muhraddin

Page 1

206


205


204


203


202


201


200


199


198


197


196


195


194


193


‫‪ ..‬حتى لالن�سان اكت�شف عند ذاك نقظة االلتقاء ما بني ح�ضارته ال�شخ�صية وح�ضارته االجتماعية والعاملية ‪..‬‬ ‫لكنه ا�شار فقط يف هذا املجال �إىل مدى تطلعه �إىل التعبري عن هذا املعنى االن�ساين بو�سائل ت�شكيلية يحاول �أن يوحد فيها ما بني فن املل�صق وفن‬ ‫الر�سم ‪ .‬وهي مهمة تعقد من جتاربه �أكرث مما تب�سطها له‪� ،‬أنه مازال خالقا يف ت�أمله ولي�س مت�أمال ‪..‬‬ ‫خام�سا ‪ :‬كان �إذن معر�ضه فر�صة ملتابعة تطوره اال�سلوبي والتقني على �أن �ش�أنه �ش�أن �أي فنان‪ ،‬يريد �أن يحتفظ بكربيائه االبداعية فال يعرت�ض‬ ‫بالنقد �إال حينما ي�ضع ر�أ�سه على الو�سادة‪ ..‬لكن علينا كنقاد �أن نقول قولتنا رغم كل �شيء‪� ،‬أنه ال يريد �أن يف�صح عن ر�أيه للآخرين‪.‬‬ ‫ح�سنا ولكنه �أي�ضا بحاجة �أن ( يحب ) الآخرين‪� ..‬أن يقرتب منهم �أكرث ف�أكرث �أن ( ي�ؤن�سن ) �أفكارهم و�أن يعرب بعد ذلك هذا املوقف يف فنه ‪( ..‬‬ ‫اح�سب �أن تدري�سه ملادة الر�سم يف املدر�سة االبتدائية مثال كان وال يزال ي�ضمن له ( التفر ) يف ( الغربة ) ‪..‬ولكنه ال ي�ضمن له ا�ستثمار ثقافته يف تعليم‬ ‫ال�صغار ( كتعليم ) االخرين‪ .‬لنقل اذن انه مهما ظل غريبا على العامل ف�أن عليه �أن ال يعتربه ( منجمه ) بل ( بيته ) ‪ ..‬و�أن يعرتف �أنه امنا يبدع مبقدار‬ ‫ما يت�أمل هذا العامل‪ .‬ال باعتباره عاملا لكل �شيء فيه حتى للم�سمار وال�صدى واالبرة والهباءة‪.‬‬ ‫�ساد�سا ‪ :‬حتاما اخل�ص مفهومي عن الفنا‪ ،‬ب�أنه تراكمي يف طريقته وجتميعي يف منهجه ( وبغ�ض النظر عن امل�ؤثرات اال�سلوبية والتقنية ) فهو‬ ‫ال ميتلك ر�ؤيته اخلا�صة به‪ ،‬ويلتقي مع اجلمهور يف موا�ضيعه الفنية ‪ ..‬باخت�صار ان حممد مهر الدين الفنان املهتم باالن�سان �أ�صبح �أكرث اهتماما‬ ‫بالتعبري عن حميط االن�سان ‪ ..‬لكنه يظل مع ذلك مهتما بجانب ( الفكر ) ال ( الوجود‪ ،‬يف معاجلته لق�ضاياه ت�شكيليا ) ‪.‬‬ ‫ولنا كبري الرجاء يف م�ستقبل م�سريته الفنية ال�سريعة الت�أملية مع تهانينا القلبية لأحد فناين طليعتنا الالمعني‪.‬‬ ‫هوام�ش – ‪ 1‬راجع جملة “ فنون عربية ( ‪� : )82-7‬شاكر ح�سن �آل �سعيد مفاهيم �أ�سا�سية يف ر�ؤيتي الفنية الراهنة �ص ‪81 – 80‬‬ ‫‪ ( – 2‬االن�سانية ) مدلولية الفعل االن�ساين للفنان ‪ :‬اما الفكر االن�ساين فمو�ضوع م�ضموين ميثل ق�صدية م�ستهدفة له‪ .‬والفارق وا�ضح فيما‬ ‫بينهما‪.‬‬ ‫‪ – 3‬من ( ان�سان ) فهو فعل يعرب معنى متثل االن�سانية‪.‬‬ ‫�شاكر ح�سن �آل �سعيد‬

‫‪192‬‬


‫و ( املوقف االجتماعي ) و �شيئية العمل الفني (‪ )1‬ف�أنه يعترب من هنا معربا عن الذات لأن الطبقة االوىل للوحة متثل �أفكاره هو بالذات مهما كانت‬ ‫هذه الأفكار ممثلة ملوقفه انالجتماعي �أي�ضا‪ ..‬مبعنى �أن اجلمهور يف فنه ال يعي�ش اللوحة باعتبارها ممثلة للمحيط كما هو �ش�أن الأ�سلوب الطبيعي‬ ‫حيث يتو�سل الفنان باملنظور اجلوي وال�ضوء والظل يف اال�ستحواذ على امل�شاهد من داخل العمل القني كال لكنه يخاطب اجلمهور ببع�ض املفاهيم‬ ‫االجتماعية التي يتفهمها في�ستغني عن املنظور اجلوي وما يوجد اجلمهور واياه بوا�سطة الأفكار امل�شرتكة‪ .‬التي يلتقيان فيها عرب جتارب خمتلطة‬ ‫يف الفن احلديث‪.‬‬ ‫ثانيا‪� :‬أن الوحدات اجلديدة التي ي�ؤلف فيها ( ابجديته ) �أو مفرداته اللغوية الت�شكيلية‪ ،‬ومن ثم كالمه الفني �إذا �صح التعبري هي وحدات (‬ ‫جتميعية )‪.‬‬ ‫كاجزاء ال�شكل االن�ساين والكتابة العربية والالتينية واجلداول واملعادالت احل�سابية والهند�سية وا�شارات اجلدران واالثار والت�شطيب واال�شكال‬ ‫واالحجام الهند�سية ( املكعب ) واملل�صقات ( اجلرائد ) وحتى مقتب�سات من ر�سوم فنانني �آخرين ( من بيكا�سو مثال ) ‪ ...‬لكن هذه الوحدات املنتقاة‬ ‫تظل يف ح�سبانه ( رموزا ) فكرية ومعطيات �أيديولوجية وت�شري �إىل موقف الفنان كمثقف‪ ،‬لي�س كرجل �شارع‪ .‬هذا من جهة ومن جهة �آخرى فهو ال‬ ‫يزال ميثل خ�صو�صيته اللوحة املمثلة لواقع الفئة املثقفة الية طبقة بالذات باعتبارها تعامل اللوحة بقيمتها التثقيفية واالمتاعية مع “ كحلية “‬ ‫ولي�ست كطرح ح�ضاري فح�سب وهذا املوقف بالطبع يتمتع ب�أهمية ولكنه ال يوغل متاما يف املثول يف العمل الفني من الداخل‪ ..‬ففنه �إذا �صح التعبري‬ ‫فن �شبه ر�سمي ( �أو ر�سمي حل�ساب �سلطة الفكر ) وتلك م�س�ألة تختلف عن �أن يكون الفن فنا وكفى ‪� ..‬أي �أن ( �شيئية ) �أن تعترب جزءا من املحيط ( فن‬ ‫ع�صر النه�ضة رد اللوحة �إىل املحيط بوا�سطة املنظور اجلوي و�أ�سلوب الفن الطبيعي – والفن التجريدي والفن احلديث عموما �أكد على خ�صو�صية‬ ‫ذات الفن ) وهكذا ف�أن امل�سافة ما بني العمل الفني لديه وبني العامل ما تزال م�سافة معقولة ولكنها تكاد ملغاة ازاء اجلمهور املثقف مني اذن يرد الفنان‬ ‫فنه �إىل املحيط ولي�س �إىل جزء منه وهو االن�سان �أو الفكر االن�ساين املحيط ؟‬ ‫ثانيا ‪ :‬مهما يكن من �أمر فال بد لنا �أن نتمرحل معه يف ( ت�أ�سلبه ) لقد كان �إىل فرتة قريبة يقرتب من ( �شبحية ) الت�شخي�ص الفني ‪ ..‬فا�ستخدم‬ ‫االن�سان واج�ساد امليتافيزيقية ) املتعددة �صورته – �صورته العامة – جمز�ؤءة – ظله الخ ‪ )..‬وذلك لكي يعرب لنا عن معنى وجود هذا الكائن ‪..‬‬ ‫فاذا هو بني ع�شية و�ضحاها ( ف�ضائيا ) و ( �شاريا ) معا‪� ( .‬أنه االن مع اجلدار والأر�ض وال�سماء ) وتلك قفزة ترفد ر�ؤيته بروافد ان�سانية جديدة (‬ ‫�سيكت�شفها ) �أنه ف�ضائي يف �أعماله لكي يحتفظ بالبعد املحوري ( ما يخت�صره له الت�شخي�ص ) ولكنه ا�شاري يف اقرتابه من املحيط‪ ،‬يف �أن يو�سع مفهوم‬ ‫ان�سانيته الذاتية يف جمالها الل – ذاتي – ان�سانيته امل�ؤمنة ( ما ميثله لنا الت�شطيب واحيانا الكتابة ) ‪.‬‬ ‫هذان م�ؤ�شران جديدان يف فنه‪ ،‬لكن عليه مع ذلك �أن يتجنب كل ما من �ش�أنه �أن يحفر هوة �سحيقة بينه وبني ( االن�سانية ) ولي�س ( الفكر االن�ساين‬ ‫) لقد اكت�شفت مهر الدين يف ابنه ال�صغري حينما قال يل فج�أة و�أنا انهمك يف حوار مع �أبيه ‪� :‬أنا ( اني�س ) انا ابن حممد مهر الدين �أدركت حينئذ �أن‬ ‫“حرية” هذا الكائن ال�صغري هي غري ( عبودية ) لوحات الفنان‪� .‬أنه وجه العملة الثاين فيه‪ ،‬فلوحاته بتقنياتها قد جتتذب اليها اجلمهور ولكن �إىل‬ ‫حد ما‪ ،‬لأن اجلمهور مبعناه الأ�شمل لي�س هو الذي يوقع بالتقنية واملو�ضوع امل�شرتك فح�سب‪ ..‬ولكنه الذي يدري معنى ( ان�سانيته ) حينما يتذوق‬ ‫العمل الفني‪ ..‬ان�سانيته التي ال تقيدها �أية قيود كانت‪ ،‬والعمل الفني بهذا املعنى هو �أ�شبه �شيئا بعندليب يغرد على ال�شجرة ولي�س العندليب احلبي�س‬ ‫يف القف�ص‪.‬‬ ‫وبالزهور اليانعة على �شجرتها ولي�س ما حتتويه املزهرية من زهرات طبيعية كانت �أم �صناعية ‪..‬‬ ‫رابعا ‪� :‬إن ر�ؤيتنا هي ( بنات ) ع�صرها ال مبعنى �أنها ( مودة الع�صر ) ولكن مبعنى �أنها �صورة م�شرتكة ما بني ( ا�سنانيتنا الذاتية ) و ( ان�سانيتنا‬ ‫االجتماعية ) االن�سانية االجتماعية يف �صورتها العاملية الكونية – انها ان�سانية ( تتن�سم ) احلرية وال ( ت�ستعبدها ) ابدا ففي اللحظة التي �أ�ستطيع �أن‬ ‫�أجد يف لوحاته ا�ستقرار ل�شخ�صية غري منق�سمة على ذاتها �أو بتعبري �آخر غري منتاق�ضة باال�سا�س ولي�س باملظهر فح�سب غري متكتمة ‪ ..‬غري متع�صبة‬ ‫‪191‬‬


‫حممد مهر الدين ‪ :‬مت�أمال وباحثا‬ ‫مالحظات على معر�ضه ال�شخ�صي‬ ‫‪--------------------------------------------------------------------------------------------‬‬

‫مقدمة‪:‬‬ ‫يتمتع حممد مهر الدين بطاقات ت�شكيلية متنوعة‪ .‬وبح�س نقدي ذاتي وتاريخي معا‪ ،‬وهو يعك�س ذلك يف كل �أعماله الفنية التي يتخذها نقطة‬ ‫انظالق ونهاية معا يف (ر�ؤيته الفنية)‪.‬‬ ‫�أنه يحيل امل�شاهد �إىل الفكر االن�ساين ولي�س �إىل العامل اخلارجي املجرد ( �أي لذاته ) – ومن هنا فهو ال (يوثق) العامل – مادته الفنية ولكنه‬ ‫(يوثق) افكاره (هو) من عالقتها بالعامل‪ .‬وهنا يكمن �صلب منهجه) وم�صادر بحثه و (ر�ؤيته) فمنهجه هو (انلمنهج العلمي) يحاول �أن يجمع ما‬ ‫ي�ستطيع من م�صادر يف املو�ضوع الت�شكيلي احلديث بل ومن تقنيات يف �سايق جتربته الفنية‪ .‬وذلك لكي يقدم مفهوما ما عن العامل‪� ،‬أما ( م�صادره‬ ‫يف البحث ) فمتعددة يتناول فيها الر�سم باال�سلوب الطبيعي الت�شخي�صي وا�ستخدام التتقنيات الفوتوغرافية وفن الطباعة وامل�صطلحات اللغوية‬ ‫وال�سيجولوجية وفن ر�سوم الأطفال وتلقائيات رجل ال�شارع الخ ‪ ..‬وهكذا ف�أن ر�ؤيته الفينة ت�ضحي �آخر الأمر حماولة اللتقاط (نقي) متنوعة بغ�ض‬ ‫النظر عن جتان�سها‪ ،‬ليجعل منها مو�ضوعا قابال لر�سم لوحة زيتية �أو ب�أي خامة ممكنة‪ ..‬فاللوحة �إذن هي نافذته ومر�آته التي يرى من خاللها‬ ‫االن�سان يف العامل اخلارجي‪.‬‬ ‫وقد جاء معر�ضه اخلام�س هذا (بعد معر�ضه الرابع ) موغال وممعنا يف �إحالة ال�سطح الت�صويري �إىل عامل ف�ضائي ( ثالثي الأبعاد ) لكن الوجه‬ ‫الثاين لعمله الفني يكمن يف التجاوب الفكري‪ ،‬ولي�س املنظوري الذي ( يتوقعه ) الفنان من اجلمهور‪� .‬أنه يحاور من خالل تقنية ت�شكيلية خا�صة‬ ‫والكرافيك وهي ال ت�صدمه ميقدار ما ت�ستثريه وبدال من �أن يحتكم واياه �إىل ال�ضحية ( �أو العمل الفني ت�شيق م�ستقل لذاته ) كما كان �ش�أنه �إىل حد‬ ‫ما قبل ع�شر �سنوات مت�ضامنا من ( مو�ضوع الفدائي ) وامل�ستعمر ( بالفتح ) فهو يحتكم اليوم‪� ..‬إىل ما تركته كل �ضحايا العامل من �أثار‪ ..‬وهكذا فهو‬ ‫الآن يريد �أن يوثق العامل يف افكاره ك�شاهد على عامليته واالن�سان الذي كان يق�ضل �أن يعر�ضه يف لوحاته قابعا يف ج�سده‪ .‬يعر�ضه لنا اليوم من خالل‬ ‫الفكر االن�ساين‪ ،‬من�سلخا عن هذا اجل�سد ‪ ..‬وبدال من �أن يفقد ( ر�صيده ) التعبريي فيه ف�أنه ( يجريه ) ( بلغة رجال الأعمال ) �إىل ( ر�صيده ) ما‬ ‫بعد تكعيبي �أو جتريدي‪.‬‬ ‫�أن مهر الدين ميار�س طقو�سه يف لوحته الفنية من خالل عدة (�شبكات ) فكرية متعاقبة قد ت�شف الواحدة عن الآخرى‪ ،‬لكن ( ق�ضيته ) االن�سانية‬ ‫ت�ضيع نهب ( امل�شاكل ) االن�سانية االرحب‪ ( ،‬اعني �أنه يخفي ب�شكل يكاد يكون �شاقا ابعاده ال�شعورية والال�شعورية من خالل افكاره العقالنية يف حني‬ ‫�أن هذه الأبعاد تظهر يف حاالت �أخرى من وجوده االن�ساين ) ومثل هذا التو�صل الذي يغذي لديه با�ستمرار جانب ( اخللق ) يف العمل الفني هو الذي‬ ‫ي�ستقطب لديه حب الذات‪ ..‬فهو �إذن يقبع يف ذاته غريبا على العامل ويف العامل‪ ..‬وذلك هو �صميم م�أ�ساته‪.‬‬ ‫�ست مالحظات عن املعر�ض ‪:‬‬ ‫الأوىل ‪ :‬ي�ستمد الفنان ر�ؤيته من منهجيته العلمية‪ .‬انها منهجية (تراكمية ) ال ( حد�سية ) لكن مثل هذا املدخل ثم االيغال يف الطرح الفني‬ ‫الت�شكيلي ال يعدم تقاليده التقنية واال�سلوبية‪� ،‬أو بالأحرى انه يطور ر�ؤيته الفنية يف �أعقاب جورج براك ( بالقيا�س مع الفارق ) �ش�أنه �ش�أن الفنانني‬ ‫املهتمني باجلانب ال�صياغي للوحة �أو اللوحة ( كتقنية �صرفية لذاتها ) ‪� ..‬أنه �إذن �شديد العناية بهذا اجلانب‪ ..‬من هنا ف�أنه مهما و�صف اعتباره ر�ساما‬ ‫( تعبرييا ) �أو ( واقعيا جديدا ) الخ‪ ..‬ومن �أو�صاف مدر�سية معا�صرة ف�إن �سياقه الر�ؤيوي يف الواقع يكمن يف �أ�سلوب م�شاهدته للعامل اخلارجي‪..‬‬ ‫فاذا ما طبقنا عليه مفهومنا االخري يف حتليل اللوحة الفنية كما ا�سمينا ذلك باملحور العمودي يف تق�سيم العمل الفني �إىل ثالث طبقات متثل الذات‬ ‫‪190‬‬


‫االكتفاء بر�أي عام عن جممل لوحاته اجلديدة‪..‬‬ ‫و�أخريا حتى �إذا مل يتم االتفاق على �أن هناك «طفرة» �إىل الأمام يف لوحاته اجلديدة «احلرة» ف�أنها على كل حال لوحات نا�ضجة �ستكون لها مكانتها‬ ‫العلية يف الفن الت�شكيلي املعا�صر وهذا �أقل ما ن�ستطيع �أن نقوله يف حقها وحق فناننا ملعا�صر حممد مهر الدين‪ ،‬و�أن ما �سينتجه �أو يبدعه من لوحات‬ ‫يف امل�ستقبل �ستعزز هويته ال�شخ�صية ب�صورة �أف�ضل‪.‬‬ ‫منري عبد الأمري‬ ‫ال�صباح اجلديد ‪ -‬ك ‪2005 1‬‬

‫‪mixed media on paper - 40 x 50 cm - 2006‬‬

‫‪150‬‬

‫‪189‬‬


‫مل ينبهر كما انبهر بع�ض الفنانني الت�شكيليني العراقيني‪ .‬املهم �أن الفنان حممد �شاهد الكثري من املعارك والتقى بالعديد من الفنانني الت�شكيليني‬ ‫وكان ح�صيلة ذلك نتاجه من اللوحات املتميزة اجلديرة بالتقدير التي عر�ضها �سواء يف معار�ض حملية �أو عربية �أو عاملية‪.‬‬ ‫لقد ر�أى كل �شيء ر�أى جتارب نا�ضحة يف كل مدار�س الر�سم واجتاهاته يف كل �أنحاء العامل‪ .‬ثم حقق «طفرة» يف لوحاته اجلديدة اثبتت �أنه �أكرث‬ ‫جدية يف مفهومه للوحة �أو اللوحة املعا�صرة «احلرة»‪.‬‬ ‫انك لن جتد يف لوحاته مو�ضوعات حمددة �شائعة كاملنظر الطبيعي والطبيعة اجلامدة ور�سوم الأ�شخا�ص «بورتريت» واملو�ضوعات االجتماعية‬ ‫واال�سواق واجلوامع والكنائ�س واملقاهي‪ ..‬وغري ذلك‪.‬‬ ‫لقد جتاوز حممد مهر الدين ذلك مل يعد ا�سريا �إىل ذلك كليا فقد ي�صدف �أن جند يف لوحاته مو�ضوعا ما لكنه مل ي�سع �إىل ذلك �أو �أنه كان خفيا‪،‬‬ ‫فهو ال يحتاج �إىل ق�صدية التعبري فالتعبري لديه نتيحة خال�صة خربته وذوقه ومعاناته واذا ما وجدناه ي�ستخدم بع�ض الأرقام واحلروف يف بع�ض‬ ‫لوحاته فما �أقل ذلك‪ ،‬يف حني نلحظ ا�ستخدام احلرف العربي ب�صورة ملحوظة لدى الفنان �شاكر ح�سن �آل �سعيد الذي ا�ستفاد من الرتاث ال�شعبي‬ ‫والر�سوم ال�شعبية والب�سط وال�سجاد وما يوجد على اجلدران من اللوحات الكثرية التي حقق فيها �شاكر طابعه ال�شخ�صي‪.‬‬ ‫البحث عن التجديد‬ ‫لكننا منذ مدة طويلة من الزمن كنا ننتظر من الفنانني الت�شكيليني املعا�صرين مبفهوم جديد للوحة �أو �أن يقدم لنا لوحة حرة ‪ ...‬اذا كنا قد اتفقنا‬ ‫على �أن فن الر�سم يعتمد على اخلط واللون‪ ..‬ف�أن الألوان وحدها ال ت�ستطيع �أن تكون بديال عن اخلط �أو اخلطوط‪.‬‬ ‫�أن �أي قنان قد در�س يف املعاهد الفنية واالكادمييات ي�ستطيع �أن ير�سم ب�صورة جيدة وينتج لوحات لها قيمتها الفنية وذلك با�ستفادته من مدر�سة‬ ‫من مدار�س الر�سم اتباعه �أو من اجتاه ما من اجتاهاتها �أو �أكرث من اجتاه واحد منها ‪..‬‬ ‫لكن هل يعني هذا �أنه قد حقق لنا �شيئا جديدا جديرا بالذكر يف ع�صرنا؟‬ ‫لنعد �إىل فناننا حممد‪ ،‬فقد جتاوز حممد مهر الدين كل ذلك وحرر نف�سه – والفنانني الآخرين‪ -‬من كل القيود واملفاهيم املحددة �أو املحدودة‪.‬‬ ‫بعد اطالعي على لوحاته اجلديدة فوجئت بالطفرة التي حققها والتي كنت انتظر من يحققها من الفنانني املعا�صرين‪..‬‬ ‫قلت «طفرة» وال �أدري هل هذه الكلمة مالءمة �أم الأف�ضل �أن �أقول اجلر�أة يف ال�سعي �إىل �أجناز اللوحة «احلرة» يف لوحات مهر الدين اجلديدة‬ ‫الحظت �أنه حترر من �سجون �أو قيود �أو حدود النظرات واالجتاهات املعروفة بالفن الت�شكيلي والتخل�ص من املو�ضوعات ال�شائعة‪..‬‬ ‫مل يعد حممد يحبها وال يجد الرغبة يف الر�سم يف �ضوئها �أو �أ�ضوائها‪� ،‬إذن كان عليه �أن يتجاوز كل �شيء �سابق له حتى لوحاته ال�سابقة‪..‬‬ ‫�أنك لن جتد يف لوحاته اجلديدة اعتمادا ما على اخلطوط واال�شكال واال�شخا�ص وال جتد الوانا مثل الأحمر ولأزرق ولأ�صفر وغريها لكنها‬ ‫موجودة �ضمن مزجه لاللوان فال ت�ستطيع �أن تراها وال جتد ارقاما �أو حروفا �سواء عربية �أو اجنبية �إال فيما ندر‪.‬‬ ‫لوحاته اجلديدة تت�صف باال�صالة التي عرف بها مهر الدين واملعا�صرة والن�ضوج الفني‪ ،‬وجتد االلوان ممتزجة �أو متوارية بحيث �أنك ال جتد لونا‬ ‫معينا ميكن فرزه كما �أنك تكت�شف �أنه ال يق�صد �أن ي�صنع اللون لذاته‪.‬‬ ‫لقد �أنتج عدة لوحات ر�سخ فيها جتاهه هذا �أو �أوجد فيها هويته اخلا�صة‪.‬‬ ‫قد ال يكون اجتاهه هذا جديدا كل اجلدة ‪ ..‬فقد توجد لوحة �أو لوحتان هنا �أو هناك عند فنانني يف العامل لكنهم مل ينتبهوا �إليها �أو ير�سخوا ذلك‬ ‫االجتاه‪.‬‬ ‫قد يجد البع�ض �أن ما قلته عن فناننا حممد مهر الدين مبالغة مني يف تثمني ما قام به لكن هذا ال يغري من الأمر �شيئا فما �أقوله �أو �أكتبه لي�س‬ ‫هو املهم‪ .‬فاملهم هي لوحاته نف�سها فهي التي تتحدث عن نف�سها‪ ..‬وعلى النقاد الرا�سخني يف علم النقد الفني �أن يقوموا بتقييم كل لوحة منها وعدم‬ ‫‪188‬‬


‫البحث عن هوية‬ ‫‪---------------------------------------------------------------‬‬‫الداخل واخلارج‬ ‫قبل كل �شيء �أريد �أن �أقول �أنه قد كتب عن الفنان الت�شكيلي حممد مهر الدين ال�شيء الكثري‪ ..‬لكن مع هذا مل يعط حقه يف درا�سة جادة وال يف نقد‬ ‫لوحاته ب�صورة عميقة‪ ،‬كما �أنه مل ينل حقة يف االنت�شار الذي ي�ستحقه‪..‬‬ ‫قد يكون ال�سبب يف ذلك �أنه لي�س لدينا الناقد املخت�ص بالنقد الت�شكيلي‪ ،‬و�أغلب من يكتبون النقد هم �أ�شخا�ص لديهم اطالع على النظريات‬ ‫ال�شائعة فيما يخ�ص الفن الت�شكيلي‪..‬‬ ‫وال �أحد ينتق�ص من قيمة اجتهادهم �أو �صواب �آرائهم وقد ي�شري البع�ض �إىل الفنان «مهر الدين» ولوحاته وي�ؤكد �أ�صالته وتفرده وحديته وعمقه‬ ‫‪ ..‬لكنه ال يثبت ذلك من خالل مناق�شة لوحاته ب�صورة دقيقة �أو مف�صلة‪ .‬واحلقيقة �أن الأمر �صعب جدا‪ .‬كما �أن ما قد يكتبه ناقد ب�صرة مف�صلة قد‬ ‫ال يدركه �إال القالئل من املثقفني‪ ،‬وقد ال تت�شر ما كتبه �أية �صحيفة �أو جملة �إذ �أنهم �سيعتربونه مقاال مطوال �إذ لي�س لدينا جمالت خمت�صة بالفن‬ ‫الت�شكيلي مثل جملة «�ستوديو» و «الفنان» اللتني ت�صدران باللغة االجنليزية‪..‬‬ ‫لقد قر�أت معظم ما كتب عن حممد مهر الدين وعن لوحاته‪ .‬كان يف بع�ض تلك املقاالت �أو الدرا�سات اجتهاد جديد يف التقدير ب�صورة �أو ب�أخرى‪..‬‬ ‫لكن معظمها كان غارقا يف الكلمات �أو الإن�شاء املدر�سي الذي اتك أ� على اال�صطالحات الفنية �أو جتد يف بع�ضها امتداحا ملحمد مهر الدين ب�أنه من وادي‬ ‫الرافدين �أو لأنه يريد �أن يجعل الفنان العربي يف مقدمة الفنانني العامليني‪.‬‬ ‫�أنا لن �أناق�ش ذلك وال �أجد �أي جدوى يف املناق�ضة كما �أنن لن �أحتدث عن لوحات حممد ال�سابقة فقد فات �أو �أن ذلك ومل هناك ما يدعوا �إىل‬ ‫العودة �إليه‪..‬‬ ‫جذور املعر�ض‬ ‫�إن املتتبع واملطلع على املعار�ض العاملية للفنانني الت�شكيليني يجد �أنها قد �أمتلأت «بلوحات تنتمي �إىل نوع �أو �آخر للمدار�س واالجتاهات الفنية‬ ‫ال�شائعة و�أن كان بع�ضها ال يخلوا من طابع �شخ�صي لفنانيها‪.‬‬ ‫ولكن �أول طفرة وا�سعة يف القرن الع�شرين فيما يخ�ص الفن احلديث قد قام بها الفنان الكبري «بابلو بيكا�سو» وذلك ملجمل لوحاته‪ ..‬لقد ا�ستطاع‬ ‫ذلك �أكرث من غريه من الفنانني املعا�صرين له‪ ..‬لأنه مفكر ومغرم بالتجريب والتجديد با�ستمرار كما �أن له خربة وجتربة يف كل �أنواع الر�سم‬ ‫واجتاهاته‪.‬‬ ‫لنعد �إىل �أ�سا�س اللوحة‪� ..‬أنها خط ولون �أو خطوط والوان‪ ،‬وبا�ستعمال الفنان لها ميكن �أن يفعل كل �شيء يريده‪ ..‬هناك من ابداع فيما �سمي‬ ‫بالكال�سيكية احلديثة ال �سيما بول �سيزان وهناك من ابداع يف االنطباعية والتكعيبية والتعبريية وال�سريالية والتجريبية والوح�شية وغريها‪.‬‬ ‫وتبع هذه االجتاهات فنانون كثريون يف كل �أنحاء العامل‪ ،‬ف�أبدعوا لوحات رائعة منها ما حقق قيمة عالية يف الفن الت�شكيلي وال ي�ستطيع �أحد �أن‬ ‫يقلل من قيمتها الكبرية يف اي حال من الأحوال‪.‬‬ ‫لكنهم مل يحققوا �أي طفرة يف مفهوم اللوحة اجلديدة �أو احلرة‪..‬‬ ‫ال ق�صدية التعبري‬ ‫لنعد �إىل احلديث عن فناننا حممد مهر الدين‪� .‬أنه رجل مطلع على كل االجتاهات الفنية وقادر على �أن يبدع يف �أي منها وهو قد در�س يف معهد‬ ‫الفنون اجلميلة يف بغداد‪ .‬كذلك در�س يف كلية الفنون يف بولونيا واطلع على ماعرفوا بالفر�سان الزرق الذين ات�سموا بالثورة والتجديد يف الر�سم‪ ،‬ولكنه‬ ‫‪187‬‬


‫يف العامل‪� ..‬أما التعقيد الذي تق�صده فلي�س تعقيدا يف امل�ضمون �أو يف ال�شكل وامنا التطور الذي ح�صل يف الربع الأخري من القرن الع�شرين‪� ،‬أوجد‬ ‫حاالت وا�شكاالت فكرية وتقنية الفكر يحتاج �إىل رموز غري الرموز التي كانت ت�ستعمل قبل فرتة زمنية‪ ..‬ولنقل قبل ع�شرين عاما‪ ..‬التبدل احلا�صل‬ ‫يف احلياة وحماولة التغيري عنه‪ ،‬يقت�ضي بال�ضرورة ايجاد رموز تخدم هذا التغيري والتعبري عنه‪..‬‬ ‫لكن ماذا عن مرحلة الدرا�سة يف بولونيا‪..‬؟ وما ت�أثريها على ا�سلوبك؟‬ ‫_ بولونيا بلد متطور فنيا‪ ..‬ت�شكيليا وعندما �سافرت �إىل بولونيا عام ‪ 1960‬وجدت فرقا بالتفكري ازاء احلياة ويف طريقة التعبري فنيا والبد �أن‬ ‫�أت�أثر مبا هو �أكرث مو�ضوعية واجنازا ح�ضاريا و�أكرث حتقيقا ل�شعار ما هو الأن�سان‪ ..‬ماهو العامل‪ ..‬وماالذي ميكن �أن نحققه لهذا الأن�سان؟‬ ‫�أود �أن نتوقف عند م�شكلة هل تلغي املعا�صرة ما ميثل اخل�صو�صية املحلية‪� ..‬أم ثمة حل لهذه العالقة بني العاملي واملحلي‪ ..‬بني املطلق والن�سبي‪..‬‬ ‫�أي كيف ننظر لهذه املعادلة من خالل جتربتك؟‬ ‫ من املمكن �أن تكون هناك ا�سرتجاعات من املا�ضي القريب �أو البعيد‪ ..‬واال�سرتجاعات هذه ميكن �أن نقول عنها ما يفيدنا يف عاملنا الذي تعي�ضه‪..‬‬‫قد يكون املا�ضي القريب �أقل ت�أثريا من املا�ضي الأبعد‪� ..‬أو البعيد‪ ..‬وهنا ميكن مو�ضوع االختيار ملاذا نختار املا�ضي البعيد بدل من املا�ضي القريب؟‬ ‫ ال بد هنا �أن نتعرف هنا ب�أن املا�ضي البعيد‪ .‬قد يقرتب من تفا�صيل �أو متطلبات جياتنا املعا�صرة‪ .‬والتعبري عنها‪ ،‬على �أف�ضل من املا�ضي الأقرب‪.‬‬‫وهنا تكمن م�س�ألة غاية يف الأهمية ملاذا تختار املا�ضي البعيد بدل املا�ضي القريب ح�سب اعتقادي هناك عالقة ملا نحتاجه من هذا االختيار‪ .‬الذي ي�ؤكد‬ ‫هويتنا املحلية‪ ..‬والثقافية التي هي موروث الإن�سانية جمعاء‪ ..‬والتي �ساهمنا نحن العرب يف رفدها بكل معاين االن�سانية واحل�ضارية واملعرفية‪..‬‬ ‫وعلينا �أن نعرف ونحدد بالتايل ما نختار لأنه بدون هذا التحديد الدقيق �سوف نعر�ض لعرفتنا ان�سانيتنا‪ .‬اهدافنا‪ .‬تقدمنا �إىل احتمال ال�ضياع لهذا‬ ‫يجب �أن نكون دقيقني بالإختيار‪..‬‬ ‫يجد بع�ض امل�شاهدين �صعوبة يف فهم لوحاتك الفنية‪ ..‬هل ترتك مهمة ال�شرح للنقاد �أم لديك كلمة خا�صة تقولها بهذا العدد؟‬ ‫ لنكن حقيقني ومنطقيني‪ .‬اال�ضافة التي حتاول �أن ترفع من قدرات العزم احل�ضارية واملعرفية ال بد �أن يتبناها �أنا�س �أ�صحاب معرفة بكل‬‫حقولها هل يحق لنا �أن نقول �أن بتهوفن �أو بيكا�سو �أو جابكوف�سكي �أو همنغواي �أو ت�شيخوف �أنا�س ال ميكن فهمهم؟‬ ‫�أود �أن �أقول‪� :‬أن ه�ؤالء جميعا قدموا للح�ضارة الأن�سانية ما ت�ستحق �أن ي�سمى ح�ضارة‪ ..‬لكن كيف ميكن للفرد �أن يفهم هذه االجنازات �إذا كان يف‬ ‫جنوب �أفريقيا النا�س ال يعرفون القراءة والكتابة �أو النا�س يف بلد �آخر ت�سود الأمية ن�صف جمتمعه‪ ..‬وحتى املتعلمني هم �أن�صاف متعلمني؟ �أين اخللل‬ ‫هل يتنازل بتهوفن و�شك�سبري وغوركي ورامبو عن ما احدثواه من ح�ضارة؟ هل يتنازلون عن ابداعهم‪� ..‬أي كل املبدعني الكبار‪ ..‬ليكونوا مب�ستوى ذلك‬ ‫االن�سان يف افريقيا الذي يعرف القراءة والكتابة �أو الذي يدعي الوعي وال ميتلكه‪ .‬ع�سى يتنازل كل �صناع احل�ضارة عن وعيهم‪ ..‬عن ح�ضارتهم‪ ..‬عن‬ ‫ان�سانيتهم ازاء �أنا�س مل ت�سع الأجهزة ‪ ..‬الدولة ‪ ..‬التلفزيون النقاد‪ ..‬الخ �أن يقربوا �أو على الأقل �أن يقل�صوا الثغرة بني بناة اجل�ضارة والنا�س‪� ..‬ألي�س‬ ‫من حق الب�شر �أن يعرفوا‪ ,‬و�ضمن فرتة بلدان متتلك التكنولوجيا كلها والأقمار ال�صناعية والكومبيوتر وكل الأ�شياء املتقدمة التي تخدم الإن�سان �أو‬ ‫ح�سب اعتقادي ب�أنها ت�سعى لتخلق �شيئا ا�سمه املجتمعات �أو التي ت�سعى �إىل التطور الأوىل حتاول �أن جتعلها ويف كل الظروف تابعة لها وكذلك الب�شر‪.‬‬

‫‪186‬‬


‫حممد مهر الدين ‪ :‬ال ميكن اال�ستغناء عن الذاكرة‬ ‫تنتمي جتربة الفنان حممد مهر الدين للجيل الذي �أعقب الرواد؛ اجليل الذي متثلت فيه روح التمرد والبحث عن معادالت جديدة للمعا�صرة‬ ‫على �أن هذا اجليل مل يبد�أ من ال�صفر بل كان ثمرة كفاح فني جعلته ي�ؤ�س�س جتارب متميزة يف الفن العراقي املعا�صر ت�ضاف لرواد ومتهد لتجارب‬ ‫جديدة بيد �أن فاعلية هذا اجليل ما زالت مرتبطة باملراحل املرتبطة بال�ستينات‪.‬‬ ‫ومن هنا ميكن النظر لتجربة حممد مهر الدين الذي در�س يف معهد الفنون اجلميلة‪ ،‬ويف بولونيا والذي تفرغ لتدري�س الفن‪ ،‬و�إقامة املعار�ض‪� ،‬أي‬ ‫النظر لتجربة من الداخل ومدى ت�أثري جتاربه من منظور التجديد وبلورة الفن الواقعي النقدي الذي �أطلق عليه الفنان بالبنائية ‪...‬‬ ‫ومن هنا بد�أ احلورا مع الفنان‪ ،‬حيث �ألقى ال�ضوء على عدد من الأفكار املرتبطة بر�ؤية‪ ،‬كما دار احلديث يف جماالت الأ�سلوب والذاكرة ‪ ...‬يف البدء‬ ‫�س�ألته ‪:‬‬ ‫ما �ضرورة الذاكرة يف عمل الر�سام الفنان؟‬ ‫ �أنها متثل ا�سرتجاعات حلاالت تعاي�ش معها والذاكرة بالن�سبة يل متثل اخلزين املعريف الذي ينمو مع مرور الزمن لتكوين اخلربة املعرفية‬‫وهذه مت�أتية من عالقات االن�سان مع احلياة ‪ ..‬ومع البيئة ‪ ..‬مع العائلة ‪ ..‬الخ ‪..‬‬ ‫العملية الأوىل يف �شروع الفنان باجناز عمل فني تكمن يف ا�سرتجاع ملو�ضوع معني ‪� ..‬أو لفكرة حمددة ‪ ..‬هي جزء من ذاكرته ‪..‬‬ ‫هل ت�ستطيع القول ازاء ظاهرة التكرار يف جتارب عدد من الفناين العراقيني ‪� ..‬أن هذه الظاهرة تخ�ص غياب املخيلة‪.‬‬ ‫ ال �أعتقد ب�أن هناك فنانا ميكن �أن نطلق عليه ب�ضعف الذاكرة هي نتاج الظروف التي مرت بحياة الفنان‪ ..‬وقد تختلف بني ان�سان و�آخر الذي‬‫�أق�صده �أن نتاج الذاكرة لأن�سان عا�ش يف حميط ريفي حتكمه عوامل اقت�صادية واجتماعي تختلف عن البيئة التي عا�شها فنان �آخر‪ ..‬وقد تناق�ض‪� ..‬أو‬ ‫بالأحرى هناك اختالفات بني هذه البيئات‪ ..‬لنعد �إىل مو�ضوع ا�سرتجاع الذاكرة كما �سبق و�أن �أ�شرت ب�أن العمل الفني يبد�أ من هذه اال�سرتجاعات التي‬ ‫متثل اخلزين املعريف لالن�سان‪ ..‬هنا تكمن م�س�ألة هل يريد الفنان حقا ا�سرتجاع هذا اخلزين املعريف الذي يتعلق بواقعه وبيئته وظروفه التي �سبق و�أن‬ ‫عا�شها �أم هي حماولة اللغاء هذه التجربة؟ مبا فيها من �أبعاد؟‬ ‫�أود �أن تنوقف عند م�شكلة التكرار هل تتفق معي ب�أن هناك م�شكلة ا�سمها التكرار يف الفن العراقي املعا�صر؟‬ ‫ التكرار يتمثل يف امل�ضمون وال�شكل‪ ..‬امل�ضمون يتكرر وال�شكل يتكرر �أي�ضا‪ ..‬يف الت�شكيل العراقي بدليل �أن هناك بع�ض الفنانني يعاجلون مو�ضوع‬‫واحدا‪ ..‬وبتقنية و�أن الحظنا فيها بني فرتة و�أخرى نوع من التطور‪ ..‬لكنه يبقى تطورا ن�سبيا‪ ..‬التكرار بالن�سبة يل يعني بكل الأحوال نوع من اجلمود‬ ‫اذ ال ميكن للفنان �أن يعيد نف�س امل�ضمون ونف�س ال�شكل يف �أوقات تختلف باختالف التطور الذي يح�صل يف احلياة وهذا التطور بحد ذاته يقودنا‬ ‫باختيار ما هو �أف�ضل يف االجناز الفني عربيا وعامليا‪..‬‬ ‫لو عدنا �إىل جتربتك الفنية‪ ..‬ترى ما الذي يحفزك للر�سم؟‬ ‫ هناك عدة حاالت حتفزين للر�سم‪ ..‬هي ا�ستعادة للذاكرة كما قلنا �سابقا ولكن ال اعرف ملاذا تبقى املو�ضوعات امل�ؤملة يف الذاكرة فرتة اطول من‬‫الأ�شياء املفرحة‪ ..‬هذه املقولة معروفة‪ ..‬وامنا ي�ؤكدها حتى علماء النف�س‪� ..‬أو كما يقول بدر �شاكر ال�سياب طعم القهوة مر ولكنه يبقى �أكرث من �أي‬ ‫طعم!‬ ‫بد�أت ر�ساما وقعيا‪ ،‬لكنك اخرتت ا�سلوبا �آخر‪� ..‬شديد التعقيد‪ ..‬هل لهذا التحول عالقة ما بدرا�ستك يف بولونيا‪..‬؟‬ ‫ هناك ت�صحيح للواقعية‪ ..‬الأ�صح �أن تقول جتربتي بد�أت �أكادميية‪ ..‬وهذه خا�ضعة للمرحلة الدرا�سية‪ ..‬التي تتبع يف �أغلب املعاهد والأكادمييات‬‫‪185‬‬


‫احلر‪.‬‬ ‫حفلت الأعمال الورقية «ال�صغرية على وجه خا�ص»‪ .‬يف العر�ض الأخري مبا حتفل به ور�شه هذا الر�سم ‪:‬‬ ‫تركيز الت�صميم‪ ،‬والتجربة املرتاكبة للكوالج‪ ،‬والبث اللوين العاطفي ال�صريح‪ ،‬لكن الأعمال الزيتية على القما�ش « الكبري منها « ظهرت على‬ ‫�شيء من االقت�صاد يف الألوان وعنا�صر الت�صميم‪ ،‬و�صارت ا�شتقاقات اللون الواحد ودرجاته طاغية على معظم امل�ساحة تقريبا‪ ،‬وهنا قام مهر الدين‬ ‫مبعاجلات متقائية‪ ،‬فمن جهة ي�ضيف قطعا من البال�ستيك مل�صوقة على �سطح القما�شة وك�أنه رليف‪ ،‬ومن جهة يقوم باحلذف من ال�سطح بق�ص‬ ‫القما�شة على حدود االطارات �أو و�سط اللوح مبنحنيات مغلقة �أو مفتوحة حمدثا فراغ ي�سده املكان اخلارجي خلف اللوحة‪ .‬ومع االقت�صاد امل�شار �إليه مل‬ ‫ي�أخذ الر�سام ا�سرتاحة على هذه ال�سطوح الكبرية فما زالت غمغماته �أ�شبه بغ�صات مبحوحة للحروف والأرقام وعالمات للحروف والأرقام وعالمات‬ ‫املعادالت املتقابلة وت�ضاري�س الفراغ اليائ�سة من الدليل على �سطح �شفاف‪ ،‬يزيد من عمائه كونه ل�صيق جدا بالر�ؤية �أن الوجوه االن�ساين والتجلي‬ ‫الت�شكيلي ال فكاك لأحدهما من الآخر‪� ،‬أقدار تتما�شى ا�ضطرارا‪ .‬ال زالت اللوحة ال�صغرية والكبرية �ضيقتني‪� ،‬أحيانا مهلهلتني بالل�صق والثقوب‪ .‬لكن‬ ‫التطلع الثقيل �إىل االجناز بعد التخل�ص امل�ؤقت من ال�سطح‪ ،‬ي�ستمر منتقال �إىل جتربة جديدة على الر�سام ‪ .‬جل�أ مهر الدين �أخريا �إىل �أن يقلب الورقة‬ ‫ليبد�أ على وجهها الآخر‪ ,‬الورقة ذات ال�سطحني الت�صويريني لي�ست مت�ساطحة �أو متنافذة‪ ،‬فالتجربة تتمكن من جتاوز الت�سل�سل �أو البقية �أو الإحلاق‪.‬‬ ‫�أنه نوع من حتريك ال�سطح واختباره على �أن ال ين�شطر �إىل رتابة التو�أمني‪� .‬أنهما �سطحان فح�سب‪� .‬سطح م�ستقل ثم �سطح �آخر على وجهي ورقة‬ ‫واحدة‪ .‬مل ت�ستطع الورقة الواحدة توحيد اللوحتني �إال بقدر ما يتحمالنه من حتمية العر�ض معا‪ .‬كان الر�سام �شاكر ح�سن قد جرب ذلك بالتنافذ يف‬ ‫الغالب‪ ،‬بني وجهي الورقة‪.‬‬ ‫بعد �أن نظر الر�سام �إىل �سفحتي الورقة على �أنهما لوحتان منجزتان مكتفيتان‪ ،‬من دون تقنياته الورقية‪ ،‬كالكوالج والتخرمي واحلرق‪ ،‬التي تف�سد‬ ‫�أو تتدخل يف قفا الورقة‪ ،‬خطا خطوة بعيدة عن ال�سطح الت�صويري‪ ،‬فقام بالتجربة على جت�سيم منحنياته املغلقة واملفتوحة‪ ،‬وهي بع�ض ما يقرر‬ ‫مكت�سبه الأ�سلوبي الرتاكمي‪ ،‬و�أنتج قطعا نحتية من البال�ستيك ذوات طابع �سرياميكي وكان عليه تعوي�ض التلوين وذلك باملقاطع ال�شفافة وفراغات‬ ‫الت�صميم و�أحيانا التكوين الت�شخي�صي الرمزي بني اجلدران “ �ضحايا �سجن �أبو غريب”‪.‬‬ ‫�إن ال�سرد التجريدي هنا �سيبدو متقطعا ب�سبب النق�ص الذي ترددهن اجلدران املتفاوتة بالعلو والوظيفة‪ ،‬فالفراغات هي التي ت�سيطر‪� ،‬إنها عمائر‬ ‫مت�أثرة بعدم االكتمال‪ ،‬وال ريب يف �شدة تطلبها لالنتظار‪ ،‬ترى ‪� ...‬أين مي�ضي هذا الر�سام وهو يحرك �أ�سلوبه �أخريا؟‬ ‫عبد الرحمن طهمازي‬

‫‪184‬‬


‫كيف يحرك الر�سام تراكمات �أ�سلوبه؟‬ ‫يف نهاية الت�سعينات من القرن املا�ضي �أخذ الر�سام العراقي حممد مهر الدين ي�شعر كثريا بالقلق �إزاء وترية الرتابة يف �أعماله‪ ،‬وحاول �أكرث من‬ ‫مرة تعري�ض �أ�سلوبه لالختبار وبو�ساطة املواد والأ�صباغ دون �أن يحتك ب�شكل حذري بت�صميم عمله‪ ،‬هذا الت�صميم الذي كان يقرر الأ�سلوب لديه‪.‬‬ ‫كانت �أعمال الر�سام ت�ستند �إىل ب�ؤرة مركزية �صريحة تت�صدر �أو�ساط لوحاته ثم ما لبث �أن نقل الب�ؤرة عدة مرات داخل اللوحة الواحدة حتى و�صل‬ ‫به الأمر �إىل �أن قادها نحو الإطارات و�شغل باقي ال�سطح الت�صويري بالتلوين وتقنياته‪ ،‬حيث ميكنه االفتخار وبعد عن متثيالت الأ�سلوب كالكوالج‬ ‫وبع�ض الأ�شكال الهند�سية «القفقا�سية» املربع واملثلث وامل�ستطيل ‪...‬‬ ‫�إال �أن اهتمامه ب�ضبط عمله بلغ حدا جعل املعلقني يت�ساءلون عن مكانة التلقائية يف ر�سم فنان حديث ونكب اجليل الثالث عن ر�سامي العراق يف‬ ‫ال�ستينيات‪ ،‬وكان هو يف طليعة ذلك اجليل الثوري‪.‬‬ ‫من بني التف�سريات املمكنة للأداء املطول لهذا الر�سام هو معاي�شة فن الت�صميم لوجهة النظر االجتماعية التي حتلى بها ي�ساريا ‪ ،‬لكن كل هذا مل‬ ‫يعد بارزا منذ منت�صف الثمانينيات‪� ،‬إذ ذهب �إىل جتريد بنائي قائم على العالمات اللغوية الثانوية‪ ،‬كاحلروف واملفردات‪ ،‬وعلى ت�شكيل منحنيات مغلقة‬ ‫غري نظامية‪ ،‬وعلى تخرمي ال�سطح املخدوم لونيا ب�شكل طاغ يف �أحيان كثرية‪.‬‬ ‫يف معر�ضه ال�شخ�صي التا�سع ع�شر على قاعة «�أثر» ببغداد‪ ،‬و�ضع كلمات قليلة حتت �صورته ال�شخ�صية‪ ،‬تقول الكلمات‪ « :‬نافذة جديدة‪ .‬انتفا�ض‬ ‫على تراكم خرباتي الفنية واملعرفية‪ .‬حتريك حركتنا الت�شكيلية نحو �آفاق �أو�سع وجديدة «‪.‬‬ ‫تعني هذه الكلمات ال�شيء الكثري من لدن مهر الدين املولود يف ‪ 67 « 1938‬عاما»‪ ،‬فهو يكرر كلمة جديدة مرتني‪ ،‬ويقرر �أن معر�ضه هذا ميثل‬ ‫انتفا�ضا على الرتاكم ال�شخ�صي ويهدف �إىل حتريك الت�شكيل العراقي‪ .‬و علينا �أن ال نن�سى �أنه افتتح كلماته اخلم�س ع�شرة بالنافذة وختمها بالآفاق‬ ‫الأو�سع واجلديدة‪.‬‬ ‫�إن ال�شباب والطرافة هما ما �سوف يكون ردا على ال�ضيق الذي ا�ست�شعره الر�سام‪ ،‬لأي �سبب من الأ�سباب بعد زهاء �أربعة عقود من العمل والتعليم‬ ‫املبا�شرين يف حقل الر�سم‪ ،‬الآن‪� ،‬إذن يبا�شر الر�سام حتريك عنا�صر �أ�سلوبه واختبارها جمددا على �سطح متفاوت التجان�س ثم جت�سيد تلك العنا�صر يف‬ ‫مبادرات نحتية ت�شد �أوا�صر ت�صويره داخل اللوحة وتربهن على متانة عمله من خارج ال�سطح الت�صويري يف منحوتات م�ستقلة‪.‬‬ ‫نحن �أمام موهبة الإ�ستئناف وااللتزام بالتعوي�ضات ال�ضرورية للرتاكم‪ ،‬فكما يظهر �أن هذا الر�سام ال يقوى على ماهو عابر ولي�س له من عقيدة‬ ‫لونية �أو �شكلية‪ ،‬و�إذا اخرتنا تعديل كلماته ف�أن تراكماته تثب �أخريا ولكن عرب تعوي�ضات وجمازفات حتريك الأ�سلوب الذي كان قد تكر�س بنائيا‬ ‫بخلفية جتريدية مفعمة بنبالة الت�صميم‪.‬‬ ‫ومنذ الن�صف الثاين ل�ستينيات القرن املا�ضي وهو تاريخ ذو معنى يف الثقافة العراقية مل ي�سمح جتريد مهر الدين ال�صلب لعنا�صر غري ت�صويرية‬ ‫�أن ت�ضغط على لوحته وتتطفل عليها‪ ،‬فقد حمى حدود �أعماله حماية جيدة وانتهى �إىل �أن ال�سطح الت�صويري هو املكان املف�ضل للحرية بالن�سبة لر�سام‬ ‫مثله وقد ظل الإح�سا�س املتوتر مالزما له يف ان حرية الفنان وهويته مهددتان ب�أنواع عديدة من ال�ضغوط‪ ،‬ويف كل الأحوال بقي يحرك منحنياته‬ ‫املغلقة ويرعاها حول الب�ؤرة وعلى قما�شه �أو الورقة‪ ،‬يطعمها �ألوانه اخلافقة بكامل مردوداتها‪� ،‬أو يفتح املنحنيات‪� ،‬أو يعمل ت�شطيبات وحتزيزات‪� ،‬أو‬ ‫يعالج الثغرات االعتباطية بالتل�صيق الفعلي �أو موحياته‪ ،‬يروح ذهابا و�إيابا من املركز �إىل الإطار عار�ضا قواه على اللوح بحذافريه‪.‬‬ ‫لقد كان هناك فنان م�ضغوط يدافع عن ت�صوير مبواده و�أ�سلوبه‪ ،‬ذلك هو �أي�ضا نقده ال�ضمني لالهرتاء وامل�ساومات الالفنية التي �شاعت يف‬ ‫او�ساط الكثري من الفنانني العراقيني منذ احلرب العراقية االيرانية ف�أ�ضرت ب�إنتاجهم النوعي و�أطف�أت مواهبهم ومل يعودوا م�ؤهلني للفن وجماله‬ ‫‪183‬‬


‫اجلانب‪ ،‬وال �أ�ستطيع �أن �أرى جيدا يف ظل هذه الظروق برغم �سعادة الكثريين لزوال الديكتاتورية‪ ،‬ف�أنا حتى الآن مل �أرى �أفقا يعدين بحرية حقيقية‪،‬‬ ‫هل ت�صدق �أن �أف�ضل جمموعة لفائق ح�سن موجودة يف ا�سرائيل‪� ،‬أن يل قلقي امل�شروع وقد عربت عام ‪ 87‬يف معر�ضي الذي ا�سميته – غريب هذا العامل‬ ‫– ومعر�ضي الذي اقمته يف عام ‪ 98‬وا�سميته (فخ العوملة) ومعر�ضي اجلديد الذي �أعدله‪� .‬س�أعر�ض منطا �آخر خمتلفا من القلق االن�ساين العراقي‪.‬‬ ‫�أنا �أعلم �أن لديك الكثري من الأ�سئلة لكن كل �شيء رهني بظرفه‪ ،‬فهال و�ضعتني يف �إطار الإجابة الواقعية‪.‬‬ ‫‪ -7‬ت‪2004 -2‬‬ ‫النه�ضة‪� :‬صايف اليا�سري‬

‫‪182‬‬


‫�شديد معهم ومنهم الك�سندر كوبزدي ولبن�شتاين وجيم�سكي‪ ،‬و�سواهم لكن �أكرث ما �أثر يف جتربة مهر الدين كما يذكر هو ذلك املعر�ض اال�سباين‬ ‫الذي �أقيم يف وار�سو عام ‪ 66‬ومو�ضوعه الفن اال�سباين املعا�صر‪ ،‬ويقول مهر الدين يف �سنة درا�ستي الأخرية يف بولندا‪� .‬سنة ‪� ،66‬شاهدت معر�ضا للفن‬ ‫اال�سباين املعا�صر واعجبني كثريا و�أثر بي ب�شدة وب�شكب مبا�شر الفنان انتونيو دايبيه‪ ،‬فقد ا�ستخدم مواد غري تقليدية‪ ،‬بهرين ا�سلوبه وحاولت تقليده‪،‬‬ ‫بل حاولت ابدال خلطات خا�صة بي مبواد خمتلفة وقد �أثار معر�ضي الأول بعد عودتي �إىل البالد ده�شة الفنانني والنقاد وا�ستغرابهم‪ ،‬فقد ا�ستخدمت‬ ‫مواد غري م�ألوفة كاخل�شب واخل�شب املحروق والرمل العطاء �سطح اللوحة ملم�سا خ�شنا‪ ،‬وا�ستخدمت الر�سم على (اخل�شب املعاك�س) ذلك �أنه قادر‬ ‫على احتمال هذه املواد‪ ..‬بعك�س القما�ش‪ ،‬وقد فوجيء الفنانون والنقاد بهذه التقنية‪ .‬كما �أنهم مل يتوقعوا مني هذه (القفزة) كان ذلك عام ‪ 67‬وعلق‬ ‫بع�ضهم قائال‪ ..‬دعونا نرى مهر الدين بعد �سنتني و�إىل �أين �سيذهب فهو مازال طريا‪ ،‬لكنهم فيما بعد ر�أوا ا�ضافات جديدة يف خطوط البناء املعماري‬ ‫للوحة والفكرة والفل�سفة التي ت�شع من اللوحة والفكرة ومو�ضوعها وم�ضمونها‪.‬‬ ‫_ فل�سفة اللوحة هل تعني بها �صمنا �أدجلة الفن‪ ،‬و�أين هي جتربة العراق ويف هذا امل�ضمار من جتربة االحتاد ال�سوفيتي ودول املع�سكر اال�شرتاكي‬ ‫وال�صني وكوريا ال�شمالية؟‬ ‫_ ال ‪ ..‬ابدا ‪ ..‬فل�سفة اللوحة �أمر خمتلف عن �أدجلة الفن‪ ،‬لكن الفن امل�ؤدلج �إذا �صح التعبري يفر�ض فل�سفة اللوحة فيفقدها �أ�صالتها وحيويتها‬ ‫لأنه وبك ت�أكيد يفقد الفنان حريته‪ ،‬ومن هنا تربز مالمح العالقة اجلدلية بني فل�سفة اللوحة والفن اخلا�ضع للأيديولوجيا واحدة الر�ؤية فالفل�سفة‬ ‫ال�سائدة هنا هي فل�سفة النظام ال�سائدة �أو الأيديولوجيا ال�سائدة �أو املت�سلطة وهذا ال يعفي الفن من ت�سلط االيديولوجيا‪.‬‬ ‫ويف العراق منت هذه الظاهرة طيلة خم�سة وثالثني عاما حتى اغتالت ارواح الكثري من الفنانني وا�ستعبدتهم وقتلت حريات الآخرين �أنا مل �أكن‬ ‫واجدا ممن جرفتهم هذه االيديولوجيا‪ ،‬ال اغراء وال ترهيبا‪ ،‬ويف الفن هناك حالتان هما (احلالة االبداعية) وهي حالة فنية بحتة واحلالة الفكرية‬ ‫و�أنا هربت من املحلية كي ال �أقع يف مواجهة مع ال�سلطة وايدويولوجيتها يف (احلالة الفكرية) فر�سمت مو�ضيع عن ت�شيلي وبينو�شيت واذا ا�ستقر�أت‬ ‫املو�ضوع ب�شكل دقيق جند �أنه (ترميز) انتقادي ومقاوم للدكتاتورية ‪ ،‬ويحمل الكثري من املعاين التي لي�س من بينها الهروب‪.‬‬ ‫�أن توظيف الطاقة الفردية لت�صب يف خدمة الكفاح العاملي ولي�س املحلي فقط جزء من امل�سرية االن�سانية ب�أكملها‪ ،‬وقد �أوديت هذه امل�سرية يف‬ ‫مناطق عديدة من العامل ويف مقدمتها العراق‪.‬‬ ‫*�إن �أدجلة الفن تعني فيما تعنيه هنا ربط الفن بالدولة ورغباتها و�أوامرها ونواهيها و�سيا�ساتها‪ ،‬وقد ي�شمل ذلك �أن�سنة كل الأعمال الالن�سانية‬ ‫التي تقوم بها اهزتها القمعية‪� ،‬أو التي تتعاطى مع الوعي العام ق�سرا وارهابا‪ ،‬وهي حالة تتناق�ض وروح الفنان �صانع اجلمال‪ ،‬واالن�ساين االول‪ ،‬لذلك‬ ‫ف�أن هناك من ا�ستجاب متخليا عن روحه ليثبت �أن ق�ضايا مبدئية خريا منه‪ ،‬كما �أن هناك من رك�ض خلف ال�سراب ميكانيكية زينها املزايا واملغريات‬ ‫فكان االنتماء يف كل احلوال كاذبا يومها‪ ،‬والتربير باال�ضهاد (اليوم) كاذب �أي�ضا‪ ،‬تلك (لعبة) �سقيمة‪ ،‬لقد تربع الكثريون خلدمة النظام يف ظل هيمنته‬ ‫فعالم يتبجحون اليوم ب�أنهم كانوا جمربين!‬ ‫�أنهم ي�شبهون ذلك القراقوز الذي قيل به (مات امللك) فبكى ب�شدة‪ ..‬وحني �سئل عن �سبب بكائه قال لأنني ال �أعرف لون احلذاء اجلديد الذي‬ ‫يريدين �أن ارتدية امللك اجليد لكنني �س�أ�شتم لو حذائي القدمي‪ ..‬مار�أيكم هل يفي ذلك بالغر�ض‪.‬‬ ‫وي�ضيف الفنان مهر الدين‪ ،‬خالل درا�ستي يف بولندا قر�أت مقولة الحتاد الفنانني الت�شكيلني ال�سوفييت‪ .‬وردت يف كرا�س له‪ .‬تقول �أن �أعظم متثال‬ ‫موجود على الأر�ض منذ بدء اخلليقة هو متثال لينني‪ ،‬وهو بالت�أكيد ت�صعيد (العظمة فنيا حتى ) فرددت على الأ�ستاذ الذي كان يدر�سنا هذه املقولة‬ ‫بانفعال ‪ ..‬اذن �أين ذهب رودان وميكائيل اجنلو؟ وفيديا�س االغريقي‪� ،‬أين ذهب متثال زيو�س وهو واحد من عجائب الدنيا ال�سبع‪ ،‬هل �سمعت �أن اجنلو‬ ‫قال لتمثاله اجنلو (انطق �أيها الرجل) بعد �آخر مل�سة و�أن رودان اتهم ب�أنه قولب �أحد متاثيله على رجل ل�شدة دقته ومهارة نحته‪ ،‬انك تتحدث مبنطق‬ ‫االيدلوجيا ولي�س بنطق الفن وهذا خمتلق يا �سيدي‪ ،‬وخمالف للحقيقة‪ ،‬وحول ر�ؤيته ل�ستقبل العراق‪ ،‬يقول الفنان حممد مهر الدين‪� ،‬أنا قلق من هذا‬ ‫‪181‬‬


‫ب�صمة متميزة من جيل ما بعد الرواد‬ ‫كثرية هي املو�ضوعات التي ميكن احلديث عنها مع الفنان الت�شكيلي حممد مهر الدين‪ ،‬لكنها يف مثل هذه الظروف ال بد لها �أن تختزل يف جوانب‬ ‫قد ال تخ�ص جتربة الفنان وحده‪ ،‬و�إمنا عموم زمالئه يف ظرف معني وزمن خا�ص وحتت وط�أة معاناة �صعبة و�إن كانت تنطق ب�شيء غري قليل من‬ ‫خ�صو�صية الر�ؤية‪.‬‬ ‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------‬‬‫حممد مهر الدين عا�ش مراحل تاريخية مهمة من متغريات ال�ساحة الفنية يف العراق والت�أثريات ال�سيا�سية على هذه التغريات‪ ،‬و�أثر بها �سلبا‬ ‫وايجابا وح�سب الت�صنيف التقليدي لهذه املراحل ورموزها ف�أننا ميكن �أن ن�ضع مهر الدين يف �صفوف جيل ال�ستينات الفني مثلما ميكن و�ضعه بثقة‬ ‫يف �صفوف جيل ما بعد الرواد‪.‬‬ ‫_ قبل دخوله معهد الفنون اجلميلة بعام واحد _ ظل مفتوح العينني على التجارب املختلفة وروح التجديد‪ ،‬وي�صف الفنان هذه املرحلة من‬ ‫حياته ب�أنها كانت مرحلة البداية والتطلع واال�ستك�شاف غري املربجمة‪� ،‬أما دخوله معهد الفنون اجلميلة وتعرفه �إىل الأ�ساتذة الرواد �أمثال جواد �سليم‬ ‫وفائق ح�سن قفد ت�شكلت لديه قاعدة اكادميية �أمكن البناء عليها فيما بعد بانطالقات معمارية ال حتتمل اجلمود‪ ،‬بل ت�ستدعي التنوع وابتداع الو�سيلة‬ ‫والفكرة �ضمن م�شروعها املتفرد‪.‬‬ ‫وقد الحظنا بو�ضوح بروز هذه الر�ؤية لديه يف الن�صف الثاين من عقد ال�ستينات‪� .‬أي بعد عودته من درا�سته يف بولندا‪.‬‬ ‫ويف معهد الفنون اجلميلة رافقه الفنانون رافع النا�صري‪ ،‬و�صادق ربيع‪ ،‬وطارق ابراهيم‪ ،‬وحممد را�ضي‪ ،‬وعبد اهلل ال�شيخ و�سعد �شاكر و�آخرون‪،‬‬ ‫وه�ؤالء هم املمثلون احلقيقيون جليل ما بعد الرواد �أو جيل ال�ستينيات ولكي نكون دقيقني ن�ضيف لهذه املجموعة الفنان �ضياء العزاوي‪ ،‬و�صالح‬ ‫اجلميعي‪ ،‬ويحيى ال�شيخ وهم من خارج املعهد وقد �شكل ه�ؤالء جميعا بادراك وبدونه تيارا خا�صا لتجارب و�أن تعددت �إال �أنها تتوحد يف النهاية يف‬ ‫م�سالك ذوات �شواخ�ص واحدة‪ ،‬وقد ت�أثروا لي�س مبا حولهم وح�سب و�إمنا بع�ضهم �ضمن املناخ العام �آنذاك‪ ،‬وبقيت هذه املوا�صفات مالزمهم و�إن تفردوا‬ ‫فيما بعد يف �شكلية جتاربهم ومن بينهم تربز م�ضافة ب�صمة الفنان حممد مهر الدين املتميزة‪.‬‬ ‫*ويتذكر الفنان حممد مهر الدين‪� ،‬أن رموز ال�ساحة الفنية �آنذاك عرفت �أي�ضا يف بحر ال�سيا�سة وكانت هناك ثالث فئات ‪ ..‬الأوىل ذات االنتماء‬ ‫ال�سيا�سي اجللي‪ ،‬والثانية من املناورين الذين الذين مل يح�سموا مواقفهم والثالثة ت�شمل املعتزلني واولئك الذين �شدت �أبحارهم �إىل اخلارج‪.‬‬ ‫وقد ا�ستمرت روح الأربعينات واندفاع عمال النفط وم�صلحة املواينء وعمال الور�ش واملطابع الأهلية ومكاب�س التمور وبقية العمال يف القطاعات‬ ‫املختلفة والطلبة يف بغداد والب�صرة وكركوك ومدن �أخرى �ضد احلكومة �آنذاك‪ ،‬يف امتدادها �إىل اواخر عقد اخلم�سينات وبداية ال�ستينات بهذا ال�شكل‬ ‫�أو ذاك ‪ ،‬ووجدت �صداها الفاعل على ال�سحة الفنية العراقية‪ ،‬وهل ميكن و�ضع ن�صب احلرية جلواد �سليم �إال يف هذا الإطار وال ميكن عزل ت�أثريات‬ ‫هذا الواقع على طبيعة �أعمال فناين جيل ما بعد الرواد ومنهم الفنان مهر الدين‪ ،‬و�إن كان يعرتف �أنه كان ينظر بعيون وا�سعة �إىل جتارب بيكا�سو‬ ‫وجورج براغ وموديلياين و�أنه ت�أثر بهم لتفتح له رحلته �إىل بولندا للدرا�سة الأبواب على م�صراعيها لالحتكاك بالتجارب العاملية ودرا�ستهما عن‬ ‫كثب‪ ،‬فقد واكب احلركة الت�شكيلية البولندية خالل �أعوام درا�سته التي امتدت من عام ‪ 61‬حتى نهاية عام ‪ ،66‬وقد كانت تلك مرحلة زمنية مهمة‬ ‫من جميع اجلوانب‪ ،‬فهناك املتغريات ال�سيا�سية على ال�ساحة العاملية وا�شتداد احلرب الباردة بني املع�سكرين اال�شرتاكي والر�أ�سمايل وبروز التناق�ضات‬ ‫على ال�ساحة البولندية ذاتها‪ ،‬ومرور ربيع براغ – كما ا�صطلح على ت�سمية اجتياح الدبابات ال�سوفيتية لرباغ – مرور العوا�صف على ال�ساحة الدولية‪،‬‬ ‫واالنقالب البعثي يف العراق – ‪ – 63‬واالنقالب العاريف وال يتحدث مهر الدين عن هذه الظروف بالغة احل�سا�سية والتعقيد فقد تعلم �أن عليه �أن‬ ‫ي�ستفيد من فر�صة وجوده قريبا من مراكز الن�شاط العلمي ليرثي جتربته‪ ،‬م�ستمدا من ر�ؤى وجتارب الفنانني البولندين الذين كان على متا�س‬ ‫‪180‬‬


‫يف �ضوء مناذجها املتعددة واملرفو�ضة لت�شكيل بنية ب�صرية �أخرى تعد تدوينية يف الثقافة الب�صرية والفكرية والتي تبتعد عن اخلطاب التدويني املبا�شر‬ ‫املعتمد‪� ،‬أي النزوع نحو الت�شفري املعمق للبحث عن احلقيقة وا�ستبدال واقع مرئي بواقع �آخر رمزي طبقا ملتطلبات �س�سيولوجية كربى تفر�ض �سلطتها‬ ‫على الفنان ي�ستطيع متثلها وحماكاة جوهرها من خالل فعل الذات املتفردة واحاللها بدل املجموع الذي يبحث بطريقته اخلا�صة عن احللول التي‬ ‫ركن اليها الفنان يف �صياغاته اجلمالية‪ ،‬اي تكون الذات هي املجموع يف هذه اللحظة لتكون مبواجهة خ�صومة الواقع‪ ،‬وهذه ال�صياغة اجلمالية تقرتن‬ ‫بالكيفية التي بحث فيها فني الر�سم بو�صفها من الو�سائل الداخلية وت�صنيفها يف �ضوء عالقات الداخل واخلارج �أو عالقة املثال بالواقع‪ ،‬ف�أنه ينحو‬ ‫نحو الفعل النقي �أو ال�صفاء املن�شود يف م�س�ألة التعبري‪ ،‬لأن الر�سم من الأمناط الفنية املختلفة يف �صيغها التنظيمية يف االن�شاء التعبريي ب�صريا و�ألية‬ ‫االت�صال والتلقي معا‪� ،‬إذ تقرتب من املجرد والرمز حتى و�أن د�أبت اىل �إيجاد خطاب حمايث للواقع �أو للطبيعة‪ ،‬لي�صطف الر�سم هذه املرة بجانب‬ ‫الفنون املجردة اخلال�صة مثل املو�سيقى �أو يف احد تيارات الر�سم املتمثل بالتجريدية الغنائية التي تعتمد طاقة اللون اجلمالية و التنا�سقية يف ال�سياق‬ ‫الهارموين يف عالقته مع االلوان االخرى‪ ،‬وي�صبح اللون هو الن�سق املهيمن الوحيد والباث للداللة يف ت�أ�سي�س اخلطاب اجلمايل‪ ،‬مما يعني االختزال يف‬ ‫ال�صورة �أو ال�شكل �أو التخل�ص من تبعات الواقع وتكثيف الطاقة التعبريية لديه اىل اق�صاها لي�صبح هو الن�صق والعالمة والبنية والداللة التعبريية‬ ‫وال �شيء غريه من خالل اال�شكال التي يفر�ضها اللون ذاته‪ ،‬وهكذا ت�صبح تتداخل االلوان واال�شكال مع بع�ضها لتكون ال�سطح الت�صويري‪ ،‬وهذا ما يقع‬ ‫حتته فن (مهر الدين) حيث اعتمد اال�شكال الهند�سية‪ ،‬وجعلها �ألوانا نقية غري ممتزجة مع بع�ضها‪ ،‬هذا امل�ساحات الت�صميمية التي تعالج ال�سطح‬ ‫عرب تق�سيمات الف�ضاء‪ ،‬ثم تتحول هذه الف�ضاءات اىل كتل لونية �ضمن بنية الت�شكيل الرئي�سية‪.‬‬ ‫ويف �إ�شارة �إىل التمرحل الذي نهجه مهر الدين تو�صل يف معر�ضه االخري اىل �صنع الكوالج والتخرمي على مادة اخل�شب �أو حفر املادة الورقية التي‬ ‫تكون اللوحة يف تو�صالت حداثية ميكن �أن يت�سم بها معر�ضه هذا‪ ،‬الذي انطوى على اكرث من ثالثني لوحة خرجت من م�ساحة التلقي امل�ألوفة لدى‬ ‫زوار املعر�ض يف اعتقاد منط جديد من املعاجلة يف التقنية ومعاجلات اللون والأ�شكال اي�ضا وحماولة اخلال�ص من االطر القدمية �أو ال�سابقة التي‬ ‫ا�صطبغ بها عمله الفني‪� ،‬إال �أن بع�ض القوا�سم امل�شرتكة ظل متحفظا بها مثل الكتابات واال�شكال والوحدات الهند�سية يف الت�أ�سي�س‪ ،‬االوىل‪ ،‬ولكنها‬ ‫جاءت هذه املرة حمفورة‪ ،‬ليزيد من �صفة التعار�ض بني ما هو ناتيء وما هو غائر‪ ،‬وما احتفاظه بهذه االطر �إال جزء من الهوية التي تعود م�شاهد‬ ‫اعماله تلم�سها بو�ضوح‪ ،‬ولكن ال يعني االذعان واال�ست�سالم اىل معايري �سابقة‪ ،‬بل كانت تنم عن حركية ذاتية ووجدانية ناجتة عن قلق ابداعي مت‬ ‫التو�صل من خالله اىل معاجلة هذه ال�سطوح مما ي�شكل م�سارا �آخر يف تدرجات مهر الدين اال�سلوبية‪.‬‬ ‫جواد الزيدي‬

‫‪179‬‬


‫الذات واملجموع يف العمل االبداعي‬ ‫حاول الفنان حممد مهر الدين يف معر�ضه ال�شخ�صي االخري على قاعة اثر للفنون النزوع اىل ا�ستخدامات جديدة للخامة والرتكيبة يف جوهر‬ ‫بحثه الت�أملي الذي يطالعنا به على الدوام لي�ؤ�س�س خطاه عرب مترحالت �سلكها عرب ن�صف قرن من الر�سم مل يحد من طبيعة الفن امللتلزم لديه‬ ‫وامللت�صق بق�ضايا ال�شعوب ون�صرتها يف جدل اللوحة القائم على متجيد االن�سان املنك�سر من خالل تواىل االنظمة اال�ستبدادية عليه بو�صف هذا‬ ‫االن�سان قيمة عليا ومركز الكون‪.‬‬ ‫‪-------------------------------------------------------------------------------------------‬‬‫حيث يظهر هذا اجلدل يف �أ�سلوبه الوحيد للتعبري واملو�صوف باللوحة الت�شكيلية كونه خطابا ب�صريا ي�ستند اىل منظومة معرفية تكمن خلفه‪،‬‬ ‫فمثلما تو�صل جواد �سليم و�شاكر ح�سن �آل �سعيد عرب قلقهما االبداعي �آواخر حياة كل منهما يف بحثهما الدائم الهادف اىل التو�صل ملا ي�سمى باال�سلوبية‬ ‫الفنية او الفردانية يف التجلي والتعبري‪ ،‬كذلك فعل (مهر الدين) لتحقيق هذا الهدف منذ بداياته الواقعية االوىل وتدرجاته عرب الزمن اىل الرمزية‬ ‫والتعبريية و�صوال اىل فن الطباعة اليدوية (الكرافيك) وهو ما خل�صه يف احدى مراحل �إنتاجه االبداعي با�ستخدام العجائن واللوا�صق ومعاجلتها‬ ‫لونيا‪ ،‬مبا متده به الثقافة والتجربة والب�صرية التي يحملها‪ ،‬ليلتقي هذه املرة مع معطيات الفن التكعيبي بر�ؤية حملية تعرب عن هموم وت�أريخ معني‪،‬‬ ‫ولكن واقعيته اجلديدة يف الر�سم هي االكرث واقعية النها ال حتتوي على واقعية‪ ،‬بل �أنها واقع مغاير ومفارق لطبيعة الواقع املعا�ش‪� ،‬أو هي حماولة‬ ‫العادة تقومي العامل وموجوداته مرة اخرى مبا يتالءم مع طبيعة االحداث القائمة وت�شييد واقع �آخر ميار�س نفيه امل�ستمر ملعطيات الواقع اليومي‪،‬‬ ‫حتى ي�صبح الفن لديه ال مو�ضوعيا خال�صا يتال�شى فيه كل �شيء وتبقى كتلة مادة تبنى منها اال�شكال اجلديدة يف حماولة لتلم�س اخلطوة االوىل‬ ‫لالبداع اخلال�ص او ال�شكل اخلال�ص‪ ،‬هذه اال�شكال اجلديدة تعلن �أن الفنان خطى بتوازنه للو�صول من حالة تفكري مفرد اىل حالة تفكري مزدوج‬ ‫يجتمع فيه التفكري النفعي والتفكري احلد�سي‪.‬‬ ‫لذا ف�أن (مهر الدين) ي�صطف مع عمله الفني بذات اجلهة مبا ال ميكن ان يحدث فجوة �أو اغرتابا بينه وبني عمله الفني‪ ،‬مبعنى �أنه حاول حتقيق‬ ‫االلفة بني دواخله النابعة من ذات مفكرة وعارفة وبني اخلارج �سواء كانت هذه الذات على قناعة مبا ت�ؤديه وتنتمي اليه من حيث التجلي او ان ترف�ضه‬ ‫ليتحول عرب جتلياته الرمزية والتعبريية التي اعتمدها منذ �ستينات القرن املن�صرم وما تالها عندما ترك الفنانون البولنديون اثرهم يف حتريك‬ ‫قواه الب�صرية �أو �أثناء درا�سته يف بولندا‪ ،‬هذه التجليات حتققت طبقا ملعطيات الواقع وخ�صو�صية املرحلة‪ ،‬كان ذلك قبل �أن يتحول �إىل التجريد �أو‬ ‫الغنائية التجريدية التي تعتمد اللون ا�سا�س يف الت�أ�سي�س‪ ،‬حيث امل�ساحات اللونية املتعار�ضة واملت�آلفة يف االن نف�سه يف �ضوء عالقاتها الت�صميمية التي‬ ‫ينتج عنها ان�شطار اللوحة اىل �أ�شكال هند�سية م�ستطيلة ومربعة في�صبح املربع لي�س �شكال م�صدره دون الوعي‪ ،‬بل �أنه من �إبداع الفكر احلد�سي‪ ،‬ويعد‬ ‫وجه الفن اجلديد‪ ،‬ذلك الذي ي�صفه (ماليفت�ش) (املربع طفل ملكي وحي) �إ�شارة اىل تكاملية املربع وقدرته التكاملية ال�شكال جديدة �أثر االنق�سامات‬ ‫التي حتدثها اخلطوط �أو االلوان‪ ،‬ثم يحاول تو�شيح هذه الأ�شكال ب�أرقام وكتابات عربية �أو انكليزية وتواريخ حتمل دالالتها الكامنة يف قناعة را�سخة‬ ‫لذى الفنان يف رف�ض ا�صحاب ذلك اخلطاب ااال�ستهالكي املعادي ل�صريورة ال�شعوب واالن�سانية التي تعني الكثري للفنان‪ ،‬والذي ي�ستجلب اليها املتلقى‬ ‫�ضمن مرجعية موحدة تعمل يف دائرة الوعي والتاريخ امل�شرتك‪.‬‬ ‫وميكن اال�شارة اىل ان هذه االمناط جتد مقاربات لها مع امناط الفن العاملي املعروفة مثل الكتابة الآلية لدى ال�سورياليني يف بع�ض توجهاتهم‬ ‫الدانة الآلة ومتجيد االن�سان ودوره يف احلياة والنزوع اىل ا�ستلهام همومه يف التعبري‪ ،‬التي تعد من حمركات طرائق البحث الفكري لدى (مهر الدين)‬ ‫مع اختالق الآلية التي نفذت بها هذه الكتابات �أو املدونات‪� ،‬إذ عمد ال�سورياليون اىل ا�ستخدام مهر الدين الكتابة اليدوية بو�صفها رمزا و�آلية تعبريية‬ ‫عن �صيغ حملية او عربية الكمال ن�صه الب�صري ببع�ض من ن�صو�ص تدوينية‪ ،‬كونها عالمة �أو �أيقونة حتمل ابعادها الداللية �أو لتفكيك البنية الب�صرية‬ ‫‪178‬‬


‫احلديث معه وم�شاهدة اعماله فكرت ان ا�شركه معي يف معر�ض م�شرتك بع�ض الفنانني �سينتقد الفكرة‪ ،‬النني اخرتت طالبا ي�شرتك معي يف نف�س‬ ‫املعر�ض‪ ،‬لكنهم ال يعرفون ب�أين م�صر على هذا التوجه اذ علينا ان نتجاوز مرحلة االجيال لكي نتمكن من ان نرتقي باحلركة الت�شكيلية العراقية اىل‬ ‫امل�ستوى الذي ي�ؤهلها بان تكون ابداعيا ح�ضاريا ي�ساهم مع البلدان االخرى التي ت�سمى نف�سها متطورة‪ .‬وهي قد تكون فعال متطورة يف حقول متنوعة‬ ‫باال�ضافة اىل الفن‪ ،‬ولكن علينا فعال ان نكون متطورين فنيا وابداعيا وثقافيا لكي ن�ساهم يف بناء احل�ضارة االن�سانية وان ال نكون بلدا هام�شيا كما‬ ‫تريده االعداء‪.‬‬ ‫ هل تعترب جتربتك اجلديدة هذه‪ ،‬مكملة لتجاربك الفنية ال�سابقة ام انها متثل مرحلة جديدة بالن�سبة لفنك وجتاربك ؟ كيف تقيم هذا العمل ؟‬‫ ميكنني ان اقول ان ن�صف اعمايل اجلديدة والتي هي امتداد لتجاربي ال�سابقة اما الن�صف االخر فهو اكت�شافات جديدة ور�ؤية اكرث تطورا من‬‫ال�سابق قبل عام مثال برزت بع�ض الرموز يف بع�ض اعمايل اجلديدة مغايرة عما كانت عليه يف ال�سابق‪ ،‬ولكنني قدمتها او �ضمنتها ب�شكل بنائي �أخر‪.‬‬ ‫وهذه الرموز البنائية املتطورة‪ ،‬هي ا�ضافات نوعية على العمل الفني بحيث ميكن ان نقول ان هذا الفنان او ذاك يقدم بني فرتة واخرى اعماال‬ ‫متطورة ولي�ست وبالتاكيد تعترب اعمايل اجلديدة‪ ،‬امتدادا للراكم املعريف من خالل هذه الفرتة التي مار�ست فيها الفن‪ ،‬واجناز كرث تورا من اعمايل‬ ‫ال�سابقة‪.‬‬ ‫ن�ضال املو�سوي ‪ -‬الزمان ‪2004-6-19 /‬‬

‫‪177‬‬


‫اطور جتربتي الفنية مواكبا روح الع�صر و�أدعم جتارب ال�شباب‬ ‫لعل حممد مهر الدين هو �أف�ضل من ي�ستطيع ان يتحدث عن جتربته بعد معرو�ضه الأخري فهذا املبدع الذي مار�س التجريب و�أبحر يف حفريات‬ ‫ال�شكل والتعبري‪ ،‬وحتولت عنده الرموز والدالالت اللوينة واحاالت التكوين �إىل كل متكامل واىل ن�سيج كثيف للمعنى‪ ،‬ها هو اليوم يواكب هذا الذي‬ ‫يعي�شه الفنان اليوم‪ ،‬تلك االثار املرئية والالمرئية من البيئة والواقع‪ ،‬من نتاج املعا�صرة وجتارب املحدثني‪ ،‬من تراكم اخلربة اجلمالية واال�سلوبية‬ ‫اخلا�صة‪.‬‬ ‫‪------------------------------------------------------------------------------------------------‬‬‫رمبا كان احلديث عن هذا املبدع �سيت�شعب طويال وبعيدا نحو املديات التي يتحرك فيها وعيه وتتجلى فيها جتربته‪ ،‬رمبا كان حديثا معمقا عن‬ ‫ذاته و�سط دائرة االبداع‪ ،‬هو كل هذا الفي�ض من االجناز الذي نتوق اليه ونعنى به ال �سيما وهو يقدم على جتربة جديدة با�شراك واحد من طلبته‬ ‫املتميزين جنبا �إىل جنب من معر�ضه االخري ‪..‬‬ ‫عرب هذا املعر�ض اجلديد ‪ ..‬الذي اقيم يف بغداد م�ؤخرا‪ ،‬كان لنا معه هذا احلوار‪.‬‬ ‫لنتحدث عن عودتك �إىل ال�ساحة الفنية الت�شكيلية بعد انقطاع لنتحدث عن ر�ؤيتك اليوم وانت تعود موا�صال منجزك االبداعي؟‬ ‫ مل انقطع عن ال�ساحة الفنية املحلية يف العراق اذ بقيت انتج دون ان اعر�ض داخل القطر �ساعيا باجتاه تطوير جتربتي الفنية االبداعية اىل‬‫ال�شكل الذي تكون فيه اكرث متا�شيا مع متطلبات احلياة املعا�صرة‪ ،‬لهذا فاملعر�ض الذي اقمته مع احد طالبي و لي�س امتدادا لتجاربي ال�سابقة بل هو‬ ‫تطوير لها ب�شكل ميكن للمتلقي والفنان والناقد ان يتفهمها من حيث التكوين والبناء والرمز‪ ،‬مركزا العمل على ال�سطح الت�صويري ولذا بدا مغايرا‬ ‫العمايل يف املراحل ال�سابقة‪ .‬امل�شهد الت�شكيلي العراقي يعي�ش ما يعي�شه االن�سان العراقي اليوم‪.‬‬ ‫ترى هل يف ذهنك فكرة او خطة خلدمة الفن الت�شكيلي العراقي حاليا ؟‬ ‫ بعد الظروف احلالية التي مير بها العراقي‪ ،‬ت�شكلت جلان عدة متخ�ضت عنها الهيئة االدارية جلمعية الفنانني الت�شكيليني العراقيني وبعد‬‫حوارات عديدة �صرت اتواجد ال�ست�شارتي يف بع�ض االمور التي تتعلق بالفن واالجنازات التي يفرت�ض ان تقام �ضمن هذه املرحلة ال�صعبة الننا نريد ان‬ ‫نعيد كل التقاليد الفنية واالبداعية التي توقفت منذ فرتة بعيدة واقت�صرت على بع�ض الفنانني وهم قلة من م�سايرة التطورات احلا�صلة يف احلياة‬ ‫االن�سانية‪ ،‬وبنف�س الوقت نحاول ان نخل�ص قدر االمكان احلركة الت�شكيلية من بع�ض اال�شياء التي هي ا�صال غري ت�شكيلية مثل بع�ض اجلماعات التي‬ ‫ح�صلت على هوية نقابة ت�ؤهلهم الن يكونوا اع�ضاء يف جمعية الفنانني لهذا ال�سبب �سيعاد النظر يف حوايل ‪ %70‬من الفنانني املنتمني للجمعية من‬ ‫خالل املعار�ض واالختبارات ومن املمكن نتحقق باملح�صلة م�شاركة الفنانني الذين هم بامل�ستوى الو�سط اما االخرين فعليهم ان يبذلوا جهدا م�ضاعفا‬ ‫حتى يحققوا اجنازا او ف�صال فنيا ي�ؤهلهم الن ينتموا اىل اجلمعية مرة ثانية‪ .‬ولقد تبادر لذهني م�ؤخرا ان اوافق بني الر�سم ل�صاحلي بالت�أكيد انتم‬ ‫تعرفون انني تخطيت مرحلة جيدة يف هذا املجال‪ ،‬لكن الفنانني ال�شباب لكي يرتقوا بفنهم عن طريق االر�شادات والتو�ضيحات الفنية والتحدث معهم‬ ‫بجدية حول �سرية الفنان واجلهد الذي يفرت�ض ان يبذله للو�صول اىل م�ستوى متقدم‪.‬‬ ‫واعتقد واحلالة هذه �ستكون امامي وجهتني االوىل ان اطور بها نف�سي وان ا�صل اىل االفاق امل�ستقبلية التي ت�شغل ذهني ويف الوقت نف�سه ان اكون‬ ‫مربيا وراعيا لالجيال التي ت�أتي بعدنا لنكمل م�سريتنا‪.‬‬ ‫ جتربتك الفنية اجلديدة يف معر�ضك ال�شخ�صي ال�سابع ع�شر جتربة م�شرتكة اىل جانب فنان �شاب كيب تبلورت فكرتها ؟‬‫ الفكرة ال تختلف عما حتدثت عنه الن الفنان ال�شاب هاين الدلة علي هو احد طالبي وقد تتلمذ على يدي قبل ع�شر �سنوات يف معهد الفنون‬‫اجلميلة وقد الحظت انه ي�ستعمل املواد املختلفة نف�سها يف اعماله الفنية لكنها تفتقد لبع�ض املهارات والتقنيات والبنائية يف اللوحة‪ ،‬فمن خالل‬ ‫‪176‬‬


175


174


173


172


171


170


169


168


167


166


165


164


163


162


161


160


159


158


157


156


155


154


153


152


‫ال�شكل يف حدود املعنى‬ ‫هل يتخلى الفنان حممد مهر الدين عن م�ضامينه ل�صالح التجربة الت�شكيلية؟‪ ...‬ام انه من زاوية ابعد مينح التقنية قيمتها املو�ضوعية؟‬ ‫بهذا ال�صدد قال متحدثا عن معر�ضه ال�سابع‪ -‬قاعة االورفلي‪ -‬الذي افتتح م�ؤخرا‪ :‬ان ال�شكل يكت�سب قيمته من االح�سا�س غري املبا�شر بامل�ضمون‪...‬‬ ‫فال�شكل‪ ،‬بحد ذاته‪ ،‬ق�ضية جمالية وال ميكن اال�ستغناء عن اخلربة ببلورة املعنى‪ ،‬ان حممد مهر الدين عمليا ال يتجرد من املعنى‪� :‬أي اغرتاب االن�سان‬ ‫املعا�صر‪ ،‬بل ي�سعى لتمثل حقائق االن�سان ازاء ع�صر م�شحون بالتعتقيدات‪ ،‬وبهذا املعنى كيف يعرب الفنان عن ق�ضايا غاية يف التناق�ص‪.‬فنيا؟‬ ‫ثمة اجابتان عن هذا ال�س�ؤال االوىل ان الفنان احلديث يعود اىل تراثه القومي �أو الوطني‪ ...‬والثانية تكمن يف نزعة احلداثة غري املحلية‪.‬‬ ‫ولكننا يف احلالتني نك�شف خ�صائ�ص ع�صرنا من خالل التقدم التكنولوجي ازاء النزعة الواقعية ال�صرف‪ ...‬االمر الذي ير�سم من دائرة الر�ؤية‬ ‫والبحث التقني‪� ...‬أي امكانية التعبري بخرية متقدمة و�صدق يف البحث‪.‬‬ ‫الفنان حممد مهر الدين ي�ضع االن�سان يف مربعه �شبه االزيل‪ ...‬انه يتال�شى يف عامل �شديد الق�سوة‪ ...‬هذا االن�سان املحا�صر ب�صرامة برموز‬ ‫الع�صر هكذا ير�سم الفنان لوحاته‪.‬‬ ‫وكانه ي�صمم العالقة بني داخل االن�سان وخارجة‪ ...‬وهي عالقة جدلية حاول الفنان من خاللها متثل واقع امل�شكالت املعا�صرة‪ ...‬اال انه ال‬ ‫يتخلى عن مغزى احلا�ضر امام الق�ضايا االزلية‪ :‬فهو يتحدث عن قيمة م�شرتكة بينهما‪.‬‬ ‫اال ان جديد الفنان يكمن يف منح التقنية قيمة يكاد فيها امل�ضمون ان يكمن يف ال�شكل‪ :‬يف امل�صادفة‪ ...‬يف احلروف‪ ...‬يف اجلانب الزخزيف‪ ...‬يف‬ ‫�صرامة التكوين‪ ...‬يف املعاجلة اللونية‪ ...‬يف التل�صيق‪ ..‬ويف املناخ الفني عامة‪ ...‬لكن هذا كله ميثل فكرة احلداثة وما بعدها‪ .‬اىل بلورة املعنى املنا�سب‬ ‫بخطاب متوازن انه اللغة التي ت�صدم امل�شاهد عرب جماليات التكوين ومن خالل مقا�صد الفنان‪.‬‬ ‫وهنا تكون ازاء الفنان الباحث عن لغة متاثل املو�سيقى الكال�سيكية �أي التوجه اىل اجلميع انطالقا من الذات فلي�س ثمة ق�ضية �شخ�صية ال‬ ‫ميكن ان تتحول اىل خطاب عام موجه اىل اخلارج‪ ...‬واعتقد ان الفنان حممد مهر الدين قد ق�صد هذا ف�ضال عن مغامرته اجلمالية التي متنح ال�شكل‬ ‫ا�ستقاللية خا�صة‪ ،‬انها ا�ستقاللية املعنى الفني‪ ،‬من خالل اخلربة ومنح املناخ الفني داللة اال تتعار�ض مع �سرية معنى الفني!‪.‬‬ ‫هنا يتكون ال�شكل باخلربة متداخال بالرموز املختارة‪ ...‬و�سرية الفن تكمن يف اال�شارات ويف املناخ الفني اخريا‪ ...‬وقد ا�ستطاع حممد مهر‬ ‫الدين ان يحقق هذا من خالل االجتاه الثاين‪ ،‬مع اهتمام خا�ص بدرا�سة امل�ؤثرات البيئية‪� ...‬أي انه على رغم توجهه العاملي حافظ على بع�ض ال�صالت‬ ‫مع املوروث املحلي‪ ...‬احلروف واال�شكال والرموز اي�ضا‪ ...‬مما جعل جتربته االخرية ذات �سمات عربية مبعنى انه مل يفقد هويته املحلي‪ .‬بالتايل فان‬ ‫الفنان ب�شعور منه‪ ...‬او بال �شعور‪ ،‬زواج بني اجلزء والعام‪ ،‬بني املحلي والعاملي‪ ،‬فاالن�سان يف فنه‪ ،‬يواجه م�شكلة االغرتاب‪ ،‬كق�ضية اوىل وهي التي جتعل‬ ‫للر�سم مثل املو�سيقى لغة ذات بعد �شمويل‪.‬‬ ‫�أي ان حممد مهر الدين مل يبلور ر�ؤيته اال من خالل هذه املعادلة املعقدة اال انه مع ذلك منح جتربته قيمة فنية وجمالية كتجربة يف ((‬ ‫احلداثة)) انطالقا من خربة غري ق�صرية يف الر�سم وبالتايل فانه يتو�صل اىل هوية فنية خا�صة به على رغم بع�ض الت�أثريات العاملية هذه الهوية �أو‬ ‫الر�ؤية �أو اال�سلوب تف�صح عن مدى تفهم الفنان لعمله الفني‪.‬‬ ‫فاملعنى يكمن يف ال�شكل وال�شكل يف االخري هو املعنى الذي ق�صده الفنان انها معادلة لي�ست �سهله احلل بل انها معقدة لكن ت�أمل جتربته على‬ ‫نحو جاد يو�ضح ان ق�ضية الفنان تخ�ص معاجلة م�شكلة االن�سان ازاء قدره‪...‬‬ ‫وقد عالج الفنان هذا ال�س�ؤال‪ -‬او هذا القدر‪ -‬بتقنية توازي املعنى املعالج ورمبا لهذا ال�سبب برز اجلانب العقلي يف اعماله اىل اجلانب الت�صميمي‬ ‫ال التعبريي واعتقد انه بدافع اخال�صه لعمله الفني قد تو�صل هذه النتيجة‪ ...‬اىل جعل ال�شكل يف حدود املعنى‪ ..‬ولي�س العك�س‪.‬‬ ‫‪151‬‬


‫حممد مهر الدين‪ :‬البحث يف العالقات‬ ‫الفنان حممد مهر الدين فنان ميتلك ادواته وطروحاته الفكرية‪،‬فهو يعرف م�سالكها ب�شكل جيد ومتمكن‪.‬‬ ‫معر�ضه اجلديد ال�ساد�س يفتتح غدا على قاعة الرواق وفيه يوا�صل” “ بحثه الفني” و “ التقني “ يف مو�ضوعاته التي كان انطلق منها يف‬ ‫معار�ضه ال�سابقة‪.‬‬ ‫فاذا كان هذا املعر�ض هو ال�ساد�س رقما فماذا يعني اجنازا على م�ستوى العمل الفني للفنان حممد مهر الدين ؟‬ ‫يقول الفنان‪ ،‬متحدثا عن معر�ضه‪:‬‬ ‫ من الناحية امل�ضمونية‪ ،‬انا م�ستمر على نف�س الطريقة ال�سابقة يف مو�ضوعي الذي هو” عالقة االن�سان بالكون” عالقة االن�سان بالع�صر‪،‬‬‫باملنجزات‪ ،‬حيث ا�صبحت هذه املنجزات التكنولوجية واحل�ضارية اداة ت�ستخدم لهدم االن�سان واحل�ضارة التي هي “ االرث”‪.‬‬ ‫فمعر�ضي من الناحية الفكرية يطرح هذا الفهم‪ ،‬هذا امل�ضمون‪ ،‬ومن الطبيعي ان يكون لكل م�ضمون رموزه وا�شكاله وطريقة تركيب هذه‬ ‫الرموز ت�شكيليا الي�صال امل�ضمون اىل امل�شاهد للتفاعل معه‪.‬‬ ‫وما هي اال�ستخدامات اجلديدة التي وظفتها يف هذا ال�سياق؟‬ ‫ ا�ستخدمت رموزا ح�ضارية قدمية ومعا�صرة لتبيان ان هذه احل�ضارة التي كونها االن�سان معر�ضة للهدم او الدمار واملعر�ض لي�س ت�شا�ؤميا‬‫وامنا اريد ان ا�شري اىل مناطق اخللل جهد االمكان يف هذا العامل الذي نتعاي�ش معه‪.‬‬ ‫اال تطرح بدائل؟‬ ‫ اعطى تو�ضيحات لبع�ض البدائل تاركا امل�شاهد يدخل يف اعماق اللوحة وي�شارك يف عملية خلق البدائل‪.‬‬‫�سنتان هي الفرتة الزمنية الفا�ضلة بني املعر�ض االخري وهذا فما هي اال�ستفادات التى ا�ستطعت توظيفها؟‬ ‫احلياة يف تغري دائم بهذا فامل�ضامني تكون متجددة على الدوام وكماة قلنا �سابقا فان امل�ضامني حتتاج اىل رموز فهذه الرموز بال�ضرورة تتجدد‬‫مبا يالئم امل�ضامني ا�ستعملت يف معر�ضي هذا رموزا تختلف عن الرموز ال�سابقة مع مراعاة اتفاقها يف ال�ضمامني اجلديدة‪.‬‬ ‫وماذا عن الطريقة الرتكيبية او العملية الت�شكيلية مالذي ت�ضيفه وتعاجله هنا؟‬ ‫ ا�ستعماالت لونية مبعنى اخر اهتمام اكرث بجماليته دون ان ت�ؤثر هذا الهدف اجلمايل على امل�ضمون‪.‬‬‫ �سابقا مل تكن توازن بني املعادلتني فلماذا تلجا اىل هذه املوازنة االن “ واملوازنة لي�ست خطا هنا”‪.‬‬‫ مل اجلا اىل هذه املوازنة يف هذا املعر�ض فقط‪ .‬امنا تو�صلت اليها خالل معر�ضي اخلام�س الذي اقيم يف قاعة الر�شيد‪ ،‬تولدت هذه القناعة‬‫الن اللوحة الفنية �أو العمل الفني بفرت�ض فيه عملية املوازنه بني التقنية الت�شكيلية وامل�ضمون انطالق من مبد�أ كون اجلانب اجلمايل اكرث خلودا‬ ‫ودليل هذا يتجلى يف اعمال الفنانني العامليني اخلالدة اىل يومنا هذا الغورنيكا �أو اعمال ديالكروا وغريها من االعمال‪.‬‬ ‫وهذه اال�شكالية تعني خلود الناحية اجلمالية بعد �أن يتنهي زمن امل�ضمون والطرح‪ ،‬وهذه ما ي�سمى بالعن�صر االبداعي‪.‬‬ ‫�أنا �أوازن دون التخلي عن الناحية الفكرية‪ ،‬فل�ست مع االجتاه القائل ( بالفن للفن) �أو االجتاه البنيوي يف االدب على الرغم من اح�سا�سي يف‬ ‫الفرتة االخرية وكنت مت�أكدا من �أن هذا �سيحدث يف الفن الت�شكيلي كما هو احلال عند �شاكر ح�سن ال �سعيد يف معر�ضه االخري‪.‬‬ ‫ان العزل عزل الفنان بكال االجتاهني‪ ،‬ي�ضر بالعملية االبداعية مبعنى ا�صح عزل الوظيفة االجتماعية للفنان‪.‬‬ ‫‪150‬‬


‫ولعل احلديث عن امل�شاهد املتذوق يدخل يف �صميم احلديث عن الفن اجلديد والتجارب الرائدة ومن هنا يكون فن حممد مهر الدين يف‬ ‫امتحان ذلك النه يتوخى الرمز يف التعبري واال�ستفادة املبا�شرة من الفنون االجنبية وبالتايل فهو ال يكرر اال نف�سه وال يتعامل مع الفن اال باعتبارة‬ ‫اداة ا�سئلة تخ�ص االن�سان عامة ولي�س االن�سان الذات املجردة من ع�صرنا‪.‬‬ ‫مثل هذا ال�س�ؤال مل جنب عليه برغم اجابات جواد �سليم وخالد الرحال وغريهما عليه‪ ،‬الن الوقت مازال يتيح لنا مزيدا من التجريبية على‬ ‫م�ستوى اال�سلوب يف االقل املتعرف على عمق ال�س�ؤال ذاته ولي�س معر�ض حممد مهر الدين اال حماولة يف االجابة �إذ هو يتوخى التعبري عن ع�صرنا‬ ‫عرب ا�سالبيه الفنية‪.‬‬ ‫البنائية‪،‬والتي جتعل الذات الب�شرية حمورا لها‪...‬‬ ‫وبكلمة موجزة فان الفنان يناق�ش هذه اال�سئلة بفن يجعل الذات قيمة اوىل تخ�ص حمتوى جتربته الفنية‪.‬‬ ‫كما يجعل اال�سلوب جتريبيا يف اطار اكت�شاف اللغة املنا�سبة لهذا االجتاه‪ ،‬ولكننا ما نزال نرى ان هناك ا�سئلة قيد املناق�شة‪ ،‬ال ميكن ان نعاجلها‪،‬‬ ‫قبل التوقف عند معار�ض ا�سا�سية‪ ،‬ومهمة‪ ،‬كمعر�ض الفنان حممد مهر الدين‪ .‬ومثل هذه اال�سئلة تبقى قائمة ولن نتوقف ما دمنا ازاء االبداع اال�صيل‪.‬‬

‫‪149‬‬


‫يف معر�ض حممد مهر الدين اال�سلوب وم�شكالته‬ ‫ي�ضعنا الفنان حممد مهر الدين ازاء �س�ؤال �شائك‪:‬‬ ‫ما معنى اال�سلوبية يف الفن‪..‬؟ وهل بامكاننا فهم الفن يف اطار اال�صالة‪..‬؟‬ ‫املعر�ض اجلديد‪،‬قاعة الرواق‪ ،‬يلقت نظرنا اىل اجابة حا�سمة واكيدة‪� ..‬إذ ال ميكن ا�ستيعاب دور االداة الفنية مبعزل عن �سياق الفن وتطوره‬ ‫التاريخي‪ ..‬وبالتايل ال تنبع اال�صالة من ال�شكل او االفكار مبعزل عن الق�ضية املعا�صرة التى ي�ؤكدها الفنان‪ ،‬ويلتزم الدفاع عنها‪.‬‬ ‫فالفنان‪ ،‬يف معر�ضه اجلديد‪ ،‬يظهر نزعته االلتزامية ال�صارمة جتاه ق�ضايا كربى‪ ..‬هي ق�ضايا االن�سان وحترره ‪ ..‬وال ت�أتي االجابات ملفقة او‬ ‫م�صطنعة اال باعتبار التقنيات الفنية ذاتها حتمل هذا ال�شد‪ ..‬او بكلمة اخرى ان اال�سلوب عنده يحاول ان ي�أخذ مداه ال�شامل‪..‬‬ ‫فاال�سلوب عنده ق�ضية قائمة بذاتها‪ ..‬والفنان يجهد نف�سه مثل �شاكر ح�سن �آل �سعيد يف اخراج العمل الفني وجعله خال�صة علوم معا�صرة‬ ‫وتاريخية‪.‬‬ ‫بيد ان ال�س�ؤال االكرث تعقيدا يكمن يف االبعاد التى قادت الفنان اىل هذا االجتهاد واىل هذا االخراج الفني بالذات‪� ..‬أي ملاذا هذا ال�ضرب من‬ ‫(الكوالج) وملاذا هذه اال�ستعانة بالرموز املتناق�ضة‪ ..‬وو�ضعها �ضمن وحدة جديدة وبنائية تطمح اىل التكامل؟‬ ‫اعتقد ان حممد مهر الدين كما اعرفه منذ ربع قرن اليريد ان يفهم الفن باعتباره مر�آة خارجية‪ ..‬وامنا هو خال�صة وعي م�صاغ مبا يوازيه‬ ‫من االدوات الفنية اجلديدة‪ ..‬او هو وعي م�صاغ بتحرير الوعي ذاته من اغرتابه بكلمة �أ�شمل‪ :‬انه يحاول �أن ي�ضعنا يف �أزمة ع�صرنا‪ ...‬ومثل هذه االزمة‬ ‫ال يعرب عنها �إال من خالل االن�سان وعذابه‪ ....‬ومن خالل تناق�ضاته‪ ...‬فهو ال يكرر نف�سه يف كل عمل وامنا يجذرها باجتاه بلورة مالمح ا�سلوب فني‬ ‫ميتلك هويته ولغته امل�ضمونية الداخلية التي تعتمد غالبا على �صناعة العمل ولي�س عفويته‪.‬‬ ‫وهذا ال يعني �أنه ي�ستعري من اال�ساليب العاملية طريقته يف التعبري كمحاولة للعاملية وامنا ي�سعى ان ي�ضعنا يف الزمن الذي نخياه‪ ...‬و�أن‬ ‫اجاباته اال�سلوبية تدخل يف �صميم م�شكالت الفن وما مدى قدرة العمل الفني على اي�صال دون �أن يفقد هويته الوطنية‪ ...‬ولكن هل باالمكان اكت�شاف‬ ‫ذلك حاال‪ ...‬ودون �أن يراودنا ال�شك بان املعا�صرة ال توازي اال�صالة‪...‬؟‬ ‫�ساقول‪ ...‬نعم‪ :‬الن الفنان ال يقدم عمله الفني باملعنى التقليدي فهو لي�س ر�سام طبيعة مثال‪ ...‬وهو ال ميتلك ق�ضية‪ ...‬انه على العك�س من‬ ‫هذا متاما‪ ،‬النه يحاول �أن ي�ضعنا يف جوهر اال�سئلة التي تتطلب �أدوات جديدة على م�ستوى نظام التفكري اوال وعلى م�ستوى نظام التعبري‪.‬‬ ‫�أن امل�شكلة التي يناق�شها الفنان هنا لي�ست انية �أو وليدة ازمة عابرة‪ ...‬امنا هي جزء من تراث ع�صرنا وتقنيانه املعقدة‪ ...‬وبالتايل فانه ال يفهم‬ ‫اال�سلوب على انه عر�ض خارجي‪ ...‬وامنا هو حماولة الكت�شاف الوعي الداخلي املتحرر من قيوده‪.‬‬ ‫ورمبا ينطبق هذا احلكم على اعمال �شاكر ح�سن ال �سعيد بالذات‪� ،‬إذ تظهر اعماله خفايا الوعي وهذا ما نراه عند الفنان حممد مهر الدين‬ ‫كما نراه عند د‪ .‬عالء ح�سني ب�شري اي�ضا‪.‬‬ ‫ذلك الن اجلميع ياكدون على حمور الذات و�صلتها بالعامل اخلارجي عرب الت�أكيد على اال�سلوبية ولغة الفن مبا حتمله من وعي فني‪.‬‬ ‫�أن حممد مهر الدين ال يفهم اال�صالة على �أنها تكرار املا�ضي يف اال�ستن�ساخ مثال وامنا هي ا�ضافة وو�ضع امل�شاهد �أزاء ا�سئلة توازي تطلعاته‬ ‫وم�ستواه الثقايف املتقدم‪.‬‬ ‫‪148‬‬


‫لوظائف الفن‪.‬‬ ‫الفنان حممد مهر الدين و�ضع ري�شة الفنان اخلبري على اجلروح التى تنغر يف ج�سم االن�سانية وهي جروح كثري لذلك ميكن اعتبار الفنان قد‬ ‫جتاوز اىل م�شارف العاملية‪ -‬مبعناها االن�ساين ال�شامل دون ان ي�سقط يف متاهات الكو�سمو بوليتيه جمتثة اجلذور‪.‬‬ ‫معر�ض الفنان حممد مهر الدين معر�ض ا�ستثنائي من جميع الوجوه‪.‬‬

‫غازي العبادي‬

‫‪147‬‬


‫حممد مهر الدين ووظيفة الفن‬ ‫ما عادت اللوحة لدى الفنان املعا�صر لعبة �شكلية تبهر الناظر بقدر ما تكون ق�ضية اخالقية ازاء الواقع القائم الذي يتفاعل معه ككائن حي‬ ‫مدرك اللتزامه امام الوقائع واالحداث واالن�سان‪.‬‬ ‫واذا كان الفنانون ينظرون اىل االن�سان من زوايا نظر خمتلفة فان تف�سريهم ل�شخ�صيته او حقيقة يكون خمتلفا كذلك لقد عرى فنانو اوربا‬ ‫االن�سان يف الن�صف االول من القرن تعرية بلغت حد النخاع واهم ما اظهروه فيه هو ه�شا�شيه ازاء احداث الع�صر والقوى ال�ضاغطة عليه لذلك برز‬ ‫االن�سان لديهم �ضغيفا م�ستلبا وبال مالمح با�ستئناء فن الواقعية اال�شرتاكية الذي مازال يتعادل مع االن�سن ب�صورة مبا�شرة ولذلك فالفنان حممد‬ ‫مهر الدين ي�أخذ اثار احل�ضارة املعا�صرة وت�أثرياتها على االن�سان الذي يبدو لنا وفق نظرة معقدة وبال مالمح حمددة مما ي�شري اىل بيئة مغايرة‬ ‫متاما ملا هو م�ألوف لنا فاملكعبات واخلطوط وال�ستطيالت ا�سوار وحواجز حتا�صر االن�سان وحتد من انطالقته يف العامل الرحب ومما يزيد يف تعقيد‬ ‫لوحة الفنان حممد مهر الدين وال تعطى رموزها من خالل النظرة العجلي هو كونه يلج أ� ملا مياثل الكوالج وبذلك يربط اللوحة كمادة خام بالواقع‬ ‫ومن ناحية امل�ضمون بالفكرة املجردة‪.‬‬ ‫ورغم ان الفنان حممد مهر الدين فنان واقعي واكادميي يف الوقت نف�سه فان لوحته رغم كل التجريد البادي فيها تظل واقعية نعي�ش‬ ‫تفا�صيلها نح�سها حتاول ان تخل�ص انف�سنا من ا�سارها وجنتاز تلك اال�سوار واملربعات واملكعبات التى نك�شف انف�سنا حما�صرين فيها‪.‬‬ ‫لوحة الفنان حممد مهر الدين لي�ست بحثا ميتافيزقيا يف الكون انها حديث قلبي عن االن�سان وعوامل ا�ضطاده املادية وهنا اختالفه عن بقية‬ ‫الفنانني الذين يقرتبون منه يف كتابة اللوحة‪.‬‬ ‫تقف ح�ضرتك امام اللوحة فتقول هذاهو انا والتقول هذه وجهة نظري كما يح�صل امام لوحة الفنان اال�ستاذ �شاكر ح�سن �آل �سعيد مثال‪.‬‬ ‫ومن اجل اثراء اللوحة باملعاين االن�سانية فان الفنان مهر الدين ي�ستعري من بيكا�سو وبالذات من اجلورنيكا بع�ض تفا�صليها‪ -‬لكي تكون‬ ‫لوحته ذات داللة‪.‬‬ ‫واذا كان بيكا�سو قد ا�ستعار الثور املهيمن للداللة على بروز الفا�شية فان هذا املعنى جنده يف ا�ستعارة نف�س الثور العراق مهدد بقوة ظالمية‬ ‫هوجاء التقل خطرا عن الفا�شية البل كالهما ي�صدر عن ب�ؤرة واحدة هي ريح اخلمينية ال�صغراء التى اطلت على املنطقة منذ �سنوات وها هي ترتنح‬ ‫حتت ال�ضربات العراقية املاحقة فالرجل هنا يحذرنا من تفاقم هذا الوباء وبقية االوبئة التى عانت االن�سانية منها‪.‬‬ ‫يدحرج الفنان حممد مهر الدين امامنا و�سط كل تلك التعا�سات كرته امللونة او مكعبة او ذلك القو�س قزح امللون لي�س لغر�ض الهائنا عن‬ ‫الواقع القائم اال انه يذكرنا باالمل الكامن يف هذه االلون الزاهية‪.‬‬ ‫والفنان حممد مهر الدين لي�س فنانا عابرا او بدون ق�ضية ال انه على متا�س تام مع تاريخنا ومع وقائع واحداث بلدنا بال�شكل الذي يرى بدءا‬ ‫من ثورة �شعبنا حتى �ضرب املفاعل النووي العراقي كلها دخلت لوحة حممد مهر الدين لكن بدون ذلك الوقائع الفج باملبا�شرة والذي يحدد م�ضمون‬ ‫اللوحة ويجردها من ابعادها اال�سا�سية‪.‬‬ ‫وم�شكلة حممد مهر الدين تتج�سدد يف كونه لي�س فنانا ت�سجيليا او عفويا امنا هو فنان ذو نظرة مركبة لالمور والق�ضايا التى ت�شغل ذهنه‬ ‫ق�ضايا عامة �أي مبعنى �شاملة مت�س او تتعلق باالن�سان اينما كان ولذلك فالو�شائج التى تربط الفنان بالع�صر عديدة مما جعل اللوحة العراقية ت�أخذ‬ ‫مكانهغا اىل جانب الفن االن�ساين العظيم فاجلميع ال�شامل ما بني ما هو خ�صو�صي حملي‪،‬وطني‪ ،‬وقومي‪،‬وما هو عاملي م�س�ألة ابداع ونظرة متقدمة‬ ‫‪146‬‬


‫الفنان حممد مهر الدين ً‬ ‫يد�ش احلكمة‬ ‫لقد كمل الآن‪،‬بعد طول معاناة‪ ،‬كما لو انه قد انتهى من مرحلة التد�شني القا�سية ودخل يف عامل الرجولة املكتملة‪ :‬والعودة اذ ثمة بعدها‬ ‫احلكمة وبهذا الكالم ال�سايكولوجي نقول ان وردة االعتمال االبداعي قد تفتحت يف هذا املعر�ض تفتحاً كام ً‬ ‫ال‪.‬‬ ‫لقد امتلك الفنان حممد مهر الدين ها هنا نا�صية التقرد بقوة يح�سد عليها وهذه القوة النف�سية يف ابداعه قد اتخذت �صفة احلبور حبور‬ ‫باالكتمال ووعي به ومتكن من جمال االنتماء اىل العامل‪.‬‬ ‫وها هو ذا نقيا وانفراديا ومعانداً على م�ستوى احلرفة والثقافة‪ :‬يحتفل بنا ك�أ�صدقاء يف احلوا�شي ويف �سطح اللوحة‪ ،‬بتلك االلوان واخل�سرب�شات‬ ‫لكنه بقي يديننا يف عمق اللوحة ممار�ساً ان�ضباطيته احلرفية بكثري من التل ّذذ!‬ ‫ماكان من ه ّم لدى الفنان حممد مهر الدين �سوى ان ين ّف�س عن جلاجته‪ :‬جلاجة االدانة‪ ،‬تاركاً لنا ان ن�سقط همومنا الذلتية على ا�شكاله‬ ‫التعبريية النقدية �صحيح انه كان يهت ّم بان�ضاطيته ال�صارمة‪ ،‬مب�س�ألة ال�شكل اال ان ذلك مل يكن �سوى ت�شتيت لالدانة وكنا نحار امام �أعماله‪� :‬أهي‬ ‫ادانة لأجل االدانة ح�سب؟ ام انه يجرفنا يف تيار جلاجته دون هدف؟ كان ثقافياً‪ ،‬عامة‪ ،‬يف ت�شخي�صاته على اللوحة وكان ذهنياً يف �ألوانه مع ذلك كانت‬ ‫تلك احلرارة البدائية التي ما تنقك تنبعث من �أعماله‪ :‬حرارة ح�سية يقاومها ويخفيها اليريد ان يدل عليها لون �أو خط لكننا كنا نعلق الأمل عليها‪.‬‬ ‫لقد بقي عمق اللوحة ميدان أ� مرتازناً للت�شخي�صات الثقافية امنا �أ�صبحت التمويهات تنهل من تلك احلرارة احل�سية التي كانت خافية عياني�أ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫مت التوازن بني العقل واجل�سد بني جلاجلة الذات والعامل و�أ�صبحت اللوحة اكرث جدوى يف ات�صاليتها‪.‬‬ ‫كانت �أعمال مهر الدين ا�شرتطية على م�ستوى الثقافية والذائقة ولقد تنازل الفنان يف هذا املعر�ض عن ا�شرتطية‪ :‬فكل عمل يقودنا ح�سي�أ‪،‬‬ ‫وبحبور خارج ف�ضاء الذهبية اىل ف�ضاء الثقافية ك�سلوك يف العامل‪ :‬كرجولة تبحث عن اجابة حكيمة بدون ذهبية متطرفة لل�س�ؤال االفرتا�سي‪ :‬ملاذا‬ ‫العامل غريب على االن�سان؟ �صار االت�صال يت�سم بثقة فرحة وحتول االن�ضباط اىل مهارة العبة تقودها �صوفية الك�شف وتبعدها عن القدرية‪ :‬ما دامت‬ ‫الغرابة ّ‬ ‫منظمة فعلى العقل ان يجيب ‪.‬‬ ‫لقد اكت�سب الفنان حممد مهر الدين خربة عميقة يف القاء اال�سئلة او يف اداء خطابه الثقايف فمادمنا معنيني بهذه اال�سئلة عليه ان ميتلك‬ ‫مهارته االت�صالية التى تعني على االمل ولي�س على القنوط واالنكفاء الالجمدي ان االيجابية التي تعمل يف متويهاته على �سطح اللوحة مموهة‬ ‫العمق الذي ما زال ملك العقل الثقايف امنا تنبىء عن م�صدر قوة جديد ينهل من اتزان فرح يف العلم فاخلطوط وال�ضربات التى تبدو عفوية‬ ‫والزخارف وتخليقات الألوان واخلرب�شات كل هذه تطمئن الأ�سئلة جتعلها حم�سو�سة ات�صالية ك�أقوى ما يكون عليه االت�صال‪.‬‬ ‫ان الفنان مهر الدين ي�ضعنا بني يدي الغول بكثري من الطرقال التقائلة وبكثري من لطافة الوردة‪ :‬لقد �أ�صبحت لوحته انب�ساطي ًة و�صار‬ ‫الأمل جلاجته‪.‬‬ ‫وااللتياعات النف�سية الذاتية التى كانت تتلب�س املظهر الثقايف يف ال�سابق اعماله قد ا�سقطت من اعمال هذا املعر�ض‪ :‬مازال املظهر الثقايف لكنه‬ ‫الآن قد اكت�سى حلم�أ دنيوياً بل لنقل ب�شري�أ‪� :‬صارت اللوحة تعي�ش معنا يف بيوتنا العزيزة او يف نفو�سنا‪ -‬الفرق !‬ ‫كمية الأعمال املعرو�ضة هي االخرى تدل على االمل الذي متلك الفنان حممد مهر الدين بقوة �شديدة ان هذه الكمية تقول لنا انه يق�ضي‬ ‫ج ّل وقته ير�سم‪� :‬صار الر�سم طريقة حياة انتهى زمن اال�شرتاطات مل تعد اللوحة تتحدّى بذهنيتها تتحدى �ضعف ا�ستجابتنا لالحتجاجات الغام�ضة‬ ‫�صارت تعفينا من هذا ال�ضعف مل يعد التطرف �ضد احلقيقة ومل يكن يوم�أ قط اننا كيانات ب�شرية نعي�ش بكثري من التوا�ضع يف هذا العامل الغريب‪.‬‬

‫�سمري علي‬ ‫‪145‬‬


‫حممد مهر الدين يف معر�ضه ال�سابع‪:‬‬

‫تلوين �ضباب الر�ؤيا!!‬

‫يتحرك حممد مهر الدين داخل لوحات معر�ضه ال�شخ�صي ال�سابع املقام حاليا على قاعة االورفلي‪ ،‬بحرية تامة‪ ...‬يتنف�س ملء �أفكاره و�ألوانه‪،‬‬ ‫ومي�ضي يف مغامرته �إىل �أق�صى مداها‪....‬‬ ‫ويبدو �أنه من ال�صعوبة �أن متيز بني حممد مهر الدين كر�سام وبني هذا القلق الذي يزدحم يف �أعماله‪� ...‬أنها باخت�صار تقدم �شرحا متكام ً‬ ‫ال‬ ‫لأفكاره و�شخ�صية هذا الر�سام الذي بقي حمافظا على هذا الت�شابك القلق يف اخلطوط والأ�شكال والألوان‪ ....‬ترى‪ :‬ماذا قدم مهر الدين يف معر�ضه‬ ‫ال�شخ�صي ال�سابع؟‬ ‫لي�س هناك �سوى الإن�سان‪ ...‬الإن�سان هو ق�ضيته كانت وماتزال‪ ...‬هذا على م�ستوى املو�ضوع‪ ...‬الإن�سان عنده حما�صر باحل�ضارة‪ ،‬بالتكنولوجيا‪،‬‬ ‫باملعادالت الريا�ضية وهذه املرة بالن�صو�ص الكتابية‪ ...‬ن�صو�ص مراية ولكنها غري مفهومة‪ ،‬ن�صو�ص �ضبابية تخرج الينا من خالل كثافة الألوان املعتمة‬ ‫وال�شفافة‪ :‬با�ستثناء ن�ص واحد كتب بو�ضوح مق�صود من اجل ا�ستفزاز املتلقي لي�س �إال‪ :‬علينا �أن نعود العني على تقبل الأعمال الإبداعية اجلديدة كما‬ ‫ورد يف اللوحة التي حتمل رقم ( ‪ ...)16‬ويبدو يل �أن مهر الدين لو مل يكن ر�ساما بارعاً لكان معماريا مهما الكت�شف لنا معادالت قيمة بني الإن�سان‬ ‫والعمارة‪ .....‬فهو يبني اللوحة بدقة رغم ما قد ي�صلنا من فو�ضى يف الكتاب والألوان واخلطوط والأرقام والإ�شارات والأختام حتى تتحول اللوحة �إىل‬ ‫وثيقة تعرب عن وجهة نظر الإن�سان املعا�صر وعالقته مبا حوله من رموز‪....‬‬ ‫اعمال مهر الدين لي�ست تزيينية ولن تكون كذلك امنا عبارة عن افكار عميقة حتتاج اىل الكثري من النقا�ش فهو تعمد اال ي�ضع للوحات‬ ‫عناوين “كي اترك للمتلقي حرية اختيار العنوان وبناء عالقة قائمة على اجلدل فيما بينه وبني اللوحة ذاتها ‪ ”..‬يقول واللوحة يف هذا املعر�ض هي‬ ‫جمموعة لوحات‪ ،‬اذ ان مهر الدين ا�ستخدم الكوالج ب�أمعان مبالغ فيه ‪ ..‬اللوحة ذاتيا مقطعة اىل جمموعة لوحات ‪...‬هناك وجوده وجوه خمتارة رمبا‬ ‫ع�شوائيا ‪...‬بعد هذا البناء جل�سد اللوحة ا�شتغل عليها بالوانه‪ :‬االكرليك‪ ،‬االقالم امللونة‪،‬اقالم الر�صا�ص‪� ،‬ضربات لونية زيتية وبا�ستيل �شمعي‪ ..‬لقد‬ ‫اجتهد بالعمل داخل اللوحة‪ ،‬داخل اطاراتها ولي�س خارجها ‪ ،،‬فاذا كان مهر الدين‪ ،‬يف ال�سابق قد حطم اطار اللوحة وا�شتغل خارجها فانه هذه املرة‬ ‫حافظ على االطار اخلارجي وراح ينقب فيها يقلم هذا النمط ويزخرف هذه الواجهة‪،‬ويف�ضل ذلك اجلدار ويوجد ثغرة هناك ‪ ..‬يقول حول �شغله يف‬ ‫اللوحة‪“ :‬انا اح�ضر مناذج �صغرية للوحة بالقلم الر�صا�ص واكتب الكثري من الرتوح لغر�ض تنفيذها كلوحات كبرية “ وهكذا يقرتب كثريا من عمل‬ ‫املعماري عندما ي�ضع تخطيطا لعمارته والفرق الوحيد ان املعماري منظم يعمل وفق معادالت هند�سية مقننة لكن مهر الدين يرتك للفو�ضى حريتها‬ ‫داخل اللوحة ‪..‬انه ير�سم بجراة وبحرية �ساحر”اريد ان ا�شتغل فن” يقول م�ؤكدا اىل احلد الذي يعرتف فيه” انا اليهمني امل�شاهد واملتتبع‪ -‬بل‬ ‫اللوحة ذاتها‪ ،‬هي كل مايهمني‪”...‬‬ ‫ا�شياء كثرية ويخطا من يتوهم ان وظيفتها ت�شكيلية جمردة بل هناك حماكمات لذات االن�سان وملن حوله وهناك اكرث من مفردة فلتت من‬ ‫را�س الر�سلم اىل فر�شاته مثل‪:‬احلقيقة احل�صار‪...‬‬ ‫ان �أي معر�ض �شخ�صي يقيمه الفنان امنا يعترب اجنازا متقدما يف متقدما يف بحثه الت�شكيلي متاما مثلما يقدم الكاتب م�ؤلفا جديدا حممد‬ ‫مهر الدين و�ضعنا امام ت�صور وا�ضح الجنازه الت�شكيلي الكبري ملخ�صا جتربته ال�سابقة ومتو�صال معها نحو افق امل�ستقبل مربهنا انه حقق �ضمن‬ ‫ا�سلوبية الفنان هناك جتارب مبدعة وافكار جريئة وجتديد متطور بارزا بذلك بع�ض رموز حركتنا الت�شكيلية الذين بقوا يراوحون يف حدود ا�سلوبيتهم‬ ‫ال�ضعيفة!‬

‫معد فيا�ض‬ ‫‪144‬‬


‫قد لعبت دورها يف تقدمي اجنازات الر�سم يف العامل لهذا الر�سام �أو ذاك من ر�سامينا حتى بات ر�سامنا حمتكماً �إىل مبد�أ ال�صدفة‪ ،‬ي�شعر �أنه وحده من‬ ‫دون �سواء من ميتلك املعرفة ب�أخر م�ستجدات ومتغريات الر�سم يف العامل‪.‬‬ ‫عزلة من هذا النوع مل متنع الر�سم احلديث يف العراق من االنت�شار عربياً ودوليفا‪ -‬بل قادته �إىل االنغالق على نتائجه واال�ستمرار يف‬ ‫ا�ستهالكها‪ ،‬وعياً و�أ�ساليب وتقنيات‪.‬‬ ‫اتخذ هذا اجلانب اال�ستهالكي يف �أق�سى �أ�شكاله �صورة اال�ستهالك الفردي‪ ،‬اق�صد ا�ستهالك الر�سام ملفرداته‪ ،‬حيث يظن ر�سامونا من غري‬ ‫ا�ستثناء �أن هذه املفردات ال�ضيقة هي بديل عن الأ�سلوب �أو مبثابة الأ�سلوب نف�سه‪� ،‬أنهم كمن ا�ستبدل اللغة بكل �سعتها وبكل ما تنطوي عليه من معان‬ ‫غري مكت�شفة مبفردات منها‪ ،‬للداللة عليها لقد �سقط ر�سامون يف فخ ( الأ�سلوب) الذي هو لي�س �أ�سلوبا بل هو يف حقيقته تكري�س لنتائج �أ�سلوبية يف‬ ‫مرحلة ما من مراحل البحث الفني‪ ،‬وهكذا �صارت �إعمال ر�سامينا جمرد تكرار عنيد ملا �أجنزوه �سابقا ( املعرو�ض املقام يف قاعة عني حالياً خري دليل‬ ‫على ف�شل ر�سامينا يف اكت�شاف فكرة الأ�سلوب) تكرار يدفع �إىل امللل لي�س �إال‪.‬‬ ‫لقد ا�شرتك االثنان‪ :‬الفنان وامل�ؤ�س�سة يف �إف�شال امل�شروع احلداثوي العراقي على م�ستوى الفن الت�شكيلي ب�شكل عام والر�سم منه ب�شكل خا�ص‪،‬‬ ‫فر�سامنا اليوم يظن انه كان �ضحية امل�ؤ�س�سة التي مل ت�ضع يف خدمته واحدة من فر�صها االت�صالية بينما تظن امل�ؤ�س�سة �أنها كانت متثل و�سيطا ناجحا‬ ‫بني اجلمهور والر�سام وهي تكتفي بهذه املهمة و�صفاً لوظيفتها‪.‬‬ ‫و�إذا ما كان االثنان خمطئني على امل�ستوى الإ�سرتاتيجي يف اللقاء كل واحد منهما تبعة ماجرى على الآخر‪ ،‬ف�أن امل�شكلة تتجاوز هذا املظهر �إىل‬ ‫�أمر جوهري ال ميكن اكت�شافه �إال باملقارنه‪.‬‬ ‫فالر�سام يف العراق مل يتفاعل مع النتائج الفنية التي ا�ستلمها من الغرب على �أ�سا�س (�إنتاجي) بل �صار يطور مهاراته وي�ستلهم وظيفة وهمومه‬ ‫ويتقدم بتقنياته ال�شخ�صية �ضمن املناخ نف�سه الذي احت�ضن تلك النتائج‪ ،‬هذا االجتاه �أكدته ال�ستينات ورعته يف ال�سبعينات و�أ�صبح واقع حال مع‬ ‫الثمانينات‪� ،‬أي �أنه اتخذ خطا تراجعياً مع م�ضي الوقت‪ ،‬ف�إذا كان اخل�ضوع لنظرية‬

‫(الآخر ) الفنية غري وا�ضح يف ال�ستينات �أ�صبح اليوم‪ ،‬ميتلك‬

‫�أ�سلحته الفنية الرادعة‪.‬‬ ‫�إذن‪ ،‬الر�سم العراقي مل يطور مراجعه على �أ�سا�س الت�صور الإنتاجي القابل للت�صدير‪ ،‬بل ظل رهني االكتفاء بتطور الإتقان املرتبط باملرجع‪،‬‬ ‫ارتباطاً ع�ضوياً ومفهوميا ولهذا ف�أن نتائجه الأ�سلوبية كانت �شبيهة �إىل درجة كبرية بتلك التي �أجنزها الر�سم الغربي يف وقت �سابق وما يجري من‬ ‫ت�أكيد لنجاحات ر�سامينا يدخل يف نطلق قيا�س مدى تطابقها مع منوذج البحث اجلمايل يف الغرب‪.‬‬ ‫�أي �أنها يف �أح�سن حاالت ن�ضوجها �صارت جزءا من الوعي الفكري والب�صري الغربي‪ ،‬وبذلك تكون �إذا ما �أح�سن �إي�صالها �إىل الآخرين جزءا من‬ ‫الفن الغربي بل جزءا غري م�ؤثر ذلك لأنها تخاطبه ب�أدواته من داخله‪.‬‬ ‫و�إذا ما كان الر�سم احلديث يف العراق قد جنح يف خلق ا�ستجابات جمالية لدى جمهور النخبة‪ ،‬وبالأخ�ص يف منعطفاته التاريخية احلا�سمة‪،‬‬ ‫حيث اتخذت ال�صدمة كامل قوتها على ال�صعيد الداخلي ( �إعمال جواد �سليم وكاظم حيدر و�شاكر ح�سن �آل �سعيد يف وقت مت�أخر على �سيل املثال) ف�أن‬ ‫هذه اال�ستجابات كانت وماتزال ت�ستلهم قيمتها من وجودها ال�سلبي �أي �أن نفعيتها ظلت مرتبطة ب�صمتها الب�سعيها للبحث عن حيز نظري تقيم فيه‪،‬‬ ‫�أنها ا�ستجابات نخبة منبهرة م�أخوذة فعلها امل�ؤكد تظهره �سلبيتها الكامنة‪.‬‬

‫فاروق يو�سف‬ ‫‪143‬‬


‫ر�سمنا احلديث �إىل �أين؟‬ ‫يف معر�ضه احلايل ( ‪ 6‬ت�شرين الأول ‪ -1992‬مركز �صام للفنون) جنح الر�سام حممد مهر الدين يف تقدمي خال�صات جمالية‪ ،‬لتجربة فنية‬ ‫تت�سم بطابعها الفردي‪ -‬البطويل‪ ،‬امتدت لأكرث من ثالثني عاما‪ ،‬كان مهر الدين خاللها ال مي�س نتائج احلداثة الفنية يف العراق �إال م�سا رقيقاً‪،‬‬ ‫يك�شف عن �ضعف يف انفعال هذا الر�سام بالفكر الفني الذي ت�ستند �إليه تلك النتائج‪ ،‬قد يكون مهر الدين حالة نادرة يف التاريخ الفني املعا�صر‪ ،‬فما‬ ‫ال �شك فيه �أن تطور جتربة �أي ر�سام ال ميكن �أن يتم مبعزل عن تطور حالة الر�سم الكلية وما تعززه هذه احلالة من حقائق جمالية جديدة‪ ،‬كذلك‬ ‫الأمر بالن�سبة للر�سم يف بلد ما‪ ،‬فمتغرياته ال ميكن �أن جتري يف عزلة عن متغرياته يف بلدان �أخرى‪ ،‬وعلى �أ�سا�س هذا املبد�أ الإن�ساين يف جوهره ميكننا‬ ‫ا�ستيعاب عملية التثاقف بني الر�سامني من خمتلف �أنحاء العامل‪ ،‬ومل يعد غريبا يف يومنا هذا �أن ميد حركة فنية جذورها يف �أر�ض ما لتعطي �أجمل‬ ‫ثمارها و�أ�شدها ن�ضجا يف �أر�ض �أخرى‪ ،‬هناك مثالن بارزان يف حياتنا الثقافية املعا�صرة ي�ؤكدان �سالمة هذا املنحى فحركة الفن ال�شعبي ( البوت ارث)‬ ‫كانت قد بد�أت يف بريطانيا منت�صف اخلم�سينات غري �أن الكثريين منا مل تعد هذه احلقيقة تهمهم وما يثري انتباهه �أالن النتائج الوا�سعة واملت�شعبة‬ ‫التي حققها الر�سامون الأمريكان لهذه احلركة والتي دفعت بها �إىل ت�أكيد ون�شر قيمها اجلمالية على م�ستوى احلياة العامة‪ ،‬نتذكر هنا على �سبيل‬ ‫ال احل�صر‪ :‬اندي وارهول جا�سرب جونز‪ ،‬روي خمتن�شتاين املثال الثاين‪� :‬سبق الأول ب�سنوات وهو‪ :‬التجريدية‪ -‬التعبريية‪ ،‬هذه احلركة كانت موجودة‬ ‫�أ�صال يف رحم جتربة التجريد منذ بداياته مع ال�سنوات الأوىل من هذا القرن‪ ،‬غري �أنها مل تتخذ �شكلها �إال يف نهاية الأربعينيات ومع ا�ستقرار ر�سامني‬ ‫كبار من مثل‪ :‬مارك روثكو وار�شيل غوركي يف نيويورك‪.‬‬ ‫ويف احلالتني‪� ،‬صارت الثقافة الأمريكية هي املرجع التاريخي والفني للحركتني‪ ،‬اللتني ماتزاالن حتى يومنا هذا تلعبان دوراً مهما يف التعبري‬ ‫املعا�صر ويف جت�سيد وجود الر�سم ثقافياً‪.‬‬ ‫�صحيح �أن الآلة الإعالمية الأمريكية بكل ما تنطوي عليه من قدرات ( التهامية) و�سرعة يف الأداء تبعا ل�سعتها وقابلياتها التقنية كانت قد‬ ‫�ساهمت يف انت�شار نتائج الر�سام الأمريكي املعا�صر‪ ،‬غري �أن هناك حقائق فنية ال ميكن تفادي االعرتاف بها‪ ،‬هذه احلقائق �شكلت حججا قوية �ساعدت‬ ‫ذلك الإعالم يف ارتكاب مبالغاته‪.‬‬ ‫و�إذا كانت احلداثة الفنية يف العراق قد بد�أت يف نف�س الوقت الذي بد�أت فيه يف �أمريكا‪ ،‬وعلى الأ�سا�س نف�سه‪ ،‬اق�صد الأ�سا�س االت�صايل بالآخر‪،‬‬ ‫ت�أثراً به واحت�ضانا لتجربته وا�ستيعابا لر�ؤاه وتقنياته ولكن وبعد عقود من الزمن يبدو البون �شا�سعاً بني التجربتني مل يتخذ الر�سم الأمريكي موقعه‬ ‫يف املتاحف �إال بعد �أن �شبع من ت�أكيد وجوده امل�ؤثر يف احلياة وبعد �أن �صار �سلعة �أمريكية خال�صة قابلة للت�صدير ويكفي �أن �أوربا على هذا امل�ستوى‬ ‫الثقايف بالأخ�ص بد�أت تتلقى ال�صدمات بانفعال �شديد �سواء كان هذا االنفعال ايجابيا �أو �سلبيا ف�أنه ي�ؤكد قوة ال�صدمة وواقعيتها‪.‬‬ ‫بينما ظلت جتربة احلداثة الفنية يف العراق �أ�سرية لعزلة نتائجها‪ ،‬وبالأخ�ص على امل�ستوى االت�صايل‪ -‬ال�صدفة وحدها كانت وراء انت�شار هذا‬ ‫الفنان �أو ذاك من الفنانني العراقيني يف عدد حمددة من البلدان العربية‪ ,‬والن الأمر جرى مبح�ض ال�صدفة ف�أن انت�شار هذا الفنان �أو ذاك ارتبط‬ ‫بحدود زمنية معينة‪.‬‬ ‫نتائج احلداثة الفنية يف العراق مل ت�صدر �إال يف حدود �ضيقة‪ .‬مكانا وزمانا‪� .‬إذ مل تت�صد امل�ؤ�س�سة الفنية �أو الإعالمية للقيام بهذه املهمة‪� ،‬إ�ضافة‬ ‫�إىل �أن هاتني امل�ؤ�س�ستني مل تنفقا ولو جزءاً قلي ً‬ ‫ال مما لديهما من �إمكانيات ات�صالية على التعريف بتطور فنون ( الآخر) وكانت ال�صدفة مرى �أخرى‬

‫‪142‬‬


‫النظر هنا وهي غياب اخل�صو�صية املرتبطة بالرتاث �أن كان واقعيا �أو داخليا‪ ،‬واعتقد �أن حل اجلديد‪� ،‬ستحل ب�إيجاد توازن بني الإ�شكال الأكرث حداثة‬ ‫والأ�شكال الأكرث �ألغة بني الرمز العام والرمز القومي‪ ،‬بني امل�ضمون الكوين وامل�ضمون الذاتي‪ ....‬ومع ذلك ف�أن �أعمال الفنان اجلديدة هنا لي�ست‬ ‫�سوى مقدمة االجتاه فني واقعي نقدي ينتظر الدرا�سة والتحليل كيما يحقق فطه و�أثره بر�سم مالمح �أ�سلوب تكمن جمالياته يف النقد املو�ضوعي‪ ،‬ويف‬ ‫اتخاذ الإن�سان مو�ضوعا من مو�ضوعات احلرية‪.‬‬

‫عادل كامل‬

‫‪141‬‬


‫العزلة احل�صار ‪ ،‬احلب‪ ،‬والألفة‪ ،‬ولكن هذا العامل هو جزء م�صغر يحاول الفنان من خالله �أن ير�سم لنا لوحة كربى للرعب واملخاوف‪ ،‬وهو ينجح‬ ‫بر�سم هذه ال�صورة بدقة فائقة‪ ،‬ولكنه يف الوقت ذاته‪ ،‬يدين هذه الت�شخي�صات‪ ،‬بل هو ير�سمها لهذا ال�سبب بالذات‪ :‬كالنماذج الإن�سانية عنده بالرغم‬ ‫من عذابها متتلك ذلك التحدي والإ�صرار على املقاومة‪.‬‬ ‫�أن الفا�صل الذي �أقامه الفنان بني جماليات الطبيعة وجماليات املو�ضوع الإن�ساين‪ ،‬يخطو به‪ ،‬نحو معاجلات الإن�سان يف حاالته ويف مناخاته‬ ‫الداخلية املرتبطة باملحيط العام‪ ،‬فالذات عنده‪ ،‬غالبا‪ ،‬هي مناداة �أو رجاء �أو كربياء �أو �شكوى؛ ولكنها بعد ذلك كله هي الذات التي تن�شد احلرية‪،‬‬ ‫والذات عنده �أن كانت عاملية �أو قومية‪ ،‬فهي الذات �إزاء قدرها‪ :‬واعتقد ب�أن الفنان حاول �أن يج�سد ال�صلة بينهما بدءا مبحاولته لر�سم معامل الإن�سان‬ ‫الزائد �أو الذي �أبعد �أو عزل �أو �سحق ولي�س انتهاءا بت�صوير حاالت املقاومة واال�ستب�سال‪� ،‬أن مناذج الفنان هنا حتمل قدرا هائال ورائعا من ال�سلبيات‪،‬‬ ‫ولكنها يف حم�صلة ت�أملنا للواقعية النقدية يف الفن متنحنا ذلك القدر من الت�أمل واملقاومة‪ ،‬فالفنان عندما يلفت نظرنا �إىل هذه الزوايا الداخلية‬ ‫لروح الإن�سان يذكرنا باجلوانب الأخرى‪ ،‬امل�شرقة‪ ،‬والتي ال ي�ستحيل فيها الإن�سان �إىل �أجزاء متناثرة �أو �إىل وعي‬

‫( غائب)‪.‬‬

‫اجلانب الذاتي‬ ‫�أن مو�ضوعات ( التمزق) الإن�ساين‪ ،‬بكل �أبعاده تبقى هي امللهمة �أو مو�ضوعات الفنان املعا�صر عامليا وقوميا وهذه ه املو�ضوعات الأثرية لدى‬ ‫حممد مهر الدين‪ ،‬فمو�ضوعاته‪ ،‬مثال‪،‬‬

‫( حالة اختفاء) �أو ( ح�ضارة اال�ستالب) �أو ( حالة �سلبية) �أو ( هام�شيون) حتدد لنا زاوية الر�ؤية عنده‪:‬‬

‫�أي �أفكاره ب�صدد املو�ضوعات املختارة وملن حماولة الفنان لر�سم مالمح ا�سلوبة تبقى بالدرجة الأوىل الأكرث �أهمية يف ر�ؤيته وجتاربه الفنية‪ ،‬فالفنان مل‬ ‫يدر�س ويحلل الفن‬

‫( الغربي) التقدمي املعا�صر‪� ،‬أو يهمل الطبيعة من غري ق�صد �أو وعي‪ ،‬و�إمنا هو فعل ذلك متثال لنواياه ال�شخ�صية الإبداعية‪.‬‬

‫ولنتوقف هنا عند هذا اجلانب‪ :‬فهو اعتمد �إ�شكال الع�صر‪� ،‬أو لنقل �أنه ركز على الإن�سان ببعده املعا�صر �ضمن مناخه الواقعي املبا�شر‪ ،‬فهو‬ ‫اعتمد الفوتوغرايف الن هذا الفن ي�شخ�ص وثائقيا احلدث اخلارجي كذلك فهو �أعتمد البناء الفني القريب من املل�صق والدرجة التي حتولت العديد‬ ‫من �أعماله �إىل ( مل�صقات) ال غاية لها �إال الإعالن عن ( االغرتاب) بالطبع هو ال يدعو �أو يقوم بدعاية �إىل ( فلم) بهذا اال�سم كذلك ف�أن فعل‬ ‫الإعالن هنا يك�سب ت�أثريه من خالل ت�سليط ال�ضوء على اجلوانب النف�سية ال�شائكة لق�ضايا الإن�سان املعا�صر‪ ،‬بالتايل فهو اعتمد الرموز املعا�صرة‪،‬‬ ‫الإله‪ ،‬الف�ضاء والأ�شياء الكثرية التي تنتمي �إىل العامل ال�صناعي �أو امل�صنع على حد �سواء‪ ،‬فالعامل �ألكابو�سي الذي خلقه‪ ،‬هو عامل داخلي حما�صر من‬ ‫اخلارج والدرجة التي دفعت بالفنان �إىل �إجراء تغيري يف تقنيته القدمية‪ ،‬فهو يف هذا املعر�ض مل يعتمد التكنيك ( البارز) و�إمنا اكتفى بالر�سم مبادة‬ ‫واحدة توحي بامللم�س اخل�شن متاما مبعنى �آخر فانه حاول �أو يخل�ص لطبيعة الر�سم الكال�سي‪ ،‬ويف الوقت نف�سه �أن يتحرر من التقاليد املعروفة‪ ،‬وهذه‬ ‫املحاولة بحد ذاتها جتعلنا �إزاء جوانبه الذاتية �أو ال�شخ�صية‪ ،‬ف�إذا كان الفنان قد ت�أثر بالفن العاملي ( الغربي بالذات) فانه يف ذات الوقت حاول �أن ير�سم‬ ‫مالمح �أ�سلوبه لي�س من خالل التقنيات �أو الأ�سلوب الذي ك�شف عنها‪.‬‬ ‫فالأ�سلوب الهند�سي‪ ،‬العلمي‪ ،‬ومن خالل توزيع الكتل‪ ،‬وتكرار النماذج ذاتها‪ ،‬واال�ستفادة من فن ال�سينما والفوتوغرايف‪ ،‬ور�سم املالمح املعقدة‬ ‫للذات املغرتبة‪ ،‬كلها تك�شف عن خ�صائ�ص �أ�سلوب حممد مهر الدين‪ :‬الأ�سلوب الواقعي النقدي الذي به در�س الإن�سان بالدرجة الأوىل‪ :‬الإن�سان يف‬ ‫حاالته املتعددة‪ ،‬التمزق‪� ،‬أو ذلك الت�شخي�ص ال�صارم املخيف الذي يختفي �أو يتال�شي الر�أ�س فيه‪ ،‬وثمة �شبح دائم للظالل الداكنة للإن�سان املختفي‪� ،‬أو‬ ‫ذلك الرمز لبندقية االغتيال‪.‬‬ ‫�أن فن حممد مهر الدين‪ ،‬برمته‪ ،‬ينتمي‪� ،‬إىل الفن ال�سيا�سي‪ ،‬وهذا البعد بذاته ي�شكل بداية جديدة للفن املعا�صر يف العراق‪ ،‬فاحلرية اخلالقة‬ ‫التي جعلت الفنان �أن يدين (اغرتاب) الإن�سان هي التي منحته قدرة على ر�سم مالمح الأ�سلوب املعا�صر بلغته اجلديدة‪ ،‬ولكن ثمة م�شكلة �أ�سا�سية تلفت‬ ‫‪140‬‬


‫بتمكن تعي�ش يف مكان خال من الهواء‪ ،‬بل هي تعي�ش ت�أزما م�ستمراً �إزاء اخلارج �أو املحيط الذي دمر ذلك النقاء الروحي للذات‪.‬‬ ‫وهكذا يتحول الت�أزم بكل �إبعاده �إىل فعل الكامريا التي متتلك �أجهزة ح�سا�سة تقرتب �أو متاثل ذكاء الإن�سان وهو يحدق مذعورا ولكن بهدوء‬ ‫تام‪� :‬أن هذا الفعل الذي ي�صور ت�شتتات اجل�سد ذاته يجعلنا �أمام االغرتاب و�سط املدينة ( احل�ضارة) ال�صناعية‪ ،‬فالذات عنده ت�ستحيل �إىل‬

‫( رمز)‬

‫يقوم ب�إ�ضفاء طابع الإن�سانية على العمل الفني برمته‪ ،‬ولكنه رمز حلرية �سلبت و�سط املحيد احلديدي‪ ،‬ولعل الفنان مل يبالغ قط يف تقنياته ور�سمه‬ ‫لل�شكل الإن�ساين ك�شكل مياثل الآلة احلديدية ولكن املفككة �أو املتناثرة‪� ،‬أن الفنان هنا يذهب عميقا ب�أداته لإدانة عالم ( الغرب) عندما ي�صور عامل (‬ ‫الذرة‪ -‬الف�ضاء) الذي يقف م�ضاداً للروح �أو حلريات الذات امل�شروعة‪.‬‬ ‫�أن ا�ستلهام نظام الفنان ( الغربي) التقدمي عنده‪ ،‬هو حماولة ذات جوانب متعددة‪ ،‬منها �أنه حاول �أن ير�سم لنا بع�ض تفا�صيل ذلك العامل‬ ‫( االغرتابي) ال�شائك‪ ،‬ذلك املناخ الذي ي�ستحيل فيه الإن�سان �إىل ( جزء) من �أ�شياء تتحرك �أو تعمل �ضمن ( اال�ستالب) العام‪ ،‬ومنها �أنه يك�شف لنا‬ ‫عن اجتاه فني به ميكن �أن حتلل ونحدد موقفنا من ذلك املناخ‪ ،‬بالطبع �أن حممد مهر الدين‪� ،‬ضمن هذا االجتاه العاملي‪ ،‬ال يقلد �أحد الفنانني‪� ،‬أمنا‬ ‫هو يحدد معامل �أ�سلوبه ب�أفق واقعي نقدي‪� :‬أفق يجعلنا نت�أمل هذا الواقع الذي ي�ستحيل فيه املناخات الداخلية مك�شوفة ووا�ضحة العامل‪ ،‬وهو الأفق‬ ‫الذي يجعلنا �أكرث قربا �أو تعاطفا مع بحث الذات عن حريتها‪� ،‬أو يف خال�صها من القيود‪� ،‬أن هذا البحث ( التجريبي) عند الفنان‪،‬قد ال يفهم ب�صورة‬ ‫لالعتبارات ال�سابقة‪ ،‬ولكن درا�ستنا للجوانب الأخرى جتعلنا ن�سهم بتحليل قيمة هذا االجتاه يف فنيا العربي املعا�صر‪.‬‬

‫بعيدا عن الطبيعة‬ ‫هناك �ضمن طبيعة الر�سم املعا�صر يف العراق‪ ،‬ظاهرة ا�ستلهام الفنان للطبيعة‪� ،‬أو الر�سم ببعد تكون فيه الطبيعة خلفية ملو�ضوعات الر�سام‪،‬‬ ‫مبعنى �آخر هناك مناخ بدائي �أو تلقائي حاول فيه الر�سام العراقي املعا�صر �أن يحدد �أبعاده و�إبراز‪ ،‬م�شكالته ( الإن�سانية) ولكن ثمة ظاهرة �أخرى‪،‬‬ ‫الر�سام باملدينة ومعاملها وخفاياها قد منحته اجتاها �آخر يف الر�ؤية‪.‬‬ ‫وحممد مهر الدين الذي ابتعد كثريا عن الطبيعة‪� ،‬أن مل يكن قد �أنف�صل عنها‪ ،‬هو واحد من ه�ؤالء الفنانني الذين ي�شيدون جتاربهم بعيدا‬ ‫عن جماليات الطبيعة و�سحرها البدائي الفذ‪ ،‬مبعنى �أنه يعرب عن مرحلة متقدمة يف منح الفن خ�صائ�صه الأكرث قربا للمناخات املعا�صرة‪ ،‬فالفنان يف‬ ‫�إعماله كلها ال ي�ستنجد بالأ�سطورة �أو املا�ضي‪ ،‬بل هو يبد�أ من احلا�ضر ببعده ال�صريح واملنفذ بتقنيات ت�ستند �إىل العامل ال�صناعي‪ ،‬وقد يكون منطق‬ ‫الفنان الأول م�ؤثرا �أو حا�سما يف هذه القطيعة عن الر�سم �أو املحاكاة الطبيعة‪ ،‬ولكن حماولة الفنان ير�سم الأجواء النف�سية �أو الروحية للمدن هو‬ ‫الذي جعله يقيم حاجزا بينه وبني جماليات الطبيعة‪ ،‬واجلماليات املكت�شفة عنده‪ ،‬باملعنى العام‪ ،‬لي�ست جماليات معروفة �أو تقليدية فهو هنا �إعماله‬ ‫يوعي يجعل من الإن�سان‬

‫( املغرتب) مو�ضوعا ملحا من مو�ضوعاته التي هي مو�ضوعات الع�صر‪ ،‬ومبعنى �آخر ف�أن املدينة فاملدينة العاملية حتى‬

‫الآن تطورت كثريا ولكنها بهذا التطور مل تلغ تطور ( االغرتاب) الإن�ساين‪ ،‬وبالت�أكيد ال ميكن مقارنة االغرتاب املعا�صر بالقدمي‪ ،‬لي�س ب�سبب حدة‬ ‫و�شمولية الوعي‪� ،‬أو ب�سبب ( ت�ضا�ؤل) الذات �إزاء املاكنة الكربى اجتماعيا �أو �سيا�سيا �أو دوليا فح�سب و�إمنا لأن احلا�ضر قد بدا ي�سري يف منحرفات‬ ‫ومتعرجات بعيدة كل البعد عن حتقيق التوازن النف�سي للذات بني ال�ضرورات وحرياتها الداخلية‪� ،‬أن ع�صرنا يقمع الرباءة يف مهدها وال مكان بالتايل‪،‬‬ ‫�أو فر�صة ال�سرتجاع �سر و�سحر الطفولة ذاتيا �أو تاريخيا! �أن حممد مهر الدين الذي يعي�ش وير�سم اغرتاب الإن�سان ح�ضاريا و�سيا�سيا �شخ�ص ذلك‬ ‫بعيدا عن مناخ �أو عنا�صر الفن الأوىل‪� ،‬أي هو يبد�أ من متزقات (الذات) يف ع�صر حمكم االنغالق‪ ،‬ورمبا من هنا يالحظ بجالء ب�أن مناذجه م�ؤطرة‬ ‫وحمددة ومر�سومة بق�سوة ت�صدمنا بتال�شيها وبعذابها الداخلي فهي وا�ضحة عامة لكنها حتيلنا �إىل املناطق املفرغة من الهواء‪� ،‬أن عامل الفنان ي�شكو‬

‫‪139‬‬


‫االن�سان وم�شكالت االغرتاب‬ ‫يقرتح الفنان حممد مهر الدين يف معر�ضه الرابع ( قاعة الرواق ‪ )1980-9-18‬عدة معاجلات تدخل يف �سياق ا�سلوبه الفني الذي حر من‬ ‫ان يجعله خمتربا عاما لدرا�سة احلاالت وامل�شاهد واملنازمات بابعادها املختلفة فكريا وفنيا‪ ،‬وعلى وجه اخل�صو�ص من نراه هنا يحدد ثالث ق�ضايا‬ ‫اولية ت�شتمل على حتديدات اخرى متائل منهجه ( الفني‪ /‬النف�سي) بجعل اللوحة ( �صدمة) للراثي‪ ،‬ومدخال عربه يكت�شف املحيط �أو امل�سببات لتلك‬ ‫احلاالت املعقدة وال�شائكة‪.‬‬ ‫اوىل ق�ضاياه التجريبية هنا‪� -‬أ ومغامرته ال�شائكة‪ -‬انه تخلى من االجتاه ال�شائع بالر�سم العربي املعا�صر يف حماولة الجناز لوحة ذات‬ ‫بعد كوين‪ ،‬الق�ضية الثانية �أنه ابتعد عن معامل الطبيعة من اجل ت�سليط ال�ضوء الداخلي على الكيان الب�شري والق�ضية الثالثة تكمن يف حمتاولته‬ ‫ال�ستخال�ص نتائج عرب العام‪ /‬اخلا�ص‪ :‬ذلك من خالل ت�شخي�ص احلاالت ال�شائكة االكرث متثيال القلق املعا�صر‪ ،‬ومن خالل جعل اللوحة مر�آة‬ ‫(تركيبية) نتجمع فيها عدة ابعاد بتج�سيد حالة ما من احلاالت االن�سانية‪ ،‬ي�ضاف اىل هذه النقاط ان حممد مهر الدين‪ ،‬ي�ستخدم االن�سان (�شكال)‬ ‫و(معنى) للتعبري عن الت�أزمات النف�سية وملنح الفن بعدا معا�صراً‪.‬‬

‫نظام العمل الفني‬ ‫يغامر الفنان بانتمائه اىل ا�سلوب يحاول به ان يكون معا�صرا لي�س النه يف�صل جتربته عن امل�سار العام للحركة الت�شكيلية العربية وامنا‬ ‫النه ي�ستمد جتربته من �صميم نظام التعبري ( الغربي) ال�شائع الآن يف اوربا‪ :‬انه النظام الذي يتحول فيه الإن�سان �إىل (متهم) واىل ( رمز) للحرية‬ ‫فالإن�سان يف لوحات حممد مهر الدين‪� :‬ضحية‪ ،‬ومتهم‪ ،‬وخارج عن القوانني‪ ،‬بهذا االجتاه امل�سمى بالواقعية النقدية يكت�شف الفنان توا�صله الفني‬ ‫يف حتديد مو�ضوعاته‪ ،‬و�إذا تركنا تفا�صيلها ف�أن املناخ الذي يخلقه الفنان يبقى هو املناخ ال�شديد االقرتاب‪ ،‬مثال‪� ،‬إىل الرواية ال�سيا�سية �أو الفلم‬ ‫ال�سينمائي اجلديد‪ :‬فهذا املناخ املعار�ض ال�شائك يجعلنا وجها للوجه �إزاء الإن�سان ( الفرد) املحا�صر‪ ،‬املنتهك‪ ،‬وال�ضائع‪ ،‬ولكن الذي تتحدد مالمح‬ ‫قوته بحفاظه على مقاومته الداخلية املرت�سمة بالإبعاد اجلمالية‪ ،‬والفنان ينقلنا �إىل ( الكوين) بدل �أن يكت�شف البعد الكوين يف احلاالت ينفرد باجتاه‬ ‫( حملي) خا�ص‪ ،‬لي�س لأنه ي�ستلهم نظام العمل الفني ( الغربي) فقط بل لأنه يحاول �أن يكت�شف البعد الكوين يف احلاالت الإن�سانية ال�شديدة‬

‫(‬

‫التعقيد‪ ،‬هنا مثال‪ ،‬نراه يفكر ب�أ�سلوب له جمالياته اال�ستثنائية‪ ،‬وحاالته التي جتعل من �أ�شالء الإن�سان‪ ،‬بقايا دمار وخراب م�شرتك بني اخلارج‬ ‫والدخل‪ :‬فاملحيط الذي ي�شخ�ص معامله املتعددة يقرتب من مناخ املدن ال�صناعية املزدحمة والتي فقدت فيها ( احلريات) الذاتية �آخر جذر لها بالعامل‬ ‫ال�سابق‪ ،‬عامل احللم �أو الأ�سطورة‪.‬‬ ‫فمحمد مهر الدين يحاول قلب معادلة ا�ستلهام املا�ضي بتحديد �شديد ال�صرامة للحا�ضر برموزه ال�صناعية ومبناخه ال�سيا�سي املعقد‪ ،‬ولعله‬ ‫لهذا ال�سبب ك�شف عن اجتاه بعلم النف�س يخ�ص هذا املناخ والذي ميكن ت�سميته بعلم النف�س ( ال�سيا�سي) مبعنى �آخر ف�أن الفنان‪� ،‬ضمن امل�شكالت‬ ‫العامة‪� ،‬سعى لتحديد لغته الفنية مبنح املو�ضوعات املعا�صرة بعدا ين�سجم بالبحث عن احلرية و�سط عامل مغلق خمنوق‪ ،‬ال نوافذ فيه وال �أبواب‪� ،‬أو‬ ‫نوافذ و�أبواب مغلقة‪.‬‬ ‫�أن جماليات ال�شكل الفني عنده تعيدنا بقوة �إىل احلا�ضر بكل ق�سوته‪ ،‬ورمبا لهذا نراه قد ابتعد عن تذكر الطفولة �أو احللم‪ ،‬و�إمنا اكتفى بوعي‬ ‫مق�صود �صارم �أحياناًَ‪ ،‬بتحديد املالمح املبا�شرة والداخلية للحا�ضر‪ ،‬واحلا�ضر عنده هو �أ�سا�س الواقعية النقدية �أو االنتقادية‪ ،‬فالإن�سان‬

‫( املتهم)‬

‫�صمن احل�ضارة ال�صناعية‪� -‬أي غري امل�صنعة!‪ -‬يتوزع �أ�شالء متناثرة بني ال�ضرورات بعيدا عن هواء احلرية النقي‪� ،‬أن مناذج حممد مهر الدين املنفذة‬ ‫‪138‬‬


‫وللتحذير من انف�صالهما‪ .‬لنقل انها جملة فيها من جملة ال�شرط وظيفة الرتابط التي ال ترقى اىل احلكم‪ .‬فامل�سافة بني الر�سام واللوحة من املمكن‬ ‫ان تقا�س ولكن ببعد ت�شكيلي امنا ببعد نف�سي‪ ،‬هو جتربة الر�سام الذي وجد مبادرته واجنرف وراء‪ ،‬الك�شوفات التي حتثها املمار�سة احلرة وا�ستدراكاً‬ ‫على هذا فان طريف اجلملة اال�سمية �شعر الر�سام ( املبتدا) و‪ :‬نرث اللوحة ( اخلرب) ال يحتاجان الال �ضمري الف�صل فنقول ( �شعر الر�سام هو نرث‬ ‫اللوحة) ان ال�ضمري (هو) من مكونات اجلملة لغويا‪ ،‬يف حني متثل الفارزة املنقوطة عالقة وف�صال رقيقني لي�سا انتاجا لغويا‪ ،‬بل ا�شارة غري لغوية‬ ‫يجب تنا�سبها اىل وقت التذكري بها‪ ،‬فالر�سام ي�صمم اللوحة قبل ان يبدا باجنازها‪ ،‬وقد يتمرن على ايقاعها انه حا�ضر يف هذه اجلوالت الت�صميمية‬ ‫وهي ملا تنفذ‪ ،‬وقد يكون التمرين وال تكون اللوحة‪ ،‬يف التمرين يوجد االنتظار اما يف التنفيذ فالوجود طاغ‪ ،‬ان الوجود الطاغي للوحة قد ال يخطر‬ ‫بالتمرين الذي �شدد عليه الر�سام ليكون عمله مرئا ان مايبقى من الر�سام يف لوحته هو ا�شاراتها اال�سلوبية وال�ضمري الذي اليزال موغال يف االبهام‬ ‫�ضمري التقنيات املتذبذب بني انا الر�سام وهوية اللوحة بني ارادة الر�سام ونية ال�شكل حيث ترتب�ص بهما املمار�سة احلرة‪.‬‬ ‫يو�ضع اللون لكي يغيب يف تدرجاته التي يلطخها ببقعة من�شطة ثم يجهز عليها بالطيات التي تبدو وكانها تنقيبات اللون عن تياراته املن�سية‬ ‫هذا النب�ش يف ال�سطح الت�صويري هو �شوق حممد مهر الدين اىل جتربته امل�ستعادة انها تكراره ( مع غري ذلك من العالقات اال�سلوبية الكثرية يف عمله‬ ‫املكتظ) الذي يخت�صر �شاعريته يف لوحة لي�س فيها تناظر مامول ( حيث النرث يف تقدمه املت�شعب)‪.‬‬

‫عبد الرحمن الطهمازي‬

‫‪137‬‬

‫‪mixed media on paper - 40 x 50 cm - 2006‬‬


‫�شعر الر�سام نرث اللوحة‬ ‫‪ -1‬ان مالحظاتي االتية‪� ،‬ش�أنها يف ذلك �شان تعقيبات كتبتها على لوحات معرو�ضة للر�سام‬‫“حممد مهر الدين”‪ ،‬مل جتعلني متمكنا من و�صف الر�سام و�صفا قاطعا بانه ر�سام جتريبي‪ ،‬وهذا ال يعني انني ا�ستنكر مثل هذا الو�صف؛‬ ‫ولكنني اختار اجلزء االيجابي من الو�صف‪ ،‬اختيارا قد ال ا�ستطيع الدفاع عنه‪� .‬س�أقول‪ :‬ان الر�سام مبادرة‪ ..‬والبد ان يكون يف قولنا‪ :‬ر�سام جتريبي‪،‬‬ ‫معنى املبادرة ا�ضافة اىل موحيات يت�ضمنها البحث‪ .‬وكانت الناقدة “مي مظفر” قد ا�ستولت على التجريبية ا�ستيالء تاما بو�ساطة كلمة “””‬ ‫البحث””””” فقالت وهي تختتم تقدميها ملعر�ض الر�سام عام ‪ “ “ : 1989‬حممد مهر الدين فنان جتريبي وال�شك‪ .‬وهذا �شانه دائما‪ ،‬ال الن‬ ‫مقت�ضيات الفن احلديث تتطلب ذلك ولكن النه هو ذاته ت�ستحوذ عليه روح البحث “ “ لي�س الهدف هو مقاطعة الناقدة‪ ،‬الن كلمة “ “ مبادرة “” “‬ ‫اليوجد فيها ما يعرت�ض كلمة “ “ بحث “ “‪ ،‬بل يوجد فيها ما ي�ؤيد �سريورة البحث‪ .‬مع ان يف كلمة مبادرة اجتاها اخر‪ .‬وهو الذي �سماه الر�سام‪ ،‬كما‬ ‫جاء يف تعزيزة النافدة لرايها بقوله‪ “ “ :‬انني االن ابني اللوحة واح�س من خالل ممار�ستي احلرة على ال�سطح باين اندفع نحو العمل م�ستمتعا مبا‬ ‫تطرحه العملية امامي من ك�شوفات” “ ‪.‬‬ ‫ان الر�سام‪ ،‬كما يرى نف�سه‪ ،‬ميار�س النطا�سة ويتذوق مفاجات املمار�سة احلرة‪ ،‬ولكنه يف النهاية يلتزم بخواطره وطرائفها‪ .‬هذا اجلمع بني‬ ‫البناء واملمار�سة احلرة على ال�سطح الت�صويري هو الذي يهيء العمل مل�شاهدة م�ضاعفة‪ :‬ان نعاين البناء على انه اال�سا�س املتني اخلفي اىل حد ما‪،‬‬ ‫وان نثق باملمار�سة احلرة من حيث كونها ا�ستطرادات‪ .‬ان عنا�صر عديدة‪ ،‬وا�ساليب مرتابكة ‪ ،‬وتلوينات مو�سوعة‪ ،‬وطيات تراكمية (املحو وبعث اخلط‬ ‫والكتلة‪ :‬خا�صة الطر�س”) والتمثيل املق�صود لل�شخ�صية يف كل لوحة( �شظية‪ ،‬او ينزك‪،‬او عمود‪ ،‬متثلها كتلة خلط حيوي منب�سط ا�شبه بالر�سوم)‪،‬‬ ‫هذا كله اليداع الناقد اال البحث يف “ “ بحث “ “ الر�سام‪ ،‬اما امل�شاهد‪ ،‬فلي�س اقل اميانا من الناقد بان ما ي�شاهده امنا هو ت�ضمني لعدد من التمريات‬ ‫التجريبية‪ .‬اما الر�سام فان �شكوكه متفاوتة مع البحث‪ ،‬فاملمار�سة احلرة على ال�سطح تطرح” ك�شوفات” �ضرورية للمتعة‪ .‬مرة يتقدم عمله وهو‬ ‫يبني(هذه اول مرة ) – ومرة يتقدمه عمله وهو يتحرر يف املمار�سة( ولي�ست هذه اخر مرة )‪.‬‬ ‫‪ -2‬هل كل مبادرة هي مبادرة جتريبة ؟ ‪.‬‬‫تنطوي التجربة على ايقاع وهمي حني يظل املجرب متم�سكا ب�صواب انطباعه النف�سي وحتوله اىل فكرة ت�ؤدي اىل عقيدة قطعية (دوغما)‬ ‫مفادها‪ :‬اننا ما دمنا جنرب فنحن على �صواب‪ .‬وهكذا فان كل جتربة ما دامت و قعت فهي �صحيحة ‪� ،‬أي ان امكانية الرتاجع عن التجربة لي�ست‬ ‫موجودة‪ .‬ولكن هذا االيقاع ي�صبح الزما حني يتجلى ويربهن على نربته يف حتقيق متوا�صل‪ ،‬فااليقاع النف�سي للتجريبية يتحمل و�سوا�سا ال ي�سمح‬ ‫بالنظر اىل الرتكة اال على ا�سا�س اعادة انتاحها وا�ستئنافها‪ .‬لكن املبادرة تتك�شف عن ازاحات وتقدم ‪ .‬فالعقيدة التجريبية تزاح من قبل املبادرة‪ .‬ان‬ ‫تقدمي مبادرات عديدة �سي�ساعد على نقل التجربة اىل حدود جديدة‪ ،‬وهنا تكون املبادرة عبارة عن نقد للتجربة باملعنى الذي نق�صده من النقد‪ :‬اعادة‬ ‫تركيب التجربة‪ .‬ان االنتقال من “ “ البناء” “ اىل “ “ املمار�سة احلرة “ “ على ال�سطح هو ال�شئ الذي يقوم به الر�سام “” “ حممد مهر الدين “ “‬ ‫لكي ي�ضمن اال يحدث ما يعرقل االبداع وم�ستوى االبداع النهائي للوحة ما‪ ،‬باخلربة التي هي تراكمية تعد لالبداع الذي هو كيفي‪.‬‬ ‫التجربة تت�ضمن �شيئا كبريا من التكرار؛ اما االبداع فانه عر�ض من التقدم الذي ال يتوقف‪( .‬هنا هو جمال الت�شبيه بني �شعر الر�سام ونرث‬ ‫اللوحة‪ .‬بني االيقاع الذي يوفره مترين حثيث والنرب الطريف‪ .‬ان العمل على اللوحة ي�سجل �صراعا بني االيقاع والنرب‪� .‬صراع ال ميكن ت�صوير‬ ‫نتيجته على انها ازاحة طرف لطرف اخر‪ ،‬ولكن على انها بقاء متعلقات ال�صراعن فالر�سام ميثل جتربته واللوحة تخرب بتجربتها)‪.‬‬ ‫‪ -3‬ان عنوان هذه املالحظات هو جملة ا�سمية يف�صل طرفيها فا�صل �شكلي( الفارزة املنقوطة ‪:‬؛ )‪ .‬للتحوط من التحام املبتد�أ باخلرب‪،‬‬‫‪136‬‬



‫وكنت تتبني ا�سلوبا يجعل �سطح اللوحة حقال للتجريب‪ ،‬با�ضافة مواد نحتية‪ ،‬كاخل�شب واال�سمنت والرمل مثال‪ ،‬وكانت لك الريادة يف تعزيز‬ ‫هذا االجتاه يف الر�س‪ ،‬ما امل�ضامني التي كنت تبتغيها من هذا التجريب؟‬ ‫لدى عودتي من بولونيا عام ‪ 1976‬كنت امار�س التجريب با�ستعمال مواد خمتلفة‪ ،‬بغية التو�صل اىل طريقة تعبري متيزين وجتعلني قادرا‬ ‫على التعبري عن م�ضامني ذات متا�س باحلياة املحلية والعاملية التي تتمثل بدور االن�سان‪ ،‬وحماوالت ا�ستالبه وتغريبه‪ ،‬كانت اعمايل �آنذاك ذات طابع‬ ‫م�أ�ساوي ا�ستخدمت اال�سود وم�شتقاته واالرزق وم�شتقاته‪.‬‬ ‫نرى يف اعمالك احلديثة ثراء وتنوعا يف امل�ساحات امللونة‪ ،‬و�أثارة امل�شاهد با�شارات وخطوط غري متوقعة‪ ،‬هل هي حماولة هدم ملا اجنرته؟‬ ‫الفنان �أو االديب ي�سعى دائما اىل �صقل جتربته‪ ،‬وجعلها اكرث ت�أثريا وتطورا فهو ميدها دوما بعنا�صر جديدة‪ ،‬ويدخل عليها رموزا وا�شكاال‬ ‫ونهجا اكرث معا�صرة‪ ،‬كانت اعمايل يف فرتة ال�سبعينات والثمانينات مبا�شرة تقرتب من املل�صق اجلدراي ( البو�سرت) الفوتوغراف‪ ،‬الكوالج وكنت‬ ‫اعتمد الت�شخي�صية �آنذاك غري ان اعمايل احلالية تتمثل فيها ا�شارات ورموز عن االن�سان ( اثر االن�سان) مع اهتمام اكرث بالبناء املعماري ( الت�شكيل)‬ ‫يف بناء اللوحة‪ -‬فهو اذن اختزال‪ -‬لوحاتي ال متنح نف�سها ب�سهولة للم�شاهد‪ ،‬فهو يحتاج اىل م�شاهدتها عدة مرات بغية التو�صل اىل رموزها وعلى ما‬ ‫اعتقد ان هذه العملية تربوية‪ ،‬تتطلب من امل�شاهد بذل جهد اكرب للتو�صل اىل معرفة اللوحة‪� ،‬أو م�ضمونها ان اراد‪ ،‬ميكنك القول ان فني للنخبة كما‬ ‫هو حال اغلب االعمال االبداعية ذات اجلهد امل�ضاعف‪.‬‬ ‫بع�ض من الفنانني ت�أثر ب�أ�سلوبك يف بناء اللوحة‪ ،‬وحتميلها اكرث من رمز وم�ضمون والآخر اختط لنف�سه ا�سلوبه اخلا�ص‪ ،‬ما تقييمك للفنانني‬ ‫الذين بنوا ادواتهم وا�ساليبهم اخلا�صة بهم؟‬ ‫هناك بع�ض الفنانني ال�شباب ممن حاولوا ان ينهجوا نف�س اال�سلوب خالل فرتة ال�سبعينات‪ ،‬عندما كنت ت�شخي�صيا وكانت غالبية املوا�ضيع‬ ‫يف تلك الفرتة لها عالقة بالواقع املعا�ش‪ ،‬ومعظمها تتناول ق�ضايا التكنولوجيا احلديثة بوجهيهما املختلفني‪ ،‬االن�ساين والتدمريي‪ ،‬وقد زالت تلك‬ ‫الت�أثريات لتطور ادواتي يف ( بنائية اللوحة ت�شكيليا) واالغرتاف من التجريد‪ ،‬واالبتعاد عن امل�ضامني الوا�ضحة وهناك بع�ض الفنانني من جيل‬ ‫الثمانينات اختطوا م�سارهم ال�صحيح يف احلركة الت�شكيلية العراقية‪ ،‬وقد قدموا اعماال جيدة ومثرية منهم كرمي ر�سن‪ ،‬هناء مال اهلل‪� ،‬ضياء اخلزاعي‪،‬‬ ‫اميان عبد اهلل غ�سان غائب و�آخرون‪.‬‬ ‫يف ال�ستينات ت�شكلت يف العراق اجتاهات وجتمعات ادبية وفنية‪ .‬وكان هناك جيل ر�صني من الفنانني الت�شكيلني ال زال ي�ؤثر يف ال�ساحة الفنية‪.‬‬ ‫هل ح�صل ه�ؤالء على فر�صهم يف اي�صال اعمالهم ومعار�ضهم خارج العراق‪ .‬ومدى ا�ستقبال االخرين لهم‪.‬‬ ‫نقدر ان نقول ان اف�ضل ما قدم للحركة الت�شكيلية العراقية كان على يد فناين ال�ستينات‪ ،‬لتنوع ا�ساليبهم التعبريية‪ ،‬وامل�ضامني الفكرية التي‬ ‫تناولوها وت�أثروا بها‪ .‬مع انهم مل ين�سوا ابدا اجلانب الرتاثي واالبداعي �ضمن امل�سمار مع احلركة الت�شكيلية العاملية‪ ،‬وهذا ا�ستنتاج ينطبق على معظم‬ ‫فناين ال�ستينات يف البلدان العربية‪.‬‬ ‫وقد برزت يف تلك الفرتة جتمعات فنية اغنت احلركة الت�شكيلية(جماعة الر�ؤية اجلديدة وجماعة املجددين وجماعة البعد الواحد)‪ .‬وال يزال‬ ‫هذا اجليل امل�ؤثر يت�صدر احلركة الت�شكيلية‪ ،‬رغم كل ما بذل من حماوالت التعتيم على ن�شاطهم االبداعي‪ ،‬وتهمي�ش دورهم النهم مل ين�ساقوا مع‬ ‫التيار ال�سائد‪ ،‬تيار اخ�ضاع الفن لغري غاياتها‪.‬‬ ‫نقر�أ او ن�سمع عن معار�ض لفنانني عراقني يف اخلارج‪� ،‬سواء يف اوروبا او بقية دول العامل‪ .‬منهم من ا�صبح ا�سما المعا يف قائمة الفن الت�شكيلي‬ ‫العاملي ومنهم من بقي ي�شتغل على همه الذاتي وهم اغرتابه‪ .‬من باعتقادك من ه�ؤالء الفنانني ا�ستثمر فر�صته وطور ا�ساليبه اخلا�صة؟‬ ‫‪134‬‬


‫فراغا وال يتبناه هكذا يرد قرننا الفني على القرن ال�ساد�س ع�شر فنيا‪ ،‬ال م�ساحة بل فراغ‪ ،‬ال بعد ثالث امنا �سطح‪.‬‬ ‫لنكف عن ال�ضغط على العمل الفني‪ ،‬كفانا تعري�ضه لرحمة امل�شتقات الالفنية‪.‬‬ ‫العمل الفني‪ ،‬من خالل جتربته يف بلدنا‪ ،‬يحتاج اليوم‪ ،‬اكرث ما حتتاج‪ ،‬اىل اعادة التذكري مبا ي�سبق االرجتال والتقلي�صات املرتجلة وم�ساومات‬ ‫اجلهل املري�ض والوجدان الكاذب ما عرفه “ مهر الدين” من جترية ال�ستينا‪ ،‬التي هي جتربة انطالق اكرث منها جتربة بناء‪ ،‬هو ان ايجاد خمرج‬ ‫للوحة من �ضغط املواد املختلفة يكمن يف املحاكاه‪ ،‬حماكاه املواد لذاتها لي�س اقل من حماكاتها لغريها بل اكرث‪ ،‬وهكذا تكون احلياة الالع�ضوية للفن‪،‬‬ ‫احلياة التي تفلت من الوثيقة ( القرب) اىل امل�شهد (املتحف) تعاك�س احلياة الع�ضوية التي ي�ضربها الزمن وال يتناوب عليها الرتميم واحلفظ‪.‬‬ ‫كيف يتم تخلي�ص ال�سطح الت�صويري من �سطوح اخرى تزاحمه‪ ،‬وتنفذ اليه‪ ،‬تخلعه؟ عليه ان يتك�أثر مبحاكاة املواد املختلفة‪ ،‬بتنمية ال�سطح‬ ‫والعمل يف حذافريه (االعايل واجلوانب) ا�ضافة اىل االعرتاف بان الو�سائل واملوا�ضيع وامل�ضامني واال�ساليب ال متثل املواد امل�ستقلة وهذا هو ما يجعل‬ ‫احلداثة مهتمة مبا ن�سميه بحثا �صريحا و�ضمنيا للفن‪.‬‬ ‫ما هي وجهة النظر يف اللوحة الواحدة؟ ان جترنيها غري ممكنة الت�صحيح بلوحة اخرى‪ ،‬املمكن وال�ضروري هو تكثري التجربة باالنتقال اىل‬ ‫العمل على لوح �آخر بعد غلق التجربة ال�سابقة باالطار الن�سبي‪ ،‬وعلى هذا النحو يتم التكرار والتقدم على حد �سواء‪� ،‬أي تقوم اللوحة بتمثيل ال�شعر‬ ‫والنرث على التوايل‪ ،‬اذ جاز الت�شبيه فازاحة ال�سطح الت�صويري تتم مب�ستويني كمي ونوعي ‪:‬االول‪ :‬هو تناوب ال�سطوح على �سطح واحد ‪،‬واثاين هو‬ ‫ايجاد �سطح م�ساعد(جماور)‪ ،‬اما االنتقال من لوحة اىل اخرى فهو منا�سبة لتحكم اال�سلوب‪.‬‬ ‫يبدا الر�سام “مهر الدين” باختبارات متعددة للوح الذي �سري�سم فيه وعليه ؛قد يغ�سله قبل ال�صبغ او بعده‪ .‬قد يقوم بهما قد يدعكه �أو‬ ‫يفركه �أو يفككه‪ ،‬وقد يرتكه كما هو‪ ،‬ويف كل االحوال �سيمار�س عليه ن�شاطا متناوباً مرة تلو �أخرى‪ ،‬قد يكرر التكوين كله‪ ،‬وقد يعمل على جزء من‬ ‫اللوح‪ ،‬واقل على جزء لكن ما يعمله على الدوام هو التلوين املو�سوعي‪� ،‬سواء باملواد املختلفة او االلوان املختلفة اما اال�ساليب فقد بات معروفاً بعدد‬ ‫كبري من التمويهات اكرثها �شهرة الل�صق واعادة الل�صق‪ ،‬او الكتابة املكررة على طر�س واحد‪ ،‬كتابة مت�سح نف�سها مب�سح �سابقتها‪� ،‬أن لوحته امل�شغولة‬ ‫بالتمام تظهر وك�أنها اجزاء موجزة ببخل ان �شيئا غري �صريح يحاول تذكرينا بان الفراغ مل يت�أثر بعد‪ ،‬االطياف اللونية املو�سوعية التي ال ت�صدمها‬ ‫ال�صريورات املتكاثرة للمو�ضوع تتحلل بانتقال التجربة تلقائيا على لوح واحد‪ ،‬او على الواح‪ ،‬لتن�ضيد املواد املختلفة وال�ستعرا�ض ارادة متفائلة وعقل‬ ‫ت�سميه الفل�سفية مت�شامنا!‬ ‫الفنان الت�شكيلي العراقي حممد مهر الدين‪ :‬لوحاتي ال متنح نف�سها ب�سهولة للم�شاهد‬ ‫يقول الناقد فاروق يو�سف عن معر�ض حممد مهر الدين االخري‪( :‬الفنان يلعب‪ ،‬ال رغبة يف خداعنا بل يف تي�سري خلوتنا اىل اجلمال النقي‪،‬‬ ‫ذلك اجلمال الذي لن نعرفة اال باال�ستعانة باجلماليني الكبار من امثاله‪ ،‬فكل ما ير�سمه مهر الدين نراه لأول مرة‪.‬‬ ‫وهو ال يذكرنا ب�شيء وال يعيدنا اىل �شيء نعرفه‪ ،‬والنه ينتمي اىل عامل خفي عنا فان اكت�شافه يكون بالن�سبة الرواحنا مبثابة عبور اىل الطرف‬ ‫الذي يكون بامكانها فيه ان تتلقى قدرا من �شحنات الرباءة والرقة‪.‬‬ ‫لقد عرب الفنان حممد مهر الدين عن ظرف وع�صر غريب و�شائك با�سلوب جمايل وح�ضاري رغم ق�ساوة الواقع وم�أ�ساوية االن�سان الذي‬ ‫يعي�شه‪ .‬هذا لقاء اجربناه يف عمان مع الفنان ذي التجرية الغنية التي متتد عرب ثالثة عقود ونيف‪ ،‬اقام خاللها احد ع�شر معر�ضا �شخ�صياً يف بغداد‬ ‫وعمان وتون�س والرباط‪ ،‬كما �شارك يف معار�ض جماعية مع فنانني عراقيني وعرب‪.‬‬

‫‪133‬‬


‫مبادرات الر�سام‪ :‬من الوثيقة‪ ...‬باجتاه املتحف‬ ‫منذ اكرث من خم�سة وثالثني عاما يوا�صل الر�سام العراقي “ حممد مهر الدين” عر�ض اعماله‪ ،‬يف معار�ض �شخ�صية وجماعية ويف �أغلب‬ ‫هذه العرو�ض كان قد نال اهتماما ي�ؤكد على ا�ستغالله يف البحث وعلى تطوير هذا اال�ستقالل‪ ،‬ثم ي�ؤكد على قدرته على مقاومة االرجتال الذي قد‬ ‫ي�ست�سيغه بع�ض الر�سامني يف العراق ال�سباب وظروف �شتى‪ ،‬ومعر�ضه االخري مع “فهمي القي�سي” يف اتيليه “نظر” ببغداد هو برهان جديد على‬ ‫تقدير “ مهر الدين” لفته وعلى البحث الذي ي�سعى فيه نحو احلداثة من غري في�ض من االدعاءات النظرية التي قد ت�ؤخذ على عدد من الر�سامني‬ ‫وعلى عدد اخر من االدباء والفنانني‪ ،‬ان االدعاءات النظرية‪ -‬وهي لي�ست النظرية التي متار�س ابداعا ما‪ -‬قد تركت هذا العدد غري القليل يت�سكع يف‬ ‫تكرار هو نوع من الق�صور الذاتي ال ت�ستطيع فيه التجربة �أن تنتج كميات نوعية �ضرورية ملتطلبات الفن املعا�صر‪ ،‬وال �أن تربهن على جدواها ومع ان‬ ‫انتاج “ مهر الدين” غري قليل من الناحية الكمية‪ ،‬وهو يعيد متثيل فنه يف الت�صميم والر�سم‪� ،‬سواء يف لوحة واحدة �أو يف اعمال منف�صلةن مت�سل�سلة �أو‬ ‫وحيدة اال انه ال ي�صنف مع االكرثية الزهيدة‪ ،‬بل ي�ؤخذ اجنازه على انه‪ :‬قيا�سي ومرجعي مرة واحد فهو من بني الر�سامني العراقيني القالئل الذين‬ ‫تقا�س اعمال غريهم باعمالهم‪ ،‬ثم ان للوحاته قابلية على ان تكون نقطة انطالق اللآخرين‪.‬‬ ‫قام هذا الر�سام بعدد من املبادرات التجريبية يف م�ستوى عمله اخلا�ص‪ ،‬ففي ال�ستبنات كان الطابع التمهيدي ابرز ما قام به م�شرتكا يف ذلك مع‬ ‫اغلب االنتاج الثقايف يف العراق حيث كان البو�سرت هو املنا�سبة لتنفيذ موهبته يف الر�سم وكان عليه ان ي�ضبط اللوح بقواعد الت�صميم التي وطات الن�شاء‬ ‫لوحة مطابقة لبحث ارقى وهو حماكاة الر�سام ملواده وموا�ضيعه بغ�ض النظر اىل حمتوى اللوحة من املراجع اخلارجية التي كانت لوحاته ال تخلو‬ ‫منها‪ .‬وهذا ما ات�ضح �شيئا ف�شيئا يف ال�سبعينات والثمانينات‪ ،‬يف حماولة العمل على ا�ستئناف اللوحة وا�سرتداد ال�سطح الت�صويري للر�سم وا�سبقيته على‬ ‫الت�صميم ف�صار ادخال الكوالج‪ ،‬اقل مع تزايد التلوين البديعي جامعا اجلنا�س اللوين والطباق معا وعلى نحو مبا�شر‪.‬‬ ‫ان االزاحة واال�ضافة امل�ستمرتني �صارتا ديدن “ مهر الدين” ولكنه تعلق اخريا بعدة تقنيات جتمتع يف لوحة واحدة‪ ،‬دون ان تتزاحم وت�ضغط‬ ‫على كامل العمل ي�ساعدة على هذا التوازن ال�صقل املثابر ملا قد يعلق باملوهبة منم �شوائب التعبري وا�ستطراداته وهذه ممار�سة خليقة ب�أن تكون وا�ضحة‬ ‫فيما يلي من مالحظات‪ ،‬خا�صة لدى ر�سام مل تتعرث خطواته برتاثه‪ ،‬حيث ميكن ان يكون الرتاث الطويل والكثري تركه معيقة ال ا�ستئنافا مرعدا‪،‬‬ ‫فما هي عنا�صر هذا ال�صقل واال�سلوب الذي يتكاثر ليجعل من العمل تلقائيا‪ ،‬بدل ان يطم�سه يف التف�صيالت؟ علما ان عدداً من النقاد ي�شريون اىل‬ ‫مثل هذا التهديد‪ ،‬الذي قد يومي‪ ،‬بت�أزم جرهري لر�سام يعاين من ذروة عمله‪ ،‬كان “ مهر الدين” قد زاول الكرافيك ثم الت�صميم نظريا وعمليا ( يف‬ ‫التعليم واملمار�سة) وهما غري بعيدين عن ت�ضمينات الت�صوير التي ت�صاعدت تختلج على ر�سلها لتبيان ا�سبقية الر�سم على اللون ومن بعد ذلك ا�سبقية‬ ‫اللون على التلوين ومن هذا ال�سرد‬

‫( التدريجي) كان الر�سام قد تخ�ص�ص حقا يف فنه انطالقا من الفن ب�شكل عام‪.‬‬

‫مل تكن جتربته االوىل‪ :‬اذن‪ ،‬متطرفة ونهانية لذلك ظل التطلع املزدوج للمو�ضوع والفحوى‪ ،‬ولال�سلوب واملادة بريئا من التق�صري‪ ،‬اما ق�صد‬ ‫الر�سام فقد كان يتجه اىل البلبلة واىل �شيء من ال�سراب‪ ،‬كل �شيء له عالقة ب�أي �شيء فمنذ اال�ضرحة التي �شيدها للحا�ضر اليائ�س من ح�ضوره‪ ،‬ا�شبع‬ ‫قناعته بالوجود الناق�ص الذي تقوم بالتعليق عليه جتربة مت�شددة تقول‪ :‬ان هناك بقية الي �شيء يف كل �شيء‪.‬‬ ‫وهذا هو اثبات الفنون حلقوق اال�شياء والقدرة على ت�أويل النق�ص‪ ،‬والت�شعب غري الفو�ضوي لالخطاء وفر�ص الت�صويت والتحمل املطلق‬ ‫للخيال‪.‬‬ ‫ذلك هو الربهان الفريد الذي ال نغلط اذا �سميناه اقرتاحا ان�سانيا مماثال للزمن الذي يتدحرج خلقنا فيما نهرول اىل االمام‪ ،‬فراغ يجهز‬ ‫‪132‬‬


a on canvas m - 2007

mixed media on wood - 150 x 150 cm - 2007 176

a on wood - 2007

131


‫واحتجاج ال يخلو من اتزان ومتر ر�صني وحاذق‪� ..‬أربعون عم ً‬ ‫ال وبقيا�سات خمتلفة ومواد هي الأخرى خمتلفة – زيت – اكر يلك – با�ستيل – و�أعمال‬ ‫كرافيكية اخت�صر بها الفنان مو�ضوع معر�ضه الأخري هذا حني �أطلق عليه (فخ العوملة) لي�ضعنا يف حمددات التفكري بهذا الدر�س اجلمايل‪ .‬متلياً‬ ‫وفح�صاً ودرا�سة تتبني منها منظومة الإجناز واالنحياز العياين – الب�صري ومن ثم الإف�صاح املعلن بروح خالقة ملوقف الفنان الإن�ساين �إزاء ق�ضايا‬ ‫العامل امل�صريية‪ ،‬لقد �سعى مهر الدين) للتعامل مع لوحاته بنف�س تلك الروح التي مل تعرف يوما الرتاخي والهدوء والت�أمل ال�سطحي‪ ،‬بل التجارب‬ ‫واالنخراط بتلون الأفكار وت�صميمها على ميزان وقوة احلدث الذي ي�صارعه الفنان بوعي وم�س�ؤولية خربتها ل�سنوات منذ قرابة الأربعني عاماً‪ .‬يف‬ ‫الأعمال الأخرية بهذا املحفل الإبداعي ي�سعى‪ ،‬بل ي�ؤكد تقريب وجه احلقيقة يف مرايا احلقيقة وهو يعيد ترتيب العالقات التي كان قد �أن�ش�أها الفنان‬ ‫منذ بواكري �إعالن مهمته واندفاعه و�أدمن هذا االندفاع حتى يف �أق�سى حاالت انعدام ال�سبل واحليل �أمامه‪� ..‬أن ما يفجر نقطة الرف�ض والبحث يف‬ ‫جوهر اللوحة‪ .‬املو�ضوع تنوع العزف وامتالك مهارات التعبري والتحم باختيار مركز املو�ضوع يف �أية م�ساحة ي�شاء �أو �أي نقطة يختارها‪ .‬ليمار�س‬ ‫�سطوة هذا الوعي الذي �أخذ بالتزايد واالندفاع كلما تقادم عليه الزمن ‪� ..‬أعمال (حممد مهر الدين) �صرخات متقطعة تارة �أو مت�صلة تنوء بثقلها‬ ‫تبعاً لكمية ونوعية الرف�ض‪� ..‬أنه فنان اللحظة ال�صاخبة ‪ ..‬املتمرد ‪ ...‬املفكر ‪ ..‬احلامل احلزين القاب�ض على جمرات �أحالمه ‪ ..‬ال�سابح يف بحر التو�أد‬ ‫واالغت�سال والتطهري من خالل وعيه لدورة �أو ًال ولقيم ومعاين الفن واجلوهر احلقيقي لنبل الإن�سان‪ .‬حيث جتتهد اللوحة‪ .‬يف جممل �أعماله‪ .‬ي‬ ‫بث مكامنها ورموزها و�أيقوناتها حتى يف دالئلها ولأرقامها احل�سابية ي تطوير روا�سخ الوعي متهيداً لتمرير �إ�شكالية‪ -‬احتجاجية‪ -‬جمالية متلكتها‬ ‫طرائق و �أ�ساليب الر�سم املعا�صر‪ ..‬ومل تتغري اللوحة واملنحى يف منجزات هذا الفنان طوال �سنوات توا�صله واجتهاده وقوته و�صربه على تر�سيخ تفرده‬ ‫�إال مبقدار حجم توافد املثريات واخلربات و الأحداث الكبرية التي مر بها العامل‪ ،‬لكي يبني عليها وي�ضيف ملعمار الوعي ما حدث وا�ستجد لت�شتعل‬ ‫اللوحة بتواتر اخلطوط اجلادة والألوان املفعمة بالرف�ض واالرجتاج والكلمات التي ترتاءى لنا �شعاراً ملوقف راحة ينادي به ويكتبه (حممد مهر‬ ‫الدين) على جدران العامل بروح الواجب واملحبة واملجابهة والرف�ض منذ �أن ران �أليه ذلك ال�ضوء اخلاطف ملعنى ترتيل كل عذابات الب�شرية رمبا ‪..‬‬ ‫رمبا ‪ ..‬رمبا ت�ؤكد لنا عبارة هومريو�س – وهذا �أكيد – من �أن الآلهة �ستبقى تبتكر الآالم حتى يكون لل�شعراء مو�ضوعاتهم‪ ..‬ال زلت مقتنعاً ب�أن الفنان‬ ‫الكبري (حممد مهر الدين)�شاعر اللحظات ال�صاخبة و�إن ات�سمت لوحاته بهدوء م�ؤقت ‪� ..‬أننا الآن �أكرث حفاوة ب (مهر الدين) فناناً ومفكراً بعد هذا‬ ‫اجلهد ال�سنوات الطويلة‪.‬‬

‫ح�سن عبد احلميد‬

‫‪130‬‬


‫لوحاته بيانات احتجاج على جدران العامل‬ ‫الفنان حممد مهر الدين ين�صب «فخ العوملة»‬ ‫ال تن�أى عمليات تف�سري العمل الفني – يف �أح�سن و�أدق مراميها‪ -‬عن توريطات انطباعية‪ ،‬حتاول عك�س مرايا الفهم نحو �آفاق الت�أويل الذي‬ ‫نحر�ص جميعاً على ممار�سته‪ ،‬رمبا دون ق�صد �أو بفعل مكونات الال�شعور‪ ،‬ولنا احلق يف ذلك حتى لو كنا غري معنيني بت�صدير تلك الآراء �أو االنطباعات‪،‬‬ ‫تبعاً لطبيعة وعمق الوعي الذي يلون �أمزجتنا وحاالتنا النف�سية رمبا ف�صو ًال �أو ا�ستدعاء لرغبات دفينة نريد عرب م�ساربها م�شاركة – الفن معاناته ‪..‬‬ ‫ا�ستطراداته ‪ ..‬تهومياته ‪ ..‬عوامله الداخلية ‪ ..‬وتغريباته والتي قد يح�سبها البع�ض تعالياً ف�صديا على ذوق وثقافة امل�شاهد‪ ،‬وتربيته الب�صرية‪ ،‬عندما‬ ‫يقف حائراً تائهاً يلوذ ب�أفكاره حماو ًال م�سك جدوى ما يراه �شاخ�صاً متج�سداً يف ف�ضاء اللوحة‪ .‬وال ي�صل �إىل مبتغاة بالي�سر الذي ي�صله عند م�شاهدة‬ ‫�أعمال جاهزة‪ ،‬تكاد تنطق �أو تردد �صدى مفردات الواقع‪ ،‬كما هو �إذا مل يكن �أدنى جمالية منه‪ ،‬وعلى نحو ت�شخي�صي �ساذج وم�ألوف ال يتما�شى مع‬ ‫غايات الفن وحيثياته التحري�ضية لدى املتلقي‪ ..‬وعلى ال�ضفة الأخرى هنالك من الفنانني من يتمادى يف مترير �أغرا�ضه الفنية تائها �أي�ضاً – يف جلة‬ ‫الغمو�ض وفو�ضى بث رموزه من دون معرفة بحتمية وغائية الفن‪.‬‬ ‫ميكنني �أن �أ�ضع لهذا املدخل املقارن بني اجتاهني �سائدين – للأ�سف – يف �صفوف الفنانني الت�شكيلني (الو�ضوح ال�ساذج) و(الغمو�ض امل�شبوه)‬ ‫ب�أن �أعيد اكت�شاف من قال (الكثري – من ال�ضوء ‪ ..‬مثل الكثري من الظلمة‪ ،‬كالهما يحجب النظر)‪.‬‬ ‫وبني هذا وذاك‪ ،‬ي�سطع ويلمع �ألق جتارب عميقة وكبرية بوعيها وزمنها وتوا�صل اكت�شافاتها‪ ،‬تلك هي �أ�سباب بقاء الفن متقدماً يف حياتنا‪..‬‬ ‫�أجدين منحيناً ب�إجالل لذلك الفيل�سوف القائل‪( :‬نحن نبدع الفن ‪ ..‬لكي ال منوت ب�سبب الواقع) و�أنا �أدخل جمدداً عامل الفنان (حممد مهر الدين)‬ ‫ومعر�ضه ال�شخ�صي الأخري (فخ العوملة) بعد خم�سة ع�شر معر�ضاً ‪..‬‬ ‫ي�ؤ�شر الأول منها �إىل عام ‪ 1965‬وتوايل معار�ضه املهمة وجوائزه (‪ 1982‬جائزة ال�شرف ‪ /‬مهرجان بغداد العاملي الثاين للمل�صقات ‪/1986‬بينايل‬ ‫�أنقرة الأول ‪ 1988‬اجلائزة الذهبية للر�سم ‪ /‬مهرجان بغداد العاملي الثاين ‪ – 1993‬ميدالية �شرف مع �شهادة تقديرية بينايل بنجالدي�ش الآ�سيوي‬ ‫ال�ساد�س‪ ..‬وغريها‪.‬‬ ‫�أعود لكي �أعلن فنانا ت�شكيلياً انتقائياً متمر�ساً بنزوع وثاب نحو املعا�صرة وولع التجريب مثل «مهر الدين» قادر على تثبيت دعائم موقفه‬ ‫الإبداعي والإن�ساين الر�صني بكل هذا املد من التنامي والإف�صاح عن �أفكاره وموا�ضيعه واحتجاجاته امل�ستمرة عرب توايل وتوا�صل معار�ضه وم�شاركاته‬ ‫املحلية والعاملية وت�أمالته الناقدة التي ت�ؤكد لنا‪ ،‬منذ �إلتماع واندالع �أوىل خيوط جتربته بداية ال�ستينات (‪ 1959‬دبلوم معهد الفنون اجلميلة – ‪1966‬‬ ‫ماج�ستري يف الر�سم والكرافيك من �أكادميية الفنون اجلميلة – وار�شو‪/‬بولونيا) وحتى �إمتام �أعمال معر�ضه ال�شخ�صي ال�ساد�س ع�شر ‪� 30‬أيلول ‪2001‬‬ ‫على قاعة حوار للفنون يف بغداد‪ ،‬حتمية و�أحقية هذا الفنان الكبري يف تبو�أ مكانته العاملية بكل تواثب وا�ستحقاق‪ ،‬و�أن مدعاة هذا الدفع باجتاه التقييم‬ ‫الأعلى لهذه التجربة حر�صها ومتكنها من دمج حاالت التغاير والبحث (باملعرفة) واال�ستقرار (بالن�ضج والتفرد) على خط متواز واحد‪ ،‬يزن ثقل تلك‬ ‫امللكات العقلية والأدائية املدعومة ب�سيل من العواطف وامل�شاعر واالنفعاالت املت�صارعة والكبرية القادرة على تبني �أفكار �إن�سانية وكونية عظيمة حفل‬ ‫على تبنيها فنان عامليون كبار‪.‬‬ ‫لقد �أعطى (حممد مهر الدين) لطاقة الر�سم حنجرة ت�صرخ وحتتاج ملا �أ�صاب العامل من جنون ومترد وانفتاح اجلهات الأربع �إىل معيار‬ ‫ومفهوم (العوملة) عرب احتجاج الألوان واخلطوط والأ�شكال والعبارات والعالقات التي �ضمها خطابه اجلمايل ((الفكري)) التحري�ضي بكل لوعة‬ ‫‪129‬‬


‫بع�ض فنانينا الت�شكيليني من جيل ال�ستينات والثمانينات ‪.‬‬ ‫ال�سطح يف لوحتك غني بالتفا�صيل لكنها ال تبدو ثقيلة هل هذا عائد لوجود فكرة م�سبقة عندك قبل الر�سم تن�ضج ثم تكملها على قما�ش‬ ‫اللوحة؟! ـ يف اكرث االحيان اقوم بعمل تخطيطات �صغرية العمايل ويف بع�ض االحيان اقوم بعمل (�سكيت�ش) ملون �صغري متكون من قطع ملونة‬ ‫وذات رموز ودالالت اقوم بت�شكيلها بطريقة الكوالج للو�صول اىل بناء اكرث تكامال وان�سجاما لونيا ‪ .‬عندما اققوم بتنفيذ امل�سودات (التخطيطات‬ ‫وال�سكيت�شات ال�صغرية ) اجد انها ت�سهم يف جعل العمل النهائي اكرث متانة وابداعا ‪,‬وترافق عملية التنفيذ تغيريات كثرية من �ش�أنها ان جتعل العمل‬ ‫اكرث تكانال من الناحية االبداعية ‪ .‬تتعدد اال�شكال وال�ساليب يف اللوحة والعمل الت�شكيلي عموما والذي قدمته وما زالتتقدمه اجيال متالحقة هل‬ ‫اوقفتك جتارب حمددة واثارت انتباهك؟! ـاالطالع على التجارب العاملية والعربية والعراقية اجلديدة �ضروري جدا‪،‬النه يحقق التوا�صل وال�سيء‬ ‫اجلميل انك تالحظ ما يجري من تطورات واهتمامات من �ش�أنها ان تو�سع مدار تفكريك واعادة النظر مبا انتجت ‪ ,‬النه لي�س هناك فن ينمو يف فراغ‬ ‫‪ ،‬التجارب االوروبية واالمريكية املعا�صرة ت�ستوقفني فهي دائما ما متدين بنب�ض جديد‪ ،‬لي�س هذا فقط فالتمعن بالنظر ملا ترتكه الطبيعة من اثر‬ ‫على اجلدران وال�شوارع و�صفائح املعادن وغريها كلها ميكن ان متدك با�شكال ابداعية جديدة‪ .‬ثمة جتارب جديدة عراقية من جيل الثمانينات ‪.‬كرمي‬ ‫ر�سن ‪،‬اميان علي ‪،‬هناء مال اهلل ‪،‬مليزة خا�صة بهم وقدرتهم على �صنع ا�سلوب ‪،‬نعم فيه بع�ض التما�سات والت�أثرات مع جيل ال�ستينات ولكنه اي�ضا ا�ستطاع‬ ‫اخلروج با�ساليبه وا�شكاله وا�شتغاله على �سطح اللوحة ‪،‬اىل م�ستويات خا�صة‪.‬‬ ‫قيم ال�سوق دخلت حتى تفا�صيل حياتنا الثقافية والعمل ‪.‬الت�شكيلي اكرث هذه التفا�صيل تعر�ضا ل�ضغط هذه القيم ‪،‬اىل �أي مدى جنوت‬ ‫بنف�سك من هذه العوامل ؟! ـ(قيم ال�سوق) ‪،‬مكروهة عند الفنان واملثقف املتزن‪ ،‬كما انني مل اتعامل مع(ال�سوق)اطالقا ولن اهادن مطلقا مفاهيمه‬ ‫التي جتعل من بع�ض الفنانني ير�سمون وينتجون الت�شكيل ح�سب متطلباته حيث التزيني احلرويف واعادة انتاج لوحات اال�ست�شراف وغريها من‬ ‫املوا�صفات التي تتعامل مع اللوحة باعتبارها ملحقا تزيينيا ‪،‬انا مل ازل م�ؤمنا بان الفنان هو الذي يجب ان يوجه اجلمهور ال العك�س‪.‬‬

‫علي عبد الأمري‬

‫‪128‬‬


‫الفنان الت�شكيلي حممد مهر الدين لـ(( الر�أي))‬

‫�أميل �أالن �إىل االختزال واالبتعاد عن املبا�شرة‬ ‫الفنان الت�شكيلي العراقي حممد مهر الدين‪ ،‬واحد من جيل ال�ستينات‪ ،‬الذي �أحدث يف الثقافة والفنون �أعمق الأثر‪ ،‬يف الق�صة وال�شعر والنقد‬ ‫وال�سينما وامل�سرح �إىل جانب الفن الت�شكيلي‪ ،‬هو من جيل عرف مب�شاركته الفاعلة يف �أحداث بالده وع�صره وعياً وممار�سة حية عا�ش الأزمة تلو متطلعاً‬ ‫نحو �أفاق �أكرث رحابة اجتماعياً وفكرياً‪ ،‬ا�شتغل يف الر�سم و�صاغ ر�ؤيته عن تلك االن�شغاالت مرة عرب الغرافيك و�أخرى عرب املل�صق ومتارين ال تنتهي يف‬ ‫اللوحة عن جتربته وواقع الفن الت�شكيلي عراقياً وعربياً وتعاطيه كان لـ(( الر�أي الثقايف)) هذا احلوار مع الفنان حممد مهر الدين الذي يزور عمان‬ ‫زيارة ق�صرية ا�ستعدادا لإقامة معر�ض �شخ�صي يف احدى قاعاتها الفنية‪.‬‬ ‫والفنان حممد مهر الدين ولد يف الب�صرة عام ‪ 1938‬ودر�س الغرافيك يف بولند ‪،‬واقام خم�سة ع�شر معر�ضا �شخ�صيا خالل ال�سنوات ‪1965‬‬ ‫ـ‪ 1995‬و�شهدتها بغداد وعدة مدن عربية منها عمان وتون�س والرباط‪� .‬شارك يف اغلب معار�ض الفن العراقي املعا�صر يف الدول العربية والعاملية منها‬ ‫معر�ض الرابطة الدولية ‪،‬مهرجان يف بنغالدي�ش‪.‬وا�شرتك يف العديد من املعار�ض اجلماعية منها معر�ضه امل�شرتك مع الفنان د‪.‬عالء ب�شري ‪،‬واملعر�ض‬ ‫امل�شرتك مع الفنانني �ضياء العزاوي ورافع النا�صري وعلي طالب ‪ .‬ونال الفنان مهر الدين ‪،‬عدة جوائز منها ال�شرف يف مهرجان بغداد الدويل الثاين‬ ‫للما�صقات عام‪ ،1982‬واجلائزة الف�ضية يف بينالة انقرة الدويل االول عام‪ 1986‬واجلائزة ال�شرف يف مهرجان دكا اال�سيوي ال�ساد�س عام ‪. 1993‬وفيما‬ ‫يلي حوار معه ‪ :‬متحورت جتربتك الفنية حول مو�ضوعة االغرتاب االن�ساين ‪،‬هل تعتقد بانها مل ت�ستنفد بعد ‪,‬وبامكان الت�شكيل وجتربتك �شخ�صيا‬ ‫ان تظل تنهل منها تعبرييا ؟! ـ ميكن تق�سيم جتربتي الفنية اىل مراحل ‪ ,‬اولهل مرحلة ال�ستينات وال�سبعينات حيث كنت اعتمد الت�شخي�ص الكامل‬ ‫للتعبري عن م�ضامني فكرية ذات عالقة مبا�شرة بوجود االن�سان بكل ما فيها من ق�سوة واغرتاب ‪,‬يف هذه احلياة املعا�صرة بل ما فيها من تقدم تقني‬ ‫ي�ستخدم �سلبيا ال�ضطهاد وتغريب االن�سان ‪ ,‬يف تلك املرحلة اعتمدت على ا�سلوب الفوتو والكوالج مع ادخال دالالت ان�سانية ‪,‬الكثري من النقادكتبو بان‬ ‫تلك املرحلة كانت تت�صف باملبا�شرة (اقرب ملتطلبات املل�صق اجلداري ) ومبا اين فنان جتريبي ‪ ،‬انتقلت تدريجيا اىل ا�سلوب تعبريي اخر يف مرحلة‬ ‫الثمانينات ومنت�صف الت�سعينات اىل االختزال ‪ ،‬فلم تعد اللوحة حتمل كل موا�صفات املبا�شرة وبد�أت الت�أكيد على رموز ذات عالقة باالثر االن�ساين‬ ‫‪،‬لهذا ميكن القول ان مو�ضوعة االغرتاب االن�ساين مل تزل فاعلة يف مو�ضوع لوحاتي ‪،‬غري انني ال امار�س نف�س ال�سلوب التعبريي معها‪ .‬يقول بع�ض‬ ‫النقاذ ان الر�سم املعا�صر ‪،‬ويف اكرث من قطر عربي ‪،‬ا�ستطاع اخراج الر�سم من نخبويته ال�ضيقة اىل افاق التعبري الفني والفكري ‪،‬هل ترى ان املنجز‬ ‫العربي يف الر�سم حقق ذلك فعال؟! ـ ال اعتقد ذلك بل العك�س هو ال�صحيح اذ بد�أ الفن يتجه نحو النخبة اكرث‪،‬ومتطلبات البداع املعا�صر حتمت على‬ ‫الفنان ان يتوجه نحو جتريبية ليتو�صل اىل حتقيق ذاتيته وا�سلوبه املميز وبد�أ يتوغل اكرث يف مناهج ا�سلوبية معا�صر ة واحلركة الفنية يف املغرب حيث‬ ‫البجث الدائب لتحقيق بنائية اللوحة معماريا والبحث عن قيم ت�شكيلية جديدة با�ستعمال مواد مل ت�ستعمل من قبل او الت�صرف باملواد التقليدية على‬ ‫�شكل مفاهيم جديدة‪.‬‬ ‫يعي�ش الفنان الت�شكيلي العراقي ‪�،‬صعوبات كثرية و ظروفا من ال�ضنك واملعاناة �ش�أن �شزن باقي النواحي الثقافية العراقية ‪ ،‬كيف تعاملت مع‬ ‫هذه الظروف واىل اي مدى اثرت يف جتربتك؟! ـ منذ البداية كانت ثمة هوة تف�صل بني الفنان واملثقف من جهة وبني اجلمهورواملو�س�سات الفنية من‬ ‫جهة اخرىويبدو ان هذه الهوة اخذة باالت�ساع يف و�ضعنا احلايل ‪،‬اما �شحة املواد وعدم توفري امل�ؤ�س�سات لهذه احلاجات احل�ضارية التي من �ش�أنها ان‬ ‫ترتفع باالبداع الفني والثقايف ‪،‬فبالت�أكيد تركت اثارها على ازمة االبداع الت�شكيلي ‪،‬غري ان ال�شيء اجليد يف هذا الفن هو ما ميكن ت�سميته بابداع فردي‬ ‫ولي�س جماعي ولذا ا�صبح من املمكن ان ي�ستبدل الفنان اخلامات اجليدة باقل منها جودة لتقدمي عطاء يتميز بطابعة االبداعي املميز وهذا ما حققه‬ ‫‪127‬‬


‫بعدا جمالي ًا ودفق ًا ح�سي ًا يك�سر تلك ال�صرامة والعتومة التي تهيمن على اجلو العام للوحة‪ ،‬وذلك بعد �أن ت�أكد ب�أن عليه �أن يعيد‬ ‫النظر يف جملة عوامل تتحكم يف �أخراج لوحته‪ ،‬وقد �أكد يل يف حوار �سابق‪� ( ،‬أن على الفنان �أن يفكر يف كيفية ابقاءكم من الفن يف‬ ‫اللوحة بعد �أن ينتهي الدور التحري�ضي الذي تلعبه والذي هو حمدود زمني ًا)‪.‬‬ ‫ويبدو يل �أن الفنان مهر الدين قد قطع �شوطا بعيدا يف تر�سيخ هذا املفهوم يف لوحته التي ت�ستند �إىل تراكم زمني ذاتي‬ ‫ومو�ضوعي كبري واىل خربة وممار�سة جتريبية خمل�صة وواعية طويلة‪ ،‬و�إىل ثقافة عميقة ور�ؤية نقدية ملاحة وذكية‪ ،‬لذلك‬ ‫جاء معر�ضه ال�شخ�صي ال�ساد�س‪ -‬قاعة الرواق ‪ -1985‬مكم ًال و�شاهد ًا على �أهمية هذا الفنان الويف لفنه وجمهوره الوا�سع‪ ،‬كما كان‬ ‫حل�ضوره املتميز يف بينالة �أنقرة ‪ 1986‬التي �ساهم فيها ت�سعة ع�شر ًا قطر ًا من �أقطار �أ�سيا و�أوربا وفاز فيها الفنان مهر الدين بجائزة‬ ‫الر�سم الثانية والتي �أكد يل الفنان علي الطالب الذي رافق الأعمال العراقية و�ساهم يف ذات البينالة‪ ،‬ب�أن مهر الدين كان ي�ستحق‬ ‫وبجدارة اجلائزة الأوىل للبينالة‪ ،‬ومع ذلك وبعيدا عن اجلوائز وما تتحكم فيها من موا�صفات واجتهادات ونيات‪� ،‬أقول �إال ي�ستحق‬ ‫الفنان مهر الدين �أن يكرم بعر�ض اعماله يف املركز الثقايف العراقي بلندن �أو باري�س على �سبيل املثال‪� ،‬أ�سوة مبا قد ح�صل مع الفنانني‬ ‫�آخرين كرمتهم اجلهات الثقافية املعنية كالراحل الكبري ( كاظم حيدر)‪ ،‬و�أي�ضا مع فنانني �آخرين مثل جميل حمودي وجنيب يون�س‬ ‫و ( اخلطاط) اياد احل�سيني‪ ،‬وهو بعد واجهة طيبة وامثولة ح�سنة و�سفري ملحبة ال تن�ضب‪.‬‬

‫عامر فتوحي‬

‫‪126‬‬

‫‪mixed media on board - 70 x 70 cm - 1978‬‬


‫حممد مهر الدين‪ ....‬احل�ضور النبيل‬ ‫يعترب الفنان حممد مهر الدين واحد من ابزر الفنانني الت�شكيليني العراقيني يف ال�سنوات الع�شر الأخرية‪ .‬ملا حظي به �أ�سلوبه‬ ‫من تفرد منحه مكانة ر�صينة وم�شعة بني جيل الفنانني ال�ستينيني الذين ما انفكوا يطورون قدراتهم ويعمقون �أثرهم يف �ساحة الإبداع‬ ‫الت�شكيلي‪ ،‬ر�ؤية وتقنية‪ ،‬وعلى الرغم من بع�ض العقبات التي واجهها الفنان والتي متثلت �أبرزها يف النظرة اجلامدة والتقليدية التي‬ ‫ينظر البع�ض من خاللها �إىل �إعماله التحري�ضية وامل�شبعة بروح امل�شاك�سة‪ ،‬بالرغم مما يلفها من قلق �أن�ساين نبيل وطرح �أخالقي‬ ‫عال ملواقف اجتماعية‪� ،‬إن�سانية وقومية ووطنية ذات بعد ح�ضاري م�شبع بالأمل‪ ،‬كما يف �أعماله التي تدور حول م�أ�ساة فل�سطني‬ ‫واملجازر الب�شعة للقوات ال�صهيونية وعنا�صر �أمل والتدخل ( الأ�سدي) يف �ضرب املخيمات الفل�سطينية واملدن والق�صبات اللبنانية‬ ‫ال�صامدة‪ ،‬كما �أدان وب�شكل وا�ضح و�صريح كل حماوالت الرامية �إىل تكبيل حرية املواطن العربي وتدجينه و�صوال �إىل حالة متييع‬ ‫دوره وتغييبه ثقافيا مما ير�سخ يف ذاته �شعورا عميقا بالإحباط والالجدوى‪.‬‬ ‫لقد تناول الفنان مهر الدين كل هذا الكم من الأفكار ب�أ�سلوب بنائي منفرد‪ ،‬م�ستمد عن جتربة غنية لبع�ض من �أ�ساتذته‬ ‫البولونيني �إثناء درا�سته الفنية العالية يف و�أر�سو (‪ )1966-1963‬ولعل ابرز من �أثر فيه من �أ�ساتذته وقت ذاك الفنان اليك�سندر‬ ‫كويزدي (�أول�سو ‪-1920‬وار�سو ‪ )1972‬والفنان �آرثر ناخت �سامبور�سكي ( كاركوف ‪ -1898‬وار�سو ‪� )1974‬إ�ضافة �إىل الفنان بولوين‬ ‫�أخر هو يان لبن�شتاين وهذا الأخري مل يقم بتدري�سه‪ ،‬غري �أن مهر الدين مل يركن لتجربة �أ�ساتذته ال�ضخمة هذه ح�سب �إذ ا�ستطاع‬ ‫وبفعل التجربة واملران ال�شخ�صيني �أن يتو�صل �إىل �أ�سلوب �شخ�صي عميق االرتباط بطبيعة الفنان وتوقد ذهنه و�أي�ضا بطرائق‬ ‫تو�صيل �أفكاره �إىل املتلقي ب�شكل ال ي�ؤدي �إىل �أميا خلل يف طريف املعادلة الت�شكيلية‪ ،‬الفكرة النا�ضجة وطريقة �إي�صالها ب�شكل ب�سيط‪،‬‬ ‫غري ال�سهل‪ ،‬من ناحية ومبهارة وتقنية عاليتني من ناحية �أخرى‪� ،‬إال �أن طبيعة االنحياز �إىل الأفكار يف اللوحة يف بداية ال�سبعينات‬ ‫�أدى �إىل غلبة عن�صر الأفكار على عن�صر االهتمام بالتقنية والأ�سلوب ال�شخ�صي‪� ،‬إال �أن الفنان مهر الدين �سرعان ما عالج هذا اخللل‬ ‫يف معر�ضه ال�شخ�صي الثالث‪ -‬غريب هذا العامل ‪ -1978‬قاعة جواد �سليم‪ /‬املتحف الوطني للفن احلديث‪ -‬والذي �أعده االنعطافة‬ ‫الر�صينة واحلقيقية يف بناء �شخ�صية الفنان مهر الدين وتر�سخها كتجربة ذات ح�ضور خا�ص يف الفن العراقي املعا�صر‪ ،‬على الرغم‬ ‫من عدم �إغفايل لأهمية �إعماله قبل ذلك التاريخ كما يف معر�ضه ال�شخ�صي الأول يف قاعة تالة ‪ -1965‬كرافيك‪ -‬ومعر�ضه ال�شخ�صي‬ ‫الثاين‪ -‬بغداد ‪.1976‬‬ ‫�أال �أنه يف معر�ضه ال�شخ�صي الثالث حتديدا قد متكن من �أن مي�سك بر�أ�س اخليط الذي يقوده ب�شكل �آمن و�سليم �إىل دواخله‬ ‫هو دومنا افتعال �أو ا�صطناع ودومنا تهيج‪ ،‬لذلك كانت لإعمال معر�ضه ذاك وقع عظيم يف عقول املثقفني ويف نفو�سهم وبخا�صة تلك‬ ‫الأعمال التي �أدانت حماولة حتجيم الإن�سان وك�شفت عن حمنة وجوده ب�إخال�ص عظيم‪.‬‬ ‫ويف ذلك املعر�ض �أي�ضا ا�ستطاع الفنان �أن ينجح وب�شهادة اجلميع يف املوازنة ما بني الفكرة واملعاجلة فلم تتجاوز �أحداهما‬ ‫الأخرى‪ ،‬كما ا�ستطاع ومن خالل �ألوان مقت�صد فيها ومواد ب�سيطة �أن يتفاعل مع املتلقي بحرارة وتعاطف كبريين‪ ،‬ومع ذلك مل ي�ألوا‬ ‫جهدا يف ت�شذيب �أ�سلوبه وتطوير منهجه النقدي‪ -‬ز�ؤيوي ًا‪ -‬فجاء ًا معر�ضيه ال�شخ�صيني الرابع‪ -‬قاعة الرواق �أيلول ‪ -1980‬واخلام�س‬ ‫قاعة الر�شيد ‪ -1983‬وليعززا ما �سبق و�أجنزه يف معر�ضه االنعطافة ( غريب هذا العامل) ويف هذين املعر�ضني �صارت �شخو�ص الفنان‬ ‫بالتوا�صل مع املتلقي ومما �ساعد على خلق هذا املناخ احلميمي هو اهتمام الفنان بالتوا�صل مع املتلقي من خالل قيامه بتعزيز اللوحة‬ ‫‪125‬‬


124


123


‫بولونيا وحتى �آخر يوم من حكم الطاغية حاولت تهمي�ش دوره و�صرف االنظار عنه ولكنها مل ت�ستطع ابدا الن ل�سان حال الفنان فنه‬ ‫الراقي املرتكز على الفهم املعمق للمعنى يبدو يل‪ :‬ان قناعات الفنان را�سخة جدا وال ي�ستطيع احد كائن من يكون ان مي�سها فالفنان‬ ‫خليق مببادئه حري�ص على افكاره ا�ستطاع ان يج�سد املعاناة االن�سانية ب�أبهى اال�شكال واجمل واحلى االلوان‪.‬‬ ‫ففي الكثري من االحايني تتجذر الرموز االبداعية مثل جموهرات يف تواريخ ال�شعوب واذا كنا نبحث عن ذاتية الفنان فانها وال‬ ‫ريب مثل ذاتية جواد �سليم متماهية مع ذاتية ال�شعب داخلة يف �ضمري الثقافة باقية متجددة ما بقيت النريان‪.‬‬

‫�صالح عبا�س‬

‫‪122‬‬

‫‪mixed media on paper - 40 x 40 cm - 2004‬‬


‫ان الفنان حممد مهر الدين‪� ،‬شهد والدة هذه الفنون اجلديدة و�سمحت له الظروف للتعرف على الكثري من الفنانني العامليني‬ ‫وامل�شاركة معهم يف املعار�ض الدولية‪ ،‬كما اطلع عن قرب على �آخر التو�صالت الفنية والتقنية يف جماالت ا�ستثمار املواد اخلام‬ ‫وتطويعها ل�صالح العمل الفني‪ ،‬فدرا�سة الفنان‪ ،‬كانت تت�ضمن الت�صاميم والر�سم والطباعة اليدوية «الكرافيك» ولهذا وجدناه على‬ ‫الدوام متم�سك ًا يف اجناز لوحات بالقيم الفنية واجلمالية يف فن الت�صميم فكان هذا الفن يعد فن الع�صر واحد اهم عنا�صر اللوحة‬ ‫لدى الفنان‪ .‬فالت�صميم البد ان يت�ألف على �شكل‪ ،‬وال�شكل البد ان يكون جديدا ومغايرا‪ ،‬والن هذا الفن طرق ابواب احلياة كلها فدخل‬ ‫بدون �إ�ستئذان اىل االقم�شة واملوبليا والعمارة وت�صميم املدن وال�سيارات واالجهزة املنزلية وال�صناعات اجلديدة وحتى �شمل �شكل‬ ‫الن�ص االدبي ورمبا دخل اىل ال�سلوك االن�ساين ذاته ف�صار مثل عامل وا�سع منفتح الآفاق‪ .‬اما فنون الطباعة اليدوية (الكرافيك)‬ ‫فانها دربت ملكاته االدائية على تفهم االلوان ال�صعبة الر�صينة كما مهدت له لو�ضع مقاربة بني اللوحة وبني العمل الكرافيكي‪،‬‬ ‫ويخط أ� من يعتقد بان الفنان رافع النا�صري هو رائد فن الكرافيك يف العراق‪ ،‬ذلك ان الكثري من التجارب املتنوعة التي مار�سها الكثري‬ ‫من الفنانني العراقيني ومنذ فرتات مبكرة جدا �سبقت جتارب رافع النا�صري ومنهم‪ :‬ا�سماعيل ال�شيخلي وحممود �صربي‪ ،‬وجواد �سليم‪،‬‬ ‫و�شاكر ح�سن وحممد علي �شاكر‪ ،‬وحممد مهر الدين و�آخرون �سواهم‪ ،‬لكن واحلق يقال ان ف�ضيلة رافع النا�صري تكون يف ت�أ�سي�سه لفرع‬ ‫الكرافيك يف معهد الفنون اجلميلة ببغداد �سنة ‪ 1974‬مبعيارية الفن والريادة االبداعية‪ ،‬ف�أننا ن�ضع جتارب حممد مهر الدين يف‬ ‫ال�صدارة‪ ،‬ملا تت�سم به من مقومات فنية ا�صيلة ي�شهد عليها اخلرباء يف هذا املجال‪.‬‬ ‫بعد عودة الفنان حممد مهر الدين من بولونيا وجد ان جمهورية ال�شعب العراقي تقو�ضت وانهارت اركانها وان ال�شعب واقع حتت‬ ‫مطرقة احلر�س القومي واال�شياء كلها تغريت وتخرب احللم اجلميل اذ ذاك كان ير�سم بحرية �شديدة ولكن برمزية عالية فاختار‬ ‫االرقام وبع�ض احلروف وبع�ض اجلمل املكتوبة باللغة االجنليزية للتعبري عن رف�ضه وكراهيته لكل اعداء التقدم واالن�سانية لقد‬ ‫ر�سم الفنان الكثري من اللوحات التي تتما�س مع حياة املجتمع العراقي �سواء اكان ب�شكل مبا�شر ام ملمح به واجنز ذلك بعدة انتقاالت‬ ‫ا�سلوبية فاال�سلوب الذي عرف يف فرتة ال�ستينات كان با�ستخدامه للعجائن الكثيفة واللوا�صق وعمل املج�سمات مبواد اخل�شب و�سواها‬ ‫من املواد االخرى التي ميكن توظيفها ل�صالح اللوحة اما اال�سلوب الثاين فيبد أ� معه منذ بداية الثمانينات ايام �سيطرة �صدام ح�سني‬ ‫على احلكم يف العراق‪ .‬لقد تنب أ� الفنان مهر الدين بامل�ستقبل امل�أ�ساوي للعراقيني وتفهم نوايا هذا الرجل فر�سمه بحاالت خمتلفة‬ ‫و�ضمنه يف مو�ضوعات متعددة ولكن لي�س بالر�سم املبا�شر وامنا بطريقة التمويه وعر�ضه ب�شكل خطوط خارجية مكتفيا بحركة‬ ‫معينة تعطي االمياء او االنطباع عما يريده الفنان وكنا يف حينها ندرك مو�ضوعاته ونتهام�س بها فيما بيننا‪ .‬ان حممد مهر الدين‬ ‫ميثل ارثا وطنيا كبريا وثروة التقدر بثمن النه فنان م�س املو�ضوعات اخلطرة واف�صح عن ر�أيه بكل جر�أة و�شجاعة وا�ستطاع النطق‬ ‫مبا مل ي�ستطع احد غريه �آخذا بنظر االعتبار قيمة البحث عن جديد جيد يدخل يف باب احلداثة واجنز للفن العراقي املعا�صر اروع‬ ‫نفائ�سه الثمينة‪ .‬وعلى مر ال�سنوات االخرية ان�شغل الفنان بدرا�سة االفكار التي جاءت بها العوملة وايدتها ال�سيا�سة الدولية اجلديدة‬ ‫التي تريد ا�ضاعة خ�صو�صية ال�شعوب الفقرية والتي الت�ضع تقديرا �سليما لالن�سان وحقه بالعي�ش بحرية وكرامة النها �أي العوملة‬ ‫متثل جمتمع اخلم�س �أي ان احلياة الكرمية تكون حكرا على ‪ %20‬من املجتمع الب�شري يف حني ان ن�سبة ‪ %80‬متثل لهذه ال�شريحة‬ ‫بح�سب اعتقاد الفنان حممد مهر الدين‪.‬‬ ‫ومبجرد تتبع ب�سيط خلط �سري هذا املبدع العراقي الكبري جند ان امل�ؤ�س�سة القائمة على الثقافة يف العراق منذ عودته من‬ ‫‪121‬‬


‫قيمة ال�شكل‪ ،‬والتفا�صيل الداخلية فيه على نحو‪ ،‬حقق فيه الفنان م�ستوى رفيع يف املطابقة احلرفية‪ ،‬والتي ترتكز على النظرة‬ ‫ال�سليمة لال�شياء كما هي‪ ،‬ثم احت�ساب قيمة ال�ضوء ال�ساقط وانك�سارات الظالل ب�شكل حقق ايهاما ب�صريا قل نظريه‪ ،‬فالبداية كانت‬ ‫م�سوغة بخربات هائلة يف جمال فن املحاكاة ور�سم اللوحات الت�شبيهية املتطابقة مع اال�صل‪.‬‬ ‫ان هذه اال�شارة‪ ،‬تف�ضي اىل حقيقة مفادها‪ :‬ان اخلربة الكبرية يف جمال التلوين للفنان حممد مهر الدين‪ ،‬كانت م�ؤ�س�سة ب�شكل‬ ‫متني اليقبل ال�شك منذ اكرث من خم�سة عقود من ال�سنوات‪ .‬فاذا‪ ،‬حاولنا الدمج بني املنطلقات الفنية والفكرية للفنان فاننا �سنجد ان‬ ‫املح�صلة �ستكون منطقية جدا يف اعتبار هذا الفنان احد اهم ر�سامي احلداثة يف العراق‪ ،‬ولننظر الآن اىل املخطط الب�سيط االتي‪:‬‬

‫فنان متمرد‬ ‫ان �أي فنان يف العامل‪ ،‬وبخا�صة الفنانني املحدثني واملجددين‪ ،‬يت�سمون ب�صفة التمرد‪ ،‬وهذا ر�أي �شائع مل�شاهري الكتاب والباحثني‬ ‫يف علم النف�س والرتبية واالجتماع واجلماليات والفنون و�سواها من االجتاهات االن�سانية يف الثقافية واالدب والفن‪.‬‬ ‫واحلديث عن مهر الدين هو ذاته احلديث عن بع�ض الرموز العراقية كجواد �سليم‪� ،‬شاكر ح�سن‪ ،‬خالد اجلادر حممود �صربي‬ ‫�إ�سماعيل فتاح ‪ ،‬بدر �شاكر ال�سياب‪ ،‬نازك املالئكة‪� ،‬سعدي يو�سف‪ ،‬ف�ؤاد التكريل‪ ،‬غائب طعمة فرمان‪ ،‬و�آخرين‪.‬‬ ‫* فكيف لنا اال�ستدالل على متردهم؟‬ ‫ان نظرة فاح�صة للواقع العراقي يف تلك الفرتة واملح�صورة بني العقدين الرابع واخلام�س من القرن املن�صرم‪ ،‬كفيلة باعطاء‬‫هذا ال�س�ؤال اجابة عامة‪ ،‬ولكن االجابة اخلا�صة ت�أتينا من كون الفنان حممد مهر الدين‪ ،‬من �سكنة مدينة الب�صرة التي تبعد م�سافة‬ ‫تزيد عن خم�سمائة كيلو مرت عن العا�صمة‪ ،‬وان الفنان حني قدم اىل بغداد فالبد ان يكون ر�أ�سه حممال با�شياء تتعلق باثبات الذات‬ ‫من خالل التحدي بالفن‪ ،‬وهذا التحدي اليكون م�ؤه ًال‪ ،‬اال اذا كان �صاحبه متمردا‪ ،‬فالفن يف تلك املرحلة من تاريخ العراق‪ ،‬كان ميثل‬ ‫�شيئا �آخر‪ ،‬ال �صلة له مب�شكالت احلياة اليومية‪ ،‬ولي�س لنا به تراث فخم‪ ،‬ولكن النظرة املارك�سية للفنان اعطته حق التحدي وتفهم‬ ‫الفنون والولوج من او�سع بوابات احلداثة‪ ،‬الن الثقافة العامة‪ ،‬يف العامل‪ ،‬يف تلك الفرتة كان يتنازعها قطبان‪ ،‬ال�شيوعية يف اوج‬ ‫ت�ألقها‪ ،‬واالمربيالية يف عظمتها‪ .‬لقد كان رواد الثقافة والفنون واالدب اجلديد يف العامل معظمهم من املارك�سيني او ال�شيوعيني‪ ،‬فال‬ ‫غرابة ان جند حممد مهر الدين‪ ،‬هذا ال�شاب املتوثب‪ ،‬املندفع بقوة حما�سه وطموحه امل�شفوع مبنطلقاته الفكرية‪ ،‬وموهبته الفنية‬ ‫املتميزة‪ ،‬لكي ي�شارك يف االبداع من موقعه‪ .‬فالفنان وقبل ان يلتحق للدرا�سة الفنية يف احدى مدار�س بولونيا كان ا�سما معروفا يف‬ ‫الو�سط الفني العراقي وقد ا�شار اليه الفنان نوري الراوي يف كتابه املو�سوم «الفن العراقي احلديث» املطبوع �سنة ‪ ،1962‬وكان يعده‬ ‫من الفنانني املهمني يف العراق واعتقد ان ال�سبب وراء اختياره الدرا�سة يف بولونيا هو االثر الرائع الذي تركه الفنانون البولنديون‬ ‫الذين التج�أوا اىل بغداد بعد احلرب العاملية الثانية وبقوا فيها لتدري�س الفن يف معهد الفنون اجلميلة ببغداد‪.‬‬ ‫يعترب البع�ض ممن در�س تاريخ الفن الت�شكيلي العراقي املعا�صر وبخا�صة الناقد �شوكت الربيعي‪ ،‬يف كتابه «لوحات وافكار» ان‬ ‫له�ؤالء الفنانني دور ًا كبري ًا على م�سار هذه احلركة وانهم اول من فتح ذهنية جواد �سليم يف االخذ ب�أهمية املوروث املحلي وت�أ�سي�س‬ ‫منهج فني خا�ص‪ .‬لقد كانت الفنون احلديثة يف تلك الفرتة متثل الذروة يف تطورها‪ ،‬حيث املو�ض وحالة االبتكار والتجديد‪ ،‬فلم ي�شهد‬ ‫ع�صر يف التاريخ الب�شري مثل ذلك الع�صر الذي ميثل نقطة حتول كربى يف التاريخ احلديث‪.‬‬ ‫‪120‬‬


‫حممد مهر الدين رائد احلداثة يف الفن العراقي‬ ‫يبدو‪ ،‬ملتابع االجتاهات اجلديدة يف الفن الت�شكيلي العراقي املعا�صر‪ ،‬ان قيمة الفن الذي ا�شتغل عليه الفنان حممد مهر الدين‬ ‫وعلى مدى فرتة زمنية طويلة‪ ،‬تنوف على الن�صف قرن‪ ،‬مل ت�أخذ بعد كفايتها من النقد الفني‪ ،‬ومل تدر�س كما ينبغي‪ ،‬بالرغم من‬ ‫كرثة املحاوالت اجلادة‪ ،‬املقدمة من لدن خرية كتابنا‪ ،‬وال�سيما عادل كامل‪ ،‬وعبد الرحمن طهمازي‪ ،‬وح�سن عبد احلميد و�سواهم من‬ ‫كتابنا املرموقني‪ .‬ان اغلب النقود الفنية التي كر�ست لدرا�سة هذا الفنان كانت تنظر لقيمة املو�ضوع الذي يطرق ابوابه الفنان حممد‬ ‫مهر الدين والذي ميثل مو�ضوعا ثريا وخ�صبا وي�سمح باملناورة الكالمية امل�ستفي�ضة‪ ،‬والتي تخرج عن حدود الذاتي يف الفهم والتفكري‬ ‫لتكمن يف املو�ضوعي الذي ي�ؤطر احلياة العامة ب�شموليتها‪ .‬الن حممد مهر الدين‪ ،‬اخذ على عاتقه امل�س�ؤولية االن�سانية الكبرية‪ ،‬و�صار‬ ‫ينبه اىل قيمة املو�ضوعات املثرية والتي تتحكم مب�صائر النا�س‪ ،‬وحياتهم املهددة على هذه االر�ض‪.‬‬ ‫لقد قدم الفنان‪ ،‬وعلى مدى تاريخه االبداعي‪ ،‬نوعا من الفن الذي اطلق عليه «بالفن امللتزم» حيث يتناول الق�ضايا املهمة‪،‬‬ ‫التي تفاعل حياة الب�شر وت�ؤثر فيهم‪ ،‬مثل ق�ضايا التحرر الوطني‪ ،‬ون�صرة ال�شعوب امل�ست�ضعفة‪ ،‬والك�شف عن �سوءات ال�سيا�سة الدولية‪،‬‬ ‫امل�ؤدية حتما اىل الفقر واجلوع وزرع االفكار اخلاد�شة للأن�سانية‪ ،‬ولل�ضمري اجلمعي‪ .‬هكذا هو حممد مهر الدين‪ ،‬ي�صرخ مبلئ فمه ليعرب‬ ‫عن املو�ضوعات احلامية التي متثل ذروة يف التفكري املندمج مع البيئة الب�شرية‪ ،‬فهل ميكن اعتبار ذلك متا�شيا مع النا�س يف م�شكالتهم‬ ‫احلا�سمة؟ وهل تنكر الفنان لذاتيته؟‪.‬‬ ‫ان الفن وعلى مدى تاريخه العام‪ ،‬ومنذ فن ع�صر الكهوف وحلد الآن‪ ،‬ما هو اال دوال على متجيد احلياة‪ ،‬والفنان دائما‪ ،‬يحاول‬‫املزاوجة بني ما هو ذاتي وما هو مو�ضوعي‪ ،‬فكما قال «جان جينه» وهو يحاور «جياكوميتي» عن النحت‪:‬‬ ‫(وك�أن الفنان هو ل�سان حال االمة‪ ،‬النه هو الذي ابتكر �صور الآله‪ ،‬واال�شياء املقد�سة يف احلياة‪ ،‬وهو الذي ي�صرخ بامللأ‪ :‬اعبد‬ ‫ل اىل ما قد �صنعت يداي‪ )..‬اننا هنا‪ :‬النبتغي �سوى حل مع�ضلة فنية‪ ،‬مت�س نزوع هذا الفنان باجتاهات متعلقة بني اخلا�ص‬ ‫ايها امل أ‬ ‫والعام‪ ،‬بني املو�ضوعي والذاتي‪ ،‬فهل �سن�ستطيع االم�ساك بامل�شرط للف�صل بني هذين العن�صرين‪ ،‬يف عملية جراحية ب�سيطة؟‪.‬‬ ‫اقول نعم‪ ،‬ميكن ذلك على وفق ا�سلوبني‪ ،‬اال�سلوب االول متعلق ب�آلية انتاج الفن‪ ،‬والكيفية التي ي�ستطيع بها الفنان حترير‬‫الوانه وخطوطه وما ميلك من مقدرة فريدة على االبتكار و�صناعة اال�شكال‪ .‬واال�سلوب الثاين متعلق باملوقف الذاتي للفنان والذي‬ ‫اكت�سبه من خالل مت�سكه باالفكار املارك�سية والتي تنظر اىل قيمة املو�ضوع بطرائق م�ؤثرة‪ ،‬الن النظرة اال�صالحية يف الفكر‬ ‫املارك�سي‪ ،‬تف�ضي اىل اجلدل التاريخي‪ ،‬واىل جوهر ال�صلة التي متجد قيمة االن�سان باعتباره �صانعا للت�أريخ‪ ،‬فال وجود ل�شيء اال‬ ‫لوجود هذا ال�شيء مع ا�شياء اخرى تكمل كيانه وتفاعله على نحو ميكن ح�سابه وبالدقة املتناهية‪.‬‬ ‫ان املارك�سية‪ ،‬ملكت روادها قوة الفهم للمو�ضوعي‪ ،‬من خالل الديالكتيك‪ ،‬وفهم اجلدل التاريخي‪ ،‬وبهذا اك�سبتهم مفاتيح‬ ‫�سحرية ميكنهم بها فتح كل املغاليق يف الفكر والفل�سفة وعلوم احلياة املختلفة‪.‬‬ ‫لقد ابتد أ� الفنان حممد مهر الدين‪ ،‬خطواته االوىل يف الر�سم الواقعي‪ ،‬وقد ت�سنت يل فر�صة االطالع على تلك االعمال‬ ‫املبكرة التي متثل مو�ضوعات عراقية متنوعة من الريف‪ ،‬او من اطراف املدن‪ ،‬ولكن ال�سمة يف هذه اللوحات‪ ،‬انها مر�سومة وفق قواعد‬ ‫ال�ضبط الدرا�سي‪ ،‬يف احت�ساب قيمة االلوان‪ ،‬ومدى مطابقتها لل�شكل املرئي بو�صفها مثاال منظورا‪ ،‬والتخطيط املتقن الذي يحاكي‬ ‫‪119‬‬


118


117


116


115


114


‫‪113‬‬

‫كرمي النجار‬


112


111


110


109


108


107


106


105


104


mixed media on wood - 80 x 80 cm - 2010

227

mixed media on wood - 120 x 120 cm - 2010

233

103 mixed media on wood - 80 x 80 cm - 2010


102


‫�أعمال فنية زيتية وورقية‬ ‫وتخطيطات وم�شاريع نحتية‬ ‫نهاية ‪ 2010‬وبداية ‪2011‬‬

‫‪101‬‬



99


98


97


96


95


94


93



‫�إال نقطة ارتكاز ينطلق منها لبناء العمل الفني يف نظام التحول الذي قد يتحقق‪ ،‬و كما يقول (( جون دوي))‪�( :‬أننا لو عمدنا �إىل‬ ‫مقارنة الفنان بغريه من النا�س لوجدنا �إنه لي�س فقط جمرد �شخ�ص موهوب يتمتع بقدرة خا�صة على الأداء و التنفيذ بل �أي�ض ًا رجل‬ ‫ميتلك حا�سة غري عادية لكيفيات الأ�شياء ف�ض ًال عن ذلك ف�أن هذ ِه احلا�سة هي التي تقوم بتوجيه ت �صرفاته و �أفعاله ‪) .‬و هكذا‬ ‫نرى من �إن فكرة العمل و مو�ضوعه التي تطرح يف املنتج الفني‪ ،‬هي يف حقيقتها فكرة حتاول �إن تنتقل من ثوابت حققت جماليتها و‬ ‫تنوي بها التجديد و تطور بنيتها الأ�سلوبية‪ ،‬و هكذا تعتمد على م�ستوى القدرات الإبداعية التي‬ ‫انفعاالتها يف �أ�سلوبيتها �إىل متغري‬ ‫ْ‬ ‫ميتلكها هذا الفنان‪.‬‬ ‫فالأعمال الفنية التي تت�صف بالتحول و ك�سر الثوابت كما يف التجربة االبداعيه للفنان (( حممد مهر الدين)) هي يف‬ ‫حقيقتها نتيجة مو�ضوعية ملجمل املخا�ضات الفكرية ذات الأبعاد ال�سي�سيولوجية و ال�سيكولوجية امل�ؤطرة بنظم عقائدية و حتى‬ ‫مثيولوجية جتتاح حياة الفنان و ت�شكل تاريخه ب�أبعاده الثالثة‪.‬‬ ‫�أذن ن�ستطيع القول �إن املتحول يف نظام العالقات املت�سقة يف ن�سيج العمل الفني يعي�ش حالة من ال�صراع ملجموعة الأن�ساق‬ ‫يف نظم الن�سيج العام‪ .‬و هذ ِه العالقات عندما تت�سق يف هذا الن�سيج تكون التجربة الفنية التي �أ�سا�سها جتربة خيالية �ضمن دائرة‬ ‫عال متخ�ص�ص و كما يقول ((روبني ج كويلن جود))‪ ( :‬عندما نخلق لأنف�سنا جتربة خيالية �أو فع ًال خيالي ًا ف�أننا نعرب عن‬ ‫ق�صد وعي ٍ‬ ‫انفعاالتنا و هذا ما ندعوه بالفن ‪�) .‬أذن ميكن القول �إن التجربة اخليالية للفنان هي جتربة(( بحثية)) يف �آلية التحول‪ ،‬و هذا ما‬ ‫جنده يف هذه التجربة متيزت بالغزارة و التنوع يف املو�ضوعات ذات املرجعيات املختلفة‪� ،‬شكلت �أنظمة متحركة بع�ضها حملي املنحى‬ ‫والآخر قومي املنحى و بع�ضها �أن�ساين املنحى وهي ال�صفة الغالبة‪� .‬إن هذا التميز يك�شف لنا حركة الفكرة يف ن�سيج النتاج الفني و‬ ‫هي حركة فكر فاعلة ت�ؤ�س�س �أنظمة ق�صديه فنيا وجماليا ‪ ،‬بل جند �إن الأحداث ال�سيا�سية و االجتماعية والفكرية واالقت�صادية‬ ‫والتطورات العلمية والتكنولوجية يف م�سار الت�أريخ املعا�صر جعلت الفنان جمدد ًا لها وداعيا مهما نحو التغيري و ال حتول من خالل‬ ‫االحتجاج و الإدانة‪..‬‬ ‫وجند �إن تنظيم ال�شكل يف العمل الفني نوع من افرتا�ض حتليلي قد يالقي النجاح من قبل الفنان ذاته فيكون �ضمن دائرة‬ ‫التحول و هذا يعني �إن االفرتا�ض ال ميكن �إن يكون اعتباط ًا �أو �صدفة فهو ح�سب تعبري الفنان كاند�سكي‪ ( :‬ال�شكل هو التعبري عن‬ ‫عالقاته مع اللون) ‪،‬وهذا ما يتطلب من الفنان ت�صميم‬ ‫املعنى الداخلي‪ ،‬و هو يجب �إن يكون مكثف ًا �إىل الدرجة التي ت�سمح بعر�ض‬ ‫ِ‬ ‫وتنظيم التكوين الفني �سلفا له‪.‬‬ ‫فالعمليات التحليلية لل�شكل عندما جتعل منه �أداة و ك�سر لثابت هي عمليات فاعلة يف نظام ق�صدي يجعل من ال�شكل �أداة و‬ ‫غاية يف �آن واحد و هذ ِه ميزة احلداثة التي تعامل الفنان على نحو متطور معها‪.‬‬ ‫�أن البعد الرمزي الذي حققه الفنان و بكافة م�ستوياته بعد وا�ضح يف �أنظمة التحول لديه‪ ،‬جعل من الفن نوع ًا من �أنواع‬ ‫جاء لت�صبح به القراءة متحققة بوا�سطة العني ال بوا�سطة‬ ‫القراءة بو�ساطة الرمز و كما يقول (( فالريي))‪ ( :‬من �إن اليوم قد َ‬ ‫ال�صوت �أو الكلمات‪) .‬وجند هنا الفنان قد ا�ستطاع �إن يحقق �أعلى مرحلة من التعبري بالرمز يف ال�شكل بحيث ا�ستطاع �إن يحول الرمز‬ ‫داخله تف�سري ًا و‬ ‫من نوع من الإ�شارة املرئية �إىل مو�ضوع غري ظاهر بوجه عام �أو مبا�شر و بالتايل جعل من الرمز مو�ضوع ًا يحمل يف‬ ‫ِ‬ ‫‪91‬‬


‫الأعمال الفنية مب�سميات جديدة؛ ح�ضارة رقم ‪ 1‬و ح�ضارة رقم ‪.......2‬ت�سبقها بع�ض الأعمال التمهيدية القليلة بعنوان ((‬ ‫الكر�سي )) ‪1980‬والتي كانت �صرخة احتجاج عاليه لتعرية تناق�ضات الواقع من خالل ال�سلوك املزدوج لل�سلطة �أو الإن�سان ور�صد‬ ‫ال�شخ�صيات النفعية واالنتهازية وتعدد �أدوارهم يف احلياة ال�سيا�سية واالجتماعية‪....‬‬ ‫ت�ستمر هذه التجربة بارتقاء وا�ضح خالل احلرب العراقية – االيرانيه خالل عقد الثمانينيات‪.‬‬ ‫وخالل عقد الت�سعينيات وخامتتها مبعر�ض (( العوملة ‪� ))2000‬شحنت �أعماله الفنية ب�إيقاع فكري متوتر و ذلك ب�صهر العديد‬ ‫من الرموز و الأ�شكال و اخلطوط والألوان التي حملت تنوعها و تناق�ضها �أحيان ًا‪� ،‬أنه تروي�ض جديد �أنتزع هذا التنوع من جمراه‬ ‫�صهر العديد من الأ�ساليب الفنية املعا�صرة “ مناهج – و‬ ‫امل�ألوف و و�ض َع يف مدار جديد �أمتلك �سماته اخلا�صة يف جتربة الفنان‪ .‬كما َ‬ ‫تقنيات “ لينظمها تنظيم ًا جماليا جديد ًا مماث ًال لإيقاعه الفكري املتوتر وفق نظام من العالقات الداخلية التي ج�سدت حالة الت�ضاد‬ ‫دائم ًا و التي عدها الفنان �أ�سا�س ًا للحركة ‪.‬لذلك كان جممل هذه الأعمال الفنية مح ِر�ض ًا مبوجب عالقة الت�ضاد واملعاجلات التقنية‬ ‫املتنوعة و مبوجب الإدانة الوا�ضحة للوجه الآخر من احل�ضارة مب�ستويات ذات دالالت تاريخية “ قدمية و معا�صرة “ يف �ضوء‬ ‫الأ�شكال و الرموز امل�ستخدمة‪.‬‬ ‫�أن هذ ِه الإدانة و االحتجاج لدى الفنان هي جوهر الت�سا�ؤل يف البحث عن احلقيقة الذي ظهر ُ‬ ‫منذ بداياته الفنية‪ ،‬و �أ�شرتك‬ ‫يف موقف الرف�ض‪ ،‬و كانَ لكل والدة جتدد‪ ،‬و لكل جتدد رف�ض‪ ،‬فالرف�ض �أو “ الهدم “ كما يقول هيدغر “ هو حلظة بناء جديدة‪“.‬‬ ‫وبعد االحتالل عام ‪ 2003‬يقف الفنان بذهول �أمام �أب�شع جرمية يف التاريخ املعا�صر وبوعي �سيا�سي و�أن�ساين متوقد ملا جرى‬ ‫يف العراق والزال‪....‬‬ ‫ويغادر احلبيبة بغداد للعا�صمة – عمان‪.....‬وي�ست�أنف بحثه الفني واجلمايل يف جتربتني مهمتني متداخلتني بعد عام ‪2005‬‬ ‫‪ ،‬الأوىل معاجلات جديدة ملفهوم الف�ضاء فكرا وتطبيقا متجاوزا بذلك املفهوم التقليدي لهذا العن�صر الفاعل يف بنية العمل الفني‪...‬‬ ‫والثانية ت�ضمني هذه التجربة بع�ض امل�شاهد ((البيئية)) والزال البحث جار فيها يف خمترب الفنان منذ عام ‪ 2008‬ولغاية الآن‪ .‬وكال‬ ‫التجربتني حتتاج �إىل درا�سة حتليليه قادمة ‪.،‬‬ ‫من خالل ما تقدم نحن �أمام جتربه فنيه وجماليه متيزت بفرادتها االبداعيه يف الفن العراقي املعا�صر و�ألقت ب�ضاللها على‬ ‫العديد من الفانيني والر�سامني العراقيني‪.‬‬ ‫�أن بنية �أت�ساق املادة و ال�شكل يف التجربة االبداعيه للفنان ((حممد مهر الدين)) ترتبط ارتباط ًا �شام ًال بر�ؤية فكرية‬ ‫يتخذها الفنان نظام ًا �شام ًال يف حتقيق بنائية الأن�ساق التي ت�شكل ن�سيج العمل الفني‪ ،‬و هنا يكون فعل التحول الذي هو فعل �أرادي‬ ‫مقر من قبل الفنان مرتبط ًا مب�ستوى التحول بالفكرة املطروحة و نظام الر�ؤية ال�شاملة التي يبغي الفنان حتقيقها لدى املتلقي‪ ،‬و ذلك‬ ‫من عد ن�سقي املادة وال�شكل ما هما �إال �إرتكازين �أ�سا�سيني تتداخل بنيتهما مع الفكر الت�صوري االفرتا�ضي للفنان املنتج‪ ،‬لكي يتكون‬ ‫النتاج الفني النهائي ب�صيغته الكاملة‪.‬‬ ‫ت�ستقي فكرة الثابت ال�سائد و‬ ‫ونرى �إن العمليات الذهنية التي تركب اخلامات و ت�شكلها هي عمليات حتليلية – تركيبية‬ ‫ّ‬ ‫حتاول االنطالق منها �إىل متحول جديد‪ ، ،‬فالت�صور الذهني للفنان عما �سيتم حتقيقه يف بنية املادة التي ي�صنع منها ال�شكل ما هو‬ ‫‪90‬‬


‫فنان التحوالت‬ ‫�إن التحول يف الفن يتحقق بفعل الر�ؤية احلديثة والتي ت�ستهدف قبل كل �شيء الفنان ذاته ‪ :‬وعيه‪ ،‬ثقافته‪ ،‬تذوقه‪ ،‬نظرته‬ ‫�إىل احلياة والعامل‪ ،‬قبل �إن ت�ستهدف عمله الفني‪ ،‬الذي هو بال�ضرورة حم�صلة جهد الفنان من الناحية اجلمالية والفنية لذا يتطلب‬ ‫التحول مترد الفنان يف داخله لتجاوز الثوابت الرئي�سة املحيطة به عند ذلك يكون نتاجه الفني في�ض ًا من احليوية الروحية والفكرية‬ ‫واجلمالية‪� .‬أذن ال ميكن وجود نتاج فني متحول من فنان مل يكن متحو ًال على �صعيد ر�ؤيته الفنية املتحركة بفاعلية �أفكاره عن العامل‬ ‫املحيط به وعالقته به‪ ،‬هذه العالقة الفاعلة املتنوعة تختزل موقفه الفكري واجلمايل‪ ،‬وبفعل هذه احلركة املتجددة من الداخل‬ ‫وبجدل قائم يجعل عمله الفني �أو جممل نتاجه الفني وحدات متفاعلة داخل �سياق ر�ؤيوي‪ ،‬متجان�س‪� ،‬شديد الفاعلية‪ ،‬ويتحول‬ ‫النتاج الفني من م�ستوى التغيري ال�شكلي �إىل م�ستوى التحديث الكلي وحتقيق املح�صلة النهائية وهي عملية التجديد والت�أ�صيل‪.‬‬ ‫لذلك جند جتربة الفنان حممد مهر الدين تنتمي لهذه العالقة املتفاعلة واملتجان�سة متجاوزا بذلك م�ستوى الر�ؤية الب�سيطة‬ ‫واملبا�شرة �أو الر�ؤية االنعكا�سية �إىل م�ستوى الر�ؤية االبداعيه املركبة‪.‬‬ ‫�إن هذا امل�ستوى من الر�ؤية الفنية حني يرى الواقع ال يراه من منظور ثابت‪ ،‬بل يراه من زوايا متعددة‪ ،‬ليتمكن من اقتنا�ص‬ ‫جوهره املتحرك املتفجر‪ ،‬يلتقي بها اخلا�ص والعام يف مزيج ملتحم م�ؤثر‪ ،‬ويرتقي بذلك �إىل م�ستواها الأعمق واال�شمل‪ ،‬وي�ستمد‬ ‫مغذياتها من جماع التجربة الإن�سانية التي يعي�شها “الفنان” يف عاملنا املعا�صر بتكوينه الثقايف وال�سيكولوجي واالجتماعي‪ ،‬وخرباته‬ ‫اجلمالية يف اخللق والتذوق‪ ،‬ومعدل جتاوبه �أو رف�ضه للمجتمع‪ ،‬وطبيعة العالقة بينه وبني �أ�سرار هذا الكون‬ ‫�أن املتتبع لتجارب الفنان من خالل �إعماله الفنية املنفرد �أو معار�ضه الفنية منذ بداية العقد ال�سابع من القرن املا�ضي يت�صدى‬ ‫الفنان لإحدى امل�شكالت الفكرية الأزلية ب�شكل مبكر و هي ق�ضية “ احلرية “ و من خالل غيابها‪ ،‬التقط فكرة التمييز العن�صري و‬ ‫القمع الإن�ساين بت�شييده جمالي ًا ملو�ضوعة ال�سجينة “ �إجنيال ديفيز “ املعتقلة يف احد ال�سجون ا المريكيه ‪ ،‬ارتقى الفنان باحلدث‬ ‫لي�ضيف بعد ًا �إن�ساني ًا �شام ًال جتاوز به حدود الزمان و املكان‪ .‬و هذا ما عمق فكرة احلرية املطلقة التي مت تعزيزها من خالل تعدد‬ ‫ال�شفرات و الدالالت الرمزية التي بثتها هذ ِه الر�سالة اجلمالية يف عام‪ 1972‬وتلتها �ضحايا الطغاة ‪ 1973‬وم�صرع �إن�سان وتل الزعرت‬ ‫‪1976.‬‬ ‫�أن ميزة هذه الأعمال الفنية �شكلت حتو ًال مهم ًا يف الر�ؤية الفنية و املعاجلة التقنية جتاوز بها بع�ض الأطر الثابتة يف الفن‬ ‫العراقي املعا�صر‪ ،‬و �أبتعد الفنان يف جت�سيده لهذا املو�ضوع عن كل التقاليد الواقعية التي طرحت نف�سها كخطاب “ م�ؤد لج “ وا�ضح‬ ‫املعامل و هذا ما ن�شاهد ُه يف الأعمال الفنية التي تنتمي للواقعية والواقعية التعبريية �أو اال�شرتاكية‪.‬‬ ‫ويف عام ‪ 1978‬يطل علينا الفنان مبعر�ض مهم بعنوان((غريب هذا العامل)) الذي ينطلق بتجربة جديدة تعرب عن �إدانته‬ ‫واحتجاجه لتع�سف الواقع من خالل و�سائله احلياتية اجلديدة بالتعامل مع التطورات العلمية والتكنولوجية حني تكون على �ضفاف‬ ‫ال�شر واغتيال روح الإن�سان املعا�صر وما ت�شيده من دمار وفقر وب�شاعة وقلق وتدمري وغربه وانف�صام!!!‬ ‫وتت�أ�صل هذه التجربة عام ‪ 1980‬لي�ؤ�س�س بنيه جديدة �ضمت �شبكه من االجتاهات واملحاور ال�شكلية املتعددة واملتقاطعة‬ ‫بجدلها اخلا�ص ‪�:‬أرقام ‪،‬مفاهيم ‪،‬معادالت ريا�ضيه ‪،‬قوانني فيزيائيه ‪،‬رموز تاريخيه ‪،‬جتريديات‪....‬الخ ‪ ،‬ومن خالل �سل�سله من‬ ‫‪89‬‬


‫م�شروع البيئة واملحيط‪ ,‬وكما هو معلن من الكتابات والبيانات التي رافقت عرو�ضه اوا�سط الت�سعينات‪ .‬مل يكن غريبا عن‬ ‫م�ألوف منجز الت�شكيليني العراقيني امل�ساهمني ال�سابق والذين هم خليط من حروفيني ح�سب مقرتحات (�شاكر ح�سن ال �سعيد)‬ ‫وت�شكيليني جتريديني تفتقد اعمالهم للعالمة احلروفية‪ .‬كان م�شروع عر�ضهم ال يتجاوز املناورة على حمموالت اعمالهم ال�سابقة‬ ‫والتي ال متتلك معظمها من البيئة العراقية اال بع�ض من خمتزالت ملونتها‪ .‬لقد كان امل�شروع مبجمله مناورة لت�أكيد منهجية ثقافة‬ ‫�سطح العمل ولتبقيه على مبعدة من اهم التفا�صيل احليوية للبيئة واملحيط ‪ ‬املقرتح كثيمة عمومية‪ .‬وان كانت بع�ض من املالمح‬ ‫اللونية اجلوية لأعمال هذه املجموعة تنت�سب ملحيطها او بيئتها‪ ,‬فان ملونة مهر الدين تبقى مبنئى من ذلك وب�سبب من ولعه ال�صنعي‬ ‫املختربي املفرط‪ ,‬و�صناعته اللونية التي التغادر منطقة �سطوحها اال عبورا ل�سطوح اعمال اخرى ولتبقى ملت�صقة بحيز ف�ضاء معملها‬ ‫( حمرتف الفنان)‪ .‬واخريا خفت حدة م�شاك�سات الفنان لتتيح له ف�سحة من مغامرة اللعب على حمموالت خزينه التقني ومبا تي�سر‬ ‫له من م�سرة هي جزء من نتاج �صنعته‪ .‬ويبقى هاج�س املحموالت الثقافية بنوازع ت�شكيلية قابال للمعاينة مبا ت�سمح لنا ادوات الك�شف‬ ‫املعريف نف�سها من التقاط اهم العنا�صر الت�شكيلية التي تف�سح املجال لأدوات الأداء اكت�شاف طرقها املتي�سرة والتي تهيئ للعمل نظارته‬ ‫اجلمالية وم�ساربه الذوقية التو�صيلية وذاكرته املتعالقة وذواتنا ك�أثر قابل للتذكر‪ .‬التذكر هذا هو ما ال ت�ستطيع اعمال مهر الدين‬ ‫القب�ض على �سره اال يف حدوده الدنيا ول�سبب من �سطوة ال�صنعة التي تبقي م�صادره البيئة يف نقطة ال�صفر �ضمن م�صادر معاينات‬ ‫الفنان‪ .‬در�س ال�صنعة هذا ال يزال مهيمنا على نتاج غالبية الت�شكيليني العراقني ك�أثر ملهم بحدود ايهامات تلب�ست قناعاتهم‪ ,‬وعلينا‬ ‫انتظار اجيال اخرى يكون يف ا�ستطاعتها جتاوز حاجز م�ألوف هذه ال�صنعة‪ ,‬والعبور مل�صادر ومنابع اكرث عمقا‪ ,‬وان تكن جاهزية هذه‬ ‫املكت�شفات تبقى على مقربة منا‪ ,‬فما علينا اىل معاينتها مبنطق الأنفتاح على م�صادرنا البيئية املحلية والعاملية ومبا تي�سره لنا ادوات‬ ‫الأت�صال الثقافية املباحة املتنوعة‪.‬‬

‫*‪ -‬حيث در�س الفن فيها يف بداية ال�ستينات‪ .‬‬ ‫علي النجار‬

‫‪mixed media on paper - 45 x 40 cm - 2006‬‬

‫‪mixed media on paper - 40 x 40 cm - 2004‬‬

‫‪88‬‬

‫‪162‬‬


‫من �سطوة موادها البنائية‪ .‬كذلك ملعاجلاتها للق�ضايا الأن�سانية االنية احلادة والتي تعمقت مبا �أثري حولها من جدل هو االخر اخذ‬ ‫منحى ثقايف ال يخفي م�صادره‪.‬‬ ‫يف فرتة الثمانينات تقل�صت م�ساحة جتريبيته البنائية ل�صالح عنا�صر الكرافيك‪ .‬يف حماولة لأ�ستعادة مهارات الر�سم يف‬ ‫طبقته الت�أ�سي�سة الأولية (ادوات الكرافيك امل�ستوية)‪ .‬وبرز امل�صدر الفوتوغرايف ك�أهم م�صدر لعمله والذي اطلق عليه ( الواقعية‬ ‫النقدية)‪ .‬لقد ا�ستعاد بوا�سطة الكرافيك الفوتوغرايف ومبهارت الر�سم التقليدية ممار�سة �صناعة اللوحة او الر�سوم الورقية‪ .‬مع‬ ‫ذلك مل تكن هذه الأعمال بحدود م�ألوفها التقليدي‪ .‬فكرافيك مهر الدين اخلطي ومب�صادره الفوتوغرافية‪ ‬خ�ضع ملعاجلات لونية‬ ‫حمايدة وخمتزلة‪ ,‬وعلى النقي�ض من امللونة الطبيعية الفيزيائية املتوهجة‪ ,‬بقيت ملونته حمافظة على حياديتها التي متتعت بها‬ ‫اعماله ال�سابقة‪ .‬ويف الوقت نف�سه كرث اجلدل حول مرجعية منطقة اعماله التي تراوحت بني تاثريات ا�سلوبية املل�صق او اللوحة‬ ‫امل�سندية‪ .‬واعتقد ان الأمر يكمن ا�سا�سا يف اعتماده لعن�صر املونتاج الرتكيبي والذي من املمكن ان يدخل عن�صرا ا�سا�سيا يف اجناز‬ ‫كل من املل�صق واللوحة املر�سومة‪ .‬ومع ذلك فان احلدود بدت معدومة يف هذه الأعمال‪ ,‬فهو وعلى ما يبدو مل يحاول جتاوز مهاراته‬ ‫الكرافيكية الأوىل‪ ,‬بل وظفها ملا يخدم ت�صعيد الأثر الداليل املبا�شر والذي كان للحراك الثقايف الأن�ساين امللتب�س يف العراق وقتذاك‬ ‫دور يف تعميق هذا النهج الأ�سلوبي لدى الفنان‪ .‬ومل يكن مهر الدين بعيدا عن املناورة يف اخفاء دالالته ب�سبب من هيمنة ال�صوت‬ ‫القامع الواحد‪ ,‬وبالذات على ا�شده يف هذا العقد من ال�سنني وما بعده‪.‬‬ ‫وان كانت اعماله تندرج �ضمن املل�صق اللوحة‪ ,‬فال ميكن اخفاء ما ت�صرح به نوايا املل�صق ولو بحدوده الدنيا‪.‬‬ ‫ان كانت اعمال مهر الدين تدل على جذر ثقايف كما ارادها‪ .‬اال ان هذا اجلذر ينطوي على منحى �سايكولوجي يبقيه يف حميط‬ ‫احلدود التي ر�سمها منذ بدء ا�شتغاالته الفنية‪ .‬فلي�س من الي�سري انف�صامه عن جممل ادواته التعبريية الأجرائية التي ا�صبحت‬ ‫جزا من نب�ض داخلي‪ ,‬وكنتيجة لقطيعة معرفية تبقيه على مبعدة من ا�ستحداثات الزمان ‪ ‬الت�شكيلي ومرجعياته الثقافية والبيئية‬ ‫املتبدلة عرب الن�صف قرن املا�ضي‪ .‬وان اعلن حتوالته من خالل ت�ضمينات لبع�ض دواله الت�شكيلية املت�أخرة اال انها ال تزال‪ ‬تبقيه‬ ‫�ضمن حدود م�ساحتها املعرفية الأوىل وبجذرها الذاتي امل�شاك�س‪ .‬وما حتويالته الأ�سلوبيه املتاخرة اال نوع من اللعب على ح�صيلة‬ ‫خلفيته الأ�سلوبية ذاتها ومن خالل مناورتها بتفا�صيل خمتزالتها او حتوالتها التجاورية‪ .‬ويف كل هذه التجارب بقي ال�سطح كما هو‪.‬‬ ‫وبقيت ادواته الأجرائية نف�سها‪ ,‬وما تغري �سوى الأ�شارة الداللية التي حتولت اىل العالمة‪ .‬والعالمة التي اقرتحها ال تزال تخ�ضع‬ ‫وح�سب ما يراه لولع مرجعياته الثقافية الأن�سانوية‪ .‬و(فخ العوملة) الذي اختاره منفذا او معربا او فخا لأعماله املتاخرة‪ .‬ال يدلنا‬ ‫على جذر العوملة الثقايف‪ .‬بقدر ما يحمل م�شاك�ساته الأعرتا�ضية‪ .‬وهي م�شاك�سات ترجعنا لنف�س امل�شاك�سلت احلداثوية والتي مل‬ ‫ت�صمد للتاريخ الالحق اىل بحدود ما تبقى من اثارها القابلة لالندماج وع�صر تعداها‪ .‬وان كانت العالمة الكرافيكية واخلطية هي‬ ‫ادواته الأبرز �ضمن م�ساحاته بالوانها ال�صناعية‪ ,‬وبت�صميميتها الطباعية‪ ,‬فانها التزال تدل على ولع اللعب بهذه املفردات و�ضمن ما‬ ‫يقرتحه هو من تف�سري داليل‪ ,‬ال يزال بعيدا عما تقرتحه اعماله بالذات‪ .‬فللعمل الفني لغته اخلا�صة التي هي جزء من ارث الفنان‬ ‫املنفلت غالبا على غفلة من توقعاته‪ .‬وم�سار اللغة الت�ش�شكيلية لهذه الأعمال ( بالرغم من ارثها الت�شكيلي البحت) ال يخفي ن�سبها‬ ‫مل�ساحة الت�شكيل العراقية التجريدية احلروفية‪ .‬بالرغم من ادعات ابرز عرابيها بانتماءات اعمالهم للبيئة واملحيط يف حماولة‬ ‫لك�سر م�ألوف داللتها‪.‬‬ ‫‪87‬‬


‫الت�شكيلي العراقي الأو�سع‪ .‬هذا الأنبهار الذي حتول اىل ولع تغريبي يجو�س مناطق العتمة مب�شرط �سكني نائيا ومنذ البداية‬ ‫التجريبية الأوىل عن مالم�سة نب�ض القلب اىل مالم�سة احلدث‪ .‬ومل ي�سمح الفنان مللونته اال مبا يوازي �صالبة مواده امل�ضافة‪ .‬ومل‬ ‫يكن مهر الدين وحيدا يف ذلك‪ ,‬لكنه يبقى الأبرز ولو يف حدود عقد ال�سبعينات‪.‬هذا العقد املفعم غرابة‪ ,‬ب�سبب من طروحات الت�شكيل‬ ‫العراقي املو�صوفة بالبعد الواحد‪ .‬والتي كانت تغازل بعدا ثقافيا وحيدا بنوايا تغريبية تتقاطع وازمنة الت�شكيل ال�سابقة‪ .‬تقاطع‬ ‫�أ�س�س لثقافة �سطح العمل الت�شكيلي مبحموالت حروفية وخليط من تاثريات �شتى بقيت حمافظة على مرجعياتها املحدودة وبحدود‬ ‫املعلن من نواياها الأثرية املحلية ( ولي�ست امل�ضمرة)‪ .‬يف م�سعى لأ�ستح�ضار الأثر املحافظ على بعده الزمني‪ .‬الن�أي الزمني هذا هو‬ ‫ع�صب غرابة الت�شكيل العراقي الالحق ( بالذات اعمال هذا البعد الواحد)‪ .‬ويف زمن هو الأكرث �ضغطا على املنافذ الثقافية امل�شرعة‬ ‫على رحبها‪ .‬وان التقت اعمال مهر الدين الت�شكيلية يف بع�ض من اجنازاتها ال�سطحية مع ت�شكيل البعد الواحد‪ ,‬اال انها وب�سبب من‬ ‫بع�ض حمموالتها او داللتها الرمزية حاف�ضت على م�سافة حيادية ‪ .‬ابقتها مبوازاة حافاتها او مداراتها الوا�ضحة‬ ‫�إذا كان ال�سطح ي�شكل اهم عنا�صر اعمال مهر الدين‪ ,‬ف�أن عن�صر الت�صميم يبقى الأهم يف جمال ت�شكيل مفردات هذا ال�سطح‪.‬‬ ‫والت�صميم يف اهم مكوناته هو عقالنيا (ريا�ضيا) ويخ�ضع حل�سابات وقيا�سات منطقية تت�شكل خارج منطقة العاطفة او ع�صبها‬ ‫احل�سا�س‪ .‬وما اك�سب مناورات الت�صميم يف اعماله ح�سا�سية عالية هي قدرتها على الت�شكل و�سط بيئة كرافيكية م�صنعية ا�ضافت‬ ‫للعمل بعدا اخر‪ ,‬حرره بع�ض ال�شئ من ثقله او �سكونيته‪ .‬املناورة الكرافيكية التي اتقنها الفنان اك�سبت عمله قيمة فريدة و�سط منجز‬ ‫الت�شكيل العراقي‪ .‬لكنها بقيت مناورة ملتب�سة‪ ,‬ب�سبب من امليزة‪ ‬الأدائية الكرافيكية التوريقية ( ال�سطح الكرافيكي البال�ستيكي) ‪,‬‬ ‫لذلك بقيت اعماله ع�صية على مغادرة م�ستوياتها ال�سطحية‪ .‬هذا ال يعني ان اعماله ال�سبعينية املثقلة مبوادها امل�ضافة (التي تقارب‬ ‫يف بع�ضها منطقة النحت امل�سطح) بعيدة عن ذلك‪ .‬فهي الأخرى كرافيكية بابعاد م�ضافة لي�س اال‪ .‬وبقيت ال�صنعة الكرافيكية مالزمة‬ ‫لنتاج هذا الفنان اىل يومنا هذا‪.‬‬ ‫اكتملت ادوات مهر الدين الأدائية منذ بداية ال�سبعينات‪ ,‬ان مل تكن قبل ذلك بفرتة ق�صرية‪ .‬لكن تبقى اعماله املنفذة يف‬ ‫هذه الفرتة الزمنية‪ ,‬بالن�سبة له‪ ,‬يف م�صاف الذروة من اكت�شافاته التي حددت م�ساره الالحق‪ .‬وهي يف الأ�سا�س حم�صورة يف اكت�شافات‬ ‫طرق التنفيذ‪ .‬واحلرفية هذه القت ب�ضاللها على الت�شكيل العراقي عموما‪ ,‬هاج�سا ار�أ�س‪ ,‬و وهما كان ال بد ان تكابده الأجيال‬ ‫الالحقة‪ .‬لي�س االمر اعتباطا اذا ما عرفنا ولع �شعوبنا العربية باملنتج احلريف‪� ,‬سواء املوروث او امل�ستح�ضر ب�شروط وراثته‪ .‬والذي‬ ‫يرجع يف بع�ض من ا�سبابه ل�سطوة ارثنا الت�شكيلي الأ�سالمي‪ ,‬يف غياب امل�ؤثرات احل�ضارية الأخرى ولفرتات طويلة‪.‬املهم‪ ,‬ان هذه‬ ‫احلرفة هي بالأ�سا�س �شكلت فخره ودالته التي متاهت و�شخ�صيته الأجتماعية يف ان واحد‪ .‬لقد كانت اعماله لهذه الفرتة مثقلة‬ ‫برتاكم بنائاتها‪� ,‬سواء ان كانت �شخو�صا م�ؤ�سلبة جمز�أة او م�شطورة بحزوز عميقة ( اذا ما عرفنا انه كان يف�ضل رقائق اخل�شب‬ ‫امل�ضغوطة يف اجناز اعماله)‪ .‬او معلمة بعالمات خطية‪ ,‬وغري ذلك من الت�أثريات او الأيحات الأ�سلوبية والتي غالبا ما تندرج �ضمن‬ ‫م�ساحة مقننة و�سط ف�ضاء العمل‪ .‬او حتتل معظم م�ساحته‪ .‬ف�ضاء هو االخر منتهك بخ�شونة وق�ساوة معاجلاته‪ .‬وهي معاجلات‬ ‫غري م�ألوفة‪ ,‬اال يف حدود �ضيقة‪ ,‬من قبل الو�سط الت�شكيلي العراقي وقتها‪ .‬مما ت�سبب يف و�ضع منجز مهر الدين على املحك وبقية‬ ‫التجارب الت�شكيلية املتزامنة‪ ,‬كتجربة ( كاظم حيدر) و( ا�سماعيل فتاح الرتك) مثال‪ .‬فبقدر ما كانت جتارب الأخريين مثار جدل‬ ‫ت�شكيلي ثقايف وذوقي‪ .‬كانت جتربة مهر الدين تقف مبعزل عنهما‪ ,‬ب�سبب من متتعها ب�سكونية ملونتها الكابية معظم الأحيان‪ .‬وب�سبب‬ ‫‪86‬‬


‫أعمال حممد مهر الدين التشكيلية وقطيعتها البيئية‬ ‫مل ي�سمح جتريد حممد مهر الدين ال�صلب لعنا�صر غري ت�صويرية �أن تتطفل على لوحته ‪ ،‬حمى الفنان‬ ‫حدود لوحته جيدا وف�ضل ال�سطح ممثال للحرية‪ ( .‬عبد الرحمن طهمازي )‬ ‫لي�س من الهني معاينة جتربة ت�شكيلية متميزة امتدت على مدى ما يقارب الن�صف قرن من الزمن‪ ,‬بكل ما حتمله هذه الفرتة‬ ‫الزمنية العراقية من تقلبات دراماتيكية باتت معروفة للقا�صي والداين‪ .‬تلك هي جتربة الفنان (حممد مهر الدين)‪ .‬وان كانت هذه‬ ‫احلقبة الزمنية م�شاك�سة وعابثة مب�صائر الب�شر‪ ,‬فهي اي�ضا عابثة ب�شروط انتاج ثقافة متوازية وقدرات الفئة املثقة احلقيقية التي‬ ‫متاهت و�شروط النتاج الثقايف الأن�ساين الأو�سع او الأعمق ادراكا‪ .‬مع كل ذلك‪ ,‬مل يكن نتاج مهر الدين عبثا‪ ,‬او خارج ال�شروط التي‬ ‫وجد نف�سه ملتزما بها‪ .‬وهي �شروط تلب�سته قناعاتها منذ الزمن الدراماتيكي الأول لنهاية اخلم�سينات‪ .‬لذلك مل ي�ستطع وعلى امتداد‬ ‫زمن جتربته‪ ,‬من الأنفالت من ربقة هذه ال�شروط الأن�سانوية‪ .‬وبالوقت الذي مل ت�ستطع جتربته جتاوز هذا الزخم الدراماتيكي على‬ ‫امتداد زمنها‪ ,‬فهي مل تعدم اثرا من هنا واثرا من هناك يف كل الأحوال‪ .‬لقد التهم الهم الثقايف الأن�سانوي العديد من مميزات اخراج‬ ‫اعماله الأخرى‪ ,‬بقدر ما منحها مميزات ا�ستاتيكية ثابتة بع�ض ال�شئ‪ .‬وكانت �سببا يف ‪ ‬افتقادها لرابط ‪ ‬العالقة ال�سرية بالبيئة‪,‬‬ ‫والتي هي من بع�ض اهم �شروط اخراج العمل الت�شكيلي‪ .‬والبيئة التي اعنيها‪ ,‬لي�ست التفا�صيل العيانية البالغة الو�ضوح ‪ ,‬وان كانت ال‬ ‫تربح املخيلة‪ ,‬بل مبا يوازي انطباع ملونتها الوجدانية‪ ,‬وهاج�س الأم�ساك مبا تي�سر من عنا�صرها ال�سرية التي تلب�ست ذواتنا‪ .‬لذلك‬ ‫بقيت اعماله حتمل (مبعنى من املعاين) ب�صمة اخلرب ولي�ست احلادثة‪ ,‬كونها خربية مثلما ارادها‪ .‬بالوقت الذي �ساعدت �سريته‬ ‫احلياتية ( التي مل تنف�صل عن عمله الأبداعي) على ‪.‬تعميق ذلك املنحى امللتب�س‬ ‫‪ ‬جتربة ت�شكيلية كهذه تتماهي ومدركات ثقافية بالأ�سا�س‪ ,‬من الطبيعي ان تبحث عن م�صادرها الأدائية عرب �سبل اداء هي‬ ‫�ألأخرى ثقافية‪ ,‬او مثقفة‪ .‬ومبا ان التجربة الت�شكيلية العراقية حالها حال التجربة الت�شكيلية العربية حديثة الن�ش�أة ن�سبيا‪.‬‬ ‫فكان من الطبيعي ان تتطلع للم�ستجد من التجارب الت�شكيلية العاملية ذات الأمتدادات احلديثة الأو�سع‪ .‬لذلك كان الت�أثر بهذه‬ ‫امل�ستجدات م�شاعا بحدود اكت�ساب اخلربة و�سبل ادائها ومبا يوازي بحث الفنان وم�ستوياته االدراكية‪ .‬وكان الأبرز من هذه امل�ؤثرات‬ ‫هي عنا�صر ال�صنعة‪ ,‬وبالذات �صنعة �سطح العمل ( اللوحة بالذات)‪ .‬هذه ال�صنعة التي راجت يف بع�ض من م�صادرها الغربية يف‬ ‫نهاية منت�صف القرن املا�ضي‪ .‬وت�أكدت او انت�شرت لبع�ض الدول الأخرى‪ .‬كانت جاهزة يف (بولونيا) يف نف�س الفرتة التي در�س مهر‬ ‫الدين الفن فيها‪ .‬ويبدو ان هذا الدر�س الت�شكيلي الأول ا�ستوطنه على امتداد زمن جتربته كلها‪ .‬وال يعني الأمر انتقا�صا للتجربة‪.‬‬ ‫فالت�شكيل احلديث ال يعي�ش خارج مناطق الت�أثر ب�شكل من الأ�شكال‪ ,‬وبالذات ان كانت م�صدرا للت�أ�سي�س كما يف التجارب الت�شكيلية‬ ‫العربية‪ .‬وان كان التنا�ص ح�صل على �شرعيته م�ؤخرا‪. .‬فلقد ح�صل يف املجال الت�شكيلي منذ �أزمنة اقدم‬ ‫‪� ‬إن الأ�شتغال على �سطح اللوحة ( ولي�س مبعنى الأ�شتغال على ال�سطوح الت�شكيلية مبفرداتها املتنوعة) ا�صبح الهاج�س الأكرب‬ ‫لأجيال الت�شكيل العراقية املت�أخرة‪ .‬لي�س كما يبدو عن نزوة او غفلة من الزمن‪ .‬بل ت�أ�س�س �ضمن هم احرتايف ومن خالل ثقافة‬ ‫خالفية ا�شتغلت بدراية هي مزيج من انبهار بقدرات حرفية تعبريية متل�ص�ص عليها من مناطق عاملية متنوعة‪ .‬مثلما ا�صبح الأنبهار‬ ‫مبحموالت ال�سطح مثار حوافز ابداع الفنان (حممد مهر الدين) على امتداد زمن جتربته التي قاربت الن�صف قرن‪ .‬وهو زمن احلراك‬ ‫‪85‬‬


mixed media on wood + canvas - 80 x 80 cm - 2004

125

mixed media on paper - 40 x 40 cm - 2004

84


‫الواقعية النقدية‪ ،‬واملدر�سة البنائية‪ ،‬حتى ر�سومه ذات الوجهة العالمية‪ .‬تلك التمرحالت اف�ضت اىل تثبيت الن�سق الداخلي‬ ‫للخطاب‪ ،‬وقدمته ك�أف�ضل ما يكون عليه اجلدل الذي ينفي االرجتالية غري م�ضمونة العواقب‪ ،‬وقد ت�أتي على جوهر البحث اجلمايل‬ ‫الذي خطط له الفنان بعناية وت�صميم‪.‬‬ ‫متوالية التحوالت اال�سلوبية هذه‪ ،‬لن تتوقف يف اطالق هواج�سه يف املمار�سة اجلمالية‪ ،‬كما انها مل تخف بذرة اال�صالح‬ ‫والتنوير‪ ،‬وت�ؤ�س�س لتجربة تتحكم بها ذهنية توا�شج بني التمرد وااللتزام‪ ،‬بني الذات واملو�ضوعية‪ ،‬ما يتيح له عرب هذه الثنائيات‬ ‫االم�ساك مبفاتيح لعبة الر�سم‪ ،‬وباحرتافية عالية‪ ،‬ولي�ست هذه الثنائيات املتعار�ضة اال ا�ستجابة لطبيعة جيل وجد نف�سه �سائرا‬ ‫يف ركاب الي�أ�س‪ ،‬وكان ف�ضاء الر�سم يت�سع لبث ر�سالة الرف�ض هذه‪ ،‬ملا يحدث من انهيارات يف بنية الفكر العربي بوجه عام‪ .‬لقد‬ ‫وجد مهرالدين يف الفن و�سيلة لت�سريب هاج�س التمرد هذا‪ ،‬وهي النزعة التي ظلت متثل عالمة فارقة ملن جايله ممن ركبهم الهو�س‬ ‫بالرتاث‪ ،‬وال�صياغات ذات الن�سق الزخريف‪ ،‬نتذكر هنا ر�سوم �ضياء العزاوي وعامر العبيدي و�سواهما ممن راهن على جذب منطوق‬ ‫اخر للحداثة تبد�أ من البحث يف املنابع‪ ،‬تلك النظرة التي مل تكن بالو�ضوح ذاته يف ر�سوم مهرالدين‪ ،‬وهو الهائم بالهاج�س االن�ساين‬ ‫على رحابته‪ ،‬وكانت النتائج لديه تبدو اكرث اغراء وعلى نحو ال يقاوم‪ .‬واذا كان �صحيحا ان حممد مهرالدين يلعب على وتر الفجيعة‬ ‫فلأنه ال يهدف اىل تدمري لذة اجلمال التي ت�ؤطر امل�شهدية ‪.‬وهكذا تتخذ الفجيعة وجها مثريا وجذابا للتلقي‪ ،‬بالطبع ال لغر�ض‬ ‫تكري�سها وجعلها حمببة‪ ،‬امنا لغر�ض تدمريها كليا وطي نتائجها الوخيمة‪ .‬واتفق هنا مع عادل كامل حني وجد ان اجلمال عند‬ ‫مهرالدين هو �سر عمله الفني‪ ،‬لكن الب�شاعة هي جزء من حمتوى هذا اجلمال‪.‬‬ ‫ويف كل االحوال‪ ،‬فان املغزى اجلمايل بقى ولوية ال مهرب منها‪ ،‬كما ىنه مركز جذب ا�سا�س‪ ،‬يف حني تبقى اطراف الن�ص‬ ‫مكتفية بت�ضحيتها الجله‪ ،‬وت�شرتك يف اللعبة كمحموالت تدير وجهة ال�صراع بهدف اعالء �شكالنية اخلطاب‪.‬‬ ‫ور�سام مثل حممد مهرالدين ال يريد ان يرى ر�سوماته خارج راهنيتها‪ ،‬انه ي�سعى حثيثا لالخذ مبجهوداته و�سط معمعة‬ ‫ال�صراعات احل�ضارية امل�ستجدة واملتوالدة دون انقطاع‪ ،‬هذا ما يف�سر طم�س او حتييد امل�شاعر الذاتية املجردة التي قد تذهب‬ ‫بر�سالة الفن اىل ف�ضاء مغلق وال تقدمه كفنان ملتزم يعرف بال�ضبط ما الذي عليه ان يفعله‪ ،‬ثم انه ال يريد ان يبدو وثنيا لوعيه‬ ‫االيديولوجي‪ ،‬وكل �شيء لديه يحتمل قراءات ومداخل �شتى‪ .‬هذه املرونة اهلته للعب دور املحرر الذي يريد بناء الر�سم احلامل‬ ‫لهموم النه�ضة‪.‬‬

‫د‪ .‬عا�صم عبداالمري ‪2007‬‬

‫‪83‬‬


‫ان التجاذب بني الت�صميم والر�سم يدفعه غالبا اىل تلطيف املناخات بوجه ال�صرامة والرتاكيب املعيارية‪ ،‬عرب ا�ستثمار كمية من‬ ‫الوثائق وال�صور‪ ،‬التي ت�سمح للإن�شاء الن يبدو اكرث ان�ضباطا ‪ ،‬كما انها ت�ؤدي دور الأدلة او الإ�شارات التي تعزز وجهة اخلطاب‬ ‫املو�ضوعية يف تو�صيل ال�شفرة املراد �إي�صالها‪ .‬ويرتتب على هذه ال�صياغات موقفا �أخالقيا دون �شك‪ ،‬الذي ال ينبغي للفن الهروب منه‪،‬‬ ‫ثمة جر�أة يف ف�ضح عنا�صر اجلرمية التي تعبث بوجودنا‪ ،‬وت�سهم يف �سلب �سعادة الإن�سان وحلمه باحلرية‪ .‬من هنا يت�ضح �إن مهر الدين‬ ‫ال يريد مغادرة حلم الثورة الذي هام به جيله‪.‬‬ ‫ميهني ا�ستمرارا يف ن�سق القراءة هذه‪ ،‬العناية ببني التحديث التي �سعى لها هذا الفنان الثائر‪ ،‬ووثقت ل�سرية جتربة قابلة على‬ ‫التمدد ال االنكما�ش �ضمن اطار تاريخيتها‪ .‬لهذا يتعذر تقييم ر�سومه اال اذا عدنا ادراجنا اىل ايقاع حركتها داخل الفعل اجلمايل‪،‬‬ ‫مع اطالالت التهكم والنقد اجلارح التي ال تفارق ر�سومه انى اجتهت مع ما تنطوي عليه من مد ا�سلوبه يدفعها باجتاه جدل متنام‪ ،‬مبا‬ ‫يحافظ الفنان على �ضراوة امل�شاعر‪ ،‬وتدفق ال�صور وات�ساق اال�سلوبية‪.‬‬ ‫ومهر الدين يح�سن حتديد زاوية الر�ؤية لعامل مائج بالف�ضائع ومن خاللها يدمج الذات بقيم تعلي الف�ضيلة‪ ،‬وروح املقاومة‬ ‫للعدوانية التي تهني ان�سانية االن�سان ونزع االقنعة عن ثقافة الكراهية‪ ،‬ورزايا ال�سلوك التي جلبتها ح�ضارة الت�صنيع وما بعده بحيث‬ ‫تتمكن الر�سوم من بناء هيكليتها املتما�سكة بذكاء‪ .‬ويبدو هذا وا�ضحا قبل وبعد معر�ضه (غريب هذا العام ‪ ، )1978‬الذي اظهر فيه‬ ‫موقفه النقدي ال�صريح كحامل‪ ،‬و�سوف لن يكل من الطرق على تلك القيم لتعميق االبالغ حتى لو ا�ضطرته ال�ضرورة اىل بلورة خطاب‬ ‫قاب قو�سني او ادنى من الوثيقة التي ت�صرح بادانتها بكل ما يزدري االن�سان‪ ،‬وال ترثيب يف ذلك‪ ،‬ما دام الفنان يرى ان هذا االداء يثبت‬ ‫الر�سالة ليقول �شيئ ًا ‪ ،‬وال ينبغي ال�صمت دون املجاهرة به‪.‬‬ ‫ان ما يده�ش يف ر�سوم مهرالدين و�ضع املتلقي يف دائرة اجلمال املنبثق من الربط الناجح للرتاكيب والعنا�صر التي تعرف‬ ‫الوظائف امللقاة على عاتقها‪ ،‬كل �شيء يف ر�سومه ي�سري اىل اهداف عينت بعناية‪ ،‬وال مكانة لع�شوائية حركتها‪ ،‬كما ال وجود لوحدات‬ ‫تظل طريقها‪ ،‬وما ي�شجعني على القول فيه انه (ا�سطة) باملعنى الدقيق للكلمة‪ ،‬انه ال يريد للوحة ان تخاطب االخر دون ان تعد‬ ‫العدة مبا يكفي لالعالن عن نف�سها‪ ،‬والجل ذلك يعلن الفنان عن نف�سه ال من�شيء�أ تراكيب ت�صويرية ح�سب‪ ،‬امنا مب�شر يحمل عدة‬ ‫فكرية وارادة حترير ملظاهر اال�ستالب‪ ،‬دع عنك حترير الر�سم من الداخل من امليول اال�ستعرا�ضية والهائمة يف اجلمال املجرد وتيه‬ ‫الذات وفوق ذلك كله اال�صرار يف جعل الفن رهان جمد مبقدوره خلخلة قناعاتنا التقليدية عنها ويزيح الغ�شاوة عنها‪.‬‬ ‫انه يهبنا اجلمال دفعة واحدة‪ ،‬ويقدم نف�سه من خالله كفنان مثقف ولي�س ر�ساما تركبه غريزة الر�سم‪ .‬كان مهرالدين‬ ‫يعرف انه امام مفرتق طرق مع ما انتهى اليه الر�سم العراقي قبل عقد ال�ستينيات‪ ،‬وبدا متفهما الطروحاته يومذاك‪ ،‬حني انخرط‬ ‫اخلم�سينيون اىل لغة ت�صوير ت�سعى جلذب جماليات الواقع يف املقاهي‪ ،‬واالحياء ال�شعبية والريف العراقي‪ ،‬وما اىل ذلك‪ .‬بعد ان‬ ‫خرق جواد �سليم وفر�سان (جماعة بغداد للفن احلديث) انظمة الر�سم هذه‪ ،‬و�ساروا به اىل رحاب احلداثة‪ ،‬تلك املهمة التي اخذت‬ ‫�شكل حتدي وجتاوز ح�سب تو�صيف الفنان نف�سه‪ ،‬و�سي�سعى للبدء من حلظة ابداع مفارقة قوامها ا�ستبدال ميكانزمات الر�سم من‬ ‫الداخل‪ ،‬مع ما يحمله من بذور حتديث‪ ،‬افكارا وو�سائط تقنية مبا يوازي خيال الع�صر‪.‬‬ ‫وبدا مهرالدين م�ستعدا لركوب املغامرة‪ ،‬و�سيم�ضي قدما يف تكري�س جناحاته املطردة عرب �سل�سلة املعار�ض ال�شخ�صية‬ ‫وامل�شرتكة‪ ،‬التي ك�شفت عن حمافظته على متانة االجتاه الفني وثراء املعاين‪ ،‬هذا ما بدا جليا يف �سل�سلة انتقاالته اال�سلوبية من‬ ‫‪82‬‬


‫حممد مهر الدين‪ ،‬بني منطق التصميم ‪ ..‬وال منطق الرسم‬ ‫تلهب ر�سوم (حممد مهرالدين )خيال النقد‪ ،‬وال اظن ان احدا فرغ من قراءتها‪ ،‬ذلك ان ما مل يرد على خاطر ما زال هناك‪،‬‬ ‫ويفتح االبواب م�شرعة ال�سئلة ومراجعات‪ .‬فتجربة هذا الفنان املجدد تعر�ض اغواءاتها مبا ي�سمح جلدل االراء ان يت�سع‪ .‬فلي�ست‬ ‫ر�سوم (مهرالدين) اال احدى عالمات التنوير يف الر�سم العراقي املعا�صر التي بدت كما لو انها تنويعات على ازمة ح�ضارة‪ ،‬وثقافة‪،‬‬ ‫وجمتمع‪ .‬وا�ستطاعت ان تتمثل هاج�س الثورة املنبثقة من ذهنية تتفهم ر�سالة الفن‪ ،‬وحتافظ على نزعة االكتمال‪ ،‬وقوة اخلطاب‬ ‫مبا ميثل ذات متعط�شة لالنقالب على كل ما هو ال ان�ساين‪ ،‬ويهدد احلياة‪ ،‬وي�سوغ اال�ضطهاد بديال عن احلرية‪ .‬هذا بع�ض ما كان ي�شغل‬ ‫الفنان ويحدد معامل �صريورته كذات حية‪.‬‬ ‫من هذه الزاوية يبدو يل ان مهرالدين قدم نف�سه حاملا يف عامل ال يبدو على راحة اليد‪ ،‬انه بب�ساطة يواجه خراب النف�س‬ ‫والعامل بوحي خميلة توا�شج بني التمرد وما يف�ضي عليه من التزام ولي�س مترد عابث‪.‬‬ ‫لهذا ي�ضعنا الفنان ما امكن يف زوايا نظر لفن ي�أتي من مكان اخر‪ ،‬لعلنا ال نعي�ش فيه لكننا مت�شوقني الن ندركه‪ .‬ولوحاته التي‬ ‫عرفت بالغزارة‪ ،‬والعمق‪ ،‬والتنوع متثل يل م�أثرة من م�آثر الر�سم العراقي‪ ،‬النها لي�ست رجع �صدى للخيال الذي �ضرب مبوجب فن‬ ‫اخلم�سينيات ليلقيه على �سواحل الواقع‪.‬‬ ‫لقد كانت ر�سوم مهرالدين تدرك مربرات وجودها منذ البداية جمرتحة ن�سقا ت�صويريا وجدت نف�سها فيه �ضمن احالم جيل‬ ‫يدور يف دوامة ال�صراعات واحتدامها‪ ،‬وهكذا بدا العقد ال�ستيني يغلي باملتعار�ضات وينذر بانقالبات حمتملة‪ ،‬وهذا ما حدث بالفعل‪.‬‬ ‫ثم انه جيل وجد نف�سه يف مهب اخلذالن ‪ ،‬وحتت اجواء االنك�سار الذي مهدت له النك�سة عام ‪ ،1967‬لكن مل يدع الدر�س يذهب ادراج‬ ‫الريح‪ ،‬وقد حزم امره كي يتمثل كينونته بدينامية هي االكرث م�ضاء يف حركة الفن العراقي املعا�صر‪ ،‬و�سط ت�صاعد االيقاع الثقايف‬ ‫وتناحر تياراته وتعدد م�ساربه‪.‬‬ ‫لهذا كله‪ ،‬بدا حممد مهرالدين يعرف اولياته جيدا ولي�ست به رغبة خليانة مواقفه التي يريد لها ان تهتف ب�صوت عال دون‬ ‫خماتلة‪ .‬كان الر�سم لديه ميثل �سرتاتيجية لها اهداف متعينة‪ ،‬ومعان ال ينبغي احلياد عنها‪ ،‬ويف الر�سم كانت موهبته تتفجر على نحو‬ ‫الفت‪ ،‬اىل الدرجة التي ت�ست�شعرك ان ت�صاهر املواقف والفن وجهان لعملة واحدة‪ .‬ورمبا يكون مهر الدين من القالئل الذين �سحبوا الفن‬ ‫اىل ف�ضاء احلراك ال�سيا�سي والثقايف بالوجه الأعم‪ ،‬لكنه مل ي�سمح له بالهبوط اىل ما ميثل الهتاف‪ ،‬او الدعاية التي تهني اخلطاب‪.‬‬ ‫وكان يظهر عناية بالغة باللغة الب�صرية‪ ،‬كما لو انه يتمتع بعقل ريا�ضي يعرف ما الذي تنتهي اليه املعادلة من نتائج‪ .‬لكن هذه‬ ‫الرقابة ال�صارمة جلغرافية ال�سطح الت�صويري‪ ،‬قد ا�ستندت على خربة ت�صميمية فذة‪ ،‬كانت من نتائج درا�سته للفن يف بولونيا‪ ،‬وهي‬ ‫ال�سمة التي يندر ان نرى لها نظريا يف ر�سوم عراقية �أخرى‪.‬‬ ‫ولأجل ذلك‪ ،‬غالبا ما مييل الفنان �إىل عقد وفاق بني منطق الت�صميم‪ ،‬وال منطق الر�سم‪ ،‬وكالهما ي�شد الأخر �شدا‪ ،‬مبا يرثي‬ ‫م�شاهده امل�صورة‪ ،‬وبال�ضرورة يلقي ب�ضالله ايجابيا على حيوية الأداء وجمال الرتاكيب‪ .‬هذه املزاوجة لعلها من �أ�سرار اللعب على‬ ‫ال�سطح الت�صويري‪ ،‬والتي ت�ضفي على اخلطاب ر�صانة يف ال�صياغة‪ ،‬وعذوبة يف الأجواء‪ ،‬ما يربر يل القول‪ :‬ان مهر الدين ال يقاوم‬ ‫�أغراء الهند�سية وك�أنه يريد من اللوحة ان تقدم نف�سها بال �أخطاء‪ ،‬وقد اثبت �أهلية ال جتارى يف ادارة هذه املعادلة ال�صعبة‪.‬‬ ‫‪81‬‬


‫مطالب الت�صميم‪.‬‬ ‫ولكي يخفّف من �سكون الت�صميم وطابعه الآيل املحايد ا�ستخدم مهر الدين اخلطوط بوفرة‪ ،‬وجعلها تتحرك على ال�سطح‬ ‫بحرية هي على ال�ضد من ان�ضباط عنا�صر الت�صميم و�صرامتها‪ ،‬خطوط رقيقة �أو عري�ضة‪ ،‬داكنة �أو باهتة تروح وجتيء م�ستقيمة‬ ‫عابرة القطع املل�صقة واحلقول امللونة املتجاورة وك�أنها الطرق ن�ستق ّلها على ال�سطح الت�صويري ومن�ضي حيث ن�شاء‪� ،‬أو هي تتل ّوى‬ ‫الرقع املل�صقة �إىل بع�ضها‪ ،‬وتق ّوي �أوا�صرها‪ ،‬وتقوم بجذبها من موا�ضعها‬ ‫ّ‬ ‫وتتعرج طائ�شة ع�شوائية‪ ،‬وهي يف د ّوامة حركتها ت�شدّ ُّ‬ ‫البعيدة لكي تلتحم باملركز فال تغفلها العني‪ .‬وممّ ا ي�سهم يف حتريك ال�سطح ويق ّو�ض احل�س بالرتابة غري اخلطوط‪ ،‬عدم تردد الفنان‬ ‫يف ثقب �أعماله يف هذا املو�ضع �أو ذاك �أو القيام بقر�ض حدودها قر�ض ًا حقيقي ًا �أو باللون لتكون مبثابة بوابات متعددة تلج منها العني‪.‬‬ ‫مير على �أع�ضائها ك ّلها ويغور فيها كاجلرح‪ .‬ال�شطب ي�أتي يف حلظة من حياة‬ ‫غالب ًا ما يختتم مهر الدين لوحته ب�شطبها �شطب ًا حا ّد ًا ّ‬ ‫ال تريد �أن تقف يعي�شها فعل الر�سم‪� ،‬شطب ّ‬ ‫يعطل جريان العمل‪ ،‬ويوقفه يف نقطة معينة من رحلته يرهنه فيها‪ ،‬لي�ست�أنفه الفنان‬ ‫يف عمل الحق‪ .‬ال�شطب يعني الإرجاء والت�أجيل وفيهما ي�ستعيد اخليال املرهق �أجنحته‪ ،‬والوعي اتقاده‪ ،‬واليد دمها‪ .‬ويعني ال�شطب‬ ‫مما يجعل جمموعة �أعمال‬ ‫�أي�ض ًا احتما ًال �آخر ما يزال قائم ًا لدى الفنان لو�ضع جديد ومظهر تتخذهما عنا�صر لغته ومواد عمله‪ّ ،‬‬ ‫موحدة يجري التعبري عنها بتن ّوع‪.‬‬ ‫الفنان عم ًال واحد ًا يعك�س جتربة ّ‬

‫‪mixed media on paper - 40 x 40 cm - 2006‬ها�شم تاية ‪2005‬‬

‫‪mixed media on paper - 40 x 40 cm - 2006‬‬ ‫‪80‬‬ ‫‪149‬‬


‫التشكيلي حممد مهر الدين فعل الرسم بني التجريد والرغبة يف البوح‬ ‫توجهني مزدوجني‪� ،‬أحدهما يكون فيه هذا الفعل خمل�ص ًا لنف�سه‬ ‫يف معظم �أعمال الفنان حممد مهر الدين نواجه فعل الر�سم يف ّ‬ ‫ثرة‬ ‫فال يدخر �أية طاقة من طاقاته من �أجل �أن ي�سو�س مواده ويعاجلها بحيوية وحم ّية متقدتني مق ّلب ًا �إياها يف احتماالت ت�شكيلية ّ‬ ‫احلر وي�شرف عليها العقل ذاهب ًا بها �إىل �أق�صى �إمكانات ت�شكّلها‪ ،‬والآخر يتخ ّلى فيه‪� ،‬أو هكذا يبدو‪ ،‬عن بع�ض �إخال�صه‬ ‫يقرتحها اخليال ّ‬ ‫ً‬ ‫ناطقة مبا ترغب فيه‬ ‫لنف�سه‪ ،‬فال يغلق حدوده بوجه ما يقبل عليها من خارج ان�شغاالت ر�ؤيته‪ ،‬بل ي�سمح لها �أن تع�سكر على �سطحه‬ ‫� ٌ‬ ‫إرادة يهمها �أن تتبنّى ق�ضية �أو تعلن عن موقف‪ ،‬فال ي�سع فعل الر�سم‪ ،‬وقد �ألفاها يف جماله �إال �أن يختار بني �أمرين‪� ،‬أن يخ�ضعها ملطالبه‬ ‫فتتك ّيف على وفق ما تقت�ضيه بنيته‪ ،‬وهو ما اجتهد مهر الدين يف القيام به يف عدد من �أعماله‪� ،‬أو �أن يتغافل عنها يف �أعمال �أُخر‬ ‫أ�صم متعال بني خطوط و�ألوان انخرطت يف ن�سيج م�شتبك من العالقات دون �أن تعب�أ به‪� ،‬أو يعنيها �أمره‪.‬‬ ‫فتلت�صق على ال�سطح كت�صريح � ّ‬ ‫جمرد عنوانات تائهة ال خيط ي�صلها مبا تورطت على القفز‬ ‫ولهذا تظل عبارات من �أمثال (احلرب القذرة) و (�أبو غريب) وغريها ّ‬ ‫فيه وال ي�سعفها �إ ّال باخلذالن‪ .‬فما الذي يجعل �سطح ًا جتريد ًا حم�ض ًا ان�شغل بعالقات عنا�صره وحدها يف حياد بارد‪ ،‬يتق ّبل ق�سر ًا هذه‬ ‫ت�صرح مبوقف معني من ق�ضية ما دون غريها‪ ،‬مادام هو مق�سور ًا يف كل الأحوال‪ ،‬وما دامت قواه الداخلية باملظهر‬ ‫املادة اللغوية التي ّ‬ ‫الذي اتخذته ال ت�ستطيع‪ ،‬ب�سبب طبيعتها اخلا�صة وان�شغالها مبا هي معنية به‪� ،‬أن تقيم عالقة معه‪ ،‬و�سيظل ملفوظ ًا خارجي ًا ميكن‬ ‫ا�ستبداله ب�أي ملفوظ �آخر ال يجد ال�سطح التجريدي غ�ضا�ضة يف ا�ست�ضافته‪.‬‬ ‫وعلى الرغم من اجنذاب مهر الدين �إىل مفردات �أ�سلوبه الأثرية ومواد عمله املختلفة وعكوفه عليها يف �أعماله الأخرية‬ ‫م�ستثمر ًا قواها ا�ستثمار ًا ال يقف عند حدود يف ت�شكيالت جتريدية ثر ّية ما �أن يفرغ من �أحدها حتى ينبثق منه �آخر هو حم�ض‬ ‫ّ‬ ‫تعديل �أو اقرتاح مفتوح لإمكان يتجدد بفعل ذخريته احل ّية‪ ،‬ف�إن مهر الدين مل‬ ‫يتخل عن نزوعه القدمي يف �أن تتبنّى �أعماله ق�ضايا‬ ‫معينة وتتخذ مواقف حيال ما يقع يف حميطه‪ .‬ويف (حوار الأجيال) معر�ضه امل�شرتك مع الفنان دلري �سعد �شاكر الذي �أقيم يف‬ ‫ت�صرف فعل الر�سم بعد جتريدها من‬ ‫قاعة الأورفلي بع ّمان يف �آذار من هذا العام و�ضع مهر الدين ق�ضية االحتالل وتداعياته حتت ّ‬ ‫�أي �شاخ�ص متثيلي وحتويلها �إىل مادة لغوية ت�ستجيب ملتطلبات نزوعه التجريدي ذي الطابع الت�صميمي‪ .‬وهي تت�سم بطابع �صريح‬ ‫مما يلتقطه الفنان من اخلارج املحتدم تتجاور مع تعليقات مبثوثة على ال�سطح بلغة عربية تتخللها‬ ‫مبا�شر عرب مقتطفات عبارات ّ‬ ‫�أو تزحمها كلمات التينية يف ِ�صدام ال يجري ح ّله بني ل�سانني مهمومني منف�صلني بان�شغاالتهما‪� ،‬أو يتبدى موقف الفنان من ق�ضية‬ ‫فطن حني يجعل لوحته جمرد �سطح �شاحب غادرته الألوان واحتلته‪ ،‬ب�سطوة‪ٌ ،‬‬ ‫لغة �أخرى هي غري لغته‪،‬‬ ‫االحتالل يف تلميح ت�شكيلي ِ‬ ‫لغة ال يقوى على فهمها‪ ،‬لأنها لي�ست كلمات و�إمنا هي هذا احلرف الالتيني �أو ذاك‪ ،‬وك�أنّ تلك احلروف املكرورة املتتابعة هي جمرد‬ ‫ويجرده �إال‬ ‫�أ�صوات مبهمة �أو رطانات كائنات غريبة ال جتوز يف املحيط الذي تكالبت عليه‪� .‬أو يعمد الفنان �إىل �إفراغ ال�سطح متام ًا‬ ‫ّ‬ ‫من لون رمادي تقطعه خيوط م�ستقيمة �أفقية وعمودية محُ ّو ًال إ� ّياه �إىل مربعات تر�سمها‪ -‬لت�سهيل مهماتها‪� -‬إرادة من فوق لطائرات‬ ‫مغرية ُر ِ�سمت بخطني ق�صريين يتقاطعان يف نقطة‪.‬‬ ‫يف�صح مهر الدين عن رغبته ال�شديدة يف �أن يبزّ منجزه ويتف ّوق على نف�سه‪ ،‬فانطلق ينجز �أعماله الأخرية م�ستفيد ًا كد�أبه من‬ ‫فيتغرب عن الروح الإن�ساين ليغدو‬ ‫حتركه مقا�صد عملية باردة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫لغة الت�صميم التي طغت على بع�ضها طغيان ًا جعله يبدو منتج ًا �آل ّي ًا ّ‬ ‫عم ًال من �أعمال الذهن ُت�ستخدم فيه امل�سطرة واملق�ص و ُتو�ضع فيه مادته يف موا�ضع تقا�س بينها امل�سافات ّ‬ ‫بدقة على وفق ما تقت�ضيه‬ ‫‪79‬‬


Teasing the brain and emotions Work by Mohammed Muhraddin on display at Lines, contemporary art gallery until May 22. By Ica wahbeh AMMAN- His small frame, the twinkle in his eye and the bohemian cap belie Mohammed Muhaddin’s age but reinforce the image of the artist. This 1966 graduate from the Academy of Fine Arts in Warsaw, Poland, has been living in Jordan since 2006. He taught for 26 years, until 1993, at the Academy of Fine Arts, faculty of architecture, in Baghdad. His paintings, now exhibited at Lines, contemporary art galley, have no particular message; they cast light on “creative things”, are produced with special technique and material and please the eye. Bit, square canvases, round wood paintings, sketches and portraits on paper make up the works that manage to import a feeling of “cool” on a stifling April day. Grey, silver, teal, purple and black are the colours of choice, unexpectedly “bought to life” by bright splashes of scarlet, yellow or aniline blue. The works, mixed media on canvas, wood and paper, are quite neutral; at times they slip into the philosophical, with symbols, signs, numbers and geometrical figures superimposed on the surface always divided into planes of different colour and texture. Bits of canvas are layered over the base, collage style, creating different surfaces and depths, offsetting the smooth background or the grooves present in most paintings. These ridged areas, thick or hair fine, create strange landscapes, as if aerial views of wide swathes of ploughed land or some landing place for alien ships. Looking like wavy soil, the lined areas are often dotted or intersected by deeper ruts that create intricate images of regular rows or columns, of geometrical figures or chaotic strips returning onto themselves or disappearing into some distance. In some cases, and giving the works the look of unfinished sketches, the artist explicitly jots down paining size,material and medium used,words (“Adam”, “the wall”, “dawn”), cardinal points,individual letters,Polish or" Arabic writing and questions/directions (like the “where to”, followed by an interrupted line leading somewhere into the unknown). Seemingly complicated geometrical drawings, lines and algebraic calculations in brick red nuances invite a return to school days and formulae, stirring some before – the – test panic that is calmed down by the plainer shapes and colours in adjacent paintings, in an intellectual stimulation vs. psychological treatment exercise. It is as if the artist teases the brain and emotions, an impish thought in mind, using contrasts of all 78


sorts: themes, colours, material, technique. The steely grey abstract murals, the squarish shapes in different shades of green, the purple/violet dawn edition calm the viewer and relax his mind, only for the next painting to jolt it through thick, bright colour brush stokes, shapes, letters, spots, lines that cross haphazardly and make you think The 90O. angle in the corner of one painting is reproduced in more that one way. But seeing it written on the canvas draws the attention to the otherwise unobserved colour patch and bisecting line making one try to see how many such right angles there are in just that tiny space. Muhraddin’s images provoke though, raise questions. Are the letters, lines and numbers chemical formulas, mathematical operations, geometrical figures, important dates for the painter or just random scribbling of an artist with a sense of humour? The obvious yet written on canvas “up down”, “72 cm” (diameter) or “40 cm” (length) suggest the last answer, give life to the paintings, make one smile at the droll idea. But that comic aspect apart, the works appear sober at first look, aesthetically pleasing and in an outstanding range of colours. They will be on display until May 22.

mixed media on paper - 40 x 40 cm - 2008

77 189


76


75


‫واقعية احلرب وكذبها‬ ‫لوحته �صورة منعك�سة لإن�سان من هذا الزمن‪ ،‬يعي�ش الواقع‪ ،‬يتفاعل معه‪ ،‬ي�شكل له حلم ًا ثمن واقع ًا �آخر ال ينتمي �إال له فقط‬ ‫وللآخرين الذي �أراد �أن ي�شاركوه ر�ؤيته‪ ،‬واقعية احلرب وكذبها‪� ،‬شعارات‪� ،‬إ�شارات‪� ،‬ضربات �سريعة �شديدة القوة‪� ،‬سطوح مزدحمة‬ ‫بالتالعب البنائي‪ ،‬كلها تف�صح عن �أفكار وفل�سفة منحت حممد مهر الدين �صفته املعروفة‪ ،‬فنان ال ينتمي لأحد وال لفئة وال لقانون‬ ‫وال لبيئة وال لعامل �سوى عامله هو فقط لذلك عندما نراه نرى هو نرى عراقيتنا �أي�ضا‪ ..‬فنان نقل حمليته للو�صول �إىل عامليته ‪ ..‬فنان‬ ‫املعار�ض الكربى وجوائزها‪ ،‬فنان احل�س املن�ضبط وت�شكيل الت�شكيل‪(.‬ت�شكيل الت�شكيل) مفهوم بنائي ال ميلك التعامل معه �سوى فنان‬ ‫من طراز �أخر‪ ،‬فنان ال يكفيه ت�شكيل ال�سطح بالأبعاد الثنائية �أو حتى الثالثية و�إمنا ميتد ليرتاكب ت�شكي ًال فوق �أخر‪ ،‬ت�شكي ًال ال يلغي‬ ‫الأخر و�إمنا يتكامل معه‪ ،‬تتزاحم كل امل�سافات امل�شكلة بانفعاالتها وتعبرياتها امل�ستقلة لتتحد حتى تطلق انفعاال وتعبري ًا واحد ًا‪ .‬هذه‬ ‫�صفة بنائية متتاز بها لوحات حممد مهر الدين الذي �أظهرته كواحد من �أهم رواد احلركة الت�شكيلية املعا�صرة يف العراق ومناطق‬ ‫العرب‪.‬‬ ‫�أن ما مييز �أعماله قدرتها على الرتاكيب البنائي وتداخالت االقيام اللونية حتى نقطة ال�سيادة التي غالب ًا ما ت�أتي يف �آخر‬ ‫رحلته االنفعالية حيث ي�شكل من حركة فر�شاته ت�شكي ًال بالقيام لونية عالية �أو واطئة مينحها قدرة الو�ضوح الق�صوى و امل�سيطرة‬ ‫على م�ساحات الت�شكيل املحيطة بها‪� ،‬أنها �أكرث ما تكون نهاية متعته ولعبته الفنية‪.‬‬ ‫حممد مهر الدين �صورة �أخرى لإبداع متوا�صل و�أ�صالة انتماء فاق بها الآخرين الذي �أ�شغلتهم حداثة الفن و�أزاحت هوياتهم‬ ‫الفنية‪ ،‬لوحاته مل متنح نف�سها القوة على �أن ت�ؤ�شر موقع ًا متميز ًا يف الفن العراقي ‪ ..‬العربي‪ ..‬فقط و�إمنا امتدت لت�شمل يف ت�أثرياتها‬ ‫م�ساحات العديد من لوحات الأجيال الفنية املعا�صرة له وهو يقف الآن يف مر�سمه ي�سقط انفعاله اليومي لري�سم حب ًا �أخر للإن�سانية‪.‬‬ ‫لوحته �صورة منعك�سة لإن�سان من هذا الزمن‪ ،‬يعي�ش الواقع‪ ،‬يتفاعل معه‪ ،‬ي�شكل له حلم ًا ثم واقع ًا �آخر ال ينتمي �إال له فق‬ ‫وللآخرين الذي �أراد �أن ي�شاركوه ر�ؤيته‪ ،‬واقعية احلرب وكذبها‪� ،‬شعارات‪� ،‬إ�شارات‪� ،‬ضربات �سريعة �شديدة القوة‪� ،‬سطوح مزدحمة‬ ‫بالتالعب البنائي‪ ،‬كلها تف�صح عن �أفكار وفل�سفة منحت حممد مهر الدين �صفته املعروفة‪ ،‬فنان ال ينتمي لأحد وال لفئة وال لقانون‬ ‫وال لبيئة وال لعامل �سوى عامله هو فقط‪ ،‬لذلك عندما نراه نرى هو ونرى عراقيتنا �أي�ضا‪ ....‬فنان نقل حمليته للو�صول �إىل عامليته‪....‬‬ ‫فنان املعار�ض الكربى وجوائزها‪ ،‬فنان احل�س املن�ضبط وت�شكيل الت�شكيل‪.‬‬

‫�سعدي عبا�س بابلي ‪2007‬‬

‫‪74‬‬


‫البحث عن لوحات األحالم املفقودة عند حممد مهر الدين‬ ‫األلوان ترتاكب ‪ ..‬الواقع يتحلل‬ ‫لقد كان الفن وما يزال النافذة الأكرث جماال والتي متنحنا املتعة املتداخلة ان اقرتبنا منها واملتعة املركبة �أن حاولنا �أن‬ ‫ننفذ من خاللها الكت�شاف عوامل ال نرها �إال يف �أحالمنا‪ ،‬تتزاحم فيها الأمكنة الحتالل مواقع الذاكرة ال�ضائعة وتفقد الأمكنة‬ ‫هوياتها لت�شكل من جديد �صورة �أخرى لواقع نرغب البقاء فيه‪ .‬وفنانو الأحالم ميلكون قدرة التوا�صل والربط بني واقع اخليال‬ ‫وخيال الواقع‪ ،‬و�أكرب �أهدافهم هو بناء هذا اجل�سر الرابط بني �أحالمهم و�أحالم الآخرين لإن�شاء حوار مرئي تلتقي فيه كل �إيقاعات‬ ‫التناغم‪ .‬الواقع (احللم) امل�شكل اختزالي ًا (جتريدي ًا) هو امل�ساحة الف�ضائية املف�ضلة لدى متذوقي النزعة املعا�صرة التي متنح ال�شكل‬ ‫�أكرث من �صورة مرئية ال تتكون �إال يف ذاكرتهم‪...‬‬ ‫والت�شكيل املعا�صر منح ال�شكل قوة فاقت قوته التي ظهرت ما بعد احلداثة‪ ،‬التفوق يف القوة يعني �أن ال�شكل املجرد مل يدم‬ ‫نف�سه ك�شكل ال تفك رموزه التعبريية من قبل الفنان فق و�إمنا مينح التلقي قدرة �صياغته من جديد �أي�ضا‪ ،‬هذه القدرة هي وحدها‬ ‫القادرة على اجناز االنفعال الذي ينقل �إح�سا�س املتعة �إىل مديات ال ميلك الواقع �أن يخرتق مواقعها‪ ،‬املتعة املكت�شفة هي التي يفقد‬ ‫فيها الزمن هويته ومتنح الأمكنة مواقع جديدة للفرح‪.‬‬

‫النزعة التجريدية‬ ‫فنان حامل من رواد النزعة التجريدية يف الفن العراقي املعا�صر كان وما يزال من �أوائل من منح احللم �صفة الواقع �صفة‬ ‫احللم‪ ،‬حمل واقعيته �إىل �أبعد امل�سافات ثم فككها ب�إتقان ليحول ف�ضاءات الت�شكيل �إىل معادالت �شكلية ملونة تتعادل يف قوتها �أحيان ًا‬ ‫وتت�سابق �إىل ال�سيادة �أحيان ًا �أخرى‪ ،‬رحلة احللم هذه قاربت الن�صف قرن‪ ،‬جتربة تتولد من �أخرى‪ ..‬ولوحة تقود �إىل �أخرى‪ ،‬عامل‬ ‫وتتحد فيه كل القيام اجلمال امل�صحوب باحل�سا�سية املفرطة‪ ،‬رموز و�أرام وعالمات ف�ضاءات ملونة كلها ت�شري �إىل حممد مهر الدين‬ ‫فنان ال يعرف الهدوء‪ ،‬الزن لديه يف �إيقاع متوتر دائم ًا يحاول جاهد ًا �أن يوقفه لي�شري ب�إ�صبعه �إىل زاوية من زوايا لوحته اجلديدة‬ ‫(هذا حممد مهر الدين هنا) هذه كلمته عندما كنت بجانبه وهو ير�سم لوحته اجلديدة‪.‬‬ ‫لوحته متيزه ومتنحه دائم ًا هوية الدخول �إىل فردو�س الفنانني الذين يغفلهم بالكامل حلمهم اجلميل يعي�ش الفن يف كل‬ ‫حلظة حتى عندما يغادر �سطح الكانفا�س ال يتغري كثري ًا‪� ،‬أنه ي�شبه لوحته �إىل حد كبري‪� ،‬سطوحه تت�شكل ب�إتقان متقدم وحتاول‬ ‫�أن تخلق مع بع�ضها حوارات ترفع من القيام التذوق وتت�شكل مرة �أخرى يف ذهن املتلقي لتمنحه املتعة يف مطاردة حلمه املفقود‪� ،‬أنه‬ ‫(�سيناريو) جمايل ب�صري يتقن �إن�شا�ؤه ويلعبه مبرح مع م�شاهده الذي نقله من واقعه �إىل حلمه‪� ،‬أدواته متقنة‪ ،‬اللون مينحه �إيقاعا‬ ‫حركيا بني موجات واطئه و�أخرى عالية‪ ،‬ت�شكيالت تتوالد فيه الأ�سطح وتتفاعل مع ما يحيطها‪ ،‬يغلفها انفعاله ال�شديد الذي ال‬ ‫تكفيه م�ساحات الت�شكيل الف�ضائية حتى يخرج به �إىل �أبعد من حدود اللوحة‪ .‬مهر الدين فنان جاد ينتمي �إىل فئة الفنانني الذين‬ ‫ال يعنيهم كذب الواقع بقدر ما يعنيهم �صدق الأحالم‪ ،‬ال�شكل لديه مرتبط بعالقات �أعدها له بل �أن ي�سقطه على الكانفا�س وعندما‬ ‫يتوالد يف ال�سطح يتمتع مهر الدين بحاالت التحول فيه‪ ،‬ينقله تعبري �إىل �آخر حتى ي�ستقر معلن ًا نهاية رحلته يف موقع غري بعيد عن‬ ‫مركز انفعاله‪.‬‬ ‫‪73‬‬


‫ثورة متوز ‪1959‬‬

‫‪2007‬‬

‫‪72‬‬


71



‫فنية يتجول فيها ليتجاوزها باالقرتاب عن ما يحدث يف واقعه من م�آ�سي‪ .‬فمحمد مهر الدين الذي عا�ش يف مرحلة ت�شابك الأل�سن‬ ‫واالحتماالت وتداخل العلوم والثورات وا�ضطراب مواقف الفن يف العامل اجلديد‪/‬القدمي ال زال يبحث عن �أفق عاملي م�شبع باملحلي‬ ‫ليخرجه من عنق زجاجة العوملة التي حطت رحالها على �أر�ض الرافدين هذه املرة ب�أقدام من حديد‪ .‬وقد انعك�س ذلك يف معر�ضه‬ ‫الأخري يف عمان بلوحة "احلرب القذرة" فقد �ضيقت الر�أ�سمالية اجلديدة على الإن�سان �أفق املعرفة ووزعته على مفرداتها اجلديدة‬ ‫باحلداثة الكامنة فيها‪ .‬فالر�ؤية امل�ضادة للحرب مث ًال قد ت�صنع حداثة مناق�ضة لر�ؤية احلرب التدمريية فاجلدل ال ي�سري دائما‬ ‫للأمام‪.‬‬ ‫كما �أن ما حدث يف الفن الت�شكيلي العاملي ال يبعث على االطمئنان فلوحة ما بعد احلداثة �أعطت للفنان حرية اللعب غري‬ ‫املربمج للألوان وتوزيع الكتل وت�شظي الب�ؤرة وتنوع �أ�ساليب التنفيذ و�شحوب املو�ضوع‪ ،‬ون�شاهد هنا يف هولندا ع�شرات اللوحات التي‬ ‫ال ت�ستدعي مفاهيمية ما‪ .‬حممد مهر الدين يف �صلب هذه العملية املتناق�ضة كلها‪ .‬له ا�شتكالية يف الر�ؤية اخلا�صة به للعامل‪� ،‬إ�شكالية‬ ‫قائمة على ح�سه املفجع مب�أ�ساة الإن�سان املعا�صر وبعدم قدرته على االندماج يف �سياقات غري م�ؤ�صلة تاريخي ًا وهي �إ�شكالية فنان ال‬ ‫يعرف طريقة واحدة للو�صول �إىل هدفه فتجده مرات عدة ميزج بني الزيت والورق �أو بني اخل�شب والورق �أو بني الزيت والبال�ستيك‬ ‫كما يف معر�ضه الأخري وكلها حماوالت لفهم �آلية فهم العامل مبواد معا�شة ميكن تغيري ا�ستخدامها لت�صبح مواد مدمرة‪.‬‬ ‫فهو ال يزال غري مندمج مع العوملة ومدياتها ال�سيا�سية و�أدواتها الع�سكرية وهذا ما ن�شاهده يف معر�ضه يف عمان ‪ 2005‬حيث‬ ‫الق�سوة تظهر التزاوج الفني بني ال�صليب املعكوف واالحتالل الأمريكي‪ .‬كما �أنه ما يزال رومان�سي ًا رغم الق�سوة والعنف اللذان يحيطان‬ ‫بلوحته ك�أي فنان عراقي يختزن احلزن والرتاث فتدرج البينة ال�سردية للوحة حتيك �إىل م�ستويات احلكاية املعا�صرة فيها وله بعد‬ ‫ذلك �أ�ساليب منوعة لتنفيذ هواج�سه و�آالمه التي مل ت�أخذ �شك ًال واحد ًا‪ :‬ر�سم‪ ،‬كرافيك‪ ،‬ت�صميم‪ ،‬مل�صق جداري ‪ ...‬الخ‪ .‬مما يعني‬ ‫�أن الفنان يعي�ش عاملا ما يزال يت�شكل يومي ًا وهذا ال�سر هو الذي يجعل لوحة حممد مهر الدين غري قابلة لال�ستن�ساخ والتقاليد‪ .‬ومن‬ ‫حاول تقليده من تالميذه مل جند فيه روح الفنان‪.‬‬ ‫يف �إطار التعامل مع فنان متعدد الأ�ساليب علينا �أن ن�ؤكد �أنه �أحد �أهم الفنانني املعا�صرين الذين واكبوا حتوالت املجتمع‬ ‫العراقي منذ اخلم�سينات وحتى اليوم‪ ،‬فهو ابن ثقافة بيئة عراقية م�شربة مباء اخلليج والرتحال وال�سفر وثقافة اجلاليات القدمية‬ ‫التي �سكنت العراق‪ .‬لذلك جتده حامل ًا وواقعي ًا‪ ،‬مييل �إىل الطبيعة ليواكب متطلبات الع�صر ووح�شيته‪ ،‬وينفتح على اجليد دون �أن‬ ‫يتكئ على �أحد‪ .‬له يف ثقافة الع�صر ح�ضور لكنه ال ي�أخذ هذه الثقافة �إال �صدامها العنيف‪ .‬لذا فلوحته جت�سيد حي لهذا التداخل‬ ‫بني �صرامة العامل اخلارجي والبحث عن احلرية‪ ،‬وثقافته ال تقر�أ كما لو كانت �سردا حكائيا متتابع ًا �أنه متنقل عزوف عن الإن�شاء‪،‬‬ ‫كثري البحث يف مكونات احل�ضارة املعا�صرة‪ ،‬بعيد عن النمطية‪ ،‬قريب من النف�س العراقي الذي ال يجد ا�ستقرارا لذا كرثت اخلطوط‬ ‫غرب لوحته عن �إطارها‪ ،‬فك�سره للإطار جزء من هيمنة القوى الالمرئية‬ ‫وال�شهب والنيازك واملعادالت والكتل املتداخلة تراه وقد ّ‬ ‫على كتلة‪.‬‬ ‫فاللوحة ال تقدم لك �صورة معكو�سة عن الواقع بل هي الواقع الذي نراه مغربا عنا ويعي�ش بيننا بخطوطه وانك�ساره الروحي‬ ‫واملادي‪ ،‬خطوط تتقاطع �آتية من �سماء الروح لت�ستقر على واقع عراقي دموي‪ ،‬وكتل �سوداء تنزل �شارع الأزمنة العراقية معلنة‬ ‫عن بدء مو�سم للدم و�أخرى عن مو�سم لقطع الأمل‪ .‬لوحته �صرخة مل تهد أ� وجمال مل نعرف بعد كيف الدخول �إليه �أنه ذلك احللم‬ ‫الكابو�سي الذي يعيد ت�شكيل وعينا فينا مبا نعي�شه ونحلم به ونراه ولكنا ل�سنا قادرين على تغيريه‪.‬‬ ‫يف لوحاته االنطباعية املبكرة “زيت على كنفا�س‪ ”1957‬جتد مفردات البيئة العراقية ناه�ضة لونيا كما لو �أنها غري زمنية‪:‬‬ ‫تنور ون�ساء ريف وحركة �أج�ساد وهي طريقة كان الفنانون يلتم�سون عربها موقفا اجتماعية نقدية‪ .‬ال�صورة امل�أ�ساوية هي نوع من‬ ‫‪69‬‬


‫عمق ًا عندما يكون اللون احلاد قدرة على تغيري ح�سا�سيتك الب�صري �أنه ي�أخذك للظاهر ولي�س �إىل �أفكارها ي�أخذك دوم مقدمات لرتى‬ ‫الواقع ولكن لي�س بالطريقة التقليدية لر�ؤيته �أن يك�شف وي�سرت احلال يف �آن واحد يقدم لك امل�شهد ويغريك عنه فاحلياة الغريبة‬ ‫التي تبدو �سهلة ودميقراطية ت�ضمر يف �أح�شائها مفارقاتها احلادة‪.‬‬ ‫فاللوحة عند حممد مهر الدين �ساحة من املمار�سة الدقيقة‪ ،‬وفعل من املخيلة الواقعية التي تختزل الأحداث يف خطوط‬ ‫وكتل وبقع وك�أنها تعرب عن تقاطعات زمنية مرت على �أر�ض العراق وها هي تتجمع كلها يف ب�ؤرة مولدة تنت�شر على بقية �أجزءا اللوحة‬ ‫تبع ًا حل�ضورها يف الوعي واملمار�سة‪ .‬هنا �أتعامل مع الفوتوغراف حيث �أن ال�صورة تختزل الكثري من اللوحة الأ�صلية ولكنها ت�سعفني‬ ‫يف الر�ؤية ال�ستعيد جتربتي اخلا�صة مع لوحات مهر الدين وحواراتنا الكثرية‪ .‬فالفوتوغراف يبعدين ثالث م�سافات عن اللوحة‬ ‫الأ�صلية‪ :‬الأوىل هي �أنني قد �شاهدت عدد ًا كبري ًا من اللوحات يف معار�ضه ال�سابقة‪ ،‬وما احتواه الكتلوك جزء ًا من تلك امل�سرية و�إن‬ ‫تغريت �أفكارها ومادتها مما يعني ذاكرتي‪.‬‬ ‫الثانية‪� :‬أنني �أعيد برجمة ال�صورة بالرجوع �إىل تاريخها من خاللها تكوينات مفرداتها االجتماعية والبيئية والثقافية‬ ‫مبعنى �أن زمنية متدرجة ومتطورة حتملها لوحة مهر الدين ملا تزل ترينا قدرتها على ا�ستيعاب احلا�ضر‪ .‬الثالث �أنني �أتعامل مع‬ ‫�صورة فوتوغرافية وهي انعكا�س عن اللوحة‪ ،‬وهذا يعني �أن ال�سطح املنب�سط �أمامي جمرد �إحالة مكانية‪ ،‬على �سطح متعرج ومتداخل‬ ‫ومرتاكم ومب�ستويات لونية وب�صرية متار�س عليه �أحا�سي�سك كلها فرتى التخرمي واالنحراف وبينة الكتل واخلطوط وتقاطعا‬ ‫احلروف والكتابة ومتغريات بينة الإطار الذي يعد حممد مهر الدين من �أكثري الفنانني ك�سر ًا ل�سياقاته اجلامدة واحلدودية‪ .‬علي‬ ‫�إذن �أت�أمل الت�شظيات الكثرية التي تعك�س معاناة طويلة ليده وفر�شاته وهي تنقل �أحا�سي�سه الداخلية عما يحدث يف عامل اليوم‪ ،‬ثم‬ ‫تو�سيع الب�ؤرة التي �أ�شرت �إليها لتكون الأ�سا�س املولد لبقية كتلها‪ .‬فمعاجلتي تتم خالل ر�ؤية اللوحة عن طريق الفوتغراف ولي�س‬ ‫خالل امللم�س ولذا فمعاجلتي تكون �أ�شبه بالتعامل مع معر�ض لل�صور‪.‬‬ ‫للكتابة عن فنان مهم يف احلركة الت�شكيلية العراقية مثل حممد مهر الدين غواية �أخرى قد ال تنجو من منزلق فكري �إن �أنت‬ ‫جعلت الفنان منعز ًال عن تاريخ احلركة الفنية كلها وعن ما مر العراق به يف الأعوام اخلم�س والع�شرين املا�ضية‪ .‬كان الفن العراقي‬ ‫يف الفرتة ال�سابقة على احلروب غيمة تغطي كل م�سافات العراق‪ ،‬جواد �سليم وفائق ح�سن وجميل حمودي وعطا �صربي وغريهم حتى‬ ‫ليبدو �أن من يخرق �سرت هذه الغيمة يعد مارقا‪ ،‬فكيف بالفنان العراقي بعد مرحلة ال�ستينات وما بعدها وقد خرق كل تلك ال�سرت‬ ‫وجتاوزها ال �سيما والفنان يعي�ش يف مرحلة معقدة من مراحل تطور الفن الت�شكيلي العراقي �أعني مرحلة احلروب الثالثة‪ ،‬ف�أولئك‬ ‫ما زالوا �أحياء ي�ستحمون يف مناخ اللوحة العراقية احلديثة امل�شفوعة بالر�ؤية ال�سومرية القدمية وب�آثار ح�ضارية و�شواهد عاملية‬ ‫مل ينقطع ت�أثريها بعد‪ ،‬وقد جتاوزت لوحاتهم ما مر على العراق وما تزال تلك املمار�سة الفنية قادرة على الت�أثري بالرغم من انح�سار‬ ‫مداها يف اللوحة العراقية احلديثة‪.‬‬ ‫لكن ت�أثري لوحة حممد مهر الدين تبدو يل �أكرث ح�ضور ًا يف الفن الت�شكيلي العراقي الالحق‪ .‬لقدرتها على معاي�شة ح�سية‬ ‫للواقع وما مر عليه ولقدرتها الفنية على جعل املنظور احلياتي مادة فنية تنه�ض بالعادي والثانوي مل�صاف ال�شعري‪ ،‬ثم تركيبتها‬ ‫اللونية واملادة ال�شعبية – الورق والكوالج – كثمار ح�سي على املتغريات الفنية ال�شعبية القادرة على حمل �أحا�سي�س العامة �أنه‬ ‫يقرتب ولو باختالف منهجي من قدرة �شاكر ح�سن �آل �سعيد على جعل احلياتي وال�شعبي مادة للوحته وكما يبدو �أن املتلقي للوحة‬ ‫مهر الدين �سيفاج أ� بتلك اخلطوط والكتل وامل�ساحة الداكنة وتدرجات اللون الواحد واحل�سا�سية ال�شعرية لكنه يف العمق يلتقي مع‬ ‫املوروث وال�شعبية يف نقاط جوهرية مع تيار البعد الواحد يف تعامله مع احلياة‪.‬‬ ‫وهذا املناخ يف جممله ي�صب يف تيار حتديثي تراثي‪/‬معا�صر قد ال يكون مبقدور �أي فنان على متثله دائم ًا بعد �أن حدد له �أطر ًا‬ ‫‪68‬‬




‫�إ�ضافة النتقاء الرموز حملي ًا وعاملي ًا لتوظيفها بالعمل الفني ويف هذه املرحلة و�صفها النقاد بالواقعية النقدية لأنها كانت جت�سد �أبرز‬ ‫حاالت �سلبية ال �إن�سانية حملي ًا ودولي ًا وامل�ستهدف حماولة ت�سطيح وتعذيب ثم قتل و�أ�شياء �أخرى ال �أتذكرها ومرحلة �أخرى ات�سمت‬ ‫ب�إدخال بع�ض التقنيات على املرحلة التي ت�سمى باملبا�شرة يف الطرح لأنني يف تلك الفرتة و�صفت هذه احلالة للجماهري وللنخبة‬ ‫و�أخري ًا حماولة جتميع لكل هذه املراحل واال�ستفادة من التقنيات املختلفة لها وبنف�س الوقت �أيجاد ‪ ..‬الخ وتق�شفا يف التقنية‪.‬‬ ‫وقد ركزت على جوانب جمالية‪ ..‬مع تق�شف باللون �أغلب الأوقات ولهذا فقد �ساد اللون الأ�سود والألوان املعتمة الداكنة بهذه‬ ‫املرحلة لأنها كانت تعرب عن حالة م�أ�ساوية يف حياة ال�شعب العراقي واالحتالل وما بعد االحتالل من كوارث وهدم متعمد وتهمي�ش‬ ‫لكل �شيء ح�ضاري و�إن�ساين وال زلت كعادتي �أفكر �أن �أقدم �أ�شياء جديدة لأنني ال �أ�ؤمن بالتكرار واالقتناع مبا �أجنزته ف�أتطلع لتقدمي‬ ‫ما هو �أف�ضل دائم ًا والآن قبل �أربعة �أ�شهر وحتى الآن �أجنزت بع�ض اللوحات وكل الأ�شياء لبناء عملي الفني من الواقع املحلي والعاملي‬ ‫كما الكتابات واملل�صقات اجلدارية و�صور فوتغرافية �أي�ض ًا �سالبة وموجبة و�إعادة بناء هذه الأ�شياء الواقعية بالطريقة التي �أراها‬ ‫لذا ميكن ت�سمية هذه املرحلة ب�إعادة ت�شكيل الواقع �أو �إعادة بنائه مث ًال لقد �أجنزت بع�ض اللوحات منها لوحة متثل زفات عربية‬ ‫قدمية وفيها �إن�سان �سالب داللة على التهمي�ش ويف اجلزء الأخر فيها �أراء حول حاالت اجتماعية معينة‪ ،‬منذ حرب اخلليج الثانية‬ ‫هاجر للأردن فنانون ت�شكيليون عراقيون كرث‪ ،‬ما هو التالحم والت�أثري الذي حدث بني الفن الت�شكيلي العراقي الأردين؟يجب �أن‬ ‫نعرتف جميع ًا �أن هجرة الفنانني كانت لل�شريحة املثقفة ولكنها مل تكن اختيارية وهي لي�ست هجرة و�إمنا تهجري لهذه ال�شريحة‬ ‫والفنان الت�شكيلي العراقي عندما جاء للأردن كبلد �شقيق كان يعرف ب�أنه �سيهجر لبلد �سيقدم له الراحة واالطمئنان والأجواء‬ ‫ال�صحية للعمل ويقدم للمبدعني منهم مناخ ًا �أف�ضل للعمل لأن وجودهم �ساهم ب�شكل جاد وال يقبل �أي ر�أي �أخر �ساهم يف احلراك‬ ‫الثقايف والفني الأردين والدليل على ذلك كرثة املعار�ض وارتقاء م�ستواها التي تقام يف الأردن �إ�ضافة لهذه القاعات الفنية الأخذة‬ ‫باالت�ساع فلو الحظنا جمموع املعار�ض الت�شكيلية املقامة بالأردن لو�صلنا لنتيجة ب�أن ‪ %80‬منها عراقية ذات م�ستويات خمتلفة متطورة‬ ‫و�أخرى �أقل تطور ًا ونهاية املطاف ف�إنني �أ�ؤكد �أن هذه املعار�ض على كرثتها ت�ؤثر وت�ساهم يف رفع امل�ستوى احلركة الت�شكيلية الأردنية‪.‬‬

‫جمال زهران‬

‫‪65‬‬


‫الفنان الت�شكيلي العراقي حممد مهد الدين لـ ((احلياة))‬

‫االحتالل وما بعده هدم كل ما هو حضاري وإنساني بالعراق‬ ‫لي�س من ال�سهل مقابلة قامة مثل قامة الفنان الت�شكيلي العراقي حممد مهد الدين ولي�س من الذكاء اال�ستدراج �إىل الزوايا‬ ‫التي ال يرغب بالتحدث عنها ولكنه تكلم و�أفا�ض بالكالم‪.‬‬ ‫حممد مهد الدين من مواليد الب�صرة يف العراق ‪ 1983‬ح�صل على ماج�ستري الفن الت�شكيلي من �أكادميية الفنون اجلميلة‬ ‫بوار�سو ببولندا عام ‪ 1966‬وقام بالتدري�س مبعهد الفنون وكلية الفنون وكلية الهند�سة الق�سم املعماري ببغداد و�أقام العديد من‬ ‫املعار�ض ال�شخ�صية واجلماعية يف العراق والعديد من العامل وح�صل على جوائز يف مهرجانات قطرية وعاملية متقاعد حالي ًا ومتفرغ‬ ‫للفن قابلته "احلياة" فكان هذا اللقاء‪:‬‬ ‫�أنت من جيل ال�ستينات بالفن الت�شكيلي العراقي �أين ذهب جيل ال�ستينات يف الفن وكيف تلخ�ص ت�أثريهم؟ قبل وبعد االحتالل‬ ‫هاجر العديد منهم �أو هجروا على يد املحتلني والعديد الأخر من النخب املثقفة والت�شكيلني منهم �أما ت�أثري فناين ال�ستينات فاغلب‬ ‫نقاد الفن املهتمني حملي ًا وعربي ًا وعاملي ًا ي�ؤكدون على �أن احلراك الثقايف والفني و�أغلب البيانات والثورات الفنية كانت تتمثل يف جيل‬ ‫ال�ستينات بحيث بلغت ذروتها ب�إنحاء العامل اجمع وقد �أثرنا نحن الت�شكيليون على الأجيال التي عقبتنا وميكن القول �أن احلركة‬ ‫الت�شكيلية العراقية قد اكت�سبت �أعلى م�ستوى عند ال�ستينيني‪ ،‬ولكي نكون دقيقني فال بد �أن نذكر جيل الرواد يف العراق الذي �أ�سهم‬ ‫يف تخريج دفعات ن الفنانني ومن الطالب لكن الأ�ساليب املتبعة يف حينها كانت تت�صف بال�سلطة لأن �أغلب الأعمال التي كان ينتجها‬ ‫الرواد كانت غري م�سايرة حتى للحركات التي ظهرت بذلك الزمن وا�ضرب ذلك مث ًال التجريدية ظهرت ب�أوروبا وقبلها االنطباعية‬ ‫والتكعيبية وما �شاكل �إال �أن نتاج الرواد كان ال�سمة الظاهرة لنتاجاتهم حيث كان التوجه �أكادميي ًا ومت تطوير هذا النمط من التعبري‬ ‫ملا هو �أحدث بع�ض ال�شيء �أي حتديث الأ�سلوب الأكادميي ما عدا الفنان جواد �سليم الذي ات�صف مب�سايرة الع�صر بع�ض ال�شيء وعلى‬ ‫ما اعتقد كان �أف�ضلهم �أن احلركة الت�شكيلية العراقية قد اكت�سبت ن�ضجها وم�ستواها املتطور ومواكبتها لأحدث الأ�ساليب يف العامل‬ ‫مع اال�ستفادة من التاريخ املحلي والقيم الفكرية واجلمالية الإن�سانية فقد مزجوا منا بني املحلية والعاملية من خالل امل�ضامني املحلية‬ ‫ذات الطابع الإن�ساين مع اال�ستفادة من �أحدث الأ�ساليب الفنية العاملية لأن �أغلبهم در�سوا الفن يف خمتلف البلدان بدول �أوروبا‬ ‫ال�شرقية والغربية والذين جاءوا بعدهم ت�أثروا بجيل ال�ستينات �ضمن هذه املناهج والتيارات‪.‬‬

‫ما هو الأ�سلوب الذي انتهجته و�سط هذا اخل�ضم؟‬ ‫كنت �أول من �أدخل ا�ستعمال مواد خمتلفة فبعد رجوعي للعراق بعد عام ‪ 1967‬الذي �شهد ثاين معر�ض �شخ�صي له يف بغداد‬ ‫وتلته معار�ض �أخرى حتى يومنا هذا و�أقمت ‪ 25‬معر�ض ًا يف العراق وبع�ض الدول العربية و�أتهي�أ لإقامة معر�ض �شخ�صي يف دم�شق‬ ‫ويف عمان هذا العام وكما قلت ب�أن جيل ال�ستينات والذي �أنا واحد منهم �أدخلت هذه املواد املختلفة على �سطح اللوحة الت�شكيلية‬ ‫المياين �أن هذه املواد قادرة على منح العمل الفني بعدا جمالي ًا وفكري ًا �أف�ضل من املواد الزيتية واملائية وحدها وقد تطورت الر�ؤيا‬ ‫لدي و�أ�ساليب العمل تقني ًا وفكري ًا فمرحلة الت�أكيد على هذه املواد وتطويعها للو�صول ملنجز ت�شكيلي جيد وبني ا�ستعماالت �أخرى‬ ‫ملراحل اعتمدت فيه �إ�ضافة للمواد املختلفة (الكوالج) وهذا يعني ا�ستعمال �صورة مر�سومة �سالبة وموجبة �شبيهة بالفوتوغرايف‬ ‫‪64‬‬


‫لتجارب الفن العاملي املعا�صر وبذائقة تعمق املوروث الت�شكيلي العربي (العراقي ب�شكل خا�ص) الزاخر بالتحوالت الإبداعية وال�صيغ‬ ‫التجريبية‪ ،‬وحماولة اجلمع بني هذا املوروث وامل�ؤثرات التجريدية والتعبريية املتفاعلة يف اجتاهات الفن العربي احلديث �سعي ًا نحو‬ ‫تغيري الواقع والنهو�ض بثورة اجتماعية حتقق للإن�سان �آدميته املنهورة بالقهر والتخلف‪.‬‬ ‫الفنان من مواليد الب�صرة – العراق ‪ ،1934‬تخرج من معهد الفنون اجلميلة – بغداد ‪ ،1959‬در�س الفن يف بولونيا وح�صل على‬ ‫دبلوم يف الر�سم من كلية الفنون اجلميلة – وار�شو‪ ،‬وميكن ر�ؤية ت�أثري ذلك عليه‪ ،‬د ّر�س الفن يف معهد الفنون اجلميلة – بغداد ل�سنوات‬ ‫طويلة‪� ،‬أقام و�شارك يف العديد من املعار�ض العربية والدولية‪ ،‬ويعترب من الأ�سماء الفاعلة واملميزة يف جيل ال�ستينيات ويف الت�شكيل‬ ‫العربي والعراقي‪.‬‬

‫علي ر�شيد‬

‫‪63‬‬

‫‪oil on canvas - 120 x 120 cm‬‬


‫داللة اإلغرتاب وفاعليته حممد مهر الدين‬ ‫ميكن ت�سمية الفنان العراقي حممد مهر الدين بفنان الإن�سان واغرتابه‪ ،‬حيث ر�صده لتحوالت الإن�سان املعرفية والوجودية‪،‬‬ ‫ومعايري ا�ستالب كينونته وحتويله �إىل هام�ش جمرد من قدرته الفاعلة يف عامل ي�ضح ب�سيا�سة التهمي�ش والإلقاء‪ .‬فنان يرتب�ص‬ ‫بالوجود و�سلطته على الكائن‪ ،‬و�ضياعه خلف رعبه يف عامل يفر�ض �سلطة الأرقام و�شراهتها يف ا�ستالب هد�أته‪.‬‬ ‫فنان ال ميكن �إيجاز جتربته مبرحلة زمنية‪ ،‬كونه ي�شاك�س اللوحة وبناءها الفني‪ ،‬ويعمل مبهارة وقدرة عالية على خ�صائ�ص‬ ‫ال�سطح وتاثري املادة واللون يف �صياغة اللوحة‪ ،‬وبعدها الت�أثريي والداليل‪ ،‬ومبراحل �أ�سلوبية متعددة‪ ،‬ولكن وعرب جميع هذه املراحل‬ ‫املتمثلة لتجربته الفنية ورغم ثراء وتنوع الأ�ساليب يف معاجلة تقنية العمل مل يتخل عن البعد الإن�ساين يف اللوحة وطروحاته‬ ‫حول الإن�سان واغرتابه‪.‬‬ ‫ففي مرحلة ال�ستينات وال�سبعينات طرح الفنان ت�سا�ؤالته با�ستعارات ت�شخي�صية رمزية (م�ستخدم ًا الكوالج وال�صور) حيث‬ ‫الإن�سان متمث ًال يف وجوده الظاهري‪ ،‬ومبعايري تباعد بينه وبني حميطه (العامل) الذي يحاول �أن ير�سم هند�سة فوق م�ساحة هذا‬ ‫الوجود من خالل خطوط و�إمياءات و�أرام تلغي كيانه وت�ستدرجه �إىل التال�شي مع ف�ضاءات ينه�ش قيمته‪ ،‬م�ستلب ًا هويته وكيانه‬ ‫وبق�سوة تنجز اغرتابه‪.‬‬ ‫�أما يف الثمانينات فقد حتول حممد مهر الدين يف عمله �إىل ما ميكن ت�سميته بالتعبريية الرمزية مع احلفاظ على نف�س‬ ‫الداللة ورمزيتها يف �أعماله ال�سابقة‪.‬‬ ‫بينما جاءت �أعماله يف الت�سعينات (وال �أريد املبالغة يف مفردة القطيعة مع �أعماله ال�سابقة) ولكن ومبعنى �أدق جاءت بتحول‬ ‫كبري يف اللوحة‪� ،‬إىل حد اختفاء �أي ملمح ت�شخي�صي داخل العمل‪ ،‬بل حتولت اللوحة �إىل التجريدية‪.‬‬ ‫جتريدية ميكن من خاللها قراءة داللة االغرتاب وفاعليته من خالل اخلطوط واخلرب�شات بالقلم �أو اللون خللق تكوينات‬ ‫وتراكيب هند�سية ومب�ساحات تتداخل وحركة اخلط ومب�شهدية حداثوية متحركة ومبعاجلة عفوية لفن يتيح للمخيلة م�ساحة‬ ‫للعب يحتاجها املبدع يف �شد املتلقي لل�صدمة الأوىل التي تفرزها اللوحة املعمولة بحرية منفلتة واعية‪ ،‬وبتعامل ذكي مع توليفة‬ ‫اخلامة لإحداث ت�أثريات و�أبعاد جمالية تعبريية مبتكرة �أقرب ما تكون �إىل تقنية احلفر املتمثلة بزهدها ومرونتها يف الإف�صاح عن‬ ‫املكنون‪.‬‬ ‫وميكن ر�صد هذا التحول يف �أعمال الفنان الت�شكيلي حممد مهر الدين من خالل معر�ضه الأخري والذي عنونه بـ (فخ العوملة)‬ ‫حيث �ضم ‪ 22‬لوحة وعددا ً من الأعمال الورقية‪� ،‬أعلن من خاللها موقفه من العوملة‪:‬‬ ‫(�سعيت �إىل جت�سيد موقف الإن�سان ووعيه جتاه ا�ستالب حريته وم�صادرة هويته‪ ،‬واملعر�ض �إدانة كاملة للقوى التي ترتب�ص‬ ‫بالإن�سان �أينما وجد‪ ،‬ففي ظل الأحداث ال�ساخنة وخ�صو�ص ًا ما يجري يف الأر�ض املحتلة‪ ،‬ما ي�ؤكد �أن �شرا�سة التقنيات بد�أت تزحف‬ ‫نحو الوجود الإن�ساين فتحيل احلياة �إىل جحيم م�ستعر‪ ،‬القول الف�صل فيه للغة التدمري‪ ،‬معر�ضي �صرخة ا�ستغاثة وحتذر‪ ،‬من قوى‬ ‫ت�ضغط باجتاه فر�ض هيمنتها و�سطوتها على احلياة الإن�ساين)‪.‬‬ ‫يبقى الفنان حممد مهر الدين م�سكون ًا بهاج�س االكت�شاف والتنوع‪ ،‬وا�ستح�ضار فن له �سماته اجلمالية والفل�سفية‪ ،‬وبوعي دقي‬ ‫‪62‬‬


‫معهد الفنون اجلميلة‪ ،‬رمبا كان دافعه اخلوف علي من الو�ضع امللتهب يف العا�صمة عام ‪� ،1959‬أو رغبة منه يف الدرا�سة بدافع �شخ�صي‬ ‫وت�شجيع �أ�صدقائي‪� ،‬إ�ضافة �إىل ت�أثري مدر�سي الأ�ستاذ فرج عريبي"‪.‬‬ ‫ثم يقيم دورته يف معهد الفنون اجلميلة ويقول‪:‬‬ ‫"�إن دورتنا هي �أف�ضل دورة يف تاريخ املعهد‪ ،‬لكونها �ضمت عدد ًا من الطالب ممن �أ�صبحوا ميثلون امل�ستوى املتقدم حلركتنا‬ ‫الت�شكيلية‪ :‬كاظم حيدر‪ ،‬و�إ�سماعيل فتاح‪ ،‬ونوري الراوي‪ ،‬وطالب مكي‪ ،‬وطارق �إبراهيم‪ ،‬و�سعد �شاكر‪ ،‬وحممد را�ضي وغريهم"‪.‬‬ ‫ومل ين�س دور �أ�ستاذية الفنانني الكبريين جواد �سليم وفائق ح�سن يف تلك املرحلة‪.‬‬ ‫بد أ� مت�أثر ًا بعدد من الفنانني العامليني �أمثال ماتي�س يف مبالغته بالألوان وعدم االهتمام بالن�سب وجورج براك ومودلياين يف‬ ‫حتديث الإ�شكالية‪.‬‬ ‫وخالل درا�سته يف بولونيا ت�أثر بالكثري من الفنانني البولونيني �أمثال �سامبور�سكي‪ ،‬وكويزدي‪ ،‬ولي�شتاين‪ ،‬وجمب�سكي‪.‬‬ ‫ويف ال�سنة الأخرية من درا�سته ت�أثر بالفنان اال�سباين انطونيو تابيه الذي ا�ستفزه ف�أعاد النظر يف �أعماله الفنية وبد�أ‬ ‫با�ستعمال املواد املختلفة يف �أعماله ف�أدخل الرمل وبرادة احلديد ون�شارة اخل�شب بالدلك واحلرق‪ ،‬والتي �أقام بها معر�ضه ال�شخ�صي‬ ‫الثاين يف بغداد عام ‪ ،1967‬فيما كان املعر�ض الأول مكر�س ًا لفن الكرافيك عام ‪ 1965‬الذي �أقامه يف قاعة "�أيا"‪.‬‬ ‫�أما معر�ضه الثالث “غريب هذا العامل” عام ‪ 1978‬الذي احتوى على �أعمال �أدخل فيها تقنيات خمتلفة ك�أ�سلوب الكرافيك‪،‬‬ ‫والنحت‪ ،‬وا�ستعماالت الفوتوغراف ال�سالب واملوجب مع الر�سم بالفر�شاة فكان انطالقة لن�ضوج جتربته اجلمالية يف الفن و�أ�صبحت‬ ‫�سمة �أعماله هي التقنية التي تكون يف خدمة تكامل ال�شكل �أي �إحتاده بامل�ضمون‪.‬‬ ‫بعد عام ‪ 1978‬بدا مييل �إىل امل�ضمون االجتماعي واملحلي واملعاملي فمنحت �أعماله �صفة (الواقعية النقدية) لأنها ذات ر�ؤية‬ ‫حتق الأ�صالة وو�ضوح الأ�سلوب‪� ،‬أنها ن�ص ت�صويري ي�أتي هدام ًا ليبني �شك ًال جدير ًا والتفكري العميق ي�صاحب الر�ؤية الفكرية الكبرية‪.‬‬ ‫�أما “فخ العوملة” “معر�ضه ال�ساد�س ع�شر” الذي �أقيم يف قاعة حوار للفنون يف ‪� 30‬أيلول ‪ 2001‬بغداد فيطرح جتربته املت�ألقة‬ ‫والعميقة بالوعي والتوا�صل واالكت�شاف‪.‬‬

‫خلود الدايني‬

‫‪61‬‬




‫هذه املفردة عرب �شبكة من التغريات املرتاكمة حتى حققت حتوالتها النهائية يف ج�سد �آخر مبتكره الفنان ليتواءم مع �إر�ساليته لكن‬ ‫هذه املرة بلغة م�شفرة‪.‬‬

‫ج‪ .‬البينة الأدائية يف العمل الفني‪:‬‬ ‫املرحلة التالية تك�شف �أ�س�س العالقات البنائية يف هذا العمل من خالل �إح�سا�س باحلالة املعمارية للبناء الهيكلي (للن�ص‬ ‫الب�صري) كا�ستعارة حتدد مكان امل�ضايفة التي يودع بها مو�ضوعه‪ ،‬فكان النظام الهند�سي هو امل�سيطر‪ ،‬لأنه ي�شكل حمددات هند�سية‬ ‫خلارطة البناء‪ ،‬وهو يق�صد (حالة) املعمار كمحتوى �إن�ساين مي�س جانبه املعا�صر من خالل م�ضايقته لعنا�صر الر�سم‪� ،‬إذ نالحظ‬ ‫اخلط يف�صح عن �أناقة البناء والف�ضاء يخرتق ج�سد الن�ص كما يف فن العمارة باحتوائها على ف�ضاءات داخلية وخارجية لكي حتدد‬ ‫املميزات املعمارية للهيئة العامة‪� ،‬إذن جتريب الفنان هنا ابتعد كثري ًا عن كونه حمدد ًا بعنا�صر داخلة يف جمال الر�سم فقط‪ ،‬بل‬ ‫�أدخلها اخت�صا�ص ًا معماري ًا‪ ،‬عارف ًا بان�ضباط قوانينه اجلمالية ومثالية التطبيق‪.‬‬ ‫فال�سمات املكت�سبة من املعمار الهند�سي تعطي الأ�شكال قابلية االنتظام يف جمموعات‪ ،‬كما �إنها تخلق توازنات واختالف يف‬ ‫اللون‪ ،‬هذا �ساعد يف خلق موازنة متقاربة يف ال�شكل لكن متغرية يف اللون‪ ،‬كما �إن الفنان �أظهر تنوع ًا يف مالم�س ال�سطوح وا�ستثمار‬ ‫اخلامة �سواء كانت مادة الزيت �أم مادة خام �صلبة �أم ورق ًا‪ ،‬فهذا التنوع يخلق تعددية يف جمالية ال�سطوح‪ ،‬كما �أنه مل يغفل احلالة‬ ‫التعبريية التي تن�ش�أ من املمار�سات التجريبية التي ت�سلط على تلك املواد‪.‬‬ ‫م�ضيف ًا �إىل تلك الرتاتبية التي يجعلها حالة ا�ستعا�ضة �أو بدي ًال عن ا�ستخدام املنظور‪ ،‬حيث ن�شاهد العمل يعرب عن ترتيب‬ ‫للوحدات على م�ستوى واحد و�إن �أوهمنا يف �أماكن‪ ،‬كما �أنه �أعاد ت�أكيد الت�سطيح يف �أماكن �أخرى عرب جتاذبات لل�سطوح يتعمد‬ ‫ٌ‬ ‫�إحداثها‪ ،‬لأنه‬ ‫عارف مبدى فاعليتها يف �إلغاء املنظور على هذه ال�سطوح‪ ،‬كما �أنه ي�ستخدم �ألوان م�ضيئة (كالأ�صفر و الأحمر) كحالة‬ ‫�أخرى جلذب ال�سطوح �إىل الأمام‪ ،‬ومل يتوقف عند هذا احلد بل جتاوزه �إىل خروج �أكرث (للكلمة اخلط) �أو الإ�شارة اللغوية خارج‬ ‫حدودها من امل�ستطيل (‪ )2‬لي�ؤكد تعامد امل�شهد وك�سر حالة اخلطوط الهند�سية خللق اختالفات يف �إيقاعات اخلطوط‪.‬‬ ‫ك�أن الفنان يحاول تر�سيخ مفاهيم منطقة الر�سم داخل م�ضيفها اجلديد التي تظهرها امل�ستطيالت‪ ،‬ال يختلف كثري ًا عن التباين‬ ‫الذي يحدثه ال�ضوء والظل يف الر�سم (الأكادميي) �إال يف اختالف تدرجاته‪ ،‬فالفنان حاول �أن ي�ستبدل هذه التدرجات من خالل‬ ‫عزلها عن بع�ضها لت�أدية وظيفة ذهنية �أدائية ُمن�ش�ؤها الفنان لها عو�ض ًا من تدرجها وامتزاجها مع �ألوان �أخرى‪� ،‬إذن كانت طريقة‬ ‫التدرج ت�ؤدي �إىل املنظور والتج�سيم ف�إن الفنان قام بعزل الألوان لت�ؤدي وظيفة اجلذب و�إلغاء املنظور‪.‬‬

‫التحوالت الأدائية‪:‬‬ ‫�إن حماولة الفنان يف خلق م�ضايفة بني الر�سم والنمط املعماري كانت الغاية تهدف �إىل خلق ف�ضاءات داخل وخارج العمل‬ ‫الفني‪� ،‬إذ نالحظ الف�ضاء اخلارجي يخرتق ج�سد الن�ص الب�صري عرب �إزاحات يفرت�ضها الفنان ك�أنها �ضاغطة على امل�ستطيل الثاين‬ ‫املعتم‪� ،‬أي �صادرة من اخلارج ويف هذا �إ�شارة �سيميائية‪ ،‬لكنه ي�صدر مقاومة �ضد هذا الف�ضاء اخلارجي بانفعالية للخط الأ�سود (الذي‬ ‫عربنا عنه بالكلمة امل�شفرة) جاع ًال منه متجاوز ًا حلدود امل�ستطيل والف�ضاءات الداخلية التي نوها عنها �سابق ًا والتي تخلقها تراكبات‬ ‫الأ�شكال امل�ستطيلة والبقع اللونية ذات اجلالء على البقع املعتمة‪.‬‬ ‫‪58‬‬


‫كما يف املخططني (‪ )2-1‬واالجتاه الأفقي �إذا اعتمدنا التجزئة يف امل�ستطيلني‪ ،‬وهذا الفعل �أ�شبه بالوهم الب�صري‪� .‬أما يف امل�ستوى‬ ‫املرتاكب يحدث بذلك زمن ف�ضائي ًا كما يف املخطط (‪ )3‬التايل‪:‬‬

‫ﻣﺨﻄﻂ )‪(3‬‬

‫لكن الفنان حاول �إزاحة جزء من امل�ستطيل (‪ )1‬ليظهر تراكب امل�ستطيلني ف�ضائي ًا‪ ،‬من خالل حالتني‪ ،‬الأوىل‪� :‬إظهار ال�شفافية‬ ‫يف امل�ستطيل الأول ليظهر حتته امل�ستطيل الثاين‪ ،‬واحلالة الثانية‪ ،‬من خالل �إزاحة جزء من امل�ستطيل الأول حتى ي�شكل الفنان‬ ‫ممار�سته يف منطقة الإزاحة التي يظهرها يف امل�ستطيل الثاين لذا ميكن �أن يت�صف هذا العمل بطابع معماري هند�سي �أي م�ضايفة‬ ‫املعمار للر�سم كبيئة مفرت�ضة لبنية العمل الفني‪.‬‬ ‫ب‪ .‬تكوين ال�صورة الذهنية‪:‬‬ ‫عند تتبع جتربة الفنان (حممد مهر الدين) جنده ي�صارع من �أجل الوجود الإن�ساين بلغة ح�ضارية معا�صرة‪ ،‬يف بع�ض الأحيان‬ ‫يقودها االنفعال‪ ،‬لكن انفعال منظم �ضمن لغة اخلطاب التي يريد لها �أن ت�صل‪ .‬خطاب (حممد مهر الدين) خطاب عاملي ال يخ�ص بيئة‬ ‫اجتماعية بعينها �أو ثقافة �شعب ما‪ ،‬و�إمنا ير�سل خطابه لكل ال�شعوب �أي �أنه خطاب �إن�ساين يحمل لغة ت�شكيلية عالية عارفة ب�آليات‬ ‫التو�صيل‪ ،‬فكان حمور خطابه ا�ستن�صار ق�ضية الإن�سان‪( ،‬فلرن�صد جتربته من الكلمة �إىل اللون)‪ ،‬هذه هي بنية حممد مهر الدين‪ ،‬ك�أنه‬ ‫يحيل احلدث ل�صورته الذهنية �إىل مفردة وهذه املفردة تحُ ال �إىل حد�س‪ ،‬جاع ًال من الذات املنفعلة تت�ضايف مع معادلة الهند�سي‬ ‫البارع الذي يحول كلماته �إىل رموز حتدد حتوالتها �سري املعادلة‪ ،‬فـ (الكلمة) التي ي�ستخدمها الفنان مرت بحاالت خمتلفة‪ ،‬وهي‬ ‫(الكلمة) التي تو�صل مفهوم �صورة كما يف ال�شكل (‪ ،)1‬حيث نالحظ الداللة التي تثريها كلمة ( ال ت�سوية) فهي مقاربة مبفهومها‬ ‫لل�صورة الواقعية التي تعرب بالنيابة عنها‪ ،‬كما �إن الأرقام داللة حلدث ما وهو رقم يحمل �إيحاءات �سيا�سية‪� ،‬إذن هي حماكاة لل�صورة‬ ‫�أو �إر�سالية مفاهيمية معادلة للواقع مبا يحمل من �صور‪.‬‬ ‫�أما يف املرحلة الثانية فقد حتولت الكلمة �إىل نظرية هند�سية متثلت يف االمتداد واالنقطاع واالنك�سار للخطوط‪ ،‬حيث تعرب‬ ‫الكلمة هنا عن تعقيدات ونظريات‪ ،‬وهي بداية الت�شفري للكلمة‪� ،‬أي يف مراحلها الأوىل فكان اخلط فاع ًال هنا ال ي�ؤدي وظيفة مت ّثل‬ ‫الأ�شياء و�إمنا ي�ؤدي وظيفة الفكر‪ ،‬وهذا حتول مهم يف ا�ستخدام اخلط كما يف ال�شكل (‪ )2‬لكن احلالة الثالثة كانت هي التحول الأكرب‬ ‫الذي ا�ستمر طوال زمن التجربة حيث اجتمعت (الكلمة ال�صورة مع الكلمة الهند�سة مع الكلمة الفعل والتعبري) هذه احلالة حددت‬ ‫خارطة عمل مهر الدين‪ ،‬حيث ُأ�حيلت الكلمة �إىل �شبكة من العالقات (الت�ضاد‪ ،‬واال�ستمرارية‪ ،\/‬والتباين‪ ،‬والقوة‪ ،‬وال�ضعف)‬ ‫�إن هذا التمرحل يف التجريب �إزاء الكلمة يتحول �إىل �شكله الأخري كبداية لت�أ�سي�س العمل الفني‪ ،‬لذا ن�شاهد يف ال�شكل (‪ )3‬بع�ض‬ ‫املخططات امل�ستقبلية للكلمة التي ت�شكل املو�ضوع �أو احلدث‪.‬‬ ‫وت�أ�سي�س ًا على ما تقدم �إن ال�صورة الذهنية التي تركزت يف ذهنية الفنان حققت جمريات حتولها يف قالب املفردة‪ .‬ثم تناقلت‬ ‫‪57‬‬


‫تشريح النص البصري‪/‬حممد مهر الدين أمنوذجا‬ ‫�أ‪ .‬و�صف العمل الفني‪:‬‬ ‫يت�ألف هذا العمل من م�ساحتني م�ستطيلتني مرتاكبتني يف االجتاه ويف امل�ستوى املرتاكب‪� ،‬أما يف االجتاه فنالحظ �أن امل�ستطيل‬ ‫جزء منها يف �أ�سفل العمود الفني‪ .‬ك�أن الفنان يبلغنا باجلزء الذي �أزيح كي يظهر حتته امل�ستطيل‬ ‫(الرمادي) عبارة عن قطعتني يظهر ٌ‬ ‫املعتم �إذن يتحدد �شكل امل�ستطيل (‪ )1‬الرمادي كما يف املخطط (‪ )1‬الآتي‪:‬‬

‫ﻣﺨﻄﻂ )‪(1‬‬

‫�أما امل�ستطيل (‪ )2‬املعتم فرناه يقع �أ�سفل امل�ستطليل (‪� )1‬إذ اختفى جزء منه يف الأعلى والأ�سفل حتت امل�ستطيل (‪ )1‬لكن الفنان‬ ‫ا�ستمراريته من خالل امل�ستطيل (‪� )1‬أكرث �شفافية كما هو حا�صل يف ا�ستخدامات بع�ض الطبقات (‪ )Lears‬يف (برنامج الفوتو�شوب)‪،‬‬ ‫لذا يتحدد �شكل امل�ستطيل الثاين يف املخطط (‪ )2‬الآتي‪:‬‬

‫خمطط (‪)2‬‬

‫كما �إن امل�ستطيلني ي�شرتكان يف �إظهارات ملم�سيه ملادة خام يف اجلزء العلوي ويف اجلزء الأ�سفل من متمم امل�ستطيل (‪)1‬‬ ‫وا�شرتاكه مع امل�ستطيل (‪ )2‬ف�ض ًال عن الإظهارات امللم�سية التي ي�ؤديها اللون يف املنطقة املعتمة للم�ستطيل (‪ )2‬من خالل حركية‬ ‫اخلط وجتاوزه املحيط الكايف للم�ستطيل الثاين‪.‬‬ ‫وعليه ميكن مالحظة حتقق وحدة االجتاه للم�ستطيلني رغم تق�سيمها حيث نالحظ االجتاه العمودي �إذا فككنا امل�ستطيلني‬ ‫‪56‬‬


mixed media on canvas - 110 x 90 cm - 2002

55


‫لوحات مهر الدين تؤكد أهمية حوار الرؤى يف التعبري البصري‬ ‫ت�ؤكد �أعمال الت�شكيلي العراقي حممد مهر الدين �أهمية حوار الر�ؤى يف بناء امل�شهد الب�صري الذي حر�ص طوال م�سريته‬ ‫الفنية على تنقيته من ال�شوائب الب�صرية عرب تراكمات اخلربة وحوارات الر�ؤية مع املادة‪.‬‬ ‫وت�أتي �أعمال معر�ض مهر الدين‪ ،‬الذي افتتح قبل يومني يف غالريي الينز‪ ،‬تطوير ًا للمنهج الذي اعتمد فيه خالل ال�سنوات‬ ‫اخلم�س الأخرية على توظيف البناء الهند�سي املفتوح على الإ�ضافة والتجديد �ضمن لغة جتعل �سطح لوحته حا�ضن ًا للر�ؤية والتقنية‬ ‫والأ�سلوب‪.‬‬ ‫ويقدم مهر الدين‪ ،‬املولود‬ ‫يف العراق ‪ ،1938‬يف معر�ضه اجلديد �أعما ًال فنية ورقية وزيتية م�ستخدم ًا الكوالج واملواد املختلفة �ضمن �صيغ االقت�صاد‬ ‫اللوين واختزال الإ�شارات والرموز ل�صالح االمتداد واالت�ساع على �سطوح �أعمال معر�ضه الذي �شكل م�سار ًا جديد ًا يف جتربته الفنية‬ ‫التي ابتد�أها منذ نحو ن�صف قرن‪.‬‬ ‫ت�ضعنا �أعمال الفنان احلا�صل على دبلوم معهد الفنون اجلميلة يف الر�سم من جامعة بغداد يف العام ‪ ،1959‬وماج�ستري يف الر�سم‬ ‫تفرد بها يف �ساحة الت�شكيل العربي‪ .‬فعرب‬ ‫واجلرافيك من �أكادميية الفنون اجلميلة من بولندا يف العام ‪� ،1966‬أمام �إمكانيات تعبريية ّ‬ ‫�إحكام �سيطرته على حمور العالقة بني النزعة الهند�سية ال�صارمة يف البناء والتوزيع‪ ،‬واحلركة التلقائية للخطوط والعالمات‬ ‫والإ�شارات‪ ،‬ا�ستطاع �أن يحقق ح�ضور ًا خا�ص ًا للوحته يف امل�شهد الت�شكيلي العربي‪.‬‬ ‫تو�صل مهر الدين املقيم‪� ،‬إيل �أ�س�س يف العام ‪ 1969‬مع رافع النا�صري و�ضياء العزاوي و�إ�سماعيل فتاح وها�شم �سمرجي و�صالح‬ ‫اجلميعي جماعة الر�ؤية اجلديدة يف بغداد التي اعتربت الر�ؤية الفنية �صورة من �صور ا�ستخدامنا لعاملنا الداخلي واخلارجي‪� ،‬إىل‬ ‫�أ�سلوبيته اخلا�صة يف التعبري بعد مروره على الأقل مبرحلتني مت�صلتني ومرتابطتني ببع�ضهما بع�ضا‪ ،‬متيزت الأوىل ببنائها الأكادميي‪،‬‬ ‫والثانية با�ستعارات ال�صورة ال�سالبة واملحيط الهند�سي املج�سم‪ ،‬فكانت هاتان املرحلتان مبثابة الأ�سا�س التقني واحلوار الر�ؤيوي ملا‬ ‫تو�صل �إليه راهن ًا‪.‬‬ ‫تعمل التكوينات الهند�سية وتوزيعاتها على تنظيم حركة اخلطوط التلقائية �ضمن م�ساراتها‪ ،‬فيما تعمل احلركة التلقائية‬ ‫للخطوط على خلخلة الرتابة واجلمود فيما هو هند�سي و�صارم على �سطح اللوحة‪ ،‬فاحلركة التلقائية ال تتطابق بال�ضرورة مع‬ ‫الإيقاع الهند�سي بقدر ما تعمل على �إعادة تفكيكه ومن ثم توزيعه على ال�سطح لتحريره من املحددات الهند�سية التي حتكمه يف‬ ‫الإن�شاء والتكوين‪ ،‬ومتنحنا هذه اخلا�صية �إمكانية التعرف على جانب رئي�سي من جوانب حوار الر�ؤية بتقاطعاته وتفارقاته احلميمة‬ ‫التي تلتقي عندها خمتلف التعبريات اجلمالية يف حميط الإن�سان‪ ،‬ت�ستك�شف �أعمال مهر الدين املقيم يف عمان متفرغ ًا للفن‪ ،‬الإيقاع‬ ‫اجلمايل يف احلركة الب�صرية عرب متثيالت ح�ضورها على �سطح اللوحة يف م�ساحات حركية جمالية تعتمد حوار الر�ؤية يف تعبرياتها‬ ‫وم�شهدياتها الب�صرية‪.‬‬

‫غ�سان مفا�ضلة‬

‫‪54‬‬


‫لريفرف حول الفنون الت�صميمية وي�ستقر يف الأخري يف حمطات املدر�سة التعبريية التجريدية‪ ،‬فرثاء التجربة وتنوعها‪ ،‬يدل على‬ ‫�أن الفنان دائب البحث عن الإ�ضافات اجلديدة يف املادة وال�شكل والتعبري‪.‬‬ ‫�أن اللوحة تقف بانتظام ومتا�سك‪ ،‬وقوة‪ ،‬لأنها م�ؤداه على وعي م�سبق بتاريخ الفن‪ ،‬ولأنها انتقاله و�شعور مفعم بالت�أ�سي�س‬ ‫والإتيان باجلديد دائما‪ ،‬ويف معر�ضه الأخري‪ ،‬وجدنا بع�ض التل�صيقات الورقية‪ ،‬الكوالج‪ ،‬وا�ستخدام العجائن الكثيفة‪� ،‬إىل جانب‬ ‫الألوان الزيتية‪ ،‬و�ألوان االكريلك‪ ،‬ولكننا ر�أينا �أغلب اللوحات �أحادية الألوان‪� ،‬أو متق�شفة با�ستخدام املت�ضادات اللونية‪ ،‬ولكن يف‬ ‫هذه املرة‪ ،‬و�ضع الفنان فروقات بني الألوان املخففة التي تتحرك يف و�سط اللوحة ب�شكل تعبريي متحرر‪ ،‬ي�شف عن ال�سرعة واملهارة‬ ‫والثقة باللم�سة الأوىل‪ ،‬ولكن يرجع مرة اخرى ليحكم هذا النوع من البناء ب�إقامة نظام �صارم من العالقات الهند�سية امل�ؤلفة على فهم‬ ‫م�سبق لعلم عنا�صر الفن‪ ،‬فالتعبريية تلوح يف �أفق احلركة اللونية ال�سريعة املعربة عن حرارة الفعل‪ ،‬والتجريدية تكمن يف الرتاكيب‬ ‫اللونية املتجاورة وامل�ؤثرة يف بناء العمل الفني‪ ،‬فال زيادة وال نق�صان يف التكوين العام‪ ،‬وحتى احلروفيات الالتينية والعربية‬ ‫والأرقام واحت�ساب قيمة الت�أثري الب�صري على زوايا العمل الفني وترك الفراغات‪ ،‬كل ذلك ميثل موحيات تعبريية وجتريدية‬ ‫مع ًا‪ ،‬ولكن ال�صيغة النهائية للوحدات ال�صورية وحركات يده التعبريية‪ ،‬ت�ضفي طابع ًا ق�صدي ًا ميكن قراءته بو�ضوح‪ ،‬فامل�شكلة التي‬ ‫يراها الفنان تكمن يف طبيعة ال�سيا�سة الدولية اجلديدة وم�صري البالد‪ ،‬الذي وقع بني �سندان الديقراطية “امل�سلفنة” ومهاترات‬ ‫�أدعياء التحوالت اجلديدة‪ ،‬وجرائم الإرهاب و�سوى ذلك‪ ،‬هذا من النظرة العمومية‪� ،‬أما من النظرة اخلا�صة‪ ،‬ف�إن الألوان تبدو كابية‬ ‫وحزينة‪ ،‬يغلب عليها اللون الأ�سود والألوان الكاكية‪ ،‬كما �أن اخلرب�شات‪ ،‬والفو�ضى املنبعثة من حركة يده‪ ،‬تت�صل حتما مبدركاته‬ ‫احل�سية و�شعوره املحبط‪ ،‬ولكننا نرى يف اجلانب الآخر‪ ،‬احتكام ًا للنظام وال�صرامة‪ ،‬واملعمار الباذخ للت�صميم النهائي لكل لوحة‪.‬‬ ‫�إن ثنائية الذات واملو�ضوع‪ ،‬ا�ستحالت بيد الفنان جماال للإف�صاح عن احلرية املفتقدة يف الواقع اليومي‪ ،‬وبنظرة متعالية‬ ‫ومتقدمة‪ ،‬ف�إذا �أردنا �أن نعرف الفن بطريقة �أخرى فنقول‪� :‬أن الفن الراقي وامل�سوغ بالنظرة اجلريئة والواثقة خرج من بني �أنامل‬ ‫فناننا الكبري حممد مهر الدين‪.‬‬

‫�صالح عبا�س ‪ -‬جريدة االحتاد‬

‫‪mixed media on wood - 70 x 70 cm - 2007‬‬

‫‪53‬‬

‫‪166‬‬


‫خ�صو�صية بحثه يف جماالت الفنون؟‬ ‫ �إن للفنان خو�ض ًا متفرع ًا‪ ،‬ومتعدد‪� ،‬شمل �أفرغ الفنون الت�شكيلية ر�سما‪ ،‬ونحت ًا‪ ،‬وت�صميم ًا‪ ،‬وطباعة‪ ،‬وديكور ًا م�سرحي ًا‪.‬‬‫ففي جماالت الر�سم‪ ،‬ابتد أ� بالأ�سلوب الأكادميي التقليدي‪ ،‬الذي يعتمد يف �إن�شاءاته وخ�صو�صية �ألوانه وخطوطه‪ ،‬على‬ ‫النموذج‪ ،‬خارج اللوحة‪ ،‬فيقوم الفنان برتديده ب�أمانة وانتباه مراعي ًا كل التفا�صيل والأجزاء الداخلة يف بنائه‪ ،‬و�إذا تب�صر امللتقي‬ ‫احلاذق‪ ،‬بطبيعة الر�سم الواقعي يف فرتة �أواخر العقد اخلام�س من القرن املن�صرم‪ ،‬ف�إنه �سيالحظ نوعا من االختالف بني طبيعة‬ ‫اال�شتغاالت اللونية واخلطية بني ر�سومات حممد مهر الدين وبني �أقرانه و�أ�ساتذته يف تلك الفرتة‪ ،‬ولذا تنبه الفنان نوري الراوي‪،‬‬ ‫خل�صو�صية البحث املقدم من قبل مهر الدين‪ ،‬ف�أ�شار �إليه بالثناء والتقدير‪ ،‬يف م�ؤلفه “ت�أمالت يف الفن العراقي احلديث” املطبوع عن‬ ‫وزارة الإر�شاد �سنة ‪.1962‬‬ ‫�أننا‪ :‬نعرف ب�أن الفن خربة‪ ،‬يف الأداء اللوين ويف النظرة �أي�ض ًا‪ ،‬فال ميكن ال�سري على طريق الإبداع‪ ،‬ما مل تكن الأدوات والعدة‬ ‫�آخذة حقها من وجودها‪ ،‬فاملوهبة قد ت�ساعد الفنان على تفهم خ�صو�صية الألوان‪ ،‬وطرائق اجنازها وحتريرها‪ ،‬واخلربة‪ ،‬تك�سب‬ ‫الفنان مهارات �إ�ضافية متحدية‪ ،‬بيد �أن فهم احلداثة‪ ،‬ميثل موقفا‪ ،‬ور�ؤية للفن عرب ما�ضيه وحا�ضره وم�ستقبله‪ ،‬كما يلزم فهما‬ ‫وانتباها مكر�س ًا للفن‪ ،‬وعلى هذه الأ�س�س‪ ،‬كلها‪� ،‬صنع الفنان مملكته اخلا�صة التي متيزه عن اجلميع‪ ،‬وال �سيما بعد عودته من بولونيا‪،‬‬ ‫ف�أول �شيء عمل عليه الفنان‪� ،‬إقامة معر�ض �شخ�صي لأعماله الفنية ذات امللم�س الكثيف‪ ،‬ويف الواقع‪� ،‬أن طريقة اال�شتغال على‬ ‫اللوا�صق‪ ،‬و�إ�ضافة الرمل واحل�صى‪ ،‬وقطع اخل�شب‪ ،‬و�إجراءات التحري‪ ،‬والتحزيز‪ ،‬واللعب على ال�سطح الت�صويري‪ ،‬و�إ�ضفاء مواد‬ ‫�أخرى غري مواد الر�سم‪ ،‬كل ذلك كان جديد ًا متام ًا ولي�س للفن الت�شكيلي املعا�صر‪ ،‬بكل تاريخه وم�ستوياته ورموزه‪� ،‬سابقة مثل هذه‪،‬‬ ‫مما �ساعد الفنانني الآخرين على ال�سري باجتاه خطواته‪.‬‬ ‫�أن حممد مهر الدين‪� ،‬أ�س�س �صدمة مذهلة يف التلقي العراقي‪ ،‬و�أ�س�س ذائعة �أخرى وذلك باخلروقات التي عمل عليها باجتهاد‪،‬‬ ‫و�إبداع حتى و�إن كانت مرجعياتها تتمار�س مع جتارب “تابي�س” و”رو�شنربغ” و�آخرين من عمالقة احلداثة يف العامل‪ ،‬وكما ا�شرنا ب�أن‬ ‫مهر الدين‪ ،‬فتح الطريق �أما نظرة الفنانني الواعدين حينئذ‪� ،‬أمثال حميد العطار‪ ،‬و�سعدي الكعبي‪ ،‬و�صالح اجلميعي‪ ،‬وفاروق ح�سن‪،‬‬ ‫وذلك بتجاوز مواد الر�سم التقليدية‪ ،‬والبحث عن البدائل املقرتحة التي من �ش�أنها �إ�ضفاء �سمات جديدة عن بينة العمل الفني‪.‬‬ ‫فاملهمة الأوىل �أجنزت‪ ،‬وب�إبداع منقطع النظري‪ ،‬وهذه اخلطوة الأوىل عن طريق حداثة الر�سم العراقي‪ ،‬فبعد �أن كان الر�سم‬ ‫ي�ؤدي بالألوان امل�صنعة �أ�ص ًال للر�سم‪ ،‬كالزيت واملذيبات‪ ،‬وما �إىل ذلك كما كان الفنان ير�سم لوحته على حامل ال�صور‪ ،‬حمتفظ ًا باجتاه‬ ‫اللوحة‪ ،‬مما يحدد الطابع الت�شكيلي‪ ،‬ويقولبه بنظام حمدد للر�ؤية العيانية‪ ،‬غري �أن الذي فعله حممد مهر الدين‪ ،‬هو عبارة عن‬ ‫انقالب وثورة عارمة يف تاريخ الفن العراقي‪ ،‬ففي جانب املواد اخلام وا�ستخداماتها‪ ،‬وجدنا الفنان �أم�سك باملعول ليخرب كل البناءات‬ ‫التي �سبقته با�ستخدام مواد ال ت�صلح للر�سم‪ ،‬ويف اجلانب ال�شكلي‪ ،‬ف�إن الفنان ابتكر و�سائلة للو�صول �إىل �أ�شكال غري م�سبوقة‪ ،‬وذلك‬ ‫بتحرير اللوحة من حمددات النظام الب�صري املعتاد‪� ،‬أما من حيث القيم التعبريية الكامنة‪ ،‬ف�إن الفنان اختار موا�ضيع الأحداث‬ ‫اليومية وال�صحيفة واخلربية مواد ًا ت�صلح للر�سم ال بطريقة الإعالن عن حدث معني �أو حالة معينة ولكن بطريقة النظرة‬ ‫واال�ستقراء والتحليل املنطقي امل�ؤلف على العلم امل�سبق‪ ،‬مبا ت�ؤول �إليه الفكرة الآن وم�ستقبال‪.‬‬ ‫لقد ابتد�أ مهر الدين بالر�سم املحاكي‪ ،‬ونقل خطاه باجتاه الر�سم الواقعي �أالنتقادي‪ ،‬ثم حام حول بع�ض التجارب ال�شكالنية‪،‬‬ ‫‪52‬‬


‫ثراء التجربة اإلبداعية‪ ،‬واستشراف املستقبل‬ ‫على قاعة الأندى بعمان‪� ،‬أقام م�ؤخر ًا الفنان العراقي حممد مهر الدين‪ ،‬معر�ض ًا �شخ�صي ًا كبري ًا‪ ،‬ت�ضمن جتارب جديدة يف الر�سم‪،‬‬ ‫با�ستخدام مواد خام خمتلفة‪ ،‬وقد حركها‪ ،‬بتقنيات �أخرى‪ ،‬وا�ضع ًا �أفكاره وت�صوراته وحدو�سه‪ ،‬يف وعاء �شكلي مبتكر‪� .‬أننا نعرف‬ ‫الفنان‪ ،‬بو�صفه واحد ًا من �أبرز املحدثني يف الفن الت�شكيلي العراقي املعا�صر‪ ،‬وميثل �أحد �أهم الركائز الأربع‪ ،‬فيه‪ ،‬بعد جواد �سليم‬ ‫و�شاكر ح�سن و�إ�سماعيل فتاح‪ ،‬فالفنان حممد مهر الدين‪ ،‬ا�ستطاع �أن يحفر ا�سمه يف ذاكرة الفن والثقافة يف العراق‪ ،‬حمقق ًا ح�ضور ًا‬ ‫عربي ًا وعاملي ًا فالتجارب الكثرية‪ ،‬التي تقدم بها الفنان على مدى رحلته الفنية الطويلة‪ ،‬تت�شابه متام ًا مع مواقفه الفنية والفكرية‬ ‫والر�ؤيوية على حد �سواء‪.‬‬ ‫* فما هي خ�صو�صية املواقف لدى الفنان؟‬ ‫ �أن حممد مهر الدين‪ ،‬مواليد الب�صرة عام ‪ ،1938‬واملتخرج من معهد اجلميلة ببغداد �سنة ‪ - ،1959‬ثم وا�صل درا�سته للفن يف‬‫مدينة وار�شو‪ ,‬ببولونيا‪ ،‬ليعود �إىل العراق �سنة ‪ ،1967‬بعد �أن تتلمذ على �أبرز الفنانني هناك‪.‬‬ ‫لقد اقرتن ا�سم الفنان‪ ،‬باملوقف املفارق‪ ،‬واملتقاطع دائم ًا‪ ،‬ذلك �أن الفنان مل يقتنع بكل �شيء حوله‪ ،‬بيد �أن قناعاته ال�شخ�صية‬ ‫يف احلياة والفن‪ ،‬كانت تتوا�شج مع تطلعاته املبكرة بالأفكار الي�سارية‪ ،‬واملارك�سية حتديد ًا‪ ،‬وهنا‪ :‬وقد جند ثمة تباين يف الطرح‬ ‫الفكري املتعلق مب�سعى الفنان للتقاطع وعدم الر�ضا عن كل التفا�صيل احلياتية يف زمنه‪ ،‬ذلك �أن الفكر املارك�سي الذي تبناه الفنان‬ ‫منذ مطلع حياته الفنية املبكرة‪ ،‬ي�سمح بتفهم الواقع على وفق م�سوغات ا�شتغاله وبروح ديناميكية‪ ،‬م�ؤمنة بالفكر املادي العلمي‪،‬‬ ‫قدم �أف�ضل املفاتيح ملغاليق الأ�سئلة املريبة واحلائرة‪ ،‬و�أ�س�س للنظرية اجلمالية مبادئ جديدة‪ ،‬فعلى مدى تاريخ الثقافة املارك�سية‪،‬‬ ‫ابتداء من مراحلها الريادية والتي يطلق عليها باملارك�سية الكال�سيكية‪ ،‬مرور ًا بع�صرنا الراهن‪� ،‬أي منذ �أكرث من مئة و�أربعني عام ًا‪،‬‬ ‫�أجنبت املارك�سية �أحفاد ًا �أ�س�سوا للحداثات على �صعد الثقافة والأدب والفن‪ ،‬وكل �ضرب من الأفعال الإن�سانية اخلالقة‪ ،‬ولكن املوقف‬ ‫ال�شخ�صي للفنان حممد مهر الدين‪ ،‬و�أن ميثل ح�ضور ًا ملمو�س ًا‪ ،‬متما�سك ًا مع الأفكار ذات النزوعات املادية �أو الوجودية‪� ،‬إال �أنه ميثل‬ ‫موقف ًا �شخ�صي ًا‪ ،‬ويعي�ش يف جوانب الفن‪ ،‬والنظرة للتحديث بر�ؤية كونية وعاملية‪.‬‬ ‫�أن �سفر الفنان حممد مهر الدين‪ ،‬حافل باملواقف‪ ،‬املغامرة‪ ،‬واملناوئة دائم ًا‪ ،‬لل�سيا�سة‪ ،‬والعالقات االجتماعية‪ ،‬والأحداث‬ ‫التاريخية‪ ،‬ولقد دفع الفنان ثمن ًا باهظا‪ ،‬ملواقفه ال�صريحة واملعلنة‪ ،‬وباحلقيقة‪� :‬أن كل املواقف التي اتخذها‪ ،‬يف حياته املعتادة‪،‬‬ ‫كادت تكلفه حياته‪ ،‬ولكنه حمظوظ جد ًا‪ ،‬وحتف به رعاية الأقدار‪ ،‬ف�شجاعته‪ ،‬و�صراحة ر�أيه وو�ضوح موقفه‪ ،‬من النظام القمعي يف‬ ‫العراق منذ الإطاحة باجلمهورية الأوىل‪ ،‬وحتى ما جرى بعد �سقوط النظام من تداعيات‪ ،‬كان ال بد �أن يدفع ثمنها غالي ًا وبخا�صة يف‬ ‫ال�سنوات الثالثني الأخرية‪ ،‬هذه ال�سنوات العجاف �إىل راح �ضحيتها �أ�شراف البالد‪ ،‬و�أبريا�ؤها‪ ،‬فاملواطن الغيور‪ ،‬احلري�ص على م�ستقبل‬ ‫بالده‪ ،‬ال بد �أن يلقى حتفه من خالل تقارير الكائدين‪ ،‬وو�شايتهم‪� ،‬أو من خالل حمرقة احلرب اال�ستنزافية املدمرة‪.‬‬ ‫لقد كانت ميادين الرمي‪ ،‬حا�ضرة‪ ،‬و�شاخ�صة‪ ،‬يف ذاكرة كل العراقيني‪ ،‬كما كانت �أعواد امل�شانق ت�ستقبل يومي ًا الع�شرات من‬ ‫الرثوات املتفكرة مب�صائر الآخرين‪ ،‬ف�إذا جنا حممد مهر الدين من م�ؤامرة حقيقية‪ ،‬فذلك لي�س ملوقف انتهازي �أو مرتد‪ ،‬بل لأن‬ ‫الأقدار حبته‪ ،‬وجمدته‪ ،‬و�أرادت له �أن يكمل م�شواره يف احلياة‪ ،‬لي�ستطيع قول كل جملة عن طري الفن الإن�ساين النبيل‪ ،‬فما هي‬ ‫‪51‬‬


‫نتعرف عرب البناء املعماري غري التقليدي‪ ،‬الذي ي�سم �أعمال معر�ض مهر الدين املتوا�صل حتى الرابع والع�شرين من ال�شهر احلايل‪،‬‬ ‫على جانب رئي�سي من جوانب حوار الر�ؤية على �سطح اللوحة حني ت�ستهدف تفكيك لغة الواقع واحللم‪ ،‬وتعيد �إنتاجها وفق منظور‬ ‫جمايل معا�صر يف توجهاته ومنطلقاته التعبريية‪.‬‬

‫غ�سان مفا�ضلة‬

‫‪mixed media on wood - 120 x 120 cm - 2010‬‬

‫‪50‬‬


‫لوحة الت�شكيلي العراقي مهر الدين توا�صل تنقية العامل من �شوائبه الب�صرية‬ ‫تفردت بح�ضورها التعبريي يف امل�شهد الت�شكيلي املعا�صر على‬ ‫عمان‪ -‬توا�صل لوحة الت�شكيلي العراقي حممد مهر الدين‪ ،‬منذ ّ‬ ‫�ساحتيه العراقية والعربية قبل �أكرث من ن�صف قرن‪ ،‬تنقية مرئيات العامل من �شوائبها الب�صرية‪ ،‬التي ما انفكت ت�صبغ مالمح الواقع‬ ‫وروحه بالقلق والتوتر واالحتقان‪.‬‬ ‫مل تكن لوحة مهر الدين‪ ،‬الذي افتتح معر�ضه اجلديد م�ساء �أول من �أم�س يف غالريي الأورفلي‪ ،‬معزولة عن �سياق حميطها احلافل‬ ‫بالتوترات والتغيرّ ات‪ ،‬بل كانت مبنطلقاتها وتوجهاتها يف ال�صميم منه‪ ،‬ر� ً‬ ‫ؤية ومعاينة وا�ست�شراف ًا‪ ،‬ما جعلها �أكرث قربا من رحلة‬ ‫الك�شف عن جوهر احلقيقة واجلمال الل�صيقني لدية مبنابت احلرية وااللتزام يف احلياة والفن على ال�سواء‪.‬‬ ‫وعرب تراكم اخلربة امل�شفوع لدى الفنان‪ ،‬املولود يف العراق ‪ ،1938‬بالتماع حوار الر�ؤية مع املادة وجوهر الفكرة‪ ،‬ظلت م�سريته‬ ‫ً‬ ‫مفتوحة على الإ�ضافة والتجريب‬ ‫الفنية‪ ،‬التي ما تزال يف �أوج ت�ألقها وذروة ك�شوفاتها التعبريية منذ اخلم�سينيات من القرن املا�ضي‪،‬‬ ‫والتجديد‪ ،‬وفق ا�شرتاطات التعبري اجلمايل‪ ،‬التي حر�ص معها على موا�صلة ت�صفية عامله الت�صويري وتنقيته من �شوائب ال�سرد‬ ‫والإن�شاء‪.‬‬ ‫وت�ؤكد �أعمال مهر الدين‪ ،‬احلا�صل على دبلوم معهد الفنون اجلميلة يف الر�سم من جامعة بغداد العام ‪ ،1959‬وماج�ستري يف الر�سم‬ ‫واجلرافيك من �أكادميية الفنون اجلميلة من بولندا العام ‪� ،1966‬أهمية حوار الر�ؤية مع املادة والتقنية يف �إغناء �سطح لوحته‬ ‫املفتوح على الإ�ضافة والتجديد‪� ،‬ضمن لغة جتعل من ال�سطح نف�سه حا�ضن ًا للر�ؤية والتقنية والأ�سلوب معا‪.‬‬ ‫يقدم مهر الدين‪ ،‬يف معر�ضه اجلديد �أعما ًال فنية تعتمد يف بنائها وحمتواها على بروز املالم�س الهند�سية وتقنية “الكوالج”‪،‬‬ ‫وتوظيف ال�صورة ال�سالبة مبعاجلات جديدة مغايرة ملا عرفته لوحته يف مرحلة مبكرة من �سبعينيات القرن املا�ضي‪.‬‬ ‫و�شكّلت �صيغ االقت�صاد اللوين واختزال حركة الإ�شارات والرموز ل�صالح االمتداد واالت�ساع على �سطوح �أعمال مهر الدين‪ ،‬م�سار ًا‬ ‫تفردت يف م�شهدها الت�شكيلي بح�ضور تعبريي خا�ص‪ ،‬اعتمد فيه �إحكام ال�سيطرة على حمور العالقة بني‬ ‫جديد ًا يف جتربته التي ّ‬ ‫النزعة الهند�سية ال�صارمة يف البناء والتوزيع‪ ،‬واحلركة التلقائية للخطوط والعالمات والإ�شارات‪ ،‬التي ُتبطن دائم ًا �أكرث مما تظهر‪.‬‬ ‫وتو�صل مهر الدين‪ -‬املقيم متفرغا للفن يف عمان‪ ،‬والذي �أ�س�س يف العام ‪ 1969‬مع رافع النا�صري و�إ�سماعيل فتاح وها�شم �سمرجي‬ ‫و�صالح اجلميعي جماعة “الر�ؤية اجلديدة”‪ -‬تو�صل �إىل �أ�سلوبيته اخلا�صة يف التعبري بعد مروره على الأقل مبرحلتني مت�صلتني‬ ‫ومرتابطتني ببع�ضهما؛ مت ّيزت الأوىل ببنائها الأكادميي‪ ،‬والثانية با�ستعارات ال�صورة ال�سالبة واملحيط الهند�سي املج�سم‪ ،‬فكانت‬ ‫هاتان املرحلتان مبثابة الأ�سا�س التقني واحلوار الر�ؤيوي لإ�ضافاته وجتديداته املتوا�صلة حتى الآن‪.‬‬ ‫تعمل التكوينات الهند�سية وتوزيعاتها يف لوحة مهر الدين على تنظيم حركة اخلطوط التلقائية �ضمن م�ساراتها الهند�سية‪ ،‬فيما‬ ‫تعمل احلركة التلقائية للخطوط على خلخلة الرتابة الهند�سية على �سطح اللوحة ذاتها‪.‬‬ ‫فاحلركة التلقائية يف لوحته ال تتطابق بال�ضرورة مع �إيقاعها الهند�سي‪ ،‬بقدر ما تعمل على �إعادة تفكيكه‪ ،‬ومن ثم توزيعه على‬ ‫ال�سطح‪ ،‬باجتاه حتريره من املحددات الهند�سية التي حتكمه يف الإن�شاء والتكوين‪.‬‬ ‫‪49‬‬


48


47


46


45


44


43


42


41



39


‫خاطرة عن معر�ض الفنان حممد مهر الدين‬ ‫للفنان حممد مهر الدين مزايا‪ ،‬ا�ستح�ضرتها‪ ،‬و�أنا �أزور معر�ضه ال�شخ�صي الثالث للر�سم الذي افتتح على قاعة املتحف الوطني‬ ‫للفن احلديث‪ .‬ولعل من �أبرز هذه املزايا‪ :‬مثابرة‪ ،‬ا�ستطاعت �أن حتقق �أ�سلوب ًا متميز ًا‪.‬‬ ‫ومعلوم �أن امتالك �أ�سلوب متميز‪ ،‬لي�س �أمر ًا هين ًا‪ ،‬وال ميكن �أن ي�أتي عفو ًا‪ ،‬يف جمال العمل الفني‪ .‬فكم فنان ًا عندنا ميتلك �أ�سلوب ًا‬ ‫متميز ًا؟ لي�س كثريين على �أية حال!‬ ‫�أن الذين تابعوا نتاج حممد مهر الدين‪ ،‬يدركون �أن هذا الفنان مل يرق �إىل تقدمي هذه النماذج ذات الأ�صالة‪� ،‬إال عرب اجلدية‬ ‫والإخال�ص للعمل الفني كجهد فكري‪� ،‬إال عرب اجلدية والإخال�ص للعمل الفني كجهد فكري‪ ،‬ومن خالل احلر�ص على التمكن من‬ ‫الأداة الفنية والعم لعلى تطويرها‪ ،‬وبالتايل من الأداة الفنية والعمل على تطويرها‪ ،‬وبالتايل االجتاه �إىل تقدمي نتاجات جديدة‪.‬‬ ‫تعرب عن جتاوز الفنان لنف�سه‪.‬‬ ‫وب�صرف النظر عن العنوان الذي اختاره الفنان ملعر�ضه الأخري‪“ :‬غريب عن هذا العامل” ت�شكل �أغلب اللوحات التي قدمها مهر‬ ‫الدين‪ ،‬منوذج ًا جريئ ًا لهذا التجاوز‪ .‬و�إذا كان عدد من الفنانني العراقيني قد �سجنوا �أنف�سهم يف �إطار ما حققوه من جناح يف �سنوات‬ ‫�سابقة‪ .‬ف�إن مما يثري �إعجابنا لدى مهر الدين‪� ،‬أنه كان من اجلر�أة بحيث �أ�ستطاع �أن يك�سر حدود ما �أجنزه �سابق ًا‪ .‬بل �أنه يف هذا‬ ‫املعر�ض‪ ،‬ليتنازل عن �أحدى امليزات التي عرفت عنه كفنان ذو مهارة وح�سا�سية يف التلوين‪ ،‬ليقدم عرب جمموعة من التخطيطات‬ ‫املر�سومة بالأبي�ض والأ�سود‪ ،‬مناذج مفعمة بالرهافة‪ ،‬والتعبري املقت�صد واملوحي يف الوقت نف�سه‪.‬‬ ‫وهكذا‪ ،‬مل يعد اللون‪ ،‬ومل تعد مواد الر�سم يف اللوحة التي اعتاد حممد مهر الدين �أن يوظفها للوحاته‪ ،‬م�شكلة يعانيها مهر‬ ‫الدين‪ .‬بل تنازل عن متكنه‪ ،‬وعما ا�ستطاع �أن ينجزه‪ ،‬و�أنه لأمر يدعو �إىل �إعادة الت�أمل يف نتاج مهر الدين‪� ،‬أن تكون هذه التخطيطات‬ ‫الب�سيطة هي املتنف�س الذي عول عليه‪ ،‬مما �أتاح له – وهو �أمر �صعب – �أن يلخ�ص تعابريه ويب�سطها‪ ،‬دون �أن ي�سقط يف االنغالق‬ ‫والغمو�ض اخلل‪ ،‬و�أن يكون يف كل ذلك ماهر ًا‪ ،‬بحيث يبدو يل �أن حماوالته ال�سابقة على ثرائها‪ ،‬ما كانت لتنه�ض بهذا امل�ستوى‪ ،‬وال‬ ‫تطاله‪ ،‬حتى لأغامر يف القول ب�أن مهر الدين يعيد اكت�شاف نف�سه‪.‬‬ ‫كم فنان ًا من الفنانني العراقيني ا�ستطاع ذلك؟‬ ‫وبعد‪� .‬سيبقى مهما �أن نتعرف �إىل ما �أراد الفنان �أن يقوله يف هذه النتاجات‪ .‬فما دام املعر�ض متميز ًا‪ ،‬ف�أنه ملن املنطقي �أن نبحث عن‬ ‫اجلديد الذي �ضمنه الفنان يف لوحاته‪.‬‬ ‫يف هذا املجال‪ ،‬يبدو عنوان املعر�ض “غريب هذا العامل” عمومي ًا‪ ،‬و�شاعري ًا! �إىل حد يبدو معه غري �صالح لأن يكون مفتاح ًا منا�سب ًا‬ ‫ملا تعك�سه �أعماله الت�شكيلية من معاناة‪.‬‬ ‫ول�ست م�ستعد ًا – كمجرد م�شاهد – لالن�سياق وراء مظاهر احل�س العمومي‪ ،‬الذي حاول الفنان �أن يوهم به‪� .‬أن اللوحات تعك�س‬ ‫معاناة هي يف اعتقادي من اخل�صو�صية‪ ،‬بحيث ال تكاد تنجح حتى يف �إخفاء مفرداتها ال�صميمة‪ ،‬وهي مفردات ما تلبث �أن ت�سلم نف�سها‬ ‫بعد قليل من الت�أمل‪..‬‬ ‫‪38‬‬


‫وجمزوء عملية الت�صوير الفوتوغرايف (ال�صورة ال�سلبية) ت�صبح لديه (مادة) جديدة للتعبري لأنه حينما �سيلج�أ �إىل مبد�أ التل�صيق‬ ‫يف الر�سم و�إىل كل تلك اال�ستعارات الأ�سلوبية من الفنون الأخرى �إمنا يحاول �أو يطبق مبد أ� توظيف التقنية حل�ساب فن الر�سم‪� ،‬ش�أنه‬ ‫يف ذلك �ش�أن ا�ستخداماته الأوىل ملعطيات فن النحت البارز يف فنه‪ ،‬كالذي �ساد قبل �أعوام‪.‬‬ ‫�أنه يف �أ�سلوبه هذا وتقنيه يحاول �أن يعرب عن موقفه الواقفي يف فنه‪� .‬أي �أنه ال يحمل فنه بعدا فكري ًا معين ًا غريب ًا على فنه‬ ‫الت�شكيلي‪ .‬لأن ما يهم امل�شاهد والفنان بالأ�سا�س هو طبيعة التعبري بوا�سطة ال�شكل الفني وهو يف معاملة ال�شكل الفني‪� ،‬سواء ب�ألوانه‬ ‫�أو معطيات اللوحة الأخرى ال�شكلية واخلطية واملنظورية يظل يف �إطار نظرته للعامل من خالل �سحنته املادية بالذات‪ .‬وهذا �أمر‬ ‫جدير باالهتمام يف فن حممد مهر الدين‪ .‬على �أن �أ�سلوبه الآن مييل �إىل �أن يكون اهتمام ًا خا�ص ًا (بت�صنيع) العمل الفني ولكن من‬ ‫وجهة نظر (حرفية)‪ .‬والذي �أعنيه �أنه ينعني (باللوحة) لذاتها ك�أ�صغر م�ساحة ممكنة للتعبري وال يحاول �أن ي�ستند يف بنائها على‬ ‫�صنع (وحدات) �أ�صغر منها �شكلية كانت �أم خطية ي�ستطيع بعد ذلك �أن يدخلها يف �صميم البناء الكلي للوحة كما هو �ش�أن (فازارايل)‬ ‫مث ًال لو (حممود �صربي)‪ .‬كما �أنه ال يحاول باملقابل �أن ي�ستند يف بنائها �إىل تلك العالمات املحيطية التي توحد ما بني الفنني املعماري‬ ‫والت�شكيلي ب�شكل �أو ب�آخر‪ ..‬ذلك �أن (مفرداته) الآن (تقنية بحتة)‪ .‬و�إذا �أردنا �أن ي�ستع�صي (وحداته) البنائية يف لوحاته ف�سوف‬ ‫جندها كامنة يف مفهوم الإن�سان الذي يحاول �أن ير�سمه با�ستمرار‪ .‬فهو (الظل) و(اجلزء) و(احلد اخلارجي) و (ال�صورة ال�سلبية)‬ ‫الفوتوغرافية للمالمح) و�سوى ذلك‪ .‬وجميعها ال ت�ؤلف لنا كيان ًا مادي ًا (للوحدة) بل هي من تفا�صيل الوجود وهناك من ي�صر على‬ ‫�أن يجد يف هذا املعر�ض امتداد ًا للتقنية املتطورة يف �أوروبا‪ ،‬و�إنها بال هوية حملية‪ .‬وهذا يف الواقع نوع من التجني بحق فنان عراقي‬ ‫يحاول �سواء ب�صورة متق�صدة واعية �أو ب�صورة ال واعية �أن يعرب عن �شخ�صيه احل�ضارية يف الفن‪ .‬وقد ظهر ذلك يف الكثري من معطياته‬ ‫اجلاملية كلجوئه �إىل (التكرار) �أو (ال�شفافية) وا�ستلهام الكتابة مث ًال‪ .‬ونحن نعرف جدي ًا �أن هذه التو�صالت �سادت الفن الرافديني‬ ‫�سواء يف الع�صور القدمية �أو فيا لع�صر الإ�سالمي ومن ذلك بع�ض الر�سوم امل�صغرة يف كتاب خوا�ص العقاقري وما هو معروف عن تكرار‬ ‫الأ�شخا�ص يف النحت البارز ال�سومري والآ�شوري‪.‬‬ ‫بقي �أن ن�شري �أخري ًا �إىل �أن هذا املعر�ض الذي يفتتح به املو�سم الفني يف �صالة الرواق يظل حدث ًا جدير ًا بالت�أمل لأنه ي�سجل لدى‬ ‫امل�شاهد اخلط البياين لتطور الر�ؤية الفنية لدى فنان هو بالطليعة من فناين بالد الرافدين‪ ،‬كما �أنه ي�شبع تعط�شه �إىل تذوق �أعمال‬ ‫حافلة بامل�ضمون الواقعي والإن�ساين واملتعة والبهجة املت�أتية من تكامل البناء املو�ضوعي وتنا�سق الألوان (املتوافقة) وكل عنا�صر‬ ‫العمل الفني‪.‬‬ ‫�شاكر ح�سن �آل �سعيد ‪� -‬آفاق عربية – العدد ‪� 7/6‬شباط ‪1981‬‬

‫‪37‬‬


36


‫حممد مهر الدين يف معر�ضه الرابع‬ ‫يظل معر�ض مهر الدين �صورة �صادقة لر�ؤيته الفنية املتطورة وهو نف�سه يحاول �أن ي�ؤكد ذلك يف مقدمة املعر�ض حيث يقول‪:‬‬ ‫“معر�ضي هذا ميثل نوع ًا من التطور مب�ضامني قد ال تكون م�ألوفة‪ .‬وهو يتوا�صل باجتاه التطور مع املنهج الذي اعتمدته يف معر�ضي‬ ‫الثالث “ غريب هذا العامل” قبل عامني والذي حققت فيه نوع ًا من املزج ما بني تقنيات فنون ت�شكيلية متعددة مع نبذ ما يعيق القيمة‬ ‫التعبريية لهذا املزج”‪.‬‬ ‫والواقع �أن حممد مهر الدين كان وال يزال يرى العامل من منظور ت�شكيلي بحت ُيعنى فيه (بالطرح التقني) كعامل من عوامل‬ ‫الر�ؤية الفنية نف�سها مبقدار ما ُيعنى فيه (بال�شكل الإن�ساين) كرمز لغوي للتعبري عن الفكر‪ .‬على �أن ثمة عامل ثالث ين�سج ر�ؤيته‬ ‫هذه ويو�ضحها وهو طبيعة توظيفه للفن الت�صميمي وفن الفوتغراف يف فنه ف�ض ًال عن فن الر�سم ورمبا الكرافيك‪ .‬فهو يف مثل هذا‬ ‫املزج بني بع�ض الفنون الت�شكيلية املختلفة (بداللة حتققها على �سطح ت�صويري ذي بعدين) يحاول �أن يحقق معنى وحدة العمل ا‬ ‫لفني‪ ،‬وتال�شي احلدود بينها‪ ،‬وهذه �صفة بارزة من �صفات الفكر املعا�صر‪� .‬صحيح �أنه يف حماولته الأخرية هذه يتناول املو�ضوع من جهة‬ ‫نظر تقنية‪ ،‬ولكن ذلك ال ينفي �أنه �إمنا يفعل ذلك �أي�ض ًا لكي يجد نقطة االلتقاء بني عدة اخت�صا�صات يف الفن وهذه �سمة من �سمات‬ ‫(الفكر ال�شمويل الذي يت�صف به الن�صف الثاين من القرن الع�شرين حتى لكان الإن�سان �أ�ضحى م�شرفا على ع�صر �إن�ساين جديد كع�صر‬ ‫النه�ضة الأوروبية يف القرن ال�ساد�س ع�شر وهو يف ذروة ظهوره متمث ًال يف �شخ�ص ليوناردو دافن�ش الذي كان �أكرث من ر�سام ومايكلنجيلو‬ ‫الذي كان ر�سام ًا ونحان ًا يف نف�س الوقت‪.‬‬ ‫�أنه �إذن �أ�صبح يرى العامل الإن�ساين موزع ًا ما بني عدة منجزات فنية‪ ،‬ومن �صميم هذا املنطق العلمي والتجريبي مما �سرناه �أي�ض ًا‬ ‫حماو ًال �أن يجزئ الوجود الإن�ساين و (يبع�ضه) زيادة يف التعرف عليه‪ .‬وهنا تربز لنا مالمح �أ�سلوبه الفني ومعطياته التقنية‪.‬‬ ‫ففي كل لوحة من لوحاته الزيتية ا لـ (‪ )25‬التي عر�ضها نكت�شف �أن الإن�سان لدية لي�س هو وحدة اجلد الب�شري الكاملة‪ ،‬ولكنه‬ ‫�أجزا�ؤه‪� .‬أنه هنا قدم �أو �ساق وهناك كف �أو ر�أ�س �أو حدود عامة منقطة �أو ظل �أو عطاء فكري ب�شكل مل�صق �إعالين �أو كتابة �أبجدية‪.‬‬ ‫وهكذا ترى �أن منهجه يف (ت�أمله) للإن�سان‪ ،‬الذي كان �أول الأمر (قبل �سنوات) هو نف�سه ف�أ�صبح الآخرين‪ ،‬يتق�ضي التوغل يف معرفته‬ ‫توغ ًال ال قرار له‪.‬‬ ‫لقد �ضرب بابلو ببكا�سو املثل الأعلى بالطبع ملثل هذه املعرفة وكان يف �إن�سانيته (علمي ًا و�إن�ساني ًا مع ًا) حينما كان يرى الإن�سان‬ ‫من خالل جزالة اخلط‪ ،‬وتنوع زوايا املنظور الإن�ساين جمعاء) ولكن مهر الدين يف �سياق التطور العاملي املعا�صر‪ ،‬وبعد ظهور النزعة‬ ‫الواقعية اجلديدة فيا لتم�سك بالبحث يف ال�شكل الطبيعي من منظور جديد يحاول �أن يطرح لنا وحدة �أ�سلوبه املنطوي على جزالة‬ ‫تقنية وا�ضحة ب�شيء من اختزال الألوان ورهافة اخلطوط‪� ..‬إنه �إذن يحاول �أن يتابع من منطق الع�صر واقعية بيكا�سو الإن�سانية‬ ‫ولكن وفق ما متيله عليه احلاجة التقنية املتزايدة بفعل ع�صر الت�صنيع‪ .‬ذلك �أن التعبري يف ر�ؤية الفنان الذاتية عرب عدة جماالت‬ ‫يظل هو املوقف الإن�ساين والواقعي للفنان الذي ظل يجد يف ال�شكل الطبيعي ولي�س (الأثر) يغيته‪ .‬فمهر الدين يف �أ�سلوبه املتطور‬ ‫ي�صر على �أن يجد يف ال�شكل الإن�ساين وم�ؤثراته املحيطية مفرداته الت�شكيلية‪ .‬فال�شكل الإن�ساين (الت�شخي�صي) كجزء تف�صيلي‬ ‫ولي�س ككل والظل يتكون على اجلدار �أو الأر�ض‪ ،‬وكل ال�صيغ الأخرى لفنون الت�صميم كالر�سم باحلدود اخلارجية للأ�شكال والعالمات‬ ‫‪35‬‬


‫لكل فنان عامله اخلا�ص والفنان اجليد هو ذلك يزج الآخرين يف م�شكلته‪ ،‬مع ذلك يبقى الغو�ص يف �أعماق الفنان ال�ستكناه دقائقه �أمر يف‬ ‫غاية ال�صعوبة والولوج �إىل عامل مهر الدين تظهر فيه مثل هذه العوائق بو�ضوح‪ .‬فاللوحات اخلم�س والع�شرين املعرو�ضة هنا‪� ،‬سواء املنفذة‬ ‫بالزيت �أم التخطيطات هي قبل كل �شيء جمموعة حاالت ينزع فيها الإن�سان‪ ،‬وهو املو�ضوع الرئي�س يف التكوين‪� ،‬إىل التحليل والت�سا�ؤل‪.‬‬ ‫ومن خالل هذه الر�ؤية يح�س امل�شاهد وهو يتبحر يف الت�شكيالت املت�ضادة �أو املتكررة �أن الفنان يبحث عن �شيء مفقود‪ ،‬عن جوهره نادرة‬ ‫هدرت يف ركام هذه الأحجام‪ .‬لعله يبحث عن الود والألفة يف زمن غدا فيه احلب �ضربا من امل�ستحيل‪ .‬مل يعد مهر الدين يراقب الواقع فينفعل‬ ‫فيه بل �أخذ يب�صره ب�صرب وي�ستقرئ �سلبياته‪ ،‬لذا فهو يرى ال�صورة من عدة جوانب وكلها ت�صب يف ب�ؤرة واحدة‪� .‬أنها تنبع من العقل ال لتم�س‬ ‫الوجدان بل لت�ستفزه وت�صرخ فيه حيث مل يعد هناك جمال للحوار الهادئ امللغز‪.‬‬ ‫ميتاز املعر�ض ب�شكل عام بعمق الب�صرية والطرح اجلريء والتنفيذ البارع‪ .‬ولوحة مهر الدين تنمو نحو الب�ساطة يف حتديد الأ�شياء و�إظهارها‬ ‫بو�ضوح على ال�سطح اخلارجي‪ .‬لي�ست هناك �إ�ضافات �أو مبالغات يف اجلزء املنف�صل �أو الأجزاء جمتمعة‪ .‬ولقد ا�ستطاع الفنان بقدرته الفنية‬ ‫�أن يتو�صل �إىل نوع من التوازن الدقيق بني تفا�صيل الأجزاء اخلارجية واملحتوى ال�شعري املتخفي‪ .‬وبالرغم من �أنه ال يلج أ� �إىل خلق تناق�ضات‬ ‫ظاهرية حادة‪� ،‬إال �أن توتر ًا ملحوظ ًا يطغى على اجلو العام م�ؤكد ًا حدة ال�صراع الداخلي‪ ،‬وبذلك ي�ستقطب امل�شاهد ليجعله يقرتب من اللوحة‬ ‫وك�أنه طرف مق�صود لذاته‪� .‬أنه ليجعل "العني ت�صغي" على حد تعبري ال�شاعر بول كلوديل‪.‬‬ ‫ولعل احلركة واحلدث هما �أبرز ما مييز اللوحة هنا‪ .‬فهي بحد ذاتها حتتوي على عنا�صر توحي ب�أن فع ًال ما يجري و�أن لهذا الفعل �أ�صداء‬ ‫وردود ًا ت�ضع الإن�سان �أمام �أزمته‪ .‬ففي �أحدى اللوحات تظهر جمموعة �سيقان ب�سراويل ع�سكرية و�أنظمة م�سلحة‪ ،‬تتجه بحركة �سريعة‪.‬‬ ‫ويتمعن الفنان يف خلق جو الإرهاب وغمو�ض امل�صري حني ي�ستخدم لون ًا �أخ�ضر م�شرب ًا باالوكر فكان �ضبابا يغلف م�سار الأقدام ويرتفع لي�شمل‬ ‫خلفية اللوحة‪ .‬ويف عمل �آخر يظهر لنا الفنان جمموعة رجال يتقدمون وتعلو وجوههم عالمات اتهام �إذ ي�سلطون �أب�صارهم باجتاه واحد‬ ‫حيثما يربز رجل يف منت�صف اللوحة ي�شري ب�إ�صبعه �إىل �صدره مت�سائ ًال �أهو املعني بهذا االتهام؟ ويف �أعلى ال�صورة يظهر هدف يحمل على جانبه‬ ‫كلمة "فرا�شة" باللغة االجنليزية‪.‬‬ ‫ويتخذ مهر الدين من تناق�ض املفاهيم وعبثية الأحكام والأقدار م�صدر ًا ي�ستوحي منه الكثري من الأحكام والأقدام م�صدر ًا ي�ستوحي منه‬ ‫الكثري من املالحظات ذات الطابع النقدي كالر�ؤو�س اخلالية من املالمح‪� ،‬أو الأج�ساد اخلالية من الر�ؤو�س‪ .‬وكذلك الرتكيز على الأكف الكبرية‬ ‫والأقدام ال�ضخمة العارية‪ ،‬وما هذه �إال رموز ودالالت لظواهر �سلبية ومقايي�س �شاعت يف الوقت الراهن بالرغم من ال �شرعيتها‪ .‬ومما ي�ساعد‬ ‫على خلق جو احلوار املت�أزم يف اللوحة هدوء‪ ،‬اللون وا�ستخدامه كقيمة الحقة لتحقيق املناخ املنا�سب‪ ،‬لذا فقد جاءت حمددة بالألوان الأر�ضية‪،‬‬ ‫كالبني واالوكر والأزرق الفاحت‪.‬‬ ‫و�إذا كان مهر الدين مهتم ًا باجلانب الأدبي الفكري للمو�ضوع ف�أن ذلك مل يبعده عن اجلانب اجلمايل �أو يدعه ي�ضحي به ب�أي �شكل من‬ ‫الأ�شكال‪ .‬وهو هنا يتو�صل �إىل توازن منطقي بني اجلانبني‪ .‬ففي الوقت الذي يظهر فيه احلدث رئي�س ًا بارز ًا بروز ًا خطي ًا حاد ًا فان التفا�صيل‬ ‫املحيطة به متيل �إىل تكوينات جمردة تذكرنا ب�أعمال مهر الدين ال�سابقة‪� ،‬إذ حتقق له نزعته التجريدية وبراعته يف �إ�ضفاء احل�سية ال�شعرية‪.‬‬

‫فنون عربية – العدد الأول ‪ – 1981‬الكاتبة مي مظفر‬ ‫‪34‬‬


‫�أعمال حممد مهر الدين التي عر�ضت �ضمن معر�ضه ال�شخ�صي‬ ‫اخلام�س م�ساء الع�شرين من �أيلول (‪ )1980‬على قاعة الرواق‬ ‫�شواهد من عامل �آثر �أن يتحدث بلغة الع�صر احلديث متجاوز ًا‬ ‫حدود املكان اجلغرايف وبذلك �أ�صبح جل همة �أن يعرب عن الو�ضع‬ ‫الب�شري عموم ًا �إزاء الظروف الراهنة‪.‬‬ ‫فهل تو�صل حممد مهر الدين �إىل احلقيقة التي يريد؟ بل عن‬ ‫�أية حقيقة يبحث؟‬ ‫�إن البحث عن احلقيقة �أمر يتجدد مع الزمن ولعل خميلة‬ ‫الفنان واملبدع‪ ،‬تلك الطاقة املذهلة على ن�سج الأ�شياء �صوراً‪ ،‬هي‬ ‫لوحدها اليوم قادرة على مواكبة هذا البحث ب�صيغها املتجددة‪،‬‬ ‫و�إذا كان لكل ع�صر حقيقته فلكل زمان لغته وما مهر الدين �إال‬ ‫واحد من الذين يح�سون بانتمائهم �إىل هذا العامل الكبري وهو‬ ‫عامل م�ضطرب يكاد تختلط فيه القيم لدرجة الفو�ضى فيجد‬ ‫الإن�سان نف�سه م�ست�ضعف ًا منبوذا كما يجد �أن م�س�ألة الوجود غدت‬ ‫مع�ضلة �أ�شد مرا�سا وغمو�ضا من م�س�ألة الفناء‪.‬‬ ‫تقني ًا‪ ،‬ال بد �أن يلج�أ الفنان �إىل �أحدث الأ�ساليب ما زال يت�صدى ملعاجلة م�شكلة معا�صرة معاجلة نقدية بناءة‪ .‬ولعل �أ�سلوب الواقعية‬ ‫النقدية اجلديدة الذي ا�ستخدمه الفنان هنا جاء من�سجم ًا مع امل�ضمون يف وحدة متكاملة‪ .‬وي�أتي معر�ضه هذا ت�أكيد ًا على النهج الذي �شرع‬ ‫به قبل عامني وهو ا�ستخدام الفوتغراف يف التحديد الفيزيائي لأجزاء الإن�سان �إال �أن جتربته حينذاك "املعر�ض ال�شخ�صي الرابع – قاعة‬ ‫املتحف الوطني للفن احلدين – ‪ )1978‬جاءت طفرة مفاجئة انتقل فيها الفنان من التجريد �إىل الت�شخي�ص ومن ال�سطوح البارزة �إىل ال�سطوح‬ ‫امل�ستوية ومن القيمة الأ�سا�سية للون �إىل القيمة الفعلية للخط‪ .‬وبالرغم من افتقار جتربته تلك �إىل بع�ض اجلوانب اجلمالية �إال �أنها تبلورت‬ ‫هنا وغدت خمرية طيبة ملنطلق جديد تبلور واكتمل لي�صبح عم ًال قريب ًا‪.‬‬ ‫والواقعية لي�ست �أمر ًا غريب ًا على مهر الدين‪ .‬فقد اعتمد حتى يف �أ�شد حاالته التجريدية على �شرائح من الواقع �سواء �أبد ًا ذلك وا�ضح ًا يف‬ ‫اللوحة �أم مل يبد فمفردات هذا الفنان وهي امل�شاهد احلية ورموزه م�ستوحاة من دقائق يومية معا�شة ومهما بدت ال�صورة مغلقة وغام�ضة �إال �أن‬ ‫العني املتبحرة بو�سعها اكت�شاف عمق ال�صلة وبو�سعها �أن تدرك �أن هذه احلقيقة بعينها‪ .‬ويقول مهر الدين عن هذا التحول" �أن التجريد يقيدين‬ ‫باجلزء‪� ،‬أما الآن فبو�سعي �أن �أقول الكثري‪� .""...‬إذا فاملو�ضوع فكري �أو ر�ؤية ذات بعدين ب�صري وفل�سفي‪� .‬أن الإن�سان الذي يطرحه ال يبدع يف‬ ‫ت�شكيل موا�ضيعه و�إعادة تركيب �أجزائه الفيزيائية ح�سب‪ ،‬بل هو �إبحار يف م�أ�ساة وجوده وهو تف�صيل لدقائق نف�سه ذلك التف�صيل الذي يحدد‬ ‫مالحمه وي�ستقرئ هواج�سه‪� .‬أنه ي�ستنفر خياله يف توظيف ال�صور لكي ي�صنع من العمل وثيقة تدين وحتاكم وتتهم وت�ستنكر‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫املفرط الذي ينمو باجتاه و�ضوح الأ�سلوب الذي يقرر �أهمية امل�ضمون‪ ..‬كل فنان يداوم على جتديد نف�سه يوم ًا بعد �آخر وجتربة بعد‬ ‫جتربة عوامل مثرية تلهمه وتغمره يف حلظات الك�شف الإبداعية احلافلة‪ ..‬وهذا ما ي�سعى �إليه حممد مهر الدين‪.‬‬

‫�شوكت الربيعي‬ ‫جملة الإذاعة والتلفزيون العدد ‪ 115‬الأحد ت�شرين ‪1974‬‬

‫‪32‬‬




‫املعادل املو�ضوعي‪...‬‬ ‫لرمبا ما يزال االختالف يف فهم الفن التقدمي‪ ،‬وطبيعته‪ ،‬وحمتواه‪ ،‬م�ستمر ًا بني الفنانني وامل�شاهدين‪ ،‬بيد �أنني �أعتقد ب�أن الفن‬ ‫التقدمي هو الذي يغامر يف اكت�شاف الر�ؤية الفنية اجلديدة‪� ،‬أي غري التقليدية‪ ،‬التي ت�سعى دائم ًا �إىل‪ :‬تطوير املخيلة‪ ،‬وربطها بالأفق‬ ‫امل�ستقبلي للإن�سان‪� .‬إن الفن التقدمي هو الفن الذي يج�سد املو�ضوع �أو الق�ضية التقدمية‪ .‬وفهم هذه احلقيقة يعني فهم التجديد يف‬ ‫املعادل املو�ضوعي بني الأفكار والأ�سلوب‪� ،‬أي فهم طبيعة الفن اجلديد‪.‬‬ ‫وقد �سعى الفنان‪ ،‬يف هذه املعر�ض‪� ،‬إىل �إيجاد هذا املعادل املو�ضوعي‪� ،‬أي �إىل‪� :‬أو ًال‪� :‬إعطاء العمل قيمة فل�سفية �أو فكرية‪.‬‬ ‫ثاني ًا‪ :‬و�إيجاد ال�صالت بني امل�ضمون والأ�شكال‪ ،‬وثالث ًا‪ :‬والتعبري بالفن عن الأفكار بينية م�ستقلة ومتكاملة‪ .‬مبعنى �أن هذا االحتاد‪،‬‬ ‫عرب عن الرتابط‪ ،‬والتما�سك‪ ،‬والوحدة الع�ضوية بني �أ�س�س العمل ـــ م�صادره ـــ ونتائجه‪.‬‬ ‫فاملعادل املو�ضوعي يف هذه الأعمال‪ ،‬هو اجتاه فني نقدي ي�سعى �إىل‪� :‬أو ًال‪ :‬خلق ر�ؤية فل�سفية نقدية‪ .‬ثاني ًا‪ :‬ومراجعة الفن‬ ‫اجلديد الذي ي�سري بهذا الطراز النقدي‪.‬‬ ‫* خلق اجلمهور‪...‬‬ ‫الفنان كال�سيا�سي‪ ،‬كالهما ي�صنع الثورة‪ ،‬كما يقول الرفيق �صدام ح�سني‪ ،‬و�أنا �أعتقد �أن هذه املفهوم‪ ،‬ال ينف�صل عن كل التجارب‬ ‫اخلالفة يف الفن �أو يف احلياة‪� .‬إن الثورة هي �إجراء تغيري جذري يف الواقع‪ ،‬وهذا التغيري يرتبط قطع ًا بالفائدة لعامة النا�س‪.‬‬ ‫وباملعنى ال�سيا�سية للجماهري‪� ،‬أو ال�شعب �أو الكادحني والفقراء‪.‬‬ ‫والفنان حممد مهر الدين‪ ،‬يف هذه املعر�ض‪ ،‬الذي يعرب عن تكامل �أ�سلوبه �أو طرازه الفني‪ ،‬يقرتح ب�أعماله �أو ر�ؤيته فكرة واحدة‬ ‫�أ�سا�سية مفادها �أن العمل الفني هو‪ :‬حماولة للتغيري‪ ،‬ال للذة �أو الن�شوة‪.‬‬ ‫�أن العمل الفني يخلق الر�ؤية‪� ،‬أنه ي�صدم امل�شاهد من خالل احلقائق والأ�شكال والرموز‪ ،‬وباملعنى اخلا�ص بالفنان‪ ،‬نرى �أن حممد‬ ‫مهر الدين‪ ،‬ي�سعى �إىل مفهوم �شامل ونقدي و�صريح لطبيعة الفن‪ ،‬وما دام الأ�سلوب هو الرجل‪ ،‬فان فن حممد مهر الدين‪ ،‬كما يريد‪،‬‬ ‫وكما عرب‪ :‬هو الفن الذي يخلق اجلمهور‪ .‬والفن بهذا املحتوى يتجاوز الب�ضاعة‪� ،‬أو ال�سلعة‪� .‬أن الفن هو بحث عن معنى �أخر وبديل‬ ‫للحياة ال�سائدة بهذا ال�شكل‪ ،‬الغريب‪ .‬وميكن القول �إذن‪� :‬أنه بحث عن خملوقات ترى ب�شكل �أخر‪ ،‬و�أ�ص ًال‪ ،‬ت�سعى �إىل كن�س العامل‬ ‫القدمي – الراهن – الذي �شخ�صه الفنان و�أدانه كذلك‪ .‬فخلق اجلمهور اجلديد‪ ،‬هدف ال ينف�صل عن جوهر هذا املعر�ض‪ ،‬ومن هنا‬ ‫ال بد �أن نعمق اجلوار والنقا�ش اجلوهري‪� ،‬أي بيننا وبني امل�شاهدين الذين علينا دائم ًا �أن نح�سب لهم ح�ساب �أكيد‪ ،‬بدل �أن نهملهم �أو‬ ‫نتجاهلم‪.‬‬ ‫* عاملان‪...‬‬ ‫واحد من تالمذة الفنان‪ ،‬هو يون�س العزاوي‪ ،‬ي�سري يف هذا االجتاه‪ ،‬واعتقد �أن م�ستقبله يرتبط ب�صالبة هذا الفنان ال�شاب‪ ،‬جعلني‬ ‫�أفكر بعمق يف عامل حممد مهر الدين‪ ،‬وقادين �إىل فهم‪ :‬الواقعية‪ ،‬والواقعية الأخرى‪� .‬أق�صد �أن هناك عاملني‪ ،‬عامل خارجي و�أخر‬ ‫باطني وعميق‪.‬‬ ‫‪29‬‬


‫املعر�ض‪ ،‬هي الطبيعة الواقعية للتناق�ضات ال�سائدة حالي ًا بني النا�س‪ ،‬وهي تناق�ضات تك�شف عن ال�صراع الدموي‪ ،‬واحلاد‪ ،‬ال ال�صراع‬ ‫الرمزي‪ ،‬والتعمق يف فهم هذه امل�صادر يحيلنا من الأعمال �إىل احلياة‪ ،‬و�إىل �شتى �أق�سامها وخفاياها الوا�ضحة جد ًا‪.‬‬ ‫�إن امل�ضمون لدى حممد مهر الدين‪ ،‬هو م�ضمون �إن�ساين باملعنى ال�شامل وقد ال يرتبط بالتجربة اجلمالية �إال لل�ضرورات الفنية �أو‬ ‫�إىل طبيعة الفن الواقعي اجلديد‪ .‬فالقبح يف هذه املعر�ض‪ ،‬هو م�ضمون كابو�سي غري طبيعي وقد يف�صح عن حالة مر�ضية معقدة تخدم‬ ‫حملل النف�س‪ ،‬ولكن هذا – القبح – الكابو�سي هو ق�ضية ال تنف�صل عن امل�ضمون الذي عرب عنه الفنان‪� ،‬أو امل�ضمون الذي بد�أ منه‪.‬‬ ‫فالعامل الزاخر بالتناق�ضات بني العلم والفقر‪ ،‬الفن واالغتيال بكل معانيه و�أبعاده‪ ،‬احلرية والقمع �إلخ‪ .‬هي امل�صادر التي اعتمد عليها‬ ‫الفنان يف هذا املعر�ض‪ .‬لكن حممد مهر الدين ال يتحول �إىل – دعاية �أو داعية‪� ،‬إمنا ي�سعى دائم ًا للمحافظة على امل�ستوى املو�ضوعي‪،‬‬ ‫لطبيعة الفن اجلديد‪.‬‬ ‫ففي هذه امل�ضامني الكثرية التي �شكلت القيمة الأ�سا�سية لهذه الأعمال‪ ،‬يتذكر امل�شاهد‪ ،‬بحدة‪ ،‬الطبيعة غري الإن�سانية ال�سائدة‬ ‫�أو املهيمنة على الو�ضع الب�شري‪ :‬و�ضع الإن�سان امل�ستلب‪� ،‬إن الفنان يركز على هذه امل�ضامني‪ ،‬ويعتمد عليها من الناحية الفكرية‪ ،‬و‬ ‫التكنيكية يف بلورة الأ�سلوب‪ .‬و�أعتقد �أن �أي ت�شريح نقدي �إىل خميلته ف�إننا لن ن�ستغرب وجود ع�شرات التناق�ضات امل�ستمدة �أ�ص ًال من‬ ‫طبيعة احلياة فوق الأر�ض‪ .‬بيد �أن هذه املخيلة قد وظفت لغاية �إبداعية �صريحة‪ ،‬و�إن هذه التناق�ضات قد ارتبطت بهدف �سيطر‬ ‫عليه الفنان يف جعل امل�ضمون الأخري ب�صيغة �س�ؤال‪� :‬إن العامل غريب‪ ،‬ملاذا؟ لأن الفنان مل يق�صد من ـــ غريب هذا العامل ــــ �إال �أن‬ ‫يجعلنا �إزاء احلقيقة املرة‪ ،‬الواقعية‪� ،‬أي حقيقة الو�ضع ال�شاذ‪ .‬وللنظر يف التكنيك �أو الأ�شكال التي ا�ستعملها الفنان‪ ،‬ومن ثم �إىل‬ ‫املعادل املو�ضوعي بينهما‪.‬‬ ‫الأ�شكال‪:‬‬ ‫امل�شاهد قليل اخلربة بالتطور احلا�صل يف الواقعية النقدية الأوروبية‪ ،‬ينده�ش ال�ستعماالت الفنان املختلفة للأ�شكال‪� ،‬أو للتقنية‬ ‫باملعنى الأدق‪ .‬ففي هذا املعر�ض‪ ،‬تظهر مهارة الفنان يف اال�ستفادة العظيمة من هذا االجتاه النقدي الأوروبي التقدمي‪� ،‬أي الفنان‬ ‫الذي يقف ذات املوقف لدى حممد مهر الدين‪ ،‬والذي يدين ــ القهر‪ ،‬التخلف‪ ،‬الق�سوة العمياء �إلخ ـــ‪ .‬مبعنى �أدق‪� :‬أن الفنان قد ا�ستفاد‬ ‫من الأ�شكال‪ ،‬ولرمبا من نظام اللوحة ومنطها الأ�سلوبي‪ ،‬ومن تقنيتها‪ ،‬بهدف ي�سعى لتطوير امل�ضمون الواحد ـــ العام ـــ لدى الفنان‬ ‫الأوروبي‪ ،‬ولديه‪ .‬وهذه احلقيقة تك�شف عن �صلة �إبداعية عميقة لقيمة الفن املعا�صر‪ ،‬كلفة لكل النا�س ـــ ال�شعوب ـــ‪ .‬والفنان بهذه‬ ‫الفائدة يعرب عن االجتاه ال�صحيح يف الفائدة‪ ،‬وعلى العك�س من ه�ؤالء الذين يت�أثرون بالأ�شكال دون فهم علمي لقيمتها ومعناها‬ ‫املرتبط بهدفها الفكري‪� .‬إن الأ�شكال الهند�سية‪ ،‬واملختزلة‪ ،‬والتجريدية �أو الرمزية �أحيان ًا‪ ،‬ال تنف�صل عن امل�ضمون‪ ،‬ولهذا ال ميكن‬ ‫القول ــ الأ�شكال ـــ ت�ستفيد من التجارب الأخرى يف تكوين العمل امل�شاهد �إىل امل�ضمون‪� ،‬أو �إىل فكرة الفنان الأ�سا�سية‪.‬‬ ‫فال�شكل الغريب‪� ،‬أو التكوين املعقد‪ ،‬غري الطبيعي‪ ،‬ال بد �أن يقودنا �إىل الأفكار �أو الو�ضعيات الغربية يف احلياة‪ .‬فغرابة العلم هي‬ ‫الرمز لغرابة الواقع‪ ،‬ولكن العمل يدين الواقع عندما يك�شف عن ـــ ب�شاعته ـــ‪.‬‬ ‫واعتقد �أن موقف الفن التقدمي يف عاملنا املعا�صر‪ ،‬هو املوقف النقدي الذي يتجاوز املواقع التقليدية‪ ،‬يف الر�ؤية ويف ال�شكل مع ًا‪،‬‬ ‫�إىل املواقف الأخرى‪ .‬الوا�ضحة والنقدية‪.‬‬ ‫‪28‬‬




‫حممد مهر الدين قمة �أ�سلوب‬ ‫حممد مهر الدين غريب غربه هذا العامل‪ ،‬فهو من الر�سامني العراقيني القالئل الذين يعي�شون خارج منطقة الألفة التقنية‪.‬‬ ‫�أن منطقه يف التعامل مع الأ�شياء �أو مع اخلامات هو غري املنطق ال�سائد‪ .‬وال يعني هذا �أنه فاقد ال�صلة باجلذور الفنية املحلية‪ ،‬بل‬ ‫هو من �أكرث الفنانني ات�صا ًال باالجناز العراقي‪ .‬غري �أن ما مييزه على هذا امل�ستوى‪� ،‬أنه مل يحول هذا االجناز �إىل عبء يثقل حترك‬ ‫ذهنه‪ ،‬وانهماك يده يف االبتكار‪ ،‬بل لقد جعل من االجناز نقطة �صفر النطالقه رائعة نحو مزيد من الإ�ضافات الفكرية والتقنية‪.‬‬ ‫قد يقف يف معظم الأحيان‪ ،‬موقف “النقي�ض”‪ .‬وهذا ما يجعله قادر ًا على اكت�شاف جوهر نقائ�ضه‪ ،‬وحماولة �إجراء بع�ض‬ ‫التعديالت الطفيفة على الهي�أة النهائية لأعماله‪ .‬وهذا ما يبعده كثري ًا عن �إجراء م�سح للدوافع التي تلقيه يف �أح�ضان هواج�سه‪،‬‬ ‫وخماوفه التي متلأ اللوحة‪.‬‬ ‫مل تكن اللوحة �أو العمل الفني ب�شكل عام جمرد لعبة تقنية �أو مماحكة لفظية مع املخيلة‪ ،‬وقد ال تخلو �أعماله من �إجراء‬ ‫حوار مع �شخ�ص ثالث‪ ،‬غري �أن الأ�سا�س يكمن يف الأفكار‪ ،‬لكن تدخل املخيلة قبل البدء بالعمل الفني ي�شبع هذه الأفكار بالقدرة‬ ‫على اخللق‪ ،‬وجتاوز �صعوبات التلقي الف�سلفي �أو الت�أملي للفكرة‪� .‬أن ما يعاين منه حممد مهر الدين من جراء اقتتال الأفكار وهي يف‬ ‫الذهن‪ ،‬جمردة‪ ،‬وبني وجودها الواقعي بعد �أن تتحلى ب�صفات اخللق الفني‪ ،‬ي�صعب حتديده‪ ،‬ولكن مظاهر هذا العناء بادية يف معظم‬ ‫�أعماله‪ ،‬من مالحظة �سريعة يف �أعماله‪ .‬ن�ستطيع �أن نعرف �أن هنالك عاملني‪ ،‬يزدحم �أحدهما بالآخر‪ ،‬عامل الأفكار املمار�سة وهو الذي‬ ‫يجعله يقتطع �أجزاء من التجربة الواقعية ليقف �إزاءها موقف املحتج‪ ،‬وعامل الأفكار ال�سامية‪ ،‬وهو املمر الذي ي�ؤدي �إىل القطيعة‪،‬‬ ‫والتقاط املعنى من براثن جانبه احل�سي‪.‬‬ ‫منذ �سنوات عديدة عرف مهر الدين با�ستخدامه للمواد املختلفة واخلامات املتعددة‪ ،‬وبالرغم من �أن هذه الظاهرة تعد فع ًال‬ ‫جتريبي ًا يف جمال التقنية‪ ،‬غري �أن مهر الدين مل يتخذ منها ذريعة للمزيد من الفتوحات ال�شكلية‪ ،‬لأنه بوا�سطتها‪ ،‬هي ال غريها‬ ‫ا�ستطاع �أن ي�صيب يف العمق جانب ًا من جوهر �أفكاره‪ ،‬هي �إذن و�سيلة لالقتنا�ص والتعبري يف �آن واحد‪.‬‬ ‫�سطح غري م�ستو‪ ،‬هذه هي الأر�ض‪ ،‬املجال البيئوي الذي تتحرك فيه‪� ،‬سطح مليء باخلدو�ش‪ ،‬والنتوءات هذه هي العالقات‬ ‫االجتماعية احلديثة‪ ،‬التي تفوق فيها الثانوي على الأويل‪ ،‬فبد�أ ال�صراع ينطلق من �أ�سباب بعيدة عن اجلانب اخلالق للإن�سان‪ ،‬لتنتهي‬ ‫يف اجلريان يف منخف�ضات الت�صور ال�سلبي للعامل‪� .‬أن �صورة الواقع بحاجة �إىل �إظهار ي�صاحبه �ضوء �شديد‪ .‬وح�صيلة اال�شتباك بهذه‬ ‫ال�سطوح �شكل عند مهر الدين �سطح اللوحة‪ ،‬الذي بقدر ما يكون موح�ش ًا‪ ،‬ومعتم ًا‪ ،‬تكون احلياة ب�أ�شد ما متلك من عنفوان وطاقة على‬ ‫الغزو‪ ،‬موجودة فيه ب�شكل �أ�سا�سي‪.‬‬ ‫يكون ال�س�ؤال الأجدى يف هذا املجال هو‪ :‬هل نحن على حافة بركان؟ وهل �أن هذه ال�سهول املرتامية الأطراف مهددة بالوح�ش؟‬ ‫هذه الأ�سئلة وغريها التي تراهن على الأمل الإن�ساين‪ ،‬قادرة �أعمال مهر الدين على الإجابة عنها‪.‬‬ ‫مبدئي ًا‪ ،‬ا�ستطيع �أن �أ�ؤكد �أن �أعمال مهر الدين �أعمال �سيا�سية‪� ،‬أي مبعنى �أنها تعالج ق�ضايا الع�صر التي تعي�شه مبنطق احلوار‪،‬‬ ‫وهي تتوخى من خالل الت�صدي للبقع ال�ساخنة الو�صول �إىل جدية فعالة يف فهم مغزى الوجود الإن�ساين على م�ساحة �أر�ضية معينة‪،‬‬ ‫وبذلك يبتعد مهر الدين عن موقف “االنتلج�ستيا” املتف�شي يف �أعمال كثري من الفنانني‪ ،‬الذي �أخذتهم احلداثة بعيد ًا عن طرفني‬ ‫‪25‬‬


‫�أحاطت بالأ�شكال تعبري ًا عن عتمة وعزلة الإن�سان الروحية والفكرية‪ ،‬بينما �شكلت الألوان ال�صريحة للمكعب” الأخ�ضر‪ ،‬الأحمر‪،‬‬ ‫الأ�صفر يف �أعلى �شكل املكعب والذي نفذ بوا�سطة ال�سكني‪ ،‬وحقق توزيع اللون الأحمر يف �أكرث من موقع توازن ًا لوني ًا وا�ضح ًا تعمقت‬ ‫داللته الرمزية عندما ر�سمت كلمة ح�ضارة بهذا اللون‪.‬‬ ‫�أعتمد الفنان معاجلته التقنية بطريقة مزودجة “اال�ستن�ساخ – الأداء املبا�شر” لذا ظهرت بنية التكوين بثالثة م�ستويات‬ ‫مرتاكبة‪� ،‬أحال هذا التعدد اجتاه املظاهر اخلارجية للأ�شكال ب�أن تتجه نحو الداخل و�ألغى بذلك ال�شعور بالبعد الثالث وحمل العمل‬ ‫بذلك �صفة الت�سطيح الوا�ضحة‪.‬‬ ‫�أن البناء الت�صميمي لهذا العمل ا�ستند �إىل روابط عقلية �إدراكية‪ ،‬من خالل تداخل اجلانب احل�سي باملفاهيمي ل�سبب مهم �أن‬ ‫العملية الإدراكية يف الفن ال تقوم مبعزل عن �آليات املعرفة املتمثلة بالإدراك والت�أمل والتذكر واخليال‪ ،‬لذلك كان بداية بناء‬ ‫العمل الفني لدى الفنان “حممد مهر الدين” وهو ي�ؤكد ذلك �أي�ض ًا‪( :‬يبد أ� من هذه الإ�سرتجاعات التي مثلت اخلزين املعريف للإن�سان‬ ‫هذا اخلزين املعريف الذي يتعلق بواقعه وبيئته وظروفه التي �سبق �أن عا�شها ‪� ...‬أنها ا�ستعادة للذاكرة ‪ ...‬ولكن ال �أعرف ملاذا تبقى‬ ‫املو�ضوعات امل�ؤملة يف الذاكرة فرتة �أطول من الأ�شياء املفرحة)‪� ،96( .‬ص‪.)132‬‬ ‫�شحن العمل الفني ب�إيقاع فكري متوتر وذلك ب�صهر العديد من الرموز و الأ�شكال واخلطوط والألوان التي حملت تنوعها وتناق�ضها‬ ‫�أحيان ًا‪� ،‬أنه تروي�ض جديد انتزاع هذا التنوع من جماه امل�ألوف و و�ضع يف مدار جديد �أمتلك �سماته اخلا�صة يف جتربة الفنان‪ .‬كما‬ ‫�سخر العديد من الأ�ساليب الفنية املعا�صرة” مناه – وتقنيات” لينظمها تنظيم ًا جديد ًا مماث ًال لإيقاعه الفكري املتوتر وفق نظام من‬ ‫العالقات الداخلية التي ج�سدت حالة الت�ضاد دائم ًا والتي عدها الفنان �أ�سا�س ًا للحركة‪ .‬لذلك كان هذا العمل الفني حمر�ض ًا مبوجب‬ ‫عالقة الت�ضاد ومبوجب الإدانة الوا�ضحة للوجه الآخر من احل�ضارة مب�ستويات ذات دالالت ت�أريخية “قدمية ومعا�صرة” يف �ضوء‬ ‫الأ�شكال والرموز امل�ستخدمة‪.‬‬ ‫�أن هذه الإدانة واالحتجاج لدى الفنان هي جوهر الت�سا�ؤل يف البحث عن احلقيقة الذي ظهر منذ بداياته الفنية‪ ،‬وا�شرتك يف‬ ‫موقف الرف�ض‪ ،‬وكان لكل والدة جتد‪ ،‬ولكل جتدد رف�ض‪ ،‬فالرف�ض �أو “الهدم” كما يقول هيدغر” هو حلظة بناء جديدة”‪.‬‬

‫د‪ .‬عا�صم فرمان‬ ‫عن‪/‬املتحول يف الفن العراقي املعا�صر‬

‫‪24‬‬


‫(‪ )21‬ح�ضارة رقم ‪ ،1980 ،2‬للفنان حممد مهر الدين‪:‬‬ ‫تتخلى بنية التكوين يف هذا العمل الفني عن امل�سار املنتظم الذي يتبع جمرى الفكرة كما وجدناها يف �أعماله الفنية ال�سابقة‪،‬‬ ‫في�ؤ�س�س بنية جديدة �ضمت �شبكة من االجتاهات واملحاور ال�شكلية املتعددة واملتقاطعة‪ :‬معادالت ريا�ضية‪ ،‬مفاهيم قوانني‪ ،‬جتريدات‪،‬‬ ‫�أرقام‪ ،‬رموز فيزيائية وت�أريخية‪..‬‬ ‫�أنه ت�شييد ق�ضايا متعددة مب�ستويات متعددة �أي�ض ًا تبدو لنا جديدة خمالفة للم�ألوف من حيث جمعها وطريقة توزيع �أ�شكاليها‪..‬‬ ‫�أنه "مناخ" ت�صاحلت فيه الأ�ضداد و ت�آلفت مع الفنان من خالل خزينة املعريف وواقعه وبيئته‪ ،‬وبذلك ابتعد العمل الفني عن مبد�أ‬ ‫الت�سل�سل املنتظم واقرتب من مبد�أ التفاعل الذي حمل ان�شطارات الذاكرة بفعل العديد من امل�ؤثرات الذاتية املو�ضوعية التي حر�ضت‬ ‫على ح�ضور امل�شهد املنع�ش بالعديد من الأفكار والأ�شكال املتحركة واملتوالدة واملالئمة لرتكيب العمل الفني‪.‬‬ ‫ت�ضمن العمل بفعل تعدد "" الأحداث" التي ت�ضمنها بينة غنية مفتوحة وحمملة بالعديد من امل�ضامني لذا تنوعت �صفة الأ�شكال‬ ‫امل�ستخدمة "هند�سية‪ ،‬طبيعية‪ ،‬جمردة" ارتبطت جميعها وظيفي ًا بالأبعاد الفكرية التي �ضمتها بينة العمل والإعالن عنها بطريقة‬ ‫ال تخلو من دالالت رمزية‪.‬‬ ‫بد�أ ح�ضور امل�شهد بر�سم �شكل �إن�سان �أكدت هيئته امل�شهد بر�سم �شكل �إن�سان �أكدت هيئته املهارة الأكادميية التخطيطية للفنان‬ ‫متمركز ًا يف الو�سط وبدي ًال لقلب دائرة" الهدف" م�شك ًال بذلك ب�ؤرة العمل الفني‪ ،‬وبذلك �أ�صبح الإن�سان الهدف الأول داللي ًا الذي هو‬ ‫قوام احل�ضارة ولكن يف الوقت نف�سه هو ال�ضحية لأنه م�ستلب وهو مغرتب يعاين من عزلته الفكرية والروحية جراءها‪ .‬بينما �أ�شارت‬ ‫اليد " حاملة الع�صا" خلف ال�شكل الإن�ساين من جهة اليمني" للم�شاهد" �إىل هيمنة اال�ضطهاد والتهديد واخلطر الذي تعر�ض له‬ ‫الإن�سان املعا�صر لهذه املظاهر القمعية احلديثة‪.‬‬ ‫ق�سمت امل�ساحة التي حتيط ر�أ�س الإن�سان من النهاية تقريب ًا �إىل ثالثة مربعات مت�ساوية �ضمت ثالثة �أ�شكال رمزية متنوعة‪� ،‬ضم‬ ‫املربع الأول �أثر ًا لـ “ب�صمة كف” �أحالت هوية هذا الإن�سان وجذره �إىل القدم “ع�صر الكهوف” وتوا�صل هذا اجلذر ح�ضاري ًا مع الزمن‬ ‫املعا�صر‪ .‬بينما �ضم املربع الثاين رمز ًا ت�أريخي ًا للجمال اليوناين “متثال فينو�س” الغي بفعل تكنولوجيا احل�ضارة عن طريق كمد لون‬ ‫التمثال وهو �إلقاء للإرث احل�ضاري الإن�ساين‪.‬‬ ‫�أما املربع الثالث فقد حمل العديد من الرموز املجردة من �إ�شارات خطية متنوعة ذات مظهر معا�صر‪� .‬شكل وجود املكعب الطاغي‬ ‫على ال�سطح الت�صويري الذي تكرر مرة �أخرى يف الأ�سفل بعد تفريغ حمتواه مقت�صر ًا على �إبراز حدوده اخلارجية بوا�سطة اخلط‪.‬‬ ‫عمد الفنان �إىل تكرار متنوع ل�شكل املربع من خالل انت�شاره ب�شكل مق�صود لتق�سيم امل�ساحة الكلية “الأ�سا�س” و�أحاط العديد من‬ ‫الأ�شكال التي ت�ضمنها التكوين‪ ،‬وملعاجلة هذا التق�سيم احلاد بوا�سطة اخلطوط الأفقية والعمودية التي حملت �إ�سقاطها “العلمي‬ ‫– الهند�سي” �أ�ضاف الفنان خطوط ًا �أخرى مت�صلة وغري مت�صلة تنوعت موا�ضعها واجتاهاتها متثلت باخلطوط املنحنية ذات املرونة‬ ‫العالية والتي �شكل بع�ضها ن�صف دائرة‪ ،‬وخطوط ًا �أخرى تبدو ال�صفة االنفعالية وا�ضحة عليها تعبري ًا عن حركة ما لك�سر الرتابة‬ ‫التي فر�ضتها التق�سيمات الهند�سية ال�صلبة ومتثلت باخلط الأ�صفر الذي حمل حركة لولبية باجتاه �أق�صى الزاوية الي�سرى‪.‬‬ ‫حملت املعاجلات اللونية الزاهدة دور ًا مهم ًا وم�شحون ًا بالدالالت الرمزية‪ ،‬و كان طغي ًا الألوان الداكنة “البني – الأ�سود” التي‬ ‫‪23‬‬


‫احل�ضارة رقم ‪2‬‬

‫‪22‬‬


‫حملت املعاجلات اللونية جدلها اخلا�ص‪ ،‬مت�ضادة ما بني الأجزاء وامل�ساحات ومتوافقة مع امل�ستويات‪ ،‬و�سمت معاجلة لونية بارزة‬ ‫يف هذا العمل بتغيري الوجوه”الأقنعة” لل�شكل الرابع‪.‬‬ ‫�أن املعاجلة التقنية التي اعتمدها الفنان كانت بطريقة القوالب �أو “الكلي�شيهات” �أو ما ي�سمى بتقينة اال�ستن�ساخ‪ .‬و هي طريقة‬ ‫م�ستمدة من بع�ض الطرائق الطباعية لذلك اعتمدت توزيع الألوان على امل�ساحات والأ�شكال بطريقة مبا�شرة من خالل القوالب‬ ‫اجلاهزة و�أحيان ًا اال�ستعانة بال�شريط الال�صق للموا�ضع التي تتطلب ذلك‪ .‬يدرك م�شاهد هذا العمل وعي الفنان لو�سائله التنظيمية‬ ‫يف بنية التكوين وحتقيق وحدتها الع�ضوية بهيمنة الأ�شكال من خالل تكرارها وموازنتها‪ ،‬وتربز بذلك �أي�ض ًا البينة الفكرية للعمل‬ ‫من خالل تعددية الآفاق الرمزية لهذه الأ�شكال والعالقات الوا�ضحة حين ًا واخلفية حين ًا �أخر ًا بني الأ�شكال الرئي�سية لهذا التكوين‪،‬‬ ‫وال تخلو هذه الو�سائل من تنظيم عقلي حمظ �أدى �إىل جمود عاطفي ومت ّيز مبيزاته الكرافيكية اجلذور وت�صميمه احل�ضور وبذلك‬ ‫اقرتب العمل الفني من مبا�شرة اخلطاب “ال�سيا�سي” ذات االلتزام الفكري ب�إدانة هذه الظواهر يف ال�سلوك االجتماعي االنتهازي‬ ‫املنافق‪.‬‬ ‫اتبع الفنان يف هذا العمل م�سار ًا مت�سل�س ًال منتظم ًا على وفق نظام من العالقات الداخلية يف بنية العمل على النحو الآتي‪:‬‬ ‫�أ‪ -‬الإيقاع الفكري املتوايل‪:‬‬

‫املو�ضوع‬

‫الفكرة‬

‫احلدث‬

‫ال�سلطة ال�سيا�سية �أو‬ ‫االجتماعية‬

‫الو�صول �إىل‬ ‫ال�سلطة‬

‫م�شاهد و�سائل‬ ‫الو�صول‬

‫ال�سلطة «توافق» الو�صول‬

‫جدل متوافق‪.‬‬

‫ ‬ ‫الو�صول «ت�ضاد» الو�سائل‬

‫جدل متناق�ض‪ .‬‬

‫‪ .1‬مياثل هذا الإيقاع الفكري املتوايل نظام من العالقات ال�شكلية‪:‬‬

‫ال�شكل‬ ‫الكر�سي‬ ‫ال�شكل الإن�ساين (‪)1‬‬ ‫ال�شكل الإن�ساين (‪)2‬‬ ‫ال�شكل الإن�ساين (‪)3‬‬ ‫ال�شكل الإن�ساين (‪)4‬‬

‫االجتاه‬ ‫عمودي‬ ‫عمودي‬ ‫عمودي‬ ‫عمودي‬ ‫عمودي‬

‫العالقات‬ ‫داخل – خارج‪� ،‬سيادة �سكون‬ ‫داخل – خارج‪� ،‬سكون‬ ‫داخل‪� ،‬سكون‬ ‫داخل – خارج‪� ،‬سكون‬ ‫داخل‪ ،‬حركة حمدودة‬

‫‪21‬‬

‫الو�سائل‬ ‫‪ .1‬تعدد الوجوه‪.‬‬ ‫‪ .2‬تعدد الأدوار‬ ‫‪ .3‬تعدد املظاهر‬


‫(‪ )20‬الكر�سي‪ ،1980 ،‬للفنان حممد مهر الدين‪:‬‬ ‫عمد الفنان يف تكوين هذا العمل �إىل انتقاء و�سائله التعبريية من خالل �شكل الكر�سي الذي "تو�سط" الثلث الأعلى من الف�ضاء‬ ‫و�أربعة �أ�شكال لرجل واحد تنوعت معاجلات الفنان له وتوظيف ذلك لتعميق امل�ضمون الفكري‪.‬‬ ‫�سلط الفنان ال�ضوء لإبراز �أحد املظاهر االجتماعية لل�سلوك الإن�ساين يف عالئقها اجلدلية باجلذور البيولوجية للإن�سان‪ ،‬وبرز‬ ‫خطوط الواقع املتداخلة من �أجل تعرية تناق�ضاته من خالل الغو�ص فيه‪ ،‬وبالتايل تعرية هذا ال�سلوك املزدوج و ت�شخي�صه عرب‬ ‫هذه ال�شخ�صيات املختارة‪.‬‬ ‫تربز �سيادة الدالالت الرمزية من خالل الأ�شكال املختارة واملر�سومة بو�ضوح بدء ًا باختيار �شكل الكر�سي الذي َ‬ ‫رمز به الفنان �إىل‬ ‫النفوذ وال�سيطرة �أو ال�سلطة ال�سيا�سية �أو االجتماعية‪ ،‬و�أن �أ�شكال الأ�شخا�ص ت�سعى �إىل هذا الهدف "الكر�سي" بو�سائلهم ال�سلوكية‬ ‫التي عاجلها الفنان بحرية الت�صرف �أحيان ًا مبالمح الوجه �أو بحذف الر�أ�س �أو تردده مبو�ضع �آخر وهكذا ‪ ..‬لذلك نرى ال�شكل الأول‬ ‫املتقدم من الأ�سفل بدون مالمح وا�ضحة ل�سمات الوجه م�ؤكد ًا بذلك انعدام �شخ�صيته ك�إن�سان م�شك ًال ح�ضور ًا هام�شي ًا يف الواقع الذي‬ ‫يعي�شه‪.‬‬ ‫بينما جعل ال�شكل الثاين من جهة اليمني "للم�شاهد" بغياب الر�أ�س وبذلك جرد الفنان هذا الإن�سان من قيمة العقل و�شكل مظهر‬ ‫ح�ضوره من خالل اجل�سم اخلارجي "الزي" م�ؤكد ّا بذلك احل�ضور من خالل الغياب‪.‬‬ ‫�أما ال�شكل الثالث من جهة الي�سار "للم�شاهد" فقد عر�ض ب�شكل مغاير �أي �سالب ‪Negative‬و بهذا املظهر مغاير حلقيقته‪� ،‬أما‬ ‫ال�شكل الرابع الأقرب �إىل الكر�سي فقد ترر ّد وجههُ �إىل ثالثة وجوه ملونة‪ ،‬مثل هذا التعدد تعدد املراجع الفكرية لهذه ال�شخ�صية‬ ‫تبع ًا مل�صاحلها ال�شخ�صية وارتدائها قناع االنتهازية‪.‬‬ ‫عمد الفنان �إىل تق�سيم امل�ساحة الكلية للعمل �إىل م�ساحتني‪ ،‬الأوىل “اجلزء الأعلى” �شغل �شكل الكر�سي فيها مركز ال�سيادة‪� .‬أكد‬ ‫الفنان مهارته الأكادميية لتنفيذ املظهر الواقعي للكر�سي على وفق مبادئ منظوريه وا�ضحة لهيئته وجت�سيد �شيئيته‪ ،‬وعزز ذلك �أي�ض ًا‬ ‫ا�ستخدامه للألوان احلقيقية التي اقت�صرت على تدرجات الألوان الرمادية التي اقرتبت �أحيان ًا من اللون الأزرق يحيطها لون رمادي‬ ‫فاحت جد ًا اقرتب من اللون الأبي�ض بف�ضاء مفتوح‪.‬‬ ‫�أما اجلزء الثاين من العمل فقد كانت م�ساحته �ضعف امل�ساحة الأوىل توزعت عليه التدرجات الغامقة والداكنة للون الأزرق‬ ‫والرمادي ثم الأ�سود‪.‬‬ ‫اعتمد الفنان نظام ًا تركيبي ًا لبناء هذا العمل‪ ،‬من خالل حتديد �أربعة م�ستويات مرتبطة بعالقات وا�ضحة على م�ستوى التكوين‬ ‫الهند�سي وتوزيع �أربعة مظاهر لأ�شكال متكررة ول�شخ�صية واحدة‪ ،‬وتعددت هذه امل�ستويات ب�شكل �أفقي نحو الهدف الذي هو “الكر�سي”‬ ‫وارتبطت مع بع�ضها بو�شيخة اللون الأ�صفر بق�صدية وا�ضحة اقرتب العمل الفني من خاللها �إىل تقريريه مبا�شرة و�ساعد ذلك �أي�ض ًا‬ ‫على ت�سطيح العمل و�أن وجد داللة البعد الثالث هنا التي اقت�صرت على “هيئة” الكر�سي‪.‬‬ ‫‪20‬‬


‫�أ‪ -‬الإيقاع الفكري املتوايل‪:‬‬

‫املو�ضوع‬ ‫احلرية‬

‫الفكرة‬ ‫�أحد مظاهر‬ ‫التمييز العن�صري‬

‫احلرية «ت�ضاد» التمييز العن�صري‬

‫احلدث‬

‫الأبعاد الأخرى‬

‫م�شهد االعتقال «ال�سجن»‬

‫الإن�ساين‪ ،‬جتاوز حدود الزمان‬ ‫واملكان للحدث‪.‬‬

‫جدل متناق�ض ‬

‫التمييز العن�صري «توافق» االعتقال – ال�سجن‬

‫جدل متوافق‬

‫�أ‪ .‬مياثل هذا الإيقاع الفكري املتوايل نظام ًا من العالقات ال�شكلية‪:‬‬

‫الأ�شكال‬ ‫اجلزء الأول للجدار‬ ‫اجل�سد الإن�ساين‬ ‫ق�ضبان ال�سجن‬ ‫الأطراف‬ ‫اجلزء الثالث للجدار‬

‫�صفة احلركة‬ ‫�سكون‬ ‫داخل – خارج‬ ‫داخل‬ ‫خارج‬ ‫�سكون‬

‫العالقات‬ ‫االجتاه‪� :‬أفقي‪ ،‬منتظم‬ ‫االجتاه‪� :‬أفقي‪ ،‬عمودي‪� ،‬سيادة‪.‬‬ ‫االجتاه‪ :‬عمودي‪ ،‬تكرار – �أيقاع منتظم‬ ‫االجتاه‪ :‬عمودي – متقدم‪ ،‬مائل – متعدد‬ ‫االجتاه‪� :‬أفقي ‪ -‬عمودي‬

‫‪19‬‬

‫الكر�سي‬


‫وعمق �إيحاء مبكان احلدث‪ ،‬و بهذه التقنية ا�ستطاع الفنان “حممد مهر الدين” �أن ير�شدنا ب�صري ًا �إىل �أهمية فعالية ال�سطوح‬ ‫اخلارجية امل�ضيئة وال�سطوح العميقة الكمدة لتعزيز فكرة اال�ستالب الإن�ساين هذه‪.‬‬ ‫فاجل�سد امل�سجى “ �إجنيال” جمازي ًا ي�شي لنا بعزلته ووحدته و�آالمه من خالل الت�آكل وال�شقوق الوا�ضحة للج�سد وقطع �أطرافه‬ ‫العليا وال�سفلى وان�شطار الر�أ�س التي توحي لنا مبعاجلات النحات “جيكوماتي”‪ .‬هذا اجل�سد ينوء بعذاباته من خالل فاعلية احلركة‬ ‫ورغبته باخلروج من الداخل نحو اخلارج‪ ،‬وي�صلح �أن يكون ج�سد ًا مطلق ًا غري حمدود الهوية ال من حيث اجلن�س �أو �أية �صفة �أخرى‪،‬‬ ‫وحتى الإحالة الرمزية الب�سيطة للثدي غري كافية لذلك‪.‬‬ ‫عولج اجل�سد ب�صفاته الظاهرية املجردة بطريقة تبتعد عن الأ�صول الأكادميية �أو الواقعية املتعارف عليها �إال من خالل‬ ‫اجلذر الإن�ساين الذي عمق ال�صفة املتعلقة به‪ ،‬وبذلك حققت هيمنة ال�شكل انتباه امللتقي لأدراك قيمته احل�سية درامي ًا و عمق‬ ‫منى الفنان دور اللون املكمل لأدراك و تعميق تلك القيمة احل�سية و القدرة التعبريية‬ ‫قدرته التعبريية بتعميق فكرة العمل‪ ،‬كذلك ّ‬ ‫والبني ومبعاجلة تنفيذية مهمة مبرحلتني‪ ،‬الأوىل‪ :‬با�ستخدام الألوان الدهنية‬ ‫باقت�صار على الألوان املعتمة للأخ�ضر‪ ،‬الأزرق‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫“البايروك�سلني – البوية” املخففة بالنفط حتى يت�شبع ال�سطح باللون‪ ،‬والثانية با�ستخدام ال�صبغة الزيتية و بو�سيط مزودج هو‬ ‫“النفط والورني�ش” على ال�سطوح التي تطلبت تلك املعاجلة‪.‬‬ ‫تباينت نتائج املعاجلات لتحقيق نوع من الت�ضاد بامللم�س‪ ،‬ملم�س ناعم للج�سد نتيجة ال�ستخدام الفنان مادة اجلب�س مع الغراء‪،‬‬ ‫وملم�س خ�شن جلدار ال�سجن با�ستخدام الرمل الأحمر مع تع�شيق مواد �أخرى‪ :‬ن�شارة اخل�شب وبرادة احلديد‪.‬‬ ‫�أم ميزة هذا العمل الفني بالإ�ضافة �إىل “املجموعة الأخرى‪ ”·1‬التي �أجنزها الفنان خالل تلك الفرتة �شكلت حتو ًال مهم ًا يف‬ ‫الر�ؤية الفنية واملعاجلة التقنية جتاوز بها بع�ض الأطر الثابتة �شكلت حتو ًال مهم ًا يف الر�ؤية الفنية واملعاجلة التقنية جتاوز بها‬ ‫بع�ض الأطر الثابتة يف الفن العراقي املعا�صر‪ ،‬وابتعد الفنان يف جت�سيده لهذا املو�ضوع عن كل التقاليد الواقعية التي طرحت نف�سها‬ ‫كخطاب “م�ؤدلج” وا�ضح املعامل وهذا ما ن�شاهده يف الأعمال الفنية التي تتمني للواقعية اال�شرتاكية‪.‬‬ ‫فاجل�سد متت معاجلته بر�ؤية فنية حديثة من خالل تبينه ل�شكل �إن�ساين غري حمدد املعامل كما �أ�شرنا �سابق ًا‪ ،‬وهنا يبحث عن‬ ‫جوهر الإن�سان �أو ماهيته وهذا ما يجعل العمل الفني ينفتح خارجية حدوده الزمكانية‪.‬‬ ‫�أن جتربة الفنان “حممد مهر الدين” يف هذا العمل الفني ت�شري �إىل �أنه اتبع م�سار ًا وا�ضح ًا ملجرى الفكرة‪ ،‬وخ�ضع ملبد�أ الت�سل�سل‬ ‫املنتظم‪ ،‬بل �أقر مبد�أ التفاعل املت�سل�سل على وفق نظام العالقات الداخلية يف بناء العمل الفني وينطلق هذا النظام على النحو الآتي‪:‬‬

‫‪� - 1‬أجنز الفنان مطلع ال�سبعينات بع�ض الأعمال التي نفذت بطريقة �أداء تقنية التج�سيم النحتي ملو�ضوعات متعددة متيزت‬ ‫مبظاهر االحتجاج احلاد �أحيان ًا‪ .‬لعل �أهمها‪ :‬جثة الطريق ‪� ،1972‬إجنيال ‪� ،1972‬ضحايا الطغاة ‪ ،1973‬م�صرع �إن�سان ‪1976‬‬ ‫‪18‬‬


‫(‪� )19‬إجنيال‪ ،1972 ،‬للفنان حممد مهر الدين‪:‬‬ ‫يت�صدى الفنان لإحدى امل�شكالت الفكرية الأزلية ب�شكل مبكر وهي ق�ضية "احلرية" ومن خالل غيابها‪ ،‬التقط فكرة التمييز‬ ‫العن�صري والقمع الإن�ساين بت�شديده جمالي ًا ملو�ضوعه ال�سجينة "�إجنيال ديفيز" املعتقلة يف ال�سجون الأمريكية مطلع العقد ال�سابع‬ ‫من هذا القرن‪.‬‬ ‫ارتقى الفنان باحلدث لي�ضيف بعد ًا ان�ساني ًا �شام ًال جتاوز به حدود الزمان و املكان‪ ،‬وهذا ما عمق فكرة احلرية املطلقة التي‬ ‫مت تعزيزيها من خالل تعدد ال�شفرات والدالالت الرمزية التي بثتها هذه الر�سالة اجلمالية‪ ،‬تتطلب هذه "الر�سالة" بال�ضرورة‬ ‫تكوين ًا فني ًا نا�ضج ًا يعد بحق حاملها م�ؤكد ًا فاعلية الفنان الإبداعية من خالل جتاوزه الأطر الرتيبة والأمناط الأ�سلوبية ال�سابقة‬ ‫يف معاجلة مو�ضوعات كهذه‪� .‬إت�سم هذا العمل بالأعداد امل�سبق متجاوز ًا التلقائية واالنفعالية يف عملية التنفيذ باتخاذه تقنية‬ ‫"التج�سيم النحتي" و ذلك من خالل �أعداد امل�ساند اخل�شبية و املواد و اخلامات املختلفة التي عمقت احل�س الداليل وال�صورة الذهنية‬ ‫لدى امللتقي‪ ،‬هيئة اجل�سد الإن�ساين‪ ،‬نفور الأقدام خارج الق�ضبان‪ ،‬اليد البارزة‪ .‬وقد الزمت هذه التقنية اال�شتغال على معطيات‬ ‫تكوينية مبا عزز ذلك اجلانب‪.‬‬ ‫تلتقي تقنية هذا العمل مع جتارب فنية �سابقة‪ ،‬عاملي ًا‪ :‬التجارب الفنية الرتكيبية املتنوعة للفنان الإ�سباين "انطوين تابيي�س"‬ ‫وحملي ًا جتارب الفنانني‪ :‬خالد الرحال ثم طارق مظلوم وحميد العطار‪ .‬وقد قال الفنان عن ذلك‪�( :‬أن جتارب ه�ؤالء" الفنانني‬ ‫العراقيني" كانت عملية توفيق ما بني النحت والر�سم لأن �أكرثهم "نحاتون"‪� ،‬أما �أنا ر�سام‪ ،‬فتفر�ض خ�صائ�ص اخلامات امل�ستعلمة يف‬ ‫هذه اللوحات بهذه النتائج التي توحي �أو ت�شابه �أو تقرتب من النحت)‪�،96( .‬ص‪.)14‬‬ ‫�أن البنية التي عمل عليها الفنان ت�ست�شف املغلق واملفتوح‪� ،‬أي بينة اخلارج و الداخل �إال �أن الفنان عمق ح�ضور الداخل "ال�سجن"‬ ‫لي�ؤكد �أهمية غياب اجلانب الآخر "احلرية"‪.‬‬ ‫تت�شكل املعمارية اجلمالية لهذا العمل من �أجزاء ثالثة‪:‬‬ ‫اجلزء الأول “ العلوي” مثل جدار خارجي ًا لل�سجن‪.‬‬ ‫اجلزء الثاين “الو�سط” مثل احلدث – ال�سجينة‪.‬‬ ‫اجلزء الثالث “ الأ�سفل” مثل اجلدار الأ�سفل لل�سجن‪.‬‬ ‫وبذلك مث ًال اجلزءان الأول والثالث املظهر اخلارجي لل�سجن‪ ،‬و�شك ًال معطيات فعل ال�سكون والثبات وعزز ًا الإيحاء بال�صمت املطبق‬ ‫من خالل حيادية امللم�س واالجتاه الأفقي الثابت “اجلزء الأول” وا�ستقرار طبيعة اللون و�شدة ال�ضياء لهما‪.‬‬ ‫�أما اجلزء الثاين فقد مثل ب�ؤرة العمل الفني �أو مركز ال�سيادة لفعل احلدث الإن�ساين الذي فا�ض احلركة من خالل اجل�سد الإن�ساين‬ ‫امل�سجي ب�شكل �أفقي و خرجت �أطرافه من خالل الق�ضبان العمودية �إىل اخلارج‪ ،‬و�شكلت عمودية هذه الق�ضبان �إيقاع ًا حركي ًا ال‬ ‫يتجاوز �سكونية الثبات الأفقي للجز�أين الأخريني‪.‬‬ ‫�أ�ضاف ال�ضوء والظل حركة جتاوزت الثبات �أو ال�سكون اللوين من خالل حتقيق العمق الثالث با�ستخدام �أجزاء حقيقية مل�صقة‬ ‫‪17‬‬


‫اجنيال‬

‫‪16‬‬


‫اقرتفها “جنود االحتالل” بحق الإن�سانية مع معتقلي هذا ال�سجن‪.‬‬ ‫�أما “ال�شكل الفني” للوحة مهر الدين فهو يتحقق يف كونه “مبد�أ ت�شكيل” – مبعنى �أنه يحتوي على “وحدات” العمل الفني وي�ؤلف‬ ‫بينها مبا يجعل منها “وحدة مو�ضوعية”‪ .‬وهو �شكل على عالقة بالأفكار لأن هذه “الأفكار” هي حمتواه‪� .‬أنها “وحدات حمتوى”‪،‬‬ ‫وهي باجتماعها‪ ،‬على النحو يف م�ساحة اللوحة‪ ،‬تقدم ال�صيغة الكلية لهذا املحتوى‪.‬‬ ‫وعلى رغم “جتريدية” مهر الدين الوا�ضحة يف عمله الفني ف�إنه من خالل “مو�ضوعه”‪� -‬سواء يف هذا املعر�ض �أم يف معر�ض �سابق‬ ‫ركز “بحثه” على فكرة “العوملة” – يطرح ق�ضية عالقة الفن بالواقع من زاوية هي غري الزاوية املعهودة يف النظر �إىل مثل هذه‬ ‫العالقة‪.‬‬ ‫و�سواء كان التعبري عن الرف�ض با�ستخدام العالمة (‪� ،)X‬أو بحروف ت�شكيل “كلمات معربة” �صريحة امل�ضمون‪ ،‬فان الر�سام هنا‬ ‫– �إذ جاز �أن ن�ستخدم هذا التو�صيف يف الفن الت�شكيلي – يعتمد ما يدعي يف نقد ال�شعر بـ “الكنايات الغائية”‪ ،‬وهي كنايات ي�شكلها‬ ‫الوعي‪ ،‬وتعبرّ عن �إرادة يحكمها موقف مما يجري ويف �إزاء ما يجري‪.‬‬ ‫ومن هنا ف�إن �أعمال املعر�ض لي�ست “�أعما ًال جتريدية” مبعنى كون “الرمز” فيها “رمز ًا داخلي ًا” يحمل مغزاه يف ذاته‪ ،‬بل هي‬ ‫�أعمال تعتمد “الرمز اخلارجي” يف �صورة من �صور الإ�شارة �إىل “�شيء �آخر”‪ ،‬معتمدة يف رموزها �إح�سا�سا قوي ًا لدى الفنان بوجود‬ ‫تعار�ض داخلي بينه وبني ما يحدث يف واقعه اخلارجي‪ ،‬ويجد �أنه ينال من �إن�سانيته – �إن�سانية الإن�سان‪.‬‬

‫بغداد – ماجد ال�سامرائي‬

‫‪15‬‬



‫« �أبو غريب»» منحوتة تدين احلرب‬ ‫ُ‬ ‫�شاهدت (بل لأقل‪ :‬قر� ُأت) عم ًال جديد ًا للفنان الت�شكيلي حممد مهر الدين الذي يقيم معر�ضه يف قاعة "�أثر" (بغداد)‪،‬‬ ‫كلما‬ ‫وجدت نف�سي �أم�ضي مع عمله هذا يف اجتاهني‪ :‬اجتاه الفكر (التفكري باللوحة كحا�ضنة لفكرة)‪ ..‬والت�أمل‪.‬‬ ‫فلوحة هذا الفنان تقوم دائم ًا على ما هو فكري‪ ،‬وك�أنه يبحث من خالل اخلط واللون عما ي�شكل به ما ندعوه يف عامل الكتابة بـ‬ ‫"الفكر املوقف"‪ .‬فهو ال ير�سم فقط‪ ،‬وال يكتفي بالتجويد يف عمله الفني‪ ،‬و�إمنا ي�ضيف �إىل ذلك "البعد – الفكرة"‪ ،‬فاحت ًا �أفق‪ ،‬اللوحة‬ ‫�أمام م�شاهدها‪ ،‬وهو �أفق يتحقق فيه ح�ضور اللوحة فني ًا‪.‬‬ ‫�أما الت�أمل فهو يف ما تتحقق فيه " القيمة – الفكر" من "�شكل فني" مبا لهذا ال�شكل من �أبعاد – �سواء من خالل اخلط الذي يذهب‬ ‫يف حركات مدومة على م�ساحة اللوحة‪� ،‬أو يف تعدد" املوتينات" داخل ال�شكل الواحد مبا ي�شكل منه تناغم ًا بني اخلطوط‪ ،‬والألوان"‪،‬‬ ‫وهو ت�أمل يقود امل�شاهد �إىل "جوهرة الفكرة" التي يت�شكل منها "عامل اللوحة"‪ ،‬يف حركيته يف هذين االجتاهني‪.‬‬ ‫و�إذا كان العمل الفني عند مهر الدين قائم ًا على "املعنى"‪ ،‬وجم�سد ًا لهذا املعنى ب�أ�شكال كثيفة الرموز ف�إن حركة هذا املعنى على‬ ‫"�سطح اللوحة" جتعل للعمل قدرة الت�أثري املزدوج‪ :‬فهو ت�أثري �أ�سا�سة "التجربة احل�سية" يف التعامل مع اللون‪ ،‬واخلط‪ ،‬واحلرف‪،‬‬ ‫والكلمة‪ ،‬من جانب‪ ،‬وهو‪ ،‬من جانب �آخر‪ ،‬ت�أثري "التكوين الفني" لهذه املفردات جمتمعة‪ ،‬بتداخالتها وتقاطعاتها – وقد جعل منها‬ ‫"عالمات" دالة مبا حتمل – �أو تر�سل من �إ�شارات‪ ،‬و"قائلة" من خل ما هنالك من كتابات على ال�سح الت�صويري للوحة‪ ،‬وقد جعلها‪،‬‬ ‫من خالل ال�سياق الذي و�ضعها فيه‪ ،‬عن�صر ًا من كيان �أكرب من املعاين التي يريد التعبري عنها‪.‬‬ ‫ف�ض ًال عن هذا‪ ،‬ف�إن الفنان مهر الدين يفاجئنا بتطور باهر يف عمله من خالل ما �ض ّمه هذا املعر�ض‪ ،‬وك�أنه‪ ،‬وقد التقيناه قبل نحو‬ ‫عام يف معر�ض �سابق‪ ،‬ال يعرتف ب�شيء هو بنف�سه‪ ،‬فنان ال يتوقف ا�ستمرار التطور عنده‪ ،‬كما ال تتوقف الإ�ضافة – وهذا ما يتجلى‬ ‫وا�ضح ًا يف �أعمال هذا املعر�ض وما يت�ضمن من ر�ؤية فنية ومن تكنيك لنجد هذه الأعمال‪ ،‬هنا كما وجدناها دائم ًا‪ ،‬بقدر ما هي متجددة‬ ‫بذاتها متجددة مبعطياتها الفنية والر�ؤيوية‪.‬‬ ‫يف هذا املعر�ض‪� ،‬أي�ض ًا ك�سر الفنان مهر الدين "تقليده" الذي جرى عليه يف معار�ضه ال�سابقة‪ ،‬ليعر�ض �إىل جانب "اللوحة" العمل‬ ‫النحتي‪ ،‬الذي ميتهنه للمرة الأوىل‪ ،‬متخذ ًا فيه م�سار ًا تكويني ًا مغاير ًا لل�سائد يف معظم النحت العراقي‪ ،‬فهو و�إن مل يخرج فيه على‬ ‫م�ألوف ر�ؤيته الفنية يف اللوحة‪� ،‬إال �أنه "�شكل" هذه الر�ؤية على نحو �آخر يجمع العنا�صر الفنية �إىل التكوينات الناجتة عنها يف‬ ‫"كتلة نحتية" لها تكويناتها‪ ،‬تقدم "الفكرة" وهي �أكرث غنى بالتفا�صيل بفعل تعدد املكونات‪.‬‬ ‫ويف هذا املعر�ض‪ ،‬من جانب ثالث‪ ،‬وكما عودنا الفنان يف مواجهته لق�ضايا ع�صره وم�شكالته‪ ،‬يدخل " عامل احلرب" بكل ما تخلفه‬ ‫احلرب من �آثار �سلبية على �أر�ض الواقع‪ ،‬ويف روح الإن�سان وللفنان‪ ،‬هنا‪ ،‬متثيالته على ذلك‪ ،‬وهي متثيالت رمزية كثيفة الرموز �إذ‬ ‫تواجهنا �أعماله‪ ،‬بكتابات ي�ستخدم فيها احلروف والكلمات التي ت�صرخ احتجاج ًا على اجلرمية التي اقرتفت بحق الإن�سان‪ ،‬فيكتب‬ ‫(‪ )Dirty War‬ب ِأ��شكال خمتلفة‪ ،‬ويف مواقع متعددة من لوحته‪ ،‬احلروف جممعة‪� ،‬أو موزعة‪� .‬إال �أنها‪ ،‬يف جميع الأ�شكال التي ت�أتي‬ ‫بها ت�شري �إىل �أنها “حرب قذرة” كان من نتائجها هذا الدمار‪ ،‬وكل هذا اخلراب الذي حملت بع�ض اللوحات �ألوان “رماده”‪.‬‬ ‫�أما العمل النحتي الذي حمل عنوان “�أبو غريب”‪ ،‬ف�إنه جدير ب�أن يتحول �إىل “ن�صب” ليكون �شاهد ًا على جرمية الع�صر التي‬ ‫‪13‬‬



‫عادل‪� :‬أود �أن �أعود �إىل الفكرة الأوىل‪ :‬الوعي الفني هنا جزء من امل�ضمون ال�سيا�سي‪ ..‬والتقنية‪ ،‬و�أن كانت (معروفة) �إال �أن‬ ‫الفنان اختار خربته للرتاث النحتي يف التعبري عن هذا امل�ضمون و�أنا �شخ�صي ًا �أتذكر (اللبوة اجلريحة) ب�شكل غري مبا�شر؟‬ ‫طهمازي‪ :‬امل�ضمون يف ت�شعباته وا�سع الأبعاد و�إذا �أردنا التو�سع يف الدالالت ف�أن كل الأعمال التي تعرب عن عدم ر�ضا و عن املقاطعة‬ ‫للحياة العادية والطبيعية تلتقي‪ ،‬على الأقل‪ ،‬يف الإمياءات ‪ ،‬وهذا لن يفرق بني �أن يكون العمل ر�سم ًا �أو نحت ًا �أو مو�سيقى �أو كلمات‪..‬‬ ‫ويف ع�صور خمتلفة ويف �أماكن خمتلفة‪.‬‬ ‫د‪ .‬ماهود‪ :‬ال �أدري �أن كان الفنان حممد مهر الدين ميتلك خربة يف الرتاث النحتي‪ ..‬هذا يحتاج �إىل دليل‪.‬‬ ‫عادل‪� :‬إذا‪ ،‬من حيث املبد�أ نتفق �أن العمل الفني ميتلك �أكرث من داللة ‪ ..‬كما قلت �أنها مقاطعة للن�سغ الطبيعي‪ :‬وهنا يقاطعنا‬ ‫العمل بامل�ضمون‪ ..‬عندما اختار الفنان (رمز ًا) يتداخل مع رموز (احلرية) يف الكفاح‪..‬‬ ‫طهمازي‪ :‬هذا العمل ال ميثل كل الفن‪ ..‬فتاريخ الفن �إذا �أردنا �أن ن�ضع له �أهداف ًا حمددة ال ميكن �أن يكون مفهوم ًا‪ ،‬ولكن هذا العمل‬ ‫هو �صبوة من �صبوات احلرية داخل جربوت ال�ضرورات‪..‬‬ ‫عادل‪� :‬أود �أن �أقول باخت�صار‪� ،‬أن الفنان ذكرنا باملا�ضي‪� -‬أو كما قلت باملقاطعة – ولكنه ا�ستثمرها من خالل ع�صرنا‪ ،‬هنا يكون هذا‬ ‫العمل‪ ،‬كما �أرى‪ ،‬قد و�صف اجلانب اجلمايل ل�صالح الأبعاد غري التزينية – كما عند عدد كبري من الفنانني العراقيني – �إال �أنه و�ضعنا‬ ‫داخل م�شهد‪.‬‬ ‫د‪ .‬ماهود‪� :‬أن فعل الفنان كمبدع يتمثل �أ�سا�س ًا بالقيمة اجلمالية التي يقدمها للم�شاهد من خالل التعبري عن املو�ضوع ويتحقق ذلك‬ ‫لي�س فقط يف تقنية اللوحة و�إمنا يف �أ�سلوب طرح املو�ضوع ت�شكيلية معربة �ضمن حدود م�ساحة اللوحة‪.‬‬ ‫عادل‪ :‬دائم ًا هناك �س�ؤال جمايل حم�ض‪ :‬هل وظيفة الفن جزء من معاجلة �إ�شكاليات البناء العام للحياة �أم �أن الوظيفة اجلمالية‬ ‫هي جزء من البناء الثقايف �أو الفني‪� ..‬أود �أن �أت�ساءل هنا‪ :‬هل جماليات العمل هنا هي م�ضادة لهذا املعنى �أم �أنها تعالج اجلانب‬ ‫الوثائقي‪..‬؟‬ ‫طهمازي‪ :‬ال يخلو العمل الفني من وثيقة وال تخلو “�أجنيال” من وثائقية ‪ ..‬امل�شهد �أزرق ال�ضحية مطلة على الف�ضاء ومل تكن‬ ‫ترغب يف �أن تكون جثة‪ ..‬لقد �أرغمت على �أن تكون ذلك‪ ..‬هذه الوثيقة‪ ..‬لي�س كل القتلى م�صممني على �أن يكونوا قتلى رغبة‬ ‫“�أجنيال” يف احلياة �أكرث من رغبتها ي املوت‪ ..‬مل يدخلها حممد مهر الدين يف قرب‪� ..‬إمنا عر�ض اجلثة يف م�ستوى الأحياء‪.‬‬ ‫د‪ .‬ماهود‪ :‬العمل الوثائقي ‪ ..‬هو عمل ت�سجيلي �أي�ض ًا‪ ..‬ورغم �أن الفنان حممد مهر الدين قد ر�سم “�أجنيال”‪ ،‬ف�إن لوحته تبقى‬ ‫بعيده عن �أن تكون وثائقية‪ ،‬و�إمنا وثائقية بالعنوان فقط‪� ..‬أما كعمل فني فهي يف ر�أي خارج حدود (الت�أمالت الوثائقية والت�سجيلية)‬ ‫�أن جاز التعبري‪ ،‬و لهذا ف�أن �أجد لوحته قائمة على جت�سيم الإح�سا�سات الإن�سانية التي تخو�ض �صراع ًا �ضد ال�شر‪ ..‬وتعرب بالتايل عن‬ ‫موقف الفنان الوا�ضح منه‪ ،‬مع �أننا جنده حني �صور لنا الفعل فقط (ال�ضحية) �أفرت�ض على ما يبدو �أن يكون رد الفعل الأكرث �إيجابية‬ ‫من ح�صة امل�شاهد‪.‬‬ ‫عادل‪ :‬مل نتطرق �إىل التقنيات ‪ ..‬وبودي �أن �أذكرك هنا بالنحت العراقي القدمي‪� ..‬أي بالنحت البارز (الرليف) الذي ا�ستخدمه‬ ‫قدماء العراقيني ‪� ..‬أي بالعالقة اجللدية بني م�ضامني الع�صر والتقنيات (الرتاثية)‪.‬‬ ‫‪11‬‬


10


‫لوحة وثالث مداخل‬ ‫يف هذه املداخلة‪ ،‬التي تخ�ص لوحة للفنان حممد مهر الدين (�أجنيال ‪ 1976‬مواد خمتلفة) ثالثة �آراء لل�شاعر عبد الرحمن‬ ‫طهمازي والدكتور ماهود �أحمد والناقد عادل كامل هي يف املح�صلة حماورة �أو حتليل لعمل فني وهذا التقليد يف املداخلة لي�س‬ ‫جديد ًا متام ًا‪ ،‬و�إمنا نحاول من خالله �أن نثبت بع�ض القيم على �صعيد التذوق الفني‪ ،‬وعلى �صعيد (معرفية) اللوحة مما مينح امل�شاهد‬ ‫– القارئ – مقرتبا من روح العمل‪ ..‬ومناق�شته بوعي يوازيه‪..‬‬ ‫عادل‪� :‬أعتقد �أننا �إزاء مو�ضوع �سيا�سي‪ ..‬مبعنى �أن الفن جزء من روح الثقافة‪ ..‬والفنان هنا‪ ،‬بهذا التحديد‪ :‬جعل (�أجنيال) الرمز‬ ‫ال�سيا�سي لهذا الع�صر‪.‬‬ ‫طهمازي‪� :‬إذا كان مو�ضوع “�أجنيال” متثيال جلزء من روح الع�صر‪ ،‬هذا اجلزء يتعلق باجلانب “” الوح�شي” حيث اال�ست�شهاد (القتل‬ ‫من غري �شهود) ‪ ..‬فان الفنان ي�ستطيع �أن ي�ساهم يف ف�ضح ما هو م�ستور من جرائم الع�صر‪ .‬وهكذا تكون الثقافة عن�صرا مبا�شر ًا وحي ًا‬ ‫يف مقاومة القمع الت�ضييق على حياة الإن�سان‪ ..‬هذا جزء من روح الع�صر “الوح�شي” التي ميثلها العقاب‪ ،‬احلواجز (دفن احلقيقة)‪:‬‬ ‫جثة من وراء اجلدار حتاول �أن تعر�ض نف�سها على املتفرج!؟‬ ‫د‪ .‬ماهود‪� :‬صحيح �أن العنوان يف �أكرث الأحيان ي�ساعد امل�شاهد على ك�شف املعنى‪ .. ..‬غري �أنه هنا ‪ ..‬يف هذه اللوحة قد ح�صره‬ ‫(املعنى) ب�شخ�صية معينة ومعروفة‪ ،‬ويف هذا �أجد �أننا �أمام ق�ضيتني‪ :‬الأوىل هي �أجنيال‪ ،‬مما �أ�ضعف ذلك‪ ،‬يف اعتقادي‪ ،‬تعاطف‬ ‫وتوحد امل�شاهد مع اللوحة وكان املفرو�ض �أن يجد الطريق �إىل �أجنيال من خالل اللوحة نف�سها ولي�س العك�س‪.‬‬ ‫عادل‪� :‬أن طهمازي يتحدث عن فعل الفنان‪� :‬أي فعل املبدع‪ .‬فاملو�ضوع ال�سيا�سي هنا يتداخل مع البعد اجلمايل‪ ،‬من حيث الت�أثري‬ ‫�أو املنطق‪� ..‬ألي�س كذلك؟‬ ‫طهمازي‪ :‬نعم‪ ..‬كذلك ‪ ..‬اجلمال هنا ثغرة على ال�سطح الت�صويري بهي�أة نافذة‪ ..‬وتفكيك ن�سب االنتظام التي ت�شري �إىل “ال‬ ‫معقولية” املنظر‪ ..‬امل�ضمون ال�سيا�سي يتحدث مع رغبة الر�سام يف عر�ض “اجلرمية” ومقاومتها حيث �سيكون العقاب هو يف الف�ضيحة‬ ‫عرب ال�ضحية‪ :‬هذه ال�ضحية هي التي ت�شري �إىل املجرم‪.‬‬ ‫د‪ .‬ماهود‪ :‬ال �أجد يف هذه اللوحة ما يذكرين بالنحت العراقي القدمي (الرليف) �أو �أية عالقة ولو من بعيد (بكربياء ال�شكل)‬ ‫وبالتقنيات الرتاثية‪ ،‬فاللوحة تعتمد يف تقنياتها الع�صرية على نحت بارز متكون من عنا�صر مادية (حقيقية) متكونة‪ ،‬خ�شب ورمل‬ ‫وج�ص ومواد ال�صقة و�ألوان‪� ،‬أنتج منها الفنان لوحة جتمع بني الر�سم والنحت مع ًا‪� .‬أما �أن يكون م�صدرها كمو�ضوع �أقرب �إىل تعبريية‬ ‫(بيكون) فال �أدري‪ .‬غري �أن هذا العمل ميكن اعتباره �إجنازا جيد ًا وخ�صو�ص ًا يف التنفيذ وتوزيع امل�ساحات داخل اللوحة‪ ،‬حيث جند �أن‬ ‫الفنان مل ي�ضع النافذة يف و�سط اللوحة �أو (اجلدار) كما ي�سميه ال�شاعر عبد الرحمن طهمازي‪� ..‬إمنا جعل الق�سم ال�سفلي من جدار‬ ‫ال�سجن �أكرث م�ساحة من ق�سمها العلوي �أعلى النافذة مما �أ�ضاف ذلك قيمة جمالية جديدة من ناحية الف�ضاء والتوازن (كرتتيب)‪،‬‬ ‫حتى �أن �أخراج ال�ضحية �أطرافها من خالل الق�ضبان‪ ..‬هو بال �شك للداللة على‪ .‬ما تعانيه ال�ضحية من احل�صار املفرو�ض عليها وهي‬ ‫بو�ضعها غري املريح داخل �سجنها ال�ضيق وال�صغري امل�ساحة جد ًا‪.‬‬ ‫‪9‬‬


‫وف�ضل ال�سطح موئال للحرية‪ ،‬حرية الفنان الذي كانت ال�ضغوط من كل نوع تقوم بتهديد هويته‪ .‬انه على كل حال ظل يحرك‬ ‫منحنياته املغلقة حول الب�ؤر وعلى القما�شة �أو الورقة‪ ،‬يطعمها �ألوانه اخلافقة بكامل مردوداتها‪� ،‬أو يعالج الثغرات بالل�صيق الفعلي‬ ‫�أو موحي‪� ،‬أو يفتح املنحنيات‪� ،‬أو يعمل ت�شطيبات �أو تعزيزات‪ ،‬يروح ذهابا و�إيابا من املركز �إىل الإطار عار�ضا قواه على اللوحة‬ ‫بحذافريها كما قلنا‪ .‬ومهما يكن‪ ،‬فان هناك فنانا م�ضغوطا يدافع عن عنا�صر ت�صويره مبواده و�أ�سلوبه‪ ،‬ذلك هو نقده �أي�ضا للم�ساومات‬ ‫الال فنية التي �شاعت يف �أو�ساط الفنانني العراقيني ف�أ�ضرت ب�إنتاجهم النوعي �أطف�أت مواهبهم قبل �أن تت�صاعد بال�صقل الذي قد‬ ‫يربهن على هوية ما‪.‬‬ ‫حفلت الأعمال الورقية (ال�صغرية على وجه خا�ص) مبا حتفل بت ور�شة الر�سام‪ :‬تركيز الت�صميم‪ ،‬والتجربة املرتاكبة للكوالج‪،‬‬ ‫والبث اللوين العاطفي‪ ،‬لكن الأعمال الزيتية على القما�ش (الكبرية منها) ظهرت على �شئ من االقت�صاد يف الألوان وعنا�صر الت�صميم‪،‬‬ ‫و�صارت ا�شتقاقات اللون الواحد طاغية على معظم امل�ساحة تقريبا‪ ،‬وهنا قام مهر الدين مبعاجلات متقابلة‪ ،‬فمن جهة ي�ضيف قطعا‬ ‫من البال�ستيك مل�صوقة على �سطح القما�شة ومن جهة �أخرى يق�ص القما�شة من زاوية الإطار مبربع (مغلق‪ /‬مفتوح‪ .‬حيث يتقابل مع‬ ‫املنحنيات املغلقة التي ي�شتهر بها م�ستوى �سطحه الت�صويري منذ الن�صف الثاين من ثمانينيات القرن املا�ضي)‪.‬‬ ‫مل ي�ستطع هذا الر�سام �أن ي�أخذ ا�سرتاحة على هذه ال�سطوح الكبرية‪ ،‬فما زالت غمغماته �أ�شبه بغ�صات مبحوحة للحروف والأرقام‬ ‫واملعادالت وخرائط الفراغ اليائ�سة من احلل والدليل على �سطح �شفاف ل�صيق بالر�ؤية‪� .‬أن الوجود الإن�ساين والتجليات الت�شكيلية‬ ‫الفكاك لأحدهما من الآخر‪� .‬أقدار متما�شية ا�ضطرارا‪ ،‬فيا ل�ضيق اللوحة ال�صغرية والكبرية ويا لثقل التطلع �إىل االجناز بعد التخل�ص‬ ‫من ال�سطح‪ .‬التخل�ص امل�ؤقت من �سطح ال يبدو حتى الآن انتقاليا‪.‬‬ ‫جل أ� الر�سام يف حلظة حرجة �إىل �أن يقلب الورقة ليبدا على وجهها الآخر‪.‬‬ ‫الورقة ذات ال�سطحني الت�صويريني لي�ست مت�ساطحة �أو متنافذة‪ ،‬فالتجربة تتمكن من جتاوز الت�سل�سل �أو البقية �أو الإحلاق‪.‬‬ ‫انه نوع من حتريك ال�سطح واختباره على �أن ال ين�شطر �إىل رتابة التو�أمني‪� .‬أنهما �سطحان فح�سب‪� .‬سطح ثم‪� .....‬سطح‪ .‬مل ت�ستطع‬ ‫الورقة الواحدة �أن توحدهما �إال بقدر ما يتحمالنه من حتمية االختيار و�إحراجاته‪.‬‬ ‫بعد �أن نظر مهر الدين �إىل �صفحتي الورقة على �أنهما لوحتان منجزتان م�ستقلتان‪ ،‬من دون تقنياته الورقية‪ ،‬كالكوالج والتخرمي‬ ‫اللذين يف�سدان قفا الورقة‪ ،‬حاول �أن يجرب جت�سيم منحنياته املغلقة واملفتوحة‪ ،‬وهي بع�ض ما يقرر خ�صائ�ص مكت�سبه الأ�سلوبي‪،‬‬ ‫ف�أنتج قطعا نحتية من البال�ستك ذات �سمات �سرياميكية‪ .‬ما �سيعو�ض تلوين الت�صوير هو املقاطع ال�شفافة والفراغات الت�صميمية‬ ‫و�أحيان ًا التكوين الرمزي بني اجلدران‪� .‬سيبدو ال�سرد متقطعا ب�سبب النق�ص الذي تردده اجلدران املتفاوتة‪ .‬الفراغات هي التي‬ ‫�ستعلو‪� .‬إنها عمائر مت�أثرة بعدم االكتمال‪ ...‬وال ريب يف �شدة تطلبها لالنتظار‪.‬‬ ‫ترى‪� ،‬أين مي�ضي مهر الدين وهو يحرك �أ�سلوبه؟‪.‬‬ ‫كيف �سيجابه الرتابة مرة �أخرى على ال�سطح الت�صويري‪ ،‬وهي ترتب�ص به يف ن�ضوجه؟ �ألي�س الفولكلور ومالمح الفنون اال�ستعمارية‬ ‫هما �أكرث ما يهدد الر�سامني العراقيني الآن؟ بل وما يلقيهم طعما لل�شيخوخة املبكرة التي اثقلت الر�سم يف العراق مبكرا؟‬

‫عبد الرحمن طهمازي ‪0102/4/8‬‬ ‫‪8‬‬


‫وهما من اقرب �أ�ساتذته �إليه يف مرحلة درا�سته الفنية العراقية ؛ الأول نحتا والآخر ر�سما‪.‬‬ ‫�ضم معر�ض ‪ 1999‬امل�شار �إليه �أعماال من الزيتيات واالوراقيات‪ ،‬وميكن تقرير ما ح�صل من تغيري منذ ذلك واىل الآن مبا يلي‪ :‬فبعد‬ ‫‪ّ ‬‬ ‫ر�سام يخترب احرتافه‬ ‫�أن كانت الورقيات ت�ستعري بناء الزيتيات �صارت الزيتيات ممكنة الت�أثر ب�سال�سة البا�ستيل على الورق‪ ،‬وك�أي ّ‬ ‫باملفاج�أة واملناورة اللجوجة والأ�صالة املتحررة �صار �شعوره وا�ضحا �أكرث من املا�ضي بان ما يف طوع يديه من املواد والت�صرفات يزيد‬ ‫على ما هو خارج �سيطرته‪ ،‬وبعد حترير اللوحة من الت�صميم الذي كان مي�سك بتالبيبها اخذ ما ميكن اعتباره �أمرا فوريا ينتظر ر�ؤية‬ ‫ت�سرع من ن�شاط الر�ؤية‪ ،‬كتعليق اللوحة من الزاوية « على �أنها �شكل معيني مع كونها مر�سومة‬ ‫املتفرج‪ ،‬كما �أن نزعة ا�ستعرا�ضية قد ً‬ ‫مبوازاة الأ�ضالع « �أو العك�س غري �أن عمليات البناء املتداخل‪ ،‬الكثرية‪ ،‬هي اجلديرة بالتعريف‪ ،‬وبخا�صة يف �إ�شغال الزيت‪ ،‬الن لوحات‬ ‫الأوراق تعيد متثيل جتربة الزيتيات تقريبا‪ ،‬و�إذا جتنبنا معاجلته للزيت املائع بالكلرييك لت�شكيل قوام متجان�س وو�سط متما�سك‬ ‫البطي‪ ،‬كي يكون مبقدور الر�سام موا�صلة العمل على ال�سطح دون انقطاعات يف ال�سياق‪� ،‬إذا جتنبنا ذلك‪ ،‬فان‬ ‫ومهي�أ للجفاف غري‬ ‫ْ‬ ‫اال�ستمرار يف الت�أطري الداخلي الظاهري �أو الذي يب�صب�ص من حتت ال�صبغ‪ ،‬اوجد �سطحني ب�صريني ثانويني‪ ،‬يف بع�ض الأحيان يكونان‬ ‫م�ساويني لكامل ال�سطح‪ ،‬يعتمد تفاوتهما على انحراف خطوط الإطارات اللونية‪ ،‬وهذان ال�سطحان‪ ،‬اللذان يتكرران ك�أ�سلوب الثنائيات‬ ‫يف لوحة واحدة‪ ،‬يوفران حركة قد تكون مقارنتها بالبقايا التكعيبية قريبة من ال�صواب‪ ،‬وتعمل الإطارات‪ ،‬يف الوقت نف�سه‪ ،‬على بناء‬ ‫عالقات الب�ؤر املوزعة على ال�سطح فيما بينها‪ ،‬حيث كانت تلك العالقات ترتكز على منا�ضد �أفقية فقط‪ ،‬ف�أ�ضاف �إليها �أو�ضاعا عمودية‪.‬‬ ‫ومع هذه الإيحاءات الب�صرية تكرث يف العرو�ض الأخرية ملحمد مهر الدين الإحالة والتلميح �إىل تقنيات بال�ستيكية متعددة‪ ،‬كالرتقيع‬ ‫اللوين بالبقع اجلنا�سية والطباقية‪ ،‬الذي ال يعدو �أن يكون (كوالجا) افرتا�ضيا‪ ،‬وكاخلرق املجازي بالأبي�ض الذي تو�ضع يف جوفه‬ ‫كتلة لونية غري نظامية‪ ،‬وهناك اختال�سات من ال َكرافيك بتلوين خزف المع‪� ،‬أما الت�شطيب وحتزيز الألوان فهو قريب من التعوي�ض‬ ‫عن الظل املتخفي �أو مالجئ ال�صد أ� والغبار يف لون كامد راكد‪.‬‬ ‫�إن و�صفا ثانيا قد ي�صلح هنا �أي�ضا‪ ،‬فممار�سة البناء من خالل الرليفات الرافدينية قد يحمل على التفكري بثقافيات اللوحة‪ ،‬كذلك يلعب‬ ‫متثيل الت�صوير ب�شكل خاطف دورا يف تزييف الطابع اجلاهز الذي يتطري مهر الدين من تهديده‪ ،‬وقد تكون الكتل امل�صممة مثل الأطالل‬ ‫القوية �إيعاز ًا ي�ساعد الفراغ على ا�ستنطاق �صمت ال�شكل بتو�سط النتوءات والفتحات وتباين كتل ال�صبغ‪ ،‬ومع كل التيق�ض لذكريات‬ ‫وف�ضالت ال�سرد اللوين فان �شيئا ما يتوقف‪ ،‬و�آخر يدور‪ ،‬وقد يتعرث �شيء يف طبيعة اللوحة و�شخ�صيتها التي ال تكف عن اال�ستئناف والتعريج‬ ‫على ما هو ختامي‪ ،‬وكيف يجد الر�سام قفال ملمو�سا وهناك �أ�شياء �أخرى تتحفز لالنطالق على �سطح حمتوم؟ يتقلب يف كل طياته الثابتة‬ ‫ويهد أ� الإطار هدوءا طارئا ملتب�سا وك�أن وعدا نا�ضجا قد ا�ستيقظ بغتة فيه ومل تتح�سب له الفر�شاة التي قام الر�سام بتنظيفها للتو‪....‬‬ ‫الآن و بعد زهاء عقدين يتدخل حممد مهر الدين لتحريك �أ�سلوبه واختبار عنا�صره �أو �إقالقها والنظر �إليها جمددا على �سطح‬ ‫متفاوت التجان�س ثم جت�سيد تلك العنا�صر من بعيد يف مبادرات نحتية ت�شد �أوا�صر ر�سمه داخل اللوح وتربهن عليها خارج ال�سطح‬ ‫الت�صويري يف قطع م�ستقلة‪.‬‬ ‫�أننا�أمام موهبة اال�ستئناف وااللتزام بالتعوي�ضات ال�ضرورية لتجربة ر�سام ال يقوى على ما هو عابر ولي�س له عقيدة لونية �أو �شكلية‪� .‬أن‬ ‫تراكماتهتنتف�ض�أخرياولكنعربتعوي�ضاتوجمازفاتحتريكالأ�سلوباملكر�سبنائياوذياخللفيةالتجريديةاملفعمةبنبالةالت�صميم‪ .‬‬ ‫‪ ‬مل ي�سمح جتريد مهر الدين ال�صلب لعنا�صر غري ت�صويرية �أن تتطفل على لوحته‪ .‬لقد حمى الر�سام حدود �أعماله حماية جيدة‬ ‫‪7‬‬


‫حممد مهر الدين وال�صراع مع الرتابة‬ ‫العراقي حم ّمد مهر الدين يف بغداد – قاعة «�أيا» ويف �أثناء درا�سته يف بولونيا؛ ظهرت‬ ‫الر�سام‬ ‫منذ معر�ض ‪ 1965‬الذي �أقامه ّ‬ ‫ّ‬ ‫الت�صويري‪ ،‬ومببالغاته اللون ّية من‬ ‫�أوىل خطواته يف تق ّبل التجديد مم ًثلة ب�إدخال موا ّد خمتلفة غري متفّق عليها يف بناء ال�سطح‬ ‫ّ‬ ‫ناحيتي الدرجة والوظيفة‪ ،‬وبا�ستعمال تقنيات متباينة على لوح واحد مثل‪ :‬الر�سم والتخطيط ومقاطع غرافيك ّية ونقائ�ش‬ ‫الت�صميم املن�ضبط لهذه التقنيات نكهة ميكن ت�سميتها اليوم‪ :‬وحدة العمل‪� .‬إنّ اخلطوات الأوىل‬ ‫(رليفات) وكوالج وحرف‪ ،‬ويعطي‬ ‫ُ‬ ‫كانت حتمل طابع الت�أثر الذي مي�ضي بعيدا يف نوع من االنطالق‪ ،‬لكنّه مل يكن انطالقا حرا بعد‪ ،‬فهناك وراء املواد املختلفة يوجد‬ ‫املدر�سة البولونية يف ذروة‬ ‫تابيه‪ ،‬ووراء التعبري ّية اللون ّية كانت الرغبة النظر ّية لفائق ح�سن‪ ،‬ووراء جمموعة التقن ّيات توجد‬ ‫ّ‬ ‫جتربيتها ومبادراتها بني الر�سم املل�صقات والت�صميم‪ .‬يف عام ‪ 1969‬و�ضع مهر الدين ر�سالته الفن ّية على احلا ّفة متاما‪ ،‬ففي الكتالوج‬ ‫الذي �أ�صدرته جماعته «نحو الر�ؤيا اجلديدة « �صاغ لأعماله بيانا قطعيا عن التجديد قائال فيه‪« :‬ال�سلف ّيون �أولئك الذين يحاولون‬ ‫تثبيت كيانهم عن طريق امل�سايرة واخل�ضوع للمفاهيم التي ال تتنا�سب وع�صرنا‪ ،‬والفنّان املبدع اخل ّالق من يرف�ض هذا امل�سلك ويدعو‬ ‫بجر�أة و�إخال�ص للتجديد الذي يحارب الن�سخ والتقليد الذي من �ش�أنه متزيق جمتمعنا واحل�ضارة الإن�سانية ‪ - ......-‬وك ّلما كانت‬ ‫هذه الأعمال ج ّيدة التكنيك عميقة الإدراك للمرحلة الراهنة اكت�سبت �صفة املعا�صرة وامل�ستقبلية «‪ .‬ولي�س من ال�صعب �أن جند‬ ‫مق�صرة‬ ‫معنى عاما ملثل هذه الكلمات‪ ،‬فهي �إرادة متفائلة من الناح ّية االيدولوج ّية‪ ،‬لكنّها من جهة الفن كانت غري مربرة �أو �أنها ً‬ ‫ً‬ ‫�إذا ما قورن االجناز بتطلعات الفنان‪ ،‬فاملواد املختلفة والألوان يف �سياقاتها البالغية – الطباقية واجلنا�سية – وتن�ضيد عدة‬ ‫تقنيات للظرف الواحد‪ ،‬بد�أت ت�ضايق مهر الدين‪ ،‬واخذ من منت�صف ال�سبعينيات بت�صنيف الرتاكم الذي عانى منه‪ ،‬وتعوي�ضه‬ ‫�إما بحذف بع�ض عنا�صره �أو متييعها يف طبقات لونية و توزيعها ت�صميميا‪ ،‬و�أما بتوفري غطاء تعبريي مل�ضامني وموا�ضيع متثل‬ ‫وجهات نظر «واقع ّية «‪ ،‬لكن هذا االختيار اختفى �شيئا ف�شيئا من ال�سطح يف معار�ض الثمانينيات‪ ،‬وا�ضعا م�شكالت البناء الداخلي‬ ‫على ر�أ�س ممار�سات الفنان اجلموح‪ ،‬الذي افتتح درا�ساته اجلمالية يف معر�ض ‪ 1985‬وما زال يتعمق متخ�ص�صا يف حتزيز ال�سطح‬ ‫الت�صويري وانفراج العتمة اللونية وحتريك الب�ؤرة من هنا �إىل هناك‪ ،‬متالعبا بالذهاب والإياب‪ ،‬ومطال على ما�ضي ت�صويره من‬ ‫غري �إرباك ل�صريورة �أ�شغاله على الأوراق �أو على قما�شة الزيت‪ ،‬كما هو نا�صع يف معر�ض ‪( 1999‬املركز الثقايف الفرن�سي ‪ -‬بغداد)‪.‬‬ ‫‪ ‬مل ي� أش� «حممد مهر الدين» التخل�ص من مكت�سباته مرة واحدة‪ ،‬بل زاول معاجلتها حثيثا من خالل خ�صائ�ص عمله نف�سه‪ ،‬بتغليب‬ ‫الت�صميمي‬ ‫ثم واجهته م�شكلة داخلية طويلة ا�ستغرقت عقدا كامال (‪ )1995 - 1985-‬هي الرتابة يف الت�صلب‬ ‫الت�صميم �أوال‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫(ال�سيمرتي احيانا) مع الب�ؤرة املنكم�شة عن الأطر‪ ،‬فحاول �أخريا ؛ بجهد قد يو�صف بالتعقيد ؛ مترين هذا الت�صلب بتكوين �أكرث‬ ‫من ب�ؤرة‪ ،‬غري مطرودة عن الإطارات قدر كونها مندفعة نحوها‪ ،‬وبتلوين مو�سوعي غنائي‪ ،‬وبتداعيات ب�صرية و�أخرى تعبريية‪ ،‬مع‬ ‫االحتفاظ بتقنيات املواد امل�ستعملة وو�سائل التنفيذ (الفر�شاة النا�شفة �أو الرطبة‪� ،‬أ�سنان الأقالم‪ ،‬الأظفار‪ ،‬الأم�شاط‪ ،‬الطبا�شري‬ ‫الياب�س‪ ...‬الخ‪ ..‬الخ)‪ ،‬و�إن ما يحدو هذا الأ�ستاذ هو متثيل قدراته الأكادميية �أدق ما ميكن‪ ،‬مع تذوقه الرفيع مل�ضاعفات احلداثة‬ ‫ومفاهيمها التي قد تبدو حمرجة لتجربة ت�شبه جتربته‪ ،‬وقد تكون هذه املالحظة منا�سبة ملالحظة �أخرى‪ ،‬عابرة‪ ،‬هي‪� :‬أن مهر‬ ‫الدين احد الر�سامني العراقيني القالئل الذين جعلوا التكامل م�أموال بني حتديث» جواد �سليم « وال�ضبط الأكادميي ل»فائق ح�سن «‪،‬‬ ‫‪6‬‬


mixed media on canvas - 80 x 60 cm - 2000

75

5


‫اراء وحتليالت حول جتربة و�أعمال الفنان‬ ‫حممد مهر الدين الت�شكيلية ‪2010 - 1967‬‬

‫‪4‬‬


3


2


1


‫حقوق الطبع حمفوظة ‪.‬‬

‫ال يجوز اعادة طبع هذا الكتاب‬ ‫�أو �أي جزء منه �أو ا�ستن�ساخه �أو تخزينه‬ ‫�إال ب�إذن كتابي من امل�ؤلف‬

‫‪206‬‬



Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.