يوزع هذا الكتاب مجان ًا مع العدد ( )9من مجلة املستقل
موسوعة الجهل النسبي مقاالت ()2015-2005
تأليف :الص ِّديق بودوارة © جميع الحقوق محفوظة مجلة أسبوعية سياسية شاملة طبع في إبريل 2015 مطابع األهرام جمهورية مصر العربية المدير الفني وتصميم الغالف :سامح الكاشف اإلخراج الفني والتنفيذ :أحمد نجدي
�إلـى ليـبـيـــا ..طبـع ًـــا.
المحتويات ييش عفداه!! 9...........................................................................
الركن المسكوت عنها15............................................................. خطاب الذات المقهورة 23..........................................................
ناتاشيا والماخور!! 37................................................................. هوت ميل 41................................................................................
هل يود أحدكم؟! 47....................................................................
أسمحلي يا حاج!! 51.................................................................. الحجاج بن يوسف ..ونحن!! 55................................................ الديمقراطية المروضة 59.............................................................
أيهما ديوان العرب؟!! 67............................................................ الفتنة ..حتى العطش 71...............................................................
المطب!!75................................................................................. أهال بالدكتاتورية!! 79................................................................. اقرأوا «جوستاف لوبون»83.........................................................
دكتاتورية المجاميع!! 87.............................................................
دين أبوهم يبقى إيه؟91................................................................
ربيع الحيوانات المنوية 95........................................................... ربيع الثورة أم ربيع الدولة؟!! 99..................................................
طاعة الدولة ودولة الطاعة 103.......................................................
طاغية لله يا محسنين 109...............................................................
طغاة الربيع العربي!! 113............................................................... عاجل ..جدً ا 117...........................................................................
فضيحة اليهودي الطيب!! 121....................................................... قبيلة الخالص وخالص القبيلة 125...............................................
للكالب ..فقط!! 129.................................................................... ليلة عرس «روان» 131...................................................................
الثعالب ورأس الوطن!!135..........................................................
الخاسرون 141............................................................................... من قتل األحدب؟ 145................................................................... في حضرة الشيطان149................................................................ . حديث خرافة151....................................................................... ..
إلى المترددين ..فقط!! 155........................................................... كيف حدث األمر؟! 159................................................................
ربما163.........................................................................................
يي�ش عفداه!! ()1
فلسطينى من عرب 48يتحدث مع زميل له عن حاجز جديد أقامه
جيش االحتالل في مطلع الشارع ،فيخبره أن هناك «مخصوم» جديد أقيم هذا الصباح ،وعندها يؤكد له اآلخر أن هناك «مخاصيم» كثيرة
أيضا في شوارع أخرى. أقيمت ً
()2
أم فلسطينية تحذر ابنها من الخروج ألنها سمعت من جارتها
أن هناك «سيجر» تم فرضه منذ ساعة واحدة فقط ،و«سيجر» كلمة ً طويل وتعنى بالعبرية «منع تجول». مريعة يعاني منها الفلسطينيون ()3
مجموعة من الفلسطينيين في إحدى القرى المحتلة يتحدثون عن 9
إجراءات قسرية تم فرضها منذ يومين من قبل «المشمار جفول» ،وهم
يعنون حسب الترجمة الحرفية لهذه الكلمة العبرية «حرس الحدود» ()4
عربي من نفس الشريحة يسأل ابنه متله ًفا عما إذا كان قد عثر على
عمل فيجيبه االبن محب ًطا «ييش عفداه» ،وهو بذلك ال يمازح أباه،إنه
فقط يخبره بالعبرية أنه لم يجد ً عمل بعد. ()5
إبن فلسطيني يطلب من أبيه نقو ًد َا فيسأله «أين كيسف» ،أي ،هل
لديك ً مال.
()6
يتحدثون في أمور عديدة ،األوضاع متأزمة والحالة مشدودة
كخيط سنارة مثقلة ،وإذا استرقت السمع فإنك ستسمع مفردات
غريبة عليك تما ًما« ،خيال» يبدو أنه سيطلق النار ،و«شحرور» قد يناله إبن الحاجة ،و«مركباه» تتجول اآلن بين المنازل ،و«بجوع» وقع
منذ قليل في مستوطنة قريبة ،و«مشترا» تحقق في األوراق الثبوتية
في الشارع هذه اللحظة.
()7
مترجما وإذا كنت سعيد الحظ تلك اللحظة وصادف أنك تصحب ً ً جمل من خبيرا في العبرية ،فإنك ستعرف أن القوم ال يخترعون ً
عندهم ،إنهم يتحدثون وبالترتيب عن «جندي» يبدو أنه سيطلق
النار ،وعن «إفراج» قد يناله إبن الحاجة ،وعن «دبابة» تتجول اآلن
بين المنازل ،وعن «انفجار» وقع منذ قليل في مستوطنة مجاورة ،وعن
«شرطة إسرائيلية» تحقق في األوراق الثبوتية هذه اللحظة. ()8
بعضا واآلن ..ما الذي يعنيه كل هذا الواقع الذي سردت عليكم ً
من تفاصيله؟
()9
اجتياحا آخر، إن الفلسطيني الذي يعيش تحت نير االحتالل يواجه ً
ليس بالميركافا هذه المرة ،لكنه باللغة ،فاللغة العبرية التي كانت إلى زمن قريب تصنف كإحدى اللغات الميتة ،استيقظت اآلن ،وكأي
ديناصور عاد إلى الحياة بعد سبات مليون سنة ،بدأت في التهام ما تيسر من ثقافة وذاكرة عرب الداخل الذين تناساهم «عرب الخارج»،
والذين يخوضون مواجهة مريرة مع حياة يومية مرتبطة تما ًما بواقع احتالل مسيطر.
11
()10
إن الفلسطيني هناك مضطر إلى نبذ لغته العربية ً قليل عندما يتعلق األمر بانجاز معاملة رسمية أو التقدم لوظيفة إدارية ،أو مخاطبة جنود االحتالل المنتشرين في كل زاوية من الوطن السليب ،إن «اللغة» تصبح هنا «ميركافا» أخرى ال تخترقها الصواريخ هذه المرة ،والعبرية التي شبعت موتًا تشبع اآلن حيا ًة وتجد ًدا عندما يبدأ الجميع هناك في االستعمال القسري لمفرداتها المتعددة بحكم اضطرارهم إلى معايشة الواقع اليومي. ()11
لن أقول إن الخطر قادم ،ألنه وصل ً فعل ،فلغة عرب 48و 67في خطر ،وهم تحت واقع احتالل يومي يضطرون إلى انتهاك لغتهم ليستعملوا لغة االحتالل.
ليست معرفة أن نشيد بالجهل ،ولكن لزوم ما ال يلزم يقتضي منا أن نعترف أن الجهل هنا مسألة نسبية ،إذ أن جهلنا بما يعانيه عرب االحتالل هو في نفس الوقت ،وعلى جانبه اآلخر ،معرف ًة مطلقة من المحتل بأن عليه أن يستمر في طرق حديده الساخن كي يتشكل مع األيام ذلك الجدار العازل الحقيقي ،الجدار الذي ال يمكن للجرافات أن تهدمه ،وال يمكن لقرارات الجمعية العامة لألمم المتحدة أن تطيح به ،إنه جدار الهوية العازل ،ولكن من يهتم اآلن ،ومن سيتفرغ لعالج هذا الداء الذي أصبح اآلن ً فعل ماض ًيا ال لزوم للتعرض له، 12
ال بالنصب وال غيره ،فمن يتحدث اآلن عن عرب فلسطين وقد صار الحديث مبك ًيا على عرب ليبيا وعرب العراق وعرب اليمن ،وهذا الخطر يحتاج إلى عمل من مجمع اللغة العربية العاطل عن العمل منذ وفاة المتنبي رحمه الله ،أعنى بالعبرية (ييش عفداه) ،ودمتم!!
13
الركن الم�سكوت عنها ()1
مجرد صفاء الجو ،وخلو سماء عينيك من الغيوم ،ال يعني وضوح
الرؤية.
أحيانًا تضطرب مفاهيمك ،وتغيب عنك واضحات الحقائق،
وتحتاج في لحظة بعينها إلى أن ينير لك غيرك الدرب ،كي ال تتمادى
في الخطأ.
()2
دائما ُيطرح نفس السؤال ،ونحن نتابع «تسونامي» التجهم عبر ً
الفضائيات ،ونراقب الوجوه العابسة وهي تشرعن للقسوة والشر ،ثم
دائما تطرح تصنع من اإلسالم مشج ًبا تعلق عليه الرؤوس المقطوعةً ،
عالم االستفهام نفسها ،ويطل من جديد ذلك السؤال :لماذا يحرص الكثيرون على إخفاء تعاليم الرحمة من أدبيات اإلسالم؟ وكيف تمكن 15
سادة االستبداد الجدد من مواراة آيات المودة والرحمة والتعايش بين البشر؟ وباي قدرة خارقة استطاعوا أن يطمروا من كتب السيرة آالف الروايات عن قصص مذهلة للتراحم والتسامح بين الناس؟ ()3
شرا مطل ًقا ..أحيانًا نبني من جهلنا بيتًا نأوي إليه، «الجهل ليس ً نوقد نار التجاهل ،ونتكيء على المباالتنا بكل شيء ،أثناء ذلك، نعيش سعداء ،إلى أن نتعلم من جديد». ()4
شخص ًيا ،اعترف لهؤالء «األشاوس» ٍ بقدر مذهلة على «التجهيل» ً تجهيل إجبار ًيا ،إنهم «يجهلونك» باختيارك وبرضاك وليته هذه المر الكامل ،والوسائل بال عدد. ٍ بمسابقة جائزتها األولى سيارة فارهة ،أو يجهلونك قد يجهلونك ٍ بآخر اصدارات «آيفون» ،وربما يجهلونك حتى بمجلد كامل من سلسلة «عالم المعرفة» ،من قال إن المعرفة ال تكون أحيانًا طري ًقا ملونًا يقودك إلى الجهل؟ ()4
ولكي ال تخدعنا جوائز السيارات الفارهة ،وال آخر إصدارات اآليفون دعوني أخبركم شي ًئا عن ٍ مثال رائع للتعايش ،لم يتطوع أحد 16
المنظرين وجهابذة الكراهية بإخبارنا عنه ولو بنصف حرف ،دعوني أخبركم شي ًئا عن «باقول الرومي «. ()5
نجارا بالمدينة ،روى «باقول الرومي ،مولى سعيد بن العاص كان ً عنه صالح مولى التوأمة« :أنه صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم منبره ،من طرفاء ،ثالث درجات :القعدة ودرجتيه». أخرجه الثالثة ،وقال أبو عمر« :إسناده ليس بالقائم». في «أسد الغابة في معرفة الصحابة «البن األثير نكتشف ـ بعد بصيصا أن نعرف أن «الطرفاء» هي نوع من خشب شجرة معينة ـ أن ً من النور يكمن هنا ،بالتحديد ،في باب البا واأللف ،وغاية بداية المعرفة هنا هو موت الجهل ،ذلك الجهل الذي يحكم فيما يحكم باستعباد غيرنا من األمم ،وهوانهم علينا ،فهاهو رسول أمة اإلسالم وقد عاش معه في نفس المدينة نجار ماهر ،فلم ير فيه سوى صاحب صنعة يمكن أن ينتفع الناس بصنعته. ٍ لخطر يتهدده ،ولم يدس له أحد على طرف لم يتعرض الرجل رداءه وال شرفه وال عقيدته ،بل أن رسول األمة شخص ًيا يستعين به ليصنع له منبره الذي يخطب عليه للناس.
أحيانًا يزول جهلك ،أو ينحني ً قليل لبصيص نور المعرفة ،فقط، لو كنت راغ ًبا بأن يزول الجهل!! 17
()6
لكن «باقول» ليس وحده مثال التسامح في الموروث اإلسالمي، فأنت لو تحليت بروح التسامح في داخلك ،فإنك توجد تتلمس بإحساسك تلك الرعشة الودوة التي تخبرك أن الكراهية هي ثقافة خراب ،وأن الحقد والتوتر هما «سالح كيمياوي» يحرق جذور االبداع في صدرك ،فهل يمكن لنا أن نحارب سالحك الكيماوي ٍ بقليل من الحديث الودود عن «سفيان بن حرب»؟ البشع ()7
ٍ طريق مسدود ،وأن من نهايات الجهل أن ينتهي بك اعتقادك إلى ترى في خصمك كائنًا ال نهائي العداوة ،وأن تحتكم في عالقتك به إلى حد السيف وحده ،وأن تمضي طوال عمرك في مشوار الكراهية هذا ،غير أنك سترجع في نهاية المطاف خائ ًبا ،وسوف تكتشف ذات يو ٍم بعد أن تخسر كل شيء ،أن الطرق المسدودة ال تؤدي إلى ٍ طريق بعدها. ()8
وتمعن الكراهية في دهاليز الجهل ،وتغفل عن حقيقة التاريخ التي تخبرها بكل مودة أن رسول اإلسالم شخص ًيا قد استعمل «سفيان بن ٍ حرب» على «نجران» ،وواله الصالة والحرب.
إن رسول السماء لم يكن يصغي لثقافة البغض بأي حال .فالسماء 18
ٍ تمييز ،ال تقيم للتعصب وزنًا ،وال التي يمطر غيمها على الجميع بال تساوم الكائنات من تحتها بقطرات المطر. ()9
إن «معاوية بن أبي سفيان» ،ورغم تاريخ والده الحافل في الحرب على الدين الجديد ،آنذاك ،يجد نفسه وقد استلم مهمة رسمية بالغة الخطورة ،فلم ُيدرج اسمه ضمن قوائم «أزالم النظام السابق» ،وال ضمن «فلول» الحزب المنحل ،لقد كانت ثقافة التسامح تنتصر على حضورا من رغبة الكراهية ،ربما ألن رغبة البناء كانت أصدق وأكثر ً االنتقام آنذاك. ()10
ً شاعرا يدعى «راشد سفيان،رجل ويوجه الرسول الكريم مع أبي ً بن عبدالله السلمي» ،وحدث أن راشدً ا هذا وقع له أمر ،فأنشد ابياتًا ذاع صيت أحدها ،وهو ذلك الذي يقول: المسافر وألقت عصاها واستقر بها النوى /كما قر عينًا باإلياب ُ ٍ ٍ مناسبة بعينها، حادثة تخصه ،وفي أنشد «السلمي هذا البيت ،في
لكن جهل من بعده بالمصداقية ،ومعرفتهم بمعنى التقرب ،وواسع علمهم بحكمة التزلف للقوي كي ال تنال منهم قوته ،قدمت لنا نماذج تدعو للتأمل في فضيلة الجهل عندما ُيذعن لسلطان المعرفة. ٍ بمقدار من الجهل كما استعمل هذا إن بيتًا في التاريخ لم ُيستعمل 19
البيت ،واألمثلة بال حصر .وبيتًا من الشعر لم يحظ بتسامح المعنيين أيضا ،فكيف نال هذا البيت كل هذا الكنز من به كما حظى هذا البيت ً نيل الرضى وافتعال السبب لكي تقر عين القلق ،وتهدأ ثائرة المتشائم، وتلين قناة المضطرب؟ ()11
يخبرنا «أبو الفرج الرومي» أن الخليفة السفاح كان يخطب يو ًما موقف محرج بال شك ،يتطير منه على المنبر ،فسقطت منه العصا، ٌ األحباب ،ويتشاءم من حدوثه األعوان ،وتنشرح له صدور الكارهين، لكن المعرفة الواسعة بجدوى الجهل تنقذ الموقف ،إن أحد أفراد القطيع يقف فجأة وينشد البيت المسكين: المسافر. وألقت عصاها واستقر بها النوى /كما قر عينًا باإلياب ُ هذا مثل من أمثلة ،ولنأت إلى الثاني قبل أن نغادر بيت القصيد.. ()12
«عبد الملك بن مروان» ،يرسل «قتيبة بن مسلم» وال ًيا على مفتتحا خراسان ،فيدخل الوالي الجديد مسجد المدينة ويصعد المنبر ً عهده مع الوالية ،وأثناء ذلك تسقط من يده العصا ،فيبدأ الهمس، ويتداول بين الحضور الغمز واللمز ،يبدو أن العصى المتساقطة ال تخشع للوالة كما ينبغي. لكن المعرفة القديمة تستيقظ من جديد ،هنا ،يسميها البعض 20
سرعة البديهة ،متجاهلين أنها عالمة ومبعوث خفي للحاكم كي ال يستبد ،ولكن ،من يقرأ العالمات التي تأتي بها عصا تسقط فجأة من يد صاحبها؟ إن «قتيبة» يتدارك األمر ،ويعالج موقفه المحرج بمجرد ٍ بيت من الشعر ،هو ذاته نفس البيت:
المسافر. وألقت عصاها واستقر بها النوى /كما قر عينًا باإلياب ُ
ٍ جهل نستلذ به كالخدر يا سرعة البديهة ،كم تسرعين أحيانًا نحو قبل نو ٍم طويل!! ()13
ولكن ،هل كانت هذه «الحيلة اللفظية» ستجدي لو أن الصدور خلت من مودة القبول ونية البعد عن التطير ،وإحساس التجاوز وتهوين العظيم من النوازل؟ ال اعتقد ،ولكم في ما يحدث اليوم ما ال ُيحصى من العبرة والدروس.
21
خطاب الذات المقهورة ()1
العصر الذهبي للعصر العباسي ،وبغداد تموج بما يعقل وما
ال ُيعقل ،ثقافات وافدة وعقائد تتكلم لغة الفلسفة ،وفلسفة تراود
الدين عن نفسه ،وقصور تترع بكل شئ وال تفتقر إال إلى لحظة سكون. في خضم هذا الضجيج الحضاري كان المدعو «زيد بن الجون»
الشهير بأبي دالمة ،قد دخل ذات يو ٍم على المهدي خليفة المسلمين، ووجد عنده كبار قواده ووجوه القوم آنذاك ،وألن الجلسة الملوكية
كانت تستلزم بعض المرح المقدس فقد شاءت اإلرادة العليا لخليفة
أمرا ال ُيرد لتابعه المسلمين أن يعالج الملل باالبتكار ،فكان أن أصدر ً
ومهرج قصره «أبا دالمة» بأن يهجو أحد الحاضرين في القاعة الملكية العامرة.
23
()2
تطلع الشاعر المهرج إلى من حوله ،بحث عن شخصية يمكن
وجوها تنطق بالخطر وتنذر من يلهو معها المزاح معها ،لم يجد إال ً بالشر المبين والهالك الذي ال صالح بعده.
ال شك أن المسكين رأى آنذاك كبار رجال المخابرات ومدراء
أجهزة أمن الدولة ووزراء األمر الواقع وحكام األقاليم البعيدة
والقريبة.
أيضا يمكن أن ال شئ يمكن اللهو معه في هذا المكان ،وال شئ ً
يجد له العذر ألنه لم ينفذ أمر المهدي. ()3
عندها،تفتق الذهن عن فكرة ،ومضة ابتكار ناجمة عن لحظة عجز،
فقد قرر «أبو دالمة» أن يهجو الشخصية الوحيدة التي ال يمكن لها أن
تبادله الهجاء ،وأن ينكّل بالوجه الوحيد الذي ال يمكن له أن ينكل به. لقدر قرر «أبو دالمة» أن يهجو نفسه ،فكانت هذه األبيات: أال أبلغ إليك أبا دالمة
فليس من الكرام وال كرامة
إذا لبس العمامة كان قر ًدا
وخنزيرا إذا نزع العمامة ً فال تفرح فقد دنت القيامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا 24
()4
إلى هذا الحد انتهت الحكاية التي أفردت لها كتب التراث مكانًا الئ ًقا في كل مرة ،انتهت الحكاية وضحكت الوجوه ،ورضت مشيئة الحاكم على المحكوم ،لكن هذه الحكاية بالذات تطرح ً مهما سؤال ً عن العجز عندما يصبح داف ًعا لالبتكار ،وعن قلة الحيلة عندما تدفع عاجزا عن عض اآلخرين. بالتمساح إلى أن يعض فكيه مادام ً ()5
عاجزا عن هجاء من هم حوله ،فهل لقد هجا صاحبنا نفسه ألنه كان ً تحول العرب في آخر مطاف هزيمتهم إلى «أبي دالمة» العصر الحديث؟ ()6
ما دفعني إلى استحضار ذلك المشهد القديم هو ما يحدث بين ٍ تناحر بين «العشائر» السياسية والعسكرية العربية، الحين واآلخر من ألنها كانت عاجزة عن التناحر مع عدوها الخارجي ،ولعل الذاكرة ٍ حدث مر آنذاك مرور الكرام، تعود بنا قبل هذا الربيع المشبوه إلى لكنه كان ناقوس خطر لم يسمع به أحد. ()7
إنها تلك الحرب الضروس التي دارت بين بلدين عربيين بسبب مباراة كرة قدم. 25
()8
البلدان هما مصر والجزائر ،والحدث كان قبل ثورات الربيع
العربي التي طالت مصر وتونس وليبيا ،وقتها ،تعامل الجميع مع
الحدث على أنه مجرد مشكلة وقعت بسبب كرة القدم ،لكن القليل
أدرك المعنى الخفي ،وقرأ جيدً ا ما بين السطور. ()9
كانت ردة الفعل آنذاك بالغة العنف ،ولم نكن ندري أنها كانت
مجرد سيناريو لما سوف يحدث بعد سنوات ،عندما ستندلع الكراهية
بين األشقاء األخوة في اليمن ،وفي ليبيا ،وفي العراق.
مبكرا ،لكن أحدً ا منا لم ينتبه وقتها إن «أبا دالمة» يهجو نفسه ً
لحقيقة األمر.
()10
واآلن وقد هدأ قرع الطبول وترجل فرسان تلك الحرب القديمة
عن صهوات جيادهم منذ زمن ،هل تسمحون لي اآلن أن أناقش على مهل ما حدث ولو بعد ٍ حين من الزمن؟ درسا رسبنا جمي ًعا في امتحانه السهل، أعرف أني أذاكر معكم ً
ولكن ،ال مفر أحيانًا من قراءة التاريخ مرتين. 26
()11
ٍ لطرف ضد سأراجع ما حدث ،ليس من موضع تعصب أو انحياز ٍ لحدث تاريخي ،بمعنى أن تاريخ آخر ،ولكن من زاوية تحليل تاريخي العرب الحديث قد سجل تفاصيل هذه «االشتباك العنيف» بالنص والصوت والصورة ،فال مجال إذن إلنكار واقعة الخالف الكبير هذه، وال ضرر من مناقشتها بهدوء وبالكثير من التعقل على غير عادتنا في مثل هذه المواقف. ()12
كان البلد األول هو الجزائر ،الذي عانى لفترة طويلة من حرب أهلية ضروس سببها هيمنة الجماعات اإلسالمية المتشددة على مناطق ظلت بعيدة عن قبضة السلطة لفترة طويلة ،تحولت فيها الجزائر إلى بلد غير آمن شهد العديد من المجازر المؤلمة التي راح العزل األبرياء. ضحيتها اآلالف من ّ
هذه األحداث الدموية عادت بالسلب على االقتصاد الجزائري، وعلى الواقع السياسي المعاش ،وأضرت بالنسيج االجتماعي هناك، واحتاج الجزائريون إلى وقت طويل لتعود األمور إلى ما كانت عليه جبارا الجتياز النفق المظلم الذي مرت به البالد. باذلين جهدً ا ً
ال أحد بإمكانه أن ينكر قدرة أبناء البلد الذي بذل مليونًا من الشهداء على مذبح حريته على اجتياز نفقه ،ولكن هذا النفق بالذات ،وحسب تقارير االقتصاديين ،خلق حقائق مرة من بينها أن إنتاجية القطاع 27
الصناعي في عام 2006هي ذاتها نفس اإلنتاجية في عام ،1983وأن اعتماد االقتصاد الوطني على قطاع النفط وحده اليزال يشكل تلك دائما بأن ثمة وطن كامل يتكئ النسبة السحرية % 98والتي توحي ً
على عكاز المحروقات والشئ غيره ،هذا إذا لم نتطرق إلى مشاكل
البطالة والتمويل وضعف الرأسمال البشري. ()13
كل هذا يؤكد أن اآلثار السلبية لحرب «العشرية السوداء» لم تنته
بعد ،فهذه الحرب التي بدأت في عام 1992على إثر مسألة االنتخابات
الشهيرة،وفرخت في تداعياتها عشرات الجماعات والتكوينات ّ ٍ المسلحة ،التي لوثت التاريخ السياسي الجزائري بعنف طرزته المجازر الدموية التي انتهكت حرمة األجساد،فكان مثلث الموت في
البليدة والعاصمة،وكان الضحايا من مختلف التركيبات االجتماعية
في البالد.
()14
ولم تستسلم الجزائر كعادتها ،قاومت كبوتها ونهضت من جديد،
فبعد جهود «اليمين زروال» ،كانت مساعي «بوتفليقة» قد نجحت في
إيجاد صيغة للحوار الوطني استوعبت كل التناقضات ،لكن هموم
الحاضر ظلت متعلقة بمحاوالت مستميتة لحل مشاكل الماضي،وما
أكثر مشاكل ما مضى.
28
()15
الجزائر ليست مجرد رواية طويلة للعنف السياسي،فهذه صفحة طويت ،لكن إرادة اإلصالح ال تنفي هيمنة معضالت اقتصادية واجتماعية وعالمات استفهام كبيرة تتعلق باإلدارة والتنمية. ()16
كلها خيوط كتان تشد إلى الوراء وتفرض قدرة جبارة على السير أيضا بوادر انفراج بعكس االتجاه ،لكنها ليست كل شئ ،ففي الجزائر ً كبيرة ودوائر ضوء تبدد الوحشة وتبعث على التفاؤل. ()17
هذا عن الوضع في الجزائر في تلك الفترة ،فماذا عنه في مصر آنذاك؟
هناك ،يبدو الواقع السياسي أكثر صخ ًبا ،فالعنف هنا ليس دمو ًيا بقدر ماهو عنف الحوار إذا صح التعبير ،فسؤال التوريث كان مازال مطروحا ،وتيارات المعارضة كانت تشهر صحفها في وجه محاوالت ً هيمنة الحزب الوطني على الساحة،ومشاكل البلد االجتماعية لم تكن تعني فقط وجود أكثر من مليوني طفل في الشوارع مشكلين ظاهرة مقيتة تعارف الرأي العام على تسميتها بظاهرة أطفال الشوارع التي تؤكدها إحصائيات اإلدارة العامة للدفاع االجتماعي مشير ًة إلى زيادة حجم الجنح المتصلة بتعرض أطفال الشوارع النتهاك القانون ،حيث 29
كانت أكثر الجنح هي السرقة بنسبة ،% 56والتعرض للتشرد بنسبة ،% 16.5والتسول بنسبة ،% 13.9والعنف بنسبة ،% 5.2والجنوح بنسبة ..% 2.9 ()18
«مصر التي في خاطري» ،الغنية بمبدعيها ورموزها الثقافية واألدبية أيضا من مشكلة بطالة والسياسية وحضارتها العظيمة ،كانت تعاني ً تطال أكثر من ثالثة ماليين مواطن أكثر من نصفهم من الشباب ،وتعاني من اقتصاد عانى من االنتقاالت الغير محسوبة من النهج االشتراكي إلى االنفتاح المطلق على سوق رأسمالية. ()19
البطالة تستلزم الفقر،والفقر مالزم لظروف مجتمع يعاني من تزايد مضطرد في عدد سكانه مع عدم تناسب في تزايد فرص العمل ،أثناء ذلك يضطرم الحراك الفكري ويزداد الجدل السياسي ويتكلم الجميع في وقت واحد دون أن يستمع أحد إلى اآلخر. ()20
هذه خارطة مختصرة للبلدين ،لم أكن أقصد هنا أن أتشاءم ،فقدرة الفعل في مصر بألف خير ،ومحاوالت المصريين ال تتوقف في جهد صادق لإلصالح رغم العقبات ،لكن الداخل هنا كان يموج بكل شئ، 30
وكان الخارج يتربص بمؤسساته القوية ،وبالحذر الممزوج بالعداء مع إسرائيل،الجار المعدني المدجج. ()21
برميل من البارود هنا،وآخر هناك ،مشاكل عديدة،وحلول مؤجلة،وكأن هذه المباراة كانت اإلذن المنتظر لوالدة انفجار كبير ٍ قال،واد كامل من الصراخ كان ينبغي له أن يقال فيه ما ال يمكن أن ُي يكون ،إن أبادالمة يريد اآلن أن يهجو ،ولكنه ال يهجو إال نفسه في نهاية المطاف. ()22
في المباراة األولى التي أقيمت في الجزائر لم يكن ثمة ما ُيذكر، فقط أذكر حالة تسمم غذائي أشارت إليها وسائل اإلعالم المصرية كثيرا في ظل تغير ظروف والجزائرية على استحياء ،وهي حالة تحدث ً السكن واختالف الوجبات الغذائية. ()23
التداعيات بدأت في التشكل قبل المباراة الثانية في مصر ،حيث بدأ اإلعالم المصري القوي (داخل ًيا) في حملة مرئية ومسموعة هائلة لشحن الالعبين والجمهور م ًعا ،الحملة كانت أقوى من أن يحتملها وعي الجمهور حتى أنها ذكرتني بتلك الحملة اإلعالمية المشؤومة 31
التي تورط فيها اإلعالم العربي قبل حرب ،67وقتها رمينا باليهود في البحر ،وحررنا فلسطين ألف مرة ،فعلنا ذلك قبل حتى أن تبدأ الحرب. ()24
الهائل،وفورا في الجزائر انتبه اإلعالم إلى هذا الضخ اإلعالمي ً بدأت صحيفتا «الهداف» و»الشروق» حملة مضادة. ()25
نقطة مهمة لم ينتبه إليها سدنة اإلعالم المصري ،وهي أن اإلعالم الجزائري هو إعالم تعبوي بطبيعته ،أكثر منه إعالم مهني ،زادت من قيمته التعبوية الداخلية أحداث الحرب األهلية التي دارت هناك، وفورا بدأت المشاعر تتحفز هنا وهناك ،كل هذا ولم ينتبه أحد من ً الدوائر الحكومية وال من المثقفين وال من دوائر الفن والمؤسسات االجتماعية والتربوية إلى ما يحدث ،ال أحد دق ناقوس الخطر ،بل أن الكل انساق وراء طبول الحرب،وولد فجأة ألف «يونس بحري» جديد ،ويو ًما بعد يوم كانت كرة الثلج تكبر،لكن مساحة العمى كانت أكبر من أي كرة ثلج في العالم. ()26
أقبل موعد المباراة الثانية ،ولم يكن المشجعون المصريون الذين أحاطوا بحافلة المنتخب الجزائري إال ضحايا آللة اإلعالم الضخمة 32
التي غسلت أدمغتهم طيلة شهر كامل ،وعبأتهم بفكرة واحدة ،مصر ستتأهل لكأس العالم ،كبديل عن العجز في حل مشاكل اإلسكان والبطالة والجريمة واالقتصاد وحوار المعارضة والحكومة الذي ال يتوقف. ()27
وقعت إذن حادثة األوتوبيس المشهورة ،وأصيب العبون جزائريون ،وهنا بالذات كان على المسؤولين في مصر أن يتدخلوا للجم أفواه بعض اإلعالميين الذين تفننوا في إثارة مشاعر الشارع بصورة غير مدروسة ،لكن شي ًئا من هذا لم يحدث. ()28
في الجزائر اندلعت النار ،واندفع سيل الحمالت اإلعالمية الشرسة في االتجاه المضاد ،واشتعلت صفحات الصحف بالعناوين النارية، وتدهورت لغة الخطاب إلى مستوى ال عالقة له بأخالقيات المهنة، إن «ابادالمة» يهجو اآلن نفسه لكن أحدً ا ال يهتم للكارثة. ()29
انتهت المباراة ،وكان لزا ًما على الفريقين (اللذان تحوال إلى جيشين بفعل اإلعالم) أن يلعبا مباراة أخرى في السودان ،وهناك كان الفوز للجزائر ،وهنا بالذات وقع اإلعالم المصري في مأزق حقيقي، 33
لقد عبأ الناس طيلة دهر كامل من أجل الوصول إلى كاس العالم،
ورقص رقصة الفرح قبل أن تحضر العروس ،فماذا سيحدث اآلن؟
مشابها وبأي وجه سيقابل مشاهديه بعد أن تبدد الحلم؟ كان هذا وض ًعا ً
تما ًما لوضع اإلعالم العربي بعد النكسة ،فكيف سارت األمور؟ ()30
أعلنت الحرب ،وكعادة أي إعالم مكابر ،كان الشعار هو أننا
لم نهزم ،واستعمل اإلعالم المصري نقطة قوته الكبرى المتمثلة في القنوات الفضائية الكثيرة التي يهيمن عليها بفضل قمره الصناعي
كنت استثني بعض االعالميين الذين تعاملوا مع (النايل سات) ،وإن ُ
المشكلة بشكل حضاري ومسؤول ،فيما أدرك اإلعالم الجزائري أن قوته ليست على الفضائيات بقدر ماهي على شبكة (النت) وشبكة عالقات قوية في أوروبا ،إن كل طرف يشهر سالحه فلمن كانت
الغلبة؟
()31
حرب أهلية عربية؟ ،لقد لفنا الذهول ونحن نراقب الموقف
آنذاك ،لغة خطاب انفلتت من عقالها ،في الجزائر كانت الالعقالنية
في التهجم ،وفي مصر قاد الالعبون المعتزلون برامج مباشرة جنحت نحو تمجيد الذات على حساب الحط من مكانة اآلخر. 34
()32
الكل كان على خطأ ،فلغة الخطاب المسفة لم تكن تثير إال طبقة
المسحوقين بتأثير الفقر واألوضاع االجتماعية الصعبة ،وهؤالء
يصعب التحكم بعد ذلك بردود أفعالهم ،أما تمجيد الذات والتعالي
على اآلخرين فلم ينتج في نهاية المطاف إال حالة من الرفض واالستياء طالت الكثيرين من النخب المتزنة سوا ًء في مصر أو
الجزائر.
()33
أثرا عتي ًقا في متحف تاريخ واآلن ،وقد أصبحت تلك الحادثة ً
العرب وخف إيقاع الطبول وخفتت األصوات،هل يمكن لنا أن نسأل عما إذا كان العرب قد تعلموا الدرس آنذاك؟ ()34
هل تعلمنا آنذاك أن اإلعالم لعبة خطرة ينبغي أن ال توضع في
أيدي من كانوا يلعبون بأقدامهم؟
وهل تعلمنا أن للصحافة لغة مهمتها أن ترتقي بالقارئ الى مستوى رفيع ً بدل من أن تنحدر هي إليه؟ وهل تعلمنا أن خطاب «الذات العلية» هو فعل غير محسوب
لن ينتج عنه اال المزيد من الرفض لهذه الفكرة بالذات؟ 35
آخرا ،هل أدرك «أبودالمة» أن هجاءه لنفسه لن يجنبه وأخيرا وليس ً ً هجاء اآلخرين له واو حاز على رضى الخليفة؟ ()35
ال اعتقد أن أحدً ا تعلم الدرس ،والدليل هو ما يحدث اآلن ،ال زال «أبو دالمة» يهجو نفسه حتى هذه اللحظة ،لكن الفارقة انه لم يعد يهجو نفسه في مصر وال في الجزائر ،بل انه يمعن في هجاء وجهه في ليبيا والعراق واليمن!
36
ناتا�شيا والماخور!! ()1
«ناتاشيا» فاتنة روسية ذات أصول من القوقاز ،بيضاء كالحليب، طويلة كليلة فقير مدقع ،وجميلة كالجمال نفسه. ()2
«ناتاشيا» تبحث عن عمل لتعيل اسرتها ،وألن السيد «غورباتشوف» كان قد فتح على بالده نافذة «البيروسترويكا» الباردة ومضى لينعم بالدفء في بيته ،فإن فرص العمل تكاد تكون معدومة لكن إعالنًا عابرا يستوقف البنت ذات الضفائر الحريرية المتوهجة بلون الذهب. ً ()3
«فرصة عمل» ،يقول اإلعالن المعلق على باب ماخور« :مطلوب عارضات أزياء أو نادالت للخدمة في المطاعم أو موظفات استقبال في الفنادق». تبتهج «ناتاشيا» وتمضى أكثر في قراءة اإلعالن:
«المكان ،إسرائيل ،الشرق األوسط ،حيث الطبيعة مغرية والجو دافئ ،والشمس تشرق طول العام». 37
()4
« ُفرجت» ..تهمس الجميلة لشعرها المتطاير مع نسمة هواء عابرة، وتذهب إلى العنوان المدون على الورقة المعلقة على باب ماخور، وتلتقي بالمئات غيرها ،ويتحول المكتب الحقير المتسخ ببقايا أوراق اليانصيب وزجاجات البيرة الفارغة وفضالت البيتزا المرمية هنا وهناك ،يتحول في غمضة عين إلى مجمع للحوريات الفاتنات اللواتي يوقعن على الفور على شيكات وسندات مالية وتعهدات بسداد قيمة تذاكر السفر ورسوم التأشيرة ،لتجد نفسها بعد أسبوع واحد فقط في «أرض الميعاد». ()5
هناك تبدأ القصة ،أو بمعنى آخر تنتهي ،ألن «ناتاشيا» الجميلة التي قرأت ذات يوم إعالنًا مغر ًيا يدعوها للعمل في إسرائيل كموظفة استقبال،تجد نفسها فجأة وقد صودر منها جواز سفرها و ُأجبرت على عمل لم يكن يخطر لها ببال ،إنها تعمل اآلن كفتاة ليل في إحدى مواخير «أرض الميعاد» ..ألم تقرأ اإلعالن المشؤوم على باب ماخور؟؟! ()6
إنها تُجبر اآلن على ممارسة الدعارة والترفيه عن «جنود الرب» المنشغلين طيلة النهار بالجري وراء أطفال المخيمات ،ومن مكانها 38
قصصا الجديد على سرير أحدهم تسمع «ناتاشيا» إبنة القوقاز، ً ال تُصدق عن قنابل الغاز ،وخارطة الطريق ،وغزة ،واالستشهاد والعبوات الناسفة ،وحائط المبكى ،والجدار العازل،والرصاص المطاطي.
جدارا ً عازل يفصلها وتشعر «ناتاشيا» باالختناق ،وتحس وكأن ً عن ما حولها ،وترجع بذاكرتها إلى الوراء مسترجعة ما كُتب على باب الماخور عن «الطبيعة المغرية والجو الدافئ ،والشمس التي تشرق طول العام». ()7
مومسا ،لكن مافيا الرقيق األبيض وترفض «ناتشيا» أن تكون ً ال تفرط في ممتلكاتها ،ألن «ناتاشيا» وببساطة تدر على هذه المافيا عائدات تصل إلى ألف دوالر يوم ًيا مقابل إسعاد وتلبية رغبات أكثر من عشرين ً رجل في اليوم ،وبعملية حسابية بسيطة نجد أن «ناتاشيا» ورفيقاتها يمثلن العمود الفقري القتصاد منظـومة الرقيـق األبيض التـي تتكفـل بإمــداد «أرض الميعاد» بمئات اآلالف من «ناتاشيا» اللواتي ُيذبحن تحت أقدام «النموذج الديمقراطي اآلمن» كما تروج له دعاية الغرب اآلن. ()8
تسألون عن «ناتاشيا»؟ ،لقد حاولت الهرب ،لكن مدير الماخور 39
متسلحا بقوة «قانون حقوق اإلنسان» وحلق شعرها قبض عليها ً الطويل ثم باعها،كأي عبد ،لماخور آخر بمبلغ تجاوز الخمسة عشر ألف دوالر ،بعد أن حولها إلى مدمنة على الحبوب المهدئة ثم عرفها على كل مخدرات «العالم الجديد». ()9
هذه باختصار حكاية مؤسفة عن تجارة الرقيق في اسرائيل ،تقوم «مارتينا فاندبيرج» الناشطة في حقوق اإلنسان ببحث عنها بتمويل من جامعة كولومبيا ،فيما تقبع هناك ،وعلى باب ماخور في أرض الميعاد بائعة هوى ،بيضاء كالحليب ،طويلة كليلة فقير مدقع ،وجميلة كالجمال نفسه .كل ذنبها انها قرأت ذات يوم على باب ماخور إعالنًا عن فرصة عمل ،هناك ،في اسرائيل ،حيث الطبيعة مغرية والجو دافئ، والشمس تشرق طول العام «.
40
هوت ميل ()1
«صابر باتيا» ..هندي مسلم ،وصل إلى أمريكا ذات يوم قبل ثالثين
سنة من اآلن ،لم يكن يجمل في متاعه شي ًئا يستحق التفتيش ،أما في داخل عقله فقد كان ّيهرب ً أمل خف ًيا باالمتياز واثبات الذات. ()2
بدأ صابر دراسته في جامعة «ستنافورد» وتخرج منها بامتياز ،وكالعادة
تم استيعابه بسرعة للعمل مع شركة تعنى ببرامج األنترنيت ،فهم هناك ال يتركون المواهب الواعدة تذهب سدى ،نحن فقط نتقن ذلك. ()3
داخل معامل الشركة يتعرف صابر على شاب آخر هو «جاك سميث»..
حوارا ال ينقطع عبر شبكة مواهب صابر وحماس جاك ،خلقت بينهما ً 41
الدائرة المغلقة الخاصة بالشركة ،وكان حوارهما يشمل كل شئ تقري ًبا، األفكار والبرامج الجديدة وآخر األخبار ،وكان الوقت الذي يخصصانه ً طويل حتى أن رئيسهما المباشر في الشركة حذرهما من مغبة للحوار استعمال دائرة االتصاالت الخاصة بأعمال الشركة في أعمالهما الخاصة. ()4
هذا التحذير ،اعتبره «صابر» وزميله اخترا ًقا للخصوصية ،مما جعله يطرح على زميله فكرة لم تكن تخطر له ببال ،أن يقوما بابتكار بريد اليكتروني خاص ،يضمن السرية الكاملة وينأى على شبهة «التدخل الخارجي». ()5
ظل «صابر يعمل بجد على إخراج فكرته إلى النور ،حتى كان العام 1996عندما سمع العالم ألول مرة باسم «الهوت ميل». ()6
«صابر باتيا» ..الهندي المسلم ،كان صاحب الفكرة واالختراع ً مذهل ألنه وفر الفردية واالمتياز كذلك ،وكان بريده الجديد متاحا الستعمال أي فرد في والخصوصية والسرية ،كما أنه كان ً العالم دون أية فوراق من أي نوع. 42
()7
بدأ صابر يعمل على مشروعه ،وفي العام األول لرؤيته النور
تجاوز عدد المشتركين العشرة ماليين شخص ،وهنا أثار االختراع
انتباه شركة «مايكروسوفت» ممثلة برئيسها «بيل جيتس» الذي عرض
في خريف 1997مبلغ خمسين مليون دوالر على صابر ليضم الهوت ميل إلى منظومة الويندوز.
كان صابر يعرف جيدً ا قيمة اختراعه فرفض المبلغ ،فطلب مبل ًغا
أكبر بكثير ،لقد طلب خمسمئة مليون دوالر ،وبعد مفاوضات
مضنية وافق على اربعمئة مليون بشرط أن يتم تعيينه كخبير في شركة
المايكروسوفت.
()8
وافق «بيل جيتس» على شروط صابر ،واليوم تجاوز عدد
مستخدمي الهوت ميل حاجز التسعين مليون مستخدم ،وينظم إليه
يوم ًيا ثالثة آالف مستخدم من كل أنحاء العالم. ()9
برنامجا مؤخرا حاضرا باختراعاته ،فقد أنجز «صابر» ال يزال ً ً ً
مبتكرا للتسوق عبر االنترنيت يدعى «آرو» ،ووصلت ثروته الشخصية ً
إلى حد وضعه ضمن أحد أثرى أثرياء العالم. 43
هذه قصة نجاح لهندي مسلم ،وهنا يحق لنا أن نسأل :ولماذا ال
يسمع أحد بصابر هذا بينما يحفظ العالم عن ظهر قلب اسم «سلمان
رشدي»؟ ...
لماذا ال تسوق وسائل اإلعالم العربية وغيرها للشخصيات
المسلمة االيجابية ،ولماذا ال تبرز إال الشخصيات السلبية التي
تعمل على خلق صورة نمطية سيئة للمسلمين في كل مكان ولماذا ال يتم التسويق لشخصية المسلم المخترع العبقري ً بدل من شخصية المسلم المفخخ؟
()10
دائما نلمع الكريه؟ ونمنح صدارة التغطيات للسيء لماذا نظل ً
المحبط ،ولماذا يمعن االعالم في ملء األذهان بالبشاعة فقط؟
سؤال كنا نطرحه على أنفسنا وال نعرف الجواب ،كان هذا في
الماضي ،اآلن زال الجهل ،ونما للمعرفة بصيص ،صرنا نعرف
الهدف ،لقد كانت الغاية تكرار البشع لصنع المزيد من البشاعة،
يكفي أن تنسخ الكراهية والقبح والفشل مرة ،ثم مرتين ،ثم يصبح األمر آل ًيا باالعتياد ،وبعد سنوات ستجد أنك قد أفلحت في صنع
ماليين الروبوتات البشرية البشعة التي ماتت انسانيتها ،وضاعت
معالم آدميتها بحكم التكوين.
44
()11
أعذرنا يا»صابر باتيا» ،لقد فهمنا الدرس ،ولكن ،متأخرين ،كعادتنا دائما! ً
45
هل يود �أحدكم؟! ()1
من يرفع العبء؟ ومن يتطوع برفع األثقال عن كاهل العربة ليتمكن
الجواد من العدو بشكل أسرع؟
()2
الواقع أن سؤال الحرية هذا قد يبدو محدود المساحة ضيق
األفق عندما نظن إنه ال يتجاوز احتجاجنا على األداء السيء لالعبي المنتخبات العربية في كأس العالم ً مثل ،لكنه سينال حقه من التبجيل ٍ أسئلة جوهرية تتعلق بنمطية العقلية إذا ما اتسع نطاقه ليغدو جوا ًبا على العربية التي آن لها أن تتغير ،وإال فإن الهزيمة لن تقتصر على كرة القدم. ()3
ٍ حق تصبح األغاني الوطنية شعارا للدخول في ٍ بأي ٍ رياضية لعبة ً 47
ككرة القدم؟ وبأي ٍ حق يصبح الوطن الكبير بمعانيه السامية مرهونًا ٍ نحمل الالعب بهدف تستقبله الشباك ،وكيف نسمح ألنفسنا أن ّ أيضا؟ العربي ما ال يطيقه ،وما ال تطيقه الجبال ً ()4
إن العبنا المسكين يدخل الملعب وهو يحمل فوق ظهره راية
بالده «الخفاقة» ،وأمجاد «أجداده الغابرين» ،وحضارة أمته «التليدة»، ودعوات «أجداده الصالحين» ،وحتى مشاريع الخطط الخمسية
المتعثرة.
مطالب بحماية كل هذه «الثروة» من التلف ،وصيانتها من إنه ٌ
الهزيمة ،ألن هزيمته في الملعب تعني أن «تراثه العظيم» أصبح ريشة
في مهب ٍ ريح عاتية ،فهل يتمنى أحدكم أن يصبح الع ًبا في منتخب
عربي لكرة القدم؟
()5
والخالصة إن «أمجادنا» العظيمة تغدو مر ًة واحدة مجرد كرة من الجلد يتقاذفها إثنان وعشرون الع ًبا ،وتصبح في غمضة ٍ عين أمان ًة وجبل من الهموم يتربع على صدر ٍ ً فريق واحد تنتظره ثقيلة الوزن،
اآلالف وتتطلع إليه العيون ،فهل يود أحدكم أن يصبح العب كرة
قدم في منتخب عربى؟
48
()6
ونهاية الحكاية إن علينا أن نخلص الالعب العربي من خرافة «األمجاد الغابرة» ،وأن نفك أسره من قيد األغاني الوطنية ،وأن نصدر قرارا جماع ًيا بإعفاءه من فرمان تكليفه راع ًيا رسم ًيا لتراث وطنه وجهاد ً أجداده الطيبين ،وان نتركه يعدو طلي ًقا في الشارع المزدحم والزقاق المترب والملعب الفسيح ،متحررا من ٍ قيود طالما كبلت يديه وقدميه ً وعقله ،وأن نخبره إن كرة القدم لعبة مهارة ولياقة وتحد ،وانه ليس مطال ًبا بخوض حرب يحمى فيها «الحرائر» ويصون فيها «الشرف». مطالب بأن يلعب كرة قدم ،وأن يبدع أمام الماليين ،وأن إنه فقط ٌ يبرز مهاراته ،وأن «يستمتع» بلعبته المفضلة ،وأن يمارسها «بالكثير من الفرح» ،فهل هذا مستحيل؟ ()7
ونهاية الحكاية إننا يجب أن نحرر هذا المسكين من مزج الكرة بالكرامة حتى يمكنه أن يلعب بال ضغوط،وأن نخلصه من فكرة أن «مفاتيح سعادتنا» مرهونة بهدف يسجله ،ألن هذا يعنى بالضرورة أيضا بهدف يضيعه، فكرة اخرى تقول إن «أبواب تعاستنا» مرهونة ً ٍ فهل يود أحدكم أن يصبح سجانًا على أبواب تعاسة أو فرح؟
49
�أ�سمحلي يا حاج!! ()1
«أسمحلي يا حاج» ،عبارة شعبية ليبية بامتياز ،ال يستطيع أن ينازعها
على الليبيين أحد ،ال اإلغريق وال الرومان وال الفنيقيين من قبلهم. ()2
أيضا بكل جبروته ال يستطيع ،وأمريكا الشاسعة ال تقدر، الغرب ً
وال روسيا بأطماعها الجديدة ،وال الصين بملياراتها،وال النمور
األسيوية بأنيابها الصناعية القاطعة.
()3
«أسمحلي يا حاج» عبارة لن تسمعها إال في ليبيا ،ومهما تجولت
في بالد الله الواسعة ،في الهند ذات األفيال والبقر السارح على
مزاجه ،وحزام الفقر العالمي المضطجع على صدور أهل البنغالديش 51
مرورا باألحياء العشوائية إليدولوجيا الخراب والصومال وبورما، ً في اليمن وأفريقيا ،وانتها ًء بامبرطوريات الفساد والقتل المخطط لها حسب تقاليد العصابات العريقة في أمريكا الجنوبية. ()4
ال تتعب نفسك ،ليس من مكان آخر يمكن أن تستمع فيه إلى هذه العبارة،إال ليبيا ،وليبيا فقط. ()5
«أسمحلي يا حاج» ،يقولها لك الليبي ثم يمضي ،لكنه يكون قبل ذلك قد داس على رجلك الممدودة وأنت في خيمة فرح ،أو صدمك بكتفه المتين وأنت في صف المعزين في سرادق العزاء. ()6
«أسمحلي ياحاج» ،يقولها لك الليبي وقد اجتاز اإلشارة الحمراء وكاد أن يدهسك ،أو يقولها لك بعد أن يكون قد صدم سيارتك من الخلف ،وقد يتلفظ بها عندما يوقعك على األرض في ٍ بركة موحلة دون أن يقصد بالطبع. ()7
«أسمحلي يا حاج» ،عبارة الليبي وهو يقصف منزلك بالخطأ 52
بقذيفة هاون ،أو يخطف إبنك الوحيد لمجرد اإلشتباه ثم يعيده إليك ٍ خجل ترتسم على وجهه ،أو يتجاوزك في طابور المصرف وابتسامة أو أمام المخبز المزدحم.
إنك ال تملك أمام هذه العبارة السحرية إال أن تتنازل عن كامل حقوقك طواعية ،وأن ترمي برغبتك في رد االعتبار من أقرب نافذة، مادام االعتذار التاريخي قد صيغ بهذه الجملة األسطورية التي لم تسمع بها األساطير. ()8
ٍ بإسلوب لم يخطر على «اسمحلي ياحاج» ،عبارة تسلبك حقك بال شعب من شعوب األرض ،وتمنعك حق التعبير عن احتجاجك على انتهاك كرامتك بطريقة ممنمهجة وفي غاية الذكاء ،بحيث أنك وجهك،هامسا ال تملك سوى أن تبتسم في وجه من يتلفظ بها في ً له واأللم يمأل صدرك :وال يهمك ،عادي. ()9
أليس كذلك؟! أال يحق لنا أن نطالب بوضع هذه «الجوهرة الليبية» في الدستور ،ما رأي لجنة الدستور يا ترى؟!!
53
الحجاج بن يو�سف ..ونحن!! ()1
أكثر من خمسين عا ًما مضت على هحرة الرسول الكريم ،والدولة األموية تترنح هنا ،وتوشك على السقوط هناك ،لكن يد دكتاتور حديدي كان يدعى «الحجاج بن يوسف الثقفي» تمتد إليها لتمنعها من التمرغ في التراب والفوضى م ًعا. ()2
كانت الدولة تترنح ،وكان الناس في حرج ،وكانت الشوارع في فوضى ،وكان اللصوص ينهشون لحم الوطن ،وكان الوطن نه ًبا لكل من هب ودب ،وكان كل من هب ودب يشرب من ماء حيوية الوطن، ولم يكن يرتوي أحد!! ()3
كانت الدولة تلفظ أنفاسها األخيرة ،وكان المتربصون بها كثر، 55
وكان الناس قد ألفوا الفوضى والضجيج ،وكان منهم من استفاد من ضعف الدولة ليصبح قو ًيا ،ومن فقرها المدقع لينعم بالثراء.
باختصار ،كانت الحرية قد مألت صدور الناس باالستبداد، فتغولوا على الدولة والقانون م ًعا ،وكانت شوارع بغداد قد امتألت بالناشطين السياسيين من غير سياسة ،والمحلليين االستراتيجيين من غير استراتيجية ،والمفكرين بغير فكر ،والمتحذلقين بال حكمة. باختصار أيها السادة ،كان كل ما هناك ينذر بالكارثة ،لكن «عبد الملك بن مروان» ينقذ الموقف في آخر لحظة. ()4
سهما رمى به أهل العراق، لقد نثر الرجل الحكيم كنانته ،فوجد فيها ً مصدرا لالضطراب والفوضى ،ومنب ًعا للخالف وكان العراق بالذات ً ومنجما ال ينضب للفتن والضجيج. والممانعة، ً ()5
إن «عبد الملك» يرمي أهل العراق بطاغية ،وهل يوجد ما هو أفضل من طاغية لترمي به الطغاة؟ ()6
يرمي «عبد الملك» أهل العراق «بالحجاج بن يوسف الثقفي»، مدججا بالصمت والصرامة والقسوة، ويصل هذا األخير إلى الكوفة ً 56
ويتجاهل،عن ٍ عمد ،مؤسسات حقوق اإلنسان،ويدوس برجليه الواثقتين منظمات المجتمع المدني ،ربما ألنه أدرك أن الفوضى ال تعالج باألمنيات الطيبة ،وأن الضجيج ال يمكن إسكاته باألغاني الحالمات. ()7
يصل الحجاج ،ويخطب على منبر الكوفة تلك الخطبة التي سجلها ٍ بأحرف من ذهب ،ويصيح بمن أرادوا أن يهدموا بنيان تاريخ الطغاة رؤوسا قد أينعت وحان الدولة ليشيدوا مبانيهم الخاصة« :إني أرى ً قطافها».
ويقطف الحجاج رؤوس معارضيه كي ينقذ رأس الدولة ،والى هذه اللحظة الزال التاريخ يعتبر الحجاج بن يوسف طاغية عصره،دون ٍ للحظة واحدة إلى الطغاة الحقيقيين الذين استحقوا أن يلتفت ولو ٍ بطاغية من طينتهم ،ليسكت ضجيجهم المهلك، أن يرميهم الدهر وليعيد األمور إلى نصابها ،بعد أن كانت الدولة تترنح ،وكان الناس في حرج ،وكانت الشوارع في فوضى ،وكان اللصوص ينهشون لحم الوطن ،وكان الوطن نه ًبا لكل من هب ودب ،وكان كل من هب ودب يشرب من ماء حيوية الوطن ،ولم يكن يرتوي أحد!! هل وصل المعنى رحمكم الله؟!!
57
الديمقراطية المرو�ضة ()1
في مصر ،كما في تونس ،كما في اليمن ،كما في ليبيا ،ثمة ثورات
اندلعت ،وهياكل جديدة قامت ،وواقع جديد يتشكل ،وديمقراطية
تولد ،لكن هذه الديمقراطية بالذات تجد نفسها اآلن أمام مفترق طرق كبير ،ولو استعرضنا مسيرة حالتين فقط ،باعتبار التجاور والتشابه
والعالقات التاريخية المتأصلة ،هما الحالة الليبية والمصرية ،فهل ستتسع صدوركم للحوار؟
()2
ثمة من يحاول ترويض هذه الديمقراطية ،ويريد أن يلوي عنقها ً قليل كي ال تلتفت إال إليه ،واألطراف متعددة بطبيعة الحال،
واالتجاهات مختلفة ،لكن للديمقراطية رأس واحد ،فإلى أين سيتجه
هذا الرأس؟
59
()3
ليست المشكلة في دول ما يعرف بالربيع العربي أن لثوراتها «ورثة» يريدون اآلن أن يتقاسموا الميراث ،لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن كال من هؤالء الورثة يرى أنه وحده الوريث الشرعي، وأن غيره ٌ ٌ سارق لها ،ومن هنا بالذات يبدأ كل شئ. دخيل على الثورة، ()4
أعتقد أن مصلحة الوطن تتطلب من الجميع أن يتخلى عن هذا النمط من التفكير ،فالتركة كبيرة ومهمة وفي غاية الخطورة ،إنها وطن بأكمله ،وبالتالي فإن على الورثة أن يجلسوا جمي ًعا على طاولة واحدة وأن يتبادلوا الحوار ،ألنها الطريقة الوحيدة لتقسيم كعكة الوطن بينهم، وغير ذلك ،لن يكون هناك وطن ليتقاسموه ،ولكن ،وقبل أن نخوض في معترك الفكرة ،من أولئك الورثة؟ ()5
إنهم ً أول ،الثوار ،الذين نزلوا إلى الشارع ،وخاضوا معارك الثورة األولى ،وسقط منهم من سقط ،لكنهم لم يعدوا أنفسهم لحالة «ما بعد الثورة» ،بمعنى أنهم لم يشكلوا كيانًا سياس ًيا يمثلهم في ساحة الحوار، فاكتفوا بلعب دور الغاضب المحتج ،الذي تقتصر مطالبه غال ًبا على التعويضات المالية ومعالجة الجرحى ،وعلى المطالبات العمومية بالحفاظ على الثورة من «المندسين» الذين هم «فلول» في مصر، 60
ودائما ما يجسد هذه المطالب جماعات ال أفراد، و»أزالم» في ليبيا، ً
بمعنى أنها تفتقد إلى تنظيم محكم يمكن التحاور معه بهدوء ،وتحتاج
بشكل حاد إلى كيان محدد يستطيع أن يتحكم في مسار بقية مكوناته وأن يجلس باسمها على طاولة مفاوضات «ما بعد الثورة» دون أن
تتجرأ هذه المكونات على الخروج عن طاعته. ()6
وهم ثان ًيا ،التشكيالت السياسية المنظمة ،ومنها «على سبيل
المثال ال الحصر» ،جماعة اإلخوان (في مصر وليبيا) وجبهة االنقاذ
والتكتالت الليبرالية والتيارات الدينية (في ليبيا) ،وحركة 6ابريل
وأحزاب الوفد والتجمع وباقي التشكيالت السياسية (في مصر) ٍ بخبرة طويلة وباع كبير في العمل السياسي ،ولها وهذه كلها تتمتع
خطبائها المفوهون ،ومنظريها الخبراء ،ولها أساليبها في التعبير عن اتجاهها السياسي ،وبطبيعة الحال لها تاريخها النضالي في مواجهة
قمع السلطة ،وهو الذي يمثل بالنسبة لها مرجعية كبيرة تستند عليها
وتعود إلى ذكرياتها كلما لزم األمر.
()7
وهم ثال ًثا ،الشريحة التي ناوئت الثورة في بدايتها ،ورأت أن ُ يكون إال على فترات وبتدرج وضمن منظومة التغيير يجب أن ال
السلطة القائم ال خارجها ،وهي شريحة خسرت معركتها وشاهدت 61
سقوط أنظمتها ،لكن هذا ال ُيخرجها من واقع كونها جزء من النسيج االجتماعي ال يجوز تجاهله ،بل ينبغي احتوائه وإشراكه في الحوار
الدائر من أجل أن تعود الدولة ويستتب النظام. ()8
وهم راب ًعا ،ذلك الطرف األكثر اختال ًفا ،إنه طرف ينأى بنفسه عن
كل هذه التشكيالت ،وإن حالفها لفترة ،فهو زواج مصلحة قصير
العمر بطبعه ،وسرعان ما يعود بعده إلى سابق عهده في رفض كل
األطر السياسية والدعوة إلى مشروعه الخاص بإقامة دولة خالفة تطيح بالجميع.
()9
هؤالء ليسو جمي ًعا أطراف اللعبة ،هناك طرف مهم ،الثالث
واألخير ،الكبير ،والضروري ،واألساسي ،لكنه طرف صامت،
لم يؤطر أهميته هذه في شكل محدد ،ولم ينهض بعد ليقول كلمته، إنها األغلبية الصامتة ،التي ال تنتمي لهذا وال ذاك ،وهذا الطرف هو المخزون الضخم الذي يمد كل األطراف السابقة بالعنصر البشري،
من خالل كونه مستهد ًفا على الدوام بالتأثيرات العقائدية والفكرية
بعضا منه ،لكنه لم يمنحها ثقته الكاملة لهذه األطراف ،إنه قد يمنحها ً
ولو ليو ٍم واحد.
62
()10
هناك إ ًذا من يريد «ترويض» الديمقراطية.
بمعنى أن كل طرف يريد من الثورة أن تقدم له «نموذجه» الديمقراطي الذي يفضله ،فإلى أين تتجه العملية السياسية عندنا في ليبيا ،وعندهم في مصر؟ ()11
يسوقه المصريون ـ يستند مصر هي «أم الدنيا» ،وهذا اللقب ـ كما ّ إلى خلفية تاريخية صحيحة بحكم عراقة الحضارة الفرعونية ،لكنه أيضا إلى أن «الدنيا» التي نعترف نحن بأمومة مصر لها ،هي يستند ً بالذات «الدنيا العربية» ،بمعنى أن ما يحدث في مصر يؤثر بالتأكيد على بقية الدول العربية ،ألن «الشقيقة الكبرى» لها اليد الطولى ثقاف ًيا وأدب ًيا وسياس ًيا على بقية شقيقاتها،والتاريخ يشهد بذلك. ()12
من مصر انطلق تنظيم «اإلخوان» عام 1928م .عندما تشكل دائما على يد «حسن البنا» ،لذلك كان «مرشد اإلخوان» في مصر ً مرجعية محترمة في باقي الدول العربية ،واآلن عندما تحررت مصر من حكم مبارك ،خرجت إلى الضوء هذه المرجعية ،وصار لإلخوان أخيرا في الوصول إلى السلطة عبر فوزه حزبهم السياسي الذي نجح ً في االنتخابات باألغلبية في مجلسي الشورى والشعب (قبل حله) 63
ثم عبر فوز «محمد مرسي» في انتخابات الرئاسة ،قبل االطاحة به الح ًقا عبر ثورة يناير. ()13
من مصر،كانت انطالقة أحزاب «تاريخية» مثل حزب الوفد ،وكان بزوغ أقطاب سياسية مهمة مثل سعد زغلول وغيره من قائمة طويلة ال يتسع مجال هذه الزاوية لذكرها. ()14
من مصر ،كانت الصحافة التي شكلت منذ مطلع القرن الماضي الرأي العام ،حتى أن ثقافة قراءة أخبار اليوم من «الجورنال» أصبحت دائما في صنع تقليدً ا مصر ًيا بامتياز ،مما جعل الشارع المصري شريكًا ً القرار السياسي ،حتى بصمته وسكونه ،أو بسلبيته وإذعانه. ()15
في ليبيا اختلف األمر ،ألن بدايات المملكة الليبية لم تأخذ فرصتها الكاملة ،رغم شروعها في تأسيس وسط سياسي فاعل حاول جاهدً ا ٍ لشعب بسيط في تركيبته ،حديث العهد بالمدنية، أن يقرع الجرس ٌ راسخ في ثقافته القبلية العريقة ،وهذه نقطة ظلت الحكومات لكنه المتعاقب تتجاهلها على الدوام ورغم أن جهو ًدا جبارة ُبذلت في سبيل إعادة تأثيث مدن متناثرة بالوعي السياسي وبثقافة الممارسة 64
السياسية ،وهي المدن التي تتوسط مجتمعات رعوية بالدرجة األولى قبل كل شئ. ()16
واقعان مختلفان إذن ،لكن المحصلة واحدة اآلن ،ألن الثورتين أفرزتا واق ًعا جديدً ا يريد كل أطرافه ترويض الديمقراطية الوليدة لصالحه ،لكن محاوالت الترويض القسرية هذه هي بحد ذاتها خطر داهم على الديمقراطية ،إننا بتجاذب الجنين بيننا قد نمزق أطرافه دون أن ننتبه ،فهل سننتبه قبل أن نمزق الجنين بيننا؟!!
65
�أيهما ديوان العرب؟!! ()1
ولى «محمد بن أبي بكر» ،مصر سار إليه عمرو بن العاص فاقتتلوا «ولما ِّ فانهزم محمد ودخل خرب ًة فأخرج منها و ُقتل و ُأحرق في جوف حمار ميت،
صبرا». قيل قتله معاوية بن ُحديج الكوفي وقيل قتله عمرو بن العاص ً
«أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر :االستيعاب في
معرفة األصحاب ،تحقيق عباس محمد البجاوي ،ط ،1دار الجبل، بيروت».
()2
حسنًا ،لقد شبع الرجل موتًا إ ًذا ،ولكن ،إذا كان قد ُقتل ،فلماذا الحرق،
وإذا كان قد أحرق ،فلماذا يوضع في جوف حمار ميت؟ لماذا تراتبية
الحقد هذه؟ ولماذا هذا الكم البشع من العنف؟ أم أن الجواب الزال
يرقد في جوف حمار ميت منذ ألف سنة من اآلن؟؟ 67
()3
ٍ دهور من الصمت علمنا زمن الثورات العربية هذا أن نسأل ،وبعد ّ ُ السؤال فريض ًة ال مجال لتجاهل فتحنا عنو ًة منجم الكالم ،فصار تأديتها على أي حال.
علمونا في المدارس أن الشعر هو ديوان العرب ،وعلمتنا مشاهد نصدق؟ كالم هذا التاريخ المشحون أن العنف هو الديوان ،فأيهما ّ المدارس ،أم مشاهد الميادين؟ ()4
منذ فترة ،وعلى مقربة من شارع «أكسفورد السياحي» في لندن عاصمة الضباب ،خرجت مظاهرة «عربية باكستانية» مؤيدة للثورة ضد النظام السوري ،وما إن وصل المتظاهرون إلى شارع المطاعم العربية «ادجوار رود» حتى كان الطرف اآلخر المؤيد في االنتظار ،وعلى مرأى ومسمع من االنجليز المصدومين حدث النزاع ،واالشتباك باأليدي ،ووقعت اإلصابات المتعددة ،وشاهد العالم الغربي بأم عينيه مدى العجز العربي عن الحوار. ()5
أيضا ،كان الليبيون منذ فترة ،واآلن ،وأمس ،وأخشى أن يكون غدً ا ً يتجهون إلى الرصاص كلما اختلفوا ،وكذلك فعل اليمنيون ،وقبلهم كان نقاشا أو النقاش ً العراقيون قد احترفوا القتل ً قتل ،حتى الموت بالطبع. 68
()6
دائما ملجأنا األول ،بدل أن يكون األخير ،وربما هذه مشكلتنا العنف هو ً الحقيقية ،هي أننا نخلط بين األولويات فتختلط أوراقنا على الدوام. ()7
صرت اآلن ال أدري ،هل نحن «أمة الشعر» أم أن الشعر مجرد استراحة محارب ال يمل من تكسير عظام خصومه؟ ()8
دائما هي العنف ،وأسلوب الحوار هو لماذا كانت لغة الخطاب ً الحدة ،وطريقة الكالم هي التالسن؟ ولماذا نبتت لنا هذه المخالب منذ زمن لم يعد يذكره أحد ،فيكفي أن تعترض على رأي أو تحتج على أسلوب حتى تفاجأ بعنف لفظي على أتم االستعداد ليتحول إلى ٍ لعاقبة حسابها. إيذاء جسدي ال يحسب ()9
هل أن اعتمادنا للغة خطاب عنيفة هي السبب وراء هذه الخارطة مرورا بليبيا ثم اليمن ومن بعدها المشتعلة من تونس إلى مصر ً البحرين ،وهاهي تمتد إلى قلب لندن وباريس ،ربما في محاولة لتصدير لغة العنف هذه إلى أوروبا بعد أن ظللنا لعشرات السنين نكتفي فقط بتصدير النفط؟ هل لديكم الجواب؟ 69
الفتنة ..حتى العط�ش ()1
في الصومال «السعيد ..جدً ا» ،وذات مأساة ،اندلع نزاع قبلي حول آبار مياهُ ، فقتل أربعون صومال ًيا بال ثمن ،بطبيعة الحال،
ظل الماء على حاله ،مجرد بئر آسن ،لكن عدد القتلى هذه المرة كان يختلف.
()2
بطبيعة الحال ،لم يشرب أحد ..لكن العديد القوا حتفهم ،وظل
الوطن عطشانًا كما هو.
()3
هكذا هي الصومال ،فتنة متواصلة ،أصابت البالد باللعنة ،والعباد
بالفقر ،والدنيا بقلة الخير.
71
()4
هكذا هي الصومال ،مصيبة االختالف بال منهج ،والمعارضة بال هدف ،وحكمة رجال العصابات في المتاجرة بقضايا البشر. ()5
هكذا هي الصومال ،كارثة السياسة عندما تتاجر بها المواقف، والدين عندما يصبح إعالنًا عن تشكيل عسكري ،والحوار السياسي عندما يتحول إلى جبهات قتال ،وأحزاب الساسة عندما تصبح ميليشيات مدججة بالقذائف ،والكيانات المدنية إذا تحولت إلى مشاريع صفقات أسلحة ال تقف أرباحها عند حد. ()6
هكذا هي الصومال ،األمور إذا انفلتت من عقالها ،والسالم عندما يصبح منبو ًذا من الجميع. ()7
هكذا هي الصومال ،العبرة لمن يعتبر ،والدرس لمن يريد أن ً عقول يفهم الدرس ،ونحن ،إذا ما أردنا أن نضع في هذه الجماجم
ونهدأ لبعض الوقت كي نبني هذه الدولة بالحب واالنتماء ،ونصونها بالهدوء والحكمة ،ونعلي بنيانها بالتعقل والصبر ،هذا ما يجب أن نقدمه ألمنا العظيمة ليبيا ،لتزدهر ربوعها ويرتفع اسمها المقدس 72
عال ًيا ،ولتبقى الصومال على حالها ..العبرة لمن يعتبر ،والدرس لمن يريد أن يفهم الدرس.
73
المطب!! ()1
ربما ،بعد ألف عام من اآلن سيتوجب علينا أن نعلن يوم تكريم
للسيد المطب!
()2
هذا هو اسمه ،أما شكله الخارجي فال يعدو كونه امتدا ًدا أفق ًيا من
المح ّلى باللون األصفر والمزدان اإلسمنت ،أو البالستيك الصلب ُ
ٍ ٍ عاكس كنو ٍع من التنبيه للسائقين عندما يحل الظالم. بزجاج ()3
هذا هو المطب ،لكننا لم نتحدث سوى عن شكله الخارجي،
فماذا عن محتواه الباطن؟
75
()4
المطب يا سادة ،وبكل اختصار ،هو ما يحتاجه الليبيون في هذه
الفترة ،هذه الحقبة من الزمن ،حيث نبتت لألفواه ـ التي كانت مكممة
ـ ألف لسان ،وحيث أصبح ستة ماليين مواطن ،فجأة ،ناشطون
سياسيون ،وحيث اندلعت دون سابق إنذار ثقافة المصطلحات الغربية
لسياسة غربية لديمقراطية غربية ،فأنبتت تربة الحوار الليبي ندوات
ومظاهرات واعتصامات وميليشيات ،وحيث أصبحت المرابيع
تزدحم بحكايات مستحدثة عن الفيدرالية والليبيرالية والوسط ويسار
الوسط ويمين اليمين ويمين الوسط. ()5
المطب ،أيها السادة هو ما نحتاجه اآلن ،فالمطب كائن اسمنتي
مسرعا وقد تجاوزت إشارة ال يحاورك على اإلطالق ،إنه يراك ً
المرور واستهنت برجل الشرطة الطيب ،وأهملت صافرة عسكري
المرور الذي صار ال حول له وال قوة مع جبروتك وتغولك ،لكن المطب ينتصب في وجه سيارتك دون أن يتفوه بحرف فيصيبك
بصدمة موجعة ،ويضرب حديد مركبتك في مقتل ،وعندما تتطلع إليه
والغضب يمأل صدرك ،ال يعبأ بك ولو لنصف ثانية ،إنه فقط يشيح
منتظرا سيار ًة أخرى ال يلتزم سائقها بإشارة المرور مثلك. بوجهه عنك ً 76
()6
هذا هو المطب ،اختراع ليبي بامتياز ،يجبرك على تهدئة السرعة أمام مدارس األطفال ،مادام ضميرك لم يعد يجبرك على شئ، ويلزمك،رغم أنفك ،على التقيد بالحد األدنى للسرعة ألنه سيحطم سيارتك إذا ما حطمت قانون المرور.
أال ترون أننا بأمس الحاجة اآلن إلى آالف المطبات؟ مطب في المؤتمر الوطني لمن ال يعبأون بالوطن ،ومطب للذين في نفوسهم مرض ،كي يخرج من رؤوسهم شبح الذي كان ،ومطب في كتائب الثوار لمن ال عالقة لهم بالثورة ،ومطب في المباني العامة المغتصبة لمن ال أخالق لهم ،ومطب في اسواق السالح للذين يتاجرون بليبيا. ()7
ألم أقل لكم أيها السادة؟ المطب ..هو ما نحتاجه اآلن وما أحوجنا في هذه األيام إلى مطب!!
77
�أهال بالدكتاتورية!! ()1
وما هم إن كان عمر بن الخطاب قد قالها ذات يوم« :متى استعبدتم
أحرارا». الناس وقد ولدتهم أمهاتهم ً ()2
قالها واستراح ،أمر القبطي بضرب «ابن األكرمين» ،تقول الحكاية،
ولكن ..ماذا لو كان الضحية قد تحول بفعل سياط جالده إلى جالد جديد؟
()3
هكذا كان الطغاة ،يلهبون ظهور شعوبهم بالسياط ،لم يكن ثمة
«عمر بن الخطاب» ليعيد األمور إلى نصابها ،كان «ابن الخطاب»
قد مات منذ ألف سنة أو يزيد ،وكانت السياط قد زرعت الخوف 79
والرهبة تحت جلود الناس ،ومع الخوف والرهبة زرعت بذرة طغيان ً وتوحشا وضراوة ،وعند أول بادرة حرية وانعتاق ،سقط أشد قسوة الطغاة ،لكن بذور سياطهم تحت الجلود أنبتت محصولها البشع، فامتألت الشوارع بالطغاة. ()4
هذا هو ملخص الحكاية ،استبدلنا طاغية واحد ،بستة ماليين طاغية في ليبيا ،وتسعين مليونًا في مصر ،وعشرين مليونًا في تونس، وصرنا نحتاج إلى من يذكرنا بعبوديتنا من جديد. ()5
لم نعد نحتاج سوطك يا عمر ،ولم تعد تلزمنا مثاليتك الرائعة، ربما نحتاج اآلن أكثر إلى طغيان «ابن األكرمين» أكثر من احتياجنا لعدلك األسطوري. ()6
مع حريتنا المفرطة ،ومع الديمقراطية التي عاملناها كالبغايا ،ومع االنعتاق الذي ندوس على رقبته كل يوم ،ومع شوارعنا التي صرنا ننتهك أمنها بالسالح ،ومع منشآتنا العامة التي صرنا ندمرها بالسيارات المفخخة ،ومع خالفاتنا التي أصبحنا ال نمارسها إال بالقتال،ومع مفردات ثورة جنينا عليها بالتجاوزات ،مع كل هذه الكوارث التي 80
نصنعها بأيدينا كل يوم ،ربما يجوز لنا أن نفكر اآلن وبصوت عال ٍ بطاغية جديد؟!! وصراخ ال يعرف الخوف :هل لنا ()7
البعض ،يحلمون اآلن ،في العراق وليبيا واليمن بالذات ،يحلمون ذات يوم بديكتاتور يأتي من رحم رغبتهم في الخالص من هذه الفوضى ،يحكم بيد من حديد ويستبد بنا لعشرات السنين القادمة؟ حاكم آخر ،من أسرة أخرى ،يستبد بنا كما يريد ،ويسوق أمام سوطه البالد والعباد ،ويستورد لنا الهدوء ولو من الصين ،ويبيع لنا األمن واألمان ولو بالعملة الصعبة ،ويمأل سجونه بالمعارضين وحبال مشانقه بالرقاب وضجيج شوارعه بالصمت ..فهل سيصل بنا هذا اليأس إلى أن نصرخ بالفاروق عمر ذات يوم« :دعه يستعبد الناس يا عمر ،مادامت الحرية ستخلق منهم عبيدً ا للفوضى!!» أليس كذلك أيها الفاروق؟!!
81
اقر�أوا «جو�ستاف لوبون» ()1
منذ عام ( 1895م) كان عالم االجتماعي الفرنسي «جوستاف ّ وشخص لنا كل شئ ،ولكن ،قدر لوبون» قد وضع يديه على الداء،
العلماء الحقيقيين أن كنوزهم غنيمة للتجاهل على غير عادة الكنوز. ()2
منذ عام ( )1895كتب «جوستاف لوبون» دراسته الشهيرة الذائعة الصيت التي عنونها بـاسم جذاب مثير لالنتباه هو« :علم
نفس الجماهير»
()3
لو كان في المؤتمر الوطني العام من يقرأ ،لو كان في مجلس
النواب من يقرأ ،لوكان في لجنة الدستور من يقرأ؟ لو كان في الحكومة 83
من يمأل رأسه بكالم العلماء ،لو أن المرشحين والقادة ومحترفي الصراخ على المنصات ،قرأوا «علم نفس الجماهير» لهذا العالم الذي شبع موتًا منذ « »118عا ًما بالتمام والكمال ،ألحيوا في صدورهم ملكة المعرفة ،وألبصروا المشهد بشكل مختلف. ()4
في دراسته الكنز ،يقول جوستاف لوبون إن «الجماهير لم تعد تريد اليوم آلهة كان أسيادها السابقون قد تنكروا لها باألمس وحطموها، فاألنهار ال تعود أبدً ا إلى منابعها». ()5
كنز «لوبون» الحقيقي تمثل في أنه دعا إلى أن نستعمل العلم، والعلم وحده ،لفهم طبيعة ونفسية وعقلية هذه الجماهير ،وبالتالي، فإن هذا العلم الكنز سيمكننا من أن نستوعب هذا السيل العارم من مشاعر الجموع الجارفة ،وتهذيبه ،وتوجيهه إلى بناء الدولة ً بدل من االستمرار في كونه سيال جار ًفا ال يستقر له قرار. ()6
ويعرفه بأنه الجمهور «لوبون» يقول بمصطلح «الجمهور النفسي»ّ ، الذي ينتج من تجمع بشري يضم خلي ًطا من األفراد ذوي الثقافات والميول والمستويات االجتماعية المتباينة ،لكن كل هذه الفوارق يتم 84
طمسها بلحظة واحدة ،لتولد مكانها عقلية جمعية تخضع لما يسمى بقانون الوحدة العقلية للجماهير. ()7
بموجب هذا القانون تنعدم الفوارق الفردية بين كتلة البشر هذه، وتتجه كل مشاعرهم نحو هدف واحد ،حتى أن الواحد منهم قد يتخذ ً معزول عن إجرا ًء عني ًفا من المستحيل أن يقدم عليه لو كان لوحده أيضا بشرط تواجده في هذا الجمهور النفسي الكبير الذي ال يرتبط ً مكان واحد ،بل أن شحنة االنفعاالت هذه قد تنتقل عبر أثير البالد من شرقها إلى غربها لتحمل نفس المشاعر المتأججة لجماهير أخرى متواجدة فى نقاط جغرافية بعيدة عن بعضها كل البعد ،وكأن «جوستاف لوبون» كان موجو ًدا معنا يومي 16و 17فبراير وما تالهما من أيام ،لكن هذا ليس كل شئ ،ألن التعامل مع كتلة المشاعر هذه يستلزم مبضع جراح ال تردد عضو حكومة ،اقرأوا جوستاف لوبون، وستعرفون المزيد!!
85
دكتاتورية المجاميع!! ()1
في البرلمان اللبناني ،ومنذ ما يقارب من عام ،ثمة واقعة شدت إلى
الوراء عملية الديمقراطية التي يفترض أن اللبنانيين صاروا ضليعين فيها عكس بقية العرب.
()2
اجتمع أعضاء البرلمان ،وفي عشر دقائق ال غير ،اتفقوا على
التمديد ألنفسهم لسنة وخمسة أشهر ،بعد أن انتهت مدة واليتهم
األصلية وصار لزا ًما عليهم الخضوع النتخابات جديدة. ()3
الحجج طب ًعا كانت كثيرة ،وأهمها الوضع المتوتر في سوريا،
ولكن ،الديمقراطية نفسها كانت تستمع إلى الحجة وال تبتسم. 87
()4
نواب يجددون ألنفسهم؟؟ ،قطعة صغيرة من لوحة فسيفساء هائلة الحجم ،اسمها على ما أذكر ،ديكتاتورية الفرد. ()5
ال أدري ،هل حان الوقت لنسأل ،هل تخلص العرب من دكتاتورية الفرد ليسقطوا في أسر دكتاتورية الجماعة؟ ()6
ٍ اتجاه مؤشرا ال يتجه إال إلى أعتقد أن كل الخيوط اآلن صارت ً واحد ،مجاميع من البشر ،مهندمين متأنقين ،أو غبر شعث ،أو وسط بين هذا وذاك« ،جمهور نفسي» كما يراه «جوستاف لوبون» ،وهذا الجمهور يمارس اآلن نفس الدكتاتورية لتي كان يمارسها الطغاة. ()7
في لبنان ،نواب يمددون ألنفسهم في ظرف عشر دقائق لسنة ونصف،وفي مصر ،جماعة واحدة تصل إلى الحكم لكنها تكفر بمبدأ المشاركة بعد ذلك وتبدأ في تأميم الديمقراطية لصالحها ،قبل أن ُيطاح بها بعد ذلك ،وفي تونس تنهش الخالفات جسد صندوق االقتراع بينما يتربص به من ينكرونه من األساس ،وفي العراق غول المذهبية يطعن فكرة الحرية في الصميم كل يوم فيخلف وراءه 88
عشرات القتلى ،والسؤال اآلن ،هل قتلنا الديمقراطية بالضجيج؟ وهل استبدلنا دكتاتورية الفرد بطغيان الجماعة؟ الشواهد كثيرة، واألسئلة أكثر ،ولكن ،هل من جواب؟
89
دين �أبوهم يبقى �إيه؟ ()1
رائعة وجدتها تنتظر أصابعي على حائط إبداع الشعر العتيد الموغل
في الروعة ،قصيدة للشاعر المصري الجميل «جمال بخيت»..
لسحرا!! أعادتني لذلك الحديث الشريف :إن من البيان ً ()2
«دين أبوهم يبقى إيه؟!! « ..هذا هو عنوان القصيدة ،ومحورها،
وسؤالها الكبير ،وسر روعتها وتفردها وقسوتها في السؤال. ()3
«دين أبوهم يبقى إيه؟! ..لقد صدق «جمال بخيت» ،وها نحن
نسأل معه ،نعم ،دين أبوهم يبقى ايه؟ 91
()4
هؤالء الكائنات ،الذين يلبسون الليل عباء ًة سيئة السمعة، ويخرجون من كهوفهم كالخفافيش ليقتلوا ويغتالوا ويلوثوا سكينة الناس بالعبث ،وأمن العباد بالتخريب ،ويقين البشر بالشائعات، وسمعة ليبيا بالتشويه« ..دين أبوهم يبقى إيه؟!» ()5
هؤالء المسوخ ،الذين ينتهكون حرمة الوطن بالسرقة ،وينهبون كل شئ فيه بال خجل ،يسكنون المباني العامة بال خجل ،ويغتصبون الشوارع كي تتسع منازلهم بالحرام ،ويمألون الدنيا بالضجيج كي ال ينام الوطن ..دين أبوهم يبقى إيه؟!!» ()6
هؤالء األشباح ..الذين يقوضون أسس الوطن كي ال تنهض المؤسسات ،ويعرقلون قيام الدولة كي ال تخلو جيوبهم من المال وأيديهم من السالح« ،دين أبوهم يبقى إيه؟!!» ()7
هؤالء المريبون ..الذين ال وطن لهم سوى جيوبهم ،وال انتماء لهم سوى ألنفسهم ،وال تراب لهم سوى تلك الحفنة التي ستمتلئ بها ٍ بلحظة يضحكون فيها الحدقة ساعة الممات ..وال إحساس لهم إال 92
ولو كان الثمن أن يبكي الوطن ..هؤالء« ،دين أبوهم يبقى ايه؟!!».. هل يعرف أحدكم الجواب؟!!
93
ربيع الحيوانات المنوية ()1
«عمار الزين» ،األسير الفلسطيني في سجون االحتالل ،والمحكوم أخيرا في الهروب من سجنه رغم أنه لم يغادر بالسجن المؤبد، ُ ينجح ً قضبانه الحديدية وباب زنزانته محكم اإلغالق بعد. ()2
هذه ليست أحجية ،لكن علم النفس الذي يقول إن ثمة شخصيات متعددة تسكن نفس الجسد البشري ،ربما يوافق على هذا الخبر، باعتبار أن تواجد األسير المذكور خارج سجنه لن يكون بالضرورة بخروجه إلى الهواء الطلق ،فقد يمكن أن يتم الهروب عبر هروب «جزء» منه ،إذا كان صع ًبا أن يهرب الكل. ()3
الحل كان مرهونًا بيد التقنية الطبية الغربية الحديثة ،وكأن الغرب 95
شخصيات متعددة تسكن نفس الجسد ،هناك غرب استعمار بشع، وهناك غرب مجلس أمن يخذلنا أحيانًا وينصرنا حينًا ،وهناك غرب ينشر قيم التحلل المجتمعي واالخالقي ،وهناك غرب يقدس القانون وينحاز إلى الحريات ويرفض انتهاك حقوق االنسان بأي شكل. ()4
هناك غرب يغض الطرف عن اإلرهاب هنا ،ويحاربه هناك ،وهناك غرب يس ّلح المعارضة هنا ويتبرأ منها هناك ،هناك غرب المصالح هنا ،وهناك غرب القيم هناك. ()5
هذا الغرب المحير ،غرب الشخصية المتعددة التي تسكن نفس الجسد ’ هو بالذات وفي صورة «غرب التقنية الطبية المتفوقة» ،هو من قدم يد العون لألسير الفلسطيني «عمار الزين» لكي يهرب من سجنه رغم أنه لم يغادر زنزانته مطل ًقا. ()6
هرب األسير ،بالتحديد تمكن من «تهريب» حيواناته المنوية إلى رحم زوجته التي ستنجب منه بتقنية «أطفال األنابيب» ً طفل سيحمل راية المقاومة ،وسيحمل اسم أبيه ،وسيحمل خشبة قضيته الكبرى على ظهره ،كل هذا سيحدث واألسير الفلسطيني لم يغادر سجنه بعد. 96
()7
ربيع تالعب تقنية أخرى يعيش بها هذا الربيع ،ربيع المقاومةٌ ، باسمه الجميع ،وألبسوه خري ًفا أو شتا ًء ،أو صي ًفا ،كل حسب أغراضه ربيع لم أره في صورته المشرقة كما رأيته في هذا وخططه ونواياهٌ ، المشهد ،مشهد «عمار الزين» وهو يرسل حيواناته المنوية إلى رحم ٍ زنزانة ال يتسرب من بابها زوجته ،فقد ،كي ال يموت الوطن داخل حتى الهواء ،لكن الحيوانات المنوية تفعل ذلك اآلن!!
97
ربيع الثورة �أم ربيع الدولة؟!! ()1
لن نختلف على أنه تغيير ،سوا ًء كان في البرازيل وتركيا كما يحدث اآلن ،أو في تونس وليبيا ومصر كما حدث ساب ًقا ،مع االحتفاظ بحق ٍ ظروف خاصة لم تفصح االستثناء لتغيير اليمن الذي تم تدجينه في عن تفاصيلها حتى اآلن. ()2
هو إذن ربيع ،بمعنى التجدد واالنبعاث ،وبمعنى خروج البذرة من ظالم تربتها وقد تحولت إلى نبت ًة مزدهرة ،ولكن ،صرنا اآلن نسأل ونتسائل :هل كان ربي ًعا للثورات فقط؟ أم أن ربيع الثورة هنا صار يعني بالضرورة خريف الدولة؟ ()3
على إجابة مثل هذا السؤال يتوقف كل شئ ،فهل يحق لنا اآلن 99
ٍ لجزء ضئيل من جواب شاسع أن نمعن في محاولة التصدي ولو ومتسع؟! ()4
دائما ضربة البداية في لعبة التحول هذه ،أن تثور على أمر الثورة هي ً واقع ،فأنت ال تحتاج إال لفعل الحركة ،وال يلزمك سوى االنتفاض، وال يليق بك إال أن تصرخ وتتظاهر وتمأل الشوارع بالغاضبين. ()5
أن تجرؤ على تغيير وإسقاط ٍ كيان مستبد ،فأنت تحتاج إلى التسرع في الهجوم ،وأن ال تفكر مرتين قبل أن ترمي مدرعة أمن الدولة بحجر ،فمن طبيعة الثائر أنه ال يفكر مرتين ،ولو فعل الثوار ذلك ما قامت ثورة في تاريخ البشر. ()6
هذا هو قانون الثورة ،لكن قانون الدولة ال يعترف بذلك ،ألن طبيعة الدولة أن تفكر عشر مرات ،وطبيعة رجل الدولة أن يحلل الوضع الراهن ،وطبيعة زعيم الدولة أن يقرأ خطابه لألمة من ً مسبقا ،وطبيعة رجل الدولة أن يتأمل ويراجع ،ألن ورقة معد ًة من طبيعة األبنية الراسخة أن تحفر قواعدها جيدً ا ،وإال انهارت على رؤوس ساكنيها. 100
()7
هنا نصل إلى المفترق ،وعند هذا المفترق بالذات ،كان على الثورة دائما أن تسلم القيادة إلى الدولة وترجع مشكورة إلى قواعدها التي ً انطلقت منها ،إلى الشارع ،ليظل الشارع هو الرقيب على الدولة إذا ما تجاوزت ،وربما سر مشاكلنا أن هذا التسليم واالستالم لم يحدث إلى اآلن ،ويبدو أن هناك من يصر على أن يقتصر الربيع على الثورة ٍ بخريف مؤبد ال نهاية له. فقط ،بينما ُيحكم على الدولة
101
طاعة الدولة ودولة الطاعة ()1
الزمن ،السنة الحادية عشر للهجرة ،والحدث ،أبوبكر الصديق
يتأهب لخالفة المسلمين بعد وفاة النبي األمي محمد عليه أفضل
الصالة والسالم.
()2
إن الصحابي الجليل يستعد ليقود الدولة الناشئة ،ثمرة الثورة التي
أطاحت بالنظام المشرك القديم ،وحطمت األصنام الراسخة ،وقضت
على معالم المجتمع الوثني بعد ٍ كفاح مستميت. ()3
ٍ إجراء كان الرجل إذن يستعد ليعلن والدة الدولة ونهاية الثورة ،في
ال بد منه كي تستمر الحياة ،فلكي يعيش الناس وتزدهر المصالح 103
وتعمر األرض ،ال بد لهم من دولة ،ألن الثورة ال تضمن لهم شئ من ذلك ،الدولة وحدها تستطيع ،فماذا طلب «الصد ّيق» من شعبه آنذاك؟ ()4
لقـد كانت الجملة األبرز في خطابه التاريخي هي« :اطيعوني ما أطعت الله فيكم» ()5
لقد طلب الرجل إذن «الطاعة» من الشعب ،طلب الطاعة من «الثوار السابقين» ،أولئك الذين حطموا اسطورة قريش في غزوة بدر ،وصمدوا للتحديات في غزوة األحزاب ،وخلصت لهم المدينة من هيمنة اليهود على رأس المال ،ثم اجتاحوا مكة في عشرة آالف «ثائر» ،لكن هذا لم يكن كل شئ. ()6
يغيرون الوضع القائم ،ويحطمون إن «ابابكر» يعرف جيدً ا إن الثوار ّ القوالب الجامدة ،ويطيحون كالزلزال بكل شئ ،لكن الدولة ال تبنيها الزالزل ،والثوار ليسو هم الوصفة المثالية لقيام الدولة على أي حال. ()7
لهذا كان «أبوبكر» يطلب الطاعة ،فقد كان يعرف أنه لن يتمكن 104
من بناء دولة ما لم تكن هناك طاعة ،وكان يعرف أن الثورة فعل تمرد،
لكن الدولة فعل طاعة ،وما أبعد الفارق بين تمرد وطاعة ،وما أوسع
الهوة بين ثورة انتصرت ،وثورة ترفض أن تقتنع بأن اكتمال انتصارها لن يكون إال بخضوعها لمنطق قيام الدولة ،وأن تمام هزيمتها أن
تتمرد على حقيقة كونها ستصبح دول ًة في نهاية المطاف ،فهل هذا
كل شئ؟!!
()8
محافظ إحدى أكبر المدن العربية يعتذر ،والحكومة تعتذر،
والسبب هو قيام عمال النظافة بمحو الرسوم الجدارية التي خطها
قرارا آخر يصدر بإعادة هذه الرسوم من الشباب أيام الثورة .بل أن ً
جديد ،إن الدولة تنحني مجد ًدا للثورة ،فهل يمكن أن نتنبأ بزوال
سطوة القرار الرسمي أمام طغيان رد الفعل في الشوارع والميادين، وإلى متى؟؟
()9
قرارا بإقالة النائب العام ،لكن النائب رئيس دولة عربي ،يتخذ ً
العام يتجاهل القرار ويذهب الى مكتبه في صباح اليوم التالي وكأن شي ًئا لم يكن ،فيضطر الرئيس إلى «ابتالع» قراره والتنازل على اقالة
النائب العام.
105
()10
قيادات «التيارات السياسية» ينتقدون تراجع الرئيس عن قراره ويهددون بمليونية غضب. ()11
هذا نموذج صغير ،وصغير جدً ا مما حدث ساب ًقا في مصر ،فماذا يجري في تونس اآلن..؟ ()12
حظرا على التظاهرات في وسط العاصمة ـ الحكومة تفرض ً انقا ًذا لموسم السياحة في تونس ـ فيكون رد الفعل مظاهرات غاضبة واشتباكات عنيفة مع الشرطة خلفت اصابات وجرحى. ()13
هذا بعض من مشهد مصر وتونس ،أما مشهدنا الليبي فأنتم أدرى به مني ألف مرة ،ولكن سيظل السؤال قائما :إلى أي ٍ حد حطمت ً ثورات الربيع العربي منطق «الطاعة» في دولها؟ وهل يمكن أن نبني دولة ما دون منطق «الطاعة «؟ ()14
نفس السؤال يطرح نفسه من جديد ،هل حطم «الثوار» أسوار 106
كتائب الطغاة ،وكسروا حواجز الخوف األسطورية من القبضة الحديدية لألنظمة المستبدة لمجرد إسقاط حكام مستبدين؟ ،أم أن هذا الطوفان سيستمر وسيكبر إلى أن يصبح هو نفسه «حاجز خوف» عمالق ترتجف أمامه الدولة حيث أن نموها سيتوقف عند حد كونها كيان ورقي شفاف هامشي ال صوت له وال رأي. ()15
هذا هو السؤال الكبير ،وهو نفسه االستحقاق الذي يجبرنا اآلن على التفكير مجد ًدا بصوت عال :هل ستحتاج الدولة إلى كسر حاجز خوفها من الثورة كي تنهض من جديد؟ ربما ..من يدري!!
107
طاغية هلل يا مح�سنين ()1
هذا العبث ،هذا االنفالت األخالقي واإلداري والسياسي المريع،
هل سيصل بنا ذات يو ٍم كي نذرع الشوارع صارخين« :طاغية لله يا محسنين»؟
()2
سؤال طرحته على أحد األصدقاء ،فغرق في الضحك ،ثم غرق
في الصمت ،والزال صامتًا حتى اآلن. ()3
ربما يستنكر أحدكم عنوان هذا المقال ،ولكن ،وقبل أن تتسرعوا
في الحكم سأقول لكم إني لست من هواة االستبداد ،وال من دعاة
الطغيان ،فأنا كاتب وأديب ،ولم يشهد التاريخ على مر عصوره متعاط ًيا 109
باألدب وقع في غرام طغيان ،ألن الطغيان يدوس على اإلبداع بحذائه، والطغيان يسحل الروح ،والطغيان يمسح معالم الشخصية ،لذلك لم يخلق بعد الكاتب الحقيقي الذي ينحاز لقضية طاغية. ()4
هذا هو التوضيح أيها السادة ،ولكن ،عندما تنهي الثورة أسطورة طاغية واحد ،ليولد ً بدل منه آالف الطغاة ،أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين :طاغية لله يا محسنين؟ ()5
عندما يستبد بك الطغاة في كل شئ ،يكسرون أمامك إشارة المرور ،ويتجولون في الميادين بسيارات ال تحمل لوحات معدنية، ويقلقون منام أطفالك بضجيج سياراتهم التي ال يدركها العطب، ويسبونك بال خجل إذا ما بدر منك احتجاج ،ويرفعون في وجهك «الكالشينكوف» إذا ما طلبت منهم أن يخففوا سرعتهم كي ال يموت طفلك ،عندما يحدث لنا كل هذا ،أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين :طاغية لله يا محسنين؟ ()6
عندما يلوث المستبدون الجدد روحك ،ويدوسون على قداسة التراب بالتعدي ،ويدمرون آثار الحضارات العظيم بالبوكلينات، 110
ٍ بتوحش مقيت على المباني العامة ،ويسكنون العيادات ويعتدون
والمدارس ،ويهدمون أسوار المنتزهات ليشيدوا لهم المحالت
الخاصة ،ويقتلون األراضي الزراعية بغابات االسمنت ،ويحرقون
األشجار عن سابق تصور وتصميم ،عندما يحدث لنا كل هذا ،أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين :طاغية لله يا محسنين؟ ()7
عندما تصبح «ليبيا» بالنسبة لنا مجرد خزانة عامرة بالمال ،ننهبها
وننهبها حتى تصبح خاوي ًة على عروشها من االفالس ،وعندما يحول
العابثون مناسباتنا إلى جبهات حروب ،وسياسات حكومتنا إلى
دهاليز غامضة ،وخالفات كتلنا السياسية إلى موت واغتيال ،عندما يحدث لنا كل هذا ،أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين :طاغية
لله يا محسنين؟
()7
عندما نسئ فهم الوطن ،وعندما نفشل في اختبار الحرية ،ونرسب
في امتحان الديمقراطية ،ونصغر في عيون اآلخرين حتى نصبح أقل
من ذرة غبار ،عندما يحدث لنا كل هذا أيها السادة ،ويتكاثر على
وجوهنا الطغاة ،أال يحق لنا أن نذرع الشوارع صارخين :طاغية لله
يامحسنين؟
111
طغاة الربيع العربي!! ()1
تغول الشعب على السلطة ..هل هو رد فعل على تغول السلطة
السابق على الشعب؟
()2
في علم النفس ثمة إشارات عن ردود افعال كهذه ..فاالستبداد
ّيولد بدوره استبدا ًدا ،الفعل هنا متشابه لكن االتجاه يختلف. ()3
يمكن تشبيه األمر بمن يزرع بذرة في جوف األرض ،إن اتجاه
البذرة إلى األسفل ،لكن رد الفعل المتمثل في النمو يكون في االتجاه
المعاكس.
113
()4
هكذا يبدو المشهد اآلن في دول الربيع العربي بشكل عام ،ثمة طغيان مضاد يمارسه الشارع اآلن ضد السلطة ،وهو طغيان يتخذ نفس المسار القديم ،لكنه،وهو يصنع مشهده المغاير ،ال يدرك أنه يقع في نفس الخطأ القديم ،فإذا كانت هذه الجموع قد ثارت على طغيان السلطة المستبدة ،فإنها تمارس اآلن نفس ما كانت تمارسه ضدها السلطة ،إن الشارع يستبد اآلن ،ويطور آليات استبداده إلى آليات طغيان حقيقية تماثل بالضبط اآلليات القديمة. ()5
كم أتمنى أن تصبح هذه الفرضية محل نقاش من مفكرينا وأدباءنا الذين التزموا جانب الصمت طيلة هذه المدة ،نحتاج ً فعل لجبهة قتال فكرية نناقش من خالل التوجه إليها مفاهيم ما بعد الثورة ،ونطرح معها عشرات األسئلة. ()6
إن مشهد اقتحام البعض للمقرات االدارية الرسمية للدولة في ليبيا ،ومشهد الشرطة التونسية وهي تتظاهر للمطالبة باألمان من هجمات السلفيين ،ومشاهد أهالي الشرقية في مصر وهم يرشقون نائب المحافظ بالحجارة ،،هي مشاهد ال ينبغي أن تمر على الذاكرة مرور الكرام. 114
()7
السلطة هنا تُمتهن ،إنها تعاني اضطها ًدا من الناس ،والسلطة هنا تهرب ،ألنها ال تشعر باألمان ،لذلك تريد أن تلجأ إلى مكان يقيها تغول الناس عليها ،والناس هنا يستبدون ،إنهم يمارسون فعل الطغيان على السلطة ،لم يتغير شئ إذن ،مازال هناك طغاة ،ومازال هناك ضحايا للطغيان ..فقط تم استبدال األدوار ،وفي كال المشهدين، السابق والالحق كانت الدولة هي الضحية ،فطيلة عشرات السنين من استبداد السلطة بالناس تعطلت الدولة ولم تتشكل مكوناتها ومؤسساتها ،واآلن ،الزلنا نعاني من تغول مضاد ،لكنه هو اآلخر ُيصنع كما كان سابقه ُيصنع. إن استبداد الناس وتغولهم على السلطة يمنع الدولة من التشكل، فهل آن لنا أن نضع األمور في نصابها لتولد الدولة في ليبيا ،وهل آن األوان لتنهض الدولة من فوضى االحتجاجات في مصر وتونس إلى ثوابت الطاعة التي ال قيام للدولة بدونها؟!!
115
عاجلً .. جدا ()1
خبر عاجل ،ربما هو الحل العاجل ،أو ربما هو الوهم الذي صرنا نركع على أعتاب قدميه كي ال يزول. ()2
الخبر يقول إن العلماء قد اكتشفوا كوكب جديد ،غني بالمياه، حارا بعض ويقارب حجمه حجم كوكب األرض ،وإنه قد يكون ً الشئ ألن غطاءه الجوي كثيف. ()3
خبر جيد ،كوكب آخر ،وهذا يعني أن السنة بامكانهم أن يرحلوا إلى هناك ويتركوا الشيعة هنا ،أو أن يبقى السنة ويرحل الشيعة ،هذا بالنسبة للمسلمين ،أما بالنسبة «للنصارى» فال مشكلة ،فقد اقلعوا منذ زمن عن العراك بهذا الخصوص. 117
()4
خبر جيد ،كوكب جديد ،هذا يعني أن بإمكان بشار األسد أن
يصحب أنصاره إلى فوق ،ويترك «الجيش الحر» تحت ،أي «هنا» ،أو
ربما يعني أن يرحل إلى «هناك» الجيش الحر ليترك الجمل بما حمل لبشار ،وأن يأخذ الموت أجاز ًة طويلة هذه المرة.
أيضا أن بامكان باقي اليمنيين أن يجمعوا متاعهم وهو يعني ً
ويرحلوا إلى األعلى ،تاركين األرض للحوثيين ،ويا دار ما دخلك شر. وقد يعني أن جنوب السودان ربما سيرحل إلى «فوق» ،تاركًا ٍ حاجة لتراكم الجثث كل يوم. األرض للشمال ،بال ()5
كوكب جديد ،بعيد جدً ا عن كوكب األرض ،كوكب جديد بال
أرضا لم تزدحم بعد بالنزاعات بشر حتى اآلن ،هذا يعني أن ثمة ً والحروب والعداء والكره والحب والخطوبة والزواج والطالق والنفقة ومؤتمرات األمم المتحدة ومؤامرات الساسة وفتاوى المشائخ وايقونات الكنائس وذكريات الشيوخ ونزق الشباب. ()6
كوكب جديد ،أمل آخر في بداية جديدة لعلنا ننتج ً جيل أفضل
هذه المرة ،ولعل خيبتنا تصغر اآلن بعض الشئ. 118
()7
كوكب جديد ،ما رأيكم؟ شخص ًيا سأكون أول المغادرين ،لعلي أولد هناك من جديد بعد أن شبعت موتًا هنا.
119
ف�ضيحة اليهودي الطيب!! ()1
فجأة ،قامت الدنيا ،لكنها لم تقعد بعد. ()2
تغريدة على «تويتر» ،مجرد تغريدة ،فقط ال غير ،جعلت اإلعالم
األوربي يصرخ كالملسوع ،وأيقظت بركان الغضب من نومه الطويل. ()3
تغريدة على «تويتر» ،مجرد نكتة عابرة تقول« :إن اليهودي الطيب
هو اليهودي الميت» ،جعلت صحيفة «اللوموند» الفرنسية تشكو إلى
الله موقع تويتر ،بل وتتساءل في غضب مجنون« :موقع تويتر هذا،
هل هو موقع نت أم سلة قمامة؟»
121
()4
تغريدة على «تويتر» ،مجرد سخرية عابرة من اليهود على شكل نكتة ،جعلت منظمات حقوقية ومدنية شهيرة في فرنسا تحتج وبالصوت العالي مستنكرة «موجة معاداة السامية» ،ومألت اقالم حبرا ليدقوا نواقيس الخطر حول «مدى الحد المسموح كتاب كبار ً به لحرية التعبير». ()5
اخيرا ،ونطقت أحجارها الصماء صحف فرنسية أخرى تكلمت ً بعد ٍ دهر من السكوت لتطالب بخط أحمر ينبغي أن يرسمه القانون ألولئك الذين ال يحترمون حقوق األقليات ،وما كان هذا ليحصل بالطبع لوال تغريدة «اليهودي الطيب «. ()6
صحيفة «لوفيغارو» الشهيرة نادت صراح ًة بأن يكون هناك حد أقصى يحترم اآلخرين ،وأن معاداة السامية هي خطر ينبغي التصدي له. ()7
هذا غيض من فيض ،سطر واحد من كتاب كبير يختصر تفاهة وسطحية النظرة األحادية الغربية عندما يتعلق األمر بحرية الكلمة، فالكلمة حرة عندهم إذا ما كانت تنتهك حرمة اإلسالم ،وهي مطلقة 122
السراح متحررة من قيد الخطوط الحمر ،وهي مقدسة ال رادع لها وال ماتع إذا ما تجرأت على نبي اإلسالم أو مقدسات المسلمين، أما إذا فكرت ولو لحظة باالقتراب من حرمة اليهود ولو بمجرد نكتة عابرة فالويل لكاتبها وقارئها ولموقعها ولكل من له صلة بها ،وهنا انهارا ل ُيكتب تبرز الخطوط الحمراء وتنتصب الموانع ويسيل الحبر ً القانون من جديد ،وتقوم الدنيا وال تقعد ،والسبب ،مجرد تغريدة على تويتر تروي مجرد نكتة عابرة تقول« :إن اليهودي الطيب هو اليهودي الميت!!»
123
قبيلة الخال�ص وخال�ص القبيلة ()1
خبر تمكن أعيان ومشائخ مدينة اجدابيا من إقناع نازحي تاورغاء بالعودة مؤقت ًَا عن مسيرهم نحو تاورغاء إلى حين مواصلة المحادثات مع أعيان مصراتة بهذا الشأن يفتح با ًبا طالما نادينا باالهتمام به. ()2
القضية أكبر من مجرد مدينة أو موقف طارئ ،لكن ما أعنيه هنا هو أن أغلب األطياف السياسية في ليبيا تمارس السياسة بأسلوب ديمقراطية غربية مستوردة بالكامل ،ودون االهتمام بإضافة مواصفات ليبية على هذه الديمقراطية ،ولهذا سنظل نعاني إلى األبد من التعامل مع ديمقراطية هجين تستجيب لنا يو ًما وتلفظنا أيام. ()3
الديمقراطية بمواصفات ليبية ،فحتى شركات السيارات انتبهت 125
لهذا االختالف فأنتجت سيارات بمواصفات الدول التي تصدرها
إليها ،لنعتبر الديمقراطية إ ًذا مجرد سلعة جديدة ،أو سيارة حديثة، ولنطلبها بمواصفات ليبية حتى ال يصيبها العطب. ()4
ليبيا نتاج قبيلة ،هذه حقيقة ال نستطيع أن نتجاهلها ،وإذا تجاهلناها
فلن تتجاهل هي نفسها ،ولن يفيدنا أن ندفن رؤوسنا في رمال
ديمقراطية ذات نتاج غربي بالكامل ما دامت التربة التي سنزرع فيها هذه الديمقراطية تربة مختلفة.
()5
ليبيا نتاج قبيلة ،والتاريخ القديم ،عندما أخبرنا عن ليبيا ألول مرة،
أخبرنا عن قبائل تدعى التحنو والليبو والمشواش ،وهيرودوتس
عندما وصف للعالم أرض ليبيا ،وصف قبائل ولم يصف دولة،
والمستعمرون اإلغريق عندما وصلوا إلى ليبيا وجدوا أمامهم قبائل
الجيلجامي والنسامونيس وغيرهم ،والرومان عندما احتلوا شرق ليبيا
وغربها وجنوبها قاومتهم قبائل الجرمنت والنسامونيس ،والطليان عندما وصلوا إلى ليبيا قاومتهم قبائل وأدوار يعرفها التاريخ جيدً ا،
لذلك سنكون مخطئين إذا وضعنا القبيلة على الرف ونحن نؤسس لديمقراطية في ليبيا.
126
()6
لهذا ،كانت األحزاب التي وصلت إلى المؤتمر الوطني أحزا ًبا يتيمة األب واألم ،ومعزولة تما ًما عن الشارع ،ولهذا لم يكن لها تأثير فعلي خارج مبنى المؤتمر ،ولهذه األسباب جمي ًعا أدعو الحكومة الليبية إلى الدعوة العاجلة لحوار وطني عاجل يضم إليه كافة قبائل ليبيا وأعيانها ،فإذا ما نجح حوار قبائل ليبيا فسوف ينجح في ليبيا كل شئ. ()7
على هذا الحوار أن ُيقام ،وعلى الحكومة أن تستثمر فور ُا نتائجه، وعلى الحكومة أن تعيد االعتبار للقبيلة إذا ما أرادت نزع مخالب التنظيمات العقائدية التي تتكاثر كل يوم ،فال أحد سوى كيان القبيلة يمكنه أن يتصدى لكيان التنظيم العقائدي ،وعلى األحزاب السياسية أن تدرك أنها خارج إطار فكرة القبيلة مجرد غرس في ٍ تربة بال جذور!
127
للكالب ..فقط!! ()1
بشرى ..للكالب!! ()2
مادامت األخبار السارة ليست للبشر هذه األيام ،فما المانع من
إدخال بعض السرور على نفوس الكالب؟! ()3
هذا ما فكر فيه السيد البروفيسور «نيكوالس دودمان ،الطبيب
البيطري ومدير الدراسات العيادية في جامعة ماساشوسيت األمريكية
وزميلته «مدربة الكالب» البريطانية «فيكتوريا ستيلويل» وزميلهما
«ناشط حقوق الكالب» وارن إيكستين. 129
()4
القناة ستبث برامجها على مدار الساعة ،وسترفه عن «الكالب» وتسليها ،وستصل برامجها إلى ( )46مليون منزل في أمريكا وحدها. ()5
ستشاهد «الكالب» فقرات موسيقية ،وأفالم الرسوم المتحركة،ولن تبث لها مشاهد العنف والسالح والمجازر،واالتهامات المتبادلة ،هذه نحن سنشاهدها ً بدل عن «الكالب»!! ()6
تريدون المزيد؟ القناة ستبث من «إسرائيل» ،ويبدو أن هذه الدويلة الشاذة قد وصلت إلى الذروة في االهتمام بحقوق البشر فاتجهت أيضا أن المثل القديم الذي يقول إن شر البلية إلى الكالب ،ويبدو ً ما يضحك ،قد تغير اآلن ،ألن شر البلية أصبح مبك ًيا ،وألن شر البلية أننا قد نبحث قري ًبا عن هذه القناة لنشاهدها ً بدل من قنوات األخبار والحوارات السياسية المشحونة بالغضب واالنفعاالت ،والتي صارت تصيبنا بالسكر والضغط والغثيان. ()7
هل أبشركم بالمزيد؟ حسنًا ،هاكم هذه البشارة ،لقد أعلن أصحاب هذه القناة أنهم يفكرون جد ًيا في إطالق قناة أخرى ،ولكن للقطط هذه المرة .ودمتم!! 130
ليلة عر�س «روان» ()1
في اليمن ،بلد «توكل كرمان» حاملة «نوبل» لحقوق اإلنسان،
وفيما تنشغل «توكل» هذه بالسياسة في مصر ،كانت طفل ٌة يمنية في الثامنة من عمرها تموت بتأثير النزيف الحاد ،بعد أن تزوجت ،أو
زوجها أهلها ،أو زوجتّها التقاليد ،أو زفها سلطان العادة المستبد، ّ إلى «ذكر» مستبد بدوره ،عاملها كما تعامل النساء الناضجات ناز ًعا عنه ثيابه وانسانيته وإحساسه م ًعا.
()2
«الذكر» ،في األربعين من عمره ،أي أن عمره يعادل خمسة أمثال
عمر «الفريسة» ،اقصد الزوجة،حسب نظر سلطان العادة المستبد. 131
()3
الطفلة ،أي «الزوجة» كما وجدت نفسها فجأة ،أي قطعة اللحم الغضة التي الكتها أنياب «الذكر» الزوج ،أسمها ،أو كان اسمها، «روان» ،أما تقرير الطبيب الشرعي فقد كان فضيح ًة بكل المقاييس. ()4
التقرير أكد أن سبب وفاة «روان» ،هو نزيف داخلي ،وتمزق حاد في الرحم ،مما ادى إلى وفاتها بعد فشل محاوالت األطباء إلنقاذها من مضاعفات «االعتداء الغاشم» للزوج «الذكر»،ذلك الذي نزع عنه ثيابه وإنسانيته وإحساسه م ًعا. ()5
بقية الخبر ال تقل «إحبا ًطا» عن بدايته،ألنها تقول إن محاوالت مضنية قد بذلت للتستر على الخبر ومنع نشره ،وإن من قام بهذه المحاوالت هم بالتحديد سكان المنطقة التي تمت فيها هذه الجريمة،وإن السلطات المختصة لم تقم بأي إجراء عقابي ضد «الفحل» الذي انتهك إنسانية هذه الطفلة .وذلك ألن سلطان هذه العادة المتوارثة في بعض مناطق اليمن،هو أقوى من كل السلطات، وأكثر فعالية من جميع القوانين ،إذ أن تقليد «زواج القاصرات» هو ٍ قانون قديم يعتبر األنثى قانون نافذ بحد ذاته،يستمد مشروعيته من عارا ينبغي ستره بتسليمها في أسرع وقت لسلطة رجل ،ومصطلح، ً 132
«أسرع وقت» هذا يشمل بالطبع منطق أال ننتظر سن البلوغ لنستر العار. ()6
حادث موت «روان» ال يخص اليمن فقط ،فهذه الجريمة تحدث أيضا في مصر ،وكذلك السعودية ومعهما المغرب،وفي الكثير من ً مناطق العالم األخرى ،ولكن ،عندما أتحدث عن اليمن بالذات، ٍ بثورة عارمة ،تحدى فيها الشعب سلطة أتذكر أنها مرت منذ عامين أيضا أعود وأتساءل ،هل كانت الثورة «علي عبدالله صالح» ،وهنا ً في اليمن ثور ًة على السياسة فقط؟ وهل أن ثورات «الربيع العربي» هي ثورات إلسقاط أنظمة سياسية،أم أنها ثورات لتغيير قوانين جائرة اجتماع ًيا واقتصاد ًيا؟ ()7
ال شئ تغير ،فالماليين التي خرجت إلسقاط حكم «علي عبدالله صالح» لم تخرج لغير هذا الهدف ،فيما ظلت الجرائم الكبرى على حالها ،خارج نطاق ثورات الجماهير ،وفي الواقع،يبدو أن الثورة حاكما كان اسمه «علي عبدالله صالح» فيما ظل «الذكر» أسقطت ً عرسا كل الفاقد النسانيته يغتصب كل يوم «روان» جديدة ،ويقيم له ً نهاية اسبوع!!
133
الثعالب ور�أ�س الوطن!! تمهيد ال مفر منه
«أحيانًا ،لكي نفهم السياسة البد أن نعرف شيئًا عن طبيعة الثعالب،
طب ًعا أرجو أن ال يستغرب أحدكم ،أو أن يرميني البعض بجنون االرتياب
أو بالهرطقة القديمة ،وأرجو كذلك أن ال يتسرع أحدكم ويقول إن الكاتب خرج عن صلب الموضوع ،وأنه كتب مقال ًة عن الثعالب بدل أن يتحفنا ٍ بمقالة عن سياسة ليبيا وساستها وتسوس أسنان السياسة فيها هذه األيام. أنا لن أخرج عن الموضوع أيها السادة ،كما أعدكم وعدً ا لن أخلفه، ٍ حديث مطول معكم وإليكم عن بأن ثعالب الدنيا كلها لن تثنيني عن
المشهد السياسي الليبي كما أراه اآلن ،لكن البداية ستكون ،وعلى غير ٍ بثعلب مات منذ ألف سنة من اآلن ،فهل أنتم على استعداد عادة البدايات،
لقراءة كاتب حزين يروي لحضراتكم شيئًا عن ٍ ثعلب مات منذ ألف سنة؟ حسنًا ،لنبدأ اآلن .وال تنسوا أن تتذكروا معي تلك القاعدة الذهبية التي
تقول« ،أحيانًا ،لكي نفهم السياسة البد أن نعرف شيئًا عن طبيعة الثعالب» 135
()1
«عابد بن ظالم السلمي» يركع لصنمه المفضل ،يعبده بكل جوارحه ويخضع له ،ففي ذلك الوقت ،قبل ألف سنة من اآلن ،كان الخضوع ألصنام الحجارة فقط. ()2
سلما لتلبية الرغبات، يركع «السلمي» لصنمه ،يتوسل إليه ويتخذه ً ثم ينصرف إلى بعض شأنه على أمل لقاء قريب بمعبوده الجامد الذي ال يرف له جفن. ()3
يعود «عابد» إلى معبوده ،مستعدً ا لمواصلة الطقوس ،ففي صحراء العرب كانت الطقوس تسلي ًة لقتل الوقت ،وفي صحراء العرب كانت الطقوس وسيل ًة لقطع المفازة ،مفازة البعيد عن ذاته ،ومفازة البعيد عن داخله ،يعود عابد لكنه يفاجأ بما لم يكن في الحسبان ،كان ثمة ثعلب يتبول على رأس الصنم. ()4
مشدوها والموقف يمسك بخناقه فال يملك معه يقف البدوي ً حراكًا ،هذا هو الرب المعبود ،الصنم المهيب ،منفذ الرغبات وملجأ الخائفين ،إنه يقف خان ًعا بينما يتبول ثعلب على أم رأسه. 136
أحيانًا ال تملك األصنام شي ًئا حيال من يفكرون بجدية في التبول على رؤوسها. ()5
وكعادة ساكني الصحراء في ذلك الوقت ،يرسم األعرابي دهشته بالشعر ،إذ أن ديوان العرب ،ذاك الذي نحت على جبال جزيرة العرب ً تاريخا بأكمله ،كان هو أداة التعبير قبل أن يمسخه أرباب الحداثة إلى نصوص مستوردة يحتمي بها الجهلة في اللغة والفاشلين في اإلعراب وأغبياء المقاعد الخلفية في الصفوف االبتدائية. ()6
شعرا ويفصح في التعبير: يرسم «ظالم» دهشته ً
ٍ لشدة لقد خاب قو ٌم أم ّلوك فال أنت تغني عن ٍ أمور تواترت أرب يبول الثعلبان برأسه ٌ
أرادوا ً تحارب نزال أن تكون ُ نائب وال أنت د ّف ّاع إذا حل ُ لقد ذل من بالت عليه الثعالب.
()7
الثعالب» ..ذهبت القصة وبقى المعنى، «لقد ذل من بالت عليه ُ أصنا ٌم عديدة تهاوت ،وأكثر منها ارتفعت هاماتها تناطح السحاب، كبرت جزيرة العرب ،ونبتت لهذه األمة دول بال حصر ،في المغرب والمشرق ،ومحل ذلك الصنم اليتيم ثمة مليون صنم اآلن ،أصنا ٌم من 137
ٍ اغتراب استعصى على الترويض ،وأصنا ٌم عقائد بالية ،وأصنا ٌم من ٍ من ٍ جماعات تيه ال نجاة منه ،وأصنا ٌم من أحزاب كاذبة ،وأصنا ٌم من ٍ مظلمة ظالمة ،وأصنا ٌم من تكتالت مأجورة ،وبدل «عابد» واحد، ثمة مئة مليون «عابد» اآلن ،يركعون ألصنامهم بال توقف ،بانتظار
أن تحدث يو ًما تلك المعجزة ويتجرأ ذكر ثعلب على التبول ..فقط مجرد التبول ..أليس كذلك يا جزيرة العرب؟ ()8
الثعالب « ..ذهبت القصة ،وبقى المعنى، «لقد ذل من بالت عليه ُ
مات «عابد السلمي» ،ومات صنمه الذليل ،ومات ذلك الثعلب الجسور ،وبقينا نحن ،نحن الذين رمتنا المقادير ٍ بزمن صار فيه الوطن ذلك الصنم القديم ،صنم «عابد السلمي» ،الذي ال تستحي الثعالب
من التبول فوق رأسه المهيب.
()9
ذهبت القصة وبقى المعنى ،وطنًا تتكالب عليه ثعالب الكراهية،
وثعالب القتل ،وثعالب االغتيال ،وثعالب السلب والنهب ،وثعالب
االختالس ،وثعالب التخوين ،وثعالب االقصاء ،وثعالب الفساد ،وثعالب
التقسيم ،وثعالب التطرف ،وثعالب الفشل ،وثعالب التبجح ،وثعالب االعالم الهزيل ،وثعالب التفتيت ،وثعالب الطائفية ،وثعالب االرتهان لألجنبي ،وثعالب بال عدد ،أنيابها في رقابنا ،وذيولها خارج الحدود. 138
()10
ذهبت القصة وبقى المعنى ،وصرنا نستجدي آلة ٍ زمن تعود بنا إلى ما قبل هذا الزمن ،ولو كان البديل صحراء قاحلة لم تفكر ثعالبها بعد في التبول على رأس الوطن!!
139
الخا�سرون ()1
«األعشى» ،صناجة العرب ،وشاعرهم الكبير ،يطول به العمر
ويسمع بالطوفان المتنامي حتى يشهد نزول اإلسالم ومولد النبوة، ُ
أمرا في نهاية المطاف. يو ًما بعد يوم ،يتدبر األمر في نفسه ،ثم يقرر ً ()2
إن «األعشى» يقرر أن يدخل في دين اإلسالم ،ويعلن قراره
للناس ،وكعادة الريح ،تنقل الريح خبر نية األعشى السفر إلى مكة
ليعلن إسالمه بين يدي نبي اإلسالم. ()3
أيضا ،ولكن، يتجهز الشاعر الكبير للسفر ،لكن غيره كان يتجهز ً ٍ ألمر آخر من شأنه أن يمنع الحدث الكبير ،ومهما كان الثمن. 141
()4
يمعن األعشى في مسيره ،يقترب من «أم القرى» ،وعلى مدخلها
يجد أبي سفيان وأمية بن خلف ومعهما لفيف من سادة مكة الميامين. ()5
يتربص به الدهاة ،ويفاوضونه على ما ال يخطر له على بال ،أيها
األعشى ،الزلنا نغالب محمدً ا ،فيوم له ويوم علينا ،فما قولك برأي؟
أن نهديك هذه المئة من اإلبل ،ترجع بها هذه السنة ،وفي السنة المقبلة ،أما نغلب نحن محمدً ا فتفوز باإلبل ،وأما يغلبنا محمد فترجع
إليه وتسلم بين يديه فتفوز بما ترضى. ()6
يقارن الرجل ،ينظر إلى الدين بعين الدنيا ،ويقرر قبول العرض،
أحيانًا نخطيء عندما ننظر إلى األمور بغير ما يناسبها ،ويرجع سادة مكة غانمين يمألهم الزهو ،وقد حرموا اإلسالم من جهاز اعالمي رهيب كان سيعينه في ٍ زمن حرج ،ويعود األعشى هان ًئا بالمئة ناقة،
مسرورا بالغنيمة ،متطل ًعا إلى السنة المقبلة بفارغ الصبر ،لكن السنة ً المقبلة لم تقبل ،ولن تقبل لصاحبها الذي ينتظرها بفارغ الصبر ،فقد
وقع األعشى في طريق عودته عن ظهر الناقة فمات ،أحيانًا نركب أيضا. الناقة الخطأ في طريق سفرنا ،الخطأ ً 142
()7
يخسر األعشى ،ويربح سادة قريش ،ولمن يعتقد أني خرجت عن صلب الموضوع ،أقول إني لم أخرج عن مأساة ليبيا قيد أنملة، ولكن ،من ذلك المحظوظ الذي سيصل إلى نهاية المقالة قبل أن يقع من على ظهر ناقة المعنى؟ هل من أحد؟!!
143
من قتل الأحدب؟ ()1
في الموروث الصيني ثمة أسطورة تتحدث عن ذلك األحدب
الذي ضاع دمه بين ضمائر القتلة ،فكل منهم يعتقد أنه القاتل ،القتلة كُثر ،لكن القتيل واحد ،فما أشبه حالنا اليوم ِ بك أيتها األساطير. ()2
ٍ بأحدب مسكين، مقتدرا مر ذات يو ٍم تقول األسطورة إن ملكًا ً
يسخر منه األطفال ،ويتجرأ على عاهته السفهاء ،فأخذته به شفقة، ُ
وما أوسع شفقة الملوك إن حانت منهم التفاتة إلى األشقياء. ()3
أشفق الملك على األحدب ،فأخذه معه إلى القصر ،وأمر طباخه
أن يعطيه ما ُيشبع جوعه ،لكن الطباخ أطعم األحدب سمكًا دون أن 145
ينتبه إلى شوك السمك ،وعندما ازدرد األحدب الجائع سمكته غص بالشوك فمات. ()4
غص األحدب بشوكه فمات ،كما نغص نحن بشوك هذا الواقع العربي فنموت بالتقسيط المريح ،وكما يغص الفقير بشوك فاقته، والموظف بشوك مرتبه الهزيل ،والمواطن بشوك لهاثه من مطلع الشمس إلى مغيبها ،والعربي بشوك أعداءه يقتلونه بال شفقة من مطلع الشمس إلى مغيبها ،غير أنه لم يمت بعد. ()5
غص األحدب بشوكه فمات ،ولكي ينجو الطباخ من العقوبة رمى ضحيته في اقرب مكب للنفايات وأسرع بالهروب ،فمر على مكب النفايات شخاذ بائس كان يرمي بؤسه بحجر على سبيل ابداء السخط، وعندما اكتشف جثة األحدب ظن أنه قاتله ،فأسرع برميه في النهر حيث وجده صياد سمك ،وهكذا ،ظل القتلة يتكاثرون ،وكل منهم يعتقد أنه قاتل األحدب ،إلى أن تشكلت متوالية مريعة من القتلة ،فيما ظل القتيل وحيدً ا يموت كل مرة بشوكه وال ينبس بحرف. ()6
بعض من قتلة األحدب كُثر ،غير أن األحدب واحد ،فهل نحن ٌ األساطير القديمة؟ وإلى متى؟ 146
()7
إلى متى تظل هذه األمة بمثابة أحدب األساطير؟ يقتلها الغرب من هنا ،وتفتك بها النوائب من هناك؟ وإلى متى يظل العربي مواطنًا تحت مستوى خط اإلحساس بوجعه؟ يغص يشوك واقعه من مطلع الوالدة إلى مطلع الروح؟ وإلى متى يظل فرحنا الوحيد نكتة خارجة أو كوب شاي أو دخان سيجارة أو خيبة أمل لذيذة المذاق نغص بشوكها غير أنا ال نموت؟!!
147
في ح�ضرة ال�شيطان. ()1
أمريكا ..التي تالعبت بالجينات الوراثية العربية ،حتى انحدرنا
إلى ما نحن فيه اآلن!!
()2
أمريكا ..التي عبثت بالعراق في مختبراتها اآلثمة ،فأنتجت لنا
هذا المسخ الذي نعاني من تشوهات وجهه ،وال نعرف له بداي ًة من نهاية ،وال حزنًا من فرح ،وال موتًا من حياة. ()3
أمريكا ..عراب العبث ،وميزان العدالة الذي لم يعرف العدل بعد! 149
()4
أمريكا ..الشيطان الذي يفصل خرائط الكون بمقصه المثلوم، فيجعل شيعة العراق مصفين ،وسنته عشرة ،ثم يذبح أقلياته على قبلة الدم. ()5
أمريكا ..العب القمار الفاشل ،الذي يخلط الورق بأصابعه، ويراهن على الطاولة بمستقبل اآلخرين. ()6
أمريكا ..تلك التي نشاهد اآلن ثمار فشلها المر في اليمن ،السعيد ساب ًقا األتعس من تعاسة الدنيا هذه األيام ،ونرى سفاهة أحالمها في سوريا حاضرة المجد وخاصرته ساب ًقا ،وساحة تجمع شواذ العقيدة وأنصاف البشر وجثث المنكوبين حال ًيا ،ونتمعن في تفاصيل ازدواجية معاييرها في ليبيا ،حيث تقنية صناعة الفوضى تعمل بأقصى معدالت أيضا. كفائتها بال خجل ،وبال توقف ً ()7
أمريكا ..أي شيطان يصنع ما تصنعين؟ وأي عبث تصوره «بيكيت» ذات يوم ،ولم تقومي به بعد؟ أما آن لعصرك أن ينتهي أيها الشيطان؟ فقد شارفت أيامنا على االنتهاء!! 150
حديث خرافة.. ()1
«إن ً رجل من قبيلة «جهينة» ،كان اسمه «خرافة» ،اختطفته الجن
زمنًا فعاش بينهم حينًا من الدهر ،ثم رجع إلى أهله ،فأخبر الناس
عما رآه هناك ،فوصف العرب كالمه أو ما يشابهه مما هو غير معقول وعجائبي بأنه« ،حديث خرافة»!!»
()2
يورد «حسين الكرمي» في سلسلته الرائعة «قول على قول» ،قصة
خرافة ،ذلك الذي اختطفه الجن فصار يروي للناس ما شاهده عند
خاطفيه ،وألن تفاصيل الجن أكبر من أن يستوعبها ذهن البشر ،فقد علما على الخرافة والخروج عن سلطة اعتقدوه يهذي ،وصار اسمه ً
المنطق والمعقول.
151
()3
واآلن ،هل خطف الجن «خرافة» من جديد؟ ومن سيصدقه إذا روى قصة اختطافه بعد ذلك؟ ()4
يختطفك الجن ،على األقل كان الجن يختطفون األفراد في ذلك الزمن ،لكنهم اآلن يختطفون وطنًا بأكمله،وليتهم يفرجون عنه بعد ذلك ،وإذا أفرجوا عنه ،فمن سيصدق وطنًا يهذي بما رآه عند خاطفيه؟ ()5
يختطفك الجن ،ويمضي عيدك بال معنى ،وأيامك بال جدوى، وتتأمل المشهد من خارجه فترتاب ،ومن داخله فتبكي ،ويزداد نحيب حزنك حتى يبكي معك الجن في نهاية المطاف ،غير أن أحدً ا لن يصدق بكاء كائنًا اختطف الجن وطنه ذات يوم. ()6
يختطفك الجن ،يشترون ألعوانهم السالح ،ويبيعون لك الصبر ومآتم العزاء ويعبأون لك دموع الثكالى في قوارير زرقاء بلون عيونهم، ثم يؤسسون لك األحزاب لتتحزب ،والمنصات للسفهاء ،واإلعالم للفاشلين ،وعلى أقل من مهلهم يكلفون الشركات األجنبية بحفر قبور كئيبة للرجال ،وبناء القصور الفخمة ألشباههم. 152
()7
يختطفك الجن ،فتبكي ،ويختطفك الجن ،فترفض ،ويختطفك الجن فتموت مرتين ،مر ًة ألن وطنك ليس بخير ،ومرة ألن ال أحد سيصدق رواية مواطن اختطفه الجن ذات يوم!!
153
�إلى المترددين ..فقط!! ()1
وخالصة الموعظة أن روما استيقظت ذات صباح من صباحات
عام 70م .ـ أي منذ 1944عاما بالتمام والكمال ـ على حكم جديد إلمبراطور حكيم كان يدعى «فسبانيوس». ()2
كانت روما آنذاك تغرق في الديون ،وكانت روما آنذاك تموت
ببطء من داء الفوضى واإلفالس م ًعا ،وكان من واجب االمبراطور
الجديد أن يتحلى بالشجاعة واالبتكار ،كي ال تموت روما بفقر العوام وهرطقة الساسة.
لقد قرر «فسبانيوس» أن يفرض ضريب ًة على المراحيض العامة،
لكي يجمع ما تيسر له من أموال،
155
()3
رفضا لكن المتأنقين من أعضاء مجلس الشيوخ عارضوا ،ورفضوا ً قاط ًعا أن تتسول الدولة ديونها من المراحيض ،ولو مات أهلها جو ًعا. ()4
بطبيعة الحال ،لم يكن هؤالء المتأنقون جوعى ،ولم يكون هؤالء الرافضين سوى عصاب ًة من المتاجرين بلحم روما الطري ،والمتخم شب ًعا لن يشعر بوطأة الجوع على معدة فقير ألى أن تتعاطف الصحراء ٍ سمكة في بطن حوت. مع مشاعر ()5
وهكذا كان..
رفض المتخمون ،وأصر االمبراطور ،فقد كان يملك من قوة الشخصية ما يغنيه عن التردد ،وكان يملك من سطوة القيادة وكاريزما القائد ما ينأى به عن االرتباك. ()6
لقد جمع «فسبانيوس» معارضيه ،وأرسل في طلب حصيلة اليوم ن ضريبة المراحيض ،وبعد حين وصلت األموال ،وعندها جمع االمبراطور في راحة يده حفن ًة من ذهب المراحيض ،وقر ّبه من أنوف المترفين سلط ًة ً ومال ومناصبً ، قائل لهم: 156
(هل تشمون رائحة كريه ًة من هذه الذهب)؟
وعندما أجابوه بال ،أجابهم( :إنه من ذهب المراحيض أيها السادة). ()7
وهكذا كان..
صمت المعارضون بعد أن أسكتتهم قوة حجة االمبراطور، وصمت المعارضون بعد أن تكلمت بينهم سطوة الحضور الطاغي ٍ لقائد ال يفكر مرتين.
وهكذا كان ،إذ يروي لنا التاريخ إن «فسبانيوس» لم ينقذ روما من االفالس بأموال المراحيض فقط ،بل بقوة شخصيته وصواب أيضا. بصيرته ً
وخالصة الموعظة أنك إذا كنت مترد ًدا فلن تنقذ روما من االفالس، ولن تنتشل ليبيا من الغرق ،ولن تنجو بتونس من المتربصين بها ،ولن تروي ظمأ مصر الى االستقرار ،إنك إذا كنت ً هشا فلن تنقذ بالدك من الكسر ،وأنك إذا كنت خائ ًفا فلن تشعر مواطنيك باألمان ،وأنك اذا محتاجا إلى المساعدة فال يجب أن تتردد في أن تطلب العون كنت ً ولو من مياه المراحيض!!
157
كيف حدث الأمر؟! ()1
«ولكن ،كيف يغيض الماء ،ويسكن الهواء ،كيف ينطفيء النور؟
إن ذلك ال يحدث فجأة دون شك ،جز ٌء صغير من الينبوع ينقص
دون أن نالحظه ،قد يكون قطرة واحدة في بداية االمر ،ولكن القطرة ٍ إحساس تعقبها قطرات ،ونحن في غفلتنا المطمئنة،ونستيقظ على
طاغ بالعطش ،فإذا الماء ،كل الماء ،قد غاض» ()2
الفقرة الملهمة للقاص المغربي الشهير «أحمد بو زفور» ،أما
المعنى فهو ليبي بامتياز!!
()3
لنتأمل اآلن في معاني «بوزفور» العميقة ،ولنسأل أنفسنا دون 159
عصبية أو تزمت :كيف وصلت بنا األمور إلى هذا الحد؟ ،وكيف انقلبت المعايير ،وأصبح المعشوق القديم كائنًا يكرهه الجميع ،بينما أيضا؟ تحول المسخ البشع ساب ًقا إلى ذكرى جميلة يحن لها الجميع ً ()4
هاجسا يؤرق الكثيرين ،لكنه سيصبح ربما سيظل هذا السؤال ً طوطما بالغ القداسة ،لن نصل إلى مخرج من أزمتنا مادمنا لم ايضا ً ً ننزع عنه هالة القداسة بعد. ()5
» إن ذلك ال يحدث فجأة دون شك» ،هكذا يؤكد «بو زفور»، أيضا لكن المتأمل في أحداث هذا الربيع العربي المنحوس يكتشف ً هذه الحقيقة. ()6
إن ذلك ال يحدث فجأة دون شك» ،يقول «بوزفور» ،ونقول نحن إن ال شيء يحدث فجأة ،ودون مقدمات ،فكيف أصبحت المدن الممجدة ،مدنًا يمقتها الجميع ،وكيف تحول األبطال السابقون إلى قطاع طرق وتجار تجزئة ومنبع خراب يعصف بمعنى الوطن ،وفي أي غفلة من الزمن الرديء تحول صندوق االنتخابات من حلم وردي مدهش إلى صندوق «باندورا» إغريقي الينتج سوى الساسة 160
الحمقى والهياكل المنتخبة الغبية المترددة ،ولماذا أصبح شعار رقما مرنًا يقبل القسمة الدولة الواحدة التي ال تقبل القسمة على اثنينً ، ويرحب بالتقسيم ،بل ويرى في تجزوء الكل إلى أقاليم ً حل لمشاكل استعصت حتى اآلن على كل الحلول؟ ()7
ال شيء يحدث فجأة ،فقط علينا أن نتمعن في التفاصيل إذا كنا نريد ح ًقا أن ننجو بالمجموع ،وعلى الذين يوشكون اآلن على خسارة كل شيء أن يراجعوا خياراتهم قبل أن ينتهي ،بالنسبة لهم ،كل شيء!!
161
ربما ()1
نخرج ،نحن العرب ،من هذا التيه ..ربما!! ربما ..ذات يوم، ُ ()2
ٍ لرئيس يخرج من قصر ربما ..يعيش أحفادنا ذات يوم ،ليصفقوا
الرئاسة دون أن يدمر البالد ويشرد العباد وينشر الخراب ويودع آالف الجثث تراب األرض.
()3
ٍ مواطن عربي ربما ..في قادم المئات من األعوام ،نسمع عن
لم يشتم أخيه ،لمجرد االختالف في الرأي ،وعن «برنامج حواري» تقدمه قناة فضائية ينتهي دون عراك وسب وقذف .ربما. 163
()4
ربما ..نرى يو ًما يصمت فيه من ال يعرف ،ليعرف .ويتكلم فيه من يعرف ليزداد الناس معرف ًة ،فقد مللنا أشباه المتعلمين وهم يمألون الفضاء «بالحكي» ،وسئمت اللغة من أشباه المثقفين وهم يديرون ناصية الثقافة ،ومن أولئك «الالشئ» وهم يدبرون أمر كل شئ!! ()5
ربما ..يسجل التاريخ في صفحة من كتابه الكبير ذات يوم ،أن الصدارة عادت لألصلح ،وأن الجدارة لم تعد جاري ًة يلهو بجسدها حرا في أن يمنح ولو ذرة غبار لمن وضيع ،وأن من ال يملك ليس ً ال يستحق. ()6
ربما ..تمن علينا هذه الدنيا البخيلة في أحد أيامها الفانياتٍ ، بخبر أخيرا بأن جحيمها الرائع هو الجسر الذي مفاده أن الثورات قد اقتنعت ً يؤدي إلى جنة الدولة األكثر روعة ،وأن اكتمال نمو البذرة ال يكمن إال بالثمرة تتباهى بها شجرة الوطن ،فال ثورة تصل إلى مبتغاها إذا لم توصل البالد إلى باب الدولة اآلمن. ()7
ربما ..ننام ذات ليلة على ٍ أمل نحلم به ،ثم نصحو ذات صباح 164
على واقع نريده ،بربكم أيها الليبيون ،أليس رائ ًعا أن نطرد التشاؤم بأربعة حروف؟ ربما!!
165
صدر في هذه السلسلة 1ـ (قراءات في السلم والحرب) ،عبدالمنعم المحجوب. 2ـ (حبر المنفى) ،عمر الكدي.
3ـ (خاليا نائمة) ،محمود البوسيفي. 4ـ (أوراق تاريخية) ،مختار الجدال.
5ـ (ما وراء الحجاب) ،فتحي بن عيسى. 6ـ (منفى) ،ديوان شعر ـ عمر الكدي.
7ـ (مفهوم القوة في السياسة الدولية) ،خالد الحراري
جو ْك) ،قصائد محكية بلهجة ليبية ،سالم العالم. 8ـ ( َعلى ّ