أصحاب المغيب

Page 1





‫أصحاب المغيب‬ ‫تأليف‪ :‬سالم الهنداوي‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في مايو ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫المحتويات‬ ‫ـ عودة الزورق الغريب‪7......................................................................... !..‬‬ ‫ـ البدايات‪9.............................................................................................. ..‬‬ ‫قصة وقصيدة ولوحة‬ ‫ـ ضفاف الكاتب‪ :‬روعة البيادر التي هناك بين ّ‬

‫لم تكتمل‪15........................................................................................... !..‬‬

‫ـ طائر قاسيون في لحظته الحالمة‪ :‬يرصد ما تب َّقى من جيوش النَّار‪..‬؟! ‪21.......‬‬ ‫ـ ذاكرة المكان في الرواية العربية‪ :‬لقاء في المغرب على ضفاف المشرق‪27....‬‬ ‫ـ عمر المختار ليس أنتوني كوين! ‪31..............................................................‬‬ ‫ـ ليلة في قصر اإلمام‪35............................................................................. !..‬‬ ‫ـ صباح الكمانجا‪ ..‬يا نوري! ‪41.....................................................................‬‬ ‫الح ُلم‪ :‬ذاكرة رجل يظهر في الخريف‪45........................................ !..‬‬ ‫ـ تكرار ُ‬ ‫ـ توقيت بيروت ‪49.........................................................................................‬‬ ‫ـ في الهزيع األخير من الليل‪ :‬ترحل األشباح وتبقى الرؤية في الدار‪53...... !..‬‬ ‫ـ ليلة قادتنا الفئران إلى المعرفة؟!‪ :‬دار الغرائب في وطن العجائب! ‪59...........‬‬ ‫ـ كيف نعتني بالورد قبل المغيب؟!‪ :‬معزوفة رومانسية في حديقة أمنيات ‪65....‬‬


‫ـ حالة ُحب استثنائية! ‪65................................................................................‬‬ ‫ـ حالة الثقافة وراء الستار السياسي‪ :‬أزمة حوار مع الجماهير‪..‬؟!‪69................‬‬

‫السكون؟! ‪75.....................................................................‬‬ ‫ـ ال أحد يبكي في ُّ‬

‫ـ كيف احترقت قبرص‪ :‬عند الرحيل الثاني‪..‬؟!‪81..........................................‬‬ ‫ـ أميركا والرجل السوريالي‪ :‬وجه مثل الحليب يسافر في الرحلة األخيرة! ‪87........‬‬

‫ـ ليل القاهرة‪ :‬كيف ينام القلم على سريره األبيض؟! ‪93..................................‬‬

‫ـ بيروت المساء‪99........................................................................................‬‬

‫كثيرا‪105................................... !..‬‬ ‫كثيرا‪ ..‬ومات ً‬ ‫ـ حكاية رجل الفـُرات‪ :‬سافر ً‬ ‫ـ اجهاشة الذاكرة في رواية المدينة! ‪109...........................................................‬‬

‫المحزنة‪115.................................................................................... ..‬‬ ‫ـ العودة ُ‬

‫ـ رصيف بيروت‪ :‬تكريس الديمقراطية في المقهى السياسي!‪121......................‬‬

‫ـ غيمة سلفادور دالي ‪127.................................................................................‬‬

‫ـ أغنية على جسر أبيض‪131........................................................................ !..‬‬ ‫ـ بيروت‪ ..‬ضاحية الشمال والجنوب‪135.....................................................!..‬‬

‫ـ على ورق أبيض‪141................................................................................. !..‬‬ ‫ـ ذاكرة الصورة‪145..................................................................................... !..‬‬

‫ـ محمود درويش‪ :‬من منفى إلى منفى تعود‪149............................................!..‬‬ ‫ـ بيروت آخر الليل‪153.....................................................................................‬‬


‫عودة الزورق الغريب‪!..‬‬ ‫ونزلت إلى البحر في ليلة عيد‬ ‫تركت األصدقاء في المدينة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أحسست أن صخب البحر في ديسمبر‪ ،‬ال بدَّ أن يكون مثل‬ ‫الميالد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ذلك الصخب الذي تركته خلفي منذ كذا عام‪ ،‬عندما كانت الزوارق‬ ‫تبحر بالغرباء إلى البعيد‪ ،‬حيث تسقط نجمة هناك‪ ،‬في ليلة عيد‬ ‫الميالد‪ ،‬ويسقط الضوء هناك‪ ،‬على طول الساحل البحري للمدينة‬ ‫التي و َّدعتنا بال ُقبل الحلوة‪ ،‬ودفعتنا إلى رصيف الميناء بذلك ال َّط ْيش‬ ‫الجميل قبل منتصف الليل‪ ..‬لنعبر الساللم الخشبية مندفعين بصخب‬ ‫للفوز بالصعود على متن ذلك الزورق الذي يدخل البحر لينتصف‬ ‫الليل على الغرباء‪ ،‬وليكون العام الجديد‪ ..‬مزيد سفر وترحال‪ ،‬بين‬ ‫موانئ مجهولة لم تطأها قد َما غريب‪ ،‬وبين أرصفة لمدن مشتهاة‪،‬‬ ‫كانت ذات مساء في أحالم العاشقين‪!..‬‬

‫أحسست أن البحر كان يمدَّ ني بتلك الرؤى الجميلة‪ ،‬فكانت‬ ‫ُ‬ ‫«الح َما َمة»‬ ‫تلك الساعة‬ ‫المتمهلة تنتظر نجمتها العالية في سماء قرية َ‬ ‫ِّ‬ ‫كنت وحدي هناك‪ ،‬على شاطئ‬ ‫على ساحل «الجبل األخضر» حيث ُ‬ ‫‪7‬‬


‫تحولت أمواجه إلى نساء صاخبات‪ ،‬يضحكن بصوت ٍ‬ ‫عال كأنه َّن‬ ‫َّ‬ ‫من رذاذ ذلك ال َّط ْيش الجميل الذي ترك لنا مناديل الليل في صباح‬ ‫العام الجديد‪!..‬‬ ‫عدت مصحو ًبا بالرؤى وحدي‪ ،‬كانت مدينة «البيضاء»‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫في ضباب تلك الليلة تذكِّرني بالعواصم التي أضاءت مصابيحها في‬ ‫لتوهم من البحر‪ .‬غير أن الليل الذي تبدَّ ل‬ ‫انتظار الغرباء وقد عادوا ِّ‬ ‫الصور‬ ‫إلى قمصان شفيفة برائحة تلك األسفار‪ ،‬جعلني بين ألبوم ُّ‬ ‫السهاد من‬ ‫ُأطالع الذكريات بين وجوه بعيدة‪ ،‬ترحل في الليل إلى ُّ‬ ‫شدّ ة التعب‪ .‬تعبرني في التعب بتلك الضحكات‪ .‬تختارني من دون‬ ‫الصباح‪ُ ،‬‬ ‫حيث يعتريني البرد وقد‬ ‫األصدقاء للفوز بها على مشارف َّ‬ ‫الصور‪ ..‬وبتلك الذكريات‪!..‬‬ ‫ُ‬ ‫بالح ُلم بتلك ُّ‬ ‫خرجت ملي ًئا ُ‬ ‫‪2003/1/10‬‬


‫البدايات‪..‬‬ ‫‪ ..‬كيف تلغي الفكرة؟ وكيف تلغي الدنيا؟‪ ..‬وكيف تلغي َّ‬ ‫الذات‬ ‫التورط أكثر في عالقات ال طائل من ورائها‪..‬؟ وكيف تكون‬ ‫من‬ ‫ُّ‬ ‫جديدً ا‪ ،‬في ما بعد‪ ،‬بال فكرة‪ ،‬وبال دنيا‪ ..‬إالَّ من ذات مهيأة لعالم‬ ‫آخر‪ ،‬لم ينسجه لنا األصدقاء‪ ،‬وال األعداء‪ ..‬أولئك الذين رأيناهم في‬ ‫يتوسطون دائرة النار الكبيرة‪ ،‬ويكبرون‪!..‬‬ ‫الحرب‪ ،‬والذين رأيناهم َّ‬

‫من الصعب أن ننجو من ورطتنا باآلخرين‪ ،‬الذين نحبهم‪ ،‬والذين‬ ‫أيضا أن ننجو‬ ‫ال نحبهم‪ ،‬من األمريكان واإلسرائيليين‪ .‬ومن الصعب ً‬ ‫فتحولت رؤانا إلى شرر‬ ‫من هذه الحرب النفسية التي تخ ُّيم علينا‪..‬‬ ‫َّ‬ ‫في ظالم دنيا ليست لنا‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫ونسمي األشياء كما هي‪ ..‬الطين‬ ‫كيف نصنع عالمنا المختلف إ ًذا؟‪..‬‬ ‫ِّ‬ ‫طين‪ ،‬والورد ورد‪ ،‬والنساء نساء‪ .‬وكيف نطلق الضحكة المحبوسة منذ‬ ‫محملين بالبنادق والجماجم وشهادات‬ ‫مرة‪َّ ،‬‬ ‫مر الجنود من هنا ذات َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪9‬‬


‫الدفن؟!‪ ..‬فأطلقنا ضحكاتنا العالية في غفلة من شجرات البرتقال‬ ‫والصنوبر‪ ،‬وال ُعشب المب َّلل بندى الذاكرة‪ .‬تنتبه إلينا الواجهات‪ ،‬فتضاء‬ ‫المدن المطفأة‪ ،‬ويضحك األطفال‪ .‬تمضي األغنيات إلى‬ ‫مصابيح ُ‬ ‫مسرحها الصيفي‪ ،‬وتمضي العاشقات إلى نور الرجل الالمع‪ ..‬وإلى‬ ‫تتعجب األحوال المتبدِّ لة‪!..‬‬ ‫مقهاها تجلس الذاكرة‪َّ ،‬‬ ‫* * *‬

‫طويت‬ ‫وأحسست في غفلة مني‪ ،‬بأنني‬ ‫طويت ورقة التلوين‪.‬‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بدأت ُأدرك معنى الرحيل إلى‬ ‫قبري‪ ،‬قبل عمري‪ .‬وبأنني‬ ‫كبرت حين ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّرت‬ ‫السرية والروايات‪ .‬تذك ُ‬ ‫المدن المشبوهة بالنساء والعصابات ِّ‬ ‫تتجرع كأسها المسائي في «فيا فينتو»‬ ‫«روما» التي تركتُها ورائي‬ ‫َّ‬ ‫تغتالها المصابيح وعيون الغرباء‪!..‬‬ ‫أي معنى‪ .‬والقطار‬ ‫لم يكن للوقت الفاصل بين الفكرة والفكرة‪ّ ،‬‬ ‫سيصل إلى «بوخارست» بعد ساعات قليلة‪ .‬الليل طويل‪ .‬والرحلة‬ ‫طويلة‪ ..‬وال ُعمر طويل‪ .‬والقلب خزانة صغيرة لوخزات الزمن‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫كل شيء تركته خلفي‪ :‬العواصم‪ ،‬الذكريات‪ ،‬األصدقاء الذين‬ ‫رحلوا‪ ،‬والذين يقبعون هناك في كوخهم البحري‪ ،‬يرمون ِّ‬ ‫بالشباك‪،‬‬ ‫مر عليها أكثر من شتاء‪ .‬واألمهات الط ِّيبات‬ ‫ويكملون الحكايات التي َّ‬ ‫بالسمك‪ ،‬أو‬ ‫الالئي يحفظن وجه شارعنا القديم‪ ،‬ينتظرن قدومهم َّ‬ ‫بأخبار الطقس‪ ،‬أو بأخبار الغرقى‪!..‬‬ ‫كل شيء كان خلفي‪ .‬حتى روما صارت خلفي‪ .‬ضاقت بي بعد‬ ‫‪10‬‬


‫الرسامة «مارينا» التي أطلعتني‬ ‫شهرين من اإلقامة في بيت الصديقة َّ‬ ‫ذات يوم على الرخام األسود في أحياء روما القديمة‪ ،‬والتي ُأ ِ‬ ‫لصق‬ ‫ُّ‬ ‫عليها في العام ‪ُ 1932‬صور إعدام عمر المختار‪!..‬‬

‫كان موسوليني أسود بين خروم الذاكرة السوداء للفاشية‪ .‬وكانت‬ ‫صديقتي ترسم وجهه بعود ثقاب على الجدار الفاحم‪..‬‬ ‫المبهمة‪ ،‬ضاقت بالقلب الذي أفرغ كل‬ ‫روما س ِّيدة الذكريات‬ ‫َ‬ ‫قصائده على أرصفتها‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬كان ال بدَّ لي أن أكون في «بوخارست» قبل نهاية الشهر‪ ،‬حيث‬ ‫تبدأ إجازة صديقي «نجيب» لنمكث هناك بضعة أيام‪ ،‬ثم نعود إلى‬ ‫كثيرا في روما‪ ،‬وهاهي تغازلني اآلن‪ ،‬وستغازلنا‬ ‫بنغازي التي غازلتني ً‬ ‫حتما‪ ،‬في أول ليلة نقضيها م ًعا في بوخارست‪!..‬‬ ‫ً‬ ‫كان القطار ُّ‬ ‫فالدوي كالم‪ .‬كال ٌم من‬ ‫سحرا عجي ًبا في قلبي‪.‬‬ ‫يبث‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ونمت جيدً ا‪ .‬وتوصيني بالغطاء‬ ‫أكلت جيدً ا‪،‬‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أمي‪ ،‬تسألني إن ُ‬ ‫كثيرا في الغربة‪.‬‬ ‫الج ِّيد‪ ،‬وبأالَّ أتأخر ً‬

‫قلت لها‪ ،‬سأعود بعد أسبوعين‪ ،‬أو بعد شهرين‪ ،‬أو بعد عامين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بكيت وحدي‪ ،‬والدنيا ظالم‪..‬‬ ‫فأسكتتني برائحة حنّاء ك ِّفها‪ ،‬وبكت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الصور‪..‬‬ ‫وزجاج النافذة يعكس وجهي البعيد في ُّ‬ ‫ونمت‪.‬‬ ‫الحارة‪،‬‬ ‫سقطت الدمعة‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬

‫* * *‬ ‫‪11‬‬


‫أفقت من نومي على لسعات البرد‪ ،‬والدنيا فراغ دامس‪ .‬الدنيا‬ ‫ُ‬ ‫ذاكرة وصوت قطار يلج نف ًقا مضي ًئا‪ ،‬ثم يدخل في ظالم!‬

‫ثالث ساعات تقري ًبا وأصل إلى بوخارست‪ .‬مازالت ثالث سنوات‬ ‫وأصل إلى بنغازي‪ .‬مازالت ثالث سنوات وأصل إلى ُأمي‪..‬‬

‫فكيف لدنيا عجيبة مثل روما‪ ،‬تعجز عن أن تنسيني بنغازي؟!‪..‬‬ ‫وكيف يعجز برج «بيزا» عن أن ينسيني منارة «سيدي خريبيش»؟!‪..‬‬ ‫وكيف لشارع «فينتو» االحتفالي‪ ،‬يعجز عن أن ينسيني شارع عمر‬ ‫المختار؟!!‬ ‫* * *‬

‫زرت‬ ‫تلك كانت حكاية القلب معي في أول السبعينيات‪ ،‬عندما ُ‬ ‫وجدت‪،‬‬ ‫اندهشت حين‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫مرة‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وزرت رومانيا ألول َّ‬ ‫إيطاليا ألول َّ‬ ‫في اآلونة األخيرة‪ ،‬بين أوراقي‪ ،‬قصاصات خواطر عن تلك الرحلة‪،‬‬ ‫التي كان من طبيعتها أن تحفظ لي شي ًئا من الوهج والتع ُّلق بالبدايات‪،‬‬ ‫الحب‪ ،‬مع الكتابة‪ .‬كان ال بدَّ أن تكون بداية‬ ‫أي بدايات‪ ،‬مع السفر‪ ،‬مع ُ‬ ‫ِّ‬ ‫بأي شيء‪ ،‬تأخذ‬ ‫فأي عالقة ِّ‬ ‫الصحوات األولى بكل شيء في العالم‪ِّ .‬‬ ‫طبيعتها في نمو‪ ،‬نحو تأسيس وعي شامل بها‪ .‬لذلك كان ال بدَّ لنا‬ ‫أن نحب‪ .‬وكان ال بدَّ لنا أن نسافر‪ .‬وكان ال بدَّ لنا أن نكتب‪ ..‬وكان‬ ‫الخاصة‪،‬‬ ‫دونت فيها حاالتي‬ ‫َّ‬ ‫ال بدَّ لي أن أتذكَّر تلك اللحظات التي ّ‬ ‫وشعوري بمدى تأثير الغربة على التجربة األدبية‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪12‬‬


‫كان من الطبيعي أن يفتر ذلك الولع البدائي‪ ،‬وأن يأخذ مداه‪ ،‬في ما‬ ‫بخاصة بعد أن صار السفر حالة دائمة‪ ،‬له‬ ‫بعد‪ ،‬في استراحات الذاكرة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أيضا‪ ،‬في عملية الكتابة اإلبداعية‪.‬‬ ‫المهمة‪ ،‬وإضافاته‬ ‫تالوينه‬ ‫المهمة ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫المشاهد واالحتماالت‪ ،‬وهو‬ ‫فالسفر متاهة‪ ..‬وهو كتابة العين ألولى‬ ‫أيضا رصيفنا ومقهانا في‬ ‫النص الذي ال ينتهي بأسئلته وغرائبه‪ ..‬وهو ً‬ ‫ّ‬ ‫التعب‪.‬‬ ‫السفر‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬تصحيح للذاكرة‪ ..‬ومحاولة ُمجدية ألن‬ ‫نكون في العالم‪ .‬لذلك‪ ،‬كانت تشدُّ ني تلك اللحظات‪ ،‬فأحببتها‬ ‫أحببت تلك األعوام!‬ ‫اآلن‪ ،‬مثلما‬ ‫ُ‬ ‫ربيع ‪1991‬‬

‫‪13‬‬



‫�ضفاف الكاتب‬

‫روعة البيادر التي هناك‬ ‫قصة وقصيدة ولوحة لم تكتمل‪!..‬‬ ‫بين ّ‬ ‫ال أنا من اسكندنافيا‪ ،‬وال أنا من قوقازيا‪ ،‬وال أنا من أصل فينيقي‬ ‫عريق‪ُ .‬يحكى أن األفارقة ُهم من أصل عربي‪ .‬غير أنني من شمال‬ ‫فسكَّان الشمال‬ ‫أفريقيا‪ ،‬ال من جنوبها‪ ،‬فقد أكون فينيق ًيا دون أن أدري‪ُ .‬‬ ‫األفريقي والجنوب األوروبي‪ ،‬قد يكونون في األصل من عائلة‬ ‫تعرض لها‬ ‫واحدة‪ ،‬وينتمون إلى حضارة واحدة نشأت في منطقة َّ‬ ‫تعرض لها القراصنة في البحر‪ .‬ومن بقى من‬ ‫البر‪ ،‬كما َّ‬ ‫الطوفان في ِّ‬ ‫«العائلة» تناثروا على سواحلها يصطادون الغوايات‪!..‬‬ ‫فأنا الذي ُأقيم بجسدي في أفريقيا‪ ،‬لم أستطع كبح جماح الخيال‬ ‫المسافر أبدً ا بين أوطان البحر المتوسط‪ .‬وكأنني أبحث بهذا الخيال‬ ‫كنت أعرفها‬ ‫عن حائط مفقود في غرناطة أو فينيسيا أو أثينا‪ ،‬ووجوه ُ‬ ‫مرارا على‬ ‫تعر ُ‬ ‫فت إليها ً‬ ‫دائما معي أثناء الكتابة‪َّ .‬‬ ‫أو ال أعرفها كانت ً‬ ‫صفحة بيضاء واصطدنا السمك م ًعا‪ ،‬وشربنا م ًعا نخب الشواء‪.‬‬ ‫‪15‬‬


‫سافرت إلى تلك الحيطان‪ ،‬سأعرفها‪.‬‬ ‫كنت أعرف أنني لو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫التقيت تلك الوجوه على رصيف ذلك الميناء سأعانقها وأعاتبها‬ ‫ولو‬ ‫ُ‬ ‫لماذا تترك البحر وتنام‪..‬؟!‬

‫عدت من جزيرة قبرص‪،‬‬ ‫والبحر الذي صار ينأى في خيالي منذ‬ ‫ُّ‬ ‫ترك لي التذكار القديم في «غاليري» الصديق «أحمد األتاسي» في‬ ‫نيقوسيا‪ ،‬وترك صخب األصدقاء‪ ،‬من العرب واألجانب‪ ،‬في اللوحة‬ ‫الرخام العتيق في ليلة االفتتاح‪!..‬‬ ‫التي فاضت بألوانها ومألت ساللم ُّ‬ ‫* * *‬

‫من األحالم بإعادة صدور مج َّلة «فرح» لألطفال‪ ،‬صار الشاعر‬ ‫«غزة» يحاضر في جامعة تسقط‬ ‫الدكتور «عبد الرحمن بسيسو» في َّ‬ ‫في قصف طغاة الليل والنهار‪ .‬والشاعر والروائي «سليم بركات» بعد‬ ‫سنوات تاقت إلى «الكرمل» يطوي المخطوطات ويغادر «الشريط‬ ‫الحدودي» إلى «السويد» حيث مقعد «الكردي الجميل» يغمره‬ ‫ضباب «ستوكهولم» بذكريات المكان المهيب‪ ،‬مبعث الغواية األولى‬ ‫في االغتراب‪ ،‬الذي صار بعيدً ا في غبار يرسم شريط الفصل بين‬ ‫الجراح»‬ ‫القبارصة اليونانيين والقبارصة األتراك‪ .‬والشاعر «نوري َّ‬ ‫من تع ُّلقه بقصيدة ضائعة في مياه المتوسط‪ ،‬ومن خسارته الفادحة‬ ‫ألحالم «الكاتبة» في لندن‪ ،‬يغادر األمكنة على عجل‪ ..‬من لندن ينام‬ ‫بيننا في ليل نيقوسيا‪ ،‬ومن نيقوسيا التي داهمها الضجر‪ ،‬يتركنا إلى‬ ‫«أبوظبي» في خطوه الرشيق يزرع األمنيات في الحقل الجديد‪ .‬غير‬ ‫مرة‪ ،‬من‬ ‫أن َّ‬ ‫الطوافة الواثقة التي أخذت الشاعر «أمجد ناصر» ذات َّ‬


‫قصفت مقهى «ليدرا» في تلك الليلة‬ ‫معارك الجزيرة في بحر الكلمات‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫بعناقيد الشوق حين كنَّا نجلس خمستنا في طقس قبرص الثمانين يات‪،‬‬ ‫وكان معنا ينتظر الشاعر «حسام الدين محمد» ُيقبل من عتمة الشارع‬ ‫الجانبي إلى ضوء المقهى على الناصية العالية‪ .‬يشتعل المكان بالكالم‬ ‫الذي أنشأ جزيرة الروح وطار بجناحيه إلى «بيروت»‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫ً‬ ‫وأطفال نلعب في «الجزيرة» بخيال يبني العواصم‬ ‫غرباء ُكنَّا‪..‬‬ ‫ويد ِّمرها‪ .‬فوضانا كانت من نشأة مبكِّرة افتقدناها على رصيف‬ ‫بال مقهى في أوطان مالحة‪ ،‬صادر البوح في الطريق‪!..‬‬ ‫وهن ُيضئن النفق‬ ‫َع َبرتنا النساء بالورد وتذاكر «المترو» األنيق‪ُ ،‬‬ ‫ويشتعلن في محطة الوصول وسط المدينة‪ .‬ذكَّرني هذا المشهد بامرأة‬ ‫اشتعلت أمامي ذات مساء في «بودابست» وهي تخرج من النفق إلى‬ ‫مقهى في «جادة أديب»‪ ..‬أضاءته واختفت!‬ ‫* * *‬

‫قرأت «إيميل» الصديق الجالس هناك وحيدً ا‪ ،‬في مقهى على‬ ‫فتحت النافذة على الرطوبة العالية التي تكتسح مشهد‬ ‫رصيف الغرباء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الظالم في الشارع‪ .‬والذباب البالغ في الشراسة‪ ،‬استيقظ لوجهي في‬ ‫هجمت واحدة‬ ‫الغرفة القائضة‪ .‬صار الطنين يصادر الروح المتو ِّقدة‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫والتصقت به بلهفة العاشق‪ .‬ثم ح َّط ْت على شاشة‬ ‫الرطب‬ ‫ْ‬ ‫على وجهي ّ‬ ‫الكمبيوتر تقرأ «اإليميل» في صمت‪ .‬بعد لحظات اجتاح الطنين‬ ‫‪17‬‬


‫الغرفة وح َّطت ذبابة أخرى على شاشة الكمبيوتر‪ .‬لم أعرف الذكر‬

‫متوحدتين‬ ‫من األنثى‪ .‬تهامست الذبابتان في ُمهجة الضوء وصارتا‬ ‫ِّ‬ ‫مثل نحلة عسل متح ِّفزة‪ ،‬طارت إلى وجهي‪!..‬‬ ‫المتهورة على الفور‪ ،‬ألن وجهي ليس أرجوحة‬ ‫رفضت الفكرة‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫بغاء‪ .‬أنا وجهي محطة سفر لعيون النساء‪ ،‬ول ُق ُبالت في المساء‪.‬‬ ‫وأشعلت نصف السيجارة الباقية‬ ‫نفضت الذبابتين عن وجهي‬ ‫لذلك‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫احتجاجا على سلوك الليل‪!..‬‬ ‫ً‬

‫* * *‬

‫أسفل «اإليميل» كانت صورة تذكارية في نهار «أحد» جمعتنا‬ ‫بالشاعر «منذر عامر» الذي ِ‬ ‫قدم من «فلسطين» في «أبريل» العام‬

‫الماضي‪ ،‬يبحث عن كُتب مركز الدراسات الفلسطينية كانت وديعة‬

‫في ذ َّمة عجوز قبرصي منذ أكثر من عشر سنوات‪ .‬وبالسالم الذي فتح‬ ‫باب المؤسسة في «رام الله» فقد حان وقت عودتها إلى دارها اآلمنة‪.‬‬

‫لكن القصف الذي داهمها في «أبريل» هذا العام‪ ،‬أضاع األمانة من‬ ‫جديد إلى نار لم ت ِ‬ ‫ُبق على شيء‪ .‬فكانت السنوات العشر تنتهي في‬

‫عشر ثواني‪!..‬‬

‫ً‬ ‫متفائل منذ سنوات بعودته إلى فلسطين‪ ،‬كما‬ ‫كان الشاعر «عامر»‬

‫و»غسان زقطان» وبقية األصدقاء الذين فتحوا أشرعة‬ ‫«أحمد دحبور»‬ ‫َّ‬

‫األسفار في األزمان العنيدة وعادوا إلى المهد بأحالم تستعيد الطفولة‬ ‫في مجد القصيدة‪!..‬‬

‫‪18‬‬


‫كان الشوق إلى «قبرص» من ُعمر تلك السنوات التي أمضيناها‬ ‫هناك تحت شعار «الكرمل» ودفء صاحبها «محمود درويش»‬ ‫والساكن في طقسها «سليم بركات»‪ .‬لكن الشوق الذي فرح ببعض‬ ‫األصوات الثقافية الباقية في جزيرة المالذ العربي‪ ،‬وفرح بالعثور‬ ‫على ذخيرة المعرفة الفلسطينية األسيرة منذ زمن‪ ،‬سرعان ما تبدَّ د‬ ‫بين شتاتنا من جديد‪ ،‬والحريق الذي اندلع بضراوة‪ ،‬في فلسطين‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫إذا كان الصوت يصل من بعيد عبر «اإلنترنت» كما الصورة‬ ‫والحكاية‪ ،‬فإن ولع الشوق يظل في العناق‪ .‬وتلك هي المحنة التي‬ ‫أخذت منا اللقاء الحميم على ناصية قبرص‪ ،‬ونَثرتْنا «أوحا ًدا» بين‬ ‫ليبيا واإلمارات وفلسطين والسويد‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫وفتحت نافذة الشوق على‬ ‫أوصدت النافذة على الرطوبة العالية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫بسته معي‬ ‫تلك المقهى في مساء «نيقوسيا»‪ .‬غير أن البعوض الذي َح ْ‬ ‫صرت اضرب بالمنديل‬ ‫في الغرفة‪ ،‬صار يتآمر ضدي مع الذباب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كالمجنون في الهواء الحبيس‪ ،‬أطرد األجسام التافهة التي أكلت‬ ‫وجهي وأطرافي وصادرت حقي في الكتابة‪!..‬‬ ‫سالت بقع الدم على شاشة الكمبيوتر ولم ينقرض البعوض‬ ‫ولم يتو َّقف عن اللسعات الحارة‪ .‬كان يشرب من دمي ألراه بعد‬ ‫غزيرا بأوجاعي‪ .‬صار وجهي يحترق‪،‬‬ ‫وقت على الصفحة البيضاء ً‬ ‫‪19‬‬


‫تضج في بؤس‬ ‫وشرسا‪ ،‬كأنه لعنة أغسطس‬ ‫سمجا‬ ‫والذباب صار‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫المكان‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫اشتهيت أن أكون هناك‪ ،‬بين‬ ‫مللت المكان الذي ضاق بي في ليلة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أصدقاء حلمنا م ًعا بروضة صغيرة تضئ سماء الكون!‬

‫مللت المكان الذي ابتعد عن ذاتي وأعطب المصابيح في شارع‬ ‫ُ‬ ‫الظالم والرطوبة العالية‪ ،‬و»عبد الرحمن» كان في األثناء‪ ،‬هناك‪ ،‬بجوار‬ ‫الصباح‪!..‬‬ ‫القصف الذي ضرب «غزة» الحالمة بزيتون َّ‬

‫‪ ...‬لعن الله الجامعة يا «عبد الرحمن» على هذه المعرفة التي‬ ‫وبعوضا‪ ..‬ال يموت؟!!‬ ‫تموت‪ .‬ولعن الله «اليهود» كم صاروا ذبا ًبا‬ ‫ً‬

‫‪2002/8/2‬‬

‫‪20‬‬


‫طائر قا�سيون في لحظته الحالمة‬ ‫ير�صد ما َّ‬ ‫تبقى من جيو�ش ال َّنار‪..‬؟!‬ ‫شيئان في دمشق ال بدَّ من رؤيتهما عن قرب‪ ،‬والرؤية منهما عن‬ ‫نزلت إلى الشام‪ ،‬من قبرص‬ ‫ُبعد‪ ..‬ال أذكر أنني‬ ‫أغفلت زيارتهما ك َّلما ُ‬ ‫ُ‬ ‫جوا‪ ،‬أو من بيروت ًبرا‪ُ ..‬هما (جبل قاسيون) و(محمد الماغوط)‪.‬‬ ‫ً‬

‫تبدو لك دمشق من هذا الجبل ـ صديق العاشقين ـ مثل منازل‬ ‫المت َعبين في التاريخ‪ .‬ترى الصمت كأنه الباب الكبير البعيد‪،‬‬ ‫الموصد على أناس ال تعرفهم‪ .‬غير أن طلعات الناس من أعماق‬ ‫المنازل قبل المغيب‪ ،‬توحي ِ‬ ‫بقدم العالقة بين أهالي الشام‬ ‫وقاسيونهم‪ .‬ومع المغيب ينفتح ذلك الباب األسطوري على‬ ‫لتوها من مرقدها في التاريخ‬ ‫الضوء‪ ،‬فترى دمشق كأنها خرجت ِّ‬ ‫بأغنية مضيئة تسكن عيون الرائي‪ .‬وعلى الجبل‪ ،‬حيث يكون الليل‬ ‫المهجة‪ ،‬ويختفي الباب األسطوري عن مكانه البعيد‪،‬‬ ‫في صدارة ُ‬ ‫تكون دمشق باجلة في ضوئها‪ ،‬كأنها هي من حملت قاسيون‬ ‫إلى المهابة‪ ،‬وكأن قاسيون قد صار لغتها البصرية في المكان‬ ‫‪21‬‬


‫المختلف‪ ،‬وكأننا نحن‪ ،‬شهود تلك اللحظة اآلسرة‪ ،‬معنيون بألق‬ ‫الشام وتفاصيل المكان فيه‪.‬‬ ‫* * *‬

‫من بعيد تبدو الرؤية تسبح في اختيارات ال متناهية‪ ،‬تصنع السؤال‬ ‫البديهي عن حاالت عاشقة من الزمن القديم تتّقد في النفس كأنها‬ ‫مشاعل محاربين قدامى يجوبون الظالم بمحاذاة القلعة الحصينة‪،‬‬ ‫وفي الليل‪ ،‬منذ المساء الذي يسدل الستار على التعب‪ ،‬تبدو المدينة‬ ‫المنتشلة إلى العشق النادر‪ ،‬براح قصيدة لم يكتبها شاعر‪ ..‬تمضي‬ ‫القصيدة إلى عاشقها ويبقى الشاعر يبحث عن مكانه بيننا‪.‬‬ ‫* * *‬

‫قد يبدو وجه الشبه بعيد بين طرازات خيال مسافر لم يمض سوى‬ ‫ساعات قالئل على جبل اسمه ( قاسيون) فارغ في المحيط وعتمته‪،‬‬ ‫ومليء بكل تفاصيل الوجود وسحره‪ ،‬وغابر كما الحكايات التي‬ ‫عبرت ذات مرات سطوعه األسطوري وسكنت فينا‪ .‬وبين شاعر‬ ‫ال تغريه مرتفعات التخوم‪ ،‬وتغريه المغامرات الشاهقة‪ .‬شاعر في‬ ‫المدينة‪ ،‬ليس باهتًا كظله الذي يتبعه إلى مقهى الشام على الرصيف‬ ‫العريض كل مساء‪ ،‬وحين يقتعد جنب النافذة في إطاللة مباشرة‬ ‫على رصيف المشاة‪ ،‬يكون واث ًبا كالصقر الذي يلمح طرائده‪.‬‬ ‫الصور‬ ‫تغمره الكلمات بحنين الذاكرة إلى وجدها‪ ،‬ما إن تشتعل فيه ُّ‬ ‫حتى ينطفيء في فنجان قهوة عبقة تأخذ معها الدخان الكثيف إلى‬ ‫رئتين عميقتين تحمالن رائحة الشمس وال ُغبار‪ ،‬وتحمالن الماء‬ ‫‪22‬‬


‫البارد والعبارات‪ ،‬وخلود التبغ والفرح بميالد جملة ثائرة قد تخمد‬ ‫في صدمتها بروضة التبريد االصطناعي‪ ،‬وقد تشتعل في لحظتها‬ ‫العنيدة فتحيل المكان الهادي إلى زوبعة من أفكار‪ ..‬تنتهي إلى‬ ‫دفتره الصغير‪.‬‬ ‫* * *‬

‫لكنت سحبته من‬ ‫الملحة إلى قلمه الصغير‬ ‫لو لم أعرف بحاجته‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫واحتفظت به وبحبره القليل الالذع‪ ،‬وألقنعته‬ ‫بين أصابعه المكتنزة‬ ‫ُ‬ ‫بأن لدفتره حق االحتفاظ بقليل من ورقات بيضاء‪ ،‬ليست للكتابة‬ ‫في زمن يأخذنا عنوة إلى المأساة‪ ،‬وإنما للتأمل في أسطرها الباهتة‬ ‫إلى النهاية‪ ،‬وتلك يجب أن تكون كتابة الماغوط في آخر ورقتين‬ ‫كثيرا أن‬ ‫فارغتين‪ ،‬هما الحقيقة الواقية في عقل كل مثقف حاول ً‬ ‫يكتب كل شيء في زمن يأخذ منا كل شيء‪ ،‬وإليه الصفحات‬ ‫البيضاء‪ ،‬لمراثي لم نكتبها لبقية الطالعين فينا‪ ،‬عن موتى يشبهوننا‬ ‫في البالد‪ ،‬في قاعنا األخير المتخم بالفواجع‪ ،‬بين جملتين حملتا‬ ‫نعش األمل إلى مثوى الشرق‪ ،‬وانطفأتا في الطريق المع َّبد إلى‬ ‫الهزيمة‪.‬‬ ‫* * *‬

‫في منتصف مقالته نصف الشهرية في المطبوعة األسبوعية‪ ،‬أقفل‬ ‫فقلت له منذ‬ ‫الماغوط دفتره الصغير وسألني متى جئت من قبرص‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يومين ألراك اليوم وأعود غدً ا‪ .‬طلب لي قهوة وعاد إلى السعال‬ ‫أثرا باهتًا على‬ ‫المكبوت حدّ االنفجار‪ ،‬فيما قلم الحبر األزرق يترك ً‬ ‫‪23‬‬


‫فأدركت معاناته مع طالعه في الكتابة التي أخرجته‬ ‫إبهامه العريض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫من البيت مبك ًِّرا‪ .‬لم أعتذر له عن فشلي في دعوته إلى قبرص ألنه‬ ‫ال أحد اعتذر لي عن عودتي من قبرص‪ ،‬وظل مشروعنا الصحفي‬ ‫العربي األمثل‪ ،‬قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب على‬ ‫مهد لخسارته‬ ‫العراق‪ ،‬طريح مزاج عقل خاسر في صبواته الكاذبة‪َّ ،‬‬ ‫المعرفية بقيمة خطوط الماغوط على الكريكاتور العربي السياسي‪،‬‬ ‫متأخرا‪ ،‬أن ال شيء‬ ‫أيضا‪ ،‬يوم أدرك‬ ‫ووقع في الخسارة الفادحة ً‬ ‫ً‬ ‫يمتلكه المبدع غير قلم مقارع على الرصيف‪ ،‬في المدينة‪ ،‬وسط‬ ‫الناس‪ ،‬وقد نهض الماغوط كالجبل المندفع إلى باب المقهى‪،‬‬ ‫تنحني له المارة‪.‬‬ ‫* * *‬

‫مررنا على بائع الصحف للسؤال عن ٍ‬ ‫عدد جديد لم يصل‪ ،‬وعن‬ ‫ُ‬ ‫ترجلنا على الرصيف العريض في صمت حزين‬ ‫رسائل تأخرت‪ّ .‬‬ ‫تخللته قرعات عكاز الكهل المخيف‪ ،‬وفيما لمح قاسيون‪ ،‬ذلك‬ ‫يتوهج من بعيد‪ ،‬رفع العكاز نحو تلك‬ ‫الشبح العالي في فضاء الشام َّ‬ ‫فقلت بال تر ُّدد‪:‬‬ ‫ذهبت إلى هناك؟‪..‬‬ ‫القمة وسألني دون تر ُّدد‪ :‬هل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪ ،‬فقاسيون هذا الشاهد الواثق‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬وهذه المرة وحدي ً‬ ‫يمنحك تداعيات األسطورة وينفرد بك في قراءة متأنية لعمالقة‬ ‫الشرق‪ ،‬كأنك بذلك تريد أن ترى كل شيء وتستدعي كل شيء إلى‬ ‫راحتيك‪ ،‬وتمضي إلى الكتابة‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪24‬‬


‫لقد أصبح الماغوط الذي كانت أوراقه تترع بالكثير من الهوامش‬ ‫السياسية‪ ،‬هي ذخيرته الح ّية التي كان يطلقها في مسرحه السياسي‬ ‫وحريصا‬ ‫حريصا في خطواته‬ ‫ـ الذي كان وال يزال رائده بال منازع ـ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫على قلمه ونوتة أوراقة‪ ،‬ال يعيد كتابة مقالته وإنما يتأخر في كتابتها‪.‬‬ ‫ال يكتب سوى الكلمة التي تخرج من رؤيته وال تعود‪ .‬تبوح العبارة‬ ‫عنده بأسرارها الواثقة كقصيدة‪ ،‬وكأنه ينهل من ينابيع خلت من الماء‬ ‫ومن الوافدين إليها‪ ،‬يحفر في أرض ال يراها أحد سواه‪ ،‬بعينين تلمعان‬ ‫في بريق الرؤية‪ ،‬كأنه صقر الكالم الذي ال يشيخ وإن ك ُثرت مواسم‬ ‫الصيد في الصحافة العربية‪.‬‬

‫يأخذ الماغوط مكانًا بعيدً ا عن الضوضاء‪ ،‬ثم يندفع كما الصاعقة‬ ‫يكتسح البالدة التي تحيط بالعقل والمخيلة‪ ،‬فنقرأه عنيدً ا متأل ًقا ضد‬ ‫كثيرا‬ ‫سكون الموت واإلحباط‪ ،‬مار ًدا‬ ‫ً‬ ‫وقابضا على جمر اشتهيناه ً‬ ‫فمشيناه قوافل ال تت َعب‪ ،‬فكان مفجعنا بالعبارة وألق داللتها وسحر‬ ‫نسيجها‪.‬‬

‫إنه القابع هناك وحيدً ا في الدار الخاوية‪ ،‬على أريكة ال ُعمر‪،‬‬ ‫تهدهد القلب الموجوع بسكرات الفواجع‪ ،‬لخلود في الروح‬ ‫الساهرة دو ًما كما النمر الشيخ المسترخي على أريكة الذاكرة‪،‬‬ ‫يلتهم التبغ وماء النار الم ِ‬ ‫ساهما في‬ ‫دهش‪ ،‬يخلد في التعب العظيم‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الخيال البعيد كل ليلة‪ ،‬يتأ َّمل محيط الضوء في المصابيح الواهنة‬ ‫على السقف‪ ،‬شفيف المشاعر إلى سحرها‪ ،‬يتأملها بدخان تبغه‬ ‫الكثيف‪ ،‬وقنينة الماء لم ت ُعد باردة‪ ،‬والذاكرة الساهمة في تفاصيل‬ ‫‪25‬‬


‫ِ‬ ‫ومرت‬ ‫مرة‪ ،‬تُشعل القناديل لميالد القصائد‪َّ ،‬‬ ‫وجوه كانت هنا ذات َّ‬ ‫المرة‪ ،‬بال معنى‪ ،‬تطفيء الذاكرة عن مشهد الهزيمة‪،‬‬ ‫من هنا‪ ،‬هذه َّ‬ ‫لمن عبروا أشالء في غزة وبعقوبة‪ ،‬وتركونا نلتهم نهايات ال ُعمر‬ ‫بالضوء الواهن في العتمة‪ ،‬نطفئه‪ ..‬ونموت‪..‬؟!‬ ‫‪2004 /10 /1‬‬

‫‪26‬‬


‫ذاكرة المكان في الرواية العربية‬

‫لقاء في المغرب على ضفاف المشرق‬ ‫التقيت بروائي مشرقي يزور المغرب إلعادة طباعة‬ ‫منذ أعوام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫خاصة في أول الثمانينيات عن الرواية‬ ‫كتاب كان أصدره في طبعة َّ‬ ‫العربية‪ .‬وقد تناول في كتابه نماذج عديدة من الرواية القديمة والحديثة‪،‬‬ ‫التحوالت التي طرأت على الرواية العربية بنماذج‬ ‫مستعرضا أهم‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬ ‫ُمختارة من المشرق والمغرب‪.‬‬

‫دار الحوار بيننا في أحد مقاهي شارع «محمد الخامس» في الدار‬ ‫البيضاء‪ .‬جلسنا إلى طاولة صغيرة‪ ،‬في طرف المقهى‪ ،‬وأخذنا نتجاذب‬ ‫أطراف الحديث‪ .‬هو يتحدَّ ث عن كتابه بفصوله الثمانية‪ ،‬وأنا أتحدَّ ث‬ ‫عن الرواية العربية بفصولها الكاملة‪!..‬‬ ‫طب ًعا التقينا في بعض األشياء‪ ،‬واختلفنا في أشياء كثيرة‪ .‬وقبل أن أسافر‬ ‫يتجول بكاميرته في أحد الشوارع العتيقة في‬ ‫بيومين‪ ،‬التقينا مصادفة وهو َّ‬ ‫يعج‬ ‫الدار البيضاء‪ .‬لم استغرب ُلقيته في مثل ذلك المكان العتيق الذي ُّ‬ ‫بالناس‪ .‬دعوته في الطريق إلى ذات المقهى‪ .‬وسألته عن أحوال المدينة‬ ‫‪27‬‬


‫َّرت ً‬ ‫فعل في إعادة النظر في كتابي‬ ‫القديمة‪ .‬فقال لي على الفور‪ :‬لقد فك ُ‬ ‫قبل طباعته‪ .‬أريد أن ُأدخل عليه ً‬ ‫فصل جديدً ا عن أهمية المدينة القديمة‬ ‫ناتجا عن حوارنا الذي عقدناه منذ‬ ‫في ذاكرة الرواية العربية‪ ،‬وكان هذا ً‬ ‫عشرة أيام في هذه المقهى َّ‬ ‫وأدركت‬ ‫مصرا على وجهة نظرك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بالذات‪َ .‬‬ ‫كنت ًّ‬ ‫بعد عودتي إلى الفندق‪ ،‬أنها صائبة ً‬ ‫زرت‬ ‫فعل‪ .‬وزاد اهتمامي‬ ‫بمجرد أن ُ‬ ‫َّ‬ ‫زرت خمس‬ ‫أماكن الرواية العربية بالفعل‪ .‬هل تصدِّ ق أنني منذ ذلك اليوم‪ُ ،‬‬ ‫ذهبت إلى «طنجة» و»الخنيفرة» و»مراكش»‬ ‫مدن على التوالي؟!‪ ..‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫رت كتابة الفصل الجديد‪.‬‬ ‫وقر ُ‬ ‫و»مكناس» و»فاس» بح ًثا عن أسبابك هناك‪َّ ،‬‬ ‫* * *‬

‫وأي رواية تُكتَب تحت‬ ‫أي مدينة عصرية‪ ،‬هي مدينة مستوردة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫أيضا‪!..‬‬ ‫تأثير طقوس هذه المدينة العصرية‪ ،‬هي رواية مستوردة ً‬

‫الحكم المطلق‪ ،‬حين تصبح هذه المدينة العربية من‬ ‫قد ترى معي هذا ُ‬ ‫زجاج وبالستيك وفورمايكا وجرافيك‪ .‬فالرواية العربية األصيلة‪ ،‬تم َّيزت‬ ‫ببساطة أدواتها‪ ،‬المتدادها بالحكائي الشعبي القديم‪ .‬فنشأتها جاءت من‬ ‫الضاجة بمالمح الحياة الح َّية‪،‬‬ ‫األرياف والقرى والمدن الصغيرة األولى‪َّ ،‬‬ ‫والتي شهدت أهم العالقات بالتراث العربي‪ ،‬وأعطت أهم النماذج للرواية‬ ‫المتمكِّنة من الشخوص واألدوات واألمكنة‪ .‬تلك النماذج كانت تنمو في‬ ‫داخلها‪ ،‬وال تنمو إلى السطح‪ .‬كما فعلت بعض التغريبات‪!..‬‬

‫فالمدينة العصرية‪ ،‬ليست هي المدينة المشتهاة‪ ..‬مدينة مزاجنا‬ ‫المتجولين‪ ،‬وفقرائها وعجائزها‬ ‫المتسولين والباعة‬ ‫العربي‪ ،‬بأحوال‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫المهجوسين باألحالم الهاربة‪!..‬‬ ‫‪28‬‬


‫أيضا مدينة‬ ‫والمدينة العصرية‪ ،‬برائحة مستورداتها‪ .‬ليست هي ً‬ ‫الضيقة‪ ،‬ومبانيها المتآكلة‬ ‫حوارينا القديمة بأزقتها‬ ‫المتعرجة ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫المتالصقة‪ ،‬التي شهدت نمو الشخصية العربية الشعبية بحاالت‬ ‫جوعها وفقرها وبؤسها وانتمائها إلى الطين‪ .‬تلك المباني التي جاءت‬ ‫بقوة‪ ،‬االحتالل اإلنجليزي واإليطالي‬ ‫بالمبادئ الخالدة‪ ،‬وواجهت ّ‬ ‫والفرنسي‪ .‬وارتوت ساحاتها الشعبية بدماء الشهداء من أبناء الشعب‬ ‫العربي‪ .‬فالمدينة العصرية‪ ،‬بأي حال‪ ،‬لن تكون مدينة الرائحة األولى‬ ‫تشب فيها الذاكرة والفوضى األولى مع المحسوس‪.‬‬ ‫المشتهاة‪ ،‬التي ُّ‬ ‫* * *‬

‫الزج بالعالقات االجتماعية في‬ ‫‪ ..‬إن طبيعة العمل الروائي‪ ،‬هو ِّ‬ ‫مواجهة فنّية ُمحكَمة ترتقي إلى ذائقة جمالية بالمكان‪ ،‬وبمساحة ذاكرة‬ ‫شعبية تستدعي تلك المالمح الح َّية‪ .‬وهناك تجارب روائية ال عالقة لها‬ ‫ال بزمان وال بمكان‪ ،‬وال بإنسان‪ .‬تجارب هي عبارة عن لعبة تتشكَّل في‬ ‫متحول العناصر‪ ،‬يختفي في اللغة‪ ،‬ويقيم في بناء معزول‬ ‫فضاء هالمي‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫عن ذاكرة المكان وأهميته في صميم العالقة االجتماعية والتاريخية‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يتطور‬ ‫لكن الرواية (الحكاية) ال بد أن تكون بتفاصيلها الممكنة‪ ،‬كنسيج َّ‬ ‫باستمرار من داخله ويرتقي إلى قيمة في الوجود‪.‬‬ ‫مدننا العربية في هذا السياق‪ ،‬مازالت إلى حد كبير هي مدن الرواية‬ ‫العربية المشتهاة‪ ،‬التي برزت مالمحها في النصف األول من القرن‬ ‫الماضي‪ ،‬وأعطت التاريخ الثقافي ذلك المشهد الضروري في حياة الناس‪.‬‬ ‫فالقاهرة القديمة التي تر َّبت عليها أدوات «نجيب محفوظ» ً‬ ‫مثل‪ ،‬مازالت‬ ‫تعطي تلك األجواء في تجربة العديد من ال ُكتَّاب المصريين المعاصرين‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫دائما في مكان ما‪ ،‬وفي ذاكرة ما‪ ،‬ألي مدينة‬ ‫المدينة القديمة قائمة ً‬ ‫حديثة‪ .‬دمشق ً‬ ‫مثل‪ ،‬ليست هي «أبورمانة»‪ .‬إنها «الحميدية» ملتقى‬ ‫تمت االستفادة‬ ‫األزقة َّ‬ ‫الضيقة المتالطمة واألجواء الشعبية‪ ،‬والتي َّ‬ ‫كثيرا في األعمال الدرامية التلفزيونية‪ .‬المدن اليمنية والمدن‬ ‫منها ً‬ ‫الليبية والعراقية والمدن التونسية والمغربية‪ ،‬مثل المدن المصرية‬ ‫دائما بالغرائبي الشعبي‪ .‬فإذا َهدَ منا تلك‬ ‫والسورية بحاالت التقائها ً‬ ‫المدن من ذاكرتنا كروائيين‪ ،‬فإننا نهدم ً‬ ‫مهما كان يحفظ‬ ‫شكل أدب ًيا ًَّ‬ ‫لنا التواريخ واألسماء والتفاصيل الجميلة‪!..‬‬ ‫واضحا‪ .‬لكنها في بعض نماذجها تخرج‬ ‫لقد ح َّققت الرواية العربية تقدُّ ًما‬ ‫ً‬ ‫عن تلك التلقائية‪ ،‬وتحاول مجاراة الرواية األوروبية «العصرية جدً ا»‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫خالصا يالمس أسئلة الحداثة‪،‬‬ ‫لست ضد أن نكتب أد ًبا جديدً ا‬ ‫أنا ُ‬ ‫ً‬ ‫مؤسسة‬ ‫وما بعد الحداثة‪ ،‬كعنوان تجريبي باألساس لتجربة جديدة غير َّ‬ ‫المتخ َّيل الخالص‬ ‫على المعرفة بجماليات المكان‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ولست ً‬ ‫أيضا ضد ُ‬ ‫في سياق عملية التجريب المشروعة‪ ..‬ولكني ضد أن نعمل على إلغاء‬ ‫اإلنسان ومدينته‪ .‬وبالتالي نكون قد أسهمنا‪ ،‬دون أن ندري‪ ،‬في إلغاء‬ ‫ذاكرة المكان‪ ..‬التي هي ذاكرة اإلنسان‪!..‬‬ ‫‪1991/5/13‬‬

‫‪30‬‬


‫عمر المختار لي�س �أنتوني كوين!‬ ‫عايشت فكرة إنجاز شريط سينمائي كبير‬ ‫في منتصف السبعين َّيات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تابعت بعض جوانب تنفيذ هذا العمل‬ ‫لشيخ الشهداء عمر المختار‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫مع المخرج العالمي «مصطفى الع َّقاد»‪.‬‬

‫ففي العام ‪ 1976‬تحاورنا في الشكل النهائي للسيناريو‪ ،‬وكان‬ ‫ُج َّل النقاش يدور حول الشخصية المركزية «عمر المختار» واختيار‬ ‫المم ِّثل العالمي «أنتوني كوين» لهذه الشخصية من بين عشرات‬ ‫المم ِّثلين العالميين‪.‬‬

‫قال الع َّقاد‪ :‬إن أنتوني كوين هو المم ِّثل الوحيد والوجه الوحيد‬ ‫فقلت‪ :‬لكن أنتوني كوين يظل هو «زوربا اليوناني»‪..‬‬ ‫لعمر المختار‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فقال‪ :‬أنا ُأعلن أنه سيكون «عمر المختار»‪.‬‬

‫وكانت النتيجة عندما التقيت الع َّقاد وأنتوني كوين في مدينة‬ ‫مرة!!‬ ‫َّ‬ ‫«شحات»‪ ..‬رأيت عمر المختار ألول َّ‬ ‫* * *‬ ‫‪31‬‬


‫كان «زوربا» حينها يعود إلى صفحات «نيكوس كازنتزاكيس»‬ ‫رأيت المم ِّثل البارع لدرجة أنني‬ ‫ويخرج البطل من أوشاز هذا الجبل‪ُ .‬‬

‫خفت على عمر المختار‪ً .‬‬ ‫وفعل صار أنتوني كوين هو عمر المختار‬ ‫ُ‬ ‫السينمائي ّ‬ ‫الفذ الذي قاد حركة النضال الشعبي ضد الفاشيست‪.‬‬

‫احترمت في أنتوني كوين مالبس عمر المختار‪ ،‬وجلسته بين‬ ‫ُ‬

‫صغار «الكتَّاب» في المسجد‪ .‬واحترمته أكثر عندما امتطى صهوة‬

‫قمة هذا الجبل‪.‬‬ ‫الجواد وأمسك بالبندقية ووقف على ّ‬ ‫* * *‬

‫أدركت َّ‬ ‫أن‬ ‫جسد هذا الفنَّان البارع شخصية عمر المختار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندما َّ‬

‫بمجرد‬ ‫الثقافة العربية البدَّ لها أن تنتصر على تلك اآللة الهوليودية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫أن ينسحب نجومها من األلبوم «المسموم» ويدركوا أن خارج هوليود‬ ‫يوجد األبطال الحقيقيون‪.‬‬

‫فالنقلة من «كريت» إلى «الجبل األخضر» لمم ِّثل عالمي بارع‬ ‫مثل «كوين» تعني الكثير للثقافة اإلنسانية والتي تم ِّثل الثقافة العربية‬ ‫جز ًءا غن ًَّيا منها لما قدمته للبشرية عبر العصور‪ .‬ولع َّلنا ن ِ‬ ‫ُدرك هنا َّ‬ ‫أن‬ ‫هذا الفنَّان المزاجي قد عشق عمر المختار وبكاه واستأذنه في مثواه‬

‫لتقمص شخصيته‪ ..‬فكان أن نجح أنتوني كوين‪ ،‬وكان البدَّ لهذا‬ ‫ُّ‬ ‫النجاح أن يرجع ل ُعمر المختار الحقيقي الذي أبدع بدون إرادة ـ‬

‫مخرج ـ في قهر الجوع والظمأ والموت‪ ،‬وغامر في العراء تحت‬ ‫البرد والمطر يطارد جحافل الغزاة‪.‬‬ ‫‪32‬‬


‫كان عمر المختار هو س ِّيد الموت طيلة فترة نضاله البطولي‪ ..‬ذلك‬

‫الصعبة التي لم يكن فيها أي‬ ‫الموت الحقيقي الذي داهمه في األيام َّ‬ ‫معنى سوى طرد أو إبادة الغزاة‪.‬‬

‫* * *‬

‫التقيت في روما بالع َّقاد وبعض فريق العمل‬ ‫في العام ‪1979‬‬ ‫ُ‬

‫الليبي أثناء استكمال بعض المشاهد النهائية هناك‪ .‬كان ذلك في‬ ‫شهر أغسطس بالتحديد‪ ،‬وكان الفيلم قد تكامل تقري ًبا ودخل في‬

‫عملية «المونتاج»‪.‬‬

‫بأي حال رغم متابعته اللصيقة والدقيقة‬ ‫لم يكن العقاد َ‬ ‫مره ًقا ِّ‬ ‫لكل صغيرة وكبيرة‪ .‬وحده كان أنتوني كوين متأ ِّث ًرا ب ُعمر المختار‪.‬‬ ‫مرة‬ ‫لم يتخ َّلص من سيطرة الشيخ الروحية‪ .‬كان يبحث عن نفسه َّ‬

‫أخرى كما بحث عن نفسه بعد «زوربا»‪.‬‬

‫أحد الن َّقاد العرب قال لي ذات مرة أثناء عرض الفيلم في دمشق‪،‬‬

‫مهمة كي‬ ‫أن أنتوني كوين يحتاج إلى القيام بدور شخصية أخرى َّ‬

‫يخرج من سيطرة عمر المختار!‬

‫* * *‬ ‫ماذا فعل عمر المختار بأنتوني كوين؟!‬ ‫أو ماذا فعل هذا الفنَّان بنفسه ليعيش بعمق شخصية عميقة في‬

‫أصلها مثل شخصية «عمر المختار»؟!‬ ‫‪33‬‬


‫* كانت روما في ذلك الشهر بالتحديد‪ ،‬تعيد إلى أذهانها زئير‬ ‫أدركت حينها ً‬ ‫فعل أن روما لم تفقد ذاكرتها عندما ظهر‬ ‫األسد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫«موسوليني» من جديد على أغلفة المجالت األنيقة‪ .‬كان ُرعب‬ ‫عباءة عمر المختار يحيط بأعمدة القصر الفاشي‪ ،‬وكان القصر‬ ‫مجرد جلد أسود أحرقه‬ ‫ينهار أمام الجيل الذي أدرك أن الفاشية َّ‬ ‫التاريخ‪ ،‬وأن إعدام عمر المختار هو اإلثم الشنيع للفاشية‪.‬‬

‫لقد أحلنا «المقهى األبيض» في «فيافينتو» تلك الليلة‪ ،‬إلى منتدى‬ ‫للشيخ ّ‬ ‫الفذ الذي عاد للحياة وطاف بعباءته أنحاء العالم‪!..‬‬ ‫‪1991/9/16‬‬

‫‪34‬‬


‫ليلة في ق�صر الإمام‪!..‬‬ ‫كثيرا في قصائد شعراء اليمن القدامى والمحدثين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رأيت صنعاء ً‬

‫وحكم اإلمامية‪،‬‬ ‫فن العمارة وروح التراث والصحراء الحجرية ُ‬

‫ومكونة للشعر اليمني‪ .‬فبلقيس والقصيد‬ ‫كلها عناصر مهمة‬ ‫ِّ‬ ‫والقات والمناخ والمجلس العجيب‪ ..‬كلها تركن في الحاالت‬ ‫الشعرية المتواترة لدى العديد من األصوات الشعرية الممتدّ ة‪.‬‬

‫يمن التضاريس الصعبة والقصائد واألحالم الهاربة‪ .‬يطالعك‬

‫بطفلة البن وبأسرار صنعاء القديمة‪ ،‬ويمضي بك إلى عقود التاريخ‬

‫أخيرا‪ ،‬في حوار مع‬ ‫بين اليماني واليماني‪ ..‬إلى أن تجد نفسك‬ ‫ً‬ ‫شعرا‬ ‫المثقفين‪ ،‬يسارعون إلى معرفة واكتشاف ما يكتبه الليبيون ً‬

‫وقصة ورواية‪ .‬يسارعون إلى اكتشاف ما لم يكن في متناولهم من‬ ‫إبداعات قديمة وحديثة‪.‬‬

‫ّ‬ ‫ولعل الصديق الشاعر الدكتور عبد العزيز المقالح ـ رئيس جامعة‬

‫تكونت لديه في اليمن «المكتبة الليبية الشاملة»‪،‬‬ ‫صنعاء ـ هو أول من َّ‬ ‫‪35‬‬


‫بعد إهدائه جميع محتويات المعرض الليبي‪ ..‬والتي تُعد اآلن من أهم‬ ‫«آثار» األسبوع الثقافي الليبي األول‪ ،‬في اليمن‪.‬‬ ‫* * *‬

‫«نحن أبناء الساحل الليبي ال نقوى على النوم في أعالي الجبال»‬ ‫قلت ذلك لصديق يمني‪ ،‬عندما أدرك أننا لم ننم ليلتها جيدً ا‪ ،‬نتيجة‬ ‫ُ‬ ‫الضغط الذي أدى إلى الكوابيس والنزيف‪ ،‬حيث ترتفع صنعاء عن‬ ‫مترا تقري ًبا‪ ،‬لكن سرعان ما اعتدنا على‬ ‫سطح البحر حوالي (‪ً )2150‬‬ ‫ذلك‪ ،‬وبمجرد أن صرنا يمانيين في اليوم التالي‪.‬‬ ‫األمر الصعب لم يكن في «كوابيس» تلك الليلة في الفندق الكبير‪،‬‬ ‫متوجهة‬ ‫بل في قصر «اإلمام»‪ ،‬في والية حجة‪ ،‬إذ انطلقت القافلة‬ ‫ِّ‬ ‫حجة‪ ،‬حيث التضاريس الصعبة‬ ‫بنا إلى أعالي الجبال السود‪ ،‬إلى ّ‬ ‫في أم القيلولة الصعبة‪ ،‬وحيث الصعود إلى أصعب حاالت الدوار‪.‬‬ ‫كان اليمانيون عاديين جدً ا‪ ،‬وكنا نحن نقرأ باستمرار مرايا «بلقيس»‬ ‫والمتعرجات الصخرية‪ ،‬تفتح بلقيس مخيلتنا‬ ‫على السفوح السوداء‬ ‫ِّ‬ ‫الجديدة على تاريخ اليمن‪ ،‬فضاء للصقور تحوم على قطعان الماعز‬ ‫البري‪ .‬وفضاء لشعالت الشمس القريبة جدً ا‪ .‬وفضاء للدوار الصعب‪.‬‬ ‫ّ‬

‫بالحب‪ .‬مضيفنا رفع‬ ‫حجة بأيديهم البيضاء‪ .‬عانقونا ُ‬ ‫فتحوا لنا ّ‬ ‫كثيرا إلى أننا تعبنا في الرحلة‪ ،‬برغم األسطورة التي‬ ‫الكلفة‪ ،‬لكنه لم ينتبه ً‬ ‫الحلم‪.‬‬ ‫دخلناها‪ ،‬وعشنا تفاصيلها‪ ،‬ولم تخرج منها منذ بدأنا نصعد جبل ُ‬ ‫* * *‬ ‫‪36‬‬


‫كان عدد الوفد الثقافي يزيد عن المائة عضو من األدباء والكتاب‬ ‫والفنانين والصحافيين واإلذاعيين‪ .‬اللجنة المشرفة اختارت ثمانية‬ ‫أشخاص من دون غيرهم لإلقامة في «قصر اإلمام» الذي ُيعد اآلن‬ ‫قصر الضيافة الشرفية لكبار الشخص َّيات‪ ،‬لكن اإلرهاق الذهني‬ ‫بحمام بارد‪ ،‬يزيل‬ ‫والبدني غالب شعوري بالراحة‪ ،‬وحلمي الصغير َّ‬ ‫أيضا لم يفرح بخلع حذائه‬ ‫عني بعض الضغط والتعب والدوار‪ .‬غيري ً‬ ‫واالستلقاء في دار اإلمام‪ ،‬فبعضنا نزف أنفه وبعضنا اكتفى بالنوم على‬ ‫مقعده إلى حين موعد األمسية الشعرية القصصية في قاعة المركز‬ ‫الفزاني» نزف إصبعه‪ ،‬نتيجة‬ ‫الثقافي‪ ،‬لكن صديقنا الشاعر «علي َّ‬ ‫كف‪ ،‬وال دمه‬ ‫لجرح صغير بسبب الدوار والحر‪ ..‬فال الدوار ّ‬ ‫تعرضه ُ‬ ‫قلت له‬ ‫ّ‬ ‫كف‪ ..‬وعندها سألني بو ِّد‪ ،‬ماذا تقترح أن أقرأ في األمسية‪ُ ،‬‬ ‫مازحا وأنا أنظر إلى إصبعه األحمر المعصوب‪ ،‬اقرأ «دمي يقاتلني‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الفزاني في األمسية يرفع‬ ‫اآلن» ـ عنوان أحد دواوينه ـ‬ ‫وفعل‪ ،‬كان َّ‬ ‫إصبعه المجروحة ويتلو على المأل‪« :‬دمي يقاتلني اآلن»!!‬ ‫* * *‬

‫بعد حفل العشاء الكبير‪ ،‬ذهبنا للنوم في «قصر اإلمام» كان‬ ‫القصر األبيض من بعيد‪ ،‬يدخل في معزوفة قديمة‪ُّ ،‬‬ ‫تبث نوافذه‬ ‫الصغيرة المعلقة أنفاس تاريخ ينام في ردهاته‪ .‬صعدنا الساللم‬ ‫الحلزونية‪ ،‬وانتشرنا ثمانيتنا في غرف القصر العتيق‪ .‬دخلنا القصر‬ ‫لننام‪ ..‬فوجدنا في انتظارنا عالمات تتأخر في الليل‪ .‬كانت غرفتنا‪،‬‬ ‫الفزاني‪ ،‬تشبه غرفة الشاعر ْين علي صدقي عبد القادر‬ ‫أنا وعلي َّ‬ ‫‪37‬‬


‫العماري‪ ،‬وغرفة اإلذاعي ْين سعد نافو وأحمد أنور‪ ،‬تشبه‬ ‫ومفتاح َّ‬ ‫غرفة الكاتب ْين عبد الرسول العريبي ومحمد المسالتي‪ ..‬كل ال ُغرف‬ ‫لها ندرتها من بين ال ُغرف‪ .‬وكل ال ُغرف تسكن في سؤال‪ .‬انتقلنا في‬ ‫لحظة إلى ُغرف بعضنا‪ ،‬وجلسنا في الردهة حول طاولة مستطيلة‪،‬‬ ‫نفاوض سحريات ذلك القصر العجيب‪ .‬حكى لنا أحد ُح َّراس‬ ‫القصر‪ ،‬كان ُي ِعد لنا الشاي األخضر المنعنع‪ ،‬أن اإلمام كان ُّ‬ ‫يطل‬ ‫من هذه النافذة‪ ،‬ليفتح المذياع الوحيد للناس‪ .‬يفتحه عدة ساعات‪،‬‬ ‫يخزن أشياءه هنا‪ .‬وهنا َّبراده‪ .‬وهنا‬ ‫ثم يقفله ويقفل النافذة‪ .‬وكان ِّ‬ ‫حمامه‪.‬‬ ‫مرآته‪ .‬وهذا َّ‬ ‫* * *‬

‫لست أدري على أي أساس تم اختيارنا للنوم على وسادة اإلمام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ردحا من الزمن‪،‬‬ ‫وفك ُ‬ ‫َّرت‪ ،‬ربما لنلقى منه في ليلة ما لقيه شعب اليمن ً‬ ‫ً‬ ‫وفعل لم ننم ليلتها‪ .‬كان اإلمام يتراءى لي يدخل بصندله وجلبابه‬

‫األبيض ثم ينزل الدرج‪ ،‬ثم يصعد ويشعل النار في شعلة الحائط‬ ‫السميك‪ ،‬يتمتم بكالم غريب‪ .‬ثم أسمع الريح تدور في ردهات‬ ‫القصر‪ ،‬وتعصف بستائر النوافذ‪ ،‬تحمل معها بعض الرسائل من‬ ‫لست أدري إن كانوا نيا ًما‪ ،‬أم أنهم‬ ‫األصدقاء في ال ُغرف المجاورة‪ُ .‬‬ ‫يتابعون معي ما يحدث في القصر العجيب‪.‬‬

‫عيني في خيال قادم‪ ،‬يفتح باب الغرفة ويتخلل‬ ‫في وهلة‬ ‫ُ‬ ‫أغمضت َّ‬ ‫دخلت في الوسادة‪ ..‬ويدٌ تلمسني وصوت‪ :‬هل‬ ‫الضوء الخافت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نمت؟!‪ .‬كان صوت شريكي في الغرفة‪ ،‬يسألني إن كنت أنا من فتح‬ ‫‪38‬‬


‫أدركت أنني‬ ‫أدركت أنني لم أكن أتخ َّيل‪.‬‬ ‫النوافذ وأطفأ النور‪ .‬عندها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت أرى اإلمام ً‬ ‫فعل‪ ،‬يجوب ردهات القصر آخر الليل‪.‬‬

‫الصباح‪ ،‬فقال لي‪ ،‬مازال‪ .‬أشعلنا سيجارت ْين‬ ‫ُ‬ ‫سألت صاحبي عن َّ‬ ‫في صمت‪ ،‬وسمعنا‪ ،‬على حين غرة‪ ،‬وقع خطوات تقترب من غرفتنا‪.‬‬ ‫تفرسنا في الضوء الخافت‪ ..‬رأيناه‬ ‫كانت هذه المرة تقترب بوضوح‪َّ .‬‬ ‫يمر‪ .‬رأيناه بوضوح‪ ،‬كان هو الشاعر علي صدقي عبد القادر يشرب‬ ‫من زير اإلمام ويعود‪ :‬يسألنا عن «األسبرين» والصباح‪ ..‬وصنعاء‪!..‬‬ ‫‪1992/1/6‬‬

‫‪39‬‬



‫�صباح الكمانجا‪ ..‬يا نوري!‬ ‫سافرت إلى أي مكان‪ ،‬تكون «قبرص»‬ ‫دائما كلما‬ ‫ُ‬ ‫‪ُ ..‬‬ ‫كنت ً‬ ‫أحببت فيها شي ًئا غير‬ ‫محطتي األخيرة‪ ..‬برغم أنني ال أذكر أنني‬ ‫ُ‬ ‫رؤية بعض األصدقاء من المثقفين العرب المقيمين هناك‪ ،‬خاصة‬ ‫الجزر‬ ‫أثناء الحرب األهلية اللبنانية‪ ،‬فقد صارت قبرص‪ ،‬أقرب ُ‬ ‫إلى بيروت‪ ،‬هي المالذ الشرعي الذي حفظ لهم شكل العالم الذي‬ ‫افتقدوه زمنًا في لبنان‪..‬‬

‫كنت أشارك في أعمال «دورة إعداد البرامج‬ ‫في نهاية شتاء ‪ُ 1988‬‬ ‫ونظرا‬ ‫الثقافية» التي ن َّظمها مركز اتحاد اإلذاعات العربية في دمشق‪ً ..‬‬ ‫النشغالي بأعمال الدورة فلم ألتق في تلك الفترة بغير بعض األصدقاء‪،‬‬ ‫منهم الشاعر «محمد الماغوط» الذي كان وقتها ينتهي من كتابة‬ ‫مسرحيته «شقائق النعمان» والشاعر «نزيه أبو عفش» الذي أطللت‬ ‫عليه ببشرى استالمه مفتاح بيته الجديد‪ ..‬واألستاذ «رياض نعسان‬ ‫آغا» مدير عام البرامج في التلفزيون السوري‪ ،‬والذي كان يعمل في‬ ‫تلك الفترة على إعداد «سيناريو» روايتي «الطاحونة» ـ لم يستكمله‬ ‫‪41‬‬


‫لعدم تكليفه رسم ًيا من قبل المسئولين في شركة الخدمات اإلعالمية‬ ‫التقيت باألستاذ «عادل‬ ‫التي جازت العمل منذ ثماني سنوات ـ كما‬ ‫ُ‬ ‫البازجي» رئيس قسم البرامج الثقافية والذي دعاني ضي ًفا على برنامجه‬ ‫التلفزيوني المعروف «المجلة الثقافية»‪ ،‬والذي بإذاعته قبل السهرة‬ ‫الخميسية علم بقية األصدقاء بوجودي في «الشام» فزعل بعضهم‪،‬‬ ‫دفعت ثمن ذلك بعقد‬ ‫وغفر لي بعضهم اآلخر‪ ..‬لكني في النتيجة‬ ‫ُ‬ ‫بعض اللقاءات الثقيلة التي كادت تحرمني حتى من شراء بعض‬ ‫الكُتب القيمة من مكتبات «شارع المتنبي»‪ ،‬وكذلك شراء بعض‬ ‫اللوازم الرمضانية‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬ثالثون يو ًما تقري ًبا أمضيتها في دمشق بين الكالم في الثقافة‪،‬‬ ‫والتجوال في سوق «البزورية» و»الحميدية» لشراء «التوابل» وبعض‬ ‫الضروريات للشهر الكريم الذي كان ً‬ ‫فعل يفصلني عنه عشرة أيام‬ ‫تقري ًبا‪ ..‬وتلك العشرة أيام كادت تنتهي في «الثقافة» فأدفع ثمن‬ ‫ذلك عندما أعود إلى بيتي خالي اليدين إالَّ من شهادة التقدير بدرجة‬ ‫«ممتاز»!‬ ‫اشتريت لشهر رمضان أهم ما يجعل زوجتي في انتظاري على‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫باب البيت‪ ،‬ويقطع عنها المالمة‪ ..‬ولكن فرحتي بتلك النتيجة أوحت‬ ‫لي بفكرة لم تكن ً‬ ‫فلست أدري كيف خطرت ببالي‬ ‫أصل في البال‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫«عازفة الكمانجا» في ذلك المطعم الكالسيكي في المدينة القديمة‬ ‫للعاصمة القبرصية‪..‬‬ ‫‪42‬‬


‫رأسا إلى «الرنكا» ومعي «بهاراتي» التي عبث‬ ‫ُ‬ ‫غادرت دمشق ً‬ ‫فأزكمت أنوفهم وهم يعاينون‬ ‫بها «القبارصة» اليونانيين في المطار‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫تلك األكياس المريبة التي تشبه أكياس «الهيروين»‪ ..‬ولقد تعب‬ ‫وتذوق «القرفة» والقصب المطحون ودقيق‬ ‫شم ُّ‬ ‫خبير المخدِّ رات في ِّ‬ ‫«المهلبية»‪ ...‬ورفض استكمال اإلجراءات عندما نفثت إلى أنفه‬ ‫الكبير رائحة «الحرارات» و «النشادر»‪ ..‬وأمرني بازدراء أن ألملم‬ ‫حاجاتي وأنصرف‪!..‬‬ ‫لم أكن سعيدً ا لعدم معرفتهم بمحاصيل جيرانهم القبارصة‬ ‫يشمون رائحة طعامهم برغم اختراق صوت اآلذان‬ ‫األتراك‪ ،‬وال ُّ‬ ‫للشريط الحدودي بين «القبرصتين»‪ .‬وانتهيت إلى التفكير في رمضاننا‬ ‫الذي ينتظرني على باب البيت وقد صار يفصلني عنه أربعة أيام بالكاد‬ ‫أعود فيها من «ليماسول» إلى «نيقوسيا»‪ ،‬ومن ثم أقلع من «الرنكا»‬ ‫رأسا‪ ،‬ومنها في سيارة األجرة إلى «البيضاء»‪ ،‬وإلى‬ ‫إلى «بنغازي» ً‬ ‫الصيام في اليوم التالي‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬في مطار «بنينا» فاحت رائحة «البهارات» الدمشقية بين رجال‬ ‫الجمارك‪ ،‬ففسحوا لي الطريق‪!..‬‬

‫كان سائق «التاكسي» من المطار إلى ميدان «الفندق البلدي»‬ ‫اسمه «نوري»‪ .‬وكان سائق سيارة األجرة من بنغازي إلى البيضاء‬ ‫أيضا اسمه «نوري»‪ .‬وكان الرجل الذي قطع التيار الكهربائي على‬ ‫ً‬ ‫أيضا اسمه‬ ‫بيتي منذ يومين‬ ‫ابتهاجا بحلول شهر رمضان المبارك ً‬ ‫ً‬ ‫‪43‬‬


‫ونسيت‬ ‫أحضرت شهادة التقدير بدرجة «ممتاز»‪،‬‬ ‫وكنت‬ ‫«نوري»‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بحثت عنه في «الجنسية» صباح‬ ‫البهارات في سيارة «نوري» الذي‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫طويل حتى العصر وأنا أسأل السائقين‪...‬‬ ‫وانتظرت‬ ‫أول أيام الصيام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هل رأيتم «نوري»‪..‬؟!!‬ ‫‪1988/11/5‬‬

‫‪44‬‬


‫الح ُلم‬ ‫تكرار ُ‬

‫ذاكرة رجل يظهر في الخريف‪!..‬‬ ‫‪ ..‬أماسية الخيزران تعطف على المجانين‪ .‬واألرض التي تدور‪،‬‬

‫تفنى على مقاعد الحالَّقين‪ .‬ال البنت نامت من شدّ ة الحزن‪ ،‬وال المدينة‬

‫نامت من شدّ ة الهرج!‬

‫الالعبون في البحر عادوا مبك ًِّرا قبل قدوم الس ِّيد الخريف بمعطفه‬

‫بخف عروة‪،‬‬ ‫اإلنجليزي‪ .‬والس ِّيدة التي جاعت على الرصيف أقبلت‬ ‫ِّ‬ ‫وبكت جوعها وجوع المساكين الذين تر َّطبوا في الوحل!‬ ‫ْ‬ ‫أماسية س ِّيئة عطفت بنا‪.‬‬

‫ُقلنا لهم األرض تدور‪ ،‬فنمنا كما ُكنَّا على البالط البارد حتى أعيانا‬ ‫الح ُلم بأجنحة ُخرافية‪ ،‬تقصف عمر الدار البالية‪ ،‬وتوقظ فينا اللحن‬ ‫ُ‬

‫الحنون للحرية!‬

‫* * *‬ ‫‪45‬‬


‫منذ زمن لم يطأ الوجع هذا القلب الرخيم‪ .‬ومنذ زمن لم ينم الزائر‬ ‫بيننا‪ .‬ومنذ زمن نشتاق إلى أمسياته عن طوابير الذين ُّفروا من العدالة‬ ‫ٍ‬ ‫بشمس أصيلة‪ ،‬لها حليب ُأ ّمي ونجمة حبيبتي‪.‬‬ ‫واقتدوا‬ ‫منذ زمن‪ ،‬أيتها الس ِّيدة المع َّفرة بطِ ِ‬ ‫يب المساكين‪ ،‬وهذا الوجع‬ ‫ٍ‬ ‫سؤال حميم‪ ..‬هذا المساء لي وتلك النجمة‬ ‫يؤلمني ولم أركن إلى‬ ‫وهذه الغفوة‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫تبارزنا ذات ليلة بالكالم الشعائري‪ .‬هو يأمرني أن أطبق فمي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫جواب قديم‪ ،‬قد أتذكَّره‬ ‫وأنا استأذنه الحرية‪ ..‬أن أغفو وأبحث له عن‬ ‫عندما أتذكَّر لون تلك الطفولة المنفلتة‪ .‬ولم يستأذن حين َّ‬ ‫تدخل في‬ ‫وانصرفت‪.‬‬ ‫عقلي‪َ ..‬ل َط ْمته على وجهه‬ ‫ُ‬ ‫كان المهووس بلون ال ُعشب الخريفي ينتظرني‪َ ..‬جنحنا‪ ..‬صرنا‬ ‫نطير‪ .‬حاولوا اصطيادنا‪ .‬لكن َّ‬ ‫عشنا في الغابة المملوكة رفع رايته‬ ‫البيضاء‪ ،‬فدخلنا ولم ننبس بكلمة‪.‬‬ ‫كرجل ْين ناعس ْين‪ ،‬ودارت بنا الشجرة دورتها العادية‪.‬‬ ‫نمنا ُ‬ ‫* * *‬

‫هذا جنون المتع ِّقب‪ .‬يخلط اللون بيد فاترة‪ ،‬ويرسم «ريما» التي‬ ‫ع َّلمت األطفال كيف يتمرجحون عال ًيا‪ .‬وكيف يركضون عال ًيا‪ .‬وكيف‬ ‫يرقصون بعنف‪ .‬ثم يهمسون بأغاني الليل في ضواحي المدينة‪..‬‬ ‫وعندما يدخلونها فإنهم يدخلونها بسال ٍم‪ ،‬آمنين الوعارة والحرس‬ ‫‪46‬‬


‫الغفوان والنساء الهرمات في قلب المدينة‪ .‬ينتظرهم العازفون وبائعو‬ ‫ً‬ ‫طويل في‬ ‫المزخرفون بلونها ولوننا الذي عشناه‬ ‫البالونات واألطفال‬ ‫َ‬ ‫الح ُلم‪ ،‬وتمنَّينا أن نراه قبل «ريما» التي انتصرت على الملل وعلى‬ ‫ُ‬ ‫النكتة البليدة‪!..‬‬

‫* * *‬ ‫تضمخت ساعاتنا بعقارب وقتها الذهبي‪ .‬راح السكارى ُ‬ ‫ينشدون‬ ‫َّ‬

‫على البحر أغنياتهم القديمة‪ .‬وراح البريد ِّيون يحملون سالل الورد‬ ‫للذين باعتهم ّ‬ ‫الذاكرة في المزاد الصيفي للفقراء!‬

‫الح ُلم‪ ،‬يوقف دوران األرض عن‬ ‫كان الوجه المسترسل في ُ‬

‫السري‪.‬‬ ‫المشهد التعبيري للس ِّيدة الغلبانة‪ ،‬في المتاهة الليلية للمخرج ِّ‬

‫تتكرر في العواصم الهرمة وتبقى في السؤال‪ .‬تلك التي من‬ ‫تلك التي َّ‬

‫الصباح‪ ،‬تفتح الشمس لنوافذنا‪ ،‬وتغادر البيت العائلي مع‬ ‫عادتها في َّ‬ ‫العصافير!‬

‫ألبسناها الس ِّيدة الجميلة من بعض ما عندنا من َّنوار اللوزات‪ .‬كانت‬

‫ك َّلما انتبهنا إليها‪ ،‬تحضر بمسكها المعتَّق‪ ،‬وبأنوثة األشياء من حولها‪.‬‬ ‫غمرتنا الحنون بوجه الفرح المديد‪ ..‬وق َّبلتنا!‬ ‫* * *‬

‫أين االختالف يا تُرى‪ ،‬بين امرأة الزيتون‪ ،‬وامرأة الكاكاو‪ ..‬وبين‬ ‫الصباح؟!‬ ‫االثنتين م ًعا والبلح ال َّطازج هذا َّ‬ ‫‪47‬‬


‫االمتداد إلى أميركا الالتينية وتايوان وتونس‪ ،‬هو االمتداد نفسه‬ ‫إلى الدانمارك والصين الشعبية ولبنان‪ .‬فكيف األرض تدور وأستراليا‬ ‫وأفريقيا قريبتان من بعضهما كما األرض والشمس؟!‬

‫المزور هو الذي حين نراه ال يذكِّرنا بشيء‪ .‬هذا االصطناعي‬ ‫البشري‬ ‫َّ‬ ‫هو وحده الغريب!‬ ‫الحلم الجميل‪ ..‬فهو المستظِل بأحوال‬ ‫أ َّما الذي يشاركنا نخب هذا ُ‬ ‫الماء والنَّار‪ ..‬وهو ابن الس ِّيدة القلقة!‬

‫للصور‪،‬‬ ‫أي متاهة َسلكنا وفي المدينة الجدار القديم نفسه ُّ‬ ‫إ ًذا‪ُّ ،‬‬ ‫والزيت وقارورة الملح؟!‬ ‫وفي القرية ُق َّبعة الفالَّح األثرية نفسها‪َّ ،‬‬ ‫سر المرآة التي تتص َّبح فيها النِّساء كل يوم؟!‬ ‫ما ُّ‬

‫البحار بالنَّبيذ؟!‬ ‫سر عالقة هذا َّ‬ ‫وما ُّ‬

‫تحضر‬ ‫والصور التذكارية؟!‪ ..‬والس ِّيدة العجوز ُ‬ ‫سر ِّ‬ ‫الضحك ُّ‬ ‫وما ُّ‬ ‫الحرب ْين الكونيت ْين وتستريح في َّ‬ ‫الذاكرة!‬ ‫سر كل ذلك إذا لم يكن بيننا فضاء ُح ُل ٍم جميل‪..‬؟!!‬ ‫ما ُّ‬

‫‪1991/10/14‬‬

‫‪48‬‬


‫توقيت بيروت‬ ‫‪ ..‬في أحد مساءات صيف ‪ 1992‬وبينما كنت أجلس إلى الطاولة‬ ‫المستديرة مع بعض األصدقاء على رصيف مقهى «الويمبي» بشارع‬ ‫الحمرا في بيروت‪ ،‬ذلك المقهى الذي كان وما يزال ملتقى المثقفين‬ ‫استغربت حالة ذلك الفزع الذي يصيب اللبنانيين عند‬ ‫اللبنانيين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫المساء‪ .‬إذ تبدو خطى المارة من الجنسين أسرع من النهار‪ ،‬وكأن‬ ‫ثمة صفارة إنذار ال أسمعها تُعلن في أبدانهم الفزع فتجعلهم‬ ‫يهرولون صاعدين ونازلين مع شارع الحمرا بح ًثا عن مخابئهم‪..‬‬ ‫وخصوصا سيارات األجرة تبدأ تسرع على غير‬ ‫حتى العربات‬ ‫ً‬ ‫عادتها في النهار‪ ،‬والواقفون في انتظارها يتزاحمون عليها كأنها‬ ‫تبيع سحر المشوار!‬

‫كثيرا ولم أسأل أحدً ا‪ ،‬فالكثير من‬ ‫لقد‬ ‫ُّ‬ ‫اعتدت هذا المشهد ً‬ ‫المشاهد بعد الحرب كنت أحاول تفسيرها بمفردي دون السؤال‬ ‫حولها أو عنها‪ .‬لكن في هذا المشهد بالذات فالسؤال يتسع باتساع‬ ‫تلك المساءات الصعبة في بيروت‪ ،‬خاصة على زائر مثلي لم يعتد‬ ‫‪49‬‬


‫ذلك الغبار الذي يثب إلى أعلى المباني كأنه يستجيب في جنون‬ ‫لتلك القذائف‪.‬‬ ‫* * *‬

‫مازالت بيروت على حالها لم تخرج من الحرب‪ .‬فطقس الحرب‬ ‫األهلية مازال يجثم على صدرها برغم ألوان الملصقات اإلعالنية‬ ‫الكبيرة على الجدران‪ ،‬وعالمات الفرح البارزة التي تعلنها أصوات‬ ‫المهرجانات الغنائية والشعرية جن ًبا إلى جنب مع اإلصدارات اليومية‬ ‫المزورة‪ .‬حتى العطر لم ينس أصحابه‪..‬‬ ‫للصحف والمجالت والعملة‬ ‫َّ‬ ‫عاد إلى نسائه المتوهجات في ليل «إبرمانه» و»قصر فخر الدين»‬ ‫و»جبل لبنان» وفي صاالت ومقاهي ومطاعم «جونيا» و»الروشه»‪.‬‬ ‫لكن قصيدة الشاعر الصديق مازالت هناك في شارع الحمرا‪ ،‬تسأل‬ ‫ال ُغبار المجنون‪ ،‬وتسأل عيون المارة من حوله‪ ،‬ثم تشتري بعض اللوز‬ ‫والشراب وتصعد إلى غرفتها قبل حلول الظالم‪ .‬وفي الصباح تشتري‬ ‫العطور وتقف بين صفوف الطالبات والموظفات المطمئنات على‬ ‫نهار بيروت حتى المساء‪.‬‬

‫قد تأخذ المدينة في الليل شكل دار مشتركة لألحباب‪ ،‬يمارس‬ ‫ً‬ ‫وفعل‪ ،‬بمجرد أن‬ ‫فيها اللبنانيون طقوسهم الراقية في السهرات‪..‬‬ ‫يتأكد اللبناني من عبور «المساء» وحلول الليل األكيد‪ ،‬يبدأ السهر‬ ‫حتى الهزيع األخير من الليل‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪50‬‬


‫هذا هو مساء بيروت‪ .‬صار منذ تلك الحرب الشرسة وقت لذاكرة‬ ‫ِ‬ ‫مرتعبة‪ ،‬ذاكرة ترتجف لساعة المساء الرهيبة‪ ..‬إنها ذاكرة الموت‬ ‫الصعب على اإلسفلت واألرصفة‪.‬‬

‫لقد حاول أهل بيروت أن ينتصروا بالمساء أيام الحرب األهلية‪.‬‬ ‫ولكنهم فشلوا أمام إعالنات الموت األكيد الذي تك َّبده المسائيون‬ ‫الكبار ألكثر من عشر سنوات توالت على النار والبنزين‪ ..‬وعندما‬ ‫انتهت الحرب واشتعلت قذائف الحب من جديد بين كل اللبنانيين‪،‬‬ ‫بقي المساء وحيدً ا وغري ًبا في ال ُغبار!‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬كان الوقت مسا ًء حينها‪ .‬وقد بدت تلك اإلضاءة العالية تسقط‬ ‫بهدوء إلى الظالم‪ ،‬ونادل المقهى ُيعلن لزبائنه من المثقفين وغير‬ ‫المثقفين موعد إغالق «الويمبي» على تمام ساعة تلك الحرب‬ ‫األهلية‪ ،‬ففي مثل هذا الوقت بالتحديد كانت النوافذ تُسدَ ل في وجه‬ ‫صفارات اإلنذار‪ ،‬وفي وجه خطوط القذائف الملتهبة الساقطة هنا‬ ‫وهناك‪ ..‬وتبدأ حينها ساعات الموت في المدينة‪ .‬الذاكرة تعمل في‬ ‫الفراغ‪ ،‬والخوف الكبير على األطفال خلف الشرفات يبدأ يتضاءل‬ ‫ويتساوى مع حاالت الموت االعتيادي‪ ..‬يصبح البندول في ساعة‬ ‫الحائط القديمة هو القاتل‪ ،‬تجتاح التكتكات الصمت الرهيب بين‬ ‫صوت القذائف‪ ،‬وتتناغم إيقاعاتها الموقوتة مع االنفجارات البعيدة‬ ‫القاسمة في حي «الزيتون» ذلك الحي الذي كان قلب بيروت النابض‪،‬‬ ‫وبنهاية الحرب كان انهار تما ًما‪ ،‬و ُيعتَبر اليوم من أهم المشاهد اليومية‬ ‫‪51‬‬


‫المؤلمة لكل اللبنانيين المتنقلين بين الغربية والشرقية‪ ..‬صارت تلك‬ ‫األطالل الموحشة ليل نهار أشبه بنقطة التالقي بتلك المأساة الكبيرة‬ ‫التي أطاحت بأحالم الكبار واألطفال‪ ،‬ولم تترك سوى الجراح واألثر‬ ‫الكبير في ملحمة دمار الناس والمدن‪..‬‬ ‫ـ كيف تموت وأنت لم تقل شي ًئا؟!‬

‫فاجأت صاحبي بسؤال لم يكن في البال‪ .‬سألته هكذا ربما‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫بسبب انشغالي العميق بتلك التداعيات المرة التي جاءني بها مساء‬ ‫بيروت‪ ،‬فقال وقد فاجأني هو اآلخر‪:‬‬ ‫أنت كل شيء و ُمت ً‬ ‫حال أيها الصديق!‬ ‫ـ قل لي َ‬

‫ضحكنا سو ًيا وبعض تلك المشاهد تتراءى لي ناصعة في حقيقتها‬ ‫ومعناها‪ ،‬خاصة عندما أعلن نادلنا الط ِّيب للمرة الثانية عن موعد‬ ‫إغالق الويمبي‪ ،‬وبدأ ً‬ ‫فعل بجمع كراسيه وطاوالته المستديرة من‬ ‫يقفر وقد علت ريح ساخنة‬ ‫على رصيف المقهى‪ ..‬وبدأ شارع الحمرا ُّ‬ ‫أيقظت ال ُغبار من سباته وذكرته بتلك القذائف‪ ..‬وصوت ُش َّباك أعلى‬ ‫المبنى ُيسدَ ل في أعقابنا بصدى صوت ُيعلن أن صفارة اإلنذار قد حان‬ ‫الروضة‪ ،‬في تلك‬ ‫موعدها‪ .‬ولكن القصف هذه المرة كان هناك‪ ،‬في ّ‬ ‫المقهى الفسيحة للمثقفين قرب صخرة الروشة‪ ،‬وبين األصدقاء‪..‬‬ ‫حيث ضحكات عبد األمير العالية تندلع في كل اتجاه‪!..‬‬ ‫‪1993/9/24‬‬

‫‪52‬‬


‫في الهزيع الأخير من الليل‬ ‫ترحل الأ�شباح وتبقى الر�ؤية في الدار‪!..‬‬ ‫لم أكن وحدي هناك بين أحجار تناثرت على القبر‪.‬‬

‫لم أكن وحدي هناك بين أشجار احترقت على الطريق‪.‬‬

‫لم أكن وحدي هناك بين وجوه تخرج من الظالم وتتكاثر‪ ،‬كأنها‬ ‫األشباح!‬

‫كنت وحدي أبكي الذين سقطوا‬ ‫فارسا في ذلك الظالم‪ُ .‬‬ ‫لم أكن ً‬ ‫الروح التي شهقت في الهزيع‬ ‫في الطريق‪ .‬قبل الفجر كان البكاء يتلف ُّ‬ ‫األخير من الليل ونامت على الحجر‪!..‬‬

‫كثيرا قبل المغيب‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫عدت أنا الوحيد إلى بالد خذلت أطفالها ً‬ ‫خسرت فيهم حكايات الخريف عن الفارس الذي أشعل الظالم‬ ‫ُ‬ ‫بسيفه‪ .‬وعاد إليهم وقد ناموا في الليل الطويل بال أحالم إالَّ من خياله‬ ‫جريحا في القلب!‬ ‫يعبر المكان‬ ‫ً‬ ‫* * *‬ ‫‪53‬‬


‫غاب الفارس عن شارعنا القديم‪ .‬كان مثل ال َّطيف ومثل كذبة البالد‪.‬‬ ‫نمت قبلهم والنار رماد بارد‪،‬‬ ‫جمعتنا الحكاية قرب موقد النار الكاذبة‪ُ .‬‬ ‫هنا في الدار‪ ،‬وهناك في فلسطين‪ .‬وكان الليل الذي تركناه على الرصيف‬ ‫منذ خمسين عا ًما‪ ،‬يعود بعواء النشيد الذي أبكانا خمسين عا ًما‪ .‬وحين‬ ‫وجدت البالد مشنوقة في «ساحة‬ ‫أفقت من سنوات الحرب الطويلة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫العروبة» والكالب تنبح تحت الج َّثة المتد ِّلية‪ ،‬واألوالد من غضبهم‬ ‫يضرمون النار في الدكاكين‪ .‬والحارس الذي ينفض الدخان عن عينيه‪،‬‬ ‫أقفل كشك الحراسة ونام وهو يتمتم بكلمات قالها منذ خمسين عا ًما‪،‬‬ ‫لعن الله البالد والوباء وضابط المخفر وشرطي الدورية!‬

‫مر من هنا ذات حرب معصوب‬ ‫كان الحارس يجهل أن أباه قد َّ‬ ‫الجسد بالديناميت‪ .‬ولم يعرف أن النار التي يكره‪ ،‬كانت في هشيم‬ ‫الح ُلم لم‬ ‫تلك المعركة التي انتهت وأسفرت عن موت البالد‪ .‬وأن ُ‬ ‫الح ُلم باحتنا العريقة منذ صنعنا من‬ ‫يكن ساعة نام وساعة أفاق‪ .‬كان ُ‬ ‫الخشب سيو ًفا‪ ،‬ومنذ حرقناها بنار أوجاعنا!‬

‫نمنا على أوجاعنا في الزمن المديد‪ .‬ال الحارس أفاق من نوبة‬ ‫الدخان في «ساحة العروبة» وال نحن أفقنا من ليل أهلك الجسد‬ ‫في الدار العطنة‪ .‬وحين كبرنا‪ُ ،‬كنَّا كما ُكنَّا‪ ،‬ننام في الدار الموحشة‪،‬‬ ‫نحتمي بلحافنا القديم خو ًفا من أشباح تحمل ُّ‬ ‫الشموع‪ ..‬تأخذنا من‬ ‫أفئدتنا إلى الميدان‪ ،‬حيث مات أخي وابن أخي في الحريق!‬ ‫* * *‬

‫الحر بالبرد‪ .‬واختلطت‬ ‫‪ ..‬ذات ليلة‪ُ .‬‬ ‫لست أدري ّ‬ ‫أي ليلة‪ .‬اختلط ُّ‬ ‫‪54‬‬


‫عيني‪ ،‬وبنجوم الفضائيات العربية‪ ،‬والسياسة‬ ‫نجوم السماء بنجوم َّ‬ ‫فلست أدري بالضبط كيف حدث‬ ‫أضعت نفسي بين نفسي‪..‬‬ ‫العربية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ولست أدري كيف اختلت بي األشباح‪ ،‬وأطلعتني على العواصم‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫التي أح ُّبها‪ ..‬بيروت‪ ..‬باريس‪ ..‬بودابست‪ .‬المدن التي تبدأ بحرف‬ ‫أي امرأة تبدأ بحرف الباء‪،‬‬ ‫الباء‪ ،‬والنساء الالئي يبدأن بحرف الباء‪ِّ .‬‬ ‫وأي نهاية تبدأ بحرف الباء‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫هلكني هذا الباء!‬

‫* * *‬

‫عدت إلى بهلول‪ .‬بهلول ُيق ِّبل به ّية‪ .‬به ّية تُق ِّبل بهلول‪ .‬بهلول من‬ ‫ُّ‬ ‫األردن‪ ،‬وبهية من مصر‪ ..‬مملكة تق ِّبل جمهورية‪ .‬جمهورية تق ِّبل‬ ‫مملكة‪ ..‬شيء جميل!‬

‫بهاء الدين يخرج إلى الحديقة‪ ،‬ويفتح المذياع على ألـ «بي‪ .‬بي‪ .‬سي»‪.‬‬ ‫ً‬ ‫أهل بحرف السين‪ .‬حرف دخيل‪ .‬تجلس بقربه «سهى» فتقلب أخبار‬ ‫الدنيا‪.‬‬ ‫هلكتني هذه السين!‬

‫* * *‬

‫رأيت سناء تحضن سهى‪ ..‬ويدخالن في برواز‪ .‬تختفي خلفهما‬ ‫ُ‬ ‫وفقدت‬ ‫فقدت مفاتيحها‬ ‫موسيقى‪ .‬موسيقى من شدّ ة تع ُّلقي بها‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫عيني‬ ‫أغمضت‬ ‫بشيء من القهر‪.‬‬ ‫معانيها‪ ،‬عندما عاملتني األشباح‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫عرفت‬ ‫بخرقة سوداء‪ ،‬وقادتني كرهينة إلى مكان بعيد بضاحية المدينة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪55‬‬


‫أنه بعيد وبضاحية المدينة عن طريق السمع‪ ..‬إذ اختفت جميع من ِّبهات‬ ‫الصوت من بيروت‪ ،‬ودخلنا حالة فزع رتيبة ورهيبة‪ .‬بعدها ألقوا بي‬ ‫سرداب عطن‪ ،‬وقالوا‪ ،‬يط َلق سراحك متى ُأ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫طلق سراح العصافير‪.‬‬ ‫في‬ ‫ُ‬ ‫أي عصافير‪..‬‬ ‫لم أفهم ِّ‬

‫انشغلت ً‬ ‫وأفقت من غشاوتهم على سيرة‬ ‫الروح «فيروز»‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قليل بس ِّيدة ُّ‬ ‫ِ‬ ‫فرأيت بناتي األربع يقتربن من أدويتي المهدئة‬ ‫العصافير‪ ..‬العصافير‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫صرخت فيهن‪ ،‬فطارت الواحدة بعد األخرى في أرجاء الدار‬ ‫لألعصاب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وقلت‪:‬‬ ‫التي كانت تقبر األطفال في تلك الشتاءات منذ خمسين عا ًما‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ال تعبثن بما ال نملك وال تكتبن اسم أبيكن على الحائط‪ .‬اكتبنه في‬ ‫الهواء‪ .‬في طريق العصافير العابرة‪ .‬أو احفظنه للرجل الذي لم يسأل عنَّا!‬ ‫َّرت قصيدة الشاعر «نصري الصائغ» أيها َّ‬ ‫الشاهق في ذ ِّلي‪...‬‬ ‫وتذك ُ‬ ‫أباذر تعال‪ُ /‬أناديك من ٍ‬ ‫خلل في ال ُعتمة‪ِّ /‬‬ ‫والذئاب ساهرة بقربي‪.»..‬‬ ‫«يا ٍّ‬ ‫* * *‬

‫عادت األشباح منزعجة‪ ،‬فقطعت عنَّا الكهرباء‪ .‬غابت عنَّا شاشة‬ ‫التلفزيون‪ .‬غابت عنَّا نشرة األحوال الجوية‪ .‬لم نعرف ما هي أحوال‬ ‫فلسطين‪ .‬واألنباء تقول أن «رام الله» تشهد معارك عنيفة وطاحنة‪ .‬وأن‬ ‫إسرائيل حسمت صراعها مع العرب وأعلنت قيام دولتها الكبرى‪ ،‬وقد‬ ‫بدأت ً‬ ‫فعل بعمليات جرف واسعة النطاق إلزالة الفلسطينيين والمدن‬ ‫الفلسطينية من الوجود‪ ،‬في حضور مراقبة سياسية عربية ودولية مك َّثفة‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪56‬‬


‫غابت النجوم‪ ،‬وجاءت الغيوم ِّ‬ ‫تبشر بمطر بعيد‪ .‬قد تمطر في «رام‬ ‫الله» وقد تمطر في «القدس»‪ .‬لكن ما جدوى المطر المنقطع إذا كان‬ ‫النُّور هار ًبا في قاعات المؤتمرات العربية‪..‬‬

‫صرت بال لسان‪ .‬مواطن‬ ‫غضبت األشباح منِّي‪ ،‬فقطعت لساني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مرة‪ .‬أعوا ٌم‬ ‫كنت بال أذن ْين وبال رئتين‪ُّ .‬‬ ‫عربي بال لسان‪ .‬قبلها ُ‬ ‫مت غير َّ‬ ‫مت فيها‪ ،‬ال أذكرها بالتحديد‪ ،‬لكنِّي أذكر أن كل ميتة كانت‬ ‫كثيرة ُّ‬ ‫إثر صدمة‪ ،‬و»شوف كم صدمة»‪ .‬البارحة ً‬ ‫يت صدمة‪ ،‬ولآلن‬ ‫مثل تل َّق ُ‬ ‫فبكيت في طوق أشباح ال أعرفها تسهر‬ ‫أحاول جاهدً ا أالَّ أموت‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫بقربي‪ ،‬وأنا أتأ َّمل ليل األطفال المفزوعين في فلسطين‪ ،‬وأحزان‬ ‫األمهات المفزوعات في جنازات األطفال‪ ،‬والقبور تعشوشب‬ ‫بمرث ّيات الوطن الكسيح‪...‬‬ ‫صرت‬ ‫زعلت األشباح من شدّ ة ُح ِّبي‪ .‬بكت معي إلى آخر الليل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫أجهش بأسماء الذين افتقدتهم في الحياة‪ .‬وقبل أن يحين الفجر‪،‬‬ ‫جنيت تلك‬ ‫فنمت على جمر ما‬ ‫أطلقت األشباح سراحي‪ ،‬ألنام‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫الليلة‪!..‬‬

‫ذاكرة عص ّية ومولعة‪ ،‬ال تنام إالَّ هناك‪ ،‬بين الذين ماتوا من‬ ‫أجلها‪..‬؟!!‬ ‫‪1990/8/18‬‬

‫‪57‬‬



‫ليلة قادتنا الفئران �إلى المعرفة؟!‬

‫دار الغرائب في وطن العجائب!‬

‫عندما َّ‬ ‫حل الظالم على البالد العربية‪ ،‬وبتنا ال نعرف كيف جئنا‬ ‫إلى الظالم‪ ،‬وإلى أين نذهب في الظالم‪ ،‬قادتنا فوانيس الفئران إلى‬ ‫مكتبة التاريخ العربي الكائنة بين ساحة الشهداء وساحة البرلمان‪.‬‬

‫أمهلتنا الفئران بعض الوقت لنجمع أنفاسنا من طول المشوار‬ ‫الذي قطعناه ألكثر من خمسين عا ًما بال زاد إالَّ من تقوى ومعرفة‬ ‫صغيرة بعلوم التناسل‪ ..‬ثم أطلعتنا على األغلفة السميكة لكُتب‬ ‫األسالف التي بنت عليها أوروبا حضارتها‪ ،‬وخرجنا نحن من‬ ‫تجر الخيبات‪ ،‬وكالب‬ ‫حضارتنا في بالد األندلس‪ ،‬بحمير خلفنا ُّ‬ ‫تنبح في الطريق‪ .‬وقالت الفئران بسخرية الواثق على توجيه اإلهانة‪:‬‬ ‫هنا حاجتكم أيها العرب‪ ،‬في هذه الرائحة القديمة التي سبقناكم‬ ‫إليها وفهمناها عن ظهر قلب‪ ،‬في الجوع والشبع‪ .‬فهذه المكتبة ـ‬ ‫خطرا‬ ‫خطرا عليكم قبل والدتكم‪ ،‬وستكون ً‬ ‫تقول الفئران ـ كانت ً‬ ‫حميرا‬ ‫على أوالدكم الذين يرونكم فرسانًا في مراياكم‪ ،‬ويرونكم‬ ‫ً‬ ‫‪59‬‬


‫في مراياهم‪ .‬والحق نقول ـ قالت الفئران ـ إن أهم شيء كسبناه‬ ‫من راحتنا في بالدكم‪ ،‬هو قدرتنا على هضم كل تاريخكم القديم‪،‬‬ ‫ونجاتنا الطويلة من كل سمومه التي أصابت عقولكم وأطاحت‬ ‫حل الشتاء‪َّ ،‬‬ ‫بقوتكم على قارعة الطريق‪ ،‬حتى َّ‬ ‫وحل الظالم الطويل‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫كنا نهضم تاريخكم عن طيب خاطر‪ ،‬بكل ما فيه من مواد ثقيلة‬ ‫ال يبتلعها حتى الفيل الجائع‪ .‬فنحن كجنس خبير ِ‬ ‫بالكتاب‪ ،‬نعتبر‬ ‫ِ‬ ‫نظرا لما يحتويه من قيمة غذائية عالية‪ ،‬أشبعتنا‬ ‫الكتاب خير جليس لنا‪ً ،‬‬ ‫وأنتم جياع‪ ،‬وفتَّحت عيوننا على الدنيا وأنتم عميان ومخذولين‪.‬‬ ‫فكنا بال منازع من أقرب مخلوقات الله إلى المعرفة ِ‬ ‫بالكتاب‪ ،‬وإلى‬ ‫تواريخ تدوينه وطباعته ونشره‪ .‬أما تاريخكم المعاصر أيها العرب‬ ‫ـ تقول الفئران ـ فإن الورق الناعم بات يفقدنا القدرة على الهضم‪،‬‬ ‫التذوق والمعرفة بحقيقة إن كنتم عر ًبا‬ ‫كما بات يفقدنا القدرة على‬ ‫ُّ‬ ‫أو إفرنج ًيا‪ .‬حتى رائحته الزكية صارت مختلفة وغير مغرية لشهيتنا‪.‬‬ ‫خصيصا لفئران اإلفرنج‬ ‫فورق تاريخكم المعاصر‪ ،‬قد يكون ُصنع‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ويتبخر‬ ‫البالستيكية المد َّللة‪ .‬أو أنه قد صار ينفد سري ًعا في العقل‬ ‫قبل أن يكون حتى وجبة إفطار قبل الغداء‪!..‬‬ ‫واستتلت الفئران المث َّقفة دون أن تمنحنا الفرصة للكالم‪ ،‬وقالت‪:‬‬ ‫لقد عاصرناكم معشر المث َّقفين الشباب‪ ،‬وأدركنا بعد هزائمكم في‬ ‫مرورا بفرديناندو‬ ‫حروبكم األولى واألخيرة‪ ،‬من عصر هوالكو‬ ‫ً‬ ‫وإيزابيال‪ ،‬وبريمر‪ ،‬أنكم مصدر هالك أسالفكم‪ ..‬وأننا إن شاء الله‬ ‫سنكون مصدر هالككم ولو كتبتم بعد ذلك على ورق السيلوفان‪!..‬‬ ‫‪60‬‬


‫ً‬ ‫أرطال من األغلفة القديمة السميكة الستعمالها‬ ‫ومنحتنا الفئران‬ ‫في الصيف القادم كمراوح يدوية على جبهات القتال مع العدو‪.‬‬ ‫عدونا؟!!‬ ‫وانصرفنا‬ ‫طابورا واحدً ا دون أن نسأل الفئران من هو ُّ‬ ‫ً‬ ‫* * *‬

‫ويتفرع منه‬ ‫‪ ..‬في الشارع الطويل‪ ،‬الذي كان اسمه شارع الهوتيل‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫شارع االستقالل وشارع النصر‪ .‬وعلى باب المكتبة العربية الضخمة‪،‬‬ ‫حمارا بانتظارنا‪.‬‬ ‫الواقعة بين ساحتي الشهداء والبرلمان‪ ،‬وجدنا‬ ‫ً‬ ‫رقما فسفور ًيا لم نتح َّقق منه بسبب العتمة‬ ‫حمارا يحمل على جانبيه ً‬ ‫ً‬ ‫التي في القلوب‪ ،‬وبسبب العشا الليلي الذي ورثناه عن أجدادنا منذ‬ ‫ليلة سقوط غرناطة‪.‬‬ ‫أطفأت الفئران فوانيسها عندما انصرفنا‪ ،‬وهمست لبعضها في‬ ‫الظالم الجديد‪ ،‬ودخلت بين ُأمهات الكُتب لتقرأ بنهم وتنام‪.‬‬

‫تركتنا الفئران خارج البناية بال قمر‪ ،‬ننتظر مجيء حمار ْين آخر ْين‬ ‫على األقل‪ ،‬لحمل األغلفة إلى جبهة القتال!‬

‫رض ْت‬ ‫(ال نريد كال ًبا)‪ ..‬هكذا زعقنا في صوت واحد عندما َع َ‬ ‫علينا أربعة كالب نقل التاريخ إلى حيث نريد‪ .‬قلنا لها في استياء‪:‬‬ ‫حميرا كالتي‬ ‫حميرا مطيعة‪ ،‬تكره الظالم وال تنظر إلى الخلف‪.‬‬ ‫نريد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫حملت مكتبة األندلس إلى أوروبا ولم تركن إلى ظل من خشيتها‬ ‫للظالم‪ ،‬فأضاءت بما تحمل سماء أوروبا‪ ،‬ليمطر النور في العقل‬ ‫حميرا أيتها الكالب‪ ،‬تحمل عنَّا‬ ‫الذي أشعل بدوره الكرنفال‪ .‬نريد‬ ‫ً‬ ‫‪61‬‬


‫هذه األثقال التاريخية‪ ،‬ليس إلى أوروبا التي اشتعلت‪ ،‬ولكن إلى ديارنا‬ ‫التي انطفأت‪ .‬فال بصيص لنور نهتدي إليه في الغياب‪ ،‬وال صوت‬ ‫ٍ‬ ‫حميرا‬ ‫أي جدار‪ ،‬يحمي الحقيقة في السؤال‪ .‬نريد‬ ‫لمناد هناك‪ ،‬خلف ِّ‬ ‫ً‬ ‫كثيرا على الجبهة‪ ،‬وناموا!‬ ‫تحمل أغلفة المراوح لجنود تثاءبوا ً‬ ‫هامت الكالب على وجوهها كما هام الجنود على وجوههم يوم‬ ‫خسرنا الحرب‪ .‬وانصرفت تنبح في خالء المدينة!‬ ‫* * *‬

‫مرت بنا‪ ،‬كانت مشغولة وعلى عجلة من‬ ‫معظم الحمير التي َّ‬ ‫أمرها‪ .‬فالس َّياح في بالدنا شغلوا معظم الحمير‪ ،‬حتى الحمير التي‬ ‫كانت تحرث في األرض المالحة‪ ،‬جاءت تنقل الس َّياح للفرجة علينا‬ ‫في النهار‪ ،‬بالدوالر واليورو‪ ،‬وحتى الليرة التركية‪.‬‬

‫صاح فينا أحد الفئران من أعلى المكتبة‪ :‬هل وجدتم تاكسي؟!‪.‬‬ ‫فقلنا له‪ :‬كال‪ ،‬فالسياحة الرائجة هذه األيام أفسدت الحمير أيها الفأر‬ ‫العزيز‪!..‬‬

‫هز‬ ‫زعل الحمار المتو ِّقف بيننا منذ وقت ينتظر شحن األثقال‪َّ .‬‬ ‫وهم بالمغادرة لو لم يسمع نهي ًقا عال ًيا ومت ً‬ ‫ّصل‬ ‫ذيله وأذنيه في استياء‪َّ ،‬‬ ‫قاد ًما من بعيد‪ ..‬وإذا بها ثالثة حمير شهباء كانت الفئران قد اتصلت‬ ‫بها بالتليفون‪ .‬تو َّقفت كسيارات اإلسعاف‪ ،‬وفسحت ظهورها الناتئة‬ ‫لحمل التاريخ العربي إلى المجهول‪!..‬‬ ‫* * *‬ ‫‪62‬‬


‫‪ ..‬أثناء السير في الطريق إلى المجهول‪ ،‬استوقفتنا عاهرة عربية‬ ‫مغتربة تسأل عن بيت الطالبات‪ .‬وعندما اعتذرنا لها بعدم معرفتنا‬ ‫العنوان‪ ،‬سألتنا عن بيت العاهرات‪ .‬فقلنا لها‪ ،‬لقد وصلتي‪ ،‬وأشرنا‬ ‫جميعنا إلى المدينة قائلين بصوت واحد‪ :‬هذا هو بيت العاهرات‪.‬‬ ‫ودون أن تشكرنا ابتسمت وتفلت اللبانة في وجوهنا‪ ،‬ودخلت المدينة‬ ‫تتنهد من بعيد!‬ ‫مسرورة‪ ،‬وأخذت َّ‬

‫ً‬ ‫طويل في الشوارع العربية المهجورة‪ ،‬وال أثر‬ ‫طافت بنا الحمير‬ ‫ووزعت الحمير‬ ‫لعدو‪ .‬وعند منتصف الليل‪ ،‬وقد أضنانا التعب َّ‬ ‫ٍّ‬ ‫منشوراتها العلنية على الطرقات‪ ،‬وجدنا أنفسنا من جديد على باب‬ ‫المكتبة العربية‪ ،‬وذلك الفأر‪ ،‬في األعلى‪ ،‬يسألنا‪ :‬أما زلتم هنا؟!!‪..‬‬ ‫هزأ بنا الفأر الصغير‪ ،‬الماكر‪ .‬ثم دخل وأقفل النافذة على قهقهات‬ ‫الفئران‪.‬‬

‫والحمير من شدّ ة التعب والجوع والعطش والغضب‪ ،‬نفضت‬ ‫وتتكسر‪.‬‬ ‫حمولتها لتسقط األغلفة السميكة إلى األرض‪،‬‬ ‫َّ‬

‫ال أحد كان في مقدوره أن يحمل عنَّا وزر تلك الليلة من الظالم‬ ‫الذي َّ‬ ‫عدو‪!..‬‬ ‫حل على األمة العربية‪ ،‬أو يد َّلنا على جبهة القتال مع أي ّ‬ ‫* * *‬

‫ثالث ساعات مضت على انطالقتنا األولى من دار الفئران‪ ،‬وعدنا‬ ‫من حيث بدأنا‪ ،‬إلى دار الفئران!‬ ‫ثالثة قرون مضت على انطالقتنا األولى من دار الفئران‪ ،‬وعدنا‬ ‫‪63‬‬


‫من حيث بدأنا‪ ،‬إلى دار الفئران‪ ...‬وخالل الثالثة قرون‪ ،‬لم نح ِّقق‬ ‫سوى إرشاد العاهرة إلى مأواها في المدينة!‬ ‫عادت الفئران إلينا بال فوانيس‪ .‬سخرت منا واستعادت أغلفتها‬ ‫القديمة!‬ ‫عادت الحمير إلى الس َّياح!‬

‫‪ ..‬وعدنا نحن للكتابة على ورق السيلوفان؟!!‬ ‫* * *‬

‫المباح‪!..‬‬ ‫‪ ...‬وأدركنا الصباح‪ ،‬قبل أن تسكت الفئران عن الكالم ُ‬ ‫‪1996/4/5‬‬

‫‪64‬‬


‫كيف نعتني بالورد قبل المغيب؟!‬

‫معزوفة رومانسية في حديقة أمنيات‬ ‫حالة ُحب استثنائية!‬

‫‪ً ..‬‬ ‫مهل‪ ،‬لم نشرب قهوتنا بعد‪.‬‬

‫منذ زمن وهذه الحديقة لم تشهد هذا اللقاء بيننا‪ُ .‬كنَّا منشغلين‬ ‫بهموم الوطن‪ .‬و ُكنَّا منشغلين أكثر بهمومنا‪ ..‬بالخبز والماء والحليب‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أراك من بعيد وال أستطيع االقتراب ِ‬ ‫ِ‬ ‫أناديك‪،‬‬ ‫منك أو أن‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫ولهذا أريد أن ُأنهي‪ ،‬بهذه القهوة‪ ،‬كل سنوات النكد التي حرمتني‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رؤيتك عن قرب‪!..‬‬ ‫منك‪ ،‬ومن‬ ‫* * *‬

‫اشربي القهوة يا حلوتي واحكي لي كيف تكونين حلوة أكثر‪.‬‬ ‫وسأحكي ِ‬ ‫لك كيف ننسى السنوات التي مضت علينا هكذا بال ضحك‪.‬‬ ‫ع ِّلميني بلطف كيف أبتسم‪ ،‬وكيف أعتني بالورد‪ ،‬وق ِّبليني كي أدوخ‬ ‫وأطير إلى الشجر‪.‬‬ ‫‪65‬‬


‫هل هناك أجمل من هذا النهار كي نمارس الحب ون ِ‬ ‫ُعلن ُقبلتنا‬ ‫ُ‬ ‫األولى؟!‪ ..‬هل هناك أجمل من هذا النهار نلتقي فيه بال أزمة اقتصادية‬ ‫أو اجتماعية أو سياسية؟!‪..‬‬ ‫قليل عن مواعيدنا‪ .‬وأننا نتأخر ً‬ ‫لتكن أزمتنا أننا نتأخر ً‬ ‫قليل في التعبير‪.‬‬ ‫غزيرا هذا النهار‪ ..‬وأننا نسينا المظ َّلة في المقهى‪!..‬‬ ‫وأن المطر يهطل ً‬

‫مرة بأمر هذه األمة‬ ‫ليكن بيننا هذا العشق لننسى أننا انشغلنا ذات َّ‬ ‫وذوقتنا الخوف‬ ‫التي أكلت أبناءها في ساعات الجوع والشبع‪َّ ..‬‬ ‫بعساكرها ومخبريها‪ ،‬وليلها وكالبها‪!..‬‬

‫ثمة حرب‬ ‫هذه األمة الخؤون التي ضحكت علينا وقالت أن َّ‬ ‫الحب بيننا مستحيل‪ ،‬وأننا لن نلتقي‬ ‫ستقتلنا‪ ،‬وأن الغد أسود علينا‪ ،‬وأن ُ‬ ‫كي نناقش ونفتِّش عن حاجتنا في المقهى أو السينما‪ ،‬أو في الحدائق‬ ‫العامة‪ ..‬مادامت إسرائيل تُشغل الضفاف الفلسطينية‪ ..‬وما دامت‬ ‫أميركا تقيم بيننا وتلقي بحذائها صوب الجغرافيا البليدة!‬ ‫* * *‬

‫ٍ‬ ‫مكان يا تُرى‬ ‫وأي‬ ‫أي مقهى يا تُرى يمنح النشوة للسابل الغلبان؟‪ُّ ..‬‬ ‫ُّ‬ ‫يبعث في القلب ذلك الحنين القديم لألشياء العذبة الحنونة التي تبدَّ لت منذ‬ ‫وأي شار ٍع يا تُرى مازال تعبره البنات الحلوات‬ ‫بالحب؟‪ُّ ..‬‬ ‫فترت عالقتنا ُ‬ ‫العائدات من المدرسة وهن يحض َّن ال ُكتُب واألشواق والحنين إلى الغد؟‪..‬‬ ‫ٍ‬ ‫رصيف يا ترى مازال يحمل خطى العاشقين في المساء؟!‬ ‫وأي‬ ‫ُّ‬ ‫* * *‬

‫الحب‪،‬‬ ‫يا حبيبتي‪ ..‬يا تلك التي كانت منذ وقت طفلة ال تعرف غير ُ‬ ‫‪66‬‬


‫وال تنتشي بغير ال َف َرح‪ ..‬هل مازال في القهوة رشفة يا هذه التي‬ ‫تشاركني اآلن هذا المقعد في الحديقة؟!‬ ‫كيف ِ‬ ‫يمكن أن نأخذ تلك الضحكة الجذلى من ذلك ال َّطاعن في‬

‫الزمن‪ ،‬حتى أنا‪ ..‬ال تذاكر لهم تأخذهم إلى‬ ‫السن؟!‪ ..‬ال َّطاعنون في َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫حيث تقيم الحرية في أبهى ُصورها‪.‬‬

‫تلك الحرية الجميلة التي كانت تجلس على المقعد الوثير قرب‬ ‫وهم يلعبون حولها‪ .‬وعندما يتثاءبون‪،‬‬ ‫المدفأة وتبتهج لفرح األطفال ُ‬ ‫أسرتهم كي يحلموا أكثر باللعب!‬ ‫تأخذهم واحدً ا واحدً ا إلى ِّ‬

‫كثيرا‪ ،‬ولم أرها‬ ‫تلك الحرية التي ز َّينت قلبي بحبيبة ح ُل ُ‬ ‫مت بها ً‬ ‫فعل‪ً ،‬‬ ‫احتجت إليها ً‬ ‫احتجت إليها‪ ..‬فال أحد يحتاج‬ ‫فعل‬ ‫إالَّ عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ب‪ .‬وهذا التَّعب ع َّلمني كيف ُأعيد توقيت ساعة‬ ‫إلى شيء إالَّ وتَع َ‬ ‫يدي وأضبطها على ساعة يدها كي ال َّ‬ ‫أتأخر عن هذا اللقاء المصيري‬ ‫أخيرا تجلس‬ ‫بحبيبتي التي‬ ‫ْ‬ ‫كثيرا في ُّ‬ ‫الزحام وها هي ً‬ ‫ابتعدت عنِّي ً‬ ‫الزمن‪ ،‬وكدنا‬ ‫قبالتي‪ ..‬تشاركني ذلك اللحن القديم الذي افتقدناه في َّ‬ ‫نفتقده في الذاكرة‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫عرفت من‬ ‫مرة‪ .‬و َل ْم تسألني ك َْم‬ ‫َل ْم تسألني‪ ،‬حبيبتي‪ ،‬ك َْم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سافرت ّ‬ ‫فأغمضت‬ ‫النِّساء‪ .‬سألتني فقط عن حاالتي مع هذا ال َّطقس الجديد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ب الذي يع ِّلم اإلنسان‬ ‫الفؤاد على صوتها‬ ‫ُ‬ ‫فالح ُ‬ ‫وأعلنت بهجتي عال ًيا‪ُ .‬‬ ‫الطيران‪ ،‬يكون في مقدوره أن يع ِّلم اإلنسان الكالم‪ ..‬وأن يتخ َّيل الغد‪،‬‬ ‫الغد الذي يمنح هذه المقدرة على الطيران!‬ ‫‪67‬‬


‫ٍ‬ ‫بالمرة مشكلة فلسطين‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫في هذا اللقاء وقد انتهت َّ‬ ‫فأي شوق يبعثه َّ‬ ‫المتأصل‪ .‬فاإلنسان قعيد‬ ‫ومشكلة اإليدز‪ ،‬ومشكلة الضغط العربي‬ ‫ِّ‬ ‫الح ُلم بطقس جديد غير‬ ‫الح ُلم‪ُ ..‬‬ ‫هذه الجغرافيا البليدة‪ ،‬ال يملك غير ُ‬ ‫الح ُلم بطقس جديد‪،‬‬ ‫ملوث بنشرات األخبار المرئية والمسموعة‪ُ .‬‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫تستهل أخبارها بأسعار الورد‪ ،‬وبأسعار ُكتُب األشعار‬ ‫فيه النَّشرات‬ ‫والروايات‪ ،‬وبأسعار الت َّفاح‪ .‬طقس جديد للورد والعصافير وإعالنات‬ ‫األطفال‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫همست وهي تالمس غروب َّ‬ ‫الشمس‪ :‬هل نمضي إلى المدينة؟‬ ‫ْ‬

‫ٍ‬ ‫فقلت‪ً :‬‬ ‫سرب للعصافير‪ .‬سنعود‬ ‫مهل‪ ..‬ليس قبل أن يعود آخر‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ومألت‬ ‫الح ُلم بنهار جميل‪..‬‬ ‫ْ‬ ‫في ظالل العصافير إلى ُع ٍّش يكبر فيه ُ‬ ‫الحديقة الشقشقات!‬ ‫* * *‬

‫هناك في المدينة عند الغروب‪ ،‬عند السالم البديع‪ ،‬دخلنا اللحن‪.‬‬ ‫فتحنا نوتة الموسيقى العظيمة وغرقنا في الرقص‪ .‬هي تغرق في‬ ‫الرقص بهدوء‪ ..‬وأنا أغرق معها‪..‬‬ ‫للزحام‪..‬؟!!‬ ‫والصورة‪ ..‬والمشهد اليومي ُّ‬ ‫ُدخنا‪ ،‬فتركنا وراءنا الخبر ُّ‬ ‫ربيع ‪1992‬‬

‫‪68‬‬


‫حالة الثقافة وراء ال�ستار ال�سيا�سي‬

‫أزمة حوار مع الجماهير‪..‬؟!‬

‫تربطني عالقة قديمة بالشاعر والكاتب المتم ِّيز(محمد الماغوط)‬ ‫رائد المسرح السياسي الذي كاد يتو َّقف عن كشف حكايات «األمة»‬ ‫بعد خالفه مع أستاذ المسرح السياسي (دريد لحام)‪ ..‬فيتو َّقف بذلك‬ ‫دائما للوقوف على ركح المسرح السياسي‬ ‫نبض جيل فني كان يتع َّطش ً‬ ‫الموسمي الذي كان يقدِّ مه الماغوط ولحام ويتجوالن به في محاولة‬ ‫لطرح السؤال العربي «المع َّقد» أمام كل الجماهير العربية‪.‬‬

‫وكما كان الشارع العربي لصيق االهتمام بسؤال المسرح السياسي‬ ‫الذي أثرى الوجدان العربي بالكثير من االنفعاالت الضرورية في ظل‬ ‫أنظمة «كرتونية» سائبة في سياساتها المضحكة والمقلقة والمحرجة‬ ‫ألمة لم تزل عظيمة في ضمير مثقفيها‪ ،‬فإن الفن الذي قاد إلى صحوة‬ ‫اإلنشاد بحياة األمة‪ ،‬لم يتو َّقف عند المسرح السياسي وحسب‪ ،‬بل‬ ‫تعدَّ اه إلى األغنية السياسية التي تم َّيزت بمعاركها الثقافية مع تلك‬ ‫األناشيد الحماسية التي «أفرختها» تلك المعارك العربية الخاسرة مع‬ ‫‪69‬‬


‫العدو‪ ،‬والتي كانت بالرغم من حماستها العارمة‪ ،‬تقود إلى الصدمة‬ ‫بالهزيمة‪ .‬فكانت ذكراها مريرة في آذان السامعين الذين كانوا ير ِّددون‬ ‫إيقاعاتها وكلماتها على صوت أحذية الجيش الذي ذهب إلى جبهة‬ ‫القتال ولم يعد‪ .‬فكان وقع النشيد عني ًفا على النفسية العربية التي‬ ‫راهنت على كالم ُحكَّامها وراهنت على كالم إذاعاتها‪ ،‬وعادت‬ ‫خائبة إلى مقهاها الشعبي تنتج اكتمال الهزيمة في عتمة المكان‬ ‫بالشاي وأنفاس «النرجيلة» وأغاني «أم كلثوم»‪ ،‬وثمن الهالك الطويل‬ ‫دائما في دفتر حساب الوطن أو‬ ‫لوجوه تلوك الوجع وتنهار‪ ،‬كان ً‬ ‫على حائط الهزيمة‪ .‬لذلك كان ال بد أن تنهض المعركة الثقافية مع‬ ‫النظام المهزوم الذي قاد الناس إلى البكاء تحت «أطالل» أم كلثوم‪.‬‬ ‫وأن تنهض المعركة بأغنيات سياسية تفضح بؤس المكان‪ ،‬وتفضح‬ ‫خيال النكتة البليدة في المقهى‪ .‬وتقهر الهزيمة التي تفوح في كذبة‬ ‫المهربة‪ ،‬في‬ ‫النشيد‪ .‬ومن صميم األزمة‪ ،‬وقفت «األغنية السياسية»‬ ‫َّ‬ ‫وجه األناشيد الحكومية التي ما فتأت تخسر إيقاعها الحماسي أمام‬ ‫هدوء الكالم في ترنيمات «مارسيل خليفة» و «أميمة خليل»!‬ ‫فصوت «فايدة كامل» ترك هزيمة ‪ 67‬على مقاعد «مقهى‬ ‫الفيشاوي» وعاد بحرب أكتوبر ‪ 73‬من ِ‬ ‫«قبلة» تلك الحرب وتلك‬ ‫تكريما‬ ‫الهزيمة‪ ..‬ليس لتكريم الشهداء الذين سقطوا في سيناء‪ ،‬وإنما‬ ‫ً‬ ‫لمحمد عبد الوهاب ونجوى فؤاد‪ .‬وانتهت الحرب كما لم تبدأ‪..‬‬ ‫وانتصرت «إسرائيل» بنقل ال َع َلم من ثكنتها العسكرية‪ ،‬في صحراء‬ ‫سيناء‪ ،‬إلى سفارتها السياسية في وسط القاهرة‪ .‬ليصدِّ ق الجندي‬ ‫‪70‬‬


‫جريحا من حرب ‪ 67‬وشاهد ال َع َلم اإلسرائيلي‬ ‫المصري الذي عاد‬ ‫ً‬ ‫يرفرف وراءه فوق رمال أغضبتها الريح‪ ،‬أن إسرائيل لم تخسر حرب‬ ‫أكتوبر ‪ ،73‬وإنما انتصرت‪ ،‬في هذا التاريخ تحديدً ا‪ ،‬بنقل ال َع َلم من‬ ‫سيناء إلى القاهرة‪!..‬‬

‫فاللواء «محمد عبد الوهاب» لم ينشد «لجيمي كارتر» نشيد‬ ‫االنتصار على إسرائيل‪ ،‬وإنما أنشد للسالم الذي قاد إسرائيل إلى‬ ‫قلب العروبة النابض‪ ،‬وليقتل وراءه الفلسطينيين في األزمة الراهنة‪.‬‬ ‫ورقصت «الجنرالة نجوى فؤاد» رقصة الشرق الساحر بين الهرم األكبر‬ ‫والهرم األصغر ليشهد العالم سقوط الشرق األوسط‪!..‬‬

‫لقد ربط السادات عنق مصر بمعاهدة «خانقة» مع إسرائيل‪ ،‬ورحل‬ ‫عن الدنيا مخ ِّل ًفا في األرض ش َّقة خالف َق َس َم ْت األرض ومن عليها‪،‬‬ ‫وأسفرت إلى الخسارة الفادحة في القضية‪ ،‬التي مثلما قادت العرب‬ ‫إلى الهزيمة في الحرب‪ ،‬قادت العرب إلى الهزيمة في السالم‪ .‬وكأن‬ ‫إسرائيل تعيد إلى ذاكرة «اليهود» ذكرى انتصارها في العام ‪ 48‬التي‬ ‫انتكبت فيها فلسطين‪ ،‬وينتكب فيها العرب اليوم!‬ ‫* * *‬

‫كان «محمد الماغوط» مح ًَّقا في رسم لوحات «ضيعة تشرين»‬ ‫و «غربة» و «كأسك يا وطن»‪ ..‬كما كان مح ًَّقا في مقاالته األسبوعية‬ ‫ِ‬ ‫الحكَّام‬ ‫«أليس في بالد العجائب»‪ .‬فكتب تاريخ الهزيمة ليتَّعض ُ‬ ‫وينصتوا إلى «خانة الجماهير» التي افتتحها في مشروع المسرح‬ ‫تحول من عمق الصدارة مع الجماهير‪ ،‬إلى‬ ‫السياسي‪ .‬لكن المشروع َّ‬ ‫‪71‬‬


‫كثيرا ثم عادوا إلى قصورهم في هدوء ماكر‪،‬‬ ‫تسلية ُ‬ ‫لحكَّام صفقوا ً‬ ‫يد ِّبرون الهالك للفن الذي أفزعهم في العرض الخاص‪ ،‬وناموا بال‬ ‫َ‬ ‫المتخمات بالسلطة والنفوذ‪ .‬وعاد‬ ‫خيال على أصوات شخير زوجاتهم‬ ‫الماغوط إلى بيته في دمشق يتأسف على تصفيق الحاكم على خيبته‬ ‫عاصرت بداياته‬ ‫الحكُم‪ .‬فكان الخالف مع «دريد لحام» الذي‬ ‫ُ‬ ‫في ُ‬ ‫وكان بمثابة «مؤامرة حكومية» للفصل بين االثنين‪ ،‬مثار أحاديث طويلة‬ ‫شاركني الرأي فيها العديد من األصدقاء في دمشق وبيروت وبغداد‪.‬‬ ‫لكننا لم نفلح في عودة العمالقين إلى وعيهما‪ ،‬كما لم يعد المسرح‬ ‫السياسي إلى الواجهة‪ .‬فراح «دريد» إلى التلفزيون «على مسؤوليته»‬ ‫في قناة القت منَّا كثير الترحيب في بدايتها‪ .‬وراح «الماغوط» من‬ ‫ذاكرة اتسعت بحجم الوطن وخبت في أزمتها‪ ،‬يكتب السطر الحار‬ ‫في «مقهى الشام» ويتو َّقف لفنجان آخر من القهوة «السادة» وسيجارة‬ ‫مشتعلة في الفكرة‪ ،‬وكأنه يبرهن على ثقة المزاج في تحريك هدف‬ ‫الكتابة‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫قمة عطائه‬ ‫مازال هذا الشاب الكبير «محمد الماغوط» في َّ‬ ‫علي فكرة إصدار صحيفة خاصة‬ ‫اإلبداعي‪ ،‬فسرعان ما طرح َّ‬ ‫بالكاريكاتور العربي‪ ،‬يسته َّله الفنان «علي فرزات» برسومات ساخرة‬ ‫رسامي الكاريكاتور في‬ ‫بتعليقات «الماغوط» وتفتح المجال ألهم َّ‬ ‫الوطن العربي‪ .‬وكان الشيخ الشاب مستعدً ا ألن يسافر معي إلى‬ ‫قبرص لتحقيق هذا المشروع الصحفي الفني الجديد‪ .‬لكن الصمت‬ ‫‪72‬‬


‫كان أكبرنا في لقائي به في دمشق وأنا في طريق عودتي النهائية من‬ ‫قبرص إلى ليبيا‪ .‬فخسرنا الفكرة م ًعا‪ ،‬لكننا لم نخسر رصيف مقهى‬ ‫الشام‪ .‬فعلي فرزات ح َّقق مشروع أهم صحيفة سورية شعبية هي‬ ‫«الدومري» وح َّقق الماغوط صوته في مقاالته في «الوسط»‪ .‬ومن‬ ‫عدت أنا للكتابة في‬ ‫رصيف شارع «العروبة» بمدينة البيضاء في ليبيا‬ ‫ُّ‬ ‫عدت إلى كتابة‬ ‫ارتبطت بها منذ زمن‪ .‬كما‬ ‫صحف ودوريات عربية‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الحكايات عن «بنغازي القديمة»‪ .‬وبهذا كأن شي ًئا لم يكن‪َّ .‬‬ ‫كأن‬ ‫«الماغوط» لم يكتب للجماهير العربية مسرحه السياسي النقدي‬ ‫َّ‬ ‫وكأن «علي فرزات» لم يرسم في الكويت كريكاتورياته‬ ‫الالذع‪.‬‬ ‫السياسية الجماهيرية‪ .‬وكأنني لم أسقط من فوق جبل «ترودوس»‬ ‫مهملة إلى قاع مدينة البيضاء ألجد‬ ‫في قبرص‪ ،‬وأتدحرج ككرة ثلج َ‬ ‫نفسي أبيع البصل للجماهير‪ .‬وكأن الثقافة التي قادت إلى كسب‬ ‫الرهان بالجماهير‪ ،‬سرعان ما سقطت تحت أقدام الجماهير في‬ ‫سوق الخضار‪ ،‬مخ ِّلفة الصوت والصدى في ضمير المث َّقف الذي‬ ‫متفر ًجا من بعيد على حطام العربة‬ ‫كان عليه أن يكون‪ ،‬منذ البداية‪ِّ ،‬‬ ‫في حلبة السباق‪ ...‬والجماهير تص ِّفق!‬ ‫* * *‬

‫كان حجم خسارة «شركة المتوسط الدولية للصحافة والنشر في‬ ‫قبرص» بمشروعات إصداراتها الصحفية الجديدة «المتوسط» ذات‬ ‫الشأن اإلقليمي المتوسطي بلغتيها العربية واإلنجليزية‪ ،‬و «البريد»‬ ‫تحررها الجماهير العربية من الخليج إلى المحيط‪ .‬كان حجم‬ ‫التي ِّ‬ ‫‪73‬‬


‫خسارتها في الظرف العربي والدولي الراهن‪ ،‬بحجم خسارة فكرة‬ ‫مشروع «المسرح السياسي» الذي أضاء به «الماغوط» ركح ظالم‬ ‫المسرح العربي الذي سقط في محنة ثقافة الهزيمة العربية التي تبنتها‬ ‫المؤسسات الثقافية واإلعالمية الحكومية على يد النفعيين المنافقين‬ ‫المتم ِّلقين‪ .‬لكن فكرة «المث َّقف» الحقيقي للخروج من هذه المحنة‪،‬‬ ‫رضة لشكوك «مؤسسة» مرتبكة في مشروعها وفي‬ ‫دائما ُع َ‬ ‫كانت ً‬ ‫عالقتها بالمث َّقف‪ .‬فكان بإمكانها أن تستعيد ذاكرتها وتبرهن على‬ ‫مصداقية انتمائها لحركة الجماهير في الشارع العربي‪ .‬هذه الحركة‬ ‫التي لن تتأسس «معرف ًيا» بدون مشروع إعالمي‪ ،‬من هذا النوع‪ ،‬يتبناها!‬ ‫‪2002/6/28‬‬

‫‪74‬‬


‫ال�سكون؟!‬ ‫ال �أحد يبكي في ُّ‬ ‫الصمت‪ ،‬حتى ذلك الذي قتلنا ونحن نعتذر له‬ ‫ال أحد يرانا في َّ‬ ‫الصغير‪.‬‬ ‫عن خطأنا َّ‬

‫الرمل‪ ،‬ونحب المسافات‪،‬‬ ‫ُكنَّا مثل فتيان اللعب‪ .‬نحب الركض على َّ‬ ‫ونعشق كما الفراشات‪ ..‬و ُكنَّا نبكي قبل النَّوم من شدَّ ة الفقد ألشياء‬ ‫نراها وال ننالها‪ .‬أشياء في «الفترينات» المضيئة كالب ُّلور‪ ،‬تسحرنا‬ ‫ببريقها ونحتاج إلى مالمستها‪ .‬أشياء كثيرة ُكنَّا نحتاج إلى مالمستها‪،‬‬ ‫حتى الحرية التي ُكنَّا نمارسها على البحر وفي الغابات‪ُ ،‬كنَّا نخاف‬ ‫دائما إلى مالذات آمنة بعيدً ا عن‬ ‫منها ونخاف عليها‪ .‬نحملها معنا ً‬ ‫عيون المخبرين الذين إذا اجتاحوا المكان‪ ،‬حيث ننصب الحرية‬ ‫الصور‪ ،‬يغتالونها ويغتالوننا‪ ،‬فتنشطر الشمس التي ترضعها‬ ‫في أبهى ُّ‬ ‫في النَّهار وترضعنا‪ ..‬وإلى غير سبيل‪ ،‬في المتاهة الحقيقية‪ ،‬تجرفنا‬ ‫الم َّرة‪ ..‬كيف ضعنا هكذا بين‬ ‫الخطايا ويجرفنا السؤال إلى الحقيقة ُ‬ ‫أحذية حملتنا أسرى في الظالم األكيد‪ُ .‬كنَّا لهم األسرى ليعلو صوت‬ ‫وهم يدخلون مراكز‬ ‫النشيد خلفنا‪ ،‬تاركًا صداه في أعقابنا‪ ،‬بين النَّاس ُ‬ ‫‪75‬‬


‫االنتخاب‪ ،‬يتجمهرون على صناديق من أوراق سهلة االشتعال كما‬ ‫المنَال‪ .‬ولكي تمضي الدولة إلى النُّور‪ ،‬ال بدَّ أن نمضي إلى‬ ‫هي سهلة َ‬ ‫الظالم‪ ،‬حيث الحرية هناك تنام‪ ،‬بين جدران رطبه تنهال كما األحالم‪.‬‬ ‫* * *‬

‫لمن تركنا الشطآن إذن والغابات؟!‪ ..‬ولمن تركنا المسافات وعشق‬ ‫الفراشات؟!‪ .‬من يركض هناك بعدنا في النهار وقد غابت َّ‬ ‫الشمس‬ ‫وغبنا في الظالم؟!‪ .‬ال أحد سوانا يعرف أن َّ‬ ‫الشمس هنا فينا‪ ،‬في‬ ‫المعتقل‪ ،‬حيث الحرية مسج َّية بين جدران رطبة تنهال كما األحالم!‬ ‫* * *‬

‫نام بجواري «ناجي العلي» وقد كان يتمتم بأسماء ال أعرفها‪ .‬أسماء‬ ‫أمهات ُّ‬ ‫الشهداء الالئي سقطن في مخيمات الالجئين في لبنان‪ .‬كان يرسم‬ ‫وجه بيروت بمالمح امرأة رسولة‪ ،‬ت ِ‬ ‫ُطعم «حنظلة» بحنطة مع َّفرة بشمس‬ ‫اشتهيت مذاقها في المعتقل‪ .‬وبين وجنتي بيروت ارتسمت‬ ‫الجنوب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫شفتين كأنهما األمل الذي أعاد الروح إلى «حنظلة» المسكين‪ .‬سألني‬ ‫«غسان كنفاني» َّ‬ ‫مر من هنا‪ ،‬حمل أوراقه‬ ‫الشهيد‪ُ .‬‬ ‫فقلت له‪ ،‬منذ وقت َّ‬ ‫عن َّ‬ ‫إلى القبر‪ .‬لم يطق أن يرانا في الوطن المعتقل‪ ،‬فاشتعل بضوئنا‪ ..‬ورحل!‬ ‫* * *‬

‫لم نكن وحدنا هناك‪ .‬كانت عشيرة من المث َّقفين والفالَّحين‪ .‬من‬ ‫الذين يفلحون األرض بالقصائد والمحاريث‪ .‬الذين من شمسهم‬ ‫تولد األشجار وتولد األحجار!‬ ‫‪76‬‬


‫لم نكن وحدنا هناك‪ .‬كان معنا «الوقت» كله‪ ،‬الشمس وال ِّطين‬ ‫والطحين‪ ،‬والتِّين والزيتون والبرتقال‪ .‬وكان معنا الزعتر واألغنية‬ ‫الشهيد‪ .‬كان معنا َّ‬ ‫المشتهاة عند الفجر قبل صباح َّ‬ ‫قصة‬ ‫الشهيد يحكي َّ‬ ‫السقوط العظيم على األرض العظيمة‪ .‬كانت معنا الدماء الحمراء‬ ‫ُّ‬ ‫وعصير الدالية‪ .‬كانت معنا األزقة القديمة ودجاجات الختيارة‬ ‫وجروتها البيضاء‪ .‬كانت معنا «نورا» طفلة الرابعة التي تحفظ القرآن‬ ‫الكريم وتحفظ النشيد وتعد إلى العشرة‪ .‬و ُكنَّا كما نحن في المعتقل‪،‬‬ ‫نبني األحالم ونهدمها كما فتيان اللعب على رمل شواطئ «غزة»‬ ‫وغابات «الجليل»‪ ..‬ولم نكن أبدً ا بال شمس في فلسطين‪..‬؟!!‬ ‫* * *‬

‫أفقت من النَّوم على صوت أطفال المدارس‪ .‬كان صباح بيروت‬ ‫ُ‬ ‫الح ُلم بين يدي‬ ‫ومنهكًا‪ ،‬وكأنها ذات الوجه الذي كان معي في ُ‬ ‫بار ًدا َ‬ ‫مرة ُّ‬ ‫والشوق في عينيه‪ ،‬كأنها‬ ‫ناجي العلي‪ .‬فتذك ُ‬ ‫َرت متى تركها آخر َّ‬ ‫كانت طفلته التي و َّدعته وحيدً ا‪ ،‬وكان يخاف عليها من الليل وحيدة‪.‬‬ ‫وكان معظم األصدقاء الذين غادروا بيروت في تلك الليلة‪ ،‬وقعوا في‬ ‫أسر ذكرياتها‪ .‬فكأن السفر أو التهجير في الليل‪ ،‬حالة استثنائية تصيب‬ ‫الفلسطينيين‪ .‬وبقدر األلم الذي تتركه الذكرى األليمة في المكان‪ ،‬يكون‬ ‫الحنين إلى المكان هو ُمنتج هذا الفن الذي استوعب الحالة واستوعب‬ ‫المكان‪ .‬وكأنني أرى في رواية رشاد أبو شاور «بيروت‪ ..‬يا بيروت»‬ ‫تلك الصرخة الفلسطينية وذلك االحتجاج على التهجير الفلسطيني عن‬ ‫األرض التي كادت تمتد إلى «القدس» عبر منافذ الروح التي علت جبال‬ ‫‪77‬‬


‫لبنان‪ .‬فكان رشاد مثل بقية األصدقاء من المث َّقفين الفلسطينيين‪ ،‬ضحية‬ ‫تعرضت له المقاومة الفلسطينية في العام ‪.82‬‬ ‫اإلبعاد القسري الذي َّ‬ ‫وبالرغم من حالة االستقرار المعنوي الذي وجدتهم عليه في «تونس»‬ ‫بعد ثماني سنوات عن تلك «الهجرة الجماعية» ظ َّلت بيروت في‬ ‫أحالمهم كأنها الشمس التي كانت تشرق لتغيب في تونس‪ ..‬مالذ الليل‬ ‫الفلسطيني الغريب‪ .‬حتى أننا من حاجتنا لتلك الجلسات الفلسطينية‬ ‫اللبنانية‪ ،‬أشعلنا روح ذلك الطقس في إحدى الليالي الجميالت في‬ ‫البيت التونسي الكبير‪ .‬وبافتراقنا الجديد‪ ،‬المؤبد‪ ،‬عاد بعضهم إلى‬ ‫وهم الدولة بعد أوسلو ومدريد‪ ،‬ال ليجدوا فلسطين في أزقة الطفولة‬ ‫«غسان زقطان» ولكن ليجدوا المكان تبكيه الذكريات على‬ ‫كما اشتهى َّ‬ ‫الباب العتيق‪ ،‬والبكاء على السنين يفتح َّ‬ ‫الشق في الجدار بسقوط الوهم‬ ‫غسان في مج َّلة الشعراء‬ ‫الذي داهم ُ‬ ‫الح ُلم بال سبيل‪ .‬فتناثرت أزهار َّ‬ ‫الشباب كما تناثرت أزهار «محمود درويش» في «الكرمل» الجديدة‬ ‫أمام القصف اإلسرائيلي على قصائد السالم‪ .‬فكم كانت قصائد العودة‬ ‫كثيرة‪ ،‬لكن الزمن الذي أخذ الوقت عن باحة المكان‪ ،‬كان يد ِّبر الهالك‬ ‫األكيد للذاكرة الفلسطينية‪ .‬فالهجرة الجديدة غير الممكنة‪ ،‬تعني موت‬ ‫الذاكرة‪ .‬والبقاء بين أطالل بيت الثقافة‪ ،‬يعني أن القصيدة األخيرة‬ ‫باتت تكتمل‪ .‬وهنا ربما كانت «رام الله» بيت الرئيس وبيت الشهيد‪،‬‬ ‫هي بيت القصيدة التي من عنادها تربض أمام المدفع كل صباح‪ ،‬في‬ ‫انتظار القذيفة األخيرة‪..‬؟!‬ ‫* * *‬ ‫‪78‬‬


‫كيف ي ِ‬ ‫الشعر الذي هناك‪ِّ .‬‬ ‫مكن إذن أن نجمع ِّ‬ ‫الشعر الذي لم يقرأه‬ ‫ُ‬ ‫علينا أحد في المعتقل‪ِّ .‬‬ ‫ويتحول إلى زهرات‬ ‫الشعر الذي يخنقه الدم‬ ‫َّ‬ ‫أقحوان‪ِّ .‬‬ ‫الشعر الذي يتن َّفس كدخان بركان‪..‬؟!‬ ‫أحرارا من المعتقل؟!‪ ..‬أم أن الحرية‬ ‫هل ينفجر فينا قري ًبا‪ ،‬لنخرج‬ ‫ً‬ ‫المسج َّية معنا بين الجدران الرطبة‪ ،‬في السجون العربية‪ ..‬أصبحت‬ ‫ً‬ ‫طويل؟!‬ ‫شمسها مطفأة‪ ،‬وصار ليل العرب‬

‫كيف لنا إذن بشمس يتفتَّح فيها األقحوان‪ ،‬وتغدو الحرية التي معنا‬ ‫في المعتقل‪ ،‬تشرق في فضاء الوطن بقصائد ِ‬ ‫وتحرر‬ ‫تهدم المعتقل‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫السجناء في يوم الثورة الكُبرى؟!!‬ ‫ُّ‬

‫‪2003/1/24‬‬

‫‪79‬‬



‫كيف احترقت قبر�ص‬ ‫عند الرحيل الثاني‪..‬؟!‬ ‫كانت عودتي الشريفة إلى ليبيا في أيلول‪ /‬سبتمبر الماضي‪،‬‬ ‫أيضا انتصار على موضوعة‬ ‫انتصارا للذات على بالدة المكان‪ .‬وهي ً‬ ‫ً‬ ‫المتعمد على تعميق البالدة‪ .‬فالمكان «البديل»‬ ‫«المؤسسة» وإصرارها‬ ‫َّ‬ ‫بظرفه االستثنائي لمهام مؤسسة افترضنا وجودها في مسألة جدِّ ية‬ ‫الحوار مع اآلخر‪ ،‬كان معن ًيا بأهمية دور المث َّقف وعالقته بالمكان‪،‬‬ ‫دون غيره من التابعين القافزين على مسألة الحوار من األساس‪.‬‬ ‫وبتدهور أحوال «المؤسسة» بين طائع ومطيع في جغرافيات الحوار‬ ‫ـ الحق المكتسب للمث َّقف ـ صار المكان أشبه باألسر الذي تموت‬ ‫المدرك لخطورة المسألة‪ .‬ومن هنا كانت‬ ‫فيه طموحات المث َّقف ُ‬ ‫قبرص «الثانية» مح َّطة باردة في حياتي المهنية‪ ،‬فأخذت من وقتي ما‬ ‫يجعلني أكتب في أي مكان آخر عشرات الروايات والكُتب الثقافية‬ ‫والسياسية‪ .‬بمعنى أنها كانت مضيعة لوقتي الثمين الذي كان ينتظر‬ ‫وأدركت عند عودتي «الشريفة»‬ ‫على باب «مؤسسة» خانت األمانة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪81‬‬


‫إنه على باب تلك المؤسسة العقيمة‪ ،‬كان ال بدَّ أن ينتصر المث َّقف‪،‬‬ ‫وأن تنهار المؤسسة في محيط مبناها!‬

‫فعندما اختارت «المؤسسة» فسخ ارتباطها بالثقافي‪ ،‬كمتن‬ ‫للمشروع الحضاري الموكل إليها‪ ،‬زادت من تعميق أزمتها في عالقتها‬ ‫باآلخر وبمشروع التنوير من أساسه‪ ،‬والذي كان ينتهجه هذا المث َّقف ـ‬ ‫طبيع ًيا ـ خارج أسوار المؤسسة‪ .‬فكان من األجدى على هذه المؤسسة‬ ‫أن تتخ َّلص من عقدتها الدونية «الخاسرة» وتتحالف مع المث َّقف على‬ ‫مشروعه من داخل مشروعها‪ ،‬باعتبار أن ال خالف على المعنى في‬ ‫المكان‪ .‬لكن بعداء المؤسسة لعقل المث َّقف‪ ،‬خسرت المؤسسة معنى‬ ‫وجودها في المكان‪ ،‬وعاد المث َّقف إلى موقعه بهدوء‪ ،‬ليرى سقوط‬ ‫السقوط‪ ،‬ال يساوي دخان سيجارة‬ ‫المؤسسة في الغبار‪ .‬وكان غبار ُّ‬ ‫واحدة يأخذها المث َّقف بارتياح‪ ،‬وقد أدار ظهره لحجم الدمار‪ ،‬وحجم‬ ‫ترح ًما‬ ‫الخسارة الفادحة في التاريخ‪ .‬وعليه‪ ،‬اآلن‪ ،‬أن يرفع رأسه عال ًيا‪ُّ ،‬‬ ‫على المزيد من الخسائر!‬ ‫* * *‬

‫كنت أكتب من هنا‪ ،‬من مدينة البيضاء‬ ‫قبل إقامتي «الثانية» في قبرص‪ُ ،‬‬ ‫بالجبل األخضر‪ ،‬في كبريات الصحف والمجالت العربية التي تصدر‬ ‫في أوروبا‪ .‬ولم تنقطع عنّي اتصاالت أهم ال ُكتَّاب والصحفيين العاملين‬ ‫أقمت فيها خالل الحرب اللبنانية‪،‬‬ ‫فيها‪ .‬وكانت قبرص «األولى» التي‬ ‫ُ‬ ‫محطتنا األكيدة‪ ،‬وفضاؤنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات‬ ‫صحافة المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية‪،‬‬ ‫‪82‬‬


‫ِ‬ ‫المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء‬ ‫خاطبت بوعيها التنويري عقل‬ ‫صحافة مؤسسات النظام التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك المرحلة‬ ‫المهمة في تاريخ النضال العربي‪ ،‬وسقطت أمام األعداد األولى لصحف‬ ‫َّ‬ ‫ومجالت السؤال العربي‪ .‬فكان المكان «القبرصي» بمعناه االستثنائي‬ ‫في ذلك الزمن‪ ،‬هو العالمة الفارقة في حياتنا الثقافية والصحافية‪.‬‬ ‫ومع نهاية تلك الحرب‪ ،‬تضاءلت ظاللنا في الجزيرة المتوسطية‪،‬‬ ‫لتنتهي أدوارنا فيها وقد عاد لبنان إلى أهله‪ ،‬وعاد بعضنا إلى التعب‬ ‫من جديد في كساد األمكنة‪ .‬تارة نعيب على تلك المرحلة التي منحتنا‬ ‫الكثير من الثقة في قدراتنا على تأكيد السؤال‪ ،‬وخسرنا ضمان وجودنا‬ ‫في المستقبل‪ .‬وتارة نعيب على المحنة العربية الراهنة التي قادتنا إلى‬ ‫ذات السؤال‪ ،‬وكنا فقدنا منارة القلعة هناك دون ضمان العودة‪ ..‬والتارة‬ ‫األكيدة هي ما تبقى لنا من حنين إلى تلك السنين التي أمضيناها م ًعا‪،‬‬ ‫مدججة بمعرفة األزمة ومحيطها السياسي والثقافي‪ .‬نكتب‬ ‫ككتيبة حرب َّ‬ ‫تحت شعالت القصف الليلي الذي كاد يتراءى لنا من شرفتنا العالية‬ ‫في «ليماسول» وكأننا هناك‪ ،‬في بيروت‪ ،‬بين األصدقاء‪ ،‬نحتمي بجدار‬ ‫المقهى التي خلت من مثقفيها في مساءات القصف الطويل‪ .‬ونستقبل‬ ‫المهرب في البريد‪ .‬وعلى رصيف الميناء‪،‬‬ ‫في صباح اليوم التالي‪ ،‬الفزع‬ ‫َّ‬ ‫نستقبل الوجوه القادمة من طواحين الحرب إلى مالذ الوجع العربي‪،‬‬ ‫للعيش في الجزيرة بكل تلك الثقة على إثبات الوجود الستعادة المكان‪.‬‬ ‫وكبرت قبرص في عيوننا حين كانت الوجوه بقربنا تدعم صمودنا في‬ ‫الحر‪ ،‬في‬ ‫الوقت العصيب‪ ..‬وقلعتنا الصحفية الكبيرة تطلق سهام القلم ُ‬ ‫كبد الحقيقة الغائبة ـ المغ َّيبة ـ في كل مكان من العالم!‬ ‫‪83‬‬


‫لقد انتصرت َّ‬ ‫«الذات» في ذلك اللقاء اإلعالمي الذي جاء عفو ًيا‪،‬‬ ‫وكان س َّبا ًقا إلى الفعل‪ ،‬في زمن امتلكناه كيفما نريد لوقف الحرب‬ ‫الخاسرة بين األشقاء‪ ،‬ودعم صمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية‬ ‫ِ‬ ‫المحترقة على ـ‬ ‫في وجه االجتياح اإلسرائيلي الذي سقط بأعالمه‬ ‫مهمتنا بنهاية الحرب‪ ،‬وكأننا كنا هناك ـ جنود‬ ‫جسر َّ‬ ‫األولي ـ وانتهت َّ‬ ‫االرتباط العربي ـ على الجبهة الجنوبية من الجزيرة‪ .‬نتل َّقى األخبار‬ ‫بالوسائل الصعبة‪ ،‬ونكتب عن محنتنا في الصور القادمة المغطاة‬ ‫بالدم‪ ،‬ونبكي استشهاد (كمال ناصر) الذي أفرغ «باراك» في فمه كل‬ ‫رصاص مسدسه‪ ،‬إسكاتًا لصوت الشاعر المناضل‪ .‬ونبكي خروج‬ ‫المقاومة الفلسطينية وجراح «حنظلة» في يد ناجي العلي!‬

‫كنا على رصيف التعب في ليل «ليماسول» نرى مصابيح بيروت‬ ‫تقترب من افتتاحية الصباح المهداة للعقل العربي‪ .‬وكأننا مع خيوط‬ ‫الفجر األولى‪ ،‬ننهض على صوت النوارس وهي تعبر سماء الجزيرة‪،‬‬ ‫تأخذ األحالم واألشواق‪ ..‬تتهادى في البياض وتأخذ مداها إلى‬ ‫بيروت!‬ ‫* * *‬

‫ً‬ ‫اتصال من أحد األصدقاء في لندن‪ .‬كان‬ ‫منذ يومين فقط‪ ،‬تل َّقيت‬ ‫الحديث يعيد ذلك الفضاء المفقود‪ ،‬والذاكرة بيننا تجهش بتلك‬ ‫الصور واألصوات التي كانت هناك في نيقوسيا وليماسول‪ ،‬وكأنها‬ ‫للتو‪ ،‬في دقائق االشتياق‪ ،‬إلى ذات المكان‬ ‫اآلن هنا‪ ..‬وكأننا عدنا ِّ‬ ‫في قبرص السبعينيات والثمانينيات‪ .‬سألته عن لندن‪ .‬فقال لي باردة‬ ‫‪84‬‬


‫فقلت له دافئ بناسه‬ ‫بناسها وأحوالها‪ .‬فسألني عن «الجبل األخضر»‬ ‫ُ‬ ‫عدت من قبرص‪،‬‬ ‫والربيع هذا العام يأخذ العقل‪ .‬ولم يسألني متى‬ ‫ُ‬ ‫حلمت بتحقيقها هناك‪ ،‬وماتت هناك‪.‬‬ ‫وال عن مشاريعي الثقافية التي‬ ‫ُ‬ ‫عدت‬ ‫وردت قبرص فقط حين سألني عن صحة ابني «زياد» الذي‬ ‫ُ‬ ‫مريضا بعد أن بخلت عليه المؤسسة بمهلة صغيرة‬ ‫به من قبرص‬ ‫ً‬ ‫الستكمال العالج‪ ..‬وانتهى اللقاء بأن ح َّياني على عودتي للكتابة‬ ‫والنشر في صحافة المهجر‪ ،‬وع َّلق ً‬ ‫قائل‪ :‬ذكَّرتني كتاباتك األخيرة‬ ‫عن أحداث فلسطين‪ ،‬بتلك الكتابات عن أحداث لبنان‪ .‬وسألني‬ ‫بحرقة‪ :‬ولكن يا صديقي‪ ،‬هل حان وقت الكالم‪..‬؟!‬ ‫ُ‬

‫الحرقة التي خرجت من صدر الصديق الذي كان يلقي بمرارة‬ ‫تلك ُ‬ ‫كبده في مياه المتوسط أثناء مجزرة (صبرا وشاتيال)‪ ..‬وخفت عليه‬ ‫الحرقة التي كانت في صدري يوم‬ ‫من الموت بين‬ ‫ذراعي‪ ،‬هي ذاتها ُ‬ ‫ّ‬ ‫وعدت أنا إلى ليبيا‪ .‬وليفترق بقية األصدقاء‬ ‫افترقنا‪ .‬سافر هو إلى لندن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عن مصدر اللهب الذي كان هناك و ُكنَّا نتوهج معه‪ .‬وهاهي األحداث‬ ‫في فلسطين تفقد القلعة اإلعالمية في قبرص‪ ،‬ليكون الفراغ الذي‬ ‫تركناه هناك‪ ،‬بمساحة الوجع الذي نناله هنا‪ .‬وقد كان «وقت الكالم»‬ ‫رهين تلك الحالة الغائبة عن معتركها الطبيعي‪ ،‬الحتواء أزمة من هذا‬ ‫النوع‪ ،‬كادت قبرص أن تراهن عليها من جديد‪ ،‬بظهور صحافة حقيقية‬ ‫تجاور حقيقة المأساة‪ ،‬وتُكشف عن حقيقة النظام الرسمي العربي‬ ‫بصوت الجماهير‪.‬‬ ‫لكن «الذات» التي بدأنا بها‪ ،‬والتي غادرت بالدة المحيط اآلسر‬ ‫‪85‬‬


‫في قبرص «الثانية» هي الذات المولعة بطقسها القديم‪ ،‬وقد تألقت‬ ‫الحرة على سبيل‬ ‫أيام كانت قبرص هي المكان والضرورة‪ .‬فاإلقامة ُ‬ ‫المحصلة الطبيعية لقوة «الذات» على إثبات‬ ‫الحرة‪ ،‬هي‬ ‫ِّ‬ ‫التجربة ُ‬ ‫موهبتها ووجودها الثقافي‪ .‬أما اإلقامة الجبرية على سبيل المهنة‬ ‫محصلة الخواء التي‬ ‫الصغيرة‪ ،‬في محيط المؤسسة الصغيرة‪ ،‬فإنها‬ ‫ِّ‬ ‫تقوض حرية المث َّقف وتحرمه َّ‬ ‫لذة االنتصار إلثبات الوجود‪ .‬وتلك‬ ‫ِّ‬ ‫كانت إرادة «المؤسسة» الخائبة ـ الغائبة عن الوعي في حضور الشروط‬ ‫الموضوعية للمث َّقف الشاهد على ضحالة ـ األصلع واألبرص ـ في‬ ‫مؤسسة االنتماء المز َّيف!‬

‫التصور‪ ،‬أن ي ْع َمد األشباه على‬ ‫لذلك كانت المحنة تفوق حدَّ‬ ‫ُّ‬ ‫اإلطاحة بنور األلق في البالد‪ ،‬ويغيبون عن جوهر السؤال المطروح‬ ‫بين األمم‪ .‬ذلك السؤال الذي قاد األعداء ذات مرة إلى الديار في‬ ‫المحاولة اليائسة‪ ،‬وقاد األعداء هذه المرة إلى ضرب الديار في‬ ‫وحرجا في صوت المث َّقف‬ ‫المحاولة األكيدة‪ .‬وك َّلما كان السؤال قو ًيا‬ ‫ً‬ ‫كبيرا على ـ مؤسسة‬ ‫صماء‪ ،‬ال تسمع ـ كان الخطر ً‬ ‫الثوري ـ واألذن َّ‬ ‫الوجود ـ من األساس؟!‬ ‫‪2002 / 5 / 3‬‬

‫‪86‬‬


‫�أميركا والرجل ال�سوريالي‬

‫وجه مثل الحليب‬ ‫يسافر في الرحلة األخيرة!‬

‫اعتقدناها باب السينما عندما كانت األدوار تُمنح بالمجان لغير‬ ‫النجوم والنجمات الذين خرجوا من ملهى «هوليوود» بال شارة على‬ ‫الصدر‪ .‬خرجوا يضحكون وقد انتهت أدوارهم العالمية بأوسكارات‬ ‫تراجعت نخبتها في قاعة «شراين أوديتوريوم» بلوس أنجلوس‪،‬‬ ‫ليحملهم القطار الذهبي الن َّفاث إلى حلبة الضوء الباهر في «نيويورك»‬ ‫عيني تمثال‬ ‫ومشاهدة العالمة الليزرية العمالقة التي ستنطلق من‬ ‫ِّ‬ ‫الحرية في سماء الكون‪ ،‬ويشاهدها سكَّان العالم أينما كانوا‪.‬‬ ‫عيني حاملة مشعل الحرية‪ ،‬هي‬ ‫تلك العالمة التي لن تنطفئ في ِّ‬ ‫المجسم الضوئي لشعار «النظام العالمي الجديد» الذي ستشهره‬ ‫َّ‬ ‫أميركا للعالم خالل الفترة القليلة القادمة‪ ،‬وتحديدً ا عندما تنتهي من‬ ‫خصومها‪ ،‬وتطيح بكل المدارات المانعة في العالم‪ ،‬من أنظمة عنيدة‪،‬‬ ‫وديانات عنيدة‪ ،‬وثقافات يائسة ومتفائلة‪ .‬حينها تضيء تلك العينان‬ ‫‪87‬‬


‫ٍ‬ ‫مدينة كا َبرت‬ ‫الصامتتان أمام مشعل أطفأته األحداث األخيرة في سماء‬ ‫كثيرا في غرورها‪ ،‬وسقطت في الرحلة التاريخية لطائرات ‪ 11‬سبتمبر!‬ ‫ً‬ ‫* * *‬

‫بين مشهد سقوط البرج الشاهق الذي أطاح بفكرة الرأسمالية‪،‬‬ ‫ومشهد اجتياح الضوء لسماء الكون في ليلة «زفاف نيويورك» تكمن‬ ‫القدرة األميركية الفائقة على تغيير العالم‪ .‬والعالم إذ يتغ َّير بقوة (اإلعالم‬ ‫األميركي) الذي استوعب الحالة األميركية في األزمة‪ ،‬وكان س َّبا ًقا‬ ‫تفوقت حتى على أفكار ُصنَّاع القرار في‬ ‫إلى احتوائها بقدرات سياسية َّ‬ ‫مسالما لقوة اإلرادة األميركية‬ ‫الواليات المتحدة‪ ،‬يستحق أن يكون تاب ًعا‬ ‫ً‬ ‫التي صنعت «العولمة» وب َّثت بريقها في ليلة النجوم العالمية‪ ..‬ليكون‬ ‫األوسكار األوحد من استحقاق صانع هذا الحلم األميركي!‬ ‫* * *‬

‫أمام هذا العنفوان للمشهد الساحر في ليل نيويورك‪ ،‬ماذا عسانا أن‬ ‫نفعل في «منطقة الحرب» التي أطفأت أنوارها على ساحة «الجندي‬ ‫المجهول» البائسة في الظالم بين فضالت الجيش وعواء الكالب‪.‬‬ ‫وأمهات طيبات حزينات مازلن يخطن الثياب في الديار المهجورة‪،‬‬ ‫لشهداء عبروا المكان على صوت نشيد المعارك‪ ،‬وسقطوا في رجفة‬ ‫فالحكَّام الذين‬ ‫القلب األخيرة قبل الفوز بابتسامة تفاؤل بالمستقبل‪ُ .‬‬ ‫يغادروننا إلى مزادات «نيويورك» العالمية الستيراد ثمار العولمة‪ ،‬قد‬ ‫يستضيفون قتلة الشهداء‪ ،‬واالحتفاء بهم في ساحة الشهداء‪ ،‬والمرور‬ ‫بهم على مقابر الشهداء‪ .‬وقد تتز َّين «كلوديا شيفر» وترتدي وشاح‬ ‫‪88‬‬


‫الفلسطينيات ُأمهات الشهداء‪ .‬وقد يصبح ال َع َلم الفلسطيني الذي كان‬ ‫منصة االحتفال بطي صفحة‬ ‫الكفن والعهد في سنوات المقاومة‪ ،‬غطاء َّ‬ ‫الماضي‪ ،‬والتذكير بالدرس المستفاد الذي خسرت فيه فلسطين‬ ‫«نصف ٍ‬ ‫قرن» من نضال انتهى على مائدة عشاء؟!‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬لم يكن بيننا هذا التعدِّ ي عندما أمضينا نصف العمر في دائرة‬ ‫السؤال‪.‬‬

‫كم بكينا وكم كذبنا على حالنا عندما ضحكنا بال سبب‪ .‬وعندما‬ ‫التفتنا رأينا الوجوه التي سبقتنا إلى الوراء‪ ..‬وجوه كبرت في الذاكرة‪..‬‬ ‫كثيرا سؤالنا عنها‪ ،‬وتالشت؟!!‬ ‫ْ‬ ‫انتظرت ً‬

‫لم نستأذن وقارها في تاريخها الشعبي‪ .‬ولم نستأذن حيطانها َّ‬ ‫الهشة‬ ‫المترامية األطراف التي آوتنا قبيل المغيب‪ ،‬قبل اشتعال الحكايات‬ ‫في الظالم العربي‪..‬‬

‫ألهذا الحدّ أهملناها تلك الوجوه‪ ،‬وتهنا عنها في سبيل اللعب في‬ ‫حضارة مخيفة استوردناها عن جهل منَّا بخباياها ومداخلها ومتاهات‬ ‫صاالت قمارها السياسي والثقافي‪ ،‬والحضاري‪.‬‬

‫ت فينا الموسيقى الصاخبة أول الليل في أول الخريف‪،‬‬ ‫َع َل ْ‬ ‫فلم نسمع بحمحمات الحصان المجروح أسفل الرخام!‬ ‫كيف كان لنا أن نصدِّ ق ذلك إذا كانت كل الخيول قد قفزت من‬ ‫الذاكرة ولحقت بأصحابها في التاريخ!‬ ‫‪89‬‬


‫كانت الحمحمات في المساء بعيدة عنَّا‪ .‬وتلك الوجوه بعيدة عنَّا‪.‬‬ ‫ونحن هنا في مدينة الضوء‪ ،‬نجتاز الدَ َرج العالي إلى النافورة العالية‪،‬‬ ‫تتقمص شهرزاد‬ ‫حيث تجلس امرأة بالستيكية من ُصنع األمريكان‪َّ ،‬‬ ‫الذاكرة في ليلة مزدانة بنجوم الليزر‪ .‬وعلى الطرف اآلخر من المدينة‪،‬‬ ‫فوق المنارة‪ ،‬يبكي شهريار تحت َع َلم بارجة اإلمبراطور‪ ،‬الراسية في‬ ‫مياه البحر المتوسط!‬ ‫* * *‬

‫لم نكن على ِع ْل ٍم بمقتلنا ساعة أخذونا من غواياتنا البريئة وأشعلوا‬ ‫المتوهجة في سماء المدينة‪ ،‬كأنها الكرنفال‬ ‫في عيوننا تلك العناقيد‬ ‫ِّ‬ ‫األخير الذي يمضي بنا إلى النوم األخير‪.‬‬

‫أبهرتنا لحظة الموت االصطناعي‪ ،‬حتى أننا من خوفنا ارتجلنا‬ ‫الضحك وهوينا إلى األرض نلملم ما تناثر من تلك السعادة البدائية‪.‬‬ ‫ومضينا‪ ..‬بال قلب مضينا في الزمن اإللكتروني‪ ..‬وأمضينا الوقت‬ ‫في مشهد جديد يأخذ نصف األرض إلى السماء‪ ،‬ليأتي الكمبيوتر‬ ‫بأشجار اللوز للنصف المشطور‪ .‬ولتغنِّي الغجريات االلكترونيات‬ ‫على شواطئ بال أمواج كانت لمراكب صيد بدائية هلكتْها الطمأنينة‪،‬‬ ‫تغنِّي قبل كل فجر ألزمان غابت عنها الصباحات!‬

‫* * *‬ ‫الحكْمة‪ ،‬وشيخ ِ‬ ‫طال االنتظار على باب ِ‬ ‫الحكْمة مات قبل أن يتلو‬ ‫بسر‬ ‫علينا سيرة العطش الذي قادنا إلى الهالك‪ .‬مات دون أن يبوح لنا ِّ‬ ‫‪90‬‬


‫هذا الزمن الذي قفز ـ هكذا فجأة ـ على المدينة الرمادية الشاحبة‪،‬‬ ‫ليحرس األطفال بألعاب «البوكيمون» في الغابة السحرية‪ ،‬وليمضي‬ ‫إلى شرفة ارتفعت من دهشتنا عندما عبرنا نهر السمك األحمر بزوارق‬ ‫بال صوت إلى آخر النهر‪ ،‬لمشاهدة الحوت المضيء بين الزوارق‬ ‫البيضاء وهو يسحب بارجة اإلمبراطور إلى البحر المتوسط!‬ ‫* * *‬

‫طال االنتظار على باب ِ‬ ‫المتوهجات من حلبة‬ ‫الحكْمة‪ ،‬لتختفي النساء‬ ‫ِّ‬ ‫ويدو صوت‬ ‫الرجال على الرمل‪ ،‬وليعلو ماء البحر على قوافل الغجر‪ِّ ،‬‬ ‫االنفجار في المنارة العالية قرب الميناء‪ ،‬وتسقط كل الطيور‪ .‬ويسقط‬ ‫السالم في نار بال دخان‪ .‬ال شاهد عليها غير هذا الذي أخذته الغيبوبة‬ ‫إلى آخر الزمن‪ ،‬ومات صامتًا وطاعنًا في الصمت‪ .‬طاعنًا في هدوء‬ ‫البحر وهدوء السماء‪ ..‬وفي الجمال المز َّيف ألرض صغيرة تو َّقفت عن‬ ‫ولكوة‬ ‫الدوران ساعة ُدخنا‪ ،‬وساعة فتحنا النوافذ للهواء االصطناعي‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫الليزر الملتهبة كمنتصف شهر أغسطس‪ ،‬تسطع على المدينة بال ظالل‬ ‫مرة في الضاحية الشرقية‪ ،‬على أشجار بال فيافي‪،‬‬ ‫كما سطعت هناك ذات َّ‬ ‫وعلى ماشية من إبل وماعز صارت بال مأوى تلوذ في الخالء‪ ..‬كما‬ ‫لتوهم من الكمبيوتر‬ ‫سطعت على رجال بيض بلون الحليب‪ ،‬خرجوا ِّ‬ ‫وركبوا الباص اإللكتروني الطائر في رحلة قصيرة حول األرض‪ ..‬في‬ ‫رحلة طويلة إلى نهاية العالم‪ ،‬بدأت منذ وقت قصير‪ ،‬مع ظهور المالمح‬ ‫الطاغية للبطل اإللكتروني الحالم بال قلب‪!..‬‬ ‫* * *‬ ‫‪91‬‬


‫كان موعدنا مع الحصاد وشيكًا‪ .‬وكانت أمهاتنا في غفوة القيلولة‪،‬‬ ‫الريف‪.‬‬ ‫يحلمن باحتواء السنابل إلى صدورهن المع َّفرة برائحة ِّ‬ ‫والرغيف الساخن في فرح الصبية عند بئر الماء‪ ،‬يفوح برائحة األرض‪.‬‬ ‫تلك األرض التي تو َّقفت عن الدوران‪ ،‬ساعة حضرت النعال المهاجرة‬ ‫الحلم في الطريق‪ .‬تُكنس‬ ‫الجرافات‪ ،‬تُكنس ُ‬ ‫كأنها القرود‪ ،‬تقود أزيز َّ‬ ‫السنابل واألحالم‪ ..‬تُكنس الظل عن المكان‪ ..‬وتُكنس األرض التي‬ ‫كانت تدور‪ ..‬وتو َّقفت عن الدوران؟!!‬ ‫‪2002/8/9‬‬

‫‪92‬‬


‫ليل القاهرة‬

‫كيف ينام القلم على سريره األبيض؟!‬ ‫قلت لصديق صحافي في مصر‪ ،‬دعاني ذات ليلة إلى العشاء في‬ ‫ُ‬ ‫بيته‪ :‬أنا ال أفهم في أمور الطب بعمومه‪ ،‬ال البشري وال الحيواني‪.‬‬ ‫حس وكأنني أقوم بعملية‬ ‫أي كتابة‪ُ ،‬أ ُّ‬ ‫لكن عندما ُأقبل على الكتابة‪ِّ ،‬‬ ‫جراحية بالغة الخطورة‪ ..‬إلى أن تُك َّلل العملية بالنجاح‪ .‬فهل يفرح‬ ‫دائما بنجاحات عملياتهم‪ ،‬أم ُهم مثلي يحاولون نسيانها من‬ ‫األطباء ً‬ ‫ونجاحا؟!‬ ‫أجل عمليات ُأخرى أكثر توفي ًقا‬ ‫ً‬

‫قال‪ :‬أنا اآلن عكسك تما ًما‪ .‬الكتابة عندي صارت ممارسة عادية‬ ‫جدً ا‪ .‬مثلها مثل المشاوير اليومية من البيت إلى الجريدة‪ .‬بل أقل منها‬ ‫كثيرا‪ ،‬وأالَّ أبذل جهدً ا مضاع ًفا‬ ‫عنا ًء‪ .‬عمل الصحافة ع َّلمني أالَّ أتعب ً‬ ‫في عمل هو ليس باإلبداعي ـ اإلبداعي‪ .‬القصة عندي انتهت منذ‬ ‫طت في مهنة الصحافة‪ .‬الصحافة تأخذ لغتك ك ُّلها في البداية‪ ،‬وال‬ ‫تور ُ‬ ‫َّ‬ ‫تترك لك منها سوى «بضع شطحات»‪ ..‬مدخل لقصيدة حديثة ً‬ ‫مثل‪ ،‬أو‬ ‫نسيت من زمان تلك العمليات الصعبة‪.‬‬ ‫تعليق على حدث ثقافي‪ .‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫‪93‬‬


‫فقلت‪ :‬لكن العالقة يا صديقي قائمة‪ ،‬وبذات األدوات‪ .‬ال يمكن‬ ‫ُ‬ ‫الفصل بين قيمة جهدين‪ ،‬الشغل اإلبداعي والشغل الصحافي‪ .‬الكتابة‬ ‫دائما بما حولك‪ ،‬وبمزاجك في التقاط‬ ‫عمو ًما مجهود ذهني يتأثر ً‬ ‫أي كتابة هي «حرق أعصاب»‪ .‬ال ت ُقل‬ ‫الموضوع وتناوله‪ .‬أنا أعتبر َّ‬ ‫لي أن هناك كتابة سهلة وغير ذات جهد!‬

‫قليل ثم غادرني وعاد بعد لحظات ً‬ ‫ضحك ً‬ ‫قائل‪ :‬حسنًا‪ ،‬ما رأيك‬ ‫في هذا الكتاب؟‪ ..‬وبرهن لي بكتاب سهل وبسيط ورائق‪ ،‬صدر‬ ‫مؤخرا عن إحدى دور النشر العربية الكبيرة‪ .‬كتاب بغالف أنيق‪،‬‬ ‫ً‬ ‫بأي نوع‬ ‫وطباعة أنيقة‪ ،‬ومحتوى ال عالقة له بالعنوان‪ ،‬وال عالقة له ِّ‬ ‫من أنواع الكتابة‪ ،‬حتى الكتابة العمومية‪ .‬كتاب هلوسات رديئة جدً ا‪..‬‬ ‫لكن ميزته يا صاحبي أنه صدر عن دار نشر مشرقة‪ ،‬ولم يشرق في‬ ‫عيني أحد!‬ ‫ِّ‬ ‫* * *‬

‫َّ‬ ‫كثيرا بأن يكتب عن مثل هذه السخافات‬ ‫كثيرا‪ ،‬وتو َّعد ً‬ ‫دخن صديقي ً‬ ‫التي أساءت للثقافة العربية‪ .‬فذكَّرته بوعود وأماني المؤسسات‬ ‫والهيئات الثقافية العربية‪ ،‬وقرارات المث َّقفين في ملتقياتهم الثقافية‬ ‫هنا وهناك‪ ،‬وقرارات مؤتمرات األدباء وال ُكتَّاب العرب على مدى‬ ‫مؤتمرا‪ ..‬وهكذا دواليك‪ .‬إذن المشكلة ليست في‬ ‫أكثر من عشرين‬ ‫ً‬ ‫كتاب صديقنا العزيز هذا‪ ،‬وال في دار النشر‪ ،‬وال في لقاءات المث َّقفين‬ ‫أي مكان‪ .‬المشكلة في أننا كعرب‪ ،‬ك َّلما اجتمعنا حول‬ ‫العرب في ِّ‬ ‫قضية‪ ،‬خسرناها‪ .‬وعليك أن تالحظ بد ّقة حجم الخسائر التي لحقت‬ ‫‪94‬‬


‫بنا وبأمتنا العربية من وراء سائر مؤتمراتنا واجتماعاتنا‪ ،‬الثقافية أو‬ ‫قلت لصديقي ـ أن تكتب ً‬ ‫كثيرا‬ ‫السياسية‪ .‬لذلك ـ ُ‬ ‫قليل‪ ،‬وتستمتع ً‬ ‫ُنت مثلك‪ ،‬لكان أهم كُتبي على اإلطالق هو‬ ‫بليالي القاهرة‪ .‬أنا لو ك ُ‬ ‫«ليالي القاهرة»‪ ..‬أكتب في النهار‪ ،‬وأمضي الليل بين ضفاف الدنيا‬ ‫واألحوال الرائعة!‬ ‫أجمل مادة للنشر هي التي تمدَّ ك بها «مدينتك»‪ .‬أما المؤتمرات‬ ‫والمهرجانات الثقافية وجوائز الدولة التقديرية واإلرتشائية‪ ..‬فك ُّلها‬ ‫ال تتعدَّ ى كونها حفالت تعارف في لقاءات فضائح!‬

‫رصيدنا الوحيد‪ ،‬أن نكون قريبين من الناس‪ .‬وأن نكتب ما نراه‬ ‫نحن‪ ،‬وليس ما يراه اآلخرون‪ .‬وانتهت تلك الليلة الحوارية بأن‬ ‫أصر أن‬ ‫أوصلني إلى الفندق ونزل معي ليأخذ مادة صحافية‪ ،‬كان َّ‬ ‫أكتبها له ووعدته بها قبل يومين‪.‬‬ ‫* * *‬

‫غادرت القاهرة‪ ،‬وكان في ن ِّيتي‬ ‫الصباح‪ ،‬عند الساعة التاسعة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في َّ‬ ‫أن أتصل به‪ ،‬وأعتذر منه عن «مادتي الصحافية» فلع َّله قرأها ولم يجد‬ ‫ً‬ ‫صغيرا يتع َّلق‬ ‫هامشا‬ ‫نسيت أن أكتب عليها‬ ‫فيها شي ًئا‪ .‬وألذكِّره بأنني‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫بتلك العمليات الصعبة التي نُجريها أثناء الكتابة‪.‬‬

‫لقد كانت المادة المكتوبة ال تعني أحدً ا‪ ،‬بقدر ما كانت تعنيني‬ ‫أنا شخص ًيا‪ .‬لقد كانت تتع َّلق بذاكرتي التي افتقدتها في مكان َّما من‬ ‫قطعت كل برامجي تلك الليلة ألكتب‪ .‬لم أجد‬ ‫هذا العالم‪ .‬فعندما‬ ‫ُ‬ ‫‪95‬‬


‫أي موضوع‪ ،‬غير خسارتي الكبيرة لليل القاهرة‪ ،‬الذي كان‬ ‫في رأسي ِّ‬ ‫مسودة‬ ‫مرارا من خالل شرفة الفندق‪ .‬فت ُ‬ ‫ّشت في حقيبتي عن َّ‬ ‫يدعوني ً‬ ‫مقال‪ ،‬فلم أجد غير بعض الرسائل وعناوين األصدقاء وعناوين بعض‬ ‫عدت بها‬ ‫الكُتب‪ .‬وال شيء كان في رأسي غير تلك ال ُفتاتات التي‬ ‫ُ‬ ‫كنت في حاجة لرؤية‬ ‫من قبرص‪ .‬وال شيء كان يدعوني إلى الكتابة‪ُ .‬‬ ‫الش ّلة في مقهى «ريش» أو «زهرة البستان» أو في «استيالَّ» أو المرور‬ ‫على «اإلتيليه» لرؤية بعض األصدقاء هناك واالستمتاع بالحوار مع‬ ‫العسال» أو النزوح في الشوارع الح َّية‬ ‫ُأختنا الطيبة الكاتبة «فتحية َّ‬ ‫والجلوس في أحد المقاهي الشعبية بين الناس والنكتة الطائرة‪ ،‬أو‬ ‫على «الكورنيش» بين همسات ال ُع َّشاق ومواشير المراكب النيلية!‬

‫ورطني فيها‬ ‫كل شيء جائز وممتع‪ ،‬عدا فكرة الكتابة هذه‪ ،‬التي َّ‬ ‫اعتدت أن تدعوني الكتابة إليها‪ ،‬فأجد نفسي رائ ًعا أحيانًا‬ ‫صديقي‪ .‬لقد‬ ‫ُ‬ ‫وأنا ُأنجز ُقبالتي عليها‪ ،‬ثم أشكرها على الدعوة الكريمة بتوقيعي‪.‬‬ ‫جو ال يليق باغتصاب االحتماالت‪ ،‬فهذا‬ ‫لكن أن ُأطارد فكرة َّما في ٍّ‬ ‫صعب‪ ،‬صعب جدً ا!‬ ‫* * *‬

‫طلبت‬ ‫ألغيت فكرة النزول إلى المدينة‪.‬‬ ‫جرب‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫علي أن ُأ ِّ‬ ‫كان َّ‬ ‫ونظرت إلى‬ ‫ووضعت الورق والقلم‪،‬‬ ‫وفتحت ُعلبة سجائري‪،‬‬ ‫قهوة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الساعة‪ .‬كانت العاشرة تقري ًبا‪ .‬جاءت القهوة بكلمات ُحلوة‪ .‬ثم بعد‬ ‫ودخلت العاصفة‪ .‬عواصف في قعر‬ ‫فت الساعة في الرأس‬ ‫ْ‬ ‫قليل تو َّق ْ‬ ‫أقفلت جميع َّ‬ ‫وفتحت شبابيك‬ ‫الشبابيك‪،‬‬ ‫الرأس لم أعرف مصدرها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪96‬‬


‫َّ‬ ‫الذاكرة على أية مرايا قد تلمع من هنا أو هناك‪ .‬لكن العواصف لم تهدأ‪،‬‬ ‫وأشعلت عشرية من السجائر‪ ..‬والوريقات هي‬ ‫فطلبت قهوة أخرى‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الوريقات‪ ،‬بيضاء وناصعة البياض‪ .‬والقلم بين أصابعي يرتعش‪ ،‬ثم‬ ‫ينقر الوريقة األولى‪ ،‬ويعتذر عن التسويد السيئ الذي مأل جنباتها‬ ‫من دون إرادة!‬

‫صارت الساعة تتقدَّ م في العمر‪ .‬كانت في العاشرة‪ ،‬ثم صارت في‬ ‫ليل‪ ..‬وكانت األربع ساعات ُّ‬ ‫الثانية ً‬ ‫تطل من ُشرفة الفندق على ليل‬ ‫القاهرة الضوئي‪ .‬مواشير المراكب تُعين األرصفة بذاكرتها‪ ،‬وزحام‬ ‫والمارة ينتهي إلى استراحات في قلب المدينة الكبير‪ .‬ومن‬ ‫الس َّيارات‬ ‫َّ‬ ‫األعلى‪ ،‬طائرة تُغازل بهبوطها ليل القاهرة‪ .‬ثم تندر الذاكرة ً‬ ‫قليل من‬ ‫كل شيء‪ ،‬وتصير بمقدار أنملة‪ .‬ال شيء يعوزني اآلن غير النَّوم‪..‬‬ ‫وياليت الليل يطول في النَّوم‪!..‬‬

‫كثيرا في النَّوم‪ .‬وتلك الوريقات سرير‬ ‫أحسست بأنني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بكيت ً‬ ‫الصوت‪ ،‬ونام قلمي العاري‬ ‫أبيض للقلم‪ُ .‬‬ ‫نمت أنا على من ِّبهات َّ‬ ‫على سريره األبيض!‬ ‫* * *‬

‫الصباح أيقظتني القاهرة من أسر ليلة نادرة في حياتي‪ .‬ليلة‬ ‫في َّ‬ ‫عاجزة عن فعل أيما شئ‪ .‬ليلة خاسرة إالَّ من تعبي وكساد ذاكرتي‪.‬‬ ‫ليلة‪ ،‬العقل فيها في مكان‪ ،‬والقلب في مكان‪ ..‬والرأس يعصف‬ ‫باالضطرابات والرؤى البعيدة‪ .‬وكأنها متاهة العقل على ضفاف النِّيل‪.‬‬ ‫النِّيل الذي أخذ الليل من أسراره العجيبة‪ ..‬يكتب أغنيات عاشقيه‪،‬‬ ‫‪97‬‬


‫وأنا بعيد عن النِّيل بالتزام عسير أوقعني فيه صديقي القاهري‪ ،‬الذي‬ ‫ارتوى منذ زمن بالليل والنِّيل‪ ..‬يكتب اآلن كيفما يشاء‪ ،‬في أي وقت‪،‬‬ ‫وعن أي شيء!‬ ‫* * *‬

‫كنت سأسرق من ليل القاهرة وقتًا للكتابة ال َق ْسرية‪،‬‬ ‫إذن‪ ،‬كيف ُ‬ ‫الصباح‪ .‬صديقي هو اآلخر كان في‬ ‫والدنيا تسهر في الدنيا حتى َّ‬ ‫كنت خارج الدنيا‪ ،‬في سجن له ُشرفة ت ُّ‬ ‫ُطل‬ ‫الدنيا‪ .‬أنا الوحيد فقط ُ‬ ‫حق َّ‬ ‫أيضا‬ ‫على النِّيل‪ .‬لذلك كان من ِّ‬ ‫الذاكرة أن تهرب منِّي‪ ..‬ولذلك ً‬ ‫فشلت في تغيير ليل القاهرة!‬ ‫ُ‬ ‫‪1990/11/19‬‬

‫‪98‬‬


‫بيروت الم�ساء‪..‬‬ ‫عندما كنا نخاف على بيروت ونكتب لها‪ ،‬كنا نخاف منها‪ .‬فبقدر الخوف‬ ‫عليها والكتابة لها بلغة العاشق الجميل‪ .‬كان الخوف منها‪ ،‬الخوف من‬ ‫المرأة الجميلة ساعة تغضب‪ ،‬وساعة تتوحش وتفترس عاشقيها‪.‬‬

‫معظم المثقفين اللبنانيين الذين التقيتهم وعشت معهم في المهجر‪،‬‬ ‫قرأوا الفاتحة على السيدة الجميلة‪ ،‬وأخذوا منها وردتها وطفلتها‬ ‫ولعبتها‪ ،‬وأغرقوا حديقتها بذكريات الندى القديم على ليلها المضيء‪.‬‬

‫الملونة في قلب بيروت‪ .‬ومقعده‬ ‫لقد كان لكل منهم صورته‬ ‫َّ‬ ‫المفضل على «الويمبي» أو «الكافي دي ميري»‪.‬‬ ‫ّ‬

‫في شارع الحمرا‪ ،‬وعندما أصابوا صاحبة الصور ومقاعدها‪،‬‬ ‫أرادوا أن يندلع الغبار في صباحها‪ ،‬وأن يخيم الظالم الدامس على‬ ‫الشوارع التي شهدت عبور القصيدة في الليل‪ ،‬وفراق أنثى الرواية‬ ‫على أرصفتها‪ ..‬وغناء العائد إلى أبويه من الميناء‪ ،‬ومن فرن السعادة‪،‬‬ ‫وملهى الفنانين الشباب‪.‬‬ ‫‪99‬‬


‫لم يبق سواهم‪ ،‬الذين حملوها معهم في الحلم الطويل‪ ،‬وطافوا‬ ‫بوسادتها في العواصم المتفائلة‪ ،‬ونصبوا صورتها في ضواحي لندن‪،‬‬ ‫ومرايا مقاهي باريس‪ ،‬وفي حدائق الشمس العلنية في برشلونة‬ ‫وميامي‪ ..‬وعلى رمال الرنكا وليماسول البدويتين على راحتيها أيام‬ ‫ترج القلب وتشرب من حبر مطابعها وعطورها‪.‬‬ ‫صباها‪ ،‬وأيام كانت ّ‬ ‫* * *‬

‫كنت أقول‪ ،‬هل سأرى بيروت مرة أخرى؟!‬ ‫مرارا ُ‬ ‫ً‬

‫وكان إن رأيتها في أغسطس ‪ 1992‬بآخر ذرات الغبار‪ ،‬وقد كانت‬ ‫حمام الهنا‪.‬‬ ‫في طريقها إلى ّ‬

‫كثيرا لو أراهم جمي ًعا هنا في بيروت وقد حققت أولى‬ ‫ُ‬ ‫وددت ً‬ ‫ال ُقبالت على صخرة الروشة‪.‬‬

‫ً‬ ‫دت من الجبل‬ ‫انتظرتهم‬ ‫طويل على «الويمبي»‪ ..‬وعندما ُع ُ‬ ‫وجدتهم بانتظاري‪ .‬كل منهم ترك لي ورقة بالفندق‪ ،‬وكلهم الذين‬ ‫تركوا لي وريقاتهم المعاتبة والذين اتصلوا بالتليفون‪ ،‬ركضوا باتجاه‬ ‫الغبار في شارع الحمرا‪.‬‬ ‫كان «المقهى» هو رصيف تلك الذكريات التي ّفرقتنا وجمعتنا‬ ‫من جديد إلى قلب بيروت‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫*‪ ..‬آخرهم‪ ،‬ولم يصل‪ ،‬كان «بول شاوول» الذي و ّدعني في‬ ‫‪100‬‬


‫نيقوسيا بسيجارة قبل سفري بساعتين‪ ،‬وقال لي ّ‬ ‫«دخن لي‬ ‫كثيرا في بيروت»‪ .‬وتذكرته عندما قال «إن أول سيجارة تشعلها‬ ‫ً‬ ‫في الصباح هي التي تضيء بها هذا العالم»‪ .‬وقد حاول «بول»‬ ‫مرة العودة إلى بيروت‪ ،‬وعندما نام فيها بضع ليالي بال حلم‪،‬‬ ‫قصفوا بيته فتركه ينهار أمام الذخيرة الح ّية‪ ،‬وعاد إلى قبرص‪،‬‬ ‫إلى ذخيرته الح ّية‪ ،‬وقد فقد الجسد الذي ّلوعه ملمسه‪.‬‬

‫*‪ ..‬طالب العبد الله ير ِّمم بيته الذي لعبت فيه الحرب أكثر من‬ ‫أحالم آل العبد الله‪ ..‬حسن ومحمد وعصام وعماد العبد الله‪.‬‬

‫* شاعران يصوغان في بيروت‪ ،‬الوجع المستبد في الجنوب‪،‬‬ ‫ع ّباس بيضون وجودت فخر الدين‪ ،‬غادرا بيروت قبل مجيئي‬ ‫بيومين‪ ،‬وعادا من الجنوب بعد رحيلي بيومين‪ .‬سألت عنهما‬ ‫تلك الطريق المتعرجة إلى صيدا‪ ،‬والتي تراءت لنا من أعلى‬ ‫جبل لبنان‪ ،‬وقد كان العجز يطفر أمامنا خالل دخان القذائف‪.‬‬ ‫عدنا وقد تركنا الجنوب للشاعرين‪.‬‬

‫* استقبلته بيروت بطريقتها‪ ،‬القادم من باريس‪ ،‬إبراهيم العريس‪.‬‬ ‫جمعتنا أيام «اليوم السابع» في باريس مع بيار أبي صعب‬ ‫وآخرين‪ .‬والتقينا في القاهرة وافترقنا‪ .‬وها ألتقيه في بيروت‬ ‫على ُغبار البيت الذي تركه منذ زمن‪ ،‬وقد عاد إلى باريس‬ ‫ُّ‬ ‫يقص َّ‬ ‫ومعه حلم جديد بالعودة ذات يوم ينقشع فيه الغبار عن بيته وعن‬ ‫األماكن التي غ ّيرت أبوابها قبل مجيئه‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪101‬‬


‫السر وراء كل ذلك‪ .‬كيف ألتقي جميع األصدقاء هكذا‬ ‫*‪ ...‬ما ّ‬ ‫بال مواعيد؟!! هل بسبب األبراج المولودة في بيروت؟! أم أن‬ ‫دائما هكذا‪ ،‬محطة مواعيد!‬ ‫بيروت ً‬

‫نصه‪ ،‬يحيى جابر‪ ،‬ال يغالط‬ ‫*‪..‬‬ ‫المتمرد على كل شيء‪ ،‬حتى على ّ‬ ‫ِّ‬ ‫نفسه حين يراك وحين ال يراك‪ ..‬األمور لديه تبدأ وتنتهي ساعة‬ ‫يرى ذلك من دواعي قصيدة هاربة يطاردها بمقاالته المتواترة‬ ‫في «الناقد»‪ .‬أما «البيوتيان» عماد العبد الله ويوسف ّبزي فإنهما‬ ‫يفارقان «الناقد» ً‬ ‫كثيرا‪ ..‬من أجل قصة‬ ‫قليل‪ ،‬و «الروضة» ً‬ ‫مبكرا‪.‬‬ ‫وقصيدة أخرتين في بيتهما تم العثور عليهما ً‬

‫* منقذنا جمي ًعا من السقوط في هاوية المشهد اليومي للغبار كان‬ ‫عبد األمير عبد الله‪ ،‬وهو عبد األمير المرح‪ ،‬الذي يشكل عالمة‬ ‫بارزة من بين المثقفين اللبنانيين المعروفين بالنكتة السريعة‬ ‫الطازجة والضحك المتواصل الذي يخفي قلق المدينة على‬ ‫أوالدها‪ .‬حيرة عبد ألمير أنه يعيش دقائق ساعته اللبنانية كما‬ ‫ينبغي‪ ،‬ويحاول أن ينقذ نفسه وينقذنا جمي ًعا من الوقوع بين‬ ‫عقارب ساعته‪ .‬ط َب َق النكتة لديه بالصلصة اللبنانية يجعلك أسير‬ ‫الضحك في األماكن الفسيحة التي ارتدناها‪ ،‬أو في كوخ «عمي‬ ‫أبو محمد» ملك المشويات الشعبية‪.‬‬ ‫*‪ ..‬شاعران آخران‪ ،‬يربيان قصائد ذات أجنحة‪ ،‬إذ ال تنتهي‬ ‫واحدة حتى يطيران بها بعيدً ا‪ .‬فمن «جرش» يدخل محمد‬ ‫علي شمس الدين قصائد أخرى في بيروت‪ .‬ويستحم شوقي‬ ‫‪102‬‬


‫بزيع ثالث أو أربع مرات في اليوم ليطيران كليهما‪ ،‬واحد إلى‬ ‫القاهرة واآلخر إلى تونس‪ ،‬وإيقاعات جرش باقية ومسافرة‪.‬‬ ‫أما أنا فعلى موعد قريب في القاهرة ريثما ينتهي المهرجان‬ ‫المشبوه‪ ..‬ثم أعود إلى ليبيا‪.‬‬ ‫* * *‬

‫*‪ ..‬ثالثون يو ًما في بيروت استعدّ ُت فيها تلك الذاكرة المفقودة‬ ‫لصخرة الروشة‪ ،‬التي تفتح نوافذها كل مساء على تعبي‪،‬‬ ‫وأغادرها بالحياة وبلقاء األصدقاء‪.‬‬

‫*‪ ..‬تليفون السيدة فيروز عطالن‪ ،‬وزياد منذ وقت كان هنا‪.‬‬ ‫وماجدة الرومي نامت منذ وقت استعدا ًدا ألول أيام «بعبدا»‪..‬‬ ‫وموعد الطائرة إلى القاهرة يفصلني عنه إطاللة قصيرة على كوخ‬ ‫«عمي أبو محمد» وضحكته الموجوعة بصبر المثقفين في‬ ‫لبنان‪.‬‬

‫‪1993/4/28‬‬

‫‪103‬‬



‫حكاية رجل الفـُرات‬ ‫كثيرا‪!..‬‬ ‫كثيرا‪ ..‬ومات‬ ‫�سافر‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫‪ ..‬دعا كل األصدقاء ليفارقهم‪.‬‬

‫الصور‪ ،‬وق َّلبها واحدة واحدة‪ .‬الصورة الكبيرة والصورة‬ ‫أخرج ألبوم ُ‬ ‫الملونة والصورة العادية‪ .‬ق َّبل فيها كل أفراد العائلة‬ ‫الصغيرة‪ ،‬والصورة َّ‬ ‫وكل الحبيبات والصديقات والزميالت الالئى عاشرهن في نصف قرن‪.‬‬ ‫ً‬ ‫طويل معها‬ ‫كل صورة أدخلته إلى مشهد‪ .‬كل ُصورة نطقت‪ ..‬رحل‬ ‫وعاد إلى الصورة األخرى ليرحل‪ .‬واحدة ُصوتها ٍ‬ ‫عال وواحدة هادئة‬ ‫مرتين وأغمض عينيه على ذكرى الفراق‪.‬‬ ‫وواحدة مريبة‪ ..‬وواحدة ق َّبلها َّ‬ ‫دعا كل من عرف في حياته‪ ،‬وفارقهم جمي ًعا‪ .‬بعضهم َح َض َر‪،‬‬ ‫وبعضهم اعتذر‪ ،‬وبعضهم أخبروه تليفون ًيا أنهم قاطعوه من زمان‪.‬‬ ‫كبارا‬ ‫وبعضهم لم يقبلوا الدعوة ألنهم ماتوا‪ .‬وبعضهم حضروا ً‬ ‫ولم يفهموا شي ًئا من الذي يحدث أمامهم‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪105‬‬


‫رجل بكامل قواه العقلية بحسب شهادة المختار‪ ،‬يقيم حفلة عالمية‬ ‫لكل الناس الذين عرفهم في طفولته وصباه‪ ،‬وعرفهم في مراحل‬ ‫الدراسة والشباب‪ .‬حتى الذين التقاهم صدفة وتذكَّرهم‪ ،‬دعاهم‬ ‫إلى الحفل الكبير‪ .‬حتى األجانب الذين التقاهم أثناء رحالته حول‬ ‫لتوهن‬ ‫العالم‪ ،‬دعاهم‪ .‬عجائز كثيرات حضرن إلى بيته وقد وصلن ِّ‬ ‫من الدينمارك والنرويج وهولنا‪ ،‬ومن أثينا وروما ونيقوسيا وبرشلونة‪،‬‬ ‫ُك َّن يدرن حانات صغيرة في عواصمهن القديمة‪.‬‬ ‫مرة من‬ ‫وعجوز يوناني برجل خشبية دعاه ألنه ركب معه ذات َّ‬ ‫«بيريوس» إلى «رودس» في مركب صيد وأكل معه قطع الجبن المم َّلح‬ ‫مع النبيذ اليوناني الفاخر‪.‬‬

‫لم يغب أحد عن بيت الرجل الفقير الذي جمع كل ما عنده من‬ ‫نقود ليد ُعو كل من له عالقة بذاكرته‪ .‬كلهم جمعهم في بيته العالي‬ ‫على النهر‪ ،‬وفارقهم‪ ..‬ليبكيه الجميع!‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬قبل رفع الستار عن حكاية الرجل الغامض‪َ ،‬ح َض َر الجميع‬ ‫الملحة‪ .‬وحين رأوه في المنظر األول‬ ‫مصحوبين بحيرتهم للدعوة‬ ‫ّ‬ ‫يزيل الشيب عن شعر رأسه تارة‪ ،‬ويزيل التجاعيد عن وجهه تارة‬ ‫أخرى‪ ..‬ويعيدهما‪ ..‬تذكَّروه‪ .‬تذكَّروا الصبي والرجل الذي كان‬ ‫يرعبهم بالضحك‪ .‬أعادوا معه نفس الضحكة العالية‪ .‬كلهم ضحكوا‪..‬‬ ‫كلهم ضحكوا وخرجوا من ذاكرته‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪106‬‬


‫سألهم باستغراب ‪ :‬من أنتم؟!‪ ..‬فقالوا له ‪ :‬نحن من دعوتنا إليك‬ ‫منذ أيام‪ .‬فقال والصمت يكتسح المكان ‪ :‬عودوا من حيث أتيتم‪..‬‬ ‫أنا ال أعرفكم‪ .‬ال أعرف أحدً ا فيكم‪ ..‬أنا أعرف واحدً ا فقط‪ ،‬هو أنا‪.‬‬ ‫أيضا ال تعرفكم‪ .‬ال تعرف أحدً ا‪ .‬نفسي‬ ‫أعرف نفسي‪ ،‬ونفسي هي ً‬ ‫تعرفني أنا فقط‪ .‬ه َّيا عودوا من حيث جئتم‪.‬‬

‫المشوش‪ ،‬ولعنوا الدعوة القاتلة عندما‬ ‫تراجع الجميع عن القلب‬ ‫َّ‬ ‫انتزع من قلبه بقية ضحكة‪ ..‬ومات!‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬كل صحافة العالم حكت قصة هذا الرجل الغريب‪ .‬كلها‬ ‫تصدَّ رت أخباره بالرسوم المع ِّبرة‪ .‬صحيفة واحدة فقط هي التي نشرت‬ ‫المدعوات‪،‬‬ ‫له صورة فوتوغرافية وهو يضحك‪ ،‬التقطتها له إحدى‬ ‫َّ‬ ‫تعرف إليها بأحد متاحف اليونان منذ ثماني‬ ‫وهي صحفية فرنسية كان َّ‬ ‫ً‬ ‫جاهل‬ ‫مرة أن أرسطو كان‬ ‫سنوات وتذكَّرته جيدً ا عندما قال لها ذات َّ‬ ‫ألنه مات!!‬ ‫* * *‬

‫صحيفة أخرى ع َّلقت أن هذا الذي مات ـ لم تذكره باالسم ـ هو‬ ‫فيلسوف هذا القرن‪ .‬عندما ينتهي هذا القرن ال بدَّ له أن يذكُر هذا‬ ‫الفيلسوف الذي جمع بقوة عقلية خارقة كل الذين التقاهم في حياته‪،‬‬ ‫حتى الذين التقاهم صدفة‪.‬‬

‫ويذكَر أن اسمه ُأ ِ‬ ‫مصحات األمراض النفسية في‬ ‫طلق على إحدى‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫‪107‬‬


‫بريطانيا ال ُعظمى بدعوة من هيئة األمم المتحدة‪ ،‬وهذا وحده يعني أن‬ ‫ً‬ ‫صاحبنا كان ً‬ ‫وعاقل جدً ا‪.‬‬ ‫عاقل‪..‬‬ ‫* * *‬

‫المدعوين كان قد سخر من دعوته عندما لم يجد مقعدً ا له‬ ‫أحد‬ ‫ِّ‬ ‫يجلس إليه بين الحضور‪ ،‬ولم يذق كو ًبا من الماء البارد أو ملعقة من‬ ‫الشاي األخضر المنعنع‪ .‬وقف وسط الجموع وقال بلهجة احتجاج‬ ‫‪ :‬ما هذا؟‪ ..‬فقال أحد المارة يطلبه أن يأخذ يمينه أو يساره ‪ :‬هذا هو‬ ‫هذا‪ .‬فر َّد عليه ً‬ ‫أتحرك من مكاني‪ ،‬شئت أم أبيت‪ ..‬وأضاف‬ ‫قائل ‪ :‬لن َّ‬ ‫اعتقدت أن صديقي هذا‬ ‫موج ًها خطابه للجميع ‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫بعصبية ظاهرة ِّ‬ ‫فحضرت من هناك‪ ،‬من أقصى الشمال‪،‬‬ ‫مليونيرا‪،‬‬ ‫«الكاتب» قد صار‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫وجدت‬ ‫ألقص له شعره على طريقة سفراء القرن الثامن عشر‪ .‬لكني‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫هنا‪ ،‬في هذه البالد‪ ،‬جر ًذا محنَّ ًطا يضحك‪..‬‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬لم يبق أحد ولم يعرف بالحكاية‪ .‬تلك الحكاية التي أوقعت‬ ‫كثيرا‬ ‫كثيرا في الجاهلية‪ .‬وكتبوا عنها ً‬ ‫الكثيرين في روايتها‪ .‬كتبوا عنها ً‬ ‫في العصر الحديث‪ .‬كلهم من بغداد‪ ..‬وإلى بغداد عادوا؟!‬ ‫‪2003/10/24‬‬

‫‪108‬‬


‫اجها�شة الذاكرة في رواية المدينة!‬ ‫تنتابني أحيانًا حاالت صداع غريبة ليست كتلك الحاالت‬

‫نصا أدب ًيا‬ ‫االعتيادية‪ .‬وكانت عندما تجتاحني‪ ،‬أعرف أن وراءها ًَّ‬ ‫سيظهر نتيجة ضغط ما‪ ،‬أحتمله ظاهر ًيا دون أن أدرك وقتها مدى‬ ‫كبرت فجأة عشر سنوات‬ ‫تأثيره في أعماقي‪ ،‬فأبدو شاح ًبا كأنني‬ ‫ُ‬

‫النص‬ ‫أخرى‪ ..‬وبمجرد أن أجد نفسي في عزلتي طواعية أمام ذلك ّ‬ ‫الخفي وانتهي منه بانفعاالت السرد العفوي‪ ،‬تتبدَّ ل أحوالي‪ ،‬وأبدو‬ ‫للتو من حفر جبل!‬ ‫فرحا بعد ذلك كأنني تخ َّل ُ‬ ‫صت ّ‬ ‫ً‬ ‫* * *‬

‫َّرت‬ ‫كثيرا في السنوات األخيرة‪ .‬وتذك ُ‬ ‫هذه الحالة صارت تالزمني ً‬ ‫رأ ًيا قاله ذات مرة «غابرييل غارسيا ماركيز» مفاده أن نضج الكاتب‬

‫شارفت على الخمسين‬ ‫الحقيقي يبدأ بعد األربعين‪ ،‬وبما أنني قد‬ ‫ُ‬

‫دون أن أدري‪ ،‬فإن رأي ماركيز فيه خطأ ما‪ ،‬أو أن ذاتي كانت بطيئة‬ ‫اإلدراك بهذه الخاصية اإلبداعية فلم تدركها إالَّ ِّ‬ ‫متأخ ًرا‪ .‬أو أن هناك‬ ‫‪109‬‬


‫خطأ ما في عمري لم تفصح عنه العائلة بسبب هجرتها المبكِّرة من‬ ‫قرية «عين مارة» بالجبل األخضر إلى «طبرق» ووالدتي في بنغازي‬ ‫بعد تلك الهجرة‪ ،‬ووفاة والدي وأنا في المهد بين ذراعي أمي التي‬ ‫كان يشغلها مصيري وهي غريبة في المدينة التي أوت جوعنا‪ ..‬إلى‬ ‫عيني عليه ألعيش بعد ذلك مع‬ ‫تزوجت من الرجل الذي فت ُ‬ ‫أن َّ‬ ‫َّحت َّ‬ ‫إخوتي من أمي‪ ،‬نتقاسم الضحكة وكسرة الخبز في بيتنا العتيق تحت‬ ‫سماء تمطر‪.‬‬ ‫قد تكون هذه خصوصية َّ‬ ‫للذات التي ارتبطت بالمكان وباسم‬ ‫«زنقي الجنجان» الذي اقترن اسمه باسمي في بدايات حياتي األدبية‬ ‫والصحفية في مطلع السبعينيات حتى منتصفها تقري ًبا‪ .‬فكان العطاء‬ ‫يكف بصره‬ ‫ر َّد وفاء تلقائي للرجل الذي منحني ظله وكان ـ قبل أن َّ‬ ‫ـ من بين ألمع الشخصيات الشعبية المعروفة في بنغازي‪.‬‬

‫لذلك كان عمري الحقيقي من عمر أول خاطرة أدبية نشرتها باسم‬ ‫الرجل الذي كان يترجم صوت البحر الهادر جهة « توريللي « أعرق‬ ‫تركت مدرستها في المرحلة االبتدائية‬ ‫أحياء بنغازي القديمة‪ ،‬والتي‬ ‫ُ‬ ‫وخرجت من أزقتها الض ِّيقة إلى تلك الشوارع الكبيرة بح ًثا عن لقمة‬ ‫ُ‬ ‫دراجة قديمة‪ ،‬ثم أجد نفسي بين‬ ‫العيش‪َّ ،‬‬ ‫أتجول ببضاعة رديئة على َّ‬ ‫المحمصات أمام سينما «االستقالل»‪.‬‬ ‫الصبيان أبيع‬ ‫َّ‬

‫دائما في المدينة التي كانت تقتاتني في النهار‬ ‫كانت تجارتي رديئة ً‬ ‫فشلت في تحقيق السعادة‬ ‫طريحا بال أحالم‪ .‬لذلك‬ ‫وترمي بي في الليل‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ألمي ور ِّد الجميل للرجل الذي خارت قواه في البحث عن لقمة‬ ‫‪110‬‬


‫فقدت دراستي لمواجهة الفقر‪ ،‬فإنني لم أفقد‬ ‫كنت قد‬ ‫ُ‬ ‫العيش‪ .‬وإذا ُ‬ ‫ثقة الرجل العتيد في مواجهة ظروف الحياة القاسية في ذلك الزمن‪.‬‬ ‫* * *‬

‫ذلك الفشل الذي عشته في الستينيات كان السبب في نشوب‬ ‫أول صداع ينتهي إلى التعبير‪ .‬حتى صار الصداع حالة مزمنة و ُمنتِجة‬ ‫للكثير من الخواطر التي أهملتُها في تلك الفترة‪ ،‬وصارت ممكنة‬ ‫للبوح مع بداية السبعينيات‪.‬‬

‫بعد ثالثة عقود من الكتابة والنشر المستمر في الصحافة المحلية‬ ‫والعربية والدولية‪ ،‬ومن إنتاج أكثر من عشرة كُتب في القصة والرواية‬ ‫والنقد والمقالة‪ ،‬وأكثر من خمسة مخطوطات مازالت تنتظر النشر‪،‬‬ ‫مضطرا لمصاحبة هذا النّوع من الصداع الذي عاد يالزمني‬ ‫أجد نفسي‬ ‫ً‬ ‫كثيرا هذه األيام‪ ،‬فأمتنع عن البوح بذاتي الموجعة‪ ،‬وانشغل عنها‬ ‫ً‬ ‫بكتابات صحفية ع َّلها تكون وسيلة خالص من الصداع‪ .‬لكنها لم‬ ‫تخ ِّفف عنَّي بل زادت من أوجاعي وجعلت من الصداع حالة مالزمة‬ ‫َّ‬ ‫للذات التي انشطرت إلى ما هو أعنف خارج الوطن‪ .‬والكتابة على هذا‬ ‫الذاتي الشخصي َّ‬ ‫النحو من االنشطار بين الوجع َّ‬ ‫والذاتي اإلنساني‪،‬‬

‫صارت تضاعف من شقائي وتجعلني أسير رؤية خالص من هذا‬ ‫االضطهاد؟!‬ ‫* * *‬

‫خسرت الرهان على المستقبل بعد هذه التجربة الطويلة‪،‬‬ ‫لقد‬ ‫ُ‬ ‫‪111‬‬


‫وكسبت الرهان على معرفة الحاضر برصيد تلك التجربة‪ ،‬حتى إذا‬ ‫ُ‬ ‫عجزت يو ًما عن توفير جرعات الحياة ألطفالي الثمانية‪ ،‬صار‬ ‫ما‬ ‫ُ‬ ‫الرضا عن نفسي سدً ا مني ًعا لشبح ذلك الفشل وذلك الصداع من‬ ‫أرق الفقر‪ ،‬وحتى ال أكون في المقابل ضحية المفارقة العجيبة‪ ..‬أن‬ ‫خسرت تلك السنوات‬ ‫أخسر ثالثين سنة من الكتابة المضنية‪ ،‬كما‬ ‫ُ‬ ‫وأنا صغير دون تحقيق ذات الرغبة في كسر عنق الفقر الذي يلتهمنا‬ ‫بال سبب؟!‬ ‫لذلك أخطأ «ماركيز» في تعيير عمر النضج الفكري واإلبداعي‬ ‫عند الكاتب‪ .‬وكان يجدر به تحديد موطن هذا الكاتب والمكان‬ ‫الذي يناسب هذه النظرية‪ ،‬إذ أن الكاتب في مجتمعاتنا قد يمتلك‬ ‫هذه الخاص ّية الخصبة لإلبداع في سن مبكِّرة‪ ،‬حتى لو كانت غير‬ ‫دقيقة بالنظر إلى تجربتي المتواضعة التي اكتسبت‪ ،‬في ما بعد‪،‬‬ ‫الكثير من المؤهالت اإلعالمية العربية والدولية دون أن تنال شي ًئا‬ ‫من مجتمعها!‬ ‫* * *‬

‫إن المث َّقف الموهوب هو نتاج تجربة َّ‬ ‫الذات العصامية‪ ،‬وهو‬ ‫َّ‬ ‫المثقف القريب من وجدان الناس‪ .‬والضعف المادي‬ ‫بذلك‪،‬‬ ‫الذي يبدو عليه في الحياة بسبب الفقر واإلهمال‪ ،‬يجعل منه في‬ ‫النتيجة المث َّقف «الشريف» بال جائزة من أحد سوى تكريم الجوع‬ ‫فقيرا‬ ‫له بالكتابة الصادقة‪ .‬أفلم يكن الشاعر «الجيالني طريبشان» ً‬ ‫عصام ًيا حين أمهله الموت الكثير من الوقت في سني عذاباته‬ ‫‪112‬‬


‫ليكتب العدم األكيد في شهقة الفجر وحيدً ا‪ ،‬ثم حين وقف للسفر‬ ‫ِّ‬ ‫المتأخر إلى روضة جميلة في الحياة‪ ،‬داهمه الموت فجأة على‬ ‫أسوار المدينة القديمة‪ ،‬فهتف الشاعر فجأة ويده على قلبه «يا الله‪..‬‬ ‫ارفق بهذا القلب» وسقط بين الناس ميتًا وفي جيبه تذكرة سفر‬ ‫لرحلة تغ َّيرت جهتها!‬

‫وألم تكن ذاكرة الشاعر «علي الفزاني» واثبة حين أجهشت لي‬ ‫عبر الهاتف بذكرياتنا الجميلة‪ ،‬وبانتهاء تلك المكالمة الطويلة‪،‬‬ ‫اجتاحتني الغربة في ليل «نيقوسيا» البارد وأنا أهدر الوقت في رواية‬ ‫«ليلة الطوارئ» التي احترقت ألنها ال تليق بتجربتي‪ .‬وأجهشت‬ ‫عدت من قبرص حزينًا في ذكرى وفاة‬ ‫الذاكرة في بنغازي حين‬ ‫ُ‬ ‫وعظيما كما رحل من بعده صانع‬ ‫فقيرا‬ ‫ً‬ ‫الشاعر العصامي الذي رحل ً‬ ‫«غربة النهر» الكاتب «خليفة الفاخري» وهو في أشدّ أزمة البحث‬ ‫عن مأوى لعائلته‪ .‬وكان االثنان ذاكرة بنغازي التي افتقدتهما مبك ًِّرا‬ ‫ولم تزل هناك حكايات‪!..‬‬

‫لقد كان هؤالء األصدقاء جمي ًعا يدركون أن الحياة من بعدهم لن‬ ‫تكون جميلة كما يظن البعض‪ ،‬وإنما أسيرة الموت الذي يجرف في‬ ‫طريقه كل شيئ‪ ..‬عدا الذكريات!‬ ‫* * *‬

‫فت ً‬ ‫اعتمدت على فكرة‬ ‫قليل في المتاهة بين الناس‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عندما تو َّق ُ‬ ‫النضج في طرح الكولومبي «ماركيز» بالرغم من قناعتي بأن فيها خطأ‬ ‫ُ‬ ‫أبحث عن مالمح الحياة فيها‪ ،‬فلم أجد غير‬ ‫ورحت بين الوجوه‬ ‫ما‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪113‬‬


‫«مكهربة» بفعل‬ ‫الموت ينتظر بين الجفون‪ .‬حتى الضحكات كانت‬ ‫ْ‬ ‫التوتُّر العصبي الداخلي‪ ،‬وكأنها انفعاالت مكبوتة تخرج في شكل‬ ‫أتعمد مجاراة هذه العادة السيئة بين‬ ‫هستيريا نظنها قهقهة الضحك‪.‬لم َّ‬ ‫الوجوه‪ ،‬ليس لغياب روح الطرافة عندي‪ ،‬ولكن لقناعتي بأن تلك‬ ‫المالمح كانت مطفأة وال تَضحك‪ ،‬وال شيء كان يدعو للضحك‬ ‫ً‬ ‫أصل غير الملل الذي يبعث على المزيد من االكتئاب!‬ ‫‪2002/10/4‬‬

‫‪114‬‬


‫المحزنة‪..‬‬ ‫العودة ُ‬ ‫دخلت‬ ‫ال أدري بالضبط كم مضى على تلك الحادثة‪ .‬أذكر أنني‬ ‫ُ‬ ‫المدينة ً‬ ‫ليل‪ ،‬وفي قلبي حنين مبهم ال أدري لمن!‬ ‫يساقط خفي ًفا حزينًا على المدينة التي‬ ‫كان الطقس بار ًدا‪ ،‬والمطر َّ‬

‫هربت من الليل وركنت للذكريات‪.‬‬

‫تهتز‬ ‫كانت بعض المصابيح المضاءة في أعمدة الكهرباء الخشبية ُّ‬ ‫في صرير حاد‪ ،‬كأنها ستسقط ً‬ ‫حال‪ .‬وسيارة « الندروفر « وحيدة‪،‬‬

‫تراني من بعيد في الظالم أجوب الشارع الطويل في خطى واهنة‪،‬‬

‫تارة على الرصيف‪ ،‬وتارة على اإلسفلت القديم‪.‬‬

‫دخلت المدينة‪ .‬لكن كان الطقس‬ ‫لم تكن الساعة متأخرة عندما‬ ‫ُ‬

‫ال يوحي بأن أحدً ا قد خرج من بيته في ذلك المساء‪ .‬حتى فضالت‬

‫تفر منها الكالب والقطط في سخط!‬ ‫دكاكين اللحم ُّ‬

‫كل المدينة أغلقت أبوابها بإحكام‪ ،‬وبعض الفتات النيون المجنونة‬ ‫‪115‬‬


‫خصيصا لألشباح في ليلة كان‬ ‫تغازل بعضها من بعيد كأنها ُأضيئت‬ ‫ً‬ ‫ينتظرها الجميع!‬

‫* * *‬

‫وددت ً‬ ‫فعل لو أن أحدً ا يدعوني إلى الطعام‪ .‬ماذا يحصل لو أن‬ ‫ُّ‬ ‫أحد أبناء المدينة َّ‬ ‫أطل برأسه وقدَّ م لي كو ًبا من الشاي الدافئ ود َّثرني‬ ‫كنت سأشكره وأتذكّره يو ًما ما عندما‬ ‫بمعطف قديم‪ .‬سأشكره‪ُ .‬‬

‫يمر من أمام بيتي ذات ليلة شاتئة‬ ‫تكون َّ‬ ‫لدي نقود‪ .‬من يدري‪ ،‬قد ُّ‬

‫كهذه الليلة‪ ،‬وأدعوه إلى الطعام‪ ،‬أو إلى كوب شاي دافئ‪ .‬ولكن هل‬ ‫لدي نقود تكفي حاجتي للعيش مثل بقية النَّاس‪..‬‬ ‫سيحدث وتكون َّ‬ ‫الح ُلم على أنني ابنها‪ ..‬ثم ع َّلمتني‬ ‫مرة في ُ‬ ‫وفي مدينة قدَّ متني ذات َّ‬

‫الخوف بسبب أناس ال أعرفهم إ ّدعوا معرفتي في َّأول الطريق‪ .‬قرأنا‬ ‫م ًعا القصص والروايات واألشعار‪ ،‬ثم تخ َّلوا عنّي ودخلوا الجامعة‪،‬‬

‫مرة أخرى يتخ َّلون‬ ‫ُ‬ ‫وبقيت وحدي أكتب عن الخوف والجوع‪ .‬وهاهم َّ‬

‫عنّي‪ ،‬يقفلون األبواب في وجهي‪ ،‬وينامون على أرصدتهم من النساء‬ ‫والنقود وتذاكر السفر!‬

‫* * *‬ ‫قصة قصيرة أكتبها‪ ،‬ستغ ِّير‬ ‫كان إحساسي في البداية يقول‪ ،‬أن َّأول ّ‬

‫كنت أكتب‬ ‫وجه العالم‪ .‬لكن لم يتغ َّير شيء‪ .‬حتى شكل الصحيفة التي ُ‬ ‫كنت أقطن فيها وكانت‬ ‫فيها لم تتغ َّير‪ ،‬وال حتى شكل المدينة التي ُ‬ ‫مصدر أوهامي‪.‬‬

‫‪116‬‬


‫فقيرا!‬ ‫ُ‬ ‫أحببت أن أكون كات ًبا‪ ،‬ولكنِّي لم ُأحب مط َل ًقا أن أكون ً‬

‫وتركت الدراسة‬ ‫عملت مساعد بالَّط في شركة للمقاوالت‪،‬‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫سأتحصل على ثمن الكتاب‬ ‫كنت أعتقد أنني‬ ‫في المرحلة االبتدائية‪ُ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫عملت سفرج ًيا في مقهى شعب ًيا‪ ،‬غامرني‬ ‫والرغيف والقهوة‪ .‬وعندما‬ ‫ُ‬ ‫إحساس بأنني سأكون بين النَّاس‪ ،‬أعيش همومهم وأكتب عنها‪ .‬لكنِّي‬ ‫صرت خادمهم‪ ،‬وكانوا هم يلعبون الورق ويضحكون!‬ ‫لم أكتب شي ًئا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أحسست بضعفي من اقترابي من الناس‪ ،‬فهجرتهم إلى الجوعين‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حاولت العودة‬ ‫وتعمدوا تجويعي‪ .‬كرهتهم‪ .‬وعندما‬ ‫كثيرا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫أهانوني ً‬ ‫إلى المدرسة أللتحق باألصدقاء الذين سبقوني وانتقلوا إلى المدارس‬ ‫الكبيرة‪ ،‬طردوني‪ ،‬وشطبوا على مل ِّفي وكتبوا عليه «مرفود»‪.‬‬

‫وجدت نفسي أمسح األحذية في مح َّطات المدينة ومقاهيها‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫احتقرت األحذية‪،‬‬ ‫مرة على الكورنيش‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وعندما ُ‬ ‫أجر خطاي ذات َّ‬ ‫كنت ُّ‬ ‫واحتقرت اليد التي تمسحها في النهار‪ ،‬وفي الليل تكتب عن المدافئ‬ ‫ُ‬ ‫والحب‪ ،‬وتكتب عن الحدائق واألطفال واألحالم الشديدة‪،‬‬ ‫والمرافئ ُ‬ ‫وتكتب عن ُح ُلمي الصغير ببيت وزوجة طيبة تطهو لي الطعام وتد َّثرني‬ ‫بحنانها‪.‬‬ ‫أصبحت على الرصيف بال شيء‪ ،‬إالَّ من الجوع والخوف!‬ ‫ُ‬ ‫* * *‬

‫سريرا ألحالمي؟!‪ ..‬هل أجد عندكم ما ًء للشرب‪،‬‬ ‫هل أجد عندكم ً‬ ‫أو للغسيل؟!‪ ..‬هل أجد عندكم ثيا ًبا قديمة كانت البنكم الكبير الذي‬ ‫‪117‬‬


‫له في بيتكم ُغرفة‪ ،‬وفي أحالمكم دار‪ ،‬وفي قلبكم حديقة أمنيات؟!‪.‬‬ ‫زوجا بال نقود؟!‪ ..‬تقبلني هكذا بأحالم‬ ‫هل أجد عندكم بنتًا تقبلني ً‬ ‫مؤجلة‪ ،‬تختارني أنا وترفض أصدقائي‪ ..‬أصدقائي الذين سيختارون‬ ‫ّ‬ ‫بنقودهم وشهاداتهم العالية من بنات األعيان‪ ..‬يقيمون لهن األعراس‬ ‫العز!‬ ‫أتفرج على ّ‬ ‫في القصور العائمة‪ ،‬وأنا خلف السياج َّ‬ ‫* * *‬

‫إلي هكذا؟!‬ ‫ما بالكم تنظرون َّ‬

‫يهمني‬ ‫قلت كال ًما غري ًبا معاذ الله؟!‪ُ ..‬‬ ‫هل ُ‬ ‫قلت أريد أن أنام‪ .‬ال ُّ‬ ‫السندويتش اآلن‪ ،‬وال كوب الشاي‪ ،‬وال قرص األسبرين‪ .‬أريد أن أنام‬ ‫فقط‪ .‬ذاكرتي تتعبني‪ ،‬ومعدتي أكثر‪ .‬وهذا الليل الذي أدكن المدينة‬ ‫بالفراغ‪ ،‬يدكن وحدتي‪ ،‬وسيارة «الالندروفر» الوحيدة‪ ،‬تتع َّقب أثري‬ ‫كثيرا‪ .‬السيارة أحيانًا‬ ‫من شارع إلى شارع‪ .‬لم أكن أحسب أنني‬ ‫ُ‬ ‫مشيت ً‬ ‫أتزود بالوجع في كل خطوة أخطوها‪..‬‬ ‫تتزود بالوقود‪ .‬وأنا َّ‬ ‫َّ‬ ‫ضت لها بقلب حزين‪ .‬كانت باردة‪ .‬غسلتني‪.‬‬ ‫تعر ُ‬ ‫ْ‬ ‫علت الريح‪َّ .‬‬ ‫زفرت فيها كل أنفاسي‪ ،‬وبك ْيت!‬ ‫ُ‬

‫كل األبواب مق َفلة‪ .‬ال أحد يجيب‪ .‬ال أحد يسكن المدينة‪ .‬كل‬ ‫الفارة‪ ..‬والالندروفر!‬ ‫مقفرة إالَّ منِّي‪ ،‬ومن بعض الكالب ّ‬ ‫الشوارع َّ‬

‫مرة‬ ‫تذك ُ‬ ‫أتوسط الطريق والبرد‪ ،‬أنني ذات َّ‬ ‫ّرت في لحظة وأنا ّ‬ ‫قصة‬ ‫ّرت أنني قد‬ ‫ُ‬ ‫جت‪ .‬وتذك ُ‬ ‫وتزو ْ‬ ‫كتبت ّ‬ ‫أحببت‪ .‬كانت فتاة جميلة َّ‬ ‫لست أدري‬ ‫ّرت أنني‬ ‫رأيت هذا المشهد من قبل‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫لم أفهمها‪ .‬وتذك ُ‬ ‫‪118‬‬


‫«الح ُلم»‪ .‬الريح تعصف بي وبمصباح‬ ‫الح ُلم أم في ُ‬ ‫إن كان ذلك في ُ‬ ‫عمود الكهرباء‪ ،‬وبأسمال الرجل البشع الذي وقف خلفي ينهرني‬ ‫ويدفعني بقوة للصعود إلى‪ ..‬الالندروفر!!‬ ‫* * *‬

‫حلمت بهم يمنحونني بيتًا‬ ‫كثيرا بهم‪.‬‬ ‫نمت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هناك‪ُ ..‬‬ ‫وحلمت ً‬ ‫وزوجة‪ ،‬ويطبعون لي كل كتبي‪ .‬أح ُّبوني‪ ،‬وأخذوني معهم إلى‬ ‫رأيت البنت التي أحببتها زمان‪ ..‬كانت‬ ‫االحتفال‪ .‬في االحتفال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫جميلة ويافعة!‬ ‫ورأيت صاحب‬ ‫ورأيت األصدقاء الذين تركوني ودخلوا الجامعة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ورأيت مدير المدرسة‬ ‫الشركة الذي دفع لي نصف ُأجرتي وطردني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ورأيت وجهي يعجز عن الكالم‪،‬‬ ‫مزق مل ِّفي ورماه في وجهي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الذي َّ‬ ‫ويد تلطمني‪ :‬تك ّل ْم؟‪..‬‬ ‫* * *‬

‫مرة‪ ..‬في المدينة‪ ...‬وحدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كنت هناك‪ ..‬ذات َّ‬

‫المرة‪ ..‬في المدينة‪ ...‬وحدي‪!!..‬‬ ‫وأنا هنا‪ ..‬هذه َّ‬

‫بنغازي ـ شتاء ‪1991‬‬

‫‪119‬‬



‫ر�صيف بيروت‬

‫تكريس الديمقراطية في المقهى السياسي!‬ ‫تحضرني جلسات «الروضة» في بيروت‪ ،‬حين كنا نلتقي على‬

‫الموعد بعد صباح ملئ بالنشاط الصحفي هنا وهناك‪ .‬تأخذنا سحابات‬

‫«النارجيلة» بين نسائم مياه المتوسط وصخرة «الروشة» وبنايات‬

‫بيروت المقبلة على المساء‪.‬‬

‫في المساء قبل حلول الليل نكون قد قضينا على ثالثة كراسي من‬

‫«النارجيلة» ليبدأ هبوط األصدقاء االضطراري على موائد الحكايات‬ ‫خارج مهنة المتاعب التي نتركها مع نهايات قهوة الصباح حتى الثانية‬

‫ظهرا‪ ،‬موعد الهواتف السريعة والرهان على السبق في تصنيف‬ ‫عشرة ً‬ ‫ملوك المشويات في بيروت‪.‬‬

‫أنحاز لفريق عمي «أبو محمد»‬ ‫كنت أنا الضيف بعد ثالثة أيام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫وكوخه الصغير بين الروشة وشارع الحمرا‪ ،‬فهو بدون منازع يمتلك‬ ‫مهارة عالية في الشواء‪ ،‬واألهم من ذلك إنه يلقي بي إلى الفندق‬ ‫‪121‬‬


‫مباشرة لالسترخاء بعد وجبة الغداء الدسمة التي عادة ما تنتهي‬ ‫الساعة الرابعة‪ .‬وكان اليوم الذي ينتصر فيه أحدهم على تناول الغداء‬ ‫في أحد مطاعم الجبل بين خرير المياه الباردة والهواء النقي‪ ،‬أعود‬ ‫في المساء بمزاج عكر ال يحتمل حتى الموسيقى الهادئة‪ ،‬فما بالك‬ ‫بسهرة ال تنتهي‪ .‬سهرة تحتاج فقط لقوة اللبناني على امتالك الليل‬ ‫بالضحك والحكايات‪ ،‬وال تحتاج مني‪ ،‬في المقابل‪ ،‬سوى تهنئتهم‬ ‫على هذه القدرة العجيبة على مواجهة مختلف الظروف!‬ ‫* * *‬

‫فأثناء الحرب انتصر اللبنانيون على جراحهم بالسعادة مع األمل في‬ ‫بيروت الظالم التي كانت تضئ مع القصف العشوائي‪ .‬وبنهاية الحرب‬ ‫دائما يسبقهم إلى‬ ‫ر َّمم اللبنانيون بيتهم بالكثير من األمل‪ ،‬فكان التفاؤل ً‬ ‫صورة لبنان النموذجية وسط اليأس العربي الضارب في األعماق‪ .‬وكان‬ ‫األجمل في عالقة هذا اللبناني بمحيطه العربي‪ ،‬أنه يدرك حقيقة األزمة‬ ‫وظروفها وال يراهن على المستحيل‪ .‬فتكفيه قضية واحدة هي تأكيد‬ ‫وجوده في المكان‪ ،‬وتأكيد حريته في محيطه‪ ،‬قبل أن تعنيه أي قضية‬ ‫أخرى قد ترهق كاهل المكان وتصادر الحرية الممكنة في محيطه‪.‬‬ ‫دائما مرتب ًطا بالوجود الفلسطيني‪.‬‬ ‫ويكفيه ً‬ ‫أيضا أن وجوده اللبناني كان ً‬

‫لذلك فالعالقة الثقافية بين حال الوجود اللبناني وحال الوجود‬ ‫دائما موضوع السؤال الثقافي في الحياة السياسية‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬كان ً‬ ‫المشرقية‪ .‬وهو ذاته السؤال الذي جعل من بيروت عاصمة للصحافة‬ ‫العربية بال منازع‪ ،‬بل وجعل منها عاصمة للكتاب العربي بالنظر إلى‬ ‫‪122‬‬


‫كميات اإلنتاج الضخمة للكتاب الثقافي والسياسي وتجاوزها لعقدة‬ ‫المحذورات الفكرية التي تمارسها الكثير من األنظمة العربية ضد‬ ‫المثقفين والثقافة‪ .‬لذلك فهي عاصمة للعقل العربي خارج حدود‬ ‫الضغط العربي!‬

‫فبمقابل تجارة النفط ال تصنيعه في الكثير من الدول العربية‪ ،‬والتي‬ ‫عادت عليها باالنفتاح على السوق االستهالكية للطعام والشراب‬ ‫والكساء‪ ،‬كانت بيروت تزدهر ثقاف ًيا بال نفط‪ ،‬وتعود بالفائدة المعرفية‬ ‫لتصير السوق االستهالكية المفتوحة في متناول كل اللبنانيين مهما‬ ‫تفاوتت مداخيلهم‪ .‬ففي الوقت الذي نشتكي فيه من غالء بعض‬ ‫السلع في بيروت بالمقارنة مع األسعار في الدول المجاورة‪ ،‬األوروبية‬ ‫والعربية‪ ،‬يعيش اللبناني حياة ترف مم َّيزة نتجت عن طبيعة تكوينه الثقافي‬ ‫وقدرته على تعيير السوق االستهالكية بما يكفي حاجاته الضرورية‪،‬‬ ‫تحسنت مداخيلهم‪.‬‬ ‫وإن كان البذخ حالة تستهوي معظم اللبنانيين كلما َّ‬ ‫وأعرف أن بعض األصدقاء من الصحفيين‪ ،‬حين يفلسون ال يجوعون‪،‬‬ ‫وحين يتو َّفر لديهم المال‪ ،‬فإنهم يسعدون به وال يدَّ ِخرون منه شي ًئا‪ .‬حتى‬ ‫أن عامل البناء اللبناني الذي يعمل طوال النهار باألجر اليومي‪ ،‬تراه في‬ ‫أميرا مستمت ًعا بوقته في أرقى محالت بيروت مع األثرياء من رجال‬ ‫الليل ً‬ ‫األعمال والفنَّانين والسياسيين‪ ،‬يشرب أفخر المشروبات ويأكل أشهى‬ ‫المأكوالت‪ ،‬ويرقص مع السياسيين والفنَّانين والفنَّانات على أحدث‬ ‫إيقاعات موسيقى الشباب‪ ،‬دون أن يهتم بما قد يحدث غدً ا!‬ ‫* * *‬ ‫‪123‬‬


‫نموذجا‬ ‫هذا التكوين االستثنائي في حياة اللبنانيين‪ ،‬جعل منهم‬ ‫ً‬ ‫فريدً ا للحياة العربية في محاكاتها للغرب‪ .‬فاألوروبي بذات الصفات‪،‬‬ ‫يدرك أن الحرية في منتهاها‪ ،‬تعني تحقيق كفاية العيش في مجتمع‬ ‫يعتمد على جهد الفرد‪ ،‬كما يعتمد في النتيجة على جهد الجماعة‪.‬‬ ‫فالفرد وإن عمل لحسابه ليس في مقدوره أن ينعزل عن فعل الجماعة‬ ‫في السياسة واالقتصاد واالجتماع‪ .‬لذلك وإن كانت األحزاب‬ ‫السياسية اللبنانية بعد الطائفية‪ ،‬تعيد تشكيل الحياة السياسية على‬ ‫دائما يلتقون خارج اللعبة‬ ‫أساس اتفاق «الطائف» فإن اللبنانيين كانوا ً‬ ‫وأيضا خارج جعجعة المعارضة‬ ‫الحزبية‪ ،‬وخارج اللعبة االنتخابية‪ً ..‬‬ ‫في البرلمان‪ .‬فحكومة الدولة ال تحكم الشعب الذي يحكم الدولة‪.‬‬ ‫بمعنى أن في لبنان حكومت ْين قائمت ْين‪ ،‬تختلفان وتلتقيان‪ ،‬واحدة‬ ‫داخل البرلمان وتهتم بالحياة الرسمية ألجهزة الدولة واألمن العام‬ ‫والعالقات الدولية‪ ،‬واألخرى خارج البرلمان وتهتم بمستويات‬ ‫الحر وعائداته على الحياة العامة‪.‬‬ ‫االقتصاد ُ‬ ‫* * *‬

‫إن الثقافة التي أنتجت هذا النموذج العربي‪ ،‬هي ثقافة االنفتاح‬ ‫على كل المعارف في الدنيا‪ ،‬والتي مثلما جعلت من لبنان قلعة‬ ‫نموذجا حضار ًيا‬ ‫ثقافية ُمنتِجة للحرية الفكرية‪ .‬جعلت من اللبناني‬ ‫ً‬ ‫نتجا للديمقراطية في أسوأ الظروف العربية‪ .‬وعلى هذا كان له‬ ‫ُم ً‬ ‫السبق التاريخي في التجربة الحزبية والتجربة الجمهورية والتجربة‬ ‫البرلمانية‪ ،‬وال تؤخذ عليه سوى مجاراته للتجربة الطائفية العائلية التي‬ ‫‪124‬‬


‫خطيرا في حياته السياسية عندما َّ‬ ‫تدخلت الطائفية في‬ ‫كانت منع َط ًفا‬ ‫ً‬ ‫الصراع على السلطة‪ .‬وكانت النتيجة هي سقوط ذرائعها في الحرب‬ ‫الطويلة للميليشيات‪ .‬وتلك التجربة التي بالرغم من قسوتها على كل‬ ‫اللبنانيين‪ ،‬مسيحيين ومسلمين‪ ،‬منحت لبنان المناعة السياسية ضد أي‬ ‫تيارات خارجية من شأنها أن تؤثر في أمنه وسالمه الوطني الذي تح َّقق‬ ‫باتفاق «الطائف» وكان وضع أساس لبنان الجديد لكل اللبنانيين‪.‬‬ ‫* * *‬

‫دائما هي هاجس الشعب اللبناني الذي يحكم‬ ‫كانت الحرية ً‬ ‫الدولة وحياتها السياسية‪ .‬وعلى هذا فهو ينتمي طواعية لفكرة‬ ‫تكرست مع الحرية في الحياة الديمقراطية‪،‬‬ ‫ُحكم األغلبية التي َّ‬ ‫ودفاعا عن وجوده‬ ‫فدفاعا عن وجوده هزم حكومات الطوائف‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ودفاعا عن الحرية كان ينتصر باستمرار لهذا‬ ‫أيضا‪ ،‬هزم إسرائيل‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫الوجود‪ .‬ولذلك فهو يمتلك حق إسقاط الحكومة متى شاء‪ ،‬وإعادة‬ ‫البرلمان إلى الشارع الذي فيه َيسقط المنت َ‬ ‫َخبون‪ ..‬ومنه يعود الجميع‬ ‫إلى المقهى السياسي!‬ ‫‪2002/10/11‬‬

‫‪125‬‬



‫غيمة �سلفادور دالي‬ ‫‪ ..‬خبأ لي في الشتاء الفائت غيمة دسمة فوق جبل بعيد‪.‬‬

‫كثيرا‪ .‬منذ حطت فوق ذلك الجبل ونحن نتراسل‪ .‬بعثت لي‬ ‫تراسلنا ً‬ ‫باقة رذاذ من برشلونة‪ ،‬هي وجنات الصديقات الالمعات طيلة هبوب‬ ‫الرذاذ الناعم‪ .‬ثم بعثت لي بمنديل أبيض‪ ،‬هو كل كفها البيضاء عندما‬ ‫علي‪ ..‬وتلت لنرجسيتي قصائدها القصار‪ .‬ثم بعثت لي في‬ ‫فتحت نافذتها ّ‬ ‫منتصف الربيع الغائب بمشهد واحد للذاكرة‪ ،‬أغرقته في حنين وتوهجت‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أحك لكم عن الليل‪ ،‬وكيف كانت تلك الغيمة تحضر إلى‬ ‫ألم‬

‫حلمي‪ ،‬أخلع ثوبها األبيض بهدوء‪ ،‬وألبسها الفستان األزرق بحنان‪.‬‬ ‫هكذا مزاجي‪ ،‬اللون األزرق له سحر خاص عندما تلبسه غيمتي‬ ‫البيضاء في الليل‪ ،‬وترقص لي على إيقاعات زجاج الشرفة‪.‬‬ ‫أنا والغيمة البيضاء والليل‪ ،‬أصدقاء «سلفادور دالي»‪ .‬يرانا نسهر‬ ‫بنوار اللوز‪ .‬يرسم صديقتي حبلى بمطر‬ ‫قرب مدينته األخيرة‪ ،‬ويرسمنا ّ‬ ‫ذكرا‪ ،‬أو أنثى‪ .‬ويرسم ليلنا حديقة مطفأة تصخب‬ ‫قديم‪ ،‬قد يكون ً‬ ‫‪127‬‬


‫بصيحات األطفال‪ .‬ويرسمني أنا برباط عنق على اللحم‪ ،‬وحذاء‬ ‫سميك‪ .‬قد نتعب أنا والليل وغيمتنا المزعجة‪ ،‬فنركب الحصان البنّي‪،‬‬ ‫ونتجول على محطات البنزين بح ًثا عن الممثلة الجميلة التي خرجت‬ ‫لتوها من السينما‪ ،‬ونست حقيبة يدها على ركبتي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كيف أناديها هذه الممثلة باسمها‪ ،‬والشارع أغضبه جمالها منذ‬ ‫أفالمها األولى عندما كانت صبية‪ ،‬وها هم يحتجون هذا المساء‬ ‫على دورها الجنسي العنيف‪.‬‬

‫قد تعتقد عندما أالقيها أني أريدها في كلمة على انفراد‪ ،‬وأنسى‬ ‫حينها حقيبتها في يدي‪.‬‬

‫َّرت وفكَّر معي الحصان والليل والغيمة‪ ،‬فألقيت بحقيبتها‬ ‫فك ُ‬ ‫في البحر‪ .‬البحر الذي طفح فجأة بالبنات الممثالت الجميالت‬ ‫الصاخبات‪ .‬هربنا منهن‪ ،‬والغيمة تمطر في أعقابنا‪ ،‬تنبئ من في الطريق‬ ‫أن يحترسوا من البنات الحلوات الطالعات من البحر‪.‬‬ ‫جريدة المساء بدورها نشرت صورة الممثلة وحقيبة يدها‬ ‫المفقودة‪ .‬ونست «جريدة المساء « أن تعلق على العطر الذي فاح‪.‬‬

‫وضعنا الصحيفة على قبر «دالي»‪ ،‬الذي طوى الصحيفة وأعادها‬ ‫إلى أصحابها‪ .‬قرأتها الممثلة الفاتنة‪ ،‬واعتذرت على اإلزعاج الذي‬ ‫سببته لنا‪ ،‬في ليلة شاهدنا فيها أروع أفالمها‪.‬‬

‫أيضا كانت هناك‪ .‬رصدتْنا‪ .‬رصدت كل‬ ‫كاميرات التلفزيون ً‬ ‫حركة‪ ..‬منذ خرجنا من السينما‪.‬‬ ‫‪128‬‬


‫ظهرت غيمتي الزرقاء في التلفزيون‪ .‬وظهر معها الحصان البنِّي‪..‬‬ ‫وظهرت أنا بكامل‬ ‫وظهر قبر السلفادور وعلى صدره جريدة المساء‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫قيافتي‪ ،‬أدعو كل النساء أن يرتدين الفساتين الزرقاء‪ ،‬ليصبحن حلوات‬ ‫بأسرة‬ ‫كثيرا ّ‬ ‫مثل غيمتي‪ ،‬ويرقصن على إيقاع شرفاتهن‪ ،‬وأن يحلمن ً‬ ‫تطير من وإلى‪ ،‬والعودة‪ ،‬ليقفن في الصباح على صوت غيمتي تقدِّ م‬ ‫لهن الحليب الطازج‪ ،‬وابتسامة جريدة المساء‪.‬‬

‫ال أحد صدَّ ق أن كل ذلك حدث بالفعل‪ ،‬برغم أن معظم الناس‬ ‫يصدِّ قون الكذب األبيض‪ ..‬فلماذا ال يصدِّ قون هذه الغيمة البيضاء‪،‬‬ ‫حكاية الغيمة البيضاء‪ .‬وحكاية البنت البيضاء‪ ،‬التي ظهرت على‬ ‫الشاشة الكبيرة بروب أبيض شفاف‪ ،‬تلعب بمياه نهر جديد‪ ،‬على‬ ‫ضفتيه طوبر الرجال‪.‬‬

‫أكيد ال أحد معي‪ ،‬في أن الحلم هو حقيقة أخرى‪ .‬بل هو الحقيقة‬ ‫األولى‪ ،‬ألنه من مخزون الرغبات‪ .‬من األشياء التي نتمناها لنا‪ ،‬وليس‬ ‫من األشياء التي فرضت وجودها علينا‪ .‬نحن نحب‪ ،‬ألننا إذا لم نحب‬ ‫وحلمنا باألميرة الجميلة سببه ألنها‬ ‫نموت‪ .‬ونحن سعداء بهذا الحلم‪ُ .‬‬ ‫موجودة بيننا‪ ..‬ولو لم تكن موجودة بيننا لما َح ُلمنا بها‪ .‬لذلك فالحلم‬ ‫هو الحقيقة األولى‪ ..‬الحقيقة األهم‪..‬‬ ‫نتصور‪ .‬أكبر من أسمائنا ومواعيدنا‪.‬‬ ‫أظن أننا أكبر مما‬ ‫َّ‬

‫كثيرا في مشهد الحياة بقدر ما نفكر في مشهد الحلم‪،‬‬ ‫قد نفكِّر ً‬ ‫الذي يتكرر في اليقظة‪ ،‬ونراه من جديد بمستوى الرغبة‪ ،‬وبمستوى‬ ‫اللحظة الجميلة التي تبزغ منها‪.‬‬ ‫‪129‬‬


‫أيضا معكم‪ ،‬ال أصدِّ ق كل هذا الكالم‪ .‬ولكني ما أزال أراسل‬ ‫أنا ً‬ ‫تلك الغيمة‪ ،‬وهي تراسلني‪ .‬تلك الممثلة الجميلة هي حديث الناس‬ ‫في المدينة‪ /‬الحلم‪.‬‬

‫ال يزال ثمة شيء لم أقل ُه‪ ..‬ألن الحلم يكبرني ولن يكتمل‪ .‬وألن‬ ‫علي‪ ..‬وأخافكم أن تتطاولوا عليها بإلغائكم‬ ‫دائما تتطاول َّ‬ ‫رغباتي ً‬ ‫الحلم‪.‬‬

‫وألنني ال أستطيع أن أعدكم بغير أن أحلم‪ ،‬فإن ذلك يعني أنني‬ ‫أحبكم‪ ..‬ويعني كذلك أنني أدعوكم لمشاهدة الفيلم وبطلته الفاتنة‪.‬‬

‫ال تزال الغيمة هناك‪ ،‬وال يزال سلفادور دالي يرتِّب الفستان‪ ..‬وأنا‬ ‫أتفرج وأقرأ الرسائل!!‬ ‫َّ‬ ‫‪1988/7/18‬‬

‫‪130‬‬


‫�أغنية على ج�سر �أبي�ض‪!..‬‬ ‫‪« ..‬إيزابيال» لم تكن يو ًما في كتاب‪ .‬ولم تكن يو ًما في عقل‬

‫دائما‬ ‫قاص أو شاعر‪ .‬إنها ابنة لعجوز ديبلوماسي «مجري» كان ً‬

‫يشق‬ ‫يتركها وحيدة على جسر «اليزابيث» على «نهر الدانوب» الذي ُّ‬

‫مدينة «بودابست»‪ ..‬هو يبحث عن عالقات السالم مع المجر‪ .‬وابنته‬ ‫ِ‬ ‫فت‬ ‫قصة فتاة َخ َط ْ‬ ‫«جولين» التي تحكي َّ‬ ‫هناك تدندن باألغنية القديمة ُ‬ ‫صديقتها منها حبيبها وسافرت به بعيدً ا‪ ،‬وتركتْها وحيدة في الخريف‪..‬‬

‫قصة مع صديقي «نجيب» قبل أن نغادر‬ ‫تلك األغنية التي كان لها ّ‬

‫تركت له صديقته‬ ‫«روما» إلى «وارسو» في خريف ‪ ..1979‬حيث‬ ‫ْ‬

‫واختفت عن روما التي انطفأت مصابيحها تلك الليلة‪!..‬‬ ‫تلك األغنية‬ ‫ْ‬ ‫كانت جميلة وقلقة‪ ..‬وعصبية أحبته بعنف‪ ..‬وشاء إن رأيتها في‬

‫رأيت شبيهتها عندما دخلنا «مطعم البط»‪ .‬كانت‬ ‫«وارسو» القديمة‪ُ .‬‬ ‫في حالة قلق دائم‪ِّ ،‬‬ ‫كأسا وتلغيها‪..‬‬ ‫تدخن وتدعك ك ِّفيها‪ ..‬ثم تطلب ً‬ ‫ثم وهي تلتقط حقيبتها في عصبية وتخرج مسرعة‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫وبكت‪،‬‬ ‫ذكَّرته بها وبتلك الليلة الحزينة في روما‪ ،‬عندما احتضنتْه‬ ‫ْ‬ ‫ومر علينا السكارى يغنُّون حتى ابتعدوا ناحية السكك الحديدية‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وابتعدت هي بدموعها إلى الجانب اآلخر‪ ..‬بال سبب تركتْه في تلك‬ ‫ْ‬ ‫الليلة‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫‪ ..‬في ساحة «الرسم» الشعبية أمام «مطعم البط» رأيتها تصاحب‬ ‫البضتين‪ ..‬وعندما رأتني‬ ‫الح َمام الذي غنَّى على ك َّف ْيها البيضاوين َّ‬ ‫َ‬ ‫أمامها ألقت بحفنة ُ‬ ‫الذرة بعيدً ا ليهجرها الحمام وتهجر مقعدها‬ ‫والساحة بعصبية فنّانة تريد أن تختلي بروحها بعيدً ا عن وجوه البشر‪..‬‬

‫‪ « ..‬ألم تيأس»‪ ..‬قال صاحبي وخرجنا من أزقة المدينة القديمة إلى‬ ‫ساحة «فكتوريا» حيث النُصب التذكاري للجندي المجهول‪ ،‬وحيث‬ ‫تبدو تلك الساحة كأنها نهاية العالم‪ .‬كانت فضاء للهواء الطلق‪ ،‬وباحة‬ ‫للنَ َفس الطويل‪ ،‬وللصراخ‪ ..‬وحتى البكاء‪ .‬لكن ال شيء من ذلك قد‬ ‫تساقط‬ ‫حدث‪ .‬فقد كانت هناك على باب حديقة الخريف‪ ،‬واألوراق َّ‬ ‫وتالمسها بهدوء‪..‬‬ ‫* * *‬

‫بعد ثمانية أعوام تقري ًبا‪ ،‬أجدها على «نهر الدانوب» تغنِّي وحيدة‬ ‫في مساء خريفي تسكنه الذاكرة والحنين والحزن كذلك المساء‪.‬‬ ‫إلي بعينين حزينتين وكأنهما قد عادتا‬ ‫المست أناملها الندية‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫نظرت َّ‬ ‫لتوهما من سفر بعيد‪ ..‬وتذكَّرتني‪ ،‬ودون أن تنبس بكلمة أخذتني‬ ‫ِّ‬ ‫‪132‬‬


‫من يدي وفؤادي‪ ..‬ومشينا وحيد ْين على الجسر األبيض‪ ،‬فيما كانت‬ ‫مراكب الص َّيادين تُطلق ص ّفارات عبورها الجسر الكبير باتجاه شاطئ‬

‫«مارغريت»‪!..‬‬

‫حتى مساء «بودابست» تغ َّير بحلول الحب الذي كان هناك قل ًقا‬

‫في «وارسو»‪ ..‬ودخلنا صامت ْين إلى «جادة أديب» في «بشت» حيث‬ ‫المقهى التي يرتادها ال ُكتَّاب والفنَّانون المجر ِّيون‪ ،‬ويتمتَّع بزجاجه‬

‫ورصيفه العريض في شارع المشاة حتى ساحة «الكاتدرائية»‪..‬‬ ‫* * *‬

‫صحة الحزن الجميل‬ ‫قهوتان مسائيتان من «كا ّفي دي ميري» في ّ‬

‫في «بودابست»‪ ..‬ذلك الحزن الذي كان هناك مع صديقي «نجيب»‬

‫في روما‪ ..‬ورحل بتلك األغنية الحزينة ليصيبني في وارسو ومن ثم‬ ‫ألقاه هنا على الجسر األبيض فوق «نهر الدانوب» في بودابست‪..‬‬

‫وكأننا نحن فقط من يحب ويحزن في الغربة‪ ..‬وكأن الدنيا كانت لنا‬ ‫«جولِين» من «مدريد» تطير إلى حبيبها في روما‪،‬‬ ‫في الحب والحزن‪ُ ..‬‬ ‫وتتركه بعد أيام بسبب الحب‪ .‬وأنا أعشق شبيهتها في وارسو وألتقيها‬

‫بعد ثمانية أعوام في بودابست‪ .‬وكأن العالم قد صار لنا وحدنا‪ ،‬نلتقي‬

‫فيه بالرغم من الزحام والمسافات واألوطان والنسيان‪ ،‬وبالرغم من‬

‫كل المعارف العابرة والصداقات الحميمة هنا وهناك‪ ..‬وكأن حنيني‬

‫هو الذي دعاها إلى الجسر في ذلك المساء الخريفي‪..‬‬ ‫* * *‬ ‫‪133‬‬


‫قالت‪ ،‬كيف ألتقيك بعد ثمانية أعوام‪ .‬من خريف وارسو ‪،1979‬‬ ‫إلى خريف بودابست ‪ ..1987‬أتذكُر أول لقاء بيننا في «مطعم‬ ‫فقلت‪ ،‬كيف ال أذكُر وقد تذكرتُك منذ أول الجسر‪..‬‬ ‫البط»‪..‬؟!!‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وكأننا ُكنَّا على موعد هنا‪ ،‬اتفقنا عليه منذ ثمانية أعوام‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫تركت «إيزابيال» ابنة الدبلوماسي القلقة تسافر مع أبيها إلى‬ ‫‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وعدت أنا إلى بنغازي بذلك المشهد الضبابي للجسر‬ ‫«باريس»‪..‬‬ ‫ُّ‬ ‫مرة مثلما جمع بين مدينة ّ‬ ‫بعشاقها‪ ،‬مدينة‬ ‫األبيض الذي جمعنا ذات ّ‬ ‫يشطرها نهر «الدانوب» إلى مدينتين‪ ..‬ويجمعهما جسر المح َّبة‪!!..‬‬ ‫‪1987/11/8‬‬

‫‪134‬‬


‫بيروت‪� ..‬ضاحية ال�شمال والجنوب‪!..‬‬ ‫عدنا إلى بيروت بعد تلك الحرب لنجد المكان ساخنًا‪ ،‬ونجد‬ ‫المقهى في انتظارنا وقد كساها ال ُغبار‪ ،‬وناصية الحمرا من عنادها‬

‫تأخذ العابرين وأشواقهم في مشاوير المساء‪ .‬فبالرغم من ذكريات‬

‫تلك الحرب األليمة التي عصفت بحياة اللبنانيين زهاء الخمسة عشر‬ ‫عا ًما‪ ،‬إالَّ أن مستقبل اللبنانيين كان أكيدً ا‪ ،‬وأن االجتياح اإلسرائيلي‬

‫الذي جعل من كل (الطوائف) تلتقي في خندق واحد للمواجهة‪ ،‬كان‬

‫هو العامل األساس لالجتياح الجديد في ظل المؤامرة القديمة‪ .‬إذ كان‬ ‫مؤثرا وطن ًيا على صمود المقاومة‪ ،‬فلم يكن االتفاق‬ ‫اتفاق الطائف ً‬

‫للمصالحة الوطنية فحسب‪ ،‬وإنما للتأكيد على جبهة الصمود الوطني‬

‫ضد المؤامرة‪.‬‬

‫* * *‬ ‫عندما مررنا بتلك اإلطالل وسط بيروت‪ ،‬كان صديقي الشاعر‬

‫حسين نصر الله يؤكد لي على حتمية عبور اللبنانيين ألزمتهم‪،‬‬ ‫‪135‬‬


‫مثيرا على تلك‬ ‫وبأن هذا‬ ‫ّ‬ ‫المكب (نورماندي) الذي بقي شاهدً ا ً‬ ‫الحرب‪ ،‬سيتحول قري ًبا إلى مكان جديد للمؤانسة بين األشقاء‪،‬‬ ‫أو بين ما كان ُعرف ـ آنذاك ـ ببيروت الشرقية وبيروت الغربية‪.‬‬ ‫وعندما أقلعت وصديقي الشاعر محمد العبد الله باحة األصدقاء‬ ‫في مقهى «الروضة» على «الروشة» في اتجاه «جونيا» أدهشتني‬ ‫رؤية «حي الزيتون» الذي كان انهار تما ًما تحت القذائف‪ ،‬لتشهد‬ ‫«ساحة الشهداء» هناك‪ ،‬بوسط بيروت‪ ،‬جلسة الغريب ْين الوحيد ْين‬ ‫بين األطالل‪ ..‬فيما كانت الطريق إلى «جونيا» تمتد بارتفاعاتها‬ ‫في العمق‪ ،‬إلى حيث ال تعرف من تلك الحرب سوى ذكرى تلك‬ ‫المواجهة لجيوش االحتالل‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫ربما كان االجتياح اإلسرائيلي عام ‪ 1982‬هو ثمرة الخالص من‬ ‫العقدة الطائفية‪ ،‬وهو بالتالي المؤسس لليقين بأهمية الوحدة الوطنية‪.‬‬ ‫قلت لمحمد العبد الله في الطريق‪ ،‬أنا ال أخاف من عودة حرب‬ ‫وهنا ُ‬ ‫أهلية جديدة‪ ،‬أنا أخاف على لبنان من وحدته الوطنية‪ ..‬فقال وهو‬ ‫يخ ِّفف من سرعة سيارته في منعطف «جونيا» باتجاه البحر‪ ..:‬نعم‪،‬‬ ‫إنها إسرائيل‪!..‬‬ ‫* * *‬

‫كانت أقدامنا الحافية على شاطئ «جونيا» تالمس الحصى الناعم‬ ‫الملمس‪ ،‬فيما النسيم عبر مواشير الضوء وضحكات المصطافين في‬ ‫الليل يأخذنا إلى أبعد من «صيدا» حيث غادرنا عباس بيضون وجودت‬ ‫‪136‬‬


‫فخر الدين‪ ،‬وأبعد من «بنت جبيل» حيث األصدقاء هناك يجمعون‬ ‫«كتابات الجنوب» التي خ َّطها مبدعون لبنانيون وعرب‪ ،‬وكان لبعض‬ ‫ما كتبناه آنذاك في قبرص‪ ،‬النصيب األوفر‪.‬‬ ‫عدنا آخر الليل بذكريات جمعتنا ذات مساءات في ليماسول‪ ،‬وكنا‬ ‫حتما في بيروت‪ ،‬وقد التقينا ً‬ ‫فعل بعد تلك الحرب‪،‬‬ ‫اتفقنا على اللقاء ً‬ ‫وافترقنا دون الوعد بلقاء قريب‪..‬‬

‫وعدت إلى قبرص‬ ‫تركت بيروت تغفو من تعب الليل واألسرار‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫بحرا وفي خاطري أن أسأل بيروت ماذا خبأت للعام الجديد‪..‬‬ ‫ً‬ ‫* * *‬

‫كانت «قبرص» أثناء تلك األحداث في لبنان وفلسطين محطتنا‬ ‫األكيدة‪ ،‬وفضاؤنا الممكن الذي أنشأنا منه أولى إصدارات صحافة‬ ‫المهجر التي أرست دعائم لغة جديدة في الصحافة العربية‪ ،‬خاطبت‬ ‫بوعيها التنويري عقل المستفهم الذي كاد يفقد حريته وراء صحافة‬ ‫مؤسسات النظام العربي التي خابت وخسرت الرهان أثناء تلك‬ ‫المهمة في تاريخ النضال العربي‪ ،‬وسقطت أمام األعداد‬ ‫المرحلة‬ ‫َّ‬ ‫األولى لصحف ومجالت السؤال العربي‪ .‬فكان المكان» القبرصي»‬ ‫بمعناه االستثنائي في ذلك الزمن‪ ،‬هو العالمة الفارقة في حياتنا‬ ‫الثقافية والصحافية‪ .‬ومع نهاية تلك الحرب‪ ،‬تضاءلت ظاللنا في‬ ‫الجزيرة المتوسطية‪ ،‬لتنتهي أدوارنا فيها وقد عاد لبنان إلى أهله‪،‬‬ ‫وعاد بعضنا إلى التعب من جديد في كساد األمكنة‪ .‬تارة نعيب‬ ‫على تلك المرحلة التي منحتنا الكثير من الثقة في قدراتنا على‬ ‫‪137‬‬


‫تأكيد السؤال‪ ،‬وخسرنا ضمان وجودنا في المستقبل‪ .‬وتارة نعيب‬ ‫على المحنة العربية الراهنة التي قادتنا إلى ذات السؤال‪ ،‬وكنا‬ ‫فقدنا منارة القلعة هناك دون ضمان العودة‪ ..‬والتارة األكيدة هي‬ ‫ما تبقى لنا من حنين إلى تلك السنين التي أمضيناها م ًعا‪ ،‬ككتيبة‬ ‫مدججة بمعرفة األزمة ومحيطها السياسي والثقافي‪ .‬نكتب‬ ‫حرب َّ‬ ‫تحت شعالت القصف الليلي الذي كاد يتراءى لنا من شرفتنا‬ ‫العالية في»ليماسول» وكأننا هناك‪ ،‬في بيروت‪ ،‬بين األصدقاء‪،‬‬ ‫نحتمي بجدار المقهى التي خلت من مثقفيها في مساءات القصف‬ ‫المهرب في البريد‪.‬‬ ‫الطويل‪ .‬ونستقبل في صباح اليوم التالي‪ ،‬الفزع‬ ‫َّ‬ ‫وعلى رصيف الميناء‪ ،‬نستقبل الوجوه القادمة من طواحين الحرب‬ ‫إلى مالذ الوجع العربي‪ ،‬للعيش في الجزيرة بكل تلك الثقة على‬ ‫إثبات الوجود الستعادة المكان‪ .‬وكبرت قبرص في عيوننا حين‬ ‫كانت الوجوه بقربنا تدعم صمودنا في الوقت العصيب‪ ..‬وقلعتنا‬ ‫الحر‪ ،‬في كبد الحقيقة الغائبة ـ‬ ‫الصحفية الكبيرة تُطلق سهام القلم ُ‬ ‫المغ َّيبة ـ في كل مكان من العالم !‬ ‫* * *‬

‫َّ‬ ‫انتصرت»الذات» في ذلك اللقاء اإلعالمي الذي جاء‬ ‫لقد‬ ‫عفو ًيا‪ ،‬وكان س َّبا ًقا إلى الفعل‪ ،‬في زمن امتلكناه كيفما نريد لوقف‬ ‫الحرب الخاسرة بين األشقاء‪ ،‬ودعم صمود المقاومة اللبنانية‬ ‫والفلسطينية في وجه االجتياح اإلسرائيلي الذي سقط بأعالمه‬ ‫ِ‬ ‫مهمتنا بنهاية الحرب‪،‬‬ ‫المحترقة على (جسر َّ‬ ‫األولي)‪ .‬وانتهت َّ‬ ‫‪138‬‬


‫وكأننا كنا هناك ـ جنود االرتباط العربي ـ على الجبهة الجنوبية‬ ‫من الجزيرة‪ .‬نتل َّقى األخبار بالوسائل الصعبة‪ ،‬ونكتب عن محنتنا‬ ‫في الصور القادمة المغطاة بالدم‪ ،‬ونبكي استشهاد (كمال ناصر)‬ ‫الذي أفرغ» باراك» في فمه رصاص مسدسه‪ ،‬إسكاتًا لصوت‬ ‫الشاعر المناضل‪ .‬ونبكي خروج المقاومة الفلسطينية وجراح»‬ ‫حنظلة» في يد ناجي العلي‪ ..‬ونبكي موت األطفال على ألعابهم‬ ‫المحترقة‪! ..‬‬

‫الحرقة التي خرجت من صدر الصديق الذي كان يلقي بمرارة‬ ‫تلك ُ‬ ‫كبده في مياه المتوسط أثناء مجزرة (صبرا وشاتيال)‪ .‬وخفت عليه‬ ‫الحرقة التي كانت في صدري يوم‬ ‫من الموت بين‬ ‫ذراعي‪ ،‬هي ذاتها ُ‬ ‫َّ‬ ‫وعدت أنا إلى ليبيا‪ .‬وليفترق بقية األصدقاء‬ ‫افترقنا‪ .‬سافر هو إلى لندن‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عن مصدر اللهب الذي كان هناك و ُكنَّا نتوهج معه‪.‬‬ ‫* * *‬

‫هاهي األحداث في لبنان وفلسطين تفقد القلعة اإلعالمية في‬ ‫قبرص‪ ،‬ليكون الفراغ الذي تركناه هناك‪ ،‬بمساحة الوجع الذي نناله‬ ‫هنا بعيدً ا عن «قانا» و»بنت جبيل»‪ .‬وقد كان الوجع رهين تلك الحالة‬ ‫الغائبة عن معتركها الطبيعي‪ ،‬الحتواء أزمة من هذا النوع‪ ،‬كادت‬ ‫قبرص أن تراهن عليها من جديد‪ ،‬بظهور صحافة حقيقية تجاور‬ ‫حقيقة المأساة‪ ،‬وتُكشف عن حقيقة النظام الرسمي العربي بصوت‬ ‫الجماهير‪.‬‬ ‫التصور‪ ،‬أن يعمد األشباه على‬ ‫لذلك كانت المحنة تفوق حدَّ‬ ‫ُّ‬ ‫‪139‬‬


‫اإلطاحة بنور األلق في البالد‪ ،‬ويغيبون عن جوهر السؤال المطروح‬ ‫بين األمم‪ .‬ذلك السؤال الذي قاد األعداء ذات مرة إلى الديار في‬ ‫المحاولة اليائسة‪ .‬وقاد األعداء هذه المرة إلى ضرب الديار في‬ ‫وحرجا في صوت المث َّقف‬ ‫المحاولة األكيدة‪ .‬وك َّلما كان السؤال قو ًيا‬ ‫ً‬ ‫كبيرا على ـ مؤسسة‬ ‫صماء‪ ،‬ال تسمع ـ كان الخطر ً‬ ‫الثوري ـ واألذن َّ‬ ‫الوجود ـ من األساس؟!‬ ‫صيف ‪2008‬‬

‫‪140‬‬


‫على ورق �أبي�ض‪!..‬‬ ‫‪ ..‬ليست هي الفكرة وإن هربت منذ قليل مثل طير‪ .‬ال الشجر‬

‫هناك يعرفها‪ ،‬وال عين المرء تدركها‪ ..‬أنا فقط أعرفها‪.‬‬

‫ليست هي الفكرة بأي حال‪ ،‬فهي الطالع في سؤال‪ ،‬وهي الباقية‬

‫في السؤال‪ ..‬وهي وإن غدت صعبة المنال‪ ،‬تبدو بعد وقت أيقونة‬

‫زمن غاب وطال في الغياب‪.‬‬

‫ليست هي الرؤيا وإن بلغت مداها‪ ،‬فهي تجئ كما الطيف تسكن‬

‫الوعي وتقيم فيه كرنفالها البديع‪.‬‬

‫ليست هي الرؤيا بأي حال‪ ،‬فهي وإن كانت هناك‪ ،‬كما بقيت‬

‫بعدي‪ ،‬وأنا هنا وحدي دون رؤيا تأخذني‪.‬‬

‫ليس على الورق شئ سوى هوامش اللحظة‪ .‬ليس في البال شئ‬

‫سوى هشاشة تلك اللحظة‪ .‬ليس معي أحد سوى خيال القلم في الورقة‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪141‬‬


‫الرف‪ .‬كانت بيضاء وناعمة‬ ‫دون قصد أخذتها من بين صويحباتها على ّ‬ ‫الرف‪ .‬وكانت جميلة لزهو اللون والحرف‪.‬‬ ‫مثل صويحباتها على ّ‬

‫لكن القلم الذي وقع في ح ِّبها صار يرتجف‪ ،‬يهاب مالمستها في‬ ‫خجل‪ .‬اختلس ارتيابي ونقش على جنبها يضع الرسم الخجول في‬ ‫هوامش مبهمة‪.‬‬

‫وهمست فيه أن يبدأ الكتابة‪.‬‬ ‫سحبت القلم من روضته البيضاء‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صار القلم يرتعش أمام بياض الورقة ويمتنع عن الكتابة‪ .‬باغتني في‬ ‫ً‬ ‫خجول على يمين الورقة ووضع نقطة بعدها‬ ‫لحظة خيال ووضع خ ًطا‬ ‫كأنها ال ُقبلة‪ .‬كان القلم يرسم خ ًطا لي ويضع ُقبلة لها‪ .‬صارت الورقة‬ ‫وردية اللون من أثر الخجل‪.‬‬ ‫* * *‬

‫وكتبت تحته‪ :‬من أجلك أيتها‬ ‫أخذت الخط الذي رسمه لي القلم‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫علي‪ .‬فامنحيني بهاؤك لكتابة‬ ‫كتب‬ ‫الورقة أكتب عليك كما َ‬ ‫الدهر َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫سر وجودها‪.‬‬ ‫واحدة أنت ُّ‬

‫تو َّقف القلم على يمين الورقة يرسم جناح فراشة تطير‪ .‬أخذني‬ ‫تركت مشروع كتابة المقال أتأ َّمل في شكل الرسم‬ ‫معه في الرسم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وفي شكل الفراشة التي ستطير‪.‬‬ ‫* * *‬

‫كانا في حالة عشق‪ ،‬هي تمنحه روح الزهرة‪ ،‬وهو يمنحها روح‬ ‫الفراشة‪ ..‬وأنا َّ‬ ‫الشاهد الوحيد في الليل على هذا العشق المهيب‪.‬‬ ‫‪142‬‬


‫لم أستطع منعهما من المزيد من الممارسة‪ .‬فالورقة صارت روح‬ ‫الزهرة‪ ،‬والقلم صار روح الفراشة‪ ..‬وأنا في الفكرة أتو َّقف عن كتابة‬ ‫المقال ريثما ينتهيان من الرسم ويمنحاني مساحة صغير للكتابة‪.‬‬

‫فسألت القلم‪:‬‬ ‫غير أن الورقة صارت بستانًا من الزهور والفراشات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لماذا تأخذ كل الورق للرسم وتتركني كل هذا الوقت بال كتابة؟!‪..‬‬ ‫كنت أحرسه طوال الليل حتى‬ ‫فقال القلم‪ :‬هذا البياض لي‪ ،‬أنا الذي ُ‬ ‫عيني لتكتب عليه أوجاع من ع َبروا‪.‬‬ ‫جئت أنت لتأخذه من أمام‬ ‫َّ‬ ‫رب الكتابة‪ ،‬من أجله أرسم لحبيبتي‬ ‫هذا البياض لي أنا وحدي‪ ،‬أنا ُّ‬ ‫الزهرات والفراشات‪ .‬أرسم عليها الحياة لتنجو من كتابة أرهقتها‬ ‫السنين‪ .‬كتابة عص ّية تجرف في طريقها بياض الروح وشغف الحنين‪.‬‬ ‫* * *‬

‫وتركت الورقة والقلم يمضيان في العشق‬ ‫استسلمت للدفاع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وصرت أنا حارس الضوء حتى الصباح‪.‬‬ ‫الالمتناهي‬ ‫ُ‬

‫في الصباح أيقضني صوت خرير المياه التي تجري بين الجداول‪،‬‬ ‫والفراشة تطير‪ ،‬والزهر يضئ بستان الورقة البيضاء‪!..‬‬

‫‪2009/8/28‬‬

‫‪143‬‬



‫ذاكرة ال�صورة‪!..‬‬ ‫عندما نصنع حدث الصورة ونغيب عنها‪ ،‬كانت تعود بعد زمن‬ ‫لتصنع الحدث من جديد‪ .‬فالذاكرة التي خرجت من الصورة‪ ،‬بال قصد‪،‬‬ ‫تعود إليها‪ ،‬بقصد‪ ..‬وتلك حالة بصرية عجيبة تصنع الماضي بترميم‬ ‫جزء من الذاكرة كان مفقو ًدا‪.‬‬

‫نفضت ال ُغبار عن ألبوم صور قديم‪ ،‬عاد بي سري ًعا إلى‬ ‫منذ أيام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫خمسينيات وستينيات القرن الماضي‪ .‬بعض تلك الصور لم تكن‬ ‫صورا لوالدي‬ ‫لي‪ ،‬كانت ألناس تشكَّلوا في ذاكرتي بال قصد‪ .‬كانت‬ ‫ً‬ ‫وألعمامي ولوالدتي ولجدَّ تي‪ ،‬وألقرباء لي عرفتهم عن قرب‪،‬‬ ‫وآخرين أسمع بهم‪ ،‬لكنهم في «الصور» كانوا جميعهم في ذاكرة‬ ‫واحدة وإن تباعدت األزمان بينها‪ .‬فسحر الصورة القديمة‪ ،‬أبيض‬ ‫حضورا في ذاكرة تشكَّلت مع ذلك اللونين‬ ‫وأسود‪ ،‬كانت أكثر‬ ‫ً‬ ‫تحديدً ا‪ ،‬المرتبطين بذلك الزمن‪ ،‬بعفويات الصورة الثابتة والمتحركة‪.‬‬ ‫فصورة «شارلي شابلن» الصامتة التي تعلقنا بها في سينما المركز‬ ‫الثقافي األمريكي‪ ،‬هي ذاتها صورة «شوشو» لبنان الناطقة التي تعلقنا‬ ‫‪145‬‬


‫بها بعد ذلك‪ ،‬في سينما أيام زمان‪ .‬وهي ذاتها الصورة الثابتة التي‬ ‫التقطها لنا الفنان «فتحي العريبي» في ساحة مدرسة «توريللي»‬ ‫االبتدائية في مطلع الستينيات‪ ،‬فكانت حاضرة في ذاكرة الماضي‬ ‫وشاهدة على ذلك الزمن‪.‬‬ ‫* * *‬

‫صورة قديمة من ورق قديم‪ ،‬قد تكون أهم من مستقبل مجهول‪..‬‬ ‫ألنه مستقبل خارج الذاكرة‪ .‬فالصورة القديمة وإن صمتت زمنًا في‬ ‫بمجرد نفخ ُغبار السنين عنها‪.‬‬ ‫كراتين مهملة‪ ،‬تعود إلى الحياة‬ ‫َّ‬ ‫* * *‬

‫أتعمد إهمال‬ ‫قد أكتفي بتلك الصور ألنها جزء من ذاكرة بعيدة‪ ،‬وال َّ‬ ‫صور أخرى تطرأ في الحياة مع أناس أعرفهم وال أعرفهم‪ ،‬فتلك قد‬ ‫وأيضا شخصية وترتبط في مستقبلها‬ ‫يكون لها قيمة فنية وثقافية‪ً ،‬‬ ‫أقفلت على ذاكرتي باب الذكريات الجميلة‬ ‫بماضيها‪ .‬لكنني وقد‬ ‫ُ‬ ‫ملونة قد تسرق‬ ‫كثيرا باالحتفاظ بأي صورة َّ‬ ‫مع الزمن‪ ،‬فلم أعد أهتم ً‬ ‫المتعة البصرية بالصورة القديمة التي نشبت في طفولتي وكانت‬ ‫تلك ُ‬ ‫جز ًءا من تكويني في الحياة‪.‬‬

‫التقيت بشخصيات كبيرة في حياتي المهنية لم أحلم‬ ‫أذكر أنني‬ ‫ُ‬ ‫وأهملت صوري معها‪ ،‬أو كأني افتقدتها في مكان ما‪،‬‬ ‫يو ًما بلقائها‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أحسست بأهمية تلك الصور‪ ،‬وبأنها قد‬ ‫بدون قصد‪ .‬ومع مرور الزمن‬ ‫ُ‬ ‫تعني الكثير لمهنتي كصحفي‪ ،‬وشاهدة إثبات على لقاءات وحوارات‬ ‫‪146‬‬


‫أهمها الموت‪ ..‬فكان‬ ‫تتكرر ألسباب كثيرة‪ُّ ،‬‬ ‫تتكرر‪ ،‬ولن َّ‬ ‫مهمة لم ت ُعد َّ‬ ‫َّ‬ ‫يأسي من بحثي عن تلك الصور‪ ،‬داف ًعا لالحتفاظ بما تبقى من ذاكرة‬ ‫احتفظت‬ ‫احتفظت به والدتي زمنًا‪ ،‬ثم‬ ‫بعيدة وجدُّ تها في ألبوم قديم‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫به زوجتي زمنًا‪ ،‬ويرعاه اليوم ابني «زياد» لزمن آخر قد يطول‪..‬‬ ‫* * *‬

‫المهمة التي التقيتها في «قبرص»‬ ‫كان من بين الشخصيات العالمية‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫مثل‪ ،‬وجمعتني بهم الصور‪ ،‬الدكتورة «أليدا» ابنة «تشي جيفارا» عام‬ ‫‪ ،1997‬والكاتب األميركي «صموئيل هنتغتون» والزعيمة الباكستانية‬ ‫«بناظير بوتو» عام ‪ 1998‬أثناء مؤتمر في «نيقوسيا» حول حوار األديان‪،‬‬ ‫عثرت على صوري بعد ذلك مع عدد من زعماء قبرص‪ ،‬مثل‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫وإن ُ‬ ‫الرئيس «غالفكوس كليريدس» ورئيس الحزب االشتراكي الدكتور‬ ‫وأيضا مع «رؤوف دنكطاش» زعيم القبارصة‬ ‫«فاسوس ليساريدس» ً‬ ‫األتراك‪ ..‬وهؤالء ً‬ ‫مثل تعبوا من الشقاء في الحياة السياسية‪ ،‬وتناقضوا‬ ‫في الزمن مع جوهر الصورة وذاكرتها‪ .‬فـ»أليدا» بال كلل تبحث عن‬ ‫أمجاد جيفارا في مناطق سقطت فيها الثورات‪ ،‬و»بوتو» تخرج من‬ ‫حزب الشعب الباكستاني في انفجارت «راولبندي»‪ ،‬و»هنتغتون»‬ ‫يخرج من ِ‬ ‫خاسرا الجسد والفكرة م ًعا أثناء‬ ‫«صدَ ام الحضارات»‬ ‫ً‬ ‫اإلبادة العبرية التاريخية ألطفال غزة‪ ،‬فيما تضيع مصلحة القبارصة‬ ‫اليونانيين واألتراك‪ ،‬بين المصالح الدولية وأجندتها اإلقليمية في‬ ‫منطقة المتوسط‪.‬‬ ‫* * *‬ ‫‪147‬‬


‫تُرى لماذا تضيع صور وتبقى صور‪ ،‬مع أن درجة اإلحساس بقيمة‬ ‫أي صورة‪ ،‬تظل واحدة‪ ،‬مهما طال بها الزمن‪..‬؟!‬

‫ولماذا حينما نبحث في الصور عن صورة مع َّينة‪ ،‬ال نجدها‪.‬‬ ‫وبال قصد نجدها حينما ال نكون نبحث عنها‪.‬‬ ‫* * *‬

‫كثيرة هي صور اليوم‪ ،‬وتستطيع التصوير مع من تريد في الحياة‪ ،‬مع‬ ‫نجوم الفن واألدب والسياسة‪ ،‬ولكن تبقى القيمة في مدى احتفاظنا‬ ‫في ذاكرتنا بمناسبة هذه الصورة أو تلك‪ ،‬حتى إذا ما افتقدناها كصورة‬ ‫قديمة في ألبوم‪ ،‬ظلت في الذاكرة «صورة» ال تمحوها السنين‪.‬‬ ‫‪2008/4/16‬‬

‫‪148‬‬


‫محمود دروي�ش‬

‫من منفى إلى منفى تعود‪!..‬‬ ‫وعدت إلى‬ ‫دهرا خذلتك‬ ‫َ‬ ‫ها هي المنافي التي منحتك الطمأنينة ً‬

‫وغفو َت َب ْعد ُه‬ ‫منحتنا أجمله‬ ‫ْ‬ ‫منفاك الجوهري ساكتًا عن الكالم الذي ْ‬ ‫دون قصد‪.‬‬ ‫في منافيك‪ ،‬أيها الجميل‪ ،‬كان الور ُد ّ‬ ‫أقل‪ .‬وكان مديحك للظل‬

‫العالي يأخذ مداه في الصبوات ويهتف في الحياة كيفما يشاء‪ .‬لكنك‬ ‫أيها الص َّياد وأيها الطريد‪ ،‬أيقنت َبعدها أن ال شيء يهرب منك‪ ،‬حتى‬

‫الموت الذي كان هاجسك في الكالم وكان يسبق القصائد الختام‬

‫في الياسمين‪.‬‬

‫غمرك الموت أيها الغريب‪ ،‬و»ميموريال هيرمان» يبحث في القلب‬

‫بجيشه األخضر عن «األبهر» العنيد الذي يختبئ بين األوجاع ويفتك‬ ‫بمفردات الحنين إلى قرية «البروة» ُأم الطفولة ومنشدتها األزلية في‬

‫الغياب‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫كنت في وجع األبهر العنيد «فتى فلسطين» الذي ال يشيخ‬ ‫َ‬ ‫وكنت حينها‬ ‫وال َيطيح‪ ،‬الفتى الواثق الرشيق‪ ،‬صانع العبارة ومعناها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أمير الكالم وفارس القبيلة الذي لم يترك الحصان وحيدً ا في األرض‬ ‫وكنت كما يصفك الضوء دو ًما‪ ،‬تتبع أثر الفراشة إلى النُّور‪..‬‬ ‫اليباب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كنت أيها العاشق الجميل تلعب النرد وتفوز على وحدتنا وتغمرنا‬ ‫َ‬ ‫بدفء المكان الذي حللت‪ .‬فأنت وحدك من كان يخرج بيننا ياف ًعا‬ ‫فيترك البياض ناص ًعا في مساحات الكدر الشاحبة‪.‬‬

‫كنت هناك تمضي بالقناديل والمناديل وعبق الجليل‪،‬‬ ‫وحدك َ‬ ‫أنت الكبير الذي من أحالمه يسلك الحمام سماء القدس‬ ‫وكنت َ‬ ‫َ‬ ‫أنت النبيل حدّ الهيام الذي يأخذ من السماء طلعة‬ ‫العتيق‪،‬‬ ‫وكنت َ‬ ‫َ‬ ‫الصباح كي يستقيم‬ ‫الشمس ومغيبها ويرسم الوطن العليل بفرشاة َّ‬ ‫المعنى في صميم الكينونة‪.‬‬ ‫كنت بارع النشيد ومنشده في «ديار عرب» خلت من العاشقين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫كنت ذبيح محنتنا‪ ،‬توقظ خطونا الثقيل في الفلوات‪ ،‬فيعلو‬ ‫ومرارا َ‬ ‫ً‬ ‫مزهوا ممشو ًقا في العبارات‪.‬‬ ‫خطوك‬ ‫ً‬

‫وكنت المحظوظ في‬ ‫كنت أشقانا في لعب النرد وماهر ال سواك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مجابها لمؤامرة‬ ‫وكنت‬ ‫روابينا‪،‬علمتك المنافي مقارعة الوجع بالشعر‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫القلب على القصيدة‪..‬‬

‫وكنت البعيد أيها الحزين والقريب فينا‪ .‬لكنك لم تكن تعرف أن‬ ‫َ‬ ‫منافيك ستأخذك يو ًما من سؤالك في الوجود إلى الخيمة العارية‪،‬‬ ‫‪150‬‬


‫صامتًا في قفارها يتعقبك النحيب‪ ،‬بعيدً ا عن ورداتك التي زرعتها‬ ‫في حدائق الحنين‪.‬‬

‫رام الله أقصى منافيك ومنافينا‪ .‬لكن قبرك الذي هناك فينا‪،‬‬ ‫يحرسه ظلك العالي وأكاليل األشعار‪ ،‬وال يعتليه الجدار العازل‬ ‫وال الخوف من عصابات «الهاغانا»‪ ..‬فكن هناك بين بعضنا غاف ًيا‬ ‫في المهد وثر َّيات النشيد‪ ،‬وكُن فينا‪ ،‬في معانينا الصغيرة‪ ،‬وكُن في‬ ‫سميتها‪ ،‬ولك الفوز دو ًما‬ ‫أسماء القصائد التي غنَّيتها والوردات التي َّ‬ ‫يا العب النرد الجميل‪.‬‬ ‫* * *‬

‫وأخرجت دواوينك التي‬ ‫تذكرتك البارحة قبل موتك بيوم ْين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكنت في خالل اليوم ْين الباقي ْين أقرأ‬ ‫أهديتني بعد موتك بيوم ْين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫خطك الجميل وأجهش بالبكاء‪ ،‬أشاطر لوعة األُم التي انكسر تنُّورها‬ ‫(لحظة الخبر) ولم ي ُعد الحنين مجي ًبا على خبزها‪.‬‬

‫كنت أفك‬ ‫تذكرت وسامتك في القلب‬ ‫وقرأت ابتهالك بي حين ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُلغز الكالم في صحافة بيروت منتصف السبعينيات‪ ،‬ورأيتك بعد‬ ‫حملت‬ ‫ذلك كما أنت في لقائنا الطويل في طرابلس خريف ‪.1976‬‬ ‫َ‬ ‫إلي شوق اللقاء ُمجد ًدا في بيروت‪ ،‬لكننا لم نكن لنلتقي أبدً ا في‬ ‫َّ‬ ‫أثناء تلك الحرب التي قسمت الزمن زمن ْين‪ ،‬وكدنا نلتقي في تونس‬ ‫وبعدها في نيقوسيا لو لم تكن دائم السفر بين محطت ْين أخري ْين‪ .‬كنا‬ ‫دائما على عجل‪ ،‬نغادر ظاللنا اليائسة في اللحظة التي تنتصب فينا‬ ‫ً‬ ‫شمس الظهيرة‪ ،‬وكأننا في األرض نزرع ونذرع وال نبال بحكمة عباد‬ ‫‪151‬‬


‫الشمس في الحقول‪ .‬نتقاسم العواصم وال نلتقي‪ ..‬أبدً ا لم ن ُعد نلتقي‪،‬‬ ‫فاكتفينا كما يكتفي اليتامى بالحنين‪.‬‬

‫كنا نترك السالم بين األصدقاء‪ ،‬في محطاتك المضيئة التي سرعان‬ ‫ما نغادرها أشتاتًا ونلتقي كي نغادرها أشتاتًا من جديد‪ ،‬فلم يبق لنا بعد‬ ‫وغربتنا سوى ذكرى كل تلك المحطات‬ ‫غربتك َّ‬ ‫كل تلك السنين التي َّ‬ ‫حتما أظلمت في غيابك‪.‬‬ ‫المضيئة التي ً‬ ‫* * *‬

‫سالمي إليك من «سليم» في ستوكهولم‪ ،‬ومن «صبحي» في‬ ‫باريس‪ ،‬ومن «أمجد ونوري وحسام» في لندن‪ ،‬ومن «عبد الرحمن»‬ ‫في نيقوسيا‪ ،‬وسالمي إليك من «الياس» في بيروت‪ ،‬ومن «سميح»‬ ‫«غسان و ُمنذر» في رام الله‪ ..‬وسالمي إليك من‬ ‫في الناصرة‪ ،‬ومن َّ‬ ‫كل السنونوات المهاجرة وقد اشتاقت إليك عنوة‪ ،‬وسالمي إليك‬ ‫من ألق كل المنافي‪.‬‬ ‫سالمي إليك دو ًما‪ ،‬وسالمي إلى رام الله س ِّيدة المنافي‪.‬‬

‫‪2008/8/15‬‬

‫‪152‬‬


‫بيروت �آخر الليل‬ ‫كانت (فيروز) فوق‪ ،‬تحت القمر‪ ،‬في بيتها على الجبل‪ ..‬وأنا‬ ‫وزياد‪ ،‬تحت‪ ،‬في ليل بيروت أغسطس‪ ،‬حيث الماء البارد يهرب‬ ‫من الجسد ساخنًا‪ ،‬وحيث الثلج يهرب في الكأس العابرة‪ ،‬وحيث‬ ‫الحكاية تأخذ مداها من الروشة إلى رصيف مقهى الويمبي‪.‬‬

‫وصديقي‪ ،‬الشاعر حسين نصرالله والفنان التشكيلي محمد‬ ‫كنت‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫شمس الدين‪ ،‬على موعد مع الليل وقناديل حانة اللوز في شارع‬ ‫الحمرا‪ ،‬تلك الحانة التشكيلية الحمراء التي يرتادها المثقفون ويسكنها‬ ‫صوت «فيروز» ونمنمات زياد الرحباني‪.‬‬ ‫لم يكن الكساد عاد ًيا ونحن نخرج من مقهى الروضة على الروشة‬ ‫ونأخذ المشوار بخطى واهنة على الكورنيش بين البحر والسابحات‬ ‫في الماء‪ ،‬والسابالت على االيس كريم في الجهة األخرى‪.‬‬

‫قد يكون خواء الروضة من األصدقاء في ذلك المساء سب ًبا لتلك‬ ‫الحالة من الصمت الشعري التي أصابتنا وتقاطعت مع المشهد العام‬ ‫‪153‬‬


‫لكورنيش المزرعة وجعلتنا في الوجد ندندن مع زياد الرحباني في‬ ‫الالمعقول في بيروت‪.‬‬

‫كانت حالة بيروت في ذلك المساء بالذات كمثل حالة فينيسيا‬ ‫القديمة وجميلتها الحزينة التي ترسم على الرصيف ضوء القناديل‬ ‫تتوهج في الماء‪ .‬كانت فينيسيا مثلها تما ًما في الخيال الذي‬ ‫التي َّ‬ ‫صنعه األخوين رحباني‪ ،‬غير أن بيروت التي عرفها زياد الرحباني‬ ‫كانت خالف ذلك‪ ،‬مدينة بها عربة ذهبية بال حصان‪ ،‬خيال الناس في‬ ‫الذهب‪ ،‬والحصان يمرح في المدينة ويصهل وحيدً ا في شارع الحمرا‪.‬‬ ‫* * *‬

‫فتحنا أبواب شارع الحمرا عنوة في تلك الليلة من شهر آب‪،‬‬ ‫ال أحد بيننا في الحالة التالية‪ .‬حملنا أعذار األصدقاء الذين غابوا في‬ ‫المالذات المجهولة‪ ،‬واعتكفنا ثالثتنا في حانة اللوز التي سبقنا إليها‬ ‫قديما عن‬ ‫زياد‪ .‬كان الصوت بيننا خفي ًفا تلك الليلة‪ ،‬كأننا نكمل كال ًما ً‬ ‫«فيروز» حكيناه منذ ثالثين عا ًما‪ ،‬وكأننا اآلن نهمس في ليل بيروت‬ ‫أن تغفو على أحالم جارة القمر‪.‬‬

‫خط نصرالله بدمع الشمعة األبيض مؤانسته الشعرية على الطاولة‬ ‫الحمراء‪ ،‬ورسم شمس الدين بذات دمع الشمعة األبيض ضوء وجه‬ ‫الملكة‪ ،‬ودندن زياد «موش فارقا معاك»‪ ..‬فيما كانت أصابعي على‬ ‫الطاولة الحمراء تصنع إيقاع الروح بتلك األغنية‪.‬‬ ‫* * *‬

‫هرب األصدقاء في تلك الليلة عن المواعيد الجميلة‪ ،‬وخلت‬ ‫‪154‬‬


‫كثيرا لبيروت وهجروا األحالم بال قصائد‪..‬‬ ‫المقاعد من مثقفين حلموا ً‬ ‫نادرا في السماء‪ ،‬تقرأه‬ ‫هرب الناس من أحالمهم وبقى قمر لبنان ً‬ ‫تلمسان وعسقالن والجليل‪ ،‬كما تقرأه صيدا وبكفيا وبعبدا‪ ،‬حينها‬ ‫صارت القصائد لنا وحدنا في تلك الحانة المضوية في بيروت‪.‬‬ ‫* * *‬

‫دائما‬ ‫كان العجوز «ريمون» صاحب الحانة الحمراء العتيقة يراهن ً‬ ‫على صوت المثقف الذي يرتاد حانة اللوز في الليل‪ .‬وكان يعرف‬ ‫دائما للمستقر في‬ ‫كثيرا‪ ،‬هو السبيل ً‬ ‫أن العوز الذي ينتاب المثقفين ً‬ ‫حانته الصغيرة بليرات خجولة هي ثمن الوجع الذي يضعه اللبناني‬ ‫في جعة باردة من فيض سنابل األرض الدافئة‪.‬‬ ‫* * *‬

‫لم يزل الصبح بعيدً ا‪ ،‬والليل كان يأخذنا إلى بعيد‪ ،‬إلى جارة القمر‬ ‫التي نامت منذ قليل على رفيف الكالم‪.‬‬

‫غاب فينا الصوت الذي مأل الروح‪ ،‬حملتنا فيروز إلى أبعد من المكان‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أطفال عاشقين لألوطان‪ ،‬لعبنا مع البنات في ذاكرة تلك األيام‪ ،‬ومن‬ ‫ُعدنا‬ ‫وهج التوق رأيناها البياض الذي يكسو الليل بالنغمات‪ .‬حينها عاد زياد‬ ‫ناعما مع ضوء القمر‪!..‬‬ ‫إلى موسيقاه يبعث فينا كالم الليل الذي صار ينزل ً‬ ‫‪2009/9/9‬‬

‫‪155‬‬



‫كُتب صدرت للمؤ ِّلف‬ ‫الجدران ـ قصص قصيرة ‪.1978‬‬ ‫األفواه ـ قصص قصيرة ‪.1984‬‬ ‫الطاحونة ـ رواية ‪.1985‬‬

‫عالقة صغيرة ـ حكايات ‪.1985‬‬

‫أصابع في النار ـ قصص قصيرة ‪.1986‬‬

‫دراسات في األدب ـ مع آخرين ‪.1986‬‬ ‫خرائط الفحم ـ رواية ‪.1994‬‬

‫رصيف آخر ـ مقاالت ‪.1994‬‬

‫الغابة ـ قصص للصغار ‪.1996‬‬

‫ظالل نائية ـ قصص قصيرة ‪.1999‬‬

‫عودة الولد الصغير (حكايات من بنغازي) ‪.2004‬‬

‫حائط اليوم السابع (تأمالت في جهة الضوء) ‪.2005‬‬

‫أوراق في رياح الشرق (مقاالت في السياسة) ‪.2006‬‬



‫صدر في هذه السلسلة‬ ‫‪ 1‬ـ (قراءات في السلم والحرب)‪ ،‬عبدالمنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ (حبر المنفى)‪ ،‬عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ (خاليا نائمة)‪ ،‬محمود البوسيفي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ (أوراق تاريخية)‪ ،‬مختار الجدال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ (ما وراء الحجاب)‪ ،‬فتحي بن عيسى‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ (منفى)‪ ،‬ديوان شعر ـ عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية)‪ ،‬خالد الحراري‬

‫جو ْك)‪ ،‬قصائد محكية بلهجة ليبية‪ ،‬سالم العالم‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ ( َعلى ّ‬ ‫‪ 9‬ـ (موسوعة الجهل النسبي)‪ ،‬مقاالت‪ ،‬الصدِّ يق بودوارة‪.‬‬

‫‪ 10‬ـ (راهنية التأويل (‪-)2‬سؤال الكيان)‪ ،‬عبد المنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 11‬ـ (الدولة البيزنطية في ضوء إصداراتها القانونية)‪ ،‬خيرية فرج َحفالِش‪.‬‬ ‫‪ 12‬ـ (من الذاكرة)‪ ،‬حسين نصيب المالكي‪.‬‬

‫‪ 13‬ـ (اليد الواحدة)‪ ،‬عبدالباسط أبوبكر محمد‪.‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.