Cap xi dr ahmed tahiri

Page 1

‫حاضر املغرب واختالالت األمن الثقايف‬ ‫احللقة احلداي ة عشر‬

‫النظام السياسي ببالد املغرب‬ ‫بني األحكام السلطانية والتماثيل احلزبية‬ ‫الدكتور أحمد الطاهري‬ ‫أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب واألندلس‬ ‫‪ahmedtahiri31@gmail.com‬‬

‫إذا كان للمغرب أن يتباهى بين األمم فبتجربته السياسية الفريدة التي بلغت أيام ِع ّز عطائه الحضاري أرقى درجات‬ ‫االنتظام في سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية‪ ،‬منفصلة بعضها عن بعض في ِخطط قائمة ومتكاملة في إطار‬ ‫نظام الجماعة‪ .‬وهو النظام الذي لم تفلح أرقى األمم الحديثة في مالمسة ما تحقق في إطاره من مكتسبات على‬ ‫مستوى كرامة اإلنسان وحماية الحيوان؛ وبخصوص حرياته الطبيعية في االجتماع والتفكير والتعبير‪ ،‬وقدراته‬ ‫على صيانة الخيرات وال ِنّعم كافة‪ :‬ما ًء وهوا ًء ونباتاً‪ ..‬إلخ‪.‬‬ ‫وال يخفى كيف ظل التشريع واستنباط األحكام وصياغة القوانين وضبط مقاساتها وتقدير فعاليتها في مواكبة أد ّق‬ ‫تفاصيل الحياة االقتصادية من فالحة وتجارة وصنائع ومعامالت ونقل ومواصالت برية وبحرية‪ ..‬إلى ما عدا ذلك‬ ‫من أدق تفاصيل الحياة الدنيوية‪ ،‬بِيد أعلم علماء المغرب بشؤون االقتصاد وجواهر المعادن وخواص الطبيعة‪،‬‬ ‫وأحكم حكمائِه في قضايا الفكر والفلسفة وطبائع الخلق والوجود‪ .‬وقد تفانوا ـ بما أوتوا من علم وحكمة ـ في‬ ‫مسايرة أعقد تشابكات الحياة المجتمعية‪ ،‬بما فيه صالح الناس كافة في دنياهم‪ ،‬وحسن مآلهم في أخراهم‪.‬‬ ‫ومن المعلوم أن األحكام والقوانين الجارية في البلد قد انتظمت منذ وقت مبكر فيما أصبح معروفا ً في تاريخ‬ ‫المغرب بـ"خطة الفتيا" التي ظلت مجاال متميّزا ال ي ِلجه إال النخبة العالية القدر التي ع ِرفت بادئ ذي بدء بـ"أهل‬ ‫جتمعين ـ وقد نالوا درجة االجتهاد ـ ضمن "مذهب مالك" بن أنس إمام‬ ‫االستقامة واالقتداء" قبل أن يند ِرجوا م ِ‬ ‫المدينة‪ .‬ويتعلق األمر بالشكل التاريخي األول للنظام التشريعي‪ ،‬وقد تهيكل في منظومة قائمة‪ ،‬لم تتوقف ـ على‬ ‫مدار قرون ـ عن استِصدار األحكام حسب الحاجة في أدق تفاصيل الحياة اليومية‪ ،‬وأخطر القضايا السياسية وأعقد‬ ‫المتطلبات المجتمعية‪.‬‬ ‫وهو النظام التشريعي المغربي الذي لم ينل أدنى اهتمام من طرف مؤرخينا المغت ِربين عن ذواتهم‪ ،‬النّا ِكرين‬ ‫ِلمنجزات أجدادهم‪ ،‬المحت ِقرين لتاريخ بلدهم‪ ،‬المبهورين بأشعة اآلخرين‪ .‬وال يخفى كيف تناسلت بعدئذ النظم‬ ‫والهيئات التشريعية لدى األمم الحديثة النشأة بأروبا وأمريكا وغيرهما‪ ،‬بدءا ً بالجمعية العمومية الفرنسية ومجالس‬ ‫اللوردات والشيوخ والكونغرس والدّوما والكورتيس والبرلمانات الحزبية‪ ،‬إلى ما عدا ذلك من التجارب‬ ‫المعاصرة‪ ،‬ت ِلجها النُّخب المتح ِ ّكمة في دواليب اإلدارة والسياسة واالقتصاد‪.‬‬ ‫ولم يكن النظام القضائي المغربي أقل تألقا في إشاعة العدل وحماية حقوق األفراد والجماعات واالقتِصاص‬ ‫للضعفاء من جبابرة الظلمة وقطع ي ِد اللصوص الناهبين لخيرات البلد وحماية دماء وأمالك وأعراض الناس‬ ‫ساق واستِهتار سقط العوام‪ .‬وال يخفى كيف أصبحت األحكام‬ ‫وصيانة النواميس واألخالق العامة من تجاوزات الف ّ‬ ‫ً‬ ‫الجارية في البلد بواسطة ترسانة من الخطط القضائية العامة والمختصة في أدق المسائل والقضايا تاجا على‬ ‫رؤوس الناس كافة‪ ،‬وقد انحنت أعناقهم جميعا لمقتضياتها‪ :‬خاصة وعامة‪ ،‬ح ّكاما ً وأمراء ومحكومين‪ ،‬ال يتجرأ‬ ‫أحد على النيل من سلطانها‪.‬‬ ‫وما زالت كتب التراجم والطبقات تع ّج بالتفاصيل الكاشفة عن ِسير عظماء قضاة المغرب الذين برهنوا على‬ ‫مستويات غير معهودة من الحزم والشجاعة واإلقدام‪ ،‬ال يثنيهم جبّار وال متك ِبّر على نفاذ األحكام‪ ،‬وال يستهويهم‬ ‫ورفعة شأن ونكران ذات قل نظيرها في تاريخ اإلنسانية‪ ،‬بما في‬ ‫طمع وال ينال منهم حد سيف وال ابتزاز‪ ،‬في ِه ّمة ِ‬


‫ذلك أرقى المجتمعات المنسوبة في الديموقراطيات المعاصرة‪ .‬وهي التفاصيل الداعية لالعتزاز التي ال نجد لها‬ ‫أدنى أثر في كليات الحقوق ومعاهد الدراسات القضائية بالمغرب ومجالس حقوق اإلنسان المغتربة عن الذات‪،‬‬ ‫المنقطعة عن األصول‪ ،‬المنبهرة بدروس اآلخرين‪.‬‬ ‫ولم تتوقف التجربة السياسية المغربية على مدار العصور القديمة وطوال أربعة عشر قرنا ً من التاريخ الوسيط‬ ‫والحديث عن اختبار مختلف النظم التنفيذية‪ ،‬بدءا ً بالممالك األمازيغية واإلمارة على البلدان واإلمامة والخالفة‬ ‫والسلطنة والملك‪ .‬وهي التجارب التي أثمرت رصيدا حضاريا ال ينضب معينه وخلّدت مآثر أئمة وخلفاء وملوك‬ ‫وسالطين‪ ،‬ورفعت هامات أمراء ووزراء‪ ،‬ووشحت صدر قادة جند ورجاالت حكم ِم ّمن ظلت أعمالهم محفوظة‬ ‫في ذاكرة األمة ووجدانها‪ ،‬وإن لم تنل كل ما تستحقة من اهتمام المؤرخين المغاربة وقد انزلقت أقالمهم في دروب‬ ‫اآلخرين‪.‬‬ ‫هملوا حقوق غير المسلمين من اليهود‬ ‫وما كان أهل المغرب وهم في ِع ّز دولتهم وقمة ر ِقيّهم الحضاري لي ِ‬ ‫الملل‪ ،‬وقد تهيكلت سلطاتهم التشريعية والقضائية والتنفيذية ِوفق أحكامهم‪ ،‬في نظم‬ ‫والنصارى وغيرهم من أرباب ِ‬ ‫بحرين في شرائع دينهم‬ ‫موازية يشرف عليها علماء اليهود المتم ِ ّكنين من الدراسات التلمودية وأحبارهم المست ِ‬ ‫وقِماسة النصارى ومشايخهم ورهبانهم‪ ،‬كل في مجال سلطانه ضمن دار اإلسالم الجامعة‪ ،‬في تجربة تاريخية‬ ‫فريدة‪ ،‬ال نجد لها مثيال في ماضي البشرية وال في أرقى الديموقراطيات المعاصرة‪.‬‬ ‫وكان قد سبق لعلماء المغرب وحكمائِه وألخص أهل الحل والعقد من كبار فقهاء المالكية أن أصدروا باإلجماع‬ ‫قرارهم التاريخي سنة ‪ 422‬هجرية (‪1031‬م) "بإلغاء نظام الخالفة ببالد المغرب لعدم الشاكلة"‪ ،‬إذ لم يعد ذاك‬ ‫الشكل التنظيمي الموروث عن قرون العز الماضية منا ِسبا لألوضاع المستجدة بديارنا خالل التاريخ المذكور‪ .‬وال‬ ‫يخفى كيف عمد المغاربة حينئذ إلى تأصيل نظام السلطنة البديل موصول الجذور بإمارة المؤمنين التي تجلت‬ ‫على الدوام مكانتها الرفيعة في حماية مغرب دار اإلسالم ورفع شأن أهله والحفاظ على الثوابت واألصول‪.‬‬ ‫أما وقد انهارت بنا الصروح المتقادمة على وقع المد الصليبي وحركات االستعمار وتكالبت علينا مطامع األمم‬ ‫ِّ‬ ‫وناخرة أجسادنا المنهكة من طول‬ ‫مقطعة أوصالنا المهترئة‬ ‫الصاعدة ونالت ِمنّا جحافل جيوشهم المد ّججة‬ ‫ِ‬ ‫الركب وننطوي على ذواتنا في الزوايا المظلمة‪ .‬أما وقد تأ ّهبت شعوب‬ ‫المقاومة‪ ،‬فمن الطبيعي أن نتخلف عن ّ‬ ‫العالم من حولنا‪ :‬أتراكا وفرسا وروسا وصينيين وهنودا‪ ..‬وغيرهم لقطع المسافات ومعالجة االختالالت لاللتحاق‬ ‫يص ّح للمغاربة أن يظلوا مغتربين عن ذواتهم وكأنهم مقطوعين من شجرة‬ ‫ّ‬ ‫بالركب متنافسين في مدارج العال‪ ،‬فال ِ‬ ‫ال أصول لهم وبدون أفق‪ .‬ومن الشائن لصورتهم أن يظلوا منقادين للفردانيات المتم ِ ّرغة على هامش‬ ‫الحريات الجسدية والدعوات النسوانية‬ ‫الديموقراطيات المسيحية وقد استحب زعانِفنا المفرنسين السير في ركاب‬ ‫ّ‬ ‫المعروضة للبيع في أسواق النخاسة االنتخابية الملحقة باألحزاب الليبيرالية‪ ،‬وقد استهواهم تحويل المغرب إلى‬ ‫مصرانة زائدة متعلقة من قفاها بذيول مجتمعات الغرب‪.‬‬ ‫والغالب على الظن أن الديموقراطية التمثيلية ذات األصول الغربية قد دخلت الفصل األخير من تاريخها الذي‬ ‫يسبق االنقراض ويب ِ ّ‬ ‫شر بالتجديد‪ ،‬إن لم يكن بالتغيير‪ .‬وال يخفى كيف أمسك العلماء والمفكرون وعموم األخيار‬ ‫عن السير في ركابها ت ّ‬ ‫قززا ً من اع ِوجاج مسالكها وفساد هياكلها وعقم عطاءاتها وعدم مسايرتها لمتطلبات العصر‬ ‫المتسارعة‪ .‬كما تآكلت قواعدها المجتمعية وتراجعت فعاليتها في تدبير شؤون األوطان المرتهنة في سياساتها‬ ‫وماليتها وخيراتها بطغيان الدكتاتورية الربوية الكابسة بأجهزتها الكليانية على أنفاس شعوب العالم‪ .‬وها هي‬ ‫تسرب جحافل الفاشلين والمتسلقين وأنصاف المتعلمين‬ ‫اللوائح ونظم االقتراع الحزبية قد فسحت المجال ل ُّ‬ ‫والماكرين واللصوص إلى مواقع المسؤولية فيلتهمون األموال العامة بشراهة منقطعة النظير؛ ال سيما في البلدان‬ ‫الحديثة العهد بالديموقراطية‪ ،‬المتأرجحة في مضامينها المجتمعية وحزمها القضائي ورقيها الثقافي‪ ،‬من شاكلة‬ ‫إسبانيا والبرتغال واليونان حيث انفجرت فضائح الطبقة السياسية بمختلف تشكيالتها الحزبية‪.‬‬ ‫أما طوائف المسلمين المقيمة في الغرب فليس لهم من صوت في منظوماته الديموقراطية إال من خالل جمعيات‬ ‫محلية ومجالس "إسالموية" مركزية‪ ،‬وقد انتشرت كالفطير يرأسها الجهلة وزعانف المتسلقين ِم ّمن ال يفقه ِعلما‬ ‫وال يتقنن عمال وال يح ِسن حديثا‪ ،‬معظمهم حديث العهد بالهجرة السرية وقد اشتغل جزارا أو ح ّماال أو بائعا متجوال‬ ‫أو ما إلى ذلك‪ .‬وال يخفى كيف يتم انتخاب هذا الصنف في ظل الفراغ الواسع والجهل العارم على رأس اللجان أو‬ ‫المجالس اإلسالموية الوطنية والجهوية فيتقربون إلى الساسة ومؤسسات الدولة المضيفة‪ ،‬وقد بلغت بهم الجرأة‬


‫لحقون أضرارا ً بالغة بأهلهم ودينهم وبلدانهم األصلية ويسبِّبون في‬ ‫والوقاحة حدّ الحديث باسم اإلسالم والمسلمين في ِ‬ ‫إثارة مخاوف الراغبين في التعرف عن حضارة اإلسالم‪ .‬وبواسطة هؤالء يتِ ّم تزيين واجهة الديموقرطية الغربية‬ ‫فيحصلون على مكافآت شخصية مقابل المتاجرة بدينهم وأبناء جلدتهم فيما أصبح معروفا بحوار الحضارات‪،‬‬ ‫األردأ من نوعها في التاريخ‪.‬‬ ‫وشتان بين هذه الحوارات المزعومة يمارسها المتس ِيّسون مع المتأسلمين في فنادق خمسة نجوم‪ ،‬وقد أمضوا زهرة‬ ‫أعمارهم في التنافس على المقاعد متس ِلّقين في المراتب بواسطة أصوات قواعدهم الحزبية‪ ،‬وبين تجربة بالد‬ ‫المغرب التاريخية في الحوار بين األمم الذي مارسه علماء اإلسالم مع أخص علماء اليهود والنصارى وأنجب‬ ‫حكمائهم الذين أفنوا أعمارهم في طلب العلوم‪ .‬وحتى تكتمل عناصر اللعبة‪ ،‬يعمدون إلى تلك الشرذمة المنتفعة من‬ ‫صبونهم كراكيز في مسرحية هزلية‪ .‬وها هم بعض الجامعيين المغمورين ال‬ ‫كسالى المتم ِعّشين باسم اإلسالم ين ِ ّ‬ ‫مرغوا مراكزهم العلمية في وحل‬ ‫يأنفون عن تقديم غطاء أكاديمي لمسرحية "حوار الحضارات" الرديئة وقد ّ‬ ‫أحزاب سياسية أجنبية منخورة الهياكل بفعل استِشراء الفساد‪.‬‬ ‫ويتعجب المرء من تدفق الجوائز والمساعدات العربية بسخاء من دول مشرقية لجمعيات ومؤسسات وشخصيات‬ ‫أجنبية ال تتوانى عن تشويه حضارة دار اإلسالم وتزييف جوهر الفكر اإلسالمي وسماحة الرسالة المحمدية‬ ‫وكونية اللغة العربية‪ .‬ويبدو أن ثمة عقدة نقص مركبة لدى المانحين العرب تجاه كل ما هو أجنبي‪ ،‬يكفي لمخاطبِهم‬ ‫أن يزعم ـ متن ِ ّكرا ـ أن قلبه ولسانه عربيين أو أنه قد أسلم‪ .‬وإذا كانت الدول الغربية تتابع عن كثب كيفية صرف‬ ‫كل درهم مما تقدمه من ِمنح ومساعدات للعرب والمسلمين في إطار التعاون الدولي وتراقب كيف يتم بواسطتهم‬ ‫نشر لغات وثقافات شعوبها وترويج سياسات وتوجهات بلدانها بهدف محو ما تبقى متماسكا من أصولنا‪ ،‬فال يولي‬ ‫المانحون العرب أدنى اهتمام بدرجات األذى الذي يلحقه المستفيدون من مساعداتهم بحضارتنا وصورة بلداننا؛ إذ‬ ‫يكفيهم التقاط صور تذكارية وتسجيل األمداح ألشخاصهم على لسان األجانب لترويجها في وسائل التواصل‬ ‫افتخارا ً‪ .‬أما أن يلت ِفتوا ـ على ثرائهم الفاحش ـ إلى المشاريع العلمية الرزينة والمبادرات الفكرية األصيلة‬ ‫والمجهودات الدؤوبة للحفاظ على التراث والحضارة العربيين التي تتفانى القلة القليلة من األدباء والمفكرين‬ ‫والنخب العلمية إلنجازها بعيدا عن األضواء والضوضاء اإلعالميين فذلك مما ال يندرج ضمن اهتمام هؤالء‪.‬‬ ‫يص ّح لهم‬ ‫وإذا كان من واجب أهل المغرب أن يحافِظوا على المسافات الضرورية في تعاملهم مع أ ِشعّة الغرب فال ِ‬ ‫فرق زعانِفهم الحديثي العهد باإلسالم دينهم شيعا ً‪ :‬ففريق منقاد‬ ‫أيضا أن يغت ِرفوا من مستنقعات الشرق النّتِنة‪ ،‬وقد ّ‬ ‫لفقهاء القيل والقال الذين اختزلوا‪ ،‬أربعة عشر قرنا من العطاء التشريعي‪ ،‬في تطبيق األبجديات بإقامة الحد في‬ ‫الزنا وشرب الخمر وقطع يد السارق وهدم أضرحة العلماء والصلحاء؛ وفريق آخر منساق في ِركاب المس ّ ِودة وقد‬ ‫استلّوا سيوفهم وأعادوا فتح جراح غائرة عمرها أربعة عشر قرنا‪ ،‬بعدما أجهشوا بالعويل والبكاء واستغرقوا في‬ ‫جلد الذات‪.‬‬ ‫وال يتو ّرع هؤالء وأولئك عن قلب اآليات وتأويل كتاب هللا وسنن نبيه ﷺ على هواهم‪ ،‬وقد أصبحوا أ ِشدّاء على‬ ‫بعضهم البعض‪ ،‬رحماء مع المنافقين والجبابرة المتح ِ ّكمين في رقاب األمم وقد اتخذ ِكالهما أولياءه من دون هللا‬ ‫يم ِ ّكنونهم من أرزاق بلدانهم وخيرات أوطانهم وذخائر متاحفهم‪ ،‬مستجيبين لنصائح مخابراتهم‪ ،‬منقادين إلمالءات‬ ‫أسيادهم بكبريات البلدان بأقصى الشرق والغرب‪ .‬وها هي أحزاب هللا وأنصار هللا وآيات هللا وجند الخالفة‬ ‫والمب ّ‬ ‫شِرين بالعدالة واإلحسان‪ ،‬وما إلى ذلك ِم ّما دأبوا على تأويل معانيه في تفسير ف ّج أللفاظ مقتبسة من القرآن‬ ‫الكريم‪.‬‬ ‫وإذا كان البعض قد ظل متو ِ ّجسا في انتظار القومة‪ ،‬فال يخفى كيف انخرط معظمهم في سفك الدماء وتخريب‬ ‫الديار وقطع الطرق وتفجير المساجد في قلب دار اإلسالم وأطرافها‪ ،‬وهم أعجز الناس عن مباشرة إصالح أو‬ ‫إيتاء زكاة أو إنجاز بناء أو إحياء تراث‪ .‬وحاشى أن يكون هللا تعالى وهو الغني القدير بحاجة إلى أحزاب سياسية‬ ‫وفِرق عسكرية وآيات مجسمة في صورة رجال معت ِ ّمين وملتحين‪ ،‬ونحن جميعا من خلقه‪ :‬فقراء لرحمته‪،‬‬ ‫محتاجين لنصرته‪ ،‬طامعين في مغفرته‪ ،‬سبحانه وتعالى ع ّما يسطرون‪.‬‬ ‫وإذا كانت تجارب الحزب الوحيد والقائد األوحد وجبهات التحرير واألحزاب االستقاللية والقومية قد امتسخت في‬ ‫البالد العربية الموروثة عن االمبراطورية العثمانية في شكل جمهوريات وراثية وثكنات عسكرية ومحميات‬ ‫عشائرية‪ ،‬فمن الطبيعي أن ينتهي طغيان الحكام بها ونِفاق نخبِها وخنوع شعوبها إلى هذه الكوابيس المز ِعجة التي‬


‫انزلقت في أزقة بدون منافذ سياسية فما كان إال أن انفجرت أرحامها براكينا ً وتم ّزقت أركانها أشال ًء فسالت فيها‬ ‫الدماء ِوديانا ً فأصبحت بدون أفق في المستقبل المنظور‪.‬‬ ‫وها هي بلدان شقيقة ما كادت تزيح عن أعناقها نير الطغيان حتى نصبت صناديق اقتراع بإيعاز من المتالعبين‬ ‫بمستقبل األمم باسم ديموقراطية مفصلة نظريا على مقاس المجتمعات المصنعة‪ .‬وبدال عن تشغيل الفكر وترتيب‬ ‫األمور‪ ،‬سارع المتح ِ ّركون إلى دعوة ماليين الفقراء والمعوزين واألميين‪ ،‬المحتاجين لكسرة خبز وسقف بيت‬ ‫وقنينة غاز ليدلوا برأيهم‪ ،‬فتحركت الطوابير إلى مكاتب التصويت مرة ومرتين وثالثة‪ ..‬في منظر يدعو إلى‬ ‫الشفقة؛ فما كان إال أن انفتح سعير الفتنة في سياق ديموقراطية مقتلعة من حقول اآلخرين‪ .‬ولم يتج ّ‬ ‫شم أحد من‬ ‫الزعانف المنت ِسبين ِعلمانِيين أو إخوانا ً أو ِرفاقا ً ِم ّمن مألوا الدنيا ضجيجا في هذه الوسائل المسمومة‪ ،‬أو من النخب‬ ‫الفكرية والقيادات السياسية والشخصيات الدينية‪ ،‬عناء تهيئ الشروط لغرسها ـ بعد فترة انتقالية ـ في أرض بور‬ ‫والرد إال أن عاد الموكب من جديد إلى الثكنات في محاولة‬ ‫قاحلة بفعل طول أم ِد الطغيان‪ .‬فما كان بعد األخذ‬ ‫ّ‬ ‫لالمساك باللجام أمال في البقاء‪.‬‬ ‫متخرجة من جامعة القرويين العتيقة ومتعلمين في المدارس‬ ‫أما وقد احتفظ المغرب بحبل واصل مع تاريخه ونخب‬ ‫ِّ‬ ‫األجنبية‪ ،‬فقد أفلح غداة إعالن االستقالل في إرساء نوع من التعددية الحزبية المتداخلة‪ ،‬وإن في نسخة من الدرجة‬ ‫الثانية مقتبسة عن النموذج الليبيرالي الفرنسي‪ .‬وهي التجربة التي ظلت تراوح مكانها طوال نحو نصف قرن من‬ ‫الزمن في شكل ما ع ِرف في القاموس السياسي المغربي خالل القرن الماضي بـ"اللعبة الديموقراطية"‪ .‬وقد ظلت‬ ‫زاحمها مزاعم وزعامات عدم االنحياز‪،‬‬ ‫الطمها األمواج العاتية من المعسكرين الشرقي والغربي وت ِ‬ ‫السفينة ت ِ‬ ‫وكادت تنزلق تارة في اتجاه الحزب الوحيد وطورا في اتجاه ثكنات العسكر إلى أن رست بمشيئة الرحمن ومهارة‬ ‫بر األمان‪ ،‬بعدما دفع المغاربة ثمنا غاليا من ثروات بلدهم وحريات جهاتهم وأرواح‬ ‫السلطان وثبات العقالء في ّ‬ ‫فوتوا أكثر من فرصة للتنمية‪.‬‬ ‫أبنائهم‪ ،‬وقد ّ‬ ‫فما عسى أن يفعله المغاربة اآلن وقد استنفذت تعدديتهم الحزبية المذكورة دورها التاريخي كامال وغدت بفعل‬ ‫طول الدوران في حلقة مفرغة عاجزة عن الفعل السياسي‪ ،‬متخلفة إلى ح ِدّ مخيف عن مواكبة التطور الدستوري‬ ‫ومشاريع التنمية‪ .‬وها هي التماثيل الحزبية قد امتسخت أمام المواطنين كافة وانفضح خطابها الخشبي ووعودها‬ ‫فصح المغاربة بعدما ن ِعموا بحرية التعبير في عهد ملكهم المقدام عن تطلعهم إلى تجديد الحقل السياسي‬ ‫الكاذبة‪ .‬ألم ي ِ‬ ‫ّ‬ ‫وقد عزفوا بنسب عالية عن صناديق االقتراع؟ أليس في ذلك أبلغ درس لذاك الصنف الرديئ من المتح ِزبين‬ ‫الحديثي العهد بالنعمة الذين ظلوا طوال عهدهم يأكلون باليمين وباليسار يبيعون األوهام ويحتلون المواقع الغير‬ ‫المستحقّة في الحكومات وكبريات المؤسسات والبرلمانات والمجالس المنتخبة ويست ِد ّرون األموال الفاحشة من‬ ‫خزينة الدولة ورشاوى الراشين ويضمنون أجورا عليا مدى الحياة‪ ،‬وهم الفاشلون في ِمهنِهم العاجزون بفعل‬ ‫ضعف تكوينهم وفساد سرائرهم عن تقديم أبسط خدمة للوطن والمواطنين؟‬ ‫وها هم بعدما تربعوا على كراسي المسؤولية ال يترددون عن نخر البلد وإدخال مدنه في عشوائية عمرانية‪،‬‬ ‫وأسواقه في فوضى عارمة‪ ،‬وبواديه في فراغات قاتلة‪ ،‬والغش في كل ما يسند إليهم بناؤه من المنشآت والبنيات‪،‬‬ ‫إلى ما عدا ذلك من سوء تدبير الشأن العام على مرأى من المواطنين الذين يط ِلعون بصفة يومية على أدق دقائق‬ ‫يحن الوقت بعد لصياغة ميثاق وطني تلتزم فيه األحزاب‬ ‫عزفون عن التوجه إلى صناديق االقتراع‪ .‬ألم ِ‬ ‫فضائحهم في ِ‬ ‫كافة بحل نفسها بنفسها إن هي عجزت مجتمعة عن تحقيق ‪ % 50‬من نسبة المشاركة في االنتخابات العامة؟‬ ‫فقد تنفتح الفرص أمام المغرب وأطره الفكرية وال ِقلّة القليلة من نخ ِبه السياسية الفاعلة ـ بعد فترة نقاهة انتقالية ـ‬ ‫إلعادة بناء األحزاب على أسس سليمة حتى تتمكن من استرجاع ثقة المواطنين‪ .‬وقد يكون مفتاح ذلك تجديد ثورة‬ ‫الملك والشعب في مواجهة هذه الجائحة الحزبوية المستفحلة التي ال تتوانى عن تسويس البالد وإفساد العباد‪،‬‬ ‫ضرة‪ ،‬وقد وقفت بتماثليها مشدودة إلى الوراء في محاولة ماكرة‬ ‫مشوهة الوجه السياسي للمغرب بين األمم المتح ِ ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الرقِي‪.‬‬ ‫ج‬ ‫لتحصين‬ ‫حورها المظ ِلمة وإغالق منافذ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫الدكتور أحمد الطاهري‬ ‫أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب واألندلس‬ ‫تطوان في ‪ 23‬يوليوز ‪2015‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.