مقدمة إدواردو لوبيث بوسكيتس
3
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي بيري غيشار
5
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني خوسيه ميغيل بويرتا
31
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية خوان ف .موريّو ريدوندو
85
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث أنطونيو باييخو تريانو
113
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش إدواردو مانثانو مورينو
141
[ ]..وتُ َق َّدر ما إن تقرأ الالفتة الصغرية التي تشري لكونها مقلمة أندلسية من مطلع القرن الحادي عرش أنها ال بد من عاج قرطبة ،فتأتيك كلمة قرطبة كعادتها ،بصخب يجتاح الذاكرة يغلب حواسك الخمس( .1رضوى عاشور).
من خالل هذا العدد الجديد من مجلة «أوراق» يود البيت العريب أن يؤكد عىل الواقع االستثنايئ الذي يجعل من قرطبة مدينة خارج الزمن .ذلك أن مجرد ذكر اسمها يشيع انطباعاً أولياً تجريدياً ،يستدعي أحاسيس المتناهية ،وصورا ً ذهنية تتجاوز الحدود الزمانية واملكانية املعروفة لتخلف بصمة عن حارضها ،عن تاريخها ،ورمبا وهذا هو األهم ،عام ميكن للمدينة أن تكون عليه. هذا الواقع ،إىل جانب كون املدينة رائدة يف صالتها بكل ما هو عريب عىل مر تاريخها ،قد حفز البيت العريب عىل فكرة إصدار دراسة متخصصة مكرسة للحديث عن تاريخها األندليس وحارضها املعارص. هدفنا ليس هو السعي لتقيص مسار استمراريتها التاريخية ،إذ ال عالقة الستعراب املايض بالواقع الراهن باستثناء أن ذلك املايض يلهم يف جزء منه النظرة االسرتجاعية التي تتخلق من هذه املدينة ومن تراثها العريب اإلسالمي. الدراسات الخمس التي رفدنا بها متخصصون يف مختلف العلوم والتي ضمتها دفتا هذا الكتاب تحدثنا عن ذلك املايض عرب الحارض ،من خالل التأمالت املتمعنة حول قرطبة يف القرن الحادي والعرشين من منظور علمي موضوعي. إدواردو لوبيث بوسكيتس مدير عام البيت العريب 1رضوى عاشور (« ،)2011مقلمة أندلسية» ،من كتاب «تأمالت ىف الفن اإلسالمى» ،أهداف سويف .الدوحة (قطر) ،لندن: متحف الفن اإلسالمي ،دار بلومزبري-مؤسسة قطر للنرش ،ص 96.
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي بيري غيشار قرطبة شأنها شأن غرناطة رغم اختالف األسباب هي إحدى «املدن األسطورية» التي يرتدد اسمها عادة عىل امتداد ضفتي البحر األبيض املتوسط يف إطار العالقات األوروبية العربية املتسمة بالفوىض .وت ُعد قرطبة رمزا ً لعرص ذهبي و «تعايش» بني ثقافات وأديان أردنا له أن يكون منوذجاً لعرصنا هذا .لكنه يف بعض الحاالت يغدو محض صورة كاريكاتريية ،فقد استمعت يف حوار حول الحضارة األندلسية أقيم يف الجزائر عام 2007إىل أحد املحارضين وهو يقول –بطبيعة الحال دومنا إشارة ألي مصدر– إن الطالب كانوا يفدون من كافة أرجاء أوروبا إىل قرطبة يف عهد األمري األموي عبد الرحمن األول ( )788-756يك ينهلوا من العلوم العربية .ومن املعروف أيضاً أن مسألة استعادة األندلس وقرطبة هي إحدى اليوتوبيات املحفزة لحركات إسالمية أصولية معروفة .ويف أوروبا نفسها من السهل العثور عىل إشارات إىل «حضارة ]أندلسية[ براقة ازدهرت فيها املدن بسبب رواج التجارة والفنون وكانت فيها رصوح عظيمة وحدائق غناء احتضنت الشعراء واملوسيقيني واملفكرين والعلامء والفقهاء واملتصوفة من األديان الثالثة» وتجدر اإلشارة بشكل خاص إىل جو التسامح الذي اتاح للغات واملعتقدات املختلفة فرصة االختالط والقبول املتبادل .1وهذا التزيني الفردويس إىل حد ما هو الذي دفع الصحفي الفرنيس جان دانييل يف مقالة نرشها يف «نوفيل أوبرسفاتور» يف أكتوبر/ ترشين األول من عام 1994وهو يعرض للقرن العارش يف شبه جزيرة إيبرييا إىل التحدث عن «األندلس املقدسة» التي سادتها طوال ستني عاماً تقريباً هذه الظاهرة املدهشة واملذهلة التي يطلق عليها «روح قرطبة». 1حسب مقدمة ميشيل زنك لعمل ماريا روسا مينوكال (،)2003( )María Rosa Menocal L’Andalousie arabe: une culture de la tolérance, VIIIe-XVe siècle. París: Autrement, p. 5.
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
من نافلة القول إن بوسع املرء أن يتقىص األمور التي تنتمي إىل حقبتنا بشكل أفضل مام ميكن له أن يفعله عندما يتعلق األمر بأحداث املايض .بيد أن األساطري ذاتها التي تشكل جزءا ً من التاريخ املعارص ليست محض هراء .كام أنه ال ينبغي مقاومتها عىل نحو عبثي من خالل نرش املزيد من «األكاذيب» التي تنطوي عليها كام هو الحال مع بعض مواقع اإلنرتنت التي تزعم تكذيب أسطورة «التعايش» األندليس .ولو تسنى االطالع عىل إحداها عىل سبيل املثال وعنوانها «تاريخ وأسطورة :األندلس اإلسالمية» Histoire et mythe: l’Andalousie musulmaneفإننا سنتيقن دومنا دهشة كبرية –ولو أننا سنقف متحريين بعض اليشء– من كونها تعج باألخطاء التاريخية ،إذ من خالل حرصها عىل إضفاء صفة النسبية عىل القطيعة «الجيوسياسية» للبناء األموي الذي كان يتمدد صوب بالد املغرب ،مل ترتدد يف التوكيد عىل أن املغرب شكل جزءا ً من إسبانيا القوطية ،ويف الحديث عن قرطبة تحديدا ً تورد بأن مكتبة الخالفة الشهرية كانت «قد ُورثت عن القوط» .وبخصوص موضوع التسامح الذي يُنسب إىل الحضارة األندلسية فثمة توكيد ،دومنا اعتامد عىل أي مصدر ،بأن مسيحيي قرطبة كانوا ضحايا مذبحة وقعت يف عام 796ميالدية .2لذا سنحاول يف هذا النص الحفاظ عىل نوع من التوازن بني وجهة نظر مثالية يف الغالب عىل نحو مبالغ فيه حتى باتت أشبه بـ «سري القديسني» (كام يف إشارة جان دانييل إىل قرطبة أعاله حني تحدث عن «األندلس املقدسة») ووجهة نظر أخرى وضعية جافة وصادمة إذ «تلغي الهالة األسطورية» وتركز فقط يف «املناطق املعتمة» التي ترتبط بالرضورة بالعصور الذهبية األكرث شهرة يف تاريخ البرشية. ومن خالل الرتكيز عىل التاريخ أكرث منه عىل األسطورة فإن أول ما ينبغي لنا فعله هو االعرتاف ،عىل غرار ما فعله جان دانييل يف الفقرة املذكورة أعاله ،بأن االزدهار الرمزي لخلفاء قرطبة يف القرن العارش وعاصمتهم الكبرية ذائعة الصيت مل يدم أكرث من عدة عقود وأن املدينة مل تسرتد عظمتها وصيتها اللذين متتعت بهام يف النصف الثاين من القرن العارش .ومع ذلك فمن املهم أن ندرك ما مثلته قرطبة عندما أطلقت عليها شاعرة جرمانية يف تلك الحقبة تسمية «زينة العامل» ،3ولكن ينبغي أيضاً أن نرى كيف حققت قرطبة هذا الرقي وما آل إليه حال املدينة الحقاً. 2أنظر: _Le Messie et son Prophète, http://www.lemessieetsonprophete.com/annexes/Al-Andalus_histoire et_mythe.htm 3نص يشار إليه كثريا ً للكاتبة الدينية الساكسونية هروسويثا غندرشيم ،أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (Évariste Lévi- ،)1999( )Provençal Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. París: Maisonneuve et Larose, t. iii, p. 383.
8
بيري غيشار
يف النص املشار إليه أعاله ،املنشور يف اإلنرتنت الذي يزعم نسبية ازدهار قرطبة اإلسالمية نجد أنه يلح عىل أن هذه املدينة ،املقر املستقبيل لخالفة الغرب العظيمة ،كانت قبل وصول اإلسالم «مدينة أسقفية ذات حيوية كبرية» .حقاً أنها كانت مدينة أسقفية مثلها مثل مدن كثرية يف إسبانيا القوطية لكن ال توجد أدلة كثرية عىل «حيويتها الكبرية»! يف حني كانت هناك أدلة أكرث يف القرن السابق لدخول املدينة دار اإلسالم عىل وجود نوع من الحيوية الثقافية واملعامرية يف طليلطة ،عاصمة اململكة ،ويف ماردة وإشبيلية وكلتاهام كانتا مقرين حرضيني كبريين .والواقع أنه بدءا ً بعام 1990اكتشف علامء اآلثار شامل غريب املركز التاريخي للمدينة، يف موقع ثريكادييا بجوار محطة القطار والحافالت ،مجمع قصور إمرباطوري يعود إىل نهاية القرن الثالث أو بداية الرابع ورمبا شغله أساقفة قرطبة يف وقت الحق ،إال أن هذا املجمع اختفى وفقد صفته هذه يف القرن السادس عندما أدى تقليص الفضاء الحرضي إىل نقل األساقفة إىل ضفاف نهر الوادي الكبري مبحاذاة قرص الحكام القوطيني.4 قرطبة مل تكن الهدف الرئيس للغزو اإلسالمي األول يف عام 711م .فقد توجهت قبالً قوات أول غازٍ ،وهو القائد الرببري طارق بن زياد ،نحو طليطلة عاصمة اململكة واكتفت بإرسال كتيبة قوامها 700فارس لالستيالء عىل قرطبة .هذا وتُروى ظروف االستيالء عىل قرطبة بتفصيل غري معتاد يف املصادر العربية ورمبا كان ذلك ألن األحداث املتعلقة بسقوط عاصمة األندلس قد ُحفظت بشكل أفضل من تلك املتعلقة مبدن أخرى .لقد استغل الغزاة ثغرة يف السور قرب باب «القنطرة» وتم تحييد املدافعني عنه يك يتمكنوا من دخول املدينة واالستيالء عليها وأجربوا الحاكم القوطي عىل الخروج منها عرب بوابة إشبيلية ليلجأ مع خمسامئة رجل إىل الكنيسة الخاصة بالقديس أثيسكلو الواقعة خارج األسوار .وقد صيغت فرضية مفادها أن هذا املبنى األخري كان موجودا ً يف موقع ثريكادييا املشار إليه .وفعالً كان رضباً من البناء املتني وبحالة جيدة وقد متكن من مقاومة الحصار الذي فرضه املسلمون لثالثة أشهر.5 تتفق املصادر العربية عىل أن القنطرة الرومانية املقامة عىل نهر الوادي الكبري كانت 4أنظر: Vicente Salvatierra Cuenca y Alberto Canto García (2008). Al-Andalus: de la invasión al Califato de Córdoba. Madrid: Síntesis, p. 132. هناك الكثري من الدراسات بخصوص تنقيبات ثريكادييا. 5أنظر: Cyrille Aillet (2010). Les mozarabes: christianisme, islamisation et arabisation en Péninsule Ibérique (IXe-XIIe siècle). Madrid: Casa de Velázquez, p. 79.
9
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
مهدمة جزئياً األمر الذي سمح بافرتاض تداعي حالة املدينة ومحيطها .وعىل أية حال مل تكن قرطبة بل إشبيلية هي املدينة التي اختارها موىس بن نصري عاصمة للمحافظة الجديدة ومعروف أن ابن نصري الذي كان حاكام عىل القريوان هو من كان عىل رأس قوات الغزو يف عام 712م .وحني استدعاه الخليفة إىل دمشق يف عام 714أقام ابنه عبد العزيز يف إشبيلية بعد أن عهد إليه بإدارة املحافظة الجديدة قبل أن يُقتل يف عام – 716وكان ذلك حسب بعض املصادر بتواطؤ سلطة الخالفة– عىل يد بعض القادة العرب من محيطه بسبب التقاليد «امللكية» التي تجرأ عىل اتخاذها أو رمبا بسبب الخالفات السياسية األمر الذي يصعب التكهن مبعرفة طبيعته عىل وجه التحديد.6 استمر الحاكم املؤقت الذي توافقت عليه أركان القيادة يف أداء مهامه حوايل ستة أشهر يخل األمر من الصعوبات .وال بد من أن نظاماً مركزياً عىل غرار نظام الخالفة يف فقط ومل ُ عي ال ُحر دمشق قد حاول السيطرة عىل املحافظة بأقىص قدر ممكن من الحزم لذا رسعان ما ّ بن عبد الرحمن الثقفي والياً وذلك وفقاً لرتاتبية منزلته .وكان هذا الحاكم الثالث هو من قرر اإلقامة يف قرطبة .7وعىل ما يبدو فإن تفسري بدرو تشامليطا لقرار الح ّر هذا كان منطقياً: فقد وصل عىل رأس قوة عسكرية قوية (رمبا عدة آالف من الرجال) وكانت رغبته تكمن يف التحرر من تأثري ال ُجند املقيمني يف إسبانيا ورمبا يف إشبيلية ومنطقة نفوذها املحيطة بها، وكذلك التحرر من العنارص الرببرية التي أىت بها عبد العزيز بن موىس إىل شبه الجزيرة للدفاع عن سياسته عىل ما يبدو .ويف قرطبة ال بد له من أن يكون قد متتع بحرية أكرب ليفرض بعض اإلجراءات الخاصة بتنظيم الوضع اإلقليمي والرضيبي للمحافظة.8 بهذا املعنى كان ال ُح ّر خالل سنوات حكمه الثالث حاكامً نشطاً واصل أيضاً الحرب املقدسة إىل ما وراء جبال الربانس يف سبتامنيا القوطية القدمية وإىل جنويب بالد الغال الفرنسية .تاله حكام لبثوا لفرتات قصرية دون أن يتعرض للتغيري وضع قرطبة التي غدت بشكل نهايئ عاصمة 6أنظر بيدرو تشامليطا (،)2003( )Pedro Chalmeta Invasión e islamización: la sumisión de Hispania y la formación de al-Andalus. Jaén: Universidad de Jaén, pp. 246-247. 7املصدر نفسه ،ص ،254باالستناد إىل غالبية املصادر« :العمل األول للحاكم الجديد نقل العاصمة من إشبيلة إىل قرطبة». 8نجهل ما إذا كانت املنافسات بني «الفصائل القبلية» التي ستهز األندلس وكل الخالفة بعد زمن وجيز كان لها دور يف هذه األحداث .من املهم أخذ هذا املوضوع يف سياق املناظرات حول «األحزاب» و «الفصائل القبلية» التي كانت متواجهة يف خالفة دمشق (انطالقاً من النظريات التي صاغها محمد عبد الحي شعبان ( ،)1971أنظر عىل وجه الخصوص الصفحات 120والصفحات التالية). Islamic History: a New Interpretation (A. D. 600-750, A. H. 132). Cambridge: University Press.
10
بيري غيشار
ملحافظة اإلسالم الجديدة .ومنذ تلك اللحظة حدثت تطويرات حرضية مهمة تتسق مع ذلك السمح الذي أمر بإصالح الدور .وهكذا كام هو معروف حل حاكم آخر محل ال ُح ّر هو َّ القنطرة بأحجار كبرية من السور ،ثم رمم السور بقطع اآلجر العادي .ومن ناحية أخرى أمر بإنشاء مقربة «الربض» 9عىل الشاطئ األيرس للنهر عىل أر ٍ اض تخص امللكية العامة. قد يتناهى إىل تفكرينا أن هؤالء الحكام بدأوا سنتئذ بوضع املقومات التي تشكل «املدينة اإلسالمية» إال أن هذه املقومات ال تذكر إال عرضاً يف نصوص ترسد بعض األحداث السياسية –العسكرية .وقد انتهى الربع الثاين من القرن الثامن يف األندلس بعقد من الحروب األهلية وكان هذا الوضع منسجامً مع املناخ العام لألزمة التي لحقت بدولة الخالفة يف دمشق قبل سقوطها عام .751وتشري املصادر املتعلقة بتلك الفرتة عىل سبيل املثال إىل وقعة شقندة التي وقعت عام 747بني فريقني عربيني (اليامنيون والقيسيون أو «عرب الشامل») عىل مشارف قرطبة ،وعندما رأى قائد هؤالء األخريين نفسه يف موقف حرج قلب موازين القوى بوساطة «صاحب السوق» أو املسؤول عن السوق يف العاصمة وصناع سوق قرطبة .فقد حرض أربعامئة منهم مجهزين بالعيص والرماح وسكاكني الجزارة وقُ ّدر للقيسيني النرص عىل خصومهم وكان كال الفريقني قد أنهِك بعد يوم من العراك .غري أن الرواية نفسها التي تسمح بافرتاض تنظيم سوق قرطبة عىل أساس القواعد املستقاة من الفكر القانوين-الديني الجديد الصميل ،قام بقتل القادة اليامنيني املقبوض عليهم وذلك بعد تشري أيضاً إىل أن قائد القيسينيُّ ، ان جمعهم يف كنيسة داخل املدينة .10وتؤكد املصادر العربية عىل أن هذه الكنيسة كانت يف املكان الذي أقيم فيه الحقاً مسجد قرطبة .11ويف حالة قبول هذا الرأي ،كام تردد غالباً ،فإنه سيطرح مشكلة صغرية ،إذ تبعاً ملصدر آخر متأخر نجد أن تلك الكنيسة الخاصة بالقديس بيثنته كانت هي الكاتدرائية نفسها املذكورة يف فرتة الغزو العريب التي تشاطرها املسيحيون
9أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: la conquête et l’émirat hispano-umaiyade: 710-912. París: Maisonneuve et Larose, tomo i, p. 39 [primera edición en (1950). París, Leiden: Maisonneuve, Brill]. 10أنظر بيدرو تشامليطا (،)2003 Invasión e islamización: la sumisión de Hispania y la formación de al-Andalus. Op. Cit., pp. 340-341. 11أنظر أميليو الفوينته إي الكانتارا (« ،)1867( )Emilio Lafuente y Alcántaraأخبار مجموعة»: Ajbar Machmua (colección de tradiciones). Madrid: Imprenta y Estereotipia de M. Rivadeneyra, p. 65: «يف إحدى الكنائس التي كانت تقع يف الجزء الداخيل من قرطبة حيث يوجد املسجد الكبري».
11
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
واملسلمون حينذاك ،وكان املسلمون يستخدمونها إلقامة صالة الجمعة فيها .12من هنا يصعب علينا قبول فكرة أن هذا املبنى –أو عىل األقل جزء منه– الذي كان يقوم بدور املسجد الرئيس يف قرطبة يكون مرسحاً لتقتيل القادة اليامنيني .إال أن األمور تغدو أكرث منطقية يف ضوء النظريات املستندة إىل نتائج حفريات مسجد قرطبة يف العقد األخري ،فهي تؤكد عىل أن هذا املكان مل يكن فقط يضم الكنيسة الكبرية التي هدمها عبد الرحمن األول يف نهاية القرن الثامن من أجل بناء املسجد الجديد بل كان عبارة عن مجمع مبان عائد لألسقفية .13ويف هذه الحالة فمن املنطقي متاماً القبول بفكرة أن املسيحيني قد حافظوا عىل أحد املباين يف حني قام املسلمون بتحويل املبنى اآلخر إىل مسجد. من املهم اإلشارة إىل هذا التالقي النسبي بني النصوص التاريخية واملعلومات األثرية األمر الذي يسمح لنا بتقيص إمكانية توسيع معارفنا بعض اليشء بخصوص تلك الحقبة االنتقالية املمتدة ما بني نهاية اململكة القوطية وبداية اإلمارة األموية يف قرطبة .ومع ذلك فابتداء فقط من فرتة والية «املهاجر» املرشقي عبد الرحمن األول الذي وصل هرباً من املذبحة التي تعرضت إليها أرسته عىل يد العباسيني يف املرشق ،هؤالء الذين قضوا عىل دولة الخالفة يف دمشق ( )751وكانوا يوشكون عىل إقامة دولتهم يف بغداد ،استجد الشعور بهذا البعد السيايس والثقايف الجديد واملتنامي للعاصمة الذي راحت تكتسبه قرطبة شيئاً فشيئاً .كان واضحاً أن هدف األمري األموي الشاب لدى عبوره من بالد املغرب إىل إسبانيا يف عام 756م هو االستيالء عىل املدينة باالستعانة مبوايل أرسته من املقيمني يف األندلس ،وكان قد انضم إليهم توا ً عدة آالف من املحاربني اليامنيني الغاضبني من خضوعهم لسلطة كانت متثل القيسيني الذي سيطروا عىل كل يشء إثر الرصاعات القبلية التي وسمت فرتة الصميل منتصف القرن .ثم ُهزم الحاكم يوسف الفهري و «رجله وموضع ثقته» الزعيم القييس ُّ عىل أبواب قرطبة واستوىل القائد األموي عىل قرص الحكم وسعى يك يبايعه أهل قرطبة. 12أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. Op. Cit., tomo iii, p. 386. 13أنظر إىل أعامل بدرو مارفيل رويث ( ،)2001( )Pedro Marfil Ruizعىل سبيل املثال «التخطيط الحرضي لقرطبة» ،كتاب ملاريا خيسوس بيغريا مولينس وكونثبثيون كاست ّيو كاست ّيو (منسقتا الكتاب) :و «ازدهار أمويي قرطبة :الحضارة اإلسالمية يف أوروبا الغربية» .معرض يف مدينة الزهراء ،من 3مايو /أيار لغاية 30سبتمرب /أيلول :2001دراسات .غرناطة :مستشارية الثقافة ،بواسطة مؤسسة الرتاث األندليس ،ص .371-360و «علم اآلثار يف جامع قرطبة»: http://www.ciberjob.org/suple/arqueologia/mezquita/mezqui.html أنظر أيضاً املالحظات يف سوسانا كالبو كابيّا (« ،)2007( )Susana Calvo Capillaمساجد األدلس األوىل من خالل املصادر العربية ،»)785/170 –711/92القنطرة ،)1( 28 ،ص 166ومايليها. «Primeras mezquitas de al-Andalus a través de las fuentes árabes (92/711-170/785)», Al-Qantara, 28 (1), pp. 166 y ss.
12
بيري غيشار
لقد سمحت فرتة حكم عبد الرحمن الطويلة ( )788-756للعاهل الجديد أن يؤسس يف قرطبة ألرسة حاكمة تقوم رشعيتها عىل تاريخ الخالفة يف املرشق (كان أمويو قرطبة يقولون حتى من قبل سعيهم للخالفة بإنهم «بنو خالئف») .وال ريب يف أن استقرار الدولة كان ال يزال بعيد املنال وكان الجزء األكرب من حكمه سيكرسه للحروب الداخلية الرضوس ضد مؤيدي الحكومة السابقة والعنارص القبلية اليامنية الساخطة إليصال «عريب من الشامل» إىل سدة السلطة ،وكذلك لقمع االنتفاضة الدينية الرببرية يف وسط شبه الجزيرة األيربية .ويف هذه املرحلة التي كان عىل األموي األول أن يصارع خاللها برشاسة من أجل البقاء يف السلطة كان من الصعب السيطرة عىل األطراف .وهكذا فقد انفجرت اضطرابات مؤيدة للعباسيني يف باجة ( )763وبلنسية (.)777 وما حدث يف بلنسية له صلة بحركات انشقاق الزعامء العرب الذين سيطروا آنذاك عىل وادي إبرة وكانوا وراء حملة شارملان الشهرية عىل رسقسطة عام .778ومل تؤد تلك السلسلة املتالحقة من الثورات املحلية سوى إىل تجذر السلطة «عميقاً» يف قرطبة ،هذه السلطة التي تأسست يف املدينة من خالل آخر أحفاد األرسة األموية املتحدرة من قبيلة قريش ،وبدعم الكثري من مواليها الذين شكلوا «الحلقة األوىل» لبسط نفوذها يف األندلس وسوف يشكلون عىل مدى فرتة حكم اإلمارة كلها «النواة الصلبة» لـ (الدولة) القرطبية .14وعىل هذا األساس شهدنا عملية إعادة تشكيل للعاصمة ال نعرف تفاصيلها عىل وجه الدقة لكن مالمحها بصفة عامة ال تدع مجاالً للشك يف أن «أرستقراطية الدولة» القوية هذه تتمتع مبمتلكات أرستقراطية يف املدينة وبشكل خاص يف املناطق املحيطة بها ،وقد استخدمت الضيعات الغنية «كنقاط انطالق» لتشكل األحياء واألرباض التي راحت تتوسع رسيعاً .وخري مثال عىل ذلك هو «بالط املغيث» املوىل األموي الذي قاد يف سنة 711القوات التي استولت عىل قرطبة ،وكان قد تسلم قطعة أرض كبرية خارج األسوار ما سمح بتطوير أحد األرباض الرئيسة يف العاصمة بجوار الجهة الغربية من قرص األمري مبارشة.15 وكان بنو املغيث يف نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع ميثلون واحدة من األرس العريقة التي قدمت للدولة رجاالً شغلوا أرفع املناصب فيها .ومثة جزء من كتاب «املقتبس» البن حيان 14أنظر إىل رسالة محمد مواك (،)1999 Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne umayyade (IIe-IVe/VIIIeXe siècles). Helsinki: Academia Scientiarum Fennica. 15أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. Op. Cit., tomo iii, pp. 375-376. ميكن الحصول عىل تحديد ألحياء قرطبة لدى خوان فرانثيسكو مورييو ردوندو ،ماريا تريسا كاسال غارثيا وإلينا كاسرتو ديل ريو ( Juan F. Murillo, M. Teresa Casalو « ،)2004( )Elena Castroمدينة قرطبة .مقرتب من عملية تأهيل املدينة األمريية والخليفية عىل أساس املعلومات األثرية» ،دفاتر مدينة الزهراء ،5 ،ص ( 290-257أنظر الصورة والخريطة ،ص .)285
13
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
يتحدث فيه عن عملية النمو والتوسع التي امتدت حول مقر إقامته ،ويرشح كيف قام أحد أعضاء األرسة األموية يف أعقاب الغزو ،وكان «رئيس» املغيث ،بالهجرة يف الوقت نفسه إىل األندلس ليستقر قريبا من مقر إقامة املوايل .16ويف هذه الحالة يتبني لنا جلياً كيف تشكل نوع من «تجمع» العائالت القوية حوله وفقاً لبعض آليات املواالة والتبعية االجتامعية لكننا بطبيعة الحال المنلك معلومات كثرية عن هؤالء السكان. لقد تبلور رمز االستقرار الوطيد للساللة الحاكمة يف قرطبة –وكانت بال شك حديثة العهد يف األندلس لكنها كانت متتلك الصيت الذي نعمت به بحكم أصولها– ممثالً ببناء املسجد العظيم الذي بات «منارة» ساطعة يف الفن اإلسالمي ،فقد كان أول بناء ديني رمزي أقيم خارج عاصمة مرشقية وهو ما ُع ّد بداية لتأسيس تقليد فني أندليس .وقد بني هذا الرصح الذي رغب األمري األول بتشييده يف عام واحد عىل أنقاض الرواق الذي خلفه دمار عام 169هـ/ 785م الذي طال املباين القامئة يف املوضع املذكور للكاتدرائية القوطية القدمية وكان بال شك أول مصىل للمسلمني .وهذا يربهن عىل مركزية تدابري الخزانة املالية التي كانت تسمح بجبي الرضائب الحكومية يف قرطبة ودرجة التخطيط التي وضعها مهندسون معامريون مجهولون كانوا يعملون يف خدمة األمري ومدى قدرتهم املدهشة عىل التجديد يف الوقت الذي كانوا فيه أوفياء لتقليد األمويني يف دمشق. وعىل الرغم من أن مسجد قرطبة األموي الكبري قد ُم ِّوه إىل حد ما بفعل عمليات التوسعة الالحقة التي تعرض لها إال أنه خضع للتحليل مئات املرات بحكم كونه أول معلم يتمتع بتقليد جاميل ومعامري مل يفارقه األمراء وال الخلفاء الالحقني للعاهل األموي األول ،بل وقاموا بإثرائه أيضاً .وعادة ما يُقدم عىل أنه نقطة االنطالق ملا سيتم الحقاً وكان عىل ما يبدو مبثابة «مرشوع خاص باألرسة الحاكمة» ما زال يُدهش كال من مؤرخي الفن والسياح .وبديهي أننا هنا لن نقدم وصفا مكرورا ً له عىل نحو ال متناه لكننا سنؤيد رأي ترييسا برييث إيغريا Teresa Pérez Higuera التي تصف مستويي األقواس التي تسند السطح بأنها «حل عبقري» .17لعل ذكاء املعامريني كان 16أنظر ابن حيان القرطبي (« ،)2001أخبار األمريين الحكم األول وعبد الرحمن الثاين مابني 706و [ 847املقتبس .»]II-I ترجمة محمود عيل ميك وفدريكو كو ّرينتي ،رسقسطة ،معهد الدراسات اإلسالمية والرشق األوسط ،ص .96 17أنظر ترييسا برييث إيغريا (« ،)2001( )Teresa Pérez Higueraجامع قرطبة» يف كتاب ماريا خيسوس بيغريا مولينس وكونثبثيون كاستيّو كاستيّو (منسقتا الكتاب): La mezquita de Córdoba, en María Jesús Viguera Molins y Concepción Castillo Castillo (coord.). El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Op. Cit., pp. 372-379.
14
بيري غيشار
يهدف إىل التوصل إىل بناء مسجد يتطابق متاماً مع مقتضيات العبادة يف اإلسالم ويف الوقت نفسه يشكل منوذجاً معامرياً جديدا ً يصعب من خالله معرفة إىل أي حد تم استلهام التقاليد املعامرية املحلية (كقنوات املياه الرومانية يف إسبانيا بالنسبة لألقواس املتداخلة التي أرشنا إليها توا ً ،أما بالنسبة لألقواس التي تأخذ شكل حدوة الفرس يف املستوى السفيل فكانت هناك سابقات متثلت بالكنائس القوطية) أم أنه كان وفياً للنامذج املستقدمة من املرشق (مسجد دمشق الكبري الذي كان فيه أيضاً مستويان متداخالن من األقواس فضال عن القوس الذي يتخذ شكل الحدوة والذي كان حارضا ً يف عدة رصوح بناها األمويون أيضاً يف سورية).18 كان ورثة العاهل األول لألرسة الحاكمة قد انتهجوا بدقة خط هذا األخري بخصوص العاصمة هذه .وهكذا مل تتوقف سلسلة (امل ُنيات) التي كانت تحيط باملدينة عن التوسع واالستزادة مببانٍ جديدة .أبرزها كانت تلك الخاصة بهذه األرسة بدءا ً بال ُرصافة الشهرية التي أمر ببنائها عبد الرحمن األول 19والتي أخذت اسمها من مقر إقامة سوري كان عزيزا ً عىل أسالفه بشكل خاص .وكانت له حكاية مشوقة إذ اشرتاه األمري من زعيم بربري ال بد من أنه امتلك هذا املكان منذ الغزو .20ومع ورثته ظهرت منيات أخرى مثل ( ُمنية الناعورة) عىل الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري يف الجزء السفيل من املدينة وكانت قد شيدت وسط روض غناء عىل يد األمري عبد الله قبل صعوده إىل سدة الحكم يف عام .888وقد جاء اسمها من ناعورة كبرية كانت ت ُروى بواسطتها األرايض ومل تكن سوى واحدة من املنيات التي بناها أعضاء هذه األرسة ،ومن بينهم بعض زوجات األمري مثل ُمنية «عجب» التي أسستها إحدى زوجات الحكم األول (.)822-796 18أنظر خوان كارلوس رويث سوثا ( ،)2009( )Juan Carlos Ruiz Souzaوالتحليل املهم الذي يقوم به يف «عرش قشتالة واألندلس»« .االستعارات املعامرية ودرجات االستيعاب .الفضاءات والوظائف واللغة الفنية-الشكلية» ،يف: Pierre Toubert y Pierre Moret. Remploi, citation, plagiat conduites et pratiques médiévales (Xe-XIIe siècle). ;Madrid: Casa de Velázquez, pp. 231-257 يف ص « :236الصيغة القرطبية ال ميكن أن تكون أشد من هذا «معارضة للكالسيكية» من خالل زيادة قطر الهيكل كله كلام زدنا االرتفاع ،وذلك عىل عكس ما حدث متاماً يف قناة مياه ماردة .هنا يكمن أحد الفوارق الكبرية بني العامرة الرومانية واإلسالمية ،فإذا كنا قادرين يف األوىل عىل تخمني الهياكل الداعمة بدراسة أسس املباين نظرا ً لخصائصها املنطقية جدا ،فإنه يف العامرة اإلسالمية يصبح مستحيالً ،إذ من الصعب أن نتصور الجدران املعلقة وقباب مساجد قرطبة أو قرص الحمراء يف غرناطة لو أن كال الرصحني قد احتفظا فقط بأساسيهام». 19الرصافة كانت مقر اإلقامة املفضل لألمري األول وكانت عىل مسافة تزيد عىل الكيلومرتين من قرطبة ،شاميل رشق املكان، يف التالل األوىل املحيطة بالسهل. 20أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: le siècle du califat de Cordoue. Op. Cit., tomo iii, p. 374, n. 2.
15
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
ولسوء الحظ ال تتوفر لدينا بيانات باألرقام وال دقة يف املعلومات الطوبوغرافية الخاصة بنمو مدينة قرطبة يف فرتة اإلمارة األموية ،عىل ما لألمر من أهمية .وقد تجىل هذا من خالل حدث تاريخي معروف بقدر ما هو مأساوي ونعني به الثورة الشهرية التي وقعت بربض قرطبة عام .818إذ تثبت هذه الواقعة التي رويت أحداثها عىل نطاق واسع يف املصادر املكتوبة مسألة وجود هذا الحي من أحياء قرطبة ،وقد لخص ليفي-بروفنسال تطوره يف كتابه «تاريخ إسبانيا اإلسالمية» Histoire de l’Espagne musulmaneبقوله: لقد تغري مظهر قرطبة كثريا ً منذ فرتة حكم عبد الرحمن األول ،فهذه املدينة املهمة واملزدحمة بالسكان يف أثناء الحقبة القوطية كانت قد احتضنت داخل أسوارها الكثري من العرب القادمني من املرشق أو من إفريقية منذ أن أصبحت عاصمة اإلمارة اإلسبانية األموية إضافة إىل عدد من املغاربيني ذوي األصول الرببرية .وقد بنيت أحياء جديدة يف شامل وغرب املدينة .ومن ناحية أخرى ،فمنذ ترميم القنطرة الرومانية املقامة عىل نهر الوادي الكبري عىل يد هشام األول مل يعد مجرى النهر الذي يحيط باملدينة من الجنوب يشكل عقبة بوجه توسعها عىل الضفة اليرسى وقد امتد هناك ربض صاخب ومكتظ بالسكان من شاطئ النهر إىل مشارف ضيعة شقندة املجاورة ،أو سيكوندا القدمية.
16
بيري غيشار
يف ذلك الربض مل يكن يعيش العامة فقط بل كان هناك الصناع وصغار التجار «املولدون» أو املسيحيون .وبحكم قربه من املسجد الكبري وقرص األمري –وكالهام يقع بجانب نهر الوادي الكبري ويفصل بينهام شارع طويل ينتهي بالقنطرة ويدعى بـ «املحجة العظمى»– فضّ ل الكثري من القرطبيني، ممن كانت وظائفهم أو دراساتهم تتطلب امليض إىل مقر الحكومة أو املبنى الرئيس للعبادة يف املدينة ،السكن يف هذا الربض الجنويب إذ بدا لهم أكرث مدعاة للراحة وكان يعيش هناك عىل وجه الخصوص أغلب تالمذة مالك بن أنس من األندلسيني القدامى ممن أضحوا فقهاء بارزين ومؤثرين.21
وبرأيي فليس هناك أفضل من اإلشارة إىل مقطع للمؤرخ الكبري لتاريخ إسبانيا اإلسالمية يك نوضح رسعة التغريات وطبيعتها .وتطور الربض الجنويب يف قرطبة ليس أكرث من منوذج منو كان له تأثريه بالطريقة نفسها عىل أطراف العاصمة يف الرشق والشامل والغرب باستثناء كون تسلسله التاريخي كان معروفاً بشكل جيد ذلك ألن توسعه توقف عىل نحو مفاجئ بسبب القمع الشديد الذي قام به األمري الحكم األول ضد التمرد الكبري الذي وقع هناك عام 818 والذي أدى إىل تدمريه التام وتعرض سكانه للقتل أو الطرد .من الواضح إذا ً أن مدينة قرطبة القدمية قد أحيطت منذ بداية القرن التاسع بأرباض ذات كثافة سكانية عالية ال مجال للشك يف طابعها «اإلسالمي» ،وقد مثلت املعارضة املشرتكة بني رجال الدين و «العامة» الحرضية من التجار والصناع بشأن بعض التدابري –خاصة املتعلقة بالرضائب– التي ُع َّدت مجحفة وظاملة بوصفها ال تتسق مع قواعد اإلسالم سبباً للفتنة والثورة .كان هذا الحدث كاشفاً لذروة التخطيط الحرضي يف ذلك الوقت بحيث أن القضاء عىل بضعة آالف من السكان املتمردين مل يكن له سوى تأثري مؤقت عىل منو املدينة مبجملها.22 ويف أوج تطور عهد اإلمارة ،يف ظل حكم عبد الرحمن الثاين ( )852-822ابن الحكم األول ،حققت املدينة بالفعل ازدهارا ً مل تعرفه حتى تلك اللحظة .وقد ربط ابن حيان الصيت الخارجي للعاهل 21أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: la conquête et l’émirat hispano-umaiyade: 710-912. Op. Cit., tomo i, pp. 161-162. 22ميكننا أن نضيف بشأن موضوع التمرد أن إخفاق املتمردين كانت له نتائج إيجابية بالنسبة لعلامء اآلثار .إذ نظرا ً لتدمري الربض وإصدار بيان يقيض بعدم العودة إىل البناء يف ذلك املكان فقد ساعد هذا األمر يف املحافظة عىل اآلثار ،والحفريات التي متت مؤخرا ً قادت إىل كم كبري من املعلومات حول تنظيم الحي وثقافته املادية.
17
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
مبا أدخله عىل املدينة من عمليات تزيني وتجميل فذكر بأنه راسل ملوك البلدان املختلفة وبنى القصور ونهض باألشغال العامة وشيد القناطر وأىت باملاء العذب من قمم الجبال حتى بالطه ما حمله عىل شق الصخور الصلدة لنقل املاء إىل قرصه من خالل خطة موضوعة بعناية وحصل عىل مياه وفرية للرشب وسقي رياضه وأوصل الفائض إىل حوض كبري (قبالة البوابة املركزية الجنوبية لقرصه املسامة ببوابة الحديقة) حيث املياه تتدفق عىل حوض من الرخام بوسع الناس كافة أن يصلوا إليه لدى دخولهم القرص أو لدى املرور به فينهل منه الجميع.23 ويف عهد عبد الرحمن الثاين أيضاً تم القيام بتوسعة كبرية للمسجد فتضاعفت مساحة قاعة الصالة الستيعاب األعداد املتزايدة من املصلني وكان ذلك بال ريب بسبب ازدياد أعداد السكان يف مدينة متنوعة كان يقطنها العرب والرببر والسكان األصليون ،ومن الناحية الدينية كان فيها يهود ومسلمون من نسل الفاتحني وكثري ممن اعتنقوا اإلسالم إىل جانب عدد كبري من املسيحيني .كانت الحياة تدب يف العاصمة األموية عىل نحو مكثف وفيها تعيش طبقة متعلمة ومرفهة (العامة) ،وكان عددها كبريا ً ما أدى إىل ظهور مركز ثقايف جذب املشارقة ممن راحوا يفدون بآخر التقليعات العراقية لسكان كانوا متعطشني الستقبالها .كان هذا هو الدور الذي لعبه املوسيقي واملغني زرياب بقدومه من العراق ليصبح املفضل لدى علية القوم.24 من الواضح أن أفضل ما بحوزتنا من معلومات هو املتعلق بالطبقة املسيطرة من العرب والرببر .لقد ذكرنا أعاله السكن األرستقراطي «بالط املغيث» الذي كان يقع شامل رشق املنطقة السكنية وكان ألرسة قوية من موايل األمويني شكل أعضاؤها جزءا ً من صفوة القوم من ماليك السلطة :ابن املغيث الذي دخل قرطبة عام 711وعبد امللك بن عبد الواحد بن املغيث القائد العسكري لهشام األول ( )796-788الذي قاد يف سنة 793الجيش ملهاجمة نربونة وحقق نرصا ً يف أوربيو Orbieuعىل الفرنجة ،وشقيقه عبد الكريم بن عبد الواحد الذي شارك يف الحملة نفسها وقاد حمالت أخرى واضطلع مبنصب كبري هو منصب حاجب األمري الحكم 23أنظر ابن حيان القرطبي( ،)2001أخبار األمريين الحكم األول وعبد الرحمن الثاين مابني االعوام .847-796املقتبس،II-I . ص .170-169 24أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: la conquête et l’émirat hispano-umaiyade: 710-912. Op. Cit., tomo i, pp. 269-272. كان زرياب منوذجاً واضحاً لعملية إضفاء الطابع الرشقي الجارية آنذاك يف املجتمع والدولة يف قرطبة.
18
بيري غيشار
األول ( .25)822-796وتبعاً ملا يورده ابن حيان فإن هذا الرجل املتنفذ عندما كان يعود إىل قرصه بعد أن يويف بالتزامات منصبه الرسمي يف القرص القرطبي كان يتوقف ليحيي «رؤساء» أرسته من أبناء األموي حبيب بن عبد امللك الذين أقاموا بجوار بالط املغيث ،كام رأينا سابقاً، وكان يربط حصانه عىل مسافة كبرية من الدار ليدخل ويخرج مشياً عىل قدميه كنوع من تأدية فروض االحرتام لهذه األرسة التي كان ال يزال «موالياً» لها رغم وظيفته العليا يف الدولة. كام كانت هناك صالت تربط بني ذوي املناصب الكربى يف الدولة وعنارص أخرى من املجتمع القرطبي ،وخاصة الطبقة التي باتت األكرث تأثريا ً مبرور الوقت ونعني بها رشيحة الفقهاء أو العلامء .ويروي فقيه مشهور أنه صاحب عبد الكريم يف حملته عىل نربونة يك يسهر عىل توزيع الغنائم عىل نحو عادل وانه تلقى منه ذات مرة مائة دينار هدية (أي نظرياً ،مائة عملة نقدية من الذهب وزنها حوايل أربعة غرامات ،ورمبا ُسلمت عىل شكل دراهم من الفضة إذ مل تكن بعد قد سكت العمالت الذهبية يف ذلك الوقت يف األندلس) األمر الذي يعطينا فكرة عن حالة الرخاء املايل الذي نعمت به تلك الشخصيات الرفيعة يف الدولة األموية. وهناك منوذج آخر ألرسة اضطلعت مبناصب عليا يف الدولة األموية وكان لها دور يف تطوير قرطبة هي أرسة «بنو زجايل» الرببرية املهمة .ففي زمن الفتح استوطنت يف كورة تاكورونا (منطقة مالقة يف الوقت الراهن) .وأول من ورد ذكره يف الكتابات هو محمد بن سعيد بن موىس بن عيىس الزجايل الذي تنبه إليه األمري عبد الرحمن بسبب من ملكته الشعرية واألدبية فعينه كاتب رس األمري وهو منصب مل يكن معروفاً من قبل. وعىل ما يبدو فاملنزل الذي سكن فيه مع ذويه بشامل الجزء القديم من قرطبة قد أسهم يف إعادة هيكلة هذه املنطقة اىل حد كبري حتى أن الحي اتخذ اسم هذه العائلة (ربض الزجايل) .وبذلك فقد عدت األرسة آنذاك من بني األرس الرئيسية يف العاصمة إذ ضمت يف األقل 11عضوا ً ممن اضطلعوا مبناصب حكومية يف اإلدارة العليا للدولة األموية يف نهاية عهد اإلمارة ويف عهد الخالفة .26كام أطلق اسم أرستهم عىل متنزه (حري) وعىل مقربة أيضاً ،وقد تطور وضعهم االجتامعي وتبدلت أحوالهم وأصبح لهم موالون بعدما 25أنظر ابن حيان القرطبي ( ،)2001أخبار األمريين الحكم األول وعبد الرحمن الثاين ما بني األعوام . 847-796املقتبس .II-I املصدر السابق ،ص .99-95تويف عبد الكريم يف عام 824أو .825 26أنظر إىل رسالة محمد مواك (،)1999 Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne Umayyade (IIe-IVe/VIIIe-Xe Helena de Felipe (1997), Identidad y onomástica de los beréberes de alو ;siècles). Op. Cit., pp. 174-175Andalus. Madrid: Consejo Superior de Investigaciones Científicas (csic), pp. 255-258.
19
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
كانوا يحومون حول السلطة .27 ليس لدينا الكثري من املعلومات حول استقرار عائالت أخرى من «أرستقراطية الدولة» املتنفذة يف قرطبة يف عهد اإلمارة ،ونعني بها العائالت التي شكلت نوعاً من «النواة الصلبة» للسلطة وركناً أساسياً من أركان الدولة األموية .وكانت عنارصها األكرث تأثريا ً تنتمي إىل مجموعة املوايل ذوي األصول املرشقية (بنو أيب عبده وبنو حدير وبنو شهيد وعائالت قوية أخرى) وشكلوا األدوات التي سهلت صعود أول عاهل لإلمارة من األرسة الحاكمة.28 وابتدا ًء من مثانينات القرن التاسع حدثت يف األندلس أزمة سياسية خطرية جدا ً امتدت لعدة عقود ووقعت خاللها فتنة وكانت فرتة خالفات وفرقة ،ويف هذه األثناء شهدت البالد متزقاً سياسياً وضعفت السلطة املركزية فيها بحيث مل تُسك العمالت عىل مدى عرشين عاماً ومل تنظم حمالت الجهاد عىل الحدود .وال يسع املؤرخ سوى الوقوف مندهشاً إزاء تلك العائلة األموية التي كانت مرفوضة عىل امتداد أرايض األندلس وشبه معزولة يف قرطبة خالل فرتة حكم األمري عبد الله ( )912-888ومع ذلك استطاعت االستمرار يف السلطة يف ظل تلك الظروف .وهنا بوسعنا طرح فرضية مؤداها أن أحد العنارص التي سمحت لها بالبقاء ،إىل جانب الطابع املحيل لغالبية حركات اإلنشقاق ،يعود ألهمية العاصمة –السكانية واالقتصادية والثقافية– التي مل تكن موضع تشكيك يف سلطة األمويني وهكذا متت خاللها وبدون مشكالت عملية نقل خالفة األمري الضعيف والسلبي عبد الله إىل حفيده ،األمري الثامن عبد الرحمن الثالث ( )961-912الذي عىل النقيض منه متكن من زيادة نفوذ قرطبة ونقلها إىل مرحلة من االزدهار من خالل استعادة هيبة السلطة املركزية واتخاذه لقب خليفة الذي حمله أجداده يف دمشق (يف سنة .)929 ويف حني أننا نحتاج عند اإلشارة إىل عاصمة األمويني يف القرن التاسع إىل االستعانة بإعادة بناء األحداث والعودة إىل فرضيات املؤرخني انطالقاً من إشارات وجيزة مبثوثة يف املصادر العربية وكذلك من املعلومات التي بدأت تصلنا عرب التنقيبات األثرية ،نجد أن بوسعنا اإلشارة إىل حقبة الخالفة من خالل وصف أقل ما يقال عنه بأنه عرصي مفصل نسبياً وموثوق فيه ظاهرياً :إنه وصف الجغرايف املرشقي ابن حوقل ،هذا الرحالة العظيم الذي زار األندلس يف 27أنظر إىل رسالة محمد مواك (،)1999 Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne Umayyade (IIe-IVe/VIIIeXe siècles). Op. Cit., p. 175. 28رسالة محمد مواك تقدم معلومات حول هذه األرس ونفوذها .املصدر نفسه.
20
بيري غيشار
أواسط القرن العارش .29وفيام ييل نصه: وأعظم مدينة باألندلس قرطبة وليس بجميع املغرب لها شبيه وال بالجزيرة والشام ومرص ما يدانيها يف كرثة أهل وسعة رقعة وفسحة أسواق ونظافة ّ حممات وفنادق ويزعم قوم من سافرتها محال وعامرة مساجد وكرثة ّ الواصلني اىل مدينة السالم أنّها كأحد جانبي بغداد ]..[ .وقرطبة وإن مل تك كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك والحقة به وهي مدينة ّ ومحال حسنة ورحاب فسيحة [ ]..وفيها مل يزل ذات سور من حجارة ملك سلطانهم قدمياً ومساكنه وقرصه من داخل سورها املحيط بها وأكرث أبواب قرصه يف داخل البلد من غري جهة ولها بابان يرشعان يف نفس سور املدينة إىل الطريق اآلخذ عىل الوادي من الرصافة ،والرصافة مساكن أعايل ربضها متّصلة مبانيها بربضها األسفل وأبنيتها مشتبكة مستديرة عىل البلد من رشقه وشامله وغربه فأ ّما الجنوب منه فهو إىل واديه وعليه الطريق والحممات ومساكن املعروف بالرصيف واألسواق والبيوع والخانات ّ العا ّمة بربضها ومسجد جامعها جليل عظيم ىف نفس املدينة والحبس منه قريب. وقرطبة هذه بائنة بذاتها عن مساكن أرباضها غري مالصقة لها واملدينة قريبة الحال ودرت بسورها غري يوم يف قدر ساعة وهي نفسها مستديرة حصينة السور وسورها من حجر[ ]..ولقرطبة سبعة أبواب حديد وهي رصف يف وجوه التن ّعم فخم واسعة الحال بحسن الج ّدة وكرثة املال والت ّ بج ّيد الثياب والكيس من ّلي الكتّان وج ّيد الخ ّز والق ّز واملتعة بفاره 29تفيد املعلومات أن ابن حوقل كان يف األندلس يف صيف عام .948ولعله بقي هناك بعض الوقت وراح يخرب الحقاً مبا كان يحدث هناك ،إذ قدم معلومات دقيقة حول األحداث التي وقعت .وعىل ما يبدو فإن كتابه «صورة األرض» قد أعيد تحريره مرات عدة حتى نهاية القرن العارش .أنظر التعليق حوله يف كتاب خورخي لريوال ديلغادو وخوسيه ميغيل بويرتا (،)2004 Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Dabbag a Ibn Kurz. Almería: Fundación Ibn Tufayl de Estudios Árabes, volumen 3, pp. 320-321.
21
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
املركوب واملأكول واملرشوب.30
لسنا بصدد وصف قرطبة القرن العارش بالتفصيل بل نسعى لنقل االنطباع الذي خرج به عن املدينة رحالة فضويل خبري كان قد زار العامل اإلسالمي كله تقريباً وبالتايل كان يف مقدوره أن يقارن ما يرى من عاصمة األندلس مبا كان يعرفه عن مدن أخرى كثرية قام بزيارتها وبنحو خاص أكرب هذه املدن :بغداد .بوسعنا أن نضيف أيضاً أنه كان مييل إىل النظام الفاطمي يف القريوان وأنه كان غاية يف النقد ألحداث أخرى شهدها يف شبه جزيرة أيبرييا من بينها حالة القوات العسكرية التي كان يعدها ضئيلة العدد .وهذا يدعونا لتوكيد أهمية شعوره باإلعجاب تجاه عظمة املدينة وحسن تنظيمها وبهائها وثرائها .فقد تراءت له عىل ما يبدو املدينة الوحيدة من «دار اإلسالم» التي ميكن مقارنتها ببغداد. لقد حذفنا يف االقتباس السابق بعض اإلشارات املتعلقة باملدينة األمريية مدينة الزهراء التي راح يشيدها الخليفة عبد الرحمن الثالث منذ عام 936عىل بعد بضعة كيلومرتات غرب مدينة قرطبة والتي رشع الحاكم والبالط باالنتقال إليها تدريجياً .فعىل سبيل املثال يف الوقت الذي وصل فيه ابن حوقل إىل شبه جزيرة أيبرييا كان سك العملة الذي يتم يف قرطبة حتى ذلك الحني قد انتقل إىل مدينة الزهراء .31وقد أقام الخليفة األول الحكم الثاين ( )976-961وابنه يف مدينة الزهراء األمريية بشكل شبه مستمر وكانت يف حد ذاتها كبرية كعاصمة إقليمية (مائة هكتار أي ما يعادل آنذاك مدينة بحجم طليطلة) .وشُ يدت بأموال طائلة –استثمر فيها ثلث خراج الدولة عىل مدى سنوات– وكانت فيها أجمل املباين املشيدة من الحجر والرخام واألعمدة واملواد الفنية املستوردة من مختلف مناطق البحر
30أنظر ابن حوقل (،)1964 Configuration de la Terre (Kitab surat al-ard). Introduction et traduction, avec index, par Johannes Hendrik Kramers et Gaston Wiet. Beirut y París: Commission internationale pour la traduction des chefs-d’oeuvre, Maisonneuve et Larose, tomo i, pp. 110-112. 31أنظر: Rafael Frochoso Sánchez (1996), Las monedas califales: de ceca al-Andalus y Madinat al-Zahra’ (316403 H., 928-1013 J. C.). Córdoba: Publicaciones de la Consejería de Cultura de la Junta de Andalucía, Obra Social y Cultural Cajasur, p. 15.
22
بيري غيشار
املتوسط .32وقد اكتشف علامء اآلثار هذا املوقع العظيم وأظهروا هيكله وسلطوا األضواء عىل ثراء تفاصيله وتحويراته .ويقع عىل مسافة بضعة كيلومرتات من قرطبة ويشكل عنرصا ً آخر يربهن عىل بهاء عرص الخالفة .لقد شهد مجمع قرطبة-مدينة الزهراء زيادة وتكامالً خالل مثانينات القرن نفسه متمثلة يف بناء مدينة ملكية ثانية أسست هذه املرة رشق قرطبة عىل يد الحاجب العامري الكبري املنصور ،خالل الفرتة التي استوىل فيها عىل السلطة وتحكم بشكل شبه ديكتاتوري يف خالفة قرطبة ،وقد امتد سلطانه حتى املغرب الحايل. ويف نهاية القرن العارش كان هذا املجمع عبارة عن «تجمع حرضي» ضخم ميتد عرب رشيط عىل الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري عىل مسافة تصل إىل حوايل 15كيلومرتا ُ .وبفضل التنقيبات األثرية التي أجريت يف املناطق الواقعة بني املدينة القدمية ومدينة الزهراء امللكية عرث عىل بقايا مبانٍ تدعم الفكرة التي تؤكد عىل أن النسيج الحرضي كان كثيفاً أيضاً يف املسافات املمتدة ما بني النقاط الرئيسة التي كانت تشكل هذا املجمع .كل هذا يدعونا إىل التفكري يف أن العاصمة األموية كانت تقف يومئذ يف مستوى يوازي حارضيت الخالفة، ونعني بهام املدينتني العظيمتني القاهرة الفاطمية وبغداد العباسية .كانت هذه املرحلة األخرية من منو قرطبة يف عهد الخالفة قد حدثت استجابة للزيادة السكانية املتالحقة ،إذاك متت توسعة املسجد الكبرية مرتني :توسعة الحكم الثاين وتخللتها زينات بارزة (قباب أمام املحراب وزينة من الفسيفساء املستلهم من الفن البيزنطي وأنواع جديدة من األقواس) وتوسعة املنصور وهي األكرث تقشفاً وتناغامً مع األجزاء األوىل من املسجد .وإجامالً فإن مساحة مكان الصالة زادت ألكرث من الضعف .وميكن التفكري يف أن توسعة املنصور الذي أضاف مثانية أروقة جانبية عىل طول قاعة الصالة لتضاف إىل األحد عرش رواقاً املوجودة 32أنظر: Manuel Gómez-Moreno (1951), Ars Hispaniae: historia universal del arte hispánico. El arte ;árabe español hasta los almohades. Arte mozárabe. Madrid: Plus Ultra, volumen 3 أو عىل نحو مخترص يف إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1999 Histoire de l’Espagne musulmane: le califat umaiyade de Cordoue (912-1031). París: Maisonneuve et Larose, tomo ii, pp. 138-139, هذه املصادر أتاحت لنا رسم صورة حول الرتف الذي كان سائدا ً يف مدينة الزهراء .الكثري من املطبوعات امللونة نرشت يف السنوات العرشين األخرية صورا ً للبناء واملواد التي تشهد عىل هذا الرتف األمريي .نذكر عىل سبيل املثال العملني املنشورين من قبل مؤسسة «الرتاث األندليس» مبناسبة معرض مدينة الزهراء املقام للفرتة من 3مايو لغاية 30سبتمرب عام ،2001 María Jesús Viguera Molins y Concepción Castillo Castillo (coords.). El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Op. Cit.
23
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
من قبل تتامىش مع ازدياد أعداد قوات الجيش النظامي إثر تجنيد الصقالبة (وهم عبيد من أصل أورويب ،ساليف بالدرجة األساس) ومن الرببر املتمركزين يف معظمهم يف العاصمة وأطرافها .كام أنها كانت منطقية لتتناسب مع أبعاد عاصمة كبرية تحولت إىل مركز سيايس واقتصادي وثقايف إلمرباطورية امتدت عام 1000من وادي نهر إبرة حتى أطراف الصحراء.33 هذا ويبدو من شبه املستحيل تحديد عدد سكان قرطبة يف ذلك الوقت .وقد طرحت بعض األرقام التي ترتواح ما بني مائة ألف نسمة ومليون نسمة بيد أننا ال يسعنا سوى قبول هذين الرقمني بحذر .34كام أننا ال نعرف إن كانت ضخامة العاصمة األموية املبالغ فيها مقارنة بإمكانات التموين يف تلك الفرتة قد أدت إىل الضعف الذي أصابها الحقاً عىل غرار ما حدث يف تراجع الخالفة العباسية يف بغداد .كل ما هنالك هو أننا نجد أن هذا التقدم قد توقف بصورة مفاجئة يف أعقاب األزمة العميقة التي أثرت عىل الخالفة ابتدا ًء من «ثورة قرطبة» عام 1009الناجمة عن عجز االبن الثاين للمنصور ،عبد الرحمن املعروف بـ «سانشويلو» أو شنجول ،عن إدارة الحكم وكان هذا قد وصل إىل السلطة عام 1007بال شك نتيجة توترات داخلية متنوعة أثرت عىل النظام .وقد خيمت الخصومات عىل العقدين التاليني بني مختلف الفصائل السياسية العسكرية التي كانت تطمع يف السيطرة عىل قرطبة ما أدى إىل ضعف متنام للسلطة املركزية وظهور قوى محلية متعددة ،األمر الذي أفىض عىل نحو مضطرد إىل تشكيل جغرافية سياسية جديدة يف األندلس متثلت مباملك الطوائف الخمس عرشة التي ظهرت مع اختفاء خالفة قرطبة متاماً عام .1031ويف قرطبة نفسها تشكلت سلطة ،بتناغم تام مع الواقع االجتامعي التاريخي للعاصمة املتداعية ،حينام قررت الصفوة الحرضية منح السلطة إىل إحدى أرس «أرستقراطية الدولة» التي 33الطرح األكرث توفقاً حول املدينة األموية ،كونه يركز عىل لحظة ازدهارها ،هو الذي وضعه مانويل أثيني أملانسا و أنطونيو باييخو تريانو (،)2000( )Manuel Acién Almansa y Antonio Vallejo Triano Cordoue, en Jean Claude Garcin (dir.). Grandes villes méditerranéennes du monde musulman médiéval. Roma: École Française de Rome, pp. 117-134. ال ريب يف أن فكرة وجود «إمرباطورية» أموية متتد من الصحراء الغربية حتى جبال الربانس تستلزم البحث املفصل ،لكنها يف كل االحوال ميكن أن تستند إىل أحداث «ملموسة» مثل سك العمالت الذهبية باسم خلفاء قرطبة يف مدينة سجلامسة الواقعة عىل أطراف الصحراء الغربية. 34ميكننا أن نشري إىل رقم معقول وهو 270ألف حسب خيسوس ثانون ( ،)1989( )Jesús Zanónيف كتابه الصغري، Topografía de Córdoba almohade a través de las fuentes árabes. Madrid: csic, Instituto de Filología, p. 18, دون أن نخفي أن السبب الوحيد لتبني هذا الرقم هو طابعه املعتدل .مانويل أثيني أملانسا وأنطونيو باييخو تريانو، يف عملهام املذكور سابقًا يتحدثان عن تعداد أمر به املنصور وكان يرتاوح بني 200ألف و 300ألف مسكن (يف املصدر املذكور) للعامة والخاصة واألمر يتعلق بفرضية «مرجحة» بالنظر لهذه األرقام ولبعض اإلثباتات األثرية التي تبني كثافة النسيج الحرضي (ص .)122-121
24
بيري غيشار
شكلتها مجموعة موايل بني أمية ،وهي أرسة بني جهور ،لكنها سلطة مل تكن لتمتد إىل أكرث من املدينة وضواحيها القريبة فقد ظهرت يف مناطق مختلفة سلطات محلية أخرى مستقلة عن سلطة قرطبة كام حدث يف إشبيلية وغرناطة ومدن ثانوية أخرى مثل مورون أو قرمونة. وعىل النقيض من حالة االزدهار التي كانت سائدة يف القرن العارش فإن التاريخ السيايس لقرطبة خالل فرتة ماملك الطوائف يف القرن الحادي عرش كان باهتاً .وكان حكم بني جهور قصريا ً ( )1070-1031شكله ثالثة حكام مثلوا تجسيدا ً لنظرية ابن خلدون حول تردي السلطات األمريية .األول كان هو أبو الحزم بن جهور الذي حظي بعرفان الصفوة القرطبية يف فرتة تداعي الخالفة وكان املربز بني األنداد لالشتغال بقضايا املدينة .لقد طرح كأبرز عضو يف مجلس الوزارة وتحاىش اتخاذ أي لقب مليك يضفيه عىل سلطته .ثم قام ابنه أبو الوليد محمد الذي خلفه يف السلطة عام 1043باقتفاء أثره يف حصافته فهو مل يتخذ اسامً له سوى اللقب املتواضع «الرشيد» .إال أن ابنه عبد امللك وصل من بعده إىل سدة الحكم يف عام ،1063بعد أن زعزع الدولة القرطبية مبناوراته وذلك يف حياة والده ،فكرس تقليد التواضع يف الحكم ومنح نفسه ألقاباً طنانة عىل طريقة الخلفاء مثل لقب املنصور بالله ،عىل غرار ما قام به بعض من ملوك الطوائف ،وإن كان مبنطقية أكرب إذ كان لديهم سلطة أوسع وشعبية أكرب .وقد افتقر حكم ثالث حكام بني جهور إىل أي قوة أو سند .فهو مل تكن له شعبية وبالكاد كان يسك العملة يف قرطبة وقد أدى ضعفه العسكري إىل طمع جريانه من أمراء طليطلة وقرطبة ممن رغبوا يف ضم مدينة ذائعة الصيت تاريخياً إىل ماملكهم .ويف عام 1070حسمت نهاية هذا الوضع لصالح مملكة بني عباد يف إشبيلية الذين كانوا يوحدون تحت لوائهم أكرب جزء من جنوب األندلس ،من الغرب حتى مرسية. ومام ال شك فيه فقد شهدت عاصمة الخالفة يف القرن العارش نزاعات سياسية عسكرية خطرية وكثرية ترصدتها خاصة يف العقد الثاين من القرن الحادي عرش .فقد تعرضت الحارضتان األمرييتان مدينة الزهراء ومدينة الزاهرة إىل النهب والخراب .ووصلتنا أسامء بعض األشخاص الذين فقدوا حياتهم يف عمليات السلب هذه التي شاركت فيها الفصائل املتناحرة املنترصة عىل نحو خاطف ،كام هو الحال مع املؤلف الشهري ألول معجم ألخبار علامء األندلس ،ابن الفريض الذي قُتل عىل يد الرببر املؤيدين ألحد املتنازعني عىل سلطة الخالفة يف لحظة نهب العاصمة يف أبريل /نيسان من عام .1013وهناك إشارات كثرية إىل ال ُنخب السياسية-اإلدارية والفكرية التي تفرقت عىل املحافظات بسبب هذه االضطرابات. كانت هذه هي حالة الكثري من املوظفني الصقالبة أو من أرسة «الطاغية» نفسه املنصور 25
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
الذين سنجدهم الحقاً يف السلطة يف رشق األندلس ببلنسية ،وكذلك حالة أشخاص آخرين كرث من ذوي النفوذ يف الحياة الثقافية األندلسية .فمؤلف «طوق الحاممة» ابن حزم العظيم الذي يقال عنه إنه من قرطبة ألنه ولد هناك وبدأ دراسته فيها اضطر لرتك املدينة وهو يف الثامنة عرشة عىل أثر عمليات نهب قام بها الرببر ومل يعد إال ملاماً ما بني إقاماته يف األقاليم الرشقية والغربية ،وحالته تبدو مهمة ألنها تلقي الضوء عىل اختفاء جزء من التجمع السكاين القديم الذي يعود إىل حقبة الخالفة ،فنحن نعلم فعالً أنه بوصفه ابناً لوزير فقد أمىض طفولته يف منية أطلق عليها اسم «املغرية» يف حي أقيم حول مقر اإلقامة العامرية يف مدينة الزاهرة ثم يف منطقة أرستقراطية تقع يف بالط املغيث وكال املنطقتني ُدمرتا يف االضطرابات ،وبعد ذلك أمىض فرتة يف املدينة فكان عليه أن يسكن يف منزل يعود إلحدى قريبات أرسته رمبا يف املنطقة القدمية من املدينة. 35 وال يسعنا هنا سوى طرح فرضية حول تقلص مساحة الفضاء الحرضي القرطبي بحوايل الثلثني يف الفرتة الواقعة ما بني القرنني العارش والحادي عرش .وقد فعل ذلك أنطونيو أملاغرو الذي اقرتح للحقبة الثانية مساحة 185هكتارا ً وتعداد سكان قدره 65ألف نسمة وهو بال شك رقم يقل عن تعداد القرن السابق عندما توزع عدد السكان الذي بلغ أكرث من ذلك أربع أو خمس مرات عىل مساحة واسعة تزيد عىل 2500هكتار .36هذا العدد الذي بلغ عرشات اآلالف من السكان والذي رمبا بات صالحاً خالل القرن التايل يحيل إىل واقع حرضي ال يزال مهامً عىل الرغم من عدم التوصل إىل تحديد وضع املدينة يف املقام األول بالنسبة للعواصم األندلسية .كانت إشبيلية تحافظ عىل وضعها يف القرن الثاين عرش وكانت دون شك أكرث اتساعاً وسكاناً إذ كانت تصل مساحتها إىل حوايل 300هكتار وسكانها نحوا ً من مائة ألف نسمة .يف حني نجد يف الفرتة نفسها أن أياً من املدن الكربى يف الغرب مل يكن ليزيد عدد سكانها عن 50 ألف نسمة .كانت سمعة قرطبة قد واصلت تأثريها لتحتفظ يف القرنني الحادي عرش والثاين عرش بدور ثقايف رفيع من الطراز األول .ومثة قول متداول البن رشد يف هذا السياق ،ومعروف
35أنظر مقال خوسيه ميغيل بويرتا ( ،)2004( )José Miguel Puerta Vílchezعن ابن حزم يف: Jorge Lirola y José Miguel Puerta Vílchez, Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Dabbag a Ibn Kurz. Op. Cit., volumen 3, pp. 392-443 (pp. 392-395). 36أنظر: Antonio Almagro (1987), «Planimetría de las ciudades hispanomusulmanas», Al-Qantara, viii, p. 427.
26
بيري غيشار
أنه كان قايض املدينة يف الفرتة من ،37 1190-1180مفاده أنه إذا تويف موسيقي يف قرطبة فإن أدواته تُحمل إىل إشبيلية يف حني أنه إذا ما مات عامل يف تلك املدينة فإن كتبه ستُحمل إىل قرطبة .ومع ذلك ،فنحن نعرف أنه مع مطالع القرن الحادي عرش بدأ شاعر كبري مثل ابن زيدون حياته يف عام 1003يف قرطبة حيث عاش أعوامه األربعني األوىل لكنه أمىض العقدين األخريين من حياته يف إشبيلية حيث تويف عام .38 1071 يف نهاية القرن الحادي عرش انتزع الحكم من ملوك الطوائف عىل يد يوسف بن تاشفني زعيم حركة املرابطني القوي الذي فرض حكمه يف املغرب وانطالقاً من عاصمتها مراكش فرض نظاماً إصالحياً لإلسالم .وقد شهدت «حرب االسرتداد» التي بدأها امللوك املسيحيون يف األندلس (اإلستيالء عىل طليطلة عام )1085توقفاً ملدة من الزمن .وكان مصري بلنسية التي استوىل عليها مؤقتاً القنبيطور ( )1099-1087قد بات لصالح املرابطني الذين اسرتدوها يف سنة .1102ومنذ نهاية القرن الحادي عرش حتى بداية القرن الثالث عرش ارتبطت األندلس بإمرباطوريتني «إفريقيتني» كبريتني :حكم املرابطني ومن ثم ،منذ منتصف القرن الثاين عرش، حكم املوحدين الذين أسقطوا املرابطني .كل هذا شمل أحداثاً أثرت عىل قرطبة من بينها االضطراب الذي شهدته املدينة يف 1121يف ظل حكم املرابطني وكذلك تأسيس سلطة مستقلة يوجهها قايض املدينة يف لحظة أزمة نظام املرابطني (يف 1146-1145عندما تأسس يف عدة مدن ما دعي مباملك الطوائف الثانية) .وبديهي أننا لسنا هنا بصدد رسد تفاصيل التاريخ حتى حرب االسرتداد املسيحية التي طالت قرطبة عام .1236وقد حدث هذا بعد سقوط نظام املوحدين يف األندلس ( )1228وخالل مرحلة من التجزئة السياسية التي أطلق عليها عىل نحو منطقي «ماملك الطوائف الثالثة» .ومع ذلك سيكون من املهم أن نشري إىل أنه بخالف ما حدث يف مدن أخرى (مرسية وبلنسية وغرناطة وإشبيلية بالدرجة األساس) مل تقم قرطبة هذه املرة بدور سيايس بارز ومل تشهد قيام سلطة سياسية مستقلة فيها. وكام يف الفرتات السابقة مل يكن من السهل تحديد الوضع الدميغرايف يف قرطبة خالل فرتة الحكم الرببري-األندليس .ولكن عاصمة الخلفاء األمويني كانت ال تزال بال جدال مدينة إقليمية كبرية وما برحت تحتفظ بنشاط فكري مهم .وللتدليل عىل ذلك تكفي اإلشارة إىل 37أنظر مقال ابن رشد لعدة مؤلفني يف املجلد 4من كتاب خورخي لريوال ديلغادو (،)2006( )Jorge Lirola Delgado Jorge Lirola Delgado (2006). Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Labbana a Ibn al-Ruyuli. Almería: Fundación Ibn Tufayl de Estudios Árabes, p. 524. 38أنظر العرض الذي خصصه له خاميي سانتشيث راتيا ( )Jaime Sanchez Ratiaيف املجلد رقم 6لخورخي لريوال ديلغادو (،)2009 Biblioteca de al-Andalus: de Ibn al-Yabbab a Nubdat al-‘Asr. Op. Cit., pp. 287-304.
27
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
االسم الذي أوردناه ألكرب فيلسوف يف اإلسالم ،ابن رشد الذي ولد وعاش جزءا ً كبريا ً من حياته فيها .ومع ذلك فقد تعرضت املدينة إىل املزيد من االضطرابات السياسية-العسكرية التي وسمت تلك الفرتة وعىل وجه الخصوص الحروب التي نشبت بني املوحدين وأمري مرسية املستقل ابن مردنيش ،وهي الحروب التي وقعت يف املنطقة يف نهاية الخمسينات من القرن الثاين عرش .وال نعرف ما الذي عناه كاتب ومؤرخ من املوحدين هو ابن صاحب الصالة الذي أكد أنه يف سبتمرب /أيلول عام 1162كان موجودا ً يف قرطبة ساعة دخول اثنني من أمراء املوحدين وهام يف طريق عودتهام من حملة ضد أمري مرسية ،ابن مردنيش ،ومل يكن يف املدينة سوى 82رجالً بعد أن رحل عنها أهلها والتجأوا إىل الحقول يف أثناء التمرد الذي حدث .وكشف رحيل السكان وهجرتهم حجم البؤس والتعاسة فقد نزل الخراب ببالدهم وارتدى الناس األسامل . 39مام ال شك فيه أنه كان يشري إىل «العامة» ،األرستقراطية الحرضية ،لكنها شهادة يجب أن تؤخذ يف الحسبان .وما قيل أعاله حول غياب «تفاعلية» املدينة بعد زوال حكم املوحدين يأخذ بعدا ً يتجاوز مفهوم الدينامية التي تراجعت يف الواقع يف هذه املدينة التي راحت تعاين األحداث بسلبية .وما من إمكانية لتقديم إحصائيات حقيقية لكن الثابت هو أن املستنريين وعلامء قرطبة املذكورين يف كتب األعالم كانوا يف قرطبة أكرث مام يف إشبيلية حتى منتصف القرن الحادي عرش ،أما يف زمن املوحدين فقد احتَلت الصدارة املدينة الثانية التي هي إشبيلية.40 كام اتضح تراجع حيوية قرطبة يف املعامل األثرية أيضاً .فاإلنشاءات التي أقيمت عىل يد املوحدين 39ابن صاحب الصالة (،)1969 Al-Mann bil-imama: estudio preliminar [traducción de Ambrosio Huici Miranda]. Valencia: Anúbar, p. 49. الرقم قد يبدو غري معقول إال أنه ذكر بالضبط من قبل مؤلف آخر متأخر (ابن األبار) ومن سياق النص يتضح أن ابن صاحب الصالة يشري إىل «العائالت النبيلة» التي بقيت يف مدينة قرطبة التي ميكن أن نستنتج خروج قادتها ومعهم خرج املوظفون القادمون من إشبيلية –من بينهم املؤلف– الستقبال األمريين املوحدين . 40وهو ما أدركه متاماً مؤلف رشقي مثل ياقوت ( )1229-1179الذي يقول إن ازدهار إشبيلية يف زمنه كان قامئاً يف حني أن قرطبة كانت يف حالة انحطاط ،ومل تكن أكرث من مدينة من مدن اإلقليم املركزي [ األندلس] جامل عبد الكريم (.)1974 Gamal ‘Abd al-Karim (1974), La España musulmana en la obra de Yaqut (s. xii-xiii): repertorio enciclopédico de ciudades, castillos y lugares de al-Andalus: extraído del Mu‘yam al-buldan (diccionario de los países). Granada: Publicaciones del Seminario de Historia del Islam, Universidad de Granada. ضعف املدينة الثقايف أيضاً ميكن استنتاجه من احتساب عدد العلامء الذين كانوا يقيمون يف مختلف املدن األندلسية يف كل مرحلة من املراحل ،أنظر الجداول املقرتحة من قبل كريستني مازويل غينتارد (،)1996( )Christine Mazzoli-Guintard Villes d’al-Andalus. L’Espagne et le Portugal à l’époque musulmane (VIIIe-XVe siècles). Rennes: Presses Universitaires de Rennes II, pp. 332-334.
28
بيري غيشار
يف إشبيلية كانت مشهورة (ابتدا ًء بربج الخريالدة واملئذنة القدمية للمسجد الكبري التي شيدت يف تلك الحقبة) ويف مرسية اكتشفت آثار تعود إىل القرنني الثاين عرش والثالث عرش ولكن ال توجد شهادات لنشاط مامثل للبناء يف قرطبة التي اكتفت بالرتاث املعامري املوروث من الحقبة األموية .والواقع أن القرص املوروث عن األمويني مل تعد له رضورة يف سياق التواضع السيايس للمدينة ،ووجود املسجد الكبري الذي ظل األكرب يف العامل اإلسالمي يف عرصه كان أكرث من كاف لسد احتياجات املصلني ،ومع ذلك فقد واصلت املدينة االحتفاظ بشهرتها الرمزية :فقد أحرق أمام بابها الغريب كتاب الغزايل يف عام « 1109إحياء علوم الدين» نظرا ً ألنه مل يرق للفقهاء األندلسيني .41وسيخصص املؤلفون العرب الذين يصفون قرطبة صفحات يف وصف بهائها وروعتها .وهو ما حدث مع عبد املنعم الحمريي هذا املؤلف املغاريب الذي يعود إىل نهاية القرن الثالث عرش وبداية القرن الرابع عرش ،إذ قال عن مسجد قرطبة بإنه :أحد املباين األكرث روعة يف العامل سواء أكان لعظم مساحته أم لجودة بنائه وثراء زينته ومتانة بنيانه ..إذ ال نظري لزينته وال لطوله وعرضه يف العامل اإلسالمي كله.42 ميكننا أن نختتم هذه املساهمة مبقارنة هذه السطور التي متتدح املدينة والتي صدرت عن مؤلف عريب-مسلم لذا فإنها ال تثري الكثري من الدهشة نظرا باإلعجاب الذي أبداه املسيحيون بدورهم مبسجد قرطبة .فقد كتب خوان كارلوس رويث سوثا موضحاً عىل نحو شديد اإليحاء هذه النقطة التي ميكن تلمسها من خالل تاريخ الفن والنصوص املكتوبة« :كان أثر مسجد قرطبة هائالً بني املاملك املسيحية طوال العصور الوسطى» .43ليس إعجابًا فقط إذ حسب املؤلف نفسه: 41أنظر:
Jacinto Bosch Vilá (1990), Los almorávides. Granada: Universidad de Granada, p. 248. 42أنظر إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1938 La péninsule Ibérique au Moyen Age d’après le Kitab ar-Rawd al-mi‘tar fi habar al-aktar d‘Ibn Abd al-Mun‘im al-Himyari: texte arabe des notices relatives à l’Espagne, au Portugal et au Sud-Ouest de la France. Leiden: E. J. Brill, p. 183. بخصوص الحمريي الذي كانت هويته محل موضع جدل ،أنظر مقالة: Vicente Carlos Navarro Oltra (2012), en Jorge Lirola Delgado y José Miguel Puerta Vílchez (eds.). Biblioteca de al-Andalus: de al-Abbadiya a Ibn Abyad. Almería: Fundación Ibn Tufayl de Estudios Árabes, volumen 1, pp. 444-451. 43أنظر خوان كارلوس سوثا )،(2009) (Juan Carlos Ruiz Souza La Corona de Castilla y al-Andalus. Préstamos arquitectónicos y grados de asimilación. Espacios, funciones y lenguajes técnico-formales, en Pierre Toubert y Pierre Moret. Remploi, citation, plagiat. Conduites et pratiques médiévales (Xe-XIIe siècle). Madrid: Casa de Velázquez, p. 240.
29
قرطبة :من الغزو اإلسالمي إىل الغزو املسيحي
لقد غدا جامع قرطبة ] [..لهذا السبب مصدرا ً لنامذج «الثقافة البرصية ملا هو مقدس» منذ القرن التاسع فصاعدا ً ،لكن بال شك كان الستيالء قوات فرناندو الثالث عىل املدينة يف عام 1236دور يف تعميق معرفتهم به وتقييمهم أياه وهو ما توضحه نصوص املديح التي خصته بها شخصيات مهمة من القرنني الثالث عرش والرابع عرش من أمثال بدرو خيمينيث دي رادا وألفونصو العارش ودون خوان مانويل أو املستشار بدرو لوبيث دي أياال.44
من هنا جاءت عملية استيعاب النامذج اإلسالمية التي تجلت عرب ازدهار الفن املدجن. وهذه الدرجة من الحيوية يف الفن القشتايل كانت ،حسب رويث سوسا ،تستوعب وتتبنى هذه النامذج بإبداع أكرب من الفن اإلسالمي الغرناطي نفسه الذي اتصف بطابع محافظ أكرب .45إال أن هذا سيحملنا إىل الخوض حينئذ يف مرحلة أخرى من تاريخ الثقافة األيبريية العربية التي ال تندرج ضمن مهام داريس العصور الوسطى.
سرية املؤلف
بيري غيشار أستاذ فخري غري متفرغ يف مجال تاريخ العصور الوسطى يف جامعة لوميري-ليون 2ومتخصص يف تاريخ إسبانيا اإلسالمية .وهو عضو سابق يف القسم العلمي ببيت بيالثكيث يف مدريد املرتبط بأكادميية الكتابات املنقوشة واآلداب القدمية (املعهد الفرنيس) .نرش عدة أعامل نذكر من بينها «األندلس .بنية أنرثوبولوجية ملجتمع إسالمي يف الغرب (برشلونة،)1976 ، Al-Andalus. Estructura antropológica de una sociedad islámica en Occidente ( (Barcelona, 1976و «مسلمو بلنسية وحرب االسرتداد» القرنان الحادي عرش والثالث عرش (دمشقLes musulmans de Valence et la Reconquête (XIe-XIIIe siècles) ،)1991-1990 ، ).(Damasco, 1990-1991
44أنظر املصدر نفسه ،ص .253 45رويث سوثا يشري يف هذا الصدد إىل كل من أملاغرو غوربيا و الديرو كيسادا ) Almagro Gorbeaو «( )Ladero Quesadaولهذا فإننا سنأخذ بطرح ميغيل أنخل الديرو كيسادا املعروض يف الصفحة السابقة ،وسنتكلم عن استيعاب التاريخ املادي األندليس وتطوره الالحق يف ظل إبداع املجتمع الجديد مبجمله الذي متخض عن غزوات القوات املسيحية») .املصدر نفسه ،ص .245-244
30
بيري غيشار
امللخص
ت ُعد قرطبة واحدة من «املدن األسطورية» ضمن فضاء االتصال بني العامل العريب-اإلسالمي والعامل املسيحي .وقد حاولنا يف هذا امللخص تسليط الضوء عىل ازدهار عاصمة الخالفة األموية يف األندلس منذ أن اختريت عىل حساب إشبيلية عاصمة إلحدى محافظات الخالفة القامئة حينذاك يف دمشق وذلك إثر الغزو العريب يف القرن الثامن امليالدي حتى استيالء املسيحيني عليها يف عام .1236شهدت هذه املدينة كإمارة يف القرن التاسع منوا ً وتوجهاً نحو الطابع الرشقي بوتائر رسيعة جدا ً ،ويف القرن العارش بلغت أوج ذروتها مع عهد الخالفة .كانت واحدة من كربيات التجمعات الحرضية يف عامل حوض البحر املتوسط إىل جانب الحارضتني امللكيتني اللتني شيدتا يف محيطها حوايل عام 1000م .وقد أدى سقوط الخالفة يف مطلع القرن الحادي عرش إىل وضع حد لهيمنتها السياسية .ومع أنها عاشت عىل مجدها التليد وبرغم قلة عدد سكانها فقد احتفظت بازدهار ثقايف يف القرنني الحادي عرش والثاين عرش لتحل يف النهاية إشبيلية محلها .مع ذلك فإن مسجدها الذي ال يُضاهى وآثار مدينة الزهراء التي تنتمي إىل عرص الخالفة ال تزال تقف شاهدا ً عىل ذلك الرتاث العظيم.
الكلامت املفتاحية
قرطبة ،كوردوبا ،األندلس ،تاريخ.
31
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني خوسيه ميغيل بويرتا قرطبة هي ،بالنسبة إيل ،ف ّن.
خارج الف ّن. ومل يبق للحضور العريب-اإلسالمي فيها ،أي معنى عظيمَ ، أدونيس.12007 ، لو أخذنا بعني االعتبار أهمية قرطبة ،جنباً اىل جنب مع بغداد ،كبؤرة إشعاع رئيسة ملعارف النزعة اإلنسانية يف اإلسالم العريب الكالسييك ،فال شك أن العاصمة األموية تتميز بكونها مركز إبداع فني مميز ونشط بحيث تحولت عامئرها وصناعاتها إىل معلم أسايس من معامل إزدهار الفن اإلسالمي .وقد لفتت فنون قرطبة االنتباه علامء وكُتّاب األندلس أوالً، واإلسبان واألوروبيني الحقاً ،ومل يكف هذا التقدير عن التنامي حتى وقتنا الحارض لدى مؤرخي الفن والفنانني وال ُكتّاب ومقتني املجموعات الفنية ،ناهيك عن وسائل اإلعالم والجمهور عىل اختالف مواطنهم ،الذين ال زالوا يتعجبون برثاء وعظمة آثارها ودقتها .ويف املجلد الذي خصصه املقري (يف 1630-1629م) لوصف قرطبة ضمن موسوعته الضخمة املكرسة لتاريخ األندلس وآداباها عرب مجموعة ثرة من النصوص املنتخبة ألهم املؤرخني والشعراء والعلامء من كافة مراحل األندلس أو من الرحالة الذين زاروها ،2تاركاً لنا سجالً حافالً ومعربا ً يروي لنا 1أدونيس (« ،)2008غيمة فوق قرطبة» ( ،)2007/04/21يف كتاب «ليس املاء وحده جواباً عن العطش» .ديب .ص .42 2املقري ( ،)1988نفح الطيب .بريوت ،طبعة إحسان عباس .الجزء الرابع (من 8أجزاء) مع إحاالت ونصوص للرازي وابن بشكوال وابن سعيد وابن حيان وابن خاقان والحجاري وابن حوقل وابن الخطيب وسواهم ،باإلضافة إىل شعراء من كافة املشارب واألجناس.
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
بالتفصيل وبيشء من املغاالة أحياناً مظهر تلك املدينة الرائعة« ،مقر امل ُلك» و«قبة اإلسالم»، ببواباتها وأسوارها ومساجدها املتعددة وحامماتها وحدائقها و ُمنياتها وقصورها ،يورد عىل وجه التخصيص معطايات غنية عن املسجد الجامع ومدينتي الزهراء والزاهرة البالطيتني .كام أنه ال يغفل عن الحرب األهلية (الفتنة) التي قضت عىل الخالفة وكيف تحولت قرطبة يف األدب األندليس والعريب فورا ً إىل رمز ألفول أي بناء يشيده اإلنسان وطابعه العابر .ولحسن الحظ فإن عينة مهمة من ذلك اإلنسجام النادر بني «عبقرية اليد» و«عبقرية املخيلة» التي ع ّرف به أدونيس «األعجوبة الهندسية-الفنية» الخاصة بجامع قرطبة ،يظل حياً اليوم سواء أكان عىل املستوى األثري (املرتكز حول مدينة قرطبة) أم عىل مستوى الفن الرقيق للعديد من التحف الفاخرة والشعبية (املتوزعة عىل املتاحف اإلسبانية وغريها يف قارات أخرى) أم بالنسبة للدرجة العالية من الوعي الجاميل الذي يتجىل يف النصوص األندلسية ويف عرض أسامء وص ّناعها. وتوقيعات رعاة الفنون واملسؤولني عن تلك األعامل ُ
أعجوبة جامع قرطبة
تشري املصادر العربية إىل أن عبد الرحمن الداخل عندما وصل إىل قرطبة قام بنشاط عمراين واسع ذي طابع عسكري ومدين وديني 3يهدف إىل تحويل املدينة الرومانية والقوطية القدمية إىل «قاعدة األندلس» و«قاعدة امللك» للدولة اإلسالمية املستقلة األوىل يف شبه الجزيرة االيبريية .ومن بني هذا كله كان العمل األبرز واألكرث تأثريا ً بال ريب املسجد الجامع (صورة )1الذي بدأ بناؤه يف عام 165هـ ( 786/785م) وكلف نحوا ً من «مثانني ألف دينار» وأنجز يف وقت قصري عىل أنقاض مبنى مسيحي متواضع ،هو كنيسة «سان بيث ْن ِته» التي اشرتتها اإلمارة األموية الجديدة ،حسب املصادر األندلسية نفسها ،إثر مفاوضات جرت مع املسيحيني مببلغ «مائة ألف دينار» ،ما يكرر رواية تأسيس جامع دمشق الذي أقيم فوق معبد القديس يوحنا املعمدان .وكال الكنيستني املسيحيتني كانتا قد أقيمتا فوق معبدين رومانيني وبذلك يكون الجامعان يف العاصمتني األمويتني قد شُ ِّيدا عىل أرض «مقدسة» كمعلمني دالني عىل تجاوز املايض الجاهيل .وقد خطط عريف مجهول الهوية مسقط املسجد كمربع يبلغ 3 وحصنها بالسور ،وابتنى قرص اإلمارة «ملا مت ّهد [عبد الرحمن الداخل] ملكه رشع يف تعظيم قرطبة ،فجدد مغانيها وش ّيد مبانيها ّ واملسجد الجامع ،ووسع ِفناءه وأصلح مساجد ال ُك َور ،ثم ابتنى مدينة ال ُّرصافة متنزهاً له ،واتخذ بها قرصا ً حسناً وجناناً واسعة ونقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بالد الشآم وغريها من األقطار» (املقري ،نفح الطيب ،الجزء األول ،ص .)546
34
خوسيه ميغيل بويرتا
80ذراعاً لكل من الصحن والحرم (مبجمل حوايل 76مرتا ً عرضاً) عىل غرار النامذج األوىل للمساجد األموية املرشقية ،وضمت 11رواقاً متعامدا ً مع جدار القبلة و 12صفاً من األعمدة التي أعيد استخدامها وقد صنعت يف الحقبة الرومانية واملسيحية املبكرة والقوطية-البيزنطية. وابتكر ذلك العريف الذي مت ّيز مبهارة وقدرة ابداعية فائقتني نظاماً جديدا ً وجريئاً من األقواس املرتاكبة تقوم عىل أساس وا ٍه جدا ً يقترص عىل بضعة أحجار تحت كل واحدة من األعمدة وعىل السقوف الخشبية املسطحة التي تربط بني األروقة حتى السور الحجري متني األسس الذي يحيط بالجامع .وسيبقى هذا النظام البنايئ فاعالً يف التوسعات األندلسية املتتالية للمسجد وحتى يف التعديالت املسيحية الالحقة ،معطياً الصورة السائدة والشائعة لجامع قرطبة لحد اآلن .وهذا النظام الذي تم وصفه مرارا ً من قبل الباحثني وبات موضع اعجاب للجمهور ،كان قد احتسب عىل نحو تناسبي مع مخطط الجامع وبدرجة كبرية من التناغم الذي يقوم عىل وضع قوسني فوق بعضهام برتتيب متباين وهام عىل شكل حدوة مفتوحة نحو األسفل ( 55سم يف الجزء الداخيل للقوس) ويقومان كعنرصي شد بني األعمدة التي تحمل األقواس العليا نصف الدائرية ويبلغ عرضها ضعف األقواس السابقة ( 107سم يف الجزء الداخيل للقوس) وتشتمل عىل قناة عرضها 45سم تستخدم لترصيف مياه املطر إىل الصحن عرب السقوف املزدوجة املوجودة يف األروقة .وقد مثل هذا تحسيناً لبنية السواكف التي تربط األقواس يف املساجد التي أقامها األمويون املرشقيون (كام يف مسجد قبة الصخرة ومسجدي األقىص ودمشق) ويزيد اإلحساس بانعدام الجاذبية ،فتبدو كام لو كانت تحلق يف الهواء وتولد انطباعاً خيالياً بالتعددية والحركة املعامرية .وتسهم يف ذلك ثنائية اللونني األبيض واألحمر التي طليت بها فقرات العقود .4كام أن وضع الركائز أرغم أيضاً عىل قطعها بشكل منحرف لتندغم عىل نحو أنيق بتيجان األعمدة مشكلة ما يُعرف بأطناف اللفة .وتستقر الركائز والقوسني الحدويني املدمجني بني الركائز ذاتها عىل قطعة حجر صليبي الشكل أضيفت فوق
4بغض النظر عن القيم الرمزية املحتملة التي ميكن أن ت ُنسب لكال اللونني (كان األبيض هو لون األمويني واألحمر ورد ذكره يف الحديث النبوي بوصفه اللون املفضل للنبي(ص) ،فإن التوفيق بينهام ،األبيض لسطوعه ونقائه واألحمر الرتباطه بالحياة ،قد مثل يف األدب والفكر العربيني عالمة للداللة عىل التفوق الجاميل) .أما يف فن البناء ،فهذه الثنائية هي إحدى مناذج عامرة األبلق ،يعني األبنية التي تتعاقب يف جدارنها حجارة داكنة وفاتحة ،سواء أكانت بيضاء وسوداء أو غريهام، وهو أسلوب بنايئ تلقيدي يف بالد الشآم أصبح باستعامل اللونني البيض واألحمر إحدى خصائص عامرة األمويني القرطبيني جعلت الكثري من تصميامتهم التزيينية متفردة.
35
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
تاج العمود ما يجعلها عنرص متاسك أسايس غري محسوس.5 الصورة رقم .1منظر لقاعة الصالة يف جامع قرطبة األول الذي بناه عبد الرحمن الداخل يف القرن الثامن للميالد.
املصدر :صورة فوتوغرافية -أغوستني نونييث. 5من بني املراجع الوافرة حول مسجد قرطبة ،أحيل هنا إىل دراسة أنطونيو فرنانديث-بويرتاس (،)2009 Excavaciones en la Mezquita de Córdoba, en Antonio Fernández-Puertas y Purificación Marinetto Sánchez. Arte y cultura. Patrimonio Hispanomusulmán en al-Andalus. Granada: Editorial Universidad de Granada, pp. 9-132, حيث يقوم املؤلف مبراجعة جوانب مهمة من بنية املسجد وزينته انطالقاً من الوثائق والصور واملعلومات غري املنشورة التي حصل عليها فليكس إرنانديث من خالل حفرياته .أنظر أيضاً: Manuel Nieto Cumplido (2005), La Mezquita Catedral de Córdoba. Patrimonio de la Humanidad. Granada: Edilux; Cristian Ewert (1995), La Mezquita de Córdoba: santuario modelo del Occidente islámico, en Rafael López Guzmán (coord.). La arquitectura del islam occidental. Granada: El Legado Andalusí, pp. 53-68; Rafael Moneo (1985), «La vida de los edificios. Las ampliaciones de la Mezquita de Córdoba». Arquitectura, 256, pp. 26-36. يشكل هذا املرجع األخري تحليالً ممتازا ً حول العنارص الرئيسية للمبنى وتحويراته املسيحية من منظور رافائيل مونيو ،أحد أهم املهندسني املعامريني اإلسبان الحاليني .وأخريا ً وليس آخرا ً ،أنظر املقال املوجز الجيد الذي ينطوي عىل مراجع مختارة بدقة والذي تركه لنا األستاذ الراحل خوان أنطونيو سووتو: Juan A. Souto (2007), «La Mezquita Aljama de Córdoba», Artigrama, 22, pp. 37-72.
36
خوسيه ميغيل بويرتا
بقي من مسجد القرن الثامن أيضاً باب الوزراء (سمي الحقاً بباب القديس استيبان) وقد رممت واجهته تحت أمرة املرسور ،فتى األمري محمد األول 241 ،هـ ( 856/855م) كام يبني نقش بالخط الكويف عىل ساكف يف الجزء العلوي من بابه .6ويجدر الذكر أن هذا األمري هو الذي بنى حصن مجريط الذي انبثقت منه بعد قرون العاصمة اإلسبانية ،مدريد .وهذه الواجهة املبنية بني دعامتني لسور املبنى كأنهام برجان صغريان ،صممت وفق التقسيم الثاليث القائم يف العرص الروماين املتأخر وتابعه بعدئذ األمويون يف املرشق العريب ،وباتت أمنوذجاً للبوابات يف تاريخ العامرة األندلسية .ويف الوسط ،يوجد باب ذو ساكف محيط بعقد حدوي «قرطبي» تتناوب فيه ال ِفقرات الحمراء واملزينة بتواريق بارزة .أما القوس الحدوي ،فبالرغم من السابقات القوطية التي ميكن نسبه إليها ،أو املرشقية التي يراها آخرون ،إال أن السطح العلوي األمامي واملقوس للعقد «القرطبي» أعرض ،ونسبة فتحة العقد ،2:3وفقراته ملونة باألبيض واألحمر وله إطار رقيق بارز مستطيل .فهذا النوع من العقد غدا منذئذ العقد القرطبي الكالسييك املعروف بوقاره ورقة شكله. ويربز فوق األقواس الحدوية الثالثة الصغرية املبهمة التي تزين الجزء العلوي من الواجهة سقيفة حجرية تسنده عارضات بشكل لفة ،وفوقها تدور مبارشة سلسلة الرشافات املتدرجة ذات الكوات التي تحيط بسور الجامع بأجمعه .وبعد استرياد هذه الرشافات املتدرجة من معامر الرشق األوسط انترشت يف املعامر األندليس وصارت مألوفة فيه .وإىل جانبي الباب ،يف مساحة الزخرف العلوية ،مثة مرشبيتان من الرخام ،وتحتهام بقايا عنارص التوريق املحفورة يف حجارة ت ُعترب األكرث قدماً خارج املسجد .وقد أختتم أول جامع قرطبة ابن عبد الرحمن الداخل وخلفه هشام األول ( 796-788م) ،آمرا ً ببناء املنارة التي ال زالت بصمة قاعدتها محددة يف فناء أشجار الربتقال بفضل عمل علامء اآلثار ،إضافة إىل ميضأة بلغت أبعادها 16 X 20مرتا ً ،وكانت تحظى باملراحيض، وكانت تقع يف الجزء الرشقي من قاعة الصالة باتجاه الشارع ،لكنها اختفت إثر توسعة املنصور. 6يصف مانويل أوكانيا خيمينيث النظام الهرمي إلدارة األشغال وتنفيذها معتمدا ً عىل النقوش ومصادر مكتوبة أخرى وصلتنا كام ييل )1 :صاحب البناء أو بانيه الفخري (األمري أو الخليفة)« )2 ،صاحب البنيان» ،أي املسؤول عن أشغال البناء« )3 ،ناظر البنيان» أو املرشف عىل األعامل« )4 ،العرفاء» أو خرباء البناء ،و «املهندسون» و «الصناع» و «البناؤون» و«النقاشون» .أنظر: Manuel Ocaña Jiménez (1986), «Arquitectos y mano de obra en la construcción de la gran mezquita de Occidente», Cuadernos de la Alhambra, 22, pp. 5-85. وقد قام خوان أ .سووتو ( ،)2010مؤخرا ً مبراجعة هذه البيانات وتوسيعها لتشمل الهندسة املعامرية األموية بني عامي 711و 1013يف: «Siervos y afines en Al-Andalus omeya a la luz de las inscripciones constructivas», Espacio, Tiempo y Forma. Serie III, Historia Medieval, 23, pp. 205-263, ويقدم الباحث قامئة من 80حرفياً من املنفذين واملسؤولني والصناع باالستناد إىل توقيعاتهم وشواهد املقابر.
37
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
وقد دفع تطور قرطبة التدريجي عبد الرحمن الثاين ( 848م) إىل توسعة املسجد بثامنية صفوف جديدة من األعمدة بنيت أسسها اآلن بشكل متواصل تحت كل صف من األعمدة وتضمنت 17تاج عمود قرطبي الصنع لكنها كانت أقل رقة مقارنة بتلك التي ُصنعت يف حقبة الخالفة .أما محراب املسجد األول ،فمن املحتمل أنه كان محراباً يعلوه قوس نصف دائري بصورة صدفة 7ليحل محله محراب جديد ،موجهاً جنوباً كذلك، كانت تثبته قاعدة مدرجة تربز من جدار القبلة الجديدة .وقد تم إظهار هذا املحراب الجديد بوضع عمودين رومانيني من الرخام األبيض مع تخديدات عمودية يف الواجهة. أما زوجا األعمدة الصغرية الحمراء والبيضاء التي سندت قوس هذا املحراب فقد احتفظ بهام ،حسب ما أشار ابن عذاري ،8من لدن الحكم الثاين يف املحراب الذي بناه من بعد، وميكن مشاهدتهام اليوم هناك .ومن قبله قام والده عبد الرحمن الثالث النارص لدين الله بعد أن أعلن الخالفة يف عام 929امليالدي بتعديل فناء املسجد مشيدا ً يف البداية منارة يف عام 341-340هـ ( 952-951م) ،ولهذا فقد هدمت املنارة السابقة .ثم ،يف ذي الحجة من عام 346هـ ( 23فرباير 24-مارس 958م ،وفقاً للوحة التذكارية التي تنسب األشغال إىل الوزير و«صاحب املدينة» سعيد بن أيوب) تم تعزيز واجهة حرم الجامع باتجاه الصحن وكانت قد مالت بفعل زيادة ثقل الصفوف الثامنية من العقود املضافة يف توسعة عبد الرحمن الثاين .لذا نرى كيف يحافظ العقد املركزي يف مدخل الحرم ،وهو األكرب ،عىل بقايا زخارف هندسية مشكلة بأرشطة حمراء وبيضاء تعود إىل القرن العارش، إىل جانب العقد السابق العائد إىل القرن الثامن والذي زُخ ُرفه أكرث تقشفاً .من الواضح أن الخليفة الجديد قد استعجل يف إقامة املنارة العظيمة ،ورغم أن بنيته غريبة عىل شكل برجني متوازيني إىل جانبي جدار فاصل مركزي ينطوي كل منهام عىل سلم مستقل ،إال أن ارتفاعه البالغ 47,14مرتا ً ،شكل معلامً مرئياً يف قرطبة وبات موضع اعجاب وتقليد الحق يف األندلس وبالد املغرب مشهدا ً وعظمة .وحسب إعادة رسم شكل الربج التي قام بها احتامالً فيليكس إرنانديث خيمينيث ( 9)Felix Hernández Giménezانطالقاً من بعض 7أنظر: Antonio Fernández-Puertas (2009), Excavaciones en la Mezquita de Córdoba. Op. Cit., pp. 46-49. 8ابن عذاري ( ،)1998البيان املغرب .تحقيق كوالن وبرفنسال ،بريوت ،دار الثقافة ،ص .238 9أنظر: Félix Hernández Giménez (1975), El alminar de ‘Abd al-Rahman III en la mezquita mayor de Córdoba: génesis y repercusiones. Granada: Patronato de la Alhambra.
38
خوسيه ميغيل بويرتا
املصادر ومن البقايا املندغمة بربج الكاتدرائية الذي بناه املهندس املعامري اإلسباين إرنان رويث اإلبن ( )Hernán Ruiz el Hijoيف القرن السادس عرش ،فإن املنارة املشيدة بالحجر املرصوف طولياُ وعرضياً ،رمبا كانت من طابقني مع نوافذ ذات ثالثة عقود حدوية مصمتة صغرية عىل جدار ذي زينة هندسية ،تسندها أربعة أعمدة (يف الطرفني الرشقي والغريب من الربج) ونافذتان مفتوحتان بعقد مزدوج وعمود فاصل بينهام (يف الجانبني الشاميل والجنويب) .ويف هاتني النافذتني توجد أول األعمدة الالصقة اىل عضادات من فن الخالفة القرطبية .وفوقها كان هناك إفريز يضم تسعة أقواس صغرية بأوجهها الخارجية املتقاطعة وإطار مستطيل كإطار النوافذ ،وسلسلة رشافة متدرجة متوجاً هذا الربج السفيل الكبري. وعليه ارتفع برج ثانٍ صغري يحتوي عىل الحجرة املخصصة للمؤذنني مسقوفة بقبة صغرية يرجح أنها كانت تنتهي بأربعة «تفاحات» معدنية مذهبة .فال شك أن هذا كله مع إكساء املئذنة بالجص مقلدا ً الحجارة البيضاء املحددة بخطوط حمراء قانية ،يعطي إحساساً عميقاً بالقوة والجاللة يليق بعظمة الخالفة. وعالوة عىل املئذنة العظيمة تلقى جامع قرطبة اعتبارا ً من عام 961من امليالد ،أكرب توسعة أمر بالقيام بها الحكم املستنرص بالله (الحكم الثاين) ،الذي كان قد أرشف شخصياً عىل عملية بناء مدينة الزهراء لوالده .وقد أضيفت للجامع 12صفاً جديدا ً من األعمدة ،ومع أن قبلة جامع املدينة امللكية املذكورة ،مدينة الزهراء ،كانت قد وجهت قبل سنوات قليلة نحو الجنوب الرشقي (بخطأ ال يتجاوز إتجاهها إىل مكة 9درجات) ،إال أنه قرر بناة هذه التوسعة لجامع قرطبة اإلحتفاظ بالتوجيه التقليدي األويل نحو الجنوب ،ولهذا الغرض متت تسوية األرض التي تنحدر صوب نهر الوادي الكبري .ويف هذه التوسعة مل تبلغ العامرة األموية ذروة ازدهارها فقط ،بل يرى مؤرخون كرث أنها متثل قمة تاريخ العامرة يف الغرب اإلسالمي. ومبستطاعنا إيجاز العنارص األساسية املكونة لعمل الحكم الثاين هذا ،الذي نال مرارا ً التقدير واإلطراء ،عىل النحو التايل: أ) صناعة موحدة لكافة األعمدة التي تنقسم إىل أعمدة مييل لونها إىل األحمر وأخرى مييل لونها إىل األسود ،وتوزيعها بتناوب اللونني يف كل صف من األعمدة ومشكل ًة يف الوقت عينه زوايا قطرية حمراء وسوداء تلتقي يف أعمدة املحراب املزدوجة الصغرية الحمراء والسوداء كأن هذه األخرية هي مصدر إشعاع شبكة األعمدة. ب) نظام بنايئ جديد عىل شكل حرف ،Tتوجد قاعدتها يف كنيسة بيابيثيوسا حيث بدأت هذه التوسعة ،ويتألف من أربع قباب ،ثالث منها تشمل خمسة أروقة وترتفع إىل ما يزيد عىل 39
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
عرشة أمتار إلضاءة املقصورة قبالة املحراب وإضفاء هيبة كبرية عليها .وتجدر اإلشارة هنا إىل أن هذه القباب املبنية من مثانية أقواس متقاطعة تنطلق من قاعدة مثمنة تعترب القباب األوىل ذات «العصب املتقاطعة» (أي ذات أقواس ناتئة كالعروق تتقاطع يف قمة القبة) املعروفة يف تاريخ العامرة وسيتواصل بناؤها يف األندلس (مسجد باب املردوم 10وقرص ذي النون يف طليطلة ،ومسجد قرص الجعفرية يف رسقطسة) ويف شامل إفريقية (القبة املرابطية أو قبة الباروديني يف مراكش وجامع تلمسان ،وكالهام من املرابطني) ،ثم يف املباين القوطية واملدجنة والباروكية األوروبية (سان لورينثو دي تورين يف ايطاليا الذي شيده املهندس املعامري غوارينو غواريني يف القرن السابع عرش) ،وصوالً إىل العامرة املعارصة (املركز اإلسالمي يف روما.)1996 ، الصورة .2مقصورة ومحراب جامع قرطبة :توسعة الحكم الثاين ( 970-965م).
املصدر :صورة فوتوغرافية -أغوستني نونييث. 10عىل الرغم من أن الكثري من عنارص املسجد الجامع يف قرطبة قد ُحفظت،إال أن ما وصلنا من املعامر الديني األندليس املرتبط بجامليتها هي عينات قليلة ،أهمها مسجد باب املردوم الصغري (الذي أطلق عليه فيام بعد اسم «مسيح النور») يف طليطلة ،وهو املسجد الذي بناه أحد رجاالت طليطلة العام 1000-999م ،أي بعد سنوات قليلة من توسعة املنصور يف جامع قرطبة .ومسجد باب املردوم هو بناء مربع أو يكاد ،ومسقطه عىل شكل حرف « »Tالالتيني أعمدته تشكل ثالث مربعات عرضاً وأخرى طوالً ،وتربز قبته أيضاً أمام املحراب يف تقليد واضح للنموذج القرطبي ،لكن عىل نطاق أضيق بكثري.
40
خوسيه ميغيل بويرتا
ج) املقصورة الفخمة املذكورة ،وهي املنطقة املخصصة للخليفة قبالة املحراب (الصورة ،)2تحدها واجهات مبثابة ستائر من األقواس املتداخلة ،بينها أقواس مفصصة اقتبست من العامرة العباسية واكتسبت يف قرطبة ازدهارا ً غري مسبوق كالعنرص الرئيس يف تشكيل واجهات املقصورة ،التي متتد فيها أيضاً األقواس وتتشابك بغية اإليحاء بالفخامة والتعقيد املعامريني أكرث مام كانت عليه األقواس املتداخلة األصلية التي ال تزال تتكرر بدورها يف فضاءات التوسعة األخرى خارج املقصورة .هكذا تحولت هذه الواجهات القوسية إىل «مرشبيات» عظيمة ومدهشة نتيجة لرتاكب العقود املفصصة والحدوية واملدببة وامتدادها وتشابكها ،والتي ازدادت منها كثافة الزخرف الجيص عليها .مع ذلك ،ال تحول هذه األلعاب اإلثارية والتشكيلية البرصية دون قيام هذه العقود بوظيفتها يف توزيع األحامل وقوى الشد بني القباب. د) وبالعودة إىل تراث املعابد األموية املرشقية (قبة الصخرة ومسجدا األقىص ودمشق ومسجد املدينة املنورة املندثر) ،فقد أضيفت منظومة فسيسفاء رائعة تشمل كل من واجهة املحراب والقبة املركزية والبابني الجانبيني ،باب بيت املال وباب الساباط (وهو ممر ذو طابقني يتصل بقرص الخالفة من خالل جرس خارجي مغلق) .تم تركيب الفسيفساء بإرشاف جعفر يف عام 360هـ ( 971/970م) ومل تكن فريدة من نوعها يف األندلس وحسب وإمنا ميكن أن تُعد قمة هذا الفن يف اإلسالم الكالسييك وخامتته .وغالباً ما يُشار بهذا الصدد إىل فقرة البن عذاري 11تروي أن ملك الروم «بعث [بالفسيفساء] إىل الخليفة الحكم ،وكان الحكم قد كتبه له يف ذلك .وأمر بتوجيه صانعها إليه افتداء مبا فعله الوليد بن عبد امللك يف بنيان مسجد دمشق الخليفة الوليد يف مسجد دمشق» .هكذا وصلت إىل قرطبة 320قنطارا ً من الفسيفساء ووضع الخليفة «جملة مامليك لتعلم الصناعة» مع املعلم الرومي و«صاروا يعملون معه وابدعوا ] [..واستمروا بعد ذلك منفردين دون الصانع القادم ،إذ صدر راجعاً عند اإلستغناء عنه ،بعد أن أجزل له املستنرص الصلة وال كسوة .وتداعى إىل هذه البنية كل صانع حاذق من أقطار األرض» بغية رؤيتها ،عىل حد قول ابن عذاري .وكانت الفسيفساء مكونة من خرز مربعة ظلعها حواىل سنتم واحد فقط ،ومصنعة من عجينة الزجاج والحجر الجريي والخزف والرخام بإجامل 18لوناً عالوة عىل اللون الذهبي (الذي تشيد به بإرساف النصوص العربية حول املسجد) واألبيض .ويتجىل من بينها األحمر
11ابن عذاري ( ،)1998البيان املغرب ،املصدر نفسه ،ص .239-237
41
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
واألخرض واألزرق ،12وقد خطت بهذا األخري الكثري من الكتابات الكوفية والتوريقات والتشكيالت الهندسية ،كام نقشت كتابات أخرى باللون الذهبي عىل األزرق وبالعكس ،بينام ت ُشاهد يف البابني املوجودين إىل جانبي املحراب أرشطة كتابية رائعة بخط كويف مذهب عىل خلفية حمراء وزرقاء مستقيمة ونصف دائرية معاً. هـ) تتكون القبة املركزية من مثانية فصوص بشكل شطر الربتقال (تتكيف خرز الفسيفساء معها متاماً) وعىل قاعدتها املثمنة يوجد رشيط كتايب بالخط الكويف املذهب عىل األزرق الالزوردي حيث خطت البسملة وجزء من اآلية الكرمية ﴿] [..وجاهدوا يف الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم يف الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سامكم املسلمني من قبل ويف هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء عىل الناس فاقيموا الصالة واتوا الزكاة واعتصموا بالله هو موالكم ]( ﴾[..سورة الحج ،اآلية .)78وضمن الفصوص تشكل الفسيفساء شبكة من الخطوط الفلكية تحوي عىل نجوم بيضاء تصل إىل القمة حيث تتألأل نجمة أكرب لها عرش زوايا باللون األزرق .وتستكمل الرمزية الكونية لهذا التصميم صورة تاجني مأخوذة من الرتاث البيزنطي تم متثيلهام يف الفصان املركزيان الشاميل والجنويب بقصد تتويج وإبراز ظهور الخليفة أمام املحراب كعاهل عظيم تحميه الذات اإللهية وتلهمه. و) للمحراب قبة رائعة بشكل صدفة (حلت ألوانها) داخل مث ّمن زينت ستة من جوانبه بعقود صامء ثالثية الفصوص مع أعمدة صغرية مندمجة بركائز صغرية. ز) إىل جانب املحراب أقيم يف عام 355هـ ( 966/965م) منرب مرصع نفيس مع سلم ذي تسع درجات ،يكرث اإلطراء عليه يف النصوص العربية التي تؤكد بأنه مصنوع من الخشب الراقي («ما بني آبنوس وصندل ونبع وبقم وشوحط وما أشبه ذلك») 13وكلف 37.505دنانري، غري أنه ُدمر يف القرن السادس عرش .ويبدو أنه كان أمنوذجاً مبارشا ً للمنرب الذي ُصنع يف قرطبة
12لفت هرني سرتن النظر إىل جودة صناعة هذه الفسيفساء التي وزعت نغامت ألوانها بعناية ،وأشار إىل أن اإلفريز املثمن ذا النقوش القرآنية يف القبة املركزية هو األكرث وضوحاً وتضادا ً واألفضل من ناحية التنفيذ .أنظر: Henri Stern, Manuel Ocaña Jiménez y Dorothea Duda (1976), Les mosaiques de la grande Mosquee de Cordove. Berlin: Walter de Gruyter. 13املقري ( ،)1988نفح الطيب ،ج ،1ص .551
42
خوسيه ميغيل بويرتا
ذاتها بني عامي 1130-1125م لألمري املرابطي عيل بن يوسف ( 1142-1106م) ،14وهذا املنرب شاهد ممتاز عىل دميومة أساليب فن الخالفة األموية الرفيع يف مدينة قرطبة .ويف املنرب كانت تتم مراسم تأدية القسم ،فضالً عن إلقاء خطبة الجمعة ،ولهذا الغرض كان املنرب يرفع من مكانه ويعاد إليه .تطري املصادر األندلسية أيضاً عىل أبواب جامع قرطبة التي كانت مكسوة بطبقة من الربونز وزخارف بديعة ،كام تثني عىل مصابيحه املصنوعة من النحاس يف الخارج والفضة يف الداخل ،وتتميز من بينها ثريا كبرية تتدىل من القبة الكربى حيث كانت توضع املصاحف أمام املقصورة.15 ح) وبهذه التوسعة أصبح جدار القبلة يف الجامع مزدوجاً ال نظري له سوى يف مدينة الزهراء .وهذا الجدار املزدوج يضم غرفاً متالحقة مقسمة رشقاً لبيت املال وغرباً للساباط الذي كان يصل املقصورة ،كام أسلفنا ،بقرص الخالفة املجاور. ط) األسقف الخشببية لتوسعة الحكم هي التي تتمتع بأكرب قدر من الزينة واأللوان، واألكرث احتفاظاً بشكلها األصيل رغم الرتميامت الحديثة واسعة النطاق التي خضعت لها. بعض قطعها الخشبية تحمل توقيع «ابن فتح» .ولألسف فقد انتهى مطاف بضع من الرادفات إىل مزادات لندن ما بني األعوام 2004و 2008يف حني أن العديد من رادفات أخرى وألواح األسقف ال زالت ت ُعرض اليوم متحفياً يف أروقة فناء أشجار الربتقال يف الجامع ذاتها. ك) اتبعت واجهات بوابات توسعة الحكم النموذج الثاليث الذي انتهجه بناة أول جامع أمراء قرطبة ولكن مع املستجدات الفنية الخاصة بهذه الحقبة التاريخية وهي األقواس املفصصة البارزة واملتقاطعة التي تسندها أعمدة دقيقة صغرية ،إضافة اىل زخارف هندسية غنية قامئة عىل الرتبيع باألحمر واألبيض ،وتزايني توريقية جصية عريضة من النمط القرطبي، 14بخصوص منرب الكتبية (املوجود اليوم يف متحف قرص البديع يف مراكش) ،يجب التلميح إىل بعض العنارص الفنية التي جعلت منه واحدا ً من األعامل الرئيسة لفن الرتصيع العريب واإلٍسالمي :الشبكات الهندسية ذات نجامت من مثان زوايا التي تحيي بحركية رقيقة وحرية برصية مدروسة ،والدقة البالغة يف اتقان الخطوط الشطرنجية وإنجاز التواريق املحفورة بعمق كأن الوريقات تفيض حياة بخروجها من الحيز املحدد لها .إنه عمل يثري اإلعجاب حقاً وقد نفذ بفضل الخربة املتناهية للصناع واستخدامهم مناشري مخرتعة جيدة مل تصل إىل أوروبا حتى عرص النهضة يف إيطاليا .تضاف إىل ذلك أرشطة الكتابات القرآنية التي كانت تشري بعضها إىل العرش اإللهي ،والتي كانت مخطوطة بخط كويف جميل غري مزهر، واأللوان التي فقد معظمها وكان اللون الذهبي السائد يف الجزء العلوي للمنرب ،وكذلك الزخارف املعامرية بأقواسها الحدوية وقواعدها وتيجانها املنمنمة يف الوجه األمامي من الدرجات .كله يحيلنا إىل أروع الزخارف الجدارية وأشكال التحف العاجية القرطبية التي سنعرج عىل ذكرها فيام بعد. 15املقري ( ،)1988نفح الطيب ،الجزء ،1ص .551أنظر: Manuel Nieto Cumplido (2005), La Mezquita Catedral de Córdoba. Patrimonio de la Humanidad. Op. Cit., pp. 104-105.
43
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
وأرشطة خطية كوفية ،ونافذتني جانبيتني مغلقتني مبرشبيات. ل) تم توزيع سالسل منتظمة من الكتابات يف أرجاء التوسعة ،ال زال جزء ال بأس به منها بحالة جيدة .وتشمل الكتابات ما ييل )1 :ذكر إسم الخليفة الباين وأسامء املرشفني عليه وتاري َخيه يف أمكنة مميزة يف املحراب والقبلة مع آيات قرآنية منها بعض املتعلقة بالصالة .هكذا نقرأ يف قاعدة املحراب اليمنى ،بالخط الكويف عىل خلفية حمراء ،البسلمة واآلية الكرمية 43 من سورة األعراف ﴿الحمد لله الذي هدانا ] ،﴾[..ثم «أمر اإلمام املستنرص بالله الحكم أمري املؤمنني» ،وتتابع القراءة يف قاعدة القوس ذاته اليرسى« :أصلحه الله موليه وحاجبه جعفر بن عبد الرحمن ريض الله عنه بنصب هذين املنكبني فيام أسسه عىل تقوا من الله ورضوان فتم ذلك يف شهر ذي الحجة سنة أربعة وخمسني وثلث مائة» .ويغلب الظن أن مفردة «املنكبني» هي إشارة إىل عمو َدي قوس املحراب املنقولني من محراب الجامع السابق .وتختتم الكتابة التأسيسية فوق الرهص الداخيل ألهم محراب يف األندلس بدءا ً بالبسملة وتباعاً باآلية القرآنية «حافظوا عىل الصلوات والصالة الوسطا وقومو لله قاتنني» ،ومبارشة تذكر مرة ثانية الخليفة الباين بعون الله «فيام شيده من هذا املحراب بكسوته بالرخام ،رغبة يف جزيل الثواب وكريم املآب ،فتم ذلك عىل يدي موليه وحاجبه جعفر بن عبد الرحمن ،ريض الله عنه ،بنظر محمد بن متليخ 16وأحمد بن نرص وخلد بن هاشم ،أصحاب رشطته ،ومط ّرف بن عبد الرحمن الكاتب عبيده ،يف شهر ذي الحجة من سنة أربع وخمسيه وثلث مائة ( 28نوفمرب 27-ديسمرب عام .17»[..] )965تعاد كتابة أسامء هؤالء األشخاص املرشفني عىل بناء املحراب يف فسيفساء باب السابات وباب بيت املال املجاورين ،مثلام خطت يف عنارص بنائية أخرى من توسعة الحكم أسامء «فتح» و«نرص» و«طريف» و«بدر» بصفة «عبيد» للخليفة ،وكلها أسامء نقايش تيجان عقود وتحف أخرى يف مدينة الزهراء وغريها .و )2التوزيع املنظم لكتابات قرآنية ذات مضامني مرتبطة بالعدل عىل األبواب الخارجية (أبواب الجزء الغريب وما وصلنا من الجزء الرشقي) ،رمبا السدة يف قرص الخالفة املجاور الذي كانت تقام فيه العدالة وتنفذ فيه يكون له عالقة بباب ُ رجال ذا وقار 16راجع :حول محمد بن متليح (بالحاء وليس بالخاء) كتب ابن سعيد األندليس ( 1070-1029م) يقول« :كان ً وسكينة ومعرفة بالطب والنحو واللغة والشعر والرواية وخدم النارص واملستنرص بالله بصناعة الطب وكان خطيباً عند الحكم وواله النظر يف بنيان الزيادة يف قلبي الجامع بقرطبة فتوىل ذلك وكملت تحت إرشاف وأمانته ورأيت اسمه مكتوباً بالذهب وقطع الفسيفساء عىل حائط املحراب بهام .إن ذلك البنيان كمل عىل يديه عن أمر الخليفة الحكم يف سنة »358 (طبقات األمم [ ،]1985بريوت ،دار الطليعة ،ص .)190 17راجع: Manuel Ocaña Jiménez (1988-1990), «Inscripciones árabes fundacionales de la Mezquita-Catedral de Córdoba», Cuadernos de Madinat al-Zahra’, 2, pp. 14-15.
44
خوسيه ميغيل بويرتا
عقوبات اإلعدام .وعىل جدار القبلة يف املقصورة ،سطرت آيات قرآنية منتقاة تؤكد عىل آراء املذهب املاليك الرسمي لخالفة قرطبة ،الذي يقف بالضد من املشيئة الحرة التي دافعت عنها بعض الطوائف يف األندلس وينترص ملبدأ التسليم بالقضاء والقدر ،وكذلك آيات كرمية تومئ إىل الرحمة (واجب الزكاة ،إلخ) ،وضمنياً إىل املسيحية ،كسورة اإلخالص ﴿قل هو الله أحد الله الصمد مل يلد ومل يولد ] ﴾[..عىل سبيل املثال ،وإىل اليوم اآلخر.18 آخر التوسعات هي التي قام بها القائد العامري املنصور ( 1000-987م) وكانت األكرب من حيث املساحة فإنها شملت عىل مثانية صفوف من األعمدة أضيفت يف الجانب الغريب، عالوة عىل توسيع فناء الجامع بهذا اإلتجاه .واستلزمت هذه التوسعة هدم مجموعة من بيوت املدينة القريبة من الجامع .وقد امتدحت املصادر العربية الكالسيكية التنفيذ الجيد لهذه التوسعة ،التي اتبعت نظام األقواس املرتاكبة الراجع إىل الجامع األول يف القرن الثامن ،يف حني أن هذه املصادر نفسها تالحظ ضآلة قيمتها عىل املستوى التزييني ،ال سيام باملقارنة مع جامل توسعة الحكم .19عىل أية حال ،منحت توسعة املنصور للمسجد سعة برصية وفخامة هائلتني ما جعله أكرب مسجد يف الغرب بأبوابه اإلثني عرش وأعمدته البالغ عددها 1103 أعمدة يف الحرم (بقي منها 856عمودا ً) ومبساحة تبلغ 128بـ 175مرتا ً ،أي حوايل 22.400 مرت مربع .وبعد احتالل القشتاليني املدينة عىل يد فرناندو الثالث يف عام 1236م ،قاموا بتعديل متواضع يف زاوية غريب القبلة إلقامة هناك كنيسة قوطية صغرية .بعدئذ بنى ابنه ألفونسو العارش الحكيم كاتدرائية أوىل متواضعة أيضاً ،يف عام 1260م ،ومن أجل ذلك حذف صفني أفقيني من األعمدة ما بني توسعة عبد الرحمن الثاين وتوسعة الحكم ،إىل أن تقرر يف عام 1523م ،يف أوج حروب غرناطة األهلية بني املسيحيني واملسلمني ،رفع كاتدرائية أكرب وسط املسجد األموي أعطت املعبد شكالً ال مثيل له عىل اإلطالق ،أثار جدالً كان ال يزال قامئاً 18أنظر: Susana Calvo Capilla (2000), «El programa epigráfico de la Mezquita de Córdoba en el siglo X: un alegato a favor de la doctrina ortodoxa malikí», Qurtuba, 5, pp. 17-26; Susana Calvo Capilla (2010),«Justicia, misericordia y cristianismo: una relectura de las inscripciones coránicas de la Mezquita de Córdoba en el siglo X», Al-Qantara, 31 (1), pp. 149-187. تعتمد هذه املؤلفة عىل نقوش الجامع ذاتها وعىل املراجع األساسية السابقة املنشورة باإلسبانية ،ال سيام تلك املكتوبة لكل من Amador de los Ríosو Manuel Ocañaو Mª Antonia Martínez Núñezو .Nuha N. Khoury 19املقري ( ،)1988نفح الطيب .الجزء ،1ص 551يف توسعة املنصور توجد األسامء املنقوشة لكل من أفلح ،أفلح الفراء والفراء (رمبا تكون هذه أسامء لشخص واحد) ،دُ ِّري ،فرج ،فتح ،حكم ،خلف ،نرص ،سعادة ،وبعضها وردت يف أشغال أخرى سابقة ويف بعض تيجان ومكونات أخرى من األعمدة ويف تحف ال عالقة لها بجامع قرطبة.
45
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
حتى القرن العرشين بني أولئك الذين بلغوا حد اقرتاح هدم الكاتدرائية ومن يعدونها عمالً بارعاً يف الهندسة املعامرية طاملا نجح بانيها يف التوافق البنيوي ما بني املبنى الرقيق الشبيك واملنبسط للمسجد ،من ناحية ،وارتفاع كاتدرائية من النمط القوطي ،من ناحية ثانية .ومتكن املعامري القشتايل إرنان رويث من إنجاز هذا العمل املثري بعد أن درس املبنى االسالمي جيدا ً واستغل متانة أسس القبلتني امللغاتني وتخىل عن اإلرتفاع املعتاد لهذا النوع من الكاتدرائيات الضخمة .مع ذلك ،ويف نهاية املطاف ،فقد احتفظ هذا املسجد ،الذي قيل إنه «ليس يف بالد اإلسالم أعظم منه ،وال أعجب بناء وأتقن صنعة ،»20بعنارصه التأسيسية والفنية الجوهرية التي ال تزال تسرتعي األنظار اليوم أكرث من الكاتدرائية بوصفه أكرث إبداعاً ورقة وقرباً من الذوق الجاميل املعارص.
ُقرطا قرطبة :الزهراء والزاهرة
بهدف رفد الدولة األموية الجديدة بالعامرة الالزمة التمثيلية والسكنية التي تعرب عن سلطانها قام األمويون أيضاً بنقل تقاليد العامرة القصورية السورية ذات جذور بيزنطية ورومانية ويونانية ورشق أوسطية إىل قرطبة ،وأغنوا تلك العامرة بإسهاماتهم الجديدة القيمة. انتهج عبد الرحمن الداخل نهج املدن األموية املرشقية بتشييد «قرص اإلمارة» بجوار املسجد الجامع .ثم وصل ابنه هشام ،عىل ما يبدو ،القرص بالجامع عن طريق سابات اعتنى أحفاده بعدئذ بالحفاظ عليه وتجديده .وقد استخدم أحد أبراج قرص اإلمارة لآلذان قبل أن يشيد هشام الحقاً مئذنة الجامع الذي كان والده قد بادر ببنائه .ومل يبق من هذا القرص ومن قرص الخالفة الذي تبعه سوى بقايا ألسوار وبعض تيجان األعمدة والحامم الذي يعود إىل حقبة الخالفة وقد اكتشف يف مقربة الشهداء يف القرن العرشين املنرصم وتم انقاظه وترميمه.21 لقد حل محل قرص الخالفة القرص األسقفي ومبانٍ أخرى يف منطقة قرص امللوك املسيحيني. وأنشأ عبد الرحمن الداخل أيضاً ُمنية 22مثالية (مدينة ملكية متكاملة ترفيهية وبها حدائق، وفقاً ملصادر أخرى) عىل سفح سلسلة جبال «سي ّريا مورينا» تضم جناناً واسعة وتزهو بالكروم 20املصدر نفسه ،ص.545 21 باإلضافة إىل السطح حيث السدة ،العدل ،الجنان ،إشبيلية ،الحامم ،السبعَ ، املصادر األندلسية تشري يف هذا القرص إىل أبواب ُّ كان العاهل يحرض العروض العسكرية وتنفيذ عقوبات اإلعدام التي كانت تنفذ يف سهل مبحاذاة النهر. 22مفردة ُ «املنية» متداولة باألندلس مبعنى منزل أو قرص ريفي محاط بالحدائق واملزارع.
46
خوسيه ميغيل بويرتا
وأشجار الرمان وغريها املجلوبة من موطنه األصيل وأطلق عليها اسم الرصافة إحياء لذكرى رصافة جده هشام بالقرب من مدينة الرقة شامل غريب سورية .23ومل يتبق لنا منه سوى بعض اآلثار املادية وحفنة من اإلشارات املكتوبة ،مثلها مثل قصور أموية أخرى ال نكاد نعرف عنها سوى أسامءها املوحية بحسن املكان ،كقصور الكامل واملج َّدد والحائر والروضة والزاهر واملعشوق واملبارك والرشيق والرسور والتاج والبديع والبستان .24بيد أن جوهرتا قرطبة بامتياز هام مدينتا الزهراء والزاهرة ،وصلنا من األوىل ،إىل جانب قرص «ال ُّرو َّمانية» فضال عن اآلثار األدبية ،ما يسمح لنا بتكوين املنفرد وعىل مقربة منها ،25بصامت مادية كثريةً ، فكرة تقريبية عن عظمتها األثرية وروعتها الفنية. مدينة الزهراء التي اكتشفت يف مطلع القرن العرشين وتحولت بعد ذلك بقليل إىل أهم موقع أثري قروسطي يف أوروبا ،وابتدأ عبد الرحمن النارص لدين الله «بناء الزهراء أول يوم من محرم سنة 325هـ» ( 19نوفمرب عام 936م) ،حسب ما أوردته بعض ال بأس به املصادر األندلسية ،26مع أن علامء اآلثار أثبتوا أن البناء بدأ قبل ذلك التاريخ .وعىل الرغم من أن عبد الرحامن النارص الذي أعلن نفسه خليفة كان يتمتع يف العاصمة بقصور خاصة به وبأسالفه، لكنه قرر خوض مغامرة معامرية طموحة ،طويلة املدى ومحفوفة باملخاطر ،وذلك ببناء مدينة ملكية جديدة ينقل إليها «حاشية أرباب دولته» واإلدراة والعرش ،وحيث يقوم بسك النقود يف دار رضب جديدة .ومن أجل خلق فضاءه التمثييل املثايل ،يف منافسة مع الفضاءات التي شيدها العباسيون والفاطميون يف املرشق ،فقد اختار أول خليفة لألندلس موقعاً «بالقرب من قرطبة» و«مسافة ما بينهام أربعة أميال وثلث امليل» ،27أي أنه موقع منعزل بحذر عن العاصمة ومتصل بها بشكل جيد .ويف الحال تم تنشيط عملية ترميزية «ألسطرة» املدينة مع لغة تأنيث املكان وجاملية الضوء النموذجيتني عىل صدرها .ففي اسم املدينة ذاته ينصهر البعد النوراين للعمل وطابعه األنثوي :الزهراء اسم مدينة الخالفة املزدهرة للخالفة الجديدة بتأسيس النارص واسم الجارية الجميلة وكثرية النزوات التي طلبت من الخليفة تشييد هذه 23املقري ( ،)1988نفح الطيب .الحزء ،1ص ،467حيث يتبع مقاطع من كتاب ُ «امل ْغرِب» إلبن سعيد األندليس. نقال عن ابن بشكوال. 24املصدر نفسه ،ص ً ،464 25تأسست ُاملنية إىل جانب الزهراء عىل يد ُد ِّري الصغري أو األصغر ،وهو أبو عثامن الصقلبي املستنرصي ،خادم وصاحب مال الحكم الثاين الذي أهداه إياها يف عام 973م وال تزال أجزاء من القرص باقية مع جزء من الربكة .قام ُد ِّري الصغري باإلرشاف عىل أعامل معامرية أخرى وعىل صناعة بعض املواد العاجية. 26املقري ( ،)1988نفح الطيب .الجزء ،1ص 524و .526 27املصدر ذاته.
47
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
املدينة العجيبة .28أرادت هذه الخرافة التأسيسية املشهورة أن تجعل من الزهراء جميلة ترقد يف حضن «جبل العروس» الذي كساه الخليفة نفسه بأشجار التني واللوز ،وذلك بغية إشاعة الرخاء واالزدهار يف املكان الذي التمسته معشوقته .ثم رواها مبياه دافقة لتزهو بالبساتني والحدائق ،التي هي األخرى مرادف لجامل اللون والضوء إضافة إىل جامل الصوت والعطر الزيك ،وطبعاً الخصب .ويف ذلك املكان الواقع عىل مرتفع يف أطراف سفوح جبال «سي ّريا مورينا» الذي كان برياً حتى تلك اللحظة ،ركّز النارص طاقته العمرانية وصاغ مدينته يف الجبل برتتيب متدرج وشكل منتظم يجمع يف طيه مجموعة ال نهاية لها من األسوار والقصور واملساجد واألفنية والربك والحدائق والحاممات والطرق ومساكن الجيش والبالط والخدم والصناع ،عالوة عىل املصانع الحربية وشتى أنواع الفنون ،حتى أصبحت مدينة ملكية متكاملة تتناسب مع متطلبات ذلك العرص امل ُثىل ،إال أنه مل يقدر ملن رشع لبنائها أن يراها مكتملة.29 شغلت مدينة الزهراء مساحة شاسعة مسورة بقياس 1518بـ 112( 745هكتارا ً) عىل شكل مستطيل وبذلك تخطت أبعاد مدينة قرطبة .تدرجت مبانيها مبستوى بلغ 70 م من السور الشاميل إىل السهل ،ما يسمح بالحفاظ عىل الرؤية البديعة للمنظر العام 28نقل املقري ببعض الترصف من كتاب «محارضات األبرار» للشيخ األكرب ابن عريب ما نصه« :أخربين بعض مشايخ قرطبة عن سبب بناء مدينة الزهراء ] [..فقالت له [للخيفة النارص] جاريته الزهراء ،وكان يحبها حباً شديدا ً :اشتهيت لو بنيت يل به مدينة تسميها باسمي وتكون خاص يل ،فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل وشامل قرطبة ] [..فلام قعدت الزهراء يف مجلسها نظرت إىل بياض املدينة وحسنها يف ِح ْجر ذلك الجبل األسود ،فقالت :يا سيدي ،أال ترى إىل حسن هذه الجارية الحسناء يف حجر ذلك الزنجي؟ فأمر بزوال ذلك الجبل ،فقال بعض جلسائه :أعيذ أمري املؤمنني أن يخطر له ما يَش ُني العقل سامعه ،لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفرا ً وال قطعاً ،وال يزيله إال من خلقه ،فأمر بقطع شجره وغرسه تيناً ولوزا ً ،ومل يكن منظر أحسن منها ،وال سيام يف زمان اإلزدهار وتفتح األنوار ،وهي بني الجبل والسهل» (املقري ،املصدر ذاته ،الجزء ،1ص .524-523أنظر :ابن عريب .محارضات األبرار .بريوت ،دار صادر ،بدون تاريخ ،ص .)262-261 29من بني العدد الهائل من املراجع املوجودة حول مدينة الزهراء أشري هنا إىل مذكرات حفريات فيلكس إرنانديث خيمينيث التي حققتها ونرشتها كل من مارينيتو شانشيث وفرناديث بويرتاس .راجع: Félix Hernández Giménez, Purificación Marinetto Sánchez y Antonio Fernández Puertas ;(1985), Madinat al-Zahra: arquitectura y decoración. Granada: Patronato de la Alhambra أنظر كذلك املقاالت املقتضبة التالية: Antonio Vallejo Triano (2001), Madinat al-Zahra, capital y sede del Califato omeya andalusí, en María Jesús Viguera Molins y Concepción Castillo Castillo (coords.). El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Granada: Fundación El Legado Andalusí, pp. 386-397; Antonio Vallejo Triano (2007), «Madinat al-Zahra. Notas sobre la planificación y transformación del palacio», Artigrama, 22, pp. 73-101. (مع ثبت مراجع نقدي ممتاز). وبطبيعة الحال ،الكتاب الضخم الشامل للمؤلف عينه الذي كان مدير هذا املكان األثري ما بني عامي 1985و:2012 Antonio Vallejo Triano (2010), La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Córdoba: Almuzara.
48
خوسيه ميغيل بويرتا
باتجاه نهر الوادي الكبري وحتى العاصمة التي تلوح عن بعد والتي كانت تتصل مدينة الزهراء بها عرب طريقني رئيسيتني تنطلقان من بوابتي الشامل والجنوب للمدينة الجديدة. ال زالت املنطقة املعروفة بشكل أفضل من مدينة الزهراء تلك التي تخص قرص الخالفة حيث تركزت أغلبية التنقيبات حتى اآلن .يُعتقد إنه بني عىل ثالثة مراحل متتالية نشري إليها هنا بإيجاز :املرحلتان األوليان تشمالن دار امللك ،وهي جناح املباين إلقامة الخليفة، البكَة والقاعتني الكبريتني للتمثيل واملراسم املدعوتني بدار الجند أو واملسجد الجامع ودار ِ ْ الوزراء،أوالهام ،والثانية مجلس الذهب أو املجلس الرشقي .يف املرحلة الثالثة التي ينسب السدة ،وهو بوابة كبرية مجددة بناؤها إىل خالفة الحكم الثاين ،أضيفت دار جعفر وباب ُّ للقرص .وخارج قرص الخالفة بقيت آثار ملسجدين صغريين ومساكن املدينة ومصانعها، إضافة إىل مساحات من األرض املرتوكة بدون بناء مخصصة للزرع وتحسباً لنمو املدينة. أما مباين القرص ،فقد صممت عىل شكل مييل إىل املربع ،ومع أنها كانت مرتاصفة جنباً إىل جنب ،بيد أنها مل تلتزم بتخطيط شامل مسبق وموحد .فلنسوق هنا بعضاً من عنارصها الفنية األكرث داللة: .1اإلهتامم بالحفاظ عىل املشاهد الطبيعية التي روعيت عند تشييد مباين قرص الخالفة املس ّور بدوره يف محور الزهراء ملتصقاً بالسور الشاميل ،وهو جزء سور املدينة الوحيد املتعرج بعض اليشء ليتكيف مع تضاريس األرض .ومن القاعات العليا يف املباين السكنية للخليفة ومن فوق األفنية وبقية مباين املدرجات السفلية ،كانت تتأمل ،كام أسلفنا ،مدينة الزهراء نفسها والتالل املحيطة بها ومروج نهر الوادي الكبري ومدينة قرطبة .ومن نافل القول إن أسوارها وأبراجها وقبابها كانت تعكس أيضاً حضورا ً مؤثرا ً نحو الخارج. .2ويف املنطقة املتاخمة لدار امللك وبعد عبور مراكز الحرس واسطبالت الخيل نصل فضاء متثيلياً هائالً مكوناً من دار الجند املتصلة بالسور الشاميل والساحة الكبرية أمامه .وكان ميكن السدة أو قادماً من باب الوصول كذلك إىل دار الجند ،املعروفة أيضاً بدار الوزراء ،إما عرب باب ُ املدينة الشاميل من خالل مسار متعرج من األبواب املتتالية ومصاطب الحراس .ويف دار الجند توجد قاعة عظيمة وعميقة عىل طراز الكنائس ذات ردهة طويلة مكونة من خمسة أروقة طويلة متوازية وقاعة-رواق عرضية تفتح املبنى عىل ساحة واسعة ذات أروقة ،من املحتمل أنها كانت مخصصة للعروض العسكرية واملراسم الرسمية .وقد أعاد اآلثاريون انشاء ردهة دار الجند حتى مستوى أطر األقواس الكربى ،وبالتايل من دون تسقيف .وتُظهر اآلثار هيبة املكان يف رواقه املركزي العريض والعميق وجداره الشاميل الذي برغم خلوه من الزينة إال أنه يوحي 49
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
بأنه قد استخدم لقعود شخصية مهمة .30ومن هذا املكان تُشاهد ،عرب األقواس الحدوية الثالثة ذي الفقرات الحمراء والبيضاء املوجودة يف محور مدخله وعرب أقواس القاعة الرواقية العرضية األمامية ،ت ُشاهد الساحة الخارجية ويف الوقت نفسه ميكن إدراك سعة القاعة ذاتها ،ذلك أن محور الشامل-الجنوب الرئيس يتكامل مع محور الرشق-الغرب الذي مي ّر بالقوسني الحدويني الكبريين القامئني يف وسط الرواق عىل دعامتني عريضتني وإىل جانبيه قوسان ثالثيان حدويان أصغر حجامً بكثري تسندهام أعمدة صغرية أيضاً .وباستطاعة املرء الطواف ببرصه أو امليش يف فضاء دار الجند كله ،مختارا ً مسارات متعددة مستقيمة أو قطرية بني األروقة املنفصلة/املتصلة يف ما بينها من خالل تلك العقود ،ومتأمالً من منظورات مختلفة تلك الردهة املرسحية الباذخة، إن صح التعبري ،املبنية لإلستحواذ عىل إعجاب الضيوف والسفراء والزائرين عامة. .3مجلس عرش عبد الرحمن النارص ،الذي يدعى أيضاً يف املصادر األندلسية «مجلس الذهب» و«املجلس الرشقي» ،مبني عىل ارتفاع أدىن بقليل من دار الجند ،وعىل غرار هذه األخرية شيد بشكل ردهة ذات أروقة طويلة تتصدرها قاعة-رواق عرضية ،لكن مع واجهة مركزية ذات خمسة أقواس حدوية تنفتح عىل بركة رئيسة أمام املجلس ،من ناحية ،ومن ناحية أخرى عىل األروقة الثالث املركزية للمجلس والرواقني الجانبيني املغلقني واللذين حوال إىل حجرات .أما األروقة املركزية الثالث ،فمقسمة بصفني من خمسة أعمدة منفصلة وعمودين الصقني بالجدار يف طريف املجلس ،ويف الحائط الشاميل للرواق املركزي ،وهو األكرث عرضاً ،كان يوضع عرش الخليفة ،31الذي 30تجدر اإلشارة إىل أن هذه األروقة يف مجالس الزهراء واملساجد ،أي املسافة بني سلسلتني موازيتني من األعمدة ،كثريا ً ما سميت يف املصادر األندلسية بالبهو (جمعها أبهاء). 31واستمرارا ً للمراسم البيزنطية والعباسية والفاطمية ،ومنافسة معها ،يف مجالس قرطبة والزهراء امللكية أقيمت حفالت استقبال دبلوماسية وتجارية كتلك التي نظمها النارص يف عام 949م لوفد بيزنطي أو تلك املعدة الستقبال الراهب يوحنا كروز ،سفري األمرباطور أوتون األول ،يف عام 956م ،حيث كان املجلس يكتيس ببساط وستائر وسجاد رائعة .وال ريب يف أن كريس العرش موضوع أمام القوس مبثابة محراب غري مجوف ملون باألبيض واألحمر وسط الجدار الشاميل .ويبدو أن العرش مرتفع بعض اليشء وفقاً إلشارة املقري إىل النسيج الذي كان يغطي سلم عرش الحكم الثاين عندما استقبل ملك ليون أوردونيو الرابع يف الزهراء ،مضيفاً أنه كان أشبه بالرسير مع وسائد كان الخليفة يرتبع عليها .أنظر: María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Madrid: Agencia Española de Cooperación Internacional-Lunwerg, p. 38. وعن هذه املراسم املذكورة أنظر النصني التاليني: 1) Emilio García Gómez en Ibn Hayyan (1967), Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II, por Isa ibn Ahmad al-Razi (360-364 H. = 971-975 J. C.) [trad. de Emilio García Gómez]. Madrid: Sociedad de Estudios y Publicaciones. 2) Miquel Barceló (1991), El califa patente: el ceremonial omeya de Córdoba o la escenificación del poder, en Reyna Pastor, Ian Kieniewicz y Eduardo García de Enterría (1991), Estructuras y formas de poder en la historia: ponencias. Salamanca: Universidad de Salamanca, pp. 51-71.
50
خوسيه ميغيل بويرتا
كان مبستطاعته مشاهدة ال ْربكة الكبرية وواجهة املجلس املقام عىل الطرف اآلخر منها وانعكاسها عىل صفحة املاء من خالل فتحات عقود القاعة-الرواق األمامية .هذا املجلس الجنويب كان أصغر ومكوناً من ثالث أروقة وقاعة رواقية وكانت تحيط به ثالث ِب َرك صغرية أخرى والحديقة العالية املنقسمة إىل أربعة رياض مشكلة فضاء رحباً شبه مربع قبالة مجلس الذهب وحتى حدود سور القرص .وكان يحظى املجلس الجنويب كذلك بربجه املطل عىل مناظر الجزء الجنويب من الحديقة. ويف الجزء الرشقي من مجلس الذهب ،أي مجلس عرش عبد الرحمن النارص قدام املجلس الجنويب ،تبقى آثار بعض الغرف الخاصة والحامم الرئيس يف القرص. .4وإىل رشقي مجلس الذهب أيضاً وخارج منطقة القرص املسورة ،لكن املتصلة به عرب سوره ،ال تزال باقية أطالل دار الزكاة إىل جانب أنقاض املسجد الجامع ملدينة الزهراء ،وهو يحيد بوضوح عن محور الشامل-الجنوب ملباين البالط ألنه بني يف اتجاه الجنوب الرشقي صوب مكة تقريباً ،كام قلنا سابقاً .جامع الزهراء ملتصق بقرص الخالفة يك ينتقل الخليفة إىل مقصورة املسجد عرب السور وجرس موصول بالساباط املبني يف القبلة املزدوجة ،أي بني جدارين موازين كام ستبنى من بعد قبلة جامع قرطبة املشار إليها آنفاً .وجامع الزهراء منفتح يف الوقت عينه عىل املدينة وكان املصلون يتجهون إليه كنقطة لقاء جوهرية تجمع الخالفة بسائر الطبقات اإلجتامعية دون أن يدخل العامة القرص .ويظل ماثل أمام أعيننا مسقط الجامع املكون من خمسة أروقة مشكلة باألعمدة ،والصحن املحاط برواق وقاعدة املئذنة (ضلع 5م) التي بلغ ارتفاعها حوايل 20مرتا ً وكانت مكونة من برجني ،السفيل أكرب من العمل تكونت هناك العلوي ،متوجني برشافات متدرجة .وتفيد النصوص العربية بأن كتيبة ّ من 300بناء و 200نجار و 500عامل ما بني ُصناع وأجراء ،وذلك من أجل تشييد جامع بديع يف 48يوماً ليس أكرث ،عىل قول تلك املصادر .وقد وضع منرب نفيس يف يوم 20مايو عام 941 م بغية افتتاح املسجد يف اليوم التايل ،يوم الجمعة ،عىل يد اإلمام القايض محمد بن عبد الله بن أيب عيىس ،الذي قام بالفعل بإمامة صالة املغرب.32 .5تكتسب مباين القصور األقل فخامة أهمية فنية خاصة ،ونقصد بشكل خاص الدارين البكَة» و«دار جعفر» ،ال سيام ألن أمنوذج الرواقني الصغريين اللتني أطلق عليهام «دار ِ ْ ببكة صغرية وحدائق متوزعة ورصيف محيط به ومتداخل املتواجهني يف طريف الفناء املزود ِ ْ البكة ،فضالً عن الغرف الخاصة والحامم ،وفناء مبلط تتوسطه يف الوسط ،كيفام نراه يف دار ِ ْ 32املقري ( ،)1988نفح الطيب .الجزء ،1ص .564-563
51
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
نافورة ،وهو حال دار جعفر ،مع القاعات املستطيلة البسيطة وقليلة العمق التي تفتح عىل الرواقني ،سوف تنال استمرارية يف املعامر األندليس الالحق ،بينام اختفت الردهات العميقة ذات الطراز الكنائيس التي رأيناها يف دار الجند ومجلس الذهب .ومع ذلك فإن دار جعفر يحتفظ بثالث قاعات ذات طابع كنيس وإن كانت أصغر ومنحرفة قليالُ عن محور الرواق. .6تركزت زينة الزهراء يف هذه األجنحة النبيلة من القرص والجامع وال تربح تدهش الناس بانتشارها وبتفاصيلها وبإبداعها كام بجودة املواد املستخدمة فيها .باإلضافة إىل األحجار الكبرية وألواح الصخر األرجواين واملالط بالجري والرتاب املصمت املستعمل يف تبليط الطرق املمرات واألرضيات ،نحتت ألواح من الحجر الجريي األرجواين والرخام األبيض وقطع من أنواع أخرى من املرمر لتغطية الفضاءات الرئيسة .وقد طليت قاعدات حيطان عديدة من القاعات واملمرات والحاممات باللون األحمر القاين فقط أو مع توريق أبيض بتقنية ذات مرجعية رومانية .ويف دار الجند ومجلس الذهب صنعت أعمدة رائعة من الرخام األحمر واألسود ووضعت بالتناوب فيام بينها لتشكيل األروقة والواجهات .وقد بلغت قواعد وتيجان األعمدة هنا أعىل مستوياتها وأخص صورها يف عرص خالفة قرطبة إذ تحلت بتنوع شكيل وإتقان مرهف يف نحت أرشطتها املتشابكة وخطوطها العربية وتواريقها باإلعتامد عىل تقنية تخريم نعتها الباحثون بـ «خلية النحل» بسبب دقة الثقوب وعمقها ممثل ًة بال شك قمة يف تاريخ الفن األندليس خاص ًة واإلسالمي عام ًة .وقد احتفظت ببعض هذه القطع الرخامية يف مكانها بينام أعيد استخدام عدد منها باعتزاز يف مبانٍ أندلسية ومسيحية الحقة ،وت ُعرض بعضها األخرى يف املتاحف .وهذه األعمدة الرقيقة الجميلة تحمل عقود حدوية ذات بواطن عريضة ومتكآت بشكل هرمي مقلوب فوق تيجانها ،ما يعزز اإلنطباع بإنعدام الوزن والكتالت اإلنشائية مرفوع إىل األعىل .ومن بني األشكال املرشقية املستوردة يف هذه الفرتة يف الزهراء وبعد ذلك يف جامع قرطبة ،تربز زينة التوريق عىل فقرات العقود بشكل تباديل واألقواس العباسية املفصصة ،التي يظهر أنها استعملت ألول مرة يف الفن القرطبي يف درب الحراسة بالقرب من مجلس الذهب للنارص .وقد نفذ برنامج زخريف جداري غني جدا ً يُعترب األكرب من نوعه يف العصور الوسطى يف حوض البحر املتوسط ،مصنوع من ألواح من الحجر مندغمة والبكة وجامع الزهراء يقترص عىل زخارف يعود يف حائط البناء .ويف حني أنه يف داري امل ُلك ِ ْ أسلوبه إىل فرتة اإلمارة القرطبية ويستند إىل أشكال األقنثوس وسعف النخيل ،يف مجلس النارص غطيت الجدران برمتها بألواح مؤطرة عىل شكل لوحات مستطيلة مليئة بتصاميم نباتية ذات جذع مركزي وأفرع منبسطة إىل جانبيه ومتداخلة فيام بينها ،عالوة عىل أزواج من 52
خوسيه ميغيل بويرتا
الثامر ،يعتقد أنها مستوحاة من القرآن .وعىل الرغم من مشهدها التخطيطي والتناظري ،بيد أنه مثة الكثري من عدم التناظر املقصود وتعددية ال تنضب ،ما يفيض حيوية وجالالً ناجمني عن صنعة بالغة الدقة والعمق يف التخطيط وعن التحكم املوحد واملطلق لدى التنفيذ. وهذه اللوحات (أكرث من 65لوحة مختلفة الواحدة عن األخرى جميعها وتشكل برنامجاً تزيينياً نادرا ً فُرس معناها كصورة من صور الجنة .فهي الرياض/الجنات التي وصفت بها بعض النصوص العربية الكالسيكية مظهر هذه الحيطان ،33وباملزيد من الدقة برأي املؤرخني الحاليني تلك األلواح هي مبثابة إعادة صياغة للرتاتبية الفردوسية املعرب عنها يف القرآن الكريم ويف كتب وصف اآلخرة اإلسالمية بهدف اإلشادة بالخالفة وشخصية الخليفة 34الذي كان يظهر عىل عرشه تتويجاً لتلك الفضاءات املرتاتبة التي ينسجم فيها مجلس الذهب مع الحديقة والبك .هناك يتجىل الخليفة يف مكان الخارجية املخططة ب ُحكم العقل والتي تزدهر بالنباتات ِ َ مثايل تستكمله الدالالت الكونية املتمثلة يف التخاطيط الهندسية الجدارية وال سيام يف القبة التي يرجح أنها كانت تتوج املجلس تبعاً للمصادر األندلسية والعربية التي تومئ إليها وتصفها بأنها كانت مغطاة بالذهب والرخام الصلد الصايف واملتنوع األلوان ،فضالً عن قطع أحجار من الذهب والفضة ،إىل درجة أن قوة إشعاع ضوئها كان يأرس أبصار الناظرين إليها من الحقول املجاورة والبعيدة .35لذا فإن الخليفة كان يتمظهر يف أعىل سلسلة الفضاءات الفردوسية هذه حافال بالدالالت مبا فيها مقارنة الزخارف الجدارية بالرياض« :قرص الزهراء املتناهي يف 33ويورد لنا املقري نصاً خليقاً بالذكر ً الجاللة والفخامة أطبق الناس عىل أنه مل يُ ْ َب مثله يف اإلسالم البتة [ ]..حتى أنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إىل األندلس يف تلك العصور النظر إليه [ .]..واألدلة عليه تكرث –يتابع املقري– ،ولو مل يكن فيه إال السطح املم َّر ُد امل ُْشِف عىل الروضة امل ُباهي مبجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمة وحسن املسترشف وبراعة امللبس والحلة ما بني ٍ وحياض مرمر مسنون وذهب موضون وعمد كأمنا أُفرغت يف القوالب ،ونقوش كالرياض ،و ِب َرك عظيمة محكمة الصنعة، ومتاثيل عجيبة األشخاص ال تهتدي األوهام إىل سبيل استقصاء التعبري عنها (نفح الطيب ،الجزء ،1ص .)566 َ 34أنظر: Manuel Acién Almansa (1995), Materiales e hipótesis para una interpretación del Salón de ‘Abd al-Rahman al-Nasir, en Antonio Vallejo Triano (coord.). Madinat al-Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Córdoba: Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, pp. 177-195. تقدم الباحثة ماريبيل في ّريو تفسريا ً مهامً للرموز الفردوسية ملجلس الذهب إعتامدا ً عىل نصوص قرآنية كسورة الرحامن، اآليات ،78-46وعىل الكتابات املتعلقة باآلخرة مثل «كتاب وصف الفردوس» لعبد امللك بن حبيب ،وتعالج برنامج بناء الزهراء وزخرفتها يف سياق املواجهة السياسية والدينية التي خاضتها خالفة قرطبة بعيد إعالنها مع الخالفة الفاطمية. أنظر: María Isabel Fierro (2004), «Madinat al-Zahra, el paraíso y los fatimíes», Al-Qantara, xxv, 2, pp. 299-327. 35أنظر: José Miguel Puerta Vílchez (2004), Ensoñación y creación del lugar en Madinat al-Zahra, en Fátima Roldán Castro (coord.). Paisaje y naturaleza en al-Andalus. Granada: Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, Fundación El Legado Andalusí, pp. 313-338.
53
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
يف موضع من َّور ومحمي بالذات اإللهية املتمثلة يف قمة القبة .وحسبام يريد األدب األندليس الذي د ّون أسطورة الزهراء ،لقد كان يتموضع مجلس الذهب فيام وصفه بـ «السطح املمرد» يف إشارة واضحة إىل قوله تعاىل ﴿رصح ممرد من قواير﴾ (سورة النمل ،اآلية ،)44وهو الرصح رس بلقيس ،ملكة سبأ ،كام هو معلوم .وتنبت يف الذي شيده النبي سليامن يك يكشف عن ّ الزينة أيضاً شجرة الحياة يف بنائق 36األقواس (قوس العرش املصمت وأقواس األبواب الجانبية) التي ستعيد رسمها الحقاً يف بنيقتي قوس محراب الحكم يف جامع قرطبة. .7ومبرافقة األفاريز واأللواح املزينة بالتشكيالت الهندسية ذات اللونني األبيض واألحمر كانت هناك مجموعات من الكتابات املنقوشة تبقّى منها عينات مهمة يف املسجد الجامع ويف دار امللك ويف املجلس الجنويب وال سيام يف مجلس عبد الرحمن النارص حيث نراها يف أرشطة ممتدة عرب إطارات عقود الواجهات واألروقة الداخلية وكذلك يف محراب العرش ويف بعض قواعد األعمدة وتيجانها .وقد نقشت كلها بخط كويف مورق مجدد عىل درجة عالية من األناقة بغية إعالء شأن العاهل بوصفه إماماً وقائدا ً للخالفة ،وفيها كتب تاريخ البناء (بني عامي 953 و 957م) ،باإلضافة إىل أسامء املسؤولني عن األشغال وبعض الصناع البارزين ،وتظهر بعض هذه األسامء يف عنارص بنائية من توسعة الخليفة الحكم للمسجد الجامع بقرطبة. .8وعن املرشفني عىل بناء مدينة الزهراء وصناعها تفيد كتب األخبار العربية األندلسية معلومات ينبغي أخذها يف الحسبان ،كتلك التي سجلها ابن خاقان يف القرن الثاين عرش امليالدي حول تشغيل النارص 10.000رجل من الخدام والفعلة ممن كانوا يتقاضون ما مقداره درهم ونصف أو درهمني أو ثالثة دراهم يومياً لبناء فضاء الزهراء الشاسع .وأشار املؤلف عينه إىل مساهمة العريف املهندس السوري مسلمة بن عبد الله الذي ميكن أن ينسب إليه
36ال َبنيقة (جمع «بنائق») هي املثلث الركني املوجود بني قوس العقد وضلعي املستطيل املحيط به .كان لطوباويا الزهراء الفردوسية وجهها املضاد ،أو النقيض (أي املكان اليسء) املتمثل يف سجن «الدويرة» الشهري الذي بني عىل غرار سجون ومحابس أندلسية أخرى يف القرص عينه قرب مسكن الخليفة .وكنا قد أملحنا أعاله بإيجاز إىل تنفيذ أحكام اإلعدام أمام قرص الخالفة جنب جامع قرطبة ومشاهدتها من ذلك القرص ،وسنشري فيام بعد إىل صور العنف والعقاب املنترشة يف التحف الفنية البالطية البديعة ،وهي صور تتعلق معانيها مبامرسة السلطة والرصاع من أجل الحصول عليها وفرضها عىل األعداء تتشابك وتتكامل مع معاين الجامل الفني املحض.
54
خوسيه ميغيل بويرتا
نقل مفاهيم وأشكال معامرية مرشقية إىل الزهراء .37كام نعرف اسم عريف البنائني عبد الله بن يؤنس الذي متكن ،مبساعدة حسن وعيل ،وهام ابنا جعفر اإلسكندراين ،من إحضار الرخام الوردي من إفريقية ،واألخرض من كنيسة صفاقس (تونس) ،واألبيض من املرية ،وامل ُع َّرق من راية (مالقة) .وكان النارص يرسل إليهم ،حسب ابن حيان ( 1076-988/987م) ،عرشة دنانري عن كل قطعة رخام كبرية أو صغرية ،إضافة اىل نفقات التقطيع والنقل .38ويف الكتابات املنقوشة املتبقية يف مدينة الزهراء ال زالت ت ُقرأ أسامء املرشفني عىل األعامل وبعض النقاشني والر ّخامني ممن ت ُذكر أسامؤهم غالباً عىل شكل زوجني أو مجموعات من الصناع وليس بانفرادهم ،يف قواعد األعمدة وتيجانها وعىل األقواس الصغرية واألفاريز ولوحات الزخارف .ففي مجلس النرص اشتغل ما بني عامي 954و 957م كل من سعد وأفلح وظريف وبدر ،وطريف ونرص وغالب بن سعد وسعيد بن فتح ومحمد بن سعد وسعيد األحمر ورشيق (واألشخاص الثالثة األخرية وقع بها عىل تاج عمود رائع) ومظفر .واألرجح أن هؤالء كانوا عبيد نقاشني رفيعي املستوى من «دار الصناعة» التابعة للخالفة .39أما مرشفو األشغال فكانوا شُ َنيف (يف داخل مجلس النرص بكامله ويف الحامم املجاور ،وكان هذا موىل بربري ترقى يف بالط الخليفة) ،وعبد 37يحتمل رفائيل مانثانو أن هذا املهندس العريف الشآمي هو من أىت إىل األندلس باملسقط الكنيس ذي الردهدات الطويلة. أنظر: Rafael Manzano Martos (1995), «Casas y palacios en la Sevilla almohade. Sus antecedentes hispánicos», en Rafael López Guzmán y Julio Navarro Palazón. Casas y palacios de al-Andalus: ;siglos xii y xiii. Granada, Barcelona: Fundación El Legado Andalusí, Lunwerg, p. 315 فحسب العريف الشآمي املذكور ،يف الزهراء كانت تتم تسوية وصقل ونقش قرابة 6000حجر يومياً ،دون احتساب القطع التي كان يتم تجهيزها للتبليط ،واستخدم يف األشغال 1400بغل أو أكرث ،منها 440بغالً كانت ملكاً خاصاً للخليفة النارص والباقي مستأجرا ً ،وكان كل بغل ينقل ثالث شحنات شهرية ،وعليه أن يحمل 3000مثقال كل شهر ،ولهذا كان يدخل الزهراء حوايل 1100شحنة من اآلجر والجص كل ثالثة أيام (أنظر:املقري [ .]1988نفح الطيب .الجزء ،1ص .)568-566 تهتم كتب األخبار العربية بلفت األنظار إىل عدد األعمدة املستعملة يف الزهراء ،وحسب ابن خاقان بلغ إىل 4300عمودا ً، أي ما يقارب أربعة أضعاف أعمدة مسجد قرطبة األعظم .ويؤكد آخرون أن 1013عمودا ً جاءت من إفريقية ،و 19من بالد الفرنجة وأن ملك بيزنطة قد أهدى 140عمودا ً ،وسائر الدعامات النفيسة قد جيء بها من شامل إفريقية (األعمدة التي أُ ِ حضت من سجلامسة عىل سبيل املثال كان مثنها 8دنانري) ومن مختلف مناطق األندلس ،من طراغونة وأقطار أخرى ،وهكذا جمع الخليفة غابة كاملة من األعمدة ،بعضها يشهد عىل سعة األرايض املسيطر عليها ،ويشهد بعضها اآلخر عىل اإلحرتام الذي يكنه له ملوك عرصه. 38املقري ( ،)1988نفح الطيب .الجزء ،1ص .527-526 39أنظر: María Antonia Martínez Núñez (1995), La epigrafía del Salón de ‘Abd al-Rahman III, en Madinat alZahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Córdoba: Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, pp. 107-152. يف نظر هذه املؤلفة ،ظهور هذه األسامء ذاتها منقوشة يف توسعة الحكم للجامع ويف قرص قرطبة وحتى يف بعض العاجيات وقطع الخزف «األخرض واملنغنيز» يعني عىل األغلب أنها أسامء املسؤولني املبارشين عن دار صناعة الخالفة وليست لصناع متعددي املهارات.
55
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
الله بن بدر (يف املدخل املؤدي اىل املجلس وكان صاحب الرشطة ووزيرا ً ،)40وجعفر بن عبد الرحمن ،الذي توىل مراقبة األعامل يف الجناح الجنويب الذي أنىشء يف عام 345هـ (957/956 م) ويف الحامم؛ وكان جعفر هذا قد ترفّع من عبد إىل منصب رئيس اسطبالت الخيل ،ثم رئيس دار الطراز يف عهد النارص ليرتقى إىل حاجب وسيف دولة وكاتب يف عهد الحكم ،وأرشف أيضاً، عىل أعامل محراب الجامع األموي وقرص الخالفة بقرطبة ،كام رأينا سابقاً. .9لقد تغذت البالغة «املؤمثلة» ملدينة الزهراء كذلك ،باإلضافة إىل تلك الصور الفردوسية (القرآنية واألخروية واألدبية) املشار إليها واإلحصائيات املتضمنة يف كتب األخبار عن املواد والعامل واألموال املستثمرة (ثلث موازنة الدولة) ،ومع أنه من الصعب تحديد درجة الصدق أو املبالغة فيها ،تغذت إذن من عمليات وصف فني بحت تنصب عىل روعة املباين ومكوناتها. فكل األدلة السياحية اليوم تشري إىل «الصهريج العظيم» امليلء بالزئبق (مجرد حوض صغري يف ظ ّن البعض) الذي تقول املصادر العربية إنه وضع يف وسط مجلس يف قرص الخالفة «وكان يف املرصع كل جانب من هذا املجلس مثانية أبواب قد انعقدت عىل حنايا من العاج واآلبنوس ّ بالذهب وأصناف الجواهر ،وقامت عىل سواري من الرخام يف صدر املجلس وحيطانه فيصري من ذلك نور يأخذ باألبصار .وكان النارص إذا أراد أن يُفزع أحدا ً من أهل مجلسه أومأ إىل أحد صقالبته فيح ّرك ذلك الزئبق فيظهر يف املجلس كلمعان الربق من النور ،ويأخذ مبجامع القلوب حتى يخيّل لكل من يف املجلس كان يدور وسيتقبل الشمس» .41وقُدم هذا الصهريج عىل أنه ابتكار مرسحي للنارص ،إال أن أن بعض املؤرخني العرب يؤكدون عىل أنه كان الطلونيون قد ببكة زئبقية أخرى مامثلة. أعجبوا الناس قبل ذلك يف حي القطائع بالقرب من الفسطاط ِ ْ .10بيد أن هذا الحرص الجاميل-التمثييل للنارص عىل البناء مهام كلف من مثن ويف أي أرض كانت ،وإنشاء معامل معامرية وتزويدها مبياه تجلب من مسافات بعيدة بغرض «تخليد آثاره» والتعبري عن «قوة امل ُلك» و«عزة السلطان» و«علو الهمة» ،عىل حد قول املؤرخني األندلسيني ،أدى به إىل اإلنغامس يف أعامل البناء وتزيني قصور الزهراء حتى أنه تخلف عن الصالة يف جامع مدينته الجديدة ثالث أيام جمعة متوالية ،مقرتفاً هكذا تقصريا ً جسيامً يف أداء مهامه الدينية ،حسبام يالحظه األخباريون ،أثار ردة فعل فقيهه الويف واليقظ املنذر بن سعيد 40تشري ماريا أنطونيا مارتينيث نونيث إىل مشاركة شُ نيف وعىل وجه الخصوص عبد الله بن بدر يف املالحقات التي أجرتها خالفة سة) يف سياق املواجهة مع الفاطميني ،وكيف تبنى قرطبة قبل سنوات من بناء هذا املجلس ضد املرسيني (أتباع مذهب ابن َم َ َّ الخليفة النارص بعض األلقاب لتقوية موقفه يف هذا الرصاع الفكري .وقد نقشت تلك األلقاب الخليفة الجديدة يف مجلس عرش الناص ويجدر الذكر أنه انحرص استخدام لقب «اإلمام» عىل أهم أجزاء املجلس فقط (املصدر نفسه). 41املقري ( ،)1988نفح الطيب .الجزء ،1ص .572
56
خوسيه ميغيل بويرتا
البلوطي الذي مل يتوان عن انتقاد الخليفة عينه يف جامع الزهراء باآليات الكرمية املعروفة: ﴿أت َ ْب ُنو َن ِبك ُِّل رِيعٍ آيَ ًة تَ ْع َبثُونََ ،وتَتَّ ِخذُو َن َم َصانِ َع لَ َعلَّ ُك ْم ت َ ْخلُ ُدونََ ،وإِذَا بَطَشْ تُم بَطَشْ تُ ْم َج َّبارِي َن ،فَاتَّقُوا اللَّ َه َوأَ ِطي ُعونِ َ ،واتَّقُوا ال َِّذي أَ َم َّدكُم بِ َا ت َ ْعلَ ُمونَ، أَ َم َّدكُم ِبأَنْ َع ٍام َوبَ ِن َنيَ ،و َج َّن ٍ ات َو ُعيُونٍ ]( ﴾[..سورة الشعراء.)134-128 ،
ويف تحول آخر من التحوالت العديدة لهذا التوتر الحاصل ما بني العامرة البالطية والورع الديني ،الذي ال ريب يف أنه هو األكرث ذكرا ً يف األدب األندليس والذي يزيد بدوره من مصداقية ورسوخ الخالفة ،كام تشري املستعربة ماريبيل في ّريو ( ،)Maribel Fierroطاملا يجعل الخالفة يف محك النقد ويتيح للنارص الفرصة للر ّد بحزم عىل ذلك الفقيه الشهري واملحرتم لدى الجمهور لكونه من استجلب املطر ذات يوم عرب صالة استسقاء جامعية يف قرطبة .فقيل إن الخليفة نفسه أنشد هذه األبيات للفقيه: هـــــمم الــــملوك إذا أرادوا ذكرهـــا
أو ما تـــرى الهرمني قـــد بقيا وكم إن الـــــبناء إذا تــــعاظم شـأنــــه
فـــــبألسن الــــبنيان مــــن بــــعدهم ُ
مــــلك مــــحاه حــــوادث األزمان أضحـــى يدل عىل عظيم الشـــان.42
ورغم أن اإلمام وأمري املؤمنني سيحاول مبساعدة معاونيه وفنانيه «إضفاء القدسية» عىل أعامله ،ليس فقط بالفعل الديني املتمثل يف رفع الجامع إىل جانب القرص ،بل أيضاً من خالل الزخارف الجدارية والكتابات املنقوشة الواضحة املعاين دوماً ،إال أن ساعة النهاية حانت مبكرا ً ،وما استمتع النارص سوى مدة وجيزة بالزهراء التي انطفأ إرشاقها بعد وقت قصري. بىل ،لقد ترسعت األحداث إثر صعود هشام ،ويل عهد الخليفة الحكم ،إىل العرش ،وكونه ال زال طفالً (حكم بني 1009-976و 1013-1010م) ،فقد احتكر القائد املنصور بن أيب عامر السلطة وتحصن بإدارة الخالفة يف مدينة الزاهرة يف عام 370هـ ( 981م) .وقد حل بها األفول النهايئ يف عهد اإلبن الثاين للقائد العامري املذكور ،عبد الرحمن بن املنصور بن أيب عامر، امللقب َسنجول ( ،)Sanchueloعندما اندلعت الفتنة وأحرقت مدينة الزهراء ودمرتها مرارا ً 42املقري ( ،)1988نفح الطيب ،الجزء ،1ص .575
57
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
عىل أيدي الغوغاء ،وصوالً لحكم املستكفي ( 1026-1024م) حني نهب ما تبقى من قرصها.43 وفيام بعد ،عندما سيطر امللك املعتمد بن عباد يف 463/462هـ ( 1070م) عىل قرطبة ،تجول وزيره أبو الحسن بن رساج يف أطالل الزهراء برفقة بعض الوزراء واملوظفني من بالط بني عباد ،ووقعوا أرسى إفتتاناً بالزهراء ،التي باتت اآلن إمرأة هرمة يف أعني هؤالء األدباء الذي انهكموا يف وصفها مغمورين بروح رومانسية سابقة األوان ،عىل حد قول املستعربة روبيريا ماتا ( .)Rubiera Mataفمنذ أيام الشاعر والوزير ابن زيدون ( 1071-1003م) عىل األقل، الذي كان معارصا ً لتألق الزهراء وأفولها ،غدت صورة خرابها موضوعاً منوذجياً شائعاً يف الشعر واألدب العريب حتى يومنا هذا .ولج هؤالء الزوار املرموقون يف خدمة أكرب ملك شاعر يف األندلس ،املعتمد بن عباد ،قصور الزهراء الخربة وتاهوا يف غرفها العالية ،واحتسوا كؤوسهم حتى الثاملة يف الرشفات ،وبعد أن طافوا مجددا ً يف اآلثار أمعنوا يف تجربة الزمن املهلك وهم يرون األعشاب الربية والضواري قد تسيدت املكان وحلت غربان البني محل الطيور الصداحة وصارت الزهراء الرائعة الخصبة عجوزا ً فقدت أبناءها ،محض وردة ذبلت يف لحظة.44 كانت عملية تأنيث املكان الفردويس والعريس رمزياً تشمل قرطبة عينها ،التي رآها الحجاري كعروس بهية مزينة ،ولو لفرتة قصرية ،بقُرطني ،الزاهرة والزهراء ،معتربا ً أياهام بحارضيت امل ُلك تفوقتا عىل الخورنق والسدير وغمدان ،45تلك املدن األسطورية املرشقية املمثلة لألعجوبة املعامرية وكذلك للغرور اإلنساين املهزوم بالزمان .ولألسف فإن اآلثار الباقية من الزاهرة هي أقل من آثار الزهراء ،التي كانت يف واقع األمر منافستها ألن مغتصب السلطة ومن صنع عملياً دولة عامرية مغتصبة ،محمد بن أيب عامر املنصور ،بدأ يف بنائها بالقرب من قرطبة كذلك يف عام 978م كمدينة بالطية بديلة .وإذا كانت الزهراء تقع يف غرب العاصمة ،فإن املصادر العربية تشري إىل أن الزاهرة كانت تقع يف الرشق إىل جانب نهر الوادي الكبري ،وهو 43لنذكر تلك الكلامت املعربة إلبن حيان عن تدمري الزهراء« :فطوى بخرابها بساط الدنيا وتغري حسنها ،إذ كانت جنة األرض، فعدا عليها قبل متام املائة من كان أضعف قوة من فارة املسك ]( »[..ابن بسام [ ،]1998الذخرية يف محاسن أهل الجزيرة، تحقيق سامل مصطفى البدري ،بريوت ،دار الكتب العلمية ،الجزء ، 1ص .)272حول مصري مدينة الزهراء عرب التاريخ ،أنظر: Félix Hernández Giménez, Purificación Marinetto Sánchez y Antonio Fernández Puertas (1985), Madinat al-Zahra: arquitectura y decoración. Op. Cit., pp. 182 y ss. 44أنظر: María Jesús Rubiera Mata (1988), La arquitectura en la literatura árabe: datos para una estética del José Miguel Puerta Vílchezو ;placer [prólogo de Antonio Fernández Alba]. Madrid: Hiperión, p. 131 (2004), Ensoñación y creación del lugar en Madinat al-Zahra. Op. Cit. 45املقري ( ،)1988نفح الطيب ،الجزء ،1ص .153
58
خوسيه ميغيل بويرتا
ما تثبته اآلثار والبقايا التي ُعرث عليها يف املنطقة .أقام املنصور يف الزاهرة يف عام 980م بحثاً عن األمن وتقليدا ً للخلفاء واستعراضاً لقوته .امتدت املدينة الجديدة يف السهل املحاذي للنهر، وأحاطها بانيها بسور ويف مجرد عامني انتهى من بنائها ،حسب ابن خاقان .نقل إليها مكاتب وإدارة ومالية الدولة ووزع قطع األرايض عىل كتبته وقادته ووزرائه ،كام غرس البساتني والحدائق ،وأقام أسواق ونظم مراسم إستقبال .وكان أحد قصور الزاهرة يسمى «دار الرسور» ويحظى بأعمدة مزدوجة من الرخام ورسعان ما مجدته القصائد التي مل ترتدد يف مقارنته بالرصح القرآين املشهور الذي بناه امللك سليامن لبلقيس .46وسيلح كل من الشقندي وابن سعيد يف القرن الثالث عرش امليالدي ،واملقري يف القرن السابع عرش امليالدي بأسلوب أقل بالغة بل بنية إطرائية مامثلة ،يف الحديث عن اإلنارة املثرية التي كانت تحيي الحزام الواسع التي تشكله الجوهرتان القرطبيتان حول املدينة األم« :إن العامرة اتصلت يف مباين قرطبة السج املتصلة عرشة أميال» ،حسبام ذكره والزهراء والزاهرة ،بحيث إنه كان ُيىش فيها لضوء ُّ الشقندي .47لقد خبا كل ذلك الربيق لكن ال تزال تشع الكثري من التحف الفنية التي أبدعت يف مصانع هاتني البؤرتني لإلزدهار الهاربتني ،شأنهام شأن العاصمة ،إلمتاع الحاكم وحاشيته، ولتجميل الحدائق واملجالس القصورية ،وإلرسالها كهدايا تبدي يف أقطار أُ َخر صورة الرتف واإلتقان الفني الذي توصلت قرطبة إليه.
فضاء التحف الفنية واإلحكام يف تشكيلها وتصويرها
لقد باتت بعض التحف الفنية البالطية أسطورية يف زمان األندلس ذاته ،كالحوض الذي نصب يف مدينة الزهراء والذي أثنى األدب األندليس عىل شكله الغريب وتزيينه وتذهيبه املصنوع يف املرشق ،إما يف دمشق أو يف القسطنطينية ،والذي نُقل إىل قرطبة ب ّرا ً وبحرا ً عىل يد أحمد اليوناين واألسقف «ربيع» .ويقال إنه كان أخرض اللون وفيه نقوش ومتاثيل عىل صورة اإلنسان وإنه قد وضع يف «بيت املنام يف املجلس الرشقي املعروف باملؤنس» ،أي جنب مجلس عرش النارص .وحسبام يورده املقري عن بعض املؤرخني « ُجعل [عىل الحوض] اثني
46راجع: María Jesús Rubiera Mata (1988), La arquitectura en la literatura árabe: datos para una estética del placer. Op. Cit., pp. 132-134. 47املقري ( ،)1988نفح الطيب ،الجزء ،1ص .456
59
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
عرش متثاالً من الذهب األحمر مرصعة بالدر النفيس الغايل مام صنع يف دار الصناعة بقرطبة: صورة أسد غىل جانبه عزال إىل جانبه متساح ،وفيام يقابله ثعبان وعقاب وفيل ،ويف املجنبتني حاممة وشاهني وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونرس ،وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس ،ويخرج املاء من أفواهها ،وكان املتويل لهذا البنيان املذكور اب ُنه الحكم ،مل يتكل فيه النارص عىل أمني غريه» .48كانت تشكل كل تلك التامثيل ،إذن ،نافورة عظيمة ،عجيبة ،ككثريات سواها نصبت واحتفى بها األدب االندليس البالطي املسهب.49 بدون أحجار كرمية وال مواد نفيسة وصلتنا بعض األحواض وأجزاء من عيون رخامية كانت قد ُجعلت عليها نوافري ماء عىل هيأة حيوانات مسبوكة باملعادن .لقد اشتهرت األحواض العائدة إىل عهد الخالفة التي تحمل نقوشاً لحيوانات من السنوريات والجوارح (أسود وعقبان) التي تفرتس حيوانات عاشبة (غزالن وظباء وثريان وغريها) ،وهي الصورة الرمزية الشائعة منذ القدم للتعبري عن السلطة والتي دخلت اللغة الرمزية السلطوية لفنون اإلسالم من خالل الفن الساساين .من بني تلك األحواض لدينا الحوض الخليفي القرطبي الذي نقله امللك باديس اىل غرناطة (متحف الحمراء) يف منتصف القرن الحادي عرش امليالدي ،مع مشهدين للحيوان الضاري املنقض عىل الحيوان العاشب إىل جانبي شجرة حياة ،ومشهد نرس يفرتس عاشبني منقوش يف كال أصغر ضلعي الحوض .ويوجد كذلك الحوضان العامريان اللذان من املحتمل أن يكونا قادمني من املدينة الزاهرة ،وهام املعروف بحوض املنصور ألنه مهدى إليه وفقاً للكتابة الكوفية املنقوشة عليه والتي تؤرخ القطعة الفنية يف عام 377هـ ( 987م) (متحف اآلثار الوطني يف مدريد) ،والحوض املهدى إىل ابنه عبد امللك ( 1008-1002م) املحفوظ يف مدرسة ابن يوسف يف مراكش ،وهو مامثل للحوض السابق ،ولكن بجزء من زخرفه مفقود .وتجمع زخارف حوض عبد امللك الغزيرة ما بني العنارص النباتية والزهرية والطيور املائية واألسامك يف الحافات من ناحية ،وصور الحيوانات الكالسيكية يف الفنون البالطية (عقبان تحمل حيوانات ذات قوائم أربع عىل أجنحتها املنبسطة وتقبض العزالن مبخالبها ،من ناحية أخرى ،إضافة إىل الحيوان الخرايف الفتخاء (الغرفني) املتقابل مع نفسه إىل جانبي شجرة) .ويف حوض املنصور نشاهد تشكيالً معامرياً قوياً يف احدى واجهتيه الرئيسيتني مكون من أعمدة صغرية تبدو وكأنها 48املصدر السابق .ص 527-526و 569-568وأيضاً ،املقري ( ،)1978أزهار الرياض يف اخبار عياض .الرباط ،صندوق إحياء الرتاث اإلسالمي ،الجزء ،2ص .271-270 49نسب ابن خلدون للخليفة النارص امتالك يف الزهراء مجموعة أخرى من الحيوانات الحقيقية« ،الوحش والطيور» ،عىل حد قوله .أنظر :املقري ( ،)1988نفح الطيب ،الجزء ،1ص .578
60
خوسيه ميغيل بويرتا
تدعم ثالثة أقواس ثالثية الفصوص وبالفقرات املتبادلة عىل الطريقة التقليدية القرطبية التي تحتضن كل واحد منها شجرة حياة محورية .هكذا تنضم صورة العامرة جلياً إىل رمزية املكان وامل ُلك املثاليني يف التحف الفنية البالطية .ومن الزهراء وصلتنا أيضا أحواض دائرية محززة كأنها مشكلة من شطر الربتقال ال تزال بعضها حتى األن يف املوقع األثري ،خالية من التصاوير ومزخرفة بتخاطيط نباتية مقتصدة وجميلة أو مبجرد رشيط خطي كوفيي ،كام هو حال الحوض املكون من اثني عرش فص وكتابة كوفية منقوشة يف حافته متتدح الحكم املستنرص بالله ويذكر فتاه وحاجبه جعفر املنفذ ألمر الخليفة بصناعة الحوض يف عام 360هـ ( 970م) (متحف اآلثار يف غرناطة) .من نافل القول إن تصنيع األحواض والنافورات ومتاثيل الحيوانات املستخدمة إلطالق املياه استمرت يف األندلس حتى عهد بني نرص مواكباً اياه انتاج شعري هائل .لكن أكرث ما حظي بالشهرة ال شك أنه الصنابري الجميلة بصورة الحيوان التي تعود جذورها إىل ما قبل االسالم والتي تحل محالً مميزا ً يف العامئر األسطورية املذكورة يف األدب العريب ،وعرفت فرتة ذهبية يف األندلس متثلت أساساً بالغزال الصغري ملدينة الزهراء (صورة رقم )3املحفوظ يف متحف قرطبة (اآلن يف متحف مدينة الزهراء) ،والذي يعرض يف مدينة الدوحة بقطر ،وذلك الذي يوجد يف متحف اآلثار الوطني مبدريد ،وهو يف حال أكرث ترضرا ً. صنعت كلها من الربونز املصهور بتقنية «الشمع املفقود» ،ويفيض بروفيلها الرائع جامالً ووقارا ً ،كام أن عيونها اللوزية املمنهجة وزخارف التوريق الرقيقة التي تغطي أجسادها تنأى بها عن النسخ الواقعي للطبيعة ومتنحها حضورا ً رمزياً جوهرياً يوحي بالرخاء والجامل وحسن املكان .وهذا ما يؤكده أيضاً الحيوان ذو القوائم األربع يف متحف بارغيللو ( )Bargelloيف فلورنسا ،العائد إىل ما بني القرن العارش والحادي عرش امليالدي والذي يحتمل أنه ميثل ظبياً صغريا ً آخر ،ولو كان أقل رشاقة ويختلف زخرفه التوريقي ،ويحتوي عىل رشيط وسطي مع «البكة الكاملة» بالخط الكويف .ومن مجموعة األسود متنوعة األشكال التي تلفظ العبارة َ َ املياه والتي صنعت حتى أفول األندلس ،نذكر هنا األسد ذا الذيل املتحرك والفك املفتوح جدا ً املحفوظ يف متحف «كاسل» ( )Kasselبأملانيا واملدعو بأسد «مونثون» (( )Monzónبالقرب من مدينة Palenciaاإلسبانية) (متحف اللوفر بباريس) الذي ينسب اىل القرن الثاين عرش امليالدي والذي يتشابه كثريا ً مع التحف الربونزية األموية السابقة ،تحديدا ً يف كتابة «الربكة
61
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
الكاملة» الكوفية املنقوشة كذلك يف جانبي جسده.50 صورة 3صنبور غزال صغري يعود ملدينة الزهراء ،القرن العارش امليالدي .متحف اآلثار يف قرطبة.
املصدر :تصوير فوتوغرايف -اغوستني نونييث.
يندرج يف هذه الجاملية ذاتها إبريقا ماء الربونزيان املصوغان عىل شكل طاووس إلغراض طقوسية عىل ما يظهر .ويُقرأ يف اإلبريق املوجود يف متحف اللوفر نقشان أحدهام باللغة 50لنذكر متثال الفيل املنحوت من الحجر الذي كان يسكب املاء عىل بركة يف ُمنية قريبة من قرطبة املحفوظ يف املتحف الكنيس بقرطبة ( )Museo Diocesano de Córdobaوأن الشاعر ابن وهبون وصف فيام بعد نافورة عىل صورة فيل مامثلة ،إن مل تكن ذاتها ،يف قصيدة متدح قرص الزايك للمعتمد بن عباد ،ملك اشبيلية يف القرن 11م .راجع :ابن بسام ( ،)2000الذخرية (طبعة إحسان عباس) .بريوت :دار الغرب اإلسالمي ،املجلد الرابع ،ص .519وفضالً عن التحف املتبقية وعن األدب الذي ميجد هذا النمط من النوافري األندلسية ،مبقدورنا تأمل صور بعضها يف املخطوطات كتلك املرسومة يف إحدى منمنامت «حديث بياض ورياض» (القرن الثالث عرش امليالدي ،متحف الفاتيكان) يظهر فيها رأسان (رمبا لظبي)، يصبان املاء يف ِب ْركة حديقة «السيدة» ،صاحبة القرص الذي تجري فيها أحداث القصة.
62
خوسيه ميغيل بويرتا
العربية« ،عمل عبد امللك النصاري» ،واآلخر بالالتينية ،»Opus Salomonis era T X« :ما يعني العام 1010يف التقويم اإلسباين الذي يعادل العام 972امليالدي يف تقومينا املعتاد .ومن املعروف أن مثة صلة رمزية بني الطيور والنبي سليامن يف العاملي اإلسالمي واملسيحي عىل السواء .ت ُالحظ يف هذا الطاووس الربونزي واآلخر املامثل الذي ُعرث عليه يف مورس ()Mores (شامل جزيرة رسدينيا ،املتحف فن الرسم الوطني يف كالياريPinacoteca Nazionale di : )Cagliariزخاف توريقية عىل األجنحة والصدر شبيهة بزخارف صندوق هشام الثاين (كاتدرائية جريونا )Catedral de Gerona :املصنوع من الخشب والفضة ،كام ت ُالحظ فيهام التواريق شبه الدائرية عينها التي تزين متثال «فتخاء بيزا» الذي سنعود إليه بعد قليل .يُستنتج من هذا أن اإلبريقني صنعنا يف األندلس وأنهام كانا ينتميان إىل مضامر مسيحي ،نظرا ً إىل الكتابة الالتينية املذكورة وإىل الصليب الذي يحمله كالهام وبنا ًء عىل أن كون الطاووس «رمزا ً عن قوم الوثنيني الذين يقدمون من أقىص األرايض إىل السيد املسيح» ،حسبام أشار إليه رابانوس ماوروس ( )Rabanus Maurusيف القرن التاسع امليالدي .51وفيام يخص «فتخاء بيزا» الشهري (متحف كاتدرائية بيزا بإيطاليا) ،الذي يرفع يف الفن اإلسالمي صورة يف ذلك الحيوان األسطوري الخليط من رأس ومنقار وجناحي ُعقاب وجسم وقوائم أسد إىل درجة متثال برونزي كبري ذي حضور جليل وملفت لألبصار .ويُعلم أنه نسبت إىل الفتخاء خصائص هذين الحيوانني الشمسيني ال ُعقاب واألسد ،املتعلقني برموز امل ُلك ،وأنه ارتبط أيضاً بشجرة الحياة واعترب تقليدياً كائناً داعياً للخري وحامياً للمكان واألرواح .وبعد أن انتقال صوره من فنون الرشق األوسط القدمية اىل الفن اإلسالمي نجدها يف نوافري املياه والعاجيات واألنسجة ويف عدة تحف أخرى أموية وأندلسية. ومن األكيد أن «فتخاء بيزا» ،الذي يعزو البعض إليه وظيفة تزيينية بحتة والبعض اآلخر وظيفة طقوسية غري محددة ،كان قد صيغ يف األندلس يف القرن الحادي عرش امليالدي ويتضمن أرشطة بكتابة منقوشة بخط كويف أنيق تطلب شتى األخيار الروحية والجسدية املنشودة ملن ميلكه: «بركة كاملة ونعمة شاملة وغبطة كاملة وسالمة دامئة وعافية كاملة وسعادة وعمدة لصاحبه». 51أنظر :ماريا خيسوس بيغريا ( )Mª Jesús Vigueraو كون ِث ْبثيون كاستيو ) ،)2001( (Concepción Castilloاملرجع سابق الذكر ،El esplendor de los omeyas cordobesesص .47وفيام يتعلق باملصنوعات املعدنية النفيسة املنجزة يف قرطبة ويف مناطق نفوذها ،سنقترص عىل اإلشارة اىل أباريق أخرى والعديد من األدوات كالقناديل ،التي يربز من بينها قنديل مدينة الجزيرة الخرضاء مع كلمة «بَ َركة» منقوشة بالكويف عليه وصورة طائر صغري يف محوره (عرص الخالفة) وقناديل أخرى آتية من التنقيبات يف قرطبة وإلبرية ،واملصباح الربونزي وقوائم املجمرة املتوجة برأس أسد ،أو تلك األكرث بساطة التي عرث عليها يف مدينة البرية (القرن 10-9م ،متحف اآلثار يف غرناطة) ،فضالً عن النقود والحيل (كنوز بلدات ،)Garrucha, Loja, Ermita Nueva, Charillaوقوارير العطر الرقيقة من فرتة الخالفة املكتشفة يف مدينتي قرطبة ولوثينا (متحف محافظة قرطبة األثري) (املرجع نفسه ،ص .)246-190
63
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
وتجدر املالحظة إىل أنه نقشت يف الجزء األعىل من قوائم هذا الفتخاء صورتا األسد (يف األمام) وال ُعقاب (يف الخلف) ،يعني الحيوانان األصليان اللذين خلق من مزيجهام هذا املخلوق الخرايف النموذجي ،بينام جناحيه ومساحات الرأس مزينة بأشكال الريش والجسم بدوائر تم نقشها جميعها بأسلوب منطي منتظم ودقيق. وسوف نجد هذا الطقم من الصور وإن كان بحجم مصغر يف الصناديق والعلب العاجية املصنعة يف داري صناعة قرطبة ومدينة الزهراء ،وبعدئذ يف مدينة قونكة ( ،)Cuencaيف وسط إسبانيا ،ولكن بقيمة جديدة مضافة ناتجة عن مادتها النفيسة ،العاج ،وعن الصور البرشية املنقوشة فيها حتى شكلت ما ميكن اعتباره كُتَ ِّيبات منمنمة ومزركشة بأرشطة كتابية أنيقة وزخارف يف غاية الرقة واإلتقان ال تستغني ولو عن الحيوانات الرمزية واملشاهد امللكية ذات الفحوى مرهف الدقة .وكل هذه املكونات اإلستثنائية هي ما رفعت بالتحف العاجية القرطبية املشهورة إىل قمة الرتف الفني يف العرص الوسيط مبجملها .52يبدو أن العاج كان قد بدأ يصل إىل قرطبة بانتظام انطالقاً من الحمالت العسكرية التي قادها عبد الرحمن النارص يف املغرب العريب حيث اعتاد السادة األفارقة تقديم العاج هدية .ويفيدنا املقري بخرب َغ َرفَ ُه من مكتبته األندلسية الزاخرة يقول إنه وصل 8000رطل من العاج اىل قرطبة أرسلها األمري زهري بن عطية اىل هشام الثاين يف عام 991م .ومن دار صناعة مدينة الزهراء ،التي كانت أقدم مصنع أندليس لدينا معلومات عن وجوده ،وصلتنا العلبتني املحفوظتني يف كل من كاتدرائية َسمورة (( )Zamoraمتحف اآلثار الوطني يف مدريد) والجمعية اإلسبانية بنيويورك ( )Hispanic Society of New Yorkوصندوق بلدة فيتريو (محافظة منطقة نافا ّرا يف شامل اسبانيا) ( ،)Fitero, Navarraتحمل كال القطعتني األخريتني توقيع «خلف» .حدد املختصون مصنعاً آخر يف مدينة قرطبة نفسها ناشطة ما بني عامي 960و 970امليالديني ،ولو أن إنتاجها كان أقل إتقاناً من نتاج دار صناعة الزهراء .وعلبة َسمورة (التي هي عبارة عن «بيكسيس» يوناين PYXISلحفظ املجوهرات) تتألف من قطعتي عاج تشكالن بدن العلبة ،من طرف، من طرف آخر غطاءها وهو عىل غرار قبيبة يعلوها مقبض كروي صغري عىل شكل فاكهة 52أنظر األعامل التالية: José Ferrandis Torres (1935-1940), Los marfiles árabes de Occidente [2 vols.]. Madrid: s. n.; John Beckwith (1960), Caskets from Cordoba. Londres: Victoria and Albert Museum; Ernst Kühnel (1971), Die islamischen elfenbeinskulpturen: VIII-XIII Jahrhundert. Berlín: Deutscher Verlag für Kunstwis María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Op. Cit., pp. 27-31و ;senschaft (يتضمن مراجع مفصلة).
64
خوسيه ميغيل بويرتا
األملج .وقد نقشت هذه التحفة بتشطيبات عمودية عميقة وأخرى مائلة تعكس مناطق معتمة ومضيئة بهية .ويف الكتابة الكوفية البينة املنقوشة يف الرشيط األملس للغطاء تُقرأ «بركة من الله لإلمام عبد الله الحكم املستنرص بالله أمري املؤمنني ،مام أمر بعمله للسيدة أم عبد الرحمن عىل يدي د ّري الصغري ،سنة ثلث وخمسني وثلث ماية» ( 964م)” ،53معناها أن «صبح» الشهرية ،التي كانت جارية من إقليم الباسك وأصبحت زوجة العلبة هدية للسيدة ُ الحكم الثاين (املستنرص بالله) ومن ثم أم ويل عهد هذا الخليفة آنذاك .بيد أن عبد الرحمن تويف مبكرا ً واعتىل رسير العرش هشام الثاين املولود عام 965م ،يعني بعد عام واحد فقط من صنع «علبة صبح» هذه .يكتيس جسم العلبة بأشكال نباتية متناظرة تتفرع من محاور عمودية توحي بأنها أشجار الحياة وتتضمن سعفات مزدوجة وبسيطة وتواريق ذات أوراق ملساء وأخرى متعددة األوراق ،فضالً عن ألباب األمثار والفليفلة والرباعم والزهور ،وتنتأ من بني كثافة التواريق نقوش حيوانات يف حالة دعة وسالم ،وهي مثانية أزواج من الطيور الصغرية املتقابلة عىل الغطاء ،وأربعة أزواج من الطواويس والظباء وأربعة أزواج من الطيور عىل جسم العلبة. هذا النوع من الجنات أو الفراديس املثالية بتشكيالتها النباتية املحورية وتفاصيل أزاهريها املتشابهة واملتناغمة مع بعض تصاميم األلواح الجدراية من القصور األموية كتلك التي رأيناها يف مدينة الزهراء ،يكتظ بربامج تصويرية ملكية تسودها مشاهد بطولية رجالية يف أعامل عاجية أكرث تعقيدا ً كعلبة امل ُغرية (متحف اللوفر بباريس) (صورة رقم )4وصندوق دير لريي (( )Monasterio de Leyreمتحف نافا ّرا ،شامل إسبانيا) .هيكل علبة امل ُغرية أسطواين وشبه معامري ،مثله مثل علبة َسمورة ،وتتألف من مثاين قالئد ثُ ان ّية الفصوص ،أربع منها كبرية عىل جسم العلبة واألربع الباقية أصغر حجامً عىل الغطاء وكلها مربوطة مبا يشبه قيطان وريقات يتواصل بحركية حية يف كافة أنحاء العلبة مبا فيها إطار جسمها وإطار الغطاء وقالئدها .إنه مبثابة قصة رسومية أو رشيط سيناميئ سبق أوانه. 53راجع النص يف ،José Ferrandisاملصدر سابق الذكر ،ص 66؛ هنا أدخلنا يف نص النقش بعض التعديالت الطفيفة .من ناحية أخرى ،سبق أن أملحنا يف الهامش رقم 25إىل شخصية د ّري الصغري ومناصبه الرفيعة .لقد صنع كذلك صندوق صغري آخر مهدى إىل إمرأة كذلك (متحف فيكتوريا وألربت يف لندن) وفقاً للكتابة املنحوتة بالخط الكويف املورق يف حافته («هذا ما عمل للسيدة إبنة عبد الرحمن أمري املؤمنني»)؛ ويبدو أنه أنجز يف مدينة الزهراء بعد وفاة الخليفة عبد الرحمن النارص يف عام 961م .وباقتصار الزخرف أيضاً عىل الكتابة والتوريق لدينا صناديق عاجية صغرية أخرى مثل صندوق فيتريو ( )Fiteroاملشار إليه وصندوق صغري آخر محفوظ يف معهد Valencia de Don Juanمبدريد ،وكالهام يعود لعام 966 م ،باإلضافة إىل علبة الجمعية اإلسبانية بنيويورك (حوايل عام 968م) املذكورة آنفاً ،وغريها.
65
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني صورة رقم .4علبة املغرية ( 968م) .متحف اللوفر (قسم اآلثار اإلسالمية) ،باريس.
مصدر :تصوير فوتوغرايف -أغسطني نونييث.
مبطالعة صور القالئد من اليمني اىل اليسار ،مثلام نطالع النقش الكويف املسرتعي لألنظار يف قاعدة الغطاء ،نرى مشهدا ً أوالً ذا مغزى ملكياً ساللياً :عرش يسنده أسدان ،وهو رمز من رموز امل ُلك العريقة ،وعىل العرش الصورتني النمطيتني عن شقيقي الحكم الثاين ،أي عبد الرحمن ممسكاً بصولجان أو عصا امل ُلك بيدي األيرس وكأس بيمناه ،وكأن كال األداتني رمز تجدد الحياة وحلول العام الجديد يف العصور القدمية ،يحتمل أنهام إشارة إىل أن حاملهام ويل العهد ،بينام ميثل اآلخر شقيقه امل ُغرية الذي يظهر مع مروحة يف ميناه وهي عالمة متت بصلة إىل املراوح الدينية البيزنطية .يقعد الرجالن القرفصاء إىل جانبي عازف عود واقف يف الوسط ،الذي ال شك أنه يجسد العنرص املوسيقي املألوف يف هذه العاجيات ويف الكثري من التحف الفنية األندلسية واإلسالمية (سواء أكانت من املنسوجات أو تيجان األعمدة واألحواض والخزفيات، واألخشاب واملنمنامت وسواها) خالقاً الجو اإلحتفايل والرسمي والجليل الناجم عن املوسيقى البالطية .وحري باملالحظة كيف تخرتق قدم من كال األمريين قاعدة العرش مكرس ًة بلطف 66
خوسيه ميغيل بويرتا
رصامة الصورة .وكأن األشخاص الثالثة غري ملتحني وبالتايل منتزعني من عالمة عزة الخالفة، يبدو أن املشهد يلمح إىل اإلستقرار املستقبيل املنشود يف توريث امل ُلك .ويثبت هذا التفسري مشهد القالدة املوازية يف الطرف اآلخر من العلبة الذي يظهر أسدين يلتهامن ثورين عىل جانبي محور نبايت ،وهو تصوير كالسييك آخر للسيادة وللعنف الذي يستند إليه امل ُلك .وما أروع أسلوب نقش هذا املشهد بتلك القوة التشكيلية الفائقة التي متكن من رسم أبدان الحيوانات املتشنجة وحركاتها الحية والواقعية ،ما يجعل من هذا املشهد صورة منوذجية لرباعة النقاشني املسلمني والتي شاعت يف معظم كتب تاريخ الفن اإلسالمي إن مل يكن يف كلها. أما الكتابة الناتئة يف قاعدة الغطاء بخط كويف غري مورق وجليل فتقول« :بركة من الله ونعمة ورسور وغبطة لل ُمغرية بن أمري املؤمنني رحمه الله ،مام عمل سنة سبع وخمسني وثلث ماية [ 968م]» ،54وتحذف عىل نحو غري معهود اسم الخليفة القائم سنتئذ ،الحكم املستنرص بالله، ولكنها تشري إىل عبد الرحمن النارص بالله ،والد امل ُغرية ،الذي كان ،هذا األخري ،يبلغ مثانية عرش عاماً من العمر حني تلقى العلبة هدية .ومبا أن الخليفة الحكم مل تكن له ذرية بعد ،أي يف سنة صناعة العلبة ،فقد كان الشقيقان عبد الرحمن وامل ُغرية يبدوان مؤهلني لوراثة الخالفة عن شقيقهام الحكم .وفيام أن عبد الرحمن تويف حوايل عام 970م بقي امل ُغرية املرشح الفعيل لوراثة الخالفة إال أن ُصبحاً أنجبت ولدين للخليفة الحكم ،وهام عبد الرحمن وهشام ،املشار إليهام سابقاً .أما املآمرة يف قمة السلطة تدفعت األحداث يف درب العنف واغتيل امل ُغرية بأمر من القاعد محمد بن أيب عامر املنصور يف يوم وفاة الخليفة الحكم نفسه ،يعني يف األول من أكتوبر/ترشين األول عام 976امليالدي .وبعد ساعات فقط من رحيل الحكم بيع ابنه هشام الذي ال زال طفالً مذعناً إلرادة الرجل العامري القوي .وحملت هذه األحداث التاريخية املتخصصة يف الفن اإلسالمي ريناتا هولود ( )Renata Holodعىل إدراك مغزى ساخرا ً يف صناعة هذه العلبة العاجية وإهدائها لل ُمغرية .ثم تعمق الباحث برادو بيالر ()Prado Vilar يف معاين العلبة مستنتجاً أن صور العلبة ورمزيتها مدبرة يف دائرة األمرية ُصبح والحاجب جعفر بن عثامن املصحفي اللذين دعام املنصور قبل ذلك بقليل يف عام 967م ،حيث يجدر ذكر تكوين شخصية املنصور املزدوج بني قساوة مزاجه من ناحية ،ومن ناحية أخرى ثقافته املرهفة واملائلة إىل الرتف ومنح الهدايا الفاخرة ،كام يشري إليه املقري .كل ذلك يدل عىل أن العلبة قدمت هدية للمغرية يف احتفال معني ولكن مشحونة بإنذار مبطن وساخر ،يف رأي 54راجع النص أيضاً يف ،José Ferrandisاملصدر عينه ،ص ،71ونورده هنا بتصحيح بسيط.
67
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
برادو بيالر ،أو كام نظن نحن ،كرسالة تذكر املغرية باملكانة التي تخصه يف حال نقل السلطة.55 وأياً يكن من أمر ،مام ال ريب فيه هو أن بقية قالئد العلبة تنطوي عىل مشاهد متعلقة بقطع دورات الحياة ،ما ميكن تفهمه كإشارة إىل خطورة انقطاع خط وراثة الخالفة .هكذا ،نرى يف إحدى القالئد مشهدا ً غريباً يتكون من غصون كروم كثيفة وبها ثالثة أعشاش للنسور (توجد يف األوسط أربعة أفراخ ويف العشني اآلخرين نرسين يحضنان البيض) ،يف حني يحاول شابان رسقة البيض ،إال أن كلبني يعضان ال ِر ْجل اليمنى لكال الشابني .وباملناسبة ،لقد كان الرمي إىل الكالب معاقبة الخونة آنئذ يف األندلس .ويف القالدة املقابلة يلتقط فارسان مع صقرين البلح واقفان إىل جانبي نخلة كبرية ،ولكن ما يشبه ضبعني أو كلبني يهاجامن كالهام من الظهر. وبني النباتات املنقوشة يف العلبة أدخلت مشاهد ثانوية تنم عن العنف واملواجهة :يف األسفل، كلبان يعضان ذيل فتخائني إثنني ،ومصارعان وكبشان وأيالن ،وكلها عىل شكل زوجني متقابلني؛ أما يف أعىل بدن العلبة ،ونشاهد زوجني من النسور وذكر طاووس مصحوب بأنثيني إىل جانبيه، كام نرى حيوانني لعلهام ذئبان يهاجامن حامرا ً وحشياً ،وصقّاران .وعىل غطاء العلبة تحيط القالئد األربع مبقبض الغطاء املفقود والذي من املحتمل أنه كان بشكل فاكهة األملج ،يظهر غزالن متقابالن وأسدان وطاووسان وصقّار عىل صهوة حصان وطيور حجل أو طواويس إناث وحاممتان وطائران وأسدان وابنا آوى أو كلبان ،وجميعها متقابلة .إن هذه البنية الرسدية للعلبة وتصميمها القائم عىل املحاور والتناظر والتسلسل الدائري وعىل الوحدات املستقلة واملتكاملة يف آن ،تتناغم مع نظم الشعر العريب .لنتذكر أن هناك صنعت أيضاً ما ميكن تسميته بالعلب الشعرية كتلك املحفوظة يف الجمعية اإلسبانية بنيويورك (Hispanic Society of )New Yorkالتي تحمل قصيدة منقوشة بالخط الكويف تؤنث العلبة وتؤمثلها جاملياً ومتيزها
55أنظر: Renata Holod (1992), Bote de al-Mugira, en Jerrilynn D. Dodds (coord.). Al-Andalus: las artes islámicas en España [exposición La Alhambra, 18 marzo-19 junio, 1992]. Nueva York, Madrid: The Metropolitan Museum of Art, El Viso, pp. 192-200. وأنظر خاص ًة مقالتي برادو فيالر التاليتني اللتني تحتويان عىل تحليالت دقيقة ومعلومات ومراجع تاريخية وشعرية وأدبية وبرصية متعلقة بعلم الصور الفنية جديرة باإلهتامم: Francisco Prado-Vilar (1997), «Circular Visions of Fertility and Punishment: Caliphal Ivory Caskets (2005), «Enclosed in Ivory. The Miseducation of alو ;from Al-Andalus», Muqarnas, 14, pp. 19-41Mughira», Journal of the David Collection, 2.1, pp. 138-163.
68
خوسيه ميغيل بويرتا
كوعاء للعطور واألحجار الكرمية. مثة عاجيات أخرى معروفة تعرب عن معاين مدحية للملوك أو ألعضاء البالط ،كعلبة زياد (متحف فيكتوريا وألربت) التي صنعت عام 359هـ ( 970/969م) لزياد بن أفلح ،صاحب الرشطة يف عهد الحكم املستنرص بالله ،وكان شخص طموح تورط يف مؤامرات عدة لتغيري رأس الخالفة ،إىل درجة أنه هو من طالب بعقوبات صارمة للمتآمرين عىل الخليفة الحكم بعد أن كان هو نفسه قد انتمى سابقاً إىل فريقهم .يُرتَّب سطح هذه العلبة الزخريف أيضاً عىل شكل قالئد ترتبط ببعضها برشيط متواصل ،نحتت داخلها صورة منطية لرجل يسري شؤون العدالة ويعتيل عرشاً (ممثالً الخليفة بالنسبة للبعض أو زياد نفسه بالنسبة لباحثني آخرين) ،ثم يتنقل الرجل البطل راكباً الفيل ويظهر أخريا ً وهو يصطاد .57قامئتا العرش يف القالدة األوىل مصورة بشكل قدمني لهام مخلب األسد عىل الطريقة البيزنطية والرومانية ،بينام الطائران املتقابالن يف األسفل برأسيهام امللتفني إىل الوراء ينتسبان إىل الفن الساساين .ويف القالدة التي يظهر وشخص الحاشية اللذان يحمالن سيفاً فيها الرجل عىل الفيل ،نجد أن الرسج-العرش مختلفاً َ وقارورة يف القالئد السابقة باتا اآلن خادمني يقودان الفيل .ومن بني األوراق املتكومة تطلع كذلك فتخاوات متقابالت وأزواج من الطيور وال ُعقبان الشعارية والظباء والثريان وحيوانات القنص وغريها ترمز إىل امل ُلك والسمو .أما صندوق لريي ( )Leyreاملذكور ،الذي يعترب من أثرى القطع العاجية القرطبية وأتقنها ،فتعرب صوره أيضاً عن روح املدح والنرص إذ صنع هو اآلخر لتعظيم عبد امللك ابن املنصور ،رمبا مبناسبة االحتفاء بنرصه يف ليون عام 1004م الذي دفعه لتبني لقب «سيف الدولة» .وقد نقشت كتابة الصندوق الرئيسية بخط كويف جيد منمق حروفه من اللؤلؤ لتزين واجهة الغطاء« :بسم الله ،بركة من الله وغبطة ورسور وبلوغ 56
56تقول هذه األبيات الشعرية (الرمل)« :منظري أحسن منظر نهدي مل يكرس /حالين الحسن عيل حلة تزها بجوهر /فأنا طرف ملسك ولكفور وعنرب» (نشك يف قراءة أول كلمة للبيت الثاين) .ومكتوب يف العلبة «عمل حلف» .أنظر: Juan Zozaya (1999), «Los marfiles de Cuenca», en Mil años de arte en Cuenca. Cuenca: Asociación de Amigos del Archivo Histórico Provincial de Cuena, p. 81. سنجد هذه اللغة التأنيثية املنتشية بذاتها املطبقة عىل التحف الفنية يف تحف أخرى كبعض الجرار الشعبية والبالطية ويف العامئر األندلسية ،أشهرها القصائد املنقوشة عىل جدران الحمراء .يف هذا السياق لقد قارن برادو بيالر رسائل العاجيات القرطبية باألجناس الشعرية العربية وربط بعضها كعلبة ُصبح بشعر الوصف «املؤمثل» للطبيعة يف حني أن عاجيات أخرى كعلبة زياد وصندوق لريي يتناسبان باملديح ،وعلبة املغرية بالهجاء ،أو باعتقادنا بالشعر ِ الحكمي .وليس من العبث أن هذا الباحث ذاته وجد تشابهاً ملحوظاً بني مشاهد علبة املغرية وبني صور ومضامني من كتاب «كليلة ودمنة». 57تبدي عاجيات أخرى من هذا النوع صورا ً عن اعتالء العرش ،كعلبة دافيللري (( )Davillierمتحف اللوفر) التي تتضمن مشاهد بالطية مامثلة لتلك املوجودة يف صندوق لريي ( )Leyreأو العلبة املحفوظة يف متحف فيكتوريا وألربت يف لندن (رقم )1866-10التي يعود تاريخها للقرن الحادي عرش امليالدي ويرتفع فيها العرش عىل أشكال نباتية.
69
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
أمل صالح عمل وانفساح أجل للحاجب سيف الدولة عبد امللك بن املنصور وفقه الله ،مام أمر بعمله عىل يدي الفتى الكبري زهري بن محمد العامري مملوكه ،سنة خمس وتسعني وثلث ماية» ( 1004/1005م) .ويضيف يف مكان آخر أن الصندوق من صنع فرج وتالمذته ،الذين ترد أسامؤهم فعالً يف أجزاء مختلفة من القطعة وهم :مصباح ،فرج ،خري ،سعادة ،رشيد .وسنة اإلنجاز وصاحبه يدعوان إىل افرتاض أن الصندوق صنع يف مدينة الزاهرة وإن زخرفه وصوره قريبة جدا ً من تلك املتداولة يف دار صناعة الزهراء .58ويتألف سطح الصندوق املزخرف من 23قالدة مثان ّية الفصوص ( 13قالدة عىل الغطاء و 10عىل جسم الصندوق) متصلة فيام بينها بقيطان مظفر يعطي ،شأنه شأن علبة امل ُغرية ،استمرارية حيوية لحافتي بدن التحفة والقالئد املفصصة املرتبطة بهام التي تحتضن املشاهدة الرئيسية .ومتتاز من هذه القالئد ثالثة مشاهد بالطية يبدأ رسدها البرصي باملوازاة مع انطالق الكتابة املنقوشة مع صورة شخص أكرب حجامً وملتحي تبدو عليه| سيامء الخلفاء (الخاتم والغصن والكأس) ،يُفرتض أنها متثل الخليفة هشام بن الحكم (الحاكم بني 976-1009م وبني 1010-1013م) وهو يعتيل رسير عرش يسنده أسدان ويقف عىل جانبيه خادمان يف حجم أصغر ينظران إليه وتكرمياً له ميسك الواقف إىل ميينيه بصولجان معقوف الطرف واآلخر براية وقارورة .59لقد انترشت سيامء ُامللك هذه يف طقوس امللوك يف اإلسالم ويف فنونه التصويرية ون ُِسب إىل النبي محمد (ص) استخدام الخاتم مع اسمه للختم وكذلك صولجان السلطان ،و«بُردة النبي» املشهورة .مثة ما يُعرف بكأس العاملني ،املشار إليه يف بعض النصوص العربية الكالسيكية كصفة من صفات سلطان الخالفة، التي ورثت رمزيتها عن تراث الشعوب اإليرانية القدمية («كأس الخلود» أو «كأس الخالص»). كان الحكم الثاين أثناء مبايعته يف عام 961م يلوح بعصا من قصب الخزيران ذي طرف معقوف ،ولدى تجديد البيعة لخلفه هشام الثاين عام 967م توجه هذا األخري اىل جامع قرطبة حامالً «صولجان الخلفاء» بصحبة القائد املنصور ،وبعد أداء الصالة توجه هشام إىل مدينة الزهراء وسلَّم السلطة الفعلية للقائد العامري .يُالحظ أنه يف بعض العاجيات واملنسوجات 58إن ظهور إسمي «فرج» و«سعادة» يف تيجان ونقوش توسعة املنصور لجامع قرطبة حمل الباحثني عىل طرح السؤال الحرج فيام إذا كانت أسامء لصناع متعددي املهارات أم ملتخصصني مختلفني يطبقون مبادئ جاملية مشابهة عىل مواد مختلفة أم يجب أن نفهمها كأسامء ملرشيف دار صناعة الخالفة؟ 59توجد إشارات إىل بعض هذه الصفات الرمزية لل ُملك يف منظومات ذلك العهد ،كالقصيدة التي امتدح فيها الشاعر محمد بن محامس األستجي الخليفة الحكم الذي كان جالساً يف رسير عرش املجلس الرشقي مبدينة الزهراء يف عيد األضحى للسنة ُ رض ائس وصنائ ٌع / فالعدل مبسو ٌط ودي ُن محمد ُّ 360هـ ( 971م)« :راقت بهج ِة ُمل ِك ِه أيامنا فكأنه ّن عر ٌ غض وغص ُن امل ُلك أخ ُ يان ُع» (ابن حيان [ ،]1983املقتبس .الجزء السابع ،تحقيق عبد الرحمن عيل الحجي ،بريوت ،دار الثقافة ،ص .)62راجع أيضاً: María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Op. Cit., p. 54.
70
خوسيه ميغيل بويرتا
تستبدل الكأس بقارورة باملعنى نفسه ،التي ميكن تخيلها مملوءة بالخمر ،رمزا ً لروحانية وسمو امللك ،كام نراه يف الكثري من الصور الفنية واألشعار البالطية العربية واألندلسية.60 أما القالدة املركزية لصندوق لريي فتحتوي عىل صورة لثالث موسيقيني (عازفا ناي إثنان يتوسطهام عازف عود) ،بينام تحتوي القالدة املوجودة عىل اليسار عىل رجلني غري ملتحيني قاعدين القرفصاء إىل جانبي شجرة محورية وعىل رسير عرش يسنده أسدان .وإذا أخذنا بعني اإلعتبار كل من الظرف السيايس وقتئذ واإلهداء املخطوط يف النقش وصفات امل ُلك املذكورة يتبادر إىل أذهاننا أن إحدى هاتني الشخصيتني النمطيتني متثل عبد امللك نفسه ،مالك السلطة الحقيقي منذ وفاة والده املنصور عام 1002م ،فإنه يظهر يف الصورة حامالً الكأس والصولجان، يف حني ميكن رؤية الشخصية األخرى التي ترافقه ممسكاً بالغصن والكأس كسلفه الذي استلم السلطة عنه ،وإن بقي هذا التفسري احتامالً ليس أكرث .ويف القالئد املتناظرة عىل الوجه اآلخر يربز بطل ،أما يف القالدة الوسطية فرمبا يكون عبد امللك نفسه يف حالة رصاع مع أسدين، ويف القالدة إىل ميني السابقة يوجد فارسان يحمل كل منهام سيفاً ورمحاً واقفني بال حركة إىل جانبي شجرة محورية ،بينام يتقاتالن فارسان آخران فيام بينهام يف القالدة اليرسى؛ بالخالصة، إنها مشاهد بطولة وظفر وسلطان تتفىش يف سائر أجزاء العلبة املحفورة ،فهناك عدد من الفتخاوات وحيوان وحيد القرن متقابلة وظباء وأسود تهاجم الغزالن وشخص يتسلق شجرة، وعقبان تنقض عىل حيوانات بأربع قوائم ،وصور للصيد بالصقور ،وأسود وفيلة وكذلك بعض الطواويس وصور لحيوانات أخرى وأشخاص تختلط بالتوريق .وتجدر اإلشارة أيضاً إىل أن مثة تفاوت يُالحظ يف تركيب املشاهد وتنفيذها وأن صور الغطاء منقوشة بدقة مفرطة وتتمتع بقوة متثيلية واقعية مثرية. ولنذكر تحفة عاجية أخرية مصنوعة بُ َعيْد الصندوق السابق وهي «علبة سيف الدولة» املوجودة يف كاتدرائية براغا ( )Catedral de Bragaيف الربتغال مع نقش جاء فيه «بسم الله، بركة من الله ومين وسعادة للحاجب سيف الدولة ،أعزه الله ،أمر بعمله عىل يدي [زهري بن محمد] موىل العامري» ،وهي مهداة بالتايل أيضاً إىل عبد امللك بن املنصور ،ولكن دومنا إشارة لتاريخ الصنع الذي من املمكن أن يكون ما بني عام 1004م ،وهو العام الذي اتخذ فيه عبد امللك لقب «سيف الدولة» ،وقبل عام 1007م ،الذي اتخذ فيه لقب «املظفر» يف أعقاب انتصاره عىل سانشو غارسيا ( )Sancho Garcíaكونت قشتالة .وتبدي هذه العلبة األسطوانية 60أنظر:
María Teresa Pérez Higuera (1994), Ibídem, p. 55.
71
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
املنظر األكرث معامرا ً بني أخواتها وذلك ألنها زينت بستة أقواس حدوية تدعمها أعمدة ذات تيجان تعلوها عقدة بشكل دائرة مرتتبة عن استمرارية خطوط األقواس .وفوق هذا كله تأيت قبة الغطاء مبقبض عىل هيئة فاكهة األملج املعتادة .رواق األقواس املرسوم ميلء بصور ألزواج من الحيوانات والطيور وشخصني يجنيان الثامر ويأكالنها .ويف الدوائر التي تبدو أشبه بالقالئد عىل األقواس يوجد ظبيان وطاووسان وطائرا سامن .أما الغطاء فتوزع عليه خمس قالئد مثانيّة الفصوص تنطوي كل واحدة منها عىل حيوان واحد (أسدان وطاووس وظبيان) .من فحوى سلمي ويفرتض أن العلبة إما مصنوعة مبناسبة احتفالية عرسية البني أن لهذا الزخرف ً أو موسمية ،أو بغرض دبلومايس تواكبه غاية دينية يف آن .يبدو فعالً أن هذه العلبة كانت هدية تقدم بها عبد الله بن نبيل ،قايض املستعربني (املسيحيني املع َّربني) يف قرطبة ،إىل ميندو غونسالفيس الربتغايل ( )Mendo Gonçalvez de Portugalملا زار مدينة ليون (شامل رشقي اسبانيا) باسم عبد امللك ملساندة الدون ميندو ( )Don Mendoيف نزاعاته مع سانشو غارسيا املذكور بخصوص الوصاية عىل ملك ليون الشاب ألفونصو الخامس ،األمر الذي يفرس أن طقم صور هذه العلبة يتناغم مع الصور املسيحية القوطية والكأس القوطية أيضاً املحفوظة واملعروضة إىل جانب العلبة العاجية األندلسية يف تلك الكاتدرائية الربتغالية.61 وقد خرجت من دور الصناعة امللكية القرطبية قطع ذات مرسم رسمي أيضاً ولكن مبعاين أقل تعقدا ً أو أكرث عمومية ،مثل الخزفيات املعروفة بـ «األخرض واملنغنيز» املصنوعة يف مدينتي الزهراء وإلبرية خالل حقبة الخالفة .يف هذه القطع توضع الزينة عىل خلفية ذات تزجيج أبيض يدعى «أنكوب» ( )Engobeوتشمل عنارص نباتية وهندسية وخطية وصور الحيوانات والبرش مرسومة بأوكسيد النحاس (األخرض) واملنغنيز (األسود) ،يف حني أن خارج القطع عسيل اللون غالباً .بلغ الخزف املزجج ،الذي كان إسهام الفن إسالمي أصالً ،درجة عالية من الرقي يف قرطبة اجتمعت فيه تقنيات وأشكال مرشقية مع أخرى أندلسية يف تركيبة مميزة .نرى هذا يف صحون «الطيفور» كتلك التي تحمل كلمة «امل ُلك» (باملعنى الديني والدنيوي) مكررة وسطها يف رشيط بالخط الكويف البسيط (متحف اآلثار الوطني يف مدريد) 61تقدم بهذه الفرضية الخليقة باإلهتامم الباحث سريافني موراليخو ( )Serafín Moralejoوذكرها برادو-بيالر يف دراسته: Francisco Prado-Vilar (1997), «Circular Visions of Fertility and Punishment: Caliphal Ivory Caskets from Al-Andalus», Op. Cit., p. 34. بعيد سقوط الخالفة استمرت صناعة العاج يف مصنع قونكا حيث عمل محمد بن زيان ،صانع صندوق سيلوس ( )Silosيف عام 1026م ،وعبد الرحمن بن زيان رمبا كان شقيق السابق ،وقد وقع عىل صندوق بالنثيا (( )Palenciaشامل العاصمة مدريد) يف عام 1049م ،وأهدي إىل إسامعيل ،ابن ملك طليطلة املأمون .بيد أن هذه القطع منحوتة عىل ألواح من العاج املثبتة عىل خشب الصندوق وزخرفها أقل دقة وإتقان.
72
خوسيه ميغيل بويرتا
أو كلمة «امل ُلك» مرة واحدة يف املركز مرسومة بخط كويف مورق أجمل (متحف اآلثار يف قرطبة) .يف الطيفور األول نجد أن الرشيط املكتوب بالخط الكويف محاط بتوريق من سعف النخيل ،أما يف الطيفور الثاين فيأخذ العنرص النبايت شكل نجمة خامسية منحنية األضالع عىل هيئة كون يحيط بالفضاء .كام أن إحدى جرار مدينة الزهراء تتضمن رشيطاً كتابياً آخر بكلمة «امل ُلك» بخط كويف بسيط متكرر ،يف حني أن جرة أخرى زخرفت بأرشطة هندسية ونباتية مكونة من سعفات وبتالت وتعكس إبداعاً ملموساً رغم بساطة عنارصها .اىل الخزف «األخرض واملنغنيز» تنتمي كذلك جرة ذات مقبضني وأرشطة نباتية بال كتابة (متحف اآلثار يف قرطبة) وأعامل أخرى بها صور ألشخاص وحيوانات ،كوعاء املوسيقيني البديع (يف املتحف القرطبي نفسه) الذي يوازي موضوعه موضوع «تاج عمود املوسيقيني» (هم عازفو العود) ،وهو تاج العمود الوحيد ،عىل ما نعلم ،الذي وصلنا من خالفة قرطبة يحمل صور برشية (متحف اآلثار يف قرطبة) .62وكذلك جزء من صحن يبدو فيه محارب يلبس خوذة وسرتة ودرعاً ويرفع رمحاً. مثة أيضاً ًَّص ْحفَة ت ُظهر غزاالً املحفوظة يف املتحف الوطني للخزف يف بلنسية وأجزاء متنوعة من صحون عليها ديكة رومية وحامئم مرسومة حاملة نباتات يف مناقريها (وهو موضوع شائع يف الفن البيزنطي) .لقد عرثت عىل كل هذه القطع يف مدينة الزهراء ،شأنها شأن ذلك الوعاء النادر عىل شكل زرافة (متحف اللوفر) املصنوع بتقنية التزجيج األبيض واملزين باألخرض واملنغنيز ،الذي يعتقد أنه عائد إىل قرص من قصور الزهراء .63ومن منتوج مدينة إلبرية بالتقنية عينها لدينا وعاء األرانب الربية (متحف اآلثار يف غرناطة) وما يطلق عليه بـصحفة الحصان التي رسم فيها طائر عىل ظهر حصان رشقي رائع مرزكش ومرسج وميسك الطائر اللجام مبنقاره؛ وعىل الرغم من أن هذه الصورة الرمزية غري معتادة وغامضة ،إال أننا نعلم أنها كانت فاعلة لدى الشعوب الهندية األوروبية القدمية ورمبا تكمن معنى املرشد الروحي (الطائر) الذي يقود إىل الفردوس ،وهذا األخري هو أحد املعاين املنسوبة إىل الحصان يف األساطري والثقافة العربية. وقد ظهرت إثر تفكك الخالفة األموية بقرطبة مصانع خزف محلية طوال القرن الحادي عرش امليالدي يف طليطلة وباالغوار ( )Balaguerوبلنسية وميورقة وازدهرت تقنيات جديدة مثل تقنية الحبل الجاف التي اكتشفت عينات منها يف مدينة الزهراء ،حيث تم العثور أيضاً عىل أجزاء 62ومن بني التيجان النادرة املزخرفة بالحيوانات نذكر هنا التاج املحتفظ به يف متحف الحمراء الذي يرجع إىل عهد املنصور بن أيب عامر نحت فيه طائران مائيان متواجهان ويف منقاريهام دودتان. 63من املعروف أنه كان يحتفل يف األندلس بعيد النريوز وأنه كانت ت ُهدى فيه ألعاب من الفخار ،خاصة عىل شكل زرافة.
73
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
من آنية فخارية مذهبة يفرتض أنها من مصنوعات مرشقية مستوردة إذ أن كل الدالئل تشري إىل أن هذا الخزف املتطور مل يتم تصنيعه يف األندلس حتى منتصف القرن الحادي عرش امليالدي ومل يستخدم بانتظام حتى القرن الثاين عرش امليالدي ،ولكن خارج قرطبة.64 ومام حظي بأهمية خاصة يف نرش عالمات امل ُلك األموي القرطبي هو بال شك الطراز ،أي دار صناعة النسيج الرسمية املدعوة بـ «دار الطراز» ،التي كانت تقع بالقرب من قرص الخالفة ويتوىل إدارتها «صاحب الطراز» ،وهو منصب رفيع يحتله وزير أو حاجب .كان أول رئيس لدار الطراز القرطبية حارث بن بازي يف القرن التاسع امليالدي ،ومن بني رؤسائها الالحقني يعد كل من ريحان ( 911-910م) وخلف ( 925م) وجعفر بن عبد الرحمن املشهور ،الذي توىل هذا املنصب يف عام 961م عند اعتالء الحكم سدة الخالفة .وعن هذا الخليفة نعلم تحديدا ً أنه زار شخصياً دار الطراز يف عام 972م واستقبله فيها رؤساء املصنع وأبدى الخليفة اهتامماً بأعاملهم وأعطى لهم بعض التوجيهات .لدار الطراز كمؤسسة صناعية وبروتوكولية رسمية سابقات مبارشة ساسانية وبيزنطية تكيفت مع اإلسالم بهدف تصنيع أقمشة مرتفة كان يوضع عليها «املرسم» املليك وكثريا ً ما وضع اسم األمري أو الخليفة نفسه .وكانت ت ُنتج الستخدام الخليفة الشخيص وأرسته وملوظفي البالط وأعضائه وارتدائها أو اظهارها يف اإلحتفاالت وكذلك لتزيني املباين امللكية والخاصة ،ولتقدم هدايا بل وحتى لتخزينها عىل شكل كنوز قيمة .ورغم أن إنتاج الحرير بدأ يف األندلس يف جيان يف القرن التاسع امليالدي ،بيد أنه ميكن أن يكون عبد الرحمن الداخل من أمر بالرشوع يف صناعته يف قرطبة .ويشري ابن عذاري إىل أن عبد الرحمن الثاين ( 852-821م) كان أول من أمر بوضع دور الطراز ونرش إنتاجها يف قرطبة .ولنتذكر باملناسبة أن هذا األمري كان مهتامً عىل نحو خاص محاكاة البالط العبايس وأنه يف عهده وصل زرياب (الذي عاش ما بني حوايل -789/788و 858/857م) إىل قرطبة ،وكان عبارة عن بطل تثقيفي املتعدد املواهب وشبه أسطوري ،يجيد الشعر والغناء وعزف املوسيقى والفنون عامة، جاء إىل األندلس هارباً من بالط هارون الرشيد فجلب معه ليس فقط املستجدات املوسيقية 64باإلضافة إىل كتايب املعريض الهامني املؤمى إليهام أعاله: El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilizaciónو )Al-Andalus: las artes islámicas en España (1992 musulmana de Europa occidental (2001). أنظر الدراسات املختصة التالية: 1) Basilio Pavón Maldonado (1972), «La loza doméstica de Madinat al-Zahra», Al-Andalus, xxxvii, ;pp. 191-227; 2) Balvina Martínez Caviró (1991), Cerámica hispanomusulmana. Madrid: El Viso 3) Carlos Cano Piedra (1996), La cerámica verde-manganeso de Madinat Al-Zahra’. Granada: Fundación El Legado Andalusí.
74
خوسيه ميغيل بويرتا
(األلحان والتحسينات يف آلة العود وعزفه بالريشة الجديدة) بل أيضاً مبتكرات األطعمة وعادات األكل ،عالوة عىل استخدام املفارش الجلدية واألقداح الزجاجية عىل الطاولة ،األمر الذي جعل البعض أن يربط شخصيته بتنشيط صناعة الزجاج القرطبي .65ويقال أيضاً إنه تم تصنيع أقمشة لألمري محمد األول رسا ً يف مدينة بغداد نفسها باسمه منسوج يف األطراف، وأنه يف عهد األمري عبد الله ،كان حاكم إشبيلية إبراهيم بن حجاج يصنعها باسمه مقلدا ً العادة القرطبية ،كام ذهبت إليه بعض املصادر األندلسية .66وقد كتب ابن حوقل يف رحلته عن أنسجة ومالبس قرطبة بعد أن زارها يف عام 948م مشيدا ً بإلحاح بجودة الحرير وأنواع الصوف والديباج القرطبية وبهاء ألوانها وأصباغها وخفة وروعة ثياب ومالبس القرطبيني التي «ليس يف بلد من بلدان األرض لها نظري حسناً وكرثة» والتي كانت تصدر إىل مرص وأبعد تخوم الخراسان وصارت «مشهورة يف جميع األرض» ،عىل حد قوله .67عىل كل حال ،وصلتنا من الطراز القرطبي بعض األنسجة مع كتابات وزخارف يف حياكة بخيوط من الحرير متعددة األلوان وكثري من خيوط الذهب القربيص ،كالقامش الذي يعترب مئزرا ً لخليفة هشام بن الحكم الذي جاء من صندوق مقتنيات مقدسة لدير «شنت اشتينب دي غورماث» (San Esteban de )Gormazمبحافظة سوريا )( (Soriaشامل العاصمة مدريد) واملحفوظ يف «أكادميية التاريخ امللكية» يف مدريد ،وتبدي رشيطاً طويالُ من الكتابة يف طريف النسيج املتدليني عىل الكتفني ،مع العبارة «بسم الله الرحمن الرحيم ،الربكة من الله واليمن والدوام للخليفة اإلمام عبد هشام املؤيد بالله أمري املؤمنني» ،املكتوبة مرتني يف خطني معاكسني بالخط الكويف املورق الشبيه بنقوش مدينة الزهراء .ويف املساحة الفاصلة بني خطي الكتابة توجد سلسلة من املثمنات (عىل غرار املالبس القبطية املرصية) تنطوي عىل طيور وأسود وغزالن ،ويف أحد طريف املئزر مثمنان تحتويان عىل صوريت برشيتني :يف املثمن األول نرى صورة مبسطة لرجل لعله الخليفة هشام املذكور يف الكتابة ذاته ،وهو جالس القرفصاء وينظر اىل األمام حامالً يف يده قارورة ومشريا ً باألخرى إىل ميينه إشارة احرتام وطاعة ،حيث املثمن الثاين يتضمن صورة أنثى يفرتض أنها تفصيال عن مسري زرياب الفني والثقايف هو كتاب ابن حيان ( ،)2003املقتبس ( ،1-2طبعة محمود ً 65املصدر العريب األكرث ميك .الرياض ،مركز امللك فيصل للبحوث والدراسات اإلسالمية ،ص ،335-307حيث يجمع املؤلف أخبارا ً مدونة يف مناهل عربية وأندلسية سابقة .يُعرف أنه تم استرياد زجاج عراقي إىل األندلس ،لكن األمري محمد األول أمر بصنعه يف األندلس أيضاً ،واكتسب صيتاً يف مصانع مرسية واملرية خالل الخالفة ،وانتج بعدئذ يف إشبيلية يف دولة املعتمد بن العباد (القرن 11م) ويف مالقة ومرسية واملرية خالل القرن الثالث عرش امليالدي ،إىل جانب الخزف املذهب ،ويف مدن أندلسية أخرى. 66راجع: María Teresa Pérez Higuera (1994), Objetos e imágenes de al-Andalus. Op. Cit., pp. 86-88. 67ابن حوقل ( ،)1873كتاب املسالك واملاملك .ليدن ،بريل ،ص .79-78
75
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
«صبح» .هكذا ،فيغلب الظن أن لهذا القامش رمزية ملكية وسياسية واضحة متعلقة أمه ُ باألحداث الخطرة التي جرت بعد وفاة الحكم والتي عقبنا عليها أعاله .وبني سلسلة املثمنات التي تذكرنا قالئد العاجيات ،والتي ترتابط فيام بينها من قبل نجوم مثمنة ،توجد أشكال نباتية كتلك التي رأيناها يف زخارف بعض التحف العاجية ويف الجدران القصورية املشار إليها سابقاً .ومن املمكن أن يكون هناك تشكيل مامثل يف جزء من قامش مطرز من القرن العارش امليالدي يطلق عليه اسم «جبة أونيا» ( )Yuba de Oñaالذي عرث عليه يف دير سان سالبادور دي أونيا يف محافظة بُرغش (( )San Salvador de Oña, Burgosشامل العاصمة مدريد) والذي يُشاهد فيه شخص مرتبع عىل رسير تحمله فروع منبثقة من آنية بينام ينظر الشخص جانبياً ويشري بيده اليمنى إىل شخصية رئيسة كانت عىل األغلب متواجدة يف الجزء املفقود من النسيج .ومن دار الطراز القرطبية وصلنا أيضاً جزء من قطعة مطرزة مهداة إىل عبد الرحمن النارص وقد أنجزت بإرشاف ُد ّري يف عام 942-941م (متحف كليفالند Cleveland يف الواليات املتحدة) وجزء مام يعرف بـ «حاشية الربانس» (( )Franja del Pirineoمعهد بالنثيا دي دون خوان ،مدريد) ( ،)Instituto Valencia de Don Juanوهي جزء من نسيج يتكون من سلسلة من الدوائر املرتابطة ويف داخلها حيوانات منطية بالطية (كام يحدث يف تبق منها سوى إحدى هذه الدوائر التي علبة املغرية وكنز غا ّروتشا ،)Garrucha :بيد أنه مل َ تتضمن طاووساً وبعض األشكل النباتية والزهرية ذات صيغة تعود إىل عرص الخالفة .مثة قطعة من كفن القديس اليعازر يف كاتدرائية أوتون (فرنسا) ()Sudario de San Lázaro, Autun وفيها يظهر فارس بعاممة وصقّار بحزام ،ويذكر فيها بخط كويف بسيط اسم عبد امللك املظفر ،ما يسمح باعتبار القامش كنوع من التمجيد لإلنتصار املشار إليه آنفاً الذي تحقق يف عام 1007م عىل يد ابن املنصور .68وقد ظهرت بقوة يف عرص الطوائف دار طراز أخرى يف مدينة املرية ،التي أسسها عىل شاطئ البحر عبد الرحمن النارص يف عام 955م بعد أن سحق متردا ً للمستعربني وصد هجوماً فاطمياً عىل مدينة بَ َّجانة .وحلت املرية محل قرطبة يف صناعة األنسجة التي بلغت بالد املرشق أيضاً ،وقد قال اإلدرييس يف هذا الخصوص إن «مدينة املرية كانت يف أيام امللثم (املرابطني) مدينة اإلسالم ] [..وكان بها من طرز الحرير مثاين مائة طراز يعمل بها الحلل والديباج والسقالطون واألسبهاين والجرجاين والستور املكللة والثياب املعينة والخمر والعتايب 68راجع:
76
Cristina Partearroyo Lacaba (2007), «Tejidos andalusíes», Artigrama, 22, pp. 371-419.
خوسيه ميغيل بويرتا
واملعاجر وصنوف أنواع الحرير» .69وإىل طراز هذه املدينة األندلسية الساحلية ذاتها يرجع رداء دي فريمو (إيطاليا) ( )Capa de Fermoاملعروف ،الذي تخربنا كتابته أنه مصنوع يف «املرية» السنة 510م ( 1117/1116م) .هذا القامش الرائع مزخرف بربنامج تصويري مليك ثري موزع داخل دوائر مرتابطة )1 :شخص كبري الحجم ال بد أنه ميثل سيدا ً أو عاهالً يقعد القرفصاء يف رسير عرش مع مالمح ومالبس امللوك وإناء أمامه وخادمان إىل جانبيه يحمل أحدهام مروحة والثاين قارورة وغصن ،أي عالمات امل ُلك الشائعة يف عهد الخالفة )2 ،نزهة عىل ظهر الفيلة يقوم بها شخص أو ملك ملتح يلبس مئزرا ً ذهبياً عىل رأسه ويطل من قوس رسج ممسكاً مبروحة بيمناه ،الصيد بالصقور )3 ،فارس ميتطي جوادا ً يعدو )4 ،حيوانات منطية يف الفنون البالطية كالنرس الذي ينرش جناحيه ويصطاد الغزالن ،وفهد ،وفتخاء ،وأسد مجنح، باإلضافة إىل أبو الهول بجناحني وغصن يف فمه ،وظبيان صغرية وغزالن وببغاوات ،وطواويس وطيور مائية ،دون أن نفتقد للعنارص النباتية وأشجار الحياة وزهور اللوتس ،وال لألشكال الهندسية من دوائر ونجامت مثمنة ،مرسومة كلها كأنها قيطان من الفصوص أو سلك من اللؤلؤ .وهذا الرداء الذي يرجح أنه صنع للقائد املرابطي عيل بن يوسف ،الذي كان يحكم آنذاك ويراعي الفنون يف املرية ،خري دليل عىل أن اللغة البرصية الخاصة بقرطبة األموية ظلت حية يف أوائل القرن الثاين عرش امليالدي ،غري أن كتابته الكوفية املذهبة عىل خلفية زرقاء تعرب لنا عن أن أوان اضمحالل تلك الجاملية قد آن.70
صناعة الوراقة يف قرطبة وو ّراقوها
عىل مدى هذا العرض املقتضب لإلنتاج الفني القرطبي قام الخط العريب بدور جوهري يف تزويدنا باملعنى ،بدءا ً بالرخام الصلد والفسيفساء والفضاءات املعامرية العظيمة حتى املواد األكرث ليونة بالتدريج كالعاج والخزف واألنسجة وأخريا ً ،بطبيعة الحالّ ، الرق والورق. وإذا كانت الوراقة قد حققت يف اإلسالم تطورا ً هائالً غري مسبوق ،فإن قرطبة غدت إحدى بؤر صناعتها الرئيسة بفضل رعاية الصنائع واآلداب التي متتعت بها العاصمة من قبل
69اإلدرييس ( ،)2002كتاب نزهة املشتاق .القاهرة ،مكتبة الثقافة الدينية ،ص .562 70أنظر :املصدر السابق ،ص ،386-383وكذلك: Laura Ciampini (2009), La capa de Fermo: un bordado de al-Andalus, en Antonio Fernández-Puertas y Purificación Marinetto Sánchez (eds.). Arte y cultura. Patrimonio Hispanomusulmán en al-Andalus. Op. Cit., pp. 141-177.
77
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
أصحاب السلطة واملساهامت الخاصة ،ناهيك عن النشاط الديني والعلمي واألديب لألمويني القرطبيني وأتباعهم ،الذين أنشؤوا صناعة مزدهرة للكتاب يف األندلس مل تضيع أبدا ً تواصلها مع املرشق العريب .نحظى ببصامت دخول الكتابة العربية يف األندلس اعتبارا ً من النقود األندلسية األوىل املعروفة ،تحديدا ً دينار عام 93هـ ( 711-712م) ،باللغتني الالتينية والعربية ،ودينار عام 102هـ ( 720م) ،الذي سبك بعبارات إسالمية وملوكية بالخط الكويف طبقاً إلصالح سك العملة الذي قام به الخليفة عبد امللك يف املرشق ،كام هو شأن الدرهم الذي رضبه عبد الرحمن الداخل يف عام 145هـ ( 763-762م) يف سكة «األندلس» وغريه .ورسعان ما ترسخ أيضاً اإلستعامل الواسع واملنتظم للخط العريب يف املعامر وشتى الفنون وحقق تطورا ً رائعاً بعد الكتابات البسيطة املحفورة يف املرحلة األوىل حتى الخطوط الكوفية األنيقة غري املورقة واملورقة لحقبة الخالفة التي بلغ صيتها املرشق العريب حيث احتفت املصادر املكتوبة يف القرنني العارش والحادي عرش امليالديني بـ «الكويف األندليس» كأحد أهم أمناط الخط العريب .71ومنذ إمارة عبد الرحمن الداخل (حكم بني عامي 788 و 796م) الذي يقال إنه كان أديباً وشاعرا ً ،شجعت األرسة األموية األندلسية عىل استرياد الكتب ونسخها وصنعها وانشاء املكتبات .وقد جمع األمري محمد األول (حكم بني عامي 852و 886م) مكتبة ملكية كبري تخطت املكتبات املوجودة حينئذ يف قرطبة ،كام أن ولع حض اإلمرباطور البيزنطي قسطنطني بن ليون عبد الرحمن النارص بالكتب أمر مشهور ما ّ 72 عىل أن يهديه كتاب «يف ّ رق مصبوغ لوناً ساموياً مكتوب بالذهب بالخط اإلغريقي» ، ويقال إنه كان نسخة عن املؤلف يف الطب لديسقوريديس مزينة برسوم من النباتات 71نكتفي باإلشارة هنا ،عىل سبيل املثال ال الحرص ،إىل الالفتة التأسيسية ملسجد ابن عدبس يف إشبيلية الذي أقيم يف زمن إمارة عبد الرحمن الثاين ،وهي الفتة منقوشة بخط كويف بدايئ يذكر باألمري الباين واملرشف عىل األعامل الفقيه ابن عدبس، والنقاش الذي «كتبه» عبد ال ّرب بن هارون ،وتاريخ اإلنشاء السنة 214هـ ( 830/829م)؛ ويف لوحة الباب الرئيس لقصبة ماردة (غرب اسبانيا) نقش اسم األمري الباين عبد الرحمن بن الحكم (عبد الرحمن الثاين) وعامله «عبد الله بن كُلَيب بن ثعلبة» وصاحب البنيان املوىل «حيقار بن مكبّس» وتاريخ إصدار األمر بالبناء «شهر ربيع اآلخر من سنة عرشين ومئتني (املوافق لـ 4أبريل 2-مايو 835م) ،وقد أصبح الخط يف هذا النقش أكرث انضباطاً واستقاماً .ويف اللوحة التأسيسية لرتسانة طرطوسة منقوشة بيد ابن كُلَيب يف عام 333هـ ( )945/944وعىل وجه الخصوص يف كتابات مدينة الزهراء وتوسعة الحكم لجامع قرطبة وبعض التحف الفنية املشار اليها أعاله لعهد الخالفة وبعدها بعقود قليلة من الزمن ،ارتقى الخط الكويف القرطبي إىل قمته .أنظر: Manuel Ocaña Jiménez (1970), El cúfico hispano y su evolución. Madrid: Instituto Hispano-Árabe de Cultura. 72أنظر :املقري ( ،)1988نفح الطيب .الجزء ،1ص ،367ودراسة خوليان ريبريا التالية: Julián Ribera Tarragó (1928), Bibliófilos y bibliotecas en la España musulmana, en Disertaciones y opúsculos, I. Madrid: Imprenta de Estanislao Maestre, p. 191.
78
خوسيه ميغيل بويرتا
املوصوفة يف الكتاب ومغلفة بتجليد فخم وعجيب .ونعرف أيضاً أن موىل الخليفة األندليس األول ،املحدث القرطبي سعيد بن نرص أيب الفتح ( 1005/1004-928/927م) امتهن مهنة تنقيح الكتب .إال أن النشاط يف صناعة الوراقة وجمع املجلدات وإنتاجها بلغ ذروته عىل يدي الخليفة الثاين الحكم (امتدت خالفته بني عامي 961و 976م) وهي الفرتة التي تبلغنا املصادر األندلسية عنها بالعرشات بل واملئات من الشخصيات املتخصصة يف هذا الفن .ويف عاصمة األمويني تشكل وقتذاك حتى حي باسم «الرقاقني» مكرس لصنائع الرق والوراقة .وحسب تقديرات املستعرب اإلسباين خوليان ريبريا ( )Julián Riberaفإن أوج فرتة إزدهار قرطبة ميكن أن تكون قد أنتجت ما بني ستني ألف ومثانني ألف كتاب يف السنة ،إذا ما فكرنا يف عدد املعلمني ومعهم مئات الطالب الذين كانوا ينسخون دروسهم يف املسجد الجامع ويف املساجد األخرى ،ويف فرق النساء النساخات الاليئ ورد ذكر بعضهن يف النصوص ،فضالً عن الكثري من أصحاب املكتبات ومحبي الكتب وامللوك والقادة ورجال البالط الذين كان لديهم ناسخون مأجورون .73وقد جمع الحكم الثاين أكرب مكتبة معروفة يف األندلس انطالقاً من املكتبة املوروثة عن أسالفه ،وأضاف إليها مكتبة شقيقه محمد واملجلدات التي أمر شخصياً باقتنائها وبتصنيعها يف دور الكتب الخاصة به .كانت «خزانته العلمية» تضم 400ألف مجلد سجلت يف 44جزءا ً من الفهارس يتألف كل واحد منها من 20ورقة حسب ما أورده صاحب «طوق الحاممة» ابن حزم القرطبي ( 1063-994م).74 وكان أفضل مجلدي الكتب يف األندلس يعملون يف القصور األموية برفقة أبرع املزوقني
73أنظر:
Julián Ribera Tarragó (1928), Ibídem, p. 204. 74ابن حزم ( ،)1962جمهرة أنساب العرب .القاهرة ،دار املعارف ،ص .100حول ولوع الحكم املستنرص بالكتب والعلوم يضيف ابن حزم نصاً تم ذكره مرارا ً يروي فيه عن تليد الخيص أن الحكم «كان يبعث يف الكتب إىل األقطار رجاالً من التجار ويرسل إليهم األموال لرشائها حتى جلب منها إىل األندلس ما مل يعهدوه ،وبعث يف كتاب «األغاين» إىل مصنفه أيب الفرج األصفهاين ،وكان نسبه يف بني أمية ،بعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إىل العراق ،وكذلك فعل مع القايض أيب بكر األبهري املاليك يف رشحه ملخترص ابن عبد الحكم ،وأمثال ذلك .وجمع بداره الحذّاق يف صناعة النسخ واملهرة يف الضبط واإلجادة يف التجيلد ،فأوعى من ذلك كله ،واجتمعت باألندلس خزائن من الكتب مل تكن ألحد من قبله وال من بعده ،إال ما يُذكر عن العبايس بن املستيضء» ،حسبام يرده املقري يف «نفح الطيب» اعتامدا ً عىل ابن حزم وابن خلدون. لألسف «مل تزل هذه الكتب بقرص قرطبة إىل أن بيع أكرثها يف حصار الرببر –يكتب املقري يف روايته لألحداث اعتمدا عىل ابن خلدون– وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موايل املنصور بن أيب عامر ،ونُهِب ما بقي منها عند دخول الرببر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة» (راجع املقري [ ،]1988نفح الطيب ،الجزء ،1ص .)386
79
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
واملزخرفني والناسخني املتمرسني تحت إرشاف كبار النحويني والعلامء 75الذين قدموا من صقلية وحتى من بغداد .ومن بني الكتبة والخطاطني الذين عملوا للحكم الثاين ،يعد األديب واللغوي القرطبي محمد بن الحسني الفهري الذي كان وراقاً ومنقحاً ألعامل اللغوي املرشقي الكبري أيب عيل القايل البغدادي ( 893-967م) الذي تعلم يف بغداد زمناً وانتقل إىل قرطبة حيث تويف بعد أن علّم العديد من األندلسيني .وقد توىل العامل والوراق القرطبي املذكور ،ابن الحسني الفهري ،باإلشرتاك مع محمد بن معمر الجياين ،نسخ ومتحيص العمل الشهري أليب عيل القايل املعنون بـ «البارع يف اللغة» باإلَضافة إىل معجمني آخرين له« :كتاب الهمزة» و«كتاب العني» .وعندما أنهى الكتاب مثل الفهري أمام الحكم الثاين وأراد هذا األخري أن يعرف –حسب ما تؤكده املصادر– ما أضافه إىل «نسخة كتاب العني» للخليل، وهو أول معجم عريب ،فأخربه الوراق بأنه مل يضف سوى 5683كلمة (!!) .ويف صدد هذا التعاون اللغوي والوراقي بني أيب عيل القايل البغدادي واألندلسيَني املذكو َرين يجدر ذكر إعجاب القايل الكبري مبصنف مرشقي آخر هو «أدب ال ُكتَّاب» البن قتيبة ( 828-889م) الذي استعمله منوذجاً لطالبه األندلسيني .ويف وقت الحق سريشح هذا الكتاب إلبن قتيبة الذي يويل أهمية خاصة للخط العريب ،اللغوي والفيلسوف األندليس ابن السيد البطليويس ( 1052-1127م) ،ما متخضت عنه واحدة من التنظريات القليلة املكتوبة يف األندلس حول صناعة الخط من منظور ومصطلحات املرشق العريب .76وعىل الصعيد النظري لنرش أيضاً إىل أن الفقيه املاليك الشهري أبو عمر الداين ،الذي ولد يف قرطبة وأخذ العلم بعدئذ يف القريوان والقاهرة واملدينة ومكة وعاد إىل قرطبة قبل أن يستقر يف مدينة دانية يف رشق األندلس حيث تويف عام 1053م ،وصف يف واحد من مؤلفاته العديدة حول القراءات القرآنية، «املحكم يف نقط املصاحف» ،حرف «األلف» باملقارنة بجسم اإلنسان كنموذج لإلعتدال والجامل. 75فيام يتعلق بالتجليد سنلمح إىل أنه استند صنعه إىل جلد املاعز املدبغ الذي يُعرف يف اسبانيا باسم «قردوبان» ( ،)Cordobanيعني الجلد املدبغ عىل الطريقة «القرطبية» ،والذي يستخدم يف صناعة القفازات واملخدات واألرسجة وأغامد السيوف .ومثة نوع آخر من الدباغ يسمى «غداميس» ( ،)Guadamecíمنسوب إىل مدينة غدامس املغربية ،وهو من جلد الخروف وأكرث ليونة ومزركش برسوم ذهبية واأللوان ،وكان مصنعه يقع قدمياً يف حي «الرشقية» بقرطبة .حول التجيلد أتانا من األندلس «كتاب التيسري يف سنة التسفري» البن إبراهيم اإلشبييل (املتويف حوايل 1230و 1232م) الذي ميكن الرجوع إليه يف دارسة حسام مختار العبادي: Hossam Mujtar al-Abbady (2005), Las artes del libro en el Magreb y al-Andalus (siglos iv H./x d. C.viii H./xv d. C.). Madrid: El Viso. 76ابن السيد البطليويس ( ،)1963اإلقتضاب يف رشح أدب ال ُكتّاب ،بريوت ،دار الجيل .الجزء ،1ص .88-87
80
خوسيه ميغيل بويرتا
هناك شخصية أخرى أسهمت يف إدخال املعارف وأشكال الخطوط إىل األندلس قادماً من القريوان ،وهو أبو الفضل بن هارون الصقيل ( 907/908-989م) الذي انضم بعد قضاء فرتة يف املدينة اإلفريقية ،وهي إحدى مراكز إشعاع الخط العريب يف عرص اإلزدهار، إىل فريق وراقي الحكم ،ويل عهد النارص حينذاك ،وكسب سمعة طيبة يف مهنة الوراقة.77 وقد عمل ابن هارون الصقيل أيضاً يف خدمة جعفر البغدادي الذي «سكن قرطبة وكان من رؤساء الوراقني املعروفني بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقيل ويوسف البلوطي وطبقتهام ،واستخدمه الحكم املستنرص بالله يف الوراقة ملا ُعلم من شدة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها» .78وتضاف إىل فرق وراقي الحكم الشهرية النساء الكاتبات مثل لبنى الكاتبة وفاطمة بنت السبوالري وسواهام .نعرف بالفعل أن الكثري من «عاملات األندلس» كن يتمتعن بصفة كاتبات وخطاطات ،وكن غالباً من الجواري الاليت يعملن لسادتهن أو سيداتهن وكن يتكلفن بكتابة رسائلهم ووثائق رسمية أخرى ،كام كانت بعض أولئك الكاتبات ميتهن صناعة النسخ يف البالط ل ُحسن خطهن ،إال أنه مل تحتفظ مبخطوطات موقعة لهن عىل حد معرفتنا .ومهام يكن من أمر ،فإن الخط وهو أحد الفنون ،فضالً كمً أكرب من أخبار نساء مبدعات عن الشعر والغناء ،التي حفظت لنا املصادر العربية ّ يف اإلسالم العريب الكالسييك ،وذلك ألن فنسخ املصاحف والكتب العلمية كانت تعد من املهن التي تطبعها التقوى وتكسب اإلحرتام ملنافعها اإلجتامعية وبالتايل هي من أنسب املهن لهن .يف زمن إمارة وخالفة قرطبة األموية ،عىل األقل منذ عهد عبد الرحمن الثاين، انخرطت نساء من الجواري واملعتقات واألديبات والكاتبات يف خدمة البيت املليك وامللِك عينه ،وهو ما فعل أسالفهم يف دمشق والعباسيون يف بغداد .هكذا تذكر املصادر جارية مدعوة بـ «قلم» العاملة يف خدمة عبد الرحمن الثاين كمغنية وأديبة وكاتبة والتي كانت من أصل باسيك وبعد أن تعلمت الغناء يف املدينة املنورة اقتناها هذا األمري ليسطع نجمها يف قرطبة بفضل معارفها األدبية وحفظها للشعر ونظمه وروعة خطها .وحتى إبنة لألمري عبد الرحمن الثاين تدعى «بهاء» اختارت حياة الزهد وعكفت عىل نسخ القرآن وأهدائه كوقف حبيس عىل غرار التونسية «فضل» التي يُحتفظ منها مبصحف يحمل توقيعها. 77املعلومات الواردة هنا حول خطاطي وخطاطات قرطبة مستخرجة من معاجم وأعامل ابن األبّار وابن بشكوال وابن الفريض وابن عبد امللك واملقري .أنظر: José Miguel Puerta Vílchez (2007), La aventura del cálamo: historia, formas y artistas de la caligrafía árabe. Granada: Edilux, pp. 139-202. 78املقري ( ،)1988نفح الطيب ،الجزء ،3ص .111
81
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
وتكرمياً لورع هذه الناسخة املنتمية إىل األرسة الحاكمة يف قرطبة سمي مسجد ربض الرصافة ،شاميل العاصمة األندلسية ،باسمها ويُعرف بـ «مسجد البهاء» .وتوفيت «بهاء» يف شهر رجب سنة 304هـ (ديسمرب 917م) عندما بدأ ُحكم عبد الرحمن النارص الذي كانت تخدمه عدد من الجواري ممن متتعن مبهارات يف الخط ،كالجارية املعتقة «راضية» التي احرتفت الوراقة يف املكاتب الرسمية ،و«كِتامن» كاتبة قرطبية للخليفة النارص يف قرص قرطبة ،وكذلك « ُمزنة» (املتوفية يف عام 358هـ [ 986م]) كاتبة وأديبة ممتازة للنارص، و « ُز ُمرد» التي ال تخربنا عنها املناهل األندلسية سوى أنها كانت «كاتبة» بخط حسن يف قرطبة توفيت يف عام 336م ( 947م) .باإلضافة إىل األدباء والخطاطني وعشاق الكتب وفدت إىل قرطبة من بغداد العباسيني أيضاً بعض الكاتبات مثل «ست نسيم البغدادية» التي ضمها عبد الرحمن النارص لفريقه لرباعتها يف محاكاة خطه وكتابة الوثائق الرسمية بعد أن ضعف برصه يف شيخوخته. وظفت يف خدمة ابنه الحكم املستنرص بالله مجموعة من الجواري الاليئ تم إعدادهن يف املوسيقى واآلداب والخط« :لُبنى» (املتوفية يف عام 986-984م) وقد ورثها الحكم عن أبيه النارص، وكانت متضلعة يف النحو والعروض والحساب عالوة عىل كونها شاعرة وخطاطة ،والقرطبية «فاطمة بنت زكريا بن عبد الله الكاتب» (توفيت يف 1036م) ،ابنة موىل وكاتب للحكم وحاجبه جعفر ،اشتهرت ككاتبة حسنة الخط وملمة بعلوم عدة؛ وشارك يف جنازتها املهيبة ملا توفيت عن عمر الرابعة والتسعني جمهور غفري ودفنت يف مقربة «أم سالمة» بقرطبة .أما إبن الحكم ،الخليفة هشام الثاين ،فقد حظي بخدمة «نظام الكاتبة» املشهورة بفصاحتها واختصاصها يف نسخ الرسائل وتحريرها يف قرص الخالفة بقرطبة ،وكانت هي من كتبت خطاب العزاء املوجه لعبد امللك املظفر عند وفاة والده املنصور بن أيب عامر ،وهو خطاب يتضمن أيضاً تعيني عبد امللك خلفاً لوالده يف شوال من عام 392م (أغسطس-سبتمرب 1002م) .إال أن مساهمة النساء يف النسخ والوراقة مل يقترص يف قرطبة عىل إطار البالط وإمنا تجاوزته بكثري إذا ما أخذنا باإلعتبار ذلك املعطى الذي تردد يف معظم املقاالت حول تألق قرطبة األموية والذي يؤكد عىل أن مائة وسبعة وعرشين امرأة ك ّن ينسخن املصاحف بخط كويف يف الربض الرشقي يف حقبة الخالفة ،ما دفع املستعرب خوليان ريبريا املذكور إىل الظن أن سبب هذا التوظيف الجامعي للنساء يف النسخ قد يفرس بتقاضيهن أجورا ً أقل من الرجال ،عالوة عىل براعتهن ونبل املهنة بالنسبة لهن. وبعد تداعي الخالفة ظلت املصادر األندلسية تذكر خطاطات قرطبة .ويدرج املقري يف رص «نفح الطيب» من بني سلسلة الرتاجم املقتبسة من ابن حيان ،الذي كان باملناسبة ي ّ 82
خوسيه ميغيل بويرتا
عىل أنه مل تكن هناك جارية واحدة يف األندلس ميكن منافستها يف العلم والتعليم وامللكات الشعرية ،تراجم ألديبات وشاعرات قرطبية ،مثل عائشة بنت أحمد بن محمد بن قديم القرطبي (الذي تويف يف سنة 400هـ [ 1010/1009م]) ،التي كانت جارية معتقة ولرمبا شقيقة الشاعر محمد بن قديم بن زياد .ألفت عائشة أشعارا ً مديحية لحكام أندلسيني عدة ويرد ذكرها لخطها الرائع الذي اعتمدته يف نسخ املصاحف وتحرير الدفاتر وتدوين الكتب، أعامل سمحت لها بجني ثروة كبرية وتشكيل مكتبة جيدة والتمتع بنفوذ يف أوساط ال ُحكم مع كونها عزباء .ويف مدينة قرطبة تسجل املراجع األندلسية أيضاً أخبار عن تونة بنت عبد العزيز بن موىس بن طاهر بن سبأ (القرن الحادي عرش-بداية القرن الثاين عرش امليالدي)، زوجة املقرئ أيب القاسم بن مدير ،خطيب جامع قرطبة ،ووالدة أيب بكر ،التي لقبت بحبيبة وتعلمت عىل يد أيب عمر بن عبد ال ّرب الذي أخذت أعامله كتاب ًة ،وعىل يد أيب العباس العذري؛ وبعد ذلك ،علّمت هي زو َجها املعارف التي اكتسبتها من هذين الشيخني الكبريين وقد نالت سمعة كبرية لجودة خطها وللدقة التي كانت تنسخ بها الكتب. لكن لألسف مل يصلنا سوى القليل من صنائع الكتاب القرطبية هذه ،ومن هذا اإلرث يجدر التنويه هنا إىل مصحف بالغ القيمة الفنية والتاريخية مصنوع من الرق يف قرطبة املرابطني انتهى به املطاف إىل مكتبة جامعة أسطنبول حيث يحتفظ به اليوم (رقم .79)A6755إنه مخطوط عىل قطع رق شبه مربع (ضلع 18بـ 18,8سم) ويسرتعي النظر تصميم صفحة غالفه الداخلية (ورقة )3aالبديع املكون من شبكة من الخطوط املنحنية واملستقيمة ينسجها رشيط عريض بلون الرق يحيلنا شكله فورا ً إىل املرشبيات األموية ذات األشكال الهندسية كتلك التي تغلق شبابيك جامع قرطبة؛ يشكل امتداد الخط-الرشيط هذا مربعاً خارجياً بعد تكوين مثاين دوائر متوسطة مرتابطة فيام بينها انطالقاً من نجمة مركزية ثُ انية فيها مثمن ذو رشيط ذهبي مضفور عىل شكل نجمة صغرية مثمنة ساموية اللون عىل خلفية زرقاء داكنة ،ما يوحي بحركة الدوران وميثل ألعيننا يف الحال صورة قبة الفسيفساء الثامنية أمام محراب الحكم الثاين ،مبا فيها التضاد بني اللونني الذهبي واألزرق الخاصني برمزية امل ُلك .ففي هذه العودة البرصية من خفة الرق إىل صالبة البنيان التي تدعونا إليها هذه الصفحة القرآنية ،نلفى ،طبعاً ،جنان التورايق الرقيقة القرطبية املذهبة عىل خلفية زرقاء 79أنظر: Sabiha Khemir (1992), Corán manuscrito, en Jerrilynn D. Dodds (coord.). Al-Andalus: las artes islámicas en España. Op. Cit., pp. 304-305.
83
عظمة آثار قرطبة ومعناها الفني
غامقة مع ملسات من نغامت األخرض واألحمر يف بعض الفضاءات .ويف ختام هذا املصحف (الورقة 145bو )146aاملخطوط بحروف كوفية مرشقية زرقاء ومؤطرة بالذهب داخل مربع عريض مآلن بأشكال نباتية دائرية وذهبية اللون ونجمة مثانية يف كل زاوية من زواياه األربع، كتب قبل التصلية أنه كمل املصحف بعون الله وفضله السنة 548هـ ( 1144/1143م) يف مدينة قرطبة ،حامها الله.
سرية املؤلف
خوسيه ميغيل بويرتا (قرية دوركر ،غرناطة )1959 ،هو خريج تاريخ الفن ودكتور يف اللغة العربية من جامعة غرناطة وأستاذ يف قسم تاريخ الفن يف الجامعة ذاتها مختص يف تاريخ الفن اإلسالمي واألندليس والجاملية العربية .ومن بني دراساته باللغة اإلسبانية عن هذه املواضيع تذكر الكتب Historia del pensamiento estético árabe. Al-Andalus y la estética árabe clásica (Madrid, 1997), La aventura del cálamo. Historia, formas y artistas de la caligrafía árabe (Granada, 2007), Leer la Alhambra (Granada, 2010), La poética del agua en el islam / The Poetics of Water in Islam (Gijón, 2011). ومن بني نصوصه باللغة العربية يف هذا املجال «البنية الطوباوية لقصور الحمراء» ،العرب والفكر العاملي ،العدد ،20-19بريوت-باريس ،1992 ،ص ،63-4و«اإلحتفاء بالصورة معرف ًة وجامالً يف الفلسفة العربية .الفكر الفني العريب واألن َْس َنة األوروبية» ،مجلة «اآلخر» ،بريوت ،دار الساقي ،ص .193-155وأرشف مع الزميل خورخي لريوال (جامعة املرية) عىل تحرير موسوعة «مكتبة األندلس» ) (Biblioteca de al-Andalusالتي صدرت باللغة اإلسبانية يف تسعة مجلدات بني 2003و.2013
امللخص
تطرح هذه املقالة مقاربة جديدة حول القيم التاريخية والفنية والداللية ملعامر قرطبة وفنونها باإلستناد إىل اإلسهامات العلمية الصادرة يف الفرتة األخرية وإىل املصادر العربية األندلسية .بهذه الغاية تعيد النظر إىل العنارص املكونة ملسجد قرطبة ومدينة الزهراء وأبعادهام الجاملية ،باإلضافة إىل أهم الصنائع من الرخام والربونز والعاج والخزف والنسيج والكتاب ،إمعاناً خاصة يف سرب العالقات القامئة بني األشكال واملضامني جميعها ،من ناحية، 84
خوسيه ميغيل بويرتا
ومن ناحية أخرى يف املسؤولني عن إنتاج تلك األعامل الفنية والصناع والخطاطني والخطاطات اللذين أبدعوها.
الكلامت املفتاحية
العامرة األموية ،التحف الفنية ،الخط العريب ،الصناع.
ترجمة
خوسيه ميغيل بويرتا
83
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية خوان ف .مور ّيو ريدوندو عندما اضطلع رفائيل كاستيخون وهو أحد رواد العامرة القرطبية يف عام 1929مبهمة استلهام الصورة الحرضية لقرطبة يف القرن العارش امليالدي ،وذلك مبناسبة االحتفال بألفية إعالن الخالفة ،أوضح موقفه من هذه املهمة متحدثاً عن الصعوبات واملحددات التي اكتنفت محاولته هذه ومذكّرا ً بالتشاؤم الذي أبداه أمادور دي لوس ريوس بهذا الخصوص قبل ذلك بثالثني عاماً إذ كان يرى يف هذه املهمة مرشوعاً مستحيالً .1يف الوقت نفسه قام إيفاريست ليفي-بروفنسال ،أعظم مستعرب بني أقرانه ،بوضع عمله العظيم حول «إسبانيا املسلمة»، وقد حمله الدور البارز ملدينة قرطبة عىل التأكيد عىل أن تاريخ إسبانيا املسلمة ما بني القرنني الثامن والحادي عرش إمنا كان يف كثري من الجوانب هو تاريخ عاصمتها .2أولئك كانوا هم الرواد الذين وضعوا أسس املعارف املتعلقة بـ «قرطبة الخالفة» .وقد تغري املشهد يف أعقاب هذه الدراسات التي متثل نقطة انطالق البحث يف القرن العرشين ليصبح أكرث تنوعاً وغنى األمر الذي ساعد عىل متييز مراحل عدة .وعليه فإن املشهد كان حتى الربع األخري من القرن املايض يسيطر عليه العلامء والباحثون الذين قاموا من خالل الجهود الفردية بالبحث يف مختلف جوانب املايض اإلسالمي للمدينة .ومتيزت هذه املرحلة مبحاوالت تفسري األخبار املنقولة عن 1رفائيل كاستيخون (« ،)1929( )Rafael Castejónقرطبة الخالفة» ،نرشة أكادميية قرطبة امللكية؛ رودريغو أمادور دي لوس ريوس (« ،)1895( )Rodrigo Amador de los Ríosمالحظات حول التاريخ األثري لقرطبة خالل فرتة الوجود اإلسالمي». «Apuntes para la historiaو ;«Córdoba califal», Boletín de la Real Academia de Córdoba, 25, pp. 254-339 monumental de Córdoba durante la dominación musulmana», Revista de España, 10, junio, p. 402. 2إيفاريست ليفي-بروفنسال (،)1944( )Évariste Lévi-Provençal Histoire de l’Espagne musulmane. I. De la conquête a la chute du califat de Cordoue (710-1031). El Cairo: Institut français d‘archéologie orientale.
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
النصوص العربية والسعي ملطابقتها مع االكتشافات األثرية القليلة التي أمكن السيطرة عليها يف مدينة كانت منهمكة يف التنمية الحرضية والدميغرافية املتصاعدة. لقد مثلت العقود األخرية من القرن العرشين لحظة انتقالية إذ شهدت إنشاء جامعة قرطبة (عام )1972ونقل الصالحيات يف مجال الرتاث التاريخي إىل حكومة إقليم أندالوث ّيا (عام )1984وإقرار الخطة العامة للتنظيم الحرضي (عام )1986وقد تصادفت جميعها مع إعادة تفعيل النشاط الحرضي الذي كان له دور قوي يف االهتامم بآثار املدينة التاريخية وعىل نحو خاص باآلثار اإلسالمية التي كانت وضعيتها تشهد نوعاً من الهشاشة وعدم الحامية بسبب عجز قانوين الرتاث التاريخي الحكومي املركزي (الصادر عام )1985واإلقليمي (الصادر عام )1991عن إفراز آليات قادرة عىل إدارة شؤون اآلثار وحاميتها. وكان علينا أن ننتظر املصادقة عىل الخطة العامة الجديدة للتنظيم الحرضي سنة 2001 وتشغيل برامج البحث الشامل كالربنامج املشرتك بني إدارة التخطيط العمراين وجامعة قرطبة ما بني عامي 2002و 2011قبل أن نشهد تحسناً يف إدارة شؤون اآلثار الحرضية يف قرطبة ،وقد ترجم ذلك من خالل الزيادة امللحوظة يف حجم وجودة املعلومات املتاحة حول اآلثار .بيد أن تلك الفرتة قد شهدت أيضاً حاالت نجاح وإخفاق عدة .فقد أُحرز تقدم كبري يف وضع القواعد الوقائية لحامية اآلثار ويف مجال تسيري األعامل الخاصة باآلثار واملرتبطة بالنشاط الحرضي وتنظيمه .كام متت املحافظة عىل الكثري من بقايا اآلثار التي تنتمي إىل مايض املدينة ،لكن العمل فيها مل ينجز بعد وهو ما ميكن لنا أن نلمسه من خالل إيقاع العمل املتبع يف املعبد الروماين وحاممات عهد الخالفة أو القرص ،ومن املتوقع أن متيض سنوات طويلة قبل االنتهاء من العمل فيها ومن عملية تحويلها إىل متاحف .باختصار ،لقد قطعنا عقدين من النشاط املحموم تم خاللهام إجراء الكثري من عمليات البحث والتقيص بخصوص اآلثار التي كان يتهددها خطر الضياع ولكننا مازلنا يف حاجة إىل عدة عقود للرشوع فقط مبعالجة تلك املعلومات. قرطبة بوصفها عاصمة إلحدى أكرث املحافظات الرومانية ثراء ،وكانت تدعى كولونيا باتريثيا كوردوبا ،حققت تطورا ً بارزا ً بعد إعادة تأسيسها عىل يد اإلمرباطور أغسطس( 3خريطة ،)1 3لإلطالع عىل هذا املوضوع الخاص بقرطبة يف العرص الروماين ،أنظر :شابيري دوبريه إي رابينتوس ()Xavier Dupré i Raventós (نارش) (« ،)2004العواصم اإلقليمية لهيسبانيا» « .1كولونيا باتريثيا قرطبة» .روما :لوإما دي بريشتنيدر ،خوان ف .موريو ( ،)2008( )Juan F. Murilloكولونيا باتريثيا قرطبة حتى أرسة فالفيا« .صورة حرضية لعاصمة إقليمية» ،يف ريكاردو غونثاليث بياسكوسا (نارش)« .تشبيه روما :2روما ،العواصم اإلقليمية وإنشاء فضاء أورويب مشرتك :مقاربة أركيولوجية» .رميس :الجمعية األثرية ،ص ،94-71وديسيديرو باكرييثو خيل ( )Desiderio Vaquerizoوخوان ف .مورييو ريدوندو ( ،)2010مدينة وضاحية قرطبة .نظرة تاريخية (القرن الثاين قبل املسيح-القرن السابع بعد امليالد) .ويف وديسيديرو باكرييثو خيل (نارش)« .مناطق الضواحي الحرضية يف املدينة التاريخية :طوبغرافيا واستخدامات ووظيفة» .قرطبة :جامعة قرطبة ص .522-455
88
خوان ف .موريّو ريدوندو
وذلك مبواءمة مظهرها العمراين مع املتغريات السياسية واالقتصادية والفكرية العميقة التي حدثت ابتدا ًء من القرن الرابع امليالدي .وقد مرت هذه املدينة التي متتد جذورها إىل الحقبة الرومانية مبرحلة التنصري التي استمرت من القرن الرابع إىل القرن السابع لتصبح بعد ذلك عاصمة األندلس يف عام .717ومع وصول عبد الرحمن األول واستعادة «الرشعية األموية» يف أقىص غرب العامل اإلسالمي يف عام 756م ،أخذت قرطبة منحى جديدا ً ومهامً يف التطور الحرضي تأسس عىل ثالثة أعمدة .يف املقام األول ،استمرار بعض «الثوابت» املوروثة عن قرطبة الرومانية واملسيحية وعىل هذه الثوابت أقيمت مناذج حضارية ومعامرية رشقية، وبعيدا ً عن عاميل الدميومة والتغيري وكل منهام معقد ومتحول عىل مر القرون ،فقد انتهى بها املطاف إىل فرض نفسها بوصفها عامالً جوهرياً محددا ً ثالثاً ،وهو عملية أسلمة الفضاءات يف املجاالت كافة وبال توقف ،مبا يف ذلك مجال الطوبغرافيا الحرضية ،وهو هدف تحليلنا هنا عىل وجه الخصوص. خريطة رقم .1إعادة تركيب الشكل الحرضي لكولونيا باتريثيا كوردوبا يف نهاية القرن األول امليالدي.
املصدر :اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة.)gmu-uco( .
ونتيجة لهذا التفاعل الجديل فإننا نجد أنفسنا يف النصف الثاين من القرن العارش إزاء واقع حرضي مختلف متاماً عن الواقع املعروف سابقاً .فقد تجاوزت «قرطبة الخالفة» املراكز 89
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
الحرضية األوروبية املعارصة كافة ومعظم املراكز الحرضية اإلسالمية لتصبح مدينة كربى تقارن فقط ببغداد يف عهد العباسيني .إن ازدهار قرطبة الخالفة ،قرطبة عبد الرحمن الثالث التي تغ ّنى بها الشعراء األندلسيون وح ّنوا إليها ،مل يكن عمل جيل واحد هو جيل عبد الرحمن الثالث بل كان نتاج عملية تاريخية شديدة التعقيد تقاطع فيها كل من املسار الحرضي الذي توطد عىل مدى ألف عام ،وقوة اإلسالم لدى صياغة الشكل الحرضي والطابع االجتامعي ،واملفهوم األموي للسلطة التي رسخها األمري األول املستقل وحورها عبد الرحمن الثاين وفقاً ملعايري منقولة عن الخصم العبايس ،ثم تم «إحداث ثورة فيها» الحقاً عىل يد الخليفة األول الذي بسبب من وعيه مبحددات النظام وبضغط من التغريات االجتامعية االقتصادية الحاصلة يف األندلس ،وتفكك وحدة الخالفة العباسية النظرية أكرث منها الواقعية، وبفعل الضغط املسيحي عىل الثغور الحدودية والتهديد الفاطمي يف شامل إفريقيا ،سيسعى لتعزيز سلطته من خالل رشعية فكرية تتخطى مفهوم عزة الخالفة لتتجاوز األدوات التقليدية األموية املتمثلة بالقوة العسكرية وما يستتبعها من قدرة عىل جبي الرضائب.4
من كولونيا باتريثيا الرومانية إىل كوردوبا املسيحية
متيزت كوردوبا املسيحية التي غزاها املغيث يف عام 711م بكونها حيز مادي يحدده السور املحيط باملدينة الرومانية القدمية وكان يضم نسيجاً حرضياً حياً ويف حالة تحول نتيجة لديناميكية تاريخية دنيوية أدت إىل تفكيك شبكة الطرق والتخيل عن/أو تحويل الفضاءات واملباين العامة وكذلك الطقوس الجنائزية املقامة داخل السور القديم ،كل هذا بتناغم مع عملية تحول يف املدينة القدمية كانت قد اتضحت معاملها منذ القرن الثالث، ومتكنت البحوث األثرية الحديثة من مسح مناطق الضواحي وخاصة «الضاحية الغربية»، مع إهامل وتفكيك املرسح املدرج وبناء املجمع املعامري يف ثريكادييا يف السنوات األوىل
4حول أداء األمويني القرطبيني ،إىل جانب األعامل الكالسيكية إيفاريست ليفي-بروفنسال ،من الرضوري األخذ يف الحسبان املراجعة التي قام بها إدواردو مانثانو ( ،)2006( )Eduardo Manzanoوكذلك «غزاة وأمراء وخلفاء :األمويون وتشكيل األندلس» .برشلونة ،دار نرش كريتيكا .وهو تفسري جديد لـ «الثورة» املفروضة من قبل عبد الرحمن الثالث يف سنة ،929 وقد قامت به ماريا إيسابيل ف ّريو بيو ( ،)2010( )María Isabel Fierro Belloو «عبد الرحمن الثالث والخالفة األموية يف قرطبة» .دونوستيا-سان سباستيان :نرييا. Eduardo Manzano (2006), Conquistadores, emires y califas: los omeyas y la formación de al-Andalus. María Isabel Fierro Bello (2010), Abderramán III y el califato omeya de Córdoba.و ;Barcelona: Crítica Donostia-San Sebastián: Nerea.
90
خوان ف .موريّو ريدوندو
من القرن الرابع.5 لقد كانت هذه الضاحية الغربية يف منتصف القرن الرابع تعيش مرحلة تنصري تامة، متثلت يف عملية تحويل مجمع ثريكادييا إىل مقر إقامة لألسقف أوسيو ،وبناء مجموعة مبان ثقافية من املحتمل أن تكون لها عالقة بالشهداء املسيحيني عىل رمال املرسح املدرج الذي تم هدمه ،ومن خالل التنصري التدريجي لألمكنة املتعلقة بالطقوس الجنائزية .ومع ذلك فإن هذه العملية داخل أسوار املدينة مل تصبح ملموسة عىل املستوى اآلثاري حتى نهاية القرن الخامس ،وقد استندت عملية التحول هذه إىل منوذج جديد لشغل الحيز الحرضي راح يتعمق من خالل تفكك شبكة الطرق بهدف تأسيس واقع حرضي جديد. لقد استمر النصف الشاميل من املدينة (عىل وجه الدقة ذلك الجزء الذي حددت فيه املراكز األثرية الرئيسية ومراكز السلطة) مأهوالً بالسكان عىل نحو طفيف مع وجود مساحات واسعة بدون تشييد ،وهي من سامت التنظيم العمراين الذي يفتقر إىل املنطقية ،ولعلها كانت مخصصة للبساتني أو مكبات القاممة ،فضالً عن تلك التي كانت تستخدم عىل نحو متقطع ألغراض الدفن ،هذا من جهة ،ومن جهة أخرى فإننا نجد أنفسنا يف هذه املدينة العتيقة إزاء ظواهر لسكن غري مستقر يف مبانٍ قدمية ،سواء العامة منها أو الخاصة ،مع مالحظة التغريات يف العالقات االجتامعية واالقتصادية لدى السكان الحرضيني .وبصدد هذا الوضع نجد أن الحال يف القطاع الجنويب كان مختلفاً متاماً ،فقد ُجمعت فيه املباين الجديدة والفضاءات العامة ومراكز السلطة ومنازل األرستقراطية املحلية بحثاً عن العنارص اإلسرتاتيجية البارزة كالنهر وامليناء النهري والجرس. وعىل الرغم من أن عملية التوثيق مازالت شحيحة ومجتزأة فإن البحث املتعلق باآلثار الذي طور يف العقد األخري بدأ يف رسم الخطوط األساسية ملا سيشكل مركز السلطة السياسية والدينية الجديد عىل مدى ألف عام .والعنرص األكرث قدماً حتى اللحظة هو املجمع املحصن املسمى بالقلعة ،castellumوكانت له وظائف متعددة ويجسد السلطة املدنية املسؤولة عن حكم املدينة وهو ما تثبته أبعاده الواسعة وضخامته واالندثار األكيد للسور القديم الذي متت إزالته ،وكانت تبدو كحصن منيع يتطلع صوب النهر ،ويحيط مبدخل الجرس يف الجزء 5أنظر ديسيديريو باكرييثو خيل و خوان ف .موريّو ريدوندو (نارش) (« ،)2010املدرج الروماين يف قرطبة ومحيطه الحرضي (القرن األول-القرن الثالث عرش امليالدي) .قرطبة :جامعة قرطبة. Desiderio Vaquerizo Gil y Juan F. Murillo Redondo (eds.) (2010), El Anfiteatro romano de Córdoba y su entorno urbano (ss. i-xiii d. C.). Córdoba: Universidad de Córdoba.
91
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
األقل حامية منه.6 من ناحية أخرى ،فقد كشفت التنقيبات التي أجريت يف موقع (مركز استقبال الزائرين) عن وجود مبنى كبري مجاور لسور املدينة الجنويب مع باحة واسعة مفتوحة عىل ساحة باب الجرس مرتبطة بفناء تنفتح عليه غرف ذات مساحات كبرية ،بلطت أرضياتها بأحجار خاصة بالبناء الروماين .opus signinumويعود تاريخ هذا املبنى األثري إىل نهاية القرن الخامس أو بداية القرن السادس ،وقد ارتبط باملجمع األسقفي سان بيثنته يف كوردوبا ،وهو أمر مثبت تاريخياً .وال نعرف إن كان تأسيس املجمع األسقفي قد عنى إلغاء الشارع الرئييس من املدينة الجديدة ،بيد أنه من املحتمل أن يكون كذلك ،وبهذا تقررت حركة املرور من الجزء العلوي من املدينة حتى باب الجرس من خالل الشارعني الجانبيني اللذين يحيطان باملوقع ويحفان بالواجهتني الغربية والرشقية للجامع األموي الالحق ،ليؤدي إىل الساحة الرومانية القدمية التي حورت متاماً ،بأروقتها التي أزيلت يف القرن الخامس ،واملدخل الغريب للبوابة األصلية ذات الفتحات الثالث املس ّيجة منذ القرن السادس عىل أغلب الظن ،وواجهة املبنى الكبري الذي ينتمي إىل ما قبل العصور الوسطى تتسيد الجانب الرشقي .7واملجمع كله يحدد الصورة الحرضية التي تجسد مجال سلطة األسقف ،فهو السيد الحقيقي للمدينة تقريباً عىل مدى قرنني ميتدان من انهيار اإلدارة اإلقليمية الرومانية يف (البتيكا) حتى الغزو النهايئ كوردوبة عىل يد ليوبيخيلدو يف عام .585
الغزو العريب وبدء األسلمة
شهدت قرطبة من القرن الرابع حتى القرن السابع تحوالً تدريجياً يف إطار بعض املعايري التي ميكن أن تعني نوعاً من التداعي ،بل ونوعاً من األزمة ،إال أنها مل تكن سوى انعكاس لتحوالت
6أنظر: Alberto León y Juan F. Murillo (2009), «El complejo civil tardoantiguo de Córdoba y su continuidad en el Alcázar Omeya», Madrider Mitteilungen, 50, pp. 399-432. 7انظروا الصفحات من 524-521والصورة رقم ،247من دراسة خوان أف موريّو (وآخرون) (،)2010 Juan F. Murillo, Alberto León Muñoz, Elena Castro, M.ª Teresa Casal, Raimundo Ortiz y Antonio J. González (2010), La transición de la civitas clásica a la madina islámica a través de las transformaciones operadas en las áreas suburbiales, en Desiderio Vaquerizo Gil y Juan F. Murillo Redondo (eds.). El Anfiteatro romano de Córdoba y su entorno urbano (ss. i-xiii d. C.). Op. Cit., nota 5, pp. 503-547 (véanse pp. 521-524 y figura 247).
92
خوان ف .موريّو ريدوندو
اقتصادية واجتامعية وسياسية عميقة نتجت عنها مدينة مختلفة لكنها حافظت عىل وظائف مامثلة لسابقتها يف عامل أكرث ريفية وأقل ترابطاً مام كان عليه يف القرون السابقة .وسوف يشهد هذا املسار توقفاً إثر هزمية وانهيار دولة القوط الغربيني يف عام 711م والغزو اإلسالمي الالحق.8 بعد قرابة ستة أعوام ،أي يف عام 717م ،وصل الحاكم «الح ّر» ولديه تعليامت محددة من الخليفة يك يقيم يف قرطبة عاصمة األندلس ويضع أسس التنظيم اإلداري لألرايض الجديدة التي ضُ مت إىل اإلسالم .وهذه املفاضلة لصالح قرطبة عىل حساب إشبيلية التي أراد إدواردو مانثانو تربيرها بوصفها محصلة لالختالفات التي أحاطت بظروف االستيالء عىل املدينتني (االتفاق مقابل الغزو) ومن ثم إمكانية الحصول عىل غنائم وتقاسمها يف قرطبة ،9إمنا تعود للنظرة الجيوسرتاتيجية الصائبة املعربة عن رغبة دمشق الجلية يف توطيد الغزو وضامن جبي الرضائب وعملية االتصاالت من خالل قرطبة وجرسها الذي ُر ّمم يف عام 720بأمر رصيح من عمر الثاين سيلعب دورا ً رئيساً يف هذا السياق. واستمرار الحياة الحرضية يف قرطبة بعد الغزو سيكون كلياً ،إذ مل يثبت البحث اآلثاري بشكل موثق حدوث أي توقف باستثناء عملية إعادة التكيف املنطقي مع االحتياجات الجديدة .واملثال عىل هذا هو مسار التشكل الحرضي داخل الفضاء املسور املوروث الذي انتهى إىل تشكل مدينة قرطبة حيث بدت يف عام 711يف خضم عملية تح ّول تجلت نقطة بدايتها يف وضع التصميم الخاص بطرق املدينة الرومانية التي تعود إىل عرص اإلمرباطور أغسطس .10أما نهايتها فتمثلت 8كان الغزو العريب عام 711هدفاً لجدل حامي الوطيس يف علم التأريخ مل يقترص دوماً عىل املجال العلمي ،وهو ما أبرزه كل من إدواردو مانثانو وماريا أنطونيا مارتينيث نونييث ،لذا البد للقارئ املهتم من أن يكون ذو تفكري نقدي جدا ً لدى تعامله مع املراجع الببليوغرافية الخاصة بهذا املوضوع .أنظر: Eduardo Manzano (2011), «Algunas reflexiones sobre el 711», Awraq, 3, pp. 3-20; y M.ª Antonia Martínez Núñez (2011), «¿Por qué llegaron los árabes a la Península Ibérica?: las causas de la conquista musulmana del 711», Awraq, 3, pp. 21-36; Eduardo Manzano (2006), Conquistadores, emires y califas: Pedro Chalmeta (1994),و ;los omeyas y la formación de al-Andalus. Op. Cit., nota 4, pp. 29-186 Invasión e islamización: la sumisión de Hispania y la formación de al-Andalus. Madrid: Mapfre. 9هذا التفسري ساذج جدا ً ،إذ كان من املمكن ،ألسباب مامثلة ،اختيار واحدة من املدينتني الكبريتني األخريني (طليطلة وماردة) وإغفال مسألة أن يف قرطبة كانت هناك ممتلكات واسعة ألشخاص «متعاونني» مثل أرتوباس الذي تنازل بعد سنوات للسوري الصميل عن مزرعة «عقدة الزيتون» .أنظر: Eduardo Manzano (2006), Conquistadores, emires y califas: los omeyas y la formación de al-Andalus. Op. Cit., nota 4, pp. 71-72 y 112. 10أنظر هامش رقم ،3الصورة رقم ، 4من خوان ف .موري ّو (،)2008 Colonia Patricia Corduba hasta la dinastía flavia. Imagen urbana de una capital provincial. Op. Cit., nota 3, figura 4.
93
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
بأول «خريطة شوارع» منتلكها عن قرطبة ،أو ما دعي بـ «خريطة الفرنسيني» ( )1811إذ نجد معلومات كافية ال لتمييز التحوالت التي متت فيها خالل القرن التاسع عرش والعقود األوىل من القرن العرشين فحسب ،بل ولجزء كبري من التحوالت التي شهدتها ابتداء من القرن الرابع عرش. «خريطة الفرنسيني» (الخريطة رقم )2تبني أن الجزء األكرب من أبواب مدينة قرطبة القدمية التي كانت مستعمرة رومانية قد عرث عليه يف بداية القرن التاسع عرش ،وقد استطاع مانويل أوكانيا أن يثبت أن هذه األبواب كانت تستخدم أيضاً يف الحقبة اإلسالمية .11وانطالقاً من هذه األبواب سمحت «خريطة الفرنسيني» بإجراء تحليل هرمي للطرق 12وعملية تفكيك تقوم عىل رؤية زمنية يقدمها لنا البحث العلمي اآلثاري الحديث .عىل سبيل املثال ،ميكننا التحقق من كيفية انتشار أصغر أنواع الطرق ،وهي الدروب ( )adarvesالتي كانت تعكس عملية ازدحام األرايض والتمركز الكثيف فيها ،13عىل نحو خاص يف القطاع الجنويب حول املسجد الجامع ،وال يزال قامئاً منها حتى اليوم أكرث من ثالثني درباً .يف املقابل فإن ندرتها يف القطاع الشاميل تبدو ذات داللة ،عىل وجه الدقة يف املنطقة التي ستسجل بعد الغزو املسيحي ندر ًة يف السكان ووجود البساتني والزرائب والفضاءات األخرى غري املبنية حتى وقت متأخر ،األمر الذي حدد منطقة متميزة لسكنى السادة والحقاً تح ّولت إىل أديرة .هذه الخصوصية ميكن أن تشري إىل ميزات خاصة يف شَ غل هذا القطاع ،تحديدا ً يف املناطق األكرث بعدا ً عن نواة السلطة املتمركزة يف الواجهة الجنوبية من املدينة ،وهي املنطقة املتأثرة بندرة السكان ومن ثم فقد كانت تفتقر إىل املساكن النوعية ما جعلها قليلة الجاذبية بالنسبة للمسلمني األوائل الذين وصلوا مع (املغيث) إذ حصلوا أول األمر عىل منازل أكرث أهلية يف قطاعات أشد اكتظاظاً بالسكان. 11أنظر:
Manuel Ocaña (1935), «Las puertas de la medina de Córdoba», Al-Andalus, iii, pp. 143-151.
12أنظر: Juan F. Murillo, María Dolores Ruiz, Silvia Carmona y Maudilio Moreno-Almenara (2009), La manzana de San Pablo-Orive. يف سياق تطور تاريخي-حرضي ملدينة قرطبة أنظر: Francisco Gómez Díaz, Antonio Luis Ampliato Briones, Maudilio Moreno Almenara, Juan Francisco Murillo, Dolores Ruiz Lara, Silvia Carmona y Rafael García Castejón. Orive. La clave del espacio público en el centro histórico de Córdoba. Córdoba: Ediciones de La Posada, pp. 45-135 (véanse la figura 48 y pp. 101-103). 13صياغة هذا املفهوم ،املطبق عىل املدن األندلسية ،تم تطويره عىل يد خوليو نابا ّرو باالثون بيدرو خيمينيث كاستييو ( Pedro Jiménez Castilloو ،)2003( )Julio Navarro Palazónحول املدينة اإلسالمية وتطورها ،أنظر: Sebastián F. Ramallo Asensio y Ana María Muñoz Amilibia. Estudios de arqueología dedicados a la profesora Ana María Muñoz Amilibia. Murcia: Universidad de Murcia, pp. 319-381.
94
خوان ف .موريّو ريدوندو
خريطة .2تحديد بوابات مدينة قرطبة والتصنيف الهرمي للطرق انطالقاً من أساس خريطة عام ،1811املصححة واملعدلة رقمياً طبقاً لعلم الخرائط الحايل.
املصدر :اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (.)gmu-uco
بعد ذلك بزمن وجيز ،أدت التقلبات املضطربة التي اتسمت بها العقود األوىل من الوجود اإلسالمي يف قرطبة ،وانتقال غالبية السكان املسيحيني للعيش خارج أسوار املدينة ،إىل استقرار محتمل يف املنطقة الشاملية لجامعات تربط ما بينها صالت قرىب وميكننا العثور عىل آثارها من خالل تقيص األسامء الجغرافية يف املواقع الحرضية ،وذلك يف إطار سياق معروف مامثل
95
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
ملا دأب عليه الحال يف املدن اإلسالمية األوىل .14ويستنتج هذا من اسم شخصيتني عربيتني من الثلث األول من القرن الثامن ،وهام عبد الجبار بن الخطاب وعامر بن عمر القريش اللذين احتال مقربة (مقربة عامر القريش) فضالً عن البابني الواقعني باتجاه الشامل من جزأي السور الرشقي والغريب للمدينة ،وقد عرفا بباب ابن عبد الجبار وباب عامر ،وكذلك من كون الحي الواقع بني باب عامر وباب اليهود قد أخذ اسم مجموعة بني زيّايل الرببرية .ثم يف وقت الحق من القرن التاسع ،كان البد أيضاً من التوكيد عىل موضع هذا الجزء املرتفع من املدينة ذي املنازل الحرضية الكبرية ،البعيدة عن املحيط الصاخب لباب القنطرة واملسجد الجامع، والخاصة بالصفوة القرطبية.
قرطبة ،رأس الدولة األموية الجديدة يف األندلس
يف أعقاب مرحلة الحكام التابعني للخليفة ،وهي املرحلة التي متيزت بعدم وجود برنامج حرضي وتوجهات واضحة عىل صعيد تنظيم قرطبة وأراضيها ،سيحدث تغيري جوهري يف تشكيل املدينة اإلسالمية الجديدة بتأثري من صعود عبد الرحمن األول إىل سدة الحكم يف عام 756م ،إذ سيرتك أثرا ً ال ُيحى عىل مستقبل قرطبة من خالل برنامج عمراين مدين قام به عىل ثالثة أوجه ،وميكننا وصفه باملتوارث نظرا ً لطول مدته واللتزام ورثته به .وسيكون أول هذه الرموز الحجرية العمرانية األموية هو املسجد الجامع الذي أقيم عىل جزء من املجمع األسقفي القديم (سان بيثنته) والذي صار منوذجاً لجميع املساجد املبنية يف األندلس انطالقاً من املثال الدمشقي املتجسد باملسجد األموي الكبري .وقد أسهم صيت مؤسسه ،وتحريم املذهب املاليك وجود أكرث من مسجد جامع يف كل مدينة ،يف تحويله إىل مبنى خاص يحظى برعاية األرس الحاكمة (الخريطة رقم ،)3وقد قام األمراء والخلفاء بتزويده مبلحقات متنوعة (منارة ،أمكنة للوضوء مزودة باملاء ،ساباط ،منرب )..وتوسعته حتى مضاعفة مساحته أربع
14وهي النظرية التي يشري إليها مانويل أثيني أملانسا وأنطونيو باييخو تريانو (،)1998( )Manuel Acién Almansa Urbanismo y Estado islámico. De Córdoba a Qurtuba-Madinat al-Zahra, en Patrice Cressier, Mercedes García-Arenal y Mohamed Méouak. Genèse de la ville islamique en al-Andalus et au Maghreb occidental. Madrid: Casa de Velázquez, Consejo Superior de Investigaciones Científicas (csic), pp. 107-136.
96
خوان ف .موريّو ريدوندو
مرات لكن دون أن يفقد الخواص الطوبغرافية املفروضة يف عام .15786 الخريطة رقم .3فرضية تطوير الزاوية الجنوبية الغربية ملدينة قرطبة ما بني عبد الرحمن األول والحكم الثاين.
املصدر :اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (.)gmu-uco 15بغية دراسة الجوانب املتعلقة مبسجد قرطبة ال تزال قيمة الدراسات التي قام بها كل من فليكس إرنانديث ،مانويل أوكانيا، ليوبولدو تو ّريس بالباس ،كريستيان إيورت ،وقد أكملها ب .مارفيل .بالنسبة لتنفيذه وتوسعه الالحق يف املجمع األسقفي القديم يف قرطبة والعالقات مع الفضاء املدين املمثل بالقرص ،أنظر هامش رقم 6والصفحات من 419-416والصورة رقم ،5من دراسة ألربتو ليون وخوان ف .موريّو .أنظر: Alberto León y Juan F. Murillo (2009), «El complejo civil tardoantiguo de Córdoba y su continuidad en el Alcázar Omeya», Op. Cit.
97
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
مقابل هذا املركز املقدس كان عبد الرحمن األول قد قام قبل عام بإنشاء البنية التحتية األساسية للدولة وقد متركزت يف القرص .ويقع القرص يف الزاوية الجنوبية الغربية من املدينة، قريباً من املسجد ،وقد ضم القلعة القدمية ( )castellumواملقر املليك القوطي ،لو صدقنا ما يورده املوروث العريب نفسه .وهنا تعود مسألة محاكاة دمشق لتصبح جلية 16من خالل اإلنجازات البنائية الالحقة التي قام بها الحكم األول الذي عزز دفاعاته الخارجية وعبد الرحمن الثاين الذي أدخل تعديالً كبريا ً عىل قرص العامرة وهذه اإلصالحات متت يف سياق أوسع إلصالحاته اإلدارية ،بشكل رئييس يف زيادة احتياجات متطلبات متثيل السلطة التي ستؤدي إىل الفصل املادي لبعض املالحق الحكومية كدار السكة أو دار الطراز اللتني انتقلتا إىل الضواحي خارج األسوار .ثم تعاظم دور القرص القرطبي كمظهر ومتثيل للسلطة السياسية األموية إثر إصالح الرصيف القائم عىل النهر عام 827م ،وهي األشغال الرضورية املكملة لعملية ترميم الجرس بعمق ،وهذه املهمة كان قد رشع فيها هشام األول قبل عقود عدة. ومن خالل هاتني املبادرتني أضفى «املهاجر» عىل قرطبة يف السنوات األخرية من حكمه صورة حرضية ستكون ميزة واضحة لتطورها الالحق ،وليتشكل نوع من الحضور «املركزي ،وفقاً للترصيح الفكري األموي السيايس والديني املتمثل يف شخص األمري .ويف الوقت نفسه فإن أجهزة الدولة الناشئة والدور املحفوظ لصالة الجمعة يف املسجد الجامع ستكون كلها مبثابة عوامل تكامل يف مواجهة حالة التقسيم الحرضي الواضحة آنذاك الناجمة عن تواصل تشكل مناطق الضواحي والزخم الجديد الذي راحت تكتسبه .وتحديدا ً من خالل متفصل هذا الفضاء القائم خارج األسوار سيتم التدخل الثالث لعبد الرحمن األول الذي سينقل إىل قرطبة ،من خالل تأسيس منية الرصافة ،منوذجاً لالستغالل الزراعي والحيواين وتراكم الفوائض الذي يعيد إنتاج منوذج سوري ذي مضامني أموية واضحة ،عىل الرغم من أنه يستند إىل بنى تحتية ذات أصول رومانية. 16أنظر: Thierry Bianquis (2000), Damas, en Jean-Claude Garcin, Jean-Luc Arnaud y Sylvie Denoix. Grandes villes méditerranéennes du monde musulman médiéval. Roma: École française de Rome, pp. 37-55. وعن قرص قرطبة ،ال تزال رضورية أطروحة ليبولدو توريس بالباس ( ،)1990الفن اإلسباين-اإلسالمي حتى سقوط خالفة قرطبة يف: Ramón Menéndez Pidal. Historia de España, vol. v. Madrid: Espasa-Calpe, pp. 331-788. وقد قام بتحديث هذه األطروحة كل من ألبريتو مونتيخو (وآخرين) يف ( ،)1999وكذلك ألربتو ليون ()Alberto León وخوان ف .موريّو يف ( .)2009أنظر: Alberto J. Montejo, José Antonio Garriguet Mata y Ana María Zamorano Arenas (1999), El Alcázar Andalusí de Córdoba y su entorno urbano, en Córdoba en la Historia. La construcción de la urbe. Alberto Leónو ;Córdoba, Barcelona: Ayuntamiento de Córdoba, Fundación «la Caixa», pp. 163-172 y Juan F. Murillo (2009), «El complejo civil tardoantiguo de Córdoba y su continuidad en el Alcázar Omeya », Op. Cit., nota 6.
98
خوان ف .موريّو ريدوندو
ويف إطار صياغة هذا الفضاء شبه الحرضي لقرطبة الذي قام عليه العمل الرامي لألسلمة عىل يد األمراء األمويني (خريطة )4فقد لعبت األرباض دورا ً أساسياً ،إىل جانب املنيات واملقابر، ومناطق الضواحي وخصوصاً تلك املخصصة لإلقامة والسكن التي كان يسكنها املستعربون يف بداية األمر وفيام بعد الفئة املتنامية من املتحولني إىل اإلسالم .ويف مرحلة أوىل من مراحل تشكل هذه األرباض ميكننا متييز منوذج عفوي ُحدد يف املناطق القريبة من أبواب املدينة الرئيسية وهو النموذج الذي أدى إىل والدة ربض شقندة وسابوالر وبالط املغيث انطالقاً من املراكز املأهولة السابقة للغزو وفيها تسلم املسلمون األوائل بيوتاً وممتلكات فبدأوا عملية التطوير الحرضي إىل جانب املستعربني تحديدا ً الذين كانوا يعيشون حول الكنائس املسيحية يف ضواحي تريس سانتوس وسان أثيسكلو أو سان ثويْلو. خريطة .4قرطبة يف القرن التاسع.
املصدر :اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة (.)gmu-uco
لقد أدى تدمري شقندة يف عام 818وذلك إثر مترد السكان ضد الحكم األول إىل تعطيل أهم ربض كان قيد التشكل يف قرطبة ،فتولت هذا الدور بعض الضواحي الناشئة التي ستتحول يف القرن التاسع إىل أحياء مستقبلة للزيادة السكانية يف املدينة وعنارص فاعلة يف أسلمتها. 99
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
ويف عام 1997عندما أجريت أول مقاربة لعملية تشكيل وتطوير أرباض مدينة قرطبة، لفتنا االنتباه إىل وجود «بؤرة جذب» مستمرة عىل نحو مسبق يف أصل كل ربض ،وهو ما تجىل يف حالة ربض الرصافة بالنسبة ملنية عبد الرحمن األول أو يف بالط املغيث مع األمالك التي تحمل االسم نفسه .17وعند املراجعة الالحقة وتطوير التخطيطات املعروضة مع ذلك النص املنشور يف عام 2004عرضنا كيف أنه بتأسيس الرصافة عىل موقع كان موجودا ً سابقاً، قام عبد الرحمن األول بتدشني نهج يف قرطبة سيكون منذ تلك اللحظة مميزا ً للمرحلة األموية 18 كلها ونعني به إقامة منية عىل مسافة من املدينة تكون مبثابة بؤرة لتشكل الربض واملقربة الخاصة به يف أطرافها ومبحاذاة الطريق املوصل إىل املدينة .وسيتكرر النموذج نفسه مع ابنه هشام األول عندما أسس منية «دار امل ُلك» يف أر ٍ اض قريبة من شقندة ،ومع حفيده الحكم األول ومحظيته «عجب» وقد أسس منية أخرى يف الضفة اليرسى للنهر باتجاه املصب من قرطبة ،ومع األمري عبد الله عند تأسيس «الناعورة» يف الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري باتجاه غرب قرطبة ،وكانت متصلة بهذه املدينة عرب طرق عدة. ويف مرحلة ثانية وابتدا ًء من الربع األول من القرن التاسع علينا أن نضيف إىل هذه البؤر األولية التي كانت مبثابة نقاط استقطاب تنبئ بظهور أرباض جديدة ،عملية تأسيس املساجد واملقابر والحاممات ومراكز خدمة أخرى عىل يد أشخاص مرتبطني بأرسة األمري أو من الفئة القريبة منها .وجميعها كانت تشرتك يف صفة ثبات املوقع ضمن قطاع واسع ميتد إىل غرب املدينة وتسلط الضوء عىل ظاهرتني هام وجهان لعملة واحدة :التقدم يف الجانب الحرضي لقرطبة وامليض يف أسلمتها .وتبدأ القامئة مبسجد ومقربة « ُمتعة» ،ومسجد « َعجب»، وكلتاهام زوجتا الحكم األول .وتنسب املصادر إىل «عجب» أيضاً إنشاء منية كانت تحمل اسمها ووضعت ضمن أمالك الوقف أو مؤسسة خريية مخصصة لإلرشاف عىل مشفى للجذام (ربض املرىض) موجود يف ضواحيها .ويف عهد عبد الرحمن الثاين تم بناء املقربة ومسجد «امل ُع ّمرة» ومساجد «طروب» و «شفاء» و «فجر» وكلهن زوجات األمري ،ويضاف إليها مسجد 17أنظر ،مقاربة لتحليل الفضاءات السكنية يف قرطبة األندلسية يف: Juan F. Murillo, M.ª del Camino Fuertes y Dolores Luna (1999), Córdoba en la Historia. La construcción de la urbe. Op. Cit., pp. 129-154. 18أنظر: Juan F. Murillo, Elena Castro del Río y M.ª Teresa Casal (2004), «Madinat Qurtuba. Aproximación al proceso de formación de la ciudad emiral y califal a partir de la información arqueológica», Cuadernos de Madinat al-Zahra, 5, pp. 257-290.
100
خوان ف .موريّو ريدوندو
«مرسور» الذي بُني بطلب من هذه الشخصية الرفيعة يف البالط .وأخريا ً علينا أن نتذكر مقربة «أم سالمة» التي بنيت عىل يد إحدى زوجات األمري محمد شاميل العاصمة. كانت الوظيفة اإلنتاجية ذات الطابع الزراعي الحيواين مسألة أساسية ومن الخصائص املميزة لتعريف املنيات القرطبية ،لكنها فقدت أهميتها مقابل األرايض املخصصة لإلقامة أو املكرسة للمتعة واللهو يف حدائقها وقصورها وصالوناتها أو أجنحتها بحيث أن األرايض التي كانت تقام عليها انتهى بها املطاف بأن ابتلعها التطور الحرضي الرسيع الذي تعرضت له قرطبة يف النصف الثاين من القرن العارش .ومع ذلك ،ففي هذه املرحلة الثالثة بقي هذا النموذج حياً وحدث تغيري كبري واحد فحسب متثل يف أن ابتالع الضاحية لجزء كبري من الفضاء الحرضي املوجود بني قرطبة ومدينة الزهراء قد أدى إىل ظهور حزام آخر ذي خصائص مامثلة استمرت فيه إنشاءات بداية القرن العارش كـ «الناعورة» ومبان أخرى جديدة مثل مبنى «الرومانية» غرب مدينة الزهراء. هذا املسار الذي انتهينا توا ً من إيجازه يتضح بشكل جيل يف منطقة الضواحي الشاملية الغربية وذلك من خالل الرصافة ،مقر اإلقامة املفضل لعبد الرحمن األول الذي شيد عىل أرض رومانية-قوطية فسيحة كانت مزودة بنظام مايئ مكرر يف أواسط القرن األول امليالدي .وكان هذا النظام يشتمل يف األقل عىل موضعني لجلب املياه من املنطقة املعروفة اآلن بالباترياركا، وقنوات صغرية وخزانات وشبكة من القنوات الثانوية التي كانت متتد إىل منطقة تبلريو ألتو املجاورة ،وبقي يُستخدم حتى الوقت الراهن مع إجراء بعض التعديالت والتجديدات املنطقية يف بعض عنارصه.19 كان وجود هذا النظام املايئ املسبق ،وهو بال شك واحد من أكرث األنظمة املعروفة يف محيط قرطبة تعقيدا ً ،هو الذي فرس مسألة اختيار األمري األموي األول فبدونه كان من املستحيل سد احتياجات كثرية سواء بالنسبة للحدائق والبساتني أو للبيوت وأمكنة اللهو، وكذلك للحامم املوثق زمنه يف عهد عبد الرحمن األول .فقد ساعد امتداد خط النظام املايئ املوجود يف الجزء األعىل من ويرتا دي أروثافا الحالية ،بارتفاع يصل إىل 170مرتا ً ،عىل ري مساحة شاسعة بلغت نحوا ً من 50هكتارا ً وال نستبعد أن يكون هذا النظام قد استكمل بنظام آخر موجود نحو الرشق مبارشة ،يف منطقة تابلريو ،حيث تم حديثاً توثيق مبانٍ ميكن أن يعود تأريخها إىل القرنني التاسع والعارش. 19بالنسبة ملا ُعرض هنا بخصوص الرصافة ،أنظر: Juan F. Murillo (2009), «La almunia de al-Rusafa en Córdoba», Madrider Mitteilungen, 50, pp. 449-482.
101
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
كانت منية الرصافة ،هذه امللكية الكبرية ،متصلة بشكل جيد باألبواب املفتوحة يف جانبي املدينة الشاميل والغريب من خالل عدة طرق أصلها روماين بال جدال كونها محاطة باملقابر وبسبب الـمدينة الرومانية ( )villaeوتصميم قنايت املياه .وقد ظهرت عىل طول هذه الطرق منذ منتصف القرن التاسع نقاط سكنية شكلت مع ميض الوقت ،يف حوايل القرن العارش، ما أطلقت عليه املصادر العربية اسم ربض الرصافة .وسننطلق يف التعرف عىل املساحة الطوبغرافية والتطور التعاقبي والخواص الحرضية لهذا الربض بفضل الحفريات التي متت يف أوائل التسعينات. نجد يف الوضع الحايل للبحث العلمي املتعلق باآلثار أن قطاع هذا الربض املوجود هناك يف وقت مبكر هو الذي يقع إىل جانب طريق «أ ّرويو ديل مورو» ،يف الطرف الرشقي من الرصافة حيث يوجد حيز خاص باألمراء يعود إىل القرن التاسع والعقود األوىل من القرن العارش عىل أر ٍ اض كانت أساساً ملكية رومانية استمرت حتى الحقبة اإلسالمية إذ تحولت إىل وحدة إنتاجية عىل شكل امل ُنية ،وكثري من ملحقاتها كان موضع تنقيب يف تقاطع شارع تريويل مع جادة بريّانتي .ويف هذا القطاع كله ،وحتى الطريق القريبة املبارشة التي كانت تصل الجزء الشاميل من الرصافة بباب اليهود ،تطورت منطقة من الربض يف الجزء الشاميل للمدينة بعد التيقن يف بعض النقاط من وجود مرحلة أمريية سابقة عىل االزدهار الذي تحقق يف منتصف القرن العارش عندما ابتلع نسيج الضواحي بعض مالحق املنية املذكورة ،وهي اللحظة التي بدأت فيها األرباض تتحد فيام بينها لتتالىش إىل حد كبري الحدود الصارمة التي تفصلها عن بعضها .وهنا أيضاً ستتشكل منذ الحقبة األمريية مقربة إسالمية مبساحة معينة رمبا يتوجب علينا أن نقرنها مبقربة الرصافة. مثة منطقة أخرى رمبا تعود إىل فرتة ما قبل الخالفة تقع يف الجزء الجنويب الغريب من الرصافة .ومع ذلك ،وعىل خالف ما هو قائم يف الطرف الرشقي ،ليس لدينا ما يثبت وجود حضور روماين أو أي عرص قديم متأخر ،فالحضور اإلسالمي األول مرتبط مبنطقة صناعية مخصصة إلنتاج الفخار حيث كانت توجد عدة أفران ومنشآت أخرى يعود تشغيلها إىل السنوات األخرية من القرن التاسع أو بداية القرن العارش. ويثبت التسلسل الزمني أن هناك ُمنية أخرى تقع يف الرشق مبارشة من منطقة الصناعات الحرفية ،بجوار تشعب الطريق الذي يربط الجزء الغريب من الرصافة باألبواب الغربية ملدينة قرطبة .وقد شهدت هذه امل ُنية تجديدا ً مهامً يف أواسط القرن العارش تزامن أيضاً مع التخطيط الحرضي لألرايض ومتثل بإنشاء مبنى جديد ،أو رمبا يف ترميم طريق كانت قامئة وهو األكرث 102
خوان ف .موريّو ريدوندو
احتامالً كام يتبني من دراسة العديد من عنارص التصميم املعامري التي تم استعادتها .ويف هذه السنوات نفسها ،أو بعد ذلك بقليل ،ميكن تحديد التكثيف يف التخطيط الحرضي الذي تعرض له هذا القطاع الغريب من الرصافة ،بجانب املنية وعىل جهتي الطريق القدمية التي كانت موضع عملية رصف يف الفرتة ما بني القرنني العارش والحادي عرش. هناك مرحلة تخطيط عمراين الحقة يف العقود األخرية من القرن العارش نجدها يف غرب املنطقة الصناعية ،يف أقىص نقطة من توسع ربض الرصافة وأمام الجزء الرشقي من تورونيويلوس .وتتمثل يف حي سكني ظهر بشكل جديد متاماً وبتنظيم قيايس يتعارض مع التنظيم املالحظ يف باقي الربض .20أما تاريخه الزمني فموثق من خالل الطابع املتطور للّقى الخزفية ،وكذلك بفعل استغالل قناة املياه الرومانية للتخلص من مياه املجاري ،وهو أمر غريب متاماً ميكن تفسريه فقط بفقدان هذه القناة وظيفتها األوىل متاماً بعد تحويرها لتزويد مدينة الزهراء باملياه. وسواء أكان بالنسبة ملوقعه يف الطرف الغريب من الرصافة إذ يقع يف نقطة بعيدة ال يثبت من خاللها وجود مناطق مخططة حرضياً ،أم لتصنيفه الزمني املتأخر ،العامري عىل نحو واضح ،وخواص تصميمه الحرضي وطبوغرافية املساكن نفسها ،فإنها كلها ميكن أن تشري إىل متاثله مع تلك املنازل املأهولة بالقوات الرببرية التي كانت يف خدمة العامريني والتي تعرضت للسلب والنهب يف عام 1009عىل يد القرطبيني من أتباع محمد بن هشام عبد الجبار املهدي، ما أدى إىل املواجهة الدموية التي قضت عىل الخليفة األموي .بيد أن التحقق من صحة هذه الفرضية مرهون باالستمرار يف البحث اآلثاري يف هذا القطاع من الربض ،وعالقته املبارشة تبدو أساسية من خالل الطريق الذي يصل بوينته دي لوس نوغاليس مع تو ّرونْيويلوس. إن هذا املكان األثري الواسع وامللغز ال يزال تأويله قامئاً لكن رمبا كان من الرضوري ربطه باالحتياجات العسكرية للدولة األندلسية ،إن مل يكن هو موقع فحص الرسادق كام كان قد اقتح ،21أو لرمبا كان ترسانات أو مصانع أسلحة أو أي مجمع آخر ملبان ذات وظيفة عسكرية. ُ 20أنظر: Juan F. Murillo, F. Castillo, Elena Castro del Río, M.ª Teresa Casal y Teresa Dortez (2010), La almunia y el arrabal de al-Rusafa en el Yanib al-Garbi de Madinat Qurtuba, en Desiderio Vaquerizo Gil y Juan F. Murillo (eds.). El Anfiteatro romano de Córdoba y su entorno urbano (ss. i-xiii d. C.). Op. Cit., nota 5, pp. 565-614. 21أنظر: Manuel Acién Almansa y Antonio Vallejo Triano (1998), Urbanismo y Estado islámico. De Córdoba a Qurtuba-Madinat al-Zahra, Op. Cit., nota 14, p. 126.
103
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
ويف هذا السياق ميكن أن نشري إىل الدليل الذي قدمته الحفريات الجارية يف ويرتا دي سانتا إيسابيل ،عىل مسافة ثالثة كيلومرتات غرب أسوار املدينة ويف جنويب تو ّرونيويلوس مبارشة .وهنا تم التوثيق ملدينة رومانية تنتمي إىل مرحلة متقدمة من عهد اإلمرباطورية ترتبط بها مقربة كانت تضم مقابر للحرق ضمت أدوات شخصية ميكن أن يعود تاريخها إىل القرن الثاين وأخرى للدفن مع عنارص من األدوات الشخصية تنتمي إىل العرص القديم املتأخر. ويشكل جزءا ً من هذه املستوطنة نظام هيدرولييك عرث فيه عىل قنايت مياه صغريتني وسلسلة من مستودعات املياه الكبرية ،أكربها تبلغ أبعاده يف األقل نحوا من 10×70م ،وكانت هدفاً للعديد من الرتميامت التي حافظت عليه قيد االستخدام حتى عرص الخالفة .وكون الجزء األكرب من هذا املوقع مل يتم التنقيب فيه بعد يجعل االستنتاجات مؤقتة ،خاصة فيام يتعلق باملستوطنة الرومانية الكبرية. بيد أن الجزء اإلسالمي الذي خلفه يبدو أكرث وضوحاً ،فقد تم التنقيب يف أربعة مبانٍ كبرية. اثنان منها ،املدعوان بـ 3و 4يقدمان تسلسالً تاريخياً أمريياً ،بينام االثنان اآلخران ينتميان إىل فرتة الخالفة ،ويربز من بينها املبنى رقم 1القائم إىل جانب الطريق التي تربطه بتو ّرونيويلوس ويقع عىل مسافة 600م باتجاه الشامل .وهناك قناة كبرية نقاط تجميع مياهها موجودة يف أرايض املزرعة نفسها ،وميكن أن تكون قد استخدمت للتزود بها .والخواص االستثنائية للفناء املستطيل الواسع لهذا املبنى ،املرصوف بدقة باألحجار ،وكذلك ضيق وانتظام املمرات التي تنفتح عليه تحمل عىل التفكري يف أنه كان إسطبالً للخيل أو مقر سالح فرسان كبري وملحقاته املساعدة ،ويف الوقت نفسه العالقة الواضحة مع تو ّرنْيويلوس ،كلها أمور تجعلنا نتذكر النص للمقري الذي يتكلم عن تربية الخيل ومصانع األسلحة التي أقامها املنصور يف منيته اإلشكايل ّ الخاصة به« ،العامرية». وبعد تحديد املحيط الحرضي للمنطقة القريبة من الرصافة يبقى أمامنا فضاء واسع، وتؤكد األدلة اآلثارية أنها منطقة غري مخططة حرضياً مع أن بها أثر برشي ومحددة بسور ودعامات عند الخارج ،22وهناك ميكن تحديد املنية الكربى لعبد الرحمن األول .ولعل نواتها املركزية موجودة يف املنطقة املحيطة بـ «ويرتا دي ال أ ّروثافا» الحالية ،وفيها تم توثيق نظام مايئ مهم بُني يف العرص الروماين وال يزال يستخدم إىل اآلن .وأسفل خط هذا النظام توجد 22حدد موقع هذا السور ببنائه الذي ينتمي إىل القرن التاسع من خالل نقطتني يف تصميمه .وعىل عكس منيات أخرى تم تحديد موقعها يف الطرف الغريب لقرطبة ،مل تختف الرصافة نتيجة للتطور الحرضي يف القرن العارش ،وهو فارق آخر يجب أن يؤخذ يف الحسبان من بني اإلنشاءات األموية يف قرطبة.
104
خوان ف .موريّو ريدوندو
الحدائق والبساتني التي يعتقد أنها كانت تعمل بنظام الري ،وكذلك جزء كبري من امللحقات السكنية وخدمة املنية ،مبا يف ذلك الحامم الذي تم تشغيله يف الثلث األخري من القرن الثامن. ومن بني هذه املباين علينا أن نربز تلك املوثقة بالبحث الجيوفيزيايئ الذي أجري يف عام ،2005ما يؤكد وجود مبنى معزول ،طوله 50مرتا ً ،مزود بسور كبري به دعامات يف واجهته ،ليؤدي إىل منطقة سكنية بها مالحق مزودة مبمرات تحيط بفناء عظيم .ونظرا ً لعدم قيام عمليات تنقيبية فيه فال يسعنا أن نضيف الكثري إىل هذه املقاربة األوىل ،وال توجد قرائن متعلقة مبنشآته املدنية أو بتفاصيل املباين وسياقها الزمني .ومع ذلك فإن خواص املباين الشكلية ،وهو ما تكشف عنه الفحوصات املغناطيسية ،هي شديدة اإليحاء نظرا ً للتشابه الواضح الذي تظهره إزاء سلسلة من املباين األموية املوجودة حالياً يف سورية واألردن واملعروفة عموما باسم قالع الصحراء ،وهو لفظ يفتقر إىل الدقة ومضلل يف الوقت نفسه ألنه يخفي جوهرها ،من حيث طابعها كمركز سكني ملزرعة شاسعة مخصصة يف الوقت عينه لرتفيه وتسلية مالكها وهم الخلفاء وأعضاء آخرون من األرسة األموية وأيضاً الستغالل املساحة الزراعية املروية. ورغم أن املقارنة مع مبانٍ رشقية معروفة مثل «قربة منية» وقرص «الحائر الرشقي» أو قرص «جرانة» هي مسألة جلية ،ورمبا أن التامثل األكرب سواء عىل مستوى التصميم أو األبعاد ينطبق عىل «الزيتونة» ،هذا املبنى املوجود عىل مسافة قليلة من سريجيو بوليس املدينة التي غريت اسمها برصافة هشام عندما قرر الخليفة هشام ( )724-743تحديد إقامته فيها وهناك عاش فرتات طويلة حفيده عبد الرحمن األول .بعد سنوات قام عبد الرحمن األول بوضع محل إقامته املفضل يف ضواحي عاصمته الجديدة ،قرطبة القدمية عىل بناء روماين-قوطي كان قامئاً من قبل وأطلق عليه هذا االسم املحمل بالداللة« ،الرصافة» ،واملشحون مبضامني هائلة يف إطار الرمزية األموية الغربية ،وذلك للتذكرة بالرصافة السورية وبجده الذي كان من خالله يسرتجع رشعية الساللة الحاكمة .ومن املمكن يف سياق هذا الخطاب املتعلق باألرسة الحاكمة أن تكتسب معنى عملية نقل األمناط املعامرية املرتبطة بسورية إىل األندلس ،وبصفة خاصة مع رصافة هشام التي أمىض فيها طفولته. وبالعودة مجددا ً إىل الطبوغرافية املتعلقة بضواحي قرطبة علينا أن نشري إىل أن هذا القطاع ،الواقع بني منحدر السلسلة الجبلية وتدرجاتها ،سيكون كام هو الحال مع الضفة اليمنى لنهر الوادي الكبري ،هو املكان املفضل الذي كانت تختاره الطبقة األرستقراطية يف قرطبة لبناء مناطقها الرتفيهية باالستفادة من تسهيالت التزود باملاء الوارد من مياه النهر 105
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
واملياه الجوفيه من خالل اآلبار والعيون .وهكذا فإن منوذج «املهاجر» برصافته اتبعه كثري من الشخصيات املهمة ،مثل جعفر امل ُشايف أو محمد بن أيب األمري يف مرحلة خدمته للحكم الثاين، فاختاروا هذا الربض إلقامتهم .وقد منح انتشار القصور واملزارع مظهرا ً خاصاً لهذه الضاحية الفسيحة حيث كانت مناطق املقابر واملنازل تتمركز عىل طول الطرق التي كانت تتخللها حدائق واسعة وبساتني مروية بالعديد من اآلبار ومياه الغدران املتدفقة من سلسلة الجبال، وكانت يف بعض الحاالت تتخللها قنوات تجتاز هذه املمتلكات.
من مدينة قرطبة إىل التجمع الحرضي ملدينة قرطبة-مدينة الزهراء-مدينة الزاهرة
عندما تويف عبد الرحمن الثاين يف عام 852كانت قرطبة قد خطت خطوة حاسمة عىل طريق تحولها إىل مدينة إسالمية كبرية ،وأنهى األمري جزءا ً كبريا ً من العمليات التي بدأها جده الثاين قبل قرن وكانت تهدف إىل تقوية سلطة العائلة وتنظيم جهاز إداري كفء وإىل إقامة فضاء إسالمي تام للعاصمة .ومع ذلك ،فإن التناقضات القامئة يف املجتمع األندليس أدت إىل االضطرابات املعروفة بالفتنة األوىل ،وهي االضطرابات التي أثارت التساؤالت تجاه اإلصالحات التي طبقت وأظهرت يف الوقت نفسه نقاط ضعف الدولة األموية الجديدة. وقد استغرقت مسألة استعادة النظام والوحدة جهود جيلني ثم أصبح ذلك ممكناً فقط عندما سمح تعديل يف النظام الورايث داخل الجناح األموي الحاكم للشاب عبد الرحمن الثالث أن يخلف جده عبد الله ،من أجل تطوير سياسة يبحث من خاللها عن عالقة رمزية مبارشة مع مؤسس األرسة بغية حشد مؤيديه وإخضاع املتمردين وإعادة صياغة البنية السياسية األموية العظيمة عىل أساس طروحات جديدة تتناغم والوضع الداخيل لألندلس وتتناسب مع العدوانية املتنامية للماملك املسيحية والتغيريات التي شهدتها بقية الدول اإلسالمية ،وبشكل خاص يف شامل إفريقيا ،وذلك من خالل السياسة التوسعية للخالفة الفاطمية الجديدة. لقد حدث التغيري الحرضي العظيم يف قرطبة يف القرن العارش وبصفة أساسية خالل حكم عبد الرحمن الثالث ،أول خليفة لألندلس .ويف ذلك الوقت تم تحويل أكرب جزء من محيط قرطبة إىل فضاء مخطط حرضياً بشكل مكثف ليتقاطع عىل نحو تام مع مفهوم 106
خوان ف .موريّو ريدوندو
املدينة الذي كان سارياً يف العصور القدمية (خريطة .)5ورغم احتفاظ املدينة بوظائفها الدينية والسياسية ،ورغم الرمزية التي ظلت تحتفظ بها األسوار ،فقد راحت تتحول إىل جزء آخر من تجمع حرضي متسق يتصادى مع املدن العظيمة يف الرشق اإلسالمي .وكان التحول شامالً ابتدا ًء من العقود األوىل من القرن العارش بحيث ميكن الحديث اآلن عن تطور حرضي مخطط ومنفذ يف جزء منه عىل يد الدولة األندلسية نفسها ،وهذا التطور الحرضي غري شكل قرطبة كلياً .وهكذا فإن عمليات التنقيب يف املناطق املسامة نارنخال دي أملاغرو وفونتانار دي كابانوس ،إىل جانب الطرق التي تربط قرطبة بالناعورة أوالً ومبدينة الزهراء الحقاً ،سمح مبواصلة عملية تحويل تدريجي لبعض املنيات الكبرية الفاعلة منذ القرن التاسع عىل األقل 23إىل أرباض .وقد رافق هذا التحول اعتناق تدريجي للجزء األكرب من السكان املستعربني يف قرطبة لإلسالم ،يف بادئ األمر كان مقصورا ً عىل املمتلكات الزراعية ذات األصول القوطية ،ثم تحول إىل منطقة خاصة بالعامل املأجورين الذين كانوا يف حاجة إىل مساجد يف األحياء وإىل حاممات ومقابر يك يطبقوا فروض الدين الجديد.24 بعد عدة أجيال تحولت هذه األرباض التي كانت يف البداية بساتني ومزارع ،وفقاً لتطور مستقل ومتعدد ،إىل فضاء حرضي بالدرجة األساس.
23أسست منية الناعورة عىل يد األمري عبد الله يف نهاية القرن التاسع وتعرف عليها فيلكس إرنانديث ضمن ما عرث عليه يف كورتيخو ديل ألكايدي ،وتحولت إىل مقر إقامة شبه رسمية لعبد الرحمن الثالث حتى إقامته النهائية يف مدينة الزهراء، وقامت بوظيفة شبيهة بوظيفة الرصافة يف عهد عبد الرحمن األول. 24إىل جانب التطور الدميغرايف «الداخيل» حدث يف القرن العارش تطور آخر «خارجي» ناجم عن هجرات الضواحي القريبة والبعيدة للعاصمة .أنظر: Juan F. Murillo, Elena Castro del Río y M.ª Teresa Casal (2004), «Madinat Qurtuba. Aproximación al proceso de formación de la ciudad emiral y califal a partir de la información arqueológica», Op. Cit., nota 18.
107
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية خريطة .5التجمع الحرضي القرطبي يف نهاية القرن العارش.
املصدر :اتفاقية التعاون بني اإلدارة البلدية للتخطيط العمراين وجامعة قرطبة ()gmu-uco
أما املحفز النهايئ لهذه العملية ولتوسع قرطبة نحو الغرب فسيقوم عىل تأسيس مدينة الزهراء ،يف عام ،936كتجسيد للخالفة يف قرطبة .وبهذه الطريقة ،كام يشري ابن حوقل، شيد بشكل مستمر حي سكني بني العاصمة وسكن الخلفاء الجديد .وقد لعبت الطرق يف هذه املجتمعات الحرضية ومدينة النارص الفخمة دورا ً بارزا ً ،سواء أكانت هذه الطرق من األصل الروماين أم تلك التي أنشئت عمدا ً لتوصيلها بالعاصمة القدمية يف إنشاء وصيانة هذه الشبكة من الطرق حيث يتجىل تدخل الخليفة بشكل أكرث وضوحاً ،ومن ثم الدولة األندلسية، يف «التخطيط» العمراين للمدينة .وكمحور منو وعنرص هيكلة لألرباض فقد شكلت هذه الطرق معلامً للسلطة األموية بامتياز ،إذ تركزت حولها املباين العامة الرئيسة والتجهيزات الجامعية ،لتنظيم الجزء األكرب من حركة املرور ،وخالصة القول ،لالستفادة منها لدى االضطالع بالتحضريات الرسمية الخاصة بانتقال املواكب والوفود ما بني قرطبة والزهراء. ومع أننا حالياً لسنا يف ظرف يسمح بتقييم اإليقاعات واملراحل املحددة لهذه العملية ألنها تشكل واحدا ً من التحديات األساسية للبحث يف العقود التالية ،إال أننا استطعنا فعال أن نلمح النتيجة النهائية التي هي ليست سوى عملية تشكل النسيج ،الحرضي من ناحية وشبه 108
خوان ف .موريّو ريدوندو
الحرضي من ناحية أخرى ،وفيها تتداخل مناطق واسعة بكافة تجهيزاتها الجامعية ومقابرها الكبرية ومنشآتها الحكومية ،إلخ .واألعامل املتعلقة باآلثار تسمح مبقاربة ذات طبيعة كلية شاملة األمر الذي يؤدي إىل تقييم الصورة التي أمكن الحصول عليها مسبقاً من املصادر املكتوبة فقط ،مثل التحليل املحدود لبعض األرباض التي تقدم تنظيامً حرضياً مع تصميم تراتبي للشوارع النظامية التي تتمتع يف بعض الحاالت ببنية للتخلص من مياه املجاري، وفضاءات مفتوحة ومرصوفة ميكن أن تفرس عىل أنها بازارات أو أسواق األرباض ،وبيوت متنوعة االرتفاع ،لكنها تدور دوماً حول فناء مركزي ،إىل جانب وجود املساجد واملقابر. ووراء هذه األرباض ما زلنا نعرث عىل عدد أكرب من املنيات التي تكون يف بعض الحاالت منغلقة داخل األرباض نتيجة النمو الحرضي ،ويف بعض الحاالت كام يف حالة الرصافة أو الناعورة فهي «قصور» حقيقية تعود إىل الخليفة وتستخدم جيالً بعد جيل .ويف حاالت أخرى ،مثل الرومانية ،فإنها تعود ملبادرة إحدى شخصيات البالط الكبرية ،مثلام حدث مع املرشف عىل بيت املال «دو ّري» ،ولو أنها يف هذه الحالة أيضاً قد استقرت يف نهاية املطاف بني يدي الخليفة.25 ال بد من أن تك ّون جزء كبري من هذه األرباض الخليفية الجديدة كان مختلفاً عام رأيناه يف الفرتة السابقة .ففي املقام األول نجد أن هذا التخطيط العمراين يؤثر عىل الضواحي الكبرية القدمية ،وعليه فإنه بعيدا ً عن اإلنجازات الفردية املتعددة املمتدة بشكل أو بآخر يف الزمان ويف املكان ،كتلك التي رأيناها يف املراحل السابقة ،فإننا نجد أنفسنا اآلن أمام عملية موجهة ميكن وصفها باملصطلحات الحالية بأنها «ترويجية» تؤدي إىل تقسيم األرايض وفتح الطرق وتزويدها بالبنى التحتية وكذلك بناء العقارات .وبرغم أن املصادر األدبية ال تنطوي عىل إشارة ضمنية إىل هذه املسألة فإننا نستطيع تفسري هذا املعنى يف بعض اإلحاالت املرجعية .ومن بينها اإلحالة األكرث داللة التي ينقلها لنا ابن حيان حول معارضة هشام الثاين ومحاولة حاجبه جعفر امل ُشايف بناء حي جديد يف مكان ربض شقندة املدمر. هذه املحاولة ،رغم فشلها ،فإنها تكشف لنا مشاركة الصفوات القرطبية مبن يف ذلك أفراد من األرسة امللكية نفسها ،يف العمل العقاري املزدهر يف عاصمة كان الطلب فيها مكثفاً عىل املساكن خالل النصف الثاين من القرن العارش .ومن ثم من املمكن أن يكون تقسيم األرايض وبناء املساكن عىل يد أفراد ينتمون إىل علية القوم قد أدى إىل تنظيم حرضي أكرب وإىل وضع مقاييس للعقارات إىل حد ما ،فالكثري منها كان مخصصاً لإليجار. 25يقدم لنا ابن حيان وصفاً مفصال وأفضل تعريف ممكن لهذه املنيات .أنظر خوان ف .موريو (،)2009 ً «La almunia de al-Rusafa en Córdoba», Op. Cit., nota 19, p. 455.
109
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
الخامتة العامرية .مدينة الزاهرة والتوسع الجديد نحو الرشق
ستأيت مرحلة الحقة محددة ضمن االزدهار الحرضي الذي شهد يف إطار الرتاكم الحرضي 26 يف مدينة قرطبة وذلك عقب اغتصاب السلطة من قبل ابن أيب عامر (املعروف باملنصور) إثر وفاة الخليفة الحكم الثاين وصغر سن ابنه هشام الثاين ،وقد متثلت ببناء املدينة القرص الجديدة ،املدينة الزاهرة ،رشقي قرطبة .27وهذا القرص الجديد سيشجع العمل الحرضي يف األرايض البور الواقعة بني الضواحي الرشقية لقرطبة واملدينة العامرية ،ما أدى إىل وجود مركز جذب عابر بنيت فيه منازل الصفوات املرتبطة بنظام املنصور. لعبت الزاهرة دورا ً مشابهاً ملدينة-قرص عبد الرحمن الثالث يف عملية توكيد تطلعات سلطة الطاغية العامري ومن خلفوه إزاء الرشعية األموية التي كان ال يزال ميثلها الخليفة هشام الثاين الذي احتجز يف مدينة الزهراء أوالً ويف قرص قرطبة الحقاً .ومبجرد أن أفلت األوىل يف نهاية القرن العارش وصوالً إىل نهبها وتدمريها يف أثناء فتنة الثلث األول من القرن التايل يف قرطبة القدمية ،قام املنصور بنشاط حرضي شمل الرموز األموية الرئيسة بهدف محاكاتها ويف افتض فيهم العدوانية .ويف هذا اإلطار الوقت نفسه وضع إجراءات للتحكم يف السكان الذين ُ علينا أن نفهم أن توسعة املسجد الجامع التي وصلت إىل مضاعفة مساحته مقارنة باملسجد األموي ،مع الحفاظ عىل جوهره ولكن بتضمني خطاب أيدولوجي جديد يف الوقت نفسه .يف هذا السياق ينبغي فهم إعادة تحصني القرص ،وهو الرمز الثاين لألمويني ،بغرض عزل الخليفة الشاب داخله ،ورمبا صاحب ذلك عملية ترميم لقطاعات مختلفة من سور املدينة ووضع بوابة محصنة للتحكم يف مدخل الجرس. وعند وفاة املنصور يف سنة 1002كانت قرطبة تؤلف مجتمعاً حرضياً ميتد عىل طول محور شاميل رشقي-جنويب رشقي لعرشة كيلومرتات يف موازاة الشاطئ األمين من نهر الوادي الكبري ،وشغلت مساحة تربو عىل 5.000هكتار .ولو قورنت باملدن الكربى يف تلك الحقبة، من األطليس حتى املحيط الهندي ،ملا أمكن مقارنتها سوى ببغداد التي كانت ال تزال العاصمة 26للتعرف عىل شخصية املنصور ومعناها التاريخي يف إطار املسار األندليس ،أنظر: Xavier Ballestín (2004), Al-Mansur y laو ;Laura Bariani (2003), Almanzor. San Sebastián: Nerea dawla ‘amiriya: una dinámica de poder y legitimidad en el occidente musulmán medieval. Barcelona: Edicions Universitat de Barcelona. 27بخالف مدينة الزهراء ،فإن تحديد مكان املدينة الزاهرة ال يزال ميثل مسألة عالقة ،فإذا أخذنا األدلة التاريخية واألثرية فإنها تشري إىل منعطف منطقة األرينال حيث توجد دراسة هندسية شكلية نهرية أعدتها بلدية قرطبة عن طريق مركز البحوث العلمية ما سمح بإعادة بناء مسار نهر الوادي الكبري نحو سنة 1000وتحديد األرايض التي ميكن أن تكون قد أقيمت فيها املدينة األمريية.
110
خوان ف .موريّو ريدوندو
الزاهرة للخالفة العباسية ،بينام بقيت املدن األخرى ،مبا يف ذلك القاهرة الفاطمية ،بعيدة عنها.28 هذه الحارضة التي ال يزال لها حضور مادي مؤثر حتى القرن الحادي والعرشين وقوتها املتنامية ،بوصفها مرجعية ثقافية إلنسانية كونية لكنها متنوعة ،ينبغي أن تبقى حية لذا ال بد لنا من مضاعفة جهودنا من أجل الحفاظ عىل تراثنا واالحتفاظ بآثاره املادية يف تناغم تام مع آثار «القرطبات األخرى» التي سبقتها ولحقتها وستخلفها .وذلك مبعرفتها يف كل يوم بعمق أكرب من خالل البحث التاريخي الذي يجب أن تواصل اآلثار فيه لعب دور جوهري.
سرية املؤلف
خوان ف .موريّو ريدوندو رئيس مكتب إدارة تخطيط اآلثار يف مدينة قرطبة منذ عام .1993مرتبط بقسم اآلثار يف جامعة قرطبة منذ عام ،1988وقد شارك بصفته أستاذا ً يف برامج دكتوراه ودراسات عليا مختلفة ،وبصفته باحثاً يف العديد من املرشوعات املمولة من املؤسسات العامة .ساهم يف إدخال نظام الحفريات الطبقية يف التنقيب يف قرطبة وتنفيذ نظام تسجيل امل ُلك .عضو يف املجموعة البحثية ( PAI-HUM-236اآلثار كقاعدة وثائقية ملرشوعات البحث التاريخي) يف جامعة قرطبة وقد قامت بتطوير مرشوعات بحثية متعددة بخصوص التحول ما بني املدينة القدمية املتأخرة ومدينة العرص الوسيط املتقدم ،وعن تحليل إسرتاتيجيات استغالل محيط ضواحي قرطبة .وهو أيضاً مؤلف لنحو من إثني عرش بحثاً ومقالة نرشت يف مجالت متخصصة وطنية وأجنبية.
امللخص
مل تكن «قرطبة الخالفة» التي تغ ّنى بها الشعراء األندلسيون وحنوا إليها عمل جيل واحد هو جيل عبد الرحمن الثالث بل كانت نتاج عملية تاريخية طويلة عىل درجة كبرية من التعقيد تضافرت فيها عملية حرضية توطدت عىل مدى ألف عام .فهناك قوة اإلسالم لدى 28أنظر الفصول الخاصة بجان-كلود غراسني ،جان-لوك أرنو وسيلفي دينو (Jean-Claude Garcin, Jean-Luc Arnaud و ،)2000( )Sylvie Denoix Grandes villes méditerranéennes du monde musulman médiéval. Op. Cit., nota 16.
111
قرطبة الخالفة :أصل وتطور عاصمة األندلس األموية
قولبة شكلها وطابعها االجتامعي الحرضي واملفهوم األموي للسلطة الذي أرساه عبد الرحمن األول وطوره عبد الرحمن الثاين من خالل معايري عباسية يك يتم الحقاً «إحداث ثورة فيها» عىل يد الخليفة األول الذي كان يعي حدود النظام وتحت ضغط املتغريات االجتامعية االقتصادية الجارية يف األندلس وبتفكك وحدة الخالفة العباسية النظرية أكرث منها العملية وبفعل الضغط املسيحي عىل الثغور الحدودية والتهديد الفاطمي يف شامل إفريقيا ،لذا حاول تعزيز سلطته من خالل إضفاء رشعية فكرية ذات طابع ديني تقوم عىل عزة الخالفة لتتجاوز األدوات األموية التقليدية والقوة العسكرية وما يرتتب عىل ذلك من القدرة عىل جبي الرضائب.
الكلامت املفتاحية
قرطبة ،األندلس ،أسلمة ،تخطيط حرضي ،عامرة ،آثار.
112
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث أنطونيو باييخو تريانو مدينة الزهراء :صورة خالفة األندلس
مام ال شك فيه أن مدينة الزهراء هي إحدى املدن األسطورية يف اإلسالم وهي حارضة يف الذاكرة الجامعية كمكان يرتبط بالروعة والرثاء والعظمة واملباهاة وعىل املستوى السيايس فإنها ترمز إىل عظمة الخالفة يف قرطبة. لقد جمعت املدينة كافة العنارص التي جعلتها تستحق هذه الصورة املثالية إذ كان بناؤها فجائياً رسيعاً بأمر من الخليفة ،ولعل هذا يعود –أو ال يعود– لدواع عاطفية وبفعل حالة الرخاء وتوافر مواد البناء والتزيني فضالً عن العدد املرتفع للعاملني الذين شاركوا يف تشييدها وتدخل األيدي العاملة املؤهلة القادمة من مختلف أنحاء العامل اإلسالمي وجودة بناها التحتية وهندستها املعامرية وبريق حياتها النشطة ،وكلها مالمح مستقاة من املصادر املتوفرة لدينا عن املدينة وبعضها كُتب بعد أن أضحت أطالالً لذا فهي تعتمد الوصف بشكل استعاري مبالغ فيه إىل حد كبري .1وال بد من أن نضيف إىل هذا طبيعة زوالها الرسيع –دامت أكرث من سبعني عاماً بقليل للفرتة ما بني 936و –1013وهذا الخراب مرتبط بسقوط الخالفة وقد تأمله معارصوه
1لهذه املصادر ،أنظر: José Miguel Puerta Vílchez (2004), Ensoñación y construcción del lugar en Madinat al-Zahra, en Fátima Roldán Castro (coord.). Paisaje y naturaleza en al-Andalus. Fundación El Legado Andalusí: Granada, pp. 318-324.
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
بخيبة أمل عميقة وشعور بالضياع انعكس بأمانة يف املصادر التاريخية وخاصة يف الشعر .2وأخريا ً فقد أسهمت كثافة عمليات نهب منشآتها إثر هجرانها يف عملية متجيد املدينة عىل نحو مثايل إذ مل تختف آثارها املادية يف سنوات قليلة فحسب بل ذكرى املكان أيضاً الذي كانت املدينة قامئة فيه.3 هذا التمجيد مل يكن فقط عملية متت بأثر رجعي بعد خراب املدينة بل إن هذه الحارضة أثارت إعجاباً شديدا ً لدى معارصيها وهو ما يرويه لنا املق ّري يف القرن السابع عرش نقالً عن مؤلفني سابقني عندما يقول: [ ]..ملا بنى النارص قرص الزهراء املتناهي يف الجاللة والفخامة ،أطبق الناس عىل أنه مل يُنب مثله يف اإلسالم البتة ،وما دخل إليها ق ُّط أحد من سائر البالد النائية والنحل املختلفة ،من ملك وارد أو رسول وافد ،وتاجر جهبذ -ويف هذه الطبقات من الناس تكون املعرفة والفطنة– إالَّ وكلهم قَطَ َع أنه مل يَ َر له شبهاً ومل يسمع به ،بل مل يتوهم كون مثله ،حتى إنه كان أعجب ما يؤمله القاطع إىل األندلس يف تلك العصور النظر إليه ،والتحدث عنه ،واألخبار عن هذا تتسع جدا ً ،واألدلة عليه تكرث.4
التصميم والتخطيط
كان بناء مدينة الزهراء إثر قيام عبد الرحمن النارص (عبد الرحمن الثالث) بتنصيب نفسه
2أنظر إميليو غارثيا غوميث (« ،)1947( )Emilio García Gómezبعض اإليضاحات حول آثار قرطبة األموية» يف مجلة األندلس Al-Andalus, xii, pp. 267-293; Henri Pérès (1937), La poésie andalouse en arabe classique au XIª siècle, pp. 124 L. Torres Balbás (1982), Arte califal, en Ramón Menéndez Pidal. España musulmana hasta la caídaو ;126 del Califato de Córdoba (711-1031 de J. C.). Historia de España, vol. iv. Madrid: Espasa-Calpe, pp. 427-429. 3أنظر: Manuel Ocaña Jiménez (1986), Madinat al-Zahra, en International Union of Academies. The Encyclopaedia of Islam, vol. v. Leiden: E.J. Brill, pp. 1008-1010. 4أنظر املقري ،نفح الطيب ،بريوت ،طبعة إحسان عباس ،الجزء الثامن ،ص .566أشار إليه خوسيه ميغيل بويرتا (،)2004 الحلم والبناء يف مكان مدينة الزهراء ،املصدر نفسه ،ص .324.
116
أنطونيو باييخو تريانو
خليفة فاتحة لواحدة من أكرث املراحل تألقاً يف تاريخ األندلس .ويندرج بناؤها يف إطار بناء الحوارض الكربى يف مختلف الدول اإلسالمية يف ذلك العرص وعليه فقد مثلت أعظم رمز يف التخطيط العمراين للخالفة األموية وذلك يف إطار التسابق مع الخالفة الفاطمية املنافسة.5 واسمها نفسه ،مدينة الزهراء ،ميكن أن يُفرس يف إطار التنافس السيايس-الديني الدائم آنذاك. ومن ناحية أخرى فقد أشري إىل عالقتها املحتملة مع كوكب الزهرة ،فينوس ،يف مقابل اإلشارة إىل كوكب املريخ (القاهر) الذي استخدمه الفاطميون إلنشاء عاصمتهم الجديدة يف مرص، اقتح ربطها باسم ابنة الرسول فاطمة التي يطلق عليها الزهراء.6 ومن ناحية أخرى فقد ُ لقد وجدت هذه املؤلفة أن هذا االسم رمبا كان يحيل إىل إشارات دينية باعتباره «تجسيدا ً» محتمالً للجنة عىل األرض فـ «االزدهار» هو واحد من أهم ميزاتها .هذه اإلشارة نفسها إىل مدينة الزهراء «كتمثل رمزي» للجنة ظهرت انطالقاً من تحليل نقوش القرص ،فنقوش بعض املباين تضم آيات تشري إىل الجنة القرآنية بحدائقها وقصورها التي تحيل إىل التفكري يف هذا الربط.7 وبناء مدينة بهذه الخصائص عنى جهدا ً خارقاً للأملوف يف التخطيط شمل جوانب متعددة. ومن أجل الحصول عىل مواد البناء املختلفة كان من الرضورة مبكان تحديد مصادرها والوصول رسيعا إليها ،وكذلك التزود مبواد أخرى كاملاء .كام كان من الرضوري حشد الكثري من األيدي العاملة للقيام مبهام البناء ،من األيدي العاملة البسيطة إىل األكرث خربة وتأهيالً .كام بُذل جهد كبري يف وضع منهجية وتوحيد لعمليات البناء وإجراءاته وإدخال بنية تنظيمية معقدة إلدارة العمليات والتحكم فيها من أجل اإلرشاف عليها ابتداءا ً من طلب املواد وتشغيلها ووصوالً إىل تصور العنارص املكونة ملختلف تصاميم التزيني .وقد أدى التشغيل املتزامن لهذه املهام املتنوعة إىل حشد كميات كبرية من املوارد االقتصادية التي تطلب توفريها سنوياً عىل امتداد فرتة طويلة من الزمن ق ّدرتها املصادر بأربعني عاماً منها 25عاماً يف أثناء خالفة عبد الرحمن 5أنظر: Manuel Acién Almansa (1995), Materiales e hipótesis para una interpretación del Salón de Abd alRahman al-Nasir, en Madinat al-Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Córdoba: Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, pp. 189-190. 6أنظر: Maribel Fierro (2004), «Madinat al-Zahra, el Paraíso y los fatimíes», Al-Qantara, xxv, 2, pp. 316-325. 7هكذا عرب عنه كل من ماريا أنطونيا نونييث ومانويل أثيني أملانسا (،)2004 «La epigrafía de Madinat al-Zahra», Cuadernos de Madinat al-Zahra, v, pp. 123-126.
117
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
الثالث و 15عاماً خالل عهد ابنه الحكم الثاين .8وكلها كانت قواسم مشرتكة بني مدينة الزهراء واملرشوعات العمرانية اإلمرباطورية الكبرية للعاملني العبايس والفاطمي كبناء بغداد ومختلف املدن األخرى كسام ّراء وصربة املنصورية والقاهرة .وتتشاطر معها أيضاً خاصيتها الرئيسة: كونها مدناً أسسها الخلفاء وتم التخطيط لها بشكل جيد عىل كافة املستويات لتتحول إىل عواصم يف دولها بدءا ً بقرار تحديد املكان وتوجيه األشغال حتى املرحلة األخرية من عمليات البناء والتزيني كلها. وجيل أن مفهوم املدينة هو مفهوم رشقي ،سواء أكان عىل مستوى األبعاد العظيمة ،إذ كانت عىل شكل مستطيل طوله 1545يف 745م ويضم مساحة قدرها 112هكتارا ً ،أو لكامل صورتها الهندسية –مربع مزدوج– أو لضخامة حجم القرص حيث تقيم السلطة –وتقدر مساحته بـ 19هكتارا ً ويقع يف أعىل مكان يف تلك الحارضة– وكذلك للفصل الشديد بني هذا القرص وباقي املدينة وعالقة الهيمنة الهرمية وسيطرة هذا الجزء من املدينة عىل قسمها اآلخر( .الرسم التوضيحي رقم .)1 رسم توضيحي رقم .1املخطط العام ملدينة الزهراء .مجسم.
املصدر :املجمع األثري ملدينة الزهراء. 8عن املعلومات املقدمة يف املصادر املكتوبة ،أنظر: Ana Labarta y Carmen Barceló (1987), «Las fuentes árabes sobre al-Zahra: estado de la cuestión», Cuadernos de Madinat al-Zahra, i, pp. 96-98; Mohamed Meouak (2004), «Madinat al-Zahra en las José Miguelو ;fuentes árabes del Occidente islámico», Cuadernos de Madinat al-Zahra, v, pp. 70-73 Puerta Vílchez (2004), Ensoñación y construcción del lugar en Madinat al-Zahra. Op. Cit., pp. 320-322.
118
أنطونيو باييخو تريانو
ومع ذلك فإن التنفيذ العمراين املبديئ للقرص طغى عليه التأقلم مع الطبوغرافية والتكيف مع الوسط الطبيعي ونعني به الجبل باعتامد التخطيط الجامد الذي ال يقوم بتحويرات مسبقة من أي نوع للظروف الطبوغرافية .هذا األمر أثر عىل تخطيطها الحرضي وألزم ببناء نظام مستويات متدرجة تسمح بوضع كل مبنى يف املكان الدقيق الذي كان يُراد له من حيث عالقته باملباين األخرى وذلك طبقاً لهرمية صارمة ،وهكذا فالخليفة يف املستوى األعىل وويل العهد وأجهزة اإلدارة يف مستوى أدىن منه ويف قاعدة هذا الهيكل الهرمي يقيم عامة السكان والخدم (صورة رقم .)1واملدينة كلها مصممة يك ميكن تأملها من الجنوب ،من وادي نهر الوادي الكبري ،وهو املكان الذي تتوجه صوبه مبانيها وتنبثق منه الطريق الرئيسة التي أنشئت لوصل املدينة الجديدة بقرطبة القدمية وباقي أنحاء األندلس.9 يكمن رس نجاح هذا العمل اإلنشايئ الضخم ورسعة إنجازه االستثنائية يف سهولة الوصول إىل مواد البناء األساسية .إذ استخدمت فقط األرض القريبة كمصدر أسايس للتزود بهذه املواد، خصوصاً الحجر الكليس (الحجر الجريي امليوسيني املوجود يف ذلك املكان) وقد استخرج من املنطقة التي تصل الجبل بالوادي .وباستثناء الرخام فقد استخدمت أحجار أخرى يف البناء –كالحجر الجريي األرجواين واألعمدة السوداء واملائلة إىل الحمرة والحجر الجريي األبيض املستخدم يف أشغال التوريق– وكلها أيضاً من مصدر محيل بحيث أن املنطقة الرئيسة لجلب املواد الحجرية كانت تقع عىل مسافة 50كم من محيط املدينة .وقرب املوارد هذه من مدينة الزهراء وسهولة استخراجها يفرس لنا الرسعة الكبرية يف إنجاز عمليات البناء وهو ما تثبته بحوث اآلثار.10
9الجوانب املتعلقة باملنظر الطبيعي للموقع درسها فلورينثيو ثويْدو نارانخو (،)2005( )Florencio Zoido Naranjo Dimensión paisajística de Madinat al-Zahra. Sevilla: Universidad de Sevilla, Grupo de Investigación Consejería de Cultura; y José Ramón Menéndez de Luarca Navia-Osorio (2000), El Plan Especial de Madinat al-Zahra: una nueva estrategia de protección territorial, en Antonio Vallejo (coord.). Madinat al-Zahra, 1985-2000: 15 años de recuperación. Córdoba: Junta de Andalucía, Consejería de Cultura, pp. 57-83. 10الجوانب املتعلقة بتوريد الحجارة قدمت يف عمل أنطونيو باييخو تريانو (،)2009( )Antonio Vallejo Triano Madinat al-Zahra: la construcción de una ciudad califal, en AA. VV. Construir la ciudad en la Edad Media. VI Encuentros Internacionales del Medievo: del 28 al 31 de julio, Nájera 2009. Nájera (La Rioja): Ayuntamiento de Nájera, pp. 506-511.
119
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث صورة رقم .1الهيكل املدرج ملدينة الزهراء.
املصدر :املجمع األثري ملدينة الزهراء.
أما التزود باملاء فقد تم تأمينه بعد إعادة تأهيل قناة مياه قدمية كانت مياهها تجري يف الضواحي ،وتعود إىل الحقبة الرومانية ،وأيضاً من خالل استبدال بعض العنارص القدمية لتحل محل تلك التي اختفت من النظام املوجود سابقاً كقنطرة قناة مياه بالديبوينتيس التي وضعت يف عهد الخالفة وتعد فعالً درة العامرة اإلسالمية .كام تم التخطيط لوضع بنية أساسية للطرق تضمن االتصال مبدينة قرطبة عرب ثالث طرق رئيسة .وبقي من هذه البنية التحتية للطرق قنطرتان كاملتان تنتميان إىل حقبة الخالفة كام ُر ّممت قناطر أخرى وكلها تشهد عىل حجم هذه الشبكة.
تنظيم املدينة :املدينة القدمية والقرص
لقد سمحت الصورة العمرانية للمدينة التي تم التوصل إليها من خالل البحوث األخرية بالتحقق من غياب التناظرية واملحاور املركزية العظيمة التي ميزت القصور واملراكز العمرانية يف املرشق ،خاصة العباسية منها .وقد أدى هذا إىل اعتبار مدينة الزهراء كمرشوع محيل التنفيذ قامت به أيدي عاملة أندلسية حرصياً منوذجاً غري متآلف مع املبادئ الرئيسة لتلك
120
أنطونيو باييخو تريانو
العامرة .11وميكن القبول بهذا التوكيد لرشح بداياتها اإلنشائية رغم أن مناذج هذه العامرة، كام سرنى الحقاً ،أُدخلت وعممت أثر االصالحات العمرانية التي لوحظت يف املدينة والقرص يف منتصف القرن العارش ومل تكد متيض بعد 15عاماً من الرشوع بالبناء. وهكذا راح يُش ّيد فضاء املدينة بشكل تدريجي خاصة يف املجموعة السكنية الحرضية، أي منازل عموم السكان ،بخالف البنى التحتية الصناعية الخاصة بالدولة التي نعرف عنها من خالل املصادر أنها انتقلت من قرطبة مع انتقال دار سك العملة يف عام .12947وتضم املدينة أيضاً أدلة دقيقة عىل أنها كانت هدفاً للتخطيط الحرضي وحضور ملفت ملنطقة واسعة غري عمرانية وسط هذا املكان ووجود مبانٍ «رسمية» عظيمة يف الطرف الغريب ،إىل جانب مسجدين .وتسمح لنا البحوث أيضاً باالستنتاج بأنه عىل خالف القرص الذي كان له سور منذ البداية فقد ظل باقي املدينة مفتوحاً بدون سور خالل سنوات طويلة وذلك حتى السنوات األخرية من خالفة عبد الرحمن الثالث أو السنوات األوىل من عهد الحكم الثاين. وهو ما يوضحه السور الجنويب الذي تم التنقيب عنه مؤخرا ً والذي كان من الرضوري تعديل مساره يك ال يؤدي إىل تدمري مسجد صغري يف الحي ،وقد قمنا بحفريات حوله أيضاً، ويعود تأسيسه إىل املباين األوىل يف مدينة الزهراء أي يف حوايل عام 940ما يعني أن السور الحق عىل املدينة .ولهذا وعىل العكس مام ميكن أن يبدو فإن السور مل يكن العنرص األول يف عملية بناء املدينة. أما املنطقة الواسعة املخصصة للقرص وقد أجريت عمليات تنقيب يف 11هكتارا ً منها ،من مساحة إجاملية تصل إىل 19هكتارا ً ،فتظهر تخطيطاً حرضياً دقيقاً يتمثل تحديدا ً يف البنى التحتية الخاصة بإمدادات املياه والرصف الصحي. كان للقرص ،وليس املدينة ،نظام تزود دائم باملياه سواء أكان للرشب واالستخدامات االستهالكية ومتطلبات النظافة أو للمهام اإلنتاجية وكانت املياه ترد من قناة مياه بالديبوينتيس، فقد كان يفتقر إىل الخزانات أو اآلبار الجوفية لتخزين مياه األمطار التي كانت ت ُرصف مبارشة عرب شبكة املجاري .ومن خالل الفرع الرئيس للقناة كانت تنقل املياه إىل مختلف املباين 11أنظر: Christian Ewert (1991), «Precursores de Madinat al-Zahra. Los palacios omeyas y abbasíes de Oriente y su ceremonial áulico», Cuadernos de Madinat al-Zahra, iii, p. 125. 12تاريخ نقل دار سك العملة مثبت حسب سجل العمالت ،أنظر: Alberto Canto García (1991), «De la ceca al-Andalus a la de Madinat al-Zahra», Cuadernos de Madinat al-Zahra, 3, especialmente pp. 114-116.
121
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
بواسطة أنابيب من الرصاص أو بواسطة مواسري من الفخار وإن كانت هذه األخرية تستخدم بشكل أقل .ويف القسم األعظم من املساكن كانت نقطة إمداد مياه االستهالك تقع يف وسط الفناء وقد أدى هذا إىل وجود مجموعة غنية من القطع املستخدمة يف هذا املجال برز من بينها فسقيات الرخام مختلفة األشكال –بينها مجموعة مهمة من التوابيت الرومانية التي أعيد استخدامها– والنافورات التي تقذف املياه كالظبيان الربونزية املعروفة.13 وبعيدا ً عن نقطة التزود باملياه هذه املخصصة لالستهالك واألنشطة املنزلية مثة نقاط توصيل أخرى تختلف عن السابقة ،هدفها الرئيس ينحرص يف تزويد املراحيض باملياه. وبوسعنا أن نؤكد أن هذه األخرية كانت واحدة من ركائز النظام الصحي يف القرص، سواء من حيث مفهومها املتقدم ،فهي تحتوي عىل نظام مياه دائم لتأمني النظافة والرشوط الصحية للمستخدم ،أو من حيث ارتفاع عددها إذ كانت منترشة يف كافة أرجاء مرافق القرص .وكلها تقدم شكالً وخصائص مميزة ستصبح منوذجاً معموالً به يف العامرة األندلسية ،وإىل جانب هذا كانت تضم قطعاً فريدة جدا ً تربز من بينها أحواض الرخام املقلوبة بشكل فني. فضالً عن إمدادات املياه كانت البنية التحتية الصحية أفضل ما تم التخطيط له يف القرص. وكانت تتألف من شكبة قنوات جوفية تم اكتشاف 1800مرت منها ،من أنواع وأحجام مختلفة تجري فيها املياه عىل أعامق مختلفة تحت مباين القرص .وكانت األكرب حجامً إذ متتد طولياً يف مختلف املستويات املتدرجة للمدينة وبؤر العمران وتجتاز مركز املساكن لتجمع مياه األمطار واملجاري من األفنية ،أما القنوات الصغرية فتنقل مياه املواسري واملراحيض وعنارص الرصف األخرى لتصب يف القنوات السابقة. هذه البنية التحتية مل يكن لها مثيل مقارنة مبا هو معروف يف املراكز الحرضية املعارصة لها، إذ أنها امتدت عرب مجموعة مباين القرص وزودتها جميعاً بالرصف الصحي مع ضامن ترصيف مياه املجاري إىل ت ُ َرع قريبة أو خارج املدينة .ومثة وظيفة أخرى ،ثانوية ،كانت تتم من خالل استخدامها كمقالب نفايات منزلية فقد عرث يف هذه املجاري عىل مخلفات خزفية وغذائية. هذه البنية التحتية للرصف الصحي كان بها عنرص موجود من قبل هو مجرى قناة املياه الرومانية القدمية .وكان هذا املجرى مير أسفل الجزء املركزي من املنصة العليا للقرص حيث متكنا من التعرف عىل مساره املمتد عىل شكل مجرى مستقيم ألكرث من 200م .يف هذا الجزء 13وكام هو معروف فإن الظبيني الربونزيني ملدينة الزهراء موجود أحدهام يف متحف مدينة الخالفة واآلخر يف متحف مدينة الدوحة.
122
أنطونيو باييخو تريانو
وبعد تاليش مهمته األصلية يف تزويد املياه ،متت إعادة استخدام املجرى يف القرص كبالوعة كبرية للرصف الصحي األمر الذي يثبته وجود كميات كبرية من الفضالت.14 أما التصميم املدرج للقرص فقد فرض طابعه عىل االتصاالت الداخلية يف القرص ،فهي تقوم عىل أساس مجموعة من الطرق والشوارع واملمرات عرب سالمل غري مستوية تصل إىل نسبة %20من االنحدار .وكان الجزء األكرب من هذه الشوارع مغطى وكانت تتخللها األبواب واملصاطب الحجرية املتالصقة وبعضها كان معبدا ً مبواد مناسبة لعبور الخيول. وهذه البنية التي تتخذ شكل مدرجات سهلت بناء عدد من السالمل من مختلف األنواع وذلك لربط املباين املدرجة املتجاورة. من منظور التخطيط الحرضي يبدو القرص خليطاً من املباين من مختلف األنواع :من مقر إقامة ومبان دينية وإدارية وأخرى خاصة بالعمل والخدمة ومتثيل الحكومة وبه فضاءات متصلة –ساحات كبرية– وحدائق واسعة هي األكرث سعة من بني الحدائق التي تم الحفاظ عليها يف العامل اإلسالمي األول .أما بخصوص الوظيفة فكل هذا يؤلف مجموعة محكمة التنظيم ومتامسكة عىل الرغم من كونها قد شُ يدت و/أو رممت يف فرتات مختلفة ،منذ سنوات تأسيسها األوىل –يف عام 940تقريباً– حتى النصف الثاين من عقد خالفة الحكم الثاين –يف عام 972تقريباً– الذي تم فيه توثيق آخر عمليات الرتميم.15 ومن بني املباين املخصصة لإلقامة البد من إبراز ثالثة ُرصدت الستخدام الخليفة :دار امللك املذكور يف النصوص وكان مقر إقامة عبد الرحمن الثالث ،وما يطلق عليه مبنزل ِ البكة وقد حددناه عىل أنه مقر إقامة الخليفة الحكم الثاين وقد بُني عندما كان بعد ولياً للعهد ،16وما أطلق عليه بالغرف امللحقة مبجلس عبد الرحمن الثالث (رسم تخطيطي رقم .)2وكانت هذه املقرات 14القضايا املتعلقة بإمدادات املياه والرصف الصحي متوفرة يف أنطونيو باييخو تريانو (،)2010 La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Córdoba: Almuzara, pp. 228-260. 15اإلشارة األوىل املوثوقة ألشغال مدينة الزهراء تحيل إىل بناء القرص يف عام 941-940وتعبيد طريق الزهراء من منية النورة: Ibn Hayyan (1981), Crónica del califa Abdarrahman III an-Nasir entre los años 912 y 942 (al-Muqtabis V) [trad., notas e índice por María Jesús Viguera Molins y Federico Corriente]. Zaragoza: Anubar, Instituto Hispano-Arabe de Cultura, p. 359. آخر األخبار تشري إىل ترميامت يف دار امللك يف عام 972لتأهيل املنزل ليصبح مكان دراسة لألمري الهاشم :ابن حيان (( ،)1967( )Ibn Hayyanترجمة إميليو غارثيا غوميث) .مدريد :جمعية الدراسات واملطبوعات ،ص .100-99أنظر: Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II, por Isa ibn Ahmad al-Razi (360-364 H. = 971-975 J. C.). 16أنظر أنطونيو باييخو تريانو (،)2010 La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Op. Cit., p. 468.
123
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
الثالثة هي مقرات اإلقامة األكرث أهمية وتفردا ً يف القرص سواء بالنسبة لحجمها أو تصميمها املعامري الذي شمل حامماً فردياً يف كل واحد منها وحديقة واسعة يف إقامة الحكم ،وقد زينت بالتوريقات .كام ينبغي أن نضيف إليها مسكن حاجب الدولة (الوزير األول) يف دولة الخالفة والرجل القوي جعفر الصقلبي وكان بناؤه املعامري قد اشتمل عىل فضاءات لتمثيل الحكم والعمل وغرف خاصة وأمكنة للخدم( .صورة رقم .)2 صورة توضيحية رقم .2منظر عام للقرص مع إشارة إىل املباين والفضاءات األكرث رمزية .مجسم.
املصدر :املجمع األثري ملدينة الزهراء.
124
أنطونيو باييخو تريانو صورة رقم .2دار جعفر .الواجهة الرئيسة وزخارف توريق.
املصدر :املجمع األثري ملدينة الزهراء.
عمليات تحوير القرص
لقد منت مدينة الزهراء وتطورت عىل إيقاع تطور مؤسسة الخالفة والدولة نفسها .وهذا ما يفرس كون املباين األكرث أهمية يف القرص إىل جانب هذه املساكن هي املباين ذات الطابع اإلداري ،عىل وجه الخصوص تلك التي كانت تستخدم يف استقباالت الخليفة السياسية .وهذه املباين هي التي تعكس التغريات العميقة التي حدثت للتخطيط العمراين ومعامر القرص يف أواسط عقد أعوام ،950والتغريات عىل ما يبدو كانت ذات هدف مزدوج :فمن ناحية تشري إىل متركز املؤسسات اإلدارية للدولة ومن ناحية أخرى ترمي إىل تكييف القرص مع األشكال الجديدة لتمثيل سلطة الخالفة. وجزء كبري من هذه املباين التي ميكننا متييزها بوصفها إدارية بنيت يف ذلك الوقت وكانت تحتل الجزء املركزي من القرص ،وقد صمم هذا الجزء ليكون مقر مستشارية الخالفة وذلك 125
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
بعد هدم املباين التي كانت قامئة من قبل (مخطط رقم .)2ويربز من بني هذه املباين الجديدة ذات الحجم غري الطبيعي يف مدينة الزهراء واملعروفة حتى تلك اللحظة بالقاعة الكبرية يف املدرج العلوي ،وهو ما حددناه بكونه ما يطلق عليه افرتاضاً بدار الجند يف املصادر ،ومبنى مربع الزوايا ذو أبعاد كبرية شيد حول فناء به أروقة ذات أعمدة عىل جانبيه وهو ما يعرف تقليدياً بفناء الساعات وقد حددناه افرتاضياً مبا دعي بدار الوزراء يف املصادر املكتوبة. األول يوجد يف مقدمة ساحة كبرية وكانت تدخله الخيول وكان معدا ً لألنشطة االستعراضية الكبرية وقد تجمعت من حوله فضاءات إدارية أخرى للقرص .وإذا ما كان تحديد هذا املوقع صحيحاً فقد لعب هذا املبنى دورا ً مهامً يف سري مراسم الخليفة إذ كانت تنتظر فيه وفقاً لدرجات تراتبية بعض املجموعات التي كان الخليفة يستقبلها يف قاعة االستقباالت السياسية، عىل وجه الخصوص السفراء والقريشيون أعضاء القبيلة التي تنتمي إليها األرسة األموية الحاكمة.17 وعىل مقربة منه كانت دار الوزراء التي تضم مقر مستشارية الدولة :وكانت تصدر عنه شهادات االعتامد التي تثبت ملكية أو حيازة أر ٍ اض معينة أو حصون ،وتُ نح الهدايا العينية املتنوعة أو النقدية عن تلك الخدمات التي تقدم وال ًء للخليفة وأمن الدولة .وعليه فهو مكان إداري عىل نحو طاغ وفيه منصات للوزراء ومحفوظات للوثائق السياسية. مجموع املباين التي ظهرت يف هذه املنطقة يوضح وجود مركزية إدارية ينبغي ربطها بإعادة تنظيم خدمات الدولة التي أقرها عبد الرحمن الثالث يف سنة .18955ومع هذا التعديل ال بد لنا من ربط تعيني الحاجب يف السنة األوىل من خالفة ال َحكم ،وهو الذي سيضطلع بأعىل مراتب القيادة يف الجهاز اإلداري للخليفة ومن ثم كان ال بد من بناء دار له تتناسب ومكانته. وكان ملقر إقامة الحاجب جعفر الصقيل الرحبة ثالثة فضاءات معامرية مختلفة وقد أقيم يف مكان كانت تشغله سابقاً ثالثة منازل تم هدمها.19 17أنظر املصدر نفسه ،ص .494 18هذا التعديل تجسد يف تقسيم مجموعات إدارة الخالفة إىل أربعة مكاتب ،كل واحد منها بقي تحت إدارة وزير .املعلومات التي قدمها ابن عذاري نقلها مؤلفون عدة ،من بينهم محمد مواك (،)1991( )Mohamed Meouak Pouvoir souverain, administration centrale et élites politiques dans l’Espagne umayyade (IIe-IVe/VIIIeXe siècles). Helsinki: Academia Scientiarum Fennica, pp. 36-47 y 55-56. 19أنظر: Antonio Vallejo Triano, Alberto J. Montejo Córdoba y Andrés García Cortés (2004), «Resultados preliminares de la intervención arqueológica en la llamada “Casa de Ya‘far” y en el edificio de “Patio de los Pilares” en Madinat al-Zahra», Cuadernos de Madinat al-Zahra, v, pp. 199-239.
126
أنطونيو باييخو تريانو
وإن كان مهامً التحوير الذي أدخل عىل املدرج العلوي بوضع املركز اإلداري للدولة فيه، فقد كان أكرث أهمية منه ما تم يف املنطقة الواقعة أسفل القرص .فقد كانت هناك ثالثة مبانٍ مختلفة وحديقة مع شبكة من السواقي وبركة واحدة يف األقل تم تحويرها متاماً لتشكل املنطقة البالطية االستثنائية كام وصلتنا .ويتألف من مجلس عبد الرحمن الثالث يف املقدمة ومبنى ذي محور عريض اختفى متاماً جراء أعامل النهب تحيط به أربع برك وما أطلق عليه بالجناح املركزي وجناح خاص بالغرف امللحقة باملجلس يف جانبه الشاميل الرشقي وكلها تقع يف حديقة كبرية بشكل مربع مستو ٍ(مخطط رقم .)2 الجزء األسايس من هذه املنطقة املدرجة كانت تحتله قاعة االستقباالت السياسية ،وقد بناها الخليفة عبد الرحمن الثالث بني عامي 953و 957وهو ما تؤكده الكتابات املنقوشة الكثرية (صورة رقم .)3هذا املبنى حددناه مبا سمي يف املصادر باملجلس الرشقي ،وكان مرسحاً شهد الجزء األكرب من مقابالت السفراء واالحتفاالت الدينية اإلسالمية السنوية الكبرية –عيد الفطر وعيد األضحى– يف السنوات األخرية من حكم عبد الرحمن الثالث وخالل فرتة حكم الخليفة الحكم الثاين كلها .20وقد مر به كبار رجال الدولة يف ذلك العرص ،سواء من العامل املتوسطي أم من اإلمرباطورية الجرمانية وملوك املاملك املسيحية يف شبه جزيرة أيبرييا ،من بينهم (تودا) ملكة نربة وسانشو الكراسو وملك ليون أوردونيو الرابع وسفراء كونت بو ّريل يف برشلونة وسفراء كونت قشتالة وسفري اإلمرباطور البيزنطي يوح ّنا األول زميسيك ،ويف مناسبات عدة م ّر ممثلون مختلفون لبني حسن األدارسة الذين قدموا الطاعة للخليفة.
20أنظر أنطونيو باييخو تريانو (،)2010 La ciudad califal de Madinat al-Zahra. Arqueología de su arquitectura. Op. Cit.
127
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث صورة رقم .3داخل مجلس عبد الرحمن الثالث.
املصدر :املجمع األثري ملدينة الزهراء.
ومام الشك فيه أن اليشء الفريد يف املبنى هو تصميامت زينته االستثنائية التي تحتل كل مساحة الجدران وبضمنها الواجهة وتتشكل عىل ارتفاع من ثالث مستويات .تركزت املستجدات األكرث أهمية يف املنطقة السفىل ،بني عارضة الرخام وبداية األقواس حيث يوجد أكرث من ستني لوحاً كبريا ً من الحجر بتكوينات لهيكل مشجر وقد أقيمت استلهاماً للطبيعة فكلها فيها جذر وجذع مركزي مقلوب يف محور متناسق ،مع كأس شجرة ومجموعة أفرع متشابكة األوراق .هذه األلواح التي متثل أشجار الحياة تشكل إحدى املجموعات األكرث أهمية يف التشكيل اإلسالمي عىل مر العصور .وقد نُسبت إليها لغة نباتية جديدة ،ذات ثراء استثنايئ وتنوع فذ إذ ال يوجد فيه عنرصان متامثالن ويالحظ فيه تأثري عبايس جيل ونفذتها ٍ أيد ليست من األندلس ،رمبا من مركز إسالمي عىل اتصال بالرشق .هذا التصميم الذي يشمل إفريزا ً علوياً يحتوي عىل نجوم ترمز إىل الكون فُرس برمزية تتعلق بعلم الفلك كمشهد من خالله يتخذ الخليفة الرشعية بوصفه الحاكم األول الذي يأمر وينظم العامل الطبيعي وميارس السلطة 128
أنطونيو باييخو تريانو
من خالل نظام هرمي تنبثق منه بقية الدولة.21 كانت الفعاليات التي تقام يف مجلس الخليفة تتم وفقاً ملراسم صارمة من خالل ترتيبات وتحركات هي انعكاس للمراسم العباسية والفاطمية وهدفها تعظيم صورة الخليفة .22لكنها مل تقترص عىل داخل القاعة حيث كانت تجرى املقابالت نفسها ،بل أثرت عىل املجموع الكامل للمنطقة املدرجة ،خاصة الجناح املركزي الذي لعب دورا ً مهامً يف كافة االحتفاالت ،ووصل إىل أبعد من هذا ليشمل باقي املدينة التي انخرطت يف هذه االحتفاالت من خالل مواكب نُظمت ملصاحبة السفارات .وأدخلت تعديالت عىل املرسح العام لهذه االحتفاالت ،أي القرص واملدينة يف مجملها ،يف عقد 950م لتعظيم مشهديته وتأثريه ِ الدعايئ .فمن ناحية تم توسيع القرص بشكل كبري نحو الرشق ،وبذلك متت إطالة مسار املواكب التي كان يحشد لها عدد كبري من الرجال ،من مختلف أجهزة الجيش إىل موظفي اإلدارة والسكان بصفة عامة الذين يتم تجهيزهم خصيصاً للمشاركة يف املوكب .23أما داخل القرص فينتهي هذا املسار يف قاعة االستقباالت السياسية (املجلس الرشقي) والوصول إليه كان يتم عرب ثالث مراحل ،إحداها باب السدة وهو الذي حددناه بالرواق الكبري املكون من 14قوساً وقد تم إعادة بناء أربعة منها. ُ هذا الباب الخاص باالحتفاالت ظهر مبقتىض هذا التعديل أيضاً.
األفول والهجران
ليس لدينا ما يثبت بناء املباين الجديدة أو إدخال تعديالت عىل السابقة إثر وفاة الحكم الثاين وتعيني ابنه هشام الثاين خليفة يف عام ،976وليست لدينا أخبار عن إقامة حفالت استقبال يف القرص ،األمر الذي يعني أن كافة األنشطة السياسية واالحتفالية قد اختفت من 21مانويل أثيني أملانسا ( ،)1995مواد وفرضيات لرشح مجلس عبد الرحمن النارص ،املصدر نفسه ،ص .191-188مانويل أثيني أملانسا (« ،)1988حول دور األيديولوجية يف خصوصية التشكيالت االجتامعية .التكوين االجتامعي اإلسالمي .أنظر: Hispania, lviii (200), pp. 949-968; Antonio Vallejo Triano (2010), La ciudad califal de Madinat alZahra. Arqueología de su arquitectura. Op. Cit., p. 464. 22حول الربوتوكول داخل املجلس ،أنظر: Miquel Barceló Perelló (1995), El Califa patente: el ceremonial omeya de Córdoba o la escenificación del poder, en Madinat al-Zahra. El Salón de Abd al-Rahman III. Op. Cit., pp. 155-175. 23أنظر ،عىل سبيل املثال ،الربوز العسكري يف سبتمرب 971لالحتفال بدخول بني جزار مدينتي قرطبة والزهراء. Ibn Hayyan (1967), Anales palatinos del califa de Córdoba al-Hakam II, por Isa ibn Ahmad al-Razi (360-364 H. = 971-975 J. C.). Op. Cit., pp. 64-74.
129
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
مدينة الزهراء .كل يشء يشري إىل أن املدينة قد تجمدت وتحجرت ،وابتدا ًء من تلك اللحظة بدأت مرحلة انحطاطها ،يف البداية كان ذلك بطريقة رمزية وبعد ذلك بشكل فعيل عندما ُعني يف عام 978ابن أيب عامر ،املعروف باملنصور حاجباً ومارس السيطرة عىل الدولة ورشع ببناء مدينة ملكية جديدة رشقي قرطبة ،هي مدينة الزاهرة التي نقل إليها مجموع إدارة الدولة من الزهراء. أما األخبار التالية التي تتحدث عن استعادة املدينة لدورها الرئيس فتشري إىل الفتنة التي وقعت يف األعوام 1013-1010بعد احتال ٍل جزيئ للمدينة عىل يد قوات أحد املتصارعني عىل الخالفة ،هو سليامن املستعني ،وعمليات السلب والنهب املتوالية ما أدى إىل مغادرة السكان الذين كانوا ال يزالون يعيشون داخل أسوارها .وانطالقاً من تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة الحنني الشعري ،واستمرت أعامل النهب بكثافة متفاوتة تبعاً لطبيعة املواد واستمر هذا الحال حتى القرن السابع عرش عىل األقل .وعىل مدى هذه الفرتة الطويلة نسبت بقايا املدينة املهجورة إىل الحقبة الرومانية ،وهكذا فقد ُعرفت بـ «قرطبة القدمية» حتى تم الكشف النهايئ عن هويتها يف عام 1832بوصفها مدينة الزهراء ،املدينة التي بناها عبد الرحمن الثالث.
استعادة الرتاث
إن صورة مدينة الزهراء التي قدمناها توا ً ،أي ما نعرفه عن مدينة الخالفة هذه ،ال تقوم عىل معلومات تم الحصول عليها من املصادر العربية بل من خالل البحث الدقيق الذي أجري منذ بداية الحفريات يف عام 1911عىل أيدي أجيال مختلفة من الباحثني. وإزاء مجموعات أثرية أخرى وصلت بشكل أو بآخر كاملة إلينا ،ميكن فهم مدينة الزهراء عىل أنها نتاج البحث األثري الذي بدأ العمل به منذ قرن يف املنطقة القدمية من مدينة الحكم األموية. وما ميكن مشاهدته اآلن يف مدينة الزهراء هو نتاج عمل طويل من التنقيبات األثرية نهضت به أجيال من الدارسني الذين أنجزوا مهاماً بحثية يف إطار املؤسسة الرتاثية نفسها التي ترشف عىل املنطقة األثرية أو من خالل هيئات أكادميية أخرى .إنها حقيقة دامغة ولهذا فإن ما يُعطي حياة للمجموعة األثرية يف مدينة الزهراء ويجعلها قادرة عىل اجتذاب آالف الزوار الذين يلتقون كل عام هناك إمنا هو التفسري الذي توصل إليه البحث التاريخي واألثري حول حارضة الحكم األموية القدمية .ببساطة نقول إنه لوال هذا التفسري ملا كان ملدينة الزهراء وجود. 130
أنطونيو باييخو تريانو
البدايات
منذ بداية األعامل عىل يد ريكاردو بيالثكيث بوسكو ،فإن الحصيلة الذي تراكمت طوال القرن العرشين كانت هائلة .لقد متت الحفريات أساساً يف القطاع املركزي من القرص وكانت غاية يف الصعوبة سواء من ناحية صالبة األنقاض مبختلف مستوياتها التي كانت تُخفي الهياكل (وصل الحفر إىل ما بني 5و 6م يف بعض األمكنة) وكذلك بسبب كثافة عمليات نهب الهياكل األثرية ،ما جعل بعض مبانيها يحتفظ فقط باألسس ،واألسوأ من ذلك هو العثور فقط عىل الحفر التي كانت ترتكز عليها تلك األسس .وقد ألزمنا هذا الوضع بتشغيل مرشوع خاص باإلضافات النظامية لهياكله ابتدا ًء من عام 1930باستخدام أجزاء من الحجارة الكبرية املكرسة التي ظهرت يف الحفريات التي بدأت يف السور الشاميل للمدينة ويف الجدران الساندة للمدرجات واستمرت الحقاً لتشمل كافة املباين .وبهذا فقد أخذت الخطوط الرئيسة للتنظيم العمراين للقرص ومختلف مبانيه يف التجسد واكتساب حجم إىل درجة الوصول إىل صورة لهيكل القرص مبستوياته ومبانيه املختلفة التي نعرفها اليوم. كان للعمل يف السنوات األوىل سواء يف املوقع ويف تحديد هوية بعض عنارص األرايض املرتبطة مبدينة الزهراء أثر يف الحامية التي ُمنحت له كأثر تاريخي وطني يف عام 1923كام حدث مع قناة مياه بالديبوينتيس العائدة لفرتة الخالفة و ُمنية العامرية يف عام .1931 ويف الوقت نفسه فقد صاحبت هذه األعامل أنشطة أخرى تتعلق بإعادة تركيب املواد، وعىل وجه الخصوص الزينة املعامرية املتمثلة بزخارف التوريق .إذ تقدم املباين الرئيسة يف مدينة الزهراء ،خاصة قاعات التمثيل السيايس واملساكن ،تصميامت للزينة أعدت عىل أساس االستعانة بنوع من الحجارة املختلفة عن حجارة البناء وقد وصلت إلينا بشكل غري مكتمل ومجتزأة مفككة إىل آالف القطع التي تظهر يف مختلف مستويات أنقاض هذه املباين .وكان ترميم مجلس عبد الرحمن الثالث ،قاعة عرش الخالفة األموية الذي تم التنقيب عنه يف عام ،1944مبثابة مرشوع عظيم للبحث والعمل يف مدينة الزهراء خالل النصف الثاين من القرن العرشين وال يزال حتى اليوم غري مكتمل بعد .ويف أعقاب الحفريات التي متت فيه بدأت عملية دراسة معقدة وذلك لتحديد مواده وإعادة تركيبها بغية التعرف عىل مختلف العنارص املكونة من ألواح وأحجار العقد املستخدمة والركنيات والحواجز والصنيفات واألفاريز التي سمحت بإعادة تركيب معامره يك يتم بدء إعادة املواد إىل مكانها األصيل املؤكد أو املفرتض. هذه املهمة املعقدة جدا ً والذكية التي بدأها وطورها فيلكس إرنانديث وتابعها رفائيل مانثانو ،وأنا يف السنوات األخرية ،دعمت بعمل مهنيني آخرين يربز من بينهم املستعرب مانويل 131
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
أوكانيا واملرمم سالبادور إسكوبار .وكالهام واصل التقدم يف البحث الذي بدأه إرنانديث حتى بداية املرحلة األوىل من حكومة إقليم األندلس حيث استمرا بالتعاون من خالله وبهذا فقد أرسيا جرسا ً حقيقياً وقناة لنقل املعارف املكتسبة عىل طول املراحل العملية الستعادة هذا الرتاث.
الدعم املؤسيس
ابتدا ًء من عام 1985دشنت مرحلة جديدة من العمل تحت أمرة اإلدارة املحلية لحكومة إقليم األندلس واإلدارة التابعة لها وقد متيزت مبا ييل: •إضفاء الطابع املؤسيس عىل إدارة املوقع بإنشاء مؤسسة تعنى باآلثار تحت اسم «املجمع األثري» يضمن العمل اإلداري املستمر لإلرشاف عىل املوقع. •االهتامم القائم عىل املعرفة والحفاظ عىل األرايض وبالتايل عىل أدوات الحامية من خالل إعالنها منطقة أثرية ووضع خطة خاصة للحامية تطبيقاً للقواعد القانونية املتعلقة بحامية الرتاث رقم .85/16يضم املوقع اليوم فضاء محمياً مساحته حوايل 1500هكتار باإلضافة إىل آثار املدينة ومحيطها كله وهي ذات قيمة عالية كمنظر عام وأثري وحيث يوجد التنظيم اإلقليمي التاريخي ملدينة الزهراء املؤلف من جسور وقنوات مياه وأجزاء من طرق ومواقع أثرية أخرى. •االهتامم بالبحث العلمي كمحرك ملوقع أثري ذي تعقيد استثنايئ وبدونه يغدو املوقع محض مجموعة من الهياكل التي تفتقر إىل املعنى .وينظر إىل البحث أيضاً عىل أنه عملية البد لها من قيادة وتوجيه كافة األعامل التي تتم يف املوقع األثري. •القناعة بأن إدارة اآلثار يجب أن تكون مستدامة 24وتقوم عىل أساس التوازن السليم بني مختلف أعامل الوصاية عىل املوقع كاإلدارة والحامية والبحث واملحافظة والنرش.
24هذا يعني أنه يجب االحتكام إىل ثالثة مبادئ أساسية :كل أداء يجب أن يقوم عىل أساس البحث الدقيق ،كام يجب أن يسمح باالستدراك والتصحيح ،واألخذ يف الحسبان األجيال القادمة.
132
أنطونيو باييخو تريانو
إن أي خلل يف هذا التوازن الذي من شأنه أن يقود إىل مزيد من التطور إلحداها عىل حساب الباقي سيؤدي بالرضورة إىل تغيريات يف الوصاية عىل املوقع. •رضورة أن يقوم النرش عىل أساس نقل املعارف املستمدة من مجال البحث العلمي، وينبغي أن يسهم يف نقل ونرش القيم الكثرية املتنوعة املوجودة يف املدينة وأراضيها، ويف محو األفكار النمطية التي تعتم معانيها املتعددة. •إضفاء الطابع املؤسيس عىل إدارة املوقع بإنشاء مؤسسة اسمها «املجمع األثري» تضمن األداء اإلداري املستمر يف الوصاية عىل املوقع. هذا الزخم الذي حظي به البحث أسفر عن تقدم ملحوظ عىل ثالثة مستويات من العمل .عىل املستوى اإلقليمي من خالل معرفة تف ّرد وخواص املوقع وظروف بناء املدينة ،مع األخذ بعني االعتبار الجوانب الطوبغرافية واملتعلقة باملشهد الطبيعي كرشط أساس للتخطيط الحرضي ملدينة الزهراء .وقد أُحرز تقدم يف هذا املجال يف التعرف عىل البنى التحتية األساسية التي أقيمت يف املدينة لتطويرها .وعىل املستوى الحرضي ملجموع املدينة فقد تم التوصل إىل صورة كاملة لها مع تقسيمها إىل مناطق تشغيلية كانت غري معروفة حتى تلك اللحظة (رسم توضيحي رقم .)1وتربز العالقة الهرمية بني القرص واملدينة والتثبت من وجود تخطيط داخيل صارم يفرس من بني أشياء أخرى وجود مناطق كبرية غري عمرانية يف وسط املدينة ،مناطق مل ت َنب أبدا ً مقارنة مبنطقة الواجهة الجنوبية للقرص. هذا وقد سمح البحث عىل مستوى صغري جدا ً يف القرص خالل السنوات األخرية بوضع تفسري شامل ومتامسك حول كافة البنى التي تشكله .فقد تم إيضاح التمفصل العضوي ملختلف مبانيه وتناغم تخطيطه ومراحل بنائه املختلفة منذ تأسيسه حتى هجره ،وبشكل خاص مدى وأهمية عمليات إصالحه وتغيريه التي أدت إىل تغيري مالمح القرص متاماً. وبالنسبة لعملية الصيانة فقد شهدت مدينة الزهراء خالل العقدين األخريين إسرتاتيجية استعادية تهدف إىل التدخل ،عىل نحو منظم ومرحيل ،يف الفضاءات املختلفة التي تكون املنطقة السكنية للقرص وذلك من أجل تسهيل دخوله بشكل عام إذ كان قد أغلق وتعذرت الزيارات .وتم تحديد منوذج للتدخل املتكامل يف هذه املباين يشمل كافة العنارص التأسيسية، بدءا ً بالبنى والحيطان حتى األثاث املستخدمة والعنارص األخرى التزيينية .والهدف األخري 133
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
يكمن يف تحسني عملية الصيانة وتقديم قراءة للمباين توضح كافة وجوه التف ّرد والخصوصيات التي متيزه مع تقديم خربة جاملية وفكرية وحواسية تؤدي إىل االتصال بالواقع األصيل وفهم الفضاء واملواد املستخدمة فيه ووظائفها األولية. هذا النوع من التدخل حظي بالعرفان الدويل واستحق جائزة أوروبا نوسرتا يف عام 2004 التي منحت عن عملية ترميم املنطقة املعروفة بدار جعفر. وقد تطورت منهجية التدخل الشامل هذه خالل السنوات األخرية وتجسدت يف تدخل جديد يف مجلس عبد الرحمن الثالث الذي كان هدف أول مرحلة من مراحل الرتميم الرامي إىل حل مشكالت الرطوبة التي تؤثر يف املبنى وبالتايل يف زينته .وقد سمحت الحفريات املنجزة مبعرفة اتساع الطبقة الصخرية التي أقيم عليها املجلس وإجاميل خطوط قطع ألواح الرخام .وشمل التدخل أيضاً وضع أرضية من هذه املادة املستخرجة من محاجر إيسرتميوز (الربتغال)–من حيث يرِد هذا الرخام– واستخدمت أيضاً القطع األصلية الباقية من املبنى. أحد املعامل البارزة األكرث أهمية يف هذه السنوات كان هو االحتفال يف عام 2001مبعرض «ازدهار األمويني القرطبيني» .ورغم أن معرضاً مشابهاً سبقه يف باريس فقد ضم ألول مرة مجموعة من القطع املهمة ما سمح بالتعمق يف مختلف جوانب األرسة الحاكمة وإنجازاتها عىل املستوى الفني والعلمي واألديب ،وهو ما نرش يف مطبوعتني .25ومن بني أهم نتائج املعرض الكربى كان االعرتاف مبدينة الزهراء وعرضها عىل املستوى الوطني والدويل األمر الذي انعكس يف ارتفاع أعداد الزوار القادمني من مختلف أرجاء العامل.
25أنظر املجلد رقم 1ماريا خيسوس بيغريا ( )Mª Jesús Vigueraو كون ِث ْبثيون كاستيو )،)2001( (Concepción Castillo El esplendor de los omeyas cordobeses: la civilización musulmana de Europa occidental. Exposición en Madinat al-Zahra, 3 de mayo a 30 de septiembre de 2001: estudios. Granada: Consejería de Cultura, ;a través de la Fundación El Legado Andalusí واملجلد الثاين من العمل نفسه لرافائيل لوبيث غومثان ( )Rafael López Guzmánو أنطونيو باييخو (،)2001 Catálogo de piezas. Barcelona: Juan Carlos Luna Briñardeli.
134
أنطونيو باييخو تريانو
املتحف الجديد
إن إسرتاتيجية تطوير مدينة الزهراء حيال املستقبل تتجسد يف متحفها الجديد .فقد كانت الحاجة إىل هذه البنية التحتية قد طرحت منذ بداية الحفريات يف مطلع القرن العرشين عىل يد ريكاردو بيالثكيث بوسكو وكانت قد تكررت من خالل دعوة مختلف املسؤولني عن املوقع بدءا ً باللجنة التي تلت وفاة هذا املهندس املعامري ،مرورا ً بفيليكس إرنانديث ،ومؤخرا ً برافائيل مانثانو .وقد قدم األوليان حالً مؤقتاً ببناء مبنى صغري يقع إىل جانب مدخل املوقع، يف حني حاول ريكاردو مانثانو استخدام الهيكل األثري نفسه كمكان لجمع املواد والبدء بإعادة إنشاء املجلس العلوي الكبري كمتحف وهو العمل الذي بقي بدون استكامل. وبهذا الهدف الذي العودة عنه وضع يف عقد التسعينات (« )1990برنامج لالستخدام» أدرجت فيه فكرة املتحف بتو ّخي ثالثة أهداف أساسية: 26
•رشح تاريخ مدينة الزهراء وقيمها املتعددة عرب نقل املعرفة الناتجة عن البحوث الجديدة مبا يسمح بالتحديث والتجديد الدامئني ألنشطة النرش والرتويج. •جمع كل مجموعة املواد األثرية الناتجة عن أعامل الحفريات وحاميتها وتقدميها يف قاعات العرض ويف أمكنة التخزين ومناطق الحفظ. توفري الفضاءات واملوارد املناسبة لتطوير إمكانات املوقع املتعددة كاملختربات وورش الرتميم واملكتبة. ومن أجل وضع املرشوع فقد نظمت مسابقة دولية لطرح األفكار ،وقد فاز بها املعامريان فوينسانتا نييتو وإنرييك سوبيخانو وقد قاما بتصميم مبنى عىل شكل مستطيل ذي معامر اختزايل (أسلوب املينيامليزم) مبساحة 7000مرت مربع .بدأت األشغال عام 2005وافتتح يف أكتوبر عام .2009 26الجوانب املتعلقة باملتحف ميكن االطالع عليها يف: Antonio Vallejo Triano (2011), Un Museo para Madinat al-Zahra, en Consejo Internacional de Museos. 6.º Encuentro Internacional. Actualidad en Museografía: Bilbao, del 17 al 20 de junio de 2010. Madrid: Consejo Internacional de Museos (icom, por sus siglas en inglés) España, pp. 105-123.
135
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
يقع املتحف خارج السور الذي يضم مدينة الخالفة إىل جانب مسار إحدى الطرق الرئيسة التي اختفت متاماً ،عىل نحو ال يؤثر عىل الحفريات املستقبلية وال يقيدها ( 27صورة رقم .)4 وإحدى القيم األكرث بروزا ً ووضوحاً تتمثل بالطريقة التي أقيم بها عىل األرض .فإذا كان املكان املختار مسبقاً يقدم بعض املفاتيح املتصلة باالحتياطات التي يجب اتخاذها بخصوص املوارد املتعلقة باملنظر الطبيعي ،فاملرشوع يتعمق كثريا يف هذا التقييم من خالل قراءة املشهد مبا يجعله يتكامل متاماً مع هذا املنظر الطبيعي .لذا فهو متحف «صامت» ال يبحث عن دور بارز وال يريد التنافس مع املدينة وال مع املنظر الطبيعي املندغم فيه ،إنه متحف «منط ٍو عىل نفسه» تكمن قيمته يف األسلوب الذي يندمج فيه مبحيطه ،شأنه يف هذا شأن عامرته الداخلية التي تتميز بالنظام والنظافة وانفتاح املساحات. صورة رقم .4متحف مدينة الزهراء .منظر خارجي.
املصدر :املجمع األثري ملدينة الزهراء.
أهم مستجدات الربنامج املتحفي تتجىل من خالل فهم املتحف كمجمع وحيد يف خدمة معرفة املوقع األثري بشكل أكرب وأحسن .واملبنى كله قابل للزيارة عرب جولة دائرية تسمح بعرض وفهم مختلف مناطقه ووظائفها ،فكل واحدة منها تسهم بداللة معينة يف الخطاب الدائر حول مدينة الخالفة وتاريخها وقيمها واستعادتها. ويف القاعة الكربى يُعرض عىل الجمهور رشيط سمعي برصي تحت عنوان «مدينة الزهراء: املدينة املتألقة» يرشح ماهية مدينة الزهراء مبساعدة تقنيات الواقع االفرتايض .أما املعرض الدائم فريتكز من جانبه عىل أربعة أقسام مرتبطة ببعضها ومجهزة مبوارد تكنولوجية واسعة 27تقرر اختيار هذا املوقع يف الخطة الخاصة بحامية مدينة الزهراء التي حررها مهندس التخطيط الحرضي خوسيه مينينديث دي الوركا نابيا-أوسوريو.
136
أنطونيو باييخو تريانو
بهدف الوصول إىل فهم أفضل لتاريخ املدينة وأهميتها ضمن فضاء البحر املتوسط يف القرن العارش(صورة رقم .)5ويضم 166قطعة أصلية ويرشح من خالل خطاب تعليمي القضايا العامة املرتبطة بالسياق التاريخي والثقايف الذي ظهرت فيه مدينة الزهراء فضالً عن قضايا معينة أخرى حول إنشائها وعالقتها بقرطبة وحول سكانها ،من هم وكيف عاشوا يف فضاءاتها املختلفة وكيف حدثت عملية تدمري مدينة الخالفة.28 صورة رقم .5متحف مدينة الزهراء .قاعة العرض الدائم.
مصدر :تصوير فوتوغرايف /روالن هالبي.
تحوال واضحاً يف املعرفة واالنتقال من 28برنامج التخطيط املتحفي لقاعة العرض وضعه األستاذ مانويل أثيني أملانسا ويشمل ً مجال البحث إىل النرش .املرشوع املتحفي من أعامل مهنديس العامرة الذين وضعوا املرشوع وعامل املتاحف خوان ب. رودريغيث فرادي.
137
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
وتعرض يف املتحف بعض من أفضل قطع الثقافة اإلسالمية يف القرن العارش .ومن بني خواصه الرئيسة هو التصور الذي أقيم من خالله كمتحف مفتوح ،فالجولة يف املعرض الدائم تتكامل من خالل النظرة الداخلية للمخزنني الرئيسني اللذين يضامن مجموعته الفنية ،األول الخاص باملواد املعامرية من الحجر والرخام والثاين خاص بزخارف التوريق .هذه الرؤية تسمح مبعرفة جزء كبري من القطع غري املعروضة وكذلك تأمل العمل الداخيل للمؤسسة –من حيث تصنيف القطع وتنظيفها ،إلخ– يف هذه الفضاءات. فاز متحف مدينة الزهراء بجائزتني دوليتني مهمتني .إذ أن متيز عامرة املبنى إىل جانب األفكار املتعلقة بعلم املتاحف واآلثار قد مثال األساس لتصور وعرض املتحف األمر الذي استحق عنه جائزة آغا خان للعامرة لعام .2010وأخريا ً فقد حاز عىل جائزة «محفل املتحف األورويب» ،وهي منظمة تعمل برعاية املجلس األورويب الذي أقر له بالقدرة عىل نقل محتويات وقيم تاريخ مدينة الزهراء من خالل جودة برنامجه املتعلق بعلم املتاحف وتصويرها ،وذلك مبنحه جائزة املتحف األورويب لعام .2012
املستقبل
حسن لقد فتح املتحف آفاقاً جديدة أمام مستقبل مدينة الزهراء .ومن ناحية أخرى ّ إمكانية فهم املكان بشكل كبري ،وبهذا املعنى فقد حدث تقييم مهم ملدينة الزهراء عىل كافة املستويات (االجتامعية والتعليمية والعلمية ،)..ألنه أسس بهذا لفهم أهميته التاريخية البارزة واملتعلقة بالتخطيط الحرضي واملعامري والفني ،إلخ ،وكذلك عكس مدى تعقيده وغناه وإمكاناته الكامنة. من ناحية أخرى فإن تنوع املوارد اإليضاحية للمتحف يجعل من الرضوري إعادة التفكري يف الوسائل التوضيحية والشارحة يف املوقع نفسه بحيث يستكمل بعضها البعض اآلخر وأال يكون محض تكرار .فهناك جوانب ميكن أن ترشح عىل نحو أفضل يف املتحف وذلك من خالل املواد املتنقلة واملوارد املناسبة وأخرى تتطلب الرشح يف املوقع من خالل األدوات والوسائل الخاصة .هذا يعني أن املوقع يجب أن يكون موضع إعادة ترتيب متحفي يف املستقبل. وينبغي أن يخدم موقع املتحف أيضاً إسرتاتيجية التدخل واستعادة فضاء املدينة واملنطقة الجنوبية من مدينة الزهراء .كام أن تحديد موقع باب دخول املدينة من الجنوب وذلك باستغالل أحد أبواب الدخول األصلية سيحول يف السنوات القادمة جزءا ً من العمل التنقيبي
138
أنطونيو باييخو تريانو
الذي يجب أن يجرى يف هذا القطاع لربط طريق املشاة ما بني املتحف واملدينة من خالل السور الجنويب وفضاء املدينة القدمية. إن إقامة هذا الرابط ينبغي أن تكون هدفاً إسرتاتيجياً للمجمع األثري الذي بدأ يف عام 2007بحفريات يف جزء من السور الجنويب وهياكله امللحقة ،والبد من إفساح الطريق أمام واحد من أكرب املرشوعات وأكرثها طموحاً يف مجال املتاحف يف بلدنا خالل السنوات املقبلة، وكذلك تحويل فضاء املدينة التي مل يشملها التنقيب إىل متحف .أي مبعنى آخر علينا أن نسهل االتصال بني القرص الذي شملته التنقيبات واملتحف من خالل مسار عرب املدينة التي مل تشملها الحفريات بعد ،ويجب أن يُشار ضمنها إىل العنارص األكرث أهمية يف تخطيطها الحرضي (الطرق واملباين وعنارص النسيج الحرضي والفراغات اإلنشائية والفضاءات الزراعية ،)..بحيث ميكننا أن نتعرف عىل موقعها الطبوغرايف ،وبصفة عامة هيئتها ،يك يسمح لهذا املسار بإحياء التجربة الحواسية الجاملية واملعرفية التي عناها االقرتاب التدريجي من الجنوب حتى مقر السلطة .إن هذا املرشوع يحتل أهمية قصوى ويجب أن يقوم بوضوح عىل برنامج حفريات يف هذا القطاع وعىل التطوير املكثف لتقنيات التنقيب الجيوفيزيائية والكهربائية واملغناطيسية التي أعطت نتيجة طيبة جدا ً حتى اآلن يف مدينة الزهراء. اليوم أصبحت مدينة الزهراء موقعاً ذا إمكانيات هائلة ليس فقط الستثنائية مبانيه التي اكتُشفت بل أيضاً لسعة املساحة التي مل يتم فيها التنقيب بعد وهي تعادل %90تقريباً. من هنا ،وبالرضورة ،ال بد للمستقبل من أن يقوم أيضاً عىل استمرار الربامج الشاملة املتعلقة بصيانة وترميم وتشغيل املوقع ومجموعته األثرية التي تعاين من التوقف منذ بضع سنوات ،وعىل تطوير مدينة الزهراء ومتحفها كمركز للبحث والتأهيل ،وذلك من خالل التعاون مع املؤسسات والجامعات ذات املرجعية يف مجال علم اآلثار ودراسات عامل العصور الوسطى ،وكذلك يف مجال التدخل يف هذه املواقع األثرية وترميمها.
139
مدينة الزهراء :واقع تاريخي وحارض ترايث
سرية املؤلف
أنطونيو باييخو تريانو ،تخرج يف جامعة مالقة ،اختصاص تاريخ العصور الوسطى، وحصل عىل الدكتوراه من جامعة جيان .شغل منصب مدير املجمع األثري ملدينة الزهراء منذ عام 1985حتى عام .2013عضو رشف يف معهد اآلثار األملاين ومدير مجلة «دفاتر مدينة الزهراء» .Cuadernos de Madinat al-Zahraباإلضافة إىل هذا فقد ألف العديد من املطبوعات ذات الطابع العام واملتخصص حول مدينة الزهراء والخالفة األموية يف الغرب ،ويربز من بينها «الدليل الرسمي للمجمع األثري».
امللخص
تتناول الدراسة الحالية بالتحليل مدينة الزهراء من منظورين :تاريخي-أثري وترايث .فمن ناحية مثة تصور قائم حول املدينة بوصفها أعظم بناء عمراين للخالفة األموية يف األندلس يف سياق التنافس مع الخالفتني األخريني املنافستني لها العباسية والفاطمية اللتني بنتا أيضا حارضتني كبريتني وجعلتا منهام عاصمتني لدولتيهام عىل التوايل .كام ويتم تحليل خصائص عملية التخطيط العمراين ومسرية البناء يف ضوء البحوث األثرية وتوضح األهداف السياسية التي تتجىل يف مختلف التحوالت العمرانية واملعامرية التي حدثت يف القرص منذ تأسيسه. من ناحية أخرى مثة توضيح لعملية استعادة مدينة الزهراء منذ بداية التنقيبات والتأكيد عىل أن الواقع املادي الذي نراه اليوم يف املوقع األثري ،فضالً عن املعرفة املرتاكمة لدينا حول مدينة الخالفة ،إمنا يرجع الفضل فيه أساساً إىل البحوث األثرية .كام تبني الدراسة الكشوفات األخرية ملسرية االستعادة هذه ،خصوصاً مع بناء متحف مدينة الزهراء ،واملستقبل الذي ينتظر املوقع األثري وذلك لالعتبارين اآلتيني :أوال ،بسبب الحاجة لربط املتحف باملوقع ،وثانياً ألنه عىل الرغم من كون مساحة %90من املوقع ال تزال تنتظر التنقيب ال بد للبحث العلمي من أن يكون املحرك املركزي ملدينة الزهراء إذ بسوى ذلك ستتضاءل قيمة املوقع ويغدو محض مركز سياحي.
الكلامت املفتاحية
قرطبة ،كوردوبا ،مدينة الزهراء.
140
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش إدواردو مانثانو مورينو يرمز مصطلح العيش املشرتك («التعايش») إىل فرتة يف التاريخ اإلسباين متتد من الغزو األموي اإلسالمي إلسبانيا يف بداية القرن الثامن حتى نهاية مرحلة االسرتداد املسيحي يف أواخر القرن الخامس عرش عندما كان املسلمون واملسيحيون واليهود يف أيبرييا املورية (املسلمة) يعيشون يف سالم نسبي جنباً إىل جنب يف ماملك مختلفة (مع ذلك ويف الوقت نفسه كانت املطالبة املسيحية باألرايض التي غزاها املسلمون مستمرة). هذه العبارة كثريا ما تشري إىل تفاعل األفكار الثقافية ما بني املجموعات الثالث وأفكار التسامح الديني .وقد استدعى جيمس كارول هذا املفهوم وأشار إىل أنه لعب دورا ً هاماً يف تقريب الفلسفة اليونانية الكالسيكية إىل أوروبا من خالل الرتجامت التي وضعت من اليونانية إىل العربية ومنها 1 إىل العربية والالتينية.
مبا أن اإلنرتنت قد أصبح مصدرا ً عاملياً للوصول إىل املعرفة ،واملفاهيم الواردة فيه– وهي 1أنظر «التعايش» ،ويكيبيديا :يف 9أبريل ،2013 «La Convivencia», Wikipedia. The Free Encyclopedia, http://en.wikipedia.org/wiki/La_Convivencia.
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
التي تظهر نتيجة البحث اآلين الرسيع الالهث كعرصنا الحايل– فإنه يعطي فكرة جيدة عن التصورات املتبناة عىل نحو تعميمي التي ميكن تسميتها بالعاملية .بهذا املعنى تغدو الفقرة الواردة أعاله ذات داللة بهذا الصدد .واملدخل إىل مصطلح التعايش بالنسخة اإلنجليزية لويكيبيديا ميثل يف كثري من الحاالت أول اتصال يقيمه القارئ املهتم بالدراسات اإلسبانية، هذا املصطلح الذي أصبح يف السنوات األخرية أمرا ً مفروغاً منه ال يف اللغة اإلنجليزية وحسب وإمنا أيضاً يف لغات أخرى (كالفرنسية أو األملانية) .ولنالحظ أنه يف الواقع يقدم ملحة عامة عن تاريخ شبه الجزيرة اإليبريية يف العصور الوسطى إذ كان «التعايش» (كذا!) يشري إىل «فرتة» بأكملها متتد ما بني القرن الثامن والقرن الخامس عرش عندما عاش املسلمون واملسيحيون واليهود يف «سالم نسبي» ،كل واحد يف مملكته .املظهر اآلخر الذي يتم توكيده هو االتصال الثقايف البيني لهذه املجموعات الثالث ،ذلك أن هذا «التعايش» ال بد من أن يكون قد شجع الرتجامت من اليونانية إىل اللغة العربية ومن هذه األخرية إىل اللغة العربية أو الالتينية. من املحتمل أنه نظرا ً لطبيعة املوسوعة اإللكرتونية املعروفة (ويكيبيديا) أن يتم تعديل محتوى هذا املدخل بحيث ميكن أن نعرث يف أي بحث مستقبيل الحق عىل مادة مختلفة أو حتى محسنة للموضوع نفسه .وبعيدا ً عن نقص الدقة العلمية لهذا املدخل البحثي /املصطلح إال أنه يدل عىل أن العصور الوسطى اإلسبانية باتت مرجعية تاريخية لتوضيح األفكار املتعلقة بالتعايش بني الديانات الساموية الكربى الثالث .وميكننا إيراد أمثلة أخرى كثرية .وهكذا، فإن املرشوع الشهري لبناء مركز إسالمي يف نيويورك ،يف قلب مانهاتن ،غري بعيد عن منطقة الصفر التي دمرتها هجامت 11سبتمرب حمل يف البداية اسم «بيت قرطبة» وقد استوحي من املدينة اإلسبانية «حيث تعايش املسلمون واملسيحيون واليهود يف العصور الوسطى خالل فرتة التالقح الثقايف العظيم التي أقامها املسلمون» وفقاً ملا كتبه صاحب املبادرة ،اإلمام فيصل عبد الرؤوف .2وقد تحدث الرئيس األمرييك باراك أوباما يف خطابه الشهري يف جامعة القاهرة يف يونيو من عام 2009عن مبدأ التسامح يف اإلسالم مذكرا ً باألندلس وقرطبة بإشارة واضحة.3 كام أن العديد من األفالم الوثائقية املصورة يف السنوات األخرية وهي يف مجملها من رشكات 2فيصل رؤوف )« ،)2010( (Feisal Abdul Raufبناء اإلميان» النيويورك تاميز 7 ،سبتمرب .2010 3يف كل النسخ املرتجمة عن الخطاب التي اطلعت عليها ،بضمنها النسخة الرسمية للبيت األبيض مثة خطأ واضح ميكن التنبيه إليه يف الصياغة .فالنص يقول« :اإلسالم يتمتع بتقاليد عريقة يف التسامح .ونلمس ذلك يف تاريخ األندلس وقرطبة أثناء فرتة محاكم التفتيش» .هذا ال معنى كبري له ،ما يدعو إىل التفكري باحتامل سقوط سطر ما سهوا ً من الخطاب .وميكن االطالع عىل النص عىل الرابط اآليت: http://www.whitehouse.gov/the-press-office/remarks-president-cairo-university-6-04-09
144
إدواردو مانثانو مورينو
منتجة بريطانية وأمريكية قد دأبت أيضاً عىل توكيد األفكار نفسها.4 من خالل الصفحات التالية أرمي إىل إيضاح مسألة تتعلق بإعالء شأن القرون الوسطى اإلسبانية بحيث غدت مرجعية تأريخية لتعددية الثقافات مع أنها انبثقت يف العقود األخرية، وكيف أنها متت عموماً مبشاركة ضئيلة جدا ً من قبل املؤرخني اإلسبان الذين فاجأهم هذا األمر عىل حني غرة وظلوا مرتددين إزاء مفهوم يستند بشكل أكرب إىل تصورات معممة (وجود مفرتض لتسامح وتعايش سلمي واسع أو تدفق الحر لألفكار) أكرث مام يستند إىل ظروف تاريخية محددة جيدا ً .وكذلك نظرا ً للميل إىل مقارنة هذه التصورات مع األوضاع الحالية ،فقد أصبح «التعايش» مصطلحاً يسهل نقله إىل الحارض حيث توجد ظروف توتر كبري يف العالقات متعددة الثقافات ،وعىل وجه الخصوص ،بني اليهودية واملسيحية واإلسالم .ومن هنا راح يتشكل النموذج الذي يهدف إىل أن يصبح مصدر إلهام للحارض ولكنه بدالً من ذلك استخدم إلضفاء الرشعية عىل بعض الخيارات التي هي غري متطابقة الدوافع عىل الدوام ،بل وحتى ال تتامىش معها ،كام سرنى الحقاً .وهكذا ،عىل الرغم من أن بعض ال ُكتّاب قد قدموا مساهامت مهمة من األفكار الضمنية يف «التعايش» ،فاملصطلح انتهى بأن يتحول إىل «مفهوم سيايس». ومن خالل نعته بهذه الصفة فأنا ال أصدر حكامً قيمياً بل وصفاً لطبيعته التي تسمح بتوضيح مفردات مناقشته .يف املقابل وكأداة ميكن أن تساعدنا يف الوصول إىل نظرة عقالنية للاميض فـ «التعايش» ينطوي عىل محددات واضحة جدا ،كام سرنى عندما نحاول تطبيقه تحديدا ً عىل حالة الخالفة يف قرطبة .هذا التناقض بني املفاهيم السياسية واملفاهيم التاريخية يثري بدوره نقاشاً أكرث اتساعاً وتعقيدا ً حول دور املعرفة التاريخية وأهميتها يف املجتمعات املعارصة والتي سأشري إليها يف الجزء األخري من هذا العمل.
التعايش :نشأة املفهوم
عىل الرغم من شعبيته الهائلة فإن مفهوم التعايش مل يتم تطويره بعناية .لقد ارتبط بالديانات الساموية الثالث ووضع صياغته العامل اللغوي الكبري أمرييكو كاسرتو ()1972-1885
4وهكذا عىل سبيل املثال الربنامج الوثائقي «بعد روما .الحرب املقدسة والغزو» الذي أخرجه عمدة لندن الحايل املحافظ بوريس جونسون والذي بثته قناة البي يب يس يف الثاين من ديسمرب ،2008أو «عندما يحكم املوروس املسلمون» يف أوروبا من إخراج بيتاين هيوز وبثته القناة 4يف نوفمرب/ترشين الثاين .2006كام يوجد أيضاً يف مرحلة اإلعداد «زينة العامل» ااملأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه للكاتبة ماريا روسا مينوكال التي رحلت عن عاملنا مبكرا ً والذي أنتجته كيكيم ميديا.
145
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
يف السنوات التي قضاها يف املنفى يف الواليات املتحدة إثر الحرب األهلية إذ أضاء تفسريا ً ذا خصوصية بالنسبة لتاريخ إسبانيا ضم من بني أمور أخرى ،الفكرة القائلة بأنه خالل العصور الوسطى رسى تسامح خاص ذو إلهام إسالمي سمح بـ «التعايش» بني ما أطلق عليه املؤلف تسمية السالالت الثالث (املسيحية واليهودية واملسلمة) .وهذا التسامح ،وهو عنرص آخر من املؤثرات األكرث حسامً التي حملها اإلسالم ،ال بد من أن يكون قد أسهم يف تشكيل خصوصية إسبانيا التاريخية .وال بد من أن سيادة الطائفة املسيحية خالل العصور الوسطى األوىل قد فتحت الطريق نحو «عرص الرصاع» يف القرنني الخامس عرش والسادس عرش اللذين متيزا باالضطهاد والتعصب وطرد املجموعتني األخريني اللتني تم إخضاعهام. أبدا ً مل يكن أمرييكو كاسرتو منظامً متاماً يف صياغة أطروحاته .والحقيقة هي أن أفكاره كانت تتبلور وتتشكل منذ أن ظهرت عام 1948الطبعة األوىل ملؤلفه الذي حمل عنواناً آنذاك هو «إسبانيا يف تاريخها» حتى نرش هذا العمل نفسه عام 1966مع تعديالت كبرية بعد أن أصبح يطلق عليه «الواقع التاريخي إلسبانيا» .5كام أن موضوع التعايش أبدا ً مل يكن مركزياً يف فكر كان هدفه الرئيس يتمثل يف معرفة أصول الشعب اإلسباين ،أو باستخدام كلامت كاسرتو نفسه «معرفة اإلنسان املتشكل هيسبانياً» .6إن استطراداته الطويلة حول الشعب الذي يفهم عىل أنه العنرص الرئيس للتأريخ ،وحول العالقة التي ال تنفصم «ملا هو إسباين» بالدين ،أو حول «العيش الحيوي» و «املوقف إزاء العيش» كمثال محلوم به وتجربة خاصة بكل مجموعة من السكان ،كانت كلها عنارص أخرى لنظرة كان قد بناها أمرييكو كاسرتو أثناء أعوام نفيه ،وهدفها النهايئ متثل يف السعي لرشح «كينونة اإلسبان». إذا ليس من الغريب أن أمرييكو كاسرتو مل يتطابق مع القوالب التأريخية املتعارف عليها من حيث قلة االهتامم بتوايل الوقائع التأريخية وخلط بيانات العصور املتباينة جدا ً والبحث بأي مثن عن التفرد وعن التوازيات قليلة االحتامل ،وعدم إيالء أهمية للجوانب االقتصادية أو حتى الفكرة الغريبة –القامئة عىل مسلامت فيلهلم ديلتي– حول صدارة املؤرخني املحليني مقابل األجانب بغية فهم التاريخ نفسه ،وكانت كلها أشكال أخرى كثرية لرفض أي معرفة 5أنظر: Guillermo Araya (1983), El pensamiento de Américo Castro: estructura intercastiza de la historia de España. Madrid: Alianza Editorial, pp. 41-47. 6أنظر أمرييكو كاسرتو )،)1949( (Américo Castro «El enfoque histórico y la no-hispanidad de los visigodos», Nueva Revista de Filología Hispana, 3, pp. 234-235.
146
إدواردو مانثانو مورينو
تزعم أنها «علمية» إزاء فهم املايض الذي يستند إىل التجربة .بالنسبة ألمرييكو كاسرتو كان هدف التفسري التأريخي هو العثور عىل مكونات «العيش الحيوي» التي كانت قد شكلت الشعب اإلسباين .وكان أحد هذه املكونات هو الخاص بـ «تعايش» الطوائف الثالث التي كان أمرييكو كاسرتو قد حددها عىل نحو غري دقيق بعض اليشء يف مرحلتني تأريخيتني هام: فرتة الخالفة األموية يف قرطبة يف القرن العارش وفرتة املاملك املسيحية يف القرن الثالث عرش. واملالمح التي ترسخت عىل مدى «عرص الرصاع» مل تنح جانباً فقط عنرص «العيش الحيوي» الهيسباين بل وشكلت أيضاً عائقاً جدياً يف وجه تقدم البالد.7 لو فحصنا أعامل أمرييكو كاسرتو انطالقاً من املنظور التأريخي للفكر اإلسباين سنجد أنه عىل اتصال واضح بالتقليد الذي رشع منذ جيل الـ 98بالتأمل حول «كينونة» و «تأريخ املطبوعي ٍ مباض إمرباطوري عظيم وحارض يتصف باإلنحطاط والتهميش الدويل .ومل إسبانيا» ْ تفعل الحرب األهلية ( )1939/1936سوى أنها عمقت هذا التأمل إىل حدود الصدمة .فليس محض صدفة أن أول طبعة من كتاب «إسبانيا يف تاريخها» تزامنت بشكل دقيق مع ظهور نصوص وكتابات كـ «اإلسبان يف التاريخ» لرامون مينينديث بيدال ( ،)1947و «إسبانيا بوصفها مشكلة» لعضو حزب الكتائب سنتئذ بدرو الئني إنرتالغو ( ،)1949و «إسبانيا بدون مشكلة» لكاتب من املوالني للجرنال فرانكو أيضاً لكنه كان عضوا ً يف التنظيم الديني «أوبوس داي»، رفائيل كالبو سريير ( ،)1949أو «إسبانيا :لغز تاريخي» الذي نرشه منفي آخر هو كالوديو سانتشيث ألبورنوث يف بوينوس آيريس عام 1957ردا ً عىل عمل أمريكو كاسرتو وتسبب يف جدل الذع بني كال املؤلفني .ويضاف إليها عروض للكتب وتعليقات ومقاالت نُرشت عىل هامش هذه األعامل كتبها مؤيدون ومعارضون لألفكار املتعلقة بإسبانيا. ليس هذا هو املكان املناسب للقيام بتحليل مفصل لنتاج كافة املؤلفني واألعامل التي مل تذعن للمخططات التي ت ُقدم انطالقاً من رؤية تتعلق بالحارض فقط .هناك مؤلف معا ٍد جدا ً للفرانكوية وهو كالوديو سانشيث ألبورنوث قدم رؤية للعصور الوسطى تحولت إىل مرجعية قانونية للمؤرخني األكرث قرباً من النظام ،ومع األخذ يف االعتبار األثر الذي خلفه مينينديث بيدال الذي مل يكن يُشتبه يف عدم تعاطفه مع هذا النظام .8وعىل النقيض من هذا فإن 7أنظر أمرييكو كاسرتو (،)1984
España en su historia: cristianos, moros y judíos. Barcelona: Crítica, pp. 47-61. 8أنظر املقدمة الرضورية لدييغو قاطالن، Diego Catalán en 1882 a Menéndez Pidal, en Ramón Menéndez Pidal. Los españoles en la historia. Madrid: Espasa-Calpe.
147
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
مستعرباً متشددا ً يف فكره املحافظ ،وقف إىل جانب الذين انترصوا يف الحرب األهلية ،وهو ميغيل أسني باالثيوس ،كان قد أشار إىل األفكار والدوافع املتقاسمة بوئام ما بني املسيحية واإلسالم يف العصور الوسطى كنوع من املقارنة التأريخية التي تربر الحضور الغريب لقوات مغربية بني صفوف الجيش الذي كان يقوده الجرنال فرانكو خالل الحرب األهلية اإلسبانية.9 وقد كرث اللجوء إىل تأريخ إسبانيا نفسه واستخدامه يف الكثري من عنارص الخطاب السيايس لتلك الحقبة ،والجرنال فرانكو نفسه باإلضافة إىل اإلعالن يف سنة 1938عن نيته يف إنشاء «جامعة للدراسات العليا الرشقية يف قرطبة حيث يتمكن الطالب املسلمون من البحث حول ازدهار حضارتهم باستخدام كافة أنواع الوثائق املوجودة يف حوزة إسبانيا» مل يتورع عن تقديم رؤيته حول الوضع القائم بني الجامعات الدينية يف العصور الوسطى وذلك يف خطاب ألقاه عام 1937عرض فيه برنامج حكومته: مقابل االضطهاد املنظم من قبل املاركسيني والشيوعيني لكل ما ميثله وجود الروحانية أو اإلميان أو العبادة ،نحن ندافع عن إسبانيا الكاثوليكية بقديسيها وشهدائها ،مبؤسساتها العريقة ،بعدالتها االجتامعية ومحبتها املسيحية .وروح التفاهم العظيمة التي ظللت عرص تاريخنا الذهبي عندما كانت الكاثوليكية القوية سالحاً إلعادة بناء وحدتنا التاريخية، وكانت هناك يف ظل تسامح الدولة الكاثوليكية املساجد واملعابد اليهودية يف كنف روح التفاهم التي ميزت إسبانيا الكاثوليكية.10
9أنظر إدواردو مانثانو )،)2000( (Eduardo Manzano El arabismo español en el siglo xx: la construcción de un esencialismo, en Gonzalo Fernández Parrilla, Manuel C. Feria García y Eduardo Manzano Moreno. Orientalismo, exotismo y traducción. Cuenca: Ediciones de la Universidad de Castilla-La Mancha, pp. 23-28. 10بالنسبة للمجلة ،أنظر ترصيحاته إىل مانويل أثنار ( )Manuel Aznarيف 31ديسمرب 1938يف: Francisco Franco Bahamonde (1939), Palabras del Caudillo: 19 de abril de 1937-31 de diciembre de 1938. Barcelona: Seix y Barral Hnos. Edit. F. E., p. 314. لالطالع عىل خطاب فرانثيسكو فرانكو بآمونده )،)1937( (Francisco Franco Bahamonte Habla el Caudillo [textos seleccionados de discursos y escritos del Caudillo]. Gijón: Luz, p. 33.
148
إدواردو مانثانو مورينو
يف تقاطع الرؤى التاريخية الجوهرية هذاُ ،عرف عن رؤية أمرييكو كاسرتو بأنها تتصادى مع الفكر التقدمي والليربايل األصيل 11يف رهانه عىل إدراج تاريخ األندلس يف تاريخ إسبانيا بعيدا ً عن فكرة الجرنال فرانكو التي مل يسبق لها مثيل من حيث السامح للمسلمني أنفسهم بالتواصل مع املايض اإلسالمي اإلسباين .وبالفعل فكام أشار بدرو مارتينيث مونتابيث فإن فضل أمرييكو كاسرتو الكبري يكمن يف إيالء املايض اإلسالمي دورا ً بارزا ً كان املستعربون اإلسبان أنفسهم قد سمحوا بإسناد دور ثانوي له .12ومع ذلك فإن هذا مل يُرتجم إىل معالجة نوعية لألندلس موثقة بشكل جيد ،ورمبا كان هذا ألن أمرييكو كاسرتو مل يجد أبدا ً يف ببلوغرافيا االستعراب موادا ً ميكن له أن يستعني بها يف تفسريه ،ورمبا لخيبة األمل التي تسبب فيها «التحفظ النقدي الواسع ،يف حاالت غري قليلة مشبوهة تتجىل يف كون ممثيل حركة اإلستعراب وأكرثهم شهرة كانوا قد أعربوا عن رفضهم لنظرياته املستجدة».13 من الواضح أن أمرييكو كاسرتو عندما أشار إىل أهمية الغزو العريب يف تشكل «الشعب اإلسباين» و «التعايش» املستلهم من تسامح تعود جذوره إىل اإلسالم فقد أقام هذا عىل أساس فهمه الذايت أكرث مام فعله باللجوء إىل وثائق مهمة ودقيقة حول األندلس .14واالفتقار إىل قاعدة قوية من الوثائق والدور البارز الذي لعبه «الشعب اإلسباين» كانا السبب وراء اكتساب عمله الطابع السيايس الواضح –ومن املؤكد أنه كان هكذا رغامً عنه– واستندت قيمته إىل القدرة عىل تقديم رموز مهمة حول الحارض .هذا الطابع السيايس البني دمغ عملية استقبال العمل الحقاً .وبهذا الشكل حدث أمر غري منتظر :ففي حني أن جزأه املركزي –االعتبارات املتعلقة «بكينونة اإلسبان» ،و «عيشهم الحيوي» أو «موقفهم إزاء عيشهم»– خرس قوة يف األطر السياسية الجديدة التي ظهرت بعد نهاية الحقبة الفرانكوية ،نجد أن رؤاه املدهشة حول التعددية الثقافية يف العصور الوسطى أصبحت تثري اهتامماً 11وكام يشري أمرييكو كاسرتو وخوان غويتيصولو وخابيري إسكوديرو رودريغيث (،)1997 El epistolario: cartas de Américo Castro a Juan Goytisolo, 1968-1972. Valencia: Pre-Textos. 12أنظر بيدرو مارتينيث مونتابيث (،)1983 «Lectura de Américo Castro por un arabista», Revista del Instituto Egipcio de Estudios Islámicos, xxii, pp. 21-42. 13أنظر بيدرو مارتينيث مونتابيث (،)2010 Américo Castro y los moriscos, en Julio Rodríguez Puértolas. El pensamiento de Américo Castro. La tradición corregida por la razón, publicada on-line en la Biblioteca Virtual Miguel de Cervantes, http://www.cervantesvirtual.com 14أنظر: Bernabé López García (2000), «Enigmas de al-Andalus: una polémica», Revista de Occidente, 224, enero de 2000, pp. 49-50.
149
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
متزايدا ً يف مجتمعات كان عليها ،منذ الربع األخري من القرن العرشين ،أن تواجه تحديات مل تكن لتخطر لها ببال خالل العقود السابقة.
التعايش :تطور املفهوم
لقد عاش أمرييكو كاسرتو يف املنفى يف الواليات املتحدة األمريكية وعمل يف جامعات مختلفة يف هذا البلد وقد مثل هذا أهمية يف نرش عمل كان يف حد ذاته يستحق االهتامم .يف عام 1954 ظهر كتاب «الواقع التاريخي إلسبانيا» مرتجامً يف برنستون ويف العام التايل ظهرت الطبعة اإليطالية له .ويف عام 1963ت ُرجم العمل إىل الفرنسية ويف عام 1971نرشت بريكيل ترجمة جديدة إىل اإلنجليزية تحت عنوان «اإلسبان :مدخل إىل تاريخهم» The Spaniards. An Introduction to Their Historyوظهرت تعليقات عليه يف «لوس أنجليس تاميز» واإلكونوميست وملحق التاميز األديب .15وعليه فال أظن أنه سيكون من املبالغ فيه القول بأن كاسرتو كان واحدا ً من علامء اإلنسانيات اإلسبان الذين استطاعوا خالل القرن العرشين أن يحظوا بحضور دويل كبري.16 لقد أدى هذا إىل قيام الكثري من الدارسني األجانب بالتعمق يف عامل العصور الوسطى اإلسبانية من خالل الرؤية الخاصة التي كانت تقدمها نظريات كاسرتو التي وجدت بهذه الطريقة صدى واسعاً يف أقسام اللغة اإلسبانية ودراسات العصور الوسطى والدراسات اليهودية والدراسات اإلسالمية ،وحديثاً يف األدب املقارن أو الدراسات الثقافية .بطبيعة الحال ما كان لتلك القراءات املتعددة التي قامت بها األوساط األكادميية حول هذه النظريات عالقة كبرية بالقلق املتعلق بكينونة أو جوهر إسبانيا ،عىل العكس فقد كانت تراهن بشكل حازم عىل تحليل التعددية الثقافية والقضايا املتعلقة بهويات أو مسارات التهجني ،وهي الجوانب التي ميكن القول بأنها كانت مطروحة بشكل جنيني تقريباً يف أعامل عامل فقه اللغة والتي كانت لها أهمية قصوى يف مجتمع كاملجتمع األمرييك الخاضع لضغوط التعددية الثقافية. 15أنظر: Guillermo Araya (1983), El pensamiento de Américo Castro: estructura intercastiza de la historia de España. Op. Cit., p. 313. 16باملقابل فإن عمل كالوديو سانشيث ألبورنوث« :إسبانيا :لغز تاريخي» ت ُرجم فقط عام 1976من قبل املؤسسة الجامعية اإلسبانية ،رغم أن السبب وراء هذه الرتجمة كان معهد الثقافة اإلسبانية حسب بارتولوميه كالبريو ()Bartolomé Clavero (« ،)2013الشجرة والجذر .الذاكرة التاريخية الشائعة» .برشلونة :كريتيكا ،ص .100وهي مطبوعة ناطقة باسم الجهات الرسمية إذ خارج حدودنا مل تكن لتثري اهتامماً كبريا ً بحوث املؤرخ اآلبيل (من آبلة اإلسبانية) بخصوص اإلنسان اإلسباين.
150
إدواردو مانثانو مورينو
وكانت نتيجة هذه القراءات هو العثور عىل صياغة معدة عىل نحو أفضل لبعض األفكار املحشوة ضمن مفهوم «التعايش» ،إال أنها توصلت إىل بعد مغاير .17ففي عام 1969قام كل من يت أتش غليك و أو .يب-سونيري بنرش عمل أشارا فيه إىل افتقار املؤرخني اإلسبان إىل االستعداد إلدراك قوة تاريخهم باالعرتاف ببعض املفاهيم الواردة من العلوم االجتامعية .وكانا يدافعان عن الحاجة إىل نظرية ترشح سياقات التثاقف أي ،التالقح الثقايف ،التي متت يف شبه جزيرة أيبرييا يف العصور الوسطى ،ونبذ اللجوء إىل «االستخدامات اللغوية الجديدة القامتة املؤملة» التي استخدمها أمرييكو كاسرتو لوصف ظواهر معروفة جيدا ً بالنسبة لألنرثبولوجيا الثقافية .مل تكن الحدود التي رسمتها الهوية الدينية جامدة دامئاً طوال العصور الوسطى اإلسبانية ،عىل غرار ما أكدته ظواهر التحول الديني أو نقل املعارف والتقنيات .وما أطلق عليه أمرييكو كاسرتو بـ «التعايش» صار يُعرف بأنه نوع من «التعددية املستقرة» التي توقفت فيها عمليات الصهر أو االستيعاب («مرحلة من الصهر املتوقف أو االستيعاب غري الكامل»).18 وقد عمل يت أتش .غليك نفسه عىل أساس هذه األفكار يف أعامل الحقة .وبرغم انعدام وجود أي رابط مع فكرة «التعايش» فإن كتابه حول الري يف بلنسية ( )1970كان دراسة رائدة حول تشكل البساتني يف جنويب رشق شبه الجزيرة وتفسريها كنتائج لعمليات نرش تقنيات وزراعات قام بها أناس قادمون من الرشق األوسط أو شاميل إفريقيا استقروا بعد الغزو العريب يف هذه املنطقة ،ولكنهم شهدوا بعد قرون تغريات نقلتهم إىل ظروف اجتامعية مختلفة متاماً بعد االحتالل املسيحي لتلك املنطقة .19ويف عمل الحق حاول غليك أن يعطي هذه األفكار طابعاً أكرث عمومية مؤكدا ً عىل أن هذه العمليات املتعلقة بتغيري ونرش الثقافة يف شبه جزيرة أيبرييا يف العصور الوسطى مل تعن بالرضورة وجود عالقات سلمية .ومن ناحية أخرى فإن تعايش األديان الساموية الثالثة مل يكن نتيجة لسياسة تسامح باملعنى الحديث للفظ ،بل 17أنظر: Kenneth Baxter Wolf (2009), «Convivencia in Medieval Spain: a Brief History of an Idea», Religion Compass, 3/1, pp. 72-85. 18أنظر: Thomas F. Glick y Oriol Pi-Sunyer (1969), «Acculturation as an Explanatory Concept in Spanish History», Comparative Studies in Society and History, 11 (2), pp. 136-154. 19أنظر: Thomas F. Glick (1970), Irrigation and Society in Medieval Valencia. Cambridge: Harvard University Press.
151
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
يعود إىل تقوقع عىل الذات عرقي مركزي انطوى ضمناً عىل عملية إقصاء اجتامعي للجاليات الخاضعة (املسيحيون واليهود يف حالة األندلس ،واملسلمون واليهود يف املاملك املسيحية). وكانت مفاهيم كالدمج أو االستيعاب أو االنتامء العرقي أو الديني قد أظهرت أن لها طابعاً أكرث حيوية من ذاك الذي كانت توحي به فكرة «التعايش» مبعناها الرصف .20 وبعد سنوات متت العودة إىل أفكار أمرييكو كاسرتو عىل يد ديفيد نرينبريغ إلعداد تفسري رائع بخصوص تشكل «مجتمعات العنف» التي ميكن التعرف عليها يف القرن الرابع عرش. إذ كانت تغذّيها رصاعات بنيوية تتسق مع قواعد ميكن متييزها يف سياقات متنوعة ،وهذه املجتمعات كانت متيل إىل العنف وذلك لقدرة األفراد عىل التالعب بها يف أزمنة وأمكنة معينة. وبهذه الطريقة فإن مفهوم «التعايش» مل يعد يتمتع باملعنى البسيط للتعايش السلمي بل بات يتضمن معنى املواجهة واالضطهاد أيضاً .وكان يف كافة األحوال مبثابة أوجه عدة لعملة واحدة ولدت جراء توترات مجتمع اصطبغ بالهويات الدينية.21 من امللفت للنظر أنه بينام كانت هذه األفكار تتولد يف الدوائر األمريكية كان علم التاريخ يف بلدنا يأخذ اتجاهاً مغايرا ً جدا ً .فقد تصادف استنفاد النقاش حول «كينونة إسبانيا» –كام أرشنا إليه من قبل– مع نهاية حقبة فرانكو والبحث عن آفاق جديدة بعيدا ً عن املسلامت املتعلقة بالجوهر التي سيطرت عىل املشهد حتى تلك اللحظة .بيد أن تلك النامذج القدمية البالية وجدت من يعرتف بها مؤقتاً ومن بينهم مؤلفون مؤثرون جدا ً ،مثل جاومي بيثنس بيبيس ( )1960-1910الذي قدم نفسه: ] [..بوصفه املحور الذي من شأنه أن يكون ،من ناحية ،تصفية لسلسلة من املواقف التي عفى عليها الزمن (بصفة عامة مواقف املدرسة العلمية واللغوية القومية القشتالية) ومن ناحية أخرى ،مبرشا ً مبولد مفهوم جديد للتاريخ ينفتح عىل الحياة الحقيقية بلحمها ودمها ويتعارض مع 20أنظر: Thomas F. Glick (1979), Islamic and Christian Spain in the Early Middle Ages. Princeton: Princeton University Press. 21أنظر: David Nirenberg (1996), Communities of Violence. Persecution of Minorities in the Middle Ages. Princeton: Princeton University Press.
152
إدواردو مانثانو مورينو
املوضوعات التجريدية الكربى والوصفات السياسية واأليديولوجية التي 22 س ّممت علم التاريخ اإلسباين.
هذا «املفهوم الجديد للتاريخ» بحث مبدئياً عن مرجعية له يف (مدرسة الحوليات) Escuela de los Annalesثم تأثر الحقاً بتيارات املادية التاريخية التي كانت منترشة يف أوروبا يف السبعينات والثامنينات .ومع أن هذه التيارات مل تكن مسيطرة قط –ألن الوسط املهتم بعلم التأريخ اإلسباين كان محافظاً يف غالبيته– فإنها كانت حيوية جدا ً وقد تقاسمت صيغ عمل بل وموضوعات التقليد الوضعي الذي كان ال يزال له وجود يف إسبانيا بشكل أو بآخر. وكذلك يف عمل كان له صدى كبري جدا ً أشار كل من أبيليو باربريو ( )1990-1931ومارثيلو بيخيل ( )1987-1930يف عام 1978بعبارات نقدية شديدة إىل أفكار كل من أمرييكو كاسرتو وكالوديو سانتشيث ألبورنوث ،معتربين إياها مبثابة «متويه لواقع تاريخ إسبانيا الذي تحول إىل نظرة متعالية تتصل بثوابت ميتافيزيقية أو عرقية» ،إذ «بدالً من طرح املحددات الحقيقية لتاريخ إسبانيا ،فإن ما فعاله هو أنهام قد ح ّواله إىل جوهر تستلزم معرفته ما هو أبعد من املؤلفي أبديا اهتامماً محدودا ً يف الوصول إىل معرفة البحث العلمي» .وعىل هذا األساس فإن ْ جوهر ما هو إسباين« :أهدافنا أكرث تواضعاً إذ أنها تقترص عىل دراسة املتغريات التي تعرضت لها التنظيامت االجتامعية التي وجدت يف شبه جزيرة أيبرييا يف فرتة محددة».23 يف هذا الجهد املرتبط بالوثائق أو باملوضوعات املتخصصة املتصلة بالتغريات االجتامعية أو االقتصادية– وهي كام أسلفت ميكن أن تعترب بأنها أسرية فكرة كاسرتو حول «التعايش»– مل يكن االهتامم بالعالقات الثقافية البينية يحتل مكاناً بارزا ً .ومل يكن األمر يتعلق مبؤامرة ناجمة عن عداء مفرتض معمم تجاه عامل اللغة اإلسباين ،كام يؤكد املدافعون عنه أحياناً .بل يف الواقع أنه كان تغيريا ً يف التوجه بسبب من تأثري علم التاريخ األورويب الذي مل تكن تياراته 22أنظر: Jaume Vicens Vives (1960), Aproximación a la Historia de España, 2.ª edición [prólogo]. Barcelona: Teide. 23أنظر: Abilio Barbero y Marcelo Vigil (1978), La formación del feudalismo en la Península Ibérica. Barcelona: Crítica, pp. 18-19.
153
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
األكرث حيوية خالل تلك السنوات لتبدي اهتامماً كبريا ً ،ال بالدراسات الثقافية وال بأصول الشعوب ،وهام موضوعان عادة ما كانا ميضيان متالزمني يف الكثري من املناسبات مع النتائج املؤملة املعروفة بالنسبة للجميع التي سادت أوروبا يف فرتة ما بعد الحرب العاملية .يجب أن نضيف إىل هذا كله أيضاً التوجه األكادميي الخاص يف بلدنا ،وهو التوجه املوروث عن العمليات اإلصالحية الجامعية األخرية للفرتة الفرانكوية ،ومبوجبه احتفظت ،عىل نحو ذي داللة كبرية ،أقسام تاريخ العصور الوسطى والدراسات العربية أو العربية بوجود منفصل ومتواجه ،وبطبيعة الحال غري «متعايش» عىل وجه العموم.24 رشح هذه األسباب التي تفرس مدى تلقي أفكار أمرييكو كاسرتو لن تكتمل دون اإلشارة إىل ظهور عنرص غري متوقع متاماً وقد اكتسب أهمية تدريجية يف الربع األخري من القرن العرشين .إنه الدور البارز للعامل العريب بشكل خاص واإلسالم كفكر سيايس ذي توجه كوين وهو ما أخذ يصاحب زيادة التوترات ليس فقط يف الرشق األوسط –وهو ما تربزه الحروب الثالثة يف الخليج الفاريس وتفاقم الرصاع الفلسطيني– بل أيضاً يف مناطق أخرى .إن أعامالً مؤثرة مثل «صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العاملي» ( )1996التي عرضت أطروحة صامويل هانتنغتون حول املعركة األيديولوجية التي طبعت فرتة الحرب الباردة وكيف أنها أفسحت املجال أمام مرحلة تسيطر عليها املواجهات بني الثقافات ،وبهذا فُتح املجال أمام فهم الواقع املتعدد الثقافات ومحاربته يف الوقت نفسه .كام كانت أحداث الحادي عرش من سبتمرب/أيلول عام 2001والتي تلتها الحقاً يف مدريد ولندن وأجزاء أخرى من العامل قد أدت إىل تشديد هذا التوجه الذي كان يلزم بإعادة التفكري ومراجعة األفكار املوجودة حول اإلسالم وتقليده التاريخي يف لحظة ردود فعل متطرفة ومشاعر متنافرة جدا ً .يف هذا السياق يجب أن يُفهم فيه ظهور أعامل مختلفة موجهة إىل الجمهور العريض وقد ركزت اهتاممها يف األندلس. فقد أضيف إىل التقليد األكادميي األمرييك ،وهو الذي كان يلح سابقاً عىل أهمية دراسة التعددية الثقافية يف املجتمع األندليس ،رضورة التوصل إىل خطاب يقدم إجابات إزاء وضعية مأساوية صادمة .كانت هناك أستاذة لألدب اإلسباين والربتغايل يف جامعة ييل ،وهي ماريا روسا مينوكال ( )2012-1953قد عملت يف كتاب حول التعددية الثقافية يف قرطبة األموية، ثم وجدت نفسها تشهد هجامت الحادي عرش من سبتمرب بينام كانت تنتهي من وضع كتابها 24لقد أرشت إىل هذه املشكلة يف إدواردو مانثانو (« ،)2009من سيناء ِعلمها العريب .تأمالت حول العصور الوسطى واإلستعراب» الحديثني ،يف مانويال مارين (نارشة) .األندلس/إسبانيا .علوم التاريخ يف تضاد :القرن السابع عرش -القرن الحادي والعرشون .مدريد :بيت بيالثكيث ،ص .230-213
154
إدواردو مانثانو مورينو
فطرحت عىل نفسها مسألة استحالة «فهم تاريخ ما كان حقاً «زينة العامل» يف مرحلة سابقة بدون رؤية انعكاسات هذا التاريخ أمام أعيننا» .25ولكنها قررت عدم تغيري نصها الذي كانت قد كتبته لتقدم فيه رؤية تقوم عىل أن الدولة األموية كانت متثل عرص تسامح ،األمر الذي كان يدعو حتامً للمقارنة مع مشاهد الحارض الوحشية. هناك مؤلفون آخرون اختاروا طريقاً مامثالً .كريس لوين ،وهو يسوعي سابق ومدير سابق يف ج .ب .مورغان وقد نرش بعد ذلك بفرتة وجيزةA Vanished World: Christians, : ) Muslims and Jews in Medieval Spain (2005وفيه عرض مجد اإلنجازات املشرتكة التي حققتها املجتمعات الثالثة ومأساة عدم الحفاظ عليها ،مع اإلشارة إىل أن «إسبانيا العصور الوسطى كان ميكنها أن تدلنا عىل هذا الطريق» السرتداد روح التعاون تلك .ويُقارن ديفيد ليفرينغ لويس ما بني التسامح يف املجتمع األندليس وأوروبا الغربية التي كانت ترفع من شأن القيم الحربية والتعصب الديني والعبودية ،وذلك يف كتابه God’s Crucible. Islam and the ) Making of Europe (2008وكان هذا الكاتب قد فاز بجائزة بولتزر لدوره كناشط أمرييك يف مجال حقوق اإلنسان. من امللفت للنظر أيضاً أنه بينام كانت كافة هذه األعامل ترتجم إىل اللغة اإلسبانية يف بلدنا كان االحتفاء بالتسامح واالزدهار األندلسيني يتخذ طابعاً غامئاً وعمومياً .26حقاً لقد كانت هناك إشارات ال تحىص تبني تسامح الحضارة األندلسية وازدهارها وقد تجىل هذا من خالل تقارير أو أعامل أدبية أو خطابات رسمية –وهو ما أشار إليه مؤلفون مثل سريافني فانخول –إال أنه بصفة عامة مل تكن هناك أعامل تضاهي تلك التي ذكرناها يف سياق التذكري مبا هو
25أنظر ماريا روسا مينوكال (،)2002( )María Rosa Menocal The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain. Boston, Londres: Little, Brown, Postscript, p. 283. هناك ترجمة إسبانية لهذا الكتاب تحت عنوان «جوهرة العامل :مسلمون ويهود ومسيحيون وثقافة التسامح يف األندلس»، برشلونة ،دار نرش بالثا إي خانيس.2003 ، 26أنظر: Chris Lowney (2007), Un mundo desaparecido. La convivencia de musulmanes, cristianos y judíos en Levering Lewis (2009), El crisol de Dios. El islam yو ;la España del siglo xiii. Buenos Aires: El Ateneo el nacimiento de Europa. Barcelona: Paidós.
155
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
أندليس بشكل جيل وواضح .27أما بالنسبة للمؤلفني اإلسبان الذين تطرقوا إىل هذه املوضوعات نفسها فقد تناولوا هذا األمر دوماً انطالقاً من مواقف انتقادية جدا ً بخصوص عملية أمثلة األندلس كنموذج للتسامح ،مبدين عدوانية واضحة إزاء الحضور التاريخي لإلسالم يف بالدنا بل وط ّوروا فكرة تدمريية تقوم عىل أن إسبانيا استمرت يف حالة مواجهة دامئة ضد اإلسالم منذ ربيع عام 711حتى العمليات اإلرهابية األخرية .28وكون هذه األفكار قد طغت يف بالدنا فإنه حقاً ألمر يستدعي التفكري ملياً ،وخصوصاً أنها روجت يف معظم األحوال من قبل مؤلفني ال معرفة لديهم حول هذا املوضوع .لقد حمل عزوف املتخصصني يف هذه املوضوعات عن الخوض يف هذه الطروحات العمومية حول األندلس عىل القول بإن خيارهم ،وهو خيار أغلبية ،كان ينطلق من عدم الدخول يف الطروحات التاريخية العمومية من هذا النوع أو ذاك، بل ملامرسة النقد بطريقة محددة .29وعليه فمن الواضح أن هذا الصدام بني الخطابات ذات النزعة املتعلقة بالجوهر اإلسباين كان قد باغت املتخصصني بدراسات العصور الوسطى عموماً واالستعراب بصفة خاصة .لذا فهي اللحظة املناسبة إذا ً لتحليل أسباب هذه الهوة.
27رمبا كان االستثناء الوحيد يكمن يف خوان برينيت (« ،)1999( )Juan Vernetما تدين به أوروبا لإلسالم يف إسبانيا». برشلونة :األكانتيالدو ،يجدر بنا أن نذكر أن هذا العمل يعود ألحد أفضل مستعربينا وهو ينرش اسهاماته الفذة يف مجال تاريخ العلوم والتكنولوجيا العربية .كام ال تفوتنا اإلشارة إىل النتاج االستثنايئ لفرانثيسكو ماركيث بيانويبا رغم أن أعامله ليس لها عالقة مبارشة باألندلس. 28سريافني فانخول (،)2002( )Serafín Fanjul ;Al-Andalus contra España: la forja del mito. Madrid: Siglo XXI de España ملزيد من التفاصيل أنظر سريافني فانخول (،)2004 La quimera de Al-Andalus. Madrid: Siglo XXI de España; César Vidal (2004), España frente al islam: Rosa María Rodríguez Magda (2008),و ;de Mahoma a Ben Laden. Madrid: La Esfera de los Libros Inexistente Al Ándalus: de cómo los intelectuales reinventan el Islam. Barcelona: Nobel. هذا العمل األخري حصل عىل جائزة خوب ّيانوس الدولية للمقالة. 29ملزيد من التفاصيل أنظر: Fernando Bravo López (2009), «Islamofobia y antimusulmanismo en la obra de Cesar Vidal», Revista de Estudios Internacionales Mediterráneos, 8, pp. 47-71; Eduardo Manzano (2001), «Reseña a Serafín Fanjul, Al-Andalus contra España», Hispania, lxi/3 (209), pp. 1161-1164; María Isabel Fierro (2004), «Idealización de al-Andalus», Revista de Libros, 94; Luis Molina (2004), «Reseña a Serafín Fanjul. Fernando Rodríguez Mediano (2006),و ;La quimera de al-Andalus», Al-Qantara, xxv, pp. 571-575 «Reseña a Serafín Fanjul, La quimera de al-Andalus», Aljamía, 18, pp. 295-300.
156
إدواردو مانثانو مورينو
االختالفات يف املنهج
إن التطور الكبري يف الدراسات الثقافية يف الواليات املتحدة األمريكية يفرس جزئياً بعض االختالفات التي يقدمها علم التاريخ األنكلوسكسوين –األمرييك عىل وجه الخصوص– واإلسباين ومعه أيضاً الفرنيس بالنسبة ملوضوعة «التعايش» ،وهو ما شدد عليه ريان سبيتش يف عمل صدر مؤخرا ً .30ويرشح املؤلف سبب هذا الخالف لوجود نزاع أوسع بني التقاليد التطبيقية والتأويلية الحارضة يف تطوير دراسات فقه اللغات منذ القرن التاسع عرش وبشكل خاص يف الدراسات التاريخية .هذا الرشخ ما بني التأويلية والتطبيقية مرتبط بقطع الصلة التي أرستها الرومانسية األملانية ما بني Bildungو ،Wissenschaftبفهم الكلمة األوىل عىل أنها فكرة لتحقيق الذات بواسطة الرتبية التي يقوم بها الفرد نفسه ،والثانية كمعرفة ومن خالل العلم ال بد لها من أن تقود إىل تلك .ثم إن فصم هذا االتحاد يف النصف الثاين من القرن التاسع عرش لصالح العلوم املتحررة من أي ذاتية قد بلغ الدراسات اإلنسانية بعمق ومتثل يف التباعد ما بني فقه اللغة التأوييل واللغوي .وهذا يساعد ،وفقاً لرأي سبيتش ،عىل رشح مسار شخصيات مثل أمرييكو كاسرتو أو مجايله إريك أورباخ ( )1957-1892وهو معارض أيضاً ألي تاريخ علمي –نظرا ً الستحالة اللجوء فيه إىل التجريب– لصالح حكاية تصويرية ،يسيطر عليها التأويل واألسئلة املتعلقة بالبعد الجوهري.31 هذا االختالف يفرس أيضاً ابتعاد االستعراب اإلسباين الحديث عن الخط األكرث تثاقفية وتأويلية الذي اتبعه مؤلفون مثل خوليان ريبريا ( )1934-1858وميغيل أسني باالثيوس ( )1944-1871يف النصف األول من القرن العرشين وانتهى يف عرصنا إىل نوع من االرتباط الوثيق بالخطوط األكرث هيمنة دولياً يف مجال الدراسات العربية .وهكذا ،بينام نرى أن هذا التوجه كان يتسم بيشء من النفور من صيغ الرسد العظيم للتاريخ ( )grand rècitكان العكس يحدث يف أقسام الدراسات الثقافية أو دراسات األدب يف الواليات املتحدة األمريكية حيث تم اتباع نهج معكوس متيز بانتشار أفكار الدراسات املقارنة واإلعجاب بدراسة الهويات وظواهر التهجني من خالل منهجيات ما بعد االستعامر والدراسات متعددة التخصصات.32 30ملزيد من التفاصيل أنظر: Ryan Szpiech (2013), The Convivencia Wars: Decoding Historiography’s Polemic with Philology, en Suzanne Conklin Akbari y Karla Mallette. A Sea of Languages: Rethinking Arabic Role in Medieval Literary History. Toronto: University of Toronto Press, pp. 254-295. 31أنظر املصدر نفسه ،ص .284-266 32أنظر املصدر نفسه ،ص .284-283
157
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
مثة نقد معقول ويستحق أن يُؤخذ يف الحسبان ،فقد انشغلنا بالربهنة عىل أن مفهوم «التعايش» ليس له سند تاريخي وأغفلنا مسألة استكشاف اإلمكانيات التي انطوى عليها ذلك التعقيد الثقايف للعصور الوسطى اإلسبانية .صحيح أيضا أن التاريخ االجتامعي يف بلدنا كثريا ً ما ترك جانباً النواحي الثقافية إىل درجة أنه يف الكثري من الحاالت بدت تفسرياته وكأنها تحيل إىل الكولخوزات الروسية أكرث منه إىل الجوانب املثالية واملادية –وهي يف الواقع يصعب متييزها– التي كانت تشكل مجتمعات العصور الوسطى .وهذا ما يفرس بقاء نقد غليك ويب سونيري سارياً عندما أشارا إىل أن املؤرخني اإلسبان مل يكونوا دامئاً عىل وعي باإلمكانات التي تقدمها الدراسة متعددة الثقافات للعصور الوسطى يف شبه جزيرة أيبرييا .وبالفعل مثة انطباع بأن حقل الدراسات يحتاج إىل مراجعة مهمة ال بد لها من إعادة طرح موضوعات البحث انطالقاً من منظورات جديدة ،مع القبول بـ «تحول ثقايف» كان يف الكثري من الحاالت مير دون أن يتنبه له أحد حتى يومنا هذا. فضالً عن تقبل هذا النقد تجدر اإلشارة أيضاً إىل جوانب أخرى أكرث مدعاة للنقاش يثريها عمل سبيتش ،أحدها هو الذي يشري إىل بعض التهافت النظري الذي يصدر عن املؤلفني اإلسبان والفرنسيني ،املتقَولبني ضمن علمية ترص عىل التمسك باملعطيات .ودومنا استبعاد الحتامل أن يكون األمر صحيحاً يف الكثري من الحاالت –عىل غرار ما يحدث يف أي تقليد خاص بعلم التاريخ وال يعد هذا بالرضورة أمرا ً سلبياً– ال بد من التذكري بأن حقل دراسات العصور الوسطى –أشري إليها بشكل عمومي– قد أفسحت املجال يف بلدنا لعدد كبري من املناظرات والنقاشات النظرية ضمن إطار املادية التاريخية لعلم اللغويات واألنرثبولوجيا االجتامعية.33 حقاً أن تلك املناظرات مل ترس يف بعض االتجاهات السائدة يف الواليات املتحدة ،لكنني ال أعتقد أن التفسريات التي تركز عىل القضايا املتعددة الثقافة فقط كانت هي الوحيدة التي بحثت عن إبراز أهمية املعطيات التجريبية .فقد كانت إسهامات التاريخ االجتامعي مهمة أيضاً وعىل نطاق واسع. أما يف مجال االستعراب ،عىل وجه التحديد ،فأظن أن إهامل الرؤى التي سيطرت عىل 33ملزيد من التفاصيل أنظر أثيني أملانسا (،)1998( )Manuel Acién Almansa «Sobre el papel de la ideología en la caracterización de las formaciones sociales: la formación social islámica», Hispania, 58 (200), pp. 915-968; Pierre Guichard (1999), «A propos de l’identité anda Eduardo Manzano (2012),و ;louse: Quelques éléments pour un débat», Arabica, 46, pp. 97-110 Al-Andalus: un balance crítico, en Philippe Sénac. Histoire et Archéologie de l’Occident Musulman (VIIe-XVe siècle: Al-Andalus, Maghreb, Sicile). Toulouse: Université Le Mirail, pp. 19-31.
158
إدواردو مانثانو مورينو
النصف األول من القرن العرشين كان يعود إىل نوع من عدم الثقة العميقة إزاء الطابع املؤدلج جدا الذي اكتسبه هذا االختصاص عىل أيدي مؤلفني مثل ريبريا وآسني باالثيوس أو غارثيا غوميث .ومن جديد يتعلق األمر باتجاه ينبغي فهمه ضمن املفاتيح الذاتية ملجال علم التأريخ اإلسباين .فقد تزامنت نهاية حقبة الجرنال فرانكو ضمن حركة االستعراب مع ظهور أزمة عميقة سواء عىل مستوى الهوية أو األهداف ،بعد أن تعرضت األوىل (الهوية) للذوبان يف الحقل الغائم لـ «الدراسات السامية» والثانية (األهداف) لتزايد انعدام أهمية الدراسات الخاصة باألندلس التي مل تكن لتبدو مهمة بالنسبة لكثريين –وال حتى ألمرييكو كاسرتو وأتباعه– وألنها أغفلت دراسة قضايا مهمة ،عىل سبيل املثال ،املوضوعات املعارصة التي كانت تستأثر بقدر أكرب من الطلب االجتامعي عليها. وعليه فاألجدر بنا أن نتذكر الساحة التي كان عىل املستعربني اإلسبان أن يواجهوها يف السبعينات لفهم الكثري من تطوراتها الالحقة .ومن اإلنصاف االعرتاف بوجود ثغرات معرفية واسعة جدا ً آنذاك مبا مييل رضورة فتح مجاالت غري مسبوقة كلياً :فعىل سبيل املثال كان القانون اإلسالمي قليالً ما يُد ّرس حتى تلك اللحظة ،وعلم اللغويات التاريخي كان ال يزال يقر بأن الناس يف األندلس كانوا يستخدمون عىل نحو معمم اللغة الرومانثية ،أو كيف أن الدراسات املعارصة كانت مجهولة متاماً آنذاك .وهكذا كانت قامئة األعامل املؤجلة ضخمة. ويف هذا الظرف اختارت الدراسات العربية ،وأظن أن خيارها كان صائباً متاماً ،رفع مستوى قاعدتها املعرفية التي كانت حتى ذلك الحني ضعيفة .وقبل الرشوع يف الطريق السهل للتجريب من خالل املعلومات النادرة واملتفرقة ،اختار االستعراب اإلسباين الطريق الصعب، وأحياناً غري املفهوم ،وذلك لتأسيس علم –كان قد عد حتى ذلك التاريخ علامً ثانوياً– عىل أسس أكرث رسوخاً. وحقيقة فإن ردة الفعل القوية التي يُالحظها سبيتش لدى مؤلفني معارضني ملفهوم «التعايش» –وهو ما حمله إىل الحديث عن «حروب» حول هذا املصطلح أو عن «نقد صاخب»– ال ميكن أن تعزى فقط إىل الرفض املوجه إزاء أي منظور ينطوي عىل نهج تأوييل. فقد أشارت برونا سورافيا إىل أن التحقق من غياب املراجع يف الدراسات الحديثة حول األندلس يف الكتب واملقاالت الصادرة باإلنجليزية حول التعددية الثقافية يف العصور الوسطى
159
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
يف شبه جزيرة أيبرييا ليس باألمر املعتاد .34واألمر ليس مجرد تقييم ذايت يخص هذه املؤلفة. فلو تم فحص مراجع الكثري من هذه األعامل سيمكننا التحقق ،إضافة إىل الفجوات الواسعة يف حقل املصادر األولية ،من أن مؤلفيها بالكاد استعانوا مبصادر باللغات اإلسبانية أو القطالونية أو الفرنسية أو الربتغالية ،وهي اللغات التي تم نرش أكرث اإلسهامات أهمية خالل العقود الثالثة األخرية بها ،إضافة إىل اإلنجليزية .وعليه فإن املشكلة تبقى متكررة :ترى هل ميكن تصديق تأويالت تقوم استنتاجاتها أحيانا عىل معرفة مقتضبة جدا ً ليس فقط عن اإلثباتات املتوفرة بل أيضاً عن بحر اإلسهامات الحديثة التي ظهرت يف علم تاريخ نشط وحيوي عىل نحو خاص؟ لذا ال أعتقد أن من املستغرب أن يكون الرد من هذا الجانب من األطليس م ّياالً للسلبية املفرطة. ومع ذلك فمن املمكن القول إن الكثري من هذه التأويالت ال تبحث عن املوثوقية التاريخية القطعية .فنيتها هي إظهار ما إذا كان املايض قد شهد حقباً أمكن فيها خلق الظروف املواتية التي تعني الثقافات عىل الحوار فيام بينها ،ويف الوقت الراهن علينا أن نسعى للتقدم يف اتجاه مشابه مستهدين بهذه النامذج .35إن طرحاً من هذا النوع يصعب أال نتفق معه .بيد أن املشكلة تكمن يف أننا بقبولنا التضحية مبسألة الدقة التاريخية من أجل هدف محمود كام هو الحال مع عالقات األخوة الكونية لن نضحي بالقواعد فحسب ألنها ستتعطل بل وأيضاً سنجد الكثريين ممن سيطالبون باالستثامر السيايس للرسالة. لقد رأينا كيف أن زعيامً دينياً إسالمياً يستحرض «مرحلة عظيمة من اإلثراء الثقايف الذي أبدعه املسلمون» ،لكننا رأينا أيضاً طاغي ًة مشبعاً بروح كاثولوكية مجندة يدعي بوصاية الدولة املتسامحة التي حمت املساجد واملعابد يف إسبانيا العصور الوسطى .مثة طبيعة متامثلة للرسالة مع اختالف األهداف جذرياً .ولو قدر لنا أن نختار فإنني سأختار بال شك الرسالة الضمنية يف خطاب الرئيس أوباما –وإين لواثق من أن الكثري من األكادمييني األمريكيني واألوروبيني الليرباليني حقاً سيتخذون أيضاً املوقف نفسه– لكن ،هل سيقنع هذا الخطاب 34أنظر: Bruna Soravia (2009), Al-Andalus au Miroir du Multiculturalisme. Le Mythe de la Convivencia dans quelques Essais Nord-Américains Récents, en Manuela Marín (ed.). Al-Andalus/España. Historiografías en contraste: siglos xvii-xxi. Op. Cit., p. 352. 35أنظر يف هذا الصدد إىل الكلامت املهمة لهارولد بلوم العظيم يف مقدمة كتاب ماريا روسا مينوكال عام « ،2002أندلس مينوكار[ ]..ميكن أن يجسد نقطة حقيقية يف عملية أمثلة صحية ومفيدة» يف: María Rosa Menocal (2002), The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain. Op. Cit., p. xii.
160
إدواردو مانثانو مورينو
أولئك الذين يعتقدون عىل سبيل املثال بأن «التعايش» األندليس كان نتيجة التطبيق الصارم للقانون اإلسالمي فيام يتعلق بوضعية الذميني؟ إن استنتاجات كهذه هي التي حملت مؤلفني من أمثال مانويال مارين عىل اإلشارة مبنطقية تامة إىل أن استخدام مصطلح «التعايش»« :ال ميكن أن يؤدي سوى إىل املزيد من توليد عنارص غموض أخرى يف نقاش يكتنفه الخلل يف العديد من جوانبه» .36هذا النقاش املعيوب وهذا الغموض هام اللذان يرشحان ،يف رأيي وإىل حد كبري ،معارضة الكثري من املؤرخني اإلسبان الخوض يف موضوعات أثبتت التجربة فيها أنه ال الرسائل جلية حسب ما يُزمع وال تلقّيها يبدو بسيطاً كام يؤمل. الرسد التاريخي العظيم يطرح مشكالت أخرى أيضاً .لقد رأينا أنه من املمكن انتقاء صور ومفاهيم تيضء موضوعة التسامح يف العصور الوسطى الستخالص استنتاجات لصالح مثاليات التعايش بني الثقافات واألديان .ولكن مع ذلك فباتباع منهج مشابه رأينا أيضاً أن مؤلفني آخرين توصلوا إىل استنتاجات مغايرة متاماً ،من خالل تضخيم تأريخ املواجهات الطويل ما بني ثقافات قامئة حتى يومنا هذا .ورؤية كهذه تلجأ أيضاً إىل املايض لرسم الحارض ،نظرا ً ألنها تستدعي وجود حروب اسرتداد غري مشكوك يف وجودها أو حروباً مقدسة أو حروباً صليبية من شأنها أن تثبت االستحالة التاريخية يف الوصول إىل اتفاقيات ال تتأسس عىل منطق الهيمنة. وهكذا فإن هذا املنظور يطالب باستعادة الصفحات التاريخية املتعلقة بالعنف والحروب كدليل عىل منظور واقعي يعرتف بحتمية الرصاع مقابل مفهوم مثايل يفضل الرتكيز عىل املشاهد الشحيحة والعابرة للعيش السلمي املشرتك .ورؤية كهذه ،عىل سبيل املثال ،تصل أيضاً إىل تربير طرد األقليات الدينية خالل العصور الوسطى بالقول بأنها عىل الرغم من كونها مثلت إجراء مؤملاً إال أنها حالت دون تعرض املجتمعات اإلسبانية إىل التوترات املجتمعية التي عرفتها بلدان أخرى .ومن جديد فإن االستنتاجات مختلفة جدا ً ،إال أن مفهوم التاريخ نفسه كمرآة للحارض والبحث يف املايض عن سوابق لألوضاع الحالية ال يزال يوظف بطريقة مامثلة متاماً. وكام أرشت يف مناسبات أخرى ،فعندما يتم التخيل عن اللجوء إىل الدقة التاريخية ويصار إىل تفضيل استخدام املايض إلدارة الحارض نجد أن النتائج تكون غري متوقعة :بدءا ً باالستثامر غري املرغوب فيه اإلنجازات القدمية (أساليف مقابل أسالفك) حتى نفخ الخطابات املتضادة، 36أنظر: Manuela Marín y Joseph Pérez (1992), «L’Espagne des Trois Religions. Du Mythe aux Realités. Introduction», Revue de Monde Musulman et de la Mediterranée, 63-64, p. 23.
161
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
تلك التي تصارع من أجل استخالص تربيراتها من برئ ال قرار لها ونعني بها التاريخ الذي ميكن أن نستخرج منه الرباهني لتربير أي يشء .37وعليه كيف نستغرب من أن داريس العصور الوسطى واملستعربني اإلسبان والفرنسيني قد امتنعوا عن الخوض كثريا ً يف هذه املتاهات املتعلقة بالجوهر؟ لذا فإنها اللحظة التي ينبغي فيها أن نعود لنتساءل إىل أي درجة ميكن ألفكار مشبعة مبفهوم التسامح أن تُطبق عىل التفسري التاريخي.
«التعايش» كمفهوم تاريخي
وكام أرشت من قبل فإن إحدى الفرتات التاريخية التي عادة ما توصف بأنها مثلت أعىل درجة من درجات التسامح االجتامعي هي فرتة الخالفة األموية .فاالزدهار الذي تحقق آنذاك يف قرطبة ،عاصمة الخالفة ،عادة ما يقرن بوجود أجواء مواتية من االحرتام تجاه اآلخر بل ومن القبول غري الواعي بالتناقضات الذاتية التي البد من أنها قد فسحت املجال لتوليد زخم إبداعي مريئ فاعل عىل مستوى اإلنجازات الفكرية والفنية واالجتامعية -أيضاً- العظيمة .وأفضل ما يف التقليد اإلسالمي ميكن أن يكمن يف محصلة موقفه املتمثل بالقبول االندماجي لتأثريات هي غاية يف التنوع واالختالف دون أن يعني هذا التخيل عن سامت هويته الذاتية.38 وليك يثبت هذا الرأي منطقيته علينا أن نتحقق من وجود مناخ للتعددية الثقافية واحرتام االختالف يف القرن العارش ،خالل قرن الخالفة األموية يف قرطبة ( .)1031-929ومع ذلك فإن املعلومات ليست بهذا الوضوح .فهي تظهر بعض خلفاء قرطبة ممن يقدمون أنفسهم ويترصفون عىل أنهم حراس غيورون عىل العقيدة الدينية فيالحقون أتباع الفيلسوف ابن مرسة ويجتثون أي محاولة للتغلغل الشيعي أو كام يف حالة املنصور الذي أمر بحرق األعامل املحفوظة يف مكتبة الخليفة الحكم املتعلقة بالفلسفة وعلم الفلك أو النقاشات العقائدية. هذه املعطيات ومعلومات أخرى ال تسمح بتوضيح املناخ االجتامعي «املتسامح» للخالفة يف قرطبة ،يف األقل عىل نحو معمم .واللجوء إىل العنف كان عنرصا ً كامناً يف املجتمع األندليس
37أنظر إدواردو مانثانو (،)2009 Pensar históricamente al otro, en Marició Jauné i Miret (ed.). Pensar històricament. Ètica, ensenyament i usos de la història. Valencia: Publicacions de la Universitat de València, pp. 103-122. 38أنظر ماريا روسا مينوكال (،)2002( )María Rosa Menocal The Ornament of the World: How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain. Op. Cit., pp. 79 y ss.
162
إدواردو مانثانو مورينو
ومن شأنه أن يتجىل يف أشكال ومظاهر متنوعة.39 وخارج سياق املجتمع اإلسالمي تبقى املعلومات التي لدينا حول املجتمعني اليهودي واملسيحي يف عهد خالفة قرطبة شحيحة جدا ً ،وقد يبدو هذا أمرا ً صادماً إذا ما أخذنا يف الحسبان الثقل الكبري ملسألة مفهوم التعايش .فعملياً نحن ال نعرف شيئاً عن الجامعات اليهودية يف الحقبة األندلسية املبكرة .واملؤكد أنهم قدموا العون يف عام 711م إىل الفاتحني العرب ،ومن املؤكد أيضاً أن قانون الذميني سمح لهم بالتحرر من القوانني الوحشية التي فرضها امللوك القوطيون عليهم خالل املرحلة السابقة كلها .40ولكننا مع ذلك نجهل حجم الجاليات اليهودية وكيف كانت تنظم نفسها وأي دور كانت تضطلع به أو السياقات االجتامعية التي انخرطت فيها. وبالفعل فإنه عند الحديث عن اليهود يف عهد خالفة قرطبة فإن الحديث يكون فقط عن شخص احتكر أو استأثر باملعلومات املتاحة كلها ونعني به حسداي بن إسحاق بن شربوط. ولو أن ما نعرفه حوله ال يسمح لنا بتسطري موسوعة عنه إال أنه يف األقل كان من جيان وأنه كان طبيباً وعمل يف بالط عبد الرحمن الثالث يف منصب حاجب (وليس وزيرا ً ،كام يؤكد كثريون خطأً) وأنه قد قام بدور مبعوث الخليفة يف سفارات إىل امللوك املسيحيني أو كوسيط عند وصول خوان دي غوريث ،سفري اإلمرباطور أوتون األول .كام أن اهتاممه برتجمة مؤلف يف مادة الطب ديوسقوريدوس وعىل نحو خاص تبنيه ملؤلفني من أمثال مناحيم بن رسوق أو دوناش بن لربط ،وهام باإلضافة إىل كونهام شاعرين كانا قد دشنا علم املعاجم العربي يف األندلس ،قد ضمن لحسداي سمعة يستحقها بوصفه رائدا ً للثقافة اليهودية األندلسية
39أنظر ماريا إيسابيل ّفريو بيو (،)2004( )María Isabel Fierro Bello Violencia, política y religión en al-Andalus durante el s. iv/x: el reinado de ‘Abd al-Rahman III, en María Isabel Fierro. De muerte violenta. Política, religión y violencia en al-Andalus. Madrid: Consejo Laura Bariani (2003), Almanzor. San Sebastián:و ;)Superior de Investigaciones Científicas (csic Nerea, pp. 104-105. 40أنظر: Raúl González Salinero (2000), Las conversiones forzosas de los judíos en el reino visigodo. Madrid: csic.
163
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
الزاهية .41ونظرا ً إىل أن املعلومات التي لدينا عن هذه الحقبة تركز بشكل أسايس عىل شخصه أو محيطه املبارش فمن الصعب أن نعرف إىل أي مدى كان حسداي يشكل حالة استثنائية أو ظاهرة تشري إىل وجود دور بارز جدا ً لليهود يف األندلس خالل عرص الخالفة. كام أن املعلومات املتاحة عن املسيحيني يف هذه الفرتة مل تكن أكرث وفرة .وإذا كان علينا أن نصدق مصادر التاريخ فإن الوضع الداخيل للجامعات املسيحية األندلسية عىل ما يبدو كان هادئاً وما حدث يف تلك األوقات كان ميثل آخر حرشجات حركة الشهداء املتطوعني التي هزت املجتمع القرطبي يف القرن السابق .ومثة شخصية بارزة هنا هو ريثيموندو أسقف إلبرية الذي كلفه الخليفة أيضاً مبهام سفري ووسيط لدى خوان دي غروثني ،كام أنه انخرط يف مرشوعات فكرية من بينها ما أطلق عليه بـ «تقويم قرطبة» يف حوايل عام .42 961 ومع ذلك فإن عالقات الجالية املسيحية األندلسية كان عليها أن تأخذ بعني االعتبار عنارص محددة ،نظرا ً ملناخ املواجهة القوية التي كانت قامئة بني األندلس واملاملك املسيحية التي كانت تنتهي يف الكثري من الحاالت إىل حمالت عسكرية عىل الشامل .وهذا ما يفرس عىل سبيل املثال اإلحاالت املبكرة إىل استشهاد الطفل بياليو املشهور من جانب عبد الرحمن الثالث والتي ينبغي فهمها يف إطار هذه العالقات السياسية التي فسحت املجال لوجود هالة من االهتامم بهذا الحادث ،أو ما خصته به الراهبة هروسويتا يف ساكسونيا السفىل يف النصف الثاين من القرن العارش.43 وبصفة عامة فهذه هي املعلومات األولية التي لدينا حول املجتمعني اليهودي واملسيحي يف عهد خالفة قرطبة .ت ُرى هل يحق لنا أن نتكلم عن التسامح يف املجتمع األندليس 41أنظر: Ángel Sáenz-Badillos y Judit Targarona Borrás (1988), Diccionario de autores judíos (Sefarad, siglos Ángel Sáenz-Badillos (2004), «Gramáticas y léxicos y suو ;x-xv). Córdoba: El Almendro, pp. 50-51 relación con el judeoárabe. El uso del judeoárabe entre los filólogos hebreos de al-Andalus», ILU, Revista de Ciencias de las Religiones, ix, pp. 75-93. 42أنظر: Ann Chrystys (2002), Christians in al-Andalus (711-1000). Richmond: Curzon Press, pp. 80-134. 43أنظر: Juan Gil (1972), «La Pasión de Pelayo», Habis, iii, pp. 161-202. De la propia Hroswitha procede la expresión «ornamento del mundo». من هروسويتا جاء تعبري «زينة العامل» .أنظر االستنتاجات املهمة التي استخرجها كنيث باكسرت وولف يف عام ،2007فيام يتعلق بالكتاب الذي يحمل العنوان نفسه، »Convivencia and the Ornament of the World», Spartanburg, South Carolina: Southeast Medieval Association, Wofford College.
164
إدواردو مانثانو مورينو
نظرا ً ألن حسداي بن اسحق بن رشبوط وريثيموندو قاما مبهام يف خدمة الخليفة واحتفظا بنشاط فكري بارز؟ إذا ما اقترصنا فقط عىل هذه املعلومات سيصبح من الصعب التفكري بهذا النحو .فاستخدام بعض اليهود واملسيحيني يف بعثات دبلوماسية أو كمرتجمني كان أمرا ً شائعاً متاماً كام كان مألوفاً إنزال العقوبات بهم لعدم قيامهم مبثل هذه املهام بالشكل املناسب،44 يف حني أن كتابة األعامل أو التشجيع عىل وضع أعامل محددة يُفرس يف إطار مناخ الفورة اإلبداعية العظيمة التي كانت متور يف عرص الخالفة .وبالفعل فإن اإلنتاج الكتايب املرتبط مبارشة بالشخصيتني ال يُفرس يف إطار ديانتيهام بل يف إطار اندماجهام يف دوائر بالط الخالفة. من هنا جاء ما يُسمى يف الكثري من الحاالت بـ «ازدهار الخالفة األندلسية» .ومل يُركز مبا فيه الكفاية عىل أن هذه الخالفة هي التشكيل السيايس األكرث قوة الذي عرفته شبه جزيرة أيبرييا وكذلك أوروبا الغربية منذ نهاية اإلمرباطورية الرومانية ،وهو ما تظهره املبالغ الفلكية التي تراكمت من جباية الرضائب يف عهد األمويني .إن اإلنتاج الفكري والفني االستثنايئ الذي تولد عن هذه الخالفة ال يُفرس فقط بوجود جو التسامح ،بل بزيادة املوارد يف تلك الفرتة والتي استفاد منها الخلفاء األمويون ودوائر بالطهم بشكل كبري.45 باملقابل فإن شخصيتي ريثيموندو وحسداي تجسدان عىل نحو ممتاز التعريب العميق للجاليتني املسيحية واليهودية ،وهو األمر الذي ترافق مع املحافظة عىل اللغتني الالتينية والعربية عىل األقل بني الطبقات املرفهة .هذا التعريب للجاليتني مل يقترص فقط عىل الجوانب اللغوية بل تغلغل أيضاً يف الحقل الثقايف ،وهو ما يتجىل من خالل العبارة املختزلة التي تنسب إىل دوناش بن لرباط املذكور« :فليكن روضك كتب األتقياء وجنتك كتابات العرب» .46وشهادات كهذه تستدعي أنهارا ً من الحرب احتفاء مبجتمع متكن من أن يجعل كاتباً يهودياً يبدي تقديره للرتاث العريب عىل هذا النحو .ومع ذلك فال بد من وجود تقدير أكرث 44أنظر عىل سبيل املثال التهديد بإنزال العقوبات القاسية التي وجهها الحكم الثاين إىل قايض املسيحيني يف قرطبة أصبغ بن عبد الله نظرا ً ألنه مل يرتجم بشكل جيد أحكام سفارة مسيحية يف كتاب ابن حيان وعيىس بن أحمد الرازي (،)1967 El Califato de Córdoba en el «Muqtabis» de Ibn Hayyan: anales palatinos del Califa de Córdoba alHakam II. Madrid: Sociedad de Estudios y Publicaciones, p. 185. 45أنظر إدواردو مانثانو (،)2006 Conquistadores, emires y califas. Los omeyas y la formación de al-Andalus. Barcelona: Crítica. 46ورد يف: Ross Bran (2002), Reflexiones sobre el árabe y la identidad literaria de los judíos de al-Andalus, en María Isabel Fierro (ed.). Judíos y musulmanes en al-Andalus y el Magreb. Contactos intelectuales. Madrid: Publicaciones de la Casa de Velázquez, p. 14.
165
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
إنصافاً لوضع األمور يف نصابها :فلو تأملنا هذه الكلامت انطالقاً من منظور البحث عن حاالت التسامح فإنها لن تكون سوى انعكاس لعملية تهجني مفرتضة ميكن تفنيدها بسبب طابعها أحادي االتجاه .باملقابل إذا ما تأملناها من منظور «عابر للثقافات» فإن قرائن مثل هذه من شأنها أن تحملنا إىل صياغة «مفهوم أكرث دقة عن التفاعل املعقد لليهود األندلسيني ]أو كام ميكن يل أن أضيف ،للمستعربني[ ذوي الثقافة العربية اإلسالمية».47 وإحدى طرق صياغة هذا التصور ميكن أن تكون –باإلضافة إىل تحررنا من «التسامح» أو «التعايش» كمفهومني تاريخيني نظرا ً لطابعهام السيايس الواضح– نقل الرتكيز من الهوية الدينية إىل الهوية الثقافية .وانطالقاً من وجهة النظر هذه ،عندما يضع كاتب من أصل يهودي شعرا ً يف األندلس ال بد من اعتباره منضوياً تحت لواء التقليد الثقايف العريب األندليس الذي يجب أن يُفهم تكوينه يف إطار هذا املجتمع املعرب بشكل قوي مبقتىض التوجه الثقايف لطبقته السياسية القيادية .وبالطريقة نفسها ينبغي إدراج النصوص املوريسكية يف إطار الثقافة القشتالية دون أن يؤخذ يف الحسبان الدين أو أصل محرريها .ومع ذلك فإن صياغتها الحالية قسمت هذه التجارب االجتامعية إىل خانات جامدة ترتبط شجرة أنسابها مبارشة بالحارض ،باعتبار أنه من غري املألوف أن تكون قد تعايشت معاً .ولو كنا قادرين عىل التخلص من الهويات األحادية التي متيل دامئاً إىل تشكيل العقائد الدينية ،فمن املمكن أن نغدو قادرين بشكل أفضل عىل تجسيد التطورات العابرة للثقافات يف التاريخ مع وضعها عىل اتصال مبسارات التغيري االجتامعي .48إال أن منظورا ً كهذا سيسمح لنا بكرس التوازنات بني األديان والثقافات ،مع األخذ يف الحسبان هذه األخرية كتعبري عن ديناميات اجتامعية قادرة عىل استيعاب عنارص من أصول متباينة جدا ً .وكذلك فإن هذا املنظور من شأنه أن يسمح باستكشاف الظواهر املرتبطة بوجود مناذج ثقافية مسيطرة –وهي بوضوح العربية األندلسية
47أنظر املصدر نفسه ،ص 19؛ و Esperanza Alfonso (2008), Islamic Culture Through Jewish Eyes. Al-Andalus from the 10th to the 12th Centuries. Nueva York: Routledge. 48أنظر عىل سبيل املثال االعتبارات املهمة التي يقدمها يف هذا الصدد جوناثان راي: Jonathan Ray (2005), «Beyond Tolerance and Persecution: Reassessing our Approach to Medieval Convivencia», Jewish Social Studies, 11 (2), pp. 1-18.
166
إدواردو مانثانو مورينو
واإلسبانية-الرومانثية يف الشامل– وأداء الثقافات يف ظل أوضاع الهيمنة.49
استدعاء املفاهيم التاريخية
آمل أن أكون قد بينت يف الصفحات السابقة أن مفهومي «التعايش» أو «التسامح» ينطويان عىل إمكانيات عملية متدنية كأداتني للمعرفة التاريخية .فاألمر يتعلق مبفاهيم سياسية مستخدمة من ِقبل العبني مختلفني يف ظروف مختلفة ،مجسدة برامج عمل ذات غايات متنوعة جدا ً .لذا ينبغي لنا أن نكون دوماً واعني جدا ً برضورة أن يكون محتواها يف خدمة أهداف ميكن تشاطرها بهذا القدر أو ذاك وميكن أيضاً أن تتجسد من خالل قطاعات متباينة جدا ً .وهذا ال مينع من تعاطي التفسري التاريخي بحزم أكرب مام كان عليه الحال حتى اآلن مع بعض األفكار املرتبطة بهذه املفاهيم .فواقع مجتمعات العصور الوسطى يف شبه جزيرة أيبرييا كان متعدد الثقافات وال معنى ملواصلة اعتبار كل واحد من عنارصها كام لو كان خانة مقسمة تقسيامً صارماً .ثم أن هناك طيف واسع من املواقف التي أسفر عنها القرب واالتصال أو تهديد الثقافات األخرى ،وسيكون بوسعنا أن نقدر ثراءها بشكل أفضل إذا ما نحينا جانباً ،ال املوضوعات املطروقة املرتبطة بفكرة «التعايش» فحسب بل أيضاً التصنيفات التي تلح عىل تعريف اليهودية واملسيحية واإلسالم كـ «ثقافات» بينام هي يف الواقع ديانات. وبهذه الطريقة يُفتح الطريق أمام إمكانية تحديد مسيحية عربية أو يهودية عربية يف األندلس ،وبالطريقة نفسها ال تعود املاملك اإلسبانية ترتبط حرصياً بالعنرص املسيحي. ومع ذلك فإن هذا الرأي مع ّرض لالنتقادات الجلية .فالتمييز بشكل قاطع بني املفاهيم السياسية واملفاهيم التاريخية يحمل عىل التفكري بأنني أطرح فصالً مطلقاً بني الواقع الحارض والتاريخ وأدافع عن مفهوم لهذا األخري يبتعد عن أي التزام ويركز يف البحث عن املعرفة بال أهداف أخرى سوى لذة املعرفة .وتاريخ بهذا الشكل يفتقر إىل أي صلة بالحارض من شأنه أن يغدو محض ولع باألنتيكات األكادميية خا ٍل من أي أهمية .هذا النقد ميكن أن يأيت من مؤلفني مثل سيمون دوبلداي ممن أرصوا بنحو خاص عىل رفض أي إغراء بوضع حاجز وقايئ 49أنظر: Federico Corriente (2000), Tres mitos contemporáneos frente a la realidad de Alandalús: romanticismo filoárabe, cultura mozárabe y cultura sefardí, en Gonzalo Fernández Parrilla, Manuel C. Feria García y Eduardo Manzano Moreno. Orientalismo, exotismo y traducción. Op. Cit., pp. 45-46.
167
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
مع املايض مع األخذ يف االعتبار أن هذا األخري يجب أن يكون: ] [..مهامً بشكل كبري ،أحياناً مبصطلحات القياس ويف أحيان أخرى مبفردات االستمرارية التاريخية طويلة األمد ،وأحياناً ألن االتصال بتاريخ إسبانيا ميكن أن يزيد من حساسيتنا إزاء أهوال القمع والنهج اإلمربيايل والتعصب مهام كان أصلها.50
إن هذا املوقف تعرتيه بعض املشكالت .فالبحث عن أهمية املايض من شأنه أن يؤدي إىل وضع أشبه باملتاهة .وحسب دوبلداي نفسه فإنه يعرتف بأن القياسات التاريخية عىل سبيل املثال ليست هي املناسبة دامئاً .وهو ما يوضحه الزعامء املتأسلمون الذين يرصون عىل عقد مقارن ٍة توازي بني التدخالت املسلحة التي يقوم بها الغرب والحروب الصليبية يف العصور الوسطى يف الرشق األوسط .إن قياساً من هذا النوع قد يبدو ضعيف الحجة بالنسبة ملواقفنا األكادميية املسرتخية ،لكنه رمبا ال يبدو مجافياً للمنطق بالنسبة ملواطن عراقي .تُرى هل مثة قياسات الئقة وأخرى غري الئقة؟ ثم من ميلك الحق يف أن يقرر لياقتها؟ واليشء نفسه ينبغي قوله بالنسبة للبحث عن االستمراريات التاريخية عىل املدى الطويل .وهل من الرضوري مثالً التذكري باملوضوعات املرتبطة بتاريخ إسبانيا كفصول قاسية وعنيفة متتالية منذ زمن القوط حتى فرتة الحرب األهلية التي حاول بعض املؤلفني إبرازها ليعطوا صورة غري لطيفة عن البلد؟ هل علينا أن نتذكر مفاهيم بعض املراقبني حول تلك «االستمراريات» كدليل ملموس عىل 51 وجود «عادات إسبانية» قدمية قامئة عىل «التنكيل باألعداء دومنا متييز»؟ يف الواقع إن الصيغة الوحيدة التي أمامنا للهروب من هذه املتاهات األساسية التي ال 50أنظر: Simon R. Doubleday (2008), Criminal Non-Intervention: Hispanism, Medievalism, and the Pursuit of Neutrality, en Simon R. Doubleday y David Coleman (eds.). In the Light of Medieval Spain. Islam, the West and the Relevance of the Past. Nueva York: Palgrave Macmillan, pp. 10-11. 51الشهادة لعامل إجتامع منساوي وصل إىل برشلونة يف أغسطس عام .1936أنظر، Tom Buchanan (2007), The Impact of the Spanish Civil War on Britain: War, Loss and Memory. Brighton; Portland, Oregon: Sussex Academic Press.
168
إدواردو مانثانو مورينو
يُسرب غورها تكمن تحديدا ً باملطالبة بقيمة املعرفة التاريخية ذاتها .وعند الدفاع عن هذه املعرفة فإنني ال أراهن عىل عدم االلتزام أو عىل االسرتخاء املريح يف الربج العاجي بل عىل العكس ،فالطابع التحوييل للمعرفة التاريخية يجربنا ال مناص عىل تعزيز االلتزام بالحارض. إنه أمر كان حارضا ً دوماً لدى كبار مؤرخي القرن العرشين مثل مارك بلوك ،لوسيان فيبفر أو إريك هوبسباون .وبالطريقة نفسها التي أسهمت فيها معرفة الكون –برغم نأيه الجذري عنا– يف تعديل مفاهيمنا حول أنفسنا بشكل حاسم وزيادة املعرفة باملايض –مهام بدا لنا بعيدا ً– فإنه يسهم يف زيادة الوعي التاريخي يف مجتمعاتنا وبهذه الطريقة يسهم عىل نحو حاسم يف التقدم االجتامعي. بطبيعة الحال ،وبرغم أن ال أحد يستطيع أن يقرتح إعداد «تواريخ نهائية» أو استكامل غرض «املوضوعية التاريخية» ،فإن من الصحيح أن معرفتنا باملايض قد زادت عىل نحو مضاعف مرارا ً عىل غرار ما هو موثق يف علوم أخرى .وأبدا ً مل يحدث يف التاريخ أن تتاح لنا الظروف لنقول كل هذه األشياء الكثرية املتعلقة باملايض ،ومل يحدث أبدا ً يف التاريخ أن تتاح لنا الظروف لفهم مسارات التغيري املعقدة التي ص ّبت يف الحارض .وعىل عكس ما يبحث عنه املدافعون عن الفكر املوغل يف الرجعية فإن هذا الحارض ال يكرر املايض مطلقاً وال يقدم أفكارا ً أزلية أبدا ،وال يتقرر عىل اإلطالق بثقل التاريخ .إنه محض نتاج التغيري ببساطة وحسب. ولهذا فإنه ال ميكن أن يُفهم أبدا ً دون معرفة كيف نتج هذا التغيري ،كيف تطور املايض ،وهنا تكمن أهميته القصوى .ويف اليوم الذي سيدرك فيه املؤرخون أنهم ال يحتاجون إىل «تسويق» بضاعتهم باستدعاء املقارنات وسياقات االستمرارية أو فكرة الجوهر ،سيتم التقدم خطوة عظيمة عىل طريق االعرتاف بالتاريخ كعلم بدونه يفقد الحارض معناه. لقد أردت أن أبني من خالل هذا البحث ،يف الحالة التي نحن بصددها ،إىل أي مدى يبدو مفهوما «التسامح» و «التعايش» أشبه بنوع من «غناء حوريات البحر» إذ عىل الرغم من أنهام قد يوحيا ببلوغ مرافئ زاهية ،وأحياناً مفعمة بالنوايا الحسنة ،إال أنهام ميكن أن يقودا يف النهاية إىل تناقضات شديدة حتى ليبدو لنا من الصعوبة مبكان التخلص منها. وعندما وصفتهام بأنهام مفهومان سياسيان مل أشأ بالطبع تحميلهام معنى سلبياً –فاملعرفة التاريخية نفسها ،كام تبني يف الفقرة السابقة ،سياسية عىل نحو عميق .بل أن نيتي كانت تتجه نحو إثبات كونهام ميثالن برنامج تعبئة يف الحارض مع وجود أهداف قد تكون متنوعة كخيارات قامئة للسيطرة عىل خطابات متعارضة أو حتى متامثلة .وإزاء برنامج التعبئة هذا ،فإن املفاهيم التاريخية التي عرضتها هنا كصيغة لفهم املايض لها مدى يبدو ظاهرياً 169
قرطبة :بعض التأمالت النقدية حول خالفة قرطبة وأسطورة التعايش
أدىن طموحاً ،لكنه من الناحية العملية ميلك صدى أكرب بكثري .فاستيعابنا لألندلس بوصفها كانت مجتمعاً أضاء مسارات تحول هائل يصطدم مبارشة بالرؤى التي تقوم عىل فكرة الجوهر التي ترص عىل السعي إلقناعنا ،بهذا املنظور أو ذاك ،بأننا مل نتزحزح قيد أمنلة منذ ألف عام .إن اإلرصار عىل أن الثقافات كانت متغرية ومتيل إىل السيطرة أو ألن يُسيطر عليها يقنعنا يف النهاية بأن أسالفنا كان عليهم أيضاً أن يواجهوا مواقف جديدة متاماً وغري متوقعة كتلك التي متيز عرصنا.
سرية املؤلف
إدواردو مانثانو مورينو حصل عىل شهادة الدكتوراه يف تاريخ العصور الوسطى من جامعة مدريد كومبلوتنسه وماسرت الفنون يف دراسات الرشق األدىن (مدرسة الدراسات الرشقية واإلفريقية) من جامعة لندن .مدير مركز العلوم اإلنسانية واالجتامعية يف املجلس األعىل للبحوث العلمية (-2007 )2012ومتخصص يف تاريخ األندلس واآلثار السياسية للذاكرة التاريخية .له إسهامات كبرية يف تاريخ القدس خالل الحرب العاملية األوىل .من بني دراساته الواسعة تربز األعامل التالية« :شبه جزيرة أيبرييا وشامل إفريقيا» يف ،The New Cambridge History of Islamتحت إرشاف تشيس ف .روبنسون، « ،2010العصور الوسطى» يف Historia de Españaتحت إرشاف جوزيب فونتانا ورامون بياريس، « ،2010غزاة وأمراء وخلفاء :األمويون وتشكيل األندلس» ( ،)2007وإدارة الذاكرة .تاريخ إسبانيا يف خدمة السلطة (بالتعاون مع خوان سيسينيو برييث غارثون ،رامون لوبيث فاكال وأورورا ريفيري ( .)2002كام أنه كان عضوا ً يف مجلس تحرير املجالت العلمية التالية :هسبانيا ،القنطرة ،آثار وأرايض العصور الوسطى أو جريدة دراسات العصور الوسطى .Journal of Medieval Studies
امللخص
يركز هذا املقال يف كيفية تحول «التعايش» إىل مرجعية كونية يف العصور الوسطى اإلسبانية .وهذه املرجعية تعود يف أصلها البعيد إىل أفكار العامل اللغوي اإلسباين أمرييكو كاسرتو ،لكنها تعرضت إلعادة صياغة سمحت بتحويلها إىل أداة بهدف مواجهة التحديات متعددة الثقافات يف املجتمعات يف الربع األخري من القرن العرشين .من هنا فإن «التعايش» إمنا هو مفهوم سيايس وليس مفهوماً تاريخياً .هذا التضاد بني املفاهيم السياسية واملفاهيم 170
التاريخية يثري يف الوقت نفسه نقاشاً واسعاً ومعقدا ً حول دور املعرفة التاريخية وأهميتها يف املجتمعات املعارصة.
الكلامت املفتاحية
األندلس ،تعايش ،أمويون ،خالفة ،قرطبة.
ﻣﺴﺆول اﻟﻨﴩ :ﺧﺎﺑﻴري روﺳﻮن ﺗﺮﺟﻤﺔ :ﺑﺎﻫﺮة ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻄﻴﻒ ﺗﺼﻤﻴﻢ اﻟﻐﺮاﻓﻴﻚ واﻟﺘﺼﻤﻴﻢ :زوم ﻛﺮﻳﺎﺗﻴﺒﻮس رﻗﻢ اﻹﻳﺪاع اﻟﻘﺎﻧﻮين: CO 2316-2013 ISBN: 978-84-616-7790-0 © اﻟﻨﺼﻮص :ﻟﻠﻤﺆﻟﻔني © اﻟﺼﻮر اﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﻓﻴﺔ :ﻟﻠﺒﻴﺖ اﻟﻌﺮيب © اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻟﺤﺎﻟﻴﺔ :ﻟﻠﺒﻴﺖ اﻟﻌﺮيب ﺷﺎرع اﻟﻜﺎﻻ ،رﻗﻢ 62 28119ﻣﺪرﻳﺪ )إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ( )c/ Alcalá, 62. 28009 Madrid (España www.casaarabe.es ﻃﺒﻊ ﰲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ. ﻫﺬا اﳌﻄﺒﻮع ﻫﻮ ﺗﺮﺟﻤﺔ ﻟﺠﺰء ﻣﻦ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻣﻘﺎﻻت ﺻﺪرت ﻣﺴﺒﻘﺎً ﺿﻤﻦ ﻋﺪد ﻣﺠﻠﺔ أوراق :وﻫﺬه اﳌﺠﻠﺔ ﺗﻌﻨﻰ ﺑﺎﻟﺘﺤﻠﻴﻼت واﻟﺪراﺳﺎت اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎمل اﻟﻌﺮيب واﻹﺳﻼﻣﻲ اﳌﻌﺎﴏ ،اﻟﻌﺪد رﻗﻢ ) 7اﻟﻔﺼﻞ اﻷول ﻣﻦ ﻋﺎم .(2013 اﳌﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﺘﻮﻓﺮة ﺑﺎﻟﻨﺴﺨﺔ اﻻﻟﻜﱰوﻧﻴﺔ ﻋﲆ اﻟﺮاﺑﻂ www.awraq.es :و issuu.com/casaarabe