من الذاكرة تأليف :حسين نصيب المالكي © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في إبريل 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
إلى أبي و أمي وأخوتي وزوجتي وأبنائي وبناتي وأصدقائي أهدي هذا الكتاب
()1 هبت نسمات ثورات الربيع العربي ،عندما أضرم طارق محمد
البوعزيزي النار في جسده ،أمام مقر والية سيدي بوزيد ،احتجاجا
على مصادرة سلطات البلدية لعربة الخضار التي كانت مصدر رزقه، و نكاية في الشرطية التونسية التي صفعته على وجهه أمام مشهد من التوانسة صائحة فيه ـ هيا امش من هنا.
فانتفضت تونس عن بكرة أبيها ،ولم تمض بضعة أيام ،حتى خرج
رجل مع آخر الليل ،إلى شارع الحبيب بورقيبه المهجور بمالبسه
الرياضية ،وصاح في فرح غامر وبصوت عال ردد :بن علي هرب..
بن علي هرب.
وانتقلت الثورة من شارع الحبيب بورقيبه إلى ميدان التحرير
بالقاهرة ،بينما كان القذافي لم يزل يتشبث بكرسيه ،ويستقبل وفود المبايعة من المدن الليبية ،الذين كانوا يدخلون الطمأنينة في قلبه على
انه زعيم ومعه الماليين.
7
ما زلت أتذكر دعوة مجلس الثقافة العام لنا نحن الكتاب والصحفيين ،للتوقيع على مؤلفاتنا الصادرة حديثا عنه ،وذلك للحضور والتواجد بمدينة سرت يوم الثالثاء الموافق 15فبراير 2011م ،لكن لماذا هذا التوقيت؟ ولماذا مدينة سرت بالذات؟ سرت التي بها أحدث الفنادق ،وأفخم قاعات المؤتمرات ،وأضخم مقار الوزارات ،وألوف الوحدات السكنية الحديثة ،والشوارع المعبدة المرصوفة ،والحدائق الجميلة إلىوم ،وعندما ترجع بنا الذاكرة إلى أواخر الستينيات ونتذكر كيف كانت سرت مجرد قرية صغيرة على الطريق الساحلي ،بها بضعة متاجر ومخبز ومدرسة ابتدائية ،لماذا ال يكون حفل التوقيع في مدينة بنغازي أو مدينة طرابلس؟ أم أنها محاولة من النظام إلبعادنا عما سيحدث يوم 17فبراير القادم؟ خاصة وأن هناك دعوة للتظاهر السلمي ،عبر صفحات الفيس بوك في المدن الليبية ،كباقي ثورات الربيع العربي في تونس ومصر. في صباح إلىوم التإلى لوصولنا مدينة سرت ،تناولنا اإلفطار في مطعم الفندق ..وصلتنا األخبار عن تظاهرات للمواطنين الليبيين وبعض المثقفين ،ومواجهات في المساء في بنغازي ،أثر اعتقال فتحي تربل محامي ضحايا سجن بوسليم ،في أول مظاهرة سلمية ضد نظام القذافي ،وتم التصدي لهم من قبل قوات الشرطة الليبية ،التي أطلقت الغاز المسيل للدموع ،وفرقت بالعنف جموع المتظاهرين ،وسمع العالم أول صوت معارض لنظام القذافي من داخل ليبيا ،في اتصال هاتفي للكاتب الليبي إدريس المسماري مع قناة الجزيرة ،بأن سيارات 8
أمن وشرطة بزي مدني ،ومن وصفهم بمجرمين يواجهون المحتجين بالقنابل المسيلة للدموع والهراوات والماء الساخن ،وانقطعت المكالمة وهو يهتف :ليبيا ليبيا .وتم اعتقاله واقتحام منزله بمدينة بنغازي.
وكذلك في نفس إلىوم مظاهرة في البيضاء ،وعدد ثالثة قتلى من الشباب ،وحرق مركز شرطة الساحل بدرنة ،أوضاع غير مطمئنة في مدينة البيضاء ،فتشت عن صديقي الفنان خليل الذي اختفى فجأة في إلىوم التإلى ،سألت عنه أخبرني أحد الرفاق إنه خشي على أبنائه ،من االشتراك في المظاهرة في بنغازي ،ولهذا قرر العودة إلى هناك في الصباح الباكر ،مستقال إحدى سيارات األجرة.
علمنا إنه بعد انتهاء مباراة في البيضاء بين فريقي األخضر والمريخ السوداني ،كانت هناك مظاهرة اتجهت إلى مركز المدينة ،ثم إلى مقر األمن الداخلي ،للمطالبة بإطالق سراح المعتقلين ،ومن بينهم أحد أئمة المساجد الشيخ صالح سالم ،فقام رجال األمن بالرماية عليهم لتفريقهم ،غير أنه أصيب اثنان في مقتل من الشباب المتظاهرين، فعلت الهتافات بإسقاط النظام.
عند الساعة العاشرة صباحا ،أقلتنا الحافالت إلى قاعة المؤتمرات.. وهي ليست بالبعيدة عن مقر إقامتنا ،دخلنا القاعة كانت قد جهزت على شكل دائرة ناقص ضلع ،ونضدت الكتب الصادرة حديثا على الطاوالت في القاعة أمامنا ،بحيث يسمح لدخول الضيوف والتحرك السهل والسلس ،جلسنا على الكراسي وكل كاتب أمامه نسخ من إصداره الجديد ،افتتح حفل توقيع اإلصدارات بالطريقة التقليدية 9
المعهودة ..كلمة رئيس مجلس الثقافة العام ،والتي تحدث فيها بإسهاب عن مدينة سرت من الناحية التاريخية والجغرافية ،وكأنه كان يودعها أو كأن هذه الكلمة ستكون هي األخيرة بالنسبة له فيها، ثم تحدث عن دور الكاتب واألديب في هذه المرحلة الصعبة، ثم كلمة مدير مجلس الثقافة العام ،البليغة المليئة بالسجع ،التي تحدث فيها عن الكتاب وسياسة المجلس في النشر ،جاءت بعدها كلمة الكتاب واألدباء ألقاها أحد الكتاب ،وبرقية للقائد كالعادة في كل االجتماعات واالحتفاالت ،بعد ذلك أعطي األذن للتوقيع على المؤلفات الحديثة الصادرة عن المجلس ،حيث قام المدعوون من المواطنين والمثقفين ،بالمرور أمامنا في طابور طويل ،ونحن نجلس خلف الطاوالت المعروضة عليها مؤلفاتنا الصادرة حديثا ،وكل مدعو يلتقط نسخة من الكتب التي أمامه ،ويقف بها أمام المؤلف ليكتب له اإلهداء على الصفحة األولى.
بعضنا معروف وصدر له أكثر من كتاب من قبل ،والبعض اآلخر غير معروف ويصدر له كتاب ألول مرة ..على رأس الصفحة األولى كنت أدون اإلهداء لكل من استلم نسخة من كتابي القصصي «الرجل والنورس» ،وكم كانت فرحتي بصدور هذا الكتاب القصصي بعد عدة سنوات ،نفدت النسخ التي كانت أمامي. عند الظهيرة عدنا إلى الفندق ..تناولنا وجبة الغداء ..رجعت إلى حجرتي ..فتحت التلفاز الصغير ..تمددت على السرير ..شاهدت على قناة البي بي سي مظاهرات ومواجهات في بنغازي. 10
عند الساعة السادسة بعد العصر أقلتنا الحافالت إلى قاعة االحتفال ..كانت ثمة ندوة عن حرية التعبير ،وورقات مقدمة ومداخالت من الكتاب واألدباء ،جلست حوالى نصف ساعة في القاعة ،غير أنني لم استطع أن أكمل الندوة ،أحسست بمغص واآلم ً مهرول نحو أقرب صيدلية لشراء دواء أو حبوب في معدتي ،خرجت مسكنة لأللم ،في أثناء سيري قابلتني مسيرة وجوقة أبواق سيارات فوقها أعالم خضراء ،هذا باإلضافة إلى من يهرولون على أقدامهم، وهم يرفعون الراية الخضراء ويهتفون في مظاهرة تأييد للقذافي، وينددون بقناة الجزيرة القطرية بصوت عال( :يا جزيرة يا حقيرة).. عدت إلى حجرتي في الفندق ..ابتلعت حبة ضد المغص..أخذت جرعة ماء ..تمددت على السرير ..فتحت التلفاز على قناة القنفود الليبية ..شاهدت مسيرة تأييد للقذافي في الساحة الخضراء بمدينة طرابلس ،وأخرى أمام اللجنة الثورية بمدينة طبرق ،يا الهي ما الذي يجري في هذه البالد؟
في المساء وبعد تناول العشاء ،تناقشنا نحن الكتاب واألدباء عما يحدث في بالدنا ،وعبرنا عن قلقنا وانزعاجنا عما يجري في البيضاء ودرنة وبنغازي. قال أحد الكتاب وهو من قاطني مدينة البيضاء :ثمة مظاهرة احتجاج في البيضاء وعدد ثالثة قتلى من الشباب ،واصطدام بكتيبة األمن. حال المدن الليبية في المنطقة الشرقية يبعث على القلق واالنزعاج، 11
وأن المظاهرات المنددة بالنظام لم تتوقف .ألغينا األمسية الشعرية التي كان من المقرر إقامتها تلك الليلة ،كيف يروق لنا أن نستمع إلى الشعر والشباب يقتلون برصاص األمن؟ وقررنا العودة إلى مدننا مع صباح يوم الجمعة ،وكنا نتابع األحداث يوم الخميس عبر شاشات القنوات الليبية والعربية خاصة قناة الجزيرة. الجمعة 18فبراير 2011م
استيقظنا صباحا تناولنا إفطارنا في الفندق ،كانت الحافالت في انتظارنا للعودة إلى بنغازي ،قررنا العودة مباشرة إلى مدينة طبرق ،بعد تأزم الموقف في بنغازي ،عبر طريق إجدابيه طبرق ،استجاب مجلس الثقافة العام لمطلبنا ،جهز لنا سيارة أجرة هونداي بيضاء اللون ،وفي أقل من نصف ساعة كنا بداخلها نحن الخمسة كتاب ،فوزي وسليمان وعبدالرحمن وعوض وأنا ،حيث اتجه بنا سائق تلك األجرة الفزاني، على الطريق الساحلي نحو الشرق ،الرؤية تكاد تنعدم وسط رياح محملة باألتربة الحمراء ،كان السائق يقلل من سرعة سيارته إلى حد أدنى ،كلما اعترضته عاصفة رملية ،بينما كنا نحن نتجاذب أطراف الحديث ،حول ما يجري في ليبيا وإن كانت وجهات النظر واآلراء مختلفة ،إال أن االختالف ال يفسد للود قضية. عند الثالثة بعد الظهر دخلنا مدينة اجدابيه ،التي كانت تعصف بها الرياح العاتية والغبار الكثيف واللون البرتقإلى ،شاهدنا مدينة خرسانية كأنها مهجورة ال بشر فيها ،مقر المؤتمر كان قد أحرق، وكذلك مثابة اللجنة الثورية ..واللجنة الشعبية بها ،نشاهد مجرد 12
بيوت خرسانية ،بحثنا في المدينة عن مطعم نتناول فيه وجبة الغداء، كانت معظمها موصدة األبواب ،لم نجد اال استراحة صغيرة واحدة مفتوحة ،ترجلنا من السيارة وسط الرياح المرتفعة والغبار الكثيف دلفنا إلىها ..جلسنا على الكراسي ومعنا السائق ..تناولنا وجبة الغداء شربنا الشاي األخضر ..من ثم أقلع بنا السائق على طريق اجدابيه طبرق ..الرياح المحملة بالغبار واألتربة أخذت تهدأ ..الطريق بدت تتضح معالمها أمامنا عند اقترابنا من منطقة العدم ..وصلنا طبرق قبل مغيب الشمس بقليل ..المدينة يخيم عليها السكون والهدوء، أوصلنا السائق كل واحد منا إلى منزله ..كنت أنا المترجل األخير من السيارة ..نقدته أجرته التي سلمها لي موظف مجلس الثقافة العام في مظروف صغير ،دعوته للعشاء والمبيت في منزلي ..غير إنه اعتذر خوفا من أن تقفل الطريق البرية الواصلة بين اجدابيه وسرت في أي لحظة ،وقفل السائق بسيارته عائدا إلى مدينة سرت ،والشمس تجنح نحو المغيب.
في نفس اليوم الذي وصلت فيه إلى منزلي ،داهم الشباب المثابة الثورية المدينة وأطاحوا بمجسم الكتاب األخضر ،كما داهموا مقرات األمن الداخلي والبحث الجنائي واألمن الخارجي والنيابة العامة، وأشعلوا فيها النيران ،وكان سقوط شابين هما :عالء برقاية وعلي بوطبنجة وبعض اإلصابات بين شباب الثورة ،ازدادت هذه المظاهرة الحاشدة وردد الجميع :الشعب يريد إسقاط النظام. توالت األحداث متصاعدة في طبرق ودرنة والبيضاء والمرج 13
وبنغازي ،حيث رفعت أعالم االستقالل الملونة في بنغازي ،وسط سقوط عدد من الشهداء والمصابين بالمئات ،انفصلت لبيانا والمدار، في الوقت الذي واصل فيه التلفزيون الليبي الرسمي بث صور لعشرات من أعضاء حركة اللجان الثورية في مدن ليبية مختلفة تهتف بحياة الزعيم الليبي معمر القذافي وتتوعد قناة الجزيرة والمناوئين للقذافي بالمواجهة والقضاء عليهم ومن شعاراتهم يا جزيرةيا حقيرة القائد مانبوا غيره.
ومع مضي األيام واألسابيع وجدت نفسي داخل المنزل وكل األعمال قد تعطلت في مدينتي وغيرها من المدن الليبية.
ووسط الفراغ عدت من جديد إلى القرطاس والقلم ألدون بعض ما أتذكره من سيرة حياتي.
14
()2 هذا األمر لم أكن أتوقعه ،ولم يكن لي في الحسبان قط من قريب أومن بعيد ،أن أصحو قبل شروق الشمس كل يوم ..أحلق وجهي.. ألمع حذائي العسكري ..أرتدي القيافة العسكرية ..بينما كنت منذ سنوات استيقظ حسبما يروق لي في الضحى أو عند الظهيرة إال إذا كانت لدي حصص أولى للغة العربية في تلك المدرسة.
وأتذكر ذلك اليوم ،يوم األربعاء من عام 1986م ،عندما كنت أتواجد في مدرسة الشعلة الثانوية للبنات ..وسط المدينة قبل الثامنة صباحا ..أقف في الساحة ..يقدم لي التمام اليومي الصباحي للطالبات ،وهن في الساحة مرتديات قيافة البحرية ..التدريب والحصص العسكرية تحت إشراف ضباط قاعدة طبرق البحرية.. بينما أنا ضابط مشاة يا له من تناقض غريب ..وجدت أمامي في اإلدارة العسكرية مالزم أول تدعى مرضية ..تخرجت من الكلية العسكرية للبنات منذ بضعة سنوات ..وعدد ثالثة من ضباط صف البحرية.. أنا آمر الثكنة أصدر األوامر والتعليمات العسكرية. 15
عدت من طرابلس ببكالوريوس علوم عسكرية ،ورسالة تفيد تكليفي كمراسل لمجلة الشعب المسلح من صديقي الشاعر العماري الصحفي مدير التحرير بالمجلة ،بحكم ترددي عليه هناك في إدارة المجلة ،بقيت الرسالة في جيبي لعدة أسابيع ،لماذا ال أسلمها آلمر المنطقة العسكرية طبرق؟ ذهبت إلى هناك ،صعدت الدور الثاني بالمنطقة العسكرية ،بقيافتي العسكرية ونجمتي اليتيمة على كتفي، اتجهت نحو اليمين دخلت على السكرتيرة هي ضابطة برتبة مالزم أول ،جميلة رشيقة القوام ترتدي البزة الخضراء بشرتها بيضاء شعرها قصير ،مددت لها بالرسالة أخذتها مني طالبة االنتظار قليال ،فتحت الباب دخلت عليه هي بالرسالة ،سألت أحد ضباط الصف عن اآلمر أجابني :إنه المقدم خليفة حفتر.
كنت أتمنى أن يقبل الرسالة وينتهي األمر عند هذا الحد ،وأعود لعملي في الثكنة في أمن وسالم ،غير أن السكرتيرة خرجت من عنده ثم أذنت لي بالدخول على اآلمر ،دخلت عليه أعطيته الواجب ـ التحية ـ كان يجلس هناك على كرسيه الهزاز ببدلة التشريفات التي تغطيها األوسمة واألنواط وغطاء الرأس على الطاولة المستطيلة ،يبدو مهيبا له شخصية قوية وشعره حالك السواد وشاربه الهاللي ..بادرني: ـ أنت الضابط الكاتب؟. ـ نعم سيدي.
ـ تحضر إلى هنا في الغد ،لدي مهمة أخرى باإلضافة إلى كونك مراسل للمجلة سوف أكلفك بها مادمت كات ًبا. 16
أعطيته التحية وانصرفت ،ما أن خرجت من عنده حتى كانت العيون الرصاصية تحدق في ..ضباط برتب مختلفة ينتظرون الدخول عليه ،يجلسون في صالة االنتظار.
لم أنم في تلك الليلة ولم يغمض لي فيها جفن ،ما هذه المهمة التي سيكلفني بها؟ هل هي إصدار صحيفة للمنطقة العسكرية أم ماذا؟ لنترك معرفة هذه المهمة للغد.
مع الصباح حلقت ذقني ،لمعت حذائي جيدً ا ..ارتديت بزتي العسكرية ،سرت على قدمي مع الصباح من كوخي في الحطية حتى الطريق الرئيسي ،استوقفت تاكسي حملني إلى المنطقة العسكرية بالمنارة ..صعدت للدور الثاني كالعادة اتجهت نحو اليمين ..دخلت على السكرتيرة حييتها نهضت فتحت هي الباب دخلت عليه ثم خرجت من عنده ،دعتني للدخول أعطيته الواجب ،وأنا واقف على بعد خطوات ،رن هو الجرس أطلت السكرتيرة مسرعة ،طلب منها استدعاء أحد الضباط باالسم سرعان ما حضر بعد أن أعطاه الضابط التحية ،هتف به اآلمر:
ـ هذا الضابط الكاتب سوف نكلفه بإعداد مذكرة عن حرب تشاد التي طلبها منا القائد العام خصص له مكتب التوجيه.
ثم التفت إلى قائال:
ـ النقيب صالح هذا سوف يسلمك المكتب ويساعدك بالمعلومات التي تخص حرب تشاد ..وأنت عليك صياغتها. 17
تبعت بخطاي النقيب صالح عبر ممر طويل في اتجاه الشمال، كان آخر مكتب جهة اليسار ،يقابله مكتب آمر المدفعية فتحه النقيب وأعطاني المفتاح ً قائل: ـ هذا مكتبك.
دخلت المكتب جلست على الكرسي الهزاز ،فتحت الدوالب، تصفحت الملفات التي بداخله كلها كانت تحوي طلبيات وقود وزيت سيارات.
بعد يومين تواجدت في المكتب بالمنطقة العسكرية ،بعد دقائق حضر إلي النقيب صالح أعطيته التحية رد عليها ودعاني للجلوس قلت له: ـ إنني لم أجد ما يفيد المهمة المكلف بها في هذه الملفات.
بادرني قائال:
ـ فتش أنت عن مرجع أو اثنين عن دولة تشاد ،وأنا سوف أدون لك المعارك التي خضناها في تشاد ،وكيف دخلنا ّ ابشه وفايا الرجو وانجامينا وغيرها ،وأنت عليك صياغتها بأسلوبك.
عصر ذلك اليوم تجولت في مكتبات المدينة ،أفتش عن ما كتب عن تشاد ،لم أجد إال مرجعا واحدا هو بعنوان :العالقات الليبية التشادية للكاتب سعيد الحنديري ،فرحت به كثيرا وبعد قراءتي له قراءة متأنية، كتبت نبذة عن تشاد من حيث الموقع والمساحة والسكان ،وكيف اشترك العديد من التشاديين في الجهاد الليبي ضد الغزو اإليطالي. 18
وأخذت التقي بالنقيب صالح في مكتب المنطقة عدة مرات في األسبوع ،أسأله عن تلك المعارك ،واستلم منه ما كتبه بخط يده عنها في منزله ،وبعد أن أصبحت لدي نبذة وافية عن تلك المعارك ،كتبت عن الصراع بين كوكني وداي وحبري على السلطة في تشاد ،ثم مساعدة القوات الليبية تشاد لمحاربة االستعمار الفرنسي ،ومساندة الرئيس التشادي حبري ،وأهم المعارك في فايا الرجو وأبشه وانجامينا ،بعد عدة أيام كتبت كل ذلك بخط واضح وحضرت للمنطقة العسكرية، استأذنت السكرتيرة الضابطة ،دخلت على المقدم حفتر تالشت الرهبة في الدخول عليه ،أديت الواجب ،تقدمت نحوه خطوات وفي يدي صفحات من المذكرة مددتها له تصفحها بسرعة ثم بادرني قائال: ـ إنها مازالت تحتاج إلى إضافة. مغيرا دفة الحديث: ثم التفت إلى ً ـ أنت وين تسكن؟
في دهشة واستغراب أجبته: ـ أسكن في الحطية في كوخ من الزنك مع أبي وأمي وأخوتي. ـ هل أنت متزوج؟ ـ ال يا سيدي.. ـ اكتب لي طلبا وأعطه للسكرتيرة سوف نوفر لك مسكنا صحيا الئقا. 19
بعد أن خرجت من عنده سرعان ما كتبت الطلب قدمته للسكرتيرة التي دخلت به عليه وقعه لها خرجت مدت لي الطلب قائلة: ـ اذهب به إلى رئيس لجنة اإلسكان العسكري وقدمه له.
لم أجده في ذلك اليوم ،حضرت إليه في اليوم التالي استلم مني الطلب في المباالة وعدم اهتمام قائال :ـ عندما تجد مسكنا في حي الضباط أو مساكن البحرية أبلغني وسوف نخصصه لك.
مضيت أتجول على قدمي في حي الضباط ،أبحث وأفتش واسأل عن أي مسكن شاغر ،كانت اإلجابة من األشخاص الذين أقابلهم:
ـ أي منزل شاغر ال يدعه صاحبه دون مقابل حتى عندما ينتقل منه.
عدت من جديد للمنطقة وقابلت النقيب صالح ،وطلبت منه احصائية وافية عن تلك المعارك ،وقرأت عليه ما كتبته ،أبدى استحسانه وطلب مني عرضها على اآلمر ووعدني بإحضار تلك اإلحصائية.
وبالفعل أحضرها لي في اليوم الثاني ،أعدت صياغة الصفحات التي كتبتها من جديد ،ودخلت على آمر المنطقة فأطلع عليها وفي الختام سألني قائال: ـ ماذا حدث في المسكن؟
قلت له:
ـ انني قدمت الطلب إلى النقيب إبراهيم غير انه قال لي ال توجد مساكن شاغرة ابتسم المقدم خليفة قائال: 20
ـ ال تحمل هما سوف نخصص لك مسكنا الئقا.
كنت أتردد على مكتبي في المنطقة العسكرية يومين في األسبوع ،وباقي أيام األسبوع أتواجد في ثكنة الشعلة ،وبعد أسبوع فوجئت بالنقيب إبراهيم ،يطل على في الثكنة ثم يهتف مبتسما بعد التحية: بي ً ـ هل عندك خطاط سماواي اللون؟
ـ سوف أحضره لك من اإلدارة.
ـ تحصلت على الخطاط لحقت به عند الباب الرئيسي للثكنة، دعاني لركوب السيارة معه ،ركبت إلى جواره في سيارته المازدا 323البنية اللون ،وانطلقنا نحو الغرب على الطريق الرئيسي ،كان إلى جانبه في السيارة مجموعة كبيرة من المفاتيح، انعطف جهة اليمين بسيارته نحو حي الفرجان ،توقفت بنا السيارة أمام العمارات الكوبية الحديثة ،التقط مجموعة المفاتيح في يده وترجلنا من السيارة اتجهنا نحو العمارة األولى تحسس المفاتيح التي في يده ،وبدأ يفتح باب الشقة األولى ثم قال لي:
ـ اكتب عليها اسمك كامال.
وسلمني مفاتيحها عندها أحسست بالسعادة تغمرني ،ثم استلمت منه الكشف الذي معه وكتبت بقية األسماء على باقي أبواب الشقق اإلحدى وعشرين ،ترجلت من السيارة عند الظهيرة عند منعطف الحطية ،وعدت مسرورا مغتبطا إلى الكوخ ظهيرة ذلك اليوم 21
والمفاتيح في يدي فاجأت أبي وأمي وأخوتي والغبطة تبدو علي، أبرزت لهم مفاتيح الشقة مبتسما قائال: ـ لقد تحصلت على شقة.
و بعد الغداء أخذتهم في زيارة لتلك الشقة الحديثة ،غمرت الفرحة قلوبهم ،شقة واسعة بها ثالث حجرات وصالة أرضيتها بالبالط والمياه متوفرة في حمامها والمطبخ ،بعد أيام حملنا أثاثنا المتواضع إليها ،وفرشها بقطع من فرش مصنع بطاطين المرج ،وودعنا الكوخ والحطية والجيران وليال البؤس والفقر. نشطت في كتابة المذكرة من جديد ،تواجدت بالمنطقة العسكرية دخلت على المقدم خليفة أعطيته التحية ،كان يجلس عنده رجل أنيق القامة يرتدي بدلة رصاصية قصير القامة أعرف أنه يقطن في سوق العجاج ويدعى طيب عريقيب. ـ اه تحصلت على الشقة؟
ـ نعم سيدي شكرا جزيال لك.
ـ اذن عليك ان تبادر بالزواج وسوف أساعدك.
غير إنه ذات يوم فوجئت أن المقدم خليفة والنقيب صالح ،ومن معهم من القوات قد تم تكليفهم بالتوجه من جديد إلى تشاد ،وجاء آمر جديد للمنطقة العسكرية طبرق ،توقفت عن كتابة تلك المذكرة.. سلمت مفتاح المكتب للمساعد ..ولم أعد إليه من يومها قط ،ثم علمت فيما بعد انه تم أسر المقدم خليفة ومن معه في األراضي 22
التشادية أثناء معارك 1987م ،وتنكر لهم نظام القذافي ووصلوا إلى زائير ثم إلى كينيا ،بعدها إلى الواليات المتحدة األمريكية، وانخرطوا في الحياة المدنية ،منهم من واصل تعليمه ،ومنهم من بحث عن عمل. المقدم خليفة حفتر التحق بجبهة اإلنقاذ الوطني للمعارضة، ولم يعد إلى ليبيا إال بعد اندالع ثورة 17فبراير حين ساهم في معارك التحرير.
التقيت به في منزله بعد عودته ،وكان معي رئيس تحرير صحيفة «الحقيقة» الكاتب الروائي عبدالرسول العريبي إلجراء حوار معه للصحيفة.
23
()3 ما أجمل أن ترجع بذاكرتك عشرات السنوات إلى الوراء ،وتتذكر كيف تخرجت من معهد المعلمين في مدينتك طبرق ،وفي البداية نسبت إلى مدرسة القعرة البتدائية الواقعة على الطريق الساحلي شرق مدينة طبرق بحوالي 30كيلومتر ،ومع كل صباح كنت تنهض مبكرا، تسير أنت وزميلك المدرس علي دعبس على أقدامكم من سبخة الحطية ،حتى الشارع الرئيسي ،تتوقفان هناك دقائق أمام مزرعة النيبو، ريثما تصلكما سيارة البيجو ،404التي يقودها المدرس علي الرياني، وبها مدير المدرسة التاوسكي يجلس إلى جواره ،وخلفكما المدرس صالح تدلفان داخل السيارة بعد القاء تحية الصباح عليهم ،تجلسان في الكرسي الخلفي إلى جوار المدرس صالح ،تتبادل األحاديث، في أقل من ساعة تصلون القعرة .المدرسة فصولها متناثرة ،ومبانيها قديمة تطل على الشارع الرئيسي المتجه شرقا حتى امساعد ،ونتوزع على الفصول. كنت تقوم بتدريس النحو والقراءة والنصوص ،للصفين الخامس 25
والسادس االبتدائي ،تشاهد أمامك وجوه لفحتها الشمس متعطشة للعلم والمعرفة ،بعد انتهاء الحصة السادسة ،أي بعد الواحدة ظهرا تعودون في نفس السيارة ،تترجالن منها في نفس المكان الذي ركبتما منه على أمل اللقاء في الغد كالعادة ،حببت لتالميذك القراءة واالطالع ،من خالل ما كنت تحضره لهم من أعداد من مجلة األطفال المصورة ،يتبادلون قراءتها فيما بينهم ويسرون بها كثيرا.
توثقت عالقتك بصالح ،هو في مثل سنك ،يبدو لديه طموح عريض مديد القامة بشرته بيضاء ،هو تخرج حديثا من معهد المعلمين ببنغازي ،انتقلت عائلته من منطقة بنينة إلى مدينة طبرق ،حيث استقرت في المطار القديم في كوخ واسع كبير.
في عطلة نصف السنة اتفقنا ،أنا والمدرس علي الرياني والمدرس صالح والمدرس عبدالستار والمدرس موسى ،على القيام برحلة سياحية إلى جمهورية مصر ،لمدة عشرة أيام ،أقلنا علي في سيارته البيجو صباحا ،بعد العصر وصلنا االسكندرية ،أجر لنا شقة نظيفة في حي فيكتوريا. صاحبنا الرياني كان يخبر كل أحياء االسكندرية وشوارعها جيدا، زارها في السابق العديد من المرات ،يذكر لنا إنه عندما تم تعيينه وتنسيبه لمدرسة في قصر الجدي ،بدال من أن يذهب لتلك المدرسة سافر إلى اإلسكندرية وبقي بها سبعة أيام ،عندما عاد علم بذلك رئيس التفتيش التربوي ،نسبه إلى مدرسة القعرة ،فوافق ألنها قريبة من المدينة يستطيع العودة إلى والدته المسنة يوميا ،وباشر التدريس 26
معنا،هو الذي أجر لنا الشقة في فيكتوريا وجمع من كل واحد منا مبلغا من المال ،حتى يتم الصرف منه على المأكل والمشرب وإيجار
الشقة .قضينا بها أياما جميلة في االسكندرية ،بالرغم من أنني كنت
عبئا ثقيال عليهم ألنني ال أدخن حتى التبغ.
زرت مكتبات اإلسكندرية في محطة الرمل والمنشية وشارع النبي
دنيال ،وعدت بمجموعة من الروايات والقصص وأعداد مختلفة من
مجلة نادي القصة ومجلة العربي.
قرأت في صباي قصص يوسف ادريس والطيب صالح ويوسف
الشاروني ونجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله وعبدالرحمن
الربيعي وميخائيل نعيمة وغيرهم.
مع بداية العام الدراسي الثاني تفرقنا ،انتقل كل من كان معنا من
المدرسين إلى مدارس المدينة ،بينما نقلت أنا إلى مدرسة أخرى تبعد
عن المدرسة السابقة عشرات الكيلوات ،نحو الشرق هي مدرسة
الحاج كريم بغوط الركب ،لبعد المسافة بينها وبين المدينة اضطررت
لإلقامة هناك.
كانت تلك المدرسة قد بنيت بالحجر الطبيعي بالمجهود الذاتي،
وغطي سطحها بالخشب ،كان أول مدير لها عند تأسيسها سنة 1966م
األستاذ أحمد خالد ،ثم من بعده تولى إدارتها األستاذ عمران عبدالله
القطعاني ،الذي كان يأتي إليها على دراجته الهوائية من عقيرة البوم
حيث كان يسكن في بيت من الشعر يبعد بضعة كيلوات عن المدرسة. 27
كانت الغرفة الصغيرة التي أقمت بها ملحقة بالمدرسة ،أرضيتها أسمنتية وبداخلها سرير حديدي ،ودوالب للمالبس ،تجاور تلك المدرسة مقبرة ،وبئر لمياه األمطار ،يشرب منه أهالي المنطقة.
مدير المدرسة في تلك السنة كان هو األستاذ عبدالله محارب، باإلضافة إلى العديد من المدرسين :علي امحارب ،فرج قطيش، حسن علي ،فرج احمد ،عمران عبدالله هم من قبيلة واحدة غالبيتهم يقيمون في تلك المنطقة ،الطالب يجلبون لنا معهم في الصباح خبز التنور والبيض الوطني. ويحمل لنا المباشر سليمان بو أمعلق مع كل صباح الحطب الذي يعثر عليه في طريقه ،وهو قادم إلينا كل ذلك من أجل األستاذ فرج احمد المدمن للشاي األحمر على كانون الحطب.
وفي غوط الركب كانت تسكن قبيلة القطعان بو سعيدة ،منها عائالت كريم راقي وهم :حمد ،وادريس ،ومحمد ،وراقي ،وعائلة السنوسي عقاب ،وعائلة الناجي عقاب ،وعائلة صالح عقاب ،وعائلة الهمالي ،وعائلة اغفيري ،وعائلة الهاين ميكائيل ،وعائلة ضو قها كريم الرطاز ،وعائلة حفلش رواق ،وغيرها من العائالت. كنت أدرس لطالب الصف السادس اللغة العربية ،الفصل يقسم إلى صفين من المقاعد صف للبنين و آخر للبنات.
بدأت في التعرف على تالميذي من اليوم األول واحدً ا واحدً ا ،كان أهالي تلك المنطقة يستضيفونني ومن معي من المعلمين كل ليلة، 28
لتناول وجبة العشاء في منزل من منازلهم .لم يبق منزل إال وتناولت فيه وجبة العشاء ،أما الخميس من كل أسبوع فكنت أعود إلى أسرتي بالحطية. وتنامى إلينا في النصف األول من شهر أغسطس 1975م خبر إعدام بضعة ضباط من الجيش رميا بالرصاص التهامهم بعملية انقالبية ضد نظام القذافي من بينهم :النقيب أحمد بن سعود ،والنقيب مصطفى المنقوش ،والمالزمين األوائل :عبدالرحيم بو ارقيعة، عبدالسالم الناجي البيرة ،عبدالواحد عبدالله الشلوي ،محمد سالم البرغثي ،احمد ذياب عبدالرحمن ،فرج عبدالسالم العماري ،محمد الشريف مرواس وغيرهم.
أمضيت عاما آخر في التدريس في تلك المنطقة ،ثم انتقلت للتدريس بالمدينة ،إلى مدرسة الحطية الحديثة ،والتي كانت تجثم فوق ربوة عالية حتى أنهم كانوا يطلقون عليها سفينة نوح ،أمضيت بها عدة سنوات ،ثم انتقلت إلى مدرسة الضاحية االعدادية ،وهي األخرى درست بها عدة سنوات على طالب اإلعدادية في مادة اللغة العربية.
صديقي صالح عاود من جديد زيارته بسيارته التايوتا القلع ،عندما انتقلت إلى مدرسة الحطية كنا نتجول يوم ًيا بعد العصر معا في الشوارع الخالية بالمدينة بتلك السيارة ،ثم نتناول العشاء في إحدى المناسبات االجتماعية ،سواء كانت عرسا أو مأتما ثم يرجعني إلى الحطية.
ما زلت أتذكر تلك األمسية التي دخلت فيها سينما حلمي مع ابن 29
خالتي محمد ،لمشاهدة فيلم أمريكي من األفالم الحديثة ،وبينما نحن نستمتع بمشاهدة بطل الفيلم وهو يطيح بتلك العصابة ،التي دائما، اعترضت سبيله ،واحدا تلو اآلخر بمسدسه الذي يصيب الهدف ً وفجأة تضاء أنوار الصالة ..يتوقف عرض الفيلم ..الشرطة العسكرية تدخل علينا فجأة ..يترصدون لنا ..يشيرون لنا بأصابعهم للنهوض في غطرسة وكبرياء ..يأمروننا نحن الشباب للخروج أمامهم ..قلت لهم في غضب: مدرسا في التعليم. إنني أعمل ً
أحدهم يهتف بي في قسوة وخشونة:
ـ نحن نريدكم جنو ًدا في الجيش الليبي.
كنت أظن أنهم سيدعونني أكمل بقية مشاهد الفيلم ،لكنهم أوباش ال يفرقون بين معلم وجاهل .زجوا بنا في تلك الحافلة الواقفة أمام باب دار العرض في غلظة وقسوة ،ثم سارت بنا إلى غرب المدينة نحو معسكر الجالء.
كانت طبرق في تلك الفترة قد تحولت إلى ثكنة عسكرية، كل الكتائب والمعسكرات التي كانت في الجنوب والغرب تقاطرت عليها ،واستقرت بها ،بعد خالف القذافي مع أنور السادات ،والمناوشات التي كانت تقع على الحدود المصرية الليبية ،معسكرات تكتظ بها المدينة في كل مكان ،وتحت أسماء ومسميات عديدة :معسكر الناظورة ،معسكر الجالء ،معسكر اللواء 30
التاسع ،الجحفل الثالث ،معسكرات في البردي ومساعد والطرشة وباب الزيتون وغيرها ،اكتظت تلك المعسكرات بالجنود وضباط الصف والضباط. بعد دقائق دخلت الحافلة بنا معسكر الجالء ..أمام أحد القواطع توقفت ..جنود الشرطة العسكرية يدفعوننا للترجل ،واإلسراع في حلق الرؤوس ،ما أن ترجلت مع غيري حتى رأيت العديد من الشباب يحلقون شعر رؤوسهم ،شاهدت المدرس فوزي التاوسكي يصيح فيهم غاضبا وهم يحلقون رأسه حتى الجلدة: ـ أنا فنان رسام معلم ال عالقة لي بالجيش. والمعلم فتحي يتساءل غاضبا: ـ أنا مدرس ومتدرب في المقاومة الشعبية ماذا تريدون مني؟ أمام القاطع في الساحة عدد كبير من الشباب ممن هم فوق سن الثامنة عشرة ،لم أنبس ببنت شفة ،لكنني شعرت بالضيق والغضب، تساءلت بيني وبين نفسي كيف نتخلص من هذا المأزق؟ وهذه الورطة التي لم تكن في الحسبان. ما أن لمحت العريف أمجاور جارنا في الحطية ،حتى هرولت نحوه أنا وصديقي محمد ،سلمنا عليه سألني: ـ ماالذي جاء بكما إلى هنا؟ بادرته: 31
ـ قبضت علينا الشرطة العسكرية في السينما. رد علي قائال وهو يتلفت خلفه:
ـ هيا بسرعة أنت وصاحبك اتبعاني.
تسللنا خلفه دون أن يفطن لنا أحد ،حتى وصلنا سيارته البيجو الخيمة ،الواقفة هناك خلف شجرة عالية ،أمرنا بالقفز داخل صندوقها الخلفي بسرعة ،ثم أسدل القلع علينا في مؤخرة السيارة، وأدار محركها وأقلع بنا دون أن يفطن لنا أحد ،حتى خرج من بوابة المعسكر وعلى الطريق الرئيسي ،وبعد أن قطع مسافة قصيرة أوقف السيارة ،دعانا للنزول من الخلف والجلوس إلى جواره في المقدمة ،ترجلنا من السيارة بعد ربع ساعة في مدخل الحطية أمام الكوخ ،وشكرته على مساعدته لنا ،تنفسنا الصعداء نجونا بأعجوبة تلك الليلة من قبضة الشرطة العسكرية ،ومن يومها امتنعت عن دخول السينما في مدينتي ،حتى ولو كانت تعرض فيها أحدث األفالم.
اليوم وبعد أن وصلت إلى العقد الثالث من عمري ،أجبر على االلتحاق بالعسكرية .كيف يحدث هذا؟ وكل سنوات شبابي أمضيتها في المباالة ،و حتى غرفتي الصغيرة ذات السرير الحديدي والدوالب الخشبي الذي يحتوي مالبسي ،والمنضدة والكرسي والكومودينو ،والتلفاز الصغير كنت أدعها تغرق في فوضى الصحف والمجالت والكتب المتناثرة ،والمالبس الملقاة هنا وهناك ،أترك أمي وأختي تقومان بتنظيفها وتنسيقها ،بعد استيقاظي 32
المتأخر من نومي ،كنت أغدو نحو مدرس الضاحية على قدمي، حيث أقوم بالتدريس لطالب ثالثة إعدادي ،وعند الظهيرة أقفل عائدا من المدرسة كالعادة على قدمي ،وفي طريق عودتي كنت أتقابل صدفة مع تلك الفتاة الجميلة ،ذات الشعر األصفر كأسالك الذهب ،والوجه المدور كالبدر ،وهي ترتدي معطفها األبيض ،في طريقها للعمل بعد الظهيرة ،في عيادة صحية وسط المدينة ،كنت أحييها ترد على تحيتي في خجل واقتضاب ،شعرت يومها بالغبطة والسعادة تغمرني ..كانت تلك الفتاة مثار إعجابي واهتمامي، شعرت بميل شديد نحوها ،وكأن هناك شيء ما يجذبني نحوها، البد أن ألتقي بها في الغد أصارحها بمشاعري وحبي لها ،وأعرف رأيها في وهل تقدم أحد لخطبتها؟ هل في حياتها شخص آخر؟ أصل الكوخ أتناول وجبة الغداء..أحتسي كوبا من الشاي األخضر بالنعناع ،بعدها أخلد للراحة والنوم ساعة ،مع العصر أصحو لقراءة الصحف والمجالت ،أو قراءة رواية أو قصة أو كتاب في النقد األدبي ،أو كتابة قصة. إن القراءة عندي هي صنو الرئة ،دائما التهم في شهية كل ما تقع عليه عيناي من كتب سواء في القصة أو الرواية أو الشعر في هوس ال استطيع مقاومته.
ظللت ليلتها أحلم بلقائها ،انتظر رؤيتها على أحر من الجمر ،يوم غد بال ريب سوف انتظرك ،حتى تأتين وتلك هي اللحظات السعيدة، حين نلتقي لقاء األحبة. 33
لم أدبر لحظات تالقينا في األيام الماضية ،كانت الصدفة وحدها
تجعلنا نلتقي دائما ،أنا في طريق عودتي من المدرسة ،وهي في
طريق ذهابها إلى العيادة الصحية ،وفي اليوم التالي إذا بها تطل قادمة في نفس الموعد تختال في مشيتها بمعطفها األبيض ،وشعرها
الذهبي ،ما ان اقتربت مني حتى تشجعت ،مددت لها يدي فالمست
يدها الناعمة ،كانت خجولة مرتبكة خداها متوردان ،أما العينان فعسليتان تجيل ببصرها في األرض ،غمرني إحساس غريب يجذبني
نحوها بادرتها:
ـ كيف الحال؟ ردت في خجل وحياء: ـ الحمد لله بخير. بادرتها قائال: ـ هل ثمة أحد في حياتك؟ أجابت: ـ ال ال أحد. ـ مارأيك في أن أطلبك من أهلك؟. ابتسمت ثم الذت بالصمت ،السكوت عالمة الرضا ،وتلفتت
خلفها كأنها خائفة ،ثم غادرتني وهتفت في عجلة من أمرها: 34
ـ إلى اللقاء الحافلة وصلت. إنني أعرف عائلتها المثابرة القاطنة الحطية في كوخ بالقرب من المسجد بأمتار .لكن ظروفي صعبة وكيف أستطيع توفير الصداق وتكاليف العرس الباهظة؟.
35
()4 عندما ترجع بذاكرتك عشرات السنوات إلى الوراء وتتذكر الطفولة في الحطية ،التي لم تكن في غابر السنين ،سوى نجع صغير من الخيام ،وبيوت الشعر المتراصة ،في وادي الحطية كان األهالي يمدون المجاهدين بالمؤن والسالح.
بعد سنوات تحولت الحطية إلى أكواخ من الصفيح ،أو بيوت من صناديق الذخيرة الفارغة ،وبضعة بيوت من الحجارة يعدون على أصابع اليد الواحدة ،تكاثر سكانها بمرور السنوات انتشرت األكواخ على الربوة ،من الشرق تحدها سبخة ثم الطريق الرئيسي المتجه نحو الشرق ،وشماال الطريق الساحلي المتجه نحو الغرب، وجنوبا تلك المرتفعات ،السكان خليط من مختلف القبائل ،تنتشر أكواخهم حتى سوق العجاج في الغرب. تبدو أكواخ الصفيح متالصقة ،ذات نوافذ صغيرة واطية ،تفصل بينها أزقة ترابية ضيقة ،ومسارب من المجاري ،وتنام الحطية باكرا عل فنارات الكيروسين الخافتة. 37
وجدت نفسي أعيش في مدخل الحي الفقير ،في كوخ صغير وإلى الغرب من كوخنا كانت تقع منازل عبدالله بوسالم ،وبوشوال الشلوي ،وعائلة البرزان ،ويوسف بوريسة ،ومنازل العمامات عمرالعمامي ـ محمدالعمامي عبدالسالم ـ ثم منازل أخرى تمتد حتى سوق العجاج .وشمالنا أكواخ عوض بوقفة والسنوسي بوالرايقة وعبدالقادر الشافعي وعثمان الشلوي وغيرهم .وإلى الشرق أكواخ سعيد جبريل ،والصادق القطعاني ،والفقيه سالم ،ورقية العدلية ثم الشارع الرئيسي الذي يشق منتصف الحطية.
كانت منازل الحطية الخرسانية محدودة ال تتعدى أصابع اليد الواحدة :منزل الغرياني فضل الله ومنزل علي العمامي ومنزل صالح بوهيوب وغيرهم ،وتمتد إلى الجنوب الشرقي منازل عائالت الهنيدو السنينات وعائلة النيبو ثم الطريق الساحلي المتجه شرقا حتى امساعد. تلك كانت الحطية في بداية الستينيات ،ثم مع مضي السنوات أخذت العائالت الوافدة تتكاثر عليها.
ترعرعت في حي الحطية ،نشأت وسط أسرة صغيرة فقيرة ،أب طيب نحيل العود متوسط القامة ،يصحو من الصباح الباكر كل يوم، يتوضأ يصلي الصبح يتناول إفطاره ،يرتدي معطفه الباهت ،يغدو إلى عمله في الحامية البريطانية مشيا على قدميه ،قبل مغيب الشمس يعود إلينا بالبسكويت وخبز اإلنجليز الرطب ،وأم ودودة قصيرة القامة ترعى شئوننا أنا وأخي الصغير ..أشعر إن لي مكانة خاصة عندهما 38
فأنا أول العنقود والطفل المدلل لديهما ،ولم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب أو فضة قبلي أنجبت أمي العديد من األبناء والبنات لكن لم تكتب لهم الحياة: تقول البطاقة إنني فالن وعشت في هذا المكان في كوخ قديم من الزنك والسقف خليط من الخشب به حجرتان بإحداهما يقطن الوالدان فقيران من كل شيء عدا طيبة النفس وعفتها ونقاء السريرة عشت طفولة بائسة فقيرة بجلبابي القصير وسروالي األبيض، كنت أهرول كل يوم مع إشراقة كل صباح إلى مكبات القمامة والوديان،حيث التقي برفاقي هناك ..نبحث عن الدود األصفر في األماكن الرطبة ..أنصب فخي المعدني في وادي الجدارية ،بعد أن زودته بالدودة الصفراء السريعة الحركة ..زرعته تحت التراب كاللغم ..راقبت بعيني كل الطيور التي حطت ..ما أن لمحت الطائر بوحمره يقف على الناطور حتى أخذت أطارده أقفز خلفه ،أجثو على األرض أحبس أنفاسي خوفا من أن يطير ،أخاطبه في خبث ودهاء بصوت عال: يا بوحمره عدي غادي.. اشوي اشوي.. 39
شور الناطور.. تلقى دودة..
دودة جاعور
صفراء وتدور.
وكأن الطائر كان يفهم لغتك وتنطلي عليه حيلتك ،يظل يقفز ويتطاير حتي يقترب من الفخ المخفي في التراب ،والذي ال يبدو منه شيء ظاهر سوى تلك الدودة الصفراء ،هذا الطائر يتالعب بأعصابك دون أن يدري ،يلتفت إلى أغلب االتجاهات ،يصدر زقزقة ،يقترب من الدودة يهجم عليها ينقرها عدة نقرات ،يسحبها بمنقاره وفجأة ينطبق الفخ حول جسمه النحيل ،يظل الطائر ينتفض مثيرا زوبعة من التراب فيما هو يطلق صرخاته محاوال الفكاك ،لكن ال فائدة من كل ذلك ،أصيح فرحا وسرعان ما أهرول نحوه أقبض عليه في زهو وانتصار ،أخلصه من الفخ أذبحه بشفرة في يدي ،ثم أبحث بعد ذلك عن طائر آخر ،وقبل غروب الشمس أعود إلى كوخنا بثوبي الذي اتسخ وسروالي الذي تحول إلى اللون الرمادي ،ومعي بضعة طيور صغيرة،عند باب الكوخ تقابلني أمي عند الباب غاضبة، وهي تحدق في قائلة: ـ وسخت ثوبك وسروالك يا وليدي بلعبك في الكناسة طوال النهار.
كنت ال أبالي بغضبها ..أبحث عن علبة الكبريت ..أقوم برمي 40
العصافير على جمر كانون الحطب أمام الكوخ ،بعد دقائق التهم لحمها أنا وأخي الصغير.
وعند انتهاء موسم صيد الطيور ،في وادي بوحبلة ووادي الجدارية أو الحطية كنت أبدأ اللعب مع رفاقي بالبطش أو بتصاوير الفنانين والمشاهير ،أو بتلك العربات الصغيرة،التي كنا نصنع عجالتها من علب الحليب الفارغة ،أو مغاطي القازوزة ،أو نلعب بكرة الجورب في سبخة الحطية أو نطارد الجرابيع في سبخة الحطية ..عندما تختفي في سراديبها تمد يدك داخل تلك الحفرة ،دون خوف من أن تلدغك عقرب أو يلسعك ثعبان ،وتخرج اليربوع وتذبحه بشفرة الزجاج، وتشويه على نار حطب الرمث الهادئة ،وتلتهمه في لذة ونشوة. كان والدي ينام مع أمي في غرفة ،وأنام أنا مع أخي الصغير في الغرفة الثانية ،كما أنجبت بعدي بسنوات طفلة صغيرة ،كتبت لها الحياة هي األخرى ،ثم أنجبت طفال آخرا حيث أصبحنا ثالثة أوالد وبنتا واحدة وسط كوخ كان غير مسقوف ،وعندما يأتي الشتاء وتهطل األمطار بغزارة تمتلئ ساحة الحوش باألمطار.
تعرفت على المحالت التي كانت أمي ترسلني إلىها ،لشراء الكيروسين والفحم والحليب والزيت والسكر والشاي والطماطم والملح والجبن وغيرها ،والتي من بينها محل العجيلي الذي يسكن هو وزوجته خديجة في دار إسمنتية وحالقي من الصفيح ،ومحل ابعيو ،ومجزرة بالقاسم الوحيدة في الحطية ،ومحل بن طاهر ،ودكان بن عيسي ،ودكان القري الزواري ،ودكان عقيلة الشاعري ،ودكان 41
الدايخ ،ودكان الفقيه سالم ،ودكان الصادق ومقهى النعيري ومقهي اللبيدي.
كان الحاج هيبة يذبح الذبيحة في الصباح ويدع محمد عطيه يقوم بسلخها ويخفي الرأس ويأخذونها إلى الشارع الرئيسي ويظل ينادي شياب الحطية دعبس وخليل الشاعري وعطيه بوخطوة وصالح بوامهدي وابراهيم بوعبد ربه والمقرحي والنعيري ولبيدي وغيرهم: ـ تعالوا ياهوه جدي اصغير مافيش اسمح منه ع الكسكسي.
كانت الحطية في تلك السنوات عائالتها معروفة أكواخها مشرعة األبواب دائما ..شيوخها يفترشون األرض بالقرب من مسجدها الوحيد يتجاذبون أطراف الحديث ،أو يلعبون الشيزة بعد صالة العصر وحتى آذان المغرب ،ينهضون يتجهون نحو المسجد ،يؤدون الصالة جماعة ،ثم ينصرفون إلى بيوتهم ..حيث تنام الحطية بعد العشاء على أضواء فنارات القاز الخافتة.
في الحطية كانت توجد عدة صنابير للمياه في وسط الحي واحدة أمام كوخ امهدي ،وثانية في الجنوب الشرقي أمام كوخ خليل الشاعري ،و ثالثة في الغرب أمام كوخ بوواجده ،كانت تلك الشيشمات هي ملتقى للشباب والشابات ،الذين يأتون من أجل جلب المياه لبيوتهم،سواء في براميل صغيرة أو كبيرة ،وكان من واجباتي جلب مياه الشرب من الشيشمة القريبة منا إلى أهلي.
مع ضحى كل يوم جمعة كنت ألمح العربات العائدة من المدينة، 42
محملة باألهالي أو براميل المياه العذبة ،أو الحطب تشق طريقها وسط الحطية ،مثل :عربة بوحرق ،وعربة بوالشقرا ،وعربة سي رحومة ،الذي كان يقوم بنقل أكياس الدقيق لكوشة الحطية الوحيدة.
وعربة قاز سي المقرحي كان يجرجرها حصانه البني اللون وصهريجها المطلي باللون األحمر عالقة ببطنه عجلتي الندروفر.. مكتوب على جانبي الصهريج بالخط الرديء كلمة «قاز» والصنبور النحاسي في الخلف ..سي المقرحي طويل القامة قمحي البشرة ينادي بصوت جهوري :قاز ..قاز .
تبدأ مسيرة سي المقرحي اليومية من حي الحطية بروح وثابة مرحة ..الحطية الستينيات التآلف ،العفوية ،الروح الطيبة ..هو يبيع القاز لألهالي في الحطية واألحياء المجاورة ،التي لم تدخلها الكهرباء بعد ،كان القاز من األشياء الضرورية للطهو والفنارات ،وحرق النفايات ومطاردة الصراصير والبق ،وتستعمله نساء الحطية في كد الشعر وتسريحه .سي المقر حي كان يقطن في حوش واسع في الحطية بجواره حوش عائلة ارحيمة ،وعائلة لبيدي ،وجمعة الشلوي وغيره وللمقرحي العديد من األبناء والبنات ،كانت تربطني بهم عالقة وطيدة وصداقة متينة ،خاصة مع ابنهم محمود ،الذي كان في مثل سني وزميلي في مدرسة الضاحية ،كانت عمتي مبروكة الطويلة القامة تنهض باكرا يوم الجمعة من كل أسبوع ،تقدم لنا العصيدة بالرب في قصعة من الخشب ما ألذ طعمها.
قبل الظهيرة يفك محمود قيد حصان والده البني اللون ،حيث 43
نتجه به نحو كورنيش طبرق ،نقوم بالسباحة ،بينما محمود يقوم بغسل الحصان بمياه البحر ،أوقات جميلة كنا نقضيها على شاطيء البحر، نصطاد األسماك وننعم بالسباحة في مياه البحر الزرقاء ،والرمال الناعمة البيضاء في غبطة وسعادة.
تظل سنوات الطفولة بالنسبة لي مرجعا للحنين وتربة خصبة للذكريات الجميلة ..طفولتي ال تختلف عن غيري من الليبيين الفقراء مرت بي سنوات عجاف من الفقر والعوز والفاقة.
44
()5 عصر ذلك اليوم انقلبت حياتي رأسا على عقب .يوم أن التقى أبي بجارنا الحاج سميع أمام الكوخ ،وجلسا يتجاذبان أطراف الحديث، عندها أقبلت عليهما سلمت علي جارنا ،ناولت أبي صفرة الشاي و فردة خبز التنور ،وقفت بالقرب منهما ،حدق في الجار طويال ،ثم التفت إلى والدي متسائال: ـ ولدك هذا كم عمره؟
أجابه أبي:
ـ تجاوز العشر سنوات.
ـ ولماذا لم تدخله المدرسة؟.
ـ هل هناك مدرسة تقبله وهو في مثل هذا السن؟
ـ نعم هناك ال تحمل هما.
ـ كيف ..كيف؟
45
ـ األسبوع القادم سوف أخذه معي ،وأسجله لك في المدرسة القرآنية.
ـ بارك الله فيك يا حاج سميع. أحسست بالخوف والرهبة من المدرسة والفقيه والعصا. وعلى العشاء في تلك الليلة استمعت إلى أمي ،وهي تتحدث
إلى أبي متسائلة:
ـ ليش ماندخله مدرسة المعارف؟ ـ ال القرآنية خير له بيش يحفظ القرآن ويتخرج منها فقيه. والتفت إلى أبي وهو يسألني: ـ ايش رايك؟ هززت رأسي بالموافقة ..بينما أنا في الواقع كنت أكره الدراسة
والمدرسة ،واالستيقاظ المبكر والحرمان من اللعب ،واصطياد
العصافير في مكبات القمامة.
فأغتبط والدي وضمني إليه قائال: ـ الله يرضي عليك يا وليدي. أحس من أمي رأفة ورحمة ،وفي نفس الوقت إذا أخطأت غلظة
وقسوة ،ومن أبي لينا ورفقا ،وكنت مشاغبا وشقيا في طفولتي كثيرا
ما اشتكى أترابي مني إلى أمهاتهم ،وجاؤوا إلى أمي يشكونني، 46
كانت أمي تهددني بأشد العقوبات ،إن أنا عاودت ضرب أحد من أبناء الجيران .ولكن ما جاء به جارنا الحاج سميع ،أصبح مصدر قلق وخوف بالنسبة إلى. في الصباح مع بداية األسبوع ارتديت مالبسي وحذائي الجديد، حملت على كتفي كيس الدقيق الذي جعلوا منه حقيبة لي ،وبداخله بضعة كراسات وأقالم ،كنت أجرجر قدمي في تثاقل وبطء ،خلف جارنا سميع في اتجاه المدينة ،كمن هو ذاهب إلى حتفه ،بعد ساعة دخلنا المدرسة القرآنية ،الجاثمة هناك في أقصى الشرق ،دلف بي عمي سميع نحو الفصل مباشرة ،ما أن فتح الباب ودخل على الفقيه.. يجلس على كرسيه الخشبي ..في مقدمة الفصل ..يرتدي كاط ملف.. وجرد أبيض وشنة حمراء ..يبدو في مقتبل العمر ،بيده عصا رفيعة بجواره فلقة وهي عبارة عن عصا طويلة غليظة في وسطها حبل مثبت من طرفيه ،صوب التالميذ أعينهم النارية نحوي ،وكأنهم يطلقون علي الرصاص ،أحسست بالخوف يعتريني ،تمنيت العودة من حيث أتيت ،لكن ال مفر لي ،لقد وقع الفأس في الرأس ،تلفت حولي وقلبت بصري في وجوه التالميذ الذين راحوا يتبادلون الهمس والتغامز علي، نهرهم الفقيه وأمرهم بالتحديق في األلواح التي أمامهم ،ومواصلة القراءة بصوت عال ،خرج الحاج سميع بعد أن أوصى بي الفقيه، الذي أمرني بالجلوس في الدرج األمامي ،إلى جوار تلميذ كان يقرأ القرآن بدون لوح وبإصبعه يلوي شعرات في مقدمة رأسه ،عرفت فيما بعد انه كفيف البصر ،يحفظ القرآن دون استخدام اللوح ،بعد دقائق 47
استدعاني الفقيه والتقط لوحا كان إلى جواره ،غمد الفقيه قلم القصبة في دواة الحبر المصنوع من صوف األغنام المحروق ،شرع يكتب
ويقرأ بصوت مرتل وأنا أردد خلفه ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭴ ﴾.
سلمني بعدها اللوح ،أمرني بالعودة إلى مقعدي إلى جوار التلميذ الكفيف ،وقراءة السورة عدة مرات لتسميعها عليه في الغد ،شرعت أقرأ بصوت عال مثل زمالئي ..أحملق في لوحي ،تنبهت إلى أن الفصل قد امتأل بهدير أشبه ما يكون بخلية النحل ..التالميذ يتمايلون يمنة ويسرة وبعضهم إلى األمام ،أدرت نظري أحملق في زمالئي فإذا هم غارقون في تجربة الحفظ ،فأخذت أحفظ ما كتبه لي الفقيه، وبعد مضي ساعة أو أكثر صلصل جرس المدرسة ..معلنا استراحة اإلفطار وضعنا األلواح في نهاية الفصل ..هرولنا نحو المقصف... اصطففنا في طابور طويل الستالم سندوتشات الحلوى المعجونة... ومن يومها ودعت رغيف الطماطم بالزيت الذي كنت أخطفه خلسة من أمي ،وعندما تفطن لي كانت تنهرني وتصيح في غاضبة: ـ يا وليدي كملت علينا الطماطم والزيت.
أخذت ألعب مع رفاقي الجدد في ساحة المدرسة ،حتى رن الجرس معلنا انتهاء استراحة اإلفطار ،دخلنا الفصول من جديد، اختفى الفقهاء ،ودخل علينا معلم اللغة العربية ،كان طويل القامة 48
مثل العب السلة ،يرتدي بذلة رصاصية وحذاء اسود لما ًعا ،قمنا وقوفا جللنا الصمت والخوف ولم نجلس على مقاعدنا حتى أمرنا بالجلوس ،اتجه نحو السبورة وبدأ يكتب بالطباشير على السبورة: بالد العرب أوطاني وكل العرب اخواني.
وشرع يحفظنا ذلك النشيد ،ثم أمرنا أن يكتب كل تلميذ النشيد من السبورة في كراسته ويحفظه .الحصة الثانية كانت ألستاذ الحساب أطل علينا هو اآلخر مع بداية الحصة ،متجهم الوجه ضخم الجثة أنيق الهندام ،على عينيه نظارة ،بيده عصا رفيعة ،نهض التالميذ حدق يفتش على األظافر الطويلة ،كل طالب يديه ممدودتان أمامه ،يحملق فيهما ،من يجد أن أظافره طويلة يجلده بالعصا ثالث جلدات ،أما أنا فقد حدق في أظافري بغضب ،وأمرني بتقليمها في الغد ،ألنه عرف إنني هذه أول حصة لي عنده ،ثم دعانا للجلوس وكتب لنا جدول الضرب رقم اثنين ،وأمرنا بكتابته في الكراسات وحفظه لتسميعه في الغد ،أما الحصة األخيرة فقد كانت ألستاذ التربية الدينية ،الذي شرع يشرح لنا كيفية الوضوء والصلوات الخمس في اليوم. ومنذ ذلك اليوم تبددت مخاوفي وقلقي ..أحببت االستيقاظ المبكر واالنطالق نحو المدرسة كل صباح من الحطية على قدمي.. أحببت المدرسة ورفاقي الجدد عرفت كيف أفك طالسم الكلمة وحروفها ..أمحو اللوح بماء الصنبور بعد الحفظ ودهنه بلطيخ الطفلة ،أدعه في الشمس ريثما يجف ،أعاود الكتابة بقلم القصبة بقية آيات السورة. 49
في االستراحة كنا نقف في طوابير أمام المقصف يوزعون علينا اإلفطار بالمجان،أرغفة محشوة بالحلوى الطحينية ،أو التن أو المربى، باإلضافة إلى اإلفطار كانوا يوزعون علينا كل نهاية أسبوع أكياس التمر والكاكاوية (الفول السوداني) .من مميزات المدرسة القرآنية تلك، انها كانت توفر لنا التغذية المدرسية بانتظام.
مضت األعوام الدراسية كنت جادا في حفظ سور القران الكريم، وهكذا كنت أصغي إلى دروس أساتذتي في التربية الدينية واللغة العربية ،والتوحيد والتجويد ومبادئ الحساب والعلوم والجغرافيا والتاريخ ،كان المنهج المصري هو المتبع حينذاك في الدراسة ومن المواضيع الطريفة التي كنا ندرسها «القرود وبائع الطرابيش ...سرحان بين الغيط والبيت ...الثور والساقية ،وغيرها».
50
()6 كنت أخرج صباحا كل يوم من كوخنا كعادتي ،ماعدا أيام الجمع والعطالت الرسمية ،حامال حقيبتي قاصدا مدرستي الجاثمة هناك، في أقصى الشرق مع غيري من الطالب الذين يدرسون في المدينة، وكذلك األهالي القاصدين أعمالهم كانوا يسيرون على أقدامهم من سبخة الحطية في األيام العادية ،طوال فصول الربيع والصيف والخريف ،أما في فصل الشتاء فتتحول السبخة إلى بحيرة من المياه، ال يستطيع أحد عبورها حتى تجف بعد شهر أو أكثر ،كنا نتجه نحو الطريق الرئيسي المتجه نحو الشرق.
كانت حركة السيارات محدودة في المدينة ،أما الحافالت فال وجود لها إال عند الجيش البريطاني ،كنت مع غيري من المارة أصعد المرتفع أعلى التلة الجبلية حيث شيدت مباني المدينة القديمة أعبر شارع الجيش المؤدي إلى الحامية ،وعلى جانبيه السواني الغنية بالخضروات وأشجار النخيل والكروم ،أمر بالقرب منزل وورشة عائلة جملي والذي كان مقهى قصار سابقا ،أصعد نحو شارع 51
الكيتكات حيث طاحونة بوسيف الوحيدة في المدينة ،والتي كان يفد إليها بعض سكان القرى القريبة والضواحي ،يحملون الشعير على دوابهم لطحنه ،يربطون حميرهم في ماسورة كبيرة في الحبس الذي كان يعرف باسم وادي رامانيولي اإليطالي ،والذي كان بالقرب من مساكن آل طاطاناكي.
تلك الطاحونة أخبرني والدي عن صاحبها الحاج بوسيف ،الذي شرع في إحدى سنوات الجفاف يستورد القمح من الخارج ،وكيف كان يقوم بطحنه هو وأبنائه وبيعه لألهالي بسعر رمزي ،حتى اجتاز األهالي عام الجفاف بسالم.
ما أن أجتاز الطاحونة ببضعة أمتار حتى تلوح لي البيوت العصرية على جانبي الشارع ،والتي كانت تقطنها العائالت االنجليزية التي يعمل أربابها في الحامية البريطانية ،أو في العدم الواقعة إلى الجنوب الشرقي للمدينة بحوالي 28كيلو متر ،ثم سوق الخضروات الذي كان يمثل مركز المدينة التجاري وتباع فيه الخضروات التي كانت تجلب إليه من أودية العودة والوعير وطبيرق والفاكهة واللحوم والسمن واأللبان والحصر واألواني الخزفية واألكلمة وتحيط به شوارع رئيسية ،وهي شارع عمر المختار وشارع زهير بن قيس وشارع الشيخ المبري .وكان للسوق بابان بابه الشرقي يطل على شارع عمر المختار وتواجهه سينما حلمي ،وبابه الغربي يطل على شارع زهير بن قيس ،بعدها أدخل شارع االستقالل. 52
وفي أيام كنت أسير عبر مدخل المدينة من شارع الشيخ المبري مارا بفندق الجبل األخضر ،وقد شيد منذ االحتالل االيطالي وعرف ً سابقا باسم البيرقو ،ثم فندق بالس هوتيل .أمر أمام عيادة األسنان ثم مستشفى حبشي ثم مبنى بريد طبرق القديم ثم أدخل شارع االستقالل، تلوح لي تلك الكنيسة الكاثوليكية بأجراسها العالية وراهبها الذي كنا عندما نراه يقف أمام بابها الكبير نحك رؤوسنا حتى ال نصاب بالثعلبة ،هكذا كنا نعتقد. أسير متجها نحو مدرستي الجاثمة خلف قصر الملك إدريس، وثمة بضعة بيوت لرجال الحرس الملكي.
الدراسة كانت على فترتين فترة الصباح وفترة ما بعد العصر ،قبل المغرب تتوقف الدراسة المسائية ،وينصرف التالميذ إلى بيوتهم، كنت أحث الخطى عائدا وأنا أسير على قدمي في اتجاه الغرب أدخل شارع االستقالل ،أمر من أمام عمارة مصوراتي بوالحولة ،ومسجد العتيق ومدرسة القوس طبرق االعدادية ،أنحدر نحو سبخة الحطية وفي أقل من ربع ساعة سرعان ما أصل كوخنا.
تآلفت مع الجو الدراسي في المدرسة القرآنية ،أفتح عيني الفضوليتين وأذني المرهفتين ،أعتمد على نفسي في كل شيء. أصبحت أعشق المدرسة ولي أصدقاء فيها ،وأفضلها على البقاء في البيت أو اللعب في الشوارع واألزقة.
ذات فصل شتائي أجدبت البطنان ،وتأخر سقوط األمطار، فأخرجنا الناظر نحن طالب المدرسة القرآنية وبعض الفقهاء إلى 53
ساحة المدرسة ،وانتظمنا في صفوف حيث تحدث إلينا المدير
طال ًبا منا المحافظة على النظام أثناء السير على األقدام في شوارع المدينة ،من أجل الدعاء لله أن ينزل على البطنان الغيث النافع من
أجل محصول وفير من القمح والشعير ،وخرجنا نسير على أقدامنا ومعنا بعض الفقهاء ،حيث مررنا من أمام الكنيسة ،ثم شارع الشيخ المبري وسط المدينة ونحن نردد بصوت عال: آباؤنا الكبار ونحن الصغار. ارحمنا يا غفار وأرزقنا باألمطار. حتى وصلنا الساحة التي كانت تقع أمام مسجد الملك ،أدينا
صالة االستسقاء ومعنا بعض األهالي ،ثم عدنا إلى المدرسة من
جديد ،لكن الناظر لم يدعنا نكمل اليىوم الدراسي ،فقد صرفنا وأمرنا
بالعودة إلى بيوتنا.
وعندما ختمت النصف األول من القرآن الكريم ونجحت إلى
الصف الخامس االبتدائي ،أخذني أبي معه إلى المدينة ،واشترى
لي دراجة جديدة من محل لصيفر في وسط المدينة ،عدت يومها مغتب ًطا سعيدً ا وأنا أقودها تارة ووالدي يسير إلى جواري ،وتارة امتطيها إلى أن وصلنا سبخة ،كنت أتعثر في البداية لكن مع تكرار
السقوط ،سرعان ما تعلمت قيادتها واجتزت يومها أبي الذي يسير
على قدميه بأمتار ثم انتظرته ريثما وصلني سمعته يومها يدندن ببيت
من سيرة الهاللية بصوت عال:
54
ياما أنوصيك ياما نقولك سعد ليال ما لوالي دام
تصبح ناسيني وناسي وصاتي والوي علي الكريد حرام
لم يكن أبي يتدخل في شئوني الخاصة ،أو يقسو علي تاركا لي الحبل على الغارب ،فهو يكدح في العمل في الحامية يوم ًيا من الصباح ،وال يعود إلينا إال قبل غروب الشمس بقليل ،كل دينارا في الشهر ،وأمي هي ذلك من أجل راتب ال يتعدى ثالثين ً األخرى تهتم برعاية شئون البيت والطهي .وبعد أن تعلمت ركوب الدراجة أصبحت أذهب لمحل عمي األصيفر لتأجير الدراجات في المدينة. كانت المدرسة القرآنية الوحيدة في المدينة ،طالبها خليط من أبناء عائالت المدينة واألحياء المجاورة .الفصل ال يتعدى العشرين طالبا .ال نعرف بعضنا في تلك المدرسة إال من خالل أسمائنا فقط.
كنت جادا في االستماع إلى أساتذتي في اللغة العربية والتربية الدينية ،وفي التوحيد والتجويد ومبادئ الحساب والعلوم والتاريخ والجغرافيا ..حفظت أجزاء من القرآن على يدي فقيه الفصل ،وفي الصف الخامس التقيت بزميل تعرفت عليه ،كان أسمر البشرة نحيل العود ،أجعد الشعر يدعى صالح ،بعد أن يتم تسريحنا ظهرا من المدرسة ،يدعوني للغداء معه في بيته القابع خلف فندق بالس هوتيل في مدخل المدينة ،في شقة صغيرة هناك ،وبعد شرب الشاي يأتي الصبي بآلة البيانو الصغيرة ،ويظل يعزف عليها لدقائق مقلدا في الغناء 55
المطرب فريد األطرش والمطرب محمد عبدالوهاب ،ثم نرجع معا من جديد إلى المدرسة مع العصر ،الستكمال تالوة وحفظ القرآن الكريم على يدي الفقيه رجب الزليتني ،وقبيل غروب الشمس يتم تسريحنا من المدرسة والتفرق إلى بيوتنا ،وفي بعض األيام خاصة في نهاية األسبوع يوم الخميس ،كنت أدخل مع بعض األصدقاء سينما حلمي التي كانت تقع أمام فندق الخضراوات ،مقابل مطعم وبار فؤاد ،أما في أيام الجمع كان العرض للنساء عند الثالثة بعد الظهر ،وقد قسمت دار العرض إلى دورين ،دورعلوي درجة أولى للعائالت والذين حالتهم المادية ميسورة ،ودور أرضي درجة ثانية للشباب والصغار ،زودت السينما بكراسي حديثة وإضاءة ومعدات تشغيل ،كان الذي يحجز تذاكر الدخول من خالل شباك صغير ،يقال له عطيه ،أما خميس التاورغي فكان يصعد الدور العلوي لتشغيل السينما وبداية العرض. تذكرت كيف دخلت أنا وصديقي صالح الفيلم ..تناولنا سندوتشات التن بالهريسة ،ومشروب صداقة في مقهى على العمامي ..من أشهر األفالم التي شاهدتها الفيلم الهندي من أجل أبنائي ،الذي استمر يعرض لعدة أسابيع في تلك الدار ،كما شاهدنا العديد من األفالم اإليطالية مثل هرقل وماشيستا واألبطال العشرة، وأفالم الكاو بوي واألفالم المصرية. كان ازعيط دائما يقف أمام سينما حلمي بصندوقه الخشبي الذي يربطه بخيط حول رقبته وبداخله الكاكاوية الفول السوداني ،والزريعة 56
اللب ومستكة السبع ،تذكرت صاحب الدار حلمي طاطاناكي يشاهد دائما العروض ،وقد خصص له مقعدً ا في المقدمة ،تخطى العقد السادس من عمره متوسط القامة ،نحيل العود أصلع الرأس ،بجواره يجلس ميلود المشرف الذي يعطف عليه دائما ،يدخله السينما مجانا، بيد كل واحد منهما كيس الزريعة أو الكاكاوية ،وبعد انتهاء العرض كنا نسأله: ـ ماهو رأيك في الفيلم؟
ونحن نمزح معه فيجيبنا بابتسامة مرددا عبارته الشهيرة التي كان دائما يكررها لنا قائال: ـ هذا فيلم جبار.
كما كنا ندخل أيضا سينما الزني حيث مشاهدة األفالم األمريكية والمصرية واإليطالية ،ونتذكر في اليوم الثاني في الفصل بعد مشاهدتنا لفيلم «حب حتى العبادة» ،أنا وصديقي صالح وهو فيلم مصري تقوم ببطولته الفنانة شادية والفنان كمال الشناوي ،والعديد من الممثلين المصريين اآلخرين ،كيف أخذنا نكتب مشاهد الفيلم في كراسة صغيرة ،أثناء إحدى الحصص بعد االستراحة ،في اليوم التالي وكان األستاذ قد تغيب ولم يحضر ،وفي فترة الدراسة كنت أذاكر دروسي، وأحفظ سور القران الكريم في الليل على ضوء الفنار ،فلم تكن الكهرباء قد وصلت إلى الحطية بعد.
57
()7 نشاهد في أزقة الحطية التاجر الجوال اغنيوه ،بقامته القصيرة،
ولحيته البيضاء ،يدخل الحطية يمتطي حماره األبيض ،كنا نتبعه
نحن الصغار من زقاق إلى آخر ،كان يوزع علينا حلوى شاكير حتى نبتعد عنه وهو يردد:
خرشه برشه ،عجوز وطرشه ،تكنس من بره ،ومن جوه حره حره. يحمل في خرجه على ظهر حماره ،كل ما تحتاجه النساء من
عطور وكحل وأمشاط ولوبان ،وحناء ومرايا ومناديل ملونة ومالبس
داخلية نسائية ،وفاسوخ وجاوي وزيت شعر وسواري وسراويل نساء،
وعقاالت العنبر ،وعدة تركيب لشعر المرأة المتزوجة لونها أحمر،
وللفتاة الغير متزوجة يكون لونها أسود. وهو يردد غناوته الشهيرة:
غرورات ياليامزهاكن محاذي شومكن 59
كان يتذكر ابنه الشاب الوحيد الذي راح ضحية التربان األلغام ،كما يردد غناوة علم أخرى في حزن وأسى« :إن جيتي علي لوهام حطي إقناع يا عين واهلبي» ،أوغناوته «بينك وبين الدار حطي إقناع ياعين ع العمى» ..النساء والفتيات كن يخرجن إليه ،يعترضن سبيله يمازحنه يتفحصن ،ما معه في الخرج من خردوات ومالبس ،يشترين منه ،وهو يتنقل من زقاق إلى آخر ،يعرض عليهن البضائع هذه رخيصة ،وهذه جيدة كان يتوقف أمام البيوت يتفحصن النسوة بضاعته ،بعضهن يشترين منه العطور والشبة والجاوي والمسك وغيره.
في طفولتي كنت شقيا أتشاجر دائما مع أترابي في الحطية ،الذين كنت ألعب معهم في األزقة ،أمهاتهم كنا دائما يحضرن إلى أمي ،وهن والدي. يشتكين مني ،فقد كنت طفال مشاكسا ،الوحيد المدلل لدى ّ أبي كان يعتبرني طفال بريئا ،وكذلك أمي.
في أيام القيلولة في الصيف كنت أقوم مع غيري من الصبية باصطياد الطيور ،في مكبات القمامة ووادي بوجدارية ،ووادي بوحبلة بالنشابة والرش من بندقية ،وصيد البوري من عيون بردي الحطية ،الواقع إلى الشرق من الطريق الرئيسي ،وذلك بعد تعكير مياه العيون حتى تصبح المياه سوداء ،وإلقاء حطب الرمث عندها تفقد أسماك البوري األكسجين ،وتطفو فوق سطح الماء ،وأحيانا تقفز فوق الحطب وعندها يسهل مسكها واصطيادها ،أو عندما يرمي صياد جاالطينة في شاطيء طبرق ،وبعد سماع الدوي العنيف كنا سرعان ما نغطس أنا والصافي وعبدالسالم اللتقاط األسماك الطافحة على 60
سطح المياه ،بعد ذلك نبحث عن ثمار التين في شجيرات مزرعة النيبو على الطريق الرئيسي.
عند الضحى من أيام الصيف كنا نلمح موكب الملك إدريس الجليل يمر من أمامنا ،في سيارته المرسيدس السويداء ،تمرق من أمامنا في اتجاه الشرق نحو استراحته في باب الزيتون ،وأمامها دراجة نارية واحدة وهو يقبع في الكرسي الخلفي ،يلوح لنا بيده، ونحن كنا نلوح له من بعيد ،كما كنت ورفاقي نقوم بجمع النحاس واأللومونيوم ،وحمله إلى التاجر المرغني في وسط المدينة ،حيث كان يشتريه منا ببضعة قروش ،ندخل بها دار عرض حلمي القريبة من مطعم وبار فؤاد أو دار عرض الزني ،ونشتري بما تبقى لدينا شطائر التن بالهريسة ،وزجاجات مشروب صداقة ،وقراطيس الزريعة والكاكاوية من ازعيط. تقدم سكان الحطية بمذكرة للمتصرف الجديد في المدينة، يشتكون فيها من عدم وجود اإلنارة ،وكذلك مد الحي بالمياه أسوة بغيره من األحياء ،فوعدهم أنه سيعرض مذكرتهم هذه على المحافظ، في أول اجتماع له معه خالل األيام القادمة ،وهو يأمل خيرا لحي الحطية وغيره من األحياء بالمدينة.
61
()8 عشت في الحطية ،عرفت كل مسالكها وأزقتها ،وصادقت جميع
صبيانها ،وحفظت أسماء فتياتها وفتيانها ،صرت أرتدي البنطلونات األمريكية ،والقمصان المزركشة ،اخشوشن صوتي ،نبت بصدغي
زغب ،عرفت بوادر المراهقة المبكرة ،أصبحت اختلس النظر إلى
النساء ،وأراقب فتيات الجيران من نافذة غرفتي الضيقة ،أحلم بهن في خلوتي ،وعندما تتحدث معي فتاة أو امرأة كنت أتلعثم وارتبك
في البداية ،مازلت أتذكر ابنة أحد الجيران كانت جميلة ،وجهها كالبدر ،وشعرها كشالل العتمة ينسدل على كتفيها ،دخلت على
أمي في الكوخ ،وتحدثت معها ،ثم التفتت إلى قائلة:
ـ أحتاج إلى علبة هندسة غدا عندي امتحان رياضيات. دخلت حجرتي بحثت لها عن علبة الهندسة ،كتبت بسرعة لها
قصيدة شعر عاطفية تحمل عشقي بها وعاطفتي نحوها ،وتغزلي
فيها ،أخفيتها بداخلها ،لكنها في عصر اليوم التالي أرجعت لي علبة 63
الهندسة ،فتشتها جيدا لم أعثر فيها أي رد منها على رسالتي ،كان
حبي لها من طرف واحد ،كأنها قد مزقت تلك الرسالة بعد قراءتها
ورمت بها في سلة المهمالت ،فهي مزهوة بنفسها ومغرورة بجمالها. أتذكر انه في يوم عيد الفطر أنني ذهبت إلى المدينة ،ووجدت
نفسي في محل لصيفر إليجار وتصليح الدراجات ،طلبت منه تأجير
دراجة لمدة ساعة بقرشين.
كنا في ليال الصيف المقمرة نتلصص على نوافذ أكواخ الحطية
الواطية ،نرهف آذاننا لنسمع ما يدور بين األزواج والزوجات ،خاصة ليلة الجمعة من كل أسبوع ،مازلت أتذكر عندما اقتربنا من أحد
تلك األكواخ ،في شغف وفضول وضعنا آذاننا على النافذة الواطية
الصغيرة ،سمعنا صوته كأنه يتحدث إلى زوجته وهو يقول لها: ـ نلقانك كنت حمره وسمحه. ـ .................... ـ لكنك اليوم كبرتي وتميتي شينة.
برهة توقف الحوار بينهما ،وفجأة فتحت النافذة الصغيرة ،انسكبت
على رؤوسنا مياه قذرة أسرعنا بالفرار وسط جلبة وضوضاء بعيدا
عن الكوخ ،غير إن ذلك العجوز قد فطن لنا سمعناه يمطرنا باللعنات والشتائم:
ـ توا انوريكم يا كالب. 64
اختفينا في أزقة الحطية الضيقة ،عرفنا فيما بعد أن ذلك العجوز كان يقطن وحيدا في كوخه الصفيحي ،وكان ليلتها يغسل شنته الحمراء بالماء والصابون ،وهو يردد تلك األهزوجة ويتغزل في شنته.
قبل نهاية الصف السادس ببضعة أسابيع ،فوجئنا بالناظر يدخل علينا الفصل قبل االستراحة بقليل ،وقفنا له استعدادا أمرنا بالجلوس، حيانا سألنا عن الدراسة والمدرسين ،ثم تحدث إلينا قائال: ـ طالبي األعزاء لن أطيل عليكم ،أنتم تعلمون انه ال يوجد بهذه المدينة معهد ديني ،وحتى يتم افتتاح المعهد الديني في العام القادم ،عليه سوف تبقون سنة أخرى في الصف السادس دون امتحان ،حتى العام القادم أرجو آن تبلغوا أولياء أموركم بهذا األمر ،وال تطالبوننا باالمتحان في نهاية العام. وخاطبنا قائال:
ـ هل فهمتم؟
رددنا :نعم فهمنا.
ثم خرج وأوصد الباب خلفه ،تركنا في حيرة وقلق كانت صدمة قاسية بالنسبة لنا ،كيف نبقى عاما آخرا في سادسة ابتدائي؟ وماذا نقول ألهلنا؟ هل نقول لهم تأجل االمتحان هذه السنة؟ هل سيصدقون ذلك؟عدت إلى البيت حزينا قلقا ،لم أنم تلك الليلة ولم يغمض لي فيها جفن. اهتديت إلى فكرة ،ما أن أشرقت شمس صباح اليوم التالي، 65
حتى سارعت إلى تنفيذها ،ذهبت إلى مكتب االمتحانات في شارع الفيحاء ،صعدت ساللم الدور الثاني من المبنى ،دخلت على المدير يبدو نحيل العود أصلع الرأس ،ينكب على الملفات التي أمامه حدق في بعينين ضيقتين ،من خلف نظارته السميكة تساءل قائال :تفضل.
أخرجت الطلب الذي سهرت ليلة البارحة في كتابته ،مددت به إليه تصفحه ثم بادرني: ـ تأخرت قليال لكن ال بأس.
ـ ............................... بادرني قائال:
ـ أحضر إلى غدا ومعك أربع صور شمسية ،وشهادة تثبت نجاحك من الصف الخامس.
ومن يومها انقطعت عن المدرسة القرآنية وتالميذها، وسندوتشات التن والحلوى والمربى وأكياس التمر والكاكاوية، اتصلت بأصدقائي في الحطية ،ممن كانوا يدرسون في الصف السادس االبتدائي ،أخبرتهم بانتسابي للشهادة االبتدائية ،طلبت منهم مفردات المنهج والمواد المقررة ،لم يبخلوا علي بذلك ،بل وهناك منهم من حضر إلى ،وشرح لي منهج الرياضيات المقرر، كنت أذاكر في النهار ،وفي الليل على ضوء فنارالقاز كل يوم هكذا حتى ساعة متأخرة من الليل. 66
قارسا والمطر ال يتوقف عن الهطول ،وأرضية غرفتي كان البرد ً أصبحت أشبه ببركة مياه ،القاطر من كل مكان سطح الغرفة أشبه بغربال.
مع ساعة متأخرة من الليل كنت أخفض ضوء مصباح الكيروسين، أشد البطانية على جسدي المقرور ،وأخلد للنوم بعد بضعة أيام بادرتني أمي ذات ضحى قائلة: ـ والدك زعالن منك يا وليدي.
تساءلت :ليش يا أمي؟
ـ ألنك اتغيب عن المدرسة.
ـ أنا غيرت مساري الدراسي بس..
ـ ليش؟
ـ ألن مدير المدرسة وقف االمتحان هضا العام. ـ وايش تبي تدير؟
ـ نبي نخش امتحان الشهادة االبتدائية.
ـ أنت أدرى بمصلحتك نا وبوك ال نقروا ال نكتبوا.
ـ ال اطمئني ياأمي وادعي لنا بالنجاح. ـ ربنا يربحك وينجحك يا وليدي.
من خالل انكبابي على المذاكرة في غرفتي الصغيرة للمنهج 67
المقرر لسادسة ابتدائي ،واالستعانة بزمالئي في فهم واستيعاب ما كان مستعصيا .استطعت أن أفهم الدروس ،دخلت االمتحان في الموعد المحدد له ،بمدرسة المجد االبتدائية التي كانت سابقا مستشفى حبشي ،مع تالميذ مدارس المدينة ،االمتحان استمر لمدة أسبوع ،وبعد شهر أذيعت نتيجة الشهادة االبتدائية من إذاعة المملكة الليبية ،وكم كانت سعادتي وغبطتي ،عندما أذيع اسمي وكان في قائمة الناجحين.
وذات عصر بينما كنت في جولة على قدمي في أحد شوارع المدينة ،إذ عثرت على مكتبة بالقرب من حديقة البلدية ،دلفت إليها وجدت بعض الصبية يجلسون على الكراسي يتصفحون المجالت على الطاوالت ،سمير ،ميكي ،طرزان ،سوبرمان ،الوطواط ،ماجد وغيرها ..تكرر ترددي على تلك المكتبة وموظفها النحيل العود، المتوسط القامة ،يرتدي نظارة سميكة ،طلب مني الموظف صورة وبيانات ،على أن يصرف لي بطاقة إعارة ،يحق لي بعدها حمل الكتاب معي إلى البيت ،وقراءته هناك ثم استرجاعه ،ومن يومها أصبح الكتاب رفيقي وأنيسي اطلعت على الكثير من الكتب ،ألف ليلة وليلة ،كليلة ودمنة ،قصص األنبياء ،وكتب األدب العربي المعاصر من قصة ورواية وشعر.
كما عثرت على مكتبة خاصة تبيع الكتب والمجالت والصحف، في وسط المدينة كان صاحبها يدعى علي ليدي ،المكتبة كانت غنية بالمجالت مثل :الكواكب ،وآخر ساعة ،والمصور ،وروز 68
اليوسف ،وصباح الخير ،األديب ،واآلداب ،والهالل المصرية، والعربي الكويتية ،والمجاهد الجزائرية ،وروايات الهالل المصرية والروايات العالمية :عمال البحر ،وكوخ العم توم ،والبؤساء ،والشيخ والبحر ..وغيرها. صرت أقرأ بنهم كل ما تقع عليه يدي من كتب .تحول جديد طرأ على حياتي في القراءة والكتابة ،كتبت بعض المحاوالت القصصية في كراسة صغيرة اطلع عليها بعض أصدقائي فنالت اهتمامهم.
كنت اشتغل خالل العطلة الصيفية ،في قاعدة العدم عند االنجليز، بأجر ال يتعدى العشرون جنيها في الشهر ،مع غيري من الشباب لم أدخن في حياتي بالرغم من توفر التبغ بكثرة وبأنواع مختلفة ،وبأسعار زهيدة أمامي في حانوت قاعدة العدم. أيضا كان المركز الثقافي في مدخل المدينة قد افتتح به مكتبة غنية بالكتب ،وصالة لمطالعة الصحف والمجالت ،كنت أطالع مجلة صباح الخير المصرية والمجاهد الجزائرية والعربي الكويتية والحوادث اللبنانية وصحف الشعب والبالغ والرقيب والزمان وغيرها.
69
()9 التحقت بالصف األول أعدادي بمدرسة الضاحية ،في حي سوق العجاج ،وهي تقع على الطريق الرئيسي ،مبنية من دور واحد ،لها باب على الشارع الرئيسي ،ال يدخل منه سوى المدير والمدرسون وأولياء األمور ،وباب خلفي يطل على بيوت سوق العجاج يدخل منه الطالب ،بها حتى الصف الثالث إعدادي، وعندما يدق الجرس سي عبدالواحد نتقاطر على الساحة كل واحد منا يأخذ مكانه في الطابور المحدد له حسب السنة الدراسية ،في صفوف منتظمة ندخل الفصول ،كل صف به صفين من المقاعد الخشبية ،انزويت في منتصف الفصل إلى جوار زميلي دخيل، القادم من مدينة زليطن ،عرفت فيما بعد أن والده متوف ،وان والدته قد تزوجت من رجل آخر ..دخيل يقيم عند خاله عبدالسالم في الحطية. كان بالفصل حوالي عشرين طالبا ،وطالبتين كانتا تجلسان في المقدمة ،عادة تكون الحصة األولى رياضيات ..يدخل مدرس المادة 71
األستاذ حامد الحبوني بيده عصاته الرفيعة ..قبل أن يبدأ في شرح الدرس الجديد يصيح في سخرية واستهزاء:
ـ صبي يا عبدالمالك يا قرد تعال و حل هذي المسألة على السبورة.
حتى يذكرنا بالدرس السابق في الرياضيات يخرج عبدالمالك من الدرج ،وهو يبتسم وكله ثقة بنفسه ،يشرع في اإلجابة ،كانت إجابته صحيحة ينجو من العقاب ،يبدأ المدرس في الدرس الجديد ،كنت أطأطئ رأسي في خجل وارتباك وخوف ،أقرأ سورة الفاتحة وآيات الكرسي حتى ال ينادي علي ،ويخرجني على السبورة فأنا ال أفقه شيئا في مادة الرياضيات ،وحتى في كشف الدرجات كنت في هذه المادة أقل درجات ،ما أن يقرع الجرس وتنتهي حصة الرياضيات حتى أتنفس الصعداء.
أما في الحصة الثانية كانت تدب في الحياة ،أشعر باالرتياح والسرور ،عندما يدخل األستاذ سيد عيسى بقامته القصيرة وبدلته الرصاصية األنيقة ،يحي الطالب بابتسامته المعهودة ،يبدأ درسه الشيق في األدب أو النحو سرعان ما تنتهي الحصة ،لتكون الحصة الثالثة تاريخ.
ومع مرور األيام واألسابيع اكتشف األستاذ سيد موهبتي في مادته فضمني ،إلى أسرة اإلذاعة المدرسية في أعداد وكتابة الكلمات، وإلقائها على الطالب في طابور الصباح ،ومنذ ذلك اليوم ودعت الوقوف في ساحة المدرسة في البرد القارس ،والتواجد مع أسرة اإلذاعة المدرسية في تلك الحجرة الدافئة ،إللقاء مقتطفات من 72
األقوال والكلمات واألخبار الرياضية ،أصبحت أتحصل على درجات عالية في اللغة العربية خاصة مادة التعبير واإلنشاء ،أصبح أستاذ العربي يشيد بي وبقصصي.
قامت شركة الكهرباء بتوصيل اإلضاءة إلى منازل الحطية ،واختفى الكيروسين من البيوت ،كما امتدت أنابيب المياه فوق سطح األرض، ووصلت المياه إلى منازل الحطية ،تكونت برك في األزقة للمياه أصبح يعب منها حتى الدجاج والهررة والكالب.
ذات ليلة وبينما كنت أسهر مع بعض رفاقي أمام دكان عقيلة الشاعري ،ونحن نتجاذب أطراف الحديث إذا بالشاويش صالح الطويل يهرول نحونا ببزته العسكرية ،ويصرخ فينا بصوت عال: ـ هيا عودوا بسرعة إلى بيوتكم ممنوع التجول. تساءلنا بصوت واحد:
ـ لماذا ماذا هناك؟. بادرنا:
ـ اليوم قام الجيش بالثورة على الملك إدريس ..ثورة انقالب على الملك ،حكم جديد؟ كنا ال نفقه شيئا في السياسة وقضاياها.
طبرق كانت تكتظ بمئات الجنود والضباط اإلنجليز ،وعائالتهم يقطنون المنازل الحديثة في المدينة ،وكذلك في قاعدة العدم. 73
وبعد أيام سرنا ومعي صديقي دخيل إلى المدينة على األقدام، وعندما أردنا عبور الطريق الرئيسي المتجه نحو الشرق ،لمحنا ثمة دبابة عسكرية كانت تتوقف على يمين الطريق وثالثة جنود ببزاتهم الخضراء وبنادقهم الطويلة ،يوقفون السيارات المتجهة نحو الشرق أو الغرب ويفتشونها ،وثمة عسكري آخر كان يصدر لهم األوامر في عنف وخشونة ،تبدو عليه الوسامة ،شعره ينساب على جبهته وعلى يده اليمنى أربعة أشرطة كأنه رئيسهم ،واصلنا سيرنا نحو المدينة التي كان يخيم عليها الفراغ والكساد ،وحركة البشر فيها محدودة ،وثمة كتابات كثيرة ورسومات على جدران مدرسة المجد ومحالت وأبنية المدينة :تحيا الجمهورية الليبية ـ عاشت الثورة ـ حرية اشتراكية وحدة. صور على جدران محالت وبيوت المدينة لشخصية عسكرية يدعى سعد الدين شويرب .هل هذا هو قائد االنقالب أو الثورة؟ لم تمض بضعة أسابيع على تلك التساؤالت ،حتى جاء إلى مدينة طبرق من يقطع الشك باليقين ويجيب عن تساؤالت المواطنين، أطل ضابط شاب نحيل العود ،ال يتجاوز العقد الثالث من عمره، يتدفق حماسا وحيوية يرتدي قيافة عسكرية ،كان يقف على منصة في ميدان طبرق ،وشرع يخطب في األهالي عن القضية الفلسطينية والوحدة العربية ،يبدو تأثره بالزعيم جمال عبدالناصر ،كانت تلك السنة سنة جفاف واألمطار لم تسقط ..سارع المواطنون يقاطعونه، وهم يهتفون: 74
ـ نبوا كسبه نبوا علفه ..اجداب اجداب.
ـ ........................
ـ الضان تموت من قلة األعالف والكسبة.
كأنه لم يفهم مطالبهم؟ أو لعله فهم لكنه يصر على إلقاء خطابه القومي ،انسحبوا من أمامه فرادى ،بعد لحظات وجد نفسه يخطب لوحده في الميدان ومعه أتباعه ،وبعض الضباط والمسئولين في المدينة ..وتردد اسمه ،إنه معمر القذافي.
في الصف الثاني اإلعدادي اختفى زميلي دخيل ،ولم يعد يحضر للمدرسة منذ عدة أيام ،وعند عودتي من المدرسة ذات ظهيرة طرقت باب كوخ خاله ،فخرج لي أحد أبناءه: ـ أين دخيل؟
أجابني الصبي قائال:
ـ دخيل سافر ودخل الجيش الليبي في بنغازي.
ومن هناك راسلني دخيل بعدة رسائل ،كان يحكي لي فيها عن أحواله ،ومواصلته الدراسة اإلعدادية في الفترة المسائية ،وعن قراءته لروايات بيار روفائيل.
في تلك السنة تشاجر الطالب علي الشيهني مع معلم االنجليزي الليبي داخل الفصل ،بالكالم في البداية ثم ارتفعت أصواتهما ووصلت المشاجرة بينهما باأليدي ..وتدافع طلبة الفصل يفصلون 75
بينهما وعلى إثر تلك المشاجرة أقبل مدير المدرسة وفصل ذلك الطالب وطرد من المدرسة واختفى نهائ ًيا.
قرأت دواوين الشعر العربي القديم والحديث :المتنبي ،عنترة بن شداد ،زهير بن أبي سلمي ،أبوتمام ،ابو العتاهية ،بشار بن برد، نزار قباني ،محمود درويش ،سميح القاسم ،إيليا أبو ماضي ،كامل الشناوي ،بدر شاكر السياب وغيرهم .كتبت العديد من المحاوالت الشعرية عن العشق وليال السهر والمراهقة كانت .الكتابة في مرحلة المراهقة وسيلة لتفريغ شحنة عاطفية أو التعبير عن ذاتي. عيناك شمعتان في ليال الغسق
أرى فيهما عقلي ونفسي فانطلق
وقلبي المتيم بحبك قد خفق
أرسلت بقصائدي للعديد من المجالت وهي :الخواطر اللبنانية، والمجاهد الجزائرية ،وبيروت المساء ،وعندما كنت أجدها منشورة على صفحات بريد القراء في تلك المجالت ،كنت أطير غبطة وسرورا وأشتري ً نسخا منها ،ثم بعد أشهر جمعت تلك القصائد ودونتها بخط جميل ،في كراسة بعنوان :قصائدي إليها ،كنت أنوي نشرها في ديوان ،غير أنني فكرت البد أن آخذ رأي مدير تلك المكتبة خاصة وانه شاعر ،أسرعت إليه وقدمت له المخطوط الشعري ،طالبا منه إبداء مالحظاته ورأيه في هذه القصائد ،وبعد أسبوع قابلته بادرني بعد تردد قائال: 76
شعرا. ـ ما كتبته يا بني ليس ً
أجبته :كيف هذه القصائد؟ نشرتها في المجالت العربية.
قال لي:
ـ النشر في الصحف والمجالت ال يعني الجودة ..وإذا أردت شاعرا حقا فعليك بحفظ ماال يقل عن ألف بيت من أن تصبح ً الشعر العربي وإجادة علم القوافي والعروض.
ثم أهداني كتا ًبا من جزأين بعنوان :المنتخب في أدب العرب، قرأت الكتاب بعد فترة ،ثم مزقت جميع ما كتبته من أشعار واتجهت إلى كتابة القصة القصيرة.
شاركت في مسابقة النشاط المدرسي في القصة القصيرة، على مستوى محافظة درنة ،برفقة المفتش الخرشوفي في سيارة التعليم وسائقها الحاج محمد بوأربعة ،حيث تجرى مسابقة النشاط األدبي في مدرسة الزهراء بوسط المدينة ،عندما يأتي دوري كنت انهضم من على الكرسي وأقف أمام ناقل الصوت وعلى خشبة المسرح أقوم بإلقاء قصتي ،وسط حضور طالبات الزهراء وأساتذة المدرسة والمشاركون في المسابقة األدبية ،ثم نعود بعد الظهيرة إلى مدينة طبرق ،وأتذكر أنني تفوقت ،وحصلت على الترتيب األول يومها ،كانت الجائزة عبارة عن شهادة تقدير وقلم باركر ثمين ،أصبح أستاذ اللغة العربية يفاخر بي أمام زمالئي الطالب، كان يأخذ كراسة التعبير ويقرأ عليهم قصصي القصيرة ،وهو 77
يثني علي ،طفقت اقرأ لكتاب القصة القصيرة في الوطن العربي
وكذلك كتاب القصة في الغرب قرأت رواية األرض للروائي عبدالرحمن الشرقاوي.
أدمنت القراءة والكتابة في غرفتي الصغيرة ،أصبحت هي المتنفس
لهمومي ،أقضي أيامي في معاناة الحروف والكلمات انهمك في كتابة قصة جديدة ،أمنحها تجربتي ،أغيب عن كل من حولي في الكوخ العتيق ،صمت وهدوء ورائحة الحبر األزرق ،وأنا أجلس على الكرسي وبين أصابعي قلمي األثير واألوراق البيضاء أمامي
على المنضدة.
تعرفت على صويدق كان معي في نفس المدرسة ،قصر الملك ساب ًقا ،لكنه في الثانوية العامة وأنا في معهد المعلمين. كان يسكن مع عائلته العريقة في مسكن حديث خلف طاحونة
بوسيف حيث كنت أمر بعد العصر من حين إلى آخر .كانت لديه
اهتمامات أدبية نتمشى م ًعا في شوارع مدينة طبرق الحالمة الصغيرة
الوادعة ،يحدثني عن قصيدة أحمد بواقعيقيص عن سوسة ،وقصيدته
األخرى عن العقاد ،ثم قصائده هو عن الهوى والعشق ،ثم نحتسي
مشروب صداقة في مقهى الصرماني ،ونعود أدراجنا أتركه يدخل منزله بينما أقفل راجعا إلى الحطية على قدمي .غير أنه ما أن أكمل دراسته الثانوية حتى التحق كلية الجمارك في مصر ،وعندها لم نعد نلتقي إال في زياراته أو بعد التخرج. 78
بعد تخرجي من معهد المعلمين وقيامي بالتدريس ،كانت أمي
قلقة بشأن زواجي وضرورة أن تفرح بي وهي على قيد الحياة .حدثت
أمي أبي بضرورة أن يذهب إلى جارنا عبدالحفيظ ويطلب منه يد ابنته
لي ،أسرع أبي إلى جاره وأبلغه باألمر ،غير أن جاره رد عليه أنه البد أن يشاور زوجته في األمر أوال ويأخذ موافقتها ،وعندما سألت أمي
عن ذلك األمر قالت لي أن الحاج عبدالحفيظ رد على والدك بعد أيام ً قائل بالحرف الواحد: ـ الحاجة عازة رفضت. حز في نفسي ذلك الرد وآلمني وكأن الفقر إهانة ،وتمنيت لو أن
أبي لم يطلب من الحاج عبدالحفيظ يد ابنته ،فأنا ال أحبها وال أرغبها زوجة لي ،وأنا لم أكن مستعدا لإلقبال على الزواج.
من األحداث التي أتذكرها عندما كنت مدرسا بمدرسة الضاحية
وقع يوم 19مارس 1980م ،نتيجة تذمر األهالي من قبل أعضاء مثابة المدينة طبرق ،الذين أخذوا يجرون التحقيقات مع بعض األعيان
والتجار والمقاولين ،تحركت مسيرة لبعض المواطنين من أمام مركز ً وصول إلى مهاجمة المثابة التي كانت تقع شمال صومعة المدينة، غالل طبرق ،ال أتذكر األسماء لكنهم أفراد من عائالت عبدالله،
واقويدر ،والحسانة ،وزيدان ،واهويدي ،ومفتاح بوسليمان ،وشيناه
مريم العبيدي وغيرهم.
وسقط ثالثة من هذه العائالت وهم امراجع موسى الناجي، 79
وخميس احميده مفتاح ،وعلي سالم العبيدي فتم ضرب تلك
المثابة بالتي ان تي والرصاص فسقط ثالثة قتلى من أعضاء المثابة حتى تدخلت الشرطة واألجهزة األمنية ،وسجنت المشتبه بهم من المواطنين الذين قاموا بهذا الهجوم و تم اإلفراج عنهم فيما بعد.
80
( ) 10 أطل علي زميلي في مهنة التدريس ذات عصر ،استقبلته عند باب
الكوخ ،رفض الدخول رحبت به: ـ أهال إبراهيم تفضل. ـ بارك الله فيك.
ـ هيا ادخل تفضل حتى كوب من الشاي أو القهوة. ـ ال شكرا إنني في عجلة من أمري جئت أبلغك بخبر. ـ إن شاء الله خير. ـ الخير يأتي به الله أنا وأنت مطلوبين لكلية الشعب المسلح. ـ ما دخلنا نحن بكلية الشعب هذه. ـ إننا موجهان إليها منذ عدة أيام دون أن نعلم. ـ من أبلغك بهذا؟ 81
ـ باألمس استدعاني رئيس الشرطة العسكرية وحقق معي ،ثم طلب مني أن أبلغك بضرورة سفرنا لمدينة طرابلس غدا صباحا ال جراء الكشف الطبي.
تركني في حيرة من أمري ،وقفل راجعا إلى بيته في وسط المدينة، أظلمت الدنيا في وجهي ،أصبحت أضيق من سم الخياط ،أي عسكرية هذه وأنا في العقد الثالث من عمري ،وأية كلية عسكرية، حتى بعد تخرجي من معهد المعلمين ،لم أدخل حتى المقاومة الشعبية ،واستثنيت من التدريب العام لعدم لياقتي الصحية .ما دخلي بالعسكرية وأنا مجرد مدرس لغة عربية ،لم أنم ليلتها أخبرت أبي وأمي باألمر ،لكنهما تركا لي الخيار ،فهما ال يعرفان شي ًئا عن مثل هذه األمور. في صباح اليوم التالي طرق زميلي الباب خرجت له ،ومعي حقيبة مالبسي ،سلمت على السائق وهو رئيس عرفاء من طبرق ،ودعت أبي وأمي وأخوتي ،كانت أعينهم تركض خلفي ،وأنا أقفز في تلك السيارة خلف زميلي.
انطلق بنا السائق على الطريق الرئيسي نحو الغرب ،نحن في أواخر شهر نوفمبر الجو بارد وممطر ،والطريق ثعبان طويل يتلوى ونحن نتجاذب أطراف الحديث ،وزميلي يشعل سيجارة وينفث دخانها، ثم يشعل أخرى. بعد ساعات خمس دخلت بنا السيارة مطار بنينة ،وجدنا في انتظارنا عسكري التحريات بمالبسه المدنية ،أما سائق الرانجروفر، 82
فودعنا عائدا إلى مدينتنا طبرق الغافية هناك في أحضان البحر، تزاحمت على ذهني خواطر :أصوات تالميذك وزمالئك المعلمين في الضاحية ،وفتاتك الجميلة ووجهها الذي يبدو مثل البدر ،صعد بنا عسكري التحريات الطائرة الفوكر ،وإلى جواره جلس زميلي يتجاذب معه أطراف الحديث ،تذكرت أن هذه هي الرحلة الثانية بالنسبة لي إلى طرابلس بالطائرة ..تذكرت الرحلة األولى كانت منذ عشر سنوات ،يوم أن فزت فيها بجائزة القصة القصيرة ،من قبل وزارة الشباب كانت القصة بعنوان( :سلطانة) ،حجز لك يومها مكتب الشباب والرياضة في طبرق ،تذكرة سفر بالطائرة إلى طرابلس ذهابا وإيابا ،ورسالة إقامة في جمعية بيوت الشباب، ركبت يومها الطائرة ألول مرة من مطار طبرق ،لم تكن تعرف يومها حتى ربط حزام المقعد ،إلى أن تقدمت نحوك المضيفة الشقراء، ذات الشعر األصفر القصير وربطت لك الحزام ،كنت في غاية الغبطة والسعادة ،والطائرة تحلق بك فوق السحاب الذي يبدو مثل العهن المنفوش.
بعد ساعة ونصف ،هبطت بك الطائرة في مطار طرابلس الدولي، أخذت سيارة أجرة إلى وسط المدينة إلى جمعية بيوت الشباب، قضيت ليلتك سعيدا في تلك الغرفة ،ومع الصباح تناولت إفطارك، ركبت أول تاكسي إلى وزارة الشباب والرياضة ،وهناك استلمت شهادة التقدير والجائزة النقدية. وترجع بك الذاكرة وتتذكر يومها كيف التقيت ألول مرة 83
باألديب علي مصطفى المصراتي ،في مكتبة الفرجاني بشارع االستقالل.
لكن في هذه الرحلة يبدو عليك القلق ،يعتريك الخوف من المجهول ،ال تدري ما يخبئه لك القدر في الغد.
كأنك ذاهب إلى حتفك ،وطافت بذهنك تساؤالت عدة ،هل ستعود إلى مدينتك طبرق؟ وإلى حي الحطية من جديد؟ هل ستعود إلى والدك وأخوتك وأصدقائك؟ هل ستعود لتالميذك في الضاحية؟ الذين شجعتهم على التمثيل ،تتذكر كيف أخرجت لهم مسرحية بعنوان «نهاية المشوار» حضرت معهم البروفات ،بعد أن قاموا بعرضها على مسرح المدرسة حازت على إعجاب المشاهدين من أولياء أمور الطلبة ،ثم عرضت مرة ثانية على مسرح معهد النفط، ثم مسرحية «العربة» عن قصة إبراهيم النجمي ،هل ستعود إلى فتاتك الجميلة ذات المعطف األبيض التي ابتسمت لك في آخر لقاء لك بها؟ وكيف كدت أن ترسل أمك لخطبتها؟ غير إنك اليوم ال تدري ما يخبئه لك القدر؟.
أخذنا رجل التحريات بعد أن ترجلنا من الطائرة ،وجدنا أنفسنا في سيارة عسكرية كانت في انتظارنا ،حملتنا السيارة إلى معسكر في المدينة مع مغيب الشمس ،ترجلنا منها أمام باب المعسكر ،ما أن دخلنا من الباب الرئيسي حتى دفعنا الحرس ناحية اليمين ،واختفى رجل التحريات ناحية اليسار ،تناهى إلى مسامعنا صرصرة انقفال الباب الحديدي الذي أوصده الحراس خلفنا ،قادنا أحد الحرس 84
إلى قاطع آخر وأمرنا بالدخول ،انطلقنا عبر ممر مظلم طويل كان يخيم عليه الظالم الدامس ،إال من أصوات بعض الشباب يتبادلون األحاديث في الغرف المظلمة ،بصيص من ضوء سجائرهم يلمع في الظالم ،بحثنا عن غرفة شاغرة ،عثرنا على ألواح خشبية جلسنا عليها في زاوية الحجرة ،نستند على الحائط ال أسرة وال بطاطين، ليلة باردة ظالمها حالك من أواخر ليال شهر نوفمبر ،تذكرت أبياتا للشاعر عمرو النامي يقول فيها: أمامي ظالم وخلفي ضباب
خطوت هنا منذ عام كئيب
ورائي وأطبق ليل العذاب
وصرت مفاتيح قفل رهيب
يحدثني عن شريط السراب
وبت رفيق الجدار الكئيب
عرفت فيما بعد أن ذلك كان سجنا تابعا للشرطة العسكرية. بيني وبين نفسي أخذت أسب وألعن مجيئي إلى هنا ،لحظتها بدا لي أن سدً ا مني ًعا يحول بيني وبين مدينتي طبرق ،الحطية وأبي وأمي وأخوتي ،ومدرستي الضاحية وتالميذي .هل ما أنا فيه حقيقة أم حلم أم كابوس؟ سألت أحد الشباب ً قائل: ـ أين نحن اآلن؟ أجابني: ـ أنت في سجن الشرطة العسكرية بمنطقة بوسليم. ما أن تسرب الضوء وطلع الصباح حتى تنفسنا الصعداء ،فوجئنا 85
بالحجرات كانت تكتظ بالشباب الذي ينامون على البالط ،بعد ساعة فتح العسكري الباب وأخذ يصيح: ـ هيا تحرك خارج.
تجمعنا أمام السجن العسكري جاءنا ثالثة من الجنود .صاح أحدهم: ـ الهروب من المعسكرات في صف والهروب من الكليات العسكرية في صف آخر.
حملتنا الحافلة إلى العيادة الصحية المجمعة ،في حي يسمى غرغور ،تم توزيعنا على األطباء :طبيب العيون ،طبيب الباطني، طبيب األنف والحنجرة ،ثم رئيس اللجنة الطبية العسكرية .لمحت أحد الضباط من خارج المكتب بقيافته األنيقة ،عرفت أنه من مدينتي ،البد أن أحدثه ،أتعلق به تعلق الغريق بالقشة ،وأشرح له ظروفي وما الذي جاء بي إلى هنا؟ لعله يجد لي مخرجا من هذه الورطة لكنه ما أن لمحني حتى أشاح بوجهه عني وسرعان ما اختفى. بعد أن أكملنا الكشف الطبي والمقابلة ،أمرونا باالنتظار أمام مبنى العيادة ،بعد ساعة أطل علينا ضابط الكلية ،ومعه قائمة األسماء بدا يقرأ بصوت عال أسماء الطلبة المقبولين في كلية الشعب المسلح ،عندما نطق باسمي الضابط أصبت بصدمة قاسية، تمنيت وقتها أن أعود من حيث أتيت ،لكن ما باليد حيلة ،حملق في 86
الضابط جيدً ا وكأنه اكتشف ما بدأ علي من ضيق وحزن فخاطبني
قائال:
ـ ال تحمل هما هذا قدرك ،رفيقك يتحصل على غير الئق وسيعود إلى مدينتك ،بينما تبقى آنت لتلتحق بالكلية.
بعد لحظات ارتميت على أحد كراسي الحافلة ،في خيبة وأسى
أتساءل:
ـ ما الذي جاء بي إلى هنا؟ يا له من حظ عاثر سيء. ما أن توغلت الحافلة داخل الكلية العسكرية حتى أحسست
بالضيق واالنزعاج ،كمن يحملونه إلى حتفه ترجلت مع غيرك من
المستجدين ،أحاط بكم بضعة طالب المتقدم ببزاتهم العسكرية
وهم يكشرون عن أنيابهم كالذئاب ويصرخون فيكم بسخرية واستهزاء:
ـ هيا تحركوا هرولوا عدة مرات حول الساحة. وقال ثان: ـ هذه الساحة هي مصنع الرجال. وردد ثالث وهو يقهقه: ـ إنها ليست دبلومات أو ليسانسات العجائز. وقال آخر: 87
ـ هيا هرولوا على الساحة كل واحد منكم يردد اسمه الثالثي بصوت عال.
أخذت تهرول حول الساحة مع المستجدين ،وتهتف باسمك
بصوت عال:
ـ أنا الطالب المستجد ... ... بعد دقائق أوقفونا ،قاموا بتوزيع ماكينات حالقة عادية علينا،
أمروا كل مستجد منا أن يقوم بحلق رأس زميله المستجد بالمقص
وشفرة الحالقة .وبعد دقائق هرولنا باتجاه المخازن .استلم كل واحد
منكم «كت» عسكري بداخله بدالته وأحذيته وجواربه وأغطية الرأس وحزامه العسكري.
منذ ذلك اليوم ودعت الحياة المدنية ،انخرطت في حياة عسكرية
شاقة قاسية ..أصبحت في الكلية العسكرية مجرد رقم فقط ونسيت
اسمك الحقيقي .كنت تخاطب:
ـ هرول صفر ثالتة ..انبطح صفر تالته ..استعد صفر تالتة.. استرح صفر ثالثة ..انزل بروك صفر ثالثة.
البروك والهرولة والدحرجة والعقاب الميداني وشتائم عراقية
تعلمها الضباط الذين تخرجوا من العراق أو تدربوا هناك وصلت
إلى أذنك مفردات جديدة:
ـ خرقة ..ازمال ..أثول ..حيوان. 88
ـ المستجد يسمع وما يرد ..الحائط الذي أمامك نقول لك لونه أسود وهو أبيض تقول أسود فهمت ..تخالف التعليمات يا ويلك.
لم يعرف أحد من الطلبة أو الضباط في الكلية في سنة المستجد أنك كاتب قصة ولك مجموعة قصصية وكتاب عن شاعر معتقل العقيله.
89
( ) 11 هذه الكلية التي وجهت إليها رغما عنك ودون رغبتك ،كانت
تسمى كلية الشعب المسلح ،أنشئت سنة 1981م بطرابلس بمنطقة
عين زارة ،وكان هدفها تخريج ضباط لقيادة التشكيالت من أفراد التجييش ،التحقت أول دفعة لهذه الكلية مع بداية نوفمبر 1981م،
وتخرجت منها في 1983 /9 /1م تحت ما يسمى قيادة تجييش المدن.
وكانت الدفعة الثانية خليط من الطالب وضباط الصف الحاصلين
على الثانوية العامة ،وأغلبية من معلمي ليبيا.
األشهر األولى في الكلية كانت قاسية جدً ا ،حياة مختلفة ،إال أن
الجهد الكبير الذي كنت أبذله أعانني على تحمل المعاناة والمشاق، رغم ضعف جسمي والنحول الذي طرأ علي ،كانوا معي خمسة طالب المستجد من مدينتي ،موزعين على الحظائر األخرى ..كنا ننهض في الصباح الباكر ،نتدافع على الحمامات ودورات المياه، 91
لغسل الوجوه والحالقة في سرعة وحيوية ونشاط عندما نسمع بوق الكلية كما نقوم بنظافة القاطع.
ثم نجمع في الساحة سريعا في سرايا وندخل المطعم لتناول اإلفطار كل ثالثة في باكو حليب وقطع من البسكويت بعد دقائق نخرج للساحة من جديد. الكلية العسكرية كانت تتكون من كتيبة المستجد وكتيبة المتقدم، الطالب المستجدون يقيمون في عنابر خاصة بهم والمتقدم في عنابر خاصة بهم ،الدراسة في الكلية العسكرية نظرية وميدانية.
الدراسة النظرية محاضرات في التاريخ العسكري والجغرافيا العسكرية ،واألمن الحربي واللغة االنجليزية وقانون العقوبات العسكري ،والرياضيات والمنطق ،والقانون الدولي والتعبية ومهنة الميدان ،الدراسة الميدانية في الساحة المشاة واألسلحة الخفيفة والمتوسطة .ضباطها كثر وكذلك ضباط الصف والجنود. في سنة المستجد كانت كل تحركاتنا بالهرولة ،سواء في الدخول إلى المنامات أو الخروج منها ،ترتيب األسرة والدواليب يوميا كل صباح ،وكذلك الحالقة للوجه وتلميع األحذية.
مضت أشهر المستجد بطيئة وثقيلة ،تعليمات وأوامر عسكرية جافة ،إرهاق وإجهاد بدني ال نعرف للنوم والراحة طعما،على تلك األسرة الحديدية إال في ساعة متأخرة من الليل ،ناهيك عن االستيقاظ المبكر للرياضة. 92
أتذكر تلك الساحة في الجمع الصباحي ،ونحن في شهر ديسمبر بشتائه القارص ،وبرودته التي تقشعر لها أجسادنا ،النحيفة المنتصبة في الساحة كالخشب المسندة ،أحذية سوداء تلمع ووجوه حليقة .وترجع بك الذاكرة إلى فتاتك الجميلة ذات المعطف األبيض وشعرها الذهبي المسترسل على كتفيها كأشعة الشمس ،وأنفها الروماني الدقيق ،وعينيها العسليتين ،وكيف كنت تلتقي بها في الطريق وتحييها وترد على تحيتك، لكن هاهي األقدار قد باعدت بينك وبينها ،هل هي ما تزال على عهدها؟ أم اختطفها فتى األحالم ورحل بها بعيدً ا ،شردت معها بينما سرب الحمام الذي كان يحلق فوق سطح العنبر ،الذي نقيم بداخله. يا حمامة عدي وطيري للمحبوب
قولي له راني مريف
والشوق دوبن يدوب
ياحمامة طيري طيري وعدي للمحبوب
تشرد مع مدينتك طبرق التي يحتضنها البحر من ثالث جهات، منحتك محبتها وودها وأحيائها العديدة جبيلة النور الحطية والجبيلة الشرقية والمطار القديم والمنارة وسوق العجاج وبوذوه ،وفي أحد أحيائها الفقيرة البائسة تتذكر كيف قضيت فيها أجمل أيام طفولتك وصباك ،إنه حي الحطية بأكواخه العتيقة شرقي سوق العجاج وحتى مقبرة الجدارية ،وصوت الفقيه إبراهيم البعجية في المساء في زاوية سيدي عطية الجراري والمديح والذكر والشاي بالكاكاوية .أتذكر 93
طبرق بمكتبتها العامرة بأمهات الكتب األدبية والعلمية ،والمركز الثقافي الذي ينتصب شامخا في مدخل المدينة ،ومقهى شلغوم ومقهى دمدوم ،وأزعيط الذي كان يبيع الكاكاوية والزريعة اللب أمام سينما الزني أو سينما حلمي .حييت مدينتي بربوعها الجميلة، حييت الحطية وسوق العجاج واجبيلة النور وشاهر روحه ،حييت القعرة والزعفرانة والدالع والماص البطناني صيفا في قرى البطنان، والشعير ومواسم الحصاد ،حييت السيمفارو ،والجبيلة الشرقية والمطار القديم ،متى أحظى برؤياك مدينتي الجميلة؟ وفجأة أحسست بيد الضابط البرونزي آمر الفصيل تمتد إلى ظهري بقسوة ،وصاح في وجهي وشرر الغضب يتطاير من عينيه: ـ لقد خرقت الضبط والربط أيها المستجد.
سرعان ما فطنت لنفسي أصلحت من وضع رجلي ،كان الفصيل يقف في حالة استعداد ،وأنا أقف في حالة استراحة يالي من غبي. وبعد الغداء كان اسمي في قائمة المعاقبين في الساحة ،عقاب بدني عنيف هرولة وزحف ودحرجة في ساحة الكلية ،حتى انسلخ جلد ركبتي وكوعي وتقاطر مسارب دمي ..كما تقيأت كلما تناولته على أرضية الساحة.
بعد عدة أشهر من التدريب األساسي الشاق داخل الكلية ،أخذت أتحصل على أمر خروج مع نهاية تمام يوم الخميس ،أهرول نحو أول تاكسي ألمحه في عين زارة أهتف به في غبطة: 94
ـ فندق قصر ليبيا من فضلك.
سرعان ما أحجز غرفة فردية ،أشرع في حمام دافئ ،أخرج لتناول وجبة العشاء دسمة ،بعد طبيخ البطاطا أو القرعة ،أعود إلى حجرتي بصحيفة أطالع فيها الصفحات األدبية وأقرأ :الظفر والناب ،للقاص حسن السوسي .وما كتبه القاص سعيد خيرالله عني في هذه الصفحة ً قائل:
(عندما يخرج كاتب من حي الحطية ،معنى هذا انه خرج من ثوب طبرق القديمة ،خرج من بيت األصالة ،أي خرج من دم المجتمع مسلحا بتجارب إنسانية حقيقية ،ألن بيوت الحطية المشيدة ولحمه، ً من الصفيح ،تهمس لبعضها البعض بأسرارها وأوجاعها ،وأفراحها ومعاناتها وعاداتها وتقاليدها ،وشكل نوافذها وطالء أبوابها وخشب أسطحها ،وأراجيح العناكب في زواياها ،معنى هذا أن عدسة وأفكار صورا صادقة صورا حقيقية أبيض وأسود، القاص التقطت بشغف ً ً لحياة الناس ،صورت المرأة والرجل والشيخ والطفل والعجائز، حكايات ما قبل النوم قامات الناس وظاللها ،خطوات المبكرين لنصب مصائدهم لرائحة الخبز ،التقطت حتى عواء الذئاب في وادي الجدارية..
إن قلم القاص في هذه المجموعة من بداية كتابتها وهو طالب في اإلعدادية يرصد صدى جدران الصفيح ،وهي تبتسم من الفرح وتئن من الحزن. إن قلمه الحبر السائل يرصد الخطى لطابور الفتيات ذهابا وإيابا 95
لالرتواء من صنبور المياه الوحيد في وسط حي الحطية وعيون الشباب المشاكسة. إن هذا القلم اليافع يرصد في قصصه المجتمع والتاريخ والطبيعة والوطن والشمس والقمر والهواء واألمل واألحداث العابرة التي خطت بصماتها على جسد هذه المدينة الجميلة). بعد ذلك أتناول قلمي ،أكتب على الورق رسالة ألخي: أخي العزيز
تحية طيبة وبعد..
أكتب إليك رسالتي هذه من شقة بحي بالخير في مدينة طرابلس. هذه الشقة يقطنها أصدقاء وهما محمد عبوب وعبدالحميد الشويهدي، يعمالن في وكالة األنباء الليبية وفوزي اغربيل الموظف في شركة المواشي واللحوم نخرج من بعد الظهر من يوم الخميس ،ونقيم عندهم نغسل مالبسنا وجواربنا ونتناول وجبة عشاء دسمة وننام بعيدا عن صراخ البوق ومن خارج أسوار الكلية العسكرية.
تحياتي إليك وإلى أبي الطيب وأمي الحنون ،هل ما تزال تربي الدجاج وترمي خبز في التنور وتكنس أمام الكوخ كل صباح وتنتظر عودتي على أحر من الجمر ،كيف أحوال أبي الذي ال تفوته أي صالة في مسجد الحطية .هل ما يزال يذهب لحراسة تلك الشركة التي تعين فيها حارسا بعد التقاعد .وكيف ذهب إلى الضمان وأوقف معاشه التقاعدي ألنه يعمل خفيرا. 96
تحياتي وسالمي إلى أخي الصغير وأختي.
لقد اشتقت إليكم ،وإلى جلساتكم الحميمة الطيبة.
هل صديقي صالح ما يزال يزوركم من حين آلخر في غيابي يسأل عني أم انقطع عن زيارتكم قل ألختي ال تنس أن تنظف حجرتي الصغيرة ذات السرير الحديدي والطاولة والدوالب والتلفاز الصغير والمكتبة الصغيرة ال تنس أن تنفض الغبار عن كتبي. خالتي سعدة مازالت تحمل صرتها وتتنقل من بيت إلى آخر تبيع المحارم والفساتين والسواك. أخي العزيز
كانت سنة المستجد مرهقة وشاقة خاصة األشهر األولى ،كلها هرولة ورياضة مع الفجر وتدريب ميداني ،ثم انهينا المشروع الخارجي في بئر الغنم ،بعدها أصبح طالب المتقدم يخففون علينا عقوباتهم بعد الظهيرة ،انشغلوا عنا بامتحاناتهم وكونهم شهر وسيصبحون ضباطا ،ومع منتصف أغسطس بدأنا في بروفات العرض العسكري على طريق الشط ،حتى العرض في احتفاالت أول سبتمبر.
في هذه السنة لم أكتب شيئا ،وكيف أكتب وأنا لم أشعر بالراحة واالستقرار؟ حتى القراءة انقطعت عنها .لم أكن اقرأ إال عن السرية في الهجوم أو السرية في الدفاع ،أو تركيب البندقية كالشنكوف والقاذف آربي جي ،والقانون الدولي ،وقانون اإلجراءات العسكرية ،واألمن الحربي والتعبية ،وبعض الصحف التي كنت أشتريها من المكتبات 97
في نهاية األسبوع ،ألتصفح الصفحات األدبية فيها ثم أتركها في غرفتي في الفندق ،انه ممنوع علينا إدخال الصحف والمجالت إلى الكلية.
ما أخبار جيراننا في الحطية هل مازالت على حالها لم تخطط شوارعها ولم تفتح المسارات فيها ولم يرصف الشارع الوحيد الذي يتوسطها.
لك تحياتي وسالمي لألهل واألصدقاء والجيران في الحطية وكل من يسأل ويتذكرنا. وإلى لقاء في القريب في إجازة السنة والسالم عليكم .أخوك.
في نهاية سنة المستجد تحصلنا على أجازه لمدة شهر واحد، فرحنا بها كثيرا ،وعدنا إلى مدننا وأهلنا غير إنه سرعان ما انتهت، دخلت الطمأنينة قلبي عندما وجدت أن فتاتي ذات المعطف األبيض ما تزال تنتظرني. عندما توجهنا للكلية أحسسنا بالكآبة ،وكأننا في طريقنا إلى معتقل رهيب ،غير انه ما أن أصبحنا داخل أسوار الكلية حتى تأقلمنا وأصبحنا نعيش حياة الطلبة العادية وعادت إلينا الطمأنينة واختفى الضيق والحزن من على وجوهنا.
98
( ) 12 ما ان أصبحنا في الصف المتقدم حتى تغيرت معاملة ضباط وضباط صف الكلية لنا ..توزعنا في تخصصات عسكرية رئيسية جديدة :مدفعية ،دبابات ،مشاة ،كذلك الذين معي من مدينتي، منهم من أصبح في المدفعية ،ومنهم من أصبح في الدبابات، ومنهم من أصبح في المشاة ،لم نعد نهرول في أثناء خروجنا من القواطع أو الدخول مثل المستجد ،بل نمشي الهوينى ,صرنا نأخذ فترة راحة وقيلولة بعد الغداء ،كانت تضمنا بعض اللقاءات أثناء فترة الراحة تعرفت على الدويني وهو قاص ،والشاعر زاقوب، كنت أعرفهما حتى قبل دخولي الكلية من خالل إنتاجهم على صفحات األسبوع الثقافي. نما إلى إدارة الكلية أنني كاتب وقاص ،لست أدري من أخبرهم بذلك ،قاموا باستدعائي وعهدوا إلى بمكتبة الكلية بعد الدوام ،اطلعت عليها كانت تكتظ بالكتب العسكرية الجافة والكتب التاريخية كانت تحتاج إلى فهرسة وتصنيف. 99
بعد اإلفطار في شهر رمضان ،كانت تجمعنا إدارة الكلية باألمر كل ليلة نحن طالب المتقدم ،في مسرح الكلية لمشاهدة نشرة األخبار من التلفزيون الليبي ،وبعد النشرة كان يعرض مشاهد اإلعدام بالشنق للشباب من قبل النظام ،قيل أنهم تآمروا لقلب نظام الحكم والهجوم على باب العزيزية ،على أيدي رجال األمن واللجان الثورية في المدن الليبية ،مشاعر تقشعر لها األبدان وتشمئز منها النفوس. عرفنا فيما بعد أن هناك عملية كبيرة للهجوم على باب العزيزية وقعت ،قام بها شباب من الخارج لكنها لم تنجح ،وقبض على أعضائها ،كما شاهدنا خالل ميدان طبرقو شاب وسيم في زهرة شبابه ،أجعد الشعر في العقد الثاني من عمره ،يدعى المهدي لياس درس االبتدائية واإلعدادية بمدرسة المجد ،ثم تحصل على بعثة دراسية على حساب شركة البريد في اليونان لمدة سنتين ،جيء به مقيدا ويديه خلف ظهره إلى ميدان المدينة ،قامت فتاة ترتدي الزي العسكري بوضع حبل المشنفة في رقبته ،وسط حضور رجال األمن وأعضاء اللجنة الثورية ،سحب كرسي اإلعدام من تحت قدميه، عرفنا فيما بعد أنه كان قد انضم إلى الجبهة الوطنية لإلنقاذ ،وعثر على اسمه ضمن قائمة من األسماء في جيب أحدهم بعد استشهاده في عملية اقتحام باب العزيزية ،كما شاهدنا مشاهد اإلعدام في المدينة الرياضية بنغازي لشاب يدعى الصادق الشويهدي يا لها من مشاهد مؤثرة. وفي ليلة أخرى من ليال شهر رمضان الكريم ،شاهدنا صرير 100
مجنزرات ثقيلة ،وجرافات عسكرية ووجوه غريبة ،من رجال الجيش والشرطة في واحة الجغبوب ،بينما الزاوية تتساقط والضريح في الواحة تطالهما آلة التدمير والتفجير ،ماذا يحدث لواحة الجغبوب؟ كيف يهدمون هذا المعلم الحضاري ،وهذا المسجد الكبير ،كيف ينبشون قبور األضرحة ..يخرجون جثامين الموتى ..ويرحلون بها نحو المجهول ،تذكرت تلك الواحة الجميلة الهادئة ذات النخيل الشامخ ..وتذكرت منذ سنوات كيف دخلت في ذلك الصباح على مدير مكتب العمل الذي كان ينكب على الملفات أمامه ،نظر إلى بعد برهة من خلف نظارته السميكة ..تساءل: ـ ماذا تريد؟ رفع النظارة من على عينيه ؟ أجبته :إنني أبحث عن عمل خالل فترة اإلجازة الصيفية. بادرني قائال :يوجد لدينا عمل تبع للزراعة. أجبته :أرغب في التسجيل. بعد تردد قال :لكنه ليس في مدينة طبرق. تساءلت :أين أذن؟ ـ انه هناك في واحة الجغبوب ،إن كنت ترغب أسجلك اآلن وتذهب من الغد إلى هناك. دون انبس ببنت شفة انسحبت من أمامه في تردد ..تلك المنطقة 101
البعيدة النائية؟ كيف أصل إليها وكيف أقيم هناك وهل تسمح لي األسرة؟ بعد عدة أيام ترددت على المكتب من جديد ،لكن لألسف ال توجد وظائف مؤقتة بالمدينة ،دخلت علي مدير مكتب العمل الذي بادرني قائال: ـ هل وافقت على العمل في الجغبوب؟..
أجبته :نعم...
قال لى :أذن أحضر إلينا صباح الغد لتقلك السيارة إلى هناك ومعك اثنين من طبرق.
وفي صباح اليوم التالي كانت تقلنا سيارة الالندروفر ،لكن كنا ثالثة شباب ،واحد اسمه حمدي من الحطية أعرفه جيدً ا ،واآلخر اسمه عطية من مرسى دفنة ،وسائقنا هو محمد بو اربعة يلقب بهذا ألنه تزوج أربعة من النساء ،رجل تخطى العقد الخامس من عمره ،له تجارب عديدة في الحياة ،تكررت زيارته للجغبوب عدة مرات ،عند المقبرة الفرنسية عرجت بنا السيارة نحو اليمين ثم في اتجاه قاعدة العدم .كان ثمة بيوت عشوائية على جانبي الطريق المرصوف ثم اتجه بنا السائق بعد أن اقترب من القاعدة نحو الجنوب الشرقي .قال لنا: ـ هذه هي طريق الواحة.
ثم شرع يحدثنا عن الجغبوب ونخيلها الشامخ وطيبة أهلها وكرم ناسها. 102
طريق طويل ثعباني يتلوى ال عشب وال أشجار على جانبيه صحراء قاحلة ،والشمس في كبد السماء ،والالندروفر تعلو بنا وتهبط ..ال طير يطير ،واألرض بنية اللون ،بعد ساعات الحت لنا األسالك الشائكة على يسار الطريق قال السائق بو اربعة:
ـ هذا شبردق من أيام الحرب االيطالية زرعه جرسياني لمنع المساعدات عن المجاهدين الليبيين.
وبعد دقائق الحت لنا أشجار النخيل الباسقة .توقفت بنا السيارة أمام مبنى مطلي باللون األبيض قيل لنا انه االستراحة .في مدخل الواحة كنا نتفصد عرقا الواحة والشمس الحامية مسئول الزراعة، وبعض العاملين كانوا في استقبالنا رحبوا بنا ..أدخلونا إلى المربوعة ثم أشار احدهم إلى الحمام للوضوء وصالة الظهر ريثما يجهز الغداء. بعد الساعة كنا قد توضأنا وصلينا الظهر وتناولنا وجبة الغداء وشربنا الشاي األخضر ومعنا السائق ومسئول الزراعة.
استأذن السائق في العودة إلى مدينة طبرق وحيانا متمنيا لنا التوفيق في عملنا الجديد ،بينما نهض مسئول الزراعة عائدا إلى بيته وابلغنا انه سيحضر قرب المغرب لصالة المغرب معا في مسجد الواحة الوحيد ،وتناول وجبة العشاء معه في بيته .كانت في االستراحة العديد من الحجرات أخلدت للراحة والنوم في إحداها بينما فعل رفيقاي نفس الشيء .لقد كانت رحلة شاقة ومضنية في سيارة الالندروفر وعلى طريق متهالكة استيقظنا قبل المغرب بقليل كان الحاج طاهر مسئول الزراعة قد وصل .حينها توضأنا ولبسنا 103
أحذيتنا وسرنا على األقدام باتجاه الواحة صعدنا إلى مسجد الواحة. كانت بيوت الواحة مبنية بالطوب األبيض ومسقوفة باألخشاب. اقتربنا من المسجد وهو فناء كبير ذو طراز إسالمي متقن وبجواره الكتاب الذي يتم فيه تحفيظ القرآن الكريم للطالب ،باإلضافة إلى خالوي للطلبة ،وهي حجرات صغيرة لسكن طلبة الداخلي، من دورين وبيوت محفظي القرآن .ومبنى خاص باستقبال الزوار وضيوف الجغبوب.
دخلنا الجامع .كان صحنه عبارة عن فناء فسيح تتخلله أقواس، في وسطه صهريج حجري لماء الوضوء ،وفي أقصاه باب من خشب األبنوس رائع النقش ،يؤدي إلى داخل المسجد ،وهناك باب آخر يفضي إلى خلوة داخلية ،تعلوها قبة منقوشة مطلية بألوان خضراء وحمراء وذهبية ،وعلى األرضية التي تحت القبة يقع شباك برونزي دقيق الزخرفة ،وفي وسطه أبواب على هيئة أقواس ،بينما ثبت على واجهته لوحتان ،أحداهما نقش عليها شجرة العائلة السنوسية، واألخرى مدون عليها النص الكامل آليات القران الكريم ،مكتوبة بحروف صغيرة ،وفي داخل الضريح السنوسي الكبير السيد محمد بن علي السنوسي.
كان في استقبالنا شيخ طاعن في السن ،ذو لحية البيضاء رحب بنا .قرأنا الفاتحة على ضريح السيد محمد بن علي السنوسي مؤسس الطريقة السنوسية ،ومن معه من السادة السيد الشريف السنوسي، والسيد صفي الدين السنوسي ،والسيد الرضا محمد المهدي 104
السنوسي ،ثم صلى بنا أمام المسجد الشيخ صالة المغرب ،في جماعة بعد الدعاء وصالة ركعتان ،أحسسنا بالمهابة والوقار خرجنا مع الحاج طاهر ومشينا على األقدام ،حتى اقترب من محل تجاري، استقبلنا شاب بالترحاب ،اقترب الحاج طاهر من الثالجة ،ومد لكل واحد منا علبة عصير عنب ،ثم التفت إلى الشاب قائال: ـ أي واحد من هذه الوجوه الطيبة ،يأتي إلىك يا سنوسي أعطه ما يريد فهمت.
هز الشاب رأسه باإليجاب .ثم التفت إلينا الحاج طاهر: ـ هذا دكاني وهذا ابني.
صحبنا إلى المربوعة في بيته ،تناولنا عشاء دسما عنده ،ثم عدنا لالستراحة من جديد للنوم والراحة.
ومع إشراقة الصباح أقبل الحاج طاهر ليأخذنا إلى مكان العمل إلى حيث العامل الريفي الذي كان في استقبالنا .هو أسمر البشرة ضخم البنية كانت بيده مسحة كبيرة يحفر بها أحواض الصفصفة. مضى المسئول وتركنا عنده في تلك المزرعة ،وألول مرة أتذوق شراب الالقبي الطازج من يدي الريفي األسمر الضخم الجثة ،وبدأنا في عملنا من اليوم األول وهو إحصاء وتعداد أشجار النخيل التابعة للزراعة ،سواء كانت األشجار مثمرة أو غير مثمرة حسب النماذج التي كانت معنا. أسكننا مسئول الزراعة في منزل حديث في شعبية به ثالثة غرف 105
وحمام ومطبخ حديثا لإلقامة ،وتعرفنا على أهالي تلك الزاوية العريقة التي أسسها السيد محمد بن علي السنوسي وولد فيها ملك ليبيا الصالح إدريس السنوسي رحمه الله .كان أهالي تلك الواحة يوصفون بالكرم والطيبة .لم يتركوننا نطهي عشاءنا ،كانوا يستضيفوننا في بيوتهم حتى نكاد نزورها جميعا .منهم سيدي نصيب الشاعري وأبناءه وأحفاده الحاج طاهر بوانغيره ،الحاج أحمد المهدي ،الحاج محمد اقناوي ،وأبناءه وعائلته وصالح زويله وغيرهم. وتعرفت على مكتبة الجغبوب الضخمة.
تذكرت كيف كنت أقضي أوقات فراغي في الذهاب إلى تلك المكتبة الغنية بأمهات الكتب ،وموظفها الجليل سيدي الشارف الذي فتح المجال أمامي لإلعارة فشغلت وقتي بعد الظهيرة بقراءة مؤلفات عباس محمود العقاد وطه حسين وخالد محمد خالد وروايات عبدالحميد جودة السحار وكامل الكيالني ،وكيف كتبت هناك قصة قصيرة بعنوان «غلطة األب» وبعد ثالثة أشهر هناك في واحة الجغبوب عدت إلى أهلي في الحطية محمال بالتمور ورب التمر. سرعان ما مضت السنة األخيرة في الكلية العسكرية ،قمنا بالمشروع الخارجي النهائي في بئر الغنم ،الذي استمر عدة أيام في التطبيق العملي والميداني لما درسناه سواء في المسير بالحك أو الرماية باألسلحة أو قيادة البي أم بي ،وشهر أغسطس قضيناه في بروفات مشاة التخرج الصباحية على طريق الشط ،مع بداية سبتمبر 106
عدت إلى مدينتي طبرق ،أرتدي بدله التشريفات العسكرية ،وعلى كتفي تلمع نجمة يتيمة ،فرحت األسرة بعودتي ضاب ًطا. فوجئت بالحاج عبدالحفيظ يرسل مع أحد أبنائه خرو ًفا سمينًا ً قائل: ـ هذا تهنئة البننا الضابط نتعشى عليه الليلة بمناسبة تخرجه. كدت أرجع له الخروف لعله يتذكر يوم أن طلب منه أبي يد ابنته لي ،لم يوافق وذهب لزوجته التي قالت له ـ هذه أسرة فقيرة ولن نعطي ابنتنا لفقير. لكن كابوس الكلية المزعج ظل يطاردني باستمرار ،في نومي مذعورا ،إثر كابوس وحلم ثقيل بأنني قد أضعت كنت أهب من نومي ً حذائي العسكري ،أو بدلة الشغل ،أو غطاء الرأس ،والكتيبة في حالة الجمع الصباحي أتنفس الصعداء ،عندما أجد نفسي على سريري وفي غرفتي ،تلك الكوابيس المزعجة ظلت تالحقني في نومي لسنوات عديدة. طلبت من أمي أن تأخذ معها خالتي وإحدى الجارات وتذهب ألسرة تلك الفتاة ذات المعطف األبيض ،غير أن أمي قالت لي وهي مترددة: ـ يا وليدي هذي الفتاة جاوها واجدين لكنها رفضتهم. ـ انت امغير عدي واطرقي الباب. 107
ـ انخاف ترفض يا وليدي
ـ ال امغير عدي لهم.
ذهبت أمي ومعها خالتي إلى كوخ عائلة الفتاة ،وظللت انتظر عند ابن خالتي وأنا على أحر من الجمر ،وقبل المغرب بقليل عادت أمي وقد هنأتني أمي في دهشة واستغراب قائلة: ـ مبروك وليدي ..وافقت.
108
( ) 13 ً كبيرا ومرمو ًقا في صديقي صالح ابتسم له الحظ ،وأصبح مسئول ً
الدولة ،وعندما أسأل عنه يقولون لي إنه في اجتماع في سرت أو في
طرابلس ،أو مكلف بمهمة في دبي أو األردن أو القاهرة أو االسكندرية.
لم نعد نلتقي إال نادرا فهو مشغول دائما ولديه أصحابه الجدد هم من المسئولين الكبار ،وماذا يريد من شخص مثلي مجرد صحفي يجري
وراء الخبر؟ ويلهث وراء مهنة المتاعب .غير إنني التقيت به ذات يوم وعرضت عليه فكرة إصدار صحيفة محلية لكنه قال لي:
ـ أنا ال أفهم كثيرا في الصحافة ولكن لدينا اجتماع الغد في مقر الصحة الساعة العاشرة صباحا ما رأيك أن نلتقي هناك وأعرفك
على عميد البلدية وتقدم له التصور يكون ذلك أفضل.
وبالفعل التقيت به وأدخلني على عميد البلدية وقدمت له التصور
فوافق عليه بل واقترح علي تسمية أسرة تحرير الصحيفة البطنان،
وتقديم ذلك إلى المكتب القانوني إلصدار قرار بذلك عنه. 109
صدر قرار انشاء صحيفة البطنان في الخامس من يوليو ،ووافق صدور العدد األول من الصحيفة يوم زفافي على تلك الفتاة ذات المعطف األبيض ،التي كانت وفية لي برفضها كل من تقدم لخطبتها في غيابي ،انتظرتني حتى تخرجت من الكلية ،ازدهرت الصحيفة وأصبحت تحمل أخبار المدينة وهمومها ،على صفحاتها برز كتاب وصحفيون جدد .تطالع على صفحاتها زوايا ثابتة :فتات من خراب الذاكرة ،بتوقيعي ،بيت القصيد ،مجرد رأي ،وجه من البطنان .أخذت تهتم بقضايا المهمشين في العشوائيات في أحياء الحطية والحي الروسي وداخل معهد النفط ،بل وأجرت لقاء مع ذلك المواطن الذي وجدناه يقطن بعائلته داخل منارة إرشاد السفن في السيمافرو .قال لنا في حديثه معنا أنه يحرج من زيارة األقارب واألصدقاء ألنهم يقيمون في حجرة واحدة فقط وممر صغير وحمام. استقطبت البطنان أسماء عديدة تعرفت عليها من خالل الصحيفة، سعيد خيرالله والسوسي وعبدالله عياد والناجي عبدالواحد ومحمد سعيد والشاعري والرواف وبوسالمة وزيدان وبوحفحوف والدمنهوري وبوفؤاد وبو امطول وعبدالسالم ابعيو وونيس وسعد المصراتي وبوفراج ورزق فرج وغيرهم.
فتحت الصحيفة صفحاتها للجميع ،منهم من استمر لفترة ما ثم توقف ،ومنهم من تواصل معها وتحولت الكتابة لديه من هواية إلى احتراف ،بل وهناك من توطدت عالقتي وصداقتي به حتى انه 110
أخذ يسافر معي إلى المطابع ويشارك في كيفية تجهيز العدد هناك في بنغازي والسهر عليه حتى طباعته في منتصف الليل ..وكانت
لي مواقف مختلفة مع كل هذه األسماء .وكذلك المشاركة معي في الندوات واألمسيات القصصية والشعرية سواء في طبرق أو
خارجها.
أصبح للصحيفة قراء وعليها إقبال في مكتبات المدينة والمدن
الليبية واحتضنت العديد من المواهب الذين أصبح لهم شأنا فيما بعد. ومع احتفالنا بالسنة األولى للصحيفة أطلت علي المولودة األولى
البكر ،ومع السنة الثالثة للصحيفة كانت المولودة الثانية ،ثم السنة
الرابعة كان احتفالنا بالمولود األول والبكر ثم مع السنوات ازدان بيت األسرة بعدد من األوالد والبنات.
وبعد مرور عدة سنوات على صدور تلك الصحيفة ،استدعيت من
قبل آمر منطقة طبرق العسكرية وهو عقيد من غرب البالد في تلك الفترة ،دخلت عليه مكتبه ،وبعد أداء الواجب سألني قائال: ـ أنت ضابط أم مدني؟ ـ ضابط طب ًعا.
ـ جاءتني معلومة أنك أصدرت جريدة.
ـ نعم سيدي المعلومة صحيحة التي جاءتك وقد أصدرت من هذه الصحيفة عدة أعداد.
111
ـ هل حصلت على أذن من االستخبارات العسكرية لهذه الصحيفة؟ ـ ال يا سيدي هي صحيفة محلية صادرة عن البلدية ليست لها عالقة باالستخبارات.
ـ أنت ضابط في الجيش والتعليمات العسكرية تقول حتى الكتابة للصحف والمجالت ممنوعة عليك إال بعد حصولك على أذن وموافقة من سيدي القائد األعلى.
ثم هددني بإيقاف الترقية والحبس ،إن لم تتوقف هذه الصحيفة عن الصدور وأمرني باالنصراف دون االستماع إلى.
لكنني لم أهتم به ولم أمتثل ألمره ،وبعد أسابيع علمت أن ذلك العقيد قد انتقل إلى منطقة عسكرية أخرى في الجنوب ،استمرت الصحيفة في الصدور ولم تتوقف ،كانت الحياة العسكرية صعبة كثيرا ،غير مسموح لي باإلجازة إال بعد موافقة االستخبارات العسكرية ،كل بوابة عسكرية قبل أن تجتازها كضابط البد أن تسجل اسمك ورقمك العسكري في سجل البوابة ،وإلى أين أنت ذاهب؟ والسفر خارج البالد محظور على ضباط الجيش إال في حالة العالج أو المهمة ،حتى الزواج بالنسبة لي لم يتم إال بعد التحري والموافقة من االستخبارات العسكرية ،عن الفتاة التي أرغب في الزواج منها. ومع منتصف سنة 95م فوجئنا نحن دفعات المعلم الضابط، 112
وبعد أن وصلنا إلى رتب مختلفة مالزم أول ونقيب ،فوجئنا بقرار القائد األعلى بانفكاكنا من القوات المسلحة ،لماذا هذا التسريح؟ كثيرا لست أدري ربما ألن معمر القذافي لم يعد يركز على الجيش ً بل انصب تركيزه على الكتائب األمنية التي استحدثها في المناطق والمدن الليبية.
أخذتني الصحافة والكتابة ،وعرف اسمي في الصحافة الليبية، أصبح كل همي هو مطاردة ومالحقة الخبر الصحفي ،وحضور اجتماعات البلدية ،واستقطاب الكتاب وإجراء اللقاءات الصحفية، وجلب المادة الصحفية مراجعتها وتصحيحها ،والسفر بها إلى المطابع في بنغازي وطباعتها وتصحيحها ،واألشراف على الجمع اليدوي والسهر عليها في المطبعة حتى الهزيع األخير من الليل ،ثم العودة بنسخ الصحيفة الثالثة آالف في سيارة األجرة إلى مدينتي الغافية في أحضان البحر ،ليتم توزيعها على مكتبات المدينة ،وكذلك قطاعاتها الخدمية ،معاناة صعبة في مهنة المتاعب تلك. وتوسعت دائرة األصدقاء الصحفيين الذي استمروا معي في مهنة المتاعب ،فأسست مكتبا للصحافة بطبرق حيث ضممتهم لهذا المكتب ،والدعوة للكتابة على صفحات الصحف الليبية التي صدرت عن مؤسسة الصحافة بجهود كبيرة من عميد البلدية في تلك الفترة الطيب الصافي ،ومدير مؤسسة الصحافة حينذاك الدكتور عابدين دردير الشريف. صديق الدراسة دخيل بعد أن أصبح عقيدا في الجيش ،أخذ 113
يفكر في تقديم استقالته ومواصلة الدراسة العليا ألن ضباط الجيش محظور عليهم مواصلة التعليم العالي .وبالفعل قدم استقالته من الجيش وواصل دراسته حتى تحصل على الماجستير وهو يستعد إلعطاء محاضرات في طلبة جامعة زليطن.
114
( ) 14 ضعف بصر أبي ولم يعد يرى ،وهزل جسمه وضعف ولم يعد
يأكل .أقعده المرض ،حملناه إلى أكثر من طبيب أصبح طريح الفراش،
مجرد هيكل عظمي ،وعينان غائبتان ضيقتان ،صدره يعلو ويهبط ،لقد
مات العالم من حوله ،أجلس عند رأسه مع أخوي وبعض األقارب
والجيران ،كانت نظراتهم تبعث على الرثاء.
كثيرا في حياته من أجل توفير القوت اليومي لنا والمالبس تعب ً
واألحذية وتربيتنا على األخالق والقيم واحترام الكبير وتقدير الجار
ومساعدة الغير.
التفت إلى الحاج خليل قائال: ـ أبوك هذا من أطيب الناس الذين عرفتهم في حياتي ،عمره لم يذكر أحدا بسوء في غيابه.
أردف مؤذن مسجد الحطية: 115
ـ إنه لم يتأخر عن الصالة في المسجد حتى صالة الفجر كان يحضرها إلى أن مرض. أضاف جارنا حمزة:
ـ والدك أعرفه رجل عصامي ال يأكل إال من عمل يده ..أذكر انه بعد أن عمل خفيرا ذهب إلى الضمان وأوقف المعاش التقاعدي.
في تلك اللحظات لمحت أمي بردائها الباهت تتساءل في حيرة وقلق: ـ كيف هو اآلن؟
اقتربت من أبي المسجى على السرير ،تحسست أطرافه تبدو باردة كالثلج ،بينما صدره يعلو ويهبط أجبتها: ـ يبدو على حاله كما هو يلطف الله به.
كنت مطي ًعا دائما ألبي وكذلك أخواي .لم نتسبب له في أية مشاكل في المنزل أو في المدرسة أو مع الجيران .نتعامل مع الجميع في احترام وأدب.
ظلت واقفة في ارتباك ظاهر ،بينما اقترب من والدي الحاج رزق، وأمسك بقطنة مبللة شرع يمسح بها على شفتيه اليابستين ،اصطكت أسنان أبي ببعضها في حشرجة ،خاطبه الحاج رزق: ـ تشهد يا رجل تشهد.
بصوت واهن أخذ أبي يردد: 116
ـ أشهد..أن ..ال إله إال الله.
توقف أبي نهائيا عن الحركة أسبل جفنيه لفظ أنفاسه األخيرة. هتف الحاج رزق في نبرة من الحزن وردد معه الحاضرون:
ـ إنا لله وإنا إليه راجعون.
فجأة أطلقت أمي صرخة مدوية ،على أثرها أقبلت النسوة إليها وشرعن في الصراخ والعويل أمام الكوخ. سحبت الغطاء على وجه أبي الباسم وقد اغرورقت عيناي بالدموع أحسست بغصة في حلقي وحزن ،وأسى وبكيت على أبي ألول مرة في حياتي.
117
( ) 15 كانت قيادة السيارات بالنسبة لي في البداية تشكل صعوبة وخو ًفا، عندما اشتريت سيارة فولكس واجن ،مثل السلحفاة صفراء اللون من زميل لي في التعليم ألول مرة بثالثة آالف دينار أول مرة بعد العاشرة ليال قمت بقيادتها واتجهت بها نحو المدينة ،وغامرت بدخول شوارع المدينة بعد أن اختفت السيارات وكانت حينذاك السيارات قليلة والمدينة الصغيرة تنام من التاسعة ً ليل .دخلت شارع فلسطين وسرعة السيارة لم تتجاوز الستين غير أنني لم أفطن للمفترق وفجأة مرقت من أمامي سيارة بيجو 505فطن لي سائقها فأنحرف بعيدً ا وكدت أن أصدمه لوال أنه أوقف سيارته ،وعندما ترجل منها وقد توقف محرك سيارتي وجدت أنني أعرفه فهو اآلخر زميل لي في التعليم ابتسم قائال: ـ هو أنت؟ أجبته:
ـ متأسف أنا ما زلت انتعلم في القيادة. 119
وبعد أن تعلمت قيادة السيارة الفولكس عرفت قيادة ماركات أخر ى من السيارات منها المازدا والتايوتا والداو سيلو والمتشي والشفر واالنترا وغيرها ..السنوات تمضي ..الحياة تغيرت في مدينة طبرق التي شجعت على انتقال السكان إليها بساطة وسماحة أخالق أهلها. كبرت وتوسعت ..انتشرت بها أحياء جديدة تحت أسماء جميلة: الحدائق والزهور والقدس واألندلس واشبيليه وغيرها ..غير أن الحطية ظلت كما هي على حالها بأكواخها الضيقة ..كل ما تغير فيها هو اختفاء السكان القدامى وانتقالهم إلى أحياء جديدة ..وظهور سكان جدد بها ..وزحف البناء العشوائي حتى وصلت المباني إلى الشارع الرئيسي.
الحطية حاصرتها المباني الحديثة من جميع االتجاهات ،المدينة أزيلت مبانيها القديمة ،وحلت محلها عمارات كبيرة جديدة وشاهقة بين يوم وليلة ،يملكها أثرياء برزوا فجأة لست أدري هل هم أثرياء الحروب والسالح؟ أم أثرياء الحشيش والمخدرات؟ الله أعلم.. المدينة اكتظت شوارعها بالسيارات من مختلف األشكال واأللوان والماركات ..الزحام أصبح شديدا بها ال يطاق ،تمددت أحياء المدينة نحو الغرب ونحو الشرق ..والغرب ،الشمال والجنوب.
صدرت لي مجموعات قصصية ..وكتب عن قصصي العديد من النقاد الليبيين والعرب ..كما صدرت لي كتب في األدب الشعبي ودراسات أدبية هي قراءات قصصية وتعريف بكتاب القصة القصيرة في مدينتي. 120
غزاني الشيب ..أصبح شعر رأسي كالثلج األبيض ..غمرت وجهي الذابل الصغير التجاعيد التي حفرتها السنون ..انفض عني األصدقاء ورفاق الصبا كل إلى حال سبيله ..منهم من رحل عن الحياة ،ومنهم من أخذته مشاغل الحياة ..منهم من كان صديقا والزال ..ومنهم من لم يعد ..ومنهم من أصبح خارج دائرة مشاغلي ..ومنهم خرجت من دائرة اهتماماته ومشاغله في الفترة التي عرفته فيها ..مررت بتجارب كثيرة في حياتي ..تجاوزت العقد السادس من عمري، تزوج أخوتي وأصبحت لهم عائالت كما أصبحت أنا اآلخر جدا لي أحفاد كالزهور. التساؤل يطوف بذهني هل بالدنا ستنعم باالستقرار واألمان؟.
هل ما حدث في 17فبراير ثورة أم مؤامرة؟ هل سننجو من الحرب األهلية التي تعصف بنا وبمدننا؟ هل سيعود النازحون المهجرون إلى مدنهم وقراهم وينعمون بالحياة اآلمنة السعيدة المطمئنة في بالدهم؟
121
صدر في هذه السلسلة 1ـ (قراءات في السلم والحرب) ،عبدالمنعم المحجوب. 2ـ (حبر المنفى) ،عمر الكدي.
3ـ (خاليا نائمة) ،محمود البوسيفي. 4ـ (أوراق تاريخية) ،مختار الجدال.
5ـ (ما وراء الحجاب) ،فتحي بن عيسى. 6ـ (منفى) ،ديوان شعر ـ عمر الكدي.
7ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية) ،خالد الحراري
جو ْك) ،قصائد محكية بلهجة ليبية ،سالم العالم. 8ـ ( َعلى ّ 9ـ (موسوعة الجهل النسبي) ،مقاالت ،الصدِّ يق بودوارة.
10ـ (راهنية التأويل (-)2سؤال الكيان) ،عبد المنعم المحجوب. 11ـ (الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية) ،خيرية فرج َحفالِش.