موسوعة الجهل النسبي

Page 1

‫يوزع هذا الكتاب مجان ًا‬ ‫مع العدد (‪ )9‬من مجلة املستقل‬





‫موسوعة الجهل النسبي‬ ‫مقاالت (‪)2015-2005‬‬

‫تأليف‪ :‬الص ِّديق بودوارة‬ ‫© جميع الحقوق محفوظة‬ ‫مجلة‬ ‫أسبوعية سياسية شاملة‬ ‫طبع في إبريل ‪2015‬‬ ‫مطابع األهرام‬ ‫جمهورية مصر العربية‬ ‫المدير الفني وتصميم الغالف‪ :‬سامح الكاشف‬ ‫اإلخراج الفني والتنفيذ‪ :‬أحمد نجدي‬


‫�إلـى ليـبـيـــا‪ ..‬طبـع ًـــا‪.‬‬



‫المحتويات‬ ‫ييش عفداه!! ‪9...........................................................................‬‬

‫الركن المسكوت عنها‪15.............................................................‬‬ ‫خطاب الذات المقهورة ‪23..........................................................‬‬

‫ناتاشيا والماخور!! ‪37.................................................................‬‬ ‫هوت ميل ‪41................................................................................‬‬

‫هل يود أحدكم؟! ‪47....................................................................‬‬

‫أسمحلي يا حاج!! ‪51..................................................................‬‬ ‫الحجاج بن يوسف‪ ..‬ونحن!! ‪55................................................‬‬ ‫الديمقراطية المروضة ‪59.............................................................‬‬

‫أيهما ديوان العرب؟!! ‪67............................................................‬‬ ‫الفتنة‪ ..‬حتى العطش ‪71...............................................................‬‬

‫المطب!!‪75.................................................................................‬‬ ‫أهال بالدكتاتورية!! ‪79.................................................................‬‬ ‫اقرأوا «جوستاف لوبون»‪83.........................................................‬‬

‫دكتاتورية المجاميع!! ‪87.............................................................‬‬


‫دين أبوهم يبقى إيه؟‪91................................................................‬‬

‫ربيع الحيوانات المنوية ‪95...........................................................‬‬ ‫ربيع الثورة أم ربيع الدولة؟!! ‪99..................................................‬‬

‫طاعة الدولة ودولة الطاعة ‪103.......................................................‬‬

‫طاغية لله يا محسنين ‪109...............................................................‬‬

‫طغاة الربيع العربي!! ‪113...............................................................‬‬ ‫عاجل‪ ..‬جدً ا ‪117...........................................................................‬‬

‫فضيحة اليهودي الطيب!! ‪121.......................................................‬‬ ‫قبيلة الخالص وخالص القبيلة ‪125...............................................‬‬

‫للكالب‪ ..‬فقط!! ‪129....................................................................‬‬ ‫ليلة عرس «روان» ‪131...................................................................‬‬

‫الثعالب ورأس الوطن!!‪135..........................................................‬‬

‫الخاسرون ‪141...............................................................................‬‬ ‫من قتل األحدب؟ ‪145...................................................................‬‬ ‫في حضرة الشيطان‪149................................................................ .‬‬ ‫حديث خرافة‪151....................................................................... ..‬‬

‫إلى المترددين‪ ..‬فقط!! ‪155...........................................................‬‬ ‫كيف حدث األمر؟! ‪159................................................................‬‬

‫ربما‪163.........................................................................................‬‬


‫يي�ش عفداه!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫فلسطينى من عرب ‪ 48‬يتحدث مع زميل له عن حاجز جديد أقامه‬

‫جيش االحتالل في مطلع الشارع‪ ،‬فيخبره أن هناك «مخصوم» جديد‬ ‫أقيم هذا الصباح‪ ،‬وعندها يؤكد له اآلخر أن هناك «مخاصيم» كثيرة‬

‫أيضا في شوارع أخرى‪.‬‬ ‫أقيمت ً‬

‫(‪)2‬‬

‫أم فلسطينية تحذر ابنها من الخروج ألنها سمعت من جارتها‬

‫أن هناك «سيجر» تم فرضه منذ ساعة واحدة فقط‪ ،‬و«سيجر» كلمة‬ ‫ً‬ ‫طويل وتعنى بالعبرية «منع تجول»‪.‬‬ ‫مريعة يعاني منها الفلسطينيون‬ ‫(‪)3‬‬

‫مجموعة من الفلسطينيين في إحدى القرى المحتلة يتحدثون عن‬ ‫‪9‬‬


‫إجراءات قسرية تم فرضها منذ يومين من قبل «المشمار جفول»‪ ،‬وهم‬

‫يعنون حسب الترجمة الحرفية لهذه الكلمة العبرية «حرس الحدود»‬ ‫(‪)4‬‬

‫عربي من نفس الشريحة يسأل ابنه متله ًفا عما إذا كان قد عثر على‬

‫عمل فيجيبه االبن محب ًطا «ييش عفداه»‪ ،‬وهو بذلك ال يمازح أباه‪،‬إنه‬

‫فقط يخبره بالعبرية أنه لم يجد ً‬ ‫عمل بعد‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫إبن فلسطيني يطلب من أبيه نقو ًد َا فيسأله «أين كيسف»‪ ،‬أي‪ ،‬هل‬

‫لديك ً‬ ‫مال‪.‬‬

‫(‪)6‬‬

‫يتحدثون في أمور عديدة‪ ،‬األوضاع متأزمة والحالة مشدودة‬

‫كخيط سنارة مثقلة‪ ،‬وإذا استرقت السمع فإنك ستسمع مفردات‬

‫غريبة عليك تما ًما‪« ،‬خيال» يبدو أنه سيطلق النار‪ ،‬و«شحرور» قد‬ ‫يناله إبن الحاجة‪ ،‬و«مركباه» تتجول اآلن بين المنازل‪ ،‬و«بجوع» وقع‬

‫منذ قليل في مستوطنة قريبة‪ ،‬و«مشترا» تحقق في األوراق الثبوتية‬

‫في الشارع هذه اللحظة‪.‬‬


‫(‪)7‬‬

‫مترجما‬ ‫وإذا كنت سعيد الحظ تلك اللحظة وصادف أنك تصحب‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫جمل من‬ ‫خبيرا في العبرية‪ ،‬فإنك ستعرف أن القوم ال يخترعون‬ ‫ً‬

‫عندهم‪ ،‬إنهم يتحدثون وبالترتيب عن «جندي» يبدو أنه سيطلق‬

‫النار‪ ،‬وعن «إفراج» قد يناله إبن الحاجة‪ ،‬وعن «دبابة» تتجول اآلن‬

‫بين المنازل‪ ،‬وعن «انفجار» وقع منذ قليل في مستوطنة مجاورة‪ ،‬وعن‬

‫«شرطة إسرائيلية» تحقق في األوراق الثبوتية هذه اللحظة‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫بعضا‬ ‫واآلن‪ ..‬ما الذي يعنيه كل هذا الواقع الذي سردت عليكم ً‬

‫من تفاصيله؟‬

‫(‪)9‬‬

‫اجتياحا آخر‪،‬‬ ‫إن الفلسطيني الذي يعيش تحت نير االحتالل يواجه‬ ‫ً‬

‫ليس بالميركافا هذه المرة‪ ،‬لكنه باللغة‪ ،‬فاللغة العبرية التي كانت إلى‬ ‫زمن قريب تصنف كإحدى اللغات الميتة‪ ،‬استيقظت اآلن‪ ،‬وكأي‬

‫ديناصور عاد إلى الحياة بعد سبات مليون سنة‪ ،‬بدأت في التهام ما‬ ‫تيسر من ثقافة وذاكرة عرب الداخل الذين تناساهم «عرب الخارج»‪،‬‬

‫والذين يخوضون مواجهة مريرة مع حياة يومية مرتبطة تما ًما بواقع‬ ‫احتالل مسيطر‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫(‪)10‬‬

‫إن الفلسطيني هناك مضطر إلى نبذ لغته العربية ً‬ ‫قليل عندما يتعلق‬ ‫األمر بانجاز معاملة رسمية أو التقدم لوظيفة إدارية‪ ،‬أو مخاطبة جنود‬ ‫االحتالل المنتشرين في كل زاوية من الوطن السليب‪ ،‬إن «اللغة»‬ ‫تصبح هنا «ميركافا» أخرى ال تخترقها الصواريخ هذه المرة‪ ،‬والعبرية‬ ‫التي شبعت موتًا تشبع اآلن حيا ًة وتجد ًدا عندما يبدأ الجميع هناك‬ ‫في االستعمال القسري لمفرداتها المتعددة بحكم اضطرارهم إلى‬ ‫معايشة الواقع اليومي‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫لن أقول إن الخطر قادم‪ ،‬ألنه وصل ً‬ ‫فعل‪ ،‬فلغة عرب ‪ 48‬و‪ 67‬في‬ ‫خطر‪ ،‬وهم تحت واقع احتالل يومي يضطرون إلى انتهاك لغتهم‬ ‫ليستعملوا لغة االحتالل‪.‬‬

‫ليست معرفة أن نشيد بالجهل‪ ،‬ولكن لزوم ما ال يلزم يقتضي منا‬ ‫أن نعترف أن الجهل هنا مسألة نسبية‪ ،‬إذ أن جهلنا بما يعانيه عرب‬ ‫االحتالل هو في نفس الوقت‪ ،‬وعلى جانبه اآلخر‪ ،‬معرف ًة مطلقة من‬ ‫المحتل بأن عليه أن يستمر في طرق حديده الساخن كي يتشكل مع‬ ‫األيام ذلك الجدار العازل الحقيقي‪ ،‬الجدار الذي ال يمكن للجرافات‬ ‫أن تهدمه‪ ،‬وال يمكن لقرارات الجمعية العامة لألمم المتحدة أن‬ ‫تطيح به‪ ،‬إنه جدار الهوية العازل‪ ،‬ولكن من يهتم اآلن‪ ،‬ومن سيتفرغ‬ ‫لعالج هذا الداء الذي أصبح اآلن ً‬ ‫فعل ماض ًيا ال لزوم للتعرض له‪،‬‬ ‫‪12‬‬


‫ال بالنصب وال غيره‪ ،‬فمن يتحدث اآلن عن عرب فلسطين وقد صار‬ ‫الحديث مبك ًيا على عرب ليبيا وعرب العراق وعرب اليمن‪ ،‬وهذا‬ ‫الخطر يحتاج إلى عمل من مجمع اللغة العربية العاطل عن العمل‬ ‫منذ وفاة المتنبي رحمه الله‪ ،‬أعنى بالعبرية (ييش عفداه)‪ ،‬ودمتم!!‬

‫‪13‬‬



‫الركن الم�سكوت عنها‬ ‫(‪)1‬‬

‫مجرد صفاء الجو‪ ،‬وخلو سماء عينيك من الغيوم‪ ،‬ال يعني وضوح‬

‫الرؤية‪.‬‬

‫أحيانًا تضطرب مفاهيمك‪ ،‬وتغيب عنك واضحات الحقائق‪،‬‬

‫وتحتاج في لحظة بعينها إلى أن ينير لك غيرك الدرب‪ ،‬كي ال تتمادى‬

‫في الخطأ‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫دائما ُيطرح نفس السؤال‪ ،‬ونحن نتابع «تسونامي» التجهم عبر‬ ‫ً‬

‫الفضائيات‪ ،‬ونراقب الوجوه العابسة وهي تشرعن للقسوة والشر‪ ،‬ثم‬

‫دائما تطرح‬ ‫تصنع من اإلسالم مشج ًبا تعلق عليه الرؤوس المقطوعة‪ً ،‬‬

‫عالم االستفهام نفسها‪ ،‬ويطل من جديد ذلك السؤال‪ :‬لماذا يحرص‬ ‫الكثيرون على إخفاء تعاليم الرحمة من أدبيات اإلسالم؟ وكيف تمكن‬ ‫‪15‬‬


‫سادة االستبداد الجدد من مواراة آيات المودة والرحمة والتعايش بين‬ ‫البشر؟ وباي قدرة خارقة استطاعوا أن يطمروا من كتب السيرة آالف‬ ‫الروايات عن قصص مذهلة للتراحم والتسامح بين الناس؟‬ ‫(‪)3‬‬

‫شرا مطل ًقا‪ ..‬أحيانًا نبني من جهلنا بيتًا نأوي إليه‪،‬‬ ‫«الجهل ليس ً‬ ‫نوقد نار التجاهل‪ ،‬ونتكيء على المباالتنا بكل شيء‪ ،‬أثناء ذلك‪،‬‬ ‫نعيش سعداء‪ ،‬إلى أن نتعلم من جديد‪».‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫شخص ًيا‪ ،‬اعترف لهؤالء «األشاوس» ٍ‬ ‫بقدر مذهلة على «التجهيل»‬ ‫ً‬ ‫تجهيل إجبار ًيا‪ ،‬إنهم «يجهلونك» باختيارك وبرضاك‬ ‫وليته هذه المر‬ ‫الكامل‪ ،‬والوسائل بال عدد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بمسابقة جائزتها األولى سيارة فارهة‪ ،‬أو يجهلونك‬ ‫قد يجهلونك‬ ‫ٍ‬ ‫بآخر اصدارات «آيفون»‪ ،‬وربما يجهلونك حتى بمجلد كامل من‬ ‫سلسلة «عالم المعرفة»‪ ،‬من قال إن المعرفة ال تكون أحيانًا طري ًقا‬ ‫ملونًا يقودك إلى الجهل؟‬ ‫(‪)4‬‬

‫ولكي ال تخدعنا جوائز السيارات الفارهة‪ ،‬وال آخر إصدارات‬ ‫اآليفون دعوني أخبركم شي ًئا عن ٍ‬ ‫مثال رائع للتعايش‪ ،‬لم يتطوع أحد‬ ‫‪16‬‬


‫المنظرين وجهابذة الكراهية بإخبارنا عنه ولو بنصف حرف‪ ،‬دعوني‬ ‫أخبركم شي ًئا عن «باقول الرومي «‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫نجارا بالمدينة‪ ،‬روى‬ ‫«باقول الرومي‪ ،‬مولى سعيد بن العاص كان ً‬ ‫عنه صالح مولى التوأمة‪« :‬أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم‬ ‫منبره‪ ،‬من طرفاء‪ ،‬ثالث درجات‪ :‬القعدة ودرجتيه»‪.‬‬ ‫أخرجه الثالثة‪ ،‬وقال أبو عمر‪« :‬إسناده ليس بالقائم‪».‬‬ ‫في «أسد الغابة في معرفة الصحابة «البن األثير نكتشف ـ بعد‬ ‫بصيصا‬ ‫أن نعرف أن «الطرفاء» هي نوع من خشب شجرة معينة ـ أن‬ ‫ً‬ ‫من النور يكمن هنا‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬في باب البا واأللف‪ ،‬وغاية بداية‬ ‫المعرفة هنا هو موت الجهل‪ ،‬ذلك الجهل الذي يحكم فيما يحكم‬ ‫باستعباد غيرنا من األمم‪ ،‬وهوانهم علينا‪ ،‬فهاهو رسول أمة اإلسالم‬ ‫وقد عاش معه في نفس المدينة نجار ماهر‪ ،‬فلم ير فيه سوى صاحب‬ ‫صنعة يمكن أن ينتفع الناس بصنعته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫لخطر يتهدده‪ ،‬ولم يدس له أحد على طرف‬ ‫لم يتعرض الرجل‬ ‫رداءه وال شرفه وال عقيدته‪ ،‬بل أن رسول األمة شخص ًيا يستعين به‬ ‫ليصنع له منبره الذي يخطب عليه للناس‪.‬‬

‫أحيانًا يزول جهلك‪ ،‬أو ينحني ً‬ ‫قليل لبصيص نور المعرفة‪ ،‬فقط‪،‬‬ ‫لو كنت راغ ًبا بأن يزول الجهل!!‬ ‫‪17‬‬


‫(‪)6‬‬

‫لكن «باقول» ليس وحده مثال التسامح في الموروث اإلسالمي‪،‬‬ ‫فأنت لو تحليت بروح التسامح في داخلك‪ ،‬فإنك توجد تتلمس‬ ‫بإحساسك تلك الرعشة الودوة التي تخبرك أن الكراهية هي ثقافة‬ ‫خراب‪ ،‬وأن الحقد والتوتر هما «سالح كيمياوي» يحرق جذور‬ ‫االبداع في صدرك‪ ،‬فهل يمكن لنا أن نحارب سالحك الكيماوي‬ ‫ٍ‬ ‫بقليل من الحديث الودود عن «سفيان بن حرب»؟‬ ‫البشع‬ ‫(‪)7‬‬

‫ٍ‬ ‫طريق مسدود‪ ،‬وأن‬ ‫من نهايات الجهل أن ينتهي بك اعتقادك إلى‬ ‫ترى في خصمك كائنًا ال نهائي العداوة‪ ،‬وأن تحتكم في عالقتك به‬ ‫إلى حد السيف وحده‪ ،‬وأن تمضي طوال عمرك في مشوار الكراهية‬ ‫هذا‪ ،‬غير أنك سترجع في نهاية المطاف خائ ًبا‪ ،‬وسوف تكتشف‬ ‫ذات يو ٍم بعد أن تخسر كل شيء‪ ،‬أن الطرق المسدودة ال تؤدي إلى‬ ‫ٍ‬ ‫طريق بعدها‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫وتمعن الكراهية في دهاليز الجهل‪ ،‬وتغفل عن حقيقة التاريخ التي‬ ‫تخبرها بكل مودة أن رسول اإلسالم شخص ًيا قد استعمل «سفيان بن‬ ‫ٍ‬ ‫حرب» على «نجران»‪ ،‬وواله الصالة والحرب‪.‬‬

‫إن رسول السماء لم يكن يصغي لثقافة البغض بأي حال‪ .‬فالسماء‬ ‫‪18‬‬


‫ٍ‬ ‫تمييز‪ ،‬ال تقيم للتعصب وزنًا‪ ،‬وال‬ ‫التي يمطر غيمها على الجميع بال‬ ‫تساوم الكائنات من تحتها بقطرات المطر‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫إن «معاوية بن أبي سفيان»‪ ،‬ورغم تاريخ والده الحافل في الحرب‬ ‫على الدين الجديد‪ ،‬آنذاك‪ ،‬يجد نفسه وقد استلم مهمة رسمية بالغة‬ ‫الخطورة‪ ،‬فلم ُيدرج اسمه ضمن قوائم «أزالم النظام السابق»‪ ،‬وال‬ ‫ضمن «فلول» الحزب المنحل‪ ،‬لقد كانت ثقافة التسامح تنتصر على‬ ‫حضورا من رغبة‬ ‫الكراهية‪ ،‬ربما ألن رغبة البناء كانت أصدق وأكثر‬ ‫ً‬ ‫االنتقام آنذاك‪.‬‬ ‫(‪)10‬‬

‫ً‬ ‫شاعرا يدعى «راشد‬ ‫سفيان‪،‬رجل‬ ‫ويوجه الرسول الكريم مع أبي‬ ‫ً‬ ‫بن عبدالله السلمي»‪ ،‬وحدث أن راشدً ا هذا وقع له أمر‪ ،‬فأنشد ابياتًا‬ ‫ذاع صيت أحدها‪ ،‬وهو ذلك الذي يقول‪:‬‬ ‫المسافر‬ ‫وألقت عصاها واستقر بها النوى ‪ /‬كما قر عينًا باإلياب‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مناسبة بعينها‪،‬‬ ‫حادثة تخصه‪ ،‬وفي‬ ‫أنشد «السلمي هذا البيت‪ ،‬في‬

‫لكن جهل من بعده بالمصداقية‪ ،‬ومعرفتهم بمعنى التقرب‪ ،‬وواسع‬ ‫علمهم بحكمة التزلف للقوي كي ال تنال منهم قوته‪ ،‬قدمت لنا نماذج‬ ‫تدعو للتأمل في فضيلة الجهل عندما ُيذعن لسلطان المعرفة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫بمقدار من الجهل كما استعمل هذا‬ ‫إن بيتًا في التاريخ لم ُيستعمل‬ ‫‪19‬‬


‫البيت‪ ،‬واألمثلة بال حصر‪ .‬وبيتًا من الشعر لم يحظ بتسامح المعنيين‬ ‫أيضا‪ ،‬فكيف نال هذا البيت كل هذا الكنز من‬ ‫به كما حظى هذا البيت ً‬ ‫نيل الرضى وافتعال السبب لكي تقر عين القلق‪ ،‬وتهدأ ثائرة المتشائم‪،‬‬ ‫وتلين قناة المضطرب؟‬ ‫(‪)11‬‬

‫يخبرنا «أبو الفرج الرومي» أن الخليفة السفاح كان يخطب يو ًما‬ ‫موقف محرج بال شك‪ ،‬يتطير منه‬ ‫على المنبر‪ ،‬فسقطت منه العصا‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫األحباب‪ ،‬ويتشاءم من حدوثه األعوان‪ ،‬وتنشرح له صدور الكارهين‪،‬‬ ‫لكن المعرفة الواسعة بجدوى الجهل تنقذ الموقف‪ ،‬إن أحد أفراد‬ ‫القطيع يقف فجأة وينشد البيت المسكين‪:‬‬ ‫المسافر‪.‬‬ ‫وألقت عصاها واستقر بها النوى ‪ /‬كما قر عينًا باإلياب‬ ‫ُ‬ ‫هذا مثل من أمثلة‪ ،‬ولنأت إلى الثاني قبل أن نغادر بيت القصيد‪..‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫«عبد الملك بن مروان»‪ ،‬يرسل «قتيبة بن مسلم» وال ًيا على‬ ‫مفتتحا‬ ‫خراسان‪ ،‬فيدخل الوالي الجديد مسجد المدينة ويصعد المنبر‬ ‫ً‬ ‫عهده مع الوالية‪ ،‬وأثناء ذلك تسقط من يده العصا‪ ،‬فيبدأ الهمس‪،‬‬ ‫ويتداول بين الحضور الغمز واللمز‪ ،‬يبدو أن العصى المتساقطة‬ ‫ال تخشع للوالة كما ينبغي‪.‬‬ ‫لكن المعرفة القديمة تستيقظ من جديد‪ ،‬هنا‪ ،‬يسميها البعض‬ ‫‪20‬‬


‫سرعة البديهة‪ ،‬متجاهلين أنها عالمة ومبعوث خفي للحاكم كي‬ ‫ال يستبد‪ ،‬ولكن‪ ،‬من يقرأ العالمات التي تأتي بها عصا تسقط فجأة‬ ‫من يد صاحبها؟ إن «قتيبة» يتدارك األمر‪ ،‬ويعالج موقفه المحرج‬ ‫بمجرد ٍ‬ ‫بيت من الشعر‪ ،‬هو ذاته نفس البيت‪:‬‬

‫المسافر‪.‬‬ ‫وألقت عصاها واستقر بها النوى ‪ /‬كما قر عينًا باإلياب‬ ‫ُ‬

‫ٍ‬ ‫جهل نستلذ به كالخدر‬ ‫يا سرعة البديهة‪ ،‬كم تسرعين أحيانًا نحو‬ ‫قبل نو ٍم طويل!!‬ ‫(‪)13‬‬

‫ولكن‪ ،‬هل كانت هذه «الحيلة اللفظية» ستجدي لو أن الصدور‬ ‫خلت من مودة القبول ونية البعد عن التطير‪ ،‬وإحساس التجاوز‬ ‫وتهوين العظيم من النوازل؟ ال اعتقد‪ ،‬ولكم في ما يحدث اليوم ما‬ ‫ال ُيحصى من العبرة والدروس‪.‬‬

‫‪21‬‬



‫خطاب الذات المقهورة‬ ‫(‪)1‬‬

‫العصر الذهبي للعصر العباسي‪ ،‬وبغداد تموج بما يعقل وما‬

‫ال ُيعقل‪ ،‬ثقافات وافدة وعقائد تتكلم لغة الفلسفة‪ ،‬وفلسفة تراود‬

‫الدين عن نفسه‪ ،‬وقصور تترع بكل شئ وال تفتقر إال إلى لحظة سكون‪.‬‬ ‫في خضم هذا الضجيج الحضاري كان المدعو «زيد بن الجون»‬

‫الشهير بأبي دالمة‪ ،‬قد دخل ذات يو ٍم على المهدي خليفة المسلمين‪،‬‬ ‫ووجد عنده كبار قواده ووجوه القوم آنذاك‪ ،‬وألن الجلسة الملوكية‬

‫كانت تستلزم بعض المرح المقدس فقد شاءت اإلرادة العليا لخليفة‬

‫أمرا ال ُيرد لتابعه‬ ‫المسلمين أن يعالج الملل باالبتكار‪ ،‬فكان أن أصدر ً‬

‫ومهرج قصره «أبا دالمة» بأن يهجو أحد الحاضرين في القاعة الملكية‬ ‫العامرة‪.‬‬

‫‪23‬‬


‫(‪)2‬‬

‫تطلع الشاعر المهرج إلى من حوله‪ ،‬بحث عن شخصية يمكن‬

‫وجوها تنطق بالخطر وتنذر من يلهو معها‬ ‫المزاح معها‪ ،‬لم يجد إال‬ ‫ً‬ ‫بالشر المبين والهالك الذي ال صالح بعده‪.‬‬

‫ال شك أن المسكين رأى آنذاك كبار رجال المخابرات ومدراء‬

‫أجهزة أمن الدولة ووزراء األمر الواقع وحكام األقاليم البعيدة‬

‫والقريبة‪.‬‬

‫أيضا يمكن أن‬ ‫ال شئ يمكن اللهو معه في هذا المكان‪ ،‬وال شئ ً‬

‫يجد له العذر ألنه لم ينفذ أمر المهدي‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫عندها‪،‬تفتق الذهن عن فكرة‪ ،‬ومضة ابتكار ناجمة عن لحظة عجز‪،‬‬

‫فقد قرر «أبو دالمة» أن يهجو الشخصية الوحيدة التي ال يمكن لها أن‬

‫تبادله الهجاء‪ ،‬وأن ينكّل بالوجه الوحيد الذي ال يمكن له أن ينكل به‪.‬‬ ‫لقدر قرر «أبو دالمة» أن يهجو نفسه‪ ،‬فكانت هذه األبيات‪:‬‬ ‫أال أبلغ إليك أبا دالمة‬

‫فليس من الكرام وال كرامة‬

‫إذا لبس العمامة كان قر ًدا‬

‫وخنزيرا إذا نزع العمامة‬ ‫ً‬ ‫فال تفرح فقد دنت القيامة‬

‫فإن تك قد أصبت نعيم دنيا‬ ‫‪24‬‬


‫(‪)4‬‬

‫إلى هذا الحد انتهت الحكاية التي أفردت لها كتب التراث مكانًا‬ ‫الئ ًقا في كل مرة‪ ،‬انتهت الحكاية وضحكت الوجوه‪ ،‬ورضت مشيئة‬ ‫الحاكم على المحكوم‪ ،‬لكن هذه الحكاية بالذات تطرح ً‬ ‫مهما‬ ‫سؤال ً‬ ‫عن العجز عندما يصبح داف ًعا لالبتكار‪ ،‬وعن قلة الحيلة عندما تدفع‬ ‫عاجزا عن عض اآلخرين‪.‬‬ ‫بالتمساح إلى أن يعض فكيه مادام‬ ‫ً‬ ‫(‪)5‬‬

‫عاجزا عن هجاء من هم حوله‪ ،‬فهل‬ ‫لقد هجا صاحبنا نفسه ألنه كان‬ ‫ً‬ ‫تحول العرب في آخر مطاف هزيمتهم إلى «أبي دالمة» العصر الحديث؟‬ ‫(‪)6‬‬

‫ما دفعني إلى استحضار ذلك المشهد القديم هو ما يحدث بين‬ ‫ٍ‬ ‫تناحر بين «العشائر» السياسية والعسكرية العربية‪،‬‬ ‫الحين واآلخر من‬ ‫ألنها كانت عاجزة عن التناحر مع عدوها الخارجي‪ ،‬ولعل الذاكرة‬ ‫ٍ‬ ‫حدث مر آنذاك مرور الكرام‪،‬‬ ‫تعود بنا قبل هذا الربيع المشبوه إلى‬ ‫لكنه كان ناقوس خطر لم يسمع به أحد‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫إنها تلك الحرب الضروس التي دارت بين بلدين عربيين بسبب‬ ‫مباراة كرة قدم‪.‬‬ ‫‪25‬‬


‫(‪)8‬‬

‫البلدان هما مصر والجزائر‪ ،‬والحدث كان قبل ثورات الربيع‬

‫العربي التي طالت مصر وتونس وليبيا‪ ،‬وقتها‪ ،‬تعامل الجميع مع‬

‫الحدث على أنه مجرد مشكلة وقعت بسبب كرة القدم‪ ،‬لكن القليل‬

‫أدرك المعنى الخفي‪ ،‬وقرأ جيدً ا ما بين السطور‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫كانت ردة الفعل آنذاك بالغة العنف‪ ،‬ولم نكن ندري أنها كانت‬

‫مجرد سيناريو لما سوف يحدث بعد سنوات‪ ،‬عندما ستندلع الكراهية‬

‫بين األشقاء األخوة في اليمن‪ ،‬وفي ليبيا‪ ،‬وفي العراق‪.‬‬

‫مبكرا‪ ،‬لكن أحدً ا منا لم ينتبه وقتها‬ ‫إن «أبا دالمة» يهجو نفسه‬ ‫ً‬

‫لحقيقة األمر‪.‬‬

‫(‪)10‬‬

‫واآلن وقد هدأ قرع الطبول وترجل فرسان تلك الحرب القديمة‬

‫عن صهوات جيادهم منذ زمن‪ ،‬هل تسمحون لي اآلن أن أناقش على‬ ‫مهل ما حدث ولو بعد ٍ‬ ‫حين من الزمن؟‬ ‫درسا رسبنا جمي ًعا في امتحانه السهل‪،‬‬ ‫أعرف أني أذاكر معكم ً‬

‫ولكن‪ ،‬ال مفر أحيانًا من قراءة التاريخ مرتين‪.‬‬ ‫‪26‬‬


‫(‪)11‬‬

‫ٍ‬ ‫لطرف ضد‬ ‫سأراجع ما حدث‪ ،‬ليس من موضع تعصب أو انحياز‬ ‫ٍ‬ ‫لحدث تاريخي‪ ،‬بمعنى أن تاريخ‬ ‫آخر‪ ،‬ولكن من زاوية تحليل تاريخي‬ ‫العرب الحديث قد سجل تفاصيل هذه «االشتباك العنيف» بالنص‬ ‫والصوت والصورة‪ ،‬فال مجال إذن إلنكار واقعة الخالف الكبير هذه‪،‬‬ ‫وال ضرر من مناقشتها بهدوء وبالكثير من التعقل على غير عادتنا في‬ ‫مثل هذه المواقف‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫كان البلد األول هو الجزائر‪ ،‬الذي عانى لفترة طويلة من حرب‬ ‫أهلية ضروس سببها هيمنة الجماعات اإلسالمية المتشددة على‬ ‫مناطق ظلت بعيدة عن قبضة السلطة لفترة طويلة‪ ،‬تحولت فيها‬ ‫الجزائر إلى بلد غير آمن شهد العديد من المجازر المؤلمة التي راح‬ ‫العزل األبرياء‪.‬‬ ‫ضحيتها اآلالف من ّ‬

‫هذه األحداث الدموية عادت بالسلب على االقتصاد الجزائري‪،‬‬ ‫وعلى الواقع السياسي المعاش‪ ،‬وأضرت بالنسيج االجتماعي هناك‪،‬‬ ‫واحتاج الجزائريون إلى وقت طويل لتعود األمور إلى ما كانت عليه‬ ‫جبارا الجتياز النفق المظلم الذي مرت به البالد‪.‬‬ ‫باذلين جهدً ا ً‬

‫ال أحد بإمكانه أن ينكر قدرة أبناء البلد الذي بذل مليونًا من الشهداء‬ ‫على مذبح حريته على اجتياز نفقه‪ ،‬ولكن هذا النفق بالذات‪ ،‬وحسب‬ ‫تقارير االقتصاديين‪ ،‬خلق حقائق مرة من بينها أن إنتاجية القطاع‬ ‫‪27‬‬


‫الصناعي في عام ‪ 2006‬هي ذاتها نفس اإلنتاجية في عام ‪ ،1983‬وأن‬ ‫اعتماد االقتصاد الوطني على قطاع النفط وحده اليزال يشكل تلك‬ ‫دائما بأن ثمة وطن كامل يتكئ‬ ‫النسبة السحرية ‪ % 98‬والتي توحي ً‬

‫على عكاز المحروقات والشئ غيره‪ ،‬هذا إذا لم نتطرق إلى مشاكل‬

‫البطالة والتمويل وضعف الرأسمال البشري‪.‬‬ ‫(‪)13‬‬

‫كل هذا يؤكد أن اآلثار السلبية لحرب «العشرية السوداء» لم تنته‬

‫بعد‪ ،‬فهذه الحرب التي بدأت في عام ‪ 1992‬على إثر مسألة االنتخابات‬

‫الشهيرة‪،‬وفرخت في تداعياتها عشرات الجماعات والتكوينات‬ ‫ّ‬ ‫ٍ‬ ‫المسلحة‪ ،‬التي لوثت التاريخ السياسي الجزائري بعنف طرزته‬ ‫المجازر الدموية التي انتهكت حرمة األجساد‪،‬فكان مثلث الموت في‬

‫البليدة والعاصمة‪،‬وكان الضحايا من مختلف التركيبات االجتماعية‬

‫في البالد‪.‬‬

‫(‪)14‬‬

‫ولم تستسلم الجزائر كعادتها‪ ،‬قاومت كبوتها ونهضت من جديد‪،‬‬

‫فبعد جهود «اليمين زروال»‪ ،‬كانت مساعي «بوتفليقة» قد نجحت في‬

‫إيجاد صيغة للحوار الوطني استوعبت كل التناقضات‪ ،‬لكن هموم‬

‫الحاضر ظلت متعلقة بمحاوالت مستميتة لحل مشاكل الماضي‪،‬وما‬

‫أكثر مشاكل ما مضى‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫(‪)15‬‬

‫الجزائر ليست مجرد رواية طويلة للعنف السياسي‪،‬فهذه صفحة‬ ‫طويت‪ ،‬لكن إرادة اإلصالح ال تنفي هيمنة معضالت اقتصادية‬ ‫واجتماعية وعالمات استفهام كبيرة تتعلق باإلدارة والتنمية‪.‬‬ ‫(‪)16‬‬

‫كلها خيوط كتان تشد إلى الوراء وتفرض قدرة جبارة على السير‬ ‫أيضا بوادر انفراج‬ ‫بعكس االتجاه‪ ،‬لكنها ليست كل شئ‪ ،‬ففي الجزائر ً‬ ‫كبيرة ودوائر ضوء تبدد الوحشة وتبعث على التفاؤل‪.‬‬ ‫(‪)17‬‬

‫هذا عن الوضع في الجزائر في تلك الفترة‪ ،‬فماذا عنه في مصر‬ ‫آنذاك؟‬

‫هناك‪ ،‬يبدو الواقع السياسي أكثر صخ ًبا‪ ،‬فالعنف هنا ليس دمو ًيا‬ ‫بقدر ماهو عنف الحوار إذا صح التعبير‪ ،‬فسؤال التوريث كان مازال‬ ‫مطروحا‪ ،‬وتيارات المعارضة كانت تشهر صحفها في وجه محاوالت‬ ‫ً‬ ‫هيمنة الحزب الوطني على الساحة‪،‬ومشاكل البلد االجتماعية لم تكن‬ ‫تعني فقط وجود أكثر من مليوني طفل في الشوارع مشكلين ظاهرة‬ ‫مقيتة تعارف الرأي العام على تسميتها بظاهرة أطفال الشوارع التي‬ ‫تؤكدها إحصائيات اإلدارة العامة للدفاع االجتماعي مشير ًة إلى زيادة‬ ‫حجم الجنح المتصلة‪ ‬بتعرض أطفال الشوارع النتهاك القانون‪ ،‬حيث‬ ‫‪29‬‬


‫كانت أكثر الجنح هي السرقة بنسبة ‪ ،% 56‬والتعرض للتشرد بنسبة‬ ‫‪ ،% 16.5‬والتسول بنسبة ‪ ،% 13.9‬والعنف بنسبة ‪ ،% 5.2‬والجنوح‬ ‫بنسبة ‪..% 2.9‬‬ ‫(‪)18‬‬

‫«مصر التي في خاطري»‪ ،‬الغنية بمبدعيها ورموزها الثقافية واألدبية‬ ‫أيضا من مشكلة بطالة‬ ‫والسياسية وحضارتها العظيمة‪ ،‬كانت تعاني ً‬ ‫تطال أكثر من ثالثة ماليين مواطن أكثر من نصفهم من الشباب‪ ،‬وتعاني‬ ‫من اقتصاد عانى من االنتقاالت الغير محسوبة من النهج االشتراكي‬ ‫إلى االنفتاح المطلق على سوق رأسمالية‪.‬‬ ‫(‪)19‬‬

‫البطالة تستلزم الفقر‪،‬والفقر مالزم لظروف مجتمع يعاني من تزايد‬ ‫مضطرد في عدد سكانه مع عدم تناسب في تزايد فرص العمل‪ ،‬أثناء‬ ‫ذلك يضطرم الحراك الفكري ويزداد الجدل السياسي ويتكلم الجميع‬ ‫في وقت واحد دون أن يستمع أحد إلى اآلخر‪.‬‬ ‫(‪)20‬‬

‫هذه خارطة مختصرة للبلدين‪ ،‬لم أكن أقصد هنا أن أتشاءم‪ ،‬فقدرة‬ ‫الفعل في مصر بألف خير‪ ،‬ومحاوالت المصريين ال تتوقف في جهد‬ ‫صادق لإلصالح رغم العقبات‪ ،‬لكن الداخل هنا كان يموج بكل شئ‪،‬‬ ‫‪30‬‬


‫وكان الخارج يتربص بمؤسساته القوية‪ ،‬وبالحذر الممزوج بالعداء‬ ‫مع إسرائيل‪،‬الجار المعدني المدجج‪.‬‬ ‫(‪)21‬‬

‫برميل من البارود هنا‪،‬وآخر هناك‪ ،‬مشاكل عديدة‪،‬وحلول‬ ‫مؤجلة‪،‬وكأن هذه المباراة كانت اإلذن المنتظر لوالدة انفجار كبير‬ ‫ٍ‬ ‫قال‪،‬واد كامل من الصراخ كان ينبغي له أن‬ ‫يقال فيه ما ال يمكن أن ُي‬ ‫يكون‪ ،‬إن أبادالمة يريد اآلن أن يهجو‪ ،‬ولكنه ال يهجو إال نفسه في‬ ‫نهاية المطاف‪.‬‬ ‫(‪)22‬‬

‫في المباراة األولى التي أقيمت في الجزائر لم يكن ثمة ما ُيذكر‪،‬‬ ‫فقط أذكر حالة تسمم غذائي أشارت إليها وسائل اإلعالم المصرية‬ ‫كثيرا في ظل تغير ظروف‬ ‫والجزائرية على استحياء‪ ،‬وهي حالة تحدث ً‬ ‫السكن واختالف الوجبات الغذائية‪.‬‬ ‫(‪)23‬‬

‫التداعيات بدأت في التشكل قبل المباراة الثانية في مصر‪ ،‬حيث‬ ‫بدأ اإلعالم المصري القوي (داخل ًيا) في حملة مرئية ومسموعة هائلة‬ ‫لشحن الالعبين والجمهور م ًعا‪ ،‬الحملة كانت أقوى من أن يحتملها‬ ‫وعي الجمهور حتى أنها ذكرتني بتلك الحملة اإلعالمية المشؤومة‬ ‫‪31‬‬


‫التي تورط فيها اإلعالم العربي قبل حرب ‪ ،67‬وقتها رمينا باليهود في‬ ‫البحر‪ ،‬وحررنا فلسطين ألف مرة‪ ،‬فعلنا ذلك قبل حتى أن تبدأ الحرب‪.‬‬ ‫(‪)24‬‬

‫الهائل‪،‬وفورا‬ ‫في الجزائر انتبه اإلعالم إلى هذا الضخ اإلعالمي‬ ‫ً‬ ‫بدأت صحيفتا «الهداف» و»الشروق» حملة مضادة‪.‬‬ ‫(‪)25‬‬

‫نقطة مهمة لم ينتبه إليها سدنة اإلعالم المصري‪ ،‬وهي أن اإلعالم‬ ‫الجزائري هو إعالم تعبوي بطبيعته‪ ،‬أكثر منه إعالم مهني‪ ،‬زادت من‬ ‫قيمته التعبوية الداخلية أحداث الحرب األهلية التي دارت هناك‪،‬‬ ‫وفورا بدأت المشاعر تتحفز هنا وهناك‪ ،‬كل هذا ولم ينتبه أحد من‬ ‫ً‬ ‫الدوائر الحكومية وال من المثقفين وال من دوائر الفن والمؤسسات‬ ‫االجتماعية والتربوية إلى ما يحدث‪ ،‬ال أحد دق ناقوس الخطر‪ ،‬بل‬ ‫أن الكل انساق وراء طبول الحرب‪،‬وولد فجأة ألف «يونس بحري»‬ ‫جديد‪ ،‬ويو ًما بعد يوم كانت كرة الثلج تكبر‪،‬لكن مساحة العمى كانت‬ ‫أكبر من أي كرة ثلج في العالم‪.‬‬ ‫(‪)26‬‬

‫أقبل موعد المباراة الثانية‪ ،‬ولم يكن المشجعون المصريون الذين‬ ‫أحاطوا بحافلة المنتخب الجزائري إال ضحايا آللة اإلعالم الضخمة‬ ‫‪32‬‬


‫التي غسلت أدمغتهم طيلة شهر كامل‪ ،‬وعبأتهم بفكرة واحدة‪ ،‬مصر‬ ‫ستتأهل لكأس العالم‪ ،‬كبديل عن العجز في حل مشاكل اإلسكان‬ ‫والبطالة والجريمة واالقتصاد وحوار المعارضة والحكومة الذي‬ ‫ال يتوقف‪.‬‬ ‫(‪)27‬‬

‫وقعت إذن حادثة األوتوبيس المشهورة‪ ،‬وأصيب العبون‬ ‫جزائريون‪ ،‬وهنا بالذات كان على المسؤولين في مصر أن يتدخلوا‬ ‫للجم أفواه بعض اإلعالميين الذين تفننوا في إثارة مشاعر الشارع‬ ‫بصورة غير مدروسة‪ ،‬لكن شي ًئا من هذا لم يحدث‪.‬‬ ‫(‪)28‬‬

‫في الجزائر اندلعت النار‪ ،‬واندفع سيل الحمالت اإلعالمية الشرسة‬ ‫في االتجاه المضاد‪ ،‬واشتعلت صفحات الصحف بالعناوين النارية‪،‬‬ ‫وتدهورت لغة الخطاب إلى مستوى ال عالقة له بأخالقيات المهنة‪،‬‬ ‫إن «ابادالمة» يهجو اآلن نفسه لكن أحدً ا ال يهتم للكارثة‪.‬‬ ‫(‪)29‬‬

‫انتهت المباراة‪ ،‬وكان لزا ًما على الفريقين (اللذان تحوال إلى‬ ‫جيشين بفعل اإلعالم) أن يلعبا مباراة أخرى في السودان‪ ،‬وهناك كان‬ ‫الفوز للجزائر‪ ،‬وهنا بالذات وقع اإلعالم المصري في مأزق حقيقي‪،‬‬ ‫‪33‬‬


‫لقد عبأ الناس طيلة دهر كامل من أجل الوصول إلى كاس العالم‪،‬‬

‫ورقص رقصة الفرح قبل أن تحضر العروس‪ ،‬فماذا سيحدث اآلن؟‬

‫مشابها‬ ‫وبأي وجه سيقابل مشاهديه بعد أن تبدد الحلم؟ كان هذا وض ًعا‬ ‫ً‬

‫تما ًما لوضع اإلعالم العربي بعد النكسة‪ ،‬فكيف سارت األمور؟‬ ‫(‪)30‬‬

‫أعلنت الحرب‪ ،‬وكعادة أي إعالم مكابر‪ ،‬كان الشعار هو أننا‬

‫لم نهزم‪ ،‬واستعمل اإلعالم المصري نقطة قوته الكبرى المتمثلة في‬ ‫القنوات الفضائية الكثيرة التي يهيمن عليها بفضل قمره الصناعي‬

‫كنت استثني بعض االعالميين الذين تعاملوا مع‬ ‫(النايل سات)‪ ،‬وإن ُ‬

‫المشكلة بشكل حضاري ومسؤول‪ ،‬فيما أدرك اإلعالم الجزائري أن‬ ‫قوته ليست على الفضائيات بقدر ماهي على شبكة (النت) وشبكة‬ ‫عالقات قوية في أوروبا‪ ،‬إن كل طرف يشهر سالحه فلمن كانت‬

‫الغلبة؟‬

‫(‪)31‬‬

‫حرب أهلية عربية؟‪ ،‬لقد لفنا الذهول ونحن نراقب الموقف‬

‫آنذاك‪ ،‬لغة خطاب انفلتت من عقالها‪ ،‬في الجزائر كانت الالعقالنية‬

‫في التهجم‪ ،‬وفي مصر قاد الالعبون المعتزلون برامج مباشرة جنحت‬ ‫نحو تمجيد الذات على حساب الحط من مكانة اآلخر‪.‬‬ ‫‪34‬‬


‫(‪)32‬‬

‫الكل كان على خطأ‪ ،‬فلغة الخطاب المسفة لم تكن تثير إال طبقة‬

‫المسحوقين بتأثير الفقر واألوضاع االجتماعية الصعبة‪ ،‬وهؤالء‬

‫يصعب التحكم بعد ذلك بردود أفعالهم‪ ،‬أما تمجيد الذات والتعالي‬

‫على اآلخرين فلم ينتج في نهاية المطاف إال حالة من الرفض‬ ‫واالستياء طالت الكثيرين من النخب المتزنة سوا ًء في مصر أو‬

‫الجزائر‪.‬‬

‫(‪)33‬‬

‫أثرا عتي ًقا في متحف تاريخ‬ ‫واآلن‪ ،‬وقد أصبحت تلك الحادثة ً‬

‫العرب وخف إيقاع الطبول وخفتت األصوات‪،‬هل يمكن لنا أن‬ ‫نسأل عما إذا كان العرب قد تعلموا الدرس آنذاك؟‬ ‫(‪)34‬‬

‫هل تعلمنا آنذاك أن اإلعالم لعبة خطرة ينبغي أن ال توضع في‬

‫أيدي من كانوا يلعبون بأقدامهم؟‬

‫وهل تعلمنا أن للصحافة لغة مهمتها أن ترتقي بالقارئ الى مستوى‬ ‫رفيع ً‬ ‫بدل من أن تنحدر هي إليه؟‬ ‫وهل تعلمنا أن خطاب «الذات العلية» هو فعل غير محسوب‬

‫لن ينتج عنه اال المزيد من الرفض لهذه الفكرة بالذات؟‬ ‫‪35‬‬


‫آخرا‪ ،‬هل أدرك «أبودالمة» أن هجاءه لنفسه لن يجنبه‬ ‫وأخيرا وليس ً‬ ‫ً‬ ‫هجاء اآلخرين له واو حاز على رضى الخليفة؟‬ ‫(‪)35‬‬

‫ال اعتقد أن أحدً ا تعلم الدرس‪ ،‬والدليل هو ما يحدث اآلن‪ ،‬ال زال‬ ‫«أبو دالمة» يهجو نفسه حتى هذه اللحظة‪ ،‬لكن الفارقة انه لم يعد‬ ‫يهجو نفسه في مصر وال في الجزائر‪ ،‬بل انه يمعن في هجاء وجهه‬ ‫في ليبيا والعراق واليمن!‬

‫‪36‬‬


‫ناتا�شيا والماخور!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫«ناتاشيا» فاتنة روسية ذات أصول من القوقاز‪ ،‬بيضاء كالحليب‪،‬‬ ‫طويلة كليلة فقير مدقع‪ ،‬وجميلة كالجمال نفسه‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫«ناتاشيا» تبحث عن عمل لتعيل اسرتها‪ ،‬وألن السيد «غورباتشوف»‬ ‫كان قد فتح على بالده نافذة «البيروسترويكا» الباردة ومضى لينعم‬ ‫بالدفء في بيته‪ ،‬فإن فرص العمل تكاد تكون معدومة لكن إعالنًا‬ ‫عابرا يستوقف البنت ذات الضفائر الحريرية المتوهجة بلون الذهب‪.‬‬ ‫ً‬ ‫(‪)3‬‬

‫«فرصة عمل»‪ ،‬يقول اإلعالن المعلق على باب ماخور‪« :‬مطلوب‬ ‫عارضات أزياء أو نادالت للخدمة في المطاعم أو موظفات استقبال‬ ‫في الفنادق‪».‬‬ ‫تبتهج «ناتاشيا» وتمضى أكثر في قراءة اإلعالن‪:‬‬

‫«المكان‪ ،‬إسرائيل‪ ،‬الشرق األوسط‪ ،‬حيث الطبيعة مغرية والجو‬ ‫دافئ‪ ،‬والشمس تشرق طول العام‪».‬‬ ‫‪37‬‬


‫(‪)4‬‬

‫« ُفرجت»‪ ..‬تهمس الجميلة لشعرها المتطاير مع نسمة هواء عابرة‪،‬‬ ‫وتذهب إلى العنوان المدون على الورقة المعلقة على باب ماخور‪،‬‬ ‫وتلتقي بالمئات غيرها‪ ،‬ويتحول المكتب الحقير المتسخ ببقايا أوراق‬ ‫اليانصيب وزجاجات البيرة الفارغة وفضالت البيتزا المرمية هنا‬ ‫وهناك‪ ،‬يتحول في غمضة عين إلى مجمع للحوريات الفاتنات‬ ‫اللواتي يوقعن على الفور على شيكات وسندات مالية وتعهدات‬ ‫بسداد قيمة تذاكر السفر ورسوم التأشيرة‪ ،‬لتجد نفسها بعد أسبوع‬ ‫واحد فقط في «أرض الميعاد»‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫هناك تبدأ القصة‪ ،‬أو بمعنى آخر تنتهي‪ ،‬ألن «ناتاشيا» الجميلة‬ ‫التي قرأت ذات يوم إعالنًا مغر ًيا يدعوها للعمل في إسرائيل كموظفة‬ ‫استقبال‪،‬تجد نفسها فجأة وقد صودر منها جواز سفرها و ُأجبرت‬ ‫على عمل لم يكن يخطر لها ببال‪ ،‬إنها تعمل اآلن كفتاة ليل في‬ ‫إحدى مواخير «أرض الميعاد»‪ ..‬ألم تقرأ اإلعالن المشؤوم على‬ ‫باب ماخور؟؟!‬ ‫(‪)6‬‬

‫إنها تُجبر اآلن على ممارسة الدعارة والترفيه عن «جنود الرب»‬ ‫المنشغلين طيلة النهار بالجري وراء أطفال المخيمات‪ ،‬ومن مكانها‬ ‫‪38‬‬


‫قصصا‬ ‫الجديد على سرير أحدهم تسمع «ناتاشيا» إبنة القوقاز‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ال تُصدق عن قنابل الغاز‪ ،‬وخارطة الطريق‪ ،‬وغزة‪ ،‬واالستشهاد‬ ‫والعبوات الناسفة‪ ،‬وحائط المبكى‪ ،‬والجدار العازل‪،‬والرصاص‬ ‫المطاطي‪.‬‬

‫جدارا ً‬ ‫عازل يفصلها‬ ‫وتشعر «ناتاشيا» باالختناق‪ ،‬وتحس وكأن‬ ‫ً‬ ‫عن ما حولها‪ ،‬وترجع بذاكرتها إلى الوراء مسترجعة ما كُتب على‬ ‫باب الماخور عن «الطبيعة المغرية والجو الدافئ‪ ،‬والشمس التي‬ ‫تشرق طول العام»‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫مومسا‪ ،‬لكن مافيا الرقيق األبيض‬ ‫وترفض «ناتشيا» أن تكون‬ ‫ً‬ ‫ال تفرط في ممتلكاتها‪ ،‬ألن «ناتاشيا» وببساطة تدر على هذه المافيا‬ ‫عائدات تصل إلى ألف دوالر يوم ًيا مقابل إسعاد وتلبية رغبات أكثر‬ ‫من عشرين ً‬ ‫رجل في اليوم‪ ،‬وبعملية حسابية بسيطة نجد أن «ناتاشيا»‬ ‫ورفيقاتها يمثلن العمود الفقري القتصاد منظـومة الرقيـق األبيض‬ ‫التـي تتكفـل بإمــداد «أرض الميعاد» بمئات اآلالف من «ناتاشيا»‬ ‫اللواتي ُيذبحن تحت أقدام «النموذج الديمقراطي اآلمن» كما تروج‬ ‫له دعاية الغرب اآلن‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫تسألون عن «ناتاشيا»؟‪ ،‬لقد حاولت الهرب‪ ،‬لكن مدير الماخور‬ ‫‪39‬‬


‫متسلحا بقوة «قانون حقوق اإلنسان» وحلق شعرها‬ ‫قبض عليها‬ ‫ً‬ ‫الطويل ثم باعها‪،‬كأي عبد‪ ،‬لماخور آخر بمبلغ تجاوز الخمسة عشر‬ ‫ألف دوالر‪ ،‬بعد أن حولها إلى مدمنة على الحبوب المهدئة ثم عرفها‬ ‫على كل مخدرات «العالم الجديد»‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫هذه باختصار حكاية مؤسفة عن تجارة الرقيق في اسرائيل‪ ،‬تقوم‬ ‫«مارتينا فاندبيرج» الناشطة في حقوق اإلنسان ببحث عنها بتمويل‬ ‫من جامعة كولومبيا‪ ،‬فيما تقبع هناك‪ ،‬وعلى باب ماخور في أرض‬ ‫الميعاد بائعة هوى‪ ،‬بيضاء كالحليب‪ ،‬طويلة كليلة فقير مدقع‪ ،‬وجميلة‬ ‫كالجمال نفسه‪ .‬كل ذنبها انها قرأت ذات يوم على باب ماخور إعالنًا‬ ‫عن فرصة عمل‪ ،‬هناك‪ ،‬في اسرائيل‪ ،‬حيث الطبيعة مغرية والجو دافئ‪،‬‬ ‫والشمس تشرق طول العام «‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫هوت ميل‬ ‫(‪)1‬‬

‫«صابر باتيا»‪ ..‬هندي مسلم‪ ،‬وصل إلى أمريكا ذات يوم قبل ثالثين‬

‫سنة من اآلن‪ ،‬لم يكن يجمل في متاعه شي ًئا يستحق التفتيش‪ ،‬أما في‬ ‫داخل عقله فقد كان ّيهرب ً‬ ‫أمل خف ًيا باالمتياز واثبات الذات‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫بدأ صابر دراسته في جامعة «ستنافورد» وتخرج منها بامتياز‪ ،‬وكالعادة‬

‫تم استيعابه بسرعة للعمل مع شركة تعنى ببرامج األنترنيت‪ ،‬فهم هناك ال‬ ‫يتركون المواهب الواعدة تذهب سدى‪ ،‬نحن فقط نتقن ذلك‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫داخل معامل الشركة يتعرف صابر على شاب آخر هو «جاك سميث»‪..‬‬

‫حوارا ال ينقطع عبر شبكة‬ ‫مواهب صابر وحماس جاك‪ ،‬خلقت بينهما‬ ‫ً‬ ‫‪41‬‬


‫الدائرة المغلقة الخاصة بالشركة‪ ،‬وكان حوارهما يشمل كل شئ تقري ًبا‪،‬‬ ‫األفكار والبرامج الجديدة وآخر األخبار‪ ،‬وكان الوقت الذي يخصصانه‬ ‫ً‬ ‫طويل حتى أن رئيسهما المباشر في الشركة حذرهما من مغبة‬ ‫للحوار‬ ‫استعمال دائرة االتصاالت الخاصة بأعمال الشركة في أعمالهما‬ ‫الخاصة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫هذا التحذير‪ ،‬اعتبره «صابر» وزميله اخترا ًقا للخصوصية‪ ،‬مما‬ ‫جعله يطرح على زميله فكرة لم تكن تخطر له ببال‪ ،‬أن يقوما بابتكار‬ ‫بريد اليكتروني خاص‪ ،‬يضمن السرية الكاملة وينأى على شبهة‬ ‫«التدخل الخارجي»‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫ظل «صابر يعمل بجد على إخراج فكرته إلى النور‪ ،‬حتى كان العام‬ ‫‪ 1996‬عندما سمع العالم ألول مرة باسم «الهوت ميل»‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫«صابر باتيا»‪ ..‬الهندي المسلم‪ ،‬كان صاحب الفكرة واالختراع‬ ‫ً‬ ‫مذهل ألنه وفر الفردية‬ ‫واالمتياز كذلك‪ ،‬وكان بريده الجديد‬ ‫متاحا الستعمال أي فرد في‬ ‫والخصوصية والسرية‪ ،‬كما أنه كان ً‬ ‫العالم دون أية فوراق من أي نوع‪.‬‬ ‫‪42‬‬


‫(‪)7‬‬

‫بدأ صابر يعمل على مشروعه‪ ،‬وفي العام األول لرؤيته النور‬

‫تجاوز عدد المشتركين العشرة ماليين شخص‪ ،‬وهنا أثار االختراع‬

‫انتباه شركة «مايكروسوفت» ممثلة برئيسها «بيل جيتس» الذي عرض‬

‫في خريف ‪ 1997‬مبلغ خمسين مليون دوالر على صابر ليضم الهوت‬ ‫ميل إلى منظومة الويندوز‪.‬‬

‫كان صابر يعرف جيدً ا قيمة اختراعه فرفض المبلغ‪ ،‬فطلب مبل ًغا‬

‫أكبر بكثير‪ ،‬لقد طلب خمسمئة مليون دوالر‪ ،‬وبعد مفاوضات‬

‫مضنية وافق على اربعمئة مليون بشرط أن يتم تعيينه كخبير في شركة‬

‫المايكروسوفت‪.‬‬

‫(‪)8‬‬

‫وافق «بيل جيتس» على شروط صابر‪ ،‬واليوم تجاوز عدد‬

‫مستخدمي الهوت ميل حاجز التسعين مليون مستخدم‪ ،‬وينظم إليه‬

‫يوم ًيا ثالثة آالف مستخدم من كل أنحاء العالم‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫برنامجا‬ ‫مؤخرا‬ ‫حاضرا باختراعاته‪ ،‬فقد أنجز‬ ‫«صابر» ال يزال‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬

‫مبتكرا للتسوق عبر االنترنيت يدعى «آرو»‪ ،‬ووصلت ثروته الشخصية‬ ‫ً‬

‫إلى حد وضعه ضمن أحد أثرى أثرياء العالم‪.‬‬ ‫‪43‬‬


‫هذه قصة نجاح لهندي مسلم‪ ،‬وهنا يحق لنا أن نسأل‪ :‬ولماذا ال‬

‫يسمع أحد بصابر هذا بينما يحفظ العالم عن ظهر قلب اسم «سلمان‬

‫رشدي»؟‬ ‫‪...‬‬

‫لماذا ال تسوق وسائل اإلعالم العربية وغيرها للشخصيات‬

‫المسلمة االيجابية‪ ،‬ولماذا ال تبرز إال الشخصيات السلبية التي‬

‫تعمل على خلق صورة نمطية سيئة للمسلمين في كل مكان ولماذا‬ ‫ال يتم التسويق لشخصية المسلم المخترع العبقري ً‬ ‫بدل من شخصية‬ ‫المسلم المفخخ؟‬

‫(‪)10‬‬

‫دائما نلمع الكريه؟ ونمنح صدارة التغطيات للسيء‬ ‫لماذا نظل ً‬

‫المحبط‪ ،‬ولماذا يمعن االعالم في ملء األذهان بالبشاعة فقط؟‬

‫سؤال كنا نطرحه على أنفسنا وال نعرف الجواب‪ ،‬كان هذا في‬

‫الماضي‪ ،‬اآلن زال الجهل‪ ،‬ونما للمعرفة بصيص‪ ،‬صرنا نعرف‬

‫الهدف‪ ،‬لقد كانت الغاية تكرار البشع لصنع المزيد من البشاعة‪،‬‬

‫يكفي أن تنسخ الكراهية والقبح والفشل مرة‪ ،‬ثم مرتين‪ ،‬ثم يصبح‬ ‫األمر آل ًيا باالعتياد‪ ،‬وبعد سنوات ستجد أنك قد أفلحت في صنع‬

‫ماليين الروبوتات البشرية البشعة التي ماتت انسانيتها‪ ،‬وضاعت‬

‫معالم آدميتها بحكم التكوين‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫(‪)11‬‬

‫أعذرنا يا»صابر باتيا»‪ ،‬لقد فهمنا الدرس‪ ،‬ولكن‪ ،‬متأخرين‪ ،‬كعادتنا‬ ‫دائما!‬ ‫ً‬

‫‪45‬‬



‫هل يود �أحدكم؟!‬ ‫(‪)1‬‬

‫من يرفع العبء؟ ومن يتطوع برفع األثقال عن كاهل العربة ليتمكن‬

‫الجواد من العدو بشكل أسرع؟‬

‫(‪)2‬‬

‫الواقع أن سؤال الحرية هذا قد يبدو محدود المساحة ضيق‬

‫األفق عندما نظن إنه ال يتجاوز احتجاجنا على األداء السيء لالعبي‬ ‫المنتخبات العربية في كأس العالم ً‬ ‫مثل‪ ،‬لكنه سينال حقه من التبجيل‬ ‫ٍ‬ ‫أسئلة جوهرية تتعلق بنمطية العقلية‬ ‫إذا ما اتسع نطاقه ليغدو جوا ًبا على‬ ‫العربية التي آن لها أن تتغير‪ ،‬وإال فإن الهزيمة لن تقتصر على كرة القدم‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫ٍ‬ ‫حق تصبح األغاني الوطنية شعارا للدخول في ٍ‬ ‫بأي ٍ‬ ‫رياضية‬ ‫لعبة‬ ‫ً‬ ‫‪47‬‬


‫ككرة القدم؟ وبأي ٍ‬ ‫حق يصبح الوطن الكبير بمعانيه السامية مرهونًا‬ ‫ٍ‬ ‫نحمل الالعب‬ ‫بهدف تستقبله الشباك‪ ،‬وكيف نسمح ألنفسنا أن ّ‬ ‫أيضا؟‬ ‫العربي ما ال يطيقه‪ ،‬وما ال تطيقه الجبال ً‬ ‫(‪)4‬‬

‫إن العبنا المسكين يدخل الملعب وهو يحمل فوق ظهره راية‬

‫بالده «الخفاقة»‪ ،‬وأمجاد «أجداده الغابرين»‪ ،‬وحضارة أمته «التليدة»‪،‬‬ ‫ودعوات «أجداده الصالحين»‪ ،‬وحتى مشاريع الخطط الخمسية‬

‫المتعثرة‪.‬‬

‫مطالب بحماية كل هذه «الثروة» من التلف‪ ،‬وصيانتها من‬ ‫إنه‬ ‫ٌ‬

‫الهزيمة‪ ،‬ألن هزيمته في الملعب تعني أن «تراثه العظيم» أصبح ريشة‬

‫في مهب ٍ‬ ‫ريح عاتية‪ ،‬فهل يتمنى أحدكم أن يصبح الع ًبا في منتخب‬

‫عربي لكرة القدم؟‬

‫(‪)5‬‬

‫والخالصة إن «أمجادنا» العظيمة تغدو مر ًة واحدة مجرد كرة من‬ ‫الجلد يتقاذفها إثنان وعشرون الع ًبا‪ ،‬وتصبح في غمضة ٍ‬ ‫عين أمان ًة‬ ‫وجبل من الهموم يتربع على صدر ٍ‬ ‫ً‬ ‫فريق واحد تنتظره‬ ‫ثقيلة الوزن‪،‬‬

‫اآلالف وتتطلع إليه العيون‪ ،‬فهل يود أحدكم أن يصبح العب كرة‬

‫قدم في منتخب عربى؟‬

‫‪48‬‬


‫(‪)6‬‬

‫ونهاية الحكاية إن علينا أن نخلص الالعب العربي من خرافة‬ ‫«األمجاد الغابرة»‪ ،‬وأن نفك أسره من قيد األغاني الوطنية‪ ،‬وأن نصدر‬ ‫قرارا جماع ًيا بإعفاءه من فرمان تكليفه راع ًيا رسم ًيا لتراث وطنه وجهاد‬ ‫ً‬ ‫أجداده الطيبين‪ ،‬وان نتركه يعدو طلي ًقا في الشارع المزدحم والزقاق‬ ‫المترب والملعب الفسيح‪ ،‬متحررا من ٍ‬ ‫قيود طالما كبلت يديه وقدميه‬ ‫ً‬ ‫وعقله‪ ،‬وأن نخبره إن كرة القدم لعبة مهارة ولياقة وتحد‪ ،‬وانه ليس‬ ‫مطال ًبا بخوض حرب يحمى فيها «الحرائر» ويصون فيها «الشرف»‪.‬‬ ‫مطالب بأن يلعب كرة قدم‪ ،‬وأن يبدع أمام الماليين‪ ،‬وأن‬ ‫إنه فقط‬ ‫ٌ‬ ‫يبرز مهاراته‪ ،‬وأن «يستمتع» بلعبته المفضلة‪ ،‬وأن يمارسها «بالكثير‬ ‫من الفرح»‪ ،‬فهل هذا مستحيل؟‬ ‫(‪)7‬‬

‫ونهاية الحكاية إننا يجب أن نحرر هذا المسكين من مزج الكرة‬ ‫بالكرامة حتى يمكنه أن يلعب بال ضغوط‪،‬وأن نخلصه من فكرة أن‬ ‫«مفاتيح سعادتنا» مرهونة بهدف يسجله‪ ،‬ألن هذا يعنى بالضرورة‬ ‫أيضا بهدف يضيعه‪،‬‬ ‫فكرة اخرى تقول إن «أبواب تعاستنا» مرهونة ً‬ ‫ٍ‬ ‫فهل يود أحدكم أن يصبح سجانًا على أبواب تعاسة أو فرح؟‬

‫‪49‬‬



‫�أ�سمحلي يا حاج!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫«أسمحلي يا حاج»‪ ،‬عبارة شعبية ليبية بامتياز‪ ،‬ال يستطيع أن ينازعها‬

‫على الليبيين أحد‪ ،‬ال اإلغريق وال الرومان وال الفنيقيين من قبلهم‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫أيضا بكل جبروته ال يستطيع‪ ،‬وأمريكا الشاسعة ال تقدر‪،‬‬ ‫الغرب ً‬

‫وال روسيا بأطماعها الجديدة‪ ،‬وال الصين بملياراتها‪،‬وال النمور‬

‫األسيوية بأنيابها الصناعية القاطعة‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫«أسمحلي يا حاج» عبارة لن تسمعها إال في ليبيا‪ ،‬ومهما تجولت‬

‫في بالد الله الواسعة‪ ،‬في الهند ذات األفيال والبقر السارح على‬

‫مزاجه‪ ،‬وحزام الفقر العالمي المضطجع على صدور أهل البنغالديش‬ ‫‪51‬‬


‫مرورا باألحياء العشوائية إليدولوجيا الخراب‬ ‫والصومال وبورما‪،‬‬ ‫ً‬ ‫في اليمن وأفريقيا‪ ،‬وانتها ًء بامبرطوريات الفساد والقتل المخطط‬ ‫لها حسب تقاليد العصابات العريقة في أمريكا الجنوبية‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫ال تتعب نفسك‪ ،‬ليس من مكان آخر يمكن أن تستمع فيه إلى هذه‬ ‫العبارة‪،‬إال ليبيا‪ ،‬وليبيا فقط‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫«أسمحلي يا حاج»‪ ،‬يقولها لك الليبي ثم يمضي‪ ،‬لكنه يكون قبل‬ ‫ذلك قد داس على رجلك الممدودة وأنت في خيمة فرح‪ ،‬أو صدمك‬ ‫بكتفه المتين وأنت في صف المعزين في سرادق العزاء‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫«أسمحلي ياحاج»‪ ،‬يقولها لك الليبي وقد اجتاز اإلشارة الحمراء‬ ‫وكاد أن يدهسك‪ ،‬أو يقولها لك بعد أن يكون قد صدم سيارتك من‬ ‫الخلف‪ ،‬وقد يتلفظ بها عندما يوقعك على األرض في ٍ‬ ‫بركة موحلة‬ ‫دون أن يقصد بالطبع‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫«أسمحلي يا حاج»‪ ،‬عبارة الليبي وهو يقصف منزلك بالخطأ‬ ‫‪52‬‬


‫بقذيفة هاون‪ ،‬أو يخطف إبنك الوحيد لمجرد اإلشتباه ثم يعيده إليك‬ ‫ٍ‬ ‫خجل ترتسم على وجهه‪ ،‬أو يتجاوزك في طابور المصرف‬ ‫وابتسامة‬ ‫أو أمام المخبز المزدحم‪.‬‬

‫إنك ال تملك أمام هذه العبارة السحرية إال أن تتنازل عن كامل‬ ‫حقوقك طواعية‪ ،‬وأن ترمي برغبتك في رد االعتبار من أقرب نافذة‪،‬‬ ‫مادام االعتذار التاريخي قد صيغ بهذه الجملة األسطورية التي لم‬ ‫تسمع بها األساطير‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫ٍ‬ ‫بإسلوب لم يخطر على‬ ‫«اسمحلي ياحاج»‪ ،‬عبارة تسلبك حقك‬ ‫بال شعب من شعوب األرض‪ ،‬وتمنعك حق التعبير عن احتجاجك‬ ‫على انتهاك كرامتك بطريقة ممنمهجة وفي غاية الذكاء‪ ،‬بحيث أنك‬ ‫وجهك‪،‬هامسا‬ ‫ال تملك سوى أن تبتسم في وجه من يتلفظ بها في‬ ‫ً‬ ‫له واأللم يمأل صدرك‪ :‬وال يهمك‪ ،‬عادي‪.‬‬ ‫(‪)9‬‬

‫أليس كذلك؟! أال يحق لنا أن نطالب بوضع هذه «الجوهرة الليبية»‬ ‫في الدستور‪ ،‬ما رأي لجنة الدستور يا ترى؟!!‬

‫‪53‬‬



‫الحجاج بن يو�سف‪ ..‬ونحن!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫أكثر من خمسين عا ًما مضت على هحرة الرسول الكريم‪ ،‬والدولة‬ ‫األموية تترنح هنا‪ ،‬وتوشك على السقوط هناك‪ ،‬لكن يد دكتاتور‬ ‫حديدي كان يدعى «الحجاج بن يوسف الثقفي» تمتد إليها لتمنعها‬ ‫من التمرغ في التراب والفوضى م ًعا‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫كانت الدولة تترنح‪ ،‬وكان الناس في حرج‪ ،‬وكانت الشوارع في‬ ‫فوضى‪ ،‬وكان اللصوص ينهشون لحم الوطن‪ ،‬وكان الوطن نه ًبا لكل‬ ‫من هب ودب‪ ،‬وكان كل من هب ودب يشرب من ماء حيوية الوطن‪،‬‬ ‫ولم يكن يرتوي أحد!!‬ ‫(‪)3‬‬

‫كانت الدولة تلفظ أنفاسها األخيرة‪ ،‬وكان المتربصون بها كثر‪،‬‬ ‫‪55‬‬


‫وكان الناس قد ألفوا الفوضى والضجيج‪ ،‬وكان منهم من استفاد من‬ ‫ضعف الدولة ليصبح قو ًيا‪ ،‬ومن فقرها المدقع لينعم بالثراء‪.‬‬

‫باختصار‪ ،‬كانت الحرية قد مألت صدور الناس باالستبداد‪،‬‬ ‫فتغولوا على الدولة والقانون م ًعا‪ ،‬وكانت شوارع بغداد قد امتألت‬ ‫بالناشطين السياسيين من غير سياسة‪ ،‬والمحلليين االستراتيجيين‬ ‫من غير استراتيجية‪ ،‬والمفكرين بغير فكر‪ ،‬والمتحذلقين بال حكمة‪.‬‬ ‫باختصار أيها السادة‪ ،‬كان كل ما هناك ينذر بالكارثة‪ ،‬لكن «عبد الملك‬ ‫بن مروان» ينقذ الموقف في آخر لحظة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫سهما رمى به أهل العراق‪،‬‬ ‫لقد نثر الرجل الحكيم كنانته‪ ،‬فوجد فيها ً‬ ‫مصدرا لالضطراب والفوضى‪ ،‬ومنب ًعا للخالف‬ ‫وكان العراق بالذات‬ ‫ً‬ ‫ومنجما ال ينضب للفتن والضجيج‪.‬‬ ‫والممانعة‪،‬‬ ‫ً‬ ‫(‪)5‬‬

‫إن «عبد الملك» يرمي أهل العراق بطاغية‪ ،‬وهل يوجد ما هو‬ ‫أفضل من طاغية لترمي به الطغاة؟‬ ‫(‪)6‬‬

‫يرمي «عبد الملك» أهل العراق «بالحجاج بن يوسف الثقفي»‪،‬‬ ‫مدججا بالصمت والصرامة والقسوة‪،‬‬ ‫ويصل هذا األخير إلى الكوفة‬ ‫ً‬ ‫‪56‬‬


‫ويتجاهل‪،‬عن ٍ‬ ‫عمد‪ ،‬مؤسسات حقوق اإلنسان‪،‬ويدوس برجليه‬ ‫الواثقتين منظمات المجتمع المدني‪ ،‬ربما ألنه أدرك أن الفوضى‬ ‫ال تعالج باألمنيات الطيبة‪ ،‬وأن الضجيج ال يمكن إسكاته باألغاني‬ ‫الحالمات‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫يصل الحجاج‪ ،‬ويخطب على منبر الكوفة تلك الخطبة التي سجلها‬ ‫ٍ‬ ‫بأحرف من ذهب‪ ،‬ويصيح بمن أرادوا أن يهدموا بنيان‬ ‫تاريخ الطغاة‬ ‫رؤوسا قد أينعت وحان‬ ‫الدولة ليشيدوا مبانيهم الخاصة‪« :‬إني أرى‬ ‫ً‬ ‫قطافها»‪.‬‬

‫ويقطف الحجاج رؤوس معارضيه كي ينقذ رأس الدولة‪ ،‬والى‬ ‫هذه اللحظة الزال التاريخ يعتبر الحجاج بن يوسف طاغية عصره‪،‬دون‬ ‫ٍ‬ ‫للحظة واحدة إلى الطغاة الحقيقيين الذين استحقوا‬ ‫أن يلتفت ولو‬ ‫ٍ‬ ‫بطاغية من طينتهم‪ ،‬ليسكت ضجيجهم المهلك‪،‬‬ ‫أن يرميهم الدهر‬ ‫وليعيد األمور إلى نصابها‪ ،‬بعد أن كانت الدولة تترنح‪ ،‬وكان الناس‬ ‫في حرج‪ ،‬وكانت الشوارع في فوضى‪ ،‬وكان اللصوص ينهشون لحم‬ ‫الوطن‪ ،‬وكان الوطن نه ًبا لكل من هب ودب‪ ،‬وكان كل من هب ودب‬ ‫يشرب من ماء حيوية الوطن‪ ،‬ولم يكن يرتوي أحد!!‬ ‫هل وصل المعنى رحمكم الله؟!!‬

‫‪57‬‬



‫الديمقراطية المرو�ضة‬ ‫(‪)1‬‬

‫في مصر‪ ،‬كما في تونس‪ ،‬كما في اليمن‪ ،‬كما في ليبيا‪ ،‬ثمة ثورات‬

‫اندلعت‪ ،‬وهياكل جديدة قامت‪ ،‬وواقع جديد يتشكل‪ ،‬وديمقراطية‬

‫تولد‪ ،‬لكن هذه الديمقراطية بالذات تجد نفسها اآلن أمام مفترق طرق‬ ‫كبير‪ ،‬ولو استعرضنا مسيرة حالتين فقط‪ ،‬باعتبار التجاور والتشابه‬

‫والعالقات التاريخية المتأصلة‪ ،‬هما الحالة الليبية والمصرية‪ ،‬فهل‬ ‫ستتسع صدوركم للحوار؟‬

‫(‪)2‬‬

‫ثمة من يحاول ترويض هذه الديمقراطية‪ ،‬ويريد أن يلوي‬ ‫عنقها ً‬ ‫قليل كي ال تلتفت إال إليه‪ ،‬واألطراف متعددة بطبيعة الحال‪،‬‬

‫واالتجاهات مختلفة‪ ،‬لكن للديمقراطية رأس واحد‪ ،‬فإلى أين سيتجه‬

‫هذا الرأس؟‬

‫‪59‬‬


‫(‪)3‬‬

‫ليست المشكلة في دول ما يعرف بالربيع العربي أن لثوراتها‬ ‫«ورثة» يريدون اآلن أن يتقاسموا الميراث‪ ،‬لكن المشكلة الحقيقية‬ ‫تكمن في أن كال من هؤالء الورثة يرى أنه وحده الوريث الشرعي‪،‬‬ ‫وأن غيره ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫سارق لها‪ ،‬ومن هنا بالذات يبدأ كل شئ‪.‬‬ ‫دخيل على الثورة‪،‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫أعتقد أن مصلحة الوطن تتطلب من الجميع أن يتخلى عن هذا‬ ‫النمط من التفكير‪ ،‬فالتركة كبيرة ومهمة وفي غاية الخطورة‪ ،‬إنها وطن‬ ‫بأكمله‪ ،‬وبالتالي فإن على الورثة أن يجلسوا جمي ًعا على طاولة واحدة‬ ‫وأن يتبادلوا الحوار‪ ،‬ألنها الطريقة الوحيدة لتقسيم كعكة الوطن بينهم‪،‬‬ ‫وغير ذلك‪ ،‬لن يكون هناك وطن ليتقاسموه‪ ،‬ولكن‪ ،‬وقبل أن نخوض‬ ‫في معترك الفكرة‪ ،‬من أولئك الورثة؟‬ ‫(‪)5‬‬

‫إنهم ً‬ ‫أول‪ ،‬الثوار‪ ،‬الذين نزلوا إلى الشارع‪ ،‬وخاضوا معارك الثورة‬ ‫األولى‪ ،‬وسقط منهم من سقط‪ ،‬لكنهم لم يعدوا أنفسهم لحالة «ما بعد‬ ‫الثورة»‪ ،‬بمعنى أنهم لم يشكلوا كيانًا سياس ًيا يمثلهم في ساحة الحوار‪،‬‬ ‫فاكتفوا بلعب دور الغاضب المحتج‪ ،‬الذي تقتصر مطالبه غال ًبا على‬ ‫التعويضات المالية ومعالجة الجرحى‪ ،‬وعلى المطالبات العمومية‬ ‫بالحفاظ على الثورة من «المندسين» الذين هم «فلول» في مصر‪،‬‬ ‫‪60‬‬


‫ودائما ما يجسد هذه المطالب جماعات ال أفراد‪،‬‬ ‫و»أزالم» في ليبيا‪،‬‬ ‫ً‬

‫بمعنى أنها تفتقد إلى تنظيم محكم يمكن التحاور معه بهدوء‪ ،‬وتحتاج‬

‫بشكل حاد إلى كيان محدد يستطيع أن يتحكم في مسار بقية مكوناته‬ ‫وأن يجلس باسمها على طاولة مفاوضات «ما بعد الثورة» دون أن‬

‫تتجرأ هذه المكونات على الخروج عن طاعته‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫وهم ثان ًيا‪ ،‬التشكيالت السياسية المنظمة‪ ،‬ومنها «على سبيل‬

‫المثال ال الحصر»‪ ،‬جماعة اإلخوان (في مصر وليبيا) وجبهة االنقاذ‬

‫والتكتالت الليبرالية والتيارات الدينية (في ليبيا)‪ ،‬وحركة ‪ 6‬ابريل‬

‫وأحزاب الوفد والتجمع وباقي التشكيالت السياسية (في مصر)‬ ‫ٍ‬ ‫بخبرة طويلة وباع كبير في العمل السياسي‪ ،‬ولها‬ ‫وهذه كلها تتمتع‬

‫خطبائها المفوهون‪ ،‬ومنظريها الخبراء‪ ،‬ولها أساليبها في التعبير عن‬ ‫اتجاهها السياسي‪ ،‬وبطبيعة الحال لها تاريخها النضالي في مواجهة‬

‫قمع السلطة‪ ،‬وهو الذي يمثل بالنسبة لها مرجعية كبيرة تستند عليها‬

‫وتعود إلى ذكرياتها كلما لزم األمر‪.‬‬

‫(‪)7‬‬

‫وهم ثال ًثا‪ ،‬الشريحة التي ناوئت الثورة في بدايتها‪ ،‬ورأت أن‬ ‫ُ‬ ‫يكون إال على فترات وبتدرج وضمن منظومة‬ ‫التغيير يجب أن ال‬

‫السلطة القائم ال خارجها‪ ،‬وهي شريحة خسرت معركتها وشاهدت‬ ‫‪61‬‬


‫سقوط أنظمتها‪ ،‬لكن هذا ال ُيخرجها من واقع كونها جزء من النسيج‬ ‫االجتماعي ال يجوز تجاهله‪ ،‬بل ينبغي احتوائه وإشراكه في الحوار‬

‫الدائر من أجل أن تعود الدولة ويستتب النظام‪.‬‬ ‫(‪)8‬‬

‫وهم راب ًعا‪ ،‬ذلك الطرف األكثر اختال ًفا‪ ،‬إنه طرف ينأى بنفسه عن‬

‫كل هذه التشكيالت‪ ،‬وإن حالفها لفترة‪ ،‬فهو زواج مصلحة قصير‬

‫العمر بطبعه‪ ،‬وسرعان ما يعود بعده إلى سابق عهده في رفض كل‬

‫األطر السياسية والدعوة إلى مشروعه الخاص بإقامة دولة خالفة‬ ‫تطيح بالجميع‪.‬‬

‫(‪)9‬‬

‫هؤالء ليسو جمي ًعا أطراف اللعبة‪ ،‬هناك طرف مهم‪ ،‬الثالث‬

‫واألخير‪ ،‬الكبير‪ ،‬والضروري‪ ،‬واألساسي‪ ،‬لكنه طرف صامت‪،‬‬

‫لم يؤطر أهميته هذه في شكل محدد‪ ،‬ولم ينهض بعد ليقول كلمته‪،‬‬ ‫إنها األغلبية الصامتة‪ ،‬التي ال تنتمي لهذا وال ذاك‪ ،‬وهذا الطرف هو‬ ‫المخزون الضخم الذي يمد كل األطراف السابقة بالعنصر البشري‪،‬‬

‫من خالل كونه مستهد ًفا على الدوام بالتأثيرات العقائدية والفكرية‬

‫بعضا منه‪ ،‬لكنه لم يمنحها ثقته الكاملة‬ ‫لهذه األطراف‪ ،‬إنه قد يمنحها ً‬

‫ولو ليو ٍم واحد‪.‬‬

‫‪62‬‬


‫(‪)10‬‬

‫هناك إ ًذا من يريد «ترويض» الديمقراطية‪.‬‬

‫بمعنى أن كل طرف يريد من الثورة أن تقدم له «نموذجه»‬ ‫الديمقراطي الذي يفضله‪ ،‬فإلى أين تتجه العملية السياسية عندنا في‬ ‫ليبيا‪ ،‬وعندهم في مصر؟‬ ‫(‪)11‬‬

‫يسوقه المصريون ـ يستند‬ ‫مصر هي «أم الدنيا»‪ ،‬وهذا اللقب ـ كما ّ‬ ‫إلى خلفية تاريخية صحيحة بحكم عراقة الحضارة الفرعونية‪ ،‬لكنه‬ ‫أيضا إلى أن «الدنيا» التي نعترف نحن بأمومة مصر لها‪ ،‬هي‬ ‫يستند ً‬ ‫بالذات «الدنيا العربية»‪ ،‬بمعنى أن ما يحدث في مصر يؤثر بالتأكيد‬ ‫على بقية الدول العربية‪ ،‬ألن «الشقيقة الكبرى» لها اليد الطولى ثقاف ًيا‬ ‫وأدب ًيا وسياس ًيا على بقية شقيقاتها‪،‬والتاريخ يشهد بذلك‪.‬‬ ‫(‪)12‬‬

‫من مصر انطلق تنظيم «اإلخوان» عام ‪ 1928‬م‪ .‬عندما تشكل‬ ‫دائما‬ ‫على يد «حسن البنا»‪ ،‬لذلك كان «مرشد اإلخوان» في مصر ً‬ ‫مرجعية محترمة في باقي الدول العربية‪ ،‬واآلن عندما تحررت مصر‬ ‫من حكم مبارك‪ ،‬خرجت إلى الضوء هذه المرجعية‪ ،‬وصار لإلخوان‬ ‫أخيرا في الوصول إلى السلطة عبر فوزه‬ ‫حزبهم السياسي الذي نجح ً‬ ‫في االنتخابات باألغلبية في مجلسي الشورى والشعب (قبل حله)‬ ‫‪63‬‬


‫ثم عبر فوز «محمد مرسي» في انتخابات الرئاسة‪ ،‬قبل االطاحة به‬ ‫الح ًقا عبر ثورة يناير‪.‬‬ ‫(‪)13‬‬

‫من مصر‪،‬كانت انطالقة أحزاب «تاريخية» مثل حزب الوفد‪ ،‬وكان‬ ‫بزوغ أقطاب سياسية مهمة مثل سعد زغلول وغيره من قائمة طويلة‬ ‫ال يتسع مجال هذه الزاوية لذكرها‪.‬‬ ‫(‪)14‬‬

‫من مصر‪ ،‬كانت الصحافة التي شكلت منذ مطلع القرن الماضي‬ ‫الرأي العام‪ ،‬حتى أن ثقافة قراءة أخبار اليوم من «الجورنال» أصبحت‬ ‫دائما في صنع‬ ‫تقليدً ا مصر ًيا بامتياز‪ ،‬مما جعل الشارع المصري شريكًا ً‬ ‫القرار السياسي‪ ،‬حتى بصمته وسكونه‪ ،‬أو بسلبيته وإذعانه‪.‬‬ ‫(‪)15‬‬

‫في ليبيا اختلف األمر‪ ،‬ألن بدايات المملكة الليبية لم تأخذ فرصتها‬ ‫الكاملة‪ ،‬رغم شروعها في تأسيس وسط سياسي فاعل حاول جاهدً ا‬ ‫ٍ‬ ‫لشعب بسيط في تركيبته‪ ،‬حديث العهد بالمدنية‪،‬‬ ‫أن يقرع الجرس‬ ‫ٌ‬ ‫راسخ في ثقافته القبلية العريقة‪ ،‬وهذه نقطة ظلت الحكومات‬ ‫لكنه‬ ‫المتعاقب تتجاهلها على الدوام ورغم أن جهو ًدا جبارة ُبذلت في‬ ‫سبيل إعادة تأثيث مدن متناثرة بالوعي السياسي وبثقافة الممارسة‬ ‫‪64‬‬


‫السياسية‪ ،‬وهي المدن التي تتوسط مجتمعات رعوية بالدرجة األولى‬ ‫قبل كل شئ‪.‬‬ ‫(‪)16‬‬

‫واقعان مختلفان إذن‪ ،‬لكن المحصلة واحدة اآلن‪ ،‬ألن الثورتين‬ ‫أفرزتا واق ًعا جديدً ا يريد كل أطرافه ترويض الديمقراطية الوليدة‬ ‫لصالحه‪ ،‬لكن محاوالت الترويض القسرية هذه هي بحد ذاتها خطر‬ ‫داهم على الديمقراطية‪ ،‬إننا بتجاذب الجنين بيننا قد نمزق أطرافه دون‬ ‫أن ننتبه‪ ،‬فهل سننتبه قبل أن نمزق الجنين بيننا؟!!‬

‫‪65‬‬



‫�أيهما ديوان العرب؟!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫ولى «محمد بن أبي بكر»‪ ،‬مصر سار إليه عمرو بن العاص فاقتتلوا‬ ‫«ولما ِّ‬ ‫فانهزم محمد ودخل خرب ًة فأخرج منها و ُقتل و ُأحرق في جوف حمار ميت‪،‬‬

‫صبرا‪».‬‬ ‫قيل قتله معاوية بن ُحديج الكوفي وقيل قتله عمرو بن العاص ً‬

‫«أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر‪ :‬االستيعاب في‬

‫معرفة األصحاب‪ ،‬تحقيق عباس محمد البجاوي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الجبل‪،‬‬ ‫بيروت»‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫حسنًا‪ ،‬لقد شبع الرجل موتًا إ ًذا‪ ،‬ولكن‪ ،‬إذا كان قد ُقتل‪ ،‬فلماذا الحرق‪،‬‬

‫وإذا كان قد أحرق‪ ،‬فلماذا يوضع في جوف حمار ميت؟ لماذا تراتبية‬

‫الحقد هذه؟ ولماذا هذا الكم البشع من العنف؟ أم أن الجواب الزال‬

‫يرقد في جوف حمار ميت منذ ألف سنة من اآلن؟؟‬ ‫‪67‬‬


‫(‪)3‬‬

‫ٍ‬ ‫دهور من الصمت‬ ‫علمنا زمن الثورات العربية هذا أن نسأل‪ ،‬وبعد‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫السؤال فريض ًة ال مجال لتجاهل‬ ‫فتحنا عنو ًة منجم الكالم‪ ،‬فصار‬ ‫تأديتها على أي حال‪.‬‬

‫علمونا في المدارس أن الشعر هو ديوان العرب‪ ،‬وعلمتنا مشاهد‬ ‫نصدق؟ كالم‬ ‫هذا التاريخ المشحون أن العنف هو الديوان‪ ،‬فأيهما ّ‬ ‫المدارس‪ ،‬أم مشاهد الميادين؟‬ ‫(‪)4‬‬

‫منذ فترة‪ ،‬وعلى مقربة من شارع «أكسفورد السياحي» في لندن‬ ‫عاصمة الضباب‪ ،‬خرجت مظاهرة «عربية باكستانية» مؤيدة للثورة ضد‬ ‫النظام السوري‪ ،‬وما إن وصل المتظاهرون إلى شارع المطاعم العربية‬ ‫«ادجوار رود» حتى كان الطرف اآلخر المؤيد في االنتظار‪ ،‬وعلى‬ ‫مرأى ومسمع من االنجليز المصدومين حدث النزاع‪ ،‬واالشتباك‬ ‫باأليدي‪ ،‬ووقعت اإلصابات المتعددة‪ ،‬وشاهد العالم الغربي بأم عينيه‬ ‫مدى العجز العربي عن الحوار‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫أيضا‪ ،‬كان الليبيون‬ ‫منذ فترة‪ ،‬واآلن‪ ،‬وأمس‪ ،‬وأخشى أن يكون غدً ا ً‬ ‫يتجهون إلى الرصاص كلما اختلفوا‪ ،‬وكذلك فعل اليمنيون‪ ،‬وقبلهم كان‬ ‫نقاشا أو النقاش ً‬ ‫العراقيون قد احترفوا القتل ً‬ ‫قتل‪ ،‬حتى الموت بالطبع‪.‬‬ ‫‪68‬‬


‫(‪)6‬‬

‫دائما ملجأنا األول‪ ،‬بدل أن يكون األخير‪ ،‬وربما هذه مشكلتنا‬ ‫العنف هو ً‬ ‫الحقيقية‪ ،‬هي أننا نخلط بين األولويات فتختلط أوراقنا على الدوام‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫صرت اآلن ال أدري‪ ،‬هل نحن «أمة الشعر» أم أن الشعر مجرد‬ ‫استراحة محارب ال يمل من تكسير عظام خصومه؟‬ ‫(‪)8‬‬

‫دائما هي العنف‪ ،‬وأسلوب الحوار هو‬ ‫لماذا كانت لغة الخطاب ً‬ ‫الحدة‪ ،‬وطريقة الكالم هي التالسن؟ ولماذا نبتت لنا هذه المخالب‬ ‫منذ زمن لم يعد يذكره أحد‪ ،‬فيكفي أن تعترض على رأي أو تحتج‬ ‫على أسلوب حتى تفاجأ بعنف لفظي على أتم االستعداد ليتحول إلى‬ ‫ٍ‬ ‫لعاقبة حسابها‪.‬‬ ‫إيذاء جسدي ال يحسب‬ ‫(‪)9‬‬

‫هل أن اعتمادنا للغة خطاب عنيفة هي السبب وراء هذه الخارطة‬ ‫مرورا بليبيا ثم اليمن ومن بعدها‬ ‫المشتعلة من تونس إلى مصر‬ ‫ً‬ ‫البحرين‪ ،‬وهاهي تمتد إلى قلب لندن وباريس‪ ،‬ربما في محاولة‬ ‫لتصدير لغة العنف هذه إلى أوروبا بعد أن ظللنا لعشرات السنين‬ ‫نكتفي فقط بتصدير النفط؟ هل لديكم الجواب؟‬ ‫‪69‬‬



‫الفتنة‪ ..‬حتى العط�ش‬ ‫(‪)1‬‬

‫في الصومال «السعيد‪ ..‬جدً ا»‪ ،‬وذات مأساة‪ ،‬اندلع نزاع قبلي‬ ‫حول آبار مياه‪ُ ،‬‬ ‫فقتل أربعون صومال ًيا بال ثمن‪ ،‬بطبيعة الحال‪،‬‬

‫ظل الماء على حاله‪ ،‬مجرد بئر آسن‪ ،‬لكن عدد القتلى هذه المرة‬ ‫كان يختلف‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬لم يشرب أحد‪ ..‬لكن العديد القوا حتفهم‪ ،‬وظل‬

‫الوطن عطشانًا كما هو‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫هكذا هي الصومال‪ ،‬فتنة متواصلة‪ ،‬أصابت البالد باللعنة‪ ،‬والعباد‬

‫بالفقر‪ ،‬والدنيا بقلة الخير‪.‬‬

‫‪71‬‬


‫(‪)4‬‬

‫هكذا هي الصومال‪ ،‬مصيبة االختالف بال منهج‪ ،‬والمعارضة‬ ‫بال هدف‪ ،‬وحكمة رجال العصابات في المتاجرة بقضايا البشر‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫هكذا هي الصومال‪ ،‬كارثة السياسة عندما تتاجر بها المواقف‪،‬‬ ‫والدين عندما يصبح إعالنًا عن تشكيل عسكري‪ ،‬والحوار السياسي‬ ‫عندما يتحول إلى جبهات قتال‪ ،‬وأحزاب الساسة عندما تصبح‬ ‫ميليشيات مدججة بالقذائف‪ ،‬والكيانات المدنية إذا تحولت إلى‬ ‫مشاريع صفقات أسلحة ال تقف أرباحها عند حد‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫هكذا هي الصومال‪ ،‬األمور إذا انفلتت من عقالها‪ ،‬والسالم عندما‬ ‫يصبح منبو ًذا من الجميع‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫هكذا هي الصومال‪ ،‬العبرة لمن يعتبر‪ ،‬والدرس لمن يريد أن‬ ‫ً‬ ‫عقول‬ ‫يفهم الدرس‪ ،‬ونحن‪ ،‬إذا ما أردنا أن نضع في هذه الجماجم‬

‫ونهدأ لبعض الوقت كي نبني هذه الدولة بالحب واالنتماء‪ ،‬ونصونها‬ ‫بالهدوء والحكمة‪ ،‬ونعلي بنيانها بالتعقل والصبر‪ ،‬هذا ما يجب أن‬ ‫نقدمه ألمنا العظيمة ليبيا‪ ،‬لتزدهر ربوعها ويرتفع اسمها المقدس‬ ‫‪72‬‬


‫عال ًيا‪ ،‬ولتبقى الصومال على حالها‪ ..‬العبرة لمن يعتبر‪ ،‬والدرس‬ ‫لمن يريد أن يفهم الدرس‪.‬‬

‫‪73‬‬



‫المطب!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫ربما‪ ،‬بعد ألف عام من اآلن سيتوجب علينا أن نعلن يوم تكريم‬

‫للسيد المطب!‬

‫(‪)2‬‬

‫هذا هو اسمه‪ ،‬أما شكله الخارجي فال يعدو كونه امتدا ًدا أفق ًيا من‬

‫المح ّلى باللون األصفر والمزدان‬ ‫اإلسمنت‪ ،‬أو البالستيك الصلب ُ‬

‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫عاكس كنو ٍع من التنبيه للسائقين عندما يحل الظالم‪.‬‬ ‫بزجاج‬ ‫(‪)3‬‬

‫هذا هو المطب‪ ،‬لكننا لم نتحدث سوى عن شكله الخارجي‪،‬‬

‫فماذا عن محتواه الباطن؟‬

‫‪75‬‬


‫(‪)4‬‬

‫المطب يا سادة‪ ،‬وبكل اختصار‪ ،‬هو ما يحتاجه الليبيون في هذه‬

‫الفترة‪ ،‬هذه الحقبة من الزمن‪ ،‬حيث نبتت لألفواه ـ التي كانت مكممة‬

‫ـ ألف لسان‪ ،‬وحيث أصبح ستة ماليين مواطن‪ ،‬فجأة‪ ،‬ناشطون‬

‫سياسيون‪ ،‬وحيث اندلعت دون سابق إنذار ثقافة المصطلحات الغربية‬

‫لسياسة غربية لديمقراطية غربية‪ ،‬فأنبتت تربة الحوار الليبي ندوات‬

‫ومظاهرات واعتصامات وميليشيات‪ ،‬وحيث أصبحت المرابيع‬

‫تزدحم بحكايات مستحدثة عن الفيدرالية والليبيرالية والوسط ويسار‬

‫الوسط ويمين اليمين ويمين الوسط‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫المطب‪ ،‬أيها السادة هو ما نحتاجه اآلن‪ ،‬فالمطب كائن اسمنتي‬

‫مسرعا وقد تجاوزت إشارة‬ ‫ال يحاورك على اإلطالق‪ ،‬إنه يراك‬ ‫ً‬

‫المرور واستهنت برجل الشرطة الطيب‪ ،‬وأهملت صافرة عسكري‬

‫المرور الذي صار ال حول له وال قوة مع جبروتك وتغولك‪ ،‬لكن‬ ‫المطب ينتصب في وجه سيارتك دون أن يتفوه بحرف فيصيبك‬

‫بصدمة موجعة‪ ،‬ويضرب حديد مركبتك في مقتل‪ ،‬وعندما تتطلع إليه‬

‫والغضب يمأل صدرك‪ ،‬ال يعبأ بك ولو لنصف ثانية‪ ،‬إنه فقط يشيح‬

‫منتظرا سيار ًة أخرى ال يلتزم سائقها بإشارة المرور مثلك‪.‬‬ ‫بوجهه عنك‬ ‫ً‬ ‫‪76‬‬


‫(‪)6‬‬

‫هذا هو المطب‪ ،‬اختراع ليبي بامتياز‪ ،‬يجبرك على تهدئة السرعة‬ ‫أمام مدارس األطفال‪ ،‬مادام ضميرك لم يعد يجبرك على شئ‪،‬‬ ‫ويلزمك‪،‬رغم أنفك‪ ،‬على التقيد بالحد األدنى للسرعة ألنه سيحطم‬ ‫سيارتك إذا ما حطمت قانون المرور‪.‬‬

‫أال ترون أننا بأمس الحاجة اآلن إلى آالف المطبات؟ مطب في‬ ‫المؤتمر الوطني لمن ال يعبأون بالوطن‪ ،‬ومطب للذين في نفوسهم‬ ‫مرض‪ ،‬كي يخرج من رؤوسهم شبح الذي كان‪ ،‬ومطب في كتائب‬ ‫الثوار لمن ال عالقة لهم بالثورة‪ ،‬ومطب في المباني العامة المغتصبة‬ ‫لمن ال أخالق لهم‪ ،‬ومطب في اسواق السالح للذين يتاجرون بليبيا‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫ألم أقل لكم أيها السادة؟ المطب‪ ..‬هو ما نحتاجه اآلن وما أحوجنا‬ ‫في هذه األيام إلى مطب!!‬

‫‪77‬‬



‫�أهال بالدكتاتورية!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫وما هم إن كان عمر بن الخطاب قد قالها ذات يوم‪« :‬متى استعبدتم‬

‫أحرارا»‪.‬‬ ‫الناس وقد ولدتهم أمهاتهم‬ ‫ً‬ ‫(‪)2‬‬

‫قالها واستراح‪ ،‬أمر القبطي بضرب «ابن األكرمين»‪ ،‬تقول الحكاية‪،‬‬

‫ولكن‪ ..‬ماذا لو كان الضحية قد تحول بفعل سياط جالده إلى جالد‬ ‫جديد؟‬

‫(‪)3‬‬

‫هكذا كان الطغاة‪ ،‬يلهبون ظهور شعوبهم بالسياط‪ ،‬لم يكن ثمة‬

‫«عمر بن الخطاب» ليعيد األمور إلى نصابها‪ ،‬كان «ابن الخطاب»‬

‫قد مات منذ ألف سنة أو يزيد‪ ،‬وكانت السياط قد زرعت الخوف‬ ‫‪79‬‬


‫والرهبة تحت جلود الناس‪ ،‬ومع الخوف والرهبة زرعت بذرة طغيان‬ ‫ً‬ ‫وتوحشا وضراوة‪ ،‬وعند أول بادرة حرية وانعتاق‪ ،‬سقط‬ ‫أشد قسوة‬ ‫الطغاة‪ ،‬لكن بذور سياطهم تحت الجلود أنبتت محصولها البشع‪،‬‬ ‫فامتألت الشوارع بالطغاة‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫هذا هو ملخص الحكاية‪ ،‬استبدلنا طاغية واحد‪ ،‬بستة ماليين‬ ‫طاغية في ليبيا‪ ،‬وتسعين مليونًا في مصر‪ ،‬وعشرين مليونًا في تونس‪،‬‬ ‫وصرنا نحتاج إلى من يذكرنا بعبوديتنا من جديد‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫لم نعد نحتاج سوطك يا عمر‪ ،‬ولم تعد تلزمنا مثاليتك الرائعة‪،‬‬ ‫ربما نحتاج اآلن أكثر إلى طغيان «ابن األكرمين» أكثر من احتياجنا‬ ‫لعدلك األسطوري‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫مع حريتنا المفرطة‪ ،‬ومع الديمقراطية التي عاملناها كالبغايا‪ ،‬ومع‬ ‫االنعتاق الذي ندوس على رقبته كل يوم‪ ،‬ومع شوارعنا التي صرنا‬ ‫ننتهك أمنها بالسالح‪ ،‬ومع منشآتنا العامة التي صرنا ندمرها بالسيارات‬ ‫المفخخة‪ ،‬ومع خالفاتنا التي أصبحنا ال نمارسها إال بالقتال‪،‬ومع‬ ‫مفردات ثورة جنينا عليها بالتجاوزات‪ ،‬مع كل هذه الكوارث التي‬ ‫‪80‬‬


‫نصنعها بأيدينا كل يوم‪ ،‬ربما يجوز لنا أن نفكر اآلن وبصوت عال‬ ‫ٍ‬ ‫بطاغية جديد؟!!‬ ‫وصراخ ال يعرف الخوف‪ :‬هل لنا‬ ‫(‪)7‬‬

‫البعض‪ ،‬يحلمون اآلن‪ ،‬في العراق وليبيا واليمن بالذات‪ ،‬يحلمون‬ ‫ذات يوم بديكتاتور يأتي من رحم رغبتهم في الخالص من هذه‬ ‫الفوضى‪ ،‬يحكم بيد من حديد ويستبد بنا لعشرات السنين القادمة؟‬ ‫حاكم آخر‪ ،‬من أسرة أخرى‪ ،‬يستبد بنا كما يريد‪ ،‬ويسوق أمام سوطه‬ ‫البالد والعباد‪ ،‬ويستورد لنا الهدوء ولو من الصين‪ ،‬ويبيع لنا األمن‬ ‫واألمان ولو بالعملة الصعبة‪ ،‬ويمأل سجونه بالمعارضين وحبال‬ ‫مشانقه بالرقاب وضجيج شوارعه بالصمت‪ ..‬فهل سيصل بنا هذا‬ ‫اليأس إلى أن نصرخ بالفاروق عمر ذات يوم‪« :‬دعه يستعبد الناس يا‬ ‫عمر‪ ،‬مادامت الحرية ستخلق منهم عبيدً ا للفوضى!!» أليس كذلك‬ ‫أيها الفاروق؟!!‬

‫‪81‬‬



‫اقر�أوا «جو�ستاف لوبون»‬ ‫(‪)1‬‬

‫منذ عام (‪ 1895‬م) كان عالم االجتماعي الفرنسي «جوستاف‬ ‫ّ‬ ‫وشخص لنا كل شئ‪ ،‬ولكن‪ ،‬قدر‬ ‫لوبون» قد وضع يديه على الداء‪،‬‬

‫العلماء الحقيقيين أن كنوزهم غنيمة للتجاهل على غير عادة الكنوز‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫منذ عام (‪ )1895‬كتب «جوستاف لوبون» دراسته الشهيرة‬ ‫الذائعة الصيت التي عنونها بـاسم جذاب مثير لالنتباه هو‪« :‬علم‬

‫نفس الجماهير»‬

‫(‪)3‬‬

‫لو كان في المؤتمر الوطني العام من يقرأ‪ ،‬لو كان في مجلس‬

‫النواب من يقرأ‪ ،‬لوكان في لجنة الدستور من يقرأ؟ لو كان في الحكومة‬ ‫‪83‬‬


‫من يمأل رأسه بكالم العلماء‪ ،‬لو أن المرشحين والقادة ومحترفي‬ ‫الصراخ على المنصات‪ ،‬قرأوا «علم نفس الجماهير» لهذا العالم‬ ‫الذي شبع موتًا منذ «‪ »118‬عا ًما بالتمام والكمال‪ ،‬ألحيوا في صدورهم‬ ‫ملكة المعرفة‪ ،‬وألبصروا المشهد بشكل مختلف‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫في دراسته الكنز‪ ،‬يقول جوستاف لوبون إن «الجماهير لم تعد تريد‬ ‫اليوم آلهة كان أسيادها السابقون قد تنكروا لها باألمس وحطموها‪،‬‬ ‫فاألنهار ال تعود أبدً ا إلى منابعها‪».‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫كنز «لوبون» الحقيقي تمثل في أنه دعا إلى أن نستعمل العلم‪،‬‬ ‫والعلم وحده‪ ،‬لفهم طبيعة ونفسية وعقلية هذه الجماهير‪ ،‬وبالتالي‪،‬‬ ‫فإن هذا العلم الكنز سيمكننا من أن نستوعب هذا السيل العارم من‬ ‫مشاعر الجموع الجارفة‪ ،‬وتهذيبه‪ ،‬وتوجيهه إلى بناء الدولة ً‬ ‫بدل من‬ ‫االستمرار في كونه سيال جار ًفا ال يستقر له قرار‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫ويعرفه بأنه الجمهور‬ ‫«لوبون» يقول بمصطلح «الجمهور النفسي»‪ّ ،‬‬ ‫الذي ينتج من تجمع بشري يضم خلي ًطا من األفراد ذوي الثقافات‬ ‫والميول والمستويات االجتماعية المتباينة‪ ،‬لكن كل هذه الفوارق يتم‬ ‫‪84‬‬


‫طمسها بلحظة واحدة‪ ،‬لتولد مكانها عقلية جمعية تخضع لما يسمى‬ ‫بقانون الوحدة العقلية للجماهير‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫بموجب هذا القانون تنعدم الفوارق الفردية بين كتلة البشر هذه‪،‬‬ ‫وتتجه كل مشاعرهم نحو هدف واحد‪ ،‬حتى أن الواحد منهم قد يتخذ‬ ‫ً‬ ‫معزول عن‬ ‫إجرا ًء عني ًفا من المستحيل أن يقدم عليه لو كان لوحده‬ ‫أيضا بشرط تواجده في‬ ‫هذا الجمهور النفسي الكبير الذي ال يرتبط ً‬ ‫مكان واحد‪ ،‬بل أن شحنة االنفعاالت هذه قد تنتقل عبر أثير البالد‬ ‫من شرقها إلى غربها لتحمل نفس المشاعر المتأججة لجماهير‬ ‫أخرى متواجدة فى نقاط جغرافية بعيدة عن بعضها كل البعد‪ ،‬وكأن‬ ‫«جوستاف لوبون» كان موجو ًدا معنا يومي ‪ 16‬و‪ 17‬فبراير وما تالهما‬ ‫من أيام‪ ،‬لكن هذا ليس كل شئ‪ ،‬ألن التعامل مع كتلة المشاعر هذه‬ ‫يستلزم مبضع جراح ال تردد عضو حكومة‪ ،‬اقرأوا جوستاف لوبون‪،‬‬ ‫وستعرفون المزيد!!‬

‫‪85‬‬



‫دكتاتورية المجاميع!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫في البرلمان اللبناني‪ ،‬ومنذ ما يقارب من عام‪ ،‬ثمة واقعة شدت إلى‬

‫الوراء عملية الديمقراطية التي يفترض أن اللبنانيين صاروا ضليعين‬ ‫فيها عكس بقية العرب‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫اجتمع أعضاء البرلمان‪ ،‬وفي عشر دقائق ال غير‪ ،‬اتفقوا على‬

‫التمديد ألنفسهم لسنة وخمسة أشهر‪ ،‬بعد أن انتهت مدة واليتهم‬

‫األصلية وصار لزا ًما عليهم الخضوع النتخابات جديدة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫الحجج طب ًعا كانت كثيرة‪ ،‬وأهمها الوضع المتوتر في سوريا‪،‬‬

‫ولكن‪ ،‬الديمقراطية نفسها كانت تستمع إلى الحجة وال تبتسم‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫(‪)4‬‬

‫نواب يجددون ألنفسهم؟؟‪ ،‬قطعة صغيرة من لوحة فسيفساء هائلة‬ ‫الحجم‪ ،‬اسمها على ما أذكر‪ ،‬ديكتاتورية الفرد‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫ال أدري‪ ،‬هل حان الوقت لنسأل‪ ،‬هل تخلص العرب من دكتاتورية‬ ‫الفرد ليسقطوا في أسر دكتاتورية الجماعة؟‬ ‫(‪)6‬‬

‫ٍ‬ ‫اتجاه‬ ‫مؤشرا ال يتجه إال إلى‬ ‫أعتقد أن كل الخيوط اآلن صارت‬ ‫ً‬ ‫واحد‪ ،‬مجاميع من البشر‪ ،‬مهندمين متأنقين‪ ،‬أو غبر شعث‪ ،‬أو وسط‬ ‫بين هذا وذاك‪« ،‬جمهور نفسي» كما يراه «جوستاف لوبون»‪ ،‬وهذا‬ ‫الجمهور يمارس اآلن نفس الدكتاتورية لتي كان يمارسها الطغاة‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫في لبنان‪ ،‬نواب يمددون ألنفسهم في ظرف عشر دقائق لسنة‬ ‫ونصف‪،‬وفي مصر‪ ،‬جماعة واحدة تصل إلى الحكم لكنها تكفر‬ ‫بمبدأ المشاركة بعد ذلك وتبدأ في تأميم الديمقراطية لصالحها‪ ،‬قبل‬ ‫أن ُيطاح بها بعد ذلك‪ ،‬وفي تونس تنهش الخالفات جسد صندوق‬ ‫االقتراع بينما يتربص به من ينكرونه من األساس‪ ،‬وفي العراق غول‬ ‫المذهبية يطعن فكرة الحرية في الصميم كل يوم فيخلف وراءه‬ ‫‪88‬‬


‫عشرات القتلى‪ ،‬والسؤال اآلن‪ ،‬هل قتلنا الديمقراطية بالضجيج؟‬ ‫وهل استبدلنا دكتاتورية الفرد بطغيان الجماعة؟ الشواهد كثيرة‪،‬‬ ‫واألسئلة أكثر‪ ،‬ولكن‪ ،‬هل من جواب؟‬

‫‪89‬‬



‫دين �أبوهم يبقى �إيه؟‬ ‫(‪)1‬‬

‫رائعة وجدتها تنتظر أصابعي على حائط إبداع الشعر العتيد الموغل‬

‫في الروعة‪ ،‬قصيدة للشاعر المصري الجميل «جمال بخيت»‪..‬‬

‫لسحرا!!‬ ‫أعادتني لذلك الحديث الشريف‪ :‬إن من البيان‬ ‫ً‬ ‫(‪)2‬‬

‫«دين أبوهم يبقى إيه؟!! «‪ ..‬هذا هو عنوان القصيدة‪ ،‬ومحورها‪،‬‬

‫وسؤالها الكبير‪ ،‬وسر روعتها وتفردها وقسوتها في السؤال‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫«دين أبوهم يبقى إيه؟!‪ ..‬لقد صدق «جمال بخيت»‪ ،‬وها نحن‬

‫نسأل معه‪ ،‬نعم‪ ،‬دين أبوهم يبقى ايه؟‬ ‫‪91‬‬


‫(‪)4‬‬

‫هؤالء الكائنات‪ ،‬الذين يلبسون الليل عباء ًة سيئة السمعة‪،‬‬ ‫ويخرجون من كهوفهم كالخفافيش ليقتلوا ويغتالوا ويلوثوا سكينة‬ ‫الناس بالعبث‪ ،‬وأمن العباد بالتخريب‪ ،‬ويقين البشر بالشائعات‪،‬‬ ‫وسمعة ليبيا بالتشويه‪« ..‬دين أبوهم يبقى إيه؟!»‬ ‫(‪)5‬‬

‫هؤالء المسوخ‪ ،‬الذين ينتهكون حرمة الوطن بالسرقة‪ ،‬وينهبون‬ ‫كل شئ فيه بال خجل‪ ،‬يسكنون المباني العامة بال خجل‪ ،‬ويغتصبون‬ ‫الشوارع كي تتسع منازلهم بالحرام‪ ،‬ويمألون الدنيا بالضجيج كي‬ ‫ال ينام الوطن‪ ..‬دين أبوهم يبقى إيه؟!!»‬ ‫(‪)6‬‬

‫هؤالء األشباح‪ ..‬الذين يقوضون أسس الوطن كي ال تنهض‬ ‫المؤسسات‪ ،‬ويعرقلون قيام الدولة كي ال تخلو جيوبهم من المال‬ ‫وأيديهم من السالح‪« ،‬دين أبوهم يبقى إيه؟!!»‬ ‫(‪)7‬‬

‫هؤالء المريبون‪ ..‬الذين ال وطن لهم سوى جيوبهم‪ ،‬وال انتماء‬ ‫لهم سوى ألنفسهم‪ ،‬وال تراب لهم سوى تلك الحفنة التي ستمتلئ بها‬ ‫ٍ‬ ‫بلحظة يضحكون فيها‬ ‫الحدقة ساعة الممات‪ ..‬وال إحساس لهم إال‬ ‫‪92‬‬


‫ولو كان الثمن أن يبكي الوطن‪ ..‬هؤالء‪« ،‬دين أبوهم يبقى ايه؟!!»‪..‬‬ ‫هل يعرف أحدكم الجواب؟!!‬

‫‪93‬‬



‫ربيع الحيوانات المنوية‬ ‫(‪)1‬‬

‫«عمار الزين»‪ ،‬األسير الفلسطيني في سجون االحتالل‪ ،‬والمحكوم‬ ‫أخيرا في الهروب من سجنه رغم أنه لم يغادر‬ ‫بالسجن المؤبد‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ينجح ً‬ ‫قضبانه الحديدية وباب زنزانته محكم اإلغالق بعد‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫هذه ليست أحجية‪ ،‬لكن علم النفس الذي يقول إن ثمة شخصيات‬ ‫متعددة تسكن نفس الجسد البشري‪ ،‬ربما يوافق على هذا الخبر‪،‬‬ ‫باعتبار أن تواجد األسير المذكور خارج سجنه لن يكون بالضرورة‬ ‫بخروجه إلى الهواء الطلق‪ ،‬فقد يمكن أن يتم الهروب عبر هروب‬ ‫«جزء» منه‪ ،‬إذا كان صع ًبا أن يهرب الكل‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫الحل كان مرهونًا بيد التقنية الطبية الغربية الحديثة‪ ،‬وكأن الغرب‬ ‫‪95‬‬


‫شخصيات متعددة تسكن نفس الجسد‪ ،‬هناك غرب استعمار بشع‪،‬‬ ‫وهناك غرب مجلس أمن يخذلنا أحيانًا وينصرنا حينًا‪ ،‬وهناك غرب‬ ‫ينشر قيم التحلل المجتمعي واالخالقي‪ ،‬وهناك غرب يقدس القانون‬ ‫وينحاز إلى الحريات ويرفض انتهاك حقوق االنسان بأي شكل‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫هناك غرب يغض الطرف عن اإلرهاب هنا‪ ،‬ويحاربه هناك‪ ،‬وهناك‬ ‫غرب يس ّلح المعارضة هنا ويتبرأ منها هناك‪ ،‬هناك غرب المصالح‬ ‫هنا‪ ،‬وهناك غرب القيم هناك‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫هذا الغرب المحير‪ ،‬غرب الشخصية المتعددة التي تسكن نفس‬ ‫الجسد ’ هو بالذات وفي صورة «غرب التقنية الطبية المتفوقة»‪ ،‬هو‬ ‫من قدم يد العون لألسير الفلسطيني «عمار الزين» لكي يهرب من‬ ‫سجنه رغم أنه لم يغادر زنزانته مطل ًقا‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫هرب األسير‪ ،‬بالتحديد تمكن من «تهريب» حيواناته المنوية إلى‬ ‫رحم زوجته التي ستنجب منه بتقنية «أطفال األنابيب» ً‬ ‫طفل سيحمل‬ ‫راية المقاومة‪ ،‬وسيحمل اسم أبيه‪ ،‬وسيحمل خشبة قضيته الكبرى‬ ‫على ظهره‪ ،‬كل هذا سيحدث واألسير الفلسطيني لم يغادر سجنه بعد‪.‬‬ ‫‪96‬‬


‫(‪)7‬‬

‫ربيع تالعب‬ ‫تقنية أخرى يعيش بها هذا الربيع‪ ،‬ربيع المقاومة‪ٌ ،‬‬ ‫باسمه الجميع‪ ،‬وألبسوه خري ًفا أو شتا ًء‪ ،‬أو صي ًفا‪ ،‬كل حسب أغراضه‬ ‫ربيع لم أره في صورته المشرقة كما رأيته في هذا‬ ‫وخططه ونواياه‪ٌ ،‬‬ ‫المشهد‪ ،‬مشهد «عمار الزين» وهو يرسل حيواناته المنوية إلى رحم‬ ‫ٍ‬ ‫زنزانة ال يتسرب من بابها‬ ‫زوجته‪ ،‬فقد‪ ،‬كي ال يموت الوطن داخل‬ ‫حتى الهواء‪ ،‬لكن الحيوانات المنوية تفعل ذلك اآلن!!‬

‫‪97‬‬



‫ربيع الثورة �أم ربيع الدولة؟!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫لن نختلف على أنه تغيير‪ ،‬سوا ًء كان في البرازيل وتركيا كما يحدث‬ ‫اآلن‪ ،‬أو في تونس وليبيا ومصر كما حدث ساب ًقا‪ ،‬مع االحتفاظ بحق‬ ‫ٍ‬ ‫ظروف خاصة لم تفصح‬ ‫االستثناء لتغيير اليمن الذي تم تدجينه في‬ ‫عن تفاصيلها حتى اآلن‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫هو إذن ربيع‪ ،‬بمعنى التجدد واالنبعاث‪ ،‬وبمعنى خروج البذرة من‬ ‫ظالم تربتها وقد تحولت إلى نبت ًة مزدهرة‪ ،‬ولكن‪ ،‬صرنا اآلن نسأل‬ ‫ونتسائل‪ :‬هل كان ربي ًعا للثورات فقط؟ أم أن ربيع الثورة هنا صار‬ ‫يعني بالضرورة خريف الدولة؟‬ ‫(‪)3‬‬

‫على إجابة مثل هذا السؤال يتوقف كل شئ‪ ،‬فهل يحق لنا اآلن‬ ‫‪99‬‬


‫ٍ‬ ‫لجزء ضئيل من جواب شاسع‬ ‫أن نمعن في محاولة التصدي ولو‬ ‫ومتسع؟!‬ ‫(‪)4‬‬

‫دائما ضربة البداية في لعبة التحول هذه‪ ،‬أن تثور على أمر‬ ‫الثورة هي ً‬ ‫واقع‪ ،‬فأنت ال تحتاج إال لفعل الحركة‪ ،‬وال يلزمك سوى االنتفاض‪،‬‬ ‫وال يليق بك إال أن تصرخ وتتظاهر وتمأل الشوارع بالغاضبين‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫أن تجرؤ على تغيير وإسقاط ٍ‬ ‫كيان مستبد‪ ،‬فأنت تحتاج إلى التسرع‬ ‫في الهجوم‪ ،‬وأن ال تفكر مرتين قبل أن ترمي مدرعة أمن الدولة‬ ‫بحجر‪ ،‬فمن طبيعة الثائر أنه ال يفكر مرتين‪ ،‬ولو فعل الثوار ذلك ما‬ ‫قامت ثورة في تاريخ البشر‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫هذا هو قانون الثورة‪ ،‬لكن قانون الدولة ال يعترف بذلك‪ ،‬ألن‬ ‫طبيعة الدولة أن تفكر عشر مرات‪ ،‬وطبيعة رجل الدولة أن يحلل‬ ‫الوضع الراهن‪ ،‬وطبيعة زعيم الدولة أن يقرأ خطابه لألمة من‬ ‫ً‬ ‫مسبقا‪ ،‬وطبيعة رجل الدولة أن يتأمل ويراجع‪ ،‬ألن‬ ‫ورقة معد ًة‬ ‫من طبيعة األبنية الراسخة أن تحفر قواعدها جيدً ا‪ ،‬وإال انهارت‬ ‫على رؤوس ساكنيها‪.‬‬ ‫‪100‬‬


‫(‪)7‬‬

‫هنا نصل إلى المفترق‪ ،‬وعند هذا المفترق بالذات‪ ،‬كان على الثورة‬ ‫دائما أن تسلم القيادة إلى الدولة وترجع مشكورة إلى قواعدها التي‬ ‫ً‬ ‫انطلقت منها‪ ،‬إلى الشارع‪ ،‬ليظل الشارع هو الرقيب على الدولة إذا‬ ‫ما تجاوزت‪ ،‬وربما سر مشاكلنا أن هذا التسليم واالستالم لم يحدث‬ ‫إلى اآلن‪ ،‬ويبدو أن هناك من يصر على أن يقتصر الربيع على الثورة‬ ‫ٍ‬ ‫بخريف مؤبد ال نهاية له‪.‬‬ ‫فقط‪ ،‬بينما ُيحكم على الدولة‬

‫‪101‬‬



‫طاعة الدولة ودولة الطاعة‬ ‫(‪)1‬‬

‫الزمن‪ ،‬السنة الحادية عشر للهجرة‪ ،‬والحدث‪ ،‬أبوبكر الصديق‬

‫يتأهب لخالفة المسلمين بعد وفاة النبي األمي محمد عليه أفضل‬

‫الصالة والسالم‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫إن الصحابي الجليل يستعد ليقود الدولة الناشئة‪ ،‬ثمرة الثورة التي‬

‫أطاحت بالنظام المشرك القديم‪ ،‬وحطمت األصنام الراسخة‪ ،‬وقضت‬

‫على معالم المجتمع الوثني بعد ٍ‬ ‫كفاح مستميت‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫ٍ‬ ‫إجراء‬ ‫كان الرجل إذن يستعد ليعلن والدة الدولة ونهاية الثورة‪ ،‬في‬

‫ال بد منه كي تستمر الحياة‪ ،‬فلكي يعيش الناس وتزدهر المصالح‬ ‫‪103‬‬


‫وتعمر األرض‪ ،‬ال بد لهم من دولة‪ ،‬ألن الثورة ال تضمن لهم شئ من‬ ‫ذلك‪ ،‬الدولة وحدها تستطيع‪ ،‬فماذا طلب «الصد ّيق» من شعبه آنذاك؟‬ ‫(‪)4‬‬

‫لقـد كانت الجملة األبرز في خطابه التاريخي هي‪« :‬اطيعوني‬ ‫ما أطعت الله فيكم»‬ ‫(‪)5‬‬

‫لقد طلب الرجل إذن «الطاعة» من الشعب‪ ،‬طلب الطاعة من‬ ‫«الثوار السابقين»‪ ،‬أولئك الذين حطموا اسطورة قريش في غزوة‬ ‫بدر‪ ،‬وصمدوا للتحديات في غزوة األحزاب‪ ،‬وخلصت لهم المدينة‬ ‫من هيمنة اليهود على رأس المال‪ ،‬ثم اجتاحوا مكة في عشرة آالف‬ ‫«ثائر»‪ ،‬لكن هذا لم يكن كل شئ‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫يغيرون الوضع القائم‪ ،‬ويحطمون‬ ‫إن «ابابكر» يعرف جيدً ا إن الثوار ّ‬ ‫القوالب الجامدة‪ ،‬ويطيحون كالزلزال بكل شئ‪ ،‬لكن الدولة ال تبنيها‬ ‫الزالزل‪ ،‬والثوار ليسو هم الوصفة المثالية لقيام الدولة على أي حال‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫لهذا كان «أبوبكر» يطلب الطاعة‪ ،‬فقد كان يعرف أنه لن يتمكن‬ ‫‪104‬‬


‫من بناء دولة ما لم تكن هناك طاعة‪ ،‬وكان يعرف أن الثورة فعل تمرد‪،‬‬

‫لكن الدولة فعل طاعة‪ ،‬وما أبعد الفارق بين تمرد وطاعة‪ ،‬وما أوسع‬

‫الهوة بين ثورة انتصرت‪ ،‬وثورة ترفض أن تقتنع بأن اكتمال انتصارها‬ ‫لن يكون إال بخضوعها لمنطق قيام الدولة‪ ،‬وأن تمام هزيمتها أن‬

‫تتمرد على حقيقة كونها ستصبح دول ًة في نهاية المطاف‪ ،‬فهل هذا‬

‫كل شئ؟!!‬

‫(‪)8‬‬

‫محافظ إحدى أكبر المدن العربية يعتذر‪ ،‬والحكومة تعتذر‪،‬‬

‫والسبب هو قيام عمال النظافة بمحو الرسوم الجدارية التي خطها‬

‫قرارا آخر يصدر بإعادة هذه الرسوم من‬ ‫الشباب أيام الثورة‪ .‬بل أن ً‬

‫جديد‪ ،‬إن الدولة تنحني مجد ًدا للثورة‪ ،‬فهل يمكن أن نتنبأ بزوال‬

‫سطوة القرار الرسمي أمام طغيان رد الفعل في الشوارع والميادين‪،‬‬ ‫وإلى متى؟؟‬

‫(‪)9‬‬

‫قرارا بإقالة النائب العام‪ ،‬لكن النائب‬ ‫رئيس دولة عربي‪ ،‬يتخذ ً‬

‫العام يتجاهل القرار ويذهب الى مكتبه في صباح اليوم التالي وكأن‬ ‫شي ًئا لم يكن‪ ،‬فيضطر الرئيس إلى «ابتالع» قراره والتنازل على اقالة‬

‫النائب العام‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫(‪)10‬‬

‫قيادات «التيارات السياسية» ينتقدون تراجع الرئيس عن قراره‬ ‫ويهددون بمليونية غضب‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫هذا نموذج صغير‪ ،‬وصغير جدً ا مما حدث ساب ًقا في مصر‪ ،‬فماذا‬ ‫يجري في تونس اآلن‪..‬؟‬ ‫(‪)12‬‬

‫حظرا على التظاهرات في وسط العاصمة ـ‬ ‫الحكومة تفرض‬ ‫ً‬ ‫انقا ًذا لموسم السياحة في تونس ـ فيكون رد الفعل مظاهرات غاضبة‬ ‫واشتباكات عنيفة مع الشرطة خلفت اصابات وجرحى‪.‬‬ ‫(‪)13‬‬

‫هذا بعض من مشهد مصر وتونس‪ ،‬أما مشهدنا الليبي فأنتم أدرى‬ ‫به مني ألف مرة‪ ،‬ولكن سيظل السؤال قائما‪ :‬إلى أي ٍ‬ ‫حد حطمت‬ ‫ً‬ ‫ثورات الربيع العربي منطق «الطاعة» في دولها؟ وهل يمكن أن نبني‬ ‫دولة ما دون منطق «الطاعة «؟‬ ‫(‪)14‬‬

‫نفس السؤال يطرح نفسه من جديد‪ ،‬هل حطم «الثوار» أسوار‬ ‫‪106‬‬


‫كتائب الطغاة‪ ،‬وكسروا حواجز الخوف األسطورية من القبضة‬ ‫الحديدية لألنظمة المستبدة لمجرد إسقاط حكام مستبدين؟‪ ،‬أم أن‬ ‫هذا الطوفان سيستمر وسيكبر إلى أن يصبح هو نفسه «حاجز خوف»‬ ‫عمالق ترتجف أمامه الدولة حيث أن نموها سيتوقف عند حد كونها‬ ‫كيان ورقي شفاف هامشي ال صوت له وال رأي‪.‬‬ ‫(‪)15‬‬

‫هذا هو السؤال الكبير‪ ،‬وهو نفسه االستحقاق الذي يجبرنا اآلن‬ ‫على التفكير مجد ًدا بصوت عال‪ :‬هل ستحتاج الدولة إلى كسر حاجز‬ ‫خوفها من الثورة كي تنهض من جديد؟ ربما‪ ..‬من يدري!!‬

‫‪107‬‬



‫طاغية هلل يا مح�سنين‬ ‫(‪)1‬‬

‫هذا العبث‪ ،‬هذا االنفالت األخالقي واإلداري والسياسي المريع‪،‬‬

‫هل سيصل بنا ذات يو ٍم كي نذرع الشوارع صارخين‪« :‬طاغية لله‬ ‫يا محسنين»؟‬

‫(‪)2‬‬

‫سؤال طرحته على أحد األصدقاء‪ ،‬فغرق في الضحك‪ ،‬ثم غرق‬

‫في الصمت‪ ،‬والزال صامتًا حتى اآلن‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫ربما يستنكر أحدكم عنوان هذا المقال‪ ،‬ولكن‪ ،‬وقبل أن تتسرعوا‬

‫في الحكم سأقول لكم إني لست من هواة االستبداد‪ ،‬وال من دعاة‬

‫الطغيان‪ ،‬فأنا كاتب وأديب‪ ،‬ولم يشهد التاريخ على مر عصوره متعاط ًيا‬ ‫‪109‬‬


‫باألدب وقع في غرام طغيان‪ ،‬ألن الطغيان يدوس على اإلبداع بحذائه‪،‬‬ ‫والطغيان يسحل الروح‪ ،‬والطغيان يمسح معالم الشخصية‪ ،‬لذلك‬ ‫لم يخلق بعد الكاتب الحقيقي الذي ينحاز لقضية طاغية‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫هذا هو التوضيح أيها السادة‪ ،‬ولكن‪ ،‬عندما تنهي الثورة أسطورة‬ ‫طاغية واحد‪ ،‬ليولد ً‬ ‫بدل منه آالف الطغاة‪ ،‬أال يحق لنا أن نذرع الشوارع‬ ‫صارخين‪ :‬طاغية لله يا محسنين؟‬ ‫(‪)5‬‬

‫عندما يستبد بك الطغاة في كل شئ‪ ،‬يكسرون أمامك إشارة‬ ‫المرور‪ ،‬ويتجولون في الميادين بسيارات ال تحمل لوحات معدنية‪،‬‬ ‫ويقلقون منام أطفالك بضجيج سياراتهم التي ال يدركها العطب‪،‬‬ ‫ويسبونك بال خجل إذا ما بدر منك احتجاج‪ ،‬ويرفعون في وجهك‬ ‫«الكالشينكوف» إذا ما طلبت منهم أن يخففوا سرعتهم كي ال يموت‬ ‫طفلك‪ ،‬عندما يحدث لنا كل هذا‪ ،‬أال يحق لنا أن نذرع الشوارع‬ ‫صارخين‪ :‬طاغية لله يا محسنين؟‬ ‫(‪)6‬‬

‫عندما يلوث المستبدون الجدد روحك‪ ،‬ويدوسون على قداسة‬ ‫التراب بالتعدي‪ ،‬ويدمرون آثار الحضارات العظيم بالبوكلينات‪،‬‬ ‫‪110‬‬


‫ٍ‬ ‫بتوحش مقيت على المباني العامة‪ ،‬ويسكنون العيادات‬ ‫ويعتدون‬

‫والمدارس‪ ،‬ويهدمون أسوار المنتزهات ليشيدوا لهم المحالت‬

‫الخاصة‪ ،‬ويقتلون األراضي الزراعية بغابات االسمنت‪ ،‬ويحرقون‬

‫األشجار عن سابق تصور وتصميم‪ ،‬عندما يحدث لنا كل هذا‪ ،‬أال يحق‬ ‫لنا أن نذرع الشوارع صارخين‪ :‬طاغية لله يا محسنين؟‬ ‫(‪)7‬‬

‫عندما تصبح «ليبيا» بالنسبة لنا مجرد خزانة عامرة بالمال‪ ،‬ننهبها‬

‫وننهبها حتى تصبح خاوي ًة على عروشها من االفالس‪ ،‬وعندما يحول‬

‫العابثون مناسباتنا إلى جبهات حروب‪ ،‬وسياسات حكومتنا إلى‬

‫دهاليز غامضة‪ ،‬وخالفات كتلنا السياسية إلى موت واغتيال‪ ،‬عندما‬ ‫يحدث لنا كل هذا‪ ،‬أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين‪ :‬طاغية‬

‫لله يا محسنين؟‬

‫(‪)7‬‬

‫عندما نسئ فهم الوطن‪ ،‬وعندما نفشل في اختبار الحرية‪ ،‬ونرسب‬

‫في امتحان الديمقراطية‪ ،‬ونصغر في عيون اآلخرين حتى نصبح أقل‬

‫من ذرة غبار‪ ،‬عندما يحدث لنا كل هذا أيها السادة‪ ،‬ويتكاثر على‬

‫وجوهنا الطغاة‪ ،‬أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين‪ :‬طاغية لله‬

‫يامحسنين؟‬

‫‪111‬‬



‫طغاة الربيع العربي!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫تغول الشعب على السلطة‪ ..‬هل هو رد فعل على تغول السلطة‬

‫السابق على الشعب؟‬

‫(‪)2‬‬

‫في علم النفس ثمة إشارات عن ردود افعال كهذه‪ ..‬فاالستبداد‬

‫ّيولد بدوره استبدا ًدا‪ ،‬الفعل هنا متشابه لكن االتجاه يختلف‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫يمكن تشبيه األمر بمن يزرع بذرة في جوف األرض‪ ،‬إن اتجاه‬

‫البذرة إلى األسفل‪ ،‬لكن رد الفعل المتمثل في النمو يكون في االتجاه‬

‫المعاكس‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫(‪)4‬‬

‫هكذا يبدو المشهد اآلن في دول الربيع العربي بشكل عام‪ ،‬ثمة‬ ‫طغيان مضاد يمارسه الشارع اآلن ضد السلطة‪ ،‬وهو طغيان يتخذ‬ ‫نفس المسار القديم‪ ،‬لكنه‪،‬وهو يصنع مشهده المغاير‪ ،‬ال يدرك أنه‬ ‫يقع في نفس الخطأ القديم‪ ،‬فإذا كانت هذه الجموع قد ثارت على‬ ‫طغيان السلطة المستبدة‪ ،‬فإنها تمارس اآلن نفس ما كانت تمارسه‬ ‫ضدها السلطة‪ ،‬إن الشارع يستبد اآلن‪ ،‬ويطور آليات استبداده إلى‬ ‫آليات طغيان حقيقية تماثل بالضبط اآلليات القديمة‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫كم أتمنى أن تصبح هذه الفرضية محل نقاش من مفكرينا وأدباءنا‬ ‫الذين التزموا جانب الصمت طيلة هذه المدة‪ ،‬نحتاج ً‬ ‫فعل لجبهة قتال‬ ‫فكرية نناقش من خالل التوجه إليها مفاهيم ما بعد الثورة‪ ،‬ونطرح‬ ‫معها عشرات األسئلة‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫إن مشهد اقتحام البعض للمقرات االدارية الرسمية للدولة في‬ ‫ليبيا‪ ،‬ومشهد الشرطة التونسية وهي تتظاهر للمطالبة باألمان من‬ ‫هجمات السلفيين‪ ،‬ومشاهد أهالي الشرقية في مصر وهم يرشقون‬ ‫نائب المحافظ بالحجارة‪ ،،‬هي مشاهد ال ينبغي أن تمر على الذاكرة‬ ‫مرور الكرام‪.‬‬ ‫‪114‬‬


‫(‪)7‬‬

‫السلطة هنا تُمتهن‪ ،‬إنها تعاني اضطها ًدا من الناس‪ ،‬والسلطة هنا‬ ‫تهرب‪ ،‬ألنها ال تشعر باألمان‪ ،‬لذلك تريد أن تلجأ إلى مكان يقيها‬ ‫تغول الناس عليها‪ ،‬والناس هنا يستبدون‪ ،‬إنهم يمارسون فعل الطغيان‬ ‫على السلطة‪ ،‬لم يتغير شئ إذن‪ ،‬مازال هناك طغاة‪ ،‬ومازال هناك‬ ‫ضحايا للطغيان‪ ..‬فقط تم استبدال األدوار‪ ،‬وفي كال المشهدين‪،‬‬ ‫السابق والالحق كانت الدولة هي الضحية‪ ،‬فطيلة عشرات السنين‬ ‫من استبداد السلطة بالناس تعطلت الدولة ولم تتشكل مكوناتها‬ ‫ومؤسساتها‪ ،‬واآلن‪ ،‬الزلنا نعاني من تغول مضاد‪ ،‬لكنه هو اآلخر‬ ‫ُيصنع كما كان سابقه ُيصنع‪.‬‬ ‫إن استبداد الناس وتغولهم على السلطة يمنع الدولة من التشكل‪،‬‬ ‫فهل آن لنا أن نضع األمور في نصابها لتولد الدولة في ليبيا‪ ،‬وهل آن‬ ‫األوان لتنهض الدولة من فوضى االحتجاجات في مصر وتونس إلى‬ ‫ثوابت الطاعة التي ال قيام للدولة بدونها؟!!‬

‫‪115‬‬



‫عاجل‪ً ..‬‬ ‫جدا‬ ‫(‪)1‬‬

‫خبر عاجل‪ ،‬ربما هو الحل العاجل‪ ،‬أو ربما هو الوهم الذي صرنا‬ ‫نركع على أعتاب قدميه كي ال يزول‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫الخبر يقول إن العلماء قد اكتشفوا كوكب جديد‪ ،‬غني بالمياه‪،‬‬ ‫حارا بعض‬ ‫ويقارب حجمه حجم كوكب األرض‪ ،‬وإنه قد يكون ً‬ ‫الشئ ألن غطاءه الجوي كثيف‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫خبر جيد‪ ،‬كوكب آخر‪ ،‬وهذا يعني أن السنة بامكانهم أن يرحلوا‬ ‫إلى هناك ويتركوا الشيعة هنا‪ ،‬أو أن يبقى السنة ويرحل الشيعة‪ ،‬هذا‬ ‫بالنسبة للمسلمين‪ ،‬أما بالنسبة «للنصارى» فال مشكلة‪ ،‬فقد اقلعوا‬ ‫منذ زمن عن العراك بهذا الخصوص‪.‬‬ ‫‪117‬‬


‫(‪)4‬‬

‫خبر جيد‪ ،‬كوكب جديد‪ ،‬هذا يعني أن بإمكان بشار األسد أن‬

‫يصحب أنصاره إلى فوق‪ ،‬ويترك «الجيش الحر» تحت‪ ،‬أي «هنا»‪ ،‬أو‬

‫ربما يعني أن يرحل إلى «هناك» الجيش الحر ليترك الجمل بما حمل‬ ‫لبشار‪ ،‬وأن يأخذ الموت أجاز ًة طويلة هذه المرة‪.‬‬

‫أيضا أن بامكان باقي اليمنيين أن يجمعوا متاعهم‬ ‫وهو يعني ً‬

‫ويرحلوا إلى األعلى‪ ،‬تاركين األرض للحوثيين‪ ،‬ويا دار ما دخلك شر‪.‬‬ ‫وقد يعني أن جنوب السودان ربما سيرحل إلى «فوق»‪ ،‬تاركًا‬ ‫ٍ‬ ‫حاجة لتراكم الجثث كل يوم‪.‬‬ ‫األرض للشمال‪ ،‬بال‬ ‫(‪)5‬‬

‫كوكب جديد‪ ،‬بعيد جدً ا عن كوكب األرض‪ ،‬كوكب جديد بال‬

‫أرضا لم تزدحم بعد بالنزاعات‬ ‫بشر حتى اآلن‪ ،‬هذا يعني أن ثمة ً‬ ‫والحروب والعداء والكره والحب والخطوبة والزواج والطالق‬ ‫والنفقة ومؤتمرات األمم المتحدة ومؤامرات الساسة وفتاوى المشائخ‬ ‫وايقونات الكنائس وذكريات الشيوخ ونزق الشباب‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫كوكب جديد‪ ،‬أمل آخر في بداية جديدة لعلنا ننتج ً‬ ‫جيل أفضل‬

‫هذه المرة‪ ،‬ولعل خيبتنا تصغر اآلن بعض الشئ‪.‬‬ ‫‪118‬‬


‫(‪)7‬‬

‫كوكب جديد‪ ،‬ما رأيكم؟ شخص ًيا سأكون أول المغادرين‪ ،‬لعلي‬ ‫أولد هناك من جديد بعد أن شبعت موتًا هنا‪.‬‬

‫‪119‬‬



‫ف�ضيحة اليهودي الطيب!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫فجأة‪ ،‬قامت الدنيا‪ ،‬لكنها لم تقعد بعد‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫تغريدة على «تويتر»‪ ،‬مجرد تغريدة‪ ،‬فقط ال غير‪ ،‬جعلت اإلعالم‬

‫األوربي يصرخ كالملسوع‪ ،‬وأيقظت بركان الغضب من نومه الطويل‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫تغريدة على «تويتر»‪ ،‬مجرد نكتة عابرة تقول‪« :‬إن اليهودي الطيب‬

‫هو اليهودي الميت»‪ ،‬جعلت صحيفة «اللوموند» الفرنسية تشكو إلى‬

‫الله موقع تويتر‪ ،‬بل وتتساءل في غضب مجنون‪« :‬موقع تويتر هذا‪،‬‬

‫هل هو موقع نت أم سلة قمامة؟»‬

‫‪121‬‬


‫(‪)4‬‬

‫تغريدة على «تويتر»‪ ،‬مجرد سخرية عابرة من اليهود على شكل‬ ‫نكتة‪ ،‬جعلت منظمات حقوقية ومدنية شهيرة في فرنسا تحتج‬ ‫وبالصوت العالي مستنكرة «موجة معاداة السامية»‪ ،‬ومألت اقالم‬ ‫حبرا ليدقوا نواقيس الخطر حول «مدى الحد المسموح‬ ‫كتاب كبار ً‬ ‫به لحرية التعبير»‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫اخيرا‪ ،‬ونطقت أحجارها الصماء‬ ‫صحف فرنسية أخرى تكلمت ً‬ ‫بعد ٍ‬ ‫دهر من السكوت لتطالب بخط أحمر ينبغي أن يرسمه القانون‬ ‫ألولئك الذين ال يحترمون حقوق األقليات‪ ،‬وما كان هذا ليحصل‬ ‫بالطبع لوال تغريدة «اليهودي الطيب «‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫صحيفة «لوفيغارو» الشهيرة نادت صراح ًة بأن يكون هناك حد‬ ‫أقصى يحترم اآلخرين‪ ،‬وأن معاداة السامية هي خطر ينبغي التصدي له‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫هذا غيض من فيض‪ ،‬سطر واحد من كتاب كبير يختصر تفاهة‬ ‫وسطحية النظرة األحادية الغربية عندما يتعلق األمر بحرية الكلمة‪،‬‬ ‫فالكلمة حرة عندهم إذا ما كانت تنتهك حرمة اإلسالم‪ ،‬وهي مطلقة‬ ‫‪122‬‬


‫السراح متحررة من قيد الخطوط الحمر‪ ،‬وهي مقدسة ال رادع لها‬ ‫وال ماتع إذا ما تجرأت على نبي اإلسالم أو مقدسات المسلمين‪،‬‬ ‫أما إذا فكرت ولو لحظة باالقتراب من حرمة اليهود ولو بمجرد نكتة‬ ‫عابرة فالويل لكاتبها وقارئها ولموقعها ولكل من له صلة بها‪ ،‬وهنا‬ ‫انهارا ل ُيكتب‬ ‫تبرز الخطوط الحمراء وتنتصب الموانع ويسيل الحبر ً‬ ‫القانون من جديد‪ ،‬وتقوم الدنيا وال تقعد‪ ،‬والسبب‪ ،‬مجرد تغريدة‬ ‫على تويتر تروي مجرد نكتة عابرة تقول‪« :‬إن اليهودي الطيب هو‬ ‫اليهودي الميت!!»‬

‫‪123‬‬



‫قبيلة الخال�ص وخال�ص القبيلة‬ ‫(‪)1‬‬

‫خبر تمكن أعيان ومشائخ مدينة اجدابيا من إقناع نازحي تاورغاء‬ ‫بالعودة مؤقت ًَا عن مسيرهم نحو تاورغاء إلى حين مواصلة المحادثات‬ ‫مع أعيان مصراتة بهذا الشأن يفتح با ًبا طالما نادينا باالهتمام به‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫القضية أكبر من مجرد مدينة أو موقف طارئ‪ ،‬لكن ما أعنيه هنا‬ ‫هو أن أغلب األطياف السياسية في ليبيا تمارس السياسة بأسلوب‬ ‫ديمقراطية غربية مستوردة بالكامل‪ ،‬ودون االهتمام بإضافة مواصفات‬ ‫ليبية على هذه الديمقراطية‪ ،‬ولهذا سنظل نعاني إلى األبد من التعامل‬ ‫مع ديمقراطية هجين تستجيب لنا يو ًما وتلفظنا أيام‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫الديمقراطية بمواصفات ليبية‪ ،‬فحتى شركات السيارات انتبهت‬ ‫‪125‬‬


‫لهذا االختالف فأنتجت سيارات بمواصفات الدول التي تصدرها‬

‫إليها‪ ،‬لنعتبر الديمقراطية إ ًذا مجرد سلعة جديدة‪ ،‬أو سيارة حديثة‪،‬‬ ‫ولنطلبها بمواصفات ليبية حتى ال يصيبها العطب‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫ليبيا نتاج قبيلة‪ ،‬هذه حقيقة ال نستطيع أن نتجاهلها‪ ،‬وإذا تجاهلناها‬

‫فلن تتجاهل هي نفسها‪ ،‬ولن يفيدنا أن ندفن رؤوسنا في رمال‬

‫ديمقراطية ذات نتاج غربي بالكامل ما دامت التربة التي سنزرع فيها‬ ‫هذه الديمقراطية تربة مختلفة‪.‬‬

‫(‪)5‬‬

‫ليبيا نتاج قبيلة‪ ،‬والتاريخ القديم‪ ،‬عندما أخبرنا عن ليبيا ألول مرة‪،‬‬

‫أخبرنا عن قبائل تدعى التحنو والليبو والمشواش‪ ،‬وهيرودوتس‬

‫عندما وصف للعالم أرض ليبيا‪ ،‬وصف قبائل ولم يصف دولة‪،‬‬

‫والمستعمرون اإلغريق عندما وصلوا إلى ليبيا وجدوا أمامهم قبائل‬

‫الجيلجامي والنسامونيس وغيرهم‪ ،‬والرومان عندما احتلوا شرق ليبيا‬

‫وغربها وجنوبها قاومتهم قبائل الجرمنت والنسامونيس‪ ،‬والطليان‬ ‫عندما وصلوا إلى ليبيا قاومتهم قبائل وأدوار يعرفها التاريخ جيدً ا‪،‬‬

‫لذلك سنكون مخطئين إذا وضعنا القبيلة على الرف ونحن نؤسس‬ ‫لديمقراطية في ليبيا‪.‬‬

‫‪126‬‬


‫(‪)6‬‬

‫لهذا‪ ،‬كانت األحزاب التي وصلت إلى المؤتمر الوطني أحزا ًبا‬ ‫يتيمة األب واألم‪ ،‬ومعزولة تما ًما عن الشارع‪ ،‬ولهذا لم يكن لها تأثير‬ ‫فعلي خارج مبنى المؤتمر‪ ،‬ولهذه األسباب جمي ًعا أدعو الحكومة‬ ‫الليبية إلى الدعوة العاجلة لحوار وطني عاجل يضم إليه كافة قبائل ليبيا‬ ‫وأعيانها‪ ،‬فإذا ما نجح حوار قبائل ليبيا فسوف ينجح في ليبيا كل شئ‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫على هذا الحوار أن ُيقام‪ ،‬وعلى الحكومة أن تستثمر فور ُا نتائجه‪،‬‬ ‫وعلى الحكومة أن تعيد االعتبار للقبيلة إذا ما أرادت نزع مخالب‬ ‫التنظيمات العقائدية التي تتكاثر كل يوم‪ ،‬فال أحد سوى كيان القبيلة‬ ‫يمكنه أن يتصدى لكيان التنظيم العقائدي‪ ،‬وعلى األحزاب السياسية‬ ‫أن تدرك أنها خارج إطار فكرة القبيلة مجرد غرس في ٍ‬ ‫تربة بال جذور!‬

‫‪127‬‬



‫للكالب‪ ..‬فقط!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫بشرى‪ ..‬للكالب!!‬ ‫(‪)2‬‬

‫مادامت األخبار السارة ليست للبشر هذه األيام‪ ،‬فما المانع من‬

‫إدخال بعض السرور على نفوس الكالب؟!‬ ‫(‪)3‬‬

‫هذا ما فكر فيه السيد البروفيسور «نيكوالس دودمان‪ ،‬الطبيب‬

‫البيطري ومدير الدراسات العيادية في جامعة ماساشوسيت األمريكية‬

‫وزميلته «مدربة الكالب» البريطانية «فيكتوريا ستيلويل» وزميلهما‬

‫«ناشط حقوق الكالب» وارن إيكستين‪.‬‬ ‫‪129‬‬


‫(‪)4‬‬

‫القناة ستبث برامجها على مدار الساعة‪ ،‬وسترفه عن «الكالب»‬ ‫وتسليها‪ ،‬وستصل برامجها إلى (‪ )46‬مليون منزل في أمريكا وحدها‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫ستشاهد «الكالب» فقرات موسيقية‪ ،‬وأفالم الرسوم المتحركة‪،‬ولن‬ ‫تبث لها مشاهد العنف والسالح والمجازر‪،‬واالتهامات المتبادلة‪ ،‬هذه‬ ‫نحن سنشاهدها ً‬ ‫بدل عن «الكالب»!!‬ ‫(‪)6‬‬

‫تريدون المزيد؟ القناة ستبث من «إسرائيل»‪ ،‬ويبدو أن هذه الدويلة‬ ‫الشاذة قد وصلت إلى الذروة في االهتمام بحقوق البشر فاتجهت‬ ‫أيضا أن المثل القديم الذي يقول إن شر البلية‬ ‫إلى الكالب‪ ،‬ويبدو ً‬ ‫ما يضحك‪ ،‬قد تغير اآلن‪ ،‬ألن شر البلية أصبح مبك ًيا‪ ،‬وألن شر البلية‬ ‫أننا قد نبحث قري ًبا عن هذه القناة لنشاهدها ً‬ ‫بدل من قنوات األخبار‬ ‫والحوارات السياسية المشحونة بالغضب واالنفعاالت‪ ،‬والتي صارت‬ ‫تصيبنا بالسكر والضغط والغثيان‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫هل أبشركم بالمزيد؟ حسنًا‪ ،‬هاكم هذه البشارة‪ ،‬لقد أعلن أصحاب‬ ‫هذه القناة أنهم يفكرون جد ًيا في إطالق قناة أخرى‪ ،‬ولكن للقطط‬ ‫هذه المرة‪ .‬ودمتم!!‬ ‫‪130‬‬


‫ليلة عر�س «روان»‬ ‫(‪)1‬‬

‫في اليمن‪ ،‬بلد «توكل كرمان» حاملة «نوبل» لحقوق اإلنسان‪،‬‬

‫وفيما تنشغل «توكل» هذه بالسياسة في مصر‪ ،‬كانت طفل ٌة يمنية في‬ ‫الثامنة من عمرها تموت بتأثير النزيف الحاد‪ ،‬بعد أن تزوجت‪ ،‬أو‬

‫زوجها أهلها‪ ،‬أو زوجتّها التقاليد‪ ،‬أو زفها سلطان العادة المستبد‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إلى «ذكر» مستبد بدوره‪ ،‬عاملها كما تعامل النساء الناضجات ناز ًعا‬ ‫عنه ثيابه وانسانيته وإحساسه م ًعا‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫«الذكر»‪ ،‬في األربعين من عمره‪ ،‬أي أن عمره يعادل خمسة أمثال‬

‫عمر «الفريسة»‪ ،‬اقصد الزوجة‪،‬حسب نظر سلطان العادة المستبد‪.‬‬ ‫‪131‬‬


‫(‪)3‬‬

‫الطفلة‪ ،‬أي «الزوجة» كما وجدت نفسها فجأة‪ ،‬أي قطعة اللحم‬ ‫الغضة التي الكتها أنياب «الذكر» الزوج‪ ،‬أسمها‪ ،‬أو كان اسمها‪،‬‬ ‫«روان»‪ ،‬أما تقرير الطبيب الشرعي فقد كان فضيح ًة بكل المقاييس‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫التقرير أكد أن سبب وفاة «روان»‪ ،‬هو نزيف داخلي‪ ،‬وتمزق حاد‬ ‫في الرحم‪ ،‬مما ادى إلى وفاتها بعد فشل محاوالت األطباء إلنقاذها‬ ‫من مضاعفات «االعتداء الغاشم» للزوج «الذكر»‪،‬ذلك الذي نزع عنه‬ ‫ثيابه وإنسانيته وإحساسه م ًعا‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫بقية الخبر ال تقل «إحبا ًطا» عن بدايته‪،‬ألنها تقول إن محاوالت‬ ‫مضنية قد بذلت للتستر على الخبر ومنع نشره‪ ،‬وإن من قام بهذه‬ ‫المحاوالت هم بالتحديد سكان المنطقة التي تمت فيها هذه‬ ‫الجريمة‪،‬وإن السلطات المختصة لم تقم بأي إجراء عقابي ضد‬ ‫«الفحل» الذي انتهك إنسانية هذه الطفلة‪ .‬وذلك ألن سلطان هذه‬ ‫العادة المتوارثة في بعض مناطق اليمن‪،‬هو أقوى من كل السلطات‪،‬‬ ‫وأكثر فعالية من جميع القوانين‪ ،‬إذ أن تقليد «زواج القاصرات» هو‬ ‫ٍ‬ ‫قانون قديم يعتبر األنثى‬ ‫قانون نافذ بحد ذاته‪،‬يستمد مشروعيته من‬ ‫عارا ينبغي ستره بتسليمها في أسرع وقت لسلطة رجل‪ ،‬ومصطلح‪،‬‬ ‫ً‬ ‫‪132‬‬


‫«أسرع وقت» هذا يشمل بالطبع منطق أال ننتظر سن البلوغ لنستر العار‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫حادث موت «روان» ال يخص اليمن فقط‪ ،‬فهذه الجريمة تحدث‬ ‫أيضا في مصر‪ ،‬وكذلك السعودية ومعهما المغرب‪،‬وفي الكثير من‬ ‫ً‬ ‫مناطق العالم األخرى‪ ،‬ولكن‪ ،‬عندما أتحدث عن اليمن بالذات‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بثورة عارمة‪ ،‬تحدى فيها الشعب سلطة‬ ‫أتذكر أنها مرت منذ عامين‬ ‫أيضا أعود وأتساءل‪ ،‬هل كانت الثورة‬ ‫«علي عبدالله صالح»‪ ،‬وهنا ً‬ ‫في اليمن ثور ًة على السياسة فقط؟ وهل أن ثورات «الربيع العربي»‬ ‫هي ثورات إلسقاط أنظمة سياسية‪،‬أم أنها ثورات لتغيير قوانين جائرة‬ ‫اجتماع ًيا واقتصاد ًيا؟‬ ‫(‪)7‬‬

‫ال شئ تغير‪ ،‬فالماليين التي خرجت إلسقاط حكم «علي عبدالله‬ ‫صالح» لم تخرج لغير هذا الهدف‪ ،‬فيما ظلت الجرائم الكبرى على‬ ‫حالها‪ ،‬خارج نطاق ثورات الجماهير‪ ،‬وفي الواقع‪،‬يبدو أن الثورة‬ ‫حاكما كان اسمه «علي عبدالله صالح» فيما ظل «الذكر»‬ ‫أسقطت‬ ‫ً‬ ‫عرسا كل‬ ‫الفاقد النسانيته يغتصب كل يوم «روان» جديدة‪ ،‬ويقيم له ً‬ ‫نهاية اسبوع!!‬

‫‪133‬‬



‫الثعالب ور�أ�س الوطن!!‬ ‫تمهيد ال مفر منه‬

‫«أحيانًا‪ ،‬لكي نفهم السياسة البد أن نعرف شيئًا عن طبيعة الثعالب‪،‬‬

‫طب ًعا أرجو أن ال يستغرب أحدكم‪ ،‬أو أن يرميني البعض بجنون االرتياب‬

‫أو بالهرطقة القديمة‪ ،‬وأرجو كذلك أن ال يتسرع أحدكم ويقول إن الكاتب‬ ‫خرج عن صلب الموضوع‪ ،‬وأنه كتب مقال ًة عن الثعالب بدل أن يتحفنا‬ ‫ٍ‬ ‫بمقالة عن سياسة ليبيا وساستها وتسوس أسنان السياسة فيها هذه األيام‪.‬‬ ‫أنا لن أخرج عن الموضوع أيها السادة‪ ،‬كما أعدكم وعدً ا لن أخلفه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫حديث مطول معكم وإليكم عن‬ ‫بأن ثعالب الدنيا كلها لن تثنيني عن‬

‫المشهد السياسي الليبي كما أراه اآلن‪ ،‬لكن البداية ستكون‪ ،‬وعلى غير‬ ‫ٍ‬ ‫بثعلب مات منذ ألف سنة من اآلن‪ ،‬فهل أنتم على استعداد‬ ‫عادة البدايات‪،‬‬

‫لقراءة كاتب حزين يروي لحضراتكم شيئًا عن ٍ‬ ‫ثعلب مات منذ ألف سنة؟‬ ‫حسنًا‪ ،‬لنبدأ اآلن‪ .‬وال تنسوا أن تتذكروا معي تلك القاعدة الذهبية التي‬

‫تقول‪« ،‬أحيانًا‪ ،‬لكي نفهم السياسة البد أن نعرف شيئًا عن طبيعة الثعالب»‬ ‫‪135‬‬


‫(‪)1‬‬

‫«عابد بن ظالم السلمي» يركع لصنمه المفضل‪ ،‬يعبده بكل‬ ‫جوارحه ويخضع له‪ ،‬ففي ذلك الوقت‪ ،‬قبل ألف سنة من اآلن‪ ،‬كان‬ ‫الخضوع ألصنام الحجارة فقط‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫سلما لتلبية الرغبات‪،‬‬ ‫يركع «السلمي» لصنمه‪ ،‬يتوسل إليه ويتخذه ً‬ ‫ثم ينصرف إلى بعض شأنه على أمل لقاء قريب بمعبوده الجامد الذي‬ ‫ال يرف له جفن‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫يعود «عابد» إلى معبوده‪ ،‬مستعدً ا لمواصلة الطقوس‪ ،‬ففي صحراء‬ ‫العرب كانت الطقوس تسلي ًة لقتل الوقت‪ ،‬وفي صحراء العرب كانت‬ ‫الطقوس وسيل ًة لقطع المفازة‪ ،‬مفازة البعيد عن ذاته‪ ،‬ومفازة البعيد‬ ‫عن داخله‪ ،‬يعود عابد لكنه يفاجأ بما لم يكن في الحسبان‪ ،‬كان ثمة‬ ‫ثعلب يتبول على رأس الصنم‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫مشدوها والموقف يمسك بخناقه فال يملك معه‬ ‫يقف البدوي‬ ‫ً‬ ‫حراكًا‪ ،‬هذا هو الرب المعبود‪ ،‬الصنم المهيب‪ ،‬منفذ الرغبات‬ ‫وملجأ الخائفين‪ ،‬إنه يقف خان ًعا بينما يتبول ثعلب على أم رأسه‪.‬‬ ‫‪136‬‬


‫أحيانًا ال تملك األصنام شي ًئا حيال من يفكرون بجدية في التبول‬ ‫على رؤوسها‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫وكعادة ساكني الصحراء في ذلك الوقت‪ ،‬يرسم األعرابي دهشته‬ ‫بالشعر‪ ،‬إذ أن ديوان العرب‪ ،‬ذاك الذي نحت على جبال جزيرة العرب‬ ‫ً‬ ‫تاريخا بأكمله‪ ،‬كان هو أداة التعبير قبل أن يمسخه أرباب الحداثة إلى‬ ‫نصوص مستوردة يحتمي بها الجهلة في اللغة والفاشلين في اإلعراب‬ ‫وأغبياء المقاعد الخلفية في الصفوف االبتدائية‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫شعرا ويفصح في التعبير‪:‬‬ ‫يرسم «ظالم» دهشته ً‬

‫ٍ‬ ‫لشدة‬ ‫لقد خاب قو ٌم أم ّلوك‬ ‫فال أنت تغني عن ٍ‬ ‫أمور تواترت‬ ‫أرب يبول الثعلبان برأسه‬ ‫ٌ‬

‫أرادوا ً‬ ‫تحارب‬ ‫نزال أن تكون‬ ‫ُ‬ ‫نائب‬ ‫وال أنت د ّف ّاع إذا حل ُ‬ ‫لقد ذل من بالت عليه الثعالب‪.‬‬

‫(‪)7‬‬

‫الثعالب»‪ ..‬ذهبت القصة وبقى المعنى‪،‬‬ ‫«لقد ذل من بالت عليه‬ ‫ُ‬ ‫أصنا ٌم عديدة تهاوت‪ ،‬وأكثر منها ارتفعت هاماتها تناطح السحاب‪،‬‬ ‫كبرت جزيرة العرب‪ ،‬ونبتت لهذه األمة دول بال حصر‪ ،‬في المغرب‬ ‫والمشرق‪ ،‬ومحل ذلك الصنم اليتيم ثمة مليون صنم اآلن‪ ،‬أصنا ٌم من‬ ‫‪137‬‬


‫ٍ‬ ‫اغتراب استعصى على الترويض‪ ،‬وأصنا ٌم‬ ‫عقائد بالية‪ ،‬وأصنا ٌم من‬ ‫ٍ‬ ‫من ٍ‬ ‫جماعات‬ ‫تيه ال نجاة منه‪ ،‬وأصنا ٌم من أحزاب كاذبة‪ ،‬وأصنا ٌم من‬ ‫ٍ‬ ‫مظلمة ظالمة‪ ،‬وأصنا ٌم من تكتالت مأجورة‪ ،‬وبدل «عابد» واحد‪،‬‬ ‫ثمة مئة مليون «عابد» اآلن‪ ،‬يركعون ألصنامهم بال توقف‪ ،‬بانتظار‬

‫أن تحدث يو ًما تلك المعجزة ويتجرأ ذكر ثعلب على التبول‪ ..‬فقط‬ ‫مجرد التبول‪ ..‬أليس كذلك يا جزيرة العرب؟‬ ‫(‪)8‬‬

‫الثعالب «‪ ..‬ذهبت القصة‪ ،‬وبقى المعنى‪،‬‬ ‫«لقد ذل من بالت عليه‬ ‫ُ‬

‫مات «عابد السلمي»‪ ،‬ومات صنمه الذليل‪ ،‬ومات ذلك الثعلب‬ ‫الجسور‪ ،‬وبقينا نحن‪ ،‬نحن الذين رمتنا المقادير ٍ‬ ‫بزمن صار فيه الوطن‬ ‫ذلك الصنم القديم‪ ،‬صنم «عابد السلمي»‪ ،‬الذي ال تستحي الثعالب‬

‫من التبول فوق رأسه المهيب‪.‬‬

‫(‪)9‬‬

‫ذهبت القصة وبقى المعنى‪ ،‬وطنًا تتكالب عليه ثعالب الكراهية‪،‬‬

‫وثعالب القتل‪ ،‬وثعالب االغتيال‪ ،‬وثعالب السلب والنهب‪ ،‬وثعالب‬

‫االختالس‪ ،‬وثعالب التخوين‪ ،‬وثعالب االقصاء‪ ،‬وثعالب الفساد‪ ،‬وثعالب‬

‫التقسيم‪ ،‬وثعالب التطرف‪ ،‬وثعالب الفشل‪ ،‬وثعالب التبجح‪ ،‬وثعالب‬ ‫االعالم الهزيل‪ ،‬وثعالب التفتيت‪ ،‬وثعالب الطائفية‪ ،‬وثعالب االرتهان‬ ‫لألجنبي‪ ،‬وثعالب بال عدد‪ ،‬أنيابها في رقابنا‪ ،‬وذيولها خارج الحدود‪.‬‬ ‫‪138‬‬


‫(‪)10‬‬

‫ذهبت القصة وبقى المعنى‪ ،‬وصرنا نستجدي آلة ٍ‬ ‫زمن تعود بنا إلى‬ ‫ما قبل هذا الزمن‪ ،‬ولو كان البديل صحراء قاحلة لم تفكر ثعالبها بعد‬ ‫في التبول على رأس الوطن!!‬

‫‪139‬‬



‫الخا�سرون‬ ‫(‪)1‬‬

‫«األعشى»‪ ،‬صناجة العرب‪ ،‬وشاعرهم الكبير‪ ،‬يطول به العمر‬

‫ويسمع بالطوفان المتنامي‬ ‫حتى يشهد نزول اإلسالم ومولد النبوة‪،‬‬ ‫ُ‬

‫أمرا في نهاية المطاف‪.‬‬ ‫يو ًما بعد يوم‪ ،‬يتدبر األمر في نفسه‪ ،‬ثم يقرر ً‬ ‫(‪)2‬‬

‫إن «األعشى» يقرر أن يدخل في دين اإلسالم‪ ،‬ويعلن قراره‬

‫للناس‪ ،‬وكعادة الريح‪ ،‬تنقل الريح خبر نية األعشى السفر إلى مكة‬

‫ليعلن إسالمه بين يدي نبي اإلسالم‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أيضا‪ ،‬ولكن‪،‬‬ ‫يتجهز الشاعر الكبير للسفر‪ ،‬لكن غيره كان يتجهز ً‬ ‫ٍ‬ ‫ألمر آخر من شأنه أن يمنع الحدث الكبير‪ ،‬ومهما كان الثمن‪.‬‬ ‫‪141‬‬


‫(‪)4‬‬

‫يمعن األعشى في مسيره‪ ،‬يقترب من «أم القرى»‪ ،‬وعلى مدخلها‬

‫يجد أبي سفيان وأمية بن خلف ومعهما لفيف من سادة مكة الميامين‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫يتربص به الدهاة‪ ،‬ويفاوضونه على ما ال يخطر له على بال‪ ،‬أيها‬

‫األعشى‪ ،‬الزلنا نغالب محمدً ا‪ ،‬فيوم له ويوم علينا‪ ،‬فما قولك برأي؟‬

‫أن نهديك هذه المئة من اإلبل‪ ،‬ترجع بها هذه السنة‪ ،‬وفي السنة‬ ‫المقبلة‪ ،‬أما نغلب نحن محمدً ا فتفوز باإلبل‪ ،‬وأما يغلبنا محمد فترجع‬

‫إليه وتسلم بين يديه فتفوز بما ترضى‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫يقارن الرجل‪ ،‬ينظر إلى الدين بعين الدنيا‪ ،‬ويقرر قبول العرض‪،‬‬

‫أحيانًا نخطيء عندما ننظر إلى األمور بغير ما يناسبها‪ ،‬ويرجع سادة‬ ‫مكة غانمين يمألهم الزهو‪ ،‬وقد حرموا اإلسالم من جهاز اعالمي‬ ‫رهيب كان سيعينه في ٍ‬ ‫زمن حرج‪ ،‬ويعود األعشى هان ًئا بالمئة ناقة‪،‬‬

‫مسرورا بالغنيمة‪ ،‬متطل ًعا إلى السنة المقبلة بفارغ الصبر‪ ،‬لكن السنة‬ ‫ً‬ ‫المقبلة لم تقبل‪ ،‬ولن تقبل لصاحبها الذي ينتظرها بفارغ الصبر‪ ،‬فقد‬

‫وقع األعشى في طريق عودته عن ظهر الناقة فمات‪ ،‬أحيانًا نركب‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫الناقة الخطأ في طريق سفرنا‪ ،‬الخطأ ً‬ ‫‪142‬‬


‫(‪)7‬‬

‫يخسر األعشى‪ ،‬ويربح سادة قريش‪ ،‬ولمن يعتقد أني خرجت‬ ‫عن صلب الموضوع‪ ،‬أقول إني لم أخرج عن مأساة ليبيا قيد أنملة‪،‬‬ ‫ولكن‪ ،‬من ذلك المحظوظ الذي سيصل إلى نهاية المقالة قبل أن يقع‬ ‫من على ظهر ناقة المعنى؟ هل من أحد؟!!‬

‫‪143‬‬



‫من قتل الأحدب؟‬ ‫(‪)1‬‬

‫في الموروث الصيني ثمة أسطورة تتحدث عن ذلك األحدب‬

‫الذي ضاع دمه بين ضمائر القتلة‪ ،‬فكل منهم يعتقد أنه القاتل‪ ،‬القتلة‬ ‫كُثر‪ ،‬لكن القتيل واحد‪ ،‬فما أشبه حالنا اليوم ِ‬ ‫بك أيتها األساطير‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫ٍ‬ ‫بأحدب مسكين‪،‬‬ ‫مقتدرا مر ذات يو ٍم‬ ‫تقول األسطورة إن ملكًا‬ ‫ً‬

‫يسخر منه األطفال‪ ،‬ويتجرأ على عاهته السفهاء‪ ،‬فأخذته به شفقة‪،‬‬ ‫ُ‬

‫وما أوسع شفقة الملوك إن حانت منهم التفاتة إلى األشقياء‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أشفق الملك على األحدب‪ ،‬فأخذه معه إلى القصر‪ ،‬وأمر طباخه‬

‫أن يعطيه ما ُيشبع جوعه‪ ،‬لكن الطباخ أطعم األحدب سمكًا دون أن‬ ‫‪145‬‬


‫ينتبه إلى شوك السمك‪ ،‬وعندما ازدرد األحدب الجائع سمكته غص‬ ‫بالشوك فمات‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫غص األحدب بشوكه فمات‪ ،‬كما نغص نحن بشوك هذا الواقع‬ ‫العربي فنموت بالتقسيط المريح‪ ،‬وكما يغص الفقير بشوك فاقته‪،‬‬ ‫والموظف بشوك مرتبه الهزيل‪ ،‬والمواطن بشوك لهاثه من مطلع‬ ‫الشمس إلى مغيبها‪ ،‬والعربي بشوك أعداءه يقتلونه بال شفقة من‬ ‫مطلع الشمس إلى مغيبها‪ ،‬غير أنه لم يمت بعد‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫غص األحدب بشوكه فمات‪ ،‬ولكي ينجو الطباخ من العقوبة رمى‬ ‫ضحيته في اقرب مكب للنفايات وأسرع بالهروب‪ ،‬فمر على مكب‬ ‫النفايات شخاذ بائس كان يرمي بؤسه بحجر على سبيل ابداء السخط‪،‬‬ ‫وعندما اكتشف جثة األحدب ظن أنه قاتله‪ ،‬فأسرع برميه في النهر‬ ‫حيث وجده صياد سمك‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ظل القتلة يتكاثرون‪ ،‬وكل منهم‬ ‫يعتقد أنه قاتل األحدب‪ ،‬إلى أن تشكلت متوالية مريعة من القتلة‪ ،‬فيما‬ ‫ظل القتيل وحيدً ا يموت كل مرة بشوكه وال ينبس بحرف‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫بعض من‬ ‫قتلة األحدب كُثر‪ ،‬غير أن األحدب واحد‪ ،‬فهل نحن ٌ‬ ‫األساطير القديمة؟ وإلى متى؟‬ ‫‪146‬‬


‫(‪)7‬‬

‫إلى متى تظل هذه األمة بمثابة أحدب األساطير؟ يقتلها الغرب‬ ‫من هنا‪ ،‬وتفتك بها النوائب من هناك؟ وإلى متى يظل العربي مواطنًا‬ ‫تحت مستوى خط اإلحساس بوجعه؟ يغص يشوك واقعه من مطلع‬ ‫الوالدة إلى مطلع الروح؟ وإلى متى يظل فرحنا الوحيد نكتة خارجة‬ ‫أو كوب شاي أو دخان سيجارة أو خيبة أمل لذيذة المذاق نغص‬ ‫بشوكها غير أنا ال نموت؟!!‬

‫‪147‬‬



‫في ح�ضرة ال�شيطان‪.‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫أمريكا‪ ..‬التي تالعبت بالجينات الوراثية العربية‪ ،‬حتى انحدرنا‬

‫إلى ما نحن فيه اآلن!!‬

‫(‪)2‬‬

‫أمريكا‪ ..‬التي عبثت بالعراق في مختبراتها اآلثمة‪ ،‬فأنتجت لنا‬

‫هذا المسخ الذي نعاني من تشوهات وجهه‪ ،‬وال نعرف له بداي ًة من‬ ‫نهاية‪ ،‬وال حزنًا من فرح‪ ،‬وال موتًا من حياة‪.‬‬ ‫(‪)3‬‬

‫أمريكا‪ ..‬عراب العبث‪ ،‬وميزان العدالة الذي لم يعرف العدل بعد!‬ ‫‪149‬‬


‫(‪)4‬‬

‫أمريكا‪ ..‬الشيطان الذي يفصل خرائط الكون بمقصه المثلوم‪،‬‬ ‫فيجعل شيعة العراق مصفين‪ ،‬وسنته عشرة‪ ،‬ثم يذبح أقلياته على‬ ‫قبلة الدم‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫أمريكا‪ ..‬العب القمار الفاشل‪ ،‬الذي يخلط الورق بأصابعه‪،‬‬ ‫ويراهن على الطاولة بمستقبل اآلخرين‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫أمريكا‪ ..‬تلك التي نشاهد اآلن ثمار فشلها المر في اليمن‪ ،‬السعيد‬ ‫ساب ًقا األتعس من تعاسة الدنيا هذه األيام‪ ،‬ونرى سفاهة أحالمها في‬ ‫سوريا حاضرة المجد وخاصرته ساب ًقا‪ ،‬وساحة تجمع شواذ العقيدة‬ ‫وأنصاف البشر وجثث المنكوبين حال ًيا‪ ،‬ونتمعن في تفاصيل ازدواجية‬ ‫معاييرها في ليبيا‪ ،‬حيث تقنية صناعة الفوضى تعمل بأقصى معدالت‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫كفائتها بال خجل‪ ،‬وبال توقف ً‬ ‫(‪)7‬‬

‫أمريكا‪ ..‬أي شيطان يصنع ما تصنعين؟ وأي عبث تصوره «بيكيت»‬ ‫ذات يوم‪ ،‬ولم تقومي به بعد؟ أما آن لعصرك أن ينتهي أيها الشيطان؟‬ ‫فقد شارفت أيامنا على االنتهاء!!‬ ‫‪150‬‬


‫حديث خرافة‪..‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫«إن ً‬ ‫رجل من قبيلة «جهينة»‪ ،‬كان اسمه «خرافة»‪ ،‬اختطفته الجن‬

‫زمنًا فعاش بينهم حينًا من الدهر‪ ،‬ثم رجع إلى أهله‪ ،‬فأخبر الناس‬

‫عما رآه هناك‪ ،‬فوصف العرب كالمه أو ما يشابهه مما هو غير معقول‬ ‫وعجائبي بأنه‪« ،‬حديث خرافة»!!»‬

‫(‪)2‬‬

‫يورد «حسين الكرمي» في سلسلته الرائعة «قول على قول»‪ ،‬قصة‬

‫خرافة‪ ،‬ذلك الذي اختطفه الجن فصار يروي للناس ما شاهده عند‬

‫خاطفيه‪ ،‬وألن تفاصيل الجن أكبر من أن يستوعبها ذهن البشر‪ ،‬فقد‬ ‫علما على الخرافة والخروج عن سلطة‬ ‫اعتقدوه يهذي‪ ،‬وصار اسمه ً‬

‫المنطق والمعقول‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫(‪)3‬‬

‫واآلن‪ ،‬هل خطف الجن «خرافة» من جديد؟ ومن سيصدقه إذا‬ ‫روى قصة اختطافه بعد ذلك؟‬ ‫(‪)4‬‬

‫يختطفك الجن‪ ،‬على األقل كان الجن يختطفون األفراد في ذلك‬ ‫الزمن‪ ،‬لكنهم اآلن يختطفون وطنًا بأكمله‪،‬وليتهم يفرجون عنه بعد‬ ‫ذلك‪ ،‬وإذا أفرجوا عنه‪ ،‬فمن سيصدق وطنًا يهذي بما رآه عند خاطفيه؟‬ ‫(‪)5‬‬

‫يختطفك الجن‪ ،‬ويمضي عيدك بال معنى‪ ،‬وأيامك بال جدوى‪،‬‬ ‫وتتأمل المشهد من خارجه فترتاب‪ ،‬ومن داخله فتبكي‪ ،‬ويزداد نحيب‬ ‫حزنك حتى يبكي معك الجن في نهاية المطاف‪ ،‬غير أن أحدً ا لن‬ ‫يصدق بكاء كائنًا اختطف الجن وطنه ذات يوم‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫يختطفك الجن‪ ،‬يشترون ألعوانهم السالح‪ ،‬ويبيعون لك الصبر‬ ‫ومآتم العزاء ويعبأون لك دموع الثكالى في قوارير زرقاء بلون عيونهم‪،‬‬ ‫ثم يؤسسون لك األحزاب لتتحزب‪ ،‬والمنصات للسفهاء‪ ،‬واإلعالم‬ ‫للفاشلين‪ ،‬وعلى أقل من مهلهم يكلفون الشركات األجنبية بحفر قبور‬ ‫كئيبة للرجال‪ ،‬وبناء القصور الفخمة ألشباههم‪.‬‬ ‫‪152‬‬


‫(‪)7‬‬

‫يختطفك الجن‪ ،‬فتبكي‪ ،‬ويختطفك الجن‪ ،‬فترفض‪ ،‬ويختطفك‬ ‫الجن فتموت مرتين‪ ،‬مر ًة ألن وطنك ليس بخير‪ ،‬ومرة ألن ال أحد‬ ‫سيصدق رواية مواطن اختطفه الجن ذات يوم!!‬

‫‪153‬‬



‫�إلى المترددين‪ ..‬فقط!!‬ ‫(‪)1‬‬

‫وخالصة الموعظة أن روما استيقظت ذات صباح من صباحات‬

‫عام ‪ 70‬م‪ .‬ـ أي منذ ‪ 1944‬عاما بالتمام والكمال ـ على حكم جديد‬ ‫إلمبراطور حكيم كان يدعى «فسبانيوس»‪.‬‬ ‫(‪)2‬‬

‫كانت روما آنذاك تغرق في الديون‪ ،‬وكانت روما آنذاك تموت‬

‫ببطء من داء الفوضى واإلفالس م ًعا‪ ،‬وكان من واجب االمبراطور‬

‫الجديد أن يتحلى بالشجاعة واالبتكار‪ ،‬كي ال تموت روما بفقر العوام‬ ‫وهرطقة الساسة‪.‬‬

‫لقد قرر «فسبانيوس» أن يفرض ضريب ًة على المراحيض العامة‪،‬‬

‫لكي يجمع ما تيسر له من أموال‪،‬‬

‫‪155‬‬


‫(‪)3‬‬

‫رفضا‬ ‫لكن المتأنقين من أعضاء مجلس الشيوخ عارضوا‪ ،‬ورفضوا ً‬ ‫قاط ًعا أن تتسول الدولة ديونها من المراحيض‪ ،‬ولو مات أهلها جو ًعا‪.‬‬ ‫(‪)4‬‬

‫بطبيعة الحال‪ ،‬لم يكن هؤالء المتأنقون جوعى‪ ،‬ولم يكون هؤالء‬ ‫الرافضين سوى عصاب ًة من المتاجرين بلحم روما الطري‪ ،‬والمتخم‬ ‫شب ًعا لن يشعر بوطأة الجوع على معدة فقير ألى أن تتعاطف الصحراء‬ ‫ٍ‬ ‫سمكة في بطن حوت‪.‬‬ ‫مع مشاعر‬ ‫(‪)5‬‬

‫وهكذا كان‪..‬‬

‫رفض المتخمون‪ ،‬وأصر االمبراطور‪ ،‬فقد كان يملك من قوة‬ ‫الشخصية ما يغنيه عن التردد‪ ،‬وكان يملك من سطوة القيادة وكاريزما‬ ‫القائد ما ينأى به عن االرتباك‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫لقد جمع «فسبانيوس» معارضيه‪ ،‬وأرسل في طلب حصيلة اليوم‬ ‫ن ضريبة المراحيض‪ ،‬وبعد حين وصلت األموال‪ ،‬وعندها جمع‬ ‫االمبراطور في راحة يده حفن ًة من ذهب المراحيض‪ ،‬وقر ّبه من أنوف‬ ‫المترفين سلط ًة ً‬ ‫ومال ومناصب‪ً ،‬‬ ‫قائل لهم‪:‬‬ ‫‪156‬‬


‫(هل تشمون رائحة كريه ًة من هذه الذهب)؟‬

‫وعندما أجابوه بال‪ ،‬أجابهم‪( :‬إنه من ذهب المراحيض أيها السادة)‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫وهكذا كان‪..‬‬

‫صمت المعارضون بعد أن أسكتتهم قوة حجة االمبراطور‪،‬‬ ‫وصمت المعارضون بعد أن تكلمت بينهم سطوة الحضور الطاغي‬ ‫ٍ‬ ‫لقائد ال يفكر مرتين‪.‬‬

‫وهكذا كان‪ ،‬إذ يروي لنا التاريخ إن «فسبانيوس» لم ينقذ روما‬ ‫من االفالس بأموال المراحيض فقط‪ ،‬بل بقوة شخصيته وصواب‬ ‫أيضا‪.‬‬ ‫بصيرته ً‬

‫وخالصة الموعظة أنك إذا كنت مترد ًدا فلن تنقذ روما من االفالس‪،‬‬ ‫ولن تنتشل ليبيا من الغرق‪ ،‬ولن تنجو بتونس من المتربصين بها‪ ،‬ولن‬ ‫تروي ظمأ مصر الى االستقرار‪ ،‬إنك إذا كنت ً‬ ‫هشا فلن تنقذ بالدك من‬ ‫الكسر‪ ،‬وأنك إذا كنت خائ ًفا فلن تشعر مواطنيك باألمان‪ ،‬وأنك اذا‬ ‫محتاجا إلى المساعدة فال يجب أن تتردد في أن تطلب العون‬ ‫كنت‬ ‫ً‬ ‫ولو من مياه المراحيض!!‬

‫‪157‬‬



‫كيف حدث الأمر؟!‬ ‫(‪)1‬‬

‫«ولكن‪ ،‬كيف يغيض الماء‪ ،‬ويسكن الهواء‪ ،‬كيف ينطفيء النور؟‬

‫إن ذلك ال يحدث فجأة دون شك‪ ،‬جز ٌء صغير من الينبوع ينقص‬

‫دون أن نالحظه‪ ،‬قد يكون قطرة واحدة في بداية االمر‪ ،‬ولكن القطرة‬ ‫ٍ‬ ‫إحساس‬ ‫تعقبها قطرات‪ ،‬ونحن في غفلتنا المطمئنة‪،‬ونستيقظ على‬

‫طاغ بالعطش‪ ،‬فإذا الماء‪ ،‬كل الماء‪ ،‬قد غاض»‬ ‫(‪)2‬‬

‫الفقرة الملهمة للقاص المغربي الشهير «أحمد بو زفور»‪ ،‬أما‬

‫المعنى فهو ليبي بامتياز!!‬

‫(‪)3‬‬

‫لنتأمل اآلن في معاني «بوزفور» العميقة‪ ،‬ولنسأل أنفسنا دون‬ ‫‪159‬‬


‫عصبية أو تزمت‪ :‬كيف وصلت بنا األمور إلى هذا الحد؟‪ ،‬وكيف‬ ‫انقلبت المعايير‪ ،‬وأصبح المعشوق القديم كائنًا يكرهه الجميع‪ ،‬بينما‬ ‫أيضا؟‬ ‫تحول المسخ البشع ساب ًقا إلى ذكرى جميلة يحن لها الجميع ً‬ ‫(‪)4‬‬

‫هاجسا يؤرق الكثيرين‪ ،‬لكنه سيصبح‬ ‫ربما سيظل هذا السؤال‬ ‫ً‬ ‫طوطما بالغ القداسة‪ ،‬لن نصل إلى مخرج من أزمتنا مادمنا لم‬ ‫ايضا‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ننزع عنه هالة القداسة بعد‪.‬‬ ‫(‪)5‬‬

‫» إن ذلك ال يحدث فجأة دون شك»‪ ،‬هكذا يؤكد «بو زفور»‪،‬‬ ‫أيضا‬ ‫لكن المتأمل في أحداث هذا الربيع العربي المنحوس يكتشف ً‬ ‫هذه الحقيقة‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫إن ذلك ال يحدث فجأة دون شك»‪ ،‬يقول «بوزفور»‪ ،‬ونقول نحن‬ ‫إن ال شيء يحدث فجأة‪ ،‬ودون مقدمات‪ ،‬فكيف أصبحت المدن‬ ‫الممجدة‪ ،‬مدنًا يمقتها الجميع‪ ،‬وكيف تحول األبطال السابقون إلى‬ ‫قطاع طرق وتجار تجزئة ومنبع خراب يعصف بمعنى الوطن‪ ،‬وفي‬ ‫أي غفلة من الزمن الرديء تحول صندوق االنتخابات من حلم‬ ‫وردي مدهش إلى صندوق «باندورا» إغريقي الينتج سوى الساسة‬ ‫‪160‬‬


‫الحمقى والهياكل المنتخبة الغبية المترددة‪ ،‬ولماذا أصبح شعار‬ ‫رقما مرنًا يقبل القسمة‬ ‫الدولة الواحدة التي ال تقبل القسمة على اثنين‪ً ،‬‬ ‫ويرحب بالتقسيم‪ ،‬بل ويرى في تجزوء الكل إلى أقاليم ً‬ ‫حل لمشاكل‬ ‫استعصت حتى اآلن على كل الحلول؟‬ ‫(‪)7‬‬

‫ال شيء يحدث فجأة‪ ،‬فقط علينا أن نتمعن في التفاصيل إذا كنا نريد‬ ‫ح ًقا أن ننجو بالمجموع‪ ،‬وعلى الذين يوشكون اآلن على خسارة كل‬ ‫شيء أن يراجعوا خياراتهم قبل أن ينتهي‪ ،‬بالنسبة لهم‪ ،‬كل شيء!!‬

‫‪161‬‬



‫ربما‬ ‫(‪)1‬‬

‫نخرج‪ ،‬نحن العرب‪ ،‬من هذا التيه‪ ..‬ربما!!‬ ‫ربما‪ ..‬ذات يوم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫(‪)2‬‬

‫ٍ‬ ‫لرئيس يخرج من قصر‬ ‫ربما‪ ..‬يعيش أحفادنا ذات يوم‪ ،‬ليصفقوا‬

‫الرئاسة دون أن يدمر البالد ويشرد العباد وينشر الخراب ويودع آالف‬ ‫الجثث تراب األرض‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫ٍ‬ ‫مواطن عربي‬ ‫ربما‪ ..‬في قادم المئات من األعوام‪ ،‬نسمع عن‬

‫لم يشتم أخيه‪ ،‬لمجرد االختالف في الرأي‪ ،‬وعن «برنامج حواري»‬ ‫تقدمه قناة فضائية ينتهي دون عراك وسب وقذف‪ .‬ربما‪.‬‬ ‫‪163‬‬


‫(‪)4‬‬

‫ربما‪ ..‬نرى يو ًما يصمت فيه من ال يعرف‪ ،‬ليعرف‪ .‬ويتكلم فيه من‬ ‫يعرف ليزداد الناس معرف ًة‪ ،‬فقد مللنا أشباه المتعلمين وهم يمألون‬ ‫الفضاء «بالحكي»‪ ،‬وسئمت اللغة من أشباه المثقفين وهم يديرون‬ ‫ناصية الثقافة‪ ،‬ومن أولئك «الالشئ» وهم يدبرون أمر كل شئ!!‬ ‫(‪)5‬‬

‫ربما‪ ..‬يسجل التاريخ في صفحة من كتابه الكبير ذات يوم‪ ،‬أن‬ ‫الصدارة عادت لألصلح‪ ،‬وأن الجدارة لم تعد جاري ًة يلهو بجسدها‬ ‫حرا في أن يمنح ولو ذرة غبار لمن‬ ‫وضيع‪ ،‬وأن من ال يملك ليس ً‬ ‫ال يستحق‪.‬‬ ‫(‪)6‬‬

‫ربما‪ ..‬تمن علينا هذه الدنيا البخيلة في أحد أيامها الفانيات‪ٍ ،‬‬ ‫بخبر‬ ‫أخيرا بأن جحيمها الرائع هو الجسر الذي‬ ‫مفاده أن الثورات قد اقتنعت ً‬ ‫يؤدي إلى جنة الدولة األكثر روعة‪ ،‬وأن اكتمال نمو البذرة ال يكمن‬ ‫إال بالثمرة تتباهى بها شجرة الوطن‪ ،‬فال ثورة تصل إلى مبتغاها إذا‬ ‫لم توصل البالد إلى باب الدولة اآلمن‪.‬‬ ‫(‪)7‬‬

‫ربما‪ ..‬ننام ذات ليلة على ٍ‬ ‫أمل نحلم به‪ ،‬ثم نصحو ذات صباح‬ ‫‪164‬‬


‫على واقع نريده‪ ،‬بربكم أيها الليبيون‪ ،‬أليس رائ ًعا أن نطرد التشاؤم‬ ‫بأربعة حروف؟ ربما!!‬

‫‪165‬‬



‫صدر في هذه السلسلة‬ ‫‪ 1‬ـ (قراءات في السلم والحرب)‪ ،‬عبدالمنعم المحجوب‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ (حبر المنفى)‪ ،‬عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ (خاليا نائمة)‪ ،‬محمود البوسيفي‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ (أوراق تاريخية)‪ ،‬مختار الجدال‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ (ما وراء الحجاب)‪ ،‬فتحي بن عيسى‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ (منفى)‪ ،‬ديوان شعر ـ عمر الكدي‪.‬‬

‫‪ 7‬ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية)‪ ،‬خالد الحراري‬

‫جو ْك)‪ ،‬قصائد محكية بلهجة ليبية‪ ،‬سالم العالم‪.‬‬ ‫‪ 8‬ـ ( َعلى ّ‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.