حاضر المغرب واختالالت األمن الثقافي
الحلقة التاسعة:
وهل َ ِ ستَِنير !! لد ْينا م ْن فكر حتى َن ْ ahmedtahiri31@gmail.com
يكاد القارئ منا ال َيعْ ث ُر على أثر لفكر ض ْمن أكوام األوراق التي سُودَ ت بالرسم العربي في ُمختلف حقول المعرفة على مدار صادف تحت القشور إال القرن العشرين إلى اليوم .وإذا ما فع َم ْدنا للنهل من َمعينه ،ال ُن َ حصل أن ا ْن َبهْرنا بمقال أو اسْ َتهْوانا قل ٌم َ َ بالحرْ ف من أفكار اآلخرين .وباستثناء بعض االجتهادات النادرة ،ليس نقوال ونقوال ونقوال ..من كتابات السلف أو اقتباسات َ َ هناك ما يُمكن نعته بين النقول بـ "الفكر العربي المعاصر". فما أن َبحت أصوات رواد اإلصْ الح ُمنبهة على أهمية مد الجسور إلى ينابيع فكر السلف الزاخ َرة بأصناف العلوم واآلداب والفنون أ َمالا في ْ تجد لدى الغير من ص َبت مآذن الدعاة ُم َت َعلقة بآخر ما اسْ َ عودة الدفئ إلى شرايين حضارتنا الهامدَ ة ،حتى ا ْن َت َ مناهج العلومْ ،بد اءا بالشك الديكارتي والف ُنوم ُنولوجيا وانتهاء بالمادية الجدلية والتحاليل البنيوية ،إلى ما عدا ذلك من المدارس الفكرية. وبين العجز عن استيعاب األصول ال ُمتراك َمة على مدار قرون من العطاء الفكري بدار اإلسالم وعدم القدرة على تطويع المناهج الحديثة المُتسارعة الوتيرة لدى األمم ،ظل ما يُعْ َرف تجاوُ زا لدى أشباه ال ُعلماء بـ"الفكر العربي المعاصر" ُم َجرد تطبيقات ابتدائية في حقول معرفية .وبقدرما ظلت مشاريعهم المفتوحة ُم َت َناسلة بأ ْك َوام من األوراق ال ُحبْلى بالقراءات والخطابات والتصورات والمواقف ،لم تتمخض بزبدة علم ُت ْمس ُك رمق الناس. والتحليالت َ ُفر َغة وبلغ االجْ ترار َمدَ اه وتساقطت المآذن ال ُم ْن اتص َبة الواحدة تلو الدو َران ،إن لم يكن ال َه َذ َيان في حلقات م َ وبعدما استفحل َ األخرى ،من الطبيعي أن تضج أصوات زعانف األسواق بالدعوة إلى "تطبيق الشريعة" يقينا من عقول ُم ْن َفعلة بسُهولة الخالص صبوا "علماء" في ديارنا و"جهلة العامة" وكالهما ُمسْ َتكينٌ لـ"تطبيق" فكر الورْ طة الكبرى .وال فرْ ق بين مشاهير َمنْ ان َت َ من َ شرائع جاهزة ،وما ط َم َحت ه َم ُمهم ي ْو اما إلى االجتهاد في استنباط حُ ْكم أو َبذل ال ُعمُر الكت َساب ع ْلم. اآلخرين أو َ ومما يبعث على األسى أن تنقطع السبل بتلك النخبة العالية القدر من المغاربة الحاذقين في أدق مجاالت العلم واالختراع واالبتكار وقد ظلوا يهيمون على وجوههم طلبا لرغيفهم في البلدان وتوظيف معارفهم في مختبرات اآلخرين وذكائهم في مراكز البحوث لدى األمم فيظلون أ َبدَ الدهر َنك َرة في أوطانهم .و َيعز علينا أن نشاهد أمثال ذاك الوجه ال ُمشرق ُنورا ا لفتاة مغربية تحظى بتقدير شعوب العالم على ْ موهبتها ال ُمك َت َس َبة باالجتهاد في تجويد القرآن ،وال يلتفت إليها مواطنو بلدها ال ُم ْن َبهرين بالتفاهات .وال ْ ْ تخفى االستقباالت الحافلة لذاك الصنف الرديئ من ال َم ْو ُسومين تجاوزا "بالفنانين والفنانات" ممن ال ُيتقنُ نظ اما وال يُحْ سن فنا واست ْهواء األذواق الفاسدة وبال َه َرج األرداف الثارة الغرائز ْ من فنون الغناء والسماع والرقص واالنكسار في ْستعينُ بالكشف عن ْ ْ ال َمارج السْ ترْ عاء انتباه ْ الغوغاء .ويبدو أن ُن ْك َران كل ما يتصل بالعلم والحكمة واآلداب والفنون والتشهير بكل ما يلتصق بال َه َرج وال َم َرج والعرْ َبدة قد أصبح في ظل اختالالت العصر "سياسة" رائجة األرباح. ضارها إلى مقام وبصرف النظر عما يتعلق بمختلف الحقول من معارف نظرية وع َملية أو علوم إنسانية التي ُنرْ جئ استحْ َ بحسْ رة وأناة ـ وهل بين هؤالء ال ُم ْن َتصبين اليوم للنظر في الشرائع بديارنا َمنْ هو ُم َت َفق ٌه بعلوم آخرَ ،يحق لل َمرْ ء أن يتساءل ـ وإن َ صدَ ر عن ُعلماء األمة الدين وعال ٌم بأمور ال ُد ْن َيا؟ ومعلوم أنه ال يصح أن َن ْن َعت أحدهم بـ"الفقيه ال ُمقلد" إن لم يكن على د َرا َية بما َ من تفاصيل في مختلف أبواب الفقه ودقائق ما ُ طر َح على "الفقهاء ال ُمشاورين" من قضايا على مدار تاريخ اإلسالم ،ضمن المذهب الذي ُي َقل ُده .أما أن ن ْن َعت أحدهم بـ"الفقيه ال ُم ْجتهد" الذي ب َم ْق ُدوره اسْ تنباط األحكام واسْ تصْ دار الفتاوى فتلك درجة عالية وجه اإلطالق" التي قلما تجتمع شروطها في ْ شخص أو في زمان. األعلى في العلم على ْ بل " ْ وغني عن البيان أن أهل المغرب قد ظلوا منذ ْبدء ع َملهم بشرائع اإلسالم على "مذهب أهل االستقامة واالقتداء" بالسلف موصوال بـ"مذهب مالك" ،ما َ ض َياته ،وقد ألح حكماء أجدادنا على وصاية األبناء واألحفاد تخلوا في ماضيهم عن االسْ ترْ َشاد ب ُمق َت َ االست ْمساك به نجاة" من ال ُغلو الف ْكري والتشرْ ذم الطائفي .ولنتأمل مالحظة أحد مشاهير فقهائنا إذ صرح أن " ُجل من يعتقد أن " ْ
مذهبا من مذاهب الفقهاء فإن فيهم الجهمي والرافضي والخارجي إال مذهب مالك فإني ما سمعت أن أحدا تقلد مذهبه قد قال بشيء من البدع". وإذا كان المغاربة قد ظلوا على َمر العصور ُمسْ تمْ سكين بعصا النجاة ،فال يصح أن نسْ َمح لزعانف عصرنا أن ُي َكسروه اسْ ت ْخفافا باألصول واغترابا عن الذات أو طيْشا في متاهات الج ْهل .وال يخفى عن عاقل كيف يعْ َمد ال ُم َت َحكمون في مصير األمم إلى تحريك الخيوط في الدهاليز ال ُمظل َمة ل َلع َبث بتماسك كياناتنا بجر العامة ال ُمنقادين لـ"فقهاء السوء الناعقين" إلى التناحر على الح َسنين علي بن أبي طالب كرم هللا وجهه بليغا في وصف أمثال هؤالء بكونهم" :همج رعاع ،أتبا ُع أسس طائفية .وك ْم كان أبو َ يستضي ُئوا بنور العلم" .وها هي نتائج التشرْ ذم الطائفي المُرْ ع َبة ُت ْغرق أهلنا ُسنة وشيعة في كل ناعق ،يميلون مع ُكل ريح ،لم ْ ُمسْ تنقع ال َم ْخ َرج منهْ ،بدءا بلبنان فالعراق واليمن وسورية والبحرين ..ويبدو أن ما ُيسْ تحضر في مطابخ األمم ل ُمسْ تقبلنا مما خفي عن أنظارنا أعْ َظم. ويتعجب ال ُم َتعلم منا ،بل ومنْ حق العامي أيضا أن يتساءل :وكيف أصْ َبحت األحكام وقضايا التشريع والفتوى ـ على جاللة اللسان بالهذر؟ ْقدر َها وخطورة شأنها ـ حقال مفتوحا يخوض فيه كل من هب ودب من الجهلة األغمار والزعانف ال ُمسْ َتطيلي َ ويزخر التراث الفقهي المغربي بآالف الدرر الكفيلة بوقف باب الخوض في كثير مما يحلو ل ُمتصيدي الفُ َرص نشره في وسائل التشهير الم َُع ْولَ َمة .وأكتفي في هذا المقام باإلحالة ـ على سبيل المثال ـ على شاب مُسْ لم وقف فيما مضى أمام القاضي "فذكر أنه فامتحنه فوجده ُمصرا على ما قال"؛ وبدال عن "تطبيق" ما ُي َسميه زعانف عصرنا بـ"الشريعة" ،فإن الفقهاء بدا له عن اإلسالمْ ، ال ُمفتون بمذهب مالك أشاروا على القاضي بالقول" :فإن أصر خليت ُه في سخط هللا عز وجل ،فليس بأول منْ أغواه الشيطان". ص ْنع خياله في تحريك ماليين الخلق في مظاهرات ويتبادر إلى الذهن أيضا كيف نجح كاتبٌ مغمور بواسطة قصة بئيسة من ُ صب كبار "أئمتنا" السْ تصدار الفتاوى بإهدار الدم ووقفت شعوب ودول على خط المواجهة عارمة هزت معمور األرض فا ْن َت َ ُيحركها االعتقا ُد ـ ج ْهال باألصول ـ أنها قد هبت لنصرة اإلسالم .وتتكرر الحوادث ال ُم َماثلة بخربشات كاريكاتورية رديئة ت ْب َحث عن أضواء كاشفة في وسائل التشهير العالمية ،فتتحرك الدهْ ماء بالماليين في بالد المسلمين ُمعْ تقدة أنها قد هبت لنصرة المصطفى األمين؛ وحاشى أن يكون سيد البرية بحاجة إلى هؤالء ال ُم ْندَ فعين وراء الناعقين في أبواق ُم ْش َر َعة بالضجيج العالي ت َمولها بسخاء أيادي ال ُم َنافقين اآلثمة. الجهل بآيات هللا الساطعة وب ُق ْد َرة ال ُم َت َحركين في الظالم على تسميم األجواء إنها بالونات اختبار لدرجات الضالل في ش َعاب َ بديارنا والدفع بأهلنا إلى شفا الهاوية .وما أشبه هذا المصير الذي آلت إليه أحوالنا بال َوصْ ف الذي خص به أحد قدامى الحكماء انهيار حضارتنا بقوله" :اشتد البالء بأهل اإلسالم ،خاصة فيما ب ْين ُهم ،فإن الكل على الكل ،في القريب والبعيد وال ُمولى عليهم، بعض ن ْقمة ،بفساد دينهم و ُد ْنيا ُهم وع ْيشهم". ضهم على ْ ضهم لب ْعض ف ْتنة ،وبع ُ بع ُ وفي تواريخنا الزاهرة ما ُيقدم ألف مثال ومثال على مواقف الفقهاء ال ُم ْست ْرشدين بكتاب هللا وقد وس َعت رحمته كل شيء، المتأملين ُس َن َن نبيه المصطفى األمين الذي كان على ُخلُق عظيم ،ال ُمسْ ْتوعبين آثار العلماء من سلف األمة في معالجة ما قد صادفُونه من مسائل تستدعي الفتوى .أليس في دار الحديث بالعاصمة والهيئة ال ُمشرفة على الشؤون الدينية و ُ ش َعب الدراسات ُي َ َ ْ ص َبة في طول البالد وعرْ ضها من المختصين في الشرائع واألحكام من ُيذكر اإلسالمية بجامعات المملكة والمجالس العلمية ال ُمن َت َ الغوغاء بالحدود الفاصلة بين االستقامة والضالل؟ أليس من واجبهم وهم يتقاضون ُم َرتبات ُعليا من خزينة الدولة تذكير الناس وإرشاد الحُ كام بمواقف مشاهير فقهاء المالكية في مثل هذه الحاالت ،ونحْ ن على مذهبهم؟ أليس في تاريخنا من نوازل األحكام ما ُيقدم الن ْبراس لالسْ تنارة بأعمال السلف في مثل هذه الحاالت؟ فكم ُهم ال ُمسْ َتخفين بالنبي (ص) من أهل الديانات األخرى الذين اندفعوا فيما مضى وهم في كنف دار اإلسالم للسب والقذف في حقه على َمسْ َمع ومرآى من عامة المسلمين و ُه ْم في عز دولتهم؟ ْأك َتفي في هذا السياق بذ ْكر حادث االستخفاف بالنبي (ص) في حضرة أحد فضالء القضاة وقد أتاه "رجل من النصارى ُم ْستقتال لنفسه فوبخه القاضي وقال له :و ْيلك منْ ْ أغراك بنفسه أن ان بين كبار تقتلها بال ذنب "!..و َبدَ ال عن إصدار الحُ كم بإعدامه ،قلل من شأنه واسْ تهزأ من جُ رْ أته على نفسه ُمكتفيا بنصْ حه .فشت َ فقهاء المغرب ال ُمجتهدين في علم الشرائع واألحكام وهؤالء الزعانف ال ُمطالبين بتطبيق الشريعة و ُه ْم يقتل ُعون نصوصها من سياقاتها ْقلعا ا وي ْفصل ُون ظاه َر معانيها عنْ َج َواهر مقاصد َها ج ْهال ف َيرْ تكبون أفضع الجرائم. أليس هناك أوضح دليال على درجة ال َه َوان التي أصبحت عليه أحوالنا نتيحة عدم اكتراث ذاك الصنف من "ال ُمتفقهين" ممن ك ُك ْنه علوم الشريعة ،وال ْ جو َهر الدين .وإذا ما تأملنا حقيقة ال ُم ْق َتحمين علينا بيوتنا ومقاهينا في وسائل التشهير المُضلة ال ُي ْدر ُ أقرب إلى الوصف الذي خص به أحد قدامى الحُكماء أمثالهم بقوله :وال يكون إال وال ُمشعة بالتفاهات في أنحاء المعمور نجدهم َ ْ " ُمقال في العلم ،بريئا من البالغة ،جريئا على الخطابة بإيراد ما حفظه منْ ق ْول منْ ق ْبلهُ ،يطيل الكالم مع ذلك فيخ ُرج عن الغرض المقصود" .فلنتساءل ،وهل ما زالت بالدنا فعال مُسْ َتمْ سكة بمذهب مالك ،حتى ْ نط َمئن على مستقبل أهلنا؟
ال تخفى مكانة المساجد الجامعة في ديارنا باعتبارها بيوت هللا الطاهرة من اآلثام ،حيث يسْ عى المؤمن للتقرب من خالقه بالعبادة ومعرفة الحق سبحانه وتزكية النفوس وتهذيب األخالق وتنظيف الهندام .وباسْ تثناء واجب الدعوة ألمير المؤمنين في خطبة الجمعة ل َما فيه صالح المسلمين كافة ،ال يصح ألي كان :داع ا ية أو جماع َة أو حز ابا أو هيئة تحويل المساجد من ُدور ع ْلم صلون للذ ْكر واالقتباس من نور هللا وح ْك َمته إلى ُبوق لترويج األخبار والمقاالت أو ُسوق للتكسب والتجارات. وعبادة َيؤُ مها ال ُم َ ونظرا لجاللة مكانتها منارا ا لعامة الناس وخاصتهم في بوادي المغرب وحواضرهم ،فقد ظلت على مدار نحو ثالثة عشر قرنا ونيف تحت إ ْش َراف أدرى الناس بأمور دينهم وأفقههم في شؤون دنياهم .وال يخفى كيف دأ َب ْ ت جامعة القرويين العتيقة وغيرها من مدارس العلم بالبوادي والمدن على توفير أمْ َتن تكوين ألئمة المساجد ال ُمسْ َت ْظهرين لكتاب هللا وأحاديث نبيه وأقوال العلماء ،المُلمين بمختلف العلوم الموروثة عن قرون عز العطاء الحضاري .وقد ظل خطبا ُء المغرب إلى عهد قريب ُيحررون ُخ َط َبهم ببليغ الكالم و ْف َق مقتضيات األحكام الجارية في البلد ،وهم األقرب إلى نبض الناس واحتياجاتهم الروحية. وما دامت المساجد مفتوحة الجتماع ماليين الناس على مدار الساعات ،ف ُسرْ عان ما دب دبيب المُتحركين من مختلف األلوان لنشر مذاهبهم والترويج لمقاالتهم وتسْ ريب بياناتهم ،بما ُيؤذنُ بتحويل بيوت هللا إلى منابر للمُسوسين وال ُم َت َسوقين بالدين وطالب الحُ كم ،في أردأ انكسار للقيم في حضارتنا .وشيئا فشيئا ُ شلت ق ُد َرات األئمة وتشع َبت بهم المزالق في سياق اختالالت العصْ ر الم ُْدلَهمة .ويعز علينا أن نسْ تمع إلى الخطباء وقد ا ْن َخ َرطوا في اإلعالم ب َب ْدء الدخول المدرسي أوفي َح َمالت الوقاية من حوادث الس ْير أو ْبدء التسجيل في اللوائح االنتخابية أو ماعدا ذلك مما يسْ تجد من قرارات في مكاتب الوزارات ،وكأن المصالح الحكومية واألحزاب ال تكفيها وسائل اإلعالم المكتوب والمرئي والمسموع التي تلتهم الماليير من ميزانيات الدولة ،فتسْ ْ تكم ُل بأئمة المساجد المغلوبين على أمْ رهم عمل أجهزتها اإلدارية الرديئة. غرض شخصي أو حزبي أو وزاري وبين ماليين الباعة ال ُم َت َحلقين وأي فرق بين َمنْ يت َسوق بكالم هللا وفي بيوته لتحقيق َ َ بالمتسولين وذوي العاهات ال ُمسْ تدرين بأبواب المساجد يبيعون عطورا مكية وكتيبات بئيسة وأسطوانات ردئية ،وقد اختلطوا َ صلين ،ومألوا الفضاء ضجيجا ْ وازدَ َحموا في المداخل ُم َعرْ قلين حركتهم في أبلغ منظر كاشف عن عورة المسلمين لعطف ال ُم َ في يوم جمعتهم العظيم .ومن البديهيات المتعارفة خالل القرون الماضية أن من واجب ال ُمحتسب بمدن المغرب "منع المساكين من التسول أيام الجمع بالمسجد الجامع بما يزعج المصلين" .أليس في تاريخنا ما يقدم أبسط مثال على درجة استخفاف هؤالء الموكول إليهم تنظيم شؤون مساجدنا براحة المواطنين ،ونحن في عز القرن الواحد والعشرين؟ إن المغرب والمغاربة ليسوا بحاجة لخطاب ديني وال لدعوات متهافتة ،بل هم في أمس الحاجة إلى تحصين عقيدتهم و ْ الذود على مذهبهم المالكي واسْ ترْ َجاع مكانته ن ْب َرا اسا ألحكامهم .وال يتحقق ذلك بمجرد إخضاع المساجد لسلطة إدارية أو مراقبة عمل األئمة ،وإنما برفع مستوى الفقهاء واسترْ َجاع مكانتهم بين الناس ،إلى حد بلوغ ُن َخبهم العلمية درجة االجتهاد في استنباط العصْ ر ال ُم َت َسارعة .ولن يكون ذلك مُتاحا ا باالسْ تكانة لذاك الصنف الذي األحكام ،بما َي ْكفل لشرائعنا القُ ْد َر َة على ُمواكبة تطورات َ وس َمه أحد قدامى علماء المغرب بـ"الفُساق ال ُم ْنتسبين إلى الفقه ،الالبسين جلود الضأن على قلوب السباع ،ال ُمزينين ألهل َ الشر شرهم ،الناصرين ل ُهم على ف ْسقهم". واضح أن المؤسسات الدينية والمجالس الموسومة َجدَ ال بالعلمية التي وُ كل لها هذا الشأن هشة إلى حد مُخيف .أما النخب صب لها الدجالون ضة وقد ا ْن َت َ الفكرية فغير قادرة حتى على إقناع نفسها فباألحْ رى أن ُت َواجه األمواج ال ُمتالط َمة بالخطابات ال ُم ْغر َ في وسائل التشهير ال ُم َع ْولمة .إنها أبعد ما تكون عن هداية أجيال المتعلمين في المدارس والشباب ال ُم َت َهورين في دروب الغواية وأعجز عن ضمان التوازن الروحي للتائهين من أهلنا في ديار الغربة .وها َنحْ نُ ُن َعاينُ ـ مشلولي األطراف ـ كيف يتم اختراق نسيج َنا الفكري ب َما ُيهدد في الصميم كيان المغرب الحضاري. ال أدري هل ما زالت بين أيدينا القُ ْد َرة على إعادة ر ْبط حاضرنا باألصول واسْ ت ْد َراك تسعة قرون مضت من التخلف عن ماضينا وخمسة قرون من التخلف عن مواكبة عصْ رنا .وأتصور أن أول خطوة على هذا السبيل تكون بإنشاء جامعة راقية ال ُمسْ توى ـ مضمونا وتأطيرا ومنهجا ـ لتكوين الفقهاء في علوم الشرائع واألحكام و ْف َق مذهب مالك واألئمة خطباء المساجد وال ُم َتكلمين المتناظرين مع أقرانهم من أهل المذاهب والديانات األخرى في قضايا الدين والخلق والوجود .وال سبيل لنا للخروج من ال ُمسْ تنقع الرهيب الذي أحاط بأهلنا إال االسْ ت ْم َساك بق َبس العلم ،ففي نوره ما َي ْف َت ُح طرُ ق الن َجاة. الدكتور أحمد الطاهري
أستاذ التعليم العالي ،مختص في تاريخ المغرب واألندلس
إشبيلية يوم الثالثاء 12ماي 1122