طائر الفينيق العدد الرابع عشر خريف 2021

Page 1

‫!!‬

‫‪Happy New 2022‬‬

‫طائرالفينيق‬

‫‪Phoenix Bird‬‬

‫خريف‪2021/‬‬ ‫‪2021‬‬ ‫العدد الرابع عرش‪ /‬خريف‪/‬‬

‫‪Fall Issue 14‬‬

‫زمن التخذير‬ ‫د‪ .‬حسن فرحات‬

‫دور الثقافة يف تشكيل سلوك اإلنسان وتربيته‬ ‫أ‪ .‬سليمة مليزي‬

‫قبلة العيد‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫اللغة مرآة األمة‬ ‫د‪ .‬طالل الورداين‬

‫مرايا التجريب يف شعر اللبنان ّية‬ ‫حكمت حسن‬ ‫أ‪ .‬الحسام محيي الدين‬ ‫يا سامح‬ ‫أ‪.‬عمر شبيل‬

‫الزيوت الطبيعية ملعالجة البرشة‬ ‫أ‪.‬مريم باجي‬ ‫التقلص العضيل أو التشنجات العضلية‬ ‫د‪.‬الصيديل ماهر حسن‬

‫لؤم الح ّية ال ّرقشاء‬ ‫د‪.‬مرياي أبو حمدان‬

‫مليون مربوك‬

‫!‪!!H‬‬

‫أخصائية التغذية‪ :‬مرينا شمس الدين‬ ‫تحدثنا عن فوائد بذور الكتان‬


‫الهيئة الثقاف ّية يف هذا العدد‬

‫د‪ .‬حسن فرحات‬ ‫أ ‪.‬عمر شبيل‬ ‫د‪ .‬هويدا رشيف‬

‫أ‪ .‬مرينا شمس الدين‬ ‫أ‪ .‬حنان بو حسن‬ ‫أ‪ .‬رانية مرعي‬

‫د‪ .‬مرياي أبو حمدان‬ ‫د‪ .‬طالل الورداين‬ ‫د‪ .‬نينا نبيل أ ّيوب‬ ‫د‪ .‬عيل سعيد أ ّيوب‬ ‫د‪ .‬دالل مهنا الحلبي‬ ‫د‪ .‬محمد محي الدين‬ ‫أ‪ .‬أغنار عواضة‬ ‫أ‪ .‬سليمة مليزي‬ ‫أ‪ .‬مريم باجي‬

‫أ‪ .‬غدير نرص الدين‬ ‫أ‪ .‬سناء الحاموش‬ ‫أ‪ .‬زينة الجوهري‬ ‫أ‪ .‬مخلوف عامر‬ ‫أ‪ .‬عبد الرزاق املصباحي‬ ‫أ‪ .‬الحسام محيي الدين‬ ‫أ‪ .‬هنادي زرقطة‬ ‫أ‪ .‬فؤاد طالب‬ ‫أ‪ .‬نارصية بغدادي العرجة‬


‫طائر الفينيق‬ ‫مجلة أدب ّية‪ ،‬شعريّة‪ ، ،‬فكريّة‪ ،‬متنوعة‬ ‫فصلية تصدر يف مدينة نيويورك بالواليات املتحدة األمريك ّية‬ ‫‪Magazine Founder: Dr. Hassan A Farhat, MD‬‬ ‫‪Senior Arts Director: Assad Kamran‬‬

‫الهيئة اإلدارية‬ ‫رئيس التحرير د‪ .‬حسن فرحات‬ ‫مريم باجي‪ :‬مراسلة وسفرية املجلة يف املغرب العريب‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬ ‫‪All rights reserved 2021 .No reproduction, copying or‬‬ ‫‪passing without expressed consent from the founder of‬‬ ‫‪magazine. For permission or writing opportunities‬‬ ‫‪please contact:Submissions@7eloarabiamagazine.com‬‬

‫تخصهم وحدهم ال غري‪.‬‬ ‫اآلراء واألفكار املطروحة يف صفحات املجلة من قبل الك ّتاب ُّ‬


‫خواطر ‪191--189‬‬ ‫‪191‬‬ ‫خواطر‬ ‫عباس طالب عثامن‬

‫‪195--192‬‬ ‫‪195‬‬ ‫فن‪192‬‬ ‫فن‬ ‫شعر ‪182--154‬‬ ‫‪182‬‬

‫قبلة العيد‬ ‫د‪ .‬هويدا رشيف‬

‫يا سامح‬ ‫أ‪ .‬عمر شبيل‬

‫من أزمنة تشبهني‬ ‫د‪ .‬دالل مهنا الحلبي‬

‫" جدي مل يقرأ " حالق اشبيلية‬ ‫أ‪ .‬ادغار عواضة‬

‫ربيع ِ‬ ‫سناك‬ ‫ُ‬ ‫أ‪ .‬فؤاد طالب‬

‫"يا أناي "‬ ‫"يا‬ ‫أ‪ .‬نارصية بغدادي العرجة‬

‫والدة ذاكرة‬ ‫أ‪ .‬رانية مرعي‬

‫يوم َيسوعي‬ ‫عساك تص ُري يف ٍ‬ ‫أ‪ .‬غدير نرص الدين‬

‫كيف أحمل قلبي‬ ‫أ‪ .‬سناء الحاموش‬

‫بحار ومتمردة‬ ‫أ‪ .‬زينة الجوهري‬

‫زاوية اللغة ‪197‬‬ ‫إىل‬ ‫أرسة التحرير‬

‫لوحات فن ّية‬

‫أ‪ .‬حنان بو حسن‬


‫املحتويات‬

‫افتتاحية ‪9‬‬ ‫زمن التخدير‬

‫تغذية ‪144--143‬‬ ‫‪144‬‬ ‫أخصائية التغذية‬

‫أدب ‪141--11‬‬ ‫‪141‬‬

‫د‪.‬حسن فرحات‬

‫باسمي‬ ‫د‪ .‬هويدا رشيف‬

‫مرينا شمس الدين‬ ‫بذور الكتان‬

‫ينابيع الذات ‪ ..‬ينابيع القصيدة‬ ‫د‪ .‬محمد محي الدين‬

‫الرواية العربية والفنون السمعية البرصية مرايا التجريب يف شعر اللغة مرآة االمة‬ ‫جدة املوضوع والرصامة املنهجية‬ ‫اللبنانية حكمت حسن د‪ .‬طالل الورداين‬ ‫أ‪ .‬الحسام محيي الدين‬ ‫أ‪ .‬عبد الرزاق املصباحي‬ ‫اسرتاتيجيات الدولة اللبنانية ملواجهة الكوارث‬ ‫واألزمات وقدرتها عىل الصمود‬ ‫أ‪ .‬هنادي زرقة‬

‫السد‬ ‫اإليديولوجي يف ف ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمنوذجاً " قناديل البحر " لجان توما‬ ‫د‪ .‬نينا نبيل أ ّيوب‬

‫نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاين لؤم الح ّية ال ّرقشاء‬ ‫ودورها يف نقد ال ّنص األديب‬ ‫د‪ .‬مرياي أبو حمدان‬ ‫د‪ .‬عيل سعيد أيّوب‬

‫جامل ‪150-148‬‬

‫أعشقني س ُم ُّو الحب ‪،‬‬ ‫ف ُيض اللغة‬ ‫أ‪ .‬مخلوف عامر‬

‫زيوت طبيعية تعالج‬ ‫مشاكل البرشة يف فصل الشتاء‬ ‫أ‪ .‬مريم باجي‬

‫دور الثقافة يف تشكيل‬ ‫سلوك اإلنسان وتربيته‬ ‫أ‪ .‬سليمة مليزي‬

‫دوائر املكان ومكوناته عند امييل نرص‬ ‫الله زكريا تامر ويوسف حطيني‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫صحة ‪187--186‬‬ ‫‪187‬‬ ‫التقلص العضيل أو‬ ‫التشنجات العضلية‬ ‫د‪.‬حسن فرحات‬


‫ِ‬ ‫َ‬ ‫بالوقت‬ ‫األحوال‬ ‫ساءت أحوال ُنا ألنّنا ربطنا‬ ‫وقتها اعرتفنا بأننا أبناء املوت‪.‬‬ ‫الوقت املنرص ْم‬ ‫تراقب‬ ‫فبقيت كام هي‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫يا حرس ًة عىل عبا ٍد يحسبون األيام ت ُستَب َد ُل كالثياب‬ ‫َ‬ ‫نقيض التج ّد ِد‪،‬‬ ‫وال يعلمون أ ّن‬ ‫التفاءل هو ُ‬ ‫اليذهب يشء إىل العدم‪.‬‬ ‫*****‬ ‫املؤقت‬ ‫كل بِنا ٍء شُ يِّد يف السنا ِء شاه ٌد عىل حضورنِا‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫فليس هناك بنا ٌء خال ٌد وال عم ٌر يصم ُد أما َم األقدا ِر‬ ‫ِ‬ ‫الشؤم‬ ‫لإلنجازات بع ِني‬ ‫وال األقدا ُر تنظ ُر‬ ‫ِ‬ ‫وال هي يف وار ِد انتظا ِر البعثْ‬ ‫ما أصعب اليقظة التي ال تدوم!!‬ ‫أرحام األحال ْم‬ ‫األيام تالحقُنا يف‬ ‫ِ‬ ‫النوم ويقظ ُة ِ‬ ‫نخل ُد إىل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ترافق نهارنَا‬ ‫وكوابيسه‬ ‫النوم‬ ‫ونستيقظ من ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الغموض‬ ‫مشهد‬ ‫وصف‬ ‫يعج ُز اللسا ُن عن‬ ‫ْ‬ ‫تصديق لسانٍ ‪ ،‬كلامته ال تخرج من القلب‬ ‫ويصعب عىل العقل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫******‬ ‫الضاللة عدوة العقل‬ ‫املسترشي‪ ،‬ب َني العبا ْد‬ ‫فالتضليل هو ال ُحك ُم السائ ُد‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫منذ أن رأوا الشمس تغرب يف ع ٍني َح ِمئَ ٍة‬ ‫بال ٌد ت ُهد ُم باسم التغيريِ املُضلِّلِ‬ ‫وحكا ُم الوعود عىل األ َرائِ ِك ُسكارى‬


‫افتتاحية‬ ‫زمن التخدير‪..‬‬

‫د‪ .‬حسن فرحات‬

‫سنة مضت كأنّها طرف ُة ع ٍني أصابتنا بتخدير الزم ْن‬ ‫والتخدير هو وقفة عىل أطالل املايض‬ ‫ِ‬ ‫سنة كانت مسكناً‬ ‫للذكريات وال َه ْجر‬ ‫متت‬ ‫ماتت ولك ّن ذكرياتِها مل ْ‬ ‫فغدت للمستقبل وجه َة عبو ِر الزائ ِر املُعت ْرب‬ ‫ِ‬ ‫تربح‬ ‫سني اآلهاتْ‬ ‫والروح ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫ذكريات ِّ‬ ‫ألنها ال تيأس من خلودها‪،‬‬ ‫وأل ّن حزنَها ماد ُة خلو ِدها‬ ‫رغم أن األهل واألصدقاء يف رك ْن ‪ ،‬والباقني يف ركن آ َخ ْر‬ ‫*****‬ ‫حبيب الوجود ال فضاء له سوى قلوبِنا‬ ‫وعشق‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫منسك من مناسك الحج‬ ‫والطواف حول القلب العاشق‬ ‫ويقسو العشق حني يتح ّو ُل إىل ذكريات‬ ‫ذكرياتُ تشبه خمرا ً معتق ًة يف كؤوس الزمن‪.‬‬ ‫والذكريات تبقى ‪..‬‬ ‫ُ‬ ‫وهي صدى السنني الحايك كام يقول أحمد شوقي‬ ‫الشباب‬ ‫والعم ُر مييض شاهدا ً عىل مايض‬ ‫ْ‬ ‫ولكنه يرنو بحرس ٍة إىل أيام الشباب‬ ‫قاس بالوقت الذي ميوت وال ميوت!‬ ‫كأ ّن العم َر يُ ُ‬ ‫واقف ينتظ ْر؟!‬ ‫وكأ ّن‬ ‫الوقت ٌ‬ ‫َ‬ ‫طائر الفينيق‬


‫أدبأدب‬ ‫أدب‬


‫خلف الحدو ِد‬ ‫والشعوب ضائع ٌة ‪ ،‬شارد ٌة َ‬ ‫ُ‬ ‫يبحثون عن عونٍ لن يأيت إال برهنِ البال ْد‬ ‫ما أصعب أن نرهن وطناً‬ ‫فال هناك نصائح نافع ٌة‬ ‫وال أح ٌد فاتحاً ذراعيِه مساملاً مهلالً‬ ‫كلّام قلنا ُفرجت‪...‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫اآلفاق‬ ‫تطلعات‬ ‫عكس‬ ‫جرت سف ُن‬ ‫رغبات األم ِة َ‬ ‫القلوب‬ ‫فال سن ُة يف األفق تُدرك معانا َة‬ ‫ِ‬ ‫الوقت‬ ‫القلوب يبقى منتظامً مع مرو ِر‬ ‫نبض‬ ‫ِ‬ ‫وال ُ‬ ‫ْ‬ ‫التحليق‬ ‫تحب الطيو ُر حري َة‬ ‫ْ‬ ‫نحب الحياة كام ُ‬ ‫رش ُ‬ ‫فنح ُن ب ٌ‬ ‫وكام يعشق الصغار لعبة الكرة‬ ‫خالق الحيا ِة والبعثْ‬ ‫ُ‬ ‫أحب األنبيا ُء‬ ‫والرسل َ‬ ‫وكام َّ‬

‫فكل يش ٍء مقدّ ُر‪...‬‬ ‫ُّ‬

‫ألحالم التي عجزت عن تحقيقها السننون‬ ‫فال تطرقوا‬ ‫ِ‬ ‫أجمل األحال ْم‬ ‫َ‬ ‫املستقبل يختا ُر ل ُك ْم‬ ‫َ‬ ‫بل دعوا‬ ‫ظاملي السن ْني‬ ‫حتى ال نكو َن من‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫العقول واألوطان‬ ‫خارج‬ ‫عام وزم ُن التخدي ِر‬ ‫ُّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫َ‬ ‫كل عام وأنتم بالف خري‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫باسمي‬

‫د‪ .‬هويدا رشيف‬ ‫باسمي‬ ‫سكن طفولتي الربيئة بنظرات إعجاب شفوقة ‪،‬رافقني سنني طوال يف جيوب الروح‪،‬مخبأ بني طيات األنسجة‪،‬يزور‬ ‫كل ه ّبة نسيم وأمل مرسوم‪.‬‬ ‫فكري بنظرة من عينيه يفتقد وحديت مع ّ‬

‫باسمي‬

‫رجل الحق يف رجلني ‪،‬رجل ينطق به ورجل يفهمه‪،‬مواقفه تفرض شخصيته‪،‬فهو كالطفل يف أحضاين ‪،‬قائدي عند‬ ‫امللامت ويف الحياة وس ّيد أس ُد يف آرائه وأفكاره واتزانه وعاشقاً يف نظراته وكلامته‪.‬‬

‫باسمي‬

‫طفيل املدلل وشغيل الشاغل ‪،‬ارتشفه بتلذذ العسل الذائب باملاء الساخن‪،‬أسكبه دماً يسيل يف عروقي وأتنشقه‬ ‫أنفاساً تتصاعد بشكر الخالق عىل نعمته ‪.‬‬ ‫باسمي‬ ‫ترياق فكري وروحي الندية ‪،‬منطقي الصلب‪،‬إراديت القوية املمنطقة بفذاذ شخصيته‪،‬وعوين عند الطلب‪.‬‬ ‫باسمي‬ ‫يلقي الهمس واإلفتتان يف صدري‪،‬حبه يل أدب من الطراز الذي يخطر يف حلبات السباق يف أحداث العشاق‪،‬عطره‬ ‫يف أنفي يرتك ّيف يف كل خطوة آالف النظرات والحرسات والتنهدات باسمه‪.‬‬

‫باسمي‬

‫استاذي الذي علّمني معنى جامل الحياة ومفاتنها‪،‬د ّربني عىل الحساس بالذات ومعنى اإلشتياق‪،‬نور من الله عىل‬ ‫بكالم يلهبني يذويبني كام تذوب الشمعة تحت أنفايس‪.‬‬ ‫األرض وتعمة ال تق ّدر بثمن‪،‬ملهمي ٍ‬ ‫باسمي‬ ‫عربات فرحي ‪،‬نشويت الفانية‪،‬عجبي العجاب‪،‬كنزي الكنوز‪،‬إعجازي الذي يفوق كل إعجاز‪،‬دنياي الرباقة‪،‬وعاملي‬ ‫القوي‪،‬إخاليص الشديد‪،‬صربي الذي أثب أمامه‪،‬وخويف الغامض الذي يسبح يف أعامقي‪.‬‬ ‫امليضء ‪،‬شمس شتايئ‪،‬امياين‬ ‫ّ‬


‫طائر الفينيق‬

‫‪11‬‬



‫باسمي‬ ‫جعلني عروسه التي مترح بشعرها وروحها امليضء يف مروج الفكر الرحبة املزهرة‪،‬ووضعني ملكة من ملكات‬ ‫ميس املربد العني‪.‬‬ ‫املجالس ‪،‬تعرف كيف متيش بصولجان روحها َ‬ ‫نفس ُه األبية كام ّ‬ ‫باسمي‬ ‫صمتي الخائف عليه‪،‬رجايئ من الله الذي نبذت يف سبيله عرض الدنيا وثرائها وبهجتها ‪،‬نور قلبي الذي مبعثه‬ ‫السامء ال األرض ‪.‬آمنت به صادقة بجامله املعنوي الذي ال أعرف مقدار معناه وال دواه ‪.‬‬ ‫باسمي‬ ‫هو ذاك الساحر الذي صنه بيده كرة البلور ‪،‬خالقاً من مادة ذهنه دنيا مامثلة إىل دنيا العجائب ‪،‬كال‪ ،‬بل بانياً‬ ‫وبجدارة من حياته عاملاً من الحقيقة هو مستقبله العميل‪.‬‬ ‫باسمي‬ ‫غزلته من ثلة الحرف األنيق‪،‬حكته من عرباتب وعبارايت‪،‬ونسجت منه مخلوقاً من دمه وهمي غري حقيقي‪،‬كام أنه‬ ‫أخاط جسمي من حياته وطيبته‪،‬لذا سأفني وجودي ولروحي فداء لوجوده وكيف من يراين بعينيه ال أفديه‬ ‫بدمي!؟‬

‫باسمي‬ ‫هو أميل ‪،‬ابتسامتي‪،‬روحي ‪...‬هو األنا بكل مضامينها‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫وعندما تثور عواصف الذات تجد الشاعر ربّاناً لروحه امللتاعة‪ ،‬وهو املثقّف املتم ّرد‪ ،‬وقد ازدحم الوعي والحدس‬ ‫والشعريّة‪ ،‬يف تلك الروح الثائرة أبدا ً‪ ،‬تنازعها صوت اإلنسان من جهة‪ ،‬وصوت املناضل املخلص لقض ّيته اإلنسان ّية‬ ‫والقوميّة‪ ،‬من جهة أخرى‬ ‫ومن املمكن تحديد زاوية الرؤية التي متكّننا من النظر‪ ،‬بدقّة‪ ،‬إىل شعريّة الشاعر عمر شبيل‪ ،‬ما شعريّة الشاعر ّإل‬ ‫املرجعي‪،‬‬ ‫املرجعي ما ّدة شعره‪ .‬إنّه كشف عن أعامق هذا العامل‬ ‫فرادته التي متكّن ثقافته من أ ّن ما يراه من العامل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حري بنا تع ّرف خصوص ّية الرؤية عند عمر‪ ،‬يف هذه املجموعة‪ ،‬عىل‬ ‫ال كام يراه اآلخرون‪ ،‬بسبب من اختالف الرؤى‪ّ .‬‬ ‫تبي لنا عمق رؤيته إىل قضيّة اإلنسان‪ ،‬وقد الزمته يف غري مجموعة من مجموعاته الشعريّة‬ ‫وجه الخصوص عندما ّ‬ ‫التي شكّلت عالمة نهوض‪ ،‬كام الزمته يف قراءاته النقديّة املتع ّددة‪.‬‬ ‫وقارىء هذه املجموعة‪ ،‬يجد نفسه أمام خارطة "ذات أفق واسع ممت ّد من التاريخ والحضارة والثقافة الرتاثيّة‪،‬‬ ‫وصوالً إىل الف ّن ّي والذا ّيت"(‪ ،)1‬مع تركيز مكثّف عىل املضامني الوطن ّية والقوم ّية واإلنسان ّية واألخالق ّية‪ .‬وعمر هو‬ ‫بحق‪ ،‬عر ّيب الهوى واملنى والفؤاد‪ .‬نلحظ نار وجده املستعرة أبدا ً‪ ،‬يسرتجع صفحات من التاريخ؛ ويعود إىل‬ ‫شاعر ّ‬ ‫ومضاته مبدعاً ومج ّددا ً يف آن معاً‪ .‬وتجده يف تدفّقه‪ ،‬وآالمه التي ال تعرف الفتور‪ ،‬وكأنّه ينبع من جبال أسطوريّة‪،‬‬ ‫وتتب ّدى مالمح شعريّة عمر يف كونه جعل نفسه منتدباً؛ لتحويل أيّة ما ّدة من موا ّد إبداعه‪ ،‬وهي متن ّوعة‬ ‫الخاص‪.‬‬ ‫ومتع ّددة‪ ،‬إىل دمه‬ ‫ّ‬


‫نابيع الذات ‪ ..‬ينابيع القصيدة‬ ‫أي خبز فيك يا هذا املطر»‬ ‫قراءة يف «مجموعة عمر شبيل الشعريّة» ّ‬

‫د‪ .‬محمد محي الدين‬ ‫توطئة‬

‫عندما تنطلق الذات امللتاعة من رحاب مخزونها الثقا ّيف واملعر ّيف واإلنسا ّين‪ ،‬يف رحلة مضنية من التم ّزق واألوجاع‬ ‫واالغرتاب‪ ،‬مستلهمة أصالة األ ّمة وحضارتها‪ ،‬وهي يف مراحل من التقهقر والتشتّت والغياب‪ .‬هنا‪ ،‬متيض تلك الذات‬ ‫متحيا ً أمام توقها‬ ‫بك بعيدا ً يف مجاهيل النفس البرشيّة‪ ،‬ومكنوناتها العص ّية عىل السرب واالكتناه‪ .‬وإذا ما‬ ‫َ‬ ‫وقفت ّ‬ ‫الغني باألرسار‪ ،‬فإنّك تخرج من لهب اشتعا ٍل ال ينطفىء؛ لتدخل يف عواملَ أش ّد غرابة وأبعد غورا ً‪ ،‬تحتاج إىل ك ٍّد‬ ‫ّ‬ ‫ومشقّة بالغني؛ لتل ّمس معاملها املتحفّزة‪ ،‬وتت ّبع نوازعها التي ال تعرف الحدود‪.‬‬ ‫ورحلتك يف عوامل الشعر‪ ،‬مع الشاعر عمر شبيل‪ ،‬يف حرائقه واشتعاالته‪ ،‬وكشوفاته املتالحقة‪ ،‬تدفع بك إىل‬ ‫مرافقته يف تالوين رحلة املعاناة‪ ،‬وبوح الروح التي ال تعرف الراحة والسكينة‪ .‬وصدق أبو متام حني قال‪:‬‬ ‫"برصت بالراحةالكربى فلم ت َرها ‬ ‫َ‬

‫ت ُ‬ ‫التعب"‪.‬‬ ‫رس من‬ ‫ِ‬ ‫ُنال ّإل عىل ج ٍ‬

‫"أي خب ٍز فيك يا هذا املطر"‪ ،‬هرباً من قيظ (الشيخ الزمان)‬ ‫لجأتُ يوماً إىل دوح القصيدة يف مجموعة عمر شبيل‪ّ :‬‬ ‫واستبداده‪ ،‬وتخلّصاً من الركام املزمن‪ ،‬والقحط والجفاف‪ ،‬باحثاً عن مزايا الشعر األصيل‪ ،‬وعن ألوان اإلبداع وأفياء‬ ‫ولعل يف استخدام األساطري‬ ‫جامل ّياته‪ .‬وجدتني عند انبثاق الينابيع التي تُعيد إىل املدارات رج َع براءتها األوىل‪ّ ،‬‬ ‫واستثامرها‪ ،‬بعضاً من هذا الرجع‪ ،‬أو هو الوقوف عىل أطراف الكون‪ ،‬يف عامل بائس‪ ،‬بني العدم والخلود‪ .‬يكون‬ ‫حق عندما قال‪:‬‬ ‫لهذا األخري غري وجه وغري سبيل‪ ،‬ال يعرف مسالكها إلّ الشعراء الكبار‪ .‬أما كان املتن ّبي عىل ّ‬

‫النفس تأخ ْذ ُوس َعها قبل بي ِنها ‬ ‫"ذ ِر‬ ‫َ‬

‫ٌ‬ ‫فمفرتق جاران دارهام العم ُر"؟‬

‫حول املجموعة الشعريّة‬ ‫أسعى يف هذه الصفحات إىل إيفاء هذا الشاعر بعض حقّه‪ ،‬واإلحاطة ببعض املالمح التي تض ّمنتها قصائد‬ ‫املجموعة‪ .‬والشعر يصدر دامئاً عن أرض خصبة‪ ،‬هي أرض الروح التي ال تعرف اليباس والجفاف‪ ،‬يرفدها الحنني‬ ‫إىل ينبوع الضوء‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫اإليقاعي‬ ‫نلحظ تن ّوعاً إيقاع ّياً يف شعر عمر‪ ،‬إذ نجد ثالثاً وثالثني قصيدة مختلفة الطول‪ ،‬بُنيت عىل النسق‬ ‫ّ‬ ‫(فعول ٌن)‪ .‬يتك ّون هذا النسق من مقطعني طويلني‪ ،‬يف مقابل مقطع واحد قصري‪ ،‬فام داللة هذا؟ أغلب الظ ّن أ ّن‬ ‫الغلبة الواضحة للمقاطع الطويلة تتالءم مع الحال النفس ّية للشاعر‪ ،‬وتكشف عن املناخ الذي يحاول الشاعر‬ ‫إرساءه‪ ،‬وهذا مرتبط بالهموم واملشكالت التي واجهها عمر‪.‬‬ ‫وإذا ما أغفلنا دراسة النرب والتنغيم‪ ،‬والتدوير والتضمني‪ ،‬مع ما لهذه العوامل من دور فاعل يف اإليقاع‪ ،‬فإ ّن تتابع‬ ‫مم نقرأ‪ ،‬وهذا يُظهر متكّن الشاعر من اللغة‪ ،‬ترفدها‬ ‫األنساق الشعريّة‪ ،‬بسالسة وعذوبة يندر وجودهام يف كثري ّ‬ ‫اإليقاعي (فعول ٌن) ينطبق عىل نسق آخر استخدمه الشاعر‪،‬‬ ‫املوهبة األصيلة والخربة الطويلة‪ .‬وما قيل عن النسق‬ ‫ّ‬ ‫هو (فاعالتن) املتك ّون من ثالثة مقاطع طويلةـ يف مقابل مقطع واحد قصري‪ ،‬وهذا النسق يوحي باألحزان التي‬ ‫اإليقاعي (مستفعلن أو متفاعلن) عن الدور‬ ‫استب ّدت بالشاعر‪ ،‬من غري أن تطمس شعاع األمل‪ .‬وال يخرج النسق‬ ‫ّ‬ ‫الذي تؤ ّديه املقاطع الطويلة‪ .‬وقد ينسحب هذا عىل قصائد املجموعة كلّها‪ ،‬وقد استُخدم فيها أنساق (الكامل‬ ‫تتخل عن الرؤية‬ ‫واملتقارب والخبب)‪ ،‬إىل جانب املقطوعات التي بُنيت عىل الشعر املوزون املقفّى‪ ،‬من غري أن ّ‬ ‫العا ّمة للشاعر‪ ،‬بل توافقت معها‪.‬‬ ‫عمد عمر إىل التنويع يف األنساق اإليقاع ّية يف القصيدة الواحدة‪ ،‬غري م ّرة‪ ،‬وهذا معروف عند شعراء الحداثة‪ ،‬كام‬ ‫يف بعض قصائد أستاذ الحداثة (بدر شاكر السياب)‪.‬‬ ‫تشكّلت قصيدة (أ ّمي) من مقطعني طويلني‪ ،‬وقد بُنيت عىل نسقني إيقاع ّيني‪( :‬فعولن‪ ،‬متفاعلن)‪ ،‬وتك ّون النسق‬ ‫الثاين من خمسة وستّني نسقاً‪ ،‬فيها مئة وخمسة وتسعني مقطعاً قصريا ً‪ ،‬يف مقابل مئة وثالثني مقطعاً طويالً‪ .‬هذا‬ ‫يؤش إىل التفاؤل الذي يطغى عىل القسم الثاين من القصيدة‪ ،‬مع أ ّن املناخ العا ّم للقصيدة قائم عىل األحزان‬ ‫ّ‬ ‫واآلالم ‪:‬‬ ‫قاحل‬ ‫غيم ٌ‬ ‫"وإذا بدا يف اإل ْف ِق ٌ‬

‫تنضب األمطا ُر فيها"(‪.)2‬‬ ‫أبرصت فيها غيم ًة ال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .1‬عمر شبيل‪ :‬أي خبز فيك يا هذا املطر‪ .‬ص ‪.104‬‬ ‫‪ .2‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.155‬‬


‫يف سيامئ ّية العنوان‬ ‫(أي)‪ ،‬للسؤال عن يشء مفقود‪ ،‬وهو‬ ‫يتك ّون عنوان املجموعة الشعريّة "من ّ‬ ‫ست مفردات‪ ،‬بدأ باسم االستفهام ّ‬ ‫االجتامعي‪ ،‬بوصفه ما ّدة‬ ‫املسند إليه يف الجملة االسم ّية‪ .‬ويتبعه املضاف إليه (خبزٍ) املرتبط بالحياة‪ ،‬يف املفهوم‬ ‫ّ‬ ‫الحياة‪ ،‬بالنسبة إىل املجتمع العر ّيب‪ .‬وهذه املفردة تستحرض الجوع الذي ل ّون حياة الجامهري املسحوقة بألوان‬ ‫القهر واملعاناة‪ .‬ويأيت الجا ّر واملجرور (فيك)؛لتعلّقهام باملسند املحذوف (كائن أو موجود)‪ ،‬يتبعه حرف النداء (يا)‬ ‫واملنادى مفردة (هذا) هي الحارض املخاطَب‪ ،‬وجهاً لوجه‪ ،‬للداللة عىل الرجاء‪ ،‬ويُضمر اإلشارة إىل الخبز الذي‬ ‫يُشبع الجائع‪ ،‬الشاعر أم الجامعة التي ينتمي إليها‪ .‬ويأيت البدل من (هذا)‪( :‬املطر)‪ ،‬وارتباط حرف (الكاف)‬ ‫بحرف الج ّر‪ ،‬يكشف عن العالقة الوثيقة التي تجمع ما بني الخبز والعطاء والخصوبة والنامء‪ ،‬إىل جانب ما يف‬ ‫املطر من إيحاءات ودالالت‪ .‬فهل املطر هو مطر الذات يف تفتّحها عىل املستحيل‪ ،‬أم هو مطر الروح الحضاريّة‬ ‫التي عصف بها تراكم املعاناة؟ وما وضع عالمة التع ّجب (!) يف نهاية العنوان إلّ عالمة عىل بثّ روح التفاؤل التي‬ ‫يحرص الشاعر عىل تناميها‪ .‬وأطعام الجياع هو بداية الطريق‪ ،‬مهام طال الزمن‪ .‬وشكّلت املفردتان (خبز‪ ،‬املطر)‬ ‫مفاتيح للمجموعة كلّها‪.‬‬ ‫يف البنى اإليقاع ّية‬ ‫وتقص أبعادها اإلبداعيّة‪ ،‬يتكامل من خالل دراسة البنية اإليقاعيّة يف القصيدة‪،‬‬ ‫البحث يف شعريّة شاعر ما‪ّ ،‬‬ ‫ولإليقاع دور كبري األه ّم ّية يف تحقيق جامل ّية الشعر‪ ،‬إىل جانب الرؤية والرتاكيب والتصوير الف ّن ّي‪ .‬يؤكّد هذا القول‬ ‫ما نقرأ من إشارة للشاعر نفسه يف مق ّدمة الكتاب‪ ،‬إذ يقول‪" :‬وإذا كانت املوسيقى لغة‪ ،‬فإ ّن الشعر لغة‬ ‫وموسيقى"‪.‬‬ ‫ومع إمكانيّة تحديد طبيعة االنتظام واالت ّساق يف اإليقاع‪ ،‬فإ ّن هذا األخري "هو تأليف بني مجموعة من العنارص‪،‬‬ ‫يجمع بني النسق والخروج عىل هذا النسق‪ ،‬ويقيم بني هذه العنارص عالقة أو عالقات‪ ،‬فإذا خلت العنارص من‬ ‫النسق ومن العالقات‪ ،‬فهي كذلك خالية من اإليقاع"‪ ،‬بعض النقاد"‪ .‬وما ميكن الوصول إليه‪ ،‬يف مجال اإليقاع يف‬ ‫الشعر‪ ،‬هو القول إ ّن لغة الشعر هي إعادة تنظيم اللغة العاديّة‪ .‬فهل نجح عمر يف إعادة تنظيم اللغة؟‬ ‫قد نستطيع التوكيد أ ّن عمر شبيل جعل من اإليقاع عامالً مسهامً يف إنتاج الداللة؛ ألنّه مل يعد ظاهرة حياديّة‪ ،‬إنّ ا‬ ‫غدا من أكرث العنارص أه ّم ّية يف إمداد الكالم بأسباب الشاعريّة‪.‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫الرتكيبي‬ ‫يف املستوى‬ ‫ّ‬ ‫الرتكيبي دورا ً كبري األه ّم ّية يف إنتاج الشعريّة‪ ،‬ونلحظ عىل مستوى الرتكيب‪ ،‬وجود سبعة من أسامء‬ ‫يؤ ّدي املستوى‬ ‫ّ‬ ‫رش والظالم (الظاملون‪ ،‬اآلكلون‪ ،‬القاتلون)‪ ،‬ترتبط األسامء الباقية مبمثّيل‬ ‫الفاعلني‪ ،‬ثالثة منها مرتبطة بقوى ال ّ‬ ‫املعاناة والسعي اىل التغيري ‪ .‬وهذا يُظهر جانباً من رؤية الشاعر إىل الرصاع الدائر‪ ،‬عىل املستوى العا ّم‪.‬‬ ‫ولعل يف الزيادة يف جموع التكسري (‪ 12‬اسامً يف القصيدة)‪ ،‬ما يشري إىل اختالل يف الواقع‪ ،‬وهذا ما يؤمل الشاعر‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫األبدي بني الخري‬ ‫فهو ينعكس عىل اختالل يف نوع ّية األسامء الدالّة عىل الجمع‪ ،‬تعبريا ً عن وجه من أوجه الرصاع‬ ‫ّ‬ ‫وربا يكون يف توزيع األفعال الصحيحة واملعتلّة ما يؤيّد هذا القول‪ ،‬فإذا كان عدد‬ ‫رش‪ ،‬النور والظالم‪...‬الخ‪ّ .‬‬ ‫وال ّ‬ ‫األفعال الصحيحة اثنني وسبعني فعالً‪ ،‬فعدد األفعال املعتلّة اثنا عرش فعالً‪ .‬والالفت يف األمر أ ّن أغلب هذا النوع‬ ‫يؤش إىل حجم معاناة الشاعر النفس ّية‪ ،‬هذه املعاناة التي تتب ّدى مالمحها يف غري‬ ‫من األفعال ينتهي بـ(ياء)‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫سطر من أسطر القصيدة‪.‬‬ ‫وباالمكان القول إ ّن هذا األمنوذج من الرتاكيب قد سلط الضوء عىل شاعريّة الشاعر الضاربة يف أعامق اإلبداع‬ ‫واملوهبة‪.‬‬ ‫قد يلجأ الشاعر إىل تكرار مفردات بعينها‪ ،‬لغاية مقصودة‪ ،‬ويكون "إ ّما للتعبري عن ه ٍّم وحاجة متعلّقني بالكلمة‬ ‫املك ّررة‪ ،‬وإ ّما للتلذّذ‪ ،‬أو التعظيم‪ ،‬أو ما شاكل ذلك"(‪ .)5‬يدرك الشاعر عمر أه ّم ّية التكرار يف القصيدة‪ ،‬لذلك‬ ‫نجده يستخدمه يف غري قصيدة له‪ .‬من مناذجه قوله يف قصيدة "أشعار عند مدخل الزنزانة"‪:‬‬ ‫الباب‪ ،‬ولك ْن قبض ٌة ظل ّْت‬ ‫"أُغلِ َق ُ‬ ‫عىل الباب ُّ‬ ‫تدق‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .5‬عيل مهدي زيتون‪ :‬النص الشعري املقاوم يف لبنان‪ .‬ص ‪.236‬‬


‫يُريس القسم األ ّول من القصيدة مناخاً سلب ّياً‪ ،‬من خالل املقارنة باملقطع الثاين‪ ،‬وإذا ما كان النسق (فعولن) يتك ّون‬ ‫من مقطعني طويلني‪ ،‬يف مقابل مقطع قصري واحد‪ ،‬فإ ّن الرتابة التي يبعث بها هذا النسق‪ ،‬من خالل تكراره‪،‬‬ ‫تكشف عن حجم معاناة الشاعر‪ ،‬وإحساسه بالفجيعة لفقدان األ ّم‪ .‬وتتب ّدى املفارقة يف الصورة الشعريّة‪ ،‬إىل‬ ‫جانب اإليقاع‪:‬‬ ‫ومشانق"‪.‬‬ ‫مشاجب‬ ‫"نشقى‪ ،‬وتزهر يف القصور‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ميكن التوقّف أمام قصيدة "أنا والذئب والرياح"( ) ومراقبة الدور الذي أ ّدته الجمل اإلنشائ ّية والخربيّة يف‬ ‫تنغيم ّية القصيدة‪ .‬ويُظهر اإلحصاء وجود ثالثني جملة إنشائ ّية‪ ،‬يف مقابل أربع وستّني جملة خربيّة‪ ،‬أي ما يعادل‬ ‫الضعفني‪ .‬وتوزّعت هذه األخرية أساليب اإلخبار والرشط واالستدراك والنفي‪ .‬وتف ّوق هذا النوع من الجمل يؤكّد‬ ‫يعب عن س َور االنفعال وال ّزات الوجدان ّية‪ ،‬واالنسياق‬ ‫للقارىء أ ّن ّ‬ ‫النص قائم عىل صوغ التجربة‪ ،‬وتأ ّملها‪ ،‬أكرث ّ‬ ‫مم ّ‬ ‫وراءها‪.‬‬ ‫والروي يؤ ّديان دورا ً كبري األه ّم ّية يف إيقاع ّية الشعر‪ ،‬ويف تحقيق جزء كبري من جامل ّيته‪.‬‬ ‫من نافل القول إ ّن القافية‬ ‫ّ‬ ‫والروي‪ ،‬واالكثار منهام أحياناً‪.‬‬ ‫وهذا ما فطن إليه أغلب شعراء الحداثة‪ ،‬فرناهم يحرصون عىل استخدام القافية‬ ‫ّ‬ ‫ومل يش ّذ عمر شبيل عن هذا التوجه‪ ،‬إذ يرفض التص ّنع والتزيني‪ ،‬وما يه ّمه هو نقل الرؤية والتعبري عن الفكرة‪،‬‬ ‫والروي قول الشاعر‪:‬‬ ‫بجامل ّية رفيعة املستوى‪ .‬ومن جامل ّيات استخدام القافية‬ ‫ّ‬ ‫أحس البح َر قا ِد ْم‬ ‫"أنا ال أدري‪ ،‬ولك ْن عندما أبيك ُّ‬

‫َ‬ ‫زورق عمري فوق ظهر املو ِج قاد ْم‬ ‫وأرى‬ ‫املغاضب!!!‬ ‫هل أتاكم نبأُ البحر وذي النون‬ ‫ْ‬ ‫كيف صار البح ُر أنثى!!‬ ‫قارب"(‪.)4‬‬ ‫ث َّم صار الحوتُ‬ ‫ْ‬ ‫والروي‪ ،‬ويؤ ّدي الحرف الشديد (الباء) مع الحرف املعتدل الش ّدة (امليم)‬ ‫يتّحد اإليقاع بالتعبري‪ ،‬ترفدهام القافية‬ ‫ّ‬ ‫جامل ّية مح ّببة إىل النفس‪ ،‬يف إطار من السالسة والعذوبة؛ لتسهم جميعاً يف نقل الرؤية التي رمى إليها الشاعر‪.‬‬ ‫والنامذج التي ميكن تأ ّملها أكرث من أن تُحىص‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .4‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.35‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫ألغى الشاعر جوانب االختالف ما بني وج َهي املحو والحضور‪ ،‬يف األ ّول إزالة ما هو موجود‪ ،‬يف حني أ ّن الثاين إثبات‪،‬‬ ‫اللغوي‪،‬‬ ‫أكّده استخدام (الحرف املشبّه بالفعل (أ ّن)‪ ،‬فانتفى التناقض الحاصل‪ .‬يف هذا خروج عىل النظام‬ ‫ّ‬ ‫بقواعده‪ ،‬ودخول يف النظام السيام ّيئ‪ .‬هي شاعريّة حقّة ال تخفى عىل دارس شعر عمر‪ .‬ويف مقطع آخر من‬ ‫القصيدة ذاتها يقول‪:‬‬ ‫الطويل‬ ‫ْ‬ ‫الليل‬ ‫"يا صديقي‪ ،‬أيّها ُ‬ ‫ملَ ال أقد ُر ليالً أن أنا ْم؟"‪.‬‬ ‫م ّرة أخرى‪ ،‬اختفى االختالف ما بني الليل والنوم‪ ،‬مع أ ّن يف األ ّول متّسع من الوقت لتحقيق الثاين الذي يتطلّبه‬ ‫أي إنسان‪.‬‬ ‫جسد ّ‬ ‫اللغوي‪ .‬يقول يف القصيدة ذاتها‪:‬‬ ‫َمن يقف عند التضا ّد‪ ،‬يجد األمر نفسه يف شعر عمر‪ ،‬من خروج عىل النظام‬ ‫ّ‬ ‫"كان قلبي دامئاً يغفو عىل الباب ويصحو‬ ‫ناطرا ً ما ليس يأيت‬ ‫وإذا ناديته حتّى يعو ْد‬ ‫كان يأىب"‪.‬‬ ‫أُسقط التضا ّد ما بني الغفو والصحو‪ ،‬ومتاثال يف االنتظار‪ .‬الفعالن يف صيغة املضارع‪ ،‬وهام معتالّن‪ ،‬يكشفان عن‬ ‫اللغوي‪ ،‬وإدراك معاين مفرداته‪ .‬وكذلك األمر بالنسبة إىل الفعلني(يعود‪ ،‬يأىب)‪ .‬ومع ما‬ ‫مت ّرس الشاعر باملعجم‬ ‫ّ‬ ‫بينهام من اختالف‪ ،‬يتوافقان يف انتظار ما ليس يأيت‪ ،‬وهو فعل القلب الذي يقول يف القصيدةى عينها‪:‬‬ ‫"أعطني حزناً فأعطيك مساف ْه‬ ‫ٍ‬ ‫موصد عرشين عا ْم"‪.‬‬ ‫باب‬ ‫خلف ٍ‬ ‫ترى‪ ،‬هل ساوى الشاعر بني الحزن واملسافة؟ أم أ ّن الحزن قد غدا‪ ،‬وهو خلف الباب املوصد‪ ،‬سبيالً إىل الرؤية التي‬ ‫تقرع باب املستحيل‪.‬‬


‫ربا قبض ُة أ ّمي‬ ‫ّ‬ ‫يقبل أن يُسج َن‬ ‫ربا قبض ُة طفلٍ كان ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫حتّى يف الرياح‬ ‫ربا قبضة َمن كان عىل البيدر يعطيني الرغيف‬ ‫ّ‬ ‫ربا قبض ُة َمن ليس ينا ْم‬ ‫ّ‬ ‫املستحيل"(‪.)6‬‬ ‫ْ‬ ‫باب‬ ‫ّ‬ ‫ربا الرؤيا التي تقر ُع َ‬ ‫ك ّرر الشاعر مفردة (قبضة) خمس م ّرات يف هذه األسطر‪ ،‬وحضور هذه املفردة بهذه الوترية هو حضور استثنا ّيئ‪،‬‬ ‫عم فعلته الرتاكيب يف داللة هذه املفردة‪ ،‬من‬ ‫عم تعنيه‪ ،‬يف معناها‬ ‫القامويس‪ ،‬وبرصف النظر ّ‬ ‫يتطلّب درسه مبعزل ّ‬ ‫ّ‬ ‫والكف‪ ،‬لتغدو حدساً ييش بأه ّم ّية قرع الباب‪ ،‬وإرصار‬ ‫الناحية السياق ّية‪ .‬تخرج (القبضة) من مج ّرد جمع األصابع‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي‪ .‬ومعرفة الشاعر كيفيّة التخلّص من سلطة املعجم‬ ‫القارع عىل فتحه‪ ،‬ورغبته يف االنفتاح عىل العامل‬ ‫ّ‬ ‫ينصب عىل هاجس االرصار عىل التغيري‪ .‬لقد كان التكرار واضح الوظيفة يف‬ ‫املتعلّقة بهذه الكلمة‪ ،‬جعلت الرتكيز‬ ‫ّ‬ ‫القصيدة‪ ،‬كام هو واضح يف مقاومة سلطة اللغة‪ ،‬ويخرج إىل تصنيف متناسب مع ذات الشاعر‪ ،‬ورؤيتها إىل‬ ‫الوجود والكون‪.‬‬ ‫يؤ ّدي الرتادف دورا ً دالليّاً يشابه دور التكرار‪ ،‬يف أثناء وروده يف القصيدة‪ .‬يُلحظ أ ّن الشاعر عمر قد أفاد من‬ ‫الرتادف والتضا ّد‪ ،‬يف قصيدة " أشعار عند مدخل الزنزانة"‪ .‬يقول الشاعر‪:‬‬ ‫"كيف متحموين وتدري‪،‬‬ ‫أنّني ما زلت من يشء الحضور؟"(‪.)7‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .6‬عمر شبيل‪ :‬أي خبز فيك يا هذا املطر‪ .‬ص ‪.24-23‬‬ ‫‪ .7‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.25‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫كل من املشبّه واملشبّه به‪ ،‬لقد ش ّخص املنازل وهي املشبّه‪ ،‬وهذا وجه من أوجه‬ ‫أحدث الشاعر تغيريا ً يف هويّة ّ‬ ‫االستعارة‪ ،‬يكشف فيها عن ارتباطه باملكان| الوطن‪ .‬واملش ّبه به هو األمنية التي ش ّخصها أيضاً‪ ،‬وهذا التغيري ّ‬ ‫يدل‬ ‫عىل موهبة شاعر‪ ،‬أدرك الدور الذي يؤ ّديه التشبيه يف تحقيق جامليّة الشعر وثراء الفكر‪ ،‬ووسيلة لرسم الواقع‪ ،‬أو‬ ‫رسم رؤية عنه‪ ،‬مبعنى رؤية العامل‪ .‬وسياق القصيدة "هو الذي يُكسب التشبيه مجازيته‪ ،‬بفعل أ ّن تركيبه يجعله‬ ‫النص‪ ،‬وأ ّن أفكاره ال تكون بالرضورة عنارص املوضوع املطروحة‪ ،‬وإنّ ا هي من خارج‬ ‫شيئاً مضافاضص إىل موةضوع ّ‬ ‫املوضوع‪ ،‬تساعد فقط عىل توضيحه"(‪.)10‬‬ ‫ونلحظ الرتابط بني الصور يف عالقة تكامليّة‪ ،‬كام يف قول الشاعر‪:‬‬ ‫"وطني ينأى‪ ،‬وعندي كان ما يكفي من الحزنِ ‪،‬‬ ‫لتفسري صهيل الريح حول "الك ْم ِب"‪ ،‬لك ْن‬ ‫َمن سيعطينا الخيول؟"(‪.)11‬‬ ‫ينطوي السطر األول عىل استعارة‪ ،‬تتبعها كناية يف السطر األخري‪ .‬وإذا كان الصهيل من صفات الخيول‪ ،‬فإ ّن‬ ‫الشاعر أخرج الريح عن هويّتها األصل ّية‪ ،‬ل ُيكسبها هويّة جديدة‪ ،‬يُظهر من خاللها حجم معاناته‪ .‬ينتقل إىل صورة‬ ‫كنائيّة‪ ،‬تقوم عىل املعنى البعيد الذي يرمي إليه‪ ،‬فهو ال يقصد الخيول الحقيقيّة‪ ،‬بل الوسيلة التي متكّنه من‬ ‫مغادرة السجن والوحشة‪ ،‬أو االنطالق يف مرحلة جديدة‪ ،‬قوامها الق ّوة الذات ّية التي متكّن من تحقيق الغايات‬ ‫املرج ّوة‪..‬‬ ‫ويف قصيدة أخرى يقول‪:‬‬ ‫"ونحن لنا جوعنا‬ ‫سنم ّزق أرغفة الظاملني‪ ،‬وما نسجوا من رياء"(‪.)12‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .10‬عدنان بن ذريل‪ :‬اللغة والبالغة‪ .‬ص ‪.131‬‬ ‫‪ .11‬عمر شبيل‪ :‬أي خبز فيك يا هذا املطر‪ ..‬ص ‪.25‬‬ ‫‪ .12‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.158‬‬


‫مجموعة عمر الشعريّة غن ّية بالنكرات املنثورة يف أسطر القصائد‪ ،‬كـ(شوق‪ ،‬زمزم‪ ،‬رشق‪ ،‬خصب‪ ،‬زنزانة‪ ،‬كالم‪،‬‬ ‫قبضة‪ ،‬طفل‪ ،‬مسافة‪ ،‬أرسى‪ ،‬صحراء‪ ،‬باب‪ ،‬صخرة ‪ ،)..‬وعرشات من السامء غريها‪ .‬هي أسامء ملس ّميات عا ّمة‪،‬‬ ‫ولتنكريها داللة‪ ،‬هي وضعها يف مرتبة دون مرتبة اإلنسان والحياة اللذين جاءت كلامتهام معرفة‪ ،‬بشكل عا ّم‪ .‬وإن‬ ‫دل هذ عىل يشء‪ ،‬فإنّ ا ّ‬ ‫ّ‬ ‫يدل عىل أ ّن اإلنسان والحياة هام القيمة التي ال تعدلها أيّة قيمة‪ ،‬وعىل أساسهام تتح ّدد‬ ‫املواقف والخيارات‪.‬‬ ‫مثّة أمر آخر‪ ،‬يتمثّل يف حوار أقامه الشاعر مع نفسه أو مع اآلخر‪ ،‬يتمحمور حول طبيعة اإلنسان‪ ،‬وحاجاته‬ ‫الروح ّية والنفس ّية واملا ّديّة‪ ،‬وهذا يعني أ ّن املجموعة الشعريّة تحاور أسئلة طرحتها املرحلة الثقاف ّية والتاريخ ّية‬ ‫الواقعي‪ ،‬يقوم عىل رؤية الشاعر‪،‬‬ ‫التي ما زلنا نتفيّأ ظاللها‪ .‬ويجد القارىء نفسه يف عامل عىل مسافة من العامل‬ ‫ّ‬ ‫تأسس عىل ما عند الشاعر عمر من هموم واهتاممات‪.‬‬ ‫وانفعاله الذي ّ‬ ‫الصور الفن ّية ودالالتها‬ ‫مل يغب عن بال عمر الدور الذي تؤ ّديه الصور الف ّن ّية يف تحقيق جامل ّية الشعر‪ ،‬لذلك حفلت قصائد املجموعة‬ ‫بغري صورة مبتكرة‪ ،‬ومع وجود بعض التشابيه‪ ،‬والكنايات‪ ،‬كان لالستعارة نصيب وافر منها‪.‬‬ ‫نعرث عىل بعض التشابيه الجميلة‪ ،‬كقوله‪:‬‬ ‫أتوضأْ‬ ‫اإلثم دعني ّ‬ ‫"أيّها القه ُر بطهر ِ‬ ‫كاإلثم سام ْء"(‪.)8‬‬ ‫يف دمي يوج ُد‬ ‫ِ‬ ‫غيها التشبيه؛ لتشري إىل االرتقاء‬ ‫ما بني اإلثم والسامء عالقة تنافر وتناقض‪ ،‬وقد يعني هذا أ ّن هويّة اإلثم قد ّ‬ ‫الذي أحدثته التح ّوالت العميقة‪ ،‬وهذا يؤكّد الدور الذي أ ّداه التشبيه يف التعبري عن انفعال الشاعر‪.‬‬ ‫ويقول عمر عن املنازل التي مل تفارقه يف غربته‪:‬‬ ‫"حتّى املنازل ال ُ‬ ‫الطريق‬ ‫تزال عىل‬ ‫ِ‬ ‫كأنّها متيش إلينا كلّام جعنا إليها‬ ‫هربت‬ ‫مثل أمني ٍة فإن راودتها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وألغاها الرساب"(‪.)9‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .8‬عمر شبيل‪ :‬أي خبز فيك يا هذا املطر‪ .‬ص ‪.52‬‬ ‫‪ .9‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.182‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫قد يتمكّن الشاعر من إرضاء حاجاته الروح ّية‪ ،‬عن طريق األسطورة‪ ،‬من جهة‪ ،‬وكذلك حاجته إىل التوازن مع‬ ‫املجتمع‪ ،‬من جهة أخرى‪ .‬عىل هذا‪ ،‬يعمل الشاعر عىل إخضاع غري املدرك‪ ،‬وإدخاله يف نطاق املدرك‪ .‬وقيمة الشعر‬ ‫ال تكمن يف مشاعرنا‪ ،‬ولكن يف ما نصنع من ص َور‪ .‬وميكن التساؤل‪ :‬هل استطاع الشاعر تحقيق التكامل بني الروح‬ ‫واملا ّدة‪ ،‬بني الشعر والحياة؟‬ ‫نجح الشاعر عمر يف تحقيق هذا التكامل‪ ،‬عندما خرج عىل اللغة املستهلكة‪ ،‬وكتب بلغة أصيلة‪ ،‬تكمن يف أغوار‬ ‫النفس‪ ،‬من خالل لغة الرموز التي أتقن استخدامها أل ّن قيمة الرمز يف وجوده‪ ،‬حيث يتحقّق معنى اإلبداع يف‬ ‫الشعر‪.‬‬ ‫يجد الدارس مجموعة كبرية من الرموز األسطوريّة التي أحسن الشاعر عمر استثامرها يف مجموعته‪ ،‬ونجد منها ما‬ ‫الديني‬ ‫خاصاً بعامل املجموعة‪ ،‬تغذّى من لبانها؛ حتّى استوى كائ ًن دالل ّياً سويّاً‪ ،‬وبعضها ضارب يف املوروث‬ ‫كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫والتاريخي‪ ..‬وغريها‪.‬‬ ‫والثقا ّيف‬ ‫ّ‬ ‫استثمر الشاعر األساطري التي تتّىكء عىل املضامني الدين ّية‪ ،‬كأنبياء مثل (موىس‪ ،‬يوسف‪ ،‬يونس‪ ،‬يعقوب‪ ..‬وغريهم)‪.‬‬ ‫أفاد عمر من التاريخ العر ّيب القديم‪ ،‬فاستخدم رموزا ً كـ (كليب‪ ،‬بني هالل‪ ،‬وروايات ألف ليلة وليلة)‪ ،‬وال ينىس‬ ‫الشعري‪.‬‬ ‫عمر األساطري القدمية‪ ،‬كأسطورة (جلجامش‪ ،‬أوليس)‪ ،‬وعرف كيف يس ّخرها جميعاً يف خدمة غرضه‬ ‫ّ‬ ‫يعرث املتلقّي عىل رموز شعريّة ناجحة‪ ،‬يف شعر عمر‪ ،‬تجد يف هذه الرموز ما يجمع بني الصريورة والكينونة‪ :‬األوىل‬ ‫يل الذي يتمثّل يف الصور واإلشارات املجازيّة‪.‬‬ ‫الحس‪ ،‬ويت ّم التعبري عنه بالنشاط التخيي ّ‬ ‫هي صريورة املظهر ّ ّ‬ ‫واملقصود بالثانية كينونة األشياء بتسميتها عىل ما هي عليه‪ ،‬عرب التوغّل يف لبابها وأساسها األ ّول‪.‬‬ ‫(آنسها)‪،‬إل أنّه أجرى تعديالت‬ ‫ّ‬ ‫توقّف عمر أمام استسقاء النبي موىس (ع)‪ ،‬ومناجاة الله عىل الطور‪ ،‬والنار التي‬ ‫األسطوري شيئاً من تو ّهجه وتأ لّقه‪ .‬يقول عمر‪:‬‬ ‫تتوافق مع رؤيته‪ ،‬من غري أن يفقد الرمز‬ ‫ّ‬ ‫"وكان رعاة قدامى بصدري‬ ‫السقاء‪،‬‬ ‫وبنت‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫(شعيب) تريد ِّ‬ ‫وجئت أذود السقا َة عن البرئ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫القدس"(‪.)15‬‬ ‫عت مئذن َة‬ ‫عت برئي‪ ،‬وضيّ ُ‬ ‫لك ّنني اليو َم ضيّ ُ‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .15‬عمر شبيل‪ :‬أي خبز فيك يا هذا املطر‪ .‬ص ‪.198‬‬


‫تعب عن غيظ وغضب‪ ،‬ومتزيق أرغفة الظاملني‬ ‫التمزيق فعل‬ ‫ّ‬ ‫إرادي‪ ،‬ميارسه اإلنسان مبا يشبه ر ّدة الفعل التي ّ‬ ‫تومىء إىل كناية عن الرغبة يف التعويض عن الجوع‪ ،‬يف حني أ ّن املعطوف يشري إىل استعارة أكسبت الرياء هويّة‬ ‫جديدة‪ .‬وعىل هذا‪" ،‬تبقى الصورة عصب الشعر؛ ألنّها قادرة عىل قيادة القارىء‪ ،‬بفضل طاقتها اإليحائ ّية‪ ،‬إىل‬ ‫الشعري"(‪ .)13‬ومن الصور املدهشة قول عمر‪:‬‬ ‫دخول عامل القصيدة‪ ،‬وتالياً‪ ،‬عامل الشاعر‬ ‫ّ‬ ‫"متى يشح ُذ الجائعون نواجذهم‬ ‫للصالة عىل جثّة الجوع؟"(‪.)14‬‬ ‫محل هذه األدوات‪ ،‬ولكن‬ ‫إذا كان فعل شحذ األدوات املعدن ّية من أجل القطع‪ ،‬فإ ّن نواجذ الجائعني قد حلت ّ‬ ‫كل ماخذ‪.‬‬ ‫تغيت هويّتها توافقاً مع الجامعة التي أخذ بها الجوع ّ‬ ‫ليس من أجل القطع‪ ،‬إنّ ا من أجل الصالة التي ّ‬ ‫وتشييء الجوع يشري إىل إحداث التغيريات التي يأمل الشاعر حصولها‪ .‬هي صورة ف ّن ّية ناجحة‪ ،‬تُظهر براعة‬ ‫الشاعر‪ ،‬وحرصه عىل تحقّق الجامليّة يف الشعر‪.‬‬ ‫األساطري والرموز ودالالتها‬ ‫األسطوري يف قصائده‪ ،‬كون األسطورة مصدر إلهام‪ ،‬له ولغريه من الشعراء الذين رأوا‬ ‫استثمر الشاعر عمر املنهج‬ ‫ّ‬ ‫فيها عامالً جوهريّاً يف حياة اإلنسان‪ .‬واألسطورة يف الحضارة الحديثة أكرث فعال ّية منها يف عصور خلت؛ ألنّها ترتبط‬ ‫متاس مع الكون‪.‬‬ ‫مبخيّلة الشعوب‪ ،‬كام ترتبط بالرباءة األوىل‪ ،‬يوم كان اإلنسان البدا ّيئ عىل ّ‬ ‫أسطوري‪ .‬وقد يكون ذلك لصنع أساطري العرص‪،‬‬ ‫وتجل ذلك الفهم يف التعبري عن روح‬ ‫تف ّهم الشاعر روح األساطري‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ما يساعدهم هو االستعداد الدائم لالستجابة لألشياء وبطريقة أسطوريّة‪.‬‬ ‫تجلّت يف نفس الشاعر عوامل مختلفة‪ ،‬فعاد ليشكّلها‪ ،‬ويط ّورها يف أشكال رمزيّة‪ ،‬ويف مدركات وص َو ٍر من التعبري‬ ‫مجازيّة‪ ،‬وهذا يؤ ّدي إىل القول مبحاولة الشاعر إضفاء اإلنسان عىل تجربته يف مجملها الشكل الخيا ّيل والداللة‪.‬‬ ‫يسعى الشاعر إىل تقديم تجربته‪ ،‬من خالل صورة رمزيّة‪ ،‬هي أقدم صورة من صور التعبري‪ ،‬وأصدقها‪ .‬والشاعر‬ ‫الحقيقي يستثمر األساس الذي تقوم عليه األفكار‪ .‬ميكن أن تكون األسطورة صورة عريضة‪ ،‬تُكسب وقائع الحياة‬ ‫ّ‬ ‫وتظل النشاط األساس لحركة اإلنسان كلّها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫العاديّة مضموناً فلسف ّياً؛ ألنّها ترضب عميقاً يف أعامق النفس البرشيّة‪،‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .13‬صبحي البستاين‪ :‬الصورة الشعرية‪ .‬ص ‪.35‬‬ ‫‪ .14‬عمر شبيل‪ :‬أي خبز فيك يا هذا املطر‪ .‬ص ‪.160‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫يظل‬ ‫الخارجي املظلم‪ ،‬للوجود الذي يحمل عالمة عىل عاملنا املد ّمى باملآيس‪ ،‬ومع ذلك‪ّ ،‬‬ ‫هي نوع من إضاءة للعامل‬ ‫ّ‬ ‫يومض حتّى وإن كان محتجباً‪ .‬وما اإلضاءة إلّ عالمة عىل التشبّث باألمل‪ ،‬والثقة مبستقبل أفضل‪ .‬نتساءل‪ :‬هل هو‬ ‫مسعى روحا ّين جائع دامئاً‪ ،‬أم هي رؤيا را ٍء عىل دروب األشالء املبعرثة؟ يقول الشاعر‪:‬‬ ‫"كنت وحدي‪ ،‬غري ّأن مل أك ْن وحدي هناك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ورجال آخرو ْن‬ ‫عيني ضو ٌء‪،‬‬ ‫كان يف َّ‬ ‫َ‬ ‫وأسالك الحصا ْر"(‪.)18‬‬ ‫يعربون املوتَ واملنفى‬ ‫هنا بعض من تفاؤل وبعض من أمل‪ ،‬والعبور قيامة‪ ،‬وتلوح يف األفق بروق الثورة املصطبغة بالدم‪ ،‬يف فلسطني‬ ‫وغري فلسطني‪ .‬والضوء ينبوع الثقة بالقادم من الزمن‪ ،‬مهام طال االنتظار‪.‬‬ ‫لقد وعى الشاعر روح التاريخ وحركته‪ ،‬وعندما رأى الدموع تسيل من مآقي األنهار والفقراء‪ ،‬كان طبيع ّياً أن‬ ‫نتل ّمس االنفعال الساطع يف شعره‪ ،‬وهل يكون الشعر شعرا ً إذا مل يكن صادرا ً عن االنفعال؟ واملعاناة الحقيقيّة‪،‬‬ ‫روح ّياً وجسديّاً‪ ،‬جعلته ينصت لنبضات قلبه‪ ،‬وجعلت روحه خصبة خصوبة سهل البقاع‪ ،‬وكرمية كرم "الصويرة"‪.‬‬ ‫والشاعر عمر شبيل‪ ،‬القادم من شعريّته وقرويّته‪ ،‬عىل مدى عقود من الزمن‪ ،‬ما زال مفتوناً و"مسكوناً بصويرته‬ ‫الفاتنة وشعريّته الجميلة ‪ ...‬عىل بيادر الزمان‪ ،‬يكيل الحنطة للفقراء"‪ ،‬كام يقول عنه الدكتور عيل مهدي زيتون‪.‬‬ ‫يتخل الشاعر عن شعريته وصويرته‪ ،‬بل راح يغرتف من ينابيع ذاته املتأ لّقة‬ ‫ومع القهر والسجن والظالم‪ ،‬مل ّ‬ ‫ظل األزمة‬ ‫بالضوء والرؤيا‪ ،‬وكان شعره‪ ،‬كاملتن ّبي وحافظ الشريازي وطاغور‪ ،‬تعبريا ً عن موقف ثقا ّيف كبري‪ ،‬حتّى يف ّ‬ ‫املديدة التي ه ّددت كيانه بالتاليش والفناء‪.‬‬ ‫ولعل خوض معارك الحياة‪ ،‬مل يُبعده عن فرادته‬ ‫مل ت ُشغل األزمة الشاعر عن الثقافة‪ ،‬بأبعادها اإلنسان ّية والقوم ّية‪ّ ،‬‬ ‫الشعريّة‪ ،‬وهي تحمل رؤية الشاعر إىل العامل‪ ،‬انطالقاً من العاملَني الج ّواين وال ّرباين‪ ،‬بارتكازها عىل ما تراكم عنده‬ ‫من ثقافة موسوع ّية عميقة‪ ،‬ترضب بجذورها يف أعامق الرتاث العر ّيب واإلنسا ّين الفسيحني‪ ،‬ترفدها قناعات وهموم‬ ‫واهتاممات‪ ،‬وهذه كلّها‪ ،‬تشكّل بصمته الثقافيّة التي ال تشاكلها بصمة أخرى‪ .‬ورؤية الشاعر عمر املتميّزة تجعل‬ ‫األشياء غري األشياء‪ ،‬والعالقات غري العالقات‪ ،‬ويغد ذلك كلّه ف ّن ّياً ذات ّياً بامتياز‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .18‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.24‬‬


‫استطاع عمر أن يح ّمل الرمز ما يتالءم مع سياق القصيدة‪ ،‬بعد أن أجرى ما يجده مناسباً من تعديل‪ ،‬ويف هذا‬ ‫ف ّنيّة ال تخفى عىل القارىء‪ .‬ويستثمر أسطورة (جلجامش)‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫"جلجامش نيس الحياة بحلق أفعى‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وانهمرتُ وراءها‬ ‫أبيك عىل خبز اإللــ ْه‬ ‫اإللــهي املس ّور‪.)16("..‬‬ ‫أبيك عىل الطني‬ ‫ّ‬ ‫رمزي‪ ،‬ينهل من األسطورة ما ال ينضب‪ ،‬كشف بوساطته عن معاناته وهمومه‪،‬‬ ‫ق ّدم الشاعر الفكرة بأسلوب‬ ‫ّ‬ ‫واستطاع أن يقنع القارىء بصواب رؤيته‪.‬‬ ‫انبثاق الضوء‬ ‫يف شعر عمر شبيل حنني طا ٍغ إىل مصدر الضوء‪ ،‬واالهتداء به يف ظلامت السجن والغربة‪ ،‬كام يف زمن االنهيارات‬ ‫الكربى‪ .‬والضوء يف شعر عمر شبيل شديد السطوع؛ ألنّه مأخوذ من الرتاب‪ .‬يعرث الدارس عىل ورود مفردة‬ ‫(الضوء)‪ ،‬مع ما يتف ّر ع منها‪ ،‬ويرتبط بها‪ ،‬مثانية وخمسني م ّرة‪ ،‬يف حني أ ّن تكرار مفردة (الظالم)‪ ،‬ومتعلّقاتها‪،‬‬ ‫وردت خمسني م ّرة‪ ،‬مرتبطة باملعاناة املزمنة‪ ،‬وبسلسلة من الرتاجعات املوجعة‪ ،‬عىل مستوى الفرد والجامعة‪ .‬وإن‬ ‫دل هذا عىل يشء‪ ،‬فإنّ ا ّ‬ ‫ّ‬ ‫ولعل‬ ‫يدل عىل ثقة الشاعر بقدرة األ ّمة عىل تجاوز املحن‪ ،‬والنهوض بعد كبوات وكبوات‪ّ .‬‬ ‫البي أ ّن عامل الشاعر الج ّواين هو األساس‪ ،‬وهو املنطلق الذي يهب الضوء للذات‪ ،‬بل هو النبع الذي ييضء‪:‬‬ ‫من ّ‬ ‫"أيّها القلب القديم‬ ‫ْ‬ ‫أمامك‬ ‫م ّر ًة أخرى‬ ‫سوف أخبو وأيض ْء"(‪.)17‬‬

‫_______________________‬ ‫أي خبز فيك يا هذا املطر‪ .‬ص ‪.117‬‬ ‫‪ .16‬عمر شبيل‪ّ :‬‬ ‫‪ .17‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.51‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫كل ما هو مرشق وميضء‪:‬‬ ‫وعندما ال يكون الرايئ مغلقاً‪ ،‬وهذا شأن عمر يف شعره‪ ،‬يجعله التاريخ مفتوحاً عىل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫"سالك قلبي‪ ،‬وزادي جثّة التاري ِخ‪،‬‬ ‫ظل عىل النه ِر‬ ‫والعشب الذي ّ‬ ‫كل أهيل‬ ‫والذي مات عليه ّ‬ ‫وسأبقى صاحب الصوت األخري‬ ‫مستحيل(‪.)21‬‬ ‫ْ‬ ‫طاملا يف األرض خب ٌز‬ ‫ظل عمر إنساناً كون ّياً‪ ،‬من خالل إرصاه عىل تضميد جراح‬ ‫ومع أ ّن الجرح بهره‪ ،‬وتغلغل يف مفاصله حتّى النخاع‪ّ ،‬‬ ‫أ ّمته‪ ،‬وهو يدرك أ ّن إمكاناته أصغر من أمانيه‪ ،‬وعندما ال يحمل يف قلبه نبتة ب ّريّة يف رمال القحط والشلل‬ ‫والعقم‪ ،‬تجده مسكوناً بالجرح امليضء‪:‬‬ ‫"ك ّنا نفتّش عن أهلنا يف الحقول‬ ‫وهم يحرثون الرثى‪ ،‬ومحاريثهم تزرع الغي َم‬ ‫يف أرضنا لحصاد الرغيف"(‪.)22‬‬ ‫إذا ما أصغى عمر لألصوات القادمة من التاريخ‪ ،‬فهو ال يغرق فيها‪ ،‬وال يجثم يف تفاصيله‪ ،‬بل يقتبس حضور‬ ‫الكشف وكثافة اإلحساس‪ .‬وإميان عمر بعدالة قض ّيته‪ ،‬أكرب من إميانه بنجاحها وانتصارها‪ ،‬وهنا تكمن ق ّوته‬ ‫الحقيق ّية املتمثّلة يف عظمة القضايا الكربى‪ ،‬ولو كانت مهزومة‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .21‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.49‬‬ ‫‪ .22‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.85-84‬‬


‫لنص احتام ّيل األبعاد‪ ،‬قابل للقراءات املتع ّددة‪ ،‬تكمن يف بنيته الف ّن ّية تلك املفاتيح‬ ‫النص‬ ‫الشعري قراءة ّ‬ ‫إ ّن قراءة ّ‬ ‫ّ‬ ‫التي تفيض إىل ما يريد قوله‪ .‬ها هو يقول أيضاً‪:‬‬ ‫الليل هنا يا سيدي‬ ‫"ربا ُ‬ ‫ّ‬ ‫أي مكانٍ وزما ْن‬ ‫ُ‬ ‫أفضل من ّ‬ ‫دم اإلنسان يؤذي"(‪.)19‬‬ ‫هكذا حني يص ُري الضو ُء ليالً يف ِ‬ ‫لسنا هنا أمام مفاضلة ما بني الليل والضياء‪ ،‬ولك ّننا أمام بريق ساطع‪ ،‬منبته الذات التي راحت تتل ّمس سبل‬ ‫تغي يف حقيقة األحداث الجسام التي متور بها الروح‪ .‬وإذا مل يكن األمر كذلك‪،‬‬ ‫الرجاء‪ ،‬وهي يف تحديقها باألعىل ّ‬ ‫فكيف ميكن تفسري الحضور الكثيف للضياء‪ ،‬والعطاء واإلميان بالثورة والتغيري املرتقب؟ هو فعل إميان بحتم ّية‬ ‫اإللهي‬ ‫الثورة‪ ،‬ىإذ ال مه ّمة ملخلص‪ ،‬غري إنجاز حضوره الهادف إىل محاربة الظلم‪ ،‬وبناء اإلنسان عىل مدارج الضوء‬ ‫ّ‬ ‫الساكن فيها‪ ،‬كام يقول عمر نفسه‪.‬‬ ‫الالفت للنظر يف مجموعة عمر شبيل‪ ،‬هو أنّه يضع روحه يف ما يكتب‪ ،‬فالكتابة عنده نزيف موجع‪ ،‬وما ذلك إالّ‬ ‫ألنّه صادق يف ما يكتب‪ ،‬وصادق مبدع يف ما يصوغ من قصائد‪ .‬أراه رائياً يف ما يختزن من مواجد‪ ،‬ومشكل ّية نتاجه‬ ‫هي مع تلك الروح‪ ،‬تراه متل ّوناً بالحزن واألىس‪.‬‬ ‫ولعل هذا العدد الكبري مرتبط‬ ‫وردت مفردة الحزن‪ ،‬وما يتعلّق بها‪ ،‬تسعاً وأربعني م ّرة‪ ،‬عرب قصائد املجموعة‪ّ ،‬‬ ‫بالحال النفس ّية التي استحكمت بالشاعر‪ ،‬واألمر األقرب إىل التعليل هو عمق املعاناة وح ّدتها‪ ،‬وقد استم ّرت‬ ‫عقودا ً من الزمن‪ .‬فاالنكسار يؤ ّدي إىل الحزن‪ ،‬وكذلك مواطن التخلّف واالستئثار بالسلطة‪ ،‬والوقوف يف وجه حركة‬ ‫التاريخ التي ال تعرف الرتاجع‪ ،‬حتّى وإن كانت املسرية متع ّرجة‪.‬‬ ‫الحب عشقاً‪ ،‬ال يبقى مجال للكراهية‪ ،‬وهذا ملمح إنسا ّين شديد الوضوح يف شعر عمر‪" :‬إ ّن‬ ‫عندما يغدو سطوع‬ ‫ّ‬ ‫فج َرينا هنا‪ ،‬ياسيدي‪ ،‬مختلفا ْن‬ ‫ْ‬ ‫أكرهك"(‪.)20‬‬ ‫رغم هذا‪ ،‬فأنا لن‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .19‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.42‬‬ ‫‪ .20‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.42‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫هذه هي ثقة الشاعر بالقادم من األ يّام‪ .‬ويعود إىل تصوير حجم املعاناة‪ ،‬فرديّة كانت أم جمع ّية‪:‬‬ ‫لدي‬ ‫"وملّا‬ ‫ُ‬ ‫دخلت املدين َة ما كان خب ٌز َّ‬ ‫سوى رمل ذاك الحذا ِء‬ ‫ُ‬ ‫الرغيف‬ ‫الرمال‬ ‫أصعب الس َري حني تص ُري‬ ‫وما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مشيت وال زا َد غ ُري التعب"(‪.)25‬‬ ‫ُ‬ ‫ما عالقة الخبز والرغيف بالحذاء والرمال؟‬ ‫النص وفضاءاته البعيدة‪ ،‬حيث يربع عمر يف التقاط املشاهد‪ ،‬ويُحسن توظيفها‬ ‫خفي يقبع يف أعامق ّ‬ ‫هناك مع ًنى ٌّ‬ ‫ومم ال ّ‬ ‫شك فيه أ ّن للسياق الدور األبرز‪ ،‬فام بني الحذاء والخبز تضا ّد‪ ،‬واألمر نفسه ما بني‬ ‫يف السياقات املتع ّددة‪ّ .‬‬ ‫درامي شديد‬ ‫أفعل) التعجب ّية؛ للداللة عىل املفارقة والتضا ّد‪ ،‬داخل إطار‬ ‫الرغيف والرمال‪ ،‬وتأيت صيغة (ما َ‬ ‫ّ‬ ‫الوضوح‪ .‬هذا هو التعبري الف ّن ّي عن املعنى املراد‪ ،‬يف نقل نوعيّة ال يتقنها إلّ الشعراء الكبار‪.‬‬ ‫الحب والداللة‬ ‫قيم‬ ‫ّ‬ ‫الحب‪ ،‬ودرب هذا األخري ال ينتهي‪ ،‬مهام تت ّوعت املشقّات وتع ّددت‪.‬‬ ‫ال يقود الرؤيا نحو مساراتها الحقيقيّة ّإل‬ ‫ّ‬ ‫والطريق إىل أ ّم القرى ال ّمير إلّ عرب هذا الدرب‪ .‬اختار عمر سلوك هذه الطريق الوعرة‪ ،‬وكابد ما كابد‪ ،‬يف شعر‬ ‫حب للوطن واألهل‪:‬‬ ‫عمر ّ‬ ‫ُ‬ ‫أحاول يا سيدي‪،‬‬ ‫أظل‬ ‫" ‪ ...‬وسوف ُّ‬ ‫وأعشاب قريتنا"(‪.)26‬‬ ‫ومنديل أ ّمي‬ ‫َ‬ ‫أن أش َّم روائح أهيل‬ ‫َ‬

‫_______________________‬ ‫‪ .25‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.123‬‬ ‫‪ .26‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.68‬‬


‫تفرتض طبيعة الحياة املستج ّدة أمناطاً تعبرييّة جديدة‪ ،‬وقد تكون املفارقة أو التضا ّد من بني هذه األمناط‪ ،‬إذ‬ ‫الحيوي الذي يؤ ّديه التضا ّد‪ ،‬ومن‬ ‫يخلق التضا ّد شيئاً من التوازن يف الحياة والوجود‪ .‬ومل يغب عن بال عمر الدور‬ ‫ّ‬ ‫مناذجه قوله‪:‬‬ ‫"بروحي وجسمي استب ّد الجدار‬ ‫فهل تستب ّد السامء!!‬ ‫هات املفاتيح‪ِ ،‬‬ ‫فيا صاحب السجن ِ‬ ‫هات الرياح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهات املطر‬ ‫وهات الغيوم‬ ‫ِ‬ ‫وهات الشجر‬ ‫ِ‬ ‫وهات الطريق"(‪.)23‬‬ ‫ِ‬ ‫(هات) يف القصيدة يشري إىل املفارقة الدراميّة حتّى االشباع‪ ،‬كام يحمل إشارة إىل مقدار القمع‬ ‫إ ّن تكرار مفردة‬ ‫حل يف بالده‪ .‬وقد تكون الكلمة املك ّررة‬ ‫الذي يعانيه الشاعر يف الغربة واألرس‪ ،‬وهو ما يعانيه املواطن العر ّيب أينام ّ‬ ‫خاصة‪ ،‬وتغدو محورا ً تدور حوله األفكار الجزئيّة يف القصيدة‪ .‬وإذا ما كان الحلم بالعودة هو ما‬ ‫ذات أه ّميّة ّ‬ ‫يشغل بال الشاعر‪ ،‬فإ ّن فقدان املفاتيح والرياح والغيوم واملطر والشجر والطريق‪ ،‬باتت هذه كلّها دروب للعودة‬ ‫املرتقبة‪ .‬والعودة إىل قصائد املجموعة ت ُظهر عناية الشاعر بالتضا ّد واملفارقة‪ ،‬كونها تعكس وظيفة األدب النهائيّة‬ ‫التي تقوم عىل الرصاع بني الثنائ ّيات املتضا ّدة‪ ،‬كالذات واملوضوع‪ ،‬والداخل والخارج‪ ،‬والحياة واملوت‪ ...‬الخ‪ .‬هي‬ ‫رس التنافر والتناقض‪.‬‬ ‫خري ما يعطي األدب قيمته الف ّنيّة‪ ،‬بها ندرك ّ‬ ‫الروح املتفائلة‬ ‫وردت مفردة (الخبز)‪ ،‬مع ما يتعلّق بها أربعة وعرشين م ّرة‪ ،‬يف حني أ ّن مفردة (املطر) قد وردت سبع عرشة م ّرة‬ ‫وربا ّ‬ ‫يدل هذا‪ ،‬مع ما بينهام من تواشج‪ ،‬عىل ثقة الشاعر بحتم ّية التغيري املطلوبة‪" :‬وما‬ ‫يف قصائد املجموعة‪ّ .‬‬ ‫عليك سوى العناد‪ ،‬فسوف ينبلج الصباح"(‪.)24‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .23‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.169‬‬ ‫‪ .24‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.122‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫بني االشتهاء والغواية عالقة تكامل وطيدة‪ ،‬وإذا ما أعلن الثغر ألوان تلك االشتهاءات‪ ،‬يرفد األلوا َن ما ميور به‬ ‫الصدر من حزن وكربياء‪ ،‬يف آن معاً؛ أل ّن هذا الصدر هو منبع العواطف املتّقدة ومح ّرك تفاعالتها‪ .‬وما وصف‬ ‫كل قيد‪ ،‬وتوغل الذات يف عفويّتها وسج ّيتها‪.‬‬ ‫االشتهاءات بالغجريّة إلّ دليل عىل انطالقتها‪ ،‬وتح ّررها من ّ‬ ‫يورد الشاعر أسطورة (ح ّواء)‪ ،‬املرأة التي بغوايتها أُخرجت من الج ّنة‪ ،‬وأخرجت معها (آدم)‪ ،‬مع ما يف هذا املوقف‬ ‫من كشف أله ّم ّية العالقة القامئة عىل التكامل واالنسجام‪ .‬ث ّم يورد أسطورة األفعى املعروفة‪ ،‬ونبتة الحياة‪ ،‬وليس‬ ‫توزيعها عىل الشعراء إلّ تكرمياً لهؤالء الذين يسعون إىل الخلود‪ ،‬مبا يخلّفون من آثار ال يطالها الفناء‪.‬‬ ‫كل زمان ومكان‪ ،‬بل هي السم ّو واالرتقاء‪ ،‬بكربياء‬ ‫الحب‪ ،‬تلك العاطفة الخالدة يف ّ‬ ‫ويتوضح موقف الشاعر من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان الذي استب ّدت به املعاناة‪ ،‬وتكون هذه األخرية شديدة الحضور يف النفوس الكبرية‪ .‬يقول عمر‪:‬‬ ‫الذهاب إىل غرفة مطفأ ْه‬ ‫"أري ُد‬ ‫َ‬ ‫بكل وضوح‪.‬‬ ‫كل يش ٍء ّ‬ ‫وفيها أرى َّ‬ ‫الشباب بها‪ ،‬وجنو َن امرأ ْه‪،‬‬ ‫أري ُد‬ ‫َ‬ ‫أريد الصال َة عىل جمرها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الطواف بكعبتها‬ ‫أري ُد‬ ‫ورج َم الشياطني فيها بحبّات قلبي"(‪.)29‬‬ ‫بعيدا ً من الدالالت القاموس ّية للكلامت يف هذه األسطر‪ ،‬نلحظ أ ّن الكلمة معجونة بذات الشاعر‪ ،‬عىل هذا‪ ،‬يكون‬ ‫تأثريها أعمق يف النفس البرشيّة وتو ّجهاتها‪ .‬وميكن القول إ ّن األشياء املتع ّددة هنا‪ ،‬هي عالمات‪ ،‬أي رموز ملا هو‬ ‫العيص عىل الكشف‬ ‫أبعد من داللتها القريبة‪ .‬وكلامت الشاعر املصوغة وفاق رؤيته‪ ،‬تغدو مرايا للداخل‬ ‫ّ‬ ‫واالستبطان‪.‬‬ ‫والرؤية يف الغرفة املطفأة هي رؤية ما يف داخل الذات من أوجاع وآالم‪ .‬وطاملا أ ّن الشعر لصيق بالنفس اإلنسان ّية‪،‬‬ ‫سيبقى قابعاً يف الذات البرشيّة‪ ،‬وترجامناً ألحاسيس اإلنسان‪ ،‬وصدى الذات يف الكلامت‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .29‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.137‬‬


‫حب األهل‬ ‫هو االنتامء الذي مل ّ‬ ‫تغيه الشدائد‪ ،‬هو وجه من أوجه اله ّم الكبري الذي حمله عقودا ً من الزمن‪ .‬تح ّول ّ‬ ‫الحب الحلم‪ /‬الرؤيا‬ ‫والوطن إىل وجد‪ ،‬وتح ّول ارتباطه به أيقونة ال ت ُنىس وال يرميها يف ظلامت السجون‪ .‬يرتبط‬ ‫ّ‬ ‫الحب بالوطن‬ ‫الحب إطارا ً للعودة املرتقبة يف أثناء سجنه‪ ،‬ولك ّنه يبقى حريصاً عىل تو ّحد‬ ‫عند عمر‪ ،‬ويجعل من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واالنتامء‪:‬‬ ‫"يا آخر امرأ ٍة تول ّْت إمر َة البح ِر اطمئ ّني‬ ‫أخت ذاكر ُة الوط ْن‬ ‫إ ّن ذاكرة السفينة نفسها يا ُ‬ ‫ما زال وجهك صالحاً يوم العواصف للعبو ِر‬ ‫مثل املو ِج‪ .)27("..‬‬ ‫أرتج َ‬ ‫وها أنا ُّ‬ ‫رمزي متع ّدد األبعاد‪ ،‬والسفينة واملوج عامالن صالحان للتعبري‬ ‫الحب بالعبور إىل املناطق الرحبة يف إطار‬ ‫يندمج‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تقص تلك املناطق املجهولة التي‬ ‫عن مكنونات النفس‪ ،‬وعن الحنايا املخبوءة يف النفس البرشيّة‪ ،‬وال يستطيع أحد ّ‬ ‫األنثوي‪ ،‬يبوح مبا يتجاذبه من مشاعر‪.‬‬ ‫ال تزال عص ّية عىل السرب‪ .‬والشاعر العاشق الذي يته ّجى مالمح الوجه‬ ‫ّ‬ ‫والحب‪ ،‬إذ نجده يقول‪:‬‬ ‫وتتب ّدى نظرة الشاعر عمر إىل حقيقة املرأة‬ ‫ّ‬ ‫"وتلك اشتهاءتاك الغجريّ ُة سافر ًة‬ ‫يعلن الثغ ُر ألوانَها‬ ‫وصد ُر ِك والحز ُن والكربياء‬ ‫ِ‬ ‫وكنت الغواي َة‪،‬‬ ‫هل ِ‬ ‫أنت ح ّوا ُء‪ ،‬أم أنت تفاحة رسقتها‬ ‫دم الشعراء؟‬ ‫األفاعي‪ ،‬وراحت توزّعها يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫طردوك من الخلد لوال خلو ُد ِك‬ ‫وما‬ ‫يا بيد َر الجائعني لخبز الحياة"(‪.)28‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .27‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.118‬‬ ‫‪ .28‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.135‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫حضور املرأة يف بعض قصائد عمر‪ ،‬يُخرجها من محدوديّتها‪ ،‬وقتها‪ ،‬متتلك ق ّوة ال ميكن مقاومتها‪ .‬وما بني وجودها‬ ‫املشتعل ونأيها يف فضائها الكو ّين‪ ،‬يجعل من املرأة مشكاة يف تفاصيل الرتابيّة املتم ّردة أبدا ً‪.‬‬ ‫املرأة يف شعر عمر‪ ،‬يف هذه املجموعة‪ ،‬أشبه ما تكون باملجاز الساكن يف الجسد املثقل باملعاناة‪ ،‬وهي‪ ،‬يف نأيها‪،‬‬ ‫أبعد من منال الكلامت‪ .‬واملرأة التي تخادع دمها‪ ،‬من غري أن تعلن لظاها‪ ،‬هي أشبه باألنثى املتدفّقة من الحضور‬ ‫تتخل عن دورها يف جعل اإلنسان خارطة للمكان‪ ،‬عىل أعتاب السم ّو واالرتقاء‪ ،‬وحني‬ ‫إىل الحضور‪ ،‬من غري أن ّ‬ ‫كل جوع غذاء لروحه املحلّقة حتّى املنتهى‪.‬‬ ‫يجد الشاعر أنّه‪ ،‬مع املرأة‪ ،‬متالصقان حتّى حدود اال ّمحاء‪ ،‬فيكون يف ّ‬ ‫فيوضات الذات‬ ‫يف شعر عمر الذي يفوض من الذات بشكل عارم‪ ،‬نجده باحثاً عن بالده‪ ،‬بوجد يتّصل بالذات الكربى‪ ،‬وغيابها ليس‬ ‫إلّ حضورها الدائم‪ .‬ال تفارق صورة بالده عينيه‪ ،‬يف املنايف أو يف السجون‪ ،‬يف أقىس ساعات الحزن واألمل‪ .‬وتنطوي‬ ‫قصائد املجموعة عىل حيّز واسع من اإلشارات إىل الوطن‪ ،‬مبا فيه من أهل وأماكن‪ .‬تنبع بالده من الضياء املنبعث‬ ‫من روحه‪ ،‬فهي تسكنه قبل أن يتع ّرفها‪ ،‬وتفاصيلها تستعيص عىل التأويل والتفسري‪ ،‬لقد سكنته بالده مع القصيدة‪،‬‬ ‫وتراءت مالمحها يف روحه‪ ،‬وألغت الفواصل والحواجز بني افنسان وقضيّة اإلنسان املقهور‪ ،‬إىل درجة تزول فيها‬ ‫املسافة بني الحياة واملوت‪ .‬هكذا يغدو الوطن فينا‪ ،‬ونحن فيه‪ ،‬دفاعاً عن قض ّية اإلنسان املقهور‪ ،‬أينام كان‪ ،‬وهذا‬ ‫ربا قبل أن تتناوش الشاعر األحزان واملنايف‪ ،‬يف الضياء املنبثق من أعامق الظلامت ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫"كنت وحدي‪ ،‬غري ّأن مل أك ْن وحدي ْ‬ ‫هناك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ورجال آخرون‬ ‫عيني ضو ٌء‪،‬‬ ‫كان يف َّ‬ ‫َ‬ ‫وأسالك الحصا ْر"(‪.)31‬‬ ‫يعربون املوتَ واملنفى‬

‫_______________________‬ ‫‪ .31‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.24‬‬


‫وما بني الجنون والصالة عالقة تناقض وتباين‪ ،‬وجنون املرأة أشبه بجزر الساحرات التي تغري ساحراتها‪ ،‬بالغناء‬ ‫الشجي‪ ،‬فيقودهم تأث ّرهم إىل الجزيرة امللعونة؛ ليتح ّولوا إىل وقود الستمرار الشجو‪ ،‬فهل ما زال هذا الشجو‬ ‫ّ‬ ‫مستم ّرا ً يف شعر عمر؟‬ ‫إ ّن الصالة عىل الجمر‪ ،‬جمر املرأة أو جمر الغرفة املطفأة‪ ،‬ما هي إلّ محاولة لتفريغ الجسد من األوجاع‪ ،‬شأنها يف‬ ‫يظل الشاعر قارصا ً عن بلوغ املجاهيل القص ّية يف النفس البرشيّة‪.‬‬ ‫هذا شأن الشعر‪ ،‬ويكون هذا عندما ّ‬ ‫وإذا ما وقعت الكعبة والشياطني عىل طريف نقيض‪ ،‬يف بعد إميا ّين شديد الحضور يف مجموعة عمر الشعريّة‪ ،‬فإ ّن‬ ‫رجم الشياطني بح ّبات القلب‪ ،‬وهو أغىل ما ميلك‪ ،‬وأكرث مناطقه غموضاً وشفاية‪ ،‬يف آنٍ معاً‪ .‬هو يشفع للشاعر‬ ‫الحب طريق السفر من الطني‬ ‫إرادة جنون املرأة‪ .‬وإذا ما اختفت الرغبة‪ ،‬فقد تسامت عواطف الشاعر؛ لييضء له‬ ‫ّ‬ ‫النبي آدم (ع) من الج ّنة بطينه‪ ،‬فإ ّن عمر قريب إىل الله بتساميه‪ ،‬بوصفه ح ّرا ً تخفّف‬ ‫إىل املطلق‪ .‬وإذا ما خرج ّ‬ ‫رس خلود األشياء املصنوعة من األمنية‪:‬‬ ‫من الطني واألدران؛ أل ّن توبة اآلثم هي أقرب التوبات إىل الله‪ .‬هل هذا هو ّ‬ ‫"‪ ...‬جس ٌد يقول‪:‬‬ ‫صاحب الخصب الجميل‪،‬‬ ‫أنا‬ ‫ُ‬ ‫أحسب أنّني شجر بروضتها‪،‬‬ ‫أدنو وأدنو حيث‬ ‫ُ‬ ‫ويخذلني مداها‪،‬‬ ‫وتظل نائية ويف جنبي أراها"(‪.)30‬‬ ‫ّ‬ ‫تظل دامئاً‬ ‫يف تتابع هذه األسطر يشء من الحزن الشفيف‪ ،‬هو حزن الجسد؛ هو يدرك أنّه فانٍ ‪ ،‬يف حني أ ّن الروح ّ‬ ‫الحب الذي ليس له وجود بغري املرأة‪ .‬والدن ّو من املرأة ذات الخصب الجميل محكوم‬ ‫آتية‪ ،‬ومن أدوات مجيئها‬ ‫ّ‬ ‫وتظل املرأة نائية "يف فضاء الطيور الروحيّة التي نو ّد حيازتها برتابيّتنا الفانية"‪ ،‬كام يقول عمر نفسه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫بالخذالن‪،‬‬ ‫وبني الدن ّو والنأي تباعد ينقل إىل الحرية التي تجعل القارىء عىل موعد مع الحلم واألمنية‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .30‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.178‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫رس خلودها عىل مطارح اللهفة واالشتياق‪ ،‬كام كتبته عىل‬ ‫يرى الشاعر وطنه يف قلبه‪ ،‬بروحه املعذّبة التي كتبت ّ‬ ‫أشالء الحنني املشتعل‪ ،‬وأش ّعة الضياء املنبعث من أعمق اشتات الروح املم ّزقة التي ال تعرف غري الصمود‬ ‫والكربياء‪ .‬يقول عمر‪:‬‬ ‫خارج ِ‬ ‫"وها أنت يا وطني دامئاً‬ ‫املوت‬ ‫َ‬ ‫تحب الحياة‪،‬‬ ‫وما‬ ‫أصعب املوتَ حني ُّ‬ ‫َ‬ ‫وحني َ‬ ‫يراك الوط ْن‪،‬‬ ‫وأنت عىل فرس الريح تأيت‬ ‫ليك ترتدي ِه"(‪.)34‬‬ ‫الوطن عند عمر يستعيص عىل املوت؛ ألنّه يؤمن بحركة التاريخ الذي ال يقبل بالفراغ‪ ،‬وأحاسيس عمر املتدفّقة‬ ‫كالنهر الذي ليس عىل ضفّتيه سوى الظامئني‪ ،‬وما مناداة األفواه واألصوات إلّ عالمات عىل الثقة بالوطن القادم‬ ‫عىل فرس الريح‪ ،‬وإشارات إىل النضال املستم ّر الذي يجتاز الحواجز‪ ،‬وصوالً إىل الح ّريّة‪ ،‬وتعبري عن ق ّوة الوجود‪.‬‬ ‫استحرض الشاعر بعض األساطري‪ ،‬عىل تن ّوعها ومصادرها‪ ،‬مبا فيها من مشاهد تؤاخي الحقيقة والواقع‪ ،‬كام تؤاخي‬ ‫يشف‬ ‫يشف‬ ‫املجاز‪ ،‬وتتجاوزه أحياناً‪ ،‬ويُلحظ أ ّن‬ ‫العادي املتّسم بالقلق‪ ،‬ويف الوقت ذاته ّ‬ ‫األسطوري يف شعر عمر ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫األسطوري الذي يكمن يف أعامق الذات اإلنسانيّة‪.‬‬ ‫الواقع عن‬ ‫ّ‬ ‫إ ّن مجموعة عمر شبيل الشعريّة‪ ،‬ميكن أن نع ّدها أسطورة من أساطرينا يف العرص الحديث‪ ،‬إذ متثّل قراءة مع ّمقة‬ ‫لواقعنا الحا ّيل‪ .‬هي دليل عافية‪ ،‬تفتح أمام أعيننا األبواب املغلقة‪ ،‬حتّى لكأ ّن املفتوح مسكون مبخاطر االنغالق‪،‬‬ ‫وفيها يشء من الشفاء من األوهام‪ ،‬كام أراد لها عمر أن تكون‪ ،‬وهو‪ ،‬يف هذا كلّه‪ ،‬ينطلق من الثقافة التي هي عني‬ ‫عقدته‪ ،‬وكذلك من اهتامماته التي هي عني همومه‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .34‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.141‬‬


‫(كنت) إىل (مل أك ْن) هو انتقال من الظلمة إىل أش ّعة األمل‬ ‫تتب ّدى ثقة الشاعر بالقادم من األيام‪ ،‬واالنتقال من‬ ‫ُ‬ ‫والتفاؤل‪ ،‬والضوء والرجال صنوان‪ .‬وما مفاعيل الفعل (يعربون) املتتابعة إلّ عالمة عىل مكانة الوطن عند هؤالء‬ ‫الرجال‪ ،‬واالستعداد للتضحية يف سبيله‪ ،‬وهو معهم‪ ،‬بقلبه وعواطفه‪ ،‬وإن كان يف غياهب السجون‪.‬‬ ‫ويسلّط عمر الضوء عىل أبناء وطنه‪ ،‬يف يشء من الفخر واالعتزاز‪:‬‬ ‫"بالدي مق ّدسة ر ّد ِت املا َء خمرا‬ ‫ومل تقدر الطائراتُ عىل قتل "قانا الجليل"‬ ‫وفيها صعدتُ إىل جبل مستحيلٍ‬ ‫يح ُّد السامء"(‪.)32‬‬ ‫املتأصلة يف نفس الشاعر‪ ،‬ويرتبط هذا باألسطورة الدين ّية‬ ‫إ ّن إطالق صفة القداسة عىل البالد يكشف عن مكانتها‬ ‫ّ‬ ‫التاريخي حيناً آخر‪ ،‬وما الصعود إىل جبل مستحيل إلّ تطهري للنفس من أدرانها وشوائبها‪،‬‬ ‫حيناً‪ ،‬وبالحدث‬ ‫ّ‬ ‫واالرتقاء بها إىل مستوى األنبياء وكبار الرائني‪:‬‬ ‫املستحيل الذي ليس يأيت‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫"فيا وطني‬ ‫تظل بعيدا ً؟‬ ‫ملاذا ُّ‬ ‫أراك ولست َ‬ ‫ملاذا َ‬ ‫أراك"؟(‪.)33‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .32‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.66‬‬ ‫‪ .33‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.73‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫وأنت تقرأ يف شعر عمر‪ ،‬تجد أ ّن املواعيد مع الضياء ال تُلغى‪ ،‬بل هي عىل تواصل دائم مع الينابيع التي ستتف ّجر‪،‬‬ ‫حتّى وإن ارتفعت السدود‪ ،‬من أجل صنع الزمن العر ّيب اآلخر‪ .‬تُرى‪ ،‬هل تلك الينابيع هي األعناق التي تتح ّدى‬ ‫السكاكني والغزاة‪ ،‬وتلتصق بأعناق أخرى‪ ،‬نذرت نفسها ملقارعة السكاكني‪ ،‬ولو بالجرح‪ ،‬أم هي عمل ّية إيقاظ آلذان‬ ‫الفجر الذي طال انتظاره؟‬ ‫سفينة عمر مرتبطة بـ (مجمع البحرين)‪ ،‬ولديه اليقني بالوصول‪ ،‬ألنّها مت ُّر (يف جفن الردى وهو نائ ُم)‪:‬‬ ‫"وتفتح شارعاً يف البحر‬ ‫إنّا واصال ْن"(‪.)35‬‬ ‫يحمل هذا القول توكيدا ً عىل إمكانيّة الوصول إىل املبتغى‪ ،‬ويف هذا دليل عىل ثقة الشاعر بالقادم من ايذام‪ ،‬مهام‬ ‫شت ّدت الصعاب‪.‬‬ ‫كلمة أخرية‬ ‫لعل الشاعر قد‬ ‫ات ّحدت هموم الشاعر عمر بقضايا الناس‪ ،‬وتجده يغمس أيدي مح ّبيه يف عمق املعرفة والوفاء‪ّ .‬‬ ‫سعى إىل نقل الداخل إىل الخارج‪ ،‬وهنا تعجز الكلامت عن ترتيب الرؤى‪ .‬وإذا ما عاىن لهيب النار عىل مرمى‬ ‫ليحل محلّه الجيشان الذي يعتمل‬ ‫الزمان‪ ،‬كام عاىن ظالم السجون والغربة والتو ّحد من قبل‪ ،‬هنا يرتاجع الصمت؛ ّ‬ ‫يف نفسه‪ ،‬ويضع القارىء يف مواجهة جدليّة الزمن واالبحار (آه من سفنٍ تسري إىل الوراء!!!)‪ .‬ويستعني بعصا‬ ‫(موىس)؛ لتلقف املوىت‪ .‬هنا‪ ،‬ال ب ّد من الرمز الذي يحمل شج َو األحاسيس املرتعة‪ ،‬وألوان الطيف‪ ،‬ومرايا النار التي‬ ‫ال تنطفىء‪ ،‬فكان ال ب ّد من البوح والشجو‪.‬‬ ‫املجموعة الشعريّة ناجمة عن قلق معر ّيف جديد‪ ،‬ت ُظهر أ ّن شاعرنا محمول عىل أجنحة الريح‪ ،‬لديه أه ّم ما تطلبه‬ ‫ويظل طرح األسئلة‪ ،‬بهدف إنتاج‬ ‫ّ‬ ‫الشعريّة‪ ،‬من س ٍرب للثقافة القامئة؛ حتّى يف أماكن تشقّقها يف أعامق أرسارها‪.‬‬ ‫مناخات جديدة‪ ،‬يتطلّبها فهم املرحلة الحارضة‪.‬‬ ‫تضافرت البنى اإليقاعيّة‪ ،‬مع مستويات الرتكيب والتصوير الف ّن ّي والرموز؛ لتسهم جميعاً يف الكشف عن شعريّة‬ ‫الشاعر‪ ،‬تلك الرؤية التي وضعت اإلنسان يف املوقع الالئق به‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .35‬م ‪ .‬ن ‪ .‬ص ‪.176‬‬


‫"أي خبز فيك يا هذا املطر‪ ،‬هو كمن يغوص إىل اعامق الذات اإلنسان ّية يف‬ ‫قارىء مجموعة عمر شبيل الشعرية ّ‬ ‫أبهى تجلّياتها‪ ،‬يجد وعياً متق ّدماً يف الرتاث العر ّيب‪ ،‬وكذلك اإلنسا ّين‪ ،‬كام يجد محاولة جا ّدة لتجاوز ما فيه من‬ ‫منحدرات‪ ،‬وإزالة القشور التي خنقت هذا الرتاث‪ .‬والينابيع التي تف ّجرت من الرشق‪ ،‬حاولت املزاوجة ما بني‬ ‫يل‪ .‬يف شعر عمر إلغاء للكراهية‪ ،‬وإميان باإلنسان الذي "انطوى فيه العامل األكرب"‪،‬‬ ‫الرتاث‬ ‫الروحي والرتاث العق ّ‬ ‫ّ‬ ‫كل الجهات‪.‬‬ ‫وكذلك فيه انفتاح عىل الضوء اآليت من ّ‬ ‫راح عمر شبيل‪ ،‬ومل ّدة طويلة‪ ،‬يبحث عن كنزه املفقود‪/‬الضوء‪ ،‬فوجده يف ذاته التي تختزن الكثري الكثري‪ .‬تجاوز‬ ‫عمر الينابيع واملوت‪ ،‬وما انتفاء فكرة العدم عنده إلّ دليل عىل أنّه شاعر كبري‪ ،‬أسهمت جملة من العوامل يف‬ ‫خلق ما انطوى عليه شعره من أبداع‪.‬‬ ‫استخف بحفنة الطني التي‬ ‫الدنويوي املتش ّبث باألقنعة‪ ،‬وباألماكن املحارصة‪ ،‬يف الداخل والخارج‪ ،‬كام‬ ‫تجاوز عمر‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫مل تستطع استدراجه إىل االنحدار‪ .‬تجاوز عمر فسحة من الزمان واملكان خلف املوت‪ ،‬عندما تجاوز السجن‬ ‫وكل ما فينا من تأ لّ ٍه وح ٍ‬ ‫إم مسنون‪.‬‬ ‫والس ّجان‪ّ ،‬‬ ‫الضوء يغري بقدر ما يطرح األسئلة‪ ،‬وهذا مرتبط بالزمن الغارق يف دنيويّته‪ .‬أدرك عمر‪ ،‬بشاعريّة أصيلة‪ ،‬ما معنى‬ ‫الحضور الذي يؤطّر الكينونة الخالقة واملخلوقة‪ ،‬يف أبعاد رؤيويّة تدرك ما خلف حميم ّية العمر املتفلّت من‬ ‫الضوابط‪.‬‬ ‫ليس يعني عمر الخروج من الوجود يف يشء‪ ،‬طاملا أنّه ما زال يطرق باب الخلود‪ ،‬وأنا عىل يقني أنّه ال يُفتح ّإل‬ ‫للكبار‪ ،‬وهو منهم‪ ،‬مبا تراكم عنده من تف ّرد وموهبة‪ ،‬وإميان بقضيّة اإلنسان أينام ُوجد‪ .‬يستطع عمر العودة‬ ‫ليبش باالنبعاث بعد جفاف‪ ،‬وهذا يشكّل نقيضاً للعقم واليباب والخواء‪ ،‬وهو توكيد‬ ‫بـ(نبتة الحياة)‪ ،‬ولك ّنه عاد ّ‬ ‫النتصار القيم الجميلة‪.‬‬ ‫"أي خبز فيك يا هذا املطر"‪ ،‬فيدرك أ ّن هذا كلّه يتساقط من غيمة‬ ‫عندما يطالع القارىء‬ ‫الحب والحزن والضوء يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫واحدة‪ ،‬ليؤكّد وجود الينابيع‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬



‫فرادة يف الرؤية‪ ،‬فرادة يف البنى اإليقاع ّية التي ترتقرق مفردات القصائد فيها‪ ،‬كمياه الينابيع الشجية‪ ،‬وفرادة يف‬ ‫عبت عن موهبة أصيلة‪ .‬ولتظهر فرادته يف الرؤية‪ ،‬تلك هي مالمح شاعريّة عمر‬ ‫الصور الف ّنيّة‪ ،‬والرتاكيب التي ّ‬ ‫شبيل‪ .‬تح ّية للذات املتأ لّقة يف ميدان االبداع الشعر واإلنسان ّية‪ ،‬تح ّية للمطر الذي إن أصاب األرض الجافّة ح ّولها‬ ‫رياضاً غ ّناء‪ .‬تحيّة محبّة وتقدير للشاعر الكبري عمر شبيل‪.‬‬

‫د‪ .‬محمد محي الدين‪ .‬ترشين الثاين ‪2018‬‬ ‫فهرس املوضوعات‬ ‫توطئة ‪1.......................................................‬‬ ‫حول املجموعة الشعرية ‪2..............................‬‬ ‫يف سيامئية العنوان ‪4.....................................‬‬ ‫يف البنى اإليقاعية ‪5.......................................‬‬ ‫يف املستوى الرتكيبي ‪10...................................‬‬ ‫الصور الفنية ودالالتها ‪15...............................‬‬ ‫األساطري والرموز ودالالتها ‪18..........................‬‬ ‫انبثاق الضوء ‪22............................................‬‬ ‫الروح املتفائلة ‪30..........................................‬‬ ‫الحب‪ :‬القيم والداللة ‪31................................‬‬ ‫فيوضات الذات ‪37........................................‬‬ ‫كلمة أخرية ‪44..............................................‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫غري أن جوهر اإلشكالية التي يضيئها الدكتور حسن لشكر يف كتابه "الرواية العربية والفنون السمعية البرصية"‬ ‫(كتاب املجلة العربية‪ ،‬السعودية‪ ،‬ع ‪ ،)169‬ليس هو التأريخ للروايات التي حولها مخرجون إىل أفالم سينامئية‪ ،‬أو‬ ‫مسلسالت تلفزية‪ ،‬بل إضاءة «قضية انفتاح الرواية عىل مجاالت الفنون السمعية البرصية» (ص‪ .)8‬ففي نظر د‪.‬‬ ‫حسن لشكر‪ ،‬فإن اهتامم النقاد واألكادمييني «متحور حول دراسة مظاهر تحول اللغة والخطاب ومسالك‬ ‫التخييل»(ص‪ .)8‬أي أن الرتكيز انصب عىل دراسة مكونات الخطاب الروايئ يف األغلب‪ ،‬دون االنتباه إىل قدرته عىل‬ ‫تجديد بنيات خطابه‪ ،‬عن طريق التواشج مع أنساق فنية هي من صميم أنواع فنية أخرى‪ ،‬وخاصة منها الفنون‬ ‫السمعية البرصية التي هي وليدة التكنولوجيا الحديثة‪ .‬ولعل املدخل الذي يقرتحه د‪.‬حسن لشكر‪ ،‬سيسعف يف‬ ‫تقديم تفسري علمي "لجامهريية الرواية" التي تختلب عقول القراء‪ ،‬وتحفز الشعراء‪ ،‬وكتاب القصة‪ ،‬وبعض‬ ‫املشتغلني بالنقد والفكر والفلسفة عىل دخول غامرها‪ .‬والحاجة قامئة إىل هذا املدخل لتبني كيفية اغتناء الرواية‬ ‫العربية بأنساق فنية جديدة‪ .‬وهذا معناه أن وكد الكتاب هو مقاربة سفر مفاهيم وتقنيات الفنون السمعية‬ ‫البرصية إىل ‪ ،‬والتي يحدها أساسا يف السينام‪ ،‬املوسيقى‪ ،‬التشكيل‪ ،‬واملرسح إىل الرواية العربية‪ .‬وهذا االنتقال هو‬ ‫إحدى املسارات التي اتخذها الخطاب الروايئ الجديد لتحديث بنياته وأنساقه‪ ،‬وضامن تفاعله مع هذه الخطابات‬ ‫التي تحظى بجامهريية معتربة‪.‬‬ ‫وال شك أن الحوارية املفرتضة للخطاب الروايئ مع الخطاب السيناميئ‪ ،‬املوسيقي‪ ،‬التشكييل‪ ،‬واملرسحي‪ ...‬هي‬ ‫تض ّمن بعض الخطورة والصعوبة الظاهرة‪ ،‬ذلك أن كثريا من املحاوالت تجابه الفشل ما مل يتوفر الداخل‬ ‫عملية َ‬ ‫غام َرها عىل معرفة بالخطابني الروايئ وأحد هذه الخطابات أو جميعها‪ ،‬كثريا ما تفقد بعض النصوص‪ ،‬التي ترمي‬ ‫إىل تجريب بعض من آليات الخطابات السمعية البرصية‪ ،‬اتساقها ويصيبها الرتهل حني ينعدم التحكم يف آلية‬ ‫الخطابني‪ ،‬الروايئ والسمعي البرصي‪ ،‬وغري بعيد ذلك النقاش الذي أثري حول رواية " مصائر ‪:‬كونشريتو الهولوكست‬ ‫والنكبة" للروايئ الفلسيطيني ربعي املدهون املتوجة بجائزة البوكر العربية لسنة ‪ ، 2016‬والتي وظفت مفاهيم‬ ‫املوسيقى (الكونشريتو) لبناء عاملها الرسدي‪ .‬من ثم فإن دراسة هذه التفاعل بني الخطاب الروايئ والخطابات‬ ‫السمعة البرصية‪ ،‬أمر بالغ األهمية‪ ،‬ود‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .1‬سنشري إىل اإلحاالت الخاصة بكتاب (الرواية العربية والفنون السمعية البرصية) داخل منت الكتاب‪.‬‬


‫الرواية العربية والفنون السمعية البصرية‬

‫جدة املوضوع والرصامة املنهجية‬ ‫عبدالرزاق املصباحي‬ ‫متهيد‬ ‫صارت الرواية العربية يف اآلونة األخرية جنسا أدبيا جامهرييا‪ ،‬يُقبل عليه القراء من مختلف املشارب والتخصصات‪،‬‬ ‫حتى ألنها «ديوان العرب» الجديد‪ ،‬وإن كان تفسري هذه الجامهريية عند كثري من املتتبعني يعزى إىل الجوائز الكربى‪:‬‬ ‫البوكر‪ ،‬كتارا‪ ،‬الشيخ زايد‪ ،‬الطيب صالح‪ ...‬التي أسهمت يف تسليط كثري من الضوء اإلعالمي والنقدي عىل الرواية‪ ،‬فإن‬ ‫تفسريا أعمق ينبغي تتبعه يف انشغاالت األكادمييني ودراساتهم التي تستكنه قدرة الخطاب الروايئ عىل االغتناء ببنيات‬ ‫خطاب مجتزأة من أجناس وفنون أخرى‪ .‬والرواية تحوز هذه القدرة الخالقة التي مبوجبها تتحول إىل نص حواري‬ ‫مفتوح‪ ،‬بنية وداللة‪ ،‬لذلك فإنها تنافس جامهريية السينام واملوسيقى مبا هام لغتان إبداعيتان عامليتان تتساميان عىل‬ ‫الحدود الجغرافية واللغات القُطرية‪ .‬لكن هذا التنافس يف الجامهريية مل مينع حدوث تعاون مثمر بني هذين الفنيني‬ ‫والرواية‪ ،‬ويكفي أن عددا من املخرجني املربزين اقتنصوا أعامال روائية شهرية‪ ،‬وصنعوا منها تحفا إبداعية برصية آرسة‪،‬‬ ‫ويكفي أن نذكر‪ ،‬مثاال ال حرصا‪ ،‬رائعة "العطر‪ :‬قصة قاتل" للروايئ األملاين باتريك زوسكيند‪ ،‬التي كتبها سنة ‪،1985‬‬ ‫وظلت األطول مبيعا‪ ،‬قبل أن يجدد سحرها املخرج األملاين " توم تيكوير ‪ "Tom Tykwer‬يف فيلمه الذي ظهر يف‬ ‫الشاشة الكبرية سنة ‪ ،2006‬الذي أدى فيه املمثل اإلنجليزي الشاب " بني ويشاو ‪ "Ben Whishaw‬شخصية "جون‬ ‫بابتيست غرونوي" بكامل رعبها وأثرها النفيس والدرامي كام تقدمه الرواية‪ .‬وكذا رواية "‪ "1984‬لجورج أرويل‪ ،‬أو‬ ‫"غاتسبي العظيم" لسكوت فيتزجريالد الذي أدى دوره‪ ،‬أي غاتسبي‪" ،‬ليوناردو ديكابريو"‪ ،‬وأخرجه "باز لورمان"‪...‬‬ ‫وغريها من الروايات العاملية التي انتقلت إىل السينام عرب مخرجني حاذقني‪ .‬ويف عاملنا العريب تظهر نصوص النوبيل‬ ‫"نجيب محفوظ" عىل قامئة أهم وأكرث األعامل الروائية التي انتقلت من النسق اللغوي إىل النسق السمعي البرصي‪،‬‬ ‫السينام خصوصا‪ ،‬ثم مؤخرا رواية (ساق البامبو) للروايئ الكويتي الشاب سعود السنعويس التي صارت مسلسال عرضته‬ ‫قناة ‪ MBC‬يف رمضان ‪ .2016‬أما يف رواية مائزة مثل (سيدة املقام) لواسيني األعرج فقد كانت املوسيقى وخاصة‬ ‫باليه" شهرزاد" لرميسيك كورساكوف"‪ ،‬أساس الكون التخيييل املؤثر يف هذه الرواية‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫عبدالله إبراهيم‪ ،‬بل هي عملية محفوفة بالخطورة والصعوبة‪ ،‬وتحتاج إىل خربة ومعرفة بالخطاب الروايئ‬ ‫والخطابات املعنية مبحاولة اسرتفاد تقنياتها‪ .‬لذلك فإن د‪ .‬لشكر‪ ،‬ينبه عىل أهمية أن تكون األعامل الرواية املعنية‬ ‫بالدراسة تنامز «بالنضج الفني والتامسك البنايئ‪ ،‬وتنتمي إىل مرجعيات إبداعية مختلفة‪ ،‬ولبلدان متفرقة حتى‬ ‫يكون االستقراء شامال»(ص‪ .)9‬والتنصيص‪ ،‬هنا‪ ،‬عىل النضج الفني وتعدد املرجعيات اإلبداعية‪ ،‬هو تأكيد عىل‬ ‫أهمية الوعي ببنيات الخطاب الروايئ وباقي الخطابات اإلبداعية ورضوته القصوى‪ .‬ومبنطق التضاد‪ ،‬فإن غياب‬ ‫النضج الفني يف النصوص الروائية‪ ،‬لن يؤدي إال إىل إنتاج نصوص مفككة‪ ،‬ترتاص فيها البنيات والتقنيات‪ ،‬دون أن‬ ‫تحدث بينها الكيمياء الرضورية والتفاعل الخالق اللذان يصدر عنهام العمق الفني والتلقي املنتج‪ .‬فكثري من‬ ‫النصوص الروائية التي يحاول أصحابها دخول غامر تجريب آليات الفنون األخرى دون أن يتوفروا عىل مقومات‬ ‫تطويع تلك اآلليات‪ ،‬تتحول‪ ،‬أي نصوصهم‪ ،‬إىل مسخ رسدي دون هوية واضحة‪.‬‬ ‫تبعا لذلك‪ ،‬فقد اختار د‪ .‬حسن لشكر‪ ،‬أن يشتغل يف هذا الكتاب عىل مناذج روائية متعددة‪ ،‬وهي نصوص مكرسة‬ ‫لروائيني معروفني‪ ،‬وهي‪( :‬تحريك القلب ‪ )1982‬لعبده جبري‪( ،‬الحرب يف بر مرص‪ )1978‬ليوسف القعيد‪( ،‬ثالثة‬ ‫وجوه لبغداد ‪ )1984‬لغالب هلسا‪( ،‬الحب يف املنفى ‪ )1995‬لبهاء طاهر‪( ،‬الضوء الهارب) ملحمد برادة‪( ،‬البحث‬ ‫عن وليد مسعود‪ )1978‬لجربا إبراهيم جربا‪( ،‬خطوط العرض والطول ‪ )1983‬و(الوشم‪ )1972‬لعبدالرحامن مجيد‬ ‫الربيعي‪( ،‬وردية ليل) و(عصافري النيل‪ )1999‬إلبراهيم أصالن‪( ،‬اللجنة ) و(بريوت بريوت) لصنع الله إبراهيم‪،‬‬ ‫(أوراق) لعبدالله العروي‪ ...‬وغريها من النصوص الروائية‪ ،‬التي رأى أنه يتوفر فيها رشط التعدد الجغرايف واالنتامء‬ ‫الثقايف حتى تكون نتائج االستقراء أدق‪ ،‬وأكرث علمية‪ .‬غري أن املالحظ هو كون النصوص الروائية أعاله‪ ،‬قد ظهرت‬ ‫يف مرحلة زمنية متقدمة‪ ،‬صحيح أنها حقبة تاريخية ازدهرت فيها محاوالت تجريب تقنيات روائية جديدة‪ ،‬لكن‬ ‫انتامء هذه الروايات إىل هذه الحقبة ييش أيضا بقدم محاوالت تطويع تقنيات الفنون السمعية البرصية وتذويبها‬ ‫يف النصوص الروائية العربية‪ .‬وهي محاوالت تجريب مسؤولة لسببني ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬األول أن األعامل الروائية التي اختارها د‪ .‬لشكر المتحان فرضية التفاعل بني الخطاب الروايئ والخطابات‬ ‫السمعية البرصية‪ ،‬هي أعامل ناجحة‪ ،‬فنيا وجامهرييا‪ .‬بل إنها وسمت التلقي الرسدي العريب ملدة طويلة‪ ،‬وكانت‬ ‫محور اهتامم الباحثني األكادمييني الختبار فروضهم العلمية يف الجامعات واملختربات الرسدية‪.‬‬


‫حسن لشكر يرى أن هذا التفاعل صار «ظاهرة رسدية»‪ ،‬أي أنه مل يعد مجرد محاوالت فردية معزولة‪ ،‬بل صارت‬ ‫مرشوعا رسديا عند كثري من كتاب الرواية‪ ،‬صحيح أنه قد ال يكون هناك تنسيق بني هؤالء الروائيني العرب لتتحول‬ ‫هذه الظاهرة إىل نزعة روائية‪ ،‬لكن هذه الظاهرة الرسدية تستحق أن تضاء نقديا وتدرس أكادمييا‪ ،‬لتعرف بينات‬ ‫خطابها‪ ،‬وفاعليتها يف تحديث الخطاب الروايئ وتجويده‪.‬‬ ‫موضوع الكتاب‬ ‫يقدم كتاب (الرواية العربية والفنون السمعية البرصية) دراسة يف أشكال تأثر الخطاب الروايئ العريب بالفنون‬ ‫السمعية البرصية‪ :‬السينام‪ ،‬املوسيقى‪ ،‬التشكيل‪ ،‬واملرسح‪ ،‬عرب «رصد بعض مستويات تشكل وانباء الخطاب الروايئ‬ ‫العريب الجديد‪ ،‬إلبراز التجريب كأفق للكتابة وانفتاح النصوص عىل الفنون السمعية البرصية» (ص‪ .)7‬والدال هنا‪،‬‬ ‫الخطاب الروايئ «بالجديد» وربطه ب«أفق التجريب»‪ ،‬أي أن وكده هو رصد بعض املسارب التي‬ ‫هو وسم د‪ .‬لشكر‬ ‫َ‬ ‫يجدد عربها الخطاب الروايئ العريب أدواته الفنية لتحقيق أثر تخيييل وآفاق قرائية أوسع‪ ،‬أما التجريب فهو قرين‬ ‫الخطاب الروايئ الجديد‪ ،‬ومنه نتحدث عن «الرواية الجديدة» التي «تحتفي بجامليات التفكك‪ ،‬وتواكب غموض‬ ‫الواقع والذات وتتواءم مع تشظي األبنية االجتامعية »‪ ،‬فال غرو أن يكون هذا الخطاب الروايئ الجديد منفتحا عىل‬ ‫فنون أخرى‪ ،‬مشتبكا مع أدواتها‪ ،‬وآلياتها‪ ،‬بغاية تطويعها لتكون جزءا من هذه الخطاب املتجدد‪ ،‬ود‪ .‬لشكر ينتبه إىل‬ ‫هذه الجزئية وينبه عليها؛ لذلك يعرف الرواية الجديدة بأنها «خزان معارف وخطابات وأنساق لغوية‬ ‫تنضد بنيات وأنساق‬ ‫متعددة‪(»...‬ص‪ .)8‬والطابع االنفتاحي للرواية الجديدة‪ ،‬وتفككها القصدي‪ ،‬مينحها رشعية أن ّ‬ ‫معرفية‪ ،‬فكرية‪ ،‬وفنية‪ ...‬يف نسقها الداخيل‪ .‬ولقد أكدنا يف التمهيد عىل أن هذه العملية ليست باليرس الذي ميكن أن‬ ‫يظنه بعض "غشامء الرسد " بتعبري د‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .2‬انظر مثال التحفظات اللغوية يف مقال محمود الغيطاين (مصائر» املدهون ت ُعلن انهيار دولة نقاد «أكل العيش» ‪ :‬فيصل دراج‪ ..‬السقوط الشامل)‪ ،‬موقع‬ ‫بتانة‪ ،‬نرش بتاريخ‪ ،2016/06/28 ،‬تحت رابط ‪.3=C&14895=http://www.battana.org/news-details.aspx?Q‬‬ ‫‪ .3‬عزيز‪ ،‬شكري املايض‪ .‬أمناط الرواية العربية الجديدة‪ ،‬عامل املعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،‬ع‪ ،355‬سبتمرب‪ ،2008 ،‬ص‪.15/14‬‬ ‫‪ .4‬انظر حواره مع خالد بيومي‪« ،‬عبدالله إبراهيم‪ :‬دخالء عىل الرسد «يعبثون» بالرواية العربية»‪ ،‬جريدة الحياة‪ ،‬الثالثاء‪١ ،‬أغسطس‪ /‬آب ‪- ٠١:٠٠( ٢٠١٧‬‬ ‫بتوقيت غرينتش)‪ ،‬تحت رابط شوهد بتاريخ ‪2017/10/05‬‬

‫‪8A%D9%87%D9%A7%D8%B1%D8%A8%D8%A5%D8%-87%D9%84%D9%84%D9%A7%AF%D8%D8%A8%D8%B9%D8%/23186017/http://www.alhayat.com/Articles‬‬ ‫‪A%D8%A8%D8%B9%8A%D8%AF--%D9%D8%B1%D8%B3%D8%84%D9%A7%D8%-89%D9%84%D9%B9%D8%-A1%D8%A7%D8%84%AE%D9%AF%D8%D8%--85%%D9‬‬ ‫‪A9%8A%D8%D9%A8%D8%B1%D8%B9%D8%84%D9%A7%D8%-A9%8A%D8%D9%A7%D8%88%D9%B1%D8%84%D9%A7%D8%A8%D8%--86%D9%88%B%D9‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫حسن لشكر يف التقديم أن « العمل ذو طابع تطبيقي يعتمد الوصف واالستقراء النيص املبارش» (ص‪ ،)9‬وهو أمر‬ ‫مينح الباحثني فرصة تعرف النصوص الروائية التي حاورت الفنون السمعية البرصية بغية استثامرها المتحان‬ ‫فروضهم البحثية‪.‬‬ ‫ ‬

‫من معامل االتصال املنهجي أن د‪ .‬لشكر عمد إىل اعتامد املنت الروايئ نفسه يف الفصول األربعة لكتابه‪،‬‬ ‫فالرواية نفسها تكون مقاطع منها وظفت للتمثيل عىل حضور التقنيات السينامئية‪ ،‬وأخرى عىل املفاهيم‬ ‫والتقنيات التشكيلية‪ ،‬واملوسيقية‪ ...‬وهذا يتواشج مع حده للخطاب الروايئ بأنه «خزان معارف وخطابات وأنساق‬ ‫لغوية متعددة » (ص‪ ،)8‬ومن مثة‪ ،‬فإن املنت الروايئ املدروس يحوز‪ ،‬إضافة إىل التامسك البنايئ والنضج الفني‪،‬‬ ‫رشط تعدد املرجعيات الفنية واإلبداعية‪ .‬وهي رصامة منهجية تحسب للكتاب وصاحبه‪ .‬ومن مظاهرها أن رواية‬ ‫مقاطع (تحريك القلب) للروايئ املرصي عبده جبري‪ ،‬وظفت الستقراء منذاج التقنيات السينامئية كرتكيب األحداث‬ ‫والصور واألحداث‪ ،‬ونقل املشاهد بالصورة والصوت‪ ،‬واستخدام املونتاج املتناوب واملقاطع التناوبية‪ ،‬واملركبات‬ ‫التكرارية (ص‪ ،)..23 ،21 ،20 ،19‬فإن مقاطع رسدية أخرى من الرواية نفسها وظفت يف فصل (البناء املوسيقي)‬ ‫للوقوف عىل بنيات موسيقية استسعفتها الرواية من قبيل‪ :‬بنية الطباق اإليقاعي‪ ،‬بنية التعددية الصوتية‪ ،‬بنية‬ ‫األزمنة‪( ...‬ص‪ .)80 ،79‬ويف السياق نفسه تحرض رواية (الضوء الهارب) للروايئ املغريب محمد برادة للحديث عن‬ ‫تقنية "اللقطة املكربة ‪ "close up‬السينامئية (ص‪ ،)32‬كام تحرض مقاطع أخرى من الرواية نفسها للتفصيل يف‬ ‫ميوالت الشخصية الرئيسة الذي هو رسام مثقف يرى الرسم أهم من الكلامت‪ ،‬ويخلص د‪.‬لشكر إىل أن «السارد‬ ‫اعتمد عىل مفردات تقنية ذات هوية تشكيلية ( الضوء‪ ،‬خطوط‪ ،‬ألوان‪ )..‬لصياغة محكيات رسدية تنسجم مع‬ ‫وضعه االعتباري ووظائفه الرسدية»(ص‪ .)133‬ينسحب األمر نفسه عىل رواية (الحب يف املنفى) للروايئ املرصي‬ ‫بهاء طاهر التي نلفى استقراء ملقاطعها الرسدية يف فصل السينام‪ ،‬وفصل الرسم والفنون التشكيلية‪ ،‬وفصل‬ ‫املوسيقى‪ ...‬وييش تعدد األنساق السمعية البرصية يف الخطاب الروايئ العريب الجديد بقدرته‪ ،‬أي الخطاب الروايئ‪،‬‬ ‫عىل تطويع هذه األنساق والتقنيات يف بنيته‪ ،‬لكن برشط وجود وعي حاد‪ ،‬وخربة مراسية عند الروايئ‪ .‬فالتجريب‬ ‫يتحول إىل فوىض ما مل يصاحبه هذا الوعي‪.‬‬


‫‪ - 2‬الثاين‪ ،‬أن كتاب هذه الروايات تحصلوا عىل تكوين أكادميي حقيقي يف الفنون السمعية البرصية‪ ،‬أو كانت ضمن‬ ‫اهتامماتهم وبحوثهم الخاصة‪ ،‬فنجيب محفوظ رائد التوجه نحو السينام‪ ،‬تعلم صنعة السيناريو من صالح أبو سيف‬ ‫(ص‪ ،)15‬عبدالرحامن مجيد الربيعي له تجربة محرتمة يف كتابة السيناريو‪ ،‬وأعد أعامال لإلذاعة والسينام‪ ،‬وتحصل عىل‬ ‫بكالوريوس يف الرسم سنة ‪( 1968‬ص‪ ،37‬وص‪ ،)109‬إبراهيم أصالن تلقى تكوينا بروسيا يف "املؤلف السيناميئ" وعمل‬ ‫مساعدا للمخرج السوري "محمد ملص" (ص‪ ،)42‬أما بهاء طاهر فقد كان مولعا باملوسيقى الكالسيكية (ص‪ ،)77‬وله‬ ‫كتابات عنها‪...‬‬ ‫من ثم‪ ،‬فإن تجارب هؤالء الروائيني‪ ،‬مل تكن مغامرة غري محسوبة العواقب‪ ،‬بل إنها جاءت ترجمة لخربة ناتجة عن‬ ‫تكوين أكادميي أو اهتامم بحثي أو ذوقي‪ ،...‬وهي عوامل ضمنت لنصوصهم النضج الفني والتامسك البنايئ اللذين‬ ‫اشرتطهام د‪.‬لشكر يف متون الكتاب‪.‬‬ ‫منهجية الكتاب‬ ‫وزع د‪ .‬حسن لشكر كتاب (الرواية العربية والفنون السمعية البرصية‪ :‬مظاهر التفاعل) إىل مقدمة وأربعة فصول‬ ‫تخل مقدمة الكتاب من احرتاسات مفهومية‬ ‫هي ‪ :‬السينام‪ ،‬البناء املوسيقي‪ ،‬الرسم والفنون التشكيلية‪ ،‬واملرسح‪ .‬ومل ُ‬ ‫ومنهجية‪ ،‬ومنها مفهوم "الجديد" املقرون بالخطاب الروايئ‪ ،‬مخلصا إياه من أي حكم جاهز أو قيمة تقييم مبترس‬ ‫حني يقع مقابال للبناء واملنت الكالسيكيني‪ ،‬وهو ما تقع فيه كثري من الدراسات حني يحركها االنتصار لشكل فني ما عىل‬ ‫حساب شكل آخر‪ ،‬تراه منافسا‪ ،‬فتتخذ املفاهيم شكل "أحكام القيمة" التي تنتقص من نوع أو جنس فني‪ .‬وهو أمر‬ ‫يقلل من مصداقية النتائج املتوصل إليها‪ .‬ومنذ البداية تعلن املقدمة عن املسار املوعود املنترص للمقاربة املوضوعية‬ ‫املتجردة من أية نوزاع ذاتية‪ .‬ومثلام أن العنوان الفرعي (مظاهر التفاعل) يحدد الهدف من الدراسة‪ ،‬فإن املقدمة‬ ‫توضح شكل هذا التفاعل عرب مساهمة الفنون السمعية البرصية يف جعل الخطاب الروايئ العريب الجديد يغتني‬ ‫بتقنياتها ليدخل غامر التجريب‪ ،‬وينتج نصوصا منتفحة‪ .‬وصوال إىل املرمى األبعد الذي يبتيغه د‪ .‬لشكر الذي هو‬ ‫تحويل االهتامم األكادميي من «تحوالت اللغة والخطاب ومسالك التخييل إىل انفتاح الرواية عىل الفنون السمعية‬ ‫البرصية» (ص‪ .) .)8‬والكتاب إذن‪ ،‬هو مدخل يتضمن دعوة إىل جعل هذا التفاعل املنتفح يف صلب اهتامم النقاد‬ ‫والباحثني‪ ،‬ومن هنا‪ ،‬نفرس استقراءه لعدد كبري من النصوص الروائية تنتمي إىل أحياز ثقافية وإبداعية مختلفة‪ ،‬إذ‬ ‫هي نصوص ميكن أن تكون موضوع دراسات ومقاربات أكادميية ونقدية أخرى‪ ،‬قد تخصص لعمل واحد أو اثنني‪.‬‬ ‫ويؤكد د‪.‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫مرايا التجريب في شعر اللبنانية حكمت حسن‬

‫الحسام محيي الدين‬

‫تتك َّو ُر تجربة حكمت حسن الشعرية حتى اآلن عىل ث ُالثية الدواوين‪،‬‬ ‫التي صدرت جميعها عن دار نلسن يف بريوت‪ :‬فاألول «خاتم» (‪)2016‬‬ ‫والثاين «مسامر» (‪ )2018‬والثالث «ذئبة» (‪ )2019‬وهو األخري حتى‬ ‫هذه اللحظة‪ .‬وتنهض تجربة الشاعرة اللبنانية عىل تجليات التعالق‬ ‫هوامش اإللهام واإليحاء‬ ‫َ‬ ‫بني الدال واملدلول‪ ،‬وكشف مدى ما يكت ِن ُه‬ ‫من جمو ٍح نابض ينتظ ُم القصيدة ُمنجز ًة عىل الورق وهي تسرتجع‬ ‫صوت األنا ب ُبعده املاضوي عمقاً وأصالة‪ ،‬و ُمشاكَلَ ِت ِه مع الواقع املفتوح‬ ‫عىل معاين األنوثة ومعاناتها يف قاموس ثيامت ملونة‪ :‬الحب‪ ،‬األمل‪،‬‬ ‫الوجود‪ ،‬املصري‪ ،‬املوت‪ ،‬الحزن‪ ،‬الليل‪ ،‬السفر‪ ،‬السامء‪ ،‬القبلة‪ ،‬املطر‪ ،‬اإلغواء‪ ،‬التيه‪ ،‬الرغبة‪ ،‬وغريها من املعاين‬ ‫الزاخرة التي تخلع عىل القصيدة فانتازيا حداثوية‪ ،‬تستغرق تلك الدواوين وتتوازى مع التنويع عىل أفكار‬ ‫ٍ‬ ‫مآالت يرتاح إليها القارئون‪.‬‬ ‫ومواقف متعددة يف مواجهة الحياة‪ ،‬تتمث ُّل‬ ‫ُ‬ ‫ومتسك بناصيته يف املستوى والداللة يك تحوز‬ ‫تجريب بني ديوانٍ وآخر‪،‬‬ ‫مراحل‬ ‫َ‬ ‫بهذا املعنى‪ ،‬تعيش حكمت حسن‬ ‫ٍ‬ ‫اللحظة الجاملية ال ُحبىل بالدهشة يف منت النص‪ ،‬انعكاساً ِ‬ ‫آسا ً لرس العالقة بني املعنى واللغة‪ ،‬وذهاباً مبارشا ً إىل‬ ‫الفعل وإعادة الفعل غري مرة‪ .‬التجريب املُتح ِّو ُل عن مضامني حداثية تشتبك مع الواقع‪ ،‬وتتحداه أحياناً‪ ،‬بقوة‬ ‫نصاً وثيقاً يُعت ُّد به‬ ‫التعبري يف صوت الجملة الشعرية وهي تنفصل عن الوزن الخلييل‪ ،‬وتزدهر بها القصيدة ّ‬ ‫ويَستدر ُِك الفعل الحدايث يف اإلجابة عام تعانيه حسن يف كينونتها األنثوية‪ ،‬وهي تف ّج ُر اللغة بال ٍ‬ ‫خوف وال تردد‪،‬‬ ‫وتقفز إىل أقىص ما تحققه لها التجربة من تأكيد حضورها اإلبداعي املختلف‪ ،‬من دون أن يكون ذلك كله لعب َة‬ ‫ترفض الرتاث‪ ،‬أو غاي َة تضا ٍد مع القديم‪.‬‬ ‫تج ُّد ٍد مزيَّفَة ُ‬


‫ترتكز منهجية كل فصل من الفصول األربعة لكتاب (الرواية والفنون السمعية البرصية) عىل االنطالق من تأطري‬ ‫العالقة بني الخطاب السمعي البرصي املعني بالدراسة وبني الخطاب الروايئ‪ ،‬ففي الفصل األول الخاص بالسينام‪،‬‬ ‫انطلق من الحديث عن بداية التفاعل بني الرواية العربية وبني السينام انطالقا من فيلم " آثار عىل الرمال"‬ ‫املأخوذ من رواية بالعنوان نفسه ليوسف السباعي‪ ،‬ثم الوقوف عند مرحلة الستينيات الحافلة بهذه العالقة‪ ،‬مع‬ ‫الرتكيز عىل تجربة النوبيل "نجيب محفوظ"‪ ،‬قبل استقراء النصوص الروائية الجديدة التي استعارت التقنيات‬ ‫السينامئية‪ .‬ويف الفصل الثاين املعنون "بالبناء املوسيقي" أطر العالقة بني املوسيقى واألدب انطالقا من كتاب (بني‬ ‫األدب واملوسيقى) ألسعد محمد عيل‪ ،‬ثم من تجربة "هرمان هيسه" و"بيتهوفن"‪ ،‬فاملرور إىل توصيف النصوص‬ ‫الروائية التي استسعفت املوسيقى وبناءها‪ .‬أما الفصل الثالث الخاص بتفاعل الرواية والفنون التشكيلية‪ ،‬فقام‬ ‫تأطري العالقة بينهام عىل رصد عنارص التامثل بني الصورة والرواية‪ ،‬تدعمها قولة جوزيف كونراد بأن عىل الرواية‬ ‫"أن تتعلم من فنون النحت والتصوير واملوسيقى" (‪ ،)108‬أما الفصل الرابع واألخري فيجعل الرواية العريية منبثقة‬ ‫من تضاريس املرسح التكوينية‪ ،‬فيكون انفتاحها عىل تجاربه التأسيسية أمرا محسوما إىل درجة االندماج بينهام يف‬ ‫تجارب محمود املسعدي وحنا مينة (‪ .)144‬وال يخلو فصل من الفصول األربعة املكونة للكتاب من تأطري‬ ‫العالقات قبل استغوار النصوص الروائية املدروسة‪ ،‬واستقراء ما تضمنه من تقنيات سمعية برصية‪.‬‬ ‫ينامز كتاب (الرواية العربية والفنون السمعية البرصية) للدكتور حسن لشكر بالوضوح املنهجي‪ ،‬واالحرتاس يف‬ ‫توظيف املفاهيم‪ ،‬وينم عن جهد بحثي واضح‪ ،‬يؤكده الحرص عىل اإلحالة عىل مراجع اهتمت بالعالقات بني‬ ‫الخطابني‪ ،‬الروايئ والسمعي البرصي‪ ،‬عىل قلتها‪ ،‬بله نذرتها‪ .‬وال شك أنه يفتح الباب أما الدارسني والباحثني‪،‬‬ ‫الختيار بعض هذه النصوص الروائية لتكون مشاريع دراسات وأبحاث أكادميية أخرى‪ ،‬أو االشتغال عىل نصوص من‬ ‫املدونة الروائية العربيةالجديدة‪ ،‬وذلك لسد الفراغ الحاصل يف هذا املبحث‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫إنه مفهوم التجربة املستمرة‪ ،‬مبعناها ال َو َعوِي الذي يفصل الحقب الزمنية عن التحكم بالنص‪ ،‬والذي يرى إىل‬ ‫ٍ‬ ‫وقناعات جريئة‪ ،‬وبعني املغامر الرايئ يف إخالصه لطقوس‬ ‫رصف املَقُول عىل درب يوتوبيا األحاسيس مبسؤولية‬ ‫الكتابة يف العالقة املتحولة واملُطلقة بني امرأ ٍة ورجل‪ .‬بهذا املعنى تستنفر حكمت حسن قصائدها يف تفسري قصص‬ ‫حب شهية التمرد‪ ،‬عاصفة النهايات‪ ،‬لكنها ضائعة ال نوال فيها‪ ،‬تجيش بالقلق بديالً من الثبات‪ ،‬وبالشكوى بديالً‬ ‫من الفعل‪:‬‬ ‫أهاجر ُمرغمة‬ ‫حب!‬ ‫فقد نفد آخر ٍّ‬ ‫وبقيت عزالء‬ ‫ُ‬ ‫فرغت مؤونتي‬ ‫ْ‬ ‫ال حنني داخيل‬ ‫ال قشعريرة خارجي‬ ‫ال رحيل‬ ‫ال عودة‪َ ..‬و ِلَثِ ْب‬ ‫يل أنْ أُس ِق َط أوزاين‬ ‫ع َّ‬ ‫وأمتلئ‬ ‫فعلت أكونُ محض هباء!‬ ‫ُ‬ ‫إذا‬ ‫وهي يف الواقع بعيدة التلخيص والتخليص يف فهم عىل هذا النحو يؤ ّرق التجريب تجربة حكمت حسن‪ ،‬ويُور ُِق يف‬ ‫كل منها أنها وليدة أزمة‬ ‫كل عىل ِح َدة‪ :‬خاتم‪ ،‬مسامر‪ ،‬ذئبة‪ ،‬تؤك ُد ٌّ‬ ‫عناوين دواوينها التي وسمتها مبفردة واحدة ٌّ‬ ‫ج ّواني ٍة خام‪ ،‬ترى إىل كشف قدرة الشعر عىل بسطها أمام القارئ من لدن شاعرة حداثية بالفطرة تقتصد يف اللغة‬ ‫أو تجود بها‪ ،‬وفاق حاجة النص‪ ،‬بعيدا ً من الوقوع يف فخ التكثيف الذي قد ينسف امتداد الدهشة املاتعة‪ ،‬مع‬ ‫امتداد الجملة الشعرية‪ ،‬ومبعزل عن ا ِإلخبار والحشو مام تكاثر يف الشعر اليوم‪ .‬وإذ تتساند األفكار واملشاعر يف‬ ‫ّفت الفرصة الشعورية بكفاءة يف نصوص مفيدة تنعتق من السائد يف وجوهه كافة‪،‬‬ ‫متون القصائد‪ ،‬فإن حسن وظ ْ‬ ‫فال تكتفي بالغضب والعزلة إمنا تقفو سبيل التمرد والثورة‪ ،‬وهي تقارب األنا املخلصة بتخاذل اآلخر الحبيب‪،‬‬ ‫حواف أمل ِ‬ ‫ّ‬ ‫مباش وعفوي‪:‬‬ ‫ورمبا الصديق‪ ،‬يف لوحة إنكار وانكسار عىل‬


‫لغوي يساند هيكلية االجتهاد‬ ‫خطاب‬ ‫تجيد حسن تقليب الخواطر من غري ت ُّكلٍف عىل مذاهب التّجريب‪ ،‬مبا هي‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫والحس واملتعة واألمنيات‪ ،‬يف عالقة املرأة بالرجل‪ ،‬وتصيب دامئاً عىل‬ ‫يف مقاربة الذائقة الجاملية املثرية للحلم‬ ‫ّ‬ ‫امتداد نصوصها الغزيرة ف ّن البلوغ العاطفي غري املُقلَّد وهي تتل ّم ُس حساسية األشياء والتفاصيل واألهواء التي‬ ‫يخلق تواطؤا ً غريباً وجميالً بني الفن واألخالق‪ ،‬عىل الرغم من العداء القديم بينهام‪،‬‬ ‫تلتبس تلك العالقة‪ ،‬ما ُ‬ ‫ُ‬ ‫ومقروئي ًة متحولة عن الطبيعة الحرة لهذه الشاعرة‪ ،‬وهي تختمر لتُن ِت َج الشِّ عر‪ .‬ويأخذ التجريب هنا ع ّدة معانٍ‬ ‫تسام‬ ‫أهمها الحرية املحفّزة مللء الحضور يف مديات األحاسيس المرأة مغايرة‪ ،‬تنظ ُم الشِّ عر‬ ‫وتتوس ُم فيه مصد َر ٍ‬ ‫َّ‬ ‫فائق اإللهام لنضوج التجربة كيال تظل هذه األخرية أرجوح ًة معلّق ًة بأغصان الكالم يف غفلة من انهامك حسن‬ ‫َ‬ ‫تتكس فيها القصائد عىل القصائد‪ ،‬وال تتك َّو ُم املعاين‬ ‫بالشغف الشعري عىل جسد القصيدة‪ .‬إنها التجربة التي ال ّ ُ‬ ‫رتب الوحدة املوضوعية للقصيدة‪ ،‬يف تالؤم الصوت واللفظة‪،‬‬ ‫ُس ًدى عىل ألفاظها‪ ،‬إمنا تخلق عناقاً داللياً بينها‪ ،‬يُ ُ‬ ‫وحسن التساوق بني املعنى واآلخر‪ ،‬ويتنبَّ ُه لغموض التفكُّك فيها كام يف قصيدة "مبني للمجهول"‪.‬‬ ‫أطلق قلبي عصفوراً يف فضاء جسدي‬ ‫َ‬ ‫من أح ُّبهُ‬ ‫من أحبه جمع دمي يف قبضته يك ال يُراق‬ ‫من أحبه‪ ،‬من أنتظره‪ ،‬من طال اشتباهي به‪،‬‬ ‫مل يتطابق سوى والنسخ… والتامثيل!‬ ‫يف هذا االتجاه‪ ،‬تح ّف ُز النصوص إرادة القارئ عىل التوهج‪،‬‬ ‫يف جدليتها املتحولة‪ ،‬املتغرية‪ ،‬التي ترفض الجمود‪ ،‬وترصد‬ ‫نت‬ ‫أرسار البِنى الفنية التي استغرقت الدواوين الثالثة‪ ،‬وأ ّم ْ‬ ‫استيالد الرؤى الحداثية منها يف متثُّلٍ شديد العمق والدقة‬ ‫لحاجة اإلنسان الدامئة إىل التكيف والتالقح مع غريه ومع‬ ‫تجريب مبعنى أو بآخر‪ ،‬واسترش ٌ‬ ‫اف‬ ‫أحاسيسه‪ ،‬وهذا كله‬ ‫ٌ‬ ‫فائض املُطْلق‬ ‫رص الطرافة واملفارقة واالبتكار‪ ،‬املحتشد ِة بني الذات واآلخر‪ ،‬كحركَتَي م ٍّد وج ْز ٍر تتناوشان َ‬ ‫دائم لعنا ِ‬ ‫من جامليات اللغة عىل شاطئ األدب الجميل‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫اللغة مرآة االمة‬ ‫د‪ .‬طالل الورداين‬ ‫البقاع لبنان ‪٢٠٢١/١٠/٢٣‬‬

‫حني تدعونا اللغة اىل مواكبتها ‪ ،‬والوقوف عىل الفاظها ومعانيها‪،‬‬ ‫ال بد لنا ان ندرك اهمية املسؤولية امللقاة عىل عاتقنا‪ ،‬فنحن اهلها‪،‬‬ ‫وهي مرآتنا التي تعكس شخصيتنا امام هذا العامل املحيط بنا‪ ،‬كم‬ ‫نحن بحاجة لرتتيب امور بيتنا اللغوي من الداخل‪ ،‬كام من الخارج‪،‬‬ ‫فمن املهم ان نرسم طريقنا الواضح للنهوض‪.‬‬ ‫وال يكون ذلك اال باالقبال عىل انفسنا ‪ ،‬ومحاكاة الواقع‪،‬بعني االدراك‬ ‫واملوضوعية‪ ،‬ممسكني بقواعد االنطالق والتحفيز للوصول اىل الهدف‪،‬‬ ‫تحدونا نعمة االنفتاح عىل لغتنا‪ ،‬كوننا نتغذى من جذورها املمتدةعميقا يف االصالة‪ ،‬ونتفيا اغصانها الوارفة‬ ‫الظالل‪ ،‬فينبثق لدينا حب االهتامم بها‪ ،‬يك تتجىل امامنا مفاتيحها ‪،‬فنكشف عن مغالق ارسارها التي ارتبطت‬ ‫ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم‪ ،‬وفتحت االفق عىل العارفني واملهتمني لكشف اغوارها ومفاتنها‪،‬‬ ‫اراين يف هذا املجال اجد نفيس حريصا عىل السري بها اىل حيث يكمن االبداع‪ ،‬ويختمر العلم‪ ،‬وتسطع شمسها من‬ ‫جديد عىل جبني هذه االمة املباركة‪،‬‬ ‫اراين اقرا يف معجمها بوح االنعتاق من الشوائب التي اساءت اليها ‪،‬حتى تعود صافية عىل ألسنة الناطقني بها ‪،‬وال‬ ‫يكون ذلك اال من خالل مجموعة من الخطوات ‪،‬التي ارى فيها تجددا وحضورا فاعال لنا عىل مرسح العوملة‪،‬‬ ‫ومن ذلك ‪:‬‬ ‫‪ -1‬التصالح بني الذات الفردية والذات الجمعية‪.‬‬ ‫‪ -2‬تشجيع الناشئة عىل محبتها ‪،‬والتكلم والكتابة بها‬ ‫‪ -3‬اقامة الندوات واملؤمترات التي تتصل بتطويرها‪،‬وتحديث مصطلحاتها‪.‬‬ ‫‪ -4‬ايجاد خارطة طريق واضحة املعامل تخصص لتدريس العربية بكفاءة عاليةومن خالل اختصاصيني يف مرحلة‬ ‫التاسيس‪.‬‬


‫أتريد معرفة شعوري نحوك؟‬ ‫قف أمامي‬ ‫فإن مل تتع ّرج صورتك عىل صفحة وجهي‬ ‫إنْ ملْ أُزبِد‪ ..‬أثور‪ ..‬أقاوم‬

‫إنْ ملْ يصبح كالمك وشامً‬ ‫وصوتك بصم ًة‬ ‫ورائحتك نقشاً‬ ‫تكون ال أحد‬ ‫ال يشء!‬ ‫هو ذا التجريب املفتوح عىل كل التقنيات‪ ،‬والطَّل ُْق يف حضوره الفاعل الذي يتصل ببدهية الهوية اإلبداعية‬ ‫للشاعر والشعر معاً‪ ،‬ويك ّر ُس لهذه التجربة طابعها املعارص‪ ،‬وبَص َمتَها املُتجددة‪ ،‬ولو مل نقتنع بالشكل املُستحدث‬ ‫للنصوص أعني «قصيدة النرث» حيث ال مينع ذلك من استقراء بعض التجارب العميقة واملسؤولة لناحية األفكار‬ ‫التي تحمل ر ًؤى حداثية مثرية لالهتامم‪ ،‬تعي ُد لحركة الحداثة تأ لُقها املنشود وموضوعيتها مع تجارب مامثلة ال بد‬ ‫منها‪.‬‬ ‫كاتب لبناين‬ ‫شهر ‪2021 - 10‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫استراتيجيات الدولة اللبنانية لمواجهة الكوارث واألزمات‬ ‫وقدرتها عىل الصمود‬

‫هنادي زرقطة‪:‬‬

‫املعهد العايل للدكتوراه‬ ‫املقدمة‬ ‫عىل مدى العقد املايض‪ ،‬شهد العامل حالة من األزمات االقتصادية والجيوسياسية شكلت انعكاساً سلبياً عىل‬ ‫املجتمع‪ ،‬مام جعل مهمة رسم السياسات والحوكمة أكرث صعوب ًة‪ ،‬سيام بهدف تحقيق االستدامة‪ .‬مام‬ ‫حدا لسن الترشيعات واتخاذ القرارات من أجل تنظيم التنمية واالستجابة للضغوطات الدميوغرافية واالجتامعية‬ ‫واالقتصادية الراهنة يف ظل النمو السكاين املتزايد (‪ ،)UNFPA, 2011‬وارتفاع الطلب عىل الطاقة(‪R. Kannan.,‬‬ ‫‪)2007‬‬ ‫بدأت املدن تتحول وتتبدل يف السعي الستيعاب البنى التحتية الجديدة والحد من األثر البيئي الكبري الناتج عن‬ ‫التزايد السكاين والعمراين وما يرتافق مع ذلك من زيادة يف الطلب عىل الخدمات املدينية والبنى التحتية‬ ‫وغريها‪ .‬فربزت الحاجة إىل تخطيط مستدام واسرتاتيجيات ورؤى واضحة من أجل تلبية األهداف املستقبلية‬ ‫(‪ .)Climate, 2011‬ومن هذا املنظور‪ ،‬أصبح التحدي من اجل تحقيق التنمية املستدامة كبرياً ويتطلب بذل‬ ‫جهو ٍد مستمرة إلعادة تحديد االسرتاتيجيات املطلوبة‪.‬‬ ‫وبحسب تقارير االمم املتحدة لعام ‪ ،2014‬أكرث من ‪ 54%‬من السكان يعيشون يف املدن‪ ،‬ومن املتوقع ان تصل‬ ‫انعكاس كبري‬ ‫إىل ‪ 66%‬مع العام ‪ ،2050‬فمن البديهي يف عامل أكرث من نصف سكانه يعيش يف املدن‪ ،‬أن يكون له‬ ‫ٌ‬ ‫كبري عىل البيئة (‪ .)Girardet, 2004‬ويف آخر تقرير صدر عن األمم املتحدة (‪Habitat, Cities and Climate‬‬ ‫‪)change: responding to an urgent agenda., 2011‬أشار إىل أنّ املدن هي املسؤولة عن ‪ 40‬إىل ‪ 70‬باملئة‬ ‫من انبعاثات غازات االحتباس الحراري‪ ،‬نتيجة لالستهالك الكبري للوقود‪ ،‬والكثري منها بسبب استخدام الكهرباء‬ ‫والطاقة‪.‬‬


‫‪ -5‬الرتكيز عىل الفصحى يف املدرسة واملنزل‪.‬‬ ‫‪ -6‬السعي الغناء ثقافة الفرد مبخزون ال باس به ميكنه‬ ‫من التصويب واالبداع‪.‬‬ ‫‪ -7‬دعوة املجامع العلمية اىل احياء عمليات االشتقاق‬ ‫والتوالد اللغوي مبا يتناسب مع العرص‪.‬‬ ‫‪ -8‬تاهيل الكادر التعليمي‪ ،‬وازالة الغبار عن املصطلحات‪،‬‬ ‫التي ال تزال يف كهوف النسيان‪ ،‬واعادة اللمعان لها‪.‬‬ ‫‪ -9‬ترشيد االجيال نحو الكتب االكرث حاجة ومنفعة لهم‪،‬‬ ‫ومتابعة ذلك‬ ‫‪ -10‬استنهاض االندية واملحافل اللغوية ‪،‬ودفعها اىل املزيد‬ ‫من العمل النوعي البناء الخصاب ثقافة االجيال‪ ،‬وشحنها بدالالت جديدة‪.‬‬ ‫‪ -11‬متكني املؤسسات الرتبوية تامني الحوافز واالنشطة‪ ،‬التي تساعد عىل االرتقاء والتطوير‪.‬‬ ‫‪ -12‬نرش االعامل االدبية واللغوية بني الطالب واملهتمني‪ ،‬لتمكينهم من ايجاد انفسهم عىل مرسح الحياة االدبية‬ ‫واللغوية‪.‬‬ ‫‪ -13‬ان تكون لنا صبغة خاصة متيزنا عن االمم االخرى‪.‬‬ ‫‪ -14‬ان نرتقي اىل مستوى الخطاب االلهي لنا (كنتم خري امة اخرجت للناس تامرون باملعروف وتنهون عن املنكر)‪.‬‬ ‫ان رصيدنا يف هذا املضامر غني مبا فيه الكفاية‪ .‬فعلينا ان نستعد للعمل الدؤوب يف مناخ من الود والتفاهم‪،‬‬ ‫والسعي اىل االنقاذ والسري حثيثا نحو املستقبل الواعد‪ ،‬والحلم املنشود‪ ،‬راجني لهذه اللغة واهلها املزيد من‬ ‫الحضور واالخصاب والتجدد والسؤدد ‪.‬والله يف عوننا طاملا نوايانا صافية نحولغتنا واهلنا وقرآننا الكريم‪ ،‬وطاملا‬ ‫الحياة تليق بنا وبعروبتنا ‪ ،‬وطاملا تشتهينا الحياة‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫وبينام تسعى املدن للمرونة فإن اإلسرتاتيجيات التي تتبناها تختلف من مدينة ألخرى‪ ،‬فاملرونة قد تعني التعامل مع‬ ‫السيول أو ارتفاع نسب الجرائم أو قلة املساكن‪ ،‬وقد تعني التنمية االقتصادية أو العدالة االجتامعية‪ ،‬وهي بالتأكيد‬ ‫تعمل لرفع مستوى جودة الحياة لسكان املدينة او املنطقة‪ ،‬وترتجم هذه اإلسرتاتيجيات إىل مشاريع تحل أكرث من‬ ‫تحد يف نفس الوقت‪ ،‬ومن خصائص املدن املرنة أنها تتعظ من التجارب السابقة وتجد البدائل يف استخدام مواردها‪،‬‬ ‫ولديها أنظمة قوية ومدروسة‪ ،‬ولديها احتياطات تفوق الحاجة اآلنية تحسبا للطوارئ‪ ،‬كذلك يفرتض أن تتعامل مبرونة‬ ‫مع الظروف املتغرية وتتحىل بشمولية املشاركني يف اتخاذ القرار‪ .‬املرونة تعكس رؤية واسرتاتيجيات املدن التي هي‬ ‫نابعة من السياق البيئي والحرضي واالجتامعي واالقتصادي الخاص فيها وتعمل بطريقة مستدامة تحت الظروف‬ ‫املعاكسة التي ال ميكن التنبؤ بها‪ ،‬بغض النظر عن ما يحمله املستقبل‪ ،‬مام يشكل إرثاً جديرا لجيل املستقبل‪.‬‬ ‫وبتعبري اخر ميكن القول ان املدينة املرنة هي املدينة التي طورت قدراتها للمساعدة عىل امتصاص الصدمات يف‬ ‫املستقبل وعىل التكيف لالستجابة الي تغري غري متوقع وأداء ال يتبدل عىل مر الزمن فيستمر كام كان مقررا ً يف‬ ‫البداية‪ .‬كام وتحرص عىل الحفاظ عىل اداء ومهام نظمها االجتامعية‪ ،‬االقتصادية‪ ،‬التقنية والبنى التحتية بشكل سليم‬ ‫ومستدام‪ .‬ومع ذلك ال تعتمد فقط عىل مواد وتكنولوجيا البناء بل عىل مجموعة عوامل اجتامعية وثقافية‬ ‫واقتصادية‪.‬‬ ‫للوصول إىل مدينة مرنة يتطلب ذلك حكم رشيد يعتمد عىل سلوك اجتامعي‪ ،‬واقتصادي وبنية تحتية سليمة ومرنة‬ ‫قادرة عىل التصدي الي خطر او ازمة ان كان من فعل االنسان او الطبيعة‪.‬‬ ‫وخالل العقد املايض‪ ،‬صدرت عدة تقارير بتكليف من حكومة اململكة املتحدة‪ ،‬فضال عن دفق من البحوث األكادميية‬ ‫ناقشت موضوع املرونة وكيف أنها ينبغي أن تكون جزءا ال يتجزأ من النظم الوطنية‪ .‬ركزت هذه التقارير عىل‬ ‫اإلمداد بالطاقة (‪ ، )Climate, 2011‬البنية التحتية للطاقة‬ ‫(‪)Foresight, 2008‬اإلنتاج والغذاء (‪ , )Foresight, 2011; HM Government, 2010‬الهياكل األساسية للنقل‬ ‫واملياه (‪ )HM Government, 2011‬الخ‪ .‬يف الوقت نفسه‪ ،‬أصبح هذا املفهوم يزداد بروزا يف دراسة موضوع ادارة‬ ‫املخاطر والكوارث (‪)Bosher, 2011‬حيث يتم دراسة قدرة املناطق الحرضية يف مواجهة األخطار الطبيعية‪،‬‬ ‫والتهديدات اإلرهابية‪ ،‬واألمن عموما‪ ،‬إلخ‪ .‬فمن االهمية مبكان أن تكون املدن مصممة السرتداد والعودة إىل الحياة‬ ‫الطبيعية بعد الكوارث بصورة رسيعة‪.‬‬


‫لبنان هو ليس ببعيد عن هذه الصورة‪ ،‬فهو يعاين من نزوح داخيل غري مدروس ومن الهجرة من الريف إىل املدن‬ ‫وبحسب إحصاءات منظمة الـ‪ UN HABITAT‬والبنك الدويل‪ ،‬تبلغ نسبة املقيمني يف لبنان حوايل ‪ ٤،٢‬مليون‪،‬‬ ‫‪ ٪٨٧‬منهم يعيش يف املدن‪ ،‬هذا فضالً عن تاريخ طويل من نقل الالجئني من مختلف الجنسيات إىل املناطق‬ ‫الحرضية املختلفة‪ ،‬لتصل هذه النسبة إىل حوايل ‪ 6‬مليون مع الالجئني السوريني والفلسطنيني‪ ،‬وأما يف ما يتعلق‬ ‫بنوعية املسكن يف املدن فتشري اإلحصاءات عينها أن حوايل ‪ ٪٥٠‬من سكان املدن يعيشون يف ظروف وبنى تحتية‬ ‫دون املستوى األدىن (‪ )slum to urban ratio = 50%‬غالباً ما تكون يف تجمعات سكنية غري مرخصة أو يف‬ ‫مخيامت لالجئني‪ ،‬إضافة إىل ان الوضع السيايس واألمني املتقلب يع ّرضه لكوارث من صنع اإلنسان مثل الحروب‬ ‫والرصاعات الداخلية والهجامت اإلرهابية وغريها‪،‬‬ ‫وهو ايضاً عرضة ملجموعة واسعة من مخاطر الظواهر الطبيعية التي ال تقل اهمية عن مخاطر الحروب مثل‬ ‫الفيضانات وحرائق الغابات وانزالقات الرتبة والجفاف والزالزل‪ ،‬ومن شأن هذا التعرض للمخاطر‪ ،‬مقرونًا بضعف‬ ‫البنية التحتية وعدد الالجئني الهائل الذين يعيشون يف ظروف محفوفة باملخاطر‪ ،‬أن يزيد مخاطر الكوارث زيادة‬ ‫ملحوظة‪ ،‬كام انه يؤدي إىل ازدياد الضغط عىل النظم الحرضية التي تعاين من صعوبات يف تلبية احتياجات‬ ‫سكانها الخدماتية االساسية (برنامج االمم املتحدة للمستوطنات البرشية‪.)2011 ،‬‬ ‫يف يومنا هذا‪ ،‬ال يزال الجدل مستمرا ً بشأن كيف ميكن تحقيق دولة مستدامة وحوكمة رشيدة تلبي حاجات‬ ‫وتطلعات سكانها‪ ،‬يف ظل التغري املناخي الناتج عن ازدياد نسبة التلوث وحاالت عدم االستقرار االقتصادية‬ ‫والجيوسياسية‪ ،‬حيث برز مفهوم املرونة او املدن املرنة إىل حد أن اصبحت لغة منترشة يف الحوكمة العاملية‬ ‫(‪ ، ,)Cooper, 2011‬كخطوة اساسية من اجل تحقيق االستدامة‪ ،‬واضعني االسرتاتيجيات الالزمة لحامية البيئة‬ ‫واملرافق العامة لديهم من كل الكوارث الطبيعية وغري الطبيعية املتوقعة وغري املتوقعة والحامية من االزمات‬ ‫االقتصادية والخدماتية وتحسني جودة الحياة كل حسب اولوياته‪ ، ...‬وميكن تعريف املرونة او مبدأ مرونة املدن‬ ‫(‪ ،)resilience‬عىل أنها قدرة املدينة عىل الصمود أو العودة إىل الوضع الطبيعي بشكل رسيع‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫كام أن معظم الشبكات قدمية‪ ،‬حيث نفقد ما يزيد عن الـ‪ 50%‬من املياه‪ ،‬ونسبة الفواتري غري املدفوعة تزيد عن الـ‬ ‫‪ % 40‬يف بعض املصالح‪ .‬واملياه الصالحة للرشب ال تصل إىل كافة املنازل االمر الذي يدفع املواطن إىل االستعانة اما‬ ‫بقطاع خاص او مبؤسسات غري حكومية من اجل تأمني املياه الالزمة للري او للرشب‪ .‬‬ ‫واالمر عينه بالنسبة ملوضوع الكهرباء‪ ،‬فبعد انتهاء الحرب ورغم كل االموال التي انفقت عىل هذا القطاع إالّ ا ّن البلد‬ ‫ما زال يعاين من ازمة كهرباء تزداد يوماً بعد يوم‪ ،‬مام دفع العديد من املناطق إليجاد الحل املناسب للمسألة وتوليد‬ ‫الكهرباء الخاصة بهم‪ ،‬عىل مستوى مولدات كهرباء صغرية او عىل مستوى احياء ضمن املدن والبلدات او عىل مستوى‬ ‫مدينة كاملة‪.‬‬ ‫االشكالية‪:‬‬ ‫رغم كل املبادرات واالتفاقيات الدولية التي وقع عليها لبنان‪ ،‬هو اليوم بعيد كل البعد عن املرونة يف سياساته وادارة‬ ‫خدماته املدينية بشكل خاص‪ ،‬االمر الذي يظهر أن الدولة ال تعتمد عىل استدامة يف عملها وال تعتمد عىل نظام‬ ‫حوكمة سليمة يف سياساتها وانظمتها مام يؤدي إىل العشوائية التي نحن فيها اليوم‪ ،‬مام جعل نظامً واشكاالً جديدة‬ ‫تطرح نفسها‪ ،‬و هي مبعظمها يف املرحلة التجريبية‪ ،‬مبا ان هذه النظم الحرضية تسهم اسهاماً كبريا ً يف تلبية وظائف‬ ‫الحياة اليومية فبالتايل هنالك حاجة حقيقية لفهم الدور التي تؤديه يف املدن‪ ،‬وما ان كانت تسهم يف استدامتها وان‬ ‫نقدر مدى مرونتها‪ ،‬متانتها وقدرتها عىل الصمود‪ ،‬ولكن يف نهاية املطاف السؤال الذي سيحاول البحث االجابة عنه‬ ‫هو‪:‬‬ ‫يف ظل تسابق الدول عىل تحقيق االستدامة واملرونة يف مدنهم‪ ،‬اين هي التجربة اللبنانية؟‬ ‫وما هي الرؤية واالسرتاتيجية الالزمة ليك نصل إىل الحكم الرشيد داخل هذه القطاعات املذكورة؟‬ ‫وكيف ميكن ان نستفيد من التجارب العاملية‪ ،‬االقليمية واملحلية الناجحة؟‬ ‫اهداف البحث‪:‬‬ ‫ان كانت املدن املرنة تعني "قدرة نظام او كيان او مجتمع محيل عىل التكيّف مع مجموعة من الظروف املتغرية‬ ‫وتح ّمل الصدمات والضغوط التي تصيب النظام ككل‪ ،‬ومنها التحديات االجتامعية واالقتصادية والخدماتية املرتبطة‬ ‫بالتوسع العمراين الرسيع"‪ ،‬إال ان هذه التحديات واالولويات تختلف بني منطقة واخرى‪ ،‬فبالتايل ال يوجد حل واحد‬ ‫يناسب الجميع‪ ،‬بل كل منطقة تدرس اولوياتها بحسب حاجات مجتمعها بهدف زيادة املرونة ورفع مستوى جودة‬


‫يف ظل هذا الوضع‪ ،‬السؤال التي يتبادر إىل اذهاننا اين هو لبنان من هذا املفهوم؟ هل تتحىل مدننا باملرونة‬ ‫واالستدامة بالنظر إىل الخصائص املطلوبة؟ هل هناك خطط اسرتاتيجية ملواجهة اي طارئ؟ ما هي الترشيعات‬ ‫واالنظمة املوضوعة ملواجهة الكوارث واالخطار؟ لإلجابة عىل هذه االسئلة ال بد لنا من إستعراض عينة كمثال عن‬ ‫الواقع اللبناين فنجد انه عند اول عاصفة تغرق مدننا وتتحول الشوارع والطرقات إىل انهار جارفة وتدخل يف‬ ‫الكثري من االحيان املياه إىل املنازل وتجرف السيارات معها‪ ،‬وتنقطع الكهرباء وتطوف النفايات يف الشوارع لتصل‬ ‫إىل االنهر والبحر‪ ...‬وبحسب القائم باعامل االمم املتحدة يف لبنان " شومبي شارب" يتكبد لبنان سنوياً حوايل‬ ‫‪ 5,323,000‬دوالر امرييك بسبب الفياضانات هذا عدى عن الخسائر البرشية‪.‬‬ ‫االمر الذي يدفعنا للتفكري انه ال يوجد اية سياسات جدية من قبل الدولة للحد من هذه االخطار‪ ،‬رغم انه‬ ‫هنالك العديد من املبادرات واالتفاقات وااللتزامات التي التزم بها لبنان وصدق عليها كام سرنى يف البحث الحقاَ‪،‬‬ ‫التي ال تعكس صورة الواقع الذي يتخبط به لبنان اليوم‪.‬‬ ‫فالدولة بدت عاجزة عن ادارة الخدمات العامة والبنى التحتية منذ بداية الحرب االهلية(‪ )1975-1990‬حتى‬ ‫يومنا هذا السيام يف ظل االنهيار السيايس وغياب دور املؤسسات العامة الذي نعاين منه‪ ،‬االمر الذي حذى‬ ‫باملؤسسات الخاصة والبلديات والجمعيات الوطنية والدولية إىل التدخل إليجاد حل مناسب لهذه املعضالت التي‬ ‫أُلقيت عىل كاهلهم بصورة مفاجئة‪ ،‬فنجد يف ايامنا الحارضة مسألة النفايات تتصدر الحدث‪ ،‬فبعد ان اوكلت‬ ‫مسألة ادارة النفايات بعد الحرب االهلية إىل رشكة واحدة ((‪ ،Sukleen‬حيث اخذت عىل عاتقها موضوع النفايات‬ ‫بالكامل ابتدا ًء من الجمع وصوالً إىل مرحلة الطمر‪ ،‬نرى اليوم وخصوصاً بعد ازمة عام ‪ 2015‬بإقفال مطمر‬ ‫الناعمة‪ ،‬بروز العديد من املؤسسات غري الحكومية والناشطني البيئيني والبلديات والجمعيات‪ ...‬التي تحركت‬ ‫وضغطت يف سبيل ايجاد الحلول املناسبة لحل هذه املعضلة وادارة هذا القطاع‪ ،‬االمر الذي ادى إىل حالة من‬ ‫التفكك والترشذم واملناطقية‪.‬‬ ‫واالمر ليس افضل عىل االطالق بالنسبة لقطاع املياه‪ ،‬يواجه قطاع املياه يف لبنان وخصوصاً بعد الحرب مشاكل‬ ‫متعددة عىل الصعيد التقني‪ ،‬املؤسسايت واالقتصادي‪ .‬فرثوة املياه اآلن مهددة ‪ ،‬فاملياه الجوفية مستغلة بشكل‬ ‫جائر‪ ،‬مام ينعكس انخفاضا يف مستوياتها يف كافة املناطق‪ ،‬وتداخال ملياه البحر يف املناطق الساحلية‪ ،‬ونوعية املياه‬ ‫السطحية والجوفية تواجه بالتايل تأثريات التلوث‪.‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫والجدير بالذكر أن مفهوم الحد من أخطار الكوارث ال يزال مفهوما جديدا ً داخل السلطات املحلية‪ ،‬وبالتايل هناك‬ ‫حاجة إىل زيادة الوعي واملعرفة وتعزيز قدرات السلطات املحلية من خالل الدعم املادي والبرشي وإقامة‬ ‫الدورات التدريبية والتأهيلية وزيادة الخربات لتعزيز قدرتهم عىل الصمود‪ ،‬خصوصاً يف ظل األزمات والكوارث‬ ‫اإلستثنائية التي نعيشها يف يومنا هذا إن كان لجهة جائحة كورونا وما نتج عنها من أزمات صحية وإقتصادية‬ ‫وإجتامعية إلخ أو لجهة األزمات اإلقتصادية التي نشهدها اليوم نتيجة الهبوط الرسيع واملفاجئ لرصف اللرية‬ ‫اللبنانية مقابل الدوالر‪ ،‬هذا عدا عن الكوارث الطبيعية والحرائق وغريها من االزمات التي بدت الدولة عاجزة‬ ‫عن حلها‪ ،‬بالتايل أصبح إقرار الالمركزية اإلدارية وتفعيل دور السلطات املحلية أمرا ً ملحاً وأكرث من رضوري‪.‬‬ ‫واقع الدولة ضمن مبادرات الدول املرنة‪.‬‬ ‫تواجه املنطقة بارسها مؤخرا ً كام سبق ذكره‪ ،‬إرتفاع يف وترية تداعيات الكوارث الطبيعية كحاالت الجفاف‬ ‫واالعاصري والفيضانات وحرائق الغابات‪ ،‬وانزالق الرتبة‪ ،‬وغريها‪ ...‬كام ان هذه املخاطر مرشحة للتصاعد يف ظل‬ ‫الظاهرة التي يشهدها العامل من احتباس حراري وتغيريات مناخية واستهتار بالبيئة واالمعان بتخريبها‪ ،‬باإلضافة‬ ‫إىل النزاعات والحروب وما ينتج عنها من ندرة املياه‪ ،‬ناهيك عن تقصري الدولة يف تقديم الخدمات املدينية بصورة‬ ‫جيدة واإلزدياد السكاين بشكل مطرد نتيجة الهجرات والنزوحات املستمرة‪.‬‬ ‫كل هذه األحداث كان لها تأثريا ً إقتصادياً‪ ،‬عىل مدى األعوام الثالثني املاضية‪ ،‬عىل ما يقارب ال ‪ 40‬مليون شخص‬ ‫يف بلدان الرشق األوسط وبكلفة ناهزت ‪ 20‬بیلیون دوالر امريييك‪ .‬االمر الذي دفع دول املنطقة بالتفكري بزيادة‬ ‫مرونة مدنها‪.‬‬ ‫وينا ًء عليه‪ ،‬التزم لبنان يف العديد من املبادرات واالتفاقات وصدق عليها بدءا ً من اتفاقية االمم املتحدة حول‬ ‫التغي املناخي ( ‪ ) UNFCCC‬عام ‪ 1994‬املوضوعة موضع التنفيذ بالقانون رقم ‪ 359‬تاريخ ‪ ،1/8/1994‬وصوالً إىل‬ ‫ُ‬ ‫اتفاقية باريس التي عقدت عام ‪ 2015‬وتم التوقيع عليها يف نيسان عام ‪ 2016‬ولقد تعهد لبنان بتخفيض‬ ‫انبعاثات ثاين اوكسيد الكربون بنسبة ‪ 15%‬إىل ‪ 30%‬والوصول إىل نسبة ‪ 12%‬من الطاقة املتجددة مع العام‬ ‫‪ ،2020‬تجدر االشارة إىل ان وزارة البيئة اللبنانية شاركت يف قمة التغري املناخي التي انعقدت يف نيويورك يف‬ ‫‪ ،23/9/2019‬حيث دعا األمني العام لألمم املتحدة الدول املشاركة لتقديم خطط ملموسة وواقعية لتعزيز‬ ‫إسهاماتهم املحددة وطنيا بحلول سنة ‪ ،2020‬متاشيا مع خفض انبعاث الغازات بـ ‪ 45‬باملئة يف العقد القادم‪ ،‬وصوال‬


‫الحياة‪ ،‬فمن هنا اذا نظرنا إىل الحالة اللبنانية نرى ا ّن من اهم التحديات التي تواجه املجتمع اليوم وتتصدر‬ ‫الحدث هي تأمني وادارة الخدمات املرفقية اليومية من كهرباء‪ ،‬مياه‪ ،‬نفايات‪...‬والتي عجزت الدولة عن تقدميها‬ ‫بصورة كافية ومستدامة‪ ،‬االمر الذي دفع إىل بروز البلديات واتحاد البلديات والنظم الحرضية غري الرسمية‬ ‫كرشيك مع االدارة املركزية من اجل تلبية االحتياجات اليومية للسكان وإليجاد حل مناسب لهذه املعضلة التي‬ ‫أُلقيت عىل كاهلهم بصورة مفاجئة‪ ،‬فبالتايل كان ال بد من ان نفهم وندرس دور هؤالء الفاعلني من البلديات‬ ‫واتحاد بلديات والنظم الحرضية غري الرسمية يف تعزيز مرونة املدن واستدامتها يف ظل كل التحديات التي‬ ‫تواجهها يف لبنان‪ ،‬فضالً عن إصدار توصيات تتعلق بالسياسة العامة وما ذكر اعاله من تعزيز مرونة املدينة‬ ‫واالستدامة الحرضية وقدرتها عىل الصمود يف وجه كل التحديات الحالية واملستقبلية من ضغوطات امنية‪،‬‬ ‫سياسية‪ ،‬تقنية وبيئية ويف وجه تغيري املناخ‪ ،‬وسيتحقق ذلك من خالل استعراض دور الفاعلني الرسميني وغري‬ ‫الرسميني وتحديد‪ ،‬وكيفية اسهامها يف االستدامة الشاملة ومرونة املدينة‪.‬‬ ‫واقع السلطات املحلية ضمن مبادرات املرونة‪.‬‬ ‫ال تزال الالمركزية اإلدارية حربا ً عىل ورق ومل ينفذ من مفهومها يشء؛ ورغم ذلك انضمت حوايل ‪ 270‬بلدية أو‬ ‫اتحاد بلديات من مختلف املناطق اللبنانية للحملة العاملية لتحصني املدن ضد مخاطر الكوارث والتزمت بامليض‬ ‫قدماً بإتجاه املدن املرنة (‪ ،)Hugo, 2013‬والبعض منها قد متكنت من تخصيص ميزانية للحد من مخاطر الكوارث‬ ‫من خالل الوكاالت الدولية والقطاع الخاص واملجتمعات املحلية‪ .‬وبفضل دعم املجتمع املحيل وحمالت التوعية‪،‬‬ ‫مبا يف ذلك تدريب املدربني‪ ،‬واملشاركة يف املؤمترات املحلية واإلقليمية‪ ،‬مثال عىل ذلك بعض السلطات املحلية التي‬ ‫حظيت بدعم مثل بلدية صيدا‪ ،‬متكنت من تخصيص ميزانية صغرية للحد من املخاطر وتخفيف حدتها بدعم من‬ ‫القطاع الخاص‪ ،‬وذلك نتيجة الكوارث التي حدثت خالل صيف عام ‪، 2013‬كم قدمت "بلدية جبيل" يف عام ‪،2013‬‬ ‫اقرتاحا كجزء من حملة ماية مدينة مرنة "روكفلر" للتوعية والحد من املخاطر‪ ،‬وحازت جبيل عىل أول مدينة مرنة‬ ‫يف الرشق األوسط‪ .‬وبلدية بريوت تعمل حالياً عىل دراسة لتحويل بريوت إىل مدينة مرنة " ‪TOWARDS A‬‬ ‫‪ "RESILIENT BEIRUT‬باإلضافة إىل ذلك‪ ،‬يتلقى اتحاد بلديات صور (حوايل ‪ 60‬قرية) الدعم من املركز لتنفيذ‬ ‫إجراءات الحد من إخطار الكوارث يف املنطقة‪ ،‬ولكن ال يزال العائق الرئييس يف تلك البلديات هو نقص املوارد‬ ‫املالية والبرشية يف املقام األول الذي يعيق تنفيذ اسرتاتيجيات التنمية للمجتمعات املحلية‪.‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫وتأكد الحكومة اللبنانية عىل وضع مفهوم إدارة مخاطر الكوارث ضمن أولوياتها‪ .‬وان لبنان قد التزم باالتفاقيات‬ ‫الدولية التي تندرج يف هذا اإلطار‪ .‬وتسعى الحكومة اللبنانية اليوم إىل الدمج بني مفهوم إدارة مخاطر الكوارث‬ ‫وتحقيق أهداف التنمية املستدامة وتحديات التغري املناخي بغية التوصل إىل أقىص درجة من االستعداد واملجابهة‬ ‫والتحرض للمخاطر والحد منها‪ ،‬فتم وضع االسرتاتيجية الوطنية للحد من مخاطر الكوارث‪ .‬إستنادا إىل االتفاقيات‬ ‫الدولية يف هذا املجال ومن ضمنها إطار عمل هيوغو ‪ 2005-2015‬ومن بعده إطار عمل سنداي ‪ .2015-2030‬تم‬ ‫وضع اإلطار العام لخطة االستجابة الوطنية خالل الكوارث واألزمات‪ .‬وتم وضع مسودة قانون إلنشاء الهيئة‬ ‫الوطنية إلدارة الكوارث تتم مناقشته حاليا يف اللجان النيابية املختصة علامً انه مل يبرص النور لغاية اآلن‪ .‬كام‬ ‫وانض ّمت بريوت إىل حملة األمم املتحدة الهادفة إىل جعل املدن مرنة ومقاومة للكوارث (‪.)UNISDR‬‬ ‫واالنضامم إىل هذا املرشوع يحتّم عىل املدن إلتزام نقاط أساس ّية منها‪:‬‬ ‫ التنظيم والتنسيق عىل صعيد الحكومات املحلية‪ ،‬لفهم ماهية الكوارث الطبيعية وكيف ّية الح ّد من مخاطرها‪،‬‬‫وتحديد ميزان ّية لذلك‪.‬‬ ‫ الحفاظ عىل أحدث البيانات بشأن املخاطر و َمواطن الضعف وتقييم املخاطر‪ ،‬واستخدامها كأساس لخطط‬‫التنمية الحرضية‪ ،‬واإلستثامر يف بنى تحت ّية تح ّد من األخطار‪...‬‬ ‫ تطبيق أنظمة بناء ومبادئ تخطيط استخدام األرايض مبا يتوافق مع املخاطر‪...‬‬‫ إدخال برامج تعليم وتدريب عىل الح ّد من مخاطر الكوارث‪ ،‬يف املدارس واملجتمعات املحلية‪ ،‬وحامية النظام‬‫البيئي واملخازن الطبيعية للتخفيف من خطر الفيضانات والعواصف وغريها من الكوارث التي ميكن أن تتع ّرض‬ ‫لها املدينة‪ .‬كام يجري العمل حاليا عىل وضع برنامج عام لالنذار املبكر‪ .‬وأنجر لبنان مناهج تدريبية حول إدارة‬ ‫مخاطر الكوارث خاصة مبؤسسة الجيش اللبناين وقوى األمن الداخيل والوزارات املعنية وكافة املحافظات‪.‬‬


‫إىل انعدام االنبعاثات سنة ‪ ،2050‬الفتا إىل ان العامل يف سباق ملواجهة تغري املناخ وتحقيق أهداف اتفاقية باريس‬ ‫(البيئة‪ 2019 ،‬ترشين الثاين‪ ،)28‬كام وأطلقت الدولة اللبنانية يف العام ‪ 2010‬بالتعاون مع برنامج األمم املتحدة‬ ‫اإلمنايئ يف لبنان » مرشوع تعزيز قدرات لبنان يف إدارة مخاطر الكوارث »‪ ،‬والذي يهدف إىل دعم الحكومة‬ ‫اللبنانية يف جهودها للحد من التعرض ونقاط الضعف يف مواجهة مخاطر الكوارث‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬تم إنشاء‬ ‫وحدة «إدارة مخاطر الكوارث» يف الرسايا الكبرية ملساعدة الحكومة اللبنانية يف تطوير اسرتاتيجيتها للحد من‬ ‫مخاطر الكوارث‪ ،‬وذلك بنا ًء عىل أربعة عنارص‪ :‬الوقاية واالستعداد واالستجابة والتعايف‪ .‬وأكملت وحدة إدارة‬ ‫مخاطر الكوارث التابعة لربنامج األمم املتحدة اإلمنايئ املرحلتني األوليني من هذا املرشوع‪ ،‬وتعمل حال ًيا عىل إمتام‬ ‫املرحلة الثالثة‪.‬‬ ‫يف املرحلة االوىل (‪ ،)2012 – 2010‬تم إنشاء وحدة إدارة مخاطر الكوارث لدى رئاسة مجلس الوزراء‪ ،‬وضع‬ ‫اإلسرتاتيجية الوطنية للحد من مخاطر الكوارث وتطبيقها‪ ،‬إضافة إىل وضع اإلطار العام لالستجابة الوطنية خالل‬ ‫الكوارث واألزمات‪ ،‬بناء القدرات الوطنية عىل املستويني املركزي واإلقليمي‪ ،‬رفع مستوى الوعي العام حول الحد‬ ‫من مخاطر الكوارث‪ ،‬إدماج املساواة بني الجنسني يف إطار الحد من مخاطر الكوارث املؤسيس ويف الخطط‬ ‫اإلقليمية واملحلية‪.‬‬ ‫ويف املرحلة الثانية (‪ ،)2015 – 2013‬تم تعزيز القدرة الوطنية عىل جبه مخاطر الكوارث بإنشاء آليات مؤسسية‬ ‫إلدارة هذه املخاطر‪ ،‬إدماج سياسات الح ّد من مخاطر الكوارث يف التخطيط اإلمنايئ للقطاع االقتصادي والقطاع‬ ‫االجتامعي لتغطية نقاط الضعف يف البنية التحتية‪ ،‬تعزيز القدرة املحلية واملجتمعية للح ّد من مخاطر الكوارث‬ ‫خصوصا الخسائر يف األرواح واملمتلكات‪.‬‬ ‫أما يف املرحلة الثالثة (‪ ،)2018 – 2016‬فجرى العمل لدعم مأسسة إدارة مخاطر الكوارث‪ ،‬دعم اإلنجازات حول‬ ‫تحديد مخاطر الكوارث‪ ،‬دعم السلطات املحل ّية لجبه الكوارث وزيادة قدراتها عىل جبه النزوح‪ ،‬دعم الدولة‬ ‫اللبنان ّية بوضع اإلسرتاتيج ّية الوطن ّية للنهوض املبكر وإعادة اإلعامر‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫املراجع‬ Department of Energy and change Climate. (2011). Annual Report and Accounts. the House of Lords by of Commons Foresight. (2008). Foresight Mental Capital and Wellbeing Project. The Government Office for Science Herbert Girardet. (2004). Cities, People, Plane. researchgate Hugo. (2013). Official report produced and published by the Government of 'Lebanon'. National Progress Report L and Dainty Bosher. (2011). Disaster risk reduction and 'built-in' resilience: towards overarching principles for construction practice. National Center of Biotechnology Information، 35(1):1-18 N, Strachan., S, Pye, R. Kannan. (2007). Final report on DTI-DEFRA scenarios and sensitivities, using the UK MARKAL and MARKAL-MACRO energy system models. researchgate UN Habitat. (2011). Case studies on climate change and World Heritage. . UNESCOUN Habitat. (2011). Cities and Climate change: responding to an urgent agenda. World Bank Publications UNFPA. (2011). State of World Population. UNFPA Walker, Cooper. (2011). Genealogies of resilience: From systems ecology to the political economy of crisis adaptation. Reaserch Gate، Volume: 42 issue: 2, page(s): 143-160 ‫ امللحق باتفاقية األمم املتحدة‬،‫ موافقة لبنان عىل ابرام اتفاق باريس‬.)28‫ ترشين الثاين‬2019( .‫وزارة البيئة‬ .‫اإلطارية بشأن تغري املناخ‬


‫الخالصة‬ ‫كل األموال التي أنفقت عىل البنى التحتية‬ ‫رغم كل املبادرات واالتفاقيات الدولية التي وقع عليها لبنان‪ ،‬ورغم ّ‬ ‫كل البعد عن املرونة يف سياساته وادارة‬ ‫وكل الدراسات التي عمل بها‪ ،‬لبنان هو اليوم بعيد ّ‬ ‫عىل م ّر السنني ّ‬ ‫خدماته املدينية‪ ،‬االمر الذي يظهر أن الدولة ال تعتمد مبدأ االستدامة يف عملها وال تعتمد عىل نظام حوكمة‬ ‫سليمة يف سياساتها وانظمتها مام يؤدي إىل العشوائية التي نحن فيها اليوم‪ ،‬فالدولة بدت عاجزة عن ادارة‬ ‫الخدمات العامة والبنى التحتية منذ بداية الحرب االهلية (‪ )1975-1990‬حتى يومنا هذا السيام يف ظل االنهيار‬ ‫كل أول عاصفة‬ ‫السيايس واالقتصادي وغياب دور املؤسسات العامة الذي نعاين منه‪ .‬فاملشهد ذاته يتكرر عند ّ‬ ‫بحيث تستفيق العاصمة وهي غارقة يف املياه‪ ،‬وتتحول الشوارع والطرقات إىل انهار جارفة وتدخل يف الكثري من‬ ‫االحيان املياه إىل املنازل وتجرف السيارات معها‪ ،‬وتنقطع الكهرباء وتطوف النفايات يف الشوارع لتصل إىل االنهر‬ ‫والبحر‪ ...‬وبحسب القائم بأعامل االمم املتحدة يف لبنان " شويب شارب" يتكبد لبنان سنوياً حوايل ‪5,323,000‬‬ ‫دوالر امرييك بسبب الفيضانات هذا عدى عن الخسائر البرشية‪ ،‬وعدا عن ازدحام السري عند مداخل بريوت‬ ‫املنخفضة شامالً وجنوباً‪ ،‬والتي تتح ّول إىل بحريات ال إمكانية لترصيف مياهها‪ ،‬والسبب يف ذلك يعود إىل طبيعة‬ ‫إدارة املوارد والبنى التحتية يف الدولة اللبنانية والتي يكون همها األوحد هو املشاريع األكرث ربحاً‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫اإليديولوجي في ّ‬ ‫السرد رواية «قناديل البحر» لجان توما‬ ‫فن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جا‬ ‫أنموذ ً‬

‫د‪ .‬نينا نبيل أيّوب‬

‫ربا يعود ذلك‬ ‫يطرح موضوع اإليديولوجيا يف كتاب "قناديل البحر" لـ جان توما‪ ،‬ال ُبعد‬ ‫يايس‪ ،‬إذ ّ‬ ‫االجتامعي ّ‬ ‫والس ّ‬ ‫ّ‬

‫الشذمة الطّائف ّية‪ ،‬االجتامع ّية الطّبق ّية‪ ،‬وحفظ التّاريخ من االندثار‪.‬‬ ‫إىل حاجة حثّ وتوعية الشّ عب من ّ‬ ‫إضاءات حول ال ّرواية‬ ‫نص روا ّيئ! وهو تواضع يف غري محلّه فـ"قناديل البحر"‪ ،‬من‬ ‫"يرت ّدد توما بإطالق صفة ال ّرواية فيقول عن كتابه إنّه ّ‬ ‫ناحية الشّ كل واألسلوب هو رواية مكتملة معارصة شكالً‪ ،‬باإلمكان مقارنتها مع اختالف حساس ّيات الكتاب اىل‬ ‫مرصي‪ ،‬من مواليد القاهرة ‪)1937‬‬ ‫أعامل شبيهة لها‪ ،‬عىل سبيل املثال ال الحرص‪ ،‬برواية صنع الله إبراهيم (روا ّيئ‬ ‫ّ‬ ‫"أمريكانيل" الّتي يزاوج كاتبها الواقعة املوث ّقة بالتّناول الف ّن ّي ال ّروا ّيئ‪ ،‬ليدخل تفاصيل العيش مع دكتور زائر يف‬ ‫الحضاري ال ّناتج من كون اإلنسان يأيت من‬ ‫الصدام‬ ‫إحدى جامعات أمريكا‪ ،‬وبالتّايل تعامله مع الحياة يف إطار من ّ‬ ‫ّ‬ ‫بلد عريب وما يستتبع ذلك ‪ ،....‬كام ميكن لنا ذكر آخر‬

‫_______________________‬ ‫‪ .1‬جان توما (‪ .)1955‬أديب وشاعر لبنا ّين‪ ،‬من مواليد ميناء طرابلس‪ .‬أستاذ يف الجامعات اللبنان ّية؛ جامعة الق ّديس يوسف‪ ،‬جامعة الجنان‪ ،‬س ّيدة اللويزة‬ ‫والبلمند‪ .‬إميل يعقوب‪ .‬ا ُنظر‪ :‬موسوعة أدباء لبنان وشعرائه‪ ،‬ج‪ ،2.‬ص ‪.186‬‬ ‫من أبرز مؤلّفاته‪ :‬هويّات معارصة (‪ ،)2020‬والعمر رشاع مسافر(‪ ،)2020‬وجوه بحريّة (‪ ،)2019‬األرثوذكس يف امليناء (‪ ،)2019 /1996‬يوم ّيات مدينة‬ ‫(‪ ،)2000‬املطران جورج خرض(‪ ،)2016‬ملاذا أطلت الغياب (‪ ،)2016‬إطالالت عىل األدب املعارص يف لبنان (‪ ،)2016‬البحر وحضوره يف ثقافة امليناء (‪،)2014‬‬ ‫املنتخب واملختار يف ال ّنوادر واألشعار البن منظور (‪ ،)2014‬أدب ال ّرحلة وال ّر ّحالون العرب (‪ ،)2014‬ديوان الحارث بن ِحلزة (‪ ،)2013‬تحقيق املخطوطات‬ ‫العرب ّية (‪ ،)2011‬التّعلّم والتّعليم‪ :‬مدارس وطرائق(‪ ،)2011‬قناديل البحر (‪ ،)2007‬مجمع األمثال للميداين (‪ ،)2002‬ديوان جحظة الربميك (‪ .)1997‬جان توما‪.‬‬ ‫هويّات معارصة‪ ،‬ص‪.464 ،463‬‬


‫طائر الفينيق‬

‫‪67‬‬


‫الفرنيس‪،‬‬ ‫السلطة العثامن ّية‪ ،‬والحقًا مواجهة االستعامر‬ ‫تعسف ّ‬ ‫اللبنان ّيني إىل ال ّدعوة إىل بناء وطن مستقل خارج ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياسيّة واالقتصاديّة وفق تقسيامت سايكس‪ -‬بيكو‪ .‬فقامت الثّورات‬ ‫الّذي أحكم قبضته عىل مصالح البلد ّ‬ ‫العرب ّية " نتيجة الظّلم الّذي لقيه العرب من األتراك خصو ًما‪ ،‬ومن ال ّدول الغرب ّية الّتي تقاسمت بالدهم متذ ّرعة‬ ‫السلطنة العثامنيّة الّتي تخلّفت عن‬ ‫السيطرة واالستثامر‪ .‬كام أ ّن ّ‬ ‫بتخلّفهم وبأنّها تبتغي مساعدتهم وهي تضمر ّ‬ ‫مواكبة تق ّدم الحضارة اإلنسان ّية التّليدة‪ ،‬بسبب غرقها يف مواجهة الدسائس الخارج ّية والداخل ّية‪ ،‬أخذت العرب‬ ‫األخص يف سورية ولبنان عامي ‪1915‬‬ ‫والتويع‪ ،‬فج ّرت العديد منهم إىل املشانق‪ ،‬وعىل‬ ‫برضوب شتّى من التّهويل ّ‬ ‫ّ‬ ‫و‪ .1916‬وأعملت ال ّنفي والتّرشيد بالعائالت يف سورية ولبنان‪ ،‬وفلسطني‪ .‬ومعظم الّذين تخلّص منهم األتراك كانوا‬ ‫ينتمون إىل جمعيتني عربيّتني قوميّتني‪ ،‬أسهمتا إسها ًما ف ّعاالً بنرش ال ّنزعة القوميّة يف الجيل العر ّيب وهام‪ :‬املنتدى‬ ‫األد ّيب العر ّيب‪ ،‬وحزب الالمركزيّة‪ .‬وقد جاهر أكرثهم‪ ،‬قبل تنفيذ القضاء به‪ ،‬وخالله‪ ،‬بعمله للقوم ّية العرب ّية‪ ،‬إذ إ ّن‬ ‫مفهوم القوميّة الحديث أصبح معروفًا لدى الطّبقة املثقّفة الّتي كانوا ينتمون إليها‪ .‬أ ّما املستعمرون الغربيّون‪،‬‬ ‫كل من وقف يف وجه سيطرتهم الغاشمة‪ ،‬أو ثار عىل ظلمهم"‪.‬‬ ‫فكانوا يقضون عىل ّ‬ ‫ تسويغ اختيار املوضوع‬‫الصادرة عام ‪ ،2007‬عن‬ ‫لقصة "قناديل البحر" إىل أسباب متع ّددة؛ منها قناعتي بأ ّن هذه ال ّرواية ّ‬ ‫يعود اختياري ّ‬ ‫حصتها من ال ّدراسة‪ ،‬ومنها رغبتي يف اإلحاطة بإبراز هويّة توما‬ ‫تعاونيّة ال ّنور األرثوذكسيّة يف بريوت‪ ،‬مل تنل ّ‬ ‫اجتامعي وأد ّيب تبلور فيه رصاع اإليديولوج ّيات‪ ،‬حيث "تفتّح وعيه األ ّول عىل نداء‬ ‫الثّقاف ّية‪ ،‬الّتي هي وليدة مناخ‬ ‫ّ‬ ‫البحر وحكايات الب ّحارة‪ ،‬وعىل أصوات األمواج تعزف سمفونيّتها األبديّة عىل وقع‬

‫_______________________‬ ‫‪ -6‬وليم الخازن‪ :‬الشّ عر والوطنيّة يف لبنان والبالد العربيّة‪ ،‬ص ‪.90‬‬


‫روايات أورهان باموق ( كاتب وروا ّيئ تريكّ فاز بجائزة نوبل لألداب‪ ،‬سنة ‪ 2006‬ولد يف إسطنبول يف ‪ 7‬يونيو سنة‬ ‫‪ ،)1952‬والّتي خصصها ملدينته "اسطنبول" كام عرفها‪ ،‬وعرب رؤية برصيّة أدبيّة مبعنى أنّه يثبت يف الكتاب صو ًرا‬ ‫ملواقع شوارع ومبان ومعامل لها تاريخ وأخرى لها معنى حيا ّيت لالسطنبول ّيني‪ .‬هذه املقارنة ليست للقول إ ّن "توما"‬ ‫اقتبس شكل عمله من هؤالء ألنّني أعلم علم اليقني أنّه كتب عمله قبل نرش باموق لروايته‪ ،‬ومل يسمع‬ ‫بـ"أمريكانيل " إلبراهيم" ‪.‬‬ ‫‪ -‬‬

‫اإليديولوجيا ح ّدها‬

‫بدأ مفهوم اإليديولوجيا‪ ،‬يف القرن الحايل‪ ،‬يأخذ تص ّو ًرا اجتامع ًّيا‪ ،‬وقد أشار أندره الالند (‪ )Lalande André‬يف‬ ‫املعب عن املصالح الحيويّة لطبقة اجتامعيّة معيّنة" ‪ .‬لقد تباينت اآلراء وتن ّوعت يف هذا‬ ‫قاموسه أنّه "التّفكري ّ‬ ‫اإلطار بأن اعتربه البعض بأنّه منظومة من األفكار املو ّجهة للعمل‪ ،‬يف تحسني الواقع وتطويره ‪.‬‬ ‫‪ -‬‬

‫نظرة عن التّح ّوالت الّتي شهدتها املنطقة‬

‫السياس ّية والعسكريّة الّتي شهدتها املنطقة (‪ ،)1932 1897-‬ارتفعت أصوات اليقظة بوجه‬ ‫يف خض ّم التّح ّوالت ّ‬ ‫والعسكري‪ ،‬تن ّدد بسياسة التّرتيك‪ ،‬الّتي ضغطت عىل اللبنانيّني‪ ،‬وعا َدت ْهم‪ ،‬فاضطهدت رجال‬ ‫السيايس‬ ‫ّ‬ ‫التّعفّن ّ‬ ‫اإلجباري‬ ‫السخرة عىل الشّ عب‪ ،‬والتّجنيد‬ ‫الفكر‪ ،‬أقفلت ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصحف‪ ،‬حلّت الجمع ّيات‪ ،‬صادرت وسائل ال ّنقل‪ ،‬فرضت ّ‬ ‫عىل الشّ باب‪ .‬غري أ ّن هذه األعامل الّتي بلغت أو ّجها مع جامل باشا‪ ،‬دفعت‬

‫_______________________‬ ‫‪ -1‬جان رطل‪« :‬قناديل البحر‪ :‬جان توما يستأنف حكايات الثّغر وأحواله»‪ ،‬ص ‪.435‬‬ ‫‪ -2‬فيلسوف فرنيس (‪ :)1963 -1867‬جورج طرابييش‪ .‬معجم الفالسفة‪ ،‬ص ‪.570‬‬ ‫‪.460.André Lalande. Vocabulaire technique et critique de la philosophie, p -3‬‬ ‫‪.26.Terry Eaglton. Ideology an introduction, p -4‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫تعب عن‬ ‫الصفحات ال عالقة لها بالواقع‪ .‬أ ّما األحداث فهي تاريخ ّية واقع ّية‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫القصة من نسج الخيال ولك ّنها ّ‬ ‫السياسيّة‬ ‫هواجس عدد كبري من املس ّنني الّذين التقطنا منهم‪ ،‬ولو برتتيب‬ ‫ّ‬ ‫فوضوي وغري منظّم‪ ،‬بعض األحداث ّ‬ ‫املحل ّية الّتي عايشوها وكانوا جز ًءا من واقع ّيتها‪ ،‬من دون أن نلتزم يف سياق ورود األحداث وتاريخ ّيتها ودقّة‬ ‫البحري‪-‬‬ ‫وقوعها‪ ،‬بقدر الحفاظ عىل روحيّتها وخدمتها لسياق ال ّن ّص ال ّروا ّيئ‪ .‬هي محاولة لكتابة تاريخ الثّغر‬ ‫ّ‬ ‫امليناء‪ ،‬مدينة املوج واألفق‪ -‬قضاء طرابلس‪ -‬شامل لبنان يف ظروف سياس ّية حا ّدة متن ّوعة‪ ،‬متتد من العام ‪ 1898‬إىل‬ ‫العام ‪".1932‬‬ ‫ إشكال ّية الدّ راسة‬‫وعليه تطرح اإلشكاليّة اآلتية‪ :‬هل استطاع الكاتب أن ميازج بني ما استقطبه من ذاكرة املسنني وبني منظومة‬ ‫السد؟ أم ق ّوض موروثات اجتامع ّية وحضاريّة لبناء هيكل ّية‬ ‫رسبها عىل مستوى ّ‬ ‫األفكار واملو ّجهات الّتي أراد أن ي ّ‬ ‫وطن يبحث فيه اإلنسان عن انتامء؟‬ ‫تفرض هذه التّأويالت رضورة الكشف عن القصديّة املحجوبة املخبوءة وراء ظاهر القول‪ ،‬والّتي شكّلت محور‬ ‫اإليديولوجي يف‬ ‫الصاع‬ ‫انشغاالت الكاتب يف روايته من دون أن يعلن عنها‪ .‬لذا تتناول هذه ال ّدراسة موضوع ّ‬ ‫ّ‬ ‫لغوي‪ ،‬لذا‬ ‫والحضاري‪ ،‬بحسب بيار زميا ‪ Pierre Zima‬الّذي استطاع أن يرى ال ّن ّص أنّه بناء‬ ‫االجتامعي‬ ‫املستويني‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"السوسيولكتة"‬ ‫يتسب إليه عرب اللغة‪ ،‬ما ميكن تسميته بلغة الفئة االجتامعيّة‬ ‫فإ ّن‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة أو ّ‬ ‫اإليديولوجي ّ ّ‬ ‫ّ‬ ‫خاصة من خالل وحدات معجم ّية ودالل ّية وتركيب ّية متفصل املصالح‬ ‫تعب عن مصالح جامع ّية ّ‬ ‫‪ّ ،sociolecte‬‬ ‫االجتامعيّة ‪ .‬من هنا‪ ،‬إمكان القيام بالتّأويل االجتامعي‪ ،‬وإبراز قضيّة املهاجرة‪ :‬محور الوطن ‪ #‬الغربة‪ ،‬وقد‬ ‫الصاع‪ ،‬عىل‬ ‫وجدتها األكرث بروزًا عرب صفحات ال ّرواية‪ .‬ولتمثيل ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪.134-130,131-121 ,Pierre Zima. Manuel de sociocritique -12‬‬


‫أجراس الكنائس‪ ،‬ونداء املؤذنني يف املساجد‪ ،‬يف مح ّبة وتآلف ووئام‪ ،‬يختلط فيها تراتيل القداديس مع صوت تالوة‬ ‫القرآن يف حارات امليناء وشوارعها املختلطة الّتي تجمع أهلها عىل املحبّة والقداسة" ‪ .‬يقول وجيه فانوس عنه ‪" :‬‬ ‫لعل أفضل املفاتيح ال ّدخول إىل العامل الثّقا ّيف لل ّدكتور جان توما‪ ،‬يكمن يف أن يعرف املرء أ ّن صاحب هذا العامل‬ ‫ّ‬ ‫منتم بحميميّة موضوعيّة ووجدانيّة‪ ،‬يف آنٍ‬ ‫عضوي‬ ‫جامعي وناشط ثقا ّيف‬ ‫هو أستاذ‬ ‫وقيادي نقا ّيب‪ ،‬فضالً عن كونه ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫واحد‪ ،‬إىل محيطه الجغرا ّيف! فإذا ما متكّن املرء من اإلمساك بهذا املفتاح‪ ،‬انفرجت أمام بصريته بواعث ما يزفّه‬ ‫يتجل يف ترجامت لشخصيّات‬ ‫السفر‪ ،‬من كتابات منها ما يشكّل دراسات أكادمييّة‪ ،‬ومنها ما ّ‬ ‫ال ّدكتور توما‪ ،‬يف هذا ّ‬ ‫فكريّة وثقاف ّية واجتامع ّية ومنها ما يق ّدم قراءات يف الحياة واملجتمع‪ ،‬كام أ ّن منها ما يرشق بألفاظه بوح وتأ لّق‬ ‫مشاعر وعطر محبّة‪ .‬يغلب عىل ظ ّني أ ّن ال ّدكتور جان توما مل يُولد يف هذه الحياة إالّ ليكون فاعالً ثقافيًّا وتثقيفيًّا‬ ‫بني ال ّناس؛ ينطلق منهم وإليهم" ‪.‬‬ ‫السري‪ ...‬فاألدب وإن‬ ‫من املعلوم أ ّن األدب كان وما زال‪ ،‬ف ّن التّعبري عن قضايا اإلنسان ‪ ،‬كالفن‬ ‫القصيص‪ ،‬أو ّ‬ ‫ّ‬ ‫يعب عن تجربة إنسان ّية‪ ،‬إذ من‬ ‫تع ّددت منطلقاته وأهدافه‪ ،‬فهو من نسيج العالمات والعوامل‪ ،‬يتبادله األنا واآلخر‪ّ ،‬‬ ‫تتأسس يف منطلقها عىل ال ّنظرة املركزيّة سواء‬ ‫البديهي أن تتأث ّر التّجربة األدبيّة بالعوامل املحيطة بالكاتب‪ ،‬الّتي ّ‬ ‫ّ‬ ‫متوسلة اللغة‪" ،‬تنبع من تأثريها غري الواعي بالتّ ّيارات املتداخلة الّتي تكمن وراء الحياة‬ ‫أكانت جامع ّية أم فرديّة‪ّ ،‬‬ ‫اليوميّة وتنحدر من ظروفها التّاريخيّة ومالبسات حياتها ال ّنفسيّة عرب العصور" ‪ ،‬وهذا ال يتناىف مع ما أورده توما‬ ‫يف مق ّدمة كتابه "قناديل البحر"‪ ،‬يقول‪" :‬بعض شخص ّيات هذه‬

‫_______________________‬ ‫‪ -7‬جان توما‪ .‬هويّات معارصة يف ال ّنقد األد ّيب‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫والتاث والحضارة‪ .‬شغل مناصب ثقاف ّية وأكّادمي ّية‪ .‬منها‪ :‬رئاسة‬ ‫ّادميي وباحث‪ .‬له العديد من الكتب يف ال ّنقد األديب ّ‬ ‫‪ -8‬وجيه فانوس ( بريوت ‪ .)1948‬ناقد أك ّ‬ ‫ات ّحاد الكتاب اللبنان ّية (‪ ،)2015‬نائ ًبا لرئيس ات ّحاد الكتّاب العرب‪..wiki.https://www.Kachaf.com، https://wwwislamguiden.com.inde ...‬‬ ‫‪ -9‬جان توما‪ .‬إطالالت عىل األدب املعارص يف لبنان‪ ،‬ص‪.5‬‬ ‫‪ -10‬انظر‪ :‬ع ّز ال ّدين إسامعيل‪ .‬األدب وفنونه‪ ،‬ص‪.21 ،20‬‬ ‫‪ -11‬نازك املالئكة‪ .‬قضايا الشّ عر املعارص‪ ،‬ص ‪.302‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫السيطرة عليه وإدخال لعبة املصالح واالستفادة" ‪ ،‬معلّقًا عىل‬ ‫تحمل ال ّنميمة وال ّد ّس‪ ،‬ولوائح بأسامء من يجب ّ‬ ‫الكل ملساعدة‬ ‫االجتامعي بني أبناء البلدة الّذين "يعمدون إىل العونة البحريّة‪ ،‬حيث يتكاتف ّ‬ ‫أهم ّية التّكافل‬ ‫ّ‬ ‫ّجامعي الستعادة ألق املركب يك ال ترشد عائلة لرغبة يف أعامق البحر الّذي ال أمان‬ ‫رضر منهم‪ ،‬بعمل يدوي‬ ‫املت ّ‬ ‫ّ‬ ‫له‪".‬‬ ‫القص‬ ‫يتكلّم الكاتب عن "نجيب ال ّراعي"‪ .‬هو شخص ّية محوريّة يف ال ّرواية‪ ،‬بني عليها الحدث لتشكّل نواة ّ‬ ‫ولحمته‪ .‬لقد استعار هذه الشّ خص ّية من العامل املعيش وما ميثّله بعلم ال ّداللة‪ .‬إذ‪ ،‬إ ّن اسم العلم "نجيب" من‬ ‫خي‪ ،‬الّذي‬ ‫األسامء الشّ ائعة‪ ،‬وهو عىل وزن ّ‬ ‫الصفة املش ّبهة "فعيل" من ما ّدة "نَ َج َب" "وال ّنجيب الفاضل الكريم ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫عي‪ :‬مصدر َر َعى الكأل‬ ‫يرعى اآلخرين ‪ .‬أ ّما "ال ّراعي" فمن مادة رعي‪ ،‬كام جاءت يف معجم لسان العرب "رعي ‪ :‬ال َّر ُ‬ ‫كل من أوىل أم ًرا بالحفظ‪ .‬فامذا رعى‬ ‫ونحوه يرعى رع ًيا‪ .‬وال ّراعي يرعى املاشية‪ ،‬أي‪ :‬يحوطها ويحفظها" ‪ .‬هو ّ‬ ‫"نجيب الراعي" ومباذا أفضل؟‬ ‫يخص عامل الشّ خص ّية يف هويّته املرجع ّية ‪ ،‬وتنحرص يف "نجيب ال ّراعي"‪ ،‬وما‬ ‫هذا ويرتكّز منظور ال ّرواية عىل ما ّ‬ ‫الساحل ّية يف‬ ‫يدور من أحداث يتمحور حوله‪ ،‬فإ ّن األمكنة لتح ّركاته تتوزّع بني دائرتني مكان ّيتني‪ :‬األوىل بلدة امليناء ّ‬ ‫الفرنيس‪ ،‬واملهجر قربص‪ /‬الرنكا‪ ،‬أي بني ال ّداخل والخارج‪.‬‬ ‫التيك ث ّم االنتداب‬ ‫شامل لبنان‪ ،‬زمن االحتالل ّ‬ ‫ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -15‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪ -16‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪ -17‬ابن منظور‪ .‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،14‬ص‪.40‬‬ ‫‪ -18‬ابن منظور‪ .‬لسان العرب‪ ،‬ج‪ ،5‬ص ‪.251‬‬ ‫‪ -19‬مينى العيد‪ .‬ال ّرواية العرب ّية‪ ،‬ص‪.44‬‬


‫السوسيولوكتات‬ ‫مستوى التّلفّظ ‪ énonciation‬أي مستوى خطاب ال ّراوي‪ ،‬ت ّم تسليط ّ‬ ‫الضوء عىل فئتني من ّ‬ ‫ِ‬ ‫املسيطَر عليها‪ ،‬الّتي تربز بني الفئتني املذكورتني‪.‬‬ ‫الصاع بني الفئات‬ ‫ترهصان برصاع‬ ‫إيديولوجي ّ‬ ‫املسيطرة والفئات َ‬ ‫ّ‬ ‫الفئة األوىل قاهرة‪ ،‬والثّانية مقهورة تخطّط" للقيام بالثّورة‪.‬‬ ‫‪- 1‬تأطري ال ّن ّص‬ ‫يفرتض تأطري ال ّن ّص الجواب عىل األسئلة التّالية‪ :‬من املتكلّم؟ من يكلّم؟ متى؟ عال َم؟ ملَ يتكلّم؟ ال ّراوي هو غري‬ ‫يل‪ .‬وال ّراوي يبتدعه ال ّروا ّيئ ليرسد‪ ،‬ويتكلّم عىل‬ ‫ال ّروايئ‪ .‬ال ّروا ّيئ شخص يعيش يف الحياة‪ ،‬يخلق العامل التّمثي ّ‬ ‫يل‪.‬‬ ‫األحداث‪ ،‬وعىل الشّ خص ّيات الّتي تفعل‪ .‬إذا ً‪ ،‬هو جزء من العامل التّخيي ّ‬ ‫القصة را ٍو عليم‪ ،‬ال هو شاهدها وال أسهم‬ ‫األقصوصة حتّى نهايتها‪ ،‬يف صيغة الغائب‪ ،‬يروي ّ‬ ‫السد‪ ،‬من بداية ّ‬ ‫جاء ّ‬ ‫القص عالقة غياب (‪ .)hétérodoégétique‬والحادثة املرويّة‪ ،‬قد حدثت يف‬ ‫يف إنجازها‪ ،‬فتتب ّدى عالقته بكون ّ‬ ‫مشهدي‪،‬‬ ‫دي ‪ .‬وأحيانًا يستحرض ال ّراوي شخص ّياته لتتكلّم بنفسها يف حوار‬ ‫ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫املايض‪ ،‬وهي سابقة عن العمل ّ‬ ‫فتقل تعليقاته‪ ،‬وتنكشف رؤيته عرب أصوات شخص ّياته‪ ،‬فالتّبئري صفر‪ .‬أل ّن ال ّراوي يعرف أكرث من الشّ خص ّية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويعرف مشاعرها‪ ،‬أفكارها‪ ،‬خواطرها‪ ،‬يقول‪" :‬مت ّنى نجيب يف أعامق نفسه لو يطلع ج ّني القمقم أمامه ويريحه‬ ‫الفرنسوي مح ّمالً بألف‬ ‫الفرنسوي الّذي عاود يف طلب نجيب‪ .‬وتو ّجه نحو دار البوليس‬ ‫من هذا الكوميسري‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫السياس ّية واخضاع إرادة الشّ عب‪ ،‬مع إدانته لل ّنميمة‪ ،‬فـ"أمام الباب‬ ‫هاجس وهاجس" ‪ ،‬إذ يكشف هيمنة القوى ّ‬ ‫الثّاين املجاور ملكتب الكوميسري تهادت‪ ،‬للم ّرة الثّالثة‪ ،‬رائحة تبغ مألوفة مشتعلة يف ف ّوهة غليون‪ .‬أدار رأسه‬ ‫الصادرة من ال ّداخل‬ ‫باتّجاه باب هذا املكتب‪ ،‬كان مغلقًا لكن رائحة التّبغ ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -13‬نبيل أيّوب‪ ،‬النقد النيص (‪ )2‬وتحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪ -14‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.95‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫أمام املصاعب واملؤمرات" ‪ ،‬وهو من طاف مع رفاقه الثّوريّني األحياء "منادين بالح ّريّة والعدالة" ‪" .‬كان يشعر‬ ‫الشايني‪ ،‬وبتفتّح زهر ال ّربيع عىل خ ّديه ‪ ".‬غادر‬ ‫كلّام تح ّدث أحدهم بعنفوان عن ال ّنهضة العرب ّية اآلتية بفوران يف ّ‬ ‫ملتفتًا إىل الوراء‪ ،‬وقلّام يلتفت" إىل الوراء‪ .‬رأى شاطئ امليناء من بعيد يتألأل بقناديل البيوت البحريّة املضاءة" ‪.‬‬ ‫األرثوذكيس املذهب اجتامع ًّيا‪ ،‬وغري املؤمن عمل ًّيا‪ ،‬يلج باب الكنيسة‪ ،‬وحي ًدا عاريًا‬ ‫وصل الرنكا‪" ،‬رأى نفسه‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫القربيص‪ ،‬وبذلك‬ ‫كام ولدته أ ّمه‪ " .‬أستبقاه خوري الكنيسة عىل مائدته‪ ،‬وق ّدم له سك ًنا وعمالً يف أرايض ال ّزيتون‬ ‫ّ‬ ‫يتس ّنى له لقربها من الوطن‪ ،‬أن يقف عىل أحوال البالد واالت ّصال باألهل‪ .‬أدرك "نجيب" يف غربته‪ ،‬أهم ّية‬ ‫مسك باألرض مهام قسا ال ّزمن" ‪ .‬وبعد ميض أكرث من ثالث سنوات يف الغربة‪ ،‬استب ّد به الشّ وق إىل أرضه‬ ‫"التّ ّ‬ ‫وبحره‪ ،‬إىل األهل وال ّرفاق‪ ،‬إىل ص ّيادي البلدة‪ ،‬إىل الحبيبة‪ ،‬إىل تأسيس عائلة معها‪ .‬فق ّرر االنكفاء عن التّفكري‬ ‫بالسياسة‪ ،‬والعودة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫"السقالة"‪ .‬احتضنته أ ّمه بعد طول غياب‪ ،‬وأرسعت "إلهام"‬ ‫مل يدقّق الفرنس ّيون يف هويّة القادمني الّذين عربوا ّ‬ ‫الستقباله‪ ،‬لينرصف يف اليوم التّايل إىل أصدقائه يف مقهى "زيتونة"‪ ،‬رأى رفيق والده "أبو حسني"‪ ،‬وأخربه أ ّن الوضع‬ ‫الفرنسوي "نجيب" إىل مكتبه‪،‬‬ ‫مع الفرنسويّني مريح أكرث من زمن األتراك‪ ،‬حديث مل يستكمل الستدعاء الكوميسري‬ ‫ّ‬ ‫يعرض عليه‪ ،‬يف امل ّرة األوىل‪ ،‬عمالً يف املكتب الجمريكّ كونه يتقن اللغة اليونان ّية‪ ،‬رفض "نجيب" العرض بح ّجة أنّه‬ ‫السمك الّذي ترك له‬ ‫يرغب بالحفاظ عىل إرث أبيه يف مهنة ّصيد ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -26‬جان توما‪ .‬قناديل البحر ‪ ،‬ص ‪.14‬‬ ‫‪ -27‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪14‬‬ ‫‪ -28‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫‪ -29‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪ -30‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.30‬‬ ‫‪ -31‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫‪ -32‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.42‬‬


‫أرثوذكيس املذهب‪ ،‬ومن والدة أح ّبت أن يكون ابنها مث ّقفًا "كأولئك الّذين يج ّرون الكلامت‬ ‫ولد "نجيب" من أب‬ ‫ّ‬ ‫كل األلوان واألشكال‪ ،‬وهي تكرار لكلامت قالها فرح أنطون‬ ‫السوق العتيق‪ ،‬كلامت من ّ‬ ‫كصناديق الخضار يف ّ‬ ‫السلطة‬ ‫الحي إلهام‪ .‬حارب ّ‬ ‫وغريه ورست كالعدوى‪ ،‬ير ّددها الجميع من دون أن يفقهوا معناها" ‪ ،‬أحب ابنة ّ‬ ‫العثامن ّية مع رفاقه "ليفوزوا بوحدة البالد العرب ّية‪ ،‬يوم مزجوا دماءهم كاألطفال الحاملني‪ ،‬بعدما جرحوها‬ ‫[أيديهم] بسكّني صدئة‪ ،‬يف عل ّية الخشب يف البيت العتيق‪ ،‬والّتي كانوا يركنون إليها كالعصافري‪ ،‬ينفشون ريشهم‬ ‫برؤى التّخلّص من األتراك‪ ،‬بعدما بدأت تربز نتائج الحرب العامل ّية األوىل بتق ّدم الحلفاء وبوعودهم ال ّرباقة بوحدة‬ ‫سيايس" ‪ ،‬غادر‬ ‫لكل بيان‬ ‫الصغر‪ ،‬متم ّر ًدا‪ ،‬مح ًّبا ّ‬ ‫األقطار العرب ّية ‪ ،‬إالّ أنّه ق ّرر ال ّرحيل دون علم أ ّمه‪ ،‬فهي ألفته منذ ّ‬ ‫ّ‬ ‫السلطة الفرنسويّة زادت من‬ ‫الفرنسويي له ستزداد‪،‬‬ ‫عن طريق البحر‪" ،‬ظ ًنا منه أ ّن مضايقات‬ ‫ً‬ ‫خصوصا أ ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫التب‪ ،‬بعد ٍ‬ ‫السلطنة‬ ‫نقاش‬ ‫سيايس حا ّد‪ ،‬عن أسفه لسقوط ّ‬ ‫رصح عل ًنا‪ ،‬يف مقهى عبدالله بساحة ّ َ‬ ‫مراقبته‪ ،‬بعدما ّ‬ ‫ّ‬ ‫السلطنة العثامن ّية سمح لوعد‬ ‫العثامن ّية‪ ،‬ألنّها عىل عالّتها‪ ،‬كانت تو ّحد أرض العرب تحت سلطتها‪ .‬كام أ ّن سقوط ّ‬ ‫العلني عىل‬ ‫مقس ًم البالد إىل خطوط حمر وخرض وما إىل ذلك‪ .‬أضف إىل ذلك سخطه‬ ‫بلفور العام ‪ 1917‬بالظّهور‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسويي بسبب ما آل إليه مصري بطله يوسف العظمة يف ميسلون يوم ‪ 24‬متّوز ‪ . "1920‬غادر بح ًرا تحت سرت‬ ‫ّ‬ ‫الليل تفاديًا من غدر العيون الفرنسويّة‪ ، ،‬دون علم أ ّمه‪" ،‬لك ّنه كان يؤمن بأ ّن األمل لن مييض‪ ،‬وأ ّن قدر هذه‬ ‫البالد أن تستيقظ يو ًما‪ ،‬وأ ّن شعوبها لن تنحني‬

‫_______________________‬ ‫السياس ّية‪ ،‬وإىل أن يكون العقل س ّيد املوقف‪.‬‬ ‫‪ -20‬فرح أنطون‪ ،‬ابن بلدة الكاتب وبطل ّ‬ ‫القصة‪ ،‬وهو الّذي كان يدعو إىل عدم إقحام رجال ال ّدين يف املسائل ّ‬ ‫كان مدي ًرا ملدرسة مار إلياس يف املدينة‪ ،‬ويف بكفتني املجاورة‪ ،‬قبيل هجرته إىل مرص‪ .‬ا ُنظر‪ :‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪ -21‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪ -22‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫‪ -23‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪ -24‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.14 ،13‬‬ ‫‪ -25‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫خاصة‪،‬‬ ‫الصيد ومن حركة تجاريّة وفرص عمل؟! قبول منطق التّح ّوالت يف إطار رشوط ّ‬ ‫سيوفّره من حامية ملراكب ّ‬ ‫يعني املحافظة عىل املعتقدات حتّى ال تقع يف رشاك ال ّدمياغوجيّة‪ ،‬والخشبيّة واألسطرة‪.‬‬ ‫يل من‬ ‫مل يح ّول جان توما بطله اىل أسطورة‪ ،‬فهو ال يريد أن يو ّرث مجتمع امليناء أيّة يوثوبيا‪ ،‬يريد له التّح ّرر الفع ّ‬ ‫الفرنسوي عىل دوره ميارس القمع‬ ‫الوقوع تحت ضغط الجمود واألنساق املغلقَة‪ .‬ولكن ما العمل وقد بقي‬ ‫ّ‬ ‫بالسياسة يف املقهى‪ ،‬إنّهم‬ ‫والقهر‪ ،‬إذ بعد أن ساهم يف عمران امليناء‪ ،‬أعاد اعتقال نجيب تأديب ًيا له عىل «الحيك» ّ‬ ‫بالحق بالتّعبري" ‪.‬‬ ‫ال يعرتفون‬ ‫ّ‬ ‫وعليه‪ ،‬إ ّن "نجيب" عاش يف وئام مع الجوار‪ ،‬بتناغم مع التّع ّدديّة الطّائف ّية واالجتامع ّية‪ ،‬لك ّنه كان مأزو ًما يستشعر‬ ‫بالسلطة الحاكمة موتورة لجهة‬ ‫ّ‬ ‫السياسيّة والتّنديد باالحتالل‪ ،‬فتتب ّدى عالقته ّ‬ ‫بالتبّص والتّهديد يالحقانه آلرائه ّ‬ ‫عدم احتضانها مواقفه املعادية‪.‬‬ ‫الصعبة والعوائق الخشبيّة والحواجز‬ ‫السياسيّة ّ‬ ‫يقف بطل ال ّرواية نجيب ال ّراعي كجواد عر ّيب أصيل يجتاز املراحل ّ‬ ‫بكل ثبات وجدارة‪ ،‬فيدخل يف رصاع مرير مع معارك االستالب املفروضة عليه‪ ،‬ومع معارك‬ ‫االجتامع ّية وال ّدين ّية ّ‬ ‫والسياسيّني املتعاملني‬ ‫القهر واملعاناة الّتي تواجهه يومياً يف ّ‬ ‫كل مناحي الحياة‪ ،‬ناهيك عن ُمكر املستعمرين ّ‬ ‫يلتف‬ ‫ورجال ال ّدين املتو ّرطني‪ ،‬الّذين يرتبّصون به وبوطنه وأبناء شعبه‪ ،‬فيكونون دامئًا باملرصاد‪ .‬غري أن توما‪ّ ،‬‬ ‫كل هذه املعارك األساسيّة منها والهامشيّة‪ ،‬الّتي يخوض بطله نجيب ال ّراعي فيها‪ ،‬فيمنع‬ ‫بقدرة فنيّة عالية‪ ،‬عىل ّ‬ ‫االستالب والقهر واملعاناة الّتي تحارص املغمورين وامله ّمشني من‬

‫_______________________‬ ‫‪ -38‬وفاء شعراين‪« .‬جان توما يف «قناديل البحر»‪ ...‬اليوتوبيا يف املجتمع!؟»‪ ،‬ص ‪.6‬‬


‫عمل لبناء‬ ‫أي اعرتاض بأن أعلن تعينه رئيس ورشة ّ‬ ‫مرك ًبا بحريًا ‪ .‬ويف امل ّرة الثّانية قطع الكوميسري عىل "نجيب" ّ‬ ‫الفينيقي ‪ .‬قَبِل الفكرة ألنّها ستعود بالخري عىل أبناء بلدته البحريّة‪ ،‬وخدمة‬ ‫الس ّد‬ ‫السنسول الجديد‪ ،‬مكان ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫رس له صديقه بأنّه قد نجح بالعودة وأنقذ أ ّمه من وحدتها‪ ،‬وح ّرر من‬ ‫ّ‬ ‫للصيادين عىل درء زوارقهم من األنواء‪ .‬أ ّ‬ ‫أرس لها قلبها‪ .‬تز ّوج ورأى يف وجه "إلهام" وط ًنا يتّكئ عليه‪ ،‬وداف ًعا لعقد لقاءات سياسيّة مع ال ّرفاق‪ ،‬إىل يوم‬ ‫السجن ‪ .‬بعد أسبوع ت ّم ترسيحه‪ ،‬وأرس نفسه أل ّم ت ّنئ وزوجة‬ ‫ط ّوقهم البوليس‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسوي ووضعهم قيد االعتقال يف ّ‬ ‫تنتظر ‪.‬‬ ‫يف «قناديل البحر» يعتمد جان توما كروا ّيئ عىل مجموعة من التّقن ّيات األسلوب ّية الّتي تتشابك يف مسريتها داخل‬ ‫السد ال ّروا ّيئ‪:‬‬ ‫العمل ال ّروا ّيئ‪ ،‬من خالل شبكة من العالقات تتوزّع بني بنية الحدث وتقنيّة ال ّن ّص من جانب‪ ،‬ولغة ّ‬ ‫السينام ّيئ فيها دورا ً بالغ األهم ّية من‬ ‫أي بنيتها ومك ّوناتها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وخاصة اللغة املشهديّة التّي تلعب كامريا التّصوير ّ‬ ‫تؤسس‬ ‫جانب آخر‪ .‬ويتداخل مع هذه الشّ بكة تقنيّة سينامئيّة أخرى هي تقنيّة الفالش باك‪ ،‬وتقنية رسديّة لغويّة ّ‬ ‫خيص الّتي يتم ّيز بها د‪.‬جان توما‪ ،‬خصوصاً وقد‬ ‫خاصة ج ًّدا‪ ،‬تعتمد فيام تعتمد عىل لغة الح ّ‬ ‫للغة روائ ّية ّ‬ ‫يك الشّ ّ‬ ‫عهدناها سابقاً يف كتابه «يوميات مدينة» ‪.‬‬ ‫الصورة املثال ّية للمناضل الّذي‬ ‫"ويعالج جان توما املسألة بتحفّظ‬ ‫نقدي‪ ،‬وبهدوء بالغ تفادى فيه إعادة إنتاج ّ‬ ‫ّ‬ ‫الفرنسوي بل‬ ‫يرفض منطق التّح ّوالت ونتائجها‪ .‬مل يق ّدم توما إدانة خطابيّة ملوقف نجيب بقبوله عرض الكوميسري‬ ‫ّ‬ ‫الصيادين الفقراء وأبناء البلد ملا‬ ‫السنسول‪ ،‬فهو يعود بالخري عىل ّ‬ ‫سعى اىل بلورة تأثري بناء ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -33‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.83،84‬‬ ‫‪ -34‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.96 ،95‬‬ ‫‪ -35‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.103‬‬ ‫‪ -36‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.115‬‬ ‫‪ -37‬قيص الحسني‪« :‬جان توما يف كتابه‪« :‬قناديل البحر» يرصد حراك مدينة امليناء يف العرشينات اآلفلة»‪ ،‬ص ‪.6‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫سوسيولكتة امل ُ َس ِ‬ ‫يطرين‬

‫سوسيولكتة امل ُ َسيطَر عليهم‬ ‫‪ -‬هرب نجيب يف عتمة الليل‪ ،‬يك ال يلحظه الق ّواص‬

‫امللك ّية واالستقرار والتّحكّم وتصلّب املشاعر‬ ‫‪ -‬الق ّواص اإليطايل رابط عند مدخل البيت‪ ،‬ميناه عىل‬

‫التّ ّشد واالغرتاب والذّل وفيض املشاعر اإلنسان ّية‬ ‫اإليطايل‪.‬‬

‫قبضة مس ّدسه البارز من جنبه‪.‬‬

‫‪ -‬سال ال ّد ّم من راحة يده املجروحة من ال ّزجاج‬

‫التكيّة مراقبة بحريّة يف دار عالية‬ ‫السلطات ّ‬ ‫‪ -‬أقامت ّ‬

‫السور عند دخوله عباب املوج‬ ‫املكسور عىل أطراف ّ‬

‫عىل أمالك نقوال كرم عىل الشّ اطئ‪.‬‬

‫بات ّجاه املجهول‪.‬‬

‫‪ -‬نجح الفرنسويّون يف إقامة شبكة من العالقات‬

‫‪ -‬ما هذا ال ّرحيل القايس؟‬

‫التّجار يّة‪.‬‬

‫‪ -‬سريمتي يف املياه املالحة ملستقبل ال يعرف عنه إالّ‬

‫‪ -‬أفشل الفرنسويّون الثّورة املوعودة يف سورية‪.‬‬

‫العتمة واملساء الشّ أحب الهارب؟!‬

‫الفرنس ّيون باقون يف البالد‪ ،‬أنشأت ال ّرصيف البحري‬

‫‪ -‬يجرح أمل الفراق صدر ركّابه إمل الفراق صدر ركّابه‬

‫الستقبال البضائع من املراكب البحريّة‪.‬‬

‫ليلقيهم يف املجهول‪.‬‬

‫السلطة والشّ هوة ال يعرف‬ ‫البرشي‬ ‫الطّمع‬‫ّ‬ ‫وحب ّ‬ ‫ّ‬

‫‪ -‬ف ّروا من ال ّنري العثامين‪ ،‬ومن التّجنيد اإللزامي‪.‬‬

‫حدو ًدا للجشع‪.‬‬

‫‪ -‬نزل الهاربون أرض الرنكا‪ ،‬أخذ نجيب يبحث عن‬

‫الفرنسوي تبحث عن نجيب‬ ‫سلطات االنتداب‬‫ّ‬

‫مأوى قبل أن يغدر به الليل‪.‬‬

‫لتغسل له دماغه من تالفيف العروبة واالستقالل‪،‬‬

‫‪ -‬أحالم متهاوية‪.‬‬

‫وأفكار الثّورة‪ ،‬وال ّدعوة إىل االلتحاق مبرشوع امللك‬

‫‪ -‬تبادل ال ّرسائل بعد سفر وعناء‪.‬‬

‫فيصل إلقامة اململكة العربيّة املوعودة‪.‬‬

‫‪ -‬ه ّم العودة إىل ال ّديار‪ - .‬اشتاقت القلوب‪.‬‬

‫‪-‬الحلفاء دخلوا ليتعلّموا فن ّال ّرسم عىل الخرائط‬

‫‪-‬ها هو يعود من غربته القاسية‪.‬‬

‫واألرايض‪ ،‬ومن يتقن ف ّن ال ّرسم‪ ،‬يأخذ وقته مع‬

‫افرتش نجيب األرض واسترت بحائط كنيسة ال ّنبي‬‫إلياس‪ ،‬ليقيه من غدر الليل‪ ،‬وشعر أ ّن الّذين بنوا‬

‫ال ّريشة بسبب اإللهام‪.‬‬ ‫‪-‬احتل الفرنسيويّون‪ .‬البوارج الحربيّة الفرنسويّة‬

‫هذه الكنيسة قد امت ّدت لتقيه غدر الليل‪ ،‬ولتحميه‬

‫ال ّرابضة وراء الجزر‪.‬‬

‫من العيون الفرنسويّة املدسوسة هنا وهنا‪..‬‬


‫أبناء شعبنا‪ ،‬عش ّية تعاقب االحتالالت وتوايل الثّورات‪ ،‬ويرفع من شأو وشأن الشّ عب املستسلم واملنكرس‪ ،‬حتّى ال‬ ‫عي واملواجهة واملقاومة والتّم ّرد" ‪.‬‬ ‫يجعله يفقد ال ّرغبة يف ّ‬ ‫الس ّ‬ ‫ويف حلقة رسديّة أخرى ينتقل "نجيب" إىل دائرة مكان ّية ثانية قربص‪ ،‬حيث تظهر الشّ خص ّية يف وضع متل ّبس يف‬ ‫عالقته باملكان‪ ،‬يح ّدثنا فيها ال ّراوي عن حنينه إىل ال ّديار‪ ،‬حيث استق ّر هناك ثالث سنوات دون انقطاع عن العامل‬ ‫وخاصته‪.‬‬ ‫األ ّول‪ ،‬لينجح بالعودة إىل الوطن‪ ،‬يف عالقة ثبوت ّية متجذّرة متأصلة تتمثّل باالنتامء إىل املكان‬ ‫ّ‬ ‫املسيطرين‪ ،-‬بالشّ أن‬‫إ ّن رواية "قناديل البحر"‪ ،‬عىل مستوى التّلفّظ‪ ،‬تنذر بخطورة استمرار الت ّدخالت الخارج ّية َ‬ ‫–املسيطَر عليهم‪ ،-‬ولكن عىل ال ّرغم من هدأة البطل "نجيب" يف نهاية ال ّرواية‪،‬‬ ‫ال ّداخيل‪ ،‬فتستحيل الحريّة عبوديّة‬ ‫َ‬ ‫إالّ أن اآليت ينذر ببذور وعي ما زال يتم ّخض إزاء القوى ال ّنافذة‪ ،‬واملصالح والحروب‪ ،‬لتشكّل هويّة تعرتف‬ ‫بالتّع ّدديّة ‪ ،‬وتحفظ حقوق األقل ّيات‪ ،‬يف وطن تشكّله األقل ّيات وتحفظ التّع ّدديّات‪ .‬يف بلدة متثّل منوذج الوحدة‬ ‫والتّعايش‪ .‬كيف؟‬ ‫‪ - 2‬اإليديولوجيا‬ ‫املعجمي‬ ‫‪ -1-2‬يف مستوى التّلفّظ‪ :‬املستوى‬ ‫ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -39‬قيص الحسني‪ :‬جان توما يف كتابه‪« :‬قناديل البحر» يرصد حراك مدينة امليناء يف العرشينات اآلفلة‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫الصاع بني ممثّيل العوامل وأبعاده‪.‬‬ ‫‪ -2-2‬يف مستوى امللفوظات‪ :‬الكشف عن ّ‬ ‫ التّ ّشد واالغرتاب والذّل وفيض املشاعر اإلنسانيّة ‪ #‬امللكيّة واالستقرار والتّحكّم وتصلّب املشاعر‪:‬‬‫بينام كان البلد ينوء تحت وطأة ال ّنري العثام ّين‪ ،‬طالت ّ‬ ‫تعثات كثرية من رصاعات وتجاذبات سياس ّية البالد إ بّان‬ ‫دخولها الحرب العامليّة‪ ،‬ومن ث ّم استعامر فرنسا األرايض اللبنانيّة‪ ،‬فهرب العديد من اللبنانيّني الوطن نتيجة‬ ‫الصاع عىل املستوى‬ ‫والسخرة‪ ،‬التّجنيد اإلجباري بإرسال الشّ بان إىل "سفر برلك"‪ ...‬من هنا ّ‬ ‫يتجل ّ‬ ‫سياسة التّجويع ّ‬ ‫ِ‬ ‫كل ما يستتبعهام من شعور‬ ‫رشد والغربة مع ّ‬ ‫املسيْطَر عليهم‬ ‫ّ‬ ‫اللغوي بني سوسيولكتتي َ‬ ‫واملسيطرين‪ ،‬يشكّالن التّ ّ‬ ‫الضياع وغياب ال ّدعم‪ ،‬الخوف والعجز‪.‬‬ ‫بالحنني‪ّ ،‬‬ ‫ترصد‬ ‫السلطنة العثامنيّة‪ ،‬بل من ّ‬ ‫تتمثّل مغادرة "نجيب ال ّراعي" األرايض اللبنانيّة املؤقّتة ليس هربًا من جور ّ‬ ‫أي سلطة سياس ّية‪ ،‬ض ّمت مختلف‬ ‫االنتداب‬ ‫الفرنسوي‪ ،‬لتح ّركاته‪ ،‬إذ نشط مع ش ّبان البلدة باعتناق أفكار تناهض ّ‬ ‫ّ‬ ‫الصداقة‪ ،‬ال ّزمالة‪ ،‬الجرية‪ ،‬االنتامء إىل منطقة واحدة‪ ،‬يف‬ ‫الطّوائف واالنتامءات‪ ،‬وقد ت ّجم ّعت ألسباب متع ّددة‪ّ :‬‬ ‫جغراف ّية واحدة‪ ،‬بلدة امليناء‪ ،‬وبالتّايل مصري هويّات متن ّوعة االنتامءات‪ ،‬والطّوائف‪ ،‬يف صوت مو ّحد يخنق أصوات‬ ‫أخرى شاذّة‪ ،‬تطالب بالوحدة العربيّة‪.‬‬


‫‪-‬جرح ال ّرفاق أيديهم بسكّني ومزجوا دماءهم تع ّه ًدا‬

‫األجنبي‪ ،‬وفيام يرسمه لهذه‬ ‫العلّة يف التّد ّخل‬‫ّ‬

‫السلطة العثامنيّة حتّى الفوز بوحدة البالد‬ ‫مبحاربة ّ‬

‫املنطقة العربيّة‪.‬‬ ‫‪-‬ت ّم تقسيم املنطقة وفق إرادة دول االنتداب‪ ،‬وسوف‬

‫‪-‬سخط نجيب عىل الفرنسويّني بسبب ما آل إليه‬

‫تق ّدم وجبات أرض شهيّة فريسة ملخطّطاتها‪.‬‬

‫مصري بطله يوسف العظمة يف ميسلون يف ‪ 23‬متّوز‬

‫‪-‬لن تسلم املنطقة من عبث أصحاب املصالح ال ّدول ّية‪،‬‬

‫‪.1920‬‬

‫فبحرنا سوق تجاريّة‪ ،‬وأرايض العرب غنيّة بالبرتول‪.‬‬

‫ينادي ال ّرفاق بالح ّرية والعدالة‪.‬‬‫‪-‬إصالح األوضاع‪.‬‬

‫الصاع الفرنيس‪-‬اإلنكليزي عىل أرضنا‪.‬‬‫ّ‬ ‫السيطرة عىل املنابع واملواد‬ ‫‪-‬وقود طائفيّة يف حرب ّ‬

‫‪-‬ال ّنهضة العرب ّية‪.‬‬

‫الخام‪.‬‬

‫السخرة وسفر برلك‪ .‬املجاعة قضت عىل‬ ‫‪-‬زمن ّ‬

‫‪-‬الهيمنة الواسعة للقوى الكربى‪.‬‬

‫الكثريين‪.‬‬

‫الفرنسوي والربيطا ّين تقطي ًعا ومتزيقًا‪.‬‬ ‫ميعن االنتدبان‬‫ّ‬

‫رغم عنهم‪.‬‬ ‫‪ُ -‬ج ِّندوا الشّ بّان‪ً ،‬‬

‫‪-‬تصطدم ق ّوات االنتداب مع املظاهرات الكبرية‪.‬‬

‫مسك باألرض‪ ،‬وبخرياتها‪.‬‬ ‫‪-‬كفاح‪ ،‬التّ ّ‬

‫ري‪.‬‬ ‫اآللة العسكريّة تطيح ّ‬ ‫بكل فكر تح ّر ّ‬

‫العرب ّية‪.‬‬

‫اندالع الثّورة يف بالد ال ّدروز‪.‬‬‫رصخة آخ‪ ،‬وجع‪.‬‬‫ "أبو مح ّمد رسحان" رشيك والد نجيب يف مركب‬‫أي قرش طيلة تغ ّرب‬ ‫ّ‬ ‫الصيد‪ ،‬مل يأكل عىل والدة نجيب ّ‬ ‫ابنها‪.‬‬ ‫‪-‬وجه اإلنسان هو مرتجى ال ّناهدين إىل رحمة ربّهم‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ال ب ّد من فهم التّاريخ املعاش الّذي يشكّل نبض التّاريخ‪ ،‬وهو ما يف ّعل دينام ّيته‪ ،‬وهو من أكرث املقاربات‬ ‫التّاريخيّة إهامالً حتّى اآلن‪ .‬فال ميكن فهم هويّة مدينة امليناء‪ ،‬وتاريخها املعاش‪ ،‬إالّ من فهم عميق لإليكولوجيا‬ ‫الخاصة يف‬ ‫طبيعي‪ ،‬استطاع أن يتمفصل يف تشكيل الكثري من األبعاد الثّقاف ّية‬ ‫فيها‪" .‬فالبحر يف امليناء هو عنرص‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫عيش أبناء هذه املدينة‪ ،‬أفرا ًدا كانوا أو جامعات‪ .‬وهذا عائد يف األساس إىل مجتمع امليناء نفسه؛ هذا املجتمع‬ ‫قسم ها ًما من‬ ‫بال ّرغم من عمق جذوره التّاريخ ّية‪ ،‬ما زال بطيئًا يف حراكه الثّقا ّيف نتيجة أمور ع ّدة‪ ،‬أه ّمها أ ّن ً‬ ‫الصيد الّتي بقيت تقليديّة بارتباطاتها املهنيّة‪ ،‬بتقنيّاتها البدائيّة"‬ ‫أبنائه ما زال يعتاش‪ ،‬حتّى يومنا هذا‪ ،‬من حرفة ّ‬ ‫الحيوي‪ ،‬حفاظًا‬ ‫ميس مجالهم‬ ‫الص ّيادين ورفضهم ّ‬ ‫‪ .‬فنجيب ال ّراعي ص ّياد ابن ص ّياد‪ ،‬ميثّل سرية نضاالت ّ‬ ‫ّ‬ ‫لكل تغيري ّ‬ ‫البحري هو الّذي ع ّزز‪ ،‬إذًا‪ ،‬وباختصار‪ ،‬مفاهيم أهل امليناء الشّ عبيّة وسلوكيّاتهم‬ ‫عىل عالقتهم بالبحر‪" .‬إ ّن املجال‬ ‫ّ‬ ‫الّتي نُسجت عىل أساسها عالقاتهم املجتمع ّية بكافّة أبعادها" ‪.‬‬ ‫الصيد يف امليناء‪ ،‬ميكن‬ ‫رصا أساسيًّا يف تنظيم أسلوب الحياة‪ .‬من هنا "إ ّن مجتمع ّ‬ ‫فالبحر يف بلدة امليناء أضحى عن ً‬ ‫(البيئي) املم ّيز لهذه املدينة البحريّة‪.‬‬ ‫قليدي‪ .‬وهو ما زال شديد التّأثري بال ّنسق اإليكولوجي‬ ‫توصيفه باملجتمع التّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫املحل املبارش للمورد الّذي تؤ ّمنه الطّبيعة ‪ .‬من هنا ميكن فهم‬ ‫فاقتصاده قائم‪ ،‬يف األساس‪ ،‬عىل اإلنتاج واالستهالك ّ‬ ‫تصور الذات واآلخر‪ ،‬يف تراكمه التّاريخي يف الذّاكرة الجامع ّية‪ ،‬أو مبا "يس ّمى املخيال‪ ،‬وهو‪:‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ -43‬مها ك ّيال وآخرون‪ .‬البحر وحضوره يف ثقافة مدينة امليناء‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫‪ -44‬مها ك ّيال وآخرون‪ .‬البحر وحضوره يف ثقافة مدينة امليناء‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫‪ -45‬مها ك ّيال وآخرون‪ .‬البحر وحضوره يف ثقافة مدينة امليناء ‪ ،‬ص ‪.53‬‬


‫سيايس يؤ ّهله لتقرير املصري‪ ،‬فراح ينشد الطّأمنينة وال ّراحة خارج الظّل األجنبي‬ ‫مل يكن "نجيب ال ّراعي" عىل نضج‬ ‫ّ‬ ‫السياسيّة‬ ‫ّ‬ ‫املسيطر‪ ،‬بأن‬ ‫أحس بالعيون املرتبّصة به‪ .‬أ ّما العقائد ّ‬ ‫استقل مركبًا متّج ًها إىل جزيرة قربص‪ ،‬بعد أن ّ‬ ‫سيايس‪،‬‬ ‫ألي خطاب‬ ‫البعيدة الهدف‪ ،‬فلم يكن يستطيع مواجهتها‪ ،‬ومل يجد طريقة الجهاد من أجلها‪ ،‬فهو يتح ّمس ّ‬ ‫ّ‬ ‫قسمت العامل العر ّيب إىل مناطق نفوذ‪ ،‬ما يزيد من ح ّدة االنقسامات‬ ‫ويعقله من هو أكرب منه س ًّنا‪ ،‬فال ّدول الغربيّة ّ‬ ‫بني العموم‪.‬‬ ‫لكن الكاتب ييضء عىل أرض الواقع وئام األهل يف وطن العيش املشرتك‪" ،‬وامليناء هنا‪ ،‬وإن كانت مقصودة بالذّات‬ ‫عند راوي "قناديل البحر"‪ ،‬إالّ أنّها عندي أنا القارىء أمنوذج مدن هذا املرشق‪ ،‬واألشخاص الّذين أحيتهم الحكاية‬ ‫أي من أعامل عنف‬ ‫يشبهون العديد من اآلباء واألجداد الّذين عاشوا وتح ّركوا بني املحيط والخليج" ‪ .‬فتوما مل يورد ّ‬ ‫بني املسلمني واملسيح ّيني يف تلك املنطقة الجغراف ّية‪ ،‬رغم أ ّن العوامل االقتصاديّة واالجتامع ّية من أهم األسباب‬ ‫الّتي ممكن أن تؤ ّدي إىل التّناحر‪.‬‬ ‫والصنائع املربحة هي من املس ّببات األساس ّية للتّناحر‬ ‫الصاع عىل الوظائف وعىل الحرف ّ‬ ‫فمن املعلوم أ ّن ّ‬ ‫االجتامعي‪ .‬فوحدة‬ ‫السياسيّة بل ش ّدد عىل مجهريّة التّأريج‬ ‫والتّنافس‪ .‬كام أ ّن الكاتب مل ينرصف إىل املوضوعات ّ‬ ‫ّ‬ ‫الثّقافة والحضارة مل تلغِ التّن ّوعات يف داخلها‪ ،‬ومن هنا نلحظ أ ّن إعطاء املسيحيني ال ّدور يف بناء الثّقافة كام مع‬ ‫فرح أنطون يعادله دور املسلمني يف عيش القيم اإلنسانيّة‪ ،‬فهذا "أبو مح ّمد رسحان" رشيك والد نجيب يف مركب‬ ‫والسعادة ألخيه‬ ‫أي قرش طيلة تغ ّربه ‪ ،‬هو‬ ‫ّ‬ ‫الصيد‪ ،‬مل يأكل عىل والدته ّ‬ ‫املتمسك بقيم أخالق ّية تحقّق الطّأمنينة ّ‬ ‫ّ‬ ‫الضعيف‪ ،‬عمالً باآلية‬ ‫اإلنسان املتجليّة بالتّعاون والتّعاضد‪ ،‬محبّة الجار والقريب‪ ،‬إعامل العقل والعطف عىل ّ‬ ‫الب والتّقوى وال تعاونوا عىل اإلثم والعدوان﴾ ‪.‬‬ ‫القرآن ّية الكرمية‪ ﴿ :‬وتعاونوا عىل ِ ِّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -40‬شفيق حيدر‪ .‬يف ندوة توقيع الكتاب يف مدرسة مار إلياس‪ -‬امليناء‪.‬‬ ‫‪ -41‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.75‬‬ ‫‪ -42‬املائدة ‪.2 :5‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫خدمة املجتمع‪ ،‬وثورته ليست اصطدامه بال ّنقائض الّتي يعاين منها الوطن‪ ،‬وليست محاولة لتحطيم القوى‬ ‫السياسيّة‪ ،‬إنّ ا يصارع من أجل االنسجام مبا ميليه عليه مفهوم "العونة"‪ ،‬ومحاربة معامل العزلة الكليّة االجتامعيّة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وكل خروج عن الذّوبان‬ ‫بحري‪ّ ،‬‬ ‫إميانًا ُمطلقًا بالواجب‪ ،‬نحو التّطّور اإلمنا ّيئ‪ .‬هو امليناوي املولد وال ّنشأة‪ ،‬هواه‬ ‫ّ‬ ‫االجتامعي هذا يع ّد رش ًخا عن الجامعة الّتي ينتمي إليها‪ ،‬وعن سالمة إنسانيّة اإلنسان‪ .‬فاألرض واملهنة وال ّزمالة‬ ‫ّ‬ ‫والصداقة‪ ،‬والتّع ّددية ال ّدين ّية‪ ،‬هي املنظومة األخالق ّية الّتي تك ّونت لدى هذه الجامعة‪ ،‬املت ّوجة باملح ّبة ومعاونة‬ ‫ّ‬ ‫املحتاج وإغاثة الفقري إىل ح ّد نكران الذّات من أجل اآلخر‪ ،‬فهذا وجه أ ّمة تنشّ قت عبق البحر‪ ،‬وعينها عىل األفق‬ ‫فكل ما جاء به ترجامت لشخص ّيات اجتامع ّية وثقاف ّية وسياس ّية‪ ،‬ينطلق‬ ‫واملوج‪" ،‬باألمل واألمل كقناديل البحر"‪ّ .‬‬ ‫التكيبة االجتامعيّة‪/‬الطّائفيّة إنجاز موازنات دقيقة للعيش‬ ‫منها وإليها‪ ،‬ويعكس محبّة أهلها‪ ،‬وتالقي أبنائها‪ .‬فهذه ّ‬ ‫املسيطر‪ ،‬ومواطن موجوع ُم َسيطَر عليه‪ .‬فإيديولوجيا‬ ‫املشرتك‪ ،‬رغم أ ّن الحزن يتّسم عىل وطن ي ّنئ من االنتداب َ‬ ‫الكاتب مو ّجهة بشكل غري مبارش إىل ق َدر الوطن من أشباح وجوه املسؤولني‪ .‬ففي املرحلة ال ّزمنية األوىل من الرسد‬ ‫كانت مراكب ال ّرحيل بصيص أمل خلف البحار‪ ،‬إالّ أ ّن العودة املتمثّلة بـ"نجيب ال ّراعي"‪ ،‬يف املرحلة ال ّزمنية‬ ‫الثّانية‪ ،‬تحايك وجه مواطن يرفض التّشتّت يف بالد االغرتاب‪ ،‬وتتضمن مواجهة مصري مجهول‪ ،‬وتح ّدي "دسائس‬ ‫الصعوبات‪ .‬بقاء "نجيب ال ّراعي" ينبض عىل "إيقاع طلمبة املاء يف ساحة‬ ‫رائحة التّنباغ"‪ ،‬ورفض االنكسار أمام ّ‬ ‫ال ّدار"‪ ،‬يت ّدفق حيويّة‪ ،‬ويروي عطش ال ّدرب‪ ،‬املكان املألوف‪ ،‬الحبيبة‪ ،‬األصدقاء‪ ،‬تراب البالد‪ ،‬حضن الوالدة‪ ،‬حضن‬ ‫الوطن‪ ...‬فهذا هو "نجيب ال ّراعي املنتمي إىل محيطه الجغرايف‪ ،‬إىل لُحمة اجتامع ّية متعاضدة‪ .‬ومن ويفقه املعنى‬ ‫ّادميي‪.‬‬ ‫الحيايتّ للميناويني أكرث من الكاتب جان توما امليناوي؟؟ وهو نفسه الباحث األك ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ -47‬جان توما‪ .‬قناديل البحر‪ ،‬ص ‪.122‬‬


‫السياس ّية واإليديولوج ّية‬ ‫ بناء‬‫جامعي دائم ال واع إىل ح ّد كبري يف جزئ ّيته الثّقاف ّية الّتي تخضعها الطّبيعة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ملعالجات متع ّددة فتح ّولها إىل معيار انتامء واع بدالالت رمزيّة متح ّددة؛‬ ‫ للفرد دور كبري يف تشكيل املخيال الجامعي‪ ،‬ويف املقابل‪ ،‬فإ ّن للجامعة بعد تشكّلها‪ ،‬تأث ًريا كب ًريا عىل الفرد الّذي‬‫العاطفي واملعنوي بها‪ ،‬كام وبسبب ارتباطه القيمي‪،‬‬ ‫يخضع لضغط الجامعة وضبطها وضوابطها بسبب ارتباطه‬ ‫ّ‬ ‫األمني‪ ،‬الحيا ّيت‪...‬‬ ‫ّ‬ ‫وتتمسك به وما تستطيع‬ ‫ هو مهيّأ لتبيان الثّابت واملتح ّول الثّقا ّيف يف ال ّزمان واملكان؛ أي ما تستنبطه الجامعة‬‫ّ‬ ‫تخطّيه؛‬ ‫يجسده من سامت ثقافيّة وقيم مشرتكة بني أعضاء الجامعة" ‪.‬‬ ‫ وهو‬‫ّ‬ ‫رضوري ملعرفة الذّات واآلخر‪ ،‬من خالل ما ّ‬

‫خالصة البحث‬

‫إن الكاتب "جان توما" امليناوي أ ّرخ الحياة اليوميّة ملا كان يفعله ال ّناس ويعيشونه ملعرفة أمورهم‪ ،‬وتقاليدهم‬ ‫الصعوبات الّتي تواجههم‪ ،‬خوفًا من اندثار ذاكرة شعب‪.‬‬ ‫وكيف ّية التّغلّب عىل ّ‬ ‫عم حفظه األشخاص عن ذاكرة الجامعة الّتي ينتمون إليها وتشكّلهم يف املامرسات‬ ‫من هنا‪ ،‬فإ ّن التّعبري جاء ّ‬ ‫تعب عن فكرتها‪ ،‬عن ذاتها وعن اآلخرين‪ .‬فـ"قناديل البحر" قراءة‬ ‫اليوم ّية‪ ،‬وأنواع اختيار الحياة املعاشة‪ .‬فالذاكرة ّ‬ ‫تاريخيّة لذاكرة مواطنني من املسلمني واملسيحيني يتعايشون مبحبّة‪ ،‬وموطنني عاشوا االغرتاب عن الوطن‪ ،‬وآ َخرين‬ ‫حملوا الثّورة املتأججة داخل ال ّنفوس وإىل الشّ وارع‪ ،‬ومنهم من تأقلم اجتامع ًّيا‪ .‬فـ"نجيب" ال ّراعي‪ ،‬يعيش الغربة‬ ‫يف وطن ال عن مجتمع‪ ،‬وهذا ما ع ّزز لديه ال ّرغبة مع ما صاحبه من آالم وخيبة‪،‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ -46‬م‪.‬ن‪ ،.‬ص ‪.54‬‬

‫طائر الفينيق‬


.1983 .‫ دار العلم للماليني‬:‫ بريوت‬7.‫ ط‬.‫ قضايا الشّ عر املعارص‬.)‫ املالئكة (نازك‬- 15 .2006 .‫ دار نوبليس‬:‫ بريوت‬،1.‫ ط‬.‫ موسوعة أدباء لبنان وشعرائه‬.)‫ يعقوب (إميل‬- 16 :‫ املصادر واملراجع األجنب ّية‬:‫ثان ًيا‬ Lalande (André).Vocabulaire technique et critique de la philosophie, Paris, P.U.F, 18éme - 17 .éd,1996 .Eaglton (Terry). Ideology an introduction, UK, Routlege.3rd ed, 2003 - 18 .Zima (Pierre). Manuel de sociocritique, Paris, L’Harmattan. 1ére éd., 1985 - 19 :‫ املواقع اإللكرتون ّية‬:‫ثالثًا‬ https://www.Kachaf.com. wiki - 20 .https://wwwislamguiden.com.inde - 21


‫قامئة املصادر واملراجع‪:‬‬ ‫أ ّوالً‪ :‬املصادر واملراجع العربيّة‪:‬‬ ‫التاث العر ّيب‪ .‬الت‪.‬‬ ‫‪ - 1‬القرآن‪ :‬ال ط‪ ،.‬بريوت‪ :‬مكتبة املثنى‪ -‬دار إحياء ّ‬ ‫نسقه وفهرسه عيل شريي‪. .‬ط‪ ،2‬لبنان‪ :‬دار إحياء الرتاث العر ّيب‪،‬‬ ‫‪ - 2‬ابن منظور(‪630-711‬هـ)‪ .‬لسان العرب؛ ّ‬ ‫مؤسسة التّاريخ العر ّيب‪.1992 ،‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ - 3‬إسامعيل (ع ّز ال ّدين)‪ .‬األدب وفنونه‪ .‬ط‪ ،5‬القاهرة‪ :‬دار الفكر العر ّيب‪.1973 .‬‬ ‫قدي‪ .‬ط‪ ،1.‬بريوت‪ :‬مكتبة لبنان نارشون‪.2011 ،‬‬ ‫‪ - 4‬أيّوب (نبيل)‪ّ .‬‬ ‫نص القارئ املختلف (‪ )2‬وسيميائ ّية الخطاب ال ّن ّ‬ ‫مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق‬ ‫‪ - 5‬توما (جان)‪ .‬إطالالت عىل األدب املعارص‪ .‬ط‪ ،1.‬طرابلس‪ :‬منشورات ّ‬ ‫الثّقاف ّية‪.2016 .‬‬ ‫مؤسسة شاعر الفيحاء سابا زريق‬ ‫‪ - 6‬توما (جان)‪ .‬ه ّويات معارصة يف األدب وال ّنقد‪ .‬ال ط‪ ،‬طرابلس‪ :‬منشورات ّ‬ ‫الثقاف ّية‪.2020 .‬‬ ‫‪ - 7‬توما (جان)‪ .‬قناديل البحر‪ .‬ال ط‪ ،.‬بريوت‪ :‬تعاونيّة ال ّنور األرثوذكسيّة لل ّنرش والتّوزيع‪.2007 .‬‬ ‫(قص)‪" .‬جان توما يف كتابه قناديل البحر يرصد حراك مدينة امليناء يف العرشينات اآلفلة""‪ .‬طرابلس‪:‬‬ ‫‪ - 8‬الحسني َ‬ ‫جريدة اإلنشاء‪ -‬العدد ‪ 30 ،7029‬متّوز ‪ .2010‬ص‪.6‬‬ ‫‪ - 9‬حيدر (شفيق)‪ .‬ندوة توقيع كتاب "قنادل البحر" يف مدرسة مار إلياس‪ -‬امليناء‪.3/11/2007 .‬‬ ‫السنة ‪63-‬‬ ‫‪ - 10‬رطل (جان)‪" .‬قناديل البحر‪ :‬جان توما يستأنف حكايات الثّغر وأحواله"‪ .‬مجلّة ال ّنور‪ .‬بريوت‪ّ :‬‬ ‫العدد ‪438 354- ،8‬ص‪.‬‬ ‫‪ - 11‬شعراين (وفاء)‪" .‬جان توما يف قناديل البحر‪ ...‬اليوتوبيا يف املجتمع"‪ .‬جريدة اإلنشاء‪ .‬طرابلس‪ :‬العدد‪2 ،6911‬‬ ‫ترشين الثّاين ‪ .2007‬ص ‪.6‬‬ ‫‪ - 12‬طرابييش (جورج)‪ .‬معجم الفالسفة‪ .‬ط‪ ،3‬بريوت‪ :‬دار الطّليعة‪.2006.‬‬ ‫‪ - 13‬عيد (مينى)‪ .‬ال ّرواية العرب ّية‪ ،‬املتخ ّيل وبنيته الفن ّية‪ .‬ط‪ ،1.‬بريوت‪ :‬دار الفارايب‪.2011 .‬‬ ‫‪ - 14‬كيّال (مها)‪ ،‬وآخرون‪ .‬البحر وحضوره يف ثقافة مدينة‪ :‬دراسة يف ثقافة عيش مجتمع مدينة امليناء‪ .‬ط‪،4.‬‬ ‫للتبية والتّعليم والثّقافة لليونسكو‪.2014 .‬‬ ‫بريوت‪ :‬اللجنة الوطن ّية اللبنان ّية ّ‬ ‫طائر الفينيق‬


‫مقدمة‬ ‫يقف البالغيون والنقّاد العرب واملحدثون‪ ،‬يف تقوميهم لنظرية النظم عند عبد القاهرالجرجاين‪ ،‬مواقف متباينة‪ ،‬هي‬ ‫يف الواقع امتداد ملواقفهم املبدئية من الرتاث العر ّيب بر ّمته‪ ،‬فمنهم من يقف من نظريته موقف الرىض واإلعجاب إىل‬ ‫الحد الذي يدفعه إىل وضعها عىل قدم املساواة مع أحدث ما انتهت إليه املدارس واالتجاهات النقّدية الحديثة يف‬ ‫الغرب‪ ،‬إن مل تقل بتفضيلها عليها‪ ،‬أل ّن لها فضل األسبقية يف التأسيس ألهم نظريات النقد األد ّيب عرب العصور‪ ،‬هذا‬ ‫النقد القائم عىل نقل الكلمة من داللتها القاموسية إىل مرحلة الداللة عىل معنى ينبعث من رصف الكلامت‪ ،‬فيح ّمل‬ ‫املعنى معنى آخر خارج داللة اللفظة املجردة ذات الداللة املحدودة‪ ،‬واملحارصة بقاموسيتها ذات الداللة السكونية‪.‬‬ ‫الكالمي عىل تفجري املعنى املحصور بداللة مادية أحادية‪ ،‬إىل آفاق رحبة األبعاد‬ ‫من هذا الفهم اإلبداعي لقدرة النظم‬ ‫ّ‬ ‫يل إىل املتلقي الذي يرى لغة يف اللغ ّة ومعنى‬ ‫واملرامي حاملة هواجس وإشارات النفس البرشية‪ ،‬من املكنون الداخ ّ‬ ‫كل املبدعني يف لغتنا ألنّه أعطى اإلشارة لنقل‬ ‫منرسباً من املعنى؛ حقاً إ ّن عبد القاهر الجرجاين هو بحق أستاذ ّ‬ ‫اإلحساس املتنوع يف كلامت كانت منحرصة املعنى لوال تفجريه ا مبعنى آخر‪ ،‬عرب صياغة أدبية تعطي األلفاظ ما ليس‬ ‫يف القاموس‪ ،‬وحني توصل أبرز النقاد الغربيني إىل وضع تعريف حقيقي لألدب‪ ،‬وتحديدا ً للشعر‪ ،‬مل يتجاوزوا عبد‬ ‫القاهر الجرجاين بقولهم‪ " :‬األدب صياغة فنية لتجربة برشية" ‪ ،‬هذا التعريف املكثّف والدقيق ال ميكن أن يتجاوز‬ ‫الصياغي الذي ّأسس له هذا الناقد العريب الكبري‪ .‬وأما القسم اآلخر من النقاد الذين أرجعوا هذه النظرية إىل‬ ‫املفهوم‬ ‫ّ‬ ‫النقاد الغربيني فقد تجاهلوا عن قصد أو بغري قصد هذه الينابيع ال ّرثة يف تراثنا األد ّيب والفكري‪.‬‬ ‫لقد اهتم عبد القاهر الجرجاين بنظرية النظم القامئة عىل حسن الصياغة وتوخي معاين النحو‪ ،‬والتي تنظر إىل العالقة‬ ‫بني اللفظ واملعنى من جهة لغوية دقيقة نتيجة التحامها وشدة ارتباطها‪ .‬حيث نظر إليها نظرة املتف ّحص العارف‬ ‫مبقدار الكالم‪ ،‬لذلك عرف قيمة اللفظ يف النظم‪ ،‬وعرف طريقة تصوير املعاين عىل حقيقتها‪ ،‬ثم جمع بني اللفظ‬ ‫واملعنى جمعاً إبداعياً منطلقاً من مفهومه ألثر الصياغة يف خلق معنى للمعنى نفسه‪ .‬لقد رأى عبد القاهر أ ّن اللفظ‬ ‫جسد واملعنى روح‪ ،‬يعتمد عىل حسن الصياغة ودقة التصوير التي نضجت يف بحوثه‪ ،‬وبهذه الطريقة انتهى من فكرة‬ ‫مفسا ً ومضيفاً ملفهوم الجاحظ الذي رأى أن املعاين مطروحة يف الطريق‪ ،‬ولكن األدب‬ ‫الفصل بني اللفظ واملعنى‪ ،‬وكان ّ‬ ‫يبقى يف القدرة الصياغية لألديب‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .1‬محمد مندور‪ .‬األدب ومذاهبه‪ .‬مرص‪ ،‬دار نهضة مرص للطباعة والنرش‪،‬الط‪ ،2006 ،‬ص‪.6‬‬


‫نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني ودورها في‬ ‫نقد النّص األدبي‬ ‫إعداد‪ :‬الدكتور عيل سعيد أيّوب‬

‫أستاذ مساعد يف الجامعة اللبنانية كل ّية اآلداب والعلوم اإلنسانية‬

‫مخطط البحث‪:‬‬ ‫ مق ّدمة‬‫‪ -‬نظرية النظم‬

‫ التعريف بنظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاين‬‫ أهمية نظرية النظم يف نقد النص األديب‬‫ النتائج التي عكستها نظرية النظم عند الجرجاين‬‫ الدراسات الحديثة ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاين‬‫ جامل الصورة األدبية ونظرية النظم‬‫ املالمح الجديدة من رؤية النظم عند عبد القاهر الجرجاين الجديدة إىل البالغة‬‫ الخامتة‬‫‪ -‬قامئة املصادر واملراجع‬

‫طائر الفينيق‬


‫التعريف بنظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاين‬ ‫ع ّرف الشيخ عبد القاهر (النظم) بأنه‪" :‬تعليق الكالم بعضه عىل بعض " ‪ ،‬وقال يف موضع آخر من كتابه‪" :‬إعلم‬ ‫أ ْن ليس النظم إال أن تضع كالمك الوضع الذي يقتضيه علم النحو‪ ،‬وتعمل عىل قوانينه وأصوله‪ ،‬وتعرف مناهجه‬ ‫تخل بيشء منها‪ ،‬وذلك أنّا ال نعلم شيئاً يبتغيه‬ ‫التي نُ ِه َجت‪ ،‬فال تزيغ عنها‪ ،‬وتحفظ الرسوم التي رسمت لك‪ ،‬فال ّ‬ ‫الناظم بنظمه غري أن ينظر يف وجوه كل باب وفروقه‪ ،‬فينظر يف الخرب إىل الوجوه التي تراها يف قولك‪:‬‬ ‫زيد منطلق"‪ ،‬و"زيد ينطلق"‪ ،‬و"ينطلق زيد"‪ ،‬و"منطلق زيد"‪ ،‬و"زيد املنطلق"‪ ،‬و" املنطلق زيد"‪ ،‬و" زيد هو‬ ‫املنطلق"‪ ،‬و"زيد هو منطلق"‪.‬‬ ‫لكل من ذلك موضعه‪ ،‬ويجيء به حيث ينبغي له‪ ،‬وينظر يف الحروف التي تشرتك يف معنى‪ ،‬ثم ينفرد كل‬ ‫فيعرف ٍّ‬ ‫واحد منها بخصوصية يف ذلك املعنى‪ ،‬فيضع كالً من ذلك يف خاص معناه‪ ،‬نحو أن يجيء بـ (ما) يف نفي‬ ‫الحال‪ ،‬وبـ (ال) إذا أراد نفي االستقبال‪ ،‬وبـ (إ ْن) فيام يرتجح بني أن يكون وأن ال يكون‪ ،‬وبـ (إذا) فيام ُعلم أنه‬ ‫كائن‪ ،‬وينظر يف الجمل التي تُرسد فيعرف موضع الفصل من موضع الوصل‪ ،‬ثم يعرف فيام حقه الوصل موضع‬ ‫الواو من موضع الفاء‪ ،‬وموضع الفاء من موضع (ثم)‪ ،‬وموضع (أو) من موضع (أم)‪ ،‬وموضع (لكن) من‬ ‫موضع(بل) ويترصف يف التعريف والتنكري‪ ،‬والتقديم والتأخري يف الكالم كله‪ ،‬ويف الحذف والتكرار‪ ،‬واإلضامر‬ ‫أجمل الشيخ عبد‬ ‫َ‬ ‫بكل من ذلك مكانه‪ ،‬ويستعمله عىل الصحة‪ ،‬وعىل ما ينبغي له " ‪ .‬لقد‬ ‫واإلظهار‪ ،‬فيصيب ٍّ‬ ‫لكل مكاناً يناسبه‪ ،‬واستعامالً يقتضيه‪ ،‬ومن هنا فإن النظرية التي‬ ‫وبي أن ٍّ‬ ‫القاهر مباحث النظم يف هذه الفقرة‪ّ ،‬‬ ‫احتواها كتاب (الدالئل) س ّميت نظرية النظم‪ ،‬وهو ما ُعرف فيام بعد بعلم املعاين‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .3‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.55‬‬ ‫‪ .4‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪82-81‬‬


‫نظرية النظم‬ ‫كان للجرجا ّين العامل والنحوي الكبري الفضل يف تقديم نظريّة من أه ّم النظريات املتعلّقة بالبالغة يف اللغة العربيّة‬ ‫وهي نظريّة النظم‪ ،‬ويشري مصطلح النظم يف هذه النظرية إىل الحفاظ عىل تنسيق داللة اللفظ وإيجاد ما‬ ‫البرشي‪.‬‬ ‫يتناسب من معانيها مع معاين النحو والتي تكون قامئ ًة عىل ما يقتضيه العقل‬ ‫ّ‬ ‫املوسع لنظرية النظم يف كتاب دالئل اإلعجاز للجرجا ّين؛ حيث أوجز يف مقدمة كتابه تعريفاً للنظم عىل‬ ‫جاء الرشح ّ‬ ‫ٌ‬ ‫وحرف‪ ،‬وللتعليق فيام‬ ‫وفعل‪،‬‬ ‫أنّه" تعليق الكلم بعضها ببعض‪ ،‬وجعل بعضها بسبب من بعض‪ ،‬والكلم ثالث‪ :‬اس ٌم‪ٌ ،‬‬ ‫اسم بفعلٍ ‪ ،‬تعلّق ٍ‬ ‫بينها ٌ‬ ‫حرف بهام" ‪ ،‬وبهذا الكالم‬ ‫باسم‪ ،‬تعلّق ٍ‬ ‫اسم ٍ‬ ‫طرق معلوم ٌة‪ ،‬ال يعدو ثالثة أقسام‪ :‬تعلّق ٍ‬ ‫املوجز كان الجرجا ّين قد جاء بأ ّول ربط بني علم النحو والنظم يف البالغة العربيّة‪ ،‬ويُشار إىل أنّه قد حرص عىل‬ ‫رضورة مراعاة املعاين يف النحو والرصف‪.‬‬ ‫لعلم‬ ‫نصوص العالِم الجرجا ّين مل تكن نحوية إمنا مجرد‬ ‫ال ب ّد لنا من التنويه إىل أ ّن‬ ‫طريق ميهد لفرو ٍع جديد ٍة ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫النحو‪ ،‬ولذلك فإ ّن الفرق واضح املعامل بني ما جاء به الجرجا ّين من النظم والنحو‪ ،‬ويكمن الفرق بأ ّن معاين النحو‬ ‫ألي ٍ‬ ‫التخي والتع ّمق يف جميع‬ ‫النظم إىل‬ ‫جهد أو معانا ٍة يف تفسريها واستيعابها‪ ،‬بينام تحتاج معاين‬ ‫ِ‬ ‫ليست بحاج ٍة ّ‬ ‫ّ‬ ‫أبواب النظرية‪ ،‬لذا ال ب ّد للمتع ِّمق بنظرية النظم أن ميتلك تذوقاً أدبياً سليامً بشكلٍ تا ّم ليتمكن من تح ّري‬ ‫الصواب من الخطأ‪.‬‬ ‫كل من باب‬ ‫أدخل الجرجا ّين نظرية النظم ح ّيز التطبيق عىل النصوص املتداول ِة يف خدمة النظرية‪ ،‬وجاء ذلك يف ٍّ‬

‫التقديم والتأخري‪ ،‬وباب الحذف‪ ،‬أما من ناحية جامل االستعارة فكان الجرجا ّين ‪-‬رحمه الله‪ -‬قد أقدم عىل خطو ٍة‬

‫بأسلوب بديعٍ‪ ،‬حيث ق ّدم عددا ً من أنواع االستعارة التي ال ميكن للقارئ أن يطلع عليها ّإل‬ ‫ربطها بعلم املعاين‬ ‫ٍ‬ ‫بعد علمه بنظرية النظم وذلك ملا تتمتع به من غراب ٍة ولطف‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .2‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل اإلعجاز‪ .‬تحقيق محمد رشيد رضا‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬الط‪1978 ،‬م‪ ،‬ص‪.8‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫أهمية نظرية النظم يف نقد النص األديب‪:‬‬ ‫"تأسيساً عىل الذي مىض بيانه من مقومات بالغة الخطاب وأدبيته‪ ،‬والطريق إىل تحقيق تلك املقومات وبيان‬ ‫عمود تلك البالغة‪ ،‬وبيان جوهره ومفهومه‪ ،‬وتعدد أمناطه الرتكيبية والتصويرية‪ ،‬تعدداً ال ينتهي إىل غاية‪ ،‬ثم‬ ‫تبيان مرجع املزية والفضيلة األدبية ألي منط من تلك األمناط‪ ،‬وأن هذا املرجع إمنا هو ذو عنارص ثالثة‪ ،‬األول‪:‬‬ ‫يتضمن عالقة النمط الرتكيبي والتصويري والتحبريي باملعنى والغرض الذي يوضع له الكالم‪ ،‬والثاين والثالث‪ ،‬عىل‬ ‫الرتتيب‪ :‬يتضمن عالقة البيان (اللفظ واملعنى)‪ ،‬وعالقة بعضهام ببعض يف تحقيق بالغة الخطاب وأدبيته وعىل‬ ‫ ‬ ‫تبيــــان تعــــدد وتفــــاوت مســــــتويات النــظـــم فـــي مدارج الفضيــــلة" ‪.‬‬ ‫تأسيساً عىل كل الذي مىض تبيانه فإنَّ النظم لتتبني أهميته يف نقد النص األديب‪ ،‬أو بعبارة أخرى تتبني أهميته‬ ‫يف النقد األديب للنص‪ .‬وحني أكّدت وصف النقد بأنه األديب أشري إىل أن النص ميكن أن تتناوله صنوف من مناهج‬ ‫النقد‪ ،‬ومنها منهج النقد األديب‪ ،‬أي املنهج الذي يعمد إىل تحليل وتأويل ما به يكون النص كله يف كافة عنارصه‬ ‫ومستوياته أدباً‪ ،‬فإذا ما تم الوفاء بحق ذلك التحليل والتأويل ألدب ّية النص كان الوصول إىل وصف منزله من‬ ‫الجامل أو القبح‪ .‬وذلك الوصول إىل وصف املنزلة مرحلة أرى أن العناية مبا يسلم إليها أوىل من العناية‬ ‫وفس وأ ّول فقد فتح لك الطريق املع ّبد املط ّرق إىل أن تقف بنفسك عىل الوصف‬ ‫بتقريرها؛ ألن من حلَّل َّ‬ ‫الحقيقي ملنزلة ذلك النص من الجامل أو القبح‪ ،‬فالنقد األديب يف أساسه تبيني وتحليل وتأويل‪ ،‬وما التقدير جامالً‬ ‫وقبحاً إال الزم ذلك التبيني والتحليل والتأويل‪ ،‬فالنقد األديب إمنا هو عمل وصفي يف املقام األول‪ ،‬معياري فيام‬ ‫بعده‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .6‬عبدالقاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص‪93‬‬


‫ويف االصطالح ‪ :‬تأليف الكلامت والجمل مرتتبة املعاين‪ ،‬متناسبة الدالالت‪ ،‬عىل حسب ما يقتضيه العقل‪ ،‬وقيل‪:‬‬ ‫األلفاظ املرتبة املسوقة املعتربة داللتها عىل ما يقتضيه العقل‪ ،‬ويتبعه معنى النحو‪ ،‬حيث نقرأ يف علم النحو مثالً‬ ‫رس‬ ‫أ ّن الفعل ال ب ّد له من فاعل‪ ،‬وقد نرى الخرب يتقدم عىل املبتدأ‪ ،‬واملفعول يتقدم عىل الفعل‪ ،‬وحينام نبحث عن ّ‬ ‫هذا التقديم‪ ،‬فإنّا نجد أ ّن األمر ليس جزافاً‪ ،‬وال ب ّد من غرض وسبب من أجله كان هذا التقديم للخرب عىل مبتدئه‪،‬‬ ‫بأي جملة‪ ،‬ونركّبها من كلامتها‪ ،‬فإن هذا الرتكيب‬ ‫وللمفعول عىل فعله؛‪ /‬لذلك يرى عبد القاهر ــ أننا حينام ننطق ِّ‬ ‫نعب عنه بهذه األلفاظ فليس املراد من‬ ‫ناشئ ـ أوالً وقبل كل يشء ـ عن املعنى الذي هيّأناه يف نفوسنا‪ ،‬وأردنا أن ّ‬ ‫النحو ـ هنا ـ الحرك َة اإلعرابية التي تظهر عىل الكلامت بحسب موقعها من الجملة‪ ،‬وإنّ ا املراد معرفة أساليب‬ ‫الكالم ووجوهه‪ ،‬ثم اختيار األسلوب الذي يناسب املقام‪ ،‬ويعطي صورة مطابقة ملا يف النفس‪ ،‬قال الشيخ عبد‬ ‫ملعنى أن يكون‬ ‫القاهر‪ " :‬إ ّن األلفاظ إذ كانت أوعية للمعاين‪ ،‬فإنّها ال محالة تتبع املعاين يف مواقعها‪ ،‬فإذا وجب‬ ‫ً‬ ‫أوالً يف النفس‪ ،‬وجب للفظ ّ‬ ‫الدال عليه أن يكون مثله أوالً يف النطق"‪.‬‬ ‫نعب به عن هذا‬ ‫فـالنظم ـ إذن ـ ال بد له من أمرين اثنني‪ :‬املعنى الذي نريد التحدث عنه‪ ،‬ثم اللفظ الذي ّ‬ ‫املعنى‪ ،‬فإذا اختلف املعنى الذي نريد التعبري عنه‪ ،‬فال ب ّد أن يختلف اللفظ‪ ،‬حتى لو كانت مادته واحدة‪ ،‬فهناك‬ ‫نعب عنه بهذه الصورة‪ ... ،‬حينام يختلف املعنى تختلف الصورة ‪ ...‬ذلك هو النظم الذي‬ ‫الصورة‪ ،‬واملعنى الذي ّ‬ ‫يعنيه عبد القاهر ـ رحمه الله‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .5‬عبدالقاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص‪51‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫النص األديب‪ ،‬يف باب فقه البيان القرآين كانوا أرسع إىل األخذ بالتصور النظري لدى‬ ‫املهم أ ّن علامءنا يف غري باب نقد ّ‬ ‫النص يف كافة مستويات النظم‬ ‫اإلمام عبد القاهر‪ ،‬واستثامره يف مجال عنايتهم ودراستهم‪ ،‬فاستثمرت نظرية نظم ّ‬ ‫النص يف القرآن الكريم‪ ،‬ومل يقترص تدبرهم وتحليلهم عىل بناء الجملة النحوية‪ ،‬بل‬ ‫والرتتيب والتأليف والرتكيب ّ‬ ‫تجاوز ذلك بنا َء الجملة البيانية ذات الجمل النحوية العديدة‪ ،‬إىل بناء املعاقد املشكل بناء النص‪ /‬السورة القرآنية‪ ،‬بل‬ ‫امتد ليشمل بناء السياق البياين للقرآن الكريم‪ ،‬القائم عىل أساس اإلحكام ثم التفصيل يف مستوياته العديدة‪ ،‬التي‬ ‫أعالها أحكام بيان معاين الهدي القرآين يف سورة أم الكتاب‪ ،‬وتفصيله يف سائر سور القرآن الكريم كله‪ ،‬تفصيالً تتناسل‬ ‫عنارصه من رحم السورة األم‪.‬‬ ‫وأنت ال تجد بيانا برشياً أو غري برشي قد عولج بناؤه عىل هذا املنهاج التحلييل والرتكيبي‪ ،‬كمثل ما أنت مبرصه يف‬ ‫صنيع علامء القرآن الكريم ببيانه الحكيم‪ ،‬وهم ال يعتمدون يف ذلك عىل النظر الشكيل للبناء السوري وعالقات السور‬ ‫بعضها ببعض‪ ،‬بل تجاوز العناية بعالئق فواتح السور بخواتم ما قبلها‪ ،‬وإ ْن كان ذلك يف نفسه جد كريم‪ ،‬وذا لطائف‬ ‫إشارية ليس هنا مجال تجليتها ـ تجاوزوا ذلك إىل فقه العالئق الروحية بني املقاصد واألغراض واملعاين الكل ّية بني‬ ‫السور‪ ،‬مبا يكشفون به عن وجهني‪ :‬‬ ‫األول‪ :‬الترصيف البياين لتلك املقاصد واألغراض املنصوب لها الكالم‪ .‬‬ ‫واملفصل يف سائر‬ ‫واآلخر‪ :‬تصاعد املقاصد‪ ،‬والنمو ال َّداخيل للمعنى القرآين املكنونة جرثومته يف سورة "أم الكتاب"‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫القرآن تفصيالً تصاعدياً ال تراكمياً‪.‬‬ ‫هذا االسترشاف النبيل املاجد الستثامر نظرية النظم يف فقه بالغة البيان القرآين من علامئنا‪ ،‬ال نجد له عند األقدمني‬ ‫النص األديب‪ ،‬شعرا ً ونرثا ً‪ ،‬فضالً عن دراسة ديوان شعر‬ ‫من علامء البالغة والنقد ما يضارع حركته وامتداده يف دراسة ّ‬ ‫شاعر‪ .‬ولو أ ّن عنايتهم مبا اختاروا أن يكون من أهل العلم به من اإلبداع األديب كانت عىل هدي وقدر عناية أقرانهم‬ ‫من علامء بيان القرآن الكريم ـ لو أنهم فعلوا وساروا مبنهاجهم عىل هدى خطا أقرانهم من علامء القرآن الكريم‪،‬‬ ‫لكانت مثار النقد األديب عندنا أوفر عطاء وأسمى منزلة مام هي عليه اآلن‪ .‬نقول هذا ألن القرآن كان أهم مفجر‬ ‫لدالالت األلفاظ‪ ،‬وهنا تكمن أهمية التجاوز باستمرار‪ ،‬لقد علمتنا املدرسة القرآنية عىل تجاوز املعنى القامويس‬ ‫للكلمة‪ ،‬فلفظة الصالة يف القرآن ليست نفس اللفظة يف الجاهلية‪ ،‬وكذلك لفظة الجهاد‪ ،‬ولفظة الزكاة‪ ،‬ومعظم‬ ‫األلفاظ القرآنية ذات معنى تجاوزي يخرج اللفظة من قاموسيتها ليعطيها معنى أبعد‪ ،‬وهذا ما أرشد عبد القاهر‬ ‫الجرجاين إىل استنتاج نظريته الخالدة‪.‬‬


‫من هنا كان استثامر النظم يف النقد األديب للنص مقتضياً إخضاع كل عنرص وجانب من عنارص وجوانب بناء النص‬ ‫األديب للتحليل والتأويل وللتعليل املوضوعي‪ ،‬وربط ذلك كله باملعنى الكيل‪ ،‬والغرض العام املنصوب له الكالم‪.‬‬ ‫ذلك تبيان معامل املرشوع النقدي لعبد القاهر يف طوره التصوري النظري له‪ ،‬وهو كام ترى يكاد يبلغ حد النظرية‬ ‫املكتملة عنارصها‪ ،‬لتبقى من بعد ذلك املامرسة املعرفية والذوقية املسرتشدة بتلك النظرية‪ ،‬دون أن يكون هنالك‬ ‫للنص‪ ،‬مبعنى أن تكون املامرسة من قبيل النقد‬ ‫إخضاع قرسي لحركة املامرسة الذوقية والتحليلية يف النقد العميل ّ‬ ‫التحلييل العميل‪ ،‬وليس من قبيل النقد التطبيقي املهموم برؤية صورة التصور النظري يف مرآة النص‪ ،‬كام نراه عند‬ ‫النص الذي عمد‬ ‫بعض أهل العلم من سعيهم إىل رؤية النظرية البالغية أو النقدية التي ارتضاها قامئة يف صفحة ّ‬ ‫إىل درسه‪ .‬‬ ‫والنقد التحلييل العميل مهموم برؤية واقع النص عىل ما هو عليه‪ ،‬سواء كان مقارباً نظرية معرفية وذوقية ما أو‬ ‫مفارقاً‪ .‬فالتصور النظري يف النقد التحلييل ال يعدو أن يكون أداة ووسيلة ينظر بها الواقع‪ ،‬وليس معيارا ً يحاكم به‬ ‫النص‪ .‬‬ ‫واقع ّ‬ ‫وإذا ما ك ّنا قد رأينا اإلمام عبد القاهر قد منح التصور النظري كثريا ً من حقه ووفّاه حسابه‪ ،‬فإننا حني نتابع‬ ‫املامرسة التذوق ّية التحليلية للنصوص فإنّه يحسن بنا أن ننظر إىل صنيعه من جانبني‪ :‬‬ ‫للنص وتحليله يف مستوياته الرتكيبية عىل اختالف‬ ‫األول‪ :‬مبلغ استثامر ذلك التصور النظري يف رؤية الواقع األديب ّ‬ ‫تفاسحها‪ ،‬بدءا ً من الصورة الجزئية املاثلة يف الجملة النحوية‪ ،‬إىل الصورة الكلية املاثلة يف الجملة البيانية التي قد‬ ‫تحوي عديدا ً من الجمل النحوية املرتبطة بأنساق لسانية‪ ،‬واملرتبطة بعالئق روحية منبثقة من داخلها هي‪.‬‬ ‫واآلخر‪ :‬مدى املجال الذي امتدت إليه املامرسة التحليلية التذوقية‪ ،‬املستثمرة التصور النظري يف رؤية الواقع‬ ‫األديب عىل املساحة النسيجية للنص األديب‪.‬‬ ‫إن عبد القاهر تجاهل االشتغال بنقد ونقض مقاالت اآلخرين‪ ،‬وانرصف إىل تشييد نظريته تصويرا ً نظرياً‪ ،‬وتدبّرا ً‬ ‫عملياً يف كافة مستويات النظم‪ ،‬فإن بقي من العمر والجهد يشء رصفه يف النقد والنقض ملقاالت املخالفني‪ ،‬فإن مل‬ ‫يبق فإن فيام أ ّدى حقه الكفاية والغنية ملن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد‪ ،‬أ ْن يبرص من خالله عوار‬ ‫مقاالت املخالفني ومعاباتها‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫من مسلّامت رأيه املؤسس عىل فكرته يف النظم القامئة عىل األساس النفيس يكون الحكم عىل الرتتيب بني املعاين‬ ‫واأللفاظ عىل مستوى االكالم متامشياً مع فكرة سبق الكالم النفيس للفظ الدال عليه "فإن االعتبار ينبغي أن يكون‬ ‫بحال الواضع للكالم واملؤلف له‪ ،‬والواجب أن ينظر إىل حال املعاين معه ال مع السامع‪ ،‬وإذا نظرنا علمنا رضورة‬ ‫أنه محال أن يكون الرتتيب فيها تبعاً لرتتِّب األلفاظ ومكتسباً عنه‪ ،‬ألن ذلك يقتيض أن تكون األلفاظ سابقة‬ ‫للمعاين‪ ،‬وأن تقع يف نفس اإلنسان أوالً ثم تقع املعاين من بعدها وتالية لها بالعكس مام يعلمه كل عاقل إذا هو‬ ‫مل يؤخذ عىل نفسه"‪.‬‬ ‫من كل ما سبق يبدو أن النسيج اإلبداعي يف أي نص من النصوص البديعة يعتمد عىل الداللة االنسجامية بني‬ ‫داللة اللفظ وإيحائية املعنى الذي يتولد منه معنى آخر وفق الصياغة اإلبداعية‪.‬‬ ‫وهذا يؤكد نسبية الحسن الذي ميكن أن يعلق بأية لفظة "فقد اتضح إذن اتضاحاً ال يدع مجاالً للشك أ ّن األلفاظ‬ ‫ال تتفاضل من حيث هي ألفاظ مج ّردة‪ ،‬وال من حيث هي كلم مفردة‪ ،‬وأن األلفاظ تثبت لها الفضيلة وخالفها يف‬ ‫مالءمة معنى اللفظة ملعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مام ال تعلق له برصيح اللفظ‪ ،‬ومام يشهد لذلك أنك ترى‬ ‫الكلمة تروقك وتؤنسك يف موضع‪ ،‬ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك يف موضع آخر‪."...‬‬ ‫وما دامت البالغة عالقة باملعنى وكل وصف للفظ باملزيّة إنّ ا يكون تبعاً ملوقعه يف سياق دال‪ ،‬أمكن اعتبار‬ ‫الصورة اللفظية الدالة املؤدية إىل تغري املعنى دليالً أسلوبياً آخر يؤكد توالد املعنى وثراءه ‪ ،‬ذلك أنّه لو كانت‬ ‫تغي املعنى وتفريعه مرتبط‬ ‫تتغي املعاين واأللفاظ بحالها‪ ،‬إ ّن ّ‬ ‫املعاين تكون تبعاً لأللفاظ يف ترتيبها‪ ،‬لكان محاالً أن َّ‬ ‫بق ّدرة الصياغة اللفظية للمعنى املكنون يف داخل النفس اإلنسانية‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .8‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬تحقيق محمد عبدو‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬ط‪ ،2001 ،3‬ص‪.53‬‬ ‫‪ .9‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪.‬ص‪.53‬‬


‫النص الشعري‪ ،‬عىل نحو ما نراه‬ ‫ويف عرصنا وما قبله انطلقت "مامرسات نقديّة من أصول تلك النظرية يف قراءة ّ‬ ‫عند الدكتور عبده بدوي فيام كان ينرشه يف مجلة "شعر"‪ ،‬وفيام نرشه يف بعض كتبه‪ ،‬وما نراه يف محاولتني للدكتور‬ ‫عبده زايد من قراءة معلقة زهري وقصيدة حريق "ميت غمر" لحافظ إبراهيم‪ ،‬وغريهم غري قليل‪ ،‬وكلها مامرسات‬ ‫النص األديب"‪ .‬الذي وضع الجرجاين أسسها اللغوية والداللية‪.‬‬ ‫تؤكِّد أهمية نظرية النظم يف نقد ّ‬

‫النتائج التي عكستها نظرية النظم عند الجرجاين‪:‬‬

‫النص األديب لها أساسها العقدي املتجذّر يف قناعات دينية‬ ‫ميكن أن نسلّم مبدئياً بأ ّن نظرية عبد القاهر يف ّ‬ ‫وحضارية‪ ،‬ملتبسة بعلوم ومعارف أصيلة تقوم عىل سند مكني من اللغة والنحو‪ ،‬وأن تحديد مواصفات الكالم‬ ‫البليغ انطالقاً من هذا اإلطار‪ ،‬وبحسب ماكان يعترب آنذاك سنة جاملية وأدبية يستدعي العناية بقضية اللفظ‬ ‫واملعنى‪ ،‬هذه القضية التي متثل أساساً يف كل محاولة عرفها النقد العريب القديم تبتغي تأسيس رأي يف بنية النص‬ ‫األديب‪ .‬من هنا يصبح لزاماً االنطالق من فكرة عبد القاهر يف اللفظ واملعنى للوفاء برشوط تقيص رأيه يف النظم‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الدوال الخارجية مع بنية املدلوالت النفسية الداخلية‪ ،‬فإ ّن دور‬ ‫وإذا كان هذا الفهم يؤول إىل رضورة تطابق بنية‬ ‫اللفظ يظل مركّزا ً عىل ومض املعنى الذي يريد الشاعر اإليحاء به عرب نظرية النظم الجرجانية‪ ، ،‬ذلك أن قاعدة‬ ‫النص‪ ،‬ستتحدد مبفهوم الصياغة التي هي خالصة تفاعل‬ ‫التحرك التي ستضبط لعبد القاهر مساره املتقيص بنية ّ‬ ‫بني املعنى واللفظ مام سيمكّنه من تجاوز الثنائية التي علقت بهام طويالً‪ ،‬تلك التي تقوم عىل املعنى املفرد‬ ‫للفظة‪ ،‬وعىل معناها الداليل يف الرتكيب الجاهز‪..‬‬ ‫فاالنتقال من الشق اللغوي العام إىل املستوى الفني سيتأسس يف بناء جدايل ينبسط يف حجج متتالية‪ ،‬يتعقب فيها‬ ‫عبد القاهر حجج اللفظيني املغالني يف التمسك بشكلية تويل اللفظ العناية األوىل‪ ،‬وكذا حجج املعنويني الذين‬ ‫يق ّدمون القول مبعناه املرادف للفائدة املستخلصة من الخطاب التي ال يكون الرتكيز عليها إال إقرارا ً بالنجاعة‬ ‫األخالقية للمعنى دون تبيان فصاحته أو بيانه‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .7‬محمود توفيق محمد سعد‪ .‬نظرية النظم وقراءة الشعر عند عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دمشق‪ ،‬اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬ال ط‪1421 ،‬هـ‪ ،‬ص ‪-72-70‬‬ ‫‪80-77-76-75‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫وقولهم‪ :‬يدخل يف األذن بال إذن‪ ،‬فهذا مام ال يشك العاقل يف أنّه يرجع إىل داللة املعنى عىل املعنى وأنّه ال يتصور أن‬ ‫يراد به داللة اللفظ عىل معناه الذي وضع له يف اللغة ‪ ،‬واألساس الذي يعتمده يف التدليل عىل وجهة نظره يف اعتبار‬ ‫املقصود من العبارة غري داللة اللفظ عىل معناه الوضعي‪ ،‬أصل أسلويب تنبني الداللة فيه واملقصد من القول عىل ما‬ ‫أسامه "معنى املعنى"‪ ،‬إذ يستحيل املدلول املبارش للفظ داالً للمدلول املقصود‪ ،‬ويكون التسابق بني املدلول األخري‬ ‫ودال ِّـه الذي هو مدلول أول‪ ،‬وتنزع من اللفظ يف مستواه الصويت كل قيمة يف إحداث أثر ما يف املتلقي‪ ،‬ومصداق ذلك‬ ‫رأيه يف التذوق الفني إذ يقول "إذا رأيت البصري بجواهر الكالم يستحسن شعرا ً أو يستجيد نرثا ً‪ ،‬ثم يجعل الثناء عليه‬ ‫من حيث اللفظ‪ ،‬فيقول‪ :‬حلو رشيق‪ ،‬وحسن أنيق‪ ،‬وعذب‪ ،‬سائغ‪ ،‬وخلوب رائع‪ ،‬فاعلم أنّه ليس ينبئك عن أحوال‬ ‫ترجع إىل أجراس الحروف‪ ،‬وإىل ظاهر الوضع اللغوي بل أمر يقع يف املرء يف فؤاده‪ ،‬وفضل يقتدحه العقل من زناده"‪.‬‬

‫الدراسات الحديثة ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاين‪:‬‬

‫كثرية تلك الدراسات التي تناولت عبد القاهر الجرجاين ونظريته يف النظم‪ ،‬وكم حملت هذه الدراسات آراء متباينة‬ ‫مرة ومتفقة مرات متعددة‪ ،‬وكم تضاربت األفكار حول فكرة النظم منذ أن تنبه الشيخ محمد عبده لكل من‬ ‫كتاب‪":‬دالئل اإلعجاز" و"أرسار البالغة" وأخذ منهام دروساً يف رحاب جامع األزهر‪ ،‬واعتربهام أوىل بالدراسة من املتون‬ ‫ورشوحها وحواشيها‪ ،‬ملا اتسام به من دراسة عميقة للنصوص األدبية‪ ،‬تقّرب القارئ من تذوق البالغة بأسلوب سهل‬ ‫وبسيط و ال صلة لهام بالجدل العقيم الذي ال نتيجة له‪ ،‬وكان من أثر تدريسهام أن خرجا مطبوعني مصححني إىل‬ ‫الوجود‪.‬‬ ‫وتناول الدكتور طه حسني عبد القاهر الجرجاين بالبحث يف متهيد كتاب " نقد النرث" لقدامة بن جعفر تحت عنوان‪":‬‬ ‫البيان العريب"‪ ،‬وهو يرى أنّه تم عىل يده التوفيق بني البيانني‪ :‬العريب واليوناين بل أقر يف نهاية بحثه "أن من يقرأ‬ ‫"دالئل اإلعجاز" ال يسعه" إال أن يعرتف مبا أنفق عبد القاهر من جهد صادق خصب‪ ،‬يف التأليف بني قواعد النحو‬ ‫العريب وبني آراء أرسطو العامة يف الجملة واألسلوب والفصول‪ ،‬وقد وفق عبد القاهر فيام حاول توفيقاً يدعو إىل‬ ‫اإلعجاب‪ .‬وإذا كان الجاحظ هو واضع أساس البيان العريب حقاً فعبد القاهر هو الذي رفع قواعده وأحكم بناءه"‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .11‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬أرسار البالغة يف علم البيان‪ ،‬تحقيق محمد رشيد رضا‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املطبوعات العربية‪ ،‬الط‪ ،‬الت‪ ،‬ص‪.3‬‬ ‫‪ .12‬قدامة بن جعفر‪ .‬نقد النرث‪ .‬بريوت‪ ،‬املكتبة العلمية‪ ،‬ال ط‪ ،‬ال ت‪ ،‬ص‪.30‬‬


‫فرثاء املعنى وإمكانات فهمه متعددة بقدر ما تؤكد كون البالغة يف املعنى تزيح اللفظ عن أن يكون له أهمية‬ ‫أكرث من اعتباره حامالً لهذا املعنى املتعدد الصور‪ ،‬ويف السياق نفسه يؤكد انتقاء املعارضة من األلفاظ املج ّردة‬ ‫عن املعاين ترسيخاً ملنحى عبد القاهر نفسه يف تأكيد كون البالغة ومرتادفاتها‪ ،‬إنّ ا هو يف املعنى "ألنّه إذا مل يكن‬ ‫يف القسمة إال املعاين واأللفاظ‪ ،‬وكان ال يعقل تعارض يف األلفاظ املجردة إال ما ذكرت مل يبق إال أن تكون املعارضة‬ ‫ومتخي اللفظ حصل من ذلك أ ّن‬ ‫معارضة من جهة املعنى‪ ،‬وكان الكالم يعارض من حيث هو فصيح وبليغ‬ ‫ّ‬ ‫وتخي اللفظ عبارة عن خصائص ووجوه تك ّون معاين الكالم عليها وعن زيادات تحدث يف أصول‬ ‫الفصاحة والبالغة ّ‬ ‫املعاين‪ ...‬وأ ّن ال نصيب لأللفاظ من حيث هي ألفاظ فيها بوجه من الوجوه"‪.‬‬ ‫والسجع من فصاحة اللفظ خطأ رغم ارتباطها باملستوى‬ ‫ويرتتّب عىل ما سلف أن يكون اعتبار وجوه كالجناس ّ‬ ‫الصويت لأللفاظ‪ ،‬فقد يتوهم يف بدء الفكرة‪ ،‬وقبل إمتام العربة‪ ،‬أ ّن الحسن والقبح فيها ال يتعدى اللفظ والجرس‪....‬‬ ‫وعىل الجملة فإنك ال تجد تجنيساً مقبوالً‪ ،‬وال سجعاً حسناً‪ ،‬حتى يكون املعنى هو الذي طلبه واستدعاه وساق‬ ‫نحوه‪.‬‬ ‫ثم يقصد عبد القاهر آراء يف الرتاث تبدو ظاهرا ً يف نرصة اللفظ‪ ،‬فيُخضعها لتأويل يساير رأيه يف اللفظ واملعنى‬ ‫خاصة أ ّن فهمها الحريف الظاهري قد يشوش مسار نظريته ويجد فيه "اللفظيون" دعامً تراثياً ملقوالتهم‪ ،‬فمن‬ ‫الصفات التي تجدهم يجرونها عىل اللفظ ثم ال تعرتضك شبهة وال يكون منك توقف يف أنّها ليست لـه ولكن‬ ‫ملعناه فال يكون الكالم يستحق اسم البالغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه‪ ،‬وال يكون لفظه أسبق إىل‬ ‫سمعك من معناه إىل قلبك‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .10‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص‪.46‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫ويف هذا النص البالغ األهمية نجد فلسفة عبد القاهر اللغوية العميقة‪ ،‬وعن هذه الفلسفة صدرت كل آرائه يف‬ ‫نقد النصوص وإ ّن" منهج عبد القاهر يستند إىل نظرية يف اللغة‪ ،‬أرى فيها ويرى معي من ميعن النظر أنّها متايش‬ ‫ما وصل إليه علم اللسان الحديث"‪.‬‬ ‫ويتناول الدكتور محمد غنيمي هالل يف كتابه " النقد األديب الحديث "قضية اللفظ واملعنى عند عبد القاهر‬ ‫ويؤكد يف النهاية قائال‪ ":‬ونعتقد أ ّن عبد القاهر مل يقر من ر ّجحوا املعنى عىل اللفظ‪ ،‬عىل نحو ما رشحنا من‬ ‫آرائهم فيام سبق‪ ،‬بل كان من أنصار الصياغة من حيث داللة هذه الصياغة عىل جالء الصورة األدبية" ‪ .‬ثم‬ ‫يتح ّدث عن النظم عند عبد القاهر ويرى أنّه " قام يف هذا الباب بجهد عظيم الخطر‪ ،‬فهو يقصد بالنظم ما يطلق‬ ‫عليه الغربيني علم الرتاكيب‪ ،‬وهو عندهم أهم أجزاء النحو‪ ،‬وي ّعرفه عبد القاهر بأنّه‪ :‬وضع "كالمك الوضع الذي‬ ‫يقتضيه علم النحو"‪.‬‬ ‫ويتطرق بعد ذلك إىل التقويم الجاميل وصلته باملضمون عند عبد القاهر ويذكر مناذج يف نقد بندتو كروتشيه‬ ‫وآرائه يف علم الجامل ويقول‪ " :‬إنّ ا ذكرنا من نقد بندتوكروتشيه ما يتصل اتصاالً وثيقاً بنقد عبد القاهر‪ ،‬لنوضح‬ ‫فضل عبقرية عربية انتهت بعمق نظرياتها يف النقد األديب إىل نتائج عاملية ذات قيمة خالدة ولها صلة بفلسفة‬ ‫الجامل يف النقد الحديث"‪.‬‬ ‫وعقد الدكتور إحسان عباس فصال يف كتابه " تاريخ النقد األديب عند العرب" تحدث فيه عن االنطالق من فكرة‬ ‫اإلعجاز إىل إقرار قواعد النقد والبالغة‪ ،‬ثم بحث يف قضية اللفظ واملعنى تحت ضوء نظرية النظم الجرجانية‪،‬‬ ‫وانتهى إىل أن عبد القاهر ألف كتاب" دالئل اإلعجاز " أوالً ثم بعده كتاب " أرسار البالغة "فاسمعه يقول‪...":‬ومن‬ ‫مرحلة املعنى يتكون " علم املعاين " ومن مرحلة " معنى املعنى " يجيء "علم البيان "‪ ،‬ولهذا نستطيع أن نقول‬ ‫إن عبد القاهر بعد أن انتهى من كتابه دالئل اإلعجاز الذي تحدث فيه حول املعنى‪ ،‬حاول أن يخصص كتاباً‬ ‫لدراسة معنى املعنى فكان من ذلك كتابه " أرسار البالغة "‬ ‫_______________________‬

‫‪ .15‬محمد مندور‪ .‬النقد املنهجي عند العرب‪ .‬ص‪.335-334‬‬

‫‪ .16‬محمد غنيمي هالل‪ .‬النقد االديب الحديث‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الثقافة ودار العودة‪ ،‬ال ط‪1973 ،‬م‪ ،‬ص ‪.268‬‬ ‫‪ .17‬محمد غنيمي هالل‪ .‬النقد االديب الحديث‪ .‬ص ‪.277‬‬ ‫‪ .18‬محمد غنيمي هالل‪ .‬النقد االديب الحديث‪ .‬ص ‪.291‬‬ ‫‪ .19‬أحمد أحمد بدوي‪ .‬عبد القاهر سوجهوده يف البالغة‪ .‬القاهرة‪ ،‬املؤسسة املرصية العامة‪ ،‬ط‪ ،2‬ال ت‪ ،‬ص ‪.101‬‬


‫ودرس الدكتور محمد مندور الجرجاين ونظريته يف كتاب" النقد املنهجي عند العرب" ويف مؤلفه " امليزان الجديد"‬ ‫وهو أول من لفت االنتباه إىل األسس اللغوية ملنهج الجرجاين قائال‪ ":‬ويف الحق إن عبد القاهر قد اهتدى يف العلوم‬ ‫اللغوية كلها إىل مذهب ال ميكن أن نبالغ يف أهميته‪ ،‬مذهب يشهد لصاحبه بعبقرية لغوية منقطعة النظري‪ ،‬وعىل‬ ‫أساس هذا املذهب كون مبادئه يف إدراك دالئل اإلعجاز يف القرآن‪ ،‬ويف النرث العريب والشعر العريب عىل السواء" ‪.‬‬ ‫مذهب عبد القاهر هو أصح وأحدث ما وصل إليه علم اللغة يف أوروبا أليامنا هذه‪ ،‬هو مذهب العامل السويرسي‬ ‫الثبت فردناند دي سوسري الذي تويف سنة ‪ 1913‬م‪ ،‬ونحن ال يهمنا اآلن من هذا املذهب الخطري إال طريقة استخدامه‬ ‫كأساس ملنهج لغوي "فيولوجي" يف نقد النصوص‪ ،‬لقد فطن عبد القاهر إىل أن اللغة ليست مجموعة من األلفاظ‪ ،‬بل‬ ‫مجموعة من العالقات فقال‪" :‬إعلم أ ّن هناك أصالً أنت ترى الناس فيه يف صورة من يعرف من جانب وينكر من آخر‪،‬‬ ‫وهو أ ّن األلفاظ املفردة التي هي من أوضاع اللغة‪ ،‬مل توضع لترصف معانيها يف أنفسها ولكن ألن يضم بعضها إىل‬ ‫بعض فيرصف فيام بينها فوائد‪ ،‬وهذا علم رشيف وأصل عظيم‪ ،‬والدليل عىل ذلك أنا إن زعمنا أن األلفاظ التي هي‬ ‫أوضاع اللغة إنّ ا وضعت لتعرف بها معانيها يف أنفسها‪ ،‬ألدى ذلك إىل ما ال يشك عاقل يف استحالته‪ ،‬وهو أن يكونوا‬ ‫قد وضعوا لألجناس األسامء التي وضعوها لها لتعرفها بها‪ ،‬حتى كأنّهم لو مل يكونوا قالوا"فعل" و"يفعل" ملا كنا نعرف‬ ‫الخرب يف نفسه ومن أصله‪ ،‬ولو مل يكونوا قد قالوا "افعل" ملا كنا نعرف األمر من أصله وال نجده يف نفوسنا‪ ،‬وحتى لو‬ ‫مل يكونوا قد وصفوا الحروف لكنا نجهل معانيها‪ ،‬فال نعقل نفياً وال نهياً وال استفهاماً و ال استثناء‪ ،‬كيف واملواضعة ال‬ ‫تكون وال تتصور إال عىل معلوم‪ ،‬فمحال أن يوضع اسم أو غري اسم لغري معلوم‪ ،‬وأل ّن املواضعة كاإلشارة‪ ،‬فكام أنك إذا‬ ‫قلت خذ ذاك مل تكن هذه اإلشارة لتعرف السامع املشار إليه يف نفسه‪ ،‬ولكن ليعلم أنّه املقصود من بني سائر األشياء‬ ‫التي تراها وتبرصها‪ ،‬كذلك حكم اللفظ مع ما وضع له‪ ،‬ومن هذا الذي يشك أنا مل نعرف الرجل و الفرس و الرضب‬ ‫والقتل إال من أساميها؟ ؟ لو كان ذلك مصوغاً يف العقل‪ ،‬لكان ينبغي إذا قيل "زيد" أن تعرف املسمى بهذا االسم من‬ ‫غري أن تكون قد شاهدته أو ذكر ذلك بصفة‪...‬وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أ ّن معاين الكالم كلها معان ال تتصور‬ ‫إال فيام بني شيئني‪ ،‬واألصل واألول هو الخرب وإذا أحكمت العلم بهذا املعنى فيه عرفته يف الجميع‪ ،‬ومن الثابت يف‬ ‫العقول والقائم يف النفوس أنّه ال يكون خرب حتى يكون مخرب به ومخرب عنه‪ ،‬ومن ذلك امتنع أن يكون لك قصد إىل‬ ‫فعل من غري أن تريد اسناده إىل يشء‪ .‬وكنت إذا قلت "ارضب" مل تستطع أن تريد منه معنى يف نفسك من غري أن‬ ‫تريد الخرب به عن يشء مظهر أو مقدر‪ ،‬وكان لفظك به إذ أنت مل ترد ذلك"‪.‬‬ ‫_______________________‬

‫‪ .13‬محمد مندور‪ .‬النقد املنهجي عند العرب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار النهضة‪ ،‬الط‪ ،‬الت‪،‬ص‪.334-333‬‬ ‫‪ .14‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل اإلعجاز‪ .‬ص‪.469‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫واعترب األستاذ محمد خلف الله يف كتابه " من الوجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده" كتاب " الدالئل" بحثاً يف‬ ‫أسلوب تأليف الكالم ونظمه‪ ،‬وترتيب معانيه‪ ،‬وما يعرض لها من مظاهر معنوية‪ ،‬محاوالً أن ينقل االهتامم من‬ ‫جانب اللفظ إىل جانب املعنى‪ ،‬ويشري إىل أ ّن عبد القاهر متلجلج يف هذه القضية‪ ،‬بينام يقوم " األرسار" عىل فكرة‬ ‫أ ّن "مقياس الجودة األدبية تأثري الصورة البيانية يف نفس متذوقها"‪ ، .‬وهو جزء من تفكري سيكولوجي أعم يطبع‬ ‫الكتاب بطابعه عن طريق " الفحص الباطن" وتأكيد الجانب النفيس أي الطريقة النفسانية التي يسميها املحدثون‬ ‫"التأمل الباطني" ‪ ،‬ويعقد محمد خلف الله فصالً يدرس فيه تأثر عبد القاهر يف بعض نواحي تفكريه البالغي و‬ ‫النقدي بالثقافة اإلغريقية وال سيام بحوث أرسطو‪...‬ويوجز أهم النواحي التي تعرض لها كتاباه‪ ":‬الشعر‬ ‫والخطابة" ليك يرى إىل أي مدى تأثر بهام عبد القاهر‪ ،‬ثم يختم بحثه قائالً‪ ":‬غري أن هذا التأثري ال ينايف األصالة‪،‬‬ ‫وال ينفي عن عبد القاهر صفة العامل املبتكر‪ ،‬وال يقلل من أهمية نظريته التي مل يسبقه سابق إىل عرضها‪،‬‬ ‫وتحقيقها‪ ،‬وإفراد موضوعها بالدرس‪ ،‬كام يفرد العامل الحديث موضوعاً معيناً للبحث و التنقيب يف رسالة خاصة‪،‬‬ ‫فمنهجه وطريقة تأليفه إذن ‪ ،‬من أبرز املعامل يف الدراسات العربية النقدية‪ ،‬وشخصيته العلمية يف نظريته واضحة‬ ‫حقاً بجانب شخصية "أرسطو" وإ ّن قدرته عىل تسخري العلم يف كشف أرسار الذوق لدليل عىل أصالته كفيل بخلوده ‪".‬‬ ‫ودرس الدكتور عبد العزيز عبد املعطي عرفة الذوق البالغي لدى عبد القاهر الجرجاين يف ظل نظرية النظم من‬ ‫خالل مؤلفه " تربية الذوق البالغي عند عبد القاهر الجرجاين" استهله بالحديث عن الذوق البالغي قبل عبد‬ ‫القاهر ثم انتقل ألصالة الذوق البالغي مع عبد القاهر ويف ذلك يقول‪ ":‬وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاين‪ ،‬ودرس‬ ‫النظم ووضع يده عىل موطن الفكر يف النظم والرتتيب‪ ،‬وكشف عن اإلثبات وصوره العجيبة‪ ،‬وحدد دورا ً أللفاظ‪،‬‬ ‫وموقف املعاين الشعرية‪ ،‬ومكانة الصور التي تربز فيها تلك املعاين‪ .‬وتحت ضوء نظريته يف النظم دفع أخطاء‬ ‫السابقني يف تفسري البيان العريب بعامة وناقش آراء اللفظيني‪ ،‬وبني فضل املفرس عىل التفسري ووحد موقف منشد‬ ‫النصوص"‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .23‬محمد خلف الله أحمد‪ .‬من الوجهة النفسية يف دراسة االدب ونقده‪ .‬القاهرة‪ ،‬املطبعة العاملية‪ ،‬ط‪ ،1970 ،2‬ص‪.133‬‬ ‫‪ .24‬محمد خلف الله‪ .‬من الوجهة النفسية يف دراسة االدب ونقده‪ .‬ص ‪.43- 42‬‬ ‫‪ .25‬محمد خلف الله‪ .‬من الوجهة النفسية يف دراسة االدب ونقده‪ .‬ص ‪.43‬‬ ‫‪ .26‬أحمد عيل دهامن‪ .‬الصورة البالغية عند عبد القاهر الجرجاين‪.‬دمشق‪ ،‬دار طالس للدراسات والرتجمة والنرش‪ ،‬ط‪1986 ،1‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪13-12‬‬


‫وتحدث سيد قطب عن نظرية النظم يف كتابه " النقد األديب أصوله و مناهجه فقال‪ ":‬لقد حاول أن يضع قواعد فنية‬ ‫للبالغة و الجامل الفني يف كتابه " دالئل اإلعجاز" كام حاول أن يضع قواعد نفسية للبالغة يف كتابه "أرسار البالغة"وقد‬ ‫تأثر بالفلسفة اإلغريقية وباملنطق"‪ .‬بل ذهب أبعد من ذلك فأقر أ ّن عبد القاهر " أول من قرر نظرية يف تاريخ‬ ‫النقد العريب ويصح أن نسميها نظرية النظم" ‪ ،‬و انتقد سيد قطب إهامل عبد القاهر لدراسة الجانب الصويت‬ ‫لأللفاظ ويف ذلك يقول‪ ":‬ومع أننا نختلف مع عبد القاهر يف كثري مام تحويه نظريته هذه بسبب إغفاله التام لقيمة‬ ‫اللفظ الصوتية منفردا ً ومجتمعاً مع غريه‪ ،‬وهو ما ع ّربنا عنه باإليقاع املوسيقي‪ ،‬كام يغفل الظالل الخيالية يف أحيان‬ ‫كثرية‪ ،‬ولها عندنا قيمة كربى يف العمل الفني‪ ...‬مع هذا فإننا نعجب باستطاعته أن يق ّرر نظرية هامة كهذه – عليها‬ ‫الطابع العلمي – دون أن يخل بنفاذ حسه الفني يف كثري مواضيع الكتاب"‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .20‬سيد قطب‪ .‬النقد االديب أصوله ومناهجه‪.‬بريوت‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬ط‪1983 ،2‬م‪ ،‬ص ‪.126‬‬ ‫‪ .21‬سيد قطب‪ .‬النقد االديب أصوله ومناهجه‪ .‬ص ‪.127‬‬ ‫‪ .22‬سيد قطب‪ .‬النقد االديب‪ .‬أصوله ومناهجه‪ .‬ص ‪.128‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ال شك يف أ ّن هذه األبيات تظهر من طالوة اللفظ ورونقه الكثري‪ ،‬غري أ ّن هذه الطالوة عائدة لحسن النظم الذي‬ ‫يفيد املعنى ويؤدي إىل تأليف الصورة املنشودة‪ .‬ويعجب الجرجاين ممن ال يكون استحسانهم وحمدهم وثناؤهم‬ ‫"ومدحهم متعرفاً إالّ إىل استعارة وقعت موقعها‪ .‬وأصابت غرضها‪ ،‬أو حسن ترتيب تكامل معه البيان‪ ،‬حتى وصل‬ ‫املعنى إىل القلب‪ ،‬مع وصول اللفظ إىل السمع‪ ،‬واستقر يف الفهم مع وقوع العبارة يف األذن"‬ ‫إ ّن عجب الجرجاين يتجه بالدرجة األوىل إىل ابن قتيبة الذي ص ّنف هذه األبيات يف نوع الشعر الذي حسن لفظه‬ ‫وحال‪ ،‬بينام إذا فتشنا عن فائدة يف معناه مل نجد ضالتنا‪ ،‬ووصف ألفاظه بحسن املخارج واملطالع واملقاطع‪ ،‬ويف‬ ‫اإلشارة إىل ضآلة معناها قال ابن قتيبة‪ ":‬وإن نظرت إىل ماتحتها من املعنى وجدته‪ :‬وملا قطعنا أيام منى‪،‬‬ ‫واستلمنا األركان‪ ،‬وعالينا إبلنا األنضاء (الضعاف)‪ ،‬ومىض الناس الينظر الغادي الرائح‪ ،‬ابتدأنا يف الحديث‪ ،‬وسارت‬ ‫املطي يف األبطح"‪.‬‬ ‫ويف املقابل يقف الجرجاين موقفاً معاكساً‪ ،‬البن قتيبة‪ ،‬يف النظر إىل قيمة املعاين يف تلك األبيات‪ ،‬حيث يوردها‬ ‫للداللة عىل سمو املعاين واألغراض حني يقول‪ ":‬وذلك أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنّه قال ‪(:‬وملّا قضينا‬ ‫فعب عن قضاء الناس‪ ،‬والخروج من فروضها وسننها‪ ،‬من طريق أمكنه أن يقرص معه اللفظ‪،‬‬ ‫من منى كل حاجة)‪ّ .‬‬ ‫وهو طريقة العموم‪ ،‬ثم ن ّبه بقوله‪( :‬ومسح باألركان من هو ماسح) عىل طواف الوداع الذي هو آخر األمر‪ ،‬ودليل‬ ‫املسري الذي هو مقصوده من الشعر‪ ،‬ثم قال‪( :‬أخذنا بأطراف األحاديث بيننا)‪ .‬فوصل بذكر مسح األركان‪ ،‬ما وليّه‬ ‫من زم الركاب وركوب الركبان‪ ،‬ثم دل بلفظه " األطراف " عىل الصفة التي يختص بها الرفاق يف السفر‪ ،‬من‬ ‫الترصف يف فنون القول وشجون الحديث‪ ،‬أو ما هو عادة املتطرفني من اإلشارة والتلويح والرمز وااليحاء‪ ،‬وأنبأ‬ ‫بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط‪ ،‬وفضل اإلغتباط‪ ،‬كام توجبه إلفة األصحاب‪ ،‬وأنسة األحباب وكام يليق‬ ‫بحال من وفق لقضاء العبادة الرشيفة ورجا حسن االياب وتنسم روائح األحبة واألوطان واستامع التهاين والتحايا‬ ‫من الخالن واالخوان" ‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .29‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ ،‬ص ‪.16‬‬ ‫‪ .30‬ابن قتيبة‪ .‬الشعر والشعراء‪ .‬مرص‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ال ط‪ 1966 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪67-66‬‬ ‫‪ .31‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ ،‬ص ‪.17-16‬‬


‫تناولت الدرسات الحديثة نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاين‪ ،‬وهي تهدف إىل بيان عظمة عبد القاهر‬ ‫بالنسبة للدراسات املعارصة من خالل دراسته القيّمة للرتاث األديب‪ ،‬وتحليله ومناقشته وكيف ترصف املتكلم‪،‬‬ ‫وفضل أداة عىل أخرى‪ ،‬ولفظاً عىل آخر‪،‬‬ ‫فأثبت ونفى‪ ،‬وق ّيد وأطلق‪ ،‬وع ّرف ونكّر‪ ،‬وق ّدم وأ ّخر‪ ،‬وفصل ووصل‪ّ ،‬‬ ‫رصح‪ ،‬وذكر وأضمر‪ ،‬وأوجز وأطنب‪ ،‬إىل آخر تلك الترصفات التي ليس لها حد ونهاية كام‬ ‫واستعار وشبّه‪ ،‬وك ّنى و ّ‬ ‫يقول الشيخ نفسه‪ .‬وقد ربط كل هذه الوجوه والفروق بغرض الشاعر ومدى التحامها به أو قربها أو بعدها منه‪،‬‬ ‫كل ذلك بقريحة نفاذة‪ ،‬وذوق بالغي سليم‪ ،‬ومعرفة واسعة بكالم العرب وطرق القول عندهم‪.‬‬

‫جامل الصورة االدبية ونظرية النظم‪:‬‬

‫"ال تكتمل مزية النظم إالّ بحسب املعاين واألغراض التي يوضع لها الكالم‪ .‬وبحسب املواقع التي تحتلها‪،‬‬ ‫واالستعامل الذي يلحقها‪ ،‬إذ أنه يعجبنا تنكري لفظة يف موقع وقد يسوؤنا يف موقع آخر‪ ،‬وإن راقنا تقديم خرب عىل‬ ‫مبتدأ يف كالم فإنّه لن يروق لنا يف كل كالم"‪.‬‬ ‫وبالتايل ليس النظم‪ ،‬عند عبد القاهر‪ ،‬مجرد عملية تأليف بسيطة‪ ،‬تجمع اللفظ إىل املعنى‪ .‬لتؤدي غاية األدب يف‬ ‫التواصل والتخاطب‪ ،‬ومل يعد لأللفاظ واملعاين قيمة مقصودة لذاتها‪ ،‬بل أصبح الحسن والجودة عليها يف النظم‪،‬‬ ‫ويشرتط عبد القاهر الجرجاين‪ ،‬تآزر الجمل املتآلفة عىل معنى ليتحقق للصورة األدبية جاملها ويتم الحسن للنظم‪.‬‬ ‫للداللة عىل ذلك يورد هذا الناقد ثالث أبيات كرث ثناء النقاد عليها‪ ،‬ال ّن ألفاظها هي‪ ":‬أحسن يشء مطالع ومخارج‬ ‫ومقاطع" وإن كان ليس وراءها كبري معنى ‬ ‫ومســـــــــّــح باألركان من هـــو ماسح‬

‫وملا قضينا من منــى كــــل حاجـــــة‬ ‫وشدت عىل حــدب املطــايا رحــالنـا‬

‫ولـم يبرصالغادي الـــذي هـــو رائـــــح‬

‫أخذنا بأطراف األحـــاديث بيننـــــــــا ‬

‫املطـــــــــــي األباطــح‬ ‫وسالت بأعناق‬ ‫ّ‬

‫_______________________‬ ‫‪ .27‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.70-69‬‬ ‫‪ .28‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬بريوت دار املعرفة‪ ،‬ال ط‪1398 ،‬هـ‪ 1978 /‬م‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ويق ّوم الجرجاين ما قاله العلامء وما طبقوه يف علوم الفصاحة والبالغة ويخلص "إىل أ ّن كل ذلك ليس كافيا ً وال‬ ‫يغنينا عن الحاجة إىل املدارسة واملتابعة‪ .‬أل ّن هؤالء وإن أقرصوا اللفظ فقد أطالوا املعنى وإن مل يغرقوا يف النزع‬ ‫فلقد أبعدوا عىل ذلك يف املرمى‪ .‬وإنّهم ما زادوا عىل أن قاسوا قياسا ً فقالوا‪ :‬نظم ونظم‪ ،‬وترتيب وترتيب ونسج‬ ‫ونسج‪ ،‬ثم خلصوا إىل أنّه ينبغي أن تظهر املزية يف هذه املعاين ههنا حسب ظهورها هناك‪ ،‬وإن يعظم األمر يف‬ ‫ذلك كام عظم ث ّم"‪.‬‬ ‫ويقر بصحة ما أداه العلامء‪ ،‬لك ّنه ليس كافياً يف رأيه‪ ،‬إذ قاموا باملهم وتركوا األكرث أهمية الذي يراه متمثالً بتحديد‬ ‫مكان املزية يف الكالم ووصفها وذكرها بطريقة بينة كام ينص اليشء ويعني‪ .‬ويكشف عن وجهه ويبني‪ ،‬ويطلب‬ ‫إليهم معنى الخصوصية يف طريقة النظم‪ ،‬والطريقة املخصوصة يف نسق الكالم بعضها عىل بعض‪ ،‬وذلك يف وصف‬ ‫هذه الخصوصية وتبينها‪ ،‬وذكر األمثلة لها‪ .‬وإليضاح ما هو مطلوب إىل هؤالء العلامء يف عملهم‪ ،‬ويذكر الجرجاين‬ ‫"ما يقوله لنا الخبري بعمل الديباج املنقش من وصف لهذا العمل يتناول دقة الصفة أو أن نشهده ميارس مهنته‬ ‫معاينة حتى نرى كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء وماذا يذهب منها طوالً وماذا يذهب منها عرضاً‪ ،‬وبم يبدأ‬ ‫وبم يثني وبم يثلث‪ ،‬وتبرص من الحساب الدقيق‪ .‬ومن عجيب ترصف اليد ما تعلم منه مكان الحذق وموضع‬ ‫اإلستاذية"‪...‬‬ ‫إذا ً ال يكفي يف معرفة الصناعات الوقوف عند حدود املعرفة العامة كأن نقول يف معرفة الديباج الكثري التصاوير‪،‬‬ ‫إنّه ترتيب للغزل عىل وجه مخصوص‪ ،‬وضم لطاقات االبريسيم بعضها إىل بعض عىل طرق شتى ‪ " ...‬وإمنا الواجب‬ ‫أن نعرف الخطأ فيها من الصواب‪ ،‬وأن نف ّرق بني اإلساءة والجودة‪ ،‬وأن نفاضل بني جودة ومثيلتها وأن نتع ّرف‬ ‫بطبقات هذه الجودة"‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .35‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.29‬‬ ‫‪ .36‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.30‬‬ ‫‪ .37‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.30‬‬


‫وحني قال‪( :‬وسالت بأعناق املطي األباطح)‪،‬أطلق استعارة لطيفة‪،‬إذ جعل سالسة سري املطي بهم كاملاء تسيل به‬ ‫األباطح وكان يف ذلك ما يؤكد قبله‪ ،‬ألن الظهور إذ كانت وطيئة وكان سريها السهل الرسيع‪ ،‬زاد ذلك يف نشاط‬ ‫الركبان‪ ،‬ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيبا‪ .‬ثم قال‪":‬بأعناق املطي ومل يقل باملطي‪ ،‬ألن الرسعة والبطء يظهران‬ ‫غالباً يف أعناقها‪ ،‬ويبني أمرهام يف هواديها وصدورها‪ ،‬وسائر أجزائها تستند اليها يف الحركة‪ ،‬وتتبعها يف الثقل والخفة‪.‬‬ ‫ويعب عن املرح والنشاط إذا كانا يف أنفسها بأفاعيل لها خاصة يف العنق والرأس ‪ . "...‬ويضيف الجرجاين مدافعاً عن‬ ‫ّ‬ ‫رأيه يف أ ّن هذه األبيات تدل عىل سمو املعاين وغزارتها بقوله ‪ ":‬هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها عىل لفظة من‬ ‫ألفاظها‪ ،‬حتى إ ّن فضل الحسنة يبقى يف تلك اللفظة ولو ذكرت عىل االنفراد‪ ،‬وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر‬ ‫ونسجه وتأليفه وترصيفه‪ ...‬ليس هذا بقياس الشعر املوصوف بحسن اللفظ‪ ،‬وإن كان ال يبعد أن يتخيله من ال ينعم‬ ‫النظر‪ ،‬وال يتم التدبري‪ ،‬بل حق هذا املثل أن يوضع يف نرصة بعض املعاين الحكمية والتشبيهية أيضاً‪ ...‬وإن يصل الذكر‬ ‫بني متدانيات يف والدة العقول إياها ومتجاورات يف تنزيل اإلفهام لها"‪.‬‬

‫املالمح الجديدة من رؤية النظم عند عبد القاهر الجرجاين الجديدة اىل البالغة‪:‬‬

‫بعد أن ربط الجرجاين نظريته يف النظم بقواعد النحو وأساليبه‪ ،‬ش ّعب أطر هذه النظرية لتشمل كثريا ً ملا اتفق عىل‬ ‫تسميته – يف أيامنا – بعلم املعاين‪ ،‬من تقديم وتأخري‪ ،‬وفصل ووصل‪ ،‬وإسناد‪ ،‬وحذف وإضامر‪ ،‬وايجاز وإعادة وتكرار‪،‬‬ ‫وتعريف وتنكري‪ ...‬وقد سمى هذه األوجه تنويعات النظم‪ ،‬و ّعدها األسس التي نسأل عنها لدى سامعنا شعرا ً جميالً‬ ‫وإعجابنا به‪ ،‬ويف ضوئها نقف عىل مبعث الجامل ورس الجامل يف هذا الشعر‪.‬‬ ‫ويستعرض ما قاله العلامء يف معنى الفصاحة والبالغة‪ ،‬والبيان والرباعة ويف بيان املغزى من هذه العبارات‪ ،‬وتفسري‬ ‫املراد بها‪ ،‬فيجد بعضها كالرمز واإلمياء واإلشارة يف خفا ٍء‪ ،‬وبعضه كالتنبيه عىل مكان الخبيء ليطلب ‪ ...‬وتوضع لك‬ ‫القاعدة لتبني عليها‪ ،‬ويجد "املعول عىل أن ههنا نظام ً وترتيبا ً‪ ،‬وتأليفا ً وتركيبا ً وصياغة ً وتصويرا ً ونسجا ً وتحبريا ً‪،‬‬ ‫وإ ّن سبيل هذه املعاين يف الكالم الذي مجاز فيه سبيلها يف األشياء التي هي حقيقة فيها‪ .‬ويرى أ ّن العلامء يفاضلون‬ ‫بني نظم ونظم وتأليف وتأليف ونسج ونسج‪ ،‬وصياغة وصياغة وتتفاوت مراتب املفاضلة تفاوتا ً شديدا ً‪ ،‬وتشتد‬ ‫املفاضلة أيضا ً بني بعض الكالم وبعضه‪ ،‬ويتقدم من اليشء اليشء"‪.‬‬ ‫_______________________‬

‫‪ .32‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ ،‬ص ‪.18-17‬‬ ‫‪ .33‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬ص ‪.18-17‬‬

‫‪ .34‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.29-28‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫ويؤكد الجرجاين أ ّن القسم التخيييل يف البالغة هو الذي ال ميكن أن يقال‪ :‬إنّه صدق‪ ،‬وإنّ ا أثبته ثابت وما نفاه‬ ‫منفي‪ ...‬ال يكاد يحرص إال تقريباً‪ ،‬وال يحاط به تقسيامً وتبويباً‪....‬‬ ‫ومثاله قول أيب متّام‪:‬‬ ‫" ال تنكري عطل الكريم من الغنى‬

‫فالسيل حرب للمكــــــان العايل‬

‫فهذا قد خيل إىل السامع‪ ،‬أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلو والرفعة يف قدره‪ ،‬وكان الغنى كالغيث يف حاجة‬ ‫الخلق إليه وعظم نفعه‪ ،‬وجب بالقياس أن ينزل عن الكريم‪ ،‬نزول ذلك السيل عن الطود العظيم‪ ،‬و معلوم أنّه‬ ‫قياس تخييل وايهام ال تحصيل وال إحكام‪ ،‬فالعلة أ ّن السيل ال يستقر عىل األمكنة العالية‪ ،‬إ ّن املاء سيال ال يثبت‬ ‫إالّ إذا حرص يف موضع له جوانب تدفع عن االنصباب‪ ،‬ومتنعه عن االنسياب‪ ،‬وليس يف الكريم واملال يشء من هذه‬ ‫الخالل"‪.‬‬ ‫ومثال آخر أقوى من أن يظن حقا ً وصدقاً‪ ،‬وهو عىل التخيل قول أيب متّام‪" :‬وتكلم عىل عالقة التخييل باملعقول‪،‬‬ ‫بالكذب والصدق وفصل بني املعنى الحقيقي والتخييل‪ ،‬وأشار إىل التخييل الشبيه بالحقيقة مبا أصله تشبيه وإىل‬ ‫أ ّن األخذ والرسقة يكونا يف التخييل ال املعقول‪ ،‬وذلك مع حسن التعليل أو بغري تعليل‪ ،‬وتحدث عن العالقة بني‬ ‫االستعارة والتخييل" ‪...‬‬ ‫"ونشري يف نهاية الكالم عىل التخييل‪ ،‬إىل أ ّن النقّاد العرب القدامى مل يربطوا بني الصورة والخيال‪ ،‬الستقالل‬ ‫مفهومي هذين العنرصين‪ ،‬حتى إ ّن النقد األديب الحديث مل يربط بينهام إال منذ عهد قديم‪ .‬وقد تأثر هؤالء النقاد‬ ‫بنظرية املحاكاة األرسطوية وعدوها مرادفة للمجاز من استعارة وكناية وغريهام"‪.‬‬ ‫أما الفصاحة عند عبد القاهر الجرجاين يف نظرية البالغة‪ ،‬ال تنفصل عنها‪ ،‬وال تخرج عن حيزها‪ .‬وال تنحرص‬ ‫بالنتيجة يف الكلمة املفردة أو حروفها‪ ،‬وأصواتها إذ "ال نظم يف الكلم‪ ،‬وال ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض‪ ،‬ويبنى‬ ‫بعضها عىل بعض وتجعل هذه بسبب من تلك"‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .42‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬ص ‪.231‬‬ ‫‪ .43‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬ص ‪.238‬‬ ‫‪ .44‬محمد غنيمي هالل‪ .‬النقد االديب الحديث‪ .‬ص ‪.162‬‬ ‫‪ .45‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.47-44‬‬


‫ننصب لها قياساً ما وأن نصفها وصفاً مجمالً‪ ،‬وإنّ ا يجب‬ ‫"واألمر نفسه ينطبق عىل علم الفصاحة‪ ،‬إذ ال يكفي أن ّ‬ ‫نفصل القول فيام نقول‪ ،‬وأن نضع اليد عىل الخصائص التي تعرض يف نظم الكالم‪ ،‬وإن نعدها‬ ‫أن نعرف كيف ّ‬ ‫واحدة واحدة ونسميها شيئاً شيئاً‪ .‬إ ّن هذه املهمة امللقاة عىل عواتق البالغيني ليست بسهلة وإنّ ا تتطلب الصرب‬ ‫عىل التأمل‪ ،‬واملواظبة عىل التدبري‪ ،‬واملهة التي ال تقنع إالّ بالتامم وبلوغ الغاية مهام جشمها ذلك"‪.‬‬ ‫"إذا ً البالغة ليست غاية لذاتها‪ ،‬بل هي وسيلة لتأدية املعنى‪ ،‬يف أوضح صورة وأجالها‪ .‬وذلك يف األلفاظ مختارة‪.‬‬ ‫وهذه البالغة يتطلبها املعنى طوعاً دون إكراه أو تعمل حتى لو خال منها النظم لفسد واختل بيانه" ‪ .‬وكأنّه‬ ‫رضورة الزمة يف الكالم الفني‪ ،‬والبالغة ما أتت عفو الخاطر بعيدة عن التكلف والتصنع‪.‬‬ ‫وحني تناول الجرجاين أجزاء البالغة بالبحث والتفصيل‪ ،‬ورأى أ ّن "االستعارة"‪ ،‬ذات أساس عقيل‪ ،‬وسبيلها كالم‬ ‫محذوف‪ ،‬يلوح منه أمر عقيل صحيح‪ .‬وإلثبات هذا األمر يورد قول النبي (ص)‪" :‬املؤمن مرآة املؤمن"‪ .‬يف هذا‬ ‫القول استعارة وغايتها ليس إثبات املرآة من حيث الجسم الصقيل لكن من حيث الشبه املعقول وهي كونها سبباً‬ ‫للعلم مبا لوالها مل يعلم‪ ،‬أل ّن ذلك العلم طريقة الرؤية‪ ،‬وال سبيل إىل أن يرى اإلنسان وجهه إال باملرآة‪ .‬وما جرى‬ ‫مجراها من األجسام الصقيلة‪ ،‬فقد جمع بني املؤمن واملرآة يف صفة معقولة‪ ،‬وهي أ ّن املؤمن ينصح أخاه ويريه‬ ‫الحسن من القبيح كام ترى املرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخالفه‪ .‬وكذلك قوله (ص)‪ ":‬اياكم‬ ‫وخرضاء الدمن"‪" .‬معلوم أن ليس املقصود إثبات معنى ظاهر اللفظتني‪ ،‬ولك ّن الشبه الحاصل من مجموعهام‬ ‫وذلك حسن الظاهر مع خبث األصل"‪ .‬أما التخيل " فهو ما يث ّبت فيه الشاعر أمرا ً هو غري ثابت أصالً‪ .‬ويدعي‬ ‫دعوة صعبة التحقيق‪ ،‬ويصدر قوالً يخدع فيه حتى نفسه‪ .‬وبالتايل ليست االستعارة من التخيل بيشء"‪.‬‬ ‫إ ّن هذا التحديد متأثر مبا جاء عند الفالسفة اليونان والعرب‪ ،‬فابن سينا يرى أ ّن الكالم املخيل هو" الذي ينفعل به‬ ‫املرء انفعاالّ نفسانياّ غري فكري‪ ،‬وإن كان متيقن الكذب"‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .38‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.31‬‬ ‫‪ .39‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬ص ‪.10‬‬ ‫‪ .40‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬ص ‪.238‬‬ ‫‪ .41‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬ارسار البالغة‪ .‬ص ‪.238‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ اتبع نداء األرض‪ ،‬وأمرها مبا هو شأنها‪ ،‬نداء السامء وأمرها كذلك مبا يخصه‪.‬‬‫ قيل وغيض املاء "فجاء الفعل عىل صيغة " فُ ِعل‪ ،‬الدالة عىل أنّه مل يغض إالّ بأمر آخر‪ ،‬وقدرة قادر‪.‬‬‫ تأكيد ذلك وتقريره‪ ،‬بقوله تعاىل "قيض األمر"‪.‬‬‫ ثم ذكر ما هو فائدة هذه األمور وهو " استوت عىل الجودي"‪.‬‬‫ إضامر السفينة قبل الذكر‪ ،‬كام هو رشط الفصاحة والداللة عىل عظمة الشأن‪.‬‬‫ مقابلة قيل يف الخامتة مع ما قيل يف الفاتحة‪ .‬أترى ليشء من هذه الخصائص متلؤك‪ ،‬باإلعجاز روعة‪ ،‬وتحرضك‬‫عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ‪ ،‬من حيث هو صوت مسموع‪ .‬وحروف تتواىل يف‬ ‫النطق؟ أم كل ذلك ملا بني معاين األلفاظ من االتساق العجيب؟"‪.‬‬ ‫تساؤالت جرجانية تضع السامع يف واجهة أحاسيسه النفسية‪ ،‬والفنية‪ ،‬ليستفتيها من أين تنبع؟ ومن أين تتأجج‬ ‫تلك الهزة الروحية؟ وتلك الرعشة الداخلية املريحة التي تغمره لدى سامع تلك اآلية أو قراءتها‪.‬‬ ‫وقد حظيت االستعارة بلفظة إبداعية من عبد القاهر أثناء بحثه لعالقة اللفظ والنظم‪ ،‬ما يتصل بهذه االستعارة‬ ‫يشمل مختلف أنواع البالغة من تشبيه‪ ،‬وتخييل وكناية ومجاز‪....‬‬ ‫ويف اإلجابة عن سؤال‪ :‬أين تكمن املزية يف اللفظ أم يف النظم؟ يقول‪ ":‬إ ّن الكالم أنواع ثالثة واحد ما يرجع حسنه‬ ‫للفظ دون النظم‪ ،‬وأخر يرجع حسنه للثاين دون األول‪ ،‬وثالث يعود الحسن فيه لإلثنني معاً‪ ،‬ويف هذا النوع األخري‬ ‫يقع الغلط‪ ،‬ويكرث اإلشكال‪ ،‬ويتحري املرء بني اللفظ والنظم‪ ،‬ويرجح القول إ ّن يف االستعارة ما ال ميكن بيانه إالّ من‬ ‫العلم بالنظم والوقوف عىل حقيقته ومن خالل تحليله لالستعارة الواردة يف قوله تعاىل‪" :‬واشتعل الرأس شيبا"‪.‬‬ ‫يرى أ ّن أهمية االستعارة وقيمتها‪ ،‬ال تعودان ملجرد االستعارة‪ ،‬بل تكمنان يف نسق ألفاظها ونظم كلمها املتمثلني‬ ‫مبا ييل‪:‬‬ ‫‌أ‪ -‬اسناد الفعل اىل غري فاعله الحقيقي‪ ،‬إذ االشتعال للشيب لك ّنه أسند للرأس‪.‬‬ ‫‌ب‪ -‬‬

‫نتج عن هذا اإلسناد زيادة تأكيد معاين الشيب وتوهجه‪ ،‬وإفادة معنى الشمول النتشار مظهر الشيب يف‬

‫الرأس‪ ،‬وأخذه من جميع نواحيه قد استعر به وعم جملته‪ ،‬ومل يبق منه أي يشء‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .48‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.37-36‬‬


‫ويف الرد من يستغرب قوله هذا‪ ،‬يرى أ ّن الفصاحة يف املعنى دون اللفظ‪ ،‬ويخطئهم يف قولهم‪ :‬هذا لفظ فصيح‬ ‫وهذه ألفاظ فصيحة‪ .‬وال نرى عاقالً يقول هذا معنى فصيح‪ ،‬هذه معان فصاح‪ :‬ولو كانت الفصاحة يف املعنى‬ ‫لكان ينبغي أن يقال ذاك‪ ،‬كام أنّه ملا كان الحسن يكون فيه قيل‪ .‬هذا معنى حسن وهذه معان حسنة‪ .‬وهذا يشء‬ ‫يأخذ من الغر مأخذا ً‪.‬‬ ‫ويوضح "إ ّن الفصاحة تكون يف املعنى واملزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنّه فصيح عائدة يف الحقيقة‬ ‫إىل معناه‪ .‬واللفظة تكون يف غاية الفصاحة يف موضع ونراها بعينها فيام ال يحىص من املواضع‪ ،‬وليس فيها من‬ ‫الفصاحة قليل وال كثري‪ ،‬أل ّن املزية التي من أجلها نصف اللفظ بأنّه فصيح‪ ،‬مزية تظهر يف الكلم من بعد أن‬ ‫يدخلها النظم"‪.‬‬ ‫إذن‪ ،‬اللفظة ال تلحقها الفصاحة إذا رفعت من سياق التعبري‪ ،‬وقد يسامح عبد القاهر من يتوهم أ ّن للفظة يف‬ ‫االستعارة فصاحتها املميزة‪ ،‬لكن يف غري االستعارة ال يسامح‪ ،‬وال يصح – يف رأيه – أن يتوهم ذلك إنسان عاقل‪.‬‬ ‫وللداللة عىل صحة آراء هذا الناقد يف فصاحة هذه املفردة يف التعبري نسوق تحليله لآلية القرآنية‪:‬‬ ‫( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سامء اقلعي‪ ،‬وغيض املاء‪ ،‬وقيض األمر واستوت عىل الجودي وقيل بعدا ً للقوم‬ ‫الظاملني)‪.‬‬ ‫يف هذه اآلية كثري من مظاهر اإلعجاز التي تبهرنا بأرسارها حني نسمعها‪ ،‬وللرد عىل من يشك بأ ّن هذه املظاهر‬ ‫ترجع إىل ارتباط كلامت هذه اآلية بعضها ببعض يقول‪:‬‬ ‫"إن شككت فتأمل هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بني أخواتها وأفردت ألدت من الفصاحة ما تؤديه‬ ‫وهي يف مكانها من اآلية؟ قال " ابلعي" واعتربها وحدها من غري أن تنظر إىل ما قبلها وإىل ما بعدها‪ ،‬وكذلك‬ ‫اعترب سائر ما يليها‪.‬‬ ‫ نوديت األرض ثم أمرت‪.‬‬‫ النداء " يا " دون "أي" نحو يا أيتها األرض‪.‬‬‫ إضافة املاء إىل "الكاف" دون أن يقول " ابلعي املاء"‪.‬‬‫_______________________‬ ‫‪ .46‬عبد القاهر الجرجاين دالئل االعجاز‪ .‬ص ‪.339 -309 -307‬‬ ‫‪ .47‬القرآن الكريم‪ .‬سورة هود‪ .‬اآلية‪ ، 44‬ص‪226‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫واتضح لدينا أن كثريا ً من اآلراء التي طرحتها املدارس الحديثة ليست إال رؤى متطورة ألساليب البالغة العربية كام‬ ‫جاء لدى (روالن بارت) و(رومان جاكبسون) مثالً‪ .‬‏‬ ‫فقد كشفنا عن بنية جاملية ألسلوب الخرب واإلنشاء؛ باعتباره بنية غري محايدة؛ علامً أنّها منفتحة عىل عامل المتنا ٍه‪،‬‬ ‫ألنّها مل تكن إشارات لغوية اعتباطية‪ .‬لهذا كله أكدت أنّها بنية جاملية فنية تحمل رسائل إيحائية عديدة‪ .‬فام‬ ‫جاء به الجرجاين والزمخرشي وغريهام سبقوا به نقاد الغرب‪ ،‬وإن ذهب به هؤالء بعيدا ً مبا يوافق أدبهم‬ ‫وفلسفتهم ‪.‬وكذلك أثبتت دراسة جاملية الخرب واإلنشاء وأغراضهام أ ّن أساليبهام كلها كانت مامرسة نقدية ُحرة‬ ‫مرتبطة بوظائف نفسية وموضوعية وفنية عالية‪ .‬‏‬ ‫فكل أسلوب يف بنيته من اللفظ إىل الرتكيب ويف عملية االستبدال والتوزيع؛ ويف مفهوم االنزياح عن معيار النحو‬ ‫كان يتهيأ لجاملية خاصة وفريدة عند الجرجاين يف مفهوم الجوار واالختيار يف النسق الرتكيبي‪ .‬‏‬ ‫إ ّن دراستنا الجاملية التي استندت إىل التحليل وال َف ْحص الدقيق لكل أسلوب هيأت لنا إضافة العديد من األساليب‬ ‫والنظرات مل يعرفها القدماء كام وقع لدينا خاصة يف األساليب املجازية للخرب كالوعد والوعيد والتبكيت والتوبيخ‬ ‫والضعف والعجز والحث عىل السعي والجد‪ ،‬وعدد من أساليب األمر والنداء والنهي والتمني واالستفهام‪ .‬‏‬ ‫َّ‬ ‫بالضورة أن يحتمل الصدق أو الكذب بشكل دائم ولك ّنه قد يصبح منطاً فنياً‬ ‫وتبينا يف الوقت نفسه أن الخرب ليس َّ‬ ‫يحتمل الصدق وحده باعتبار قائله أو باعتبار مقام املخاطب والحال والواقع الحقيقي أو الفني وبهذا ارتبط‬ ‫املفهوم الجاميل البالغي باملفهوم الجاميل النقدي‪ ،‬ثم بالوظيفة التي يستند إليها كل منهام‪ .‬‏‬ ‫وإذا كان الخطاب اإللهي قد متيز بإعجازه الفريد البديع فإ ّن الدراسات اإلعجازية ق َّدمت الكثري من األساليب‬ ‫واألفكار إىل اللغة‪ .‬ومن ثم عززت البالغة األدبية‪ ،‬وط َّورت وجهتها الوظيفية؛ وطبيعتها الفن ّية‪ ،‬وأغنتها مبفاهيم‬ ‫كثرية وال سيام ما يتعلق باملصطلحات‪ .‬وكان عبد القاهر الجرجاين والزمخرشي فردين متميزين يف هذا املجال‪.‬‬ ‫وبذلك كله صارت البالغة العربية ممثلة لروح اللغة العربية؛ وأداة نقديّة ف ّعالة يف استنباطنا ملفاهيم بالغية‬ ‫جديدة ومن ثم تعزيز قدرة النقد عىل التحليل‪ .‬‏‬ ‫فلم تعد مجرد وسيلة لتشخيصهام؛ ألنّها هي التي دفعتنا إىل استكناه مفهوم (استعامل لفظ مكان لفظ)؛ ثم‬ ‫و ّجهنا خروج أسلوب الكالم عىل مقتىض الظاهر وفق تص ّور املتكلم توجيهاً جديدا ً مفيدين يف ذلك من بعض‬ ‫النقاد املحدثني‪ ،‬فضالً عام ُسقْناه قبل قليل من قضايا جديدة‪.‬‬


‫‌ج‪ -‬هذه األوصاف واملالمح ال تتوفر لو غ ّرينا نسق الكلامت كأن نقول‪ :‬واشتعل شيب الرأس‪ ،‬أو اشتعل الشيب يف‬ ‫الرأس أو ال يخفى عىل أحد ما تفقد هذه االستعارة من حسن وفخامة وروعة إذ غ ّرينا نسق مفرداتها"‪.‬‬ ‫وبنتيجة عرض مجموع هذه االستعارات وتحليلها يصل عبد القاهر الجرجاين إىل "إبطال ثنائية التعبري املزخرف‬ ‫والتعبري العاري‪ ،‬ويظهر أ ّن قيمة التشبيه واالستعارة واملجاز والكناية‪ ،‬وغريها من األوجه البالغية ليست كامنة يف‬ ‫هذه األوجه بذاتها‪ ،‬بل هي عائدة اليها بفعل امتزاجها بغريها من عنارص التعبري األديب‪ ،‬وانصهارها به"‪.‬‬ ‫الخامتة‪:‬‬ ‫امتازت البالغة العربية بعدد من األساليب‪ ،‬فاختلفت بنيتها أو صياغتها تبعاً للوظيفة والهدف‪ .‬وملا أكدت هذه‬ ‫األساليب اتصال البنية باملعنى) الوظيفة والهدف) كانت تنصهر بالوجدان وعواطف املتكلم واملخاطب عىل‬ ‫السواء النتظام صالح النسق البالغي‪ ،‬وثراء فضائه الفني والفكري‪ .‬‏‬ ‫وملا ظلّت رؤية البالغيني العرب القدامى مشدودة إىل الوظيفة البالغية وفق الرؤية الجزئية –إذا استثنينا القليل‬ ‫منهم؛ كعبد القاهر الجرجاين والزمخرشي – خرجنا إىل مفهوم الشمول بدراسة أسلوب الخرب واإلنشاء ليغدو‬ ‫أسلوباً نقدياً يزود النقاد قدمياً وحديثاً بأدوات التشكيل البالغي وهي أدوات تشكيل نقديّة‪ .‬ومن ثم صار‬ ‫األسلوب البالغي قراءة جاملية مرتبطة بالبنية وسياقها ووظيفتها وهدفها يف اتفاقها مع روح اللغة وطبيعتها‬ ‫مفيدين من الدراسات اإلعجازية من جهة ومن الدراسات الحديثة بكل أصنافها بالغية ولسانية‪ ،‬أسلوبية ولغوية؛‬ ‫أدب ّية وفن ّية ونقديّة من جهة أخرى‪ .‬ولعل ذلك كله قد ك َّون مالمح رؤية نقديّة متقاربة للقدماء يف الظاهرة‬ ‫البالغية وإن مل تكن موحدة ‪.‬وعىل الرغم من ذلك مل تأخذنا دهشة التطور الفكري والفني مبا قاموا به جميعاً‬ ‫فكنا نحلّل األسلوب الحقيقي واملجازي‪ ،‬ونجري عليه فَ ْحصاً فنياً ونقدياً وبالغياً ولغوياً لنكشف عن عنارص الجامل‬ ‫فيه‪ .‬فناقشنا كثريا ً من النظريات واآلراء يف إطار تاريخيتها‪ ،‬ويف إطار املوازنة مع العديد من التصورات النفسية‬ ‫والتحس‪ ،‬والفخر والتفاخر من األغراض‬ ‫والض ْعف‬ ‫واالجتامعية كام هو يف عدد من املواضع كالوعد والوعيد َّ‬ ‫ّ‬ ‫املجازية للخرب؛ وكذلك فعلنا يف أسلوب األمر والتمني والنداء من أغراض اإلنشاء‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .49‬عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬ص‪.80-78‬‬ ‫‪ .50‬خليل أبو جهجه‪ .‬رؤى نقدية‪.‬بريوت‪ ،‬اتحاد الكتاب اللبنانيني‪ ،‬الط‪ ،‬الت‪ ،‬ص ‪.60‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ دهامن‪ ،‬أحمد عيل‪ .‬الصور البالغية عند عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دمشق‪ ،‬دار طالس للدراسات والرتجمة والنرش‪،‬‬‫طبعة أوىل‪ ،‬جزء أول‪.‬‬ ‫ سعد‪ ،‬محمود توفيق محمد‪ .‬نظرية النظم وقراءة الشعر عند عبد القاهر الجرجاين‪ .‬دمشق‪ ،‬اتحاد الكتّاب‬‫العرب‪ ،‬ال طبعة‪2001 ،‬م‪.‬‬ ‫ فهمي‪ ،‬ماهر حسني‪ .‬املذاهب النقديّة‪ .‬القاهرة‪ .‬مكتبة النهضة العرب ّية‪ ،‬ال طبعة‪.1962 ،‬‬‫ قطب‪ ،‬سيّد‪ .‬النقد األديب أصوله ومناهجه‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الرشوق‪ ،‬الطبعة الثانية‪1983 ،‬م‪.‬‬‫ مندور‪ ،‬محمد‪ .‬النقد املنهجي عند العرب‪ .‬مرص‪ ،‬دار نهضة مرص للطبع والنرش‪ ،‬ال طبعة‪ ،‬ال تاريخ‪.‬‬‫ محمد مندور‪ .‬األدب ومذاهبه‪ .‬مرص‪ ،‬دار نهضة مرص للطباعة والنرش‪،‬الط‪.2006 ،‬‬‫ هالل‪ ،‬محمد غنيمي‪ .‬النقد األديب الحديث‪ .‬بريوت‪ ،‬دار الثقافة ودار العودة‪ ،‬ال طبعة‪1973 ،‬م‪.‬‬‫‪ -‬ويكبيديا‪ ،‬املوسوعة الح ّرة‪.‬‬


‫ولعل املرء ال يغفل ما انتهت إليه جاملية الخرب واإلنشاء من االعتامد عىل ال ّنص القرآين‪ ،‬والحديث الرشيف‪،‬‬ ‫والشواهد الشعرية القدمية والحديثة فكنا نشفع كل أسلوب ب َعد ٍد غري قليل منها‪ ،‬مع التمثيل لها بكالم نرثي من‬ ‫عندنا إمعاناً م ّنا يف إيضاح األسلوب وإبراز طبيعته ووظيفته وجامليته‪ .‬‏‬ ‫وإذا كنا عمدنا إىل عدم تخريجها من دواوين أصحابها لكرثتها فال يعني ذلك أننا مل نوثقها‪ ،‬ومل نضبط أكرثها‪ ،‬وال‬ ‫سيام املُش ِكل منها؛ فضالً عن أنّها مستقاة جميعها من مصادر البالغة ومراجعها من الدواوين واملجموعات‬ ‫الشعرية‪ .‬‏‬ ‫إن قراءتنا الجاملية انطلقت من بنية اللغة ذاتها؛ وهذا فرض علينا أن نشري يف مواضع عدة إىل طبيعة األسلوب‬ ‫اللغوي لنتوصل منه إىل إدراك جامليته البالغية والفنية‪ .‬أي كنا ننتقل من طبيعة اللغة وفضاءاتها إىل فضاءات‬ ‫األساليب ووظائفها ومبنهج يكاد يكون مطّردا ً؛ عىل حني قرص القدماء عنايتهم إ ّما عىل اللغة وإ ّما عىل البالغة‪.‬‬ ‫فأهل اللغة كانوا يقفون عند اللغة لفظاً وتركيباً وأحواالً من جهة اإلعراب والبناء‪ .‬وأهل البالغة كانوا يعمدون إىل‬ ‫االتجاه البالغي يف البنية اللغوية ليس غري‪ .‬وملا جمعنا بني هذا وذاك مل نتغافل عن البالغة القرآنية‪ ،‬وعن‬ ‫الدراسات األسلوبية والنقدية الحديثة‪ .‬‏‬ ‫قامئة املصادر واملرجع‪:‬‬ ‫ ابن قدامة‪ ،‬جعفر‪ .‬نقد النرث‪ .‬بريوت‪ ،‬املكتبة العلميّة‪ ،‬ال طبعة‪ ،‬ال تاريخ‪.‬‬‫ ابن قتيبة‪ .‬الشعر والشعراء‪ .‬مرص‪ ،‬دار املعارف‪ ،‬ال طبعة‪1966 ،‬م‪ ،‬جزء أول‪.‬‬‫ أبو جهجه‪ ،‬خليل‪ .‬رؤى نقديّة‪ .‬بريوت‪ ،‬اتحاد الكتّاب اللبنانيني‪ ،‬ال طبعة‪ ،‬ال تاريخ‪.‬‬‫املؤسسة املرصية العامة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬ال تاريخ‪.‬‬ ‫ بدوي‪ ،‬أحمد أحمد‪ .‬عبد القاهر وجهوده يف البلغة‪ .‬القاهرة‪ّ ،‬‬‫ الجرجاين‪ ،‬عبد القاهر‪ .‬أرسار البالغة‪ .‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬ال طبعة‪1978 ،‬م‪.‬‬‫ الجرجاين‪ ،‬عبد القاهر‪ .‬دالئل االعجاز‪ .‬تحقيق محمد رشيد رضا‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪ ،‬ال طبعة‪1978 ،‬م‪.‬‬‫ جمعي‪ ،‬األخرض‪ .‬اللفظ واملعنى يف التفكري النقدي والبالغي عند العرب‪ .‬دمشق‪ ،‬اتحاد الكتّاب العرب‪ ،‬ال طبعة‪،‬‬‫‪2002‬م‪.‬‬ ‫ خلف الله‪ ،‬محمد‪ .‬من الواجهة النفسية يف دراسة األدب ونقده‪ .‬القاهرة‪ ،‬معهد البحوث والدراسات العربيّة‪،‬‬‫طبعة‪1970 ،2‬م‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫نظر إ ّيل نظرة غلّفتها الشكاية والع ّدية ‪،‬فهتف يف صوت خافت مبلول بالعرس والخف ّية ‪:‬أمل أقل لك أن للزمن أيا ٍد‬ ‫الحب‪،‬وأسدلت ستائر ال ّدجى‪،‬واحتفلت بلؤم الحيّة الرقشاء‪،‬‬ ‫الضنى ‪،‬وكواها الجنى ‪،‬فأوقفَت لوعة‬ ‫طواها ّ‬ ‫ّ‬ ‫فرقصت عىل رفات النسائم البغضاء‪.‬‬ ‫واسدل كلامته بحزن دفني ‪:‬أتدري يا نديم العمر أن لإلنسان دفرت حيك له سداد األيام وأنا حيك يل املرارة‬ ‫الصعداء اقتلعت معها غبار اآلهات ‪،‬عندها تركت مكاين وعدت أدراجي وسافرت مع أمنيايت إىل‬ ‫وال ّرجام‪...‬فتن ّهد ّ‬ ‫أقايص األرض علّني أجد منفذا ً من سقطات ال ّرياح وغدر ال ّدهور‪.‬‬ ‫عندها طويت ساعات عميل ‪،‬وتشبثت بحلمي املتعطش اليقاظ االنسان يف داخيل ‪،‬وجلست مرتبعاً عىل ذاك‬ ‫الرصيف مداعباً أحجاره الصامتة ‪،‬فانهارت الكلامت مدرارا ً وسقطت من عل ّو شاهق ‪:‬أنت هنا ترى الوجوه‬ ‫الشاخصة ‪،‬وتحايك القلوب الجافية‪،‬وتلمز العيون البائسة‪ ،‬واالكتاف البئيسة وملا تكفيك هذه الجوارح الضارية‬ ‫والحطام الراكدة‪.‬‬ ‫عندها نظر اىل سامء صافية ترتل أغنية الصربواالرادة وقال‪:‬هو حايل ‪،‬هو قدري ‪.‬تاهت يب الساعات لخسارة ابنايئ‬ ‫عش جميل هادئ‬ ‫ومنزيل يف حريق ه ّدم كل آمايل ‪،‬وقىض عىل كل أحالمي‪،‬وقىض ريب أن أركن الرصيف ‪،‬بدالً من ّ‬ ‫أغزوه حني اشعر بعطش الحب ‪،‬وثروة العطف‪.‬‬ ‫هذا عبق النسيم مل أعد أشتمه ‪،‬ومل اعد ألجأ اىل ركنه‪.‬آه ‪،‬كم طويل درب الجلجلة !‬ ‫وبعد حني من ال ّزمن قصدتُ ملتقى األحزان يك أفتّش عن ذاك الكهل‪ ،‬فعلمت أنه مات قتيالً عىل أرصفة الطّرقات‬ ‫الجراح‪،‬حينهاأيقنت أن الحياة سلبته السعادة وأقفلت يف‬ ‫بعد أن دهسته سيارة املوت ‪،‬وجعلته أرجوحة يف أيدي‬ ‫ُ‬ ‫وجهه سبل الهناء‪،‬ورجمت أحالمه وصفاءه‪،‬وأثلجت نعامءه‪،‬وبخلت عليه بالشقاء واألمل والعذاب‪ ،‬فشعرباشتياق‬ ‫إىل الرحلة األبدية ‪،‬والحلم الهزيل ملالقاة تراب الع ّزة واألنفة‪،‬فرحل مو ّدعاً فضائل املكارم‪ ،‬مرتدياً ثوب الهجران‬ ‫‪،‬فبات بني أحضان ال ّدعة والسلوان‪.‬‬ ‫السالم والرضوان يف كنف‬ ‫أتدري يا عاشق ال ّنوم الطويل أن لإلنسان دفرت حيك له يف سداد األيام‪،‬وأنت حيك لك ّ‬ ‫السهام‪،‬فنم قرير العني ساكن الروح يا صاحب الع ّزة والوئام‪.‬‬ ‫بارئ الكون ‪،‬فقهرت رضاغمة اللئام وحجبت فحيح ّ‬


‫لؤم الحيّة الرّقشاء‬ ‫د‪ .‬مرياي أبو حمدان‬ ‫عرفته كهالً‪،‬وحسبته ضعفاً‪،‬وطويته ثقالً حتّى صادفته م ّرات ع ّدة يف‬ ‫املكان نفسه من هذا العامل ‪،‬وتساءلت يف صميم قلبي كم يومه ثقيل‬ ‫كل لحظة كانت نفيس تدغدغ أفكاري أ ّن‬ ‫وليله طويل وأمله مربح‪،‬ويف ّ‬ ‫لهنيهة الوقت خواتيمها فال ب ّد أن تركن جانباً وتسري بعيدا ً عن مآيس‬ ‫الزمن‪.‬‬ ‫كل صباح ألتقي وجهه املتش ّعب بالتجاعيد ‪،‬وعينيه املضيئتني بوجع‬ ‫يف ّ‬ ‫رضجتني بوشاح الفقر ‪،‬فيرتاقص عىل وجنتيه رصير‬ ‫الحياة ‪،‬وشاربيه امل ّ‬ ‫البؤس ومالمح الشّ قاء ‪،‬ويسبح فوق مشيبه حرشجة التّعب ‪،‬وخوف‬ ‫ال ّزمان ‪،‬وضغينة الخلق‪.‬‬ ‫مي ّد يديه اململوءتني قهرا ً وحرقة ‪،‬ويتس ّول ماالً قليالً فيحصد ذالً كثريا ً ‪،‬ويدعو يل باألمل السديد والعمر املديد‪.‬‬ ‫فأنظر إليه نظرة تك ّرس الواجب األخالقي ‪،‬وتد ّعم الروح اإلنساين ‪،‬وأسأله عن حاله ‪،‬فيجيب ممتشقاً جنود‬ ‫األىس‪:‬حايل ‪،‬أين هو حايل؟هائم يف طوى اللوعة والعذاب‪،‬أستكني زاوية أرمي فيها أوجاعي وأحزاين وسوء بقايئ‪.‬‬ ‫كان مييل إىل الشاعرية يف التفكري ‪،‬وصدق يف الكالم ‪،‬ونبل يف النفس ‪،‬وفطنة يف الجواب وخضوع يف أنسه‪،‬وكيف ال‬ ‫؟وقد وضعه القدر أمام هول التّجارب ‪،‬وسندان الفقر والحاجة‪،‬فرتاه يلمز إىل العتب من ذرائع الزمن ‪،‬وحقد‬ ‫األنكاد ‪،‬وبعد املراد‪.‬‬ ‫والصفاء أردت ان أعتكف صحبة األخيار وولع اإلمتاع‪،‬وألتمس عاملاً وحيدا ً بعيدا ً‬ ‫ويف يوم مشمس بعطر املحبة ّ‬ ‫جدا ً عن عامل ال ّنعامء‪،‬وأهجر إىل حضن الظّالل والهجري واألفياء‪ ،‬وأغرق يف عروق الجوى واللّظى‪.‬فجلست معه عىل‬ ‫كل يوم مهيب وسقيم ‪،‬ويفرتش أرض النسيان ويلتحف ه ّم األمان‪.‬ق ّدمت له‬ ‫قارعة الطريق الذي يأوي إليه ّ‬ ‫سيجارة ‪،‬فأخذها وبدأ يلتفت إليها مينة ويرسة كأنها تحفة يحاول أن يحميها من غدر األنام ‪،‬فأشعلتها له‬ ‫وقلت‪:‬أنفخ أوجاع ال ّزمان ‪،‬وذلّل عقبات الساعات ‪،‬واغضض نظرك عن سنا املشقّات ‪،‬وح ّدق يف محاسن الليايل‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫يف رأيي ما ينتجه املواطن العريب من نتاج يف مجال الثقافة واإلبداع عرب العامل ‪ ،‬هو مجهود فردي ‪ ،‬لكتاب كبار‬ ‫ومبدعني ينشطون هنا وهناك ‪ ،‬خارج إطارحكومي نظامي ‪ ،‬او تحت رعاية الوزارة املعنية للمبدع ‪ ،‬وبدون أي‬ ‫مساعدة من طرف الدول ‪ ،‬كام يحدث يف الجزائر لألسف ‪ ،‬منذ أكرث من نصف قرن والشللية تأكل يف حق الشعب‬ ‫وغيبته متاما عن الثقافة وحقه يف األخذ عىل عاتقه البناء الثقافة واالستفادة من امتيازات الوزارة املعنية التي‬ ‫أصبحت ملك ألشخاص معينني‪.‬‬ ‫ومنح الوزير صالحيات كاملة لالستفادة من أموال الدولة ‪ ،‬وتهميش املثقف واألديب الجزائري الذي أصبح يجتهد‬ ‫ويخدم الثقافة بجهده الخاص ‪ ،‬ورغم ذالك يعترب األديب واملثقف الجزائري كنموذج ‪ ،‬انترص عىل كل العراقيل يف‬ ‫ظل حرية التعبري ‪ ،‬التي منحتها له النضاالت املستمرة ‪ ،‬والتظاهرات السلمية التي استطاعت ان تغري النظام‬ ‫وتجربه عيل الرحيل ‪ ،‬هذا الحراك الشعبي الذي أعطى للعامل دروسا يف األخالق والتسيري املنظم والسلمي والرتبية‬ ‫وحب الوطن ‪ ،‬وأيضا التكنولوجيا الحديثة وشبكة التواصل االجتامعي التي فتحت له الفرص لالنطالق بأدبه عرب‬ ‫العامل ‪ ،‬والذي قيمه وكرمه مع إخوانه العرب ‪.‬‬ ‫أما فيام يخص األلعاب االلكرتونية التي رمبا دمرت بعض الشباب العريب ‪ ،‬يف غياب التوجيه والتوعية بأخطار هذه‬ ‫األلعاب من طرف األولياء واملدارس ‪ ،‬وهذا اعتقد راجع للوعي الفكري والرتبوي‪ ،‬والفراغ والحرمان من أشياء‬ ‫كثرية الذي يعيش فيه الشباب العامل العريب‪.‬‬


‫دورالثقافة في تشكيل سلوك اإلنسان وتربيته‬ ‫األديبة والصحفية ‪ /‬سليمة مليزي – الجزائر‬ ‫تعترب الثقافة هي الجوهر األسايس للنهوض بالدول واإلنسان‬ ‫إىل عامل النور والتطور ‪ ،‬وبناء اإلنسان بنا ًء أساسيا‪،‬حتامً سنصل به إيل الحياة‬ ‫الكرمية ‪ ،‬وللثقافة دورها املهم يف تشكيل سلوكاإلنسان أفرادا وجامعات‪،‬‬ ‫فهي املدخل األمثل إلحداث تغيري ذايت وطوعي من طرف اإلنسان ‪ ،‬ألنه‬ ‫يعترب نفسه كمثقف وجب عليه نرش التوعي ًةالتثقيفية يف صفوف املجتمع ‪،‬‬ ‫بكل الوسائل التي ت ُتيح له الفرص لنرش أفكاره القيمة ‪ ،‬من بينها اإلعالم والصحافة املكتوبة‪ ،‬وأيضاً عرب شبكات‬ ‫التواصل االجتامعي التي أتاحت الفرص الكبرية للمثقف يف نرش أفكاره والوعي الشامل لألمة العربية‪.‬‬ ‫فالعامل الرقمي انفتاح كبري أسس حرية التعبري ونرش املعلومة يف ملحة البرص ‪،‬غري ان هناك مشكلة الثنائيات‬ ‫الفكرية الكالسيكية‪ ،‬التي ما تزال تستحوذ عىل الفكر العريب املعارص‪ ،‬خاصة مع بروز مبا يسمى بالربيع العريب ‪،‬‬ ‫الذي جعل الثقافة رهينة السياسة املتعفنة ‪ ،‬والتي أدت بالربيع العريب اىل الخراب والحروب التي دمرت الجزء‬ ‫الجوهري يف العامل العريب ‪،‬كسوريا والعراق وليبيا واليمن ‪،‬مام جعلت الثقافة تتخذ منهجاً سياسياً أكرث منه ثقافياً‪،‬‬ ‫ال يخدم املثقف واألديب واألمة العربية ‪ ،‬لتخرج من رصاع مميت ‪ ،‬ضد الجهل والتطرف الديني‪.‬‬ ‫أما دور املؤسسات الحكومية والوزارات عرب العامل العريب ‪ ،‬فهي متيض‪،‬عىل منهج معني وضيق‪ ،‬حسبام متليه‬ ‫الحكومات املستبدة التي تحكم هذا الوطن ‪ ،‬ألنها يف عمق نفسها ال تريد أن يقوم هذا الشعب ويتطور ويلحق‬ ‫بالركب العاملي يف كل املجاالت ‪ ،‬وخاصة الثقافة والرتبية والعلوم الذين يعتربون الجوهر لبناء اإلنسان ‪ ،‬بنا ًء‬ ‫يغي األفكار الهدامة واملتخلفة للمجتمع‪.‬‬ ‫صحيحا ّ‬

‫طائر الفينيق‬


‫ما يشبه هذه الصورة التخييلية استعملها الكاتب الجزائري (الطاهر وطار) يف روايته‪((:‬العشق واملوت يف الزمن‬ ‫الحرايش))(‪)3‬بطريقة مختلفة‪،‬حيث يحرض املؤلف يف صورة "براهام"الذي شطر جسمه فجعل شطرا ً يف صورة رجل‬ ‫وشطرا ً يف صورة امرأة‪.‬كام وردت بطريقة أخرى لدى الكاتبة املغربية(حليمة زين العابدين)يف روايتها‪(( :‬مل تكن‬ ‫صحراء))(‪)4‬حيث تقول‪:‬‬ ‫((عقدت اآللهة اجتامعا للتفكري يف كيفية الخروج بالكون من حالة الصمت و من فراغها األزيل اململ‪ ،‬املسئم‪...‬‬ ‫بعد تدبر وتأمل طويلني‪ .‬تخلق كائنا يشبهني‪ ،‬لكنه ملتصق بآخر من الظهر‪ ،‬له رأسان وأربعة أياد وأربعة أقدام‪،‬‬ ‫يف حالة اقتتال دائم‪ ،‬شد وجذب عىل الدوام‪)5()).‬‬ ‫الوضع مختلف لدى(سناء شعالن)‪ ،‬فاملرأة التي اختارتها ُليكَّب عىل جسدها دما ُغ هذا الرجل ليست ككل‬ ‫لكن ْ‬ ‫النساء‪((.‬يقولون إنَّها زعيمة وطنية مرموقة يف حزب الحياة املمنوع واملُعارِض)) كاتبة مشهورة ت ُسجن وتُعذَّب‪،‬‬ ‫املهري)شخصاً مأمورا ً يحارب الثوار واملناضلني خدمة لدولة املخابرات‪.‬إنَّه ميلك دماغاً آلياً ويحيا‬ ‫بينام كان (باسل‬ ‫ّ‬ ‫كل إحساس باإلنسانية وبالحب‪.‬يف حني تتم َّيز املرأة بالعطف والحب والحنان‪.‬ومادام كان ينقصه‬ ‫بال قلب‪،‬لقد فَقَد َّ‬ ‫ص ْد ٌر مفع ٌم بالحب والحنان‪ ،‬فال مناص من إكامل ما ينقصه‪.‬ويحصل ذلك بالفعل إذ يلتحم الدماغ بالجسد إىل‬ ‫درجة يصعب فيها التمييز أو يكاد‪:‬‬ ‫((تكاد تكون األمور مختلطة متاماً يف نفسه‪ ،‬فهو ال يعلم إن كان هو هي‪ ،‬أم كالهام هام‪ ،‬أم كالهام ليسا‬ ‫ضمريي هو وهي‪ ،‬ويجيد التفريق‬ ‫هام‪،‬يحتاج األمر إىل طول تفكري وتدبُّر وتنظيم ليع َّد سؤاالً يتقن اللعب عىل‬ ‫ْ‬ ‫بأي شكل من األشكال))(‪.)6‬‬ ‫بينهام‪ ،‬فهو ما عاد قادرا ً عىل ذلك ّ‬ ‫تعب عن حالة عرصنا‪.‬عرص صار فيه اإلنسان أشبه بآلة وهو يحتكم‬ ‫هذه الحيلة األدبية التي تهتدي إليها الكاتبة ِّ‬ ‫ُفضل أن تطري عىل جناح الخيال إىل األلفية‬ ‫إىل رصامة العقل املادية واإللكرتونية‪ ،‬إنَّه زمن الفراغ الروحي‪ .‬لذلك ت ِّ‬ ‫لعل هذا اإلنسان الطائش املغرور أ ْن يكون قد اهتدى إىل رضورة الجمع ْبي العقل والقلب‪.‬إىل هناك‬ ‫الرابعة َّ‬ ‫يستحق العشق‪ ،‬وهو جدي ٌر بأ ْن ينعم بالخلود‪.‬‬ ‫حيث (خالد)األمل الذي ميثِّل رمز اإلنسان الصايف والذي‬ ‫ُّ‬ ‫_______________________‬

‫‪ .4‬ين العابدين‪ ،‬حليمة‪ ،‬مل تكن صحراء‪ ،‬منشورات دار األمان‪،‬الرباط‪2016 ،‬‬ ‫‪ .5‬الرواية ص‪.32 :‬‬ ‫‪ .6‬الرواية‪ ،‬ص‪.48:‬‬


‫و الحب َ‬ ‫سم ُّ‬ ‫ُ‬ ‫‪،‬ف ْيض اللغة‬ ‫((أعشقين))(‪)1‬‬ ‫مخلوف عامر‬ ‫جامعة د‪ .‬موالي الطاهر‬ ‫سعيدة‪-‬الجزائر‬ ‫منذ أن راجت مفاهيم املدارس النقدية املعارصة‪،‬أخذ املُناص يحظى باهتامم الباحثني والنقاد‪ .‬وأصبح العنوان من‬ ‫فلعل كثريين من ال ُكتَّاب يضعونه‬ ‫املت‪َّ .‬‬ ‫املنطلقات األساسية للدخول إىل النص‪ ،‬حني تكون للعنوان امتداداتُه يف ْ‬ ‫اعتباطاً أو لغرض تجاري ال يُرا َعى فيه هذا ال ُب ْعد الذي يجعل منه مفتاحاً أو عالمة مركَّزة تختزل النص بحيث يحيل‬ ‫املت‪ ،‬فال جدوى‬ ‫كالهام عىل اآلخر‪ .‬فإذا هو حقَّق هذا النوع من اإلشارة واإلثارة منذ البدء بأن متت َّد ظالله عىل طول ْ‬ ‫أطل برأسه لحظة‬ ‫من التفكري فيام إذا كان الكاتب قد وضعه قبل تحرير النص أو ب ْعده‪ ،‬يف مرحلة االختامر أو َّ‬ ‫الكتابة‪.‬‬ ‫من هنا ميكن القول إ َّن اختيار الفعل املضارع يف‪((:‬أعشقني))‪ ،‬ال يدل عىل حارض خالص وال عىل مستقبل خالص‪ ،‬إنَّ ا‬ ‫رس الوجود‪.‬‬ ‫هو تجسيد لحالة من الدميومة واالستمرار‪ ،‬ناهيك َّ‬ ‫عم يحمله العشق من شحنة صوفية تجعل من الحب َّ‬ ‫فلو قالت‪(:‬أعشق نفيس أو ذايت) لكان ذلك صحيحاً عىل املستوى اللغوي لوال أ َّن هذه الصيغة تزرع اإلحساس بق ْدر‬ ‫اللفظي نطقاً وشعورا ً‪ .‬فأ ّما‪-‬وقد اختارت الكاتبة‬ ‫من االنفصال ْبي الفعل‪/‬الفاعل واملفعول‪ ،‬وحيث تتَّسع املسافة ْبي‬ ‫ْ‬ ‫ضمري املتكلّم مسترتا ً ث ّم متَّصالً‪ -‬فإ َّن املسافة تضيق بكثري وال متثِّل نون الوقاية سوى حاجز بسيط لينكفئ األنا عىل‬ ‫األنا فيستحيال كلمة واحدة أو جسدا ً واحدا ً‪.‬‬ ‫املهري)يبقى بدماغ ذكوري بعدما خرس جسده((يف‬ ‫هكذا يكتمل االنسجام يف الصورة التي تجعل من شخصية (باسل‬ ‫ّ‬ ‫حربه املخلصة للدولة يف مواجهة األعداء والثوار واملخ ّربني))(‪.)2‬فيفكِّر األطباء‪ -‬مبساعدة مخابرات املج َّرة‪ -‬يف أن‬ ‫يُ ْجروا له عملية جراحية فريدة من نوعها لريتدي جسد امرأة يف انتظار أ ْن يجد له األطباء جسدا ً ذكورياً‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .1‬سناء شعالن‪ ،‬أعشقني ‪،‬دائرة املكتبة الوطنية‪ ،،‬اململكة األردنية الهاشمية ‪،‬الطبعة الثالثة‪ 2016 ،‬الرواية‪ ،‬ص‪252:‬‬ ‫‪ .2‬العشق واملوت يف الزمن االحرايش ( الالز الكتاب الثاين)‪ ،‬دار ابن رشد‪ ،‬ط‪.1980 ، 1:‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫إذا ما رصفنا النظر عن بعض الشخصيات التي تحرض بصفة شبه دامئة أو مت ُّر عابرة ومنها‪:‬‬ ‫(املخابرات املركزية‪،‬زوجة باسل َوولَداه‪،‬املساعد األول اآليل‪،‬زوج شمس(بريق نوفل األشقر)‪،‬األطباء)‪،‬فإ َّن‬ ‫الشخصيات الرئيسة ال تتجاوز هذا العدد املحدود املشار إليه يف الرسم أعاله‪.‬لك َّنها‪ -‬عىل قلَّتها وبتسمياتها‬ ‫الدالة‪(:‬باسم‪ ،‬شمس‪ ،‬خالد‪َ ،‬و ْرد)‪ -‬تفتح أفُقاً واسعاً للرسد فيتاموج عىل ع ّدة مستويات‪:‬‬ ‫‪ - 1‬الكاتبة تروي يف بداية النص ما من شأنه أن يؤث ِّث للبناء العام للرواية باستعامل ضمري الغائب‬ ‫فاملتكلم‪((:‬وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُ ْعد خامس ينتظم هذا الك ْون العمالق‪،‬أنا‬ ‫لست ضد أبْعاد الطول والعرض واالرتفاع والزمان‪)...(،‬ولكنني أعلم علم اليقني واملؤمنني والعالِمني والعارفني‬ ‫وال ّدارين وورثة املتوص ِّوفة وال ُعشّ اق املنقرضني منذ آالف السنني أ َّن الحب هو ال ُب ْعد الخامس األه ّم يف تشكيل‬

‫معامل وجودنا‪.)8())..‬وال تجد من مكان مناسب لِ َبرش َم ْرىض غري املستشفى‪،‬فيكون الح ِّيز الوحيد الذي ينتظم فيه‬

‫النسيج الروايئ‪.‬‬ ‫لذلك فإ ّن(شمس) تبدو بال والديْن‪ ،‬ألنها تنتسب للناس جميعاً بفضل الحب الذي تكتنزه‪ ،‬وأن العالقة الزوجية‬ ‫املحكومة بوثيقة مصطنعة‪ ،‬ليست أصيلة كام ليست كفيلة بأ ْن ترقى باملرء من درك املامرسة الحيوانية للجنس‬ ‫إىل ما هو أ ْرفع وأسمى‪.‬‬ ‫‪ - 2‬تتوزَّع الرواية عىل مثانية فصول‪ ،‬اختارت أ ْن ت ُع ْنونها بأبعاد‪ :‬بُ ْعد الطول يف امتداد جسدها‪-‬بُ ْعد الزمن مبفاهيم‬ ‫جديدة ونظريات نسبية أخرى‪-‬بُ ْعد االرتفاع‪ -‬بُ ْعد العرض‪.‬لك َّن ال ُب ْعد الخامس هو الرشيان الذي يُغذِّي سائر‬ ‫تتغي حقائق األشياء وقوانني الطبيعة))‪ ،‬فتأيت الفصول الثالثة التالية تعبريا ً عن انطالق‬ ‫الفصول إ ْذ‬ ‫((بالحب و ْحده َّ‬ ‫ِّ‬ ‫طاقة الحب الكامنة ‪.‬وتتواىل الفصول يف ف ْيض من التدفُّق اللغوي يُغري وال يعيق االسرتسال‪.‬‬ ‫‪ - 3‬تنشأ عالقة ثنائية بني (باسل) ُم َمثّالً بالدماغ وبني الجنني بحيث يكون هذا األخري يف موقع املُخاطَب‪ ،‬وعالقة‬ ‫ثنائية ثانية ْبي (شمس) والجنني‪ ،‬وثالثة ْبي (شمس) و(خالد)‪.‬‬ ‫يف األوىل‪ ،‬يتّخذ الحوار شكل املناجاة لك ْون الجنني قد يت َّحرك من حني إىل آخر يف صمت وال يجيب‪ ،‬وينشأ من‬ ‫قلق دائم‪.‬ويف الثانية‪ ،‬يصبح املخاطَب طفلة مخاطَبة‪،‬أل َّن (و ْرد) هو طفل بالنسبة لـ(باسل)‬ ‫طول بقائه يف الرحم ٌ‬ ‫وطفلة بالنسبة أل ِّمه‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .8‬الرواية‪ ،‬ص‪13:‬‬


‫إ َّن هذه الصورة يف الوقت الذي تبدو فيه غريبة غري مألوفة ‪ ،‬فهي يف الوقت ذاته تخلق حاالت من الت ُّوتر من‬ ‫حية‪ ،‬تحمل القارئ عىل ترقُّب اآليت‪.‬‬ ‫خالل تساؤالت ُم ِّ‬

‫هل سيحقد عىل جسد أُلْصق به وهو مل يرتكب ذنْباً‪،‬أو ألنه األضعف أو ألنه األجمل؟؟‬ ‫يل ورفقاً بسخطي الطفويل املتعاظم عىل فقْده‪ ،‬جسدها يك ِّرس معنى الفقد يف روحي‪،‬‬ ‫((أو رمبا ألنه األكرث حناناً ع ّ‬ ‫وكل ما حويل يك ِّرس معاين الخواء كلّها يف ذايت))(‪.)7‬‬ ‫فالرجل ُمقْبل عىل عملية جديدة غري مسبوقة وليس متأكِّدا ً من نجاحها‪ ،‬ثم إ َّن الجسد هو المرأة نحيلة لطاملا‬ ‫نخره التعذيب‪ ،‬وكيف سينسجم معه دماغ كان يحمله جس ٌد قوي مفتول العضالت؟ وهل ح ّقاً سيجد له األطباء‬

‫جسدا ً ذكورياً يف املستقبل القريب أ ْم أنَّه أم ٌر م ْيئوس منه؟؟‬ ‫فضالً عن أ َّن هذا الجسد الدخيل بدأ ينتفخ ش ْيئاً فش ْيئاً ليفاجئه بوجود جنني سيرشع يف التح ُّرك‪.‬وما يزيد التوتُّر‬ ‫ح َّدة أ َّن هذه األحداث ال ت ُق َّدم دفعة واحدة‪ ،‬بل تتداعى تباعاً وت ُشعر املتت ِّبع برضورة باالنتظار والرتقُّب‪.‬ويف‬ ‫الرسم التقريبي التايل يشري السهم ذو الرأس الواحد إىل اتجاه الكالم من الراوي إىل املروي له‪ ،‬بينام يشري السهم‬ ‫االتجاهي إىل تبادل بينهام‪.‬‬ ‫ذو‬ ‫ْ‬

‫_______________________‬ ‫‪ .7‬الرواية‪ ،‬ص‪57:‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫حرفي فقط‪ ،‬تأخذ بُ ْعدا ً ال ُمتناهياً بفعل ما تشحنها بها الكاتبة من فلسفلة‬ ‫ث َّم إن كلمة (حب)هذه املُك َّونة من ْ‬ ‫وجودية يتعانق فيها الواقعي بالخيايل‪ ،‬وتتامزج فيها الصور األدبية باإلشارات الصوفية‪،‬وتتخلَّل النص قط ٌع قصرية‬ ‫منثورة بلغة شعرية تعبريا ً عن الشوق واالشتياق والصلوات وال َع َبات والجمرات‪ ،‬وما كان كل ذلك ليتحقَّق لوال ما‬ ‫متتلكه(سناء) من طاقة تعبريية ولغة قويّة متت ّد يف نَفَس طويل‪،‬تطالعنا فيه الفكرة الواحدة وقد ارتدت ث ْوباً أدبياً‬ ‫جديدا ً من فقرة إىل أخرى‪.‬فأ ّما م ْن أراد أن يتح ّدث عن لغة الرواية وحدها‪ ،‬فإنّها جديرة بدراسة مستقلَّة متأنية‪،‬‬ ‫األمر الذي ال يفي به هذا االنطباع األ ّويل‪.‬‬


‫ِ‬ ‫((اسمك سيكون ورد‪ ،‬هذا االسم اختاره لك خالد‪،‬منذ اآلن أكاد أش ّم رائحتك الو ْردية‪،‬تنبض يف أمومتي الوليدة‪،‬الورد يا‬ ‫حبيبتي الصغرية‪،‬هو جمع كلمة وردة‪،‬والوردة نبات جميل له روائح زكية(‪)...‬والورد كذلك اسم لحيوان منقرض ينتمي‬ ‫وقوي‪،‬ونبيل كذلك‪ ،‬يعيش‬ ‫إىل زمن ما قبل األلفية الرابعة‪ ،‬اسمه األسد أيْضاً‪،‬وهو حيوان مفرتس ومتو ّحش‬ ‫ّ‬ ‫بكربياء‪،‬وميوت بكربياء‪ ،‬ويرفض الجيف‪،‬ويعت ّز بق ّوته‪،‬ولذلك أسميْ ِ‬ ‫ناك وردا ً‪،‬لتكوين منذورة للجامل والق ّوة ول ُحبِّنا))(‪.)9‬‬ ‫عب الرسائل التي يكتبها(خالد) والقصص‪/‬ال ِع َب التي يحكيها‪.‬‬ ‫ويف الثالثة يت ُّم التحاور ْ‬ ‫وهكذا‪ ،‬فإ َّن لعبة الضامئر والتبادل ْبي الراوي واملروي وتداخل األزمنة تضفي عىل النص مسحة من التن ُّوع متنح‬ ‫رس‬ ‫املتلقي فرصة التنقُّل ْبي أجواء مختلفة و ُمش ِّوقة ‪ُّ ،‬‬ ‫تصب جميعها يف فضاء النهايئ من الحب الالمحدود والذي هو ُّ‬ ‫الوجود‪.‬وهو‪-‬يف الوقت ذاته‪ -‬طموح إىل زمن غري الزمن الرديء الذي نعيش فيه‪.‬‬ ‫املت يُقلِّب مذكِّراتها ويقرأها‪ ،‬إىل أن يصل إىل الصفحات الفارغة‪ ،‬عندئذ يكون قد تش َّبع‬ ‫‪ - 4‬يستم ُّر (باسل) عىل طول ْ‬ ‫بالعطف والحنان‪ ،‬وملَّا سكنه الحب األبدي يناجي الطفل قائالً‪(( :‬ما رأيك يف أ ْن ألدك يف القمر يا ورد؟ هذه هي رغبة‬ ‫أ ّمك‪ .‬سنسافر غدا ً إىل هناك‪ ،‬لك الكثري من األقارب يف ذلك املكان‪ ،‬أ ّمك ال تعرف أنّك ذكر‪ ،‬هي تظ ّنك فتاة‪ ،‬لك ّن‬ ‫والدك سيعرف أنّك رجل استثنايئ مثله‪،‬هل تحب والدك يا ورد؟ عليك أن تفعل ذلك‪ ،‬أنا أحبُّه كثريا ً وأحب أ ّمك أكرث‪،‬‬ ‫رسا ً‪ ،‬أنا أعشق أ ّمك‪ ،‬أنا أعشقني بق ّوة))(‪.)10‬‬ ‫أقول لك ّ‬ ‫‪ - 5‬هي رواية ترى إىل الحب أنّه أساس الوجود‪ ،‬ويف غيابه يقع اإلنسان فريسة آلية أتوماتيكية مقيتة‪ ،‬يسبح يف فراغ‬ ‫التدن األخالقي‪ .‬فتكون الرواية بهذا املعنى تنتقد واقعاً سياسياً واجتامعياً تلميحاً ال ترصيحاً‪.‬‬ ‫روحي ومستنقع من ِّ‬ ‫فمن طبيعة األدب الناجح أ ْن يكون قادرا ً عىل مامرسة ل ْعبة املداورة واإلخفاء‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .9‬الرواية‪ ،‬ص‪80-79:‬‬ ‫‪ .10‬الرواية‪ ،‬ص‪205 10 :‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫الواقعي يف الذهن‪ ،‬أو يف ال ّن ّص‪ .‬وميكن‬ ‫إن العوامل املشار إليها جميعاً‪ ،‬تشكّل زاوية االنسكار الّذي سيحدث للمرجح‬ ‫ّ‬ ‫الحيس الّذي تدور فيه األحداث‪ ،‬وهو ليس مج ّرد وعاء محايد‪ ،‬إذ يشكّل مع ال ّزمن ما‬ ‫تعريف املكان عمليّاً بأنّه ‪" :‬املحيط‬ ‫ّ‬ ‫ميكن تسميته بالخلف ّية النفس ّية واالجتامع ّية للرواية"(‪ ،)2‬ويؤ ّدي دورا ً يف تكوين ال ّرؤية الفكريّة للكاتب‪ ،‬ويتبعها ما ميكن‬ ‫أن يحقّق من وظيفة جامليّة تحفل باإليحاء‪.‬‬ ‫الرضوري أن تت ّم دراسة املكان الّذي تجري فيه األحداث‪ ،‬يف القصص الثالث‪ ،‬بوصفه عنرصا ً‬ ‫بنا ًء عىل ما تق ّدم‪ ،‬يغدو من‬ ‫ّ‬ ‫القصة‪ ،‬وذلك وفق ال ّنقاط الثّالث الّتي ت ّم ذكرها سابقاً ‪ :‬دوائر املكان وك ّوناته‪ ،‬التّقاطب‪ ،‬وظائف املكان‬ ‫فاعالً يف بنية ّ‬ ‫قصة "أنياب زرقاء" ليوسف حطيني ‪:‬‬ ‫الفضاء ملكا ّين يف ّ‬ ‫‪ : 1-1-1‬دوائر املكان ومك ّوناته يف "أنياب زرقاء" ‪:‬‬ ‫قصة "أنياب زرقاء" موضوعاً مح ّددا ً تحاول أن تجمع بني الذّات وبني القض ّية اإلجتامع ّية‪ ،‬الوطن ّية‪ ،‬والقوم ّية عىل‬ ‫عالجت ّ‬ ‫قاعدة املكان‪ ،‬عىل أساس أن هذه القضيّة منطلق للتّعبري عن هموم الذّات‪ ،‬ومشاغلها وتطلّعاتها‪.‬‬ ‫‪ - 1‬دائرة مخ ّيم الربيج ودالالت الحضور اإلنسا ّين فيها ‪:‬‬ ‫القصة‪ .‬تقول الشّ خصيّة ال ّرئيسة ‪" :‬توارت جدران مخيّم خلف القضبان وتوارى‬ ‫كانت إنطالقة الكاتب من املكان يف بداية ّ‬ ‫برميل خلف أحد هذه الجدران‪ ،‬بينام توارى أب خلف الربميل‪ ،‬وخلف األب متاماً توارى طفل بعمر ال ّزهور‪ ...‬طلقات‬ ‫ٌ‬ ‫وكف األب الحانية‪ ،‬والطفل وال ّزهور‪ ،‬وكتبت بدم قان‪ .‬هنا مخيّم‬ ‫حارقة اخرتقت القضبان واملخيّم والجدران والربميل‪ّ ،‬‬ ‫الربيج "(‪.)3‬‬ ‫الخارجي للذات املنسحقة‪ ،‬وقد عصف فيها األمل والظّلم‪ .‬واملكان هو‬ ‫إن إرتباط املكان بوجود األب وابنه يشكّل اإلطار‬ ‫ّ‬ ‫طفل بعمر ال ّزهور‪ ،‬حتّى مل تستطع يد والده من‬ ‫مخ ّيم الربيج‪ ،‬مخ ّيم عرف مبظلوم ّية أهله وأطفاله‪ .‬مخ ّيم مات فيه ٌ‬ ‫حاميته‪.‬‬ ‫إنّه املكان الّذي شهد فيه فاجعة يحرتق القلب لسامعها‪ .‬يف هذا املخ ّيم أقام الفلسط ّينيون الّذين مل يغادروا بلدهم يف ما‬ ‫تبقى من مدن عربيّة هناك‪ ،‬بعد إعالن قيام ال ّدولة العربيّة عىل أرضهم‪ ،‬ومنهم من أقام يف مخيّامت حول املدن العربيّة‪،‬‬ ‫وتح ّولت هذه اإلقامة املؤقّتة إىل دامئة مبرور ال ّزمن‪ .‬واكتظّت املخ ّيامت بال ّنازحني‪ ،‬وقد تح ّررت املخ ّيامت " من جميع‬ ‫القيود الهندسيّة‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .2‬محمد صالح الشنطي‪ ،‬الرواية العربية‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪ .3‬يوسف حطيني‪ ،‬أنياب زرقاء‪ ،‬ص ‪.1‬‬


‫يعالج هذا المبحث الفضاء المكاني ّ في القصص الثالث وذلك وفق‬

‫النّقاط الثّالث ‪ :‬دوائر املكان ومك ّوناته‪ ،‬التّقاطب وظائف املكان‪.‬‬ ‫د‪.‬هويدا رشيف‬

‫متهيد ‪:‬‬ ‫املكان هو املجال الطّبيعي الّذي يشكّل منطلقاً لسريورة اإلنسان يف الحياة‪.‬‬ ‫وعندما يسعى هذا اإلنسان وراء عمل معني‪ ،‬أو لإلستقرار يف مكان يستأنف‬ ‫فيه حياته الطّبيع ّية‪ ،‬فإنّه يكون محكوماً بجملة من العوامل التي ال يستطيع‬ ‫التفلّت أو الفكاك منها‪ ،‬فقد تكون اجتامع ّية‪ ،‬أو سياس ّية أو ماديّة أو غري ذلك‪.‬‬ ‫قد يأيت املكان وال ّزمان من بني هذه العوامل‪ .‬وإذا كان خضوع اإلنسان لسلطة ال ّزمان مطلقاً ال يقدر عىل امللص‬ ‫من سيطرته‪ ،‬فإنّه كذلك خاضع للمكان‪ ،‬ألنّه صنو الزمان ورديفه يف التحكم‪ ،‬بوصفه الح ّيز الوحيد لحركته‬ ‫ومسعاه وبهذا‪ ،‬يغدو اإلنسان مرتهناً لهذين القطبني اللّذين قد يكونان محفّزين له‪ ،‬أو مه ّددين الستقراره‪.‬‬ ‫القصيص ‪:‬‬ ‫‪ - 1‬املكان يف العمل‬ ‫ّ‬ ‫القصيص مل ينل املكانة الّتي يستحقّها يف أغلب ال ّدراسات واألبحاث الّتي تناولته ّإل يف‬ ‫إ ّن موضوع املكان يف العمل‬ ‫ّ‬ ‫القصيص‪ .‬وباإلمكان تعريف املكان إنطالقاً من كونه'' ملفوظاً‬ ‫التكيز منص ّباً عىل ال ّزمن‬ ‫مراحل الحقة فقد كان ّ‬ ‫ّ‬ ‫حكائياً قائم الذّات وعنرصا ً من بني العنارص املك ّونة لل ّن ّص ''(‪ .)1‬وبإمكان املرء أن يستحرض األمكنة الّتي يعرفها‪،‬‬ ‫أو يعيش فيها‪ ،‬كالبيت واملدرسة ومركز العمل ‪ ...‬الخ‪.‬‬ ‫ومن املعلوم أن هذا االستحضار يكون ذهن ّياً‪ ،‬ومنزاحاً عن الواقع‪ ،‬وما ذاك ّإل ألنّه ليس باإلمكان تص ّوره ذهن ّياً‬ ‫كام هو‪ ،‬بل وفقاً لحركة الذّهن من جهة‪ ،‬ووفاق ما يعتمل يف الذّات املقصورة من جهة أخرى‪.‬‬ ‫الحقيقي للمكان يتمثّل يف رؤية اإلنسان للعامل من حوله‪ ،‬تلك ال ّرؤية الّتي تساهم الثّقافة واملعتقدات‬ ‫واإلنزياح‬ ‫ّ‬ ‫والهموم واإلهتاممات يف تشكّلها‪.‬‬ ‫‪ .1‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروايئ‪ ،‬ص ‪25‬‬

‫طائر الفينيق‬

‫_______________________‬


‫بظل‬ ‫وصفت الشّ خص ّية ال ّرئيسة املكان الّتي وجدت يف أثناء الفاجعة لتبيان مدى قساوة العدو وقساوة الحياة ّ‬ ‫كل شارع وحارة ومع ذلك الضجيج وهذه القساوة تذكر الشّ خصيّة أغنية‬ ‫ال ّرصاص الّذي يتساقط كاملطر الغزير‪ ،‬يف ّ‬ ‫والسبيل الوحيد‬ ‫هادئة وهذه داللة عىل تشبثها باألرض ومدى مح ّبتها لوطنها وأرضها فال يزال األمل يف قلبها ّ‬ ‫لتحقيقه املقاومة واملواجهة بالق ّوة الستعادة ما أخذ بالق ّوة‪.‬‬ ‫أ ‪ : 2 -‬وظيفة املكان يف "أنياب زرقاء" ليوسف حطيني ‪:‬‬ ‫مل يكن املكان محايدا ً يف "أنياب زرقاء"‪ ،‬وقد قام بغري وظيفة‪ ،‬بخروجه عىل هذه الحياديّة‪ ،‬وتوزّعت وظائفه‬ ‫املستويات التوثيق ّية‪ ،‬اإلبهام ّية والتفسرييّة‪.‬‬ ‫‪ – 2‬أ ‪ :‬الوظيفة ال ّتوثيق ّية ودالالت ال ّتوثيق ‪:‬‬ ‫كلّام اقرتبت وظيفة املكان من ال ّناحية التّقريريّة أو العلم ّية ابتعدت عن الفن ّية أكرث فأكرث‪ ،‬وهذا الوظيفة يف‬ ‫قصة "أنياب زرقاء" التوثيقيّة ال ّدقيقة‪ ،‬الّتي قد تكون تأريخاً‬ ‫القصة‪ ،‬وإذا كانت ّ‬ ‫األصل‪ ،‬تقوم بدو ٍر بنا ٍيئ فاعل يف ّ‬ ‫لحادثة ما‪ ،‬لغرض مقصودا ً أراده الكاتب والّتي ظلت شاهدا ً ح ًّياً عىل ما حصل مع الطّفل يوم خروج طالل أبو‬ ‫رحمة ذلك املص ّور الّذي يقوم بتصوير جوانب ما يحدث داخل فلسطني املحتلّة‪.‬‬ ‫ومن بني هذه الجوانب ‪:‬‬ ‫ •يوم خروجه من منزله متّجهاً صوب مخيّم الربيج املكان الّذي تبلّل بدماء الطّفل وأبيه‪ .‬تقول الشّ خصيّة ‪:‬‬ ‫"خرج طالل أبو رحمة يف صباح ذلك اليوم‪ ،‬وهو يعلّق آلة التّصوير عىل كتفه‪ ،‬واتجه نحو مخ ّيم الربيج‪ ،‬وال‬ ‫يزال الحديث الّذي دار بينه وبني أ ّمه الّليلة املاضية ينخر يف رأسه‪.‬‬ ‫ •أخجل من الكامريا‪ ،‬ماذا لو أنّني استبدلت بها أحجاراً وزجاجات حارقة‪.‬‬ ‫ •حامك الله يا بني أنت تقوم بعمل عظيم‪.‬‬ ‫الصبح الزم تفيق بكّري‪ ،‬عندك مشوار إىل مخ ّيم الربيج "‪.‬‬ ‫ •نعم يا بني ‪ ...‬الله يرىض عليك‪ .‬بكرة ّ‬


‫والحرضيّة إنه مكان معزول عن العامل ومرتوك لتناقضاته يعتاش عليها ويعيد إنتاجها "(‪ .)4‬وضاقت بهم البيوت‬ ‫الجمعي كانوا‬ ‫الهزيلة الحقرية‪ ،‬وكانت إقامتهم فيها عقاباً لهم‪ ،‬لعدم مغادرتهم أرض فلسطني‪ .‬ويف هذا العقاب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫والذل ولكن إرادة العيش عىل ثرى‬ ‫يالقون أنواعاً شتّى من املضايقات واإلهانات واإلذالل‪ ،‬ناهيك عن القتل‬ ‫األجداد جعلهم يتح ّملون شظف العيش‪ ،‬بانتظار العودة ذات يوم‪.‬‬ ‫الصباح بدأت‬ ‫ما حدث يف مخ ّيم الربيج يحصل ّ‬ ‫كل يوم يف القدس وطولكرم والجليل تقول الشّ خص ّية ‪" :‬هذا ّ‬ ‫املواجهات مبكّرة واشتعل القطاع مثلام اشتعلت القدس وطولكرم‪ ،‬ومثلام اشتعل الجليل‪ .‬راح يتأ ّمل جدارا ً مألته‬ ‫شعارات وقرارات حاسمة ‪:‬‬ ‫دم الشّ هيد لن يذهب هدراً‪.‬‬ ‫القدس عاصمة الدّ ولة الفلسطين ّية املستقلّة‪.‬‬ ‫املجد لالنتفاضة''(‪.)5‬‬ ‫إ ّن تعريب أسامء األماكن الّتي تتع ّرض للقصف هو داللة عىل أ ّن فلسطني‪ .‬فمعظمها تتع ّرض للظّلم والقصف من‬ ‫متمسكون بالهويّة الحقيقيّة ورافضون للهويّة‬ ‫الفلسطينيي‬ ‫يل الغاصب ‪,‬ومع ذلك فإ ّن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قبل العد ّو اإلرسائي ّ‬ ‫لفلسطيني ال ّداخل‪.‬‬ ‫اإلرسائيل ّية الّتي منحت‬ ‫ّ‬ ‫والساحة الّذي ركضت فيه الشّ خصيّة ودالالت هذا املكان ‪:‬‬ ‫أ – ب ‪ :‬الشّ ارع‪ّ ،‬‬ ‫يظهر الكاتب ارتباطه باملكان وتعلّقه به‪ ،‬تقول الشّ خص ّية ال ّرئيسة ‪" :‬قال يف نفسه‪ :‬هؤالء املجرمون يقتلون شعبنا‬ ‫بعيدا ً عن الكامريا‪ ،‬يجب أن أفعل شيئاً‪ ،‬يركض طالل من مكان إىل آخر‪ ،‬بني ال ّرصاص الكثيف‪ ،‬كأنّه يركض بني‬ ‫كل شارع‬ ‫قطرات مط ٍر غزيرٍ‪ ،‬يختار مكاناً مناسباً يث ّبت فيه آلة التّصوير‪ ،‬بينام تتّسع دائرة املواجهات لتشمل ّ‬ ‫خبين العندليب‪...‬غداة التقينا عىل‬ ‫وحارة‪ ،‬وفجأة قفزت إىل رأسه امليلء بضجيج ال ّرصاص أغنية هادئة ‪ :‬سرنجع ّ‬ ‫املنحنى"‪.‬‬ ‫الساحة‪ ،‬وهو يحتمي بأبيه أث ًرا يف تذكّر تلك األغنية بالذّات‪ ،‬يركض األب‬ ‫رمبا كان لذلك الطفل القادم من طرف ّ‬ ‫والطفل‪ ،‬يصالن إىل جدار كتب عليه قرا ٌر حاس ٌم رسي ٌّع ‪" :‬ما أخذ بالق ّوة ال يسرت ّد ّإل بالق ّوة"(‪.)6‬‬ ‫_______________________‬

‫‪ .4‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروايئ‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫‪ .5‬يوسف حطيني‪ ،‬إنياب زرقاء‪ ،‬ص ‪.2‬‬ ‫‪ .6‬يوسف حطيني‪ ،‬إنياب زرقاء‪ ،‬ص ‪.3‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫القاص يوسف حطيني يف وصف تفاصيل املكان وكيف ّية إختباء األب وطفله خلف الربميل بقصد الكشف‬ ‫يستغرق‬ ‫ّ‬ ‫القاص يف تصوير املشهد واملواجهة واملكان الّذي أصيب وقتل فيه‬ ‫عن الحال النفسيّة لدى الشّ خصيّة أن يسرتسل‬ ‫ّ‬ ‫الطّفل‪ ،‬فوصف املكان وكيف ّية انتقال الوالد وطفله إليه وصفاً دقيقاً‪ ،‬كاشفاً بلغة شعريّة مليئ ًة باالنفعال املؤث ّر‪،‬‬ ‫عن الحال ال ّنفسيّة الّتي اعرتته‪ ،‬وهو يرى الحدث‪ ،‬عاج ًزا عن فعل يش ٍء وعن ال ّدفاع عن الطّفل وأبيه‪ ،‬فتكلّمت‬ ‫ال ّرصاصة‪ ،‬واألب وكذلك صحيفة سوديتتشيتز ايتونغ األملان ّية‪.‬‬ ‫الساحة‪ ،‬وهو يحتمي بأبيه‪ ،‬أثر يف تذكر تلك األغنية‬ ‫تقول الشّ خصيّة ‪":‬رمبا كان لذلك الطّفل القادم من طرف ّ‬ ‫بالذّات‪ ،‬يركض األب والطفل‪ ،‬يصالن إىل جدار كتب عليه قرا ٌر حاس ٌم رسي ٌع ‪'' :‬ما أخذ بالق ّوة ال يسرت ّد بغري الق ّوة''(‪.)9‬‬ ‫يختبئان خلف الربميل‪ ،‬فيام ينهمر ال ّرصاص عليهام كاملطر‪ ،‬واألب العاجز عن حامية ابنه‪ ،‬ير ّد املوت وال ّرصاص عن‬ ‫يدي طالل كديك مذبوح‪.‬‬ ‫ذلك الجسد ّ‬ ‫الصغري‪ ،‬وآلة التّصوير ترتجف بني ّ‬ ‫قالت الرصاصة الحاقدة ‪ :‬يدك أضعف من أن تصبح مرتاساً‪.‬‬ ‫قال األب ‪ :‬مات الولد‪،‬‬ ‫القاص إىل استنهاض الهمم‪ ،‬يف ال ّداخل‬ ‫قالت صحيفة سوديتتشيتز ايتونغ اإلملانية ‪ :‬فيلم رعب قصري رمبا يقصد‬ ‫ّ‬ ‫الفلسطيني‪ ،‬دفاعاً‬ ‫والخارج والحثّ عىل املشاركة يف التص ّدي لألعداء‪ ،‬يف داخل فلسطني‪ ،‬وتأكيد مرشوع ّية ال ّنضال‬ ‫ّ‬ ‫عن أرضه ووجوده‪ .‬ويرى أن إسقاط عامل الخوف من ال ّنفوس وتذكري بال ّنضال أل ّن ما يؤخذ بالق ّوة ال يسرت ّد ّإل‬ ‫بالق ّوة وهو الخطوة األوىل عىل طريق استعادة الحقوق املغتصبة والثأر للشّ هداء واألطفال املظلومني‪.‬‬ ‫‪ – 2‬ج ‪ :‬الوظيفة ال ّتفسرييّة وداللتها ‪:‬‬ ‫القصة‪ ،‬بوصفها إطارا ً لألحداث الّتي تجري‪،‬‬ ‫رمبا تستدعي الحاجة‬ ‫القاص إىل حشد طائفة من املظاهر الخارج ّية يف ّ‬ ‫ّ‬

‫ٍ‬ ‫والساحات‪ ،‬والغابات والطّرق واملنازل‪ ،‬مبحتوياتها وأثاثها‪ ،‬واألدوات‬ ‫بوصف‬ ‫فيقوم‬ ‫ٍ‬ ‫دقيق ملعامل املكان‪ ،‬كالشّ وارع‪ّ ،‬‬

‫واملالبس وغري ذلك وهذه جميعها " تكشف عن حياة الشّ خص ّية ال ّنفس ّية وتشري إىل مزاجها وطبعها "(‪ .)10‬واألمر‬ ‫الفني‪ ،‬واالبتعاد‬ ‫القصة حفاظاً عىل املستوى‬ ‫املعروف عند‬ ‫يفس كل يشء من ّ‬ ‫ّ‬ ‫القاصيني أنه ليس من الرضوري أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫بها عن املبارشة والتلقين ّية‪.‬‬

‫_______________________‬

‫‪ .9‬يوسف حطيني‪ ،‬أنياب زرقاء‪،‬ص ‪3‬‬ ‫‪ .10‬سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ،‬ص ‪.82‬‬


‫وعىل ال ّرغم من أنّه مل ينم تقريباً‪ ،‬فها هوذا يف طريقه إىل املخ ّيم‪ ،‬متأل رئتيه رائحة قدس ّية تعطّر الهواء‪ ،‬يقرأ‬ ‫توصل إليها ال ّناس هناك دون الحاجة إىل اجتامعات مط ّولة‪ .‬قرارات رسيعة حاسمة واضحة‪ ،‬ال تحتاج ّإل‬ ‫قرارات ّ‬ ‫إىل رجل وعليه بخ وجدار‪.‬‬ ‫الصباح بدأت املواجهات مبكّرة‪ ،‬واشتعل القطاع مثلام اشتعلت القدس وطولكرم ومثلام اشتعل الجليل‪ .‬راح‬ ‫هذا ّ‬ ‫يتأ ّمل جدارا ً مألته شعارات وقرارات حاسمة ‪:‬‬ ‫دم الشّ هيد لن يذهب هدراً‪.‬‬ ‫القدس عاصمة الدّ ولة الفلسطين ّية املستقلّة‪.‬‬ ‫املجد لالنتفاضة(‪.)7‬‬ ‫كل ما رأته شخص ّية ّ‬ ‫الفلسطيني ال يفكّرون إلّ بها ومبا تفعله‬ ‫يدل عىل مدى قساوة العد ّو‪ ،‬فإنّها جعلت‬ ‫إ ّن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكل عر ّيب‪ ،‬لل ّدفاع عن وطنه حتّى ولو‬ ‫فلسطيني ّ‬ ‫كل‬ ‫الفلسطيني املظلوم‪ ،‬فأصبح اله ّم هم جميع ّ‬ ‫بالشّ عب‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بالحجارة أو ال ّزجاج‪.‬‬ ‫فإ ّن الشّ خصيّة وصفت املكان وما كتب عىل جدرانه من قرارات حاسمة وهذه القرارات ليست مكتوباً فقط للقول‬ ‫كل يوم دفاعاً عن أرضهم العزيزة وعن أطفالهم األبرياء‪ .‬وهذا‬ ‫الفلسطينيي يستشهدون ّ‬ ‫بل للفعل أيضاً فكم من‬ ‫ّ‬ ‫ما حصل يف مخيّم الربيج يوم قتل الطّفل وهو يف حجر أبيه العاجز عن ال ّدفاع عن فلذة كبده‪ .‬يا له من عد ّو‬ ‫يتباهى بحضارته ال ّزائفة بينام ميارس أقىص درجات الوحش ّية يف تعاملهم مع العرب الفلسطين ّيني وخصوصاً‬ ‫األطفال‪.‬‬ ‫‪ – 2‬ب ‪ :‬الوظيفة اإليهام ّية ودالالت اإليهام ‪:‬‬ ‫الصغرية يف الوصف‪ ,‬تكون داللة عىل وظيفة إيهاميّة‪ ،‬ذلك أن عامل‬ ‫لعل غاية‬ ‫ّ‬ ‫القاص من الوقوف أمام التّفاصيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخارجي يجعل القارئ يشعر بأنّه يعيش يف عامل الحقيقة‬ ‫الصغرية من العامل‬ ‫يل وإستقاء التّفاصيل ّ‬ ‫ّ‬ ‫القصة عامل تخيي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ال يف عامل الخيال "(‪.)8‬‬

‫‪ .7‬يوسف حطّيني‪،‬إنياب زرقاء‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪ .8‬سيزا قاسم‪ ،‬بناء الرواية‪ ،‬ص ‪.82‬‬

‫طائر الفينيق‬

‫_______________________‬


‫معبا ً عن مشاعره الحزينة الكئيبة‪ ،‬تقول الشّ خص ّية ‪":‬أنا لست سوى مخلوقٍ ما‬ ‫ويظهر‬ ‫ّ‬ ‫القاص ارتباطه باملكان‪ّ ،‬‬

‫ضائعٍ يف زحام مدين ٍة كبري ٍة قدمي ٍة‪ .‬لست دونجوان‪ .‬ال أملك سيّارة وال بناية شامخة يف شارع ال يسكنه الفقراء" (‪.)11‬‬ ‫إ ّن لجوء ال ّراوي إىل استخدام (مخلوقٍ ) تعبريا ً عن الكائنات البرشيّة مل يكن لجو ًءا عفويًاً ففي االستبدال إنتقاص‬ ‫من إنسانيّة اإلنسان‪ ،‬وقد استخدم ال ّراوي كلمة (مخلوق) للتّعبري عن ذاته غري مفّرق نفسه عن سائر مخلوقات‬ ‫املدينة "أنا لست سوى مخلوقٍ ما ضائعٍ يف زحام مدينة كبرية قدمية"(‪.)12‬‬ ‫فكلمتا (سوى) و(ما) اللّتان تحيطان كلمة (مخلوق) إنّ ا تدفعانه لإلندراج يف سياق املخلوقات اآلنفة الذّكر‪ .‬وقد‬ ‫وصف نفسه أنّه ضائ ٌع يف زحام مدين ٍة كبرية ٍقدمية‪ٍ.‬؟‬ ‫البرشي يف هذه املدينة ال يسعى إىل تحقيق الذّات(‪ .)13‬ألنّه ما زال من دون مرتبة اإلهتاممات‬ ‫وإ ّن الوجود‬ ‫ّ‬ ‫اليوم ّية الّتي تس ّبب ال ّرقابة وامللل وانعدام التّفكري(‪ .)14‬تقول الشّ خص ّية‪" :‬أشتغل يف اليوم مثاين ساعات‪ ،‬أتعب‪.‬‬ ‫أبتلع الطّعام برسعة عجيبة"‬ ‫فهو يف وضع ّية اجتامعية ال تسمح له أن يحلم أبعد من الشّ بع واإلستقرار وهذه الوضع ّية الوجوديّة تو ّجه اإلت ّهام‬ ‫املعييش‪.‬‬ ‫االجتامعي‬ ‫إىل ال ّنظام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫"إن‬ ‫وبالرغم من هذا الوضع التّعيس ‪,‬إلّ أ ّن ال ّراوي عند ذكر املدينة كان يسارع إىل إضافتها إىل ياء املتكلّم ‪ّ :‬‬ ‫أعشق مدينتي "إنّه كمدينتي"(‪ ،)15‬وهذا ال ّ‬ ‫يدل عىل انتامء ال ّراوي إليها فحسب‪ ،‬بل إىل ارتباطه بها ارتباطاً‬ ‫حميم ّياً أيضاً‪ ،‬فهي وإن مل تعط شعبها سوى الكآبة وامللل والفقر‪ّ ،‬إل أنّها تظل ا ّما" لها وحشتها ودورها عند‬ ‫الشاب أن يسافر مثله يف الّليل إىل عوامل جديدة‪ ،‬أجابه بشكلٍ‬ ‫تجاريب الفراق‪ .‬فحني اقرتح عليه زميله يف معاقرة ّ‬ ‫"السفر يخيفني‪ّ .‬إن أعشق مدينتي بجنون"(‪.)16‬‬ ‫ٍ‬ ‫حاسم‪ّ :‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .11‬زكريا تامر‪ ،‬صهيل الجواد األبيض‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫‪ .12‬م‪.‬ن‪ ،‬ص ‪.‬ن‪.‬‬ ‫‪ .13‬جون مالودي‪ ،‬الوجودية‪ ،‬ترجمة إمام إمام‪ ،‬الكويت عام املعرفة‪ ،‬العدد‪ ،1982 ،58‬ص ‪.188‬‬ ‫‪ .14‬م‪ .‬ن‪ ، .‬ص ‪.125‬‬ ‫‪ .15‬زكريّا تامر‪ ،‬صهيل الجواد االبيض ‪،‬ص ‪.51 – 47‬‬ ‫‪ .16‬م‪.‬ن‪،‬ص ‪.47‬‬


‫القصيص‪ .‬وانطالقاً من هذا‪ ،‬فإ ّن‬ ‫فالتفسري يلغي دور القارئ يف اكتناه األبعاد الدالل ّية للعالمات ال ّدالة عن ال ّنص‬ ‫ّ‬ ‫القاص ال ّناجح هو الّذي يستطيع أن يجعل من املكان إشارة توصل املناخ العام الّذي يبتغيه القارئ ومراعاة‬ ‫ّ‬ ‫اسرتاتيج ّية ال ّرواية يف ذلك كلّه‪.‬‬ ‫برميل خلف‬ ‫ٌ‬ ‫نجد مثيالً لوظيفة املكان التّفسرييّة يف قول الكاتب‪ ،‬توارت جدران املخيّم خلف القضبان‪ ،‬وتوارى‬ ‫أحد هذه الجدران‪ ،‬بينام توارى أب خلف الربميل‪ ،‬وخلف األب متاماً توارى طفل بعمر ال ّزهور طلقات حاقدة‬ ‫بدم قانٍ ‪ :‬هنا مخيّم‬ ‫اخرتقت املكان واملخيّم والجدران والربميل‪ّ ،‬‬ ‫وكف األب الحانية‪ ،‬والطفل وال ّزهور‪ ،‬وكتبت ٍ‬ ‫الربيج''‬ ‫يل بحق الفلسطينيّني واألطفال‬ ‫تق ّدم هذه ّ‬ ‫السطور وصفاً ّ‬ ‫معبا ً للمكان وإلحدى املجازر الّتي يرتكبها العد ّو اإلرسائي ّ‬ ‫والقاص هنا ال يق ّدم التّفاصيل الّتي تتّخذ صفة الواقع ّية‪ ،‬بقدر ما يصف لنا الحال النفس ّية واملجزرة الّتي‬ ‫األبرياء‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حصلت من قبل العد ّو ;طفل بعمر ال ّزهور يختبئ خلف الربميل‪ ،‬خوفاً من العد ّو ومن ال ّرصاص الّذي ينهمر‬ ‫كاملطر مع أب عاجز عن حامية طفله‪ ،‬فبدأ ال ّرصاص ينهمر واخرتقت املكان وقتلت الطفل وهو بحضن والده‪.‬‬ ‫بحق هؤالء األبرياء والّتي مل يستطع‬ ‫ّ‬ ‫يعب عن إحدى املصائب واملجازر الّتي يرتكبها العد ّو ّ‬ ‫ولعل هذا املشهد ّ‬ ‫محمي بحضن والده العاجز‪.‬‬ ‫الطّفل التخلّص من املوت وهو‬ ‫ّ‬ ‫بنا ًء عىل هذا‪ ،‬أصبحت الوظيفة التفسرييّة للمكان تكتفي باإلشارة إىل البعد الدال ّيل الّذي تنتجه العالمات ال ّدالة‪،‬‬ ‫القصيص عمالً تلقين ّياً‪.‬‬ ‫القصة قيمتها الفن ّية‪ ،‬وتجعل من العمل‬ ‫دون الحاجة إىل الغرق يف التّفاصيل الّتي تفقد ّ‬ ‫ّ‬ ‫قصة "صهيل الجواد األبيض" لزكريّا تامر‪.‬‬ ‫ب ‪ -‬الفضاء املكا ّين يف ّ‬ ‫أ‪-‬ب‪-‬أ ‪ :‬دوائر املكان ومك ّوناته ‪:‬‬ ‫القصة "صهيل الجواد األبيض" موضوعاً محددا ً‪ ،‬يف فضاء مكا ّين واحد هو املدينة‪ ،‬والّتي ال ب ّد من أن تكون‬ ‫عالجت ّ‬ ‫تبي القهر الّذي تعانيه فئة اجتامعية داخل تلك املدينة‪ ،‬الّتي بدت مدينة ذات ّية‬ ‫مدينة دمشق‪ .‬وتحاول أن ّ‬ ‫بامتياز‪.‬‬ ‫ب‪-‬أ‪ : -‬دائرة املدينة وداللتها ‪:‬‬

‫الصغرية والشّ وارع الضيّقة‬ ‫القاص مك ّوناتها األحياء ّ‬ ‫القصة يف فضا ٍء مكا ّين واحد‪ ،‬هو املدينة مبي ّناً ّ‬ ‫تدور أحداث هذه ّ‬ ‫الخمرات التّي تقدم الويسيك ال ّرديء بأسعار رخيصة‪.‬‬ ‫واملنازل‪ّ ،‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫إن تكرار كلمة (تعب) ثالث مرات تدل عىل مدى قساوة العمل والجهد الذي يبذل من دون مقابل كاف‪ .‬فهو‬ ‫املكان الذي يبعد الشخصية عن العامل الخارجي وسط عامل فقراء‪ ،‬يتذوقون مرارة العيش والعمل والتعب‪.‬‬ ‫وتغريت هوية املعمل هنا‪ ،‬غدا ً العمل فيه‪ ،‬برماً باملشاعر امللتاعة التي تتأجج لرؤية العامل املحرتف وأمله وحزنه‬ ‫وتعبه وقساوة أربابه‪.‬‬ ‫ب – ‪ : 2‬تقاطب املكان وداللته ‪:‬‬ ‫إن دراسة بنية املكان يف العمل القصيص‪ ،‬تستدعي من بني مستويات أخرى ‪ ،‬البحث يف التقاطبات املكانية التي‬ ‫تتضمن تشكيالت املكان والتنويعات التي يشتمل عليها‪ ،‬وكذلك الكشف عام بني عنارص املكان من عاللقات‪ .‬إن‬ ‫دراسة هذه التقاطبات تساهم يف بلورة الدور الذي يؤديه املكان يف بنية القصة‪.‬‬ ‫وترد هذه التقاطبات عىل شكل ثنائيات متضادة "تجمع بني قوى أو عنارص متعارضة"(‪ .)20‬تعبريا ً عن عالقات‪ ،‬أو‬ ‫توترات تنتج عندما تتصل الشخصيات مبكان الحدث‪ .‬وكذلك فإن عالقات املكان تسهل التعرف إىل الواقع‪ .‬وقد‬ ‫يكون من بني هذه الثنائيات ‪ :‬القريب ‪ /‬البعيد ‪ /‬األعىل ‪ /‬األسفل‪ ،‬املنفتح ‪ /‬املنغلق‪ ،‬الطبقات العليا ‪ /‬الطبقات‬ ‫الدنيا‪ ،‬وهذه الصفات‬ ‫واألشكال تنتظم يف مناذج للعامل تطبعها صفات مكانية بارزة وتقدم لنا أمنوذجاً إيديولوجياً متكامالً يكون خاصاً‬ ‫بنمط ثقايف معطى"(‪.)21‬‬ ‫وقد تساهم هذه التناقضات الثنائية يف انبناء الفضاء القصيص‪ ،‬عن طريق التعارض‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .20‬حسن بحراوي‪ ،‬بنية الشكل الروايئ‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪311 Page ,1973 ,Youri Lotman, la structure du texte ARtistique, trad, par AnnA Fournier et autres, Paris, ED Gallunard .21‬‬


‫السفر يرشدنا إىل الوظيفة الحامئ ّية للقوقعة‪.‬‬ ‫فإ ّن ترصيح ال ّراوي عن خوفه من ّ‬ ‫وهذا ما يجعل انحباسه داخل املدينة شكالً من أشكال إلفة الطّائر لقضبان قفصه‪ .‬الّتي تومئ إىل عمق األزمة‬ ‫حضاري‪.‬‬ ‫تاريخي‬ ‫اجتامعي‪ ،‬ثقا ّيف‬ ‫وعمق الحياة‪ ،‬ويف ذلك التفاتة إىل خواء‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫الخمرة الّتي كانت تقصدها الشّ خص ّية األساس ّية وداللة هذا املكان ‪:‬‬ ‫أ‪ّ .‬‬ ‫يظهر الكاتب ارتباطه بهذا املكان‪ ،‬وتعلّقه به‪ ،‬فهو املكان الوحيد الّذي ينسيه عذابه وفقره وملله ومن دونه‬ ‫تصيبه الكآبة تقول الشّ خصيّة ‪":‬أتج ّرع منهم خمورا ً رديئة‪ ،‬اللّيل من دونها كآبة فاجعة(‪.)17‬‬ ‫فالتعلّق باملكان هو إستجابة وهروب من الواقع‪ ،‬الواقع املرير الّذي يعيشه يف تلك املدينة الحزينة والفقرية‪.‬‬ ‫ب‪ -‬الغرفة التي كانت تلجأ إليها الشّ خص ّية األساس ّية منتصف اللّيل ودالالتها ‪:‬‬ ‫القاص بهذا املكان مج ّرد غرفة يلجأ إليها لل ّنوم فقط ‪,‬ال تشعره بال ّراحة الجسديّة والفكريّة فهي ملجأه‬ ‫إن ارتباط‬ ‫ّ‬ ‫الوحيد‪ ،‬يعود إليها دون رغبة يف ذلك‪ ,‬ولك ّنه مضط ٌر عىل ذلك تقول الشّ خصي ّة‪" :‬غرفة ال ّرجل املتعب بال ضوء‪،‬‬ ‫رشدت طوال ساعات عرب شوارع‬ ‫صامتة‪ ،‬سوداء‪ ،‬علبة صغرية من الحجر ال ّرطب‪ ،‬أعود إليها دون حنني بعد أن ت ّ‬ ‫عريقة يف الضياء املنبعث من واجهات املحال املتناثرة عىل الجانبني"(‪.)18‬‬ ‫والخمرة فهي علبة فقط لل ّنوم فال وجود لألمان‬ ‫الغرفة هنا ملجأ الشّ خص ّية الوحيد عندما تعود من العمل‬ ‫ّ‬ ‫وال ّراحة‪.‬ج – املعمل حيث كانت تعمل الشخصية الرئيسة ودالالته ‪:‬‬ ‫يح ّمل القاص املمعمل داللة إجتامعية‪ ،‬تقول الشخصية الرئيسة‪" :‬ثم سيدفنك املعمل يف أحشائه الرشسة‪ ،‬تعب‬ ‫تعب تعب‪ .‬أتنىس رائحة لحم العامل املحرتق الذي تساقط عليه الحديد الناري املصهور املندلق من البوتقة التي‬ ‫أفلتت فجأة من األيدي التي تحملها تلك الرائحة هي العامل"(‪.)19‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .17‬م‪.‬ن ‪،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪ .18‬زكريّا تامر‪ ،‬صهيل الجواد االبيض‪، ،‬ص ‪.45‬‬ ‫‪ .19‬م‪.‬ن ‪ ،‬ص‪.‬ن‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ب ‪: 1 – 3‬الوظيفة التوثيقية ودالالت التوثيق ‪:‬‬ ‫لقد خلت قصة "صهيل الجواد األبيض" من املعطيات التوثيقية الدقيقة‪ ،‬إال أنها وتظل شاهدا ً عىل بعض جوانب‬ ‫الحياة داخل املدينة وسكانها ‪:‬‬ ‫ومن بني هذه الجوانب ‪:‬‬ ‫الحياة التي يعيشها الفقري والطريقة التي يعامل بها من قبل أرباب العمل‪ ،‬وكذلك املكان املعمل الذي يدفن‬ ‫آالف العامل يف داخله للتعب واألمل من دون مقابل يق ّدر‪.‬‬ ‫تقول الشخصية‪ " :‬سيدفنك املعمل يف أحشائه الرشسة تعب تعب تعب‪ .‬أنىس رائحة لحم العامل املحرتق الذي‬ ‫تساقط عليه الحديث الناري املصور املندلق من البوتقة"(‪.)24‬‬ ‫هناك وجود لهذه املعامل وكذلك للقساوة التي يتعرض لها العمل حيث يجر دون اإلنسان من إنسانيته بسبب‬ ‫الرشاسة والقسوة التي ترسق الغبطة املخبئة من أعينهم‪.‬‬ ‫ب‪ : -3-2‬الوظيفة اإليهامية ودالالت اإليهام ‪:‬‬ ‫لقد قصد الكاتب الكشف عن الحال النفسية لدى الشخصية‪ ،‬بالوقوف أمام التفاصيل الصغرية يف وصف ما حدث‬ ‫مع الشخصية يف الحانة عند رؤيتها رجالً يحملق بها‪.‬‬ ‫تقول الشخصية‪" :‬وبحركة يائسة افرغت يف جويف كأس الويسيك دفعة واحدة‪ ،‬ثم مسحت فمي بظهر يدي‪ ،‬ورحت‬ ‫أحدق إىل ما حويل وتسمرت نظرايت عىل رجل يائس املظهر‪ ،‬يجلس إىل طاولة قريبة ‪.‬كان يرتشف من كأسه بني‬ ‫الفينة والفينة رشفة ضئيلة ثم يحملق لحظة‪ ،‬وبغتة ينفجر ضاحكاً ضحكة كئيبة أكرث من البكاء‪ ،‬وأحسست‬ ‫بخوف غامض عندما التقت عيناي بعينيه الذليلتني‪ .‬إنه يبتسم يل‪ ،‬سأنهض وأحادثه"(‪.)25‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .24‬زكريا تامر‪ ،‬صهيل الجواد األبيض‪، ،‬ص ‪.48‬‬ ‫‪ .25‬زكريا تامر‪ ،‬صهيل الجواد األبيض‪، ،‬ص ‪.46‬‬


‫ب – ‪ : 2‬تقاطب املكان وداللته يف " صهيل الجواد األبيض" ‪:‬‬ ‫إذا كان الخروج من أرس املدينة مستحيالً إال يف الحلم‪ ،‬افستبقى املدينة مدينة واحدة‪ ،‬أم سيمتد تأثري األزمة إىل‬ ‫مكوناتها الداخلية فيجعها مكونات متقاطبة؟ وهل يكون إخرتاق الحدود بني تلك املكونات املتقاطبة ممكناً‬ ‫ويحمل أبعادا ً داللية محددة ؟‬ ‫لقد تعدى التقاطب طبيعته املكانية ليصبح ذا طبيعة إجتامعية طبعية والراوي حني يؤكد أنه ال ميلك "سيارة وال‬ ‫بناية" شامخة يف شارع ال يسكنه الفقراء"( )‪ .‬إمنا يحدد إنتامءه إىل طبقة الفقراء وعندما تقوده قدماه إىل شارع‬ ‫فخم فيحس بني مبانيه املتعالية أنه ليس "سوى بقعة سوداء تلطخ سحطاً أبيض"( )‪ ،‬إمنا يتجاوز الطبقي إىل‬ ‫الوجودي‪ .‬وإحساس املرء أنه (بقعة سوداء تلطخ سطحاً أبيض) ال يضمر أوجاعاً وجودية فحسب‪ ،‬ولكنه يضمر‬ ‫أجواء وجودية خلفها أوجاع طبقية مرة‪ ،‬حيث أن النغمة الطبقية غري معلنة هنا‪ :‬جاءت متخفية وراء األحاسيس‬ ‫الوجودية‪ .‬وحني ترتاءى مباين األحياء املقرفة مباين (متعالية) بالنسبة إىل الراوي الفقري‪ ،‬يعني أنه مل يستطع عىل‬ ‫املستوى النفيس‪ ،‬عىل األقل‪ ،‬قلب الرتاتب القائم داخل ثنائية (املباين الحجرية‪ /‬املبانية الطينية‪ ،‬فيتعاىل الفقر‬ ‫املرسوم باإلنساين عىل حساب سقوط الغنى‪.‬‬ ‫ومهام يكن من أمر‪ ،‬فإن القاص خارج عن سلطة الثقافة التي كان يتفيأ تحت ظاللها‪ .‬فإنه يرى دمشق مقتطعة‬ ‫من تاريخها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها حتى لكأنها دوامة مفرغة من القوى املستقبلة فهي حارض ال مستقبل‬ ‫له‪.‬‬ ‫ب – ‪ : 3‬وظيفة املكان يف "صهيل الجواد األبيض" لزكريا تامر ‪:‬‬ ‫إن عنوان هذه القصة عالمة سيامئية مظللة‪ .‬فالقصة ال تقدم مفاتيح الداللة ببساطة وسهولة‪ .‬وإن مرجعية‬ ‫الشخصية القصصة مل تكن القاص نفسه بل تقرتن مبرجعيات يرىض عنها القاص‪ ،‬أو يتعاطف معها إىل حد تكون‬ ‫فيه همومها مرتبطة بهمومه وهواجسها متواشجة مع هواجسه‪.‬‬ ‫وأن املكان فلقد قام بغري وظيفة منها ‪:‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .22‬زكريا تامر‪ ،‬صهيل الجواد األبيض‪، ،‬ص‪.74 .‬‬ ‫‪ .23‬م‪.‬ن ‪،‬ص ‪.‬ن‪.‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫إن ما حصل يف هذه القرية يرضب فيه املثل ملدى قساوة املشهد فإن كره أهايل القرية لنسل حواء ال يوصف‬ ‫تقول الشخصية ‪" :‬وال بد هنا من اإلعرتاف بأن الجار مل يكن ينفرد بهذا املوقف املتزمت بل كان له يف قريتنا‬ ‫أمثال‪ ،‬يلتقون معه يف السخط مع سليالت حواء‪ ،‬ويعتربون قدومهن إىل الكون رضبة قاضية من رضبات القدر‬ ‫العشواء"(‪.)28‬‬ ‫إن كره أيب ناصيف لنسل حواء مل يكن مقصورا ً عليه فقط بل كانت آفة منترشة عند معظم رجال أهل القرية‪،‬‬ ‫فهم يعتربون املرأة مصيبة ورضبة قاضية من رضبات القدر‪ .‬مام يدل عىل العقلية القاسية السائدة التي تشبه‬ ‫العقلية التي كانت قبل اإلسالم ولكن بعد ظهور اإلسالم أعطى للمرأة حقها الذي لطاملا حرمت منه طوال سنني‪،‬‬ ‫وإن ما حصل يف هذه القرية ويحصل يف باق القرى حتى اآلن دليل عىل إستمرارية هذه العقلية التي رمبا خفت‬ ‫بعض اليشء ولكن جذورها ما زالت مرتسخة يف بعض العقول كأمثال أبو ناصيف وغريه‪.‬‬ ‫‪ – 3‬أ – ‪ :2‬دائرة الطريق وداللته ‪:‬‬ ‫لقد حملت الكاتبة الطريق داللة يف "إستحقت عيشها"‪ ،‬فهو املكان الذي وقعت فيه الطفلة‪ ،‬املكان الذي رمى‬ ‫فيه "ابو ناصيف" فلذة كبده‪ ،‬ملجرد أنها أنثى‪ .‬تقول الشخصية‪" :‬كانت عيناه مثل عيني وحش هائج يبحث عن‬ ‫فريسة ووقعت يداه عىل ضالّته‪ ،‬عىل املولودة الجديدة‪ ،‬بني يدي القابلة‪ .‬سلخها منها وأرسع إىل نافذة بضعة‬ ‫أمتار عن مستوى الطريق‪ ،‬تم قذفها إىل الخارج بكل قوته"(‪.)29‬‬ ‫الطريق املكان الذي سقطت فيه الطفلة‪ ،‬التي مل يتجاوز عمرها الساعات وترمى يف الخارج‪ ،‬بكل قوته‪ ،‬دليل عىل‬ ‫قساوة القلب وإنعدام العاطفة‪ .‬والتشبث بالعقلية املتخلّفة التي ما زالت مرتسخة يف عقل "ابو ناصيف"‪ ،‬ولكن‬ ‫بقاء الطفلة حية دليل عىل مقاومة املرأة وإنتفاضها إلرادة الحياة ‪.‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .28‬م‪.‬ن‪.‬‬ ‫‪ .29‬إمييل نرصالله ‪،‬جزيرة الوهم ‪،‬ص ‪.74‬‬


‫إن هذه التفاصيل الصغرية يف الوصف داللة عىل وظيفة إيهامية‪ ،‬فلقد إسرتسل الكاتب يف تصوير الحوار الذي دار‬ ‫بني الشخصية والرجل‪ ،‬فاستغرق صفحتني لوصف التفاصيل الدقيقة كاشفاً عن الحال النفسية التي إعرتتها‪ ،‬تناول‬ ‫الرشاب معربة عن مشاعرها ومتنياتها بزوجة ومنزل وأطفال‪.‬‬ ‫ب‪ :-3-3‬الوظيفة التفسريية وداللتها ‪:‬‬ ‫لقد وصف الكاتب معامل الغرفة التي يلجأ إليها كل يوم بعد منتصف الليل مشريا ً بذلك إىل مزاج الشّ خصية‬ ‫والحال ال ّنفسية الّتي تعرتيها عند عودتها إىل هذه الغرفة‪.‬‬ ‫فتقول الشخصية ‪":‬غرفة الرجل املتعب‪ ،‬بال ضوء‪ ،‬صامتة‪ ،‬سوداء علبة صغرية من الحجر الرطب‪ ،‬أعود إليها دون‬ ‫حنني بعد أن ترشدت طوال ساعات عرب شوارع غريقة يف الضياء املنبعث من واجهات املحال املتناثرة عىل الجانبني‬ ‫واإلعالنات الكهربائية ذات األلوان املختلفة"(‪.)26‬‬ ‫وهذه األسطر ذات داللة عىل الوضع الصعب الذي تعيشه الشخصية فهي تعاين من الفقر والوحدة‪ ،‬ال وجد من‬ ‫يؤنس وحدتها‪ ،‬ضائعة يف وسط مدينة مل تقدم لها ما يفرحها‪.‬‬ ‫ج‪ .‬الفضاء املكاين يف قصة "إستحقت عيشها" إلمييل نرصالله‪:‬‬ ‫ج‪ :-1‬دوارئر املكان ومكوناته ‪:‬‬ ‫ج – ‪ – 1‬أ ‪ :‬دائرة القرية ودالالتها ‪:‬‬ ‫لقد دارت معظم أحداث هذه القصة يف القرية التي إستهلت الكاتبة إنطالقتها من هذا املكان‪ ،‬الذي شهد حكاية‬ ‫ظلت ردحاً من الزمن حديث الناس تقول الكاتبة ‪" :‬أكتفي برسد الحكاية التي شغلت سكان القرية‪ ،‬وظلت‬ ‫حديث الناس ردهاً من الزمن"(‪)27‬‬

‫_______________________‬ ‫‪ .26‬إميل نرص الله‪ ،‬جزيرة الوهم‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫‪ .27‬م‪.‬ن ‪،‬ص ‪.70‬‬ ‫طائر الفينيق‬

‫‪139‬‬


‫خامتة الفصل األول‬

‫‪:‬‬

‫القصيص يف املبحث األول الذي م ّر معنا وتض ّمن قصصاً ثالثاً من كتاب ثالثة‬ ‫السدية يف العمل‬ ‫إن دراسة ال ّرؤية ّ‬ ‫ّ‬ ‫مختلفني هم ‪" :‬إمييل نرصالله" (من لبنان)‪" ،‬وزكريا تامر" (من سوريا)‪" ،‬ويوسف حطيني" (من فلسطني)‪.‬‬ ‫وصلت إىل جملة من ال ّنتائج الّتي ميكن إستخالصها‪ ،‬إنطالقاً من مقولة معروفة‪ ،‬وهي أنه ال يجوز ال ّنظر إىل العمل‬ ‫يستقل بعضها عن بعض‪ ،‬وحتّى إن تض ّمن هذا البحث ثالث قصص من بالد‬ ‫ّ‬ ‫القصيص بوصفه أجزاء منفصلة‬ ‫ّ‬ ‫كل متكامل مرتابط األجزاء‪ ،‬يؤ ّدي مبجموعة دالالت مح ّددة ومن ال ّنتائج الّتي ميكن إستخالصها‪:‬‬ ‫مختلفة فهي ّ‬ ‫إرتبطت داللة املكان الّذي شكل محور املغامرة يف القصص الثّالث بالحال ال ّنفسية للكتاب الثّالث‪ ،‬فكان مكاناً‬ ‫نفسيّا"‪.‬‬ ‫تبي لنا ذلك من خالل‬ ‫ولقد إمتلك الكتّاب ثقافة العرص‪ ،‬وهي ثقافة متع ّددة الجوانب متش ّعبة املوضوعات وقد ّ‬ ‫السامية)‪ .‬وكان أسلوبهم إبداعيّاً‪.‬‬ ‫تط ّرقهم إىل موضوعات (الفقر‪ ،‬اإلنتامء‪ ،‬الحب‪ ،‬القيم اإلنسانيّة ّ‬ ‫بناء عىل ما تقدم‪ ،‬نستطيع القول إن األدباء الثالثة ‪ :‬يوسف حطّيني وزكريّا تامر وإميل نرصالله قد حالفهم‬ ‫القصيص حد ال ّنضوج الف ّني‪ ،‬وذلك من خالل تقديم واقع‪ ،‬تفاعلوا معه مبك ّوناته كلّها ‪,‬إىل‬ ‫التّوفيق فبلغ نتاجهم‬ ‫ّ‬ ‫ح ٍّد كبري ويف بناء رؤية ثقافية مكتملة لديهم‪.‬‬


‫ج – ‪ : 3‬وظائف املكان وداللته ‪:‬‬ ‫‪ : 1 – 3‬الوظيفة التوثيقية ‪:‬‬ ‫مل تخل هذه القصة من املعطيات التوثيقية الدقيقة‪ ،‬التي أ ّرخت حادثة "أبو ناصيف"‪ ،‬لغرض مقصودا ً أرادته‬ ‫الكاتبة التي ظلت شاهدا ً حياً عىل العقلية التقليدية التي كانت سائدة يف تلك القرى الجنوبية آنذاك‪ ،‬وما آلت‬ ‫إليه هذه القرى من دمار وخصوصاً وإن الحدود الجنوبية كانت تتعرض يومياً ودامئاً إىل القصف مام أدى إىل‬ ‫تهدم البيوت‪.‬‬ ‫فتقول الشخصية‪" :‬وحني عدت قبل أيام لزيارة األهل‪ ،‬الحظت أن تحوالً جذرياً قد طرأ عىل حياة الناس‬ ‫وإهتامماتهم‪ ،‬وهو ليس التغري الطبيعي الذي يفرضه مرور الزمن ‪ :‬كان تبدالً فرضته الحرب التي حولت قريتنا‪،‬‬ ‫وسائر قرى الحدود الجنوبية‪ ،‬إىل خط أحمر دائم التأجج"(‪.)30‬‬ ‫فإن إضافة (نا) املتكلمني بكلمة قريتنا‪ ،‬يعزز إنتامء الكاتبة إىل هذه األرض وكذلك يربطها بها إرتباطاً حميمياً‬ ‫أيضاً‪ .‬وإن تكن هذه األرض قد تحملت الكثري من التغريات ورغم هذه التغريات ما زالت محافظة عىل األرض ولو‬ ‫أن االهتاممات قد تغريت‪.‬‬ ‫ج – ‪ :2 – 3‬الوظيفة اإليهامية وداللتها ‪:‬‬ ‫لقد أوهمت الكاتبة القارئ من خالل وقوفها أمام التفاصيل الصغرية يف الوصف لتكون داللة عىل وظيفة إيهامية‪.‬‬ ‫تقول الشخصية ‪" :‬كانت عيناه مثل عيني وحش هائج يبحث عن فريسة‪ .‬ووقعت يداه عىل ضالته‪ ،‬عىل املولودة‬ ‫الجديدة بني يدي القابلة‪ .‬سلخها منها وأرسع إىل نافذة ترتفع بضعة أمتار عن مستوى الطريق‪ ،‬ثم قذفها إىل‬ ‫الخارج‪ ،‬بكل قوته‪ .‬حجبت العواصف رصاخ املخلوقة العاجزة وارتفعت جلبة النساء‪ ،‬وكانت جديت أسبقهن إىل‬ ‫التحرك‪ ،‬فركضت إىل الطريق‪ ،‬ولفت الطفلة يف حضنها‪ ،‬ثم حملتها إىل دارها"(‪.)31‬‬ ‫تطرقت الكاتبة إىل وصف ما حدث يف ذلك املكان بهدف تسليط الضوء عىل قساوة املشهد ومظلومية املرأة‬ ‫لتكون خطوة األوىل عىل طريق إستعادة أبسط الحقوق املغتصبة حق العيش واإلحرتام‪.‬‬ ‫_______________________‬ ‫‪ .30‬إمييل نرصالله ‪،‬جزيرة الوهم ‪،‬ص ‪.78‬‬ ‫‪ .31‬امييل نرص الله‪ ،‬جزيرة الوهم‪،‬ص‪.78‬‬ ‫طائر الفينيق‬


‫بذور الكتان‬

‫أخصائية التغذية مرينا شمس الدين‬

‫متتاز بذور الكتان بفوائدها للتنحيف‪ ،‬ولكن استخداماتها ال تقترص‬ ‫عىل ذلك فقط‪ ،‬بل هناك العديد من فوائد بذور الكتان األخرى‪.‬‬ ‫تعترببذور الكتان مصدرا ً كبريا ً لألحامض الدهنية واألوميغا ‪ .3‬ولطاملا‬ ‫اشتهرت هذه البذور منذ القدم لدى اإلغريق والفراعنة بكونها أحد‬ ‫أهم أنواع البذور الطبية ذات الفوائد العديدة التي تعود عىل‬ ‫الجسم‪ ،‬فام أهم فوائد بذور الكتان هذه؟‬ ‫‪ - 1‬تساعد بذور الكتان يف تخفيف الوزن‪:‬‬ ‫من أهم فوائد بذور الكتان دورها يف تخفيف الوزن‪ ،‬وذلك ألنها غنية‬ ‫باأللياف الغذائية وتحتوي عىل كمية منخفضة من الكربوهيدرات‪ ،‬ومن هنا اشتهرت يف تخفيف الوزن‪ ،‬كام‬ ‫تحتوي بذور الكتان عىل مادة صمغية‪ ،‬والتي عند نقعها باملاء وأكلها تساعد عىل امتالء املعدة وبالتايل اإلحساس‬ ‫بالشبع وتقليل كمية الطعام املتناولة خالل اليوم‪.‬‬ ‫‪ - 2‬بذور الكتان تساهم يف عالج االمساك‪:‬‬ ‫من أبرز فوائد بذور الكتان‪ ،‬استخدامها كمسهالت خفيفة وخاصة يف حاالت اإلمساك‪ .‬ذلك بإمكانك إضافتها إىل‬ ‫السلطات املحرضة يومياً وحتى إىل اللنب‪.‬‬ ‫‪ - 3‬تساعد بذور الكتان يف الحد من االصابة بأمراض القلب والرشايني‪:‬‬ ‫تساعد بذور الكتان يف الحد من خطر اإلصابة بأمراض القلب والرشايني‪ ،‬وذلك ألنها غنية باألوميغا ‪ 3‬واألحامض‬ ‫الدهنية واأللياف املفيدة التي تساعد يف تعزيز صحة القلب وتقليل ضغط الدم وتخفيض نسبة الكوليسرتول اليسء‬ ‫يف الجسم‪.‬‬


‫تغذية‬



‫‪ - 4‬بذور الكتان والحامية من اإلصابة بالرسطان‪:‬‬ ‫أثبتت الدراسات العلمية املختلفة أن أحد فوائد بذور الكتان دورها الكبري يف محاربة الرسطان والوقاية منه‪ ،‬حيث‬ ‫تحتوي بذور الكتان املطحونة عىل عدد كبري من املركبات الكيميائية التي تخفف من عملية تطور ومنو خاليا رسطان‬ ‫الثدي والوقاية منه‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬



‫جامل‬


‫زيت الورد‪:‬‬ ‫يعترب زيت الورد معالجا فعاال للحروق و الندبات و آثار الحبوب‪.‬‬ ‫يقوم أيضا برتطيب البرشة من الجفاف‪.‬‬ ‫يحتوي عىل مضادات أكسدة طبيعية وزالتي تعمل عىل حامية الجلد من التجاعيد‪.‬‬ ‫زيت الزيتون‪:‬‬ ‫من أكرث الزيوت إستعامال يف العامل و يدخل يف تركيب كرميات ترطيب البرشة إلحتوائه عىل كمية كبرية من املعادن‬ ‫واألحامض الدهنية و الفيتامينات املفيدة للبرشة‬ ‫يحمي البرشة من اإللتهاب و التسلخات ‪ ،‬هو أفضل الزيوت املناسبة لألطفال الرضع أيضا‬ ‫زيت األفوكادو‪:‬‬ ‫هو مناسب جدا ً كمضاد للتجاعيد و الخطوط الرفيعة التي تظهر مع تقدم السن‬ ‫ويعمل عىل تهدئة الجلد يف حاالت الحساسية و الطفح الجلدي و اإلكزميا ‪ ،‬تستطيعني إستعامله يف جميع الفصول‬ ‫مع مراعاة عدم بقائك يف الشمس ملدة طويلة‬ ‫زيت السمسم‪:‬‬ ‫يحتوي زيت السمسم عىل األحامض الدهنية و مجموعة من الفيتامينات مثل فيتامني ‪ E‬و الكالسيوم‬ ‫واملاغنيسيوم و الفوسفور‬ ‫هو مصدر جيد للربوتني النبايت الذي يعمل عىل تغذية البرشة و حاميتها من الجفاف‬ ‫ميكن إستخدامه كواقي طبيعي للشمس‪.‬‬ ‫يعد زيت السمسم من أفضل الزيوت التي تستخدم يف التدليك حيث يعمل عىل إسرتخاء عضالت الجسم‪.‬‬ ‫زيت اللوز الحلو‪:‬‬ ‫و هو من الزيوت املناسبة جدا ً لرتطيب البرشة و عالجها‬ ‫يقوم أيضا بـ عالج التصبغات الجلدية‬


‫زيوت طبيعية تعالج مشاكل البشرة في فصل الشتاء‬

‫الكاتبة مريم باجي‬ ‫يف فصل الشتاء تتع ّرض البرشة لعدة مشاكل من أكرثها الجفاف و التشقق مام يجعل الكثري من النساء يشعرن‬ ‫باإلنزعاج بسبب ذلك و تعترب الزيوت الطبيعية من أفضل الحلول للتخلص من هذه املشاكل‪.‬‬ ‫تستطيع جميع النساء إستعامل هذه الزيوت فقط عليك مراعاة الكمية و الطريقة الصحيحة الستعامل الزيت‬ ‫حسب نوع برشتك‪.‬‬ ‫إليك سيديت قامئة ألفضل الزيوت الطبيعية الفعالة و املعالجة ملشاكل البرشة يف فصل الشتاء‪:‬‬ ‫زيت دوار الشمس‪:‬‬ ‫هو من الزيوت الخفيفة الغنية باألحامض الدهنية و مضادات األكسدة و الفيتامينات ‪ ،‬يغذي البرشة ويرطبها‬ ‫بعمق و هو مناسب لجميع أنواع البرشة‪.‬‬ ‫زيت الخروع‪:‬‬ ‫يتميز زيت الخروع بكثافته و سمكه مام يجعله من أفضل املرطبات لتنعيم برشة الكوع و الكعب و الركبة كام‬ ‫يحمي البرشة من التشققات و يعالج مشاكل الشعر‬ ‫يعالج أيضا بعض األمراض الجلدية مثل اإلكزميا و الصدفية و مشكلة إصفرار األظافر‬ ‫زيت جوز الهند‪:‬‬ ‫يعترب زيت جوز الهند من أقوى الزيوت املرطبة للبرشة كام ميكن إستخدامه كواقي طبيعي للشمس و كعالج‬ ‫لحروق البرشة‪.‬‬ ‫يتجمد زيت جوز الهند يف الشتاء و يصبح مثل الكرميا‪.‬‬ ‫تستطيعني إدخاله يف صنع وصفات كثرية خاصة بالبرشة‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬



‫عالج حروق الشمس‬ ‫تخفيف الهاالت السوداء تحت العيون‬ ‫تحسني مظهر الندوب و تخفيف عالمات حب الشباب‬ ‫توحيد لون البرشة‬ ‫تحسني مظهر عالمات تشقق الجلد القدمية‬ ‫الحامية من ظهور عالمات تشقق جلدية جديدة‬ ‫تخفيف تهيج البرشة‬

‫طائر الفينيق‬



‫شعر‬


‫وإن إىل عناقك دوماً أح ّن وأرغب‬ ‫ّ‬ ‫ذكرى لقانا عيدي‬ ‫واحتضانك لطفولتي منذ زمن جعلني أصلب‬ ‫كربت وأكرب ومازلت صب ّية‬ ‫أنش ّد لحضن أمني أللعب‬ ‫عيدنا يا حبيبي يوحي‬ ‫بأم وطفل وعمر ألذ أحىل وأطيب‬ ‫حل جمعنا بذكرى تحلو‬ ‫وتزهو كل سنة ب َنف َِسك األعذب‬ ‫هات يديك ألسندها عىل شفتي‬ ‫وهل من قبلة العيد مهرب‬ ‫يا شيزوفرينيا حرويف‬ ‫‪2021-9-19‬‬


‫قبلة العيد‬

‫د‪ .‬هويدا رشيف‬ ‫هل تعلم‪...‬‬ ‫أنه م ّر عىل حبنا سنني‬ ‫ومازلت أنا بك معجب‬ ‫عيني بح ٌر غضوب‬ ‫أن ّ‬ ‫وأنااقتحمتهام من دون مركب‬ ‫عجيب لقانا وصمتك أعجب‬ ‫وحضنك الدافئ يطريين إىل غري كوكب‬ ‫هل تعلم‪...‬‬ ‫أ ّن لديك فؤادا ً ر ّوض قلبي‬ ‫الجموح العاشق املعذّب‬ ‫أنني أقرأ خلف عيونك‬ ‫ما أباحت وما تخ ّبئ وتهب‬ ‫هل تعلم‪...‬‬ ‫أننا وردتان يف غصن‬

‫طائر الفينيق‬


‫عندما بريوت تبيك‬ ‫ُ‬ ‫يدرك البح ُر ملاذا دم ُعها يبحثُ يف مينائها‬ ‫عن طفل ٍة غرقى وأ ٍّم مل ْ‬ ‫يزل منديلُها يطفو عىل املوج وما عاد اب ُنها من س َفرٍ‪،‬‬ ‫أصبحت بريوت تغفو‬ ‫يا وج َع القلب إذا ما‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ونباح‬ ‫األرض ُعوا ًء‬ ‫للساسيي يك يبكوا عليها‪،‬‬ ‫ونصف‬ ‫نصفها موىت‬ ‫ٌ‬ ‫باإلذاعات وحتى ميلؤوا َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُر َّب ٍ‬ ‫اح‬ ‫موت جاء يف وضعٍ كهذا ُم َ‬ ‫ست ْ‬ ‫سامح‬ ‫يا‬ ‫ْ‬ ‫دمع ٌة أذرِفها اآلن عىل قرب َِك ال تُ ْر ِج ُع ما‬ ‫وراح‬ ‫كان ْ‬ ‫‪2021/11/27‬‬


‫يا سماح‬

‫الشاعر عمر شبيل‬ ‫إىل صديقي وأخي سامح إدريس‬ ‫سامح‬ ‫يا‬ ‫ْ‬ ‫يلبس م ّنا وطنا‬ ‫ليس من ُ‬ ‫مثل الذي يخل ُعه‬ ‫َ‬ ‫استحي منه إذا ابرصته يعرى أمامي‬ ‫وأنا ال ألبس منه غري جر ٍح كلّام ض ّم ْدت ُ ُه‬ ‫يع َرى الضامد‬ ‫سامح‬ ‫يا‬ ‫ْ‬ ‫مباح‬ ‫مل يع ْد يف وطني إلّ دمي غ َري ْ‬ ‫مباح‬ ‫إنّه منذ تعا ْرفْنا عىل الجر ِح ْ‬ ‫مل ْ‬ ‫كنت تقول‬ ‫أزل ُ‬ ‫أحمل ما َ‬ ‫أي بح ٍر هو هذا‬ ‫ُّ‬ ‫رص بريوت بال بح ٍر‬ ‫عندما يب ُ‬ ‫وصباح؟‬ ‫مسا ًء‬ ‫ْ‬ ‫نلبس موتانا‬ ‫د ْع َك من هذا فلن َ‬ ‫وهم فيناُ‪ ،‬وبعض املوت ال يقرب م ّمن‬ ‫السالح‬ ‫جعل «اآلداب» يف قبضتنا مثل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫سامح‬ ‫يا‬ ‫ْ‬

‫طائر الفينيق‬


‫شعرها الناعم القصري يراقص عيناها خجال‪...‬‬ ‫طفلة مل تو ّدع مرسح الطفولة‪ ..‬ومل تعد إليه‬ ‫سافرت عرب املكان خلسة من عيني الزمن‬ ‫رشبت حامس األب وحبه للوطن‪،‬‬ ‫مل تعي أنها تفقد أشياءها الصغرية‪...‬‬ ‫طفلة تلهفت ملسقط الرأس بعيني أبيها‪...‬‬ ‫غرقت يف لهفة العودة‪...‬‬ ‫غافلة عام تركت‪...‬‬ ‫ماتركت تعفن يف أدراج ذاكرة الزمن‬ ‫أعياه انتظار العودة… ومل تعد!‬ ‫أصبح الفقدان يختبئ يف ال وعي الصغرية‬ ‫والصغرية تغفو يف ال وعي الشابة الكبرية ‪....‬‬ ‫حب الرمادي‪...‬‬ ‫صوت الحنني يخفي أمل الفقدان‪...‬‬ ‫فقدان املرسح الجميل‪،‬‬ ‫فقدان جعل الطفلة مراهقة حاملة ورومانسية‪..‬‬ ‫تائهة مشتتة يف عاملها الجديد‪...‬‬ ‫اليوم كشفت رس الرمادي‬ ‫اليوم أُقفل باب البيت العتيق‬ ‫و بدأت رحلة جديد!!!‬

‫فالحياة فرتات انتقالية‪ ،‬ال ميكن اجتيازها دون أن ميوت يشء بداخلك ليولد يشء‬ ‫آخر‪ ...‬مراحل الفقدان متتالية‪ ...‬وهي حقيقة ال مفر منها‪ ،‬رضورة حتمية يك ينمو‬ ‫الفرد وينضج!)‬


‫من أزمنة تشبهني‬

‫الدكتورة دالل مهنا الحلبي‬ ‫رمادي صوت الحنني!‬ ‫يف ركن الذاكرة يقطن بيت‬ ‫بيت بابه مفتوح‪...‬‬ ‫طفلة تقف هناك‬ ‫أمام ُد ْرج رمادي‪...‬‬ ‫طفلة مل تو ّدع دفاترها الصغرية‬ ‫وال قلم الرصاص وال أقالم التلوين‪...‬‬ ‫هناك يف الزاوية ِفراش صغري‬ ‫يأخذ قيلوته بجوار جدار زهري‬ ‫جدار مثقوب بنافذة صغرية‬ ‫تتسلل منها خيوط الشمس الدافئة‪...‬‬ ‫طفلة ما زالت هناك‪،‬‬ ‫مل تودع ُدرجها الرمادي وال غرفتها الوردية‪...‬‬ ‫مل تودع َد َر َج البيت‬ ‫وال موزّع الغرف وال الصالون وال املطبخ‪...‬‬ ‫طفلة مل تودع دراجتها الهوائية …‬ ‫دراجتها مركونة هناك‬ ‫عىل كتف صور السطح العايل‪،‬‬ ‫طفلة تقف هنآك ‪ ،‬تلعب فرِحة ‪..‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫حول رقم يدور‬ ‫مرة تأخذ منه القيمة‬ ‫ومرة يركن يسارا بال قيمة‬ ‫وكأين صفر‬ ‫خاوي اليدين‬ ‫بال حيلة‬ ‫سبيل‬ ‫أتأرجح ضأمن وال َ‬ ‫صفر‬ ‫ميلء بالنصوص‬ ‫مقفل والحرف به مرصوص‬ ‫صفر يعج بقصص العتيق‬ ‫بني برد وضيق‬ ‫صفر‬ ‫صفحاته شفافة‬ ‫تختال فيه الحروف محتالة‬ ‫مرة مضمومة ومرة مقصورة‬ ‫ومرة تحت األلف همزة مكسورة‬ ‫صفر‬ ‫يرسم الفرح ألوان‬ ‫بني وميض نجمة‬ ‫وريشة فنان‬ ‫‪-٧-‬‬

‫موهوم‬ ‫يعتقد أين أحببته‬


‫‪-٥-‬‬

‫حقيبتي القدمية‬ ‫حقيبتي القدمية تضج برائحة الورد‪...‬‬ ‫وأصوات الطفولة الجميلة‪...‬‬ ‫حقيبتي القدمية فيها مرج أخرض‪...‬‬ ‫نضارته ِسوار أمي و قبعة أيب‪...‬‬ ‫حقيبتي القدمية فيها طفلة‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عرزال تتعمشق…‬ ‫تسمع هديل الحامئم و زغاليلها‪...‬‬ ‫حقيبيتي القدمية فيها هدهد سليامن عىل جدرانها ميرح‬ ‫حقيبتي القدمية‪ ،‬فيها عطرة وفاطمة وخديجة ورشا وسمرية‪..‬‬ ‫فيها ضحكات الطفولة املرحة‬ ‫قهقهاتها يف ثنايا الجسد مترح‬ ‫حقيبتي القدمية فيها عق ٌد جديت األحمر ‪ ،‬حباته عندي أغىل من املرمر‪..‬‬ ‫حقيبتي القدمية فيها صوت أمواج البحر األحمر وأصدافه الجميلة‪...‬‬ ‫وتلك النظارة املائية أرى فيها جامل املختبئ تحت لحاف شاطئ االحمر‬ ‫حقيبتي القدمية فيها شابة عشقت جربان وغنت لعبد الحليم‪...‬‬ ‫وكتبت يف الهوا نصوصاً مل ولن تقرأ ‪...‬‬ ‫حقيبتي القدمية فيها من السعادة ما أراه اليوم أكرث وأكرث مام كنت أظن وأعلم‪...‬‬ ‫حقيبتي اليوم ما هي إالّ عط ٌر لحقيبتي القدمية ‪...‬‬ ‫‪-٦-‬‬

‫صفر‬ ‫وكأين صفر‬ ‫طائر الفينيق‬


‫أحببت صوت الدفء‬ ‫يف حنايا حنجرته‬ ‫والدفء أمي‬ ‫أحببت لهفة الربيق‬ ‫يف أهداب عينيه‬ ‫والربيق أيب‬ ‫أحببت ثوب اللطف‬ ‫يف كلامته‬ ‫والثوب يف مسمعي منذ الطفولة‬ ‫أحببت ترنيمته يغني يل‬ ‫أغنية أمي مع جدلها الضفرية‬ ‫مل أكن أراه‬ ‫كنت أرى أحبتي فيه‬ ‫مخطئة و موهمة‬ ‫ما أحببته‬ ‫أحببت رساب عطيش‬ ‫ما أحببته‬ ‫أبرصت‬ ‫ومل أعد موهومة‬ ‫موهوم‬ ‫ضل سجني غروره‬ ‫ّ‬ ‫وأنا مل أعد موهومة‬ ‫موهم‬ ‫طائر الفينيق‬


‫جدي لم يقرأ «حالق اشبيلية»‬ ‫الكاتبة أغنار عواضة‬ ‫رغم أنه كان حالقا‬ ‫ومل يقدم لجديت وردة‬ ‫رغم رومانسيته‬ ‫لكنه كرجل عاشق‬ ‫كتب حبه‬ ‫ودسه يف‬ ‫عجز القصيدة‬ ‫وصدرها‬ ‫بدراية الخبري‬ ‫حني تكرب الحكايات وتنضج‬ ‫جدي كان خالقا أيضا‬ ‫من موته‬ ‫يسحب خيط حرير‬ ‫ويهديه لروحها املرفرفة‪.‬‬ ‫جديت أيضا مل تتعلم القراءة‬ ‫مريم مثل معظم الجدات‬ ‫تصنع فساتني مطرزة‬ ‫تزين الحقول‬ ‫وتربك السواقي‬

‫طائر الفينيق‬


‫سناك‬ ‫ربيعُ‬ ‫ِ‬ ‫الشاعر فؤاد طالب‬ ‫أيلول َه ْد َه َد يف ربيعِ ِ‬ ‫ُ‬ ‫سناك‬

‫ُحلُ َم الوجو ِد ِب ُد ِّر ِك املتزايك‬

‫أغوى به حس ٌن تأ ل َّق يافعاً‬

‫ِ‬ ‫الوساوس هامئاً‬ ‫بغواك‬ ‫فيه‬ ‫ُ‬

‫أَ َخ َذت ْ ُه ِ‬ ‫منك مفات ٌن قُزح ّي ٌة‬

‫فوق ُر ِ‬ ‫الجني َ‬ ‫باك‬ ‫أم رقص ُة‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫متفاً‬ ‫بحداك‬ ‫واديك أُلْ ِه َم ْ َ‬

‫ماغاب دهرا ً أنّه‬ ‫حتى وعى‬ ‫َ‬

‫ِ‬ ‫بهواك‬ ‫الضنى‬ ‫حتى ات ّحدنا يف ّ‬

‫تسبَ َل عا ِمرا ً بفؤا ِد ِه‬ ‫َص َبباً َ‬

‫ِ‬ ‫ثم ارمتى يف محفلٍ‬ ‫‪،‬فشجاك‬

‫روض الحنني عرائساً‬ ‫قد ه ّزه ُ‬

‫نبض ِه ريّ ِ‬ ‫وتفتّ ٌق يف ِ‬ ‫اك‬

‫أم َ‬ ‫خال انّ ِك يف الحياة تج ُّد ٌد‬ ‫***‬ ‫يض ّخني‬ ‫لك َّن عمري‬ ‫والشباب ُ‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫علياك‬ ‫بطوالعٍ ق َ​َسامتُها‬

‫كمغرم‬ ‫ذاب يف كُن ِه الوفا ِء‬ ‫ٍ‬ ‫قد َ‬

‫ِ‬ ‫صباك‬ ‫ها َجت َح َواني ِه بنا ِر‬

‫القلب الذي‬ ‫ميسها‬ ‫كالكهرباء ِ ُّ‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫حالك‬ ‫َت مسالِ ُك ُه ُببد‬ ‫َع َصف ْ‬

‫وج بفُل ِك ِه‬ ‫فتطايَ َرت َو ْمضاً ُمي ُ‬ ‫لكأنّ ِك ال ُحس ُن املل ّو ُن من فتو‬

‫ِ‬ ‫حاكاك‬ ‫بَعثاً متا�ث َ َل يف الرؤى‬

‫واستُج ِم َع ْت ُحل َُل السنني بكار ًة‬ ‫صربا ً فؤادي قد نَ ِع ْم َت ب َرعشَ ٍة‬ ‫تجلو املزام ُري العتيق ُة أُفْقَها‬

‫فكأمنا ال ُن ُج ُم املَهيب ُة ترمتي‬ ‫ِ‬ ‫تكوكبت الجنا ُن بروض ٍة‬ ‫حتى‬

‫نِ اللّه طُهرا ً يف الحيا ِء ِ‬ ‫غناك‬ ‫أبدي ًة من َز ْهرِها وث ِ‬ ‫َراك‬ ‫َع َزف َْت عىل وت ِر الوت ِني الشايك‬ ‫رشه ِ‬ ‫اثراك‬ ‫حيثُ ال َب َها ُر ب َن ِ‬

‫وفرط ِ‬ ‫حضنك الدايف ِ‬ ‫ِ‬ ‫بهاك‬ ‫يف‬ ‫عذرا َء‪ ،‬مر ُميها‪ ،‬شمو ُخ ِ‬ ‫إباك‬


‫يداها أناشيد تشف عن املكان‬ ‫حبىل بالعرائش‬ ‫فيام ال يزال الفجر‬ ‫يوقظ الشمس‬ ‫وينضج الرمان‬ ‫جديت تخبىء نقودها‬ ‫يف صدرها الرخامي املآلن‬ ‫كمشة عوسج‬ ‫باقة ريحان‬ ‫صدرها مخزن شتوي‬ ‫وتراتيل‬ ‫سنابل ضوء‬ ‫لغدرات الزمان‪.‬‬ ‫يف صدرها‬ ‫قلب جدي ‪،‬‬ ‫تعبه‬ ‫يده ‪،‬‬ ‫وفمه الظآمن‬ ‫جدي الذي مات‬ ‫كأي شاعر حزين‬ ‫جدي يضحك مام كتبت اآلن‪//‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫ِ‬ ‫سيامك‬ ‫متكحل‬ ‫ٌ‬ ‫متوثب‬ ‫ٌ‬

‫يل طو ٌد قائ ٌم‬ ‫يف ركننا الزح ّ‬ ‫الكعدي ُح ُّب ُحسي ِن ِه‬ ‫ِمن غ ّر ِة‬ ‫ِّ‬

‫ِ‬ ‫ذكراك‬ ‫بَ َق َر العلو َم مجلج ٍال‬

‫ُ‬ ‫ه َّبت يرا ُع ُه‬ ‫واملحافل قد َد َوتْ‬ ‫راهب خم ُر املحب ِة زاد ُه‬ ‫هو‬ ‫ٌ‬

‫فهواه من ضلعِ املسي ِح ِ‬ ‫رواك‬

‫ِ‬ ‫تقواك‪،‬‬ ‫يف خافقَيه‪،‬فزادها‬ ‫***‬

‫جرح يف الصوير ِة غائ ٌر‬ ‫وهناك ٌ‬ ‫اض َح ْت َم َحا ِزنُ ُه كَ ُحزنَ ِة شبلِ ِه‬

‫ِ‬ ‫ترسامً‬ ‫لخطاك‬ ‫ش السالم ُّ‬ ‫نَ َ َ‬

‫تحيا العروب ُة من حالوة ثغر ِه‬

‫خميل ِ‬ ‫رداك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رصحاً مرو َءت ُ ُه‬

‫ِ‬ ‫بصداك‬ ‫صادح‬ ‫والشع ُر فيها‬ ‫ُ‬

‫سبحانَ ُه كيف اإلل ُه بَ ِ‬ ‫راك؟‬

‫رسه‬ ‫رت ُ‬ ‫ّلت ح َّب ِك من بدائعِ ّ‬

‫خلقاً أبياً يف الورى س ّو ِ‬ ‫اك‬

‫َجبَ َل الشها َم َة من رجاح ِة عدلِ ِه‬

‫قرآنك اإلعجا ُز فو ُز ِ‬ ‫ِ‬ ‫تقاك‬

‫الفردوس نَظْ ُم عوا ٍمل‬ ‫انجيل ُِك‬ ‫ُ‬ ‫تالؤم‬ ‫ميال ُد ِك البرشى عهو ُد ٍ‬

‫ِ‬ ‫صافاك‬ ‫والده ُر رغ َم بالئِ ِه‬

‫ِ‬ ‫فبناك‬ ‫صوب العروج يقي ُن ُه‬ ‫َ‬

‫ٍ‬ ‫مكرمات وانربى‬ ‫شا َد املدائ َن‬ ‫***‬ ‫ِ‬ ‫الشموس متهيل وترفّقي‬ ‫ِنت‬ ‫ب َ‬

‫فالل َح ُظ مل يُ ْع ِط السنا ّإل ِك‬

‫ِ‬ ‫بحوض لُ َجيْ ِنها‬ ‫خ ّريد ٌة لَم َعت‬

‫طُ ِب َع ْت عىل استارها خ ّد ِ‬ ‫اك‬ ‫ريب طاعنٍ أف ِ‬ ‫ّاك‬ ‫من كل ٍ‬

‫ا ّمت شعريت َها الصال ُة تَطَ ُهرا ً‬

‫ِ‬ ‫فرعاك‬ ‫رسه‬ ‫حتى تكشّ َف ُّ‬

‫ما إن بَل ْغ ِت براح ٍة ركناً سام‬ ‫***‬ ‫مقاييس الفحول ِة سبع ًة‬ ‫ح ّجت‬ ‫ُ‬

‫حول ِح ِ‬ ‫التطواف َ‬ ‫ٌ‬ ‫امك‬ ‫اشواطُها‬

‫يتب ّوأون املج َد‪،‬كن ُز بُ ُدو ِر َهم‬

‫ِ‬ ‫مغناك‬ ‫سح ُر البيانِ ور ْج ُع ُه‬ ‫شق غُدراناً بح ِّر ِد ِ‬ ‫ماك‬ ‫َن ا ْل ِع َ‬

‫نرثوا النجو َم كشعل ِة املتوقدي‬ ‫رص‬ ‫ت َ ِقفُوا الحيا ُة ُع ُهو َد ِّ‬ ‫كل أوا ٍ‬

‫ودماث ٍة موصول ٍة ب ُع ِ‬ ‫راك‬


‫ِ‬ ‫لرضاك‬ ‫بالهامئني توسالً‬

‫يا طيب منزل ٍة‪ُ ،‬ز َح ْيلَ ُة فارفقي‬

‫ِ‬ ‫بقدس َس َم ِك‬ ‫بركاتِ ِه‪ ،‬ش ّع ْت‬

‫فاض نو ُر ِك فَج َر صب ٍح حامالً‬ ‫قد َ‬

‫ِ‬ ‫مس الجب َني ت َرفُّـقاً‬ ‫أحياك‬ ‫َّ‬ ‫حم ِك‬ ‫رشيَانَ ُه يف ُمنتهى ُر َ‬

‫الفردوس فيه قيام ٌة‬ ‫ياسو ُعها‬ ‫ُ‬ ‫الجليل مصعدا ً‬ ‫ُ‬ ‫عنقُو ُد ُه قانا‬ ‫***‬ ‫نس الوجو ِد سخيّ ًة ِمفضال ًة‬ ‫أُ َ‬

‫وطيب ِ‬ ‫ثناك‬ ‫يف املِز َود األ ْرقى‬ ‫ِ‬

‫من ُجو ِد َمائِ ِك قد َحلَل ُْت قصيديت‬

‫خمرا ومعجز ًة َج َنتْ ُه ِ‬ ‫يداك‬ ‫يا آي ًة‪ ،‬بال ُحسنِ من ِ‬ ‫أنباك؟‬

‫ِ‬ ‫رس العارف َني وب َّرهم‬ ‫فغدوت َّ‬ ‫العفيف حيا َء ُه‬ ‫هل امث َر الوتَ ُر‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫أدناك؟‬ ‫يف حويض الريّانِ أو‬ ‫ياذا ال َح َل‪َ ،‬م ْن يف ال ُدىن ذيّ ِ‬ ‫اك؟‬

‫أعلَ ْن ُت ُحبَّ ِك وانتام َء سليقتي‬

‫َت معاين الرو ِح ِم ِ‬ ‫نك و ُمهجتي‬ ‫َع َبق ْ‬

‫والقلب يَفتَ ِق ُد الهوى َ‬ ‫لوالك‬ ‫ُ‬

‫***‬ ‫بنت املالح ِة هل َه َزز ِْت جن ّي ًة‬ ‫َ‬

‫أو تا َه ِ‬ ‫فيك السائلو َن الواصفو‬

‫حب زحل َة قد تَ َز ْحلَ َن وج ُدهم‬ ‫من ّ‬

‫ِ‬ ‫اآلراك؟‬ ‫َن كأنهم هاموا عىل‬ ‫ِ‬ ‫وأتاك‬ ‫َع َرب الفنا َء خلو ُد ُهم‬

‫هم صنو ٍ‬ ‫مدى‬ ‫مجد طا َر ع ّز ُه ُم ً‬ ‫يتوسدون بسا َط ري ِح سعيد ِه‬

‫ِ‬ ‫سقاك‬ ‫من عذب كوثره النعي َم‬

‫واألشق ُر الهادي اخرضا ُر فُنونهم‬

‫النس ِيم غناؤهم ِ‬ ‫ليالك‬ ‫ُ‬ ‫طيف ّ‬

‫َرشفوا الوداعة من شذا ترنيمهم‬ ‫ُ‬ ‫والرتك إن لَ َع َج الفؤا ُد بذات ِه‬ ‫ِ‬ ‫املالحم فيؤهم‬ ‫هم نخب ٌة شَ َغ ُف‬

‫طائر الفينيق‬

‫ِ‬ ‫أبهاك؟‬ ‫جذ َع النخيلِ تج ُّمالً‬

‫مبالعب ال ِعقبانِ تحت ِ‬ ‫لواك‬ ‫ِ‬

‫واملسك دوحتهم يضو ُع ف ِ‬ ‫ُ‬ ‫َداك‬ ‫ذات ال َنوا ِة ِ‬ ‫فأرا ُه يف ِ‬ ‫نواك‬ ‫معلوف شيمتُهم كجن ِح ِ‬ ‫ٌ‬ ‫مالك‬


‫«يا أناي»‬ ‫الشاعرة نارصية بغدادي العرجة‬ ‫(كل عام يا وطن ‪..‬‬ ‫وأنت العمر املــــــدار‪ /‬املشتهى‬ ‫رغم قهر املسافات وقلق املبتغى ‪)!..‬‬ ‫****‬ ‫ياااا‪“...‬واو” الوسم املزىك‬ ‫يف وحشة رسمه امل َع َّم ِم‬ ‫حني الشهاد ِة وبعد القـــ ْر‬ ‫ِ‬ ‫طواف ال ِقبلة املشتا ِة‬ ‫ويا ااا‪“...‬طاء»‬ ‫لحظ َة الض ِّم و شهق َة الق ْرب‬ ‫ويا “نون” نقط املنتهى‬ ‫حني متاهت يف ِ‬ ‫الرحم‬ ‫نقش‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫“كاف” املبتدى‬ ‫تحرصها ع ُني عباء ِة‬ ‫ُ‬ ‫كلام أبكاها ما ُء دمي‪..‬‬ ‫وياااا‪“ ...‬ياء” يد املدد املصفى‬ ‫التي زينتي يف املسمى‬ ‫فازدان بها وسام ًة معصمي ‪..‬‬ ‫كم اشتاقُك كلام ّ‬ ‫دق ملح الروح‬ ‫َ‬ ‫زمزم‬ ‫مائه‬ ‫املعشوق من ِ‬ ‫القلب جرحه‬ ‫ّكف‬ ‫و كف َ‬ ‫ُ‬ ‫رس أو يف العلنِ ‪..‬‬ ‫مكلوماً يف ال ِّ‬


‫يت ِ‬ ‫حبك يف البال ِد تحي ًة‬ ‫ا ّد ُ‬ ‫ِ‬ ‫خفقاً‬ ‫بأرزك نخو ًة جبار ًة‬

‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫علامً‬ ‫جنحاك‬ ‫يرفرف فوقها‬

‫َس ِمقَت بيا ِرقُها بصحب ِة ساد ٍة‬

‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ذكراك‬ ‫الجامل‪،‬وقلّدوا‬ ‫عبدوا‬

‫وتفننوا من ذو ِقهم وجنونِهم‬

‫ِ‬ ‫َ‬ ‫اغراك‬ ‫الخيال‪،‬زما ُمه‬ ‫قبضوا‬

‫َ‬ ‫الحروف قرائحاً وجدوا بها‬ ‫َم َضغوا‬ ‫كل جوارحي ومواجعي‬ ‫من لُدنِ ِّ‬

‫طائر الفينيق‬

‫ِ‬ ‫ونداك‬ ‫مغوارةً‪،‬لبنانَها‬

‫ترض َب ِ‬ ‫فاك‬ ‫ِض َع‬ ‫املعاجم قد ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ناغاك‬ ‫الوريد بلُط ِف ِه‬ ‫حبل‬ ‫ُ‬

‫ينساب بني معل ِ‬ ‫ّقات سطو ِعها‬ ‫ُ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مشعشعاً‬ ‫بدعاك‬ ‫ما قد بَثَث ُْت‬

‫ست َني بيتاً قد نَ َز ْع ُت وبضع ًة‬

‫أولوك من ُع ُن ِق ال َف َخا ِر كِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫فاك‬


‫يا همس السنون الباقيات‬ ‫وخفق البونِ املعتّ ِق يف فمي‬ ‫يسألونني َ‬ ‫عنك‪..‬‬ ‫وعني من أكو ْن‬ ‫َّ‬ ‫أنت‬ ‫غبت َ‬ ‫كلام حرضتَ أو َ‬ ‫يف جالل الهج ِر وزهو السكو ْن‪..‬‬ ‫ويلبسونني َ‬ ‫فيك‬ ‫مم‪..‬‬ ‫ثوب السؤا ِل يف ِق ِ‬ ‫‪،،‬‬ ‫أنا ما خنتك أبدا ‪..‬حاشا ‪..‬‬ ‫أو هاتفتني َ‬ ‫دونك العيو ْن‪..‬‬ ‫قصت عىل غري‬ ‫وما ّر ْ‬ ‫َ‬ ‫وصاياك قدمي‪..‬‬ ‫شئت‬ ‫خذ مني ما‬ ‫رغبت وما ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫السالم‬ ‫ولك فوقه فاكهة‬ ‫ِ‬ ‫قبل ان تخنقها مسلّــــــــ ُة الظنو ْن ‪..‬‬ ‫انا مملوكة َلك ومليك ٌة رصتْ‬ ‫َ‬ ‫ريحك‬ ‫اترك يل فقط عبقا من‬ ‫وبعضاً من فمي‬ ‫أفنى بهام‪..‬‬ ‫أتننفسك فيهام‬ ‫أكرثّ وأكرثّ أفنانا وفنو ْن‬ ‫كزهر “خزامى”‬

‫طائر الفينيق‬


‫حني باغته فجر العم ِر‬ ‫مم‪..‬‬ ‫أطلق كل شّ ِ‬ ‫***‬ ‫القصيف‪..‬‬ ‫عمري‬ ‫يا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫رسي املؤجلِ ‪..‬‬ ‫يا ِّ‬ ‫زهوي املسكون يب‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫ح َّد الفنا والجنو ْن‪..‬‬ ‫يا قدري املوجوع‬ ‫بهم حتى اال ِمل‪..‬‬ ‫َلك مني ُ‬ ‫زالل البح ِر‬ ‫أجمعه يف سكو ْن ‪..‬‬ ‫و يل دونك مل َحه‬ ‫يف بُعدك املر َّم ِم ‪..‬‬ ‫َ‬ ‫وراءك‬ ‫قدرا أميش‬ ‫فتخونني خطاك منهم‬ ‫وصمت الجفو ْن‬ ‫ُ‬ ‫ومبسك را ٍح معتق ٍة من شفاه فمي‬ ‫أعايدك كل عام ‪..‬‬ ‫هكذا يف لحنِ العيون‬ ‫ولك مني‬ ‫الوشـــــــــم‬ ‫ما اشتهاه الفؤاد ساعة‬ ‫ِ‬ ‫حني تلبسني عباءة “بن قيطو ْن”‬ ‫رس “سريتا”‬ ‫و تلحفني ب ِّ‬ ‫طائر الفينيق‬


‫والدة ذاكرة‬ ‫الشاعرة رانية مرعي‬ ‫القلب يتق ُن لعب َة الزمن‪..‬‬ ‫باح يل بأرساره ‪ ،‬فصا َر‬ ‫عم ٌر َ‬ ‫ُ‬ ‫واعتنق الدهشة ليول َد بال انكسار‬ ‫الوقت من معتقل االنتظار ‪،‬‬ ‫تح ّر َر‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫بشغف حكاياتها الصادقة‬ ‫عدتُ اىل زمن جديت ‪ ،‬أسم ُع‬ ‫رس األبطال‪..‬‬ ‫وأتعلّ ُم ّ‬ ‫محوتُ عن كاهل السنني صو ًرا باهتة ‪ ،‬ولهف ًة اغتالها عابر سبيل ما أورثَ‬ ‫النبض إال أنينه‪..‬‬ ‫َ‬ ‫عيني العائدتني من غربة العتمة‪..‬‬ ‫وعىل جفني املرهق‬ ‫ُ‬ ‫نقشت كحيل األسود الذي ما عاد يش ّو ُه ّ‬ ‫َ‬ ‫خلف ظهري وصايا العهود املز ّورة‪..‬‬ ‫قت أقنع َة األيام املش ّوهة ‪..‬‬ ‫ورميت َ‬ ‫فقدتُ‬ ‫ُ‬ ‫فصول الوهم ‪ ..‬وم ّز ُ‬

‫كيف أر ّم ُم ذاكريت‬ ‫ُ‬ ‫تعلمت َ‬ ‫مع صديقي الذي أعا َد يل بهجة الطفولة‪..‬‬ ‫مع حبيبي الذي يد�ل ّ ُل روحي كلام ناداين باسمي‪..‬‬ ‫مع مرآيت التي علّمتها مداراة انكسارايت‪..‬‬ ‫مع نفيس التي ما عادت ترتيض أنصاف األحالم‪..‬‬

‫أنصف ذاكريت‬ ‫كيف‬ ‫ُ‬ ‫ّمت َ‬ ‫تعل ُ‬ ‫كل عطره‪..‬‬ ‫بورد ٍة أقطفها من ربيعٍ يهديني وحدي ّ‬ ‫بفتًى أسمر كربتُ معه يف مالعب قريتي ‪ ،‬مل يرسقه مني السفر‪..‬‬ ‫أقطف األماين من عليائها ألزيّن بها ابتسامايت‪..‬‬ ‫بإرصار أيب أن‬ ‫َ‬ ‫كل أفّاقٍ وجبان ‪ ،‬وكم تالشت أطياف كاذبة‪..‬وظلمت أنا القدر‪..‬‬ ‫بدعاء أمي أن يبع َد الله عني ّ‬

‫ذاكريت أنقذتها ‪ ..‬وم ًعا نك ُرب‪..‬‬ ‫بال أمل ‪ ..‬بال عتاب ‪ ..‬بال هزائم‪..‬‬


‫وبسحر“األوراس” املعظ ِّم‬ ‫وتلبسني‬ ‫زهو “تلمسان” املع ّم ِر املغمور‬ ‫وحلم “وهران” املع ّز ِز املطمور‬ ‫و تهدهدين عىل‬ ‫حكايا “أم الدياااتْ ”‬ ‫وقصص» التوارق» املدوياتْ ‪..‬‬ ‫املغرم‬ ‫وتزينني بنوار “ ُج ْر ُجرة”‬ ‫ِ‬ ‫املحتشم‬ ‫وزهر “طولقا”‬ ‫ِ‬ ‫أعاديك وعربات ترشين‬ ‫تطلق زغاريدها‬ ‫عىل أهازيج “ابن زيدو ْن”‬ ‫وعىل عهد بيننا قائ ٌم‬ ‫أراه يف خرضة منفاي‬ ‫ُ‬ ‫ينازل الغرق عىل سواحيل‬ ‫ويخىش قبائال َ‬ ‫منك‬ ‫وعشائرا مني‬ ‫تنازعك يف كوين ‪..‬‬ ‫ويف عدمي‪!..‬‬ ‫***‬ ‫نارصيتك ‪ /‬نيويورك ‪2021‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫وبسحر“األوراس” املعظ ِّم‬ ‫وتلبسني‬ ‫زهو “تلمسان” املع ّم ِر املغمور‬ ‫وحلم “وهران” املع ّز ِز املطمور‬ ‫و تهدهدين عىل‬ ‫حكايا “أم الدياااتْ ”‬ ‫وقصص» التوارق» املدوياتْ ‪..‬‬ ‫املغرم‬ ‫وتزينني بنوار “ ُج ْر ُجرة”‬ ‫ِ‬ ‫املحتشم‬ ‫وزهر “طولقا”‬ ‫ِ‬ ‫أعاديك وعربات ترشين‬ ‫تطلق زغاريدها‬ ‫عىل أهازيج “ابن زيدو ْن”‬ ‫وعىل عهد بيننا قائ ٌم‬ ‫أراه يف خرضة منفاي‬ ‫ُ‬ ‫ينازل الغرق عىل سواحيل‬ ‫ويخىش قبائال َ‬ ‫منك‬ ‫وعشائرا مني‬ ‫تنازعك يف كوين ‪..‬‬ ‫ويف عدمي‪!..‬‬ ‫***‬ ‫نارصيتك ‪ /‬نيويورك ‪2021‬‬

‫طائر الفينيق‬

‫‪174‬‬


‫طائر الفينيق‬

‫‪175‬‬


‫ترا ُه كأنَّ ُه َح َم ٌل َودي ٌع‬ ‫ِ‬ ‫العهد ‪َ ،‬ر ٌّب لل ُخشو ِع‬ ‫و ُّيف‬ ‫طيف أُنثى‬ ‫ولكن لو تَ َب َّدى ُ‬ ‫ستَلقى ال ُغص َن‪ُ ،‬مز َد ِح َم الفُرو ِع‬ ‫هاج اِش ِتيا ِقي‬ ‫وأَ ِ‬ ‫لقان إذا َ‬ ‫َسآ ك ُ​ُل لو َعتي‪،‬وأَ ُس ُّد جو ِعي‬ ‫ميت من كَيدي وغ ِ‬ ‫َ‬ ‫َيظي‬ ‫عليك َر ُ‬ ‫ِد َ‬ ‫خب الوقو ِع‬ ‫ماك ج َرعتُها نَ َ‬

‫ًّعت ال َخطايَا‬ ‫صلبت ال ُح َّب‪َ ،‬رف ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يوم يَسو ِعي‬ ‫عساك تص ُري يف ٍ‬


‫َ‬ ‫عساك تصي ُر في يومٍ َيسوعي‬

‫الشاعرة غدير نرص الدين‬

‫الضلو ِع‬ ‫ُدموعي ب َني ُجدرانِ ُّ‬ ‫يل ُمعلِ َن ًة ُخضو ِعي‬ ‫ت ُ‬ ‫َفيض ع َّ‬ ‫قلب ما يُ َ‬ ‫عييك حتَّى‬ ‫أال يا ُ‬ ‫ِدت بال ر ُجو ِع‬ ‫تُذ ََّل إذا طُر َ‬ ‫وما ُ‬ ‫بال ال ُعيونِ إذا أُهيلَت‬ ‫َتيل َد َم الشُّ مو ِع‬ ‫كم يُجري الف ُ‬ ‫َ‬ ‫كام لو أ َّن روحي قد أُبي َحت‬ ‫مبلعب ٍ‬ ‫عابث‪ ،‬ال ٍه‪َ ،‬خنو ِع‬ ‫ِ‬ ‫سا‬ ‫ِب َنشوانٍ يَ ُع ُّب ال َخم َر ِ ًّ‬ ‫وشي ٍخ م َّد ٍع ب َني ال ُجمو ِع‬ ‫بعنت َة امل ُ َز َّو ِج من َثَانٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫وباك دا َر عبلَ َة يف ُولو ِع‬

‫وان‬ ‫يل ويا َه ِ‬ ‫ف َيا َأسفي َع َّ‬ ‫وصم ال ُخنو ِع‬ ‫ويا لِلعا ِر من ِ‬

‫طائر الفينيق‬



‫كيف أحمل قلبي‬ ‫الشاعرة سناء الحاموش‬ ‫وارميه ‪..‬‬ ‫عىل حافة واد‪.‬‬ ‫كيف اهرب منه‬ ‫يك ال يعود ؟‬ ‫أكور كفي‬ ‫عىل صوتك أقبض‬ ‫اغلفه برتاب واريج‬ ‫وحبيبات ندى‬ ‫افر به بعيدا‬ ‫ألقيه عىل جرف صمت‬ ‫كل يشء ساكت‬ ‫كل العيون ‪..‬‬ ‫كل الوجوه‬ ‫خافت ال يصلني‬ ‫صوت العصافري ‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫بحار ومتمردة‬ ‫الشاعرة زينة الجوهري‬ ‫قال لها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سفينتك!‬ ‫حبل‬ ‫قطعت َ‬ ‫ِ‬ ‫وقفت؟‬ ‫أيف مرفأ الحب‬ ‫قالت له‪:‬‬ ‫أنا لؤلؤة البحار‬ ‫يحا ُر بها البحار‬ ‫رص يف عنقه‬ ‫أيقونة ن ٍ‬ ‫أرادين بوصلته‬ ‫ِ‬ ‫الشغف‬ ‫إىل محيط‬ ‫أساف ُر يف دمه‬

‫أقرأُ يف عيني ِه أُحجية‬ ‫ودواوين شع ِر اآللهة‬ ‫ليحصل عىل تلك اللؤلؤة‬ ‫حوري ٌة متمردة‬ ‫باسمة الشفت ِني بعذب الكالم‬ ‫تحت ضوء القمر‬ ‫أرد ُد أغاين الحب والسمر‬ ‫أتسلل بشَ ع ِر الليل‬ ‫ُ‬ ‫أن ُري نجوم السام‬ ‫شقية‪ ...‬تالعب املوح بح ِّرية‬


‫كيف أقف أمام باب موصد؟‬ ‫ال من يجيب ‪..‬‬ ‫وما من مفتاح معي‬ ‫والدار ليست داري !‬ ‫وال مكان ألقي فيه رأيس‬ ‫ألخرج مني هذا الضجيج‬ ‫فتحت صفحتي ‪..‬‬ ‫رسمت بابا مرشعا‪...‬‬ ‫وقلبا فاتحا قلبه‬ ‫ألنه يعرف من أنا‬ ‫فإين جئته من تيه‪..‬‬ ‫تيه بعيد ‪..‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫أرسة مجلة طائر الفينيق تهنئ املنتخب الجزائري الفوز» بكأس العرب فيفا ‪ »2021-‬ومليون مربوك للشعب الجزائري‬ ‫عىل هذا االنتصار الباهر واملثري ‪ ،‬مع متنياتنا ًبتحقيق املزيد من االنتصارات الكروية القادمة يف املحافل الدول ّية‪...‬‬


‫ترتامى عىل الصخور‬ ‫تحايك القصائد بأُغنية‬ ‫لتقرأها عىل دفاتر ثغري‬ ‫دواوين نقية حتى الشفافية‬ ‫قال لها‪ :‬أيتها الشقية‪..‬‬ ‫يدي‬ ‫كم شقي ٌة َّ‬ ‫ِ‬ ‫شعرك‬ ‫تتسلل إىل‬ ‫ُ‬ ‫وهي‬ ‫ترسحه تحت الظالم‬ ‫ِ‬ ‫مرآتك‬ ‫الكواكب والنجو ُم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫الجامل‪..‬‬ ‫فلشت‬ ‫لقد‬ ‫بعذوبته‬ ‫ِ‬ ‫صورت اإلبدا َع‬ ‫مبا هيته‬ ‫ِ‬ ‫وضاهيت الخالق‬ ‫مبوهبته‬ ‫َ‬ ‫فعفوك عفوك ريب‬ ‫من كالمي وجرأته‬ ‫قالت له ‪ :‬هيَّا‬ ‫إصعد إىل سفينتي‬ ‫لنبحر معا» يف بح ِر الغرام‪//.‬‬

‫طائر الفينيق‬



‫صحة‬


‫ال ّتعامل مع ال ّتقلّص العضيل‬ ‫ يجب عىل الشّ خص أو من حوله أن يقوم بتحريك املفصل القريب للعضلة ببطء حتّى يختفي التّقلّص ث ّم يقوم‬‫بالتّدليك العضيل مكان التّقلّص ‪.‬‬ ‫كمدات دافئة مكان التّقلّص ‪.‬‬ ‫ وضع ّ‬‫والسوائل ‪.‬‬ ‫يل واإلكثار من رشب املاء ّ‬ ‫ التّوقّف عن أي نشاط عض ّ‬‫متى يجب استشارة الطّبيب ؟‬ ‫ عىل ال ّرغم من أن معظم تقلّصات العضالت بسيطة ولكنها ممكن‬‫أن تكون سببًا ملرض ما ‪.‬‬ ‫ استرش الطّبيب إذا كانت التّقلّصات والتّشنجات العضل ّية شديدة‬‫ومتك ّررة وال تستجيب بسهولة للعالجات املذكورة سابقًا ‪.‬‬ ‫فقد تكون التّقلّصات العضل ّية ناتجة عن ضعف التّغذية مثل نقص‬ ‫الشايني أو جلطة يف األطراف‬ ‫الكالسيوم واملعادن األخرى أو تصلّب ّ‬ ‫أو مشكلة يف األعصاب أو نتيجة استخدام بعض األدوية ‪.‬‬ ‫مالحظة ‪ :‬للرياضيّني ممكن استخدام البيكربونات ساعتني أو ثالث ساعات قبل ال ّرياضة ‪،‬لتخفيف ح ّدة التّقلّصات‬ ‫الصيد ّيل‪.‬‬ ‫الّتي ممكن أن تحدث بعد ال ّرياضة‪،‬و ملعرفة الك ّم ّية املطلوبة حسب الوزن ميكنكم استشارة الطّبيب أو ّ‬ ‫‪2021-11-11‬‬


‫التقلص العضلي أو التشجنات العضلية‬ ‫الصيديل ماهر حسن‬ ‫الدكتور ّ‬

‫ما هو ؟‬

‫إرادي للعضلة يحدث فجأة بدون ارتخاء‪.‬‬ ‫ هو انقباض ال‬‫ّ‬ ‫كل االنقباضات العضل ّية الطّبيع ّية يليها ارتخاء بعد أداء الحركة املطلوبة‪.‬‬ ‫ ّ‬‫أكرث العضالت تأث ّ ًرا باالنقباضات العضل ّية هي ‪:‬‬ ‫‪ -1‬العضلة الخلف ّية للّسان‬ ‫‪ -2‬العضالت الخلف ّية واألمام ّية للفخذ‬ ‫أيضا قد يحدث انقباضات عضل ّية بالقدمني واليدين والذّراع‬ ‫‪ً -3‬‬ ‫األسباب‬ ‫ الجفاف ونقص املعادن ‪ :‬الجفاف يحدث نتيجة زيادة إفراز العرق وقد تفقد معادن مثل ( البوتاسيوم ‪،‬‬‫املغناسيوم ‪ ،‬الكالسيوم )‬ ‫ إجهاد وضعف العضالت ‪ :‬حيث أن كسل وضعف العضالت يؤ ّدي إىل التّقلّص العضيل عند استخدامها حيث‬‫ينتهي مخزونها من األكسسجني ويبدأ الحبل الشّ ويك بالتّن ّبه للعضلة باستمرار انقباضها ‪.‬‬ ‫األشخاص األكرث عرضة ‪:‬‬ ‫الس ّن أكرب من ‪ 65‬عاما ‪.‬‬ ‫ األطفال وكبار ّ‬‫ األشخاص البدينون ‪.‬‬‫ األشخاص املجهدون والّذين يعملون بجهد أكرب من قدرتهم العضل ّية ‪.‬‬‫ استخدام بعض األدوية مثل بعض مد ّرات البول والهرمونات الّتي تقوم بإخراج املعادن من الجسم ‪.‬‬‫‪ -‬العبي املاراتون واملامرسون للجري ‪.‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫خواطر‬

‫الطالب عباس طالب عثامن( الجامعة اللبنانية)‬

‫‪-1‬رسالة‬

‫بعثت لها رسالة ‪،‬ورغم أنني أعلم أنها لن تصل إليها ‪،‬فقد حقنتها بكمية‬ ‫كافية من الرغبة والتجربة العاصفة املنعزلة ‪،‬بعثت لها تلك الرسالة ورغم‬ ‫أنني أعلم يقينا بأن من سيتلقاها جندي شاحب الوجه ‪،‬هجرته الوجدانية‬ ‫‪،‬عزفت عىل آذانه أصوات حوافر األحصنة املنثورة يف برص عينيه ‪،‬عنون‬ ‫وجهه بسطرين من الحواجب املتهالكة ‪،‬وضع أسفل صفحة وجهه توقيعاً‬ ‫ملن يسريه عىل شكل فم ‪،‬توقيع يعرض هوية أفكار ومخططات مسريه تربز‬ ‫كل ما أراد أن يتقيأ بعض الحروف ‪........‬رغم كل ذلك املشهد السوداوي‬ ‫الغليظ‪ ،‬أطلق الرسول العنان لحصانه مهاجام مصريا ً كانونيا قارساً كاد أن يصل إليه عىل بعد ذاكرتني حيث فتحت‬ ‫تلك الرسالة سطورها ناثرة تلك الذاكرتني يف طياتها مثقلتَ ْي ناصية الرسول الذي جلس بشكل معاكس عىل حصانه‬ ‫متأمالً كل ما يحيط به‪ ،‬متأمال كل ما صنع ويصنع‪ ،‬مواجهاً ما ينتظره ‪،‬مدركاً أنه جزء من ما هو حوله وما‬ ‫سيحيط به يف املكان الذي سيصل إليه ‪،‬مدركا أنه مصنوع من قبل من يتحكم بكل هذه املشاهد واألحداث‬ ‫‪،‬مدركاً أن كل ما سبق وكل ما ينتظره هو من صنع من ارسله ‪...‬‬


‫خواطر‬

‫طائر الفينيق‬


‫‪-3‬يف هذا العامل‬ ‫يف عامل يدق طبول الحرب جميعنا متورط بإغتيال القرب‬ ‫فكر محقن مشبع بالفراغ يسريه ويغرقه الطرب‬ ‫ايها القريب البعيد الذي قد تقرف مني‬ ‫تذكر فاميل منكم ومالكم مني‬ ‫بربك ايف البعد اقرتبت شهواك‬ ‫اهذا برهانك بالبعد عني‬ ‫وانت وانت ايها القريب البعي بحقدك العشوايئ تطلعاتنا تبيد‬ ‫اخربين ايها القديس اخربن‬ ‫بقافيتك الخبيثة تسحرين‬ ‫اليس للموت من بعدك تجذبني وتفرضني لتجربين‬ ‫اخربين ايها القديس اخربين‬ ‫بشعاراتك وخطوطك الحمراء تشحنني‬ ‫صبيانك فتيل شبايب يشعلون‬ ‫اجمرا لثوراتك الفجون ترصفني‬ ‫اتظنني بك مؤمن متيقن‬ ‫فرصاتك بالعقائد يثقلني‬ ‫تداركت ايامي ثقلك فطحني خبزي يطلبني‬ ‫بظاهر يم الجهل تغرقهم‬ ‫ليس انت من يغرقني‬


‫‪ -2‬الرومانسية‬ ‫أفتقدك بني سطور األيام وطيات انقالباتها‪ ،‬أفتقدك يف كل هندسة ألمر أقوم به‪،‬‬ ‫أفتقدك بني تقلبات حركة قدمي وخجل مسريها ‪،‬بني كل غرسة للمشط يف شعري‬ ‫وبعد كل نظرة للمرآة بوجه مبلل‪ ،‬وبني‪ ،‬وبني كل جرعة دفء تحقنها رشفة‬ ‫قهوة‪ .......‬لكن ومع كل ذلك‪ ،‬يشء ما أشعر به ينهش معامل هندسة تلك العالقة التي‬ ‫كانت أساس حديثنا وأساس ما سبق‪ ،‬وكأن معامل تلك الهندسة غزتها الكيمياء ببعض‬ ‫من جزيئاتها التي تذيب معامل كانت تتامىش حيث تشاء‪ ،‬ترتاقص وسمفونيات كتلك‬ ‫التي يعزفها مشهد التصاق وجنتي الشمس بالبحر‪ .‬بعدها تتساقط بنعومة ك ُندف‬ ‫من الثلج تطايرت بعد اصطدام عنيف بني غيوم هيجتها رياح كانونية حيث تشكل‬ ‫إشكالية‪ ،‬فهل الغيوم من تتسبب بذلك الحدث العنيف‪ ،‬أم الرياح من سريها مجربة‬ ‫إياها لتفرغ ما حملته طوال أشهر عدة؟ وهل كان ما تحمله يرهق كاهلها وينهكها‬ ‫؟ ام هل من مسبب غامض دفع بالرياح لتقوم بتلك الخطوة؟هل كل ذلك حدث يف‬ ‫ظل نظرية «أثر الفراشة»؟‪......‬‬

‫طائر الفينيق‬


‫( إكسري الفصول ) أكريليك‬


‫فن‬ ‫لوحات فن ّية‬

‫الفنانة حنان بو حسن‬

‫يف غرفة دافئة طاولة أنيقة كأس ممشوق أنيق املظهر مملوء بعصري‬ ‫الفصول الباردة بورق الخريف املرتنح بالشوارع ‪ ،‬ونكهة قطرات الشتاء‬ ‫ورائحة الرتاب املتعطش لألرتواء ‪ ،‬وتراه يتاميل مسحورا ً مبا تقدمه النار‬ ‫من لوحات راقصة آخاذة ملتهبة‪ ،‬توقظ رشارة الحب والحنني يف قلبك‬ ‫الدافئ املتعطش لكأس إكسري الفصول ‪...‬‬ ‫لوحتي األوىل بعنوان‪( :‬إكسري الفصول)‬

‫طائر الفينيق‬


‫جريان القلب وضيوف الروح ألشهر ثم نزيف حب ال يتوقف ونبض شقي يدغدغ أرجاء الجسد املتعب توقاً للقاء‬ ‫ثم ومن أول ضمة يكاد القلب أن يتوقف من شدة التوتر والعزف الرسيع عىل أوتاره وأما عن العيون الدامعة‬ ‫أثوابا من الدعاء للرعاية واملشاعر التي تبارش ببناء السدود خوفاً من انهيار الهيكل املثقل بالتعب ونهر الحنني‬ ‫والحب الثائر يكرس السدود لتدفقه الجارف بفوىض مشاعر عارمة ‪ ،‬هي األم كل هذا األحتواء‪ ....‬لوحتي الثالثة‬ ‫بعنوان‬ ‫( فوىض مشاعر ) باألكريليك‬


‫الشمس والقمر يف كل األعراف وعىل امتداد الكرة األرضية النور والضوء واضحة وغري‬ ‫مبهمة متاماً كالرقص والعزف هي لغة ال تحتاج ترجمة عىل صعيد الكون أجمع ‪ ،‬لغة‬ ‫عبور لكل دول العامل ‪....‬لوحتي الثانية بعنوان‬ ‫( عزف عىل أوتار الروح ) باأللوان الزيتية‬

‫طائر الفينيق‬


‫«إىل»‬

‫أرسة التحرير‬ ‫حرف جر‪ ،‬ولها أكرث من معنى يبني كيفية استعاملها‪:‬‬ ‫أ ــ انتهاء الغاية الزمانية‪ ،‬كقوله تعاىل‪«:‬ثم أمتوا الصيا َم إىل الليل»‬ ‫ب ــ انتهاء الغاية املكانية‪ ،‬كقوله تعاىل‪« :‬من املسجد الحرام إىل املسجد األقىص»‬ ‫وكأ ّن يف الحالني ما يدل عىل وصول اليشء إىل غايته‪ ،‬كقولنا‪« :‬قرأت الكتاب من أوله‬ ‫إىل آخره»‪.‬‬ ‫ج ــ حني تدل عىل املعية‪ ،‬كام يف اآلية الكرمية‪« :‬من أنصاري إىل الله» يعني من‬ ‫معي؟‪.‬‬ ‫د ــ التبيني‪ :‬مبينة فاعلية مجرورها بعد فعل التعجب‪ ،‬كقول ميسون بنت بحدل‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الشفوف‬ ‫أحب إ َّيل من لبس‬ ‫ولبس عباء ٍة وتق ّر عيني‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬

‫أحب إ َّيل»‬ ‫وكام يف اآلية الكرمية‪ِّ :‬‬ ‫«رب‪ ،‬السج ُن ُّ‬ ‫هـ ــ أن تكون إىل موافقة معنى «يف»‬ ‫كام يف قول النابغة الذبياين‪:‬‬ ‫أجرب‬ ‫يل به القا ُر‬ ‫فال ت ُرتكَ ِّني بالوعي ِد كأنني‬ ‫ُ‬ ‫إىل الناس َمطْ ٌّ‬ ‫يل‬ ‫أي كأين يف الناس مط ٌّ‬ ‫جلست إىل النهر أي عند النهر‪.‬‬ ‫وــ موافقة عن َد‪ ،‬كقولنا‪:‬‬ ‫ُ‬


‫زاوية اللغة‬ ‫زاوية اللغة‬

‫طائر الفينيق‬

‫‪197‬‬


ISSN:26994-6025


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.