الدولة البيزنطية

Page 1




‫خالل القرنني السادس والسابع امليالديني‬ ‫(‪ 610-518‬م)‬


‫الدولة البيزنطية‬ ‫في ضوء إصداراتها القانونية‬ ‫خالل القرنين السادس والسابع الميالديين‬ ‫(‪ 610-518‬م)‬

‫تأليف‪ :‬خيرية فرج َحفالِش‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في مارس ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫والدى العزيزين‪،‬‬ ‫أهدى باكورة كتبي إلى‬ ‫ّ‬ ‫على‪،‬‬ ‫وإلى أخى ّ‬ ‫وإلى زوجى‪،‬‬

‫وإلى أوالدى ‪:‬‬ ‫خديجة‪،‬‬ ‫عزيزة‪،‬‬

‫محمد‪،‬‬



‫المحتويات‬ ‫تقديم ‪9.......................................................................................‬‬ ‫المقدمة ‪11....................................................................................‬‬

‫المبحث األول‪ :‬أسباب سقوط اإلمبراطورية الرومانية ‪15............‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬ظهور الدولة البيزنطية ‪37..................................‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬مالمح القانون الروماني ‪45..............................‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬القانون البيزنطي ‪73..................................................‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬مراسيم األباطرة ‪75..........................................‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬قرارات مجلس الشيوخ ‪115................................‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬دور فقهاء القانون البيزنطي ‪131..........................‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬المؤثرات الداخلية في القانون البيزنطي ‪153.................‬‬ ‫المبحث األول‪ :‬المؤثرات الداخلية في العصر البدائي ‪155............‬‬ ‫المبحث الثاني‪ :‬المؤثرات الداخلية في العصر الجمهوري ‪165..........‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬المؤثرات الداخلية في عصر اإلمبراطورية‬ ‫العلمي والسفلى ‪175..................................................................‬‬


‫الفصل الثالث‪ :‬الحقوق الرومانية وأثرها في التشريع اإلسالمي ‪209..........‬‬

‫المبحث األول‪ :‬تاريخ القانون في عصر ما قبل اإلسالم ‪211..........‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬المبادئ العامة لنظام الحكم في اإلسالم ‪225.........‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬الحقوق الرومانية وأثرها في التشريع اإلسالمي‬ ‫عند المستشرقين‪239..................................................................‬‬

‫الخاتمة ‪247....................................................................................‬‬ ‫المالحــق ‪253................................................................................‬‬ ‫المصادر والمراجع ‪261....................................................................‬‬


‫تقديم‬ ‫لم أجد مناصا من التوقف عن الهروب من صعوبة كتابة مقدمة لهذه‬ ‫الدراسة! ومبعث الصعوبة لم يكن فقط من كون كاتبة هذه الدراسة‬ ‫التاريخية ـ والتي هي رسالة لنيل درجة الماجستير ـ هي زوجتي‪ ،‬وال من‬ ‫كوني أعتقد شخصيا ـ رغم أنى لست متخصصا في التاريخ ـ أنها دراسة‬ ‫متفردة حول مرحلة من تاريخ أوروبا الوسيط‪ ،‬والذي نسميه نحن ـ في‬ ‫أدبياتنا العربية ـ عصور الظالم‪ ،‬وهو األمر الذي تثبت هذه الدراسة أنه‬ ‫دامسا كما نحب أن نعتقد! بل إن مبعث الصعوبة كان في‬ ‫لم يكن ظال ًما ً‬ ‫أنني قد عاصرت الظروف الشخصية والخاصة لميالد هذه الدراسة‪.‬‬ ‫وأذكر أن تلك الظروف كانت تحدّ يا حقيقيا ألي باحث‪ ،‬وخاصة إن‬ ‫كانت امرأة عليها أن تعتني بطفلة في الشهر السادس من عمرها‪ ،‬فيما يتخلق‬ ‫جنين آخر سيولد بعد شهر واحد من والدة هذه الدراسة!!‬

‫ومع ذلك فقد تعرفت في خيرية على صفة المثابرة واإلصرار‪ ،‬والتعالي‬ ‫على ظروف السكن السيئة‪ ،‬والظروف المالية غير المواتية‪ ،‬وصعوبة‬ ‫الحصول على المصادر‪ ،‬وتعذر توفر حتى االنترنت كوسيلة للبحث‪،‬‬ ‫وبمراجع محدودة ـ مذكورة في آخر الرسالة ـ تمكنت من الحصول‬ ‫‪9‬‬


‫لها عليها من معرض القاهرة الدولي للكتاب‪ ،‬حققت من خاللها أقصى‬ ‫االستفادة‪ ،‬وبصعوبات تتعلق بالمشرف‪ ،‬نظرا لعدم وجود هذا التخصص‬ ‫أصال (التاريخ االوروبي الوسيط) في الجامعات الليبية‪ ،‬رغم هذا كله‪ ،‬فقد‬ ‫أنجزت السيدة خيرية فرج حفالش أطروحتها العلمية بنجاح!‬ ‫لم تكن الشهادة العلمية هي الهدف‪ ،‬بل كانت الجرأة في البحث في‬ ‫مجال غير مطروق‪ ،‬والتعاطي مع الفكرة المعتادة‪ ،‬التي تقول أننا كنا ننعم‬ ‫بشمس مشرقة في حضارة مزدهرة في العصور الوسطى‪ ،‬بينما كانت‬ ‫أوروربا تعيش فى ظالم دامس!!‬ ‫وال تعنى صحة الجزء األول من الفكرة‪ ،‬التي تؤكد ازدهار الحضارة‬ ‫العربية اإلسالمية في العصور الوسطى‪ ،‬صحة الجزء الثاني المتعلق بأوروبا‬ ‫وظالمها الدامس‪ ،‬لكن مشكلة ربطنا لهذين الجزأين‪ ،‬هو ما جعلنا ننعم ـ‬ ‫في عصرنا الحاضر ـ بظالمنا الدامس‪ ،‬فيما تنعم أوروبا بشمس مزدهرة‬ ‫ومجتمع حيوي نشط مساهم في الحضارة البشرية!!‬

‫نحن نتغنى بشمس حضارة عظيمة كانت لنا ذات يوم‪ ،‬يوم كنا (نعمل)‬ ‫بعقولنا وابتكاراتنا للمساهمة فى نهضة البشرية‪ ،‬ووصلنا إلى أن أصبحت‬ ‫بغداد هي جامعة العالم في كل الفنون والعلوم‪ ،‬لكننا اليوم‪ ،‬لم نتعلم درس‬ ‫أوروبا التي ـ حتى في عصورها غير المزدهرة ـ لم تتوقف عن بذل الجهد‬ ‫من أجل تحسين األداء وتجاوز الضعف‪ ،‬واكتشاف المشكالت وح ّلها‪،‬‬ ‫حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم!‬ ‫وأخيرا‪ ،‬فالمثابرة‪ ،‬وقهر الظروف القاهرة‪ ،‬والعمل في أوضاع ال تسمح‬ ‫بالعمل‪ ،‬الذي قامت به خيرية في انجاز هذا العمل‪ ،‬هو جزء من ذات‬ ‫الرسالة التي تود هذه الدراسة إيصالها إلينا جميعا!!‬ ‫إدريس ابن الطيب‬

‫‪10‬‬


‫المقدمة‬ ‫الحمد لله والصالة والسالم على محمد ﷺ‪...‬‬ ‫العبث والنبوغ وااللتزام‪ ...‬تلك هي روما ربيبة الجمال وأستاذة القانون‬

‫بحضارة عريقة امتدت إلى قرون طويلة‪ ،‬فال عجب إذا قيل أن روما غزت‬

‫العالم ثالث مرات؛ مرة بجيوشها‪ ،‬وثانية بكنيستها‪ ،‬وثالثة بقانونها‪.‬‬

‫القانون مناط العدل فاإلنسان ال يستطيع أن يعيش منفر ًدا بدً أ من‬

‫األسرة الصغيرة إلى العشيرة ثم القبيلة‪ ،‬ومن مجموعة القبائل تتكون األمم‬

‫والشعوب‪ ،‬وما تبع ذلك من نشوء العديد من األعراف والتقاليد والعادات‬ ‫التي بموجبها تستحسن الجماعة تصر ًفا ما‪ ،‬وتستجيب له وتستهجن تصر ًفا‬

‫آخر وترفضه‪ ،‬وهذا ما يسمى بحقوق األفراد والجماعات وما يقابلها من‬ ‫واجبات‪ .‬ومن هنا نشأت فكرة القانون لحاجة اإلنسان لألمن والطمأنينة‬

‫واالستقرار‪ ،‬وهي قديمة قدم الحضارات اإلنسانية‪ ،‬وهي التي دفعته‬

‫إلى إصدار العديد من التشريعات والقوانين القديمة‪ ،‬فالحضارات التي‬ ‫نشهد آثارها لم تقم أية منها على جهل‪ ،‬بل قامت على علم وعلى أنظمة‬

‫شرعية لتنظيم حياة اإلنسان بما يكفل حماية الحقوق على اختالفها من‬ ‫‪11‬‬


‫أي اعتداء‪ ،‬فنجد تحديدً ا دقي ًقا للجرائم والعقوبات والجزاءات والغرامات‬

‫المالية كما هو َب ّين في قانون حمورابي الذي يعد من أقدم القوانين التي‬

‫عرفتها البشرية‪ ،‬حيث صدر في القرن السابع ق‪.‬م‪ ،‬بعد أن توحدت كافة‬ ‫المدن والممالك الواقعة على نهر الفرات بالعراق في مملكة واحدة تحت‬

‫حكم أسرة حاكمة أشهر ملوكها حمورابي الذي عمل على توحيد دياناتها‬ ‫وقوانينها كلها في قانون واحد يضم ‪ 285‬مادة ظل محتف ًظا بجوهره طيلة‬ ‫خمسة عشر قرنًا ً‬ ‫كامل‪.‬‬

‫أما قانون صولون فهي مجموعة قوانين صدرت في أثينا حوالي سنة‬

‫‪ 594‬ق‪.‬م‪ ،‬وكانت تمثل تطلع اإلنسان في ذلك الحين إلى نوع من الحكم‬ ‫الديمقراطي‪.‬‬

‫أيضا قانون األلواح االثنى عشر أيضا صدر هذا القانون في سنة‬ ‫هناك ً‬ ‫‪ 509‬ق‪.‬م في روما مع قيام العصر الجمهوري‪ ،‬وقد ُأدخل عليه العديد‬

‫من اإلضافات والتعديالت بوساطة المشرع والبرايتور وهو يعد األساس‬ ‫لجميع القوانين الرومانية حتى ظهور مدونة جستنيانوس‪.‬‬

‫العدل حمل النفس على إيتاء كل ذي حق حقه والتزام ذلك على وجه‬

‫الثبات واالستمرار‪ .‬أما الفقه فهو معرفة األمور اإللهية واألمور البشرية‬

‫والعلم بما هو حق شر ًعا وبما هو غير حق‪.‬‬

‫الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية هي موضوع هذه الرسالة‪،‬‬

‫وخالل هذه الدراسة حاولت معرفة أسباب سقوط اإلمبراطورية الرومانية‪،‬‬

‫وكيف انتهت روما وكيف ورثتها بيزنطة‪.‬‬

‫بيزنطة المسيحية تتأثر بروما الوثنية؛ فهل مسألة اإلرث هذه جاءت‬ ‫‪12‬‬


‫مع إطالق تسمية الدولة الرومانية الشرقية لبيزنطة؟ أم أنها وريثتها؟ وهل‬

‫الحضارة البيزنطية امتداد للحضارة الرومانية اآلفلة؟ وما مدى تأثر الشريعة‬ ‫اإلسالمية بالقانون الروماني؟‬

‫سأحاول اإلجابة على هذه التساؤالت خالل الفصول التالية ففي‬

‫التمهيدي تناولت أسباب سقوط اإلمبراطورية الرومانية وظهور الدولة‬

‫البيزنطية‪ ،‬أما الفصل األول فقد خصصته للكالم في مراسيم األباطرة‬

‫وقرارات مجلس الشيوخ ودور فقهاء القانون البيزنطي‪ ،‬وفي الفصل‬

‫الثاني عرجت على المؤثرات الداخلية في القانون البيزنطي اقتصاد ًيا‬

‫وثقاف ًيا واجتماع ًيا‪.‬‬

‫أما الفصل الثالث رغم بعده الزمني عن فترة الدراسة التي أنا بصددها؛‬

‫إال أن سبب اختياري له‪ ،‬كلما قرأت كتاب مترجم عن التاريخ الروماني‬

‫إال وجدت فيه أن الشريعة اإلسالمية قد اقتبست منه الكثير؛ لذلك حاولت‬

‫عقد مقارنة بينهما لمعرفة ما إذا هذا صحيح أم غير صحيح‪ ،‬ونوهت في‬

‫الخاتمة على أهم النتائج التي انتهت إليها الرسالة والتوصيات‪.‬‬

‫المنهج التاريخي المتبع في هذه الرسالة يعتمد على السرد والمقارنة‪.‬‬

‫أما أسباب اختيار الموضوع فالتاريخ البيزنطي متشعب وبكر وهو يحتاج‬

‫إلى بحث وتنقيب‪ ،‬أما هدف الموضوع هو معرفة هل بيزنطة ورثت روما‬ ‫بكل ماضيها أما أنها أضافت إليها الكثير؟ وهل التاريخ اإلسالمي تأثر‬

‫بالحضارة الرومانية؟‬

‫أما عن أهم الكتب التي تناولت هذا الموضوع فهي مراجع وليست‬

‫مصادر أهمها‪:‬‬

‫‪13‬‬


‫‪ 1‬ـ مونييه‪ ،‬موجز القانون الروماني‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ عبد العزيز فهمي‪ ،‬مدونة جوستنيانوس‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ غسان رباح‪ ،‬الوجيز في القانون الروماني والشريعة اإلسالمية‪.‬‬ ‫إال أن هذه الكتب وغيرها تناولت أجزاء متفرقة من موضوع الرسالة‬ ‫فعبد العزيز فهمي ً‬ ‫مثل كان كل تركيزه على جستنيانوس فقط وهذا على‬ ‫كل حال ليس عي ًبا‪ ،‬فجستنيانوس يحتاج إلى مجلدات كثيرة للحديث عنه‪.‬‬

‫أما أهم المشكالت التي واجهتني فهي قلة المصادر األجنبية التي‬ ‫تتحدث عن هذا الموضوع؛ إال أنه قد اعتمدت بقدر جهدي على كل‬ ‫مرجع طالته يداي؛ إال أن الكمال لله وحده‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫المبحث األول‬

‫�أ�سباب �سقوط الإمبراطورية الرومانية‬ ‫إن أعظم ما يواجهه التاريخ مشكلتان؛ أولهما‪ :‬كيف قامت اإلمبراطورية‬ ‫عظيما‬ ‫دورا‬ ‫ً‬ ‫الرومانية؟ والثانية‪ :‬كيف سقطت ؟‪ ،‬فقد ُقدّ ر لروما أن تلعب ً‬ ‫في الشؤون اإلنسانية حيث كانت أهميتها راجعة في المحل األول إلى‬ ‫وقوعها وسط حوض البحر المتوسط ما حدا بالرومان إلى أن يدعوه‬ ‫بحرنا (‪ )Mare nostrum‬فالبحر المتوسط كان أحفل بقاع العالم بالسكان‪.‬‬ ‫� ً‬ ‫ومناخها‪:‬‬ ‫أول‪ :‬طبيعة تكوين �إيطاليا ُ‬

‫لمعرفة أسباب السقوط البد من معرفة المكان وما يحتويه قبل كل‬ ‫شيء؛ لذلك سوف أقوم بإلقاء الضوء على اإلقليم الشمالي والجنوبي‬ ‫وجزيرة صقلية لإلحاطة بإيطاليا من حيث طبيعة تكوينها ومناخها‪.‬‬ ‫أ ـ اإلقليم الشمالي أو وادي البو ‪: Po‬‬ ‫االسم القديم إيطاليا (‪ )Italia‬ومعناها «أرض العجول» كناية عن الغنى‬ ‫في المرعى وتربية الماشية‪ ،‬أنشد فيها فيرجيلوس (‪ً )Vergilus‬‬ ‫قائل‪« :‬هنا‬ ‫‪15‬‬


‫الربيع الدائم والصيف حتى في غير أشهره هنا تلد األنعام مرتين»‪ .‬وكان‬ ‫اإلغريق هم الذين أطلقوا هذا االسم في القرن الخامس قبل الميالد على‬ ‫الطرف الجنوبي الغربي لشبه الجزيرة المجاورة لصقلية‪ ،‬وبالتدريج أخذ‬ ‫مدلول هذا االسم يتسع إلى أن أصبح اسم إيطاليا قبل نهاية القرن األول‬ ‫قبل الميالد يشمل جغراف ًيا وسياس ًيا كل البالد من أقصى الجنوب حتى‬ ‫جبال األلب‪ .‬واإلقليم الشمالي من إيطاليا وهو عبارة عن سهل فسيح تطوقه‬ ‫سلسلة جبال األلب على هيأة هالل غير منتظم يمتد من البحر األدرياتيكي‬ ‫قرب تريستا حتى البحر المتوسط قرب نيس على الريفييرا الفرنسية‪ ،‬ووادي‬ ‫نهر البو‪ ،‬وهو أعظم أنهار إيطاليا جمي ًعا يشغل أكثر أنحاء هذا السهل‪ ،‬ما أدى‬ ‫إلى ازدهار الزراعة فيه بسبب خصوبة التربة ووفرة المياه(((‪.‬‬ ‫ب ـ اإلقليم الجنوبي أو شبه الجزيرة اإليطالية‪:‬‬

‫اإلقليم الجنوبي يتكون من شبه جزيرة تقع بين البحر التيراني في الغرب‬ ‫والبحر األدرياتيكي في الشرق فحين أن اإلقليم الشمالي يفتقر إلى شواطئ‬ ‫طويلة وتطوقه سلسلة جبال األلب دون أن تخترقه‪ ،‬ويخلو من البراكين‪ ،‬تحف‬ ‫الشواطئ باإلقليم الجنوبي على طول امتداده وتشقه سلسلة جبال األبيناين‬ ‫(‪ ،)Abenine‬وتوجد في بعض مناطق الشاطئ الغربي والجزر المجاورة له‬ ‫عدة براكين بعضها خامد شمالي نهر التيبر وجنوبيه في سهل أتروريا (‪)Etruria‬‬ ‫والتيوم (‪ )Latium‬وكمبانيا (‪ )Campania‬وبعضها اآلخر ال تزال تمارس‬ ‫نشاطها منذ العصور القديمة؛ فيزيفيوس في كمبانيا بالقرب من خليج نيابوليس‬ ‫(‪ )Neapolis‬وأستر مبولي بإحدى جزر ليباري وأثنا في صقلية‪ ،‬وبالرغم ما‬ ‫((( ول ديورانت‪ ،‬قصة الحضارة‪( ،‬ت‪ :‬محمد بدران )‪ ،‬ج‪ ،1‬بيروت‪ ،‬دار الجيل‪،‬‬ ‫‪ ،1955‬ص ص‪.9-5‬‬ ‫‪16‬‬


‫كانت لثورات البراكين من نتائج مدمرة وقت حدوثها إال أن نتائجها على‬ ‫المدى الطويل كانت مفيدة ذلك أن ما قذفته من حمم ساعد على تكوين تربة‬ ‫جيدة صالحة بوجه خاص لزراعة الكروم‪ ،‬كما أنه في جهات عديدة من هذه‬

‫الجبال توجد غابات كثيفة ومراع رحبة‪ ،‬وأما الجانب الغربي لجبال األبيناين‬

‫فإنه أقل ارتفا ًعا وأكثر بعدً ا عن شاطئ البحر التيراني ما أتاح أمرين؛ وأولهما‬

‫هو وجود سهول واسعة هي سهول أتروريا والتيوم وكمبانيا‪ ،‬وإن كانت تتناثر‬

‫في أرجاء هذه السهول عدة تالل مرتفعة‪ ،‬األمر اآلخر هو وجود أربعة أنهار‬ ‫كبيرة نسب ًيا وهي من الشمال إلى الجنوب‪ :‬األرنوس (‪ )Arnus‬والتيبر (‪)Tiber‬‬ ‫وليريس (‪ )Liris‬وفولتورنيوس (‪.((()Volturnius‬‬ ‫ج ـ جزيرة صقلية‪:‬‬ ‫أما عن الجزر القريبة من إيطاليا فإن صقلية وحدها هي التي قامت بدور‬

‫مهم في التاريخ الروماني؛ وهذا يتضح في الصراع بين روما وقرطاجة‬

‫وال يفصل صقلية عن شبه الجزيرة اإليطالية إال مضيق مسينا (‪)Massina‬‬

‫كما أنه ال يفصلها إال ‪ 128‬كم من بحر غير عميق عن أفريقيا‪ ،‬حيث كانت‬

‫ترابظ قرطاجة‪ ،‬وهي التي أقامت لها مستعمرات في صقلية‪ ،‬وكانت‬ ‫كبيرا‪ ،‬وبهذا عدت روما سيدة شبه الجزيرة اإليطالية‬ ‫تمارس فيها نشا ًطا ً‬ ‫حتى استشعرت ضرورة السيطرة على صقلية لحماية شبه الجزيرة من‬

‫الغزو الخارجي(((‪ .‬استفاد اإليطاليون من جزيرة صقلية في معرفة الشرق‬ ‫((( الذهبي‪ ،‬جميل بواقيم‪ ،‬فاروق فريد‪ ،‬حضارة روما‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬ ‫‪ ،1961‬ص‪.36‬‬ ‫((( نصحي‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬تاريخ الرومان من أقدم العصور حتى عام ‪ ،132‬ج‪ ،1‬القاهرة‪،‬‬ ‫مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪ ،1978 ،2‬ص ص‪.17-12‬‬ ‫‪17‬‬


‫وسياسته فعرفوا فنونه وبضائعه وكان التجار الرومان هم الوسطاء الطبيعيين‬ ‫بين الشرق والغرب(((‪.‬‬ ‫كان سكان إيطاليا يحكمهم ملوك من الرومان‪ ،‬والتواريخ القديمة‬ ‫تجعل عام ‪ 753‬ق‪.‬م بداية تأسيس روما أي بعد تأسيس قرطاجة المدينة‬ ‫الفينيقية العظيمة بنصف قرن(((‪.‬‬ ‫كانت اإلمبراطورية الرومانية األكبر واألغنى واألعظم‪ ،‬فكان مقرها‬ ‫مدينة روما امتدت عبر ثالث قارات‪ ،‬وتضم ماليين الناس‪ ،‬وقد دامت‬ ‫اإلمبراطورية «‪ 500‬سنة»(((‪ ،‬فقد استطاع مواطني روما أن يجعلوا من‬ ‫مدينتهم الصغيرة دولة كبيرة ذات قوة عظمى بسطت سيطرتها على حوض‬ ‫البحر المتوسط‪ ،‬وكانت تضم أعدا ًدا كبيرة من الشعوب الناطقة باللغات‬ ‫الهندواوروبية (‪ )Indoeuropean‬وبدأت اإلمبراطورية في التوسع حتى‬ ‫ابتلعت في جوفها الدولة الفارسية وبالد اإلغريق‪ ،‬وكانت خالل ذلك‬ ‫تتوصل إلى التطور واالرتقاء وبهذا االتساع ضمت اإلمبراطورية بين‬ ‫حدودها جميع مراكز الحضارات القديمة(((‪.‬‬ ‫كـانت رومـا تمتلك جيشـًا قو ًيا سيطر على األراضي القريبة‪ ،‬وفي‬ ‫عام ‪ 30‬ق‪.‬م سيطرت روما على أغلب أوروبا وشمال أفريقيا ولحراسة هذه‬ ‫((( شيقل‪ ،‬فرديناند‪ ،‬الحضارة األوروبية في القرون الوسطى‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار العلم‬ ‫للماليين‪ ،‬ط‪ ،1952 ،1‬ص ص‪.46-45‬‬ ‫((( ويلز‪ ،‬هـ‪ .‬ج‪ ،‬موجز تاريخ العالم‪( ،‬ت‪ :‬عبد العزيز توفيق جاويد )‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة‬ ‫النهضة المصرية‪ ،1958 ،‬ص‪.143‬‬

‫‪(3) Encyclobidia Britanica , Pubicazione eletronica della Rivista Panorama‬‬ ‫‪Italia, 2007.‬‬

‫((( ويلز‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.143‬‬ ‫‪18‬‬


‫الفتوحات بنى الرومان األسوار والحصون العسكرية وبنوا طر ًقا ممتازة‬ ‫أيضا حتى يتمكن الجنود من الزحف بسرعة إلى مواقع االضطرابات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫بلغت اإلمبراطورية الرومانية أقصى اتساعها في زمن اإلمبراطور أغسطس‬ ‫(‪ ((()Augustus‬هادريانوس (‪ ،)Hadrianus‬ففي داخل الحدود المنيعة‬ ‫تم بناء شبكة من الطرق امتدت من أطراف اسكتلندا إلى الصحاري‬ ‫العربية إذ أن حدود اإلمبراطورية تشمل الجزر البريطانية وشواطئ أوروبا‬ ‫األطلسية غر ًبا إلى بالد الرافدين وساحل بحر قزوين شر ًقا ومن وسط‬ ‫أوروبا حتى شمال جبال األلب وإلى الصحراء األفريقية الكبرى والبحر‬ ‫األحمر جنو ًبا‪ ،‬والبحر المتوسط بدوره وفر لها ً‬ ‫متشابها ومواصالت‬ ‫مناخا‬ ‫ً‬ ‫سهلة فاشتدت الحركة على هذه الطرق ونشطت حركة التجارة والسلع‬ ‫وازدادت حركة تبادل السلع بين أقاليم اإلمبراطورية المختلفة‪ ،‬وقد كان‬ ‫لسهولة المواصالت وتيسير تبادل المتاجر أكبر األثر في قيام الوحدة‬ ‫وازدياد التجانس في اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬ثم أعاد هادريانوس تنظيم‬ ‫الجيش وهيأ شرطة جديدة وفرق مكافحة الحرائق‪ ،‬وبعد وفاة أوغسطس‬ ‫هادريانوس جاء بعده مجموعة من األباطرة حكموا روما‪ ،‬منهم من سار‬ ‫على سياسته نفسها ومنهم من جاء بسياسات مخالفة(((‪.‬‬ ‫كان نيرو ً‬ ‫مثل من األباطرة المستبدين واإلمبراطور ترايانوس‬ ‫(‪ )Trajanus‬كان من األباطرة البارزين‪ ،‬وكان نظام الواليات في حكومة‬ ‫((( المعروف أن شهر أغسطس ُسمي بذلك نسب ًة لإلمبراطور اوكتافيوس‪ ،‬الذي أصبح‬ ‫يعرف بأغسطس‪ ،‬ومعناه‪ :‬شريف أو زعيم مقدس‪ ،‬حافظ أحمد غانم‪ ،‬اإلمبراطورية‬ ‫الرومانية من النشأة إلى االنهيار‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،2007 ،‬ص‪.45‬‬ ‫((( العريني‪ ،‬السيد الباز‪ ،‬تاريخ أوروبا العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫‪ ،1968‬ص ص‪.8-7‬‬ ‫‪19‬‬


‫روما يتم انتخابها كاآلتي‪ :‬فكل والية تحكم من قبل الحاكم‪ ،‬ويتم االنتخاب‬ ‫فيها عن طريق المسؤولين وأحيانًا من قبل الملوك والرؤساء المحليين‪ ،‬كل‬ ‫شخص في اإلمبراطورية يدفع الضرائب ويطيع القوانين‪ ،‬كما أن العمالت‬ ‫كانت صكوك رومانية‪ ،‬فالعمالت المعدنية توضع عليها صورة اإلمبراطور‬ ‫وبذلك يعرف عهد كل إمبراطور(((‪.‬‬ ‫حكمت روما تقري ًبا «‪ 50‬مليون» شخص‪ ،‬منهم اإلغريق‪ ،‬المصريين‪،‬‬ ‫أفارقة‪ ،‬عرب‪ ،‬يهود‪ ،‬وقسم المجتمع الروماني إلى عدة طبقات‪ ،‬أهمها‪:‬‬ ‫طبقة األشراف التي يتم اختيار أعضاء مجلس الشيوخ منها‪ ،‬وهم الطبقة‬ ‫ال ُعليا‪ ،‬والطبقة العامة وهم الفقراء أو العبيد وهي الطبقة األوطأ؛ إال أنه في‬ ‫عام ‪212‬م صدر مرسوم كاراكاال (‪ )Caracalla‬يقتضي أن يصبح معظم‬ ‫رعايا اإلمبراطورية مواطنين رومان أدى إلى ترابط الوحدة بين السكان‪،‬‬ ‫وكانت لغة الرومان اللغة الالتينية‪ ،‬وقد استخدموا هذه اللغة في كل مكان‬ ‫حكموه كما استخدموا الفن والترفيه وأساليب البناء في المسارح والمعابد‬ ‫والطرق والقنوات وهي ال تزال موجودة إلى اآلن في أوروبا وشمال‬ ‫أفريقيا بل في كل منطقة نزل فيها الرومان روما هي العاصمة فكان مركز‬ ‫اإلمبراطورية فيها يضم المعابد وبيوت وعمارات سكنية وقاعات ألعاب‬ ‫رياضية ودكاكين وكان الناس في هجرة دائمة من الريف إلى المدينة لما‬ ‫فيها من الغذاء والمصارعة‪ ،‬وكان الناس مشغولين بهذه المصارعات ومرت‬ ‫روما بمراحل تطور تحت ضغط األحداث ؛ فتحولت حركة تحرير العبيد‬ ‫األتباع المحكومين إلى فالحين أحرار وإلى طبقة البروليتاريا والجنود‬ ‫والزم هذه الفترة في تاريخ طبقة المحاربين صراع أهلي وأزمات اجتماعية‪،‬‬ ‫((( نصحي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.23‬‬ ‫‪20‬‬


‫ويجب على كل مواطن حر أن يؤدي بصفة شخصية الخدمات المدنية في‬ ‫أوقات الحرب‪ ،‬كما يتعين عليه القيام بحمل السالح أثناء الحرب(((‪.‬‬

‫وانتهى نظام الحكومة الذاتية التي كانت تمارسه‪ ،‬وفقدت المجالس‬

‫البلدية وظائفها اإلدارية وتحولت إلى هيأة من أشخاص تنحصر مسؤوليتهم‬

‫في جمع الضرائب وغدا المجتمع أكثر تعقيدً ا‪ ،‬واختفى التقسيم القديم‬ ‫بين أعضاء المجتمع ذوي النشاط السياسي وبين الشعب العامل‪ ،‬وهذا‬

‫ما يمكن أن يقال عند التفريق بين المواطنين وغير المواطنين إذ حل محل‬

‫الرق في معظم الحاالت أشكال من التبعية في التجارة والزراعة حيث حل‬ ‫محل الرقيق المكلفين بالزراعة لجيش من صغار المستأجرين‪ ،‬ونظمت‬ ‫المهن والحرف في شكل طوائف متوارثة كل منها يقوم بخدمة الدولة‪.‬‬

‫وأصبحت أوجه النشاط السياسي التي مارسها المواطنون في دولة المدينة‬

‫شأنها شأن األوامر العسكرية واإلدارية المدنية‪ ،‬تمثل مزايا لطبقة جديدة‬

‫وهي الطبقة البيروقراطية اإلمبراطورية التي كانت أعلى درجاتها مخصصة‬

‫ألعضاء األرستقراطية المالكة لألرض‪.‬‬

‫وبذلك أصبحت اإلمبراطورية الرومانية خالل القرنين األخيرين من‬

‫تاريخها بناء غير متجانس(((‪.‬‬

‫األحوال السياسية والعسكرية في أواخر القرن الثالث الميالدي‪:‬‬ ‫نشأ الدستور الروماني في الداخل استجابة لحاجة المجتمع الجديد‪،‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.30‬‬ ‫((( هارتمان‪ ،‬ل‪ .‬م‪ ،‬ج‪ .‬باراكالف‪ ،‬موجز تاريخ العالم‪( ،‬ت‪ :‬جوزيف نسيم يوسف)‪،‬‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪ ،1966 1‬ص ص‪.74-70‬‬ ‫‪21‬‬


‫أيضا وف ًقا لحاجة البالد‪ ،‬فتولى السلطة التنفيذية اثنان من القناصل‬ ‫وتطور ً‬ ‫ورثا سلطات الملك القديمة وأصبحا يشتركان م ًعا في الحكم‪ ،‬وأصبحا‬ ‫يمثالن السلطة العليا للجيوش الرومانية وفي يدهم السلطة القضائية وكان‬

‫انتخابهما يتجدد كل عام حتى ال يستبدان بالسلطة‪ ،‬ومثل مجلس السيناتو‬ ‫(‪ )Senato‬سلطة الدولة التشريعية وأصبح بمرور الوقت ً‬ ‫ممثل للشعب‬

‫الروماني والقنصالن مسؤوالن مسؤولية مباشرة أمام مجلس الشيوخ‬

‫(السناتو) باإلضافة إلى ذلك وجود عدد من كبار الموظفين مسؤولين‬

‫عن الشؤون المالية واإلدارية‪ ،‬وقد ُحددت مدة خدمتهم‪ ،‬وبعد عهد‬

‫أغسطس حاول حلفاؤه االحتفاظ بممتلكات روما وتدعيمها‪ ،‬ولم يضف‬

‫إلى األمالك الرومانية في القرن األول الميالدي سوى والية بريطانيا‬ ‫(‪ً )Britin‬‬ ‫فضل عن بعض الواليات واألقاليم النائية على أطراف الحدود‬ ‫منها المناطق الواقعة شمال الدانوب (‪ )Danube‬وشرق الفرات(((‪.‬‬

‫قدر لروما بعد أوغسطس أن تسلك في سياستها التوسعية طريق‬

‫االعتدال وتنبذ روح المغامرة والتطرف في ضم األراضي بعد أن وضع‬

‫أوغسطس بداية هذه السياسة وذكر ذلك في وصيته التي قرأت بعد وفاته‬

‫علنا في مجلس السناتو‪ ،‬وكان فيها النصح ببقاء اإلمبراطورية داخل‬

‫الحدود التي جعلت منها الطبيعة حدو ًدا آمنة وهي المحيط األطلسي‬ ‫ً‬ ‫شمال والفرات شر ًقا وصحراء العرب‬ ‫غر ًبا والراين (‪ )Raine‬والدانوب‬ ‫وصحراء أفريقيا جنو ًبا(((‪.‬‬

‫((( فشر‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪( ،‬ت‪ :‬إبراهيم نصحي‪ ،‬ومحمد عواد‬ ‫حسين)‪ ،‬القاهرة‪ ،1950 ،‬ص‪.38‬‬ ‫‪(2) Cantor. NF. Medieval History, New York, 1964, p. 23.‬‬

‫‪22‬‬


‫لماذا �سقطت روما ؟‬

‫سقوط روما كقيامها‪ ،‬ال يعزى إلى سبب واحد‪ ،‬بل إلى كثير من‬

‫األسباب والحق أن ثمة أمم لم تدم حياتها بقدر ما استلزمه من الزمن‬

‫سقوط روما‪ ،‬وحضارة عظيمة مثل روما ال يمكن أن يقضى عليها من‬ ‫الخارج إال إذا كانت منهارة من الداخل سبب سقوطها في النزاع بين‬

‫طبقاتها وفي كساد تجارتها وفي حكومتها االستبدادية وفي ضرائبها‬ ‫الفادحة وحروبها المهلكة(((‪.‬‬

‫فسوء األوضاع االقتصادية مترتب على الحروب الداخلية والحركات‬

‫االنفصالية‪ ،‬ولكي تعالج الدولة عجزها المالي في ميزانيتها لجأت إلى‬

‫زيادة الضرائب بدرجة لم يستطع تحملها صغار المزارعين ما أدى إلى أن‬

‫أيضا‪ ،‬فالجنود المحاربون‬ ‫يهجروا أراضيهم‪ .‬أما وضع الجيش فكان سي ًئا ً‬ ‫صاروا ال يقسمون يمين الوالء للدولة‪ ،‬وإنما والؤهم للقائد الذي خرجوا‬

‫للحرب تحت لوائه‪ ،‬وصارت القوات العسكرية تولي وتعزل في األباطرة‬

‫مخلصا لإلمبراطور‪ .‬وبذلك جعلوا من اإلمبراطورية‬ ‫بعد أن كان الجيش‬ ‫ً‬

‫نظا ًما استبداد ًيا يعتمد على الجيش(((‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬سوء األوضاع اإلدارية‪:‬‬

‫بعد ما أصاب مجلس الواليات االنحالل والوهن لجأت الحكومة‬

‫المركزية إلى التدخل إلصالح األوضاع اإلدارية في الواليات‪ ،‬وكان‬ ‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.405‬‬ ‫((( عمران‪ ،‬محمود سعيد‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة‬ ‫العربية‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪.38‬‬ ‫‪23‬‬


‫العالج يقتضي تصغير مساحة الوالية عن طريق تقسيمها ً‬ ‫فضل عن الفصل‬

‫بين السلطتين المدنية والعسكرية‪ ،‬وهكذا أخذ عدد الواليات الرومانية في‬ ‫تزايد مستمر حتى زاد العدد من ‪ 46‬والية إلى ‪ 119‬والية سنة ‪327‬م(((‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬الناحية االقتصادية‪:‬‬

‫كثير من المدن أسرفت في إقامة المنشآت العامة وزخرفتها كالحمامات‬

‫والمسارح والمالعب؛ األمر الذي تطلب زيادة أعباء الضرائب‪ ،‬وقد دفع‬

‫ذلك بعض األباطرة إلى تعيين محاسبين لفحص دفاتر المدن كما دفعهم‬

‫إلى حرمانها من حريتها واستقاللها الذاتي وجعلهم تابعين لحكومة الوالية‪،‬‬

‫كما أن كثرة الحروب األهلية مزقت وحدة اإلمبراطورية وجعلت طرق‬

‫التجارة غير مأمونة وزاد ثقل عبء الضرائب‪ ،‬فرضت الضرائب على‬ ‫جميع السلع التجارية‪ ،‬هذا ً‬ ‫فضل عما فرضته المدن من ضرائب صغيرة‬ ‫على المأكوالت كالخضر والفواكه والطيور واللحوم‪ .‬كل ذلك أدى‬

‫إلى تدهور اإلنتاج وانخفاض قيمة العملة التي لم يتردد بعض األباطرة‬ ‫في تزييفها واإلكثار من سكها فعندما وجد األباطرة أنفسهم ال يملكون‬ ‫المعادن الكافية لسك العملة لجأوا إلى خلط الذهب بالفضة والفضة‬

‫بالنحاس والنحاس بالرصاص وبذلك انحطت قيمة العملة‪ ،‬وأفلس من‬ ‫التجار من كان ثر ًيا بسبب التالعب في النقد‪ ،‬وبهذا اختفت النقود الجيدة‬

‫من السوق وقصر التداول على النقود الرديئة ما أدى إلى ارتفاع األسعار‬

‫كبيرا وانعدام االستقرار االقتصادي(((‪.‬‬ ‫ارتفا ًعا ً‬

‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.406‬‬ ‫((( فردوسن‪ ،‬كرستوفر‪ ،‬تكوين أوروبا‪( ،‬ت‪ :‬محمد مصطفى زيادة‪ ،‬وسعيد عبد الفتاح‬ ‫عاشور)‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مؤسسة سجل العرب‪ ،1967 ،‬ص ص‪.12-9‬‬ ‫‪24‬‬


‫ثال ًثا‪ :‬الناحية االجتماعية‪:‬‬ ‫خطيرا‬ ‫تأثيرا‬ ‫ً‬ ‫أثرت الظروف االقتصادية السيئة وارتفاع الضرائب ً‬ ‫في بناء المجتمع الروماني الذي فقد توازنه نتيجة ألن األغنياء (هم‬ ‫الطبقة االرستقراطية المؤلفة من كبار مالك األراضي) ازدادوا غنًا‬ ‫فقرا‪ ،‬أما الطبقة الوسطى فقد أخذت‬ ‫في الوقت الذي ازداد الفقراء ً‬ ‫تتناقص نتيجة تحول أفرادها إلى فئة من األتباع والعبيد‪ ،‬وبعد أن‬ ‫أحرارا ويتحصلون على وافر الدعم‬ ‫كان جميع سكان اإلمبراطورية‬ ‫ً‬ ‫المادي والمعنوي(((‪ ،‬هجر المزارعون والفالحون مزارعهم وهاجموا‬ ‫المدن المجاورة لنهبها كما اتسع نطاق أعمال السلب والقرصنة حتى‬ ‫عم الفساد البر والبحر(((‪.‬‬ ‫ّ‬

‫كما أن روما الناطقة بالالتينية كان فيها القليل من كان يسعد في حياته‬ ‫بشيء من الحرية والكبرياء والحياة العائلية لم يكن منها إال النزر اليسير‪.‬‬ ‫أما العيش المعتدل والفكر والدراسة الناشطة فال مكان لها إال في بيوت‬ ‫قليلة‪ .‬المدارس والكليات قليلة ومتباعدة ما أدى إلى اضمحالل الفن‬ ‫واألدب والعلم والفلسفة(((‪ .‬والطبقة االرستقراطية القديمة حلت محلها‬ ‫طبقة عسكرية رومانية معظمها من أصول ريفية(((‪.‬‬ ‫((( منح كاراكاال الجنسية لجميع سكان اإلمبراطورية‪ ،‬وهذا القانون يقضي بمنح كل‬ ‫األحرار من ساكني اإلمبراطورية الجنسية الرومانية‪ ،‬وكان ذلك عام ‪ ،212‬حافظ‬ ‫أحمد غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.76‬‬ ‫((( عاشور‪ ،‬سعيد عبد الفتاح‪ ،‬أوروبا العصور الوسطى التاريخ السياسي‪ ،‬ج‪ ،1‬القاهرة‪،‬‬ ‫مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪ ،1986 ،10‬ص ص‪.34-31‬‬ ‫((( ويلز‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.165-164‬‬ ‫((( فردوسن‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.19-18‬‬ ‫‪25‬‬


‫راب ًعا‪ :‬الجيش‪:‬‬

‫إن انتشار المدن أدى إلى إضعاف األسس الحربية لإلمبراطورية الرومانية‪،‬‬ ‫فالجيش الروماني كان قلب اإلمبراطورية‪ ،‬وهذا الجيش وما اشتمل عليه من‬ ‫مختلف الجنسيات واألديان ومختلف المصالح أخذ يفقد الروابط التي ربطت‬ ‫بينه وبين طبقة المواطنين في مختلف المدن‪ ،‬ففي القرن الثاني الميالدي كان‬ ‫التجنيد محل ًيا وأصبحت الفيالق تعرف بأسماء أقاليم األطراف الرومانية التي‬ ‫ترابط فيها‪ ،‬وهكذا ضاعت تدريج ًيا صلة الجيش الروماني بالسكان المواطنين‬ ‫أبناء األقاليم الذين كانوا أكثر اصطبا ًغا بالصبغة المدنية الرومانية‪ ،‬وأمسى‬ ‫الجيش طبقة منفصلة ذات إحساس قوي بمتانة عصبيتها االجتماعية(((‪.‬‬ ‫خامسا‪ :‬الغزوات الجرمانية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫الجرمان‪:‬‬

‫هل زالت اإلمبراطورية الرومانية من الوجود بسبب الغارات الجرمانية‬ ‫دب في‬ ‫والمغولية ؟ الصحيح الثابت أن هناك امتدا ًد بطي ًئا النحالل مزمن ّ‬ ‫جسم اإلمبراطورية وأن الغارات الجرمانية والمغولية عجلت في إتمامه‪،‬‬ ‫إن كلمة بربري كلمة قديمة جدً ا؛ فقد ظهرت في اإللياذة وتدل على‬ ‫االحتقار واالزدراء‪ ،‬وهي عند دولة الرومان تطلق على من ال يفهم الالتينية‪،‬‬ ‫والمقصود بلفظ (بربري أو بربرية) هي مرحلة من التنظيم االجتماعي‬ ‫القبلي الذي لم يرق بعد إلى مرحلة االستقرار المدني وإقامة دولة‪ .‬ويعرف‬ ‫بعض المؤرخين المعاصرين هذه الكلمة بأنها تدل على القوى العدائية‬ ‫التي كانت تهدد الثقافة اإلغريقية الالتينية والدولة الرومانية»(((‪.‬‬ ‫((( فردوسن‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.16-12‬‬ ‫((( حاطوم‪ ،‬نور الدين‪ ،‬تاريخ العصر الوسيط‪ ،‬ج‪ ،1‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1967 ،1‬ص‪.15‬‬ ‫‪26‬‬


‫كانت الدولة الرومانية محاطة بالبرابرة من جميع جهاتها؛ والبرابرة لم‬ ‫يكن لهم هدف عام أو سياسة مرسومة أو أغراض يسعون إلى تحقيقها‪،‬‬ ‫عندما تحركوا فيما وراء نهري الدانوب والراين إلى روما(((‪.‬‬ ‫لم يكن بين الجرمان أية صلة أو روابط بل كانوا ينتسبون إلى عروق‬ ‫مختلفة وهم كاآلتي‪( :‬الجرمان‪ ،‬السالف‪ ،‬الفينيقيون‪ ،‬األتراك‪ ،‬المغوليون‪،‬‬ ‫الفرس‪ ،‬األعراب‪ ،‬البربر‪ ،‬سكان أفريقيا الشمالية)‪.‬‬ ‫ويعيشون على شكل شعوب وقبائل متنقلة باستمرار وقد لعب الجرمان‬ ‫دورا أساس ًيا في تحويل العالم القديم إلى العالم‬ ‫من بين هؤالء البرابرة ً‬ ‫(((‬ ‫الوسيط‪ .‬وجاءوا إلى اإلمبراطورية الرومانية عام ‪476‬م بح ًثا عن الحياة‬ ‫المستقرة والمطمئنة ال بشكل مهاجمين أو فارين أو رحل بل زائرين وال‬ ‫مانع لديهم من أن يقدموا لإلمبراطورية سواعدهم وسيوفهم ويعملون ُعمال‬ ‫في الفالحة‪ ،‬وبذلك استقبلت روما هؤالء الوافدين إما بشكل انخراط في‬ ‫الجيش أو بشكل تعاقدهم للعمل(((‪.‬‬ ‫الهون‪:‬‬ ‫لقد كان أصل الهون موضع جدل‪ ،‬والمتعارف عليه أنهم أتراك مغوليون‪،‬‬ ‫وقد استطاعوا أن يؤسسوا إمبراطورية حقيقية في منغوليا الخارجية ويضعوا‬ ‫أيديهم على طرق الصحراء(((‪.‬‬ ‫((( هارتمان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.80‬‬ ‫((( عاشور‪ ،‬سعيد عبد الفتاح‪ ،‬تاريخ العالقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،1976 ،‬ص ص‪.8-7‬‬ ‫((( حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.149‬‬ ‫((( حاطوم‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.25-16‬‬ ‫‪27‬‬


‫القوط‪:‬‬ ‫القوط هم القبائل الجرمانية التي نزلت في اإلمبراطورية الرومانية وهم‬

‫ينقسمون إلى قسمين القوط الشرقيون والقوط الغربيون‪ .‬وقد اتجه األولون غر ًبا‬

‫نحو األدرياتيكي وأسسوا في أواخر القرن الخامس الميالدي مملكة لهم في‬

‫إيطاليا بفضل ملكهم ثيودوريك (‪ )Theodoric‬وما يذكر عنه أنه واصل التقاليد‬

‫الرومانية القديمة قدر استطاعته مع احتفاظه بشيء من عنف النظام الجرماني‪،‬‬ ‫فقد كان ينظر إلى الحضارة الرومانية كمثل أعلى يجب أن ُيحتذ به(((‪.‬‬ ‫الفاندال (‪:)Vandals‬‬

‫هم عنصر آخر من عناصر الجرمان‪ ،‬وقد ظل الفاندال يقاومون القوط‬

‫الغربيين في أسبانيا‪ ،‬بعدها اضطروا إلى عبور البحر إلى شمال أفريقيا‬

‫‪429‬م؛ حيث أسسوا بها مملكة جديدة تمتد من المحيط األطلسي إلى‬ ‫حدود مصر تقري ًبا(((‪.‬‬

‫اللمبارديون (‪:)Lompards‬‬ ‫من القبائل الجرمانية التي قدمت من المناطق الشمالية ودخلت إيطاليا‬

‫سنة ‪ 568‬م‪ ،‬إذ قادهم ملكهم المدعو البوين (‪ )Alboin‬عبر األلب إلى سهول‬

‫إيطاليا الشمالية التي سميت باسمهم إلى اليوم وقد اختلفوا عن القبائل‬

‫الجرمانية األخرى في طريقة معيشتهم وحياتهم في المزارع والقرى الصغيرة‪،‬‬ ‫فقد كانوا يفضلون الحياة في المدن على اإلقامة في السهول المزروعة(((‪.‬‬

‫((( حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.163‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.163‬‬ ‫((( هارتمان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.19-13‬‬ ‫‪28‬‬


‫ومما سلف يلحظ أن الجرمان نزحوا ينشدون وطنًا جديدً ا لهم ً‬ ‫أمل في‬ ‫التخلص من الضغط الشديد الذي جاءهم من قبائل أخرى أشد منهم‪ ،‬هي‬ ‫القبائل السالفية والقبائل المغولية‪ ،‬وكان الجرمان أثناء ترحالهم يعلمون‬ ‫تمام العلم حالة اإلمبراطورية الرومانية عن طريق استخدام أباطرة الرومان‬ ‫لهم بخاصة في عهدهم األخير جندً ا مرتزقة‪ ،‬وقد فتح هذا أعين الجرمان‬ ‫على ما تحويه اإلمبراطورية من تراث ورخاء وثروة ومدنية كما تعرفوا على‬ ‫نقاط الضعف والقوة فيها حتى أنهم عندما دخلوها لم يقصدوا في بادئ‬ ‫األمر هدمها والقضاء على حضارتها‪ ،‬بل كانوا يرغبون في أن يجدوا لهم‬ ‫مكانًا أمينًا كي يتمتعوا بما فيها من نظام وحضارة مزدهرة‪ .‬القوط الشرقيون‬ ‫ً‬ ‫طويل إذ انهار على يد جستينانوس سنة ‪537‬م‪ .‬أما القوط‬ ‫لم يظل ملكهم‬ ‫الغربيون قد انتهى بهم األمر إلى تأسيس مملكة لهم في أسبانيا عاشت‬ ‫قرابة قرنين من الزمان إلى أن قضي عليها طارق بن زياد سنة ‪711‬م أما‬ ‫الفاندال فقد انهار ملكهم سنة ‪ 535‬على يد بليز اريوس قائد جستينانوس‬ ‫المشهور(((‪.‬‬ ‫سادسا‪ :‬دقلديانوس ودوره في انقسام اإلمبراطورية‪:‬‬ ‫ً‬

‫تربع اإلمبراطور دقلديانوس (‪ Doclidianus): (284‬ـ ‪305‬م) على‬ ‫عرش اإلمبراطورية‪ ،‬وكان على علم تام بحالة اإلمبراطورية الرومانية‪،‬‬ ‫حاول القيام ببرنامج إصالحي شامل(((‪ ،‬يحاول من خالله إعادة‬ ‫إمبراطورا‬ ‫اإلمبراطورية الرومانية وذلك بإقامة نظام جديد‪ ،‬فهو يرى أن‬ ‫ً‬ ‫واحدً ا ال يمكنه القيام بمفرده بأعباء الحكم في هذه اإلمبراطورية الشاسعة‬ ‫((( حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.167‬‬ ‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.362‬‬ ‫‪29‬‬


‫المترامية األطراف‪ ،‬وتحت ظل هذه الظروف التي جدت على الموقف‬

‫كانت الحاجة ماسة إلى وجود وزيرين؛ أحدهما التيني للقسم الغربي‬ ‫واآلخر إغريقي للقسم الشرقي من اإلمبراطورية(((‪ .‬وخطى دقلديانوس‬

‫خطوة أهميتها أنه لم ينشئ إمبراطوريتين مستقلتين عن بعضهما ولكنه أمر‬

‫بأن يكون لإلمبراطورية حاكمان يقيم كل منهما في أحد شقيها‪ ،‬وبذلك‬

‫قسمت اإلمبراطورية إلى أربع واليات هي‪ :‬الغال وإيطاليا وإيليزيا والشرق‬

‫تحت إمرة أربعة من الوالة يطلق على كل منهم اسم والي وقسمت كل‬

‫والية منها إلى عدد من المقاطعات‪ ،‬يحكم كل منها حاكم محلي يلي‬ ‫الوالي العام‪ .‬حكم دقلديانوس الجزء الشرقي‪ ،‬أما مكسيمانوس فحكم‬

‫الجزء الغربي(((‪.‬‬

‫وإيمانًا منه بعدم صالحية روما كمركز إلدارة شؤون اإلمبراطورية فقد‬ ‫جعل ً‬ ‫مقرا لحكم قسم من أقسام‬ ‫بدل منها أربعة مدن أخرى لتكون كل منها ً‬

‫اإلمبراطورية األربعة‪ ،‬وهذه المدن هي تريف (‪ ،)Triev‬ميالن (‪،)Milan‬‬

‫سرميوم (‪ ،)Sarmium‬نيكوميديا (‪ .)Nicomedia‬وكان دقلديانوس في‬

‫الشرق وماكسيميانوس في الغرب وكان يساعدهما كقياصرة كل من‬ ‫جاليريوس وقسطنطيوس كلوروس(((‪.‬‬

‫حاكما واحدً ا يحكم‬ ‫ويلحظ أن الحكام األربعة هؤالء كانوا يعتبرون‬ ‫ً‬ ‫((( توفيق‪ ،‬عمر كمال‪ ،‬تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعارف الجامعية‪،‬‬ ‫‪ ،2000‬ص‪.38‬‬ ‫((( هـ‪ -‬سنت‪ ،‬ميالد العصور الوسطى‪ ،‬ت‪ :‬عبد العزيز توفيق جاويد‪ ،‬دار االتحاد‬ ‫العربي‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص ص‪.29-26‬‬ ‫((( قسطنطيوس كلوروس والد قسطنطينوس الكبير‪.‬‬ ‫‪30‬‬


‫إمبراطورية واحدة‪ ،‬وكانت القرارات تصدر باسمهم جمي ًعا من الناحية‬ ‫النظرية إما من الناحية العملية كان دقلديانوس اإلمبراطور األوحد(((‪.‬‬

‫رغم النظام الرباعي الذي أوجده دقلديانوس ومحاولته عالج‬

‫اإلمبراطورية بتقسيمها إلى أربعة أقسام بين أغسطسين وقيصرين وحدد‬

‫بموجب ذلك لكل منهم عد ًدا من الواليات وعاصمة خاصة به؛ إال أن‬

‫ذلك كان رصاصة الموت لإلمبراطورية الرومانية وأدى إلى انقسامها إلى‬ ‫األبد ً‬ ‫بدل من التوحيد(((‪.‬‬ ‫ساب ًعا‪ :‬دور المسيحية في إنهاء اإلمبراطورية‪:‬‬

‫أعطت الطبيعة لقسطنطينوس الكبير (‪Constantinus The Greet):‬‬

‫وسيما ويمتاز بذكاء حاد‪ ،‬وكان‬ ‫)‪)( (337-305‬أثمن ما لديها؛ كان شكله‬ ‫ً‬ ‫يعمل دون كلل أو ملل‪ ،‬وقد حظيت العلوم والفنون في عهده بالتشجيع‬

‫والرعاية‪ .‬فكان يقرأ ويكتب ويستقبل الوزراء‪ ،‬فهو يعمل بكل حواسه‪.‬‬

‫ومن أهم أعماله االعتراف بالديانة المسيحية‪ ،‬وبناء مدينة القسطنطينية(((‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ االعتراف بالمسيحية‪:‬‬ ‫فشلت الديانة اإلمبراطورية منذ أمد طويل في استقطاب أصحاب‬

‫العقول المستنيرة‪ ،‬وذوي الفكر الحر من الرجال والنساء الذين لم يجدوا‬

‫في وثنية الرومان وعبادة الدولة الرسمية سوى عبادة أصنام ال ترتقي‬ ‫((( يوسف‪ ،‬جوزيف نسيم‪ ،‬تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬دار المعرف الجامعية‪ ،2008 ،‬ص‪.38‬‬ ‫((( برون‪ ،‬جفري‪ ،‬تاريخ أوروبا الحديث‪( ،‬ت‪ :‬على المزروقي)‪ ،‬عمان‪ ،‬األهلية للنشر‬ ‫والتوزيع‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪.33‬‬ ‫((( توفيق‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫‪31‬‬


‫لفكرهم‪ ،‬فعندما اعتلى قسطنطينوس العرش كانت المسيحية قد تغلغلت‬ ‫في كيان اإلمبراطورية منذ حوالي ثالثة قرون‪ ،‬وقد حاول بعض األباطرة‬ ‫القضاء على هذه الديانة بالعنف والدم مثل دقلديانوس وجالريوس فلم‬ ‫تجد قسوتهم أي نفع‪ ،‬بل انتشرت المسيحية أكثر من قبل خاصة عند‬ ‫المفكرين الذين لم يجدوا في الوثنية إال عبادة حجر ال روح فيه وإن‬ ‫سياسة العنف هذه سياسة فاشلة‪ ،‬واقتنع آخر األمر بأن العنف واالستبداد‬ ‫ال يقضيان على شعب بأسره وعلى معتقداته الدينية؛ من أجل ذلك اعتنق‬ ‫اإلمبراطور الروماني قسطنطينوس الديانة المسيحية(((‪.‬‬ ‫فأصدر عن طيب خاطر في عام ‪311‬م مرسو ًما عا ًما يحمل اسمه للرأفة‬ ‫بالمسيحيين ومعاملتهم معاملة حسنة وإطالق سراح المعتقلين منهم‪ ،‬ويرى‬ ‫الوثنيون أن سبب انهيار اإلمبراطورية هو حلول لعنة الوثنيين عليهم(((‪.‬‬ ‫مرسوم ميالن ‪313‬م‪:‬‬ ‫بعد أن انتصر قسطنطينوس على منافسيه في موقعة ميلفيان عام‬ ‫‪313‬م أعلن مرسوم ميالن الشهير الذي أعاد السالم والهدوء إلى الكنيسة‬ ‫المسيحية‪ .‬فالمرسوم قضى بر ّد كل الحقوق الدينية إلى المسيحيين الذين‬ ‫كانوا حرموا منها؛ إذ أعلن قسطنطينوس المسيحية‪ ،‬مرجعه الدوافع‬ ‫السياسية‪ ،‬فيقول المؤرخ هنري‪« :‬من كان يريد الشرق فعليه أن يكون‬ ‫مسيح ًيا أو صدي ًقا للمسيحيين»‪ .‬فقسطنطينوس ال يستطيع أن يسيطر على‬ ‫((( يوسف‪ ،‬جوزيف نسيم‪ ،‬العرب والروم والالتينيين في الحرب الصليبية األولى‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪ ،1967 ،2‬ص‪.38‬‬ ‫((( جيبون‪ ،‬إدوارد‪ ،‬اضمحالل اإلمبراطورية الرومانية وسقوطها‪ ،‬ج‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫الكتاب العربي‪ ،1969 ،‬ص ص‪.480-479‬‬ ‫‪32‬‬


‫الشرق وهو الجزء الغني من اإلمبراطورية برجاله وموارده إال بمهادنة‬

‫المسيحيين(((‪ .‬ومرسوم ميالن سوف يتم الحديث عنه بالتفصيل في‬ ‫الفصل األول ضمن مراسيم األباطرة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ بناء القسطنطينية‪:‬‬ ‫بدأ قسطنطينوس يفكر في بناء عاصمة جديدة لإلمبراطورية‪ ،‬فقد اختار‬

‫قرية بيزنطينيوم (‪ ((()Byzantium‬ألنها منطقة الحدود بين أوروبا وآسيا‬ ‫ليتمكن من ضرب الجرمان الذين كانوا يعيشون في الدانوب ويراقب‬

‫تحركات الفرس‪ ،‬وبنى على أنقاضها مدينة القسطنطينية حيث كان مناخها‬

‫ً‬ ‫عليل‪ ،‬وتربتها خصبة‪ ،‬كما أن خليج البسفور والدردنيل بوابتين لها‪ .‬فقد‬ ‫حصنها قسطنطينوس باألسوار(((‪ .‬وكانت تحتوي على قصر عظيم وما‬ ‫به من روعة وفخامة ودار البالط وكان بها باب الذهب(((‪.‬‬

‫قرر قسطنطينوس الشروع في بناء القسطنطينية جلب مستلزمات البناء‬ ‫((( مؤنس حسن‪( ،‬وآخرون)‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الدار القومية للطباعة‬ ‫والنشر‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص ص‪.11-4‬‬ ‫((( وسميت بيزنطة نسبة إلى مدينة بيزنتيوم ‪ Byzantium‬وهي مدينة قديمة أسسها بيزاس‬ ‫‪ Byzas‬قائد الجماعة اإلغريقية التي هاجرت من مدينة ميجارا ‪ Megara‬اإلغريقية‬ ‫في القرن السابع ق‪.‬م‪ ،‬وعُرفت باسمه‪ ،‬الحيدري‪ ،‬صالح هادي‪ ،‬اإلمبراطورية‬ ‫البيزنطية وحضارتها‪ ،‬بنغازي‪ ،‬جامعة درنة‪ ،‬ط‪ ،2002 ،1‬ص‪.17‬‬ ‫((( الحويري‪ ،‬محمود محمد‪ ،‬رؤية في سقوط اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬ ‫دار المعارف‪ ،1995 ،‬ص‪.43‬‬ ‫((( الطحاوي‪ ،‬حاتم عبد الرحمن‪ ،‬دراسات في تاريخ العصور الوسطى‪ ،‬عين للدراسات‬ ‫والبحوث اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬ط‪ ،2003 ،1‬ص‪.324‬‬ ‫‪33‬‬


‫من روما‪ ،‬وأثينا واإلسكندرية وافسوس وأنطاكية(((‪ ،‬واستمر العمل في‬ ‫بناء العاصمة الجديدة ست سنين من ‪ 8‬نوفمبر ‪324‬م إلى ‪ 11‬مارس ‪330‬م‪.‬‬ ‫وسميت المدينة الجديدة بأسماء متعاقبة عدة‪ :‬اآلستانة أو المدينة‬ ‫العظيمة كما يسميها المسعودي أستن بولن(((‪ ،‬روما الجديدة أو مدينة‬ ‫قسطنطينوس دار الملك اسطنبول(((‪ ،‬وأطلق عليها بعد أن فتحها العثمانيون‬ ‫إسالم بول ودار السعادة والدار العالية(((‪.‬‬ ‫وفي كتب التاريخ ذكر أن الرب أمر قسطنطينوس ببناء القسطنطينية‬ ‫حيث يقال‪« :‬إن قسطنطينوس كان يسير واستمر اإلمبراطور في السير‬ ‫حتى أصبح على بعد ثالثة أميال (أربعة كيلو مترات) من الزاوية الشرقية‬ ‫كثيرا فقال لهم «سأسير في طريقي حتى‬ ‫لبيزنطة وأبلغته الحاشية أنه ابتعد ً‬ ‫يرى الدليل الخفي الذي يسير أمامي إنه لمن المناسب وقوفي»‪ .‬وهذه‬ ‫األسطورة تجعلنا نؤكد على اعتناق قسطنطينوس المسيحية(((‪.‬‬ ‫حصنت المدينة باألسوار فكانت التحصينات لتأمين حمايتها‪ ،‬فالمنطقة‬ ‫المكشوفة الواقعي في الطرف الغربي من العاصمة تمتد من البوسفور إلى‬ ‫الفرن الذهبي شيد عليها سور متين وهذا هو الممر البري الوحيد أما جهاتها‬ ‫الثالث فهي محمية بمياه البحار(((‪.‬‬ ‫((( الحويري‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.44‬‬ ‫((( المسعودي‪ ،‬التنبيه واإلشراف‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الهالل‪ ،1981 ،‬ص‪.136‬‬ ‫((( أبو شوقي‪ ،‬خليل‪ ،‬فتح القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،2005 ،‬ص‪.13‬‬ ‫((( محمد‪ ،‬محمد فريد بك‪ ،‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النقاش‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.164‬‬ ‫((( أومان‪ ،‬ش‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪( ،‬ت‪ :‬مصطفى طه)‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مطبعة االعتماد‪،‬‬ ‫‪ ،1953‬ص‪.7‬‬ ‫((( العدوي‪ ،‬إبراهيم أحمد‪ ،‬األمويون والبيزنطيون في البحر المتوسط‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫‪34‬‬


‫بنى فيها قصر ومجلس الشيوخ‪ ،‬والمدارس العامة والجامعة والكنائس‬ ‫والمكتبات‪ ،‬وقسمت اإلمبراطورية البيزنطية إلى أربعة عشر ح ًيا اثنان منها‬ ‫خارج السور‪.‬‬ ‫متوجا ألعمال هذا اإلمبراطور العظيم‬ ‫والواقع أن بناء القسطنطينية جاء ً‬ ‫بفضل بصيرته النافذة‪ ،‬وحسن اختياره‪ ،‬قامت روما الجديدة حصنًا مني ًعا‬ ‫قو ًيا يحمي اإلمبراطورية‪ ،‬وكان لها الدور المهم في حماية شرق أوروبا من‬ ‫غزو الشعوب الجرمانية والمغولية‪ ،‬فحفظت اإلمبراطورية تراثها وحمته‬ ‫من الضياع وظلت صامدة طوال ألف عام‪ً ،‬‬ ‫فضل عن أنها كانت تعبير عما‬ ‫اكتنف المجتمع من التغييرات المدنية والسياسية والحضارية‪ ،‬وأريد لها‬ ‫أن تكون ذات طابع مسيحي منذ نشأتها فتحولت إلى عاصمة مسيحية‬ ‫لإلمبراطورية البيزنطية وابتعدت عن روما القديمة ذات الطابع الوثني(((‪.‬‬

‫الجبل‪ ،1994 ،‬ص ص‪.14-13‬‬ ‫((( الشيخ‪ ،‬محمد محمد‪ ،‬تاريخ اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫الجامعية‪ ،1994 ،‬ص ص‪.16-14‬‬ ‫‪35‬‬



‫المبحث الثاني‬

‫ظهور الدولة البيزنطية‬ ‫ظهور الدولة البيزنطية‪:‬‬

‫بيزنطة وريثة روما؛ وبما أنها تمتعت بموقع استراتيجي ممتاز بين الشرق‬

‫والغرب‪ ،‬أصبحت لها الصدارة في إقليم البحر المتوسط(((‪ ،‬وأطلق العرب‬ ‫قبل اإلسالم وبعده على اإلمبراطور البيزنطي اسم إمبراطور الروم(((‪.‬‬

‫واستمرت المصادر العربية اإلسالمية تطلق كلمة روم وإمبراطور الروم على‬

‫حاكم هذه اإلمبراطورية(((‪ .‬وقد ورد في القرآن الكريم سورة باسم سورة الروم‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫الرو ُم * فِي َأ ْدنَى ْالَ ْر ِ‬ ‫ون ﴾(((‪.‬‬ ‫ض َو ُهم ِّمن َب ْع ِد َغ َلبِ ِه ْم َس َيغْلِ ُب َ‬ ‫إذ جاء بها‪ ﴿ :‬غُل َبت ُّ‬ ‫((( رنسيمان‪ ،‬ستيفن‪ ،‬الحضارة البيزنطية‪( ،‬ت‪ :‬عبد العزيز توفيق جاويد‪ ،‬وزكي علي)‪،‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،1961 ،‬ص‪.8‬‬ ‫((( رستم‪ ،‬أسد‪ ،‬الروم في سياستهم وحضارتهم وديانتهم وثقافتهم وصالتهم بالعرب‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬دار المكشوفة‪ ،1955 ،‬ص‪.38‬‬ ‫((( الطبري‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرير‪ ،‬تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫‪ ،1979‬ص‪.44‬‬ ‫((( سورة الروم‪ ،‬اآلية‪ ،3-2 :‬مصحف الجماهيرية‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫امتدت الدولة البيزنطية لفترة زمنية من ‪330‬م إلى ‪1453‬م ما يقارب‬

‫األحد عشر قرنًا ونصف من الزمان‪ ،‬هذه الحضارة استمدت كينونتها من‬ ‫الحضارة الهلينية «اإلغريقية الرومانية» وتأثرت بالحضارة العربية اإلسالمية‬

‫فباتت الحضارة البيزنطية شرقية أكثر منها التينية غربية(((‪.‬‬

‫اختلف المؤرخون حول تحديد اإلطار الزمني لبداية اإلمبراطورية‬

‫البيزنطية كيف ومتى بدأت االختالفات في اآلراء حولها؟ وهؤالء‬ ‫المؤرخون المختلفون هم شارل ديل وشارل مان ونورمان بينز وستيفن‬ ‫رانسيمان‪ً ،‬‬ ‫فضل عن الكثيرين‪ ،‬لم يجدوا بداية بعينها بدأت بها تاريخ هذه‬ ‫الحضارة البيزنطية‪ .‬والواقع أنه توجد فواصل عديدة في تاريخ الدولة‬

‫البيزنطية يصلح كل منها أن يكون بداية لدراسة هذه الدولة ولكل فترة‬

‫من هذه الفترات ظواهر وخصائص ومميزات جعلت هذا المؤرخ أو ذلك‬ ‫يأخذ بها بداية للتاريخ البيزنطي‪ .‬وأهم هذه النظريات ما يلي‪:‬‬

‫بعض المؤرخين ـ ومن بينهم إدوارد جيبون (‪ )Gibbon‬في كتابه‬

‫اضمحالل اإلمبراطورية الرومانية وسقوطها ـ يعتمد سنة ‪284‬م نهاية لحكم‬

‫الرومان في الغرب وبداية لإلمبراطورية الرومانية الشرقية وذلك باعتبارها‬ ‫ً‬ ‫فاصل بين زمنين منفصلين تقري ًبا في تاريخ اإلمبراطورية الرومانية(((‪.‬‬ ‫حدً ا‬ ‫ففي هذه السنة تولى اإلمبراطور دقلديانوس عرش اإلمبراطورية الرومانية‬

‫وكان هو أول من فكر في تقسيم اإلمبراطورية إلى قسمين شرقي وغربي(((‪،‬‬

‫((( الشامي‪ ،‬فاطمة قدورة‪ ،‬الحضارة البيزنطية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪ ،2002‬ص‪.5‬‬ ‫((( يوسف‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.368-362‬‬ ‫‪38‬‬


‫ولكل منها إمبراطور ومساعد وقسم هو وزمالؤه اإلمبراطورية إلى ست‬ ‫وتسعين والية تتألف منها اثنتان وسبعون أبرشية وأربع مقاطعات و ُعين‬ ‫لكل قسم حاكم مدني وآخر عسكري(((‪.‬‬

‫وأصبحت اإلمبراطورية بذلك ذات حكومة مركزية صريحة‪ ،‬إ ًذا‬ ‫حكومتين واحدة في الشرق‪ ،‬مقرها نيقوميديا يحكمها دقلديانوس‬ ‫وأخرى في الغرب ومقرها ميالن‪ ،‬ويحكمها مكسيميانوس ولكل منهما‬ ‫نائب وبهذا النظام الجديد الذي وضعه دقلديانوس خطة شاملة محكمة‬ ‫بها اإلصالحات العسكرية واألساليب الناجحة لجمع الضرائب وبهذا‬ ‫النظام تمكن دقلديانوس من استرجاع الحدود القديمة‪ ،‬وإنهاء الفوضى‬ ‫الداخلية(((‪.‬‬ ‫أما اإلصالحات العسكرية‪ ،‬فقد أدخل اإلمبراطور إصالحات كبرى‬ ‫على نظام الجيش‪ ،‬فقد فصل السلطتين المدنية والعسكرية عن بعضها(((‪.‬‬ ‫أما هسي (‪ )Hesse‬في كتابه العالم البيزنطي فقد أشار إلى أن عام ‪313‬م‬ ‫بداية للتاريخ البيزنطي‪ ،‬وهي السنة التي أعلن فيها قسطنطينوس مرسوم‬ ‫ميالن وهي انتصار المسيحية على الديانة الوثنية((( فقد عانت الديانة‬ ‫((( بورتر‪ ،‬هارفي‪ ،‬موسوعة مختصر التاريخ القديم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪ ،1991‬ص ص‪.533-532‬‬ ‫((( تشارلزورث‪ ،‬أب‪ ،‬اإلمبراطورية الرومانية‪( ،‬ت‪ :‬رمزي عبده جرس)‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫مكتبة األسرة‪ ،1950 ،‬ص‪.203‬‬ ‫((( عُبيد‪ ،‬طه خضر‪ ،‬تنظيمات الجيش البيزنطي من القرن الثامن حتى القرن الحادي‬ ‫عشر‪ ،‬الموصل‪ ،‬مكتبة العال‪ ،2005 ،‬ص‪.8‬‬ ‫((( العريني‪ ،‬السيد الباز‪ ،‬تاريخ أوروبا العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫‪ ،1968‬ص ص‪.76-70‬‬ ‫‪39‬‬


‫المسيحية وأتباعها الكثير من االضطهاد والتعذيب بتشجيع من األباطرة‬

‫الرومان(((‪ ،‬وسياسة دقلديانوس مع المسيحية كانت فاشلة لم تأت إال‬

‫بالضرر على اإلمبراطورية‪ ،‬وباألخص أن اإلمبراطورية كانت متجهة نحو‬ ‫الشرق الذي هو مصدر الوثنية‪ ،‬وكما يقول أحد المؤرخين «من كان يريد‬ ‫الشرق فعليه إما أن يكون نصران ًيا أو صدي ًقا للنصرانية»(((‪.‬‬

‫بذلك أعطى الديانة المسيحية فرصة االتساع واالنتشار رسم ًيا وأصبحت‬

‫هي أحد األديان الرسمية للدولة والكنيسة المسيحية هي كنيسة الدولة كما جاز‬

‫للمسيحيين والوثنيين على السواء ممارسة عقائدهم دون أن يتعرضوا لألذى‪.‬‬ ‫موجز القول إن المركز الديني واألدبي والعسكري لإلمبراطورية قد‬

‫انتقل فال عجب إذا احتاج حاكم إلى ُملك فالبد له من عاصمة جديدة‬

‫مالئما لروما الجديدة‪ ،‬فكانت‬ ‫شرقية لإلمبراطورية وأن يختار موق ًعا‬ ‫ً‬

‫القسطنطينية؛ فنقل الكرسي اإلمبراطوري من الغرب إلى الشرق كان‬

‫يعني تأسيس دولة جديدة عند التقاء البوسفور لموقع بيزنطة الجغرافي‬ ‫مميزات‪ ،‬فهي تقع عند مدخل البوسفور وبشكل مثلث يمتد شر ًقا على‬

‫شواطئ آسيا بأمواج البوسفور‪ ،‬وتحد الميناء الجزء الشمالي من المدينة‪،‬‬

‫أما الجنوب فتحفه مياه بحر مرمرة ومن الغرب تواجه قارة أوروبا وتتمتع‬ ‫بيزنطة بمناخ صحي وتربة خصبة(((‪.‬‬

‫((( ُعبيد‪ ،‬إسحاق‪ ،‬اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬القاهرة‪ ،1972 ،‬ص‪.52‬‬ ‫((( عاقل‪ ،‬نبيه‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬دراسة في التاريخ السياسي والثقافي والحضاري‪،‬‬ ‫دمشق‪ ،‬مطابع ألف باء‪ ،‬األديب‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.28‬‬ ‫((( الحويري‪ ،‬محمود محمد‪ ،‬رؤية في سقوط اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬ ‫دار المعارف‪ ،1995 ،‬ص‪.43‬‬ ‫‪40‬‬


‫ً‬ ‫مدخل لتاريخ الدولة البيزنطية على أساس‬ ‫البعض يضع سنة ‪395‬‬

‫أن ثيودوسيوس األول‪ ،‬قسم اإلمبراطورية بين ولديه‪ ،‬فكان الشرق من‬

‫نصيب ابنه أركاديوس (‪ ،)Arcadius‬والغرب من نصيب ابنه أنوريوس‬

‫(‪ ،)Honorius‬وبموته انفصل الشرق عن الغرب إلى األبد بعد أن ترك‬ ‫إمبراطورية بيزنطية أرثوذكسية(((‪.‬‬

‫مجموعة من المؤرخين يرون في حكم جستينانوس الذي حكم ‪527‬‬

‫إلى سنة ‪565‬م الذي تميز عهده بمحاوالته إحياء الدولة الرومانية القديمة‪،‬‬ ‫وذلك باستعادة األراضي التي كانت قد استولت عليها قبائل الجرمان في‬ ‫الغرب‪ ،‬وقد تمكن ً‬ ‫فعل من ضم معظم الممالك الجرمانية إلى حكمه‪،‬‬ ‫حتى أن المعاصرين له اعتقدوا أن اإلمبراطورية القديمة قد تم إحياؤها‬

‫شبحا‬ ‫من جديد؛ ولكن الحقيقة أن إمبراطورية جستينانوس لم تكن إال ً‬ ‫للدولة القديمة التي كانت قد زالت ً‬ ‫فعل في أخريات القرن الخامس(((‪.‬‬ ‫وهناك فئة من المؤرخين تجعل مدخل التاريخ البيزنطي ما بعد عهد‬

‫جستينانوس‪ ،‬أي ما بعد ‪565‬م‪ ،‬ولعل هذه الفترة في نتائجها وآثارها كانت‬

‫أحسن فترة للبالد‪ ،‬إذ وضح للعيان منذ أواخر ذلك العهد أنه لم يعد هناك أمل‬ ‫إطال ًقا في إحياء الدولة الرومانية القديمة التي قضى الجرمان والمغول عليها‪،‬‬ ‫وعلى معالمها وحضارتها وأنشأوا دول وممالك جديدة على أنقاضها‪ ،‬كما‬ ‫أثبتت األحداث أن األمل تالشى في استرجاع ممتلكات تلك الدولة في الغرب‬

‫وأصبح من واجب الدولة الرومانية في الشرق التحول عن الطريق القديمة إلى‬ ‫((( عمران‪ ،‬محمود سعيد‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية وحضارتها‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة‬ ‫العربية‪ ،‬ط‪ ،2004 ،2‬ص‪.37‬‬ ‫((( هارتمان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.98‬‬ ‫‪41‬‬


‫طريق جديدة ترتبط بالوضع الجغرافي للجزء المتبقي من الدولة الرومانية‪،‬‬

‫ولم يكن أمامها إال ذلك السبيل‪ ،‬بمعنى أنه كان يجب على تلك الدولة‬ ‫اتجاها شرق ًيا بيزنط ًيا هلين ًيا‪ ،‬طب ًقا لمقتضيات الظروف واألحوال‬ ‫أن تتجه‬ ‫ً‬

‫الجديدة ويكفي للتدليل على وجاهة هذا الرأي أن األباطرة الذين جاءوا‬

‫بعد جستينانوس قد تركوا الغرب األوروبي وممالكه الجرمانية تتكون تكوينًا‬ ‫جديدً ا وتنمو على أسس تخالف تلك التي قامت عليها دولة الرومان القدماء؛‬

‫ولكن هذا ال يعني أن الدولة البيزنطية قد تنازلت عن تقاليدها وأصولها‬

‫باعتبارها الفرع الثاني من دولة روما القديمة‪ ،‬ولكنه يعني صراحة أنه لم يعد‬

‫باستطاعتها الجري وراء هذه السياسة‪ ،‬باستثناء أمثلة فردية مبعثرة طيلة القرون‬ ‫التي عاشتها تلك الدولة حتى أواسط القرن الخامس عشر‪ ،‬وهي ال تصلح‬

‫مقياسا التجاه معين‪ ،‬مثال ذلك اإلمبراطور جستينوس‬ ‫بطبيعة الحال أن تكون‬ ‫ً‬

‫الثاني(((‪ ،‬الذي جاء بعد جستينانوس وما كادت شخصية جستينانوس تختفي‬

‫بوفاته حتى تداعى ما أقامه من نظام للحكومة حيث أن الفترة الواقعة بين سنة‬ ‫‪ 565‬ـ ‪610‬م من أسوأ فترات التاريخ البيزنظي‪.‬‬

‫وهنا يذكر السيد الباز العريني في كتابه تاريخ الدولة البيزنطية ً‬ ‫نقل عن المؤرخ‬

‫فنلي (‪ )Finlay‬أن سنة ‪717‬م وهي السنة التي تولى فيها ليـو الثـالث (‪)Leo III‬‬

‫األيسوري عرش اإلمبراطورية هي بداية التاريخ البيزنطي‪ ،‬حيث أن الدولة بدأت‬

‫تستقر على حدودها بوجه عام‪ ،‬ثم أنه من المميزات التي تجعل ذلك التاريخ‬ ‫ردحا ً‬ ‫طويل‬ ‫صالحا فترة بداية تلك المسائل الدينية الكبرى التي شغلت المسيحية ً‬ ‫ً‬ ‫من الزمن مثل الحركة األيقونية والحركة المونوفيستية (‪.((()Monofestism‬‬

‫((( عبيد‪ ،‬طه خضر‪ ،‬تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬عمان دار الفكر‪ ،‬ط‪( ،1‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.57‬‬ ‫((( العريني‪ ،‬السيد الباز‪ ،‬الدولة البيزنطية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،1982 ،‬ص‪.102‬‬ ‫‪42‬‬


‫ويذهب عدد آخر من المؤرخين إلى أن اإلمبراطورية البيزنطية تبدأ‬

‫إمبراطورا‬ ‫ليلة عيد الميالد في روما سنة ‪800‬م‪ ،‬عندما تم تتويج شارلمان‬ ‫ً‬

‫على الغرب؛ فمنذ ذلك الحين قامت اإلمبراطورية األولى في الغرب‪،‬‬

‫وهي اإلمبراطورية الرومانية الغربية المقدسة‪ ،‬والثانية في الشرق وهي‬

‫اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬وأصبحت الدولة الرومانية في الشرق لها كيانها‬ ‫وموقعها الجغرافي‪ ،‬وحدودها الزمنية‪ ،‬وإلى جانبها الدولة الرومانية‪،‬‬

‫وهي دولة شارلمان أو شارل العظيم‪ ،‬وهنا مقصود بأن شارلمان آخر‬ ‫أباطرة الرومان‪.‬‬

‫وإن فشل مشروع إحياء دولة القياصرة القدماء أو استحالة إحيائها لهو‬

‫برهان واضح على أن ظروف العالم األوروبي قد تغيرت وأن تلك الدولة‬ ‫اتخذت من القسطنطينية عاصمة لها(((‪.‬‬

‫وجدير بالذكر أن هذه التغيرات الهائلة لم تحدث بين يوم وليلة‪ ،‬وإنما‬ ‫ً‬ ‫متداخل ومتشابكًا‪ ،‬وهي‬ ‫كانت عبارة عن عملية تطوير بطئ مستمر وكان‬

‫التي تعرف عادة عند المؤرخين باسم فترة التغير واالنتقال((( حدثت‬

‫تدريج ًيا‪ ،‬ولم يسير على طريقة واحدة والتغيرات كانت مظاهرها واضحة‬ ‫فليس تغير سياسي فقط بل كان اجتماع ًيا واقتصاد ًيا وثقاف ًيا حيث لمعت‬

‫ومضات للعقل البشري بظهور الجامعات وما رافق ذلك من العلم‬ ‫((( واالس هادريل‪ ،‬ج‪.‬م‪ ،‬أوروبا في صدر العصور الوسطى‪( ،‬ت‪ :‬حياة ناصر الحجي)‪،‬‬ ‫(د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.142‬‬ ‫((( أل‪ ،‬هربرت‪ ،‬فيشر‪ ،‬أصول التاريخ األوروبي الحديث من النهضة األوروبية إلى‬ ‫الثورة الفرنسية‪( ،‬ت‪ :‬زينب عصمت راشد وأحمد عبد الرحيم)‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫المعارف‪ ،1970 ،‬ص‪.7‬‬ ‫‪43‬‬


‫والثقافة‪ ،‬وقد كان الطابع الديني قو ًيا‪ ،‬إال أن ظهور الجامعات شجع‬ ‫العلم واألدب(((‪.‬‬

‫إ ًذا تحديد عصر بعينه بالسنين والتواريخ مسألة اعتبارية المقصود بها‬ ‫تسهيل فهم التاريخ وتقريبه إلى األذهان‪ ،‬وليس عصر أو دولة ابتدأت في‬ ‫يوم معين أو سنة بذاتها‪ ،‬فعندما قسم اإلمبراطور دقلديانوس اإلمبراطورية‬ ‫نظر ًيا إلى قسمين‪ ،‬فإن هذا األمر في نظر المؤرخين عنصر جديد طرأ على‬ ‫األوضاع السائدة من قبل‪ ،‬وعندما قسم ثيودسيوس اإلمبراطورية إلى‬ ‫قسمين منفصلين عن بعضهما‪ ،‬أكد هذا اإلجراء الذي اتخذه دقلديانوس‬ ‫وعندما أسس قسطنطينوس روما الجديدة‪ ،‬فإن هذه النقطة بداية لدولة‬ ‫رومانية شرقية‪ ،‬وعندما سقطت روما في قبضة الجرمان سنة ‪476‬م‪ ،‬عزز‬ ‫سقوطها وضع الدولة الجديدة‪ ،‬وهكذا أخذت تطرأ عناصر مختلفة على‬ ‫الموقف‪ ،‬تؤدي لتداعي نظام سابق وظهور قوة جديدة لتؤدي دورها على‬ ‫مسرح األحداث‪.‬‬ ‫والواقع أن التاريخ البيزنظي ليس إال مرحلة جديدة من التاريخ‬ ‫الروماني‪ ،‬والدولة البيزنطية ليست إال امتداد لإلمبراطورية الرومانية‬ ‫مصطلحا جرى إطالقه حدي ًثا‪ ،‬وإن‬ ‫تعبيرا أو‬ ‫ً‬ ‫ولفظة بيزنظي لم تكن إال ً‬ ‫الذين يسمون بيزنظيين هؤالء كانوا ُيسمون أنفسهم رومانًا‪.‬‬ ‫هذا ويرى جل المؤرخين أن سنة ‪476‬م بداية الدولة البيزنطية؛ ألن هذه‬ ‫السنة تعتبر آخر عهد اإلمبراطورية الرومانية القديمة في الغرب‪.‬‬

‫((( البطريق‪ ،‬عبد الحميد‪ ،‬وعبد العزيز نوار (وآخر)‪ ،‬التاريخ األوروبي الحديث من‬ ‫عصر النهضة إلى مؤتمر فيينا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‪.11‬‬ ‫‪44‬‬


‫المبحث الثالث‬

‫مالمح القانون الروماني‬ ‫يختلف اإلنسان من مكان إلى مكان عن اآلخر؛ هذا االختالف يأتي‬ ‫بناء على اختالف المجتمع الذي يعيش فيه طب ًقا لظروف الطبيعة ذاتها‪ ،‬فهو‬ ‫دائما عن العلل إلدراك األسباب لجميع الظواهر التي تعتريه في أية‬ ‫يبحث ً‬ ‫مشكلة تواجهه يبحث عن مسبباتها ونوعها وآثارها‪ ،‬ويكشف هذه األسباب؛‬ ‫فهذه فطرة الحياة منذ تاريخ وجودنا‪ ،‬ومن هنا يرى بعين بصرية أن أية معالجة‬ ‫صحيحة للقضايا القانونية في إطار من نظمها الثابتة تلك التي تجابه الوجود‬ ‫اإلنساني والحركي داخل المجتمع الذي تم العيش فيه(((‪ ،‬يجب بالضرورة‬ ‫االستناد ـ وقبل كل شيء ـ إلى معرفة تاريخية شاملة المدى‪ ،‬بعيدة الغور‪ ،‬هناك‬ ‫عند مسرح األحداث األولى حيث كان اإلنسان في صراع مع نفسه تارة‪ ،‬ومع‬ ‫اإلنسان اآلخر‪ ،‬ثم صراعه مع الخارج في مجتمعات ثانية(((‪.‬‬ ‫((( األسيوطي‪ ،‬ثروت أنيس‪ ،‬نظام األسرة بين االقتصاد والدين والجماعات البدائية‪،‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬دار النهضة العربية ‪ ،1966‬ص‪.1‬‬ ‫((( السقا‪ ،‬محمود‪ ،‬تاريخ النظم القانونية واالجتماعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫دار الحمامي‪ ،‬ط‪ ،1972 ،2‬ص ص‪.6-5‬‬ ‫‪45‬‬


‫طا ً‬ ‫اإلنسان بفكره مرتبط بماضيه وبإحساسه بالماضي ارتبا ً‬ ‫وثيقا‪،‬‬

‫فاإلنسان تاريخي بجوهره منذ أن بدأ يدرك ما حوله ويدرك ذاته‬ ‫منذ أن بدأ يصبح إنسانًا فالتذكر واإلحساس هو عنصر من العناصر‬

‫المهمة التي تميز اإلنسان عن سائر المخلوقات الكونية‪ ،‬فال إنسان‬

‫بال تاريخ وال تاريخ بال إنسان‪ .‬العالم االجتماعي أ ًيا كان اختصاصه‬ ‫ال يستطيع دارسة المشكالت التي يعالجها إذا لم يأخذ بعين االعتبار‬

‫الجذور التي نبتت منها والتبديالت التي طرأت عليها‪ ،‬فالعلوم‬ ‫الطبيعية والبشرية على ٍ‬ ‫حد سواء كلها تهتم بماضي الحقائق المتعلقة‬

‫بموضوعها(((‪.‬‬

‫ليست غاية العالم العلوم الطبيعية‪ ،‬وما من األحداث الماضية ذاتها‪،‬‬

‫بل غايته استخالص القوانين التي تربط هذه األحداث أو النظريات‬

‫التي تفسرها‪ ،‬فالعالم الفيزيائي ال يهمه إسقاط حجر إلى األرض بقدر‬ ‫ما يهمه أن يستنبط القانون من وراء هذا السقوط‪ ،‬فالعلوم االجتماعية‬

‫شبيهة بالعلوم الطبيعية في أنها ترمي إلى استنباط القوانين التي تنظم‬

‫األحداث البشرية‪.‬‬

‫من هنا يمكن اإلشارة إلى أنه ال شيء دون تاريخ وال قانون دون تاريخ‪،‬‬

‫وأي علم من علوم اإلنسان أو حتى العلوم العلمية البد من دراسة التاريخ‬

‫حتى يتم التعرف على كيفية حدوث األشياء‪ ،‬ولمعرفة القانون البد من‬

‫معرفة تاريخ القانون(((‪.‬‬

‫((( زريق‪ ،‬قسطنطين‪ ،‬نحن والتاريخ مطالب وتساؤالت‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1963 ،2‬ص‪.22‬‬ ‫((( رستم‪ ،‬أسد‪ ،‬مصطلح التاريخ‪ ،‬بيروت‪ ،1939 ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪46‬‬


‫تعريف القانون الروماني عند الفقهاء(((‪:‬‬

‫قال الفقيه الروماني هرنج‪« :‬إن القانون الروماني عنصر من عناصر‬

‫مدينتنا الحديثة‪ ،‬وإن روما فتحت العالم ثالث مرات‪ :‬المرة األولى بجيشها‪،‬‬

‫والثانية بدينها‪ ،‬والثالثة بقانونها‪ ،‬وإن فتحها األخير كان أكثر ضياء وأبعد‬

‫مدى‪ .‬أما برايسي الفقيه اإلنجليزي فيقول‪« :‬إن القانون الروماني قانون‬

‫عالمي يمثل وحدة اإلنسانية المتمدنة‪ ،‬وما من مسألة من مسائل الفقه‬

‫إال عرض لها وألقى الضوء عليها‪ .‬أما الفرنسي كلود فيقول‪ :‬إن روما تركت‬ ‫للعالم ترا ًثا من القانون والفقه صالح لكثير من نواحي الحياة االجتماعية‪.‬‬ ‫ويقول الخطيب شيشرو‪ :‬إنما خلقنا إلقامة العدل‪ ،‬فنحن ال نسن القوانين‬

‫أيضا‪ :‬إن روح الشعب‬ ‫بمحض الرأي بل بدافع الفطرة»‪ .‬ويقول هزيج ً‬ ‫وروح العصر يكونان م ًعا روح القانون(((‪.‬‬

‫معنى هذا أنه لمعرفة روح القانون‪ ،‬البد من التعرف على روح الشعب؛‬

‫تكوينه وطبيعته‪ ،‬مزاجه النفسي‪ ،‬أمانيه‪ ،‬كما البد لمعرفة ذلك التعرف على‬

‫روح العصر الذي يعيش فيه الناس‪ ،‬وعن أية وقفة وصل بهم عند أية مرحلة‬

‫من الجمود أو التفاعل مع الحركة ومدى التجاوب ما بين الوجود الخارجي‬ ‫من طبيعة ونظم وبين الوجود الداخلي عند حقيقة االنفعال اإلنساني عند‬ ‫وأيضا التجاوب‪ ،‬ومن هذا التجاوب والتجاذب‬ ‫نقطة واحدة يدور التنافر ً‬

‫معبرا عن اإلنسان كفرد‪ ،‬ومن ثم عن الشعب‬ ‫والتنافر والبعد يخرج القانون ً‬

‫أو الجماعة البشرية‪.‬‬

‫((( كما ذكرهم عبد الحميد محمود المغربي في كتابه الوجيز في تاريخ القوانين‪.‬‬ ‫((( المغربي‪ ،‬محمود عبد الحميد‪ ،‬الوجيز في تاريخ القوانين‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة‬ ‫العربية‪ ،1979 ،‬ص‪.19‬‬ ‫‪47‬‬


‫دائما هو لب التاريخ كائنًا ً‬ ‫ً‬ ‫ومؤثرا؛ فاإلنسان‬ ‫متأثرا‬ ‫فعال‬ ‫ً‬ ‫ومنفعل ً‬ ‫اإلنسان ً‬

‫وليد صالته االجتماعية والتفاعل القائم ضمن مجتمعه والمجتمعات‬ ‫األخرى‪ ،‬إ ًذا عالقة اإلنسان بما حوله وأثر العالقات في تكوين تركيبه‬ ‫ومعتقداته وأساليب فكره(((‪.‬‬

‫مالمح القانون الروماني‪:‬‬

‫تتناول دراسة القانون الروماني شرح أحكام النظم القانونية التي كانت‬

‫سائدة في المجتمع الروماني منذ إنشاء مدينة روما عام ‪ 753‬ق‪.‬م؛ فهي‬ ‫ال تقتصر والحالة هذه على دراسة النظم والمبادئ القانونية الرومانية في‬

‫مرحلتها النهائية وال في عصر معين من عصورها التاريخية؛ بل تتناول شرح‬

‫أحكام هذه النظم في العصور المتالحقة واألدوار المتتابعة التي مرت على‬

‫المجتمع الروماني‪ ،‬لمعرفة كيف نشأت هذه النظم‪ ،‬وكيف تطورت‪ ،‬وما‬ ‫مصيرها‪ ،‬هل بقيت أم زالت بزوال تلك اإلمبراطورية العظيمة(((‪.‬‬

‫صفحا عن الماضي واتخذت‬ ‫إن جميع الشرائع العصرية حتى التي ضربت‬ ‫ً‬

‫في تطورها صورة ثانوية‪ ،‬إنما تولدت من تطور الشرائع التي سبقتها‪ ،‬وإن من‬

‫العسير استيعاب هذه الشرائع دون الرجوع إلى مصادرها التاريخية(((‪ .‬والقانون‬ ‫الروماني هو المصدر التاريخي الذي أخذت عنه أغلب الشرائع الحديثة‪.‬‬

‫((( عثمان‪ ،‬حسن‪ ،‬منهج البحث التاريخي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،1943 ،‬ص‪.12‬‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬عمر ممدوح‪ ،‬أصول تاريخ القانون‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪،‬‬ ‫‪ ،1961‬ص ص‪.7-6‬‬ ‫((( مونييه‪ ،‬موجز القانون الروماني‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،‬ج‪،1947 ،1‬‬ ‫ص ص‪.3-1‬‬ ‫‪48‬‬


‫الفقـه‪:‬‬ ‫الفقه معناه الحرفي في اللغة الالتينية هو معرفة القانون‪ ،‬وعلى من‬

‫يشتغل في الفقه مهمة تفسيره والتفسير ال يقصد به مجرد تحليل نصوص‬

‫القانون وإنما يهدف إلى الكشف عن األغراض التي يسعى إليها‪ ،‬فالقانون‬

‫ليس جامدً ا يتمثل بالنص المكتوب بل هو عملية تطور وتقدم؛ وبذلك‬

‫يجب على الفقيه أن يكون مرشدً ا بهذا المعنى وبهذا فإن الفقه مصدر من‬

‫مصادر القانون(((‪.‬‬

‫الوجهة التاريخية والوجهة القانونية للقانون الروماني‪:‬‬

‫الوجهة التاريخية‪:‬‬ ‫فمن الوجهة التاريخية تطور القانون خالل أحد عشر قرنًا فمنذ الزمن‬

‫الذي صدر فيه قانون األلواح االثنى عشر سنة ‪ 451‬ق‪.‬م‪ ،‬فكان قانونًا‬ ‫متواض ًعا ُو ِضع ليحكم مدينة صغيرة ال يتميز بشيء عن غيره من القوانين‬ ‫البدائية‪ ،‬ما لبث أن تطور بتطور البيئة االجتماعية واالقتصادية حتى أصبح‬ ‫سار ًيا على أهل إيطاليا ثم ً‬ ‫نافذا على إمبراطورية عظيمة مترامية األطراف‬ ‫متباينة األجناس يخضع لها معظم العالم‪ ،‬وبعد أن نشأ في أول عهده‬

‫محدود النصوص ضيق تعدلت نظمه وتطورت واتسعت أحكامه حتى‬

‫بلغت في العصر العلمي درجة الكمال التي ال تجدها في قانون وضعي‬ ‫آخر‪ ،‬فالقانون بطبيعته غير ثابت‪ ،‬فهو متحرك ومتغير ويتعدل تب ًعا لحالة‬

‫((( رباح‪ ،‬غسان‪ ،‬الوجيز في القانون الروماني والشريعة اإلسالمية‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات‬ ‫الحلبي الحقوقية‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪.24‬‬ ‫‪49‬‬


‫المجتمع‪ ،‬فعوامل المجتمع الطبيعية تخلق التشريع السليم الصالح لبقاء‬

‫المجتمع وغير قابل للزوال بسهولة؛ فالتشريعات التي تخلقها عوامل‬ ‫مصطنعة أو نزاعات المشرع هي تشريعات فاسدة مصيرها للزوال(((‪.‬‬ ‫الوجهة القانونية‪:‬‬ ‫فقهاء الرومان بفطرتهم القانونية وبتأثير الفلسفة اإلغريقية امتازوا‬

‫بالقدرة على استخالص المبادئ العامة وصياغتها وتطبيقها في الحياة‬ ‫العملية جعلت منهم مدرسة لتثقيف الناشئين من رجال القانون وتربية‬

‫ملكتهم القانونية(((‪.‬‬

‫القانون عند الرومان هو الحق ويعبرون عن القانون والحق بلفظ واحد‪،‬‬

‫وهذا معناه مجموعة القواعد التي تنظم نشاط األفراد داخل المجتمع أي‬ ‫قانون األشخاص هو مجموعة القواعد الخاصة بالشخص باعتباره ً‬ ‫أهل‬ ‫وقديما كان القانون ال يشمل عند‬ ‫الكتساب الحقوق وااللتزام بالواجبات‬ ‫ً‬ ‫الرومان سوى القواعد التي تنظم الصالت بين أرباب األسر داخل المدينة‪،‬‬

‫أما داخل المنزل فتخضع الروابط بين رب األسرة وأفراد بيته تلك العادات‬ ‫الموروثة عن اآلباء واألجداد‪ ،‬وهي ما تعرف بعادات األسالف(((‪.‬‬ ‫إلى جانب القانون هناك الدين واألخالق‪:‬‬ ‫ال يخضع اإلنسان في المجتمع لقواعد القانون فقط‪ ،‬بل توجد بجانب‬

‫القانون قواعد أخرى تنظم سلوكه وتردعه‪ ،‬وهذه القواعد هي الدين واألخالق‪.‬‬ ‫((( بدوي‪ ،‬علي‪ ،‬مبادئ القانون الروماني‪ ،‬ج‪ ،1936 ،1‬ص‪.7‬‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.6‬‬ ‫((( دومون‪ ،‬موجز القانون الروماني‪ ،‬ج‪ ،1947 ،1‬ص‪( 5‬المقدمة)‪.‬‬ ‫‪50‬‬


‫‪ 1‬ـ القانون والدين‪:‬‬

‫ممتزجا ومرتب ًطا‬ ‫كان القانون في العهد األول من حياة الرومان‬ ‫ً‬ ‫طا ً‬ ‫ارتبا ً‬ ‫وثيقا بأحكام الدين‪ ،‬فالقواعد القانونية البدائية مستمدة من‬ ‫العقائد الدينية‪ ،‬فالقانون والدين كانا في يد سلطة هيأة الكهنة تتولى‬ ‫تأويل القانون وتطبيقه وتحتكر المعرفة القانونية‪ ،‬فقواعد الدين كانت‬ ‫أوامر صادرة من اآللهة لتنظيم الصلة بين العابد والمعبود‪ .‬أما قواعد‬ ‫القانون كانت من صنع البشر‪ ،‬وضعت لتنظيم الروابط بين أصحاب األسر‬ ‫داخل المدينة ثم انفصلت بعد ذلك قواعد الدين عن قواعد القانون‪ ،‬فترك‬ ‫الرومان قواعد الدين لحماية اآللهة وتعهدوا بحماية المدينة‪ ،‬ويلحظ‬ ‫أن هذا االنفصال لم يكن قد بدأ في وقت مبكر؛ إال أنه لم يكن قد تم‬ ‫في عصر القانون القديم؛ حيث كان رجال الدين في ٍ‬ ‫وقت ما يتدخلون‬ ‫في بعض األعمال القانونية التي يباشرها أرباب األسر كلما ترتب عليها‬ ‫تغيير في نظام المدينة التي ينسب الرومان نشأتها إلى اآللهة أنفسهم‪،‬‬ ‫كما أنهم تدخلوا في شؤون الدين للتخفيف من حدة العادات التي كانت‬ ‫قائمة بجانب القانون‪ ،‬التي كانت تنظم الروابط بين أفراد داخل األسرة‪،‬‬ ‫فكانت قواعد الدين تحرم على رب األسرة أن يبيع زوجته‪ ،‬مع أنه يتمتع‬ ‫بحكم هذه العادات بسلطة مطلقة على زوجته وأبنائه تصل إلى حق‬ ‫الحياة أو الموت‪ ،‬كما كانت بعض األعمال القانونية تعتبر حتى أوائل‬ ‫عصر اإلمبراطورية باطلة قانونًا إذا جرت في غير األيام المخصصة لها‬ ‫في التقويم الديني‪ ،‬فالرومان كانوا يدخلون القانون في نطاق الدين‪،‬‬ ‫وفي نطاق األخالق(((‪.‬‬ ‫((( بدوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.20-17‬‬ ‫‪51‬‬


‫‪ 2‬ـ القانون واألخالق‪:‬‬

‫القانون الروماني يأمر اإلنسان أن يعيش شري ًفا‪ ،‬وأال يضر أحدً ا‪ ،‬وأن‬

‫يعطي كل ذي حق حقه‪ ،‬فالعدل الحق هو النية الثابتة الدائمة في إعطاء‬

‫كل فرد ما يستحقه‪ ،‬هذا ما استخلصه الرومان من الفلسفة اإلغريقية‬

‫التي كانت ترى أن علم األخالق هو علم عام شامل يدخل في نطاق‬

‫أحوال اإلنسان‪ ،‬ومن النصوص القانونية الرومانية الشهيرة «ليس كل‬ ‫مباح شري ًفا»‪ .‬هو صريح في داللته على أن الرومان كانوا يميزون ً‬ ‫فعل‬ ‫بين القانون واألخالق(((‪.‬‬

‫القانون هو مجموعة قواعد العدل والنفع العام التي تهدف إلى تنظيم‬

‫السلطة العامة والروابط االجتماعية بين األفراد(((‪.‬‬ ‫�أق�سام القانون وم�صادره عند الرومان‪:‬‬

‫ينقسم القانون إلى قسمين‪ :‬عام‪ ،‬وخاص‪.‬‬ ‫والقانون العام هو الذي يحدد نظام السلطات العامة‪ ،‬ويحدد عالقة‬

‫الفرد بالدولة‪ ،‬وهو ال يوجد إال إذا وجدت جماعة منظمة‪ ،‬ويشمل‪:‬‬

‫قانون الحكام‪ :‬وهو الذي يبين القواعد الخاصة بانتخاب هيآت المدينة‬

‫التشريعية وحكامها‪ ،‬ويحدد سلطتها‪ ،‬وكيفية قيامها‪ ،‬ويقرر موارد الدولة‪.‬‬

‫كما يشمل قانون العبادة‪ :‬وهو يبين القواعد الخاصة بالمعابد وتنظيم‬ ‫الشعائر الدينية وتنظيم الجماعات الدينية‪ .‬وكذلك القانون الجنائي‪:‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.20-19‬‬ ‫((( جيفار‪ ،‬موجز القانون الروماني‪ ،‬ج‪ ،1939 ،1‬ص‪.10‬‬ ‫‪52‬‬


‫وهو يتناول الجرائم العامة التي تمس الصالح العام التي تتولى الدولة‬ ‫العقاب عليها‪.‬‬ ‫أما القانون الخاص فهو الذي ينظم عالقات األفراد فيما بينهم‪ ،‬وهذا‬ ‫القانون برع فيه الرومان عن غيرهم من رجال القانون‪ ،‬وينقسم إلى القانون‬ ‫المدني وقانون الشعوب والقانون الطبيعي‪.‬‬ ‫والقانون المدني هو قانون يسري على المواطنين الرومان دون‬ ‫سواهم‪ ،‬وقد نشأ من التقاليد القانونية القديمة‪ ،‬وهذا القانون ينظم‬ ‫العالقات بين التجار التي تعرف اليوم بالقانون التجاري‪ ،‬كما يشمل‬ ‫أيضا القواعد المتعلقة بنظام التقاضي‪ ،‬التي يطلق عليها اليوم اسم‬ ‫ً‬ ‫«المرافعات»(((‪ .‬في حين أن قانون الشعوب‪ :‬هو ما كان سار ًيا في‬ ‫الدولة الرومانية على المواطنين واألجانب على السواء‪ ،‬ويكون سار ًيا‬ ‫على جميع األحرار من الناس‪ .‬وهذا يتعارض مع القانون المدني من‬ ‫حيث أنه يسري على جميع الشعوب؛ بينما القانون المدني ال يسري‬ ‫إال على شعب معين‪ ،‬وقانون الشعوب نشأ في أواسط القرن الثالث‬ ‫قبل الميالد‪ ،‬بسبب ازدياد األجانب فيها واتساع دائرة معامالتهم مع‬ ‫الرومان‪ ،‬ويرجع تكوينه إلى نشاط الحاكم القضائي المكلف بالنظر‬ ‫في قضايا األجانب‪ ،‬الذي كان يفصل فيها بناء على القانون المدني‬ ‫وأحيانًا أخرى بناء على العادات التجارية المتبعة بين األجانب المقيمين‬ ‫في روما أو القواعد العامة التي تقرها جميع الشعوب المجاورة‪ .‬أما‬ ‫القانون الطبيعي‪ :‬فهو القانون الصحيح المطابق للطبيعة‪ ،‬سار ًيا على‬ ‫جميع الناس‪ ،‬ويتولى الله حمايته‪ ،‬وقد اختلف فقهاء الرومان في بيان‬ ‫((( عمر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫‪53‬‬


‫ماهية القانون الطبيعي؛ ففريق يرى أن القانون الطبيعي إنما هو القانون‬ ‫الذي تمليه الطبيعة على جميع المخلوقات من إنسان وحيوان حتى‬

‫على الطيور في الهواء وعلى األسماك في الماء‪ ،‬فهو يشمل التزاوج‬ ‫والتناسل وتربية األطفال‪.‬‬

‫وهذا الفريق يوجد لديه خلل؛ فالحيوانات ال عقل لها‪ ،‬فكيف‬

‫يمكن أن يسري عليها القانون‪ ،‬فريق آخر يرى أن القانون الطبيعي هو‬

‫قانون عام على اإلنسانية جمي ًعا‪ ،‬يشمل األحرار واألرقاء من الناس‬ ‫على السواء‪.‬‬

‫هناك قانون مدون وآخر غير مدون‪ ،‬فالقانون المكتوب هو مجموعة‬

‫قواعد مستمدة من التشريع والدساتير اإلمبراطورية ومنشورات وفتاوى‬

‫الفقهاء‪ ،‬أما القانون غير المكتوب فهو عبارة عن قواعد العرف التي تكتسب‬

‫صفتها الملزمة من تواتر الناس عليها مدة طويلة‪.‬‬

‫وينقسم تاريخ القانون الروماني إلى أربعة عصور‪ ،‬هي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ العصر الملكي‪:‬‬ ‫وهو عصر التقاليد العرفية األولى أي العصر البدائي وكانت فيه التقاليد‬

‫أقرب إلى الدين منها للقانون ويبدأ هذا بتأسيس مدينة روما ‪ 753‬ق‪.‬م‬

‫وينتهي باستبدال النظام الجمهوري بالنظام الملكي عام ‪ 509‬ق‪.‬م‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ عصر القانون القديم‪:‬‬

‫وهو العصر الذي تم فيه انفصال القانون عن الدين وتدوين بعض‬

‫أحكام العرف القديم في قانون األلواح االثنى عشر‪.‬‬ ‫‪54‬‬


‫‪ 3‬ـ العصر العلمي‪:‬‬

‫وهو يبدأ بصدور قانون إيبوتا((( حوالي عام ‪ 130‬ق‪.‬م وينتهي ببدء‬ ‫حكم اإلمبراطور دقلديانوس عام ‪284‬م‪ ،‬ويشمل الشطر األخير من العصر‬ ‫الجمهوري وعصر اإلمبراطورية العليا‪ ،‬وبه تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ‬ ‫القانون الروماني تزايد توسع روما في فتوحاتها في إيطاليا وخارجها في‬ ‫حوض البحر المتوسط‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ عصر اإلمبراطورية السفلى‪:‬‬ ‫يتميز هذا العصر بانتقال مركز النشاط القانوني الروماني من روما موطنه‬ ‫األصلي إلى القسطنطينية بعد انقسام الدولة الرومانية إلى غربية وشرقية‬ ‫وتأثر خاللها القانون الروماني بالعادات المحلية التي كانت سائدة في‬ ‫واليات اإلمبراطورية الشرقية‪.‬‬ ‫الهدف من درا�سة القوانين الرومانية‪:‬‬

‫كما أن دراسة تاريخ القانون الروماني نموذج جيد لدراسة نشوء القوانين‬ ‫الوضعية‪ ،‬فتمكن هذه الدراسة الدارس القانوني من أن يرتفع فوق القانون‬ ‫دائما‪ ،‬وكذلك لها فائدة في معرفة الحضارة الغربية‪ ،‬هي إحدى تيارات‬ ‫المتغير ً‬ ‫الحضارة اإلنسانية‪ .‬وكما يقول الفقيه هرنج «إن الحضارة األوروبية الحديثة‬ ‫تقوم على أساسين تاريخيين هما الفلسفة اإلغريقية والقانون الروماني»(((‪.‬‬ ‫((( وقد أطلق لفظ إيبوتا على من كان يضع برنامج الدعوى ويحرره ويثبت فيه ادعاءات‬ ‫الطرفين بعد االستماع إليها‪ ،‬الحفناوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.214‬‬ ‫((( الحفناوي‪ ،‬عبد المجيد‪ ،‬دراسات في القانون الروماني‪ ،‬دار الجامعية‪ ،1986 ،‬ص‬ ‫ص‪.7-5‬‬ ‫‪55‬‬


‫وإن التفقه في القانون كان من أبرز نواحي الحياة الفكرية؛ حيث كانت‬

‫المحاكم هي المسارح المالئمة الستعراض مواهب ألمع الخطباء(((‪.‬‬

‫إ ًذا القانون الروماني هو مجموعة القواعد والنظم القانونية التي كانت‬

‫سائدة في المجتمع الروماني منذ إنشاء روما في عام ‪ 753‬ق‪.‬م‪ ،‬أو منذ أن‬

‫أصبح رومولوس ملكًا على روما‪ ،‬ووضع للمدينة نظامها السياسي‪ ،‬وجاء‬

‫حكما استبداد ًيا‪،‬‬ ‫بعده ستة ملوك آخرهم الملك تاركونيوس الذي حكم‬ ‫ً‬

‫فثار الشعب عليه وقتله‪ ،‬وأقام النظام الجمهوري(((‪.‬‬

‫ولمعرفة القانون حق المعرفة البد من معرفة نظام روما السياسي؛‬

‫والنظام السياسي في روما كان يمر بثالث مراحل وهي العصر الملكي‪،‬‬

‫العصر الجمهوري «القنصلي»‪ ،‬العصر اإلمبراطوري(((‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬العصر الملكي‪:‬‬

‫قام النظام السياسي لمدينة روما في العصر الملكي على هيآت ثالث‪:‬‬

‫الملك ومجلس الشيوخ ومجلس الشعب‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ الملك‪:‬‬

‫امتاز النظام السياسي في هذا العصر بوجود الملك يتولى السلطة في‬

‫رئيسا للدولة والمدينة‪ ،‬وكان يتم اختيار الملك عن‬ ‫الدولة مدى الحياة ً‬ ‫((( نصحي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.212‬‬ ‫((( العبودي‪ ،‬عباس‪ ،‬تاريخ القانون‪ ،‬الموصل‪ ،‬دار الكتب للطباعة والنشر‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫‪ ،2007‬ص‪.11‬‬ ‫((( الغازي‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬تاريخ القانون في وادي الرافدين والدولة الرومانية‪ ،‬بغداد‪،‬‬ ‫‪ ،1973‬ص‪.185‬‬ ‫‪56‬‬


‫طريق سلفه(((‪ ،‬وكان الملك يتمتع بسلطة غير محدودة‪ ،‬فكان يمارس‬ ‫جميع االختصاصات في اإلدارة والحكم وشـؤون الحرب والقضاء ً‬ ‫فضل‬ ‫عن السلطة الدينية باعتباره الرئيس الديني(((‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ مجلس الشيوخ‪:‬‬ ‫كان مجلس الشيوخ يتكون من رؤساء العشائر‪ ،‬وكانت قراراته استشارية‬

‫إذ كان الملك يرجع إليه في األمور المهمة دون أن يكون ملز ًما بتنفيذها(((‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ مجلس الشعب‪:‬‬

‫يتكون مجلس الشعب من السكان األحرار القادرين على حمل السالح‪،‬‬

‫وكان يطلق عليهم اسم الشعب الروماني‪ ،‬وقد اقتصرت المجالس الشعبية‬

‫على طبقة األشراف‪ ،‬ولم يكن يدخلها العامة‪ ،‬الذين ينضمون تحت راية‬

‫مجلس العامة(((‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬العصر الجمهوري‪:‬‬

‫إن نظام السلطة في هذا العصر تكون رئاسة الدولة منوطة بشخصين‬

‫يسمى كل واحد منهما القنصل (‪ ،)Consul‬وكانا يتوليان السلطة لمدة سنة‬ ‫واحدة‪ ،‬وفي هذا العصر ظهر الحاكم القضائي (‪ ،)Praetor‬وهو الذي ينظر‬ ‫في القضايا المدنية بصورة عامة كالمنازعات التي تنشأ بسبب بيع الرقيق‬

‫والحيوانات‪ ،‬فكان هناك حاكم قضائي ينظر في قضايا األشخاص من األصل‬ ‫((( مسكوني‪ ،‬صبيح‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪ ،1971 ،2‬ص‪.24‬‬ ‫((( جعفر‪ ،‬علي محمد‪ ،‬تاريخ القوانين والشرائع‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬ط‪ ،1982 ،1‬ص‪.27‬‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬معروف‪ ،‬الوجيز في الحقوق الرومانية‪ ،‬ج‪ ،1‬ط‪ ،1963 ،5‬ص‪.187‬‬ ‫((( نفس المرجع‪.‬‬ ‫‪57‬‬


‫الروماني وعرف باسم «بريتور المدينة»‪ ،‬ووجد حاكم قضائي آخر ينظر في‬ ‫قضايا المواطنين من غير األصل الروماني‪ ،‬وعرف «بريتور األجانب»(((‪.‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬العصر اإلمبراطوري‪:‬‬

‫يقوم النظام السياسي في هذه العصر على تولي رئاسة الدولة شخص‬

‫واحد يطلق عليه اإلمبراطور‪ ،‬ينفرد بالسلطة ويتولى رئاسة الدولة ويمارس‬

‫جميع االختصاصات السياسية والعسكرية والقضائية والمالية واإلدارية‪،‬‬ ‫وإلى جانبه مجلس الشيوخ‪.‬‬

‫المراحل التي مر بها القانون الروماني‪:‬‬

‫قسم الفقهاء المراحل التي مر بها تاريخ تطور القانون الروماني إلى‬

‫ثالث مراحل حسب تأثير العوامل االقتصادية واالجتماعية‪ ،‬فتكون مراحل‬

‫تطور القانون الروماني ثالث مراحل‪ :‬مرحلة القانون القديم‪ ،‬ومرحلة‬ ‫القانون العلمي‪ ،‬ومرحلة التجميع(((‪.‬‬ ‫� ً‬ ‫أول‪ :‬مرحلة القانون القديم‪:‬‬

‫تشمل دراسة مرحلة القانون القديم فترتين زمنيتين‪ :‬األولى منذ بداية‬

‫نشأة روما حتى ‪ 509‬ق‪.‬م تاريخ سقوط العصر الملكي‪ ،‬الثانية تبدأ ‪509‬‬

‫تاريخ قيام الجمهورية حتى عام ‪ 160‬ق‪.‬م‪ ،‬وأهم ما يميز العصر الملكي‬

‫هو قانون األلواح االثنى عشر‪.‬‬

‫((( جعفر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.35‬‬ ‫((( البدراوي‪ ،‬عبد المنعم‪ ،‬تاريخ القانون الروماني‪ ،‬القاهرة‪ ،1941 ،‬ص‪.13‬‬ ‫‪58‬‬


‫قانون األلواح االثنى عشر‪:‬‬ ‫قانون األلواح االثنى عشر أهم حدث في نطاق القانون عند الرومان‪،‬‬ ‫فهو األساس التأريخي لتطور قانونهم الخاص والعام إذ بقي الرومان‬ ‫يعترفون في جميع عصورهم بالحقوق المستمدة من هذا القانون‪ ،‬وقد‬ ‫قيل إن تأثيره في تاريخ القانون الروماني كان أشبه بتأثير قصائد هوميروس‬ ‫(‪ )Homeros‬في تاريخ األدب اإلغريقي‪ ،‬وقال عنه المؤرخ الروماني الشهير‬ ‫تيت ليف‪ ،‬أنه أساس الفقه الروماني بأسره(((‪.‬‬ ‫الرواية التقليدية عن وضع قانون األلواح‪:‬‬ ‫ذهب المؤرخون القدماء إلى أن وضع قانون األلواح االثنى عشر كان‬ ‫نتيجة لحركة العامة في سبيل المساواة باألشراف‪ ،‬فقد وجد العامة أن قواعد‬ ‫العرف التي كانت نافذة في ذلك الوقت يحوطها كثير من الشك والغموض‪،‬‬ ‫ً‬ ‫فضل عما كانت تتميز به من قسوة في بعض أحكامها‪ ،‬وكان األشراف‬

‫يحتكرون معرفة القانون وطرق تأويله وتطبيقه((( وأنهم يستغلون جهل‬ ‫العامة وغموض التقاليد‪ ،‬ويفسرونها لصالح األشراف‪ ،‬ولمعالجة هذه‬ ‫الحالة طالب العامة بوضع مجموعة لتلك القواعد أو على األقل تدوين‬ ‫القواعد التي هي محل شك وغموض حتى يمكن تطبيقها عليهم دون‬ ‫إجحاف بحقوقهم؛ ولهذا أخذ العامة وعلى رأسهم حاكمهم «تيرنتيليوس‬ ‫آرسا» يطالبون منذ عام ‪ 462‬بتشكيل لجنة لوضع هذه المجموعة القانونية؛‬ ‫وأخيرا قبل‬ ‫معارضا لهذا االقتراح عشر سنين‪،‬‬ ‫ولكن مجلس الشيوخ ظل‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫((( البرازي‪ ،‬محمد حسن‪ ،‬دروس في الفقه الروماني‪ ،‬ج‪ ،1‬ط‪ ،1939 ،2‬ص‪.43‬‬ ‫((( شوايل‪ ،‬عاشور سليمان‪ ،‬نشأة النظم القانونية وتطورها‪ ،‬مجلس تنمية اإلبداع‬ ‫الثقافي‪ ،‬ط‪ ،2004 ،1‬ص‪.101‬‬ ‫‪59‬‬


‫االقتراح‪ ،‬فأرسلت بعثة إلى بالد اإلغريق لدراسة قانون صولون (‪،)Solon‬‬ ‫وقانون صولون «يقوم على التراضي المتبادل‪ ،‬وهو لم يعد كما كان في‬ ‫قائما على إرادة الملك أو األقلية (‪)Oligarthy‬؛ بل هو عبارة‬ ‫بادئ األمر‪ً ،‬‬ ‫عن قاعدة يقبلها الجميع ويخضعون لها طواعية‪ ،‬وطالما كان القانون‬ ‫محل جدل‪ ،‬فإن كل فرد يستطيع توجيه النقد له ويورد عليه ما يشاء من‬ ‫التحفظات؛ ولكن حينما يتم التصويت على القانون فإن الجميع ملزمون‬ ‫به‪ ،‬ويتعين عليهم احترامه وإطاعته ألن األساس الذي يعتمد عليه القانون‬ ‫هو العقل‪ ،‬وكذلك ينبغي على الجميع الخضوع للقانون ألنه العقد المشترك‬ ‫لمواطني المدينة الذين ينبغي عليهم إخضاع حياتهم له‪ ...‬كما ينبغي أن‬ ‫يكون في مقدرة كل فرد أن يلم بالقانون بسهولة؛ ولهذا السبب يجب نشره‬ ‫وتعليقه في األماكن العامة‪.(((»...‬‬ ‫وبعد عودة اللجنة من بالد اإلغريق شكلت عام ‪ 451‬ق‪.‬م لجنة من‬ ‫عشرة رجال لتدوين القوانين جميعهم من األشراف‪ ،‬وأوقفت سلطة‬ ‫الحكام العاديين لمدة سنة وأعطيت هذه اللجنة سلطة مطلقة‪ ،‬وانتهت‬ ‫خالل هذا العام إلى وضع قوانين نقشت على عشرة ألواح عرضت على‬ ‫مجلس الشعب فوجد أنها غير وافية بالغرض المطلوب‪ ،‬فشكلت في العام‬ ‫التالي ‪ 450‬ق‪.‬م لجنة ثانية دخل في عضويتها بعض أفراد العامة قامت‬ ‫خلوا من نص كان العامة‬ ‫بوضع لوحين جديدين‪ ،‬وجاء هذان اللوحان ً‬ ‫يطالبون به يبيح لهم الزواج باألشراف فثاروا على اللجنة وأسقطوها‪،‬‬ ‫وفي عام ‪ 449‬ق‪.‬م انتخب الشعب قنصلين قاما بنشر األلواح االثنى عشر‬ ‫في ساحة المدينة العامة‪.‬‬ ‫((( الحفناوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.197-196‬‬ ‫‪60‬‬


‫وظلت الرواية التقليدية عن وضع األلواح محل احترام الشراح إلى‬ ‫أن كان العصر الحديث‪ ،‬فقامت في أواخر القرن الماضي حركة ترمي‬ ‫إلى التشكيك فيما ذكره المؤرخون الرومان واإلغريق؛ حيث يرى بعض‬ ‫الباحثين أن قانون األلواح االثنى عشر لم يكن مجموعة رسمية صادرة‬ ‫من السلطات العامة في روما‪ ،‬كما اصطلح عليه المؤرخون‪ ،‬وإنما هي‬ ‫مجموعة خاصة لقواعد العرف المتطورة‪ ،‬وضعت في عصر الحق للعصر‬ ‫الذي نسب إليه صدور قانون األلواح‪ ،‬وأن الذي وضعها هو فالفيوس‬ ‫(‪ ،)Flavius‬كاتب حاكم اإلحصاء الذي ينسب إليه نشر التقويم الديني‬ ‫والصيغ الرسمية للدعاوى القانونية‪.‬‬ ‫ورغم كل ذلك هناك جمهور من الباحثين مازالوا يسلمون بوجود قانون‬ ‫األلواح االثنى عشر ويعتبرون صدوره في سنة ‪ 449-450‬ق‪.‬م حقيقة ال‬ ‫شك فيها‪ ،‬وإن كانت الظروف التي صدر فيها قد أحيطت بتفاصيل تدعو‬ ‫أحيانًا إلى الشك في صحتها(((‪.‬‬ ‫مميزات قانون الألواح‪:‬‬

‫يمكن اعتبار قانون األلواح االثنى عشر تجمي ًعا أو تقنينًا للقواعد العرفية‬ ‫التي كانت سارية وقت وضعه‪ ،‬فقد صيغت نصوصه من حيث الشكل في‬ ‫عبارات موجزة وفي أسلوب شعري‪ .‬إنه قانون غير مباشر ألن نص هذا‬ ‫القانون قد فقد وإنما يستدل على أحكامه مما جاء في كتب فقهاء الرومان‪،‬‬ ‫وبذلك يختلف عن شريعة حمورابي التي وصلت بطريقة مباشرة‪ .‬إن‬ ‫مصدره العرف الروماني المطور وبعض أحكام القانون اإلغريقي لصولون‪.‬‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.50-47‬‬ ‫‪61‬‬


‫يتميز هذا القانون بأن اللجنة التي وضعته لم تتلق نصوصه وح ًيا عن‬ ‫اآللهة بل وضعته بتفويض من الشعب الذي أقرها وأمر بنشرها فكانت‬ ‫نصوصه من صنع العقل البشري وليست من وحي اآللهة(((‪.‬‬ ‫محتويات األلواح االثنى عشر‪:‬‬

‫أصول المرافعات‪ :‬وتحتوي األلواح األولى من األول إلى الثالث‬ ‫الدعاوى الرومانية القانونية يتناول فيها بصورة خاصة أصول المرافعات‬ ‫القديمة التي سميت فيما بعد «الدعاوى القانونية»‪ ،‬وتشتمل هذه األصول‬ ‫على أربعة أنواع‪ً :‬‬ ‫أول‪ :‬طريقة القسم‪ ،‬ثان ًيا‪ :‬طريقة القبض على رهن‪ ،‬ثال ًثا‪:‬‬ ‫طريقة القبض على الشخص‪ ،‬راب ًعا‪ :‬طريقة الطلب إلى الحاكم اإلداري‬ ‫بتعيين قاض‪ ،‬وبهذا شملت األصول على أربعة أنواع‪.‬‬ ‫أما اللوح الرابع والخامس ـ شؤون عائلية‪ :‬الشؤون العائلية ويأتي في‬ ‫األلواح التالية من الرابع إلى الخامس الكالم المتعلق بسلطات رئيس العائلة‬ ‫الرومانية وعن األحكام المتعلقة بالوصي واإلرث والوصايا‪.‬‬

‫اللوح السادس في األعمال الحقوقية‪ :‬ويأتي فيه الكالم عن األعمال‬ ‫الحقوقية أي األعمال التي تنتج حقو ًقا مثل البيع بطريقة التنازل أمام والة‬ ‫القضاء أو بطريقة القبض باليد بحضور وزان وميزان وخمسة شهود بالغين‪.‬‬ ‫اللوح السابع في غلة األراضي وحدودها‪ :‬ويأتي فيه الكالم عن األحكام‬ ‫المتعلقة بغلة األراضي وحدودها‪.‬‬

‫بقية األلواح في العقوبات العامة والخاصة والزراعية‪ :‬ويأتي في بقية‬ ‫األلواح من الثامن إلى الثاني عشر الكالم عن أحكام العقوبات المتعلقة‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.222‬‬ ‫‪62‬‬


‫بالجنايات العامة مثل الحرق والقتل وكذلك عن أحكام الجرائم الخاصة‬ ‫وهناك كثير من األحكام المتعلقة بالجرائم الزراعية(((‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬الع�صر العلمي‪:‬‬

‫مصادر القانون في العصر العلمي‪:‬‬ ‫كانت المصادر القديمة الموجودة في العصر العلمي هي العرف‬

‫والتشريع ومنشورات البرايتور والفقه ولكنها اتخذت بسبب تغير النظم‬

‫السياسية صورة جديدة لم تكن لها في عصر القانون القديم‪ ،‬فقد انتقلت‬

‫السلطة التشريعية من مجالس الشعب إلى مجلس الشيوخ‪ ،‬ثم إلى‬ ‫اإلمبراطور وظهرت منشورات الشيوخ والدساتير اإلمبراطورية‪.‬‬

‫وأصبحت منشورات البرايتور تتضمن قواعد ثابتة ملزمة لكل برايتور‬

‫يأتي بعد الذي أصدرها فاكتسب بذلك القانون القضائي صفة الثبات التي‬ ‫هي من خصائص التشريع وانتهى األمر بتجميع هذه المنشورات فانقطع‬

‫بذلك مصدر من أهم مصادر القانون الروماني‪.‬‬

‫أما الفقه فقد ارتفع إلى مرتبة المصادر الرسمية بفضل ما كان يناله‬

‫الفقهاء من تشجيع ورعاية لدى اإلمبراطور‪ ،‬وبلغت جهود الفقهاء في‬

‫هذا العصر في سبيل تطور القانون وتقدمه‪.‬‬ ‫أ ـ التشريع‪:‬‬

‫مازالت مجالس الشعب والعامة في صدر العصر العلمي تصدر من‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.182-180‬‬ ‫‪63‬‬


‫حين إلى آخر بعض التشريعات بناء على اقتراح الحكام الجمهوريين‪ ،‬ومن‬ ‫أهم هذه التشريعات قانون كورنليا (‪ )Cornelia‬الذي جعل كل حاكم ملز ًما‬ ‫باتباع منشوره مدة حكمه دون أن يكون له حق تعديله أثناء عام واليته‪ ،‬وإلى‬ ‫جانب هذه التشريعات التي كانت تصدر بناء على اقتراح الحكام وجدت‬ ‫في صدر العصر العلمي تشريعات إدارية كان يصدرها الحكام أو مجلس‬ ‫الشيوخ بناء على تفويض من المجالس الشعبية لتنظيم المدن الواليات‪.‬‬ ‫وقد احتفظ أغسطس للمجالس الشعبية والمجالس العامة بسلطتها‬ ‫التشريعية فصدرت في عهده بناء على اقتراحه بعض القوانين‪ ،‬منها‬ ‫«المسقطة للوصية» وهي قوانين قصد بها محاربة العزوبة واإلعراض‬ ‫عن النسل والميل إلى الفساد‪ ،‬فنصت القوانين على تمييز المتزوجين‬ ‫واآلباء وحرمان غير المتزوجين وغير اآلباء من نصيبهم في وصية من‬ ‫غير األقربين ومعاقبة زنا الزوجة والعالقات غير الشرعية(((‪.‬‬ ‫ب ـ قرارات مجلس الشيوخ‪:‬‬ ‫مصدرا للقانون في‬ ‫أصبحت قرارات مجلس الشيوخ أو منشوراته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫طويل ألن انتقال السلطة التشريعية‬ ‫العصر العلمي على أن ذلك لم يستمر‬ ‫من مجالس الشعب إلى مجلس الشيوخ لم يكن إال تمهيدً ا النتقالها إلى‬ ‫اإلمبراطور نفسه الذي تولى بدوره انتزاع هذه السلطة من مجلس الشيوخ‬ ‫شي ًئا فشي ًئا‪.‬‬ ‫وكان مجلس الشيوخ يصدر قراراته أو منشوراته في بادئ األمر بعد‬ ‫البحث والمناقشة فيما يعرضه اإلمبراطور عليه من مشروعات القوانين؛‬

‫((( مونييه‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.73‬‬ ‫‪64‬‬


‫ولكن صار مع ازدياد نفوذ اإلمبراطور ملز ًما بإقرارها بمجرد تالوة الخطبة‬ ‫شارحا‬ ‫التي كان اإلمبراطور يلقيها عند عرض المشروع على المجلس‬ ‫ً‬ ‫أحكامه ومبرراته‪ ،‬وتدل على أن ما يقرره المجلس هو نفس ما يعرضه‬ ‫اإلمبراطور دون تعديل أو تغيير‪ ،‬وقد انقطع صدور هذه القرارات منذ‬ ‫بداية القرن الثالث الميالدي وانتقلت سلطة التشريع إلى اإلمبراطور وحده‪.‬‬ ‫ج ـ الدساتير اإلمبراطورية‪:‬‬

‫من الثابت أنه لم يكن لإلمبراطورية في األصل سلطة تشريعية رغم ما‬ ‫يقرره بعض الفقهاء أمثال الفقيه الروماني جايوس (‪ )Gaius‬من أن اإلمبراطور‬ ‫كان يملك هذه السلطة بمقتضى القانون الصادر يمنحه الوالية عند بدء حكمه‬ ‫وذلك ألن اإلمبراطور كان له في األصل حق التقدم بمشروعات القوانين أمام‬ ‫مجالس العامة ثم مجلس الشيوخ وهذا ما ال يتفق مع وجود سلطة تشريعية‬ ‫يتوالها بمفرده‪ ،‬ومع ذلك فقد كان لإلمبراطور منذ عهد أغسطس الحق في‬ ‫حاكما عا ًما الحق في إصدار‬ ‫إصدار تشريعات‪ ،‬كما كان لإلمبراطور بصفته‬ ‫ً‬ ‫منشورات تسري في جميع أنحاء اإلمبراطورية حتى في الواليات الخاضعة‬ ‫لحكم مجلس الشيوخ‪ ،‬وعالوة على ذلك كان اإلمبراطور يبعث بتعليمات‬ ‫إلى حكام األقاليم التابعة لحكمه‪ ،‬ثم كان يفصل في بعض القضايا التي‬ ‫كانت تدخل في اختصاصه وتعرض عليه بصفة ابتدائية أو استئنافية ويصدر‬ ‫بعض الفتاوى بناء على طلب األفراد أو في بعض المنازعات التي ترفع إلى‬ ‫المحاكم‪ ،‬وقد سميت القرارات التي يصدرها اإلمبراطور في مختلف هذه‬ ‫األحوال بالدساتير اإلمبراطورية‪ .‬وأصبحت أهم مصدر للتشريع منذ القرن‬ ‫الثاني للميالد وما لبث أن أصبحت المصدر الوحيد للتشريع بعد ذلك(((‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.75‬‬ ‫‪65‬‬


‫والدساتير تنقسم إلى أربعة أنواع‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ المنشورات‪:‬‬ ‫هي أوامر عامة كان اإلمبراطور يصدرها بصفته الحاكم األعلى ويوجهها‬ ‫بحسب رغبته إما إلى سكان اإلمبراطورية أو إلى إقليم معين أو إلى مدينة‬ ‫معينة وتسري منشورات اإلمبراطور طوال حياته وتسقط بانتهاء عهده؛‬ ‫ولكن العادة جرت على استقرارها بعد وفاته ما لم يقرر خلفه إلغاءها‬ ‫صراحة‪ ،‬ولهذا أصبحت المنشورات اإلمبراطورية منذ القرن الثالث‬ ‫الميالدي دائمة كالتشريع سواء بسواء كما أنها كانت ال تتضمن في بادئ‬ ‫األمر إال مبادئ متعلقة ببعض المسائل الجنائية واإلدارية والتنظيم القضائي‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ األحكام‪:‬‬ ‫هي األحكام القضائية التي كان يصدرها اإلمبراطور والمجلس‬ ‫اإلمبراطوري بما له من والية قضائية في بعض المنازعات فقد كان لإلمبراطور‬ ‫إذا طلب رأيه في نزاع ما أن يفصل في هذا النزاع مباشرة ً‬ ‫بدل من إحالته إلى‬ ‫قاض‪ ،‬وذلك إذا وجد في المسألة المعروضة عليه من األدلة ما يكفي لجعلها‬ ‫صالحة للحكم‪ ،‬كما أنه كان يجوز في نظام القضاء اإلداري أو غير العادي‬ ‫استئناف األحكام الصادرة من الحكام أو مديري األقاليم أمام اإلمبراطور‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ الفتاوى‪:‬‬ ‫هي آراء فقهية كانت تصدر كتابة من اإلمبراطور أو المجلس اإلمبراطوري‬ ‫الذي كان يضم الفقهاء ر ًدا على استشارات األفراد أو الحكام في بعض‬ ‫المسائل القانونية وتكتب الفتوى على خطاب االستشارة نفسه أو إذا طلبها‬ ‫أحد األفراد وترسل في رسالة خاصة إذا طلبها أحد الحكام‪ ،‬وهي تختلف‬ ‫‪66‬‬


‫عن فتاوى الفقهاء من حيث أنها ملزمة للقاضي في النزاع الذي صدرت بشأنه‬ ‫ألنها صادرة من اإلمبراطور صاحب السلطة العليا وهي في العادة ال تكون‬ ‫مقصورا على من‬ ‫امتيازا‬ ‫نافذة إال في الحالة التي وردت عنها‪ ،‬بل قد تكون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫صدرت له وتسمى في هذه الحالة بالدستور الخاص ولكن اإلمبراطور قد‬ ‫يجعل من الفتوى قاعدة عامة تطبق في جميع األحوال المماثلة وفي هذه‬ ‫الحالة كانت الفتاوى تنشر على الناس كما تنشر المنشورات(((‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ التعليمات‪:‬‬

‫هي التوجيهات واإلرشادات الفردية التي يوجهها اإلمبراطور إلى حكام‬ ‫الواليات‪ ،‬لضمان حسن سير اإلدارة في الوالية والقضاء على الفساد أو‬ ‫لمنح امتيازات لجنود الجيش‪ ،‬فهي ذات صفة إدارية واضحة ولكنها‬ ‫كانت تحتوي أحيانًا على بعض القواعد الجنائية والمدنية والتعليمات‬ ‫ال تلزم العمل بها إال الحاكم الذي صدرت إليه‪ ،‬ولذلك ال يدخلها فقهاء‬ ‫الرومان ضمن الدساتير اإلمبراطورية ومع ذلك فهي مصدر من مصادر‬ ‫القانون اإلمبراطوري ألن سكان الواليات كانوا يلتزمون بالقواعد المدنية‬ ‫والجنائية التي كانت ترد فيها في بعض األحيان‪.‬‬ ‫القانون البرايتوري‪:‬‬

‫القانون البرايتوري مصدر من مصادر القانون في عصر القانون القديم‬ ‫وكانت للبرايتور سلطة إدارية أي والية إصدار األوامر والنواهي إلى األفراد‬ ‫حاكما وسلطة قضائية تنحصر في سماع عبارات الخصمين الرسمية‬ ‫باعتباره‬ ‫ً‬ ‫وإحالتها إلى القاضي الذي يفصل في النزاع‪ ،‬وأنه كان ال يستطيع في ظل‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.78-77‬‬ ‫‪67‬‬


‫دعاوى القانون منح دعوى ال يقرها هذا النظام ورفض قبول دعوى يقضي‬ ‫القانون بقبولها‪ ،‬ولذلك اقتصر نشاطه على تلك الوسائل التي استعملها مستندً ا‬ ‫إلى سلطته اإلدارية التي استطاع بها أن يعدل بعض أحكام القانون المدني‪.‬‬ ‫على أن نشاط البرايتور أخذ في االزدياد بعد صدور قانون إيبوتيا إذ‬ ‫اتسعت سلطته القضائية بفضل نظام المرافعات الكتابية‪ ،‬ألنه هو الذي كان‬ ‫يضع برنامج الدعوى ويحرره ويثبت فيه ادعاءات الطرفين بعد االستماع‬ ‫إليها من دون رسمية ويحدد فيه للقاضي سلطته في الحكم‪ ،‬فأصبح بذلك‬ ‫المرجع األخير في قبول الدعوى أو عدم قبولها وقد ترك قانون إيبوتيا‬ ‫لألفراد حرية االختيار بين نظام المرافعات الكتابية ونظام دعاوى القانون‪.‬‬ ‫كما أصبح منشور البرايتور الذي كان له الفضل في إدخال كثير من‬ ‫مصدرا من أهم مصادر القانون الروماني‪ ،‬وقد استمر‬ ‫المبادئ الجديدة‬ ‫ً‬ ‫كذلك خالل الفترة التي تلت صدور قانون إيبوتيا «حوالي عام ‪ 130‬ق‪.‬م أي‬ ‫خالل الشطر األخير من العصر الجمهوري حتى أواسط عهد اإلمبراطورية‬ ‫العليا حيث ضعف نشاط البرايتور وقل ابتكاره للمبادئ القانونية فجمعت‬ ‫منشوراته في مجموعة رسمية(((‪.‬‬ ‫تحتوي صيغة الدعوى التي يحررها البرايتور في ظل نظام المرافعات الكتابية‬ ‫على عدة أجزاء بعضها أجزاء أصلية واألخرى إضافية‪ ،‬واألجزاء األصلية هي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ االدعاء‪ :‬وهو الجزء األساسي للبرنامج ألنه يتضمن ادعاء المدعي‬ ‫كادعائه بملكية عبد معين بالذات أو مبلغ معين‪ ،‬ويأتي بعد الجزء‬ ‫الخاص بتعيين القاضي مباشرة‪.‬‬

‫((( الحفناوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.214‬‬ ‫‪68‬‬


‫‪ 2‬ـ سبب الدعوى‪ :‬وهو األساس القانوني الذي يستند إليه المدعي‬ ‫في دعواه كالعقد الذي نشأت عند الدعوى ً‬ ‫مثل وهو ال يوجد‬ ‫إال في الدعاوى التي يكون االدعاء فيها بعمل غير معين القيمة‬

‫ويأتي في هذه الحالة قبل الجزء الخاص باالدعاء‪.‬‬

‫دائما‬ ‫‪ 3‬ـ الحكم‪ :‬وهو الذي يخول للقاضي سلطته في الحكم ويكون ً‬ ‫بمبلغ من النقود سواء أكان محد ًدا من قبل في صيغة الدعوى أو‬ ‫كان تحديده متروكًا للقاضي‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ يوجد في دعاوى القسمة جزء يخول للقاضي سلطة نقل ملكية‬ ‫المال المشاع ألي من الشركاء أو الورثة‪.‬‬

‫أما األجزاء اإلضافية‪ :‬فأهمها الدفع والرد على الدفع‪.‬‬ ‫منشور البرايتور الدائم‪:‬‬ ‫كان البرايتور ينشر على لوح من الخشب المطلي بطالء أبيض ويكتب‬

‫المنشور بحروف سوداء والعناوين بخط أحمر‪.‬‬

‫والمنشور الدائم هو المنشور الذي يعلنه البرايتور عند بدء عام واليته‬

‫وينشر في الساحة العامة‪ ،‬ليبين للناس الخطة التي يسير عليها لتنظيم‬

‫القضاء‪ ،‬وسمي بالدائم ألنه يستمر سار ًيا طوال عام واليته‪.‬‬

‫وهناك منشور طارئ والمنشورات الطارئة يستطيع أن يعدل بها‬

‫البرايتور أحكام المنشور الدائم إذا وجدت أثناء عام واليته ظروف‬

‫غير متوقعة(((‪.‬‬

‫((( جيفار‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.47‬‬ ‫‪69‬‬


‫من مصادر القانون الروماني‪ :‬تفسير الفقهاء‪:‬‬ ‫كان رجال الدين في العصور األولى للقانون الروماني يحتكرون‬

‫علم القانون وتفسيره‪ ،‬وكان القضاة يلجأون إلى رجال الدين ألخذ‬ ‫رأيهم‪ ،‬إال أنه في القرن الرابع ق‪.‬م؛ بدأ الفقه المدني يحل محل الفقه‬ ‫الديني‪ ،‬وبدأ الفقهاء يتأثرون في مؤلفاتهم بالتعاليم التي تلقوها عن‬ ‫الفلسفة اإلغريقية‪.‬‬

‫ومن أهم فقهاء هذا العصر‪ :‬اسكافوال‪ :‬وضع مؤل ًفا في القانون المدني‬ ‫من ثمانية عشر جز ًءا‪ .‬والفقيه الثاني سرفيوس وضع تعلي ًقا على منشور‬

‫الحاكم القضائي‪ ،‬وكانت مهمة الفقهاء تنحصر في اإلفتاء والتوثيق‬ ‫والمقاضاة‪.‬‬

‫وفي العصر اإلمبراطوري أصبح الفقهاء يتناولون تحليل األحكام‬

‫وإرجاعها إلى األصول العامة التي صدرت عنها‪ ،‬فالفقيه هو مؤسس‬

‫المنطق القانوني المبني على االستنتاج والرأي‪ ،‬وقد كان له في انتشار‬

‫الثقافة اإلغريقية أكبر عون فاسترشد بها في طريق البحث واقتبس من‬

‫مبادئها بعض األحكام كلما رأى فيها نفع أو فائدة(((‪.‬‬ ‫الفقهاء في العصر العلمي‪:‬‬

‫وقد ازدهر في العصر العلمي نشاط الفقهاء وخاصة من ناحية اإلفتاء‬

‫والتأليف؛ إذ عنى الفقهاء بالمؤلفات العلمية واستمدوا من اإلغريق‬

‫تقسيما منطق ًيا‪ ،‬وقد‬ ‫طريقتهم في تقسيم وتبويب المؤلفات القانونية‬ ‫ً‬ ‫((( مسكوني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.44-43‬‬ ‫‪70‬‬


‫أصبحت المبادئ القانونية الجديدة تقوم على العدالة‪ ،‬وحسن النية في‬ ‫المعامالت واحترام اإلرادة(((‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬عصر تجميع القانون الروماني‪:‬‬

‫تبدأ هذه المرحلة األخيرة للقانون الروماني منذ والية اإلمبراطور‬

‫دقلديانوس عام ‪284‬م ويمتد حتى وفاة جستينانوس عام ‪565‬م‪ ،‬وتميز‬

‫هذا العصر بتدهور الثقافة القانونية البتعاد رجال القانون عن الدراسة‬ ‫واالجتهاد وذلك بعد انتشار الديانة المسيحية في اإلمبراطورية‪ ،‬كذلك‬

‫سيطرة الروح العسكرية واحتكار األباطرة السلطة بحيث أصبحت إراداتهم‬

‫هي التشريع(((‪.‬‬

‫وهذه المرحلة هي مرحلة استحكم فيها التأخر واالنحطاط في كل‬

‫مجاالت الحياة السياسية واالجتماعية واالقتصادية والقانونية‪ ،‬انهيار من‬

‫الداخل وهجمات وتهديد من الخارج‪ ،‬وانقسام اإلمبراطورية إلى قسمين‬ ‫شرقي وغربي(((‪.‬‬

‫غير أنه أبرز ما يميز هذه المرحلة من الناحية القانونية هو مجموعة‬

‫جستنيانوس‪ ،‬وقد سميت هذه المرحلة بمرحلة تجميع القانون الروماني‬ ‫ألن عملية التجميع برزت فيها ظاهرة متميزة‪ ،‬حيث ُجمع القانون الروماني‬

‫منذ صدور قانون األلواح االثنى عشر وهي مجموعة أو سلسلة من‬ ‫المجموعات القانونية التي أصدرها اإلمبراطور جستينانوس‪.‬‬

‫((( جعفر‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.93‬‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.314‬‬ ‫((( مغربي‪ ،‬محمود عبد المجيد‪ ،‬الوجيز في تاريخ القوانين‪ ،‬بيروت‪ ،1979 ،‬ص‪.167‬‬ ‫‪71‬‬


‫إ ًذا تكمن الفائدة من القانون الروماني إنه مصدر تاريخي لمعظم‬ ‫قوانين الدول الحديثة(((‪ ،‬فقد انتقلت أحكام القانون الروماني إلى القانون‬ ‫المدني الفرنسي (قانون نابليون ‪ 1810-Napolion) 1803‬عن طريق‬ ‫الفقيه الفرنسي بونييه(((‪.‬‬

‫((( فرج‪ ،‬توفيق حسن‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الجامعية‪ ،1985 ،‬ص‪.6‬‬ ‫((( وقد اقتبس المشرع العثماني العراقي منه قانون التجارة البرية ‪1266‬هـ‪ ،‬وقانون‬ ‫األراضي العثماني عام ‪ ،1858‬وقانون الجزاء العثماني ‪ .1858‬البشير محمد طه‬ ‫(وآخر)‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.7‬‬ ‫‪72‬‬


‫الفصل األول‬

‫القانون البيزنطي‬



‫المبحث األول‬

‫مرا�سيم الأباطرة‬ ‫دقلديانو�س و�أهم المرا�سيم التي جاءت من بعده‪:‬‬

‫قبل الحديث عن مرحلة تجميع القانون الروماني‪ ،‬ومن كان وراء ذلك‬

‫البد من اختصار بعض فترات تاريخية لكي يتم الوصول إلى هذه المرحلة‬

‫المهمة‪ ،‬وهي مرحلة قام بها اإلمبراطور جستينانوس‪.‬‬

‫مرت باإلمبراطورية أحداث ومراحل منذ وفاة ثيودوسيوس في أواخر‬

‫القرن الرابع‪ ،‬وحتى وصول جستينانوس العرش سنة ‪527‬م‪ ،‬فقد انقسمت‬

‫اإلمبراطورية الرومانية إلى قسمين شرقي وغربي‪ ،‬وذلك عام ‪395‬م‪ ،‬وقد‬

‫خطا دقلديانوس الخطوات األولى نحو إعادة تنظيم الجيش((( ؛ ألنه‬

‫أدرك ضرورة تجنيد احتياطي دائم واسع‪ ،‬وكان هذا الجيش أغلبه من‬ ‫جموع الجرمان وغيرهم من القبائل الجرمانية ؛ هؤالء بمرور الزمن أقاموا‬

‫ممالك داخل حدود اإلمبراطورية‪ ،‬وسقط القسم الغربي سنة ‪476‬م تحت‬ ‫((( رستو فترف‪ .‬م‪ ،‬تاريخ اإلمبراطورية الرومانية االقتصادي واالجتماعي‪( ،‬ت زكي‬ ‫علي)‪ ،‬ج‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪1957 ،‬م‪ ،‬ص‪.610‬‬ ‫‪75‬‬


‫وطأة هؤالء(((‪ ،‬والواقع أن انقسام اإلمبراطورية في أواخر القرن الرابع‬ ‫جاء محصلة واضحة عما اكتنف البالد من اختالفات سياسية وتاريخية‬ ‫(((‬ ‫واجتماعية؛ فالقسم الشرقي جاء إغريقيا شرق ًيا في لغته وثقافته وكنيسته‬ ‫؛ بينما جاء القسم الغربي التين ًيا غرب ًيا في لغته وكنيسته وحضارته(((‪.‬‬

‫وإذا كانت إمبراطورية الغرب قد سقطت في القرن الخامس الميالدي‬ ‫وبرزت ممالك جرمانية على أنقاضها في غرب أوروبا‪ ،‬فإن القسم الشرقي‬ ‫قائما لم يسقط بل ظلت الحكومة‬ ‫من اإلمبراطورية وعاصمته القسطنطينية ظل ً‬ ‫الرومانية في الشرق ثابتة بفضل جهازها اإلداري وموظفوها وجيوشها المأجورة‬ ‫وبعدها عن مركز الصراع في قلب أوروبا ً‬ ‫فضل عما حازته من خصب األراضي‬ ‫ووفرة السكان ونشاط التجارة‪ .‬ولقد غرقت البالد البيزنطية في الفساد والدسيسة‬ ‫وانتشرت الرشوة بين المواطنين‪ ،‬واعتلى العرش في كثير من األحيان أباطرة‬ ‫ضعاف استمدوا قوتهم وسلطتهم من المؤامرات وشغب الجند(((‪.‬‬ ‫ولعل ذلك راجع في أغلبه إلى أن القسطنطينية ظلت بعيدة عن الغزو‬ ‫كبيرا من الحماية‬ ‫قدرا ً‬ ‫الجرماني‪ ،‬وذلك بفضل حصانتها الطبيعية منحتها ً‬ ‫واألمان‪ً ،‬‬ ‫فضل عما درج عليه أباطرتها من إغراء المغيرين باالتجاه غر ًبا(((‪.‬‬

‫ويعد اإلمبراطور قسطنطينوس الكبير صاحب أكبر تأثير من بين أولئك‬

‫((( كانتور‪ ،‬نورمان‪ ،‬التاريخ الوسيط‪( ،‬ت‪ .‬قاسم عبده قاسم)‪ ،‬القاهرة‪ ،‬عين للدراسات‬ ‫والبحوث اإلنسانية واالجتماعية‪ ،1993 ،‬ص ص‪.193-192‬‬ ‫((( الشيخ محمد محمد مرسي‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬اإلسكندرية دار‬ ‫المعرفة الجامعية‪ ،1994 ،‬ص‪.137‬‬ ‫((( فرج‪ ،‬وسام عبد العزيز‪ ،‬دراسات في تاريخ وحضارة اإلمبراطورية البيزنطية‪،‬‬ ‫اإلسكندرية‪ ،1982 ،‬ص ص‪.7-5‬‬ ‫((( الشيخ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.138‬‬ ‫((( عاشور‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.110‬‬ ‫‪76‬‬


‫األباطرة جمي ًعا‪ ،‬ليس في تاريخ تلك األسرة فقط‪ ،‬بل على مدى مراحل‬ ‫التاريخ البيزنطي بصفة عامة‪ .‬ومن أبرز أعمال ذلك اإلمبراطور‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ االعتراف بالمسيحية كإحدى الديانات القائمة في اإلمبراطورية‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ تشييد مدينة القسطنطينية وافتتاحها عام ‪330‬م(((‪.‬‬

‫خلف قسطنطينوس في الحكم أبناؤه الثالثة‪ ،‬فتنازعوا فيما بينهم‬ ‫واستشرت الفتن في البيت الحاكم في الوقت الذي أطلت األخطار الخارجية‬ ‫خطيرا‪ ،‬وأخذت القبائل الجرمانية تضغط ضغ ًطا‬ ‫برأسها تهدد الدولة تهديدً ا‬ ‫ً‬ ‫شديدً ا في جهتي الراين والدانوب وتزايد الخطر الفارسي في القطاع اآلسيوي‬ ‫والشرق ووسط هذه الفوضى تمكن جوليان وهو يدعى جوليان المرتد‬ ‫(‪363-Julian The Apostate) 361‬م(((‪ ،‬وهو من بيت قسطنطينوس من‬ ‫الوصول إلى العرش بعد أن نجح في القضاء على غزو جرماني كان يهدد‬ ‫إمبراطورا سنة ‪361‬م وظل في الحكم قرابة العامين في ‪363‬م‪،‬‬ ‫الدولة فنودي به‬ ‫ً‬ ‫(((‬ ‫واشتهر بالمرتد الرتداده إلى الوثنية ‪ ،‬ومحاولة القضاء على المسيحية‪،‬‬ ‫فقد وقع جوليان تحت تأثير العالم الوثني وتعلق بفنونه وحضارته وعلومه‪،‬‬ ‫ونجح في إخفاء ذلك قبل توليه العرش‪ ،‬وما كاد يلي السلطة حتى شرع في‬ ‫وإصالحا يناهض‬ ‫تحقيق أمله بإعادة الوثنية‪ ،‬وذلك بأن يجعل منها نظا ًما‬ ‫ً‬ ‫(((‬ ‫الكنيسة‪ ،‬فقد أجرى تنظيم المعابد الوثنية على نسق الكنائس المسيحية ‪.‬‬ ‫((( عوض‪ ،‬محمد مؤنس‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬عين للدراسات والبحوث‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬ط‪ ،2007 ،1‬ص‪.129‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.129‬‬ ‫((( كانتور‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.91‬‬ ‫((( عبد الحميد‪ ،‬رأفت‪ ،‬الدولة والكنيسة‪ ،‬ج‪ ،2‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪،‬‬ ‫‪ ،1975‬ص‪.407‬‬ ‫‪77‬‬


‫وأدخل جوليان الترانيم في الشعائر الوثنية إال أن جوليان لم ينجح‬

‫في مقاومة المسيحية وتحطمت في النهاية جهوده خاصة وقد بدأ يلتفت‬

‫للخطر الفارسي(((‪.‬‬

‫مستحكما من قديم الزمن بين الدولتين الفارسية‬ ‫فالمعروف أن العداء كان‬ ‫ً‬

‫والرومانية بسبب التنازع على الحدود وأهمية أرمينيا لكلتا الدولتين‪ ،‬ونهضت‬

‫الدولة الفارسية في القرن الرابع الميالدي‪ ،‬فاستولت على آمد «ديار بكر»‬

‫وسنجار وجزيرة ابن عمر‪ ،‬وصار للفرس اليد العليا والنفوذ األقوى في إقليم‬ ‫الجزيرة‪ ،‬وعندئذ خرج جوليان يقود ً‬ ‫ضخما سنة ‪363‬م فعبر الفرات‪،‬‬ ‫جيشا‬ ‫ً‬ ‫ثم اتجه شر ًقا نحو دجلة وأنزل بالفرس هزيمة ساحقة أغرته بالزحف إلى‬ ‫عاصمة الفرس‪ ،‬غير أنه تعرض لمقاومة شديدة من قبل الفرس‪ ،‬وأصابه سهم‬

‫طائش في ذراعه أدى إلى وفاته في نفس العام‪ ،‬وتولى العرش بعد جوليان‬ ‫اإلمبراطور جوفيل أو جوفيان (‪ )Jovian‬م ‪364-363‬‬

‫(((‬

‫‪.‬‬

‫اضطر جوفيان إلى عقد صلح مهين مع فارس تنازل بمقتضاه لفارس‬

‫أيضا عن‬ ‫عن أقاليم عديدة على الضفة الشرقية لنهر دجلة‪ ،‬كما تنازل ً‬

‫نصيبين وسنجار وتخلى عن مزاعمه في امتالك أرمينيا‪ .‬هذا في الوقت‬

‫الذي تزايد فيه خطر الجرمان جهة الشمال والغرب‪ ،‬فكان على بيزنطة أن‬

‫تحارب باستمرار منذ ذلك الحين جبهتين في الجبهة الشرقية ضد دولة‬ ‫مستمرا‬ ‫فارس وفي جبهة الشمال والغرب ضد البرابرة‪ ،‬وظل هذا النضال‬ ‫ً‬ ‫طوال زمن اإلمبراطورية البيزنطية(((‪.‬‬

‫((( الشيخ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.140‬‬ ‫((( عوض‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.129‬‬ ‫((( رستم‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.86‬‬ ‫‪78‬‬


‫وكان القوط قد تحولوا في تلك األثناء إلى المسيحية على المذهب‬

‫األريوسي الذي جعل اإلمبراطور (‪ )Valens‬فالنز ‪378-364‬م‪ ،‬وهو آخر‬

‫أباطرة أسرة قسطنطينوس يسمح لهم بعبور نهر الدانوب واالستقرار في‬ ‫جوف اإلمبراطورية بصفة مؤقتة؛ إال أن ذلك أطمع القوط الغربيين وأغراهم‬

‫بالزحف على القسطنطينية‪ ،‬فأسرع اإلمبراطور فالنر لمحاولة وقف تقدمهم‬

‫فورا إلى أدرنة؛ إال أنه تعرض لهزيمة ساحقة ولقي حتفه في تلك‬ ‫وتوجه ً‬

‫الموقعة سنة ‪378‬م‪ ،‬وأصبحت منذ ذلك الحين هجرات البرابرة والجرمان‬ ‫مشكلة تهدد أمن الدولة وتحتم على القسم الشرقي من اإلمبراطورية أن‬

‫يناضل في سبيل الدفاع عن كيانه في حين استسلم القسم الغربي‪.‬‬

‫انتهت بوفاة فالنز أسرة قسطنطينوس‪ ،‬وبدأت أسرة ثيودسيوس(((‪ .‬وهي‬

‫تعتبر مكملة في أعمالها ألسرة قسطنطينوس‪ ،‬فقد حكمت خالل األعوام‬

‫من ‪ 379‬إلى ‪518‬م‪ ،‬وبالتالي امتد عهدها إلى قرن وقرابة أربعة عقود من‬

‫الزمن‪ ،‬وتولى عهدها عدد من األباطرة‪ ،‬وهم‪ )Theodosius( :‬ثيودوسيوس‬

‫‪395-379‬م‪ ،‬و(‪ )Arcadius‬أركاديوس ‪408-395‬م‪ ،‬و(‪)Theodosius II‬‬

‫ثيودوسيوس الثاني ‪450-408‬م‪ ،‬و(‪ )Marcian‬مرقيان ‪457-450‬م‪،‬‬ ‫و(‪ )Leo I‬ليو األول الكبير ‪474-457‬م‪ ،‬و(‪ )Leo II‬ليو الثاني ‪474‬م‪،‬‬

‫وزينون ‪491-474‬م‪ ،‬و(‪ )Anastasius‬أناستاسيوس ‪518-491‬م‪ .‬والواقع‬

‫أن أهم أولئك األباطرة من حكم خالل المرحلة الممتدة من ‪ 379‬إلى ‪395‬م‪،‬‬

‫وكذلك من ‪ 408‬إلى ‪450‬م‪ ،‬هما ثيودسيوس األول وثيودسيوس الثاني(((‪.‬‬

‫((( الشيخ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.141‬‬ ‫((( توفيق‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.71‬‬ ‫‪79‬‬


‫دقلديانو�س و�أهم المرا�سيم التي جاءت من بعده‪:‬‬

‫بالرجوع إلى اإلمبراطور «دقلديانوس» لمعرفة أهم مرسوم أصدره‪:‬‬ ‫ينتمي دقلديانوس إلى مقاطعة دلماشيا (‪ )Dalmatina‬التابعة إلى إقليم‬ ‫إيللريا‪ ،‬فقد ولد هناك بالقرب من مدينة صغيرة هي سالونا (‪ )Salona‬سنة‬ ‫‪ 245‬ولم يكن حين ولد من أسرة شهيرة‪ ،‬بل كان والداه خادمين في أسرة‬ ‫أنيولينوس (‪ )Anulinus‬النبيلة وسيدها كان أحد أعضاء مجلس السناتور‬ ‫«مجلس الشيوخ» وبعده فترة حصل والده على الحرية ألسرته‪ ،‬وحصل‬ ‫دقلديانوس على وظيفة كاتب في الدولة‪ ،‬وبفضل جهده ونبوغه أخذ يتدرج‬ ‫في مناصب الدولة إلى أن وصل إلى مرتبة عليا(((‪.‬‬ ‫كان دقلديانوس إداري قدير أكثر من جندي شجاع‪ ،‬شاهد دقلديانوس‬ ‫المشكالت واألزمات التي أخذت تنخر في عظام اإلمبراطورية في القرن‬ ‫الثالث‪ ،‬وازداد خبرة‪ ،‬فتولى وظائف متعددة أهلته ليصبح من المصلحين‬ ‫الناجحين وصل إلى وظيفة قائد حرس القصر اإلمبراطوري‪ ،‬وقد ظهرت كفاءته‬ ‫وقدرته العسكرية أثناء الحرب مع فارس وبعد وفاة اإلمبراطور (‪)Numerianus‬‬ ‫نظرا‬ ‫نومريانوس ‪284-283‬م عين دقلديانوس خل ًفا له في منصب اإلمبراطور ً‬ ‫لما يتمتع به من مزايا‪ ،‬وما أن تولى دقلديانوس عرش اإلمبراطورية سنة ‪284‬‬ ‫حتى أدرك أن هذه اإلمبراطورية العظيمة التي تعاني من مشكالت داخلية‬ ‫وغزوات الفرس والجرمان ال يمكن إدارتها بواسطة حاكم واحد وبوسائل‬ ‫إدارية تقليدية‪ ،‬لهذا أخذ على عاتقه القيام بإصالحات تميزت بإقامة سلطة‬ ‫مركزية حازمة مع فصل تام بين السلطتين المدنية والعسكرية(((‪.‬‬ ‫((( عاقل‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.12‬‬ ‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.21-20‬‬ ‫‪80‬‬


‫وفي سنة ‪ 286‬بدأ دقلديانوس إصالحه اإلداري بأن جعل السلطة العليا‬

‫في اإلمبراطورية في يد إمبراطوريين كل منهما يلقب بلقب أغسطس يحكم‬

‫أحدهما الشطر الشرقي في اإلمبراطورية‪ ،‬ويقوم اآلخر بحكم الشطر الغربي‬

‫منها‪ ،‬فمنذ أيام القياصرة‪ ،‬كان البد من وجود وزير يوناني وآخر التيني‪ ،‬إال أن‬

‫دقلديانوس مضى في هذا التقسيم إلى أبعد من ذلك أمر بأن يكون لإلمبراطورية‬

‫إمبراطوران اثنان يقيم أحدهما في شطر من شطري اإلمبراطورية‪ ،‬ولكي يضمن‬

‫انتقال العرش بسالم جعل لكل إمبراطور قيصر يساعده ويكون وريثه بعد موته‪،‬‬

‫مركزا‬ ‫استقر دقلديانوس في الواليات اآلسيوية ومصر وجعل مدينة نيقوميديا ً‬ ‫له‪ ،‬وعين رفيق سالح قديم له اسمه ماكسيميان أغسطس على الغرب يحكم‬ ‫إيطاليا وأفريقيا وأسبانيا ومقره مدينة ميالن‪ ،‬وأما القيصران فهما جاليريوس‬ ‫الذي حكم شبه جزيرة البلقان وواليات الدانوب المجاورة‪ ،‬ومركزه مدينة‬

‫قيصرا‬ ‫صيرميوم وهو قيصر لدقلديانوس‪ ،‬وقسطنطيوس خلوروس كان‬ ‫ً‬

‫لماكسيميان وقد حكم غاليا وبريطانيا ومركزه مدينة تريفيس ومدينة يورك(((‪.‬‬

‫ويالحظ من ذلك أن دقلديانوس أراد من ذلك الغرض منع الجند من‬

‫تنصيب األباطرة وعزلهم‪ .‬واعتبر هؤالء الحكام األربعة أنهم يحكمون‬ ‫إمبراطورية رومانية واحدة وكل المراسم واألوامر والقرارات اإلمبراطورية‬

‫تصدر بأسماء األربعة‪ .‬وقام دقلديانوس بالفصل بين السلطتين المدنية‬

‫والعسكرية بأن قام بحرمان حكام الواليات من السلطات العسكرية‪ ،‬ومن‬

‫قيادة الجيوش داخل والياتهم مما أدى إلى زيادة سلطة الحكومة المركزية(((‪.‬‬

‫((( والد قسطنطينوس الكبير‪.‬‬ ‫((( الناصري‪ ،‬سيد أحمد‪ ،‬تاريخ اإلمبراطورية الرومانية السياسي والحضاري‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫مكتبة مدبولي‪ ،1985 ،‬ص ص‪.336-330‬‬ ‫‪81‬‬


‫وأبعد أعضاء مجلس السناتو‪« ...‬الشيوخ»‪ ،‬من النبالء عن تولي وظائف‬ ‫ً‬ ‫رجال من الفرسان أي من‬ ‫كبيرة في الجيش‪ ،‬وعين في الوظائف العسكرية‬ ‫الطبقة الوسطى الذين أهلتهم كفاءاتهم لتولي هذه المناصب‪ .‬أما عن مشكلة‬

‫الدفاع عن اإلمبراطورية ضد غارات الفرس والجرمان‪ ،‬فقد اتخذ دقلديانوس‬

‫إجراءات عسكرية مهمة؛ إذ أنه قام بإصالح الحدود القديمة وشيد قالع جديدة‬

‫وحشد فرق عسكرية جديدة للدفاع عن اإلمبراطورية وحماية سلطة اإلمبراطور‬

‫من المغتصبين سميت باسم قوات رفاق اإلمبراطور‪ ،‬وأصلح أسوار المدن‬ ‫وجهز ً‬ ‫جيشا آخر لحماية حدود اإلمبراطورية سمي باسم حرس الحدود ليرابط‬ ‫على الراين والدانوب والفرات‪.‬‬

‫وتم توزيع األراضي الواقعة عند حدود اإلمبراطورية على حرس‬

‫الحدود ليقوموا بزراعتها مقابل الخدمة الحربية والدفاع عنها‪ ،‬ومن هنا‬

‫تكونت طبقة الجند المزارعين‪.‬‬

‫كما جهز جيوش ميدانية خفيفة متحركة ترابط في قلب الواليات في‬

‫المدن‪ ،‬وهي تنتقل بسرعة إلى أماكن القتال ورابطت هذه الجيوش الخفيفة‬

‫في آسيا الصغرى ووسط البلقان لحماية واليات اإلمبراطورية من غارات‬ ‫البرابرة إذا اخترقوا الحدود(((‪.‬‬

‫غير أن إصالحات دقلديانوس وزيادة أعداد العسكريين والمدنيين أدت‬

‫إلى زيادة كبيرة في نفقات الدولة‪ ،‬فإعادة تنظيم وإدارة واليات اإلمبراطورية‬

‫زاد من عدد كبار الموظفين ذوي الرواتب الكبيرة مما أثر في الدولة وزاد‬

‫من إرهاقها‪ ،‬فأصدر مرسوم عام ‪301‬م أطلق عليه قانون األثمان‪:‬‬ ‫((( العريني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.342-341‬‬ ‫‪82‬‬


‫واجه دقلديانوس وأعوانه في زمن السلم المشاكل الناشئة من االنحالل‬ ‫االقتصادي‪ ،‬فكان قانون العرض والطلب هو النظام االقتصادي المسيطر‬ ‫سليما‬ ‫على الدولة مما أدى إلى الكساد ونشوب الثورات؛ فوضع نظا ًما نقد ًيا ً‬ ‫وعيارا محددين احتفظت بها اإلمبراطورية‬ ‫بأن عين للعملة الذهبية وزنًا‬ ‫ً‬ ‫الشرقية حتى عام ‪1453‬م‪ ،‬ووزع الطعام على الفقراء بنصف ثمنه في‬ ‫كثيرا من المنشآت العامة ليوجد بذلك عمل للعاطلين‪.‬‬ ‫السوق‪ ،‬وشرع يقيم ً‬

‫ووضع فروع من الصناعة والتجارة تحت سيطرة الدولة‪ ،‬كما أنه‬ ‫أشرف على أصحاب السفن والتجارة والبحارة لكي يسيطر على استيراد‬ ‫قديما كانت الدولة تمتلك معظم مقالع الحجارة ورواسب الملح‬ ‫الحبوب‪ً .‬‬ ‫والمناجم‪ ،‬فحرمت تصدير الملح والحديد والذهب والخمر والحبوب‬ ‫والزيت من إيطاليا وفرضت نظا ًما دقي ًقا صار ًما على استيراد هذا المواد‪،‬‬ ‫وسيطرت الدولة على المؤسسات الصناعية التي تنتج حاجيات الجيش‬ ‫وموظفي الدولة وبالط األباطرة‪ ،‬وفرضت على مصانع الذخيرة والنسيج‬ ‫والمخابز أال يقل إنتاجها عن قدر معين واشترطت األثمان التي تحددها‬ ‫هي وإن ينفذوا أوامرها ومواصفات إنتاجها‪ ،‬وبذلك أممت المصانع‬ ‫وجهزتها بعمال فرضت عليهم أن يعملوا فيها‪.‬‬ ‫وبهذا وضعت المؤسسات الصناعية والنقابات تحت سيطرة الدولة في‬ ‫عهد دقلديانوس‪ .‬وبذلك خضع القصابون والخبازون والبناءون وصناع‬ ‫الزجاج والحديد والحفارون لنظم مفصلة وضعتها لهم الحكومة‪.‬‬ ‫وحصلت جمعيات التجار والصناع من الحكومة على مزايا كثيرة‬ ‫ومتنوعة‪ ،‬فكانت تساعد الحكومة على تجنيد األيدي العاملة وجباية‬ ‫الضرائب‪.‬‬ ‫‪83‬‬


‫«وكان في كل والية رقيب خاص يشرف على نواحي النشاط الصناعي‬

‫وأضحت الدولة في كل مدينة كبيرة صاحبة عمل وذات قوة كبيرة‪ ...‬تسيطر على‬

‫جميع المصانع الخاصة التي كانت ترزح تحت أعباء الضرائب الفادحة»(((‪.‬‬ ‫ولم يكن مستطا ًعا أن يسيطر هذا النظام إال إذا سيطرت الدولة على‬

‫أثمان السلع‪ ،‬ولهذا أصدر دقلديانوس مرسوم األثمان عام ‪301‬م‪.‬‬

‫بهذا المرسوم هاجم القرارات التي تمنح االحتكارات على البضائع‬

‫الموجودة في السوق‪ ،‬كما أنه حدد به أقل األثمان واألجور على جميع‬ ‫السلع والخدمات العامة في جميع أنحاء اإلمبراطورية‪.‬‬

‫وهاجم هذا القرار الذين يرفعون األسعار عندما تقل البضائع‪ ،‬فجاء‬

‫في القرار ما يلي‪« :‬ومن ذا الذي خال قلبه من العاطفة اإلنسانية فال يرى أن‬ ‫ارتفاع األسعار ظاهرة عامة في أسواق مدننا‪ ،‬وأن شهوة الكسب ال يحد‬

‫منها وفرة السلع وال أعوام الرخاء؟ ولهذا يرى أشرار الناس أنهم يخسرون‬ ‫إذا ما توافرت الحاجات‪ ...‬إن من الناس من يجعلون همهم الوقوف في‬

‫وجه الرخاء العام‪ ...‬والجري وراء األرباح الباهظة القاتلة‪ ...‬لقد عم الشره‬ ‫جميع العالم‪ ...‬فحيثما اضطرت جيوشنا للذهاب لتأمين الناس بوجه‬

‫عام‪ ،‬رفع الجشعون األثمان‪ ،‬ولم يكتفوا بالحصول على سبعة أضعاف‬

‫الثمن المعتاد أو ثمانية أضعافه‪ ،‬بل زادوه إلى الحد الذي تعجز األلفاظ‬

‫عن وصفه‪ ،‬حتى لقد يضطر الجندي إلى دفع مرتبه كله وإعانة الحرب في‬ ‫شراء سلعة واحدة‪ ،‬وبذلك يذهب كل ما يقدمه العالم كله إلمداد الجيش‬ ‫بحاجته في جيوب أولئك اللصوص الجشعين»‪.‬‬ ‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.364-363‬‬ ‫‪84‬‬


‫إنه مرسوم عظيم به عقلية اقتصادية استبدلت القرارات الحكومية‬

‫بالقوانين االقتصادية‪ ،‬إال أن هذه التجربة أخفقت؛ ألن التجار أخفوا‬ ‫ما عندهم من سلع ونقصت البضائع في األسواق مما أدى إلى حدوث‬

‫اضطرابات‪ ،‬حتى إن دقلديانوس نفسه تغاضى عن ارتفاع األسعار‪ ،‬وانتهى‬ ‫األمر بإلغائه على يد قسطنطينوس‪.‬‬

‫قائمة بأثمان السلع التي حددها المرسوم‪ :‬العدس والبسلة‪ ،‬كان ثمن‬

‫البشل (‪ )Bushel‬منها يعادل ‪ 3.5‬ريال‪ ،‬والنبيذ بـ‪ 26-21‬من مائة من الريال‬

‫للبينت (‪ ،)Pint‬وزيت الزيتون بـ‪ 10.5‬من مائة من الريال للرطل اإلنجليزي‪،‬‬

‫ولحم العجول أو الضان بـ‪ 7‬من مائة من الريال للرطل اإلنجليزي‪ ،‬والدجاج‬ ‫الصغير كل اثنتين بـ‪ ،52.5‬وأحسن أنواع الكرنب والخس كل خمس منها‬

‫بـ‪ ،3.5‬والبصل األخضر كل ‪ 25‬بـ‪ 3.5‬والتفاح أو الخوخ الكبير كل عشر‬ ‫بـ‪ 3.5‬والتين كل ‪ 25‬بـ‪3.5‬؛ والشعر كل رطل إنجليزي بـ‪ 3.5‬واألحذية‬ ‫يتراوح ثمن الزوج منها بين ‪ 62‬من مائة ‪ 389‬ريال(((‪.‬‬

‫وكانت أجور عمال الزراعة بين ‪ 46 ،2.3‬من مائة من الريال يضاف إليها‬

‫الطعام؛ وكان البناءون والنجارون والحدادون والخبازون يتقاضون ‪ 46‬من‬ ‫مائة من الريال مضا ًفا إليها ثمن الطعام‪ ،‬الحالقون ‪ 1.75‬ريال على كل شخص‪،‬‬

‫والكتبة ‪ 23‬ريال عن كل ‪ 100‬سطر‪ ،‬ومدرسو المدارس األولية ‪ 46‬ريال عن‬

‫كل تلميذ في كل شهر؛ ومدرسو اآلداب اليونانية أو الالتينية أو الهندية ‪0.84‬‬

‫ريال عن كل تلميذ في الشهر والمحامون ‪ 7936‬رياالت عن كل قضية‪.(((»...‬‬ ‫((( نعينع‪ ،‬سهير إبراهيم‪ ،‬تاريخ مصر في العصر البيزنطي‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫الجامعية‪ ،2004 ،‬ص ص‪.73-71‬‬ ‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.365‬‬ ‫‪85‬‬


‫األسعار المتفاوتة التي الحظناها أثرت على اقتصاد الشعب‬

‫الروماني الخاضع لسيطرة الحكومة‪ .‬والضرائب أصبحت وباء متفش ًيا‬

‫في اإلمبراطورية‪ ،‬فكان األغنياء يخفون ثروتهم وبدل اإلشراف طبقتهم‬

‫ووضعوا أنفسهم في عداد الطبقة الدنيا حتى ال يختاروا للوظائف البلدية‪،‬‬ ‫وهجر الصنّاع حرفهم‪ ،‬وترك الزراع أرضهم المثقلة بالضرائب ليصبحوا‬

‫أجراء عند غيرهم‪ ،‬وأقفرت كثير من القرى وبعض البلدان الكبيرة من‬

‫أهلها لفداحة الضرائب المفروضة عليها‪.‬‬

‫فلما كان القرن الرابع اجتاز عدد كبير من األهليين حدود اإلمبراطورية‬

‫فرارا من الضرائب الفادحة‪ ،‬ولحرص دقلديانوس على‬ ‫ولجأوا إلى البرابرة ً‬ ‫كبيرا صدر قانون يجعل المستأجر‬ ‫تأثيرا ً‬ ‫منع الهجرة التي أثرت في الدولة ً‬

‫«يرتبط كتابه» باألرض التي يزرعها وال يستطيع تركها إال برضاء مالكها‪،‬‬ ‫فإذا بيعت األرض بيع هو وأسرته معها(((‪.‬‬

‫مر�سوم عام ‪ 202‬يحرم اعتناق الم�سيحية‪:‬‬

‫دقلديانوس الوثني‪ ،‬منذ نهاية القرن األول الميالدي وحتى اعتراف‬

‫قسطنطينوس الكبير بالمسيحية‪ ،‬كان الموت لكل من يعتنق المسيحية‪.‬‬

‫وبرغم هذا اإلجراء القاسي؛ إال أن المسيحية انتشرت بين طبقات‬

‫المجتمع‪ ،‬فبدأت سلسلة من االضطهادات ضد المسيحيين من الذين‬

‫اعتقدوا أن إنقاذ اإلمبراطورية لن يتحقق إال عن طريق اتباع الطقوس‬

‫الوثنية الرومانية‪ ،‬فالمسيحية خطر يهدد كيان اإلمبراطورية‪ ،‬وعملوا على‬

‫((( عمران‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.65-64‬‬ ‫‪86‬‬


‫طمس معالم المسيحية واستئصالها والقضاء على أتباعها قبل أن تتأصل‬ ‫جذورها في األرض‪ .‬ففي عام ‪ 202‬أصدر اإلمبراطور سفيروس مرسو ًما‬ ‫يحرم اعتناق المسيحية وأمر بتطبيق هذا المرسوم بصرامة متناهية‪ .‬وفي‬ ‫عام ‪ 250‬أصدر اإلمبراطور دكيوس (‪ )Decius‬مرسو ًما يقضي بإلزام كل‬ ‫مواطن بالحصول على شهادة من الجهات المسؤولة تفيد أنه قام بتقديم‬ ‫القرابين لآللهة الوثنية وأنه سكب الزيت على األرض إكرا ًما لها؛ حيث‬ ‫تعرض الذين رفضوا االمتثال لمرسوم اإلمبراطور لالضطهاد والتعذيب‬ ‫بصورة وحشية‪.‬‬ ‫ومن المؤرخين من يرى أن سبب اضطهاد دكيوس للمسيحية ليس‬ ‫ألنه استخف وازدرى المسيحية بل ألن المسيحيين رفضوا تقديم القرابين‬ ‫لآللهة الوثنية‪ ،‬وفي هذا حدوث اضطرابات في الدولة وإن أمان الدولة لن‬ ‫يتحقق إال بالصلوات لآللهة الوثنية وبهذا كان اضطهاد دكيوس للمسيحيين‬ ‫ذا دوافع سياسية أكثر من كونها دوافع دينية(((‪.‬‬ ‫مرا�سيم �صدرت بين عامي ‪ 305-302‬م‪:‬‬

‫كان دقلديانوس في معظم سنوات حكمه يتبع سياسة التسامح الديني‬ ‫مع المسيحيين؛ إال أن القيصر جالريوس نائب دقلديانوس في الشرق‬ ‫معارض عنيد للمسيحية‪ ،‬وبذل جهده لدفع دقلديانوس على اضطهاد‬ ‫المسيحيين‪ ،‬ما بين عامي ‪305-302‬م أصدر دقلديانوس وجالريوس أربعة‬ ‫مراسيم تحث على اضطهاد المسيحيين‪ ،‬وأمروا بإحراق األناجيل والكتب‬ ‫((( يوسف جوزيف نسيم‪ ،‬مجتمع اإلسكندرية في العصر المسيحي حوالي ‪،642-48‬‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،1975 ،‬ص ص‪.85-83‬‬ ‫‪87‬‬


‫الدينية ومنع المسيحيين من التجمع وتحريم القيام بأي صلوات أو طقوس‬ ‫دينية واعتبارهم خارجين عن القانون‪ ،‬وقتل كل الرجال النساء واألوالد‬ ‫الذين رفضوا تقديم القرابين لآللهة الوثنية‪ .‬وكان وقع االضطهاد شديدً ا‬ ‫على األقباط في مصر لدرجة أنهم اتخذوا من سنة ‪284‬م وهي السنة التي‬ ‫تولى فيها دقلديانوس الحكم على اإلمبراطورية بداية التقويم القبطي(((‪.‬‬ ‫مر�سوم جالريو�س عام ‪311‬م‪:‬‬

‫ففي عام ‪305‬م مرض دقلديانوس وتقدمت به السن فتنازل هو وشريكه‬ ‫ماكسيميان عن لقبهما اإلمبراطوري واعتزال العمل السياسي‪ ،‬وأصبح‬ ‫جالريوس حاكم للقسم الشرقي لإلمبراطورية خل ًفا لدقلديانوس في‬ ‫حاكما للقسم الغربي خل ًفا لماكسيميان‪ .‬وكان‬ ‫حين أصبح قسطنطيوس‬ ‫ً‬ ‫قسطنطيوس قد عرف بمواقفه السليمة تجاه المسيحيين غير أنه توفي فجأة‬ ‫في العام التالي ‪ 306‬في بريطانيا مركز حكمه وخلفه ابنه قسطنطينوس‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عضال حيث قيل أن هذا بسبب لعنة‬ ‫مرضا‬ ‫وفي عام ‪ 311‬مرض جالريوس ً‬ ‫إله المسيحيين؛ ولهذا أصدر فجأة مرسو ًما يمنع فيه اضطهاد المسيحيين‬ ‫وعفا عنهم وأعلن حقهم في الوجود(((‪.‬‬ ‫كان حكم دقلديانوس يمتاز باالستقرار وسيادة القانون نو ًعا ما حيث‬ ‫أعاد االستقرار إلى الصناعة ورد األمن إلى التجارة‪ ،‬وأذل فارس حيث‬ ‫قضى على الفوضى التي دامت خمسين عا ًما قضى على االستقالل الذاتي‬ ‫للواليات وعاقب معارضيه أشد عقاب‪ ،‬كما أنه أقام بيروقراطية باهظة‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.87-86‬‬ ‫((( الناصري‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.357‬‬ ‫‪88‬‬


‫التكاليف باضطهاده للكنيسة ولم يتخذها حليفه له رغم أنه حاول جهده‬ ‫إلصالح الدولة‪ ،‬جعل سكان اإلمبراطورية مجتم ًعا من الطبقات في أحد‬ ‫طرفيه زراع جهالء وفي طرفه اآلخر ملك مستبد مطلق السلطان‪.‬‬ ‫ولكن الظروف التي واجهتها روما لم تكن تسمح بانتهاج سياسة تقوم‬ ‫على مبادئ الحرية‪ .‬وقد جرب ماركس أورليوس وألكسندر سفيرس هذه‬ ‫السياسة وأخفقا فيها‪ .‬ورأت الدولة الرومانية نفسها محاطة باألعداء من كل‬ ‫جانب‪ ،‬ففعلت ما البد أن تفعله األمم جميعها في أوقات الحروب التي‬ ‫يتقرر فيها مصيرها‪ ،‬وقبلت طغيان زعيم قوي ورضيت أن يفرض عليها‬ ‫ما ال تكاد تطيقه من الضرائب‪ ،‬وتخلت عن الحرية الفردية إلى أن تنال‬ ‫الحرية الجماعية‪ ،‬ولقد قام دقلديانوس باألعمال التي قام بها أغسطس‪،‬‬ ‫وإن كانت قد كلفت أولهما أكثر مما كلفت اآلخر‪ ،‬وقد أدرك معاصروه‬ ‫ومن جاءوا بعده األخطار التي نجوا منها بفضل جهوده فلقبوه «أبا العصر‬ ‫الذهبي» وسكن قسطنطينوس البيت الذي شيده له دقلديانوس(((‪.‬‬ ‫ق�سطنطينو�س ومر�سوم ميالن‪:‬‬

‫في عام ‪311‬م شبت حرب أهلية وأعلن الثائرون خلع حالريوس من‬ ‫منصبه وتعيين ماكسنتيوس بن ماكسيميان‪ ،‬وأغتنم قسطنطينوس موت‬ ‫ماكسيميان وجالريوس واتحد مع األغسطس الجديد «ليكينيوس» وتمكنا‬ ‫سنة ‪ 312‬من هزيمة ماكسنتيوس في معركة فاصلة تسمى موقعة جسر‬ ‫ملفيان على نهر التيبر قرب روما وغرق ماكنستيوس في نهر التيبر أثناء‬ ‫محاولته الهرب من المعركة‪.‬‬ ‫((( عمران‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.75-74‬‬ ‫‪89‬‬


‫قسطنطينوس ولد في مدينة نيسوس وكان أبوه كونستانيتوس كلوروس‬

‫من أسرة من ايلليريا‪ ،‬وأمه هيلينا‪ ،‬فقد كانت تدين بالنصرانية واعتبرت فيما‬

‫بعد قديسة «سانت هيلينا»‪ ،‬وقد حجت إلى األراضي المقدسة حيث يقال‬

‫أنها وجدت الصليب الحقيقي الذي صلب عليه السيد المسيح‪ .‬وفي عام‬ ‫‪ 305‬بعد أن تنازل دقلديانوس وماكسيميان أصبح غاليريوس األغسطس‬ ‫في الشرق وكونستانيتوس والد قسطنطينوس الكبير في الغرب‪ ،‬وبعد أن‬ ‫توفي كونستانتيوس‪ ،‬أعلن أتباعه ابنه قسطنطينوس أغسطس ً‬ ‫بدل منه‪ .‬بعد‬

‫أن خلت الساحة لقسطنطينوس وليكينيوس إال أن هذه الساحة الهادئة ما‬ ‫لبثت أن تحولت إلى صراع انتهى بفوز قسطنطينوس على خصمه ليكينيوس‬

‫الذي قتل سنة ‪324‬م‪ ،‬وأصبح قسطنطينوس بعد هذا الحاكم الوحيد في‬ ‫اإلمبراطورية(((‪.‬‬

‫�إن �أهم �أحداث فترة حكم ق�سطنطينو�س الكبير هي‪:‬‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬االعتراف بالديانة النصرانية في اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬ثان ًيا‪ :‬نقل‬

‫العاصمة من شواطئ نهر التيبر إلى شواطئ البوسفور من روما الجديدة‬

‫«القسطنطينية»‪ .‬كان نقل مركز ثقل اإلمبراطورية السياسي من الغرب إلى‬ ‫الشرق حد ًثا ها ًما سببه أن الشرق كان أغنى بموارده االقتصادية من الغرب‪،‬‬ ‫كما أنه يعود إلى أن اإلمبراطورية كانت تواجه في منطقة الشرق وخاصة‬ ‫في منطقة الدانوب مشاكل عسكرية بسبب البرابرة اآلتين من الشمال‪ ،‬أما‬

‫خطرا جديدً ا بسبب ازدياد قوة الفرس(((‪.‬‬ ‫منطقة الشرق األوسط كانت تمثل ً‬

‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.24‬‬ ‫((( عوض‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.7-4‬‬ ‫‪90‬‬


‫ومنذ القرن الثالث شعر أباطرة روما بخطر الفرس‪ ،‬وظل هذا الخطر‬ ‫مراف ًقا لهم طوال الفترة األولى من تاريخ بيزنطة‪ ،‬وكان ديوقلديانوس من‬ ‫أوائل الذين شعروا بالخطر الفارسي‪ ،‬لذا أخذ على عاتقه اإلشراف على‬ ‫النصف الشرقي من اإلمبراطورية بنفسه وترك النصف الغربي لمساعدة‬ ‫ماكسيميان‪ ،‬وفي عهد قسطنطينوس نُقلت العاصمة نهائ ًيا من الغرب إلى‬ ‫الشرق‪ .‬فكانت القسطنطينية منذ تأسيسها تتميز بالطابع المسيحي الواضح‬ ‫في كل مناحي الحياة فيها‪ ،‬وأن سكانها كانوا في غالبيتهم ممن يتكلمون‬ ‫اليونانية‪ .‬بعد اعتراف قسطنطينوس بالمسيحية كما سيأتي دراسته‪ ،‬وبنقل‬ ‫واضحا انتصار الشرق على الغرب‬ ‫العاصمة إلى شاطئ البوسفور فقد بدا‬ ‫ً‬ ‫في قلب إمبراطورية الرومان الوثنية(((‪.‬‬ ‫االعتراف بالديانة الم�سيحية‪:‬‬

‫إن اعتناق قسطنطينوس للديانة المسيحية أثار الجدل والخالفات على‬ ‫وجهين‪ ،‬فلم يكن ليهتم بالدين اهتما ًما جد ًيا وأنه استخدم الدين ألغراضه‬ ‫السياسية‪ ،‬أو ربما أنه كان تق ًيا وأنه اعترف بالمسيحية إليمانه العميق بها‪ .‬وكان‬ ‫ألمه هيلينا دورا في تأثره بالمسيحية إلى ٍ‬ ‫حد ما ولعلها أفضت إلى ولدها بفضائل‬ ‫ً‬ ‫(((‬ ‫المسيحية‪ ،‬حيث أنها اعتنقت المسيحية وكانت تدعى «القديسة هيلينا» ‪.‬‬ ‫البد أن يأخذ بعين االعتبار األوضاع السياسية التي كانت تسود‬ ‫اإلمبراطورية؛ حيث الحظ قسطنطينوس أن سياسة دقلديانوس في اضطهاد‬ ‫((( رنسيمان‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.12-5‬‬ ‫((( عبيد‪ ،‬اسحق‪« ،‬قصة عثور القديسة هيالنة على خشب الصليب أسطورة أم واقع»‪،‬‬ ‫المجلة التاريخية المصرية‪ ،‬مج‪ ،)1980( ،17‬ص ص‪.21-5‬‬ ‫‪91‬‬


‫النصارى كانت سياسة فاشلة‪ ،‬لم تأت إال بالضرر على اإلمبراطورية في‬

‫ظرف كانت مصالح اإلمبراطورية فيه متجهة نحو الشرق الذي هو مصدر‬ ‫النصرانية(((‪.‬‬

‫وكما يقول أحد المؤرخين (‪ )H. Gregoire‬في حديثه عن الوضع‬ ‫في هذه الفترة «من كان يريد الشرق فعليه إما أن يكون نصران ًيا أو صدي ًقا‬

‫للنصرانية»‪ .‬كما أن قسطنطينوس كان ً‬ ‫رجل معرو ًفا بتدينه‪ ،‬سواء في الفترة‬

‫التي كان فيها يؤمن بالوثنية أو الفترة التي اعتنق فيها الدين المسيحي‪،‬‬

‫يضاف إلى هذا أن الفترة الزمنية التي عاش قسطنطينوس خاللها كانت‬

‫فترة ساد فيها حسب الناس لإليمان بدين أو بآخر‪ ،‬ويرى البعض أن‬

‫سياسة قسطنطينوس الدينية قد أملتها ضرورات سياسية وأنه أدرك بذكائه‬

‫أن المسيحية سوف تصبح قوة عالمية‪.‬‬

‫وبينما هم في زحفه جنو ًبا على مكسنتيوس يوم كان مستقبله محفو ًفا‬ ‫باألخطار‪ ،‬شهد هو صلي ًبا برا ًقا ظهر أمام نواظرهم في السماء‪ ،‬وقد‬ ‫سطرت عليه هذه العبارة (‪« :)Hocrinces‬بهذا يكون النصر لكم»‪ ،‬فتأثر‬ ‫قسطنطينوس أعمق التأثر فيما رأى في منامه من حلم‪ ،‬واتخذ من الالباروم‬

‫شعارا له فقاد جنده إلى‬ ‫(‪ )Labarum‬وهو الصليب ذو الرأس المعقوف‬ ‫ً‬

‫النصر تحت ذلك اللواء‪.‬‬

‫كما كان قسطنطينوس في أثناء حكمه كله يعامل األساقفة على أنهم‬

‫أعوانه السياسيون‪ ،‬فكان يستدعيهم إليه ويرأس مجالسهم ويتعهد بتنفيذ‬

‫ما تقره أغلبيتهم من آراء‪ ،‬فكانت المسيحية عنده في البداية وسيلة ال غاية‪.‬‬

‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.52‬‬ ‫‪92‬‬


‫كما أن أتباع هذا الدين كانوا اليزالون قلة في الدولة؛ ولكنهم كانوا إذا قيسوا‬ ‫إلى غيرهم قلة متحدة مستبسلة قوية على حين أن األغلبية الوثنية كانت منقسمة‬ ‫إلى عدة شيع دينية‪ ،‬وكان فيها عدد كبير من النفوس التي ال عقيدة لها وال نفوذ‬ ‫في الدولة لكن قسطنطينوس اضطر إلى أن يتحسس كل خطوة يخطوها بحذر‬ ‫ألن الوثنية كانت هي الغالبة على العالم الذي يعيش فيه؛ لذلك ظل يستخدم‬ ‫ألفا ًظا توحيدية يستطيع أن يقبلها كل وثني‪ ،‬وقام في خالل السنين األولى‬ ‫من سلطانه المفرد بجميع المراسيم التي يتطلبها منه منصب الكاهن األكبر‪،‬‬ ‫والتي تحتمها عليه الطقوس التقليدية‪ ،‬وجدد بناء الهياكل الوثنية وأمر بممارسة‬ ‫أساليب العرافة‪ ،‬واستخدم في تدشين القسطنطينية شعائر وثنية ومسيحية م ًعا‬ ‫واستعمل رقى سحرية وثنية لحماية المحاصيل وشفاء األمراض‪.‬‬ ‫ولما توطدت دعائم قوته أخذ يجهر تدريج ًيا بمحاباة المسيحية‪ ،‬فمحا‬ ‫عام ‪ 317‬من نقوده واحدة بعد واحدة ما كان على وجهها من صور وثنية‪،‬‬ ‫ولم يحل عام ‪323‬م حتى كان كل ما عليها من الرسوم ً‬ ‫نقوشا محايدة‬ ‫ال هي مسيحية وال وثنية‪.‬‬ ‫من المرا�سم القانونية‪:‬‬

‫من المراسيم القانونية الباقية في عهده مرسوم يخول األساقفة المسيحيين‬ ‫حق الفصل فيما يقوم في أبرشياتهم من منازعات قضائية‪ ،‬وأعفت قوانين‬ ‫أخرى أمالك الكنيسة العقارية من الضرائب‪ .‬وجعلت الجماعات المسيحية‬ ‫شخصيات معنوية قضائية وأجازت لها امتالك األرض وقبول الهبات‪،‬‬ ‫وجعلت الكنيسة هي الوارثة ألمالك الشهداء الذين لم يتركوا ذرية‪.‬‬ ‫كذلك وهب قسطنطينوس ً‬ ‫أموال إلى المجامع الدينية المحتاجة إليها‪.‬‬ ‫‪93‬‬


‫وشاد عدد من الكنائس في القسطنطينية وغيرها من المدن وحرم عبادة‬ ‫األوثان في عاصمته الجديدة(((‪.‬‬

‫مرسوم ميالن (‪ )Edict of Milan‬أو مرسوم التسامح (‪:)Edict of toleration‬‬ ‫الذي صدر عام ‪313‬م أصدره اإلمبراطور قسطنطينوس‪ ،‬الذي أعاد‬

‫أساسا‬ ‫السالم والهدوء إلى الكنيسة المسيحية‪ ،‬وعد هذا المرسوم قانونًا‬ ‫ً‬

‫من قوانين العالم الروماني حيث جاء فيه‪:‬‬

‫«عندما تقابلنا نحن قسطنطينوس أوغسطس ولسينوس أغسطس في ميالن‬

‫مكللين بالرعاية والعناية أخذنا نبحث في جميع الوسائل الخاصة بالصالح العام‬

‫لرعايانا‪ ،‬ومن هذه المسائل التي تهم الكثيرين وتعود بالنفع عليهم‪ ،‬مسألة حرية‬

‫العقيدة‪ ،‬لذلك قررنا إصدار مرسوم يضمن للمسيحيين وكافة الطوائف األخرى‬

‫حرية اختيار وممارسة العقيدة التي يرضونها‪ ،‬وبذلك نضمن رضاء جميع‬

‫اآللهة والقوى السماوية علينا‪ ،‬كما نضمن رضاء جميع رعايانا ممن يعيشون‬ ‫في كنف سلطتنا‪ ،‬وهكذا قررنا عن ثبات وتعقل أال يحرم أي فرد كائنًا من كان‬ ‫من اختيار المسيحية ديانة ولكل فرد الحرية في اختيار الدين الذي يناسبه‪...‬‬

‫وهذا المرسوم الذي صدر من فيض كرمنا يجب أن يذاع على الجميع‪ ،‬ويجب‬

‫علما وينشر في كل مكان حتى ال يفوت أحد األخذ به»(((‪.‬‬ ‫أن يحيط به الجميع ً‬ ‫المسيحية ظلت حركة سرية منذ بدايتها حتى إعالن مرسوم ميالن‬

‫عام ‪313‬م‪ ،‬تعرض خاللها المسيحيين لالضطهاد والتعذيب من بعض‬ ‫األباطرة كما فعل دقلديانوس‪.‬‬

‫((( عمران‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.26‬‬ ‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.25‬‬ ‫‪94‬‬


‫المسيحية أصبحت بموجب مرسوم ميالن على قدم المساواة مع‬ ‫بقية األديان األخرى‪ ،‬ولم تقتصر سياسة قسطنطينوس تجاه المسيحية‬ ‫باالعتراف بها فقط بل إنه منح رجال الدين المسيحيين نفس الحقوق‬ ‫واالمتيازات التي منحت للكهنة وإعفاؤهم من ضرائب الدولة والواجبات‬ ‫األخرى مثل الخدمة في المناصب الحكومية كما اعترفت الدولة‬ ‫بالجماعات المسيحية كوحدات قضائية فمنح اإلمبراطور المحاكم‬ ‫األسقفية امتيازات هامة للغاية وعند نهاية حكمه اتسعت سلطة المحاكم‬ ‫األسقفية لتشمل‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ ال يكون هناك رد لحكم األسقف(((‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ يمكن تحويل أي قضية مدنية إلى المحاكم األسقفية في أية مرحلة‬ ‫مراحلها دون موافقة المتخاصمين‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ يصادق القضاة األهليون على قرارات المحاكم األسقفية‪.‬‬ ‫وقد شيدت القسطنطينية لتكون مدينة مسيحية الصبغة‪ ،‬فمرسوم ميالن‬ ‫سمح لجميع الطوائف دون تميز أن يعتنقوا المذهب الذي يريدونه‪.‬‬ ‫«عام ‪335‬م أوصى قسطنطينوس بتقسيم اإلمبراطورية بين من كان ح ًيا‬ ‫من أوالده‪ ،‬وبعد سنتين من ذلك احتفل في يوم عيد القيامة بمرور ثالثين‬ ‫عا ًما من حكمه‪ ،‬وأحس بعد ذلك بدنو أجله‪ ،‬فذهب ليستحم في الحمامات‬ ‫قسا‬ ‫الحارة في أكويريون (‪ )Aquyrion‬ولما اشتد عليه المرض استدعى ً‬ ‫ليجري له مراسم التعميد المقدس الذي أخره عمدً ا إلى تلك الساعة وكان‬ ‫يرجو أن يطهره هذا التعميد مما ارتكبه من الخطايا في حياته المزدحمة‬ ‫((( عوض‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.10-9‬‬ ‫‪95‬‬


‫باألعمال‪ ،‬ثم خلع الحاكم المجهد األثواب الملكية األرجوانية وارتدى‬ ‫الثوب األبيض ثوب المسيحي الحديث التنصر وأسلم الروح»‪.‬‬

‫قسطنطينوس قائد عظيم وإداري بارع وسياسي ال يشق له غبار‪ ،‬بفضله‬

‫طال عمر اإلمبراطورية ‪ 150‬عا ًما من خالل ما سلف يلحظ أن قسطنطينوس‬ ‫في سنينه األخيرة استمسك بإخالص للدين المسيحي‪ ،‬وأصبح أكثر‬

‫المبشرين في دولته مثابرة على عمله‪ ،‬واضطهد المالحدة اضطهاد المؤمن‬

‫المخلص لدينه‪ ،‬وكان يعتمد على الله في كل خطوة يخطوها‪ ،‬وقد وهب‬ ‫اإلمبراطورية الهرمة حياة جديدة بأن ربط بينها وبين دين فتي ونظام قوي‬ ‫ومبادئ أخالقية(((‪.‬‬

‫مرسوم جوليان بفتح المعابد الوثنية‪:‬‬ ‫بعد وفاة قسطنطينوس الكبير عام ‪ 337‬قسمت الدولة البيزنطية بين أبنائه‬

‫الثالثة قسطنطينوس الثاني وقسطنطيوس وقسطانز وتلقب كل منهم بلقب‬

‫أغسطس‪ ،‬وشب نزاع بين األخوة الثالثة قتل خالله قسطنطينوس الثاني سنة‬

‫‪ 340‬ثم قنسطانز سنة ‪350‬م‪ ،‬واستطاع قسطنطيوس توحيد اإلمبراطورية‬ ‫في ذلك العام ‪350‬م‪ ،‬واستمر حكمه حتى سنة ‪361‬م‪ ،‬غير أن المشكلة‬

‫التي واجهت قسطنطيوس بعد مقتل أخويه كانت مشكلة وراثة العرش‬

‫ألنه لم يكن لديه أوالد‪ ،‬ولم يبق من أسرة قسطنطينوس سوى جاللوس‬

‫قيصرا غير‬ ‫وجوليان ولدي عمه وعين اإلمبراطور قسطنطيوس جاللوس‬ ‫ً‬

‫أنه أثار ريبة اإلمبراطور فدبر اغتياله عام ‪ ،354‬وعين جوليان في السنة‬

‫قيصرا وزوجه من أخته هيلينا‪ .‬وأرسله على رأس جيش إلى غاليا‬ ‫التالية‬ ‫ً‬ ‫((( ديورانت‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.402‬‬ ‫‪96‬‬


‫للوقوف في وجه الجرمان ونجح جوليان في صد غارات الجرمان عبر نهر‬

‫الراين‪ ،‬وحاز حب وإعجاب جنوده‪ ،‬وعندما مات قسطنطيوس عام ‪361‬‬

‫إمبراطورا‪ ،‬وكان آخر من حكم اإلمبراطورية من ساللة‬ ‫نودي بجوليان‬ ‫ً‬

‫قسطنطينوس الكبير(((‪.‬‬

‫إمبراطورا أظهر الميول التي كان يخفيها‪ ،‬فقد‬ ‫بعد أن أصبح جوليان‬ ‫ً‬

‫كان معج ًبا بالفن والثقافة والمعرفة التي أوجدتها الحضارتان الوثنيتان‬ ‫قرارا‬ ‫اليونانية والرومانية وكان يشعر بعداء شديد للمسيحية‪ .‬لهذا أصدر ً‬

‫بفتح المعابد الوثنية وتقديم القرابين لآللهة الوثنية‪ ،‬ونظم هيئة كهنوت‬

‫وثنية على غرار هيئة الكهنوت المسيحية‪ .‬ووصل عداء جوليان للمسيحية‬

‫إلى درجة أنه عزل المسيحيين من الوظائف المدنية والعسكرية‪ .‬وعين‬

‫أشخاصا يدينون بالوثنية‪ ،‬ورفع الصلبان والرموز المسيحية‬ ‫عوضا عنهم‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫التي كانت تُرسم أو تُنقش على أعالم الجيش ودروع الجنود وأبدلها‬

‫أيضا تعيين مدرسين من المسيحيين وقصر‬ ‫بشارات وثنية‪ .‬ومنع جوليان ً‬ ‫وظائف التدريس على الوثنيين حتى ينشأ الجيل الجديد على مبادئ‬

‫الوثنية ال المسيحية‪.‬‬

‫والسؤال الذي يطرح اآلن ما األسباب التي دفعت جوليان إلى هذا‬

‫االتجاه الوثني؟‬

‫األعوام األولى من حياة جوليان كانت بالنسبة له سنوات قلق وخوف‪،‬‬

‫فقد ماتت أمه بعد والدته ببضعة شهور‪ ،‬ومات والده وعمره ست سنوات‪،‬‬

‫وكان موضع مراقبة واضطهاد من اإلمبراطور قسطنطيوس الذي دبر أمر‬ ‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.62-61‬‬ ‫‪97‬‬


‫اغتيال بعض أفراد أسرته‪ .‬أجبره قسطنطيوس على اإلقامة في قبادوقيا حيث‬

‫تأثر بأستاذه ماردونيوس وهو عالم يوناني برع في األدب والفلسفة‪ ،‬عن‬ ‫طريقه عرف جوليان بأمهات كتب اآلداب القديمة‪.‬‬

‫وبعد ذلك انتقل إلى نيقوميديا لمتابعة دراساته وقراءاته‪ ،‬وكان يقوم‬

‫بالتدريس في نيقوميديا في ذلك الوقت الفيلسوف ليبانيوس أعظم علماء‬ ‫البالغة في عصره‪ .‬وأظهر جوليان ً‬ ‫ميل نحو اآلراء والمعتقدات الوثنية‬ ‫متأثرا بآراء ليبانوس الذي كان يظهر فضائل الوثنية الهللينية ومساوئ‬ ‫ً‬

‫المسيحية‪ .‬وأكمل جوليان صلته باألفكار والتعاليم الوثنية حين أمره‬

‫قسطنطيوس باالنتقال إلى مدينة أثينا بعد مقتل أخيه جاللوس‪ .‬وكانت‬

‫أثينا حاضرة العالم اليوناني القديم ومعقل الفلسفة الوثنية‪.‬‬

‫وعبر جوليان في رسائله عن إعجابه الشديد بأثينا موطن سقراط‬

‫وحدائقها وضواحيها‪ ،‬وإلى هذه الفترة من حياة جوليان يعزو الباحثون‬

‫تخلي جوليان النهائي عن المسيحية واعتناقه الوثنية‪ .‬وتجدر اإلشارة إلى‬ ‫أن جوليان أخفى ميوله الوثنية خو ًفا من اإلمبراطور قسطنطيوس‪ .‬وما أن‬ ‫إمبراطورا حتى وجد الفرصة المناسبة للقيام بحركة ارتداد عن‬ ‫أصبح‬ ‫ً‬

‫المسيحية إلى الوثنية(((‪.‬‬

‫ما أنقذ الدولة البيزنطية من حركة الردة إلى الوثنية أن جوليان لم يحكم‬

‫سوى مدة قصيرة «‪ ،»363-361‬وواجه معارضة وصعوبة في تحقيق هدفه‪.‬‬ ‫ففي صيف ‪362‬م زار اإلمبراطور جوليان المرتد األقاليم الشرقية وتوقف‬ ‫عند مدينة أنطاكية التي كانت ً‬ ‫معقل ها ًما من معاقل المسيحية في الشرق‬

‫((( جيبون‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.45-18‬‬ ‫‪98‬‬


‫ووصف جوليان أهلها بأنهم اختاروا الكفر أي المسيحية في رأيه‪ ،‬وكان‬ ‫ً‬ ‫فاترا‪.‬‬ ‫استقبال أهلها له‬ ‫استقبال ً‬ ‫وقد أشعرته إقامته في هذه المدينة أن المهمة التي ندب نفسه لها‬

‫مهمة شاقة وأن المسيحية راسخة الجذور وليس من السهل اقتالعها‪.‬‬ ‫وزاد في شعوره هذا أن األنطاكيين رفضوا المشاركة في احتفال وثني دعا‬

‫إليه‪ ،‬وأشعلوا النار في المعبد الوثني الكبير في ضاحية المدينة(((‪ .‬كان‬ ‫هذا الحدث فاتحة لحوادث عدة تالحقت فيها إهانات النصارى لآللهة‬

‫والشعائر والرموز الوثنية‪.‬‬

‫وفي عام ‪ 363‬غادر جوليان أنطاكية ليشتبك مع الفرس في معركة أصيب‬

‫أثناءها بطعنة بسهم طائش أودت بحياته‪ ،‬ورغم أن هناك أكثر من قول حول‬

‫مصدر الطعنة التي أصابت اإلمبراطور‪ ،‬وقد نُسبت الطعنة إلى يد مسيحية‬

‫مؤمنة‪ .‬فمن الصعب تحديد مصدرها والطريقة التي أصيب بها اإلمبراطور‪،‬‬ ‫وقد نُقل اإلمبراطور الجريح إلى خيمته حيث قضى دون أن يعين وري ًثا للعرش‪.‬‬

‫واضحا‬ ‫وبموته ماتت معه كل محاوالته في سبيل بعث الوثنية من جديد‪ ،‬وبدأ‬ ‫ً‬ ‫أن النصرانية قد حققت نصرها األكيد على الوثنية‪ ،‬وقد اجتمع قواد الجيش بعد‬

‫موته وانتخبوا قائد الحرس اإلمبراطوري‪ ،‬جوفيان لمنصب اإلمبراطورية‪ .‬وهكذا‬ ‫انتهت صفحة حافلة من صفحات حياة اإلمبراطورية الناشئة طبعها الصراع الديني‬

‫بطابعه وخرجت المسيحية فيها من محنة الردة الوثنية منتصرة نصرها المؤزر(((‪.‬‬

‫((( اليوسف‪ ،‬عبد القادر أحمد‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬بيروت‪ ،‬المكتبة العصرية‪،‬‬ ‫‪ ،1966‬ص ص‪.29-28‬‬ ‫((( ربيع‪ ،‬حسين محمد‪ ،‬دراسات في تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1995 ،5‬‬ ‫ص ص‪.51-50‬‬ ‫‪99‬‬


‫الإمبراطور ثيود�سيو�س الأول ومر�سوم ‪380‬م‪:‬‬

‫كان ثيودسيوس من أصل أسباني‪ ،‬وقد حكم بيزنطة كإمبراطور‬

‫‪395-379‬م‪ ،‬وكان ُيلقب بالكبير‪ ،‬وقد أخذ اسم عائلته يلمع منذ منتصف‬ ‫أيضا‪ ،‬كان‬ ‫القرن الرابع بسبب جهود والده الذي كان اسمه ثيودسيوس ً‬ ‫يعمل كقائد عسكري(((‪.‬‬

‫ً‬ ‫ضئيل قبل تعيينه كأغسطس‬ ‫وكان اهتمام ثيودسيوس بالقضايا الدينية‬

‫على الشرق؛ ولكنه ما لبث بعد أن تسلم هذا المنصب أن أصبح من المهتمين‬

‫كبيرا‪ .‬وبعد أن تسلم‬ ‫بهذه القضايا المتحمسين للمسيحية األرثوذكسية‬ ‫حماسا ً‬ ‫ً‬ ‫العرش كان عليه أن يعير اهتمامه ألمرين على جانب كبير من الخطورة‪:‬‬

‫أولهما‪ :‬إقامة وحدة داخل اإلمبراطورية التي كانت تتمزقها الخالفات الدينية‪.‬‬ ‫ثانيها‪ :‬حماية اإلمبراطورية من تقدم البرابرة الجرمان «القوط» المستمر‬

‫الذين كانوا زمن ثيودسيوس يهددون وجود اإلمبراطورية‬ ‫بكاملها‪.‬‬

‫دورا ها ًما خالل حكم اإلمبراطور فالنز ولكن بعد‬ ‫لقد لعب األريوسية ً‬

‫وخصوصا خالل الفترة القصيرة التي شغر فيها العرش قبل انتخاب‬ ‫موته‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫أشكال لعب‬ ‫كبيرا‪ ،‬وأخذت‬ ‫خطرا ً‬ ‫ثيودسيوس أصبحت الخالفات الدينية ً‬ ‫مسرحا ألبشع أنواع‬ ‫بارزا‪ .‬وكانت القسطنطينية بالذات‬ ‫دورا ً‬ ‫ً‬ ‫فيها العنف ً‬ ‫االضطرابات الدينية التي لم تقتصر على رجال الدين بل تعدتهم إلى‬

‫األشخاص العاديين من مختلف الطبقات‪.‬‬ ‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.33‬‬ ‫‪100‬‬


‫وكان النقاش يدور بشكل عنيف بين الناس في الكنائس والقصور‬

‫اإلمبراطورية وفي أكواخ الفقراء وأديرة الرهبان وفي الساحات واألسواق‬

‫حول طبيعة «ابن اإلله»‪ .‬بعد أن تولى ثيودسيوس العرش‪ ،‬وما كاد أن يصل‬ ‫إمبراطورا حتى طلب البطريرك األريوسي أن‬ ‫إلى القسطنطينية ويصبح‬ ‫ً‬

‫يعدل عن مذهبه وأن ينضم آلراء مجمع نيقيه(((‪.‬‬

‫إال أن البطريرك رفض طلب اإلمبراطور وفضل أن يترك منصبه وأن‬

‫يهجر العاصمة وأن يعيش خارجها‪ ،‬وهكذا انقلبت الكنائس من أريوسية‬

‫إلى أرثوذكسية على مذهب مجمع نيقيه‪.‬‬

‫أيضا أن يحدد موقفه من الهراطقة والوثنيين‪،‬‬ ‫وكان على اإلمبراطور ً‬

‫فأصدر أوامره باعتبار المسيحي الحق هو الذي يتبع مذهب مجمع نيقيه‬

‫وما عداه فهرطقي‪ .‬أما الوثنيون فقد اعتُبروا زمرة خاصة لوحدها‪ ،‬وأخذ‬

‫يضيق الخناق على الهراطقة والوثنيين ويفرض عليهم العقوبات ويزداد‬

‫قسوة في معاقبتهم‪ .‬أصدر مرسو ًما سنة ‪380‬م أعلن بموجبه أن المسيحي‬ ‫الصحيح هو الذي يؤمن الثالوث‪ :‬اآلب واالبن والروح القدس‪ ،‬كما بشرت‬

‫به كتابات الرسل واألناجيل‪ ،‬أما عداهم فهم هراطقة مجانين محرم عليهم‬ ‫االجتماع وممارسة الشعائر ويخضعون لعقوبات شديدة(((‪.‬‬

‫كان هدف ثيودسيوس من هذا المرسوم إقامة وحدة دينية في إمبراطوريته‬

‫تؤمن لها االستقرار والهدوء‪ ،‬وتؤمن للمسيحية السالم والطمأنينة‪ .‬من أجل‬

‫ذلك دعا إلى عقد مجمع ديني سنة ‪381‬م في القسطنطينية حضره ممثلون‬

‫((( حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.143‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.123‬‬ ‫‪101‬‬


‫عن الكنيسة الشرقية فقط‪ ،‬ويعرف هذا المجمع باسم المجمع المسكوني‬ ‫الثاني‪ .‬وقد بحث هذا المجمع قضية الهرطقة التي أوجدها ماكدونيوس وهو‬ ‫نصف أريوس «كان يعتقد أن الروح القدس مخلوقة وليست أزلية»‪ .‬وقد‬ ‫رفض المجمع هذه الهرطقة‪ ،‬كما رفض غيرها من الهرطقات األريوسية‪.‬‬ ‫كما حدد مرتبة بطريرك القسطنطينية ومركزه الديني واعتبره الثاني في المرتبة‬ ‫بعد أسقف روما «ألن القسطنطينية هي روما الجديدة»‪ .‬وقد وسع ثيودسيوس‬ ‫من صالحيات وامتيازات رجال الدين الذين يتبعون مذهب مجمع نيقيه(((‪.‬‬ ‫فزاد االمتيازات التي منحها لهم أسالفه‪ ،‬هذه االمتيازات التي تتناول الواجبات‬ ‫الشخصية والمسؤوليات القضائية وما شابه بهذا أظهر ثيودسيوس نفسه‬ ‫كمسؤول أعلى على شؤون الكنيسة‪.‬‬ ‫أيضا عند ثيودسيوس؛ اتخذ ضدهم خطوات‬ ‫الوثنيون كان لهم نصيب ً‬ ‫صارمة‪ ،‬فقد منعهم من تقديم القرابين آللهتهم وزيارة معابدهم وأغلق‬ ‫الكثير من هذه المعابد واتخذ بعضها كدوائر حكومية‪ .‬وأصدر مرسو ًما‬ ‫سنة ‪392‬م‪ ،‬قرر بموجبه منع الوثنيين من إحراق البخور في معابدهم‬ ‫وتقديم األضاحي وتعليق األكاليل وأعمال الكتابة وما شابه‪ ،‬واعتبر من‬ ‫يقوم بهذه األعمال مجرم بحق اإلمبراطورية والدين وتجب عليه العقوبة‪.‬‬ ‫وبهذا كان ثيودسيوس يختلف عمن سبقه من األباطرة الذين كانوا يقبلون‬ ‫بنوع من التسامح مع خصومهم الدينيين؛ أما هو فقد أراد أن تكون ضربته‬ ‫حاسمة وأن يضع حدً ا لهذا الداء الذي كان ينخر في جسد اإلمبراطورية‪،‬‬ ‫خطرا كان يهدد وحدة شعبه في الشرق والغرب‪.‬‬ ‫وأن يزيل من الوجود ً‬ ‫كان من نتائج سياسته الدينية أنه استطاع أن يلغي وجود الوثنية كدين‬

‫((( عاقل‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.43-41‬‬ ‫‪102‬‬


‫شرعي معترف به رغم أنه لم يستطع أن يلغي وجود أشخاص وثنيين مازالوا‬ ‫يتعلقون بدينهم القديم‪ ،‬وبرغم هذه السياسة إال أنه لم يؤثر على مدرسة‬ ‫أثينا الوثنية الشهيرة التي استمرت في نشر المعرفة الكالسيكية الوثنية بين‬ ‫طالبها والمؤمنين بأفكارها‪.‬‬ ‫استفاد ثيودسيوس من الحروب األهلية التي كانت تدور في النصف‬ ‫الغربي من اإلمبراطورية فتمكن قبل وفاته بقليل من أن يجمع تحت‬ ‫حكمه نصفي اإلمبراطورية الغربي والشرقي‪ ،‬ورغم ما بذله من جهود‬ ‫في سبيل جمع نصفي اإلمبراطورية تحت حكمه‪ ،‬فإنه كرر خطيئة‬ ‫أسالفه فقسم قبل موته سنة ‪395‬م إمبراطوريته بين ابنيه فوضع ابنه الكبير‬ ‫حاكما على النصف الشرقي ووضع‬ ‫(‪ )Arcadius‬أركاديوس ‪408-395‬‬ ‫ً‬ ‫ابنه الصغير أونوريوس (‪ )Honorius‬حاكما على الغرب‪ .‬وهكذا فإنه‬ ‫بوفاة ثيودسيوس األول عام ‪395‬م انفصل الشرق عن الغرب‪ ،‬وصار‬ ‫كل في مسار تاريخي مختلف عن اآلخر(((‪.‬‬ ‫في عهد ثيودسيوس‪ ،‬حدث تطور حاسم في تاريخ الديانة المسيحية عندما‬ ‫اتخذها الديانة الرسمية لإلمبراطورية‪ ،‬وإن الديانة المسيحية مرت بثالث‬ ‫مراحل على مدى أربعة قرون‪ :‬المرحلة األولى االضطهاد‪ ،‬والثانية التسامح‬ ‫واالعتراف بها كديانة موجودة في اإلمبراطورية‪ .‬والثالثة تحولها إلى ديانة‬ ‫رسمية لإلمبراطورية‪ ،‬وقد صدر ذلك في عهد ثيودسيوس مرسوم إمبراطوري‬ ‫يمنع ويحظر على معتنقي العقائد الوثنية أن يظهروا شعائرهم الدينية وفرض‬ ‫عقوبات رادعة من أجل العمل على مقاومة الوثنية ومناصرة المسيحية‪.‬‬ ‫((( اليوسف‪ ،‬عبد القادر أحمد‪ ،‬العصور الوسطى األوروبية (‪1500-476‬م)‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫المكتبة العصرية‪ ،1967 ،‬ص‪.45‬‬ ‫‪103‬‬


‫ً‬ ‫مكمل‬ ‫وهكذا يتضح أن عهد اإلمبراطور ثيودسيوس األول يعد‬

‫ومتشابها مع عهد قسطنطينوس الكبير من الناحية الدينية من خالل دعم‬ ‫ً‬ ‫المسيحية وعقد المجامع في الكنيسة لمناقشة الخالفات الدينية بين الفرق‬

‫المسيحية(((‪.‬‬

‫أما عهد اإلمبراطور ثيودسيوس الثاني ‪450-408‬م‪ ،‬فإن أهم ما حدث‬

‫فيه يتمثل في اإلسهام القانوني البارز حيث أصدر عام ‪438‬م مرسو ًما يأمر‬

‫بجمع القوانين وهي التي عرفت باسم (‪ )Codex Theodosianus‬مجموعة‬ ‫مهما في تاريخ التشريع الروماني في مرحلة‬ ‫قانونية يراها الباحثون حد ًثا ً‬ ‫ما قبل جستينانوس‪ ،‬قد دلت على ما حققته المسيحية من تأثير في مجال‬ ‫التشريع وكذلك في الحياة االجتماعية‪.‬‬

‫احتوت تلك المجموعة على التشريعات القانونية التي صدرت منذ‬

‫مصدرا‬ ‫عهد اإلمبراطور قسطنطينوس حتى ثيودسيوس‪ .‬ويالحظ أنه كانت‬ ‫ً‬

‫مهما اعتمد عليها جستينانوس في تاريخه القانوني‪.‬‬ ‫ً‬

‫ويالحظ أن جميع هذه القوانين قد اصطبغت بالصبغة المسيحية‪،‬‬

‫وأن األباطرة البيزنطيين الذين اهتموا بالجانب القانوني كانوا أكثر بقا ًء‬ ‫في التاريخ على المستوى الحضاري من أولئك الذين اهتموا بالحرب‬ ‫والسياسة‪ .‬وهناك أباطرة قالئل اهتموا بالجانبين أي القانون والحرب‬

‫أيضا(((‪.‬‬ ‫والسياسة ً‬

‫كذلك تم في عهد ثيودسيوس الثاني حدث مهم على الصعيد الحربي‬ ‫((( بارو‪ ،‬الرومان‪( ،‬ت‪ .‬عبد الرازق يسري)‪ ،‬القاهرة‪ ،1968 ،‬ص ص‪.193-192‬‬ ‫((( ربيع‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.50‬‬ ‫‪104‬‬


‫االستراتيجي في صورة إقامة أسوار جديدة للقسطنطينية امتدت من بحر‬

‫مرمرة حتى القرة الذهبي نحو ميلين غربي السور القديم الذي شيد من قبل‪.‬‬ ‫وقد حدث ذلك عام ‪413‬م بعد خمس سنوات فقط من تولي ذلك‬

‫اإلمبراطور العرش مما عكس إدراكه ألهمية تشييد ذلك السور‪ .‬خالل‬ ‫تلك المرحلة المبكرة من عهده صارت القسطنطينية في مأمن من الغزوات‬

‫الخارجية(((‪.‬‬

‫وساهم ثيودسيوس الثاني خالل تلك األعمال العمرانية الحربية‬

‫الدفاعية بصورة كبيرة في تدعيم القلب البيزنظي «القسطنطينية» واستبساله‬

‫أيضا تطور مهم في صدور مرسوم بقرار‬ ‫في الدفاع عنها‪ .‬وتم في عهده ً‬

‫تنظيم جامعة القسطنطينية عام ‪425‬م‪ ،‬التي كان لها دورها في الحياة العلمية‬

‫البيزنطية وهو قرار محوري أثر في تاريخ بيزنظة الحضاري لعدة قرون تالية‪.‬‬ ‫أما عهد اإلمبراطور زينو (‪491-474‬م) حدث تطور على جانب كبير‬

‫من األهمية في مسار الغرب األوروبي في العصور الوسطى‪ ،‬وهو سقوط‬ ‫روما على أيدي الجرمان وذلك عام ‪476‬هـ‪ ،‬وقد تزعم الجرمان القائد‬ ‫أدواكرا الزعيم الجرماني لقبائل الهرول‪ ،‬والروحيين؛ ولم يكن اإلمبراطور‬

‫الروماني األخير رومولوس أوجستيلوس أورومولوس أوغسطسولوس‬

‫(‪ )476-475‬يصلح لمواجهة األحداث الخطيرة(((‪ ،‬حيث كان صغير‬ ‫السن وكان يطمع إلى خلع اإلمبراطور الغربي وعول على الوصول إلى‬

‫حكم إيطاليا ببذل والئه لإلمبراطورية الشرقية واالرتباط بالتبعية لها‪،‬‬

‫((( يوسف‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.72‬‬ ‫((( عوض‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.154-153‬‬ ‫‪105‬‬


‫وفي سبيل ذلك حظي من مجلس السناتو على موافقة شكلية باالتصال‬

‫بإمبراطور الشرق زينون (‪ )Zenon‬لطلب تفويض بحكم إيطاليا في ظل‬ ‫التبعية للقسطنطينية وخلع اإلمبراطور الغربي(((‪.‬‬

‫رحب اإلمبراطور زينون بعودة إيطاليا وما بقي لها من نفوذ اسمي في‬

‫الغرب لحظيرة اإلمبراطورية الشرقية تشجع أدواكر وخلع آخر األباطرة في‬

‫الغرب عام ‪476‬م واكتفى بنفيه إلى جنوب إيطاليا واالنفراد بتسيير دفة الحكم‬ ‫في إيطاليا‪ .‬فوضع بذلك نهاية أليمة ألمجاد روما ومجدها السالف‪ ،‬وذلك كان‬ ‫له آثاره بعيدة المدى ً‬ ‫فعل بالنسبة للجرمان‪ ،‬فقد ساعد خلو الغرب األوروبي‬

‫من إمبراطور روماني وتشكيل ما يشبه مملكة جرمانية في إيطاليا على أنقاض‬ ‫اإلمبراطورية الرومانية الغربية يتزعمها أدواكر ساعد كل ذلك في تطوير بقية‬

‫الممالك الجرمانية‪ ،‬وأعطى زعماء طوائف الجرمان فرصة ذهبية لتأكيد‬ ‫استقاللهم‪ ،‬والتحرر من أية ضوابط قد تحد من غلوائهم(((‪.‬‬

‫وفي عهد اإلمبراطور «أناستاس» ‪518-491‬م حدث انقالب عسكري‬

‫من جانب أحد القادة وهو جستين وتمكن من الوصول إلى العرش‬

‫اإلمبراطوري‪ ،‬وهو ما سوف تأتي دراسته فيما بعد‪ .‬فعمل على تجديد‬

‫أسوار القسطنطينية عام ‪497‬م من أجل تأمينها في أعقاب هجوم الجرمان‬

‫على البلقان عام ‪493‬م‪.‬‬

‫وهنا ترى الباحثة عند المقارنة بين أسرة قسطنطينوس وثيودسيوس أنهما‬

‫تمثالن مرحلة تاريخية واحدة مترابطة‪ ،‬وال ريب في أن أسرة ثيودسيوس تعد‬ ‫((( ديفز‪ ،‬شارلمان‪( ،‬ت‪ .‬السيد الباز العريني)‪ ،‬القاهرة‪ ،1959 ،‬ص ص‪.179-178‬‬ ‫((( الشيخ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.104-103‬‬ ‫‪106‬‬


‫امتدا ًدا طبيع ًيا ألسرة قسطنطينوس‪ .‬فإذا كان قسطنطينوس قد شيد القسطنطينية‬ ‫وأوقف االضطهاد الذي لحق بالمسيحية فإن ثيودسيوس األول جعلها الديانة‬ ‫الرسمية في الدولة وقام ثيودسيوس الثاني بتدعيم حصانتها‪.‬‬ ‫كذلك ال ُيغفل اهتمام المؤرخين القدامى ومن بعدهم المؤرخين المحدثين‬ ‫بقسطنطينوس من خالل أعماله‪ ،‬فقسطنطينوس الكبير جعل من نفسه هالة من‬ ‫التقديس أو ثيودسيوس لم يتوفر له ذلك‪ .‬ومن ناحية أخرى أسرة ثيودسيوس‬ ‫تميزت باهتمام إمبراطورها ثيودسيوس الثاني بالجانب القانوني‪.‬‬ ‫بعد وفاة اإلمبراطور «أناستاس» انتخب جوستين األكبر ‪527-518‬‬

‫حيث كان أحد قواد الحرس اإلمبراطور‪.‬‬

‫كان جستين األكبر مقدوني األصل جند ًيا في بداية حياته ثم تدرج‬ ‫في الجيش إلى أن وصل إلى رتبة كوميس (‪ )Comes‬أي قائد فصيلة‪،‬‬ ‫وقد اتصف بالشجاعة والحكمة‪ ،‬إال أنه على حظ قليل من العلم والخبرة‬ ‫والسياسية وكان ً‬ ‫رجل مسنًا عندما تسلم الحكم‪ ،‬فقد كان في سن خمس‬ ‫وخمسين؛ لذلك ترك أمور اإلمبراطورية إلى ابن أخته جستينانوس الذي‬ ‫كان يشرف على تربيته وتعليمه منذ صغره(((‪.‬‬ ‫استمر جستين في المنصب كإمبراطور لمدة تسعة أعوام حيث خلفه في‬ ‫المنصب ابنه المتبنى جستنيانوس عام ‪527‬م‪ ،‬الذي كان له الضلع األكبر‬ ‫في إدارة دفة الحكم في اإلمبراطورية حتى خالل أعوام حكم جستين والد‬ ‫فالفيوس أنيسيانوس جوستنيانوس (‪)Flavius Anisianus Justinianus‬‬ ‫في عائلة فالحية ولوالدين قوطيين في تاوريسيوس (‪ )Tauresius‬أو‬ ‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.43‬‬ ‫‪107‬‬


‫سكوبجي (‪ )Skopje‬وهي مدينة في شرق يوغوسالفيا في أيليريكوم‬ ‫(‪ )Illyricum‬الواقعة على الساحل الشرقي للبحر األدرياتيكي‪.‬‬ ‫كانت والدته عام ‪482‬م وتبناه كابن له عمه جستين‪ ،‬األمر الذي فتح‬ ‫له الطريق ليجعل من نفسه محبو ًبا من قبل مجلس الشيوخ والشعب إلى‬ ‫ً‬ ‫قنصل و ُمنح مرتبة نبيل(((‪.‬‬ ‫حد أنه انتخب‬ ‫ثيودوا‪:‬‬

‫كان جستينانوس حينما اقترن بثيودرا في التاسعة والثالثين أو في‬ ‫األربعين من عمره‪ ،‬في حين كانت ثيودورا في العشرين كانت قد ُولدت في‬ ‫بيزنطة أو كما يقول البعض في قبرص موطن أفروديت (‪.((()Aphrodite‬‬ ‫عما للدببة في المدرجات اإلغريقية‪ ،‬وصعدت ثيودورا‬ ‫كان والدها يعمل ُم ْط ً‬ ‫خشبة المسرح في سن مبكرة جدً ا لتعمل كممثلة في مشاهد كوميدية‪ .‬عندما‬ ‫اعتلى جستينانوس العرش كان قد مضى على زواجهما أربع سنوات‪ ،‬وقد‬ ‫حدث ذلك بعد أن أقنع جستينانوس عمه جوستين بفكرة إلغاء القانون الذي‬ ‫سارت عليه اإلمبراطورية والذي يمنع أعضاء مجلس الشيوخ من الزواج من‬ ‫إمبراطورا‪ ،‬وكانت ثيودورا تشاركه في صنع‬ ‫المومسات‪ .‬أصبح جستينانوس‬ ‫ً‬ ‫القرار‪ ،‬وكانت مخلصة ووفية له‪ ،‬كما كانت مستشارة جستينانوس في كل‬ ‫مجال ونشاط حكومي وكانت مصممة عاقدة العزم ال تلين(((‪.‬‬

‫((( غانم‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.185‬‬ ‫((( إلهة الحب والجمال عند اإلغريق‪.‬‬

‫‪(3) Lye Suzanne. The Empress Theodora The Front of The Throne, abstracts‬‬ ‫‪for the 2009 annual meeting American Philological association, p. 1-2.‬‬

‫‪108‬‬


‫لبث جستينانوس في الحكم ‪ 38‬سنة إلى أن توفي سنة ‪565‬م كانت‬ ‫مصر وبالد األناضول إلى آخر أرمينية ثم بالد سوريا ولبنان وفلسطين‬ ‫كلها مازالت داخلة تحت حكم الرومان‪ ،‬وقد قاتل كل من أغاروا على‬ ‫كثيرا مما سلب منها‪ .‬خير ما وجه له عنايته‬ ‫الحدود الغربية واسترد ً‬ ‫علم الفقه الروماني وقواعده‪ ،‬ففي سنة ‪533‬م نشر مدونته كما نشر‬ ‫أحكام الفقه الروماني وقواعده مستمدة من كتب السلف من الفقهاء‬ ‫في مجموعة سماها البندكت أو الديجست((( المختار أو المهذب‬ ‫أو المستصفى أو المنضد‪ .‬ومن قبل سنة ‪ 533‬كان قد نشر مجموعة‬ ‫نشرا متقط ًعا ثم أعاد نشرها في سنة ‪ 534‬تحت اسم المجموعة‬ ‫قوانينه ً‬ ‫(((‬ ‫القانونية الجديدة ‪.‬‬ ‫ولقد شكل جستينانوس اللجنة التي جمعت المجموعة القانونية‬ ‫األولى من عشرة أشخاص وفيهم تريبونيان أحد كبار موظفي‬ ‫اإلمبراطور وكذلك تيوفل وهو أستاذ في معهد حقوق القسطنطينية‬ ‫وكذلك ليونتيوس وهو أحد أساتذة معهد الحقوق في بيروت‪.‬‬ ‫مجموعة جستينانوس اشتملت على اثني عشر كتا ًبا وكل كتاب كان‬ ‫مقسو ًما إلى فصول‪ ،‬وكانت األحكام اإلمبراطورية تذكر في كل‬ ‫فصل تب ًعا للترتيب التاريخي‪ .‬بعد ذلك أصدر جوستنيان سلسلة‬ ‫من القرارات الغاية منها أن يسهل لرجال القانون مراجعة المؤلفات‬ ‫الخاصة بفقهاء الدور العلمي وقد بلغت القرارات خمسين وعرفت‬ ‫((( بروكوبيوس‪ ،‬التاريخ السري‪( ،‬ت الي اإلنجليزي بي ا وليامسون‪ ،‬ت‪ .‬إلى العربية‬ ‫على زينون)‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار عالء الدين‪ ،‬ط‪ ،2009 ،2‬ص ص‪.16-14‬‬ ‫((( فهمي‪ ،‬عبد العزيز‪ ،‬مدونة جوستنيان في الفقه الروماني‪ ،‬بيروت‪ ،‬عالم الكتب‪،‬‬ ‫ص ص‪ .‬ل‪ ،‬م‪.‬‬ ‫‪109‬‬


‫منذ ذلك الحين بالقرارات الخمسين ونشرت جملة واحدة في نهاية‬

‫العام ‪530‬م(((‪.‬‬

‫أما بالنسبة لمجموعة الفقه «الديجست» فقد اختار لوضعها لجنة برئاسة‬

‫تريبونيان مع أستاذين في مدرسة حقوق بيروت‪ ،‬وهما دوروني وأناتول‪ ،‬وقد‬

‫فقيها وتجريد خالصتها‪ ،‬وإعادة النظر‬ ‫قامت هذه اللجنة بمطالعة مؤلفات ‪ً 40‬‬

‫فيها‪ ،‬وأخذ النصوص األكثر فائدة وأهمية وحذف المتناقضات‪ .‬وكانت معظم‬

‫تلك المؤلفات المراجع لفقهاء الدور العلمي‪ ،‬وقد اشتملت المجموعة على‬ ‫خمسين كتا ًبا وقسم كل كتاب إلى فصول‪ ،‬وكل فصل إلى أجزاء(((‪.‬‬

‫كذلك أصدر جستينانوس مجموعة القوانين المحدثة‪ ،‬وقد قام بجمعها‬

‫مجموعة من الفقهاء‪ ،‬وأهمها معروف باسم مختصر جوليان منسوبة إلى‬ ‫أيضا أحد أساتذة مدرسة بيروت للحقوق‪.‬‬ ‫جامعها الذي كان ً‬

‫والواقع أن تشريع جستينانوس هو الذي حفظ الحقوق الرومانية‬

‫الجديدة من الضياع‪ ،‬فكانت والتزال المصدر الصحيح لهذه الحقوق؛‬

‫ولذلك فقد أصدر جستينانوس مرسو ًما حرم بموجبه كل شرح أو تعليق أو‬ ‫معتبرا إياها قانون اإلمبراطورية الذي ال يجوز‬ ‫نقد ومناقشة لهذه المجموعة ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫تعديل إال أنه سمح بترجمتها حرف ًيا إلى اللغة اليونانية ألن‬ ‫تبديل أو‬ ‫فيه‬

‫مجموعة القوانين ومجموعة الفقه كتبت فقط بالالتينية خال ًفا للقوانين‬

‫رأسا باللغتين الالتينية واإلغريقية‪.‬‬ ‫المحدثة‪ ،‬فقد كتبت ً‬

‫((( علي‪ ،‬عبد اللطيف أحمد‪ ،‬مصادر التاريخ الروماني‪ ،‬بيروت‪ ،1970 ،‬ص ص‪.102-100‬‬ ‫‪(2) Roman legal tradition and the compilation of Justinian, 2007. The‬‬ ‫‪Robbins Collection Educational use only.‬‬

‫‪110‬‬


‫منع جستينانوس بصراحة األساتذة من حق االجتهاد في هذه‬ ‫القوانين‪ ،‬ومن حق النقد والمناقشة ألحكامها‪ ،‬ولو في شكل مالحظات‬ ‫وذلك مخافة من أن يبعث الخالف والتضارب في أحكام القانون‬ ‫الروماني‪ .‬أصدر حستنيانوس مرسومان جديدان وهما يحمالن رقما‬ ‫‪ 118‬و‪ ،127‬اللذان أصدرهما جستينانوس عامي ‪ 544‬و‪ 548‬في مادة‬ ‫المواريث(((‪.‬‬ ‫المر�سوم الجديد رقم ‪:118‬‬

‫«من اإلمبراطور جستينانوس الجليل إلى صاحب المجد بطرس‬ ‫رئيس مجالس أحكام الشرق‪ .‬الحظنا أن في القانون القديم شرائع كثيرة‬ ‫ظالما بين األقارب أوالد الظهور أي العصبات وبين‬ ‫مختلفة فرقت تفري ًقا ً‬ ‫األقارب أوالد البطون أي ذوي األرحام‪ ،‬فرأينا من الضروري تنظيم مادة‬ ‫تنظيما نهائ ًيا تكون‬ ‫المواريث غير اإليصائية (يعني المواريث الشرعية)‬ ‫ً‬ ‫تشقيقاته بسيطة سهلة االنفهام ولهذا الغرض فإنا‪ ،‬بمرسومنا الحاضر‬ ‫تقرر أنا قد نسخنا جميع الشرائع القديمة الصادرة في مادة المواريث‬ ‫ونأمر بأال يتبع فيها‪ ،‬من اآلن فصاعدً ا‪ ،‬إال ما هو منصوص عليه هنا من‬ ‫القواعد واألحكام‪.‬‬ ‫وبما أن كل ميراث شرعي‪ ،‬أي غير إيصائي‪ ،‬ال يخرج االستحقاق‬ ‫فيه عن جهات ثالث‪ ،‬هي جهة الفروع وجهة األصول وجهة الحواشي‬ ‫«التي تنقسم إلى عصبات وذوي أرحام»‪ ،‬فقد اعتمدنا هذا التقسيم‬ ‫((( رباح‪ ،‬غسان‪ ،‬الوجيز في القانون الروماني والشريعة اإلسالمية‪ ،‬دمشق‪ ،‬منشورات‬ ‫الحلبي الحقوقية‪ ،2007 ،‬ص ص‪.80-79‬‬ ‫‪111‬‬


‫أساسا لنظام المواريث الذي نحن اآلن‬ ‫ذا الجهات الثالث وجعلناه‬ ‫ً‬ ‫بسبيل وضعه على أن تكون جهة الفروع هي الجهة األولى في ترتيب‬ ‫االستحقاق‪ ،‬فيستأثر فروع الميت بميراثه ويحجبون عنه أهل الجهتين‬ ‫األخريين»‪.‬‬ ‫في الجهة األولى‪ ،‬وهي جهة الفروع‪« :‬من مات عن غير وصية‬ ‫ذكرا أو أنثى من أية درجة كان‪ ،‬ومن أوالد‬ ‫توريثية وترك واحدً ا من فروعه ً‬ ‫ً‬ ‫مستقل بشؤون نفسه أو خاض ًعا لوالية‬ ‫الظهور كان أو من أوالد البطون‬ ‫غيره‪ ،‬ففي كل هذه األحوال يستقل الفرع الواحد المذكور بالميراث‪،‬‬ ‫ويكون له فيه األولوية والتفضيل على جميع األقارب اآلخرين الذين‬ ‫من جهة األصول أو من جهة الحواشي‪ ،‬وتسري هذه القاعدة حتى لو‬ ‫أن المورث عند وفاته كان خاض ًعا لوالية غيره‪ ،‬أي أن أوالده من غير‬ ‫تمييز بين الذكور منهم واإلناث وال نظر إلى درجة قرابتهم له يكونون‬ ‫بمقتضى أمرنا هذا‪ ،‬مفضلين على أصله الذي كان هو تحت واليته‪...‬‬ ‫فروعا آخرين لولد له توفي‬ ‫وإذا ترك المورث عند وفاته أبناء أو بنات أو‬ ‫ً‬ ‫من قبله‪ ،‬فإن أبناء ولده المتوفى المذكور وبناته وفروعه يحلون محل‬ ‫أصلهم في االستحقاق‪.(((»...‬‬ ‫من خالل ما سلف نالحظ أن جستينانوس لم يقصد أي تفريق أو‬ ‫استحقاق التركة أو اإلرث بين الرجال والنساء وال بين أوالد الظهور‬ ‫وأوالد البطون بل إنه ألغى صراحة جميع الفروق التي كانت قائمة‬ ‫بين العصبات وبين ذوي األرحام وجعل لجميعهم االستحقاق في‬ ‫ً‬ ‫حاصل بواسطة امرأة‪ ،‬أو‬ ‫ميراث المتوفى‪ ،‬سواء كان اتصال نسبهم به‬ ‫((( فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.329-323‬‬ ‫‪112‬‬


‫بواسطة قريب محرر‪ ،‬أو بأية واسطة غير ذلك‪ ،‬وعليه فكل الفروق‬ ‫زالت وأمحت وأصبح لكل األقارب أن يتوارثوها فيما بينهم توار ًثا‬

‫شرع ًيا عند عدم وجود وصية توريثية غير ُمدلين في اإلرث إال بمجرد‬ ‫قرابتهم إطال ًقا‪.‬‬ ‫المر�سوم الجديد رقم ‪:127‬‬

‫الصادر من اإلمبراطور جستينانوس نفسه إلى باسوس رئيس مجلس‬

‫األحكام‪« .‬إنا ال نتردد في إصالح قوانيننا كما اقتضت ذلك مصلحة‬

‫رعايانا وإنا لنذكر أننا أصدرنا مرسو ًما «هو المرسوم الجديد رقم ‪،»127‬‬

‫أمرنا فيه بأنه في صورة ما إذا ترك المتوفى إخوة وأوال ًدا مرزوقين إلخوة‬

‫توفوا من قبله فإن أوالد اإلخوة هؤالء يقومون في االستحقاق مقام‬ ‫أبيهم ويأخذون النصيب الذي كان يأخذه لو كان ح ًيا؛ ولكن إذا ترك‬ ‫ً‬ ‫أصول له وإخوة أشقاء وأبناء أو بنات إلخوة أشقاء متوفين من‬ ‫المتوفى‬ ‫قبله فإن الميراث يقسم على األحياء من األصول واإلخوة مع حرمان‬

‫أوالد اإلخوة المتوفين‪.‬‬

‫بهذا أراد جستينانوس أن يقول إذا ترك أحد أصوله وإخوة لهم فيهم‬

‫أيضا أبناء أو بنات مولودين ألخ توفي‬ ‫أهلية االشتراك مع األصول وترك ً‬

‫من قبل‪ ،‬فإن هؤالء األبناء والنبات يشتركون مع األحياء من األصول ومن‬

‫األخوة ويأخذون النصيب الذي كان يأخذه أبوهم لو أنه كان ح ًيا‪ ،‬وهذا‬

‫القرار خاص بأوالد األخوة واألخوات األشقاء فقط‪ ،‬فإنا نريد أن هؤالء‬ ‫األوالد يحصلون على المرتبة بعينها‪ ،‬سواء تزاحموا مع إخوة للمتوفى‬

‫وأخوات له أصول‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫ويعمل بهذا القانون ابتدا ًء من شهر يناير من هذه الحقبة الحادية عشرة‪،‬‬ ‫صدر بالقسطنطينية في الخامس من سبتمبر في السنة الثانية والعشرين من‬ ‫حكم جوستنيانوس الموافقة للسنة السابعة من تولي بازيل منصب القنصلية‬ ‫‪ 548‬بعد الميالد(((‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.361 ،334‬‬ ‫‪114‬‬


‫المبحث الثاني‬

‫قرارات مجل�س ال�شيوخ‬ ‫قرارات مجل�س ال�شيوخ‪:‬‬

‫فهو األمر أو الرسم الذي يضعه مجلس الشيوخ إذ األمة الرومانية لما‬

‫تكاثر عددها يتعذر معها دعوتها لالجتماع لكي تسن القوانين‪ ،‬فقد ُرئي‬ ‫من األنسب أن يقوم مجلس الشيوخ بأداء هذه المهمة(((‪.‬‬

‫مجلس الشيوخ في العصر الملكي هو مجلس رؤساء العشائر أو‬

‫الشيوخ‪ ،‬وكان عدد أعضائه في ازدياد بزيادة العشائر التي تنضم إلى المدينة‪،‬‬

‫فكان في األصل يتكون من مائة عضو ثم زاد إلى ثالثمائة‪ ،‬أما من حيث‬ ‫االختصاص فهو مجلس الملك أي المجلس االستشاري الذي يستشيره‬

‫الملك في األمور الخطيرة ولكن دون أن يكون ملتز ًما باتباع رأيه‪ ،‬كما أنه‬

‫كان ينظر إلى المصادقة على قرارات مجلس الشعب التي ال تكون ملزمة‬ ‫إال بعد تصديق مجلس الشيوخ عليها(((‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.8‬‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬عمر ممدوح‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬ص‪.34‬‬ ‫‪115‬‬


‫مجلس الشيوخ في العصر الجمهوري (‪ 130-509‬ق‪.‬م)‪:‬‬ ‫تغير تشكيل مجلس الشيوخ في هذا العصر فأصبح يدخله بحكم القانون‬

‫قاصرا على اإلشراف؛ إذ دخله‬ ‫من سبق أن تولى منص ًبا عا ًما وبذلك لم يعد‬ ‫ً‬

‫العامة عندما اكتسبوا حق تولي المناصب العامة‪ ،‬وقد ظل هذا المجلس‬

‫مجلسا استشار ًيا((( ؛ غير أن سلطته ازدادت‬ ‫كما كان في العهد الملكي‬ ‫ً‬ ‫نظرا ألن التعيين في المناصب العامة كان يتم بطريقة االنتخاب‬ ‫في الواقع‪ً ،‬‬

‫ولمدة سنة واحدة يسأل بعدها الحاكم عن إدارته وقد جرى الحكام‬

‫والسيما القناصل على أخذ رأيه قبل اتخاذ بعض القرارات الخطيرة سواء ما‬

‫تعلق منها بالمسائل الحربية أو المالية أو اإلدارية أو السياسية أو التشريعية‪،‬‬

‫وقد ترتب على استشارته في المسائل التشريعية أن أصبح له الحق في‬

‫إجازة مشروعات القوانين قبل عرضها على مجالس الشعب وإعفاء بعض‬

‫األشخاص من الخضوع ألحكام القوانين إذا اقتضت الضرورة ذلك‪ ،‬على‬

‫أن السلطة التشريعية ظلت مع ذلك لمجالس الشعب‪ ،‬ولم يعترف لمجلس‬ ‫الشيوخ في هذا العصر بسلطة تشريعية بمعنى الكلمة(((‪.‬‬ ‫مجلس الشيوخ في العصر العلمي (‪ 284-130‬م)‪:‬‬ ‫يتولى وظائف الحكام‪ ،‬وقد حدد اإلمبراطور أغسطس عدد أعضائه‬

‫عضوا‪ ،‬وأخرج من عضويته العتقاء‪ ،‬وقد أصبح لهذا المجلس حق‬ ‫بستمائة‬ ‫ً‬

‫اختيار أعضائه وذلك بصفة غير مباشرة بعد انتقال حق اختيار الحكام إليه‬

‫في عهد اإلمبراطور (‪ )Tibere‬خليفة أغسطس‪.‬‬ ‫((( رباح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.43‬‬ ‫‪116‬‬


‫غير أن اإلمبراطور كان يتدخل في الواقع في اختيار الشيوخ‪ ،‬سواء‬ ‫أكان ذلك بترشيح بعض األشخاص لتولي المناصب العامة أم بمنح‬ ‫بعض األشخاص صور ًيا صفة الحاكم السابق ليضمن لهم بطريق غير‬ ‫مباشر مقعدً ا في مجلس الشيوخ‪.‬‬ ‫وقد آلت إلى مجلس الشيوخ في العصر اإلمبراطوري اختصاصات‬ ‫مجالس الشعب‪ ،‬فقد أصبح له حق اختيار الحكام‪ ،‬كما أصبحت قراراته‬ ‫المسماة بمشورة الشيوخ تشري ًعا بالمعنى الصحيح‪ ،‬وحلت محل قرارات‬ ‫المجالس الشعبية‪.‬‬ ‫ولمجلس الشيوخ عالوة على ما تقدم اختصاص إداري‪ ،‬فهو يدير‬ ‫إيطاليا بمعاونة الحكام ويقتسم إدارة الواليات مع اإلمبراطور‪ ،‬حيث‬ ‫تخضع الواليات القديمة لحكم مجلس الشيوخ والواليات التي فتحت‬ ‫حدي ًثا لحكم اإلمبراطور(((‪.‬‬ ‫فهو يقتسم مع اإلمبراطور إدارة المالية العامة‪ ،‬فهو يدير الخزانة العامة وهي‬ ‫خاصا لإلمبراطور؛‬ ‫خزانة مستقلة عن خزانة اإلمبراطورية الخاصة التي هي ملكًا ً‬ ‫على أن مجلس الشيوخ فقد مع ذلك حق إدارة السياسة الخارجية‪ ،‬فلم يعد له‬ ‫أي إشراف على إعالن الحرب أو عقد معاهدات الصلح‪.‬‬ ‫قرارات مجل�س ال�شيوخ في الع�صر العلمي‪:‬‬

‫وجدت في صدر العصر العلمي تشريعات إدارية كان يصدرها الحكام أو‬ ‫مجلس الشيوخ بناء على تفويض من المجالس الشعبية لتنظيم المدن والواليات‪،‬‬ ‫((( رباح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.48‬‬ ‫‪117‬‬


‫وهي تقابل ما يسمى في العصر الحديث باللوائح التنظيمية‪ .‬أصبحت قرارات‬ ‫مصدرا للقانون في العصر العلمي‪.‬‬ ‫مجلس الشيوخ أو منشوراته‬ ‫ً‬

‫ً‬ ‫طويل؛ ألن انتقال السلطة التشريعية من مجالس‬ ‫إال أن ذلك لم يستمر‬ ‫الشعب إلى مجلس الشيوخ‪ ،‬لم يكن إال تمهيدً ا النتقالها إلى اإلمبراطور‬ ‫نفسه الذي تولى بدوره انتزاع هذه السلطة من مجلس الشيوخ شي ًئا فشي ًئا‬ ‫حتى استقرت في يده وأصبح هو المصدر الوحيد للتشريع‪.‬‬ ‫إن مجلس الشيوخ كان يستطيع أن يتدخل بطريق غير مباشر في التشريع في‬ ‫العصر الجمهوري‪ ،‬وذلك بأن يشير على الحاكم بإدماج حكم معين في منشوره‪.‬‬

‫ً‬ ‫تعديل في القانون الخاص فإنه كان يستطيع أن‬ ‫وإذا أراد أن يدخل‬ ‫يشير على البريتور بإدخال التعديل المطلوب في منشوره‪ ،‬على أن مشورة‬ ‫الشيوخ لم تكن ملزمة إال إذا أدمجها البريتور ً‬ ‫فعل في منشوره؛ ومثال على‬ ‫ذلك‪« :‬مشورة الشيوخ المسماة (‪ )S. C. macedonien‬التي حـرمت‬ ‫إقراض النقـود إل‪،‬ى ابن األسرة والتـي أدمجها البريتور ضمن منشوره‬ ‫فيما بين عامي ‪ 69‬و‪79‬م والقرار المسمى (‪ )S. C. Velleien‬الذي منع‬ ‫المرأة المستقلة بحقوقها من كفالة ديون الغير‪.‬‬ ‫واستمر الحال كذلك حتى أوائل القرن الثاني الميالدي‪ ،‬ففي عهد اإلمبراطور‬ ‫هادريان ‪ 138-117‬اعترف لها بقوة التشريع فحلت محل قرارات مجالس‬ ‫مباشرا للقانون المدني(((‪.‬‬ ‫مصدرا‬ ‫الشعب التي انقطع صدورها‪ ،‬وأصبحت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪(1) Apple. James. G- Deyling. P. Robert a primer on the civil law system This‬‬

‫‪publication has been prepared and is being published by the federal Juridical‬‬

‫‪center at the Resquest of the international Juridical Relations committee of‬‬ ‫‪the Juridical conference of the united states of America, pp. 14-17.‬‬

‫‪118‬‬


‫وكان مجلس الشيوخ يصدر قراراته أو مشوراته في بادئ األمر بعد البحث‬

‫والمناقشة فيما يعرضه اإلمبراطور عليه من مشروعات القوانين‪ ،‬ولكنه صار مع‬

‫ازدياد نفوذ اإلمبراطور ملز ًما بإقرارها بمجرد تالوة الخطبة التي كان اإلمبراطور‬ ‫شارحا أحكامه ومبرراته‪.‬‬ ‫يلقيها عند عرض المشروع على المجلس‬ ‫ً‬

‫في القرن الثاني للميالد كان كل ما يقرره المجلس هو نفس ما يعرضه‬

‫اإلمبراطور دون تعديل أو تغيير؛ فمنذ بداية القرن الثالث الميالدي انتقلت‬ ‫سلطة التشريع إلى اإلمبراطور وحده(((‪.‬‬

‫إ ًذا مجلس الشيوخ قد ورث السلطات االنتخابية للموظفين الكبار‬

‫عن المجالس الشعبية؛ إال أنه لم يمارس هذه السلطة بصورة حرة ألن‬ ‫اإلمبراطور هو الذي كان يقدم لهذا المجلس أسماء أولئك الموظفين‪.‬‬

‫كذلك اكتسب مجلس الشيوخ سلطة تشريعية بفضل آراء مجلس الشيوخ‬ ‫التي كان يصدرها من قبل فيما يتعلق فقط بسلطاته على الحكام‪ ،‬وما لبثت‬

‫هذه السلطة التشريعية أن ازداد سلطانها مع ازدياد سلطان مجلس الشيوخ‬ ‫حتى في اإلدارة والقضاء‪.‬‬

‫ففي القضاء فقد أخذ مجلس الشيوخ يمارس سلطة فضائية جزائية منذ‬

‫عهد أوكست لقمع جرائم المجاوزة للحدود فيما يتعلق بالمتعهدين لجباية‬

‫الضرائب المفروضة على المكلفين‪ ،‬وأما في اإلدارة فقد أصبح مجلس‬ ‫الشيوخ يدير إيطاليا ً‬ ‫أول بمساعدة الموظفين الكبار الذين اختص بتعيينهم‬

‫أخيرا‪ ،‬ويقتسم مع اإلمبراطور إدارة الملحقات والخزينة العامة ثان ًيا دون‬ ‫ً‬

‫خزينة اإلمبراطور‪ ،‬وأصبحت الملحقات مجزأة بموجب ذلك إلى ملحقات‬

‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.64-62‬‬ ‫‪119‬‬


‫إمبراطورية يديرها اإلمبراطور وملحقات مشيخية يديرها مجلس الشيوخ‬ ‫ولذلك سمي هذا العهد بعهد الحكم الثنائي (‪)Ja periode de ladyarchie‬؛‬ ‫غير أن مجلس الشيوخ قد فقد في هذا العهد إدارة الشؤون الخارجية‪ ،‬فلم يعد‬ ‫له حق التدخل في إعالن الحرب أو عقد معاهدات الصلح والحلف‪.‬‬ ‫من جملة ما يالحظ من كل ذلك اعتبر هذا الدور دور رخاء ومجد‬ ‫من الناحية السياسية برغم من وجود بعض بوادر االنحطاط في األخالق؛‬ ‫ألن اإلمبراطورية أصيبت بأزمة خطيرة من انحطاط األخالق وهبوط‬ ‫عدد السكان مما حمل القياصرة منذ عهد أوكست أن يصدروا القوانين‬ ‫لمعالجتها عب ًثا(((‪.‬‬ ‫نهاية الدور العلمي‪:‬‬

‫الجهاز السياسي لهذا العهد‪:‬‬ ‫خالل العهد العلمي حدث تطورات سياسية كان من أهمها أن الجهاز‬ ‫السياسي في هذا العهد أصبح مؤل ًفا من اإلمبراطور بعد انقضاء عهد‬ ‫الجمهورية‪ ،‬ثان ًيا مجلس الشيوخ‪ ،‬تم ذلك بعد انقضاء القسم األخير من‬ ‫العهد الجمهوري الذي تكون من الدور األول للعهد الجمهوري‪ ،‬وكان‬ ‫فيه القناصل رأس الجهاز السياسي قبل اإلمبراطور‪.‬‬ ‫وأما بقية رجال الحكم الذين عرفوا في العهد الجمهوري بما فيهم‬ ‫القناصل‪ ،‬ووالة القضاء‪ ،‬ووالة األمن ووالة المال والمظالم أصبحوا بعد‬ ‫مجيء عهد اإلمبراطورية يعينون من قبل مجلس الشيوخ واعتبروا جمي ًعا‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص ص‪.206-204‬‬ ‫‪120‬‬


‫الجهاز التنفيذي لقرارات مجلس الشيوخ‪ .‬والمجالس الشعبية جردت‬

‫من سلطاتها االنتخابية والقضائية وأعطيت لمجلس الشيوخ‪ ،‬وكان آخر‬ ‫ما جرد منها سلطتها التشريعية‪.‬‬

‫شخصا يمارس مجموعة من الوظائف التي كانت‬ ‫اإلمبراطور أصبح‬ ‫ً‬

‫من قبل موزعة بين الكثيرين من كبار الموظفين؛ فقد أصبح اإلمبراطور‬ ‫يمارس السلطة اآلمرة والسلطة الشعبية وسلطة الكاهن األكبر‪.‬‬

‫فالسلطة اآلمرة فهي ممارسة اإلمبراطور لسلطة القيادة العليا وإصدار‬

‫األوامر لجميع الملحقات بروما وهو بموجب هذه السلطة رئيس الجيش‬

‫بأجمعه وله في جميع أنحاء اإلمبراطورية السلطات العسكرية والدبلوماسية‬

‫التي كان حكام المقاطعات من قبل يمارسونها في مقاطعاتهم‪.‬‬

‫أما السلطة الشعبية فهي ممارسة اإلمبراطور للسلطات واالمتيازات‬

‫التي كانت من قبل لمحامي العوام رغم أن اإلمبراطور لم يطلق عليه أنه‬

‫محامي العوام‪ ،‬وقد كانت هذه السلطات تعطي اإلمبراطور وتجدد في‬

‫كل سنة‪ ،‬وأن هذه السلطة الشعبية سمحت لإلمبراطور أن يوجه الشعب‬

‫ومجلس الشيوخ وذلك باقتراح مرسومات مجلس الشيوخ وعرضها على‬

‫مجلس الشيوخ للتصويت وباقتراح االستفتاءات على مجامع العوام‪.‬‬

‫شخصا‬ ‫وزيادة على ذلك فإن هذه السلطة جعلت من اإلمبراطور‬ ‫ً‬

‫ال تخرق أحكامه وأعطته حق الرفض المطلق عند االقتضاء لقرارات‬

‫جميع رجال الحكم في اإلمبراطورية‪.‬‬

‫وأما وظيفة الكاهن األكبر فقد أعطت اإلمبراطور المكان األول في‬

‫هيأة الكهنوت‪ ،‬كما أعطته سلطة روحية كبرى ومنحته حق التدخل في كل‬ ‫‪121‬‬


‫الشؤون الدينية‪ .‬فهو الذي يقترح بل يفرض تعيين الكهنة ويعرض ذلك‬ ‫على مجلس الشيوخ ثم تتم عمليات انتخابهم بذاتهم بصورة حقوقية من‬ ‫قبل جميع الهيئات ذات العالقة‪.‬‬ ‫وكذلك فإن تسمية اإلمبراطور كاهنًا أكبر من قبل هيأة الكهنة إنما‬ ‫كانت تجرى في الشكل بناء على اقتراح مجلس الشيوخ‪ ،‬كما أن األباطرة‬ ‫اتخذوا ألنفسهم في كثير من الوظائف حق فرض المرشحين لها‪ ،‬وكان‬ ‫على الشعب أن يصادق على تعيينهم من غير جدل‪.‬‬ ‫كما أن األباطرة أصبحوا يمارسون مدى الحياة سلطات والة اإلحصاء‪،‬‬ ‫وهذا ما سمح لهم أن ينظموا قوائم بأسماء المواطنين وطبقة الفرسان‬ ‫وطبقة الشيوخ على حسب هواهم‪ ،‬وبناء على هذا فقد حذفت وظيفة‬ ‫والة اإلحصاء منذ ذلك العهد‪ .‬وأن هذه السلطات الواسعة التي استلمها‬ ‫اإلمبراطور قد مكنته شي ًئا فشي ًئا من إضعاف سلطة مجلس الشيوخ(((‪.‬‬ ‫وقد كان لدى اإلمبراطور مجلس إمبراطوري وهو مجلس استشاري‬ ‫يتناقش في المسائل التي يعرضها عليه اإلمبراطور‪ .‬وقد كان يتألف هذا‬ ‫المجلس في البدء من أصدقاء اإلمبراطور ومن كبار الموظفين ومن بعض‬ ‫رجال طبقة الفرسان والشيوخ‪.‬‬ ‫وفي عهد هادريان قد أعيد تنظيم هذا المجلس بشكل آخر وأدخل‬ ‫فيه عنصر دائم مؤلف من كبار الفقهاء وجعل لهؤالء رواتب ثابتة‪ .‬في‬ ‫هذا العهد زاد عدد مجلس الشيوخ ليصل إلى ستمئة شخص واشترط‬ ‫لعضوية الشيوخ شر ًطا مال ًيا وذلك بأن ال تقل ثروة الشخص عن مليون‬ ‫‪(1) Apple. Op. cit, pp. 30-32.‬‬

‫‪122‬‬


‫سيستيرس (‪ )Sesteres‬من النقد الروماني حينذاك وأقصى عن العضوية‬

‫جميع المعتقين من األرقاء‪.‬‬ ‫آراء مجلس الشيوخ‪:‬‬

‫بعد أن استلم مجلس الشيوخ من المجالس الشعبية السلطات االنتخابية‬

‫أيضا أن ورث عن هذه المجالس السلطة‬ ‫لكبار موظفي الدولة لم يلبث ً‬ ‫التشريعية؛ ولكن في مدة قصيرة وذلك أثناء الدور العلمي من هذا العهد‬

‫حيث استلمها ليسلمها من بعد إلى شخص اإلمبراطور‪.‬‬

‫وبهذا يكون مجلس الشيوخ قد أخذ السلطة التشريعية من المجالس الشعبية‬

‫ليقوم بها في فترة انتقال ثم يتخلى نهائ ًيا عن هذه المهمة إلى اإلمبراطور‪.‬‬

‫وبهذا يمكن أن تقسم مراحل مجلس الشيوخ فيما يتعلق بالسلطة التشريعية‬

‫إلى ثالث‪ ،‬وفي كل هذه المراحل كان يصدر هذا المجلس اآلراء المنسوبة إليه‬

‫ولكن سلطتها التشريعية كانت تختلف تب ًعا الختالف هذه المراحل‪.‬‬

‫ففي المرحلة األولى‪ :‬وهي تبتدي في الحقيقة منذ عهد نشأة الحقوق‬

‫في العهد الملكي وتمتد طيلة عهد الحقوق القديمة في العهد الجمهوري‬ ‫وفي هذه المرحلة لم يكن لمجلس الشيوخ أي صفة تشريعية(((‪.‬‬

‫وتمتد هذه المرحلة األولى حتى أواخر العصر الجمهوري وبداية‬

‫الدور العلمي‪ ،‬وهنا كانت آراء مجلس الشيوخ توجيهات لكبار الموظفين‬

‫المنتخبين من قبل مجلس الشيوخ ومجلس الشيوخ كان يدعو في توجيهاته‬

‫للموظفين إلى احترام رأي مجلس الشيوخ‪.‬‬ ‫((( رباح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.52-50‬‬ ‫‪123‬‬


‫وفي المرحلة الثانية في العصر الثاني أصبح لمجلس الشيوخ سلطة‬ ‫تشريعية وهي تبدأ منذ عهد اإلمبراطور هادريان الذي اعترف رسم ًيا‬ ‫لمجلس الشيوخ بسلطته التشريعية‪ ،‬وذلك منذ أن أصبحت المجالس‬ ‫الشعبية ال تمارس شي ًئا من هذه السلطة‪.‬‬ ‫غير أن آراء مجلس الشيوخ كانت تصدر إما بناء على اقتراح كبار‬ ‫الموظفين المنتخبين من قبله وإما بناء على اقتراح اإلمبراطور نفسه‪.‬‬

‫وفي المرحلة الثالثة ذابت شخصية مجلس الشيوخ في شخصية‬ ‫اإلمبراطور‪ ،‬وأصبح اإلمبراطور نفسه هو المشرع الوحيد ولم يعد يذكر‬ ‫اسم آراء مجلس الشيوخ بعد إصدار هذه االقتراحات وتسجيلها في مجلس‬ ‫الشيوخ‪ ،‬بل أصبح يطلق على هذه التشريعات اقتراحات اإلمبراطور‪.‬‬ ‫وأزيل اسم مجلس الشيوخ منها وحل محله اسم اإلمبراطور‪ ،‬وأصبح‬ ‫اقتراح اإلمبراطور هو الكل في الكل‪ ،‬ولم يعد لمجلس الشيوخ غير حق‬ ‫تسجيله فقط‪ ،‬ثم زال بعد ذلك هذا العرض الشكلي على مجلس الشيوخ‬ ‫رأسا األحكام اإلمبراطورية(((‪.‬‬ ‫منذ أصبح اإلمبراطور يصدر ً‬ ‫الأحكام الإمبراطورية‪:‬‬

‫األحكام اإلمبراطورية هي المصدر الوحيد للحقوق بعد انتهاء مجلس‬ ‫الشيوخ‪ ،‬وبناء على ما نقل من فقهاء العصر الثاني والعصر الثالث فإن السلطة‬ ‫التشريعية لإلمبراطور أعطيت لألباطرة بموجب قانون الجلوس على عرش‬ ‫اإلمبراطورية‪ ،‬وأنه يصدر ً‬ ‫عمل بالسلطة اآلمرة أحكام إمبراطورية نافذة‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.227-226‬‬ ‫‪124‬‬


‫المفعول في كل أراضي اإلمبراطورية‪ ،‬سواء في ملحقات اإلمبراطورية‬ ‫أي التي تدار من قبل اإلمبراطور أو في الملحقات المشيخية أي التي تدار‬ ‫من قبل مجلس الشيوخ‪.‬‬ ‫وقد كان اإلمبراطور في أحكامه يبدي على الغالب رأ ًيا حول مسألة‬ ‫حقوقية جزائية أو حول مسألة إدارية أو مسألة تتعلق بالمنظمة القضائية‪ ،‬كما‬ ‫أيضا يتناول قضايا الحقوق الخاصة‪ ,‬وزيادة على ذلك فإن اإلمبراطور‬ ‫كان ً‬ ‫كان يعطي تعليمات إلى موظفيه‪ ،‬وخاصة إلى والة الملحقات اإلمبراطورية‬ ‫وكذلك كان يصدر أحكا ًما قضائية بطريقة االستئناف أو بطريقة الدرجة‬ ‫األولى في بعض القضايا‪.‬‬ ‫أيضا فتاوى حقوقية سواء لألفراد أو للحكام‪ ،‬وقد‬ ‫كما كان يعطي ً‬ ‫قال فقهاء العصرين الثاني والثالث بعد الميالد الشعب الروماني ً‬ ‫عمل‬ ‫بقانون الجلوس على عرش اإلمبراطورية‪ .‬قد أعطى لإلمبراطور جميع‬ ‫سلطات الشعب التشريعية وأن جميع األحكام التي يتخذها اإلمبراطور‬ ‫لها قوة القانون‪.‬‬ ‫وقد قسم الفقهاء جميع ما يصدر عن اإلمبراطور من األحكام إلى أربعة‬ ‫أنواع‪ :‬التعليمات واألوامر اإلمبراطورية والقرارات القضائية واإلجابات‪.‬‬ ‫التعليمات‪ :‬هي األوامر والبالغات التي كان يرسلها اإلمبراطور إلى‬ ‫الحكام وخاصة والة الملحقات اإلمبراطورية خارج إيطاليا‪ ،‬وتشمل‪:‬‬ ‫تأمين حسن اإلدارة وقمع سوء االستعمال وإعطاء امتيازات للجنود‪ ،‬وأحيانًا‬ ‫تحتوي على قواعد حقوقية مدنية أو جزائية لفرضها على سكان الملحقات‬ ‫بصورة مؤقتة أو دائمة ما لم تلغ‪ .‬وأحيانًا تحتوي على قواعد حقوقية مدنية‬ ‫أو جزائية لفرضها على سكان الملحقات بصورة مؤقتة أو دائمة ما لم تلغ‪.‬‬ ‫‪125‬‬


‫وأحيانًا كانت تعطي هذه التعليمات بشكل تشمل روما وإيطاليا‪ ،‬وأما‬

‫األوامر اإلمبراطورية فهي التي كان يصدرها كل إمبراطور عند جلوسه‬

‫على عرش اإلمبراطورية‪ ،‬وهي عبارة عن قواعد ذات صبغة عامة يضعها‬ ‫ويعلنها اإلمبراطور بصفته الحاكم األعلى(((‪.‬‬

‫وأما القرارات القضائية فهي األحكام التي كان يقضي بها اإلمبراطور‬

‫في الشؤون القضائية بصفته القاضي األعلى والمشرع األعلى‪ ،‬وقد كان‬

‫يصدر هذه األحكام إما بسبب استئناف القضية إليه وإما برفع القضية‬

‫مباشرة إليه في بعض األحوال‪.‬‬

‫وأما اإلجابات فهي الردود التي كان اإلمبراطور يجيب بها خط ًيا على‬

‫األسئلة المستفتى بها سواء من قبل األفراد أو الحكام حول أمر حقوقي‪.‬‬ ‫أيضا تب ًعا لذلك‪:‬‬ ‫وتقسم هذه اإلجابات ً‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬إلى توقيعات خاصة وهي التعليقات التي يجيب بها اإلمبراطور‬ ‫لألفراد في نهاية كتاب السائل‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬إلى رسائل ذات صفة عامة وهي تلك الردود التي يجيب بها‬

‫الحكام في كتاب مستقل ذي طابع عام وكان هذا النوع وحده‬

‫ينشر ويعلق في روما بسبب طابعه العام‪.‬‬ ‫وقد كان لهذه اإلجابات أهمية كبرى‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ إذ بعضها كان يفسر القوانين كما هو الشأن في فتاوى الفقهاء‪ ،‬وكان‬ ‫كثيرا ما ينفذانها أو يتبنيانها‪.‬‬ ‫الفقيهان السوريان بولس وأولبيان ً‬

‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.102-100‬‬ ‫‪126‬‬


‫‪ 2‬ـ وكان بعض هذه اإلجابات ينظم أصول المرافعة في القضية‬ ‫المرفوعة إليه‪ ،‬ويضع اإلحكام الحقوقية فيها بصورة عامة دون‬ ‫ٍ‬ ‫قاض ليدرسها يلفظ‬ ‫دراسة القضية نفسها‪ ،‬ثم يحيل القضية إلى‬ ‫الحكم فيها تب ًعا لجواب اإلمبراطور‪.‬‬ ‫عهد الإمبراطورية ال�سفلى‪:‬‬

‫ويبدأ هذا العهد األخير للحقوق الرومانية منذ مجيء اإلمبراطور‬ ‫قسطنطينوس إلى الحكم ‪ ،337-306‬وينتهي بموت اإلمبراطور حستنيانوس‪.‬‬ ‫أهم ما اتخذه األباطرة في هذا العهد دون أخذ رأي مجلس الشيوخ؛‬ ‫ألن اإلمبراطور أصبح هو اليد العليا‪ ،‬وهو كل شيء في اتخاذ القرارات‪.‬‬ ‫إن أبرز طوابع اإلمبراطورية السفلى من الناحية السياسية هو انقسامها‬ ‫إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية‪ ،‬وقد ظهر هذا االنقسام منذ عهد اإلمبراطور‬ ‫دقلديانوس ‪.305-284‬‬ ‫وفي عهد قسطنطينوس ‪337-324‬م يتجلى مجد قسطنطينوس أنه أقام‬ ‫طيلة حكمه على اإلخالص للسياسة(((‪ ،‬ففي سنة ‪313‬م في ميالن قرر‬ ‫بأن يسمح لجميع الطوائف دون تمييز أن يعتنقوا المذهب الذي يريدونه‬ ‫وأن يمارسوا الطقوس الدينية الخاصة بديانتهم‪ ،‬كما أنه أعلن المسيحية‬ ‫الدين الرسمي لإلمبراطورية(((‪.‬‬ ‫كما أنه نقل عاصمة اإلمبراطورية من روما إلى القسطنطينية لتكون على‬ ‫((( بدر‪ ،‬محمد عبد المنعم‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬القاهرة‪ ،1950 ،‬ص‪.13‬‬ ‫((( عوض‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.11-9‬‬ ‫‪127‬‬


‫أهبة االستعداد لمواجهة أي عدو داخلي أو خارجي‪ ،‬ولما كان الخطر الذي‬ ‫يهدد اإلمبراطورية مصدره من الشرق أكثر من الغرب‪.‬‬

‫فأصبحت القسطنطينية ألف عام عاصمة اإلمبراطورية البيزنطية من‬ ‫النواحي السياسية واالقتصادية والحربية والحضارية‪ ،‬وكانت موطن حياتها‬ ‫فضل عن أنها كانت ً‬ ‫العقلية والكنيسة‪ً ،‬‬ ‫عامل عظيم األهمية في السياسة‬ ‫(((‬ ‫العالمية والتطور الحضاري ‪.‬‬ ‫االعتراف بالمسيحية وبناء القسطنطينية قام بهم اإلمبراطور قسطنطينوس‬ ‫دون أن يأخذ أي مشورة في ذلك بل كان قراره كإمبراطور يحكم يحق له‬ ‫أخذ أي قرار دون الرجوع إلى أي مجلس‪ ،‬كما أن أبرز األحداث الهامة‬ ‫في هذا العهد من الناحية التشريعية هو تشريع جستينانوس الذي قام به‬ ‫هذا اإلمبراطور ما بين ‪ 528‬وبين سنة ‪ 533‬حيث دون الحقوق الرومانية‪.‬‬

‫الإ�صالحات الق�ضائية «الت�شريع القانوني»‪:‬‬

‫استطاع جستينانوس أن ينجز ً‬ ‫ضخما لم يستطع أن ينجزه‬ ‫عمل تشريع ًيا‬ ‫ً‬ ‫أحد من قبل‪ ،‬فقد جمع القانون الساري بشطريه الدساتير اإلمبراطورية‬ ‫والقانون القديم وقد قصد من وراء ذلك تيسير الرجوع إلى القواعد القانونية‬ ‫الرومانية دون تعقيد بسبب صعوبة الرجوع إلى الكتب القديمة‪ .‬تخليد القانون‬ ‫الروماني بوصفه ترا ًثا عالم ًيا ينطق بعظمة الرومان وعبقريتهم القانونية‪.‬‬ ‫وضمت القوانين التي وضعها جستينانوس‪:‬‬

‫( أ )مجموعة الدساتير اإلمبراطورية‪:‬‬

‫وجد اإلمبراطور أن أفضل وسيلة لجمع المال من األهالي حمايتهم‬

‫((( عبيد‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.26-25‬‬ ‫‪128‬‬


‫من ظلم الحكام وإقامة العدل وضبط األحوال‪ ،‬ولذلك اهتم في‬ ‫البداية بجمع القوانين المتراكمة وتعديلها وتوحيدها‪ ،‬وكلف بهذا‬ ‫المشروع الكبير تربينان الذي شكل لجنة من رجال القانون في‬ ‫اإلمبراطورية وذلك في سنة ‪528‬م وتم الجمع والتنسيق إلى أن‬ ‫ظهرت مجموعة من القوانين في ‪529‬م(((‪.‬‬ ‫(ب) الموسوعة‪:‬‬

‫شكل اإلمبراطور لجنة أخرى لوضع قوانين األحوال الشخصية‪ً ،‬‬ ‫وفعل‬ ‫ظهر المصنف «الوجيز» سنة ‪533‬م‪ ،‬واستمر االهتمام بالقوانين البشرية‬ ‫وظهرت سلسلة مطولة من القوانين التكميلية أطلق عليها القوانين‬ ‫المستجدة‪ ،‬وبذلك وضع جستينانوس قانونًا بيزنط ًيا موحدً ا ومتماش ًيا‬ ‫مع ظروف العصر(((‪.‬‬

‫(جـ) مجموعة النظم‪:‬‬

‫صدرت سنة ‪533‬م‪ ،‬وتشمل أربعة كتب‪ .‬وصارت جميع أعمال‬ ‫جستينانوس التشريعية تعرف باسم مجموعة القانون المدني والزالت‬ ‫تعرف بهذا االسم إلى اليوم وصدرت باللغة الالتينية التي ال يعرفها إال‬ ‫أقلية من السكان‪ ،‬إال أنها اللغة الرسمية‪ ،‬مما أدى إلى ظهور عدد من‬ ‫الشروح والملخصات اليونانية على القانون والشرائع والتي صدرت‬ ‫باللغة اليونانية غير أنها لم تكن دقيقة ومماثلة للنص الالتيني(((‪ .‬لم‬

‫((( جعفر‪ ،‬علي محمد‪ ،‬تاريخ القوانين والشرائع ـ القانون الروماني‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة‬ ‫الجامعية‪ ،1982 ،‬ص ص‪.114-111‬‬ ‫‪(2) The Robbins collection, lot. Op. cit, p. 25-30.‬‬

‫((( اليوسف‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.74‬‬

‫‪129‬‬


‫يصدر باللغة اليونانية سوي وباهتمام من اإلمبراطور شخص ًيا عندما‬ ‫قال لم نكتب هذا المرسوم باللغة الرسمية الالتينية ولكن كتبناه باللغة‬ ‫اليونانية وهي لغة الحديث الشائع حتى نجعل هذا المرسوم ميسور‬ ‫الفهم للجميع(((‪.‬‬

‫((( فرج‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.85‬‬ ‫‪130‬‬


‫المبحث الثالث‬

‫دور فقهاء القانون البيزنطي‬ ‫الفقـه‪:‬‬

‫كان رجال الدين في العصور األولى للقانون الروماني يحتكرون علم القانون‬

‫وتفسيره‪ ،‬وقد سادت فيه الشكلية في نظام الدعاوى والتصرفات القانونية‪ ،‬ولم‬

‫يقض صدور قانون األلواح االثنى عشر على هذا االحتكار‪ ،‬فقد ظل القضاة‬

‫يلجأون إلى رجال الدين ألخذ رأيهم فيما يشكل عليهم من مسائل‪ ،‬ولقد حدث‬ ‫تطور مهم السنوات األخيرة في القرن الرابع ق‪.‬م إذ بدأ الفقه المدني يحل محل‬

‫الفقه الديني‪ ،‬وكان ذلك بنشر صيغ الدعاوى الرسمية التي كان يحتكرها رجال‬ ‫الدين‪ ،‬وكانت مهمة الفقهاء تنحصر في ثالث وظائف أساسية‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫الإفتاء‪:‬‬

‫اإلجابة عن االستشارات التي يتقدم بها األفراد أو الفقهاء أو الحكام‬

‫أنفسهم‪ ،‬ولم تكن الفتاوى ملزمة للبريتور ولكنه من الناحية العملية يتبعها‬ ‫إذا صدرت من فقيه له مكانته‪.‬‬

‫‪131‬‬


‫التوثيق‪:‬‬

‫هو إرشاد المتقاضين إلى كيفية تحرير العقود وجميع التصرفات‬

‫القانونية التي كانت تستلزم استعمال عبارات‪.‬‬ ‫المقا�ضاة‪:‬‬

‫لم يكن يقصد بها الدفاع عن األفراد أمام القضاء‪ ،‬إنما يقصد بها مساعدة‬

‫األفراد في اختيار صيغ الدعاوى التي تحمي حقوقهم عن طريق تدعيم‬

‫الفقيه لرأيه االستشاري الذي أبداه لصاحب المصلحة‪.‬‬

‫وقد استطاع الفقهاء خلق قانون جديد يقوم كالقانون القديم على‬

‫العرف؛ ولكنه يتميز عنه بقابليته للتطور والتطبيق في حاالت وظروف‬

‫جديدة‪ ،‬وأطلق عليه قانون الفقهاء ألنه كان يقوم خاصة على اإلفتاء(((‪.‬‬

‫وأشهر فقهاء القانون القديم هم الفقيه «باتيس والفيه كاتو»‪ ،‬الذي نال‬

‫شهرة واسعة في المجال القانوني والخطابة السياسية‪ ،‬وترك مؤلفات كثيرة‬

‫في التفسير الفقهي والقانون المدني‪ ،‬وقد ازدهر في العصر العلمي نشاط‬ ‫الفقهاء‪ ،‬وخاصة من ناحية اإلفتاء والتأليف‪.‬‬

‫وانقسم الفقهاء منذ عهد اإلمبراطور أغسطس إلى مدرستين متنافستين‬

‫هما مدرسة السابينين ومدرسة البروكوليين‪ .‬وقد استمر هذا االنقسام أكثر‬

‫من مائتي عام ولم تخف حدته إال عندما جمع اإلمبراطور هادريان زعماء‬ ‫المدرستين في مجلسه االستشاري‪.‬‬

‫((( مسكوني‪ ،‬صبيح‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬ط‪ ،1971 ،2‬ص ص‪.44-43‬‬ ‫‪132‬‬


‫وإن مؤسس المدرسة السابينية هو الفقيه «كابيتو»‪ ،‬ولكنها سميت‬ ‫باسم تلميذه «سابينوس»‪ .‬ومؤسس المدرسة البروكولية هو الفقيه «البيو»‪،‬‬ ‫ولكنها سميت باسم تلميذه بركولوس‪.‬‬

‫ويرجع سبب انقسام المدرستين إلى اختالف العقيدة السياسية لمؤسسي‬ ‫هاتين المدرستين‪ .‬فكابيتو مؤسس المدرسة السابينية كان مؤيدً ا للنظام‬ ‫اإلمبراطوري الجديد؛ إال أنه كان محاف ًظا على التقاليد وحرفية النصوص‪.‬‬

‫أما البيو مؤسس المدرسة البروكولية فقد كان من أنصار النظام‬ ‫الجمهوري القديم؛ ولكنه كان من دعاة التجديد من الناحية القانونية‬ ‫وأشهر فقهاء العصر العلمي كاسيوس وجوليان وكايوس وبمبرنيوس‬ ‫وبابنيان وبولس واسكافوال(((‪.‬‬

‫وأخيرا ظهر الفقهاء العظام أيام حكم األباطرة من أسرة سيفير الفقهاء‬ ‫ً‬ ‫آثارا علمية حقوقية تكاد تكون‬ ‫الذين ذكرناهم ساب ًقا وقد ترك هؤالء جمي ًعا ً‬ ‫اليوم المرجع الوحيد للحقوق الرومانية‪.‬‬

‫ومما يدل على عظمة هؤالء الفقهاء أن اإلمبراطوريين تيودوز الثاني‬ ‫وفاالنتينيان الثالث قد أصدرا في عهد اإلمبراطورية السفلى المرسوم‬ ‫اإلمبراطوري الشهير عام ‪ 426‬بعد الميالد وعرف فيما بعد بقانون‬ ‫المراجعات‪ ،‬وقد قسم هذا المرسوم الفقهاء إلى صنفين وحظر على‬ ‫القضاة االعتماد في الحكم على غير هذين الصنفين‪.‬‬ ‫الصنف األول‪:‬‬

‫ويأتي في الدرجة األولى فقد حصره المرسوم في الفقهاء الخمسة‪:‬‬ ‫((( العبودي‪ ،‬عباس‪ ،‬تاريخ القانون‪ ،‬بغداد‪ ،‬المكتبة القانونية‪ ،‬ط‪ ،2007 ،2‬ص‪.135‬‬ ‫‪133‬‬


‫غايوس ـ بابينيان ـ أوليان ـ بولس ـ موديستان‪ .‬ويقول نص المرسوم فيهم‬ ‫إن هؤالء الفقهاء الخمسة لهم سلطة كاملة في القضاء ويمكن االعتماد‬ ‫دائما على آرائهم أمام القضاة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫الصنف الثاني‪:‬‬

‫ويأتي في الدرجة الثانية فهو أولئك الفقهاء الذين ينقل عنهم الفقهاء‬ ‫السابقون وال يجوز االعتماد على فقهاء هذا الصنف الثاني ما لم تبرز أمام‬ ‫القضاء مخطوطاتهم بذاتها‪.‬‬ ‫ويضيف المرسوم أنه إذا لم يكن هؤالء الفقهاء مجمعين فعلى القاضي‬ ‫أن يأخذ برأي األكثرية وإذا تساوت اآلراء في العدد فعلى القاضي أن يأخذ‬ ‫برأي الجانب الذي فيه الفقيه الكبير بابينيان وأن يحكم بموجبه‪.‬‬ ‫وهكذا فإن هذا المرسوم اإلمبراطوري يعرفنا تمام المعرفة بمقام‬ ‫أخيرا الرجوع إلى أي‬ ‫الفقهاء لدى الرومان‪ ،‬وكيف أن القضاء حظر عليه ً‬ ‫أثر من اآلثار وأي رأي من اآلراء غير آثار وآراء هؤالء الفقهاء‪.‬‬ ‫واضحا منه على ما جرى في عهد‬ ‫وهذا وفي هذا العصر كان التأثير‬ ‫ً‬ ‫اإلمبراطورية السفلى حيث انحدرت مستويات الحياة العامة السياسية والدينية‬ ‫واألخالقية واالقتصادية‪ ،‬وبالتالي االجتماعية‪ ،‬ولم يكن فيه سوى تثبيت‬ ‫وتمجيد لحقوق العهد األول وأنه بذلك هو العهد الذي وصلت إليه الحقوق‬ ‫الرومانية‪ .‬ولم يتميز هذا العهد الرابع إال بتقنين اإلمبراطور جستينانوس‪.‬‬ ‫إن الفقهاء بشكل عام في عهد اإلمبراطورية السفلى قد انحطت ثقافتهم‬ ‫الحقوقية‪ ،‬ولم يبق لهم من الوضع ما كان ألسالفهم في العهود الماضية؛‬ ‫إذ لم يبق لهم حق إصدار الفتاوى الرسمية‪.‬‬ ‫‪134‬‬


‫فلما جاء اإلمبراطور قسطنطينوس احتفظ رسم ًيا لنفسه بحق تفسير‬ ‫القانون؛ غير أن هذا التدبير لم يستطع القضاء على ما كان لمؤلفات فقهاء‬ ‫مصدرا‬ ‫العهد العلمي من سلطان حقوقي‪ ،‬ولهذا ظل هؤالء ومؤلفاتهم‬ ‫ً‬ ‫حقوق ًيا في اإلمبراطورية السفلى إلى جانب القانون‪.‬‬

‫ً‬ ‫تسهيل‬ ‫غير أن األباطرة اهتموا بتنظيم طريقة استخدام هذه المؤلفات‬ ‫لمهمة القضاة‪ ،‬وقد عمد األباطرة إلى جمع هذه المراجع الفقهية رأوا أنه‬ ‫البد من االنتقاء(((‪.‬‬

‫وهكذا فإن اإلمبراطور قسطنطينوس ً‬ ‫مثل أبطل كل التعليقات‬ ‫والمالحظات التي وضعها الفقيهان بولس وأولبيان على مؤلفات أستاذهم‬ ‫بابينيان الذي لقبه الرومان بأمير الفقهاء‪ ،‬وقد كان صنيع قسطنطينوس هذا‬ ‫من أجل وضع حد للتضارب بين أقوال الفقهاء‪..‬‬

‫وكانت اإلصالحات الكبرى في ذلك هي اإلصالحات التي صدرت‬ ‫أيام تيودوز الثاني‪ ،‬وفاالنتينيان الثالث الذين أرادا أن يضعا نهاية لخالفات‬ ‫العلماء‪.‬‬ ‫فأصدرا لهذا الغرض المرسوم اإلمبراطوري الشهير في سنة ‪466‬‬

‫ً‬ ‫وعمل بذلك عين هذا القانون‬ ‫والمعروف بعد ذلك بقانون المرافعات‬ ‫للقاضي طريقة اختيار األقوال الصالحة للقضاء عندما يكون هناك خالف‬ ‫بين الفقهاء‪ ،‬وضيق عدد الفقهاء الذين يمكن االعتماد على أقوالهم في‬ ‫الحكم وحصره في الدرجة األولى في خمسة فقهاء الدور العلمي؛ وهم‬ ‫غايوس‪ ،‬بابينيان وأولبيان وبولس وموديستان ثم سمح في الدرجة الثانية‬ ‫((( رباح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.78-76‬‬ ‫‪135‬‬


‫باالعتماد على الفقهاء الذين ينقل عنهم الخمسة السابقون بشرط إبراز‬ ‫الكتاب المخطوط المعتمد في نقل أقوالهم‪.‬‬ ‫وأوجب هذا القانون األخذ بأقوال هؤالء الفقهاء عندما يكونون‬ ‫مجمعين وإال فعلى القاضي أن يأخذ برأي األكثرية وإذا تساوت اآلراء‬ ‫فعلى القاضي أن يأخذ برأي الجانب الذي فيه بابينيان وأن يحكم بموجبه‪.‬‬ ‫ومما يدل على ضعف القضاة في هذا العهد هو أن قانون المرافعات‬ ‫هذا قد وضع للقاضي طريقة آلية للحكم بآراء الفقهاء فلم يسمح له بفحص‬ ‫اآلراء ووزنها عند اختالفها‪ ،‬وإنما أمره أن يعدها‪.‬‬ ‫وبصورة عامة فإنه طيلة العصرين الرابع والخامس حدث فيه ضعف‬ ‫واضحا فيما كتبه الفقهاء في هذا العهد‬ ‫عام‪ ،‬وخاصة في علم الحقوق وهذا‬ ‫ً‬ ‫أو في طريقة تعليمهم وتدريسهم للحقوق‪.‬‬ ‫وكل ما عثر عليه من كتابات في ذلك العهد في الغرب هي مختصرات‬ ‫وضعية لمؤلفات كبار الفقهاء في الدور العلمي أو شروح لتلك المؤلفات‬ ‫وضوحا بجانب ألفاظ غموض‬ ‫وهي عبارة عن إقحام بعض األلفاظ األكثر‬ ‫ً‬ ‫وضعت من أجل التدريس والتعليم‪.‬‬ ‫الشرق كان محظو ًظا أكثر لوجود مدرسة بيروت(((‪ .‬كانت بيروت‬ ‫نقطة اإلشعاع التي ينعكس عنها إلى العالم أثر عظيم المدنيات الشرقية من‬ ‫فينيقية وعراقية ومصرية؛ إال أن هذه المنطقة‪ ،‬وخاصة سواحلها كانت ملتقى‬ ‫المدنيات كلها‪ ،‬وقد نشط الفقه في الشرق بسبب وجود مدارس قانونية‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬الوجيز في الحقوق الرومانية وتاريخها‪ ،‬دمشق‪ ،‬مطبعة الجامعة السورية‪،‬‬ ‫ط‪ ،1958 ،2‬ص ص‪.277-274‬‬ ‫‪136‬‬


‫كبيرة‪ ،‬ومنها مدارس اإلسكندرية والقسطنطينية‪ ،‬وكان أهم هذه المدارس‬ ‫مدرسة بيروت للحقوق‪ ،‬فالبد من اإلشارة إلى المكانة التأريخية في عالم‬ ‫القانون لمدينة بيروت منذ القدم‪ ،‬وكيف كانت مؤهله ألن تكون مركز‬ ‫إشعاع قانوني عظيم‪ ،‬فال يتم ذكر قانون روماني حتى تذكر مدرسة الحقوق‬ ‫في بيروت‪ ،‬أسست مدرسة بيروت في نهاية القرن الثاني بعد الميالد في‬ ‫عهد كبار فقهاء العصر العلمي‪ ،‬واحتلت مكانًا مرمو ًقا بين المدارس‬ ‫القانونية‪ ،‬وكان يقصدها طالب العلم من مختلف أنحاء اإلمبراطورية‬ ‫وقد أطلق عليها الرومان اسم «األم المرضعة للحقوق»(((‪ ،‬وبفضل هذه‬ ‫المدرسة أصبحت بيروت المركز الرئيسي لنشر القوانين‪ ،‬حتى أنه في‬ ‫عهد جستينانوس ألغيت معظم المدارس الحقوقية‪ ،‬فلم يبق سوى مدرسة‬ ‫بيروت للحقوق ومعهد القسطنطينية‪.‬‬ ‫كانت الدراسة في مدرسة بيروت باللغة الالتينية ثم حلت محلها اللغة‬ ‫اليونانية باعتبار اللغة اليونانية هي لغة العلم في الشرق‪ .‬أما مدة الدراسة‬ ‫فكانت أربع سنوات‪ .‬وكانت تخصص سنة خامسة لدراسة الدساتير‬ ‫اإلمبراطورية‪ ،‬ولقد عد وجود معهد بيروت للحقوق بع ًثا جديدً ا للقانون‬ ‫الروماني بفضل أساتذة قانون كبار لقبوا بـ»العلماء العالميين»‪ ،‬واعتمد‬ ‫عليهم جستينانوس في وضع مجموعاته التشريعية وهم بابينيان أمير‬ ‫الفقهاء(((‪.‬‬ ‫وبدليل أن الفقهاء المعاصرين لجستينانوس في العصر السادس هم الذين‬ ‫وضعوا له تشريعه الخالد‪ ،‬كانوا يلقبون أساتذة مدرسة بيروت في العصر‬ ‫((( مغربي‪ ،‬محمود عبد المجيد‪ ،‬الوجيز في تاريخ القوانين‪ ،‬بيروت‪ ،1979 ،‬ص‪.162‬‬ ‫((( عبودي‪ ،‬عباس تاريخ القانون‪ ،‬بغداد‪ ،‬المكتبة القانونية‪ ،‬ط‪ ،2007 ،2‬ص‪.136‬‬ ‫‪137‬‬


‫الخامس بالعلماء العالميين‪ ،‬وهذا اللقب الممنوح ألساتذة بيروت يدل‬ ‫على ما كان ألساتذة المدرسة الشرقية من احترام عظيم في نفوس العلماء‪.‬‬ ‫بل إن البعض من المؤلفين اليوم نسب لهم صفة التجديد واإلبداع‪ ،‬ففي‬ ‫مجموعة التدوين التي أمر بها جستينانوس قد شملت القوانين‪ ،‬وقد جمعت‬ ‫في مجموعة جستينانوس القانونية والفقهية‪ ،‬وقد جمع هذا في مجموعة الفقه‪.‬‬ ‫ولما اقتضت الحاجة إلى عادة النظر في المجموعة القانونية األولى‬ ‫على إثر ظهور مجموعة الفقه‪ ،‬فكان التناقض موجود فيها‪ ،‬من أجل معالجة‬ ‫ذلك ألف جستينانوس لجنة من خمسة أشخاص بينهم تريبوينان وفقيه من‬ ‫بيروت هو دوروتي مع ثالثة من المحامين(((‪.‬‬ ‫وهذه اللجنة أنهت عملها في أقل من سنة وأعلنت المجموعة القانونية من‬ ‫جديد في ‪ 16‬تشرين الثاني من سنة ‪ ،534‬ووضعت موضع التطبيق في ‪ 29‬كانون‬ ‫األول من السنة نفسها‪ ،‬وظلت المجموعة القانونية مقسمة إلى اثنى عشر كتا ًبا‪.‬‬

‫وفي السنة التالي لصدور المجموعة األولى أي سنة ‪535‬م أصدر‬ ‫جستينانوس سلسلة من القرارات «القرارات الخمسون» ما بين ‪ 1‬آب و‪17‬‬ ‫تشرين األول‪ ،‬وكانت الغاية منها تسهيل لرجال الحقوق مراجعة المؤلفات‬ ‫الخاصة بفقهاء الدور العلمي وأن يحسم في ذلك الخالفات القائمة‪.‬‬ ‫مجموعة الفقه‪:‬‬

‫هي العمل التشريعي الثاني الذي أمر به اإلمبراطور جستينانوس بعد‬ ‫المجموعة القانونية وهذا العمل األعظم من األول هو في هذه المرة لتدوين‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.278-277‬‬ ‫‪138‬‬


‫فقه الفقهاء في الدور العلمي مما يسير مع مقتضيات عصر جستينانوس‬ ‫وحاجاته‪.‬‬ ‫ولقد أقر المباشرة بذلك في ‪ 15‬كانون األول من سنة ‪535‬م وألف‬ ‫لجنة لهذا العمل برئاسة تريبونيان الذي أصبح وال ًيا للخزينة في القصر‪.‬‬

‫وقد اختار معه لجنة لوضع مجموعة الفقه فيها أستاذان من معهد‬ ‫الحقوق في بيروت هما دوروتي (‪ )Dorothee‬السابق الذي اشترك في إعادة‬ ‫النظر في المجموعة القانونية وأناطول (‪ ،)Anatole‬وكذلك أستاذان من‬ ‫أيضا وكراتينوس (‪)Cratinus‬‬ ‫معهد الحقوق في القسطنطينية تيوفيل السابق ً‬ ‫وقد تلقت اللجنة األوامر والتوجيهات من جستينانوس وهي تسمح‬ ‫لها بإعادة النظر في نصوص الفقهاء في اختصارها ويحذف الزيادة غير‬ ‫المفيدة وبتوفيق النصوص مع األوضاع الحقوقية واالجتماعية مع العصر‬ ‫السادس أي العصر الذي هم فيه‪ .‬وقد قامت اللجنة بمطالعة مؤلفات ‪38‬‬ ‫فقيها وتجديد خالصتها وإعادة النظر فيها‪ ،‬وأخذ النصوص األكثر‬ ‫أو ‪ً 39‬‬ ‫فائدة وأهمية وحذف المتناقضات‪ ،‬وجمع هذه الخالصات في مجموعة‬ ‫مصبوغة بصبغة الوحدة وتابعة لبرنامج مدروس(((‪.‬‬ ‫وكانت المؤلفات التي استفيد منها بشكل أوسع مع كل ما عداها هي‬ ‫مؤلفات الفقهاء الخمسة السوريين بما فيهم غايوس‪ ،‬فإنه من شمال سورية‬ ‫أو من آسيا الصغرى‪ ،‬وكل هؤالء من رجال الدور العلمي‪.‬‬ ‫نحوا من ألفي مؤلف‬ ‫وقد بلغ عدد المؤلفات التي رجعوا إليها ً‬ ‫سطرا‪ ،‬ولكن المجموعة بعد االنتهاء منها‬ ‫وتشتمل على ثالثة ماليين‬ ‫ً‬ ‫((( المسكوني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.61-60‬‬ ‫‪139‬‬


‫لم تتجاوز مئة وخمسين أل ًفا من األسطر وفي ذلك منتهى الجهد في‬ ‫التنسيق واالختصار(((‪.‬‬

‫وكان جزء المجموعة مأخو ًذا من مؤلفات غايوس من الشمال السوري‬ ‫وبابينيان من حمص وبولس وأولبيان من الساحل الفينيقي ومودستيان من صور(((‪.‬‬ ‫هذا هو ما قامت به اللجنة من األعمال أو ما طلب منها أن تقوم به‪ ،‬وهو‬ ‫كما نرى عمل عظيم جبار كان يتطلب مدة عشر سنوات في رأي جستينانوس‪.‬‬

‫ولكن نشاط أعضاء اللجنة وحماسهم للعمل‪ ،‬جعلهم ينهون تأليف‬ ‫«مجموعة الفقه» في أقل من ثالث سنوات؛ ألن المرسوم اإلمبراطوري‬ ‫الذي صدر بتكليف تريبونيان برئاسة اللجنة ودعوته الختيار أعضائها‪،‬‬ ‫إنما صدر في ‪ 15‬كانون األول سنة ‪530‬م وقد عمل تريبوينان على تأليف‬ ‫اللجنة بعد هذا التاريخ‪ ،‬ثم باشرت اللجنة عملها فور تأليفها منه‪ ،‬وأعلن‬ ‫في تاريخ ‪ 16‬كانون األول من سنة ‪533‬م‪ .‬ثم وضعت هذه المجموعة‬ ‫موضع التطبيق في ‪ 30‬من كانون األول ‪533‬م تحت اسم مجموعة الفقه‪.‬‬ ‫وقد اشتملت المجموعة على خمسين كتا ًبا وقسم كل كتاب إلى‬ ‫أيضا هذه األجزاء بالقوانين‪ ،‬ألن‬ ‫فصول وكل فصل إلى أجزاء‪ ،‬وتسمى ً‬ ‫جستينانوس قد اعترف بالصفة التشريعية لكل النصوص التي احتفظ بها‬ ‫من مؤلفات أولئك الفقهاء‪.‬‬ ‫وتأييدً ا لذلك فقد وضع برنامج للدراسة في معهدي بيروت‬ ‫اعتبارا من ‪ 1‬كانون الثاني في سنة ‪535‬م‪ ،‬وأصبح خاض ًعا‬ ‫والقسطنطينية‬ ‫ً‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.286-280‬‬ ‫((( عبودي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.137‬‬ ‫‪140‬‬


‫لخمس سنوات ولم يسمح فيه بأكثر من شرح لفظي لنصوص األحكام‬ ‫القانونية ومجموعة الفقه ومجموعة القوانين‪.‬‬ ‫ولقد منع حستنيانوس بصراحة األساتذة من حق االجتهاد في هذه‬ ‫القوانين ومن حق النقد والمناقشة ألحكامها ولو في شكل مالحظات‬ ‫وذلك خشية من أن يبعث الخالف والتضارب من جديد في أحكام‬ ‫الحقوق الرومانية‪.‬‬

‫ً‬ ‫وطويل؛‬ ‫غير أن هذه األوامر القانونية لم يتقيد بها األساتذة حرف ًيا‬ ‫شروحا ومالحظات على هذه‬ ‫ولذلك لم يلبث أن عمل بعض العلماء‬ ‫ً‬ ‫المجموعات‪ .‬ولقد كان في مقدمة هؤالء كل من دورتي (‪)Dorothee‬‬ ‫وأناطول (‪ )Anatole‬وجوليان (‪ )Julien‬وطليلي (‪ )Thalelee‬وأيزيدور‬ ‫(‪ )Isidore‬وستيفان (‪ )Stephane‬وهم من أساتذة معهد بيروت‪.‬‬ ‫فهرسا لمجموعة الفقه وآخر‬ ‫فهرسا لمجموعة القوانين وآخر ً‬ ‫وقد وضع ً‬ ‫مختصرا للقوانين المحدثة‪.‬‬ ‫شرحا لمجموعة القوانين وبعضهم وضع‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫أما تيوفيل (‪ )Theophile‬وهو من أساتذة معهد القسطنطينية‪ ،‬فقد وضع‬ ‫ترجمة لألحكام القانونية في اللغة اليونانية‪ .‬وقد ظل تشريع جستينانوس‬ ‫هو األصل في الحقوق البيزنطية حتى سقوط اإلمبراطورية الشرقية‪ ،‬وقد‬ ‫وضع عليه بعض من الشروح ولكنها في الغالب كانت غير جديرة باالعتبار‬ ‫سنة ‪ 911-886‬في عهد ليون الحكيم (‪ )Leon Le Sage‬مجموعة حقوقية‬ ‫كبيرة عرفت باسم البازيليك وتمثل فيها جهد جديد بالنسبة إلى مجموعات‬ ‫جستينانوس وذلك أنها وحدت ما بين أحكام الحقوق المطبقة في العصر‬ ‫التاسع وجمعت القوانين والفقه في آن واحد على نحو ما كان أراده‬ ‫في األصل اإلمبراطور تيودوز‪ ،‬ولم يتحقق‪ ،‬وقد استخرج كل ذلك من‬ ‫‪141‬‬


‫مجموعة القوانين ومجموعة الفقه والقوانين المحدثة ونسق وصنف ضمن‬

‫نظام معقول‪ ،‬ولقد قسمت مجموعة البازيليك هذه إلى ستين كتا ًبا وجعل‬

‫حول نصوصها تعليقات كان أكثرها من الحقوق السابقة لجستينانوس‬ ‫والصادرة عن معهد بيروت(((‪.‬‬

‫«بعض القواعد التي وضعها فقهاء الرومان في أصول الفقه وفروعه‬

‫المختلفة((( مع بعض ما أثر عنهم من التقديرات واألخالقيات‪.‬‬ ‫�أ�صول فقهية عامة‬

‫‪ 1‬ـ االختيار في البداية اضطرار في النهاية‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ ال يقرب أحدكم مال غيره‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ ما التحق باألصل تبعه ـ أو ـ التابع تابع‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ ليس في مقدور األوراق الصورية أن تغير جوهر الحقيقة‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ البينة على من ا َّدعى‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ القيود الشفوية ال تخل بالمكتوب‪.‬‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.292-287‬‬ ‫((( «بعض هذه القواعد مكرر العبارة في المعنى الواحد والسبب اختالف أشخاص أو‬ ‫اختالف عبارات الناقلين عنهم‪ .‬كما أن األثر الواحد منها بعينه أحيانًا ما نقلته إلى‬ ‫العربية بعبارات مختلفة كل منها دال على ذات المعنى تما ًما‪ ،‬فللمطلع أن يختار‬ ‫منها ما يريد‪ .‬وما كان من قواعد األصول له مقابل عند فقهائنا قد وضعت ما قابله‬ ‫مأخو ًذا بنصه من مجلة األحكام العدلية أو كتاب األشباه والنظائر ووضعت تحته‬ ‫خ ًطا إعال ًما بهذا»‪ .‬فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.363‬‬ ‫‪142‬‬


‫‪ 7‬ـ إذا عدم الشرط بطل المشروط‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ األولى تفسير العقود وفهمها على ما يقتضي إعمالها دون ما يقتضي‬ ‫إهمالها ـ أو ـ إعمال الكالم أولى من إهماله‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ فرق بين الشرط الضمني وبين الشرط الصريح ـ أو ـ ال عبرة بالداللة‬ ‫في مقابلة التصريح‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ كل امرئ وعمله ـ أو ـ ال تزر وازرة وزر أخرى ـ أو ـ من أساء‬ ‫فعلى نفسه‪.‬‬

‫‪ 11‬ـ ال ضرر وال ضرار وآتو كل ذي حق حقه‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ إذا انقطع السبب انقطع المسبب ـ أو ـ إذا زالت العلة زال المعلول‬ ‫ـ أو ـ المعلول يدور مع العلة وجو ًدا وعد ًما‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ اإلرادة المكرهة مازالت إرادة‪ .‬ألست تقول‪ :‬إني أردت ألني‬ ‫أكرهت على أن أريد‪.‬‬

‫‪ 14‬ـ إجماع األمة على أمر شرع طبيعي واجب االتباع‪.‬‬ ‫‪ 15‬ـ للعادة واطراد االستعمال زمنًا ً‬ ‫طويل قوة محكمة بشرط أال يخالفا‬ ‫مقتضى العقل وال حكم الشرع‪.‬‬

‫‪ 16‬ـ العادة شرع محكم ـ أو ـ العادة محكمة‪.‬‬ ‫‪ 17‬ـ من له القبول له الرفض‪.‬‬ ‫‪ 18‬ـ شهادة المرء بقوله ال عبرة بها أمام شهادته بخطه ـ أو ـ ال يمحو‬ ‫اإلنسان بلسانه ما خطه ببنانه‪.‬‬ ‫‪143‬‬


‫‪ 19‬ـ البينة الخطية ال تعارضها القولية‪.‬‬ ‫‪ 20‬ـ عند عدم النص يتبع ما تقضي به اآلداب والعرف العام‪.‬‬ ‫‪ 21‬ـ اإلنسان ال ُيلزم بتعهده إال نفسه ـ أو ـ من تعهد بشيء فالتزامه‬ ‫مقصور عليه ـ أو ـ اإلقرار حجة قاصرة‪.‬‬

‫‪ 22‬ـ العادات القديمة المقررة بإجماع متبعيها تجري مجرى القانون‬ ‫وتعطى حكمه‪.‬‬

‫‪ 23‬ـ من طلب ما يقضي عليه القانون برده فقد ارتكب الغش والخداع‪.‬‬ ‫‪ 24‬ـ الشيء الواحد ال يحتمل مالكين ـ أو ـ المملوك ال ُي ْملك ـ أو ـ‬ ‫اجتماع الملكين في محل واحد محال(((‪.‬‬

‫‪ 25‬ـ الضرر والنفع يقدران بمقياس واحد‪.‬‬ ‫‪ 26‬ـ الرضاء الضمني والرضاء الصريح في الحكم سواء‪.‬‬ ‫‪ 27‬ـ البينة على من ادعى ال على من أنكر‪.‬‬ ‫‪ 28‬ـ من يملك التولية يملك العزل‪.‬‬ ‫‪ 29‬ـ ال رضاء لمخدوع‪.‬‬ ‫‪ 30‬ـ سبقات القلم مردودة‪.‬‬ ‫‪ 31‬ـ من أصول الفقه القديم أن من جاء النص لمصلحته فله ترك‬ ‫التمسك به‪.‬‬

‫((( فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.364‬‬ ‫‪144‬‬


‫‪ 32‬ـ يفسر االستثناء بمنتهى التضييق‪.‬‬ ‫‪ 33‬ـ االستثناء يؤيد القاعدة فيما لم ينص عليه‪.‬‬ ‫‪ 34‬ـ يختار أهون الشرين‪.‬‬ ‫‪ 35‬ـ ال طاعة للحاكم في غير دائرة حكمه‪.‬‬ ‫‪ 36‬ـ ال يحسب أحد أن له إتيان ما يخل بالواجب أو ينافي مقتضى‬

‫العقل أو يزري بفضيلة الحياء وبالجملة إتيان أي فعل تأباه مكارم‬ ‫األخالق‪.‬‬

‫‪ 37‬ـ ال تقام البينة على أمر سلبي «أو على أمر عدمي» أو «ال بينة على نفي»‪.‬‬ ‫‪ 38‬ـ حكم بيت المال اإليسار أبدً ا‪.‬‬ ‫‪ 39‬ـ شكل الشيء قوام وجوده ـ أو ـ صورة الشيء قوام ذاته‪.‬‬ ‫‪ 40‬ـ الشكل ال يقبل التجزئة فتغيير بعضه تغيير لكله‪.‬‬ ‫‪ 41‬ـ الغش يفسد كل أمر(((‪.‬‬

‫‪ 42‬ـ يحرم دفن الميت أو إحراقه داخل المدينة‪.‬‬ ‫‪ 43‬ـ عدم الكون وعدم الترائي سواء ـ أو ـ عدم الوجود والتواري سواء‪.‬‬ ‫‪ 44‬ـ ال تكليف بمستحيل‪.‬‬ ‫قائما ضمنًا في العقود‬ ‫‪ 45‬ـ ما جرى به العرف والعادة من الشروط يعتبر ً‬ ‫وإن لم ينص عليه فيها ـ أو ـ المعروف عر ًفا كالمشروط شر ًعا‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.365‬‬ ‫‪145‬‬


‫‪ 46‬ـ األحرى في العقود تعرف مقاصد المتعاقدين ال الوقوف عند‬

‫حد عباراتهم ـ أو ـ العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني دون‬

‫األلفاظ والمباني‪.‬‬

‫‪ 47‬ـ القرائن الخطيرة ال تقل حجية عن البيانات الكتابية‪.‬‬ ‫‪ 48‬ـ عند الشك خذ باألقل‪.‬‬ ‫‪ 49‬ـ عند الشك أعمال العقد‪.‬‬ ‫دائما‪.‬‬ ‫‪ 50‬ـ األقل يتضمنه األكثر ً‬

‫‪ 51‬ـ في المواد الجنائية يجب التأويل باألرحم ـ أو ـ تدرأ الحدود‬ ‫بالشبهات‪.‬‬

‫‪ 52‬ـ ما استبهم من الشروط يؤول ضد المستوعد «الدائن»‪.‬‬ ‫‪ 53‬ـ إعمال العقود أولى من إهمالها‪.‬‬ ‫‪ 54‬ـ اليمين ال تتعدى للغير بنفع وال ضرر‪.‬‬ ‫‪ 55‬ـ اليمين شعبة من الصلح وهي أقوى حجية من قضاء القاضي‪.‬‬ ‫‪ 56‬ـ للرسول حصانة ال في بيئة الحلفاء فحسب بل وفي حومة الوغى‬ ‫وقذائف األعداء تح ُلب‪.‬‬ ‫‪ 57‬ـ الحكم الخاص ال يبطله الحكم العام(((‪.‬‬

‫‪ 58‬ـ المسألة الكبرى تنساق معها الصغرى ـ أو ـ األصل يتبه الفرع‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.366‬‬ ‫‪146‬‬


‫‪ 59‬ـ لحظة الموت من العمر‪.‬‬ ‫‪ 60‬ـ الموت يعفي من جميع التبعات ـ أو ـ الموت يسقط كل تبعة‪.‬‬ ‫‪ 61‬ـ الموت يقطع كل عمله أو من مات انقطع جميع عمله‪.‬‬ ‫‪ 62‬ـ اليمين عدل الوفاء‪.‬‬ ‫‪ 63‬ـ ال يكون العقاب سب ًبا للثواب‪.‬‬ ‫إقرارا ـ أو ـ ال ينسب لساكت قول‪.‬‬ ‫‪ 64‬ـ ليس السكوت بذاته ً‬ ‫‪ 65‬ـ طبيعي أن المنكر ال يطلب منه دليل‪.‬‬ ‫‪ 66‬ـ ما ظلمك آخذ بحقه‪.‬‬ ‫‪ 67‬ـ ليس لغاش أن يحتمي بغشه‪.‬‬ ‫‪ 68‬ـ اإلعطاء ال يفرض فيه التبرع ـ أو ـ األصل في اإلعطاء المعاوضة‬ ‫ـ أو ـ إذا تعارض التبرع والمعاوضة قدمت المعاوضة‪.‬‬

‫‪ 69‬ـ ترك الحق ال يفترض ـ أو ـ ترك الحق ال يؤخذ فيه بالظنية أو‬ ‫األصل تمسك اإلنسان بحقه‪.‬‬

‫‪ 70‬ـ ما تعدى آخذ بحقه ـ أو ـ الجواز الشرعي ينافي الضمان‪.‬‬ ‫‪ 71‬ـ األصل أن اإلنسان ال يبلغ به اإلهمال إلى درجة تخليه عن حقوقه‪.‬‬ ‫‪ 72‬ـ ال يملك اإلنسان أكثر مما ملك‪.‬‬ ‫‪ 73‬ـ ال رفع لمفعول ـ أو ـ محال رفع ما وقع ً‬ ‫فعل‪.‬‬ ‫‪147‬‬


‫‪ 74‬ـ األصل عدم اعتبار أحد مسي ًئا ـ أو األصل في اإلنسان البراءة(((‪.‬‬ ‫‪ 75‬ـ األصل أن ال عمل بال أجر‪.‬‬

‫‪ 76‬ـ ال يخلق اإلنسان بنفسه سند لنفسه‪.‬‬ ‫‪ 77‬ـ ال إجازة لمعدوم ـ أو ـ المعدوم ال يجاز‪.‬‬ ‫‪ 78‬ـ ال شيء أجدر بكرامة العقل اإلنساني من حفظ العهود‪.‬‬ ‫‪ 79‬ـ ال ازدواج في مفرد أو األمر بعينه ال يكون أمرين‪.‬‬ ‫خيرا مما يجزى العفاف‪.‬‬ ‫‪ 80‬ـ ال يكون جزاء الفجور ً‬

‫‪ 81‬ـ القول بنقض الحرية خطل‪ ،‬فإن الحريات متى أعطيت امتنع‬ ‫الرجوع فيها أبدً ا‪.‬‬ ‫‪ 82‬ـ من أوجب ما توجبه المصلحة العامة أن يعني األحياء بدفن األموات‪.‬‬ ‫‪ 83‬ـ اإلقرار سيد البينات‪.‬‬ ‫‪ 84‬ـ من أخذ بحقه ال ينسب له تدليس‪.‬‬ ‫‪ 85‬ـ إذا تكافأت السيئات تماحت أو تهافت‪.‬‬ ‫‪ 86‬ـ ال سلطان لنظير على نظيره‪.‬‬ ‫‪ 87‬ـ الجزء يتضمنه الكل‪.‬‬ ‫‪ 88‬ـ القرائن تستنبط من مجريات األحوال التي يغلب وقوعها ـ أو ـ‬ ‫مصدر القرائن ما يطرد وقوعه من الحوادث اطرا ًدا غال ًبا‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.367‬‬ ‫‪148‬‬


‫‪ 89‬ـ أول الواجبات كف األذى عن الناس‪.‬‬

‫‪ 90‬ـ ثبوت الطرفين قرينة على ثبوت ما بينهما(((‪.‬‬ ‫‪ 91‬ـ ما التحق باألصل سقط بسقوطه ـ أو ـ إذا سقط األصل سقط الفرع‪.‬‬ ‫‪ 92‬ـ ما انعقد بالتراضي ينحل بالتراضي‪.‬‬ ‫‪ 93‬ـ الغرم بالغنم ـ أو ـ من تمتع بالمنافع تحمل المضار‪.‬‬ ‫‪ 94‬ـ الكفاح لدفع الضرر خير منه لجلب النفع أو درء المفاسد أولى‬ ‫من جلب المصالح‪.‬‬ ‫‪ 95‬ـ ال شيء أخلق بالضمير اإلنساني من الوفاء بالعقود‪.‬‬ ‫‪ 96‬ـ قد اختار من أساء االختيار‪.‬‬

‫أهل للتعاقد ليس ً‬ ‫‪ 97‬ـ من ليس ً‬ ‫أهل لإلقرار‪.‬‬ ‫‪ 98‬ـ من ال يملك التبرع ال يملك اإلقرار‪.‬‬ ‫‪ 99‬ـ من ملك األكثر ملك األقل‪.‬‬ ‫منكرا‪.‬‬ ‫مقرا‪ ،‬ولكن من الحق ً‬ ‫أيضا أنه ليس ً‬ ‫‪ 100‬ـ بالضرورة ليس الساكت ً‬ ‫‪ 101‬ـ ما بطل ابتداء ال حكم له‪.‬‬

‫‪ 102‬ـ ما فسد ابتداء ال يصححه الزمن‪.‬‬ ‫‪ 103‬ـ ليس ألحد نقض ما قبله ـ أو ـ من سعى في نقض ما تم من جهته‬ ‫فسعيه مردود عليه‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.368‬‬ ‫‪149‬‬


‫‪ 104‬ـ إنا نعدك شريكا للغاش إذا عاونته على فعلته وأنت على بينة منها‪.‬‬ ‫‪ 105‬ـ من العدل الطبيعي أال يثري أحد على حساب غيره وال ينتفع‬ ‫من طريق إضراره بغيره‪.‬‬

‫‪ 106‬ـ ما جاء على خالف النص حبط أثره(((‪.‬‬ ‫غامضا فالواجب تأويله على الوجه الذي يجعله‬ ‫‪ 107‬ـ إذا كان النص‬ ‫ً‬ ‫لغوا‪.‬‬ ‫مفيدً ا دون الذي يجعله ً‬

‫‪ 108‬ـ إذا كان اللفظ مشتركًا فاألولى حمله على المعنى المتمشي مع‬ ‫الغرض الذي هو مستعمل فيه‪.‬‬

‫‪ 109‬ـ كلما وجد في المشارطة نص مبهم فالواجب فهمه على الوجه‬ ‫األضمن لصحة األمر المسوق له الكالم‪.‬‬

‫‪ 110‬ـ ما تفعله األغلبية علنًا يرتبط به الجموع‪.‬‬ ‫‪ 111‬ـ التخلي عن الحقوق يفسر بأضيق حدوده‪.‬‬ ‫‪ 112‬ـ نماء الشيء لمالكه وهالكه عليه‪.‬‬ ‫‪ 113‬ـ العقود وأحكام القضاء ال تتعدى لغير أطرافها بنفع وال ضرر‪.‬‬ ‫‪ 114‬ـ عند الشك يؤخذ باألرفق‪.‬‬ ‫دائما على المهاجم وهو المدعي‪.‬‬ ‫‪ 115‬ـ عبء اإلثبات يقع ً‬ ‫‪ 116‬ـ كل ما خالف الشرع باطل‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.369‬‬ ‫‪150‬‬


‫‪ 117‬ـ من عليه اإلثبات إذا عجز عنه فليس الحق هو الذي ينقصه بل‬ ‫دليل الحق فقط‪.‬‬

‫‪ 118‬ـ ينتهي حق الدفاع الشرعي بخروج الفعل عن حيز االستنقاذ‪.‬‬ ‫‪ 119‬ـ يعمل بالقرينة إلى أن يقوم دليل العكس‪.‬‬ ‫‪ 120‬ـ إذا زال السبب زال المسبب ـ أو ـ ما جاز لعذر بطل بزواله‪.‬‬

‫‪ 121‬ـ موجب القرينة حمل األمر على جهة الصحة ً‬ ‫حمل اعتبار ًيا حتى‬ ‫يقوم البرهان على غيرها(((‪.‬‬

‫‪ 122‬ـ الكل ال يكون في الجزء ـ أو ـ الكل ال يتضمنه الجزء‪.‬‬ ‫‪ 123‬ـ ثالث هي لنا بالضرورة‪ :‬الحرية والجنسية والعائلة‪.‬‬ ‫‪ 124‬ـ من أصاب النفع حمل الضرر ـ أو ـ الغرم بالغنم‪.‬‬ ‫‪ 125‬ـ الغنم بالغرم ـ أو ـ األجر بالمشقة ـ أو ـ النعمة بالنقمة ـ أو ـ‬ ‫الخراج بالضمان‪.‬‬

‫‪ 126‬ـ سلوك أحد الطريقين يوصد باب اآلخر‪.‬‬ ‫‪ 127‬ـ األصل في كل ذي صناعة وجوب علمه بأصول صناعته‪.‬‬ ‫‪ 128‬ـ مهما تكن قوة العرف القديم فال تعلو على حكم القانون‪.‬‬ ‫‪ 129‬ـ المفيد ال يعيبه اللغو‪.‬‬ ‫عذرا ـ أو ـ ال عبرة بالتوهم‪.‬‬ ‫‪ 130‬ـ الخوف الكاذب ليس ً‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.370‬‬ ‫‪151‬‬


‫‪ 131‬ـ كل عرف قدين شرع مطاع ـ أو ـ استعمال الناس حجة يجب‬ ‫العمل بها‪.‬‬ ‫‪ 132‬ـ جميع الشرائع والقوانين تبيح دفع القوة بالقوة ـ أو ـ الشر يدفع‬ ‫بالشر ـ أو ـ الضرر يدفع بقدر اإلمكان‪.‬‬ ‫‪ 133‬ـ ال ظلم مع الرضا ـ أو ـ الرضا والظلم ال يجتمعان‪.‬‬

‫‪ 134‬ـ ال داللة لمشيئة مكتومة ـ أو ـ ال ينسب لساكت قول»(((‪.‬‬

‫((( فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.372-365‬‬ ‫‪152‬‬


‫الفصل الثاني‬

‫الم�ؤثرات الداخلية في القانون البيزنطي‬



‫المبحث األول‬

‫الم�ؤثرات الداخلية في الع�صر البدائي‬ ‫ع�صر الإمبراطورية ال�سفلى‪ 565-284( :‬م)‪:‬‬

‫يبدأ عصر اإلمبراطورية السفلى بحكم اإلمبراطور دقلديانوس عام‬

‫‪ 284‬م‪ ،‬وينتهي بوفاة إمبراطور الشرق جستنيانوس عام ‪ 565‬م؛ ولكن قبل‬

‫االستمرار في الحديث عن هذه الفترة البد أن نعرج على روما وأوضاعها‬ ‫االقتصادية وتأثيراتها الثقافية واالجتماعية‪.‬‬

‫الع�صر البدائي �أو الع�صر الملكي‪ 509-758( :‬ق‪ .‬م)‬

‫‪ 1‬ـ الحالة االجتماعية والسياسية‪:‬‬ ‫كانت العشيرة هي الوحدة االجتماعية األساسية للشعب الروماني‪،‬‬

‫فقد كان هذا الشعب يتكون من عدة عشائر‪ ،‬وكانت كل عشيرة تتكون من‬

‫عدة أسر تضم اآلالف من األفراد‪ ،‬وينتسب أفراد العشائر إلى أصل بعيد‬

‫هو مؤسس العشيرة‪ ،‬فهم ينتمون لبعض بصلة القرابة عن طريق الذكور‪،‬‬ ‫ويتسمى أفراد العشيرة باسم واحد ويلقبون به‪ ،‬وهو اسم مؤسسها‪.‬‬ ‫‪155‬‬


‫النزالء‪:‬‬ ‫يوجد داخل العشيرة إلى جانب أفرادها المرتبطين برابطة القرابة‬ ‫أشخاص آخرون من خارج العشيرة خضعوا لها طل ًبا لحمايتها‪ ،‬هؤالء‬ ‫هم النزالء‪ ،‬وهم األعداء المهزومون أو األجانب ثم فيما بعد العتقاء أي‬ ‫األرقاء الذين تحرروا من الرق‪.‬‬ ‫والعشيرة هي الوحدة السياسية السابقة على المدينة؛ فلكل عشيرة نظام‬ ‫داخلي يجعلها مستقلة بذاتها عن باقي العشائر لها رئيسها وبها مجلس من‬ ‫شيوخ العشيرة ولها ديانتها الخاصة وهي عبادة األصل المشترك بينها‪،‬‬ ‫وللعشيرة أن تفرض مشيئتها على أفرادها وعلى النزالء الداخلين في‬ ‫حمايتها‪ ،‬وتسود بين أعضائها رابطة التضامن المشترك في الحق والواجب‬ ‫أمام العشائر األخر‪ ،‬أما األسر التي كانت توجد داخل كل عشيرة فكانت‬ ‫ذواتها تفنى في ذات العشيرة وأفراد كل أسرة مرتبطون برابطة الخضوع‬ ‫لرئيس مشترك هو رب األسرة(((‪.‬‬ ‫وعندما أصبحت المدينة هي الوحدة السياسية وصاحبة السلطان على‬ ‫جميع الرعايا بذلك تالشت العشيرة وحلت محلها المدينة كما ضعفت مع‬ ‫الزمن رابطة العشيرة‪ ،‬وأصبحت األسرة هي الوحدة االجتماعية عند الرومان‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ الحالة االقتصادية‪:‬‬ ‫كانت العشائر الرومانية قد جاوزت عهد اإلنسان الفطري؛ حيث‬ ‫أرضا يزرعها أو ماشية يرعاها بل يقتات مما تناله يده‬ ‫ال يملك اإلنسان ً‬ ‫من الصيد‪.‬‬ ‫((( البدراوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.29‬‬ ‫‪156‬‬


‫بل العشائر الرومانية كانت قد بلغت عهد اإلنسان الراعي؛ حيث يعيش‬ ‫ً‬ ‫متجول بقطعان يرعاها ويتغذى مما تنتجه؛ حيث أنها كانت تعيش في‬ ‫الصيف فوق المرتفعات وتنتقل شتا ًء إلى السهل‪ ،‬وكانت أراضي المراعي‬ ‫مقسمة على العشائر كل قسم منها مشا ًعا بين األسر المكونة لكل عشيرة(((‪.‬‬

‫إال أنه بعد تأسيس المدينة حلت الزراعة؛ فوزعت األراضي الواقعة‬ ‫خارج المدينة على األسر لزراعتها؛ فاتسمت الدولة بطابع االقتصاد‬ ‫الزراعي على مبدأ االكتفاء الذاتي‪.‬‬

‫ت�أثير الزراعة في ن�شوء النظم القانونية‪:‬‬

‫( أ ) كانت األراضي توزع على األسر لزراعتها بمعرفة رب األسرة‬ ‫وأبنائه وعبيده‪ ،‬وبذلك خضعت األسرة كلها لسلطة رئيسها بكل‬ ‫ما فيها من أشخاص وأموال‪ ،‬فقامت األسرة الرومانية على أساس‬ ‫النظام األبوي وعلى أساس خضوع األبناء والبنات وفروع األبناء‬ ‫للسلطة األبوية والزوجة لسيادة الزوج‪.‬‬ ‫(ب) لم يهتم الرومان إال باقتناء األموال الالزمة لالستغالل الزراعي‬ ‫كاألراضي وما عليها من مبان ومواشي وعبيد؛ فهي وحدها‬ ‫عماد الثروة االقتصادية بسبب ذلك استلزم الرومان لنقل ملكيتها‬ ‫إجراءات خاصة البد من إتمامها‪.‬‬ ‫(جـ) كانت المعامالت بين األسر نادرة الكتفاء كل أسرة في أغلب‬ ‫األحوال بثمرات عملها‪.‬‬ ‫((( مونييه‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.25‬‬ ‫‪157‬‬


‫لقد كانت القواعد القانونية القائمة في ذلك العصر قاصرة غال ًبا على‬

‫أمور األسرة؛ فكانت المعامالت القليلة التي كانت تجري في ذلك العصر‬

‫تتم في بادئ األمر المقايضة أي بمبادلة سلعة بسلعة‪ ،‬ثم برؤوس الدواب‪،‬‬

‫وأخيرا بسبائك من النحاس أو البرونز‪ ،‬كانت توزن في الميزان في حضور‬ ‫ً‬

‫شخص يدعى حامل الميزان؛ ألن النقود لم تكن قد ظهرت بعد‪ ،‬وكانت‬

‫تتم هذه المعامالت في أسواق تنعقد مرة كل تسعة أيام(((‪.‬‬ ‫الديانة الرومانية القديمة‪:‬‬

‫كانت النظم القانونية األولى مرتبطة ارتبا ًطا وثي ًقا بأحكام الدين وكانت‬

‫اإلجراءات القانونية تحاكي إلى حد بعيد المراسم المتبعة في الشعائر الدينية‪.‬‬ ‫كان الرومان يؤمنون في البداية بوجود أرواح ال إسمية وقوة غير مادية‬

‫ال تقع تحت الحواس‪ ،‬وال يمكن تصورها في الذهن رغم أنها منتشرة في‬ ‫كل مكان ثم صنعوا بعد ذلك من هذه القوات بتأثير اإلغريق آلهة على صورة‬

‫إنسان لكل قوة إله وعبدوا م ًعا اإلله المجسم والقوة التي اختص بها؛ وهذه‬ ‫العبادة التي كانت مشتركة بين سكان المدينة بأسرهم وكانت تقوم بجانبها‬ ‫عبادة خاصة وهي عبادة اآللهة الخاصة بالبيت وأرواح األسالف‪.‬‬

‫وقد جبل الرومان على التشاؤم والخوف مما يحيط بهم من قوات‬

‫فكانوا يخشون القوة الطبيعية ويرون فيها قوة إلهية تسيطر على الكون‬

‫وتهدده بالفناء‪ ،‬كما كانوا يخشون القوة البشرية ويؤمنون بأنها قوة منافسة‬ ‫إن لم تكن معادية ال ينتظر منها إال الشر واإليذاء‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.26-24‬‬ ‫‪158‬‬


‫أمرا ال غنى عنه ال عن عقيدة وإيمان‪،‬‬ ‫ولذلك كانت العبادة عندهم ً‬ ‫ولكن التقاء األخطار المحدقة بهم‪ .‬وكان أهم ما يميز شعائر هذه العبادة‬ ‫الرسمية أو الشكلية‪ ،‬فهم ال يسلمون إال بالماديات ويرون في هذه دون‬ ‫األشياء المجردة قوة سحرية قادرة على كل شيء‪ ،‬مما يقتضي أن تكون‬ ‫الشعائر مرسومة في صورة مجسمة بألفاظ وإشارات محددة ليترتب عليها‬ ‫األثر المقصود منها وهو إرضاء اآللهة‪ ،‬ويترتب على ذلك أن أقل خطأ في‬ ‫الشكل أثناء تأدية الشعائر يبطل أثر هذه العبادة كما أن هذا األثر ال يترتب‬ ‫إال إذا أقيمت الشعائر في الزمان المعين لها‪.‬‬ ‫ويبدو أن هذه األلفاظ واإلشارات الدينية المحددة إنما نشأت عندهم‬ ‫بسبب حوادث طبيعية معينة كانت تهددهم بأخطار محققة‪ ،‬وأدى استعمالها‬ ‫إلى زوال هذه األخطار ونجاتهم منها‪ ،‬فاكتسبت بذلك صفة مقدسة‪،‬‬ ‫وأصبحت ال غنى عنها كلما أريد استجداء اآللهة بشرط أن تؤدى في‬ ‫صورتها األصلية دون تغيير كلمة منها‪.‬‬ ‫وقد نشأت النظم القانونية متأثرة بهذه الفكرة‪ ،‬فبنيت والسيما في نظام‬ ‫التعاقد وإجراءات التقاضي على صيغ رسمية وأوضاع شكلية كان يتعين‬ ‫تأديتها تما ًما عند مباشرة تصرف من التصرفات القانونية‪ .‬وكلما ترتب‬ ‫ً‬ ‫وفضل عن ذلك لم يكن من‬ ‫األثر القانوني ويتقي المتصرف شر الناس‪،‬‬ ‫الجائز لإلنسان أن يباشر نشاطه القانوني والسياسي والديني متى شاء‪ ،‬وفي‬ ‫أي يوم من األيام بل كان هناك تقويم ديني يبين األيام المخصصة للعبادة‬ ‫واأليام المقررة لالجتماعات السياسية واأليام التي يجوز فيها التقاضي‪.‬‬ ‫«كان التقويم يحتوي على ما يقارب من مائة يوم يرمز إليها بحرف «‪»N‬‬ ‫أو «‪ »NP‬وهي األيام الحرم أي السيئة الطالع المخصصة للشعائر الدينية‬ ‫‪159‬‬


‫و‪ 40‬يو ًما يرمز إليها بحرف «‪ »F‬وهي األيام الحسنة الطالع التي يجوز فيها‬ ‫التقاضي وما يقرب من مائتي يوم يرمز إليها بحر «‪ »C‬وهي األيام المخصصة‬ ‫لالجتماعات السياسية ومجالس الشعب‪ ،‬وقد زاد فيها فيما بعد عدد األيام‬ ‫المخصصة للتقاضي‪ ،‬فبلغ ‪ 230‬يو ًما في عهد اإلمبراطورية»(((‪.‬‬ ‫وقد كان للكهنة في روما جمعيات دينية تختلف باختالف العبادة‬ ‫التي تقوم كل جمعية باإلشراف عليها‪ ،‬وكانت جماعة األحبار أهم هذه‬ ‫نظرا لما كان لها من أثر في نشؤ تطور قواعد القانون الخاص‪.‬‬ ‫الجمعيات ً‬ ‫فهي التي كانت تقوم بتحضير الصيغ الرسمية الالزمة للتقاضي ولمباشرة‬ ‫التصرفات القانونية‪ ،‬كما أنها تقوم بوضع التقويم الديني ويرأس الجماعة‬ ‫الحبر األعظم الذي أصبح في العصر الجمهوري الرئيس األعلى للديانة‬ ‫الرومانية‪ .‬وقد وجد بروما جماعات دينية أخرى أهمها جماعة المستخيرين‬ ‫الذين كان الحكام يستعينون بهم الستخارة اآللهة قبل اإلقدام على عمل‬ ‫من األعمال السياسية والحربية وغيرها‪ ،‬ولهذا لم يكن لهذه الجماعة أثر‬ ‫في تكوين القانون الخاص‪ ،‬بل ينحصر جل نشاطها في دائرة القانون العام‪.‬‬ ‫النظام ال�سيا�سي في الع�صر الملكي‪:‬‬

‫قام النظام السياسي في روما في بادئ األمر على أساس تقسيم الشعب‬ ‫الروماني إلى طبقتين؛ طبقة األشراف التي كانت تقوم من أعضاء العشائر‬ ‫الرومانية التي أسست المدينة وطبقة العامة التي يرجع أصلها إلى تلك‬ ‫الجماعة التي كانت تتكون من أعداء مهزومين لم يخضعوا لحالة الرق‪،‬‬ ‫ولم يلجأوا لحماية أسرة ما‪ ،‬ومن مهاجرين أو نزالء قطعت صالتهم‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪32-29‬‬

‫‪160‬‬


‫بجماعتهم الذين ماتوا دون أن يتركوا خل ًفا يتولى حمايتهم من بعدهم‪.‬‬

‫حيث أن الدستور الذي وضعه رومولوس أول ملك لروما جعل من‬ ‫األشراف طبقة ممتازة تتمتع وحدها بالحقوق السياسية والمدنية‪.‬‬

‫غير أنه بعد أن نمت طبقة العامة وصارت أغلبية في المدينة أدخل الملك‬ ‫ً‬ ‫تعديل في دستور المدينة‪ ،‬كان‬ ‫سرفيوس توليوس السابق للملك األخير‪،‬‬

‫من شأنه إعطاء العامة حق االقتراع‪ .‬وقد كان نظام المدينة ينحصر في ثالثة‬ ‫عناصر الملك ومجلس الشيوخ ومجلس الشعب(((‪.‬‬ ‫الملك‪:‬‬ ‫أما الملك فكان على رأس المدينة وهو صاحب السلطة العامة فيها‬

‫يتوالها مدى الحياة‪ ،‬ويبدو أن الملكية لم تكن وراثية‪ ،‬كما أنها لم تكن‬

‫باالنتخاب بواسطة مجلسي الشيوخ والشعب‪ .‬وكان الملك يختار بواسطة‬

‫سلفه‪ ،‬وأنه إذا لم يعين الملك من يخلفه فإن هذا التعيين كان يتم بواسطة‬ ‫عضو من الشيوخ يسمى وسيط الملك‪ .‬والملك هو الرئيس األعلى الذي‬

‫يقود الجيوش ويرأس السلطات اإلدارية‪ ،‬ويدعو مجلسي الشيوخ والشعب‬

‫لالنعقاد وهو الرئيس الديني الذي يقوم بالعبادة العامة باسم المدينة كلها‬ ‫وهو الرئيس القضائي الذي يعاقب على الجرائم العامة وكانت سلطته واسعة‬ ‫وكانت مقيدة بحكم العرف وبوجود مجلس الشيوخ ومجلس الشعب‪ ،‬فعليه‬

‫أن يحترم تكوين العشائر وتنظيمها؛ فإذا أراد إدخال أي تعديل عليها وجب‬ ‫عليه الحصول على موافقة مجلس الشعب‪ ،‬وإذا أراد اتخاذ أي قرار سياسي‬

‫هام مخالف للعرف وجب عليه استشارة مجلس الشيوخ‪.‬‬ ‫((( المسكوني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.73‬‬ ‫‪161‬‬


‫مجلس الشيوخ‪:‬‬ ‫هو مجلس رؤساء العشائر أو الشيوخ‪ ،‬وكان عدد أعضائه في ازدياد‬ ‫بزيادة العشائر التي تنضم إلى المدينة فكان في األصل يتكون من مائة عضو‬ ‫ثم زاد إلى ثالثمائة؛ فهو في العهد الملكي الهيئة النيابية التي تمثل العشائر؛‬ ‫أما من حيث االختصاص فهو مجلس الملك أي المجلس االستشاري‬ ‫الذي يستشيره الملك في األمور الخطيرة؛ ولكن دون أن يكون ملتز ًما‬ ‫باتباع رأيه‪ ،‬كما أنه كان ينظر في المصادقة على قرارات مجلس الشعب‬ ‫التي ال تكون ملزمة إال بعد تصديق مجلس الشيوخ عليها(((‪.‬‬ ‫مجلس الشعب‪:‬‬ ‫أما مجلس الشعب فهو مكون من سكان المدينة األحرار القادرين على‬ ‫حمل السالح‪ ،‬وهم الذين يطلق عليهم حملة الرماح وكان هؤالء ينظمون‬ ‫القبائل الثالث التي تكون منها المدينة‪ .‬وكانت كل قبيلة تقدم عشر فرق‬ ‫وأن يشارك أفرادها سو ًيا في العبادة واالقتراع والحرب وهي مكونة في‬ ‫األصل من عشرة من الفرسان ومائة من المشاة ويدخل فيها األشراف‬ ‫وحدهم دون العامة الذين كانوا في حماية الملك كما ال يدخلونها النزالء‬ ‫الالجئون لحماية األشراف‪.‬‬ ‫فهذه الوحدات الثالثين كانت إ ًذا أساس النظام الديني والسياسي‬ ‫واإلداري والحربي؛ فعلى أساسها تقام شعائر العبادات الخاصة وتجبى‬ ‫الضرائب وتجند الجيوش وتجتمع المجالس الشعبية التي كان يطلق‬ ‫عليها اسم (‪ )Comitia curiata‬نسبة إلى هذه الوحدات الثالثين في األيام‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.40‬‬ ‫‪162‬‬


‫المخصصة في التقويم الديني لالجتماعات السياسية ويجري التصويت‬ ‫داخل هذه المجالس على أساس هذه الوحدات وليس لكل وحدة في‬ ‫االقتراع الذي كان يجري داخلها إال صوتًا واحدً ا وهو صوت أغلبية‬ ‫أفرادها‪ ،‬فإذا وافقت على مشروع القرار أغلبية الوحدات الثالثين وهي‬ ‫ستة عشر صوتًا؛ فمعنى ذلك أن المجلس قد وافق عليه‪ ،‬أنه لم يكن لها‬ ‫حق التعديل فيما يعرض عليها الملك وليس لكل وحدة إال إبداء رأيها‬ ‫بالموافقة أو الرفض‪.‬‬ ‫ويبدو أنه لم يكن لمجلس الشعب سوى الموافقة على كل أمر من‬ ‫شأنه إحداث تغيير في نظام المدينة أو العشائر(((‪.‬‬ ‫وال يسلم معظم الشراح في العصر الحديث بصدور تشريعات من‬ ‫مجالس الشعب القديمة في العصر الملكي‪ ،‬ويرون أن هذه المجالس‬ ‫ً‬ ‫وفضل عن ذلك فإن‬ ‫لم يكن لها اختصاص تشريعي في ذلك العهد‪،‬‬ ‫معظم نصوص هذه المجموعة تتكلم عن أحكام متعلقة بالدين‪ ،‬وهي‬ ‫مسائل كانت تدخل في اختصاص جماعة األحبار وال شأن فيها لمجالس‬ ‫الشعب ولذلك يرجع كثير من الشراح أن هذه األحكام وضعها الملك‬ ‫بصفته الرئيس الديني وأن األحبار قاموا بجمعها باعتبارهم المهيمنين‬ ‫على شؤون الدين‪.‬‬

‫((( البدراوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.36-34‬‬ ‫‪163‬‬



‫المبحث الثاني‬

‫الم�ؤثرات الداخلية في الع�صر الجمهوري‬ ‫النظم االقت�صادية واالجتماعية والثقافية في الع�صر الجمهوري‪:‬‬

‫يبدأ هذا العصر بقيام الجمهورية عام ‪ 509‬ق‪.‬م‪ ،‬وينتهي بصدور قانون ايبوتيا‬ ‫حوالي عام ‪ 130‬ق‪.‬م فهو يشمل إذن من تاريخ روما قرابة ثالثة قرون ويتميز‬ ‫عصر الجمهورية من وجهة التاريخ السياسي بأنه عصر التوسع والفتوحات‪ ،‬فلم‬ ‫تبقى روما بعد سقوط الملوك تلك المدينة ذات المركز المتواضع؛ إذ سرعان‬ ‫ما بسطت سلطانها على المدن الواقعة في إقليم التيوم (‪ )Latium‬وأخضعها‬ ‫لحكمها رغم أنها كانت قد عقدت معها في بداية العصر الجمهوري حل ًفا يعرف‬ ‫مركزا مساو ًيا لها ثم فتحت شبه جزيرة‬ ‫باسم الحلف الالتيني يجعل لهذه المدن ً‬ ‫إيطاليا كلها وانتهت من هذا الفتح حوالي عام ‪ 350‬ق‪.‬م أي بعد مضي أربعين‬ ‫عا ًما على إغارة الغال عليها‪ ،‬ثم بدأت بعد ذلك توسعها في سبيل السيطرة على‬ ‫حوض البحر المتوسط‪ ،‬فاستولت في خالل القرن الثاني للميالد على صقلية‬ ‫وسردينيا وقضت بعد حروب ثالثة على قرطاجة‪ ،‬كما فتحت أسبانيا واليونان(((‪.‬‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.39‬‬ ‫‪165‬‬


‫ويتميز هذا العصر في بدايته بانقسام الشعب إلى طبقتين‪ :‬طبقة‬

‫األشراف وطبقة العامة‪ ،‬وكانت طبقة العامة أدنى بكثير من طبقة‬ ‫األشراف التي كانت تتمتع وحدها بجميع الحقوق العامة والخاصة‪.‬‬ ‫أما العقائد الدينية لم يطرأ عليها تغيير يذكر حتى بداية الفتوحات التي‬

‫تمت في حوض البحر المتوسط‪ ،‬ولكن بعد أن اتصلت روما وقد‬ ‫اتسعت فيها أسباب الثروة وموارد الرزق بحضارة أرقى هي الحضارة‬

‫اإلغريقية‪ ،‬بدأ يضعف اإليمان باألديان واحترام التقاليد‪ ،‬كما بدأ‬ ‫المجتمع الروماني يتأثر بالروح التجارية وحب اإلثراء‪ ،‬وأخذ يندفع‬ ‫نحول الملذات والشهوات‪.‬‬

‫غير أن االتصال بالحضارة اإلغريقية كان له مع ذلك أثر في تطور‬

‫القانون؛ إذ أخذت األفكار القانونية بتأثير تعاليم الفلسفة اليونانية وتسير‬

‫في طريق التهذيب واالتساع وبدأت تحرر من ضيق القانون المدني‬

‫وجموده؛ مما أدى إلى تنازع الطبقتين وقيام العامة في سبيل الحصول‬ ‫على المساواة باألشراف على تلك الحركة التي أدت إلى وضع قانون‬ ‫األلواح االثنى عشرة والقوانين التي صدرت بعد ذلك والتي حققت‬

‫المساواة بين الطبقتين‪.‬‬

‫أما من الواجهة االقتصادية فإننا نجد أنه كانت نتيجة اتساع الدولة‬

‫الرومانية وكثرة فتوحها أن تغيرت حياة الرومان وبدأت تنتقل من‬

‫حالة زراعية بسيطة إلى حالة أخرى تقدمت فيها التجارة البرية‬

‫والصناعة ثم التجارة البحرية وكان من نتيجة هذا التطور االقتصادي‬ ‫أن ظهرت النقود البرونزية ثم الفضية؛ إذ أن الذهب لم يظهر إال في‬

‫العصر التالي‪.‬‬

‫‪166‬‬


‫النظام ال�سيا�سي واالجتماعي في العهد الجمهوري‪:‬‬

‫ترتب على قيام النظام الجمهوري استبدال حكام ال تتجاوز سلطتهم‬ ‫زمنًا محدو ًدا بحكام يستأثرون بالسلطة مدى حياتهم‪ ،‬فحل محل الملك‬ ‫حكام ينتخبهم الشعب‪ ،‬كما وجد إلى جانب الحكام المنتخبين مجلس‬ ‫الشيوخ ومجالس الشعب‪.‬‬ ‫الحكام‪:‬‬

‫حل محل الملك في رياسة الدولة حاكمان ينتخبهما سنو ًيا مجلس الشعب‪،‬‬ ‫وهما القنصالن اللذان كان لهما في الظاهر ما كان للملوك من سلطة‪ ،‬وإن كانت‬ ‫سلطتهم في الواقع أقل من سلطة الملوك بكثير‪ .‬فقد كانت سلطة القناصل مقيدة‬ ‫من جهة ألنهم كانوا يختارون لمدة سنة واحدة مما كان يجعلهم مسؤولين أمام‬ ‫الشعب في حالة ما إذا أساءوا استعمال السلطة الممنوحة لهم‪ ،‬ومن جهة أخرى‬ ‫كان وجود قنصلين في الحكم من شأنه أن يقيد سلطة كل منهما‪ .‬فقد كان لكل‬ ‫قنصل مطلق السلطة يباشرها كيفما شاء غير أن ً‬ ‫كل منهما كان يستطيع االعتراض‬ ‫ً‬ ‫وفضل عن ذلك لم يعهد‬ ‫على أي قرار يتخذه زميله فيتعطل بذلك هذا القرار‬ ‫بسلطة الملوك الدينية بل عهد بها إلى حاكم آخر كان بمثابة ملك ديني ال شأن‬ ‫له بالمسائل الدينية والسياسية وكان يدعى بملك الشعائر الدينية ويقيم بالقصر‬ ‫الملكي القديم خو ًفا من غضب اآللهة واستبقاء لحمايتهم‪ .‬كما أن الملك كان‬ ‫يعاقب على الجرائم العامة وكانت سلطته في ذلك تصل إلى حق الحياة أو‬ ‫الموت على األفراد‪ ،‬وقد تقيدت سلطة القناصل من هذه الناحية بظهور نظام‬ ‫التظلم أمام مجالس الشعب من أحكام القناصل الصادرة داخل المدينة(((‪.‬‬ ‫((( رباح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.42‬‬ ‫‪167‬‬


‫وكانت سلطة القناصل توقف إذ ما طرأت ظروف خطيرة تدعو إلى عدم‬

‫دكتاتورا له سلطات مطلقة ال‬ ‫ازدواج السلطة‪ ،‬فيعين القنصالن في هذه الحالة‬ ‫ً‬

‫يحدها حق التظلم إلى الشعب‪ ،‬يتعين عليه أن يتنحى عن الحكم بمجرد تحقيق‬

‫الغرض الذي أختير من أجله‪ ،‬كما كان ال يجوز له بأي حال أن يبقى الحكم‬ ‫مدة تزيد على ستة أشهر((( ؛ وعندما زادت أعباء الحكم على القناصل بسبب‬

‫اتساع الدولة الرومانية استعانوا ببعض الموظفين لمساعدتهم في تحمل األعباء‬

‫الملقاة على عاتقهم وكانوا هؤالء الموظفين يعملون في بادئ األمر تحت‬ ‫إشراف القناصل ولكنهم استقلوا فيما بعد عنهم وأصبحوا حكا ًما يختارون‬

‫مثل القناصل بواسطة مجالس الشعب‪ ،‬وقد ظهر الحكام تبا ًعا وفق اآلتي‪:‬‬ ‫( أ ) حاكم اإلحصاء‪:‬‬

‫هو حاكم أنشئت وظيفته عام ‪ 435‬ق‪.‬م وكان يختص بإحصاء المواطنين‬ ‫الرومان المكلفين بالجهاد والضرائب وثرواتهم‪.‬‬

‫(ب) الحاكم المحقق‪:‬‬ ‫وقد أنشئ منصبه عام ‪ 420‬ق‪.‬م ويختاره الشعب ليدير المالية العامة‬

‫ولتحقيق بعض القضايا الخاصة بالجرائم العامة والفصل فيها‪ ،‬كجريمة‬

‫قتل األب وجريمة الخيانة العظمى‪ .‬في البداية كان عدد الحكام‬

‫المحققين أربعة ثم زاد عددهم حتى أصبحوا عشرين‪.‬‬ ‫(جـ) حكام األسواق‪:‬‬

‫وهما حاكمان أنشئت وظيفتهما عام ‪ 367‬ق‪.‬م إلدارة أعمال الشرطة‬ ‫((( البدراوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.40-39‬‬ ‫‪168‬‬


‫في المدينة واإلشراف على األسواق العامة والمالعب ومراقبة بيوع‬ ‫األرقاء والمواشي في األسواق والقضاء فيما ينشأ بشأنها من منازعات‪.‬‬ ‫( د ) الحاكم القضائي‪:‬‬

‫عهد والية القضاء في المسائل‪ ،‬ويختار مجلس الشعب هؤالء الحكام‬ ‫وعددهم اثنان كل خمس سنوات ويبقون في وظائفهم حتى يتموا‬ ‫شهرا وأصبح فيما بعد حتى‬ ‫مهمتهم بحيث ال تتجاوز ثمانية عشر ً‬ ‫اختيار أعضاء مجلس الشيوخ‪.‬‬

‫ولحاكم اإلحصاء والسنسور في العصر الجمهوري وظيفة أخالقية؛‬ ‫قيما على أخالق المواطنين وشرفهم في المدينة‪ ،‬فله أن يمنع من‬ ‫إذ كان ً‬ ‫أمرا مشينًا يجعله غير جدير بشرف الخدمة‬ ‫قوائم الجندية كل مواطن ارتكب ً‬ ‫ونظرا للتالزم عند الرومان بين حق االقتراع والخدمة‬ ‫في فيالق الجيش‪،‬‬ ‫ً‬ ‫العسكرية فإن إجراء السنسور يترتب عليه حرمان المواطن المذكور من حق‬ ‫االقتراع وحق تولي المناصب العامة المدنية إلى حاكم قضائي منتخب من‬ ‫الشعب فأنشئت في عام ‪ 367‬ق‪.‬م وظيفة البرايتور المدني؛ ولما اتسعت‬ ‫فتوحات الرومان ودخلوا في عالقات مع األجانب أنشئت عام ‪ 242‬ق‪.‬م‬ ‫وظيفة برايتور األجانب وكان هذا الحاكم ينتخب سنو ًيا مثل البرايتور‬ ‫المدني ويتولى إدارة القضاء في روما بين األجانب وبينهم وبين الرومان‪.‬‬ ‫مجل�س ال�شيوخ‪:‬‬

‫في هذا العصر تغير مجلس الشيوخ فأصبح يدخله بحكم القانون من‬ ‫قاصرا على األشراف‪ ،‬إذ دخله العامة‬ ‫سبق وتولى منص ًبا عا ًما وبذلك لم يعد‬ ‫ً‬ ‫عندما اكتسبوا حق تولي المناصب العامة‪ ،‬وقد ظل هذا المجلس كما كان‬ ‫‪169‬‬


‫نظرا‬ ‫في العهد الملكي‬ ‫مجلسا استشار ًيا‪ ،‬غير أنه سلطته ازدادت في الواقع ً‬ ‫ً‬ ‫ألن التعيين في المناصب العامة كان يتم بطريقة االنتخاب ولمدة سنة واحدة‬ ‫يسأل بعدها الحاكم عن إدارته‪ ،‬وقد جرى الحكام‪ ،‬والسيما القناصل‪ ،‬على‬ ‫أخذ رأيه قبل اتخاذ بعض القرارات الخطيرة‪ ،‬سواء ما تعلق منها بالمسائل‬ ‫الحربية أو المالية أو التشريعية واإلدارية أو السياسية‪ ،‬وقد ترتب على‬ ‫استشارية في المسائل التشريعية أن أصبح له الحق في إجازة مشروعات‬ ‫القوانين قبل عرضها على مجالس الشعب وإعفاء بعض األشخاص من‬ ‫الخضوع ألحكام القوانين إذا اقتضت الضرورة ذلك(((‪.‬‬ ‫مجل�س ال�شعب‪:‬‬

‫تعددت مجالس الشعب وتنوعت الختالف تكوينها واختصاصاتها‬ ‫بسبب انقسام الشعب إلى أشراف وعامة‪ ،‬فقد وجدت‪:‬‬ ‫( أ ) مجالس الشعب الثالثينية القديمة‪:‬‬

‫التي كانت موجودة في العصر الملكي والتي كان ال يدخلها إال‬ ‫األشراف‪ ،‬وهذه قلت سلطتها واجتماعاتها‪ ،‬فأصبحت ال تدعى إال‬ ‫للموافقة على بعض التصرفات التي تؤدي إلى تغيير نظام األسرة كتبني‬ ‫رب األسرة أو إلى انتقال أموالها كالوصايا‪.‬‬

‫(ب) مجالس القبائل‪:‬‬

‫وهي المجالس التي كانت تنتظم األشراف والعامة طب ًقا للتقسيم‬ ‫اإلقليمي الذي وضعه الملك سرفيوس توليوس الذي قضى بتقسيم‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.44‬‬ ‫‪170‬‬


‫الشعب إلى أحياء أو قبائل جديدة‪ ،‬وكان عددها في األصل أربع في‬ ‫المدينة وسبع عشرة خارجها ثم زاد بعد ذلك عددها‪.‬‬

‫(جـ) مجالس الوحدات المئوية الجديدة‪:‬‬ ‫التي تشكلت في عهد الملك سرفيوس من تقسيم القبائل إلى خمس‬

‫طبقات‪ ،‬وكل طبقة إلى وحدات مئوية‪ ،‬وهذه كانت تنظم األشراف‬

‫والعامة بحسب ثروة كل طبقة منهم‪.‬‬ ‫( د ) مجالس العامة‪:‬‬

‫وهي المجالس التي نشأت عندما سمح للعامة باالجتماع داخل‬

‫مجالسهم الخاصة التي كانت تابعة لمجالس القبائل‪.‬‬

‫وبالنسبة الختصاصات المجالس التشريعي‪ :‬كان لمجالس القبائل‬

‫والوحدات العسكرية المئوية حق االقتراع على مشروعات القوانين‬

‫التي يتقدم بها القناصل أو األباطرة‪ ،‬أما مجلس العامة فكان يقترع على‬ ‫المشروعات التي يتقدم بها حكام العامة(((‪.‬‬

‫الحالة االجتماعية‪:‬‬

‫طبقة األشراف كانت تنظم العشائر الرومانية وأن العامة لم تكن ضمن‬

‫هذه العشائر‪ .‬وقد كانت طبقة األشراف تكون طبقة ممتاز تتمتع بجميع‬

‫الحقوق العامة والخاصة؛ بينما كان أفراد العامة محرومين من مباشرة‬ ‫معظم هذه الحقوق‪ ،‬فلم يكن لهم حق تولي المناصب العامة ولم يكن‬ ‫((( فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.30‬‬ ‫‪171‬‬


‫لهم حق االقتراع‪ ،‬داخل المجالس الثالثينية القديمة‪ ،‬وإن كان لهم هذا‬ ‫الحق داخل مجالس القبائل والمجالس العسكرية الجديدة ولكنهم كانوا‬ ‫أقلية فيها؛ ألنه روعي في تشكيلها للثروة العقارية‪ ،‬أما من ناحية القانون‬ ‫الخاص فلم يكن للعامة حق الزواج باألشراف‪ ،‬ولكن كان لهم حق التعامل‬ ‫أي استعمال الطرق الرومانية في تصرفاتهم القانونية كاإلشهاد ً‬ ‫مثل‪ ،‬كما‬ ‫كان لهم حق التقاضي وف ًقا لإلجراءات الرسمية الرومانية‪.‬‬ ‫ومن جهة أخرى كانت الثروة العقارية في أيدي األشراف ألن األرض‬ ‫كانت ملكًا للعشائر الرومانية التي أسست المدينة ولم يكن العامة يدخلون‬ ‫ضمن هذه العشائر وإن كان يبدو أن الملوك قاموا بتوزيع بعض األراضي‬ ‫الجديدة على أسر العامة؛ ولكن في أوائل عصر الجمهورية ادعى األشراف‬ ‫ألنفسهم الحق في االستيالء وحدهم على األراضي الجديدة التي أصبحت‬ ‫كثيرا ما كانوا يضطرون إلى اقتراض‬ ‫ملكًا للمدينة‪ ،‬كما يالحظ أن العامة ً‬ ‫المحصوالت وسبائك النحاس من األشراف؛ ولهذا كانوا هم الذين‬ ‫يتعرضون إلجراءات التنفيذ القاسية التي يجوز طب ًقا للقانون الروماني‬ ‫القديم أن يباشرها الدائن ضد مدينه المعسر‪.‬‬ ‫الحقبة األولى من العصر الجمهوري تتميز بالنزاع بين األشراف والعامة‪:‬‬ ‫النزاع الشديد الذي قام بين األشراف والعامة بسبب وجود العامة‬ ‫في مركز أدنى من مركز األشراف ومطالبتهم بالمساواة باألشراف في‬ ‫الحقوق العامة والخاصة‪ ،‬ويرجع هذا النزاع إلى الظروف التي نشأ فيها‬ ‫النظام الجمهوري‪ ،‬فقد تم طرد الملوك إثر ثورة أرستقراطية من جانب‬ ‫األشراف رغبة منهم في االستئثار بالسلطة وتمخضت هذه الثورة عن‬ ‫نظام جهوري ارستقراطي النزعة‪ ،‬أحس بوطأته العامة السيما وأن حالتهم‬ ‫‪172‬‬


‫كانت على ما يبدو أفضل في العصر الملكي حيث كانوا يلقون من الملوك‬ ‫كل حماية ورعاية‪ ،‬فحرك ذلك حفيظة العامة ضد األشراف‪ ،‬وأيقظ فيهم‬ ‫ً‬ ‫طويل‬ ‫تلك النزعة االنفصالية التي كانت كامنة في نفوسهم بسبب إقامتهم‬ ‫خارج المدينة‪ ،‬فقام العامة بعدة ثورات ضد األشراف في سبيل الحصول‬ ‫على حقوقهم‪.‬‬ ‫في سنة ‪ 494‬ق‪.‬م ثار العامة ضد األشراف واعتصموا بتل خارج‬ ‫المدينة مهددين األشراف باالنسحاب نهائ ًيا منها وإنشاء مدينة لهم في‬ ‫موطنهم األصلي‪ .‬لما رأى األشراف وجود العامة ضرورة البد منها لقضاء‬ ‫المصالح في المدينة جزعوا من هذا االنسحاب وقبلوا أن يكون للعامة‬ ‫حاكمان يمثالنهم في المدينة ويسميان بحاكمي العامة‪ ،‬ومع أنه لم يكن‬ ‫لحكام العامة أن يشتركوا في إدارة شؤون المدينة؛ إال أنه كان لهم حقان‬ ‫استثنائيان؛ األول حق االعتراض على القرارات الصادرة من حكام المدينة‬ ‫أو من مجلسي الشيوخ والشعب التي يكون فيها إجحاف بمصالح العامة‬ ‫والثاني اعتبار ذات الحاكم مصونة ال تمس فأي اعتداء على حكام العامة‬ ‫يكون جزاؤه اإلعدام‪.‬‬ ‫م�ساواة العامة بالأ�شراف‪:‬‬

‫لم يقم حكام العامة بتشجيع النزعة االنفصالية التي كانت كامنة‬ ‫في نفوس العامة بل وجهوا نشاطهم نحو تحقيق المساواة بين العامة‬ ‫واألشراف؛ وقد تم لهم ذلك تدريج ًيا كاآلتي‪:‬‬

‫صدر في سنة ‪ 471‬ق‪.‬م قانون يقرر للعامة حق االجتماع داخل مجالس‬ ‫قبائلهم فنشأ بذلك مجلس العامة الذي أصبح له الحق في إصدار قرارات‬ ‫‪173‬‬


‫تشريعية بناء على اقتراح حكام العامة تسري على العامة وحدهم؛ وفي سنة‬ ‫‪ 686‬ق‪.‬م صدر قانون هورتنسيا (‪ )Iex Hortensia‬فجعل هذه القرارات‬ ‫ملزمة لجميع المواطنين األشراف منهم والعامة‪ ،‬فأصبحت لها بذلك نفس‬ ‫القوة التي للقوانين الصادرة من مجالس الشعب بناء على اقتراح القناصل‪.‬‬ ‫وفي سنة ‪ 462‬ق‪.‬م طالب العامة بتشكيل لجنة لوضع مجموعة قانونية‬ ‫على أساس المساواة بينهم وبين األشراف‪ ،‬وقد انتهت هذه الحركة بوضع‬ ‫قانون األلواح االثنى عشر‪ ،‬ثم حصل العامة بمقتضى قانون كانوليا الصادر‬ ‫عام ‪ 445‬ق‪.‬م على حق الزواج باألشراف‪.‬‬ ‫أما مناصب الحكام فقد توالها العامة بعد صدور قوانين عام ‪ 367‬ق‪.‬م‪،‬‬ ‫فقد أنشأت هذه القوانين وظيفتي البريتور المدني وحاكم األسواق وأعطى‬ ‫العامة حق تولي هذين المنصبين كلما أوجبت أن يكون أحد القنصلين من‬ ‫العامة‪ ،‬فأصبح للعامة ـ وقد صار لهم حق تولي المنصب األعلى ـ حق‬ ‫تولي بقية المناصب األخرى‪ ،‬وقد منحت هذه القوانين العامة عالوة على‬ ‫ما تقدم حق تولي بعض المناصب الدينية التي كانت وق ًفا على األشراف‪.‬‬ ‫وفي عام ‪ 300‬ق‪.‬م منح القانون العامة حق تولي المناصب الدينية‬ ‫العليا‪ ،‬وبذلك حصلت المساواة بين األشراف والعامة(((‪.‬‬

‫((( رباح‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.54-52‬‬ ‫‪174‬‬


‫المبحث الثالث‬

‫الم�ؤثرات الداخلية في ع�صر الإمبراطورية‬ ‫العلمي وال�سفلى‬ ‫الع�صر العلمي‪ 130( :‬ق‪.‬م �إلى ‪ 284‬م)‬

‫من أهم عصور القانون الروماني «العصر العلمي»؛ وهو يبدأ حوالي سنة‬

‫‪ 130‬ق‪.‬م بصدور قانون إيبوتا (‪ )Iex Aebutia‬وينتهي بحكم اإلمبراطور‬

‫دقلديانوس عام ‪284‬م‪ ،‬فهو يشمل من تاريخ روما قرابة أربعة قرون‪ .‬ويمكن‬ ‫تقسيمه من الناحية السياسية واالجتماعية إلى ثالثة عهود‪:‬‬

‫«العهد األول أو صدر العصر العلمي يشمل الشطر األخير من العصر‬

‫الجمهوري حتى بداية والية اإلمبراطور أغسطس عام ‪ 27‬ق‪.‬م‪ .‬والعهد‬ ‫الثاني أو العصر العلمي يبدأ من حكم أغسطس ويشمل القرنين األولين‬

‫لإلمبراطورية‪ .‬والثالث األول من القرن الثالث الميالدي وينتهي عام‬ ‫‪235‬م بوفاة اإلمبراطور اسكندر سويريس (‪ .)Alexendre Seyere‬والعهد‬

‫الثالث هو عهد الحق يشمل باقي القرن الثالث الميالدي وينتهي بحكم‬ ‫اإلمبراطور دقلديانوس عام ‪284‬م»‪.‬‬

‫‪175‬‬


‫�صدر الع�صر العلمي‪:‬‬

‫يشمل هذا العهد الشطر األخير من الجمهورية‪ ،‬وقد أتمت فيه روما‬ ‫فتوحاتها حول حوض البحر األبيض المتوسط فأخضعت مصر لحكمها‬ ‫وتقدمت فتوحاتها في الغرب ففتح قيصر بالد الغال وبريطانيا العظمى‪ ،‬ويتميز‬ ‫هذا العصر بثورة الالتين (‪ )Latins‬سكان المستعمرات اإليطالية على روما‬ ‫وطالبتهم بالمساواة بينهم وبين الرومان في الحقوق حيث أنه لم يكن لهم حق‬ ‫التزاوج بالرومان‪ً ،‬‬ ‫فضل عن حرمانهم من الحقوق العامة وقد أدت هذه الثورة‬ ‫إلى حرب أهلية عرفت باسم الحرب االجتماعية كادت تقضي على روما لوال‬ ‫صدور قانون جوليا (‪ )Iex Julia‬فـي سنة ‪ 90‬ق‪.‬م الذي منح الجنسية الرومانية‬ ‫قاصرا‬ ‫لجميع الالتين من سكان إيطاليا؛ وبذلك لم يعد القانون الروماني قانونًا ً‬ ‫على الرومان سكان المدينة بل تعداها إلى سواهم من أهالي إيطاليا(((‪.‬‬ ‫كما ظهر في هذه الفترة التنازع بين قواد الجيش لالستيالء على مقاليد‬ ‫وكثيرا‬ ‫الحكم‪ ،‬فقد أصبح الجيش يتكون من جنود مرتزقة موالين لقوادهم‬ ‫ً‬ ‫ما سخر هؤالء القادة جنودهم لحقيق مطامعهم الشخصية‪ ،‬وانتهى هذا‬ ‫النزاع بالقضاء على النظام الجمهوري‪ ،‬وقيام النظام اإلمبراطوري الذي‬ ‫أقامه اكتافيوس الملقب بأغسطس بعد انتصاره على غريمه أنطونيو‪.‬‬ ‫النظام ال�سيا�سي‪:‬‬

‫احتفظت المدينة بدستورها القديم الذي يقوم على وجود هيئات ثالث‬ ‫هي الحكام ومجلس الشيوخ ومجالس الشعب‪.‬‬

‫إال أن هذه العهد يتميز بازدياد سلطة مجلس الشيوخ في الشؤون‬

‫((( البدراوي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.71-70‬‬ ‫‪176‬‬


‫السياسية واإلدارية‪ ،‬فقد أصبح له حق إعالن الحرب وعقد المعاهدات‬ ‫واإلشراف على ميزانية الدولة‪ ،‬كما أنه يعين القناصل والحكام القضائيين‬ ‫بعد انتهاء واليتهم حكا ًما على األقاليم‪ .‬أما من حيث التشريع؛ فسلطته‬ ‫تقتصر على إجازة مشروعات القوانين التي يتقدم بها الحكام قبل عرضها‬ ‫على مجالس الشعب‪ ،‬غير أنه أخذ يتدخل في التشريع إذ أصبح له الحق‬ ‫في أن يشير على الحكام باتخاذ إجراء معين وهو ما كان يسمى بمشورة‬ ‫الشيوخ ولكن هذه المشورة لم ترتفع في هذا العهد إلى مرتبة التشريع‪.‬‬ ‫الحالة االقت�صادية واالجتماعية‪:‬‬

‫انتقال روما من نظام االقتصاد الزراعي إلى النظام االقتصادي التجاري‬ ‫قد أدى هذا االنتقال إلى تباين كبير في الثروة بين السكان‪ .‬فقد كان من نتيجة‬ ‫االشتغال بالتجارة وكثرة الحروب وما يترتب عليها من توريد ما يلزم للجيوش‪،‬‬ ‫أن ظهرت في روما طبقة رأسمالية تنتظم كبار التجار وكبار أصحاب األموال‬ ‫وكبار المالك وبذلك اختفت الطبقة المتوسطة التي كانت مكونة من صغار‬ ‫المالك الذين اضطروا بسبب رخص المحصوالت التي كانت تستورد بكثرة‬ ‫من المستعمرات إلى بيع أراضيهم إلى أصحاب رؤوس األموال(((‪.‬‬

‫في العصر السابق كان يتميز بالملكية الزراعية التي هي عماد النظام‬ ‫االقتصادي واالجتماعي؛ وألنها جعلت من األسرة وحدة متماسكة تحت‬ ‫سلطة رب األسرة وظهور الملكية الزراعية الكبيرة التي استخدمت األرقاء‬ ‫في الزراعة‪ ،‬وهؤالء زاد عددهم بسبب كثرة الحروب مما أدى إلى نزوح‬ ‫الفالحين بكثرة إلى المدينة وزيادة عدد الطبقة المعدمة فيها سوء توزيع‬ ‫الثروة وتركيزها في أيدي نفر من الناس كان له أثر من الناحية االجتماعية‪،‬‬ ‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.40-39‬‬ ‫‪177‬‬


‫فقد اختفى التقسيم القديم «أشراف وعامة»‪ ،‬حل مكانه تقسيم جديد مبني‬ ‫على الثروة يتناسب مع الحالة االقتصادية الجديدة‪ .‬فهناك طبقة النبالء‬ ‫تتفرع عن أسر الحكام والذين كانوا أعضاء في مجلس الشيوخ يعينون‬ ‫منهم والحكام ينتخبون عادة من بينهم‪.‬‬ ‫وطبقة الفرسان هم الرأسماليون من التجار وأصحاب المصارف المالية‬ ‫الذين أثروا بسبب التجارة ومن توريد ما يلزم للجيوش‪ ،‬هؤالء وأولئك يكونون‬ ‫طبقة ارستقراطية تملك الضياع الكبيرة والعبيد والماشية والذهب والفضة‪،‬‬ ‫وإلى جانبها تقوم طبقة معدمة تنظم صغار الزراع والصناع والعتقاء(((‪.‬‬

‫( �أ ) الفل�سفة الإغريقية و�أثرها في القانون الروماني‪:‬‬

‫تميز القانون الروماني بالبناء السليم والدقة في التحليل‪ ،‬وهذا يرجع‬ ‫إلى أن الرومان فهموا مدى االرتباط الوثيق بين القانون والمجتمع‪ ،‬وعرفوا‬ ‫صالحا لمجتمع ما قد‬ ‫أن القانون هو ما فيه مصلحة المجتمع‪ ،‬وأن ما يكون‬ ‫ً‬ ‫صالحا لمجتمع آخر‪.‬‬ ‫ال يكون‬ ‫ً‬ ‫وأن النظام القانوني هو انعكاس للواقع االجتماعي في مظاهره‬ ‫االقتصادية والفكرية واالجتماعية والدينية‪ ،‬وهذا ما جعلهم يفسحون‬ ‫المجال للفقه ليقوم بدوره ورفعوا من شأنه حتى أصبح من المصادر الرسمية‬ ‫للقانون‪ ،‬وهنا يتضح أثر الفلسفة اإلغريقية على القانون الروماني‪ ،‬ثم من‬ ‫خالل دور الفقه‪ .‬فالفلسفة اإلغريقية أضفت على القانون الروماني الطابع‬ ‫اإلنساني فجعلته قانونًا عالم ًيا استطاع أن يظل قائم هذا الزمن الطويل‪.‬‬ ‫كان الرومان يغلب عليهم الجانب العلمي أكثر من التفكير النظري‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.83 ،42‬‬ ‫‪178‬‬


‫«ولذلك لم يهتموا بالتأمل الفلسفي في القانون‪ ،‬وإن كانوا هم بحق كما‬ ‫قال أحدهم‪ :‬قد خلقوا ليحملوا رسالة القانون إلى العالم»‪.‬‬ ‫ورغم ذلك فقد عرفوا فلسفة القانون أو بالمعني الصحيح التأمل الفلسفي‬ ‫للقانون وهذا ما انتقل إليهم عن طريق انتقال الفلسفة اإلغريقية إليهم‪.‬‬

‫«وكما يقول الدكتور محمود السقا‪ :‬إن اللقاء األول في التاريخ بين الفلسفة‬ ‫والقانون من الناحية التطبيقية هو لقاء الفلسفة اإلغريقية بالقانون الروماني»(((‪.‬‬

‫وظهرت عبقرية الرومان في نقل األفكار الفلسفية من محيط الفلسفة‬ ‫إلى عالم القانون‪ ،‬وبوجه عام فمن المقرر أن الفلسفة اإلغريقية قد لعبت‬ ‫كبيرا في تطوير وتهذيب قواعد القانون الروماني‪.‬‬ ‫دورا ً‬ ‫ً‬

‫ولقد انتقلت الفلسفة اإلغريقية إلى روما عبر قنوات متعددة منها‬ ‫التحوالت الكبرى التي حدثت في روما؛ ففي البداية كان مجتمع زراعي‬ ‫مغلق‪ ،‬وبعد ذلك احترف الرومان التجارة‪ ،‬وبهذا اتسعت دائرة انفتاح‬ ‫الرومان على البالد المجاورة‪ ،‬فنهض الرومان ينهلون من الثقافة اإلغريقية‬ ‫بكل ما فيها من فنون وفلسفة وآداب(((‪.‬‬ ‫ومن ناحية ثانية مناصرة األباطرة وتشجيعهم للبحث الفلسفي في‬ ‫القانون؛ ويعد جوليناس من أكثر الذين لقوا تأييدً ا من أباطرة الرومان‪.‬‬

‫متحيزا للثقافة اإلغريقية وداعيين‬ ‫ومن ناحية ثالثة ظهر من الرومان من كان‬ ‫ً‬ ‫لنقلها إلى روما‪ ،‬وكان من أشهر هؤالء الفقهاء الفقيه والشاعر والخطيب‬ ‫شيشرون (‪ )Ciceron‬والذي أثرى الفكر الروماني بمؤلفات غزيرة‪.‬‬ ‫((( السقا‪ ،‬محمود‪ ،‬أثر الفلسفة في الفقه والقانون في العصر العلمي‪ ،‬مجلة القانون‬ ‫واالقتصاد‪ ،‬القاهرة‪ ،1977 ،‬ص‪539‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.541-539‬‬ ‫‪179‬‬


‫كما يقول وول ديورانت في كتابه قصة الحضارة‪« :‬وإذا أحصينا أثمن‬ ‫ما ورثناه من العالم القديم قلنا إن العلوم الفلسفية اليونانية والمسيحية‬ ‫واليهودية واليونانية‪ ،‬والديمقراطية اليونانية الرومانية‪ ،‬والقانون‬ ‫الروماني»(((‪.‬‬ ‫كانت الدولة الرومانية باسطة نفوذها على العالم المتمدين إذ ذاك؛‬ ‫وكانت المذاهب الفلسفية تجاهد في معترك الوجود‪ ،‬تناضل عن البقاء‬ ‫فأثر بعضها على بعض‪ ،‬وكان الرومانيون قبل ذلك ال يعبأون بالفلسفة‬ ‫ً‬ ‫سفيرا في‬ ‫اشتغال بالسياسة‪ ،‬ظلوا على هذا الحال إلى أن بعث كريناج‬ ‫ً‬ ‫روما‪ ،‬فحمل معه إليها تعاليم أساتذته الفلسفية وأخذ يدعو لها‪ ،‬وانتهى‬ ‫األمر بأن مال بعض الشبان الالتينيين العمليين إلى احتضان الفلسفة‪.‬‬

‫وانتشر المذهب الرواقي وتغلغل في أخالق األمة الرومانية وفي‬ ‫عظيما في التشريع حتى تشبعت به آراء‬ ‫سياستها وفي دينها‪ ،‬وكان تأثيره‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫جايوس وبول وألبيان وبانياس‪ ،‬وكان من الفالسفة الرومانيين ً‬ ‫أحرارا حتى في وسط‬ ‫ابكتيتوس الذي ذكر في كتابه كيف يكون الناس‬ ‫ً‬ ‫العبودية(((‪ ،‬وهو عبد اكتسب حريته بنفسه‪.‬‬ ‫أيضا كان من أهم من اعتنق الرواقية اإلمبراطور الروماني «ماركوس‬ ‫ً‬ ‫أوريليوس أنطونيوس أوغسطس»‪ ،‬ولد في ‪ 26‬نيسان عام ‪ 180-161‬م‪،‬‬ ‫كتب كتا ًبا في الفلسفة بعنوان «تأمالت ماركوس أوريليوس»‪ .‬في األصل‬ ‫((( وول ديورانت‪ ،‬قصة الحضارة‪ ،‬الحضارة الرومانية ت‪ .‬محمد بدران‪ ،‬مج‪ ،3‬ج‪،2‬‬ ‫مطبعة جامعة الدول العربية‪ ،1973 ،‬ط‪ ،3‬ص ص‪.388 ،360‬‬ ‫((( المنوفي‪ ،‬السيد محمود أبو الفيض‪ ،‬تهافت الفلسفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب العربي‪،‬‬ ‫ط‪ ،1967 ،1‬ص ص‪.127-125‬‬ ‫‪180‬‬


‫ماركوس كان من أصول القنصلية األسبانية‪ ،‬توفي والده عندما كان عمره‬ ‫ثالثة أشهر‪ ،‬وبعد أن صار عمره ‪ 18‬أو ‪ 18‬عا ًما أصبح وريث جده تيطس‬ ‫أنطونيوس بيوس ماركوس أوريليوس‪ ،‬تقدم ماركوس أنطونيوس بيوس‬ ‫القنصل وقيصر في ‪139‬م‪ ،‬في ‪145‬م تزوج ابنه بيوس وهي فوستينا‪ ،‬وبعد‬ ‫ذلك منح السلطة واإلمبرياليين خارج روما‪.‬‬ ‫من أعماله المهمة التي تدل على إنسانيته‪:‬‬ ‫أنه كان يستعد لحرب بين روما والقبائل الجرمانية على طول نهر‬ ‫الدانوب‪ ،‬في تلك الفترة غزا الطاعون الناس‪ ،‬مما أسفر عن مقتل اآلالف‪،‬‬ ‫سن بذلك تشريعات بشأن ممارسات الدفن‪ ،‬ونفذت‪ ،‬ودفن الفقراء على‬ ‫نفقة الدولة‪ .‬ماركوس أوريليوس تصرف بإحسان في ظروف أخرى بما‬ ‫في ذلك المجاعة لمساعدة شعب روما‪ .‬توفي ماركوس أوريليوس في‬ ‫مارس عام ‪180‬م‪ ،‬وقبل جنازته كان قد أعلن إله(((‪.‬‬ ‫وقد كان ماركوس أورليوس من أشهر الفالسفة الرواقيين‪ ،‬وكان يدعو‬ ‫إلى الزهد والتقشف‪ ،‬قد يكون الزهد ومغالبة النفس عند اإلمبراطور أسهل‬ ‫من الزهد بالنسبة للعبد‪ ،‬ألن الزهد فيما نملكه أسهل وأخف على النفس‬ ‫من الزهد فيما ال نملكه‪.‬‬ ‫الفلسفة الرواقية‪:‬‬ ‫صرف الرواقيون عنايتهم إلى األخالق والتدريب العملي على‬ ‫الفضائل‪ ،‬وكان مصدر المعرفة عندهم هو الحواس‪ ،‬وأن نفس الطفل‬ ‫((( شبكة المعلومات‪ ،‬موقع‪ ،abaut.com :‬النشرة اإلخبارية قسم التاريخ الكالسيكي‪،‬‬ ‫الجمعيات الوطنية‪ ،‬جيل ‪.22-2-2010‬‬ ‫‪181‬‬


‫عند والدته تكون كالصحيفة الخالية‪ ،‬ثم ال تلبث الصور أن تتوارد منبعثة‬ ‫عن األشياء الخارجية فتنطبع في الذهن‪.‬‬ ‫فالطبيعة عند الرواقيين هي وجود حسي جميع أجزائه متألفة ومتجانسة‬ ‫يحس ويشعر ويتحرك بنظام طب ًقا لقوانين ثابتة وغايات عقلية‪ .‬وبناء على‬ ‫هذا فكل شيء عندهم مقدر والبد من حصوله‪ ،‬فالقدر والحركة هما مظهران‬ ‫لإلله واإلله موجود في األشياء بمعنى أنه علتها وحركتها ونظامها(((‪.‬‬ ‫والفلسفة الرواقية تأسست في اليونان على يدي زينون القبرصي‪ .‬ولد‬ ‫زنيون حوالي ‪ 332‬ق‪.‬م‪ ،‬وفي العشرينيات من عمره سافر إلى أثينا ليدر‬ ‫على خلفاء الفالسفة الذين قرأ كتبهم‪ ،‬وحين نضج فكر ًيا راح يحاضر في‬ ‫الرواق في أثينا حوالي ‪ 300‬ق‪.‬م فعرفت مدرسته بالرواقية‪.‬‬ ‫زينون حاول في محاضراته أن يخرج فالسفة اليونان من دوائرهم‬ ‫الضيقة إلى الرحاب اإلنسانية‪ .‬يقول الفيلسوف األلماني ألبرت شفيتسر‬ ‫«لم تبلغ الحركة األخالقية في الحضارة اليونانية أوجها إال بما قدمت به‬ ‫الفلسفة الرواقية من عمل عظيم في التربية»‪.‬‬ ‫كانت الفضيلة أهم القضايا عند زينون برأيه هي الخير الذي ال خير‬ ‫سواه‪ .‬ويقول زينون‪« :‬إن ممارسة الفضيلة هي غاية اإلنسان في الحياة‬ ‫والذي يمارس الفضائل يجد مكافأته في الممارسة ذاتها»‪.‬‬ ‫إنها المناقبية المطلقة التي تعمل في سبيل اإلنسان من غير أن تنتظر‬ ‫مكافأة أو ثوا ًبا‪ ،‬وبذلك كانت الفضيلة الرواقية قدوة لجميع المذاهب‬ ‫والفلسفات األخالقية‪.‬‬ ‫((( المنوفي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.115-114‬‬ ‫‪182‬‬


‫يقول الفيلسوف بيرتراند رسل «كان الرواقيون يفهمون الحياة الفاضلة‬ ‫على أنها عالقة النفس بالله أكثر مما هي عالقة المواطن بالدولة‪ ،‬وبذلك‬ ‫مهدوا الطريق أمام المسيحية التي كانت كالرواقية على نقيض السياسة‪.‬‬

‫للرواقية مالمح روحية أخالقية تؤلف خطو ًطا رئيسية لمذهب أخالقي‪.‬‬ ‫يقوم هذا المذهب على دعامتين‪ :‬األولى مسلكية فردية تحدد منهجية سير‬ ‫اإلنسان‪ ،‬والثانية جماعية تعين مركز اإلنسان في الكون‪.‬‬

‫ترتكز الدعامة األولى على فكرة الرجل الحكيم الذي يكيف حياته‬ ‫وف ًقا لمفاهيم الفضيلة‪ ،‬والفضيلة هي الحياة وفق الطبيعة والطبيعة هنا تعني‬ ‫العقل وتجعل سلوك اإلنسان ضمن دائرة سلطان العقل األول الذي ينظم‬ ‫أفكارنا ويحكم الكون‪.‬‬ ‫وترتكز الدعامة الثانية على إيمان بوحدة اإلنسان والمساواة بين الناس‪،‬‬ ‫فالحياة عنده واحدة والعالم واحد وكون العقل هو الحد المشترك بين جميع‬ ‫الناس مما يجعلهم متساوين في العقل‪ ،‬وبالتالي باإلنسانية وفي الحقوق اإلنسانية‪.‬‬

‫مبشرا بالفضيلة ألنها باعتباره األساس في حياة‬ ‫باختصار عاش زينون ً‬ ‫اإلنسان وسار في حياته كلها على مقتضى األصول التي آمن بها ودعا إليها‪،‬‬ ‫وقد دأب على حث تالميذه على لزوم الفضيلة‪ ،‬مؤكدً ا على تضمين قاموس‬ ‫الفلسفة مفهومي الواجب والضمير اللذين يشكالن األساس في المعتقدات‬ ‫األخالقية التي تتكون تحت تأثير مختلف العالقات في المجتمع على نحو‬ ‫يسمح لألفراد والشعوب بالتفكير الحر وبالتعبير الحر مشد ًدا على اعتقاده‬ ‫بأن الالهوت فعل شامل منتشر في مادة الكون يعرف باسم العناية(((‪.‬‬ ‫((( برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬ت‪ .‬زكي نجيب محمود‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طبعة لجنة‬ ‫التأليف والترجمة والنشر‪ ،1954 ،‬ص ص‪.407-401‬‬ ‫‪183‬‬


‫إ ًذا الفلسفة الرواقية تساوي بين الفضيلة والمعرفة؛ هناك حالة من المعرفة‬ ‫متى تم الوصول إليها بلغ اإلنسان السعادة‪ ،‬وأعلى درجات الرقي حال المعرفة‬ ‫عندهم هي نوع من الحكمة؛ فاإلنسان ال يجب أن يكف عن طلب العلم والحكمة‬ ‫طيلة حياته حتى يصل إلى حالة التنوير والعالء والمنشودة فخالل الفترة التي‬ ‫كبيرا ظهرت المسيحية إلى السطح كفكر‬ ‫انتشرت فيها الفلسفة الرواقية‬ ‫انتشارا ً‬ ‫ً‬ ‫ديني جديد بالرغم من عدم وجود نظام فلسفي متكامل للمسيحيين آنذاك‪ ،‬إال أن‬ ‫دعوتهم كانت منافسة للفكر الرواقي السائد في ذلك الوقت‪ ،‬كانت المسيحية‬ ‫في بداية انتشارها تدعو هي األخرى إلى التقشف والزهد؛ لكنها كانت تختلف‬ ‫عن الرواقية بالنسبة لقضيتي االنتحار واالمتثال للسلطة‪ :‬الرواقية تجيز االنتحار‬ ‫وتسمح في حدود ضيقة باالمتثال للسلطة‪ ،‬لكن المسيحية ترفض كالهما‪.‬‬ ‫ابيكتيتوس الفيلسوف الرواقي كان يقول ال تقسم وإن كان البد فالقليل‬ ‫من القسم بقدر اإلمكان بعكس المسيحيين الذين كانوا يفضلون الشهادة‬ ‫على القسم بألوهية اإلمبراطور(((‪.‬‬

‫وبذلك كان للفالسفة الرواقيين أكبر األثر في القانون واألخالق‬ ‫أيضا نظريات مهمة في المنطق‬ ‫والنظرية السياسية على أنهم وضعوا ً‬ ‫والمعرفة والفلسفة الطبيعية‪.‬‬

‫(ب) الفل�سفة الإغريقية ونظام الأ�سرة‪:‬‬

‫التقاء الفلسفة اإلغريقية وثوابت القانون الخاص الروماني وباألخص‬ ‫دورا ها ًما في تغيير بعض المفاهيم الخاصة بهيكل‬ ‫في مجال األشخاص ً‬ ‫((( محمد زكريا توفيق‪ ،‬الفلسفة الهيلينية‪ ،‬مجلة الحوار المتمدن‪ ،‬العدد ‪-2009 ،2811‬‬ ‫‪.26-10‬‬ ‫‪184‬‬


‫البناء االجتماعي الروماني؛ ففي البداية كانت األسرة هي الخلية األولى‬ ‫للمجتمع الروماني حيث كانت األسرة مفهومها يدل على مجموعة من‬ ‫األشخاص واألموال والحقوق يتزعمها شخص واحد هو رب األسرة‬ ‫الذي يتمتع بسلطات مطلقة على الخاضعين له(((‪.‬‬ ‫وبدخول الفلسفة إلى روما وانطالق شرارة فلسفة القانون بدأ التغيير‬ ‫يأخذ طريقه سري ًعا في هيكل البناء االجتماعي في روما‪ ،‬فالفلسفة اإلغريقية‬ ‫أثرا في‬ ‫بما تحمله من سمات العالمية والمناداة بالحرية والمساواة أحدثت ً‬ ‫تهذيب نظرة القانون الروماني القديم بخصوص المفاهيم التي انتظمت‬ ‫في ظلها المبادئ الحاكمة لألسرة الرومانية‪.‬‬ ‫�أثر الفل�سفة الإغريقية في نظام الأ�سرة‪:‬‬

‫اعترف القانون الروماني في عصره العلمي للخاضعين لسلطة رب األسرة‬ ‫ببعض مظاهر الشخصية القانونية؛ فقد منح ابن األسرة ذمة مالية مستقلة عن‬ ‫رب األسرة‪ ،‬ونتيجة لذلك أصبح ابن األسرة ً‬ ‫أهل إلبرام التصرفات القانونية‬ ‫لحساب نفسه باإلضافة إلى معرفة النيابة التعاقدية‪ ،‬فأصبحت التصرفات التي‬ ‫يجريها ابن األسرة لحساب رب األسرة تنصرف آثارها إلى رب األسرة(((‪.‬‬ ‫ووصل األمر في تطوير مركز ابن األسرة حتى اعترف له بامتالك بعض‬ ‫ً‬ ‫استقالل عن ملكية رب األسرة‪.‬‬ ‫األموال‬ ‫((( أبو طالب‪ ،‬صوفي تاريخ النظم القانون واالجتماعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫‪ ،1984‬ص‪.407‬‬ ‫((( حسين‪ ،‬فايز محمد‪ ،‬طارق مجذوب‪ ،‬تاريخ النظم القانونية‪ ،‬منشورات الحلبي‬ ‫الحقوقية‪2009 ،‬م‪ ،‬ص ص‪.294-293‬‬ ‫‪185‬‬


‫تغيير نظام القرابة‪:‬‬ ‫كان الرومان ال يعرفون القرابة إال على أساس االشتراك في الخضوع‬ ‫لسلطة رب األسرة؛ أي نظام القرابة المدنية‪ ،‬وطب ًقا لقواعد السلطة األبوية‬ ‫وما يتمتع به رب األسرة من سلطات في هذا الشأن‪ ،‬ولكن بعد دخول‬ ‫الفلسفة إلى روما‪ ،‬فقد ظهرت فكرة القرابة الطبيعية أي القرابة القائمة‬ ‫على صلة الدم واعتبرت هذه القرابة الطبيعية سب ًبا الكتساب بعض الحقوق‬ ‫مثل اإلرث(((‪.‬‬ ‫تحسن مركز الرقيق‪:‬‬ ‫كان حال الرقيق في القانون الروماني سي ًئا إلى حد كبير؛ إذ كان الرقيق‬ ‫والعدم سواء بسواء‪ ،‬حيث اعتبر الرومان المعاشرة بين األرقاء أو بينهم‬ ‫وبين األحرار حالة من حاالت االختالط المادي واألوالد الذين ينتجون‬ ‫من هذه المعاشرة يعتبرون ملك خاص للسيد وكل ما يكتسبه العبد يعد‬ ‫وخصوصا حق االلتجاء إلى القضاء‪،‬‬ ‫ملكًا للسيد وال يملك أي حقوق‬ ‫ً‬ ‫وبوجه عام اعتبر السيد يمثل كل شيء بالنسبة للرقيق‪ ،‬فهو أسرته ومجتمعه‬ ‫وإلهه وقاضيه‪ .‬والحروب ً‬ ‫مثل تولد عنها نظام األسر والرق(((‪ .‬ولكن من‬ ‫وخصوصا الفلسفة الرواقية فقد بدت في األفق‬ ‫دخول الفلسفة اإلغريقية‬ ‫ً‬ ‫مالمح تطور ملموسة في المركز القانوني واالجتماعي للرقيق‪ ،‬فقد دعت‬ ‫الفلسفة الرواقية إلى النزعة العالمية لإلنسان واعتبرت كل فرد يعد إنسانًا‬ ‫عالم ًيا يتمتع بحقوق طبيعية ال يجوز االنتقاص منها هنا(((‪.‬‬ ‫((( أبو طالب‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.341‬‬ ‫((( عبد العزيز‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.7‬‬ ‫((( أبو طالب‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.75‬‬ ‫‪186‬‬


‫وقد بدت مالمح التطور‪ ،‬وخاصة في عهد اإلمبراطور جستنيانوس‪،‬‬ ‫أحرارا‬ ‫حيث قال في مدونته إن الناس جمي ًعا بمقتضى قانون الطبيعة يولدون‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مجهول ألن الرق نفسه لم يكن معرو ًفا ولكن قانون األمم‬ ‫أمرا‬ ‫واإلعتاق كان ً‬ ‫إذ أنشأ الرق‪ ،‬فالرق نفسه استتبع على أثره حسنة اإلعتاق وبينما كنا بمقتضى‬ ‫اسما واحدً ا متواطئ المدلول‪ ،‬وهو لفظ «إنسان»‬ ‫الطبيعة نطلق على أنفسنا ً‬ ‫إذ بقانون األمم يجعل اإلعتاق بطرق متعددة فيكون إما بالكنائس وفق المراسيم‬ ‫اإلمبراطورية وإما بطريق المفاضلة باللسان وإما بحضرة بعض األصدقاء وإما‬ ‫بالخطاب المكتوب وإما بالوصية‪ ،‬وإما بأي عمل آخر يدل على إرادة من هو‬ ‫في مرض الموت‪ ،‬وهذه هي مشيئته األخيرة‪ .‬وعدا هذا فإن الرقيق ينال حريته‬ ‫بطرق أخرى متعددة منصوص عليها في المراسيم القديمة‪.‬‬ ‫ولقد كان العتق في الزمن السابق درجات ثال ًثا؛ إذ كان بعضهم ينال الحرية‬ ‫تامة مستكملة خصائصها القانونية المدنية وبهذا ينالون الجنسية الرومانية‬ ‫والبعض ينالون حرية أقل من هذه فيصبحون التينيين بمقتضى شريعة حوليا‬ ‫نوربانا‪ ،‬والبعض ينالون حرية أقل من هؤالء فيعتبرون بمقتضى شريعة إيليا‬ ‫في زمرة المستسلمين األخساء‪ .‬ولكن طبقة األخساء وهي أدنا الطبقات‬ ‫أيضا نادر‬ ‫الثالث قد عفا أثرها من زمن طويل‪ ،‬كما أن اسم الالتينيين أصبح ً‬ ‫الوجود لذلك أصدر جستنيانوس مرسومين أصلحا بهما هذه الحالة؛ بحيث‬ ‫أصبحت الحرية ال تتجزأ وحذف طبقة األخساء فأصبحوا أحرار‪ ،‬وكان هذا‬ ‫المرسوم بناء على اقتراح الفقيه تريبونيان المراقب بالشيوخ‪ ،‬فجميع العتقى‬ ‫قد أصبح لهم حق الجنسية الرومانية من غير حاجة إلى تعرف أعمارهم وال‬ ‫إلى البحث في كيفية امتالك معتقيهم وال في الشكل الذي تم به إعتاقهم وقد‬ ‫منح جستنيانوس طرق عديدة لنيل الحرية وحق الجنسية(((‪.‬‬ ‫((( فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.14-11‬‬ ‫‪187‬‬


‫الفل�سفة الإغريقية والمنهج القانوني الروماني‪:‬‬

‫أثرت الفلسفة في القانون الروماني في نطاق نظرية المنهج القانوني‪،‬‬

‫إذ أدت الفلسفة إلى تطويرها لتتالءم مع ظروف تطور المجتمع الروماني‬

‫وبوجه عام فقد ظهر األثر الفلسفي في نظرية المنهج القانوني عند الرومان‬

‫في المجاالت اآلتية‪:‬‬

‫تحت تأثير الفلسفة اإلغريقية تطورت مصادر القانون الروماني؛ فبعد‬

‫أساسا في العرف بجانب الفقه والتشريع‪ ،‬قد‬ ‫أن كانت مصادره تنحصر‬ ‫ً‬

‫ظهر مصدران أساسيان للقانون الروماني؛ هما‪ :‬مبادئ القانون الطبيعي‬

‫وقانون الشعوب(((‪.‬‬

‫فقد انتقلت فكرة القانون الطبيعي من الفكر اإلغريقي إلى الفكر‬

‫الروماني عبر قنوات عدة‪ ،‬أهمها فقيه روما وخطيبها وفيلسوفها شيشرون‪.‬‬ ‫وقد أفاض شيشرون في إيضاح فكرة القانون الطبيعي(((‪ .‬وقد عرفه‬

‫بقوله‪« :‬قانون موافق للطبيعة‪ ،‬معروف للجميع‪ ،‬خالد أبدي‪ ،‬يدعونا إلى‬

‫اتباع ما يأمر به وينهانا عن ارتكاب ما يحرمه‪ ،‬وهذا القانون لم يضعه البشر‬

‫بل إنه من صنع الله»‪ ،‬ولهذا قال شيشرون‪ :‬إنما خلقنا إلقامة العدل‪ ،‬فنحن‬

‫ال نسن القوانين بمحض الرأي بل بدافع الفطرة‪ .‬وقال الفقيه بولس عن‬

‫القانون الطبيعي‪ :‬إنه القانون الموافق للعدل‪.‬‬

‫أساسا‬ ‫وقد فهم الرومان هذه المعاني من القانون الطبيعي وجعلوه‬ ‫ً‬ ‫((( حسين‪ ،‬أحمد إبراهيم‪ ،‬مفهوم القانون الطبيعي عند فقهاء الرومان‪ ،‬الدار الجامعية‪،‬‬ ‫‪ ،1995‬ص ص‪.23-22‬‬ ‫((( أبو طالب‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.425‬‬ ‫‪188‬‬


‫مصدرا من مصادر القانون بجانب المصادر‬ ‫للقوانين الوضعية‪ ،‬فجعلوه‬ ‫ً‬ ‫األخرى المألوفة لديهم حينذاك‪.‬‬ ‫يقول الفقيه جايوس‪ :‬من الصعوبة بمكان أن نتحلل باسم التشريعات‬ ‫الوضعية عما جاء به القانون الطبيعي‪ ،‬كما يقول الفقيه أولبيان‪ :‬حينما‬ ‫عرف القانون بأنه المعرفة باألمور اإللهية واألمور اإلنسانية والعلم بما‬ ‫هو عدل وما ظلم»‪.‬‬ ‫مصدرا من مصادر القانون الروماني‬ ‫وبفضل اعتبار القانون الطبيعي‬ ‫ً‬ ‫دخلت نظم جديدة وتطورت نظم قديمة؛ ً‬ ‫فمثل قد عرف الرومان فكرة‬ ‫اإلثراء بال سبب ونظرية تعويض الضرر‪ ،‬ونظرية اإلعذار‪ ،‬ونظرية الخطأ‬ ‫التعاقدي‪ ،‬وتقسيم المصروفات إلى مصروفات ضرورية ونافعة وكمالية‬ ‫والتفرقة بين القانون العام والقانون الخاص‪.‬‬ ‫مصدرا آخر للقانون وهو قانون الشعوب‪،‬‬ ‫ومن ناحية ثانية فقد عرف الرومان‬ ‫ً‬ ‫وترجع نشأة قانون الشعوب إلى تطور ظروف المجتمع الروماني حيث انفتح‬ ‫المجتمع الروماني المغلق تحت تأثير التجارة على العالم الخارجي‪ ،‬األمر الذي‬ ‫ونظرا ألن القانون الروماني‬ ‫أدى إلى دخول عدد كبير من األجانب إلى روما‪ً .‬‬ ‫كان قانونًا عنصر ًيا ال يطبق إال على كل من يحمل الجنسية الرومانية‪ ،‬فقد بدا‬ ‫ضرور ًيا حماية األجانب الرومان والمتعاملين مع األجانب؛ فالضرورة فرضت‬ ‫وجود قانون يطبق على العالقات التي أطرافها أحد األجانب ووجود قضاء‬ ‫مختص بالقضايا التي بها طرف أجنبي‪ ،‬وقد توصل الرومان إلى ما سبق عن‬ ‫طريق إنشاء وظيفة أطلق عليها بريتور األجانب‪ ،‬الذي يختص بنظر المنازعات‬ ‫التي تنشأ بين الرومان واألجانب أو بين األجانب فقط‪ ،‬ومن خالل مجهوداته‬ ‫تكونت مجموعة قواعد قانون الشعوب؛ وبنا ًء عليه فقد تمت حماية األجنبي‬ ‫‪189‬‬


‫عن طريق إنشاء وظيفة بريتور األجانب‪ ،‬الذي تنحصر مهمته في الفصل في‬ ‫المنازعات التي تثور بين األجانب أو المنازعات التي يكون أحد أطرافها من‬ ‫الوطنيين والطرف اآلخر من األجانب أو المنازعات التي يكون أحد أطرافها‬ ‫من الوطنيين والطرف اآلخر من األجانب وبريتور األجانب ال يطبق على‬ ‫الرومانيين‪ ،‬وإنما يستهدى إلى حل النزاع عن طريق االستهداء بالتقاليد العرفية‬ ‫وخصوصا مبادئ القانون الطبيعي‪ ،‬وبناء عليه‪ ،‬فالقانون‬ ‫الدولية وغيرها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫الطبيعي عندما دخل الفكر القانوني الروماني قام في بادئ األمر بتهذيب نظرة‬ ‫الرومان لألجانب ثم أدى إلى نشأة قانون الشعوب‪ ،‬لينظم حقوقهم وواجباتهم‪.‬‬

‫فنظرا لتأثير الفلسفة اإلغريقية دخل المفهوم الفلسفي‬ ‫ومن ناحية ثالثة ً‬ ‫للعدالة إلى األفكار القانونية الرومانية فهذبها وطورها‪.‬‬

‫كبيرا في تطوير القانون الروماني؛ استنا ًدا عليها‬ ‫دورا ً‬ ‫وقد لعبت العدالة ً‬ ‫عرف الرومان مجموعة أفكار قانونية كان لها األثر الكبير في نشأة وتطوير‬ ‫وتهذيب القانون‪.‬‬ ‫ومن هذه األفكار‪ :‬مبدأ المساواة بين األجنبي والروماني في الحقوق‬ ‫والواجبات وتقرر مبدأ المساواة أمام القانون‪ ،‬فلكل إنسان داخل إقليم الدولة‬ ‫له حق االحتماء على الدوام بالقوانين الرومانية ومبدأ التناسب بين الغرم‬ ‫والغنم في المعامالت‪ ،‬فال يجوز أن ينشأ عن االلتزام ضرر ألحد المتعاقدين‬ ‫ومبدأ الوفاء بالعهد والذي عرف فيما بعد بمبدأ العقد شريعة المتعاقدين‪.‬‬

‫وتجلى دور العدالة في نطاق االلتزام في مجاالت عديدة‪ ،‬توسيع نطاق‬ ‫االلتزام بالنفقة وفي مجال األموال تم اعتماد طرق جديدة لكسب الملكية‬ ‫وفي مجال العقوبات تم إلغاء قطع األيدي واألرجل(((‪.‬‬

‫((( حسين‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.242-241‬‬ ‫‪190‬‬


‫الفل�سفة الإغريقية والتف�سير‪:‬‬

‫بخصوص أثر الفلسفة اإلغريقية على المنهج الروماني‪ ،‬فبدخول‬

‫الفلسفة اإلغريقية على القانون الروماني حدثت ثورة على الشكلية‬

‫وتطورت نظرية التفسير حيث دخل المنهج الجدلي إلى علم القانون‬

‫الروماني‪ ،‬األمر الذي ساعدهم على توسيع دائرة التغيير وعدم الوقوف عند‬

‫ظاهر النصوص وحدود الكلمات؛ بل بحثوا في أصول الكلمات للتعرف‬

‫على قصد المشرع الحقيقي؛ حيث دخل القياس إلى الفكر الروماني‪،‬‬ ‫وبمقتضاه استطاعوا إكمال ما شاب النصوص التشريعية من قصور وأخذت‬

‫كبيرا في مجال التفسير حيث أصبح اإلرادة ركنًا جوهر ًيا في‬ ‫اإلرادة حيزا ً‬ ‫الكثير من التصرفات القانونية لعبت بعض األفكار اإلغريقية مثل فكرة‬

‫كبيرا في تفسير مضمون االلتزامات‪،‬‬ ‫دورا ً‬ ‫الثقة واألمانة والمساواة والعدالة ً‬

‫األمر الذي أدى إلى تراجع الصيغ والشكليات العتيقة وفتح المجال واس ًعا‬

‫لمبدأ سلطان اإلرادة ومبدأ حسن النية(((‪.‬‬ ‫(جـ) الثقافة اليونانية و�أثرها‪:‬‬

‫كبيرا بالرغم من تمسك بعض‬ ‫بلغ تأثر الرومان بالثقافة اليونانية حدً ا ً‬

‫المفكرين الرومان بمدينتهم القديمة ودفاعهم عنها ضد تيار الثقافة اليونانية‪.‬‬ ‫كما زار روما بعض فالسفة اليونان باعتبارهم سفراء للثقافة اإلغريقية‬

‫وبدأوا في نشر مبادئهم التي كان لها وعلى األخص مبادئ الفلسفة الرواقية‬

‫صدى كبير في نفوس المتعلمين من الرومان‪.‬‬ ‫((( المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.211‬‬ ‫‪191‬‬


‫وقد ظهر أثر الفلسفة اليونانية منذ هذا العهد في مؤلفات الفقهاء الذين‬

‫تلقى كثير منهم تعاليمها على يد أساتذة جاءوا من اليونان‪ .‬وقد بدا ذلك على‬ ‫األخص في طريقتهم في التفسير وابتكار المبادئ‪ ،‬فلم يقتصروا في تحديد‬

‫معاني النصوص على التفسير اللفظي‪ ،‬الذي يستند على األلفاظ والمباني‬ ‫بل عمدوا إلى ما كانوا يسمونه بالتفسير المنطقي الذي يستند إلى المقاصد‬

‫والمعاني والذي يقضي بالبحث عن قصد الشارع وإرادة المتعاقدين الحقيقية‪،‬‬

‫كما أنهم استمدوا من فالسفة اليونان طريقتهم في ترتيب القواعد وتنسيقها‬ ‫في تقسيمات منظمة وتعليل اآلراء الفقهية في تسلسل منطقي‪ ،‬ومن المبادئ‬ ‫التي ظهرت بتأثير تعاليم الفلسفة اليونانية مبدأ الوفاء بالتعهدات سواء كانت‬

‫في صيغة رسمية فنشأت بذلك عقود ملزمة دون أن تكون شكلية وهي العقود‬ ‫الرضائية األربعة‪ ،‬البيع واإلجارة والشركة والوكالة التي تنعقد بمجرد التراضي‬

‫أيضا مبدأ حسن النية في المعامالت الذي يقضي بوجوب مراعاة حسن‬ ‫ومنها ً‬ ‫النية في التصرفات القانونية وتغليب قصد المتعاقدين على الشكل‪.‬‬

‫وقد أدى هذا المبدأ إلى التخفيف من حدة الشكلية‪ ،‬فلم يعد التصرف‬

‫ومنتجا لكل آثاره بمجرد تمام اإلجراءات الرسمية الالزمة النعقاده‪،‬‬ ‫ملز ًما‬ ‫ً‬ ‫بل أصبح للقاضي أن يبحث عن إرادة المتعاقدين وأن يبطل العقد كلما‬

‫كانت هذه اإلرادة مشوبة بعيب من العيوب المفسدة كالغش أو اإلكراه(((‪.‬‬ ‫العصر العلمي الالحق‪:‬‬ ‫يبدأ هذا العهد من عام ‪235‬م ويشمل الشطر األخير من العصر العلمي‬

‫أي حتى نهاية القرن الثالث الميالدي‪.‬‬

‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.86-85‬‬ ‫‪192‬‬


‫فمن الناحية السياسية أدى عدم وجود قانون الوراثة العرش إلى إثارة‬

‫االضطرابات والقالقل عند وفاة اإلمبراطور‪ ،‬كما بدأت جحافل القبائل‬

‫المتبربرة تتجمع عند حدود اإلمبراطورية وتهدد سالمتها وتتوغل أحيانًا‪.‬‬ ‫من الناحية االقتصادية‪:‬‬ ‫تبع االنهيار السياسي الذي أنشأ حالة غير مستقرة وغير أمنة فتدهورت‬ ‫ً‬ ‫فاحشا مما دعا األباطرة عب ًثا إلى‬ ‫قيمة النقد وارتفعت أسعار األشياء ارتفا ًعا‬

‫معالجة هذا الوضع السيئ‪ ،‬خاصة اإلمبراطور ديوكلسان الذي أصدر في‬

‫سنة ‪ 301‬م مرسو ًما في تحديد األجور وأسعار الحاجيات؛ حيث وضع حدً ا‬

‫على كل مبيع وهدد المتجاوزين لهذه األسعار وكذلك المحتكرين بالموت‪.‬‬ ‫وبالرغم من كل ذلك‪ ،‬وأي محاولة لوقف ارتفاع األسعار من قبل ومن‬

‫بعد قد فشلت رغم تدخل الدولة العنيف االستبدادي ذلك ألن الدولة لم‬

‫تستطع أن تقضي على عوامل الجزع وعدم االطمئنان الذين كان يشكو‬

‫منها جميع العالم الروماني‪.‬‬ ‫االنهيار االجتماعي‪:‬‬

‫فقد اشتد التنازع بين الطبقات المختلفة بالرغم من توحيد السكان من‬

‫حيث الجنسية على أثر منح الجنسية الرومانية لجميع سكان اإلمبراطورية‬

‫بمقتضى دستور اإلمبراطور أنطونين كراكال (‪ )Caracalla‬الصادر عام‬

‫‪212‬م‪ ،‬وقد زاد هذا التنازع بعد انتشار الديانة المسيحية بين عامة الشعب‬ ‫بسبب اضطهاد الدين الجديد واشتداد مقاومة األباطرة‪ ،‬وعلى األخص‬ ‫في فترة العصر العلمي وإذا كان العهد الماضي قد قضى نهائ ًيا على النزاع‬

‫قائما حينذاك ما بين طبقتي األشراف والعوام بما‬ ‫االجتماعي الذي كان ً‬ ‫‪193‬‬


‫صدر من قوانين وحدت بين الجميع في الحقوق‪ ،‬فإن الوضع السياسي‬ ‫الجديد‪ ،‬وكذلك الوضع االقتصادي في مطالع عهد الحقوق الرومانية‬ ‫العلمية تحت تأثير عامل الغنى والفقر طبقتين جديدتين هما األمجاد‬ ‫والمساكين هذا من جهة وأما من جهة ثانية فإن طبقة األمجاد األغنياء‬ ‫نفسها قد تألفت من صنفين متمايزين‪:‬‬ ‫أولهما صنف األشراف وهم أعضاء مجلس الشيوخ وأوالدهم وغيرهم‬ ‫من كبار موظفي الدولة وأصحاب النفوذ فيها‪.‬‬ ‫وثانيهما صنف الفرسان وهم كل من أصابهم حظ فأثروا من التجارة‬ ‫وأصبح في مقدورهم أن يقوموا على نفقتهم الخاصة بواجب الجندية فرسانًا‪.‬‬ ‫وأن هذين الصنفين األخيرين لطبقة األمجاد أخذا يتسابقان في النفوذ‬ ‫السياسي لدى الدولة ويتنازعان في سبيل ذلك نزا ًعا عني ًفا‪ .‬ولقد عظم النزاع‬ ‫عندما استلم أعضاء مجلس الشيوخ وحدهم حق تأليف المحاكم الجزائية‬ ‫أوساط العصر الثاني بعد الميالد لمحاكمة المتجاوزين للحدود فيما يتعلق‬ ‫بالمتعهدين لجباية الضرائب المفروضة على المكلفين في الملحقات‬ ‫من أراضي اإلمبراطورية‪ .‬ولما كان صنف الفرسان هم القائمين بهذه‬ ‫األعمال فقد اتخذ األشراف من سلطتهم القضائية الجزائية فرصة للتنكيل‬ ‫بخصومهم‪ .‬وقد انتقم الفرسان ألنفسهم بتشجيع حركة شعبية قامت من‬ ‫أوساط الشعب لمنع األشراف من أعضاء مجلس الشيوخ وأبنائهم من حق‬ ‫التدخل في التجارة الكبرى ولقد جرى استفتاء في ذلك‪ ،‬وأيد الفرسان‬ ‫رغبة الشعب في هذا األمر وتمكنوا بهذا العمل من إقصاء أخصامهم عن‬ ‫التجارة الكبرى واحتكارها لصنف الفرسان‪.‬‬ ‫وهكذا اشتد النزاع ما بين هذين الصنفين حتى ضعف أعضاء مجلس‬ ‫‪194‬‬


‫الشيوخ أما مطامع الرؤساء العسكريين وتهديداتهم‪ ،‬وصعب على الشيوخ‬

‫وحدهم أن يقفوا أمام شطط هؤالء الرؤساء دون مؤازرة الفرسان‪ ،‬واستفاد‬

‫الرؤساء العسكريون من هذا النزاع الطبقي واستولوا نهائ ًيا على السلطات‬

‫معتمدين على الجيش وطبقة المساكين الفقراء وكانوا الكثرة من الشعب(((‪.‬‬ ‫ع�صر الإمبراطورية ال�سفلى‪:‬‬

‫يبدأ عصر اإلمبراطورية السفلى بحكم اإلمبراطور دقلديانوس عام‬

‫‪284‬م وينتهي بوفاة إمبراطور الشرق جستنيانوس عام ‪565‬م‪ ،‬وهذا العصر‬

‫هو عصر التدهور واالنحالل في الداخل وغزو القبائل الجرمانية المتبربرة‬ ‫ً‬ ‫طويل وهو يتميز من‬ ‫من الخارج الذي لم تقو اإلمبراطورية على مقاومته‬ ‫الناحية السياسية بتحول نظام الحكم من نظام استبدادي مستتر بالمظاهر‬

‫الجمهورية إلى حكم مطلق صريح وبانقسام اإلمبراطورية إلى قسمين‬

‫شرقي وغربي‪ ،‬كما يتميز باالعتراف بالديانة المسيحية دينًا رسم ًيا للدولة‬ ‫الرومانية؛ على أن أهم ما يميز هذا العصر من الناحية القانونية هو ذلك‬

‫التجميع العظيم الذي وضعه اإلمبراطور جستنيانوس فيما بين عامي ‪528‬‬

‫و‪ 534‬م‪ ،‬والذي يعتبر من وجهة التاريخ القانوني المرحلة األخيرة لتطور‬

‫القانون الروماني‪.‬‬

‫النظام السياسي‪:‬‬ ‫انقسام اإلمبراطورية بعد أن كانت موحدة طوال العصور السابقة‬

‫إلى قسمين‪ :‬إمبراطورية شرقية وإمبراطورية غربية لكل منها إمبراطور‬ ‫((( الدوالبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.210-206‬‬ ‫‪195‬‬


‫خاص مع بقاء التشريع موحدً ا بين اإلمبراطوريتين‪ ،‬وقد بدأ هذا االنقسام‬ ‫منذ عهد اإلمبراطور دقلديانوس((( ولكنه لم يصبح نهائ ًيا إال بعد وفاة‬ ‫اإلمبراطور تيودور األول عام ‪295‬م فقد أصبحت بيزنطة التي كان‬ ‫اإلمبراطور قسطنطينوس قد نقل عاصمة اإلمبراطورية إليها وسميت‬ ‫بذلك القسطنطينية‪ ،‬عاصمة اإلمبراطورية الشرقية‪ ،‬وظلت روما عاصمة‬ ‫اإلمبراطورية الغربية‪.‬‬ ‫وقد ترتب على نقل العاصمة في عهد قسطنطينوس من روما إلى بيزنظة‬ ‫اندثار الثقافة القانونية في روما وانتقالها نهائ ًيا إلى العاصمة الجديدة(((‪،‬‬ ‫صادرا في هذا‬ ‫ولذلك نجد الجانب األكبر من الحركة التشريعية والفقهية‬ ‫ً‬ ‫العصر عن الدولة الشرقية مما جعل بعض الشراح يطلقون عليه اسم العصر‬ ‫البيزنطي‪ .‬ولم تقو اإلمبراطورية الغربية على الصمود في وجه الغزوات‬ ‫المتكررة التي شنتها عليها القبائل المتبربرة فسقطت في يد هذه القبائل في‬ ‫عام ‪476‬م‪ ،‬أما اإلمبراطورية الشرقية فقد قاومت حتى عام ‪1453‬م وهو‬ ‫تاريخ سقوط القسطنطينية في يد األتراك‪.‬‬ ‫النظام السياسي في هذا العصر اختفت معظم هيئات الدستور‬ ‫الجمهوري القديم وأصبحت على وشك االندثار بعد أن كانت قائمة‬ ‫لمدة طويلة‪ ،‬اختفت مجالس الشعب نهائ ًيا ولم يعد الشعب يباشر حقوقه‬ ‫السياسية‪ ،‬كما لم يعد مجلس الشيوخ كما كان عليه في السابق بل أصبح‬ ‫هيئة استشارية فقط‪ ،‬ومن المعلوم أنه في أخريات أيام اإلمبراطورية‬ ‫الرومانية ضعفت سلطة مجلس الشيوخ واضمحلت وذلك حين بدأ‬ ‫((( عاشور‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.37‬‬ ‫((( عمران‪ ،‬المرجع‪ ،‬ص ص‪.29-28‬‬ ‫‪196‬‬


‫األباطرة يجنحون نحو جمع السلطة في يدهم‪ ،‬وأصبحوا يميلون إلى‬

‫الحكم المطلق؛ ولكن رغم هذا الضعف فإنه لم يسلم سلطاته التشريعية‬ ‫كلها دفعة واحدة بل بقي له دور ثانوي ورغم أن إرادة اإلمبراطور كانت‬ ‫هي المصدر األول للتشريع‪ ،‬فإن مجلس الشيوخ في بيزنطة كان يتمتع‬

‫وكثيرا ما كانت تقرأ فيه القوانين قبل إصدارها‪.‬‬ ‫بصفة استشارية‬ ‫ً‬

‫كان مجلس الشيوخ يختار إمبراطور جديد عندما يخلو العرش أو‬

‫تحدث أزمة سياسية‪ .‬وليس هذا يعني أن اختيار اإلمبراطور كان من حق‬

‫مجلس الشيوخ ألن األباطرة كانوا في العادة يختارون خلفهم قبل وفاتهم‬ ‫ويعينونه بصفة إمبراطور مساعد ليخلفهم بعد وفاتهم‪ ،‬وفي حالة تكون‬ ‫موافقة مجلس الشيوخ شكلية فقط‪.‬‬

‫أما إذا توفي اإلمبراطور ولم يعين خلفه يصبح اختيار اإلمبراطور‬

‫الجديد من حق القادة العسكريين ومجلس الشيوخ م ًعا‪ ،‬وكان أعضاء‬

‫مجلس الشيوخ ينتخبون من بين كبار الموظفين اإلمبراطوريين‪ ،‬ومن أحفاد‬ ‫األرستقراطية الرومانية القديمة الذين توارثوا هذه الوظيفة عن أجدادهم‬

‫منذ أيام الرومان وكانوا في غالبيتهم من كبار مالك األرض األغنياء مما‬

‫جعلهم يعتمدون في معاشهم على وارداتهم الخاصة ال على رواتبهم‪،‬‬

‫وقد بلغ عدد أعضاء مجلس الشيوخ البيزنطي في منتصف القرن الرابع‬

‫‪ 2000‬عضو‪ ،‬ومنذ منتصف القرن السادس أطلق لقب (‪ )Gloriosi‬على‬

‫كبار الموظفين اإلمبراطوريين‪ ،‬وأصبحت عادة إطالق األلقاب الفخمة‬

‫جز ًء من تقاليد القصر اإلمبراطوري(((‪.‬‬

‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.122-121‬‬ ‫‪197‬‬


‫التأثير االقتصادي‪:‬‬ ‫حدث تدهور اقتصادي وفوضى عسكرية مما أدى هذا التدهور‬ ‫واالنهيار إلى كثرة عدد العاطلين عن العمل وتعطل التجارة والصناعة‬ ‫مما أدى إلى فقر المدن وشل الحياة االقتصادية‪ ،‬ورافق التدهور في حياة‬ ‫المدن بنتيجة األزمة االقتصادية في هذا القرن قيام إقطاعات زراعية كبيرة‬ ‫أخذت تبتلع أمالك المالك الصغار وتزيد في عدد الفالحين أجراء األرض‬ ‫ً‬ ‫عمال زراعيين يعيشون على األجر‬ ‫الذين ال ملكية لهم والذين أصبحوا‬ ‫الضئيل الذي يعطيهم إياه المالكون الكبار‪.‬‬ ‫كما تدهورت الحرية الشخصية داخل اإلمبراطورية الرومانية؛ إذ أسهم‬ ‫في انهيار اإلمبراطورية‪ ،‬ما جرى من التنافس على الوصول إلى العرش‬ ‫واغتصاب الحكم والحروب الخارجية واندالع الطاعون والمجاعة‪.‬‬ ‫ولكي تعالج الحكومة ما تناقص من موارد الدولة لجأت إلى‬ ‫سياسة السخرة والخدمة اإلجبارية‪ ،‬إذ تقرر استدعاء أهل المدن‬ ‫والقرى على السواء لتأدية ما تحتاجه الدولة من خدمات نقدية‬ ‫وشخصية‪ ،‬وجرت التضحية بالمصالح المحلية والشخصية لسد‬ ‫حاجات الدولة؛ فأضحت المواطنة مرادفة للعبودية واالسترقاق؛ فلم‬ ‫يكن بوسع دقلديانوس وأخالفه وقف هذه النزعات التي سادت في‬ ‫القرن الثالث‪ ،‬إال بالمبادرة إلى فرض سيطرة الدولة على الفرد ففي‬ ‫ظل الحكومة االستبدادية التي أقاموها تحددت االلتزامات المطلوبة‬ ‫من الرعايا‪ ،‬إذ انتظم السكان في طبقات وف ًقا لمهنهم‪ ،‬فأضحت عضوية‬ ‫هذه الطبقات وراثية وإجبارية‪ ،‬وبهذا النظام أهدرت الحرية الشخصية‬ ‫لرعايا اإلمبراطورية‪.‬‬ ‫‪198‬‬


‫محاولة إصالح النقد‪:‬‬ ‫جرى كثير من أباطرة القرن الثالث على اتخاذ سياسة التضخم النقدي‬ ‫لتسهم في الرخاء وبلغت هذه السياسة ذروتها زمن اإلمبراطور «جاللينوس»‬ ‫‪268-253‬م حينما أصدر مرسو ًما بإحالل النحاس مكان الفضة الخالصة‬ ‫ونظرا ألنه لم يكن للرسوم الجمركية‬ ‫مما ترتب عليه ازدياد ارتفاع األسعار ً‬ ‫أساس متين فقد تعرضت التجارة والصناعة للدمار‪ ،‬ولم يحرز أوريليان‬ ‫نجاحا جزئ ًيا في المحاوالت التي قام بها لوقف تدهور‬ ‫‪280-278‬م إال‬ ‫ً‬ ‫قيمة النقد‪ ،‬إذ أدرك أن النقد الذي يغلب فيه النحاس لن يعيد الثقة لعالم‬ ‫التجارة أو يوقف ارتفاع األسعار‪.‬‬ ‫والميزة الكبيرة إلصالح دقلديانوس هي محاولته إعادة إصدار نقد نقي‬ ‫من الفضة والذهب؛ فصار النقد الذهبي يساوي «‪ »1‬من الليرة الذهبية‪،‬‬ ‫بينما صار النقد الفضي يطابق في كل شيء‪.‬‬ ‫كما اتخذ دقلديانوس سياسة سك العمالت الصغيرة في ثالث فئات‪:‬‬ ‫الفئة األولى وهي المعروفة بالفلس ‪ Foliis‬وهي أثقلها وزنًا وتزن ‪150‬‬ ‫حبة‪ ،‬أما الفئة الثانية فكان وزن الواحدة منها ستين حبة وتزن الفئة الثالثة‬ ‫عشرين حبة‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من أن دقلديانوس خفض عملة أوريليان إلى نحو الربع‬ ‫من قيمتها األصلية‪ ،‬فإن عملته البرونزية كانت من االرتفاع في القيمة ما‬ ‫يزيد على ما هو مقرر لها‪ ،‬على أن العالم التجاري رفض قيمة هذه العمالت‬ ‫وبهذا ارتفعت األسعار من جديد(((‪.‬‬ ‫((( حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.89‬‬ ‫‪199‬‬


‫وفي سنة ‪301‬م أصدر اإلمبراطور دقلديانوس مرسومه الشهير الذي‬

‫يقضي بتثبيت األسعار التي ال تتجاوزها مبيعات السلع وحدد القانون‬

‫الحد األقصى ألسعار السلع التجارية واألجور والمرتبات على أساس‬

‫(‪ )Denarius‬الذي يعتبر أصغر وحدة في النقود والذي تحددت قيمته بما‬ ‫يساوي ــــ من الليرة الذهبية‪.‬‬

‫وورد في مقدمة المرسوم السعر الرسمي وشرح الدواعي التي جعلته‬

‫يقوم بذلك «إذ جرت اإلشارة إلى الشره والتشديد دون التفكير في مصلحة‬

‫الناس‪ ،‬لتجعل الربح وازدياد الملكية في أقصر وقت وهذه الشهوة الجامحة‬ ‫للربح‪ ،‬لم يلطف من قسوتها المؤن الوفيرة‪ ،‬أو السنوات المثمرة‪ ،‬وفوق كل‬

‫ذلك تأثر الجيش بهذا النهم والشره‪ ،‬إذ ترتب على االرتفاع الشديد لألسعار‬ ‫أن العسكري عند شرائه سلعة من السلع‪ ،‬سوف يفقد مرتبه وما يحصل عليه‬

‫من أجر إضافي‪ ،‬وأن كل ما يسهم به العالم لمساندة الجيوش صار غنيمة‬

‫للصوص‪ ،‬وكأن العساكر بذلوا بأنفسهم لهؤالء المستغلين كل ما كانوا يأملونه‬

‫من خدمتهم وما قاموا من أعمال مع ما يترتب على ذلك من أن أولئك الذين‬ ‫دائما من السلع ما يزيد على حاجتهم‪.‬‬ ‫ينهبون األمة يختزنون ً‬

‫ويقرر المرسوم أن بنا ًءا على هذه االعتبارات البد للحكومة أن تتدخل‬

‫إلقرار العدالة لصالح الجميع‪ ،‬فينبغي مراعاة األسعار الواردة بالقوائم من‬ ‫جميع أنحاء اإلمبراطورية‪ ،‬أما المشترون والبائعون الذين درجوا على السفر‬

‫إنذارا‬ ‫إلى المواني واألقاليم األجنبية‪ ،‬فإنهم سوف يجدون في هذا المرسوم ً‬ ‫أيضا أنه ال داعي مطل ًقا في زمن ارتفاع األسعار‪،‬‬ ‫وتحذيرا‪ ،‬حتى يدركوا ً‬ ‫ً‬ ‫ألن يتجاوزوا ما تقرر من حد أقصى لألسعار‪ ...‬وتتضح عدالة مرسومنا‪،‬‬

‫بما تقضي به من منع أولئك الذين ينقلون المتاجر لبيعها في أماكن أخرى‬ ‫‪200‬‬


‫دائما أقوى وازع‪ ،‬وأشد رادع في‬ ‫ونظرا ألن الخوف يعتبر ً‬ ‫بأسعار مرتفعة‪ً ،‬‬ ‫تأدية الواجب فإن كل من يقاوم هذه الالئحة الواردة في هذا القانون فسوف‬ ‫أيضا‬ ‫يتعرض لعقوبة اإلعدام بسبب جرأته وتطاوله‪ ،‬ويتعرض لهذه العقوبة ً‬ ‫كل من يتواطأ مع البائع الشره علة مناهضة القانون وذلك لحرصه على أن‬ ‫يشتري ما يريده من السلع‪ ،‬ولم ينج من هذه العقوبة‪ ،‬أولئك الذين يحوزون‬ ‫ضروريات الحياة والتجارة ويقومون بسحبها من السوق‪ ،‬العتقادهم أن‬ ‫ذلك يجعلهم يفلتون من قيود الئحة األسعار‪.‬‬ ‫ولذا أهاب دقلديانوس بكل الناس بأن يراعوا عن طيب خاطر‪ ،‬وأن‬ ‫يدركوا هيبة الله القانون الذي صدر للمصلحة العامة‪ ،‬فكل من يقترف جر ًما‬ ‫إزاء ما وضع للحياة من نظام إلهي وإمبراطوري‪ ،‬سوف يضحي بحياته»‪.‬‬ ‫قانون األسعار الذي أصدره دقلديانوس كان بعيدً ا عن الحياة الواقعية؛‬ ‫إذ أنه لم يحقق الغاية التي كان يهدف إليها دقلديانوس‪ ،‬إذ لم تلبث قيمة‬ ‫الفلس أن انخفضت بعد أن تخلى دقلديانوس عن الحكم ولما انقسمت‬ ‫اإلمبراطورية بين ليسينيوس وقسطنطينوس سنة ‪312‬م حدث اختالف‬ ‫بين نقدي كل من الشطرين الشرقي والغربي لإلمبراطورية‪ ،‬فبينما‬ ‫استمر ليسينوس((( في سك نقد دقلديانوس من الذهب والفضة‪ ،‬أدخل‬ ‫قسطنطينوس نظا ًما جديدً ا لم يلبث أن ذاع في كل أنحاء اإلمبراطورية بعد‬ ‫سنة ‪324‬م‪ ،‬فالنقد الذهبي الجديد الذي سكه قسطنطينوس واسمع الصولد‬ ‫(‪ )Solidus‬كان أخف وزنًا من النقد الذي سكه دقلديانوس‪ ،‬وقد ظلت‬ ‫عملة (الصولد) أو السوليدوس التي أوجدها قسطنطينوس مدة ألف عام‬ ‫أي طول حياة اإلمبراطورية البيزنطية األساس للنظام النقدي‪ ،‬كما ظلت‬ ‫((( العريني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.60-57‬‬ ‫‪201‬‬


‫لفترة طويلة عملة التجارة الدولية فلم تهبط قيمتها أو تتزعزع قوتها إال‬

‫حين ضعفت اإلمبراطورية(((‪.‬‬ ‫التأثير الثقافي‪:‬‬

‫لما خرجت الدولة من اضطرابات القرن الثالث؛ وقد كادت تتجرد من‬

‫كل سلطة أدبية ولم تعد تعتمد على القوة وحدها واجهتها الكنيسة المسيحية‬

‫بعد أن اكتمل تسلحها بنظام السلطة األدبية التي فقدتها اإلمبراطورية‪،‬‬

‫أضحت السند الوحيد للكنيسة إال أن دقلديانوس كان يريد أن يجبر‬

‫المسيحيين على الخضوع له‪ ،‬مثلما خضعت سائر القوى االجتماعية في‬ ‫اإلمبراطورية وتراءى لدقلديانوس أن قيام الكنيسة كدولة داخل الدولة‬

‫يتعارض مع أول مبدأ لما أقامه من نظام استبدادي يلتزم من الرعايا الخضوع‬ ‫المطلق‪ ،‬وإن أهمية الديانة الواحدة تكمن في وحدة اإلمبراطورية‪ .‬في بادئ‬

‫األمر كان شديد التحفظ في حمالته ضد المسيحية‪ ،‬إذ تولى بنفسه تقديم‬

‫القرابين آللهة متعددة‪ ،‬ومع ذلك اختص بعبادة اإلله جوبيتر‪ ،‬وكان يأمل‬

‫أن يكون الديانة الرسمية للدولة وكان يمثل اآللهة على األرض‪ .‬وترتب‬ ‫على تعلق دقلديانوس بما كان معرو ًفا في روما وبالد اليونان من عبادة‬ ‫قديمة أن اشتدت كراهيته للمعتقدات الجديدة التي يصح أن تدمر إيمان‬

‫رعاياه ووالئهم وتضعف من وحدة اإلمبراطورية‪ ،‬فأنكر عبادة المانوية‬

‫التي كان الفرس يدينون بها حتى ال تترسب داخل اإلمبراطورية الرومانية‪.‬‬ ‫والواقع أن الكنيسة تؤلف نظا ًما يناهض الدولة ال ألنها فحسب تعبد‬

‫إلها واحدً ا بل ألنها ترفض العقيدة اإلمبراطورية وبذلك خيرت رجالها‬ ‫ً‬ ‫((( عاقل‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫‪202‬‬


‫بين اإلخالص للمسيح أو اإلخالص لإلمبراطور‪ ،‬وأكثر ما تأثر بالمسيحية‬

‫العساكر بالجيوش الرومانية‪ .‬كما ازداد نفوذ المسيحية في دوائر البالط إذ‬ ‫اعتنق المسيحية زوجة دقلديانوس وابنته‪.‬‬

‫من أجل ذلك عام ‪302‬م تغيرت سياسة دقلديانوس‪ ،‬إذ تقرر طرد‬

‫جماعة المسيحيين من البالط ونفيهم‪ ،‬وكذلك جرى إخراج جماعات من‬

‫الجيش بعد أن أصروا على اعتناق المسيحية فقرر فرض العقوبات على‬

‫المسيحيين وأصدر مرسو ًما يحرمهم من حقوق المواطنة الرومانية‪ ،‬وبذلك‬

‫ال يشغلون الوظائف اإلدارية والبلدية وأجاز تدمير الكنائس المسيحية‬ ‫وإحراق الكتب المقدسة‪ ،‬وزاد دقلديانوس في التنكيل بالمسيحيين سنة‬

‫‪304‬م حتى تخلى كثير منهم عن عقيدتهم‪ ،‬وال شك أن هذا االضطهاد‬ ‫أضعف وحدة الكنيسة(((‪.‬‬

‫قسطنطينوس ومرسوم ميالن ‪313‬م‪:‬‬ ‫«نظرا لما رأيناه من أنه ال ينبغي إنكار حرية العبادة‪ ،‬بل البد للشخص‬ ‫ً‬ ‫بإرادته وفطنته‪ ،‬الحق في أن يدعي األشياء المقدسة‪ ،‬وف ًقا لما توافر للفرد‬ ‫من حرية االختيار‪ ،‬فإنه سبق لنا منذ زمن‪ ،‬وأن أمرنا المسيحيين بالمحافظة‬

‫نظرا لما تعرض له الحق من قيود‬ ‫على إيمانهم بمذهبهم وعبادتهم‪ ،‬غير أنه ً‬ ‫كثيرة مختلفة‪ ،‬بعد صدور المرسوم الذي حصل بمقتضاه المسيحيون‬

‫الذين سبق اإلشارة إليهم على هذا الحق كأن جرى بطريق الصدفة‪ ،‬أن‬

‫كبيرا منهم قد ُمنعوا من ممارسة ديانتهم‪ ،‬ولذا فإنه حينما اجتمعنا‬ ‫عد ًدا ً‬ ‫سو ًيا في ميالن‪ ،‬أن اإلمبراطور «أغسطس» قسطنطينوس‪ ،‬وأنا اإلمبراطور‬ ‫((( العريني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.43-41‬‬ ‫‪203‬‬


‫«أغسطس» ليسينيوس‪ ،‬وتناقشنا في كل ما يتعلق بمصلحة الدولة وأمنها‬ ‫واعتقدنا أن هذين األمرين‪ ،‬وسائر األمور التي تنطوي على عبادة الله‪،‬‬

‫والتي رأينا أنها تقيد معظم الناس البد من معالجتها أول األمر‪ ،‬حتى يتسنى‬

‫أحرارا في أن‬ ‫لنا أن نبذل للمسيحيين ولسائر الناس‪ ،‬الحق في أن يكونوا‬ ‫ً‬

‫يتبع كل منهم ما شاء من الديانة‪.‬‬

‫وبذلك فإن أ ًيا كان اإلله على عرشه بالسماء‪ ،‬ليحبونا نحن وسائر أولئك‬

‫الذين يخضعون لسلطاننا بالعطف والسالم‪ ،‬وقد انتهينا في اطمئنان وتعقل‬

‫تام إلى قرار بأنه البد أن تتخذ هذه السياسة يقضي رأينا أننا ال ننكر على‬ ‫أحد أ ًيا كان‪ ،‬الحرية في أن يتبع إما ديانة المسيحيين وإما ما يختاره لنفسه‬

‫من ديانة‪ ،‬يعتقد أنها خير ما تالئمه حتى ينعم الله األكبر‪ ،‬الذي نبذل له‬ ‫الطاعة عن طيب خاطر‪ ،‬علينا في كل األمور بفضله وعطفه‪ ،‬ولذا نود أن‬ ‫ننهي إلى سيادتكم‪ ،‬أننا وطدنا العزم على أنه البد أن نزيل كل القيود‪ ،‬الواردة‬

‫في رسائلنا التي سبق توجيهها إليكم والتي تتعلق بالمسيحيين والتي فيما‬ ‫يبدو كانت ال تتفق مع رحمتنا‪ ،‬فينبغي إزالة هذه القيود‪ ،‬ولنجعل‪ ،‬دون‬

‫قيد‪ ،‬أولئك الذين يودون اتباع ما سبق اإلشارة إليه من ديانة المسيحيين‬

‫أن يتبعوها دون أن يتعرضوا لإلزعاج أو التدخل‪.‬‬

‫لقد شعرنا أنه البد أن نوافيكم بكل ما يتعلق بذلك من بيانات كاملة‪،‬‬

‫حتى تطمئن سيادتكم إلى أننا بذلنا للمسيحيين الذين سبق اإلشارة إليهم‬ ‫حرية تامة غير مقيدة‪ ،‬في اتباع ديانتهم‪ ،‬يضاف إلى ذلك أنه متى تبين‬

‫لسيادتكم أننا منحنا هذه الحرية للمسيحيين الذين سبق ذكرهم‪ ،‬فسوف‬ ‫أيضا حرية دينية تامة مماثلة لغير المسيحيين‪ ،‬إذ أن هذه‬ ‫تدرك أننا منحنا ً‬

‫المنحة بالغة األهمية للسالم في أيامنا‪ ،‬وإذ صار جل ًيا لكل فرد أن يعبد‬ ‫‪204‬‬


‫ما يشاء من الديانة‪ ،‬أصدرنا هذا الحق‪ ،‬حتى ال يتبادر أننا أسأنا لديانة من‬

‫الديانات‪ .‬يضاف إلى ذلك أننا قررنا فيما يتعلق بالمسيحيين‪ ،‬أنه إذا حدث‬

‫أن أماكن درج المسيحيون من قبل على االجتماع بها وجرت اإلشارة‬

‫إليها فيما سبق إنفاذه لسيادتكم من رسائل‪ ،‬اشترتها خزائننا أو أشخاص‬ ‫آخرون‪ ،‬فالبد أن تعود للمسيحيين دون أن يؤدوا عنها ً‬ ‫مال أو كل ما يعتبر‬

‫ثمنًا لها‪ ،‬دون غش أو إيهام‪ ،‬ومن حاز أمثال هذه األماكن على أنها هدايا‪،‬‬ ‫ففي وسعهم أن ينالوا من عطائنا ما يرضيهم‪ ،‬بأن يلجأوا إلى نائبنا الذي‬

‫سوف يهتم بمصالحهم‪ ،‬والبد من تسليم هذه األشياء عن طريقكم إلى‬

‫ونظرا لما هو معروف عن المسيحيين أنهم‬ ‫الجماعة المسيحية دون إبطاء‪ً ،‬‬

‫أيضا‬ ‫لم يملكوا فحسب تلك األماكن‪ ،‬التي درجوا على االجتماع بها بل ً‬

‫تلك التي تعتبر من أمالكهم‪ ،‬كهيئة‪ ،‬أي األماكن التابعة للكنائس ال لألفراد‪،‬‬

‫فإننا أوردنا هذه األماكن في القانون المسطر بعاليه‪ ،‬فتأمر بإعادتها إلى‬

‫المسيحيين دون مناقشة أو جدال‪ ،‬ويجري هنا تطبيق القرار السابق‪ ،‬الذي‬

‫يقضي بأن أولئك الذين يعيدون هذه األماكن دون أن يحصلوا على ثمن‬

‫لها فلهم أن يأملوا‪ ،‬حسبما أمرنا‪ ،‬في الحصول على تعويض من قبلنا‪،‬‬ ‫والبد أن تظهر وساطتك الفعالة في جانب جماعة المسيحيين التي سبق‬

‫اإلشارة إليها‪ ،‬فيلقى بذلك أمرنا الطاعة الواجبة دون إبطاء‪ ،‬ويسود السالم‬

‫العام بفضل رحمتنا‪ ،‬وبهذه الوسيلة سوف يستمد العطف اإللهي طوال‬

‫عهدنا‪ ،‬لصالحنا والصالح العام‪ ،‬وكما يقف جميع الناس على صورة من‬ ‫هذا القرار وعلى إنعامنا‪ ،‬يحسن بك أن تنشر هذه الرسائل في كل مكان‬

‫وأن تنتهي بها إلى جميع الناس‪ ،‬حتى ال يخفى أمر إنعامنا وكرمنا»(((‪.‬‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.51-50‬‬ ‫‪205‬‬


‫ت�أثر القانون الروماني بالديانة الم�سيحية‪:‬‬

‫في بداية األمر لم يتأثر القانون الروماني بالديانة المسيحية ألنها كانت‬

‫محل اضطهاد من األباطرة وألن انتشارها الفعلي لم يبدأ إال في بداية القرن‬

‫الرابع للميالد باعتناق قسطنطينوس لها وبحمايتها بمنشور ميالنو الصادر‬ ‫عام ‪313‬م‪ ،‬وبهذا المرسوم قرر الحرية التامة لجميع األديان واعترف لها‬ ‫بمركز مساو لجميع مراكز الديانات األخرى‪ ،‬ولم تلبث أن أصبحت دين‬ ‫األغلبية في اإلمبراطورية‪ ،‬ولم ينته القرن الرابع حتى قرر تيودور األول‬

‫عام ‪391‬م اعتبارها دين الدولة الرسمي وحرم في الوقت نفسه إقامة شعائر‬ ‫الديانة الوثنية‪.‬‬

‫والواقع أن المسيحية لم يكن لها بالنسبة لتطور القانون الروماني‬

‫ذلك األثر المباشر ألن المسيحية لم تعرض لألمور الدنيا إال في‬ ‫كثير من القصد ً‬ ‫مثل‪ ،‬وهذا مستفاد من قول السيد المسيح‪« :‬أعطوا‬ ‫ما لقيصر لقيصر وما لله لله»‪ ،‬وألنه لم يكن من المستطاع تأسيس‬

‫المبادئ القانونية على تلك المبادئ األخالقية السامية التي نادت بها‬

‫المسيحية دون أن تؤيدها بجزاء دنيوي‪ ،‬ففي مجموعة جستنيانوس‬

‫احتفظت بأهم الخصائص التي كانت تميز القانون الروماني في العصر‬

‫ظهورا‬ ‫العلمي وهذه تجدها في مبادئ الفلسفة اليونانية القديمة أكثر‬ ‫ً‬ ‫من تعاليم الديانة المسيحية الجديدة‪.‬‬

‫ً‬ ‫مقررا في قانون جستنيانوس ومازال‬ ‫وفضل عن ذلك فمازال الرق‬ ‫ً‬

‫مباحا فيه وهما نظامان مخالفان لتعاليم الديانة المسيحية‪ .‬ومع‬ ‫الطالق ً‬ ‫كل ذلك فإن الديانة المسيحية كان لها بعض األثر في تطوير القانون‬ ‫‪206‬‬


‫الروماني يرجع إلى تغلب الروح الديني على نفوس األباطرة‪ ،‬وإن‬

‫اقتصر هذا األثر في الغالب على دائرة األحوال الشخصية التصال نظمها‬

‫بالعقيدة والدين‪ ،‬فنشأت بعض القواعد والنظم التي تتفق وتعاليم الدين‬ ‫الجديد وألغيت من جهة أخرى بعض القواعد والنظم القديمة التي‬

‫تخالف هذه التعاليم‪.‬‬

‫فمن المبادئ التي استحدثت موانع قانونية جديدة للزواج‬

‫كتحريمه بين المسيحيين واليهود ونظام منح البنوة الشرعية لالبن‬ ‫الطبيعي الناتج من المعاشرة بين رجل وامرأة غير متزوجين‪ ،‬ومنح‬ ‫حق التبني للمرأة إذا لم يكن لها أوالد ووضع عقوبات شديدة لزنا‬

‫الزوجة ولإللحاد وتسهيل العتق وتحريم القسوة على الرقيق‪ ،‬ومن‬ ‫مقررا لالبن الطبيعي‬ ‫النظم التي ألغيت حق الميراث والنفقة الذي كان ً‬ ‫الناتج من الزنا بزوج الغير أو من الزنا بين المحارم لكراهة الدين‬

‫الجديد لهذه العالقات غير الشريعة‪ ،‬كما ألغيت القوانين المسقطة‬

‫للوصية التي أصدرها أغسطس والتي كانت تحرم الشخص من‬

‫نصيبه كل أو بعضه في الوصية إذا كان أعزب أو لم يكن له ولد‪ ،‬ألنها‬ ‫أصبحت منافية لروح الدين الجديد الذي يدعو إلى الرهبة ويعتبر‬

‫العزوبة فضيلة من الفضائل‪.‬‬

‫وفي عهد قسطنطينوس نشأت محاكم كنيسة ُقضاتها من رجال الدين‬

‫للفصل‪ ،‬وقد مهد ذلك إلى نشوء قانون جديد إلى جانبه القانون الروماني‪،‬‬

‫وهو القانون الكنسي الذي ساد وقوي نفوذه بعد ذلك في أوروبا خالل‬

‫العصور الوسطى‪.‬‬

‫‪207‬‬


‫أما في دائرة العقود وااللتزامات فلم يكن للديانة المسيحية أثر إال في‬ ‫ظهور فكرة الثمن العادل في عقد البيع(((‪.‬‬

‫((( مصطفى‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.126-124‬‬ ‫‪208‬‬


‫الفصل الثالث‬

‫الحقوق الرومانية و�أثرها في الت�شريع الإ�سالمي‬



‫المبحث األول‬

‫تاريخ القانون في ع�صر ما قبل الإ�سالم‬ ‫( �أ ) القانون في ع�صر ما قبل الإ�سالم‪:‬‬

‫إن دراسة تاريخ القانون في الشريعة اإلسالمية تتطلب التعرض للحالة‬ ‫التي كان عليها العرب قبل ظهور اإلسالم من النواحي السياسية واالجتماعية‬ ‫والدينية والعقائدية‪ ،‬ومن الناحية األمنية؛ ألن التشريع اإلسالمي لم ينشأ‬ ‫مرة واحدة‪ ،‬بل نشأ خالل عصور تأريخية طويلة‪.‬‬ ‫والذي يساعد على معرفة ذلك دراسة كافة األوضاع السائدة آنذاك‬ ‫ونجملها في البنود التالية‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أول‪ :‬الناحية السياسية‪:‬‬

‫لم يكن العرب قبل ظهور اإلسالم في غالب نواحي شبه الجزيرة العربية‬ ‫يعرفون أي تنظيمات أو تجمعات سياسية تخرج من نطاق القبيلة حيث‬ ‫متحضرا يفخر ويعتز باالنتماء إلى قبيلة بغض‬ ‫كان العربي بدو ًيا كان أم‬ ‫ً‬ ‫النظر عن المنطقة أو الموطن الذي يوجد به لتغيره وتبدله تب ًعا لتحركات‬ ‫القبيلة المستمرة بح ًثا عن الكأل والماء وموارد الرزق األخرى‪.‬‬ ‫‪211‬‬


‫والقبيلة نظامها قائم على العادات والتقاليد واألعراف المتبعة داخل‬

‫نطاق القبيلة وخارجها التي أوجدها شيخ القبيلة والمجلس االستشاري‬ ‫الذي يتبعه والمكون من رؤساء العشائر وحكماء القبيلة(((‪.‬‬

‫وكان يسود المجتمعات العربية قبيل اإلسالم عادات سيئة وممارسات‬

‫جاهلية كاللهو والمجون ولعب الميسر والتعامل بالربا وقطع الطرق‬ ‫ت*‬ ‫والنهب والسلب وعبادة األوثان ووأد البنات ﴿ َوإِ َذا ا ْل َم ْوؤُ و َد ُة ُسئِ َل ْ‬ ‫ي َذ ٍ‬ ‫ت ﴾(((‪.‬‬ ‫نب ُقتِ َل ْ‬ ‫بِ َأ ِّ‬

‫وبالرغم من ذلك هناك خصال حميدة كالكرم والوفاء والنجدة‬

‫والشجاعة والجرأة اإلقدام والسعي إلى نصرة الضعفاء‪ ،‬وقد بارك اإلسالم‬

‫هذه الخصال وحث على التمسك بها ألنها تقوم على أسسه ومبادئه السامية‬

‫التي تدعو إلى مكارم األخالق‪.‬‬

‫ولكن المتتبع للتجمعات البشرية التي وجدت في المناطق الشمالية‬

‫والجنوبية من شبه الجزيرة العربية‪ ،‬وكذلك الواحات المتناثرة في قلب‬ ‫ً‬ ‫وأشكال سياسية أرقى نسب ًيا من التنظيم‬ ‫الصحراء يجد فيها تنظيمات‬

‫القبلي‪.‬‬

‫ففي بالد اليمن قامت الدولة المعينية والسبئية والحميرية‪ ،‬نجد بنيان‬

‫الدولة وكيانها كوحدة سياسية لها نظامها وقوانينها كأي دولة حديثة‪.‬‬

‫أما في مكة ويثرب والطائف والحيرة فإننا نجد شكل الدول المستقلة‬ ‫((( حسن‪ ،‬علي إبراهيم حسن‪ ،‬النظم اإلسالمية‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪ ،‬ط‪،1962 ،3‬‬ ‫ص‪.167‬‬ ‫((( سورة التكوير‪ ،‬اآلية‪.9-8 :‬‬ ‫‪212‬‬


‫التي تشبه إلى حد كبير المدن اليونانية القديمة والتي لها حياتها السياسية‬ ‫الخاصة المتميزة(((‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬الحالة االجتماعية‪:‬‬

‫الحياة االجتماعية عند العرب في الجاهلية بسيطة كل البساطة‪ ،‬فقد‬ ‫كان المجتمع العربي ينقسم إلى حضر وبدو‪.‬‬ ‫البدو كانوا األغلبية وهم يعيشون حياة متنقلة بين أرجاء الصحراء‬ ‫الجرداء المترامية األطراف بح ًثا عن الماء والكأل أو الغزو حيث كانوا‬ ‫يميلون بطبعهم إلى الحروب والغارات ولغرض النهب والسلب والطبيعة‬ ‫(البيئة) بدورها فرضت عليهم عدم االستقرار‪ ،‬فكان مكانهم أو موطنهم‬ ‫هو الذي يتوفر فيه الماء والكأل واألمن‪.‬‬ ‫أما الحضر فكانوا يسكنون المدن ويشتغلون بالزراعة والتجارة وبعض‬ ‫الصناعات البسيطة ويعيشون حياة مستقرة في موطن ثابت كما في مكة‬ ‫والطائف والحيرة واليمن‪.‬‬ ‫ويقوم التنظيم االجتماعي لدى البدو والحضر على القبيلة لذلك سادت‬ ‫بينهم العصبية القبلية القائمة على روابط النسب حيث كانت كل قبيلة تقف‬ ‫في وجه القبائل األخرى تحقي ًقا لمصالحها المتمثل في السيطرة على الماء‬ ‫والكأل‪ ،‬وحيازة أكبر كمية من قطعان النوق واحتكار التجارة‪ ،‬وذلك طل ًبا‬ ‫للجاه والثروة الهيمنة‪.‬‬ ‫كل هذه العوامل أدت إلى تحالف القبائل الصغيرة في العدد فيما بينها‬ ‫((( الخريوطلي‪ ،‬علي حسن‪ ،‬التاريخ الموحد لألمة العربية‪ ،‬الهيئة العامة للتأليف‬ ‫والنشر‪ ،1970 ،‬ص‪.16‬‬ ‫‪213‬‬


‫لتكون قوة تمكنها من المحافظة على كيانها وتمنحها القدرة على مواجهة‬ ‫القبائل األخرى القوية في تعدادها ونفوذها والتي يخشى شأنها حتى تضمن‬ ‫ألفرادها العيش بسالم في خضم المنازعات والغارات الدائمة‪.‬‬ ‫ثال ًثا‪ :‬الناحية الدينية والعقائدية‪:‬‬ ‫عرفت شبه الجزيرة العربية قبل ظهور اإلسالم ديانات مختلفة‬

‫ومعبودات متعددة على صور متنوعة‪ ،‬فهناك قلة من العرب المستنيرين‬

‫عرفت الحنفية دين إبراهيم ‪ u‬كما دخل بعضهم في اليهودية والنصرانية‬

‫وذلك لمجاورتهم ألهل الملل وكثرة تنقلهم بين أرجاء الجزيرة(((‪.‬‬

‫أما دهماء العرب‪ ،‬وهم الغالبية‪ ،‬فكانوا إما وثنيين يعبدون األصنام على‬

‫اختالف أنواعها ومسمياتها ملحدين بال دين حتى قيل أنه كان يحيط بمكة‬ ‫صنما أو أكثر منها كآلهة‬ ‫صنما كل قبيلة اتخذت لها ً‬ ‫أكثر من ثلثمائة وستين ً‬

‫ويعدوا ذلك وسيلة للتقرب إلى رضى الله(((‪ ،‬ورد في القرآن على لسان‬ ‫المشركين قوله تعالى‪َ ...﴿ :‬ما َن ْع ُبدُ ُه ْم إِ َّل لِ ُي َق ِّر ُبونَا إِ َلى ال َّل ِه ُز ْل َفى‪.(((﴾...‬‬ ‫وبالرغم من هذا التنوع واالختالف والتشتت الديني الكبير بين قبائل‬

‫العرب فلقد كانوا مشتركين في أمور دينية كثيرة كتعظيم الكعبة وتقديس‬

‫األشهر الحرم‪.‬‬

‫((( اليعقوبي‪ ،‬أحمد بن إسحاق المعروف باليعقوبي‪ ،‬مشاكلة الناس لزمانهم‪ ،‬تحقيق‬ ‫وليم ملورد‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪ ،1962 ،‬ص‪.254‬‬ ‫((( األلوسي‪ ،‬نعمان بن محمود بن عبد الله خير الدين أبو البركات‪ ،‬ت ‪1317‬هـ‪ ،‬بلوغ‬ ‫األرب‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪ ،3‬ص‪.11‬‬ ‫((( سورة الزمر‪ ،‬اآلية‪.3 :‬‬ ‫‪214‬‬


‫وإذا كانت حياة العرب قبل ظهور اإلسالم يسودها البساطة ويشوبها‬ ‫الجهل؛ الشائع بين كثير من الناس أن العرب قبل اإلسالم كانوا في جهالة‬ ‫عمياء وضاللة ال يقرأون وال يكتبون وأن الكتابة كانت قليلة بينهم واستدلوا‬ ‫على رأيهم هذا بإطالقهم لفظة (الجاهلية) على أيام العرب قبل اإلسالم‪،‬‬ ‫وبما جاء من أنهم كانوا قو ًما (أميين ال يكتبون) وأشاروا إلى حديث‬ ‫الرسول قوله‪[ :‬إنا أمة أمية ال نكتب وال نحسب]‪ .‬إذ المراد من الجاهلية‬ ‫السفه والحمق والغلظة والغرور(((‪.‬‬ ‫وازدهارا؛ ففي مكة كانت‬ ‫تطورا‬ ‫ً‬ ‫أما سكان المدن فقد كانت حياتهم أكثر ً‬ ‫التجارة مزدهرة بين الدول الرومانية والعراق واليمن وفي الحجاز كان االقتصاد‬ ‫يعتمد على الزراعة وهكذا نرى وجود بعض النظم القانونية التي كانت تحكم‬ ‫المعامالت التجارية والمدنية في المدن التي تتناسب مع عاداتهم‪.‬‬ ‫فقد عرف العرب تطوير القانون التجاري‪ ،‬وعرفوا التجارة وشغفوا‬ ‫بها ومارسها األشراف منهم‪.‬‬ ‫فالقرآن الكريم ذكر «قريش» ورحالتهم الشتوية إلى اليمن والصيفية‬ ‫الشتَاء والصي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل َيل ِ‬ ‫إلى الشام‪ِ ِ ﴿ :‬‬ ‫ف ُق َر ْي ٍ‬ ‫ف * َف ْل َي ْع ُبدُ وا‬ ‫ش * إِ َيلف ِه ْم ِر ْح َل َة ِّ َ َّ ْ‬ ‫ت * ا َّل ِذي َأ ْطعمهم من جو ٍع وآمنَهم من َخو ٍ‬ ‫رب ه َذا ا ْلبي ِ‬ ‫ف ﴾(((‪.‬‬ ‫َ َ ُ ِّ ْ ْ‬ ‫َ َ ُ ِّ ُ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫َْ‬ ‫وبهذا فقد مارس العرب العديد من المعامالت االقتصادية مثل عقود‬ ‫البيع واإليجار والرهن والشركة(((‪.‬‬

‫((( علي‪ ،‬جواد‪ ،‬المفصل في تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،8‬بيروت‪ ،‬دار العلم‬ ‫للماليين‪ ،‬بغداد‪ ،‬مكتبة النهضة‪ ،‬ط‪ ،1978 ،2‬ص‪.91‬‬ ‫((( سورة قريش‪ ،‬اآلية‪.4-1 :‬‬ ‫((( األزهري‪ ،‬محمد الجيالني البدوي‪ ،‬قانون النشاط االقتصادي المبادئ والقواعد‬ ‫‪215‬‬


‫كما كان العرب يعرفون المقايضة؛ ولكن إثر ازدياد المعامالت‬ ‫واختالط العرب بغيرهم من الشعوب أخذوا يتعاملون باستعمال النقود‬ ‫والذهب والفضة‪ ،‬ومن أهم أنواع البيوع التي كانت معروفة في العصر‬ ‫الجاهلي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ بيع الحصاة‪:‬‬ ‫وهو أن يقول أحد المتبايعين لآلخر‪ :‬ارم الحصاة فعلى أي ثوب وقعت‬ ‫فهو لك بدرهم‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ بيع المالمسة‪:‬‬ ‫وهو انعقاد البيع بلمس المبيع دون النظر إليه‪ ،‬وفيه يقول البائع للمشتري‬ ‫إذا لمست المبيع وجب البيع وال خيار لك إذا رأيته‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ بيع المنابذة‪:‬‬ ‫ويسمى بيع اإللقاء وهو أن يلقي أحد المتبايعين إلى اآلخر متا ًعا ويلقي‬ ‫إليه اآلخر مثله ويجعال هذا النبذ أو اإللقاء موج ًبا للبيع قاط ًعا للخيار‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ بيع النجش‪:‬‬

‫وهو أن يتفق صاحب السلعة مع رجل على أن يزيد في السلعة وهو‬ ‫ال يريد شراءها‪ ،‬ولكن ليسمعه رجل آخر فيزيد بزيادته والغاية من ذلك‬ ‫تصريف السلعة وغش المشتري‪ .‬بيع ما في بطون الحوامل من الحيوان‬ ‫كاإلبل والغنم‪.‬‬ ‫العامة‪ ،‬المركز القومي للبحوث والدراسات العلمية‪ ،‬الجماهيرية‪ ،‬ط‪،1997 ،1‬‬ ‫ص ص‪.23-22‬‬ ‫‪216‬‬


‫‪ 5‬ـ بيع النسيئة‪:‬‬ ‫وهو أن يؤجل البائع الثمن مع زيادة فيه فيقول البائع للمشتري أبيعك‬

‫هذا المتاع نقدً ا بدينار ونسبته بدينارين‪ .‬بيع العينة وهو أن يبيع الرجل إلى‬

‫رجل سلعة بثمن إلى أجل معلوم ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها‬ ‫قرضا يخفي ربا وقد نهى اإلسالم عن هذه‬ ‫به‪ ،‬وهذا النوع من البيع هو ً‬

‫البيوع ألنها تقوم على جهالة المبيع وتغرير البائع‪ ،‬وفي جميع هذه البيوع‬

‫دائما بالنية والرضا بل كانت باأللفاظ والعبارات بشكل‬ ‫لم تكن العبرة ً‬ ‫معين من لمس أو نبذ‪.‬‬

‫أما بالنسبة للمداينات‪ ،‬فكانت بالربا سواء في الذهب أو الفضة أو اإلبل‬

‫أو الغالل والمفهوم من عادات العرب ومن بعض األحاديث أن الربا عند‬

‫العرب هو الزيادة في مقابل تأجيل الدين لمن عجز عن الوفاء‪ ،‬فإذا حل‬

‫األجل‪ ،‬قال الدائن للمدين «أد أو ارب» فإن لم يؤد ضاعف عليه الدين(((‪.‬‬ ‫ولقد عرف العرب في تلك الفترة من حياتهم نظام األسرة وما يتعلق‬

‫بها من زواج وطالق وبنوة وميراث‪ ،‬وكانت األسرة العربية هي األساس‬

‫الذي يقوم عليه المجتمع الجاهلي‪ ،‬وكانت األسرة تقوم على زواج البعولة‬

‫وهو الزواج الذي أقره اإلسالم والمعروف بالزواج الشرعي وإلى جانبه‬

‫كان في الجاهلية أنواع أخرى من الزواج أبطلها اإلسالم كزواج الشغار‬ ‫وزواج األخدان وزواج المقت‪ ،‬وزواج المقت هو أن يرث االبن األكبر‬

‫زوجة أبيه بعد موته فيتزوجها على الرغم من موافقتها‪ ،‬أما زواج األخدان‬ ‫((( الترمانيني‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬في تأريخ القانون والنظم القانونية‪ ،‬ط‪ ،1982 ،3‬ص‬ ‫ص‪.606 ،521‬‬ ‫‪217‬‬


‫فهو أن يشترك جمع من الرجال في الزواج من امرأة واحدة‪ ،‬وزواج الشغار‬

‫ويقضي بتبادل النساء دون مهر‪.‬‬

‫أما الطالق فكان يخضع لعادات وتقاليد؛ فالرجل يطلق امرأته ثم‬

‫يعيدها بعد المرة دون حساب أو قيد وفي اإلرث كانوا ال يورثون األوالد‬

‫الصغار وال النساء وكان االبن المتبنى يرث فأساس اإلرث عندهم المناصرة‬ ‫والدفاع عن األسرة(((‪.‬‬

‫وتدل النصوص القانونية المكتشفة في العربية الجنوبية على أن القوانين‬

‫كانت تنص على الجرائم واألفعال الممنوعة وأن العقوبة المقررة لها‬ ‫كانت تتولى السلطة العامة تنفيذها وهي ممثلة بالملك ونوابه في األقاليم‪،‬‬

‫وكانت أهم الجرائم هي القتل العمد وقطع الطريق وإعالن العصيان على‬ ‫الملك‪ ،‬وكانت عقوبتها اإلعدام ويجوز للملك في القتل العمد أن يستبدل‬

‫بالقصاص الدية كما كانت لهم بعض العقوبات الزاجرة على جريمتي‬ ‫السرقة والزنا‪.‬‬

‫ونظام القسامة هي حالة وجود قتيل في مكان ما ولم يعرف قاتله فكان‬ ‫يعمد أهل القتيل إلى اختيار خمسين ً‬ ‫رجل من ذلك المكان يحلفون على عدم‬

‫قتله وعدم معرفة قاتلة فإن فعلوا حكموا الدية على جميع أهل المكان ألولياء‬ ‫القتيل وإن لم يقسم المتهمون على نفي القتل‪ ،‬فإن أقسموا لم تلزمهم الدية‪.‬‬

‫أما بالنسبة للقضاء في عصر ما قبل اإلسالم فلم يكن ملز ًما وليس ثمة‬

‫سلطة عليا تشرف على التنفيذ فهو لم يجاوز دور التحكيم وهو بدوره‬ ‫((( شلبي‪ ،‬أحمد‪ ،‬تاريخ التشريع اإلسالمي وتاريخ النظم القضائية في اإلسالم‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫دار النهضة المصرية‪ ،‬ط‪ ،1981 ،2‬ص ص‪.23-22‬‬ ‫‪218‬‬


‫أيضا‬ ‫غير ملزم ويحتكمون إلى رئيس القبيلة أو إلى شخص له رأي وكانوا ً‬

‫يلتجئون إلى الكهنة في القضايا التي تحتاج إلى فكر غيبي العتقاد العرب‬ ‫أن للكاهن تاب ًعا من الجن يطلعه على ما خفي على الناس ويفصلون بينهم‬ ‫وف ًقا للتقاليد واألعراف السائدة أو وف ًقا للعقل(((‪.‬‬ ‫(ب) تاريخ القانون في ع�صر ال�شريعة الإ�سالمية‪:‬‬

‫أهمية دراسة الشريعة اإلسالمية‪:‬‬ ‫تعد دراسة الشريعة اإلسالمية من الدراسات المهمة في إنشاء وتطوير‬ ‫األنظمة القانونية؛ فالشريعة اإلسالمية هي التراث الضخم الذي ورثه العرب بعد‬ ‫إسالمهم وورثه معهم جميع من اعتنق التعاليم اإلسالمية من األمم والشعوب‪.‬‬ ‫وال نستطيع في هذه الدراسة استيعاب تاريخ التشريع اإلسالمي‬ ‫وتفصيالته ألن ذلك يحتاج إلى جهد كبير ومجلدات ضخمة‪.‬‬ ‫للبالد العربية تاريخ قانوني مشترك سواء في زمن الخالفة العربية أو حتى‬ ‫العثمانية‪ ،‬فالشريعة اإلسالمية كانت سائدة في البالد العربية منذ فتح اإلسالم‪،‬‬ ‫وظلت هذه الوحدة القانونية قائمة قرونًا طويلة حتى في ظل الدولة العثمانية‪.‬‬ ‫وتدل الشريعة في اللغة علة معنيين‪ ،‬اإلسالم مشتق من السالم والسالم‬ ‫هو المسالمة ضد الحرب والخصام‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون َع َلى ْالَ ْر ِ‬ ‫ض َه ْونًا‬ ‫ين َي ْم ُش َ‬ ‫الر ْح َم ِن ا َّلذ َ‬ ‫المعنى بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬وع َبا ُد َّ‬ ‫وإِ َذا َخا َطبهم ا ْلج ِ‬ ‫ون َقا ُلوا َس َل ًما ﴾(((‪.‬‬ ‫اه ُل َ‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫((( شلبي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.44‬‬ ‫((( سورة الفرقان‪ ،‬اآلية‪.63 :‬‬ ‫‪219‬‬


‫أما المعنى الثاني تدل الشريعة في اللغة على مورد الماء الجاري الذي‬

‫يقصد للشرب‪ ،‬كما أن هناك معنى آخر وهو الطريقة المستقيمة‪ .‬وقد ورد‬ ‫هذا المعنى في قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ث َّم َج َع ْلن َ‬ ‫َاك َع َلى َش ِري َع ٍة ِّم َن ْالَ ْم ِر َفا َّتبِ ْع َها‬ ‫ِ‬ ‫ون ﴾(((‪.‬‬ ‫ين َل َي ْع َل ُم َ‬ ‫َو َل َت َّتبِ ْع َأ ْه َواء ا َّلذ َ‬ ‫أما في اصطالح الفقهاء فهي األحكام التي سنها الله لعباده على لسان‬

‫رسول الله ﷺ(((‪.‬‬

‫تعاليم اإلسالم تقوم على أساسين عقيدة وشريعة؛ فالعقيدة هي‬

‫الجانب النظري الذي يطلب به اإليمان بالله تعالى‪ ،‬فهي عامة وخالدة‬

‫للبشر تحقق لهم السلوك األمثل لمصلحة الفرد والمجتمع‪ ،‬وترتفع‬

‫بسلوكية اإلنسان إلى ما فيه خير البشرية جمعاء بغية تحقيق العدالة‬

‫االجتماعية عن طريق اتباع المنهج الذي أنزله الله لعباده بكتبه على‬

‫رسله ليكون للناس مرشدً ا وهاد ًيا إلى سواء السبيل وليحقق الكمال‬

‫اإلنساني واالجتماعي عن طريق هؤالء الرسل الذين هم المثل األعلى‬

‫للتحلي بأخالقهم وسلوكهم‪ ،‬هذه العقيدة بمقتضى اإليمان في شموله‬

‫هي الروح التي يحيا بها البشر وهي النور الذي يمشي به الناس‪ ،‬قال‬ ‫تعالى‪َ :‬‬ ‫ُورا َي ْم ِشي بِ ِه فِي الن ِ‬ ‫َّاس ك َ​َمن‬ ‫﴿أ َو َمن ك َ‬ ‫َان َم ْيتًا َف َأ ْح َي ْينَا ُه َو َج َع ْلنَا َل ُه ن ً‬ ‫ظ ُلم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات َل ْي َس بِ َخ ِ‬ ‫ارجٍ ِّمن َْها‪.(((﴾ ...‬‬ ‫َّم َث ُل ُه في ال ُّ َ‬ ‫((( سورة الجاثية‪ ،‬اآلية‪.18 :‬‬ ‫((( الصابوني‪ ،‬عبد الرحمن‪ ،‬ومحمود طنطاوي‪ ،‬المدخل الفقهي وتاريخ الشريعة‬ ‫اإلسالمية‪ ،1982 ،‬ص‪.20‬‬ ‫((( سورة األنعام‪ ،‬اآلية‪.122 :‬‬ ‫‪220‬‬


‫أما الشريعة فهي الجانب العملي وتتجلى في النظم التي شرعها الله‬

‫سبحانه وتعالى ليأخذ اإلنسان بها نفسه في عالقته بربه وعالقته بأخيه‬

‫اإلنسان وعالقته بالمجتمع وبالكون والحياة(((‪.‬‬

‫وقد عبر القرآن عن العقيدة باإليمان‪ ،‬وعبر عن الشريعة بالعمل الصالح؛‬

‫ومن أجل ذلك نجد اإليمان أينما ورد في القرآن الكريم مقرونًا بالعمل‬ ‫الصالح‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ف َأما ا َّل ِذين آمنُو ْا وع ِم ُلو ْا الصالِح ِ‬ ‫ات‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫َّ‬ ‫(((‬ ‫َف ُي َو ِّف ِ‬ ‫ور ُه ْم َو َيزيدُ ُهم ِّمن َف ْضلِ ِه‪. ﴾...‬‬ ‫يه ْم ُأ ُج َ‬ ‫ولقد بلغ الفقه اإلسالمي ذروته من البحث والتعمق بعد انتشار الشريعة‬

‫اإلسالمية في القرن السابع للميالد بسبب ظهور المدارس الفقهية التي‬

‫تركت ثروة فقهية واسعة سواء في المواد المدنية أو الجنائية أو األموال‬ ‫الشخصية(((‪.‬‬

‫خ�صائ�ص الفقه الإ�سالمي‪:‬‬

‫نشأت الشريعة اإلسالمية واتسع نطاقها وطبقت أحكامها وتطورت‬

‫وتميز الفقه فيها بخصائص أهمها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ صفته الدينية‪:‬‬

‫يقصد بها تقديس أحكامه مما يؤدي إلى التخفيف من التحايل على‬ ‫((( التوبخي عبد السالم‪ ،‬اإليمان باألنبياء والرسل (النبوة والوحي)‪ ،‬طرابلس‪ ،‬جمعية‬ ‫الدعوة اإلسالمية‪ ،‬ط‪ ،1986 ،1‬ص ص‪.11-10‬‬ ‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.173 :‬‬ ‫((( أبو الوفا‪ ،‬أحمد‪ ،‬تاريخ األنظمة القانونية‪ ،‬بيروت‪ ،1929 ،‬ص‪.6‬‬ ‫‪221‬‬


‫أحكامه ألن التحايل وإن أفلت من قبضة العقوبة فلن يفلت من عقاب‬

‫ربه‪ ،‬فالفقه اإلسالمي يعني العالقة بين اإلنسان وربه واإلنسان وأخيه‬

‫اإلنسان‪ ،‬أما القوانين الوضعية فال تعني إال بتنظيم العالقة بين اإلنسان‬ ‫وأخيه اإلنسان‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ يجمع بين عنصري االستقرار والتطوير م ًعا‪:‬‬

‫وعنصر االستقرار فيه يتمثل في األحكام التفصيلية لبعض المسائل‬

‫كأحكام الحدود والمحرمات من النساء فهذه المسائل ثابتة ال تختلف في‬ ‫جملتها باختالف الزمان والمكان وتغيير الظروف‪ ،‬أما عنصر التطور فيه‬ ‫فيبرز في مبدأ االجتهاد بالرأي الذي يفسح المجال لالجتهاد في المسائل‬

‫غير المنصوص على حكمها‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ أساسه الشريعة اإلسالمية‪:‬‬ ‫وهي من صنع الله لذلك جاءت شريعة عادلة رسم فيها العدل بطريقة‬

‫متوازية وضبطت فيها المساواة بموازين سامية‪ .‬ودليل على ذلك قوله ﷺ‪:‬‬

‫[وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها]‪ ،‬وليس كما‬

‫هو الحال في القانون الوضعي‪ ،‬والذي هو من صنع البشر‪ ،‬ولذلك فهو‬ ‫عرضة للتأثير بتكوين واضعيه وأهوائهم فضوابط العدل فيها ضوابط‬

‫بشرية وليست إلهية‪.‬‬

‫م�صادر الت�شريع الإ�سالمي‪:‬‬

‫لكل قانون من القوانين السماوية كانت أو الوضعية مصادر يستقى‬

‫منها‪ ،‬فالفقه اإلسالمي له مصادره‪ ،‬ويقصد بمصادر التشريع اإلسالمي‬ ‫‪222‬‬


‫أصوله التي يقوم عليها وأدلته التي يستند إليها‪ ،‬فكلمة المصدر ال تعني‬

‫بالنسبة للقواعد الشرعية األصل المنشئ لها ألن الله هو مصدر األحكام‬

‫كافة‪ ،‬وإنما يعني طرق استنباطها من الشرع مباشرة أو عن طريق االجتهاد‪،‬‬ ‫ومصادر التشريع اإلسالمي مصادر تعتمد على النقل ومصادر تعتمد‬

‫على العقل‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ مصادر نقلية‪:‬‬ ‫قوامها النص وهو الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ مصادر عقلية‪:‬‬ ‫تعتمد على العقل أي االجتهاد وهي اإلجماع والقياس والعرف‬

‫واالستحسان وقول الصحابي‪.‬‬

‫إال أن النقل والعقل يتداخالن؛ ألن االستدالل بالمنقول البد منه‬

‫شرعا إال إذا استند‬ ‫من النظر بالعقل أو الرأي كما أن الرأي ال يعتد به‬ ‫ً‬ ‫إلى النقل(((‪ ،‬وفهم النص من قرآن وسنة يحتاج إلى نظر وفهم‪ ،‬كما‬ ‫أن المصادر االجتهادية سواء أكانت اجتهاد فرد كالقياس أو اجتهاد‬

‫جماعة كاإلجماع البد منها من سند أو دليل من القرآن أو السنة‪،‬‬

‫كما أنه ال يجوز ألي مصدر اجتهادي أن يخرج عن دائرة النص‬

‫بمبادئه العامة وقواعده الكلية‪ ،‬فالنقل والعقل يشتركان في بناء الفقه‬ ‫اإلسالمي وفهم مصادره وأصوله(((‪ ،‬والدليل على ذلك قوله تعالي‪:‬‬ ‫((( البكري‪ ،‬عبد الباقي‪ ،‬المدخل لدراسة القانون والشريعة اإلسالمية‪ ،‬ج‪،1972 ،1‬‬ ‫ص‪.531‬‬ ‫((( الصابوني‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.135‬‬ ‫‪223‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ُس َ‬ ‫ول َو ُأ ْولِي األَ ْم ِر ِمنك ُْم‬ ‫﴿ َيا َأ ُّي َها ا َّلذ َ‬ ‫ين َآمنُو ْا َأطي ُعو ْا ال ّل َه َو َأطي ُعو ْا َّ‬ ‫َفإِن َتنَازَ ْعتُم فِي َشي ٍء َفر ُّدو ُه إِ َلى ال ّل ِه َوالرس ِ‬ ‫ُون بِال ّل ِه‬ ‫ول إِن كُنت ُْم ت ُْؤ ِمن َ‬ ‫َّ ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫وا ْليو ِم ِ‬ ‫(((‬ ‫اآلخ ِر‪ . ﴾...‬ومعنى ذلك أي االمتثال ألمر الله ورسوله‬ ‫َ َْ‬ ‫حكما تشريع ًيا فردوها إلى ما‬ ‫وعلماء األمة‪ ،‬وإذ لم يجدوا للواقعة‬ ‫ً‬ ‫ورد في القرآن أو السنة من حوادث متشابهة فكان هذا إشارة إلى‬ ‫االجتهاد عن طريق القياس‪.‬‬

‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.59 :‬‬ ‫‪224‬‬


‫المبحث الثاني‬

‫المبادئ العامة لنظام الحكم في الإ�سالم‬ ‫� ً‬ ‫أول‪ :‬العدالة‪:‬‬

‫للعدالة في اإلسالم أهمية بالغة باعتبارها من األسس المهمة التي يقوم‬

‫عليها نظام الحكم في اإلسالم‪ ،‬وهذا ما أكده كتاب وسنة رسوله وردد في‬ ‫كثير من اآليات القرآن في الحث على العدالة؛ ألنها ليست مجرد فضيلة بل‬

‫هي جز ًء من المشرع أو الدين؛ فحيث تكون العدالة هناك يكون الشرع(((‪.‬‬

‫واآليات الكريمة التي تـدل على العـدل كثيـرة؛ منها‪﴿ :‬إِ َّن ال ّل َه َي ْأ ُم ُر‬ ‫بِا ْل َعدْ ِل‪َ ...﴿ .(((﴾...‬وإِ َذا َحك َْمتُم َب ْي َن الن ِ‬ ‫َّاس َأن ت َْحك ُ​ُمو ْا بِا ْل َعدْ ِل‪.(((﴾...‬‬ ‫َان َذا ُق ْر َبى‪.(((﴾...‬‬ ‫﴿‪َ ...‬وإِ َذا ُق ْلت ُْم َفا ْع ِد ُلو ْا َو َل ْو ك َ‬

‫((( الجوزية‪ ،‬اإلمام ابن القيم‪ ،‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪ ،‬القاهرة‪،1961 ،‬‬ ‫ص‪.14‬‬ ‫((( سورة النحل‪ ،‬اآلية‪.90 :‬‬ ‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.58 :‬‬ ‫((( سورة األنعام‪ ،‬اآلية‪.152 :‬‬ ‫‪225‬‬


‫مجلسا‬ ‫وقوله ﷺ‪[ :‬إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه‬ ‫ً‬ ‫إمام عادل‪ ،‬وإن أبغض الناس إلى الله وأشدهم عذا ًبا إمام جائر]‪.‬‬

‫ولقد ذهبت العدالة في اإلسالم مدى بعيدً ا إذ نجد القرآن يحث على‬ ‫العدالة حتى ضد نفس المرء وحتى مع األعداء‪.‬‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬يا َأيها ا َّل ِذين آمنُو ْا كُونُو ْا َقو ِامين بِا ْل ِقس ِ‬ ‫ط ُش َهدَ اء لِ ّل ِه َو َل ْو‬ ‫َ ُّ َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(((‬ ‫ين‪ . ﴾...‬فإن الله يأمرنا في هذه اآلية‬ ‫َع َلى َأن ُفسك ُْم َأ ِو ا ْل َوالدَ ْي ِن َواألَ ْق َربِ َ‬ ‫ً‬ ‫عدول حتى ولو جاء ذلك العدل ضد أنفسنا أو الوالدين‬ ‫الكريمة أن نكون‬ ‫أو ذوي القربى ولحقنا الضرر من ذلك‪ ،‬وقوله تعالى‪َ ...﴿ :‬والَ َي ْج ِر َمنَّك ُْم‬ ‫َآن َق ْو ٍم َع َلى َأالَّ َت ْع ِد ُلو ْا ا ْع ِد ُلو ْا ُه َو َأ ْق َر ُب لِل َّت ْق َوى‪.(((﴾...‬‬ ‫َشن ُ‬ ‫اإلسالم ال يتطلب العدالة من القضاء فحسب بل هي مفروضة على كل من‬ ‫يملـك سلطة هذا مـا تـؤكده اآليـة‪َ ...﴿ :‬وإِ َذا َحك َْمتُم َب ْي َن النَّا ِ‬ ‫س َأن ت َْحك ُ​ُمو ْا‬ ‫بِا ْل َعدْ ِل‪ (((﴾...‬فقد أوجب اإلسالم على الحكام التزام العدالة حتى مع األعداء(((‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬الم�ساواة‪:‬‬

‫ومن المبادئ اإلنسانية التي جاء بها اإلسالم المساواة بين الناس‬ ‫وأساس ذلك أنه مادام الناس جمي ًعا مخلوقين لله وحده ومكلفين بأال‬ ‫يعبدوا إال الله يعتبرون بهذا متساوين أمام خالقهم؛ وعلى الرغم من أن‬ ‫هذا المبدأ يعد صورة من صور العدالة وسب ًبا ونتيجة لها‪ ،‬وهذا المبدأ‬ ‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.135 :‬‬ ‫((( سورة المائدة‪ ،‬اآلية‪.8 :‬‬ ‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.58 :‬‬ ‫((( المتولي‪ ،‬عبد الحميد‪ ،‬مبادئ الحكم في اإلسالم‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،1974 ،‬ص ص‪.269-268‬‬ ‫‪226‬‬


‫الذي جاء به اإلسالم كان جديدً ا بالنسبة للعرب‪ ،‬ولقد كان يتعارض مع‬ ‫الشعور القبلي الذي كان سائدً ا لديهم في عصر الجاهلية‪ ،‬حيث كان العرب‬

‫يتفاخرون باأللقاب واألنساب‪.‬‬

‫ويعد مبدأ المساواة من المبادئ التي جاء بها اإلسالم استنا ًدا إلى ما‬ ‫َّاس إِنَّا َخ َل ْقنَاكُم ِّمن َذك ٍَر َو ُأن َثى َو َج َع ْلنَاك ُْم‬ ‫ورد في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬يا َأ ُّي َها الن ُ‬ ‫ُش ُعو ًبا َو َق َبائِ َل لِ َت َع َار ُفوا إِ َّن َأك َْر َمك ُْم ِعندَ ال َّل ِه َأ ْت َقاك ُْم‪.(((﴾...‬‬ ‫وقوله ﷺ‪[ :‬إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم آلدم وآدم من تراب]‪.‬‬

‫وقولهﷺ‪[ :‬إن أكرمكم عند الله أتقاكم]‪ .‬وقوله ﷺ‪ ...[ :‬وليس لعربي‬

‫على عجمي‪ ،‬وال لعجمي على عربي فضل إال بالتقوى]‪.‬‬

‫وهذا المبدأ اإلنساني الذي أتي به اإلسالم يهدر كل نظام يستند إلى‬

‫الطبقة أو أي أساس آخر‪ ،‬وبذلك يكون اإلسالم قد ساوى بين الناس تسوية‬

‫مطلقة‪ ،‬فهو يشمل المساواة أمام القانون والمساواة أمام القضاء والمساواة‬

‫في الحقوق والواجبات‪ ،‬كما يتناول المساواة أمام الله‪ ،‬إذ ال فضل ألحد‬

‫على آخر إال بالعمل الصالح(((‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬ال�شورى‪:‬‬

‫تنظيما يكفل سير الحياة السياسية‬ ‫نظم الشرع كافة جوانب الشورى‬ ‫ً‬

‫الراقية وحث األمة على التمسك بسلطانها وأال تدع الحاكم يتغافل عن‬ ‫((( سورة الحجرات‪ ،‬اآلية‪.13 :‬‬ ‫((( العطار‪ ،‬فؤاد‪ ،‬النظم السياسية والقانونية والقانون الدستوري‪ ،‬القاهرة‪ ،1974 ،‬ص‬ ‫ص‪.142 ،123‬‬ ‫‪227‬‬


‫رأيها‪ ،‬والعمل بالشورى في األمة اإلسالمية يمثل الجانب المشرق فـي‬ ‫السياسة اإلسالمية التي تعـود بالنفع للحاكم والمحكوم‪ ،‬وقـد نزلت اآلية‬ ‫ورى َب ْين َُه ْم‪ (((﴾...‬في العهد المكي أي قبل أن‬ ‫الكريمة‪َ ...﴿ :‬و َأ ْم ُر ُه ْم ُش َ‬

‫تكون هناك دولة مسلمة؛ وإنما كان ذلك إعداد وتهيئـة المسلمين لتكون‬ ‫لهـم دولة‪ ،‬اآليـة الكريمة‪َ ...﴿ :‬و َش ِ‬ ‫او ْر ُه ْم فِي األَ ْم ِر‪ (((﴾...‬نزلت في العهد‬ ‫المدني لتأخذ صفة اإلقرار وااللتزام بذلك تربت األمة على المشاركة في‬

‫تحمل المسؤولية مع ولي األمر‪.‬‬

‫وردت الشورى في القرآن الكريم ثالث مرات‪ :‬في سورة آل عمران‪،‬‬

‫وفي سورة الشورى (اآليتين السابقتين)‪ ،‬وثالثة في سورة البقرة اآلية ‪233‬‬

‫قوله تعالى‪َ ...﴿ :‬فإِ ْن َأ َرا َدا فِ َص ًال َعن ت َ​َر ٍ‬ ‫او ٍر َف َ‬ ‫َاح‬ ‫ال ُجن َ‬ ‫اض ِّمن ُْه َما َوت َ​َش ُ‬ ‫َع َل ْي ِه َما‪.﴾...‬‬

‫إ ًذا الشورى هي عرض األمر على الخيرة حتى يعلم المراد منه والشورى‬

‫اجتماع الناس على استخالص الصواب بطرح جملة آراء في مسألة لكي‬ ‫يهتدوا إلى قرار‪.‬‬

‫�أهمية العمل بال�شورى‪:‬‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬العمل بالشورى قربة وطاعة لله الرتباطها المباشر بمجاالت‬

‫التشريع اإلسالمي وقيامها في األساس عليها‪ ،‬مما يعطيها الطابع‬ ‫الديني المميز إلعطاء السمة المباشرة للدولة‪.‬‬

‫((( سورة الشورى‪ ،‬اآلية‪.38 :‬‬ ‫((( سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪.159 :‬‬ ‫‪228‬‬


‫وسليما للرأي العام بحيث يتسنى‬ ‫معيارا ثابتًا‬ ‫ثان ًيا‪ :‬تطبيق الشورى يعطي‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫موافقة عليه بشكل أقرب إلى االنضباط فال يظلم وال ُيظلم‪.‬‬

‫ثال ًثا‪ :‬تطبيق الشورى يعطي قوة للمجتمع ألنها تهتم بأهل الحل والعقد‬

‫فيظهر أهل االجتهاد في كل قضايا المجتمع فتنتظم األمور‬

‫االجتماعية واالقتصادية والسياسية وغيرها فال يصل إال صاحب‬ ‫مستقرا‪.‬‬ ‫الكفاءة الذي يعطي بجد وإخالص فيبني مجتم ًعا قو ًيا‬ ‫ً‬

‫راب ًعا‪ :‬الشورى تجمع بين الثبات والمرونة والعصمة من االستبداد‪،‬‬ ‫فالشورى تتيح السماع من أكثر من طرف وتشكل وجهات نظر‬ ‫كثيرة‪ ،‬فيكون لإلمام مجموعة خيارات ً‬ ‫بدل من االستبداد في‬ ‫الرأي‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الشورى تعطي توازنًا بين الفاعلية والرقابة والمسؤولية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫معيارا‬ ‫فالتوازن بين الفاعلية والرقابة والمسؤولية يوحد‬ ‫ً‬

‫للتفاهم والتعاون على أساس البر والتقوى فيعطي فرصة‬

‫لبقاء األكفاء والتخلي عن المقصر والمسيء(((‪.‬‬

‫إ ًذا يعد مبدأ الشورى من أهم المبادئ الدستورية التي يقوم عليها نظام‬

‫الحكم في اإلسالم وعلى أساس هذا المبدأ استحدث اإلسالم نظام الخالفة‬ ‫إثر وفاة الرسول ﷺ؛ ليقوم الخليفة بالمحافظة على الدين والدعوة إليه‪،‬‬

‫والجهاد في سبيل تطبيق أحكامه وتحقيق العدالة والمساواة بين الناس حتى‬ ‫((( الشطي‪ ،‬بسام خضر‪ ،‬ورقة عمل بعنوان «مفهوم الشورى في اإلسالم وإمكانية العمل‬ ‫بها»‪ ،‬عنوان الكتاب‪« :‬الشورى في الفكر والممارسة»‪ ،‬المركز العلمي لدراسات‬ ‫وأبحاث الكتاب األخضر‪ ،‬بنغازي‪ ،‬دار الكتب الوطنية‪ ،‬ط‪ ،1997 ،1‬ص ص‪.57 ،55‬‬ ‫‪229‬‬


‫ال ينفرد الحاكم بالرأي ويستقل بالتصرفات في أمور الدولة‪ ،‬فالشورى تمنع‬ ‫االستبداد وتحترم حرية الرأي بغية الوصول إلى تحقيق الصالح العام(((‪.‬‬

‫النظام الق�ضائي في الإ�سالم‪:‬‬

‫القضاء والية جليلة القدر عظيمة الشأن‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬إِنَّا َأن َز ْلنَا إِ َل ْي َ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫َاب بِا ْل َح ِّق لِت َْحك َُم َب ْي َن الن ِ‬ ‫َّاس بِ َما َأ َر َ‬ ‫اك ال ّل ُه‪.(((﴾...‬‬ ‫ا ْلكت َ‬ ‫وقوله ﷺ‪[ :‬إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم‬

‫فاجتهد فأخطأ فله أجر]‪.‬‬

‫إن موضوع النظام القضائي في اإلسالم موضوع طويل ويحتاج إلى‬

‫دراسة منفردة‪ ،‬ولكن هنا سأشير إلى التعريف بالقضاء‪ ،‬وشروط القاضي‪،‬‬ ‫وأنواع القضاء في اإلسالم‪.‬‬

‫التعريف بالقضاء وشروط القاضي‪:‬‬ ‫للقضاء معني في اللغة وله في اصطالح الفقهاء معنى آخر؛ فهو في‬ ‫﴿و َق َضى َر ُّب َك َأالَّ َت ْع ُبدُ و ْا إِالَّ إِ َّيا ُه َوبِا ْل َوالِدَ ْي ِن‬ ‫اللغة بمعنى الحكم‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬ ‫إِ ْح َسانًا‪ (((﴾...‬كما أن له في اللغة معان أخرى قد يكون بمعنى القتل‪:‬‬

‫(قضى عليه) وقد يأتي بمعنى إحكام الشيء والفراغ منه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫﴿ َف َق َضاهن سبع سماو ٍ‬ ‫ات فِي َي ْو َم ْي ِن‪.(((﴾...‬‬ ‫ُ َّ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫((( ليلة‪ ،‬محمد كامل‪ ،‬النظم السياسية‪ ،‬القاهرة‪ ،1962 ،‬ص ص‪.222-221‬‬ ‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.105 :‬‬ ‫((( سورة اإلسراء‪ ،‬اآلية‪.23 :‬‬ ‫((( سورة فصلت‪ ،‬اآلية‪.12 :‬‬ ‫‪230‬‬


‫أما القضاء في اصطالح الفقهاء فقد وردت تعاريف كثيرة عند‬

‫فقهاء الشريعة اإلسالمية كلها متقاربة وتجتمع في أن القضاء هو «إلزام‬

‫المتخاصمين بالحكم الشرعي وتنفيذه عليهم»(((‪.‬‬ ‫شروط القاضي‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أن يكون ً‬ ‫عاقل‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ أن يكون بال ًغا‪.‬‬ ‫حرا‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ أن يكون ً‬

‫ولما كان القضاء من باب الوالية‪ ،‬وال والية لغير العاقل‪ ،‬وغير‬ ‫البالغ‪ ،‬وغير الحر على أنفسهم؛ فمن باب أولى ال تكون الوالية‬ ‫على غيرهم وال تصح للقضاء والية المجنون والسفيه والصبي‪.‬‬

‫مبصرا‪ ،‬فال يصح قضاء ألعمى‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ أن يكون‬ ‫ً‬

‫‪ 5‬ـ أن يكون حسن النطق والسمع‪ ،‬فذهب الرأي الراجح إلى عدم‬ ‫جواز قضاء األخرس وال قضاء األصم‪.‬‬

‫‪ 6‬ـ االجتهاد وهو ملكة استنباط األحكام الفرعية من أدلتها التشريعية التفصيلية‬ ‫�أنواع الق�ضاء في الإ�سالم‪:‬‬

‫ً‬ ‫أول‪ :‬القضاء العادي‪:‬‬ ‫كان القرآن الكريم هو األصل في التشريع اإلسالمي؛ فقد أصبح للعرب‬ ‫((( أبو فارس‪ ،‬محمد عبد القادر‪ ،‬القضاء في اإلسالم‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪ ،1984 ،2‬ص‪.40‬‬ ‫‪231‬‬


‫بنزوله شريعة فرض عليهم اتباع أحكامها‪ ،‬وكان الرسول ﷺ هو المرجع‬ ‫األول في تطبيقها؛ وبذلك خاطبه ربه‪﴿ :‬إِنَّا َأن َز ْلنَا إِ َلي َ ِ‬ ‫َاب بِا ْل َح ِّق‬ ‫ك ا ْلكت َ‬ ‫ْ‬ ‫لِت َْحك َُم َب ْي َن الن ِ‬ ‫َّاس بِ َما َأ َر َ‬ ‫اك ال ّل ُه‪ .(((﴾...‬وبذلك تعين أن يكون الرسول‬

‫هو القاضي في كل ما يقع بين أهل المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم‬

‫من المشركين‪ ،‬وكان حكم الرسول أقرب إلى التحكيم الذي ألفه العرب‪،‬‬ ‫تحكيما إجبار ًيا انتقل به العرب من التحكيم االختياري وامتنع‬ ‫غير أنه كان‬ ‫ً‬

‫فيه استعمال القوة إلنشاء الحق وحمايته‪.‬‬

‫فأصبح اإليمان ال القوة هو الضامن لنفاذ الحكم؛ وبذلك خاطب الله‬ ‫ِ​ِ‬ ‫ين إِ َذا ُد ُعوا إِ َلى ال َّل ِه َو َر ُسولِ ِه لِ َي ْحك َُم َب ْين َُه ْم‬ ‫المؤمنين‪ ﴿ :‬إِن َ​َّما ك َ‬ ‫َان َق ْو َل ا ْل ُم ْؤمن َ‬ ‫َأن َي ُقو ُلوا َس ِم ْعنَا َو َأ َط ْعنَا َو ُأ ْو َلئِ َ‬ ‫ون ﴾(((‪.‬‬ ‫ك ُه ُم ا ْل ُم ْفلِ ُح َ‬ ‫وبذلك أخذ النظام القضائي شكله الجديد بحضور الخصوم مختارين‬

‫إلى مجلس النبي ﷺ ليقضي بينهم وطاعتهم لحكمه ورضاهم بقضائه‪.‬‬

‫وبعد الرسول انتقلت السلطة القضائية مع غيرها إلى خلفائه وكان‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫فضل عن‬ ‫عامل عهد إليه بالسلطة القضائية‬ ‫الخليفة إذا عين وال ًيا أو‬ ‫السلطات السياسية واإلدارية والعسكرية‪.‬‬

‫حين تولى أبو بكر الخالفة أسند مهمة القضاء لعمر بن الخطاب؛‬

‫ولما تولى عمر الخالفة عين قضاة في األمصار للفصل في الخصومات بعد‬

‫اختالط العرب بسكان البالد المفتوحة وكان القاضي يحكم باجتهاده إذا‬

‫نصا في كتاب الله وسنة الرسول وبذلك‬ ‫لم يجد في القضية المرفوعة إليه ً‬ ‫((( سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.105 :‬‬ ‫((( سورة النور‪ ،‬اآلية‪.51 :‬‬ ‫‪232‬‬


‫أصبح «االجتهاد والرأي والقياس» ً‬ ‫أصل من أصول القضاء في العصور‬ ‫التالية‪ ،‬وأصبحت تبنى عليه أكثر األحكام‪.‬‬

‫ً‬ ‫مستقل في عهد األمويين‪ ،‬فكانت كلمة القضاء نافذة‬ ‫وقد ظل القضاء‬ ‫على الوالة وعمال الخراج غير أن النظام القضائي تطور في عهد العباسيين‬ ‫فظهرت المذاهب األربعة وأصبح القاضي ملز ًما بأن يصدر حكمه وفق‬ ‫أحد المذاهب‪ ،‬فكان القاضي في العراق يحكم وفق مذهب أبي حنيفة‬ ‫وفي الشام وفق مذهب مالك وفي مصر وفق المذهب الشافعي(((‪.‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬القضاء االستثنائي‪:‬‬

‫وهو طريقة أخرى من طرق حماية الحقوق والفصل في المنازعات‬ ‫التي تحدث بين األفراد وتشمل والية المظالم‪ ،‬ووالية الحسبة‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ والية المظالم‪:‬‬ ‫أن الدولة اإلسالمية عرفت منذ فجر اإلسالم والية المظالم وهي‬ ‫كثيرا من‬ ‫قضاء كامل وفعال يفوق في الغالب في اختصاصاته وتأثيره ً‬ ‫النظم القضائية‪ ،‬وتشبه هذه الوالية القضاء من حيث أنها تهدف إلى‬ ‫إنصاف المظلومين ورد حقوقهم إليهم وهي تتميز عنها بكونها ال تخضع‬ ‫ألية قواعد تقيدها‪ ،‬فيكفي أن يتظلم أحد الناس إلى ولي األمر خليفة أو‬ ‫أمير حتى ينظر في تظلماته ويعمل إنصافه بما له من هيبة الحكم‪ ،‬وقد‬ ‫نشأت والية المظالم في عهد األمويين حين جار عمالهم في األقاليم‬ ‫وأخذوا يغتصبون أموال الناس ويمنعون نفاذ أحكام القضاء‪ ،‬فقد كان‬ ‫القضاة يعجزون عن تنفيذ أحكامهم إذ كان الخم من أصحاب السلطة‬ ‫((( العبودي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.215-214‬‬ ‫‪233‬‬


‫أو النفوذ ويتألف مجلس المظالم ممن يمثل السلطة العامة وهو الخليفة‬ ‫أيضا الفقهاء والقضاة اإلدالء برأيهم‬ ‫أو الوزراء واألمراء ويضم المجلس ً‬ ‫فيما يعرض من تظلمات‪.‬‬ ‫أما وظيفة المجلس فهي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ النظر في تعدي الوالة وأصحاب النفوذ واغتصابهم أموال الناس‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ جور العمال فيما يحبون من الخراج‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ تظلم أصحاب االستحقاق في بيت المال من نقص أرزاقهم أو‬ ‫تأخيرهم عنهم‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ مقاضاة األقوياء وأصحاب النفوذ ممن يعجز القاضي عن إحضارهم‬ ‫إلى مجلسه أو تمنعه قوتهم من تنفيذ الحكم عليهم‪ ،‬كذلك يحق لوالي‬ ‫المظالم أن يتخذ أي تدبير آخر يراه مناس ًبا لمنع وقوع الضرر(((‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ والية الحسبة‪:‬‬

‫اسما من االحتساب بمعنى «ادخار‬ ‫الحسبة لغة‪ :‬بكسر الحاء يكون ً‬ ‫األجر»‪ ،‬ويكون بمعنى «االعتداد بالشيء» ويكون من االحتساب بمعنى‬ ‫حسن التدبير والنظر فيه‪ ،‬ومن ذلك قولهم فالن حسن الحسبة في األمر‬ ‫أي حسن التدبير والنظر(((‪.‬‬ ‫((( حلمي‪ ،‬محمود‪ ،‬نظام الحكم اإلسالمي مقارنًا بالنظم المعاصرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬ ‫ط‪ ،1975 ،3‬ص‪.340‬‬ ‫((( القرشي‪ ،‬محمد بن محمد بن حمد القرشي‪ ،‬الملقب بابن األخوة‪ ،‬معالم القرب‬ ‫في أحكام الحسبة‪ ،‬وتحقيق محمد محمود شبان‪ ،‬وصديق أحمد عيسى المطيعي‪،‬‬ ‫الهيئة العامة للكتاب‪ ،1976 ،‬ص‪.23‬‬ ‫‪234‬‬


‫أما في االصطالح الفقهي‪ :‬لدى الفقهاء فقد عرفت الحسبة بأنها األمر‬

‫بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله(((‪.‬‬

‫وقد أوجبت مصادر الشريعة الحنيفة السمحة من كتاب الله وسنة‬ ‫ون إِ َلى‬ ‫﴿و ْل َتكُن ِّمنك ُْم ُأ َّم ٌة َيدْ ُع َ‬ ‫الرسول ﷺ‪ .‬فمن الكتاب قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ون بِا ْلمعر ِ‬ ‫ون﴾(((‪.‬‬ ‫وف َو َين َْه ْو َن َع ِن ا ْل ُمنك َِر َو ُأ ْو َلـئِ َك ُه ُم ا ْل ُم ْفلِ ُح َ‬ ‫ا ْلخَ ْي ِر َو َي ْأ ُم ُر َ َ ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َّاه ْم فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫الص َل َة َوآت َُوا ال َّزكَا َة َو َأ َم ُروا‬ ‫وقال ً‬ ‫ض َأ َق ُاموا َّ‬ ‫ين إِن َّم َّكن ُ‬ ‫أيضا‪ :‬ا َّلذ َ‬ ‫بِا ْلمعر ِ‬ ‫وف َون َ​َه ْوا َع ِن ا ْل ُمنك َِر‪.(((﴾...‬‬ ‫َ ُْ‬ ‫ومن السنة قوله ﷺ‪[ :‬ما من قوم عملوا المعاصي وفيهم من يقدر‬

‫على أن ينكر عليهم فلم يفعل إال يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده]‪.‬‬ ‫فالحسبة وظيفة دينية أوجدها اإلسالم عندما رأى أن اإلنسان ال غنى‬

‫له عن التعاون والتعامل مع غيره وأدرك أنه لكي يستقيم أمر الجماعة‬ ‫البد من إيجاد سلطة تلزم كل إنسان حده حتى ال يتجاوزه لحقوق غيره‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مجال للعبث بمصالح الناس إرضا ًء لشهوة جامحة أو نزوة‬ ‫فهي ال تترك‬ ‫طارئة والمحتسب قد يكون متطو ًعا من عامة المسلمين يقوم بها في حدود‬

‫إمكانياته وقدراته الذاتية باعتبارها واج ًبا عا ًما على الكافة‪ ،‬وقد ينتدب‬

‫كفؤا ويسند إليه أعباء هذه الوظيفة التي تعد من قبيل‬ ‫السلطان لها‬ ‫شخصا ً‬ ‫ً‬

‫القضاء وفيها تنزيه للقاضي من النظر في اإلشكاالت والمنازعات اليومية‬

‫((( الماوردي‪ ،‬أبو الحسن على بن محمد بن حبيب‪ ،‬ت ‪450‬هـ‪ ،‬تسهيل النظر وتعجيل‬ ‫الظفر في خالفة الملك وسياسة الملك‪ ،‬تحقيق محسن هالل السرحان‪ ،‬مراجعة‬ ‫حسن الساعاتي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،1978 ،‬ص‪.240‬‬ ‫((( سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪.104 :‬‬ ‫((( سورة الحج‪ ،‬اآلية‪.41 :‬‬ ‫‪235‬‬


‫كثيرا من التمعن والتحقيق والتمحيص‬ ‫والقضايا الوقتية التي ال تحتاج ً‬ ‫والتدقيق والحق فيها بين واضح وال تتطلب منه سوى الوقوف مع صاحب‬ ‫الحق بقوة واإلسراع في الفصل في هذه القضية ألن في التعطيل فيها‬ ‫إضرارا بآخرين‪.‬‬ ‫ً‬ ‫فالحسبة وظيفة تتولى تتبع األمور العاجلة الواضحة التي تحتاج إلى‬ ‫حسم فوري إحقا ًقا للحق إلظهاره وهد ًما للباطل بإزالته‪.‬‬

‫ونظرا لما لهذه الوظيفة من أهمية لقد كان يختار لتولي هذه الوظيفة‬ ‫ً‬ ‫من كبار رجال الدولة من العلماء والفقهاء والقضاة األفذاذ ممن عرفوا‬ ‫بالعفاف والورع والنزاهة والحنكة والفطنة والذكاء والجرأة في الحق ممن‬ ‫ال يلتفت للشفاعات صار ًما ضد المخالفين ألحكام الشرع‪.‬‬ ‫فوائد الحسبة للمجتمع‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ توفير الثقة العامة المتبادلة بين أفراد األمة اإلسالمية وما يترتب‬ ‫على ذلك من كثرة المبادالت وضمان سالمتها وااللتزام في شأنها‬ ‫بأصول الشرع واألعراف والتقاليد المراعية للمجتمع‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ خلق ظروف جيدة للتعامل تضمن حق جميع األطراف دون حيف‬ ‫على أحد‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ وضع ضوابط ومعايير يسير عليها المجتمع تصبح التطبيق وااللتزام‬ ‫بها مع الزمن عادات وتقاليد ومبادئ سامية مغروسة في النفوس‬ ‫ال يمكن زوالها وبالتالي قيام مجتمع فاضل‪.‬‬ ‫حققت الحسبة هذه الفوائد الجمة للمجتمع اإلسالمي في أغلب فترات‬ ‫مراحل تطوره التاريخي إال أن األوضاع والظروف السياسية قد حادت به‬ ‫‪236‬‬


‫عن غاياته خاصة في عهود المماليك والترك ممن كانوا ال يقيمون للخالفة‬ ‫وواليتها الدينية أي اعتبار وبالتالي أدخلوا فيها أشياء لم تكن فيها وقد لحق‬ ‫الحسبة منها الشيء الكثير‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫تدخل كبار األمراء وأصحاب النفوذ والسلطة في الدولة في تولية‬ ‫أعوانهم في هذه الوظيفة لخدمة مصالحهم‪.‬‬ ‫إن األمر لم يقتصر على تولي هذه الوظيفة بالرشوة بل استقر الحال‬ ‫على شراء هذه الوظيفة بمبلغ من المال يدفع مقد ًما بصورة مكشوفة‬ ‫للسلطان مما أدى إلى المزايدة فيه‪ ،‬ومن ثم تقاضيه من الباعة والتجار‬ ‫والصنع كضرائب أو إتاوات تقرر عليهم‪.‬‬ ‫مقتصرا على الفقهاء وإنما تعداها إلى غيرهم‬ ‫لم يعد تولي هذه الوظيفة‬ ‫ً‬ ‫من أصحاب السيوف وعلى أيدي هؤالء انتهى أمر الحسبة((( ؛ حيث كانت‬ ‫والية الشرطة والحسبة لشخص واحد‪ ،‬فتارة كانت تضم الشرطة للحسبة‬ ‫ويتوالها المحتسب وتارة أخرى كانت الحسبة تلحق بوالية الشرطة ويسند‬ ‫أمرها إلى صاحب الشرطة‪ ،‬ويتحقق ذلك تب ًعا للثقة التي يحظى بها صاحب‬ ‫الشرطة أو المحتسب من قبل الخليفة أو الوالي‪ ،‬هذا باإلضافة إلى كونه‬ ‫يتمتع بشخصية أقوى وقدرات وإمكانيات أكثر تسمح له بالعطاء في مجال‬ ‫عمله‪ ،‬إال أن هناك ضعاف انتهى على أيديهم أمر الحسبة(((‪.‬‬

‫((( الشهاوي‪ ،‬إبراهيم الدسوقي‪ ،‬الحسبة في اإلسالم‪ ،‬مكتبة دار العروبة‪ ،1962 ،‬ص‬ ‫ص‪.104-103‬‬ ‫((( القلقشندي‪ ،‬أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد الفزاري‪ ،‬ت ‪148-821‬هـ‪ ،‬صبح‬ ‫األعشى في صناعة اإلنشا‪ ،‬ج‪ ،5‬القاهرة‪ ،1963 ،‬ص ص‪.452-451‬‬ ‫‪237‬‬



‫المبحث الثالث‬

‫الحقوق الرومانية و�أثرها في الت�شريع‬ ‫الإ�سالمي عند الم�ست�شرقين‬ ‫أ ـ يدعي المستشرقون في تأثير الحقوق الرومانية في التشريع اإلسالمي‪:‬‬

‫ً‬ ‫تعامل‬ ‫وأن الحقوق الرومانية تركت عن طريق تطبيقها في الشرق‬ ‫حقوق ًيا أصبح من أعراف البالد وتقاليدها وبذلك دخلت هذه الحقوق‬ ‫إلى التشريع اإلسالمي ولم يشعر به‪.‬‬ ‫ويقول بهذا الرأي دافيد سانتيلالنا (‪ )D. Santivana‬في مقدمته على‬ ‫المشروع للقانون المدني والتجاري التونسي المطبوع سنة ‪1890‬م في‬ ‫تونس باللغة الفرنسية‪.‬‬ ‫وتابع سانتيلالنا في ذلك محمد حافظ صبري مؤلف كتاب المقارنات‬ ‫والمقابالت المطبوع سنة ‪1902‬م في مصر حيث قال‪ :‬وبعد أن تهذب الشرع‬ ‫الروماني عقب االختالط باألمم الشرقية‪ ،‬صار شرع معظم البالد الرومانية‬ ‫أو غير الرومانية وتداخلت قواعده وأحكامه بعد ذلك في الشرع اليهودي بعد‬ ‫فتح الرومان لمملكة اليهود قبل الميالد وبعده وإن اإلسالم عند فتوح البلدان‬ ‫‪239‬‬


‫التي كانت تابعة لدولة الرومان كالشام ومصر وأفريقية والجزائر ومراكش وجد‬

‫الشرع الروماني سائدً ا فيها فنسخ ما نسخ وأيد ما أيد‪ ،‬ولذا كان أغلب قواعد‬ ‫الفقه اإلسالمي مواف ًقا لقواعد الفقه العبري والروماني في مسائل المعامالت‬ ‫الدنيوية المعبر عنها بالمسائل المدنية والتجارية والعقوبات‪.‬‬

‫أما الحجة الثانية فهي قولهم أن الفقه اإلسالمي لم ينشأ عند العرب‬

‫بمحض تفكيرهم الخاص من غير تأثير خارجي فيهم‪ ،‬وأن هذا الفقه إنما‬

‫تم وانتظم في القرن الثاني من الهجرة وذلك في سورية والعراق وعلى إثر‬

‫اتصال المسلمين بمعاهد الحقوق النصرانية هناك ويقول بهذا الرأي األستاذ‬

‫هنري ماسة (‪ )M. Masse‬في كتابه اإلسالم المطبوع في باريس سنة ‪1930‬م‪.‬‬ ‫ً‬ ‫وتماثل ما بين الحقوق‬ ‫تشابها‬ ‫وأما الحجة الثالثة فهي قولهم‪ :‬إن هناك‬ ‫ً‬

‫اإلسالمية وبين الحقوق الرومانية في األفكار الحقوقية وفي لغة التعبير في‬ ‫كثير من النصوص وفي كثير من الكلمات االصطالحية(((‪.‬‬

‫ويقول بهذا الرأي كل من دافيد سانتيلالنا وهنري ماسة وكذلك كولد‬

‫زيهر النمساوي (‪ )Cold Ziher‬في كتابه‪ :‬عقيدة اإلسالم وقانونه المترجم‬ ‫إلى الفرنسية سنة ‪1920‬م»‪.‬‬ ‫رد على الحجة األولى‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الحقوق الرومانية األصلية كانت مقصورة على الوطنيين من سكان‬

‫روما ثم على جميع الالتين من سكان إيطاليا دون غيرهم من األجانب‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ إن سورية والعراق ومصر كانت تحت أحكام وتقاليد حقوقية شرقية‪،‬‬ ‫((( فهمي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.322‬‬ ‫‪240‬‬


‫مثل‪ :‬كلدانية ومصرية‪ .‬مصر ظلت تعتبر من البالد األجنبية ولم‬ ‫يمنح أهلوها حقوق المواطن الروماني ما عدا مدينة اإلسكندرية‬ ‫التي خصت بامتيازات خاصة‪.‬‬

‫ومصر كانت في العهد اإلسالمي يقف جهدها على النصوص الواردة‬

‫في الكتاب والسنة ولم تكن من البالد التي نشأ فيها مذهب «أهل الرأي»‬ ‫ليسهل معه االقتباس‪ ،‬وما انتشر في مصر من مذاهب فقهية إنما ي مذاهب‬ ‫نشأت ً‬ ‫أول في الحجاز والعراق ثم نقلت إلى مصر‪.‬‬

‫أيضا محرومة من الحقوق الرومانية ما عدا بيروت وصور‬ ‫سورية كانت ً‬

‫وهذه المدن الساحلية هي التي أثرت في الحقوق الرومانية‪.‬‬

‫كذلك مملكتا الغساسنة كانت مسيطرة على شرق سورية بعاداتها وتقاليدها‬

‫وهي يمانية في أصلها وفي الشرق ما بين النهرين من أراضي الكلدانيين مملكة‬ ‫أيضا يمانيون ال أثر للحقوق الرومانية فيها‪.‬‬ ‫اللخميين العرب وهو ً‬

‫وفي شرق المملكة العربية اللخمية وعلى ضفاف نهر الفرات الغربية‬

‫بنيت مدينة الكوفة العربية وسكانها عرب يمانيون‪ ،‬وعند هؤالء وفي‬

‫مدينتهم تم تطور الحقوق اإلسالمية وعلى أيدي رجال مذهب أهل‬ ‫الرأي والعقل(((‪.‬‬

‫دراسة الحجة الثانية‪:‬‬ ‫تتلخص الحجة الثانية في اإلدعاء بأن العرب بعد الفتح اإلسالمي‬

‫لسورية والعراق قد اتصلوا بمعاهد الحقوق المسيحية الموجودة في هذه‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ص‪.226-224‬‬ ‫‪241‬‬


‫البالد إال أن هذا االدعاء مناقض للوقائع التاريخية وذلك ألن فتح العرب‬ ‫للعراق وسورية كان سنة ‪630‬م وقبل ذلك لم يكن في العالم الروماني غير‬

‫ثالثة معاهد للحقوق وقد أشار إلى ذلك األستاذ كوللينه (‪ )Collinet‬في‬

‫كتابه مدرسة بيروت وأن جوستينيان لم يترك في اإلمبراطورية غير ثالث‬ ‫مدارس رسمية‪ ،‬مدرستين في المدينتين الملكيتين «روما والقسطنطينية‬

‫والثالثة في بيروت وقد أغلق مدرسة اإلسكندرية في مصر ومدرسة قيصرية‬ ‫في سورية ومن قبل كان أغلق مدرسة أثينا‪.‬‬

‫أما مدرسة بيروت فقد قضى عليها في ‪ 16‬تمور عام ‪551‬م‪ ،‬وذلك‬

‫على إثر زلزال أرضي هدم مدينة بيروت وذلك قبل ميالد الرسول ‪570‬‬

‫بعشرين سنة‪ ،‬وقد قال األستاذ كوللينه (‪ )Collinet‬أن مدينة بيروت كانت‬ ‫حتى عام ‪ 600‬خرا ًبا‪ ،‬وقد سقطت في أيدي العرب بسهولة سنة ‪ 635‬دون‬

‫أن تكون مدرسة بيروت قد عادت إلى الحياة‪.‬‬ ‫دراسة الحجة الثالثة‪:‬‬

‫تتلخص الحجة الثالثة فيما بين الحقوق الرومانية وبين الحقوق‬

‫تشابها‪ ،‬وقد تكلم المستشرقون مشيرين إلى هذا التشابه في‬ ‫اإلسالمية‬ ‫ً‬ ‫األفكار الحقوقية وتشابه في لغة التعبير وتشابه في كثير من الكلمات‬ ‫االصطالحية‪.‬‬

‫أما سانتيلالنا (‪ )D. Santivana‬فهو متعجب جدً ا لما بين الحقوق‬

‫الفرنسية والحقوق اإلسالمية من تشابه عظيم ويقول‪« :‬إننا إذا توغلنا في‬ ‫حقائق األشياء فوجئنا بما نرى من تشابه شديد فيما بين آراء كبار الفقهاء‬

‫المسلمين في المدينة والكوفة وفي قرطبة وبين آراء رجالنا في الحقوق‪.‬‬ ‫‪242‬‬


‫ويرد سانتيلالنا هذا التشابه أن سببه ثالثة عوامل((( ‪:‬‬ ‫العامل األول‪:‬‬ ‫هو ما بين البشر من وحدة أساسية في التفكير‪.‬‬ ‫العامل الثاني‪:‬‬ ‫هو ارتكاز كل من الحقوق اإلسالمية والحقوق الفرنسية على قاعدة‬

‫احترام االلتزامات مجردة من المراسم والشكليات‪.‬‬ ‫العامل الثالث‪:‬‬

‫هو استقاء كل منهما في قسم من أحكامه على األقل مصدر واحد هو‬

‫الحقوق الرومانية‪.‬‬

‫هذا وإذا نظرنا نظرة خاصة في كل ما يدعى به من تشابه ما بين الكلمات‬

‫االصطالحية في التشريعين وتعمقنا في الدراسة للكشف عن معنى التشابه‬ ‫بين الكلمتين ً‬ ‫مثل هو على الغالب تقارب في المعنى من جهة المعنى‬

‫اللغوي الحقيقي ال من جهة المعنى االصطالحي الخاص‪.‬‬

‫وإيضاحا لذلك ندس كلمتين كنموذج للتشابه؛ وهاتان الكلمتان هما‬ ‫ً‬

‫كلمة اإلجماع عند فقهاء في التشريع اإلسالمي وكلمة «كونسانسوس»‬

‫أيضا عند الفقهاء في‬ ‫(‪ )Consenus‬الالتينية المفيدة لمعنى اإلجماع ً‬ ‫التشريع الروماني‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق باإلجماع عند الرومان فيقول األستاذ جيفار‪« :‬إذا قيل‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.327‬‬ ‫‪243‬‬


‫هناك عدد من المفتين فمعناه أن هناك عد ًدا من اآلراء المتضاربة وأمام‬

‫كثيرا ولذلك جاءت االصطالحات‬ ‫هذا التضارب كان القضاء يتردد ً‬ ‫اإلمبراطورية وتدخلت في األمر بغية أن تحدد السلطة القضائية للمفتين»‪.‬‬ ‫ثم تكلم األستاذ جيفار عن هذه االصطالحات اإلمبراطورية في عهود أربعة‪:‬‬ ‫األول‪:‬‬ ‫يبدأ من عهد اإلمبراطور أغسطس (‪ )Auguste‬إلى صدور اإلمبراطور‬

‫هادريان حتى عهد أغسطس من ‪ 27‬ق‪.‬م ـ ‪ 117‬ب‪.‬م‪.‬‬ ‫الثاني‪:‬‬

‫من عهد هادريان حتى عهد قسطنطينوس ‪ 306-117‬ب‪.‬م‪.‬‬ ‫الثالث‪:‬‬ ‫من عهد قسطنطينوس حتى عهد تيودور الثاني (‪)Theodore II‬‬

‫وفاالنتينيان الثالث (‪.)Valentinien III‬‬ ‫الرابع‪:‬‬

‫يبدأ من عهد اإلمبراطور تيودور الثاني وفاالنتينيان الثالث‪.‬‬ ‫أما فيما يتعلق بإصالحات اإلمبراطور أغسطس فقد كانت أجوبة‬

‫المفتين قبله تصدر عن المفتين من غير إذن الدولة وال مراقبتها وكانوا‬

‫المفتين يفتون باسم الشعب‪.‬‬

‫غير أن هذا االمتياز الذي أعطى لبعض المفتين لم يلبث أن أقلق‬

‫القياصرة‪ ،‬الذين أصبحوا يدون فيه حدً ا لسلطاتهم الخاصة وهذا ما دعا‬ ‫‪244‬‬


‫اإلمبراطور هادريان إلى إعادة تنظيم مجلس المستشارين للقياصرة ودعوة‬ ‫مشاهير المفتين ليكونوا أعضاء فيه وأصبح يصدر بنفسه الفتاوى إلى األفراد‬ ‫بعد أن يتذود بآراء المفتين من مستشاريه‪.‬‬ ‫ومن بعد هادريان أصبح المفتون من أعضاء مجلس المستشارين هم‬ ‫وحدهم في الحقيقة أصحاب االمتياز في أعضاء الفتاوى تحت سلطة‬ ‫اإلمبراطور‪ .‬وبعده جاء اإلمبراطور قسطنطينوس واحتفظ نهائ ًيا بهذه‬ ‫السلطة لنفسه‪.‬‬ ‫أما اإلجماع في الحقوق اإلسالمية فهو يؤلف المصدر الثالث من‬ ‫مصادر التشريع اإلسالمي األربعة التي هي الكتاب والسنة واإلجماع‬ ‫والقياس‪ ،‬ويستمد اإلجماع في اإلسالم فكرته األساسية من قول‬ ‫النبي ﷺ‪[ :‬لن تجتمع أمتي على ضاللة وما رآه المسلمون حسنًا فهو‬ ‫عند الله حسن](((‪.‬‬ ‫والغاية من اإلجماع في اإلسالم هي إعالن النبي احترام إرادة الجماعة‬ ‫في جميع شؤونها من حقوق وإعطاؤه كل سلطة ونفوذ لما يصدر عنها‬ ‫باإلجماع‪.‬‬ ‫الغاية من اإلجماع في الحقوق الرومانية منحصرة في سلطات‬ ‫اإلمبراطور ومن يعمل تحت سلطانه وتجريد آراء اآلخرين من كل سلطة‬ ‫ونفوذ والحقوق اإلسالمية لم تشأ قط في نشأة فكرى اإلجماع جعل‬ ‫صالحية التشريع امتياز الجماعة محدودة دون أخرى أو ترجيح جماعة‬ ‫فيها شخص معين على جماعة لم يوجد فيها ذلك الشخص وقصرها على‬ ‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.329‬‬ ‫‪245‬‬


‫عصر دون غيره وإنما نشأت فكرة مشروعة للفقهاء أصحاب االختصاص‬ ‫في كل عصر‪ ،‬وفي حالة عدم إجماع الفقهاء فإن اآلراء ال تحصى قط للعمل‬ ‫بحكم األكثرية وإنما تمحص وتوزن ويحكم بالرأي الراجح‪.‬‬ ‫أما طرق الحصول على اإلجماع حول قضية ما في التشريع اإلسالمي‪،‬‬ ‫فهي أربعة‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ الرأي اإلجماعي‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ التعامل اإلجماعي‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ رأي بعض المفتتين مصحو ًبا بسكوت الباقين الذين اطلعوا على‬ ‫هذا الرأي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ التعامل لدى بعض المفتين دون أن يكون هذا التعامل قد اعترض‬ ‫أيضا(((‪.‬‬ ‫عليه من الباقين الذين اطلعوا عليه ً‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص‪.330‬‬ ‫‪246‬‬


‫الخاتمة‬ ‫وبعد هذه الفصول األربعة نصل إلى الخاتمة؛ أربعة فصول حاولت‬

‫جاهدة أن أعطيها حقها من الدراسة‪ ،‬ولكن دون مبالغة فاإلمبراطورية‬ ‫الرومانية اآلفلة تحتاج كل فترة من تاريخها إلى دراسة عميقة‪ ،‬فما بالك‬ ‫ببيزنطة‪ ،‬التي نشأت على أنقاض روما وتاريخ بيزنطة بكر يحتاج إلى‬

‫دراسة مكثفة فال؛ أدعي لنفسي أنني بلغت ما كنت أبغيه‪ ،‬فتشعب التاريخ‬ ‫دائما تقول هناك المزيد‪ ،‬ولكن حاولت استثمار أقصى جهدي‬ ‫يجعلك ً‬ ‫في هذا األمر‪.‬‬

‫بيزنطة ورثت روما؛ فالقوانين البيزنطية ما هي إال قوانين رومانية‪،‬‬

‫إال أن بيزنطة كان لها الفضل في حماية هذه القوانين من الضياع‪ ،‬كما‬

‫أنها زادت عليها وعدلت فيها بما يطورها‪ ،‬فالتطوير سمة مميزة لإلنسان‬ ‫مخلصا لسنة الحياة‪ .‬ومن يقدر على التطوير يستطيع أن يبني‬ ‫متى ما كان‬ ‫ً‬ ‫حضارة‪ ،‬وبناء الحضارة يتطلب احترام الماضي‪ ،‬واستيعابه وفهمه للبناء‬

‫عليه‪ ،‬والماضي هو الحضارات السابقة‪ ،‬فال أحد يستطيع أن يأتي بجديد‬ ‫دون أن يدرس ويفهم ويمحص القديم‪.‬‬ ‫‪247‬‬


‫إ ًذا كما قولت فإن مدينة روما أسست في سنة ‪ 753‬ق‪.‬م‪ ،‬واعتبر تأسيسها‬ ‫مبتدً أ لتاريخ الرومان‪ .‬وقد بدأ نظام الحكم فيها ملك ًيا وأخذ أهلها يغيرون‬ ‫على البالد المجاورة لها ويوسعون رقعة بالدهم‪ ،‬وانتهوا بأن قلبوا الحكومة‬ ‫من ملكية إلى جمهورية‪ ،‬وكان هذا في سنة ‪ 509‬ق‪.‬م من تأسيس روما وفي‬ ‫سنتي ‪ 451‬و‪ 450‬ق‪.‬م وضعت هيأة الرجال العشرة الذين اختارتهم حكومة‬ ‫الجمهورية شريعة األلواح االثنى عشر‪ ،‬وفي سنة ‪ 60‬ق‪.‬م صارت مقاليد‬ ‫أمور الجمهورية إلى ثالثة من كبار الرجال منهم يوليوس قيصر الذي استأثر‬ ‫قرارا يفرده بالسلطان وكان ذلك سنة‬ ‫باألمر واستصدر من مجلس الشيوخ ً‬ ‫‪ 45‬ق‪.‬م‪ ،‬ولم يمض إال نحو سنة واحدة حتى قتل يوليوس قيصر وتحولت‬ ‫مقاليد أمور الجمهورية إلى ثالثة رجال آخرين هم ماركوس أنطونيوس‬ ‫وأوكتافيوس قيصر ولييدوس‪ ،‬وفي سنة ‪ 32‬ق‪.‬م ثار نزاع بين أوكتافيوس‬ ‫ومـارك أنطونيوس فانهـزم أنطونيوس في واقعة أكتيوم البحرية سنة ‪31‬‬ ‫ق‪.‬م‪ ،‬وبعد تلك الواقعة تزعزع نظام الحكم الجمهوري‪ ،‬وقرر مجلس‬ ‫الشيوخ تلقيب أوكتافيوس بلقب أوغسطس‪ ،‬وفي سنة ‪ 29‬ق‪.‬م منحه‬ ‫إمبراطورا إلى أن توفي‪ ،‬وكانت‬ ‫المجلس لقب إمبراطور‪ ،‬واستمر أغسطس‬ ‫ً‬ ‫أيضا‬ ‫اإلمبراطورية الرومانية مترامية األطراف وكانت فتوحاتها تغلغلت ً‬ ‫في آسيا وامتدت حتى أرمينا وبالد العرب‪ ،‬وقد جاء بعده أباطرة كثيرون‬ ‫من بينهم دقلديانوس ‪ 284‬م إلى أن تولى قسطنطينوس الحكم في سنة‬ ‫‪ 305‬ميالدية ً‬ ‫وأخيرا باالنفراد وحده‪ ،‬وفي أثناء‬ ‫أول باالشتراك مع غيره‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حكمه يرجح أنه اعتنق المسيحية وأتخذها دينًا رسم ًيا للدولة وجعل مدينة‬ ‫بيزنطة عاصمة ثانية لإلمبراطورية باسم القسطنطينية وقد توالى األباطرة‬ ‫من بعده إلى أن جاء ثيودوسيوي وهذا قبل وفاته‪ ،‬وفي سنة ‪ 395‬قسم‬ ‫اإلمبراطورية إلى شرقية عاصمتها القسطنطينية جعلها لولده اركاديوس‬ ‫‪248‬‬


‫وغربية عاصمتها روما جعلها لولده أونوريوس واستمرت اإلمبراطورية‬

‫مقسومة إلى قسمين ولكن غربية لم تلبث أن غارت عليها بعض القبائل‬ ‫الجرمانية‪ ،‬وفي سنة ‪527‬م تولى جستنيانوس حكم اإلمبراطورية الشرقية‬

‫التي عاصمتها مدينة القسطنطينية ولبث في الحكم ثمانية وثالثين سنة إلى‬

‫أن توفي سنة ‪565‬م‪ ،‬فكانت مصر وبالد األناظول إلى آخر حدود أرمينا‬ ‫وبالد سوريا وفلسطين ولبنان كلها تحت حكم الرومان إال أن جستنيانوس‬

‫أولى اهتمامه بعلم الفقه الروماني وقواعده مستمدً ا من كتب السلف من‬

‫الفقهاء في مجموعة سماها بندكت (الحاوي األوفى)‪.‬‬

‫دورا أساس ًيا في القوانين البيزنطية‪ ،‬كما أن اإلسالم‬ ‫لعبت المسيحية ً‬

‫أيضا احترم الحضارات السالفة‪ ،‬فاألديان السماوية كلها كانت على مر‬ ‫ً‬

‫العصور مشجعة ودافعة نحو األفضل‪ ،‬فاإلمبراطورية البيزنطية عاشت‬

‫ما يزيد عن أحد عشر قرنًا ونصف من الزمن كانت في بدايتها ومرحلتها‬

‫األولى وريثة روما‪ ،‬ثم ما لبثت أن أصبح لها حضارتها الخاصة‪.‬‬

‫يتصل ماضي القانون بوجود اإلنسان على األرض وحياته مع الجماعة‬

‫وإحساسه بضرورة قيام نظام يضبط سلوك األفراد وينظم عالقتهم بعضهم‬

‫ببعض؛ ولذلك فإن أهم ما توصلت إليه دراسة اإلصدارات القانونية لبيزنطة‬ ‫ترشد إلى اإلحاطة بالقواعد التي تؤلف جوهرة عالقة الناس الشخصية‬ ‫والمالية والمدنية وأساس التعامل بينهم والضوابط التي تسود هذا التعامل‬

‫محافظة على حقوق األفراد ومقيمة النظام العام أساس النتظام الحياة‬ ‫المدنية (فالقانون إ ًذا مجموعة قواعد متنوعة تتصف بالعمومية والتجريد‬

‫وتحدد الحقوق والواجبات المترتبة على عالقة الناس بعضهم ببعض وف ًقا‬

‫لألنظمة الموجهة لهذه العالقات ضمن إطار من الشريعة والنظام العام)‪.‬‬ ‫‪249‬‬


‫فالنظم القانونية األولى مرتبطة ارتبا ًطا وثي ًقا بأحكام الدين‪ ،‬وكانت‬ ‫اإلجراءات القانونية تحاكي إلى حد بعيد المراسم المتبعة في الشعائر‬ ‫الدينية‪ ،‬وكان النظام في بدايته يقسم الناس إلى طبقات؛ طبقة ممتازة‬ ‫تتمتع وحدها بالحقوق السياسية والمدنية؛ إال أنه بعد أن أصبحت العامة‬ ‫أغلبية في المدينة حدث تغير في الدستور ترتب عليه إعطاء العامة حق‬ ‫االقتراع‪ ،‬وبذلك أصبح للعامة حق في المناصب الدينية العليا‪ ،‬بهذا حصلت‬ ‫المساواة بين األشراف والعامة‪ ،‬كما تميز القانون الروماني بتأثير الفلسفة‬ ‫اإلغريقية عليه‪ ،‬إذ جعلته قانونًا عالم ًيا استطاع أن يحمل سمات عالمية‬ ‫أثرا في تهذيب روح القانون‪.‬‬ ‫وينادي بالحرية والمساواة وأحدثت ً‬

‫كما أن الديانة المسيحية كان لها األثر في تطوير القانون الروماني‪،‬‬ ‫ويرجع ذلك إلى تغلب الدين على نفوس األباطرة‪ ،‬فنشأت بعض القواعد‬ ‫والنظم التي تتفق وتعاليم الدين الجديد‪ ،‬وألغيت من جهة أخرى بعض‬ ‫القواعد والنظم القديمة التي تخالف التعاليم الدينية السمحة‪.‬‬ ‫يعتقد بعض المستشرقين بتأثير الحقوق الرومانية في التشريع اإلسالمي‬ ‫ً‬ ‫تعامل حقوق ًيا أصبح من أعراف‬ ‫وأنها تركت عن طريق تطبيقها في الشرق‬ ‫البالد وتقاليدها‪ ،‬وبذلك دخلت هذه الحقوق إلى التشريع اإلسالمي دون‬ ‫ظاهرا للعيان‪.‬‬ ‫أن يكون ذلك‬ ‫ً‬ ‫خالل ما سلف يلحظ أن حياة العرب في الجاهلية كانت تسودها‬ ‫البساطة ويشوبها الجهل الشائع بين الناس‪ ،‬وكان القانون عندهم هو‬ ‫العادات والتقاليد‪ ،‬كما كانت هناك نصوص تحد من الجرائم واألفعال‬ ‫الممنوعة‪ ،‬وكانت السلطة العامة تنفذ هذه العقوبات‪ ،‬وكان هناك نظام‬ ‫القصاص أو الدية‪ ،‬كما كان نظام القسامة هو حالة وجود قتيل في مكان‬ ‫‪250‬‬


‫ما وال يعرف القاتل فكان يعمد أهل القتيل إلى اختيار خمسين ً‬ ‫رجل من‬

‫ذلك المكان يحلفون على عدم قتله وعدم معرفتهم بقاتله فإن فعلوا حكموا‬

‫بالدية على جميع أهل المكان ألولياء القتيل‪ ،‬وهذا لم يكن موجو ًدا عند‬

‫الرومان‪ ،‬وإنما كان من عادات العرب كذلك القضاء فلم يكن ملز ًما وليس‬ ‫ثمة سلطة عليا تشرف على تنفيذه‪ ،‬بل كانوا يحتكمون لرئيس القبيلة أو‬ ‫الكهنة أما تاريخ القانون في عصر الشريعة اإلسالمية أساسه العدل حيث‬

‫أنها من األسس المهمة التي يقوم عليها نظام الحكم في اإلسالم‪ ،‬وهذا‬ ‫ما أكده كتاب الله وسنة رسوله ﷺ‪ ،‬ومن المبادئ اإلنسانية التي جاء بها‬ ‫اإلسالم المساواة بين الناس وأساس ذلك إنه ال فرق بين عربي وأعجمي‬

‫أيضا الشورى‪ ،‬فتطبيق‬ ‫إال بالتقوى والعمل الصالح‪ ،‬والمبادئ السامية ً‬ ‫الشورى يتيح االستماع ألكثر من طرف مما يعطي فرصة لإلمام أن يختار‬ ‫مجموعة من الخيارات ً‬ ‫بدل من االستبداد في الرأي‪.‬‬

‫دائما تحث على القانون ألنه يسعى إلى إيجاد‬ ‫فالشريعة السماوية ً‬

‫نظام يحمي اإلنسان ويحقق له الطمأنينة الكاملة واالستقرار‪ ،‬لذلك حث‬ ‫المجتمع اإلسالمي على أهمية األمن وضرورة قيام دولة اإلسالم األولى‬ ‫باعتبارها بناء متكامل يحتاج إلى سلطة‪ ،‬وهذه السلطة ال يمكن تحقيقها‬ ‫إال بنيل الحقوق وأداء الواجبات‪.‬‬

‫إن دراسة تاريخ القانون مفيدة من وجهة نظر القانون المقارن؛ وذلك‬

‫بمقارنة القوانين بشكلها الحاضر مع القوانين السالفة المختلفة‪ ،‬وكيف‬ ‫كانت تستنبط األحكام فيها‪ ،‬وتخرج المبادئ لسد النقص أو تعديل ما‬

‫يمكن تعديله من القوانين لمالئمة حاجات الجماعات اإلنسانية‪ ،‬فالقواعد‬

‫القانونية في أي عصر من العصور‪ ،‬ولدى أي شعب من الشعوب ليست‬ ‫‪251‬‬


‫مجرد مصادفة أو نزعة عرضية من نزعات المشرع‪ ،‬وإنما هي وليدة الظروف‬ ‫التاريخية وثمرة التطور االجتماعي‪ ،‬ونتيجة عوامل سياسية واقتصادية‬ ‫ودينية وفكرية متصلة الحلقات ومتدرجة مع سنة التقدم واالرتقاء‪ ،‬وإن‬ ‫دراسة تاريخ القانون لها أهمية في تقدير فضل األمم والشعوب السالفة‬ ‫على األمم الحديثة‪ ،‬فالمجتمع الحديث مدين في كثير من نظمه وقوانينه‬ ‫إلى األمم القديمة وما وصلت إليه تلك األمم من رقي وازدهار في تطور‬ ‫الحضارة اإلنسانية‪.‬‬ ‫أما ما توصي به الرسالة من اقتراحات فقد أوجزتها فيما يلي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ إن التاريخ الوسيط األوروبي يحتاج إلى دراسات كثيرة حيث‬ ‫ال يعرف عنه إال القليل في بالدنا‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ االهتمام بطالب الدراسات العليا‪ ،‬فبطاقة طالب الدراسات ينتهي‬ ‫مفعولها عند خروجه من مدينته‪ ،‬وإذا ذهب إلى مدينة أخرى‬ ‫فال يستطيع اإلقامة في أي قسم داخلي‪ ،‬وال يستطيع استعارة أي‬ ‫كتاب‪ ،‬فهو ال ينتمي إلى هذه الجامعة‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ غالء الكتب الفاحش حتى في معارض الكتاب فال يوجد تخفيض‬ ‫خاص بطالب الدراسات العليا‪.‬‬ ‫وال يمكن لنا بناء دولة حضارية علمية دون االهتمام بالبحوث‬ ‫العلمية وتشجيعها وهذا يتطلب مجهودات من مؤسسات الدولة وليس‬ ‫من أفراد فقط‪.‬‬

‫‪252‬‬


‫المالحــق‬



‫الشيخ‪ ،‬محمد مرسي‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪489‬‬


‫الحويري‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.205‬‬


‫الحويري‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.206‬‬


‫اإلمبراطور هادريان‬

‫حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.272‬‬


‫اإلمبراطور كاركال‬

‫حافظ‪ ،‬المرجع السابق‪ ،‬ص‪.273‬‬



‫الم�صادر والمراجع‬ ‫� ً‬ ‫أول‪ :‬الم�صادر العربية‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ األلوسي‪ ،‬نعمان بن محمود بن عبد الله خير الدين أبو البركات‪،‬‬ ‫ت ‪1317‬هـ‪ ،‬بلوغ األرب‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬ط‪.3‬‬

‫‪ 3‬ـ الجوزية‪ ،‬اإلمام ابن القيم‪ ،‬الطرق الحكمية في السياسة الشرعية‪،‬‬ ‫القاهرة‪.1961 ،‬‬

‫‪ 4‬ـ الطبري‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرير‪ ،‬تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪.1971‬‬

‫‪ 5‬ـ القرشي‪ ،‬محمد بن محمد بن حمد‪ ،‬معالم القرب في أحكام الحسبة‪،‬‬

‫تحقيق محمد محمود شبان وصديق أحمد عيسى المطيعي‪ ،‬الهيئة‬ ‫العامة للكتاب‪.1976 ،‬‬

‫‪ 6‬ـ القلقشندي‪ ،‬أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد الفزاري‪ ،‬ت‪-821 .‬‬ ‫‪148‬هـ‪ ،‬صبح األعشى في صناعة اإلنشا‪ ،‬ج‪ ،5‬القاهرة‪.1963 ،‬‬ ‫‪261‬‬


‫‪ 7‬ـ الماوردي‪ ،‬أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب‪ ،‬ت ‪450‬هـ‪ ،‬تسهيل‬ ‫النظر وتعجيل الظفر في خالفة الملك وسياسة الملك‪ ،‬تحقيق‪:‬‬ ‫محسن هالل السرحان‪ ،‬مراجعة حسن الساعاتي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬ ‫النهضة العربية‪.1978 ،‬‬ ‫‪ 8‬ـ المسعودي‪ ،‬التنبيه واإلشراف‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الهالل‪.1981 ،‬‬ ‫‪ 9‬ـ اليعقوبي‪ ،‬أحمد بن إسحاق‪ ،‬مشاكلة الناس لزمانهم‪ ،‬تحقيق وليم‬ ‫ملورد‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب الجديد‪.1962 ،‬‬ ‫ثان ًيا‪ :‬المراجع العربية الحديثة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ البشير‪ ،‬محمد طه وهاشم الحافظ‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬وزارة التعليم‬ ‫العالي والبحث العلمي‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ البدراوي‪ ،‬عبد المنعم‪ ،‬تاريخ القانون الروماني‪ ،‬القاهرة‪.1941 ،‬‬ ‫‪ 3‬ـ بدر‪ ،‬محمد عبد المنعم‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬القاهرة‪.1950 ،‬‬ ‫‪ 4‬ـ بدوي‪ ،‬علي‪ ،‬مبادئ القانون الروماني‪ ،‬ج‪.1936 ،1‬‬ ‫‪ 5‬ـ البرازي‪ ،‬محمد حسن‪ ،‬دروس في الفقه الروماني‪ ،‬ج‪ ،1‬ط‪.1939 ،2‬‬ ‫‪ 6‬ـ البكري‪ ،‬عبد الباقي‪ ،‬المدخل لدراسة القانون والشريعة اإلسالمية‪،‬‬ ‫ج‪.1972 ،1‬‬ ‫‪ 7‬ـ البطريق‪ ،‬عبد الحميد وعبد العزيز نوار‪ ،‬التاريخ األوروبي الحديث‬ ‫في عصر النهضة إلى مؤتمر فيينا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ الترمانيني‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬في تاريخ القانون والنظم القانونية‪ ،‬ط‪.1982 ،3‬‬ ‫‪262‬‬


‫‪ 9‬ـ توفيق‪ ،‬عمر كمال‪ ،‬تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫الجامعية‪.2000 ،‬‬

‫‪ 10‬ـ التونجي‪ ،‬عبد السالم‪ ،‬اإليمان باألنبياء والرسل (النبوة والوحي)‪،‬‬ ‫طرابلس‪ ،‬جمعية الدعوة اإلسالمية‪ ،‬ط‪.1986 ،1‬‬

‫‪ 11‬ـ جعفر على محمد‪ ،‬تاريخ القوانين والشرائع ـ القانون الروماني‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬المؤسسة الجامعية‪.1982 ،‬‬

‫‪ 12‬ـ حاطوم‪ ،‬نور الدين‪ ،‬تاريخ العصر الوسيط‪ ،‬ج‪ ،1‬دار الفكر‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪.1967‬‬

‫‪ 13‬ـ حافظ‪ ،‬أحمد غانم‪ ،‬اإلمبراطورية الرومانية من النشأة إلى االنهيار‪،‬‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪.2007 ،‬‬

‫‪ 14‬ـ حسن‪ ،‬علي إبراهيم حسن‪ ،‬النظم اإلسالمية‪ ،‬مكتبة النهضة‬ ‫المصرية‪ ،‬ط‪.1962 ،3‬‬

‫‪ 15‬ـ حسين‪ ،‬أحمد إبراهيم‪ ،‬مفهوم القانون الطبيعي عند فقهاء الرومان‪،‬‬ ‫الدار الجامعية‪.1995 ،‬‬

‫‪ 16‬ـ حسين‪ ،‬فايز محمد‪ ،‬طارق مجذوب‪ ،‬تاريخ النظم القانونية‪،‬‬ ‫منشورات الحلبي الحقوقية‪.2009 ،‬‬

‫‪ 17‬ـ الحفناوي‪ ،‬عبد الحميد‪ ،‬دراسة في القانون الروماني‪ ،‬دار‬ ‫الجامعية‪.1986 ،‬‬

‫‪ 18‬ـ حلمي‪ ،‬محمود‪ ،‬نظام الحكم اإلسالمي مقارنًا بالنظم المعاصرة‪،‬‬ ‫دار الفكر العربي‪ ،‬ط‪.1975 ،3‬‬ ‫‪263‬‬


‫‪ 19‬ـ الحويري‪ ،‬محمود محمد‪ ،‬رؤية في سقوط اإلمبراطورية الرومانية‪،‬‬ ‫دار المعارف‪.1995 ،‬‬

‫‪ 20‬ـ الحيدري‪ ،‬صالح عبد الهادي‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية وحضارتها‪،‬‬ ‫بنغازي‪ ،‬جامعة درنة‪ ،‬ط‪.2002 ،1‬‬ ‫‪ 21‬ـ الخريوطلي‪ ،‬علي حسن‪ ،‬التاريخ الموحد لألمة العربية الهيئة‬ ‫العامة للتأليف والنشر ‪.1970‬‬ ‫‪ 22‬ـ الدوالبي‪ ،‬محمد معروف‪ ،‬الوجيز في الحقوق الرومانية وتاريخها‪،‬‬ ‫مطبعة الجامعة السورية‪ ،‬ط‪.1958 ،2‬‬

‫‪ 23‬ـ الذهبي‪ ،‬جميل بواقليم‪ ،‬فاروق فريد‪ ،‬حضارة روما‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫الفكري العربي‪.1961 ،‬‬ ‫‪ 24‬ـ رباح‪ ،‬غسان‪ ،‬الوجيز في القانون الروماني والشريعة اإلسالمية‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬منشورات الحلبي الحقوقية‪ ،‬ط‪.2007 ،1‬‬

‫‪ 25‬ـ ربيع‪ ،‬حسين محمد‪ ،‬دراسة في تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬القاهرة‪.1995 ،‬‬

‫‪ 26‬ـ رستم‪ ،‬أسد‪ ،‬الروم في سياستهم وحضارتهم وديانتهم وصالتهم‬ ‫بالعرب‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار المكشوفة‪.1955 ،‬‬ ‫‪ 27‬ـ رستم‪ ،‬أسد‪ ،‬مصطلح التاريخ‪ ،‬بيروت‪.1939 ،‬‬

‫‪ 28‬ـ زريق‪ ،‬قسطنطين‪ ،‬نحن والتاريخ ـ مطالب وتساؤالت‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫ط‪.1963 ،2‬‬ ‫‪ 29‬ـ األزهرى‪ ،‬محمد الجيالني البدوي‪ ،‬قانون النشاط االقتصادي‬ ‫المبادئ والقواعد العامة‪ ،‬المركز القومي للبحوث والدراسات‬ ‫العلمية‪ ،‬الجماهيرية‪ ،‬ط‪.1997 ،1‬‬ ‫‪264‬‬


‫‪ 30‬ـ األسيوطي‪ ،‬ثروت أنيس‪ ،‬نظام األسرة بين االقتصاد والدين‬ ‫والجماعات البدائية‪ ،‬القاهرة‪.1966 ،‬‬

‫‪ 31‬ـ السقا‪ ،‬محمود تاريخ النظم القانونية واالجتماعية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬ ‫الحمامي‪ ،‬ط‪.1972 ،2‬‬ ‫‪ 32‬ـ الشامي‪ ،‬فاطمة قدورة‪ ،‬الحضارة البيزنطية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة‬ ‫العربية‪ ،‬ط‪.2002 ،1‬‬

‫‪ 33‬ـ الشطي‪ ،‬بسام خضر‪ ،‬ورقة عمل بعنوان «مفهوم الشورى في‬ ‫اإلسالم وإمكانية العمل بها»‪ ،‬عنوان الكتاب الشورى في الفكر‬ ‫والممارسة‪ ،‬المركز العلمي لدراسات وأبحاث الكتاب األخضر‪،‬‬ ‫بنغازي‪ ،‬دار الكتب الوطنية‪ ،‬ط‪.1997 ،1‬‬ ‫‪ 34‬ـ الشهاوة‪ ،‬إبراهيم الدسوقي‪ ،‬الحسبة في اإلسالم‪ ،‬مكتبة دار‬ ‫العروبة‪.1962 ،‬‬

‫‪ 35‬ـ شلبي‪ ،‬أحمد‪ ،‬تاريخ التشريع اإلسالمي وتاريخ النظم القضائية‬ ‫في اإلسالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة المصرية‪ ،‬ط‪.1981 ،2‬‬

‫‪ 36‬ـ أبو شوقي‪ ،‬خليل‪ ،‬فتح القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح‪ ،‬دمشق‪،‬‬ ‫دار الفكر‪ ،2005 ،‬الشيخ‪ ،‬محمد محمد‪ ،‬تاريخ اإلمبراطورية‬ ‫البيزنطية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪.1994 ،‬‬ ‫‪ 37‬ـ شوايل‪ ،‬عاشور سليمان‪ ،‬نشأة النظم القانونية وتطورها‪ ،‬مجلس‬ ‫التنمية واإلبداع الثقافي‪ ،‬ط‪.2004 ،1‬‬

‫‪ 38‬ـ الشيخ‪ ،‬محمد محمد مرسي‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪،‬‬ ‫اإلسكندرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪.1994 ،‬‬ ‫‪265‬‬


‫‪ 39‬ـ الطحاوي‪ ،‬حاتم عبد الرحمن‪ ،‬دراسة في تاريخ العصور الوسطى‪،‬‬ ‫عين للدراسات والبحوث اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬ط‪.2003 ،1‬‬

‫‪ 40‬ـ أبو طالب‪ ،‬صوفي‪ ،‬تاريخ النظم القانونية واالجتماعية‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫دار النهضة العربية‪.1984 ،‬‬

‫‪ 41‬ـ عاشور‪ ،‬سعيد عبد الفتاح‪ ،‬تاريخ العالقات بين الشرق والغرب‬ ‫في العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪.1976 ،‬‬

‫‪ 42‬ـ عاشور‪ ،‬سعيد عبد الفتاح‪ ،‬أوروبا العصور الوسطى التاريخ‬ ‫السياسي‪ ،‬ج‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪.1986 ،10‬‬

‫‪ 43‬ـ عاقل‪ ،‬نبيه اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬دراسة في التاريخ السياسي‬ ‫والثقافي والحضاري‪ ،‬دمشق‪ ،‬مطابع الغرباء‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ 44‬ـ عبد الحميد‪ ،‬رأفت الدولة والكنيسة‪ ،‬ج‪ ،2‬القاهرة‪.1975 ،‬‬ ‫‪ 45‬ـ العبودي‪ ،‬عباس تاريخ القانون‪ ،‬بغداد‪ ،‬المكتبة القانونية‪ ،‬ط‪.2007 ،2‬‬ ‫‪ 46‬ـ عبد الرحمن‪ ،‬الصابوني ومحمد طنطاوي‪ ،‬المدخل الفقهي‬ ‫وتاريخ الشريعة اإلسالمية‪.1982 ،‬‬

‫‪ 47‬ـ عبيد‪ ،‬طه خضر‪ ،‬تنظيمات الجيش البيزنطي من القرن الثامن حتى‬ ‫القرن الحادي عشر‪ ،‬الموصل‪ ،‬مكتبة العال‪.2005 ،‬‬

‫‪ 48‬ـ عبيد‪ ،‬طه خضر‪ ،‬تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬عمان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،1‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ 49‬ـ عبيد‪ ،‬إسحاق‪ ،‬اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬القاهرة‪.1972 ،‬‬ ‫‪ 50‬ـ عثمان‪ ،‬حسن‪ ،‬منهج البحث التاريخي‪ ،‬القاهرة‪.1943 ،‬‬ ‫‪266‬‬


‫‪ 51‬ـ العدوي‪ ،‬إبراهيم أحمد‪ ،‬األمويون والبيزنطيون في البحر‬ ‫المتوسط‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الجيل‪.1994 ،‬‬ ‫‪ 52‬ـ العريني‪ ،‬السيد الباز‪ ،‬الدولة البيزنطية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪،‬‬ ‫‪.1982‬‬

‫‪ 53‬ـ العريني‪ ،‬السيد الباز‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫دار النهضة العربية‪.1968 ،‬‬

‫‪ 54‬ـ العطار‪ ،‬فؤاد‪ ،‬النظم السياسية والقانونية والقانون الدستوري‪،‬‬ ‫القاهرة‪.1994 ،‬‬

‫‪ 55‬ـ علي‪ ،‬جواد‪ ،‬المفصل في تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،8‬دار‬ ‫العلم للماليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتبة النهضة‪ ،‬ط‪.1978 ،2‬‬

‫‪ 56‬ـ علي‪ ،‬عبد اللطيف أحمد‪ ،‬مصادر التاريخ الروماني‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪.1970‬‬

‫‪ 57‬ـ عمران‪ ،‬محمود سعيد‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية وحضارتها‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬ط‪.2004 ،2‬‬

‫‪ 58‬ـ عمران‪ ،‬محمود سعيد‪ ،‬تاريخ أوروبا في العصور الوسطى‪،‬‬ ‫بيروت‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬ط‪.2006 ،1‬‬

‫‪ 59‬ـ عوض‪ ،‬محمد مؤنس‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬عين للدراسات‬ ‫والبحوث اإلنسانية‪ ،‬ط‪.2007 ،1‬‬

‫‪ 60‬ـ الغازي‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬تاريخ القانون في وادي الرافدين والدولة‬ ‫الرومانية‪.1973 ،‬‬

‫‪267‬‬


‫‪ 61‬ـ أبو فارس‪ ،‬محمد عبد القادر‪ ،‬القضاء في اإلسالم‪ ،‬األردن‪ ،‬ط‪،2‬‬ ‫‪.1984‬‬

‫‪ 62‬ـ فرج‪ ،‬توفيق حسن‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الجامعية‪،‬‬ ‫‪.1985‬‬

‫‪ 63‬ـ فرج‪ ،‬وسام عبد العزيز‪ ،‬دراسات في تاريخ وحضارة اإلمبراطورية‬ ‫البيزنطية‪ ،‬اإلسكندرية‪.1982 ،‬‬

‫‪ 64‬ـ فهمي‪ ،‬عبد العزيز‪ ،‬مدونة جوستنيان في الفقه الروماني‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫عالم الكتاب‪ ،‬د‪ .‬ت‪.‬‬

‫‪ 65‬ـ ليلة‪ ،‬محمد كامل‪ ،‬النظم السياسية‪ ،‬القاهرة‪.1962 ،‬‬ ‫‪ 66‬ـ المتولي‪ ،‬عبد الحميد‪ ،‬مبادئ الحكم في اإلسالم‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬ ‫‪.1974‬‬

‫‪ 67‬ـ محمد زكريا توفيق‪ ،‬الفلسفة الهيلينية‪ ،‬مجلة الحوار المتمدن‪،‬‬ ‫العدد ‪.26-10-2009 ،2811‬‬

‫‪ 68‬ـ محمد‪ ،‬محمد فريد بك‪ ،‬تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬ ‫النفائس‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬

‫‪ 69‬ـ مسكوني‪ ،‬صبيح‪ ،‬القانون الروماني‪ ،‬بغداد‪ ،‬ط‪.1971 ،2‬‬ ‫‪ 70‬ـ مصطفى‪ ،‬عمر ممدوح‪ ،‬أصول تاريخ القانون‪ ،‬القاهرة‪.1961 ،‬‬ ‫‪ 71‬ـ مغربي‪ ،‬محمود عبد المجيد‪ ،‬الوجيز في تاريخ القوانين‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪.1979‬‬

‫‪268‬‬


‫‪ 72‬ـ المنوفي‪ ،‬السيد محمود أبو الفيض‪ ،‬تهافت الفلسفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار‬ ‫الكتاب العربي‪ ،‬ط‪.1967 ،1‬‬ ‫‪ 73‬ـ مؤنس‪ ،‬حسين محمود يوسف‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬دار‬ ‫القومية‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ 74‬ـ الناصري‪ ،‬سيد أحمد‪ ،‬تاريخ اإلمبراطورية الرومانية السياسي‬ ‫والحضاري‪ ،‬القاهرة‪.1985 ،‬‬ ‫‪ 75‬ـ نصحي‪ ،‬إبراهيم‪ ،‬تاريخ الرومان من أقدم العصور حتى عام ‪،132‬‬ ‫ج‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األنجلو المصرية‪ ،‬ط‪.1978 ،2‬‬ ‫‪ 76‬ـ نعينع‪ ،‬سهير إبراهيم‪ ،‬تاريخ مصر في العصر البيزنطي‪ ،‬اإلسكندرية‪،‬‬ ‫دار المعرفة الجامعية‪.2004 ،‬‬ ‫‪ 77‬ـ أبو الوفا‪ ،‬أحمد‪ ،‬تاريخ األنظمة القانونية‪ ،‬بيروت‪.1929 ،‬‬ ‫‪ 78‬ـ يوسف‪ ،‬جوزيف نسيم‪ ،‬مجتمع اإلسكندرية في العصر المسيحي‪،‬‬ ‫حوالي (‪ ،)642-48‬اإلسكندرية‪.1975 ،‬‬ ‫‪ 79‬ـ يوسف‪ ،‬جوزيف نسيم‪ ،‬تاريخ الدولة البيزنطية‪ ،‬دار المعرفة‬ ‫الجامعية‪.2008 ،‬‬ ‫‪ 80‬ـ يوسف‪ ،‬جوزيف نسيم‪ ،‬العرب والروم الالتيني في الحرب‬ ‫الصليبية األولى‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬ط‪.1967 ،2‬‬ ‫‪ 81‬ـ اليوسف‪ ،‬عبد القادر أحمد‪ ،‬العصور الوسطى األوروبية (‪-476‬‬ ‫‪ ،)1500‬بيروت‪ ،‬المكتبة العصرية‪.1967 ،‬‬ ‫‪ 82‬ـ اليوسف‪ ،‬عبد القادر أحمد‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬بيروت‪.1966 ،‬‬ ‫‪269‬‬


‫ً‬ ‫ثالثا‪ :‬الدوريات‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ السقا‪ ،‬محمود‪ ،‬أثر الفلسفة في الفقه والقانون في العصر العلمي‪،‬‬ ‫مجلة القانون واالقتصاد‪ ،‬القاهرة‪.1977 ،‬‬

‫راب ًعا‪ :‬المراجع المعربة‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ أل‪ ،‬هربرت‪ ،‬فشر‪ ،‬أصول التاريخ األوروبي الحديث من النهضة‬ ‫األوروبية إلى الثورة الفرنسية‪ ،‬ت‪ :‬زينب عصمت راشد وأحمد‬ ‫عبد الرحيم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار المعارف‪.1970 ،‬‬

‫‪ 2‬ـ أومان‪ ،‬ش‪ ،‬اإلمبراطورية البيزنطية‪ ،‬ت‪ :‬مصطفى طه‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫مطبعة االعتماد‪.1953 ،‬‬

‫‪ 3‬ـ بارو‪ ،‬الرومان‪ ،‬ت‪ :‬عبد الرازق يسري‪ ،‬القاهرة‪.1968 ،‬‬ ‫‪ 4‬ـ برتراند رسل‪ ،‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬ت‪ .‬زكي نجيب محمود‪،‬‬ ‫القاهرة‪ ،‬طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر‪.1954 ،‬‬

‫‪ 5‬ـ بروكوبيوس‪ ،‬التاريخ السري‪ ،‬ت‪ :‬إلي اإلنجليزي جي أ‬ ‫وليامسون‪ ،‬ت‪ :‬إلى العربية على زينون‪ ،‬دمشق‪ ،‬دار عالء الدين‪،‬‬ ‫ط‪.2009 ،2‬‬

‫‪ 6‬ـ برون‪ ،‬جفري‪ ،‬تاريخ أوروبا الحديث‪ ،‬ت‪ :‬على المزروقي‪ ،‬األهلية‬ ‫للنشر والتوزيع‪ ،‬ط‪..2006 ،1‬‬

‫‪ 7‬ـ بورتر‪ ،‬هارفي‪ ،‬موسوعة مختصر التاريخ القديم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة‬ ‫المدبولي‪ ،‬ط‪..1991 ،1‬‬

‫‪270‬‬


‫‪ 8‬ـ تشارلز ورث (م‪ .‬ب)‪ ،‬اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬ت‪ :‬رمزي عبده‬ ‫جرس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة األسرة‪..1950 ،‬‬

‫‪ 9‬ـ جيبون إدوارد‪ ،‬اضمحالل اإلمبراطورية الرومانية وسقوطها‪ ،‬ت‪:‬‬ ‫محمد علي أبو درة ولويس اسكندر‪ ،‬مج‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬دار الكتاب‬

‫العربي‪.1969 ،‬‬

‫‪ 10‬ـ ديفز شارلمان‪ ،‬ت‪ :‬السيد الباز العريني‪ ،‬القاهرة‪.1959 ،‬‬ ‫‪ 11‬ـ رنسيمان ستيفن‪ ،‬الحضارة البيزنطية‪ ،‬ت‪ :‬عبد العزيز توفيق جاويد‬ ‫وزكي علي‪ ،‬مكتبة النهضة المصرية‪.1961 ،‬‬

‫‪ 12‬ـ رستو فتزف (م)‪ ،‬تاريخ اإلمبراطورية الرومانية االجتماعية‬ ‫واالقتصادية‪ ،‬ت‪ :‬زكي علي‪ ،‬ج‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬مكتبة النهضة‬

‫المصرية‪.1957 ،‬‬

‫‪ 13‬ـ شيفل فرديناند‪ ،‬الحضارة األوروبية في القرون الوسطى‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫دار العلم للماليين‪ ،‬ط‪.1952 ،1‬‬

‫‪ 14‬ـ فردوسن‪ ،‬كرستوفر‪ ،‬تكوين أوروبا‪ ،‬ت‪ :‬محمد مصطفى زيادة‬

‫وسعيد عبد الفتاح عاشور‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مؤسسة سجل العرب‪.1967 ،‬‬

‫‪ 15‬ـ فشر (هـ‪ .‬أ‪ .‬ل)‪ ،‬تاريخ أوروبا العصور الوسطى‪ ،‬ت‪ :‬إبراهيم‬ ‫نصحي‪ ،‬ومحمد عواد حسين‪ ،‬القاهرة‪.1950 ،‬‬

‫‪ 16‬ـ كانتور‪ ،‬التاريخ الوسيط‪ ،‬ت‪ :‬قاسم عبده قاسم‪ ،‬د‪.‬ت‪.‬‬ ‫‪ 17‬ـ موس‪ ،‬ل‪ .‬ب‪ ،.‬سانت‪ ،‬ميالد العصور الوسطى‪( ،‬ت‪ .‬عبد العزيز‬ ‫جاويد)‪ ،‬بيروت‪ ،‬عالم الكتب‪.1967 ،‬‬ ‫‪271‬‬


.1947 ،1‫ ج‬،‫ موجز القانون الروماني‬،‫ ـ مونييه‬18

‫ جوزيف‬:‫ ت‬،‫ موجوز تاريخ العالم‬،‫ باراكالف‬.‫ ج‬،‫م‬.‫ ـ هارتمان ل‬19 .1966 ،1‫ ط‬،‫ دار المعارف‬،‫نسيم يوسف‬ :‫ ت‬،‫ أوروبا في صدر العصور الوسطى‬،‫م‬.‫ ج‬،‫ ـ واالس هادريل‬20 .‫ت‬.‫ د‬،‫حياة ناصر الحجي‬ ،‫ بيروت‬،1‫ ج‬،‫ محمد بدران‬:‫ ت‬،‫ قصة الحضارة‬،‫ ـ ول ديورانت‬21 .1955 ،‫دار الجيل‬ ،‫ عبد العزيز توفيق جاويد‬:‫ ت‬،‫ موجز تاريخ العالم‬،‫ج‬.‫ هـ‬،‫ ـ ويلز‬22 .1958 ،‫ مكتبة النهضة المصرية‬،‫القاهرة‬ :‫ المراجع الأجنبية‬:‫خام�سا‬ ً 1 ‫ ـ‬Apple. James. G- Deyling. P. Robert a primer on the

civil law system This publication has been prepared

and is being published by the federal Juridical center at the Resquest of the international Juridical Relations committee of the Juridical conference of the united

states of America.

2 ‫ ـ‬Cantor. NF. Medieval history, New York, 1964.

3 ‫ ـ‬Encyclobidia Britanica Pubicazione eletronica della Rivista Panorama Italia, 2007.

4 ‫ ـ‬Lye Suzanne. The Empress Theodora The Front of The Throne, abstracts for the 2009 annual meeting American Philological association.

272


‫‪ Roman legal tradition and the compilation of Justinian,‬ـ ‪5‬‬ ‫‪2007. The Robbins Collection Educational use only.‬‬

‫�ساد�سا‪� :‬شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)‪:‬‬ ‫ً‬

‫ـ شبكة المعلومات‪ ،‬موقع‪ ،abaut.com :‬النشرة اإلخبارية قسم التاريخ‬ ‫الكالسيكي‪ ،‬الجمعيات الوطنية‪ ،‬جيل ‪.22-2-2010‬‬

‫‪273‬‬



‫صدر في هذه السلسلة‬ ‫‪ 1‬ـ (قراءات في السلم والحرب)‪ ،‬عبدالمنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ (حبر المنفى)‪ ،‬عمر الكدي‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ (خاليا نائمة)‪ ،‬محمود البوسيفي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ (أوراق تاريخية)‪ ،‬مختار الجدال‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ (ما وراء الحجاب)‪ ،‬فتحي بن عيسى‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ (منفى)‪ ،‬ديوان شعر ـ عمر الكدي‪.‬‬ ‫‪ 7‬ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية)‪ ،‬خالد الحراري‬

‫جو ْك)‪ ،‬قصائد محكية بلهجة ليبية‪ ،‬سالم العالم‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ ( َعلى ّ‬ ‫‪ 9‬ـ (موسوعة الجهل النسبي)‪ ،‬مقاالت‪ ،‬الصدِّ يق بودوارة‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ (راهنية التأويل (‪-)2‬سؤال الكيان)‪ ،‬عبد المنعم المحجوب‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.