أصحاب المغيب تأليف :سالم الهنداوي © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في مايو 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
المحتويات ـ عودة الزورق الغريب7......................................................................... !.. ـ البدايات9.............................................................................................. .. قصة وقصيدة ولوحة ـ ضفاف الكاتب :روعة البيادر التي هناك بين ّ
لم تكتمل15........................................................................................... !..
ـ طائر قاسيون في لحظته الحالمة :يرصد ما تب َّقى من جيوش النَّار..؟! 21....... ـ ذاكرة المكان في الرواية العربية :لقاء في المغرب على ضفاف المشرق27.... ـ عمر المختار ليس أنتوني كوين! 31.............................................................. ـ ليلة في قصر اإلمام35............................................................................. !.. ـ صباح الكمانجا ..يا نوري! 41..................................................................... الح ُلم :ذاكرة رجل يظهر في الخريف45........................................ !.. ـ تكرار ُ ـ توقيت بيروت 49......................................................................................... ـ في الهزيع األخير من الليل :ترحل األشباح وتبقى الرؤية في الدار53...... !.. ـ ليلة قادتنا الفئران إلى المعرفة؟! :دار الغرائب في وطن العجائب! 59........... ـ كيف نعتني بالورد قبل المغيب؟! :معزوفة رومانسية في حديقة أمنيات 65....
ـ حالة ُحب استثنائية! 65................................................................................ ـ حالة الثقافة وراء الستار السياسي :أزمة حوار مع الجماهير..؟!69................
السكون؟! 75..................................................................... ـ ال أحد يبكي في ُّ
ـ كيف احترقت قبرص :عند الرحيل الثاني..؟!81.......................................... ـ أميركا والرجل السوريالي :وجه مثل الحليب يسافر في الرحلة األخيرة! 87........
ـ ليل القاهرة :كيف ينام القلم على سريره األبيض؟! 93..................................
ـ بيروت المساء99........................................................................................
كثيرا105................................... !.. كثيرا ..ومات ً ـ حكاية رجل الفـُرات :سافر ً ـ اجهاشة الذاكرة في رواية المدينة! 109...........................................................
المحزنة115.................................................................................... .. ـ العودة ُ
ـ رصيف بيروت :تكريس الديمقراطية في المقهى السياسي!121......................
ـ غيمة سلفادور دالي 127.................................................................................
ـ أغنية على جسر أبيض131........................................................................ !.. ـ بيروت ..ضاحية الشمال والجنوب135.....................................................!..
ـ على ورق أبيض141................................................................................. !.. ـ ذاكرة الصورة145..................................................................................... !..
ـ محمود درويش :من منفى إلى منفى تعود149............................................!.. ـ بيروت آخر الليل153.....................................................................................
عودة الزورق الغريب!.. ونزلت إلى البحر في ليلة عيد تركت األصدقاء في المدينة، ُ ُ أحسست أن صخب البحر في ديسمبر ،ال بدَّ أن يكون مثل الميالد. ُ ذلك الصخب الذي تركته خلفي منذ كذا عام ،عندما كانت الزوارق تبحر بالغرباء إلى البعيد ،حيث تسقط نجمة هناك ،في ليلة عيد الميالد ،ويسقط الضوء هناك ،على طول الساحل البحري للمدينة التي و َّدعتنا بال ُقبل الحلوة ،ودفعتنا إلى رصيف الميناء بذلك ال َّط ْيش الجميل قبل منتصف الليل ..لنعبر الساللم الخشبية مندفعين بصخب للفوز بالصعود على متن ذلك الزورق الذي يدخل البحر لينتصف الليل على الغرباء ،وليكون العام الجديد ..مزيد سفر وترحال ،بين موانئ مجهولة لم تطأها قد َما غريب ،وبين أرصفة لمدن مشتهاة، كانت ذات مساء في أحالم العاشقين!..
أحسست أن البحر كان يمدَّ ني بتلك الرؤى الجميلة ،فكانت ُ «الح َما َمة» تلك الساعة المتمهلة تنتظر نجمتها العالية في سماء قرية َ ِّ كنت وحدي هناك ،على شاطئ على ساحل «الجبل األخضر» حيث ُ 7
تحولت أمواجه إلى نساء صاخبات ،يضحكن بصوت ٍ عال كأنه َّن َّ من رذاذ ذلك ال َّط ْيش الجميل الذي ترك لنا مناديل الليل في صباح العام الجديد!.. عدت مصحو ًبا بالرؤى وحدي ،كانت مدينة «البيضاء» عندما ُ في ضباب تلك الليلة تذكِّرني بالعواصم التي أضاءت مصابيحها في لتوهم من البحر .غير أن الليل الذي تبدَّ ل انتظار الغرباء وقد عادوا ِّ الصور إلى قمصان شفيفة برائحة تلك األسفار ،جعلني بين ألبوم ُّ السهاد من ُأطالع الذكريات بين وجوه بعيدة ،ترحل في الليل إلى ُّ شدّ ة التعب .تعبرني في التعب بتلك الضحكات .تختارني من دون الصباحُ ، حيث يعتريني البرد وقد األصدقاء للفوز بها على مشارف َّ الصور ..وبتلك الذكريات!.. ُ بالح ُلم بتلك ُّ خرجت ملي ًئا ُ 2003/1/10
البدايات.. ..كيف تلغي الفكرة؟ وكيف تلغي الدنيا؟ ..وكيف تلغي َّ الذات التورط أكثر في عالقات ال طائل من ورائها..؟ وكيف تكون من ُّ جديدً ا ،في ما بعد ،بال فكرة ،وبال دنيا ..إالَّ من ذات مهيأة لعالم آخر ،لم ينسجه لنا األصدقاء ،وال األعداء ..أولئك الذين رأيناهم في يتوسطون دائرة النار الكبيرة ،ويكبرون!.. الحرب ،والذين رأيناهم َّ
من الصعب أن ننجو من ورطتنا باآلخرين ،الذين نحبهم ،والذين أيضا أن ننجو ال نحبهم ،من األمريكان واإلسرائيليين .ومن الصعب ً فتحولت رؤانا إلى شرر من هذه الحرب النفسية التي تخ ُّيم علينا.. َّ في ظالم دنيا ليست لنا!.. * * *
ونسمي األشياء كما هي ..الطين كيف نصنع عالمنا المختلف إ ًذا؟.. ِّ طين ،والورد ورد ،والنساء نساء .وكيف نطلق الضحكة المحبوسة منذ محملين بالبنادق والجماجم وشهادات مرةَّ ، مر الجنود من هنا ذات َّ َّ 9
الدفن؟! ..فأطلقنا ضحكاتنا العالية في غفلة من شجرات البرتقال والصنوبر ،وال ُعشب المب َّلل بندى الذاكرة .تنتبه إلينا الواجهات ،فتضاء المدن المطفأة ،ويضحك األطفال .تمضي األغنيات إلى مصابيح ُ مسرحها الصيفي ،وتمضي العاشقات إلى نور الرجل الالمع ..وإلى تتعجب األحوال المتبدِّ لة!.. مقهاها تجلس الذاكرةَّ ، * * *
طويت وأحسست في غفلة مني ،بأنني طويت ورقة التلوين. .. ُ ُ ُ بدأت ُأدرك معنى الرحيل إلى قبري ،قبل عمري .وبأنني كبرت حين ُ ُ ّرت السرية والروايات .تذك ُ المدن المشبوهة بالنساء والعصابات ِّ تتجرع كأسها المسائي في «فيا فينتو» «روما» التي تركتُها ورائي َّ تغتالها المصابيح وعيون الغرباء!.. أي معنى .والقطار لم يكن للوقت الفاصل بين الفكرة والفكرةّ ، سيصل إلى «بوخارست» بعد ساعات قليلة .الليل طويل .والرحلة طويلة ..وال ُعمر طويل .والقلب خزانة صغيرة لوخزات الزمن!.. * * *
كل شيء تركته خلفي :العواصم ،الذكريات ،األصدقاء الذين رحلوا ،والذين يقبعون هناك في كوخهم البحري ،يرمون ِّ بالشباك، مر عليها أكثر من شتاء .واألمهات الط ِّيبات ويكملون الحكايات التي َّ بالسمك ،أو الالئي يحفظن وجه شارعنا القديم ،ينتظرن قدومهم َّ بأخبار الطقس ،أو بأخبار الغرقى!.. كل شيء كان خلفي .حتى روما صارت خلفي .ضاقت بي بعد 10
الرسامة «مارينا» التي أطلعتني شهرين من اإلقامة في بيت الصديقة َّ ذات يوم على الرخام األسود في أحياء روما القديمة ،والتي ُأ ِ لصق ُّ عليها في العام ُ 1932صور إعدام عمر المختار!..
كان موسوليني أسود بين خروم الذاكرة السوداء للفاشية .وكانت صديقتي ترسم وجهه بعود ثقاب على الجدار الفاحم.. المبهمة ،ضاقت بالقلب الذي أفرغ كل روما س ِّيدة الذكريات َ قصائده على أرصفتها!.. * * *
..كان ال بدَّ لي أن أكون في «بوخارست» قبل نهاية الشهر ،حيث تبدأ إجازة صديقي «نجيب» لنمكث هناك بضعة أيام ،ثم نعود إلى كثيرا في روما ،وهاهي تغازلني اآلن ،وستغازلنا بنغازي التي غازلتني ً حتما ،في أول ليلة نقضيها م ًعا في بوخارست!.. ً كان القطار ُّ فالدوي كالم .كال ٌم من سحرا عجي ًبا في قلبي. يبث ُّ ً ونمت جيدً ا .وتوصيني بالغطاء أكلت جيدً ا، كنت ُ ُ أمي ،تسألني إن ُ كثيرا في الغربة. الج ِّيد ،وبأالَّ أتأخر ً
قلت لها ،سأعود بعد أسبوعين ،أو بعد شهرين ،أو بعد عامين. ُ بكيت وحدي ،والدنيا ظالم.. فأسكتتني برائحة حنّاء ك ِّفها ،وبكت. ُ الصور.. وزجاج النافذة يعكس وجهي البعيد في ُّ ونمت. الحارة، سقطت الدمعة ُ ْ ّ
* * * 11
أفقت من نومي على لسعات البرد ،والدنيا فراغ دامس .الدنيا ُ ذاكرة وصوت قطار يلج نف ًقا مضي ًئا ،ثم يدخل في ظالم!
ثالث ساعات تقري ًبا وأصل إلى بوخارست .مازالت ثالث سنوات وأصل إلى بنغازي .مازالت ثالث سنوات وأصل إلى ُأمي..
فكيف لدنيا عجيبة مثل روما ،تعجز عن أن تنسيني بنغازي؟!.. وكيف يعجز برج «بيزا» عن أن ينسيني منارة «سيدي خريبيش»؟!.. وكيف لشارع «فينتو» االحتفالي ،يعجز عن أن ينسيني شارع عمر المختار؟!! * * *
زرت تلك كانت حكاية القلب معي في أول السبعينيات ،عندما ُ وجدت، اندهشت حين مرة. مرة. ُّ ُ ُ وزرت رومانيا ألول َّ إيطاليا ألول َّ في اآلونة األخيرة ،بين أوراقي ،قصاصات خواطر عن تلك الرحلة، التي كان من طبيعتها أن تحفظ لي شي ًئا من الوهج والتع ُّلق بالبدايات، الحب ،مع الكتابة .كان ال بدَّ أن تكون بداية أي بدايات ،مع السفر ،مع ُ ِّ بأي شيء ،تأخذ فأي عالقة ِّ الصحوات األولى بكل شيء في العالمِّ . طبيعتها في نمو ،نحو تأسيس وعي شامل بها .لذلك كان ال بدَّ لنا أن نحب .وكان ال بدَّ لنا أن نسافر .وكان ال بدَّ لنا أن نكتب ..وكان الخاصة، دونت فيها حاالتي َّ ال بدَّ لي أن أتذكَّر تلك اللحظات التي ّ وشعوري بمدى تأثير الغربة على التجربة األدبية. * * * 12
كان من الطبيعي أن يفتر ذلك الولع البدائي ،وأن يأخذ مداه ،في ما بخاصة بعد أن صار السفر حالة دائمة ،له بعد ،في استراحات الذاكرة، َّ أيضا ،في عملية الكتابة اإلبداعية. المهمة ،وإضافاته تالوينه المهمة ً َّ َّ ِ المشاهد واالحتماالت ،وهو فالسفر متاهة ..وهو كتابة العين ألولى أيضا رصيفنا ومقهانا في النص الذي ال ينتهي بأسئلته وغرائبه ..وهو ً ّ التعب. السفر ،بعبارة أخرى ،تصحيح للذاكرة ..ومحاولة ُمجدية ألن نكون في العالم .لذلك ،كانت تشدُّ ني تلك اللحظات ،فأحببتها أحببت تلك األعوام! اآلن ،مثلما ُ ربيع 1991
13
�ضفاف الكاتب
روعة البيادر التي هناك قصة وقصيدة ولوحة لم تكتمل!.. بين ّ ال أنا من اسكندنافيا ،وال أنا من قوقازيا ،وال أنا من أصل فينيقي عريقُ .يحكى أن األفارقة ُهم من أصل عربي .غير أنني من شمال فسكَّان الشمال أفريقيا ،ال من جنوبها ،فقد أكون فينيق ًيا دون أن أدريُ . األفريقي والجنوب األوروبي ،قد يكونون في األصل من عائلة تعرض لها واحدة ،وينتمون إلى حضارة واحدة نشأت في منطقة َّ تعرض لها القراصنة في البحر .ومن بقى من البر ،كما َّ الطوفان في ِّ «العائلة» تناثروا على سواحلها يصطادون الغوايات!.. فأنا الذي ُأقيم بجسدي في أفريقيا ،لم أستطع كبح جماح الخيال المسافر أبدً ا بين أوطان البحر المتوسط .وكأنني أبحث بهذا الخيال كنت أعرفها عن حائط مفقود في غرناطة أو فينيسيا أو أثينا ،ووجوه ُ مرارا على تعر ُ فت إليها ً دائما معي أثناء الكتابةَّ . أو ال أعرفها كانت ً صفحة بيضاء واصطدنا السمك م ًعا ،وشربنا م ًعا نخب الشواء. 15
سافرت إلى تلك الحيطان ،سأعرفها. كنت أعرف أنني لو ُ ُ التقيت تلك الوجوه على رصيف ذلك الميناء سأعانقها وأعاتبها ولو ُ لماذا تترك البحر وتنام..؟!
عدت من جزيرة قبرص، والبحر الذي صار ينأى في خيالي منذ ُّ ترك لي التذكار القديم في «غاليري» الصديق «أحمد األتاسي» في نيقوسيا ،وترك صخب األصدقاء ،من العرب واألجانب ،في اللوحة الرخام العتيق في ليلة االفتتاح!.. التي فاضت بألوانها ومألت ساللم ُّ * * *
من األحالم بإعادة صدور مج َّلة «فرح» لألطفال ،صار الشاعر «غزة» يحاضر في جامعة تسقط الدكتور «عبد الرحمن بسيسو» في َّ في قصف طغاة الليل والنهار .والشاعر والروائي «سليم بركات» بعد سنوات تاقت إلى «الكرمل» يطوي المخطوطات ويغادر «الشريط الحدودي» إلى «السويد» حيث مقعد «الكردي الجميل» يغمره ضباب «ستوكهولم» بذكريات المكان المهيب ،مبعث الغواية األولى في االغتراب ،الذي صار بعيدً ا في غبار يرسم شريط الفصل بين الجراح» القبارصة اليونانيين والقبارصة األتراك .والشاعر «نوري َّ من تع ُّلقه بقصيدة ضائعة في مياه المتوسط ،ومن خسارته الفادحة ألحالم «الكاتبة» في لندن ،يغادر األمكنة على عجل ..من لندن ينام بيننا في ليل نيقوسيا ،ومن نيقوسيا التي داهمها الضجر ،يتركنا إلى «أبوظبي» في خطوه الرشيق يزرع األمنيات في الحقل الجديد .غير مرة ،من أن َّ الطوافة الواثقة التي أخذت الشاعر «أمجد ناصر» ذات َّ
قصفت مقهى «ليدرا» في تلك الليلة معارك الجزيرة في بحر الكلمات، ْ بعناقيد الشوق حين كنَّا نجلس خمستنا في طقس قبرص الثمانين يات، وكان معنا ينتظر الشاعر «حسام الدين محمد» ُيقبل من عتمة الشارع الجانبي إلى ضوء المقهى على الناصية العالية .يشتعل المكان بالكالم الذي أنشأ جزيرة الروح وطار بجناحيه إلى «بيروت»!.. * * *
ً وأطفال نلعب في «الجزيرة» بخيال يبني العواصم غرباء ُكنَّا.. ويد ِّمرها .فوضانا كانت من نشأة مبكِّرة افتقدناها على رصيف بال مقهى في أوطان مالحة ،صادر البوح في الطريق!.. وهن ُيضئن النفق َع َبرتنا النساء بالورد وتذاكر «المترو» األنيقُ ، ويشتعلن في محطة الوصول وسط المدينة .ذكَّرني هذا المشهد بامرأة اشتعلت أمامي ذات مساء في «بودابست» وهي تخرج من النفق إلى مقهى في «جادة أديب» ..أضاءته واختفت! * * *
قرأت «إيميل» الصديق الجالس هناك وحيدً ا ،في مقهى على فتحت النافذة على الرطوبة العالية التي تكتسح مشهد رصيف الغرباء. ُ الظالم في الشارع .والذباب البالغ في الشراسة ،استيقظ لوجهي في هجمت واحدة الغرفة القائضة .صار الطنين يصادر الروح المتو ِّقدة. ْ والتصقت به بلهفة العاشق .ثم ح َّط ْت على شاشة الرطب ْ على وجهي ّ الكمبيوتر تقرأ «اإليميل» في صمت .بعد لحظات اجتاح الطنين 17
الغرفة وح َّطت ذبابة أخرى على شاشة الكمبيوتر .لم أعرف الذكر
متوحدتين من األنثى .تهامست الذبابتان في ُمهجة الضوء وصارتا ِّ مثل نحلة عسل متح ِّفزة ،طارت إلى وجهي!.. المتهورة على الفور ،ألن وجهي ليس أرجوحة رفضت الفكرة ُ ِّ ٍ بغاء .أنا وجهي محطة سفر لعيون النساء ،ول ُق ُبالت في المساء. وأشعلت نصف السيجارة الباقية نفضت الذبابتين عن وجهي لذلك ُ ُ احتجاجا على سلوك الليل!.. ً
* * *
أسفل «اإليميل» كانت صورة تذكارية في نهار «أحد» جمعتنا بالشاعر «منذر عامر» الذي ِ قدم من «فلسطين» في «أبريل» العام
الماضي ،يبحث عن كُتب مركز الدراسات الفلسطينية كانت وديعة
في ذ َّمة عجوز قبرصي منذ أكثر من عشر سنوات .وبالسالم الذي فتح باب المؤسسة في «رام الله» فقد حان وقت عودتها إلى دارها اآلمنة.
لكن القصف الذي داهمها في «أبريل» هذا العام ،أضاع األمانة من جديد إلى نار لم ت ِ ُبق على شيء .فكانت السنوات العشر تنتهي في
عشر ثواني!..
ً متفائل منذ سنوات بعودته إلى فلسطين ،كما كان الشاعر «عامر»
و»غسان زقطان» وبقية األصدقاء الذين فتحوا أشرعة «أحمد دحبور» َّ
األسفار في األزمان العنيدة وعادوا إلى المهد بأحالم تستعيد الطفولة في مجد القصيدة!..
18
كان الشوق إلى «قبرص» من ُعمر تلك السنوات التي أمضيناها هناك تحت شعار «الكرمل» ودفء صاحبها «محمود درويش» والساكن في طقسها «سليم بركات» .لكن الشوق الذي فرح ببعض األصوات الثقافية الباقية في جزيرة المالذ العربي ،وفرح بالعثور على ذخيرة المعرفة الفلسطينية األسيرة منذ زمن ،سرعان ما تبدَّ د بين شتاتنا من جديد ،والحريق الذي اندلع بضراوة ،في فلسطين!.. * * *
إذا كان الصوت يصل من بعيد عبر «اإلنترنت» كما الصورة والحكاية ،فإن ولع الشوق يظل في العناق .وتلك هي المحنة التي أخذت منا اللقاء الحميم على ناصية قبرص ،ونَثرتْنا «أوحا ًدا» بين ليبيا واإلمارات وفلسطين والسويد!.. * * *
وفتحت نافذة الشوق على أوصدت النافذة على الرطوبة العالية، ُ ُّ بسته معي تلك المقهى في مساء «نيقوسيا» .غير أن البعوض الذي َح ْ صرت اضرب بالمنديل في الغرفة ،صار يتآمر ضدي مع الذباب. ُ كالمجنون في الهواء الحبيس ،أطرد األجسام التافهة التي أكلت وجهي وأطرافي وصادرت حقي في الكتابة!.. سالت بقع الدم على شاشة الكمبيوتر ولم ينقرض البعوض ولم يتو َّقف عن اللسعات الحارة .كان يشرب من دمي ألراه بعد غزيرا بأوجاعي .صار وجهي يحترق، وقت على الصفحة البيضاء ً 19
تضج في بؤس وشرسا ،كأنه لعنة أغسطس سمجا والذباب صار ُّ ً ً المكان!.. * * *
اشتهيت أن أكون هناك ،بين مللت المكان الذي ضاق بي في ليلة ُ ُ أصدقاء حلمنا م ًعا بروضة صغيرة تضئ سماء الكون!
مللت المكان الذي ابتعد عن ذاتي وأعطب المصابيح في شارع ُ الظالم والرطوبة العالية ،و»عبد الرحمن» كان في األثناء ،هناك ،بجوار الصباح!.. القصف الذي ضرب «غزة» الحالمة بزيتون َّ
...لعن الله الجامعة يا «عبد الرحمن» على هذه المعرفة التي وبعوضا ..ال يموت؟!! تموت .ولعن الله «اليهود» كم صاروا ذبا ًبا ً
2002/8/2
20
طائر قا�سيون في لحظته الحالمة ير�صد ما َّ تبقى من جيو�ش ال َّنار..؟! شيئان في دمشق ال بدَّ من رؤيتهما عن قرب ،والرؤية منهما عن نزلت إلى الشام ،من قبرص ُبعد ..ال أذكر أنني أغفلت زيارتهما ك َّلما ُ ُ جوا ،أو من بيروت ًبراُ ..هما (جبل قاسيون) و(محمد الماغوط). ً
تبدو لك دمشق من هذا الجبل ـ صديق العاشقين ـ مثل منازل المت َعبين في التاريخ .ترى الصمت كأنه الباب الكبير البعيد، الموصد على أناس ال تعرفهم .غير أن طلعات الناس من أعماق المنازل قبل المغيب ،توحي ِ بقدم العالقة بين أهالي الشام وقاسيونهم .ومع المغيب ينفتح ذلك الباب األسطوري على لتوها من مرقدها في التاريخ الضوء ،فترى دمشق كأنها خرجت ِّ بأغنية مضيئة تسكن عيون الرائي .وعلى الجبل ،حيث يكون الليل المهجة ،ويختفي الباب األسطوري عن مكانه البعيد، في صدارة ُ تكون دمشق باجلة في ضوئها ،كأنها هي من حملت قاسيون إلى المهابة ،وكأن قاسيون قد صار لغتها البصرية في المكان 21
المختلف ،وكأننا نحن ،شهود تلك اللحظة اآلسرة ،معنيون بألق الشام وتفاصيل المكان فيه. * * *
من بعيد تبدو الرؤية تسبح في اختيارات ال متناهية ،تصنع السؤال البديهي عن حاالت عاشقة من الزمن القديم تتّقد في النفس كأنها مشاعل محاربين قدامى يجوبون الظالم بمحاذاة القلعة الحصينة، وفي الليل ،منذ المساء الذي يسدل الستار على التعب ،تبدو المدينة المنتشلة إلى العشق النادر ،براح قصيدة لم يكتبها شاعر ..تمضي القصيدة إلى عاشقها ويبقى الشاعر يبحث عن مكانه بيننا. * * *
قد يبدو وجه الشبه بعيد بين طرازات خيال مسافر لم يمض سوى ساعات قالئل على جبل اسمه ( قاسيون) فارغ في المحيط وعتمته، ومليء بكل تفاصيل الوجود وسحره ،وغابر كما الحكايات التي عبرت ذات مرات سطوعه األسطوري وسكنت فينا .وبين شاعر ال تغريه مرتفعات التخوم ،وتغريه المغامرات الشاهقة .شاعر في المدينة ،ليس باهتًا كظله الذي يتبعه إلى مقهى الشام على الرصيف العريض كل مساء ،وحين يقتعد جنب النافذة في إطاللة مباشرة على رصيف المشاة ،يكون واث ًبا كالصقر الذي يلمح طرائده. الصور تغمره الكلمات بحنين الذاكرة إلى وجدها ،ما إن تشتعل فيه ُّ حتى ينطفيء في فنجان قهوة عبقة تأخذ معها الدخان الكثيف إلى رئتين عميقتين تحمالن رائحة الشمس وال ُغبار ،وتحمالن الماء 22
البارد والعبارات ،وخلود التبغ والفرح بميالد جملة ثائرة قد تخمد في صدمتها بروضة التبريد االصطناعي ،وقد تشتعل في لحظتها العنيدة فتحيل المكان الهادي إلى زوبعة من أفكار ..تنتهي إلى دفتره الصغير. * * *
لكنت سحبته من الملحة إلى قلمه الصغير لو لم أعرف بحاجته ُ ّ واحتفظت به وبحبره القليل الالذع ،وألقنعته بين أصابعه المكتنزة ُ بأن لدفتره حق االحتفاظ بقليل من ورقات بيضاء ،ليست للكتابة في زمن يأخذنا عنوة إلى المأساة ،وإنما للتأمل في أسطرها الباهتة إلى النهاية ،وتلك يجب أن تكون كتابة الماغوط في آخر ورقتين كثيرا أن فارغتين ،هما الحقيقة الواقية في عقل كل مثقف حاول ً يكتب كل شيء في زمن يأخذ منا كل شيء ،وإليه الصفحات البيضاء ،لمراثي لم نكتبها لبقية الطالعين فينا ،عن موتى يشبهوننا في البالد ،في قاعنا األخير المتخم بالفواجع ،بين جملتين حملتا نعش األمل إلى مثوى الشرق ،وانطفأتا في الطريق المع َّبد إلى الهزيمة. * * *
في منتصف مقالته نصف الشهرية في المطبوعة األسبوعية ،أقفل فقلت له منذ الماغوط دفتره الصغير وسألني متى جئت من قبرص، ُ يومين ألراك اليوم وأعود غدً ا .طلب لي قهوة وعاد إلى السعال أثرا باهتًا على المكبوت حدّ االنفجار ،فيما قلم الحبر األزرق يترك ً 23
فأدركت معاناته مع طالعه في الكتابة التي أخرجته إبهامه العريض، ُ من البيت مبك ًِّرا .لم أعتذر له عن فشلي في دعوته إلى قبرص ألنه ال أحد اعتذر لي عن عودتي من قبرص ،وظل مشروعنا الصحفي العربي األمثل ،قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب على مهد لخسارته العراق ،طريح مزاج عقل خاسر في صبواته الكاذبةَّ ، المعرفية بقيمة خطوط الماغوط على الكريكاتور العربي السياسي، متأخرا ،أن ال شيء أيضا ،يوم أدرك ووقع في الخسارة الفادحة ً ً يمتلكه المبدع غير قلم مقارع على الرصيف ،في المدينة ،وسط الناس ،وقد نهض الماغوط كالجبل المندفع إلى باب المقهى، تنحني له المارة. * * *
مررنا على بائع الصحف للسؤال عن ٍ عدد جديد لم يصل ،وعن ُ ترجلنا على الرصيف العريض في صمت حزين رسائل تأخرتّ . تخللته قرعات عكاز الكهل المخيف ،وفيما لمح قاسيون ،ذلك يتوهج من بعيد ،رفع العكاز نحو تلك الشبح العالي في فضاء الشام َّ فقلت بال تر ُّدد: ذهبت إلى هناك؟.. القمة وسألني دون تر ُّدد :هل ُ َ ّ أيضا ،فقاسيون هذا الشاهد الواثق بالتأكيد ،وهذه المرة وحدي ً يمنحك تداعيات األسطورة وينفرد بك في قراءة متأنية لعمالقة الشرق ،كأنك بذلك تريد أن ترى كل شيء وتستدعي كل شيء إلى راحتيك ،وتمضي إلى الكتابة. * * * 24
لقد أصبح الماغوط الذي كانت أوراقه تترع بالكثير من الهوامش السياسية ،هي ذخيرته الح ّية التي كان يطلقها في مسرحه السياسي وحريصا حريصا في خطواته ـ الذي كان وال يزال رائده بال منازع ـ ً ً على قلمه ونوتة أوراقة ،ال يعيد كتابة مقالته وإنما يتأخر في كتابتها. ال يكتب سوى الكلمة التي تخرج من رؤيته وال تعود .تبوح العبارة عنده بأسرارها الواثقة كقصيدة ،وكأنه ينهل من ينابيع خلت من الماء ومن الوافدين إليها ،يحفر في أرض ال يراها أحد سواه ،بعينين تلمعان في بريق الرؤية ،كأنه صقر الكالم الذي ال يشيخ وإن ك ُثرت مواسم الصيد في الصحافة العربية.
يأخذ الماغوط مكانًا بعيدً ا عن الضوضاء ،ثم يندفع كما الصاعقة يكتسح البالدة التي تحيط بالعقل والمخيلة ،فنقرأه عنيدً ا متأل ًقا ضد كثيرا سكون الموت واإلحباط ،مار ًدا ً وقابضا على جمر اشتهيناه ً فمشيناه قوافل ال تت َعب ،فكان مفجعنا بالعبارة وألق داللتها وسحر نسيجها.
إنه القابع هناك وحيدً ا في الدار الخاوية ،على أريكة ال ُعمر، تهدهد القلب الموجوع بسكرات الفواجع ،لخلود في الروح الساهرة دو ًما كما النمر الشيخ المسترخي على أريكة الذاكرة، يلتهم التبغ وماء النار الم ِ ساهما في دهش ،يخلد في التعب العظيم ً ُ الخيال البعيد كل ليلة ،يتأ َّمل محيط الضوء في المصابيح الواهنة على السقف ،شفيف المشاعر إلى سحرها ،يتأملها بدخان تبغه الكثيف ،وقنينة الماء لم ت ُعد باردة ،والذاكرة الساهمة في تفاصيل 25
ِ ومرت مرة ،تُشعل القناديل لميالد القصائدَّ ، وجوه كانت هنا ذات َّ المرة ،بال معنى ،تطفيء الذاكرة عن مشهد الهزيمة، من هنا ،هذه َّ لمن عبروا أشالء في غزة وبعقوبة ،وتركونا نلتهم نهايات ال ُعمر بالضوء الواهن في العتمة ،نطفئه ..ونموت..؟! 2004 /10 /1
26
ذاكرة المكان في الرواية العربية
لقاء في المغرب على ضفاف المشرق التقيت بروائي مشرقي يزور المغرب إلعادة طباعة منذ أعوام، ُ خاصة في أول الثمانينيات عن الرواية كتاب كان أصدره في طبعة َّ العربية .وقد تناول في كتابه نماذج عديدة من الرواية القديمة والحديثة، التحوالت التي طرأت على الرواية العربية بنماذج مستعرضا أهم ً ُّ ُمختارة من المشرق والمغرب.
دار الحوار بيننا في أحد مقاهي شارع «محمد الخامس» في الدار البيضاء .جلسنا إلى طاولة صغيرة ،في طرف المقهى ،وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث .هو يتحدَّ ث عن كتابه بفصوله الثمانية ،وأنا أتحدَّ ث عن الرواية العربية بفصولها الكاملة!.. طب ًعا التقينا في بعض األشياء ،واختلفنا في أشياء كثيرة .وقبل أن أسافر يتجول بكاميرته في أحد الشوارع العتيقة في بيومين ،التقينا مصادفة وهو َّ يعج الدار البيضاء .لم استغرب ُلقيته في مثل ذلك المكان العتيق الذي ُّ بالناس .دعوته في الطريق إلى ذات المقهى .وسألته عن أحوال المدينة 27
َّرت ً فعل في إعادة النظر في كتابي القديمة .فقال لي على الفور :لقد فك ُ قبل طباعته .أريد أن ُأدخل عليه ً فصل جديدً ا عن أهمية المدينة القديمة ناتجا عن حوارنا الذي عقدناه منذ في ذاكرة الرواية العربية ،وكان هذا ً عشرة أيام في هذه المقهى َّ وأدركت مصرا على وجهة نظرك، ُ بالذاتَ . كنت ًّ بعد عودتي إلى الفندق ،أنها صائبة ً زرت فعل .وزاد اهتمامي بمجرد أن ُ َّ زرت خمس أماكن الرواية العربية بالفعل .هل تصدِّ ق أنني منذ ذلك اليومُ ، ذهبت إلى «طنجة» و»الخنيفرة» و»مراكش» مدن على التوالي؟! ..لقد ُ رت كتابة الفصل الجديد. وقر ُ و»مكناس» و»فاس» بح ًثا عن أسبابك هناكَّ ، * * *
وأي رواية تُكتَب تحت أي مدينة عصرية ،هي مدينة مستوردةّ . ّ أيضا!.. تأثير طقوس هذه المدينة العصرية ،هي رواية مستوردة ً
الحكم المطلق ،حين تصبح هذه المدينة العربية من قد ترى معي هذا ُ زجاج وبالستيك وفورمايكا وجرافيك .فالرواية العربية األصيلة ،تم َّيزت ببساطة أدواتها ،المتدادها بالحكائي الشعبي القديم .فنشأتها جاءت من الضاجة بمالمح الحياة الح َّية، األرياف والقرى والمدن الصغيرة األولىَّ ، والتي شهدت أهم العالقات بالتراث العربي ،وأعطت أهم النماذج للرواية المتمكِّنة من الشخوص واألدوات واألمكنة .تلك النماذج كانت تنمو في داخلها ،وال تنمو إلى السطح .كما فعلت بعض التغريبات!..
فالمدينة العصرية ،ليست هي المدينة المشتهاة ..مدينة مزاجنا المتجولين ،وفقرائها وعجائزها المتسولين والباعة العربي ،بأحوال ِّ ِّ المهجوسين باألحالم الهاربة!.. 28
أيضا مدينة والمدينة العصرية ،برائحة مستورداتها .ليست هي ً الضيقة ،ومبانيها المتآكلة حوارينا القديمة بأزقتها المتعرجة ِّ ِّ المتالصقة ،التي شهدت نمو الشخصية العربية الشعبية بحاالت جوعها وفقرها وبؤسها وانتمائها إلى الطين .تلك المباني التي جاءت بقوة ،االحتالل اإلنجليزي واإليطالي بالمبادئ الخالدة ،وواجهت ّ والفرنسي .وارتوت ساحاتها الشعبية بدماء الشهداء من أبناء الشعب العربي .فالمدينة العصرية ،بأي حال ،لن تكون مدينة الرائحة األولى تشب فيها الذاكرة والفوضى األولى مع المحسوس. المشتهاة ،التي ُّ * * *
الزج بالعالقات االجتماعية في ..إن طبيعة العمل الروائي ،هو ِّ مواجهة فنّية ُمحكَمة ترتقي إلى ذائقة جمالية بالمكان ،وبمساحة ذاكرة شعبية تستدعي تلك المالمح الح َّية .وهناك تجارب روائية ال عالقة لها ال بزمان وال بمكان ،وال بإنسان .تجارب هي عبارة عن لعبة تتشكَّل في متحول العناصر ،يختفي في اللغة ،ويقيم في بناء معزول فضاء هالمي، ُّ عن ذاكرة المكان وأهميته في صميم العالقة االجتماعية والتاريخية. ِ يتطور لكن الرواية (الحكاية) ال بد أن تكون بتفاصيلها الممكنة ،كنسيج َّ باستمرار من داخله ويرتقي إلى قيمة في الوجود. مدننا العربية في هذا السياق ،مازالت إلى حد كبير هي مدن الرواية العربية المشتهاة ،التي برزت مالمحها في النصف األول من القرن الماضي ،وأعطت التاريخ الثقافي ذلك المشهد الضروري في حياة الناس. فالقاهرة القديمة التي تر َّبت عليها أدوات «نجيب محفوظ» ً مثل ،مازالت تعطي تلك األجواء في تجربة العديد من ال ُكتَّاب المصريين المعاصرين. 29
دائما في مكان ما ،وفي ذاكرة ما ،ألي مدينة المدينة القديمة قائمة ً حديثة .دمشق ً مثل ،ليست هي «أبورمانة» .إنها «الحميدية» ملتقى تمت االستفادة األزقة َّ الضيقة المتالطمة واألجواء الشعبية ،والتي َّ كثيرا في األعمال الدرامية التلفزيونية .المدن اليمنية والمدن منها ً الليبية والعراقية والمدن التونسية والمغربية ،مثل المدن المصرية دائما بالغرائبي الشعبي .فإذا َهدَ منا تلك والسورية بحاالت التقائها ً المدن من ذاكرتنا كروائيين ،فإننا نهدم ً مهما كان يحفظ شكل أدب ًيا ًَّ لنا التواريخ واألسماء والتفاصيل الجميلة!.. واضحا .لكنها في بعض نماذجها تخرج لقد ح َّققت الرواية العربية تقدُّ ًما ً عن تلك التلقائية ،وتحاول مجاراة الرواية األوروبية «العصرية جدً ا»!.. * * *
خالصا يالمس أسئلة الحداثة، لست ضد أن نكتب أد ًبا جديدً ا أنا ُ ً مؤسسة وما بعد الحداثة ،كعنوان تجريبي باألساس لتجربة جديدة غير َّ المتخ َّيل الخالص على المعرفة بجماليات المكان.. ُ ولست ً أيضا ضد ُ في سياق عملية التجريب المشروعة ..ولكني ضد أن نعمل على إلغاء اإلنسان ومدينته .وبالتالي نكون قد أسهمنا ،دون أن ندري ،في إلغاء ذاكرة المكان ..التي هي ذاكرة اإلنسان!.. 1991/5/13
30
عمر المختار لي�س �أنتوني كوين! عايشت فكرة إنجاز شريط سينمائي كبير في منتصف السبعين َّيات، ُ تابعت بعض جوانب تنفيذ هذا العمل لشيخ الشهداء عمر المختار .ثم ُ مع المخرج العالمي «مصطفى الع َّقاد».
ففي العام 1976تحاورنا في الشكل النهائي للسيناريو ،وكان ُج َّل النقاش يدور حول الشخصية المركزية «عمر المختار» واختيار المم ِّثل العالمي «أنتوني كوين» لهذه الشخصية من بين عشرات المم ِّثلين العالميين.
قال الع َّقاد :إن أنتوني كوين هو المم ِّثل الوحيد والوجه الوحيد فقلت :لكن أنتوني كوين يظل هو «زوربا اليوناني».. لعمر المختار. ُ فقال :أنا ُأعلن أنه سيكون «عمر المختار».
وكانت النتيجة عندما التقيت الع َّقاد وأنتوني كوين في مدينة مرة!! َّ «شحات» ..رأيت عمر المختار ألول َّ * * * 31
كان «زوربا» حينها يعود إلى صفحات «نيكوس كازنتزاكيس» رأيت المم ِّثل البارع لدرجة أنني ويخرج البطل من أوشاز هذا الجبلُ .
خفت على عمر المختارً . وفعل صار أنتوني كوين هو عمر المختار ُ السينمائي ّ الفذ الذي قاد حركة النضال الشعبي ضد الفاشيست.
احترمت في أنتوني كوين مالبس عمر المختار ،وجلسته بين ُ
صغار «الكتَّاب» في المسجد .واحترمته أكثر عندما امتطى صهوة
قمة هذا الجبل. الجواد وأمسك بالبندقية ووقف على ّ * * *
أدركت َّ أن جسد هذا الفنَّان البارع شخصية عمر المختار، ُ عندما َّ
بمجرد الثقافة العربية البدَّ لها أن تنتصر على تلك اآللة الهوليودية، َّ أن ينسحب نجومها من األلبوم «المسموم» ويدركوا أن خارج هوليود يوجد األبطال الحقيقيون.
فالنقلة من «كريت» إلى «الجبل األخضر» لمم ِّثل عالمي بارع مثل «كوين» تعني الكثير للثقافة اإلنسانية والتي تم ِّثل الثقافة العربية جز ًءا غن ًَّيا منها لما قدمته للبشرية عبر العصور .ولع َّلنا ن ِ ُدرك هنا َّ أن هذا الفنَّان المزاجي قد عشق عمر المختار وبكاه واستأذنه في مثواه
لتقمص شخصيته ..فكان أن نجح أنتوني كوين ،وكان البدَّ لهذا ُّ النجاح أن يرجع ل ُعمر المختار الحقيقي الذي أبدع بدون إرادة ـ
مخرج ـ في قهر الجوع والظمأ والموت ،وغامر في العراء تحت البرد والمطر يطارد جحافل الغزاة. 32
كان عمر المختار هو س ِّيد الموت طيلة فترة نضاله البطولي ..ذلك
الصعبة التي لم يكن فيها أي الموت الحقيقي الذي داهمه في األيام َّ معنى سوى طرد أو إبادة الغزاة.
* * *
التقيت في روما بالع َّقاد وبعض فريق العمل في العام 1979 ُ
الليبي أثناء استكمال بعض المشاهد النهائية هناك .كان ذلك في شهر أغسطس بالتحديد ،وكان الفيلم قد تكامل تقري ًبا ودخل في
عملية «المونتاج».
بأي حال رغم متابعته اللصيقة والدقيقة لم يكن العقاد َ مره ًقا ِّ لكل صغيرة وكبيرة .وحده كان أنتوني كوين متأ ِّث ًرا ب ُعمر المختار. مرة لم يتخ َّلص من سيطرة الشيخ الروحية .كان يبحث عن نفسه َّ
أخرى كما بحث عن نفسه بعد «زوربا».
أحد الن َّقاد العرب قال لي ذات مرة أثناء عرض الفيلم في دمشق،
مهمة كي أن أنتوني كوين يحتاج إلى القيام بدور شخصية أخرى َّ
يخرج من سيطرة عمر المختار!
* * * ماذا فعل عمر المختار بأنتوني كوين؟! أو ماذا فعل هذا الفنَّان بنفسه ليعيش بعمق شخصية عميقة في
أصلها مثل شخصية «عمر المختار»؟! 33
* كانت روما في ذلك الشهر بالتحديد ،تعيد إلى أذهانها زئير أدركت حينها ً فعل أن روما لم تفقد ذاكرتها عندما ظهر األسد. ُ «موسوليني» من جديد على أغلفة المجالت األنيقة .كان ُرعب عباءة عمر المختار يحيط بأعمدة القصر الفاشي ،وكان القصر مجرد جلد أسود أحرقه ينهار أمام الجيل الذي أدرك أن الفاشية َّ التاريخ ،وأن إعدام عمر المختار هو اإلثم الشنيع للفاشية.
لقد أحلنا «المقهى األبيض» في «فيافينتو» تلك الليلة ،إلى منتدى للشيخ ّ الفذ الذي عاد للحياة وطاف بعباءته أنحاء العالم!.. 1991/9/16
34
ليلة في ق�صر الإمام!.. كثيرا في قصائد شعراء اليمن القدامى والمحدثين. ُ رأيت صنعاء ً
وحكم اإلمامية، فن العمارة وروح التراث والصحراء الحجرية ُ
ومكونة للشعر اليمني .فبلقيس والقصيد كلها عناصر مهمة ِّ والقات والمناخ والمجلس العجيب ..كلها تركن في الحاالت الشعرية المتواترة لدى العديد من األصوات الشعرية الممتدّ ة.
يمن التضاريس الصعبة والقصائد واألحالم الهاربة .يطالعك
بطفلة البن وبأسرار صنعاء القديمة ،ويمضي بك إلى عقود التاريخ
أخيرا ،في حوار مع بين اليماني واليماني ..إلى أن تجد نفسك ً شعرا المثقفين ،يسارعون إلى معرفة واكتشاف ما يكتبه الليبيون ً
وقصة ورواية .يسارعون إلى اكتشاف ما لم يكن في متناولهم من إبداعات قديمة وحديثة.
ّ ولعل الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح ـ رئيس جامعة
تكونت لديه في اليمن «المكتبة الليبية الشاملة»، صنعاء ـ هو أول من َّ 35
بعد إهدائه جميع محتويات المعرض الليبي ..والتي تُعد اآلن من أهم «آثار» األسبوع الثقافي الليبي األول ،في اليمن. * * *
«نحن أبناء الساحل الليبي ال نقوى على النوم في أعالي الجبال» قلت ذلك لصديق يمني ،عندما أدرك أننا لم ننم ليلتها جيدً ا ،نتيجة ُ الضغط الذي أدى إلى الكوابيس والنزيف ،حيث ترتفع صنعاء عن مترا تقري ًبا ،لكن سرعان ما اعتدنا على سطح البحر حوالي (ً )2150 ذلك ،وبمجرد أن صرنا يمانيين في اليوم التالي. األمر الصعب لم يكن في «كوابيس» تلك الليلة في الفندق الكبير، متوجهة بل في قصر «اإلمام» ،في والية حجة ،إذ انطلقت القافلة ِّ حجة ،حيث التضاريس الصعبة بنا إلى أعالي الجبال السود ،إلى ّ في أم القيلولة الصعبة ،وحيث الصعود إلى أصعب حاالت الدوار. كان اليمانيون عاديين جدً ا ،وكنا نحن نقرأ باستمرار مرايا «بلقيس» والمتعرجات الصخرية ،تفتح بلقيس مخيلتنا على السفوح السوداء ِّ الجديدة على تاريخ اليمن ،فضاء للصقور تحوم على قطعان الماعز البري .وفضاء لشعالت الشمس القريبة جدً ا .وفضاء للدوار الصعب. ّ
بالحب .مضيفنا رفع حجة بأيديهم البيضاء .عانقونا ُ فتحوا لنا ّ كثيرا إلى أننا تعبنا في الرحلة ،برغم األسطورة التي الكلفة ،لكنه لم ينتبه ً الحلم. دخلناها ،وعشنا تفاصيلها ،ولم تخرج منها منذ بدأنا نصعد جبل ُ * * * 36
كان عدد الوفد الثقافي يزيد عن المائة عضو من األدباء والكتاب والفنانين والصحافيين واإلذاعيين .اللجنة المشرفة اختارت ثمانية أشخاص من دون غيرهم لإلقامة في «قصر اإلمام» الذي ُيعد اآلن قصر الضيافة الشرفية لكبار الشخص َّيات ،لكن اإلرهاق الذهني بحمام بارد ،يزيل والبدني غالب شعوري بالراحة ،وحلمي الصغير َّ أيضا لم يفرح بخلع حذائه عني بعض الضغط والتعب والدوار .غيري ً واالستلقاء في دار اإلمام ،فبعضنا نزف أنفه وبعضنا اكتفى بالنوم على مقعده إلى حين موعد األمسية الشعرية القصصية في قاعة المركز الفزاني» نزف إصبعه ،نتيجة الثقافي ،لكن صديقنا الشاعر «علي َّ كف ،وال دمه لجرح صغير بسبب الدوار والحر ..فال الدوار ّ تعرضه ُ قلت له ّ كف ..وعندها سألني بو ِّد ،ماذا تقترح أن أقرأ في األمسيةُ ، مازحا وأنا أنظر إلى إصبعه األحمر المعصوب ،اقرأ «دمي يقاتلني ً ً الفزاني في األمسية يرفع اآلن» ـ عنوان أحد دواوينه ـ وفعل ،كان َّ إصبعه المجروحة ويتلو على المأل« :دمي يقاتلني اآلن»!! * * *
بعد حفل العشاء الكبير ،ذهبنا للنوم في «قصر اإلمام» كان القصر األبيض من بعيد ،يدخل في معزوفة قديمةُّ ، تبث نوافذه الصغيرة المعلقة أنفاس تاريخ ينام في ردهاته .صعدنا الساللم الحلزونية ،وانتشرنا ثمانيتنا في غرف القصر العتيق .دخلنا القصر لننام ..فوجدنا في انتظارنا عالمات تتأخر في الليل .كانت غرفتنا، الفزاني ،تشبه غرفة الشاعر ْين علي صدقي عبد القادر أنا وعلي َّ 37
العماري ،وغرفة اإلذاعي ْين سعد نافو وأحمد أنور ،تشبه ومفتاح َّ غرفة الكاتب ْين عبد الرسول العريبي ومحمد المسالتي ..كل ال ُغرف لها ندرتها من بين ال ُغرف .وكل ال ُغرف تسكن في سؤال .انتقلنا في لحظة إلى ُغرف بعضنا ،وجلسنا في الردهة حول طاولة مستطيلة، نفاوض سحريات ذلك القصر العجيب .حكى لنا أحد ُح َّراس القصر ،كان ُي ِعد لنا الشاي األخضر المنعنع ،أن اإلمام كان ُّ يطل من هذه النافذة ،ليفتح المذياع الوحيد للناس .يفتحه عدة ساعات، يخزن أشياءه هنا .وهنا َّبراده .وهنا ثم يقفله ويقفل النافذة .وكان ِّ حمامه. مرآته .وهذا َّ * * *
لست أدري على أي أساس تم اختيارنا للنوم على وسادة اإلمام. ُ ردحا من الزمن، وفك ُ َّرت ،ربما لنلقى منه في ليلة ما لقيه شعب اليمن ً ً وفعل لم ننم ليلتها .كان اإلمام يتراءى لي يدخل بصندله وجلبابه
األبيض ثم ينزل الدرج ،ثم يصعد ويشعل النار في شعلة الحائط السميك ،يتمتم بكالم غريب .ثم أسمع الريح تدور في ردهات القصر ،وتعصف بستائر النوافذ ،تحمل معها بعض الرسائل من لست أدري إن كانوا نيا ًما ،أم أنهم األصدقاء في ال ُغرف المجاورةُ . يتابعون معي ما يحدث في القصر العجيب.
عيني في خيال قادم ،يفتح باب الغرفة ويتخلل في وهلة ُ أغمضت َّ دخلت في الوسادة ..ويدٌ تلمسني وصوت :هل الضوء الخافت. ُ نمت؟! .كان صوت شريكي في الغرفة ،يسألني إن كنت أنا من فتح 38
أدركت أنني أدركت أنني لم أكن أتخ َّيل. النوافذ وأطفأ النور .عندها ُ ُ كنت أرى اإلمام ً فعل ،يجوب ردهات القصر آخر الليل.
الصباح ،فقال لي ،مازال .أشعلنا سيجارت ْين ُ سألت صاحبي عن َّ في صمت ،وسمعنا ،على حين غرة ،وقع خطوات تقترب من غرفتنا. تفرسنا في الضوء الخافت ..رأيناه كانت هذه المرة تقترب بوضوحَّ . يمر .رأيناه بوضوح ،كان هو الشاعر علي صدقي عبد القادر يشرب من زير اإلمام ويعود :يسألنا عن «األسبرين» والصباح ..وصنعاء!.. 1992/1/6
39
�صباح الكمانجا ..يا نوري! سافرت إلى أي مكان ،تكون «قبرص» دائما كلما ُ ُ .. كنت ً أحببت فيها شي ًئا غير محطتي األخيرة ..برغم أنني ال أذكر أنني ُ رؤية بعض األصدقاء من المثقفين العرب المقيمين هناك ،خاصة الجزر أثناء الحرب األهلية اللبنانية ،فقد صارت قبرص ،أقرب ُ إلى بيروت ،هي المالذ الشرعي الذي حفظ لهم شكل العالم الذي افتقدوه زمنًا في لبنان..
كنت أشارك في أعمال «دورة إعداد البرامج في نهاية شتاء ُ 1988 ونظرا الثقافية» التي ن َّظمها مركز اتحاد اإلذاعات العربية في دمشقً .. النشغالي بأعمال الدورة فلم ألتق في تلك الفترة بغير بعض األصدقاء، منهم الشاعر «محمد الماغوط» الذي كان وقتها ينتهي من كتابة مسرحيته «شقائق النعمان» والشاعر «نزيه أبو عفش» الذي أطللت عليه ببشرى استالمه مفتاح بيته الجديد ..واألستاذ «رياض نعسان آغا» مدير عام البرامج في التلفزيون السوري ،والذي كان يعمل في تلك الفترة على إعداد «سيناريو» روايتي «الطاحونة» ـ لم يستكمله 41
لعدم تكليفه رسم ًيا من قبل المسئولين في شركة الخدمات اإلعالمية التقيت باألستاذ «عادل التي جازت العمل منذ ثماني سنوات ـ كما ُ البازجي» رئيس قسم البرامج الثقافية والذي دعاني ضي ًفا على برنامجه التلفزيوني المعروف «المجلة الثقافية» ،والذي بإذاعته قبل السهرة الخميسية علم بقية األصدقاء بوجودي في «الشام» فزعل بعضهم، دفعت ثمن ذلك بعقد وغفر لي بعضهم اآلخر ..لكني في النتيجة ُ بعض اللقاءات الثقيلة التي كادت تحرمني حتى من شراء بعض الكُتب القيمة من مكتبات «شارع المتنبي» ،وكذلك شراء بعض اللوازم الرمضانية!.. * * *
..ثالثون يو ًما تقري ًبا أمضيتها في دمشق بين الكالم في الثقافة، والتجوال في سوق «البزورية» و»الحميدية» لشراء «التوابل» وبعض الضروريات للشهر الكريم الذي كان ً فعل يفصلني عنه عشرة أيام تقري ًبا ..وتلك العشرة أيام كادت تنتهي في «الثقافة» فأدفع ثمن ذلك عندما أعود إلى بيتي خالي اليدين إالَّ من شهادة التقدير بدرجة «ممتاز»! اشتريت لشهر رمضان أهم ما يجعل زوجتي في انتظاري على .. ُ باب البيت ،ويقطع عنها المالمة ..ولكن فرحتي بتلك النتيجة أوحت لي بفكرة لم تكن ً فلست أدري كيف خطرت ببالي أصل في البال.. ُ «عازفة الكمانجا» في ذلك المطعم الكالسيكي في المدينة القديمة للعاصمة القبرصية.. 42
رأسا إلى «الرنكا» ومعي «بهاراتي» التي عبث ُ غادرت دمشق ً فأزكمت أنوفهم وهم يعاينون بها «القبارصة» اليونانيين في المطار، ْ تلك األكياس المريبة التي تشبه أكياس «الهيروين» ..ولقد تعب وتذوق «القرفة» والقصب المطحون ودقيق شم ُّ خبير المخدِّ رات في ِّ «المهلبية» ...ورفض استكمال اإلجراءات عندما نفثت إلى أنفه الكبير رائحة «الحرارات» و «النشادر» ..وأمرني بازدراء أن ألملم حاجاتي وأنصرف!.. لم أكن سعيدً ا لعدم معرفتهم بمحاصيل جيرانهم القبارصة يشمون رائحة طعامهم برغم اختراق صوت اآلذان األتراك ،وال ُّ للشريط الحدودي بين «القبرصتين» .وانتهيت إلى التفكير في رمضاننا الذي ينتظرني على باب البيت وقد صار يفصلني عنه أربعة أيام بالكاد أعود فيها من «ليماسول» إلى «نيقوسيا» ،ومن ثم أقلع من «الرنكا» رأسا ،ومنها في سيارة األجرة إلى «البيضاء» ،وإلى إلى «بنغازي» ً الصيام في اليوم التالي!.. * * *
..في مطار «بنينا» فاحت رائحة «البهارات» الدمشقية بين رجال الجمارك ،ففسحوا لي الطريق!..
كان سائق «التاكسي» من المطار إلى ميدان «الفندق البلدي» اسمه «نوري» .وكان سائق سيارة األجرة من بنغازي إلى البيضاء أيضا اسمه «نوري» .وكان الرجل الذي قطع التيار الكهربائي على ً أيضا اسمه بيتي منذ يومين ابتهاجا بحلول شهر رمضان المبارك ً ً 43
ونسيت أحضرت شهادة التقدير بدرجة «ممتاز»، وكنت «نوري».. ُ ُ ُ بحثت عنه في «الجنسية» صباح البهارات في سيارة «نوري» الذي ُ ً طويل حتى العصر وأنا أسأل السائقين... وانتظرت أول أيام الصيام، ُ هل رأيتم «نوري»..؟!! 1988/11/5
44
الح ُلم تكرار ُ
ذاكرة رجل يظهر في الخريف!.. ..أماسية الخيزران تعطف على المجانين .واألرض التي تدور،
تفنى على مقاعد الحالَّقين .ال البنت نامت من شدّ ة الحزن ،وال المدينة
نامت من شدّ ة الهرج!
الالعبون في البحر عادوا مبك ًِّرا قبل قدوم الس ِّيد الخريف بمعطفه
بخف عروة، اإلنجليزي .والس ِّيدة التي جاعت على الرصيف أقبلت ِّ وبكت جوعها وجوع المساكين الذين تر َّطبوا في الوحل! ْ أماسية س ِّيئة عطفت بنا.
ُقلنا لهم األرض تدور ،فنمنا كما ُكنَّا على البالط البارد حتى أعيانا الح ُلم بأجنحة ُخرافية ،تقصف عمر الدار البالية ،وتوقظ فينا اللحن ُ
الحنون للحرية!
* * * 45
منذ زمن لم يطأ الوجع هذا القلب الرخيم .ومنذ زمن لم ينم الزائر بيننا .ومنذ زمن نشتاق إلى أمسياته عن طوابير الذين ُّفروا من العدالة ٍ بشمس أصيلة ،لها حليب ُأ ّمي ونجمة حبيبتي. واقتدوا منذ زمن ،أيتها الس ِّيدة المع َّفرة بطِ ِ يب المساكين ،وهذا الوجع ٍ سؤال حميم ..هذا المساء لي وتلك النجمة يؤلمني ولم أركن إلى وهذه الغفوة!.. * * *
تبارزنا ذات ليلة بالكالم الشعائري .هو يأمرني أن أطبق فمي. ٍ جواب قديم ،قد أتذكَّره وأنا استأذنه الحرية ..أن أغفو وأبحث له عن عندما أتذكَّر لون تلك الطفولة المنفلتة .ولم يستأذن حين َّ تدخل في وانصرفت. عقليَ ..ل َط ْمته على وجهه ُ كان المهووس بلون ال ُعشب الخريفي ينتظرنيَ ..جنحنا ..صرنا نطير .حاولوا اصطيادنا .لكن َّ عشنا في الغابة المملوكة رفع رايته البيضاء ،فدخلنا ولم ننبس بكلمة. كرجل ْين ناعس ْين ،ودارت بنا الشجرة دورتها العادية. نمنا ُ * * *
هذا جنون المتع ِّقب .يخلط اللون بيد فاترة ،ويرسم «ريما» التي ع َّلمت األطفال كيف يتمرجحون عال ًيا .وكيف يركضون عال ًيا .وكيف يرقصون بعنف .ثم يهمسون بأغاني الليل في ضواحي المدينة.. وعندما يدخلونها فإنهم يدخلونها بسال ٍم ،آمنين الوعارة والحرس 46
الغفوان والنساء الهرمات في قلب المدينة .ينتظرهم العازفون وبائعو ً طويل في المزخرفون بلونها ولوننا الذي عشناه البالونات واألطفال َ الح ُلم ،وتمنَّينا أن نراه قبل «ريما» التي انتصرت على الملل وعلى ُ النكتة البليدة!..
* * * تضمخت ساعاتنا بعقارب وقتها الذهبي .راح السكارى ُ ينشدون َّ
على البحر أغنياتهم القديمة .وراح البريد ِّيون يحملون سالل الورد للذين باعتهم ّ الذاكرة في المزاد الصيفي للفقراء!
الح ُلم ،يوقف دوران األرض عن كان الوجه المسترسل في ُ
السري. المشهد التعبيري للس ِّيدة الغلبانة ،في المتاهة الليلية للمخرج ِّ
تتكرر في العواصم الهرمة وتبقى في السؤال .تلك التي من تلك التي َّ
الصباح ،تفتح الشمس لنوافذنا ،وتغادر البيت العائلي مع عادتها في َّ العصافير!
ألبسناها الس ِّيدة الجميلة من بعض ما عندنا من َّنوار اللوزات .كانت
ك َّلما انتبهنا إليها ،تحضر بمسكها المعتَّق ،وبأنوثة األشياء من حولها. غمرتنا الحنون بوجه الفرح المديد ..وق َّبلتنا! * * *
أين االختالف يا تُرى ،بين امرأة الزيتون ،وامرأة الكاكاو ..وبين الصباح؟! االثنتين م ًعا والبلح ال َّطازج هذا َّ 47
االمتداد إلى أميركا الالتينية وتايوان وتونس ،هو االمتداد نفسه إلى الدانمارك والصين الشعبية ولبنان .فكيف األرض تدور وأستراليا وأفريقيا قريبتان من بعضهما كما األرض والشمس؟!
المزور هو الذي حين نراه ال يذكِّرنا بشيء .هذا االصطناعي البشري َّ هو وحده الغريب! الحلم الجميل ..فهو المستظِل بأحوال أ َّما الذي يشاركنا نخب هذا ُ الماء والنَّار ..وهو ابن الس ِّيدة القلقة!
للصور، أي متاهة َسلكنا وفي المدينة الجدار القديم نفسه ُّ إ ًذاُّ ، والزيت وقارورة الملح؟! وفي القرية ُق َّبعة الفالَّح األثرية نفسهاَّ ، سر المرآة التي تتص َّبح فيها النِّساء كل يوم؟! ما ُّ
البحار بالنَّبيذ؟! سر عالقة هذا َّ وما ُّ
تحضر والصور التذكارية؟! ..والس ِّيدة العجوز ُ سر ِّ الضحك ُّ وما ُّ الحرب ْين الكونيت ْين وتستريح في َّ الذاكرة! سر كل ذلك إذا لم يكن بيننا فضاء ُح ُل ٍم جميل..؟!! ما ُّ
1991/10/14
48
توقيت بيروت ..في أحد مساءات صيف 1992وبينما كنت أجلس إلى الطاولة المستديرة مع بعض األصدقاء على رصيف مقهى «الويمبي» بشارع الحمرا في بيروت ،ذلك المقهى الذي كان وما يزال ملتقى المثقفين استغربت حالة ذلك الفزع الذي يصيب اللبنانيين عند اللبنانيين، ُ المساء .إذ تبدو خطى المارة من الجنسين أسرع من النهار ،وكأن ثمة صفارة إنذار ال أسمعها تُعلن في أبدانهم الفزع فتجعلهم يهرولون صاعدين ونازلين مع شارع الحمرا بح ًثا عن مخابئهم.. وخصوصا سيارات األجرة تبدأ تسرع على غير حتى العربات ً عادتها في النهار ،والواقفون في انتظارها يتزاحمون عليها كأنها تبيع سحر المشوار!
كثيرا ولم أسأل أحدً ا ،فالكثير من لقد ُّ اعتدت هذا المشهد ً المشاهد بعد الحرب كنت أحاول تفسيرها بمفردي دون السؤال حولها أو عنها .لكن في هذا المشهد بالذات فالسؤال يتسع باتساع تلك المساءات الصعبة في بيروت ،خاصة على زائر مثلي لم يعتد 49
ذلك الغبار الذي يثب إلى أعلى المباني كأنه يستجيب في جنون لتلك القذائف. * * *
مازالت بيروت على حالها لم تخرج من الحرب .فطقس الحرب األهلية مازال يجثم على صدرها برغم ألوان الملصقات اإلعالنية الكبيرة على الجدران ،وعالمات الفرح البارزة التي تعلنها أصوات المهرجانات الغنائية والشعرية جن ًبا إلى جنب مع اإلصدارات اليومية المزورة .حتى العطر لم ينس أصحابه.. للصحف والمجالت والعملة َّ عاد إلى نسائه المتوهجات في ليل «إبرمانه» و»قصر فخر الدين» و»جبل لبنان» وفي صاالت ومقاهي ومطاعم «جونيا» و»الروشه». لكن قصيدة الشاعر الصديق مازالت هناك في شارع الحمرا ،تسأل ال ُغبار المجنون ،وتسأل عيون المارة من حوله ،ثم تشتري بعض اللوز والشراب وتصعد إلى غرفتها قبل حلول الظالم .وفي الصباح تشتري العطور وتقف بين صفوف الطالبات والموظفات المطمئنات على نهار بيروت حتى المساء.
قد تأخذ المدينة في الليل شكل دار مشتركة لألحباب ،يمارس ً وفعل ،بمجرد أن فيها اللبنانيون طقوسهم الراقية في السهرات.. يتأكد اللبناني من عبور «المساء» وحلول الليل األكيد ،يبدأ السهر حتى الهزيع األخير من الليل. * * * 50
هذا هو مساء بيروت .صار منذ تلك الحرب الشرسة وقت لذاكرة ِ مرتعبة ،ذاكرة ترتجف لساعة المساء الرهيبة ..إنها ذاكرة الموت الصعب على اإلسفلت واألرصفة.
لقد حاول أهل بيروت أن ينتصروا بالمساء أيام الحرب األهلية. ولكنهم فشلوا أمام إعالنات الموت األكيد الذي تك َّبده المسائيون الكبار ألكثر من عشر سنوات توالت على النار والبنزين ..وعندما انتهت الحرب واشتعلت قذائف الحب من جديد بين كل اللبنانيين، بقي المساء وحيدً ا وغري ًبا في ال ُغبار! * * *
..كان الوقت مسا ًء حينها .وقد بدت تلك اإلضاءة العالية تسقط بهدوء إلى الظالم ،ونادل المقهى ُيعلن لزبائنه من المثقفين وغير المثقفين موعد إغالق «الويمبي» على تمام ساعة تلك الحرب األهلية ،ففي مثل هذا الوقت بالتحديد كانت النوافذ تُسدَ ل في وجه صفارات اإلنذار ،وفي وجه خطوط القذائف الملتهبة الساقطة هنا وهناك ..وتبدأ حينها ساعات الموت في المدينة .الذاكرة تعمل في الفراغ ،والخوف الكبير على األطفال خلف الشرفات يبدأ يتضاءل ويتساوى مع حاالت الموت االعتيادي ..يصبح البندول في ساعة الحائط القديمة هو القاتل ،تجتاح التكتكات الصمت الرهيب بين صوت القذائف ،وتتناغم إيقاعاتها الموقوتة مع االنفجارات البعيدة القاسمة في حي «الزيتون» ذلك الحي الذي كان قلب بيروت النابض، وبنهاية الحرب كان انهار تما ًما ،و ُيعتَبر اليوم من أهم المشاهد اليومية 51
المؤلمة لكل اللبنانيين المتنقلين بين الغربية والشرقية ..صارت تلك األطالل الموحشة ليل نهار أشبه بنقطة التالقي بتلك المأساة الكبيرة التي أطاحت بأحالم الكبار واألطفال ،ولم تترك سوى الجراح واألثر الكبير في ملحمة دمار الناس والمدن.. ـ كيف تموت وأنت لم تقل شي ًئا؟!
فاجأت صاحبي بسؤال لم يكن في البال .سألته هكذا ربما .. ُ بسبب انشغالي العميق بتلك التداعيات المرة التي جاءني بها مساء بيروت ،فقال وقد فاجأني هو اآلخر: أنت كل شيء و ُمت ً حال أيها الصديق! ـ قل لي َ
ضحكنا سو ًيا وبعض تلك المشاهد تتراءى لي ناصعة في حقيقتها ومعناها ،خاصة عندما أعلن نادلنا الط ِّيب للمرة الثانية عن موعد إغالق الويمبي ،وبدأ ً فعل بجمع كراسيه وطاوالته المستديرة من يقفر وقد علت ريح ساخنة على رصيف المقهى ..وبدأ شارع الحمرا ُّ أيقظت ال ُغبار من سباته وذكرته بتلك القذائف ..وصوت ُش َّباك أعلى المبنى ُيسدَ ل في أعقابنا بصدى صوت ُيعلن أن صفارة اإلنذار قد حان الروضة ،في تلك موعدها .ولكن القصف هذه المرة كان هناك ،في ّ المقهى الفسيحة للمثقفين قرب صخرة الروشة ،وبين األصدقاء.. حيث ضحكات عبد األمير العالية تندلع في كل اتجاه!.. 1993/9/24
52
في الهزيع الأخير من الليل ترحل الأ�شباح وتبقى الر�ؤية في الدار!.. لم أكن وحدي هناك بين أحجار تناثرت على القبر.
لم أكن وحدي هناك بين أشجار احترقت على الطريق.
لم أكن وحدي هناك بين وجوه تخرج من الظالم وتتكاثر ،كأنها األشباح!
كنت وحدي أبكي الذين سقطوا فارسا في ذلك الظالمُ . لم أكن ً الروح التي شهقت في الهزيع في الطريق .قبل الفجر كان البكاء يتلف ُّ األخير من الليل ونامت على الحجر!..
كثيرا قبل المغيب. ُّ عدت أنا الوحيد إلى بالد خذلت أطفالها ً خسرت فيهم حكايات الخريف عن الفارس الذي أشعل الظالم ُ بسيفه .وعاد إليهم وقد ناموا في الليل الطويل بال أحالم إالَّ من خياله جريحا في القلب! يعبر المكان ً * * * 53
غاب الفارس عن شارعنا القديم .كان مثل ال َّطيف ومثل كذبة البالد. نمت قبلهم والنار رماد بارد، جمعتنا الحكاية قرب موقد النار الكاذبةُ . هنا في الدار ،وهناك في فلسطين .وكان الليل الذي تركناه على الرصيف منذ خمسين عا ًما ،يعود بعواء النشيد الذي أبكانا خمسين عا ًما .وحين وجدت البالد مشنوقة في «ساحة أفقت من سنوات الحرب الطويلة، ُّ ُ العروبة» والكالب تنبح تحت الج َّثة المتد ِّلية ،واألوالد من غضبهم يضرمون النار في الدكاكين .والحارس الذي ينفض الدخان عن عينيه، أقفل كشك الحراسة ونام وهو يتمتم بكلمات قالها منذ خمسين عا ًما، لعن الله البالد والوباء وضابط المخفر وشرطي الدورية!
مر من هنا ذات حرب معصوب كان الحارس يجهل أن أباه قد َّ الجسد بالديناميت .ولم يعرف أن النار التي يكره ،كانت في هشيم الح ُلم لم تلك المعركة التي انتهت وأسفرت عن موت البالد .وأن ُ الح ُلم باحتنا العريقة منذ صنعنا من يكن ساعة نام وساعة أفاق .كان ُ الخشب سيو ًفا ،ومنذ حرقناها بنار أوجاعنا!
نمنا على أوجاعنا في الزمن المديد .ال الحارس أفاق من نوبة الدخان في «ساحة العروبة» وال نحن أفقنا من ليل أهلك الجسد في الدار العطنة .وحين كبرناُ ،كنَّا كما ُكنَّا ،ننام في الدار الموحشة، نحتمي بلحافنا القديم خو ًفا من أشباح تحمل ُّ الشموع ..تأخذنا من أفئدتنا إلى الميدان ،حيث مات أخي وابن أخي في الحريق! * * *
الحر بالبرد .واختلطت ..ذات ليلةُ . لست أدري ّ أي ليلة .اختلط ُّ 54
عيني ،وبنجوم الفضائيات العربية ،والسياسة نجوم السماء بنجوم َّ فلست أدري بالضبط كيف حدث أضعت نفسي بين نفسي.. العربية. ُ ُ ولست أدري كيف اختلت بي األشباح ،وأطلعتني على العواصم ذلك. ُ التي أح ُّبها ..بيروت ..باريس ..بودابست .المدن التي تبدأ بحرف أي امرأة تبدأ بحرف الباء، الباء ،والنساء الالئي يبدأن بحرف الباءِّ . وأي نهاية تبدأ بحرف الباء. ِّ هلكني هذا الباء!
* * *
عدت إلى بهلول .بهلول ُيق ِّبل به ّية .به ّية تُق ِّبل بهلول .بهلول من ُّ األردن ،وبهية من مصر ..مملكة تق ِّبل جمهورية .جمهورية تق ِّبل مملكة ..شيء جميل!
بهاء الدين يخرج إلى الحديقة ،ويفتح المذياع على ألـ «بي .بي .سي». ً أهل بحرف السين .حرف دخيل .تجلس بقربه «سهى» فتقلب أخبار الدنيا. هلكتني هذه السين!
* * *
رأيت سناء تحضن سهى ..ويدخالن في برواز .تختفي خلفهما ُ وفقدت فقدت مفاتيحها موسيقى .موسيقى من شدّ ة تع ُّلقي بها ُّ ُّ ٍ عيني أغمضت بشيء من القهر. معانيها ،عندما عاملتني األشباح ْ َّ ٍ عرفت بخرقة سوداء ،وقادتني كرهينة إلى مكان بعيد بضاحية المدينة. ُ 55
أنه بعيد وبضاحية المدينة عن طريق السمع ..إذ اختفت جميع من ِّبهات الصوت من بيروت ،ودخلنا حالة فزع رتيبة ورهيبة .بعدها ألقوا بي سرداب عطن ،وقالوا ،يط َلق سراحك متى ُأ ِ ٍ طلق سراح العصافير. في ُ أي عصافير.. لم أفهم ِّ
انشغلت ً وأفقت من غشاوتهم على سيرة الروح «فيروز» ُ ُ قليل بس ِّيدة ُّ ِ فرأيت بناتي األربع يقتربن من أدويتي المهدئة العصافير ..العصافير. ُ صرخت فيهن ،فطارت الواحدة بعد األخرى في أرجاء الدار لألعصاب. ُ وقلت: التي كانت تقبر األطفال في تلك الشتاءات منذ خمسين عا ًما، ُ ال تعبثن بما ال نملك وال تكتبن اسم أبيكن على الحائط .اكتبنه في الهواء .في طريق العصافير العابرة .أو احفظنه للرجل الذي لم يسأل عنَّا! َّرت قصيدة الشاعر «نصري الصائغ» أيها َّ الشاهق في ذ ِّلي... وتذك ُ أباذر تعالُ /أناديك من ٍ خلل في ال ُعتمةِّ / والذئاب ساهرة بقربي.».. «يا ٍّ * * *
عادت األشباح منزعجة ،فقطعت عنَّا الكهرباء .غابت عنَّا شاشة التلفزيون .غابت عنَّا نشرة األحوال الجوية .لم نعرف ما هي أحوال فلسطين .واألنباء تقول أن «رام الله» تشهد معارك عنيفة وطاحنة .وأن إسرائيل حسمت صراعها مع العرب وأعلنت قيام دولتها الكبرى ،وقد بدأت ً فعل بعمليات جرف واسعة النطاق إلزالة الفلسطينيين والمدن الفلسطينية من الوجود ،في حضور مراقبة سياسية عربية ودولية مك َّثفة. * * * 56
غابت النجوم ،وجاءت الغيوم ِّ تبشر بمطر بعيد .قد تمطر في «رام الله» وقد تمطر في «القدس» .لكن ما جدوى المطر المنقطع إذا كان النُّور هار ًبا في قاعات المؤتمرات العربية..
صرت بال لسان .مواطن غضبت األشباح منِّي ،فقطعت لساني. ُ مرة .أعوا ٌم كنت بال أذن ْين وبال رئتينُّ . عربي بال لسان .قبلها ُ مت غير َّ مت فيها ،ال أذكرها بالتحديد ،لكنِّي أذكر أن كل ميتة كانت كثيرة ُّ إثر صدمة ،و»شوف كم صدمة» .البارحة ً يت صدمة ،ولآلن مثل تل َّق ُ فبكيت في طوق أشباح ال أعرفها تسهر أحاول جاهدً ا أالَّ أموت.. ُ بقربي ،وأنا أتأ َّمل ليل األطفال المفزوعين في فلسطين ،وأحزان األمهات المفزوعات في جنازات األطفال ،والقبور تعشوشب بمرث ّيات الوطن الكسيح... صرت زعلت األشباح من شدّ ة ُح ِّبي .بكت معي إلى آخر الليل. ُ ْ أجهش بأسماء الذين افتقدتهم في الحياة .وقبل أن يحين الفجر، جنيت تلك فنمت على جمر ما أطلقت األشباح سراحي ،ألنام.. ُ ُ ْ الليلة!..
ذاكرة عص ّية ومولعة ،ال تنام إالَّ هناك ،بين الذين ماتوا من أجلها..؟!! 1990/8/18
57
ليلة قادتنا الفئران �إلى المعرفة؟!
دار الغرائب في وطن العجائب!
عندما َّ حل الظالم على البالد العربية ،وبتنا ال نعرف كيف جئنا إلى الظالم ،وإلى أين نذهب في الظالم ،قادتنا فوانيس الفئران إلى مكتبة التاريخ العربي الكائنة بين ساحة الشهداء وساحة البرلمان.
أمهلتنا الفئران بعض الوقت لنجمع أنفاسنا من طول المشوار الذي قطعناه ألكثر من خمسين عا ًما بال زاد إالَّ من تقوى ومعرفة صغيرة بعلوم التناسل ..ثم أطلعتنا على األغلفة السميكة لكُتب األسالف التي بنت عليها أوروبا حضارتها ،وخرجنا نحن من تجر الخيبات ،وكالب حضارتنا في بالد األندلس ،بحمير خلفنا ُّ تنبح في الطريق .وقالت الفئران بسخرية الواثق على توجيه اإلهانة: هنا حاجتكم أيها العرب ،في هذه الرائحة القديمة التي سبقناكم إليها وفهمناها عن ظهر قلب ،في الجوع والشبع .فهذه المكتبة ـ خطرا خطرا عليكم قبل والدتكم ،وستكون ً تقول الفئران ـ كانت ً حميرا على أوالدكم الذين يرونكم فرسانًا في مراياكم ،ويرونكم ً 59
في مراياهم .والحق نقول ـ قالت الفئران ـ إن أهم شيء كسبناه من راحتنا في بالدكم ،هو قدرتنا على هضم كل تاريخكم القديم، ونجاتنا الطويلة من كل سمومه التي أصابت عقولكم وأطاحت حل الشتاءَّ ، بقوتكم على قارعة الطريق ،حتى َّ وحل الظالم الطويل. َّ كنا نهضم تاريخكم عن طيب خاطر ،بكل ما فيه من مواد ثقيلة ال يبتلعها حتى الفيل الجائع .فنحن كجنس خبير ِ بالكتاب ،نعتبر ِ نظرا لما يحتويه من قيمة غذائية عالية ،أشبعتنا الكتاب خير جليس لناً ، وأنتم جياع ،وفتَّحت عيوننا على الدنيا وأنتم عميان ومخذولين. فكنا بال منازع من أقرب مخلوقات الله إلى المعرفة ِ بالكتاب ،وإلى تواريخ تدوينه وطباعته ونشره .أما تاريخكم المعاصر أيها العرب ـ تقول الفئران ـ فإن الورق الناعم بات يفقدنا القدرة على الهضم، التذوق والمعرفة بحقيقة إن كنتم عر ًبا كما بات يفقدنا القدرة على ُّ أو إفرنج ًيا .حتى رائحته الزكية صارت مختلفة وغير مغرية لشهيتنا. خصيصا لفئران اإلفرنج فورق تاريخكم المعاصر ،قد يكون ُصنع ً َّ ويتبخر البالستيكية المد َّللة .أو أنه قد صار ينفد سري ًعا في العقل قبل أن يكون حتى وجبة إفطار قبل الغداء!.. واستتلت الفئران المث َّقفة دون أن تمنحنا الفرصة للكالم ،وقالت: لقد عاصرناكم معشر المث َّقفين الشباب ،وأدركنا بعد هزائمكم في مرورا بفرديناندو حروبكم األولى واألخيرة ،من عصر هوالكو ً وإيزابيال ،وبريمر ،أنكم مصدر هالك أسالفكم ..وأننا إن شاء الله سنكون مصدر هالككم ولو كتبتم بعد ذلك على ورق السيلوفان!.. 60
ً أرطال من األغلفة القديمة السميكة الستعمالها ومنحتنا الفئران في الصيف القادم كمراوح يدوية على جبهات القتال مع العدو. عدونا؟!! وانصرفنا طابورا واحدً ا دون أن نسأل الفئران من هو ُّ ً * * *
ويتفرع منه ..في الشارع الطويل ،الذي كان اسمه شارع الهوتيل، َّ شارع االستقالل وشارع النصر .وعلى باب المكتبة العربية الضخمة، حمارا بانتظارنا. الواقعة بين ساحتي الشهداء والبرلمان ،وجدنا ً رقما فسفور ًيا لم نتح َّقق منه بسبب العتمة حمارا يحمل على جانبيه ً ً التي في القلوب ،وبسبب العشا الليلي الذي ورثناه عن أجدادنا منذ ليلة سقوط غرناطة. أطفأت الفئران فوانيسها عندما انصرفنا ،وهمست لبعضها في الظالم الجديد ،ودخلت بين ُأمهات الكُتب لتقرأ بنهم وتنام.
تركتنا الفئران خارج البناية بال قمر ،ننتظر مجيء حمار ْين آخر ْين على األقل ،لحمل األغلفة إلى جبهة القتال!
رض ْت (ال نريد كال ًبا) ..هكذا زعقنا في صوت واحد عندما َع َ علينا أربعة كالب نقل التاريخ إلى حيث نريد .قلنا لها في استياء: حميرا كالتي حميرا مطيعة ،تكره الظالم وال تنظر إلى الخلف. نريد ً ً حملت مكتبة األندلس إلى أوروبا ولم تركن إلى ظل من خشيتها للظالم ،فأضاءت بما تحمل سماء أوروبا ،ليمطر النور في العقل حميرا أيتها الكالب ،تحمل عنَّا الذي أشعل بدوره الكرنفال .نريد ً 61
هذه األثقال التاريخية ،ليس إلى أوروبا التي اشتعلت ،ولكن إلى ديارنا التي انطفأت .فال بصيص لنور نهتدي إليه في الغياب ،وال صوت ٍ حميرا أي جدار ،يحمي الحقيقة في السؤال .نريد لمناد هناك ،خلف ِّ ً كثيرا على الجبهة ،وناموا! تحمل أغلفة المراوح لجنود تثاءبوا ً هامت الكالب على وجوهها كما هام الجنود على وجوههم يوم خسرنا الحرب .وانصرفت تنبح في خالء المدينة! * * *
مرت بنا ،كانت مشغولة وعلى عجلة من معظم الحمير التي َّ أمرها .فالس َّياح في بالدنا شغلوا معظم الحمير ،حتى الحمير التي كانت تحرث في األرض المالحة ،جاءت تنقل الس َّياح للفرجة علينا في النهار ،بالدوالر واليورو ،وحتى الليرة التركية.
صاح فينا أحد الفئران من أعلى المكتبة :هل وجدتم تاكسي؟!. فقلنا له :كال ،فالسياحة الرائجة هذه األيام أفسدت الحمير أيها الفأر العزيز!..
هز زعل الحمار المتو ِّقف بيننا منذ وقت ينتظر شحن األثقالَّ . وهم بالمغادرة لو لم يسمع نهي ًقا عال ًيا ومت ً ّصل ذيله وأذنيه في استياءَّ ، قاد ًما من بعيد ..وإذا بها ثالثة حمير شهباء كانت الفئران قد اتصلت بها بالتليفون .تو َّقفت كسيارات اإلسعاف ،وفسحت ظهورها الناتئة لحمل التاريخ العربي إلى المجهول!.. * * * 62
..أثناء السير في الطريق إلى المجهول ،استوقفتنا عاهرة عربية مغتربة تسأل عن بيت الطالبات .وعندما اعتذرنا لها بعدم معرفتنا العنوان ،سألتنا عن بيت العاهرات .فقلنا لها ،لقد وصلتي ،وأشرنا جميعنا إلى المدينة قائلين بصوت واحد :هذا هو بيت العاهرات. ودون أن تشكرنا ابتسمت وتفلت اللبانة في وجوهنا ،ودخلت المدينة تتنهد من بعيد! مسرورة ،وأخذت َّ
ً طويل في الشوارع العربية المهجورة ،وال أثر طافت بنا الحمير ووزعت الحمير لعدو .وعند منتصف الليل ،وقد أضنانا التعب َّ ٍّ منشوراتها العلنية على الطرقات ،وجدنا أنفسنا من جديد على باب المكتبة العربية ،وذلك الفأر ،في األعلى ،يسألنا :أما زلتم هنا؟!!.. هزأ بنا الفأر الصغير ،الماكر .ثم دخل وأقفل النافذة على قهقهات الفئران.
والحمير من شدّ ة التعب والجوع والعطش والغضب ،نفضت وتتكسر. حمولتها لتسقط األغلفة السميكة إلى األرض، َّ
ال أحد كان في مقدوره أن يحمل عنَّا وزر تلك الليلة من الظالم الذي َّ عدو!.. حل على األمة العربية ،أو يد َّلنا على جبهة القتال مع أي ّ * * *
ثالث ساعات مضت على انطالقتنا األولى من دار الفئران ،وعدنا من حيث بدأنا ،إلى دار الفئران! ثالثة قرون مضت على انطالقتنا األولى من دار الفئران ،وعدنا 63
من حيث بدأنا ،إلى دار الفئران ...وخالل الثالثة قرون ،لم نح ِّقق سوى إرشاد العاهرة إلى مأواها في المدينة! عادت الفئران إلينا بال فوانيس .سخرت منا واستعادت أغلفتها القديمة! عادت الحمير إلى الس َّياح!
..وعدنا نحن للكتابة على ورق السيلوفان؟!! * * *
المباح!.. ...وأدركنا الصباح ،قبل أن تسكت الفئران عن الكالم ُ 1996/4/5
64
كيف نعتني بالورد قبل المغيب؟!
معزوفة رومانسية في حديقة أمنيات حالة ُحب استثنائية!
ً .. مهل ،لم نشرب قهوتنا بعد.
منذ زمن وهذه الحديقة لم تشهد هذا اللقاء بينناُ .كنَّا منشغلين بهموم الوطن .و ُكنَّا منشغلين أكثر بهمومنا ..بالخبز والماء والحليب. ِ أراك من بعيد وال أستطيع االقتراب ِ ِ أناديك، منك أو أن كنت ُ ولهذا أريد أن ُأنهي ،بهذه القهوة ،كل سنوات النكد التي حرمتني ِ ِ رؤيتك عن قرب!.. منك ،ومن * * *
اشربي القهوة يا حلوتي واحكي لي كيف تكونين حلوة أكثر. وسأحكي ِ لك كيف ننسى السنوات التي مضت علينا هكذا بال ضحك. ع ِّلميني بلطف كيف أبتسم ،وكيف أعتني بالورد ،وق ِّبليني كي أدوخ وأطير إلى الشجر. 65
هل هناك أجمل من هذا النهار كي نمارس الحب ون ِ ُعلن ُقبلتنا ُ األولى؟! ..هل هناك أجمل من هذا النهار نلتقي فيه بال أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية؟!.. قليل عن مواعيدنا .وأننا نتأخر ً لتكن أزمتنا أننا نتأخر ً قليل في التعبير. غزيرا هذا النهار ..وأننا نسينا المظ َّلة في المقهى!.. وأن المطر يهطل ً
مرة بأمر هذه األمة ليكن بيننا هذا العشق لننسى أننا انشغلنا ذات َّ وذوقتنا الخوف التي أكلت أبناءها في ساعات الجوع والشبعَّ .. بعساكرها ومخبريها ،وليلها وكالبها!..
ثمة حرب هذه األمة الخؤون التي ضحكت علينا وقالت أن َّ الحب بيننا مستحيل ،وأننا لن نلتقي ستقتلنا ،وأن الغد أسود علينا ،وأن ُ كي نناقش ونفتِّش عن حاجتنا في المقهى أو السينما ،أو في الحدائق العامة ..مادامت إسرائيل تُشغل الضفاف الفلسطينية ..وما دامت أميركا تقيم بيننا وتلقي بحذائها صوب الجغرافيا البليدة! * * *
ٍ مكان يا تُرى وأي أي مقهى يا تُرى يمنح النشوة للسابل الغلبان؟ُّ .. ُّ يبعث في القلب ذلك الحنين القديم لألشياء العذبة الحنونة التي تبدَّ لت منذ وأي شار ٍع يا تُرى مازال تعبره البنات الحلوات بالحب؟ُّ .. فترت عالقتنا ُ العائدات من المدرسة وهن يحض َّن ال ُكتُب واألشواق والحنين إلى الغد؟.. ٍ رصيف يا ترى مازال يحمل خطى العاشقين في المساء؟! وأي ُّ * * *
الحب، يا حبيبتي ..يا تلك التي كانت منذ وقت طفلة ال تعرف غير ُ 66
وال تنتشي بغير ال َف َرح ..هل مازال في القهوة رشفة يا هذه التي تشاركني اآلن هذا المقعد في الحديقة؟! كيف ِ يمكن أن نأخذ تلك الضحكة الجذلى من ذلك ال َّطاعن في
الزمن ،حتى أنا ..ال تذاكر لهم تأخذهم إلى السن؟! ..ال َّطاعنون في َّ ِّ ِ حيث تقيم الحرية في أبهى ُصورها.
تلك الحرية الجميلة التي كانت تجلس على المقعد الوثير قرب وهم يلعبون حولها .وعندما يتثاءبون، المدفأة وتبتهج لفرح األطفال ُ أسرتهم كي يحلموا أكثر باللعب! تأخذهم واحدً ا واحدً ا إلى ِّ
كثيرا ،ولم أرها تلك الحرية التي ز َّينت قلبي بحبيبة ح ُل ُ مت بها ً فعلً ، احتجت إليها ً احتجت إليها ..فال أحد يحتاج فعل إالَّ عندما ُ ُ ِ ب .وهذا التَّعب ع َّلمني كيف ُأعيد توقيت ساعة إلى شيء إالَّ وتَع َ يدي وأضبطها على ساعة يدها كي ال َّ أتأخر عن هذا اللقاء المصيري أخيرا تجلس بحبيبتي التي ْ كثيرا في ُّ الزحام وها هي ً ابتعدت عنِّي ً الزمن ،وكدنا قبالتي ..تشاركني ذلك اللحن القديم الذي افتقدناه في َّ نفتقده في الذاكرة!.. * * *
عرفت من مرة .و َل ْم تسألني ك َْم َل ْم تسألني ،حبيبتي ،ك َْم ُ ُ سافرت ّ فأغمضت النِّساء .سألتني فقط عن حاالتي مع هذا ال َّطقس الجديد. ُ ب الذي يع ِّلم اإلنسان الفؤاد على صوتها ُ فالح ُ وأعلنت بهجتي عال ًياُ . الطيران ،يكون في مقدوره أن يع ِّلم اإلنسان الكالم ..وأن يتخ َّيل الغد، الغد الذي يمنح هذه المقدرة على الطيران! 67
ٍ بالمرة مشكلة فلسطين، ُّ في هذا اللقاء وقد انتهت َّ فأي شوق يبعثه َّ المتأصل .فاإلنسان قعيد ومشكلة اإليدز ،ومشكلة الضغط العربي ِّ الح ُلم بطقس جديد غير الح ُلمُ .. هذه الجغرافيا البليدة ،ال يملك غير ُ الح ُلم بطقس جديد، ملوث بنشرات األخبار المرئية والمسموعةُ . َّ ُّ تستهل أخبارها بأسعار الورد ،وبأسعار ُكتُب األشعار فيه النَّشرات والروايات ،وبأسعار الت َّفاح .طقس جديد للورد والعصافير وإعالنات األطفال!.. * * *
همست وهي تالمس غروب َّ الشمس :هل نمضي إلى المدينة؟ ْ
ٍ فقلتً : سرب للعصافير .سنعود مهل ..ليس قبل أن يعود آخر ُ ِ ومألت الح ُلم بنهار جميل.. ْ في ظالل العصافير إلى ُع ٍّش يكبر فيه ُ الحديقة الشقشقات! * * *
هناك في المدينة عند الغروب ،عند السالم البديع ،دخلنا اللحن. فتحنا نوتة الموسيقى العظيمة وغرقنا في الرقص .هي تغرق في الرقص بهدوء ..وأنا أغرق معها.. للزحام..؟!! والصورة ..والمشهد اليومي ُّ ُدخنا ،فتركنا وراءنا الخبر ُّ ربيع 1992
68
حالة الثقافة وراء ال�ستار ال�سيا�سي
أزمة حوار مع الجماهير..؟!
تربطني عالقة قديمة بالشاعر والكاتب المتم ِّيز(محمد الماغوط) رائد المسرح السياسي الذي كاد يتو َّقف عن كشف حكايات «األمة» بعد خالفه مع أستاذ المسرح السياسي (دريد لحام) ..فيتو َّقف بذلك دائما للوقوف على ركح المسرح السياسي نبض جيل فني كان يتع َّطش ً الموسمي الذي كان يقدِّ مه الماغوط ولحام ويتجوالن به في محاولة لطرح السؤال العربي «المع َّقد» أمام كل الجماهير العربية.
وكما كان الشارع العربي لصيق االهتمام بسؤال المسرح السياسي الذي أثرى الوجدان العربي بالكثير من االنفعاالت الضرورية في ظل أنظمة «كرتونية» سائبة في سياساتها المضحكة والمقلقة والمحرجة ألمة لم تزل عظيمة في ضمير مثقفيها ،فإن الفن الذي قاد إلى صحوة اإلنشاد بحياة األمة ،لم يتو َّقف عند المسرح السياسي وحسب ،بل تعدَّ اه إلى األغنية السياسية التي تم َّيزت بمعاركها الثقافية مع تلك األناشيد الحماسية التي «أفرختها» تلك المعارك العربية الخاسرة مع 69
العدو ،والتي كانت بالرغم من حماستها العارمة ،تقود إلى الصدمة بالهزيمة .فكانت ذكراها مريرة في آذان السامعين الذين كانوا ير ِّددون إيقاعاتها وكلماتها على صوت أحذية الجيش الذي ذهب إلى جبهة القتال ولم يعد .فكان وقع النشيد عني ًفا على النفسية العربية التي راهنت على كالم ُحكَّامها وراهنت على كالم إذاعاتها ،وعادت خائبة إلى مقهاها الشعبي تنتج اكتمال الهزيمة في عتمة المكان بالشاي وأنفاس «النرجيلة» وأغاني «أم كلثوم» ،وثمن الهالك الطويل دائما في دفتر حساب الوطن أو لوجوه تلوك الوجع وتنهار ،كان ً على حائط الهزيمة .لذلك كان ال بد أن تنهض المعركة الثقافية مع النظام المهزوم الذي قاد الناس إلى البكاء تحت «أطالل» أم كلثوم. وأن تنهض المعركة بأغنيات سياسية تفضح بؤس المكان ،وتفضح خيال النكتة البليدة في المقهى .وتقهر الهزيمة التي تفوح في كذبة المهربة ،في النشيد .ومن صميم األزمة ،وقفت «األغنية السياسية» َّ وجه األناشيد الحكومية التي ما فتأت تخسر إيقاعها الحماسي أمام هدوء الكالم في ترنيمات «مارسيل خليفة» و «أميمة خليل»! فصوت «فايدة كامل» ترك هزيمة 67على مقاعد «مقهى الفيشاوي» وعاد بحرب أكتوبر 73من ِ «قبلة» تلك الحرب وتلك تكريما الهزيمة ..ليس لتكريم الشهداء الذين سقطوا في سيناء ،وإنما ً لمحمد عبد الوهاب ونجوى فؤاد .وانتهت الحرب كما لم تبدأ.. وانتصرت «إسرائيل» بنقل ال َع َلم من ثكنتها العسكرية ،في صحراء سيناء ،إلى سفارتها السياسية في وسط القاهرة .ليصدِّ ق الجندي 70
جريحا من حرب 67وشاهد ال َع َلم اإلسرائيلي المصري الذي عاد ً يرفرف وراءه فوق رمال أغضبتها الريح ،أن إسرائيل لم تخسر حرب أكتوبر ،73وإنما انتصرت ،في هذا التاريخ تحديدً ا ،بنقل ال َع َلم من سيناء إلى القاهرة!..
فاللواء «محمد عبد الوهاب» لم ينشد «لجيمي كارتر» نشيد االنتصار على إسرائيل ،وإنما أنشد للسالم الذي قاد إسرائيل إلى قلب العروبة النابض ،وليقتل وراءه الفلسطينيين في األزمة الراهنة. ورقصت «الجنرالة نجوى فؤاد» رقصة الشرق الساحر بين الهرم األكبر والهرم األصغر ليشهد العالم سقوط الشرق األوسط!..
لقد ربط السادات عنق مصر بمعاهدة «خانقة» مع إسرائيل ،ورحل عن الدنيا مخ ِّل ًفا في األرض ش َّقة خالف َق َس َم ْت األرض ومن عليها، وأسفرت إلى الخسارة الفادحة في القضية ،التي مثلما قادت العرب إلى الهزيمة في الحرب ،قادت العرب إلى الهزيمة في السالم .وكأن إسرائيل تعيد إلى ذاكرة «اليهود» ذكرى انتصارها في العام 48التي انتكبت فيها فلسطين ،وينتكب فيها العرب اليوم! * * *
كان «محمد الماغوط» مح ًَّقا في رسم لوحات «ضيعة تشرين» و «غربة» و «كأسك يا وطن» ..كما كان مح ًَّقا في مقاالته األسبوعية ِ الحكَّام «أليس في بالد العجائب» .فكتب تاريخ الهزيمة ليتَّعض ُ وينصتوا إلى «خانة الجماهير» التي افتتحها في مشروع المسرح تحول من عمق الصدارة مع الجماهير ،إلى السياسي .لكن المشروع َّ 71
كثيرا ثم عادوا إلى قصورهم في هدوء ماكر، تسلية ُ لحكَّام صفقوا ً يد ِّبرون الهالك للفن الذي أفزعهم في العرض الخاص ،وناموا بال َ المتخمات بالسلطة والنفوذ .وعاد خيال على أصوات شخير زوجاتهم الماغوط إلى بيته في دمشق يتأسف على تصفيق الحاكم على خيبته عاصرت بداياته الحكُم .فكان الخالف مع «دريد لحام» الذي ُ في ُ وكان بمثابة «مؤامرة حكومية» للفصل بين االثنين ،مثار أحاديث طويلة شاركني الرأي فيها العديد من األصدقاء في دمشق وبيروت وبغداد. لكننا لم نفلح في عودة العمالقين إلى وعيهما ،كما لم يعد المسرح السياسي إلى الواجهة .فراح «دريد» إلى التلفزيون «على مسؤوليته» في قناة القت منَّا كثير الترحيب في بدايتها .وراح «الماغوط» من ذاكرة اتسعت بحجم الوطن وخبت في أزمتها ،يكتب السطر الحار في «مقهى الشام» ويتو َّقف لفنجان آخر من القهوة «السادة» وسيجارة مشتعلة في الفكرة ،وكأنه يبرهن على ثقة المزاج في تحريك هدف الكتابة!.. * * *
قمة عطائه مازال هذا الشاب الكبير «محمد الماغوط» في َّ علي فكرة إصدار صحيفة خاصة اإلبداعي ،فسرعان ما طرح َّ بالكاريكاتور العربي ،يسته َّله الفنان «علي فرزات» برسومات ساخرة رسامي الكاريكاتور في بتعليقات «الماغوط» وتفتح المجال ألهم َّ الوطن العربي .وكان الشيخ الشاب مستعدً ا ألن يسافر معي إلى قبرص لتحقيق هذا المشروع الصحفي الفني الجديد .لكن الصمت 72
كان أكبرنا في لقائي به في دمشق وأنا في طريق عودتي النهائية من قبرص إلى ليبيا .فخسرنا الفكرة م ًعا ،لكننا لم نخسر رصيف مقهى الشام .فعلي فرزات ح َّقق مشروع أهم صحيفة سورية شعبية هي «الدومري» وح َّقق الماغوط صوته في مقاالته في «الوسط» .ومن عدت أنا للكتابة في رصيف شارع «العروبة» بمدينة البيضاء في ليبيا ُّ عدت إلى كتابة ارتبطت بها منذ زمن .كما صحف ودوريات عربية ُّ ُ الحكايات عن «بنغازي القديمة» .وبهذا كأن شي ًئا لم يكنَّ . كأن «الماغوط» لم يكتب للجماهير العربية مسرحه السياسي النقدي َّ وكأن «علي فرزات» لم يرسم في الكويت كريكاتورياته الالذع. السياسية الجماهيرية .وكأنني لم أسقط من فوق جبل «ترودوس» مهملة إلى قاع مدينة البيضاء ألجد في قبرص ،وأتدحرج ككرة ثلج َ نفسي أبيع البصل للجماهير .وكأن الثقافة التي قادت إلى كسب الرهان بالجماهير ،سرعان ما سقطت تحت أقدام الجماهير في سوق الخضار ،مخ ِّلفة الصوت والصدى في ضمير المث َّقف الذي متفر ًجا من بعيد على حطام العربة كان عليه أن يكون ،منذ البدايةِّ ، في حلبة السباق ...والجماهير تص ِّفق! * * *
كان حجم خسارة «شركة المتوسط الدولية للصحافة والنشر في قبرص» بمشروعات إصداراتها الصحفية الجديدة «المتوسط» ذات الشأن اإلقليمي المتوسطي بلغتيها العربية واإلنجليزية ،و «البريد» تحررها الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط .كان حجم التي ِّ 73
خسارتها في الظرف العربي والدولي الراهن ،بحجم خسارة فكرة مشروع «المسرح السياسي» الذي أضاء به «الماغوط» ركح ظالم المسرح العربي الذي سقط في محنة ثقافة الهزيمة العربية التي تبنتها المؤسسات الثقافية واإلعالمية الحكومية على يد النفعيين المنافقين المتم ِّلقين .لكن فكرة «المث َّقف» الحقيقي للخروج من هذه المحنة، رضة لشكوك «مؤسسة» مرتبكة في مشروعها وفي دائما ُع َ كانت ً عالقتها بالمث َّقف .فكان بإمكانها أن تستعيد ذاكرتها وتبرهن على مصداقية انتمائها لحركة الجماهير في الشارع العربي .هذه الحركة التي لن تتأسس «معرف ًيا» بدون مشروع إعالمي ،من هذا النوع ،يتبناها! 2002/6/28
74
ال�سكون؟! ال �أحد يبكي في ُّ الصمت ،حتى ذلك الذي قتلنا ونحن نعتذر له ال أحد يرانا في َّ الصغير. عن خطأنا َّ
الرمل ،ونحب المسافات، ُكنَّا مثل فتيان اللعب .نحب الركض على َّ ونعشق كما الفراشات ..و ُكنَّا نبكي قبل النَّوم من شدَّ ة الفقد ألشياء نراها وال ننالها .أشياء في «الفترينات» المضيئة كالب ُّلور ،تسحرنا ببريقها ونحتاج إلى مالمستها .أشياء كثيرة ُكنَّا نحتاج إلى مالمستها، حتى الحرية التي ُكنَّا نمارسها على البحر وفي الغاباتُ ،كنَّا نخاف دائما إلى مالذات آمنة بعيدً ا عن منها ونخاف عليها .نحملها معنا ً عيون المخبرين الذين إذا اجتاحوا المكان ،حيث ننصب الحرية الصور ،يغتالونها ويغتالوننا ،فتنشطر الشمس التي ترضعها في أبهى ُّ في النَّهار وترضعنا ..وإلى غير سبيل ،في المتاهة الحقيقية ،تجرفنا الم َّرة ..كيف ضعنا هكذا بين الخطايا ويجرفنا السؤال إلى الحقيقة ُ أحذية حملتنا أسرى في الظالم األكيدُ .كنَّا لهم األسرى ليعلو صوت وهم يدخلون مراكز النشيد خلفنا ،تاركًا صداه في أعقابنا ،بين النَّاس ُ 75
االنتخاب ،يتجمهرون على صناديق من أوراق سهلة االشتعال كما المنَال .ولكي تمضي الدولة إلى النُّور ،ال بدَّ أن نمضي إلى هي سهلة َ الظالم ،حيث الحرية هناك تنام ،بين جدران رطبه تنهال كما األحالم. * * *
لمن تركنا الشطآن إذن والغابات؟! ..ولمن تركنا المسافات وعشق الفراشات؟! .من يركض هناك بعدنا في النهار وقد غابت َّ الشمس وغبنا في الظالم؟! .ال أحد سوانا يعرف أن َّ الشمس هنا فينا ،في المعتقل ،حيث الحرية مسج َّية بين جدران رطبة تنهال كما األحالم! * * *
نام بجواري «ناجي العلي» وقد كان يتمتم بأسماء ال أعرفها .أسماء أمهات ُّ الشهداء الالئي سقطن في مخيمات الالجئين في لبنان .كان يرسم وجه بيروت بمالمح امرأة رسولة ،ت ِ ُطعم «حنظلة» بحنطة مع َّفرة بشمس اشتهيت مذاقها في المعتقل .وبين وجنتي بيروت ارتسمت الجنوب، ُ شفتين كأنهما األمل الذي أعاد الروح إلى «حنظلة» المسكين .سألني «غسان كنفاني» َّ مر من هنا ،حمل أوراقه الشهيدُ . فقلت له ،منذ وقت َّ عن َّ إلى القبر .لم يطق أن يرانا في الوطن المعتقل ،فاشتعل بضوئنا ..ورحل! * * *
لم نكن وحدنا هناك .كانت عشيرة من المث َّقفين والفالَّحين .من الذين يفلحون األرض بالقصائد والمحاريث .الذين من شمسهم تولد األشجار وتولد األحجار! 76
لم نكن وحدنا هناك .كان معنا «الوقت» كله ،الشمس وال ِّطين والطحين ،والتِّين والزيتون والبرتقال .وكان معنا الزعتر واألغنية الشهيد .كان معنا َّ المشتهاة عند الفجر قبل صباح َّ قصة الشهيد يحكي َّ السقوط العظيم على األرض العظيمة .كانت معنا الدماء الحمراء ُّ وعصير الدالية .كانت معنا األزقة القديمة ودجاجات الختيارة وجروتها البيضاء .كانت معنا «نورا» طفلة الرابعة التي تحفظ القرآن الكريم وتحفظ النشيد وتعد إلى العشرة .و ُكنَّا كما نحن في المعتقل، نبني األحالم ونهدمها كما فتيان اللعب على رمل شواطئ «غزة» وغابات «الجليل» ..ولم نكن أبدً ا بال شمس في فلسطين..؟!! * * *
أفقت من النَّوم على صوت أطفال المدارس .كان صباح بيروت ُ الح ُلم بين يدي ومنهكًا ،وكأنها ذات الوجه الذي كان معي في ُ بار ًدا َ مرة ُّ والشوق في عينيه ،كأنها ناجي العلي .فتذك ُ َرت متى تركها آخر َّ كانت طفلته التي و َّدعته وحيدً ا ،وكان يخاف عليها من الليل وحيدة. وكان معظم األصدقاء الذين غادروا بيروت في تلك الليلة ،وقعوا في أسر ذكرياتها .فكأن السفر أو التهجير في الليل ،حالة استثنائية تصيب الفلسطينيين .وبقدر األلم الذي تتركه الذكرى األليمة في المكان ،يكون الحنين إلى المكان هو ُمنتج هذا الفن الذي استوعب الحالة واستوعب المكان .وكأنني أرى في رواية رشاد أبو شاور «بيروت ..يا بيروت» تلك الصرخة الفلسطينية وذلك االحتجاج على التهجير الفلسطيني عن األرض التي كادت تمتد إلى «القدس» عبر منافذ الروح التي علت جبال 77
لبنان .فكان رشاد مثل بقية األصدقاء من المث َّقفين الفلسطينيين ،ضحية تعرضت له المقاومة الفلسطينية في العام .82 اإلبعاد القسري الذي َّ وبالرغم من حالة االستقرار المعنوي الذي وجدتهم عليه في «تونس» بعد ثماني سنوات عن تلك «الهجرة الجماعية» ظ َّلت بيروت في أحالمهم كأنها الشمس التي كانت تشرق لتغيب في تونس ..مالذ الليل الفلسطيني الغريب .حتى أننا من حاجتنا لتلك الجلسات الفلسطينية اللبنانية ،أشعلنا روح ذلك الطقس في إحدى الليالي الجميالت في البيت التونسي الكبير .وبافتراقنا الجديد ،المؤبد ،عاد بعضهم إلى وهم الدولة بعد أوسلو ومدريد ،ال ليجدوا فلسطين في أزقة الطفولة «غسان زقطان» ولكن ليجدوا المكان تبكيه الذكريات على كما اشتهى َّ الباب العتيق ،والبكاء على السنين يفتح َّ الشق في الجدار بسقوط الوهم غسان في مج َّلة الشعراء الذي داهم ُ الح ُلم بال سبيل .فتناثرت أزهار َّ الشباب كما تناثرت أزهار «محمود درويش» في «الكرمل» الجديدة أمام القصف اإلسرائيلي على قصائد السالم .فكم كانت قصائد العودة كثيرة ،لكن الزمن الذي أخذ الوقت عن باحة المكان ،كان يد ِّبر الهالك األكيد للذاكرة الفلسطينية .فالهجرة الجديدة غير الممكنة ،تعني موت الذاكرة .والبقاء بين أطالل بيت الثقافة ،يعني أن القصيدة األخيرة باتت تكتمل .وهنا ربما كانت «رام الله» بيت الرئيس وبيت الشهيد، هي بيت القصيدة التي من عنادها تربض أمام المدفع كل صباح ،في انتظار القذيفة األخيرة..؟! * * * 78
كيف ي ِ الشعر الذي هناكِّ . مكن إذن أن نجمع ِّ الشعر الذي لم يقرأه ُ علينا أحد في المعتقلِّ . ويتحول إلى زهرات الشعر الذي يخنقه الدم َّ أقحوانِّ . الشعر الذي يتن َّفس كدخان بركان..؟! أحرارا من المعتقل؟! ..أم أن الحرية هل ينفجر فينا قري ًبا ،لنخرج ً المسج َّية معنا بين الجدران الرطبة ،في السجون العربية ..أصبحت ً طويل؟! شمسها مطفأة ،وصار ليل العرب
كيف لنا إذن بشمس يتفتَّح فيها األقحوان ،وتغدو الحرية التي معنا في المعتقل ،تشرق في فضاء الوطن بقصائد ِ وتحرر تهدم المعتقل، ِّ السجناء في يوم الثورة الكُبرى؟!! ُّ
2003/1/24
79
كيف احترقت قبر�ص عند الرحيل الثاني..؟! كانت عودتي الشريفة إلى ليبيا في أيلول /سبتمبر الماضي، أيضا انتصار على موضوعة انتصارا للذات على بالدة المكان .وهي ً ً المتعمد على تعميق البالدة .فالمكان «البديل» «المؤسسة» وإصرارها َّ بظرفه االستثنائي لمهام مؤسسة افترضنا وجودها في مسألة جدِّ ية الحوار مع اآلخر ،كان معن ًيا بأهمية دور المث َّقف وعالقته بالمكان، دون غيره من التابعين القافزين على مسألة الحوار من األساس. وبتدهور أحوال «المؤسسة» بين طائع ومطيع في جغرافيات الحوار ـ الحق المكتسب للمث َّقف ـ صار المكان أشبه باألسر الذي تموت المدرك لخطورة المسألة .ومن هنا كانت فيه طموحات المث َّقف ُ قبرص «الثانية» مح َّطة باردة في حياتي المهنية ،فأخذت من وقتي ما يجعلني أكتب في أي مكان آخر عشرات الروايات والكُتب الثقافية والسياسية .بمعنى أنها كانت مضيعة لوقتي الثمين الذي كان ينتظر وأدركت عند عودتي «الشريفة» على باب «مؤسسة» خانت األمانة. ُ 81
إنه على باب تلك المؤسسة العقيمة ،كان ال بدَّ أن ينتصر المث َّقف، وأن تنهار المؤسسة في محيط مبناها!
فعندما اختارت «المؤسسة» فسخ ارتباطها بالثقافي ،كمتن للمشروع الحضاري الموكل إليها ،زادت من تعميق أزمتها في عالقتها باآلخر وبمشروع التنوير من أساسه ،والذي كان ينتهجه هذا المث َّقف ـ طبيع ًيا ـ خارج أسوار المؤسسة .فكان من األجدى على هذه المؤسسة أن تتخ َّلص من عقدتها الدونية «الخاسرة» وتتحالف مع المث َّقف على مشروعه من داخل مشروعها ،باعتبار أن ال خالف على المعنى في المكان .لكن بعداء المؤسسة لعقل المث َّقف ،خسرت المؤسسة معنى وجودها في المكان ،وعاد المث َّقف إلى موقعه بهدوء ،ليرى سقوط السقوط ،ال يساوي دخان سيجارة المؤسسة في الغبار .وكان غبار ُّ واحدة يأخذها المث َّقف بارتياح ،وقد أدار ظهره لحجم الدمار ،وحجم ترح ًما الخسارة الفادحة في التاريخ .وعليه ،اآلن ،أن يرفع رأسه عال ًياُّ ، على المزيد من الخسائر! * * *
كنت أكتب من هنا ،من مدينة البيضاء قبل إقامتي «الثانية» في قبرصُ ، بالجبل األخضر ،في كبريات الصحف والمجالت العربية التي تصدر في أوروبا .ولم تنقطع عنّي اتصاالت أهم ال ُكتَّاب والصحفيين العاملين أقمت فيها خالل الحرب اللبنانية، فيها .وكانت قبرص «األولى» التي ُ محطتنا األكيدة ،وفضاؤنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات صحافة المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية، 82
ِ المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء خاطبت بوعيها التنويري عقل صحافة مؤسسات النظام التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك المرحلة المهمة في تاريخ النضال العربي ،وسقطت أمام األعداد األولى لصحف َّ ومجالت السؤال العربي .فكان المكان «القبرصي» بمعناه االستثنائي في ذلك الزمن ،هو العالمة الفارقة في حياتنا الثقافية والصحافية. ومع نهاية تلك الحرب ،تضاءلت ظاللنا في الجزيرة المتوسطية، لتنتهي أدوارنا فيها وقد عاد لبنان إلى أهله ،وعاد بعضنا إلى التعب من جديد في كساد األمكنة .تارة نعيب على تلك المرحلة التي منحتنا الكثير من الثقة في قدراتنا على تأكيد السؤال ،وخسرنا ضمان وجودنا في المستقبل .وتارة نعيب على المحنة العربية الراهنة التي قادتنا إلى ذات السؤال ،وكنا فقدنا منارة القلعة هناك دون ضمان العودة ..والتارة األكيدة هي ما تبقى لنا من حنين إلى تلك السنين التي أمضيناها م ًعا، مدججة بمعرفة األزمة ومحيطها السياسي والثقافي .نكتب ككتيبة حرب َّ تحت شعالت القصف الليلي الذي كاد يتراءى لنا من شرفتنا العالية في «ليماسول» وكأننا هناك ،في بيروت ،بين األصدقاء ،نحتمي بجدار المقهى التي خلت من مثقفيها في مساءات القصف الطويل .ونستقبل المهرب في البريد .وعلى رصيف الميناء، في صباح اليوم التالي ،الفزع َّ نستقبل الوجوه القادمة من طواحين الحرب إلى مالذ الوجع العربي، للعيش في الجزيرة بكل تلك الثقة على إثبات الوجود الستعادة المكان. وكبرت قبرص في عيوننا حين كانت الوجوه بقربنا تدعم صمودنا في الحر ،في الوقت العصيب ..وقلعتنا الصحفية الكبيرة تطلق سهام القلم ُ كبد الحقيقة الغائبة ـ المغ َّيبة ـ في كل مكان من العالم! 83
لقد انتصرت َّ «الذات» في ذلك اللقاء اإلعالمي الذي جاء عفو ًيا، وكان س َّبا ًقا إلى الفعل ،في زمن امتلكناه كيفما نريد لوقف الحرب الخاسرة بين األشقاء ،ودعم صمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية ِ المحترقة على ـ في وجه االجتياح اإلسرائيلي الذي سقط بأعالمه مهمتنا بنهاية الحرب ،وكأننا كنا هناك ـ جنود جسر َّ األولي ـ وانتهت َّ االرتباط العربي ـ على الجبهة الجنوبية من الجزيرة .نتل َّقى األخبار بالوسائل الصعبة ،ونكتب عن محنتنا في الصور القادمة المغطاة بالدم ،ونبكي استشهاد (كمال ناصر) الذي أفرغ «باراك» في فمه كل رصاص مسدسه ،إسكاتًا لصوت الشاعر المناضل .ونبكي خروج المقاومة الفلسطينية وجراح «حنظلة» في يد ناجي العلي!
كنا على رصيف التعب في ليل «ليماسول» نرى مصابيح بيروت تقترب من افتتاحية الصباح المهداة للعقل العربي .وكأننا مع خيوط الفجر األولى ،ننهض على صوت النوارس وهي تعبر سماء الجزيرة، تأخذ األحالم واألشواق ..تتهادى في البياض وتأخذ مداها إلى بيروت! * * *
ً اتصال من أحد األصدقاء في لندن .كان منذ يومين فقط ،تل َّقيت الحديث يعيد ذلك الفضاء المفقود ،والذاكرة بيننا تجهش بتلك الصور واألصوات التي كانت هناك في نيقوسيا وليماسول ،وكأنها للتو ،في دقائق االشتياق ،إلى ذات المكان اآلن هنا ..وكأننا عدنا ِّ في قبرص السبعينيات والثمانينيات .سألته عن لندن .فقال لي باردة 84
فقلت له دافئ بناسه بناسها وأحوالها .فسألني عن «الجبل األخضر» ُ عدت من قبرص، والربيع هذا العام يأخذ العقل .ولم يسألني متى ُ حلمت بتحقيقها هناك ،وماتت هناك. وال عن مشاريعي الثقافية التي ُ عدت وردت قبرص فقط حين سألني عن صحة ابني «زياد» الذي ُ مريضا بعد أن بخلت عليه المؤسسة بمهلة صغيرة به من قبرص ً الستكمال العالج ..وانتهى اللقاء بأن ح َّياني على عودتي للكتابة والنشر في صحافة المهجر ،وع َّلق ً قائل :ذكَّرتني كتاباتك األخيرة عن أحداث فلسطين ،بتلك الكتابات عن أحداث لبنان .وسألني بحرقة :ولكن يا صديقي ،هل حان وقت الكالم..؟! ُ
الحرقة التي خرجت من صدر الصديق الذي كان يلقي بمرارة تلك ُ كبده في مياه المتوسط أثناء مجزرة (صبرا وشاتيال) ..وخفت عليه الحرقة التي كانت في صدري يوم من الموت بين ذراعي ،هي ذاتها ُ ّ وعدت أنا إلى ليبيا .وليفترق بقية األصدقاء افترقنا .سافر هو إلى لندن، ُ عن مصدر اللهب الذي كان هناك و ُكنَّا نتوهج معه .وهاهي األحداث في فلسطين تفقد القلعة اإلعالمية في قبرص ،ليكون الفراغ الذي تركناه هناك ،بمساحة الوجع الذي نناله هنا .وقد كان «وقت الكالم» رهين تلك الحالة الغائبة عن معتركها الطبيعي ،الحتواء أزمة من هذا النوع ،كادت قبرص أن تراهن عليها من جديد ،بظهور صحافة حقيقية تجاور حقيقة المأساة ،وتُكشف عن حقيقة النظام الرسمي العربي بصوت الجماهير. لكن «الذات» التي بدأنا بها ،والتي غادرت بالدة المحيط اآلسر 85
في قبرص «الثانية» هي الذات المولعة بطقسها القديم ،وقد تألقت الحرة على سبيل أيام كانت قبرص هي المكان والضرورة .فاإلقامة ُ المحصلة الطبيعية لقوة «الذات» على إثبات الحرة ،هي ِّ التجربة ُ موهبتها ووجودها الثقافي .أما اإلقامة الجبرية على سبيل المهنة محصلة الخواء التي الصغيرة ،في محيط المؤسسة الصغيرة ،فإنها ِّ تقوض حرية المث َّقف وتحرمه َّ لذة االنتصار إلثبات الوجود .وتلك ِّ كانت إرادة «المؤسسة» الخائبة ـ الغائبة عن الوعي في حضور الشروط الموضوعية للمث َّقف الشاهد على ضحالة ـ األصلع واألبرص ـ في مؤسسة االنتماء المز َّيف!
التصور ،أن ي ْع َمد األشباه على لذلك كانت المحنة تفوق حدَّ ُّ اإلطاحة بنور األلق في البالد ،ويغيبون عن جوهر السؤال المطروح بين األمم .ذلك السؤال الذي قاد األعداء ذات مرة إلى الديار في المحاولة اليائسة ،وقاد األعداء هذه المرة إلى ضرب الديار في وحرجا في صوت المث َّقف المحاولة األكيدة .وك َّلما كان السؤال قو ًيا ً كبيرا على ـ مؤسسة صماء ،ال تسمع ـ كان الخطر ً الثوري ـ واألذن َّ الوجود ـ من األساس؟! 2002 / 5 / 3
86
�أميركا والرجل ال�سوريالي
وجه مثل الحليب يسافر في الرحلة األخيرة!
اعتقدناها باب السينما عندما كانت األدوار تُمنح بالمجان لغير النجوم والنجمات الذين خرجوا من ملهى «هوليوود» بال شارة على الصدر .خرجوا يضحكون وقد انتهت أدوارهم العالمية بأوسكارات تراجعت نخبتها في قاعة «شراين أوديتوريوم» بلوس أنجلوس، ليحملهم القطار الذهبي الن َّفاث إلى حلبة الضوء الباهر في «نيويورك» عيني تمثال ومشاهدة العالمة الليزرية العمالقة التي ستنطلق من ِّ الحرية في سماء الكون ،ويشاهدها سكَّان العالم أينما كانوا. عيني حاملة مشعل الحرية ،هي تلك العالمة التي لن تنطفئ في ِّ المجسم الضوئي لشعار «النظام العالمي الجديد» الذي ستشهره َّ أميركا للعالم خالل الفترة القليلة القادمة ،وتحديدً ا عندما تنتهي من خصومها ،وتطيح بكل المدارات المانعة في العالم ،من أنظمة عنيدة، وديانات عنيدة ،وثقافات يائسة ومتفائلة .حينها تضيء تلك العينان 87
ٍ مدينة كا َبرت الصامتتان أمام مشعل أطفأته األحداث األخيرة في سماء كثيرا في غرورها ،وسقطت في الرحلة التاريخية لطائرات 11سبتمبر! ً * * *
بين مشهد سقوط البرج الشاهق الذي أطاح بفكرة الرأسمالية، ومشهد اجتياح الضوء لسماء الكون في ليلة «زفاف نيويورك» تكمن القدرة األميركية الفائقة على تغيير العالم .والعالم إذ يتغ َّير بقوة (اإلعالم األميركي) الذي استوعب الحالة األميركية في األزمة ،وكان س َّبا ًقا تفوقت حتى على أفكار ُصنَّاع القرار في إلى احتوائها بقدرات سياسية َّ مسالما لقوة اإلرادة األميركية الواليات المتحدة ،يستحق أن يكون تاب ًعا ً التي صنعت «العولمة» وب َّثت بريقها في ليلة النجوم العالمية ..ليكون األوسكار األوحد من استحقاق صانع هذا الحلم األميركي! * * *
أمام هذا العنفوان للمشهد الساحر في ليل نيويورك ،ماذا عسانا أن نفعل في «منطقة الحرب» التي أطفأت أنوارها على ساحة «الجندي المجهول» البائسة في الظالم بين فضالت الجيش وعواء الكالب. وأمهات طيبات حزينات مازلن يخطن الثياب في الديار المهجورة، لشهداء عبروا المكان على صوت نشيد المعارك ،وسقطوا في رجفة فالحكَّام الذين القلب األخيرة قبل الفوز بابتسامة تفاؤل بالمستقبلُ . يغادروننا إلى مزادات «نيويورك» العالمية الستيراد ثمار العولمة ،قد يستضيفون قتلة الشهداء ،واالحتفاء بهم في ساحة الشهداء ،والمرور بهم على مقابر الشهداء .وقد تتز َّين «كلوديا شيفر» وترتدي وشاح 88
الفلسطينيات ُأمهات الشهداء .وقد يصبح ال َع َلم الفلسطيني الذي كان منصة االحتفال بطي صفحة الكفن والعهد في سنوات المقاومة ،غطاء َّ الماضي ،والتذكير بالدرس المستفاد الذي خسرت فيه فلسطين «نصف ٍ قرن» من نضال انتهى على مائدة عشاء؟! * * *
..لم يكن بيننا هذا التعدِّ ي عندما أمضينا نصف العمر في دائرة السؤال.
كم بكينا وكم كذبنا على حالنا عندما ضحكنا بال سبب .وعندما التفتنا رأينا الوجوه التي سبقتنا إلى الوراء ..وجوه كبرت في الذاكرة.. كثيرا سؤالنا عنها ،وتالشت؟!! ْ انتظرت ً
لم نستأذن وقارها في تاريخها الشعبي .ولم نستأذن حيطانها َّ الهشة المترامية األطراف التي آوتنا قبيل المغيب ،قبل اشتعال الحكايات في الظالم العربي..
ألهذا الحدّ أهملناها تلك الوجوه ،وتهنا عنها في سبيل اللعب في حضارة مخيفة استوردناها عن جهل منَّا بخباياها ومداخلها ومتاهات صاالت قمارها السياسي والثقافي ،والحضاري.
ت فينا الموسيقى الصاخبة أول الليل في أول الخريف، َع َل ْ فلم نسمع بحمحمات الحصان المجروح أسفل الرخام! كيف كان لنا أن نصدِّ ق ذلك إذا كانت كل الخيول قد قفزت من الذاكرة ولحقت بأصحابها في التاريخ! 89
كانت الحمحمات في المساء بعيدة عنَّا .وتلك الوجوه بعيدة عنَّا. ونحن هنا في مدينة الضوء ،نجتاز الدَ َرج العالي إلى النافورة العالية، تتقمص شهرزاد حيث تجلس امرأة بالستيكية من ُصنع األمريكانَّ ، الذاكرة في ليلة مزدانة بنجوم الليزر .وعلى الطرف اآلخر من المدينة، فوق المنارة ،يبكي شهريار تحت َع َلم بارجة اإلمبراطور ،الراسية في مياه البحر المتوسط! * * *
لم نكن على ِع ْل ٍم بمقتلنا ساعة أخذونا من غواياتنا البريئة وأشعلوا المتوهجة في سماء المدينة ،كأنها الكرنفال في عيوننا تلك العناقيد ِّ األخير الذي يمضي بنا إلى النوم األخير.
أبهرتنا لحظة الموت االصطناعي ،حتى أننا من خوفنا ارتجلنا الضحك وهوينا إلى األرض نلملم ما تناثر من تلك السعادة البدائية. ومضينا ..بال قلب مضينا في الزمن اإللكتروني ..وأمضينا الوقت في مشهد جديد يأخذ نصف األرض إلى السماء ،ليأتي الكمبيوتر بأشجار اللوز للنصف المشطور .ولتغنِّي الغجريات االلكترونيات على شواطئ بال أمواج كانت لمراكب صيد بدائية هلكتْها الطمأنينة، تغنِّي قبل كل فجر ألزمان غابت عنها الصباحات!
* * * الحكْمة ،وشيخ ِ طال االنتظار على باب ِ الحكْمة مات قبل أن يتلو بسر علينا سيرة العطش الذي قادنا إلى الهالك .مات دون أن يبوح لنا ِّ 90
هذا الزمن الذي قفز ـ هكذا فجأة ـ على المدينة الرمادية الشاحبة، ليحرس األطفال بألعاب «البوكيمون» في الغابة السحرية ،وليمضي إلى شرفة ارتفعت من دهشتنا عندما عبرنا نهر السمك األحمر بزوارق بال صوت إلى آخر النهر ،لمشاهدة الحوت المضيء بين الزوارق البيضاء وهو يسحب بارجة اإلمبراطور إلى البحر المتوسط! * * *
طال االنتظار على باب ِ المتوهجات من حلبة الحكْمة ،لتختفي النساء ِّ ويدو صوت الرجال على الرمل ،وليعلو ماء البحر على قوافل الغجرِّ ، االنفجار في المنارة العالية قرب الميناء ،وتسقط كل الطيور .ويسقط السالم في نار بال دخان .ال شاهد عليها غير هذا الذي أخذته الغيبوبة إلى آخر الزمن ،ومات صامتًا وطاعنًا في الصمت .طاعنًا في هدوء البحر وهدوء السماء ..وفي الجمال المز َّيف ألرض صغيرة تو َّقفت عن ولكوة الدوران ساعة ُدخنا ،وساعة فتحنا النوافذ للهواء االصطناعي، َّ الليزر الملتهبة كمنتصف شهر أغسطس ،تسطع على المدينة بال ظالل مرة في الضاحية الشرقية ،على أشجار بال فيافي، كما سطعت هناك ذات َّ وعلى ماشية من إبل وماعز صارت بال مأوى تلوذ في الخالء ..كما لتوهم من الكمبيوتر سطعت على رجال بيض بلون الحليب ،خرجوا ِّ وركبوا الباص اإللكتروني الطائر في رحلة قصيرة حول األرض ..في رحلة طويلة إلى نهاية العالم ،بدأت منذ وقت قصير ،مع ظهور المالمح الطاغية للبطل اإللكتروني الحالم بال قلب!.. * * * 91
كان موعدنا مع الحصاد وشيكًا .وكانت أمهاتنا في غفوة القيلولة، الريف. يحلمن باحتواء السنابل إلى صدورهن المع َّفرة برائحة ِّ والرغيف الساخن في فرح الصبية عند بئر الماء ،يفوح برائحة األرض. تلك األرض التي تو َّقفت عن الدوران ،ساعة حضرت النعال المهاجرة الحلم في الطريق .تُكنس الجرافات ،تُكنس ُ كأنها القرود ،تقود أزيز َّ السنابل واألحالم ..تُكنس الظل عن المكان ..وتُكنس األرض التي كانت تدور ..وتو َّقفت عن الدوران؟!! 2002/8/9
92
ليل القاهرة
كيف ينام القلم على سريره األبيض؟! قلت لصديق صحافي في مصر ،دعاني ذات ليلة إلى العشاء في ُ بيته :أنا ال أفهم في أمور الطب بعمومه ،ال البشري وال الحيواني. حس وكأنني أقوم بعملية أي كتابةُ ،أ ُّ لكن عندما ُأقبل على الكتابةِّ ، جراحية بالغة الخطورة ..إلى أن تُك َّلل العملية بالنجاح .فهل يفرح دائما بنجاحات عملياتهم ،أم ُهم مثلي يحاولون نسيانها من األطباء ً ونجاحا؟! أجل عمليات ُأخرى أكثر توفي ًقا ً
قال :أنا اآلن عكسك تما ًما .الكتابة عندي صارت ممارسة عادية جدً ا .مثلها مثل المشاوير اليومية من البيت إلى الجريدة .بل أقل منها كثيرا ،وأالَّ أبذل جهدً ا مضاع ًفا عنا ًء .عمل الصحافة ع َّلمني أالَّ أتعب ً في عمل هو ليس باإلبداعي ـ اإلبداعي .القصة عندي انتهت منذ طت في مهنة الصحافة .الصحافة تأخذ لغتك ك ُّلها في البداية ،وال تور ُ َّ تترك لك منها سوى «بضع شطحات» ..مدخل لقصيدة حديثة ً مثل ،أو نسيت من زمان تلك العمليات الصعبة. تعليق على حدث ثقافي .لقد ُ 93
فقلت :لكن العالقة يا صديقي قائمة ،وبذات األدوات .ال يمكن ُ الفصل بين قيمة جهدين ،الشغل اإلبداعي والشغل الصحافي .الكتابة دائما بما حولك ،وبمزاجك في التقاط عمو ًما مجهود ذهني يتأثر ً أي كتابة هي «حرق أعصاب» .ال ت ُقل الموضوع وتناوله .أنا أعتبر َّ لي أن هناك كتابة سهلة وغير ذات جهد!
قليل ثم غادرني وعاد بعد لحظات ً ضحك ً قائل :حسنًا ،ما رأيك في هذا الكتاب؟ ..وبرهن لي بكتاب سهل وبسيط ورائق ،صدر مؤخرا عن إحدى دور النشر العربية الكبيرة .كتاب بغالف أنيق، ً بأي نوع وطباعة أنيقة ،ومحتوى ال عالقة له بالعنوان ،وال عالقة له ِّ من أنواع الكتابة ،حتى الكتابة العمومية .كتاب هلوسات رديئة جدً ا.. لكن ميزته يا صاحبي أنه صدر عن دار نشر مشرقة ،ولم يشرق في عيني أحد! ِّ * * *
َّ كثيرا بأن يكتب عن مثل هذه السخافات كثيرا ،وتو َّعد ً دخن صديقي ً التي أساءت للثقافة العربية .فذكَّرته بوعود وأماني المؤسسات والهيئات الثقافية العربية ،وقرارات المث َّقفين في ملتقياتهم الثقافية هنا وهناك ،وقرارات مؤتمرات األدباء وال ُكتَّاب العرب على مدى مؤتمرا ..وهكذا دواليك .إذن المشكلة ليست في أكثر من عشرين ً كتاب صديقنا العزيز هذا ،وال في دار النشر ،وال في لقاءات المث َّقفين أي مكان .المشكلة في أننا كعرب ،ك َّلما اجتمعنا حول العرب في ِّ قضية ،خسرناها .وعليك أن تالحظ بد ّقة حجم الخسائر التي لحقت 94
بنا وبأمتنا العربية من وراء سائر مؤتمراتنا واجتماعاتنا ،الثقافية أو قلت لصديقي ـ أن تكتب ً كثيرا السياسية .لذلك ـ ُ قليل ،وتستمتع ً ُنت مثلك ،لكان أهم كُتبي على اإلطالق هو بليالي القاهرة .أنا لو ك ُ «ليالي القاهرة» ..أكتب في النهار ،وأمضي الليل بين ضفاف الدنيا واألحوال الرائعة! أجمل مادة للنشر هي التي تمدَّ ك بها «مدينتك» .أما المؤتمرات والمهرجانات الثقافية وجوائز الدولة التقديرية واإلرتشائية ..فك ُّلها ال تتعدَّ ى كونها حفالت تعارف في لقاءات فضائح!
رصيدنا الوحيد ،أن نكون قريبين من الناس .وأن نكتب ما نراه نحن ،وليس ما يراه اآلخرون .وانتهت تلك الليلة الحوارية بأن أصر أن أوصلني إلى الفندق ونزل معي ليأخذ مادة صحافية ،كان َّ أكتبها له ووعدته بها قبل يومين. * * *
غادرت القاهرة ،وكان في ن ِّيتي الصباح ،عند الساعة التاسعة، ً في َّ أن أتصل به ،وأعتذر منه عن «مادتي الصحافية» فلع َّله قرأها ولم يجد ً صغيرا يتع َّلق هامشا نسيت أن أكتب عليها فيها شي ًئا .وألذكِّره بأنني ُ ً بتلك العمليات الصعبة التي نُجريها أثناء الكتابة.
لقد كانت المادة المكتوبة ال تعني أحدً ا ،بقدر ما كانت تعنيني أنا شخص ًيا .لقد كانت تتع َّلق بذاكرتي التي افتقدتها في مكان َّما من قطعت كل برامجي تلك الليلة ألكتب .لم أجد هذا العالم .فعندما ُ 95
أي موضوع ،غير خسارتي الكبيرة لليل القاهرة ،الذي كان في رأسي ِّ مسودة مرارا من خالل شرفة الفندق .فت ُ ّشت في حقيبتي عن َّ يدعوني ً مقال ،فلم أجد غير بعض الرسائل وعناوين األصدقاء وعناوين بعض عدت بها الكُتب .وال شيء كان في رأسي غير تلك ال ُفتاتات التي ُ كنت في حاجة لرؤية من قبرص .وال شيء كان يدعوني إلى الكتابةُ . الش ّلة في مقهى «ريش» أو «زهرة البستان» أو في «استيالَّ» أو المرور على «اإلتيليه» لرؤية بعض األصدقاء هناك واالستمتاع بالحوار مع العسال» أو النزوح في الشوارع الح َّية ُأختنا الطيبة الكاتبة «فتحية َّ والجلوس في أحد المقاهي الشعبية بين الناس والنكتة الطائرة ،أو على «الكورنيش» بين همسات ال ُع َّشاق ومواشير المراكب النيلية!
ورطني فيها كل شيء جائز وممتع ،عدا فكرة الكتابة هذه ،التي َّ اعتدت أن تدعوني الكتابة إليها ،فأجد نفسي رائ ًعا أحيانًا صديقي .لقد ُ وأنا ُأنجز ُقبالتي عليها ،ثم أشكرها على الدعوة الكريمة بتوقيعي. جو ال يليق باغتصاب االحتماالت ،فهذا لكن أن ُأطارد فكرة َّما في ٍّ صعب ،صعب جدً ا! * * *
طلبت ألغيت فكرة النزول إلى المدينة. جرب. ُ ُ علي أن ُأ ِّ كان َّ ونظرت إلى ووضعت الورق والقلم، وفتحت ُعلبة سجائري، قهوة، ُ ُ ُ الساعة .كانت العاشرة تقري ًبا .جاءت القهوة بكلمات ُحلوة .ثم بعد ودخلت العاصفة .عواصف في قعر فت الساعة في الرأس ْ قليل تو َّق ْ أقفلت جميع َّ وفتحت شبابيك الشبابيك، الرأس لم أعرف مصدرها. ُ ُ 96
َّ الذاكرة على أية مرايا قد تلمع من هنا أو هناك .لكن العواصف لم تهدأ، وأشعلت عشرية من السجائر ..والوريقات هي فطلبت قهوة أخرى ُ ُ الوريقات ،بيضاء وناصعة البياض .والقلم بين أصابعي يرتعش ،ثم ينقر الوريقة األولى ،ويعتذر عن التسويد السيئ الذي مأل جنباتها من دون إرادة!
صارت الساعة تتقدَّ م في العمر .كانت في العاشرة ،ثم صارت في ليل ..وكانت األربع ساعات ُّ الثانية ً تطل من ُشرفة الفندق على ليل القاهرة الضوئي .مواشير المراكب تُعين األرصفة بذاكرتها ،وزحام والمارة ينتهي إلى استراحات في قلب المدينة الكبير .ومن الس َّيارات َّ األعلى ،طائرة تُغازل بهبوطها ليل القاهرة .ثم تندر الذاكرة ً قليل من كل شيء ،وتصير بمقدار أنملة .ال شيء يعوزني اآلن غير النَّوم.. وياليت الليل يطول في النَّوم!..
كثيرا في النَّوم .وتلك الوريقات سرير أحسست بأنني ُ ُ بكيت ً الصوت ،ونام قلمي العاري أبيض للقلمُ . نمت أنا على من ِّبهات َّ على سريره األبيض! * * *
الصباح أيقظتني القاهرة من أسر ليلة نادرة في حياتي .ليلة في َّ عاجزة عن فعل أيما شئ .ليلة خاسرة إالَّ من تعبي وكساد ذاكرتي. ليلة ،العقل فيها في مكان ،والقلب في مكان ..والرأس يعصف باالضطرابات والرؤى البعيدة .وكأنها متاهة العقل على ضفاف النِّيل. النِّيل الذي أخذ الليل من أسراره العجيبة ..يكتب أغنيات عاشقيه، 97
وأنا بعيد عن النِّيل بالتزام عسير أوقعني فيه صديقي القاهري ،الذي ارتوى منذ زمن بالليل والنِّيل ..يكتب اآلن كيفما يشاء ،في أي وقت، وعن أي شيء! * * *
كنت سأسرق من ليل القاهرة وقتًا للكتابة ال َق ْسرية، إذن ،كيف ُ الصباح .صديقي هو اآلخر كان في والدنيا تسهر في الدنيا حتى َّ كنت خارج الدنيا ،في سجن له ُشرفة ت ُّ ُطل الدنيا .أنا الوحيد فقط ُ حق َّ أيضا على النِّيل .لذلك كان من ِّ الذاكرة أن تهرب منِّي ..ولذلك ً فشلت في تغيير ليل القاهرة! ُ 1990/11/19
98
بيروت الم�ساء.. عندما كنا نخاف على بيروت ونكتب لها ،كنا نخاف منها .فبقدر الخوف عليها والكتابة لها بلغة العاشق الجميل .كان الخوف منها ،الخوف من المرأة الجميلة ساعة تغضب ،وساعة تتوحش وتفترس عاشقيها.
معظم المثقفين اللبنانيين الذين التقيتهم وعشت معهم في المهجر، قرأوا الفاتحة على السيدة الجميلة ،وأخذوا منها وردتها وطفلتها ولعبتها ،وأغرقوا حديقتها بذكريات الندى القديم على ليلها المضيء.
الملونة في قلب بيروت .ومقعده لقد كان لكل منهم صورته َّ المفضل على «الويمبي» أو «الكافي دي ميري». ّ
في شارع الحمرا ،وعندما أصابوا صاحبة الصور ومقاعدها، أرادوا أن يندلع الغبار في صباحها ،وأن يخيم الظالم الدامس على الشوارع التي شهدت عبور القصيدة في الليل ،وفراق أنثى الرواية على أرصفتها ..وغناء العائد إلى أبويه من الميناء ،ومن فرن السعادة، وملهى الفنانين الشباب. 99
لم يبق سواهم ،الذين حملوها معهم في الحلم الطويل ،وطافوا بوسادتها في العواصم المتفائلة ،ونصبوا صورتها في ضواحي لندن، ومرايا مقاهي باريس ،وفي حدائق الشمس العلنية في برشلونة وميامي ..وعلى رمال الرنكا وليماسول البدويتين على راحتيها أيام ترج القلب وتشرب من حبر مطابعها وعطورها. صباها ،وأيام كانت ّ * * *
كنت أقول ،هل سأرى بيروت مرة أخرى؟! مرارا ُ ً
وكان إن رأيتها في أغسطس 1992بآخر ذرات الغبار ،وقد كانت حمام الهنا. في طريقها إلى ّ
كثيرا لو أراهم جمي ًعا هنا في بيروت وقد حققت أولى ُ وددت ً ال ُقبالت على صخرة الروشة.
ً دت من الجبل انتظرتهم طويل على «الويمبي» ..وعندما ُع ُ وجدتهم بانتظاري .كل منهم ترك لي ورقة بالفندق ،وكلهم الذين تركوا لي وريقاتهم المعاتبة والذين اتصلوا بالتليفون ،ركضوا باتجاه الغبار في شارع الحمرا. كان «المقهى» هو رصيف تلك الذكريات التي ّفرقتنا وجمعتنا من جديد إلى قلب بيروت. * * * * ..آخرهم ،ولم يصل ،كان «بول شاوول» الذي و ّدعني في 100
نيقوسيا بسيجارة قبل سفري بساعتين ،وقال لي ّ «دخن لي كثيرا في بيروت» .وتذكرته عندما قال «إن أول سيجارة تشعلها ً في الصباح هي التي تضيء بها هذا العالم» .وقد حاول «بول» مرة العودة إلى بيروت ،وعندما نام فيها بضع ليالي بال حلم، قصفوا بيته فتركه ينهار أمام الذخيرة الح ّية ،وعاد إلى قبرص، إلى ذخيرته الح ّية ،وقد فقد الجسد الذي ّلوعه ملمسه.
* ..طالب العبد الله ير ِّمم بيته الذي لعبت فيه الحرب أكثر من أحالم آل العبد الله ..حسن ومحمد وعصام وعماد العبد الله.
* شاعران يصوغان في بيروت ،الوجع المستبد في الجنوب، ع ّباس بيضون وجودت فخر الدين ،غادرا بيروت قبل مجيئي بيومين ،وعادا من الجنوب بعد رحيلي بيومين .سألت عنهما تلك الطريق المتعرجة إلى صيدا ،والتي تراءت لنا من أعلى جبل لبنان ،وقد كان العجز يطفر أمامنا خالل دخان القذائف. عدنا وقد تركنا الجنوب للشاعرين.
* استقبلته بيروت بطريقتها ،القادم من باريس ،إبراهيم العريس. جمعتنا أيام «اليوم السابع» في باريس مع بيار أبي صعب وآخرين .والتقينا في القاهرة وافترقنا .وها ألتقيه في بيروت على ُغبار البيت الذي تركه منذ زمن ،وقد عاد إلى باريس ُّ يقص َّ ومعه حلم جديد بالعودة ذات يوم ينقشع فيه الغبار عن بيته وعن األماكن التي غ ّيرت أبوابها قبل مجيئه. * * * 101
السر وراء كل ذلك .كيف ألتقي جميع األصدقاء هكذا * ...ما ّ بال مواعيد؟!! هل بسبب األبراج المولودة في بيروت؟! أم أن دائما هكذا ،محطة مواعيد! بيروت ً
نصه ،يحيى جابر ،ال يغالط *.. المتمرد على كل شيء ،حتى على ّ ِّ نفسه حين يراك وحين ال يراك ..األمور لديه تبدأ وتنتهي ساعة يرى ذلك من دواعي قصيدة هاربة يطاردها بمقاالته المتواترة في «الناقد» .أما «البيوتيان» عماد العبد الله ويوسف ّبزي فإنهما يفارقان «الناقد» ً كثيرا ..من أجل قصة قليل ،و «الروضة» ً مبكرا. وقصيدة أخرتين في بيتهما تم العثور عليهما ً
* منقذنا جمي ًعا من السقوط في هاوية المشهد اليومي للغبار كان عبد األمير عبد الله ،وهو عبد األمير المرح ،الذي يشكل عالمة بارزة من بين المثقفين اللبنانيين المعروفين بالنكتة السريعة الطازجة والضحك المتواصل الذي يخفي قلق المدينة على أوالدها .حيرة عبد ألمير أنه يعيش دقائق ساعته اللبنانية كما ينبغي ،ويحاول أن ينقذ نفسه وينقذنا جمي ًعا من الوقوع بين عقارب ساعته .ط َب َق النكتة لديه بالصلصة اللبنانية يجعلك أسير الضحك في األماكن الفسيحة التي ارتدناها ،أو في كوخ «عمي أبو محمد» ملك المشويات الشعبية. * ..شاعران آخران ،يربيان قصائد ذات أجنحة ،إذ ال تنتهي واحدة حتى يطيران بها بعيدً ا .فمن «جرش» يدخل محمد علي شمس الدين قصائد أخرى في بيروت .ويستحم شوقي 102
بزيع ثالث أو أربع مرات في اليوم ليطيران كليهما ،واحد إلى القاهرة واآلخر إلى تونس ،وإيقاعات جرش باقية ومسافرة. أما أنا فعلى موعد قريب في القاهرة ريثما ينتهي المهرجان المشبوه ..ثم أعود إلى ليبيا. * * *
* ..ثالثون يو ًما في بيروت استعدّ ُت فيها تلك الذاكرة المفقودة لصخرة الروشة ،التي تفتح نوافذها كل مساء على تعبي، وأغادرها بالحياة وبلقاء األصدقاء.
* ..تليفون السيدة فيروز عطالن ،وزياد منذ وقت كان هنا. وماجدة الرومي نامت منذ وقت استعدا ًدا ألول أيام «بعبدا».. وموعد الطائرة إلى القاهرة يفصلني عنه إطاللة قصيرة على كوخ «عمي أبو محمد» وضحكته الموجوعة بصبر المثقفين في لبنان.
1993/4/28
103
حكاية رجل الفـُرات كثيرا!.. كثيرا ..ومات �سافر ً ً ..دعا كل األصدقاء ليفارقهم.
الصور ،وق َّلبها واحدة واحدة .الصورة الكبيرة والصورة أخرج ألبوم ُ الملونة والصورة العادية .ق َّبل فيها كل أفراد العائلة الصغيرة ،والصورة َّ وكل الحبيبات والصديقات والزميالت الالئى عاشرهن في نصف قرن. ً طويل معها كل صورة أدخلته إلى مشهد .كل ُصورة نطقت ..رحل وعاد إلى الصورة األخرى ليرحل .واحدة ُصوتها ٍ عال وواحدة هادئة مرتين وأغمض عينيه على ذكرى الفراق. وواحدة مريبة ..وواحدة ق َّبلها َّ دعا كل من عرف في حياته ،وفارقهم جمي ًعا .بعضهم َح َض َر، وبعضهم اعتذر ،وبعضهم أخبروه تليفون ًيا أنهم قاطعوه من زمان. كبارا وبعضهم لم يقبلوا الدعوة ألنهم ماتوا .وبعضهم حضروا ً ولم يفهموا شي ًئا من الذي يحدث أمامهم. * * * 105
رجل بكامل قواه العقلية بحسب شهادة المختار ،يقيم حفلة عالمية لكل الناس الذين عرفهم في طفولته وصباه ،وعرفهم في مراحل الدراسة والشباب .حتى الذين التقاهم صدفة وتذكَّرهم ،دعاهم إلى الحفل الكبير .حتى األجانب الذين التقاهم أثناء رحالته حول لتوهن العالم ،دعاهم .عجائز كثيرات حضرن إلى بيته وقد وصلن ِّ من الدينمارك والنرويج وهولنا ،ومن أثينا وروما ونيقوسيا وبرشلونة، ُك َّن يدرن حانات صغيرة في عواصمهن القديمة. مرة من وعجوز يوناني برجل خشبية دعاه ألنه ركب معه ذات َّ «بيريوس» إلى «رودس» في مركب صيد وأكل معه قطع الجبن المم َّلح مع النبيذ اليوناني الفاخر.
لم يغب أحد عن بيت الرجل الفقير الذي جمع كل ما عنده من نقود ليد ُعو كل من له عالقة بذاكرته .كلهم جمعهم في بيته العالي على النهر ،وفارقهم ..ليبكيه الجميع! * * *
..قبل رفع الستار عن حكاية الرجل الغامضَ ،ح َض َر الجميع الملحة .وحين رأوه في المنظر األول مصحوبين بحيرتهم للدعوة ّ يزيل الشيب عن شعر رأسه تارة ،ويزيل التجاعيد عن وجهه تارة أخرى ..ويعيدهما ..تذكَّروه .تذكَّروا الصبي والرجل الذي كان يرعبهم بالضحك .أعادوا معه نفس الضحكة العالية .كلهم ضحكوا.. كلهم ضحكوا وخرجوا من ذاكرته. * * * 106
سألهم باستغراب :من أنتم؟! ..فقالوا له :نحن من دعوتنا إليك منذ أيام .فقال والصمت يكتسح المكان :عودوا من حيث أتيتم.. أنا ال أعرفكم .ال أعرف أحدً ا فيكم ..أنا أعرف واحدً ا فقط ،هو أنا. أيضا ال تعرفكم .ال تعرف أحدً ا .نفسي أعرف نفسي ،ونفسي هي ً تعرفني أنا فقط .ه َّيا عودوا من حيث جئتم.
المشوش ،ولعنوا الدعوة القاتلة عندما تراجع الجميع عن القلب َّ انتزع من قلبه بقية ضحكة ..ومات! * * *
..كل صحافة العالم حكت قصة هذا الرجل الغريب .كلها تصدَّ رت أخباره بالرسوم المع ِّبرة .صحيفة واحدة فقط هي التي نشرت المدعوات، له صورة فوتوغرافية وهو يضحك ،التقطتها له إحدى َّ تعرف إليها بأحد متاحف اليونان منذ ثماني وهي صحفية فرنسية كان َّ ً جاهل مرة أن أرسطو كان سنوات وتذكَّرته جيدً ا عندما قال لها ذات َّ ألنه مات!! * * *
صحيفة أخرى ع َّلقت أن هذا الذي مات ـ لم تذكره باالسم ـ هو فيلسوف هذا القرن .عندما ينتهي هذا القرن ال بدَّ له أن يذكُر هذا الفيلسوف الذي جمع بقوة عقلية خارقة كل الذين التقاهم في حياته، حتى الذين التقاهم صدفة.
ويذكَر أن اسمه ُأ ِ مصحات األمراض النفسية في طلق على إحدى َّ ُ 107
بريطانيا ال ُعظمى بدعوة من هيئة األمم المتحدة ،وهذا وحده يعني أن ً صاحبنا كان ً وعاقل جدً ا. عاقل.. * * *
المدعوين كان قد سخر من دعوته عندما لم يجد مقعدً ا له أحد ِّ يجلس إليه بين الحضور ،ولم يذق كو ًبا من الماء البارد أو ملعقة من الشاي األخضر المنعنع .وقف وسط الجموع وقال بلهجة احتجاج :ما هذا؟ ..فقال أحد المارة يطلبه أن يأخذ يمينه أو يساره :هذا هو هذا .فر َّد عليه ً أتحرك من مكاني ،شئت أم أبيت ..وأضاف قائل :لن َّ اعتقدت أن صديقي هذا موج ًها خطابه للجميع : ُّ بعصبية ظاهرة ِّ فحضرت من هناك ،من أقصى الشمال، مليونيرا، «الكاتب» قد صار ُ ً وجدت ألقص له شعره على طريقة سفراء القرن الثامن عشر .لكني ُّ َّ هنا ،في هذه البالد ،جر ًذا محنَّ ًطا يضحك.. * * *
..لم يبق أحد ولم يعرف بالحكاية .تلك الحكاية التي أوقعت كثيرا كثيرا في الجاهلية .وكتبوا عنها ً الكثيرين في روايتها .كتبوا عنها ً في العصر الحديث .كلهم من بغداد ..وإلى بغداد عادوا؟! 2003/10/24
108
اجها�شة الذاكرة في رواية المدينة! تنتابني أحيانًا حاالت صداع غريبة ليست كتلك الحاالت
نصا أدب ًيا االعتيادية .وكانت عندما تجتاحني ،أعرف أن وراءها ًَّ سيظهر نتيجة ضغط ما ،أحتمله ظاهر ًيا دون أن أدرك وقتها مدى كبرت فجأة عشر سنوات تأثيره في أعماقي ،فأبدو شاح ًبا كأنني ُ
النص أخرى ..وبمجرد أن أجد نفسي في عزلتي طواعية أمام ذلك ّ الخفي وانتهي منه بانفعاالت السرد العفوي ،تتبدَّ ل أحوالي ،وأبدو للتو من حفر جبل! فرحا بعد ذلك كأنني تخ َّل ُ صت ّ ً * * *
َّرت كثيرا في السنوات األخيرة .وتذك ُ هذه الحالة صارت تالزمني ً رأ ًيا قاله ذات مرة «غابرييل غارسيا ماركيز» مفاده أن نضج الكاتب
شارفت على الخمسين الحقيقي يبدأ بعد األربعين ،وبما أنني قد ُ
دون أن أدري ،فإن رأي ماركيز فيه خطأ ما ،أو أن ذاتي كانت بطيئة اإلدراك بهذه الخاصية اإلبداعية فلم تدركها إالَّ ِّ متأخ ًرا .أو أن هناك 109
خطأ ما في عمري لم تفصح عنه العائلة بسبب هجرتها المبكِّرة من قرية «عين مارة» بالجبل األخضر إلى «طبرق» ووالدتي في بنغازي بعد تلك الهجرة ،ووفاة والدي وأنا في المهد بين ذراعي أمي التي كان يشغلها مصيري وهي غريبة في المدينة التي أوت جوعنا ..إلى عيني عليه ألعيش بعد ذلك مع تزوجت من الرجل الذي فت ُ أن َّ َّحت َّ إخوتي من أمي ،نتقاسم الضحكة وكسرة الخبز في بيتنا العتيق تحت سماء تمطر. قد تكون هذه خصوصية َّ للذات التي ارتبطت بالمكان وباسم «زنقي الجنجان» الذي اقترن اسمه باسمي في بدايات حياتي األدبية والصحفية في مطلع السبعينيات حتى منتصفها تقري ًبا .فكان العطاء يكف بصره ر َّد وفاء تلقائي للرجل الذي منحني ظله وكان ـ قبل أن َّ ـ من بين ألمع الشخصيات الشعبية المعروفة في بنغازي.
لذلك كان عمري الحقيقي من عمر أول خاطرة أدبية نشرتها باسم الرجل الذي كان يترجم صوت البحر الهادر جهة « توريللي « أعرق تركت مدرستها في المرحلة االبتدائية أحياء بنغازي القديمة ،والتي ُ وخرجت من أزقتها الض ِّيقة إلى تلك الشوارع الكبيرة بح ًثا عن لقمة ُ دراجة قديمة ،ثم أجد نفسي بين العيشَّ ، أتجول ببضاعة رديئة على َّ المحمصات أمام سينما «االستقالل». الصبيان أبيع َّ
دائما في المدينة التي كانت تقتاتني في النهار كانت تجارتي رديئة ً فشلت في تحقيق السعادة طريحا بال أحالم .لذلك وترمي بي في الليل ُ ً ألمي ور ِّد الجميل للرجل الذي خارت قواه في البحث عن لقمة 110
فقدت دراستي لمواجهة الفقر ،فإنني لم أفقد كنت قد ُ العيش .وإذا ُ ثقة الرجل العتيد في مواجهة ظروف الحياة القاسية في ذلك الزمن. * * *
ذلك الفشل الذي عشته في الستينيات كان السبب في نشوب أول صداع ينتهي إلى التعبير .حتى صار الصداع حالة مزمنة و ُمنتِجة للكثير من الخواطر التي أهملتُها في تلك الفترة ،وصارت ممكنة للبوح مع بداية السبعينيات.
بعد ثالثة عقود من الكتابة والنشر المستمر في الصحافة المحلية والعربية والدولية ،ومن إنتاج أكثر من عشرة كُتب في القصة والرواية والنقد والمقالة ،وأكثر من خمسة مخطوطات مازالت تنتظر النشر، مضطرا لمصاحبة هذا النّوع من الصداع الذي عاد يالزمني أجد نفسي ً كثيرا هذه األيام ،فأمتنع عن البوح بذاتي الموجعة ،وانشغل عنها ً بكتابات صحفية ع َّلها تكون وسيلة خالص من الصداع .لكنها لم تخ ِّفف عنَّي بل زادت من أوجاعي وجعلت من الصداع حالة مالزمة َّ للذات التي انشطرت إلى ما هو أعنف خارج الوطن .والكتابة على هذا الذاتي الشخصي َّ النحو من االنشطار بين الوجع َّ والذاتي اإلنساني،
صارت تضاعف من شقائي وتجعلني أسير رؤية خالص من هذا االضطهاد؟! * * *
خسرت الرهان على المستقبل بعد هذه التجربة الطويلة، لقد ُ 111
وكسبت الرهان على معرفة الحاضر برصيد تلك التجربة ،حتى إذا ُ عجزت يو ًما عن توفير جرعات الحياة ألطفالي الثمانية ،صار ما ُ الرضا عن نفسي سدً ا مني ًعا لشبح ذلك الفشل وذلك الصداع من أرق الفقر ،وحتى ال أكون في المقابل ضحية المفارقة العجيبة ..أن خسرت تلك السنوات أخسر ثالثين سنة من الكتابة المضنية ،كما ُ وأنا صغير دون تحقيق ذات الرغبة في كسر عنق الفقر الذي يلتهمنا بال سبب؟! لذلك أخطأ «ماركيز» في تعيير عمر النضج الفكري واإلبداعي عند الكاتب .وكان يجدر به تحديد موطن هذا الكاتب والمكان الذي يناسب هذه النظرية ،إذ أن الكاتب في مجتمعاتنا قد يمتلك هذه الخاص ّية الخصبة لإلبداع في سن مبكِّرة ،حتى لو كانت غير دقيقة بالنظر إلى تجربتي المتواضعة التي اكتسبت ،في ما بعد، الكثير من المؤهالت اإلعالمية العربية والدولية دون أن تنال شي ًئا من مجتمعها! * * *
إن المث َّقف الموهوب هو نتاج تجربة َّ الذات العصامية ،وهو َّ المثقف القريب من وجدان الناس .والضعف المادي بذلك، الذي يبدو عليه في الحياة بسبب الفقر واإلهمال ،يجعل منه في النتيجة المث َّقف «الشريف» بال جائزة من أحد سوى تكريم الجوع فقيرا له بالكتابة الصادقة .أفلم يكن الشاعر «الجيالني طريبشان» ً عصام ًيا حين أمهله الموت الكثير من الوقت في سني عذاباته 112
ليكتب العدم األكيد في شهقة الفجر وحيدً ا ،ثم حين وقف للسفر ِّ المتأخر إلى روضة جميلة في الحياة ،داهمه الموت فجأة على أسوار المدينة القديمة ،فهتف الشاعر فجأة ويده على قلبه «يا الله.. ارفق بهذا القلب» وسقط بين الناس ميتًا وفي جيبه تذكرة سفر لرحلة تغ َّيرت جهتها!
وألم تكن ذاكرة الشاعر «علي الفزاني» واثبة حين أجهشت لي عبر الهاتف بذكرياتنا الجميلة ،وبانتهاء تلك المكالمة الطويلة، اجتاحتني الغربة في ليل «نيقوسيا» البارد وأنا أهدر الوقت في رواية «ليلة الطوارئ» التي احترقت ألنها ال تليق بتجربتي .وأجهشت عدت من قبرص حزينًا في ذكرى وفاة الذاكرة في بنغازي حين ُ وعظيما كما رحل من بعده صانع فقيرا ً الشاعر العصامي الذي رحل ً «غربة النهر» الكاتب «خليفة الفاخري» وهو في أشدّ أزمة البحث عن مأوى لعائلته .وكان االثنان ذاكرة بنغازي التي افتقدتهما مبك ًِّرا ولم تزل هناك حكايات!..
لقد كان هؤالء األصدقاء جمي ًعا يدركون أن الحياة من بعدهم لن تكون جميلة كما يظن البعض ،وإنما أسيرة الموت الذي يجرف في طريقه كل شيئ ..عدا الذكريات! * * *
فت ً اعتمدت على فكرة قليل في المتاهة بين الناس، ُ عندما تو َّق ُ النضج في طرح الكولومبي «ماركيز» بالرغم من قناعتي بأن فيها خطأ ُ أبحث عن مالمح الحياة فيها ،فلم أجد غير ورحت بين الوجوه ما. ُ 113
«مكهربة» بفعل الموت ينتظر بين الجفون .حتى الضحكات كانت ْ التوتُّر العصبي الداخلي ،وكأنها انفعاالت مكبوتة تخرج في شكل أتعمد مجاراة هذه العادة السيئة بين هستيريا نظنها قهقهة الضحك.لم َّ الوجوه ،ليس لغياب روح الطرافة عندي ،ولكن لقناعتي بأن تلك المالمح كانت مطفأة وال تَضحك ،وال شيء كان يدعو للضحك ً أصل غير الملل الذي يبعث على المزيد من االكتئاب! 2002/10/4
114
المحزنة.. العودة ُ دخلت ال أدري بالضبط كم مضى على تلك الحادثة .أذكر أنني ُ المدينة ً ليل ،وفي قلبي حنين مبهم ال أدري لمن! يساقط خفي ًفا حزينًا على المدينة التي كان الطقس بار ًدا ،والمطر َّ
هربت من الليل وركنت للذكريات.
تهتز كانت بعض المصابيح المضاءة في أعمدة الكهرباء الخشبية ُّ في صرير حاد ،كأنها ستسقط ً حال .وسيارة « الندروفر « وحيدة،
تراني من بعيد في الظالم أجوب الشارع الطويل في خطى واهنة،
تارة على الرصيف ،وتارة على اإلسفلت القديم.
دخلت المدينة .لكن كان الطقس لم تكن الساعة متأخرة عندما ُ
ال يوحي بأن أحدً ا قد خرج من بيته في ذلك المساء .حتى فضالت
تفر منها الكالب والقطط في سخط! دكاكين اللحم ُّ
كل المدينة أغلقت أبوابها بإحكام ،وبعض الفتات النيون المجنونة 115
خصيصا لألشباح في ليلة كان تغازل بعضها من بعيد كأنها ُأضيئت ً ينتظرها الجميع!
* * *
وددت ً فعل لو أن أحدً ا يدعوني إلى الطعام .ماذا يحصل لو أن ُّ أحد أبناء المدينة َّ أطل برأسه وقدَّ م لي كو ًبا من الشاي الدافئ ود َّثرني كنت سأشكره وأتذكّره يو ًما ما عندما بمعطف قديم .سأشكرهُ .
يمر من أمام بيتي ذات ليلة شاتئة تكون َّ لدي نقود .من يدري ،قد ُّ
كهذه الليلة ،وأدعوه إلى الطعام ،أو إلى كوب شاي دافئ .ولكن هل لدي نقود تكفي حاجتي للعيش مثل بقية النَّاس.. سيحدث وتكون َّ الح ُلم على أنني ابنها ..ثم ع َّلمتني مرة في ُ وفي مدينة قدَّ متني ذات َّ
الخوف بسبب أناس ال أعرفهم إ ّدعوا معرفتي في َّأول الطريق .قرأنا م ًعا القصص والروايات واألشعار ،ثم تخ َّلوا عنّي ودخلوا الجامعة،
مرة أخرى يتخ َّلون ُ وبقيت وحدي أكتب عن الخوف والجوع .وهاهم َّ
عنّي ،يقفلون األبواب في وجهي ،وينامون على أرصدتهم من النساء والنقود وتذاكر السفر!
* * * قصة قصيرة أكتبها ،ستغ ِّير كان إحساسي في البداية يقول ،أن َّأول ّ
كنت أكتب وجه العالم .لكن لم يتغ َّير شيء .حتى شكل الصحيفة التي ُ كنت أقطن فيها وكانت فيها لم تتغ َّير ،وال حتى شكل المدينة التي ُ مصدر أوهامي.
116
فقيرا! ُ أحببت أن أكون كات ًبا ،ولكنِّي لم ُأحب مط َل ًقا أن أكون ً
وتركت الدراسة عملت مساعد بالَّط في شركة للمقاوالت، عندما ُ ُ سأتحصل على ثمن الكتاب كنت أعتقد أنني في المرحلة االبتدائيةُ ، َّ عملت سفرج ًيا في مقهى شعب ًيا ،غامرني والرغيف والقهوة .وعندما ُ إحساس بأنني سأكون بين النَّاس ،أعيش همومهم وأكتب عنها .لكنِّي صرت خادمهم ،وكانوا هم يلعبون الورق ويضحكون! لم أكتب شي ًئا. ُ أحسست بضعفي من اقترابي من الناس ،فهجرتهم إلى الجوعين. ُ حاولت العودة وتعمدوا تجويعي .كرهتهم .وعندما كثيرا، ُ َّ أهانوني ً إلى المدرسة أللتحق باألصدقاء الذين سبقوني وانتقلوا إلى المدارس الكبيرة ،طردوني ،وشطبوا على مل ِّفي وكتبوا عليه «مرفود».
وجدت نفسي أمسح األحذية في مح َّطات المدينة ومقاهيها.. ُّ احتقرت األحذية، مرة على الكورنيش، ُ وعندما ُ أجر خطاي ذات َّ كنت ُّ واحتقرت اليد التي تمسحها في النهار ،وفي الليل تكتب عن المدافئ ُ والحب ،وتكتب عن الحدائق واألطفال واألحالم الشديدة، والمرافئ ُ وتكتب عن ُح ُلمي الصغير ببيت وزوجة طيبة تطهو لي الطعام وتد َّثرني بحنانها. أصبحت على الرصيف بال شيء ،إالَّ من الجوع والخوف! ُ * * *
سريرا ألحالمي؟! ..هل أجد عندكم ما ًء للشرب، هل أجد عندكم ً أو للغسيل؟! ..هل أجد عندكم ثيا ًبا قديمة كانت البنكم الكبير الذي 117
له في بيتكم ُغرفة ،وفي أحالمكم دار ،وفي قلبكم حديقة أمنيات؟!. زوجا بال نقود؟! ..تقبلني هكذا بأحالم هل أجد عندكم بنتًا تقبلني ً مؤجلة ،تختارني أنا وترفض أصدقائي ..أصدقائي الذين سيختارون ّ بنقودهم وشهاداتهم العالية من بنات األعيان ..يقيمون لهن األعراس العز! أتفرج على ّ في القصور العائمة ،وأنا خلف السياج َّ * * *
إلي هكذا؟! ما بالكم تنظرون َّ
يهمني قلت كال ًما غري ًبا معاذ الله؟!ُ .. هل ُ قلت أريد أن أنام .ال ُّ السندويتش اآلن ،وال كوب الشاي ،وال قرص األسبرين .أريد أن أنام فقط .ذاكرتي تتعبني ،ومعدتي أكثر .وهذا الليل الذي أدكن المدينة بالفراغ ،يدكن وحدتي ،وسيارة «الالندروفر» الوحيدة ،تتع َّقب أثري كثيرا .السيارة أحيانًا من شارع إلى شارع .لم أكن أحسب أنني ُ مشيت ً أتزود بالوجع في كل خطوة أخطوها.. تتزود بالوقود .وأنا َّ َّ ضت لها بقلب حزين .كانت باردة .غسلتني. تعر ُ ْ علت الريحَّ . زفرت فيها كل أنفاسي ،وبك ْيت! ُ
كل األبواب مق َفلة .ال أحد يجيب .ال أحد يسكن المدينة .كل الفارة ..والالندروفر! مقفرة إالَّ منِّي ،ومن بعض الكالب ّ الشوارع َّ
مرة تذك ُ أتوسط الطريق والبرد ،أنني ذات َّ ّرت في لحظة وأنا ّ قصة ّرت أنني قد ُ جت .وتذك ُ وتزو ْ كتبت ّ أحببت .كانت فتاة جميلة َّ لست أدري ّرت أنني رأيت هذا المشهد من قبلُ . ُ لم أفهمها .وتذك ُ 118
«الح ُلم» .الريح تعصف بي وبمصباح الح ُلم أم في ُ إن كان ذلك في ُ عمود الكهرباء ،وبأسمال الرجل البشع الذي وقف خلفي ينهرني ويدفعني بقوة للصعود إلى ..الالندروفر!! * * *
حلمت بهم يمنحونني بيتًا كثيرا بهم. نمت. ُ ُ هناكُ .. وحلمت ً وزوجة ،ويطبعون لي كل كتبي .أح ُّبوني ،وأخذوني معهم إلى رأيت البنت التي أحببتها زمان ..كانت االحتفال .في االحتفال، ُ جميلة ويافعة! ورأيت صاحب ورأيت األصدقاء الذين تركوني ودخلوا الجامعة. ُ ُ ورأيت مدير المدرسة الشركة الذي دفع لي نصف ُأجرتي وطردني. ُ ورأيت وجهي يعجز عن الكالم، مزق مل ِّفي ورماه في وجهي. ُ الذي َّ ويد تلطمني :تك ّل ْم؟.. * * *
مرة ..في المدينة ...وحدي. ُ كنت هناك ..ذات َّ
المرة ..في المدينة ...وحدي!!.. وأنا هنا ..هذه َّ
بنغازي ـ شتاء 1991
119
ر�صيف بيروت
تكريس الديمقراطية في المقهى السياسي! تحضرني جلسات «الروضة» في بيروت ،حين كنا نلتقي على
الموعد بعد صباح ملئ بالنشاط الصحفي هنا وهناك .تأخذنا سحابات
«النارجيلة» بين نسائم مياه المتوسط وصخرة «الروشة» وبنايات
بيروت المقبلة على المساء.
في المساء قبل حلول الليل نكون قد قضينا على ثالثة كراسي من
«النارجيلة» ليبدأ هبوط األصدقاء االضطراري على موائد الحكايات خارج مهنة المتاعب التي نتركها مع نهايات قهوة الصباح حتى الثانية
ظهرا ،موعد الهواتف السريعة والرهان على السبق في تصنيف عشرة ً ملوك المشويات في بيروت.
أنحاز لفريق عمي «أبو محمد» كنت أنا الضيف بعد ثالثة أيام، ُ ُ
وكوخه الصغير بين الروشة وشارع الحمرا ،فهو بدون منازع يمتلك مهارة عالية في الشواء ،واألهم من ذلك إنه يلقي بي إلى الفندق 121
مباشرة لالسترخاء بعد وجبة الغداء الدسمة التي عادة ما تنتهي الساعة الرابعة .وكان اليوم الذي ينتصر فيه أحدهم على تناول الغداء في أحد مطاعم الجبل بين خرير المياه الباردة والهواء النقي ،أعود في المساء بمزاج عكر ال يحتمل حتى الموسيقى الهادئة ،فما بالك بسهرة ال تنتهي .سهرة تحتاج فقط لقوة اللبناني على امتالك الليل بالضحك والحكايات ،وال تحتاج مني ،في المقابل ،سوى تهنئتهم على هذه القدرة العجيبة على مواجهة مختلف الظروف! * * *
فأثناء الحرب انتصر اللبنانيون على جراحهم بالسعادة مع األمل في بيروت الظالم التي كانت تضئ مع القصف العشوائي .وبنهاية الحرب دائما يسبقهم إلى ر َّمم اللبنانيون بيتهم بالكثير من األمل ،فكان التفاؤل ً صورة لبنان النموذجية وسط اليأس العربي الضارب في األعماق .وكان األجمل في عالقة هذا اللبناني بمحيطه العربي ،أنه يدرك حقيقة األزمة وظروفها وال يراهن على المستحيل .فتكفيه قضية واحدة هي تأكيد وجوده في المكان ،وتأكيد حريته في محيطه ،قبل أن تعنيه أي قضية أخرى قد ترهق كاهل المكان وتصادر الحرية الممكنة في محيطه. دائما مرتب ًطا بالوجود الفلسطيني. ويكفيه ً أيضا أن وجوده اللبناني كان ً
لذلك فالعالقة الثقافية بين حال الوجود اللبناني وحال الوجود دائما موضوع السؤال الثقافي في الحياة السياسية الفلسطيني ،كان ً المشرقية .وهو ذاته السؤال الذي جعل من بيروت عاصمة للصحافة العربية بال منازع ،بل وجعل منها عاصمة للكتاب العربي بالنظر إلى 122
كميات اإلنتاج الضخمة للكتاب الثقافي والسياسي وتجاوزها لعقدة المحذورات الفكرية التي تمارسها الكثير من األنظمة العربية ضد المثقفين والثقافة .لذلك فهي عاصمة للعقل العربي خارج حدود الضغط العربي!
فبمقابل تجارة النفط ال تصنيعه في الكثير من الدول العربية ،والتي عادت عليها باالنفتاح على السوق االستهالكية للطعام والشراب والكساء ،كانت بيروت تزدهر ثقاف ًيا بال نفط ،وتعود بالفائدة المعرفية لتصير السوق االستهالكية المفتوحة في متناول كل اللبنانيين مهما تفاوتت مداخيلهم .ففي الوقت الذي نشتكي فيه من غالء بعض السلع في بيروت بالمقارنة مع األسعار في الدول المجاورة ،األوروبية والعربية ،يعيش اللبناني حياة ترف مم َّيزة نتجت عن طبيعة تكوينه الثقافي وقدرته على تعيير السوق االستهالكية بما يكفي حاجاته الضرورية، تحسنت مداخيلهم. وإن كان البذخ حالة تستهوي معظم اللبنانيين كلما َّ وأعرف أن بعض األصدقاء من الصحفيين ،حين يفلسون ال يجوعون، وحين يتو َّفر لديهم المال ،فإنهم يسعدون به وال يدَّ ِخرون منه شي ًئا .حتى أن عامل البناء اللبناني الذي يعمل طوال النهار باألجر اليومي ،تراه في أميرا مستمت ًعا بوقته في أرقى محالت بيروت مع األثرياء من رجال الليل ً األعمال والفنَّانين والسياسيين ،يشرب أفخر المشروبات ويأكل أشهى المأكوالت ،ويرقص مع السياسيين والفنَّانين والفنَّانات على أحدث إيقاعات موسيقى الشباب ،دون أن يهتم بما قد يحدث غدً ا! * * * 123
نموذجا هذا التكوين االستثنائي في حياة اللبنانيين ،جعل منهم ً فريدً ا للحياة العربية في محاكاتها للغرب .فاألوروبي بذات الصفات، يدرك أن الحرية في منتهاها ،تعني تحقيق كفاية العيش في مجتمع يعتمد على جهد الفرد ،كما يعتمد في النتيجة على جهد الجماعة. فالفرد وإن عمل لحسابه ليس في مقدوره أن ينعزل عن فعل الجماعة في السياسة واالقتصاد واالجتماع .لذلك وإن كانت األحزاب السياسية اللبنانية بعد الطائفية ،تعيد تشكيل الحياة السياسية على دائما يلتقون خارج اللعبة أساس اتفاق «الطائف» فإن اللبنانيين كانوا ً وأيضا خارج جعجعة المعارضة الحزبية ،وخارج اللعبة االنتخابيةً .. في البرلمان .فحكومة الدولة ال تحكم الشعب الذي يحكم الدولة. بمعنى أن في لبنان حكومت ْين قائمت ْين ،تختلفان وتلتقيان ،واحدة داخل البرلمان وتهتم بالحياة الرسمية ألجهزة الدولة واألمن العام والعالقات الدولية ،واألخرى خارج البرلمان وتهتم بمستويات الحر وعائداته على الحياة العامة. االقتصاد ُ * * *
إن الثقافة التي أنتجت هذا النموذج العربي ،هي ثقافة االنفتاح على كل المعارف في الدنيا ،والتي مثلما جعلت من لبنان قلعة نموذجا حضار ًيا ثقافية ُمنتِجة للحرية الفكرية .جعلت من اللبناني ً نتجا للديمقراطية في أسوأ الظروف العربية .وعلى هذا كان له ُم ً السبق التاريخي في التجربة الحزبية والتجربة الجمهورية والتجربة البرلمانية ،وال تؤخذ عليه سوى مجاراته للتجربة الطائفية العائلية التي 124
خطيرا في حياته السياسية عندما َّ تدخلت الطائفية في كانت منع َط ًفا ً الصراع على السلطة .وكانت النتيجة هي سقوط ذرائعها في الحرب الطويلة للميليشيات .وتلك التجربة التي بالرغم من قسوتها على كل اللبنانيين ،مسيحيين ومسلمين ،منحت لبنان المناعة السياسية ضد أي تيارات خارجية من شأنها أن تؤثر في أمنه وسالمه الوطني الذي تح َّقق باتفاق «الطائف» وكان وضع أساس لبنان الجديد لكل اللبنانيين. * * *
دائما هي هاجس الشعب اللبناني الذي يحكم كانت الحرية ً الدولة وحياتها السياسية .وعلى هذا فهو ينتمي طواعية لفكرة تكرست مع الحرية في الحياة الديمقراطية، ُحكم األغلبية التي َّ ودفاعا عن وجوده فدفاعا عن وجوده هزم حكومات الطوائف. ً ً ودفاعا عن الحرية كان ينتصر باستمرار لهذا أيضا ،هزم إسرائيل.. ً ً الوجود .ولذلك فهو يمتلك حق إسقاط الحكومة متى شاء ،وإعادة البرلمان إلى الشارع الذي فيه َيسقط المنت َ َخبون ..ومنه يعود الجميع إلى المقهى السياسي! 2002/10/11
125
غيمة �سلفادور دالي ..خبأ لي في الشتاء الفائت غيمة دسمة فوق جبل بعيد.
كثيرا .منذ حطت فوق ذلك الجبل ونحن نتراسل .بعثت لي تراسلنا ً باقة رذاذ من برشلونة ،هي وجنات الصديقات الالمعات طيلة هبوب الرذاذ الناعم .ثم بعثت لي بمنديل أبيض ،هو كل كفها البيضاء عندما علي ..وتلت لنرجسيتي قصائدها القصار .ثم بعثت لي في فتحت نافذتها ّ منتصف الربيع الغائب بمشهد واحد للذاكرة ،أغرقته في حنين وتوهجت. ِ أحك لكم عن الليل ،وكيف كانت تلك الغيمة تحضر إلى ألم
حلمي ،أخلع ثوبها األبيض بهدوء ،وألبسها الفستان األزرق بحنان. هكذا مزاجي ،اللون األزرق له سحر خاص عندما تلبسه غيمتي البيضاء في الليل ،وترقص لي على إيقاعات زجاج الشرفة. أنا والغيمة البيضاء والليل ،أصدقاء «سلفادور دالي» .يرانا نسهر بنوار اللوز .يرسم صديقتي حبلى بمطر قرب مدينته األخيرة ،ويرسمنا ّ ذكرا ،أو أنثى .ويرسم ليلنا حديقة مطفأة تصخب قديم ،قد يكون ً 127
بصيحات األطفال .ويرسمني أنا برباط عنق على اللحم ،وحذاء سميك .قد نتعب أنا والليل وغيمتنا المزعجة ،فنركب الحصان البنّي، ونتجول على محطات البنزين بح ًثا عن الممثلة الجميلة التي خرجت لتوها من السينما ،ونست حقيبة يدها على ركبتي. ّ كيف أناديها هذه الممثلة باسمها ،والشارع أغضبه جمالها منذ أفالمها األولى عندما كانت صبية ،وها هم يحتجون هذا المساء على دورها الجنسي العنيف.
قد تعتقد عندما أالقيها أني أريدها في كلمة على انفراد ،وأنسى حينها حقيبتها في يدي.
َّرت وفكَّر معي الحصان والليل والغيمة ،فألقيت بحقيبتها فك ُ في البحر .البحر الذي طفح فجأة بالبنات الممثالت الجميالت الصاخبات .هربنا منهن ،والغيمة تمطر في أعقابنا ،تنبئ من في الطريق أن يحترسوا من البنات الحلوات الطالعات من البحر. جريدة المساء بدورها نشرت صورة الممثلة وحقيبة يدها المفقودة .ونست «جريدة المساء « أن تعلق على العطر الذي فاح.
وضعنا الصحيفة على قبر «دالي» ،الذي طوى الصحيفة وأعادها إلى أصحابها .قرأتها الممثلة الفاتنة ،واعتذرت على اإلزعاج الذي سببته لنا ،في ليلة شاهدنا فيها أروع أفالمها.
أيضا كانت هناك .رصدتْنا .رصدت كل كاميرات التلفزيون ً حركة ..منذ خرجنا من السينما. 128
ظهرت غيمتي الزرقاء في التلفزيون .وظهر معها الحصان البنِّي.. وظهرت أنا بكامل وظهر قبر السلفادور وعلى صدره جريدة المساء. ُ قيافتي ،أدعو كل النساء أن يرتدين الفساتين الزرقاء ،ليصبحن حلوات بأسرة كثيرا ّ مثل غيمتي ،ويرقصن على إيقاع شرفاتهن ،وأن يحلمن ً تطير من وإلى ،والعودة ،ليقفن في الصباح على صوت غيمتي تقدِّ م لهن الحليب الطازج ،وابتسامة جريدة المساء.
ال أحد صدَّ ق أن كل ذلك حدث بالفعل ،برغم أن معظم الناس يصدِّ قون الكذب األبيض ..فلماذا ال يصدِّ قون هذه الغيمة البيضاء، حكاية الغيمة البيضاء .وحكاية البنت البيضاء ،التي ظهرت على الشاشة الكبيرة بروب أبيض شفاف ،تلعب بمياه نهر جديد ،على ضفتيه طوبر الرجال.
أكيد ال أحد معي ،في أن الحلم هو حقيقة أخرى .بل هو الحقيقة األولى ،ألنه من مخزون الرغبات .من األشياء التي نتمناها لنا ،وليس من األشياء التي فرضت وجودها علينا .نحن نحب ،ألننا إذا لم نحب وحلمنا باألميرة الجميلة سببه ألنها نموت .ونحن سعداء بهذا الحلمُ . موجودة بيننا ..ولو لم تكن موجودة بيننا لما َح ُلمنا بها .لذلك فالحلم هو الحقيقة األولى ..الحقيقة األهم.. نتصور .أكبر من أسمائنا ومواعيدنا. أظن أننا أكبر مما َّ
كثيرا في مشهد الحياة بقدر ما نفكر في مشهد الحلم، قد نفكِّر ً الذي يتكرر في اليقظة ،ونراه من جديد بمستوى الرغبة ،وبمستوى اللحظة الجميلة التي تبزغ منها. 129
أيضا معكم ،ال أصدِّ ق كل هذا الكالم .ولكني ما أزال أراسل أنا ً تلك الغيمة ،وهي تراسلني .تلك الممثلة الجميلة هي حديث الناس في المدينة /الحلم.
ال يزال ثمة شيء لم أقل ُه ..ألن الحلم يكبرني ولن يكتمل .وألن علي ..وأخافكم أن تتطاولوا عليها بإلغائكم دائما تتطاول َّ رغباتي ً الحلم.
وألنني ال أستطيع أن أعدكم بغير أن أحلم ،فإن ذلك يعني أنني أحبكم ..ويعني كذلك أنني أدعوكم لمشاهدة الفيلم وبطلته الفاتنة.
ال تزال الغيمة هناك ،وال يزال سلفادور دالي يرتِّب الفستان ..وأنا أتفرج وأقرأ الرسائل!! َّ 1988/7/18
130
�أغنية على ج�سر �أبي�ض!.. « ..إيزابيال» لم تكن يو ًما في كتاب .ولم تكن يو ًما في عقل
دائما قاص أو شاعر .إنها ابنة لعجوز ديبلوماسي «مجري» كان ً
يشق يتركها وحيدة على جسر «اليزابيث» على «نهر الدانوب» الذي ُّ
مدينة «بودابست» ..هو يبحث عن عالقات السالم مع المجر .وابنته ِ فت قصة فتاة َخ َط ْ «جولين» التي تحكي َّ هناك تدندن باألغنية القديمة ُ صديقتها منها حبيبها وسافرت به بعيدً ا ،وتركتْها وحيدة في الخريف..
قصة مع صديقي «نجيب» قبل أن نغادر تلك األغنية التي كان لها ّ
تركت له صديقته «روما» إلى «وارسو» في خريف ..1979حيث ْ
واختفت عن روما التي انطفأت مصابيحها تلك الليلة!.. تلك األغنية ْ كانت جميلة وقلقة ..وعصبية أحبته بعنف ..وشاء إن رأيتها في
رأيت شبيهتها عندما دخلنا «مطعم البط» .كانت «وارسو» القديمةُ . في حالة قلق دائمِّ ، كأسا وتلغيها.. تدخن وتدعك ك ِّفيها ..ثم تطلب ً ثم وهي تلتقط حقيبتها في عصبية وتخرج مسرعة. 131
وبكت، ذكَّرته بها وبتلك الليلة الحزينة في روما ،عندما احتضنتْه ْ ومر علينا السكارى يغنُّون حتى ابتعدوا ناحية السكك الحديدية، َّ وابتعدت هي بدموعها إلى الجانب اآلخر ..بال سبب تركتْه في تلك ْ الليلة!.. * * *
..في ساحة «الرسم» الشعبية أمام «مطعم البط» رأيتها تصاحب البضتين ..وعندما رأتني الح َمام الذي غنَّى على ك َّف ْيها البيضاوين َّ َ أمامها ألقت بحفنة ُ الذرة بعيدً ا ليهجرها الحمام وتهجر مقعدها والساحة بعصبية فنّانة تريد أن تختلي بروحها بعيدً ا عن وجوه البشر..
« ..ألم تيأس» ..قال صاحبي وخرجنا من أزقة المدينة القديمة إلى ساحة «فكتوريا» حيث النُصب التذكاري للجندي المجهول ،وحيث تبدو تلك الساحة كأنها نهاية العالم .كانت فضاء للهواء الطلق ،وباحة للنَ َفس الطويل ،وللصراخ ..وحتى البكاء .لكن ال شيء من ذلك قد تساقط حدث .فقد كانت هناك على باب حديقة الخريف ،واألوراق َّ وتالمسها بهدوء.. * * *
بعد ثمانية أعوام تقري ًبا ،أجدها على «نهر الدانوب» تغنِّي وحيدة في مساء خريفي تسكنه الذاكرة والحنين والحزن كذلك المساء. إلي بعينين حزينتين وكأنهما قد عادتا المست أناملها الندية. ْ ُ نظرت َّ لتوهما من سفر بعيد ..وتذكَّرتني ،ودون أن تنبس بكلمة أخذتني ِّ 132
من يدي وفؤادي ..ومشينا وحيد ْين على الجسر األبيض ،فيما كانت مراكب الص َّيادين تُطلق ص ّفارات عبورها الجسر الكبير باتجاه شاطئ
«مارغريت»!..
حتى مساء «بودابست» تغ َّير بحلول الحب الذي كان هناك قل ًقا
في «وارسو» ..ودخلنا صامت ْين إلى «جادة أديب» في «بشت» حيث المقهى التي يرتادها ال ُكتَّاب والفنَّانون المجر ِّيون ،ويتمتَّع بزجاجه
ورصيفه العريض في شارع المشاة حتى ساحة «الكاتدرائية».. * * *
صحة الحزن الجميل قهوتان مسائيتان من «كا ّفي دي ميري» في ّ
في «بودابست» ..ذلك الحزن الذي كان هناك مع صديقي «نجيب»
في روما ..ورحل بتلك األغنية الحزينة ليصيبني في وارسو ومن ثم ألقاه هنا على الجسر األبيض فوق «نهر الدانوب» في بودابست..
وكأننا نحن فقط من يحب ويحزن في الغربة ..وكأن الدنيا كانت لنا «جولِين» من «مدريد» تطير إلى حبيبها في روما، في الحب والحزنُ .. وتتركه بعد أيام بسبب الحب .وأنا أعشق شبيهتها في وارسو وألتقيها
بعد ثمانية أعوام في بودابست .وكأن العالم قد صار لنا وحدنا ،نلتقي
فيه بالرغم من الزحام والمسافات واألوطان والنسيان ،وبالرغم من
كل المعارف العابرة والصداقات الحميمة هنا وهناك ..وكأن حنيني
هو الذي دعاها إلى الجسر في ذلك المساء الخريفي.. * * * 133
قالت ،كيف ألتقيك بعد ثمانية أعوام .من خريف وارسو ،1979 إلى خريف بودابست ..1987أتذكُر أول لقاء بيننا في «مطعم فقلت ،كيف ال أذكُر وقد تذكرتُك منذ أول الجسر.. البط»..؟!!.. ُ وكأننا ُكنَّا على موعد هنا ،اتفقنا عليه منذ ثمانية أعوام!.. * * *
تركت «إيزابيال» ابنة الدبلوماسي القلقة تسافر مع أبيها إلى .. ُ وعدت أنا إلى بنغازي بذلك المشهد الضبابي للجسر «باريس».. ُّ مرة مثلما جمع بين مدينة ّ بعشاقها ،مدينة األبيض الذي جمعنا ذات ّ يشطرها نهر «الدانوب» إلى مدينتين ..ويجمعهما جسر المح َّبة!!.. 1987/11/8
134
بيروت� ..ضاحية ال�شمال والجنوب!.. عدنا إلى بيروت بعد تلك الحرب لنجد المكان ساخنًا ،ونجد المقهى في انتظارنا وقد كساها ال ُغبار ،وناصية الحمرا من عنادها
تأخذ العابرين وأشواقهم في مشاوير المساء .فبالرغم من ذكريات
تلك الحرب األليمة التي عصفت بحياة اللبنانيين زهاء الخمسة عشر عا ًما ،إالَّ أن مستقبل اللبنانيين كان أكيدً ا ،وأن االجتياح اإلسرائيلي
الذي جعل من كل (الطوائف) تلتقي في خندق واحد للمواجهة ،كان
هو العامل األساس لالجتياح الجديد في ظل المؤامرة القديمة .إذ كان مؤثرا وطن ًيا على صمود المقاومة ،فلم يكن االتفاق اتفاق الطائف ً
للمصالحة الوطنية فحسب ،وإنما للتأكيد على جبهة الصمود الوطني
ضد المؤامرة.
* * * عندما مررنا بتلك اإلطالل وسط بيروت ،كان صديقي الشاعر
حسين نصر الله يؤكد لي على حتمية عبور اللبنانيين ألزمتهم، 135
مثيرا على تلك وبأن هذا ّ المكب (نورماندي) الذي بقي شاهدً ا ً الحرب ،سيتحول قري ًبا إلى مكان جديد للمؤانسة بين األشقاء، أو بين ما كان ُعرف ـ آنذاك ـ ببيروت الشرقية وبيروت الغربية. وعندما أقلعت وصديقي الشاعر محمد العبد الله باحة األصدقاء في مقهى «الروضة» على «الروشة» في اتجاه «جونيا» أدهشتني رؤية «حي الزيتون» الذي كان انهار تما ًما تحت القذائف ،لتشهد «ساحة الشهداء» هناك ،بوسط بيروت ،جلسة الغريب ْين الوحيد ْين بين األطالل ..فيما كانت الطريق إلى «جونيا» تمتد بارتفاعاتها في العمق ،إلى حيث ال تعرف من تلك الحرب سوى ذكرى تلك المواجهة لجيوش االحتالل!.. * * *
ربما كان االجتياح اإلسرائيلي عام 1982هو ثمرة الخالص من العقدة الطائفية ،وهو بالتالي المؤسس لليقين بأهمية الوحدة الوطنية. قلت لمحمد العبد الله في الطريق ،أنا ال أخاف من عودة حرب وهنا ُ أهلية جديدة ،أنا أخاف على لبنان من وحدته الوطنية ..فقال وهو يخ ِّفف من سرعة سيارته في منعطف «جونيا» باتجاه البحر ..:نعم، إنها إسرائيل!.. * * *
كانت أقدامنا الحافية على شاطئ «جونيا» تالمس الحصى الناعم الملمس ،فيما النسيم عبر مواشير الضوء وضحكات المصطافين في الليل يأخذنا إلى أبعد من «صيدا» حيث غادرنا عباس بيضون وجودت 136
فخر الدين ،وأبعد من «بنت جبيل» حيث األصدقاء هناك يجمعون «كتابات الجنوب» التي خ َّطها مبدعون لبنانيون وعرب ،وكان لبعض ما كتبناه آنذاك في قبرص ،النصيب األوفر. عدنا آخر الليل بذكريات جمعتنا ذات مساءات في ليماسول ،وكنا حتما في بيروت ،وقد التقينا ً فعل بعد تلك الحرب، اتفقنا على اللقاء ً وافترقنا دون الوعد بلقاء قريب..
وعدت إلى قبرص تركت بيروت تغفو من تعب الليل واألسرار، ُ ُ بحرا وفي خاطري أن أسأل بيروت ماذا خبأت للعام الجديد.. ً * * *
كانت «قبرص» أثناء تلك األحداث في لبنان وفلسطين محطتنا األكيدة ،وفضاؤنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات صحافة المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية ،خاطبت بوعيها التنويري عقل المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء صحافة مؤسسات النظام العربي التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك المهمة في تاريخ النضال العربي ،وسقطت أمام األعداد المرحلة َّ األولى لصحف ومجالت السؤال العربي .فكان المكان» القبرصي» بمعناه االستثنائي في ذلك الزمن ،هو العالمة الفارقة في حياتنا الثقافية والصحافية .ومع نهاية تلك الحرب ،تضاءلت ظاللنا في الجزيرة المتوسطية ،لتنتهي أدوارنا فيها وقد عاد لبنان إلى أهله، وعاد بعضنا إلى التعب من جديد في كساد األمكنة .تارة نعيب على تلك المرحلة التي منحتنا الكثير من الثقة في قدراتنا على 137
تأكيد السؤال ،وخسرنا ضمان وجودنا في المستقبل .وتارة نعيب على المحنة العربية الراهنة التي قادتنا إلى ذات السؤال ،وكنا فقدنا منارة القلعة هناك دون ضمان العودة ..والتارة األكيدة هي ما تبقى لنا من حنين إلى تلك السنين التي أمضيناها م ًعا ،ككتيبة مدججة بمعرفة األزمة ومحيطها السياسي والثقافي .نكتب حرب َّ تحت شعالت القصف الليلي الذي كاد يتراءى لنا من شرفتنا العالية في»ليماسول» وكأننا هناك ،في بيروت ،بين األصدقاء، نحتمي بجدار المقهى التي خلت من مثقفيها في مساءات القصف المهرب في البريد. الطويل .ونستقبل في صباح اليوم التالي ،الفزع َّ وعلى رصيف الميناء ،نستقبل الوجوه القادمة من طواحين الحرب إلى مالذ الوجع العربي ،للعيش في الجزيرة بكل تلك الثقة على إثبات الوجود الستعادة المكان .وكبرت قبرص في عيوننا حين كانت الوجوه بقربنا تدعم صمودنا في الوقت العصيب ..وقلعتنا الحر ،في كبد الحقيقة الغائبة ـ الصحفية الكبيرة تُطلق سهام القلم ُ المغ َّيبة ـ في كل مكان من العالم ! * * *
َّ انتصرت»الذات» في ذلك اللقاء اإلعالمي الذي جاء لقد عفو ًيا ،وكان س َّبا ًقا إلى الفعل ،في زمن امتلكناه كيفما نريد لوقف الحرب الخاسرة بين األشقاء ،ودعم صمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية في وجه االجتياح اإلسرائيلي الذي سقط بأعالمه ِ مهمتنا بنهاية الحرب، المحترقة على (جسر َّ األولي) .وانتهت َّ 138
وكأننا كنا هناك ـ جنود االرتباط العربي ـ على الجبهة الجنوبية من الجزيرة .نتل َّقى األخبار بالوسائل الصعبة ،ونكتب عن محنتنا في الصور القادمة المغطاة بالدم ،ونبكي استشهاد (كمال ناصر) الذي أفرغ» باراك» في فمه رصاص مسدسه ،إسكاتًا لصوت الشاعر المناضل .ونبكي خروج المقاومة الفلسطينية وجراح» حنظلة» في يد ناجي العلي ..ونبكي موت األطفال على ألعابهم المحترقة! ..
الحرقة التي خرجت من صدر الصديق الذي كان يلقي بمرارة تلك ُ كبده في مياه المتوسط أثناء مجزرة (صبرا وشاتيال) .وخفت عليه الحرقة التي كانت في صدري يوم من الموت بين ذراعي ،هي ذاتها ُ َّ وعدت أنا إلى ليبيا .وليفترق بقية األصدقاء افترقنا .سافر هو إلى لندن، ُ عن مصدر اللهب الذي كان هناك و ُكنَّا نتوهج معه. * * *
هاهي األحداث في لبنان وفلسطين تفقد القلعة اإلعالمية في قبرص ،ليكون الفراغ الذي تركناه هناك ،بمساحة الوجع الذي نناله هنا بعيدً ا عن «قانا» و»بنت جبيل» .وقد كان الوجع رهين تلك الحالة الغائبة عن معتركها الطبيعي ،الحتواء أزمة من هذا النوع ،كادت قبرص أن تراهن عليها من جديد ،بظهور صحافة حقيقية تجاور حقيقة المأساة ،وتُكشف عن حقيقة النظام الرسمي العربي بصوت الجماهير. التصور ،أن يعمد األشباه على لذلك كانت المحنة تفوق حدَّ ُّ 139
اإلطاحة بنور األلق في البالد ،ويغيبون عن جوهر السؤال المطروح بين األمم .ذلك السؤال الذي قاد األعداء ذات مرة إلى الديار في المحاولة اليائسة .وقاد األعداء هذه المرة إلى ضرب الديار في وحرجا في صوت المث َّقف المحاولة األكيدة .وك َّلما كان السؤال قو ًيا ً كبيرا على ـ مؤسسة صماء ،ال تسمع ـ كان الخطر ً الثوري ـ واألذن َّ الوجود ـ من األساس؟! صيف 2008
140
على ورق �أبي�ض!.. ..ليست هي الفكرة وإن هربت منذ قليل مثل طير .ال الشجر
هناك يعرفها ،وال عين المرء تدركها ..أنا فقط أعرفها.
ليست هي الفكرة بأي حال ،فهي الطالع في سؤال ،وهي الباقية
في السؤال ..وهي وإن غدت صعبة المنال ،تبدو بعد وقت أيقونة
زمن غاب وطال في الغياب.
ليست هي الرؤيا وإن بلغت مداها ،فهي تجئ كما الطيف تسكن
الوعي وتقيم فيه كرنفالها البديع.
ليست هي الرؤيا بأي حال ،فهي وإن كانت هناك ،كما بقيت
بعدي ،وأنا هنا وحدي دون رؤيا تأخذني.
ليس على الورق شئ سوى هوامش اللحظة .ليس في البال شئ
سوى هشاشة تلك اللحظة .ليس معي أحد سوى خيال القلم في الورقة. * * * 141
الرف .كانت بيضاء وناعمة دون قصد أخذتها من بين صويحباتها على ّ الرف .وكانت جميلة لزهو اللون والحرف. مثل صويحباتها على ّ
لكن القلم الذي وقع في ح ِّبها صار يرتجف ،يهاب مالمستها في خجل .اختلس ارتيابي ونقش على جنبها يضع الرسم الخجول في هوامش مبهمة.
وهمست فيه أن يبدأ الكتابة. سحبت القلم من روضته البيضاء ُ ُ صار القلم يرتعش أمام بياض الورقة ويمتنع عن الكتابة .باغتني في ً خجول على يمين الورقة ووضع نقطة بعدها لحظة خيال ووضع خ ًطا كأنها ال ُقبلة .كان القلم يرسم خ ًطا لي ويضع ُقبلة لها .صارت الورقة وردية اللون من أثر الخجل. * * *
وكتبت تحته :من أجلك أيتها أخذت الخط الذي رسمه لي القلم ُ ُ ِ علي .فامنحيني بهاؤك لكتابة كتب الورقة أكتب عليك كما َ الدهر َّ ُ ِ سر وجودها. واحدة أنت ُّ
تو َّقف القلم على يمين الورقة يرسم جناح فراشة تطير .أخذني تركت مشروع كتابة المقال أتأ َّمل في شكل الرسم معه في الرسم. ُ وفي شكل الفراشة التي ستطير. * * *
كانا في حالة عشق ،هي تمنحه روح الزهرة ،وهو يمنحها روح الفراشة ..وأنا َّ الشاهد الوحيد في الليل على هذا العشق المهيب. 142
لم أستطع منعهما من المزيد من الممارسة .فالورقة صارت روح الزهرة ،والقلم صار روح الفراشة ..وأنا في الفكرة أتو َّقف عن كتابة المقال ريثما ينتهيان من الرسم ويمنحاني مساحة صغير للكتابة.
فسألت القلم: غير أن الورقة صارت بستانًا من الزهور والفراشات، ُ لماذا تأخذ كل الورق للرسم وتتركني كل هذا الوقت بال كتابة؟!.. كنت أحرسه طوال الليل حتى فقال القلم :هذا البياض لي ،أنا الذي ُ عيني لتكتب عليه أوجاع من ع َبروا. جئت أنت لتأخذه من أمام َّ رب الكتابة ،من أجله أرسم لحبيبتي هذا البياض لي أنا وحدي ،أنا ُّ الزهرات والفراشات .أرسم عليها الحياة لتنجو من كتابة أرهقتها السنين .كتابة عص ّية تجرف في طريقها بياض الروح وشغف الحنين. * * *
وتركت الورقة والقلم يمضيان في العشق استسلمت للدفاع، ُ ُ وصرت أنا حارس الضوء حتى الصباح. الالمتناهي ُ
في الصباح أيقضني صوت خرير المياه التي تجري بين الجداول، والفراشة تطير ،والزهر يضئ بستان الورقة البيضاء!..
2009/8/28
143
ذاكرة ال�صورة!.. عندما نصنع حدث الصورة ونغيب عنها ،كانت تعود بعد زمن لتصنع الحدث من جديد .فالذاكرة التي خرجت من الصورة ،بال قصد، تعود إليها ،بقصد ..وتلك حالة بصرية عجيبة تصنع الماضي بترميم جزء من الذاكرة كان مفقو ًدا.
نفضت ال ُغبار عن ألبوم صور قديم ،عاد بي سري ًعا إلى منذ أيام، ُ خمسينيات وستينيات القرن الماضي .بعض تلك الصور لم تكن صورا لوالدي لي ،كانت ألناس تشكَّلوا في ذاكرتي بال قصد .كانت ً وألعمامي ولوالدتي ولجدَّ تي ،وألقرباء لي عرفتهم عن قرب، وآخرين أسمع بهم ،لكنهم في «الصور» كانوا جميعهم في ذاكرة واحدة وإن تباعدت األزمان بينها .فسحر الصورة القديمة ،أبيض حضورا في ذاكرة تشكَّلت مع ذلك اللونين وأسود ،كانت أكثر ً تحديدً ا ،المرتبطين بذلك الزمن ،بعفويات الصورة الثابتة والمتحركة. فصورة «شارلي شابلن» الصامتة التي تعلقنا بها في سينما المركز الثقافي األمريكي ،هي ذاتها صورة «شوشو» لبنان الناطقة التي تعلقنا 145
بها بعد ذلك ،في سينما أيام زمان .وهي ذاتها الصورة الثابتة التي التقطها لنا الفنان «فتحي العريبي» في ساحة مدرسة «توريللي» االبتدائية في مطلع الستينيات ،فكانت حاضرة في ذاكرة الماضي وشاهدة على ذلك الزمن. * * *
صورة قديمة من ورق قديم ،قد تكون أهم من مستقبل مجهول.. ألنه مستقبل خارج الذاكرة .فالصورة القديمة وإن صمتت زمنًا في بمجرد نفخ ُغبار السنين عنها. كراتين مهملة ،تعود إلى الحياة َّ * * *
أتعمد إهمال قد أكتفي بتلك الصور ألنها جزء من ذاكرة بعيدة ،وال َّ صور أخرى تطرأ في الحياة مع أناس أعرفهم وال أعرفهم ،فتلك قد وأيضا شخصية وترتبط في مستقبلها يكون لها قيمة فنية وثقافيةً ، أقفلت على ذاكرتي باب الذكريات الجميلة بماضيها .لكنني وقد ُ ملونة قد تسرق كثيرا باالحتفاظ بأي صورة َّ مع الزمن ،فلم أعد أهتم ً المتعة البصرية بالصورة القديمة التي نشبت في طفولتي وكانت تلك ُ جز ًءا من تكويني في الحياة.
التقيت بشخصيات كبيرة في حياتي المهنية لم أحلم أذكر أنني ُ وأهملت صوري معها ،أو كأني افتقدتها في مكان ما، يو ًما بلقائها، ُ أحسست بأهمية تلك الصور ،وبأنها قد بدون قصد .ومع مرور الزمن ُ تعني الكثير لمهنتي كصحفي ،وشاهدة إثبات على لقاءات وحوارات 146
أهمها الموت ..فكان تتكرر ألسباب كثيرةُّ ، تتكرر ،ولن َّ مهمة لم ت ُعد َّ َّ يأسي من بحثي عن تلك الصور ،داف ًعا لالحتفاظ بما تبقى من ذاكرة احتفظت احتفظت به والدتي زمنًا ،ثم بعيدة وجدُّ تها في ألبوم قديم، ْ ْ به زوجتي زمنًا ،ويرعاه اليوم ابني «زياد» لزمن آخر قد يطول.. * * *
المهمة التي التقيتها في «قبرص» كان من بين الشخصيات العالمية َّ ً مثل ،وجمعتني بهم الصور ،الدكتورة «أليدا» ابنة «تشي جيفارا» عام ،1997والكاتب األميركي «صموئيل هنتغتون» والزعيمة الباكستانية «بناظير بوتو» عام 1998أثناء مؤتمر في «نيقوسيا» حول حوار األديان، عثرت على صوري بعد ذلك مع عدد من زعماء قبرص ،مثل كنت ُ وإن ُ الرئيس «غالفكوس كليريدس» ورئيس الحزب االشتراكي الدكتور وأيضا مع «رؤوف دنكطاش» زعيم القبارصة «فاسوس ليساريدس» ً األتراك ..وهؤالء ً مثل تعبوا من الشقاء في الحياة السياسية ،وتناقضوا في الزمن مع جوهر الصورة وذاكرتها .فـ»أليدا» بال كلل تبحث عن أمجاد جيفارا في مناطق سقطت فيها الثورات ،و»بوتو» تخرج من حزب الشعب الباكستاني في انفجارت «راولبندي» ،و»هنتغتون» يخرج من ِ خاسرا الجسد والفكرة م ًعا أثناء «صدَ ام الحضارات» ً اإلبادة العبرية التاريخية ألطفال غزة ،فيما تضيع مصلحة القبارصة اليونانيين واألتراك ،بين المصالح الدولية وأجندتها اإلقليمية في منطقة المتوسط. * * * 147
تُرى لماذا تضيع صور وتبقى صور ،مع أن درجة اإلحساس بقيمة أي صورة ،تظل واحدة ،مهما طال بها الزمن..؟!
ولماذا حينما نبحث في الصور عن صورة مع َّينة ،ال نجدها. وبال قصد نجدها حينما ال نكون نبحث عنها. * * *
كثيرة هي صور اليوم ،وتستطيع التصوير مع من تريد في الحياة ،مع نجوم الفن واألدب والسياسة ،ولكن تبقى القيمة في مدى احتفاظنا في ذاكرتنا بمناسبة هذه الصورة أو تلك ،حتى إذا ما افتقدناها كصورة قديمة في ألبوم ،ظلت في الذاكرة «صورة» ال تمحوها السنين. 2008/4/16
148
محمود دروي�ش
من منفى إلى منفى تعود!.. وعدت إلى دهرا خذلتك َ ها هي المنافي التي منحتك الطمأنينة ً
وغفو َت َب ْعد ُه منحتنا أجمله ْ منفاك الجوهري ساكتًا عن الكالم الذي ْ دون قصد. في منافيك ،أيها الجميل ،كان الور ُد ّ أقل .وكان مديحك للظل
العالي يأخذ مداه في الصبوات ويهتف في الحياة كيفما يشاء .لكنك أيها الص َّياد وأيها الطريد ،أيقنت َبعدها أن ال شيء يهرب منك ،حتى
الموت الذي كان هاجسك في الكالم وكان يسبق القصائد الختام
في الياسمين.
غمرك الموت أيها الغريب ،و»ميموريال هيرمان» يبحث في القلب
بجيشه األخضر عن «األبهر» العنيد الذي يختبئ بين األوجاع ويفتك بمفردات الحنين إلى قرية «البروة» ُأم الطفولة ومنشدتها األزلية في
الغياب.
149
كنت في وجع األبهر العنيد «فتى فلسطين» الذي ال يشيخ َ وكنت حينها وال َيطيح ،الفتى الواثق الرشيق ،صانع العبارة ومعناها. َ أمير الكالم وفارس القبيلة الذي لم يترك الحصان وحيدً ا في األرض وكنت كما يصفك الضوء دو ًما ،تتبع أثر الفراشة إلى النُّور.. اليباب، َ كنت أيها العاشق الجميل تلعب النرد وتفوز على وحدتنا وتغمرنا َ بدفء المكان الذي حللت .فأنت وحدك من كان يخرج بيننا ياف ًعا فيترك البياض ناص ًعا في مساحات الكدر الشاحبة.
كنت هناك تمضي بالقناديل والمناديل وعبق الجليل، وحدك َ أنت الكبير الذي من أحالمه يسلك الحمام سماء القدس وكنت َ َ أنت النبيل حدّ الهيام الذي يأخذ من السماء طلعة العتيق، وكنت َ َ الصباح كي يستقيم الشمس ومغيبها ويرسم الوطن العليل بفرشاة َّ المعنى في صميم الكينونة. كنت بارع النشيد ومنشده في «ديار عرب» خلت من العاشقين، َ كنت ذبيح محنتنا ،توقظ خطونا الثقيل في الفلوات ،فيعلو ومرارا َ ً مزهوا ممشو ًقا في العبارات. خطوك ً
وكنت المحظوظ في كنت أشقانا في لعب النرد وماهر ال سواك، َ َ مجابها لمؤامرة وكنت روابينا،علمتك المنافي مقارعة الوجع بالشعر، َ ً القلب على القصيدة..
وكنت البعيد أيها الحزين والقريب فينا .لكنك لم تكن تعرف أن َ منافيك ستأخذك يو ًما من سؤالك في الوجود إلى الخيمة العارية، 150
صامتًا في قفارها يتعقبك النحيب ،بعيدً ا عن ورداتك التي زرعتها في حدائق الحنين.
رام الله أقصى منافيك ومنافينا .لكن قبرك الذي هناك فينا، يحرسه ظلك العالي وأكاليل األشعار ،وال يعتليه الجدار العازل وال الخوف من عصابات «الهاغانا» ..فكن هناك بين بعضنا غاف ًيا في المهد وثر َّيات النشيد ،وكُن فينا ،في معانينا الصغيرة ،وكُن في سميتها ،ولك الفوز دو ًما أسماء القصائد التي غنَّيتها والوردات التي َّ يا العب النرد الجميل. * * *
وأخرجت دواوينك التي تذكرتك البارحة قبل موتك بيوم ْين، ُ وكنت في خالل اليوم ْين الباقي ْين أقرأ أهديتني بعد موتك بيوم ْين، ُ خطك الجميل وأجهش بالبكاء ،أشاطر لوعة األُم التي انكسر تنُّورها (لحظة الخبر) ولم ي ُعد الحنين مجي ًبا على خبزها.
كنت أفك تذكرت وسامتك في القلب وقرأت ابتهالك بي حين ُ ُ ُ ُلغز الكالم في صحافة بيروت منتصف السبعينيات ،ورأيتك بعد حملت ذلك كما أنت في لقائنا الطويل في طرابلس خريف .1976 َ إلي شوق اللقاء ُمجد ًدا في بيروت ،لكننا لم نكن لنلتقي أبدً ا في َّ أثناء تلك الحرب التي قسمت الزمن زمن ْين ،وكدنا نلتقي في تونس وبعدها في نيقوسيا لو لم تكن دائم السفر بين محطت ْين أخري ْين .كنا دائما على عجل ،نغادر ظاللنا اليائسة في اللحظة التي تنتصب فينا ً شمس الظهيرة ،وكأننا في األرض نزرع ونذرع وال نبال بحكمة عباد 151
الشمس في الحقول .نتقاسم العواصم وال نلتقي ..أبدً ا لم ن ُعد نلتقي، فاكتفينا كما يكتفي اليتامى بالحنين.
كنا نترك السالم بين األصدقاء ،في محطاتك المضيئة التي سرعان ما نغادرها أشتاتًا ونلتقي كي نغادرها أشتاتًا من جديد ،فلم يبق لنا بعد وغربتنا سوى ذكرى كل تلك المحطات غربتك َّ كل تلك السنين التي َّ حتما أظلمت في غيابك. المضيئة التي ً * * *
سالمي إليك من «سليم» في ستوكهولم ،ومن «صبحي» في باريس ،ومن «أمجد ونوري وحسام» في لندن ،ومن «عبد الرحمن» في نيقوسيا ،وسالمي إليك من «الياس» في بيروت ،ومن «سميح» «غسان و ُمنذر» في رام الله ..وسالمي إليك من في الناصرة ،ومن َّ كل السنونوات المهاجرة وقد اشتاقت إليك عنوة ،وسالمي إليك من ألق كل المنافي. سالمي إليك دو ًما ،وسالمي إلى رام الله س ِّيدة المنافي.
2008/8/15
152
بيروت �آخر الليل كانت (فيروز) فوق ،تحت القمر ،في بيتها على الجبل ..وأنا وزياد ،تحت ،في ليل بيروت أغسطس ،حيث الماء البارد يهرب من الجسد ساخنًا ،وحيث الثلج يهرب في الكأس العابرة ،وحيث الحكاية تأخذ مداها من الروشة إلى رصيف مقهى الويمبي.
وصديقي ،الشاعر حسين نصرالله والفنان التشكيلي محمد كنت ُ َّ شمس الدين ،على موعد مع الليل وقناديل حانة اللوز في شارع الحمرا ،تلك الحانة التشكيلية الحمراء التي يرتادها المثقفون ويسكنها صوت «فيروز» ونمنمات زياد الرحباني. لم يكن الكساد عاد ًيا ونحن نخرج من مقهى الروضة على الروشة ونأخذ المشوار بخطى واهنة على الكورنيش بين البحر والسابحات في الماء ،والسابالت على االيس كريم في الجهة األخرى.
قد يكون خواء الروضة من األصدقاء في ذلك المساء سب ًبا لتلك الحالة من الصمت الشعري التي أصابتنا وتقاطعت مع المشهد العام 153
لكورنيش المزرعة وجعلتنا في الوجد ندندن مع زياد الرحباني في الالمعقول في بيروت.
كانت حالة بيروت في ذلك المساء بالذات كمثل حالة فينيسيا القديمة وجميلتها الحزينة التي ترسم على الرصيف ضوء القناديل تتوهج في الماء .كانت فينيسيا مثلها تما ًما في الخيال الذي التي َّ صنعه األخوين رحباني ،غير أن بيروت التي عرفها زياد الرحباني كانت خالف ذلك ،مدينة بها عربة ذهبية بال حصان ،خيال الناس في الذهب ،والحصان يمرح في المدينة ويصهل وحيدً ا في شارع الحمرا. * * *
فتحنا أبواب شارع الحمرا عنوة في تلك الليلة من شهر آب، ال أحد بيننا في الحالة التالية .حملنا أعذار األصدقاء الذين غابوا في المالذات المجهولة ،واعتكفنا ثالثتنا في حانة اللوز التي سبقنا إليها قديما عن زياد .كان الصوت بيننا خفي ًفا تلك الليلة ،كأننا نكمل كال ًما ً «فيروز» حكيناه منذ ثالثين عا ًما ،وكأننا اآلن نهمس في ليل بيروت أن تغفو على أحالم جارة القمر.
خط نصرالله بدمع الشمعة األبيض مؤانسته الشعرية على الطاولة الحمراء ،ورسم شمس الدين بذات دمع الشمعة األبيض ضوء وجه الملكة ،ودندن زياد «موش فارقا معاك» ..فيما كانت أصابعي على الطاولة الحمراء تصنع إيقاع الروح بتلك األغنية. * * *
هرب األصدقاء في تلك الليلة عن المواعيد الجميلة ،وخلت 154
كثيرا لبيروت وهجروا األحالم بال قصائد.. المقاعد من مثقفين حلموا ً نادرا في السماء ،تقرأه هرب الناس من أحالمهم وبقى قمر لبنان ً تلمسان وعسقالن والجليل ،كما تقرأه صيدا وبكفيا وبعبدا ،حينها صارت القصائد لنا وحدنا في تلك الحانة المضوية في بيروت. * * *
دائما كان العجوز «ريمون» صاحب الحانة الحمراء العتيقة يراهن ً على صوت المثقف الذي يرتاد حانة اللوز في الليل .وكان يعرف دائما للمستقر في كثيرا ،هو السبيل ً أن العوز الذي ينتاب المثقفين ً حانته الصغيرة بليرات خجولة هي ثمن الوجع الذي يضعه اللبناني في جعة باردة من فيض سنابل األرض الدافئة. * * *
لم يزل الصبح بعيدً ا ،والليل كان يأخذنا إلى بعيد ،إلى جارة القمر التي نامت منذ قليل على رفيف الكالم.
غاب فينا الصوت الذي مأل الروح ،حملتنا فيروز إلى أبعد من المكان، ً أطفال عاشقين لألوطان ،لعبنا مع البنات في ذاكرة تلك األيام ،ومن ُعدنا وهج التوق رأيناها البياض الذي يكسو الليل بالنغمات .حينها عاد زياد ناعما مع ضوء القمر!.. إلى موسيقاه يبعث فينا كالم الليل الذي صار ينزل ً 2009/9/9
155
كُتب صدرت للمؤ ِّلف الجدران ـ قصص قصيرة .1978 األفواه ـ قصص قصيرة .1984 الطاحونة ـ رواية .1985
عالقة صغيرة ـ حكايات .1985
أصابع في النار ـ قصص قصيرة .1986
دراسات في األدب ـ مع آخرين .1986 خرائط الفحم ـ رواية .1994
رصيف آخر ـ مقاالت .1994
الغابة ـ قصص للصغار .1996
ظالل نائية ـ قصص قصيرة .1999
عودة الولد الصغير (حكايات من بنغازي) .2004
حائط اليوم السابع (تأمالت في جهة الضوء) .2005
أوراق في رياح الشرق (مقاالت في السياسة) .2006
صدر في هذه السلسلة 1ـ (قراءات في السلم والحرب) ،عبدالمنعم المحجوب. 2ـ (حبر المنفى) ،عمر الكدي.
3ـ (خاليا نائمة) ،محمود البوسيفي. 4ـ (أوراق تاريخية) ،مختار الجدال.
5ـ (ما وراء الحجاب) ،فتحي بن عيسى. 6ـ (منفى) ،ديوان شعر ـ عمر الكدي.
7ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية) ،خالد الحراري
جو ْك) ،قصائد محكية بلهجة ليبية ،سالم العالم. 8ـ ( َعلى ّ 9ـ (موسوعة الجهل النسبي) ،مقاالت ،الصدِّ يق بودوارة.
10ـ (راهنية التأويل (-)2سؤال الكيان) ،عبد المنعم المحجوب. 11ـ (الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية) ،خيرية فرج َحفالِش. 12ـ (من الذاكرة) ،حسين نصيب المالكي.
13ـ (اليد الواحدة) ،عبدالباسط أبوبكر محمد.