصوص ،اال في دوائر ضيقة وغير بارزة في الحياة الطالبية .اما ثقافة االداء والصور والعروض البصرية والمشھدية المحدثة والما بعد حداثية ،الشائعة والمزدھرة نسبيا ً في دوائر شبابية متفرقة من بيروت ،فتكاد نشاطاتھا تستقل وتنفصل عن اطر الحياة اليومية العامة للطلبة ،وال حضور لمنتدياتھا في شارع بلس.
االقتصاد الطالبي تزدھر في الشارع مطاعم الوجبات السريعة التي تناسب كثافة الحياة اليومية السريعة العابرة على رصيف شارع يع ّج بمئات الطلبة طوال ساعات النھار. على خالف الفكرة الشائعة عن طلبة الجامعة االميركية من انھم يتمتعون بقدرة شرائية عالية ،ويُقبلون على استھالك خدمات باذخة مرتفعة االسعار ،ھم في الحقيقة والواقع “مقتصدون” في مصاريفھم اليومية ،بما يتناسب مع ما يحصلون عليه من “خرجية” من اھلھم ،ومداخيل من اعمالھم الموقتة في الجامعة والعطل .لكن تدني “مداخيلھم” الشخصية ال يعني ان اھلھم من ذوي العسر المادي .فطلبة الجامعة االميركية ھم من فئات اجتماعية متوسطة على وجه االجمال وفي غالبيتھم العددية، من دون ان تخلو ھذه الغالبية من طلبة ينتمي اھلھم الى فئات ميسورة وعالية المداخيل ،او الى فئات اخرى ما دون المتوسطة .اما ما يحدد السلوك االستھالكي الشخصي الشائع للطلبة على وجه العموم ،فھو سلوك طالب الفئات المتوسطة المحدثة التي تتحمَّل اسرھا نفقات االقساط الجامعية المرتفعة ألبنائھا ،اضافة الى مصاريفھم الشخصية التي يحرص األبناء الطلبة على اتباع سلوك مقتصد فيھا، قوامه عدم التبذير في حياتھم الجامعية اليومية. يفرض “االقتصاد الطالبي” طابعه على اصحاب المتاجر ومطاعم الوجبات السريعة المتنافسة تنافسا ً قويا ً ودقيقا ً في ابتكاراتھا المتجددة وفي اسعار وجباتھا وسلعھا وخدماتھا في بلس ،كي تناسب اذواق الطلبة المحدثة والمتغيرة ومقدرتھم الشرائية المحدودة .ھذا بدوره يفرض نوع المنشآت واالستثمارات المربحة في شارع جامعي ترتفع اسعار عقاراته واستثمارھا على نحو قد يكون االعلى في بيروت ،بعد وسطھا الجديد. غالبا ً ما يقوم طلبة ھذه الجامعة بتدارس اسعار ما يحتاجونه من سلع يومية، وبمقارنة جودتھا واسعارھا بمثيالتھا المتوافرة في متاجر الشارع ومطاعمه ،كي يقبلوا على شراء المناسب منھا مع ضبط لمصاريفھم اليومية .ھذه حال األكثرية من الطلبة ،أما االقلية التي تبذر من غير حساب ،فليست ھي من يحدد السلوك االستھالكي الطالبي الكثيف والمقتصد في الشارع ،مما يحمل المستثمرين على عدم التعويل على القدرة الشرائية العالية لھذه االقلية. وبالرغم من ان الجمھور الطالبي العام في بلس ،نخبوي وحديث ثقافيا ً وفي نمط العيش والقيم ،فإن المستثمرين في ھذا الشارع يحرصون على عدم تقديم سلع وخدمات نخبوية باذخة او فخمة في متاجرھم ومطاعمھم .وھم فوق ھذا شديدو
التنافس في تقديم حاجات ووجبات تناسب جودتھا أذواق الطلبة النخبويين ثقافيا ً وفي نمط العيش .ذلك أن من الصعب على طالب يقيم في المسكن الجامعي او في منزل اھله او في شقة طالبية مشتركة ،ويتحمل اھله كلفة اقساطه الجامعية المرتفعة، ويحصل منھم على مصاريفه اليومية ،ان يرتاد مطاعم فخمة تقدم وجبات مرتفعة االسعار .فسرعة الحياة اليومية الطالبية ومتطلباتھا وخفتھا – من فطور عابر الى غداء في مطعم للوجبات السريعة ،الى سھرة مع صديقة او صديق في مقھى او مربع ليلي ،الى اختيار ثياب وازياء شبابية محدثة ونخبوية لكن غير باھظة االسعار – تح ِّتم على الطلبة موازنة مصاريفھم واختيار السلع والخدمات المنخفضة االسعار. اذا اضفنا الى ھذا كله ان الطلبة غالبا ً ما يوفرون من مصاريفھم اليومية كي يتمكنوا من شراء ھدية مميزة لصديقة حميمة او صديق حميم ،وان اھل الطلبة يحاولون عدم تزويد ابنائھم مداخيل )خارجية( وفيرة ،لتعويدھم ،تربوياً ،على االستقالل المادي وضبط المصاريف ،نعلم لماذا تتحكم الدقة في الحسابات بسلوك المستثمرين في شارع بلس .المستثمرون عليھم مراعاة كل ھذه العوامل المتشابكة والمعقدة في سلوك الطلبة وأمزجتھم ومقدرتھم االستھالكية. أما أسعار العقارات واالستثمارات الباھظة في الشارع والمنطقة كلھا ،فتحتم على المستثمرين ابتكار معادلة صعبة ودقيقة تم ّكنھم من تقديم سلع وخدمات يقبل الطلبة عليھا إقباالً كثيفا ً وضخما ً يعوّ ضان تد ّني اسعار مبيعھا ،مع المحافظة على جودتھا النسبية ،وتكفل أرباحا ً مدروسة ناجمة عن كثافة الطلب وضخامته عليھا .ھذه المعادلة ھي التي تفضي الى تكاثر مطاعم األكل السريع وبيع المناقيش ومتاجر بيع المرطبات وزجاجات المياه ،وسواھا من سلع مماثلة ،كالشوكوال والعلكة والبوظة، في شارع بلس.
طفرة الفاست فود الفرن القديم الذي كان اسمه “األفران الوطنية” في وسط بلس )وھو فرن رواية “سنة األتوماتيك” لحسن داوود( ،ب ّدل اسمه وديكوره ونوع سلعه اخيراً ،كي يتناسب مع الطابع االستھالكي الطالبي الجديد في الشارع ،ف ُترجم اسمه العربي القديم الى االنكليزية ،وصار “ناشيونال بيكري” .ثم إنه قلّص من انتاجه الخبز وتوزيعه على متاجر المنطقة ومطاعمھا ،وح ّدث نوع المناقيش التي يبيعھا واضاف اليھا مناقيش الصاج ،إلى جانب بيعه القھوة وزجاجات المياه وسواھا من سلع سريعة مشابھة.
مكان سينما “أورلي” الراحلة في بداية الشارع ،اف ُتتح مطعم من سلسلة “زعتر وزيت” الذي اطلق موجة حديثة ،متطورة وشديدة التنوع من المناقيش التي أصبحت في لبنان كله من أقوى سلع األكل السريع انتشاراً واستھالكا ً. دخلت الى بلس الدكاكين والزوايا الصغيرة التي تقدم مناقيش الصاج المتنوعة، والـ”ھوت دوغ” والبوظة .أما مربّع الـ”أنكل سام” قبالة مدخل الجامعة الرئيسي ،فلم يستقر على حال ،منذ توقفه عن كونه مربعا ً ليليا ً شھيراً .فمستثمروه الجدد المتالحقون لم يھتدوا الى معادلة تم ّكنھم من تقديم سلع وخدمات مناسبة ألذواق الطلبة ومداخيلھم ،فيما حافظ مطعم الھامبرغر القديم “يونيفرسل” قبالة “انكل سام” على استمراره برغم أن مقدرة المتاجر والمطاعم على االستمرار في بلس ليست سھلة في سوق يشتد فيھا التنافس القاسي ،وتنتشر المعلومات عن نوعية سلعھا واسعارھا انتشاراً سريعا ً بين الطلبة المستھلكين الذين غالبا ً ما تح ّدد متطلباتھم انواع السلع الرائجة ،ويفرضون أذواقھم على المستثمرين. خبرة بعض الطلبة في أشكال االستھالك الرائجة والناجحة في الشارع ،حملت اخيراً طالب ھندسة على فتح محل صغير للمناقيش سمّاه اسما ً خفيفا ً الھيا ً ” ،“Come ci come sageمتبعا ً اسلوبا ً حديثا ً في العرض والديكور وبيع السلعة .ھذا ما م ّكنه من إنشاء فرع ثان لمحله قرب الجامعة اللبنانية االميركية، وثالث في شارع الجميزة .اما المقھى – المطعم األحدث ،فاستوحى اسمه “فود وان أو وان” من أحد المقررات الجامعية )وان أو وان( ،وق ّدم الى القھوة ،اصنافا ً من السلطات والمآكل السريعة المدروسة األسعار ،مما م ّكنه من النجاح ،عاكسا ً في ديكوره طابع الحياة الطالبية.
شارع الليل الشعبي لكن شارع بلس الطالبي ،طابعا ً وجمھوراً واستھالكا ً في النھار ،غيره تماما ً في الليل الذي يخليه من الطلبة خلواً تاماً ،ويحوله محطة لجمھور آخر من المرتادين العابرين الذين يأتون اليه في سياراتھم غالباً ،في نھايات السھرات ومن أحياء المدينة المختلفة ،السيما الشعبية منھا ،لتناول ما تقدمه مطاعمه من المآكل السريعة ومن البوظة والعصائر ،مستفيدين من بقائھا مفتوحة حتى ساعة متأخرة من الليل، ومن أسعارھا المتدنية .يختلط في جمھور الشارع الليلي الساھرون المتأخرون القادمون وشبان األحياء الشعبية الصادحة في سياراتھم األغاني الرائجة ،وعائالت من الضواحي تخرج ليالً للتنزه وتناول السندويشات والمناقيش والبوظة والعصير،
فتزدحم جنبات الشارع بسيارات ھذه الفئات من المساء حتى ما بعد منتصف الليل، فيما تكون ازدحمت طوال النھار بسيارات الطلبة وبالمشاة العابرين الذين تغلب عليھم الجمھرة الطالبية. الجمھرة الليلية الكثيفة وسياراتھا التي تجتمع روافدھا المتنوعة وتختلط في الشارع أمام مطاعم األكل السريع ومحال البوظة ،تماثل جمھرة اخرى تشبھھا ويستمر حضورھا طوال الليل تقريبا ً أمام مطاعم “بربر” قبالة البيكاديللي في شارع الحمراء ،وفي نھاية شارع سبيرز في القنطاري .قد يكون جاذب الفئات الشعبية من روافد الجمھرة الليلية ھو سمعة الشارع الكوزموبوليتية الراقية او النخبوية المتصلة بالجامعة االميركية وبمنطقة رأس بيروت عموما ً. ھذا إضافة الى تد ّني اسعار ما تقدمه مطاعم الشارع الطالبي النھاري ومحاله ،من سلع وخدمات سريعة لقاصديه وعابريه الليليين الذين يتوافدون اليه من نواحي المدينة وأحيائھا المختلفة .ھذه الوظيفة الليلية للشارع خلقتھا وظيفته االخرى الطالبية النھارية .فتعدد وظيفة الشارع الواحد ودوره في المدينة ،وكذلك تباين فئات روّ اده واختالفھا بحسب مواقيت الحياة اليومية وتقطعھا ،ھما من طبيعة الحياة المدينية التي ال تھدأ وال تستقر على حال واحدة .وھذه حال المتنزھين والمتريضين والعابرين على كورنيش بيروت البحري. المراجع ) (١ملحق النھار في ٢٠١٣-١٠-٢٦ ) (٢ملحق جريدة النھار في ٢٠١٣-٠٩-٢٨ ) (٣جريدة النھار في ٢٠١٣-٠٩-٠٤ ) (٤ملحق جريدة النھار في ٢٠١٣-٠٨-٠٣ ) (٥جريدة النھار في ٢٠١٣-٠٢-٢٨ ) (٦ملحق جريدة النھار في ٢٠١٣-٠١-١٢ ) (٧ملحق جريدة النھار في ١٢-١٢-٠١ )(٨جريدة النھار في ٢٠١٢-١١-٣٠ ) (٩جريدة النھار في ٢٠١٢-١٢-٢ ) (١٠ملحق جريدة النھار في ٢٠١٢-١١-١٠