CAP. 9 وهل لدَيْنا مِنْ فكرٍ حتى نَسْتَنِير ARTICULO HISTORIADOR DR. AHMED TAHIRI 21 05 2013

Page 1

‫حاضر المغرب واختالالت األمن الثقافي‬

‫الحلقة التاسعة‪:‬‬

‫وهل َ ِ‬ ‫ستَِنير !!‬ ‫لد ْينا م ْن فكر حتى َن ْ‬ ‫‪ahmedtahiri31@gmail.com‬‬

‫يكاد القارئ منا ال َيعْ ث ُر على أثر لفكر ض ْمن أكوام األوراق التي سُودَ ت بالرسم العربي في ُمختلف حقول المعرفة على مدار‬ ‫صادف تحت القشور إال‬ ‫القرن العشرين إلى اليوم‪ .‬وإذا ما‬ ‫فع َم ْدنا للنهل من َمعينه‪ ،‬ال ُن َ‬ ‫حصل أن ا ْن َبهْرنا بمقال أو اسْ َتهْوانا قل ٌم َ‬ ‫َ‬ ‫بالحرْ ف من أفكار اآلخرين‪ .‬وباستثناء بعض االجتهادات النادرة‪ ،‬ليس‬ ‫نقوال ونقوال ونقوال ‪ ..‬من كتابات السلف أو‬ ‫اقتباسات َ‬ ‫َ‬ ‫هناك ما يُمكن نعته بين النقول بـ "الفكر العربي المعاصر"‪.‬‬ ‫فما أن َبحت أصوات رواد اإلصْ الح ُمنبهة على أهمية مد الجسور إلى ينابيع فكر السلف الزاخ َرة بأصناف العلوم واآلداب‬ ‫والفنون أ َمالا في ْ‬ ‫تجد لدى الغير من‬ ‫ص َبت مآذن الدعاة ُم َت َعلقة بآخر ما اسْ َ‬ ‫عودة الدفئ إلى شرايين حضارتنا الهامدَ ة‪ ،‬حتى ا ْن َت َ‬ ‫مناهج العلوم‪ْ ،‬بد اءا بالشك الديكارتي والف ُنوم ُنولوجيا وانتهاء بالمادية الجدلية والتحاليل البنيوية‪ ،‬إلى ما عدا ذلك من المدارس‬ ‫الفكرية‪.‬‬ ‫وبين العجز عن استيعاب األصول ال ُمتراك َمة على مدار قرون من العطاء الفكري بدار اإلسالم وعدم القدرة على تطويع‬ ‫المناهج الحديثة المُتسارعة الوتيرة لدى األمم‪ ،‬ظل ما يُعْ َرف تجاوُ زا لدى أشباه ال ُعلماء بـ"الفكر العربي المعاصر" ُم َجرد‬ ‫تطبيقات ابتدائية في حقول معرفية‪ .‬وبقدرما ظلت مشاريعهم المفتوحة ُم َت َناسلة بأ ْك َوام من األوراق ال ُحبْلى بالقراءات والخطابات‬ ‫والتصورات والمواقف‪ ،‬لم تتمخض بزبدة علم ُت ْمس ُك رمق الناس‪.‬‬ ‫والتحليالت‬ ‫َ‬ ‫ُفر َغة وبلغ االجْ ترار َمدَ اه وتساقطت المآذن ال ُم ْن اتص َبة الواحدة تلو‬ ‫الدو َران‪ ،‬إن لم يكن ال َه َذ َيان في حلقات م َ‬ ‫وبعدما استفحل َ‬ ‫األخرى‪ ،‬من الطبيعي أن تضج أصوات زعانف األسواق بالدعوة إلى "تطبيق الشريعة" يقينا من عقول ُم ْن َفعلة بسُهولة الخالص‬ ‫صبوا "علماء" في ديارنا و"جهلة العامة" وكالهما ُمسْ َتكينٌ لـ"تطبيق" فكر‬ ‫الورْ طة الكبرى‪ .‬وال فرْ ق بين مشاهير َمنْ ان َت َ‬ ‫من َ‬ ‫شرائع جاهزة‪ ،‬وما ط َم َحت ه َم ُمهم ي ْو اما إلى االجتهاد في استنباط حُ ْكم أو َبذل ال ُعمُر الكت َساب ع ْلم‪.‬‬ ‫اآلخرين أو‬ ‫َ‬ ‫ومما يبعث على األسى أن تنقطع السبل بتلك النخبة العالية القدر من المغاربة الحاذقين في أدق مجاالت العلم واالختراع‬ ‫واالبتكار وقد ظلوا يهيمون على وجوههم طلبا لرغيفهم في البلدان وتوظيف معارفهم في مختبرات اآلخرين وذكائهم في مراكز‬ ‫البحوث لدى األمم فيظلون أ َبدَ الدهر َنك َرة في أوطانهم‪ .‬و َيعز علينا أن نشاهد أمثال ذاك الوجه ال ُمشرق ُنورا ا لفتاة مغربية تحظى‬ ‫بتقدير شعوب العالم على ْ‬ ‫موهبتها ال ُمك َت َس َبة باالجتهاد في تجويد القرآن‪ ،‬وال يلتفت إليها مواطنو بلدها ال ُم ْن َبهرين بالتفاهات‪ .‬وال‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫تخفى االستقباالت الحافلة لذاك الصنف الرديئ من ال َم ْو ُسومين تجاوزا "بالفنانين والفنانات" ممن ال ُيتقنُ نظ اما وال يُحْ سن فنا‬ ‫واست ْهواء األذواق الفاسدة وبال َه َرج‬ ‫األرداف الثارة الغرائز ْ‬ ‫من فنون الغناء والسماع والرقص واالنكسار في ْستعينُ بالكشف عن ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال َمارج السْ ترْ عاء انتباه ْ‬ ‫الغوغاء‪ .‬ويبدو أن ُن ْك َران كل ما يتصل بالعلم والحكمة واآلداب والفنون والتشهير بكل ما يلتصق بال َه َرج‬ ‫وال َم َرج والعرْ َبدة قد أصبح في ظل اختالالت العصر "سياسة" رائجة األرباح‪.‬‬ ‫ضارها إلى مقام‬ ‫وبصرف النظر عما يتعلق بمختلف الحقول من معارف نظرية وع َملية أو علوم إنسانية التي ُنرْ جئ استحْ َ‬ ‫بحسْ رة وأناة ـ وهل بين هؤالء ال ُم ْن َتصبين اليوم للنظر في الشرائع بديارنا َمنْ هو ُم َت َفق ٌه بعلوم‬ ‫آخر‪َ ،‬يحق لل َمرْ ء أن يتساءل ـ وإن َ‬ ‫صدَ ر عن ُعلماء األمة‬ ‫الدين وعال ٌم بأمور ال ُد ْن َيا؟ ومعلوم أنه ال يصح أن َن ْن َعت أحدهم بـ"الفقيه ال ُمقلد" إن لم يكن على د َرا َية بما َ‬ ‫من تفاصيل في مختلف أبواب الفقه ودقائق ما ُ‬ ‫طر َح على "الفقهاء ال ُمشاورين" من قضايا على مدار تاريخ اإلسالم‪ ،‬ضمن‬ ‫المذهب الذي ُي َقل ُده‪ .‬أما أن ن ْن َعت أحدهم بـ"الفقيه ال ُم ْجتهد" الذي ب َم ْق ُدوره اسْ تنباط األحكام واسْ تصْ دار الفتاوى فتلك درجة عالية‬ ‫وجه اإلطالق" التي قلما تجتمع شروطها في ْ‬ ‫شخص أو في زمان‪.‬‬ ‫األعلى في العلم على ْ‬ ‫بل " ْ‬ ‫وغني عن البيان أن أهل المغرب قد ظلوا منذ ْبدء ع َملهم بشرائع اإلسالم على "مذهب أهل االستقامة واالقتداء" بالسلف‬ ‫موصوال بـ"مذهب مالك"‪ ،‬ما َ‬ ‫ض َياته‪ ،‬وقد ألح حكماء أجدادنا على وصاية األبناء واألحفاد‬ ‫تخلوا في ماضيهم عن االسْ ترْ َشاد ب ُمق َت َ‬ ‫االست ْمساك به نجاة" من ال ُغلو الف ْكري والتشرْ ذم الطائفي‪ .‬ولنتأمل مالحظة أحد مشاهير فقهائنا إذ صرح أن " ُجل من يعتقد‬ ‫أن " ْ‬


‫مذهبا من مذاهب الفقهاء فإن فيهم الجهمي والرافضي والخارجي إال مذهب مالك فإني ما سمعت أن أحدا تقلد مذهبه قد قال‬ ‫بشيء من البدع"‪.‬‬ ‫وإذا كان المغاربة قد ظلوا على َمر العصور ُمسْ تمْ سكين بعصا النجاة‪ ،‬فال يصح أن نسْ َمح لزعانف عصرنا أن ُي َكسروه‬ ‫اسْ ت ْخفافا باألصول واغترابا عن الذات أو طيْشا في متاهات الج ْهل‪ .‬وال يخفى عن عاقل كيف يعْ َمد ال ُم َت َحكمون في مصير األمم‬ ‫إلى تحريك الخيوط في الدهاليز ال ُمظل َمة ل َلع َبث بتماسك كياناتنا بجر العامة ال ُمنقادين لـ"فقهاء السوء الناعقين" إلى التناحر على‬ ‫الح َسنين علي بن أبي طالب كرم هللا وجهه بليغا في وصف أمثال هؤالء بكونهم‪" :‬همج رعاع‪ ،‬أتبا ُع‬ ‫أسس طائفية‪ .‬وك ْم كان أبو َ‬ ‫يستضي ُئوا بنور العلم"‪ .‬وها هي نتائج التشرْ ذم الطائفي المُرْ ع َبة ُت ْغرق أهلنا ُسنة وشيعة في‬ ‫كل ناعق‪ ،‬يميلون مع ُكل ريح‪ ،‬لم ْ‬ ‫ُمسْ تنقع ال َم ْخ َرج منه‪ْ ،‬بدءا بلبنان فالعراق واليمن وسورية والبحرين ‪ ..‬ويبدو أن ما ُيسْ تحضر في مطابخ األمم ل ُمسْ تقبلنا مما‬ ‫خفي عن أنظارنا أعْ َظم‪.‬‬ ‫ويتعجب ال ُم َتعلم منا‪ ،‬بل ومنْ حق العامي أيضا أن يتساءل‪ :‬وكيف أصْ َبحت األحكام وقضايا التشريع والفتوى ـ على جاللة‬ ‫اللسان بالهذر؟‬ ‫ْقدر َها وخطورة شأنها ـ حقال مفتوحا يخوض فيه كل من هب ودب من الجهلة األغمار والزعانف ال ُمسْ َتطيلي َ‬ ‫ويزخر التراث الفقهي المغربي بآالف الدرر الكفيلة بوقف باب الخوض في كثير مما يحلو ل ُمتصيدي الفُ َرص نشره في وسائل‬ ‫التشهير الم َُع ْولَ َمة‪ .‬وأكتفي في هذا المقام باإلحالة ـ على سبيل المثال ـ على شاب مُسْ لم وقف فيما مضى أمام القاضي "فذكر أنه‬ ‫فامتحنه فوجده ُمصرا على ما قال"؛ وبدال عن "تطبيق" ما ُي َسميه زعانف عصرنا بـ"الشريعة"‪ ،‬فإن الفقهاء‬ ‫بدا له عن اإلسالم‪ْ ،‬‬ ‫ال ُمفتون بمذهب مالك أشاروا على القاضي بالقول‪" :‬فإن أصر خليت ُه في سخط هللا عز وجل‪ ،‬فليس بأول منْ أغواه الشيطان"‪.‬‬ ‫ص ْنع خياله في تحريك ماليين الخلق في مظاهرات‬ ‫ويتبادر إلى الذهن أيضا كيف نجح كاتبٌ مغمور بواسطة قصة بئيسة من ُ‬ ‫صب كبار "أئمتنا" السْ تصدار الفتاوى بإهدار الدم ووقفت شعوب ودول على خط المواجهة‬ ‫عارمة هزت معمور األرض فا ْن َت َ‬ ‫ُيحركها االعتقا ُد ـ ج ْهال باألصول ـ أنها قد هبت لنصرة اإلسالم‪ .‬وتتكرر الحوادث ال ُم َماثلة بخربشات كاريكاتورية رديئة ت ْب َحث‬ ‫عن أضواء كاشفة في وسائل التشهير العالمية‪ ،‬فتتحرك الدهْ ماء بالماليين في بالد المسلمين ُمعْ تقدة أنها قد هبت لنصرة‬ ‫المصطفى األمين؛ وحاشى أن يكون سيد البرية بحاجة إلى هؤالء ال ُم ْندَ فعين وراء الناعقين في أبواق ُم ْش َر َعة بالضجيج العالي‬ ‫ت َمولها بسخاء أيادي ال ُم َنافقين اآلثمة‪.‬‬ ‫الجهل بآيات هللا الساطعة وب ُق ْد َرة ال ُم َت َحركين في الظالم على تسميم األجواء‬ ‫إنها بالونات اختبار لدرجات الضالل في ش َعاب َ‬ ‫بديارنا والدفع بأهلنا إلى شفا الهاوية‪ .‬وما أشبه هذا المصير الذي آلت إليه أحوالنا بال َوصْ ف الذي خص به أحد قدامى الحكماء‬ ‫انهيار حضارتنا بقوله‪" :‬اشتد البالء بأهل اإلسالم‪ ،‬خاصة فيما ب ْين ُهم‪ ،‬فإن الكل على الكل‪ ،‬في القريب والبعيد وال ُمولى عليهم‪،‬‬ ‫بعض ن ْقمة‪ ،‬بفساد دينهم و ُد ْنيا ُهم وع ْيشهم"‪.‬‬ ‫ضهم على ْ‬ ‫ضهم لب ْعض ف ْتنة‪ ،‬وبع ُ‬ ‫بع ُ‬ ‫وفي تواريخنا الزاهرة ما ُيقدم ألف مثال ومثال على مواقف الفقهاء ال ُم ْست ْرشدين بكتاب هللا وقد وس َعت رحمته كل شيء‪،‬‬ ‫المتأملين ُس َن َن نبيه المصطفى األمين الذي كان على ُخلُق عظيم‪ ،‬ال ُمسْ ْتوعبين آثار العلماء من سلف األمة في معالجة ما قد‬ ‫صادفُونه من مسائل تستدعي الفتوى‪ .‬أليس في دار الحديث بالعاصمة والهيئة ال ُمشرفة على الشؤون الدينية و ُ‬ ‫ش َعب الدراسات‬ ‫ُي َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ص َبة في طول البالد وعرْ ضها من المختصين في الشرائع واألحكام من ُيذكر‬ ‫اإلسالمية بجامعات المملكة والمجالس العلمية ال ُمن َت َ‬ ‫الغوغاء بالحدود الفاصلة بين االستقامة والضالل؟ أليس من واجبهم وهم يتقاضون ُم َرتبات ُعليا من خزينة الدولة تذكير الناس‬ ‫وإرشاد الحُ كام بمواقف مشاهير فقهاء المالكية في مثل هذه الحاالت‪ ،‬ونحْ ن على مذهبهم؟ أليس في تاريخنا من نوازل األحكام ما‬ ‫ُيقدم الن ْبراس لالسْ تنارة بأعمال السلف في مثل هذه الحاالت؟‬ ‫فكم ُهم ال ُمسْ َتخفين بالنبي (ص) من أهل الديانات األخرى الذين اندفعوا فيما مضى وهم في كنف دار اإلسالم للسب والقذف‬ ‫في حقه على َمسْ َمع ومرآى من عامة المسلمين و ُه ْم في عز دولتهم؟ ْأك َتفي في هذا السياق بذ ْكر حادث االستخفاف بالنبي (ص)‬ ‫في حضرة أحد فضالء القضاة وقد أتاه "رجل من النصارى ُم ْستقتال لنفسه فوبخه القاضي وقال له‪ :‬و ْيلك منْ ْ‬ ‫أغراك بنفسه أن‬ ‫ان بين كبار‬ ‫تقتلها بال ذنب‪ "!..‬و َبدَ ال عن إصدار الحُ كم بإعدامه‪ ،‬قلل من شأنه واسْ تهزأ من جُ رْ أته على نفسه ُمكتفيا بنصْ حه‪ .‬فشت َ‬ ‫فقهاء المغرب ال ُمجتهدين في علم الشرائع واألحكام وهؤالء الزعانف ال ُمطالبين بتطبيق الشريعة و ُه ْم يقتل ُعون نصوصها من‬ ‫سياقاتها ْقلعا ا وي ْفصل ُون ظاه َر معانيها عنْ َج َواهر مقاصد َها ج ْهال ف َيرْ تكبون أفضع الجرائم‪.‬‬ ‫أليس هناك أوضح دليال على درجة ال َه َوان التي أصبحت عليه أحوالنا نتيحة عدم اكتراث ذاك الصنف من "ال ُمتفقهين" ممن‬ ‫ك ُك ْنه علوم الشريعة‪ ،‬وال ْ‬ ‫جو َهر الدين‪ .‬وإذا ما تأملنا حقيقة ال ُم ْق َتحمين علينا بيوتنا ومقاهينا في وسائل التشهير المُضلة‬ ‫ال ُي ْدر ُ‬ ‫أقرب إلى الوصف الذي خص به أحد قدامى الحُكماء أمثالهم بقوله‪ :‬وال يكون إال‬ ‫وال ُمشعة بالتفاهات في أنحاء المعمور نجدهم َ‬ ‫ْ‬ ‫" ُمقال في العلم‪ ،‬بريئا من البالغة‪ ،‬جريئا على الخطابة بإيراد ما حفظه منْ ق ْول منْ ق ْبله‪ُ ،‬يطيل الكالم مع ذلك فيخ ُرج عن‬ ‫الغرض المقصود"‪ .‬فلنتساءل‪ ،‬وهل ما زالت بالدنا فعال مُسْ َتمْ سكة بمذهب مالك‪ ،‬حتى ْ‬ ‫نط َمئن على مستقبل أهلنا؟‬


‫ال تخفى مكانة المساجد الجامعة في ديارنا باعتبارها بيوت هللا الطاهرة من اآلثام‪ ،‬حيث يسْ عى المؤمن للتقرب من خالقه‬ ‫بالعبادة ومعرفة الحق سبحانه وتزكية النفوس وتهذيب األخالق وتنظيف الهندام‪ .‬وباسْ تثناء واجب الدعوة ألمير المؤمنين في‬ ‫خطبة الجمعة ل َما فيه صالح المسلمين كافة‪ ،‬ال يصح ألي كان‪ :‬داع ا‬ ‫ية أو جماع َة أو حز ابا أو هيئة تحويل المساجد من ُدور ع ْلم‬ ‫صلون للذ ْكر واالقتباس من نور هللا وح ْك َمته إلى ُبوق لترويج األخبار والمقاالت أو ُسوق للتكسب والتجارات‪.‬‬ ‫وعبادة َيؤُ مها ال ُم َ‬ ‫ونظرا لجاللة مكانتها منارا ا لعامة الناس وخاصتهم في بوادي المغرب وحواضرهم‪ ،‬فقد ظلت على مدار نحو ثالثة عشر‬ ‫قرنا ونيف تحت إ ْش َراف أدرى الناس بأمور دينهم وأفقههم في شؤون دنياهم‪ .‬وال يخفى كيف دأ َب ْ‬ ‫ت جامعة القرويين العتيقة‬ ‫وغيرها من مدارس العلم بالبوادي والمدن على توفير أمْ َتن تكوين ألئمة المساجد ال ُمسْ َت ْظهرين لكتاب هللا وأحاديث نبيه وأقوال‬ ‫العلماء‪ ،‬المُلمين بمختلف العلوم الموروثة عن قرون عز العطاء الحضاري‪ .‬وقد ظل خطبا ُء المغرب إلى عهد قريب ُيحررون‬ ‫ُخ َط َبهم ببليغ الكالم و ْف َق مقتضيات األحكام الجارية في البلد‪ ،‬وهم األقرب إلى نبض الناس واحتياجاتهم الروحية‪.‬‬ ‫وما دامت المساجد مفتوحة الجتماع ماليين الناس على مدار الساعات‪ ،‬ف ُسرْ عان ما دب دبيب المُتحركين من مختلف األلوان‬ ‫لنشر مذاهبهم والترويج لمقاالتهم وتسْ ريب بياناتهم‪ ،‬بما ُيؤذنُ بتحويل بيوت هللا إلى منابر للمُسوسين وال ُم َت َسوقين بالدين وطالب‬ ‫الحُ كم‪ ،‬في أردأ انكسار للقيم في حضارتنا‪ .‬وشيئا فشيئا ُ‬ ‫شلت ق ُد َرات األئمة وتشع َبت بهم المزالق في سياق اختالالت العصْ ر‬ ‫الم ُْدلَهمة‪ .‬ويعز علينا أن نسْ تمع إلى الخطباء وقد ا ْن َخ َرطوا في اإلعالم ب َب ْدء الدخول المدرسي أوفي َح َمالت الوقاية من حوادث‬ ‫الس ْير أو ْبدء التسجيل في اللوائح االنتخابية أو ماعدا ذلك مما يسْ تجد من قرارات في مكاتب الوزارات‪ ،‬وكأن المصالح الحكومية‬ ‫واألحزاب ال تكفيها وسائل اإلعالم المكتوب والمرئي والمسموع التي تلتهم الماليير من ميزانيات الدولة‪ ،‬فتسْ ْ‬ ‫تكم ُل بأئمة‬ ‫المساجد المغلوبين على أمْ رهم عمل أجهزتها اإلدارية الرديئة‪.‬‬ ‫غرض شخصي أو حزبي أو وزاري وبين ماليين الباعة ال ُم َت َحلقين‬ ‫وأي فرق بين َمنْ يت َسوق بكالم هللا وفي بيوته لتحقيق َ‬ ‫َ‬ ‫بالمتسولين وذوي العاهات ال ُمسْ تدرين‬ ‫بأبواب المساجد يبيعون عطورا مكية وكتيبات بئيسة وأسطوانات ردئية‪ ،‬وقد اختلطوا‬ ‫َ‬ ‫صلين‪ ،‬ومألوا الفضاء ضجيجا ْ‬ ‫وازدَ َحموا في المداخل ُم َعرْ قلين حركتهم في أبلغ منظر كاشف عن عورة المسلمين‬ ‫لعطف ال ُم َ‬ ‫في يوم جمعتهم العظيم‪ .‬ومن البديهيات المتعارفة خالل القرون الماضية أن من واجب ال ُمحتسب بمدن المغرب "منع المساكين‬ ‫من التسول أيام الجمع بالمسجد الجامع بما يزعج المصلين"‪ .‬أليس في تاريخنا ما يقدم أبسط مثال على درجة استخفاف هؤالء‬ ‫الموكول إليهم تنظيم شؤون مساجدنا براحة المواطنين‪ ،‬ونحن في عز القرن الواحد والعشرين؟‬ ‫إن المغرب والمغاربة ليسوا بحاجة لخطاب ديني وال لدعوات متهافتة‪ ،‬بل هم في أمس الحاجة إلى تحصين عقيدتهم و ْ‬ ‫الذود‬ ‫على مذهبهم المالكي واسْ ترْ َجاع مكانته ن ْب َرا اسا ألحكامهم‪ .‬وال يتحقق ذلك بمجرد إخضاع المساجد لسلطة إدارية أو مراقبة عمل‬ ‫األئمة‪ ،‬وإنما برفع مستوى الفقهاء واسترْ َجاع مكانتهم بين الناس‪ ،‬إلى حد بلوغ ُن َخبهم العلمية درجة االجتهاد في استنباط‬ ‫العصْ ر ال ُم َت َسارعة‪ .‬ولن يكون ذلك مُتاحا ا باالسْ تكانة لذاك الصنف الذي‬ ‫األحكام‪ ،‬بما َي ْكفل لشرائعنا القُ ْد َر َة على ُمواكبة تطورات َ‬ ‫وس َمه أحد قدامى علماء المغرب بـ"الفُساق ال ُم ْنتسبين إلى الفقه‪ ،‬الالبسين جلود الضأن على قلوب السباع‪ ،‬ال ُمزينين ألهل‬ ‫َ‬ ‫الشر شرهم‪ ،‬الناصرين ل ُهم على ف ْسقهم"‪.‬‬ ‫واضح أن المؤسسات الدينية والمجالس الموسومة َجدَ ال بالعلمية التي وُ كل لها هذا الشأن هشة إلى حد مُخيف‪ .‬أما النخب‬ ‫صب لها الدجالون‬ ‫ضة وقد ا ْن َت َ‬ ‫الفكرية فغير قادرة حتى على إقناع نفسها فباألحْ رى أن ُت َواجه األمواج ال ُمتالط َمة بالخطابات ال ُم ْغر َ‬ ‫في وسائل التشهير ال ُم َع ْولمة‪ .‬إنها أبعد ما تكون عن هداية أجيال المتعلمين في المدارس والشباب ال ُم َت َهورين في دروب الغواية‬ ‫وأعجز عن ضمان التوازن الروحي للتائهين من أهلنا في ديار الغربة‪ .‬وها َنحْ نُ ُن َعاينُ ـ مشلولي األطراف ـ كيف يتم اختراق‬ ‫نسيج َنا الفكري ب َما ُيهدد في الصميم كيان المغرب الحضاري‪.‬‬ ‫ال أدري هل ما زالت بين أيدينا القُ ْد َرة على إعادة ر ْبط حاضرنا باألصول واسْ ت ْد َراك تسعة قرون مضت من التخلف عن‬ ‫ماضينا وخمسة قرون من التخلف عن مواكبة عصْ رنا‪ .‬وأتصور أن أول خطوة على هذا السبيل تكون بإنشاء جامعة راقية‬ ‫ال ُمسْ توى ـ مضمونا وتأطيرا ومنهجا ـ لتكوين الفقهاء في علوم الشرائع واألحكام و ْف َق مذهب مالك واألئمة خطباء المساجد‬ ‫وال ُم َتكلمين المتناظرين مع أقرانهم من أهل المذاهب والديانات األخرى في قضايا الدين والخلق والوجود‪ .‬وال سبيل لنا للخروج‬ ‫من ال ُمسْ تنقع الرهيب الذي أحاط بأهلنا إال االسْ ت ْم َساك بق َبس العلم‪ ،‬ففي نوره ما َي ْف َت ُح طرُ ق الن َجاة‪.‬‬ ‫الدكتور أحمد الطاهري‬

‫أستاذ التعليم العالي‪ ،‬مختص في تاريخ المغرب واألندلس‬

‫إشبيلية يوم الثالثاء ‪ 12‬ماي ‪1122‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.