حاضر املغرب واختالالت األمن الثقايف احللقة احلداي ة عشر
النظام السياسي ببالد املغرب بني األحكام السلطانية والتماثيل احلزبية الدكتور أحمد الطاهري أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب واألندلس ahmedtahiri31@gmail.com
إذا كان للمغرب أن يتباهى بين األمم فبتجربته السياسية الفريدة التي بلغت أيام ِع ّز عطائه الحضاري أرقى درجات االنتظام في سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية ،منفصلة بعضها عن بعض في ِخطط قائمة ومتكاملة في إطار نظام الجماعة .وهو النظام الذي لم تفلح أرقى األمم الحديثة في مالمسة ما تحقق في إطاره من مكتسبات على مستوى كرامة اإلنسان وحماية الحيوان؛ وبخصوص حرياته الطبيعية في االجتماع والتفكير والتعبير ،وقدراته على صيانة الخيرات وال ِنّعم كافة :ما ًء وهوا ًء ونباتاً ..إلخ. وال يخفى كيف ظل التشريع واستنباط األحكام وصياغة القوانين وضبط مقاساتها وتقدير فعاليتها في مواكبة أد ّق تفاصيل الحياة االقتصادية من فالحة وتجارة وصنائع ومعامالت ونقل ومواصالت برية وبحرية ..إلى ما عدا ذلك من أدق تفاصيل الحياة الدنيوية ،بِيد أعلم علماء المغرب بشؤون االقتصاد وجواهر المعادن وخواص الطبيعة، وأحكم حكمائِه في قضايا الفكر والفلسفة وطبائع الخلق والوجود .وقد تفانوا ـ بما أوتوا من علم وحكمة ـ في مسايرة أعقد تشابكات الحياة المجتمعية ،بما فيه صالح الناس كافة في دنياهم ،وحسن مآلهم في أخراهم. ومن المعلوم أن األحكام والقوانين الجارية في البلد قد انتظمت منذ وقت مبكر فيما أصبح معروفا ً في تاريخ المغرب بـ"خطة الفتيا" التي ظلت مجاال متميّزا ال ي ِلجه إال النخبة العالية القدر التي ع ِرفت بادئ ذي بدء بـ"أهل جتمعين ـ وقد نالوا درجة االجتهاد ـ ضمن "مذهب مالك" بن أنس إمام االستقامة واالقتداء" قبل أن يند ِرجوا م ِ المدينة .ويتعلق األمر بالشكل التاريخي األول للنظام التشريعي ،وقد تهيكل في منظومة قائمة ،لم تتوقف ـ على مدار قرون ـ عن استِصدار األحكام حسب الحاجة في أدق تفاصيل الحياة اليومية ،وأخطر القضايا السياسية وأعقد المتطلبات المجتمعية. وهو النظام التشريعي المغربي الذي لم ينل أدنى اهتمام من طرف مؤرخينا المغت ِربين عن ذواتهم ،النّا ِكرين ِلمنجزات أجدادهم ،المحت ِقرين لتاريخ بلدهم ،المبهورين بأشعة اآلخرين .وال يخفى كيف تناسلت بعدئذ النظم والهيئات التشريعية لدى األمم الحديثة النشأة بأروبا وأمريكا وغيرهما ،بدءا ً بالجمعية العمومية الفرنسية ومجالس اللوردات والشيوخ والكونغرس والدّوما والكورتيس والبرلمانات الحزبية ،إلى ما عدا ذلك من التجارب المعاصرة ،ت ِلجها النُّخب المتح ِ ّكمة في دواليب اإلدارة والسياسة واالقتصاد. ولم يكن النظام القضائي المغربي أقل تألقا في إشاعة العدل وحماية حقوق األفراد والجماعات واالقتِصاص للضعفاء من جبابرة الظلمة وقطع ي ِد اللصوص الناهبين لخيرات البلد وحماية دماء وأمالك وأعراض الناس ساق واستِهتار سقط العوام .وال يخفى كيف أصبحت األحكام وصيانة النواميس واألخالق العامة من تجاوزات الف ّ ً الجارية في البلد بواسطة ترسانة من الخطط القضائية العامة والمختصة في أدق المسائل والقضايا تاجا على رؤوس الناس كافة ،وقد انحنت أعناقهم جميعا لمقتضياتها :خاصة وعامة ،ح ّكاما ً وأمراء ومحكومين ،ال يتجرأ أحد على النيل من سلطانها. وما زالت كتب التراجم والطبقات تع ّج بالتفاصيل الكاشفة عن ِسير عظماء قضاة المغرب الذين برهنوا على مستويات غير معهودة من الحزم والشجاعة واإلقدام ،ال يثنيهم جبّار وال متك ِبّر على نفاذ األحكام ،وال يستهويهم ورفعة شأن ونكران ذات قل نظيرها في تاريخ اإلنسانية ،بما في طمع وال ينال منهم حد سيف وال ابتزاز ،في ِه ّمة ِ
ذلك أرقى المجتمعات المنسوبة في الديموقراطيات المعاصرة .وهي التفاصيل الداعية لالعتزاز التي ال نجد لها أدنى أثر في كليات الحقوق ومعاهد الدراسات القضائية بالمغرب ومجالس حقوق اإلنسان المغتربة عن الذات، المنقطعة عن األصول ،المنبهرة بدروس اآلخرين. ولم تتوقف التجربة السياسية المغربية على مدار العصور القديمة وطوال أربعة عشر قرنا ً من التاريخ الوسيط والحديث عن اختبار مختلف النظم التنفيذية ،بدءا ً بالممالك األمازيغية واإلمارة على البلدان واإلمامة والخالفة والسلطنة والملك .وهي التجارب التي أثمرت رصيدا حضاريا ال ينضب معينه وخلّدت مآثر أئمة وخلفاء وملوك وسالطين ،ورفعت هامات أمراء ووزراء ،ووشحت صدر قادة جند ورجاالت حكم ِم ّمن ظلت أعمالهم محفوظة في ذاكرة األمة ووجدانها ،وإن لم تنل كل ما تستحقة من اهتمام المؤرخين المغاربة وقد انزلقت أقالمهم في دروب اآلخرين. هملوا حقوق غير المسلمين من اليهود وما كان أهل المغرب وهم في ِع ّز دولتهم وقمة ر ِقيّهم الحضاري لي ِ الملل ،وقد تهيكلت سلطاتهم التشريعية والقضائية والتنفيذية ِوفق أحكامهم ،في نظم والنصارى وغيرهم من أرباب ِ بحرين في شرائع دينهم موازية يشرف عليها علماء اليهود المتم ِ ّكنين من الدراسات التلمودية وأحبارهم المست ِ وقِماسة النصارى ومشايخهم ورهبانهم ،كل في مجال سلطانه ضمن دار اإلسالم الجامعة ،في تجربة تاريخية فريدة ،ال نجد لها مثيال في ماضي البشرية وال في أرقى الديموقراطيات المعاصرة. وكان قد سبق لعلماء المغرب وحكمائِه وألخص أهل الحل والعقد من كبار فقهاء المالكية أن أصدروا باإلجماع قرارهم التاريخي سنة 422هجرية (1031م) "بإلغاء نظام الخالفة ببالد المغرب لعدم الشاكلة" ،إذ لم يعد ذاك الشكل التنظيمي الموروث عن قرون العز الماضية منا ِسبا لألوضاع المستجدة بديارنا خالل التاريخ المذكور .وال يخفى كيف عمد المغاربة حينئذ إلى تأصيل نظام السلطنة البديل موصول الجذور بإمارة المؤمنين التي تجلت على الدوام مكانتها الرفيعة في حماية مغرب دار اإلسالم ورفع شأن أهله والحفاظ على الثوابت واألصول. أما وقد انهارت بنا الصروح المتقادمة على وقع المد الصليبي وحركات االستعمار وتكالبت علينا مطامع األمم ِّ وناخرة أجسادنا المنهكة من طول مقطعة أوصالنا المهترئة الصاعدة ونالت ِمنّا جحافل جيوشهم المد ّججة ِ الركب وننطوي على ذواتنا في الزوايا المظلمة .أما وقد تأ ّهبت شعوب المقاومة ،فمن الطبيعي أن نتخلف عن ّ العالم من حولنا :أتراكا وفرسا وروسا وصينيين وهنودا ..وغيرهم لقطع المسافات ومعالجة االختالالت لاللتحاق يص ّح للمغاربة أن يظلوا مغتربين عن ذواتهم وكأنهم مقطوعين من شجرة ّ بالركب متنافسين في مدارج العال ،فال ِ ال أصول لهم وبدون أفق .ومن الشائن لصورتهم أن يظلوا منقادين للفردانيات المتم ِ ّرغة على هامش الحريات الجسدية والدعوات النسوانية الديموقراطيات المسيحية وقد استحب زعانِفنا المفرنسين السير في ركاب ّ المعروضة للبيع في أسواق النخاسة االنتخابية الملحقة باألحزاب الليبيرالية ،وقد استهواهم تحويل المغرب إلى مصرانة زائدة متعلقة من قفاها بذيول مجتمعات الغرب. والغالب على الظن أن الديموقراطية التمثيلية ذات األصول الغربية قد دخلت الفصل األخير من تاريخها الذي يسبق االنقراض ويب ِ ّ شر بالتجديد ،إن لم يكن بالتغيير .وال يخفى كيف أمسك العلماء والمفكرون وعموم األخيار عن السير في ركابها ت ّ قززا ً من اع ِوجاج مسالكها وفساد هياكلها وعقم عطاءاتها وعدم مسايرتها لمتطلبات العصر المتسارعة .كما تآكلت قواعدها المجتمعية وتراجعت فعاليتها في تدبير شؤون األوطان المرتهنة في سياساتها وماليتها وخيراتها بطغيان الدكتاتورية الربوية الكابسة بأجهزتها الكليانية على أنفاس شعوب العالم .وها هي تسرب جحافل الفاشلين والمتسلقين وأنصاف المتعلمين اللوائح ونظم االقتراع الحزبية قد فسحت المجال ل ُّ والماكرين واللصوص إلى مواقع المسؤولية فيلتهمون األموال العامة بشراهة منقطعة النظير؛ ال سيما في البلدان الحديثة العهد بالديموقراطية ،المتأرجحة في مضامينها المجتمعية وحزمها القضائي ورقيها الثقافي ،من شاكلة إسبانيا والبرتغال واليونان حيث انفجرت فضائح الطبقة السياسية بمختلف تشكيالتها الحزبية. أما طوائف المسلمين المقيمة في الغرب فليس لهم من صوت في منظوماته الديموقراطية إال من خالل جمعيات محلية ومجالس "إسالموية" مركزية ،وقد انتشرت كالفطير يرأسها الجهلة وزعانف المتسلقين ِم ّمن ال يفقه ِعلما وال يتقنن عمال وال يح ِسن حديثا ،معظمهم حديث العهد بالهجرة السرية وقد اشتغل جزارا أو ح ّماال أو بائعا متجوال أو ما إلى ذلك .وال يخفى كيف يتم انتخاب هذا الصنف في ظل الفراغ الواسع والجهل العارم على رأس اللجان أو المجالس اإلسالموية الوطنية والجهوية فيتقربون إلى الساسة ومؤسسات الدولة المضيفة ،وقد بلغت بهم الجرأة
لحقون أضرارا ً بالغة بأهلهم ودينهم وبلدانهم األصلية ويسبِّبون في والوقاحة حدّ الحديث باسم اإلسالم والمسلمين في ِ إثارة مخاوف الراغبين في التعرف عن حضارة اإلسالم .وبواسطة هؤالء يتِ ّم تزيين واجهة الديموقرطية الغربية فيحصلون على مكافآت شخصية مقابل المتاجرة بدينهم وأبناء جلدتهم فيما أصبح معروفا بحوار الحضارات، األردأ من نوعها في التاريخ. وشتان بين هذه الحوارات المزعومة يمارسها المتس ِيّسون مع المتأسلمين في فنادق خمسة نجوم ،وقد أمضوا زهرة أعمارهم في التنافس على المقاعد متس ِلّقين في المراتب بواسطة أصوات قواعدهم الحزبية ،وبين تجربة بالد المغرب التاريخية في الحوار بين األمم الذي مارسه علماء اإلسالم مع أخص علماء اليهود والنصارى وأنجب حكمائهم الذين أفنوا أعمارهم في طلب العلوم .وحتى تكتمل عناصر اللعبة ،يعمدون إلى تلك الشرذمة المنتفعة من صبونهم كراكيز في مسرحية هزلية .وها هم بعض الجامعيين المغمورين ال كسالى المتم ِعّشين باسم اإلسالم ين ِ ّ مرغوا مراكزهم العلمية في وحل يأنفون عن تقديم غطاء أكاديمي لمسرحية "حوار الحضارات" الرديئة وقد ّ أحزاب سياسية أجنبية منخورة الهياكل بفعل استِشراء الفساد. ويتعجب المرء من تدفق الجوائز والمساعدات العربية بسخاء من دول مشرقية لجمعيات ومؤسسات وشخصيات أجنبية ال تتوانى عن تشويه حضارة دار اإلسالم وتزييف جوهر الفكر اإلسالمي وسماحة الرسالة المحمدية وكونية اللغة العربية .ويبدو أن ثمة عقدة نقص مركبة لدى المانحين العرب تجاه كل ما هو أجنبي ،يكفي لمخاطبِهم أن يزعم ـ متن ِ ّكرا ـ أن قلبه ولسانه عربيين أو أنه قد أسلم .وإذا كانت الدول الغربية تتابع عن كثب كيفية صرف كل درهم مما تقدمه من ِمنح ومساعدات للعرب والمسلمين في إطار التعاون الدولي وتراقب كيف يتم بواسطتهم نشر لغات وثقافات شعوبها وترويج سياسات وتوجهات بلدانها بهدف محو ما تبقى متماسكا من أصولنا ،فال يولي المانحون العرب أدنى اهتمام بدرجات األذى الذي يلحقه المستفيدون من مساعداتهم بحضارتنا وصورة بلداننا؛ إذ يكفيهم التقاط صور تذكارية وتسجيل األمداح ألشخاصهم على لسان األجانب لترويجها في وسائل التواصل افتخارا ً .أما أن يلت ِفتوا ـ على ثرائهم الفاحش ـ إلى المشاريع العلمية الرزينة والمبادرات الفكرية األصيلة والمجهودات الدؤوبة للحفاظ على التراث والحضارة العربيين التي تتفانى القلة القليلة من األدباء والمفكرين والنخب العلمية إلنجازها بعيدا عن األضواء والضوضاء اإلعالميين فذلك مما ال يندرج ضمن اهتمام هؤالء. يص ّح لهم وإذا كان من واجب أهل المغرب أن يحافِظوا على المسافات الضرورية في تعاملهم مع أ ِشعّة الغرب فال ِ فرق زعانِفهم الحديثي العهد باإلسالم دينهم شيعا ً :ففريق منقاد أيضا أن يغت ِرفوا من مستنقعات الشرق النّتِنة ،وقد ّ لفقهاء القيل والقال الذين اختزلوا ،أربعة عشر قرنا من العطاء التشريعي ،في تطبيق األبجديات بإقامة الحد في الزنا وشرب الخمر وقطع يد السارق وهدم أضرحة العلماء والصلحاء؛ وفريق آخر منساق في ِركاب المس ّ ِودة وقد استلّوا سيوفهم وأعادوا فتح جراح غائرة عمرها أربعة عشر قرنا ،بعدما أجهشوا بالعويل والبكاء واستغرقوا في جلد الذات. وال يتو ّرع هؤالء وأولئك عن قلب اآليات وتأويل كتاب هللا وسنن نبيه ﷺ على هواهم ،وقد أصبحوا أ ِشدّاء على بعضهم البعض ،رحماء مع المنافقين والجبابرة المتح ِ ّكمين في رقاب األمم وقد اتخذ ِكالهما أولياءه من دون هللا يم ِ ّكنونهم من أرزاق بلدانهم وخيرات أوطانهم وذخائر متاحفهم ،مستجيبين لنصائح مخابراتهم ،منقادين إلمالءات أسيادهم بكبريات البلدان بأقصى الشرق والغرب .وها هي أحزاب هللا وأنصار هللا وآيات هللا وجند الخالفة والمب ّ شِرين بالعدالة واإلحسان ،وما إلى ذلك ِم ّما دأبوا على تأويل معانيه في تفسير ف ّج أللفاظ مقتبسة من القرآن الكريم. وإذا كان البعض قد ظل متو ِ ّجسا في انتظار القومة ،فال يخفى كيف انخرط معظمهم في سفك الدماء وتخريب الديار وقطع الطرق وتفجير المساجد في قلب دار اإلسالم وأطرافها ،وهم أعجز الناس عن مباشرة إصالح أو إيتاء زكاة أو إنجاز بناء أو إحياء تراث .وحاشى أن يكون هللا تعالى وهو الغني القدير بحاجة إلى أحزاب سياسية وفِرق عسكرية وآيات مجسمة في صورة رجال معت ِ ّمين وملتحين ،ونحن جميعا من خلقه :فقراء لرحمته، محتاجين لنصرته ،طامعين في مغفرته ،سبحانه وتعالى ع ّما يسطرون. وإذا كانت تجارب الحزب الوحيد والقائد األوحد وجبهات التحرير واألحزاب االستقاللية والقومية قد امتسخت في البالد العربية الموروثة عن االمبراطورية العثمانية في شكل جمهوريات وراثية وثكنات عسكرية ومحميات عشائرية ،فمن الطبيعي أن ينتهي طغيان الحكام بها ونِفاق نخبِها وخنوع شعوبها إلى هذه الكوابيس المز ِعجة التي
انزلقت في أزقة بدون منافذ سياسية فما كان إال أن انفجرت أرحامها براكينا ً وتم ّزقت أركانها أشال ًء فسالت فيها الدماء ِوديانا ً فأصبحت بدون أفق في المستقبل المنظور. وها هي بلدان شقيقة ما كادت تزيح عن أعناقها نير الطغيان حتى نصبت صناديق اقتراع بإيعاز من المتالعبين بمستقبل األمم باسم ديموقراطية مفصلة نظريا على مقاس المجتمعات المصنعة .وبدال عن تشغيل الفكر وترتيب األمور ،سارع المتح ِ ّركون إلى دعوة ماليين الفقراء والمعوزين واألميين ،المحتاجين لكسرة خبز وسقف بيت وقنينة غاز ليدلوا برأيهم ،فتحركت الطوابير إلى مكاتب التصويت مرة ومرتين وثالثة ..في منظر يدعو إلى الشفقة؛ فما كان إال أن انفتح سعير الفتنة في سياق ديموقراطية مقتلعة من حقول اآلخرين .ولم يتج ّ شم أحد من الزعانف المنت ِسبين ِعلمانِيين أو إخوانا ً أو ِرفاقا ً ِم ّمن مألوا الدنيا ضجيجا في هذه الوسائل المسمومة ،أو من النخب الفكرية والقيادات السياسية والشخصيات الدينية ،عناء تهيئ الشروط لغرسها ـ بعد فترة انتقالية ـ في أرض بور والرد إال أن عاد الموكب من جديد إلى الثكنات في محاولة قاحلة بفعل طول أم ِد الطغيان .فما كان بعد األخذ ّ لالمساك باللجام أمال في البقاء. متخرجة من جامعة القرويين العتيقة ومتعلمين في المدارس أما وقد احتفظ المغرب بحبل واصل مع تاريخه ونخب ِّ األجنبية ،فقد أفلح غداة إعالن االستقالل في إرساء نوع من التعددية الحزبية المتداخلة ،وإن في نسخة من الدرجة الثانية مقتبسة عن النموذج الليبيرالي الفرنسي .وهي التجربة التي ظلت تراوح مكانها طوال نحو نصف قرن من الزمن في شكل ما ع ِرف في القاموس السياسي المغربي خالل القرن الماضي بـ"اللعبة الديموقراطية" .وقد ظلت زاحمها مزاعم وزعامات عدم االنحياز، الطمها األمواج العاتية من المعسكرين الشرقي والغربي وت ِ السفينة ت ِ وكادت تنزلق تارة في اتجاه الحزب الوحيد وطورا في اتجاه ثكنات العسكر إلى أن رست بمشيئة الرحمن ومهارة بر األمان ،بعدما دفع المغاربة ثمنا غاليا من ثروات بلدهم وحريات جهاتهم وأرواح السلطان وثبات العقالء في ّ فوتوا أكثر من فرصة للتنمية. أبنائهم ،وقد ّ فما عسى أن يفعله المغاربة اآلن وقد استنفذت تعدديتهم الحزبية المذكورة دورها التاريخي كامال وغدت بفعل طول الدوران في حلقة مفرغة عاجزة عن الفعل السياسي ،متخلفة إلى ح ِدّ مخيف عن مواكبة التطور الدستوري ومشاريع التنمية .وها هي التماثيل الحزبية قد امتسخت أمام المواطنين كافة وانفضح خطابها الخشبي ووعودها فصح المغاربة بعدما ن ِعموا بحرية التعبير في عهد ملكهم المقدام عن تطلعهم إلى تجديد الحقل السياسي الكاذبة .ألم ي ِ ّ وقد عزفوا بنسب عالية عن صناديق االقتراع؟ أليس في ذلك أبلغ درس لذاك الصنف الرديئ من المتح ِزبين الحديثي العهد بالنعمة الذين ظلوا طوال عهدهم يأكلون باليمين وباليسار يبيعون األوهام ويحتلون المواقع الغير المستحقّة في الحكومات وكبريات المؤسسات والبرلمانات والمجالس المنتخبة ويست ِد ّرون األموال الفاحشة من خزينة الدولة ورشاوى الراشين ويضمنون أجورا عليا مدى الحياة ،وهم الفاشلون في ِمهنِهم العاجزون بفعل ضعف تكوينهم وفساد سرائرهم عن تقديم أبسط خدمة للوطن والمواطنين؟ وها هم بعدما تربعوا على كراسي المسؤولية ال يترددون عن نخر البلد وإدخال مدنه في عشوائية عمرانية، وأسواقه في فوضى عارمة ،وبواديه في فراغات قاتلة ،والغش في كل ما يسند إليهم بناؤه من المنشآت والبنيات، إلى ما عدا ذلك من سوء تدبير الشأن العام على مرأى من المواطنين الذين يط ِلعون بصفة يومية على أدق دقائق يحن الوقت بعد لصياغة ميثاق وطني تلتزم فيه األحزاب عزفون عن التوجه إلى صناديق االقتراع .ألم ِ فضائحهم في ِ كافة بحل نفسها بنفسها إن هي عجزت مجتمعة عن تحقيق % 50من نسبة المشاركة في االنتخابات العامة؟ فقد تنفتح الفرص أمام المغرب وأطره الفكرية وال ِقلّة القليلة من نخ ِبه السياسية الفاعلة ـ بعد فترة نقاهة انتقالية ـ إلعادة بناء األحزاب على أسس سليمة حتى تتمكن من استرجاع ثقة المواطنين .وقد يكون مفتاح ذلك تجديد ثورة الملك والشعب في مواجهة هذه الجائحة الحزبوية المستفحلة التي ال تتوانى عن تسويس البالد وإفساد العباد، ضرة ،وقد وقفت بتماثليها مشدودة إلى الوراء في محاولة ماكرة مشوهة الوجه السياسي للمغرب بين األمم المتح ِ ّ ِّ الرقِي. ج لتحصين حورها المظ ِلمة وإغالق منافذ ُّ ِ الدكتور أحمد الطاهري أستاذ التعليم العالي مختص في تاريخ المغرب واألندلس تطوان في 23يوليوز 2015