من الذاكرة

Page 1





‫من الذاكرة‬ ‫تأليف‪ :‬حسين نصيب المالكي‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في إبريل ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫إلى أبي و أمي وأخوتي وزوجتي وأبنائي وبناتي‬ ‫وأصدقائي أهدي هذا الكتاب‬



‫(‪)1‬‬ ‫هبت نسمات ثورات الربيع العربي‪ ،‬عندما أضرم طارق محمد‬

‫البوعزيزي النار في جسده‪ ،‬أمام مقر والية سيدي بوزيد‪ ،‬احتجاجا‬

‫على مصادرة سلطات البلدية لعربة الخضار التي كانت مصدر رزقه‪،‬‬ ‫و نكاية في الشرطية التونسية التي صفعته على وجهه أمام مشهد من‬ ‫التوانسة صائحة فيه ـ هيا امش من هنا‪.‬‬

‫فانتفضت تونس عن بكرة أبيها‪ ،‬ولم تمض بضعة أيام‪ ،‬حتى خرج‬

‫رجل مع آخر الليل‪ ،‬إلى شارع الحبيب بورقيبه المهجور بمالبسه‬

‫الرياضية‪ ،‬وصاح في فرح غامر وبصوت عال ردد‪ :‬بن علي هرب‪..‬‬

‫بن علي هرب‪.‬‬

‫وانتقلت الثورة من شارع الحبيب بورقيبه إلى ميدان التحرير‬

‫بالقاهرة‪ ،‬بينما كان القذافي لم يزل يتشبث بكرسيه‪ ،‬ويستقبل وفود‬ ‫المبايعة من المدن الليبية‪ ،‬الذين كانوا يدخلون الطمأنينة في قلبه على‬

‫انه زعيم ومعه الماليين‪.‬‬

‫‪7‬‬


‫ما زلت أتذكر دعوة مجلس الثقافة العام لنا نحن الكتاب‬ ‫والصحفيين‪ ،‬للتوقيع على مؤلفاتنا الصادرة حديثا عنه‪ ،‬وذلك‬ ‫للحضور والتواجد بمدينة سرت يوم الثالثاء الموافق ‪ 15‬فبراير‬ ‫‪2011‬م‪ ،‬لكن لماذا هذا التوقيت؟ ولماذا مدينة سرت بالذات؟ سرت‬ ‫التي بها أحدث الفنادق‪ ،‬وأفخم قاعات المؤتمرات‪ ،‬وأضخم مقار‬ ‫الوزارات‪ ،‬وألوف الوحدات السكنية الحديثة‪ ،‬والشوارع المعبدة‬ ‫المرصوفة‪ ،‬والحدائق الجميلة إلىوم‪ ،‬وعندما ترجع بنا الذاكرة إلى‬ ‫أواخر الستينيات ونتذكر كيف كانت سرت مجرد قرية صغيرة على‬ ‫الطريق الساحلي‪ ،‬بها بضعة متاجر ومخبز ومدرسة ابتدائية‪ ،‬لماذا‬ ‫ال يكون حفل التوقيع في مدينة بنغازي أو مدينة طرابلس؟ أم أنها‬ ‫محاولة من النظام إلبعادنا عما سيحدث يوم ‪ 17‬فبراير القادم؟ خاصة‬ ‫وأن هناك دعوة للتظاهر السلمي‪ ،‬عبر صفحات الفيس بوك في المدن‬ ‫الليبية‪ ،‬كباقي ثورات الربيع العربي في تونس ومصر‪.‬‬ ‫في صباح إلىوم التإلى لوصولنا مدينة سرت‪ ،‬تناولنا اإلفطار في‬ ‫مطعم الفندق‪ ..‬وصلتنا األخبار عن تظاهرات للمواطنين الليبيين‬ ‫وبعض المثقفين‪ ،‬ومواجهات في المساء في بنغازي‪ ،‬أثر اعتقال فتحي‬ ‫تربل محامي ضحايا سجن بوسليم‪ ،‬في أول مظاهرة سلمية ضد نظام‬ ‫القذافي‪ ،‬وتم التصدي لهم من قبل قوات الشرطة الليبية‪ ،‬التي أطلقت‬ ‫الغاز المسيل للدموع‪ ،‬وفرقت بالعنف جموع المتظاهرين‪ ،‬وسمع‬ ‫العالم أول صوت معارض لنظام القذافي من داخل ليبيا‪ ،‬في اتصال‬ ‫هاتفي للكاتب الليبي إدريس المسماري مع قناة الجزيرة‪ ،‬بأن سيارات‬ ‫‪8‬‬


‫أمن وشرطة بزي مدني‪ ،‬ومن وصفهم بمجرمين يواجهون المحتجين‬ ‫بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات والماء الساخن‪ ،‬وانقطعت المكالمة‬ ‫وهو يهتف‪ :‬ليبيا ليبيا‪ .‬وتم اعتقاله واقتحام منزله بمدينة بنغازي‪.‬‬

‫وكذلك في نفس إلىوم مظاهرة في البيضاء‪ ،‬وعدد ثالثة قتلى من‬ ‫الشباب‪ ،‬وحرق مركز شرطة الساحل بدرنة‪ ،‬أوضاع غير مطمئنة في‬ ‫مدينة البيضاء‪ ،‬فتشت عن صديقي الفنان خليل الذي اختفى فجأة في‬ ‫إلىوم التإلى‪ ،‬سألت عنه أخبرني أحد الرفاق إنه خشي على أبنائه‪ ،‬من‬ ‫االشتراك في المظاهرة في بنغازي‪ ،‬ولهذا قرر العودة إلى هناك في‬ ‫الصباح الباكر‪ ،‬مستقال إحدى سيارات األجرة‪.‬‬

‫علمنا إنه بعد انتهاء مباراة في البيضاء بين فريقي األخضر والمريخ‬ ‫السوداني‪ ،‬كانت هناك مظاهرة اتجهت إلى مركز المدينة‪ ،‬ثم إلى مقر‬ ‫األمن الداخلي‪ ،‬للمطالبة بإطالق سراح المعتقلين‪ ،‬ومن بينهم أحد‬ ‫أئمة المساجد الشيخ صالح سالم‪ ،‬فقام رجال األمن بالرماية عليهم‬ ‫لتفريقهم‪ ،‬غير أنه أصيب اثنان في مقتل من الشباب المتظاهرين‪،‬‬ ‫فعلت الهتافات بإسقاط النظام‪.‬‬

‫عند الساعة العاشرة صباحا‪ ،‬أقلتنا الحافالت إلى قاعة المؤتمرات‪..‬‬ ‫وهي ليست بالبعيدة عن مقر إقامتنا‪ ،‬دخلنا القاعة كانت قد جهزت‬ ‫على شكل دائرة ناقص ضلع‪ ،‬ونضدت الكتب الصادرة حديثا على‬ ‫الطاوالت في القاعة أمامنا‪ ،‬بحيث يسمح لدخول الضيوف والتحرك‬ ‫السهل والسلس‪ ،‬جلسنا على الكراسي وكل كاتب أمامه نسخ من‬ ‫إصداره الجديد‪ ،‬افتتح حفل توقيع اإلصدارات بالطريقة التقليدية‬ ‫‪9‬‬


‫المعهودة‪ ..‬كلمة رئيس مجلس الثقافة العام‪ ،‬والتي تحدث فيها‬ ‫بإسهاب عن مدينة سرت من الناحية التاريخية والجغرافية‪ ،‬وكأنه‬ ‫كان يودعها أو كأن هذه الكلمة ستكون هي األخيرة بالنسبة له فيها‪،‬‬ ‫ثم تحدث عن دور الكاتب واألديب في هذه المرحلة الصعبة‪،‬‬ ‫ثم كلمة مدير مجلس الثقافة العام‪ ،‬البليغة المليئة بالسجع‪ ،‬التي‬ ‫تحدث فيها عن الكتاب وسياسة المجلس في النشر‪ ،‬جاءت بعدها‬ ‫كلمة الكتاب واألدباء ألقاها أحد الكتاب‪ ،‬وبرقية للقائد كالعادة في‬ ‫كل االجتماعات واالحتفاالت‪ ،‬بعد ذلك أعطي األذن للتوقيع على‬ ‫المؤلفات الحديثة الصادرة عن المجلس‪ ،‬حيث قام المدعوون من‬ ‫المواطنين والمثقفين‪ ،‬بالمرور أمامنا في طابور طويل‪ ،‬ونحن نجلس‬ ‫خلف الطاوالت المعروضة عليها مؤلفاتنا الصادرة حديثا‪ ،‬وكل مدعو‬ ‫يلتقط نسخة من الكتب التي أمامه‪ ،‬ويقف بها أمام المؤلف ليكتب له‬ ‫اإلهداء على الصفحة األولى‪.‬‬

‫بعضنا معروف وصدر له أكثر من كتاب من قبل‪ ،‬والبعض اآلخر‬ ‫غير معروف ويصدر له كتاب ألول مرة‪ ..‬على رأس الصفحة األولى‬ ‫كنت أدون اإلهداء لكل من استلم نسخة من كتابي القصصي «الرجل‬ ‫والنورس»‪ ،‬وكم كانت فرحتي بصدور هذا الكتاب القصصي بعد عدة‬ ‫سنوات‪ ،‬نفدت النسخ التي كانت أمامي‪.‬‬ ‫عند الظهيرة عدنا إلى الفندق‪ ..‬تناولنا وجبة الغداء‪ ..‬رجعت إلى‬ ‫حجرتي‪ ..‬فتحت التلفاز الصغير‪ ..‬تمددت على السرير‪ ..‬شاهدت‬ ‫على قناة البي بي سي مظاهرات ومواجهات في بنغازي‪.‬‬ ‫‪10‬‬


‫عند الساعة السادسة بعد العصر أقلتنا الحافالت إلى قاعة‬ ‫االحتفال‪ ..‬كانت ثمة ندوة عن حرية التعبير‪ ،‬وورقات مقدمة‬ ‫ومداخالت من الكتاب واألدباء‪ ،‬جلست حوالى نصف ساعة في‬ ‫القاعة‪ ،‬غير أنني لم استطع أن أكمل الندوة‪ ،‬أحسست بمغص واآلم‬ ‫ً‬ ‫مهرول نحو أقرب صيدلية لشراء دواء أو حبوب‬ ‫في معدتي‪ ،‬خرجت‬ ‫مسكنة لأللم‪ ،‬في أثناء سيري قابلتني مسيرة وجوقة أبواق سيارات‬ ‫فوقها أعالم خضراء‪ ،‬هذا باإلضافة إلى من يهرولون على أقدامهم‪،‬‬ ‫وهم يرفعون الراية الخضراء ويهتفون في مظاهرة تأييد للقذافي‪،‬‬ ‫وينددون بقناة الجزيرة القطرية بصوت عال‪( :‬يا جزيرة يا حقيرة‪)..‬‬ ‫عدت إلى حجرتي في الفندق‪ ..‬ابتلعت حبة ضد المغص‪..‬أخذت‬ ‫جرعة ماء‪ ..‬تمددت على السرير‪ ..‬فتحت التلفاز على قناة القنفود‬ ‫الليبية‪ ..‬شاهدت مسيرة تأييد للقذافي في الساحة الخضراء بمدينة‬ ‫طرابلس‪ ،‬وأخرى أمام اللجنة الثورية بمدينة طبرق‪ ،‬يا الهي ما الذي‬ ‫يجري في هذه البالد؟‬

‫في المساء وبعد تناول العشاء‪ ،‬تناقشنا نحن الكتاب واألدباء عما‬ ‫يحدث في بالدنا‪ ،‬وعبرنا عن قلقنا وانزعاجنا عما يجري في البيضاء‬ ‫ودرنة وبنغازي‪.‬‬ ‫قال أحد الكتاب وهو من قاطني مدينة البيضاء‪ :‬ثمة مظاهرة‬ ‫احتجاج في البيضاء وعدد ثالثة قتلى من الشباب‪ ،‬واصطدام بكتيبة‬ ‫األمن‪.‬‬ ‫حال المدن الليبية في المنطقة الشرقية يبعث على القلق واالنزعاج‪،‬‬ ‫‪11‬‬


‫وأن المظاهرات المنددة بالنظام لم تتوقف‪ .‬ألغينا األمسية الشعرية‬ ‫التي كان من المقرر إقامتها تلك الليلة‪ ،‬كيف يروق لنا أن نستمع إلى‬ ‫الشعر والشباب يقتلون برصاص األمن؟ وقررنا العودة إلى مدننا مع‬ ‫صباح يوم الجمعة‪ ،‬وكنا نتابع األحداث يوم الخميس عبر شاشات‬ ‫القنوات الليبية والعربية خاصة قناة الجزيرة‪.‬‬ ‫الجمعة ‪ 18‬فبراير ‪2011‬م‬

‫استيقظنا صباحا تناولنا إفطارنا في الفندق‪ ،‬كانت الحافالت في‬ ‫انتظارنا للعودة إلى بنغازي‪ ،‬قررنا العودة مباشرة إلى مدينة طبرق‪ ،‬بعد‬ ‫تأزم الموقف في بنغازي‪ ،‬عبر طريق إجدابيه طبرق‪ ،‬استجاب مجلس‬ ‫الثقافة العام لمطلبنا‪ ،‬جهز لنا سيارة أجرة هونداي بيضاء اللون‪ ،‬وفي‬ ‫أقل من نصف ساعة كنا بداخلها نحن الخمسة كتاب‪ ،‬فوزي وسليمان‬ ‫وعبدالرحمن وعوض وأنا‪ ،‬حيث اتجه بنا سائق تلك األجرة الفزاني‪،‬‬ ‫على الطريق الساحلي نحو الشرق‪ ،‬الرؤية تكاد تنعدم وسط رياح‬ ‫محملة باألتربة الحمراء‪ ،‬كان السائق يقلل من سرعة سيارته إلى حد‬ ‫أدنى‪ ،‬كلما اعترضته عاصفة رملية‪ ،‬بينما كنا نحن نتجاذب أطراف‬ ‫الحديث‪ ،‬حول ما يجري في ليبيا وإن كانت وجهات النظر واآلراء‬ ‫مختلفة‪ ،‬إال أن االختالف ال يفسد للود قضية‪.‬‬ ‫عند الثالثة بعد الظهر دخلنا مدينة اجدابيه‪ ،‬التي كانت تعصف‬ ‫بها الرياح العاتية والغبار الكثيف واللون البرتقإلى‪ ،‬شاهدنا مدينة‬ ‫خرسانية كأنها مهجورة ال بشر فيها‪ ،‬مقر المؤتمر كان قد أحرق‪،‬‬ ‫وكذلك مثابة اللجنة الثورية‪ ..‬واللجنة الشعبية بها‪ ،‬نشاهد مجرد‬ ‫‪12‬‬


‫بيوت خرسانية‪ ،‬بحثنا في المدينة عن مطعم نتناول فيه وجبة الغداء‪،‬‬ ‫كانت معظمها موصدة األبواب‪ ،‬لم نجد اال استراحة صغيرة واحدة‬ ‫مفتوحة‪ ،‬ترجلنا من السيارة وسط الرياح المرتفعة والغبار الكثيف‬ ‫دلفنا إلىها‪ ..‬جلسنا على الكراسي ومعنا السائق‪ ..‬تناولنا وجبة الغداء‬ ‫شربنا الشاي األخضر‪ ..‬من ثم أقلع بنا السائق على طريق اجدابيه‬ ‫طبرق‪ ..‬الرياح المحملة بالغبار واألتربة أخذت تهدأ‪ ..‬الطريق بدت‬ ‫تتضح معالمها أمامنا عند اقترابنا من منطقة العدم‪ ..‬وصلنا طبرق‬ ‫قبل مغيب الشمس بقليل‪ ..‬المدينة يخيم عليها السكون والهدوء‪،‬‬ ‫أوصلنا السائق كل واحد منا إلى منزله‪ ..‬كنت أنا المترجل األخير‬ ‫من السيارة‪ ..‬نقدته أجرته التي سلمها لي موظف مجلس الثقافة‬ ‫العام في مظروف صغير‪ ،‬دعوته للعشاء والمبيت في منزلي‪ ..‬غير إنه‬ ‫اعتذر خوفا من أن تقفل الطريق البرية الواصلة بين اجدابيه وسرت‬ ‫في أي لحظة‪ ،‬وقفل السائق بسيارته عائدا إلى مدينة سرت‪ ،‬والشمس‬ ‫تجنح نحو المغيب‪.‬‬

‫في نفس اليوم الذي وصلت فيه إلى منزلي‪ ،‬داهم الشباب المثابة‬ ‫الثورية المدينة وأطاحوا بمجسم الكتاب األخضر‪ ،‬كما داهموا مقرات‬ ‫األمن الداخلي والبحث الجنائي واألمن الخارجي والنيابة العامة‪،‬‬ ‫وأشعلوا فيها النيران‪ ،‬وكان سقوط شابين هما‪ :‬عالء برقاية وعلي‬ ‫بوطبنجة وبعض اإلصابات بين شباب الثورة‪ ،‬ازدادت هذه المظاهرة‬ ‫الحاشدة وردد الجميع‪ :‬الشعب يريد إسقاط النظام‪.‬‬ ‫توالت األحداث متصاعدة في طبرق ودرنة والبيضاء والمرج‬ ‫‪13‬‬


‫وبنغازي‪ ،‬حيث رفعت أعالم االستقالل الملونة في بنغازي‪ ،‬وسط‬ ‫سقوط عدد من الشهداء والمصابين بالمئات‪ ،‬انفصلت لبيانا والمدار‪،‬‬ ‫في الوقت الذي واصل فيه التلفزيون الليبي الرسمي بث صور لعشرات‬ ‫من أعضاء حركة اللجان الثورية في مدن ليبية مختلفة تهتف بحياة‬ ‫الزعيم الليبي معمر القذافي وتتوعد قناة الجزيرة والمناوئين للقذافي‬ ‫بالمواجهة والقضاء عليهم ومن شعاراتهم يا جزيرةيا حقيرة القائد‬ ‫مانبوا غيره‪.‬‬

‫ومع مضي األيام واألسابيع وجدت نفسي داخل المنزل وكل‬ ‫األعمال قد تعطلت في مدينتي وغيرها من المدن الليبية‪.‬‬

‫ووسط الفراغ عدت من جديد إلى القرطاس والقلم ألدون بعض‬ ‫ما أتذكره من سيرة حياتي‪.‬‬

‫‪14‬‬


‫(‪)2‬‬ ‫هذا األمر لم أكن أتوقعه‪ ،‬ولم يكن لي في الحسبان قط من قريب‬ ‫أومن بعيد‪ ،‬أن أصحو قبل شروق الشمس كل يوم‪ ..‬أحلق وجهي‪..‬‬ ‫ألمع حذائي العسكري‪ ..‬أرتدي القيافة العسكرية‪ ..‬بينما كنت منذ‬ ‫سنوات استيقظ حسبما يروق لي في الضحى أو عند الظهيرة إال إذا‬ ‫كانت لدي حصص أولى للغة العربية في تلك المدرسة‪.‬‬

‫وأتذكر ذلك اليوم‪ ،‬يوم األربعاء من عام ‪1986‬م‪ ،‬عندما كنت‬ ‫أتواجد في مدرسة الشعلة الثانوية للبنات‪ ..‬وسط المدينة قبل‬ ‫الثامنة صباحا‪ ..‬أقف في الساحة‪ ..‬يقدم لي التمام اليومي الصباحي‬ ‫للطالبات‪ ،‬وهن في الساحة مرتديات قيافة البحرية‪ ..‬التدريب‬ ‫والحصص العسكرية تحت إشراف ضباط قاعدة طبرق البحرية‪..‬‬ ‫بينما أنا ضابط مشاة يا له من تناقض غريب‪ ..‬وجدت أمامي في اإلدارة‬ ‫العسكرية مالزم أول تدعى مرضية‪ ..‬تخرجت من الكلية العسكرية‬ ‫للبنات منذ بضعة سنوات‪ ..‬وعدد ثالثة من ضباط صف البحرية‪..‬‬ ‫أنا آمر الثكنة أصدر األوامر والتعليمات العسكرية‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫عدت من طرابلس ببكالوريوس علوم عسكرية‪ ،‬ورسالة تفيد‬ ‫تكليفي كمراسل لمجلة الشعب المسلح من صديقي الشاعر العماري‬ ‫الصحفي مدير التحرير بالمجلة‪ ،‬بحكم ترددي عليه هناك في إدارة‬ ‫المجلة‪ ،‬بقيت الرسالة في جيبي لعدة أسابيع‪ ،‬لماذا ال أسلمها آلمر‬ ‫المنطقة العسكرية طبرق؟ ذهبت إلى هناك‪ ،‬صعدت الدور الثاني‬ ‫بالمنطقة العسكرية‪ ،‬بقيافتي العسكرية ونجمتي اليتيمة على كتفي‪،‬‬ ‫اتجهت نحو اليمين دخلت على السكرتيرة هي ضابطة برتبة مالزم‬ ‫أول‪ ،‬جميلة رشيقة القوام ترتدي البزة الخضراء بشرتها بيضاء شعرها‬ ‫قصير‪ ،‬مددت لها بالرسالة أخذتها مني طالبة االنتظار قليال‪ ،‬فتحت‬ ‫الباب دخلت عليه هي بالرسالة‪ ،‬سألت أحد ضباط الصف عن اآلمر‬ ‫أجابني‪ :‬إنه المقدم خليفة حفتر‪.‬‬

‫كنت أتمنى أن يقبل الرسالة وينتهي األمر عند هذا الحد‪ ،‬وأعود‬ ‫لعملي في الثكنة في أمن وسالم‪ ،‬غير أن السكرتيرة خرجت من عنده‬ ‫ثم أذنت لي بالدخول على اآلمر‪ ،‬دخلت عليه أعطيته الواجب ـ التحية‬ ‫ـ كان يجلس هناك على كرسيه الهزاز ببدلة التشريفات التي تغطيها‬ ‫األوسمة واألنواط وغطاء الرأس على الطاولة المستطيلة‪ ،‬يبدو مهيبا‬ ‫له شخصية قوية وشعره حالك السواد وشاربه الهاللي‪ ..‬بادرني‪:‬‬ ‫ـ أنت الضابط الكاتب؟‪.‬‬ ‫ـ نعم سيدي‪.‬‬

‫ـ تحضر إلى هنا في الغد‪ ،‬لدي مهمة أخرى باإلضافة إلى كونك‬ ‫مراسل للمجلة سوف أكلفك بها مادمت كات ًبا‪.‬‬ ‫‪16‬‬


‫أعطيته التحية وانصرفت‪ ،‬ما أن خرجت من عنده حتى كانت‬ ‫العيون الرصاصية تحدق في‪ ..‬ضباط برتب مختلفة ينتظرون الدخول‬ ‫عليه‪ ،‬يجلسون في صالة االنتظار‪.‬‬

‫لم أنم في تلك الليلة ولم يغمض لي فيها جفن‪ ،‬ما هذه المهمة‬ ‫التي سيكلفني بها؟ هل هي إصدار صحيفة للمنطقة العسكرية أم ماذا؟‬ ‫لنترك معرفة هذه المهمة للغد‪.‬‬

‫مع الصباح حلقت ذقني‪ ،‬لمعت حذائي جيدً ا‪ ..‬ارتديت بزتي‬ ‫العسكرية‪ ،‬سرت على قدمي مع الصباح من كوخي في الحطية حتى‬ ‫الطريق الرئيسي‪ ،‬استوقفت تاكسي حملني إلى المنطقة العسكرية‬ ‫بالمنارة‪ ..‬صعدت للدور الثاني كالعادة اتجهت نحو اليمين‪ ..‬دخلت‬ ‫على السكرتيرة حييتها نهضت فتحت هي الباب دخلت عليه ثم‬ ‫خرجت من عنده‪ ،‬دعتني للدخول أعطيته الواجب‪ ،‬وأنا واقف على‬ ‫بعد خطوات‪ ،‬رن هو الجرس أطلت السكرتيرة مسرعة‪ ،‬طلب منها‬ ‫استدعاء أحد الضباط باالسم سرعان ما حضر بعد أن أعطاه الضابط‬ ‫التحية‪ ،‬هتف به اآلمر‪:‬‬

‫ـ هذا الضابط الكاتب سوف نكلفه بإعداد مذكرة عن حرب تشاد‬ ‫التي طلبها منا القائد العام خصص له مكتب التوجيه‪.‬‬

‫ثم التفت إلى قائال‪:‬‬

‫ـ النقيب صالح هذا سوف يسلمك المكتب ويساعدك بالمعلومات‬ ‫التي تخص حرب تشاد‪ ..‬وأنت عليك صياغتها‪.‬‬ ‫‪17‬‬


‫تبعت بخطاي النقيب صالح عبر ممر طويل في اتجاه الشمال‪،‬‬ ‫كان آخر مكتب جهة اليسار‪ ،‬يقابله مكتب آمر المدفعية فتحه النقيب‬ ‫وأعطاني المفتاح ً‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫ـ هذا مكتبك‪.‬‬

‫دخلت المكتب جلست على الكرسي الهزاز‪ ،‬فتحت الدوالب‪،‬‬ ‫تصفحت الملفات التي بداخله كلها كانت تحوي طلبيات وقود‬ ‫وزيت سيارات‪.‬‬

‫بعد يومين تواجدت في المكتب بالمنطقة العسكرية‪ ،‬بعد دقائق‬ ‫حضر إلي النقيب صالح أعطيته التحية رد عليها ودعاني للجلوس‬ ‫قلت له‪:‬‬ ‫ـ إنني لم أجد ما يفيد المهمة المكلف بها في هذه الملفات‪.‬‬

‫بادرني قائال‪:‬‬

‫ـ فتش أنت عن مرجع أو اثنين عن دولة تشاد‪ ،‬وأنا سوف أدون لك‬ ‫المعارك التي خضناها في تشاد‪ ،‬وكيف دخلنا ّ‬ ‫ابشه وفايا الرجو‬ ‫وانجامينا وغيرها‪ ،‬وأنت عليك صياغتها بأسلوبك‪.‬‬

‫عصر ذلك اليوم تجولت في مكتبات المدينة‪ ،‬أفتش عن ما كتب عن‬ ‫تشاد‪ ،‬لم أجد إال مرجعا واحدا هو بعنوان‪ :‬العالقات الليبية التشادية‬ ‫للكاتب سعيد الحنديري‪ ،‬فرحت به كثيرا وبعد قراءتي له قراءة متأنية‪،‬‬ ‫كتبت نبذة عن تشاد من حيث الموقع والمساحة والسكان‪ ،‬وكيف‬ ‫اشترك العديد من التشاديين في الجهاد الليبي ضد الغزو اإليطالي‪.‬‬ ‫‪18‬‬


‫وأخذت التقي بالنقيب صالح في مكتب المنطقة عدة مرات في‬ ‫األسبوع‪ ،‬أسأله عن تلك المعارك‪ ،‬واستلم منه ما كتبه بخط يده عنها في‬ ‫منزله‪ ،‬وبعد أن أصبحت لدي نبذة وافية عن تلك المعارك‪ ،‬كتبت عن‬ ‫الصراع بين كوكني وداي وحبري على السلطة في تشاد‪ ،‬ثم مساعدة‬ ‫القوات الليبية تشاد لمحاربة االستعمار الفرنسي‪ ،‬ومساندة الرئيس‬ ‫التشادي حبري‪ ،‬وأهم المعارك في فايا الرجو وأبشه وانجامينا‪ ،‬بعد‬ ‫عدة أيام كتبت كل ذلك بخط واضح وحضرت للمنطقة العسكرية‪،‬‬ ‫استأذنت السكرتيرة الضابطة‪ ،‬دخلت على المقدم حفتر تالشت الرهبة‬ ‫في الدخول عليه‪ ،‬أديت الواجب‪ ،‬تقدمت نحوه خطوات وفي يدي‬ ‫صفحات من المذكرة مددتها له تصفحها بسرعة ثم بادرني قائال‪:‬‬ ‫ـ إنها مازالت تحتاج إلى إضافة‪.‬‬ ‫مغيرا دفة الحديث‪:‬‬ ‫ثم التفت إلى ً‬ ‫ـ أنت وين تسكن؟‬

‫في دهشة واستغراب أجبته‪:‬‬ ‫ـ أسكن في الحطية في كوخ من الزنك مع أبي وأمي وأخوتي‪.‬‬ ‫ـ هل أنت متزوج؟‬ ‫ـ ال يا سيدي‪..‬‬ ‫ـ اكتب لي طلبا وأعطه للسكرتيرة سوف نوفر لك مسكنا صحيا‬ ‫الئقا‪.‬‬ ‫‪19‬‬


‫بعد أن خرجت من عنده سرعان ما كتبت الطلب قدمته للسكرتيرة‬ ‫التي دخلت به عليه وقعه لها خرجت مدت لي الطلب قائلة‪:‬‬ ‫ـ اذهب به إلى رئيس لجنة اإلسكان العسكري وقدمه له‪.‬‬

‫لم أجده في ذلك اليوم‪ ،‬حضرت إليه في اليوم التالي استلم مني‬ ‫الطلب في المباالة وعدم اهتمام قائال‪ :‬ـ عندما تجد مسكنا في حي‬ ‫الضباط أو مساكن البحرية أبلغني وسوف نخصصه لك‪.‬‬

‫مضيت أتجول على قدمي في حي الضباط‪ ،‬أبحث وأفتش واسأل‬ ‫عن أي مسكن شاغر‪ ،‬كانت اإلجابة من األشخاص الذين أقابلهم‪:‬‬

‫ـ أي منزل شاغر ال يدعه صاحبه دون مقابل حتى عندما ينتقل منه‪.‬‬

‫عدت من جديد للمنطقة وقابلت النقيب صالح‪ ،‬وطلبت منه احصائية‬ ‫وافية عن تلك المعارك‪ ،‬وقرأت عليه ما كتبته‪ ،‬أبدى استحسانه وطلب‬ ‫مني عرضها على اآلمر ووعدني بإحضار تلك اإلحصائية‪.‬‬

‫وبالفعل أحضرها لي في اليوم الثاني‪ ،‬أعدت صياغة الصفحات‬ ‫التي كتبتها من جديد‪ ،‬ودخلت على آمر المنطقة فأطلع عليها وفي‬ ‫الختام سألني قائال‪:‬‬ ‫ـ ماذا حدث في المسكن؟‬

‫قلت له‪:‬‬

‫ـ انني قدمت الطلب إلى النقيب إبراهيم غير انه قال لي ال توجد‬ ‫مساكن شاغرة ابتسم المقدم خليفة قائال‪:‬‬ ‫‪20‬‬


‫ـ ال تحمل هما سوف نخصص لك مسكنا الئقا‪.‬‬

‫كنت أتردد على مكتبي في المنطقة العسكرية يومين في‬ ‫األسبوع‪ ،‬وباقي أيام األسبوع أتواجد في ثكنة الشعلة‪ ،‬وبعد‬ ‫أسبوع فوجئت بالنقيب إبراهيم‪ ،‬يطل على في الثكنة ثم يهتف‬ ‫مبتسما بعد التحية‪:‬‬ ‫بي‬ ‫ً‬ ‫ـ هل عندك خطاط سماواي اللون؟‬

‫ـ سوف أحضره لك من اإلدارة‪.‬‬

‫ـ تحصلت على الخطاط لحقت به عند الباب الرئيسي للثكنة‪،‬‬ ‫دعاني لركوب السيارة معه‪ ،‬ركبت إلى جواره في سيارته‬ ‫المازدا ‪ 323‬البنية اللون‪ ،‬وانطلقنا نحو الغرب على الطريق‬ ‫الرئيسي‪ ،‬كان إلى جانبه في السيارة مجموعة كبيرة من المفاتيح‪،‬‬ ‫انعطف جهة اليمين بسيارته نحو حي الفرجان‪ ،‬توقفت بنا السيارة‬ ‫أمام العمارات الكوبية الحديثة‪ ،‬التقط مجموعة المفاتيح في يده‬ ‫وترجلنا من السيارة اتجهنا نحو العمارة األولى تحسس المفاتيح‬ ‫التي في يده‪ ،‬وبدأ يفتح باب الشقة األولى ثم قال لي‪:‬‬

‫ـ اكتب عليها اسمك كامال‪.‬‬

‫وسلمني مفاتيحها عندها أحسست بالسعادة تغمرني‪ ،‬ثم استلمت‬ ‫منه الكشف الذي معه وكتبت بقية األسماء على باقي أبواب الشقق‬ ‫اإلحدى وعشرين‪ ،‬ترجلت من السيارة عند الظهيرة عند منعطف‬ ‫الحطية‪ ،‬وعدت مسرورا مغتبطا إلى الكوخ ظهيرة ذلك اليوم‬ ‫‪21‬‬


‫والمفاتيح في يدي فاجأت أبي وأمي وأخوتي والغبطة تبدو علي‪،‬‬ ‫أبرزت لهم مفاتيح الشقة مبتسما قائال‪:‬‬ ‫ـ لقد تحصلت على شقة‪.‬‬

‫و بعد الغداء أخذتهم في زيارة لتلك الشقة الحديثة‪ ،‬غمرت الفرحة‬ ‫قلوبهم‪ ،‬شقة واسعة بها ثالث حجرات وصالة أرضيتها بالبالط‬ ‫والمياه متوفرة في حمامها والمطبخ‪ ،‬بعد أيام حملنا أثاثنا المتواضع‬ ‫إليها‪ ،‬وفرشها بقطع من فرش مصنع بطاطين المرج‪ ،‬وودعنا الكوخ‬ ‫والحطية والجيران وليال البؤس والفقر‪.‬‬ ‫نشطت في كتابة المذكرة من جديد‪ ،‬تواجدت بالمنطقة العسكرية‬ ‫دخلت على المقدم خليفة أعطيته التحية‪ ،‬كان يجلس عنده رجل أنيق‬ ‫القامة يرتدي بدلة رصاصية قصير القامة أعرف أنه يقطن في سوق‬ ‫العجاج ويدعى طيب عريقيب‪.‬‬ ‫ـ اه تحصلت على الشقة؟‬

‫ـ نعم سيدي شكرا جزيال لك‪.‬‬

‫ـ اذن عليك ان تبادر بالزواج وسوف أساعدك‪.‬‬

‫غير إنه ذات يوم فوجئت أن المقدم خليفة والنقيب صالح‪ ،‬ومن‬ ‫معهم من القوات قد تم تكليفهم بالتوجه من جديد إلى تشاد‪ ،‬وجاء‬ ‫آمر جديد للمنطقة العسكرية طبرق‪ ،‬توقفت عن كتابة تلك المذكرة‪..‬‬ ‫سلمت مفتاح المكتب للمساعد‪ ..‬ولم أعد إليه من يومها قط‪ ،‬ثم‬ ‫علمت فيما بعد انه تم أسر المقدم خليفة ومن معه في األراضي‬ ‫‪22‬‬


‫التشادية أثناء معارك ‪1987‬م‪ ،‬وتنكر لهم نظام القذافي ووصلوا‬ ‫إلى زائير ثم إلى كينيا‪ ،‬بعدها إلى الواليات المتحدة األمريكية‪،‬‬ ‫وانخرطوا في الحياة المدنية‪ ،‬منهم من واصل تعليمه‪ ،‬ومنهم من‬ ‫بحث عن عمل‪.‬‬ ‫المقدم خليفة حفتر التحق بجبهة اإلنقاذ الوطني للمعارضة‪،‬‬ ‫ولم يعد إلى ليبيا إال بعد اندالع ثورة ‪ 17‬فبراير حين ساهم في‬ ‫معارك التحرير‪.‬‬

‫التقيت به في منزله بعد عودته‪ ،‬وكان معي رئيس تحرير صحيفة‬ ‫«الحقيقة» الكاتب الروائي عبدالرسول العريبي إلجراء حوار معه‬ ‫للصحيفة‪.‬‬

‫‪23‬‬



‫(‪)3‬‬ ‫ما أجمل أن ترجع بذاكرتك عشرات السنوات إلى الوراء‪ ،‬وتتذكر‬ ‫كيف تخرجت من معهد المعلمين في مدينتك طبرق‪ ،‬وفي البداية‬ ‫نسبت إلى مدرسة القعرة البتدائية الواقعة على الطريق الساحلي شرق‬ ‫مدينة طبرق بحوالي ‪ 30‬كيلومتر‪ ،‬ومع كل صباح كنت تنهض مبكرا‪،‬‬ ‫تسير أنت وزميلك المدرس علي دعبس على أقدامكم من سبخة‬ ‫الحطية‪ ،‬حتى الشارع الرئيسي‪ ،‬تتوقفان هناك دقائق أمام مزرعة النيبو‪،‬‬ ‫ريثما تصلكما سيارة البيجو ‪ ،404‬التي يقودها المدرس علي الرياني‪،‬‬ ‫وبها مدير المدرسة التاوسكي يجلس إلى جواره‪ ،‬وخلفكما المدرس‬ ‫صالح تدلفان داخل السيارة بعد القاء تحية الصباح عليهم‪ ،‬تجلسان‬ ‫في الكرسي الخلفي إلى جوار المدرس صالح‪ ،‬تتبادل األحاديث‪،‬‬ ‫في أقل من ساعة تصلون القعرة‪ .‬المدرسة فصولها متناثرة‪ ،‬ومبانيها‬ ‫قديمة تطل على الشارع الرئيسي المتجه شرقا حتى امساعد‪ ،‬ونتوزع‬ ‫على الفصول‪.‬‬ ‫كنت تقوم بتدريس النحو والقراءة والنصوص‪ ،‬للصفين الخامس‬ ‫‪25‬‬


‫والسادس االبتدائي‪ ،‬تشاهد أمامك وجوه لفحتها الشمس متعطشة‬ ‫للعلم والمعرفة‪ ،‬بعد انتهاء الحصة السادسة‪ ،‬أي بعد الواحدة ظهرا‬ ‫تعودون في نفس السيارة‪ ،‬تترجالن منها في نفس المكان الذي‬ ‫ركبتما منه على أمل اللقاء في الغد كالعادة‪ ،‬حببت لتالميذك القراءة‬ ‫واالطالع‪ ،‬من خالل ما كنت تحضره لهم من أعداد من مجلة األطفال‬ ‫المصورة‪ ،‬يتبادلون قراءتها فيما بينهم ويسرون بها كثيرا‪.‬‬

‫توثقت عالقتك بصالح‪ ،‬هو في مثل سنك‪ ،‬يبدو لديه طموح‬ ‫عريض مديد القامة بشرته بيضاء‪ ،‬هو تخرج حديثا من معهد المعلمين‬ ‫ببنغازي‪ ،‬انتقلت عائلته من منطقة بنينة إلى مدينة طبرق‪ ،‬حيث استقرت‬ ‫في المطار القديم في كوخ واسع كبير‪.‬‬

‫في عطلة نصف السنة اتفقنا‪ ،‬أنا والمدرس علي الرياني والمدرس‬ ‫صالح والمدرس عبدالستار والمدرس موسى‪ ،‬على القيام برحلة‬ ‫سياحية إلى جمهورية مصر‪ ،‬لمدة عشرة أيام‪ ،‬أقلنا علي في سيارته‬ ‫البيجو صباحا‪ ،‬بعد العصر وصلنا االسكندرية‪ ،‬أجر لنا شقة نظيفة‬ ‫في حي فيكتوريا‪.‬‬ ‫صاحبنا الرياني كان يخبر كل أحياء االسكندرية وشوارعها جيدا‪،‬‬ ‫زارها في السابق العديد من المرات‪ ،‬يذكر لنا إنه عندما تم تعيينه‬ ‫وتنسيبه لمدرسة في قصر الجدي‪ ،‬بدال من أن يذهب لتلك المدرسة‬ ‫سافر إلى اإلسكندرية وبقي بها سبعة أيام‪ ،‬عندما عاد علم بذلك‬ ‫رئيس التفتيش التربوي‪ ،‬نسبه إلى مدرسة القعرة‪ ،‬فوافق ألنها قريبة‬ ‫من المدينة يستطيع العودة إلى والدته المسنة يوميا‪ ،‬وباشر التدريس‬ ‫‪26‬‬


‫معنا‪،‬هو الذي أجر لنا الشقة في فيكتوريا وجمع من كل واحد منا‬ ‫مبلغا من المال‪ ،‬حتى يتم الصرف منه على المأكل والمشرب وإيجار‬

‫الشقة‪ .‬قضينا بها أياما جميلة في االسكندرية‪ ،‬بالرغم من أنني كنت‬

‫عبئا ثقيال عليهم ألنني ال أدخن حتى التبغ‪.‬‬

‫زرت مكتبات اإلسكندرية في محطة الرمل والمنشية وشارع النبي‬

‫دنيال‪ ،‬وعدت بمجموعة من الروايات والقصص وأعداد مختلفة من‬

‫مجلة نادي القصة ومجلة العربي‪.‬‬

‫قرأت في صباي قصص يوسف ادريس والطيب صالح ويوسف‬

‫الشاروني ونجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وعبدالرحمن‬

‫الربيعي وميخائيل نعيمة وغيرهم‪.‬‬

‫مع بداية العام الدراسي الثاني تفرقنا‪ ،‬انتقل كل من كان معنا من‬

‫المدرسين إلى مدارس المدينة‪ ،‬بينما نقلت أنا إلى مدرسة أخرى تبعد‬

‫عن المدرسة السابقة عشرات الكيلوات‪ ،‬نحو الشرق هي مدرسة‬

‫الحاج كريم بغوط الركب‪ ،‬لبعد المسافة بينها وبين المدينة اضطررت‬

‫لإلقامة هناك‪.‬‬

‫كانت تلك المدرسة قد بنيت بالحجر الطبيعي بالمجهود الذاتي‪،‬‬

‫وغطي سطحها بالخشب‪ ،‬كان أول مدير لها عند تأسيسها سنة ‪1966‬م‬

‫األستاذ أحمد خالد‪ ،‬ثم من بعده تولى إدارتها األستاذ عمران عبدالله‬

‫القطعاني‪ ،‬الذي كان يأتي إليها على دراجته الهوائية من عقيرة البوم‬

‫حيث كان يسكن في بيت من الشعر يبعد بضعة كيلوات عن المدرسة‪.‬‬ ‫‪27‬‬


‫كانت الغرفة الصغيرة التي أقمت بها ملحقة بالمدرسة‪ ،‬أرضيتها‬ ‫أسمنتية وبداخلها سرير حديدي‪ ،‬ودوالب للمالبس‪ ،‬تجاور تلك‬ ‫المدرسة مقبرة‪ ،‬وبئر لمياه األمطار‪ ،‬يشرب منه أهالي المنطقة‪.‬‬

‫مدير المدرسة في تلك السنة كان هو األستاذ عبدالله محارب‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى العديد من المدرسين‪ :‬علي امحارب‪ ،‬فرج قطيش‪،‬‬ ‫حسن علي‪ ،‬فرج احمد‪ ،‬عمران عبدالله هم من قبيلة واحدة غالبيتهم‬ ‫يقيمون في تلك المنطقة‪ ،‬الطالب يجلبون لنا معهم في الصباح خبز‬ ‫التنور والبيض الوطني‪.‬‬ ‫ويحمل لنا المباشر سليمان بو أمعلق مع كل صباح الحطب الذي‬ ‫يعثر عليه في طريقه‪ ،‬وهو قادم إلينا كل ذلك من أجل األستاذ فرج‬ ‫احمد المدمن للشاي األحمر على كانون الحطب‪.‬‬

‫وفي غوط الركب كانت تسكن قبيلة القطعان بو سعيدة‪ ،‬منها‬ ‫عائالت كريم راقي وهم‪ :‬حمد‪ ،‬وادريس‪ ،‬ومحمد‪ ،‬وراقي‪ ،‬وعائلة‬ ‫السنوسي عقاب‪ ،‬وعائلة الناجي عقاب‪ ،‬وعائلة صالح عقاب‪ ،‬وعائلة‬ ‫الهمالي‪ ،‬وعائلة اغفيري‪ ،‬وعائلة الهاين ميكائيل‪ ،‬وعائلة ضو قها كريم‬ ‫الرطاز‪ ،‬وعائلة حفلش رواق‪ ،‬وغيرها من العائالت‪.‬‬ ‫كنت أدرس لطالب الصف السادس اللغة العربية‪ ،‬الفصل يقسم‬ ‫إلى صفين من المقاعد صف للبنين و آخر للبنات‪.‬‬

‫بدأت في التعرف على تالميذي من اليوم األول واحدً ا واحدً ا‪ ،‬كان‬ ‫أهالي تلك المنطقة يستضيفونني ومن معي من المعلمين كل ليلة‪،‬‬ ‫‪28‬‬


‫لتناول وجبة العشاء في منزل من منازلهم‪ .‬لم يبق منزل إال وتناولت‬ ‫فيه وجبة العشاء‪ ،‬أما الخميس من كل أسبوع فكنت أعود إلى أسرتي‬ ‫بالحطية‪.‬‬ ‫وتنامى إلينا في النصف األول من شهر أغسطس ‪1975‬م خبر‬ ‫إعدام بضعة ضباط من الجيش رميا بالرصاص التهامهم بعملية‬ ‫انقالبية ضد نظام القذافي من بينهم‪ :‬النقيب أحمد بن سعود‪ ،‬والنقيب‬ ‫مصطفى المنقوش‪ ،‬والمالزمين األوائل‪ :‬عبدالرحيم بو ارقيعة‪،‬‬ ‫عبدالسالم الناجي البيرة‪ ،‬عبدالواحد عبدالله الشلوي‪ ،‬محمد سالم‬ ‫البرغثي‪ ،‬احمد ذياب عبدالرحمن‪ ،‬فرج عبدالسالم العماري‪ ،‬محمد‬ ‫الشريف مرواس وغيرهم‪.‬‬

‫أمضيت عاما آخر في التدريس في تلك المنطقة‪ ،‬ثم انتقلت‬ ‫للتدريس بالمدينة‪ ،‬إلى مدرسة الحطية الحديثة‪ ،‬والتي كانت تجثم‬ ‫فوق ربوة عالية حتى أنهم كانوا يطلقون عليها سفينة نوح‪ ،‬أمضيت‬ ‫بها عدة سنوات‪ ،‬ثم انتقلت إلى مدرسة الضاحية االعدادية‪ ،‬وهي‬ ‫األخرى درست بها عدة سنوات على طالب اإلعدادية في مادة‬ ‫اللغة العربية‪.‬‬

‫صديقي صالح عاود من جديد زيارته بسيارته التايوتا القلع‪ ،‬عندما‬ ‫انتقلت إلى مدرسة الحطية كنا نتجول يوم ًيا بعد العصر معا في الشوارع‬ ‫الخالية بالمدينة بتلك السيارة‪ ،‬ثم نتناول العشاء في إحدى المناسبات‬ ‫االجتماعية‪ ،‬سواء كانت عرسا أو مأتما ثم يرجعني إلى الحطية‪.‬‬

‫ما زلت أتذكر تلك األمسية التي دخلت فيها سينما حلمي مع ابن‬ ‫‪29‬‬


‫خالتي محمد‪ ،‬لمشاهدة فيلم أمريكي من األفالم الحديثة‪ ،‬وبينما‬ ‫نحن نستمتع بمشاهدة بطل الفيلم وهو يطيح بتلك العصابة‪ ،‬التي‬ ‫دائما‪،‬‬ ‫اعترضت سبيله‪ ،‬واحدا تلو اآلخر بمسدسه الذي يصيب الهدف ً‬ ‫وفجأة تضاء أنوار الصالة‪ ..‬يتوقف عرض الفيلم‪ ..‬الشرطة العسكرية‬ ‫تدخل علينا فجأة‪ ..‬يترصدون لنا‪ ..‬يشيرون لنا بأصابعهم للنهوض‬ ‫في غطرسة وكبرياء‪ ..‬يأمروننا نحن الشباب للخروج أمامهم‪ ..‬قلت‬ ‫لهم في غضب‪:‬‬ ‫مدرسا في التعليم‪.‬‬ ‫إنني أعمل‬ ‫ً‬

‫أحدهم يهتف بي في قسوة وخشونة‪:‬‬

‫ـ نحن نريدكم جنو ًدا في الجيش الليبي‪.‬‬

‫كنت أظن أنهم سيدعونني أكمل بقية مشاهد الفيلم‪ ،‬لكنهم أوباش‬ ‫ال يفرقون بين معلم وجاهل‪ .‬زجوا بنا في تلك الحافلة الواقفة أمام‬ ‫باب دار العرض في غلظة وقسوة‪ ،‬ثم سارت بنا إلى غرب المدينة‬ ‫نحو معسكر الجالء‪.‬‬

‫كانت طبرق في تلك الفترة قد تحولت إلى ثكنة عسكرية‪،‬‬ ‫كل الكتائب والمعسكرات التي كانت في الجنوب والغرب‬ ‫تقاطرت عليها‪ ،‬واستقرت بها‪ ،‬بعد خالف القذافي مع أنور‬ ‫السادات‪ ،‬والمناوشات التي كانت تقع على الحدود المصرية‬ ‫الليبية‪ ،‬معسكرات تكتظ بها المدينة في كل مكان‪ ،‬وتحت أسماء‬ ‫ومسميات عديدة‪ :‬معسكر الناظورة‪ ،‬معسكر الجالء‪ ،‬معسكر اللواء‬ ‫‪30‬‬


‫التاسع‪ ،‬الجحفل الثالث‪ ،‬معسكرات في البردي ومساعد والطرشة‬ ‫وباب الزيتون وغيرها‪ ،‬اكتظت تلك المعسكرات بالجنود وضباط‬ ‫الصف والضباط‪.‬‬ ‫بعد دقائق دخلت الحافلة بنا معسكر الجالء‪ ..‬أمام أحد القواطع‬ ‫توقفت‪ ..‬جنود الشرطة العسكرية يدفعوننا للترجل‪ ،‬واإلسراع في‬ ‫حلق الرؤوس‪ ،‬ما أن ترجلت مع غيري حتى رأيت العديد من الشباب‬ ‫يحلقون شعر رؤوسهم‪ ،‬شاهدت المدرس فوزي التاوسكي يصيح‬ ‫فيهم غاضبا وهم يحلقون رأسه حتى الجلدة‪:‬‬ ‫ـ أنا فنان رسام معلم ال عالقة لي بالجيش‪.‬‬ ‫والمعلم فتحي يتساءل غاضبا‪:‬‬ ‫ـ أنا مدرس ومتدرب في المقاومة الشعبية ماذا تريدون مني؟‬ ‫أمام القاطع في الساحة عدد كبير من الشباب ممن هم فوق سن‬ ‫الثامنة عشرة‪ ،‬لم أنبس ببنت شفة‪ ،‬لكنني شعرت بالضيق والغضب‪،‬‬ ‫تساءلت بيني وبين نفسي كيف نتخلص من هذا المأزق؟ وهذه الورطة‬ ‫التي لم تكن في الحسبان‪.‬‬ ‫ما أن لمحت العريف أمجاور جارنا في الحطية‪ ،‬حتى هرولت‬ ‫نحوه أنا وصديقي محمد‪ ،‬سلمنا عليه سألني‪:‬‬ ‫ـ ماالذي جاء بكما إلى هنا؟‬ ‫بادرته‪:‬‬ ‫‪31‬‬


‫ـ قبضت علينا الشرطة العسكرية في السينما‪.‬‬ ‫رد علي قائال وهو يتلفت خلفه‪:‬‬

‫ـ هيا بسرعة أنت وصاحبك اتبعاني‪.‬‬

‫تسللنا خلفه دون أن يفطن لنا أحد‪ ،‬حتى وصلنا سيارته البيجو‬ ‫الخيمة‪ ،‬الواقفة هناك خلف شجرة عالية‪ ،‬أمرنا بالقفز داخل‬ ‫صندوقها الخلفي بسرعة‪ ،‬ثم أسدل القلع علينا في مؤخرة السيارة‪،‬‬ ‫وأدار محركها وأقلع بنا دون أن يفطن لنا أحد‪ ،‬حتى خرج من بوابة‬ ‫المعسكر وعلى الطريق الرئيسي‪ ،‬وبعد أن قطع مسافة قصيرة‬ ‫أوقف السيارة‪ ،‬دعانا للنزول من الخلف والجلوس إلى جواره‬ ‫في المقدمة‪ ،‬ترجلنا من السيارة بعد ربع ساعة في مدخل الحطية‬ ‫أمام الكوخ‪ ،‬وشكرته على مساعدته لنا‪ ،‬تنفسنا الصعداء نجونا‬ ‫بأعجوبة تلك الليلة من قبضة الشرطة العسكرية‪ ،‬ومن يومها‬ ‫امتنعت عن دخول السينما في مدينتي‪ ،‬حتى ولو كانت تعرض‬ ‫فيها أحدث األفالم‪.‬‬

‫اليوم وبعد أن وصلت إلى العقد الثالث من عمري‪ ،‬أجبر على‬ ‫االلتحاق بالعسكرية‪ .‬كيف يحدث هذا؟ وكل سنوات شبابي‬ ‫أمضيتها في المباالة‪ ،‬و حتى غرفتي الصغيرة ذات السرير الحديدي‬ ‫والدوالب الخشبي الذي يحتوي مالبسي‪ ،‬والمنضدة والكرسي‬ ‫والكومودينو‪ ،‬والتلفاز الصغير كنت أدعها تغرق في فوضى‬ ‫الصحف والمجالت والكتب المتناثرة‪ ،‬والمالبس الملقاة هنا‬ ‫وهناك‪ ،‬أترك أمي وأختي تقومان بتنظيفها وتنسيقها‪ ،‬بعد استيقاظي‬ ‫‪32‬‬


‫المتأخر من نومي‪ ،‬كنت أغدو نحو مدرس الضاحية على قدمي‪،‬‬ ‫حيث أقوم بالتدريس لطالب ثالثة إعدادي‪ ،‬وعند الظهيرة أقفل‬ ‫عائدا من المدرسة كالعادة على قدمي‪ ،‬وفي طريق عودتي كنت‬ ‫أتقابل صدفة مع تلك الفتاة الجميلة‪ ،‬ذات الشعر األصفر كأسالك‬ ‫الذهب‪ ،‬والوجه المدور كالبدر‪ ،‬وهي ترتدي معطفها األبيض‪ ،‬في‬ ‫طريقها للعمل بعد الظهيرة‪ ،‬في عيادة صحية وسط المدينة‪ ،‬كنت‬ ‫أحييها ترد على تحيتي في خجل واقتضاب‪ ،‬شعرت يومها بالغبطة‬ ‫والسعادة تغمرني‪ ..‬كانت تلك الفتاة مثار إعجابي واهتمامي‪،‬‬ ‫شعرت بميل شديد نحوها‪ ،‬وكأن هناك شيء ما يجذبني نحوها‪،‬‬ ‫البد أن ألتقي بها في الغد أصارحها بمشاعري وحبي لها‪ ،‬وأعرف‬ ‫رأيها في وهل تقدم أحد لخطبتها؟ هل في حياتها شخص آخر؟‬ ‫أصل الكوخ أتناول وجبة الغداء‪..‬أحتسي كوبا من الشاي األخضر‬ ‫بالنعناع‪ ،‬بعدها أخلد للراحة والنوم ساعة‪ ،‬مع العصر أصحو لقراءة‬ ‫الصحف والمجالت‪ ،‬أو قراءة رواية أو قصة أو كتاب في النقد‬ ‫األدبي‪ ،‬أو كتابة قصة‪.‬‬ ‫إن القراءة عندي هي صنو الرئة‪ ،‬دائما التهم في شهية كل ما تقع‬ ‫عليه عيناي من كتب سواء في القصة أو الرواية أو الشعر في هوس‬ ‫ال استطيع مقاومته‪.‬‬

‫ظللت ليلتها أحلم بلقائها‪ ،‬انتظر رؤيتها على أحر من الجمر‪ ،‬يوم‬ ‫غد بال ريب سوف انتظرك‪ ،‬حتى تأتين وتلك هي اللحظات السعيدة‪،‬‬ ‫حين نلتقي لقاء األحبة‪.‬‬ ‫‪33‬‬


‫لم أدبر لحظات تالقينا في األيام الماضية‪ ،‬كانت الصدفة وحدها‬

‫تجعلنا نلتقي دائما‪ ،‬أنا في طريق عودتي من المدرسة‪ ،‬وهي في‬

‫طريق ذهابها إلى العيادة الصحية‪ ،‬وفي اليوم التالي إذا بها تطل‬ ‫قادمة في نفس الموعد تختال في مشيتها بمعطفها األبيض‪ ،‬وشعرها‬

‫الذهبي‪ ،‬ما ان اقتربت مني حتى تشجعت‪ ،‬مددت لها يدي فالمست‬

‫يدها الناعمة‪ ،‬كانت خجولة مرتبكة خداها متوردان‪ ،‬أما العينان‬ ‫فعسليتان تجيل ببصرها في األرض‪ ،‬غمرني إحساس غريب يجذبني‬

‫نحوها بادرتها‪:‬‬

‫ـ كيف الحال؟‬ ‫ردت في خجل وحياء‪:‬‬ ‫ـ الحمد لله بخير‪.‬‬ ‫بادرتها قائال‪:‬‬ ‫ـ هل ثمة أحد في حياتك؟‬ ‫أجابت‪:‬‬ ‫ـ ال ال أحد‪.‬‬ ‫ـ مارأيك في أن أطلبك من أهلك؟‪.‬‬ ‫ابتسمت ثم الذت بالصمت‪ ،‬السكوت عالمة الرضا‪ ،‬وتلفتت‬

‫خلفها كأنها خائفة‪ ،‬ثم غادرتني وهتفت في عجلة من أمرها‪:‬‬ ‫‪34‬‬


‫ـ إلى اللقاء الحافلة وصلت‪.‬‬ ‫إنني أعرف عائلتها المثابرة القاطنة الحطية في كوخ بالقرب من‬ ‫المسجد بأمتار‪ .‬لكن ظروفي صعبة وكيف أستطيع توفير الصداق‬ ‫وتكاليف العرس الباهظة؟‪.‬‬

‫‪35‬‬



‫(‪)4‬‬ ‫عندما ترجع بذاكرتك عشرات السنوات إلى الوراء وتتذكر الطفولة‬ ‫في الحطية‪ ،‬التي لم تكن في غابر السنين‪ ،‬سوى نجع صغير من‬ ‫الخيام‪ ،‬وبيوت الشعر المتراصة‪ ،‬في وادي الحطية كان األهالي‬ ‫يمدون المجاهدين بالمؤن والسالح‪.‬‬

‫بعد سنوات تحولت الحطية إلى أكواخ من الصفيح‪ ،‬أو بيوت‬ ‫من صناديق الذخيرة الفارغة‪ ،‬وبضعة بيوت من الحجارة يعدون‬ ‫على أصابع اليد الواحدة‪ ،‬تكاثر سكانها بمرور السنوات انتشرت‬ ‫األكواخ على الربوة‪ ،‬من الشرق تحدها سبخة ثم الطريق الرئيسي‬ ‫المتجه نحو الشرق‪ ،‬وشماال الطريق الساحلي المتجه نحو الغرب‪،‬‬ ‫وجنوبا تلك المرتفعات‪ ،‬السكان خليط من مختلف القبائل‪ ،‬تنتشر‬ ‫أكواخهم حتى سوق العجاج في الغرب‪.‬‬ ‫تبدو أكواخ الصفيح متالصقة‪ ،‬ذات نوافذ صغيرة واطية‪ ،‬تفصل‬ ‫بينها أزقة ترابية ضيقة‪ ،‬ومسارب من المجاري‪ ،‬وتنام الحطية باكرا‬ ‫عل فنارات الكيروسين الخافتة‪.‬‬ ‫‪37‬‬


‫وجدت نفسي أعيش في مدخل الحي الفقير‪ ،‬في كوخ صغير‬ ‫وإلى الغرب من كوخنا كانت تقع منازل عبدالله بوسالم‪ ،‬وبوشوال‬ ‫الشلوي‪ ،‬وعائلة البرزان‪ ،‬ويوسف بوريسة‪ ،‬ومنازل العمامات‬ ‫عمرالعمامي ـ محمدالعمامي عبدالسالم ـ ثم منازل أخرى تمتد‬ ‫حتى سوق العجاج‪ .‬وشمالنا أكواخ عوض بوقفة والسنوسي بوالرايقة‬ ‫وعبدالقادر الشافعي وعثمان الشلوي وغيرهم‪ .‬وإلى الشرق أكواخ‬ ‫سعيد جبريل‪ ،‬والصادق القطعاني‪ ،‬والفقيه سالم‪ ،‬ورقية العدلية ثم‬ ‫الشارع الرئيسي الذي يشق منتصف الحطية‪.‬‬

‫كانت منازل الحطية الخرسانية محدودة ال تتعدى أصابع اليد‬ ‫الواحدة‪ :‬منزل الغرياني فضل الله ومنزل علي العمامي ومنزل‬ ‫صالح بوهيوب وغيرهم‪ ،‬وتمتد إلى الجنوب الشرقي منازل عائالت‬ ‫الهنيدو السنينات وعائلة النيبو ثم الطريق الساحلي المتجه شرقا‬ ‫حتى امساعد‪.‬‬ ‫تلك كانت الحطية في بداية الستينيات‪ ،‬ثم مع مضي السنوات‬ ‫أخذت العائالت الوافدة تتكاثر عليها‪.‬‬

‫ترعرعت في حي الحطية‪ ،‬نشأت وسط أسرة صغيرة فقيرة‪ ،‬أب‬ ‫طيب نحيل العود متوسط القامة‪ ،‬يصحو من الصباح الباكر كل يوم‪،‬‬ ‫يتوضأ يصلي الصبح يتناول إفطاره‪ ،‬يرتدي معطفه الباهت‪ ،‬يغدو إلى‬ ‫عمله في الحامية البريطانية مشيا على قدميه‪ ،‬قبل مغيب الشمس يعود‬ ‫إلينا بالبسكويت وخبز اإلنجليز الرطب‪ ،‬وأم ودودة قصيرة القامة‬ ‫ترعى شئوننا أنا وأخي الصغير‪ ..‬أشعر إن لي مكانة خاصة عندهما‬ ‫‪38‬‬


‫فأنا أول العنقود والطفل المدلل لديهما‪ ،‬ولم أولد وفي فمي ملعقة‬ ‫من ذهب أو فضة قبلي أنجبت أمي العديد من األبناء والبنات لكن‬ ‫لم تكتب لهم الحياة‪:‬‬ ‫تقول البطاقة إنني فالن وعشت في هذا المكان‬ ‫في كوخ قديم من الزنك والسقف خليط من الخشب‬ ‫به حجرتان بإحداهما يقطن الوالدان‬ ‫فقيران من كل شيء‬ ‫عدا طيبة النفس وعفتها ونقاء السريرة‬ ‫عشت طفولة بائسة فقيرة بجلبابي القصير وسروالي األبيض‪،‬‬ ‫كنت أهرول كل يوم مع إشراقة كل صباح إلى مكبات القمامة‬ ‫والوديان‪،‬حيث التقي برفاقي هناك‪ ..‬نبحث عن الدود األصفر في‬ ‫األماكن الرطبة‪ ..‬أنصب فخي المعدني في وادي الجدارية‪ ،‬بعد‬ ‫أن زودته بالدودة الصفراء السريعة الحركة‪ ..‬زرعته تحت التراب‬ ‫كاللغم‪ ..‬راقبت بعيني كل الطيور التي حطت‪ ..‬ما أن لمحت الطائر‬ ‫بوحمره يقف على الناطور حتى أخذت أطارده أقفز خلفه‪ ،‬أجثو‬ ‫على األرض أحبس أنفاسي خوفا من أن يطير‪ ،‬أخاطبه في خبث‬ ‫ودهاء بصوت عال‪:‬‬ ‫يا بوحمره عدي غادي‪..‬‬ ‫اشوي اشوي‪..‬‬ ‫‪39‬‬


‫شور الناطور‪..‬‬ ‫تلقى دودة‪..‬‬

‫دودة جاعور‬

‫صفراء وتدور‪.‬‬

‫وكأن الطائر كان يفهم لغتك وتنطلي عليه حيلتك‪ ،‬يظل يقفز‬ ‫ويتطاير حتي يقترب من الفخ المخفي في التراب‪ ،‬والذي ال يبدو‬ ‫منه شيء ظاهر سوى تلك الدودة الصفراء‪ ،‬هذا الطائر يتالعب‬ ‫بأعصابك دون أن يدري‪ ،‬يلتفت إلى أغلب االتجاهات‪ ،‬يصدر‬ ‫زقزقة‪ ،‬يقترب من الدودة يهجم عليها ينقرها عدة نقرات‪ ،‬يسحبها‬ ‫بمنقاره وفجأة ينطبق الفخ حول جسمه النحيل‪ ،‬يظل الطائر ينتفض‬ ‫مثيرا زوبعة من التراب فيما هو يطلق صرخاته محاوال الفكاك‪ ،‬لكن‬ ‫ال فائدة من كل ذلك‪ ،‬أصيح فرحا وسرعان ما أهرول نحوه أقبض‬ ‫عليه في زهو وانتصار‪ ،‬أخلصه من الفخ أذبحه بشفرة في يدي‪ ،‬ثم‬ ‫أبحث بعد ذلك عن طائر آخر‪ ،‬وقبل غروب الشمس أعود إلى كوخنا‬ ‫بثوبي الذي اتسخ وسروالي الذي تحول إلى اللون الرمادي‪ ،‬ومعي‬ ‫بضعة طيور صغيرة‪،‬عند باب الكوخ تقابلني أمي عند الباب غاضبة‪،‬‬ ‫وهي تحدق في قائلة‪:‬‬ ‫ـ وسخت ثوبك وسروالك يا وليدي بلعبك في الكناسة طوال‬ ‫النهار‪.‬‬

‫كنت ال أبالي بغضبها‪ ..‬أبحث عن علبة الكبريت‪ ..‬أقوم برمي‬ ‫‪40‬‬


‫العصافير على جمر كانون الحطب أمام الكوخ‪ ،‬بعد دقائق التهم‬ ‫لحمها أنا وأخي الصغير‪.‬‬

‫وعند انتهاء موسم صيد الطيور‪ ،‬في وادي بوحبلة ووادي الجدارية‬ ‫أو الحطية كنت أبدأ اللعب مع رفاقي بالبطش أو بتصاوير الفنانين‬ ‫والمشاهير‪ ،‬أو بتلك العربات الصغيرة‪،‬التي كنا نصنع عجالتها من‬ ‫علب الحليب الفارغة‪ ،‬أو مغاطي القازوزة‪ ،‬أو نلعب بكرة الجورب‬ ‫في سبخة الحطية أو نطارد الجرابيع في سبخة الحطية‪ ..‬عندما تختفي‬ ‫في سراديبها تمد يدك داخل تلك الحفرة‪ ،‬دون خوف من أن تلدغك‬ ‫عقرب أو يلسعك ثعبان‪ ،‬وتخرج اليربوع وتذبحه بشفرة الزجاج‪،‬‬ ‫وتشويه على نار حطب الرمث الهادئة‪ ،‬وتلتهمه في لذة ونشوة‪.‬‬ ‫كان والدي ينام مع أمي في غرفة‪ ،‬وأنام أنا مع أخي الصغير في‬ ‫الغرفة الثانية‪ ،‬كما أنجبت بعدي بسنوات طفلة صغيرة‪ ،‬كتبت لها‬ ‫الحياة هي األخرى‪ ،‬ثم أنجبت طفال آخرا حيث أصبحنا ثالثة أوالد‬ ‫وبنتا واحدة وسط كوخ كان غير مسقوف‪ ،‬وعندما يأتي الشتاء وتهطل‬ ‫األمطار بغزارة تمتلئ ساحة الحوش باألمطار‪.‬‬

‫تعرفت على المحالت التي كانت أمي ترسلني إلىها‪ ،‬لشراء‬ ‫الكيروسين والفحم والحليب والزيت والسكر والشاي والطماطم‬ ‫والملح والجبن وغيرها‪ ،‬والتي من بينها محل العجيلي الذي يسكن‬ ‫هو وزوجته خديجة في دار إسمنتية وحالقي من الصفيح‪ ،‬ومحل‬ ‫ابعيو‪ ،‬ومجزرة بالقاسم الوحيدة في الحطية‪ ،‬ومحل بن طاهر‪ ،‬ودكان‬ ‫بن عيسي‪ ،‬ودكان القري الزواري‪ ،‬ودكان عقيلة الشاعري‪ ،‬ودكان‬ ‫‪41‬‬


‫الدايخ‪ ،‬ودكان الفقيه سالم‪ ،‬ودكان الصادق ومقهى النعيري ومقهي‬ ‫اللبيدي‪.‬‬

‫كان الحاج هيبة يذبح الذبيحة في الصباح ويدع محمد عطيه‬ ‫يقوم بسلخها ويخفي الرأس ويأخذونها إلى الشارع الرئيسي ويظل‬ ‫ينادي شياب الحطية دعبس وخليل الشاعري وعطيه بوخطوة وصالح‬ ‫بوامهدي وابراهيم بوعبد ربه والمقرحي والنعيري ولبيدي وغيرهم‪:‬‬ ‫ـ تعالوا ياهوه جدي اصغير مافيش اسمح منه ع الكسكسي‪.‬‬

‫كانت الحطية في تلك السنوات عائالتها معروفة أكواخها مشرعة‬ ‫األبواب دائما‪ ..‬شيوخها يفترشون األرض بالقرب من مسجدها‬ ‫الوحيد يتجاذبون أطراف الحديث‪ ،‬أو يلعبون الشيزة بعد صالة العصر‬ ‫وحتى آذان المغرب‪ ،‬ينهضون يتجهون نحو المسجد‪ ،‬يؤدون الصالة‬ ‫جماعة‪ ،‬ثم ينصرفون إلى بيوتهم‪ ..‬حيث تنام الحطية بعد العشاء على‬ ‫أضواء فنارات القاز الخافتة‪.‬‬

‫في الحطية كانت توجد عدة صنابير للمياه في وسط الحي‬ ‫واحدة أمام كوخ امهدي‪ ،‬وثانية في الجنوب الشرقي أمام كوخ‬ ‫خليل الشاعري‪ ،‬و ثالثة في الغرب أمام كوخ بوواجده‪ ،‬كانت تلك‬ ‫الشيشمات هي ملتقى للشباب والشابات‪ ،‬الذين يأتون من أجل جلب‬ ‫المياه لبيوتهم‪،‬سواء في براميل صغيرة أو كبيرة‪ ،‬وكان من واجباتي‬ ‫جلب مياه الشرب من الشيشمة القريبة منا إلى أهلي‪.‬‬

‫مع ضحى كل يوم جمعة كنت ألمح العربات العائدة من المدينة‪،‬‬ ‫‪42‬‬


‫محملة باألهالي أو براميل المياه العذبة‪ ،‬أو الحطب تشق طريقها وسط‬ ‫الحطية‪ ،‬مثل‪ :‬عربة بوحرق‪ ،‬وعربة بوالشقرا‪ ،‬وعربة سي رحومة‪ ،‬الذي‬ ‫كان يقوم بنقل أكياس الدقيق لكوشة الحطية الوحيدة‪.‬‬

‫وعربة قاز سي المقرحي كان يجرجرها حصانه البني اللون‬ ‫وصهريجها المطلي باللون األحمر عالقة ببطنه عجلتي الندروفر‪..‬‬ ‫مكتوب على جانبي الصهريج بالخط الرديء كلمة «قاز» والصنبور‬ ‫النحاسي في الخلف‪ ..‬سي المقرحي طويل القامة قمحي البشرة‬ ‫ينادي بصوت جهوري‪ :‬قاز‪ ..‬قاز ‪.‬‬

‫تبدأ مسيرة سي المقرحي اليومية من حي الحطية بروح وثابة‬ ‫مرحة‪ ..‬الحطية الستينيات التآلف‪ ،‬العفوية‪ ،‬الروح الطيبة‪ ..‬هو يبيع‬ ‫القاز لألهالي في الحطية واألحياء المجاورة‪ ،‬التي لم تدخلها الكهرباء‬ ‫بعد‪ ،‬كان القاز من األشياء الضرورية للطهو والفنارات‪ ،‬وحرق‬ ‫النفايات ومطاردة الصراصير والبق‪ ،‬وتستعمله نساء الحطية في‬ ‫كد الشعر وتسريحه‪ .‬سي المقر حي كان يقطن في حوش واسع في‬ ‫الحطية بجواره حوش عائلة ارحيمة‪ ،‬وعائلة لبيدي‪ ،‬وجمعة الشلوي‬ ‫وغيره وللمقرحي العديد من األبناء والبنات‪ ،‬كانت تربطني بهم عالقة‬ ‫وطيدة وصداقة متينة‪ ،‬خاصة مع ابنهم محمود‪ ،‬الذي كان في مثل‬ ‫سني وزميلي في مدرسة الضاحية‪ ،‬كانت عمتي مبروكة الطويلة القامة‬ ‫تنهض باكرا يوم الجمعة من كل أسبوع‪ ،‬تقدم لنا العصيدة بالرب في‬ ‫قصعة من الخشب ما ألذ طعمها‪.‬‬

‫قبل الظهيرة يفك محمود قيد حصان والده البني اللون‪ ،‬حيث‬ ‫‪43‬‬


‫نتجه به نحو كورنيش طبرق‪ ،‬نقوم بالسباحة‪ ،‬بينما محمود يقوم بغسل‬ ‫الحصان بمياه البحر‪ ،‬أوقات جميلة كنا نقضيها على شاطيء البحر‪،‬‬ ‫نصطاد األسماك وننعم بالسباحة في مياه البحر الزرقاء‪ ،‬والرمال‬ ‫الناعمة البيضاء في غبطة وسعادة‪.‬‬

‫تظل سنوات الطفولة بالنسبة لي مرجعا للحنين وتربة خصبة‬ ‫للذكريات الجميلة‪ ..‬طفولتي ال تختلف عن غيري من الليبيين الفقراء‬ ‫مرت بي سنوات عجاف من الفقر والعوز والفاقة‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫(‪)5‬‬ ‫عصر ذلك اليوم انقلبت حياتي رأسا على عقب‪ .‬يوم أن التقى أبي‬ ‫بجارنا الحاج سميع أمام الكوخ‪ ،‬وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث‪،‬‬ ‫عندها أقبلت عليهما سلمت علي جارنا‪ ،‬ناولت أبي صفرة الشاي‬ ‫و فردة خبز التنور‪ ،‬وقفت بالقرب منهما‪ ،‬حدق في الجار طويال‪ ،‬ثم‬ ‫التفت إلى والدي متسائال‪:‬‬ ‫ـ ولدك هذا كم عمره؟‬

‫أجابه أبي‪:‬‬

‫ـ تجاوز العشر سنوات‪.‬‬

‫ـ ولماذا لم تدخله المدرسة؟‪.‬‬

‫ـ هل هناك مدرسة تقبله وهو في مثل هذا السن؟‬

‫ـ نعم هناك ال تحمل هما‪.‬‬

‫ـ كيف‪ ..‬كيف؟‬

‫‪45‬‬


‫ـ األسبوع القادم سوف أخذه معي‪ ،‬وأسجله لك في المدرسة‬ ‫القرآنية‪.‬‬

‫ـ بارك الله فيك يا حاج سميع‪.‬‬ ‫أحسست بالخوف والرهبة من المدرسة والفقيه والعصا‪.‬‬ ‫وعلى العشاء في تلك الليلة استمعت إلى أمي‪ ،‬وهي تتحدث‬

‫إلى أبي متسائلة‪:‬‬

‫ـ ليش ماندخله مدرسة المعارف؟‬ ‫ـ ال القرآنية خير له بيش يحفظ القرآن ويتخرج منها فقيه‪.‬‬ ‫والتفت إلى أبي وهو يسألني‪:‬‬ ‫ـ ايش رايك؟‬ ‫هززت رأسي بالموافقة‪ ..‬بينما أنا في الواقع كنت أكره الدراسة‬

‫والمدرسة‪ ،‬واالستيقاظ المبكر والحرمان من اللعب‪ ،‬واصطياد‬

‫العصافير في مكبات القمامة‪.‬‬

‫فأغتبط والدي وضمني إليه قائال‪:‬‬ ‫ـ الله يرضي عليك يا وليدي‪.‬‬ ‫أحس من أمي رأفة ورحمة‪ ،‬وفي نفس الوقت إذا أخطأت غلظة‬

‫وقسوة‪ ،‬ومن أبي لينا ورفقا‪ ،‬وكنت مشاغبا وشقيا في طفولتي كثيرا‬

‫ما اشتكى أترابي مني إلى أمهاتهم‪ ،‬وجاؤوا إلى أمي يشكونني‪،‬‬ ‫‪46‬‬


‫كانت أمي تهددني بأشد العقوبات‪ ،‬إن أنا عاودت ضرب أحد من‬ ‫أبناء الجيران‪ .‬ولكن ما جاء به جارنا الحاج سميع‪ ،‬أصبح مصدر‬ ‫قلق وخوف بالنسبة إلى‪.‬‬ ‫في الصباح مع بداية األسبوع ارتديت مالبسي وحذائي الجديد‪،‬‬ ‫حملت على كتفي كيس الدقيق الذي جعلوا منه حقيبة لي‪ ،‬وبداخله‬ ‫بضعة كراسات وأقالم‪ ،‬كنت أجرجر قدمي في تثاقل وبطء‪ ،‬خلف‬ ‫جارنا سميع في اتجاه المدينة‪ ،‬كمن هو ذاهب إلى حتفه‪ ،‬بعد ساعة‬ ‫دخلنا المدرسة القرآنية‪ ،‬الجاثمة هناك في أقصى الشرق‪ ،‬دلف بي‬ ‫عمي سميع نحو الفصل مباشرة‪ ،‬ما أن فتح الباب ودخل على الفقيه‪..‬‬ ‫يجلس على كرسيه الخشبي‪ ..‬في مقدمة الفصل‪ ..‬يرتدي كاط ملف‪..‬‬ ‫وجرد أبيض وشنة حمراء‪ ..‬يبدو في مقتبل العمر‪ ،‬بيده عصا رفيعة‬ ‫بجواره فلقة وهي عبارة عن عصا طويلة غليظة في وسطها حبل مثبت‬ ‫من طرفيه‪ ،‬صوب التالميذ أعينهم النارية نحوي‪ ،‬وكأنهم يطلقون‬ ‫علي الرصاص‪ ،‬أحسست بالخوف يعتريني‪ ،‬تمنيت العودة من حيث‬ ‫أتيت‪ ،‬لكن ال مفر لي‪ ،‬لقد وقع الفأس في الرأس‪ ،‬تلفت حولي وقلبت‬ ‫بصري في وجوه التالميذ الذين راحوا يتبادلون الهمس والتغامز علي‪،‬‬ ‫نهرهم الفقيه وأمرهم بالتحديق في األلواح التي أمامهم‪ ،‬ومواصلة‬ ‫القراءة بصوت عال‪ ،‬خرج الحاج سميع بعد أن أوصى بي الفقيه‪،‬‬ ‫الذي أمرني بالجلوس في الدرج األمامي‪ ،‬إلى جوار تلميذ كان يقرأ‬ ‫القرآن بدون لوح وبإصبعه يلوي شعرات في مقدمة رأسه‪ ،‬عرفت فيما‬ ‫بعد انه كفيف البصر‪ ،‬يحفظ القرآن دون استخدام اللوح‪ ،‬بعد دقائق‬ ‫‪47‬‬


‫استدعاني الفقيه والتقط لوحا كان إلى جواره‪ ،‬غمد الفقيه قلم القصبة‬ ‫في دواة الحبر المصنوع من صوف األغنام المحروق‪ ،‬شرع يكتب‬

‫ويقرأ بصوت مرتل وأنا أردد خلفه ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ‬ ‫ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ‬ ‫ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ‬ ‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﴾‪.‬‬

‫سلمني بعدها اللوح‪ ،‬أمرني بالعودة إلى مقعدي إلى جوار التلميذ‬ ‫الكفيف‪ ،‬وقراءة السورة عدة مرات لتسميعها عليه في الغد‪ ،‬شرعت‬ ‫أقرأ بصوت عال مثل زمالئي‪ ..‬أحملق في لوحي‪ ،‬تنبهت إلى أن‬ ‫الفصل قد امتأل بهدير أشبه ما يكون بخلية النحل‪ ..‬التالميذ يتمايلون‬ ‫يمنة ويسرة وبعضهم إلى األمام‪ ،‬أدرت نظري أحملق في زمالئي‬ ‫فإذا هم غارقون في تجربة الحفظ‪ ،‬فأخذت أحفظ ما كتبه لي الفقيه‪،‬‬ ‫وبعد مضي ساعة أو أكثر صلصل جرس المدرسة‪ ..‬معلنا استراحة‬ ‫اإلفطار وضعنا األلواح في نهاية الفصل‪ ..‬هرولنا نحو المقصف‪...‬‬ ‫اصطففنا في طابور طويل الستالم سندوتشات الحلوى المعجونة‪...‬‬ ‫ومن يومها ودعت رغيف الطماطم بالزيت الذي كنت أخطفه خلسة‬ ‫من أمي‪ ،‬وعندما تفطن لي كانت تنهرني وتصيح في غاضبة‪:‬‬ ‫ـ يا وليدي كملت علينا الطماطم والزيت‪.‬‬

‫أخذت ألعب مع رفاقي الجدد في ساحة المدرسة‪ ،‬حتى رن‬ ‫الجرس معلنا انتهاء استراحة اإلفطار‪ ،‬دخلنا الفصول من جديد‪،‬‬ ‫اختفى الفقهاء‪ ،‬ودخل علينا معلم اللغة العربية‪ ،‬كان طويل القامة‬ ‫‪48‬‬


‫مثل العب السلة‪ ،‬يرتدي بذلة رصاصية وحذاء اسود لما ًعا‪ ،‬قمنا‬ ‫وقوفا جللنا الصمت والخوف ولم نجلس على مقاعدنا حتى أمرنا‬ ‫بالجلوس‪ ،‬اتجه نحو السبورة وبدأ يكتب بالطباشير على السبورة‪:‬‬ ‫بالد العرب أوطاني وكل العرب اخواني‪.‬‬

‫وشرع يحفظنا ذلك النشيد‪ ،‬ثم أمرنا أن يكتب كل تلميذ النشيد من‬ ‫السبورة في كراسته ويحفظه‪ .‬الحصة الثانية كانت ألستاذ الحساب‬ ‫أطل علينا هو اآلخر مع بداية الحصة‪ ،‬متجهم الوجه ضخم الجثة‬ ‫أنيق الهندام‪ ،‬على عينيه نظارة‪ ،‬بيده عصا رفيعة‪ ،‬نهض التالميذ حدق‬ ‫يفتش على األظافر الطويلة‪ ،‬كل طالب يديه ممدودتان أمامه‪ ،‬يحملق‬ ‫فيهما‪ ،‬من يجد أن أظافره طويلة يجلده بالعصا ثالث جلدات‪ ،‬أما أنا‬ ‫فقد حدق في أظافري بغضب‪ ،‬وأمرني بتقليمها في الغد‪ ،‬ألنه عرف‬ ‫إنني هذه أول حصة لي عنده‪ ،‬ثم دعانا للجلوس وكتب لنا جدول‬ ‫الضرب رقم اثنين‪ ،‬وأمرنا بكتابته في الكراسات وحفظه لتسميعه في‬ ‫الغد‪ ،‬أما الحصة األخيرة فقد كانت ألستاذ التربية الدينية‪ ،‬الذي شرع‬ ‫يشرح لنا كيفية الوضوء والصلوات الخمس في اليوم‪.‬‬ ‫ومنذ ذلك اليوم تبددت مخاوفي وقلقي‪ ..‬أحببت االستيقاظ‬ ‫المبكر واالنطالق نحو المدرسة كل صباح من الحطية على قدمي‪..‬‬ ‫أحببت المدرسة ورفاقي الجدد عرفت كيف أفك طالسم الكلمة‬ ‫وحروفها‪ ..‬أمحو اللوح بماء الصنبور بعد الحفظ ودهنه بلطيخ‬ ‫الطفلة‪ ،‬أدعه في الشمس ريثما يجف‪ ،‬أعاود الكتابة بقلم القصبة‬ ‫بقية آيات السورة‪.‬‬ ‫‪49‬‬


‫في االستراحة كنا نقف في طوابير أمام المقصف يوزعون علينا‬ ‫اإلفطار بالمجان‪،‬أرغفة محشوة بالحلوى الطحينية‪ ،‬أو التن أو المربى‪،‬‬ ‫باإلضافة إلى اإلفطار كانوا يوزعون علينا كل نهاية أسبوع أكياس التمر‬ ‫والكاكاوية (الفول السوداني)‪ .‬من مميزات المدرسة القرآنية تلك‪،‬‬ ‫انها كانت توفر لنا التغذية المدرسية بانتظام‪.‬‬

‫مضت األعوام الدراسية كنت جادا في حفظ سور القران الكريم‪،‬‬ ‫وهكذا كنت أصغي إلى دروس أساتذتي في التربية الدينية واللغة‬ ‫العربية‪ ،‬والتوحيد والتجويد ومبادئ الحساب والعلوم والجغرافيا‬ ‫والتاريخ‪ ،‬كان المنهج المصري هو المتبع حينذاك في الدراسة ومن‬ ‫المواضيع الطريفة التي كنا ندرسها «القرود وبائع الطرابيش‪ ...‬سرحان‬ ‫بين الغيط والبيت‪ ...‬الثور والساقية‪ ،‬وغيرها»‪.‬‬

‫‪50‬‬


‫(‪)6‬‬ ‫كنت أخرج صباحا كل يوم من كوخنا كعادتي‪ ،‬ماعدا أيام الجمع‬ ‫والعطالت الرسمية‪ ،‬حامال حقيبتي قاصدا مدرستي الجاثمة هناك‪،‬‬ ‫في أقصى الشرق مع غيري من الطالب الذين يدرسون في المدينة‪،‬‬ ‫وكذلك األهالي القاصدين أعمالهم كانوا يسيرون على أقدامهم‬ ‫من سبخة الحطية في األيام العادية‪ ،‬طوال فصول الربيع والصيف‬ ‫والخريف‪ ،‬أما في فصل الشتاء فتتحول السبخة إلى بحيرة من المياه‪،‬‬ ‫ال يستطيع أحد عبورها حتى تجف بعد شهر أو أكثر‪ ،‬كنا نتجه نحو‬ ‫الطريق الرئيسي المتجه نحو الشرق‪.‬‬

‫كانت حركة السيارات محدودة في المدينة‪ ،‬أما الحافالت‬ ‫فال وجود لها إال عند الجيش البريطاني‪ ،‬كنت مع غيري من المارة‬ ‫أصعد المرتفع أعلى التلة الجبلية حيث شيدت مباني المدينة القديمة‬ ‫أعبر شارع الجيش المؤدي إلى الحامية‪ ،‬وعلى جانبيه السواني الغنية‬ ‫بالخضروات وأشجار النخيل والكروم‪ ،‬أمر بالقرب منزل وورشة‬ ‫عائلة جملي والذي كان مقهى قصار سابقا‪ ،‬أصعد نحو شارع‬ ‫‪51‬‬


‫الكيتكات حيث طاحونة بوسيف الوحيدة في المدينة‪ ،‬والتي كان‬ ‫يفد إليها بعض سكان القرى القريبة والضواحي‪ ،‬يحملون الشعير‬ ‫على دوابهم لطحنه‪ ،‬يربطون حميرهم في ماسورة كبيرة في الحبس‬ ‫الذي كان يعرف باسم وادي رامانيولي اإليطالي‪ ،‬والذي كان بالقرب‬ ‫من مساكن آل طاطاناكي‪.‬‬

‫تلك الطاحونة أخبرني والدي عن صاحبها الحاج بوسيف‪ ،‬الذي‬ ‫شرع في إحدى سنوات الجفاف يستورد القمح من الخارج‪ ،‬وكيف‬ ‫كان يقوم بطحنه هو وأبنائه وبيعه لألهالي بسعر رمزي‪ ،‬حتى اجتاز‬ ‫األهالي عام الجفاف بسالم‪.‬‬

‫ما أن أجتاز الطاحونة ببضعة أمتار حتى تلوح لي البيوت‬ ‫العصرية على جانبي الشارع‪ ،‬والتي كانت تقطنها العائالت‬ ‫االنجليزية التي يعمل أربابها في الحامية البريطانية‪ ،‬أو في العدم‬ ‫الواقعة إلى الجنوب الشرقي للمدينة بحوالي ‪28‬كيلو متر‪ ،‬ثم‬ ‫سوق الخضروات الذي كان يمثل مركز المدينة التجاري وتباع‬ ‫فيه الخضروات التي كانت تجلب إليه من أودية العودة والوعير‬ ‫وطبيرق والفاكهة واللحوم والسمن واأللبان والحصر واألواني‬ ‫الخزفية واألكلمة وتحيط به شوارع رئيسية‪ ،‬وهي شارع عمر‬ ‫المختار وشارع زهير بن قيس وشارع الشيخ المبري‪ .‬وكان للسوق‬ ‫بابان بابه الشرقي يطل على شارع عمر المختار وتواجهه سينما‬ ‫حلمي‪ ،‬وبابه الغربي يطل على شارع زهير بن قيس‪ ،‬بعدها أدخل‬ ‫شارع االستقالل‪.‬‬ ‫‪52‬‬


‫وفي أيام كنت أسير عبر مدخل المدينة من شارع الشيخ المبري‬ ‫مارا بفندق الجبل األخضر‪ ،‬وقد شيد منذ االحتالل االيطالي وعرف‬ ‫ً‬ ‫سابقا باسم البيرقو‪ ،‬ثم فندق بالس هوتيل‪ .‬أمر أمام عيادة األسنان ثم‬ ‫مستشفى حبشي ثم مبنى بريد طبرق القديم ثم أدخل شارع االستقالل‪،‬‬ ‫تلوح لي تلك الكنيسة الكاثوليكية بأجراسها العالية وراهبها الذي‬ ‫كنا عندما نراه يقف أمام بابها الكبير نحك رؤوسنا حتى ال نصاب‬ ‫بالثعلبة‪ ،‬هكذا كنا نعتقد‪.‬‬ ‫أسير متجها نحو مدرستي الجاثمة خلف قصر الملك إدريس‪،‬‬ ‫وثمة بضعة بيوت لرجال الحرس الملكي‪.‬‬

‫الدراسة كانت على فترتين فترة الصباح وفترة ما بعد العصر‪ ،‬قبل‬ ‫المغرب تتوقف الدراسة المسائية‪ ،‬وينصرف التالميذ إلى بيوتهم‪،‬‬ ‫كنت أحث الخطى عائدا وأنا أسير على قدمي في اتجاه الغرب أدخل‬ ‫شارع االستقالل‪ ،‬أمر من أمام عمارة مصوراتي بوالحولة‪ ،‬ومسجد‬ ‫العتيق ومدرسة القوس طبرق االعدادية‪ ،‬أنحدر نحو سبخة الحطية‬ ‫وفي أقل من ربع ساعة سرعان ما أصل كوخنا‪.‬‬

‫تآلفت مع الجو الدراسي في المدرسة القرآنية‪ ،‬أفتح عيني‬ ‫الفضوليتين وأذني المرهفتين‪ ،‬أعتمد على نفسي في كل شيء‪.‬‬ ‫أصبحت أعشق المدرسة ولي أصدقاء فيها‪ ،‬وأفضلها على البقاء في‬ ‫البيت أو اللعب في الشوارع واألزقة‪.‬‬

‫ذات فصل شتائي أجدبت البطنان‪ ،‬وتأخر سقوط األمطار‪،‬‬ ‫فأخرجنا الناظر نحن طالب المدرسة القرآنية وبعض الفقهاء إلى‬ ‫‪53‬‬


‫ساحة المدرسة‪ ،‬وانتظمنا في صفوف حيث تحدث إلينا المدير‬

‫طال ًبا منا المحافظة على النظام أثناء السير على األقدام في شوارع‬ ‫المدينة‪ ،‬من أجل الدعاء لله أن ينزل على البطنان الغيث النافع من‬

‫أجل محصول وفير من القمح والشعير‪ ،‬وخرجنا نسير على أقدامنا‬ ‫ومعنا بعض الفقهاء‪ ،‬حيث مررنا من أمام الكنيسة‪ ،‬ثم شارع الشيخ‬ ‫المبري وسط المدينة ونحن نردد بصوت عال‪:‬‬ ‫آباؤنا الكبار ونحن الصغار‪.‬‬ ‫ارحمنا يا غفار وأرزقنا باألمطار‪.‬‬ ‫حتى وصلنا الساحة التي كانت تقع أمام مسجد الملك‪ ،‬أدينا‬

‫صالة االستسقاء ومعنا بعض األهالي‪ ،‬ثم عدنا إلى المدرسة من‬

‫جديد‪ ،‬لكن الناظر لم يدعنا نكمل اليىوم الدراسي‪ ،‬فقد صرفنا وأمرنا‬

‫بالعودة إلى بيوتنا‪.‬‬

‫وعندما ختمت النصف األول من القرآن الكريم ونجحت إلى‬

‫الصف الخامس االبتدائي‪ ،‬أخذني أبي معه إلى المدينة‪ ،‬واشترى‬

‫لي دراجة جديدة من محل لصيفر في وسط المدينة‪ ،‬عدت يومها‬ ‫مغتب ًطا سعيدً ا وأنا أقودها تارة ووالدي يسير إلى جواري‪ ،‬وتارة‬ ‫امتطيها إلى أن وصلنا سبخة‪ ،‬كنت أتعثر في البداية لكن مع تكرار‬

‫السقوط‪ ،‬سرعان ما تعلمت قيادتها واجتزت يومها أبي الذي يسير‬

‫على قدميه بأمتار ثم انتظرته ريثما وصلني سمعته يومها يدندن ببيت‬

‫من سيرة الهاللية بصوت عال‪:‬‬

‫‪54‬‬


‫ياما أنوصيك ياما نقولك سعد ليال ما لوالي دام‬

‫تصبح ناسيني وناسي وصاتي والوي علي الكريد حرام‬

‫لم يكن أبي يتدخل في شئوني الخاصة‪ ،‬أو يقسو علي تاركا‬ ‫لي الحبل على الغارب‪ ،‬فهو يكدح في العمل في الحامية يوم ًيا‬ ‫من الصباح‪ ،‬وال يعود إلينا إال قبل غروب الشمس بقليل‪ ،‬كل‬ ‫دينارا في الشهر‪ ،‬وأمي هي‬ ‫ذلك من أجل راتب ال يتعدى ثالثين ً‬ ‫األخرى تهتم برعاية شئون البيت والطهي‪ .‬وبعد أن تعلمت ركوب‬ ‫الدراجة أصبحت أذهب لمحل عمي األصيفر لتأجير الدراجات‬ ‫في المدينة‪.‬‬ ‫كانت المدرسة القرآنية الوحيدة في المدينة‪ ،‬طالبها خليط‬ ‫من أبناء عائالت المدينة واألحياء المجاورة‪ .‬الفصل ال يتعدى‬ ‫العشرين طالبا‪ .‬ال نعرف بعضنا في تلك المدرسة إال من خالل‬ ‫أسمائنا فقط‪.‬‬

‫كنت جادا في االستماع إلى أساتذتي في اللغة العربية والتربية‬ ‫الدينية‪ ،‬وفي التوحيد والتجويد ومبادئ الحساب والعلوم والتاريخ‬ ‫والجغرافيا‪ ..‬حفظت أجزاء من القرآن على يدي فقيه الفصل‪ ،‬وفي‬ ‫الصف الخامس التقيت بزميل تعرفت عليه‪ ،‬كان أسمر البشرة نحيل‬ ‫العود‪ ،‬أجعد الشعر يدعى صالح‪ ،‬بعد أن يتم تسريحنا ظهرا من‬ ‫المدرسة‪ ،‬يدعوني للغداء معه في بيته القابع خلف فندق بالس هوتيل‬ ‫في مدخل المدينة‪ ،‬في شقة صغيرة هناك‪ ،‬وبعد شرب الشاي يأتي‬ ‫الصبي بآلة البيانو الصغيرة‪ ،‬ويظل يعزف عليها لدقائق مقلدا في الغناء‬ ‫‪55‬‬


‫المطرب فريد األطرش والمطرب محمد عبدالوهاب‪ ،‬ثم نرجع معا‬ ‫من جديد إلى المدرسة مع العصر‪ ،‬الستكمال تالوة وحفظ القرآن‬ ‫الكريم على يدي الفقيه رجب الزليتني‪ ،‬وقبيل غروب الشمس يتم‬ ‫تسريحنا من المدرسة والتفرق إلى بيوتنا‪ ،‬وفي بعض األيام خاصة‬ ‫في نهاية األسبوع يوم الخميس‪ ،‬كنت أدخل مع بعض األصدقاء‬ ‫سينما حلمي التي كانت تقع أمام فندق الخضراوات‪ ،‬مقابل مطعم‬ ‫وبار فؤاد‪ ،‬أما في أيام الجمع كان العرض للنساء عند الثالثة بعد‬ ‫الظهر‪ ،‬وقد قسمت دار العرض إلى دورين‪ ،‬دورعلوي درجة أولى‬ ‫للعائالت والذين حالتهم المادية ميسورة‪ ،‬ودور أرضي درجة ثانية‬ ‫للشباب والصغار‪ ،‬زودت السينما بكراسي حديثة وإضاءة ومعدات‬ ‫تشغيل‪ ،‬كان الذي يحجز تذاكر الدخول من خالل شباك صغير‪ ،‬يقال‬ ‫له عطيه‪ ،‬أما خميس التاورغي فكان يصعد الدور العلوي لتشغيل‬ ‫السينما وبداية العرض‪.‬‬ ‫تذكرت كيف دخلت أنا وصديقي صالح الفيلم‪ ..‬تناولنا‬ ‫سندوتشات التن بالهريسة‪ ،‬ومشروب صداقة في مقهى على‬ ‫العمامي‪ ..‬من أشهر األفالم التي شاهدتها الفيلم الهندي من أجل‬ ‫أبنائي‪ ،‬الذي استمر يعرض لعدة أسابيع في تلك الدار‪ ،‬كما شاهدنا‬ ‫العديد من األفالم اإليطالية مثل هرقل وماشيستا واألبطال العشرة‪،‬‬ ‫وأفالم الكاو بوي واألفالم المصرية‪.‬‬ ‫كان ازعيط دائما يقف أمام سينما حلمي بصندوقه الخشبي الذي‬ ‫يربطه بخيط حول رقبته وبداخله الكاكاوية الفول السوداني‪ ،‬والزريعة‬ ‫‪56‬‬


‫اللب ومستكة السبع‪ ،‬تذكرت صاحب الدار حلمي طاطاناكي يشاهد‬ ‫دائما العروض‪ ،‬وقد خصص له مقعدً ا في المقدمة‪ ،‬تخطى العقد‬ ‫السادس من عمره متوسط القامة‪ ،‬نحيل العود أصلع الرأس‪ ،‬بجواره‬ ‫يجلس ميلود المشرف الذي يعطف عليه دائما‪ ،‬يدخله السينما مجانا‪،‬‬ ‫بيد كل واحد منهما كيس الزريعة أو الكاكاوية‪ ،‬وبعد انتهاء العرض‬ ‫كنا نسأله‪:‬‬ ‫ـ ماهو رأيك في الفيلم؟‬

‫ونحن نمزح معه فيجيبنا بابتسامة مرددا عبارته الشهيرة التي كان‬ ‫دائما يكررها لنا قائال‪:‬‬ ‫ـ هذا فيلم جبار‪.‬‬

‫كما كنا ندخل أيضا سينما الزني حيث مشاهدة األفالم األمريكية‬ ‫والمصرية واإليطالية‪ ،‬ونتذكر في اليوم الثاني في الفصل بعد مشاهدتنا‬ ‫لفيلم «حب حتى العبادة»‪ ،‬أنا وصديقي صالح وهو فيلم مصري تقوم‬ ‫ببطولته الفنانة شادية والفنان كمال الشناوي‪ ،‬والعديد من الممثلين‬ ‫المصريين اآلخرين‪ ،‬كيف أخذنا نكتب مشاهد الفيلم في كراسة‬ ‫صغيرة‪ ،‬أثناء إحدى الحصص بعد االستراحة‪ ،‬في اليوم التالي وكان‬ ‫األستاذ قد تغيب ولم يحضر‪ ،‬وفي فترة الدراسة كنت أذاكر دروسي‪،‬‬ ‫وأحفظ سور القران الكريم في الليل على ضوء الفنار‪ ،‬فلم تكن‬ ‫الكهرباء قد وصلت إلى الحطية بعد‪.‬‬

‫‪57‬‬



‫(‪)7‬‬ ‫نشاهد في أزقة الحطية التاجر الجوال اغنيوه‪ ،‬بقامته القصيرة‪،‬‬

‫ولحيته البيضاء‪ ،‬يدخل الحطية يمتطي حماره األبيض‪ ،‬كنا نتبعه‬

‫نحن الصغار من زقاق إلى آخر‪ ،‬كان يوزع علينا حلوى شاكير حتى‬ ‫نبتعد عنه وهو يردد‪:‬‬

‫خرشه برشه‪ ،‬عجوز وطرشه‪ ،‬تكنس من بره‪ ،‬ومن جوه حره حره‪.‬‬ ‫يحمل في خرجه على ظهر حماره‪ ،‬كل ما تحتاجه النساء من‬

‫عطور وكحل وأمشاط ولوبان‪ ،‬وحناء ومرايا ومناديل ملونة ومالبس‬

‫داخلية نسائية‪ ،‬وفاسوخ وجاوي وزيت شعر وسواري وسراويل نساء‪،‬‬

‫وعقاالت العنبر‪ ،‬وعدة تركيب لشعر المرأة المتزوجة لونها أحمر‪،‬‬

‫وللفتاة الغير متزوجة يكون لونها أسود‪.‬‬ ‫وهو يردد غناوته الشهيرة‪:‬‬

‫غرورات ياليامزهاكن محاذي شومكن‬ ‫‪59‬‬


‫كان يتذكر ابنه الشاب الوحيد الذي راح ضحية التربان األلغام‪ ،‬كما‬ ‫يردد غناوة علم أخرى في حزن وأسى‪« :‬إن جيتي علي لوهام حطي‬ ‫إقناع يا عين واهلبي»‪ ،‬أوغناوته «بينك وبين الدار حطي إقناع ياعين ع‬ ‫العمى» ‪ ..‬النساء والفتيات كن يخرجن إليه‪ ،‬يعترضن سبيله يمازحنه‬ ‫يتفحصن‪ ،‬ما معه في الخرج من خردوات ومالبس‪ ،‬يشترين منه‪ ،‬وهو‬ ‫يتنقل من زقاق إلى آخر‪ ،‬يعرض عليهن البضائع هذه رخيصة‪ ،‬وهذه‬ ‫جيدة كان يتوقف أمام البيوت يتفحصن النسوة بضاعته‪ ،‬بعضهن‬ ‫يشترين منه العطور والشبة والجاوي والمسك وغيره‪.‬‬

‫في طفولتي كنت شقيا أتشاجر دائما مع أترابي في الحطية‪ ،‬الذين‬ ‫كنت ألعب معهم في األزقة‪ ،‬أمهاتهم كنا دائما يحضرن إلى أمي‪ ،‬وهن‬ ‫والدي‪.‬‬ ‫يشتكين مني‪ ،‬فقد كنت طفال مشاكسا‪ ،‬الوحيد المدلل لدى‬ ‫ّ‬ ‫أبي كان يعتبرني طفال بريئا‪ ،‬وكذلك أمي‪.‬‬

‫في أيام القيلولة في الصيف كنت أقوم مع غيري من الصبية‬ ‫باصطياد الطيور‪ ،‬في مكبات القمامة ووادي بوجدارية‪ ،‬ووادي‬ ‫بوحبلة بالنشابة والرش من بندقية‪ ،‬وصيد البوري من عيون بردي‬ ‫الحطية‪ ،‬الواقع إلى الشرق من الطريق الرئيسي‪ ،‬وذلك بعد تعكير مياه‬ ‫العيون حتى تصبح المياه سوداء‪ ،‬وإلقاء حطب الرمث عندها تفقد‬ ‫أسماك البوري األكسجين‪ ،‬وتطفو فوق سطح الماء‪ ،‬وأحيانا تقفز‬ ‫فوق الحطب وعندها يسهل مسكها واصطيادها‪ ،‬أو عندما يرمي صياد‬ ‫جاالطينة في شاطيء طبرق‪ ،‬وبعد سماع الدوي العنيف كنا سرعان‬ ‫ما نغطس أنا والصافي وعبدالسالم اللتقاط األسماك الطافحة على‬ ‫‪60‬‬


‫سطح المياه‪ ،‬بعد ذلك نبحث عن ثمار التين في شجيرات مزرعة‬ ‫النيبو على الطريق الرئيسي‪.‬‬

‫عند الضحى من أيام الصيف كنا نلمح موكب الملك إدريس‬ ‫الجليل يمر من أمامنا‪ ،‬في سيارته المرسيدس السويداء‪ ،‬تمرق من‬ ‫أمامنا في اتجاه الشرق نحو استراحته في باب الزيتون‪ ،‬وأمامها‬ ‫دراجة نارية واحدة وهو يقبع في الكرسي الخلفي‪ ،‬يلوح لنا بيده‪،‬‬ ‫ونحن كنا نلوح له من بعيد‪ ،‬كما كنت ورفاقي نقوم بجمع النحاس‬ ‫واأللومونيوم‪ ،‬وحمله إلى التاجر المرغني في وسط المدينة‪ ،‬حيث‬ ‫كان يشتريه منا ببضعة قروش‪ ،‬ندخل بها دار عرض حلمي القريبة من‬ ‫مطعم وبار فؤاد أو دار عرض الزني‪ ،‬ونشتري بما تبقى لدينا شطائر‬ ‫التن بالهريسة‪ ،‬وزجاجات مشروب صداقة‪ ،‬وقراطيس الزريعة‬ ‫والكاكاوية من ازعيط‪.‬‬ ‫تقدم سكان الحطية بمذكرة للمتصرف الجديد في المدينة‪،‬‬ ‫يشتكون فيها من عدم وجود اإلنارة‪ ،‬وكذلك مد الحي بالمياه أسوة‬ ‫بغيره من األحياء‪ ،‬فوعدهم أنه سيعرض مذكرتهم هذه على المحافظ‪،‬‬ ‫في أول اجتماع له معه خالل األيام القادمة‪ ،‬وهو يأمل خيرا لحي‬ ‫الحطية وغيره من األحياء بالمدينة‪.‬‬

‫‪61‬‬



‫(‪)8‬‬ ‫عشت في الحطية‪ ،‬عرفت كل مسالكها وأزقتها‪ ،‬وصادقت جميع‬

‫صبيانها‪ ،‬وحفظت أسماء فتياتها وفتيانها‪ ،‬صرت أرتدي البنطلونات‬ ‫األمريكية‪ ،‬والقمصان المزركشة‪ ،‬اخشوشن صوتي‪ ،‬نبت بصدغي‬

‫زغب‪ ،‬عرفت بوادر المراهقة المبكرة‪ ،‬أصبحت اختلس النظر إلى‬

‫النساء‪ ،‬وأراقب فتيات الجيران من نافذة غرفتي الضيقة‪ ،‬أحلم بهن‬ ‫في خلوتي‪ ،‬وعندما تتحدث معي فتاة أو امرأة كنت أتلعثم وارتبك‬

‫في البداية‪ ،‬مازلت أتذكر ابنة أحد الجيران كانت جميلة‪ ،‬وجهها‬ ‫كالبدر‪ ،‬وشعرها كشالل العتمة ينسدل على كتفيها‪ ،‬دخلت على‬

‫أمي في الكوخ‪ ،‬وتحدثت معها‪ ،‬ثم التفتت إلى قائلة‪:‬‬

‫ـ أحتاج إلى علبة هندسة غدا عندي امتحان رياضيات‪.‬‬ ‫دخلت حجرتي بحثت لها عن علبة الهندسة‪ ،‬كتبت بسرعة لها‬

‫قصيدة شعر عاطفية تحمل عشقي بها وعاطفتي نحوها‪ ،‬وتغزلي‬

‫فيها‪ ،‬أخفيتها بداخلها‪ ،‬لكنها في عصر اليوم التالي أرجعت لي علبة‬ ‫‪63‬‬


‫الهندسة‪ ،‬فتشتها جيدا لم أعثر فيها أي رد منها على رسالتي‪ ،‬كان‬

‫حبي لها من طرف واحد‪ ،‬كأنها قد مزقت تلك الرسالة بعد قراءتها‬

‫ورمت بها في سلة المهمالت‪ ،‬فهي مزهوة بنفسها ومغرورة بجمالها‪.‬‬ ‫أتذكر انه في يوم عيد الفطر أنني ذهبت إلى المدينة‪ ،‬ووجدت‬

‫نفسي في محل لصيفر إليجار وتصليح الدراجات‪ ،‬طلبت منه تأجير‬

‫دراجة لمدة ساعة بقرشين‪.‬‬

‫كنا في ليال الصيف المقمرة نتلصص على نوافذ أكواخ الحطية‬

‫الواطية‪ ،‬نرهف آذاننا لنسمع ما يدور بين األزواج والزوجات‪ ،‬خاصة‬ ‫ليلة الجمعة من كل أسبوع‪ ،‬مازلت أتذكر عندما اقتربنا من أحد‬

‫تلك األكواخ‪ ،‬في شغف وفضول وضعنا آذاننا على النافذة الواطية‬

‫الصغيرة‪ ،‬سمعنا صوته كأنه يتحدث إلى زوجته وهو يقول لها‪:‬‬ ‫ـ نلقانك كنت حمره وسمحه‪.‬‬ ‫ـ ‪....................‬‬ ‫ـ لكنك اليوم كبرتي وتميتي شينة‪.‬‬

‫برهة توقف الحوار بينهما‪ ،‬وفجأة فتحت النافذة الصغيرة‪ ،‬انسكبت‬

‫على رؤوسنا مياه قذرة أسرعنا بالفرار وسط جلبة وضوضاء بعيدا‬

‫عن الكوخ‪ ،‬غير إن ذلك العجوز قد فطن لنا سمعناه يمطرنا باللعنات‬ ‫والشتائم‪:‬‬

‫ـ توا انوريكم يا كالب‪.‬‬ ‫‪64‬‬


‫اختفينا في أزقة الحطية الضيقة‪ ،‬عرفنا فيما بعد أن ذلك العجوز‬ ‫كان يقطن وحيدا في كوخه الصفيحي‪ ،‬وكان ليلتها يغسل شنته‬ ‫الحمراء بالماء والصابون‪ ،‬وهو يردد تلك األهزوجة ويتغزل في شنته‪.‬‬

‫قبل نهاية الصف السادس ببضعة أسابيع‪ ،‬فوجئنا بالناظر يدخل‬ ‫علينا الفصل قبل االستراحة بقليل‪ ،‬وقفنا له استعدادا أمرنا بالجلوس‪،‬‬ ‫حيانا سألنا عن الدراسة والمدرسين‪ ،‬ثم تحدث إلينا قائال‪:‬‬ ‫ـ طالبي األعزاء لن أطيل عليكم‪ ،‬أنتم تعلمون انه ال يوجد بهذه‬ ‫المدينة معهد ديني‪ ،‬وحتى يتم افتتاح المعهد الديني في العام‬ ‫القادم‪ ،‬عليه سوف تبقون سنة أخرى في الصف السادس دون‬ ‫امتحان‪ ،‬حتى العام القادم أرجو آن تبلغوا أولياء أموركم بهذا‬ ‫األمر‪ ،‬وال تطالبوننا باالمتحان في نهاية العام‪.‬‬ ‫وخاطبنا قائال‪:‬‬

‫ـ هل فهمتم؟‬

‫رددنا‪ :‬نعم فهمنا‪.‬‬

‫ثم خرج وأوصد الباب خلفه‪ ،‬تركنا في حيرة وقلق كانت صدمة‬ ‫قاسية بالنسبة لنا‪ ،‬كيف نبقى عاما آخرا في سادسة ابتدائي؟ وماذا نقول‬ ‫ألهلنا؟ هل نقول لهم تأجل االمتحان هذه السنة؟ هل سيصدقون‬ ‫ذلك؟عدت إلى البيت حزينا قلقا‪ ،‬لم أنم تلك الليلة ولم يغمض‬ ‫لي فيها جفن‪.‬‬ ‫اهتديت إلى فكرة‪ ،‬ما أن أشرقت شمس صباح اليوم التالي‪،‬‬ ‫‪65‬‬


‫حتى سارعت إلى تنفيذها‪ ،‬ذهبت إلى مكتب االمتحانات في‬ ‫شارع الفيحاء‪ ،‬صعدت ساللم الدور الثاني من المبنى‪ ،‬دخلت‬ ‫على المدير يبدو نحيل العود أصلع الرأس‪ ،‬ينكب على الملفات‬ ‫التي أمامه حدق في بعينين ضيقتين‪ ،‬من خلف نظارته السميكة‬ ‫تساءل قائال‪ :‬تفضل‪.‬‬

‫أخرجت الطلب الذي سهرت ليلة البارحة في كتابته‪ ،‬مددت به‬ ‫إليه تصفحه ثم بادرني‪:‬‬ ‫ـ تأخرت قليال لكن ال بأس‪.‬‬

‫ـ ‪...............................‬‬ ‫بادرني قائال‪:‬‬

‫ـ أحضر إلى غدا ومعك أربع صور شمسية‪ ،‬وشهادة تثبت نجاحك‬ ‫من الصف الخامس‪.‬‬

‫ومن يومها انقطعت عن المدرسة القرآنية وتالميذها‪،‬‬ ‫وسندوتشات التن والحلوى والمربى وأكياس التمر والكاكاوية‪،‬‬ ‫اتصلت بأصدقائي في الحطية‪ ،‬ممن كانوا يدرسون في الصف‬ ‫السادس االبتدائي‪ ،‬أخبرتهم بانتسابي للشهادة االبتدائية‪ ،‬طلبت‬ ‫منهم مفردات المنهج والمواد المقررة‪ ،‬لم يبخلوا علي بذلك‪ ،‬بل‬ ‫وهناك منهم من حضر إلى‪ ،‬وشرح لي منهج الرياضيات المقرر‪،‬‬ ‫كنت أذاكر في النهار‪ ،‬وفي الليل على ضوء فنارالقاز كل يوم هكذا‬ ‫حتى ساعة متأخرة من الليل‪.‬‬ ‫‪66‬‬


‫قارسا والمطر ال يتوقف عن الهطول‪ ،‬وأرضية غرفتي‬ ‫كان البرد ً‬ ‫أصبحت أشبه ببركة مياه‪ ،‬القاطر من كل مكان سطح الغرفة أشبه‬ ‫بغربال‪.‬‬

‫مع ساعة متأخرة من الليل كنت أخفض ضوء مصباح الكيروسين‪،‬‬ ‫أشد البطانية على جسدي المقرور‪ ،‬وأخلد للنوم بعد بضعة أيام‬ ‫بادرتني أمي ذات ضحى قائلة‪:‬‬ ‫ـ والدك زعالن منك يا وليدي‪.‬‬

‫تساءلت‪ :‬ليش يا أمي؟‬

‫ـ ألنك اتغيب عن المدرسة‪.‬‬

‫ـ أنا غيرت مساري الدراسي بس‪..‬‬

‫ـ ليش؟‬

‫ـ ألن مدير المدرسة وقف االمتحان هضا العام‪.‬‬ ‫ـ وايش تبي تدير؟‬

‫ـ نبي نخش امتحان الشهادة االبتدائية‪.‬‬

‫ـ أنت أدرى بمصلحتك نا وبوك ال نقروا ال نكتبوا‪.‬‬

‫ـ ال اطمئني ياأمي وادعي لنا بالنجاح‪.‬‬ ‫ـ ربنا يربحك وينجحك يا وليدي‪.‬‬

‫من خالل انكبابي على المذاكرة في غرفتي الصغيرة للمنهج‬ ‫‪67‬‬


‫المقرر لسادسة ابتدائي‪ ،‬واالستعانة بزمالئي في فهم واستيعاب‬ ‫ما كان مستعصيا‪ .‬استطعت أن أفهم الدروس‪ ،‬دخلت االمتحان‬ ‫في الموعد المحدد له‪ ،‬بمدرسة المجد االبتدائية التي كانت سابقا‬ ‫مستشفى حبشي‪ ،‬مع تالميذ مدارس المدينة‪ ،‬االمتحان استمر لمدة‬ ‫أسبوع‪ ،‬وبعد شهر أذيعت نتيجة الشهادة االبتدائية من إذاعة المملكة‬ ‫الليبية‪ ،‬وكم كانت سعادتي وغبطتي‪ ،‬عندما أذيع اسمي وكان في‬ ‫قائمة الناجحين‪.‬‬

‫وذات عصر بينما كنت في جولة على قدمي في أحد شوارع‬ ‫المدينة‪ ،‬إذ عثرت على مكتبة بالقرب من حديقة البلدية‪ ،‬دلفت إليها‬ ‫وجدت بعض الصبية يجلسون على الكراسي يتصفحون المجالت‬ ‫على الطاوالت‪ ،‬سمير‪ ،‬ميكي‪ ،‬طرزان‪ ،‬سوبرمان‪ ،‬الوطواط‪ ،‬ماجد‬ ‫وغيرها‪ ..‬تكرر ترددي على تلك المكتبة وموظفها النحيل العود‪،‬‬ ‫المتوسط القامة‪ ،‬يرتدي نظارة سميكة‪ ،‬طلب مني الموظف صورة‬ ‫وبيانات‪ ،‬على أن يصرف لي بطاقة إعارة‪ ،‬يحق لي بعدها حمل‬ ‫الكتاب معي إلى البيت‪ ،‬وقراءته هناك ثم استرجاعه‪ ،‬ومن يومها‬ ‫أصبح الكتاب رفيقي وأنيسي اطلعت على الكثير من الكتب‪ ،‬ألف‬ ‫ليلة وليلة‪ ،‬كليلة ودمنة‪ ،‬قصص األنبياء‪ ،‬وكتب األدب العربي المعاصر‬ ‫من قصة ورواية وشعر‪.‬‬

‫كما عثرت على مكتبة خاصة تبيع الكتب والمجالت والصحف‪،‬‬ ‫في وسط المدينة كان صاحبها يدعى علي ليدي‪ ،‬المكتبة كانت‬ ‫غنية بالمجالت مثل‪ :‬الكواكب‪ ،‬وآخر ساعة‪ ،‬والمصور‪ ،‬وروز‬ ‫‪68‬‬


‫اليوسف‪ ،‬وصباح الخير‪ ،‬األديب‪ ،‬واآلداب‪ ،‬والهالل المصرية‪،‬‬ ‫والعربي الكويتية‪ ،‬والمجاهد الجزائرية‪ ،‬وروايات الهالل المصرية‬ ‫والروايات العالمية‪ :‬عمال البحر‪ ،‬وكوخ العم توم‪ ،‬والبؤساء‪ ،‬والشيخ‬ ‫والبحر‪ ..‬وغيرها‪.‬‬ ‫صرت أقرأ بنهم كل ما تقع عليه يدي من كتب‪ .‬تحول جديد طرأ‬ ‫على حياتي في القراءة والكتابة‪ ،‬كتبت بعض المحاوالت القصصية‬ ‫في كراسة صغيرة اطلع عليها بعض أصدقائي فنالت اهتمامهم‪.‬‬

‫كنت اشتغل خالل العطلة الصيفية‪ ،‬في قاعدة العدم عند االنجليز‪،‬‬ ‫بأجر ال يتعدى العشرون جنيها في الشهر‪ ،‬مع غيري من الشباب لم‬ ‫أدخن في حياتي بالرغم من توفر التبغ بكثرة وبأنواع مختلفة‪ ،‬وبأسعار‬ ‫زهيدة أمامي في حانوت قاعدة العدم‪.‬‬ ‫أيضا كان المركز الثقافي في مدخل المدينة قد افتتح به مكتبة غنية‬ ‫بالكتب‪ ،‬وصالة لمطالعة الصحف والمجالت‪ ،‬كنت أطالع مجلة‬ ‫صباح الخير المصرية والمجاهد الجزائرية والعربي الكويتية والحوادث‬ ‫اللبنانية وصحف الشعب والبالغ والرقيب والزمان وغيرها‪.‬‬

‫‪69‬‬



‫(‪)9‬‬ ‫التحقت بالصف األول أعدادي بمدرسة الضاحية‪ ،‬في حي‬ ‫سوق العجاج‪ ،‬وهي تقع على الطريق الرئيسي‪ ،‬مبنية من دور‬ ‫واحد‪ ،‬لها باب على الشارع الرئيسي‪ ،‬ال يدخل منه سوى المدير‬ ‫والمدرسون وأولياء األمور‪ ،‬وباب خلفي يطل على بيوت سوق‬ ‫العجاج يدخل منه الطالب‪ ،‬بها حتى الصف الثالث إعدادي‪،‬‬ ‫وعندما يدق الجرس سي عبدالواحد نتقاطر على الساحة كل واحد‬ ‫منا يأخذ مكانه في الطابور المحدد له حسب السنة الدراسية‪ ،‬في‬ ‫صفوف منتظمة ندخل الفصول‪ ،‬كل صف به صفين من المقاعد‬ ‫الخشبية‪ ،‬انزويت في منتصف الفصل إلى جوار زميلي دخيل‪،‬‬ ‫القادم من مدينة زليطن‪ ،‬عرفت فيما بعد أن والده متوف‪ ،‬وان‬ ‫والدته قد تزوجت من رجل آخر‪ ..‬دخيل يقيم عند خاله عبدالسالم‬ ‫في الحطية‪.‬‬ ‫كان بالفصل حوالي عشرين طالبا‪ ،‬وطالبتين كانتا تجلسان في‬ ‫المقدمة‪ ،‬عادة تكون الحصة األولى رياضيات‪ ..‬يدخل مدرس المادة‬ ‫‪71‬‬


‫األستاذ حامد الحبوني بيده عصاته الرفيعة‪ ..‬قبل أن يبدأ في شرح‬ ‫الدرس الجديد يصيح في سخرية واستهزاء‪:‬‬

‫ـ صبي يا عبدالمالك يا قرد تعال و حل هذي المسألة على السبورة‪.‬‬

‫حتى يذكرنا بالدرس السابق في الرياضيات يخرج عبدالمالك من‬ ‫الدرج‪ ،‬وهو يبتسم وكله ثقة بنفسه‪ ،‬يشرع في اإلجابة‪ ،‬كانت إجابته‬ ‫صحيحة ينجو من العقاب‪ ،‬يبدأ المدرس في الدرس الجديد‪ ،‬كنت‬ ‫أطأطئ رأسي في خجل وارتباك وخوف‪ ،‬أقرأ سورة الفاتحة وآيات‬ ‫الكرسي حتى ال ينادي علي‪ ،‬ويخرجني على السبورة فأنا ال أفقه‬ ‫شيئا في مادة الرياضيات‪ ،‬وحتى في كشف الدرجات كنت في هذه‬ ‫المادة أقل درجات‪ ،‬ما أن يقرع الجرس وتنتهي حصة الرياضيات‬ ‫حتى أتنفس الصعداء‪.‬‬

‫أما في الحصة الثانية كانت تدب في الحياة‪ ،‬أشعر باالرتياح‬ ‫والسرور‪ ،‬عندما يدخل األستاذ سيد عيسى بقامته القصيرة وبدلته‬ ‫الرصاصية األنيقة‪ ،‬يحي الطالب بابتسامته المعهودة‪ ،‬يبدأ درسه‬ ‫الشيق في األدب أو النحو سرعان ما تنتهي الحصة‪ ،‬لتكون الحصة‬ ‫الثالثة تاريخ‪.‬‬

‫ومع مرور األيام واألسابيع اكتشف األستاذ سيد موهبتي في مادته‬ ‫فضمني‪ ،‬إلى أسرة اإلذاعة المدرسية في أعداد وكتابة الكلمات‪،‬‬ ‫وإلقائها على الطالب في طابور الصباح‪ ،‬ومنذ ذلك اليوم ودعت‬ ‫الوقوف في ساحة المدرسة في البرد القارس‪ ،‬والتواجد مع أسرة‬ ‫اإلذاعة المدرسية في تلك الحجرة الدافئة‪ ،‬إللقاء مقتطفات من‬ ‫‪72‬‬


‫األقوال والكلمات واألخبار الرياضية‪ ،‬أصبحت أتحصل على درجات‬ ‫عالية في اللغة العربية خاصة مادة التعبير واإلنشاء‪ ،‬أصبح أستاذ العربي‬ ‫يشيد بي وبقصصي‪.‬‬

‫قامت شركة الكهرباء بتوصيل اإلضاءة إلى منازل الحطية‪ ،‬واختفى‬ ‫الكيروسين من البيوت‪ ،‬كما امتدت أنابيب المياه فوق سطح األرض‪،‬‬ ‫ووصلت المياه إلى منازل الحطية‪ ،‬تكونت برك في األزقة للمياه أصبح‬ ‫يعب منها حتى الدجاج والهررة والكالب‪.‬‬

‫ذات ليلة وبينما كنت أسهر مع بعض رفاقي أمام دكان عقيلة‬ ‫الشاعري‪ ،‬ونحن نتجاذب أطراف الحديث إذا بالشاويش صالح‬ ‫الطويل يهرول نحونا ببزته العسكرية‪ ،‬ويصرخ فينا بصوت عال‪:‬‬ ‫ـ هيا عودوا بسرعة إلى بيوتكم ممنوع التجول‪.‬‬ ‫تساءلنا بصوت واحد‪:‬‬

‫ـ لماذا ماذا هناك؟‪.‬‬ ‫بادرنا‪:‬‬

‫ـ اليوم قام الجيش بالثورة على الملك إدريس‪ ..‬ثورة انقالب‬ ‫على الملك‪ ،‬حكم جديد؟‬ ‫كنا ال نفقه شيئا في السياسة وقضاياها‪.‬‬

‫طبرق كانت تكتظ بمئات الجنود والضباط اإلنجليز‪ ،‬وعائالتهم‬ ‫يقطنون المنازل الحديثة في المدينة‪ ،‬وكذلك في قاعدة العدم‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫وبعد أيام سرنا ومعي صديقي دخيل إلى المدينة على األقدام‪،‬‬ ‫وعندما أردنا عبور الطريق الرئيسي المتجه نحو الشرق‪ ،‬لمحنا ثمة‬ ‫دبابة عسكرية كانت تتوقف على يمين الطريق وثالثة جنود ببزاتهم‬ ‫الخضراء وبنادقهم الطويلة‪ ،‬يوقفون السيارات المتجهة نحو الشرق‬ ‫أو الغرب ويفتشونها‪ ،‬وثمة عسكري آخر كان يصدر لهم األوامر‬ ‫في عنف وخشونة‪ ،‬تبدو عليه الوسامة‪ ،‬شعره ينساب على جبهته‬ ‫وعلى يده اليمنى أربعة أشرطة كأنه رئيسهم‪ ،‬واصلنا سيرنا نحو‬ ‫المدينة التي كان يخيم عليها الفراغ والكساد‪ ،‬وحركة البشر فيها‬ ‫محدودة‪ ،‬وثمة كتابات كثيرة ورسومات على جدران مدرسة المجد‬ ‫ومحالت وأبنية المدينة‪ :‬تحيا الجمهورية الليبية ـ عاشت الثورة ـ‬ ‫حرية اشتراكية وحدة‪.‬‬ ‫صور على جدران محالت وبيوت المدينة لشخصية عسكرية‬ ‫يدعى سعد الدين شويرب‪ .‬هل هذا هو قائد االنقالب أو الثورة؟‬ ‫لم تمض بضعة أسابيع على تلك التساؤالت‪ ،‬حتى جاء إلى مدينة‬ ‫طبرق من يقطع الشك باليقين ويجيب عن تساؤالت المواطنين‪،‬‬ ‫أطل ضابط شاب نحيل العود‪ ،‬ال يتجاوز العقد الثالث من عمره‪،‬‬ ‫يتدفق حماسا وحيوية يرتدي قيافة عسكرية‪ ،‬كان يقف على منصة‬ ‫في ميدان طبرق‪ ،‬وشرع يخطب في األهالي عن القضية الفلسطينية‬ ‫والوحدة العربية‪ ،‬يبدو تأثره بالزعيم جمال عبدالناصر‪ ،‬كانت تلك‬ ‫السنة سنة جفاف واألمطار لم تسقط‪ ..‬سارع المواطنون يقاطعونه‪،‬‬ ‫وهم يهتفون‪:‬‬ ‫‪74‬‬


‫ـ نبوا كسبه نبوا علفه‪ ..‬اجداب اجداب‪.‬‬

‫ـ ‪........................‬‬

‫ـ الضان تموت من قلة األعالف والكسبة‪.‬‬

‫كأنه لم يفهم مطالبهم؟ أو لعله فهم لكنه يصر على إلقاء خطابه‬ ‫القومي‪ ،‬انسحبوا من أمامه فرادى‪ ،‬بعد لحظات وجد نفسه يخطب‬ ‫لوحده في الميدان ومعه أتباعه‪ ،‬وبعض الضباط والمسئولين في‬ ‫المدينة‪ ..‬وتردد اسمه‪ ،‬إنه معمر القذافي‪.‬‬

‫في الصف الثاني اإلعدادي اختفى زميلي دخيل‪ ،‬ولم يعد يحضر‬ ‫للمدرسة منذ عدة أيام‪ ،‬وعند عودتي من المدرسة ذات ظهيرة طرقت‬ ‫باب كوخ خاله‪ ،‬فخرج لي أحد أبناءه‪:‬‬ ‫ـ أين دخيل؟‬

‫أجابني الصبي قائال‪:‬‬

‫ـ دخيل سافر ودخل الجيش الليبي في بنغازي‪.‬‬

‫ومن هناك راسلني دخيل بعدة رسائل‪ ،‬كان يحكي لي فيها عن‬ ‫أحواله‪ ،‬ومواصلته الدراسة اإلعدادية في الفترة المسائية‪ ،‬وعن قراءته‬ ‫لروايات بيار روفائيل‪.‬‬

‫في تلك السنة تشاجر الطالب علي الشيهني مع معلم االنجليزي‬ ‫الليبي داخل الفصل‪ ،‬بالكالم في البداية ثم ارتفعت أصواتهما‬ ‫ووصلت المشاجرة بينهما باأليدي‪ ..‬وتدافع طلبة الفصل يفصلون‬ ‫‪75‬‬


‫بينهما وعلى إثر تلك المشاجرة أقبل مدير المدرسة وفصل ذلك‬ ‫الطالب وطرد من المدرسة واختفى نهائ ًيا‪.‬‬

‫قرأت دواوين الشعر العربي القديم والحديث‪ :‬المتنبي‪ ،‬عنترة‬ ‫بن شداد‪ ،‬زهير بن أبي سلمي‪ ،‬أبوتمام‪ ،‬ابو العتاهية‪ ،‬بشار بن برد‪،‬‬ ‫نزار قباني‪ ،‬محمود درويش‪ ،‬سميح القاسم‪ ،‬إيليا أبو ماضي‪ ،‬كامل‬ ‫الشناوي‪ ،‬بدر شاكر السياب وغيرهم‪ .‬كتبت العديد من المحاوالت‬ ‫الشعرية عن العشق وليال السهر والمراهقة كانت‪ .‬الكتابة في مرحلة‬ ‫المراهقة وسيلة لتفريغ شحنة عاطفية أو التعبير عن ذاتي‪.‬‬ ‫عيناك شمعتان في ليال الغسق‬

‫أرى فيهما عقلي ونفسي فانطلق‬

‫وقلبي المتيم بحبك قد خفق‬

‫أرسلت بقصائدي للعديد من المجالت وهي‪ :‬الخواطر اللبنانية‪،‬‬ ‫والمجاهد الجزائرية‪ ،‬وبيروت المساء‪ ،‬وعندما كنت أجدها منشورة‬ ‫على صفحات بريد القراء في تلك المجالت‪ ،‬كنت أطير غبطة‬ ‫وسرورا وأشتري ً‬ ‫نسخا منها‪ ،‬ثم بعد أشهر جمعت تلك القصائد‬ ‫ودونتها بخط جميل‪ ،‬في كراسة بعنوان‪ :‬قصائدي إليها‪ ،‬كنت‬ ‫أنوي نشرها في ديوان‪ ،‬غير أنني فكرت البد أن آخذ رأي مدير‬ ‫تلك المكتبة خاصة وانه شاعر‪ ،‬أسرعت إليه وقدمت له المخطوط‬ ‫الشعري‪ ،‬طالبا منه إبداء مالحظاته ورأيه في هذه القصائد‪ ،‬وبعد‬ ‫أسبوع قابلته بادرني بعد تردد قائال‪:‬‬ ‫‪76‬‬


‫شعرا‪.‬‬ ‫ـ ما كتبته يا بني ليس ً‬

‫أجبته‪ :‬كيف هذه القصائد؟ نشرتها في المجالت العربية‪.‬‬

‫قال لي‪:‬‬

‫ـ النشر في الصحف والمجالت ال يعني الجودة‪ ..‬وإذا أردت‬ ‫شاعرا حقا فعليك بحفظ ماال يقل عن ألف بيت من‬ ‫أن تصبح‬ ‫ً‬ ‫الشعر العربي وإجادة علم القوافي والعروض‪.‬‬

‫ثم أهداني كتا ًبا من جزأين بعنوان‪ :‬المنتخب في أدب العرب‪،‬‬ ‫قرأت الكتاب بعد فترة‪ ،‬ثم مزقت جميع ما كتبته من أشعار واتجهت‬ ‫إلى كتابة القصة القصيرة‪.‬‬

‫شاركت في مسابقة النشاط المدرسي في القصة القصيرة‪،‬‬ ‫على مستوى محافظة درنة‪ ،‬برفقة المفتش الخرشوفي في سيارة‬ ‫التعليم وسائقها الحاج محمد بوأربعة‪ ،‬حيث تجرى مسابقة النشاط‬ ‫األدبي في مدرسة الزهراء بوسط المدينة‪ ،‬عندما يأتي دوري كنت‬ ‫انهضم من على الكرسي وأقف أمام ناقل الصوت وعلى خشبة‬ ‫المسرح أقوم بإلقاء قصتي‪ ،‬وسط حضور طالبات الزهراء وأساتذة‬ ‫المدرسة والمشاركون في المسابقة األدبية‪ ،‬ثم نعود بعد الظهيرة‬ ‫إلى مدينة طبرق‪ ،‬وأتذكر أنني تفوقت‪ ،‬وحصلت على الترتيب‬ ‫األول يومها‪ ،‬كانت الجائزة عبارة عن شهادة تقدير وقلم باركر‬ ‫ثمين‪ ،‬أصبح أستاذ اللغة العربية يفاخر بي أمام زمالئي الطالب‪،‬‬ ‫كان يأخذ كراسة التعبير ويقرأ عليهم قصصي القصيرة‪ ،‬وهو‬ ‫‪77‬‬


‫يثني علي‪ ،‬طفقت اقرأ لكتاب القصة القصيرة في الوطن العربي‬

‫وكذلك كتاب القصة في الغرب قرأت رواية األرض للروائي‬ ‫عبدالرحمن الشرقاوي‪.‬‬

‫أدمنت القراءة والكتابة في غرفتي الصغيرة‪ ،‬أصبحت هي المتنفس‬

‫لهمومي‪ ،‬أقضي أيامي في معاناة الحروف والكلمات انهمك في‬ ‫كتابة قصة جديدة‪ ،‬أمنحها تجربتي‪ ،‬أغيب عن كل من حولي في‬ ‫الكوخ العتيق‪ ،‬صمت وهدوء ورائحة الحبر األزرق‪ ،‬وأنا أجلس‬ ‫على الكرسي وبين أصابعي قلمي األثير واألوراق البيضاء أمامي‬

‫على المنضدة‪.‬‬

‫تعرفت على صويدق كان معي في نفس المدرسة‪ ،‬قصر الملك‬ ‫ساب ًقا‪ ،‬لكنه في الثانوية العامة وأنا في معهد المعلمين‪.‬‬ ‫كان يسكن مع عائلته العريقة في مسكن حديث خلف طاحونة‬

‫بوسيف حيث كنت أمر بعد العصر من حين إلى آخر‪ .‬كانت لديه‬

‫اهتمامات أدبية نتمشى م ًعا في شوارع مدينة طبرق الحالمة الصغيرة‬

‫الوادعة‪ ،‬يحدثني عن قصيدة أحمد بواقعيقيص عن سوسة‪ ،‬وقصيدته‬

‫األخرى عن العقاد‪ ،‬ثم قصائده هو عن الهوى والعشق‪ ،‬ثم نحتسي‬

‫مشروب صداقة في مقهى الصرماني‪ ،‬ونعود أدراجنا أتركه يدخل‬ ‫منزله بينما أقفل راجعا إلى الحطية على قدمي‪ .‬غير أنه ما أن أكمل‬ ‫دراسته الثانوية حتى التحق كلية الجمارك في مصر‪ ،‬وعندها لم نعد‬ ‫نلتقي إال في زياراته أو بعد التخرج‪.‬‬ ‫‪78‬‬


‫بعد تخرجي من معهد المعلمين وقيامي بالتدريس‪ ،‬كانت أمي‬

‫قلقة بشأن زواجي وضرورة أن تفرح بي وهي على قيد الحياة‪ .‬حدثت‬

‫أمي أبي بضرورة أن يذهب إلى جارنا عبدالحفيظ ويطلب منه يد ابنته‬

‫لي‪ ،‬أسرع أبي إلى جاره وأبلغه باألمر‪ ،‬غير أن جاره رد عليه أنه البد‬ ‫أن يشاور زوجته في األمر أوال ويأخذ موافقتها‪ ،‬وعندما سألت أمي‬

‫عن ذلك األمر قالت لي أن الحاج عبدالحفيظ رد على والدك بعد‬ ‫أيام ً‬ ‫قائل بالحرف الواحد‪:‬‬ ‫ـ الحاجة عازة رفضت‪.‬‬ ‫حز في نفسي ذلك الرد وآلمني وكأن الفقر إهانة‪ ،‬وتمنيت لو أن‬

‫أبي لم يطلب من الحاج عبدالحفيظ يد ابنته‪ ،‬فأنا ال أحبها وال أرغبها‬ ‫زوجة لي‪ ،‬وأنا لم أكن مستعدا لإلقبال على الزواج‪.‬‬

‫من األحداث التي أتذكرها عندما كنت مدرسا بمدرسة الضاحية‬

‫وقع يوم ‪ 19‬مارس ‪1980‬م‪ ،‬نتيجة تذمر األهالي من قبل أعضاء مثابة‬ ‫المدينة طبرق‪ ،‬الذين أخذوا يجرون التحقيقات مع بعض األعيان‬

‫والتجار والمقاولين‪ ،‬تحركت مسيرة لبعض المواطنين من أمام مركز‬ ‫ً‬ ‫وصول إلى مهاجمة المثابة التي كانت تقع شمال صومعة‬ ‫المدينة‪،‬‬ ‫غالل طبرق‪ ،‬ال أتذكر األسماء لكنهم أفراد من عائالت عبدالله‪،‬‬

‫واقويدر‪ ،‬والحسانة‪ ،‬وزيدان‪ ،‬واهويدي‪ ،‬ومفتاح بوسليمان‪ ،‬وشيناه‬

‫مريم العبيدي وغيرهم‪.‬‬

‫وسقط ثالثة من هذه العائالت وهم امراجع موسى الناجي‪،‬‬ ‫‪79‬‬


‫وخميس احميده مفتاح‪ ،‬وعلي سالم العبيدي فتم ضرب تلك‬

‫المثابة بالتي ان تي والرصاص فسقط ثالثة قتلى من أعضاء المثابة‬ ‫حتى تدخلت الشرطة واألجهزة األمنية‪ ،‬وسجنت المشتبه بهم من‬ ‫المواطنين الذين قاموا بهذا الهجوم و تم اإلفراج عنهم فيما بعد‪.‬‬

‫‪80‬‬


‫( ‪) 10‬‬ ‫أطل علي زميلي في مهنة التدريس ذات عصر‪ ،‬استقبلته عند باب‬

‫الكوخ‪ ،‬رفض الدخول رحبت به‪:‬‬ ‫ـ أهال إبراهيم تفضل‪.‬‬ ‫ـ بارك الله فيك‪.‬‬

‫ـ هيا ادخل تفضل حتى كوب من الشاي أو القهوة‪.‬‬ ‫ـ ال شكرا إنني في عجلة من أمري جئت أبلغك بخبر‪.‬‬ ‫ـ إن شاء الله خير‪.‬‬ ‫ـ الخير يأتي به الله أنا وأنت مطلوبين لكلية الشعب المسلح‪.‬‬ ‫ـ ما دخلنا نحن بكلية الشعب هذه‪.‬‬ ‫ـ إننا موجهان إليها منذ عدة أيام دون أن نعلم‪.‬‬ ‫ـ من أبلغك بهذا؟‬ ‫‪81‬‬


‫ـ باألمس استدعاني رئيس الشرطة العسكرية وحقق معي‪ ،‬ثم‬ ‫طلب مني أن أبلغك بضرورة سفرنا لمدينة طرابلس غدا صباحا‬ ‫ال جراء الكشف الطبي‪.‬‬

‫تركني في حيرة من أمري‪ ،‬وقفل راجعا إلى بيته في وسط المدينة‪،‬‬ ‫أظلمت الدنيا في وجهي‪ ،‬أصبحت أضيق من سم الخياط‪ ،‬أي‬ ‫عسكرية هذه وأنا في العقد الثالث من عمري‪ ،‬وأية كلية عسكرية‪،‬‬ ‫حتى بعد تخرجي من معهد المعلمين‪ ،‬لم أدخل حتى المقاومة‬ ‫الشعبية‪ ،‬واستثنيت من التدريب العام لعدم لياقتي الصحية‪ .‬ما‬ ‫دخلي بالعسكرية وأنا مجرد مدرس لغة عربية‪ ،‬لم أنم ليلتها أخبرت‬ ‫أبي وأمي باألمر‪ ،‬لكنهما تركا لي الخيار‪ ،‬فهما ال يعرفان شي ًئا عن‬ ‫مثل هذه األمور‪.‬‬ ‫في صباح اليوم التالي طرق زميلي الباب خرجت له‪ ،‬ومعي حقيبة‬ ‫مالبسي‪ ،‬سلمت على السائق وهو رئيس عرفاء من طبرق‪ ،‬ودعت‬ ‫أبي وأمي وأخوتي‪ ،‬كانت أعينهم تركض خلفي‪ ،‬وأنا أقفز في تلك‬ ‫السيارة خلف زميلي‪.‬‬

‫انطلق بنا السائق على الطريق الرئيسي نحو الغرب‪ ،‬نحن في أواخر‬ ‫شهر نوفمبر الجو بارد وممطر‪ ،‬والطريق ثعبان طويل يتلوى ونحن‬ ‫نتجاذب أطراف الحديث‪ ،‬وزميلي يشعل سيجارة وينفث دخانها‪،‬‬ ‫ثم يشعل أخرى‪.‬‬ ‫بعد ساعات خمس دخلت بنا السيارة مطار بنينة‪ ،‬وجدنا في‬ ‫انتظارنا عسكري التحريات بمالبسه المدنية‪ ،‬أما سائق الرانجروفر‪،‬‬ ‫‪82‬‬


‫فودعنا عائدا إلى مدينتنا طبرق الغافية هناك في أحضان البحر‪،‬‬ ‫تزاحمت على ذهني خواطر‪ :‬أصوات تالميذك وزمالئك المعلمين‬ ‫في الضاحية‪ ،‬وفتاتك الجميلة ووجهها الذي يبدو مثل البدر‪ ،‬صعد‬ ‫بنا عسكري التحريات الطائرة الفوكر‪ ،‬وإلى جواره جلس زميلي‬ ‫يتجاذب معه أطراف الحديث‪ ،‬تذكرت أن هذه هي الرحلة الثانية‬ ‫بالنسبة لي إلى طرابلس بالطائرة‪ ..‬تذكرت الرحلة األولى كانت‬ ‫منذ عشر سنوات‪ ،‬يوم أن فزت فيها بجائزة القصة القصيرة‪ ،‬من‬ ‫قبل وزارة الشباب كانت القصة بعنوان‪( :‬سلطانة)‪ ،‬حجز لك‬ ‫يومها مكتب الشباب والرياضة في طبرق‪ ،‬تذكرة سفر بالطائرة‬ ‫إلى طرابلس ذهابا وإيابا‪ ،‬ورسالة إقامة في جمعية بيوت الشباب‪،‬‬ ‫ركبت يومها الطائرة ألول مرة من مطار طبرق‪ ،‬لم تكن تعرف يومها‬ ‫حتى ربط حزام المقعد‪ ،‬إلى أن تقدمت نحوك المضيفة الشقراء‪،‬‬ ‫ذات الشعر األصفر القصير وربطت لك الحزام‪ ،‬كنت في غاية‬ ‫الغبطة والسعادة‪ ،‬والطائرة تحلق بك فوق السحاب الذي يبدو‬ ‫مثل العهن المنفوش‪.‬‬

‫بعد ساعة ونصف‪ ،‬هبطت بك الطائرة في مطار طرابلس الدولي‪،‬‬ ‫أخذت سيارة أجرة إلى وسط المدينة إلى جمعية بيوت الشباب‪،‬‬ ‫قضيت ليلتك سعيدا في تلك الغرفة‪ ،‬ومع الصباح تناولت إفطارك‪،‬‬ ‫ركبت أول تاكسي إلى وزارة الشباب والرياضة‪ ،‬وهناك استلمت‬ ‫شهادة التقدير والجائزة النقدية‪.‬‬ ‫وترجع بك الذاكرة وتتذكر يومها كيف التقيت ألول مرة‬ ‫‪83‬‬


‫باألديب علي مصطفى المصراتي‪ ،‬في مكتبة الفرجاني بشارع‬ ‫االستقالل‪.‬‬

‫لكن في هذه الرحلة يبدو عليك القلق‪ ،‬يعتريك الخوف من‬ ‫المجهول‪ ،‬ال تدري ما يخبئه لك القدر في الغد‪.‬‬

‫كأنك ذاهب إلى حتفك‪ ،‬وطافت بذهنك تساؤالت عدة‪ ،‬هل‬ ‫ستعود إلى مدينتك طبرق؟ وإلى حي الحطية من جديد؟ هل ستعود‬ ‫إلى والدك وأخوتك وأصدقائك؟ هل ستعود لتالميذك في الضاحية؟‬ ‫الذين شجعتهم على التمثيل‪ ،‬تتذكر كيف أخرجت لهم مسرحية‬ ‫بعنوان «نهاية المشوار» حضرت معهم البروفات‪ ،‬بعد أن قاموا‬ ‫بعرضها على مسرح المدرسة حازت على إعجاب المشاهدين من‬ ‫أولياء أمور الطلبة‪ ،‬ثم عرضت مرة ثانية على مسرح معهد النفط‪،‬‬ ‫ثم مسرحية «العربة» عن قصة إبراهيم النجمي‪ ،‬هل ستعود إلى‬ ‫فتاتك الجميلة ذات المعطف األبيض التي ابتسمت لك في آخر‬ ‫لقاء لك بها؟ وكيف كدت أن ترسل أمك لخطبتها؟ غير إنك اليوم‬ ‫ال تدري ما يخبئه لك القدر؟‪.‬‬

‫أخذنا رجل التحريات بعد أن ترجلنا من الطائرة‪ ،‬وجدنا أنفسنا‬ ‫في سيارة عسكرية كانت في انتظارنا‪ ،‬حملتنا السيارة إلى معسكر في‬ ‫المدينة مع مغيب الشمس‪ ،‬ترجلنا منها أمام باب المعسكر‪ ،‬ما أن‬ ‫دخلنا من الباب الرئيسي حتى دفعنا الحرس ناحية اليمين‪ ،‬واختفى‬ ‫رجل التحريات ناحية اليسار‪ ،‬تناهى إلى مسامعنا صرصرة انقفال‬ ‫الباب الحديدي الذي أوصده الحراس خلفنا‪ ،‬قادنا أحد الحرس‬ ‫‪84‬‬


‫إلى قاطع آخر وأمرنا بالدخول‪ ،‬انطلقنا عبر ممر مظلم طويل كان‬ ‫يخيم عليه الظالم الدامس‪ ،‬إال من أصوات بعض الشباب يتبادلون‬ ‫األحاديث في الغرف المظلمة‪ ،‬بصيص من ضوء سجائرهم يلمع‬ ‫في الظالم‪ ،‬بحثنا عن غرفة شاغرة‪ ،‬عثرنا على ألواح خشبية جلسنا‬ ‫عليها في زاوية الحجرة‪ ،‬نستند على الحائط ال أسرة وال بطاطين‪،‬‬ ‫ليلة باردة ظالمها حالك من أواخر ليال شهر نوفمبر‪ ،‬تذكرت أبياتا‬ ‫للشاعر عمرو النامي يقول فيها‪:‬‬ ‫أمامي ظالم وخلفي ضباب‬

‫خطوت هنا منذ عام كئيب‬

‫ورائي وأطبق ليل العذاب‬

‫وصرت مفاتيح قفل رهيب‬

‫يحدثني عن شريط السراب‬

‫وبت رفيق الجدار الكئيب‬

‫عرفت فيما بعد أن ذلك كان سجنا تابعا للشرطة العسكرية‪.‬‬ ‫بيني وبين نفسي أخذت أسب وألعن مجيئي إلى هنا‪ ،‬لحظتها بدا‬ ‫لي أن سدً ا مني ًعا يحول بيني وبين مدينتي طبرق‪ ،‬الحطية وأبي وأمي‬ ‫وأخوتي‪ ،‬ومدرستي الضاحية وتالميذي‪ .‬هل ما أنا فيه حقيقة أم حلم‬ ‫أم كابوس؟ سألت أحد الشباب ً‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫ـ أين نحن اآلن؟‬ ‫أجابني‪:‬‬ ‫ـ أنت في سجن الشرطة العسكرية بمنطقة بوسليم‪.‬‬ ‫ما أن تسرب الضوء وطلع الصباح حتى تنفسنا الصعداء‪ ،‬فوجئنا‬ ‫‪85‬‬


‫بالحجرات كانت تكتظ بالشباب الذي ينامون على البالط‪ ،‬بعد ساعة‬ ‫فتح العسكري الباب وأخذ يصيح‪:‬‬ ‫ـ هيا تحرك خارج‪.‬‬

‫تجمعنا أمام السجن العسكري جاءنا ثالثة من الجنود‪ .‬صاح‬ ‫أحدهم‪:‬‬ ‫ـ الهروب من المعسكرات في صف والهروب من الكليات‬ ‫العسكرية في صف آخر‪.‬‬

‫حملتنا الحافلة إلى العيادة الصحية المجمعة‪ ،‬في حي يسمى‬ ‫غرغور‪ ،‬تم توزيعنا على األطباء‪ :‬طبيب العيون‪ ،‬طبيب الباطني‪،‬‬ ‫طبيب األنف والحنجرة‪ ،‬ثم رئيس اللجنة الطبية العسكرية‪ .‬لمحت‬ ‫أحد الضباط من خارج المكتب بقيافته األنيقة‪ ،‬عرفت أنه من‬ ‫مدينتي‪ ،‬البد أن أحدثه‪ ،‬أتعلق به تعلق الغريق بالقشة‪ ،‬وأشرح‬ ‫له ظروفي وما الذي جاء بي إلى هنا؟ لعله يجد لي مخرجا من‬ ‫هذه الورطة لكنه ما أن لمحني حتى أشاح بوجهه عني وسرعان‬ ‫ما اختفى‪.‬‬ ‫بعد أن أكملنا الكشف الطبي والمقابلة‪ ،‬أمرونا باالنتظار أمام‬ ‫مبنى العيادة‪ ،‬بعد ساعة أطل علينا ضابط الكلية‪ ،‬ومعه قائمة‬ ‫األسماء بدا يقرأ بصوت عال أسماء الطلبة المقبولين في كلية‬ ‫الشعب المسلح‪ ،‬عندما نطق باسمي الضابط أصبت بصدمة قاسية‪،‬‬ ‫تمنيت وقتها أن أعود من حيث أتيت‪ ،‬لكن ما باليد حيلة‪ ،‬حملق في‬ ‫‪86‬‬


‫الضابط جيدً ا وكأنه اكتشف ما بدأ علي من ضيق وحزن فخاطبني‬

‫قائال‪:‬‬

‫ـ ال تحمل هما هذا قدرك‪ ،‬رفيقك يتحصل على غير الئق وسيعود‬ ‫إلى مدينتك‪ ،‬بينما تبقى آنت لتلتحق بالكلية‪.‬‬

‫بعد لحظات ارتميت على أحد كراسي الحافلة‪ ،‬في خيبة وأسى‬

‫أتساءل‪:‬‬

‫ـ ما الذي جاء بي إلى هنا؟ يا له من حظ عاثر سيء‪.‬‬ ‫ما أن توغلت الحافلة داخل الكلية العسكرية حتى أحسست‬

‫بالضيق واالنزعاج‪ ،‬كمن يحملونه إلى حتفه ترجلت مع غيرك من‬

‫المستجدين‪ ،‬أحاط بكم بضعة طالب المتقدم ببزاتهم العسكرية‬

‫وهم يكشرون عن أنيابهم كالذئاب ويصرخون فيكم بسخرية‬ ‫واستهزاء‪:‬‬

‫ـ هيا تحركوا هرولوا عدة مرات حول الساحة‪.‬‬ ‫وقال ثان‪:‬‬ ‫ـ هذه الساحة هي مصنع الرجال‪.‬‬ ‫وردد ثالث وهو يقهقه‪:‬‬ ‫ـ إنها ليست دبلومات أو ليسانسات العجائز‪.‬‬ ‫وقال آخر‪:‬‬ ‫‪87‬‬


‫ـ هيا هرولوا على الساحة كل واحد منكم يردد اسمه الثالثي‬ ‫بصوت عال‪.‬‬

‫أخذت تهرول حول الساحة مع المستجدين‪ ،‬وتهتف باسمك‬

‫بصوت عال‪:‬‬

‫ـ أنا الطالب المستجد ‪... ...‬‬ ‫بعد دقائق أوقفونا‪ ،‬قاموا بتوزيع ماكينات حالقة عادية علينا‪،‬‬

‫أمروا كل مستجد منا أن يقوم بحلق رأس زميله المستجد بالمقص‬

‫وشفرة الحالقة‪ .‬وبعد دقائق هرولنا باتجاه المخازن‪ .‬استلم كل واحد‬

‫منكم «كت» عسكري بداخله بدالته وأحذيته وجواربه وأغطية الرأس‬ ‫وحزامه العسكري‪.‬‬

‫منذ ذلك اليوم ودعت الحياة المدنية‪ ،‬انخرطت في حياة عسكرية‬

‫شاقة قاسية‪ ..‬أصبحت في الكلية العسكرية مجرد رقم فقط ونسيت‬

‫اسمك الحقيقي‪ .‬كنت تخاطب‪:‬‬

‫ـ هرول صفر ثالتة‪ ..‬انبطح صفر تالته‪ ..‬استعد صفر تالتة‪..‬‬ ‫استرح صفر ثالثة‪ ..‬انزل بروك صفر ثالثة‪.‬‬

‫البروك والهرولة والدحرجة والعقاب الميداني وشتائم عراقية‬

‫تعلمها الضباط الذين تخرجوا من العراق أو تدربوا هناك وصلت‬

‫إلى أذنك مفردات جديدة‪:‬‬

‫ـ خرقة‪ ..‬ازمال‪ ..‬أثول‪ ..‬حيوان‪.‬‬ ‫‪88‬‬


‫ـ المستجد يسمع وما يرد‪ ..‬الحائط الذي أمامك نقول لك لونه‬ ‫أسود وهو أبيض تقول أسود فهمت‪ ..‬تخالف التعليمات‬ ‫يا ويلك‪.‬‬

‫لم يعرف أحد من الطلبة أو الضباط في الكلية في سنة المستجد‬ ‫أنك كاتب قصة ولك مجموعة قصصية وكتاب عن شاعر معتقل‬ ‫العقيله‪.‬‬

‫‪89‬‬



‫( ‪) 11‬‬ ‫هذه الكلية التي وجهت إليها رغما عنك ودون رغبتك‪ ،‬كانت‬

‫تسمى كلية الشعب المسلح‪ ،‬أنشئت سنة ‪1981‬م بطرابلس بمنطقة‬

‫عين زارة‪ ،‬وكان هدفها تخريج ضباط لقيادة التشكيالت من أفراد‬ ‫التجييش‪ ،‬التحقت أول دفعة لهذه الكلية مع بداية نوفمبر ‪1981‬م‪،‬‬

‫وتخرجت منها في ‪1983 /9 /1‬م تحت ما يسمى قيادة تجييش‬ ‫المدن‪.‬‬

‫وكانت الدفعة الثانية خليط من الطالب وضباط الصف الحاصلين‬

‫على الثانوية العامة‪ ،‬وأغلبية من معلمي ليبيا‪.‬‬

‫األشهر األولى في الكلية كانت قاسية جدً ا‪ ،‬حياة مختلفة‪ ،‬إال أن‬

‫الجهد الكبير الذي كنت أبذله أعانني على تحمل المعاناة والمشاق‪،‬‬ ‫رغم ضعف جسمي والنحول الذي طرأ علي‪ ،‬كانوا معي خمسة‬ ‫طالب المستجد من مدينتي‪ ،‬موزعين على الحظائر األخرى‪ ..‬كنا‬ ‫ننهض في الصباح الباكر‪ ،‬نتدافع على الحمامات ودورات المياه‪،‬‬ ‫‪91‬‬


‫لغسل الوجوه والحالقة في سرعة وحيوية ونشاط عندما نسمع بوق‬ ‫الكلية كما نقوم بنظافة القاطع‪.‬‬

‫ثم نجمع في الساحة سريعا في سرايا وندخل المطعم لتناول‬ ‫اإلفطار كل ثالثة في باكو حليب وقطع من البسكويت بعد دقائق‬ ‫نخرج للساحة من جديد‪.‬‬ ‫الكلية العسكرية كانت تتكون من كتيبة المستجد وكتيبة المتقدم‪،‬‬ ‫الطالب المستجدون يقيمون في عنابر خاصة بهم والمتقدم في عنابر‬ ‫خاصة بهم‪ ،‬الدراسة في الكلية العسكرية نظرية وميدانية‪.‬‬

‫الدراسة النظرية محاضرات في التاريخ العسكري والجغرافيا‬ ‫العسكرية‪ ،‬واألمن الحربي واللغة االنجليزية وقانون العقوبات‬ ‫العسكري‪ ،‬والرياضيات والمنطق‪ ،‬والقانون الدولي والتعبية ومهنة‬ ‫الميدان‪ ،‬الدراسة الميدانية في الساحة المشاة واألسلحة الخفيفة‬ ‫والمتوسطة‪ .‬ضباطها كثر وكذلك ضباط الصف والجنود‪.‬‬ ‫في سنة المستجد كانت كل تحركاتنا بالهرولة‪ ،‬سواء في الدخول‬ ‫إلى المنامات أو الخروج منها‪ ،‬ترتيب األسرة والدواليب يوميا كل‬ ‫صباح‪ ،‬وكذلك الحالقة للوجه وتلميع األحذية‪.‬‬

‫مضت أشهر المستجد بطيئة وثقيلة‪ ،‬تعليمات وأوامر عسكرية‬ ‫جافة‪ ،‬إرهاق وإجهاد بدني ال نعرف للنوم والراحة طعما‪،‬على تلك‬ ‫األسرة الحديدية إال في ساعة متأخرة من الليل‪ ،‬ناهيك عن االستيقاظ‬ ‫المبكر للرياضة‪.‬‬ ‫‪92‬‬


‫أتذكر تلك الساحة في الجمع الصباحي‪ ،‬ونحن في شهر ديسمبر‬ ‫بشتائه القارص‪ ،‬وبرودته التي تقشعر لها أجسادنا‪ ،‬النحيفة المنتصبة في‬ ‫الساحة كالخشب المسندة‪ ،‬أحذية سوداء تلمع ووجوه حليقة‪ .‬وترجع‬ ‫بك الذاكرة إلى فتاتك الجميلة ذات المعطف األبيض وشعرها الذهبي‬ ‫المسترسل على كتفيها كأشعة الشمس‪ ،‬وأنفها الروماني الدقيق‪ ،‬وعينيها‬ ‫العسليتين‪ ،‬وكيف كنت تلتقي بها في الطريق وتحييها وترد على تحيتك‪،‬‬ ‫لكن هاهي األقدار قد باعدت بينك وبينها‪ ،‬هل هي ما تزال على عهدها؟‬ ‫أم اختطفها فتى األحالم ورحل بها بعيدً ا‪ ،‬شردت معها بينما سرب الحمام‬ ‫الذي كان يحلق فوق سطح العنبر‪ ،‬الذي نقيم بداخله‪.‬‬ ‫يا حمامة عدي وطيري للمحبوب‬

‫قولي له راني مريف‬

‫والشوق دوبن يدوب‬

‫ياحمامة طيري طيري وعدي للمحبوب‬

‫تشرد مع مدينتك طبرق التي يحتضنها البحر من ثالث جهات‪،‬‬ ‫منحتك محبتها وودها وأحيائها العديدة جبيلة النور الحطية والجبيلة‬ ‫الشرقية والمطار القديم والمنارة وسوق العجاج وبوذوه‪ ،‬وفي أحد‬ ‫أحيائها الفقيرة البائسة تتذكر كيف قضيت فيها أجمل أيام طفولتك‬ ‫وصباك‪ ،‬إنه حي الحطية بأكواخه العتيقة شرقي سوق العجاج وحتى‬ ‫مقبرة الجدارية‪ ،‬وصوت الفقيه إبراهيم البعجية في المساء في زاوية‬ ‫سيدي عطية الجراري والمديح والذكر والشاي بالكاكاوية‪ .‬أتذكر‬ ‫‪93‬‬


‫طبرق بمكتبتها العامرة بأمهات الكتب األدبية والعلمية‪ ،‬والمركز‬ ‫الثقافي الذي ينتصب شامخا في مدخل المدينة‪ ،‬ومقهى شلغوم‬ ‫ومقهى دمدوم‪ ،‬وأزعيط الذي كان يبيع الكاكاوية والزريعة اللب‬ ‫أمام سينما الزني أو سينما حلمي‪ .‬حييت مدينتي بربوعها الجميلة‪،‬‬ ‫حييت الحطية وسوق العجاج واجبيلة النور وشاهر روحه‪ ،‬حييت‬ ‫القعرة والزعفرانة والدالع والماص البطناني صيفا في قرى البطنان‪،‬‬ ‫والشعير ومواسم الحصاد‪ ،‬حييت السيمفارو‪ ،‬والجبيلة الشرقية‬ ‫والمطار القديم‪ ،‬متى أحظى برؤياك مدينتي الجميلة؟‬ ‫وفجأة أحسست بيد الضابط البرونزي آمر الفصيل تمتد إلى ظهري‬ ‫بقسوة‪ ،‬وصاح في وجهي وشرر الغضب يتطاير من عينيه‪:‬‬ ‫ـ لقد خرقت الضبط والربط أيها المستجد‪.‬‬

‫سرعان ما فطنت لنفسي أصلحت من وضع رجلي‪ ،‬كان الفصيل‬ ‫يقف في حالة استعداد‪ ،‬وأنا أقف في حالة استراحة يالي من غبي‪.‬‬ ‫وبعد الغداء كان اسمي في قائمة المعاقبين في الساحة‪ ،‬عقاب‬ ‫بدني عنيف هرولة وزحف ودحرجة في ساحة الكلية‪ ،‬حتى انسلخ‬ ‫جلد ركبتي وكوعي وتقاطر مسارب دمي‪ ..‬كما تقيأت كلما تناولته‬ ‫على أرضية الساحة‪.‬‬

‫بعد عدة أشهر من التدريب األساسي الشاق داخل الكلية‪ ،‬أخذت‬ ‫أتحصل على أمر خروج مع نهاية تمام يوم الخميس‪ ،‬أهرول نحو‬ ‫أول تاكسي ألمحه في عين زارة أهتف به في غبطة‪:‬‬ ‫‪94‬‬


‫ـ فندق قصر ليبيا من فضلك‪.‬‬

‫سرعان ما أحجز غرفة فردية‪ ،‬أشرع في حمام دافئ‪ ،‬أخرج‬ ‫لتناول وجبة العشاء دسمة‪ ،‬بعد طبيخ البطاطا أو القرعة‪ ،‬أعود‬ ‫إلى حجرتي بصحيفة أطالع فيها الصفحات األدبية وأقرأ‪ :‬الظفر‬ ‫والناب‪ ،‬للقاص حسن السوسي‪ .‬وما كتبه القاص سعيد خيرالله‬ ‫عني في هذه الصفحة ً‬ ‫قائل‪:‬‬

‫(عندما يخرج كاتب من حي الحطية‪ ،‬معنى هذا انه خرج من ثوب‬ ‫طبرق القديمة‪ ،‬خرج من بيت األصالة‪ ،‬أي خرج من دم المجتمع‬ ‫مسلحا بتجارب إنسانية حقيقية‪ ،‬ألن بيوت الحطية المشيدة‬ ‫ولحمه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫من الصفيح‪ ،‬تهمس لبعضها البعض بأسرارها وأوجاعها‪ ،‬وأفراحها‬ ‫ومعاناتها وعاداتها وتقاليدها‪ ،‬وشكل نوافذها وطالء أبوابها وخشب‬ ‫أسطحها‪ ،‬وأراجيح العناكب في زواياها‪ ،‬معنى هذا أن عدسة وأفكار‬ ‫صورا صادقة‬ ‫صورا حقيقية أبيض وأسود‪،‬‬ ‫القاص التقطت بشغف‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫لحياة الناس‪ ،‬صورت المرأة والرجل والشيخ والطفل والعجائز‪،‬‬ ‫حكايات ما قبل النوم قامات الناس وظاللها‪ ،‬خطوات المبكرين‬ ‫لنصب مصائدهم لرائحة الخبز‪ ،‬التقطت حتى عواء الذئاب في‬ ‫وادي الجدارية‪..‬‬

‫إن قلم القاص في هذه المجموعة من بداية كتابتها وهو طالب‬ ‫في اإلعدادية يرصد صدى جدران الصفيح‪ ،‬وهي تبتسم من الفرح‬ ‫وتئن من الحزن‪.‬‬ ‫إن قلمه الحبر السائل يرصد الخطى لطابور الفتيات ذهابا وإيابا‬ ‫‪95‬‬


‫لالرتواء من صنبور المياه الوحيد في وسط حي الحطية وعيون‬ ‫الشباب المشاكسة‪.‬‬ ‫إن هذا القلم اليافع يرصد في قصصه المجتمع والتاريخ والطبيعة‬ ‫والوطن والشمس والقمر والهواء واألمل واألحداث العابرة التي‬ ‫خطت بصماتها على جسد هذه المدينة الجميلة)‪.‬‬ ‫بعد ذلك أتناول قلمي‪ ،‬أكتب على الورق رسالة ألخي‪:‬‬ ‫أخي العزيز‬

‫تحية طيبة وبعد‪..‬‬

‫أكتب إليك رسالتي هذه من شقة بحي بالخير في مدينة طرابلس‪.‬‬ ‫هذه الشقة يقطنها أصدقاء وهما محمد عبوب وعبدالحميد الشويهدي‪،‬‬ ‫يعمالن في وكالة األنباء الليبية وفوزي اغربيل الموظف في شركة‬ ‫المواشي واللحوم نخرج من بعد الظهر من يوم الخميس‪ ،‬ونقيم‬ ‫عندهم نغسل مالبسنا وجواربنا ونتناول وجبة عشاء دسمة وننام‬ ‫بعيدا عن صراخ البوق ومن خارج أسوار الكلية العسكرية‪.‬‬

‫تحياتي إليك وإلى أبي الطيب وأمي الحنون‪ ،‬هل ما تزال تربي‬ ‫الدجاج وترمي خبز في التنور وتكنس أمام الكوخ كل صباح وتنتظر‬ ‫عودتي على أحر من الجمر‪ ،‬كيف أحوال أبي الذي ال تفوته أي صالة‬ ‫في مسجد الحطية‪ .‬هل ما يزال يذهب لحراسة تلك الشركة التي تعين‬ ‫فيها حارسا بعد التقاعد‪ .‬وكيف ذهب إلى الضمان وأوقف معاشه‬ ‫التقاعدي ألنه يعمل خفيرا‪.‬‬ ‫‪96‬‬


‫تحياتي وسالمي إلى أخي الصغير وأختي‪.‬‬

‫لقد اشتقت إليكم‪ ،‬وإلى جلساتكم الحميمة الطيبة‪.‬‬

‫هل صديقي صالح ما يزال يزوركم من حين آلخر في غيابي يسأل‬ ‫عني أم انقطع عن زيارتكم قل ألختي ال تنس أن تنظف حجرتي‬ ‫الصغيرة ذات السرير الحديدي والطاولة والدوالب والتلفاز الصغير‬ ‫والمكتبة الصغيرة ال تنس أن تنفض الغبار عن كتبي‪.‬‬ ‫خالتي سعدة مازالت تحمل صرتها وتتنقل من بيت إلى آخر تبيع‬ ‫المحارم والفساتين والسواك‪.‬‬ ‫أخي العزيز‬

‫كانت سنة المستجد مرهقة وشاقة خاصة األشهر األولى‪ ،‬كلها‬ ‫هرولة ورياضة مع الفجر وتدريب ميداني‪ ،‬ثم انهينا المشروع الخارجي‬ ‫في بئر الغنم‪ ،‬بعدها أصبح طالب المتقدم يخففون علينا عقوباتهم‬ ‫بعد الظهيرة‪ ،‬انشغلوا عنا بامتحاناتهم وكونهم شهر وسيصبحون‬ ‫ضباطا‪ ،‬ومع منتصف أغسطس بدأنا في بروفات العرض العسكري‬ ‫على طريق الشط‪ ،‬حتى العرض في احتفاالت أول سبتمبر‪.‬‬

‫في هذه السنة لم أكتب شيئا‪ ،‬وكيف أكتب وأنا لم أشعر بالراحة‬ ‫واالستقرار؟ حتى القراءة انقطعت عنها‪ .‬لم أكن اقرأ إال عن السرية في‬ ‫الهجوم أو السرية في الدفاع‪ ،‬أو تركيب البندقية كالشنكوف والقاذف‬ ‫آربي جي‪ ،‬والقانون الدولي‪ ،‬وقانون اإلجراءات العسكرية‪ ،‬واألمن‬ ‫الحربي والتعبية‪ ،‬وبعض الصحف التي كنت أشتريها من المكتبات‬ ‫‪97‬‬


‫في نهاية األسبوع‪ ،‬ألتصفح الصفحات األدبية فيها ثم أتركها في‬ ‫غرفتي في الفندق‪ ،‬انه ممنوع علينا إدخال الصحف والمجالت‬ ‫إلى الكلية‪.‬‬

‫ما أخبار جيراننا في الحطية هل مازالت على حالها لم تخطط‬ ‫شوارعها ولم تفتح المسارات فيها ولم يرصف الشارع الوحيد‬ ‫الذي يتوسطها‪.‬‬

‫لك تحياتي وسالمي لألهل واألصدقاء والجيران في الحطية‬ ‫وكل من يسأل ويتذكرنا‪.‬‬ ‫وإلى لقاء في القريب في إجازة السنة والسالم عليكم‪ .‬أخوك‪.‬‬

‫في نهاية سنة المستجد تحصلنا على أجازه لمدة شهر واحد‪،‬‬ ‫فرحنا بها كثيرا‪ ،‬وعدنا إلى مدننا وأهلنا غير إنه سرعان ما انتهت‪،‬‬ ‫دخلت الطمأنينة قلبي عندما وجدت أن فتاتي ذات المعطف األبيض‬ ‫ما تزال تنتظرني‪.‬‬ ‫عندما توجهنا للكلية أحسسنا بالكآبة‪ ،‬وكأننا في طريقنا إلى معتقل‬ ‫رهيب‪ ،‬غير انه ما أن أصبحنا داخل أسوار الكلية حتى تأقلمنا وأصبحنا‬ ‫نعيش حياة الطلبة العادية وعادت إلينا الطمأنينة واختفى الضيق‬ ‫والحزن من على وجوهنا‪.‬‬

‫‪98‬‬


‫( ‪) 12‬‬ ‫ما ان أصبحنا في الصف المتقدم حتى تغيرت معاملة ضباط‬ ‫وضباط صف الكلية لنا‪ ..‬توزعنا في تخصصات عسكرية رئيسية‬ ‫جديدة‪ :‬مدفعية‪ ،‬دبابات‪ ،‬مشاة‪ ،‬كذلك الذين معي من مدينتي‪،‬‬ ‫منهم من أصبح في المدفعية‪ ،‬ومنهم من أصبح في الدبابات‪،‬‬ ‫ومنهم من أصبح في المشاة‪ ،‬لم نعد نهرول في أثناء خروجنا من‬ ‫القواطع أو الدخول مثل المستجد‪ ،‬بل نمشي الهوينى‪ ,‬صرنا نأخذ‬ ‫فترة راحة وقيلولة بعد الغداء‪ ،‬كانت تضمنا بعض اللقاءات أثناء‬ ‫فترة الراحة تعرفت على الدويني وهو قاص‪ ،‬والشاعر زاقوب‪،‬‬ ‫كنت أعرفهما حتى قبل دخولي الكلية من خالل إنتاجهم على‬ ‫صفحات األسبوع الثقافي‪.‬‬ ‫نما إلى إدارة الكلية أنني كاتب وقاص‪ ،‬لست أدري من أخبرهم‬ ‫بذلك‪ ،‬قاموا باستدعائي وعهدوا إلى بمكتبة الكلية بعد الدوام‪ ،‬اطلعت‬ ‫عليها كانت تكتظ بالكتب العسكرية الجافة والكتب التاريخية كانت‬ ‫تحتاج إلى فهرسة وتصنيف‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫بعد اإلفطار في شهر رمضان‪ ،‬كانت تجمعنا إدارة الكلية باألمر كل‬ ‫ليلة نحن طالب المتقدم‪ ،‬في مسرح الكلية لمشاهدة نشرة األخبار‬ ‫من التلفزيون الليبي‪ ،‬وبعد النشرة كان يعرض مشاهد اإلعدام بالشنق‬ ‫للشباب من قبل النظام‪ ،‬قيل أنهم تآمروا لقلب نظام الحكم والهجوم‬ ‫على باب العزيزية‪ ،‬على أيدي رجال األمن واللجان الثورية في المدن‬ ‫الليبية‪ ،‬مشاعر تقشعر لها األبدان وتشمئز منها النفوس‪.‬‬ ‫عرفنا فيما بعد أن هناك عملية كبيرة للهجوم على باب العزيزية‬ ‫وقعت‪ ،‬قام بها شباب من الخارج لكنها لم تنجح‪ ،‬وقبض على‬ ‫أعضائها‪ ،‬كما شاهدنا خالل ميدان طبرقو شاب وسيم في زهرة‬ ‫شبابه‪ ،‬أجعد الشعر في العقد الثاني من عمره‪ ،‬يدعى المهدي لياس‬ ‫درس االبتدائية واإلعدادية بمدرسة المجد‪ ،‬ثم تحصل على بعثة‬ ‫دراسية على حساب شركة البريد في اليونان لمدة سنتين‪ ،‬جيء به‬ ‫مقيدا ويديه خلف ظهره إلى ميدان المدينة‪ ،‬قامت فتاة ترتدي الزي‬ ‫العسكري بوضع حبل المشنفة في رقبته‪ ،‬وسط حضور رجال األمن‬ ‫وأعضاء اللجنة الثورية‪ ،‬سحب كرسي اإلعدام من تحت قدميه‪،‬‬ ‫عرفنا فيما بعد أنه كان قد انضم إلى الجبهة الوطنية لإلنقاذ‪ ،‬وعثر‬ ‫على اسمه ضمن قائمة من األسماء في جيب أحدهم بعد استشهاده‬ ‫في عملية اقتحام باب العزيزية‪ ،‬كما شاهدنا مشاهد اإلعدام في‬ ‫المدينة الرياضية بنغازي لشاب يدعى الصادق الشويهدي يا لها‬ ‫من مشاهد مؤثرة‪.‬‬ ‫وفي ليلة أخرى من ليال شهر رمضان الكريم‪ ،‬شاهدنا صرير‬ ‫‪100‬‬


‫مجنزرات ثقيلة‪ ،‬وجرافات عسكرية ووجوه غريبة‪ ،‬من رجال‬ ‫الجيش والشرطة في واحة الجغبوب‪ ،‬بينما الزاوية تتساقط‬ ‫والضريح في الواحة تطالهما آلة التدمير والتفجير‪ ،‬ماذا يحدث‬ ‫لواحة الجغبوب؟ كيف يهدمون هذا المعلم الحضاري‪ ،‬وهذا‬ ‫المسجد الكبير‪ ،‬كيف ينبشون قبور األضرحة‪ ..‬يخرجون جثامين‬ ‫الموتى‪ ..‬ويرحلون بها نحو المجهول‪ ،‬تذكرت تلك الواحة‬ ‫الجميلة الهادئة ذات النخيل الشامخ‪ ..‬وتذكرت منذ سنوات‬ ‫كيف دخلت في ذلك الصباح على مدير مكتب العمل الذي كان‬ ‫ينكب على الملفات أمامه‪ ،‬نظر إلى بعد برهة من خلف نظارته‬ ‫السميكة‪ ..‬تساءل‪:‬‬ ‫ـ ماذا تريد؟ رفع النظارة من على عينيه ؟‬ ‫أجبته‪ :‬إنني أبحث عن عمل خالل فترة اإلجازة الصيفية‪.‬‬ ‫بادرني قائال‪ :‬يوجد لدينا عمل تبع للزراعة‪.‬‬ ‫أجبته‪ :‬أرغب في التسجيل‪.‬‬ ‫بعد تردد قال‪ :‬لكنه ليس في مدينة طبرق‪.‬‬ ‫تساءلت‪ :‬أين أذن؟‬ ‫ـ انه هناك في واحة الجغبوب‪ ،‬إن كنت ترغب أسجلك اآلن‬ ‫وتذهب من الغد إلى هناك‪.‬‬ ‫دون انبس ببنت شفة انسحبت من أمامه في تردد‪ ..‬تلك المنطقة‬ ‫‪101‬‬


‫البعيدة النائية؟ كيف أصل إليها وكيف أقيم هناك وهل تسمح لي‬ ‫األسرة؟‬ ‫بعد عدة أيام ترددت على المكتب من جديد‪ ،‬لكن لألسف‬ ‫ال توجد وظائف مؤقتة بالمدينة‪ ،‬دخلت علي مدير مكتب العمل‬ ‫الذي بادرني قائال‪:‬‬ ‫ـ هل وافقت على العمل في الجغبوب؟‪..‬‬

‫أجبته‪ :‬نعم‪...‬‬

‫قال لى‪ :‬أذن أحضر إلينا صباح الغد لتقلك السيارة إلى هناك‬ ‫ومعك اثنين من طبرق‪.‬‬

‫وفي صباح اليوم التالي كانت تقلنا سيارة الالندروفر‪ ،‬لكن كنا‬ ‫ثالثة شباب‪ ،‬واحد اسمه حمدي من الحطية أعرفه جيدً ا‪ ،‬واآلخر‬ ‫اسمه عطية من مرسى دفنة‪ ،‬وسائقنا هو محمد بو اربعة يلقب بهذا‬ ‫ألنه تزوج أربعة من النساء‪ ،‬رجل تخطى العقد الخامس من عمره‪ ،‬له‬ ‫تجارب عديدة في الحياة‪ ،‬تكررت زيارته للجغبوب عدة مرات‪ ،‬عند‬ ‫المقبرة الفرنسية عرجت بنا السيارة نحو اليمين ثم في اتجاه قاعدة‬ ‫العدم‪ .‬كان ثمة بيوت عشوائية على جانبي الطريق المرصوف ثم اتجه‬ ‫بنا السائق بعد أن اقترب من القاعدة نحو الجنوب الشرقي‪ .‬قال لنا‪:‬‬ ‫ـ هذه هي طريق الواحة‪.‬‬

‫ثم شرع يحدثنا عن الجغبوب ونخيلها الشامخ وطيبة أهلها‬ ‫وكرم ناسها‪.‬‬ ‫‪102‬‬


‫طريق طويل ثعباني يتلوى ال عشب وال أشجار على جانبيه صحراء‬ ‫قاحلة‪ ،‬والشمس في كبد السماء‪ ،‬والالندروفر تعلو بنا وتهبط‪ ..‬ال طير‬ ‫يطير‪ ،‬واألرض بنية اللون‪ ،‬بعد ساعات الحت لنا األسالك الشائكة‬ ‫على يسار الطريق قال السائق بو اربعة‪:‬‬

‫ـ هذا شبردق من أيام الحرب االيطالية زرعه جرسياني لمنع‬ ‫المساعدات عن المجاهدين الليبيين‪.‬‬

‫وبعد دقائق الحت لنا أشجار النخيل الباسقة‪ .‬توقفت بنا السيارة‬ ‫أمام مبنى مطلي باللون األبيض قيل لنا انه االستراحة‪ .‬في مدخل‬ ‫الواحة كنا نتفصد عرقا الواحة والشمس الحامية مسئول الزراعة‪،‬‬ ‫وبعض العاملين كانوا في استقبالنا رحبوا بنا‪ ..‬أدخلونا إلى المربوعة‬ ‫ثم أشار احدهم إلى الحمام للوضوء وصالة الظهر ريثما يجهز الغداء‪.‬‬ ‫بعد الساعة كنا قد توضأنا وصلينا الظهر وتناولنا وجبة الغداء وشربنا‬ ‫الشاي األخضر ومعنا السائق ومسئول الزراعة‪.‬‬

‫استأذن السائق في العودة إلى مدينة طبرق وحيانا متمنيا لنا‬ ‫التوفيق في عملنا الجديد‪ ،‬بينما نهض مسئول الزراعة عائدا إلى‬ ‫بيته وابلغنا انه سيحضر قرب المغرب لصالة المغرب معا في‬ ‫مسجد الواحة الوحيد‪ ،‬وتناول وجبة العشاء معه في بيته‪ .‬كانت في‬ ‫االستراحة العديد من الحجرات أخلدت للراحة والنوم في إحداها‬ ‫بينما فعل رفيقاي نفس الشيء‪ .‬لقد كانت رحلة شاقة ومضنية في‬ ‫سيارة الالندروفر وعلى طريق متهالكة استيقظنا قبل المغرب بقليل‬ ‫كان الحاج طاهر مسئول الزراعة قد وصل‪ .‬حينها توضأنا ولبسنا‬ ‫‪103‬‬


‫أحذيتنا وسرنا على األقدام باتجاه الواحة صعدنا إلى مسجد الواحة‪.‬‬ ‫كانت بيوت الواحة مبنية بالطوب األبيض ومسقوفة باألخشاب‪.‬‬ ‫اقتربنا من المسجد وهو فناء كبير ذو طراز إسالمي متقن وبجواره‬ ‫الكتاب الذي يتم فيه تحفيظ القرآن الكريم للطالب‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إلى خالوي للطلبة‪ ،‬وهي حجرات صغيرة لسكن طلبة الداخلي‪،‬‬ ‫من دورين وبيوت محفظي القرآن‪ .‬ومبنى خاص باستقبال الزوار‬ ‫وضيوف الجغبوب‪.‬‬

‫دخلنا الجامع‪ .‬كان صحنه عبارة عن فناء فسيح تتخلله أقواس‪،‬‬ ‫في وسطه صهريج حجري لماء الوضوء‪ ،‬وفي أقصاه باب من خشب‬ ‫األبنوس رائع النقش‪ ،‬يؤدي إلى داخل المسجد‪ ،‬وهناك باب آخر‬ ‫يفضي إلى خلوة داخلية‪ ،‬تعلوها قبة منقوشة مطلية بألوان خضراء‬ ‫وحمراء وذهبية‪ ،‬وعلى األرضية التي تحت القبة يقع شباك برونزي‬ ‫دقيق الزخرفة‪ ،‬وفي وسطه أبواب على هيئة أقواس‪ ،‬بينما ثبت على‬ ‫واجهته لوحتان‪ ،‬أحداهما نقش عليها شجرة العائلة السنوسية‪،‬‬ ‫واألخرى مدون عليها النص الكامل آليات القران الكريم‪ ،‬مكتوبة‬ ‫بحروف صغيرة‪ ،‬وفي داخل الضريح السنوسي الكبير السيد محمد‬ ‫بن علي السنوسي‪.‬‬

‫كان في استقبالنا شيخ طاعن في السن‪ ،‬ذو لحية البيضاء رحب‬ ‫بنا‪ .‬قرأنا الفاتحة على ضريح السيد محمد بن علي السنوسي مؤسس‬ ‫الطريقة السنوسية‪ ،‬ومن معه من السادة السيد الشريف السنوسي‪،‬‬ ‫والسيد صفي الدين السنوسي‪ ،‬والسيد الرضا محمد المهدي‬ ‫‪104‬‬


‫السنوسي‪ ،‬ثم صلى بنا أمام المسجد الشيخ صالة المغرب‪ ،‬في‬ ‫جماعة بعد الدعاء وصالة ركعتان‪ ،‬أحسسنا بالمهابة والوقار خرجنا‬ ‫مع الحاج طاهر ومشينا على األقدام‪ ،‬حتى اقترب من محل تجاري‪،‬‬ ‫استقبلنا شاب بالترحاب‪ ،‬اقترب الحاج طاهر من الثالجة‪ ،‬ومد لكل‬ ‫واحد منا علبة عصير عنب‪ ،‬ثم التفت إلى الشاب قائال‪:‬‬ ‫ـ أي واحد من هذه الوجوه الطيبة‪ ،‬يأتي إلىك يا سنوسي أعطه‬ ‫ما يريد فهمت‪.‬‬

‫هز الشاب رأسه باإليجاب‪ .‬ثم التفت إلينا الحاج طاهر‪:‬‬ ‫ـ هذا دكاني وهذا ابني‪.‬‬

‫صحبنا إلى المربوعة في بيته‪ ،‬تناولنا عشاء دسما عنده‪ ،‬ثم عدنا‬ ‫لالستراحة من جديد للنوم والراحة‪.‬‬

‫ومع إشراقة الصباح أقبل الحاج طاهر ليأخذنا إلى مكان العمل‬ ‫إلى حيث العامل الريفي الذي كان في استقبالنا‪ .‬هو أسمر البشرة‬ ‫ضخم البنية كانت بيده مسحة كبيرة يحفر بها أحواض الصفصفة‪.‬‬ ‫مضى المسئول وتركنا عنده في تلك المزرعة‪ ،‬وألول مرة أتذوق‬ ‫شراب الالقبي الطازج من يدي الريفي األسمر الضخم الجثة‪ ،‬وبدأنا‬ ‫في عملنا من اليوم األول وهو إحصاء وتعداد أشجار النخيل التابعة‬ ‫للزراعة‪ ،‬سواء كانت األشجار مثمرة أو غير مثمرة حسب النماذج‬ ‫التي كانت معنا‪.‬‬ ‫أسكننا مسئول الزراعة في منزل حديث في شعبية به ثالثة غرف‬ ‫‪105‬‬


‫وحمام ومطبخ حديثا لإلقامة‪ ،‬وتعرفنا على أهالي تلك الزاوية العريقة‬ ‫التي أسسها السيد محمد بن علي السنوسي وولد فيها ملك ليبيا‬ ‫الصالح إدريس السنوسي رحمه الله‪ .‬كان أهالي تلك الواحة يوصفون‬ ‫بالكرم والطيبة‪ .‬لم يتركوننا نطهي عشاءنا‪ ،‬كانوا يستضيفوننا في‬ ‫بيوتهم حتى نكاد نزورها جميعا‪ .‬منهم سيدي نصيب الشاعري وأبناءه‬ ‫وأحفاده الحاج طاهر بوانغيره‪ ،‬الحاج أحمد المهدي‪ ،‬الحاج محمد‬ ‫اقناوي‪ ،‬وأبناءه وعائلته وصالح زويله وغيرهم‪.‬‬ ‫وتعرفت على مكتبة الجغبوب الضخمة‪.‬‬

‫تذكرت كيف كنت أقضي أوقات فراغي في الذهاب إلى تلك‬ ‫المكتبة الغنية بأمهات الكتب‪ ،‬وموظفها الجليل سيدي الشارف‬ ‫الذي فتح المجال أمامي لإلعارة فشغلت وقتي بعد الظهيرة بقراءة‬ ‫مؤلفات عباس محمود العقاد وطه حسين وخالد محمد خالد‬ ‫وروايات عبدالحميد جودة السحار وكامل الكيالني‪ ،‬وكيف‬ ‫كتبت هناك قصة قصيرة بعنوان «غلطة األب» وبعد ثالثة أشهر‬ ‫هناك في واحة الجغبوب عدت إلى أهلي في الحطية محمال‬ ‫بالتمور ورب التمر‪.‬‬ ‫سرعان ما مضت السنة األخيرة في الكلية العسكرية‪ ،‬قمنا‬ ‫بالمشروع الخارجي النهائي في بئر الغنم‪ ،‬الذي استمر عدة أيام‬ ‫في التطبيق العملي والميداني لما درسناه سواء في المسير بالحك‬ ‫أو الرماية باألسلحة أو قيادة البي أم بي‪ ،‬وشهر أغسطس قضيناه في‬ ‫بروفات مشاة التخرج الصباحية على طريق الشط‪ ،‬مع بداية سبتمبر‬ ‫‪106‬‬


‫عدت إلى مدينتي طبرق‪ ،‬أرتدي بدله التشريفات العسكرية‪ ،‬وعلى‬ ‫كتفي تلمع نجمة يتيمة‪ ،‬فرحت األسرة بعودتي ضاب ًطا‪.‬‬ ‫فوجئت بالحاج عبدالحفيظ يرسل مع أحد أبنائه خرو ًفا سمينًا‬ ‫ً‬ ‫قائل‪:‬‬ ‫ـ هذا تهنئة البننا الضابط نتعشى عليه الليلة بمناسبة تخرجه‪.‬‬ ‫كدت أرجع له الخروف لعله يتذكر يوم أن طلب منه أبي يد ابنته‬ ‫لي‪ ،‬لم يوافق وذهب لزوجته التي قالت له‬ ‫ـ هذه أسرة فقيرة ولن نعطي ابنتنا لفقير‪.‬‬ ‫لكن كابوس الكلية المزعج ظل يطاردني باستمرار‪ ،‬في نومي‬ ‫مذعورا‪ ،‬إثر كابوس وحلم ثقيل بأنني قد أضعت‬ ‫كنت أهب من نومي‬ ‫ً‬ ‫حذائي العسكري‪ ،‬أو بدلة الشغل‪ ،‬أو غطاء الرأس‪ ،‬والكتيبة في حالة‬ ‫الجمع الصباحي أتنفس الصعداء‪ ،‬عندما أجد نفسي على سريري‬ ‫وفي غرفتي‪ ،‬تلك الكوابيس المزعجة ظلت تالحقني في نومي‬ ‫لسنوات عديدة‪.‬‬ ‫طلبت من أمي أن تأخذ معها خالتي وإحدى الجارات وتذهب‬ ‫ألسرة تلك الفتاة ذات المعطف األبيض‪ ،‬غير أن أمي قالت لي وهي‬ ‫مترددة‪:‬‬ ‫ـ يا وليدي هذي الفتاة جاوها واجدين لكنها رفضتهم‪.‬‬ ‫ـ انت امغير عدي واطرقي الباب‪.‬‬ ‫‪107‬‬


‫ـ انخاف ترفض يا وليدي‬

‫ـ ال امغير عدي لهم‪.‬‬

‫ذهبت أمي ومعها خالتي إلى كوخ عائلة الفتاة‪ ،‬وظللت انتظر عند‬ ‫ابن خالتي وأنا على أحر من الجمر‪ ،‬وقبل المغرب بقليل عادت أمي‬ ‫وقد هنأتني أمي في دهشة واستغراب قائلة‪:‬‬ ‫ـ مبروك وليدي‪ ..‬وافقت‪.‬‬

‫‪108‬‬


‫( ‪) 13‬‬ ‫ً‬ ‫كبيرا ومرمو ًقا في‬ ‫صديقي صالح ابتسم له الحظ‪ ،‬وأصبح‬ ‫مسئول ً‬

‫الدولة‪ ،‬وعندما أسأل عنه يقولون لي إنه في اجتماع في سرت أو في‬

‫طرابلس‪ ،‬أو مكلف بمهمة في دبي أو األردن أو القاهرة أو االسكندرية‪.‬‬

‫لم نعد نلتقي إال نادرا فهو مشغول دائما ولديه أصحابه الجدد هم من‬ ‫المسئولين الكبار‪ ،‬وماذا يريد من شخص مثلي مجرد صحفي يجري‬

‫وراء الخبر؟ ويلهث وراء مهنة المتاعب‪ .‬غير إنني التقيت به ذات يوم‬ ‫وعرضت عليه فكرة إصدار صحيفة محلية لكنه قال لي‪:‬‬

‫ـ أنا ال أفهم كثيرا في الصحافة ولكن لدينا اجتماع الغد في مقر‬ ‫الصحة الساعة العاشرة صباحا ما رأيك أن نلتقي هناك وأعرفك‬

‫على عميد البلدية وتقدم له التصور يكون ذلك أفضل‪.‬‬

‫وبالفعل التقيت به وأدخلني على عميد البلدية وقدمت له التصور‬

‫فوافق عليه بل واقترح علي تسمية أسرة تحرير الصحيفة البطنان‪،‬‬

‫وتقديم ذلك إلى المكتب القانوني إلصدار قرار بذلك عنه‪.‬‬ ‫‪109‬‬


‫صدر قرار انشاء صحيفة البطنان في الخامس من يوليو‪ ،‬ووافق‬ ‫صدور العدد األول من الصحيفة يوم زفافي على تلك الفتاة ذات‬ ‫المعطف األبيض‪ ،‬التي كانت وفية لي برفضها كل من تقدم لخطبتها‬ ‫في غيابي‪ ،‬انتظرتني حتى تخرجت من الكلية‪ ،‬ازدهرت الصحيفة‬ ‫وأصبحت تحمل أخبار المدينة وهمومها‪ ،‬على صفحاتها برز‬ ‫كتاب وصحفيون جدد‪ .‬تطالع على صفحاتها زوايا ثابتة‪ :‬فتات‬ ‫من خراب الذاكرة‪ ،‬بتوقيعي‪ ،‬بيت القصيد‪ ،‬مجرد رأي‪ ،‬وجه من‬ ‫البطنان‪ .‬أخذت تهتم بقضايا المهمشين في العشوائيات في أحياء‬ ‫الحطية والحي الروسي وداخل معهد النفط‪ ،‬بل وأجرت لقاء‬ ‫مع ذلك المواطن الذي وجدناه يقطن بعائلته داخل منارة إرشاد‬ ‫السفن في السيمافرو‪ .‬قال لنا في حديثه معنا أنه يحرج من زيارة‬ ‫األقارب واألصدقاء ألنهم يقيمون في حجرة واحدة فقط وممر‬ ‫صغير وحمام‪.‬‬ ‫استقطبت البطنان أسماء عديدة تعرفت عليها من خالل الصحيفة‪،‬‬ ‫سعيد خيرالله والسوسي وعبدالله عياد والناجي عبدالواحد‬ ‫ومحمد سعيد والشاعري والرواف وبوسالمة وزيدان وبوحفحوف‬ ‫والدمنهوري وبوفؤاد وبو امطول وعبدالسالم ابعيو وونيس وسعد‬ ‫المصراتي وبوفراج ورزق فرج وغيرهم‪.‬‬

‫فتحت الصحيفة صفحاتها للجميع‪ ،‬منهم من استمر لفترة ما‬ ‫ثم توقف‪ ،‬ومنهم من تواصل معها وتحولت الكتابة لديه من هواية‬ ‫إلى احتراف‪ ،‬بل وهناك من توطدت عالقتي وصداقتي به حتى انه‬ ‫‪110‬‬


‫أخذ يسافر معي إلى المطابع ويشارك في كيفية تجهيز العدد هناك‬ ‫في بنغازي والسهر عليه حتى طباعته في منتصف الليل‪ ..‬وكانت‬

‫لي مواقف مختلفة مع كل هذه األسماء‪ .‬وكذلك المشاركة معي‬ ‫في الندوات واألمسيات القصصية والشعرية سواء في طبرق أو‬

‫خارجها‪.‬‬

‫أصبح للصحيفة قراء وعليها إقبال في مكتبات المدينة والمدن‬

‫الليبية واحتضنت العديد من المواهب الذين أصبح لهم شأنا فيما بعد‪.‬‬ ‫ومع احتفالنا بالسنة األولى للصحيفة أطلت علي المولودة األولى‬

‫البكر‪ ،‬ومع السنة الثالثة للصحيفة كانت المولودة الثانية‪ ،‬ثم السنة‬

‫الرابعة كان احتفالنا بالمولود األول والبكر ثم مع السنوات ازدان‬ ‫بيت األسرة بعدد من األوالد والبنات‪.‬‬

‫وبعد مرور عدة سنوات على صدور تلك الصحيفة‪ ،‬استدعيت من‬

‫قبل آمر منطقة طبرق العسكرية وهو عقيد من غرب البالد في تلك‬ ‫الفترة‪ ،‬دخلت عليه مكتبه‪ ،‬وبعد أداء الواجب سألني قائال‪:‬‬ ‫ـ أنت ضابط أم مدني؟‬ ‫ـ ضابط طب ًعا‪.‬‬

‫ـ جاءتني معلومة أنك أصدرت جريدة‪.‬‬

‫ـ نعم سيدي المعلومة صحيحة التي جاءتك وقد أصدرت من‬ ‫هذه الصحيفة عدة أعداد‪.‬‬

‫‪111‬‬


‫ـ هل حصلت على أذن من االستخبارات العسكرية لهذه‬ ‫الصحيفة؟‬ ‫ـ ال يا سيدي هي صحيفة محلية صادرة عن البلدية ليست لها‬ ‫عالقة باالستخبارات‪.‬‬

‫ـ أنت ضابط في الجيش والتعليمات العسكرية تقول حتى الكتابة‬ ‫للصحف والمجالت ممنوعة عليك إال بعد حصولك على أذن‬ ‫وموافقة من سيدي القائد األعلى‪.‬‬

‫ثم هددني بإيقاف الترقية والحبس‪ ،‬إن لم تتوقف هذه الصحيفة‬ ‫عن الصدور وأمرني باالنصراف دون االستماع إلى‪.‬‬

‫لكنني لم أهتم به ولم أمتثل ألمره‪ ،‬وبعد أسابيع علمت أن ذلك‬ ‫العقيد قد انتقل إلى منطقة عسكرية أخرى في الجنوب‪ ،‬استمرت‬ ‫الصحيفة في الصدور ولم تتوقف‪ ،‬كانت الحياة العسكرية صعبة‬ ‫كثيرا‪ ،‬غير مسموح لي باإلجازة إال بعد موافقة االستخبارات‬ ‫العسكرية‪ ،‬كل بوابة عسكرية قبل أن تجتازها كضابط البد أن‬ ‫تسجل اسمك ورقمك العسكري في سجل البوابة‪ ،‬وإلى أين أنت‬ ‫ذاهب؟ والسفر خارج البالد محظور على ضباط الجيش إال في‬ ‫حالة العالج أو المهمة‪ ،‬حتى الزواج بالنسبة لي لم يتم إال بعد‬ ‫التحري والموافقة من االستخبارات العسكرية‪ ،‬عن الفتاة التي‬ ‫أرغب في الزواج منها‪.‬‬ ‫ومع منتصف سنة ‪95‬م فوجئنا نحن دفعات المعلم الضابط‪،‬‬ ‫‪112‬‬


‫وبعد أن وصلنا إلى رتب مختلفة مالزم أول ونقيب‪ ،‬فوجئنا بقرار‬ ‫القائد األعلى بانفكاكنا من القوات المسلحة‪ ،‬لماذا هذا التسريح؟‬ ‫كثيرا‬ ‫لست أدري ربما ألن معمر القذافي لم يعد يركز على الجيش ً‬ ‫بل انصب تركيزه على الكتائب األمنية التي استحدثها في المناطق‬ ‫والمدن الليبية‪.‬‬

‫أخذتني الصحافة والكتابة‪ ،‬وعرف اسمي في الصحافة الليبية‪،‬‬ ‫أصبح كل همي هو مطاردة ومالحقة الخبر الصحفي‪ ،‬وحضور‬ ‫اجتماعات البلدية‪ ،‬واستقطاب الكتاب وإجراء اللقاءات الصحفية‪،‬‬ ‫وجلب المادة الصحفية مراجعتها وتصحيحها‪ ،‬والسفر بها إلى‬ ‫المطابع في بنغازي وطباعتها وتصحيحها‪ ،‬واألشراف على الجمع‬ ‫اليدوي والسهر عليها في المطبعة حتى الهزيع األخير من الليل‪ ،‬ثم‬ ‫العودة بنسخ الصحيفة الثالثة آالف في سيارة األجرة إلى مدينتي‬ ‫الغافية في أحضان البحر‪ ،‬ليتم توزيعها على مكتبات المدينة‪ ،‬وكذلك‬ ‫قطاعاتها الخدمية‪ ،‬معاناة صعبة في مهنة المتاعب تلك‪.‬‬ ‫وتوسعت دائرة األصدقاء الصحفيين الذي استمروا معي في‬ ‫مهنة المتاعب‪ ،‬فأسست مكتبا للصحافة بطبرق حيث ضممتهم لهذا‬ ‫المكتب‪ ،‬والدعوة للكتابة على صفحات الصحف الليبية التي صدرت‬ ‫عن مؤسسة الصحافة بجهود كبيرة من عميد البلدية في تلك الفترة‬ ‫الطيب الصافي‪ ،‬ومدير مؤسسة الصحافة حينذاك الدكتور عابدين‬ ‫دردير الشريف‪.‬‬ ‫صديق الدراسة دخيل بعد أن أصبح عقيدا في الجيش‪ ،‬أخذ‬ ‫‪113‬‬


‫يفكر في تقديم استقالته ومواصلة الدراسة العليا ألن ضباط الجيش‬ ‫محظور عليهم مواصلة التعليم العالي‪ .‬وبالفعل قدم استقالته من‬ ‫الجيش وواصل دراسته حتى تحصل على الماجستير وهو يستعد‬ ‫إلعطاء محاضرات في طلبة جامعة زليطن‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫( ‪) 14‬‬ ‫ضعف بصر أبي ولم يعد يرى‪ ،‬وهزل جسمه وضعف ولم يعد‬

‫يأكل‪ .‬أقعده المرض‪ ،‬حملناه إلى أكثر من طبيب أصبح طريح الفراش‪،‬‬

‫مجرد هيكل عظمي‪ ،‬وعينان غائبتان ضيقتان‪ ،‬صدره يعلو ويهبط‪ ،‬لقد‬

‫مات العالم من حوله‪ ،‬أجلس عند رأسه مع أخوي وبعض األقارب‬

‫والجيران‪ ،‬كانت نظراتهم تبعث على الرثاء‪.‬‬

‫كثيرا في حياته من أجل توفير القوت اليومي لنا والمالبس‬ ‫تعب ً‬

‫واألحذية وتربيتنا على األخالق والقيم واحترام الكبير وتقدير الجار‬

‫ومساعدة الغير‪.‬‬

‫التفت إلى الحاج خليل قائال‪:‬‬ ‫ـ أبوك هذا من أطيب الناس الذين عرفتهم في حياتي‪ ،‬عمره‬ ‫لم يذكر أحدا بسوء في غيابه‪.‬‬

‫أردف مؤذن مسجد الحطية‪:‬‬ ‫‪115‬‬


‫ـ إنه لم يتأخر عن الصالة في المسجد حتى صالة الفجر كان‬ ‫يحضرها إلى أن مرض‪.‬‬ ‫أضاف جارنا حمزة‪:‬‬

‫ـ والدك أعرفه رجل عصامي ال يأكل إال من عمل يده‪ ..‬أذكر انه‬ ‫بعد أن عمل خفيرا ذهب إلى الضمان وأوقف المعاش التقاعدي‪.‬‬

‫في تلك اللحظات لمحت أمي بردائها الباهت تتساءل في حيرة‬ ‫وقلق‪:‬‬ ‫ـ كيف هو اآلن؟‬

‫اقتربت من أبي المسجى على السرير‪ ،‬تحسست أطرافه تبدو باردة‬ ‫كالثلج‪ ،‬بينما صدره يعلو ويهبط أجبتها‪:‬‬ ‫ـ يبدو على حاله كما هو يلطف الله به‪.‬‬

‫كنت مطي ًعا دائما ألبي وكذلك أخواي‪ .‬لم نتسبب له في أية‬ ‫مشاكل في المنزل أو في المدرسة أو مع الجيران‪ .‬نتعامل مع الجميع‬ ‫في احترام وأدب‪.‬‬

‫ظلت واقفة في ارتباك ظاهر‪ ،‬بينما اقترب من والدي الحاج رزق‪،‬‬ ‫وأمسك بقطنة مبللة شرع يمسح بها على شفتيه اليابستين‪ ،‬اصطكت‬ ‫أسنان أبي ببعضها في حشرجة‪ ،‬خاطبه الحاج رزق‪:‬‬ ‫ـ تشهد يا رجل تشهد‪.‬‬

‫بصوت واهن أخذ أبي يردد‪:‬‬ ‫‪116‬‬


‫ـ أشهد‪..‬أن‪ ..‬ال إله إال الله‪.‬‬

‫توقف أبي نهائيا عن الحركة أسبل جفنيه لفظ أنفاسه األخيرة‪.‬‬ ‫هتف الحاج رزق في نبرة من الحزن وردد معه الحاضرون‪:‬‬

‫ـ إنا لله وإنا إليه راجعون‪.‬‬

‫فجأة أطلقت أمي صرخة مدوية‪ ،‬على أثرها أقبلت النسوة إليها‬ ‫وشرعن في الصراخ والعويل أمام الكوخ‪.‬‬ ‫سحبت الغطاء على وجه أبي الباسم وقد اغرورقت عيناي بالدموع‬ ‫أحسست بغصة في حلقي وحزن‪ ،‬وأسى وبكيت على أبي ألول مرة‬ ‫في حياتي‪.‬‬

‫‪117‬‬



‫( ‪) 15‬‬ ‫كانت قيادة السيارات بالنسبة لي في البداية تشكل صعوبة وخو ًفا‪،‬‬ ‫عندما اشتريت سيارة فولكس واجن‪ ،‬مثل السلحفاة صفراء اللون من زميل‬ ‫لي في التعليم ألول مرة بثالثة آالف دينار أول مرة بعد العاشرة ليال قمت‬ ‫بقيادتها واتجهت بها نحو المدينة‪ ،‬وغامرت بدخول شوارع المدينة بعد‬ ‫أن اختفت السيارات وكانت حينذاك السيارات قليلة والمدينة الصغيرة‬ ‫تنام من التاسعة ً‬ ‫ليل‪ .‬دخلت شارع فلسطين وسرعة السيارة لم تتجاوز‬ ‫الستين غير أنني لم أفطن للمفترق وفجأة مرقت من أمامي سيارة بيجو‬ ‫‪ 505‬فطن لي سائقها فأنحرف بعيدً ا وكدت أن أصدمه لوال أنه أوقف‬ ‫سيارته‪ ،‬وعندما ترجل منها وقد توقف محرك سيارتي وجدت أنني أعرفه‬ ‫فهو اآلخر زميل لي في التعليم ابتسم قائال‪:‬‬ ‫ـ هو أنت؟‬ ‫أجبته‪:‬‬

‫ـ متأسف أنا ما زلت انتعلم في القيادة‪.‬‬ ‫‪119‬‬


‫وبعد أن تعلمت قيادة السيارة الفولكس عرفت قيادة ماركات أخر‬ ‫ى من السيارات منها المازدا والتايوتا والداو سيلو والمتشي والشفر‬ ‫واالنترا وغيرها‪ ..‬السنوات تمضي‪ ..‬الحياة تغيرت في مدينة طبرق‬ ‫التي شجعت على انتقال السكان إليها بساطة وسماحة أخالق أهلها‪.‬‬ ‫كبرت وتوسعت‪ ..‬انتشرت بها أحياء جديدة تحت أسماء جميلة‪:‬‬ ‫الحدائق والزهور والقدس واألندلس واشبيليه وغيرها‪ ..‬غير أن‬ ‫الحطية ظلت كما هي على حالها بأكواخها الضيقة‪ ..‬كل ما تغير‬ ‫فيها هو اختفاء السكان القدامى وانتقالهم إلى أحياء جديدة‪ ..‬وظهور‬ ‫سكان جدد بها‪ ..‬وزحف البناء العشوائي حتى وصلت المباني إلى‬ ‫الشارع الرئيسي‪.‬‬

‫الحطية حاصرتها المباني الحديثة من جميع االتجاهات‪ ،‬المدينة‬ ‫أزيلت مبانيها القديمة‪ ،‬وحلت محلها عمارات كبيرة جديدة وشاهقة‬ ‫بين يوم وليلة‪ ،‬يملكها أثرياء برزوا فجأة لست أدري هل هم أثرياء‬ ‫الحروب والسالح؟ أم أثرياء الحشيش والمخدرات؟ الله أعلم‪..‬‬ ‫المدينة اكتظت شوارعها بالسيارات من مختلف األشكال واأللوان‬ ‫والماركات‪ ..‬الزحام أصبح شديدا بها ال يطاق‪ ،‬تمددت أحياء المدينة‬ ‫نحو الغرب ونحو الشرق‪ ..‬والغرب‪ ،‬الشمال والجنوب‪.‬‬

‫صدرت لي مجموعات قصصية‪ ..‬وكتب عن قصصي العديد من‬ ‫النقاد الليبيين والعرب‪ ..‬كما صدرت لي كتب في األدب الشعبي‬ ‫ودراسات أدبية هي قراءات قصصية وتعريف بكتاب القصة القصيرة‬ ‫في مدينتي‪.‬‬ ‫‪120‬‬


‫غزاني الشيب‪ ..‬أصبح شعر رأسي كالثلج األبيض‪ ..‬غمرت وجهي‬ ‫الذابل الصغير التجاعيد التي حفرتها السنون‪ ..‬انفض عني األصدقاء‬ ‫ورفاق الصبا كل إلى حال سبيله‪ ..‬منهم من رحل عن الحياة‪ ،‬ومنهم‬ ‫من أخذته مشاغل الحياة‪ ..‬منهم من كان صديقا والزال‪ ..‬ومنهم من‬ ‫لم يعد‪ ..‬ومنهم من أصبح خارج دائرة مشاغلي‪ ..‬ومنهم خرجت‬ ‫من دائرة اهتماماته ومشاغله في الفترة التي عرفته فيها‪ ..‬مررت‬ ‫بتجارب كثيرة في حياتي‪ ..‬تجاوزت العقد السادس من عمري‪،‬‬ ‫تزوج أخوتي وأصبحت لهم عائالت كما أصبحت أنا اآلخر جدا‬ ‫لي أحفاد كالزهور‪.‬‬ ‫التساؤل يطوف بذهني هل بالدنا ستنعم باالستقرار واألمان؟‪.‬‬

‫هل ما حدث في ‪ 17‬فبراير ثورة أم مؤامرة؟ هل سننجو من‬ ‫الحرب األهلية التي تعصف بنا وبمدننا؟ هل سيعود النازحون‬ ‫المهجرون إلى مدنهم وقراهم وينعمون بالحياة اآلمنة السعيدة‬ ‫المطمئنة في بالدهم؟‬

‫‪121‬‬



‫صدر في هذه السلسلة‬ ‫‪ 1‬ـ (قراءات في السلم والحرب)‪ ،‬عبدالمنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ (حبر المنفى)‪ ،‬عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ (خاليا نائمة)‪ ،‬محمود البوسيفي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ (أوراق تاريخية)‪ ،‬مختار الجدال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ (ما وراء الحجاب)‪ ،‬فتحي بن عيسى‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ (منفى)‪ ،‬ديوان شعر ـ عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية)‪ ،‬خالد الحراري‬

‫جو ْك)‪ ،‬قصائد محكية بلهجة ليبية‪ ،‬سالم العالم‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ ( َعلى ّ‬ ‫‪ 9‬ـ (موسوعة الجهل النسبي)‪ ،‬مقاالت‪ ،‬الصدِّ يق بودوارة‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ (راهنية التأويل (‪-)2‬سؤال الكيان)‪ ،‬عبد المنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 11‬ـ (الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية)‪ ،‬خيرية فرج َحفالِش‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.