Henri Zoghaib جبران خليل جبران - شواهدُ الناس والأمكنة - هنري زغيب

Page 1





‫بطاقة مكتبية‬

‫الكتاب ‪ :‬جربان خليل جربان ‪ -‬شواهد الناس واألمكنة‬ ‫املؤلف ‪ :‬هنري زغيب‬ ‫النارش ‪ :‬درغام‬ ‫املوضوع ‪ :‬أبحاث بيوغرافية‬ ‫اللغة ‪ :‬عربية‬ ‫عدد الصفحات‪ 272 :‬صفحة‬ ‫القياس ‪ 24 x 17 :‬سنتم‬ ‫رقم الكتاب يف النظام الرقمي الدويل‪ISBN 978-9953-579-03-0 :‬‬ ‫الطبعة ا ُ‬ ‫ألوىل‪ :‬آذار ‪2012‬‬ ‫الطبعة الثانية‪ :‬حزيران ‪2012‬‬

‫© احلقوق حمفوظة للنارش‬

‫منشورات درغام‬

‫سد البورشية‬ ‫بناية درغام ‪ -‬شارع الفردوس ‪ّ -‬‬ ‫ص ب ‪ 90 -1728‬جديدة املتن‬ ‫املتن ‪1202 - 2130‬‬ ‫الربيد اإللكرتوين‪info@dergham.com :‬‬ ‫املوقع اإللكرتوين‪www.dergham.com :‬‬


5


‫من هنري زغيب‬ ‫ ‬ ‫ إيقاعات‬ ‫ب يف الزمن املمنوع ‬ ‫ قصائد ُح ّ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ سمفونيا السقوط والغفران ‬ ‫ ‬ ‫ من حوار البحر والريح‬ ‫ أن ِ‬ ‫ ‬ ‫ت‪ْ ...‬ول َت ْن َت ِه الدنيا‬ ‫كِ‬ ‫وجه ‬ ‫ تقاسيم عىل إيقاع ِ‬ ‫ ‬ ‫  ِم َّنصة‬ ‫ ‬ ‫ ربيع الصيف الهندي‬ ‫ عىل رمال الشاطئ املمنوع ‬

‫ِشـعـر‬ ‫‪ :‬طبعة أوىل ‪ ،1986‬طبعة ثانية ‪( 2002‬بريوت)‬ ‫ترجمها اىل اإلنكليزية‬ ‫‪ُ :‬مختارات من ِشع ِره َ‬ ‫عدنان حيدر ومايكل بريد طبعة أُوىل‪ :‬واشنطن ‪ ،1991‬‬ ‫طبعة ثانية‪ :‬بريوت ‪2005‬‬ ‫‪ :‬طبعة أُوىل‪ :‬واشنطن ‪ ، 1993‬طبعة ثانية‪ :‬بريوت ‪2004‬‬ ‫‪ :‬طبعة أُوىل‪ :‬واشنطن ‪ ، 1994‬طبعة ثانية‪ :‬بريوت ‪2004‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2001‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2005‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2006‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2010‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2012‬‬

‫ ألنني املعبد واإلِ َل َه ُة أن ِ‬ ‫ت ‬ ‫ُ‬ ‫صديقة البحر ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ميميات‬ ‫  َح ّ‬ ‫ ‬ ‫ميميات‬ ‫  َح ّ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ نقطة عىل الحرف‬ ‫ ‬ ‫  ُلغاتُ اللغة‬

‫نـثـر‬ ‫‪ :‬بريوت ‪1981‬‬ ‫‪ :‬طبعة أُوىل ‪ ،1998‬طبعة ثانية ‪2005‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2003‬‬ ‫‪ :‬يف ‪ 4‬لغات (العربية‪ ،‬اإلنكليزية‪ ،‬الفرنسية‪ ،‬األملانية)‬ ‫منشورات جامعة سرياكيوز ‪ -‬نيويورك ‪2008‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2010‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2011‬‬

‫سرية وأنطولوجيا‬ ‫القصة اللبنانية [يف جزءين] ‪ -‬بريوت ‪1980‬‬ ‫  َأقر ُأ من لبنان ‬ ‫‪ :‬أُنطولوجيا َّ‬ ‫ الضيعة اللبنانية بأقالم أدبائها ‪ :‬بريوت ‪1982‬‬ ‫طريق َّالنحل ‪ :‬بريوت ‪2001‬‬ ‫ األخَ َوين رحباين ‪-‬‬ ‫ُ‬ ‫*  تنسيق وتقديم املجموعة املرسحية الكاملة لألخوين رحباين [‪ 20‬جزء ًا] ‪ -‬بريوت ‪2005‬‬ ‫‪ :‬بريوت ‪2010‬‬ ‫ ‬ ‫ سعيد عقل إن حكى‬ ‫ جربان‪ ..‬شواهدُ الناس واألمكنة ‪ :‬بريوت ‪2012‬‬

‫‪4‬‬


‫ُ‬ ‫يالحقني َأم ُأالحقه؟‬

‫إعالن املضيفة‬ ‫لحظة َ‬ ‫عن يل ُ‬ ‫ت يب الجامبو‪ ،‬ذاك الصباح من نيسان ‪َ ،1985‬لم َي ِ‬ ‫جث َم ْ‬ ‫وصلت إىل‬ ‫بقد ِرما كنت أَشعر أنني‬ ‫أننا وصلنا إىل مطار جون كيندي يف نيويورك‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫املدينة التي عاش فيها جربان‪.‬‬ ‫َتولى رئاسة‬ ‫مانهاتن‪،‬‬ ‫بلغت‬ ‫وحني‬ ‫جئت أ ّ‬ ‫َ‬ ‫ودخلت مكتب جريدة ‪‬الهدى‪ ‬التي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫قريب من املبنى‬ ‫َتحريرها‪،‬‬ ‫انتبه ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت إىل أنه ٌ‬ ‫وأدركت أنه املبنى ‪ 34‬من الشارع ‪ 28‬غرب ًا‪ْ ،‬‬ ‫‪ 28‬يف الشارع ‪ 9‬غرب ًا‪ ،‬حيث سكن جربان أول وصوله اىل نيويورك يف ضيافة صديقه‬ ‫استقر جربان يف‬ ‫أمني الريحاين‪ ،‬وعىل أمتار منه املبنى ‪ 51‬يف الشارع ‪ 10‬غرب ًا‪ ،‬حيث‬ ‫ّ‬ ‫ُمحرتفه عرشين سنة متواصلة‪.‬‬ ‫جار جربان يف نيويورك‪ ،‬ولو بعد ‪ 54‬عام ًا عىل رحيله‪ ،‬وسأَذوق ما ذاقه‬ ‫ها أنذا إذ ًا ُ‬ ‫لديها وأعيش كام عاش فيها‪.‬‬ ‫عت‬ ‫روحانية‬ ‫جرية افرتاضية‪ ،‬صحيح‪ ،‬لكنها جري ُة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫صامتة كانت ترسي يب كلام ّ‬ ‫تطل ُ‬ ‫رست يف‬ ‫إىل الالفتة املعدنية التي عليها رقم الشارع عند ناصيته (‪ 10‬غرب ًا)‪ ،‬أو ّكلام ُ‬ ‫أسفل‬ ‫وتنقل عابر ًا‬ ‫أ َِّي شار ٍع ذي عالقة ِبجربان يف هذه املدينة التي عاش فيها َّ‬ ‫شوارع ِ‬ ‫َ‬ ‫مانهاتن (حي الـ‪‬ڤيل ِْد ْج‪ )‬طوال عرشين عام ًا‪ ،‬منذ وصوله إليها سنة ‪ 1911‬حتى‬ ‫رحيله سنة ‪.1931‬‬ ‫جري ٌة كان الشعور بها يعيش معي طوال َتجوايل عىل أماكنه يف تلك اإلقامة‬ ‫النيويوركية التي كأنها كانت رحلة بحث ميداين عن املناخ املديني الذي عاش‬

‫‪7‬‬



‫سيدة األرز‬ ‫(‪،)1910 -1895‬‬ ‫ُ‬ ‫وزرت مدرس َة ماري هاسكل يف شارع مارلبورو‪ ،‬وكنيس َة ّ‬ ‫وز ْر ُت‬ ‫جثامنه فيها‪ ،‬والساح َة التي عىل اسمه اليوم واللوحة التذكارية فيها‪ُ ،‬‬ ‫التي ُس ِّج َي ُ‬ ‫ت‬ ‫ناي جربان‬ ‫النحات خليل جربان وزوجته جني وعندهام‬ ‫وبعض ثيابه ومئا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫عاينت َ‬ ‫وشك َلت مادة كتابه البيوغرايف الشهري‪.‬‬ ‫جمعها خليل وزوجته َطوال سنوا ٍ‬ ‫ت ّ‬ ‫الوثائق التي َ‬ ‫حرتفه‪ ،‬واملستشفى الذي تويف فيه‪،‬‬ ‫زرت‬ ‫الشارع الذي كان فيه ُم ُ‬ ‫َ‬ ‫ويف نيويورك ُ‬ ‫وقصدت‬ ‫ذات عالقة ِبحياته يف أَسفل مانهاتن‪،‬‬ ‫واألماكن التي كان َّ‬ ‫ُ‬ ‫يرتدد إليها أو هي ُ‬ ‫َ‬ ‫َود َع ْته ماري‬ ‫بيت ماري هاسكل وقريب ًا منه ُمتحف ت ِْل ِفري الذي أ َ‬ ‫ساڤانا (جورجيا) زائر ًا َ‬ ‫وجامعتها يف ْ‪‬تشاپل ِه ّل‪ ‬التي أَمضيت‬ ‫وقصدت نورث كاروالينا‬ ‫لوحات جربان إليها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الرسائل األصلية بني‬ ‫متع ًة طويل ًة أ ُِّقلب بني َيد َّي‬ ‫يف جناح أرشيڤها‬ ‫الغني ساعا ٍ‬ ‫َ‬ ‫ت ُم َ‬ ‫ّ‬ ‫ودفاتر يومياتها الخاصة‪ .‬وحني انعقد املؤمتر األول للدراسات الجربانية‬ ‫جربان وماري‬ ‫َ‬ ‫رشف أَن يختارين رئيسه الپروفسور سهيل برشوئي‪،‬‬ ‫يف جامعة مرييلِند (‪ )1999‬كان يل ُ‬ ‫مؤسس ًا معاون ًا لـ‪‬االتحاد العاملي للدراسات الجربانية‪ ‬لِمنطقة لبنان‬ ‫باسم الجامعة‪ِّ ،‬‬ ‫والرشق األوسط‪ ،‬ما وطّ د عالقتي بجربان عىل املستوى املهني‪.‬‬ ‫وإىل مشاركايت وأنشطتي يف خمسينية جربان (‪ )1981‬ومئويته (‪ ،)1983‬جاءت‬ ‫فجعلت لها من ‪‬مركز الرتاث اللبناين‪ ‬يف الجامعة اللبنانية‬ ‫الذكرى ‪ 125‬لوالدته‬ ‫ُ‬ ‫نواح مختلفة من أدب جربان وسريته‪.‬‬ ‫األمريكية منرب ًا ألربع ندوات أضاءت جديد ًا عىل ٍ‬ ‫يالحقني؟ أم ُأالحقه؟‬

‫طبعت‬ ‫طب َعت حياته وأدبه‪َ ،‬وتجربتي األمريكية َ‬ ‫مسريته األمريكية (‪َ )1931 -1895‬‬ ‫ففهمت‬ ‫النفيس والذهني والعاطفي الذي عاش فيه‪،‬‬ ‫املناخ‬ ‫يب الكثري من معرفتي‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وح ْلمه‪ -‬كام قال يوم ًا‬ ‫وطع َم ُ‬ ‫ميداني ًا َ‬ ‫حنينه إىل لبنان‪ْ ،‬‬ ‫برشي ووادي قاديشا‪ُ ،‬‬ ‫الغربة عن ّ‬ ‫أي حال‪ ،‬أوىص‬ ‫لِميخائيل نعيمه‪ -‬أن يزور وادي قاديشا من جديد‪ ،‬وهو الذي‪ ،‬عىل ّ‬ ‫برشاء دير مار رسكيس كي يسرتيح فيه عند غيابه األخري‪.‬‬ ‫وجبالها يف خلفية عددٍ واف ٍر‬ ‫وهادها‬ ‫وهضابها ُ‬ ‫األم التي تظهر ُ‬ ‫قوي ًا كان ُ‬ ‫حنينه إىل أرضه ِّ‬ ‫ُ‬ ‫السبع‬ ‫من لوحاته التي رسمها يف صومعته النيويوركية‪ ،‬مع أن نيويورك أ ْ‬ ‫َطلقت ُه‪ ،‬يف سنواته ْ‬ ‫يتخل عنها حتى‬ ‫األم‪.‬‬ ‫ولبناني ُته التي مل َّ‬ ‫األخرية‪ ،‬إىل شهر ٍة ما كان ُممكن ًا أن يبلغها من أرضه ّ‬ ‫َّ‬ ‫عالمي ًا من لبنان‪.‬‬ ‫عز َمجده األمريكي‪ ،‬جعلته يفتتح فجر أن يكون املبدع مواطن ًا َ‬ ‫وهو يف ّ‬

‫‪9‬‬


‫فيه‪ ،‬عرب الناس الذين عرفوه أو عايشوا من عرفوه‪ ،‬واألمكنة التي رسمت خارطة‬ ‫حياته‪.‬‬ ‫وطوال إقامتي هناك (‪ ،)1986 -1985‬ومنذ اليوم األول لوصويل إىل مانهاتن‪،‬‬ ‫وق َع‬ ‫صامت ّكلام‬ ‫كان يالزمني شعور‬ ‫مشيت يف تلك الشوارع‪ ،‬فأ َ​َت َخ َّيل عىل أرصفتها ْ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وأوصلته إقامته هنا إىل العاملية‬ ‫لعبقري من لبنان كان َيمشيها قبل سبعة عقود‪،‬‬ ‫َقد َمني‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫فالخلود‪.‬‬ ‫كنت أتساءل‪ :‬لو كان أمىض حياته يف لبنان‪ ،‬هل كان نال ما نال هنا‪ ،‬وبلغ‬ ‫وغالب ًا ما ُ‬ ‫حيث بلغ هنا؟‬ ‫يالزمني فقط وأنا يف نيويورك‪.‬‬ ‫غري أن جربان مل ْ‬ ‫عالمه‪ .‬ومل أكن أدري هل أنا‬ ‫ً‬ ‫طويال قبلذاك‪ ،‬يف لبنان‪ ،‬كان يعيش معي وأعيش يف َ‬ ‫أُالحقه أم هو من يالحقني‪.‬‬ ‫جناح خاص به هو األكرب واألغنى بني جميع األجنحة يف مكتبي‪ ،‬مبا‬ ‫ففي مكتبتي ٌ‬ ‫ووثائق أعود إليها عند كتابتي نص ًا أو حاجتي إىل‬ ‫وصور ومجالت‬ ‫يحوي من ُكت ٍ‬ ‫َ‬ ‫ب عنه َ‬ ‫معلومة‪.‬‬ ‫صد َرت يف أكثر من‬ ‫كتابات‬ ‫وعند االحتفال بخمسينيته فمئويته‪ ،‬كانت يل‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ومتابعات َ‬ ‫ومجلة وإذاعة وتلڤزيون‪.‬‬ ‫جريد ٍة َ‬ ‫بي‪‬‬ ‫وحني طلب مني الصديق فريد سلامن‪ ،‬سنة ‪ْ ،1981‬‬ ‫وضع ترجمة باللبنانية ّ‬ ‫لـ‪‬الن ّ‬ ‫املقرر أن ُتصدِ رها لجنة‬ ‫كل عمل آخر‬ ‫وانرصفت إليها حتى ْأن ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أوقفت ّ‬ ‫جز ُتها‪ ،‬وكان من َّ‬ ‫جربان الوطنية يف طبعة خاصة‪.‬‬ ‫كتاب النحات خليل جربان ‪‬جربان‪ :‬حياته‬ ‫وعند وصويل إىل الواليات املتحدة كان ُ‬ ‫َشهر‪ ،‬أَقرأُه وأُعيد قراءته َلس َب َبني‪ :‬غوص ًا عىل حياة جربان‪،‬‬ ‫وعامله‪ ‬رفيقي طوال أ ُ‬ ‫فضعف امتالكي‬ ‫ومساعد ًة عىل َت َم ُّكني من اإلنكليزية ‪-‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وكنت َه َج ُرتها زمن ًا يف لبنان ُ‬ ‫ُفيد منها يف آن‪.‬‬ ‫إياها ‪ -‬حتى أَستعيدها بقراء ٍة‬ ‫ُ‬ ‫أستسيغها وأ ُ‬ ‫يالحقني؟ أم ُأ ُ‬ ‫الحقه؟‬

‫جعلت دأْيب أن أَزور األماكن التي َس َك َنها‪.‬‬ ‫يف الواليات املتحدة‬ ‫ُ‬ ‫الخمس عرشة األوىل‬ ‫شه َدت سنواتِه األمريكي َة‬ ‫ُز ْر ُت شوارع بوسطن‬ ‫وأحياء فيها ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫‪8‬‬


‫يالحقني؟ أم ُأ ُ‬ ‫الحقه؟‬

‫تساؤل‬ ‫لعلي اليوم‪ ،‬بإصداري يف هذا الكتاب كتابايت الكثرية عنه‪ ،‬أَيف ما يف بايل من‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫حديث‪ ،‬أَو‬ ‫جهت شخصي ًا أو كتابي ًا‪ ،‬أَم يالحقني َّكلام دار عنه‬ ‫ٌ‬ ‫كنت أ ُ‬ ‫ُالحقه كيفام ّات ُ‬ ‫إن ُ‬ ‫حل ٌّي أو ُد َول ِّي‪.‬‬ ‫مؤمتر َم ّ‬ ‫َح َّلت مناسب ٌة‪ ،‬أَو انعقد ٌ‬ ‫ت‬ ‫نرشتها مقاال ٍ‬ ‫كنت ُ‬ ‫جموع كتابايت عن جربان يف ربع قرن‪ُ ،‬‬ ‫هذا الكتاب إذ ًا‪َ ،‬م ُ‬ ‫بعضها يف لبنان وبعضها اآلخر من‬ ‫جال ٍ‬ ‫متتالي ًة يف ُص ُح ٍ‬ ‫وم ّ‬ ‫ت‪ ،‬من أمكنة كتابتها‪ُ :‬‬ ‫ف َ‬ ‫الواليات املتحدة التي كان دأْيب فيها أن أَبحث عن جربان يف إطار املكان املحدود الذي‬ ‫خرج منه جربان إىل َو َس َاعة الزمان‪.‬‬ ‫وشهادات من أصدقاء له أو‬ ‫ب َشهاد ٌة عىل املكان والزمان‪،‬‬ ‫صفحات هذا الكتا ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫عارفني أو ُم َهت ّمني غرفوا من بحره أو غاصوا فيه‪.‬‬ ‫شواهد الناس واألمكنة‪.‬‬ ‫إنها هنا‬ ‫ُ‬ ‫خلوده‪َ ،‬من يبقى بعد غيا ِب ِه ساكن ًا يف ذاكرة الناس ويف تذكارات‬ ‫وما أَهنأ َُه وأَطْ َو َل َ‬ ‫األمكنة‪.‬‬

‫‪11‬‬


‫قرن من الزمن‪:‬‬ ‫من صومعته الصغرية َش َّع عىل العامل الكبري‪ .‬ويف ما سوى ربع ٍ‬ ‫األول يف العربية ‪‬نبذة يف املوسيقى‪ )1905( ‬حتى كتابه األخري يف‬ ‫منذ كتابه ّ‬ ‫يرتدد وإىل زمن‬ ‫اإلنكليزية ‪‬آلهة األرض‪ ،)1931( ‬مأل زمان ًا من أدبه ال يزال ّ‬ ‫طويل بعد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫رمال من‬ ‫شكل أو يف َآخر‪ ،‬نكون عىل ٍ‬ ‫كأنه البحر‪ ،‬كيفام ِس ْرنا عىل شاطئ نكاد‪ ،‬يف ٍ‬ ‫شاطئ جربان الذي كان طليع َة التجديد يف زمن اللغة العتيقة‪ ،‬وصدار َة الرؤيا يف زمن‬ ‫الرؤية التي كانت تبحث عن جديد‪.‬‬ ‫«شواهد الناس واألمكنة»‬

‫هذا الكتاب ليس دراس ًة يف أدب جربان‪ .‬الكتابات عنه ال ُتحىص‪ ،‬ويف معظم لغات‬ ‫العامل‪.‬‬ ‫ودراسة‬ ‫لغة‬ ‫وليس‬ ‫ٍ‬ ‫استقصاء بيوغرافي ًا‪ ،‬بعدما سري ُة جربان باتت منترش ًة يف كل ٍ‬ ‫ً‬ ‫وموقع إلكرتوين‪.‬‬ ‫شخصيته‬ ‫يوط يف‬ ‫حاوال ْنس َج ُخ ٍ‬ ‫قرن صوب جربان‪ُ ،‬م ً‬ ‫إنه رحل ٌة بدأ ُْتها قبل ربع ٍ‬ ‫ّ‬ ‫وقاب ْل ُتهم يف الواليات املتحدة خالل إقامتي األوىل فيها سنة‬ ‫من خالل َمن عارصوه َ‬ ‫‪ ،1985‬ورسموا يل مالمح من ذكرياتهم عنه كام عرفوه‪ ،‬ومن خالل األماكن التي‬ ‫يرتدد إليها‪ ،‬أو ذات العالقة املبارشة بحياته يف بوسطن أو نيويورك‪.‬‬ ‫كان َّ‬ ‫وبقدرما كان ُيفرحني أن أَسمع من معارصيه مالمح عنه جديدة‪ ،‬كان ُيحزنني أَن‬ ‫ْ‬ ‫أحد مالمح أخرى عن شخصيته‬ ‫َتضيع أُخرى مع َمن عرفوه وغابوا ومل ُ‬ ‫يقطف منهم ٌ‬ ‫التكتم الشديد والصمت الطويل‪.‬‬ ‫الغريبة الخاصة ذات ُّ‬ ‫وحسب‪ .‬لذا مل‬ ‫رحل ٌة خاصة حميم ٌة‬ ‫َ‬ ‫صوب الرجل الكاتب‪ ،‬ال صوب الكاتب ْ‬ ‫عالمه‬ ‫أ َُر ِّكز عىل أدبه دارس ًا أو ناقد ًا أو باحث ًا أو ُمحل ًِال‪ ،‬بل‬ ‫دخلت إىل زوايا من َ‬ ‫ُ‬ ‫منشورها‬ ‫الخاص الذي نتج عنه‪ ،‬جزئي ًا أو كلي ًا‪ ،‬ذاك األدب وتلك الكتابات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بعضها‪ ،‬حتى فرت ٍة أخرية‪ ،‬ال يزال‬ ‫ت‬ ‫وم َس َّودا ٍ‬ ‫أو الباقي ُمخططا ٍ‬ ‫ورسائل كان ُ‬ ‫َ‬ ‫ت ُ‬ ‫قسام كبري ًا منه يف كتاب ‪‬أ ُْق ُلب‬ ‫َصدرت لجنة جربان الوطنية‬ ‫ً‬ ‫َمخطوط ًا حتى أ َ‬ ‫الصفحة يا فتى‪.‬‬

‫‪10‬‬


13



‫‪1‬‬ ‫مالمحه في ذاكرة آخر معاصريه‬ ‫ُ‬ ‫أندرو َغريب‪:‬‬ ‫‪‬خانـتْـُه ُ‬ ‫كلمات الشكر فغادر المنبر باكياً‪‬‬ ‫ُبابه كان مفتوح ًا‪ ،‬ال قلبه‪.‬‬ ‫وبقي ُلغز ًا بعيد ًا حتى إىل أقرب‬ ‫َ‬ ‫فتح‬ ‫التي‬ ‫تلك‬ ‫إال‬ ‫وإليه‪،‬‬ ‫منه‬ ‫الناس‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫وبقيت‬ ‫قلبه لها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وفتحت قلبها له‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫تنكشف ّإال‬ ‫معها‬ ‫ه‬ ‫حيات‬ ‫رس األرسار فلم ِ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫بعد غيا ِبهام مع ًا يف رسائلِه إليها (‪325‬‬ ‫رسالة) ورسائلِها إليه (‪ 290‬رسالة)‬ ‫ودفات ِر يومياتها الحميمة (‪ 47‬دفرت ًا)‪،‬‬ ‫جميعها مكتبة جامعة نورث‬ ‫أود َع ْتها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كاروالينا يف ْ‪‬تشاپِّـل ِه ّل‪ ،‬حيث ال‬ ‫أندرو غَ ريب مع الكتاب الذي ترجمه‬ ‫تزال َمحفوظ ًة يف جناح املخطوطات‬ ‫من نصوص جربان العربية‬ ‫النادرة‪ .‬هناك اطّ َل َعت عليها ڤرجينيا‬ ‫قسام كبري ًا منها يف كتابها‬ ‫ونرشت‬ ‫حلو‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫‪‬النبي الحبيب‪ ،‬وعنها أخذ توفيق صايغ مادة كتابه ‪‬أضواء جديدة عىل جربان‪.‬‬ ‫أي مالكٍ‬ ‫الرتاس ّيل َ‬ ‫ومن هذا ْ‬ ‫انفت َحت لنا ٌ‬ ‫أي ُل ْغ ٍز كان جربان‪ ،‬وعىل ِّ‬ ‫أنوار عىل ِّ‬ ‫الكنز ُ‬ ‫وانحجبت عن الظهور طوال‬ ‫حارس كانت ماري هاسكل التي َمألت أيامه ولياليه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حتى ‪‬آلهة األرض‪ ‬الذي صدر قبل وفاته بأُسبوعني)‬ ‫حيا ِته‪ ،‬مع أنه (من ‪‬املجنون‪ّ ‬‬ ‫وباركت ُه عيناها‪.‬‬ ‫قلمها‬ ‫ْ‬ ‫مل ُ‬ ‫ينشر نص ًا واحد ًا يف اإلنكليزية ّإال بعدما َسرى عليه ُ‬

‫‪15‬‬


‫من مجموعة ماري هاسكل لدى متحف تلفري يف ساڤانا – جورجيا‬

‫‪14‬‬

‫‪‬يسوع ابن اإلنسان‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 44.5 × 70‬سنتم)‬

‫‪‬الذوبان الروحي‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 19 × 26.5‬سنتم)‬

‫‪‬الذات الكربى‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 20.5 × 26.5‬سنتم)‬

‫‪‬مريانا تبكي أمها عىل رسير املوت‪ – ‬زيتية‬ ‫(‪ 50.8 × 68.6‬سنتم)‬


‫ويف كتاب ‪‬قصائد نثر‪‬‬ ‫(الصادر سنة ‪ 1934‬يف نيويورك‬ ‫عن ْكنوف نارش مؤلفات‬ ‫بارب َره‬ ‫جربان)‪َ ،‬ور َد يف مقدمة َ‬ ‫الفت عن أندرو‬ ‫كالم‬ ‫ٌ‬ ‫يونغ ٌ‬ ‫مرتجم تلك املقطوعات‬ ‫َغ ِر ْيب ِ‬ ‫االثنتي عرشة من العربية إىل‬ ‫اإلنكليزية‪.‬‬ ‫ويف كتاب غريغوري أورفيليا‬ ‫ورشيف املوسى ‪‬أوراق‬ ‫أندرو غَ ريب وصليبا الدويهي‪ :‬يجمع بينهما جربان‬ ‫الدالية‪ -‬أنطولوجيا مئة عام‬ ‫لشعراء عرب عاشوا وكتبوا يف‬ ‫أمريكا‪( ‬منشورات جامعة يوتا األمريكية‪َ )1988 -‬ور َد ّأن أندرو َغ ِر ْيب كان ّأو َل من‬ ‫وآخر من ترجم له عىل حياته‪.‬‬ ‫رجم مطالع جربان العربية إىل اإلنكليزية‪َ ،‬‬ ‫َت َ‬ ‫حية عن‬ ‫فرتتئذٍ مل َي ُم ّر يف بايل أن‬ ‫سيجيء ٌ‬ ‫يوم أُقابل فيه هذا الرجل‪َ ،‬‬ ‫آخر ذاكر ٍة ّ‬ ‫ُ‬ ‫جربان‪.‬‬ ‫ماساشوستس)‪،‬‬ ‫آمه ْر ْست (‬ ‫ْ‬ ‫كنت يوم ًا أزور صديقي الدكتور عدنان حيدر يف ِ‬ ‫إىل أن ُ‬ ‫فسأ َُلته أن‬ ‫َّ‬ ‫وحدثني عن أندرو َغ ِر ْيب (والد صديقه األستاذ الجامعي إدموند ْ‬ ‫غريب)‪َ ،‬‬ ‫شيكوپي (قرب ْس ْپ ِر ْنغفيلد‪ -‬ماساشوستس) حيث ُيميض شيخوخته‬ ‫صحبني إليه يف ْت‬ ‫ّ‬ ‫َي َ‬ ‫يف الثانية والتسعني‪.‬‬ ‫ت‬ ‫سعفه الذاكرة ّإال بشتا ٍ‬ ‫رت أنني سأقابل عجوز ًا قد ال ُت ُ‬ ‫تصو ُ‬ ‫يف طريقي إليه َّ‬ ‫مبعثر‪.‬‬ ‫حامل عوايف‬ ‫بقامة‬ ‫دخلت عليه‬ ‫سوى أنني‪ ،‬حني‬ ‫سنديانية وصو ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫واستقبلني ٍ‬ ‫َ‬ ‫أجش ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ت َّ‬ ‫سأستمد عافية من تسعينه‪.‬‬ ‫َيقنت أنني‪ ،‬بأربعيني‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫صخو ِرنا املباركة يف لبنان‪ ،‬أ ُ‬ ‫أتكلم‪ ،‬وأنا جئت أصغي إليه؟‬ ‫وملاذا ّ‬ ‫التحقت فيها باملدرسة الروسية (كانت‬ ‫  ‪‬أنا من مواليد عيتا الفخار سنة ‪.1898‬‬‫ُ‬ ‫التحق به ميخائيل نعيمه يف بلدته بسكنتا)‪.‬‬ ‫ذات فروع كثرية يف قرى لبنان‪ ،‬منها الذي‬ ‫َ‬ ‫واستقر يف ْس ْپ ِر ْنغفيلد‪ .‬بعد سنتني (‪ )1913‬استدعاين من‬ ‫سنة ‪ 1911‬سافر أيب إىل هنا‬ ‫ّ‬

‫‪17‬‬


‫خلوده بعد َمامته‪ ،‬و‪...‬‬ ‫هذا‬ ‫كصمت الليل‪َ ،‬‬ ‫عرف وهو َح ٌّي كيف ُي ِّهيئ َ‬ ‫الغامض ْ‬ ‫ُ‬ ‫يستمر لغز ًا‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫دائام يعمل عىل تهيئة موتِه‪ ،‬وحيا ِته بعد موته‪.‬‬ ‫كأنه كان ً‬ ‫ف جديد‪ٍ ،‬‬ ‫بضوء‬ ‫بكش ٍ‬ ‫كل فرت ٍة من بوابة غيابه ٍ‬ ‫بوجه جديد‪ْ ،‬‬ ‫َنجح‪ :‬وهو ال يزال ُي ِط ُّل ّ‬ ‫جديد ُيضاف إىل ما ّتم تسليطه عليه من أضواء‪.‬‬ ‫كل يومٍ ما زال يعيش عىل شفاهنا‬ ‫فكيف يكون مات ذات يوم‪ ،‬هذا الذي ّ‬ ‫وكل‬ ‫وكل يوم يشغل آالف القراء والباحثني يف غري واحدة من لغات العامل‪ّ ،‬‬ ‫وأقالمنا‪ّ ،‬‬ ‫ب حتى يبدأوا‬ ‫عمال املطابع بإعادة طبع مؤلفاته‪ ،‬ال يفرغون من كتا ٍ‬ ‫يومٍ يشغل ّ‬ ‫حتى يكون األول َن َفد!‬ ‫بآخر‪ ،‬وال يبلغون األخري ّ‬ ‫َ‬ ‫كنت آخر املنرصفني من مأتم‬ ‫يف بسكنتا‪ ،‬عرص نهار عاصف ْمثلج َخ َت َم َ‬ ‫شباط ‪ُ ،1988‬‬ ‫البيت الذي كتب‬ ‫ودعناه الوداع األخري‬ ‫ميخائيل نعيمه يف الشخروب‪ ،‬بعدما ّ‬ ‫وأودعناه َ‬ ‫ُ‬ ‫مؤلفاته‪.‬‬ ‫فيه معظم ّ‬ ‫حني‬ ‫حب ٍة من عنقودٍ‬ ‫ألقيت عىل تابوته نظر ًة أخري ًة‪ ،‬خِ ْل ُتني معها َّ‬ ‫ود ُ‬ ‫ُ‬ ‫عت َ‬ ‫آخر ّ‬ ‫وقلت‪ :‬اليوم غاب آخر رفاقه‪.‬‬ ‫حباته بجربان وحوله‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مبارك تكوكبت ّ‬ ‫يومها مل أكن أعرف أنني سأَلتقي الحق ًا يف الواليات املتحدة َمن سيكون هو آخر‬ ‫الرفاق األحياء‪.‬‬ ‫يف كتاب النحات البوسطني‬ ‫خليل جربان‪ :‬خليل جربان‪-‬‬ ‫حياته وعامله‪ ‬الذي أصدره‬ ‫اشرتاك ًا مع زوجته جني سنة‬ ‫حجام‬ ‫‪( 1974‬يف اإلنكليزية‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ولعله‬ ‫كبري ًا من ‪ 456‬صفحة)‪ّ ،‬‬ ‫أفضل بيوغرافيا دقيقة أضاءت‬ ‫ورد‬ ‫عىل سرية جربان َ‬ ‫وعالمه‪َ ،‬‬ ‫ذِ ْكر أندرو َغ ِر ْيب بشكل الفت‪.‬‬ ‫أندرو غَ ريب نهار تحدّ ثتُ إليه‬

‫‪16‬‬


‫كتب الشعر املنثور يف العربية‪ .‬وفيام‬ ‫أهالينا هناك‪ .‬كان الريحاين وجربان ّأو َل من َ‬ ‫تفرغ للسياسة والفلسفة والرحالت‪،‬‬ ‫الريحاين مل يواصل مسريته الشعرية تلك بل ّ‬ ‫املجدد‪.‬‬ ‫واصل جربان وثابر عىل الكتابة بأسلوبه الحديث ِّ‬ ‫لتع ُّر ِفك ِبجربان؟‬ ‫ ما كان الدافع َ‬

‫القرب من ميويل وأحالمي‪ .‬ذات‬ ‫ كانت‬ ‫ُ‬ ‫كتاباته قوية التأثري يب وشديد َة ْ‬ ‫أعج َب ْتني‬ ‫يومٍ من ‪1926‬‬ ‫ُ‬ ‫قرأت له يف ‪‬مرآة الغرب‪ ‬مقطوع َة َ‬ ‫‪‬وع َظ ْتني نفيس‪َ .‬‬ ‫ريپ ْبلِكان‪ ‬مع‬ ‫فرتج ْم ُتها إىل اإلنكليزية‬ ‫ُ‬ ‫‪‬س ْپ ِر ْنغفيلد َ‬ ‫َ‬ ‫ونرشتها هنا يف جريدتنا املحلية ْ‬ ‫أرسلت الرتجمة إىل صديقي ميخائيل نعيمه يف نيويورك‪ ،‬وكان‬ ‫مقال عن جربان‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫بقصيدتني له‬ ‫مرفق ٍة‬ ‫رىض‬ ‫فأجابني‬ ‫له مكتب يف مجلة ‪‬السائح‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫وتهنئة َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫برسالة ً‬ ‫ريپ ْبلِكان‪ .‬بعد أيام دعاين إىل الغداء يف نيويورك‬ ‫إنكليزيتني ْ‬ ‫‪‬س ْپ ِر ْنغفيلد َ‬ ‫َّ‬ ‫للنشر يف ْ‬ ‫ووفاءه‬ ‫تعل َقه بجربان‬ ‫مست لديه‪ ،‬منذ ذاك اللقاء‪ُّ ،‬‬ ‫وعرفني بنسيب عريضة الذي َل ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فرتجمتها‬ ‫ْت لجربان يف ‪‬مرآة الغرب‪ ‬مقطوعة ‪‬أيها الليل‪‬‬ ‫ُ‬ ‫له‪ .‬سنة ‪ 1928‬قرأ ُ‬ ‫إيل يقول‪:‬‬ ‫إىل اإلنكليزية‬ ‫جدد ًا إىل نعيمه فأَطْ َلع جربان عليها َ‬ ‫ُ‬ ‫وأرسلتها ُم َّ‬ ‫وك َتب ّ‬ ‫وتنق ُلها‬ ‫فأخربته أنك‬ ‫ترجمتك‪ ،‬وسألني عنك‬ ‫ب‬ ‫حب كتاباته ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫لبناين ُوت ّ‬ ‫‪‬جربان أ َ​َح ّ‬ ‫يتعرف إليك‪.‬‬ ‫ترجمتك قريب ٌة جد ًا من األصل‪،‬‬ ‫إىل اإلنكليزية‪ ،‬فقال ّإن‬ ‫َ‬ ‫وطلب أن ّ‬ ‫َ‬ ‫هت بعد الظهر إىل مكتب ‪‬السائح‪ 19 ( ‬ركتور‬ ‫وتوج ُ‬ ‫بعد شه ٍر ُ‬ ‫كنت يف نيويورك‪ّ ،‬‬ ‫ألجد نعيمه يف نقاش حاد عىل الهاتف مع جربان حول‬ ‫سرتيت يف أسفل مانهاتن) َ‬ ‫مقاال عن الكتاب‪،‬‬ ‫كتابه الجديد ‪‬يسوع ابن اإلنسان‪ .‬ويبدو أن نعيمه كان ُيعِ ُّد ً‬ ‫َفهم أن‬ ‫ويناقش جربان حول ما جاء لديه يف ‪‬موعظة الجبل‪ْ .‬‬ ‫سمع ُت ُه يقول له‪ :‬أ َ‬ ‫ُ‬ ‫جعل َت ُهم يقولون كالم ًا عن يسوع كام تريد‪ ،‬لكنني ال أفهم كيف‬ ‫ناس‬ ‫م‬ ‫بكال‬ ‫ف‬ ‫تترص‬ ‫ِ ٍ ْ‬ ‫ّ‬ ‫وردت هكذا من‬ ‫ألنها‬ ‫ا‬ ‫حرف‬ ‫فيها‬ ‫ر‬ ‫تغي‬ ‫أن‬ ‫تستطيع‬ ‫ال‬ ‫التي‬ ‫الجبل‬ ‫موعظة‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫تترص‬ ‫ً‬ ‫َّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫فمِ يسوع‪.‬‬ ‫ومؤمن مبا‬ ‫عارف ما كتب‪،‬‬ ‫مل أعرف ما كانت أَجوبة جربان‪ ،‬لكنني‬ ‫فهمت ّأن الرجل ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫غري قابل للجدل‪ ،‬بدليل أن نعيمه أَنهى النقاش بدون‬ ‫قال‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫وواثق من أن الذي جاء يف كتابه ُ‬ ‫أن يلقى أجوب ًة عن أسئلته‪ .‬وحني قال لجربان إنني عنده يف املكتب‪ ،‬سأله جربان أن أذهب‬ ‫إليه‪ .‬وهكذا كان‪ :‬بالصابواي إىل الشارع العارش غرب ًا‪ ،‬فإىل املبنى رقم ‪ ،51‬الطابق الثالث‬

‫‪19‬‬


‫والتحقت‬ ‫جئت إىل ْ‪‬تشيكوپّي فولز‪ ‬هنا‪،‬‬ ‫الفخار‬ ‫عيتا ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُعينه يف تجارته‪ُ .‬‬ ‫َ‬ ‫أللتحق به فأ َ‬ ‫حالهم التجارية حتى ‪ 1916‬حني‬ ‫مبدرسة سانت مايكل‪ ،‬أُساعد أيب وأعاممي يف َم ّ‬ ‫كنت أُعاونه‬ ‫األشقاء‪َّ .‬أسس أيب َم ً‬ ‫وتوزع ّ‬ ‫حال َّ‬ ‫حال كبري ًا يف نيو هامپتون‪ُ ،‬‬ ‫الـم ُّ‬ ‫انقسمت َ‬ ‫َ‬ ‫فتولدت عندي هواي ُة‬ ‫رحت أرى فيها‬ ‫وأتردد عىل‬ ‫مكتبة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫نفائس الكتب‪ّ ،‬‬ ‫فيه َّ‬ ‫قريبة منه ُ‬ ‫َ‬ ‫التحقت بالخدمة‬ ‫جمع الكتب النادرة إىل جانب ُح ّبي املطالع َة والكتابة‪ .‬سنة ‪1920‬‬ ‫ُ‬ ‫حامال‬ ‫العسكرية‬ ‫حت يف السنة التالية ً‬ ‫ترس ُ‬ ‫وتطو ُ‬ ‫ّ‬ ‫عت سنة ‪ 1921‬يف أوكالهوما‪ ،‬ثم ّ‬ ‫تكلفني يومها سوى ‪ 16‬سنت ًا مثن طوابع بريدية‪.‬‬ ‫جنسي ًة أمريكي ًة مل ّ‬ ‫طلبت‬ ‫فخدمت يف البحرية األمريكية سنتني‬ ‫طلب ْتني الدولة ُمجدد ًا إىل الجندية‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بعدهام ترسيحي ِب ُحجة العودة إىل لبنان لـ‪‬رضورات عائلية‪ .‬لكنني مل أ َُعد بل‬ ‫وأتاجر بها‪.‬‬ ‫وبدأت أشرتي الكتب الثمينة والنادرة‬ ‫حل أيب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫انرصفت إىل العمل يف َم ّ‬ ‫ُ‬ ‫صم ْم ُتها لستة أشهر‪ ،‬فإذا باألشهر‬ ‫سنة ‪ُ 1934‬‬ ‫عدت إىل لبنان يف زيار ٍة إىل األهل َّ‬ ‫مهتم ًا باألرض‬ ‫الستة تتمطّ ى ‪ 40‬سنة متواصلة‬ ‫عملت خاللها يف قريتي عيتا ّ‬ ‫ُ‬ ‫الفخار ّ‬ ‫والك ّتاب‪.‬‬ ‫الك ُتب ُ‬ ‫وصحبة ُ‬ ‫والزراعة ُ‬ ‫صم ْم ُتها لستة أشهر‪ ،‬فإذا باألشهر الستة‬ ‫سنة ‪ُ 1974‬‬ ‫جئت من لبنان إىل هنا يف زيار ٍة َّ‬ ‫فبقيت هنا إىل اليوم‪.‬‬ ‫اشتعلت يف لبنان‪،‬‬ ‫تتمطّ ى ‪ 16‬سنة بسبب الحرب التي َ‬ ‫ُ‬ ‫فقاط ْع ُته‪:‬‬ ‫لغاية أُخرى‪َ ،‬‬ ‫جئت ٍ‬ ‫خفت أن يسرتسل به الحنني إىل الوطن وأَنا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ كيف كانت هالة جربان قبل أن تعرفه؟‬

‫امتدت‬ ‫ت هنا يف أمريكا كانت‬ ‫ُ‬ ‫شهرته َّ‬ ‫شب ْب ُ‬ ‫ عظيمة! كانت عظيمة! حني َ‬ ‫نتلقف كتاباته يف ‪‬مرآة الغرب‪( ‬لنجيب دياب) و‪‬الفنون‪‬‬ ‫واسعة‪ .‬كنا ّ‬ ‫(لنسيب عريضة)‪ ،‬و‪‬السائح‪( ‬لعبداملسيح حداد) وجريدة ‪‬النرس‪( ‬لنجيب‬ ‫وموضع اعتزاز الجالية اللبنانية‪.‬‬ ‫ومحبوب ًا جد ًا‪،‬‬ ‫جرجي بدران)‪ .‬كان معروف ًا جد ًا َ‬ ‫َ‬ ‫عيد‬ ‫جاء ِبجديدٍ يف مواضيعه وأسلوبه‪ .‬وغالب ًا ما كانت‬ ‫ٌ‬ ‫صحف يف بريوت عهدئذٍ ُت ُ‬ ‫فعل سلبي ًة‬ ‫هناك ما ينرشه هنا‪ ،‬مع أن كتاباته كانت أحيان ًا ُتثري يف بريوت‬ ‫ردود ٍ‬ ‫َ‬ ‫نشاط‬ ‫وإبان الحرب العاملية األوىل كان له‬ ‫يف صفوف‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫املتزمتني من رجال الدين‪ّ .‬‬ ‫ومثله كان أمني الريحاين َعل ًام‬ ‫الفت يف الجالية اللبنانية ُلنرصة أهالينا يف لبنان‪ْ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫وصاحب إسهامات يف الدفاع عن‬ ‫كبري ًا يف تلك األيام وذا شهرة كبرية يف الجالية‬ ‫َ‬

‫‪18‬‬


‫عدم‬ ‫إىل الشهرة‪ .‬ومن دالئل انزوائه‬ ‫َ‬ ‫لينرصف ّكلي ًا إىل الكتابة والرسم واإلنتاج‪َ ،‬ط َل ُب ُه َ‬ ‫إدراج رقم تلفونه (‪ )9549 Chelsea‬يف دليل الهاتف كي ال يكون عرض ًة إلضاعة‬ ‫الوقت‪.‬‬ ‫أزوره‬ ‫أي وق ٍ‬ ‫أجيئه‪ّ .‬‬ ‫كان ً‬ ‫نزلت إىل نيويورك ُ‬ ‫وكلام ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫دائام َ‬ ‫كنت ُ‬ ‫الئق الهندام يف ِّ‬ ‫َطر ُق ُه وأدخل‪ ،‬ودوم ًا يستقبلني بذاك الصوت‬ ‫بدون موعدٍ فأَجد بابه مفتوح ًا‪ ،‬أ ُ‬ ‫فيحضر القهوة اللبنانية‬ ‫ش‪ ،‬والرتحيب اللبناين‪ ،‬ويقوم إىل زاوية الستوديو ّ‬ ‫األج ّ‬ ‫الخافت َ‬ ‫لبنانية لديه َممهور ٍة باللكنة البرشاوية‪ .‬كان‬ ‫ت يف اإلنكليزية وأخرى يف‬ ‫ٍ‬ ‫تحدث‪ ،‬مرا ٍ‬ ‫َون ّ‬ ‫دليل‬ ‫يدخن كثري ًا‪ .‬مل تكن تنتهي سيجارة بني أَصابعه حتى َ‬ ‫ِّ‬ ‫يشعلها بأخرى‪ .‬كانت ُ‬ ‫أناقته َ‬ ‫حدثني عن الجامل‪ .‬مِ ْشيته ّمتزنة وهادئة‪.‬‬ ‫كل يشء‪ ،‬وكثري ًا ما َّ‬ ‫مزاجه‪ُ :‬يحب الجامل يف ّ‬ ‫دائام مع عصاه‪ ،‬وكانت تلك‬ ‫خارج الستوديو كان مييش ً‬ ‫مل أ ْ‬ ‫َجده يوم ًا عصبي ًا أو متوتر ًا‪َ .‬‬ ‫ُدرج ًة يف ذلك الزمان‪.‬‬ ‫ هل صدَ فَ والتقي َته خارج جلساتكما الهادئة يف الستوديو؟‬

‫أعضاء ‪‬الرابطة القلمية‪‬‬ ‫حفلة تكرميية كبرية أقامها له‬ ‫ مر ًة واحدة‪ :‬خالل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫(‪ 5‬كانون الثاين ‪ )1929‬عشية عيد ميالده‪ ،‬يف اليوبيل الفيض لحياته األدبية (‪ 25‬سنة‪:‬‬ ‫يت من ميخائيل نعيمه بطاقة دعوة إىل ذاك العشاء يف فندق‬ ‫‪ّ .)1929 -1904‬‬ ‫تلق ُ‬ ‫ساعتني‬ ‫‪‬ماك آل ِب ْن‪( ‬نيويورك)‪.‬‬ ‫وافيت نعيمه إىل مانهاتن وذهبنا قبل املوعد بنحو َ‬ ‫ُ‬ ‫وصل قبلنا‪،‬‬ ‫فوجدنا جربان هناك‬ ‫يف سيارة واحدة‪ ،‬وكان معنا نسيب عريضة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫رحب يب ودعاين إىل مساعدته يف التوقيع‬ ‫ْيذرع القاعة الكربى بخطواته وعصاه‪َّ .‬‬ ‫أصد َر ْت ُه ‪‬الرابطة القلمية‪ ‬خصيص ًا لهذه املناسبة جامع ًة‬ ‫عىل كتاب ‪‬السنابل‪َ ( ‬‬ ‫وأخذت أفتح له الكتاب عىل‬ ‫انتحيت معه جانب ًا‬ ‫ت من كتابات جربان)‪.‬‬ ‫فيه مقتطفا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ويوقع‪ :‬جربان خليل جربان‪ ،‬إىل‬ ‫الصفحة األوىل وهو يكتب عليها‪ :‬مع محبتي‪ِّ -‬‬ ‫الخط‬ ‫هادئ‪،‬‬ ‫أن َم َه َر توقيعه عىل األربعمئة نسخة من الكتاب‪ ،‬وهو‬ ‫أنيق ّ‬ ‫ٌ‬ ‫عميق‪ُ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ضمت الصالة ليلتها نحو أربعمئة شخص بني شعراء ورسامني‬ ‫والهندام والقيافة‪َّ .‬‬ ‫ومحامني ورجال أعامل من وجهاء الجالية واألمريكيني‪ ،‬وتواىل فيها عىل الكالم ‪18‬‬ ‫ُ‬ ‫خطيب ًا‪ ،‬بينهم ميخائيل نعيمه ووليم كاتسفليس وعبداملسيح حداد ورشيد أيوب‬ ‫املنصة ُليلقي‬ ‫َون ْد َره حداد وإيليا أبو مايض وفيليپ حتي‪ .‬وختام ًا ارتقى جربان ّ‬

‫‪21‬‬


‫استقبلني مبريول الرسم‪.‬‬ ‫دائام يف ما بعد)‪.‬‬ ‫حيث جربان‪ .‬كان بابه مفتوح ًا (كام‬ ‫الحظت ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بعث َر ٌة يف‬ ‫وب يف وجهه‪ ،‬أناق ٌة يف مظهره‪َ ،‬‬ ‫كان َ‬ ‫وحده‪ .‬أذكر تلك اللحظة كأنها اآلن‪ُ :‬ش ُح ٌ‬ ‫الستوديو (كان يدعوه ‪‬الصومعة‪ ،)‬موقد ٌة ختيارة يف الوسط ُممتلئة رماد ًا عتيق ًا‪ .‬سألني‬ ‫تفاصيل كثرية‪ .‬كان حنون ًا يف أسئلته‪ ،‬حاني ًا يف ِإصغائه‪،‬‬ ‫عني‪ ،‬عن أحوايل‪ ،‬عن عائلتي‪ ،‬عن‬ ‫َ‬ ‫كثري االهتامم ِبمواطنيه‬ ‫يهمه جد ًا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫كأن أمري ُّ‬ ‫فهمت يف ما بعد أنه هكذا كان دوم ًا‪َ :‬‬ ‫استئناسه يب وبرتجاميت كتابا ِته يعود يف جزء منه إىل كوين لبناني ًا‪.‬‬ ‫شعرت أن‬ ‫اللبنانيني‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫عميق وتأثُّ ٍر شديد‪ .‬عند قراءيت‬ ‫ت‬ ‫ثم سألني أن أقر َأ عليه ما‬ ‫ترجمت له‪ .‬أَصغى بصم ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وصلت إىل السطر األخري‪ :‬فلم أجد عىل الرمل سوى َع َماي‪،‬‬ ‫مقطوعته ‪‬الشهرة‪ ،‬حني‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أردت‬ ‫أعجبه أن أ َُع ِّرب كلمة ‪‬الجهل‪( ‬اإلنكليزية) بـ‪‬العمى‪ ‬فقال يل‪ :‬هذا بالضبط ما ُ‬ ‫َ‬ ‫سعيد برتجمتِك‪ .‬وقام فأهداين نسخ ًة من كتابه‬ ‫أنا‬ ‫كلمتي‪.‬‬ ‫ال‬ ‫ريت‬ ‫فك‬ ‫ترجمت‬ ‫أنت‬ ‫قوله‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الجديد ‪‬يسوع ابن اإلنسان‪‬‬ ‫إهداء بالعربية‪ .‬قبل انرصايف سألني باهتاممٍ‬ ‫َ‬ ‫وكتب يل عليه ً‬ ‫ووقع كتاباته يف أهلها‪ ،‬وماذا يقولون عنه وعنها‪ .‬كان شديد‬ ‫عن صورة هالته يف الجالية‪ْ ،‬‬ ‫الحرص عىل رأْي الناس فيه‪ ،‬وبقي عىل ذينك الحرص والتسآل يف جميع زيارايت الالحقة‬ ‫وأشعار‬ ‫رسوم‬ ‫إليه‪ .‬وذات زيارة ُ‬ ‫ٌ‬ ‫أهديته كتاب ًا ّقي ًام قدمي ًا نادر ًا من َمجموعتي الخاصة‪ ،‬فيه ٌ‬ ‫طبعة جديدة‬ ‫بعمق بالغ‪ ،‬وأهداين نسخ ًة من ٍ‬ ‫يقدرها‪َ ،‬‬ ‫فارسية قدمي ٌة أعرف أنه ِّ‬ ‫فشك َرين ٍ‬ ‫إيل يف العربية‪.‬‬ ‫لـ ‪‬النبي‪ ‬كانت صادر ًة حديث ًا‪ ،‬كتب إهداءه َّ‬ ‫ كيف تستحرضه اآلن يف‬ ‫ذاكرتك؟‬

‫حب االنزواء‬ ‫ كان ُي ّ‬ ‫دائام عىل‬ ‫وعدم الخروج‪.‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫وق إىل أوقا ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وش ٍ‬ ‫حزن مكتومٍ‪َ ،‬‬ ‫يعيشها يف الطبيعة‪ .‬كان واعي ًا‬ ‫ُ‬ ‫العالمية‪،‬‬ ‫حجمه املتصاعد إىل َ‬ ‫َ‬ ‫ما جعل لديه شعور ًا خاص ًا ليس‬ ‫التكبر وال الغرور بل اإلشاحة‬ ‫ُّ‬ ‫كل ما ال َيخدم تلك املسرية‬ ‫عن ّ‬

‫‪20‬‬

‫كتابهُ ‪‬يسوع ابن االنسان‪ ‬إىل أندرو غَ ريب‬ ‫إهداء جربان َ‬


‫العربية) منشور ًة بدون اسمه يف‬ ‫مؤكد ًا ّأن‬ ‫بت خاطره ّ‬ ‫طي ُ‬ ‫نهايتها‪ّ .‬‬ ‫حتام هفو ُة عامل املطبعة‬ ‫هذه ً‬ ‫حداد فيها‬ ‫وال ْ‬ ‫دخل لعبداملسيح ّ‬ ‫وال ألحد من رفاقه‪ .‬بقي عىل‬ ‫ب أن‬ ‫هدوئه وأجابني‪ :‬أُحِ ّ‬ ‫أفكر هكذا‪ ،‬وال أ َُش ُّك بهم هؤالء‬ ‫ّ‬ ‫األحبة‪ .‬كان َسموح ًا ومأخوذ ًا‬ ‫دائام مبا هو أهم‪ .‬وبالفعل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫صدر العدد التايل من ‪‬السائح‪‬‬ ‫ويف َص ْدر صفحته األوىل عبارة‪:‬‬ ‫صدرت‬ ‫‪‬قصيدة ‪‬الصويف‪ ‬التي َ‬ ‫يف العدد املايض بدون ذكر اسم‬ ‫الشاعر‪ ،‬هي لنابغتنا جربان خليل‬ ‫جربان‪.‬‬ ‫يف تلك الزيارة قبل األخرية‪،‬‬ ‫وع ْد ُته بأن أترجم مقطوعة‬ ‫َ‬ ‫‪‬الصويف‪ ‬إىل اإلنكليزية وأن‬ ‫نص من جربان برتجمة أندرو غَ ريب‬ ‫أُطْ لعه عىل جميع ترجاميت‬ ‫رحب بالفكرة‪،‬‬ ‫نصوصه العربية‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫وات ْفقنا عىل أن أزوره يف ‪ 20‬آذار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫يومها (‪ 20‬آذار ‪ ،)1931‬وأنا يف طريقي إليه (مل أكن أدري أن تلك ستكون زياريت‬ ‫التفت فإذا به صديقي‬ ‫سمعت صوت ًا يناديني يف أحد شوارع مانهاتن املكتظّ ة‪.‬‬ ‫األخرية)‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ألطلع ُه عىل ترجمتي اإلنكليزية‬ ‫قلت له إين ذاهب لزيارة جربان‬ ‫َس ُّلوم مكرزل‪ُ .‬‬ ‫َ‬ ‫ُرسلها إىل ‪‬غولدن بوك ماغازين‪ ‬يف نيويورك‪.‬‬ ‫مقطوعته الجديدة ‪‬الصويف‪ ‬قبل أن أ َ‬ ‫َ‬ ‫فأعطيته‬ ‫وورلد‪( ‬العامل السوري‪)‬‬ ‫ُ‬ ‫أرص أن ُ‬ ‫يأخ َذها وينرشها يف مجلته ‪‬ذي سرييان ْ‬ ‫َّ‬ ‫يتكلم خاللها كثري ًا بل كان‬ ‫إياها‬ ‫وأكملت طريقي إىل جربان‪ .‬كانت جلس ًة لنا طويل ًة مل ّ‬ ‫ُ‬ ‫انتهيت‪ ،‬بادرين‪ :‬سأسعى إىل‬ ‫يعلق‪ .‬حني‬ ‫ُيصغي إىل ترجمتي اإلنكليزية‬ ‫نصوصه وال ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪23‬‬


‫صوته‬ ‫كلمة الشكر‪ ،‬فام كاد يبد ُأ يف العربية ثم شاكر ًا يف اإلنكليزية‪ّ ،‬‬ ‫رج ُ‬ ‫حتى َح ْش َ‬ ‫وانهمرت دموعه‪ ،‬فغادر املنرب باكي ًا من شدة التأثّ ر‪.‬‬ ‫بالكلامت‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وارتجفت شفتاه‪َ ،‬‬ ‫سائال إياه عن‬ ‫وفيام كنا َن ُه ُّم مبغادرة الصالة‪،‬‬ ‫استوقفه مراسل ‪‬نيويورك تاميز‪ً ‬‬ ‫َ‬ ‫انطباعاته‪ ،‬ثم سأله إذا كان يوافق عىل ‪‬املادة ‪ 18‬من الدستور األمريكي (كانت يومها‬ ‫واملسكرات واملرشوبات الروحية وكان يعارضها‬ ‫موضوع جدل ألنها متنع بيع الخمور ْ‬ ‫الس ْكر والرشب) فكان جواب جربان فور ًا‪ :‬نعم‪ ،‬أوافق عليها‪.‬‬ ‫املدمنون عىل ُّ‬ ‫يناقشني مر ًة‬ ‫سألت ُه إذا كان راضي ًا عن عميل‪ .‬مل ْ‬ ‫يف زياريت إياه نهار ‪ 15‬متوز ‪ُ 1929‬‬ ‫طلبت منه أن ُيعطيني إذن ًا َخطي ًا برتجمة نصوصه‬ ‫نصوصه‪.‬‬ ‫يف كلمة من ترجاميت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يرتدد لحظة‪ .‬قام إىل طاولته وكتب يل يف اإلنكليزية ِإ ْذن ًا‬ ‫العربية إىل اإلنكليزية‪ .‬مل َّ‬ ‫ووقعه‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ريپ ْبلِكان‪‬‬ ‫ُ‬ ‫‪‬س ْپ ِر ْنغفيلد َ‬ ‫نصوصه العربية يف جريدة ْ‬ ‫َنرش ترجاميت إىل اإلنكليزية َ‬ ‫أخذت أ ُ‬ ‫أرسلت إىل هذه األخرية‬ ‫(ماساشوستس)‪ ،‬و‪‬غولدن بوك ماغازين‪( ‬نيويورك)‪ .‬وحني‬ ‫ُ‬ ‫طل ُبوا أن ينرشوا ترجمتي اإلنكليزية مع األصل العريب‪.‬‬ ‫ترجمتي مقطوع َة ‪‬األرض‪َ ‬‬ ‫فنشروه مقلوب ًا ألن عامل املطبعة مل‬ ‫النص العريب منشور ًا يف َم ّ‬ ‫جلة ‪‬السائح‪َ ‬‬ ‫ُ‬ ‫أرسلت لهم ّ‬ ‫دائام‬ ‫ب‪ .‬كان َسموح ًا‬ ‫ومنشغال ً‬ ‫ً‬ ‫تفهم األمر ومل َ‬ ‫يغض ْ‬ ‫يكن يعرف العربية‪َ .‬ح ِز َن جربان لكنه َّ‬ ‫ت بعد‪.‬‬ ‫بغامض آخر كأنه ينتظره ومل يأ ِ‬ ‫ٍ‬

‫ ماذا ّ‬ ‫تتذكر من زياراتك‬ ‫األخرية؟ أكان املرض يرسم‬ ‫عىل وجهه خطوط النهاية؟‬ ‫ يف زياريت قبل األخرية‬ ‫وصلت إىل الستوديو فبادرين‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫فعل يب‬ ‫َ‬ ‫‪‬هاك يا أندرو ما َ‬ ‫إخويت وأحبائي يف الرابطة‬ ‫القلمية‪ .‬وأراين عدد ًا من‬ ‫مجلة ‪‬السائح‪ ‬فيه مقطوعته‬ ‫‪‬الصويف‪( ‬آخر ما كتب يف‬

‫‪22‬‬

‫تفويض جربان لغَ ريب برتجمة أعماله من العربية إىل اإلنكليزية‬ ‫السيد أندرو غريب اإلذن الكامل‬ ‫(‪‬إنني بهذا ُأعطي ّ‬ ‫برتجمة نصويص العربية إىل اإلنكليزية‪ 15 ،‬متوز ‪)1929‬‬


‫َحد ْس أن‬ ‫وانرصفت‪ ،‬وأنا‬ ‫ود ُعته‬ ‫ّ‬ ‫ووهن مِ ْش َيته‪ ،‬لكنني مل أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫منشغل عىل شحوبه ْ‬ ‫ٌ‬ ‫آخر ّمرة أراه‪.‬‬ ‫تكون تلك َ‬ ‫كنت خارج ًا من مقهى يف‬ ‫بعد ثالثة أسابيع‪ُ ،‬ظ ْهر السبت ‪ 11‬نيسان ‪ُ ،1931‬‬ ‫فسمعت بائع الصحف ينادي‪ :‬طبعة إضافية‪ ...‬طبعة إضافية آلخِ ر‬ ‫ْس ْپ ِر ْنغفيلد‬ ‫ُ‬ ‫وابتعت نسخ ًة من ‪‬نيويورك تاميز‪ ‬فإذا عىل صفحتها األوىل من‬ ‫مت منه‬ ‫خرب‪ّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫تقد ُ‬ ‫هائل عىل الجالية‬ ‫وقع‬ ‫مأساوي ٌ‬ ‫تلك ‪‬الطبعة اإلضافية‪ ‬نب ُأ وفاة جربان‪ .‬كان لِموته ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫اللبنانية‪.‬‬ ‫ وماذا عن كتابك بعدها؟‬

‫‪‬عليك أن‬ ‫حملت املخطوطة إىل كنوف فبادرين‪:‬‬ ‫ بعد مد ٍة من وفاة جربان‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫اجتمعت بها للمرة‬ ‫وصيته‪.‬‬ ‫تراجع باربره يونغ‪ .‬هي الوكيل ُة اليوم عىل آثاره ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ومنفذ ُة ّ‬ ‫وجدتها امرأة طويلة‬ ‫األوىل (والوحيدة) يف ‪‬صومعة‪ ‬جربان حيث كانت هي وابنتها‪ُ .‬‬ ‫الزمت جربان منذ َالت َق ْته سنة ‪1923‬‬ ‫عىل بدانة‪ ،‬قوية الشخصية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫وكنت أعرف أنها َ‬ ‫تسمح‬ ‫عيل‪ ،‬كي‬ ‫وعرضت عليه أن تكون سكرتريته‪.‬‬ ‫لدى صدور ‪‬النبي‪‬‬ ‫َ‬ ‫اشرتط ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت ّ‬ ‫قلت لها إن ميخائيل نعيمه‬ ‫بطبع كتايب لدى كنوف‪ ،‬أن تكتب هي ّ‬ ‫مقدمة الكتاب‪ُ .‬‬ ‫صدر‬ ‫فرفضت يف ّ‬ ‫حدة وقسوة وأجابت صارم ًة‪ :‬إذن لن َي ُ‬ ‫طلب أن يكتب املقدمة‪َ ،‬‬ ‫رش آخر مبا أنني أحمل‬ ‫أي نا ٍ‬ ‫أسمح لك بنرشه‪ُ .‬‬ ‫الكتاب‪ ،‬ولن َ‬ ‫قلت لها إنني أُصدره عند ّ‬ ‫يتيح لك الرتجمة ال النرش‪.‬‬ ‫َريتها التفويض َ‬ ‫تفويض ًا خطي ًا من جربان‪ ،‬وأ ُ‬ ‫فانتف َضت‪ :‬هذا ُ‬ ‫ت يف حرية ألن نعيمه كان عاد‬ ‫املولجة بالنرش وأنا أعطي ْ‬ ‫أنا وحدي َ‬ ‫وقع ُ‬ ‫اإلذن األخري‪ْ .‬‬ ‫أتهي ُأ للعودة إىل لبنان‪ ،‬فلم ُيعد يل ّإال القبول‪.‬‬ ‫إىل لبنان سنة ‪،1932‬‬ ‫ُ‬ ‫وكنت أنا أيض ًا ّ‬ ‫ت يف‬ ‫وهكذا كان‪ :‬صدر الكتاب سنة ‪ 1934‬مع‬ ‫ٍ‬ ‫تفو ْق ُ‬ ‫مقدمة منها َذ َك َر ْتني فيها بأنني َّ‬ ‫ت‬ ‫وأجرت تعديال ٍ‬ ‫‪‬استيعاب األصل العريب لروح جربان ونقل سحره إىل اإلنكليزية‪َ .‬‬ ‫خفف ًة من‬ ‫عىل بعض املقطوعات (منها ‪‬أيها الليل‪ ،)‬ساكب ًة عليها بعض النثرية‪ُ ،‬م ِّ‬ ‫دت إىل لبنان فكان كنوف‬ ‫ترجمتي شطحا ِ‬ ‫ت جربان الشاعري َة يف األصل اإلنكليزي‪ .‬ثم ُع ُ‬ ‫مبعدل أربعة‬ ‫إيل حقوق الرتجمة مرتني كل عام (يف أول كانون الثاين وأول متوز) ّ‬ ‫يرسل ّ‬ ‫ت طويل ًة مع تكرار طبعات كتايب الذي‬ ‫مبلغ بقي َي ِر ُدين سنوا ٍ‬ ‫آالف دوالر سنوي ًا‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫أصبح من مجموعة جربان الكالسيكية‪ ،‬ويباع مع سائر كتبه الواسعة االنتشار‪.‬‬

‫‪25‬‬


‫جسد الكلامت‬ ‫عملك‬ ‫رش ُيصدر لك هذا الكتاب‪ُ .‬‬ ‫قريب جد ًا من روحي ومل ِ‬ ‫نا ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ترتجم َ‬ ‫صد َر‬ ‫روحها‪ .‬وقام إىل طاولته فأتى بنسخة من كتابه الجديد ‪‬آلهة األرض‪( ‬كان َ‬ ‫بل َ‬ ‫إيل واعد ًا أن ُيهديني أحد رسومه‪.‬‬ ‫يف ذاك األسبوع بالذات) وكتب يل‬ ‫إهداء ّ‬ ‫وقدمه ّ‬ ‫ً‬ ‫انزعاج أو مرض‪،‬‬ ‫سألته إن كان يشعر َبألمٍ أو‬ ‫عادي‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫الحظت عىل وجهه ُش ُحوب ًا غري ّ‬ ‫غصة‪ ،‬وسألني كالعادة عن رأي أبناء الجالية بكتاباته‪.‬‬ ‫فأشاح عن الجواب‬ ‫ٍ‬ ‫ببسمة ذات ّ‬ ‫َ‬ ‫كان جوايب عىل حجم انتظاره وفضوله ملعرفة مدى شهرته الواسعة‪ .‬عندها قال يل‬ ‫كل شهريت بني أهلنا‪ ،‬هنا ويف العامل العريب‪ ،‬مل تأتِني ِبمردودِ‬ ‫بصوت عميق‪ :‬يا أندرو‪ُّ :‬‬ ‫ت ُوك ُتب‪.‬‬ ‫نرشته يف العربية من مقاال ٍ‬ ‫كل ما ُ‬ ‫ٍ‬ ‫قرش واحدٍ لِحقوق ن ٍ‬ ‫رش أو طبع عن ّ‬ ‫ينرشون يل وال أعرف‪ .‬ينقلون مقااليت وكتابايت وال يستأذنون‪ .‬يستفيدون من مؤلفايت‬ ‫مردود من‬ ‫إيل قرش ًا واحد ًا‪ .‬وحني أنرش هنا يف اإلنكليزية يأتيني‬ ‫ٌ‬ ‫العربية وال يرسلون ّ‬ ‫مقااليت وقصائدي يف الصحف واملجالت‪ ،‬ومن كتبي املنشورة عند ‪‬كنوف‪ .‬ولوال بيعي‬ ‫لكنت‬ ‫رسومي ولوحايت‬ ‫ُ‬ ‫اآلن يف َع َوز‪ .‬وغرق يف‬ ‫صمت طويل‪.‬‬ ‫فهمت منه يف تلك‬ ‫ُ‬ ‫الجلسة ملاذا مل يعد‬ ‫يهتم بصدور آثاره يف‬ ‫ّ‬ ‫رت ما قاله‬ ‫وتذك‬ ‫العربية‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫يل ميخائيل نعيمه حني‬ ‫رأيه يف ترجامت‬ ‫َ‬ ‫سأله َ‬ ‫األرشمندريت أنطونيوس‬ ‫بشري إىل العربية مؤلفاته‬ ‫إهداء جربان كتابه ‪‬آلهة األرض‪ ‬إىل أندرو غَ ريب (‪)1931‬‬ ‫اإلنكليزية فأجابه جربان‪:‬‬ ‫‪‬ليكتب ما يشاء يا ميشا‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ترجم ستكون روحي فيه‪.‬‬ ‫كيفام َ‬ ‫قبل أن أغادر جربان يف تلك املسوية من آذار‪ ،‬قال يل‪ :‬سأطلب من ألفرد كنوف‬ ‫إيل باملخطوطة كامل ًة يف آخر أيلول‪ ،‬موسم‬ ‫يضم ترجامتِك نصويص‪ُ .‬عد ّ‬ ‫إصدار كتاب ّ‬ ‫النرش‪ ،‬فأكون َّكل ْم ُته باألمر‪.‬‬

‫‪24‬‬


‫نعيمه يعرفها عن جربان قبل التقائه إياه‪ ،‬استقاها من مصد ٍر واحد‪ :‬ماري هاسكل‬ ‫بعد عرشة أيام من وفاة جربان حني اجتمع بها صباح ‪ 21‬نيسان ‪ 1931‬أربع ساعات‬ ‫تستقل القطار من‬ ‫يف منتجع قرب َمحطّ ة القطار ‪‬غراند سنرتال ستايشن‪ ،‬قبل أن‬ ‫ّ‬ ‫مأتم جربان يف بوسطن‪.‬‬ ‫مانهاتن إىل بيتها يف ساڤانا (جورجيا) عائد ًة من حضورها َ‬ ‫وبعض حياتها‬ ‫عناوين من حياة جربان يف بوسطن‬ ‫ويف تلك الجلسة َل َّخصت لنعيمه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫معه فبنى عليها نعيمه كتابه‪.‬‬ ‫تابعت يف جريدة ‪‬لسان الحال‪ ‬مناظر ًة بني نعيمه وأمني‬ ‫بعد ذلك بسنوات‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الطعن بصديقه‬ ‫ورد يف كتابه‪ ،‬آخذ ًا عليه‬ ‫الريحاين‪ .‬كان األخري يلوم نعيمه عىل ما َ‬ ‫َ‬ ‫كنت صديقه؟ ما زلنا‬ ‫جربان‪ ،‬فأجاب نعيمه‪ :‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫صديقه أكثر منك‪ .‬ومتى أنت َ‬ ‫كنت‬ ‫جميعنا نذكر كيف خالل اجتام ٍع يف نيويورك‬ ‫سحب عليك جربان العصا َ‬ ‫ألنك َ‬ ‫َ‬ ‫سبب لك نفور ًا بني جميع أعضاء الرابطة‬ ‫متأرجح املوقف بني لبناين وعريب‪ ،‬ما َّ‬ ‫رد الريحاين يف ‪‬لسان الحال‪ ‬بجوابه العنيف‬ ‫ّ‬ ‫وحتى يف صفوف الجالية‪ .‬عندها ّ‬ ‫مشوهة‪ ،‬فهو كالجمل األعور ال يرى من‬ ‫املشهور‪ :‬حادث ُة نيويورك َ‬ ‫أوردها نعيمه َّ‬ ‫الطريق ّإال ناحي ًة واحدة‪.‬‬ ‫أحسه‬ ‫وكذلك قامت نقم ٌة عىل نعيمه يف نيويورك من نسيب عريضة ( ُ‬ ‫كنت ُّ‬ ‫أقرب الناس إىل جربان) ومن رشيد أيوب وعبداملسيح حداد‪ .‬لكن األعنف منهم‬ ‫فت إليه يف مساجلة جرت‬ ‫جميع ًا كان الريحاين‪ُ .‬‬ ‫تعر ُ‬ ‫زرته مرار ًا يف الفريكة‪ ،‬وكنت ّ‬ ‫إنكليزي ويهودي‪ ،‬فجال األمني بينهام‬ ‫سنة ‪ 1930‬يف ماساشوستس تناظر فيها مع‬ ‫ّ‬ ‫اختلف‬ ‫وأفحمهام ِب ُحجته القوية مدعم ًة بالفكر واملنطق‪ .‬وأرى ّأن الريحاين‪ ،‬ولو‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نبيال يف وفائه لصديقه‬ ‫مع جربان يف آخر حياته حول أمو ٍر‬ ‫ٍ‬ ‫سياسية ووطنية‪ ،‬بقي ً‬ ‫كن له احرتام ًا شديد ًا‪ ،‬حتى أنه امتنع عن النرش يف‬ ‫جربان الذي هو َ‬ ‫اآلخر كان َي ُّ‬ ‫تضامن ًا مع صديقه الريحاين الذي كان عىل‬ ‫‪‬الهدى‪( ‬رغم شهرتها ّ‬ ‫واتساع قرائها) ُ‬ ‫خالف مع صاحبها (وصهره) نعوم مكرزل‪.‬‬ ‫ هل ترى لعودة نعيمه إىل لبنان عالقة بغياب جربان؟‬

‫مظل ًة يف نيويورك‪.‬‬ ‫ نعم‪ .‬كان جربان ُيساعد رفاقه‬ ‫ويدعمهم مادي ًا‪ .‬كان لهم ّ‬ ‫ُ‬ ‫انكشفت رؤوسهم‪ .‬سنة ‪ ،1974‬قبل عوديت من لبنان إىل‬ ‫تفرقوا بعد وفاته كأمنا َ‬ ‫ّ‬

‫‪27‬‬


‫فهمت أنه‬ ‫يعلق‪.‬‬ ‫لدى عوديت إىل لبنان‬ ‫أخربت نعيمه بأمر باربره يونغ فلم ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫خالف معها‪ ،‬ويعتربها مسؤول ًة عن اختفاء وصية جربان األوىل التي ذكر‬ ‫كان عىل‬ ‫ٍ‬ ‫شخيص‬ ‫خصص مبالغ ألصدقائه يف ‪‬الرابطة‪( ‬كان يساعدهم مادي ًا بشكل‬ ‫فيها أنه َّ‬ ‫ّ‬ ‫يفسر َت َش ُّت َت ُهم بعد‬ ‫بشكل‬ ‫فردي‪ ،‬ويدعم مؤسساتهم الصحافية‬ ‫ٍ‬ ‫دوري‪ ،‬وهذا ما ِّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫حد خالفات شخصية بينهم)‪.‬‬ ‫جالتِهم‬ ‫ِ‬ ‫ف َم ّ‬ ‫وفاته‪ُّ ،‬‬ ‫وصحفهم‪ ،‬وبلوغ األمر ّ‬ ‫وتوق َ‬ ‫لذا مل تظهر بعد وفاته ّإال الوصي ُة الثانية املؤرخة يف ‪ 1930/3/30‬وليس فيها‬ ‫مح نعيمه الحق ًا يف كتابه عن‬ ‫أثر مام كان جربان َذ َك َره لرفاقه يف ‪‬الرابطة‪ْ ( ‬أل َ‬ ‫ضلع‬ ‫بشخصيتها‬ ‫وصي َتني)‪ .‬وقد يكون لباربره يونغ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫املتسلطة‪ٌ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫جربان أنه كتب َّ‬ ‫الحدة أنها‪ ،‬حني كان جربان يحترض‪،‬‬ ‫يف نص الوصية الجديدة‪ .‬وهي َ‬ ‫بلغت من ّ‬ ‫استدعت نعيمه إىل املستشفى ُم ْك َره ًة عرب سلوم مكرزل بعدما كان جربان دخل‬ ‫َ‬ ‫يف الغيبوبة األخرية فلم َي ُبلغ منه نعيمه ّإال ‪‬غر‪ ..‬غر‪ ..‬غر‪ ..‬كام ورد يف كتابه‬ ‫نفوره منها أنه مل َيس ِّمها يف كتابه بل ذكر‬ ‫عنه (ص ‪ .)21 ،20 ،17‬وبلغ بنعيمه ُ‬ ‫وعلمت الحق ًا أنها بعد‬ ‫عرفت جربان يف سنواته األخرية‪.‬‬ ‫أنها ‪‬شاعر ٌة أمريكية َ‬ ‫ُ‬ ‫تحججة بالخوف عليه من الرسقة‪ ،‬وراحت‬ ‫غياب جربان ‪‬رابطت‪ ‬يف الستوديو ُم ِّ‬ ‫حجة متويل‬ ‫متفرقة عىل اسم جربان ِب ّ‬ ‫تطبع ُن َسخ ًا من لوحاته وتبيعها يف معارض ّ‬ ‫َ‬ ‫مشاريع لطبع آثاره‪.‬‬ ‫ بعد غياب جربان‪ِ ،‬ل َم قامت تلك الضجة ضد نعيمه عند إصداره كتابه عن جربان؟‬

‫كنت أزوره‬ ‫ عدت إىل لبنان يف ‪ 1934‬بعد سنتني من عودة نعيمه نِهائي ًا إليه‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫دائام بأنه يف كتابه نزع هالة التضخيم التي لحقت بصديقه‬ ‫ويردد يل ً‬ ‫يف الشخروب‪ّ ،‬‬ ‫كتبت عن حسنات جربان فقط‪َ ،‬لام‬ ‫جربان‪ .‬ويف إحدى جلسايت معه قال يل‪ :‬لو‬ ‫ُ‬ ‫خدمت جربان‪ ،‬ألن الناس سيعتربونني َم ّداح ًا وال يأخذون كتابتي‬ ‫كنت موضوعي ًا وال‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كتبت عن بعض هفواته البرشية‪ ،‬منها أنه كان يف آخر حياته ُيكثر من‬ ‫جد ّية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫الشرب لتخفيف آالمه القاسية‪ .‬المني البعض ألنني ُبحت بذلك‪ .‬إمنا سيكون للناس‬ ‫ُ‬ ‫وحسناته‪ ،‬وسيحفظون حسناته وهي كثرية‪ .‬وقد‬ ‫أن يغربلوا بني ّ‬ ‫سيئات جربان َ‬ ‫ت يف كتابه‪ ،‬ألنه مل يكن مطَّ لع ًا عىل حياة جربان‬ ‫نفسه اقرتف مبالغا ٍ‬ ‫يكون نعيمه ُ‬ ‫متستر ًا عليها جد ًا‪ .‬واملعلومات التي مل يكن‬ ‫يف شبابه‪ ،‬وال عىل حميمياته التي كان ّ‬

‫‪26‬‬


‫حتى عن‬ ‫مدرك أن ذاك‬ ‫أعرفه‪ ،‬ألنني‬ ‫أَعرف هذا‪ُ ،‬‬ ‫الغامض ِبق َي وسيبقى ُلغز ًا بعيد ًا ّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫حب ٍة‬ ‫أقرب الناس منه وإليه‪ .‬فكيف اآلن‪ ،‬ومل َ‬ ‫غري ّ‬ ‫يبق من عنقود الرفاق والذكريات ُ‬ ‫تطرز عنه أحاديثنا؟‬ ‫واحدة‪ّ ،‬‬ ‫كل يوم؟‬ ‫زال ُ‬ ‫وهل يكون َ‬ ‫يولد يف أحاديثنا ّ‬ ‫مات ذات يوم‪ ،‬هذا الذي ما َ‬ ‫ْس ْپ ِرنْ غفيلد‪ -‬ماساشوستس‬

‫ت‪ُ ،‬وت ُو ّفي يف ْس ْپ ِر ْن ْغفيلد نهار‬ ‫عرش سنوا ٍ‬ ‫* كان لقائي بأندرو َغ ِر ْيب يف ‪ 17‬حزيران ‪ .1990‬عاش بعدها َ‬ ‫األحد ‪ 12‬آذار ‪ ،2000‬عن ‪ 101‬سنة‪ .‬وكان قسم الرشق األدنى يف مكتبة الكونغرس َّكرمه يف ‪ 23‬أيار‬ ‫‪ 1991‬بني سلسلة احتفاالت تكرميية لِجربان بعد تدشني الرئيس جورج بوش عامذاك ‪‬حديقة جربان‪‬‬ ‫يف واشنطن‪.‬‬ ‫ْت يف جريدة ‪‬األنوار‪ ‬الخرب التايل‪:‬‬ ‫ سنة‬ ‫‪1995‬رجعت نهائي ًا إىل لبنان‪ .‬ونهار األحد ‪ 19‬آذار ‪ ،2000‬قرأ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وفاة آخر رفاق جربان‬ ‫ َف َق َدت الجالية اللبنانية يف الواليات املتحدة واحد ًا من أبرز األدباء املهجريني‪ ،‬وآخر األحياء القالئل‬ ‫من رعيل النهضة األدبية يف أمريكا الشاملية الذين ساهموا يف تعريف روائع جربان خليل جربان‬ ‫وأدباء ‪‬الرابطة القلمية‪ ‬إىل األمريكيني‪ ،‬هو أندرو َغ ِر ْيب البالغ من العمر مئة وسنة‪ .‬تويف األحد‬ ‫ود ِفن يوم الجمعة يف مدينة ْس ْپ ِر ْن ْغفيلد يف والية ماساشوستس‪ ،‬تارك ًا زوجته‬ ‫املايض يف ‪ 12‬آذار ُ‬ ‫السيدة منى دبغي وكرمياته أدما وماري وغالديس ونجله الپروفسور إدمون َغ ِر ْيب األكادميي‬ ‫والكاتب املعروف يف واشنطن‪.‬‬ ‫ومنجم ذهب‪،‬‬ ‫‪‬س ْپ ِر ْن ْغفيلد َ‬ ‫ريپ ْبلِك‪ ‬واصف ًة إياه بأنه ‪‬كان أديب ًا معروف ًا َ‬ ‫ ويوم وفاته َن َع ْت ُه صحيفة ْ‬ ‫وأشب َه بدائرة معارف‪.‬‬ ‫َ‬

‫* مجلة ‪‬الناقد‪ -‬لندن (العدد ‪ -25‬متوز ‪)1990‬‬

‫‪29‬‬


‫يفكر بالعودة إىل أمريكا‬ ‫وسألته إن كان ّ‬ ‫مودع ًا‪ُ ،‬‬ ‫زرت نعيمه يف بسكنتا ّ‬ ‫ماساشوستس‪ُ ،‬‬ ‫‪‬هلق بعد يا أندرو؟ ّبإيام‬ ‫حققها واسع ًة يف الرشق‪ ،‬فأجابني‪ّ :‬‬ ‫ليحقق شهرته فيها كام َّ‬ ‫ّ‬ ‫هللولو‪.‬‬ ‫اللولو ما ّ‬

‫مرتج َم ًة‬ ‫ أنتَ مرتجم جربان إىل اإلنكليزية‪ ،‬كيف تجد نصوص جربان اإلنكليزية َ‬ ‫إىل العربية؟ وتحديد ًا‪ :‬النبي‪‬؟‬

‫أستعيد ّرد جربان عىل سؤال نعيمه حول ترجامت األرشمندريت أنطونيوس‬ ‫بشري العربية‪ ،‬وال أزيد عليه‪ .‬كيفام ترجموه إىل العربية ستبقى روحه وبصامته واضح ًة‬ ‫نقلت منه الروح بدون اهتامم لشكل اللغة‪ ،‬وترجمة‬ ‫ُوم ّميزة‪ .‬أما ‪‬النبي‪ ،‬فرتجم ُة بشري َ‬ ‫ففقدت سالسة جربان يف تعبريه البسيط املدهش‪ ،‬وترجمة‬ ‫نعيمه غاصت عىل الفكر َ‬ ‫وأشدها‬ ‫ثروت عكاشة مل تبلغ عمق الخيال الجرباين‪ .‬لذا أرى أن أفضل ترجامت ‪‬النبي‪َّ ‬‬ ‫التصاق ًا بروح جربان وبساطة لغته عىل ُعمقها‪ ،‬تبقى ترجمة يوسف الخال‪.‬‬

‫القلم يف يدي‪ ،‬ومل تتعب‬ ‫خمس ساعات من مطر الذكريات مع أندرو َغ ِر ْيب‪ .‬تعِ َ‬ ‫ب ُ‬ ‫الكلامت يف فم هذا الفتى التسعيني‪.‬‬ ‫كل الذكريات؟ وإذا بىل (وهو آخر معارصي جربان األحياء) أتكون هذه‬ ‫تراه قال ّ‬ ‫آخر ‪‬األضواء الجديدة‪ ‬عىل جربان؟‬ ‫شعرت‬ ‫زرت قسم املخطوطات يف جامعة نورث كاروالينا ( ْتشا ِّپل ِه ّل) ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حني ُ‬ ‫أقلب بني َي َد َّي النسخ األصلية لرسائل جربان إىل ماري هاسكل‪،‬‬ ‫بقشعريرة غريبة وأنا ِّ‬ ‫أشم بصامتِه عليها‪ ،‬هي التي َلمسها بأصابعه الشاعرة‪.‬‬ ‫وغري مر ٍة ُ‬ ‫كدت ُّ‬ ‫شعرت‬ ‫سنديانة لبنانية‪،‬‬ ‫لح‬ ‫وحني‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫صافحني أندرو َغ ِر ْيب بتلك اليدِ ْالـكأَنها ِش ُ‬ ‫َ‬ ‫صافحت َي َد جربان‪.‬‬ ‫مس اليد التي َكم َ‬ ‫بقشعرير ِة أنني ْأل ُ‬ ‫وغرباء مرسعون أطياف ًا‬ ‫شوارع ماساشوستس العريضة املكتظّ ة‬ ‫غادرت ُه‪ ،‬حويل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ستون‬ ‫بعيد يالحقني‬ ‫مضت ُّ‬ ‫طيف ٌ‬ ‫متالحقة‪ ،‬ويف داخيل ٌ‬ ‫ويبتسم ْأن‪َ :‬ب ْعد‪َ ...‬ب ْعد‪َ ...‬‬ ‫ُ‬ ‫كل‬ ‫ستون أخرى ُّ‬ ‫وستميض ُّ‬ ‫يقال ُّ‬ ‫وستونات بعدها‪ ،‬ولن ينكشف ُّ‬ ‫الرس‪ ،‬ولن َ‬ ‫سنة َ‬ ‫كل ّ‬ ‫مكنون‪.‬‬

‫‪28‬‬


‫ أستاذ فؤاد‪ُ ،‬أريد الدُّ خول إىل ذكرياتك‬ ‫القدمية‪ .‬هل تسمح؟‬

‫يتبقى يف‬ ‫بعض ما ّ‬ ‫ بل ُق ْل‪ ،‬يا ابني‪ ،‬إىل ِ‬ ‫أنت وشطارتك‪.‬‬ ‫الذاكرة‪ .‬هيا‪َ .‬‬ ‫وأنى لـ‪‬شطاريت‪ ‬مِ ن َغ ْر ٍف‪ ،‬وأنا عىل‬ ‫ّ‬ ‫شاطئ هذا األوقيانوس من السنوات؟‬ ‫فؤاد خوري يف أيامه األخرية‬ ‫وإياه إىل األمس البعيد‪ .‬إىل والدته‬ ‫رحت‬ ‫ُ ّ‬ ‫املنطلق األول‪ :‬أرض لبنان‪.‬‬ ‫والطفولة‪ .‬إىل َ‬ ‫ها نحن يف الشامل‪ .‬يف مطلع القرن العرشين‪.‬‬ ‫كان ذلك سنة ‪ .1901‬وكان الطفل فؤاد يف شهره الخامس يوم حمله والده‬ ‫البشمزيني إىل دانڤر (كولورادو)‪ .‬وهي رحلة جرجس الثانية‪ ،‬بعد‬ ‫جرجس خوري‬ ‫ّ‬ ‫(نتذكر كامله‬ ‫وط َئ األرض األمريكية قبيل نهاية القرن املايض‬ ‫أُوىل مع أول رعيل ِ‬ ‫ّ‬ ‫برشي إىل بوسطن‬ ‫رحمه التي حملت عائلتها الصغرية ومنها جربان‪ ،‬وهاجرت من ّ‬ ‫لكن جرجس رجع إىل لبنان سنة ‪ 1900‬ليقرتن ِب ُم َد ِّر َس ٍة من طرابلس‪،‬‬ ‫سنة ‪ّ .)1895‬‬ ‫ُوينجب منها ْبكره فؤاد‪.‬‬ ‫وإذ اعتاد جرجس أن يعود إىل أرضه األم كل بضع سنوات‪ ،‬عاد وأُرسته الصغرية‬ ‫بشمزين سنة ‪ُ ،1905‬ممضي ًا بضعة أسابيع يف ضيعته َقفل بعدها وحده عائد ًا إىل‬ ‫إىل ّ‬ ‫بشمزين‪.‬‬ ‫من ألرسته الصغرية عيش ًا آمن ًا يف ّ‬ ‫كولورادو‪ ،‬بعدما َض َ‬ ‫يرتقبه‪ :‬اندلعت‬ ‫لكن القدر كان َّ‬ ‫وأسس تجارة يف لبنان‪ّ ،‬‬ ‫سنة ‪ 1910‬عاد مجدد ًا َّ‬ ‫السفر فبقي يف بشمزين حتى‬ ‫الحرب العاملية األوىل ّ‬ ‫فتوقفت تِجارته‪ ،‬ومل يستطع َ‬ ‫متكن‪ ،‬بجوازه األمريكي‪ ،‬من اصطحاب أرسته الصغرية والعودة بها إىل‬ ‫‪ 1920‬حني ّ‬ ‫أمريكا‪.‬‬ ‫كان فؤاد شاب ًا يف التاسعة عرشة‪ ،‬يوم وطئت قدماه مرفأ نيويورك‪.‬‬ ‫وتشاء املصادفة‪ ،‬قبل انتقال العائلة إىل كولورادو‪ ،‬أن يلتقي جرجس يف نيويورك‬ ‫لـسلوم مكرزل‬ ‫نسيب زوجته‪ّ ،‬متى فارس‪ ،‬مسؤول املطبعة يف ‪‬املجلة التجارية‪ّ ‬‬ ‫َ‬ ‫نسيبه‪:‬‬ ‫جرجس‬ ‫فسأل‬ ‫‪‬الهدى‪.)‬‬ ‫صاحب‬ ‫نعوم‬ ‫(شقيق‬ ‫َ‬

‫‪31‬‬


‫‪2‬‬ ‫فؤاد خوري ‪ :‬صديقي جبران كان نـجم نساء‪،‬‬ ‫ويتذمّر من إزعاجه بـالتلفون‪‬‬ ‫التح ّدي‪.‬‬ ‫والزمن حكاي ُة َ‬ ‫بني ُب ْن َيتِه َ‬ ‫لكأنه ينسى (أو يتناسى؟!) أن األربع والثامنني من السنوات تربض عىل كتفيه‪ ،‬ال‬ ‫ِفاه َتنوءان‪ ،‬وال السنوات‪.‬‬ ‫كت ُ‬ ‫حدثني عن‬ ‫قبل أن أَلتقيه يف نيويورك‪ ،‬كان فارس اسطفان (صاحب ‪‬الهدى‪ّ )‬‬ ‫حدثني عنه‬ ‫‪‬معارص جربان ونعيمه والرابطة القلمية‪َّ .‬‬ ‫رئيس تحريرها فؤاد خوري ُ‬ ‫وصلت إىل نيويورك‪ ،‬كان اسمه بني‬ ‫حتى إذا‬ ‫ب ِإ ٍ‬ ‫التعرف به‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫جالل َح َّفزين إىل اإلرساع يف ُّ‬ ‫مفكريت‪.‬‬ ‫أوائل األسامء يف ّ‬ ‫التقيته يف مكتب ‪‬الهدى‪ .‬والذي يزور نيويورك وال يزور ‪‬الهدى‪ ‬يكون (كام‬ ‫ُ‬ ‫‪‬ك َمن يزور روما وال يزور الڤاتيكان‪.‬‬ ‫قال يل يوسف الخال) َ‬ ‫عرفته‪ .‬ومن هدير السنني عىل‬ ‫فور دخويل‬ ‫عرفته‪ .‬من َش َيبته ُ‬ ‫مكتب ‪‬الهدى‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وجهه الختيار‪.‬‬ ‫وإحساس‬ ‫وقار شيخوختِه‬ ‫قلت‪.‬‬ ‫وهرعت ّ‬ ‫أسلم عليه ُم َ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬هذا فؤاد خوري‪ُ ،‬‬ ‫حت ِرم ًا َ‬ ‫َ‬ ‫الشلة‬ ‫وكف تلك ّ‬ ‫وكف نعيمه‪َّ ،‬‬ ‫كف جربان‪َّ ،‬‬ ‫صافحت َّ‬ ‫ّأن هذه ّ‬ ‫ُصافحها كم َ‬ ‫الكف التي أ ُ‬ ‫املباركة من رعيل ‪‬الرابطة القلمية‪.‬‬ ‫ونكتب‪ ،‬وها هي ذي عنهم‬ ‫جلست إليه أقر ُأ يف تجاعيده ُص َو َر الذين قرأْنا عنهم ُ‬ ‫ُ‬ ‫أمامي شهاد ٌة حية‪.‬‬ ‫ت ‪ 87‬سنة صحاف ًة يف عامل االنتشار‬ ‫والجلسة إىل رئيس تحرير ‪‬الهدى‪ ‬عابق ٌة بذكريا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذكريات َمن عايش األعالم الذين‬ ‫اللبناين (تأسست ‪‬الهدى‪ ‬سنة ‪ ،)1898‬فكيف بها‬ ‫ُ‬ ‫كانوا لِمغرتبينا هداي ًة ومنار ًا؟‬

‫‪30‬‬


‫توطّ دت صداقة فؤاد مع الشاعر‬ ‫إيليا أبو مايض الذي كان فرتتئذٍ ال‬ ‫حرر يف ‪‬مرآة الغرب‪،‬‬ ‫يزال ُي ّ‬ ‫جريدة َحمِ يه (والد زوجته) نجيب‬ ‫دياب‪ .‬طلب أبو مايض من فؤاد‬ ‫خوري أن ينتقل إىل ‪‬مرآة الغرب‪‬‬ ‫يساعده يف تحريرها‪ ،‬فانتقل من‬ ‫ُ‬ ‫دون أن يقطع عالقته املهنية مع‬ ‫فؤاد خوري جالس ًا بني ُأرسة تحرير ‪‬الهدى‪:‬‬ ‫عبد املسيح حداد وال مع سلوم‬ ‫إىل ميينه األب الياس شاهني‪،‬‬ ‫صاحب ‪‬الهدى‪ ‬فارس إسطفان وزوجته ديانا‬ ‫مكرزل‪.‬‬ ‫ونظر ًا ملهارته (مع املراس‬ ‫ينضد له (يف مطبعة ‪‬مرآة‬ ‫الطويل) يف عمليات التنضيد‪ ،‬طلب إليه أبو مايض أن ِّ‬ ‫مقاال تقريظي ًا‬ ‫كتب فيه فؤاد ً‬ ‫الغرب‪ )‬ديوانه ‪‬الجداول‪َ ‬فف َعل‪ .‬وحني َ‬ ‫صدر الديوان َ‬ ‫ب صديقه ميخائيل نعيمه الذي‪ ،‬يوم التقاه بعدها بأيام‪ ،‬سأله فؤاد‪:‬‬ ‫أثار عليه َ‬ ‫غض َ‬ ‫ كيف َوجدتَ ديوان ‪‬الجداول‪ ‬يا مايك؟‬

‫لك ولرأي سواك؟‬ ‫ طالام‬ ‫َ‬ ‫الحد‪ ،‬ما َ‬ ‫َ‬ ‫أنت يا فؤاد إىل هذا ّ‬ ‫أعجبك َ‬ ‫توطّ دت الصداقة بني فؤاد خوري وإيليا أبو مايض‪ .‬وحني عزم هذا األخري عىل إصدار‬ ‫جريدته ‪‬السمري‪ ،‬كان فؤاد أول املساهمني فيها تنضيد ًا وتحرير ًا طوال ُصدورها‪،‬‬ ‫حتى احتجابها مع وفاة أبو مايض (‪ )1957‬وقرار أرملته إقفالها‪.‬‬ ‫عند احتجاب ‪‬السمري‪ ‬عاد فؤاد خوري إىل ‪‬مرآة الغرب‪ ‬التي‪ ،‬بعد وفاة صاحبها‪،‬‬ ‫صاحبتها أنجيلينا دياب‬ ‫حتى قررت‬ ‫كانت يف عهد انحطاط ّ‬ ‫ظلت معه تحترض وتخرس ّ‬ ‫ُ‬ ‫حرريها‪.‬‬ ‫(أرملة نجيب دياب) َ‬ ‫ورصف ُم ّ‬ ‫إقفالها نهائي ًا ْ‬ ‫علمت باألمر ماري مكرزل (صاحبة ‪‬الهدى‪ ‬بعد وفاة والدها سلوم مكرزل الذي‬ ‫َ‬ ‫فاستدعت إليها فؤاد‬ ‫مؤسسها)‬ ‫َ‬ ‫كان اشرتاها من األمرية روز أرملة شقيقه نعوم مكرزل ِّ‬ ‫فلبى وبقي فيها كذلك مع انتقالها من آل مكرزل إىل صاحبها‬ ‫خوري رئيس ًا لتحريرها‪ّ ،‬‬ ‫الحايل فارس اسطفان (‪ )1970‬وال يزال رئيس تحريرها‪.‬‬

‫‪33‬‬


‫عمل يقوم به هنا؟‬ ‫ هل لفؤاد ٌ‬

‫ وماذا ُيمكن فؤاد أن يشتغل هنا يف َّالن ُيورك يا جرجس؟‬ ‫سبق الشاب فؤاد أباه ُمجيب ًا باندفاع الشباب‪:‬‬ ‫ ما الذي تراه مناسب ًا يل يا َع ّم م ّتى؟‬

‫الشاب اللبناين فؤاد خوري واقف ًا يف إدارة ‪‬املجلة‬ ‫أقل من ساعة‪ ،‬كان‬ ‫بعد َّ‬ ‫ُّ‬ ‫أسئلة يطرحها عىل هذا الفتى الواصل حديث ًا من‬ ‫التجارية‪ ‬يجيب سلوم مكرزل عن ٍ‬ ‫الطباع متى فارس‬ ‫حتى أوكل سلوم مكرزل إىل‬ ‫لبنان‪ .‬ومل ِ‬ ‫ّ‬ ‫تنته الجلسة ّ‬ ‫‪‬املعلم‪ّ ‬‬ ‫أن يعتمد الشاب فؤاد خوري مساعد ًا إياه يف تنضيد األحرف عىل آلة اللينوتيپ‬ ‫التي كان اشرتاها سلوم قبل سنوات ملجلته‪ ،‬وكانت ّأول لينوتيپ بالحرف العريب‬ ‫يف أمريكا‪.‬‬ ‫هكذا بقي فؤاد يف نيويورك‪ ،‬وأكملت أُرسته إىل دانڤر (كولورادو)‪.‬‬ ‫املنضدين‪ ،‬ويشارك يف أمور‬ ‫أربع سنوات بقي يف نيويورك‪ .‬أمسى من أمهر ّ‬ ‫توقفت ‪‬املجلة التجارية‪ ،‬فغادر نيويورك والتحق بالعائلة‬ ‫تحريرية بسيطة‪ ،‬إىل أن ّ‬ ‫يف كولورادو‪ .‬سوى أن التحاقه مل َي ُطل‪ :‬ها هو نعوم مكرزل‪ ،‬صاحب ‪‬الهدى‪ ،‬يكتب‬ ‫عر َف عن جدارته من شقيقه سلوم) طالب ًا إليه املجيء إىل نيويورك من‬ ‫إليه (بعدما َ‬ ‫جديد‪ ،‬واملشاركة يف ‪‬الهدى‪ ‬تنضيد ًا وتحرير ًا‪.‬‬ ‫وهكذا كان‪.‬‬ ‫وس ٍط أديب كان فرتتئذٍ يف‬ ‫انفتحت أمامه ٌ‬ ‫آفاق جديدة‪ُّ :‬‬ ‫يف ‪‬الهدى‪َ ،‬‬ ‫التعرف إىل َ‬ ‫وتطوره‪.‬‬ ‫أَوج عطائه ُون ُم ِّوه ُّ‬ ‫يرتدد عىل لقاءات ‪‬الرابطة القلمية‪ ،‬يصادق أعضاءها‪ ،‬يحرض جلساتهم‬ ‫أخذ فؤاد ّ‬ ‫يصق ْلها لكنه يحبها‪.‬‬ ‫ومناقشاتهم‪ ،‬تحفزه إىل ذلك فطر ٌة أدبية لديه مل ُ‬ ‫ومن جلساته مع أعضاء ‪‬الرابطة‪ ‬ومصادقته إياهم‪ ،‬طلب منه عبد املسيح حداد‬ ‫تردد فؤاد خوري الرتباطه‬ ‫يتولى تنضيد ّ‬ ‫أن ّ‬ ‫مجلته ‪‬السائح‪ ‬واملساهمة يف تحريرها‪َّ .‬‬ ‫جعل ْته‬ ‫لكن ضغوط ًا ملحاحة مارسها عليه صديقه ميخائيل نعيمه َ‬ ‫مع نعوم مكرزل‪ّ .‬‬ ‫وينض ّم إىل أرسة ‪‬السائح‪ .‬وبقي‪ ،‬يف الفرتة نفسها‪ ،‬يساعد سلوم‬ ‫يرتك ‪‬الهدى‪َ ‬‬ ‫مكرزل يف ‪‬املجلة التجارية‪ ‬التي أعاد إصدارها بعد َوجي ِز َت َو ّقف‪.‬‬

‫‪32‬‬


‫ ميارس شيخوخته بهدوء‪.‬‬

‫بالحدة‬ ‫حبب ًا من جربون‪ .‬مواقفه كانت تتسم‬ ‫ّ‬ ‫ مايك إنسان طيب‪ .‬كان َّ‬ ‫أقل َت ُّ‬ ‫كجربون‪ .‬أحيان ًا كان يقسو يف نقده‬ ‫أحيان ًا بني أعضاء ‪‬الرابطة‪ .‬مل يكن واسع الصدر ِ‬ ‫نتاج ًا جديد ًا ولو كان ألقرب الرفاق إليه يف ‪‬الرابطة‪ .‬البعض كان يجد ذلك حسد ًا‬ ‫أحبه كثري ًا‪ .‬رجاء خاص ًا‪ :‬يوم تعود إىل بريوت وتزوره‪ ،‬تحمل إىل‬ ‫لديه أو غرية‪ .‬أنا ّ‬ ‫جبينه قبلة مني خاصة‪.‬‬ ‫ كانت له خصومات؟‬

‫ خفية غري ظاهرة‪ .‬كان الجميع يحرتمون ثقافته الغنية َو ِسعة اطّ العه عىل‬ ‫ّ‬ ‫ب منه كثري ًا‪ ،‬وكان ينقل منه الكثري إىل جربون‪.‬‬ ‫اكتس َ‬ ‫األدب الرويس‪َ .‬‬ ‫ وإيليا أبو مايض؟‬

‫ أوووه! عِ ْش َرة عمر‪ .‬السمري‪ ‬كانت ناجحة صحافي ًا ومالي ًا وأدبي ًا‪ .‬مل يكن إيليا‬ ‫يتأخر يوم ًا عن دفع حقوق املتعاملني معه‪ ،‬عكس بعض أصحاب الصحف املهجرية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ عبد املسيح حداد؟‬

‫هاجسه األول‪.‬‬ ‫ بقيت ُد ُي ُونه املرتاكمة‬ ‫َ‬

‫ أمني الريحاين؟‬

‫األنفة‬ ‫هابه الجميع ويحرتمونه جد ًا‪ .‬وهو كان عىل يشء من َ‬ ‫ كان الكبري الذي َي ُ‬ ‫يف املجالس العامة‪.‬‬ ‫ رشيد أيوب؟‬

‫متربم ًا بقسوة األيام‪.‬‬ ‫ متشائم دائم بني الجميع‪َ .‬ق َست عليه الحياة‪ّ ،‬‬ ‫فظل حزين ًا ّ‬ ‫ ونسيب عريضه‪ ،‬وندره حداد‪...،‬‬

‫ب البحر ّكله يف دلو؟ ملاذا ال‬ ‫يا ابني‪ ،‬إرحم شيخوختي‪ .‬تعِ ْب ُ‬ ‫ت‪ .‬تريد أن َت ُع َّ‬ ‫نرتك الباقي لِجلسة أخرى؟‬

‫‪35‬‬


‫أقطفه‬ ‫يتعب الختيار أمامي من رشيط الذكريات‪ .‬لكن‬ ‫األهم يف ذكرياته مل ْ‬ ‫ّ‬ ‫بعد‪.‬‬ ‫ ماذا ّ‬ ‫تتذكر عن جربان‪ ،‬أستاذ فؤاد؟‬

‫يتذكر‬ ‫الشاملية‪ :‬ابن بشمزين الشاميل ّ‬ ‫ أوه‪ِ ...‬ج ُربون‪ِ ...‬ج ُربون‪( ...‬قالها بلكنته ّ‬ ‫أخترصها لك بكلامت‪،‬‬ ‫ابن برشي الشاميل)‪ .‬سنوات طويلة طويلة مع ًا‪ ...‬كيف يل‬ ‫ُ‬ ‫ونحن نحكي منذ ساعة؟ أال نرتك ذلك ل َِمر ٍة مقبلة؟‬ ‫ بىل‪ .‬وإمنا نكتفي اآلن بلمحات‪...‬‬ ‫ كان ِجربون يأيت اىل إدارة ‪‬السائح‪ ‬يف روكرت سرتيت مقر ‪‬الرابطة القلمية‪.‬‬ ‫وضيق َن َفس‪ِ :‬ضيق َّالن َفس‬ ‫حامال عصاه يرضب بها األرض َت َذ ُّمر ًا‬ ‫يتمشى‪ً ،‬‬ ‫وكان ً‬ ‫دائام ّ‬ ‫َ‬ ‫والتذ ُّمر مِ ّمن أحيان ًا يستهلكون وقته عىل الهاتف بدون‬ ‫املتوترة الدائمة‪َ ،‬‬ ‫لعصبيته ّ‬ ‫ّ‬ ‫ت طويل ًة وحده ال يزعجه أحد‪ .‬كان‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫كان‬ ‫طائل‪.‬‬ ‫حِ‬ ‫ب عىل عمله ساعا ٍ‬ ‫ُ ّ َ ْ َ َّ‬ ‫ليلة فنها ٍر مع ًا بدون راحة‪.‬‬ ‫َجلود ًا عىل العمل بشكل عجيب‪ .‬ال يتعب من َط ّي ٍ‬ ‫ب‬ ‫وكان ُيحب أن يتقاىض عائد ًا مالي ًا‪ ،‬ولو رمزي ًا‪ ،‬لقاء ّ‬ ‫كل ما يعمل‪ .‬املال عنده َع َص ٌ‬ ‫دائام إىل الناس باملظهر‬ ‫يهتم بأناقته وخروجه ً‬ ‫مهم جد ًا‪ .‬مل يكن ُم ِّبذر ًا لكنه كان ُّ‬ ‫ٌّ‬ ‫كل فاصلة منه‪.‬‬ ‫الالئق‪ .‬مل يكن‬ ‫بوهيمي املظهر بل َ‬ ‫بسيط ُه عىل َذوق‪ .‬كان فنان ًا يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهذا ما جعل له شهر ًة ُم َّميزة يف أوساطنا ويف أوساط النساء‪ .‬أسمع أحيان ًا أنه‬ ‫كان زاهد ًا بالنساء ومنرصف ًا إىل أمور الروحانيات‪ .‬هذه!!! (يضحك الختيار أمامي‬ ‫صاحبنا نجم نساء ‪‬متلام ّبدك‪.‬‬ ‫ضحكة العارف باألمور) فليسمحوا لنا بها‪ .‬كان‬ ‫ُ‬ ‫وشخصية جاذبة‪ .‬يف‬ ‫حبه‪ ،‬لِام كان عليه من شهر ٍة أدبية‬ ‫ما‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫عرفت أحد ًا مل يكن ُي ّ‬ ‫السنوات األخرية من حياته‪ -‬خصوص ًا آخر َع ْش ٍر‪ -‬مل يعد يهتم أن يكتب يف العربية‬ ‫مرتج ًام إىل لغتهم وانرصف إىل الكتابة‬ ‫وال عاد ّ‬ ‫يهمه القراء العرب‪ .‬ترك لهم أدبه َ‬ ‫باإلنكليزية التي كان أتقنها َوت َّميز فيها بأسلوب خاص‪ .‬أما موارده فكان معظمها‬ ‫أكثر من الكتابة ودور النرش‪.‬‬ ‫من رسومه ولوحاته َ‬ ‫ وصديقك ميخائيل نعيمه؟‬

‫صحته؟‬ ‫ أوه يس‪ ...‬مايك‪ ...‬نايس مان‪ ...‬ما أخباره اليوم؟ كيف ّ‬

‫‪34‬‬


‫‪3‬‬ ‫المونسينور منصور أسطفان مُعَاصر جبران‪:‬‬ ‫سم ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأصدرت الكـتاب في القاهرة‬ ‫يت ‪‬البدائـع والطرائـف‪‬‬ ‫أنـا َّ‬ ‫اتصل بي جبران مّرتين وهو يكـتب ‪‬يسوع ابن اإلنسان‪‬‬ ‫هو من القرن عىل سبع خطوات‪ .‬ثالث وتسعون سنة‪ ،‬يحملها عىل كتفيه ومييش‪ ،‬كأمنا يحمل ستين ًا‬ ‫نشيطة‪.‬‬ ‫ً‬ ‫تفصيال‪ ،‬ال يغفل عن اسم‪ ،‬ال‬ ‫ب السنني‪ :‬ال ينسى‬ ‫يعوض عنه اخرتاقُ ذاكرته ُح ُج َ‬ ‫بعض ضعف يف سمعه ّ‬ ‫يغيب عن باله مكان أو تاريخ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫تاريخه الكهنويت ال َيحرصه كالم‪ .‬خمسون عام ًا كاهن الجالية اللبنانية املارونية يف بروكلن‪ -‬نيويورك‪.‬‬ ‫سنة ‪ 1980‬عاد ِنهائي ًا إىل أرضه األم‪ ،‬إىل ضيعته غوسطا ّ‬ ‫املعلقة زنار ظالل وأضواء عىل خرص كرسوان‪.‬‬ ‫حمل تسعينه وعاد‪ ،‬ومعه ذكرياتٌ يعكف عىل تدوينها‪ ،‬خوفَ ‪‬يتقدَّ م العمر به‪ ‬فتضعف ذاكرته‪.‬‬ ‫يف إحدى صفحات ذكرياته ينام جربان‪ .‬هذا ما دفعني إليه‪.‬‬ ‫جع َله َّ‬ ‫يتذكر‪ ،‬أو س َأرصخ أسئلتي ح ّتى‬ ‫َخيل ُتني س ُأعاين ْ‬ ‫ت َ​َه ُّيؤي لزيارته يف غوسطا كان عىل بعض قلق‪ :‬ت َّ‬ ‫يصل صويت إىل منبسطات خليج جونيه‪.‬‬ ‫عيل جميع األسئلة‪ .‬مل ت َُخنه الذاكرة يف تفصيل‪ .‬حني كان‬ ‫أبد ًا‪ :‬مل أكد ُأعلن له غرض زياريت ح ّتى َو َّفر ّ‬ ‫يصف يل صومعة جربان (وهو َ‬ ‫ويصور‬ ‫دخلها عند وفاة جربان) راح يشري حويل بكلتا يديه ويهندس‬ ‫ّ‬ ‫وأحس حرارة رسير جربان‪.‬‬ ‫أتحسس أثاث الصومعة‬ ‫ويتبسط ح ّتى ِخل ُتني سأقوم معه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أدون‪ .‬ولو شئتُ االستماع إىل جميع ذكرياته لقضيتُ الليل يف غوسطا‪ .‬شارل قرم‬ ‫ثالث ساعات يحكي وأنا ّ‬ ‫ميزة‪ .‬فيليپ حبيب ُ‬ ‫تلميذه‪ .‬أوه فيليپ! كان صغري ًا‪َ .‬ه َ‬ ‫ُ‬ ‫القدّ ‪.‬‬ ‫م‬ ‫أدبية‬ ‫وعالقة‬ ‫كثرية‬ ‫صديقه‪ .‬له معه ذكريات‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫والدُ ه كان صديقي‪ .‬شقيقاه كانا أيض ًا من تالميذي‪ .‬كان فيليپ شاطر ًا‪ .‬جاء العام املايض إىل بريوت واتّصل‬ ‫مهمة رسمية ِدپلوماسية‪.‬‬ ‫يب يريد زياريت هنا يف غوسطا‪ .‬مل َأش ْأ إحراجه وهو يف ّ‬ ‫كتب وأوراق وذكرياتٌ طويلة‪ .‬شباك غرفته يطل عىل خليج جونيه الجميل‪.‬‬ ‫يف غرفته ٌ‬ ‫َ‬ ‫شبابه عن شيبه‬ ‫يسرتسل الـ‪‬بونا‪ ‬وأنا أكتب‪ .‬أسأل وال َي َم ّل‪ .‬يعرف أن استمرار لبنان يف أن ينقل ُ‬ ‫وسفينة تُبحر من شط أورفليس‪.‬‬ ‫الرسالة‪ .‬وكل رسالة تحتاج‪ ،‬كي تصل‪ ،‬إىل ‪‬مصطفى‪ ‬و‪‬ميرتا‪َ ‬‬ ‫ما هيك يا ‪‬بونا‪‬؟‬ ‫دونتُ حديثه‪ ،‬وال أقاطعه‪.‬‬ ‫بىل هيك‪ :‬أتركه يتحدّ ث‪ ،‬كما ّ‬

‫‪37‬‬


‫جلسة أخرى؟؟؟‬ ‫الصحاف ّي؟ أم إشباع ًا لنهمي يف أحالمي األدبية‬ ‫ارتحت إىل الوعد‪ .‬لفضويل‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫همي أن أعود‬ ‫َوت َع ُّقب جربان من أحد آخِ ر معارصيه؟ ال فرق يف النهاية بينهام‪ .‬كان ّ‬ ‫لعلي بصوت‬ ‫إىل هاتيك األيام من مانهاتن اللبنانية فيام أنا موجود يف مطارحها‪ّ .‬‬ ‫حدثي أسرتجع الزمان‪ ،‬وباختاليف إىل األمكنة ميداني ًا أَسرتجع املكان‪ ،‬فيلتقي عندي‬ ‫ُم ّ‬ ‫املكان والزمان‪ ،‬وأسرتجع ‪‬اللحظة‪.‬‬ ‫اللحظة‪ ...‬اللحظة‪...‬‬ ‫العد العكيس‬ ‫بعض حلمي‪ ،‬وأنا هنا يف نيويورك‪ ،‬أن أسرتجع ‪‬اللحظة‪ ،‬فأدخل ّ‬ ‫ُ‬ ‫لعوديت اىل لبنان‪.‬‬ ‫أحالم‪ ...‬أحالم‪...‬‬ ‫أخبارها بريوت؟‬ ‫ما ُ‬ ‫نيويورك‬

‫حرره فؤاد خوري‬ ‫غالف كتاب تاريخ ‪‬الهدى‪ ‬الذي ّ‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/4/29 -‬‬

‫‪36‬‬


‫مكتب ُه يف الطابق األول‪ُ ،‬يرقى إليه بأربع‬ ‫شارع واشنطن) وغالب ًا يتالقى عنده لبنانيون‪ُ .‬‬ ‫درجات حديدية عريضة‪ .‬يومها‪ ،‬ما كدت أبلغ الدرجة الرابعة ويراين الحتي من عمق‬ ‫يهم بالخروج من املكتب‪.‬‬ ‫مكتبه يف تلك الغرفة الواسعة حتى نادى ً‬ ‫رجال ربع القامة كان ّ‬ ‫وسط الغرفة فبادره الحتي‪ :‬أ َُع ِّرفك إىل راعي أبرشيتنا الخورأسقف‬ ‫ّ‬ ‫توقف الرجل ْ‬ ‫التفت‬ ‫يجيب الرجل‬ ‫منصور أسطفان الواصل منذ نحو عام إىل نيويورك‪ .‬وقبل أن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ثوان َعجىل‬ ‫أديبنا اللبناين جربان خليل جربان‪ .‬ويف ٍ‬ ‫َإل ّي ابرهيم واستطرد‪ِّ :‬‬ ‫‪‬أقدم إليك َ‬ ‫أمامي َّالرجل َّالر ْبع القامة‪ :‬يف ُيمناه عصا‪ ،‬حول رقبته شال كشمري‪ ،‬وجهه مائل‬ ‫تأملت‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫‪‬عرفت َك قبل أن أَلتقيك‪.‬‬ ‫باد ْر ُته‪:‬‬ ‫حولته الزائد ُة ُم ْقل َِقة‪ .‬قبل أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫إىل الصفرة‪ُ ،‬ن ُ‬ ‫يتكلم‪َ ،‬‬ ‫أعطيتها عنوان ‪‬البدائع‬ ‫بقي صامت ًا يف ُنحولته‬ ‫املتفرقة‪ُ ،‬‬ ‫جمع ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت مقاالتِك ّ‬ ‫فأكملت‪ :‬أنا ْ‬ ‫أرشفت عىل صدوره يف مرص‪ .‬عندئذٍ خرج من وراء‬ ‫ب‬ ‫َصدرتها يف كتا ٍ‬ ‫والطرائف‪ ‬وأ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وه َم َز عصاه وخرج‪.‬‬ ‫صمته الشارد‪َ ،‬‬ ‫وشكرين يف تهذيب زائد إمنا يف اختصار زائد‪َ ،‬‬ ‫وقلت ل َِمن كانوا حويل‪ :‬هذا الرجل لن يعيش‬ ‫بعين َّي َيخرج من املكتب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫رافقت ُه َ‬ ‫طويال‪ .‬هو َنحيف وناحل أكثر من الطبيعي‪ .‬أجابني صديقي يعقوب روفايل‪ :‬هذا‬ ‫ً‬ ‫الرجل ُد َّر ٌة يف َص َد َفة‪ .‬وراح اللبنانيون يف املكتب ُيخربونني عن ُشهرته يف نيويورك‪،‬‬ ‫خصوص ًا بعد صدور كتابه ‪‬النبي‪ ‬قبل ثالث سنوات‪ .‬قالوا يل إنه ال يزور أحد ًا وال‬ ‫منعزال يف صومعته يعمل طوال الليل‬ ‫يزور ُه أحد‪ .‬ال يخرج اىل أماكن عامة‪ .‬يعيش‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫والنهار يف الرسم والكتابة‪.‬‬ ‫صورت ُه بأناقته البسيطة‪ ،‬وقامته املربوعة‬ ‫ت يف ذاكريت‬ ‫ُ‬ ‫بقي ْ‬ ‫منذ ذاك اللقاء األول َ‬ ‫قليال إىل األمام‪.‬‬ ‫ذات الرقبة املنحنية ً‬ ‫ت أدبية‪ ،‬إحداها دعت إليها‬ ‫بعدذاك‬ ‫أربع مرات أو خمس ًا‪ ،‬يف حفال ٍ‬ ‫ُ‬ ‫التقيت جربان َ‬ ‫‪‬الرابطة القلمية‪ ‬يف قاعة إحدى الجمعيات‪ ،‬تأبين ًا للراحل سليامن البستاين‪ ،‬وكان‬ ‫جربان من خطبائها البارزين‪.‬‬ ‫كنت‬ ‫سنة ‪ 1927‬هاتفني جربان يسألني عن‬ ‫ٍ‬ ‫نسخة رسيانية للكتاب املقدس ُ‬ ‫فوعدته‬ ‫أله ّم ّيتها)‪.‬‬ ‫أخربته أنها عندي (نسخة مثينة‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اشرتيتها وقتئذ بخمسني دوالر ًا‪َ ،‬‬ ‫بالبحث عنها‪.‬‬

‫‪39‬‬


‫‪‬كنت كاهن ًا يف الثالثة والعرشين حني استدعاين رؤسائي اىل القاهرة سنة ‪1913‬‬ ‫ُ‬ ‫خرجي من معهد ‪‬الحكمة‪ ‬ضليع ًا يف العربية‬ ‫لتدريس اللغة العربية والرتجمة‪ ،‬بعد َت ُّ‬ ‫والفرنسية (أستاذي الخوري نعمة اهلل باخوس ن ِّد املعلم عبداهلل البستاين الشهري عهدئذ)‪.‬‬ ‫أدرس لدى مدرسة اآلباء اليسوعيني يف الفجالة‪ ،‬قريب ًا من ‪‬مكتبة‬ ‫ُ‬ ‫أخذت ّ‬ ‫فت بصاحبها اللبناين يوسف توما البستاين فطلب مني أن‬ ‫تعر ُ‬ ‫العرب‪ ‬التي ّ‬ ‫أُساعده يف التنقيح واإلرشاف عىل صدور بعض املؤلفات العربية‪ .‬وذات يومٍ قال‬ ‫متفرقة‬ ‫ت‬ ‫يل‪ :‬لجربان خليل جربان‬ ‫ٍ‬ ‫مقاالت مبعثر ٌة منشورة يف مجال ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫وصحف ّ‬ ‫جمعها‬ ‫بني مرص ولبنان وأمريكا‪ .‬أنوي َ‬ ‫تتولى‬ ‫إلصدارها يف كتاب‪ .‬ما رأيك لو ّ‬ ‫وافقت عىل الفور‪ُ ،‬تغريني‬ ‫ذلك‪‬؟‬ ‫ُ‬ ‫ت له‬ ‫شهر ُة جربان‪،‬‬ ‫فانكببت أراجع مقاال ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ت بينها ‪ 35‬من كتابه ‪‬دمعة‬ ‫انتخب ُ‬ ‫كثري ًة ْ‬ ‫وابتسامة‪ ،‬ومن ‪‬العواصف‪ ‬آخر كتبه‬ ‫عدة‪،‬‬ ‫يف العربية‪ ،‬ومن‬ ‫ومجال ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ت ّ‬ ‫صحف َ‬ ‫واخرتت لها رسوم ًا من جربان‪،‬‬ ‫َب َّو ْب ُتها‬ ‫ُ‬ ‫عنوان لهذه‬ ‫أفك ُر يومني يف‬ ‫وبقيت ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وجد ُت لها اسم ‪‬البدائع‬ ‫املجموعة حتى ْ‬ ‫وأرشفت عىل طبعتها األوىل‬ ‫والطرائف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫حلة الئقة سنة ‪ ،1923‬بعد خالف عىل‬ ‫يف ّ‬ ‫النرش مع جرجي زيدان الذي كان هو‬ ‫يريد إصدارها يف منشورات ‪‬الهالل‪.‬‬ ‫صفحة اإلعالن عن كتاب ‪‬البدائع والطرائف‪‬‬ ‫يف تلك السنة نفسها أصدر جربان يف‬ ‫يف مجلة ‪‬الفنون‪‬‬ ‫نيويورك كتابه ‪‬النبي‪ ‬لدى ‪‬كنوف‪.‬‬ ‫رعية سيدة لبنان يف بروكلن‪ .‬وذات يوم من‬ ‫سنة ‪َ 1924‬ت ّم نقيل إىل نيويورك َ‬ ‫خادم ّ‬ ‫جت يف مانها ِتن عىل صديقي ابرهيم الحتي (صاحب مؤسسة سفريات لبنانية‪،‬‬ ‫عر ُ‬ ‫‪ّ 1926‬‬ ‫ووكيل رشكة ‪‬فابر الين‪ ‬األمريكية للنقل البحري)‪ .‬كان مكتبه يف بناية فاعور (وسط‬

‫‪38‬‬


‫ت‬ ‫إىل الزاوية اليرسى من باب املدخل‪َ :‬ت ْخ ٌ‬ ‫سجادة عجمية‪ ،‬فوقه‬ ‫واطئ‬ ‫ٌ‬ ‫رام ُه ّ‬ ‫ٌ‬ ‫بسيط‪ ،‬حِ ُ‬ ‫متثال املسيح املصلوب‪ ،‬عن جانبه إىل الحائط‬ ‫لوحة زيتية قدمية وكبرية (بالحجم الطبيعي)‬ ‫رافقن املسيح إىل الجلجلة‪.‬‬ ‫للنسوة الالئي‬ ‫َ‬ ‫إىل ميني الباب (النصف األمين من الغرفة)‬ ‫أدوات تصوير‪،‬‬ ‫لوحات ُمختلفة األحجام‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫غري مكتملة‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫ورسوم ُ‬ ‫حمام‪ ،‬ألن هذا كان مشرتك ًا‬ ‫الغرفة‬ ‫يف‬ ‫ليس‬ ‫ّ‬ ‫للطابق ِّكله كام حال هذه الطوابق الفقرية‪.‬‬ ‫املونسينيور منصور اسطفان‬ ‫بادرت نعوم‪ :‬كان‬ ‫فيام نغادر الغرفة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ناسك ًا هذا الرجل‪ .‬يعيش يف صومعة‪.‬‬ ‫جثامنه يف مستشفى‬ ‫أكملنا إىل حيث كان‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫سانت ڤنسنت‪ .‬بعد يومني َت َّم نقل الجثامن إىل بوسطن (‪ 4‬ساعات يف القطار) من دون‬ ‫الجناز حيث تقيم‪ ،‬قريب ًا من‬ ‫جنا ٍز عندنا يف بروكلن ألن شقيقته مريانا شاءت إقامة ّ‬ ‫ّ‬ ‫وصلى عىل الجثامن كاهن الرعية هناك الخورأسقف‬ ‫كنيسة سيدة األرز يف بوسطن‪ّ ،‬‬ ‫أسطفان الدويهي‪.‬‬ ‫موت جربان حزن ًا عميق ًا يف نيويورك وبوسطن‪ ،‬مع أن الناس مل يعرفوه‬ ‫أشاع ُ‬ ‫َ‬ ‫املستمر‪ .‬كان ذا تأثري كبري يف أدباء الجالية ومواطنيها‪ ،‬خصوص ًا بعد‬ ‫شخصي ًا النزوائه‬ ‫ّ‬ ‫صدور كتابه ‪‬النبي‪.‬‬ ‫كان ذلك قبل اثنتني وخمسني سنة‪.‬‬ ‫أتذكر ذاك الناحل النحيف‪،‬‬ ‫أزال‪ّ ،‬كلام‬ ‫تحد َث عنه أحد أمامي‪َّ ،‬‬ ‫تذكرت جربان أو ّ‬ ‫ُ‬ ‫وال ُ‬ ‫شديد‬ ‫َّالربع القامة‪ ،‬بعصاه األنيقة‪ ،‬وشال الكشمري حول رقبة نحيفة إىل األمام‪ً ،‬‬ ‫رجال َ‬ ‫شديد االختصار‪.‬‬ ‫التهذيب‪ ،‬لكنه‪ ،‬كذلك‪ُ ،‬‬ ‫توفي الخوراسقف منصور أسطفان يف مطلع ‪ ،1984‬بعد أشهر قليلة عىل هذا الحوار‪.‬‬ ‫* ّ‬ ‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1983/10/10 -‬‬

‫‪41‬‬


‫تذك ْر َتني بنسخة‬ ‫ُزعجك يا أب ِ‬ ‫ت‪ .‬هل َّ‬ ‫بعد أسبو ٍع َ‬ ‫عاد فهاتفني‪ :‬أرجو أ َّال أَكون أ ُ‬ ‫قلت له إنني مل أجدها‪ .‬قد أكون أ َ​َع ْر ُتها ألحدٍ ومل‬ ‫الكتاب املقدس الرسيانية؟‪ُ .‬‬ ‫اتصال له‬ ‫مقتضب‪ ،‬وكان ذلك آخر‬ ‫جدد ًا‬ ‫ٍ‬ ‫وشكرين بتهذيب َ‬ ‫إيل بعد‪ .‬اعتذر ُم َّ‬ ‫ُيعِ ْدها ّ‬ ‫َ‬ ‫فهمت من أحد أبناء الطائفة يف رعيتي أنه ُي َه ِّيئ كتاب ًا عن املسيح (‪‬يسوع ابن‬ ‫يب‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫أصدره بعد ذاك بسنة)‪.‬‬ ‫اإلنسان‪ ‬الذي َ‬ ‫ُز ّواره كانوا أربعة أو خمسة (أبرزهم نسيب عريضة‪ ،‬عبد املسيح حداد وشقيقه‬ ‫َحد‬ ‫َن ْد َره)‪ .‬كنا َّ‬ ‫نتسقط أخباره بني الحني واآلخر‪ .‬والنقطاع ِصالتِه بالناس مل يكن أ ٌ‬ ‫بشدة َمرضه يف أيامه األخرية‪.‬‬ ‫عارف ًا ّ‬ ‫كان صديقي نعوم مكرزل‪ ،‬إىل بنايته يف مانهاتن‪ ،‬اشرتى بناية أخرى يف بروكلن‬ ‫قريب ًة من كنيسة ‪‬سيدة لبنان‪َ ‬نقل إليها مكاتب ‪‬الهدى‪ ‬ومطابعها‪ .‬وذات فرتة من‬ ‫كل يوم‪.‬‬ ‫‪ 1931‬مرض شديد ًا‪،‬‬ ‫فكنت‪ ،‬بحكم صداقتنا‪ ،‬أ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َعوده تقريب ًا ّ‬ ‫وجهه الحزين‪ .‬وقبل أن أُبادره‬ ‫صباح السبت ‪ 11‬نيسان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫فص َد َمني ُ‬ ‫دخلت عليه َ‬ ‫وغص يف شهقة صامتة‪.‬‬ ‫بالسؤال بادرين بالنبأ املفجع‪ :‬صاحبنا جربان عطاك عمرو‪َّ .‬‬ ‫حرتفه؟‪‬‬ ‫َّ‬ ‫يت فور ًا ‪‬صالة الغائب‪ ،‬وما أ َْن َه ُيتها حتى بادرين‪ :‬أتأيت معي نزور ُم َ‬ ‫صل ُ‬ ‫وانطلقنا اىل مانهاتن بسيارة‬ ‫فأجبت بـ‪‬نعم‪ ‬فورية‪َ ،‬ونهض نعوم كأنه مل ُيعد مريض ًا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫أحد أبناء الرعية‪.‬‬ ‫مدخل واسع‬ ‫قرميد عتيق‪ ،‬ومن تحت‬ ‫فوق‬ ‫البناية قدمية من ثالث طبقات‪ .‬لها من ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫عن جانبيه َدرج مزدوج‪ .‬صعدنا الطابق األول فالثاين فالثالث‪ ،‬وانعطفنا ميين ًا يف رواق‬ ‫نطرق ُه‪ .‬كان‬ ‫قليال‪ .‬أول باب من تلك الناحية كان باب ‪‬الصومعة‪ .‬مل ْ‬ ‫طويل مظلم ً‬ ‫فدخلنا‪.‬‬ ‫مفتوح ًا ْ‬ ‫ضيق‪ .‬قبالة الباب‬ ‫وسط غرفة وحيدة‪ ،‬مستطيلة عىل ٍ‬ ‫طول الفت وعرض ِّ‬ ‫الباب ْ‬ ‫فوقه متثال العذراء (من َنحو‬ ‫أبيض َ‬ ‫طاولتان إىل الحائط املقابل‪ :‬عىل ُاليمنى رششف ُ‬ ‫‪ 20‬سنتم) تحمل الطفل عىل زندها‪ ،‬عن جانبيه شمعدانان نحاسيان فيهام شموع‬ ‫كأس وصينية وشمعدانان نحاسيان َآخران فيهام شموع‬ ‫ذائبة‪ ،‬وعىل الطاولة اليرسى ٌ‬ ‫ذائبة فوق الرششف األبيض‪.‬‬ ‫يف الركن‪ ،‬كسائر البيوت األمريكية‪ ،‬موقدة إلشعال الحطب أو الفحم الحجري أو‬ ‫مستدير يحمل ركوة‬ ‫عريض‬ ‫نحايس‬ ‫صدر‬ ‫الفحم الخشبي‪ ،‬أمامها إسكملة صغري ٌة عليها ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫نحاسية للقهوة‪ ،‬حولها مثانية فناجني يف قوالب نحاسية‪.‬‬

‫‪40‬‬


‫ها أنا‪ ،‬صباح اليوم التايل‪ ،‬يف ْس ْپ ِر ْن ْغفيلد (ماساشوستس) عند تشارلز أقابل‬ ‫والدته‪ .‬إنها يف الثانية والثامنني‪ .‬إسمها ُس َم َّية َخ ْضرا جربان‪ .‬خفيف ُة السمع كثري ًا‪،‬‬ ‫ضعف يف الذاكرة‪.‬‬ ‫تعاين من صعوبة يف النطق شديدة‪ ،‬ومن‬ ‫ٍ‬ ‫ات َّذك ْرتها ِبجربان‪:‬‬ ‫ست ْن ِط ُقها‪ْ .‬‬ ‫رحنا‪ ،‬تشارلز وأنا‪َ ،‬ن َ‬ ‫غص ٌ‬ ‫خانتها الكلامت ومل َت ُخ ْنها َّ‬ ‫ مسكني جربان‪ ...‬أال يزال حتى اليوم حزين ًا كام يبدو حني يزورنا؟ كان شاحب‬ ‫أتذكره إال وهو عليل‪ .‬عندما يزورنا يبقى عندنا يومني أو ثالثة‪َ .‬ويحلو‬ ‫دائام‪ .‬ال َّ‬ ‫الوجه ً‬ ‫(وتد ّلني ِبيدها املرتجفة)‪ .‬هنا‪ ،‬هل َترى هذا الحقل أمامك؟ مل‬ ‫له أن ّ‬ ‫يتمشى من هنا ُ‬ ‫الشرود واألحالم‪ .‬يوم زواجنا كان هو اإلشبني‬ ‫كثري ُّ‬ ‫يكن يأكل كثري ًا‪ .‬كان َ‬ ‫قليل الكالم‪َ ،‬‬ ‫تزو ْجنا يف هذه الكنيسة هناك‪ ،‬هل تراها؟ كنيسة مار‬ ‫يف عريس‪ ،‬ألنه نسيب زوجي‪َّ .‬‬ ‫تذكر السنة يا تشاريل؟‬ ‫بارك اإلكليل يومها املونسنيور بولس صعب‪ .‬هل ُ‬ ‫أنطونيوس‪َ .‬‬ ‫يهرع تشاريل اىل اإلجابة‪:‬‬ ‫تتذكرين جربان‪.‬‬ ‫ ‪ 1914‬يا أمي‪ .‬هكذا كن ِ‬ ‫ت تقولني يل كلام ّ‬ ‫وإهداء َإل ّي ِب َخ ّط يده‪ .‬كلام زارنا‬ ‫بعد كتابان منه‬ ‫ مسكني جربان! عندي ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يفضل أن ينرصف إىل‬ ‫يطلب ّأال نعود نستقبل أحد ًا‪ .‬كان ُيحِ ب الوحدة واالنفراد‪ّ .‬‬ ‫زلت‬ ‫األحالم‪ ،‬أو إىل الرسم والكتابة‪ ،‬وال ُيحب أن يزعجه أحد‪ ...‬تشاريل؟ هل ما َ‬ ‫عمك جربان يف نيويورك؟‬ ‫تروح عند ّ‬ ‫ُ‬ ‫ألتفت اىل‬ ‫مزيد‪.‬‬ ‫ب‬ ‫أمل‬ ‫وال‬ ‫انتهى‪،‬‬ ‫العجوز‬ ‫الوالدة‬ ‫مع‬ ‫الحديث‬ ‫أن‬ ‫السؤال‬ ‫من‬ ‫أفهم‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تشارلز‪:‬‬ ‫ وأين والدُ ك يا تشاريل؟‬ ‫وور ِس ْسرت‪ ،‬عىل ثالث ساعات من هنا يف والية ماساشوستس كذلك‪.‬‬ ‫ يف ْ‬ ‫ هيا بنا إليه‪.‬‬ ‫مقدمات‪ .‬يسرتسل‬ ‫بطرس يوسف جربان‪ .‬خمسة ومثانون عام ًا‪ .‬ال ينتظر أسئلة وال ّ‬ ‫نوستالجي‪:‬‬ ‫بفرح‬ ‫ّ‬ ‫سمية زوجتي بثالث سنوات‪ .‬لكنني ‪‬أ َْوعى‪ ‬منها‪ .‬مسكينة‪َ ،‬د َّب‬ ‫ أنا أكرب من ّ‬ ‫الخ َرف‪.‬‬ ‫فيها َ‬

‫‪43‬‬


‫‪4‬‬ ‫جبران إشبيني في عرسي سنة ‪1914‬‬ ‫التقيت خاللها صديق ًا‬ ‫يتيكت)‪،‬‬ ‫مدعو ًا اىل‬ ‫ٍ‬ ‫(كون َ‬ ‫مناسبة اجتامعية يف ُووت ِْر ُبري ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كنت ُ‬ ‫يل أعرفه من لبنان‪.‬‬ ‫بعد حوار قصري َّقدمني اىل رجل معه‪:‬‬ ‫ تشارلز جربان‪.‬‬

‫النحات خليل جربان يف بوسطن‬ ‫صافحت ُه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وسألته إن كان ميكنه أن يصحبني إىل ّ‬ ‫ت أستقصيها جديد ًة عن جربان‪.‬‬ ‫ألتعرف إليه‪،‬‬ ‫وأستطلعه جديد ًا أ َُض ُّمه إىل معلوما ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫استفرست فأوضح‪:‬‬ ‫امتعض الرجل بوضوح‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫متكبر‪ ،‬متعجرف‪ ،‬ال يقابل أحد ًا‪ ،‬وال يعطي معلومات‪.‬‬ ‫ ال‬ ‫َ‬ ‫أنصحك بذلك‪ .‬إنه ِّ‬ ‫الكتابني عنده‪.‬‬ ‫ومنذ شه ٍر َّ‬ ‫تأكد يل أن َ‬ ‫ أي كتابني؟‬ ‫ّ‬

‫ مخطوطتان لجربان يحتفظ بهام‪ .‬ال ينرشهام وال أحد يعرفهام‪ :‬أليعازر يف‬ ‫الحديقة‪ ،‬و‪‬األعمى‪ ،‬مع أنه كان‪ ،‬منذ فرت ٍة‪َ ،‬و َع َد أُمي أن ينرشهام يف مئوية والدة‬ ‫شئت تعرف شيئ ًا جديد ًا‬ ‫ترص عىل الذهاب إليه؟ إذا َ‬ ‫جربان (‪ .)1983‬ولكن‪ ...‬ملاذا َ‬ ‫أنت ُّ‬ ‫عارصاه وعرفاه جيد ًا‪.‬‬ ‫يتذكران؟ َف ُهام‬ ‫والد َّي‪ ،‬يخربانك عنه ما ّ‬ ‫عن جربان‪ ،‬ملاذا ال ُتقابل َ‬ ‫ُ‬ ‫ والداك؟؟‬

‫مل أنتظر تفاصيل‪ .‬فور ًا اتفقنا عىل املوعد‪.‬‬

‫‪42‬‬


‫ هل كان يزوره كثريون كلما جاء بوسطن؟‬

‫ كال‪ .‬قليلون يجيئون للسالم عليه‪ُ .‬يامزحهم ويباسطهم‪ ،‬يسأل عن عيالهم‬ ‫وأشغالهم‪ .‬يضحك أحيان ًا معهم فتنقشع عنه عالمات الحزن واملرض والتعب‪.‬‬ ‫ وتكون جلساته معهم طويلة؟‬

‫مشغوال بذهابه يف زيارة عمل إلنهاء‬ ‫دائام‬ ‫ً‬ ‫ أبد ًا‪ .‬كان يخترص الزيارات ألنه كان ً‬ ‫معاملة‪ ،‬أو التقاء أحد ‪‬بخصوص شغل‪.‬‬ ‫ كيف كان يأيت إىل بوسطن؟‬

‫ بالرتان‪ .‬كان فقري ًا ال ميكنه البذخ‪ .‬وكان يعطي بعض املال ملريانا‪ ،‬خصوص ًا يف‬ ‫أواخر حياته حني َت َح َّسن وضعه املادي‪.‬‬ ‫ً‬ ‫إجماال؟‬ ‫ ما كانت أحاديثه مع الناس‬

‫ويتجنب الدخول معهم يف أحاديث أدبية‪ .‬كأنه‬ ‫حدثهم يف العموميات‬ ‫ عادية‪ُ .‬ي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫زواره‪.‬‬ ‫يريد أن يرتاح من الجو الذي يكون آتي ًا منه يف نيويورك‪ .‬مل يكن هذا ُيزعج ّ‬ ‫ويتو َّددون إليه‪ ،‬ويفتخرون أنهم يزورونه‪ .‬لسانه حلو وحديثه حلو‪،‬‬ ‫حبونه َ‬ ‫كانوا ُي ُّ‬ ‫ومعاملته مع الناس صادقة ونظيفة‪.‬‬ ‫ هل ّ‬ ‫تتذكر هندامه وقيافته؟‬

‫راحته‪ .‬لكنه ال يخرج إال وهو يف كامل قيافته‪ :‬الربنيطة‬ ‫ يف البيت ‪‬يأخذ َ‬ ‫دائام نظيفة ملاعة وأنيقة‪.‬‬ ‫األمريكية‪ ،‬العصا‪ ،‬الثياب ً‬ ‫ هل كان كثري التدخني؟‬

‫يدخن كثري ًا ويرشب القهوة كثري ًا‪ .‬يف الفرتة األخرية من حياته كان‬ ‫ُف!! جد ًا‪ّ .‬‬ ‫ أ ّ‬ ‫توفيت عام ‪1948‬‬ ‫الع َرق‪ ،‬ومريانا ُ‬ ‫أخته ّ‬ ‫ُيدمن كثري ًا رشب َ‬ ‫تتمزق يف صمت‪ .‬مسكينة! َ‬ ‫يف هدوء‪.‬‬

‫‪45‬‬


‫ ما القرابة بينك وبني جربان؟‬

‫قلت ذلك لألستاذ يا‬ ‫ أبوه خليل جربان هو ابن عم أيب يوسف جربان‪ .‬هل َ‬ ‫تشاريل؟‬ ‫ أين كنت تراه؟‬

‫كنت أزوره يف بوسطن عىل‬ ‫ عندنا يف ْس ْپ ِر ْن ْغفيلد‪ .‬هو إشبيني يف عريس‪ .‬ومرات ُ‬ ‫ساعتني من عندنا‪.‬‬ ‫ كان يأيت غالب ًا إىل بوسطن؟‬

‫شغله كثري ًا يف نيويورك‪ .‬لكنه يجيء أحيان ًا عند‬ ‫ غالب ًا؟ ال‪ .‬ما كان عنده وقت‪ .‬كان ُ‬ ‫سفر وارتباطات‪.‬‬ ‫أخته مريانا‪ ،‬يومني أو ثالثة ويعود إىل شغله يف نيويورك‪ً .‬‬ ‫دائام عنده َ‬ ‫ أية صورة تحفظ عنه؟‬

‫حب أن يتمشى‪ ،‬أن يكون معه شخص‬ ‫ كان حزين ًا ً‬ ‫دائام َّ‬ ‫كأن به أ َ​َل ًام ُمخيف ًا‪ُ .‬ي ّ‬ ‫قليال‪َ .‬يميش ُوي ّفكر‪ .‬كان فيلسوف ًا يا‬ ‫كنت أُرافقه أحيان ًا فال ُيخاطبني إال ً‬ ‫ولو مل ّ‬ ‫يكلمه‪ُ .‬‬ ‫أستاذ‪ .‬مر ًة أَطْ َلعني عىل مجلة تصدر يف مرص كانت كاتب ًة عنه أنه فيلسوف‪.‬‬ ‫ هل كان يقرأ لك نتاجه الكتايب؟‬

‫متكبر ًا‪ .‬يعترب‬ ‫ ال‪ .‬أبد ًا‪ .‬مل يكن ُي ْش ِر ُك أحد ًا يف كتاباته‪ .‬من هذه الناحية كان ّ‬ ‫صديقه يف بوسطن‬ ‫كامل ال يحتاج رأْي أحد‪ .‬أحيان ًا كان َيميش معنا‬ ‫ُ‬ ‫ّأن ما يكتبه ٌ‬ ‫لكن جربان كان ينزعج وال ُيجيب‪ .‬مل يكن‬ ‫عساف‬ ‫جوريه‪ ،‬فيسأله هذا عن نتاجه ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫لناس مثلنا دون مستواه الفكري‪.‬‬ ‫ُيحب أن يقرأ كتاباته ٍ‬ ‫ إىل هذا الحد كان متعجرف ًا؟‬

‫وطيب ًا‪ ،‬حلو‬ ‫ يف أمور الكتابة فقط‪ .‬يف األمور األخرى‪ ،‬عىل العكس‪ :‬كان ُمحبب ًا ِّ‬ ‫ب أن ُيخاطب الكبري والصغري حني ال يكون رأسه يدور يف‬ ‫اللسان‪ ،‬حديثه لطيف‪ُ ،‬يحِ ّ‬ ‫فكرة أو رسمة‪ .‬يف جلساته مع الناس كان متواضع ًا‪ ،‬بل عىل بعض َدعة وخجل‪.‬‬

‫‪44‬‬


‫‪5‬‬ ‫الخفي ‪:‬‬ ‫ماري هاسكل المالك ّ‬ ‫كانت تصحح مخطوطاته‬ ‫خفية عن زوجها العجوز‬ ‫املحارضون يف إحدى جلسات املؤمتر‬ ‫الدويل األول للدراسات الجربانية (جامعة‬ ‫يتحدثون‬ ‫مرييالند‪ -‬كانون األول ‪ّ ،)1999‬‬ ‫عن جربان ُمشيدِ ين مباري هاسكل‪،‬‬ ‫صاحبة الفضل األكرب يف عنايتها به إنكليزي ًا‬ ‫ورعايتها إياه مادي ًا ومعنوي ًا وعاطفي ًا‪.‬‬ ‫شابة دامعة‪.‬‬ ‫يف ٍ‬ ‫مح ُ‬ ‫لفتة إىل القاعة‪َ ،‬ل ْ‬ ‫ت ّ‬ ‫رآها مثيل رئيس املؤمتر الدكتور سهيل‬ ‫برشوئي فأَوضح يل هامس ًا‪ :‬إنها قريبة‬ ‫ماري هاسكل‪.‬‬ ‫مت منها‪،‬‬ ‫يف نهاية الجلسة ّ‬ ‫تقد ُ‬ ‫معرف ًا ِبخربيت الجربانية‬ ‫ّ‬ ‫وقد ُمتني إليها ِّ‬ ‫فباد َر ْتني‬ ‫ومعرفتي بتاريخ ماري هاسكل‪َ ،‬‬ ‫مشري ًة اىل عنقها‪:‬‬ ‫ هذا منها‪.‬‬ ‫مرص ٌع ِبمهابة‪.‬‬ ‫كان يف عنقها عِ ْق ٌد جميل َّ‬

‫(زيتية بني مجموعتها ملتحف تلفري)‬ ‫ماري هاسكل ّ‬ ‫وهذا هو العقد الذي تلبسه اليوم إليزابيت‬

‫النسب معها؟‬ ‫ وما َ‬

‫‪47‬‬


‫ متى زرتَه آخر مرة؟ وما كان حديثه؟‬ ‫حنني غريب كام وال‬ ‫حدثني عن لبنان ِب ٍ‬ ‫ يف آذار ‪ .1931‬قبل موته بشهر واحد‪َّ .‬‬ ‫يومها قال يل‪ :‬أنا مشتاق إىل لبنان يا‬ ‫مرة من قبل‪ .‬كان يحكي عن لبنان بشغف‪َ .‬‬ ‫بطرس‪.‬‬ ‫غصة ُم َّرة‪.‬‬ ‫أجهش العجوز أمامي يف ّ‬ ‫َوت َخ ْر َس َن الحوار‪.‬‬ ‫ ‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/10/28 -‬‬

‫‪46‬‬

‫ْس ْپ ِرنْ غفيلد‪ -‬ماساشوستس‬


‫َروت يل أنها قرأَت ‪‬النبي‪ ‬وهي يف الخامسة‬ ‫بعمة‬ ‫ْ‬ ‫وأحبت جربان قبل أن تعرف عالقته ّ‬ ‫عشرة‪َّ ،‬‬ ‫أمها‪ .‬ونهار عيد ميالدها الثامن عرش‪ ،‬أهدتها ُّأمها‬ ‫كتاب ‪‬النبي الحبيب‪ -‬رسائل الحب بني جربان‬ ‫وماري هاسكل ودفاتر مذكراتها‪( ‬تحقيق فريجينيا‬ ‫حلو‪ -‬منشورات كنوف‪ -‬نيويورك ‪ .)1972‬وحني‬ ‫ألمها إنها تعرف جربان يف كتابه ‪‬النبي‪،‬‬ ‫قالت ّ‬ ‫عمتها ماري هاسكل‬ ‫َ‬ ‫كشفت لها ُّأمها عن عالقة ّ‬ ‫ِبجربان‪ .‬كانت إليزابيت تجهل ذلك‪ ،‬فأخذت من‬ ‫وعمة أمها‪ُ ،‬وتمطر‬ ‫يومها تكتشف عامل جربان ّ‬ ‫والدتها بأسئلة كانت هذه تجيب عن بعضها‪،‬‬ ‫وتغفل اإلجابة عن بعضها اآلخر‪.‬‬ ‫نقال عن أمها‪ ،‬كيف‬ ‫وأخب ْرتني إليزابيت‪ً ،‬‬ ‫َ‬ ‫أبقت ماري هاسكل عالقتها بجربان رسي ًة بعد‬ ‫زواجها (يف ‪ 7‬أيار ‪ )1926‬من جاكوب فلورنس‬ ‫رسالة من جربان إىل ماري هاسكل‬ ‫(‪ 7‬ترشين الثاين ‪ )1918‬معرتف ًا بعنايتها‪،‬‬ ‫مدرستها‬ ‫ماينس ومغادرتها بوسطن (حيث‬ ‫ُ‬ ‫َف ِرح ًا بصدور كتابه اإلنكليزي األول ‪‬املجنون‪‬‬ ‫وسنواتها مع جربان) اىل ساڤانا جورجيا‬ ‫(لتعيش مع زوجها العجوز)‪ ،‬وكيف حني‬ ‫ت ُتمضيها مع جربان فيام ماينس يتابع‬ ‫تسافر مع زوجها اىل نيويورك ترسق أويقا ٍ‬ ‫أعامله يف مكاتب أخرى من مانهاتن‪ ،‬وكيف كانت تراجع كتابات جربان األخرية رس ًا‬ ‫ُوتعيدها إليه بالربيد يف نيويورك‪ ،‬وكيف كانت يف ترشين األول ‪ 1930‬تراجع مخطوطة‬ ‫أرج َع ْتها إليه‬ ‫آخر كتبه ‪‬آلهة األرض‪ً ‬‬ ‫ليال يف صالون منزلها بعد نوم زوجها‪ ،‬وحني َ‬ ‫ووقع معه يف نهاية ذاك الشهر عقد ًا‬ ‫َرسلها اىل النارش َّ‬ ‫ُم َص َّحح ًة يف مطلع ترشين الثاين أ َ‬ ‫تلقت النسخة املطبوعة من‬ ‫عىل كتابه التايل‪ :‬حديقة النبي‪ .‬وحني يف ‪ 31‬آذار ‪َّ 1931‬‬ ‫وص ْلت ُه‬ ‫وكتبت إليه رسالة صباح االثنني ‪ 6‬نيسان ‪َ 1931‬‬ ‫كتاب ‪‬آلهة األرض‪ ،‬قرأ َْته َ‬ ‫صحته مساء اليوم‬ ‫آخر ما قرأ َْته عيناه قبل أن َت َتدهور ُ‬ ‫ُظهر األربعاء ‪ 8‬نيسان فكانت َ‬ ‫َودت به يف الحادية‬ ‫التايل (الخميس) ليدخل صباح الجمعة يف الغيبوبة األخرية التي أ َ‬ ‫عرشة إال خمس دقائق من ليل الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪ 1931‬يف الغرفة ‪ 316‬من الطابق‬

‫‪49‬‬


‫ألمي‪.‬‬ ‫ هي َع ّمة أمي‪ :‬شقيق ُة ّ‬ ‫جدي ّ‬ ‫جلسة يف صالون الجامعة‪.‬‬ ‫دعوتها اىل‬ ‫ٍ‬ ‫مل أَش ْأ أن أُكمل يف القاعة‪ُ .‬‬ ‫أحد‬ ‫أحد أو يكتب ٌ‬ ‫يتحد ْث ٌ‬ ‫هذه أول نسيبة معروفة ملاري هاسكل‪ .‬حتى اليوم‪ ،‬مل َّ‬ ‫أي من عائلة ماري هاسكل أو من أرستها‪.‬‬ ‫عن ٍّ‬ ‫متابع جربان يف‬ ‫السيدة الشابة‪ ،‬بعدما ُ‬ ‫قلت لها كم انني ٌ‬ ‫ُرحت أُمطر باألسئلة تلك ّ‬ ‫ومتتب ٌع أَماكن ماري هاسكل من مدرستها يف بوسطن (‪ 314‬شارع مارلبورو)‬ ‫مراحل حياته‪ِّ ،‬‬

‫منزل ماري هاسكل يف ساڤانا‬ ‫(‪ -24‬شارع غاستون)‬

‫مدرسة ماري هاسكل للبنات‬ ‫(‪ 314‬شارع مارلبورو ‪ -‬بوسطن)‬

‫أودعت مجموعتها الخاصة من لوحات‬ ‫اىل متحف أَكادمييا تلفري يف ساڤانا جورجيا (حيث َ‬ ‫سكن ْته بعد زواجها من جاكوب فلورنس‬ ‫جربان)‪ ،‬اىل بيتها يف ساڤانا (‪ 24‬شارع غاستون) َ‬ ‫رسائلها‬ ‫يدي ُ‬ ‫ماينس‪ ،‬إىل َتمضيتي نهار ًا يف جامعة نورث كاروالينا (تشاپل ِه ّل) وبني َّ‬ ‫ورسائله إليها‪ ،‬وتفاصيل أخرى دقيقة‪.‬‬ ‫األصلية إليه‬ ‫ُ‬ ‫بتبسط‪ ،‬إذ مل‬ ‫ارتاحت ملعرفتي وقالت إنها‬ ‫ّ‬ ‫ستتحدث للمرة األوىل عن عمة ِّأمها ُّ‬ ‫التقت َمن يعرف عن ماري هاسكل تفاصيل دقيقة‪.‬‬ ‫يسبق لها أن َ‬ ‫جدها (والد أُمها‬ ‫الشابة هي إليزابيت ديڤيس (من مواليد ‪ُّ .)1956‬‬ ‫هذه السيدة ّ‬ ‫والدتها َس َّم ْتها إليزابيت عىل اسم‬ ‫ماري) هو جون هاسكل‪،‬‬ ‫شقيق ماري هاسكل‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫عمتها ماري إليزابيت هاسكل التي تظهر األحرف الثالثة األوىل من اسمها ‪ .M.E.H‬يف‬ ‫ّ‬ ‫بعض لوحات جربان ويف إهداءات بعض كتبه العربية إليها‪.‬‬

‫‪48‬‬


‫ت نسائي ًة لتحرير املرأة‬ ‫وكانت تؤسس‪ -‬وتقود‪ -‬حركا ٍ‬ ‫األمريكية الجنوبية من قيودٍ ُذكورية كثرية أيامها‪،‬‬ ‫لبسن‬ ‫وكانت من أوائل النساء الجنوبيات اللوايت ْ‬ ‫البنطلون‪،‬‬ ‫ت كشفي ًة جبلي ًة يف األرياف‬ ‫وكانت تنظِّ م مخيام ٍ‬ ‫داخل املناطق الوعرة‪،‬‬ ‫النائية‪ ،‬ورحال ٍ‬ ‫ت يف الطبيعة َ‬ ‫وكانت من الجرأة بحيث َّعلقت داخل مدرستها (يف‬ ‫بوسطن) لوحات جربان رغم ما فيها من ُع ْري‪ ،‬وأبقت‬ ‫رس ّية حتى بعد زواجها‪ ،‬ل ُِمامنعة‬ ‫َ‬ ‫ماري هاسكل‬ ‫عالقتها مع جربان ّ‬ ‫يف إحدى رحالتها الكشفية‬ ‫زوجها العجوز جاكوب فلورنس ماينس (تويف يف ‪3‬‬ ‫أيلول ‪ ،1936‬بعد جربان بخمس سنوات)‪.‬‬ ‫أحست سنة ‪ 1954‬بتدهور صحتها وبداية الضعف يف ذاكرتها‪ ،‬أهدت متحف‬ ‫وحني َّ‬ ‫تلفري مجموعتها الخاصة من أعامل جربان (‪ 83‬لوحة) قبل أن تدخل يف شيخوخة‬ ‫مأوى توفيت فيه‬ ‫انفرادية ّأدت بها سنة ‪ 1959‬اىل خلل ّ‬ ‫عقيل أدخلها خمس سنوات اىل ً‬ ‫نهار ‪ 9‬ترشين األول ‪.1964‬‬ ‫لوحات ال نعرف شيئ ًا عنها‪ ،‬ونحتاج اختصاصي ًا بجربان‬ ‫تبادرين تانيا بحرسة‪ :‬عندنا‬ ‫ٌ‬ ‫وضعها‪ .‬بعض اللوحات بدون عناوين‪،‬‬ ‫يتعرف إليها ويرشح لنا ظروف ْ‬ ‫يزورنا كي ّ‬ ‫وبعضها اآلخر بدون تواريخ‪.‬‬ ‫تعرفت اىل مائدة العشاء بطبيب‬ ‫يف نهاية نهاري العابق بأجواء ماري هاسكل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يطبب‬ ‫مشارك يف املؤمتر ّقد ْمت ُه ّ‬ ‫إيل إليزابيت‪ :‬الدكتور جوزف سيلونا من شيكاغو‪ّ ،‬‬ ‫اهتممت له فراح يخربين كيف أراد له والداه أن‬ ‫ت من جربان‪.‬‬ ‫مرضاه نفسي ًا بقراءا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫حول اىل دراسة الطب النفساين‪.‬‬ ‫يدرس الطب فالتحق بجامعة بوسطن غري مقتنِع َوت ّ‬ ‫وأحس بتغي ٍري‬ ‫صديق له كتاب ‪‬النبي‪ ‬لجربان فقرأه تلك الليلة‬ ‫ويوم َت َخ ُّرجه أهداه‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫يطرأ عىل حياته‪ .‬كان خائف ًا من مواجهة املجتمع بعد َت َخ ُّرجه‪ ،‬فأصبح بعد قراءة‬ ‫‪‬النبي‪ ‬يشعر باملجتمع صغري ًا عىل طموحاته‪ .‬بات يرى العامل ببساطة أكثر‪ ،‬بعمق‬ ‫بدأت‬ ‫أكثر‪ ،‬بفلسفة أوضح‪ .‬شفاين جربان من َضياعي‪ ،‬قال يل يف ثقة‪ ،‬وأكمل‪ :‬منذ ُ‬ ‫ُطببهم بآراء جربان يف ‪‬النبي‪ ،‬فأدعوهم اىل قراءته أو أقرأ لهم منه‬ ‫معالجة مرضاي‪ ،‬أ ّ‬ ‫التغير يف عيونهم واالرتياح عىل وجوههم من أفكار املصطفى‪ .‬وحني‬ ‫ً‬ ‫فصوال‪ ،‬وأُعاين ُّ‬

‫‪51‬‬


‫الثالث يف مستشفى سانت ڤنسنت (مانهاتن) عىل أمتار قليلة من ‪‬صومعته‪51( ‬‬ ‫الشارع العارش غرب ًا)‪.‬‬ ‫تلقيت من هدايا‪ :‬هذا العِ قد يف‬ ‫وختمت إليزابيت‪ :‬يوم زواجي‪ ،‬كان أغىل ما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وأعتز بكوين ألبس عِ قد تلك املرأة العظيمة ماري‬ ‫تها‪،‬‬ ‫عم‬ ‫من‬ ‫أمي‬ ‫ِيه‬ ‫ن‬ ‫َهدت‬ ‫عنقي أ ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫هاسكل‪.‬‬ ‫إيل صورتني كبريتني بدت فيهام‬ ‫ْ‬ ‫استأذنتني لتصعد إىل غرفتها‪ ،‬وتعود حامل ًة ّ‬ ‫شقيقها‬ ‫حدها ُ‬ ‫ماري هاسكل مع عائلتها الكاملة‪ .‬وقالت يل‪ :‬هذه ماري‪ ،‬وهذا َّ‬ ‫جديت‬ ‫والد أُمي‪ .‬تويف من زمان‪ ،‬وقبل أُسبوعني متام ًا توفيت زوجته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫جدي جون ُ‬ ‫أودري‪ ،‬عن ‪ 104‬سنوات‪ .‬كان مأمتها يف لوس أنجلس مناسب َة َت َع ُّريف اىل ُمخرجة‬ ‫لبنانية تكتب سيناريو فيلم عن سرية جربان وماري هاسكل‪ ،‬هي التي ْأع َل َم ْتني عن‬ ‫فجئت معها لحضوره‪.‬‬ ‫هذا املؤمتر‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ جئ ِ‬ ‫ت معها؟ تعنني أنها‪ ...‬هنا؟‬

‫تقدمني اىل صديقتها الجديدة املخرجة اللبنانية سوال‬ ‫وما هي حتى كانت إليزابيت ِّ‬ ‫سعد‪.‬‬ ‫أخربتني بأنها تكتب سيناريو فيلم طويل عن سرية جربان‬ ‫يف‬ ‫ٍ‬ ‫جلسة رسيعة مع سوال‪ْ ،‬‬ ‫انطالق ًا من الرسائل بينه وبني ماري‪ ،‬ومن ‪ 47‬دفرت ًا ملاري تحوي يومياتها الشخصية عن‬ ‫عالقتها به‪.‬‬ ‫عر َف ْتني إليها إليزابيت‪:‬‬ ‫بينام ُ‬ ‫صبية َّ‬ ‫كنت يف حديثي مع سوال سعد‪ّ ،‬‬ ‫انضمت إلينا ّ‬ ‫‪‬صديقتي تانيا ساميونس‪ ،‬املسؤولة يف متحف تلفري‪ -‬ساڤانا‪ ،‬وتكتب حالي ًا أطروح َة‬ ‫دكتوراه عن ماري هاسكل‪.‬‬ ‫زرت متحف أكادمييا تلفري يف ساڤانا وأعرف مجموعة‬ ‫كنت سنة ‪ُ 1992‬‬ ‫وألنني ُ‬ ‫ت اىل الحديث مع تانيا عن أضواء جديدة عىل ماري هاسكل‪،‬‬ ‫أعامل جربان فيه‪َ ،‬أن ِْس ُ‬ ‫منها أنها‪:‬‬ ‫ودو َنت يومياتها معهم (إمنا ال‬ ‫كانت عىل مراسلة مع كثريين من رجال عرصها َّ‬ ‫بكثافة مراسلتها ويومياتها مع جربان)‪،‬‬ ‫وكانت امرأة متحررة ثائرة بالنسبة اىل بنات جيلها يف مطلع هذا القرن (هي من‬ ‫مواليد كولومبيا يف والية ساوث كاروالينا سنة ‪ -1873‬قبل جربان بعرش سنوات)‪،‬‬

‫‪50‬‬


‫‪6‬‬ ‫نيويورك ولبنان بين نعيمه وجبران‬

‫  ‪‬أمنيتي يا ميشا أن أرى وادي قاديشا قبل أن‬‫أموت‪.‬‬ ‫قالها جربان يف صومعته النيويوركية مساء ‪ 16‬ترشين‬ ‫وجه صديقه‬ ‫الثاين ‪ 1922‬فيام‬ ‫يرسم بقلم الرصاص َ‬ ‫ُ‬ ‫ميخائيل نعيمه‪.‬‬ ‫وأردف كام هرب ًا من عبوس ذلك اليوم املاطر‪:‬‬ ‫املدنية واملتمدّ نني‪ ،‬ومن‬ ‫ نجاين اهلل وإياك من‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أمريكا واألمريكيني‪ .‬وإننا سننجو بإذن اهلل‪ .‬وسنعود إىل‬ ‫قمم لبنان الطاهرة وأوديته الهادئة‪ .‬ال ُبدَّ يل ولك من‬ ‫جربان وميخائيل نعيمه‬ ‫عزة نفيس وحرية‬ ‫الرحيل عن هذه البالد‪ .‬لن أستعيد ّ‬ ‫عىل صخرة يف الطبيعة‬ ‫فكري وراحة جسمي ّإال يف لبنان‪.‬‬ ‫(برية يف كاهونزي‪-‬‬ ‫ّ‬ ‫قرب مدينة نيويورك)‬ ‫يسأله نعيمه‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫استقبلنا الربيع املقبل عىل كتف‬ ‫ ما قولك لو‬ ‫وادي القديسني؟‬ ‫ت كثري ًة هنا يف هذه البالد ال ميكنني‬ ‫لكن يل عالقا ٍ‬ ‫ يا ليت‪ ،‬يا ميشا‪ ،‬يا ليت‪ّ .‬‬ ‫قطعها يف شهر وال يف سنة‪ .‬عندي أشغال ال ُب َّد من ْإتاممها‪.‬‬ ‫حلم جربان بأن يزور وادي قاديشا يف آب ‪ ،1931‬إمنا‪ ...‬جثة بال روح‪.‬‬ ‫َت َح َّقق ْ‬

‫‪53‬‬


‫بدأت أعالج الفتيان والفتيات بتبسيط فصول من ‪‬النبي‪،‬‬ ‫تعاقدت مع دائرة الصحة‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫أُعطيهم إياها فيفهمونها ويشفون من معانياتهم‪ .‬وعوض زيار ٍة من ‪ 15‬دقيقة‪ ،‬أُميض‬ ‫معهم نصف ساعة أحيان ًا أداويهم بأفكار جربان‪ .‬ولِمن يرغبون يف مزيد‪ ،‬أَقر ُأ لهم‬ ‫مقاطع من رسائل الحب بني جربان وماري هاسكل فيسحرهم كالمه ويرتاحون‪ .‬ماري‬ ‫هاسكل كانت امرأة غري عادية‪.‬‬ ‫مكان واحد‪ ،‬أربعة‪ :‬إليزابيت ديڤيس‪ ،‬سوال سعد‪ ،‬تانيا ساميونس‪،‬‬ ‫يف يومٍ واحد‪ ،‬يف ٍ‬ ‫سيد ٍة واحدة‪ :‬ماري هاسكل‪ ،‬املرأة التي لوال رسائلها‬ ‫جوزف سيلونا‪ّ ،‬‬ ‫حدثوين عن ّ‬ ‫ويومياتها لغاب الكثري مام نعرفه اليوم عن شخصية جربان ومفاصل رئيسة يف مسريته‬ ‫َاألدبية والشخصية‪.‬‬ ‫كو ِلدْ ج پارك‪ -‬مرييالند‬

‫من مجموعة أوراق ماري هاسكل وجربان تحت الرقم ‪2725‬‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫يف دائرة املخطوطات من مكتبة جامعة نورث كاروالينا يف تشاپِل لْ‬ ‫(أودعَ تْها عائلة ماري هاسكل هناك سنة ‪)1961‬‬

‫* ‪‬النهار‪.2000/1/6 -‬‬

‫‪52‬‬


‫ب‬ ‫يومها‪ ،‬بعد املأتم‪ ،‬سار‬ ‫يتكسر تحت أقدامنا يف بردٍ شديد وضبا ٍ‬ ‫املوكب عىل ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ثلج ّ‬ ‫بلغنا البيت الذي تحت الطريق‪ ،‬وفيه كان نعيمه ُيميض معظم أوقاته‬ ‫كثيف‪ ،‬حتى ْ‬ ‫ظل الشخروب‪ .‬هناك شاء أن يكون دفنه‪ ،‬ال يف مقربة عامة‪.‬‬ ‫يكتب أدبه الراقي يف ّ‬ ‫دقائق عىل‬ ‫وقفت لوحدي‬ ‫املشيعون الباب عىل جثامن الراحل الكبري‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫بعدما أغلق ِّ‬ ‫بحزن إىل‬ ‫سطح ذاك البيت‪َ ،‬فوقي صخر ُة الشخروب‪ ،‬وفيها مالمح ‪‬مرداد‪ ،‬ترنو‬ ‫ٍ‬ ‫ظلها يكتب‪.‬‬ ‫البيت الذي َرقد فيه إىل األبد َمن مل ُيعد قادر ًا عىل الجلوس يف ِّ‬ ‫رحت أفكر بذاك الحوار قبل ‪ 66‬سنة‬ ‫وفيام الثلج ُّ‬ ‫يرخ حافي ًا عىل وجهي وشعري‪ُ ،‬‬ ‫يتمنيان‬ ‫ترشيني ماط ٍر من ‪ 1922‬بني‬ ‫صومعة نيويوركية ذات يوم‬ ‫يف‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫صديقني كانا ّ‬ ‫ٍّ‬ ‫العودة إىل لبنان‪.‬‬ ‫اليوم‪ :‬جربان يرقد يف برشي‪ ،‬ونعيمه يرقد يف بسكنتا‪.‬‬ ‫عبدك بسالم‪ ،‬هي ذي ْنف ُسه باتت مطمئنة‪.‬‬ ‫رب َ‬ ‫‪‬أَطلِق يا ّ‬ ‫كالهام اليوم انطفأ‪.‬‬ ‫األول عىل العامل‪ ،‬واآلخر عىل ما ميكن الرتجامت أن تحمل‬ ‫وكالهام سيبقى مضيئ ًا‪ّ :‬‬ ‫منه إىل العامل‪.‬‬ ‫والراقد يف البيت‪ ،‬وأنا‬ ‫سطح البيت‬ ‫اشتد َر ُّخ الثلج عىل وجهي ورأيس‪،‬‬ ‫حني ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫غادرت َ‬ ‫الصراع‪.‬‬ ‫أفكر يف ذاك ّ‬ ‫يومها مل أكن أعلم أنني‪ ،‬أنا أيض ًا‪ ،‬بعد أشهر قليلة من ذاك اليوم‪ ،‬سأجيء إىل‬ ‫االنشدادين وما بينهام من وجيع الرصاع‪ :‬أن ُتش َّدين‬ ‫مثلهام فريسة‬ ‫نيويورك‪،‬‬ ‫وأكون َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫يشد يب إىل لبنان‪.‬‬ ‫ويظل حنيني‬ ‫أمريكا ُبف َر ِصها الكبرية‪،‬‬ ‫النوستالجي ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬

‫ ‬

‫نيويورك‬

‫* ‪‬األنوار‪.1992/4/3 -‬‬

‫‪55‬‬


‫حلم نعيمه بأن يزور وادي قاديشا يف آب ‪ ،1932‬ويزور جثامن صديقه‬ ‫َوت َح ّقق ْ‬ ‫جربان‪.‬‬ ‫غص ِة أنه مل ُيعد إىل لبنان‪.‬‬ ‫مات جربان يف ّ‬ ‫نعمة أنه عاد إليه‪ ،‬إىل صنني‪ ،‬إىل الشخروب‪ ،‬أمىض فيه النصف‬ ‫وعاش نعيمه يف ِ‬ ‫اآلخر من عمره‪ ،‬من ‪ 1932‬حتى انطفائه يف ‪ 29‬شباط ‪.1988‬‬ ‫ولبنان يف باله خياالت‪.‬‬ ‫مات جربان يف نيويورك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ونيويورك يف باله خياالت‪.‬‬ ‫ومات نعيمِ ه يف لبنان‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بلغت أقايص‬ ‫شهرته التي َ‬ ‫قامت ُ‬ ‫بني انشداد األول إىل لبنان وبقائه يف نيويورك‪َ ،‬‬ ‫العامل ألنه خاطب العامل ِب ُلغة نيويورك‪.‬‬ ‫اآلخر إىل لبنان وإشاحته عن نيويورك‪ ،‬قامت شهرته التي بلغت أقىص‬ ‫وبني عودة َ‬ ‫خاطبه ِب ُلغة الضاد‪.‬‬ ‫العامل العريب‪ ،‬ألنه َ‬ ‫األول بلغ العامل بإنكليزيته‪ ،‬والثاين َش ّق طريقه إىل العامل مبا يتاح للرتجمة أن تحمله‬ ‫إىل اإلنكليزية‪.‬‬ ‫لبنان ونيويورك !‬ ‫هذا الرصاع‪...‬‬ ‫هذا الرصاع‪...‬‬ ‫جئت ثاني ًة إىل نيويورك (مطلع ‪ )1989‬كان يوجعني الحنني إىل لبنان‪،‬‬ ‫حني‬ ‫ُ‬ ‫حق َقه يل أمريكا‪.‬‬ ‫ُويعميني عن رؤية ما ميكن أن ُت ِّ‬ ‫ويشتد يف قلبي‬ ‫ونيف‪ ،‬ما زال يوجعني الحنني ويقوى يب‬ ‫ُّ‬ ‫اليوم‪ ،‬بعد ثالث سنوات ّ‬ ‫حققه يل أمريكا بعدما تسنى‬ ‫وضمريي وقصائدي‪ ،‬لكنني مل أ َُعد متعامي ًا عام ُيمكن أن ُت ّ‬ ‫ت مل يكن ميكنني أن أخطوها‬ ‫ت ومساحا ٍ‬ ‫يل يف ثالث سنوات أن أحقق من عبو ِر مسافا ٍ‬ ‫لو مل أجئ إىل أمريكا‪.‬‬ ‫أمريكا الشمس‪ ،‬ولبنان القمر‪.‬‬ ‫هذا وطن الحلم الجميل‪ ،‬وتلك بالد الفرص الكبرية‪.‬‬ ‫عشية الذكرى الحادية والستني لغياب جربان‪ ،‬أَستعيد يف سكون قلبي ما قاله‬ ‫يف صومعته قبل سبعني عام ًا لصديقه ميخائيل نعيمه‪ ،‬وأعود بالذاكرة إىل ذلك‬ ‫الغروب الحزين املاطر يف بسكنتا قبل أربع سنوات‪ ،‬غروب التاسع والعرشين من‬ ‫شباط ‪.1988‬‬

‫‪54‬‬


‫وهي هذه النفحة الحنينية التي تبدو من كتاب سلمى الحفار الكزبري وسهيل‬ ‫برشوئي‪ ،‬صفح ًة مضيئ ًة من أدبنا الذي كاألرز‪ ،‬نحمله ذخر ًا يف عمرنا‪ ،‬وتحمله أجيالنا‬ ‫املتعاقبة اىل آخر األعامر‪.‬‬

‫رسالة من جربان إىل مي زيادة (‪ 30‬أيار ‪)1921‬‬

‫* إذاعة ‪‬صوت لبنان‪ -‬برنامج ‪‬نقطة عىل الحرف‪ -‬الحلقة ‪2004/6/22 -92‬‬

‫‪57‬‬


‫‪7‬‬ ‫الشعلة الزرقاء بين جبران ومي زيادة‬ ‫رسام بريشته‬ ‫يف ‪ 26‬آذار ‪ 1931‬أرسل جربان من نيويورك اىل مي زيادة يف القاهرة ً‬ ‫آخر ما َرس َمت يده املريضة‪ ،‬ومات‬ ‫ٍّ‬ ‫لكف مفتوحة‪ّ ،‬‬ ‫تتوهج فيها شعل ٌة زرقاء‪ ،‬كانت َ‬ ‫بعدها بأسبوعني (ليل الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪.)1931‬‬ ‫حدت باألديبة سلمى الحفار الكزبري والباحث الدكتور‬ ‫هذه ‪‬الشعلة الزرقاء‪َ ‬‬ ‫ب من‬ ‫سهيل برشوئي اىل َع ْن َو َنة كتابهام الذي ّ‬ ‫حققاه‪ :‬الشعلة الزرقاء‪ ،‬رسائل ُح ّ‬ ‫جربان اىل مي زيادة‪.‬‬ ‫مثان وثالثون رسالة جمعاها يف هذا الكتاب الذي صدرت طبعته األوىل عام ‪،1979‬‬ ‫ٍ‬ ‫والثانية عام ‪ 1984‬فالثالثة حديث ًا عن ‪‬دار النهار‪.‬‬ ‫الرسالة األوىل اىل مي كانت يف ‪ 2‬كانون الثاين ‪ ،1914‬واألخرية أرسلها برقي ًة تلغرافية‬ ‫يف ‪ 17‬كانون األول ‪ 1930‬ورشح‪ :‬ال أستطيع الكتابة بيدٍ مريضة‪ .‬هذه الربقي ُة هي‬ ‫طيبة مبيالدٍ سعيد وسنة أغرودية جديدة‪ ،‬وبني تلك األوىل وهذه‬ ‫حنان‬ ‫َحنو ُة ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ومتنيات ّ‬ ‫كامال من عبقري لبناين يف دردور نيويورك‪ ،‬اىل‬ ‫سنوات‬ ‫األخرية‬ ‫ٍ‬ ‫صبغت عرص ًا ً‬ ‫مراسلة َ‬ ‫ُ‬ ‫إرث أديب هو بني األندر يف تاريخ أدبنا‬ ‫عبقرية لبنانية يف أقايص القاهرة‪ ،‬فكان لنا ٌ‬ ‫الحديث‪.‬‬ ‫‪‬مررت بوادٍ َّذكرين‬ ‫يف رسالته اىل مي نهار ‪ 31‬كانون األول ‪ 1923‬كتب جربان‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُحبها يف الشتاء أمام املوقد‪،‬‬ ‫بأودية شامل لبنان‪ .‬ال أعرف أهن َأ من العيش يف األودية‪ .‬أ ُّ‬ ‫ورائحة عود الرسو املحروق متأل البيت‪ ،‬والسامء تنثر الثلج خارج ًا‪ ،‬وقناديل الجليد‬ ‫مدالة خلف زجاج النوافذ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إنه حنينه الدائم للعودة اىل لبنان‪ ،‬اىل وادي قاديشا الذي مل يغادر عينيه وال قلمه‬ ‫تكرر هذا الحنني يف رسائله العاشقة اىل مي زيادة‪.‬‬ ‫وال ريشته وال خفقا ِ‬ ‫ت قلبه‪ ،‬وكم َّ‬

‫‪56‬‬


‫طلبت‬ ‫َّ‬ ‫وفص َلت الجريدة‪ :‬قبل أن تأخذ الشاعرة األمريكية قسط ًا من الراحة‪َ ،‬‬ ‫تحج إىل البيت الذي أبرص جربان فيه النور‪ ،‬فكان لها ما أرادت‪ .‬وما هي ّإال‬ ‫أن ّ‬ ‫طوال‪،‬‬ ‫حتى كانت واقف ًة أمام ذلك البيت البالغ خمسة أمتار عرض ًا وعرشة ً‬ ‫دقائق ّ‬ ‫قسمة من وجهها‪ ،‬والدموع تربق يف عينيها‪ .‬ثم حركت شفتيها‬ ‫والحزن يحتل ّ‬ ‫كل ْ‬ ‫قائلة‪:‬‬ ‫‪‬يف هذا البيت ولد جربان خليل جربان! ويف إحدى حناياه املعتمة فتح عينيه ً‬ ‫رسوال ملهم ًا‪.‬‬

‫وراحت تسأل‪:‬‬

‫أخشاب سقف البيت؟ هل َ‬ ‫أتلف ْتها األيام؟‬ ‫أين‬ ‫ُ‬ ‫بعثرتْها العواصف يف اآلفاق رماد ًا؟‬ ‫وأين حجارة الجدران؟ هل َ‬ ‫وأين الخزانة الخشبية التي َ‬ ‫طالما حدّ َثني عنها جربان وكانت تحوي الجوز والزبيب والتني املجفف‬ ‫َ‬ ‫فاكهة الشتاء؟‬ ‫العسل والخمر‪ ،‬وموقد النار الرتايب الذي كان يلتهم قضبان الزرزون بينما العواصف يف‬ ‫جرة َ‬ ‫وأين َّ‬ ‫أشدّ ثوراتها ورصاخها وعويلها؟‬ ‫وطبق القش الذي كانوا يتناولون عليه األطعمة‪ ،‬أين هو؟‬ ‫الحجري َ‬ ‫املقتلع من سفح جبل األرز‪ ،‬ما مصريه؟‬ ‫والجرن‬ ‫ّ‬ ‫وأين ُ‬ ‫كتبه املدرسية؟‬ ‫الك ّوة التي كان جربان يضع فيها َ‬ ‫ُ‬ ‫الساحة املجاورة التي كان يلعب فيها؟‬ ‫وأين‬ ‫يستظلها حامل ًا عند الظهرية‪ ،‬والتي عليها َ‬ ‫ٍ‬ ‫ربطه أبوه ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫بعنف قصاص ًا له‬ ‫مرة‬ ‫وشجرة الجوز التي كان‬

‫النهماكه الدائم بالتصوير؟‬ ‫حل به؟ كان جربان‬ ‫رغنه يف هدأة الليل ينفخُ أنغام ًا لبنانية شجية؟ ماذا ّ‬ ‫الجار الذي كان عىل ُأ ّ‬ ‫وأين ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يستلذ أنغامه ويقيض الليل ساهر ًا ُيصغي إليه‪.‬‬

‫مسرعة إىل الحقول الفسيحة‬ ‫أين‬ ‫الطريق التي كان ّ‬ ‫ُ‬ ‫كل صباح يرى عليها قطعان البقر والغنم واملاعز ْ‬ ‫واملروج الخرضاء؟‬ ‫ثم أين صخور مار جرجس؟ ومغاور وادي قاديشا؟ وأين يقع دير مار رسكيس؟ واألرز املقدس؟‬ ‫وجبل ظهر القضيب الذي ّ‬ ‫يكلل الثلج هامته دوم ًا؟‬ ‫ُ‬ ‫يتفجر نبع ‪‬نبات‪ ‬و‪‬القوس‪ ،‬و‪‬مار سمعان‪‬؟‬ ‫من أين ّ‬

‫‪59‬‬


‫‪8‬‬ ‫باربره يونغ في بشّري وبـيت جبران ومتحفه‬ ‫‪‬بالد جميلة ساحرة ال عجب إن أنبتت كل يوم جبراناً‪‬‬

‫الساعة ‪ 10:00‬صباح األحد ‪8‬‬ ‫وصلت الشاعرة‬ ‫ترشين األول ‪َ 1939‬‬ ‫برشي‪ ،‬يرافقها‬ ‫باربره يونغ إىل ّ‬ ‫األمري موريس شهاب (مدير املتحف‬ ‫الوطني عهدئذٍ )‪ ،‬وفؤاد افرام‬ ‫البستاين (مدير الدروس العربية يف‬ ‫ّكلية القديس يوسف) وديڤيد أزرق‬ ‫(أستاذ يف الجامعة األمريكية)‪ .‬كان يف‬ ‫الصفحة األوىل من جريدة ‪‬السياسة‪‬‬ ‫وأعضاء‬ ‫وجهاء من البلدة‬ ‫استقبالها‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫برشي‬ ‫إىل‬ ‫يونغ‬ ‫باربره‬ ‫زيارة‬ ‫تابعت‬ ‫التي‬ ‫ّ‬ ‫مرحبني بـ‪‬صديقة‬ ‫من لجنة جربان ّ‬ ‫جربان األمريكية التي تزورنا‪.‬‬ ‫صباح الجمعة ‪ 20‬ترشين األول ‪ 1939‬صدر العدد ‪( 37‬السنة األوىل) من جريدة‬ ‫سكر) وعىل صدر صفحتها‬ ‫برشي نايف ّ‬ ‫‪‬السياسة‪( ‬كان يصدرها يف بريوت ابن ّ‬ ‫برشي موطن جربان‪ :‬الكاتبة األمريكية‬ ‫األوىل بالخط العريض‪ :‬باربره يونغ يف ّ‬ ‫ومتكث عرش دقائق‬ ‫تذرف الدموع أمام البيت الذي ولد فيه صاحب ‪‬النبي‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫روحه‪.‬‬ ‫ساجد ًة أمام رضيحه ِ‬ ‫مناجي ًة َ‬

‫‪58‬‬


‫عند البطريرك‬

‫وتركت دير مار‬ ‫ّقب َلت باربره‬ ‫يضم رفات صاحب ‪‬النبي‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫جدران املعبد الذي ّ‬ ‫{أنطون عريضة} يرافقها‬ ‫متوجه ًة إىل الدميان لزيارة غبطة البطريرك‬ ‫رسكيس‬ ‫ُ‬ ‫ِّ‬ ‫غبطته يف حفاوة وإكرام وطلب إليها أن‬ ‫رئيس اللجنة وبعض أعضائها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫استقبلها ُ‬ ‫وترتب‬ ‫تفسر خاللها بعض الرموز املبهمة يف اللوحات ّ‬ ‫برشي مدة أطول‪ِّ ،‬‬ ‫تبقى يف ّ‬ ‫مكثت لدى غبطته‬ ‫املتحف ترتيب ًا فني ًا‪،‬‬ ‫فاعتذرت الضطرارها إىل العودة‪ .‬وبعدما َ‬ ‫َ‬ ‫نحو خمس عرشة دقيقة‪ ،‬قفلت عائدة إىل بريوت‪.‬‬

‫أوردت ‪‬السياسة‪ ‬مقطع ًا (عاطفي ًا يف حينه وطريف ًا) عن‬ ‫ويف العدد نفسه َ‬ ‫فذكرت أنه ‪‬كتبه للمرة األوىل باللغة العربية سنة‬ ‫كيفية كتابة جربان ‪‬النبي‪َ ،‬‬ ‫بني بالنسبة إىل‬ ‫‪ ،1902‬وقرأَه عىل ّأمه فقالت له‪ :‬إن األسلوب ضعيف جد ًا يا ّ‬ ‫فمزق جربان كتابه‪ ،‬ثم عاد إىل كتابته ثاني ًة وثالث ًة وكان مصريه يف املرتني‬ ‫الفكرة‪َّ ‬‬ ‫األخريتني كاملرة األوىل‪ .‬وبعد الحرب عاد إىل كتابته باللغة اإلنكليزية‪ ،‬فكان أن‬ ‫ظهر ‪‬النبي‪ ‬بتلك اللغة‪ ،‬يتداوله العامل يف إعجاب ما بعده إعجاب‪.‬‬ ‫عىل أن هذا الوصف ‪‬العاطفي‪( ‬غري املستند إىل حقائق تاريخية) أَعقبه يف‬ ‫كالم مهم ييضء عىل‬ ‫صفحة من جربان‪ ،‬هنا نصه‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫العدد نفسه ٌ‬ ‫‪‬كانت السيدة باربره يونغ تحمل يف حقيبتها أربعة من دفاتر جربان الخاصة‪:‬‬ ‫جلد‪ّ ،‬‬ ‫‪ -1‬دفرت صغري من دون ْ‬ ‫لعله من دفاتر جربان املدرسية‪ ،‬فيه صور تحارير ‪‬إىل رئيس عام‪،‬‬ ‫إىل بطريرك‪ ،‬إىل أسقف‪ ،‬إىل صديق‪ ،‬وما شاكل‪ ،‬وتكثر فيه صور الرسائل اإلكلرييكية بنوع خاص‪.‬‬

‫‪ -2‬دفرت ثانٍ أكرب من األول‪ ،‬من دون ْ‬ ‫جلد‪ ،‬عىل ورقته األوىل ‪‬من دفاتر جربان خليل جربان‪ -‬ترشين‬ ‫األول ‪ 1900‬وتحت هذه الجملة عىل ثالث مرات هذان البيتان‪:‬‬

‫أال ي���ا م��س��ت��ع�ير ال��ك��ت��ب دع��ن��ي‬ ‫وج��دتُ كتايب يف الدنيا حبيبي (كذا)‬

‫ُ‬ ‫ع����ار‬ ‫ل���ل���ك��� ْت���ب‬ ‫ف������إنّ إع�������اريت‬ ‫ُ‬ ‫ي���ع���ار‬ ‫ح��ب��ي��ب��ي ال ي���ب���اع وال‬ ‫ُ‬

‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫شعرية منتخبة من أقوال ابرهيم بن سهل‪ ،‬وابن معتوق‪ ،‬والشيخ سليم حنا‬ ‫مجموعة‬ ‫ويف الدفرت‬ ‫الضاهر‪ُّ ،‬‬ ‫أكثرها غري كاملة‪،‬‬ ‫وكلها من شعر ‪‬ساحة امللوك‪ .‬وييل ذلك متارين إنشائية من نثر وشعر‪ُ ،‬‬ ‫حافلة بكثري من االستعارات والتشابيه‪.‬‬

‫‪61‬‬


‫و‪‬ب َن ْحيل‪ ‬و‪‬شاغورة‪‬؟‬ ‫ويف أي ناحية يقع حقل ‪‬الحريم‪ْ ،‬‬ ‫أي من هذه الحقول تنبت زهور البنفسج‪ ،‬وبخور مريم‪‬؟‬ ‫ويف ٍّ‬

‫املتهدم الصغري‬ ‫كل ذلك ْ‬ ‫سألته باربره يونغ‪ ،‬وهي واقف ٌة حزين ًة دامع ًة أمام البيت ِّ‬ ‫الذي أنجب شاعرها جربان‪.‬‬ ‫في متحف جبران ومغارة قاديشا‬

‫حتى ِأس َفت لعدم وجود‬ ‫طلبت أن تنتقل إىل املتحف فأَخذوها إليه‪ .‬وما إن رأته ّ‬ ‫َ‬ ‫تفسري بعض الرسوم‬ ‫الحارضون‬ ‫إليها‬ ‫طلب‬ ‫الخالدة‪.‬‬ ‫جربان‬ ‫رسوم‬ ‫يضم‬ ‫فني‬ ‫متحف‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫ففع َلت‪.‬‬ ‫الرمزية َ‬ ‫توجهت إىل مغارة قاديشا يرافقها الخوري أنطونيوس جعجع‪ ،‬وكانت يف‬ ‫ثم ّ‬ ‫تساءلت‬ ‫دخلت املغارة َ‬ ‫الطريق ُتظهر شديد إعجابها باملشاهد الخالبة حولها‪ .‬عندما َ‬ ‫وخرجت‬ ‫سحري‪.‬‬ ‫انتقلت إىل عامل‬ ‫إن كانت مل تزل باقية يف هذا العامل أم انها َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أنبتت‬ ‫وشفتاها ُت َتمتامن هذه الكلامت‪ :‬إن بالد ًا جميلة ساحرة كهذه ال عجب إذا َ‬ ‫يف كل يوم جربان ًا‪.‬‬ ‫وتناولت فيه‬ ‫عادت باربره من املغارة إىل منزل أحد مشايخ آل عيسى الخوري‬ ‫َ‬ ‫الغداء مع املطران عبداهلل خوري ورئيس لجنة جربان سليم رحمة واملونسنيور بادري‬ ‫ورهط من أبناء البلدة‪.‬‬

‫على الضريح‬

‫توج َهت الكاتبة إىل زيارة رضيح جربان يف دير مار رسكيس يصحبها‬ ‫بعد الغداء َّ‬ ‫تأثرها ُأش َّده‬ ‫جمهور كبري‪ .‬وعندما َ‬ ‫دخلت الكنيسة التي يرقد فيها جربان بلغ ُ‬ ‫وحدها يف الكنيسة‪.‬‬ ‫فطلبت إىل مرافقيها أن ُ‬ ‫فبقيت َ‬ ‫يرتكوها عىل انفراد‪ .‬خرجوا َ‬ ‫َ‬ ‫نهضت‬ ‫ثم‬ ‫روحه‪.‬‬ ‫تناجي‬ ‫دقائق‬ ‫عرش‬ ‫نحو‬ ‫خشوع‬ ‫يف‬ ‫جربان‬ ‫رضيح‬ ‫أمام‬ ‫ت‬ ‫سجد‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حدثها عنها جربان يف‬ ‫وخرجت إىل فسحة الدير تتأمل األمكنة الجميلة التي طاملا ّ‬ ‫َ‬ ‫نيويورك‪.‬‬

‫‪60‬‬


‫راسلتها إىل نيويورك مقرتح ًة عليها أن تسافر إىل لبنان‬ ‫يف السنوات األخرية من حياته‪ْ ،‬‬ ‫وافقت‬ ‫وقدمت لها مبلغ ألفي دوالر لقاء نفقات الرحلة‪َ .‬‬ ‫مطو ًال عن جربان‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وتضع كتاب ًا ّ‬ ‫وتركت‬ ‫قيمتها خمسمئة دوالر‪َ ،‬‬ ‫باربره يونغ عىل االقرتاح‪ ،‬وقبضت ِس ْلف ًة من املبلغ ُ‬ ‫خرب إعالن الحرب وهي يف ُعرض البحر فلم تعبأ‬ ‫نيويورك يف منتصف آب املايض‪ .‬فاجأها ُ‬ ‫الس ْلفة فراسلت َتطلب بقية‬ ‫نفدت منها ِ‬ ‫وتابعت َ‬ ‫سف َرها إىل بريوت‪ .‬ويف لبنان َ‬ ‫لذلك‪َ ،‬‬ ‫فاعتذرت عن ذلك بسبب نشوب الحرب‪ .‬عندئذ رأَت‬ ‫السيدة األملانية‬ ‫َ‬ ‫املبلغ من تلك ّ‬ ‫السيدة يونغ أن تعود إىل بالدها ملتجئ ًة إىل رئيس الجامعة األمريكية يف بريوت املسرت‬ ‫مواطنته الشاعرة مببلغ يساعدها عىل بلوغ نيويورك‪.‬‬ ‫مد‬ ‫َ‬ ‫بايارد دودج الذي َّ‬ ‫تعم َدت باربره يونغ‬ ‫هذه اإلضاءة من جريدة ‪‬السياسة‪ ‬سنة ‪ ،1939‬تكشف كم َّ‬ ‫تكرست له آخر سبع سنوات يف‬ ‫أن تبدو عاشق ًة جربان‪ ،‬متكرس ًة له يف غيابه مثلام ّ‬ ‫ورافقته منها صباح آخر يوم يف حياته (الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪ ،)1931‬وفيام‬ ‫صومعته‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫شارعني من‬ ‫كان َم ً‬ ‫حموال يف سيارة اإلسعاف إىل مستشفى سانت ڤنسنت (عىل ُبعد َ‬ ‫‪‬الصومعة‪ )‬قال لها ُم َط ْم ِئن ًا‪ :‬ال تخايف يا باربره‪ ،‬أنا يف حالة جيدة‪ .‬لكنه مل يكن‬ ‫أغمض عليه جربان عينيه‪،‬‬ ‫وجه‬ ‫آخر ٍ‬ ‫آخر كلامته‪ ،‬وكانت باربره َ‬ ‫كذلك أبد ًا‪ .‬كانت تلك َ‬ ‫َ‬ ‫تلحقه شقيقته مريانا التي جاءت‬ ‫ألنه ُظهر ذاك النهار دخل يف الغيبوبة األخرية فلم ْ‬ ‫ملهوف ًة بالقطار من بوسطن‪.‬‬ ‫النحات خليل جربان (يف كتابه ‪‬خليل جربان‪ :‬حياته وعامله‪ ‬ص ‪)404‬‬ ‫وعن ّ‬ ‫ّأن باربره‪ ،‬بعد االنتهاء من مراسم دفن جربان يف بوسطن (الثلثاء ‪ 14‬نيسان‬ ‫‪‬سيدة األرز‪ )‬جاءت إىل ‪‬الصومعة‪ ‬يف نيويورك (نهار الجمعة ‪17‬‬ ‫يف كنيسة ّ‬ ‫ِ‬ ‫كل أث ٍر من جربان َي ُحول دون أن يبقى منه ما ترويه هي عنه‪.‬‬ ‫نيسان)‬ ‫‪‬إلخفاء ّ‬ ‫وزكية‬ ‫لكن ماري هاسكل (ل ُِحسن الحظ) كانت َس َب َق ْتها إىل هناك مع مريانا‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وصيته التي‬ ‫رحمة (ابنة ملحم جربان ابن عمه) للبحث بني أوراقه عن نسخة ّ‬ ‫ووجدت بني األوراق مخطوطات‬ ‫أودعها عام ‪ 1930‬مكتب املحامي إدغار سپاير‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ووجدت ُر َزم ًا‬ ‫وأعادتها إليه‪،‬‬ ‫عملت عليها معه‪ ،‬أو وحدها‬ ‫جربان التي كانت َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وأهدتها‬ ‫(نس َق ْتها الحق ًا مع رسائله إليها‬ ‫ْ‬ ‫ملفوف ًة َّ‬ ‫مرتب ًة هي َمجموعة رسائلها إليه ّ‬

‫‪63‬‬


‫‪ -3‬دفرت عادي‪ ،‬قليل الورق‪ّ ،‬‬ ‫مجلد‪ ،‬يتضمن كتابات إنكليزية وشيئ ًا من املحاوالت الشعرية بالعربية‪.‬‬ ‫منها بيتان مكتوبان تحت عنوان ‪‬تحت رسمي‪:‬‬

‫خ��ي��ال فتى ي��ه��وى الحياة وال‬ ‫ه��ذا‬ ‫ُ‬ ‫ف���إن ب���دا ج��ام��د ًا وال��ص��م��تُ ميلكه‬

‫يكتئب (كذا)‬ ‫يهوى الحياة‪ ،‬ويف الحالني‬ ‫ُ‬ ‫يضطرب (كذا)‬ ‫الحب‬ ‫فاتلوا عليه صالة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬

‫مقال طويل يف عرش صفحات كثري التنقيح والتحشية‪ ،‬واألرجح‬ ‫وفيه هذا الدفرت ٌ‬ ‫نرشه يف ‪‬الهالل‪ ‬بشأن النهضة الرشقية وإمكان التضامن بني‬ ‫أنه ّ‬ ‫مسودة مقال َ‬ ‫األقطار العربية‪.‬‬ ‫‪‬مي‪ ‬يقول‬ ‫مسودة‬ ‫ٍ‬ ‫رسالة غ ِري كاملة‪ ،‬من األرجح أنها إىل َ‬ ‫ويف آخر هذا الدفرت ّ‬ ‫عيل أن‬ ‫فيها ‪‬ها قد رجع ِ‬ ‫ت من لبنان‪ِّ .‬‬ ‫أهنئكِ بذهابكِ إىل لبنان‪ .‬وال أدري ما إذا كان ّ‬ ‫ت يف لبنان؟ ولو‬ ‫أهنئكِ برجوعكِ سامل ًة إىل مرص‪ .‬لبنان‪ ،‬لبنان‪ ،‬لبنان‪ ،‬قويل ماذا وجد ِ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫تجيئني من أبسط اللبنانيني ومن أكثرهم تركيب ًا‪ ،‬ملا ّفكر ِ‬ ‫بعثت إليك بالرسائل التي ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت يل هذا االفرتاض؟) بالذهاب إىل لبنان‪ ،‬أو إىل أية‬ ‫غفر‬ ‫(هال‬ ‫أنا‪-‬‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ت‬ ‫كن‬ ‫لو‬ ‫قط‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قرنة من قراين الرشق‪.‬‬ ‫‪ -4‬دفرت كبري أكثره أبيض‪ ،‬يبد ُأ من اليسار مبقاطع كثرية من ‪‬آلهة األرض‪ ‬باللغة اإلنكليزية‪ ،‬وييل‬ ‫ذلك محاوالت تصويرية منها رسم امرأة تحتضن ً‬ ‫طفال وتُرضعه‪ ،‬وقد ظهر الرسم بدوائر رصاصية‬ ‫غاية يف الغموض والوضوح مع ًا‪.‬‬ ‫املدونة‪:‬‬ ‫مسودات قصائد ومقاالت معروفة‪ ،‬أشهرها ‪‬املواكب‪ .‬ومن املالحظات ّ‬ ‫ويف هذا الدفرت ّ‬ ‫غريب عن‬ ‫الكهان‪ .‬وأنا بطبعي وأحالمي‬ ‫ٌ‬ ‫‪‬تجزئة سطح األرض شغَ ل السياسة‪ ،‬وتجزئة السماء شغَ ل ّ‬ ‫هؤالء ْ‬ ‫املشتغلني بالتجزئة والتقسيم‪ ،‬منرصفٌ إىل الوحدة النفسية والعقلية والدنيوية والسماوية‪.‬‬

‫عودة مسرعة‬

‫ختام زيارة الشاعرة باربره يونغ إىل لبنان‪ ،‬مضيئة‬ ‫ثم تصف جريدة ‪‬السياسة‪َ ‬‬ ‫كذلك عىل صفحة غري معروفة عنها‪.‬‬ ‫جاء يف نص الجريدة‪:‬‬ ‫‪‬يف الثاين عرش من ترشين األول عادت باربره يونغ إىل نيويورك قبل أن ُتت ِّم املهمة‬ ‫معلومات عن سبب عودتها املرسعة‪ ،‬فإذا هي‪ :‬يف‬ ‫وصلتنا‬ ‫التي جاءت من أجلها‪ .‬وقد ْ‬ ‫ٌ‬ ‫رافقت جربان‬ ‫علمت ّأن باربره يونغ َ‬ ‫سيدة أملانية معجبة بجربان ّ‬ ‫جد اإلعجاب‪ .‬ملا َ‬ ‫لندن ّ‬

‫‪62‬‬


‫مبهم ًة تعرفها من شقيقها جربان‪ .‬وال كان ميخائيل نعيمه يعرف عن عالقة جربان‬ ‫وضع سري ٍة يف‬ ‫ِبامري هاسكل حتى التقاها يف بوسطن نهار املأتم وأبدى لها َّنيته َ‬ ‫العربية عن جربان‪ ،‬فس َأ َل ْت ُه ُموافاتها إىل ‪‬منتجع طومسون‪ ‬قرب محطة القطار‬ ‫تستقل قطار نيويورك صباح ‪ 21‬نيسان ‪1931‬‬ ‫‪‬غراند سنرتال ستايشن‪ ‬قبل أن‬ ‫ّ‬ ‫دون خاللها‬ ‫وتعود إىل زوجها العجوز يف ساڤانا‪ .‬هناك‬ ‫اجتمعت به أربع ساعا ٍ‬ ‫ت َّ‬ ‫َ‬ ‫ت عن عالقتها به وعن مرحلة جربان يف بوسطن قبل التقائه به‬ ‫نعيمه معلوما ٍ‬ ‫سنة ‪ 1911‬يف نيويورك‪ ،‬فبنى من تلك الجلسة الطويلة ما ظهر الحق ًا يف كتابه‬ ‫الهام مع ماري‪ ،‬كام مل يذكر‬ ‫‪‬جربان خليل جربان‪ ،‬من دون أن يشري إىل ذاك اللقاء ّ‬ ‫عظمية الهيكل‪ ،‬زعفرانية‬ ‫باربره يونغ يف كتابه ّإال (ص ‪ )15‬بأنها‪ :‬طويلة القامة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫اللون‪ ،‬حادة األنف‪ ،‬غارقة العينني‪ ،‬هي شاعرة أمريكية يف النصف األول من عقدها‬ ‫فتقربت منه وكانت تساعده‬ ‫السادس‪َ ،‬‬ ‫عرفت جربان آخر سبع سنوات من حياته‪ّ ،‬‬ ‫التقيتها مرة عنده‪.‬‬ ‫يف نسخ مؤلفاته‪ ،‬وقد ُ‬ ‫بالصدق الذي كانت عليه ماري هاسكل‪ .‬لذلك مل‬ ‫كان نعيمه مدرك ًا أنها ليست ّ‬ ‫يذكرها يف كتابه ّإال بهذا اإليجاز‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وكان عىل حق‪.‬‬

‫* ‪‬النهار‪1999/8/17 -‬‬

‫‪65‬‬


‫إىل مكتبة جامعة نورث كاروالينا يف تشاپل ِه ّل)‪ ،‬كام َج َم َعت ما لديها من‬ ‫(قد ْمتها الحق ًا إىل متحف ‪‬أكادمييا تلفري للفنون‬ ‫لوحا ٍ‬ ‫ت كان جربان أهداها إليها ّ‬ ‫والعلوم‪ ‬حيث ال تزال محفوظة حتى اليوم يف أرفع درجة من الوقاية)‪ .‬تلك‬ ‫صدرت يف نيويورك سنة ‪ 1972‬بتحقيق ڤرجينيا‬ ‫الرسائل هي الثروة الكربى التي َ‬ ‫واقتطف منها توفيق صايغ مادة كتابه ‪‬أضواء‬ ‫حلو وبعنوان ‪‬النبي الحبيب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ت من جربان ما كان ميكن‬ ‫جديدة عىل جربان‪،‬‬ ‫فأضاءت تلك الرسائل عىل صفحا ٍ‬ ‫َ‬ ‫لوالها أن يبلغنا كام َبل َغنا‪.‬‬ ‫كتابها ‪‬هذا الرجل من لبنان‪( ‬لدى ‪‬كنوف‪َ )‬فذ َك َرت‬ ‫سنة ‪ 1945‬أصدرت باربره َ‬ ‫ليال عىل‬ ‫انتهت الرحلة بوقوفها ً‬ ‫رحلتها اىل لبنان يف اختصار وأشارت (ص ‪ )182‬كيف َ‬ ‫املطلة عىل السان جورج‪ ‬منتظرة أن يطلع الفجر كي‬ ‫‪‬رشفة أوتيل ُّبسول الكبري ّ‬ ‫تذهب إىل ميناء بريوت تنطلق منها عائدة إىل نيويورك‪.‬‬ ‫استغاللها جربان تكرار ًا بعد غيابه‪ :‬كتابها‪ ،‬مذكراتها‪ ،‬مقاالتها عنه‪،‬‬ ‫وكان واضح ًا‬ ‫ُ‬ ‫استثمرتها هي‪ ،‬عدا قيامها بجوالت (مدفوعة طبع ًا)‬ ‫إقامة أربعة معارض للوحاته‬ ‫ْ‬ ‫ُتحارض عنه يف بعض الواليات األمريكية‪ ،‬كونها كانت ‪‬صديقته طوال آخر سبع سنوات‬ ‫من حياته‪.‬‬ ‫وشتان ما بينها وبني َت َر ُّسل ماري هاسكل‪ ،‬صاحبة الفضل األكرب عىل جربان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حظ اكتشاف األضواء ‪‬الهاسكلية‪ :‬فلو مل تأخذ ماري هاسكل‬ ‫ولنا يف املصادفة ُّ‬ ‫رزمة الرسائل‪ ،‬لكان الخطر‬ ‫باربره يونغ‬ ‫كبري ًا أن تبادر‬ ‫َ‬ ‫إىل إتالفها‪ ،‬لحرصها أن تبقى‬ ‫املعلقة عىل‬ ‫وحدها النجم َة َّ‬ ‫ذاكرة الجربانيني‪ ،‬بحجة‬ ‫أنها كانت ُم َيا ِو َم ًة جربان يف‬ ‫السنوات السبع األخرية من‬ ‫حياته (‪ .)1931 -1924‬وهي‬ ‫مل تكن تعلم شيئ ًا عن عالقته‬ ‫الطويلة مباري هاسكل‪ ،‬وال‬ ‫باربره يونغ وابنتها يف محرتف جربان بعد وفاته‬ ‫مريانا كانت تعلم‪ّ ،‬إال مالمح‬

‫‪64‬‬


‫خفف الكتابة يف العربية بعدما ‪‬ذاق‪ ‬صدى كتابته يف اإلنكليزية حتى أنه‪،‬‬ ‫األخرية ّ‬ ‫همه‬ ‫يعرب كتبه اإلنكليزية‪ ،‬مل يكن َي ّ‬ ‫حني كان صديقه األرشمندريت أنطونيوس بشري ّ‬ ‫أن يراجع النص العريب قبل مثوله إىل الطبع‪.‬‬ ‫وضمها يف كتاب‬ ‫وحني جمع له املونسنيور منصور أسطفان مقاال ٍ‬ ‫ت من الصحف َّ‬ ‫تعرف إليه‪ ،‬وال كان‬ ‫َس َّماه ‪‬البدائع والطرائف‪ ،‬اكتفى ُبش ْكره يف إيجاز َّ‬ ‫مهذ ٍ‬ ‫ب َنهار ّ‬ ‫سيطلب االطّ الع عىل تلك املقاالت قبل طبعها‪.‬‬ ‫الغريب‪ ،‬وأعطاها عنوان‬ ‫وحني جمع له نسيب عريضه مقاالته يف ‪‬املهاجر‪ ‬ألمني ّ‬ ‫ردد له بيت ًا من إحدى قصائده‪:‬‬ ‫‪‬دمعة وابتسامة‪ ،‬وجاء يأخذ رأيه يف االختيار‪َّ ،‬‬ ‫‪‬ذاك ع��ه��دٌ م��ن ح��ي��ايت ق��د مىض‬

‫كل هذا يلمسه َمن يجيء‬ ‫ُّ‬ ‫أطباعها‬ ‫نيويورك ويعرف‬ ‫َ‬ ‫وأجواءها القاسية‬ ‫وغرابتها‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫البعيدة عن كل حنان وحنني‪.‬‬ ‫كنت أزور صديق ًا يف‬ ‫ُ‬ ‫لفت ْتني يف‬ ‫نيويورك حني َ‬ ‫مكتبة والده الطبع ُة األوىل‬ ‫العربية من ‪‬النبي‪ ‬برتجمة‬ ‫األرشمندريت أنطونيوس‬ ‫بشري‪ .‬وألن صاحب البيت‬ ‫كان صديق ًا لألرشمندريت‪،‬‬ ‫إهداء منه‬ ‫وعىل الكتاب‬ ‫ٌ‬ ‫عيل بالنسخة‬ ‫إليه‪َ ،‬ض َّن‬ ‫ّ‬ ‫ولو استعار ًة ليومٍ واحد‪ ،‬ما‬ ‫اضطرين إىل تقلي ِبها يف البيت‬ ‫ّ‬ ‫وتصوي ِر ما أُريد منها‪ ،‬غالف ًا‬ ‫يصحبني‬ ‫وصفحا ٍ‬ ‫ت داخلية‪َ ،‬‬ ‫ابنه َروح ًة ومجيئ ًا فوري ًا‪.‬‬

‫ب َ‬ ‫ب�ي�ن ت��ش��ب��ي�� ٍ‬ ‫وش���ك���وى ونُ �����واح‪‬‬

‫‪‬النبي‪‬‬ ‫الصفحة الداخلية لكتاب‬ ‫ّ‬ ‫كما صدر سنة ‪ 1926‬وهي الطبعة العربية الوحيدة‬ ‫التي رآها جربان عىل حياته‬

‫‪67‬‬


‫‪9‬‬ ‫األرشمندريت أنطونيوس بشير‬ ‫ترجمتَه الطبعَة األولى من ‪‬النبي‪:‬‬ ‫مقدماً َ‬ ‫ِّ‬ ‫جبران نابغة المهجر ورسول الشرق إلـى الغرب‬ ‫الكالم عىل جربان من نيويورك‪،‬‬ ‫غري ُه من بريوت‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫كلام مىض عىل وجودي هنا يف‬ ‫اكتشفت صحة‬ ‫وقت أطول‪،‬‬ ‫نيويورك ٌ‬ ‫ُ‬ ‫هذه املعادلة‪.‬‬ ‫مناخه الذي عاش فيه‪ .‬هنا الجو‬ ‫هنا ُ‬ ‫الذي به انطبع ومل يطبع كتاباته الذهنية‬ ‫واجهته وبها واجه اآلخرين‪.‬‬ ‫التي‬ ‫ْ‬ ‫رغم كثافة ما قيل فيه شفاه ًة‬ ‫وكتاب ًة خالل خمسينية غيابه (‪)1981‬‬ ‫ومئوية والدته (‪ ،)1983‬يبقى ما يقال‬ ‫هنا ذا مناخ َآخر‪ُ ،‬ب ْعدٍ َآخر‪ .‬هناك‪ ،‬يف‬ ‫املطران أنطونيوس ْبشري‬ ‫بريوت‪ ،‬تبقى الكتابة ُك ُتبي ًة َمكتبية‪ .‬هنا‬ ‫(األرشمندريت مرتجِ م ‪‬النبي‪ ‬إىل العربية)‬ ‫تجيء ‪‬نابضة‪.‬‬ ‫هنا نفهم‪ ،‬أكثر‪ ،‬كيف كانت عالقاته‬ ‫َبعدهم عنه) والنساء‬ ‫ومن أ َ‬ ‫بالناس (لبنانيني وأمريكيني) واألصدقاء َ(من َّقربهم إليه َ‬ ‫أحب ْب َنه)‪.‬‬ ‫(اللوايت أ َّ‬ ‫َحب ُهن واللوايت َ‬ ‫أكثر‪ ،‬سبب اعتزاله واحتجابه وانكفائه وانعكافه‪ ،‬وملاذا يف سنواته‬ ‫هنا نفهم‪َ ،‬‬

‫‪66‬‬


‫َيحرتمون الرشيعة مبقدار ما تحرتم الرشيع ُة الحيا َة التي يف قلوبهم‪ ،‬ويرضبون بها ُعرض‬ ‫الحائط إذا كانت ُتثقل إرادتهم ُوتثقل كاهلهم بنري الجهل والغباوة‪.‬‬ ‫ورسول الرشق إىل الغرب‪ ،‬جربان‬ ‫املجدد الذي ُدعِ َي ِب َح ٍّق نابغ َة املهجر‬ ‫واألديب ِّ‬ ‫َ‬ ‫يرسين أن‬ ‫خليل جربان ِّ‬ ‫مؤلف هذا الكتاب‪ ،‬هو يف مقدمة أنصار الروح هؤالء‪ .‬ولذلك ُّ‬ ‫املفكرين خالص َة أفكاره وآرائه يف أرسار الحياة من املهد إىل‬ ‫أقدم إىل ّقراء العربية ّ‬ ‫ِّ‬ ‫اللحد‪َ ،‬مجموع ًة يف هذا الكتاب الصغري الطافح بثمرات عبقريته ونبوغه‪.‬‬ ‫وتنفر من كل تقليدٍ‬ ‫أجل‪ّ :‬إن يف أعامق جربان ْنفس ًا تطمح إىل الجديد املفيد‪ُ ،‬‬ ‫كتابته مرآ ًة نقي ًة تعكس‬ ‫بليد‪ .‬فهو ال يكتب إال ما يعتقده حق ًا وصواب ًا‪ .‬ولذلك تأيت ُ‬ ‫حلتها‪ .‬بيد أن هذه‬ ‫حلة غري َّ‬ ‫تتقيد بقيود املايض أو أن تلبس َّ‬ ‫شخصي ًة كبرية تأبى أن َّ‬ ‫ظهرت يف أوج عظمتها وكامل روحانيتها يف هذا الكتاب الذي‬ ‫الشخصية املمتازة قد َ‬ ‫ّ‬ ‫َود َعه املؤلف خالص َة آرائه يف الحب والزواج واألوالد والبيوت والثياب والبيع‬ ‫أ َ‬ ‫والرشاء والجرائم والعقوبات والحرية والرشائع والعقل والهوى واإلثم والصداقة‬ ‫باملؤلف قىض‬ ‫نبي سامه ‪‬املصطفى‪ .‬وكأننا ّ‬ ‫والدين واملوت وغري ذلك‪ ،‬عىل لسان ٍّ‬ ‫وإنكليزية‬ ‫عربية‬ ‫فإن ُكت َبه السابقة من‬ ‫حياته‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫يستعد إلخراج هذا ِ‬ ‫الس ْفر النفيس‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫وف ّن‪ ،‬فال ترى‬ ‫حكمة‬ ‫مقدمات ملا يف هذا الكتاب من‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫وفلسفة وشع ٍر َ‬ ‫ليست سوى ِّ‬ ‫فيه جربان الثائر الذي تراه يف ‪‬العواصف‪ ‬و‪‬األرواح املتمردة‪ ،‬وال جربان الشاعر‬ ‫الذي تراه يف ‪‬أيتها األرض‪ ‬و‪‬أيها الليل‪ ‬وغريهام‪ ،‬وال جربان املتأمل يف ‪‬لكم‬ ‫املعلم الحكيم يف‬ ‫لبنانكم ويل لبناين‪ ،‬ويف صورة ‪‬وجه أمي وجه أمتي‪ ،‬وال جربان ّ‬ ‫الرسام الرمزي يف جميع ما‬ ‫‪‬القشور واللباب‪ ‬و‪‬املجنون‪ ‬و‪‬السابق‪ ،‬وال جربان ّ‬ ‫‪‬حفار القبور‪،‬‬ ‫ريشته الساحرة‪ ،‬وال جربان الخيايل يف ‪‬بني ليل وصباح‪ ‬ويف ّ‬ ‫أبرزته ُ‬ ‫مزيج من هذه العنارص جميعها‪ ،‬بل هو‬ ‫بل ترى يف هذا الكتاب جربان الذي هو ٌ‬ ‫فصال من فصوله إال وترى أمامك حكم ًة من خيال‬ ‫خالصتها املختارة‪ .‬فإنك ال تقرأ ً‬ ‫ُ‬ ‫وفلسفة‪ ،‬يف بالغة وجامل‪.‬‬ ‫شيخ يف الحياة‪ ،‬فهو‬ ‫العمر لكنه ٌ‬ ‫قال أحد كبار املفكرين الغربيني‪ :‬إن جربان َح َد ٌث يف ُ‬ ‫متعش ٌق للحكمة والحقيقة‪ .‬فكأننا به يقول‪ :‬سأدرك‬ ‫اق للجامل‪ ،‬وكالشيوخ ّ‬ ‫كاألحداث ّتو ٌ‬ ‫جميع الحقائق‪ ،‬سأعرف ما ال يوجد ناقص ًا يف املوازين‪ ،‬سأبكي مع الباكني‪ ،‬وسأضحك مع‬ ‫حجتي‪.‬‬ ‫الضاحكني‪ ،‬سأسيح يف جميع الفصول‪ ،‬وحيثام ُ‬ ‫رست سأهتدي إىل َم ّ‬

‫‪69‬‬


‫الكتاب مطبوع يف مرص سنة ‪َ ،1926‬نشره يوسف توما البستاين ‪‬صاحب مكتبة‬ ‫وطبعه لدى ‪‬املطبعة الرحامنية مبرص‪ .‬غالف النسخة التي‬ ‫العرب بالفجالة مبرص‪َ ،‬‬ ‫مزق‪ ،‬والنسخة عتيق ٌة جد ًا ومهلهلة‪ .‬عىل الصفحة األوىل منها‪ ،‬أقرأ‪:‬‬ ‫ضائع ُم َّ‬ ‫أمامي ٌ‬ ‫وض َعه باإلنكليزية وقد ترجمه إىل العربية األرشمندريت‬ ‫‪‬النبي لجربان خليل جربان َ‬ ‫أنطونيوس بشري‪ .‬وتحتها هذه العبارة بخط صغري‪ :‬إن جميع كتابات جربان تدعو‬ ‫تفكر‪ ،‬فاألجدر بك ّأال تقرأ جربان‪ .‬وأقرأ َّأنها‬ ‫إىل التفكري العميق‪ .‬فإن كنت تخاف أن ّ‬ ‫للمعرب‪ .‬خطوط الغالف للخطاط‬ ‫وأن ‪‬جميع الحقوق محفوظة‬ ‫‪‬الطبعة األوىل‪ّ ‬‬ ‫ّ‬ ‫الشهري يومئذٍ نجيب هواويني‪.‬‬ ‫طبة عن‬ ‫الكتاب من ‪ 120‬صفحة‬ ‫يضم أيض ًا ملحق ًا من ‪ 40‬صفحة ل ُِخ ٍ‬ ‫ً‬ ‫حجام وسط ًا‪ُّ ،‬‬ ‫جربان ألقاها يف اإلنكليزية جيمس فرنكل ونقلها اىل العربية األرشمندريت بشري‪.‬‬ ‫مقد ُمته‬ ‫عيل‪ ،‬فالجديد ِّ‬ ‫ليست جديد ًة ّ‬ ‫وإذا كانت ترجمة األرشمندريت بشري َ‬ ‫واستغرقت من الصفحة ‪ 3‬إىل‬ ‫ردت بعنوان ‪‬كلمة املرتجم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫للرتجمة‪ ،‬وهي َو َ‬ ‫حرفيتها‪ ،‬ثم أختم باستنتاج وخالصة‪.‬‬ ‫الصفحة ‪ ،10‬أُثبتها ِب ّ‬ ‫مقدمة األرشمندريت بشير‪:‬‬

‫مرتجم هذا‬ ‫الدين عىل أثوابه الخارجية‪ ،‬لكان جربان كافر ًا‪ ،‬ولكان ِ‬ ‫‪‬لو َق َص ْرنا ِّ‬ ‫ولكن لو َن َظرنا يف‬ ‫ناقل الكفر ليس بكافر‪ْ .‬‬ ‫الكتاب ُمخطئ ًا يف ْنقلِه إىل العربية‪ ،‬وإن كان ُ‬ ‫املؤمنني العاملني عىل ْنشر‬ ‫الدين إىل جوهره دون قشوره‪ ،‬لرأينا أن جربان يف طليعة ْ‬ ‫ِّ‬ ‫متحلي ًة ِبجلباب ّفتان من‬ ‫جرد ًة عن زخرف الوهم وبهرجة الرسم‪ّ ،‬‬ ‫الحقيقة األزلية‪ُ ،‬م َّ‬ ‫الفن الخالد‪.‬‬ ‫يف العقائد واملذاهب املنترشة يف العامل اليوم‪ ،‬كام يف جميع ُن ُظمه االجتامعية‪،‬‬ ‫البقية الباقية من ُاللباب يف‬ ‫ٌ‬ ‫قشور يابس ٌة ُممتلئ ٌة من ُسوس املايض‪ ،‬تكاد تقيض عىل ّ‬ ‫املحددة بكل ما لديهم من آالت الحرب‬ ‫أنصار املادة َّ‬ ‫هذه العقائد واملذاهب‪ .‬هناك ُ‬ ‫والرش التي ورثوها عن جدودهم الغيورين عىل فريسة الناموس واألنبياء‪ .‬هؤالء هم‬ ‫ّ‬ ‫الصماء‪ ،‬وإن كانت‬ ‫الرشيعة‬ ‫بأهداب‬ ‫كني‬ ‫متمس‬ ‫أعامرهم‬ ‫ون‬ ‫قض‬ ‫ي‬ ‫األمس‪،‬‬ ‫لمة‬ ‫ظ‬ ‫أبناء ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫أنصار الروح‬ ‫الرشيعة تقتل أرواحهم وتعمل عىل قهرهم وجمودهم َّ‬ ‫ومذلتهم‪ .‬وهنالك ُ‬ ‫األقلية الصغرى يف الناس‪ ،‬يحاربون جيوش الظُّ لمة َويحرسون‬ ‫يؤلفون ّ‬ ‫املح ِي َية الذين ّ‬ ‫ْ‬ ‫أبناء نور الغد‪،‬‬ ‫هم‬ ‫هؤالء‬ ‫ومعرفة‪.‬‬ ‫حكمة‬ ‫من‬ ‫وا‬ ‫ُوت‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫بكل‬ ‫الحقيقة‬ ‫وجه‬ ‫عن‬ ‫القناع‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪68‬‬


‫‪  .4‬رأينا أن نُ ثبت يف ترجمة ‪‬النبي‪ ‬العربية الرسوم اإلثني عرش التي رسمها املؤلف لألصل‬ ‫اإلنكليزي‪ ،‬هذه الرسوم البديعة التي ال ُبدَّ منها إلكمال الكتاب‪ .‬فالصورة األخرية من أروع ما‬ ‫ٌ‬ ‫صنعها يف‬ ‫املدبرة التي وراء هذا الكون‪ :‬يدٌ تعمل‪،‬‬ ‫وبصرية ترى‪ ،‬وحولها العوامل َ‬ ‫تصور به القوة ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُزين‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫أجمل‬ ‫فإنه‬ ‫العريب‬ ‫العامل‬ ‫يف‬ ‫جديدٌ‬ ‫الرمزي‬ ‫التصوير‬ ‫من‬ ‫النوع‬ ‫هذا‬ ‫أن‬ ‫ومع‬ ‫مرتاكزة‪.‬‬ ‫حلقات‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫القارئ إىل الحقيقة التي‬ ‫به املتاحف ودور العلم وبيوت العبادة يف العامل املتمدِّ ن‪ .‬لذلك ْفل َينظر‬ ‫ُ‬ ‫كل رسم من هذه الرسوم قبل أن َي ْق ُص َر نظره عىل الرسم نفسه‪.‬‬ ‫َيرمز إليها ُّ‬

‫ً‬ ‫‪  .5‬ليس ‪‬النبي‪ً ‬‬ ‫حكاية يكفي بأن مير بها القارئ ُلي َ‬ ‫ويفهم الحقيقة املنطوية‬ ‫درك فحواها‬ ‫رواية أو‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫وحكمة وفلسفة‪ .‬فال ْ‬ ‫ٍ‬ ‫دائرة ِع ْلمٍ وأد ٍ‬ ‫ُ‬ ‫عبارة من عباراته قبل أن تقفَ عىل‬ ‫ترتك‬ ‫ب‬ ‫عليها‪ ،‬ولكنه‬ ‫َ‬ ‫وتتفه َم العقيدة الجديدة التي ُ‬ ‫لديك‬ ‫تحملها إليك‪ .‬فإن جاءت ُم َث ِّب ًتة ملا‬ ‫الحقيقة التي وراءها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫عما ْ‬ ‫عرف َته و َأ ْلف َته فال ْ‬ ‫ترفضها بل َض ْعها يف دائر ٍة من ذاكرتك‬ ‫واحتفظ بها‪ .‬وإن جاءت‬ ‫فاق َت ِب ْلها‬ ‫غريبة ّ‬ ‫متذكر ًا أنّ الذين َ‬ ‫حني ّ‬ ‫اضطهدوا غالي ِله واحتقروا آراءه الغريبة ما كانوا ليضطهدوه‬ ‫ثم ُعد إليها بعد ٍ‬ ‫لو َ‬ ‫عاد وعادوا إىل الحياة اليوم‪.‬‬ ‫أمريكا الشمالية‬ ‫األرشمندريت أنطونيوس بشري‬

‫استنتاجه من هذه املقدمة؟‬ ‫ما الذي ميكن‬ ‫ُ‬ ‫راجعنا أول أربع ترجامت ‪‬النبي‪ ‬إىل العربية‪ ،‬نجد لرتجمة ميخائيل نعيمه‬ ‫إذا ْ‬ ‫مقدم ًة شخصي ًة ُتحاول أن تقرتب من جربان لكنها تبقى قريب ًة من نعيمه‪ ،‬ونجد‬ ‫ّ‬ ‫مقتضب ًا‪ ،‬ونجد ترجمة يوسف الخال‬ ‫لرتجمة ثروت عكاشه (مرص) كالم ًا أكادميي ًا ْعلمي ًا َ‬ ‫مقدم ُة األرشمندريت بشري‬ ‫بال مقدمة (عدا كلمة النارش ‪‬دار النهار للنرش‪ ،)‬فيام ّ‬ ‫صدرت عىل حياة جربان) تبقى هي األقرب إىل جربان زمن ًا وعاطفة‪.‬‬ ‫(الوحيدة التي َ‬ ‫يحب صديقه جربان‪ ،‬ويغار عليه وعىل اسمه وشهرته وأفكاره‪.‬‬ ‫يتبين منها كم ّان بشري ّ‬ ‫ّ‬ ‫يفوته‬ ‫فهو يحرص عىل اإلمساك بيد القارئ وإلقاء األضواء أمامه عىل النص‪ ،‬كي ال َ‬ ‫َم ْل َم ٌح أو فكر ٌة أو خاطر ٌة فلسفية‪.‬‬ ‫حريص أن ُي ّربئ جربان من تهمة الكفر واإللحاد‪ ،‬وأن يشري إىل‬ ‫(كر ُجل دِ ين)‬ ‫وهو َ‬ ‫ٌ‬ ‫والفريسيني‪.‬‬ ‫عمق َتد ُّي ِنه بدين املسيح ال بدين َ‬ ‫الكتبة ّ‬ ‫وسماه ‪‬نابغة املهجر ورسول الرشق إىل الغرب‪.‬‬ ‫وهو ُم ِّ‬ ‫قد ٌر هال َة جربان‪ّ ،‬‬

‫‪71‬‬


‫وقال َآخر‪ :‬ليس يف حياة جربان من أث ٍر للتقاليد أو الجمود‪ ،‬فال هو باملتفائل‬ ‫مرتنم أبد ًا‬ ‫نبي َب ُ‬ ‫عيد النظر‪ٌ ،‬‬ ‫وال باملتشائم‪ ،‬وال هو بالكاهن وال بالكافر‪ ،‬إنه بالحقيقة ٌّ‬ ‫الرشقيتني ما لن تتاح لنا رؤيته نحن أبناء‬ ‫ولعله يرى بعينيه‬ ‫بأناشيد الفن الخالدة‪ّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫دائام من الرشق‪.‬‬ ‫الغرب‪ .‬وال غرو‪ ،‬فإن معلمي اإلنسانية جاؤوا ً‬ ‫أديب آخر‪ :‬إن جميع كتابات جربان تدعو إىل التفكري العميق‪ ،‬بل ُترغم‬ ‫وقال ٌ‬ ‫تفكر فاألجدر بك أال تقرأ جربان‪.‬‬ ‫قارئها عىل إعامل ذهنه وعقله‪ .‬فإن كنت تخاف أن ّ‬ ‫متلئ بأمثار الغبطة‬ ‫مؤلفات جربان‬ ‫غريه‪ :‬نحن نعتقد أن ّ‬ ‫ٌ‬ ‫بستان ٌ‬ ‫خالد ُم ٌ‬ ‫وقال ُ‬ ‫جن ُة نور عجيب ال َي َعثر فيها حتى أعداء الحقيقة أنفسهم‪.‬‬ ‫والبهجة‪ ،‬بل هو ّ‬ ‫شفتيه ابتسام ُة الرشق الجميلة‪،‬‬ ‫وقال آخر‪ :‬إن جربان قد اقرتب من الغرب وعىل َ‬ ‫يقدمها إىل الغرب‪ .‬فقد جاء كاملسيح يطفح قلبه‬ ‫عطية مثينة يف صدره لكي ّ‬ ‫يحمل ّ‬ ‫محبة‪.‬‬ ‫وقال أوغست رودان‪ ،‬أعظم ّنحايت العرص الحارض‪ ،‬بعد أن عرف جربان عندما‬ ‫العالم يجب أن ينتظر كثري ًا من شاعر لبنان ونابغته‬ ‫كان يعرض صوره يف باريس‪ :‬إن َ‬ ‫جربان‪ .‬فهو وليم باليك القرن العرشين‪.‬‬ ‫هذا قليل من كث ٍري مام لدينا من أقوال علامء الغرب يف مؤلف ‪‬النبي‪ ،‬رأينا بأن‬ ‫ُن ْث َبته ألبناء الرشق كي يعرفوا ّأن الغرب ُي َق ّدر النابهني من رجال الرشق‪ُ ،‬وينزلهم‬ ‫منزلتهم من اإلعتبار‪ .‬ورمبا كانت هذه أبرز ميزات الغرب عىل الرشق يف استثامر‬ ‫َ‬ ‫مواهب الناس‪.‬‬ ‫القراء الكرام إىل املالحظات‬ ‫وال ُب َّد لنا‪ ،‬قبل الفراغ من كلمتنا هذه‪ ،‬أن نلفت أنظار ّ‬ ‫التالية‪:‬‬ ‫يعبر عنه باأللفاظ ألنه من نوابغ املصورين‪ ،‬لذلك عىل القارئ‬ ‫‪  .1‬جربان ّ‬ ‫يصور فكره قبل أن ّ‬ ‫تعبر عنها‪.‬‬ ‫أن ُيعنى بدرس صور ِة ّ‬ ‫كل فك ٍر من أفكار املؤلف قبل أن يدرس األلفاظ التي ّ‬ ‫‪  .2‬جربان ِّ‬ ‫ملؤها الفكر والشعر‪.‬‬ ‫خير يف شاعريته‪ .‬فكل عبارة تخرج من شفتيه ُ‬ ‫مفكر عميق وشاعر غري ُم َّ‬ ‫فإذا مل ِ‬ ‫فكرك بصبغة فكره‪ ،‬فعبث ًا تحاول أن ترافقه يف سياحاته‪.‬‬ ‫تشاط ْر جربان َ‬ ‫شعوره‪ ،‬وتصبغْ َ‬

‫كل ما يف الحياة من‬ ‫‪  .3‬ليس جربان كافر ًا بل هو‬ ‫مؤمن صادقٌ يف دينه‪ ،‬وهو يعتقد أن الدِّ ين ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫والتأمالت‪ ،‬ورمبا كان الفرق بني ِدينه ِ‬ ‫بالح ْرم الثقيل‪ ،‬هو كالفرق‬ ‫األعمال‬ ‫ودين الذين يرشقونه ُ‬ ‫ُّ‬ ‫والفريسيني املرائني الذين كانوا يقولون إنّ فيه شيطانا‪ً.‬‬ ‫بني دين يسوع ودين الك َت َبة ّ‬

‫‪70‬‬


‫‪10‬‬ ‫فْرنكل مُحاضراً عن جبران على حياته (‪:)1924‬‬ ‫عبقري في شخصية فريدة‬ ‫ومعلّم جديد في القرن العشرين‬

‫خطبة جيمس فرنكل كما ترجمها األرشمندريت‬ ‫أنطونيوس ْبشري وأصدرها ملحق ًا يف طبعته العربية‬ ‫من كتاب ‪‬النبي‪‬‬

‫ب أو‬ ‫كالمنا عىل جربان يف َت َه ُّي ٍ‬ ‫مل يعد جديد ًا ُ‬ ‫وجيلنا عرفه من الكتابات عنه منذ‬ ‫يف موضوعية‪ُ ،‬‬ ‫غيابه حتى اليوم‪.‬‬ ‫لكن الالفت أن نجد حديث ًا عن جربان عىل‬ ‫ب وموضوعية‪ ،‬وخصوص ًا‬ ‫حياة جربان‪ ،‬يف َت َه ُّي ٍ‬ ‫أقل من عامٍ‬ ‫من ذوي معرفة واختصاص‪ ،‬وبعد ّ‬ ‫ونصف العام عىل ظهور ‪‬النبي‪ ،‬أي عند ّأول‬ ‫الجرس الذي َع َب َر ُه جربان إىل الشهرة العاملية‪.‬‬ ‫صديق‬ ‫كان األرشمندريت أنطونيوس بشري‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫‪‬النبي‪‬‬ ‫جربان‪ ،‬يف طبعته العربية األوىل من‬ ‫ّ‬ ‫مقدمته الخاصة)‬ ‫سنة ‪ 120( 1926‬صفحة مع ّ‬ ‫أفرد يف آخر الكتاب ُملحق ًا من أربعني صفحة‬ ‫َ‬ ‫‪‬نبي‪ ‬جربان ألقاها يف فرتة عيد‬ ‫عن‬ ‫طبة‬ ‫ل ُِخ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫امليالد جيمس ْف َر ْنكِ ل‪ ،‬أستاذ الفلسفة يف جامعة‬ ‫مِ ْت ِش َغن‪ ،‬بعد صدور ‪‬النبي‪ ‬بخمسة عرش‬ ‫شهر ًا (صباح األحد ‪ 28‬كانون األول ‪)1924‬‬ ‫ومثقفني أمريكيني اعتادوا‬ ‫حرضها جمهور أدباء ّ‬ ‫سامع ُمحارضات ْف َر ْنكِ ل‪.‬‬

‫‪73‬‬


‫وأرص عىل‬ ‫حريص عىل اإلشارة إىل أهمية ‪‬النبي‪ ‬بني كتب جربان‪،‬‬ ‫وهو‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫بأقوال يف جربان من مفكرين وأدباء غربيني (صدرت عىل حياة جربان)‬ ‫االستشهاد‬ ‫ٍ‬ ‫أديب عىل حياته غري جربان‪،‬‬ ‫يندر أن عرفها‪ ،‬يف لبنان أو يف عامل اإلنتشار اللبناين‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ناس َجها حول شخصه بني رفاقه‬ ‫يدل يف‬ ‫وضوح عىل الهالة الكربى التي كان جربان ِ‬ ‫ما ُّ‬ ‫ٍ‬ ‫األقربني وبني الناس‪.‬‬ ‫ومصور ًا‬ ‫صديقه الويف شاعر ًا ومفكر ًا‬ ‫وهذا دليل صادق عىل تقدير األرشمندريت َ‬ ‫ِّ‬ ‫فحرص يف آخر‬ ‫مق ما يريده صديقه جربان‪،‬‬ ‫وفنان ًا‪ .‬خاف ّأال يصل القارئ إىل ُع ِ‬ ‫َ‬ ‫وشدد‪ :‬ال بد لنا قبل الفراغ من كلمتنا‬ ‫مقدمته عىل وضع تلك النقاط الخمس‪َّ ،‬‬ ‫هذه‪ ،‬أن نلفت أنظار القراء الكرام إىل املالحظات التالية‪ ،...‬كام حرص يف آخر‬ ‫ملحق من ‪ 40‬صفحة‬ ‫املعرب يف ‪ 120‬صفحة) عىل إثبات‬ ‫ٍ‬ ‫الكتاب (بعد نهاية النص َّ‬ ‫الكامل لِمحارض ٍة كان أستاذ الفلسفة يف جامعة مِ ْت ِش َغن جيمس‬ ‫النص‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ترجمته َّ‬ ‫فرنكل ألقاها يف مجموعة أدباء ومفكرين صباح األحد ‪ 28‬كانون األول ‪ ،1924‬وهي‬ ‫من ناد ِر ما قيل يف جربان عىل حياة جربان‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫أقربهم إليه‬ ‫بني‬ ‫أصدقاء جربان وعارفيه‪ّ ،‬‬ ‫لعل األرشمندريت أنطونيوس بشري ُ‬ ‫أول من ّقدم كتابات جربان اإلنكليزية اىل قراء‬ ‫جرد ًا‪ ،‬بل َّ‬ ‫لعله ُ‬ ‫صدق ًا وصداق ًة َوت ُّ‬ ‫فتوس َعت شهرته وما زالت َتطَّ رد بازدياد حتى اليوم‪.‬‬ ‫العربية‪َّ ،‬‬ ‫نيويـورك‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/7/8 -‬‬

‫‪72‬‬


‫ور َدت يف ملحق الكتاب (من صفحة ‪ 4‬اىل‬ ‫وهنا ُخطبة املسرت فرنكل كام َ‬ ‫صفحة ‪.)35‬‬ ‫ُ‬ ‫خطبة المستر فرنكل‬

‫حتى‬ ‫قواه ّ‬ ‫عابر الصحراء املحرقة تقرصه الشمس بحرارتها القاسية‪ ،‬فتخور ُ‬ ‫‪‬كام ُ‬ ‫قليل األمل يف الحياة‪،‬‬ ‫الهابة يف وجهه‪ُ ،‬فيضحي واهي العزم َ‬ ‫املوت من الرياح الرشقية ّ‬ ‫مخضلة الجوانب‪ ،‬ويشعر ب ِر ّقة‬ ‫وكام َينفد صرب هذا الهائم املسكني ُفيقبل عىل واحة‬ ‫ّ‬ ‫آماله‪ ،‬هكذا نحن‪ ،‬وسط مزاحامت هذا العامل‬ ‫قلبه ُوي ْحيي ميت ِ‬ ‫النسيم العليل ُينعش ُ‬ ‫نتنفس‬ ‫الغريب املزدحم امللتصق مبحبة املادة‪ُ ،‬تثقل‬ ‫كواهلنا املصال ُِح العمياء املتضاربة‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫تهب علينا نسمة من نسامت الرشق الروحي الخالد‪.‬‬ ‫عندما‬ ‫السعيد‬ ‫والرجاء‬ ‫الحياة‬ ‫ّ‬ ‫جداول ُه‬ ‫وقيد‬ ‫الغرب‬ ‫أجل‪ :‬بنى‬ ‫َ‬ ‫رصوح ُه َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وأبنيته الشاهقة املتينة من فوالذٍ وحجارة‪ّ ،‬‬ ‫وتجهزه بالقوة الالزمة‬ ‫فاستخدمها ُلتدير‬ ‫الشاردة يف مجاهل األرض‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مصانعه ومعامله ّ‬ ‫َ‬ ‫ومرساتهم‬ ‫وتوفر‪ ،‬ألجل رفاهية الناس وراحتِهم‬ ‫ملا‬ ‫َ‬ ‫استنبط ُه من اآلالت واالخرتاعات‪ِّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫مدني ُتنا الحديثة‪.‬‬ ‫جميع الحاجات املادية التي تتزايد ّ‬ ‫كل يوم‪ ،‬وعليها ترتكز ّ‬ ‫ومنافعهم‪َ ،‬‬ ‫كسوال بطيئ ًا يف اقتبال مثرات عبقريتنا‬ ‫شيد مثل هذه الرصوح‪ .‬كان‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫الرشق مل ُي ِّ‬ ‫وحيه الساموية السعيدة‪.‬‬ ‫أحالم ُه البعيدة‪ ،‬ويرى رؤى‬ ‫ِ‬ ‫ونبوغنا‪ُ .‬‬ ‫لكنه ما برح يحلم َ‬ ‫عنه يف التعمري‬ ‫وفيام‬ ‫وأمرها بأن تنوب ُ‬ ‫الغرب وضع قوى الطبيعة تحت قدميه‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫والتلذذ برؤية َمجدها غري‬ ‫عيني الطبيعة‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫بالتأمل يف جامل َ‬ ‫والبناء‪ ،‬اكتفى الرشق ُّ‬ ‫املتغير‪ .‬وبينام يف الغرب كان يتصاعد صفري األلوف واملاليني من اآلالت التي ال تنقطع‬ ‫ّ‬ ‫الغرب ّقدم لنا‬ ‫الفالسفة‪.‬‬ ‫الت‬ ‫وتأم‬ ‫الشعراء‬ ‫ترانيم‬ ‫الرشق‬ ‫يف‬ ‫تتصاعد‬ ‫كانت‬ ‫عملها‪،‬‬ ‫عن‬ ‫ُّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والشعر والفلسفة‪،‬‬ ‫عال ًام مرتجرج ًا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫النبوة ّ‬ ‫مشغوال ُم ِّ‬ ‫أنعم علينا بعطايا َّ‬ ‫جدد ًا‪ ،‬والرشق َ‬ ‫والوقار والسكينة والوحدة‪ ،‬والعظمة الروحية التي‬ ‫ومنه َ‬ ‫بزغت أنوار الرصانة والهدوء َ‬ ‫والرشق‬ ‫الغرب غرب ًا‬ ‫ظل‬ ‫ُ‬ ‫أعطت العامل أشهى الثمرات العقلية والنفسية‪ .‬ألجل ذلك ّ‬ ‫ُ‬ ‫رشق ًا‪ ،‬ال يستطيع الواحد أن يفهم لغة اآلخر‪ ،‬بل إن ِف ْك َر أحدهام‪ ،‬مبيزاته الخاصة‪،‬‬ ‫صلة بينهام‪.‬‬ ‫يبدو غريب ًَا بعيد ًا عن فكر اآلخر وال َ‬ ‫ت‬ ‫مؤلفا ِ‬ ‫ت لكم نتيج َة دريس ّ‬ ‫ت بها متام ًا‪ ،‬حني َبسطْ ُ‬ ‫شعرت بهذه الحقيقة‪َ ،‬و َوث ِْق ُ‬ ‫ُ‬ ‫أبسط لكم‬ ‫وفلسفته‪.‬‬ ‫رابندرانات طاغور‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫واليوم أَزداد ثق ًة وشعور ًا بهذه الحقيقة‪ ،‬وأنا ُ‬ ‫والفيلسوف‬ ‫الفنان‬ ‫والرسام‬ ‫الشاعر‬ ‫جربان‪،‬‬ ‫خليل‬ ‫جربان‬ ‫عه‬ ‫وض‬ ‫الذي‬ ‫الجديد‬ ‫الكتاب‬ ‫دريس‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬

‫‪75‬‬


‫طبته لجربان وكتابه ‪‬النبي‪ ‬الصادر حديث ًا‪ ،‬قبل أن‬ ‫خصص ُخ َ‬ ‫صباح ذاك األحد‪َّ ،‬‬ ‫يكون األرشمندريت بشري ْأنهى ترجمة ‪‬النبي‪ ‬إىل العربية‪ .‬وحني أصدرها يف مرص‬ ‫أثبت تلك املحارضة ملحق ًا يف الكتاب (عىل ‪ 35‬صفحة‪ ،‬برتقيم منفصل عن‬ ‫(‪َ )1926‬‬ ‫وقدم لها (عىل الصفحات ‪ 1‬و‪ 2‬و‪ 3‬و‪ )4‬بالكلمة التالية‪:‬‬ ‫ترقيم صفحات الكتاب)‪ّ ،‬‬ ‫نص املحارضة الذي ألقاها األستاذ جيمس ْف َر ْنكِ ل يف مدينة ديرتويت‬ ‫ُ‪‬نرتجم يف ما ييل ّ‬ ‫مفكريها‪،‬‬ ‫ِم ْت ِش َغن‪ ،‬من أعامل الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬عىل نخبة من علامء املدينة وكبار ّ‬ ‫لكل من‬ ‫كتاب ‪‬النبي‪ِّ ‬‬ ‫ومؤل َفه جربان خليل جربان‪ ،‬يف درس تحلييل ّيتضح ّ‬ ‫يصف لهم َ‬ ‫بلغ إليها نابغ ُة الوطن املحبوب يف املهجر لدى أبناء أمريكا‪ .‬وكان يف‬ ‫الدرج َة التي َ‬ ‫طالعه َ‬ ‫ُي ُ‬ ‫نقيد القارئ‬ ‫ودنا أن ُندرج هذا النص يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫مقدمة الكتاب‪ ،‬غري أننا َ‬ ‫عد ْلنا عن ذلك لكي ال ّ‬ ‫بأفكار األستاذ املحارض‪ ،‬فرأينا أن نجعله ملحق ًا بالكتاب يطالعه القارئ األديب بعد أن‬ ‫ت‬ ‫يقدمه له من مالحظا ٍ‬ ‫َيفرغ من مطالعة ‪‬النبي‪ ‬للمرة األوىل‪ُ ،‬فيمعن النظر يف ما ّ‬ ‫ثنى وثالث ًا ورباع ًا‪ ،‬فتكون‬ ‫جدير ٍة باإلعجاب ُّ‬ ‫والتأمل‪ ،‬ثم يعود بعدئذٍ إىل قراءة الكتاب َم ً‬ ‫خري معوان عىل‬ ‫له هذه املالحظات‪ ،‬مع اختباره الشخيص يف درس هذا ِ‬ ‫الس ْفر النفيس‪َ ،‬‬ ‫التقاط ُد َرره الفريدة‪ .‬وإننا‪ ،‬إذ نؤيد األستاذ الخطيب‪ ،‬نرتجم نصه يف ما ييل‪.‬‬ ‫ويف متن النص (أَسفل الصفحتني ‪ 14‬و‪ 15‬من ‪‬امللحق‪ ،)‬الحاشية التالية‪:‬‬ ‫وردت علينا من الصديق جربان‬ ‫القراء هذه الفقر َة من‬ ‫ٍ‬ ‫رسالة َ‬ ‫َ‪‬ي ُس ُّرنا أن َ‬ ‫ننقل إىل ّ‬ ‫يف أواخر شباط ‪( 1926‬أي قبل مثول هذه الرتجمة العربية إىل الطبع بوقت قليل)‬ ‫ُتظهر إقبال رجال األدب عىل الكِ تاب يف جميع أنحاء العامل‪ .‬قال الصديق جربان يف‬ ‫جزء‬ ‫رسالته‪ُّ ... :‬‬ ‫كل ما أَستطيع أن أقوله لك اآلن‪ ،‬يف هذا الكتاب الصغري الذي هو ٌ‬ ‫رجم حتى اآلن إىل عرش‬ ‫من حشاشتي‪ ،‬أنه بلغ الطبعة العارشة (باإلنكليزية) وأنه ُت ِ‬ ‫لغات أوروبية‪ ،‬وكذلك إىل اليابانية والهندستانية من اللغات الرشقية‪ -‬و‪‬الحبل عىل‬ ‫الكتيب‪ ،‬من ُوودرو ولسون‪ ،‬إىل أكرب شاعر إنكليزي‪،‬‬ ‫رأي القوم يف ّ‬ ‫الجرار‪ . -‬وأما ُ‬ ‫إىل أشهر كاتب فرنيس‪ ،‬إىل غاندي الهندي‪ ،‬إىل العامل البسيط‪ ،‬إىل الزوجة واألم‪ ،‬فهو‬ ‫مخجوال يف بعض األحايني أمام عطف‬ ‫أتخيله قط‪ .‬ولذلك أجد نفيس‬ ‫ً‬ ‫أنتظره أو ْ‬ ‫مِ ّما مل ْ‬ ‫الناس َوك َرمهم‪ -‬أخوك جربان‪.‬‬ ‫وإننا‪ ،‬بدورنا‪ ،‬ال نشك يف ّأن قراء العربية سيستقبلون ‪‬النبي‪ ‬بالعربية‪ -‬وهو مثرة‬ ‫نبي‬ ‫ُنبوغ ابن بالدهم‪ -‬مبا ال ّ‬ ‫يقل عن األجانب َحامس ًة‪ ،‬فال تنطبق عليهم اآلية‪ :‬ليس ّ‬ ‫بال كرامة‪ ،‬إال يف وطنه وبني أهله‪ -‬املرتجم‪.‬‬

‫‪74‬‬


‫طيبات لذيذات يحول دون كونها رشيرة‬ ‫وامللذات قد تكون صالحة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وكونها ّ‬ ‫بطبيعتها‪:‬‬ ‫ميز بني الصالح والرشير من ّ‬ ‫ّ‬ ‫امللذات؟‪،‬‬ ‫‪‬لعلك ُ‬ ‫تسأل يف قلبك‪ :‬كيف نستطيع أن نُ ّ‬ ‫تتعلم أن َ‬ ‫فاذهب إىل الحقول والبساتني‪ ،‬وهنالك ّ‬ ‫لذة النحلة هي يف امتصاص العسل‬ ‫من الزهرة‪ّ ،‬‬ ‫ولذة الزهرة هي يف تقديم عسلها للنحلة‪ .‬النحلة تعتقد أن الزهرة‬ ‫ُ‬ ‫والزهرة ْتؤمن بأن النحلة رسولة املحبة ْال ُم ْح ِي َية‪ .‬كلتا النحلة والزهرة‬ ‫ينبوعُ الحياة‪،‬‬ ‫تعتقد أن اقتبال اللذة وتقدميها حاجتان ال بدّ منهما‪ ،‬وافتتانٌ ال غنى للحياة عنه‪.‬‬ ‫وطيبات األرض‪ .‬لكنه يعرف‬ ‫هو ليس كالناسك‬ ‫ّ‬ ‫املتقشف يحتقر رفاهية العيش ّ‬ ‫ت تزيد يف كامل الحياة وعزمها‪ ،‬وأخرى ُت ِض ُّلها وتعمل عىل فقرها‬ ‫طيبا ٍ‬ ‫كيف ُي ّميز بني ّ‬ ‫وذلها‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪‬أخ ِبروين‪ ،‬يا أبناء أورفليس‪ ،‬ماذا متلكون يف بيوتكم؟ وما الذي به تحتفظون وراء‬ ‫هذه األبواب املوصدة؟ هل عندكم السالم‪ ،‬وهو القوة الصامتة التي تُظهر عزمية‬ ‫ذواتكم يف أعماقكم؟ هل عندكم التذكارات‪ ،‬وهي القناطر الالمعة التي تصل ُق َنن‬ ‫الفكر اإلنساين بعضها ببعض؟ هل عندكم الجمال الذي يرتفع بالقلب من مصنوعات‬ ‫كل هذا يف بيوتكم؟ أم عندكم‬ ‫الخشب والحجارة إىل الجبل املقدّ س؟ هل عندكم ُّ‬ ‫ضيفة‪ ،‬ثم تصري ُم ً‬ ‫لرفاهية تدخل البيت ً‬ ‫ٍ‬ ‫ضيفة‬ ‫َحرقٌ َممزوج بالطمع‬ ‫الرفاهية فقط‪ ،‬وت ُّ‬ ‫دة ً‬ ‫مروض ًا جبار ًا يحمل السوط بيمناه ُ‬ ‫فسي ً‬ ‫والك ّالب بيرساه‬ ‫تتحول ِّ‬ ‫عاتية عنيفة‪ ،‬ثم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫م َّتخذ ًا رغباتكم الفضىل أ ً‬ ‫حريري امللمس‪،‬‬ ‫يتلهى بها؟ إنّ بنان هذه الرفاهية‬ ‫لعوبة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ً‬ ‫هازئة بكم‬ ‫رستكم‬ ‫لكن قلبها‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫حديدي صلد‪ .‬تُهدِّ ئ من حدّ تكم لتناموا‪ ،‬ثم تقف أمام َأ ّ‬ ‫وبجالل أجسادكم‪ .‬تضحك من حواسكم املدْ ركة‪ ،‬وتطرحها بني األشواك كأنها أوعية‬ ‫ثم يسري يف جنازتها‬ ‫سهلة االنكسار‪ .‬إنّ‬ ‫التحرق للرفاهية ينحر أهواء النفس ُفيرديها‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫فاغر ًا شدقيه ُمرغي ًا ُمزبد ًا‪.‬‬ ‫غة ال ْنقدر‬ ‫يتكلم يف ُل ٍ‬ ‫من هذا القليل الذي َّقد ْم ُت ُه لكم‪ُ ،‬تدركون ّأن هذا اإلنسان ّ‬ ‫املشقات واملصالح املادية‪ ،‬فال ندرك‬ ‫أن نفهمها‪ ،‬نحن أبناء الغرب الغارقني يف أوحال ّ‬ ‫تخطر لكم‬ ‫يتحدث عن أفكا ٍر ُ‬ ‫غايته الروحية البعيدة التي يرمي إليها‪ ،‬ومع ذلك ّ‬ ‫وأعامق‬ ‫قلب فكرتنا‬ ‫أفكار‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ويل‪ ،‬وعن حاجات هي حاجاتكم وحاجايت‪ٌ ،‬‬ ‫وحاجات تبلغ َ‬ ‫رغم عىل الظهور يف حياتنا فنعرتف بها عندما‬ ‫نفوسنا‪ ،‬تتكئ غافل ًة يف كياننا لكنها ُت َ‬ ‫يصورها لنا أمثال جربان مبثل هذا الوضوح‪.‬‬ ‫ّ‬

‫‪77‬‬


‫ونف ُسه العميق ُة َف ًام ينطق‬ ‫جد ْت فيه عاطف ُة الرشق امللتهب ُة ْ‬ ‫والصويف النابغة الذي َو َ‬ ‫مستن ًزال كثري ًا من وحي الرشق الروحي إىل الغرب املادي‪.‬‬ ‫بالحكمة‪ ،‬وصوت ًا يرتفع ْ‬ ‫ب ما فيهام‬ ‫العبقري وعى يف‬ ‫هذا‬ ‫َعج ُ‬ ‫شخصيته الفريدة عزمي ًة بالغ ًة وقو ًة نادرة‪ ،‬أ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬ ‫وأحسن َمن قال ّإن مكان َة رودان يف‬ ‫والرقة املتناهية‪.‬‬ ‫أنهام مال ِز َمتا اللطف والوداعة ّ‬ ‫َ‬ ‫معرض‬ ‫وتتضح دق ُة هذه املشابهة لِمن يزور‬ ‫النحت كمكانة جربان يف اآلداب والفنون‪َّ .‬‬ ‫َ‬ ‫رودان يف باريس حيث الكثري من التامثيل الحجرية لهذا األستاذ النحات العظيم‪ .‬ورمبا‬ ‫ّتتضح أكثر لِمن يزور اللوكسمبورغ ويرى أعامل رودان هناك‪ .‬ففي كل عضو من كل‬ ‫القوة البالغة والعزم‪ ،‬ظاهر ًة ال تخفى عىل أبسط‬ ‫عالئم ّ‬ ‫متثال لهذا الفنان الكبري تبدو ُ‬ ‫القوة‬ ‫يتذكرون هذا يف منحوتته الشهرية‬ ‫ّ‬ ‫املتأملني‪ .‬وكثريون بينكم ّ‬ ‫‪‬املفكر‪ .‬إن وراء ّ‬ ‫جزء من عمل رودان‪ ،‬لطْ ف ًا و ِر ّق ًة بل التناهي يف الدقة‪.‬‬ ‫الجبارة‪ ،‬وهي ٌ‬ ‫مؤلفاته‬ ‫لكل َمن يقرأ جربان‪ ،‬إذ‬ ‫تنقض ّ‬ ‫مثل هذه الصفات وامليزات البارزة تبدو ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫للرتدد‬ ‫أثر‬ ‫ال‬ ‫ي‪.‬‬ ‫قو‬ ‫وت‬ ‫شفي‬ ‫ت‬ ‫بل‬ ‫بسوء‪،‬‬ ‫مس‬ ‫ت‬ ‫ال‬ ‫لكنها‬ ‫العاصفة‪،‬‬ ‫انقضاض‬ ‫ه‬ ‫ورسوم‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫وتقوم اعوجاج الحياة‪ ،‬لكنها يف الوقت نفسه لطيف ٌة ال‬ ‫فيها عندما تحارب الضعف ّ‬ ‫تثري الغضب‪.‬‬ ‫يرافق أعامل هذا الرجل الرشقي من َأل ِ​ِفها‬ ‫يراه البعض تناقض ًا مطّ رد ًا يف الروح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫بالغ‬ ‫إىل يائها‪ .‬فجربان رجل يكتب الفلسفة يف قالب شعري ّفتان‪ّ ،‬إنام يف ثقة‬ ‫ٍ‬ ‫فيلسوف ِ‬ ‫سواه ّإال عن طريق‬ ‫يقدم أفكار ًا ُممتلئة بروح ّ‬ ‫الحكمة‪ِّ ،‬‬ ‫الشعر والغناء ّقلام يقاربها ُ‬ ‫وأحالمه ّكلها‬ ‫عيدها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫كثري األحالمِ‪َ ،‬ب ُ‬ ‫ُ‬ ‫الشعر وأوزانه‪ .‬وهو‪ ،‬كجميع عظامء الرشق‪ُ ،‬‬ ‫التأمل يف نجوم السامء‪ ،‬بدون أن ُينسيهم أنهم أبناء‬ ‫فلسفة عملية‪ :‬يدعو الناس إىل ُّ‬ ‫خالد غري َمحدود وال مرتبط بزمان أو مكان‪ ،‬إمنا ال يتمتع به‬ ‫األرض‪ .‬يؤمن بأن الخري ٌ‬ ‫ّإال من يجهدون ويتعبون يف الحصول عليه‪.‬‬ ‫يسلم بحقيقة األمل لكنه يهتف بالناس‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫‪‬كأس األمل‪ ،‬ولو َ‬ ‫مصنوعة من طني َج َب َل ْتهُ يدَ ا ّ‬ ‫الفخاري األزيل‬ ‫أحرقت شفاهكم‪،‬‬ ‫بدموعه املقدّ سة‪.‬‬ ‫ويؤكد‪:‬‬ ‫مثل اليوم‪ّ ،‬‬ ‫يخص َّ‬ ‫األزيل ُ‬ ‫كل إنسان‪ ،‬وأن ّ‬ ‫يعرف أن اليوم ّ‬ ‫أمس سوى ذكرى اليوم‪ ،‬وليس الغد سوى حلم اليوم‪.‬‬ ‫‪‬ليس ِ‬ ‫وجود‬ ‫أشياء لها‬ ‫صوفيته ال متنعه من أن يرى‬ ‫ٌ‬ ‫كامترل ِْنك‪ّ .‬‬ ‫ٍ‬ ‫هو صويف ْ‬ ‫لكن ّ‬ ‫بوضوح َ‬ ‫الطيبات‬ ‫صوره ناسك ًا زاهد ًا‪ .‬لكنه يعرف أن ّ‬ ‫حقيقي حوله‪ .‬وكثري ًا ما مييل قارئه إىل َت ُّ‬

‫‪76‬‬


‫وتتضح عظمة الكتاب من َتعداد مواضيعه‪ :‬الحب والزواج‪ ،‬األوالد‪ ،‬األخذ والعطاء‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫العمل واللعب‪ ،‬الفرح والحزن‪ ،‬األكل والرشب‪ ،‬البيع والرشاء‪ ،‬البيوت والثياب‪،‬‬ ‫والرش‪ ،‬اللذة‪ ،‬الصداقة‪ ،‬الجامل‪ ،‬الدين‪،‬‬ ‫الجرائم والعقوبات‪ ،‬الرشائع والحرية‪ ،‬الخري‬ ‫ّ‬ ‫املوت‪ ،‬الخلود‪ ،‬وسواها الكثري‪.‬‬ ‫دعاه ‪‬املصطفى‪،‬‬ ‫وإذا اعتربنا‬ ‫طريقته قصة‪ ،‬فهو يبدأ ْ‬ ‫َ‬ ‫بذكر نبي مختار حبيب ُ‬ ‫يستقلها‬ ‫مرتقب ًا عودة سفينته إىل املدينة‪ ،‬كي‬ ‫َّ‬ ‫انتظر اثنتي عرشة سنة يف مدينة أورفليس ّ‬ ‫الرتقب‬ ‫عائد ًا إىل الجزيرة التي ُولد فيها‪ .‬وخالل السنوات االثنتي عرشة قضاها يف ُّ‬ ‫أرواحهم‬ ‫قلوبهم‬ ‫يعلم أبناء أورفليس ِّ‬ ‫واالنتظار‪ ،‬كان ِّ‬ ‫َ‬ ‫ويهذبهم ّ‬ ‫وعشق ْته ُ‬ ‫أحب ْته ُ‬ ‫حتى ّ‬ ‫معلم آخر بينهم‪ .‬أعطاهم ما لديه من‬ ‫وبات لديهم‬ ‫يبلغه ّ‬ ‫موضوع إعجا ٍ‬ ‫ب واحرتام مل ْ‬ ‫َ‬ ‫القليل من عطاياهم‪ .‬مل يكن يجلس إىل موائدهم‪ ،‬ومل‬ ‫يقبل ّإال‬ ‫َ‬ ‫حكمة ومعرفة‪ ،‬ومل َ‬ ‫يفضل أن‬ ‫يرض أن يدخل مساكنهم التي طاملا فتحوها له من صميم قلوبهم‪ .‬كان ّ‬ ‫َ‬ ‫ويلتحف السامء‪.‬‬ ‫الرتاب‬ ‫يفرتش‬ ‫األحراج‬ ‫يف‬ ‫ل‬ ‫ويتنق‬ ‫الغابات‬ ‫يجوب‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حبه واحرتامه‪،‬‬ ‫وصلت‬ ‫وحني َ‬ ‫سفينته َ‬ ‫ُ‬ ‫ودنت ساعة فراق شعبه الذي نشأ عىل ّ‬ ‫استولت عليه كآبة افتكاره بفراق أبناء روحه‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ً‬ ‫وأطول منها ليايل وحديت‬ ‫‪‬طويلة كانت أيام كآبتي بني جدران هذه املدينة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وانفرادي‪ ،‬ومن ذا يستطيع أن ينفصل عن كآبته ووحدته من غري أن ّ‬ ‫يتألم يف قلبه؟‬ ‫ٌ‬ ‫كثرية نبضاتُ روحي التي ّفرق ُتها يف هذه الشوارع‪ ،‬وكثريون أبناء حنيني الذي‬ ‫ميشون ً‬ ‫عراة بني التالل‪ ،‬فكيف أفارقهم من غري أن ُأثقل كاهيل وأضغط روحي!‬ ‫ليس ما أفارقه ثوب ًا أنزعه عني اليوم ثم أرتديه غد ًا‪ ،‬بل هي َب َش َر ٌة ُأ ّمزقها بيدي‪.‬‬ ‫وجع َلهُ َ‬ ‫وليس ْفكر ًا ُأ ِّ‬ ‫عطيش رقيق ًا خفوق ًا‪.‬‬ ‫خلفه ورائي‪ ،‬بل ٌ‬ ‫قلب َج َّمل ْتهُ َمجاعتي‪َ ،‬‬ ‫وفيما هو م ّتجه إىل سفينته القاه الشعب‪ ،‬صغار ًا وكبار ًا‪ ،‬سائلينه أن يبقى بعدُ‬ ‫تتشوق لرؤية وجهك‪ ،‬وقال‬ ‫بينهم برهة وجيزة‪ .‬قال له أحدهم‪ :‬ال تجعل عيوننا ّ‬ ‫حب ُتنا بالصمت فلم نستطع أن‬ ‫قلوبنا وعشق ْت َك‬ ‫أرواحنا‪َّ .‬‬ ‫ُ‬ ‫‪‬أحب ْت َك ُ‬ ‫تقن َعتْ َم ّ‬ ‫آخر‪َّ :‬‬ ‫ُمزق أقنع َتها بيديها كي تُظهر لك‬ ‫نعبر عنها‪ ،‬لكنها ترصخ إليك اآلن بأعىل صوتها‪ ،‬وت ِّ‬ ‫ّ‬ ‫حقيقتها‪.‬‬ ‫افة خرجت من املقدس اسمها ْ‬ ‫عر ٌ‬ ‫املطرة‪،‬‬ ‫متوسلني‪ ،‬بينهم امرأة ّ‬ ‫وجاء إليه كثريون ّ‬ ‫مدّ ت إليه ً‬ ‫ملؤها العطف واملحبة‪ ،‬وهي كانت أول من سعى إليه وآمن به‬ ‫نظرة ُ‬ ‫عندما مل يكن له يف مدينتهم ّإال ليلة وضحاها‪ .‬قالت له‪ :‬قبل أن َ‬ ‫تفارقنا‪ُ ،‬‬ ‫نسألك‬

‫‪79‬‬


‫فيلسوف بالغ الحكمة يف‬ ‫قلت إن هذا الرجل ليس حال ًِام ماورائي ًا فحسب‪ ،‬بل‬ ‫ٌ‬ ‫لذا ُ‬ ‫خفي من أرسار الحياة ومكنوناتها‪ .‬ومن تحليل أفكاره وفلسفته‪ّ ،‬يتضح ّأن‬ ‫ِ‬ ‫إيضاح ما َ‬ ‫ت‬ ‫يف كل جزء من أجزائها فلسف ًة ال تنحرص يف الفرد‪ ،‬بل فلسفة اجتامعية إذا َ‬ ‫أدرك ْ‬ ‫وسيلة لسعادتهم وطمأنينتهم‬ ‫خري‬ ‫الجامعات‬ ‫فحواها‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫والشعوب وعمِ لت بها‪ ،‬كانت َ‬ ‫عىل هذه األرض‪.‬‬ ‫مؤلف الكتاب الذي نجتمع اليوم لدرسه وتحليل‬ ‫أقول كثري ًا يف ِّ‬ ‫ال أستطيع أن َ‬ ‫عنه‪ .‬نعرف أن له ُكتب ًا نفيسة يف‬ ‫فلسفته‪ ،‬ألنني مل أستطع أن أجمع معلوما ٍ‬ ‫ت كثري ًة ُ‬ ‫اللغة اإلنكليزية‪ ،‬أهمها ‪‬املجنون‪( ‬صدر سنة ‪ )1918‬و‪‬عرشون رسم ًة‪( ‬صدر سنة‬ ‫فنان وجميع الرسوم يف‬ ‫رسام‬ ‫رمزي ٌ‬ ‫‪ ،)1919‬و‪‬السابق‪( ‬صدر سنة ‪ ،)1920‬وأنه ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫مؤلفاته تربزها ريشته الساحرة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وهو معروف بأنه ‪‬أعظم شعراء الرشق األدنى‪ .‬ويف طليعة َت َف ُّوقه عىل ّكتاب‬ ‫وتأمالتها‬ ‫شديد ُّ‬ ‫وشعراء وفالسفة جاؤوا من الرشق إىل الغرب‪ ،‬أنه ُ‬ ‫التعلق بروح بالدِ ه ُّ‬ ‫الضاجة الصاخبة‬ ‫مدنية العامل الجديد‬ ‫وغري ُم ٍ‬ ‫ّ‬ ‫شيح عن اإلصغاء إىل صوت ّ‬ ‫البعيدة‪ُ ،‬‬ ‫وجميع اخرتاعاتها واستنباطاتها‪.‬‬ ‫تتجلى له هذه الحقيقة‪ .‬ومع‬ ‫روحي وبصري ٍة عقلية‪ّ ،‬‬ ‫ومن يطالع ‪‬النبي‪ِ ‬بفهمٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫طبعه ثالث‬ ‫ّأن ‪‬النبي‪ ‬صدر قبل أقل من خمسة عرش شهر ًا (أيلول ‪ )1923‬أُعيد‬ ‫ُ‬ ‫ثبت إقبال األمريكيني واإلنكليز عىل مطالعته‪،‬‬ ‫مرات يف هذه الفرتة القصرية‪ ،‬ما ُي ُ‬ ‫رغبات ُه‬ ‫وقلام ّيتفق ورغبا ٍ‬ ‫مع أنه للخاصة من األدباء‪ّ ،‬‬ ‫ت سطحي ًة لِجمهو ٍر ال تتعدى ُ‬ ‫يدل‬ ‫قراءة روايا ٍ‬ ‫ومحشو ٍة باألكاذيب‪ ،‬ما ّ‬ ‫ت وقصص غرامية مملوء ٍة باملغامرات َ‬ ‫عىل جامل أسلوب جربان يف تقديم حقائقه الخالدة للناس‪ .‬فليس يف ‪‬النبي‪ ‬من‬ ‫القصة ّإال ظاهرها‪ ،‬ألنه سلسلة نصوص تعالج بحث ًا فلسفي ًا سامي ًا يف الحياة البرشية‬ ‫هام يشغل الناس يف‬ ‫وحاجاتها ورغباتها من املهد إىل اللحد‪ .‬وليس يف الحياة‬ ‫ٌ‬ ‫موضوع ٌّ‬ ‫مسهب ًا‪ ،‬يف هذا الكتاب الصغري‬ ‫دوائرهم العلمية العليا مل‬ ‫يطرقه ّ‬ ‫املؤلف‪ِ ،‬‬ ‫موجز ًا أو ِ‬ ‫ُ‬ ‫بعدد صفحاته‪ ،‬الكبري ببالغ حكمته وخالد آياته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ت ضئيل‪ .‬فهو من‬ ‫وق‬ ‫يف‬ ‫قراءته‬ ‫تجعل‬ ‫الكتاب‬ ‫صفحات‬ ‫ة‬ ‫قل‬ ‫أن‬ ‫أحد‬ ‫ن‬ ‫يظن‬ ‫وال‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َّ َّ ٌ‬ ‫ب فريدة يف العامل (‪‬الكوميديا اإللهية‪ ‬لدان ِته‪ ،‬و‪‬الفردوس الضائع‪ ‬مللتون‪،‬‬ ‫ُك ُت ٍ‬ ‫وكل ساعة‪ ،‬إذا‬ ‫وكل يوم ّ‬ ‫و‪‬سفري أيوب وإشعيا‪ ‬وأكثر فصول التوراة) ُتقر ُأ مرار ًا ّ‬ ‫َ‬ ‫بلوغ جوهرها‪.‬‬ ‫القارئ‬ ‫ة‬ ‫غاي‬ ‫َ‬ ‫كانت ُ‬

‫‪78‬‬


‫غريب‬ ‫عمن يقرتف إ ْثم ًا كأنه ليس منكم‪ ،‬بل‬ ‫ٌ‬ ‫‪‬طاملا َسمع ُتكم تتخاطبون يف ما بينكم ّ‬ ‫ودخيل بينكم‪ .‬لكني أقول لكم‪ :‬كما القديس والبار ال يستطيعان أن يتساميا‬ ‫عنكم‬ ‫ٌ‬ ‫كل منكم‪ ،‬كذلك الرشير والضعيف ال يستطيعان أن‬ ‫فوق الذات الرفيعة التي يف ّ‬ ‫ينحدرا أدنى من الذات الدنيئة التي يف كل واحد منكم‪ .‬وكما ورقة الشجر الصغرية ال‬ ‫تحول لونها من الخرضة إىل الصفرة ّإال بإرادة الشجرة ومعرفتها الصامتة‬ ‫تستطيع أن ّ‬ ‫يء بينكم أن يقرتف إمث ًا بدون إرادتكم الخفية‬ ‫يف أعماقها‪ ،‬هكذا ال يستطيع ْال ُم ِس ُ‬ ‫ومعرفتكم التي يف قلوبكم‪ .‬إنكم تسريون مع ًا يف موكب واحد إىل ذاتكم اإللهية‪ .‬أنتم‬ ‫الطريق وأنتم السائرون‪ .‬إذا تع ّثر أحدٌ منكم تكون عثرته ً‬ ‫عربة ِلمن وراءه كي ينتبهوا‬ ‫اىل الحجر الذي تع ّثر به‪ ،‬وتوبيخ ًا ِلمن أمامه يرسعون ِبخطى ثابتة ومل ينقلوا حجر‬ ‫العثار من طريقه‪ .‬لذا ال تستطيعون ْ‬ ‫وضع َحدٍّ فاصل بني األرشار والصالحني واألبرياء‬ ‫واملذنبني‪ ،‬ألنهم يقفون مع ًا يف وجه الشمس‪ ،‬كما الخيط األبيض والخيط األسود‬ ‫ُ‬ ‫األسود ينظر الحائك إىل القماشة ِّكلها‬ ‫ينسجان مع ًا يف نول واحد‪ ،‬فإذا انقطع الخيط‬ ‫ثم يرجع إىل نوله يفحصه ّ‬ ‫وينظفه‪.‬‬ ‫الرشيرة‬ ‫ويف موضع آخر يقول‪ :‬وإذا رغب أحدُ كم أن يضع الفأس عىل أصل الشجرة ّ‬ ‫لينظر ً‬ ‫جذور الشجرة الرشيرة غري‬ ‫أوال يف أعماق جذورها‪ ،‬فسريى أن‬ ‫َ‬ ‫باسم العدالة‪ْ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مشتبكة مع ًا يف قلب األرض الصامت‪.‬‬ ‫وجذور الصالحة املثمرة‬ ‫املثمرة‬ ‫َ‬ ‫هذه الكلامت الخالدة تنطبق عىل من َيدينون غريهم من الناس‪ ،‬كأنها رسول الرحمة‬ ‫ب‬ ‫موقعهم‬ ‫واملحبة ِّ‬ ‫وموقع قري ٍ‬ ‫يتصوروا َ‬ ‫َ‬ ‫يذكرهم فيها جربان ْأن ليس بالعسري عليهم أن َّ‬ ‫يريدون أن يحكموا عليه‪ ،‬ويضعوا ذواتهم يف موضعه فيقلعوا عن دينونته‪.‬‬ ‫كل إنسان إىل‬ ‫نبي محبة وسالم‪ .‬يدعو ّ‬ ‫ٌ‬ ‫واضح أن جربان‪ ،‬من أول الكتاب إىل نهايته‪ُّ ،‬‬ ‫ْإنجاز عمله يف روح املحبة‪ .‬لذا يرى أن العمل ‪‬هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة‪.‬‬ ‫مشقتكم ّ‬ ‫ويقول‪ :‬ورثتم عن جدودكم أنّ الحياة ظلمة‪َ ،‬ف ُرحتم يف ّ‬ ‫ترددون ما قاله‬ ‫ٌ‬ ‫الحياة ٌ‬ ‫حقيقية إذا مل ْ‬ ‫َ‬ ‫ترافقها الحركة‪،‬‬ ‫ظلمة‬ ‫قبلكم جدودكم‪ .‬لكني أقول لكم إن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قارصة إن مل ْ‬ ‫ٌ‬ ‫عمياء ال َب َركة فيها إن مل ْ‬ ‫يرافقها‬ ‫واملعرفة‬ ‫ترافقها املعرفة‪،‬‬ ‫والحركة‬ ‫ُ‬ ‫والعمل ٌ‬ ‫عقيم إن مل يقرتن باملحبة‪ .‬وإذا اشتغلتم مبحبة‪ ،‬تربطون ذوا ِتكم‬ ‫العمل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فارغ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫بربه‪ .‬وما العمل املقرون باملحبة؟ هو أن‬ ‫بعضها ببعض‪،‬‬ ‫ويرتبط ُّ‬ ‫كل واحد منكم ّ‬ ‫تحوك الرداء بخيوط تسحبها من نسيج قلبك‪ ،‬كأنّ حبيبك سريتديه‪ .‬هو أن تبني‬ ‫تقصبها من مقلع حنانك وإخالصك شاعر ًا أنّ حبيبك سيسكنه‪ .‬هو أن‬ ‫البيت بحجارة ّ‬

‫‪81‬‬


‫وأوالدنا َ‬ ‫ُ‬ ‫أن تخطب فينا وتعطينا من الحق الذي عندك فنعطيه نحن َ‬ ‫أوالدهم‬ ‫أوالدنا‬ ‫وأحفادهم‪َ ،‬ف َي ْث ُبت كالمك فينا عىل ّمر العصور‪ .‬كنتَ يف وحدتك ترقب أيامنا‪ ،‬ويف‬ ‫يقظتك تصغي إىل بكائنا وضحكنا عن ٍ‬ ‫غفلة منا‪ .‬نرضع إليك أن تكشف مكنوناتنا لنا‪،‬‬ ‫وتُخربنا بكل ما ظهر لك من أرسار الحياة‪ ،‬من املهد إىل اللحد‪.‬‬ ‫طلبتها‪ .‬رشع يجيب ًّكال يف دوره وفق السؤال الذي طرحه‪،‬‬ ‫يخيب ْ‬ ‫أجاب سؤالها ومل ّ‬ ‫تسأله عن األوالد‪ ،‬الغني يسأله عن العطاء‪،‬‬ ‫وما كان يف حاجة اىل أن يعرفه‪ .‬املرأة‬ ‫ُ‬ ‫الشاب عن الصداقة‪ ،‬الشاعر عن الجامل‪ ،‬الكاهن عن الدين‪،‬‬ ‫الفالح عن العمل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫العرافة عن الحب والزواج‪ ،‬وأخري ًا عن املوت واألبدية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫املؤلف يف جميع مواضيع كتابه‪.‬‬ ‫آراء‬ ‫لكم‬ ‫َرسد‬ ‫أ‬ ‫أن‬ ‫الخطبة‬ ‫هذه‬ ‫يف‬ ‫اآلن‬ ‫مكنني‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ألية من العظات الكربى‪.‬‬ ‫إن‬ ‫قلت‬ ‫إذا‬ ‫أبالغ‬ ‫وال‬ ‫خطبه كافي ٌة أساس ًا متين ًا ٍ‬ ‫كل خطبة من َ‬ ‫ّ‬ ‫وسمو حكمته‪ ،‬فأرشدكم‬ ‫املؤلف‬ ‫ساع فكر ّ‬ ‫ما ّ‬ ‫أود إيصاله إليكم يف خطايب اليوم‪ّ :‬ات ُ‬ ‫ّ‬ ‫تؤدي إىل‬ ‫كيف‬ ‫الضيقة (وما أصعب الطريق التي ّ‬ ‫ُ‬ ‫تتبعونه يف طرقه ومسالكه الصعبة ّ‬ ‫الحياة) بسهولة قد ال تكون لكم بغري هذه الواسطة‪.‬‬ ‫الفرد يف جسم‬ ‫أوضحت لكم قبل ٍ‬ ‫قليل أن لجربان فلسف ًة اجتامعية ال يضيع معها ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل‬ ‫الجامعة‪ ،‬وال يدرك يف كامل وحدته معنى الحياة الكامل ويبلغ ّ‬ ‫عزة اقتدارها‪ .‬عىل ّ‬ ‫بحل مشاكله‬ ‫إنسان أن يقف‬ ‫وحده يف الحياة‪ّ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫فيفكر مبقياس فك ِره الخاص‪ُ ،‬ويعنى ّ‬ ‫ُ‬ ‫املؤلف‪:‬‬ ‫الخاصة‪ ،‬ويحيا حياته وفق رغبات قلبه‪ .‬ويف ذلك يقول ّ‬ ‫ٌ‬ ‫منفرد يف‬ ‫مقام‬ ‫‪‬الوحي الذي يهبط عىل رجلٍ ‪ ،‬ال يعري جناحيه لغريه‪ .‬وكما لكلٍ منكم ٌ‬ ‫أرسار األرض‪.‬‬ ‫معرفة اهلل إياهُ ‪ ،‬عليه أن يكون منفرد ًا يف معرف ِته اهلل وإدرا ِكه َ‬ ‫روابط تربطه بإخو ٍة له يف‬ ‫مقيد ًا يف هذا العامل مبئات‬ ‫َ‬ ‫وعىل اإلنسان أن يعي َ‬ ‫كونه َّ‬ ‫تتكيف‬ ‫اإلنسانية‪ ،‬لوال تأثريهم عليه ال ميكنه أن يبلغ ما هو عليه يف حياته‪ ،‬وكذلك ّ‬ ‫وتتطور بتأثري حياته فيهم‪ ،‬وإن كان غالب ًا يغفل عن هذا التأثري‪ .‬لذا قالت القدماء‪:‬‬ ‫حياتهم‬ ‫ّ‬ ‫‪‬ال أحد يعيش وحده يف العامل أو يحيا لذاته من دون سواه‪ .‬فالفرد يشارك الجميع يف‬ ‫قسمتهم‪ ،‬والجميع يشاركون الفرد يف قسمته‪.‬‬ ‫أوال أخالق الناس‬ ‫هذه الفكرة‬ ‫ضمنها ً‬ ‫أوضحها لنا جربان بقطعة جميلة من كِتابه َّ‬ ‫َ‬ ‫وطبائعهم‪ ،‬ثم الشفقة عىل من ُي َخ َّيل إلينا أنهم سقطوا دون درجة الرجل العادي من‬ ‫الناس‪ .‬ثم يضيف توبيخ ًا لطيف ًا مؤثّ ر ًا للرجل الذي ينتفخ بروح الكربياء عىل رفاقه ألنه‬ ‫الرقي واآلداب مل ْيقدروا هم أن يبلغوها‪ .‬ويف ذلك كتب‪:‬‬ ‫استطاع بلوغ درجة من ّ‬

‫‪80‬‬


‫أهال ُليعطي املحتاجني ما ُهم يف حاجة إليه من عطايا نالها‪ .‬من‬ ‫جعله ً‬ ‫ويشكر اهلل الذي َ‬ ‫ٌ‬ ‫نافذة يفتحها ثم يغلقها‪ ،‬مل يبلغ بعدُ‬ ‫‪‬كل من يعتقد أن العبادة‬ ‫هنا قول جربان‪ُّ :‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫نوافذه من الفجر إىل الفجر‪ .‬حياتكم اليومية هي ُ‬ ‫هيكلكم‬ ‫نفسه املفتوحة‬ ‫هيكل‬ ‫َ‬ ‫السكة ُ‬ ‫كل ما لكم عندما تدخلون هيكلها‪ّ :‬‬ ‫والكور‬ ‫وهي ديان ُتكم‪ ،‬فاحملوا معكم ّ‬ ‫ت صنعتموها ً‬ ‫وكل ما لديكم من آال ٍ‬ ‫رغبة يف قضاء حاجاتكم‪،‬‬ ‫واملطرقة والطنبور‪ّ ،‬‬ ‫مرساتكم ّ‬ ‫بتأمالتكم فوق‬ ‫وملذاتكم‪ .‬ألنكم ال تستطيعون أن ترتفعوا ُّ‬ ‫أو سعي ًا وراء ّ‬ ‫أعمالكم‪ ،‬وال ْتقدرون أن تنحدروا بترصفاتكم أدنى من خيباتكم‪ .‬ول ُت ْ‬ ‫رافق ُكم جميع‬ ‫معارفكم من أبناء اإلنسان‪ ،‬ألنكم ال تستطيعون يف عبادتكم أن ت َُح ِّلقوا فوق آمالكم‪،‬‬ ‫بحل‬ ‫وال أن ت ُْن ِزلوا ذواتكم أدنى من يأسكم‪ .‬وإن شئتم أن تعرفوا ّربكم فال تُعنوا ّ‬ ‫تأملوا حولكم تجدوه العب ًا مع أوالدكم‪ ،‬وارفعوا أنظاركم إىل‬ ‫األحاجي واأللغاز‪ ،‬بل ّ‬ ‫الفضاء الوسيع تبرصوه مييش يف السحاب ويبسط ذراعيه يف الربق وينزل إىل األرض‬ ‫ويحرك‬ ‫تأملوا جيد ًا ت َ​َروا ّربكم يبتسم يف ثغور األزهار‪ ،‬ثم ينهض ّ‬ ‫مع قطرات املطر‪ّ .‬‬ ‫يديه باألشجار‪.‬‬ ‫إميانه ُوتنزل عليه الوحي‬ ‫قوي َ‬ ‫َوم ْن يسعد مبثل هذه العقيدة الصحيحة يف الدين‪ُ ،‬ت ّ‬ ‫خوف وال َو َجل‪ .‬فاملوت‪ ،‬كام‬ ‫الساموي‪ ،‬ويستقبل الحياة بحزم وثبات‪ ،‬ويقتبل املوت بال ٍ‬ ‫يقول جربان‪ ،‬ال نقدر أن نجده ّإال يف قلب الحياة ‪‬ألن الحياة واملوت واحدٌ ‪ ،‬كما النهر‬ ‫والبحر واحد‪.‬‬ ‫العبقري الحكيم َيبعث من أعامق قلبه أصدق اآلمال بالخلود واألبدية‪،‬‬ ‫هكذا نرى هذا‬ ‫ّ‬ ‫وهو ثابت اإلميان بصالح اهلل ورحمته وعدالته‪ .‬وما أجمل قوله يف املوت‪:‬‬ ‫أكثر من ِ‬ ‫وقوفه عاري ًا يف الريح‪ ،‬وذوبا ِنه يف حرارة الشمس؟ ال‬ ‫‪‬هل موتُ اإلنسان ُ‬ ‫تستطيعون أن ترتنّ موا باألناشيد حتى ترشبوا من نهر الصمت‪ ،‬وال أن تبارشوا الصعود‬ ‫إىل الجبال حتى تبلغوا قننها‪َ ،‬ولن تقدروا أن ترقصوا ح ّتى تسلبكم األرض جميع‬ ‫أعضائكم‪.‬‬ ‫قرأت هذا‬ ‫تتحرك نفيس من أعامقها مثلام حني‬ ‫ُ‬ ‫أيها األحبة‪ :‬أصارحكم ْأن مل ّ‬ ‫كل هذا التأثري البالغ؟ وهل يكون له التأثري‬ ‫الكتاب مر ًة بعد مرة‪ .‬ملاذا أثّ ر يف حيايت ّ‬ ‫َحد َثه هذا‬ ‫ُ‬ ‫ُجيب عن غريي لكنني أعرف ّأن ما أ َ‬ ‫ذاته يف حياة غريي؟ ال أستطيع أن أ َ‬ ‫َوضح ما بدا يل فلسف ًة‬ ‫ناجم عن كونه‪ ،‬بكامل ّ‬ ‫الدقة والفن والجامل‪ ،‬أ َ‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب يف حيايت ٌ‬ ‫املرنمني‬ ‫ترانيم‬ ‫ة‬ ‫ثاني‬ ‫فيه‬ ‫أسمع‬ ‫ألنني‬ ‫ا‬ ‫جديد‬ ‫ليس‬ ‫أنه‬ ‫وأعرف‬ ‫الحياة‪.‬‬ ‫يف‬ ‫جديدة‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ّ‬

‫‪83‬‬


‫تبذر البذور ّ‬ ‫بدقة وعناية وتجمع الحصاد بفرح ولذة كأنك تجمعه اىل مائدة حبيبك‪.‬‬ ‫العمل هو الصورة الظاهرة للمحبة الكاملة‪.‬‬ ‫الزمه الربكة‪،‬‬ ‫ويوضح جربان أن عمل اليدين‪ ،‬مع قداسته‪ ،‬ليس‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫العمل الوحيد الذي ُت ُ‬ ‫بل مثة عمل آخر ال تقوم به اليدان‪:‬‬ ‫فاشرتوا من عطاياهم وال ترفضوهم‪ ،‬ألنهم‬ ‫جاءكم ّ‬ ‫مغنون وراقصون وعازفون ُ‬ ‫‪‬وإذا َ‬ ‫مثلكم يجمعون الثمار والعطور‪ ،‬ومع أنّ ما يقدمونه لكم مصنوع من مادة األحالم‬ ‫وأفضل ٍ‬ ‫أجمل ٍ‬ ‫غذاء لنفوسكم‪.‬‬ ‫كساء ألجسادكم‬ ‫فهو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هكذا‪ ،‬أيها اإلخوة‪ ،‬إذا قرأْنا هذا الكتاب من صفحته األوىل إىل األخرية‪ ،‬نرى يف‬ ‫غنية بعطايا‬ ‫يتدفق من ْنفس‬ ‫عظيمة ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كل سط ٍر فيض ًا روحي ًا خالد ًا ّ‬ ‫كل صفحة بل يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫الحكمة واملعرفة‪ .‬وحتى حني يكتب عن أمور نسميها ‪‬مادية‪ ‬كالبيع والرشاء‪،‬‬ ‫فننكب عليها‬ ‫شداننا‬ ‫واألكل والرشب‪ ،‬نرى يف كلامته عاطف ًة روحي ًة وقو ًة أدبي ًة َت ّ‬ ‫ُّ‬ ‫نستغرب أن تكون له‬ ‫املفكرين‪ .‬لذا ال‬ ‫يندر أن نجد لدى نوابغ ّ‬ ‫ّ‬ ‫بكل ذهننا‪ ،‬كام ُ‬ ‫ُ‬ ‫مواضيع روحي ًة ال أثر للامدة فيها‪ .‬ويشعر الواحد‬ ‫يعالج‬ ‫هذه الجاذبي ُة للقلوب وهو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫املتمرغني يف املادة‪،‬‬ ‫قومه‬ ‫واعظ‬ ‫منا‪ ،‬نحن األمريكيني‪ ،‬كأنه أمام‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫استثنائي ينادي َ‬ ‫ٍّ‬ ‫ويحثهم عىل التحرر منها وااللتجاء إىل مملكة الروح الخالدة‪،‬‬ ‫املستسلمني لسلطانها‪ّ ،‬‬ ‫عندما يسمع جربان يخاطب العرافة املطرة‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حبذا لو ّ‬ ‫‪‬إنك ت َُص ّلني يف ِ‬ ‫خرياتك‪ .‬ال‬ ‫فرحك ووفرة‬ ‫تصلني يف كمال‬ ‫ضيق ِك ويف‬ ‫حاجتك‪ّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫أستطيع أن ُأ ّعل ِ‬ ‫كلماتك ما مل َيض ْعها عىل‬ ‫مك الصالة باأللفاظ‪ ،‬ألن اهلل ال ُيصغي إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لسانك‪.‬‬ ‫وينطق بها يف‬ ‫شفتيك‬ ‫ْ‬ ‫ولجربان نظر ٌة حكيم ٌة وعقيد ٌة راسخ ٌة يف الدين‪ :‬يراه ال ينحرص يف زمان ومكان‪.‬‬ ‫الدين حيا َة اإلنسان‬ ‫الديني‬ ‫جيد ًا بني‬ ‫والدنيوي‪ ،‬يالزم ُ‬ ‫ّ‬ ‫وألن اإلنسان ال يستطيع التمييز ّ‬ ‫ّ‬ ‫الربهان عىل الدين‬ ‫كل مظاهر فكره وحياته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مثاره يف ّ‬ ‫يف جميع طرقه ومسالكه َفتظهر ُ‬ ‫خارجها‪ .‬لذا يقول جربان يف كتابه إن الدين‬ ‫وعملِه يف الوجود‪ ،‬هو يف حياة اإلنسان ال َ‬ ‫تقدمه له الحياة‪ ،‬شاكر ًا‬ ‫حقيق ٌة يف حياة اإلنسان إذا كان هذا يستقبل الصالح النافع الذي ّ‬ ‫الضار املحزن ثابت العزم شجاع ًا صبور ًا ألنه يعرف‬ ‫عطية اهلل‪ ،‬ويستقبل ّ‬ ‫ف ِرح ًا واثق ًا بأنه ّ‬ ‫مبا يف قلبه من عاطفة الدين ّأن هذا أيض ًا هو من اهلل‪.‬‬ ‫تخمر‬ ‫التقي‬ ‫َ‬ ‫الحامل يف قلبه خمري َة الدين والفضيلة التي ّ‬ ‫َ‬ ‫وأوضح جربان ّأن اإلنسان ّ‬ ‫تقدمه له الحياة من عطايا ربانية بل يفرح بعطايا الحياة‬ ‫ما‬ ‫بقبول‬ ‫يكتفي‬ ‫الحياة‪ ،‬ال‬ ‫ّ‬

‫‪82‬‬


‫واألرجح‬ ‫إنهام (الدفاع والدعم)‪ ،‬عىل األرجح‪ ،‬أقوى ما عرفه جربان يف حياته‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫عرفه‪ ،‬بفضل ذاك الصديق األرشمندريت (الحق ًا مطران نيوجرزي‬ ‫أول ما َ‬ ‫أيض ًا أنه ُ‬ ‫للطائفة األرثوذكسية حتى وفاته سنة ‪ ،)1966‬فكانت تلك البادرة لدى قراء العربية‬ ‫جسر بني الكتاب وبني الخلود الذي يرتع فيه اليوم‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أول ْ‬ ‫أوفرها‬ ‫ومهام يكن من أمر ترجامت‬ ‫‪‬النبي‪ ‬الحق ًا‪ ،‬قد تكون ترجمة نعيمه َ‬ ‫ّ‬ ‫أوفرها اقرتاب ًا ُلغوي ًا من إنكليزية جربان‪،‬‬ ‫مضمون ًا (ال ً‬ ‫شكال) وترجم ُة يوسف الخال َ‬ ‫وهن ما‬ ‫لكن ترجمة األرشمندريت بشري (عىل ْ‬ ‫وترجمة ثروت عكاشه أكثرها أكادميية‪ّ ،‬‬ ‫أقربها‬ ‫سكبه جربان يف‬ ‫تعث ٍر يف تعب ٍري‬ ‫ٍ‬ ‫يتخللها أحيان ًا من ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬ ‫إنكليزية شاعرية) تبقى َ‬ ‫جميل َ‬ ‫إىل قلب جربان وروحه وأفكاره‪.‬‬ ‫رجل مل يعرف‬ ‫أما ُمحارضة فرنكل‪ ،‬فحسبنا من كالمه التحلييل الرصني فيها أنه ٌ‬ ‫جربان شخصي ًا‪ ،‬وال كان مضطر ًا أن يقول فيه ما قال (وهو أستاذ الفلسفة ويعرف‬ ‫كبارها) لو مل يجد ّأن كتاب ‪‬هذا الرجل الرشقي‪ ‬هو حق ًا يف مستوى ‪‬كوميديا دانته‬ ‫َ‬ ‫‪‬معلم جديد يف هذا القرن‬ ‫اإللهية‪ ‬و‪‬فردوس ملتون املفقود‪ ،‬وأن‬ ‫صاحبه هو ّ‬ ‫َ‬ ‫العرشين‪ ،‬يف أقواله نسمع ‪‬ترانيم املرمنني القدماء وتعاليم الحكامء واألنبياء‪.‬‬ ‫مكان بل يف‬ ‫املبكر‪ :‬فها‬ ‫وكان معه حق يف حدسه ِّ‬ ‫متد ًا ال يف ٍ‬ ‫صوت جربان ما زال ُم ّ‬ ‫ُ‬ ‫الناس واألمكنة رشق ًا وغرب ًا‪ ،‬وال يف الزمان بل عىل ّمر السنوات واألجيال‪.‬‬

‫ ‬

‫نيويورك‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/7/15 -‬‬

‫‪85‬‬


‫ونفس جربان التي َو َج َد ْت سبيلها إىل االتحاد‬ ‫القدماء‬ ‫وتعاليم األنبياء والحكامء‪ْ .‬‬ ‫َ‬ ‫أجد فيها االفتتان بالروح اإللهية‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫بنفس الوجود العظمى‪ُ ،‬‬ ‫املعلم الجديد جربان‪ ،‬أسمع يف هذا القرن العرشين بشار َة النور واملحبة‪:‬‬ ‫من َفمِ هذا ّ‬ ‫أب لجميع الناس‬ ‫بشار َة اإلنسانية املقدسة‪ ،‬وهي ِّ‬ ‫تعلم ّأن اإلنسان أخو اإلنسان‪ّ ،‬‬ ‫وأن اهلل ٌ‬ ‫عىل السواء‪.‬‬ ‫ودليال جديد ًا‬ ‫لذا‬ ‫آماال ّنير ًة لقلبي‪ً ،‬‬ ‫أستمد من هذا الكتاب‪ ،‬ال وحي ًا لفكري وحسب‪ ،‬بل ً‬ ‫ّ‬ ‫املفكرين يف جميع العصور‬ ‫كبار ّ‬ ‫عىل ّأن الرسالة الروحية العظمى رسال ٌة ساموي ٌة ُي ِّ‬ ‫سلم بها ُ‬ ‫الرجاء العظيم‪.‬‬ ‫تنقل للناس‬ ‫واألمصار‪ ،‬وأن ألسنة األنبياء الفضية يف العامل الجديد ُ‬ ‫َ‬ ‫جيمس فرنكل‬ ‫ديرتويت ِ‬ ‫(متشغَ ن)‬ ‫‪1924/12/28‬‬

‫تعليق‬

‫هذه شهاد ٌة ثانية عالية التقدير لجربان عىل حياة جربان‪.‬‬ ‫ت هذه‬ ‫كان ً‬ ‫نبيال من األرشمندريت أنطونيوس بشري‪ ،‬صديق جربان‪ ،‬أن ُي ْث ِب َ‬ ‫املحارضة يف آخر ترجمته ‪‬النبي‪ ،‬وأن َيحرص عىل تنبيه القارئ إىل معرفة الغوص‬ ‫عىل عامل جربان‪ .‬وهو أثبت مقطع ًا من رسالة جربان إليه ُلي ْبرز مدى اهتامم الناس‬ ‫ص‪ّ ،‬مرتني يف تلك الحاشية القصرية‪ ،‬عىل ْنعت جربان بـ‪‬الصديق‬ ‫بـ‪‬النبي‪َ ،‬‬ ‫وح ِر َ‬ ‫قراء العامل‬ ‫يتلقى قراء العربية كتابه ‪‬النبي‪‬‬ ‫ْ‬ ‫بـ‪‬مثل ما ّ‬ ‫متمني ًا أن ّ‬ ‫جربان‪ّ ،‬‬ ‫تلقاه ُ‬ ‫فقدم للمحارضة ناعت ًا جربان بـ‪‬نابغة الوطن املحبوب يف‬ ‫من إجالل وإكبار‪ ،‬وعاد َّ‬ ‫ومركز ًا‪ ،‬بعد ُعزوفه عن وضع املحارضة يف أول الكتاب‪ ،‬عىل كون القارئ‪،‬‬ ‫املهجر‪ِّ ،‬‬ ‫بعد الفراغ من قراءة نص ‪‬النبي‪ ‬ومحارضة فرنكل‪ ،‬سيعود ‪‬إىل قراءة الكتاب‬ ‫‪‬الد َرر‬ ‫وسمى الكتاب‬ ‫ْ‬ ‫وس ّمى ما فيه ُّ‬ ‫مثنى وثالث ًا ورباع ًا‪ّ ،‬‬ ‫‪‬السفر النفيس‪َ ،‬‬ ‫الفريدة‪.‬‬ ‫فأي دفا ٍع هو هذا من صديق عن صديقه؟‬ ‫ُّ‬ ‫رجال الدين؟‬ ‫عليه‬ ‫ثار‬ ‫ب‬ ‫أدي‬ ‫إىل‬ ‫دين‬ ‫رجل‬ ‫من‬ ‫هذا‬ ‫هو‬ ‫دعم‬ ‫وأي‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬

‫‪84‬‬


‫كنت‬ ‫أحدها‪ :‬الطبع ُة األوىل لـ‪‬ديوان إيليا أبو مايض‪ ‬مع ّ‬ ‫مقدمة من جربان‪ ،‬وما ُ‬ ‫َل َف َتني ُ‬ ‫أعرف الكتاب وال ّأن جربان ّقدم لصديقه الشاعر‪.‬‬ ‫أزرق‬ ‫مجل ٌد بالكرتون السميك‪،‬‬ ‫الكتاب من القطْ ع الكبري (‪ 24×17‬سنتم)‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اليدوي األسود السميك‪ :‬ديوان إيليا أبو‬ ‫بالخط‬ ‫غالفه‬ ‫عىل‬ ‫التجليد‪،‬‬ ‫د‬ ‫جي‬ ‫القامش‪ُ ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫نقاط عىل‬ ‫مايض‪ -‬الجزء الثاين‪،‬‬ ‫والحظت ّأن ياء ‪‬مايض‪ ‬وياء ‪‬الثاين‪ ‬مكتوبتان بال ٍ‬ ‫ُ‬ ‫الطريقة املرصية يف كتابة الياء من دون نقاط‪ ،‬ما يدل عىل أن الخطّ اط كان مرصي ًا أو‬ ‫أن تلك الكتابة كانت شائع ًة يف تلك الحقبة‪.‬‬ ‫عيل معرف ُة سنة الصدور‪،‬‬ ‫مزقة ومنزوعة‪ّ .‬‬ ‫الصفحة األوىل من الديوان ُم ّ‬ ‫تعذ َر ْت ّ‬ ‫وهي ترجيح ًا بني ‪ 1919‬و‪.1920‬‬ ‫كئ‬ ‫بعدها‪ ،‬عىل صفحة كاملة‪ ،‬وضمن إطار مزركش طباعي ًا‪ ،‬صور ُة ٍ‬ ‫رجل ستيني ّمت ٍ‬ ‫وستي) خوات ُِمه وسلسال‬ ‫جدي ّ‬ ‫الص َور أيام ّ‬ ‫منصة‪ ،‬بانت منه (عىل عادة ْأخذ ُّ‬ ‫عىل ّ‬ ‫بقي دقائق أمام املرآة يهندس شاربيه‪ ،‬ثم أرسل عينيه يف‬ ‫ساعته الذهبية‪ْ ،‬‬ ‫وحت ًام َ‬ ‫املصور‪ .‬وتحت الصورة عبارة‪:‬‬ ‫غائبة قبل أن يلمع ‪‬فالش‪‬‬ ‫غائمة‬ ‫تعابري بعيد ٍة‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫‪‬الوجيه الفاضل نعمه تادرس صاحب األيادي البيضاء عىل املشاريع الوطنية واألدبية‬ ‫والخريية‪ .‬وعلينا أن نفهم من هذه ‪‬الديباجة التبجيلية‪ ‬أن الخواجه نعمه تادرس‬ ‫هو الذي دفع تكاليف طبع الديوان‪.‬‬ ‫مقدمة جربان‪.‬‬ ‫التادرس ‪‬صاحب األيادي البيضاء‪ ،‬تأيت يف الصفحة الثالثة ّ‬ ‫بعد صورة ُ‬ ‫نفسه‬ ‫كلمة ‪‬مقدمة‪ ‬ضمن إطار مزركش طباعي ًا‪َ ،‬ون ُّصها ( ِب َح ٍ‬ ‫رف ُم َش َّكل قد يكون جربان ُ‬ ‫َفر َض ُه لحرصه الشديد عىل إخراج كتبه) استغرق الصفحات ‪ 3‬و ‪ 4‬ونصف الصفحة ‪.5‬‬ ‫ت إىل النص‪.‬‬ ‫فلنأ ِ‬ ‫مقدمة جبران‬

‫ٌ‬ ‫فتجعله قريب ًا معروف ًا‪ .‬وهو ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فكرة‬ ‫القيص غ ِري املعروف‬ ‫تتشوق إىل‬ ‫‪‬الشعر‬ ‫ُ‬ ‫عاطفة ّ‬ ‫ِّ‬ ‫املدرك ف ُت َح ِّوله إىل ٍ‬ ‫يشء ظاهر مفهوم‪.‬‬ ‫تُناجي‬ ‫غري َ‬ ‫الخفي َ‬ ‫َّ‬ ‫غريب ذو َع ٍني ٍ‬ ‫ثالثة معنوية‪ ،‬ترى يف الطبيعة ما ال تراه‬ ‫أما الشاعر فهو مخلوقٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫باطنية تسمع من همس األيام والليايل ما ال تعيه اآلذان‪.‬‬ ‫العيون‪ ،‬و ُأ ْذنٍ‬ ‫مأساة الدهور‪ ،‬ويشاهدُ ً‬ ‫َ‬ ‫ينظر الشاعر إىل ورد ٍة ٍ‬ ‫طفال راكض ًا وراء‬ ‫ذابلة فريى فيها‬ ‫فيسمع أغاين البالبل والشحارير‬ ‫ويسري يف الحقل‬ ‫أرسار الكون‪،‬‬ ‫الفراشة فريى فيه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪87‬‬


‫‪11‬‬ ‫مقدماً لديوان إيليا أبو ماضي‪:‬‬ ‫جبران ِّ‬ ‫أين الديوان؟ وأين أبو ماضي؟‬

‫إيل‬ ‫السيدة التي أمامي ُتصغي ّ‬ ‫ّ‬ ‫ليست عىل‬ ‫ولو‬ ‫للشعر‬ ‫وتأنس‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كثري استيعاب (لكونها مولودة يف‬ ‫نيويورك وال تتقن اللبنانية املحكية‬ ‫وال العربية املكتوبة)‪ ،‬مل أكن أعرف‬ ‫أنها ابنة الشاعر إيليا أبو مايض‪،‬‬ ‫لبنانية إىل‬ ‫صديقة لها‬ ‫جاءت مع‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫أمسية شعرية يل يف بروكلن كي‬ ‫ٍ‬ ‫تتعرف (كام قالت يل يف ما بعد) إىل‬ ‫ّ‬ ‫‪‬شاعر جاء من وطن أبيها‪.‬‬ ‫صديقتها يف آخر‬ ‫إيل‬ ‫ُ‬ ‫َّقد َم ْتها ّ‬ ‫فواعد ُتها عىل لقاء لديها‬ ‫األمسية‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫نحكي عن والدها وننبش بعض ًا من‬ ‫أوراقه‪.‬‬ ‫غالف ديوان إيليا أبو مايض الذي كتب جربان مقدمته‬ ‫زاوية من‬ ‫كنت يف‬ ‫ٍ‬ ‫بعد يومني ُ‬ ‫مؤلفات‪.‬‬ ‫وأقلب ّ‬ ‫صالونها أفتح أوراق ًا ّ‬ ‫واملؤلفات أعرفها إمنا‬ ‫ترتيب وتنسيق‪.‬‬ ‫مهم َلة يلزمها‬ ‫ُ‬ ‫األوراق كثري ٌة ومبعثرة ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وشبه َ‬

‫‪86‬‬


‫وإيليا أبو مايض شاعر‪ .‬ويف ديوانه هذا‪َّ ،‬‬ ‫وحبال تربط‬ ‫سل ٌم بني املنظور وغري املنظور‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫وكؤوس َم ٌ‬ ‫تظل‬ ‫ملوءة بتلك الخمرة التي إنْ مل‬ ‫مظاهر الحياة بخفاياها‪،‬‬ ‫ترتشفها ّ‬ ‫ٌ‬ ‫فتغمرهم ً‬ ‫َمل ُ‬ ‫ثانية بالطوفان‪.‬‬ ‫البرش‬ ‫ظمآنَ حتى ت ّ‬ ‫َ‬ ‫اآللهة َ‬ ‫جربان خليل جربان (مع توقيعه)‬ ‫تعليق‬

‫ما الذي ميكن قوله من هذه‬ ‫املقدمة؟‬ ‫إنها من القليل النادر الذي‬ ‫كتبه جربان يف حياته خارج‬ ‫َ‬ ‫جمعتها دفتان أو‬ ‫كتاباته التي‬ ‫ْ‬ ‫أصدرها يف كتاب‪.‬‬ ‫التي َ‬ ‫هذا يعني أن عالقة جربان‬ ‫بأيب مايض‪ ،‬فرت َة صدور‬ ‫املقطع األخري من مقدمة جربان مع توقيعه‬ ‫جيدة‪.‬‬ ‫الديوان‪ ،‬كانت ال تزال ّ‬ ‫وإن هي كانت عىل مشارف‬ ‫مشارف قياد ِة جربان‬ ‫إطاللة جربان العاملية (قبيل ظهور ‪‬النبي‪ ‬سنة ‪ ،)1923‬وعىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫حرك ًة أدبية ّولدتها ‪‬الرابطة القلمية‪ ‬يف أول العرشينات‪.‬‬ ‫حرير ‪‬مرآة الغرب‪ ‬ل َِحميه (والد زوجته)‬ ‫والذين عرفوا أبا مايض منذ ّ‬ ‫توليه َت َ‬ ‫نجيب دياب‪ ،‬حتى انفصالِه عن حميه وإنشا ِئه ‪‬السمري‪ ‬وعملِه فيها وحده تنضيد ًا‬ ‫ناقام‪ ،‬بعيد ًا‬ ‫وتحرير ًا ورئاسة تحرير وطباعة وحتى بعض توزيع‪ ،‬عرفوه ‪‬ميزانرتوپِّي ًا‪ً ‬‬ ‫تتعثر مرار ًا فتنتقل من‬ ‫واملقربني‪ ،‬ما جعل ‪‬السمري‪َ ‬‬ ‫عن عرشة الناس‪ ،‬قليل األصدقاء ّ‬ ‫جريدة إىل مجلة فإىل جريدة‪ ،‬لكثرة الخصومات التي كانت محيقة بصاحبها‪.‬‬ ‫مقدمة جربان جاءت خالل اشتغال أيب مايض يف ‪‬مرآة الغرب‪ ،‬وقبل إنشاء‬ ‫ّ‬ ‫‪‬الرابطة القلمية‪( ‬كان أبو مايض عضو ًا فيها ثم انسحب لِخالفه مع جربان عىل‬ ‫تكوكبت يف ‪‬الرابطة‪ ‬وكانت من‬ ‫الشلة األدبية التي‬ ‫الصدارة)‪ ،‬أي قبل خصوماته مع ّ‬ ‫َ‬ ‫رواد ‪‬صومعة‪ ‬جربان‪ .‬ومل يكن أبو مايض من رواد مكاتب ‪‬فنون‪ ‬نسيب عريضة‬ ‫‪‬الشلة‪.‬‬ ‫التي كانت ملتقى ّ‬

‫‪89‬‬


‫ٍ‬ ‫هوجاء بني‬ ‫معركة‬ ‫وليس هناك شحارير وبالبل‪ ،‬ومييش يف العاصفة فيخوض غمار‬ ‫َ‬ ‫جيوش األرض وفيالق السماء‪.‬‬ ‫يقف الشاعر أمام َشالل‪ ،‬فيقول‪:‬‬ ‫ف��ي��ه م��ن ال��س��ي��ف الصقيل ب��ري ُ��ق��هُ‬ ‫ص���خ���وره ب��دم��وع��ه‬ ‫ي����رش‬ ‫أب�����د ًا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫ول����ه ض��ج��ي��جُ ال��ج��ح��ف��ل ال���ج���را ِر‬ ‫أت�����راه ي��غ��س��ل��ه��ا م���ن األوزار؟‬

‫أب���ك���ي وت���ص���غ���ي إىل ب��ك��ائ��ي‬

‫ال��ن��ج��وم؟‬ ‫ت��ع��ش��ق‬ ‫رب‪ ،‬ه��ل‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي��ا ّ‬

‫َ‬ ‫ِ‬ ‫اإلف����اض����ة ق��ب��ل ال��ل��ق��اء‬ ‫وددتُ‬ ‫وب�����ـِ�����تُّ وإي�����ـ�����اك يف م��ع��زل‬

‫���م���ا ل���ق���ي��� ُت ِ‬ ‫َ‬ ‫أن���ب���س‬ ‫���ك‪ ،‬مل‬ ‫ِ‬ ‫ف���ل ّ‬ ‫م���ج���ل���س‬ ‫ك�������أين وإي����������اك يف‬ ‫ِ‬

‫ويرفع عينيه ً‬ ‫ليال نحو الفضاء فيرصخ‪:‬‬ ‫ويلتقي بحبيبه فيهمس‪:‬‬

‫كل هذه األمور من خالل ُبرقع الحياة‪ ،‬وأنتَ واقف بجانبه‬ ‫يرى الشاعر ويسمع َّ‬ ‫املشوشة‪ ،‬فتقول يف‬ ‫ال ترى غري مظاه ِرها الخارجية‪ ،‬وال تسمع سوى أصوا ِتها‬ ‫ّ‬ ‫ذاتك‪ :‬يا له من خيايلٍّ مجنونٍ يتمسك بخيوط العنكبوت‪ ،‬ويصعد نحو النجوم‬ ‫عىل َّ‬ ‫جرته من ندى الصباح بل‬ ‫سلم مصنوع من أشعة القمر‪ ،‬ويحاول أن ميأل ّ‬ ‫من الرساب‪.‬‬ ‫فالشاعر يصعد إىل املإل األعىل ولكن عىل َّ‬ ‫سلمٍ أقوى وأبقى من الجبال‪.‬‬ ‫إي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أمتن من سالسل‬ ‫ويتمسك بحبالٍ غري منظورة ولكنها‬ ‫يصعد بعزم الروح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫يتمسك بحبال ْ‬ ‫الفكر‪ ،‬وميأل كأسه من عص ٍري أرقَّ من ندى الفجر‪.‬‬ ‫الحديد‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫والخيال هو الحادي الذي يسري أمام مواكب الحياة‬ ‫ميأل ها من خمرة الخيال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الحق والروح‪.‬‬ ‫نحو‬ ‫ّ‬ ‫املسري إال عىل قدميك‪ ،‬وال‬ ‫تستطيع‬ ‫الشاعر يفعل كل ذلك‪ ،‬وأنتَ عىل األرض ال‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الصعود إال عىل َّ‬ ‫َ‬ ‫املرسة إال‬ ‫سلم من الخشب‪ ،‬وال ُّ‬ ‫الس ْكر إال من عصري العنب‪ ،‬وال ّ‬ ‫بالربح‪ ،‬وال األمل إال بالخسارة‪.‬‬ ‫يحن إىل‬ ‫طائر‬ ‫غريب ُيفلت من الحقول العلوية‪ ،‬ولكنه ال يبلغ األرض حتى َّ‬ ‫ٌ‬ ‫الشاعر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فيغرد حتى يف سكوته‪ ،‬ويسبح يف فضاء ال َحدَّ له وال مدى‪ ،‬مع أنه يف‬ ‫وطنه األول‪ّ ،‬‬ ‫قفص‪.‬‬

‫‪88‬‬


‫‪12‬‬ ‫أمين الغريِّب منقّح مقاالت جبران األولى‪:‬‬ ‫‪‬أوحى لي من أول لقاء أنه عبقري‪‬‬ ‫كنت أعرف أن كتاباته األوىل‬ ‫من قراءايت الكثرية عن جربان سري ًة وكتابا ٍ‬ ‫ت ورسوم ًا‪ُ ،‬‬ ‫األول عىل تشجيعه وإطالقه يف الوسط‬ ‫‪‬الـم ِ‬ ‫هاجر‪ ‬ألمني ِّ‬ ‫الغريب‪ ،‬ذي الفضل ّ‬ ‫كانت يف ُ‬ ‫اللبناين وقراء العربية يف أمريكا الشاملية‪.‬‬ ‫الغريب‪،‬‬ ‫لذلك حني‬ ‫ُ‬ ‫الطيب يف أدب أمني ِّ‬ ‫وجدت يف مكتبة ‪‬الهدى‪ ‬كتاب ‪‬العرف ّ‬ ‫راس ٍل بينهام‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫لهفت عند ْفتحه اىل البحث يف كتابات أمني ِّ‬ ‫الغريب عن جربان أو عن َت ُ‬ ‫وكان يل أن أجد االثنني مع ًا‪.‬‬ ‫صفدي التجارية‪( ‬ساو‬ ‫الكتاب ‪ 160‬صفحة قطْ ع ًا وسط ًا‪،‬‬ ‫مطبوع يف ‪‬مطبعة َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫الغريب‬ ‫كتب سعيد أمني ِّ‬ ‫پاولو‪ -‬الربازيل) بدون ذكر السنة (ترجيح ًا ‪ )1976‬سن َة َ‬ ‫ولدك سعيد‪.‬‬ ‫وختمها‪ :‬ساو پاولو‪ -‬شباط ‪ُ -1976‬‬ ‫كلم ًة عن أبيه َ‬ ‫جمعه وتبويبه‬ ‫الغريب‪ ،‬إبن خالة األمني‪ .‬وهو ُ‬ ‫‪‬عن َِي ِب ْ‬ ‫نارش الكتاب‪ :‬أديب يوسف ِّ‬ ‫وإعداده للطبع‪.‬‬ ‫العالمة امللفان املطران يوحنا شديد‬ ‫مقدمة الكتاب لـ ‪‬صاحب السيادة ّ‬ ‫ّ‬ ‫راعي أبرشية الربازيل املارونية‪ .‬وبعدها كلمة َن ْجل صاحب الكتاب ‪‬إىل والدي‬ ‫الحبيب‪.‬‬ ‫بعض ما كتبه‬ ‫همنا من الكتاب (القسم الجرباين) أ ِ‬ ‫قبل الدخول إىل ما َي ّ‬ ‫ُوج ُز َ‬ ‫نفسه عن سريته‪ :‬هو ‪‬املولود يف الدامور يوم ‪ 1881/1/12‬من والد‬ ‫أمني ِّ‬ ‫الغريب ُ‬ ‫القوالني‪ ‬يف الشعر العامي‪.‬‬ ‫(منصور شاهني ِّ‬ ‫الغريب) كان معروف ًا بـ‪‬شيخ ّ‬ ‫ذهبت‬ ‫الغريب بخط يده‪ ... :‬بعد مغادريت املدرسة يف الدامور‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫كتب أمني ِّ‬ ‫بدأت العمل مساعد ًا يف‬ ‫فبلغ ُتها يف أول صباح من عام ‪.1897‬‬ ‫ّتو ًا إىل نيويورك‪ْ ،‬‬ ‫ُ‬

‫‪91‬‬


‫ولكن‪...‬‬ ‫مع هذا‪ ،‬كتب جربان تلك املقدمة‪ْ ،‬‬ ‫يركز عىل أيب مايض شاعر ًا‪.‬‬ ‫جاء كالم جربان يف العموميات‪ ،‬ومل ِّ‬ ‫يكتبها يف أية‬ ‫آراء لجربان يف الشعر والشعراء‪ ،‬كان ميكن أن َ‬ ‫جاءت يف املقدمة ُ‬ ‫مناسبة لكالمه عىل الشعر‪.‬‬ ‫يذك ْر جربان أبا مايض إال يف املقطع األخري‪ ،‬وبأربع كلامت‪ :‬وإيليا أبو مايض‬ ‫مل ُ‬ ‫لديوان شاع ٍر غ ِري معروف‪ .‬مع هذا كتبها‬ ‫يقدم‬ ‫شاعر‪ .‬وهذا‬ ‫ِ‬ ‫تلميح قد يستخدمه َمن ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫وتكبره املعتاد‪ ،‬وارتضاها أبو مايض‪.‬‬ ‫جربان ِب َ‬ ‫منف َّ‬ ‫وقيته املعروفة ُّ‬ ‫مهومات عامة‬ ‫بعد عبارة ‪‬إيليا أبو مايض شاعر‪ ‬جاءت عبارة أخرية هي أيض ًا من ِّ‬ ‫يتحدث‬ ‫يتحدث عن شاعرية أيب مايض‪ .‬ومل يكن ميكنه‪ً ،‬‬ ‫أصال‪ ،‬أن َّ‬ ‫تعمدها جربان كي ال ّ‬ ‫َّ‬ ‫متمتع ًا بها (ولو عىل طريقة ِشعر‬ ‫عن‬ ‫ٍ‬ ‫‪‬شاعرية‪ ‬لدى أيب مايض‪ ،‬ال ألن األخري ليس ّ‬ ‫تصدر حركة ‪‬الرابطة القلمية‪ ‬التجديدية)‬ ‫ذاك الزمان) بل ألن جربان (وهو الذي َّ‬ ‫االتباعية الكثرية الرسد والحوار والوصف‬ ‫مل يكن مقتنع ًا بطريقة أيب مايض التقليدية ّ‬ ‫ت‪ ،‬أو املواضيع‬ ‫و‪‬سأل ْتني وأ َ​َج ْب ُتها‪،‬‬ ‫وقلت لها‪،‬‬ ‫والرشح و‪ ...‬قالت يل‬ ‫َ‬ ‫و‪‬قال َف ُق ْل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫مدح أرشمندريت‬ ‫التي َ‬ ‫(وصف مقاطعة ‪‬ملفرد‪ ،‬أو ْ‬ ‫عالجها أبو مايض يف ديوانه هذا ْ‬ ‫مقفاة‪،‬‬ ‫غربيني ترجم ًة موزون ًة ّ‬ ‫ملناسبة تكرميه يف مونريال‪ ،‬أو ترجمة قصائد عن شعراء ّ‬ ‫اعتمدها‬ ‫مواضيع قدمية وعتيقة‬ ‫أو مديح ‪‬مرآة الغرب‪ ‬يف ذكرى تأسيسها)‪ ،‬وهي‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الشعراء القدامى (ولو كان جربان يف شعره املوزون املقفى‪ -‬وخصوص ًا يف ‪‬املواكب‪-‬‬ ‫تنتقص كثري ًا من شاعريته العبقرية يف ‪‬النبي‪ ‬و‪‬يسوع‬ ‫وقع يف ِهنات َو ْز ّنية َوت ْق َف ّوية ِ‬ ‫َ‬ ‫فتخلى عنها حني راح يكتب يف اإلنكليزية‪.‬‬ ‫لكن جربان عاد ّ‬ ‫ابن اإلنسان‪ّ ،)‬‬ ‫جعله‬ ‫هذه‬ ‫حاد الـ‪‬أنا‪ ،‬ما َ‬ ‫تؤدي بنا اىل مزاج جربان الذي كان َّ‬ ‫األربع املالحظات ّ‬ ‫ُ‬ ‫الحق ًا عىل خالف مع أيب مايض (فلم ينرش يف ‪‬السمري‪ ،)‬ومع الريحاين (فلم ينرش يف‬ ‫‪‬الهدى‪ ‬لخالفه مع نعوم مكرزل صاحبها وصهر الريحاين زوج أخته سعدى)‪.‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫ضوء جديد عىل كتاباته‪ ،‬فتجعل منه‬ ‫إنها مزاجية جربان ّ‬ ‫تتجلى أيض ًا وأيض ًا يف ّ‬ ‫اللغز الذي عرف كيف ُيحيط به شخصه دون أقرب األصدقاء إليه مِ ّمن رسموا‬ ‫ذاك َ‬ ‫مزاج‬ ‫فأبعدوا عن كتاباته (العبقرية وال شك)‬ ‫َ‬ ‫صورته ‪‬إنسان ًا عادي ًا ذا ٍ‬ ‫حوله هال ًة ْ‬ ‫ت و‪ ...‬مواقف‪.‬‬ ‫وعادا ٍ‬ ‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/7/22 -‬‬

‫‪90‬‬

‫نيويورك‬


‫املتعلمون بني‬ ‫منه يف الواقع ذاك‬ ‫يقوله‪ ،‬ال الرسوم التي يريني إياها‪ .‬كان ّ‬ ‫الكالم الذي ُ‬ ‫ُ‬ ‫مت‬ ‫قالال يف ذلك الزمان‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫املغرتبني ً‬ ‫يهتم يف البحث عنه هو ما َي ّ‬ ‫والصحاف ُّي مثيل ُ‬ ‫أول ما ّ‬ ‫وجن َتيه‪.‬‬ ‫كتب شيئ ًا ُيطْ لعني عليه‪ .‬عال‬ ‫بأقل نسب إىل األدب‪ُ .‬‬ ‫الحياء َ‬ ‫سألته إذا كان َ‬ ‫ُ‬ ‫فصول صغري ٍة قرأ يل بعضها‪،‬‬ ‫الرتدد‪ ،‬قام إىل مخد ٍع وجاء منه ببضعة‬ ‫وبعد‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫هنيهة من ُّ‬ ‫مهي ٍإ ليكون كاتب ًا عبقري ًا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫فعرفت أنني أمام أديب َّ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬منرب ًا‪ .‬ورأى أول مقالة مطبوعة‬ ‫من ذلك الحني ّات َخذ له جريدة ُ‬ ‫كتبت عنه هذه‬ ‫أتذكر أنني‪ ،‬يومئذٍ ‪،‬‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬يوم ‪ 17‬نوار ‪َّ .1905‬‬ ‫ُ‬ ‫باسمه يف ُ‬ ‫حظ هذه الجريدة أنها قادر ٌة عىل‬ ‫العبارة تعريف ًا له إىل قراء جريديت‪ :‬من ُح ْسن ّ‬ ‫ت‬ ‫أن ّ‬ ‫متثل ألبنائنا يف الوطن ويف العامل العريب صور ًة َق َلمي ًة من الشخص الذي أ ِ‬ ‫ُعج َب ْ‬ ‫مدينة العلوم‬ ‫أعظم جرائد املدينة املعدودة يف الواليات املتحدة‬ ‫برسومه الرمزية‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫برشي يف لبنان‪ .‬نذكر‬ ‫والفنون (نيويورك)‪ .‬هذا الشاب هو جربان خليل جربان من ّ‬ ‫القراء إىل صورة أفكاره السامية التي‬ ‫كل لقب‪،‬‬ ‫اسمه عاري ًا عن ّ‬ ‫ونوج ُه أنظار ّ‬ ‫ِّ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬تحت عنوان ‪‬دمعة وابتسامة‪ .‬وإننا ال‬ ‫سنرسمها يف ّ‬ ‫كل عددٍ من أعداد ُ‬ ‫ب لبناين كثري اآلمال‪ ،‬عىل سبيل التنشيط والتشجيع‪ .‬فكيف بنا‬ ‫ُنالم يف افتخا ِرنا بشا ٍ‬ ‫أنفسهم ِبهذا اللبناين ل َِم ْحض أنه يعيش بينهم‪.‬‬ ‫ردد مفاخرة األمريكيني ِ‬ ‫ونحن فقط ُن ّ‬ ‫الغريب‬ ‫أمني ِّ‬

‫تصدر‬ ‫رسل من بوسطن إىل نيويورك مقاال ٍ‬ ‫وراح جربان منذئذٍ ُي ِ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ُ ‬‬ ‫ت إىل ُ‬ ‫الغريب ُي ْصدر يف مطبعته وعىل نفقته‬ ‫يف زاوية ‪‬دمعة وابتسامة‪ .‬ثم أخذ أمني ِّ‬ ‫والغ ِريب ّأن الذين‬ ‫كتب جربان الثالث َة األوىل يف العربية ويكتب لها مقدماتِها‪َ .‬‬ ‫الخاصة َ‬ ‫الغريب‪ ،‬رمبا إشاح ًة عام‬ ‫أصدروا هذه الكتب الثالثة الحق ًا َح َذ ُفوا منها ّ‬ ‫مقدمات أمني ِّ‬ ‫الغريب عىل جربان‪.‬‬ ‫كان فيها من نقد غالب ًا ما قسا فيه ِّ‬ ‫رسائل ذات داللة‪ ،‬هنا واحد ٌة منها أرسلها جربان إىل‬ ‫الغريب وجربان‬ ‫ُ‬ ‫وكانت بني ِّ‬ ‫الغريب من بوسطن إىل نيويورك مساء الجمعة ‪ 5‬متوز ‪:1905‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪‬أخي أمني‪،‬‬

‫ِ‬ ‫أكتب إليك تلك الرسالة املاضية ّإال بعد أن‬ ‫ولكن أنتَ تعلم بأنني مل ْ‬ ‫سام ْحني فقد أخطأتُ أمامك‪ْ .‬‬ ‫كتاب من نيويورك يقول بأنك ذهبت إىل كلوسرت‪.‬‬ ‫وصلني ٌ‬ ‫َ‬

‫‪93‬‬


‫تحرير جرائد ‪‬الهدى‪ ‬و‪‬كوكب‬ ‫أمريكا‪ ،‬ثم رأست تحرير‬ ‫أنشأت‬ ‫‪‬الصخرة‪ .‬ويف عام ‪1902‬‬ ‫ُ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ،‬وكان عمري‬ ‫جريدة ُ‬ ‫خذت‬ ‫يناهز الحادية والعرشين‪ّ .‬ات ُ‬ ‫لها مبد ًأ جديد ًا هو‪ :‬دعو ُة أبنائنا‬ ‫جريدة ‪‬املهاجر‪( ‬نيويورك‪ -‬السبت ‪ 13‬شباط ‪)1909‬‬ ‫وعىل صفحتها األوىل مقال جربان ‪‬يوم مولدي‪‬‬ ‫الحلة الرتكية‬ ‫خلع ّ‬ ‫املغرتبني إىل ْ‬ ‫ُمهدى إىل ماري هاسكل باألحرف الالتينية ‪.M.E.H‬‬ ‫التي بسببها كان األمريكيون‬ ‫شق هذا‬ ‫يظنوننا أتراك ًا‪ ،‬مع أن األتراك يف بالدنا يكرهوننا وال يقيمون لنا وزن ًا‪َّ .‬‬ ‫ُّ‬ ‫الرأي عىل املرحوم نعوم لبكي‪ ،‬صاحب جريدة ‪‬املناظر‪ ‬يف الربازيل وهو من‬ ‫ُ‬ ‫أكرب كتاب عرصه‪ ،‬فدعاين إىل مناظرة رصينة يف هذا املوضوع َيحكم يف ختامها‬ ‫طلبت منه أن‬ ‫كنت ال أعرف أحد ًا منهم يف مرص‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أربع ٌة من أعالمنا يف مرص‪ .‬وملا ُ‬ ‫فانتخب األساتذة املشاهري‪ :‬جورج زيدان‪ ،‬فرح أنطون‪ ،‬شبيل‬ ‫يقوم هو بذلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ث مقاالت من َكلينا‪ ،‬أجمع‬ ‫الشميل وداود عمون‪ .‬ومتت املناظرة بكل رصانة بثال ِ‬ ‫أكثرهم حامس ًا لها‬ ‫يف نهايتها َّ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ،‬وكان ُ‬ ‫املحكمون األربعة عىل صحة رأي ُ‬ ‫فرح أنطون‪.‬‬ ‫الغريِّب وجبران‬

‫الغريب‪ ،‬بني َمخطوطات والده‪ ،‬عىل املقطع التايل‬ ‫يف ساو پاولو َعثر سعيد أمني ِّ‬ ‫خط أبيه‪:‬‬ ‫ِب ّ‬ ‫فرح‬ ‫جاءتني إىل نيويورك دعو ٌة من بوسطن إىل حضور ِ‬ ‫‪‬يف شهر ّنوار ‪ْ 1905‬‬ ‫حفلة ٍ‬ ‫برشي إىل‬ ‫ُيقيمها أخواين البرشاويون‪ ،‬ويف الدعوة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪‬زفاف زهر ٍة عاطرة من َظ ْبيات ّ‬ ‫رشفوين باستقبالهم الرتحيبي كان‬ ‫شاب أديب نشيط من أبنائها‪ .‬وبني األكارم الذين َّ‬ ‫الرمزي‪ .‬ومعنى‬ ‫اليدوي‬ ‫شاب يف الثانية والعرشين من عمره‪ ،‬يشتغل يف التصوير‬ ‫ٌّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫يدل‬ ‫يصور األشخاص بل األفكار‬ ‫والتخيالت‪ُ .‬‬ ‫رأيت يف حديثه شيئ ًا ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫الرمزي أنه مل يكن ّ‬ ‫اهتممت باإلصغاء إليه‪ .‬ودعاين إىل رؤية محله وما‬ ‫عىل األهمية ويوجب العناية‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رافقته‪َ ،‬و َه ّمي‬ ‫كنت ْأل ُ‬ ‫ألف دليل عىل سعة اإلطالع‪ُ .‬‬ ‫حظ يف كالمه َ‬ ‫فيه من رسومه‪ُ .‬‬

‫‪92‬‬


‫حاد بني أبناء الجالية اللبنانية يف نيويورك‪ :‬الطائفة‬ ‫يف فرتة‬ ‫ٍ‬ ‫الحقة وقع نزاع ّ‬ ‫ابنته‬ ‫تزوج َ‬ ‫لواءها جريد ُة ‪‬مرآة الغرب‪ ‬لنجيب دياب الذي َّ‬ ‫األرثوذكسية (حملت َ‬ ‫مساعد ُه يف التحرير إيليا أبو مايض قبل أن ينشئ الحق ًا جريدته الخاصة ‪‬السمري‪،)‬‬ ‫ُ‬ ‫لواءها جريدة ‪‬الهدى‪ ‬لنعوم مكرزل زوج سعدى شقيقة‬ ‫والطائفة املارونية (حملت َ‬ ‫أمني الريحاين)‪.‬‬ ‫وكتب جربان حولها (بدون توقيع‪،‬‬ ‫يف هذه الحملة َ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬وقف َة اعتدال‪َ ،‬‬ ‫وقفت ُ‬ ‫ت أدبي ًة‬ ‫لحرصه ّأال ُي ّوقع َّإال مقاال ٍ‬ ‫ووضع‬ ‫ُ‬ ‫تصلح للجمع الحق ًا يف كتاب) َ‬ ‫رسام رمزي ًا ميثل مالك ًا ميد يديه إىل‬ ‫ً‬ ‫التباعد بينهم‬ ‫املتخاصمني كي ُيزيل ُ‬ ‫َويعقد الوئام‪.‬‬ ‫يف أواخر ‪ 1908‬سافر جربان‬ ‫إىل باريس ومل ينقطع عن مراسلة‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬وال عن الكتابة إىل‬ ‫الغريب (بوسطن‪ 28 -‬آذار ‪)1908‬‬ ‫رسالة من جربان إىل أمني ّ‬ ‫ُ‬ ‫صديقه أمني‪.‬‬ ‫وهنا‪ ،‬من رسائله إثنتان‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫باريس‪ 28 -‬متوز ‪1909‬‬ ‫أخي أمني‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫مقالة صغرية ُأخرى َأبع ُثها إليك‪ ،‬كتب ُتها أمس بعد أن سمعتُ خرب انفصالِ‬ ‫صديق يل عن‬ ‫هذه‬ ‫ٍ‬ ‫خليلته الحسناء‪.‬‬ ‫أمامي اآلن صفحتان من ٍ‬ ‫مقالة جديدة بدأتُ كتاب َتها هذا الصباح‪ ،‬وسوف أبع ُثها إليك عندما تنتهي‬ ‫فانتظ ْر ً‬ ‫وتكون مثلما أريد‪ِ .‬‬ ‫قليال يا أخي أمني‪.‬‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ،‬وأريد أن ِّ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬لن ينتقل معك‬ ‫َأ ُ‬ ‫تبشرين أن ُ‬ ‫طلب إليك أن تُخربين عنك وعن ُ‬ ‫مكتن َف ًة باملخاطر‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬يف الرشق تكون َ‬ ‫إىل لبنان‪ .‬أقول ذلك يا أمني ألنني أعلم بأن حياة ُ‬ ‫واملخاوف‪.‬‬

‫سالم وألف تحية وسالم ممن يحبك‪.‬‬ ‫جربان‬

‫‪95‬‬


‫هذه نكتة اجتماعية بحتة‪ :‬يقول الرجل ذو النظر الضئيل ‪‬كيف‬ ‫أقدر أن أغفر لقريبي‪‬؟ فتجيبه الحقيقة قائلة‪ :‬كيف تقدر أن‬ ‫يسمع‬ ‫ولكن‪َ ،‬من منا يا أمني يستطيع أن‬ ‫تستغفر من قريبك‪‬؟ ْ‬ ‫َ‬ ‫الحقيقة ِّ‬ ‫متكلمة قبل أن يرى األخبار وجه ًا لوجه؟ ّأما أنا فقد‬ ‫تعلمتُ أن ال أعذل صديقي قبل االستقصاء واالستطالع‪.‬‬ ‫ْ‬

‫تبتسم يا‬ ‫قرأتُ اليوم ‪‬العنارص املتضاربة‪ ‬فاستحسن ُتها‪ .‬ال‬ ‫ْ‬ ‫كل ما يكتبه جربان‪ ،‬ألن األقوال واألنغام‬ ‫أمني‪ ،‬فأنا ال أستحسن ّ‬ ‫أسمعها يف عامل أحالمي هي غري تلك األقوال التي أراها‬ ‫التي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫مخطوطة عىل الطروس‪ .‬ولكن سوف أمنو يا أمني‪ ،‬وأصبحُ قادر ًا‬ ‫حبس بعض تلك األنغام يف ظلمة الحرب‪.‬‬ ‫عىل ْ‬

‫غالف كتاب ‪‬املوسيقى‪ ‬وعليه إهداء‬ ‫من جربان إىل ج‪.‬ب‪.‬پ (‪.)1905‬‬

‫ُ‬ ‫الحكاية الثالثة‬ ‫كان يجب‪ ،‬يف هذا األسبوع‪ ،‬أن تكون بني يديك‬ ‫صحتي يف هذه‬ ‫ولكن ّ‬ ‫من الكتاب {يقصد ‪‬األرواح املتمردة‪ّ .}‬‬ ‫األيام عاطلة جد ًا‪ ،‬وأفكاري متضعضعة جد ًا‪ ،‬فإياك أن تحسبني‬ ‫من طائفة التواين والكسل‪.‬‬

‫لو كنتُ أعلم بأنّ كلمتي عن أخينا أسعد ستصري عمومية‪ ،‬لكنتُ كتبتُ أكثر من كلمة‪ ،‬ألن ألسعد‬ ‫أعماال رشيفة َح ِر َّي ًة بالكالم الكبري والجميل‪ .‬فليعش الفرقدُ الكبري ً‬ ‫ً‬ ‫طويال‪.‬‬

‫ما قولك‪ -‬أدام اهلل َ‬ ‫فضلك‪ -‬يف كتابات شبل أفندي دموس عن الجمعية العمومية يف جريدة ‪‬الجامعة‪‬‬ ‫بـ‪‬مجلس األمة‪‬؟‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬فيها لو قام‬ ‫ُ‬ ‫وأسسوا جمعية شبيهة َ‬ ‫مواطنونا َّ‬ ‫األسبوعية؟ وماذا يقول ُ‬ ‫ّ‬ ‫أنا أعتقد أن اإلصالح ال يكون بتأسيس الجمعيات‪ ،‬بل هو بارتقاء الفرد‪ .‬فإذا كان ُ‬ ‫منحط ًا‪،‬‬ ‫الفرد‬ ‫ّ‬ ‫فالجمعية ال ِ‬ ‫املنحطني‪.‬‬ ‫تقدر أن تجعله مرتقي ًا‪ .‬وإن كان مرتقي ًا‪ ،‬ال تساعده عىل بث روحه يف نفوس‬ ‫سالم عليك وعىل الجميع‪ ،‬من مريانا وأخيها‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫وأسلم ألخيك جربان‬

‫العالقة الوطيدة‬

‫ت ورسائل‪ ،‬بل راح أمني يزور جربان‬ ‫العالقة بني االثنني مل تقترص عىل الكتابة مقاال ٍ‬ ‫وذات وجودِ ه مر ًة يف‬ ‫يف بوسطن‪ ،‬وأخذ جربان يأيت إىل صديقه أمني يف نيويورك‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عراب الطفلة مرغريت (إبنة سعدى‬ ‫نيويورك‪َ ،‬‬ ‫وقف جربان‪ ،‬تكرمي ًا لصديقه أمني‪ّ ،‬‬ ‫شقيقة أمني زوجة نقوال الحايك) وقام يومها مبراسم العامد املطران روفائيل هواويني‪.‬‬

‫‪94‬‬


‫البُعاد‬

‫لكن هذه‬ ‫الغريب إىل بريوت سنة ‪ 1913‬وأنش َأ فيها جريدة ‪‬الحارس‪ّ .‬‬ ‫عاد أمني ِّ‬ ‫وأدت إىل اعتقال أمني‬ ‫مل َ‬ ‫تحظ بقلم جربان‪ ،‬ورسعان ما اندلعت الحرب العاملية األوىل َّ‬ ‫ونف ِيهم إىل األناضول‪.‬‬ ‫الغريب‬ ‫ورفاق له ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫الغريب من املنفى إىل لبنان سنة ‪ 1919‬فاستأنف إصدار ‪‬الحارس‪ ‬لفرت ٍة‪ ،‬ثم‬ ‫عاد ِّ‬ ‫ملبي ًا دعوة جربائيل تقال ملساعدته يف تحرير ‪‬األهرام‪.‬‬ ‫انتقل اىل القاهرة ِّ‬ ‫الغريب مل ينس‬ ‫مع انقطاع إرسال املقاالت ّ‬ ‫الغريب وجربان‪ .‬لكن ِّ‬ ‫خف الرتاسل بني ِّ‬ ‫مؤ ِّبن ًا مي زياده‪،‬‬ ‫صديقه‪ .‬فها هو عام ‪ ،1941‬بعد وفاة جربان ْ‬ ‫بعشر سنوات‪ ،‬يف خطاب له َ‬ ‫عيت إليها يوم ًا‬ ‫يذكر جربان يف هذا املقطع‪ ... :‬أما جربان‪ ،‬فكان يقيم يف بوسطن التي ُد ُ‬ ‫برشي عام‬ ‫من نيويورك حيث ُ‬ ‫كنت أُصدر جريدة ‪‬املهاجر‪ ،‬لحضو ِر أفراح َ‬ ‫عروسني من ّ‬ ‫حاال بذكائه املمتاز‪ ،‬وأنا أكرب منه سن ًا بأربع سنوات‪،‬‬ ‫لقيت جربان‬ ‫وشعرت ً‬ ‫ُ‬ ‫‪ .1905‬هناك ُ‬ ‫كل معرفة بالقواعد واألصول‬ ‫الجيدة معانيها إمنا الخالية من ّ‬ ‫فأطْ َلعني عىل بعض كتاباته ّ‬ ‫وأكتب إليه عن أسباب الخطأ‬ ‫إيل ُألصل َِح تعابريه‬ ‫شج ُعته عىل املتابعة واإلرسال ّ‬ ‫النحوية‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫طبعت له بعنايتي‬ ‫وكيفية إصالحه‪ .‬ساعده ذكاؤه عىل رسوخ هذه التعاليم يف ذهنه‪ .‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫فض ًال عن‬ ‫كتبه الثالثة األوىل‪ :‬املوسيقى‪ ،‬عرائس املروج‪ ،‬األرواح املتمردة‪ْ ،‬‬ ‫التامة َ‬ ‫نرشتها له ّكلها يف ‪‬املهاجر‪ .‬أما ما ظهر له بعد‬ ‫كنت قد ُ‬ ‫مقاالت ‪‬دمعة وابتسامة‪ ‬التي ُ‬ ‫ذلك كـ‪‬األجنحة املتكرسة‪ ‬وما تالها‪ ،‬فكان بعد عوديت من نيويورك إىل لبنان وبدون‬ ‫اطّ العي عليه‪ .‬ثم انرصف جربان بعدها إىل الكتابة باللغة اإلنكليزية (‪.)...‬‬ ‫نفسه كتب تاريخ‬ ‫يبدو أن أمني ِّ‬ ‫الغريب‪ ،‬يف ذلك الخطاب‪ ،‬سها عن باله أنه هو ُ‬ ‫مولده ‪‬يف الدامور عام ‪ ،1881‬فيكون بذلك أكرب من جربان بسنتني فقط ال أربع‬ ‫(جربان ولد يف ‪ 6‬كانون الثاين ‪.)1883‬‬ ‫ود َعت نقابة الصحافة‬ ‫توفي أمني‬ ‫ّ‬ ‫الغريب سنة ‪( 1971‬عن تسعني عام ًا ) َ‬ ‫ِّ‬ ‫تأبيني كبري له يف‬ ‫اللبنانية والجامعة اللبنانية الثقافية يف العامل اىل احتفال‬ ‫ّ‬ ‫تكلم فيها‪ :‬ميخائيل نعيمه‪،‬‬ ‫بريوت (قرص األونسكو‪ -‬األحد ‪ّ )1971/11/21‬‬ ‫فؤاد افرام البستاين‪ ،‬نقيب الصحافة رياض طه‪ ،‬عبداهلل النجار‪ ،‬شكراهلل الجر‪،‬‬ ‫والعر يف‬ ‫الغريب‪،‬‬ ‫نوفل الياس‪ ،‬بدوي أبو ديب‪ ،‬نرصي سلهب‪ ،‬كامل أسرب‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫الغريب‪.‬‬ ‫جوزف‬ ‫ِّ‬

‫‪97‬‬


‫الغريب الرسالة اآلتية‪:‬‬ ‫وبعد يومني من تلك الرسالة‪َ ،‬‬ ‫أرسل جربان من باريس إىل أمني ِّ‬ ‫باريس‪ 30 -‬متوز ‪1909‬‬ ‫أخي أمني‪،‬‬

‫مفكر ًا ِّ‬ ‫وجعلني أن أقف ِّ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪َ ‬‬ ‫وصلني يف هذه الرسالة ُ‬ ‫َ‬ ‫متأكد ًا‪ ،‬وال أقول متأسف ًا‪،‬‬ ‫العدد األخري من ُ‬ ‫تدل عىل أملٍ يف الصدْ ر وأمانٍ يف القلب‪،‬‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬يف لبنان‪ .‬ومقال ُتك يف الوداع ُّ‬ ‫ألنك أدرى مني مبستقبل ُ‬ ‫وهذا ما يجعلني أن أنظر إىل املستقبل بعني األمل واإلنتظار‪ ،‬مع كل ما يف املستقبل من مرارة البعاد‪.‬‬

‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫أمس َ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬مل‬ ‫أبعث إليك‬ ‫مبقالة صغرية‪ ،‬وكان قصدي أن‬ ‫إليك‬ ‫بعثتُ‬ ‫مبقالة أخرى غد ًا‪ّ .‬‬ ‫ِ‬ ‫لكن ُ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬سيبقى يف دفاتري حتى‬ ‫يعد تحت أجنحة أمني ِّ‬ ‫الغريب‪ .‬والذي كنتُ أريد أن أبعثه إىل ُ‬ ‫ٌ‬ ‫جريدة ثانية‪.‬‬ ‫الغريب‬ ‫تنبت تحت أجنحة أمني ِّ‬

‫كل ما تريد أن تفعله‪ ،‬وعن وقت سفرك إىل لبنان‪ ،‬وعن عالقاتك‬ ‫واآلن‪،‬‬ ‫ُخربين عن ّ‬ ‫ُ‬ ‫أطلب إليك أن ت َ‬ ‫املادية واألدبية يف الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ .‬ولكن ملاذا أقول هذا‪،‬‬ ‫أنا يا أمني‪ ،‬لو كنتُ اليوم يف نيويورك‪ ،‬لكنت اشرتيتُ منك إدارة ُ‬ ‫وما ُك ِتب قد ُك ِتب؟‬

‫أطلب منك يا أمني أن تُبقي يل يف نيويورك ُم َّ‬ ‫ليست عندي‪ .‬وعند مرورك‬ ‫كما‬ ‫ُ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬التي َ‬ ‫جلدات ُ‬ ‫يف باريس َأدفع لك الثمن‪ ،‬ففي ُم ّ‬ ‫حب أن أحفظها طبع ًا‪،‬‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬جميع كتابايت‪ ،‬وأنا ُأ ّ‬ ‫جلدات ُ‬ ‫كل جريدة‪ ،‬وخدَ ْم ُتها بقدْ ِرما استطعت‪.‬‬ ‫كما أريد أن أحفظ أعداد الجريدة التي أحبب ُتها أكثر من ّ‬ ‫ْ‬ ‫إحفظ يل عىل األقل َّ‬ ‫األخريين عند بيت فاعور أو عند السيدة ماري عيسى الخوري أو عند‬ ‫املجلدين‬ ‫َ‬ ‫صهرك الفاضل‪.‬‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬اليوم أصبح بني األيدي التي مل تلمس ّ‬ ‫قط يد جربان‪ ،‬وجربان أصبح غريب ًا عن‬ ‫إن ُ‬ ‫ً‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬ستبقى ُح ً‬ ‫ولذيذة يا أمني‪.‬‬ ‫لوة‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ .‬لكن لفظة ُ‬ ‫ُ‬

‫أخوك الذي يحبك جربان‬

‫اضط ّر عام ‪1909‬‬ ‫الغريب‪،‬‬ ‫لظروف خاصة‪ُ ،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ما يقصده جربان يف هذه الرسالة ّأن أمني ِّ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬إىل ميخائيل رستم ونسيب كرم الضطراره‬ ‫إىل ّ‬ ‫التخلي ُم َو ّقت ًا عن جريدة ُ‬ ‫بشؤون شخصية َد َف َع ْت ُه للسفر إىل بعض البلدان العربية (مخائيل‬ ‫الطارئ إىل االهتامم‬ ‫ٍ‬ ‫رستم هو والد صديقه وصديق جربان أسعد رستم الذي ذكره جربان يف رسالته اىل‬ ‫أمني نهار ‪ 5‬متوز ‪.)1905‬‬

‫‪96‬‬


‫متنفس الحرية‬ ‫سبب هجرة كثريين من أبنائه وأقالمه سعي ًا وراء ّ‬ ‫مطلع القرن وبعده‪ ،‬ما َّ‬ ‫ويتوهج يف هواء الوطن اللبناين يف العامل‪.‬‬ ‫ألن املشعل ينطفئ يف دخان لبنان الوطن ّ‬ ‫الفت ًا‬ ‫الته الكتابية‪ ،‬فاح عطْ ره ِ‬ ‫لهذا الجربان‪/‬الظاهرة الذي‪ ،‬من يوم انفتحت َب ْت ُ‬ ‫مستقبال غري عادي‪.‬‬ ‫واسترشف الكثريون له‬ ‫ً‬ ‫انقسام أبناء لبنانه من يومها‪ ،‬فرصخ فيهم‪:‬‬ ‫أوجعه‬ ‫استرشاف له بعد‪ ،‬وهو‬ ‫وأي‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫تكثر فيها‬ ‫ألم ٍة ُ‬ ‫‪‬لكم لبنانكم ويل لبناين‪ ،‬ورصخ أكثر (كأنه يقولها اليوم)‪ :‬ويل َّ‬ ‫وكل واحد‬ ‫الطوائف واملذاهب‬ ‫ويقل فيها الدين‪ُ ،‬‬ ‫وتكثر فيها األحزاب والعقائد‪ّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫ينادي‪ :‬أنا أ ُّمة‪....‬‬ ‫نيويورك‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/8/5 -‬‬

‫‪99‬‬


‫الذود عن أفكاره‪.‬‬ ‫زميلنا الراحل عنيف ًا يف َّ‬ ‫جاء يف كلمة النقيب رياض طه‪ :‬كان ُ‬ ‫حدة‪ :‬بل جربان اشتهر لعالقته‬ ‫عندما قيل له إنه ُ‬ ‫اشتهر لعالقته بجربان‪ ،‬أجاب يف ّ‬ ‫يب‪.‬‬ ‫ومن كلمة ميخائيل نعيمه‪... :‬مل ُتقم عالق ٌة بيني وبني صاحب الذكرى‪.‬‬ ‫وع ْد ُت من املهجر‪ .‬إال أنني‪ ،‬عندما أذكر‬ ‫ُ‬ ‫التقيته يف بريوت َّمر تني بعد أن َ‬ ‫عاد ُ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬التي كان لها مع مطلع‬ ‫أذك ُر ه كصاحب جريدة‬ ‫أمني‬ ‫الغريب‪ُ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫أبعد األثر يف نشأة جربان األدبية‪ ،‬وبالتايل يف نشأة ما‬ ‫هذا القرن يف نيويورك ُ‬ ‫أخذ جربان ينرش‬ ‫يدعونها اليوم ‪‬الحركة املهجرية‪ .‬عىل صفحات‬ ‫‪‬الـمهاجر‪َ ‬‬ ‫ُ‬ ‫ت من صاحب الجريدة َأ َح َّر التشجيع وأرفع التقدير‪ .‬وهو‬ ‫لقي ْ‬ ‫بواكريه التي َ‬ ‫جموعتيه ‪‬عرائس املروج‪‬‬ ‫املقد مات ألقاصيص جربان األوىل يف َم‬ ‫َ‬ ‫الذي وضع ّ‬ ‫يرحب أجمل الرتحيب مبقطوعات جربان‬ ‫و‪‬األرواح املتمردة‪ ،‬وهو الذي كان ِّ‬ ‫صدر ت بعد سنني من احتجاب‬ ‫الوجدانية يف مجموعة ‪‬دمعة وابتسامة‪ ‬التي َ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬إذ إنها‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ .‬مل ُي َتح يل أن ُأ ِبص َر ولو حتى عدد ًا واحد ًا من ُ‬ ‫ُ‬ ‫سمعت‬ ‫أتيتها عام ‪ .1916‬لكنني‬ ‫احتجبت وغادر‬ ‫كانت‬ ‫صاحبها نيويورك حني ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت طيب ًة عن الجريدة وعن صاح ِبها‪ .‬والذي‬ ‫من جربان ومن غري جربان كلام ٍ‬ ‫س فيها ويف‬ ‫ختر‬ ‫َأ عرفه ّأن جربان مل َي َ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬الـمهاجر‪ ‬لنرش بواكريه ّإال ألنه َل َم َ‬ ‫والرتفع عن املهاترات الطائفية والحزازات الشخصية‬ ‫التفهم‬ ‫ُّ‬ ‫صاحبها شيئ ًا من ُّ‬ ‫تنضح به أعمدة الصحف املهجرية يف تلك األيام‪.‬‬ ‫والنزاعات اإلقليمية مام كانت‬ ‫ُ‬ ‫ب هذا الرجل أنه‪ ،‬منذ ما يزيد عن الستني عام ًا ‪ ،‬كان أول من استبرش الخري‬ ‫حس ُ‬ ‫ْ‬ ‫بكل ما ُأ و ت َِي ُه من‬ ‫عنه‬ ‫ينافح‬ ‫وراح‬ ‫األبصار‬ ‫إليه‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫فو‬ ‫الطالع‪،‬‬ ‫جربان‬ ‫نجم‬ ‫يف‬ ‫ّ‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ُ‬ ‫اجتامعي وزخمٍ بياين‪.‬‬ ‫وحس‬ ‫وق أديب‬ ‫َذ ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫إشارة أخيرة‬

‫يف هذه النصوص صور ٌة موشورية‪:‬‬ ‫حسي ًا وأنا هنا يف نيويورك)‪،‬‬ ‫مسها ّ‬ ‫للصحافة املهجرية يف ذلك الزمان (أ َْل ُ‬ ‫بعضهم أمراضه الفئوية إىل عمق أمريكا‪،‬‬ ‫ّللبنانيني املنترشين والحامل ُ‬ ‫شبيه ِبام كان عليه يف‬ ‫للبنان الذي هو اليوم‪ ،‬تحت االحتالل ويكتوي بنار الحرب‪ٌ ،‬‬

‫‪98‬‬


‫برشي كي يعرض‬ ‫سكتت إدڤيك‪ ،‬وأردفت يل‪:‬‬ ‫وهنا َ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬ذهبت مع الحويك إىل ّ‬ ‫يلح ْظ قرش ًا‬ ‫املرشوع عىل لجنة جربان بتكلفة ليس فيها سوى مثن املواد املستخدمة ومل َ‬ ‫واحد ًا بدل أتعابه كرمى لصديقه جربان‪ .‬يومها اعتذرت اللجنة عن املرشوع الفتقارها‬ ‫تنفذه‪ ،‬ومات الحويك (‪ ،)1963‬وال يزال املرشوع بني أوراقي‪.‬‬ ‫إىل املال كي ّ‬ ‫وملخص ًا عنه يف مجلة ‪‬صوت املرأة‪‬‬ ‫نرشت رسوم املرشوع‬ ‫ورشوحه َّ‬ ‫َ‬ ‫وكانت إدڤيك َ‬ ‫(السنة ‪ -11‬العدد ‪ -4‬نيسان ‪ -1955‬ص‪ 10‬و‪ ،)11‬وما زالت تحتفظ به أوراقها‪...‬‬ ‫وتنتظر‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫تبنيه وتنفيذه‪ .‬وهو ليس ْمكلف ًا‪ ،‬وميكن‬ ‫وال يزال املرشوع ينتظر من يبادر إىل ّ‬ ‫اسرتداد تكاليفه من ْرسم عىل زيارته (كام عىل زيارة أ َِّي َأثر سياحي)‪ ،‬فتستقطب‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫القطبني‪( ‬جربان والحويك) زوار ًا وسياح ًا إىل ّ‬ ‫‪‬رائع ُة َ‬ ‫بالكبريين‪.‬‬ ‫األمر يف قرار لجنة جربان ووزارة الثقافة‪ ،‬واملرشوع حضاري يليق‬ ‫َ‬ ‫فمن يبادر؟‬

‫عىل فراش مرضه األخري‪ ،‬كان يوسف الحويك (‪ )1962 - 1883‬يرسم ذكرياته بالقلم الرصاص‪.‬‬ ‫منها هذان الرسمان وضعهما متذكر ًا َأيامه مع جربان يف باريس (‪:)1910-1909‬‬ ‫األول لجربان يكتب و َأمامه فنجان قهوة وعىل حافته سيجارة مل تنطفئ‪،‬‬ ‫واآلخر لجربان إىل َملْ َونه وأمامه الـ‪‬موديل‪ ‬يرسمها عىل قماشته البيضاء‪.‬‬ ‫الحويك قبل وفاته‪.‬‬ ‫وهذان هما آخر ما رسم ّ‬

‫* ‪‬النهار‪ -‬زاوية ‪َ ‬أزرار‪ -‬رقم ‪2000/4/13 -143‬‬

‫‪101‬‬


‫‪13‬‬ ‫جديد الحويك عن جبران‬ ‫كشفت يل عن مرشوع بني أوراقها بخط يوسف‬ ‫يف زياريت األديبة إدڤيك شيبوب َ‬ ‫وضعه تكرمي ًا لجربان ّمرة أُخرى‪ ،‬بعد أوىل سنة ‪ 1910‬حني وضع له‬ ‫الحويك وريشته‪َ ،‬‬ ‫قصتها إلدفيك‬ ‫الحويك تلك الزيتية الشهرية املسرتيحة اآلن يف متحف برشي‪ ،‬وروى ّ‬ ‫دو َن ْتها يف كتابها‪ :‬ذكريايت عن جربان‪.‬‬ ‫كام َّ‬ ‫املرشوع يعود اىل جلسة قدمية من أيام باريس (‪ )1910‬قال فيها جربان للحويك‪:‬‬ ‫حتام سأموت قبلك يا يوسف‪ .‬أرجوك أن تنحت عىل قربي أسد ًا يزأر‪ .‬ومل يبادر‬ ‫‪‬أنا ً‬ ‫الحويك إال الحق ًا عندما جاءت إليه لجنة جربان الوطنية (يف ‪ )1955/1/23‬تطلب‬ ‫منه إقامة أثر تذكاري لجربان‪ ،‬فوضع تصميم املرشوع‪ :‬حائط طوله ‪15‬م‪ .‬وارتفاعه‬ ‫‪ 4‬أمتار‪ ،‬من حجر كريم ُم َّميز يف برشي‪ .‬يف وسطه رأس جربان من نحاس فيض‪ ،‬أكرب‬ ‫كل‬ ‫ً‬ ‫قليال من الحجم الطبيعي‪ ،‬عن جانبه عمودان عىل رأس كل منهام مشعل يضاء ّ‬ ‫مؤلفات جربان‬ ‫ويظل‬ ‫ليلة‬ ‫مشتعال طوال الليل‪ .‬عىل العمود األيرس محفور ٌة عناوين ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬وعىل األمين تلك التي يف اإلنكليزية‪ .‬وعىل الحائط‪ ،‬عن جانبي العمودين‪،‬‬ ‫متثل أبرز رسوم جربان‪ .‬ويكون‬ ‫أربع لوحات بالنحاس الفيض والحجم الطبيعي‪ّ ،‬‬ ‫هذا وسط غابة مار رسكيس قرب الرضيح‪ .‬ولكي يصان من عبث األيدي واالقرتاب‬ ‫تشكل حوله بحرية واسعة‬ ‫املبارش منه‪ ،‬تتحول إليه مجاري الينابيع الغزيرة حتى ّ‬ ‫ظل األثر املهيب‪.‬‬ ‫يسبح فيها األوز ويتاموج مرتاقص ًا عىل صفحة مياهها ّ‬ ‫سكت الحويك بره ًة وأردف إلدڤيك‪ :‬مل أصمم أسد ًا يزأر كام طلب مني صديقي‬ ‫الحمل؟‬ ‫جربان‪ ،‬وأنى له أن يكون أسد ًا هو الذي‪ ،‬يف ّرقة قلبه ووداعته‪ ،‬كان أقرب إىل َ‬ ‫برشي قبل أن أموت‪ ،‬كي أكون‬ ‫أمنية عمري يا إدڤيك‪ ،‬أن أرى هذا األثر ناجز ًا يف ّ‬ ‫وفيت بوعدي لصديقي جربان‪.‬‬ ‫ُ‬

‫‪100‬‬


‫ ومن َمجيد دغفل هذا‪ ،‬يا عم فارس؟‬ ‫َ‬

‫لبناين يف هايتي‪ ،‬صاحب الربنامج العريب من إذاعة ‪‬صوت الرشق‪‬‬ ‫ٌ‬ ‫ صديق يل ٌّ‬ ‫پورت أو ْپ ِر ْنس‪.‬‬ ‫يف العاصمة ْ‬ ‫ ومن أين َ‬ ‫وصلت رسالة جربان إىل صديقك َمجيد دغفل؟‬

‫سكر الذي كان يحتفظ بها أمان ًة من والده‪.‬‬ ‫ من صديقه رنيه نخله َّ‬ ‫ ومن هو رنيه سكر هذا؟‬ ‫َ‬

‫مود ٌة وصداق ُة‬ ‫ ابن نخله ّ‬ ‫سكر الذي كتب جربان إليه الرسالة‪ .‬كانت بينهام ّ‬ ‫برشي عىل متن سفينة واحدة‪ ،‬جربان جاء‬ ‫ٍ‬ ‫برشي‪ .‬هاجرا مع ًا من ّ‬ ‫طفولة منذ أيام ّ‬ ‫إىل بوسطن وأكمل نخله إىل هايتي‪ .‬وألن ابنه رنيه مولود يف هايتي وال يعرف‬ ‫ومجيد دغفل أرسلها‬ ‫العربية‪ ،‬أهدى صورة الرسالة إىل َمجيد دغفل يف اإلذاعة‪َ ،‬‬ ‫إيل‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫پورت أو ْپ ِر ْنس يف ‪.1985/1/24‬‬ ‫من‬ ‫نيويورك‬ ‫إىل‬ ‫ة‬ ‫رسل‬ ‫م‬ ‫ها‬ ‫قرأت‬ ‫دغفل‪.‬‬ ‫ة‬ ‫رسال‬ ‫أخذت‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫انتقلت إىل رسالة جربان‪.‬‬ ‫ثم‬ ‫ُ‬ ‫تدل عىل كتاباته‬ ‫بىل‪ :‬هو هذا خطُّ ه‪ ،‬وهذه أحالمه‪ ،‬وهذه أخطاؤه اللغوية التي ّ‬ ‫األوىل يف العربية (مل يكن َت َم َّكن منها بعد)‪.‬‬ ‫ونسختها تحت‬ ‫جلست يف صالونه‬ ‫العم فارس مل يسمح يل بأخذها لتصويرها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وألن ّ‬ ‫نظره‪ ،‬وهذه هي‪:‬‬ ‫رسالة جبران‬ ‫‪‬أخي نخله‪،‬‬

‫إن غيايب عن هذه املدينة }بوسطن{ كان داعي ًا لتأخريي عن الكتابة إليك قبل اآلن‪ .‬فاعزرين (كذا يف‬ ‫األصل) أيها الحبيب وكن أمام نفسك يب شفيع ًا‪.‬‬

‫يرسك‪ ،‬وهو أنني مزمع أن أسافر إىل باريز (كذا) بعد عرشة أيام ألجل‬ ‫لدي ٌ‬ ‫ّ‬ ‫خرب مهم ُّ‬ ‫االنضمام إىل لجنة فنية تصويرية‪ .‬وسوف أبقى يف مدينة الجمال واملعرفة والخيال سنة كاملة‬ ‫أرصفها بالكتابة والتصوير والدرس والتنقيب‪ ،‬ثم أذهب إىل إيطاليا وأزور َأهم آثاراتها‬

‫‪103‬‬


‫‪14‬‬ ‫رسالة غير منشورة لِجبران من سنة ‪1908‬‬ ‫‪‬سوف أبقى سنة كاملة في باريز‪،‬‬ ‫مدينة الجمال والمعرفة والخيال‪‬‬ ‫تعرفت إليه هنا يف نيويورك‪ ،‬حني وصل شخصان‪:‬‬ ‫كنت يف زيارة لبنان ٍِّي‬ ‫ُ‬ ‫ذات َأحدٍ ُ‬ ‫شاب من شامل لبنان وخطيبته‪.‬‬ ‫مهتم ِبجربان يف نيويورك‪ ،‬فبادرين‪:‬‬ ‫يف الحديث عرف الشاب أنني ّ‬ ‫ إذ ًا عندي هدي ٌة لك‪.‬‬ ‫ وما الهدية؟‬

‫شئت أُرسلها لك صور ًة عنها‬ ‫ رسالة ِب ّ‬ ‫خط جربان لدى فارس والد خطيبتي‪ .‬إذا َ‬ ‫غد ًا بالربيد‪.‬‬ ‫كنت أقطع نحو ساعتني بالسيارة (ما أطول‬ ‫مل أنتظر االثنني‪ .‬مساء ذاك األحد ُ‬ ‫‪‬طرقات ُممِ ّل ٌة‬ ‫ت من قصيدة ت‪ .‬إس‪ .‬إليوت‪:‬‬ ‫تذكرين ببي ٍ‬ ‫نيويورك مبسافاتها التي ّ‬ ‫ٌ‬ ‫الشاميل قاصدين والد خطيبته‪.‬‬ ‫ورافقني ذاك الشاب‬ ‫كجدل عقيم‪َ .)‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ مساء الخري عمي فارس‪.‬‬ ‫إيل وإىل سبب َمجيئنا‪.‬‬ ‫وعرفه ّ‬ ‫قالها الشاب لوالد خطيبته عند ُو ُصولِنا ّ‬ ‫احتاج طويل ُمامطلة‪ .‬أفليس‪ ،‬هو اآلخر‪ ،‬ابن‬ ‫رشح وال‬ ‫هو َ‬ ‫كثري ٍ‬ ‫َ‬ ‫اآلخر مل ينتظر َ‬ ‫الشامل أرض جربان؟‬ ‫العم فارس من‬ ‫وما هي حتى كان َيحمل ّ‬ ‫إيل رسالة جربان‪ ،‬ومعها رسالة أخرى إىل ّ‬ ‫َمجيد دغفل الذي كانت الرسالة يف حوزته‪.‬‬

‫‪102‬‬


‫فرحه بالسفر من تسميته پاريس ‪‬مدين َة الجامل واملعرفة والخيال‪،‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫ٌ‬ ‫ واضح ُ‬ ‫يرسك‪ ‬كام لو انه يريد‬ ‫ومن عبارته يف الرسالة إىل صديقه نخله‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪‬لدي خرب مهم ّ‬ ‫إرشاك أصدقائه يف َف َرحه بالسفر‪ ،‬وإن هو مل ُي ْش ِرك أحد ًا ِبحقيقة َمن هي َخ ْلف‬ ‫كل‬ ‫نفقتها إىل پاريس‪ ،‬وكانت ُت ِ‬ ‫أرسل ْت ُه عىل َ‬ ‫هذا السفر‪ :‬ماري هاسكل التي َ‬ ‫رسل له ّ‬ ‫شهر مبلغ ‪ 75‬دوالر ًا‪.‬‬ ‫أحد من دارسيه اىل دوافع رغبته يف زيارتها‬ ‫‪.4‬‬ ‫ُ‬ ‫تتم ومل ُي ِشر ٌ‬ ‫ زيارته اآلستانة مل ّ‬ ‫لتحقيق ‪‬بعض آمال يف النفس‪.‬‬ ‫متنق ًال بني جبالها‬ ‫يبلغنا أنه زار إيطاليا‬ ‫‪‬وأهم آثارها ومتاحفها ِّ‬ ‫‪  .5‬مل ْ‬ ‫ّ‬ ‫وأوديتها‪.‬‬ ‫فعال ‪‬بني السامء واملاء‪ ‬يحلم‬ ‫سكر يقرأ الرسالة كان جربان ً‬ ‫‪  .6‬لحظ َة كان نخلة ّ‬ ‫بوصوله إىل ‪‬تلك املدينة الجميلة‪.‬‬ ‫دائام يف باله وقلبه وعىل هدب ريشته‪ ،‬ولذا َذ َك َره بـ‪‬لبنان العزيز‪ ‬الذي‬ ‫‪  .7‬لبنان ً‬ ‫بقي يحن إليه طوال حياته‪.‬‬ ‫سكر‬ ‫ذك َر ه جربان يف الرسالة من ‪‬الغرية واملودة‪ ‬رمبا بادرة نخله ّ‬ ‫‪  .8‬ما َ‬ ‫مقربني كان يرسل‬ ‫تكررت غالب ًا مع أصدقاء ّ‬ ‫يف رشاء كتب جربان‪ ،‬وهي ظاهرة َّ‬ ‫مؤلفاته يف أمريكا الشاملية والجنوبية ويرسلون مثنها إليه‪.‬‬ ‫إليهم جربان بالربيد ّ‬ ‫والدليل‪ :‬رسال ٌة سابقة إىل نخله سكر نفسه يف ‪ 28‬نيسان ‪ 1908‬أرسلها جربان‬ ‫ت إليك يا عزيزي نخله‪ ،‬حسب إشارتك‪ ،‬بثامين‬ ‫من بوسطن‪ ،‬وفيها‪ :‬قد ْ‬ ‫بعث ُ‬ ‫نسخ من كتاب ‪‬األرواح املتمردة‪ ‬ومثلها من كتاب ‪‬عرائس املروج‪ ،‬فالرجاء‬ ‫بأن تصل إليك ساملة‪ .‬عىل أنني أطلب منك أن ال تجعل االهتامم بإرسال مثنها‬ ‫القراء األدباء‪ ،‬ألن الغرض الوضعي من تأليف الكتب‬ ‫يقف حاجز ًا بينها وبني ّ‬ ‫بالفضة والذهب بل مبا هو أسمى وأرشف‪ .‬وهذا اإلملاح‪ ،‬وإن غري مبارش‪،‬‬ ‫ليس ّ‬ ‫خلفية إن مل ُتكن مادي ًة فعىل األقل ُتشري إىل وضعه املادي‬ ‫يشري لدى جربان إىل‬ ‫ٍ‬ ‫غري واحد أشار إىل اهتامم‬ ‫الذي كان َيجعله غري ُم ٍ‬ ‫شيح عنه‪ ،‬وبني رفاق جربان ُ‬ ‫جربان باملال‪.‬‬

‫‪105‬‬


‫ً‬ ‫متنقال بني جبالها وأوديتها‪ ،‬ورمبا َزهبت (كذا) إىل اآلستانة لتمضية أسبوعني‪،‬‬ ‫ومتاحفها‬ ‫ُمحقق ًا بعض آمال يف النفس‪.‬‬

‫عندما يصل إليك هذا الكتاب أكون بني السماء واملاء‪ ،‬بني االنهايتني (كذا) البحر والفضاء‪ .‬فإن شئتَ‬ ‫أن تكتب إيلّ ‪ ،‬فابعث بالجواب إىل عنواين القديم‪ ،‬أو إىل مركز السفارة العثمانية يف باريز‪ ،‬عىل أنني‬ ‫سوف أبعث إليك بعنواين عندما أبلغ تلك املدينة الجميلة‪ .‬أما إذا كان يف نفسك ً‬ ‫ميال (كذا) إىل زيارة‬ ‫لبنان العزيز‪ ،‬فال تنسى (كذا) أن متر بباريز تلتقي يب‪ ،‬ألنني أمتنى من أعماق نفيس أن أراك وأفرح‬ ‫مبحادثتك وجه ًا لوجه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أودعك أيها األخ الحبيب‪ .‬أذكرين دائم ًا وادعو (كذا) يل‪.‬‬

‫إقبل شكري وامتناين عىل ما أظهرته نحوي من الغرية واملودة‪ ،‬وابقى (كذا)‬ ‫ويف الختام‪َ ،‬‬ ‫ألخيك‪.‬‬

‫ ‬

‫جربان خليل جربان (التوقيع)‬ ‫من بوسطن ‪ 12‬حزيران ‪1908‬‬

‫التعليق‬

‫إىل الضعف يف اللغة‪ ،‬وهو مل ُيعد جديد ًا‪ ،‬يلفتنا يف الرسالة أكثر من أمر‪.‬‬ ‫طغت عىل اهتاممه‬ ‫برومنطيقية‬ ‫‪  .1‬جربان فيها ما زال مشبع ًا‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫رشقية غامرة َ‬ ‫صدرت‬ ‫باللغة التي يكتب فيها ويخطئ‪ .‬مع أنه‪ ،‬عند كتاباته هذه الرسالة‪ ،‬كانت َ‬ ‫له يف العربية ثالثة كتب‪ :‬املوسيقى‪ ،)1905( ‬عرائس املروج‪،)1907( ‬‬ ‫و‪‬األرواح املتمردة‪ )1908( ‬خالي ًة من الهنات اللغوية‪ .‬ومتى َعل ِْمنا ّأن أمني‬ ‫صححها قبل إرسالها اىل الطبع‪ ،‬ندرك فضل‬ ‫الغريب‪ ،‬نارش تلك الكتب الثالثة‪َّ ،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الغريب عىل جربان يف تنصيع لغته‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫ فر ُح جربان بالسفر إىل مدينة األحالم پاريس‪ .‬وهو بالفعل (كام ذكر يف‬ ‫‪َ .2‬‬ ‫الرسالة أعاله) سافر إليها يوم ‪ 25‬حزيران (بعد ‪ 13‬يوم ًا من تاريخ الرسالة‪ ،‬وكان‬ ‫َذكر فيها أنه سيسافر إليها ‪‬بعد عرشة أيام‪ ،‬مام يدل عىل صدق حساباته وهو‬ ‫يكتب الرسالة)‪ :‬ترك بوسطن إىل نيويورك بالقطار‪ ،‬ومساء اليوم نفسه سافر من‬ ‫مرفإ نيويورك إىل پاريس يف الباخرة ‪‬روتردام‪.‬‬

‫‪104‬‬


107


‫إشارة أخيرة‬

‫أَشار أَو مل ُي ِشر‪ ،‬يبقى جربان هو اإلشارة‪.‬‬ ‫بل أكثر‪ :‬يبقى هو اللغز الذي ما زال ينكشف فرت ًة بعد فرتة‪ ،‬مر ًة يف رسالة‪ ،‬مر ًة‬ ‫جل من غري تلك الهالة‬ ‫نص غري منشور‪ ،‬مر ًة يف قصة عنه مِ ّمن عرفوه فيظهر فيه ّالر ُ‬ ‫يف ٍّ‬ ‫ري (!)‪.‬‬ ‫التي كانت ُتحيط به كاتب ًا ُوت ِّنزهه عن كل َب َش ّ‬ ‫يتعمد‪ ،‬عىل حياته ولِام بعد غيابه‪،‬‬ ‫من هنا السؤال ‪‬غري الجرباين‪ :‬أمل يكن جربان َّ‬ ‫أن يكون ذلك اللغز؟‬ ‫نيويورك‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/8/12 -‬‬

‫‪106‬‬


109


‫من مجموعة ماري هاسكل لدى متحف تلفري يف ساڤانا – جورجيا‬

‫‪‬وجه‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 15 × 20.5‬سنتم)‬

‫‪‬بدون عنوان‪ – ‬مائية‬ ‫(‪ 21.5 × 28‬سنتم)‬

‫‪108‬‬

‫‪‬ر ْأس ميشلني‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 30.5 × 44.5‬سنتم)‬

‫‪‬شارلوت ِت ِلر‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 38 × 40.5‬سنتم)‬


‫برشي قبل ترميمه‪...‬‬ ‫املتحف يف ّ‬

‫‪ ...‬وكما هو اليوم بعد الرتميم‬

‫منح‬ ‫عرش كان هذا البناء املقر الصيفي للقنصل الفرنيس‪ .‬ويف مطلع القرن السابع عرش َ‬ ‫الدير واملحبسة إىل اآلباء الكرمليني ليزاولوا رسالتهم الروحية يف هذه‬ ‫ّ‬ ‫البرشاويون َ‬ ‫البناء القديم‪ ،‬وعند‬ ‫البقعة املمتدة بني وادي قاديشا واألرز‪ .‬سنة ‪ 1701‬هدم الرهبان َ‬ ‫حتى ‪.1908‬‬ ‫شيدوا الدير القائم اآلن وظلوا يزاولون فيه رسالتهم ّ‬ ‫رشقي املحبسة َّ‬ ‫ّ‬ ‫عيني جربان من طفولته‪ :‬املغارة يف قلب الجبل‪ ،‬املحبسة‪،‬‬ ‫طبع‬ ‫اإلطار‬ ‫هذا‬ ‫َ‬ ‫الكنيسة‪ ،‬الدير‪ ،‬الرتاث الروحي‪ ،‬الطبيعة املذهلة‬ ‫ووادي قاديشا الساحر‪.‬‬ ‫ُتراه‪ ،‬سنة ‪ 1895‬قبل أن يغادر مع أمه‬ ‫وشقيقتيه وأخيه بطرس إىل ‪‬األرض الجديدة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مودع ًا‪ ،‬وقال يف صمته‪:‬‬ ‫التفت مر ًة أخرية إىل الدير ِّ‬ ‫َ‬ ‫‪‬سأَعود‪‬؟‬ ‫وهو عاد‪ .‬أربع سنوات بعدها عاد إىل لبنان‬ ‫ومتتعت عيناه بالرؤى القاديشاوية‬ ‫(‪َّ )1902 -1898‬‬ ‫لتنزرع الحق ًا يف ريشته وقلمه طوال ‪‬منآه‪ ‬يف‬ ‫ْ‬ ‫أمريكا‪.‬‬ ‫وظل ينوي (طوال سنواته النيويوركية) أن‬ ‫َّ‬ ‫برشي (من الداخل)‬ ‫املتحف يف ّ‬ ‫يعود لينهي حياته يف لبنان!‬

‫‪111‬‬


‫‪1‬‬ ‫حي‬ ‫من محبسة مهجورة الى متحف ّ‬ ‫يف ‪ 25‬حزيران ‪ 1895‬وصل جربان إىل مرف ِإ‬ ‫إيليس آيالند (أسفل مانهاتن‪ -‬نيويورك) وهو‬ ‫ابن ‪ 12‬سنة‪ ،‬يف رفقة أمه كاملة وأخيه األكرب‬ ‫وشقيقتيه سلطانة‬ ‫(غري الشقيق) بطرس‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ومريانا‪.‬‬ ‫ويف ‪ 10‬نيسان ‪ 1931‬انطفأ النور يف عينيه‬ ‫وهو َيحلم بأن يعود إىل وادي قاديشا‪ .‬لذا‬ ‫شقيقته مريانا برشاء دير مار رسكيس‬ ‫أوىص‬ ‫َ‬ ‫سرتاحه‪ ،‬فإذا به‬ ‫عىل كتف الوادي ليكون ُم َ‬ ‫يضم إرثه الكبري‪.‬‬ ‫اليوم ُيميس َ‬ ‫متحفه الذي ّ‬ ‫يسرتيح املتحف‪ ،‬يف كل مهابة‪ ،‬عند ل ِْحف‬ ‫الفريد الذي قال عنه‬ ‫متد أمامه ذاك‬ ‫الجبل‪َ .‬ي ّ‬ ‫ُ‬ ‫جربان لصديقه ميخائيل نعيمه مساء ‪16‬‬ ‫ترشين الثاين ‪ :1922‬أمنيتي‪ ،‬يا ميشا‪ ،‬أن أزور وادي قاديشا قبل أن أموت‪.‬‬ ‫األحب إىل قلب‬ ‫الناي‬ ‫الحجاج‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ندخل املتحف يف خشوع ّ‬ ‫يستقبلنا صوت الناي‪ُ .‬‬ ‫جربان‪ .‬وتطالعنا عراقة التاريخ‪.‬‬ ‫(حافظ املتحف منذ ‪ 17‬آب ‪ 1971‬وال يزال)‪ :‬نحن هنا يف‬ ‫يرشح لنا وهيب كريوز‬ ‫ُ‬ ‫بناؤها إىل ما يزيد عن ألف سنة‪ .‬يف أواسط القرن السادس‬ ‫محبسة مار رسكيس‪ .‬يعود ُ‬ ‫برشي ‪ :1895‬أرسة خليل جربان قبل سفرها إىل بوسطن‬ ‫ّ‬ ‫كاملة‪ ،‬بطرس‪ ،‬خليل‪ ،‬جربان‪ ،‬وأمامهم سلطانة‬

‫‪110‬‬


‫من ‪‬صومعة‪ ‬جربان يف نيويورك حيث أمىض آخر عرشين عام ًا من حياته (‪-1911‬‬ ‫راس‬ ‫‪ .)1931‬بني املوجودات‪ :‬صندوق ٌة خشبية‪ ،‬كريس مكسورة ِّالر ْجل الرابعة‪َ ،‬ك ٍ‬ ‫يهيئ بيده قهوته اللبنانية لزواره)‪،‬‬ ‫عتيقة‪ ،‬مرآ ٌة عتيقة‪ ،‬ركو ُة قهوة (كان ُيحِ ّ‬ ‫ب أن ِّ‬ ‫أوان عتيقة‪ ،‬متثال املسيح املصلوب‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫معلق ٌة عىل الجدران يف عناية وصيانة‪.‬‬ ‫لوحاته َّ‬ ‫خارج هذه الغرفة‪ُ ،‬‬ ‫وكلامت منثور ٌة‬ ‫ومقاطع‬ ‫وأفكار‬ ‫خربشات‬ ‫دفاتر بخط جربان‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يف إحدى الغرف ُ‬ ‫ُ‬ ‫صدرت‪ .‬وعىل إحدى الصفحات مطلع قصة‬ ‫َو َج َد ُ‬ ‫بعضها طريقه إىل الكتب التي َ‬ ‫يكتبها بالقلم الرصاص‪.‬‬ ‫‪‬الرفيقة األثريية‪ ‬بدأ ُ‬ ‫مكتبته‬ ‫كبريتني من غرفة أخرى‪:‬‬ ‫زاويتني‬ ‫يف‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫التي كانت لديه يف ‪‬الصومعة‪ :‬عرشات الكتب يف‬ ‫مهدى‬ ‫اإلنكليزية لشعراء كبار وفالسفة وأدباء‪ .‬بعضها‬ ‫ً‬ ‫املؤلف‪.‬‬ ‫إليه بخط ّ‬ ‫اللوحات املعروضة يف املتحف ‪ 160‬بني زيتي ومائي‬ ‫يقدرها‬ ‫ورصايص وطبشوري‪ .‬واملجموعة الكاملة ّ‬ ‫عمال‪.‬‬ ‫وهيب كريوز‪ -‬وهو الخبري العارف‪ -‬بنحو ‪ً 420‬‬ ‫لولبية إىل تحت‪ ،‬إىل‬ ‫ثم‪ً ...‬‬ ‫نزوال يف أدراج صخرية ّ‬ ‫أسفل الدهليز‪ ،‬إىل املغارة التي شاءها مدفنه األخري‪.‬‬ ‫غالف مجلة ‪‬الفنون‪‬‬ ‫ها نحن ‪‬عنده‪ ‬يف غرفة املحبسة التي تحتضن‬ ‫وعليه رمزها بريشة جربان‬ ‫رفاته‪.‬‬ ‫الفيض هنا‪ ،‬داخل الكوة املحفورة يف قلب‬ ‫تابوته‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫يفتحه ُغالة‬ ‫الصخر‪ُ :‬م َز َّن ٌر بسلسلتني تحميانه من أن َ‬ ‫طالام كان يستلقي عليه حني‬ ‫الزوار‪ .‬هنا رسيره الذي َ‬ ‫زو ُاره يف نيويورك وهو مريض‪ .‬املصلوب فوق‬ ‫َي ُع ُ‬ ‫وده ّ‬ ‫ملونة‪.‬‬ ‫الرسير‪ .‬عىل الرسير َّتكايات َّ‬ ‫أرسة تحرير ‪‬الفنون‪ ‬وبينهم جربان‬ ‫قرب الرسير طاولة مستديرة (كتب عليها معظم‬ ‫مؤلفاته اإلنكليزية والعربية)‪ ،‬قبالتها الجدارية الكبرية‬ ‫ّ‬ ‫جوارير صغرية كان‬ ‫ذات‬ ‫التي كانت يف محرتفه (وله عدة صور أمامها) ّثم خزان ٌة كبري ٌة ُ‬ ‫َ‬ ‫يضع فيها بعض الريشات واأللوان وقطع ًا صغرية احتفظ بها‪.‬‬

‫‪113‬‬


‫البرشاوي يوسف طربيه رحمة يسأله أن يفاوض اآلباء‬ ‫عام ‪َ 1926‬‬ ‫كتب إىل صديقه ّ‬ ‫لفنه‪.‬‬ ‫مدفنه ومن األخري صومع ًة ّ‬ ‫الكرمليني عىل رشاء املحبسة والدير‪ ،‬فيجعل من األوىل َ‬ ‫بيع العقارات َممنوع ًا عىل اآلباء الكرمليني يف ذلك الحني‪ .‬لكن شهرة جربان كانت‬ ‫كان ُ‬ ‫برشي إىل مسقط رأسه‪.‬‬ ‫كافي ًة إلقناع رئيس الدير بالبيع طمع ًا بعودة ابن ّ‬ ‫وهو عاد‪ ،‬إمنا‪ ...‬بدون النور يف عينيه‪ .‬عاد جثامن ًا يف تابوت‪.‬‬ ‫رذاذ‬ ‫يبلله ٌ‬ ‫عودته كانت احتفالية‪ :‬ففي ‪ 23‬متوز ‪ ،1931‬ويف طقس حزين ّ‬ ‫عىل ّأن َ‬ ‫‪‬سيدة األرز‪ )‬إىل مرفإ‬ ‫أمريكي خفيف‪َ ،‬ت ّم ْنقل الجثامن من بوسطن (مدفن كنيسة ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫پروڤيدنس (عاصمة والية رود آيالند جارة نيويورك)‪ ،‬ومن هناك أقلعت به الباخرة‬ ‫‪‬سينارا‪ ‬صوب الرشق‪.‬‬ ‫وشعبي‪.‬‬ ‫رسمي‬ ‫ ‪ 21‬آب‪َ :‬رست الباخرة يف مرفأ بريوت‪ ،‬وكان للجثامن استقبال‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫البرشاويون عىل أكتافهم‪،‬‬ ‫برشي فحمله‬ ‫ّ‬ ‫ ‪ 22‬آب‪َ :‬‬ ‫وصل الجثامن إىل مدخل ّ‬ ‫مكنت‬ ‫ووصيته‪َ ،‬ت َّ‬ ‫ّ‬ ‫وبناء عىل رغبته ّ‬ ‫تتقدمهم مريانا املفجوعة التي‪ ،‬مبال شقيقها الفقيد ً‬ ‫من رشاء البقعة املحيطة بالدير‪.‬‬ ‫بقي الجثامن يف دير مار يوحنا إىل أواخر ‪ 1931‬حتى َت ّم استصالح دير مار رسكيس‪.‬‬ ‫نتجول يف الدير‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تضم كتب جربان وكتب ًا عنه‪ .‬غرفة‬ ‫ُوىل‬ ‫أ‬ ‫ة‬ ‫غرف‬ ‫املتحف‪.‬‬ ‫كل‬ ‫اليوم‬ ‫هي‬ ‫غرفة‬ ‫‪16‬‬ ‫ٌ‬ ‫ُّ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫نبع يف قلب الصخر‪ .‬غرفة لِموجودا ٍ‬ ‫‪‬ينبوع النبي‪ُ ‬تسقسق فيها ٌ‬ ‫مياه عذبة من ٍ‬

‫مخطوطة ‪‬سكن الليل‪‬‬

‫‪112‬‬

‫مخطوطة كتابات من جربان‬


‫حي نيويوركي‬ ‫وأي ُة‬ ‫ٍ‬ ‫مالزمة أسمى من هذه الصومعة‪ ،‬بعد عرشين سن ًة من العيش يف ٍّ‬ ‫ت من‬ ‫وهدأَة مار رسكيس‪ ،‬وحكايا ٍ‬ ‫ظل يتوق فيه إىل سكون برشي ْ‬ ‫رهيب الضجيج‪ّ ،‬‬ ‫وخب َأ يف صمته كثري ًا من البعض اآلخر‪.‬‬ ‫طفولته كم َر َوى بعضها لِامري هاسكل‪َّ ،‬‬ ‫ُسطوري‬ ‫بعضها أ‬ ‫ستعاد‬ ‫ٌ‬ ‫حكايات‪ُ ،‬‬ ‫كل يومٍ‪ ،‬يف سكينة مار رسكيس‪ُ ،‬ت ُ‬ ‫وال تزال ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫واقعي‪ ،‬عن فتى حاملٍ غادر تلك البقعة يف سنته الثانية عرشة‪ ،‬باحث ًا عن‬ ‫اآلخر‬ ‫وبعضها َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت مثين ًة ال تزال َت َت َس ْن َب ُل‬ ‫حامال وزنا ٍ‬ ‫‪‬السابع من شهر الحصاد‪ ،‬وحني عاد إليها كان ً‬ ‫بيدر الخلود‪.‬‬ ‫عىل َ‬

‫التعريف بجربان يف صفحة داخلية من مجلة ‪‬الفنون‪‬‬ ‫وفيها مبالغات فاضحة يف التعريف به‬

‫اإلعالن يف مجلة ‪‬الفنون‪( ‬العدد ‪ ،7‬السنة ‪)3‬‬ ‫عن صدور ‪‬املواكب‪ ‬لجربان مع عنوانه‬

‫* مجلة ‪َ ‬أجنحة األرز‪ -‬العدد ‪ -27‬أيار‪/‬حزيران ‪1995‬‬

‫‪115‬‬


‫عىل التابوت شهادة‪ :‬هذا تابوت جربان خليل جربان‪ .‬والجثامن َت ّم تحنيطه‪.‬‬ ‫وموافقة فرنسا‬ ‫اإلمضاء‪ :‬قنصل فرنسا يف الواليات املتحدة‪( .‬كان ال ّبد من شهادتِه‬ ‫ِ‬ ‫لطة منتدِ بة‪ ،‬لينتقل الجثامن من البلد الذي مات فيه جربان إىل لبنان الذي كان‬ ‫كس ٍ‬ ‫ُ‬ ‫فرتتئذٍ تحت االنتداب الفرنيس)‪.‬‬ ‫ماذا عن الجثامن؟‬ ‫تعرض‬ ‫فتح التابوت والكشف عىل الجثامن سنة ‪ .1974‬كان الجثامن َّ‬ ‫آخر مرة ّتم ُ‬ ‫يتذكر حافظ املتحف وهيب كريوز‪.‬‬ ‫لبعض اهرتاء‪ ،‬عىل ما َّ‬ ‫وصلت من نيويورك عام ‪َ .1932‬ت ّم‬ ‫أغراض جربان التي كانت يف ‪‬صومعته‪َ ‬‬ ‫تستقر يف‬ ‫مكان قبل أن‬ ‫تنق َلت يف أكثر من‬ ‫مو ّقت ًا يف إحدى البنايات ّثم َّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫إيداعها َ‬ ‫املكان الحايل (املتحف) تلبي ًة لوصية جربان التي كتبها يف ‪ 13‬آذار ‪ 1930‬واستودعها‬ ‫ب‬ ‫وكت ٍ‬ ‫‪‬كل ما يف ُمحرتيف من رسومٍ ُ‬ ‫ُمحاميه إدغار سپاير يف نيويورك‪ .‬ومام جاء فيها‪ُّ :‬‬ ‫السيدة ماري هاسكل ماينس‪...‬‬ ‫ت ٍ‬ ‫وأدوا ٍ‬ ‫فنية وموجودات‪ ،‬أُويص به بعد َماميت إىل ّ‬ ‫برشي التي أُويص َلها‬ ‫استنسبت ذلك‪ ،‬أن‬ ‫وأَرغب إليها‪ ،‬إذا هي‬ ‫َ‬ ‫تبعث ِبها إىل بلديت ّ‬ ‫َ‬ ‫ِب َـريع كتبي‪.‬‬ ‫وهكذا كان‪...‬‬ ‫كل ما يقوله أو يطلبه جربان‪.‬‬ ‫و‪‬استنس َبت‪ ‬ماري ذلك‪ ،‬هي التي كانت ّ‬ ‫تقدس َّ‬ ‫َ‬ ‫عام ‪َّ 1971‬عي َنت لجن ُة جربان الوطنية فريد سلامن مستشار ًا لها فكشف عىل تلك‬ ‫رغبته أن يدفن‬ ‫رسالتني َيذكر فيهام جربان َ‬ ‫املوجودات اآلتية من نيويورك‪ ،‬ووجد بينها َ‬ ‫وأسندت اللجن ُة مسؤولي َة إدارة املتحف إىل وهيب كريوز الذي ما‬ ‫يف دير مار رسكيس‪.‬‬ ‫َ‬ ‫زال يقوم مبهمته يف أمانة علمية ووفاء كبري‪.‬‬ ‫وزواره ال ينقطعون‪ّ .‬تم إقفاله يف ‪ 17‬متوز ‪ 1975‬بسبب‬ ‫منذ نشوء املتحف ّ‬ ‫الزوار باآلالف بعد طول إقفال‪.‬‬ ‫األحداث‪ّ ،‬ثم أعيد فتحه عام ‪ 1992‬فتوافد ّ‬ ‫وما زال جربان يستقطب رواد ًا من العامل إىل لوحاته‪ ،‬وإىل كتبه التي باتت مرتجمة‬ ‫إىل نحو ‪ 60‬لغة عاملية‪ ،‬واىل متحفه الذي ْينزوي مغار ًة يف لحف الجبل تستقطب إليها‬ ‫الناس من كل العامل‪.‬‬ ‫خرج من املتحف‪ :‬أمامنا الوادي املهيب‪ ،‬وراءنا جربان يف صومعته اللبنانية التي‬ ‫َن ُ‬ ‫عاد إليها يالزمها كام كان يحلم‪.‬‬

‫‪114‬‬


‫برشي‪ ،‬املدينة التي طاملا‬ ‫ومقت َنيات خاصة) يف صناديق ْ‬ ‫َ‬ ‫أرسلتها إىل لبنان باسم‪ّ :‬‬ ‫بلدية ّ‬ ‫حدثها عنها جربان بشغف كبري‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫كتبت رسالة‬ ‫مع تلك الطرود الكبرية التي‬ ‫ْ‬ ‫أرسلتها َبحر ًا عىل نفقتها الخاصة‪َ ،‬‬ ‫لبرشي ال الستغاللها تجاري ًا‬ ‫‪‬إىل َمن ّ‬ ‫برشي‪َ ،‬ت ْذ ُكر فيها أنها َت ِه ُبها ّ‬ ‫يهمه األمر يف ّ‬ ‫يتعرفوا عىل أعامله‬ ‫برشي أن ّ‬ ‫بالبيع أو أية طريقة أخرى بل ‪‬كي ُيتاح ألهايل ّ‬ ‫جميعها من دون‬ ‫الخالدة‪ .‬واشرتطت‪ ،‬يف تلك الرسالة‪ ،‬أن ُت ْح َفظ ‪‬املرتوكات‬ ‫ُ‬ ‫استثناء‪.‬‬ ‫طويال يف إحدى ُغ َرف البلدية‪ ،‬كام هي‪:‬‬ ‫ت ً‬ ‫َ‬ ‫فبقي ْ‬ ‫برشي َ‬ ‫وصلت تلك الصناديق إىل ّ‬ ‫صناديق مقفلة‪.‬‬ ‫جعلتها نواة‬ ‫وما سوى بعد سنوا ٍ‬ ‫حتى استأجرت البلدية ّ‬ ‫شقة يف بناية حديثة ْ‬ ‫ت ّ‬ ‫ت ُع ّل َقت‪،‬‬ ‫وعهدت إىل الفنان قيرص الجميل اختيار أ ُ​ُطر‬ ‫لبعض لوحا ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ملتحف جربان‪َ ،‬‬ ‫وع ِر َضت بعض أشيائه وكتبه ومخطوطاته‪ .‬أما الباقي‪ ،‬فبقي يف‪ ...‬الصناديق‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫حط زوار كثريين‪ ،‬بينهم أدباء وباحثون َغ َر ُفوا جديد ًا وكتبوه‪ ،‬حين ًا‬ ‫كان املتحف َم ّ‬ ‫عىل ما هو‪ ،‬وأحيان ًا من زوايا متضاربة‪.‬‬ ‫برشي‪ ،‬رضورة البدء‬ ‫يف مطلع السبعينات رأت البلدية‪ ،‬ومعها مسؤولون كبار من ّ‬ ‫مبتحف ل ُِجربان يليق بهذا التزايد يف اإلقبال عىل كتبه واالهتامم به‪ .‬وبعد فرتة من‬ ‫ٍ‬ ‫هتم باملوضوع‬ ‫املفاوضات بني املعنيني والدولة واألهايل‪ّ ،‬تم االتفاق عىل انتخاب ٍ‬ ‫لجنة َت ّ‬ ‫فتشكلت اللجنة رسمي ًا واتخذت‬ ‫تدعى ‪‬لجنة جربان الوطنية‪ .‬وهو ما َت َّم سنة ‪َّ 1973‬‬ ‫فريد سلامن مستشار ًا لها‪.‬‬ ‫ف عن األوراق والوثائق‬ ‫فتح الصناديق‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫والكش ُ‬ ‫أول ما قام به مستشار اللجنة‪ُ :‬‬ ‫مستكمال أبحاثه‬ ‫املتحدة‬ ‫ً‬ ‫واملستندات‪ْ ،‬‬ ‫وحف ُظها يف ميكروفيلم‪ .‬ثم سافر إىل الواليات ّ‬ ‫يف توثيق كامل ملتحف جربان‪.‬‬ ‫يف هذه األثناء ّاتفقت اللجنة مع املهندس الفرنيس ليجيه بيلري عىل وضع تصميمٍ‬ ‫فصمم برج ًا لولبي ًا (كربج غوغنهايم يف نيويورك) ليقام يف غابة مار‬ ‫للمتحف‪ّ ،‬‬ ‫رسكيس‪.‬‬ ‫عدة‪،‬‬ ‫وعلم باألمر َ‬ ‫عاد فريد سلامن من الواليات ّ‬ ‫فرفض التصميم ألسباب ّ‬ ‫املتحدة َ‬ ‫وسط مساحة تراثية كامر رسكيس‬ ‫منها خط ُأ أن َي ُنشب ُبرج موغِ ٌل يف الهندسة العرصية ْ‬

‫‪117‬‬


‫‪2‬‬ ‫المتحف في الخمسينية‬ ‫التألق‪.‬‬ ‫وتوهجه آخذ ًا يف ُّ‬ ‫خمسون عام ًا عىل غيابه‪ ،‬وال يزال حضوره نابض ًا‪ُّ ،‬‬ ‫ونتشبث بأطراف غالفاته ورسومه‪.‬‬ ‫نكرمه يف إحياءات ذكراه‪،‬‬ ‫خمسون عام ًا ُ‬ ‫ونحن ّ‬ ‫ّ‬ ‫وحسب‪ .‬أصبح ْملك ًا للعامل يف كل العامل‪،‬‬ ‫مل َي ُعد جربان ُم ْلك ًا ملدينته فقط وال لوطنه ْ‬ ‫ب‪ ،‬ال ُتقل‪ :‬اهلل يف قلبي‪،‬‬ ‫كل جيل جديد‪ِّ ،‬‬ ‫و‪‬نبي ُه‪ ‬أصبح كتاب ّ‬ ‫يردد معه‪ :‬حني ُتحِ ّ‬ ‫ُّ‬ ‫بل قل‪ :‬أنا يف قلب اهلل‪.‬‬ ‫ولعلنا نقول من كلامته‪ :‬ال ُنقل إن جربان يف قلوبنا‪ ،‬بل‪ :‬نحن يف قلب جربان‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫من الوصية إلى بشري‬

‫كل ما يف ‪‬الصومعة‪( ‬الرقم ‪ -51‬الشارع الغريب‬ ‫وصيته األخرية كتب جربان ّأن ّ‬ ‫يف ّ‬ ‫ومقت َنيات‪ ،‬يويص به لِامري هاسكل‬ ‫العارش‪ -‬نيويورك) من لوحات ومخطوطات وأثاث َ‬ ‫وهبها‬ ‫متمني ًا عليها‪ ،‬إذا هي استنسبت ذلك‪ ،‬أن تعطي بعضها َ‬ ‫مدينته ّ‬ ‫برشي التي َ‬ ‫عائدات كتبه‪.‬‬ ‫بعد اكتشاف مضمون الوصية حاولت باربره يونغ إقناع ماري هاسكل بإحراق‬ ‫ولعل باربره‬ ‫أوراق جربان‪ ،‬إذ ‪‬ال يجوز نرشها‪ ،‬ألنها مخططات وخربشات خاصة‪ّ .‬‬ ‫يونغ كانت ُتضمر إخفاء رسائل ماري إىل جربان‪ -‬وكانت بني األوراق‪ -‬لتكون‪ ،‬يف ما‬ ‫فوافقت‬ ‫تنبهت اىل ذلك َ‬ ‫بعد‪َ ،‬‬ ‫‪‬محظية‪ ‬جربان الرئيسية‪ .‬وقد تكون ماري هاسكل ّ‬ ‫لكن ماري‪ ،‬ومعها مفتاح ‪‬الصومعة‪ ،‬دلفت إليها‬ ‫باربره رأ َْيها‪ ،‬وافرتقتا تلك العشية‪ّ .‬‬ ‫ليال وسحبت من بني األوراق أوراقها ورسائلها إىل جربان‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ت كان‬ ‫رسائلها إليه وبعض لوحا ٍ‬ ‫وبعدما‪ ،‬قانوني ًا‪ ،‬آلت إليها املوجودات‪ْ ،‬اس َت ْب َقت َ‬ ‫وع َدها بها‪ ،‬وحزمت الباقي (من أوراق ورسوم ولوحات ومرتوكات وأثاث‬ ‫جربان َ‬

‫‪116‬‬


‫تعاق َدت لجنة جربان مع املهندس الفرنيس هنري‬ ‫التقريرين‬ ‫بعد ذينك‬ ‫الرسميني َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫غابوريو عىل التصميم والرتميم‪.‬‬ ‫وهكذا كان‪َ :‬ت ّم ترميم الدير‪ ،‬مع املحافظة عىل طابعه وخصائصه‪ ،‬وزيادة خارجية‪:‬‬ ‫جبوال بالرتاب والزيت‪ ،‬مع‬ ‫غرفة وزوايا بالحجر القديم نفسه الذي ُبني به الدير‪َ ،‬م ً‬ ‫دهن الحجر بطريقة خاصة‪ ،‬جعلت الزيادة ال َتختلف عن الحجر القديم‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫وتم تزويد املتحف بكل ما يليق باملتحف العرصي‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫سلبي‬ ‫تأثري‬ ‫أي‬ ‫أو‬ ‫اللوحات‬ ‫مساس‬ ‫ومن‬ ‫الرسقة‬ ‫من‬ ‫للحامية‬ ‫إلكرتونية‬ ‫ أجهزة‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫آخر‪.‬‬ ‫تتغير مهام كان‬ ‫ أجهزة ضوئية لتأمني إنارة متعادلة مستمرة ليل نهار‪ ،‬فال ّ‬ ‫الطقس يف الخارج أو اإلنارة الخارجية‪.‬‬ ‫(املحبب إىل جربان)‪.‬‬ ‫تبث‪ ،‬باستمرار‪ ،‬موسيقى الناي‬ ‫ أجهزة صوتية ّ‬ ‫ّ‬ ‫الغ َرف الصغرية‪ ،‬لكل جها ٍز خمس ُة أزرار‬ ‫ أجهزة صوتية يف كل واحدة من ُ‬ ‫إلكرتونية ّللغات الخمس (العربية‪ ،‬الفرنسية‪ ،‬اإلنكليزية‪ ،‬األملانية‪ ،‬اإلسپانية)‪ ،‬يضغط‬ ‫تسجيال صوتي ًا ملقاطع من كتابات‬ ‫الداخل إىل الغرفة عىل ّزر اللغة التي يريد‪ ،‬فيسمع‬ ‫ً‬ ‫(مثال‪ :‬عىل مدخل املتحف‪ ،‬تسجيل لرأْي جربان يف‬ ‫جربان نفسه عن محتويات الغرفة ً‬ ‫النقاد‪ ،‬بأن ‪‬عىل العمل الفني أن يقول كل ما يجب قوله للرائي‪.)‬‬ ‫ّ‬ ‫وما إن انتهى العمل يف ترميم الدير متحف ًا وحان التدشني حتى ابتدأت الحرب يف‬ ‫فتأجل التدشني‪ ،‬ومات أندريه مالرو (يف ‪.)1976/11/23‬‬ ‫لبنان ّ‬ ‫مسودات‬ ‫غري منشورة‪ّ :‬‬ ‫مع انطواء خمسني عام ًا عىل وفاته‪ ،‬تنكشف أوراق له ُ‬ ‫مسودات رسائل‪ُ ،‬مخطّ طات رسوم ولوحات‪ ،‬مالحظات وانطباعات‪ ،‬تضاف‬ ‫مقاالت‪ّ ،‬‬ ‫اىل موجودات املتحف‪ :‬رسيره‪ ،‬مالبسه‪ ،‬لوحاته‪ ،‬أثاثه‪ ،‬مكتبته‪ ،‬مجموعات صلبان‪،‬‬ ‫السجادة الكبرية التي كانت يف ‪‬الصومعة‪.‬‬ ‫فناجني قهوة‪ّ ،‬‬ ‫دروس ُه األوىل يف‬ ‫يتنفس يف راحته عىل الورق‪:‬‬ ‫وبدا جربان يف هذه األوراق ّ‬ ‫ُ‬ ‫اإلنكليزية‪َ ،‬مخطوطة قصيدة ‪‬سكن الليل‪ ،‬مرسوم جمهوري صادر يف ‪ 25‬أيلول‬ ‫وقعه شارل دباس رئيس ًا للجمهورية‪ ،‬وأوغست باشا أديب رئيس ًا‬ ‫‪ ،1930‬رقمه ‪ّ 7287‬‬ ‫ملجلس الوزراء‪ ،‬وموسى منور وزير ًا للداخلية‪ ،‬وجورج حيمري رئيس ًا لغرفة رئاسة‬ ‫‪‬من َِحت مدالية االستحقاق اللبناين‪ ،‬من الدرجة‬ ‫الجمهورية‪ ،‬ويف مادته الوحيدة‪ُ :‬‬ ‫الثانية‪ ،‬إىل السيد جربان خليل جربان‪ ،‬املقيم يف نيويورك‪( ‬كذا)‪.‬‬

‫‪119‬‬


‫والجبال والوهاد املحيطة به‪ ،‬ومنها أن جربان‪ ،‬يف إحدى كتاباته‪ ،‬أوىص بأن يكون‬ ‫رفاته َتحديد ًا يف دير مار رسكيس‪.‬‬ ‫حيلة لتعطيل مرشوح ليجيه بيلري‪ ،‬فزار املدير العام للتنظيم‬ ‫َلجأ فريد سلامن اىل ٍ‬ ‫النمار) ورجاه عدم إعطاء رخصة لبناء املرشوع شارح ًا له أهمية‬ ‫املدين (يومها مرتي ّ‬ ‫صاخبة‬ ‫جلسة‬ ‫النمار فاستدعى املعنيني‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ذلك تراثي ًا ومعنوي ًا و‪ ...‬جرباني ًا‪ .‬واقتنع ّ‬ ‫واعتبار منطقة مار رسكيس‬ ‫وتوقيفه الرخصة‪،‬‬ ‫املرشوع‪،‬‬ ‫رفض التنظيم املدين‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أبلغهم َ‬ ‫س‪.‬‬ ‫أثرية ال ُت َم ّ‬ ‫اقتنعت لجنة جربان باألمر‪ ،‬ووافقت عىل تأسيس متحف جربان يف َح َرم دير مار‬ ‫رسكيس‪.‬‬ ‫المتحف في مار سركيس‬

‫يف دير مار رسكيس كانت تسكن عائلة متواضعة‪ ،‬تعيش مام تزرعه حول الدير‬ ‫مسجى ينتظر‪.‬‬ ‫من مزروعات ُ‬ ‫وخ َضر تعيل األبوين والصغار‪ .‬ويف داخل الدير‪ :‬جربان ّ‬ ‫بعد قرار الرتميم‪ ،‬أُخيل املكان‪ ،‬وكتب فريد سلامن إىل متحف اللوڤر واملتحف‬ ‫الربيطاين فحظي ببعثتني‪.‬‬ ‫برشي لتدرس حالة‬ ‫البعثة الفرنسية من متحف اللوڤر (‪ 3‬خرباء) َ‬ ‫وصلت إىل ّ‬ ‫قبال‪ ،‬عهدت إىل الرسام اللبناين‬ ‫ووضعها وكيفية تنظيمها‪( .‬وكانت اللجنة‪ً ،‬‬ ‫اللوحات ْ‬ ‫إييل كنعان ترميم بعض اللوحات التي أصابها َتلف)‪ .‬عادت البعثة إىل باريس‬ ‫ورفعته إىل وزير الثقافة‬ ‫فوضعت تقريرها عن وضع اللوحات وكيفية ترميمها‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وعد فريد سلامن أن َيأيت إىل لبنان ليحرض تدشني متحف‬ ‫أندريه مالرو الذي كان َ‬ ‫لتؤخر‬ ‫برشي‪ .‬مل يكن مالرو يعرف يومها ّأن الحرب اللبنانية ستندلع ّ‬ ‫جربان يف ّ‬ ‫ويدشن‬ ‫حتى تنتهي حرب لبنان فيأيت إىل لبنان‬ ‫ّ‬ ‫التدشني‪ ،‬وأن املوت لن ُيمهله ّ‬ ‫متحف صاحب ‪‬النبي‪.‬‬ ‫البعثة اإلنكليزية من املتحف الربيطاين (‪ 3‬خرباء يف علم املناخ والطقس والبيئة)‬ ‫برشي لتدرس حالة الدير يف قلب الصخر وخطر إساءتها إىل حالة اللوحات‬ ‫جاءت إىل ّ‬ ‫وأكدت يف تقريرها إمكان تحويل الدير متحف ًا‪ ،‬رشط تأمني ترتيبات واقية‬ ‫مع الزمن‪َّ .‬‬ ‫النش والرطوبة‪.‬‬ ‫من ّ‬

‫‪118‬‬


‫‪3‬‬ ‫بيتُ​ُه بعد ‪ 100‬سنة‬ ‫بوسطن‪ 7 -‬كانون األول ‪:1910‬‬ ‫تكتب يف دفرت يومياتها‪:‬‬ ‫ماري هاسكل ُ‬

‫ورياضي ًا‬ ‫رجل رخاء‪ :‬ثري ًا أرستقراطي ًا‬ ‫‪‬اليوم حدَّ ثني خليل عن ُأرسته‪ :‬عن جدّ ه ألبيه وأنه كان َ‬ ‫ّ‬ ‫عادي‪َّ :‬‬ ‫متفوق ًا‪ ،‬وعن أبيه أنه كان ً‬ ‫جذاب ًا‪ ،‬رهيفَ الذوق‪ ،‬مهن ُته جباية رضائب الدولة‪.‬‬ ‫غري‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬ ‫رجال َ‬ ‫خصم له م َّتهم ًا إي ّاه باختالس املال من الجباية فاعتقلته السلطات العثمانية ذات‬ ‫وشى به يوم ًا‬ ‫ٌ‬ ‫ُغرو ٍ‬ ‫لكن‬ ‫ب عىل مرأى املحتشدين حول بيته الكبري القديم‪ .‬زوج ُته كاملة واجهت الحدَ ث بشجاعة‪ّ ،‬‬ ‫املحكمة َّثب َتت التهمة عىل خليل جربان فصادرت أمالكه‪ :‬البيوت‪ ،‬البساتني‪ ،‬الحقول‪ ،‬بيت العائلة‬ ‫الكبري القديم‪ ،‬التماثيل‪ ،‬الكتب‪ ،‬التحف القدمية‪ ،‬األثاث‪ ،‬األمتعة‪ ،‬فأصبحت العائلة‪ ،‬ولو يف بيتها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ضيفة عىل الحكومة‪.‬‬

‫بوسطن‪ -‬األربعاء ‪ 25‬آب ‪:1915‬‬ ‫تكتب ماري هاسكل‪:‬‬ ‫ُ‬

‫‪‬اليوم حدَّ ثني خليل عن طفولته وقال يل إن أقاربه‪ ،‬بعد وفاة والده‪ّ ،‬‬ ‫صفوا ُممتلكاته جميع ًا ّإال‬ ‫البيت الحايل الذي ال يزال قائم ًا‪ ،‬لكنه رازح تحت ثقل رهونات ورضائب وفوائد‪ .‬وعبث ًا حاول بعض‬ ‫األشخاص استعادته لخليل الذي مل ِيعش فيه ً‬ ‫طويال‪ ،‬وكان يعتمد عىل والده الذي مل يكن راضي ًا عن‬ ‫عمله يف الرسم والتصوير‪.‬‬

‫نيويورك‪ 31 -‬آب ‪:1918‬‬ ‫تنقل ماري عن جربان قوله لها إنه يوم كان يف پاريس زاره ‪‬القائد الفرنيس األعىل‬ ‫للبعثة الفرنسية العسكرية يف لبنان وسوريا عام ‪ .1886‬كان صديق ًا كبري ًا لوالدي خليل جربان‪ ،‬ونزل‬ ‫ب شخصية عرفها يف حياته‪ .‬وأضاف‬ ‫عج ُ‬ ‫مرار ًا ضيف ًا علينا يف بيتنا‪ .‬وقال يل القائد إن والديت كاملة هي َأ َ‬ ‫برشي كثريين َيحلفون بقرب أمه كاملة جربان‪.‬‬ ‫خليل أنّ يف ّ‬

‫‪121‬‬


‫عند الجدار الذي يفصل جثامن جربان عن زواره‪ ،‬هذه العبارة منه‪ :‬أنت الذي‬ ‫حدق ًا يف قوة‪.‬‬ ‫مثلك‪ّ ،‬‬ ‫حي ُ‬ ‫فتطل ْع يب ُم ِّ‬ ‫تنظر اآلن َإل ّي‪ ،‬أنا ّ‬ ‫رس بقاء جربان نابض ًا من جيل إىل جيل‪.‬‬ ‫هنا ّ‬ ‫رس العالقة بني جربان والزمن‪.‬‬ ‫وهنا ّ‬

‫جربان بالطربوش‬ ‫يف مدرسة ‪‬الحكمة‪‬‬ ‫(بريوت‪)1900 -‬‬

‫كاملة ُأمُّ جربان وشقيقتاه سلطانة ومريانا‬ ‫بكامريا داي (‪)1901‬‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1981/2/9 -‬‬

‫‪120‬‬

‫ماريانا شقيقة جربان‬ ‫بكامريا داي (‪)1901‬‬


‫مناقبيته الجبلية األنوف‪ .‬وحقيق ُة األمر ّأن حال ًة لبنانية عام ًة جعلت األهايل‬ ‫تلك من‬ ‫ّ‬ ‫جميع ًا فرتتئذٍ يرفضون دفع الرضيبة اىل العثامنيني الذين خالفوا دستور ‪ 1860‬القايض‬ ‫وألن ‪‬الجايب‪ ‬خليل جربان‬ ‫بتخفيف الرضائب جزئي ًا ْ‬ ‫ورفعها ّكلي ًا عن رؤوس املاشية‪ّ .‬‬ ‫وتلكأ يف تسديد الجباية‪،‬‬ ‫كان ذا شخصية قوية وحازمة‪ ،‬تواطأ مع األهايل الرافضني ّ‬ ‫املترصف الذي أمر حاكم املنطقة باعتقال‬ ‫فوشى به َن َّمامون ُوصوليون لدى جيش‬ ‫ّ‬ ‫وسجنه‪.‬‬ ‫‪‬الجايب‪ْ ‬‬ ‫خليل جبران يواجه َق َدرَه‬

‫سافرت كاملة بأوالدها (بطرس وجربان وسلطانة ومريانا) إىل‬ ‫يف حزيران ‪َ 1895‬‬ ‫برشي‪ ،‬وسكن يف بيت شقيقه عيد‬ ‫بوسطن‪ .‬رفض خليل مغادرة لبنان فبقي وحده يف ّ‬ ‫يحتل بيته‪.‬‬ ‫ألن جيش‬ ‫املترصف كان ال يزال ّ‬ ‫ّ‬ ‫وحني الفتى جربان (‪ 15‬عام ًا) عاد إىل بريوت مع مطلع خريف ‪ ،1898‬زار أباه‬ ‫عصبي ًة‬ ‫برشي فوجده بائس ًا شاخ قبل أوانه (هو من مواليد ‪ )1844‬وازداد ُ‬ ‫مزاجه َّ‬ ‫يف ّ‬ ‫عمته ليىل جربان البيطار‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫عمه عيد بل عند ّ‬ ‫وتسل ُطه عنف ًا‪ ،‬فلم يسكن معه يف بيت ّ‬ ‫توفيت يف ‪ 4‬نيسان‬ ‫واألرسة يف بوسطن مل تكن هي أيض ًا رغيدة العيش‪ :‬سلطانة ِّ‬ ‫الفاجع غادر بريوت عىل متن أول باخرة‪ ،‬ثم تويف أخوه‬ ‫تلقي جربان النب َأ‬ ‫‪ ،1902‬وعند ِّ‬ ‫َ‬ ‫وتوفيت ّأمه كاملة يف ‪ 28‬حزيران ‪.1903‬‬ ‫بطرس يف ‪ 13‬آذار ‪ّ ،1903‬‬ ‫وصلت ُه رسال ٌة‬ ‫برشي قبالة بيت أخيه عيد‪ ،‬حني ْ‬ ‫يف ‪ 20‬متوز ‪ 1903‬كان خليل يف ساحة ّ‬ ‫الزوج خليل صدم ٌة هائل ٌة أثّ رت عىل النور‬ ‫من ولده جربان يبكي فيها َّأمه كاملة‪ ،‬فأصابت َ‬ ‫يف عينيه‪َ .‬م َّسته عقدة الذنب يف َت َس ُّب ِبه بترشيد عائلته إىل أمريكا وانطفائها فرد ًا بعد فرد‪.‬‬ ‫طلب من صديقه سليم حنا الضاهر أن يكتب إىل جربان هذه الرسالة الجوابية‪:‬‬ ‫َ‬ ‫‪‬كان َ‬ ‫رسالتك وفيها أنكم ستعودون إىل لبنان قريب ًا ألنكم‬ ‫أبوك عىل ُأهبة أن يسافر إليكم حني جاءتْه‬ ‫وعمك عيد يف ٍ‬ ‫حالة يرثى‬ ‫كره ُتم األرض التي َو َجدْ تُم فيها َّ‬ ‫كل مصائب الدنيا‪ .‬والحاصل اليوم أن أباك َّ‬ ‫لها‪َ .‬أ ِ‬ ‫رس ْل اىل والدك زوج عوينات لعمر ‪ 58‬سنة‪ ،‬ألنه مل يعد يرى‪.‬‬

‫وصلت الرسالة اىل جربان يف بوسطن فأجاب بالرسالة التالية‪:‬‬

‫‪‬ال َأ ُ‬ ‫كل‬ ‫رىض مني‪ ،‬ألين أشتهي َّ‬ ‫طلب من والدي ّإال َالب َركة‪ ،‬وهو يعلم أنَّ وجودي يف أمريكا ليس عن ً‬ ‫ساعة أن أكون مع أيب راعي ًا َّ‬ ‫ظل األشجار‪.‬‬ ‫أتنقل مع قطيع من الغنم من مكان إىل آخر‪ ،‬أنفخ شبابتي يف ّ‬

‫‪123‬‬


‫األحد ‪ 8‬ترشين األول ‪:1939‬‬ ‫وقص َدت‬ ‫الشاعرة األمريكية باربره يونغ زارت لبنان َ‬ ‫برشي متهيد ًا لوضع كتابها ‪‬هذا الرجل من لبنان‪‬‬ ‫إىل ّ‬ ‫(صدر الحق ًا لدى منشورات ‪‬كنوف‪ ‬يف نيويورك‬ ‫الئق إلدراك‬ ‫برشي كان لها‬ ‫استقبال ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫سنة ‪ .)1945‬ويف ّ‬ ‫تولت‬ ‫الجميع أنها ‪‬صديقة جربان األمريكية‪ .‬يومها َّ‬ ‫جريد ُة ‪‬السياسة‪ ‬تغطية تفاصيل تلك الزيارة إىل‬ ‫متهدم‪.‬‬ ‫البيت الذي ولد فيه جربان‪ ،‬وكان يومها شبه ّ‬ ‫تتهدم من الذاكرة‪.‬‬ ‫لكن الذكريات فيه وعنه ال ّ‬ ‫َّ‬ ‫رسالة من مريانا إىل شقيقها جربان‬ ‫فهذا البيت‪ ،‬تاريخي ًا‪ ،‬ليس هو الذي ُولِد فيه‬ ‫جربان‪ ،‬لكنه عاش فيه بعض طفولته‪.‬‬ ‫إنه بيت عيد جربان‪ ،‬شقيق خليل (والد‬ ‫جربان)‪ .‬فعائلة خليل َت َش َّر َدت من بيتها األصيل‬ ‫فخام عىل َد َع ٍة وبساطة‪َ ،‬و ِر َثه‬ ‫الذي كان كبري ًا ً‬ ‫وجاه‬ ‫عز ٍ‬ ‫خليل جربان عن أبيه جربان وكان بيت ّ‬ ‫وزعامة‪.‬‬ ‫اعتقلت خليل جربان‬ ‫وحني‬ ‫السلطات العثامنية َ‬ ‫ُ‬ ‫املترصف‬ ‫وس َج ْنت ُه‪ ،‬احتجزت املمتلكات وجاء جيش‬ ‫شارع تايلر يف الحي الصيني‪ -‬بوسطن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وفيه مدرسة كوينيس حيث درس جربان‪،‬‬ ‫واصا باشا (‪ )1892 -1883‬وصادر البيت الكبري‪،‬‬ ‫وكنيسة سيدة األرز‪ ،‬واملنزل رقم ‪76‬‬ ‫فانتقلت األم كاملة (وولداها بطرس وسلطانة)‬ ‫(حيث سكنت كاملة وأوالدها عند وصولهم)‬ ‫اىل بيت عيد (شقيق خليل)‪ .‬أما الصغري جربان‬ ‫عمته (شقيقة أبيه) ليىل‬ ‫فكان يعيش أيام ًا عند َّ‬ ‫وعينه‬ ‫جربان البيطار يف مكان غري بعيد‪ ،‬وأيام ًا ينام حيث ُ‬ ‫عمه عيد‪ُ ،‬‬ ‫والدته يف بيت ّ‬ ‫يحتله جيش املترصف‪.‬‬ ‫رقة بيت والده‬ ‫ترم ُق يف ُح ٍ‬ ‫املالصق الذي ّ‬ ‫َ‬ ‫الصغرية ُ‬ ‫أنفقت كاملة‬ ‫وسجنه‪ ،‬والغص ُة عميق ٌة يف األرسة الصغرية‪َ ،‬‬ ‫خالل اعتقال خليل ْ‬ ‫مالها إلنقاذ زوجها من براثن السجن العثامين‪ .‬والتهمة الظاهرة‪ :‬اختالس الجايب‬ ‫ً‬ ‫كاملة إىل الدولة‬ ‫أموال الرضيبة عىل رؤوس املاشية وعدم تسديدها‬ ‫خليل جربان‬ ‫َ‬ ‫خفي ًة أخرى‪ :‬خليل جربان مل يختلِس املال وال كانت‬ ‫خلفي ًة ّ‬ ‫العثمانية‪ .‬عىل ّأن لذلك ّ‬

‫‪122‬‬


‫رضبوا حجارته بالرمل‪ ،‬ودهنوا‬ ‫بعد الحرب َّرم َم ْت ُه ‪‬اللجنة‪ ‬فجاءت باختصاصيني َ‬ ‫مشبه ًا تقريب ًا‬ ‫أبوابه وجدرانه بالزيت‪ّ ،‬‬ ‫وكحلوه وأعادوا إليه اإلنارة واملوسيقى واألثاث َّ‬ ‫مش َّب ٍه به) من أيام جربان تلك‪،‬‬ ‫يبق ‪‬أصلي ًا‪( ‬غري َ‬ ‫مبا كان عليه عىل أيام جربان‪ .‬ومل َ‬ ‫حديقة جميلة صغرية يتوسطها متثال جربان بإزميل‬ ‫ّإال الجوز ُة الكبرية أمام البيت‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫النحات حليم الحاج‪.‬‬ ‫كبري وعريض َح َّد خزانة‬ ‫خت ٍ‬ ‫البيت من داخل مؤثَّ ٌ‬ ‫ث يف بساطة‪ :‬إىل ميني املدخل َت ٌ‬ ‫عال ٌ‬ ‫واطئ عليه‬ ‫للثياب‪ ،‬إىل جانبه صدر من القش كانت العائلة تأكل عليه‪ ،‬ثم فاصل حجري ٌ‬ ‫بطاقة كبرية‬ ‫الفخار‪ ،‬ثم صندوق كبري‪ ،‬ومقاعد واطئة‪ ،‬لينتهي الحائط ٍ‬ ‫كانون نار‪ِ ،‬وق ْد ٌر من ّ‬ ‫ُ‬ ‫العلو إىل السقف‪.‬‬ ‫قناطر ٍ‬ ‫البيت‪/‬الغرف َة ُ‬ ‫وتتوسط َ‬ ‫ثالث َ‬ ‫فيها قنديل‪ّ .‬‬ ‫عالية من منتصف ّ‬ ‫بيت عاش فيه بعض ًا‬ ‫هكذا يكتمل املكان الجرباين الباقي َمحفوظ ًا‬ ‫ٍ‬ ‫برشي‪ٌ :‬‬ ‫بأمانة يف ّ‬ ‫يضم رفاته وأعامله‪.‬‬ ‫من طفولته ويفاعته‪ ،‬وغري بعيدٍ منه‬ ‫ٌ‬ ‫متحف ُّ‬ ‫حلم بالعودة إليها من منآه البعيد‪،‬‬ ‫برشي التي كم َ‬ ‫وهكذا يكون جربان ‪‬عاد‪ ‬اىل ّ‬ ‫برشي عن عينيه وأحالمه‬ ‫من صومعته النيويوركية‪ ،‬وطوال عرشين عام ًا فيها مل تغِ ب ّ‬ ‫وأهداب ريشته نهار ًا واحد ًا وال ليل ًة واحدة‪.‬‬

‫برشي‬ ‫مدخل بيت جربان يافع ًا يف ّ‬

‫برشي‬ ‫قنطرة بيت جربان يافع ًا يف ّ‬

‫* ‪َ ‬أجنحة األرز‪ -‬العدد ‪( 47‬ترشين األول‪/‬ترشين الثاين ‪)1998‬‬

‫‪125‬‬


‫برشي تنعى‬ ‫بعدها بنحو ست سنوات (يف ‪ 17‬حزيران ‪ّ )1909‬‬ ‫تلقى جربان رسال ًة من ّ‬ ‫إليه أباه الذي ‪‬مات مستوحِ ش ًا ترهقه الديون‪ .‬فكتب إىل ماري هاسكل يف ‪ 23‬حزيران‪:‬‬ ‫‪‬فقدتُ والدي‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫توفي يف بيتنا القديم حيث َأ َبصر النور قبل خمس وستني سنة‪.‬‬

‫أرهقت ُه؟‬ ‫بيته ولو بديون‬ ‫هل هذا يعني أن خليل جربان‪ ،‬قبل وفاته‪ ،‬كان‬ ‫ْ‬ ‫استعاد َ‬ ‫َ‬ ‫وكربياؤه الجبلية مل تسمح له أن يبقى عبئ ًا‬ ‫وعز ُة نفسه اللبنانية‬ ‫ُ‬ ‫أهي أ َ​َن َف ُته البرشاوية ّ‬ ‫عىل شقيقه عيد يف بيته؟‬ ‫ليهتم بأمر املرياث‪،‬‬ ‫نسيبه نخلة جربان ّ‬ ‫بعد وفاة خليل جربان وصل من الربازيل ُ‬ ‫درس الرسم يف باريس) ُي ْعل ُِمه‬ ‫فباع البيت‬ ‫َ‬ ‫وكتب إىل ابن عمه جربان (وكان يومها َي ُ‬ ‫َ‬ ‫اضطر ‪‬لبيع القليل الباقي من أمالك ِ‬ ‫والده خليل َليفي قسط ًا يسري ًا من الديون‬ ‫أنه ُ‬ ‫ث عىل‬ ‫تراكمت عليه‪ .‬فأجابه جربان‬ ‫‪‬وز ْع ما يف البيت من أثا ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫برسالة جاء فيها‪ِّ :‬‬ ‫التي َ‬ ‫برشي‪ْ ،‬وليذكروا بالخري اسم أمي‪.‬‬ ‫ُمحتاجيه من أهايل ّ‬ ‫يومها وسكنوه‪.‬‬ ‫كان البيت من نصيب آل الضاهر الذين اشرتوه َ‬ ‫البيت بعد خليل جبران‬

‫ذاك البيت الفخم الذي ُولِد فيه جربان‬ ‫وتوفي فيه والده خليل (‪)1909‬‬ ‫(‪ّ )1883‬‬ ‫وكان َو ِر َثه عن والده‪ ،‬مل ْيب َق بعدذاك ّإال‬ ‫هدمته عام‬ ‫برشي‬ ‫ْ‬ ‫‪ 45‬سنة‪ ،‬ألن بلدية ّ‬ ‫‪ 1954‬لتوسيع الطريق‪.‬‬ ‫بيت‬ ‫أما بيت عيد جربان (املالصق َ‬ ‫يرتدد‬ ‫شقيقه خليل) وإليه كان جربان َّ‬ ‫برشي‬ ‫بيت جربان يف صباه‪ّ -‬‬ ‫خالل دراسته يف معهد الحكمة (‪-1898‬‬ ‫فاستملكت ُه ‪‬لجنة جربان الوطنية‪‬‬ ‫‪)1902‬‬ ‫ْ‬ ‫وفتحته‬ ‫يف مطلع األربعينات‪ ،‬ثم ّرم ْمته‬ ‫ْ‬ ‫فغلفه طوال‬ ‫زودته بالصوت والضوء‪ .‬لكن اإلهامل عاد ّ‬ ‫للزوار عام ‪ 1971‬بعدما ّ‬ ‫ّ‬ ‫سنوات الحرب يف لبنان (‪.)1990 -1975‬‬

‫‪124‬‬


‫منوذجان لِموقف جربان النوستالجي من العودة إىل لبنان‪.‬‬ ‫ومذكرات ماري هاسكل عنه عرشات َنامذج أُخرى ‪‬باح‪ ‬بها لكثريين‬ ‫ويف رسائله ّ‬ ‫شقي ًا يف صومعته‪ ،‬رغم بقائه فيها عرشين‬ ‫حول حنينه للعودة إىل لبنان‪ ،‬حتى ليبدو ّ‬ ‫وصوال إىل‬ ‫بلغها فيها منذ ‪‬املجنون‪ً )1918( ‬‬ ‫عام ًا‪ ،‬أو يف نيويورك رغم الشهرة التي َ‬ ‫وفني‪ ،‬أو‬ ‫وهالة‬ ‫‪‬النبي‪ )1923( ‬وما رافقه بعده من احتفاالت تكريم‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫تكريس أديب ّ‬ ‫يف الواليات املتحدة عموم ًا رغم ارتياحه إىل العيش فيها بني بوسطن (‪،)1911 -1895‬‬ ‫ونيويورك (‪.)1931 -1911‬‬ ‫حيادية‪ ،‬كام سريته التي وضعها النحات‬ ‫ومن يدرس جربان جيد ًا يف موضوعية‬ ‫ّ‬ ‫البوسطني خليل جربان وزوجته جني‪ ،‬ال يف شخصانية غري حيادية كام سريته التي‬ ‫خفيت عنه‬ ‫وضعها ميخائيل نعيمه وفيها أنه قريب من جربان أو األقرب إليه‪ ،‬يف حني َ‬ ‫‪‬مقربون‪‬‬ ‫أمور كثرية أو أخفاها عنه جربان كام أخفاها عن سواه ممن اعتقدوا أنهم ّ‬ ‫منه‪ ،‬وما كانت لتنكشف لوال انكشاف دفاتر ماري هاسكل يف جامعة نورث كاروالينا‪-‬‬ ‫تشاپّل ِه ّل‪ ،‬يدرك أن جربان كان شخص ًا غامض ًا مليئ ًا باألرسار يف حياته‪ ،‬ضنين ًا بها يف‬ ‫ذاتية نرجسية أو عقدة دفينة‪.‬‬ ‫خج ًال أو إيهام ًا‪ ،‬أو اطمئنان ًا إىل ْأن‬ ‫من تلك األرسار ما غاب معه ومل ُيبح به ألحد‪َ ،‬‬ ‫لن يقوم بعده َمن يكشفها‪.‬‬ ‫قليل‪ ،‬انكشف أو هو يف طريقه إىل االنكشاف‪.‬‬ ‫غري ٍ‬ ‫غري ّأن بعض ًا منها َ‬ ‫مرسحه ‪‬محكمة‬ ‫فصل كان حتى اليوم خفي ًا من سريته الخاصة‪،‬‬ ‫من هذا األخري ٌ‬ ‫ُ‬ ‫كش َف ْته جريدة ‪‬لبنان‪ ‬الرسمية التي ّأسسها داود‬ ‫قضاء البرتون‪ ‬عامي ‪ 1912‬و‪َ ،1913‬‬ ‫باشا (‪ )1873 -1819‬يف بيت الدين سنة عام ‪ 1867‬حني كان أول مترصف عىل جبل‬ ‫لبنان (‪.)1868 -1861‬‬ ‫مذكرات ‪‬عقارية‪ّ ‬يتضح منها‬ ‫أربع ّ‬ ‫يف أربعة أعدادٍ من تلك ‪‬الجريدة الرسمية‪ُ ‬‬ ‫يتبل ْغ حجز ًا احتياطي ًا‬ ‫برشي ألنه ‪‬مجهول اإلقامة‪ ‬ومل ّ‬ ‫أن جربان َف َق َد جميع أرزاقه يف ّ‬ ‫ين عليه وعىل‬ ‫عىل أمالكه‪ ،‬وال َت َم َّكن (ضمن مهلة الثامنية أيام املعطاة له) من ْدفع َد ٍ‬ ‫برشي تدعى َم ّرون (أرملة حبيب سعد‬ ‫شقيقته مريانا‪ُ ،‬‬ ‫قيمته ‪ 3375‬قرش ًا ّ‬ ‫لسيدة من ّ‬ ‫يدفع‪ .‬وحني‬ ‫سند تحمله وتطالب بالحجز عىل ُممتلكات جربان إن مل َ‬ ‫جربان) مبوجب َ‬ ‫انقضت املهلة القانونية (ومل يدفع طبع ًا) ّتم طرح أمالكه باملزاد العلني فكانت من‬ ‫َ‬ ‫نصيب األكثر دفع ًا‪.‬‬

‫‪127‬‬


‫‪4‬‬ ‫ألنه ‪‬مجهول اإلقامة‪ ‬بيعت أمالكه في بشّري بالمزاد العلني‬ ‫‪‬أمنيتي يا ميشا أن أزور وادي قاديشا قبل أن أموت‪.‬‬

‫منكب عىل َم ْل َو َنت ِ​ِه‬ ‫قالها وهو يف ‪‬الصومعة‪ ‬لصديقه ميخائيل نعيمه‪ ،‬وهو‬ ‫ّ‬ ‫بقيت منحوت ًة يف باله طوال‬ ‫برشي‪ ‬التي َ‬ ‫يرسم هذا األخري‪ ،‬ويستذكر معه ‪‬خياالت ّ‬ ‫حياته بني بوسطن ونيويورك‪ ،‬والحق ًا َع ْن َون بها نعيمه الفصل األول من كتابه السرية‬ ‫عن جربان‪.‬‬ ‫صديق له يدعى منصور‪:‬‬ ‫والحق ًا كتب إىل‬ ‫ٍ‬ ‫برشي‪ .‬ولكن يا‬ ‫برشي؟ َأو ُّد كل يومٍ أن أعود إىل لبنان وإىل ّ‬ ‫‪‬تسألني إن كنتُ ُأحب أن أعود إىل ّ‬ ‫سيبقون عىل احرتامي وأنا بينهم هناك كما يحرتمونني وأنا‬ ‫منصور‪ ،‬إذا عدتُ إىل لبنان‪ّ ،‬‬ ‫أتظن الناس ُ‬ ‫هنا بعيدٌ عنهم‪‬؟‬

‫يعقب بعدها بكلمة (ص ‪ 115‬من كتاب ‪‬جربان ُمصلح وفيلسوف‪ ‬لغريغوريوس‬ ‫ومل ِّ‬ ‫مرتي‪ -‬مطبوع عىل اآللة الكاتبة‪ ،‬بدون تاريخ الطباعة‪ ،‬وال مكان صدوره‪ ،‬وال ْذكر لهذا‬ ‫الـ‪‬منصور‪ ‬يف الرسالة)‪.‬‬ ‫ويف رسالة إىل ابن عمه نخلة جربان‪ ،‬رد ًا عىل سؤال هذا األخري عن إمكان مغادرته‬ ‫نيويورك والعودة للعيش يف لبنان‪ ،‬كتب‪:‬‬ ‫وصى عليها‪ ،‬ومن لوحا ٍ‬ ‫ت يف معاريض أو يف محرتيف‪،‬‬ ‫‪ ...‬ولكن‪ ،‬يا نخلة‪ ،‬أنا هنا أعيش من رسوم ُأ َ‬ ‫كل يوم ماذا ميكن أن أفعل‬ ‫أحن للعودة إليه ّ‬ ‫ومن كتبي يف اإلنكليزية‪ .‬إذا عدتُ إىل لبنان الذي ّ‬ ‫أي عمل ميكن أن آتيه وأعيش منه؟‪.‬‬ ‫هناك؟ ّ‬

‫‪126‬‬


‫الرسائل والتلغرافات‪ :‬إدارة الجريدة حكومة لبنان‪ .‬ال تعاد الرسائل إىل ذويها ُن ِش َرت‬ ‫تنشر‪.‬‬ ‫أو مل َ‬ ‫يف الوسط تحت اسم الجريدة‪ ،‬سطران‪ :‬جريدة املترصفية‪ -1327 -‬تصدر ثالث‬ ‫مرات يف األسبوع‪ :‬الثلثاء والخميس والسبت‪.‬‬ ‫إىل الجهة اليرسى فوق‪ :‬رقم السنة‪ ،‬وتحته سبعة أسطر‪ :‬بدل االشرتاك السنوي‪:‬‬ ‫يف لبنان رياالن مجيديان‪ ،‬يف البالد القريبة ثالثة رياالت مجيدية‪ ،‬يف سائر الجهات‬ ‫يضاف ريال مجيدي للربيد‪ .‬أجرة اإلعالنات يف الصفحة األوىل ‪ 3‬غروش السطر‪ ،‬ويف‬ ‫الصفحة الثانية والثالثة والرابعة غرشان‪ .‬و‪ 60‬بارة للمشرتكني‪.‬‬ ‫سطر طويل عليه من اليمني إىل اليسار تواريخ الجريدة‬ ‫وتحت كل هذه العناوين ٌ‬ ‫تتوزع صفحات الجريدة عىل خمسة أعمدة‪.‬‬ ‫الثالثة‪ :‬الهجري‪ ،‬العثامين‪ ،‬امليالدي‪ ،‬ثم ّ‬ ‫نسخ من أعداد هذه الجريدة أمامي؟‬ ‫فامذا عن جربان يف أربع ٍ‬ ‫أنقل النصوص حرفي ًا كام جاءت بكل أخطائها اللغوية والطباعية‪.‬‬ ‫يف النسخة األوىل‪ :‬السنة الرابعة‪ -‬العدد ‪-429‬‬ ‫بعبدا الثلثاء ‪ 28‬شهر ربيع اآلخر سنة ‪3 -1330‬‬ ‫نيسان سنة ‪ 16 -1328‬نيسان سنة ‪ -1912‬عىل‬ ‫الصفحة األوىل يف العمودين الثالث والرابع‪ ،‬نقرأ‬ ‫ما يأيت‪:‬‬

‫اإلخطار الثاين‬

‫‪‬إِ خطار ثانٍ‬ ‫من دائرة االجراء يف قائمقامية قضا (كذا) البرتون‬ ‫عدد ‪107‬‬ ‫إسم الدائن وصنعته ومحل إقامته وتابعيته‪َ :‬م ُّرون أرملة‬ ‫برشي‬ ‫حبيب سعد جربان‪ّ -‬‬ ‫إسم املديون وصنعته ومحل إقامته وتابعتيه‪َ :‬و َرثة زوجها‪،‬‬ ‫بعضهم (كذا) يوسف ومنصور حنا سعد وجربان ومريانا خليل‬ ‫ومرون‬ ‫جربان‪ ،‬ومسيحية أرملة عيد جربان وابنتها شفيقة‪ُّ ،‬‬ ‫برشي‪ ،‬وبعضهم َمجهول اإلقامة‪.‬‬ ‫وليىل جربان سعد من ّ‬

‫‪129‬‬


‫عمه عيد‬ ‫شرب ٍ‬ ‫أرض ٌ‬ ‫برشي‪ ،‬وكذلك ُّ‬ ‫بذلك نكتشف ْأن مل ُيعد لجربان ُ‬ ‫واحد ميلكه يف ّ‬ ‫عمه عيد كان‬ ‫جربان (صاحب البيت الحايل الذي نشأ فيه جربان)‪ ،‬كام نكتشف أن ّ‬ ‫سيدة تدعى مسيحية‪ ،‬له منها ابن ٌة تدعى شفيقة (معلومة تظهر للمرة‬ ‫متزوج ًا من ّ‬ ‫األوىل)‪.‬‬ ‫انطالق ًا من هنا‪ ،‬نسأل‪:‬‬ ‫برشي التي مل يعد‬ ‫أيكون هذا سبب ًا بني أسبا ٍ‬ ‫ب أخرى حالت دون عودة جربان إىل ّ‬ ‫حتى وال‬ ‫يؤول إليه‬ ‫ويطالب به‪ ،‬وهو مل يذكر ذلك ألحد‪ّ ،‬‬ ‫شرب ٍ‬ ‫أرض واحد ًا ُ‬ ‫ُ‬ ‫ميلك فيها َ‬ ‫ملاري هاسكل؟‬ ‫برشي‪ ،‬ألنه مل يعد‬ ‫أيكون هذا سبب ًا آخر ّ‬ ‫رشاء دير مار رسكيس عىل كتف ّ‬ ‫لوصيته َ‬ ‫برشي وال حتى قرب؟‬ ‫عنده بيت يف ّ‬ ‫أيكون هذا سبب ًا لعودة مريانا إىل بوسطن فور ًا بعد مرافقتِها جثامن جربان إىل‬ ‫ذكرت باربره يونغ‬ ‫برشي (كام َ‬ ‫برشي (آب ‪ )1931‬وكانت منزعجة من ّ‬ ‫الجو العام يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫يف كتابها ‪‬ذاك الرجل من لبنان‪)‬؟‬ ‫وشخصيته‪ ،‬عمد ًا ووعي ًا‪ ،‬ألنه‬ ‫شخصه‬ ‫أسئلة كثرية تضاف إىل ٍ‬ ‫هالة أحاط بها جربان َ‬ ‫ّ‬ ‫يتهيبه الكثريون‬ ‫كان يحب أن يعطى هذه الهالة من األرسار كي يبقى كتاب ًا ْ‬ ‫مغلق ًا ّ‬ ‫يتشبه بهم ويريد أن يكونهم يف‬ ‫بعده‪ ،‬فال يكون َب َشر ًا سوي ًا بل من صنف ُم َلهمني كان ّ‬ ‫غري واحدة من مزايا شخصيته‪.‬‬ ‫الفصل العقاري‬

‫ما قصة الفصل ‪‬العقاري‪ ‬من حياته؟‬ ‫أمامي جريدة ‪‬لبنان‪ ‬الرسمية‪ .‬االسم‪:‬‬ ‫بخط كبري بني ِش َلحي غار‪،‬‬ ‫(لبنان) مكتوب ّ‬ ‫فوقهام نجمة وهالل‪.‬‬ ‫إىل الجهة اليمنى فوق‪ :‬رقم العدد‪،‬‬ ‫خمسة أسطر‪ :‬مركز املطبعة‬ ‫وتحته‬ ‫َ‬ ‫وإدارتها‪ :‬يف دائرتها املخصوصة املجاورة‬ ‫لدار الحكومة ِب َق َصبة بعبدا‪ .‬عنوان‬

‫‪128‬‬

‫جريدة ‪‬لبنان‪ ‬الرسمية‬


‫برشي‬ ‫إسم الدائن وشهرته وصنعته ومحل إقامته‪َ :‬م ّرون أرملة حبيب سعد جربان‪ّ -‬‬

‫إسم املديون وشهرته وصنعته ومحل إقامته‪ :‬ورثة زوجها‪ ،‬بعضهم يوسف ومنصور حنا سعد‪،‬‬ ‫ومرون وليىل جربان‬ ‫وجربان ومريانا خليل جربان‪ ،‬ومسيحية أرملة عيد جربان وابنتها شفيقة‪ُّ ،‬‬ ‫برشي‪ ،‬وبعضهم َمجهول َمحل اإلقامة‪.‬‬ ‫سعد من ّ‬

‫السند‪ْ :‬‬ ‫حكم محكمة قضا البرتون‬ ‫نوع َ‬

‫السند ‪ 19‬متوز سنة ‪ -326‬عدد ‪246‬‬ ‫تاريخ َ‬

‫املبلغ املستدعى التنفيذ ألجله‪ :‬ثالثة آالف وثالمثاية وخمسة وسبعون قرش ًا خال الفائدة‬ ‫واملصارفات‪.‬‬

‫متنع عن إيفاء الدَّ ين بعدما جرت املعامالت القانونية املسنونة‪ ،‬فباالستناد للمادة‬ ‫مبا أن املديون ّ‬ ‫ومر خمسة عرش يوم ًا‬ ‫بقي متمنع ًا ّ‬ ‫‪ 58‬من نظام األجراء‪ّ ،‬قررت هذه الدائرة إخطاره بأنه إذا َ‬ ‫َّ‬ ‫املسطر‪ ،‬ومل‬ ‫من تاريخ نرش وإذاعة هذا اإلعالن بالجريدة الرسمية وفق ًا للمادة ‪ 59‬من النظام‬ ‫ِ‬ ‫يوف الدَّ ين املحرر‪ ،‬تُطرح أمالكه املحجوزة مبوجب قرار صادر من‬ ‫هذه الدائرة رقم ‪ 17‬كانون الثاين سنة ‪1910( 326‬م‪ ).‬عدد ‪107‬‬ ‫للبيع باملزاد العمومي العلني‪ ،‬وفق ًا لألصول املسنونة‪ .‬وقد ُح ّرر‬ ‫هذا اإلعالن ثالث نسخ لنرش إحداها بالجريدة الرسمية‪ ،‬والثانية‬ ‫تلصق عىل إيوان هذه الدائرة‪ ،‬والثالثة ّ‬ ‫تعلق مبحل اجتماع الناس‬ ‫َ‬ ‫برشي الكائنة بها األمالك‪ .‬تحرير ًا يف ‪ 27‬أغستوس سنة ‪328‬‬ ‫َ‬ ‫بقص َبة ّ‬ ‫(‪.)1912‬‬

‫يف النسخة الثالثة‪ :‬السنة الرابعة‪ -‬العدد ‪ -529‬بعبدا‬ ‫الخميس ‪ 14‬صفر سنة ‪ 10 -1331‬كانون الثاين سنة ‪-1328‬‬ ‫‪ 23‬كانون الثاين سنة ‪ ،1913‬عىل الصفحة األوىل يف العمودين‬ ‫الرابع والخامس‪ ،‬نقرأ ما يأيت‪:‬‬ ‫‪‬إخطار تفريغ‬

‫من دائرة اجراء قضا البرتون‬

‫عدد ‪1867‬‬

‫إخطار التفريغ النهائي‬

‫‪131‬‬


‫السند‪ْ :‬‬ ‫حكم محكمة قضا البرتون‬ ‫نوع َ‬ ‫السند ‪ 19‬متوز سنة ‪ -326‬عدد ‪246‬‬ ‫تاريخ َ‬ ‫السند ‪ 3375‬قرش ًا‬ ‫قيمة َ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫هي إىل املديون املذكور بالغ بأن يفي‪ ،‬يف خالل‬ ‫بتاريخ ‪ 20‬كانون األول سنة ‪1910 -( 326‬م‪ ).‬أنْ َ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مثانية أيام من تبليغه‪ ،‬الدَّ ين املحرر‪ ،‬فما أوىف‪ ،‬وما أبلغ إىل هذه الدائرة اعرتاضا مرشوعا‪ .‬وقد‬ ‫أبرز الدائن إعالم ًا واجب اإلجراء وفق ًا للمادة ‪ 40‬من نظام اإلجراء‪ .‬وبناء عىل استدعائه‪ ،‬وبقرار‬ ‫برشي‪ .‬واآلن ً‬ ‫ُ‬ ‫عمال بحكم‬ ‫رئاسة املحكمة‪ُ ،‬ح ِج َزت بالطريقة القانونية‬ ‫أمالك املديون املوجودة يف ّ‬ ‫توعز إليه هذه الدائرة ً‬ ‫املادة ‪ 51‬من النظام املذكور‪ِ ،‬‬ ‫ثانية أن يويف دينه يف خالل مثانية أيام‪َ ،‬بدؤها‬ ‫يوم وصول هذا البالغ إليه‪ .‬وإذا كان عند انقضاء هذه املهلة مل ِ‬ ‫يبين‪ ،‬وفق ًا للمادة ‪ 52‬من‬ ‫يوف ومل ّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫بيعها‬ ‫أمواال‬ ‫النظام املحرر‪،‬‬ ‫منقولة ُ‬ ‫هون عليه‪ ،‬ومل يقدِّ م الئحة باعرتاض‬ ‫َأ َ‬ ‫مرشوع يف موضوع الدَّ ين املطلوب‪،‬‬ ‫املار ذكرها‬ ‫فيصار إىل بيع أمالكه ّ‬ ‫َ‬ ‫ليستوفى الدَّ ين من أمثانها‪ .‬تحرير ًا يف‬ ‫‪ 10‬مارث سنة ‪ 1912( 328‬م)‪.‬‬

‫يف النسخة الثانية‪ :‬السنة‬ ‫الرابعة‪ -‬العدد ‪ -488‬بعبدا الثلثاء‬ ‫‪ 19‬شوال سنة ‪ 18 -1330‬أيلول‬ ‫سنة ‪ 1 -1328‬ترشين األول سنة‬ ‫‪ -1912‬عىل الصفحة الثانية يف‬ ‫العمودين الثاين والثالث‪ ،‬نقرأ ما‬ ‫يأيت‪:‬‬ ‫‪‬إعالن‬

‫من دائرة اجراء قضاء البرتون‬

‫ملدة ‪ 15‬يوم ًا تُعترب بدايتها من تاريخ‬ ‫نرش هذا اإلعالن بالجريدة الرسمية‬ ‫عدد ‪107‬‬

‫‪130‬‬

‫اإلنذار بتنفيذ السند‬


‫وفائدته الذي عىل صورتهما‬

‫السند‪ ،‬وإن عجزت أطلب تحليفه اليمني‬ ‫ال ُّثبوت‪ :‬أثبت بشهود َ‬

‫مطالبي‪ :‬أطلب وأستدعي إعطائي ْ‬ ‫الحكم باملبلغ املدَّ عى به وفائدته القانونية والعطل والرضر‬ ‫والرسوم وأجرة الوكالة‪ ،‬ومبا أن هذه الدعوى من الدعاوى الغري قابلة االستئناف‪ ،‬وال حاجة‬ ‫إىل التبليغات الخطية‪ ،‬ألتمس إحالة عريض هذا ملحكمتكم ّ‬ ‫املوقرة لكي بعد أن تحفظ بقلمها‬ ‫السند وعن االستدعاء‪ ،‬ل ُت َب ّلغ بالحال صورة عنها ملن يلزم بالجريدة الرسمية وبجلسة‬ ‫صورة عن َ‬ ‫تعقدها‪ ،‬تحكم يل مبا طلبته آنف ًا‬ ‫وجب عرضه أفندم يف ‪ 29‬متوز سنة ‪913‬‬

‫بنده‬

‫بولس يوسف البيطار كريوز‪.‬‬

‫جبران الـ«مجهول اإلقامة»‬

‫يتلمس طريقه الفني واألديب‬ ‫عامي ‪ 1912‬و‪ّ 1913‬‬ ‫وهكذا ّيتضح أن جربان‪ ،‬فيام كان َ‬ ‫تدعمه ماري هاسكل مبنحة ‪ 75‬دوالر ًا شهري ًا) ويف بوسطن‬ ‫يف پاريس (يدرس الرسم ُ‬ ‫اتساع شهرته فيها بعد صدور كتبه العربية الثالثة األوىل (‪‬املوسيقى‪‬‬ ‫التي بدأت تشهد َ‬ ‫‪‬يتمنع‪( ‬باعتباره‬ ‫برشي عام ‪ّ 1912‬‬ ‫و‪‬األرواح ّ‬ ‫املتمردة‪ ‬و‪‬عرائس املروج‪ ،)‬كان يف ّ‬ ‫‪‬مجهول اإلقامة‪ )‬عن دفع مبلغ ‪ 3375‬قرش ًا للسيدة َم ّرون أرملة حبيب سعد جربان‬ ‫أمالكه مبزاد علني بلغ ‪ 7800‬قرش ر ِب َحه الزائد األخري حبيب زيدان‬ ‫برشي فتباع ُ‬ ‫من ّ‬ ‫برشي‪ ،‬كام كان عام ‪1913‬‬ ‫ّ‬ ‫برشي إليفاء دين الخوري اغناطيوس جعجع من ّ‬ ‫سكر من ّ‬ ‫‪‬يتمنع‪( ‬باعتباره ‪‬مجهول اإلقامة‪ ‬هو وأخته مريانا) عن دفع مبلغ ‪ 3744‬قرش ًا‬ ‫َّ‬ ‫والده خليل جربان استدانها يف ‪ 19‬نيسان ‪ 1900‬من بولس البيطار كريوز‬ ‫و‪ 30‬بارة كان ُ‬ ‫يسددها‪.‬‬ ‫ملدة سنة ومات ومل ّ‬ ‫مفارقة عجيبة بني مفارقات أخرى تالحق هذا العبقري الذي مأل الدنيا بكتاباته‪،‬‬ ‫برشي التي‬ ‫فيام ٌ‬ ‫واحد من أرسا ِره الدفينة أنه خرس أمالكه يف أغىل بقعة عىل قلبه‪ّ :‬‬ ‫حتى إذا عاد إليها‪،‬‬ ‫ظلت متأل أهداب عينيه‬ ‫َّ‬ ‫وأطراف ريشتِه حرس ًة عىل العودة إليها‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫شقيقها يف‬ ‫اشرتته مريانا من مال ِ‬ ‫ُمطفأ النور يف عينيه‪َ ،‬رق َد يف دير مار رسكيس إذ ْ‬

‫‪133‬‬


‫إنه مبوجب املادة ‪ 63‬من نظام االجراء‪ ،‬مقتىض إخطار املديون جربان ومريانا‬ ‫برشي ومجهول محل إقامتهما‪.‬‬ ‫وار َثي خليل جربان من ّ‬

‫إنه بعد ميض مثانية أيام من تاريخ تبليغه هذا اإلخطار‪ ،‬إن مل يحرض‬ ‫بنفسه لتفريغ أمالكه التي ُط ِر َحت للبيع باملدّ ات القانونية إليفاء دين‬ ‫برشي من الزائد األخري حبيب زيدان ّ‬ ‫سكر‬ ‫الخوري اغناطيوس جعجع ّ‬ ‫برشي‪ّ ،‬‬ ‫وإال ف ُتباع من الزائد املرقوم باملبلغ الذي دفعه بها وقدره سبعة‬ ‫ّ‬ ‫آالف ومثامناية قرش بدون التفات ّ‬ ‫لتعلالت املديون بعدئذ‪ .‬ولقد تحرر‬ ‫هذا اإلخطار بنسخ َتني لكي ّ‬ ‫تسلم نسخة للمديون املذكور وتعاد الثانية‬ ‫لهذه الدائرة َّ‬ ‫مبلغة إليه بالطريقة القانونية‪ .‬تحرير ًا يف ‪ 6‬كانون األول‬ ‫سنة ‪1913( 328‬م)‪.‬‬

‫ويف السنة الرابعة‪ :‬السنة الخامسة‪ -‬العدد ‪ -601‬بعبدا‬ ‫الثلثاء يف ‪ 9‬شهر رمضان سنة ‪ 30 -1331‬متوز سنة ‪12 -1329‬‬ ‫آب سنة ‪ ،1913‬عىل الصفحة الثانية يف العمود األول‪ ،‬نقرأ‬ ‫ما يأيت‪:‬‬

‫‪‬مقدَّ م لقائمقامية قضا البرتون‬

‫سعادتلو أفندم‬

‫املدّ عي‪ :‬بولس يوسف الخوري مبارك املعروف يف بولس البيطار كريوز من‬ ‫برشي‬ ‫ّ‬

‫برشي‬ ‫املدَّ عى عليه‪ :‬خليل جربان من ّ‬

‫الدعوى عىل جربان من‬ ‫بولس يوسف الخوري‬

‫‪132‬‬

‫الدعوى‪ :‬إن املدّ عى عليه املذكور استدان من والدي مبلغ ثالث آالف‬ ‫مستحق األداء‬ ‫وسبعماية وأربعة وأربعني قرش ًا وثالثون بارة‪ ،‬مبوجب سند‬ ‫ّ‬ ‫مؤرخ يف ‪ 19‬نيسان سنة ‪ 1900‬ملرور سنة كاملة‪ .‬ومبا أن والدي‬ ‫خال الفائدة ّ‬ ‫تويف منحرص ًا إرثه ِف ّي‪ ،‬وال وارث له خاليف‪ ،‬ومبا أن خليل املدعى عليه‬ ‫املذكور تويف منحرص ًا إرثه يف ولدَ يه جربان ومريانا وال وارث له خالفهما‪،‬‬ ‫متمنعني عن دفع رأس املال‬ ‫وهما مجهولني اإلقامة‪ ،‬ومع هذا مل يزاال ّ‬


135


‫جثامن شقيقها يف آب‬ ‫مراف َق ًة‬ ‫غادرتها طفل ًة سنة ‪ 1895‬وحني عادت إليها ِ‬ ‫برشي التي ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أحبت أن تستضاف لدى أحدٍ يف البلد ِة التي‪ ،‬بفضل‬ ‫وال‬ ‫لها‬ ‫ا‬ ‫بيت‬ ‫ي‬ ‫برش‬ ‫يف‬ ‫د‬ ‫ج‬ ‫ت‬ ‫مل‬ ‫‪1931‬‬ ‫ً‬ ‫َِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بلغت أَقايص العامل‪.‬‬ ‫كتب شقيقها‪َ ،‬‬

‫* ‪‬النهار‪2004/6/4 -‬‬

‫‪134‬‬


‫أغراض ُوكتب عاد بها إىل‬ ‫تبقى له من‬ ‫ب منها ما ّ‬ ‫ٍ‬ ‫قصد جربان بوسطن ِّ‬ ‫صيفئذٍ َ‬ ‫يوض ُ‬ ‫نيويورك يف أيلول‪ ،‬حتى إذا َب َل َغه ّأن يف ٍ‬ ‫مصممٍ‬ ‫بناء جديدٍ (‪ 51‬من الشارع العارش غرب ًا) َّ‬ ‫فأرسعت ِبجوابها‪:‬‬ ‫خصيص ًا للرسامني ُمحرتف ًا ال يزال شاغر ًا‪ ،‬كتب اىل ماري يستشريها‬ ‫َ‬ ‫فضاؤها فسيح‪ ،‬لها رشف ٌة صغرية‪،‬‬ ‫‪‬فور ًا‪ِ .‬إ ْه َرع اىل ّ‬ ‫استأ ِْج ْرها‪َ .‬‬ ‫الشقة َ‬ ‫واستأ َْج َرها‪ُ :‬‬ ‫جيد كام يف محرتفات باريس‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إيجارها ‪ 45‬دوالر ًا يف الشهر‪ .‬النور فيها ّ‬ ‫نهار ذكرى جربان‪.‬‬ ‫قصدت‬ ‫املكانني‪،‬‬ ‫هذين‬ ‫إىل‬ ‫ُ َ‬ ‫غري ُممِ ّل‪ :‬لكل شار ٍع طابعه‬ ‫الطقس‬ ‫ربيعي ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫دافئ‪ ،‬والسري يف شوارع مانهاتن ُ‬ ‫ُ‬ ‫كل‬ ‫عند‬ ‫الضياع‪:‬‬ ‫من‬ ‫خشية‬ ‫وال‬ ‫ومميزاته‪.‬‬ ‫زاوية الفت ٌة برقم الشارع واتجاهاته‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫عيل أن‬ ‫كان‬ ‫)‬ ‫ا‬ ‫غرب‬ ‫‪28‬‬ ‫الشارع‬ ‫‪‬الهدى‪-‬‬ ‫جريدة‬ ‫(إدارة‬ ‫مانهاتن‬ ‫يف‬ ‫مكتبي‬ ‫من‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وصوال إىل الشارع‬ ‫عبورها َثامين عرشة دقيق ًة ً‬ ‫أجتاز ً‬ ‫يتجاوز ُ‬ ‫عرش شارع ًا ال ُ‬ ‫نزوال َثامني َة َ‬ ‫العارش‪.‬‬ ‫كنت أتخيل جربان مشى عىل هذا‬ ‫خياالت كثري ٌة َتاموجت يف بايل مع كل خطوة‪ُ :‬‬ ‫توقف عند هذا املنعطف‪ ،‬قاسى هنا من َل ْفحة شمس‪ ،‬هناك من َز َّخة مطر‪.‬‬ ‫الرصيف‪َّ ،‬‬ ‫وجدت البناية ‪26‬‬ ‫أثر لها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مه ُ‬ ‫ُ‬ ‫بلغت الشارع التاسع‪َ .‬ت ّ‬ ‫لت‪ :‬أين البناية رقم ‪28‬؟ ال َ‬ ‫شفتيه ومشى (أين هذا من البشاشة‬ ‫قلب‬ ‫عابر‪.‬‬ ‫أول‬ ‫سألت‬ ‫‪.30‬‬ ‫البناية‬ ‫جوارها‬ ‫ويف‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫استوق ْف ُته‪.‬‬ ‫اللبنانية عند سؤال العابر؟)‪َ .‬م ّر عجوز‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ هل أنت من سكان هذا الشارع؟‬ ‫س‪.‬‬ ‫  ِي ْ‬

‫ وأين البناية رقم ‪28‬؟‬ ‫هدم ْتها بلدية نيويورك‪ .‬قامت مكانها اليوم هذه البناية‪ ،26 :‬عىل‬ ‫َ‬ ‫ كانت هنا‪َ .‬‬ ‫طابقني لكل منهام‪ .‬لذا تجد الرقم ‪ُ 26‬يجاوره الرقم‬ ‫بناءين من َ‬ ‫أربعة طوابق َت ُّ‬ ‫حل مكان َ‬ ‫‪ 30‬ال ‪.28‬‬ ‫ ثانك يو‪.‬‬ ‫راسادا‪ .‬عمرها يتجاوز‬ ‫ُ‬ ‫رحت أتأمل البناية ‪‬الجديدة‪ :‬صار ْاس ُمها بناية ْ‬ ‫‪‬پ َّ‬ ‫خيل‬ ‫األربعني عام ًا‪ .‬صارت عتيقة‪ .‬قد َت ْع َم ُد البلدي ُة إىل هدمها من جديد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫رحت َأت َّ‬ ‫جربان والريحاين يذرعان رصيف هذا الشارع‪.‬‬

‫‪137‬‬


‫‪1‬‬ ‫أين بيت جبران في نيويورك؟‬ ‫غريه من‬ ‫الكالم عىل جربان من نيويورك‪ُ ،‬‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫كل زاوية من شار ٍع لها نهكة أخرى‪،‬‬ ‫هنا ُّ‬ ‫مناخ آخر عاشه ذاك الذي كان يطأها بقامته‬ ‫ٌ‬ ‫وقبعته األمريكية القصرية وأحالمه‬ ‫املربوعة ّ‬ ‫اللبنانية الكثرية‪.‬‬ ‫وكل الوطن يعبق يف البال‪ -‬نفهم‪،‬‬ ‫هنا‪ُّ -‬‬ ‫كل ما كان يجول يف قلب ذلك‬ ‫أكثر‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫الرومنطيقي الرهيف‪.‬‬ ‫نفهم َلهف َة جربان هنا يف مانهاتن إىل‬ ‫ماري هناك يف بوسطن‪.‬‬ ‫أزوره‪.‬‬ ‫يف يوم ذكراه (‪ 10‬نيسان)‬ ‫ُ‬ ‫أحببت ُ‬ ‫النيويوركي‪ :‬نظرةُ حننيٍ إىل لبنان‬ ‫جربان يف محرتفه‬ ‫ّ‬ ‫زرتها‬ ‫كنت ُ‬ ‫أزور مطارحه لعيل بها (بعدما ُ‬ ‫برشي) أقرتب منه أكثر‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫بني ما أَختزن عن جربان يف ذاكريت أنه‬ ‫جاء نيويورك للمرة األوىل يف ‪ 26‬نيسان‬ ‫حرتفه‬ ‫‪ 1911‬وسكن يف البناية رقم ‪ 164‬من شارع وافريل (مانهاتن) يف ٍ‬ ‫غرفة كانت ُم َ‬ ‫شقته يف البناية رقم‬ ‫وغرف َة نومه واستقبالِه يف آن‪ .‬لذا دعاه صديقه أمني الريحاين اىل ّ‬ ‫قاعتها فسيح ٌة للرسم‪ ،‬وينام ويستقبل يف غرفة أخرى‪.‬‬ ‫‪ 28‬من الشارع التاسع غرب ًا ألن َ‬ ‫وهكذا كان‪.‬‬

‫‪136‬‬


‫يبق يشء يف الشارع يشري‬ ‫مل َ‬ ‫إىل جربان وخياالت جربان‪.‬‬ ‫املمدد‬ ‫يبق ّإال هذا‬ ‫الرصيف َّ‬ ‫ُ‬ ‫مل َ‬ ‫ت السنوات العتيقة‪ ،‬يتمطّ ى‬ ‫بصم ِ‬ ‫متثائب ًا يف َف ْيء أشجار شاهدة عىل‬ ‫تردد‬ ‫مرور األحياء واألموات‪ِّ ،‬‬ ‫بالطات يف الشارع‬ ‫أصداء غيا ِبهم‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫أخاديد من‬ ‫السنوات‬ ‫ها‬ ‫حف َر ْت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫مدخل مبنى وورِن (هنا كانت البناية رقم ‪ 51‬وفيها سكن جربان ‪ 20‬سنة)‬ ‫ذكريات‪.‬‬ ‫لدى وصول جربان إىل‬ ‫مانهاتن كتب إىل ماري هاسكل‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫جئت إىل هنا لكي أرتاح؟ إنني‬ ‫‪‬اإلنسان ال يعرف الراحة يف هذه املدينة‪ .‬ولكن‪ ،‬هل ُ‬ ‫سعيد جد ًا مبقدريت عىل الركض‪.‬‬ ‫الركض؟ بىل‪ .‬نيويورك ليس فيها سوى هذا‪.‬‬ ‫حتى ليخال‬ ‫الناس َ‬ ‫يتدافعون للوصول إىل أعاملهم‪َ .‬ت ْس َح ُق ُهم البنايات الشاهقة ّ‬ ‫وتش َمخ‬ ‫السائر عىل األرض أن األرض تهرب به ً‬ ‫يتقزم مع كل خطوة ْ‬ ‫نزوال‪ ،‬وأنه َّ‬ ‫البنايات الهائلة حوله كام َلت ْس َح َقه‪.‬‬ ‫رجني التوأ َ​َمني (‪ 110‬طوابق) أعىل بناية يف العامل‪ ،‬والـ‪‬إمپاير‬ ‫إنها نيويورك ُالب َ‬ ‫معلق يف العامل)‪ ،‬نيويورك الكومپيوتر‬ ‫ستايت ِب ْلدِ نغ‪ ‬وجرس الڤرياتزانو (أكرب جرس َّ‬ ‫والصابواي واملسافات الطويلة والـ‪ 17‬مليون ًا‪.‬‬ ‫للحلم ورومنسية جربان؟‬ ‫نيويورك هذه‪ ،‬هل من مكان ُ‬ ‫بعد فيها اليوم ُ‬ ‫تغيرت كثري ًا‪.‬‬ ‫تغي َرت نيويورك عن أيام جربان‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫تتنقل عىل هذا الرصيف‪ ،‬يف خيال‬ ‫غادرت الشارع العارش ويف خيايل قام ٌة َر ْب َع ٌة َّ‬ ‫ُ‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫راب‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫ة‬ ‫لبناني‬ ‫ة‬ ‫نكه‬ ‫صاح ِبها ٌ‬ ‫ٌ ُ‬ ‫ّ‬

‫ ‬

‫نيويورك‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/4/22 -‬‬

‫‪139‬‬


‫انتقلت إىل الشارع العارش وهو ييل‬ ‫بعدها‬ ‫ُ‬ ‫السابق بشارع واحد‪.‬‬ ‫طويال‪.‬‬ ‫وقفت‬ ‫عند ناصية هذا الشارع‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫مدخله ُيمن ًة ُويرسة‪ .‬هذا املدخل وطئه‬ ‫تأملت َ‬ ‫ُ‬ ‫جربان آالف املرات بني ‪ 1911‬و‪ .1931‬عرشين‬ ‫ظل يطأُه‪ ،‬ورمبا أكثر من مر ٍة يف اليوم‬ ‫عام ًا ّ‬ ‫الواحد‪.‬‬ ‫دخله وهو حزين‪ .‬وكم مرة خرج‬ ‫كم مر ًة َ‬ ‫ت وأحالم ًا‪.‬‬ ‫متلئ خياال ٍ‬ ‫منه وهو ُم ٌ‬ ‫و‪‬الس ْكث أڤنيو‪‬‬ ‫أنا بني ‪‬الفيفث أڤنيو‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ميتد الشارع‬ ‫(الجادتني الخامسة والسادسة)‪ُّ .‬‬ ‫الرصيفني‪.‬‬ ‫يظل ُله عىل‬ ‫عتيق ِّ‬ ‫َ‬ ‫شجر ٌ‬ ‫غرب ًا أمامي‪ٌ :‬‬ ‫پراسادا (هنا كان املبنى الذي سكنه الريحاين‬ ‫بناية ّ‬ ‫األبنية عن الجانبني ختيارة‪ .‬الشارع هادئ‬ ‫وقدّ م شقّ ته لجربان قبل انتقاله إىل محرتفه)‬ ‫صامت‪ .‬وكذلك العابرون‪.‬‬ ‫يهتم أحد من هؤالء العابرين ّأن اليوم‬ ‫ال ُّ‬ ‫يسكن هذا الشارع‪ ،‬وغاب قبل ‪54‬‬ ‫(‪ 10‬نيسان) ذكرى غياب عبقري من بالدي كان‬ ‫ُ‬ ‫عام ًا يف مثل هذا اليوم‪.‬‬ ‫ف من هذه الرومنسيات‪.‬‬ ‫لك ولهذه الخياالت يا صبي‪َ .‬ت َق َّد ْم َ‬ ‫أ َْق َن ْع ُتني‪ :‬ما َ‬ ‫وخ ِّف ْ‬ ‫مت ماشي ًا عىل مهل‪ ،‬وأنا أقرأ أرقام البنايات بحث ًا عن الرقم ‪.51‬‬ ‫َّ‬ ‫تقد ُ‬ ‫وجدت الرقم ‪ 45‬وإىل جانبه الرقم ‪.55‬‬ ‫أجد ُه‪.‬‬ ‫مل ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت هذا الشارع‬ ‫َّ‬ ‫مرور أحدٍ يفيدين‪ّ .‬مرت امرأة ختيارة جد ًا‪ .‬قد تكون ْبن َ‬ ‫ترق ُ‬ ‫بت َ‬ ‫منذ ‪ 65‬سنة‪:‬‬ ‫س‪ .‬كانت البناية هنا‪َ .‬ه َد َم ْتها البلدية قبل عرشين عام ًا‪ .‬سنة ‪ .1965‬ثم‬ ‫ أُوه‪ِ ،‬ي ْ‬ ‫قامت مكانها هذه البناية الكبرية‪.‬‬ ‫مت من البناية ‪‬الكبرية‪ .‬تحمل الرقم ‪ .45‬اسمها بناية ‪‬پيرت ُو ْو ِر ْن‪ .‬هي من‬ ‫ّ‬ ‫تقد ُ‬ ‫حدها‪ ،‬البناية رقم ‪.55‬‬ ‫عرشة طوابق‪ّ ،‬‬ ‫حلت مكان خمس ُة أبنية‪َّ .‬‬ ‫وجدت جربان يف املبنى ‪ ،28‬وال هنا‬ ‫غريب! ال هناك يف الشارع املحاذي (التاسع)‬ ‫ُ‬ ‫يف العارش حيث كانت ‪‬الصومعة‪ ‬يف املبنى ‪.51‬‬

‫‪138‬‬


‫ت‬ ‫ت وصفقا ٍ‬ ‫أمريكا‪ ،‬ويذهب البعض إىل أنها قلب العامل‪ ،‬لِام َيجري فيها يومي ًا من عمليا ٍ‬ ‫العالمي‪.‬‬ ‫َتغ ِّير يف بورصة السياسة واالقتصاد َ‬ ‫أقرب إىل االكتظاظ الخليط‬ ‫يف أسفل جزيرة مانهاتن دسكر ُة ‪‬غرينتش ڤيل ِْدج‪ُ ،‬‬ ‫رخيصة‬ ‫ذات ِس َل ٍع‬ ‫وهيپيون‪ ،‬وفيها‬ ‫ود وفقراء‬ ‫ٍ‬ ‫التجمع السكني‪ .‬فيها ُس ٌ‬ ‫دكاكني ُ‬ ‫ُ‬ ‫منها إىل ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫(نسبي ًا‪ ،‬نظر ًا لغالء املعيشة القايس يف نيويورك)‪ ،‬وهي ليست كثري َة الطموح إىل‬ ‫تتجدد بدون كثري ذوق‪ .‬إنه‬ ‫النظافة‪.‬‬ ‫شوارعها مزدحمة بسيارا ٍ‬ ‫ت وفوىض‪ُ ،‬‬ ‫وبيوتها ّ‬ ‫ُ‬ ‫ليال بسكارى‬ ‫‪‬الداون تاون‪ ‬بالتعبري النيويوركي‪َ .‬محطات الصاباوي فيه ِ‬ ‫وسخة‪ ،‬تحفل ً‬ ‫تعج ِبهيپّيني وعبثيني وشحاذين‬ ‫وحشاشني ينامون عىل األرصفة‪ ،‬والزوايا املسائية ّ‬ ‫ومتسكعني وخليط صينيني وهنود وزنوج وفقراء وصعاليك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫تتغير عن ذي قبل‪ .‬فها ميخائيل نعيمه‪ ،‬يف كتابه عن جربان‪ِ ،‬يص ُفها قبل أكثر‬ ‫مل ّ‬ ‫السفىل‪ ،‬استأثر‬ ‫حي قديم من أحياء نيويورك ُ‬ ‫من نصف قرن‪ :‬قرية غرينتش ڤيلدج ٌّ‬ ‫كل نوع فجعلوه شبه صورة مصغرة لِمومنارتر يف باريس‪ .‬فيه الشاعر‬ ‫به الفنانون من ّ‬ ‫واملصور والقرد البرشي‪.‬‬ ‫واملوسيقي واملتموسق‪ ،‬والراقصة والخيزرانة‪،‬‬ ‫والشعرور‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫قليال عن أزياء الناس‪ .‬يأتون‬ ‫أزياء من اللباس َتختلف ً‬ ‫َتجمعهم خِ َّلة واحدة‪ ،‬ويبتدعون َ‬ ‫الرس‪ .‬وكثري ًا ما يباهون ِبمظاهر الفقر (‪ .)...‬يف‬ ‫يف الجهر ً‬ ‫غريهم ّإال يف ّ‬ ‫أعامال ال يأتيها ُ‬ ‫األج ّر األحمر‪ ،‬تحت رقم ‪ 51‬من الشارع‬ ‫إحدى ضواحي تلك القرية‪ ،‬يف بناية قدمية من ُ‬ ‫العارش غرب ًا‪ّ ،‬اتخذ جربان ُمحرتف ًا صغري ًا له جعله كذلك مسكن ًا‪.‬‬ ‫حيث كانت الصومعة‬

‫استقل جربان القطار من بوسطن إىل نيويورك‪ .‬كانت شارلوت‬ ‫يف ‪ 26‬نيسان ‪1911‬‬ ‫ّ‬ ‫حي الفنانني من جميع‬ ‫هيأَت له لقاءا ٍ‬ ‫ت ُ‬ ‫تيلر ّ‬ ‫ومجتمع ًا صغري ًا يف ‪‬غرينتش ڤيلدج‪ّ ،‬‬ ‫يقطن فيه‬ ‫األجناس واألنواع‪ .‬سكن جربان لدى وصوله يف مبنى للشقق املفروشة كان‬ ‫ُ‬ ‫الريحاين‪ .‬وبسبب ضيق املكان كان يستخدم غرفة الريحاين لريسم‪ ،‬ويذهب صباح ًا إىل‬ ‫بيت شارلوت القريب ليتناول الفطور‪.‬‬ ‫ ها نحن يف الشارع التاسع غرب ًا‪َ .‬ص ِّور املبنى رقم ‪ 28‬يا تومسون‪.‬‬ ‫أفه َمنا الناطور‬ ‫عبث ًا َب ْ‬ ‫املبنى ‪َ ،26‬ح َّد ُه املبنى ‪َ .30‬‬ ‫حثنا‪ .‬مل يعد للمبنى وجود‪ .‬وجدنا ْ‬ ‫حل مكانه أربعة أبنية‪ .‬وها هو اليوم يحمل إسم ‪‬پراسادا‪ ،‬ويعلو‬ ‫أن املبنى ‪ّ 26‬‬ ‫تسعة طوابق‪.‬‬

‫‪141‬‬


‫‪2‬‬ ‫جولة في نيويورك جبران‬ ‫متتب ٌع مثيل ُخطى‬ ‫أجمل ما يعطاه يف نيويورك‬ ‫لعلها‬ ‫ٌ‬ ‫جولة عىل مطارحه؟ َّ‬ ‫ُ‬ ‫باحث ّ‬ ‫هالة عل َِقت به‪ ،‬أو التصاق ًا بالواقع‬ ‫لكسر بعض ٍ‬ ‫جربان ُّ‬ ‫وتنقالتِه‪ ،‬اقرتاب ًا َ‬ ‫أكثر من الرجل ْ‬ ‫أكثر وباألرض أكثر‪ ،‬يف السري عىل األرصفة نفسها‪ ،‬والوقوف عند الزوايا نفسها‪َ ،‬ت َق ُّرب ًا‬ ‫تتضخم‬ ‫سبع ساعات األطلنطيك َ‬ ‫من ذاك الذي َ‬ ‫جعل ْتها َّ‬ ‫وصل ْتنا منه هال ٌة‪ ،‬بينها وبيننا ُ‬ ‫س بعبقريتِه التي ال إىل جدل‪.‬‬ ‫وتكرب‪ ،‬ما ْأل َحق األذى بالرجل دون ْال َم ّ‬ ‫جولة نيويوركية إذ ًا عىل أماكن كم قرأْنا عنها يف الكتب َو َم ْو َق ْعنا جربان‬ ‫ال ُب َّد من ٍ‬ ‫خيلتنا‪.‬‬ ‫ِض ْم َنها يف ُم ِّ‬ ‫املصور األمريكاين معي أن يتأنى يف‬ ‫عبث ًا َج َّم ُ‬ ‫عيني ولهجتي وأنا ّأنبه ّ‬ ‫عت َلهفتي يف ّ‬ ‫يتنبه إىل كتابا ٍ‬ ‫ت وأرقامٍِ‬ ‫التقاط صوره‪ ،‬ويأخذ املشهد الواحد ّمرتني لضامن الصورة‪ ،‬وأن ّ‬ ‫باردتني‪،‬‬ ‫أخاطبه بكل‬ ‫ٍ‬ ‫بعينني َ‬ ‫ُيه ُّمني ُ‬ ‫إيل َ‬ ‫حامسة وحرار ٍة ولهفة‪ ،‬وهو ينظر ّ‬ ‫إبرازها‪ .‬كنت ُ‬ ‫وشع منها عىل‬ ‫ويعجب من هذا الذي ُي ِّ‬ ‫حدثه عن نابغة لبناين من الرشق عاش يف نيويورك ّ‬ ‫آلية حيادية‪.‬‬ ‫كس ٍل وبرودة‪ّ ،‬‬ ‫ينفذ اللقطات التي أطلبها منه‪ ،‬يف ّ‬ ‫العامل‪ .‬كان مييش معي‪ ،‬يف َ‬ ‫ نَ ميش يا تومسون؟‬

‫ يس سري‪.‬‬ ‫‪ ...‬وانطلقنا‪.‬‬

‫غرينيتش فيلج‬

‫نواح تتألف منها مدينة نيويورك)‪ .‬وجزيرة مانهاتن‬ ‫نحن يف مانهاتن (إحدى خمس ٍ‬ ‫يدخلها يومي ًا َنحو خمسة ماليني من البرش‪ .‬إنها قلب‬ ‫هي حركة ‪‬نيويورك سيتي‪ُ ،‬‬

‫‪140‬‬


‫مرشح‬ ‫أُنظر إىل هذا الشارع‪ :‬نصف أبنيته َّ‬ ‫للهدم‪ .‬لن يبقى يف نيويورك حي عتيق‪.‬‬ ‫أغيم إىل سبعني سن ًة‬ ‫أَلتفت إىل املبنى ‪ُ .45‬‬ ‫وأتذكر وصف ميخائيل نعيمه املبنى‬ ‫خلت‪ّ ،‬‬ ‫للتعرف‬ ‫العتيق رقم ‪:51‬‬ ‫‪‬كنت يف َش ٍ‬ ‫ُ‬ ‫وق ُّ‬ ‫إىل صومعة جربان‪ .‬وهي قائمة يف الطبقة‬ ‫شعرت‬ ‫الثالثة واألخرية من بناية قدمية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هكذا كانت بناية الستوديو‬ ‫داخل دير ًا‪َ :‬م َمرات‬ ‫دخلتها كأين‬ ‫عندما‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫(الرقم ‪ 51‬الشارع العارش غرباً)‬ ‫مصباح ضئيل من الغاز‬ ‫كالرساديب‪ُ ،‬ينريها‬ ‫ٌ‬ ‫وفيها محرتف ‪‬صومعة‪ ‬جربان‬ ‫فيطرح عىل جدرانها املظْ لمة أخيل ًة تكاد‬ ‫سكن ًا ومحرتف ًا يف الطابق الثالث‬ ‫ُ‬ ‫وتبك ُتك‬ ‫ك‬ ‫تستوقف‬ ‫وتسألك عن ِ‬ ‫غرضك منها‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫سكينتها‪ .‬ثم صعدنا سالمل خشبية‬ ‫ت‬ ‫ألن ْ‬ ‫َ‬ ‫أقلق َ‬ ‫وتئن تحت أقدامنا حتى‬ ‫تدور دورات لولبية ّ‬ ‫وقفنا إىل اليسار‬ ‫نكاد نجفل من ّأناتها‪ .‬أخري ًا ْ‬ ‫من رأس السلم أمام باب خشبي قاتم اللون‪،‬‬ ‫يف وسطه حلق ٌة من الحديد ما طرقنا بها عليه‬ ‫خرجت‬ ‫حتى انفتح‪ .‬وبعد زياريت الصومعة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫محرتف جربان من الداخل كما تركه عند وفاته‬ ‫وج ِّده أكثر‬ ‫تحدثني عن ْفقر ساكنها ِ‬ ‫وهي ِّ‬ ‫وتعبده‪.‬‬ ‫مِ ام عن ُّ‬ ‫تقشفه ُّ‬ ‫وأتذكر ْمقطع ًا من رسالة جربان إىل ماري‬ ‫هاسكل (‪ 14‬حزيران ‪ :)191١‬أمامي فرص ٌة‬ ‫الستئجار ستوديو واسع يف املبنى ‪ 51‬من الشارع‬ ‫العارش غرب ًا‪ .‬هو أكرب ثالث مرات من الستوديو‬ ‫الذي أنا فيه اآلن (املبنى ‪ 28‬من الشارع التاسع‬ ‫رح‬ ‫غرب ًا) والنور َي ُ‬ ‫دخله من كل الجهات‪ْ .‬مف ٌ‬ ‫ومالئم جد ًا للعمل‪ .‬إيجاره ‪ 45‬دوالر ًا يف الشهر‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫أجعله‬ ‫لكي‬ ‫ا‬ ‫دوالر‬ ‫خمسني‬ ‫نحو‬ ‫أرصف‬ ‫أن‬ ‫وعيل‬ ‫ً‬ ‫محرتف جربان بعد وفاته‬ ‫ّ‬ ‫يبدو نظيف ًا‪ .‬فهل أستأجره؟؟‪‬‬

‫‪143‬‬


‫فيام تومسون يلتقط صور ًة للمبنى‬ ‫سبقته إىل الشارع املالصق‪ :‬العارش‬ ‫الجديد‪ُ ،‬‬ ‫يتصدر زاوية أوراق‬ ‫غرب ًا‪ ،‬الشهري الذي كان‬ ‫ّ‬ ‫مكاتيب جربان‪.‬‬ ‫ها هو‪ :‬الفت ٌة صفراء تشري إليه‪ ،‬من َط َرفه‬ ‫(س ْكث آڤنيو)‪،‬‬ ‫مسكه الجادة السادسة ِ‬ ‫ُت ِ‬ ‫ومن طرفه اآلخر الجادة الخامسة (فيفث‬ ‫َدخله ببعض َو َرع‪ :‬كم مر ًة مشى‬ ‫آڤنيو)‪ .‬أ ُ‬ ‫عىل رصيفه جربان‪ ،‬آن ًا َف ِرح ًا‪ ،‬وآون ًة عىل‬ ‫حزن وغصة‪ ،‬أو منهمك ًا تحت برنيطته وفوق‬ ‫يلة من ‪‬النبي‪ ‬كان يستعجل‬ ‫عصاه‪ ،‬ب َأ ْخ ٍ‬ ‫يدونها‪.‬‬ ‫الخطى إىل ‪‬الصومعة‪ ‬كي ّ‬ ‫ أيتها األشجار الختيارة يف الشارع‬ ‫العارش غرب ًا‪ُ ،‬‬ ‫أتذكرين عبقري ًا من بالدي‪،‬‬ ‫مربوعَ القامة‪َ ،‬‬ ‫كثري األحالم‪،‬‬ ‫شارد النظرات‪َ ،‬‬ ‫عنفواني ًا كأرز ٍة من لبنان ِ‬ ‫شامخة القوام؟‬ ‫أجده‪ .‬أجد املبنى‬ ‫أَبحث عن املبنى ‪ .51‬ال ُ‬ ‫‪َ ،45‬ح َّد ُه املبنى ‪ .55‬أتقدم من ّبواب الـ ‪،45‬‬ ‫يرشح يل‪:‬‬ ‫ أنا هنا منذ خمس عرشة سنة‪ .‬وهذا‬ ‫يعود إىل‬ ‫املبنى الضخم (الـ‪ )45‬من ‪ 12‬طابق ًا ُ‬ ‫سنة ‪ .1970‬قبله كان مبنى من مثاين طبقات‬ ‫يعود إىل ‪ ،1952‬وقبله كان مبنى من ست‬ ‫طبقات يعود إىل ‪ .1939‬املبنى الذي تسألني‬ ‫هد َم ْته بلدية نيويورك عام ‪ .1938‬كان‬ ‫عنه َ‬ ‫من ثالث طبقات عتيقة شبه متداعية‪ .‬هكذا‬ ‫نيويورك‪ْ :‬تبني يف رسعة َوتهدم يف رسعة‪ .‬ال‬ ‫والتقدم‪.‬‬ ‫تتمهل‪ُ .‬تواكب العرص‬ ‫ُّ‬ ‫هي ُ‬ ‫تسأل وال َّ‬

‫‪142‬‬

‫الفتة الشارع العارش غرب ًا وفيه البناية التي سكنها جربان‬

‫الشارع العارش غرب ًا حيث كانت بناية املحرتف‬ ‫يف املبنى ‪51‬‬

‫بناية وورِن التي حلّ ت اليوم‬ ‫مكان بناية املحرتف أيام جربان‬


‫خاص باملصارف يف الشارع الرابع عرش‬ ‫حي‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫انتقلت إىل يونيون سكوير‪ٌّ :‬‬ ‫غرب ًا بني الجادة الخامسة وجادة برودواي‪ .‬نصف ساعة مشي ًا عن ‪‬الصومعة‪.‬‬ ‫حل‬ ‫ُ‬ ‫وجدت املبنى ‪ 31‬لكنني مل أجد أثر ًا لبنك ‪‬مانهاتن تراست كومپاين‪ّ .‬‬ ‫تتحر ك معامل نيويورك يف‬ ‫أخرى‪،‬‬ ‫مرة‬ ‫مرتوپوليس‪.‬‬ ‫ذي‬ ‫أوف‬ ‫‪‬بنك‬ ‫مكانه‬ ‫ّ‬ ‫رسعة ال تهدأ‪.‬‬ ‫َ ص ِّور يا تومسون‪َ .‬ص ِّو ْر‪.‬‬ ‫«پارك» القراءة والتأمل‬

‫يف أكثر من مرجع عن جربان أنه كان يخرج أحيان ًا من ‪‬الصومعة‪ ‬إىل پارك‬ ‫يتأمل أو يقرأ أو يرتاح‪.‬‬ ‫(حديقة عامة) قرب مسكنه‪ّ ،‬‬ ‫أشيح عنه‪ .‬ها‬ ‫مل يكن جدير ًا أن َ‬ ‫كبري واسع‪،‬‬ ‫هو‪ :‬واشنطن پارك‪ٌ .‬‬ ‫ب‬ ‫ميامات‬ ‫تزوره‬ ‫باحثات عن حبو ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫وأمان‪ .‬فيه مقاعد عتيقة وجديدة‬ ‫جددة‪ .‬أشجاره عالية غري عتيقة‪.‬‬ ‫وم ّ‬ ‫ُ‬ ‫زواره هيپيون وفقراء وعشاق‬ ‫هاربون من غفلة عن العيون‪ ،‬منهم‬ ‫بعض‬ ‫كتاب‪ ،‬ومنهم‬ ‫حديقة ‪‬واشنطن پارك‪ ‬هنا كان يجلس جربان يف ُسويعات صفائه من يرافقهم‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫تذكار‪ .‬تصلهم الشمس من بني‬ ‫متكسرة‪.‬‬ ‫متكسرة عىل أحالم‪ّ ...‬‬ ‫األغصان أشع ًة ّ‬ ‫يتفسح من ضغط عمل‬ ‫إذ ًا هنا كان َيجلس جربان‪َ .‬يحلم ِبخياالت ‪‬النبي‪ ‬أو ّ‬ ‫متواصل‪.‬‬ ‫الشارعني السادس والثامن غرب ًا‪ .‬إذ ًا عىل أمتار من ‪‬الصومعة‪.‬‬ ‫الپارك بني‬ ‫َ‬ ‫يتكبد املسافة‪.‬‬ ‫مر ًة أخرى‪ :‬مل يكن جربان ّ‬ ‫ضيقة جد ًا ألنه كان‬ ‫ومرة أخرى أَكتشف كم كانت حياته َمحصورة يف رقعة ّ‬ ‫منرصف ًا إىل الكتابة والرسم ليل نهار‪ ،‬ال وقت يضيعه يف الخروج واالجتامعيات‪.‬‬ ‫َ ص ِّور يا تومسون‪َ .‬ص ِّو ْر هؤالء الناس يف الپارك‪.‬‬

‫‪145‬‬


‫‪‬صومعته‪ ‬فيه َمحط ًة رئيسة يف تاريخه وتاريخنا األديب‪.‬‬ ‫‪ ...‬وأستأ َْج َره‪ .‬وباتت‬ ‫ُ‬ ‫(حل مكان ثالث‬ ‫أعود من غيمومة املايض‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫أجد أمامي مبنى حديث ًا من ‪ 12‬طبقة ّ‬ ‫بنايات‪ ،‬كام رشح يل البواب) يحمل إسم‪ :‬مبنى پيرت ُو ْو ِرن‪ 45 -‬الشارع العارش‬ ‫غرب ًا‪‬‬ ‫ ولو كان‪ ،‬يا تومسون‪ .‬خُ ْذ صورة لـ‪‬حيث كانت الصومعة‪.‬‬ ‫أمواله في المصارف‬

‫‪‬أملك أربعني‬ ‫يف وصية جربان‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫حص ًة من حصص رشكة بناية املحرتف‬ ‫حيث أسكن‪ -‬الرقم ‪ 51‬من الشارع‬ ‫العارش غرب ًا‪ -‬موجودة يف صندوقتي‬ ‫للودائع لدى بنك مانهاتن تراست‬ ‫كومپاين‪ -‬املبنى رقم ‪ 31‬يونيون سكوير‪-‬‬ ‫دفت َرا توفري يف ‪‬وست‬ ‫نيويورك‪ .‬وعندي َ‬ ‫مطعم بالدوتيش (هنا كان املرصف الذي فيه حساب جربان)‬ ‫سايد سيڤنغس بنك‪ -‬املبنى رقم ‪ 422‬يف‬ ‫الجادة السادسة‪ -‬نيويورك‪....‬‬ ‫رحت ْأبحث‪ .‬هوذا املبنى رقم‬ ‫ُ‬ ‫‪ 422‬عىل الجادة السادسة‪ ،‬بني‬ ‫الشارعني العارش والحادي عرش غرب ًا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قليلة من‬ ‫عند الزاوية متام ًا‪ ،‬عىل أمتا ٍر ٍ‬ ‫صومعة جربان‪ .‬إذ ًا كان مرصفه قريب ًا‬ ‫مشقة املسافة‬ ‫يتكبد ّ‬ ‫جد ًا من َ‬ ‫سكنه فال َّ‬ ‫اكتشفت‬ ‫ويبقى منرصف ًا إىل عمله (كم‬ ‫ُ‬ ‫بنك ميرتوپوليس‬ ‫ليل نهار إىل‬ ‫أهمية انرصاف جربان َ‬ ‫(هنا كان مانهاتن بنك وفيه وثيقة حصته من بناية املحرتف)‬ ‫رسام‪ ،‬حتى أنه كان‬ ‫عمله كتاب ًة أو ً‬ ‫يطوي أحيان ًا أيام ًا وليايل ال يخرج)‪ .‬ولكن هذا الرقم (‪ )422‬مل يعد فيه اليوم مرصف‪،‬‬ ‫يقدم السندويشات واملرطبات لجحافل الراكضني وراء‬ ‫بل صار فيه مطعم ‪‬بالدوتيش‪ّ ‬‬ ‫الدوام والدوالر‪ .‬وهو مبنى جديد من عرش طبقات‪.‬‬

‫‪144‬‬


‫رقم تلفون جبران‬

‫يطمئن إليه‪.‬‬ ‫يروي ميخائيل نعيمه يف كتابه أنه كان غالب ًا يتصل بجربان تلفوني ًا‬ ‫ّ‬ ‫وأكثر من مرة تروي باربره يونغ أنها كانت تتصل به تلفوني ًا لتستفرس عن أمور تهمه‪.‬‬ ‫يتحدث عن‬ ‫ويبدو أن تلفونه يعود إىل عام ‪ ،1920‬بدليل أن نعيمه كان ّ‬ ‫يفكر يف‬ ‫‪‬العواصف‪‬‬ ‫(صدرت عام ‪ )1920‬وكتب‪ :‬صار جربان ينام بدون أن ّ‬ ‫َ‬ ‫حاجاته اليومية من أكل ورشب ولباس ومأوى‪ .‬بل أصبح كل شهر يودع مبلغ ًا من‬ ‫فتئت تصل يف موعدها‪.‬‬ ‫املال يف البنك‪ .‬والخمسة والسبعون دوالر ًا من ماري ما َ‬ ‫فاستعاض يف صومعته عن نور الغاز بنور الكهرباء‪ ،‬وعن وجاق الحطب بوجاق من‬ ‫الغاز‪ ،‬وجاء بتلفون‪.‬‬ ‫يهيج يب فضويل الصحايف عىل مناخي األديب والشعري فأَنصاع ببعض لذة‪ .‬ومنها‬ ‫فضويل ملعرفة رقم تلفون جربان‪.‬‬ ‫قصدتها فأحالني املسؤول إىل ‪‬مكتبة‬ ‫كيف يل ذلك؟ ليس يل إال دائرة التلفون‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫نيويورك العامة‪ ‬أبحث يف امليكروفيلم عن دليل هواتف مانهاتن لتلك الحقبة التي‬ ‫تعود إىل أكثر من سبعة عقود‪.‬‬ ‫‪‬مكتبة نيويورك العامة‪ ‬هي األخرى عىل أمتار قليلة من ‪‬الصومعة‪ ،‬عند مدخل‬ ‫منقب ًا‪ ،‬خصوص ًا عند‬ ‫الشارع العارش غرب ًا‪.‬‬ ‫وأظن جربان كان يتمشى إليها أحيان ًا باحث ًا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫وضعه كتابه ‪‬يسوع إبن اإلنسان‪.‬‬ ‫طلبت مايكروفيلم دليل الهاتف لعام ‪ .1920‬جاءتني املوظفة‬ ‫دخلت املكتبة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫أقلب الفيلم‪ ،‬واستدارت‬ ‫وكيف‬ ‫املايكروفيلم‬ ‫شاشة‬ ‫أستعمل‬ ‫كيف‬ ‫متني‬ ‫وعل‬ ‫ّ‬ ‫بالعلبة َّ‬ ‫ُ‬ ‫ذاهبة‪ .‬عبث ًا رحت أفتش تحت حرف الجيم (جربان) وحرف الكاف ‪‬كاهليل‬ ‫فعلت يف مايكروفيلم السنوات‬ ‫باللفظ اإلنكليزي‪ .‬مل أجد السم جربان أثر ًا‪ .‬وكذا‬ ‫ُ‬ ‫‪ 1920‬حتى ‪( 1931‬سنة وفاته)‪ .‬كنت أقع عىل األسامء نفسها املحيطة باسمه‪،‬‬ ‫إال عىل اسمه‪ ،‬مل أجده‪ .‬ورغم انزعاج املوظّ فة السبعينية من هذا املرتاد الذي ال‬ ‫جارست‪ ‬عىل‬ ‫يرتد عن طلب مايكروفيلم سن ًة وراء سنة وال يقع عىل مطلبه‪َ ،‬ت‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫قضيتي أمامها‪ ،‬وأنني مل أعثر عىل اسم أطلبه‪ ،‬وأنا متأكد ْأن كان عنده رقم‬ ‫عرض ّ‬ ‫اخترص ْت جوابها‪:‬‬ ‫هاتف‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ إذ ًا يكون طلب عدم ذكر اسمه يف الدليل‪.‬‬

‫‪147‬‬


‫كنيسة «النبي»‬

‫(لق ُبها األديب‬ ‫كانت‬ ‫هنرييتا بودن َ‬ ‫ّ‬ ‫باربره يونغ) يف الخامسة واألربعني‬ ‫فصوال من‬ ‫سمعت للمرة األوىل ً‬ ‫عندما َ‬ ‫‪‬النبي‪ ‬يقرأها القس َب ْتلر داڤنپورت يف‬ ‫كنيسة سانت مارك (القديس مرقس)‬ ‫ذات أحدٍ من خريف ‪ .1923‬ورسعان‬ ‫أصبحت واحدة من تالمذة جربان‬ ‫ما َ‬ ‫كنيسة ‪‬سانت مارك‪( ‬القديس مرقس)‬ ‫وعاشقيه و‪ ...‬عاشقاته‪.‬‬ ‫هنا كان ُيقرأ ‪‬النبي‪ ‬عند صدوره‬ ‫يروي ميخائيل نعيمه يف كتابه‬ ‫عن جربان‪ :‬يف نيويورك كنيس ٌة أسقفية (أنكليكانية) عىل اسم القديس مرقس يف‬ ‫حي َالبا ِو ِري هي من أقدم كنائس املدينة‪ .‬يديرها قسيس إسمه وليم غِ ثري‪ ،‬له نظرة‬ ‫ّ‬ ‫خاصة يف تحبيب العبادة إىل املؤمنني‪ ،‬فرأى أن َيجعل من كنيسته شبه مرسح‪ ،‬أو‬ ‫هيكل يوناين قديم‪ ،‬فيه الرقص والشعر والتمثيل‪ ،‬ما مل يكن راضي ًا عنه املطران‪،‬‬ ‫وسبب خالف ًا بينه وبني القس‪ .‬ذات أحد دعاين جربان مع نسيب عريضه وعبد املسيح‬ ‫ّ‬ ‫وسيمثلون‬ ‫قائال إنهم سيقرأون من بعض كتاباته‬ ‫ّ‬ ‫حداد إىل كنيسة القديس مرقس هذه ً‬ ‫‪‬النبي‪ ،‬فذهبنا‪.‬‬ ‫ذهبت‪ .‬ومعي تومسون يركض خلفي الهث ًا وهو ال يدري حقيقة‬ ‫‪ ...‬وأنا أيض ًا‬ ‫ُ‬ ‫اهتامم هذا ‪‬الصحايف اللبناين‪ ‬بأماكن فيها أبنية وبنوك وكنائس و‪ ...‬واشنطن پارك‪.‬‬ ‫رشقي ‪‬الداون تاون‪( ‬الناحية األكثر رقي ًا من غربها)‪ .‬وكنيسة سانت‬ ‫حي البا ِو ِري‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫مارك جامثة عىل الجادة الثانية عند زاوية الشارع الحادي عرش رشق ًا‪ .‬عالية وكبرية‪،‬‬ ‫مروسة وعالية‪ ،‬مدخلها فخم وأنيق‪ .‬ويبدو من جاللها‬ ‫حولها ساحة وسيعة‪ُ ،‬ق َّب ُتها َّ‬ ‫وتقض عليها كام عىل األبنية‬ ‫(حجارة وبناء) أنها قدمية إمنا مل متسها بلدية نيويورك‬ ‫ِ‬ ‫العلامنية‪.‬‬ ‫نسيب‬ ‫عىل درج الكنيسة كان مؤمنون خارجني‪ّ .‬فكرت‪ :‬رمبا بينهم من كان أبوه أو‬ ‫ٌ‬ ‫له حارض ًا ذات يوم من أيام قراءة ‪‬النبي‪ ‬يف هذه الكنيسة‪.‬‬ ‫وفكرت‪ :‬متى يف كنائسنا قراءات من فصوله؟؟‬ ‫ُ‬ ‫َ ص ِّور يا تومسون‪َ .‬ص ِّو ْر‪.‬‬

‫‪146‬‬


‫بني الشارع العارش غرب ًا‪ ،‬وركتور سرتيت‪:‬‬ ‫أحببت أن أقطعها‬ ‫نصف ساعة بالصابواي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫مثله‪.‬‬ ‫ إىل الصابواي يا تومسون‪.‬‬ ‫ضيق وصغري‪.‬‬ ‫ها أنا يف شارع ركتور‪ٌ .‬‬ ‫زقاق ّ‬ ‫عىل املرفأ متام ًا‪ .‬البحر عىل أمتار قصرية منه‪،‬‬ ‫وهو عىل أمتار من أعىل ُبرجني يف العامل‪:‬‬ ‫‪‬توين تاور‪( ‬الربجان التوأمان‪ ،‬مركز‬ ‫واحد ُهام من ‪ 110‬طبقات‪.‬‬ ‫التجارة العاملي) ُ‬ ‫أكرب عدد من‬ ‫وهذا الحي هو‬ ‫الجامع َ‬ ‫ُ‬ ‫اليوم َ‬ ‫مؤسسات املال واملصارف والبورصة (‪‬وول‬ ‫سرتيت‪ .)‬ومن زقاق ‪‬ركتور سرتيت‪‬‬ ‫البناية رقم ‪ 19‬يف شارع رِكتور‬ ‫تبدو املسافة البحرية التي تفصل مانهاتن‬ ‫(هنا كانت مجلة ‪‬السائح‪‬‬ ‫عن ستاتِن آيل ِْن ْد التي ينتصب يف أواخرها‬ ‫وتجتمع فيها ‪‬الرابطة القلمية‪)‬‬ ‫متثال الحرية‪.‬‬ ‫ركتور سرتيت إذ ًا‪ ،‬يف أسفل مانهاتن‪ ،‬عىل‬ ‫السفر‪.‬‬ ‫البحر متام ًا‪ .‬تعبق فيه رائحة البحر ورائحة املرفأ ورائحة َ‬ ‫هوذا املبنى ‪ 19‬الذي نبحث عنه‪ .‬لكنه صار عالي ًا جد ًا (نحو أربعني طبقة) وكان‬ ‫أيام ‪‬السائح‪ ‬من أربع طبقات كام قال يل فؤاد خوري‪.‬‬ ‫مرة أخرى‪ ،‬ينهار واحد من تلك املعامل‪.‬‬ ‫ ولو كان‪ ،‬يا تومسون‪ ،‬خذ صورة‪.‬‬ ‫هنا مات جبران‬

‫‪...‬هات ْف ُت ُه مساء الخميس‬ ‫عن برباره يونغ يف كتابها ‪‬هذا الرجل من لبنان‪:‬‬ ‫َ‬ ‫البواب (وكانت‬ ‫هت فور ًا اىل ُمحرتفه‪ْ .‬‬ ‫‪ 9‬نيسان‪ .‬أ َْق َلقني ُ‬ ‫توج ُ‬ ‫صوته‪ّ .‬‬ ‫أبلغتني زوجة ّ‬ ‫فاستدعت طبيب ًا ّقرر ْأن‬ ‫وجدته مريض ًا جد ًا‬ ‫تحمل إليه الفطور صباح كل يوم) أنها‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يجب ْنق ُله إىل مستشفى القديس ڤنسنت يوم الجمعة‪ .‬عند وصول سيارة اإلسعاف‬

‫‪149‬‬


‫رت فور ًا ّأن فؤاد خوري‬ ‫ّ‬ ‫تذك ُ‬ ‫(املعارص الوحيد الباقي حي ًا من أيام‬ ‫جربان والرابطة القلمية) قال يل‪:‬‬ ‫يتذمر من الناس الذين‬ ‫‪‬كان جربان ّ‬ ‫يزعجونه باستهالك الكثري من وقته‬ ‫عىل التلفون بدون طائل وال نتيجة‪.‬‬ ‫ينصب عىل عمله‬ ‫كان يحب أن‬ ‫ّ‬ ‫املكتبة العامة يف نيويورك حيث دليل الهاتف عىل ميكروفيلم‬ ‫ت طويل ًة بدون أن يزعجه أحد‪.‬‬ ‫ساعا ٍ‬ ‫كان َجلود ًا عىل العمل بشكل عجيب‪:‬‬ ‫يلة بدون راحة‪ .‬وكان يفرض عائد ًا مالي ًا لكل ما يعمل‪،‬‬ ‫ليلة فنها ٍر َف َل ٍ‬ ‫طي ٍ‬ ‫ال يتعب من ِّ‬ ‫ولو رمزي ًا‪ .‬كان مستهرت ًا باملادة‪ ،‬لكنه مل يكن متهاون ًا‪.‬‬ ‫أفهم عندئذ ملاذا مل أجد رقم هاتفه يف دليل مانهاتن‪.‬‬ ‫تام إىل العمل اإلبداعي‪.‬‬ ‫تفرغ‬ ‫ٍ‬ ‫وانرصاف ّ‬ ‫معه حق‪ .‬ال إبداع بدون ُّ‬ ‫َ ص ِّور يا تومسون‪َ .‬ص ِّو ْر املكتبة العامة‪ ،‬طاملا لن نستطيع تصوير صفحة دليل‬ ‫الهاتف‪.‬‬ ‫«السائح»‬

‫يرتدد إىل إدارة ‪‬السائح‪ :‬املبنى ‪ 19‬من‬ ‫وكان فؤاد خوري روى يل أن جربان كان ّ‬ ‫ِركتور سرتيت‪ .‬وكانت مجلة ‪‬السائح‪ ‬لعبد املسيح حداد لسان ‪‬الرابطة القلمية‪.‬‬ ‫وذكر نعيمه يف كتابه عن جربان‪ ... :‬وإذ نحن كذلك يف إدارة املجلة‪ ،‬إذا بجربان‬ ‫ب ِاإلشعار‬ ‫قائال إنه آ ٍ‬ ‫ّيتصل باإلدارة تلفوني ًا ً‬ ‫ت بعد قليل‪ .‬هذا يعني أنه كان ُيحِ ُّ‬ ‫بوصوله‪.‬‬ ‫ وكيف كان جربان ّ‬ ‫يتنقل غالب ًا يا عم فؤاد؟‬

‫ كان يذهب إىل أماكن قريبة منه‪ُ .‬يحب أن مييش‪َ .‬يطرق األرض بعصاه‪،‬‬ ‫يتنقل‬ ‫قليال‪ّ ،‬‬ ‫أبعد ً‬ ‫عىل رأسه ّقبعته‪ ،‬وقيافته ُم ّميز ٌة حني يخرج‪ .‬حني يقصد أماكن َ‬ ‫بالصابواي (القطار الرسيع تحت األرض)‪.‬‬

‫‪148‬‬


‫ينتظرين تومسون كي أَستمهله فاسرتاح عىل مقعدٍ عند املدخل‪ ،‬سعيد ًا َبن ْهرة‬ ‫مل‬ ‫ْ‬ ‫وغ َرف‬ ‫‪‬الصحايف‬ ‫مواطنه البوليس هذا‬ ‫الغريب‪ ‬الذي يطلب منه تصوير الكنائس ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫يصور املستشفى من خارج‪ ،‬وينتظرين‪.‬‬ ‫املستشفى‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫طلبت منه أن ّ‬ ‫أطلب من االستعالمات موظفة األرشيڤ‪.‬‬ ‫ من الباب اآلخر عند الشارع اآلخر‪.‬‬ ‫جواب جديد‪:‬‬ ‫عند املدخل اآلخر‬ ‫ٌ‬ ‫ُ خذ املدخل الرشقي عند أول الشارع‪.‬‬ ‫أخري ًا‪ ،‬ها أنا يف مكت ِبها‪ .‬أرشح لها املوضوع‪ .‬تندهش‪:‬‬ ‫سحب‬ ‫ خليل جربان؟؟ ً‬ ‫مهال (تنحدر دفع ًة واحدة إىل ُد ْرج يف مكتبها‪َ ،‬‬ ‫تفتحه‪َ ،‬ت َ‬ ‫حلت‬ ‫كتاب ُه ‪‬النبي‪ ،‬ال يفارق مكتبي وال مكتبتي يف البيت‪ .‬كلام ّ‬ ‫منه كتاب ًا) هذا هو ُ‬ ‫تعرفت إىل هذا الكتاب منذ‬ ‫وأقدمها هدية‪ .‬إنه كتايب املفضل‪.‬‬ ‫مناسب ٌة أشرتي نسخ ًة ّ‬ ‫ُ‬ ‫اكتشفت فيه جديد ًا‪ِ .‬ب َم أستطيع خدمتك؟‬ ‫قرأته‬ ‫‪ 25‬سنة وال ّ‬ ‫أنفك أقرأ فيه‪ .‬وكلام ُ‬ ‫ُ‬ ‫ تعرفني أن جربان مات يف هذا املستشفى؟‬ ‫ نعم‪ .‬يف الغرفة ‪.316‬‬

‫تصوير باب الغرفة‪ ،‬وتصوير بطاقة الوفاة من األرشيڤ‪.‬‬ ‫ أريد‬ ‫َ‬ ‫ التصوير هنا َممنوع‪ .‬بطاق ُة الوفاة مل تعد موجودة‪ .‬صارت عىل امليكروفيلم‪،‬‬ ‫وأنت تريد العودة إىل حالة وفا ٍة قبل أربع‬ ‫وامليكروفيلم َيحوي ‪ 490000‬اسم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫طويال جد ًا‪ .‬ال أنت تستطيع الدخول إىل غرفة‬ ‫وثالثني سنة‪ .‬البحث يأخذ وقت ًا ً‬ ‫وقت أرصفه لهذا الغرض‪ .‬أعتذر‪.‬‬ ‫امليكروفيلم‪ ،‬وال أنا عندي ٌ‬ ‫بقيت أُغدق عليها من‬ ‫انتظر ْت مني أن أعتذر بدوري وأنرصف‪ ،‬لكنني َل ْم‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وشخصيتها (هي يف السادسة‬ ‫العالية‬ ‫الجربانية‬ ‫وثقافتها‬ ‫لطفها‬ ‫وعىل‬ ‫الحديث‬ ‫ّ‬ ‫وكل ذلك َممزوج ِبيدي إىل‬ ‫والخمسني‪ ،‬من مواليد ‪ 1929‬كام‬ ‫ُ‬ ‫علمت يف ما بعد)‪ّ ،‬‬ ‫كف يدها ِبحفنة دوالرات‪ .‬وما هي حتى استدارت‬ ‫جيبي وانتقالها (رس ًا) إىل ّ‬ ‫ودل َفت إىل غرفة امليكروفيلم‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫املسز سانتا ڤادجي َ‬ ‫املصور األمريكاين ما زال ينتظرين يف الخارج؟؟) عادت‬ ‫بعد ّ‬ ‫أقل من ساعة (هل ِّ‬ ‫املسز ڤادجي ومعها ورقة بيضاء عليها تدوينات‪.‬‬

‫‪151‬‬


‫إيل وهو ينزل‬ ‫صباح الجمعة‪ ،‬نظر ّ‬ ‫الدرج بتؤدة وقال يل‪ :‬سأكون يف‬ ‫خري‪ .‬ال تخايف‪ .‬وكانت تلك آخر‬ ‫تفوه بها‪ ،‬وتويف يف الحادية‬ ‫كلامت ّ‬ ‫عرشة إال عرش دقائق من ليل‬ ‫الجمعة‪.‬‬ ‫وعن ميخائيل نعيمه يف كتابه‬ ‫‪‬سانت ڤنسنت‪ -‬املستشفى الذي تويف فيه جربان‬ ‫عن جربان‪ :‬النهار الجمعة‪ .‬الساعة‬ ‫يرن جرس‬ ‫نحو الخامسة والنصف‪ّ .‬‬ ‫يقدر أنه لن يعيش‬ ‫التلفون‪ :‬جربان يف غيبوبة يف مستشفى القديس ڤنسنت‪ .‬الطبيب ّ‬ ‫اىل منتصف الليل‪ .‬أَرسع‪.‬‬ ‫يتنقل معي الهث ًا عىل تلك‬ ‫وكنت أنا أيض ًا أُرسع‪ ،‬وهذا‬ ‫‪...‬‬ ‫املصور األمريكاين ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫األرصفة‪ ،‬وهو َي َلعن دِ ين الساعة التي وافق فيها معي عىل تصوير هذا الريپورتاج‪.‬‬ ‫مستشفى القديس ڤنسنت يفرتش بقعة كبرية تنبسط من الجادة السابعة إىل‬ ‫قسام كبري ًا من شارعني كبريين‪ :‬الحادي عرش والثاين عرش غرب ًا‪.‬‬ ‫الجادة الثامنة‪ ،‬ويحتل ً‬ ‫إذ ًا‪ ،‬هو عىل شارع واحد وجادة واحدة من ‪‬صومعة‪ ‬جربان‪.‬‬ ‫اهتم بكل يشء عىل حياته‪ :‬أدبه‪ ،‬سريته‪ ،‬أصدقائه‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫عجيب هذا الجربان‪ .‬لكأنه ّ‬ ‫صديقاته‪ ،‬وحتى موته‪ ،‬و‪ ...‬تكرميه بعد موته‪ .‬عرف كيف ُيهندس كل يشء سلف ًا‪:‬‬ ‫إبداعه ومجده‪.‬‬ ‫ها هو مستشفى القديس ڤنسنت (‪‬مار منصور‪ ،‬بتعبرينا اللبناين)‪ .‬وأذكر عن‬ ‫غرفة من الطبقة الثالثة‪.‬‬ ‫نعيمه ذِ ْك َره ّأن جربان مات يف ٍ‬ ‫حمس يف‬ ‫عىل املدخل الرئييس يستوقفني رجل البوليس‪ .‬أرشح له املوضوع‪ .‬أ َ​َت ّ‬ ‫وع ُبوسه مع ًا‪:‬‬ ‫الرتكيز عىل أهمية هذا املكان يف موضوعي‪ .‬ال ينفعل‪ .‬يرفع عصاه ُ‬ ‫ املصور يبقى هنا‪ .‬التصوير َممنوع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مهمة ألنها‪...‬‬ ‫كهذا‬ ‫موضوع‬ ‫يف‬ ‫الصورة‬ ‫‪...‬‬ ‫ ولكن‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫وزج َرين ِب َش َف ٍة واحدة‪:‬‬ ‫َ‬ ‫ التصوير َممنوع‪.‬‬

‫‪150‬‬


‫وأكثر‪ :‬يبقى رؤيوي ًا‪ ،‬هو الذي‪ ،‬قبل ‪ 75‬سنة‪ ،‬رصخ يف وجه السياسيني‬ ‫مقدس ٌة‬ ‫النفس شعل ٌة‬ ‫أكرهكم يا بني ّأمي‪.‬‬ ‫وسامرسة األوطان‪ :‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫زرقاء ّمتقد ٌة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وتبدده‬ ‫تنمو باألنواء وتنري أوجه اآللهة‪،‬‬ ‫ونفوسكم رماد تذريه الرياح عىل الثلوج ّ‬ ‫ُ‬ ‫نفوسكم‪ ،‬وألنكم‬ ‫العواصف يف األودية‪ .‬أنا ُ‬ ‫أكرهكم يا بني أُمي ألنكم َتحتقرون َ‬ ‫أعداء اآللهة وأنتم ال ْتع َلمون‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ولذا أشاح عنهم وأطلق صوته عالي ًا يف الزمان‪ :‬لكم لبنانكم‪ ،‬و‪ ...‬يل لبناين‪.‬‬

‫ ‬

‫غالف كتاب ‪‬الرابطة القلمية‪)1921( ‬‬ ‫كما رسمه ّ‬ ‫وخططه جربان‬

‫نيويورك‬

‫أحد رسوم جربان يف كتاب ‪‬خالد‪ ‬ألمني الريحاين‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/10/21 -‬‬

‫‪153‬‬


‫وع ُل ُّوها نحو َخمس (‪6×4‬‬ ‫إنها البطاقة األصلية للمستشفى‪ُ .‬‬ ‫عرضها نحو ‪ 3‬سنتم ُ‬ ‫إدراجها عن املريض‪ ،‬و ِب َخ ّط‬ ‫إنش)‪ .‬بيضاء اللون‪ ،‬عليها الئح ٌة باملعلومات الواجب‬ ‫ُ‬ ‫اليد أجوبة عن املعلومات املطلوبة‪.‬‬ ‫نسخ ْته‬ ‫وإذ ّ‬ ‫ُدون حرفي ًا ما َ‬ ‫تعذر عيل تصوير البطاقة (لوجودها عىل امليكروفيلم)‪ ،‬أ ّ‬ ‫عنها املسز ڤادجي‪:‬‬ ‫اإلسم‪ :‬مسرت خليل جربان‪.‬‬ ‫العنوان‪ 51 :‬الشارع العارش غرب ًا‪.‬‬ ‫تاريخ دخوله إىل املستشفى‪ :‬الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪.1931‬‬ ‫رقم الغرفة‪.316 :‬‬ ‫تاريخ الوفاة‪ :‬الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪ -1931‬الساعة ‪ً 10:55‬‬ ‫ليال‪.‬‬ ‫املهنة‪ :‬شاعر‪.‬‬ ‫مدة إقامته يف الواليات املتحدة‪ 20 :‬سنة يف نيويورك‪.‬‬ ‫َذكر‪/‬أنثى‪ :‬ذكر‪.‬‬ ‫متزوج‪/‬عازب‪ :‬عازب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫السن عند الوفاة‪ 48 :‬سنة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫إسم األب‪ :‬خليل‪.‬‬ ‫إسم األم‪ :‬كاملة‪.‬‬ ‫مولود يف‪ :‬برشي‪ -‬لبنان ‪.1883‬‬

‫إشارة أخيرة‬

‫ينتهي مشواري النيويوركي‪.‬‬ ‫أود لو أقوم بزيارة ُمامثلة ألماكنه يف بوسطن وأماكن قصته الكربى‬ ‫كنت ُّ‬ ‫وكم ُ‬ ‫هناك مع ماري هاسكل‪ ،‬وزيارة أخرى اىل مكتبة األرشمندريت أنطونيوس بشري‬ ‫انتقلت اليوم إىل‬ ‫(املطران يف ما بعد)‪ ،‬وفيها وثائق مهمة (رسائل ومقطوعات) َ‬ ‫َمحفوظات مطرانية القديس جاورجيوس يف نيوجرزي‪.‬‬ ‫جلت فيه عىل أماكنه يف نيويورك‪ ،‬أعطاين بعض ُل َم ٍح عن هذا‬ ‫لكن املناخ الذي ُ‬ ‫رجال غري عادي‪ ،‬وعبقري ًا‬ ‫العبقري الذي مهام أسقطنا عنه هالة األسطورة‪ ،‬يبقى ً‬ ‫غري عادي‪.‬‬

‫‪152‬‬


‫أمرها)‪ ،‬أحالني إىل صاحب‬ ‫الكتب ال ُ‬ ‫مبا أن ُ‬ ‫تدخل يف فاتورة سبع (وتالي ًا ال َي ُه ُّمه ُ‬ ‫يقدمه إيل‪ِ  :‬ب ّل سعادة‪.‬‬ ‫الدعوة ِّ‬ ‫ت من‬ ‫اعتذر لحظا ٍ‬ ‫شاب يف ربيع الربيع‪َّ ،‬يتقد حيوي ًة ويتألق وجه ًا لبناني ًا مضيئ ًا‪َ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫ت يف السؤال‬ ‫وأسهب‬ ‫ة‬ ‫التعريفي‬ ‫مات‬ ‫املقد‬ ‫اخترصت‬ ‫‪.‬‬ ‫مستقبال‬ ‫ا‬ ‫مصافح‬ ‫إيل‬ ‫م‬ ‫وتقد‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ ِّ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ضيوفه َّ ّ‬ ‫َّ‬ ‫فش َرح‪:‬‬ ‫عن احتفاله‪َ .‬‬ ‫ عندي َمحل ُمجوهرات عىل الـ‪‬فيفث آڤنيو‪ ‬يف نيويورك (أغىل شارع يف‬ ‫دعوت إىل هذه‬ ‫افتتحت فروع ًا جديدة يف خمس واليات أمريكية‪ .‬لذا‬ ‫العامل)‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫واملوزعني يف تلك الواليات تكرمي ًا لهم‬ ‫السهرة مئ ًة من كبار الزبائن واملوظَّ فني‬ ‫ِّ‬ ‫واحتفاء بافتتاح هذه الخمسة الفروع‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ ونُ سخ كتاب ‪‬النبي‪ ‬عىل هذه الطاولة؟‬ ‫ُكرم ضيويف ِبأفضل ما ُي ّمثل لبنان‪ .‬مل أشأ لهم باق َة وردٍ تذبل بعد‬ ‫ُ‬ ‫ أردت أن أ ّ‬ ‫فكرت أن‬ ‫وينسون‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫أيام يف البيت‪ ،‬وال هدي ًة جامدة قد يضعونها يف أحد أدراجهم َ‬ ‫أهديهم أرز ًة لبنانية َمحفورة ِبامء الذهب‪ ،‬أو ُص َور ًا فوتوغرافية جميل ًة عن لبنان‪.‬‬ ‫خرتق‬ ‫بأن هذه ستبقى يف عيونهم ولن تخرتق قلوبهم‪،‬‬ ‫رت ّ‬ ‫فرأيت أن َي َ‬ ‫ُ‬ ‫لكنني ّفك ُ‬ ‫قلوبهم بواسطة ‪‬نبي‪ ‬جربان‪ .‬كثريون منهم يعرفون جربان‪ ،‬لكن البعض‬ ‫ُ‬ ‫لبنان َ‬ ‫ررت أن يعرفوا ماذا أعطى لبنان العامل‪.‬‬ ‫فس ُ‬ ‫فوجئ الليلة أن يكون جربان لبناني ًا‪ُ ،‬‬ ‫ وملاذا ‪‬النبي‪‬؟‬ ‫سويعات‬ ‫ ألنه األشهر يف أمريكا‪ ،‬وألنه َش َغ ُ‬ ‫ف الكثريين منهم‪ ،‬يعودون إليه يف َ‬ ‫سيذ ُكرون هذه‬ ‫وكلام عادوا إليه وفتحوه ْ‬ ‫وقل ِقهم وحزنهم والفرح‪ّ .‬‬ ‫صفائهم َ‬ ‫مكتبة قريبة هنا يف مانهاتن‪،‬‬ ‫ذهبت بعد ظهر اليوم إىل‬ ‫ويذ ُكرون لبنان‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫السهرة ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫املدعوين‪.‬‬ ‫عدد‬ ‫عىل‬ ‫)‬ ‫ا‬ ‫دوالر‬ ‫(‪35‬‬ ‫الفاخرة‬ ‫الطبعة‬ ‫من‬ ‫نسخة‬ ‫مئة‬ ‫واشرتيت‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ والجميع أخذوا نُ َسخ ًا؟‬

‫أكثر من نسخة‬ ‫ْ‬ ‫ املؤسف أنني مل أش ِرت ُن َسخ ًا أكثر ألن عدد ًا من املدعوين أخذوا َ‬ ‫وعدتهم أن أُرسل‬ ‫ُليهدوها اىل أصدقاء لهم‪ ،‬فبقي بعض الحضور بال ‪‬النبي‪ .‬لكني ُ‬ ‫إليهم ُن َسخهم غد ًا بالربيد الرسيع‪َ .‬ي ُه ُّمني أن َيحملوا معهم لبنان وإرثنا الحضاري‪ .‬قد‬

‫‪155‬‬


‫‪3‬‬ ‫نسخ ‪‬النبي‪ ‬هدايا في كوكـتيل‬ ‫تناو ُل الغداء أو العشاء لدى أحد مطاعمها اللبنانية (‪‬األرز‪،‬‬ ‫يف نيويورك يحلو ُ‬ ‫ت‬ ‫تقدم مأكوال ٍ‬ ‫‪‬بيبلوس‪ ،‬لبنان‪ ،‬الباشا‪ ،‬األمري‪ ،‬البستان‪ ،‬بريوت‪ِّ ،)... ،‬‬ ‫أحبها كثريون من األمريكيني ومرتادو نيويورك ألناقة تقدميها‪.‬‬ ‫لبناني ًة َّ‬ ‫دعاين الصديق فارس أسطفان (صاحب ‪‬الهدى‪ )‬إىل العشاء يف مطعم‬ ‫وتزيينه‬ ‫ت لبناني ًة‬ ‫فلف َتني فيه َج ُّوه اللبناين‬ ‫وديكوره اللبناين َوب ُّثه أغنيا ٍ‬ ‫‪‬بيبلوس‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫لبنانية من أقىص الشامل إىل أقىص الجنوب‬ ‫ِمناظر‬ ‫جدرانه ُبص َو ٍر‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫مكبرة ل َ‬ ‫فوتوغرافية َّ‬ ‫ولقمة لبنانية شهية تأخذك‬ ‫و‪‬من فقش املوج إىل ثلج صنني‪ ،‬وبالخدمة املمتازة‬ ‫ٍ‬ ‫إىل مطاعم لبنان يف أرقى ُح َللِها‪.‬‬ ‫املسب ُق رضوري ًا (ألن ‪‬املعليشية‪ ‬اللبنانية سارية حتى يف‬ ‫وملا مل يكن ْ‬ ‫الحج ُز َ‬ ‫مكتظ‪ ،‬وفيه ‪‬عجق ٌة‪ ‬رسعان ما تبني يل‬ ‫بلغنا املطعم نحو الثامنة فإذا به‬ ‫ٌّ‬ ‫نيويورك) ْ‬ ‫أنها ليست ‪‬لبنانية‪.‬‬ ‫ترب َعت عليها مجموعة نسخ من‬ ‫عند املدخل َ‬ ‫لفت ْتني يف ُّ‬ ‫مربع ٌة ّ‬ ‫الرواق طاول ٌة ّ‬ ‫جلست خلفها حسناء أمريكي ُة الوجه لبناني ُة البسمة كأنها من صبايا‬ ‫‪‬النبي‪َ ،‬‬ ‫أورفليس‪.‬‬ ‫سبع (صاحب املطعم) يهرع إلينا‬ ‫هرع فضويل أمامي ْ‬ ‫فوقف ُ‬ ‫َ‬ ‫ت أَستطلع‪ .‬وما كاد ْ‬ ‫فأجابني يف لهجة‬ ‫جري‪.‬‬ ‫ي‬ ‫عام‬ ‫بالسؤال‬ ‫ته‪،‬‬ ‫حي‬ ‫ت‬ ‫د‬ ‫ر‬ ‫قبل‬ ‫ه‪،‬‬ ‫بادرت‬ ‫حتى‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫مستق‬ ‫حيي ًا‬ ‫ًِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ َ َّ‬ ‫ُم ّ‬ ‫َ‬ ‫جميعهم سواسي ًة يف أسفل الفاتورة)‪:‬‬ ‫مهنية (كأي صاحب مطعم يرى رواده َ‬ ‫عادية ّ‬ ‫صاحب مؤسسة هنا يف مانهاتن‪ ،‬يقيم حفلة‬ ‫شاب من أصل لبناين‪،‬‬ ‫ رجل‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أعامل ٌّ‬ ‫ُ‬ ‫كوكتيل لزبائنه وكبار موظَّ في مؤسسته‪.‬‬ ‫ وماذا عن كتب ‪‬النبي‪ ‬عىل الطاولة؟‬

‫‪154‬‬


157


‫كل يوم ولو كانوا‬ ‫ينسوا يف مكتبتهم جربان يطالعهم ّ‬ ‫ينسون هذا الكوكتيل لكنهم لن َ‬ ‫طالعوه ذات يوم‪.‬‬ ‫ متى كنتَ آخر مرة يف لبنان؟‬ ‫ أنا ال أعرف لبنان‪.‬‬ ‫ نعم؟‬

‫أعرف لبنان إال من أحاديث أيب عنه‪ .‬أيب‬ ‫ولدت هنا يف نيويورك‪ .‬ال‬ ‫ أبد ًا‪ .‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬الن ُايورك‪‬‬ ‫نقوال سعادة من زحلة‪ .‬جاء صغري ًا مع َ‬ ‫يوم هاجرا من زحلة إىل َ‬ ‫والديه َ‬ ‫دائام حارض ًا يف بيتنا‪:‬‬ ‫لكن لبنان كان ً‬ ‫كام كانت ُت َس ّمى يومها‪ .‬مل َي ُع ْد أيب أبد ًا اىل لبنان ّ‬ ‫وس ّتي وذكرياتِهام‪ ،‬ويف مباهاة أيب بأن يكون لبناني ًا حتى ّإب َان إشاحة‬ ‫جدي ِ‬ ‫يف حكايا ِ‬ ‫ت ّ‬ ‫لبنانيتهم وأ َْم َر َك ِة أسام ِئهم كي ُيبعدوا الشبهة‬ ‫رفاقه بني الجيل الثاين من املهاجرين عن ّ‬ ‫وس ّتي‪ ،‬وأليب‬ ‫ِجدي ِ‬ ‫ربيت‪ ،‬وال أزال وفي ًا ل ّ‬ ‫عن كونهم من لبنان‪ .‬يف هذا الجو اللبناين ُ‬ ‫حب لبنان‪.‬‬ ‫الذي َ‬ ‫أورثني هذه املؤسسة الكربى‪ ،‬وأورثني معها ّ‬ ‫رأيك يف هذا الوطن الذي مل تعرف؟‬ ‫يتغير ُ‬ ‫ ورغم الحرب فيه‪ ،‬مل َّ‬

‫فباق‪.‬‬ ‫أغير رأيي‪ .‬الحرب تنتهي أما لبنان ٍ‬ ‫ أبد ًا‪ .‬ولن ّ‬

‫مدعويه كي‬ ‫مل يكن الئق ًا أَن أطيل أكثر مع ِب ّل سعادة (وليم باألمريكاين) ألنه ترك ّ‬ ‫فصافحته مهنئ ًا‪:‬‬ ‫رص َف َإل ّي‪ ،‬وكان عليه أن يعود إليهم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ين ِ‬

‫َ‬ ‫حبذا نسخٌ منك ُللبنانيني‬ ‫ أهدَ يتَ‬ ‫ضيوف َك نُ َسخ ًا من جربان َلي َت َذ َّكروا لبنان‪َّ .‬‬ ‫يعرفون أنْ ال هدية لبنانية أغىل من التي تحمل اإلبداع اللبناين‪.‬‬

‫ ‬

‫* ‪‬النهار‪1993/7/22 -‬‬

‫‪156‬‬

‫نيويورك‬


‫ت اىل الوراء‪ ،‬اىل ذاك النهار التاريخي‪:‬‬ ‫أمام‬ ‫رأيت‪ ،‬عدت بذاكريت مثاين سنوا ٍ‬ ‫ِ‬ ‫صدمة ما ُ‬ ‫يدشن الحديقة ويلقي‬ ‫الجمعة ‪ 24‬أيار ‪ ،1991‬والرئيس األمريكي جورج بوش‬ ‫واقف ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫خطاب ًا عن ‪‬ذاك الرجل من لبنان‪( ‬تفاصيل االحتفال ووصف الحديقة يومها يف‬ ‫الصفحة ‪ 254‬من هذا الكتاب)‪.‬‬ ‫فاجع بني ما أرى أمامي‪ ،‬وما كانت عليه‬ ‫وأي ٍ‬ ‫فرق ٍ‬ ‫وأي حنني؟ ُّ‬ ‫أي ذكرى اليوم؟ ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫الحديقة قبل مثاين سنوات!‬ ‫يابس حولنا كام‬ ‫فت حويل فأرى عىل وجه فريد سلامن أَسى مِ ام نعاين‪:‬‬ ‫أ َْل َت ُ‬ ‫ُ‬ ‫الشجر ٌ‬ ‫منذ دهور‪ .‬الورق اليابس انهار عن الشجر العايل العاري وافرتش األرض بساط ًا تاعس ًا‬ ‫الربكة وسط الحديقة جاف ٌة من املاء‪ ،‬والحىص يف قعرها‬ ‫من عفونة ورطوبة يابسة‪ْ .‬‬ ‫وتشل َعت حجارة حفافيها املرمرية الخرضاء فلم‬ ‫عشش فيه العشب األخرض ِّالنتِن‪ّ ،‬‬ ‫َّ‬ ‫تعد متساوي ًة كام كانت جميلة‪ ،‬وال عادت متناسقة كام من قبل بل باتت كالحفايف‬ ‫املقاعد‬ ‫املهملة يف بعض ضياع لبنان املهجورة‪ .‬النافورة عالها الصدأ من هجران املياه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحجرية باتت َمحطّ ًا لرباز الغربان َوت َنك البرية الصدئة‪ ،‬وأحرف أقوال جربان عىل‬ ‫معظمها غري مقروء‪ .‬ال مياه تسقسق‬ ‫عشش فيها الغبار والوحل فبات‬ ‫متكآت املقاعد ّ‬ ‫ُ‬ ‫عشش عىل زوايا رأس التمثال‬ ‫تحت التمثال عىل املدخل‪ .‬الصد ُأ األزرق َّ‬ ‫املبقع الخبيث ّ‬ ‫(موقع مهم جد ًا يف قلب‬ ‫وعىل الياممات الثالث وشلح التفاح وإكليل الدالية‪ .‬املكان‬ ‫ٌ‬ ‫حزين ومهجور‪ :‬ال زهر‪ ،‬ال شجر مورق ًا‪ ،‬ال مياه ترطّ ب املدخل أو‬ ‫العاصمة واشنطن) ٌ‬ ‫تتسلل تحت الجرس الصغري الواصل رصيف الطريق مبدخل الحديقة‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ث يوم‬ ‫الخرضاوين‬ ‫األرزتني‬ ‫ال أخرض يف كل املكان سوى‬ ‫الباقيتني (من أصل ثال ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫االفتتاح) عىل طرف الحديقة كام لتشهدا عىل أن أرز لبنان باق وال يطاله يباس‪.‬‬ ‫يعج باآلالف يوم افتتاحه‪ ،‬بات بؤر ًة خاوية‪.‬‬ ‫هوذا املكان الذي كان ّ‬ ‫جلست فيه خالل إقامتي يف واشنطن‬ ‫املكان الذي كان مثالي ًا للجلوس والتأمل (وكم‬ ‫ُ‬ ‫أُحارض يف جامعة جورجتاون) بات ُسكوت ًا كصمت املقابر‪.‬‬ ‫الحديقة التي كانت فخر ًا للبنان‪ ،‬باتت بقع ًة منسي ًة مهجور ًة عىل قارعة جادة‬ ‫خلت شرييل أمني عن العمل يف لجنة جربان‬ ‫ماساشوستس‪ ،‬بعدما مات ِب ّل بارودي َوت َّ‬ ‫العاملية‪.‬‬ ‫يف طريق العودة‪ ،‬اقرتح فريد سلامن‪ :‬ليت السفارة اللبنانية يف واشنطن تنتدِ ب‬ ‫يدرسون يف واشنطن أو ڤريجينيا أو مرييلند‪ ،‬فيعملون عىل ترميم املكان‬ ‫طالب ًا لبنانيني ُ‬

‫‪159‬‬


‫‪1‬‬ ‫حديقته في واشنطن‬ ‫مهجورة لليباس والغربان‬

‫اسرتاحة من جلسات ‪‬املؤمتر الدويل‬ ‫يف فرتة‬ ‫ٍ‬ ‫مرييلند (كانون‬ ‫األول حول جربان‪ ‬يف جامعة‬ ‫ْ‬ ‫األول ‪ )1999‬اقرتح املحامي فؤاد حنا الضاهر‬ ‫(رئيس لجنة جربان الوطنية) القيام بزيارة اىل‬ ‫حم َست‬ ‫حديقة جربان العامة يف واشنطن‪َ .‬ت َّ‬ ‫للفكرة األديبة سلمى الحفار الكزبري‪ ،‬وكذلك‬ ‫ماريتا لوسن وفريد سلمان‬ ‫أربعتنا يف نهار مشمس‬ ‫فريد سلامن‪ ،‬فانطلقنا ُ‬ ‫عىل غري عادة واشنطن يف كانون‪.‬‬ ‫ تاكيس‪ :‬اىل ‪ 3051‬جادة ماساشوستس‬ ‫يف واشنطن‪.‬‬ ‫اإلسالمي يف واشنطن‪ ،‬بعده السفارة‬ ‫املركز‬ ‫أطل عن يسار الطريق ُ‬ ‫بعد نصف ساعة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫الربيطانية‪ ،‬قربها بيت نائب الرئيس األمريكي آل غور‪ .‬واىل اليمني بقعة جرداء‬ ‫تتوسطها‪ -‬ويا للهول!!!‪ -‬حديق ُة جربان العامة‪.‬‬ ‫ما هذا؟ ما هذا الخراب؟ ما هذا اليـباب الجنائزي القاتل؟ أهذه حديقة جربان؟‬ ‫نرتجل من السيارة‪ ،‬فيام سلمى الحفار‬ ‫َو َج ْمنا َلحظا ٍ‬ ‫ت‪ -‬فريد سلامن وأنا‪ -‬ونحن َّ‬ ‫الكزبري وفؤاد حنا الضاهر يسريان من الرصيف نحو الحديقة التي يزورانها للمرة‬ ‫األوىل‪.‬‬

‫‪158‬‬


‫‪2‬‬ ‫جبران العربي ال اللبناني؟!‬ ‫والعريف أمريكي من أصل لبناين‪.‬‬ ‫االحتفال يف الجامعة األمريكية (واشنطن)‪ِّ .‬‬ ‫ويف الربنامج مداخل ٌة من أستاذ أكادميي أمريكي عن ‪‬ظاهرة جربان يف أمريكا‪.‬‬ ‫العريف الئق ًا يف تقدمياته عموم ًا‪ .‬لكنه‪ ،‬عند تقدميه املداخلة عن جربان‪ ،‬ألقى‬ ‫كان ِّ‬ ‫ختمها بقوله‪ ... :‬ويكفينا فخر ًا أن يكون الرئيس‬ ‫ِّ‬ ‫مقدم ًة طويل ًة عن صاحب ‪‬النبي‪َ ‬‬ ‫أول أديب‬ ‫األمريكي جورج بوش ّ‬ ‫دشن شخصي ًا يف واشنطن حديقة جربان الذي هو ُ‬ ‫اسمه حديق ٌة رسمية أمريكية‪.‬‬ ‫أمريكي من أصل عريب تحمل َ‬ ‫العريف لـ‪‬ابن‬ ‫طبع ًا ّ‬ ‫صفق الجمهور (ومعظمه أمريكي) لهذا ‪‬املدح‪ ‬يكيله ِّ‬ ‫بالده‪.‬‬ ‫يقدمني إىل‬ ‫عند نهاية االحتفال‬ ‫طلبت من صديقي‪ ،‬الذي دعاين إىل الحضور‪ ،‬أن ّ‬ ‫ُ‬ ‫مغال َط َتني يف مقدمته‪ :‬بأن جربان ليس ‪‬عربي ًا‪ ‬وال‬ ‫العريف ففعل‪ .‬وما كدت ْأل ِف ُت ُه إىل َ‬ ‫ِّ‬ ‫انفلش يف ُمحارضة طاووسية متعالية مدافع ًا عن وجهة‬ ‫حتى‬ ‫‪‬لبناين‪،‬‬ ‫لكنه‬ ‫‪‬‬ ‫ا‬ ‫‪‬أمريكي‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫الضيق األعمى؟ عظم ُة جربان‬ ‫نظره وختمها بقوله‪ :‬متى تنتهون من هذا ُّ‬ ‫التعصب ِّ‬ ‫أنه تخطاكم وتخطى هذه العصبية املحدودة‪.‬‬ ‫‪‬محارضته‪ ‬حتى إذا انتهى من الدفاع عن رأيه‪،‬‬ ‫حملني‬ ‫االحرتام عىل اإلصغاء إىل ُ‬ ‫ُ‬ ‫رسن هذا الهذر‪ ،‬شاعر ًا أنني بكالمي إليه أخاطب‬ ‫رد ْد ُت عليه بـ‪‬محارضة‪ ‬مامثلة ُت َخ ِ‬ ‫َ‬ ‫كثريين يقعون يف املغالطة نفسها سهو ًا أو اعتياد ًا أو‪ ...‬عمد ًا‪.‬‬ ‫وتوضيح ًا‪:‬‬ ‫إن جربان ليس ‪‬أمريكي ًا من أصل لبناين‪ ‬كام يقول البعض بكل عفوية أو سذاجة‪.‬‬ ‫وليس ‪‬أمريكي ًا من أصل عريب‪ ‬كام يقول البعض عن اعتياد أو سياق موجة أو‪...‬‬ ‫دولة يف املنطقة العربية‪.‬‬ ‫أي ٍ‬ ‫دس‪ .‬فـ‪‬العريب‪ ‬قد تعني أنه من ّ‬

‫‪161‬‬


‫والسهر عليه‪ ،‬ويتقاضون أتعابهم متام ًا كام لو كانوا‬ ‫وإعادة تنشيطه ثم يتبادلون العناية به َ‬ ‫ِجاري أو أي مؤسسة يتقاضون منها راتب ًا لتأمني معيشتهم‪.‬‬ ‫يعملون يف مطعمٍ أو َم ٍّ‬ ‫حل ت ٍّ‬ ‫عرجنا عىل مركز تجاري ضخم‪ .‬وفيام فؤاد وسلمى‬ ‫قبل العودة اىل جامعة ْ‬ ‫مرييلند‪ّ ،‬‬ ‫دخلنا فريد وأنا اىل مكتبة صغرية يف املركز‬ ‫يتفقدان‬ ‫املحال لرشاء هدايا امليالد‪ْ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تتوان ثاني ًة واحد ًة‬ ‫فبادرت الصبية عىل املدخل‪ :‬أريد كتاب ‪‬النبي‪ ‬من فضلك‪ .‬ومل َ‬ ‫ُ‬ ‫بنسختني‪ :‬أيهام تريد‪ :‬الحجم الصغري‬ ‫وعادت‬ ‫املكتبة‬ ‫زاوية‬ ‫يف‬ ‫رف‬ ‫اىل‬ ‫انربت‬ ‫حتى‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫العام يف الباحة خارج ًا حيث جلسنا‪،‬‬ ‫اشرتيت‬ ‫أم الوسط؟‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫النسختني‪ .‬وعىل املقعد ّ‬ ‫فتحت نسخة الحجم الوسط فإذا هي الطبعة ‪ 138‬تاريخ ‪ ،1998‬ونسخة الحجم الصغري‬ ‫ُ‬ ‫فإذا هي الطبعة ‪ 143‬تاريخ ‪.1999‬‬ ‫حدي فابتسم ِبحزن‪ :‬طبع ٌة هي الـ‪ ،138‬واألخرى هي الـ‪،143‬‬ ‫التفت اىل فريد ّ‬ ‫ُّ‬ ‫ترتدد َلحظ ًة واحد ًة كي تسألنا عن املؤلف أو تستفرس عن الكتاب‪ .‬لحظ ٌة‬ ‫وصبي ٌة مل َّ‬ ‫َّ‬ ‫وانربت تأتيك بالكتاب‪ .‬تعرفه جيد ًا‪ .‬ألنها يومي ًا تستقبل من يطلبه منها‪.‬‬ ‫جر ُش فكر ًة واحدة‪ :‬جربان يف أمريكا هو‬ ‫يف طريقنا إىل جامعة‬ ‫ْ‬ ‫مرييلند كان رأيس َي ُ‬ ‫األكثر مبيع ًا‪ ،‬ويف الرشق‪ ،‬عامل اللغة العربية‪َ ،‬تمنع مرص كتابه ‪‬النبي‪ ،‬ويف وطنه‬ ‫ب تربوي يورد َّنصي ‪‬الزواج‪ ‬و‪‬األبناء‪‬‬ ‫تصدرا يف كتا ٍ‬ ‫لبنان َيمنعون لوحتني منه أن ُ‬ ‫يتحرك يف واشنطن إلنقاذ مهابة حديقته العامة‪.‬‬ ‫من كتاب ‪‬النبي‪ ،‬وال َمن ّ‬ ‫ويح ُد ُس به‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫كل ذلك كان يعرفه جربان ْ‬ ‫كيف؟‬ ‫ها هو قبل سبعني عام ًا (‪َ )1929‬كتب‪ :‬لكم لبنانكم ويل لبناين‪.‬‬ ‫حد ُسه صائب ًا‪ .‬‬ ‫وكان ْ‬ ‫واشنطن‬

‫* ‪‬النهار‪2000/1/6 -‬‬

‫دعم لجنة حديقة‬ ‫* يقتيض‬ ‫الوفاء‪ ،‬إنصاف ًا‪ْ ،‬ذكر ّأن السفري اللبناين الحايل يف واشنطن أنطوان شديد َ‬ ‫ُ‬ ‫جربان العامة عىل إطالق حملة‪ ،‬تعاون ًا مع دائرة الحدائق العامة يف واشنطن‪ ،‬واملؤسسة العربية‬ ‫األمريكية للسالم‪ ،‬لرتميم حديقة جربان وإعادتها إىل ما كانت عليه‪َ ،‬وت ّم إعالن ذلك خالل احتفال يف‬ ‫الحديقة نفسها نهار الخميس ‪ 5‬أيار ‪ ،2011‬حرضه أعضاء من مؤسيس لجنة الحديقة‪ ،‬ووزير النقل‬ ‫املهتمني‪.‬‬ ‫اللبناين األصل راي لحود وسفري لبنان يف واشنطن أنطوان شديد وحشد من ّ‬

‫‪160‬‬


‫قبول أن يقال عن جربان إنه ‪‬أمريكي من أصل عريب‪ ‬عوض‬ ‫فلامذا عىل لبنان ُ‬ ‫القول إنه ‪‬لبناين عاش يف أمريكا‪‬؟‬ ‫حتى الرئيس جورج بوش مل َي ُق ْلها يف خطابه‪ .‬مل يقل إن جربان عريب ومل يقل إنه‬ ‫أمريكي‪ .‬قال إنه ‪‬من بالد األرز الخالد‪ ،‬وأُحيطت الحديقة بثالث شجرات أرز من‬ ‫لبنان‪.‬‬ ‫حتى جربان نفسه مل َي ُق ْلها‪ .‬كتب عن أمريكا واألمريكيني بكل وفاء ونبل وامتنان‪،‬‬ ‫شغف وشوق‬ ‫ومل يذكر يف سطر واحد أن أمريكا هي وطنه‪ .‬وكتب عن لبنان بكل َ‬ ‫ونوستالجيا وجنون ومل ُي ْع ِط لبنان هوية أخرى غري لبنانية‪ .‬وأكثر‪ :‬يف عز سلطة‬ ‫األمرباطورية العثامنية كتب صارخ ًا‪ :‬أنا لبناين ويل الفخر بذلك‪ ،‬ولست عثامني ًا ويل‬ ‫الفخر بذلك أيض ًا‪.‬‬ ‫كان جربان يعرف متام ًا أن الهوية تعادل الحياة‪ ،‬ومن دونها ال حياة‪.‬‬ ‫لذا حني أرسلت إليه ماري هاسكل مخطوطة ‪‬املجنون‪ )1918( ‬بعدما ْأجرت‬ ‫‪‬ه ّمي اليوم لبنان‪ ،‬وشعبي‬ ‫عليها ما‬ ‫استنسب ْته من تصحيحات‪ ،‬أجابها يف حزن شديد‪َ :‬‬ ‫َ‬ ‫يف لبنان‪ ،‬واملجاعة التي هناك يف هذه الحرب الرشسة‪ .‬ال أفكر اآلن يف كتابايت عىل‬ ‫اإلطالق‪.‬‬ ‫تعلق جربان بلبنان يف ما ميلك عليه قلبه‬ ‫وأكثر من مرة تشري ماري يف مذكراتها إىل ُّ‬ ‫ومشاعره‪.‬‬ ‫وباربره يونغ رفيقة السبع السنوات األخرية من حياته‪ ،‬يوم وضعت كتابها عنه‪،‬‬ ‫َع ْن َو َن ْت ُه ‪‬هذا الرجل من لبنان‪ ،‬ألنها كانت تعرف َت َع ُّل َقه بلبنان‪.‬‬ ‫النحات البوسطني خليل جربان كتابه البيوغرايف ‪‬خليل جربان‪ :‬حياته‬ ‫وحني كتب ّ‬ ‫لبنان‬ ‫وعامله‪( ‬وهو رافقه يف سريته يوم ًا فيوم ًا)‪ ،‬كان دائم اإلشارة إىل ما كان يعني ُ‬ ‫لجربان‪.‬‬ ‫عىل ّأن جربان نفسه‪ ،‬مع كل ما يف قلبه للبنان‪ ،‬حني رأى ما يفعله السياسيون بلبنانه‬ ‫وإىل أين سيقودونه باستسالمهم واستزالمهم ومؤامراتهم اليوضاسية وكيف يسعون‬ ‫ٍ‬ ‫وتجزيء‪ ،‬أطلق رصخته الشهرية‪ :‬لبنانكم ينفصل آن ًا‬ ‫وإلحاق‬ ‫وفص ٍل‬ ‫ٍ‬ ‫بلبنان إىل َض ٍّم ْ‬ ‫عن سورية ويتصل بها آونة ثم َيحتال عىل طرفيه ليكون بني معقود ومحلول‪ .‬أما لبناين‬ ‫حلها األيام‪،‬‬ ‫فال يتصل وال ينفصل وال يتفوق وال يتصاغر‪ .‬لبنانكم عقدة سياسية تحاول َّ‬ ‫أما لبناين فتلول تتعاىل بهيبة وجالل نحو ازرقاق السامء‪.)1920( ‬‬

‫‪163‬‬


‫أوال وأخري ًا وبني بني‪.‬‬ ‫لبناين عاش يف أمريكا‪ .‬هكذا يف كل بساطة‪ .‬إنه لبناين ً‬ ‫جربان ّ‬ ‫والدليل يأتينا منه شخصي ًا‪ :‬فهو أمىض حياته يف بوسطن ونيويورك مكتفي ًا بحمل‬ ‫يتقدم بطلب الحصول‬ ‫بطاقة اإلقامة الدائمة (املعروفة اليوم بالـ‪‬غرين كارد‪ )‬ومل َّ‬ ‫تورده ماري هاسكل يف مذكراتها‪ ،‬وتجيء عىل ذكره‬ ‫عىل الجنسية األمريكية (وهذا ما ُ‬ ‫باربره يونغ‪ ،‬وهام أقرب امرأتني إىل حياة جربان)‪.‬‬ ‫إذ ًا هو أمىض حياته وال جنسية معه إال واحدة‪ :‬الهوية اللبنانية‪.‬‬ ‫وبعضها‬ ‫وهو ليس ‪‬عربي ًا‪ ‬عاش يف أمريكا‪ ،‬كام تتداول‬ ‫بعضها معذور ُ‬ ‫وسائل إعالمٍ ُ‬ ‫ُ‬ ‫األم‪.‬‬ ‫مأجور‪ .‬فـ‪‬عر ِب ٌّي‪ ‬كلمة عامة تنفي انتسابه إىل بلده األصيل وأرضه ّ‬ ‫لكن لغة الكتابة ال تعطي هوية الكاتب‪ :‬روبرت‬ ‫كتب يف العربية ّ‬ ‫صحيح أنه َ‬ ‫تتخلى عنه أمريكا وترىض‬ ‫فروست‪ ،‬شاعر أمريكا العظيم‪ ،‬كتب يف اإلنكليزية‪ .‬فهل ّ‬ ‫تتخلى عنه إنكلرتا‬ ‫بالتعريف عنه أنه ‪‬إنكليزي‪‬؟ وشكسپري كتب يف اإلنكليزية‪ .‬فهل ّ‬ ‫وتعرف عنه أنه أمريكي ل ُِمجرد أن األمريكان يكتبون يف اإلنكليزية؟‬ ‫ّ‬ ‫لبنان هو لبنان‪ ،‬ولو هو جغرافي ًا يف منظومة الدول العربية‪ .‬فلامذا إعطاؤه هوية‬ ‫قائال‪ :‬الحرب األهلية اللبنانية‪ ‬ال‬ ‫السيئات يتنطَّ ح البعض ً‬ ‫املحيط السيايس؟ وملاذا يف ِّ‬ ‫‪‬الحرب األهلية العربية‪ ،‬حتى إذا جاء الكالم عىل اإليجابيات املضيئة نزعوا عن لبنان‬ ‫لبنانيته ليصبح جربان ‪‬أمريكي ًا من أصل عريب‪‬؟‬ ‫ّ‬ ‫لبنان يف العامل العريب؟ فهمنا‪.‬‬ ‫لبنان يف آسيا؟ صحيح‪.‬‬ ‫يدشن حديق ًة يف واشنطن عىل‬ ‫هذه فرنسا يف قلب أوروپا‪ .‬فلو كان الرئيس بوش ِّ‬ ‫يدشن ‪‬أول حديقة يف أمريكا‬ ‫قول بوش إنه ّ‬ ‫اسم ڤيكتور هوغو‪ ،‬هل ترىض فرنسا َ‬ ‫لشاعر أوروپّي‪‬؟‬ ‫عز توحيد أوروپا وإلغاء الحواجز‬ ‫تتهيأ لتلعب الدور الريادي يف ّ‬ ‫وهذه أملانيا التي ّ‬ ‫والجامرك وتوحيد العملة‪ ،‬هل ترىض بأن يدشن الرئيس األمريكي حديقة يف واشنطن‬ ‫عىل اسم غوته ويقول إنها ‪‬حديقة شاعر أوروپّي‪ ‬إكرام ًا ُلدعاة الوحدة األوروپية؟‬ ‫املسترشق الفرنيس هنري پري عاش ‪ 63‬عام ًا يف الواليات املتحدة أستاذ ًا يف كربى‬ ‫وظل ‪‬فرنسي ًا عاش يف أمريكا‪ .‬ويف‬ ‫جامعاتها (بينها جامعة نيويورك وجامعة ييل) ّ‬ ‫حفلة تأبينه (‪ )1988‬قال صديقه پيار برودان‪ :‬إنه رائد اإلرث الفرنيس يف أمريكا‬ ‫خالل هذا القرن‪.‬‬

‫‪162‬‬


165


‫ب؟ إنعزالية؟‬ ‫تعص ٌ‬ ‫قوقع ٌة هذه؟ ُّ‬ ‫حني نال ديريك والكوت جائزة نوبل لألدب (‪َ ،)1992‬أص َّر عىل اعتزازه ببالده‬ ‫ت يف األطلس ويف املوسوعات عن بالده عىل الخريطة‬ ‫(سانتا لوتشيا)‪ .‬وحني َب ْ‬ ‫حث ُ‬ ‫ت أن هذه الـ‪‬سانتا لوتشيا‪ ‬هي ‪‬جزيرة صغرية يف الهند الغربية‪ ،‬جنويب‬ ‫ْ‬ ‫اكتشف ُ‬ ‫مستقل يف منظمة‬ ‫املارتينيك‪ ،‬كانت يف السابق مستعمرة بريطانية‪ ،‬وهي اليوم عضو‬ ‫ٌّ‬ ‫مساحتها ‪ 606‬كلم مربع‪ ،‬عدد سكانها ‪ 122‬ألف نسمة‪ ،‬عاصمتها كاسرتيز‪،‬‬ ‫الكومن ِولث‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫مدينة بحرية فيها مرفأ صغري‪ ،‬عدد سكانها ‪ 4354‬نسمة‪.‬‬ ‫لبنان للعامل‪ ،‬أبى أن‬ ‫ومع أن بالده أصغر من بلدية لبنانية ومل ُت ِ‬ ‫عط العامل ما أعطاه ُ‬ ‫بقي‬ ‫يقال عنه إنه من الهند الغربية‪ .‬ومع أنه عاش يف أمريكا وحمل الجنسية األمريكية‪َ ،‬‬ ‫عىل االنتامء إىل بالده األم‪ :‬جزيرته الصغرية ‪‬سانتا لوتشيا‪.‬‬ ‫ولغطها بعبارات‬ ‫هذا االنتامء عرفه جربان وبقي عىل إرصاره غري آ ِب ٍه لردود الفعل ْ‬ ‫والتعصب وعدم االنفتاح‪ .‬كان يعرف أن الشمولية والوطنية‬ ‫االنعزال والقوقعة‬ ‫ُّ‬ ‫والقومية والعاملية تبدأ من االنتساب إىل الجذور املحلية األوىل‪ ،‬ومن هناك تأخذ‬ ‫التشعب‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بالتش ُّعب ِو ْس َعام ينفتح لصاحبها ُّ‬ ‫إميان واحد‪ :‬لبنان‪.‬‬ ‫وظل عىل ٍ‬ ‫كل هذا‪ّ ،‬‬ ‫عرف جربان ّ‬ ‫وبذلك كان مواطن ًا عاملي ًا من لبنان‪.‬‬ ‫واشنطن‬

‫صور لجربان سنة ‪ 1929‬بكامريا ألفرد كنوف‬ ‫(‪ 16‬مم) وهو الفيلم املتحرك الوحيد‬ ‫الذي يظهر فيه جربان‬

‫‪‬النهار‪1993/7/28 -‬‬

‫‪164‬‬


‫شدد عىل َّأن ‪‬جربان‬ ‫ْال ُمشارك للمرة األوىل يف مؤمت ٍر عن‬ ‫ٍ‬ ‫شخصية غري أمريكية‪َّ ،‬‬ ‫تجاربه مهاجر ًا لبناني ًا ّاتخذ األرض األمريكية مسكن ًا‬ ‫استمد أعامله من‬ ‫يف حياته‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫حلول لِمشاكل ثقافية وإنسانية‪،‬‬ ‫صمته وخالصة تجاربه إىل وضع‬ ‫ٍ‬ ‫وتوصل يف ْ‬ ‫له‪َّ ،‬‬ ‫ويوحد البرش‬ ‫وعي فريدٍ لِعاملٍ جديدٍ يكرس الحواجز بني الرشق والغرب‪ِّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫فصهرها يف ٍ‬ ‫العولمة السائدة اليوم‪ ،‬بكتاباته‪ -‬قبل ثالثة أرباع‬ ‫يف عاملٍ واحد‪ .‬وهو سبق نظرية َ‬ ‫القرن‪ -‬عن وحدة البرش والتواصل الروحي واملواطنية الشاملة وتوحيد الجنس‬ ‫قالئل من شعراء العامل‪.‬‬ ‫البرشي‪ ،‬ما مل ْ‬ ‫يبلغ ُه ّإال ُ‬ ‫شدد‬ ‫ممثل األونسكو يف املؤمتر فرانك ميتود (مدير مكتب األونسكو يف واشنطن) َّ‬ ‫العولمة‪ ،‬حني رشح هدف األونسكو يف جعل عام‬ ‫عىل ‪‬أسبقية جربان يف الدعوة اىل َ‬ ‫مية‬ ‫‪ 2000‬السنة الدولية لثقافة السالم‪ ‬بسلسة أنشطة ُتجمِ ُع عىل إنشاء‬ ‫عال ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫حركة َ‬ ‫شاملة نحو ثقافة السالم‪ .‬وجربان‪ ،‬عىل ما قال ميتود‪ ،‬من أبرز شعراء العامل اليوم يف‬ ‫ٍ‬ ‫عمم فكرة الجمع بني روحانية الرشق ومادية الغرب‪ ،‬يف‬ ‫جمع ثقافة السالم‪ ،‬هو الذي َّ‬ ‫انصها ٍر واحد لعاملٍ واحد يعيش يف كنف السالم‪.‬‬ ‫مرييلند)‬ ‫وهذا ما ّركز عليه إرنست ولسون (مدير مركز اإلمناء الدويل يف جامعة‬ ‫ْ‬ ‫طنوس (مديرة فرع لندن ومستشارة املجلس الدويل يف برنامج الدراسات‬ ‫والسيدة ليىل ّ‬ ‫ِّ‬ ‫واألبحاث الجربانية) انطالق ًا من مقولة جربان‪ :‬ليس الغرب أعىل من الرشق‪ ،‬وال‬ ‫الغرب أدنى من الرشق‪ .‬الفارق بينهام ليس أكرب من الفارق بني النمر واألسد‪.‬‬ ‫انحصر مع اثنني من كبار شعراء إنكلرتا اليوم‪ :‬كاثلني راين‬ ‫ِ‬ ‫الشعر يف املؤمتر َ‬ ‫(أكادميية تيمينوس يف لندن) والشاعر واملرسحي فرنسيس وارنر (أستاذ رشف‬ ‫معلمي العرص استمرار ًا ل َِخ ّط‬ ‫يف جامعة كامربدج)‪ .‬أشارا اىل أن جربان ‪‬أحد كبار ِّ‬ ‫الراماكريشنا واملهارييش واملهامتا غاندي يف صنع السالم عرب الالعنف‪ ،‬ويف النظر إىل‬ ‫القوا عىل‬ ‫املسيحية عىل ضوء الصوفية اإلسالمية‪ ،‬وهو ما أ َْل َه َم كبار شعراء العامل‪َ ،‬‬ ‫وقدموا إىل‬ ‫أطلقها أقرب الناس إليهم‪ ،‬لكنهم َ‬ ‫ذلك ُمحارب ًة َ‬ ‫تعالوا عىل جميع اآلنيات‪َّ ،‬‬ ‫قوامها‬ ‫اليوم‬ ‫أساس ثقافة السالم‪ُ ،‬‬ ‫العصور رغيف الحرية وغذاء الروح‪ ،‬بأفكا ٍر هي َ‬ ‫ُ‬ ‫وركائزها العدالة والحرية والدميقراطية واإلميان واملنطق‬ ‫املساواة بني الرجل واملرأة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ووحدة األديان والسالم بني الشعوب‪.‬‬ ‫وكانت بادرة وفاء من منظّ م املؤمتر سهيل برشوئي تجاه فريد سلامن ‪‬صاحب‬ ‫وص ْونِه يف السنوات الصعبة من تاريخ لبنان‬ ‫الفضل األكرب عىل بعث إرث جربان َ‬

‫‪167‬‬


‫‪1‬‬ ‫اعتراف أميركي أكاديمي به‬ ‫في مؤتمر دولي‬ ‫(كولدج‬ ‫مرييلند‬ ‫كوكب ُة َ‬ ‫ْ‬ ‫العلامء والخرباء واالختصاصيني واألكادمييني يف مؤمتر جامعة ْ‬ ‫لولب واحد‪ :‬الدكتور سهيل برشوئي‪،‬‬ ‫پارك‪ -‬كانون األول ‪ ،)1999‬كان وراء دعوتهم ٌ‬ ‫منشئ ‪‬برنامج الدراسات واألبحاث الجربانية‪ ‬يف الجامعة‪ ،‬و‪‬كريس جربان‪ ‬األكادميي‬ ‫ُ‬ ‫أدخلت جربان يف برامجها‬ ‫الجامعي األول يف الواليات املتحدة التي مل تكن‪ ،‬حتئذٍ ‪َ ،‬‬ ‫األكادميية ومناهجها التعليمية رسمي ًا‪.‬‬ ‫قيام‬ ‫كان يلزم‪ ،‬كي يكتمل املشهد الجرباين رسمي ًا عىل الصعيد األكادميي األمريكي‪ُ ،‬‬ ‫يتكرس جربان ‪‬دولي ًا‪‬‬ ‫مكر ُسون من العامل حتى َّ‬ ‫مؤمتر دويل يشارك فيه أكادمييون َّ‬ ‫ب‬ ‫شخصي ًة أدبي ًة أمريكية من لبنان‪ ،‬ويدخل بعدها يف مناهج جامعية ويف دراسات وكت ٍ‬ ‫مؤلفني أمريكيني غري أكادمييني‪.‬‬ ‫اقترص معظمها حتى اليوم عىل ّ‬ ‫املؤمتر الدويل األول حول جربان يف موضوع ‪‬جربان شاعر ثقافة السالم‪ ،‬جاء‬ ‫انسياق ًا مع إعالن منظمة األونسكو عام ‪ 2000‬السنة العاملية لثقافة السالم‪.‬‬ ‫حرم‬ ‫يف هذا اإلطار التأمت يف ‪ 14‬جلسة مدى أربعة أيام (‪ 12 -9‬كانون األول) يف َ‬ ‫مرييلند ‪ 15‬جلس ًة أكادميي ًة وأدبية وشعرية وفنية‪ ،‬عن جربان‪ ،‬أو من جربان‪،‬‬ ‫جامعة‬ ‫ْ‬ ‫أو مقاربات شخصية وأدبية وتشكيلية لجربان‪.‬‬ ‫مرييلند)‬ ‫غولدِ ْشتاين (عميد كلية العلوم االجتامعية يف جامعة‬ ‫الدكتور إروين ْ‬ ‫ْ‬ ‫ترك ُه جربان يف كتاباته ولوحاته ملاليـني قرأوا كتبه وما‬ ‫َّركز عىل ‪‬عظيم اإلرث الذي َ‬ ‫جميع الشعوب من مختلف الثقافات‬ ‫زالوا‪ ،‬متأثِّ رين بأفكاره التوحيدية الصاهر ِة‬ ‫َ‬ ‫تداوال وقراء ًة يف العامل‪.‬‬ ‫والحضارات‪ ،‬حتى أن كتابه ‪‬النبي‪ ‬هو اليوم بني أكثر الكتب ً‬ ‫مرييلند للشؤون األكادميية)‬ ‫الپروفسور غريغوري ِج ْف ُر ْو ْي (نائب رئيس جامعة‬ ‫ْ‬

‫‪166‬‬


‫‪2‬‬ ‫‪‬شاعر ثقافة السالم‪‬‬ ‫حني اتصل يب الدكتور سهيل برشوئي‬ ‫ألشارك يف املؤمتر األول للدراسات‬ ‫‪‬أنت‬ ‫الجربانية‪ ،‬بادرين يف اختصار‪:‬‬ ‫َ‬ ‫كشاع ٍر من لبنان‪ ،‬ماذا أعطاك جربان‬ ‫وما الذي ال يزال يعطيك؟‪.‬‬ ‫شاركت يف ندوة ُرباعية أدارها‬ ‫ُ‬ ‫الشاعر االنكليزي فرنسيس وارن‪،‬‬ ‫ت فيها ثالث كاتبات يعِ ْشن يف‬ ‫تحد َث ْ‬ ‫ّ‬ ‫جربان يف الربية‬ ‫الواليات املتحدة‪ :‬كاثرين عبدالباقي‪،‬‬ ‫مريم قاسم السعد‪ ،‬ومي الريحاين‪.‬‬ ‫ت فيه ما أعطانيه جربان خالل منآي‬ ‫كانت مداخلتي (يف اإلنكليزية) ُأفق ًا َرس ْم ُ‬ ‫املؤقت يف الواليات املتحدة (‪ )1994 -1988‬وقبله يف لبنان وبعده‪ .‬وهنا الرتجمة‬ ‫ص مداخلتي‪.‬‬ ‫العربية ل َِن ّ‬ ‫جــبران‬ ‫حكايتي مع ُ‬

‫كل يوم يف فكري‬ ‫كيف أ َِج ْي ُء إليه وهو يب؟ وإىل أين‬ ‫أذهب كي أُالقيه وهو يالقيني ّ‬ ‫ُ‬ ‫وذاكريت وأحالم قلمي؟‬ ‫عنيت أن أقول‪ ،‬وهو املدى أمامي‬ ‫كيف أقول ما يعنيه يل‪ ،‬وهو جوهر املعنى ّكلام ُ‬

‫‪169‬‬


‫(‪ )1989 -1973‬والحفاظ عليه‪ .‬وهو العامل الرئيس يف تحويل دير مار رسكيس يف‬ ‫لوحة لجربان بعد ترميمها وإصالحها‪ ،‬ويف إنقاذ‬ ‫كل ٍ‬ ‫برشي متحف ًا عرصي ًا حديث ًا‪ ،‬وتأريخ ِّ‬ ‫ّ‬ ‫وصيانة آالف الصفحات املخطوطة بقلم جربان‪ .‬منحه برشوئي (باسم املؤمتر الدويل‬ ‫األول) ‪‬جائزة جربان الدولية‪ ‬األوىل‪.‬‬ ‫وكانت بليغ ًة كلمة فريد سلامن شاكر ًا‪ :‬يف بالدي‪ ،‬بالد األرض القدمية‪ُ ،‬يقال‪:‬‬ ‫بعد يف وطنه‪ .‬الذي عىل أرض‬ ‫نبي ُي َك َّرم يف وطنه‪ .‬وهكذا جربان‪ :‬ليس نبي ًا ُ‬ ‫‪‬ال َّ‬ ‫ضد الظلم والقهر والعبودية يف وطنه‪ ،‬حيث‬ ‫جربان آخر‪،‬‬ ‫العربية اليوم‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫جربان الثائر َّ‬ ‫تسحق كرامة اإلنسان‪ ،‬وال يزال إقطاعيو بالد‬ ‫ال تزال إقطاعي ٌة دينية وسياسية‬ ‫ُ‬ ‫نبيه‪ .‬يف الواليات املتحدة‪ ،‬هذا الشطر اآلخر من‬ ‫العربية ُي ِّ‬ ‫كتبه ويطاردون ّ‬ ‫حرمون َ‬ ‫النبي الذي َّكرس حياته لهناءة الروح‬ ‫ولد‬ ‫جربان َ‬ ‫ُ‬ ‫العامل‪ُ ،‬‬ ‫اآلخر الذي ِّ‬ ‫نكرمه اليوم‪ّ ،‬‬ ‫يف املجتمع الجديد من العامل الجديد‪ .‬هنا أطلق جربان ثورته الجديدة من معادلته‬ ‫الثالثية‪ :‬العالقة مع الذات‪ ،‬العالقة مع اهلل‪ ،‬العالقة مع اآلخر‪ ،‬مستعري ًا من يسوعِ ِـه‬ ‫السامية وحد َة الوجود والتجريدية‪ ،‬من اليونانية الحكم َة‪ ،‬من الرشق‬ ‫ب‪ ،‬من‬ ‫الح َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الخاصة الذاكر َة واملوهبة‪ .‬لوال أمريكا َلام‬ ‫الروحاني َة‪ ،‬من أمريكا الحري َة‪ ،‬ومن ِجيناته‬ ‫ِ‬ ‫كان جربان ما هو اليوم عليه‪َ ،‬ول َما وصل إلينا جربان الذي نعرفه كام ْبتنا نعرفه‪.‬‬ ‫مرييلند جال املشاركون عىل معرض جمع ‪ 154‬صورة فوتوغرافية‬ ‫قبل مغادرة جامعة ْ‬ ‫تنقل سنة ‪( 1983‬مئوية والدة‬ ‫جديدة وقدمية من حياة جربان وأعامله‪ ،‬وهو معرض جوال ّ‬ ‫عمان وبريوت وپاريس وشيكاغو ولندن وأكسفورد وواشنطن وصنعاء‪ ،‬ثم‬ ‫جربان) اىل ّ‬ ‫إىل ساو پاولو (‪ ،)1985‬ونيويورك (‪ ،)1989‬ولندن ُم َج َّدد ًا (‪ ،)1991‬وزوريخ (‪،)1994‬‬ ‫مرييلند‪.‬‬ ‫وباريس ُم َج ّدد ًا (‪َ ،)1996‬لي ُح ّط سنة ‪ 1999‬عند مؤمتر جربان الدويل يف جامعة ْ‬ ‫كتابني يف االنكليزية صدرا حديث ًا عن منشورات ‪‬العامل‬ ‫وحمل املؤمترون معهم َ‬ ‫الواحد‪ ‬يف أُكسفورد‪ :‬رسائل الحب بني جربان ومي زيادة‪( ‬ترجمة وتحقيق‬ ‫سهيل برشوئي وسلمى الحفار الكزبري)‪ ،‬و‪‬جربان الرجل والشاعر‪ :‬سرية جديدة‪‬‬ ‫للدكتورين سهيل برشوئي وجو جنكينز‪.‬‬ ‫مرييلند‬ ‫كولدْ ج پارك‪-‬‬ ‫ْ‬

‫* ‪‬النهار‪1999/12/29 -‬‬

‫‪168‬‬


‫ماري (‪ 325‬رسالة) وجميع رسائلها اليه (‪ 290‬رسالة)‪ ،‬إضافة اىل ‪ 47‬دفرت ًا هي‬ ‫أمكنني القول‬ ‫مذكرات ماري هاسكل الشخصية‪ .‬ومن هذه الدفاتر وتلك الرسائل َ‬ ‫َّإن َمن مل َيطَّ لِع عليها‪ ،‬مل َير من جربان ّإال الجزء القليل‪.‬‬ ‫أفهم شمولية‬ ‫هذا هو َ‬ ‫العالم الذي َّقدمني اىل جربان وأنا يف الواليات املتحدة كي َ‬ ‫سكنه يف نيويورك‪،‬‬ ‫سكنه يف بوسطن‪َ ،‬‬ ‫وعال ّمية تفكريه‪ .‬وهي ذي َمحطايت معه‪َ :‬‬ ‫فكره َ‬ ‫قراءيت رسائله ورسائل ماري هاسكل‪ ،‬قراءيت مذكرات ماري هاسكل‪ ،‬اطّ العي عىل كتاب‬ ‫َ‬ ‫النحات البوسطني خليل جربان‪ ،‬قراءيت كتاب باربره يونغ ‪‬هذا الرجل من لبنان‪.‬‬ ‫شغ َلني جربان وأنا يف الواليات املتحدة‪ ،‬كأنني قبلها مل أكن أعرفه إال‬ ‫اىل هذا الحد َ‬ ‫غالف ًا أو عنوان ًا كبري ًا‪.‬‬ ‫وثالثتها‬ ‫العالم األمريكي جعلني أفهم َ‬ ‫هذا َ‬ ‫ثالث فرص يف حياة جربان َو َس َمت حياته‪ُ ،‬‬ ‫مربوط ٌة ِب َخيط واحد أ َّو ُله وآخِ ُره امرأ ٌة واحدة‪ :‬جييس ْف ِرميونت ِبيل‪ .‬هذه املرأة‬ ‫َّقد َمت إليه فرصته‬ ‫األوىل‪َ :‬ج َع َل ْته يلتقي‬ ‫ْف ِر ْد هوالند داي يف‬ ‫‪ 9‬كانون األول ‪1896‬‬ ‫فشجعه عىل الرسم‬ ‫َّ‬ ‫ونـمى‬ ‫والتصوير‬ ‫َّ‬ ‫الفنية‬ ‫فيه قدراته‬ ‫الدعوة إىل أول معرض للوحات جربان يف محرتف داي‬ ‫(‪ 30‬نيسان إىل ‪ 10‬أيار ‪)1904‬‬ ‫وأقام له يف ُمحرتفه‬ ‫الخاص يف بوسطن‬ ‫أول معرض لرسومه يف ‪ 30‬نيسان ‪ .1904‬وبإقامته ذاك املعرض‬ ‫فتح داي لجربان الفرصة الثانية‪ :‬أن تأيت اىل املعرض يف يومه األخري‬ ‫َ‬ ‫(‪ 10‬أيار) ماري هاسكل‪ ،‬املرأة التي منذ ذاك اليوم َّغيرت َمجرى حياة جربان‪ .‬ومن‬ ‫تشجيعها إياه عىل الكتابة باإلنكليزية‪َ ،‬فت َحت له الفرصة الثالثة الكربى يف حياته‪ :‬أن‬ ‫يلتقي يف ‪ 26‬أيار ‪ 1918‬النارش األمريكي الشاب ألفرد كنوف لينرش له يف العام نفسه‬ ‫وإميان‬ ‫كتابه ‪‬املجنون‪( ‬بعدما كان َر َف َضه النارش ماكميالن)‪ .‬ومن صداقته مع كنوف‬ ‫ِ‬ ‫وضع جربان كتاب ‪‬السابق‪،)1920( ‬‬ ‫هذا النارش الشاب به ِّ‬ ‫وحثه عىل تأليفه كتاب ًا ثاني ًا‪َ ،‬‬ ‫وأ َْل َح َق ُه (‪ )1923‬برائعته الخالدة‪ :‬النبي‪ ‬الذي أطلق شهرة جربان العاملية‪.‬‬

‫‪171‬‬


‫أي مدى؟‬ ‫كلام‬ ‫ُ‬ ‫هممت بالسري اىل ِّ‬ ‫ضالع يب يف سريته اليومية الذاتية‬ ‫أدبه لكنني وا ٍع كم هو ٌ‬ ‫ال أعرف كم أثَّ ر يب ُ‬ ‫َقض يف الواليات املتحدة سوى ُس ْدس ما قضاه‬ ‫وشخصيته الالفتة مع اآلخرين‪ .‬فأنا مل أ ِ‬ ‫جئت‬ ‫عمقي ًا مثلام ُ‬ ‫فهمته حني ُ‬ ‫(قىض ‪ 36‬سنة وقضيت ست سنوات) ومع ذلك مل أفهمه ّ‬ ‫عاي َنه‪.‬‬ ‫اىل الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫وعاين ُ‬ ‫وعانيت ما عاناه ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت ما َ‬ ‫عشت يف الواليات‬ ‫بطريقة‪ ،‬وبعدما‬ ‫كنت أفهمه‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫قبل َمجيئي اىل الواليات املتحدة ُ‬ ‫بقدرما كان يطبعني‪.‬‬ ‫فهم ُته بطريقة أخرى‪ ،‬بطريقة أقرب‪ ،‬أوضح‪ ،‬ألنه شغلني ْ‬ ‫املتحدة ْ‬ ‫حرصت أن أزور معظم األماكن التي عاش فيها‪.‬‬ ‫فور َمجيئي اىل الواليات املتحدة‬ ‫ُ‬ ‫زرت الشارع حيث عاش‪ ،‬ومكان‬ ‫تجولت مشي ًا يف مانهاتن‪ ،‬يف‬ ‫ْ‬ ‫الـ‪‬غرينتش ڤيلدج‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫كل مساء اىل‬ ‫خي ْل ُته كيف كان يعود َّ‬ ‫املبنى حيث سكن (‪ 51‬الشارع العارش غرب ًا)‪َ ،‬وت َّ‬ ‫يتسلق درجه الخشبي العتيق‪ ،‬اىل‬ ‫الطابق الثالث من ذلك املبنى‪ ،‬مبنى الفنانني‪ّ ،‬‬ ‫سماه أصدقاؤه‬ ‫ُم ٍ‬ ‫حرتف أمىض فيه ‪ 20‬سنة متواصلة (‪ )1931 -1911‬مرتاح ًا إليه حتى َّ‬ ‫وزرت مستشفى القديس ڤنسنت قريب ًا من بيته‪ ،‬عند تقاطع الشارع‬ ‫‪‬الصومعة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫الحادي عرش غرب ًا‪ ،‬وفيه الغرفة ‪ 31٦‬يف الطابق الثالث حيث أسلم الروح عند الحادية‬ ‫عرشة إال عرش دقائق من ليل الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪.1931‬‬ ‫شقة اىل‬ ‫متتبع ًا سريته فيها شارع ًا شارع ًا حيث عاش وانتقل من ّ‬ ‫ُ‬ ‫وزرت بوسطن ّ‬ ‫وزرت مدرسة ماري هاسكل يف املبنى ‪ 314‬من شارع مارلبورو يف بوسطن‪،‬‬ ‫شقة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ووقفت دقائق عىل َمحطة‬ ‫وتتبعت ماري هاسكل حتى بيتها يف ساڤانا (جورجيا)‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫تسلمِ ها برقية مريانا بوفاة جربان‪ .‬ويف‬ ‫انطلقت اىل نيويورك عند ُّ‬ ‫القطار التي منها َ‬ ‫أودعت ماري هاسكل َمجموعتها‬ ‫ساڤانا زرت ‪‬أكادمييا تلفري للفنون والعلوم‪ ‬حيث َ‬ ‫ُعاينها لوح ًة لوح ًة‪ ،‬مام ليس موجود ًا يف‬ ‫الخاصة من لوحات جربان فتسنى يل أن أ َ‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫متحفه يف ّ‬ ‫النحات خليل جربان الذي وضع‪ ،‬مع زوجته جني‪ ،‬كتابه البيوغرايف‬ ‫ويف بوسطن ُ‬ ‫زرت ّ‬ ‫وجلست إليه أربع ساعات أعطاين خاللها مالمح‬ ‫الرائع ‪‬خليل جربان‪ :‬حياته وعامله‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ت عىل بعض‬ ‫مل أكن أعرفها عن جربان‪،‬‬ ‫الناي الخاص بجربان‪ ،‬واطَّ َل ْع ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأمسكت بيدي َ‬ ‫أغراضه الباقية مام جمعه نسيبه النحات‪.‬‬ ‫أمضيت يف جامعة‬ ‫دعيت عام ‪ 1992‬إللقاء ُمحارضة يف نورث كاروالينا‪،‬‬ ‫وحني‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عاينت خالله جميع رسائل جربان اىل‬ ‫كامال‬ ‫‪‬نورث كاروالينا‪( ‬تشاپل ِه ّل) نهار ًا ً‬ ‫ُ‬

‫‪170‬‬


‫يوحدون العامل‬ ‫من هنا كانت رسالته َ‬ ‫عالمية شمولية‪ ،‬كام كبار الشعراء يف العامل‪ِّ ،‬‬ ‫ب‬ ‫بكلمة‪،‬‬ ‫بقصيد ٍة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫كل ع ٍ‬ ‫كل مكان‪ ،‬يف ّ‬ ‫برسالة اىل اإلنسان يف ّ‬ ‫رص وزمان‪ .‬وألنه َك َت َ‬ ‫لغة‬ ‫كل ٍ‬ ‫وكل زمان‪ ،‬راجت كتبه يف جميع اللغات َ‬ ‫لكل ع ٍ‬ ‫العالمية الحية‪ ،‬ألن قراء ّ‬ ‫رص ّ‬ ‫ّ‬ ‫يشعرون ّأن كالمه يعنيهم‪.‬‬ ‫دين للمرأة بكل ما هو أنا‪ ،‬وأَبقى املرأة يف أنقى‬ ‫طبعني بإعالنه ‪‬أنا َم ٌ‬ ‫وهو َ‬ ‫وأخذت عنه َّأن املرأة‬ ‫فأخذ ُت عنه أن ‪‬وجه أ ُّمي وجه أمتي‪،‬‬ ‫الش َعل‪ْ ،‬‬ ‫املراتب وأرقى ُّ‬ ‫ُ‬ ‫وأن الرحم هي املصدر األول‬ ‫اهلل َت َج َّس َد يف اإلنسان والطبيعة واألرض والقصيدة‪َّ ،‬‬ ‫هي ُ‬ ‫واملرجع األخري‪.‬‬ ‫الحب االنساين األكرب‪ ،‬املتعايل عن اآلنيات‬ ‫الحب‪،‬‬ ‫طبعني بدعوته اىل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫وهو َ‬ ‫موشح ًا باالحرتام‬ ‫والعشق‬ ‫الكلي‬ ‫الحب الذي فيه‬ ‫والدونيات‪،‬‬ ‫االنرصاف ّ‬ ‫الكيل َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫بق إال مالمح الجسد وال جسد‪ ،‬أنوثة‬ ‫والكرامة‪،‬‬ ‫الحب الذي َم َش َح به َ‬ ‫لوحته فلم َي َ‬ ‫ّ‬ ‫وق دائم‪،‬‬ ‫تتامهى بالرجولة‪،‬‬ ‫وأجساد تتعانق يف رؤيا هيوالنية ترتفع اىل اهلل يف َت ٍ‬ ‫ٌ‬ ‫ذات طابع‬ ‫كل َ‬ ‫فانترش ْت لوحاته يف العامل‪ ،‬لغ ًة تشكيلي ًة َ‬ ‫العالم‪ ،‬ولو انها ُ‬ ‫يفهمها ُّ‬ ‫عالمية ُ‬ ‫َ‬ ‫وعالم خاص‪.‬‬ ‫خاص َ‬ ‫طبعني بقدرته عىل االخرتاق‪ :‬اخرتاق اللغة واخرتاق الحدود‪ .‬اخرتق‬ ‫وهو َ‬ ‫تألفه العربية قبله‪ ،‬جمع السالسة اىل‬ ‫العربية بأسلوب خاص‪ ،‬أسلوب جديد‪ ،‬مل ْ‬ ‫زمن كان يشهد خمول‬ ‫السهولة‪ ،‬والخيال اىل العاطفة‪ ،‬فأحدث صدم ًة إيجابية يف ٍ‬ ‫االنكليزية بشفافية خاصة مل تكن يف تقليد اللغة‬ ‫وتضعضع أدبها‪ ،‬واخرتق‬ ‫اللغة‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫األمريكية‪ ،‬فسلب انتباه القراء منذ الطّ بعات األوىل لكتبه‪ ،‬وراج كام مل يـ َُـر ْج كاتب‬ ‫رسالته‪ ،‬فإذا كتابه ‪‬النبي‪ ‬اليوم أوسع‬ ‫بث‬ ‫يف عرصه‪ .‬بتلك اللغة األمريكية الحية َّ‬ ‫َ‬ ‫الكتب انتشار ًا يف العامل‪ .‬‬ ‫بقيت مستوحا ًة‬ ‫َ‬ ‫وطبعني‪ ،‬أنا الشاعر من بالده ومن الرشق‪ ،‬بأن حياته وأعامله َ‬ ‫لكن‬ ‫كمهاجر يف ٍ‬ ‫أرض اختارها وطن ًا له‪ ،‬وطن ًا احرتمه فبادله الوفاء‪ّ ،‬‬ ‫من تجاربه ُ‬ ‫ظل لوطنه األول‪ ،‬بدليل أنه مل يشأ أن يطلب الجنسية األمريكية فاكتفى‬ ‫والءه ّ‬ ‫ومات وهو ال يحمل إال جنسيته اللبنانية‪ ،‬كام روت ماري‬ ‫ببطاقة اإلقامة الدائمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫العالمية‬ ‫هاسكل يف ّ‬ ‫مذكراتها‪ .‬غري أنه مل يتقوقع يف لبنانيته بل ّاتسع اىل املواطنية َ‬ ‫متميز ًا كرس الحدود‬ ‫َ‬ ‫فعالج املشاكل الثقافية واالنسانية‪ ،‬ونرش يف كتاباته وعي ًا فريد ًا ِّ‬ ‫بني الرشق والغرب‪.‬‬

‫‪173‬‬


‫رميونت ِبيل التي كانت أول الخيط (حني‬ ‫ثالث فرص َتدين لسيد ٍة واحدة‪ :‬جييس ْف ْ‬ ‫ك َتبت اىل هوالند داي يف ‪ 25‬ترشين الثاين ‪ 1895‬تطلب منه أن يستقبل فتى يدعى‬ ‫كتبت اىل‬ ‫نفسها َ‬ ‫خليل جربان‪ ،‬وأن يساعد يف تعليمه)‪ ،‬وكانت هي ُ‬ ‫آخر الخيط (حني َ‬ ‫تذكره بـ‪‬ذاك الولد‬ ‫هوالند داي نفسه يف ‪ 11‬كانون الثاين ‪ 1932‬بعد موت جربان‪ِّ ،‬‬ ‫الذي َّقد ُمته إليك قبل ‪ 36‬عام ًا‪ ،‬وهو اليوم بات شاعر ًا كبري ًا‪.)‬‬ ‫مي شمويل إنساين‪.‬‬ ‫ث‬ ‫هذه‬ ‫الفرص الثالث يف حياة جربان َّأس َست إلر ٍ‬ ‫جرباين َ‬ ‫ّ‬ ‫عال ّ‬ ‫ُ‬ ‫طب َع ْتني يف حياة جربان حتى َلهي ُم َؤثِّ ر ٌة يب رمبا أكثر من أدب‬ ‫وهذه هي السرية التي َ‬ ‫جربان نفسه‪ .‬فجربان مل يهندِ ْس حياته وحسب‪ ،‬بل عرف كيف ُي ّهيئ موته كام هو‬ ‫يريد‪ُ ،‬وي ّهيئ شهرته بعد موته كام هو ُيخطط‪ ،‬وها نحن نتحدث عنه بعد ‪ 68‬عام ًا عىل‬ ‫نتحدث عنه اليوم وقبل اليوم وكل يوم‪.‬‬ ‫غيابه‪ ،‬كأمنا‬ ‫ٍ‬ ‫بتخطيط منه ل َِما يريدنا هو أن َّ‬ ‫هو هذا ما يؤثِّ ر يب‪ ،‬كشاع ٍر‪ ،‬يف سرية جربان الذي أخذ عن الحياة األمريكية كيف‬ ‫يصمم حياته‪ :‬برسائله‪ ،‬بالرسائل إليه‪ ،‬مبذكرات ماري هاسكل التي يعرف أنها‬ ‫ّ‬ ‫تكتبها فكان‪ ،‬من حيث ال تشعر أنه يقصد‪ ،‬يجعلها تكتب عنه ما يريدها هو أن‬ ‫تقول فيه‪ ،‬كي تبقى بعدها لألجيال التالية صورة يريدها هو أن تكون له‪.‬‬ ‫طبعني يف حياته‪ :‬حنينه الدائم اىل الجذور‪،‬‬ ‫وهو هذا‪ ،‬أنا الشاعر من بالده‪ ،‬ما َ‬ ‫برشي‪ ،‬ووادي قاديشا‪ ،‬هو الذي قال لصديقه ميخائيل نعيمه إذ كان‬ ‫جذوره‪ ،‬اىل ّ‬ ‫يرسمه يف صومعته يف نيويورك نهار ‪ 24‬ترشين الثاين ‪ :1922‬أمنيتي يا ميشا أن أزور‬ ‫وادي األرز قبل أن أموت‪ .‬وهو عاد إىل وادي األرز‪ ،‬إمنا من دون النور يف عينيه‪ .‬مات‬ ‫نبيه املصطفى الذي‪ ،‬بعد اثنتي‬ ‫متعلق بذلك الحلم الذي َّ‬ ‫وهو ّ‬ ‫حققه‪ -‬كام نياب ًة ْعنه‪ُّ -‬‬ ‫فكأن‬ ‫عرشة سن ًة من إقامته يف مدينة أورفليس‪َّ ،‬قرر العودة من أورفليس اىل بالده‪َّ ،‬‬ ‫طرف قلمه وهو يكتب ‪‬النبي‪.‬‬ ‫لبنان كان عىل َ‬ ‫العالمية فانطلق من‬ ‫طبعني بأنه‪ ،‬وهو ّ‬ ‫املتعلق بجذوره‪ ،‬انفتح عىل آفاق َ‬ ‫كام َ‬ ‫كل‬ ‫كل تراث وتطال ّ‬ ‫جذوره اللبنانية الرتاثية الحضارية اىل عاملية شمولية تعانق ّ‬ ‫أخذت عنه إميانه بتخطِّ ي حدود الوطن الجغرايف اىل الوطن‬ ‫حضارة‪ِ .‬بهذا املنحى‬ ‫ُ‬ ‫االنساين‪َ ،‬وت َخطِّ ي حدود الرتاب اىل وحدة البرش بدون حدود يف ما بينهم‪ ،‬ووعي‬ ‫مذهب أو دِ ين‪ ،‬ولذا نادى‬ ‫التواصل الروحي بني الناس‪ ،‬ال تفصل بينهم طائفة أو‬ ‫ٌ‬ ‫فتوحيد الجنس البرشي طريق‬ ‫مواطن أخوه‪،‬‬ ‫وكل‬ ‫باملواطن َ‬ ‫كل ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫أرض ُ‬ ‫أرضه‪ُّ ،‬‬ ‫العالمي‪ُّ :‬‬ ‫صالحته مع الخالق‪ .‬‬ ‫وم َ‬ ‫اىل وحدة االنسان ُ‬

‫‪172‬‬


‫‪3‬‬ ‫‪‬هنيئاً لك أنك من وطن جبران واألرز‪‬‬

‫جربان فتى مع العصا بكامريا داي (‪)1898‬‬

‫فتى يرتدي الكفّ ية بكامريا داي (‪)1898‬‬ ‫جربان ً‬ ‫بقيت هذه الصورة ً‬ ‫طويال فوق رسير مريانا‬ ‫َ‬

‫مرييلند‪ ،‬بلباسه الجامعي التقليدي‪،‬‬ ‫وقف عميد ّكلية العلوم اإلنسانية يف جامعة‬ ‫ْ‬ ‫الرسمي لتكليفي مهمتي الجديد َة ‪‬رئيس االتحاد العاملي‬ ‫النص‬ ‫ّ‬ ‫وقرأ عىل الحضور ّ‬ ‫متعهد ًا القيام‬ ‫للدراسات الجربانية يف منطقة لبنان واملرشق‪ .‬وبعدما‬ ‫ُ‬ ‫رفعت مييني ّ‬ ‫مهنئ ًا باسم‬ ‫مبسؤوليتي هذه عىل أفضل ٍ‬ ‫صافحني العميد ّ‬ ‫وجه‪ ،‬وانتهى االحتفال بأن َ‬ ‫ورئيس االتحاد ملنطقة‬ ‫أركان الكلية واألساتذة الحارضون‪،‬‬ ‫الجامعة‪ ،‬وتاله يف املصافحة ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫أمريكا وأوروبا‬ ‫تقد َم ْ‬ ‫مرييلند الدكتور سهيل برشوئي‪ّ ،‬‬ ‫مؤسس منرب جربان يف جامعة ْ‬ ‫ُ‬ ‫سيد ٌة َع َّرفتني إليها بـ‪‬الدكتورة باربره تومسون‪ ،‬أستاذ ُة اإلنسانيات يف الجامعة‪،‬‬ ‫مني ّ‬ ‫والدتها يف والية كونيتيكت‪ ،‬مهنئ ًة إياها ِبعيدِ ميالدها‬ ‫لتخربين أنها كانت يوم ًا تزور َ‬ ‫الثامنني‪ ،‬فباحت لها الوالدة أنها ّربتها عىل مبادئ هذا الكتاب الصغري هناك يف املكتبة‪.‬‬ ‫أخذت ذاك ‪‬الكتاب الصغري هناك‪ ‬من بني الكتب‪،‬‬ ‫بادرت باربره إىل مكتبة والدتها‪َ ،‬‬

‫‪175‬‬


‫العال َمان‪َ :‬ج َم َع روحانية الرشق اىل مادية الغرب فأعطى‬ ‫هكذا تالقى يف كتاباته َ‬ ‫الغرب نكهة جديد ًة وأعطى الرشق جرع َة تفك ٍري غريب كان َيحتاجه َلص ْحوته من‬ ‫شح َنه جربان من أفكا ِر املساواة بني الرجل واملرأة‪ ،‬والعدالة‪،‬‬ ‫ظالمه الطويل‪ ،‬مبا َ‬ ‫والحرية‪ ،‬والدميقراطية‪ ،‬واإلميان‪ ،‬واملنطق‪ ،‬والبيئة والحفاظ عليها‪ ،‬والسالم‬ ‫العالمي ووحدة األديان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫العولمة قبل أكثر من نصف قرن‬ ‫حدث عن َ‬ ‫وحدة العامل! َ‬ ‫عولم ُة السالم! كأنه َت ّ‬ ‫ووطن‬ ‫كوين‬ ‫رؤيت ُه ل‬ ‫عىل انطالقها يف قاموس العامل‪ .‬لهذه ّكلها عاش‪ ،‬فكانت له ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ِمجتمع ّ‬ ‫ٍ‬ ‫شمويل‪ ،‬وكان ذا رؤيا يف رسالته الشاعرية‪.‬‬ ‫مي ومواطن‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫عال ّ‬ ‫التطلع‬ ‫وها َنحن اليوم َنجتمع هنا حول إرثه‪َ ،‬نرى إليه من الزاويتني‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫ونستعيد معه املايض كي‬ ‫واالستعادة‪ ،‬فيتصالح فيه الزمانان‪ :‬املايض واملستقبل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫مساحة واحدة ُممتد ٍة بني اإلنسان واإلنسان‪ ،‬ألنه عرف‬ ‫نسترشف املستقبل‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫وصوال اىل السيادة االنسانية‪.‬‬ ‫كيف َيحرتم مساحات اآلخرين‬ ‫ً‬ ‫وطن الثقافة‬ ‫لبنان وجربان مع ًا‪ُ :‬‬ ‫جمعنا هنا ُ‬ ‫لبنان ُ‬ ‫هكذا ال تعود مصادف ًة أن َي َ‬ ‫عشية سنة ‪ 2000‬التي جعلتها منظّ مة‬ ‫شاعـر‬ ‫وجربان‬ ‫والسالم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ثقافة السالم‪ّ ،‬‬ ‫العال ّمية لثقافة السالم‪.‬‬ ‫األونسكو ‪‬السنة َ‬ ‫هذا الحوار الروحي حول ْإرث جربان‪ ،‬أَحمله إليكم من لبنان الذي شاءت األونسكو‬ ‫عاصمته ‪‬بريوت عاصمة ثقافية للعامل العريب عن سنة ‪ ،1999‬وها هو يطل عىل‬ ‫العالمية لثقافة السالم‪ُ ،‬ويهدي اىل العامل جربان الذي‬ ‫السنة ‪ 2000‬سنة األونسكو َ‬ ‫رسم بكتاباته السالم العاملي الكوين الشامل‪.‬‬ ‫وحسب‪ ،‬بل هو‬ ‫ُ‬ ‫سعادتنا ّأن هذا املؤمتر ليس تكرمي ًا لجربان وال اسرتجاع ًا لذكراه ْ‬ ‫العالم‬ ‫ف َ‬ ‫تعم ٌق يف إرث جربان الذي جمع يف كتاباته ولوحاته ثقاف ًة ُشمولي ًة للسالم َت ُل ّ‬ ‫ُّ‬ ‫لتجعله واح ًة واحد ًة من إنسانية االنسان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫أكون من‬ ‫هو هذا‪ ،‬أنا الشاعر‪ ،‬ما أعطاين جربان بشخصه وكتاباته ولوحاته‪ :‬أن َ‬ ‫عالمي ًا‬ ‫العالم ُمواطن ًا َ‬ ‫ُطل عىل َ‬ ‫لبنان دون أن أَتقوقع َمحصور ًا يف حدود بالدي‪ ،‬بل أَن أ ّ‬ ‫وطن يؤمن بالثقافة ويعمل‬ ‫من لبنان‪ً ،‬‬ ‫كل ٍ‬ ‫حامال ثقاف َة السالم رسال ًة من وطني اىل ّ‬ ‫عىل رسالة السالم‪.‬‬ ‫* ‪‬النهار‪٢٠٠٠/١/٦ -‬‬

‫‪174‬‬

‫كولدْ ج پارك‪ -‬مرييلند‬


‫العالم‬ ‫العالم من إيطاليا مؤسسة عىل اسم دانته شاعر إيطاليا العظيم‪ ،‬ويف دول َ‬ ‫َ‬ ‫موزع ًة عىل‬ ‫موزع ٌة عىل َ‬ ‫العالم تحمل أسامء عباقرة تلك الدول َّ‬ ‫مؤسسات ثقافية كربى ّ‬ ‫العالم تخليد ًا ملبدعيها‪ ،‬من پوشكني إىل موزار إىل بيتهوڤن إىل شوپان إىل سائر‬ ‫دول َ‬ ‫العباقرة‪ ،‬فكيف ُيمكن ّأال يكون للبنان يف دول العامل مؤسسة ثقافية رسمية عىل اسم‬ ‫جربان‪ ،‬هو السا ِب ُقنا إىل العامل‪ ،‬فيكون للبنان الرسمي ‪‬معهد جربان‪ ‬يف دول العامل‪،‬‬ ‫مؤسسة رسمية عىل اسم هذا الذي يف حياته زرع لبنان عىل ُهدب ريشته ولسان‬ ‫قلمه‪ ،‬ومنذ غاب ما زال يزرع لبنان يف العامل‪ ،‬مع كل إرشاقة شمس يولد من جديد‪،‬‬ ‫يتجدد ذكره الخالد‬ ‫ومع كل صفحة جديدة من طبعة جديدة لكتبه يف بالد جديدة‪َّ ،‬‬ ‫وجه لبنان!‬ ‫َّ‬ ‫ويتجدد معه ُ‬ ‫كولدْ ج پارك ‪ -‬مرييلند‬

‫* إذاعة ‪‬صوت لبنان‪ -‬برنامج ‪‬نقطة عىل الحرف‪ -‬الحلقة ‪)2006/5/3( 494‬‬

‫‪177‬‬


‫رسالة من جربان إىل ْف ِرد هولند داي‬ ‫(‪ 18‬أيلول ‪)1898‬‬

‫ْف ِرد هو ِلند داي الفنان الخليع‬

‫وطلبت منها الوالدة أن تقرأ لها فصل ‪‬األوالد‪،‬‬ ‫فإذا به كتاب ‪‬النبي‪ ‬لجربان‪َ .‬‬ ‫ففعلت االبنة متأثر ًة شديد ًا مِ ّما َتقرأ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫كانت باربره قرأَت ‪‬النبي‪ ‬يف صباها‪ ،‬ومل تكن تدري أن والدتها متأَثِّ ر ٌة مبا فيه‬ ‫فصول أُخرى من هذا الكتاب الذي يروج‬ ‫وقيمٍ يف فصل ‪‬األوالد‪ ،‬ويف‬ ‫من‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫مبادئ َ‬ ‫جيال بعد جيل‪ ،‬وال يزال كتاب‬ ‫ويتلق ُف ُه القراء ً‬ ‫يف الواليات املتحدة طبع ًة بعد طبعة‪َّ ،‬‬ ‫كأن‬ ‫اليوم صدر‪َّ ،‬‬ ‫األجيال املتعاقبة‪ ،‬منذ صدوره قبل اثنني ومثانني عام ًا حتى اليوم‪ ،‬كأنه َ‬ ‫وصاحبه ّإال حضور ًا‪.‬‬ ‫الكتاب‬ ‫صاحبه ال يزال هنا‪ ،‬كأن املوت مل ي ِزد‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫زوج الدكتورة باربره‪ ،‬رئيس مركز أبحاث الرتاث يف كلية العلوم اإلنسانية لدى جامعة‬ ‫ئك ثالث ًا‪:‬‬ ‫مرييلند‪ ،‬الدكتور پول شاكل كان ُيصغي إىل حديث زوجته ّ‬ ‫‪‬أهن َ‬ ‫فعقب عىل كالمها‪ّ :‬‬ ‫ْ‬ ‫رئيس اتحاد الدراسات الجربانية يف هذه الجامعة‪ ،‬ثاني ًا عىل‬ ‫أوال عىل منصبك الجديد بيننا‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫لبنان‬ ‫جميعنا عىل كتاباته‪ ،‬وثالث ًا عىل كونك من َ‬ ‫كونك من وطن جربان‪ ،‬العظيمِ الذي نشأْنا ُ‬ ‫رث ُم ْل ُك العامل‪.‬‬ ‫وحده بل هو ِإ ٌ‬ ‫الذي نعرفه وطن األرز الخالد‪ .‬إن األرز ليس ُم ْلك ًا َ‬ ‫للبنان َ‬ ‫جربان‬ ‫غص ًة يف قلبي أن يكون العامل الجديد َيقدِ ُر أهمي َة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫شك ُرتهم عىل التهنئة‪َ ،‬‬ ‫وكت ْم ُ‬ ‫ت َّ‬ ‫يأخذهم قادة السياسة إىل فئويات‬ ‫أبناء الجيل الجديد ُ‬ ‫واألرز‪ ،‬ويف لبنان‪ِ ،‬‬ ‫وطن جربان واألرز‪ُ ،‬‬ ‫وحزبيات ومذهبيات واصطفافات وآنيات زائفة زائلة‪ ،‬ال يعرفون الكثري عن جربان وال عن‬ ‫أهمية اإلرث الذي أعطاناه التاريخ يف هبة األرز‪.‬‬

‫يف دول العامل من ْألامنيا ‪‬معهد غوته‪ ‬عىل اسم شاعر أملانيا العظيم‪ ،‬ويف دول‬

‫‪176‬‬


179


‫من مجموعة ماري هاسكل لدى متحف تلفري يف ساڤانا – جورجيا‬

‫‪178‬‬

‫‪‬التوق األكرب‪ – ‬مائية مع القلم الرصاص‬ ‫(‪ 20.3 × 26.7‬سنتم)‬

‫‪‬وجه ماري هاسكل‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 26.7 × 36.8‬سنتم)‬

‫‪‬الجاثية والطفل‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 18.4 × 24.8‬سنتم)‬

‫‪‬بدون عنوان‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫َّ‬ ‫(وقعها جربان سنة ‪)1919‬‬


‫رجع هذه األصداء‪.‬‬ ‫نلملم بعده أصداء هذه ‪‬الكلمة‪ ،‬ال الكلمة تنتهي وال ُ‬ ‫استقبلني جوزف أوبرمان (املنتج) وشايال أوديت (مديرة الفرقة‬ ‫يف فيالدلفيا‬ ‫َ‬ ‫وواضعة اإلخراج والكوريغرافيا للعمل) وعدد من أعضاء الفرقة‪.‬‬ ‫مطول‪ ،‬وكانت وثائق تدعم طروحات اإلجتامع‪.‬‬ ‫وكان‬ ‫ٌ‬ ‫اجتامع ّ‬ ‫و‪ ...‬الحكاية من أولها‪:‬‬ ‫يف فجر السنة الجديدة (‪ )1983/1/1‬أفاقت شايال أوديت من نومها عىل حلمٍ‬ ‫ت ليست يف مألوف‬ ‫جميل رأت فيه وجه ًا‬ ‫‪‬جميال غريب ًا ساحر ًا‪ ‬ناداها إليه بإمياءا ٍ‬ ‫ً‬ ‫وجوه الرجال العاديني‪ .‬طوال ذلك اليوم‪ ،‬املتقطّ ع باتصاالت أصدقائها وأعضاء فرقتها‬ ‫تتذكر أين رأَت هذا الوجه‪ ،‬من أين‬ ‫ظلت تحاول أن ّ‬ ‫ومتنياتهم لها بالعام الجديد‪ّ ،‬‬ ‫تعرفه‪ ،‬ووجه َمن يكون‪.‬‬ ‫هرعت إىل مكتبتِها تبحث عن كتاب‪.‬‬ ‫فجأ ًة‪ ،‬عند املساء‪ ،‬كام يف لحظة إيحاء‪َ ،‬‬ ‫وجد ْته‪.‬‬ ‫مل ُ‬ ‫يط ْل َب ْح ُثها حتى َ‬ ‫ناد ْتها يف الحلم‪.‬‬ ‫بىل‪ :‬هذا هو ‪‬الوجه‪ .‬وهي هذه نظراته التي َ‬ ‫نزعت رشيط التلفون كي ال يزعجها‬ ‫كانت السهرة يف ّأولها‪َ .‬‬ ‫أقفلت باب غرفتها‪َ ،‬‬ ‫وأكملت يومها األول من السنة‬ ‫َأحد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الجديدة مع ذاك الكتاب‪ :‬النبي‪ ‬لجربان‬ ‫خليل جربان‪ .‬ومل تطبق ّدفتيه حتى كان‬ ‫عقربا الساعة يف غرفتها ينطبق واحدهام‬ ‫لكن‬ ‫معلنني انتصاف الليل‪ّ .‬‬ ‫عىل اآلخر َ‬ ‫جفنيها مل ينطبقا حتى أدركت معنى نداء‬ ‫َ‬ ‫ذاك الوجه‪ .‬ومع افرتار الفجر من شباك‬ ‫غرفتها‪ ،‬أضمرت تلبية النداء‪ :‬أن تجعل‬ ‫عمال مرسحي ًا كوريغرافي ًا‬ ‫من ‪‬النبي‪ً ‬‬ ‫استعراضي ًا‪.‬‬ ‫أخذت تعمل عىل النص اقتطاف ًا‬ ‫َ‬ ‫باملؤلف‬ ‫وتطويع أداء مرسحي‪ ،‬واتصلت ّ‬ ‫املوسيقي روس كري (واضع موسيقى‬ ‫مخرجة العمل شايال أوديت واملؤلّ ف املوسيقي روس كري‬ ‫تصويرية ألفالم ومرسحيات أمريكية)‬

‫‪181‬‬


‫‪1‬‬ ‫صرخة أميركية من فيالدلفيا‪:‬‬ ‫يا لجنة جبران ال توقفي ‪‬نبي‪ ‬جبران!‬ ‫َستعد لِمغادرة مكتبي يف ‪‬الهدى‪ ‬النيويوركية حني‬ ‫عرص َنهار‬ ‫ٍ‬ ‫جمعة ٍ‬ ‫كنت أ ّ‬ ‫طويل ُ‬ ‫َ‬ ‫اتصلت يب السكرترية لتقول ّإن عىل الخط مسرت جوزف أوبرمان من فيالدلفيا َيو ّد‬ ‫َ‬ ‫إيل‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫التحدث ّ‬ ‫استفرست َع ّما ميكنني أفعله له‪ ،‬فأجاب‪:‬‬ ‫ال اإلسم عنى يل شيئ ًا وال املكان‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ أخذت اسمك من سفارتكم اللبنانية يف واشنطن‪ .‬قالوا يل إنك تدير جريدتكم‬ ‫ُ‬ ‫تساعدنا‬ ‫مهتم بشؤون جربان وتكتب عنه املقاالت‪ .‬أمتنى لو‬ ‫ُ‬ ‫اللبنانية يف نيويورك‪ ،‬وأنك ّ‬ ‫حل مشكلة لنا مع لجنة جربان الوطنية يف بريوت‪ ،‬حول العمل االستعرايض الذي‬ ‫عىل ّ‬ ‫أعددناه لـ‪‬النبي‪ ‬ثم اضطررنا إىل توقيف عرضه هنا يف فيالدلفيا‪.‬‬

‫ وما املشكلة؟‬ ‫مفص ًال أنا ومديرة الفرقة االستعراضية‪ ،‬وأن‬ ‫ األفضل أن نطلعك عىل املوضوع َّ‬ ‫نريك نسخ ًة من العمل عىل الڤيديو‪ .‬نأتيك إىل نيويورك إذا شئت‪ ،‬أو نستضيفك هنا‬ ‫يف فيالدلفيا‪.‬‬ ‫وقبل أن أجيب‪ :‬فيالدلفيا ال أعرفها بعد واألفضل أن أزورها وأتعرف إىل الفرقة‬ ‫واملرسح‪.‬‬ ‫وأجبت‪:‬‬ ‫ أنا عندكم بعد ٍ‬ ‫غد األحد‪.‬‬ ‫يف القطار إىل فيالدلفيا (‪ 150‬دقيقة من نيويورك) كانت السهول تنسحب هارعة‬ ‫يضج يب هذا الجربان‬ ‫أمامي‪ ،‬واملساحات الوسيعة تنهدل كاملوج‪ ،‬وأنا إىل نافذة القطار ّ‬ ‫‪‬ز َحل‪ ‬كتابه ‪‬النبي‪ ‬عن قلبه‪ ،‬اعترب أنه قال كلمته‪ ،‬وها نحن ال نزال‬ ‫الذي يوم َ‬

‫‪180‬‬


‫تنحل القضية القانونية‪.‬‬ ‫تقرر تأجيل عروض متوز ريثام ّ‬ ‫خوف ًا من عواقب ‪‬غري فنية‪ّ ‬‬ ‫ويف ‪ 6‬آب أرسلت بيغي دين ُمحامية رشكة أوبرمان لإلنتاج (واسمها‪ :‬كومونيكيتورز‬ ‫نِتوورك‪ ‬أي ‪‬شبكة االتصاالت‪ ‬الفنية) كتاب ًا إىل املحامي كولوتيش‪ ،‬هنا ترجمته‬ ‫الحرفية‪:‬‬

‫‪ 6‬آب ‪1984‬‬ ‫السيد فرانك كولوتيش‬ ‫الشقة ‪ -2101‬بناية غرايبار‪ِ -420 -‬ل ْك ِس ْنغتون آڤنيو‪ -‬نيويورك‬ ‫نعرض عليكم أن متنحونا الحقوق املرسحية والسينمائية لكتاب ‪‬النبي‪ ‬تأليف خليل جربان القتباسه‬ ‫مرسحي ًا وإذاعي ًا وسينمائي ًا‪ .‬نحن فريق عمل متكامل‪ ،‬ورصدنا لهذا املرشوع مبلغ ًا كافي ًا‪ ،‬ونطمح إىل‬ ‫توسيع مرشوعنا ح ّتى يصبح تجاري ًا عىل غرار كربى أعمال امليوزيكال يف برودواي‪ .‬نأمل أن تأخذوا‬ ‫طموحنا يف االعتبار‪.‬‬ ‫مسبق ًا للجنة جربان الوطنية مقابل إعطائنا حق استثمار هذا العمل لستة‬ ‫نقرتح دفع ‪ 2500‬دوالر ْ‬ ‫أشهر‪ .‬ولدى انتهاء هذه املدة ندفع لها ‪ 2500‬دوالر لستة أشهر أخرى‪ ،‬وبعدها ‪ 2500‬دوالر لكل‬ ‫تجديد ستة أشهر‪.‬‬ ‫جوابكم‬ ‫وبرهان ًا لحسن نوايانا‪ ،‬نرسل مع هذه الرسالة ِش ّك ًا بقيمة ‪ 2500‬دوالر‪ ،‬ريثما ي ِر ُدنا ُ‬ ‫باملوافقة‪ ،‬كي نُ ْط ِل َعكم عىل املدة التي نحتاجها لتجهيز العمل بالصورة التي اقرتحناها عليكم يف هذه‬ ‫الرسالة‪ .‬وتفضلوا بقبول االحرتام‪.‬‬

‫الش ّك‬ ‫يطل االنتظار‪ :‬جاء الجواب ِب ٍ‬ ‫مل ُ‬ ‫ترض ‪‬طموحات‪ ‬الفرقة‪ ،‬ومعه ِّ‬ ‫خيبة مل ِ‬ ‫الشك هذه الرسالة‪:‬‬ ‫الذي أرسلته الفرقة ‪‬برهان ًا لحسن النوايا‪ ،‬ومع ِّ‬ ‫‪‬من‪ :‬مكتب املحامي فرانك كولوتيش‬ ‫إىل‪ :‬املحامية بيغي دين‬ ‫شبكة االتصاالت الفنية‬ ‫‪ -338‬شارع فيتزووتر‬ ‫فيالدلفيا‪ -‬پنسيلفانيا‬ ‫املوضوع‪ :‬النبي‪ ‬تأليف خليل جربان‬ ‫رقم امللف عندنا‪ :‬ث ‪ 000 -68‬أ‪.‬‬

‫َ‬ ‫املتضمن طلبكم الحقوق املرسحية والسينمائية لكتاب‬ ‫املؤرخ يف ‪ 6‬آب ‪،1984‬‬ ‫وصلنا عرضكم ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪‬النبي‪ ‬تأليف خليل جربان القتباسه مرسحي ًا وإذاعي ًا وسينمائي ًا‪ ،‬ومع عرضكم وصلنا ِش ّك من باري‬

‫‪183‬‬


‫يؤلف موسيقى العمل‪ .‬واتصلت باملمثلة شريي آلربت الشهرية يف أمريكا‬ ‫وطلبت إليه ّ‬ ‫َ‬ ‫بأداء األدوار الصعبة‪.‬‬ ‫املوحدة‪ ‬يف مدينة‬ ‫بعد سنة من التامرين َت ّم تقديم العمل عىل مرسح ‪‬الكنيسة ّ‬ ‫النكسرت (پنسيلفانيا) يف خمسة عروض بني ‪ 12‬و‪ 17‬شباط ‪.1984‬‬ ‫استقبلت العمل بنقد‬ ‫لكن العروض مل تكن كافية‪ .‬الصحافة األمريكية‬ ‫َ‬ ‫نجح العمل ّ‬ ‫عال‪ ،‬وتتالت االتصاالت مبديرة الفرقة لتمديد العروض‬ ‫وأثنت عليه بتقدير ٍ‬ ‫إيجايب‪َ ،‬‬ ‫َفت ّم ذلك يف خمسة عروض أخرى (‪ 7‬اىل ‪ 12‬حزيران ‪.)1984‬‬ ‫ليلة العرض األخري‪ ،‬جاء مدير َة الفرقة َمن يعرض عليها تقديم العمل عىل مرسح‬ ‫فتم االتفاق بني املنتج جوزف أوبرمان واملسؤول عن املرسح عىل‬ ‫إليزابيت تاون‪ّ .‬‬ ‫تقديم خمسة عروض (‪ 9‬اىل ‪ 14‬متوز ‪.)1984‬‬ ‫يستمر‪ ،‬وأن‬ ‫مل َي ْد ِر جوزف أوبرمان وال شايال أوديت أن هذا ‪‬الحلم الجميل‪ ‬لن‬ ‫ّ‬ ‫يف القانون بنود ًا ورشائع تعيق األحالم‪.‬‬ ‫انكسار الحلم‬

‫وسط االستعداد لتقديم عروض متوز عىل‬ ‫مرسح إليزابيت تاون (‪ 35‬دقيقة عن فيالدلفيا)‬ ‫يرن جرس التلفون يف مكتب جوزف أوبرمان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ هنا مكتب منشورات ‪‬كنوف‪ ‬يف نيويورك‪.‬‬ ‫حذركم من تقديم عروض ‪‬النبي‪ ‬يف متوز املقبل‪،‬‬ ‫ُن ِّ‬ ‫قبل حصولكم منا عىل املوافقة‪ .‬نحن نارشو‬ ‫‪‬النبي‪ ‬وتالي ًا نحن مالكو حقوق نرشه واستثامره‪.‬‬ ‫يف اليوم التايل كان جوزف أوبرمان يف نيويورك‪.‬‬ ‫وحوله عىل ُمحامي‬ ‫استقبله مدير دار ‪‬كنوف‪ّ ‬‬ ‫الدار‪ :‬فرانك كولوتيش الذي َنصح بأن يتم التعامل‬ ‫بني املحامني (محامي أوبرمان أو محامي الفرقة)‬ ‫ألن العملية ذات صلة بالقضاء و‪‬ال سبيل إىل‬ ‫الفن حني املشكلة قانونية‪.‬‬ ‫الكالم يف ّ‬

‫‪182‬‬

‫املنتج جوزف أو ِبرمان‬


‫فيالدلفيا‪ -‬پنسيلفانيا‬

‫املوضوع‪ :‬كتاب ‪‬النبي‪ ‬تأليف خليل جربان‪.‬‬ ‫عن ّ‬ ‫ملفنا رقم‪ :‬ث ‪ 000 -68‬أ‪.‬‬

‫نعتذر عن تأخرنا يف ّ‬ ‫الرد عىل رسالتك‪ ،‬لصعوبة اتصالنا بلجنة جربان الوطنية يف بريوت‪.‬‬

‫وبعد مناقشة عرضكم مع موكلتنا (اللجنة) يؤسفنا إعالمكم أنها‪ -‬بسبب مفاوضات جارية حالي ًا‬ ‫بينها وبني منتجني آخرين‪ -‬ترغب يف االنتهاء من تلك املفاوضات قبل الدخول يف عرض موكلكم‬ ‫(أي‪ :‬املرسح) حول عمل مرسحي عن كتاب ‪‬النبي‪ .‬مع االحرتام‪ -‬روبرت وايزبن‪.‬‬

‫إىل هنا انتهت العملية القانونية لذاك ‪‬الحلم الجميل‪ ،‬واعتربت كوفامن أنها وصلت‬ ‫إىل الطريق املسدود‪ ،‬و‪‬عليكم انتظار انتهاء املفاوضات بني لجنة جربان يف بريوت‬ ‫واملنتجني اآلخرين‪.‬‬ ‫سوى أن شايال أوديت مل تشأ أن ترضخ لربودة القانون وصقيع انتظاره‪.‬‬ ‫صباح االثنني ‪ 28‬كانون الثاين ‪( 1985‬بعد مرور عامني عىل ‪‬حلمها الجميل‪)‬‬ ‫تلف عليها معطفها يف ذاك اليوم املثلج‪ ،‬وتطرق الباب يف الطابق الحادي‬ ‫كانت ُّ‬ ‫والعرشين من بناية غرايبار املنتصبة وسط ‪‬ل ِْك ِس ْن ْغتون آڤنيو‪ ،‬الجادة النيويوركية‬ ‫رفضت استمهال السكرترية ‪‬لتسجيل‬ ‫الباذخة‪ ،‬طالب ًة ‪‬مواجهة السيد كولوتيش‪َ .‬‬ ‫يشاهد‬ ‫وأرصت عىل مقابلته‪ ،‬وأضمرت‪ :‬سأدعوه إىل فيالدلفيا كي‬ ‫موعد الحق‪‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫العرض‪ .‬الفن سيقنعه‪.‬‬ ‫بعد لحظات‪ ،‬كانت يف مكتبه‪.‬‬ ‫الفظ‬ ‫وبعد دقائق طويلة‪ ،‬كانت يف الشارع متضغ داخل معطفها كالم كولوتيش ّ‬ ‫الجاف‪:‬‬ ‫ رأيي لن يتغري‪ .‬أريد عرشين ألف دوالر لستة أشهر‪ ،‬و‪ 2000‬دوالر بدل‬ ‫انتقايل إىل فيالدلفيا ملشاهدة العرض‪ ،‬وهذه األلفا دوالر ال تشمل مصاريف انتقايل‬ ‫إىل بريوت عىل نفقتكم ألقوم مبفاوضة لجنة جربان الوطنية‪.‬‬ ‫مضغت شايال أوديت تلك الكلامت القاسية وقذفت بها سوداء إىل الثلج األبيض‬ ‫َ‬ ‫تجرهام عىل أرض‬ ‫يتكسر‪ ،‬كتلك الكلامت‪ ،‬تحت قدمني لها كانت ُّ‬ ‫الذي راح ّ‬ ‫املبللة باملطر‪.‬‬ ‫نيويورك َّ‬

‫‪185‬‬


‫موليتش بقيمة ‪ 2500‬دوالر إىل لجنة جربان الوطنية التي طلبتم مني االتصال بها للمفاوضة‪ .‬أعيد‬ ‫إليكم ِّ‬ ‫الشك إذ يلزمنا وقت لالتصال بلجنة جربان الوطنية وعرض طلبكم عليها‪ ،‬ألن مستشارها‬ ‫العام فريد سلمان عاد إىل بريوت‪ .‬وسأنقل إليه عرضكم وأنتظر جواب اللجنة عن عرضكم‪.‬‬

‫ويهمني أن ألفتكم إىل أن عرضكم ناقص ألنه مل يطرح موضوع النسبة املئوية لرشاء تلك الحقوق‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫فعرضكم يقرتح رشاء الحقوق مقابل ‪ 2500‬دوالر‪ ،‬ومل يذكر كم ستدفعون حقوق ًا الستثماره مرسحي ًا‬ ‫وسينمائي ًا‪ ،‬وما النسبة املئوية التي ستدفعونها للجنة جربان؟‬ ‫إنني واثق من أن اللجنة ستطرح هذه األسئلة كي تتجاوب مع عرضكم‪.‬‬

‫مع االحرتام والتقدير‪.‬‬

‫‪ 15‬آب ‪1984‬‬ ‫فرانك كولوتيش‬

‫الطريق المسدود‬

‫طال انتظار الفرقة نتيج َة االتصال بني املحامي كولوتيش ولجنة جربان يف بريوت‪،‬‬ ‫فقررت الفرقة االستجابة للموضوع املادي‪ .‬ويف اتصال هاتفي سأل كولوتيش عن املبلغ‬ ‫املطلوب ملنح الحقوق ستة أشهر‪ ،‬فكان جوابه مخترص ًا جاف ًا‪:‬‬ ‫أي سؤال‪.‬‬ ‫ ‪ 20‬ألف دوالر‪ ،‬وأقفلوا يل هذا املوضوع‪ .‬لن أقبل بعد اليوم ّ‬ ‫كان املبلغ كبري ًا عىل ‪‬اإلمكانات‪ ‬املرصودة‪.‬‬ ‫بعد أيام‪ ،‬عرضت الفرقة عىل املحامي كولوتيش مبلغ ‪ 7500‬دوالر لستة أشه ٍر فرفض‪.‬‬ ‫يف هذه األثناء‪ ،‬كانت الفرقة اتخذت محامية لها‪ :‬اآلنسة فيليس كوفامن‪ ،‬لتتابع‬ ‫أعامل املالحقة‪ ،‬فأرسلت هذه إىل كولوتيش رسالة مسهبة جمعت فيها البنود‬ ‫الرد‬ ‫القانونية إىل االندفاع الفني‪ ،‬فلم ُي ِج ْبها كولوتيش بل ّكلف محامي ًا يف مكتبه ّ‬ ‫تسل ْمته كوفامن‪ ،‬وفيه‪:‬‬ ‫بعد ‪‬أسابيع طويلة صامتة‪ّ ،‬‬ ‫‪ 10‬كانون األول ‪1984‬‬

‫املحامية فيليس كوفمان‬ ‫‪ -1500‬شارع لوكاست‬ ‫الشقة ‪3611‬‬

‫‪184‬‬


‫ سأقوم مبسعاي عىل ّ‬ ‫خطني‪ :‬أول بنرش تفاصيل اجتماعنا هذا‪ ،‬يف كامل رواياته‬ ‫ووثائقه‪ ،‬عىل صفحات ‪‬النهار العريب والدويل‪ ‬أكثر مجالتنا انتشار ًا يف لبنان‪ ،‬ضمن‬ ‫سلسلة أكتبها لبريوت عن جربان من نيويورك‪ ،‬فيكون اإلعالم الواسع طريقي الواسعة‬ ‫إىل اللجنة‪ .‬والخط اآلخر‪ :‬اإلتصال فور عوديت إىل بريوت لقضاء بضعة أيام فيها‪،‬‬ ‫بصديقي فريد سلمان‪ً ،‬‬ ‫حامال معي صور ًا عن هذه الوثائق التي أطلع ُتموين عليها‪،‬‬ ‫واالجتماع باللجنة للنظر يف ما ميكنها أن تفعله بواسطة محاميها يف نيويورك‪.‬‬

‫دعوين‬ ‫لدى ارفضاض اجتامعنا‪ ،‬كان يف عيون الجميع َلمع ُة ٍ‬ ‫أمل ازدادت بريق ًا حني َ‬ ‫إىل غرفة خاصة نشاهد فيها عىل شاشة كبرية ڤيديو ‪‬نبي‪ ‬جربان باملوسيقى والغناء‬ ‫والكوريغرافيا‪.‬‬ ‫فيالدلفيا‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/9/23 -‬‬

‫‪187‬‬


‫إىل هنا‪ ...‬تنتهي الحكاية‪.‬‬ ‫الهث من حامسته يف روايتها يل بكل تفاصيلها‪ ،‬قبالتي‬ ‫عن مييني جوزف أوبرمان‬ ‫ٌ‬ ‫شايال أوديت ذاهلة تجرش يف صمتها تلك املحاوالت‪ ،‬وحويل بعض أعضاء الفرقة‬ ‫خيبتهم وصدمتهم‪.‬‬ ‫صامتون كأمنا صمتهم يروي يل بالغة َ‬ ‫يقطع أوبرمان هذا الصمت باستفهام استنكاري يتناسل أسئلة‪:‬‬ ‫ ماذا تقرتح علينا يا صديقنا اللبناين؟ هل يجوز هذا التعامل مع عمل كبري‬ ‫يحرتم النص وصاحب النص وأولياء أمر صاحب النص؟ هل يجوز انكسار تجربة‬ ‫كهذه مهمة للجميع‪ :‬لنا ولكم أنتم أبناء وطن جربان؟ هل يجوز أن يستعمل‬ ‫السيد كولوتيش صالحياته من لجنة جربان الوطنية لكرس التعاون بدل استعاملها‬ ‫لتسهيل التعاون؟ هذه أول محاولة يف فيالدلفيا لعمل بضخامة أعامل برودواي‬ ‫تصدنا؟ وهل‬ ‫تظن أن لجنة جربان الوطنية يف لبنان ُّ‬ ‫الراقية ولجربان اللبناين‪ ،‬فهل ُّ‬ ‫من عمل أجمل إطار ًا لتقديم جربان إىل الناشئة والشباب الذين مل يتعرفوا بعد‬ ‫قراء ًة إىل كتاب جربان؟ وهل‬ ‫يتحول‬ ‫تتصور مدى ذيوع ‪‬النبي‪ ‬وجربان‪ ،‬حني ّ‬ ‫ّ‬ ‫الكتاب من املرسح إىل السينام‪ ،‬ثم ينتقل اىل الڤيديو كاسيت‪ ،‬مع كامل استعدادنا‬ ‫املرتتبة علينا للجنة جربان عن املرسح والسينام‬ ‫للمفاوضة بدفع النسبة املئوية ّ‬ ‫وأرشطة الڤيديو؟ هل ْنقدِ م عىل تقديم العمل‪ ،‬ونرتك للمحامني تصفية القضية‬ ‫يف ما بينهم؟‬ ‫أكسر متتاليات األسئلة‪ ،‬بسؤال موجز‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ ماذا تريدونني أفعل؟‬

‫ إن للجنة جربان الوطنية يف بريوت سلطة الوصاية عىل كولوتيش‪ ،‬ولها أن تعطيه‬ ‫اإلشارة فيعطينا الضوء األخرض لنبدأ‪.‬‬ ‫طلبت‬ ‫رت يف لحظا ٍ‬ ‫ّ‬ ‫تذك ُ‬ ‫ت عجىل تجربتي مع لجنة جربان الوطنية يف بريوت‪ ،‬حني َ‬ ‫وقدمت‬ ‫مني‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫بتكليف من صديقي فريد سلامن‪ ،‬ترجمة ‪‬النبي‪ ‬إىل اللبنانية ْ‬ ‫ت َّ‬ ‫ففعل ُ‬ ‫املخطوطة لهم يف آذار ‪ 1981‬كي يصار إىل طبعها يف كتاب يصدر خالل احتفاالت لبنان‬ ‫بخمسينية غياب جربان (‪ .)1983‬وافقت اللجنة عىل إصدارها ونامت املخطوطة يف‬ ‫ملفات اللجنة‪.‬‬ ‫كتمت شعوري بتلك الخيبة القدمية‪ ،‬وأجبت‪:‬‬ ‫ُ‬

‫‪186‬‬


‫صفحات من بطاقة الدعوة إىل مشهدية ‪‬النبي‪ ‬يف فيالدلفيا‬

‫مقتبس ًا للمرسح‪ .‬و‪‬النبي‪ ،‬منذ ما يزيد عن خمسني عام ًا‪،‬‬ ‫‪‬إننا الليلة مع ‪‬نبي‪ ‬خليل جربان َ‬ ‫لبساطة فيه َج ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ميلة تلبس مضمون ًا هو بني أغنى ما يف هذا العرص من فكر‬ ‫ينغرس يف قلوب الناس‪،‬‬ ‫األثر الكتايب الكالسيكي ُبعد ًا آخر‪.‬‬ ‫عميق‪ .‬واألوان حان ليكتسب هذا ُ‬ ‫ً‬ ‫حولناه ً‬ ‫إننا ْ‬ ‫عمال‬ ‫جعلنا هذا النص الفلسفي‬ ‫مشهدية َ‬ ‫حركية عىل غري صعيد‪ :‬فني ًا‪ ،‬انفعالي ًا‪ ،‬وروحي ًا‪ّ .‬‬ ‫يتجسد فيه الحوار ِ‬ ‫والشعر والغناء والرقص‪ ،‬فخرج أمين ًا لروح النص وأمين ًا للعبة املرسحية‪.‬‬ ‫للمرسح َّ‬ ‫الرسد ٌ‬ ‫َ‬ ‫راوية بني لوحات الحوار والرقص والغناء‪.‬‬ ‫ُفصل‬ ‫وكما يف األعمال الطليعية‪ ،‬ت ِّ‬

‫‪189‬‬


‫‪2‬‬ ‫‪‬النبي‪ً ‬‬ ‫عمال استعراضياً‪:‬‬ ‫كلمات المصطفى رقص وباليه‬ ‫وشعب أورفليس دمى متحركة‬ ‫ت كان‬ ‫عرفته من قراءا ٍ‬ ‫تتعرف إليه‪ْ ،‬‬ ‫يف ما َ‬ ‫بلغنا عن جربان ّأن باربره يونغ‪ ،‬قبل أن ّ‬ ‫ت من ‪‬النبي‪ ‬خالل احتفاالت كنيسة القديس‬ ‫القس بتلر داڤِنپورت مقتطفا ٍ‬ ‫يتلوها ّ‬ ‫مرقس (سانت مارك) يف أسفل مانهاتِن‪ -‬نيويورك‪ .‬ويذكر ميخائيل نعيمه أنه حرض‬ ‫ت من ‪‬النبي‪ ‬يف تلك الكنيسة‪.‬‬ ‫مرة‪ ،‬بدعوة من جربان‪ ،‬قراءا ٍ‬ ‫هذا يشري إىل أن ‪‬النبي‪ ‬منذ صدوره (أيلول ‪ )1923‬انطلق يف ّقو ٍة وزخم‪ ،‬وأخذ‬ ‫يكرس شهرة جربان يف األوساط األمريكية (وإن هو يعترب أن ‪‬يسوع إبن اإلنسان‪‬‬ ‫ّ‬ ‫يجسد أفكاره أكثر)‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫وها نحن اليوم‪ ،‬بعد ‪ 62‬عام ًا عىل صدوره‪ ،‬أمام عمل درامي يوصل ‪‬النبي‪ ‬أكثر‬ ‫ساعدت تلك القراءات يف سانت مارك عىل‬ ‫إىل الجمهور الذي مل يقرأْه يف كتاب‪ ،‬كام َ‬ ‫لفت الجمهور إىل قراءة الكتاب‪.‬‬ ‫ث االستعراض‪.‬‬ ‫الغرفة مظلمة‪ .‬الشاشة الكبرية البيضاء تنتظر آلة الڤيديو لنشاهد َب ّ‬ ‫حويل جوزف أوبرمان وشايال أوديت وبعض أعضاء الفرقة‪.‬‬ ‫نبدأ؟؟‬ ‫نبدأ‪ .‬ويدور الرشيط‪.‬‬ ‫الوسط حيث كلمة الفرقة (‪‬ك ِرييتِڤ‬ ‫يضاء املرسح عىل خلفية بسيطة‪ .‬نور ّ‬ ‫مركز يف َ‬ ‫الخالقة‪ُ )‬تلقيها جوانا غالس عىل متتامت موسيقية جميلة‪.‬‬ ‫ڤ ِ​ِج ْن ْز‪ ،‬أي ‪‬الرؤى ّ‬ ‫من كلمتها‪:‬‬

‫‪188‬‬


‫اعتمدت من ‪‬النبي‪‬‬ ‫وهي‬ ‫َ‬ ‫سبع عرشة لوحة تتالت أمامنا‬ ‫بدون فاصل بينها وال اسرتاحة‪،‬‬ ‫برباعة وفق التسلسل التايل‬ ‫َغ َز ْلتها‬ ‫ٍ‬ ‫(كام يف النص األصيل)‪ :‬وصول‬ ‫السفينة‪ ،‬الحب‪ ،‬الزواج‪ ،‬األوالد‪،‬‬ ‫العطاء‪ ،‬األكل والرشاب‪ ،‬الثياب‪،‬‬ ‫العمل‪ ،‬الجرمية والعقاب والعدالة‪،‬‬ ‫التعليم واملعرفة‪ ،‬الصداقة‪ ،‬اللذة‪،‬‬ ‫الصالة‪ ،‬لوحة غنائية‪ :‬اللذة أغنية‬ ‫الدين‪ ،‬املوت‪ ،‬الوداع‪.‬‬ ‫الحرية‪ِّ ،‬‬ ‫واستعان روس كري ِبمقاطع‬ ‫من باخ وموزار ودوبويس‪ ،‬تطريز ًا‬ ‫ملقاطع من تأليفه‪ ،‬عىل درجة‬ ‫َ‬ ‫الدمى يف مشهدية ‪‬النبي‪‬‬ ‫عالية من مناخ جربان‪.‬‬ ‫وترافقت املوسيقى اإللكرتونية‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يف انسجام لصيق‪ ،‬مع كوريغرافيا‬ ‫نص جربان‪.‬‬ ‫شايال أوديت كذلك‪ّ ،‬‬ ‫لتؤديا التعبري األنقى واألصفى كام جاء شفيف ًا يف ّ‬ ‫وهذا األداء َغن َِم كثري ًا من خربة كري يف التأليف املوسيقي ألفالم كربى‪ ،‬ومن خربة‬ ‫أوديت يف إخراج أعامل مرسحية ضخمة استعراضية‪.‬‬ ‫شريي ألربت كان حضورها الفت ًا وقوي ًا يف دور ‪‬الراوية‪ ‬التي متزج النص إىل‬ ‫التعريف إىل السخرية إىل املقاطع الغنائية القصرية‪ ،‬فتحبك لوحات ‪‬النبي‪ ‬بعضها‬ ‫ببعض يف لحظات بارعة‪.‬‬ ‫الرس ّو ونزول املصطفى)‬ ‫منذ وصول السفينة (رقصة ثنائية جميلة للتعبري عن ُ‬ ‫مرور ًا بأهايل أورفليس الذين يسألون املصطفى فيجيب‪ ،‬حتى وداع املصطفى (رقصة‬ ‫جامعية ختامية) يتامسك العمل باملوسيقى باألداء والكوريغرافيا‪.‬‬ ‫العرصي الحديث‬ ‫َتهمس يل أوديت خالل مشهد جامعي راقص‪ :‬أحاول أن أجمع‬ ‫ّ‬ ‫والكالسيكي القديم‪ .‬لذا ترى اإلضاءة اإللكرتونية واملوسيقى اإللكرتونية والرقص‬

‫‪191‬‬


‫مشاهدُ الرقص جعلناها تخاطب العني لرتتاح األذن‪ ،‬وجعلنا بينها لوحات أطفال يف الشارع للعودة‬ ‫بالزمن إىل طفولة خليل جربان يف ذاك الحي القديم من بوسطن‪.‬‬ ‫أما األغاين التسع فأردناها تركيز ًا عىل الحوار العميق الذي ّ‬ ‫يتخللها‪.‬‬ ‫قاربنا‪ ،‬بعمل خليل جربان‪ ،‬حياتَنا املعيوشة اليومية‪ ،‬يف إطا ٍر جديد يجعل الكتاب أسهل ً‬ ‫تناوال‬ ‫هكذا ْ‬ ‫إىل جيل اليوم‪.‬‬ ‫وعسانا‪ ،‬بعد تقديم هذا العمل عىل طريقة أعمال برودواي الراقية‪ ،‬نستطيع تَحويله إىل عمل‬ ‫تلڤزيوين وسينمائي ُي ِّ‬ ‫خلد النص الجميل‪.‬‬ ‫يشجع عىل تقديم هذا‬ ‫تم فيه‪ّ ،‬‬ ‫ْ‬ ‫ونؤمن أن اقتباس الكتاب للمرسح‪ ،‬بالشكل الويف واألمني الذي ّ‬ ‫العرض يف املعاهد واملسارح الحق ًا‪ ،‬ليكون مكتمل الرسالة والهدف‪.‬‬

‫عتم ٌة من جديد‪ .‬ثم ‪‬جينرييك‪ ‬رسيع يف إخراج جميل ومتقن‪ ،‬فإذا أمامنا‪:‬‬ ‫الرقص‪ :‬جينيفر شنك‪ ،‬ميالين جانكنز‪ ،‬كريستي رشترز‪ ،‬نانيت باكني‪ ،‬جوليانا‬ ‫أپليغيت‪ ،‬لورا بيل‪.‬‬ ‫الجوقة‪ :‬مارسيا بايسون‪ ،‬وليم ديكسون‪ ،‬جوانا غالس‪ ،‬ريتشارد بربور‪ ،‬جودي‬ ‫غالس‪ ،‬جاال ماجيك‪ ،‬جوي أبونتي‪ ،‬جانيت أيشلامن‪ ،‬بوب بايسون‪.‬‬ ‫غناء منفرد‪ :‬رومني بريدغيت‪ ،‬روبرتا سنغر‪ ،‬ماريلو كولر‪ ،‬كيتي ديلر‪.‬‬ ‫بطولة‪ :‬شريي آلربت‪.‬‬ ‫التأليف املوسيقي وقيادة األوركسرتا‪ :‬روس كري‪.‬‬ ‫تصميم الدمى‪ :‬سامانتا وست‪.‬‬ ‫ضيوف رشف‪ :‬جيم كالس‪ ،‬جاال ماجيك‪ ،‬دانا شليغل‪.‬‬ ‫الديكور‪ :‬ليندا تريغو‪.‬‬ ‫اإلضاءة‪ :‬غاري سرتود‪.‬‬ ‫الصوت اإللكرتوين‪ :‬هارولد شاك‪.‬‬ ‫مديرة الكورس‪ :‬رومني بريدغيت‪.‬‬ ‫اإلخراج‪ :‬شايال أوديت‪.‬‬ ‫«النبي» استعراض ًا‬

‫اعتمدت شايال أوديت‪ ،‬يف إخراجها هذا العمل‪ ،‬عىل َج ْمع املوسيقى إىل‬ ‫َ‬ ‫الدراما إىل الغناء إىل الرقص التعبريي والباليه إىل الحوار إىل املقاطع الساخرة‪،‬‬ ‫وصوال إىل الدمى املتحركة‪ ،‬لتجعل من ‪‬النبي‪ ‬مشهد ًا متحرك ًا‬ ‫إىل جوقة الغناء‪،‬‬ ‫ً‬ ‫يف جميع املفاصل‪.‬‬

‫‪190‬‬


‫جربان الشاعري بدون إسقاط النص يف التهريج‪ ،‬كام أدخلت السخرية األدائية عىل كالم‬ ‫جربان الفلسفي بدون إسقاط العمق الفكري يف الخفة‪.‬‬ ‫وكانت شريي آلربت‪ ،‬يف إدارة أوديت‪ ،‬ماهرة بني الكلامت واألداء‪ ،‬وهي تقوم مر ًة‬ ‫منسجام متام ًا‬ ‫بدور الراوية‪ ،‬ومر ًة بفاصل غنائي أو كوريغرايف‪ .‬كان تعبريها الصويت‬ ‫ً‬ ‫مع تعبريها الجسدي‪.‬‬ ‫متمام مناخ ًا‬ ‫ولفتني كذلك رقص رشقي قامت به راقصة الباليه جاال ماجيك‪ ،‬جاء‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫رشقي ًا خاص ًا ما كان ميكن شايال أوديت تنفيذ عملها بدونه‪ ،‬وهو جاء تحت إضاءة‬ ‫مألوفتني يف مناخ رقصنا الرشقي‪.‬‬ ‫إلكرتونية وموسيقى إلكرتونية غري‬ ‫َ‬ ‫جعلتها‬ ‫لفتت جويل أپليغيت يف أدائها بالباليه أغنية‪ :‬اللذة أغنية الحرية‪ْ ،‬‬ ‫وكذلك َ‬ ‫أوديت لوحة مستقلة‪.‬‬ ‫فنوع‬ ‫وكام‬ ‫َ‬ ‫اعتمدت أوديت عىل جديدٍ َ‬ ‫للعني‪ ،‬اعتمد روس كري عىل جديد لألذن‪ّ ،‬‬ ‫املؤدى‪ .‬ومل‬ ‫العني املتا ِبعة ُوتفسد النص َّ‬ ‫يف إيقاعاته كي ال تتنامى إىل رتابة ُتفسد َ‬ ‫يعتمد عىل التأليف وحده بل عىل آالت موسيقية مميزة خاصة مبوسيقاه اإللكرتونية‪،‬‬ ‫ما جعل موسيقاه صدامية أكثر‪ ،‬ألن إيقاع نص ‪‬النبي‪ ‬ذو مناخ طقيس‪ ،‬بينام إيقاعه‬ ‫تواف َق مع موسيقى الپوپ أو الهارد ميوزيك‪.‬‬ ‫موسيقي ًا َ‬ ‫أداء‬ ‫بعض ّ‬ ‫النقاد التقليديني ممن قرأوا ‪‬النبي‪ ،‬وجدوا يف هذا العرض‪ً ،‬‬ ‫وموسيقى وكوريغرافيا‪ ،‬اغتصاب ًا لبحر جربان الهادئ‪ ،‬وصورة مهزوزة لجربان يف‬ ‫كتابه‪.‬‬ ‫زي‬ ‫شد َدت يل مرار ًا خالل العرض) أرادت ّ‬ ‫شايال أوديت (كام َّ‬ ‫تقدم جربان ‪‬يف ّ‬ ‫العرص ال يف القمباز الرشقي أو املصطفى ذي اللحية الطويلة البيضاء الذي قد يصيب‬ ‫املشاهدين بامللل‪.‬‬ ‫رأيت العمل) ْمق ٌنع ألنها مل َت ُخن روح النص بل حافظت عليه بأمانة‪.‬‬ ‫جوابها (كام ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقالت يل‪ ،‬عىل لسان روس كري (مل أتعرف إليه ألنه مل يكن معنا خالل العرض) إنه قرأ‬ ‫ويقدِ م عىل وضع موسيقاه له‪ .‬وهذا يبدو‬ ‫يتذكر عددها ‪‬كي يتجارس ْ‬ ‫‪‬النبي‪ ‬مرات ال ّ‬ ‫(غن ْتها رومني بريدغيت منفرد ًة)‪ ،‬ومن تأْليفه‬ ‫ظاهر ًا من تلحينه ‪‬اللذة‪ :‬أغنية الحرية‪ّ ‬‬ ‫موسيقى االفتتاح (وصول السفينة إىل شاطئ أورفليس)‪ ،‬ويف بعض مفاصل املشاهد‪.‬‬ ‫‪‬ص ْنداي نيوز‪ :‬مثلام الحوار‬ ‫ورصح للناقد جيم روث يف صحيفة َ‬ ‫وهو اعتمد البساطة‪ّ .‬‬ ‫اعتمدت يف موسيقاي بساطة تدخل إىل قلوب‬ ‫البسيط الجميل يدخل الذاكرة برسعة‪ ،‬كذلك‬ ‫ُ‬

‫‪193‬‬


‫التعبريي الحديث‪ ،‬يف موازاة النص‬ ‫الشعري الكالسيكي الحامل الهادئ‪.‬‬ ‫ضد تيار النص‪،‬‬ ‫حاولت أن أسبح ّ‬ ‫ُ‬ ‫خصوص ًا يف مشاهد أوالد الطريق‪،‬‬ ‫الفلسفي العميق‪،‬‬ ‫ومشاهد الكالم‬ ‫ّ‬ ‫لتسهيل مناله‪ .‬أنا أعرف ماذا‬ ‫يستهوي اليوم جمهور أمريكا‪.‬‬ ‫حرضت بصوتها‬ ‫شريي آلربت‬ ‫َ‬ ‫تزاو ٌج‬ ‫وتكل َمت بجسدها‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫لقطة أخرى من املشهدية‬ ‫متكامل بني تعبريها الشفوي‬ ‫والحلقي‪ .‬ويف‬ ‫وتعبريها التشكييل َ‬ ‫أثناء مقطع كنا نشاهدها ُتلقيه‪،‬‬ ‫شاعركم اللبناين‪.‬‬ ‫استدارت نحوي (كانت جالسة أمامي) وقالت بتأثُّ ر‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫‪‬مذهل ُ‬ ‫تصدم شايال أوديت باقتباسها وتقدميها ذاك النص الشاعري الحامل‬ ‫وبالفعل‪ُ :‬‬ ‫إلكرتونيتني‪ُ ،‬فت َز ِّوج‬ ‫ودمى و‪‬هيصة‪ ‬موسيقى وإضاءة‬ ‫يف ‪‬عجقة‪ ‬رقص وغناء ُ‬ ‫ّ‬ ‫شعب أورفليس‪ ،‬وتجعل املاكياج‬ ‫النغمة الشعرية بالسنتيسايزر وتجعل الدمى‬ ‫َ‬ ‫خيلة املشاهد‬ ‫البهلواين‪،‬‬ ‫كثيف ًا حتى‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫وصوال إىل عمق جرباين كثيف‪ ،‬معتمد ًة عىل ُم ّ‬ ‫متام ًا كام اعتمد جربان عىل مخيلة القارئ‪.‬‬ ‫توج َهت‬ ‫وكام جربان صدم القارئ مبخيلته‪ ،‬شاءت شايال أن َتصدم ا ُملشاهد مبتابعته‪َّ .‬‬ ‫مدخال إىل خياله‪.‬‬ ‫عني املشاهد ً‬ ‫إىل العني‪ :‬بالصور والرقص والدمى واملالبس حتى َ‬ ‫تكون ُ‬ ‫وهذا ما جعل دوروثي دوالناي‪ ،‬الناقدة يف مجلة ‪‬ليپ‪ ‬املتخصصة يف املرسح‪،‬‬ ‫تكتب يف نقدها العمل (كام أرانيه أوبرمان قبل العرض)‪ :‬شايال أوديت تضيف إىل‬ ‫فن برودواي الراقي درجة جديدة من الرقي الفني‪( .‬ليپ‪ -‬السنة ‪ -16‬العدد‬ ‫ّ‬ ‫(بتن ُّوعها اللوين حين ًا واألبيض الصلد‬ ‫خاص‬ ‫ل‬ ‫فع‬ ‫لإلضاءة‬ ‫وكان‬ ‫‪.)1984‬‬ ‫آذار‬ ‫األول‪-‬‬ ‫َ‬ ‫ْ ٌ‬ ‫حين ًا آخر) ُلت َن ّبه العني إىل ما سييل من َمشاهد‪.‬‬ ‫مدخال إىل‬ ‫واىل أداء النص أدى املمثلون بأجسادهم كذلك فكانت الكوريغرافيا‬ ‫ً‬ ‫الكلمة املسموعة وأنقذت الكوريغرافيا طول مشهد ‪‬األوالد‪ ‬مثلام أنقذت الدمى‬ ‫طول الرسد يف مشهد ‪‬الجامل‪ .‬وأدخلت شايال أوديت بعض الڤودڤيل عىل كالم‬

‫‪192‬‬


‫ سأحمل اىل لجنة جربان رأيي يف العمل‪ .‬انتظروا مني جواب ًا لدى عوديت من‬ ‫بريوت‪.‬‬ ‫إشارة أخيرة‬

‫من بريوت؟‬ ‫وماذا عساين أحمل من بريوت غري جواب ثابت وراسخ بعد الذي شاهدته يف‬ ‫العمل؟‬ ‫وهل سأخرج من اجتامعي مبسؤويل ‪‬لجنة جربان الوطنية‪ ‬يف بريوت إال مبوافقتها‬ ‫عىل العمل ُيبلغونها إىل محاميهم يف نيويورك؟‬ ‫لجنته؟‬ ‫وإال فام دور لجنة جربان؟ وملاذا هي ُ‬ ‫حبي جربان يف العامل؟‬ ‫وهل أضخم من هذا العمل تكون قدمته ل ُِم ّ‬ ‫أهم من أن يكون يف كل مكتبة من العامل نسخة عن ‪‬نبي‪‬‬ ‫وهل يف عرص الڤيديو ُّ‬ ‫جربان؟‬ ‫أقل من‬ ‫هذه فرصة عاملية جديدة‪ ،‬حبيب ٌة إىل ْ‬ ‫عشق جربان الشهر َة العاملية‪ ،‬وال ّ‬ ‫تقصر شؤونه معها حتى‬ ‫أن تكون محببة إىل لجنة جربان التي تتوىل شؤونه ولن ّ‬ ‫مادي ًا‪.‬‬ ‫‪‬نبي‪ ‬جربان باإليقاع‬ ‫وليس أبلغ للبنان‪ ،‬يف عرص التكنولوجيا‪ ،‬من أن ينترش ّ‬ ‫يكرسه أيض ًا وأيض ًا عبقري ًا‬ ‫العرصي الحديث يف العامل الذي سيشهد جربان يف عمل ّ‬ ‫خالد ًا من لبنان‪.‬‬ ‫هويّات‬ ‫ُ‬

‫شايال أوديت‬

‫أعامال ناجحة وشهرية‪،‬‬ ‫خريجة معهد نيويورك للرقص وتقنيات املرسح‪ .‬أخرجت ً‬ ‫مقتبس ًا‬ ‫بينها‪ :‬أُوليڤر‪ ،‬غودسبل‪ ،‬رجل املانشا‪َّ ‬‬ ‫(قدمه رميون جباره نص ًا َ‬ ‫بعنوان ‪‬صانع األحالم‪ .)‬أسست ‪‬مؤسسة النكسرت للفنون الجميلة‪ ‬لإلخراج‬

‫‪195‬‬


‫(‪‬صنداي‬ ‫مشاهدي ‪‬النبي‪َ .‬‬ ‫نيوز‪ 29 -‬كانون الثاين ‪.)1984‬‬ ‫من هنا أراد يف تنفيذه تنويع ًا بني‬ ‫املونوفونيك والپوليفونيك من‬ ‫اآلالت العرصية الحديثة‪.‬‬ ‫يف املناخ الطليعي نفسه‬ ‫اشتغلت سامانتا وست عىل‬ ‫حجمها بني‬ ‫الدمى املتحركة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫‪ 12‬قدم ًا و ‪ 10‬أقدام‪ ،‬كي‬ ‫كوريغرافيا يف مشهدية ‪‬النبي‪‬‬ ‫تبقى عىل تناغم تصادمي مع‬ ‫املوسيقى والكوريغرافيا‪ .‬وكان‬ ‫اعتامد أوديت عىل الدمى رديف ًا‬ ‫ألسلوب األقنعة الذي يعتمده بعض املخرجني‪ .‬لكن أهايل أورفليس‪ ،‬بالدمى‪ ،‬اتخذوا‬ ‫طابع ًا أكثر خيالية مِ ّما لو كانوا ُم ّمثلني يلبسون أقنعة (خاصة يف مشهد ‪‬الجرمية‬ ‫والعقاب‪ ‬الذي َّنف ْذته الدمى يف شكل ممتاز)‪.‬‬ ‫ينتهي العرض‪ .‬طوله ‪ 80‬دقيقة (بدون اسرتاحة) يف مناخ واحد‪ :‬عرصي حديث‬ ‫بعيد عن الوعظ الثقيل والرسد البليد‪.‬‬ ‫زيفريييل من فوجئوا بيسوع‬ ‫يصدم العمل َمن ليس ُم َّهي ًأ له (كام صدم ‪‬يسوع‪ّ ‬‬ ‫قد ُ‬ ‫أو أمه عىل صورة برشية يومية)‪.‬‬ ‫تناقشنا‪ .‬تبادلنا آراء‪.‬‬ ‫بعد العرض بقينا يف القاعة‪ْ .‬‬ ‫كان الجميع فرحني بهذا العمل‪ ،‬وعىل حجم فرحهم وثقتهم بعملهم َق َل ٌق من‬ ‫وقف العمل‪.‬‬ ‫إمكان ْ‬ ‫هضت ألغادر فنهضوا جميع ًا وقفة واحدة‪ ،‬ويف نهوضهم سؤال واحد مل يسألوه‬ ‫َن ُ‬ ‫أجبت عنه يف إيجار وثقة‪:‬‬ ‫ألنني‬ ‫ُ‬

‫‪194‬‬


197


‫صممت رقصات الفيلم الشهري ‪‬قصة‬ ‫والكوريغرافيا‪ ،‬وقامت فيها بأعامل اختبارية‪َ .‬‬ ‫ستها من أبرز املعاهد الفنية للمرسح‬ ‫ومؤس ُ‬ ‫الحي الغريب‪( ‬وست سايد ْستوري)‪َّ .‬‬ ‫ّ‬ ‫الغنائي الراقص يف الواليات املتحدة‪.‬‬ ‫روس كري‬

‫خريج معهد وستشسرت للموسيقى‪ .‬درس عىل هارولد بواتريت وبن ويرب‪.‬‬ ‫قدم أول أعامله يف فيالدلفيا عام ‪( 1965‬كونرشتو من ‪ 16‬آلة)‪ .‬وضع موسيقى‬ ‫يدرس التأليف املوسيقي لدى معاهد‬ ‫شعبية وراقصة وتصويرية ألفالم كثرية‪ّ .‬‬ ‫يف نيويورك وإيطاليا وسويرسا وأملانيا‪ .‬كلفته مكتبة الكونغرس كتابة أطروحة‬ ‫يتميز بجمعه املوسيقى الكالسيكية إىل املوسيقى الشعبية‬ ‫عن موسيقى األفالم‪ّ .‬‬ ‫والراقصة‪.‬‬ ‫شريي آلربت‬

‫لعبت أدوار ًا كثري ًة عىل مسارح كربى يف الواليات املتحدة‪ .‬أسست فرقة ‪‬أصوات‬ ‫َ‬ ‫للصم‬ ‫الحركات‬ ‫عرب‬ ‫التعبري‬ ‫طرائق‬ ‫بتعليم‬ ‫متخصصة‬ ‫‪.1977‬‬ ‫سنة‬ ‫للتمثيل‬ ‫الصمت‪‬‬ ‫ّ‬ ‫املتخصص‪.‬‬ ‫والبكم‪ .‬واشتهرت فرقتها بهذا العمل‬ ‫ِ‬

‫ ‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/9/30 -‬‬

‫‪196‬‬

‫فيالدلفيا‬


‫بتمهل‪ .‬وفور‬ ‫كانت املسافة بالقطار من فيالدلفيا إىل نيويورك كافي ًة ألقرأ ُ‬ ‫الخطبة ُّ‬ ‫انكببت عىل ترجمة هذه الخطبة‪/‬‬ ‫وصويل إىل مكتبي يف ‪‬الهدى‪ ،‬صباح اليوم التايل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الحرف ّي‪.‬‬ ‫الشهادة‪ ،‬وهنا ُّنصها ِ‬ ‫الخطبة‬

‫جمة تتألأل‬ ‫آن‪ ،‬أن‬ ‫‪‬حزين‬ ‫نلتفت إىل الرشق هذه السنة‪ ،‬باحثني عن َن ٍ‬ ‫وساخر يف ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫يدمر املساكن‪ .‬وال‬ ‫السالح‬ ‫والتامع‬ ‫ن‪،‬‬ ‫املد‬ ‫حرق‬ ‫ي‬ ‫النار‬ ‫لهيب‬ ‫إال‬ ‫نجد‬ ‫فال‬ ‫يف سامئه‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وأخبار حروب‪ ‬من تلك األرض الجميلة مهدِ الديانات التي يزخر‬ ‫‪‬حروب‬ ‫تأتينا فقط‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫وفظاظة ليستا يف مألوف العنف‪.‬‬ ‫وحشية‬ ‫أخبار مرعب ٌة عن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫الغرب بها‪ ،‬بل ٌ‬ ‫تعرض‬ ‫تعرضت ل ٍ‬ ‫ِجراح وقسو ٍة وتشويه‪ ،‬مثل ما ّ‬ ‫وال بقع َة يف هذا الرشق الجميل ّ‬ ‫له لبنان‪.‬‬ ‫كأفضل‬ ‫َستمد رسالتي إليكم صبيح َة هذا النهار‪،‬‬ ‫لذلك‪ ،‬من وحي شاع ٍر لبناين‪ ،‬أ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ما ُيستوحى يف هذا األحد الذي يسبق امليالد‪ .‬إنه خليل جربان‪ ،‬الشاعر الذي من‬ ‫النضر لكالم يسوع أذهل الكثريين َو َر َّدهم إىل‬ ‫تفسريه‬ ‫لبنان‪ ،‬والذي‬ ‫الجديد ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يسوع‪.‬‬ ‫كتبه الصغرية إىل انتشار‪،‬‬ ‫زمن كانت خالله الديان ُة‬ ‫والكنائس إىل ُخفو ٍ‬ ‫ويف ٍ‬ ‫ت‪ ،‬كانت ُ‬ ‫ُ‬ ‫تتواىل طبعاتها يف الناس‪.‬‬ ‫تعالوا نستمع إليه‪:‬‬ ‫كاهن ْكه ٌل وقال‪ :‬حدِّ ْثنا عن الدِّ ين‪ ،‬فأجاب‪ :‬وهل حدَّ ْث ُت ُكم‬ ‫‪ ...‬ثم دنا منه‬ ‫ٌ‬ ‫التأمل ّكله واألفعال كلها؟ وهل الدِّ ين‪ ،‬خارج‬ ‫َ‬ ‫غري ُّ‬ ‫اليوم إال عنه؟ هل الدِّ ين ُ‬ ‫تقصب الحجارة أو‬ ‫غري‬ ‫اندهاش يف الروح حتى حني األيادي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫التأمل واألفعال‪ُ ،‬‬ ‫تدير أقصاب النول؟ ومن يستطيع أن يفصل بني إميانه وعمله‪ ،‬بني عقيدته‬ ‫وممارسته؟ حياتكم اليومية هي الدِّ ين‪ ،‬وهي معبدُ هذا الدِّ ين‪ ،‬كلما قاربتموه‬ ‫ُ‬ ‫ْادخُ ُلوه بكل ما فيكم‪.‬‬ ‫صغري‪ ،‬حني صدر قبل ما يزيد عن‬ ‫أسطر من ‪‬النبي‪ .‬كتاب‬ ‫هذه‪ ،‬يا إخويت‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫مض عرش سنوات عىل‬ ‫قلب واحد‪ .‬مل َت ِ‬ ‫نصف قرن‪ ،‬انزرع يف القلوب ومل يرفضه ٌ‬ ‫تتلقفه عرشون لغة َن َق َل ْت ُه إليها‪ .‬وسنة ‪ 1970‬وحدها شهدت‬ ‫صدوره حتى كانت ّ‬ ‫صدور أربعة ماليني نسخة منه يف تلك اللغات‪ ،‬راح الناس يقتنونها كام الكتب‬

‫‪199‬‬


‫‪1‬‬ ‫ـس أميركي عن جبران في خطبة ميالدية‪:‬‬ ‫قِ ٌّ‬ ‫هذا الشاعر ‪‬الذي من لبنان‪‬‬ ‫ابن أرز الرب وبـيبلوس الكتاب‬ ‫(والليل يف بالد‬ ‫الليل شديد ًا‬ ‫ُ‬ ‫يف القطار العائد يب من فيالدلفيا إىل نيويورك‪ ،‬كان ُ‬ ‫الغربة أ َ​َش ُّد عتم ًة مام يف الوطن ولو بال كهرباء)‪ ،‬كانت األمكنة تتسارع أشباح ًا‬ ‫كل شرب)‪،‬‬ ‫(واألمكنة يف بالد ُ‬ ‫الغربة بال ُه ّوية بينام هي يف الوطن ُ‬ ‫ذات ُه ّوية عند ّ‬ ‫(والقمر يف لبنان كتل ُة ٍ‬ ‫وشعر‬ ‫وكان القمر پالستيكي ًا باهت ًا فوق أشجا ٍر من ضجر‬ ‫ضوء ِ‬ ‫ُ‬ ‫وحنني)‪.‬‬ ‫ت يف مقعدي أسرتجع حديثي إىل الفرقة يف فيالدلفيا‬ ‫ت عن نافذة القطار ُ‬ ‫وغ ْص ُ‬ ‫َأش ْح ُ‬ ‫شاهدتها يف‬ ‫وما ميكن أن أفعله لها يف بريوت‪ ،‬وأَستعيد مشاهد من ‪‬نبي‪ ‬جربان كام‬ ‫ُ‬ ‫العرض الجميل هناك‪.‬‬ ‫ملف ًا وضعت يل فيه‬ ‫ثم‬ ‫أعطتني‪ ،‬عند وداعي يف فيالدلفيا‪ّ ،‬‬ ‫تذكرت ّأن شايال أوديت ْ‬ ‫ُ‬ ‫وثيق ًة قالت إنها ‪‬قد َت ُه ُّمني‪.‬‬ ‫فعال َ‪‬ت ُه ّمني‪ :‬شهاد ٌة من‬ ‫بحثت يف‬ ‫امللف عن هذه الـ‪‬قد َت ُه ُّمني‪ ،‬فإذا هي ً‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫أوارص الوطن‪ ،‬وال هال ُة جربان‬ ‫غوف ِبجربان‪ ،‬ال تربطه به (مثيل)‬ ‫جرباين‬ ‫أمريكي َش ٍ‬ ‫ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬ ‫املرسومة له يف الوطن‪.‬‬ ‫صاحبها؟‬ ‫ما هذه الشهادة؟ َ‬ ‫ومن ُ‬ ‫هي خطب ٌة ميالدية ألقاها القس جوزايا بارتليت صباح األحد ‪ 19‬كانون األول ‪1982‬‬ ‫شاءها‬ ‫عنوانها َ‪‬ت َح َّد َث إلينا ِب ٍ‬ ‫يف كنيسة مونتكلري (نيوجرزي) جعل َ‬ ‫لهجة جديدة‪َ ،‬‬ ‫من وحي جربان ‪‬الشاعر الذي من لبنان‪ ‬و‪‬أفضل ما ُيستوحى يف هذا اليوم‪ ،‬األحد‬ ‫الذي يسبق امليالد‪.‬‬

‫‪198‬‬


‫كالم التبشير‬

‫أيها األخوة‪،‬‬ ‫تطل علينا سنة ‪ ،1983‬الذكرى املئوية األوىل لوالدة جربان‪ .‬فام‬ ‫بعد أيام ٍ‬ ‫قليلة ّ‬ ‫ب وغليان‪َ ،‬تامم ًا كام اليوم‪ ،‬وكان‬ ‫صباه كان لبنان يف حالة اضطرا ٍ‬ ‫أتعس حظّ ه‪ :‬يف ُ‬ ‫يغذيه األتراك الذين كانوا يحتلون لبنان‪.‬‬ ‫أهلوه يف قتال مرير ّ‬ ‫الدين‪ ،‬غدا‬ ‫الدين‪ ،‬يف وطن جربان الذي قال ما قاله عن ِّ‬ ‫من الوقائع الحزينة ّأن ِّ‬ ‫مرادف كلامت أخرى‪ :‬االقتتال‪ ،‬االنتقام‪ ،‬البغض‪... ،‬‬ ‫الدين يف َت َمظْ ُه ِره الطائفي‪ ،‬كأنه‬ ‫رفض ِّ‬ ‫مل تكن مصادف ًة أن يكون جربان يف شبابه َ‬ ‫ض بيوت صالتكم ومعابدكم‪ .‬سوى أنه‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬كان مسحور ًا‬ ‫كان يقول‪ :‬أ ُ‬ ‫َرف ُ‬ ‫‪‬النبي والثائر‪ ،‬يسوع الغاضب الذي رفض‬ ‫بوجه يسوع‪ :‬ال وجه املسيح‪ ،‬بل يسوع‬ ‫ّ‬ ‫طغيان الكهنة عىل الفقراء‪ .‬وهو يف ما بعد‪ ،‬وضع كتاب ًا عن يسوع‪َّ ،‬مهد له بآراء عنه‬ ‫سابقة بينها ‪‬رمل وزبد‪ ‬وفيه‪:‬‬ ‫ب‬ ‫ٍ‬ ‫يف ُكت ٍ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬ثالث أعجوبات بعدُ ألخينا يسوع مل َي ِر ْد ْذك ُرها يف الكتاب‪ :‬أوىل أنه كان مثلنا‬ ‫برشي ًا‪ ،‬ثانية أنه كان ذا مرح‪ ،‬وثالثة أنه كان يدرك كونه غالب ًا ولو هو انغلب‪.‬‬ ‫يف مكان آخر من ‪‬رمل وزبد‪ ‬يكتب جربان‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ً‬ ‫جنينة بني تالل لبنان‪.‬‬ ‫النارصي يسوعَ النصارى يف‬ ‫كل مئة عامٍ يلتقي يسوعُ‬ ‫‪‬مرة ّ‬ ‫ُّ‬ ‫يتحادثان ً‬ ‫طويال‪ ،‬وكل ّمر ٍة ينرصف يسوعُ النارصي وهو يقول ليسوعَ النصارى‪:‬‬ ‫ظن يا صديقي أننا لن ن َّت ِفق وال مرة‪.‬‬ ‫‪َ ‬أ ُّ‬ ‫يحن إىل وطنه وتراث وطنه‪،‬‬ ‫وكام‬ ‫ُ‬ ‫ظل ّ‬ ‫يحن إىل أورشليم‪ ،‬هكذا جربان ّ‬ ‫ظل ّ‬ ‫يسوع ّ‬ ‫يندهش لِجامل وطنه ويثور عىل رزوح وطنه‬ ‫َي ْن َه ُد إىل مستقبل وطنه ويزهقه ركوده‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫نرشها‬ ‫تحت ُح ْكم األتراك‪ .‬لذا كانت كتاباته األوىل يف العربية مقاال ٍ‬ ‫ت رمزي ًة سياسية َ‬ ‫حر‪ ،‬وأكثر من ّمرة قال‪:‬‬ ‫حلم ً‬ ‫يف صحف ليربالية من ذلك الزمان‪ .‬كان َي ُ‬ ‫دائام بـ‪‬لبنان ّ‬ ‫كل احتالل‪.‬‬ ‫‪‬أريد أن أ َ‬ ‫حرر ًا من ّ‬ ‫ُدف َن يف تراب وطني ُم َّ‬ ‫أفكاره أمثلة‪ ،‬وآالف العرسان يختارون من كلامته ُت ْلقى يف أعراسهم‪،‬‬ ‫ذهب ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫هكذا َ‬ ‫تكلم ضد الرشائع القدمية البالية لـ‪‬الزواج الكنيس‬ ‫مدركني أنه مرفوض يف لبنان ألنه ّ‬ ‫التقليدي‪ ،‬وكان مع الشباب والصبايا ممن اختاروا هم طريقهم ورفيق (أو رفيقة)‬ ‫تلك الطريق‪.‬‬

‫‪201‬‬


‫حمل لنارشه ْألفرد كنوف ثرو ًة طائلة‪ .‬وكان جربان‬ ‫املقدسة‪ .‬هذا الكتاب وحده َ‬ ‫برشي يف شامل لبنان‪.‬‬ ‫أوىص ّ‬ ‫بحصته من ذاك الريع إىل بلدته الصغرية الجميلة ّ‬ ‫َمن كان هذا الرجل الذي من لبنان؟‬ ‫ت قريبة ماضية‪ ،‬كان‬ ‫أخربتكم ّأن خليل جربان‪ ،‬حتى سنوا ٍ‬ ‫ال أُودِ ُعكم رس ًا إذا ُ‬ ‫آخره ّن‪،‬‬ ‫أسطور ًة غامض ًة ساحر ًة َخ َل َق ْتها حوله َمجموع ُة ْنسوة عملن سكرتريات لديه‪ُ ،‬‬ ‫عنوانه‪ :‬ذاك الرجل من‬ ‫باربره يونغ‪ ،‬أصدرت عنه كتاب ًا شعبي ًا رخيص ًا ال قيمة له ُ‬ ‫متقشف ًة تاعسة‪.‬‬ ‫وصورته قديس ًا عاش حياة ّ‬ ‫روت َ‬ ‫لبنان‪َ ‬‬ ‫مشوه‪َّ ،‬‬ ‫سريته يف إطار ّ‬ ‫وعال ُمه‪ ‬عن منشورات ‪‬نيويورك‬ ‫حياته َ‬ ‫سنة ‪ 1974‬صدر كتاب ‪‬خليل جربان‪ُ :‬‬ ‫النحات األمريكي خليل‬ ‫ابن ِ‬ ‫وضعه ُ‬ ‫عم جربان‪ّ ،‬‬ ‫غرافيك سوسايتي‪ ‬يف بوسطن‪َ ،‬‬ ‫ابن ّ‬ ‫توصال إىل وضع كتاب عن خليل‬ ‫تقصيا ِتهام الدقيقة َّ‬ ‫جربان وزوجته جني‪ .‬ومن خالل ّ‬ ‫كادعاء‬ ‫رجال سوي ًا‪ .‬مل ينزلقا إىل‬ ‫وصوراه ً‬ ‫تفاصيل مؤذية‪ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫جربان َّ‬ ‫صححا فيه صورته َّ‬ ‫فجعل يرشب‬ ‫مثال أن ‪‬جربان يف آخر حياته مل يعد َيشعر ّأن عنده ما يقوله‬ ‫يونغ ً‬ ‫َ‬ ‫سب َبت الخمرة موته‪ ،‬كأنه راح يتعاطى الخمر انتحار ًا‪ .‬هذا الحدث‪،‬‬ ‫الخمر حتى َّ‬ ‫ت‬ ‫عليل الجسم‪،‬‬ ‫شاحب الوجه‪ ،‬سنوا ٍ‬ ‫سبب موته‪ ،‬فهو ً‬ ‫أصال كان َ‬ ‫َ‬ ‫إن كان صحيح ًا‪ ،‬مل ُي ّ‬ ‫طويل ًة قبل وفاته‪.‬‬ ‫حلقات النار يف‬ ‫زلت أذكر كيف كنا صغار ًا نصغي إىل كلامت جربان حول َ‬ ‫ما ُ‬ ‫نفرقها عن أقوال الكتاب‬ ‫املخيامت‪ ،‬أو حول شموع خافتة النور يف كنائسنا‪ .‬مل نكن ّ‬ ‫َّ‬ ‫نفرق كالمه‬ ‫بتنا‬ ‫وإن‬ ‫واليوم‪،‬‬ ‫سامية‪.‬‬ ‫عالية‬ ‫م‬ ‫بقي‬ ‫تبشريية‬ ‫هجة‬ ‫ل‬ ‫من‬ ‫فيها‬ ‫ا‬ ‫ِم‬ ‫ل‬ ‫املقدس‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عن كالم الكتاب املقدس‪ ،‬ما زلنا َنجد فيه مناخ ًا طقسي ًا ال َيختلف كثري ًا عن مناخ‬ ‫الحِ َكم واملزامري‪.‬‬ ‫برشي‪ ،‬وهي بلدة قدمية نائمة عىل أقدام أرز لبنان التاريخي الذي‬ ‫جربان ُول َِد يف ّ‬ ‫مصدرها من‬ ‫(باي ِبل) ُ‬ ‫منه اقتطع سليامن الحكيم أخشاب هيكله‪ .‬وكلمة ‪‬الكتاب‪ْ ‬‬ ‫لبنان‪ ،‬من مدينة بيبلوس‪ ،‬ذات املرفإ الذي قد يكون أقدم مرافئ العامل‪ ،‬منه انطلق‬ ‫الفينيقيون الذين أعطونا األبجدية‪.‬‬ ‫يتعلم اإلنكليزية‪،‬‬ ‫هكذا يكون جربان نش َأ عىل لغة يسوع األصلية‪ ،‬ألنه‪ ،‬وهو ّ‬ ‫فينيقي بكلامت إنكليزية‪ ،‬كام جاء يف كتاب‬ ‫اكتشف أن الكتاب املقدس هو ‪‬أدب‬ ‫ٌّ‬ ‫نسيبه خليل جربان (ص ‪.)336‬‬

‫‪200‬‬


‫ويشكلون له‬ ‫املرقطة‪ ،‬ويدخن الهوكا‪ .‬وكان األوالد الرشقيون يثريون انتباهه‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫جو ًا مثري ًا‪.‬‬ ‫توصل الحق ًا إىل أن يكون‬ ‫يف هذا الجو منا جربان‪ ،‬يرعاه داي يف الفرتة األوىل‪ ،‬حتى َّ‬ ‫حط اهتامم ٍ‬ ‫ُواله ّن‬ ‫جلسن إليه غارفا ٍ‬ ‫هو نفسه َم ّ‬ ‫رشقيته وموهبته‪ .‬أ ُ‬ ‫ت من ّ‬ ‫نساء ْ‬ ‫سيدة رومنطيقية جميلة مشيقة تحرتف الشعر واملرسح‪.‬‬ ‫پيبدي‪ّ :‬‬ ‫كانت جوزفني َ‬ ‫عرفته إىل ماري إليزابيت هاسكل‪ ،‬إبنة ضابط من والية كاروالينا الشاملية كان قائد‬ ‫ّ‬ ‫انتسبت ماري اىل نادي‬ ‫ڤريجينيا)‪.‬‬ ‫(والية‬ ‫آپوماتوكس‬ ‫يف‬ ‫الكونفيديرالية‬ ‫الفرق‬ ‫َ‬ ‫‪‬سيريا كلوب‪( ‬سان فرنسيسكو) أيام كانت كاليفورنيا أرض األحالم واألساطري‪.‬‬ ‫مدرسة يف بوسطن كانت تديرها يف شارع مارلبورو‬ ‫وحملت معها تلك الرؤى إىل‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫وتجمع فيها األوالد الرباهامنيني‪.‬‬ ‫فأرسلته إىل پاريس عىل نفقتها يدرس الرسم‪ ،‬حتى إذا عاد‪،‬‬ ‫َآم َنت مبوهبة جربان‬ ‫ْ‬ ‫باتت صديقته الحميمة وقارئته األوىل‪ .‬الغريب أن جربان‪ ،‬رغم طبيعته العاشقة‬ ‫يعكر‬ ‫بقيت عالقته مع تلك النساء أفالطونية بحتة فلم ّ‬ ‫والثائرة‪ّ ،‬‬ ‫ظل عىل طهارة‪َ :‬‬ ‫صخب عالقة‪ .‬وكانت آخر النساء‪ :‬باربره يونغ‪ ،‬سكرتريته الولهى به‪ ،‬والتي‬ ‫صف َوها‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُعن َِيت بأعامله الكتابية وأوراقه‪.‬‬ ‫تفتح عواطف النساء‪ ،‬مل يدخل يف تفاصيل‬ ‫الالفت أن جربان‪ ،‬حني َكتب عن ّ‬ ‫اكتسب كثري ًا‬ ‫يعرف َنه‪ .‬لكنه‬ ‫ت متفتحا ٍ‬ ‫حميمياته مع نساء عرفهن ناضجا ٍ‬ ‫ت قبل أن ْ‬ ‫َ‬ ‫حيطهن الثقيف‪ ،‬واكتسب معرفة يف السيكولوجيا والتحليل‬ ‫وم‬ ‫منهن ومن‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ثقافتهن ُ‬ ‫والفن الجديد‪ ،‬وعرف كيف يثور عىل مستعمري الشعوب‪ ،‬ما ّمكنه من الثورة عىل‬ ‫مستعبدي شعبه يف لبنان‪.‬‬ ‫شخصيته‬

‫كان جربان‪ ،‬يف رأس ما كان‪ّ ،‬فنان ًا‪ .‬تأثّ ر بالنحات الكبري أوغست رودان فظهر تأثريه‬ ‫يف تصاوير جربان وجوه ًا ومالمح توحي بالغيوم والصخور والتالل‪ .‬ذلك أن جربان‪-‬‬ ‫كام رودان ووولت ويتامن وماترلينك وإدوارد كارپنرت وغريهم من مناذجه العليا‪ -‬كان‬ ‫بتداخل البرش والطبيعة يف وحدة متامسكة متكاملة‪.‬‬ ‫ْيؤمن ُ‬ ‫لكنهن يف‬ ‫بالغ َن يف تصوير هالته‪،‬‬ ‫عرفن جربان‬ ‫ْ‬ ‫قد تكون النساء الالئي ْ‬ ‫وشغفن به ْ‬ ‫ّ‬ ‫متفرد ًا غري عادي‪.‬‬ ‫العمق مل ُيك َّن عىل ضالل‪،‬‬ ‫فموهبته كانت ْ‬ ‫ُ‬ ‫مذهلة‪ ،‬وهو كان عبقري ًا ّ‬

‫‪203‬‬


‫ها هو يكتب يف فصل ‪‬الزواج‪ ‬من كتاب ‪‬النبي‪:‬‬ ‫يقيدكم‪ .‬دعوا بينكم بعض فسحات‪ْ .‬فل َيرشب‬ ‫‪‬فليجمع ُكم‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫الحب من دون أن ّ‬ ‫واحدُ كم من كأس اآلخر وال ترشبا كالكما من الكأس نفسها‪ .‬قفوا مع ًا وال تتالصقوا‪،‬‬ ‫ألن السنديانة ال تنمو يف يفء الرسوة‪.‬‬ ‫النشأة األولى‬

‫ثري وبيئة‬ ‫وسط ّ‬ ‫ابتدع جربان لنفسه‪ ،‬وكذا انتهج مرتجموه‪ ،‬هال ًة حول والدته يف َ‬ ‫جميلة متواضعة خاشعة‬ ‫مثقفة‪ .‬لكن الواقع عاد فأثبت عكس ذلك‪ .‬فهو ُولِد يف بلدة‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫بني جبال ووهاد وسهول‪ .‬كان والده مقامر ًا ومستزل ًِام لدى أحد الزعامء السياسيني‪،‬‬ ‫ظلت َت ُجوع حتى الفضيحة‪ .‬كانت األم سليلة أرس ٍة‬ ‫يتحمل مسؤولي َة أُرس ٍة َّ‬ ‫ّ‬ ‫وسكري ًا ال ّ‬ ‫فحملت أوالدها األربعة وجاءت بهم إىل هنا‪ ،‬إىل أمريكا‪ ،‬واجد ًة‬ ‫من الكهنة األتقياء َ‬ ‫ملج ًأ لها ولهم لدى أحد أنسبائهم يف الحي الجنويب الفقري من بوسطن‪ .‬وهناك عاشوا‬ ‫ضي ٍق شديدِ‬ ‫يف ‪‬غيتو‪ ‬بني َنحو خمسمئة من اللبنانيني والسوريني يف زقاق َو ِس ٍخ ِّ‬ ‫تبيعها‪ ،‬وتغسل‬ ‫الفقر‪ .‬راحت األم تدور عىل أبواب البيوت حامل ًة‬ ‫َ‬ ‫رشاشف وبضاع ًة ُ‬ ‫جنبها امليش اليومي املضني‬ ‫خولها أن تفتح دكان ًا صغري ًا ّ‬ ‫ثياب الناس‪ ،‬حتى َت َك َّون لها ما ّ‬ ‫فأدخلته‬ ‫املتكبر والخجول مع ًا‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫لكنه مل ُي ِّ‬ ‫جن ْبها شبح الجوع والفقر‪ .‬أما صغريها خليل‪ّ ،‬‬ ‫يتلقن فيها مبادئ اإلنكليزية‪ُ ،‬ويميض وقته الباقي يف‬ ‫مدرس ًة حكومية تاعسة‪ ،‬راح ّ‬ ‫أزقة الشوارع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫األزقة ليظهر يف بيوتات املجتمع‬ ‫يطب ْعه‪ .‬انسحب من ّ‬ ‫مناخ أوالد الشارع مل َ‬ ‫البوسطني‪ ،‬بفضل ‪‬مؤسسات خاصة‪ ‬يف الجوار كانت تنتخب من األوالد َمن تجده‬ ‫بنات أرستقراطيني رغبن ألولئك األوالد‬ ‫وسط آخر تديره ُ‬ ‫نابه ًا وذا موهبة‪ ،‬وتضعه يف َ‬ ‫حيا ًة ُمختلفة خارج الفقر والعوز ‪‬رمبا تفتح لهم آفاق ًا أخرى يف الحياة‪( ‬خليل‬ ‫جربان‪ -‬ص ‪.)33‬‬ ‫املحيا ال‬ ‫نحيال‪،‬‬ ‫كان خليل ولد ًا ً‬ ‫برونزي الوجه‪ ،‬ثاقب العينني ّ‬ ‫البن ّيتني‪َ ،‬حزين ّ‬ ‫ّ‬ ‫أخذت‬ ‫لفتت املسؤوالت‬ ‫موهبته ّ‬ ‫املبكرة يف الرسم‪َ .‬‬ ‫ُ‬ ‫يعرف البسمة‪ ،‬رسعان ما َ‬ ‫وعرفته إىل من يعنى به ويرعاه‪ :‬فردريك هوالند داي‪ ،‬فنان ثري‬ ‫به إحداهن ّ‬ ‫وبوهيمي شهري يف بوسطن من املذهب الرباهامين‪ .‬كان‬ ‫ومصور فوتوغرايف ونارش‬ ‫ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫غريب ًا يف ملبسه‪ ،‬غريب ًا يف هندامه‪ُ ،‬محاط ًا يف غرفة عمله (الستوديو) باألرشطة‬

‫‪202‬‬


‫الوصول‬

‫‪‬وصل‪ .‬كان له ‪‬ستوديو‪ ‬يف‬ ‫مع صدور ‪‬النبي‪ ‬سنة ‪ 1923‬أحس جربان أنه َ‬ ‫نيويورك‪ ،‬وكان نارش كتبه ْألفرد كنوف أحد أبرز نارشين مغامرين عرفوا كيف‬ ‫‪‬وطن‪ ‬من املعجبني والقراء‬ ‫شبح املنفى يالحق جربان رغم‬ ‫ٍ‬ ‫ُي ْثرون‪ .‬مع ذلك ّ‬ ‫ظل ُ‬ ‫خلقه له الكتاب‪ .‬فها هو يهمس لصديق حميم بعض ما جال يف باله‪ :‬يف مدينة‬ ‫نبي را ٍع‬ ‫بني السهول والسامء‪َ ،‬‬ ‫رج ٌل ٌ‬ ‫تاه بني الحقول وأحيان ًا بني الناس‪ُ ،‬‬ ‫شاعر‪ٌّ ،‬‬ ‫ظل ُيحس يف نفسه بوحدة وغربة‪ .‬ومع أن الجموع َع َّدته واحد ًا من‬ ‫أحبهم‪ .‬لكنه َّ‬ ‫َّ‬ ‫الحت سفين ٌة‬ ‫األزرق‪،‬‬ ‫األفق‬ ‫يف‬ ‫يوم‪،‬‬ ‫وذات‬ ‫نفسه‪.‬‬ ‫يف‬ ‫يشء‬ ‫ر‬ ‫يتغي‬ ‫مل‬ ‫مدينتها‪،‬‬ ‫بعيدٍ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ٌ‬ ‫تقرتب‪ .‬عرف الجميع أنها سفينة الناسك الشاعر فهرعوا إىل الشاطئ حيث وقف‬ ‫بينهم وراح يخاطبهم‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫‪‬أوالدكم ليسوا أوالدكم‪.‬‬ ‫‪‬ثم قال أحدهم‪ :‬حدِّ ثنا عن األوالد‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫حبكم ال‬ ‫أبناء الحياة تَرى إىل ذاتها‪َ .‬أتَوا من خاللكم ال منكم‪،‬‬ ‫فأعطوهم َّ‬ ‫إنهم ُ‬ ‫أفكاركم‪.‬‬ ‫ويروح آخرون يسألونه عن الصداقة واآلخرين واملوت‪ ،‬وهو ُيجيبهم‪.‬‬ ‫واضح هنا أن جربان‪ ،‬بصوت ‪‬النبي‪ ،‬يتوجه بكالمه إىل جميع الشعوب‬ ‫ٌ‬ ‫ت طويل ًة حتى أتاح لنفسه الكالم‬ ‫واألجيال‪ .‬اشتغل عىل مخطوطة كتابه سنوا ٍ‬ ‫عىل مواضيع كبرية وشاملة كالحب والتعليم والعطاء والخري والرش‪ .‬أراد يقول ما‬ ‫يريد قوله‪ ،‬يف الوقت األقرص والكالم األقل‪ .‬لذلك اشتغل عىل نصه كثري ًا ليجعله‬ ‫عىل اقتضاب ُم ِش ّع‪.‬‬ ‫هكذا مل ُيعد غريب ًا أن يجد قراؤه يف كالمه مناخ ًا من يسوع أو من الكتاب املقدس‬ ‫إمنا يف لهجة جديدة‪ .‬فهذا الكتاب ال يحتمل إضاف ًة ولو صغرية‪ .‬إنه كامل‪ .‬كتاب ماليني‬ ‫جعلوه كتاب مخدتهم‪ .‬ذلك أن ‪‬النبي‪ ‬قال ما قاله يف جامل ساحر‪ ،‬والمس أفكار‬ ‫الدين‪...‬‬ ‫الناس الذين يفتكرون ً‬ ‫دائام بتلك املواضيع‪ :‬األهل‪ ،‬الزواج‪ِّ ،‬‬ ‫يظن أن ‪‬النبي‪ ‬ليس كتابه‬ ‫ظل ُّ‬ ‫أحس بنفسه ‪‬وصل‪ّ ،‬‬ ‫سوى أن جربان‪ ،‬وإن َّ‬ ‫‪‬الكبري‪ ،‬ألنه كثري الطموح‪ .‬كان يف الخامسة والعرشين من عمره حني كتب‪:‬‬ ‫‪‬جئت هذا العامل كي أكتب اسمي عىل وجه الحياة بحروف كبرية‪ .‬لكن هذا‬ ‫ُ‬ ‫صديقة‬ ‫‪‬الكتاب الكبري‪ ‬مل يظهر مطلق ًا‪ .‬فها جربان‪ ،‬قبل سنة من وفاته‪ ،‬يكتب إىل‬ ‫ٍ‬

‫‪205‬‬


‫بعد بلغ الثالثني حني دعاه‬ ‫لهذا ّ‬ ‫احتلت ُ‬ ‫أعامله الفنية أكرب غالريات نيويورك‪ .‬ومل يكن ُ‬ ‫منضم ًا إىل‬ ‫جيمس أوپنهايم ليكون يف أرسة تحرير املجلة الشهرية ‪‬الفنون السبعة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الكبار أمثال‪ :‬دوس باسوس‪ ،‬أوجني أونيل‪ ،‬روبرت فروست‪ ،‬هـ‪.‬ل‪ .‬منكِ ن‪ ،‬ڤان ڤايك‬ ‫بروكس‪ ،‬د‪ .‬هـ‪ .‬لورنس وسواهم‪.‬‬ ‫كان جربان منتشي ًا بكونه نجم الطليعة يف بوسطن‪ .‬لكنه كان منتشي ًا أكثر بوطنه‬ ‫التوزع عنده بني ثقافة الغرب وثقافة الرشق‪ ،‬دفعه إىل الشعور‬ ‫لبنان‪ .‬ورمبا ذاك ُّ‬ ‫أي بيت آخر‪ .‬كانت صحته السقيمة‬ ‫بأنه ذاك‬ ‫‪‬املنفي‪ ‬الذي ال يعيش يف بيته وال يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫فلنتابعه يكتب يف واحدة من‬ ‫ضاغطتني عليه يف ‪‬منفاه‪.‬‬ ‫وطبيعة حياته التاعسة‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أجمل مقطوعاته النثرية‪:‬‬ ‫منفي ووحيدٌ ّ‬ ‫توجه دائم ًا أفكاري إىل‬ ‫تعذبني وحديت التي ّ‬ ‫منفي يف هذا العامل‪ٌّ ...‬‬ ‫‪‬أنا ّ‬ ‫ٍ‬ ‫منفي‬ ‫َمملكة سحرية َمجهولة‪ ،‬وتَمأل أحالمي خياالتٌ‬ ‫لواحة بعيد ٍة غري منظورة‪ .‬أنا ٌّ‬ ‫منفي ألنني عربتُ األرض رشق ًا‬ ‫منفي عن نفيس وعن جسدي‪ٌّ .‬‬ ‫عن أهيل ووطني‪ٌّ .‬‬ ‫وغرب ًا فلم أجدْ مكان والديت وال أحد يعرفني أو سمع باسمي‪ .‬وسأبقى منفي ًا حتى‬ ‫يخطفني املوت ويحملني إىل وطني‪.‬‬ ‫هذا املناخ ‪‬الغرائبي‪ ‬ظهر الحق ًا عند مدخل كتابه األول يف اإلنكليزية‪ :‬املجنون‪‬‬ ‫سجل جربان أمله من جهله كيف يتناسل‬ ‫الذي صدر قبل ‪‬النبي‪ ‬بخمس سنوات‪ ،‬وفيه ّ‬ ‫واحدهم اآلخر وأحيان ًا يستعبدون‬ ‫يستعبد الناس ُ‬ ‫الناس ُ‬ ‫واحدهم من اآلخر‪ ،‬وكيف ْ‬ ‫ذواتهم بوضع فضائل موروثة بينهم تفصلهم وتباعدهم‪ .‬وهذه سامها ‪‬األقنعة‪.‬‬ ‫فلنتابعه يكتب‪ :‬تريدون أن تعرفوا كيف رصت َمجنون ًا؟ هذه قصتي‪ :‬ذات يومٍ‪،‬‬ ‫قبل ميالد آلهة كثريين‪ ،‬نَ هضتُ من نوم عميق وفوجئتُ بجميع أقنعتي مرسوقة‪:‬‬ ‫وتقنعتُ بها يف حيوايت السبع املاضية‪ .‬ركضتُ يف‬ ‫حيك ُتها ّ‬ ‫األقنعة السبعة التي كنت ّ‬ ‫سافر الوجه صارخ ًا‪ :‬اللصوص! اللصوص اللعينون‪ ،‬والناس يضحكون مني‬ ‫الشوارع َ‬ ‫َ‬ ‫ساحة املدينة رصخ فتى عىل‬ ‫وبعضهم يهرول هارب ًا إىل بيته خوف ًا مني‪ .‬وحني بلغتُ‬ ‫الشمس للمرة األوىل‪،‬‬ ‫وجهي‬ ‫فقب َلتْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫سطح بيت‪ :‬إنه مجنون‪ .‬رفعتُ برصي إليه َّ‬ ‫َ‬ ‫وجهي العاري‪ .‬أحسستُ‬ ‫واشتعلتْ روحي بالحب ألول مرة إىل الشمس التي ّقبلت‬ ‫َ‬ ‫مباركون‪ ،‬اللصوص‬ ‫‪‬مباركون‪َ ،‬‬ ‫أنْ ما عدتُ أحتاج أقنعتي‪ .‬رصختُ كما يف انخطاف‪َ :‬‬ ‫الذين رسقوا أقنعتي‪ .‬هكذا رصت َمجنون ًا‪ .‬ويف جنوين اكتشفتُ الحرية والخالص‪:‬‬ ‫حرية الوحدة‪ ،‬والخالص من أن يفهمني اآلخرون فيستعبدوين‪.‬‬

‫‪204‬‬


‫األمثل خالل فصل ‪‬األوالد‪ ‬من ‪‬النبي‪ :‬مع أنهم معكم‪ ،‬ليسوا لكم‪ُ .‬‬ ‫أعطوهم‬ ‫حبكم ال أفكاركم‪ ،‬ألن لهم أفكارهم‪ .‬ت ُْؤوون أجسادهم ال أرواحهم ألن أرواحهم‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫ساكنة يف بيوت الغد التي لن تزوروها ولو يف أحالمكم‪ .‬إجتهدوا أن تكونوا مثلهم‪.‬‬ ‫عبث ًا تحاولون أن تَجعلوهم مثلكم‪ .‬ألن الحياة ال تخطو إىل الوراء وال تعيش يف‬ ‫يصو ُبها الرامي إىل نقطة‬ ‫األمس‪ .‬أنتم األقواس التي منها خرج أوالدكم سهام ًا حية ّ‬ ‫يف الالنهاية‪ .‬فليكن التواؤكم بني يدَ ي الرامي‪ ،‬من أجل السعادة‪ ،‬لتطري سهامه إىل‬ ‫البعيد البعيد‪ .‬فالرامي يحب األسهم التي تطري لكنه كذلك يحب األقواس التي َت ْث ُبتُ‬ ‫بني يديه‪.‬‬ ‫أيها اإلخوة‪ ،‬يف نهاية خطبتي‪ ،‬ونحن عىل أيام قليلة من عيد ميالد يسوع‪،‬‬ ‫أ َ​َد ُع ُكم مع خليل جربان ينقل إليكم رسالة الطفل يسوع إلينا‪ ،‬وهو نقلها إليكم‬ ‫قطعة من آخر كتاباته ‪‬حديقة‬ ‫يف لهجة جديدة‪ .‬وهذا ما حدا به إىل أن يكتب يف‬ ‫ٍ‬ ‫النبي‪:‬‬ ‫ٌ‬ ‫حقيقة مل َأ ُق ْلها لكم َبعد‪ ،‬فهي ستبحث عني‬ ‫‪‬ها أنا ذاهب‪ .‬لكنني إذا ذهبتُ ويب‬ ‫وتلملمني‪ .‬وإذا بعدُ يب لفحة من جمال مل أنقلها إليكم‪ ،‬فس ُأدعى ثانية إليكم ألعود‬ ‫فأقول لكم كل الذي يجب أن يقال‪.‬‬ ‫إشارة أخيرة‬

‫اتصلت ِبشايال أوديت‬ ‫عند فراغي من ترجمة هذه الخطبة امليالدية الجربانية‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫لعلي أتحدث إليه‪ .‬فقالت يل إنه‬ ‫املبشر ّ‬ ‫يف فيالدلفيا أسألها عنوان هذا القس الواعظ ّ‬ ‫ترك رعية مونتكلري (والية نيوجرزي) وانتقل إىل بركيل (والية كاليفورنيا) عىل الرقم‬ ‫اتصلت به هاتفي ًا إىل كاليفورنيا فقيل يل إنه يف إجازة ومل‬ ‫‪ 1771‬من هايالند بولڤارد‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يرتك خرب ًا عن موعد عودته‪.‬‬ ‫يتحمس له بهذا الشكل‪ ،‬وليس لبناني ًا‬ ‫أهمية هذا الواعظ أنه مل يعرف جربان كي ّ‬ ‫ليكون إميانه به عاطفي ًا‪ .‬بل هو أمريكي آمن بجربان ‪‬الشاعر اللبناين‪ ،‬وقام بأبحاث‬ ‫يود معرفة‬ ‫عنه ليعطي إىل مستمعيه خالصتها‪ .‬وهي خالص ٌة ميكن اعتامدها ملن ّ‬ ‫تفكري الغرب إزاء جربان‪.‬‬

‫‪207‬‬


‫وولدت ألعيش‬ ‫‪‬ولدت ألكتب كتاب ًا‪ .‬كتاب ًا واحد ًا صغري ًا فقط‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫له يف لهجة يائسة‪ُ :‬‬ ‫ألهجئ الحرف األول‬ ‫فأقول كلم ًة حي ًة واحدة‪ .‬وحني‬ ‫وأتعذب‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وجدت أنني مهي ٌأ ّ‬ ‫وج ْد ُتني واقع ًا عىل ظهري‪ ،‬وفمي بركان ُس َّدت فوهته‬ ‫من هذه الكلمة‪ ،‬كلمتي‪َ ،‬‬ ‫بصخرة‪ ( .‬رسالته إىل مي زياده‪.)1930 -‬‬ ‫مع هذا‪ ،‬بعد ‪‬النبي‪ ،‬حاول أن يقول‪ .‬وضع مجموعة أقوال عىل ألسنة الناس‬ ‫يتذكرونه‪ .‬ويف الكتاب‬ ‫يف كتاب ‪‬يسوع ابن اإلنسان‪ .‬جعلهم يحكون عن يسوع كام ّ‬ ‫فنس َج حول ذلك أساطري وهاالت‪ .‬وهو من أفضل‬ ‫ّ‬ ‫يردد جربان ّأن يسوع َم َّر يف لبنان َ‬ ‫الكتب التي ظهرت عن يسوع يف هذا اإلطار‪.‬‬ ‫ويحلم به‪ .‬وال هو وضع‬ ‫يضعه‬ ‫إمنا هذا الكتاب مل يكن ‪‬الكتاب‪ ‬الذي ينتظر أن َ‬ ‫َ‬ ‫يفكر بها‪ .‬سوى أنه أحسن استعامل لوحاته ورسومه يف وضعها بني دفتي‬ ‫اللوحة التي ّ‬ ‫كتبه رديف ًة لنصوصه يف اإلبداع‪.‬‬ ‫وخصص عائداته وعائدات كتبه‪ ،‬كام ذكر يف‬ ‫بقي ‪‬النبي‪ ‬حظوته الكربى‪َّ .‬‬ ‫برشي‪ .‬كان يحلم أن يجيء َمن يستخدم تلك العائدات لتجميل‬ ‫وصيته‪ ،‬لبلدته ّ‬ ‫ولكن يف معلومايت أن أحد ًا مل‬ ‫تلك البلدة التي لو ُس ِّو َيت لكانت فردوس ًا حقيقي ًا‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫يقم إىل هذا العمل‪.‬‬ ‫تكريم إبداعي ذاتي‬

‫اغتبطت أن يكون قال كلمته للعامل من خالل ‪‬النبي‪ ،‬ذاك‬ ‫قرأت جربان‬ ‫كلام‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الكتاب الصغري‪ .‬وها هو نفسه يقول يوم ًا لنارشه ألفرد كنوف‪ :‬إن كتاب ‪‬النبي‪‬‬ ‫ّكله ليقول شيئ ًا واحد ًا‪ :‬إنكم أكرب بكثري مام تظنون‪ ،‬ولن تبلغوا ذاك الكرب‪( ‬خليل‬ ‫جربان‪ -‬ص ‪.)360‬‬ ‫بني فصول الكتاب القصرية أرى أن فصل ‪‬الزواج‪ ‬هو األكثر شعبية ورواج ًا‪،‬‬ ‫مقاطع من ذاك الفصل‬ ‫إيل قراءة‬ ‫بدليل أن العديد من العرسان يف كنيستي يطلبون ّ‬ ‫َ‬ ‫يعبر يف إيجاز رائع عن تلك الحقيقة‬ ‫خالل مراسم الزواج‪ .‬وأُحِ ّ‬ ‫ب فصل ‪‬األوالد‪ ‬ألنه ّ‬ ‫البيولوجية ّأن َنهر الحياة َيجري من خاللنا ال منا‪ ،‬وأنه يعطي حكمة االنطالق وهي‬ ‫مفتاح الفن ومحور الحب‪ .‬ويف رأيي أن العديد من املشاكل واملآيس العائلية ميكن‬ ‫َتحاشيها إذا قرأ اآلباء واألمهات كلامت هذا الشاعر اللبناين الذي أبدع يف وصف الحب‬

‫‪206‬‬


209


‫تحدث‬ ‫إيل بعد‪ ،‬وال إىل أحد سواي حسبام أعرف‪ ،‬أن كاهن ًا عندنا يف لبنان ّ‬ ‫مل َ‬ ‫يتناه ّ‬ ‫تحدث عنه هذا القس األمريكي ذاكر ًا لبنان يف خطبته أكثر‬ ‫يف كنيسته عن جربان‪ ،‬كام َّ‬ ‫من مرة‪ ،‬وذاكر ًا أرز لبنان وبيبلوس جبيل التي أعطت العامل األبجدية‪.‬‬ ‫ولعل جربان الذي كان يعرف ذلك‪ ،‬أشاح يف آخر عقد من حياته عن الكتابة يف‬ ‫ّ‬ ‫العربية‪ ،‬وانرصف إىل التأليف يف اإلنكليزية‪ ،‬لغة ضمنت له العاملية والخلود والنقل‬ ‫إىل معظم اللغات الحية يف العامل‪.‬‬ ‫شاهد لنا‪ ،‬وألجيال تالية مل تولد بعد‪.‬‬ ‫و هوذا ‪‬النبي‪ٌ ‬‬

‫ ‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪1985/10/14 -‬‬

‫‪208‬‬

‫نيويورك‬


‫أتجاوز مضامني تلك الكتب الثالثة التي ُتعِ ني‬ ‫وملا كان الرقم غالب ًا أبلغ من الكالم‪َ ،‬‬ ‫النقاد والدارسني‪ ،‬ألصل اىل حقائق‬ ‫عىل بلوغ جربان اإلنسان بعيد ًا عن َتحليالت ّ‬ ‫رقمية تشري إىل انتشار كتب جربان‪.‬‬ ‫وعال ُمه‪ ‬تأليف النحات البوسطني خليل جربان‬ ‫حياته َ‬ ‫الكتاب األول‪ :‬خليل جربان‪ُ :‬‬ ‫وزوجته جني‪ .‬صدر يف آب ‪ 1974‬عن منشورات ‪‬نيويورك غرافيك سوسايتي‪ ‬يف ‪442‬‬ ‫غري منشور‪ .‬عىل‬ ‫صفحة‬ ‫حجام كبري ًا‪ ،‬حاوي ًا مع النص مئة صورة فوتوغرافية َ‬ ‫ً‬ ‫معظ ُمها ُ‬ ‫الغالف الخارجي األخري هذه العبارة‪ :‬العبقري اللبناين‪ -‬صاحب ‪‬النبي‪ ‬وصوت‬ ‫شعبه يف الرشق األوسط‪.‬‬ ‫الكتاب الثاين‪ :‬هذا الرجل من لبنان‪ ‬للشاعرة األمريكية باربره يونغ التي‬ ‫ومدونة مؤلفاته عىل‬ ‫رفيقته اليومية‬ ‫أمضت آخر سبع سنوات من حياة جربان‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫آلتِها الكاتبة‪ ،‬والعاملة بعد وفاته عىل جمع َمخطوطاته َوتحرير غري املنتهي منها‬ ‫ومحرتفه‪ .‬وهي زارت لبنان وأمضت‬ ‫(كـ‪‬حديقة النبي‪ )‬واالهتامم بلوحاته ُ‬ ‫تقصت فيها منابع جربان حتى أصدرت يف ‪1945/1/15‬‬ ‫برشي وبريوت أيام ًا َّ‬ ‫بني ّ‬ ‫لدى ‪‬كنوف‪ ‬بالذات (نارش جربان يف نيويورك) كتابها يف ‪ 190‬صفحة قطع ًا‬ ‫وسط ًا‪ ،‬وعىل الغالف األخري عبارة‪ :‬دراسة عن خليل جربان‪ -‬الشاعر والفيلسوف‬ ‫والفنان الذي ُولِد يف لبنان‪ ،‬األرض التي أطلعت أنبياء وشعراء‪.‬‬ ‫الكتاب الثالث‪ :‬النبي الحبيب‪ -‬رسائل الحب بني خليل جربان وماري هاسكل‪،‬‬ ‫حققته ڤريجينيا الحلو‪ ،‬وصدر يف ‪ 452‬صفحة‬ ‫مع صفحات من مذكراتها الخاصة عنه‪َّ .‬‬ ‫حامال رسوم ًا أصلية‬ ‫قطع ًا وسط ًا عن منشورات ‪‬كنوف‪ -‬نيويورك يف ‪ً ،1972/3/23‬‬ ‫جديدة لجربان وعىل غالفه األخري عبارة‪ :‬خليل جربان‪ ،‬املعروف يف أمريكا والرشق‬ ‫عدة‪ ،‬أبرزها ‪‬النبي‪ ‬أكثر الكتب‬ ‫وفن ٌان لبناين‬ ‫وصاحب َّ‬ ‫مؤلفات ّ‬ ‫شاعر ّ‬ ‫األوسط‪ ،‬هو ٌ‬ ‫ُ‬ ‫إعادة طبع يف القرن العرشين بعد التوراة‪.‬‬ ‫ومن بالغة األرقام والوقائع ّأن ُن َس َخ الكتب الثالثة أمامي كانت كاآليت‪ :‬األول‬ ‫يف طبعته الرابعة (‪ ،)1980‬الثاين يف طبعته العارشة (كانون األول ‪،)1961‬‬ ‫والثالث يف طبعته الثالثة (‪ .)1979‬وملا كانت مكتبة ‪‬دايتونا بيتش‪ ‬العامة‬ ‫ضئيلة الحجم نسبي ًا ‪ ،‬فقد تكون هذه الكتب الثالثة‪ ،‬لدى مكتبات عامة كربى‬ ‫يدي يف هذه املكتبة‬ ‫يف مدن أمريكية كربى‪ ،‬ذات طبعات الحقة عن التي بني ّ‬ ‫الدايتونية الصغرية‪.‬‬

‫‪211‬‬


‫‪1‬‬ ‫ضوء من جبران في جيب كـتاب‬ ‫‪‬دايتونا بيتش‪ ‬مدينة سياحية صغرية عىل شاطئ األطليس عند خرص والية‬ ‫مكتبتها العامة عىل حجمها‪ ،‬أي ال تحوي من الكتب‬ ‫فلوريدا‪ ،‬ومن الطبيعي أن تكون ُ‬ ‫األدبية والشعرية والفكرية إال النزر اليسري مِ ّما قد َتحويه مكتب ٌة عامة كربى يف مدينة‬ ‫كربى ذات ْثقل أديب وشعري وثقايف‪ ،‬كنيويورك أو واشنطن أو لوس أنجلس أو بوسطن‪.‬‬ ‫جعلني أقف‬ ‫مع هذا كان يل يف مكتبة ‪‬دايتونا بيتش‪ ‬العامة (‪ 4000‬كتاب)‪ ،‬ما َ‬ ‫مغتبط ًا أمام منارة لبنان اإلبداعي وامتدادها يف العامل‪.‬‬ ‫كان ذلك يوم سبت‪ ،‬ويف ظني أن الناس منشغلون عن القراءة باسرتاحة الـ‪‬ويك‬ ‫هيبة وصمت‪.‬‬ ‫تعج بالقراء املنشغلني يف صفحات الكتب بكل ٍ‬ ‫إند‪ ،‬فإذا يب أجد املكتبة ُّ‬ ‫كان يف َّنيتي أن أُطالع كتاب ًا لروبرت فروست‪.‬‬ ‫وقعت‬ ‫َول ّما كان حرف الفاء (فروست) ُمجاور ًا حرف الجيم يف األبجدية الالتينية‪َ ،‬‬ ‫الرف نفسه من ذاك الجناح يف املكتبة‪ ،‬وتحت حرف الجيم‪ ،‬عىل كتاب‬ ‫عيناي يف ّ‬ ‫كتب جربان‬ ‫ثان‪ ،‬ثم ثالث‪،‬‬ ‫حد ٍ‬ ‫وأكملت يف ذلك االنبهار املفاجئ حتى َ‬ ‫لِجربان‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫بلغت ُ‬ ‫عىل ذاك الرف سبعة عرش كتاب ًا‪.‬‬ ‫ووقفت أمام ُك ُتب جربان‪ ،‬وهي بعض ما كتبه يف‬ ‫أشحت عن كتاب فروست‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫اإلنكليزية وما صدر من ترجامت إنكليزية عن كتبه العربية‪ ،‬إضافة إىل أنطولوجيات‬ ‫املرتجمة‪ ،‬وثالثة‬ ‫أصدرها نارشون أمريكيون لِمنتخبات من كتاباته اإلنكليزية والعربية َ‬ ‫كتب بيوغرافية صادرة عنه يف أمريكا‪.‬‬ ‫وألين أعرف كتابات جربان اإلنكليزية والعربية‪ ،‬أثارين اإلطّ الع عىل الثالثة‬ ‫وش َّع يف‬ ‫الكتب البيوغرافية‪ ،‬بلوغ ًا إىل عمق هذا الرجل الذي انطلق من لبنان َ‬ ‫أمريكا والعامل‪.‬‬

‫‪210‬‬

‫‪210‬‬


213


‫جيب صغري فيه بطاقة‬ ‫رقمية أُخرى‪ :‬عىل مقلب الغالف األول من كل كتاب ٌ‬ ‫بالغة ّ‬ ‫مطبوعة تشري إىل َتتايل مستعريي الكتاب كل مرة‪ ،‬مع تاريخ اإلستعارة‪.‬‬ ‫األقدم عليها يف كل كتاب‪:‬‬ ‫أ َُع ِّدد‪ ،‬بدون تعليق‪ ،‬وبحسب البطاقة والتاريخ َ‬ ‫الكتاب األول ‪ 17 :‬استعارة منذ ‪.1990/8/2‬‬ ‫الكتاب الثاين ‪ 31 :‬استعارة منذ ‪.1990/7/27‬‬ ‫الكتاب الثالث‪ 36 :‬استعارة منذ ‪.1990/7/2‬‬ ‫هذا يعني‪ ،‬بكل بساطة الرقم وبالغته‪ ،‬أن ‪ 84‬قارئ ًا تعاقبوا عىل هذه الكتب‬ ‫مؤلفاته عىل ذلك الرف من املكتبة)‬ ‫أعدد استعارات ّ‬ ‫الثالثة فقط عن جربان (كي ال ّ‬ ‫تتعدى األربعة أشهر‪.‬‬ ‫يف فرتة ال ّ‬ ‫مكتبة صغري ٍة‪ ،‬يوحي ِبام ُيمكن أن يكون عدد القراء الذين تعاقبوا‬ ‫وهذا‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫كل مدينة أمريكية َتحوي أكثر من‬ ‫عىل سائر كتب جربان فيها‪ .‬وإذا اعتربنا ّأن ّ‬ ‫كل يوم‬ ‫نتخيل عدد القراء الذين يتناولون بني أيديهم ّ‬ ‫مكتبة عامة واحدة‪ ،‬لنا أن ّ‬ ‫ذكر أنه شاعر أو فنان أو‬ ‫مؤلفات جرباننا الخالد الذي ال َيخلو‬ ‫غالف ُلكتبه من ْ‬ ‫ٌ‬ ‫فيلسوف ‪‬من لبنان‪.‬‬ ‫بالغة ‪‬شفوية‪ ‬قبل خروجي من املكتبة‪:‬‬ ‫الحظت اللكنة يف لغتي اإلنكليزية‬ ‫املكلفة تسجيل الكتب املستعارة‪َ ،‬‬ ‫السيدة العجوز ّ‬ ‫فسألتني بكل تهذيب‪ :‬من أين أنت؟‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫فرفعت بيدي أحد الكتب الثالثة‬ ‫ردة فعلها‪،‬‬ ‫أردت اختصار الجواب ومالحظة ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وأجبتها‪ :‬أنا من وطن هذا الرجل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ترتدد ثاني ًة واحدة حتى قالت‪ :‬خليل جربان؟ إذن أنت لبناين‪.‬‬ ‫وأ ِ‬ ‫ُقسم أنها مل َّ‬ ‫ت برباءة العجوزات الطيبات‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وأردف ْ‬ ‫ األسبوع املايض كان عيد ميالد حفيديت‪ ،‬وكانت هديتي لها كتاب ‪‬النبي‪،‬‬ ‫تلق ْته من هدايا‪.‬‬ ‫فبادرتني بأنها أمثن ما َّ‬ ‫ْ‬ ‫ترتدد يف صمتي عبار ُة ذاك الذي‪ ،‬من‬ ‫ت تنهيد ًة حافية‪،‬‬ ‫وخرجت من املكتبة‪َّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫َح ْمل ُ‬ ‫وطنه حني أَعلن‪ :‬لو مل يكن لبنان وطني‪،‬‬ ‫شه َر ُح َّبه َ‬ ‫صومعته يف نيويورك عام ‪َ ،1920‬‬ ‫خذت لبنان وطني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫الت ُ‬ ‫دايتونا بيتش (فلوريدا)‬

‫* ‪‬الحياة‪1990/11/16 -‬‬

‫‪212‬‬


‫بناء عىل القانون الدستوري‬ ‫ً‬ ‫الصادر يف ‪ 8‬أيار سنة ‪1929‬‬ ‫بناء عىل القرار املحيل رقم‬ ‫ً‬ ‫املؤرخ يف ‪ 16‬كانون الثاين‬ ‫‪ّ 1080‬‬ ‫سنة ‪1922‬‬ ‫بناء عىل املرسوم رقم ‪2510‬‬ ‫ً‬ ‫املؤرخ يف ‪ 13‬كانون األول سنة‬ ‫ّ‬ ‫‪1927‬‬ ‫بناء عىل اقرتاح وزير الداخلية‬ ‫ً‬ ‫وبعد استماع رأي مجلس‬ ‫الوزراء‬ ‫يرسم ما يأيت‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫مدالية‬ ‫املادة األوىل‪ُ :‬م ِن َحت‬ ‫االستحقاق اللبناين من الدرجة‬ ‫الثانية إىل السيد جربان خليل‬ ‫جربان املقيم يف نيويورك‪.‬‬ ‫املادة الثانية‪ُ :‬ي َنشر َّ‬ ‫ويبلغ هذا‬ ‫املرسوم حيث تدعو الحاجة إىل‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫بريوت يف ‪ 25‬أيلول ‪1930‬‬ ‫اإلمضاء‪ :‬شارل دباس‬ ‫صدر عن رئيس الجمهورية‬ ‫رئيس مجلس الوزراء‪ :‬اإلمضاء‬ ‫أوغست أديب‬ ‫وزير الداخلية‪ :‬اإلمضاء موسى‬ ‫منور‬ ‫رئيس الغرفة‪ :‬جورج حيمري‪.‬‬

‫املرسوم يف ّنصه الفرنيس‬

‫كان ُيمكن التعليق عىل هذا ‪‬املرسوم‪ ‬بأقىص السخرية أو أقسى املرارة‪.‬‬ ‫لكن ْنش َره بدون تعليق‪ ،‬يبقى أبلغ من كل كالم يقال عن نظرة الدولة اللبنانية‬

‫‪215‬‬


‫‪1‬‬ ‫قبل وفاته بستة أشهُر‪:‬‬ ‫مدالية لبنانية له ‪‬من الدرجة الثانية‪‬‬ ‫بني أوراق جربان املنقولة‬ ‫من ُمحرتفه يف نيويورك اىل‬ ‫برشي‪ ،‬الورقة‬ ‫متحفه يف ّ‬ ‫رقم ‪ ،144‬وهي تحمل ماد ًة‬ ‫طريف ًة موغِ ل ًة يف سخرية‬ ‫صفراء حملها الزمان لِجربان‪.‬‬ ‫إنها ورقة ‪‬املرسوم‬ ‫الجمهوري‪ ‬الذي يحمل‬ ‫الرقم ‪ ،7287‬وهو مطبوع‬ ‫عىل اآللة الكاتبة‪ ،‬وتحمل‬ ‫الورقة‪ ،‬يف أعالها اىل اليمني‪،‬‬ ‫عبارة ‪‬الجمهورية اللبنانية‪.‬‬ ‫النص الكامل‬ ‫وهنا‬ ‫ّ‬ ‫للمرسوم‪:‬‬

‫املرسوم ‪ -‬العار‬

‫‪214‬‬

‫‪‬إن رئيس الجمهورية اللبنانية‪،‬‬ ‫بناء عىل الدستور الصادر بتاريخ‬ ‫ً‬ ‫‪ 23‬أيار سنة ‪ 1926‬واملعدَّ ل مبوجب‬ ‫القانون الدستوري الصادر يف ‪17‬‬ ‫ترشين األول سنة ‪،1927‬‬


‫‪2‬‬ ‫‪‬مش أنا‪‬‬ ‫دخلت حديقته سنة ‪ 1992‬يف واشنطن‪ ،‬لفتني فيها الجو العام املحيط‪،‬‬ ‫أول ما‬ ‫ُ‬ ‫صاهال بنظرته من رحم الحياة إىل فجر‬ ‫املضيف طابع ًا خاص ًا عىل متثال رأس جربان ً‬ ‫ُ‬ ‫الحياة التالية‪.‬‬ ‫الجو‬ ‫وأول ما‬ ‫دخلت حديقته يف بريوت (مقابل مبنى ْ‬ ‫ُ‬ ‫اإلسك َوى) لفتني فيها ُّ‬ ‫املحاط بأبنية وسط بريوت وطرقاته الحيوية‪،‬‬ ‫الهنديس العام‪ ،‬النظيف األنيق الجميل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫رأسه بعيد ًا‪ ،‬فوق‪ ،‬كعصفور ضئيل يحط عىل عمود‪.‬‬ ‫َولفتني ُ‬ ‫وكلام أقرتب من التمثال وقاعدته كان يزداد الفراغ حوله كام ليرتكه وحيد ًا يف‬ ‫شساعة‪ ،‬صغري ًا يف وساعة‪ ،‬مرتوك ًا يف خواء من العراء والهواء‪ ،‬ما ُيسهم كلي ًا يف ضياع‬ ‫مار وكل حركة‬ ‫املعنِق وحده ضائع ًا يف الفضاء حوله‪ ،‬يرسق النظر فيه كل ٍّ‬ ‫الرأس ْ‬ ‫وكل زحام‪.‬‬ ‫صدمني ّأن من رأيت يف ذاك التمثال النصفي مل يكن جربان‪،‬‬ ‫بوصويل إىل التمثال َ‬ ‫وتأكد يل كاريكاتور پيار صادق قبل يومني (‪‬النهار‪ 3 ‬نيسان ‪ )2001‬حني جعل‬ ‫ّ‬ ‫التمثال ينطق فيقول ‪‬مش أنا‪.‬‬ ‫يت ّأال تكون هذه هي النسخة النهائية بل األوىل التي يلحقها الكثري من الصقل‬ ‫َوت ّمن ُ‬ ‫وتركيز مالمح‪.‬‬ ‫وتقني خبري‪ .‬غري أن التجريد أمر‪،‬‬ ‫أستاذ كبري‬ ‫ليس من يجادل يف أن زاڤني حاديشيان ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫أمر آخر‪.‬‬ ‫ونحت الوجوه (فن ًا خاص ًا صعب ًا ً‬ ‫قائام بذاته) ٌ‬ ‫التمثال‪ -‬املأخوذ ترجيح ًا عن صورة لجربان يف ُمحرتفه البس ًا مريول الرسم‬ ‫األبيض‪ -‬جاء بعيد الشبه عن مالمح جربان ونظراته وعينيه وشاربيه وحتى‬ ‫مجموع صور أكثر لجربان يف وضعيات‬ ‫تصفيفة شعره‪ .‬رمبا كان ينقص زاڤني‬ ‫ُ‬

‫‪217‬‬


‫منقوال إىل عدد كبري من‬ ‫عز شهرته األمريكية‬ ‫والعالمية ً‬ ‫َ‬ ‫إىل جربان سنة ‪ ،1930‬وهو يف ّ‬ ‫العالم‪.‬‬ ‫لغات َ‬ ‫أيها املرسوم الذي ‪‬من الدرجة الثانية‪:‬‬ ‫‪‬السيد جربان خليل جربان املقيم يف نيويورك‪‬؟‬ ‫خجل َ‬ ‫َألم َت َ‬ ‫منك وأنت تصل إىل َيدي ّ‬

‫رسالة القنصل الفرنيس أن يزوره جربان و‪‬يتسلّ م‪ ‬املدالية‬

‫* ‪‬النهار العريب والدويل‪١٩٨١/٢/٩ - ‬‬

‫‪216‬‬


‫‪3‬‬ ‫ال مكان لجبران في دولة جبران‬ ‫كل يوم‪ ،‬وال يزال يولد يف العامل‬ ‫كأنه يوم مات‪ ،‬مل ميت ليموت‪ ،‬بل َ‬ ‫ليولد من يومها ّ‬ ‫لغة جديدة‪،‬‬ ‫كل يوم يف بالدٍ جديدة‪ ،‬يف ٍ‬ ‫كل يوم‪ .‬وأقول ‪‬يف العامل‪ ،‬ألنه ما زال يولد ّ‬ ‫ّ‬ ‫حي‪.‬‬ ‫يف ٍ‬ ‫طبعة من كتبه جديدة (خصوص ًا ‪‬الن ِب ّي‪ )‬فيبقى حي ًا أكثر مام كان وهو ّ‬ ‫فعلت له دولة وطنه كي تعرفه‬ ‫ويقدره‪ ،‬فامذا َ‬ ‫وإذا كان العامل يقرأه ويعرفه ّ‬ ‫األجيال الجديدة يف وطنه؟‬ ‫ألملانيا مراكز ثقافية يف العامل باسم ‪‬معهد غوته‪ ،‬ومهرجانها الشهري يف بايروث‬ ‫اسمه ‪‬مهرجان ڤاغنر‪.‬‬ ‫وروسيني‬ ‫إليطاليا مراكز ُمامثلة باسم دانته‪ ،‬ومسارح كربى بأسامء ڤريدي‬ ‫ّ‬ ‫وپريغوليزي وبيليني وسواهم‪.‬‬ ‫توزع مراكزها الثقافية يف العامل عىل اسم ثرڤانتس‪.‬‬ ‫إسپانيا ّ‬ ‫سمت مطارها يف وارسو ‪‬مطار‬ ‫پولونيا َلم ْتك َت ِ‬ ‫ف بـ‪‬أكادمييا شوپان للموسيقى‪ ‬بل ّ‬ ‫شوپان الدويل‪.‬‬ ‫يف موسكو ‪‬كونرسڤاتوار تشايكوڤسكي‪.‬‬ ‫يف أرمينيا ‪‬أكادمييا خاتشاتوريان‪ ‬و‪‬كونرسڤاتوار كوميداس‪.‬‬ ‫ِيست‪.‬‬ ‫يف بوداپست ‪‬كونرسڤاتوار بارتوك‪ ‬و‪‬أكادمييا ل ْ‬ ‫يف سانت پيرتسبورغ ‪‬كونرسڤاتوار رميسكي كورساكوڤ‪.‬‬ ‫كل منها اسم مؤلف موسيقي‪.‬‬ ‫يف باريس ‪ 20‬دائرة ذات‪ 20‬كونرسڤاتوار ًا يحمل ٌّ‬ ‫امنية عىل اسم ماكس مولر‪.‬‬ ‫يف الهند مراكز ثقافية ْأل ّ‬ ‫عدا موزار الذي تزخر به متاحف وقاعات يف النمسا وخارج النمسا يف كل العامل‪.‬‬ ‫العال ّمية‪ ...‬تطول وال تنتهي‪.‬‬ ‫وتطول الالئحة َ‬

‫‪219‬‬


‫متنوعة وأشكال ُمختلفة لرأسه ووجهه ونظراته‪ ،‬تعطي فكرة عن نفسية جربان‬ ‫قبل شكل وجهه‪.‬‬ ‫نتمنى أن يكون متثال جربان وسط حديقته الجميلة‪.‬‬ ‫هكذا كنا ّ‬ ‫تظل ما جاء قبل يومني يف‬ ‫فهويته الدائمة سوف ُّ‬ ‫وإذا ما كان هكذا سيبقى‪ّ ،‬‬ ‫كاريكاتور پيار صادق‪ :‬مش أنا‪.‬‬

‫عن ‪‬النهار‪ ٣( ‬نيسان ‪)٢٠٠١‬‬

‫* ‪‬النهار‪ -‬زاوية ‪‬أزرار‪ -‬رقم ‪)2001/4/5( 196‬‬

‫‪218‬‬


221


‫سمي مؤسساتها (يف أرضها أو يف العامل) عىل‬ ‫عالم ُة الدول الحضارية‪ ،‬إذ ًا‪ ،‬ال أن ُت ّ‬ ‫تنتقل بها‬ ‫اسم ‪‬بيت بو سياسة‪ ‬من ُح ّكامها بل عىل أسامء مبدعيها الخالدين‪ ،‬كي‬ ‫َ‬ ‫أسامء مبدعيها إىل العامل‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ت دول ُة لبنان لِجربان الذي‪ ،‬بدون ‪‬جميلها‪ ،‬يغزو العامل‪ ،‬وميكنها أن‬ ‫فعل‬ ‫فامذا‬ ‫َ ْ‬ ‫تنرش يف العامل مؤسسات لها ثقافية عىل اسمه فيعطيها هو الرصيد وال تعطيه رصيد ًا‬ ‫ليس يف حاجة إليه؟‬ ‫حت ُه ‪‬وسام املعارف من الدرجة الثانية‪!‬‬ ‫ماذا َ‬ ‫فعلت؟ َم َن ْ‬ ‫أين جربان اليوم من لبنان يف العامل؟‬ ‫مراكز ثقافية عىل اسم جربان؟‬ ‫ملاذا ال تكون‬ ‫امللحقيات الثقافية اللبنانية يف العامل َ‬ ‫ّ‬ ‫ملاذا ال تفتح السفارات اللبنانية يف العامل نوادِ َي ثقافية يف َح َرمها عىل اسم جربان‬ ‫بأنشطة عىل اسمه؟‬ ‫وتقوم‬ ‫ٍ‬ ‫السياحية يف العامل ال َتحمل اسم جربان وهو أكرب َمخزون سياحي‬ ‫املكاتب‬ ‫ملاذا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫للبنان يف العامل؟‬ ‫كل لبنان‪ ،‬ال توعز الدولة إىل الجوايل اللبنانية والنوادي‬ ‫يوحد ّ‬ ‫واسم جربان ّ‬ ‫ملاذا‪ُ ،‬‬ ‫اسمه وحده‬ ‫الثقافية اللبنانية يف دول العامل أن يكون ُ‬ ‫بعضها عىل اسم جربان الذي ُ‬ ‫يستقطب انتباه شعوب تلك الدول إىل لبنان وطن جربان؟‬ ‫العالمي!‬ ‫تطول الئحة الـ‪‬لِامذات‪ ‬وإمكانات استفادة الدولة من اسم جربان َ‬ ‫فعلت الدولة؟‬ ‫ماذا َ‬ ‫تقيم شوارع وجادات ومتاثيل عىل أسامء ‪‬بيت بو سياسة‪ ‬وال أحد يف العامل يشعر‬ ‫بهم‪.‬‬ ‫جومها‬ ‫لذا أستعري صيغ ًة أسلوبي ًة من جربان ألعيدها إليه ‪‬عرصية‪ُ :‬‬ ‫الويل لبالدٍ ُن ُ‬ ‫العالم‬ ‫مهملون‪ ،‬وال ِف ْكر لديها لتخليد إرثِها يف َ‬ ‫سياسيون (إذ ًا زائلون)‪ ،‬ومبدعوها َ‬ ‫شعوبها قطعان ًا‬ ‫جعلونها خارج قطيع الدول التي َتجعل‬ ‫عىل اسم مبدعني فيها َي َ‬ ‫َ‬ ‫لسياسييها‪.‬‬ ‫ّ‬

‫* ‪‬النهار‪ -‬زاوية ‪‬أزرار‪ -‬رقم ‪)2008/4/12( 542‬‬

‫‪220‬‬


‫‪‬م ْر ْجحني‬ ‫يواصل مفلح رشحه‪َ :‬‬ ‫تصغري ‪‬مرج حنا‪ ،‬تنبسط عند سفح‬ ‫القرنة السوداء عىل املقلب الرشقي لِجبل‬ ‫برشي أيام‬ ‫ا َمل ْكمِ ل‪ .‬كانت أمالك ًا ألهايل ّ‬ ‫برشي‪ ،‬ثم‬ ‫كانت ّ‬ ‫كل البقعة تابعة لقصبة ّ‬ ‫نزح الشيعة إليها من بالد جبيل فتداخلت‬ ‫سهل مرجحني بني التالل يف أول الربيع‬ ‫التبادالت التجارية بني‬ ‫امللكيات‪ .‬من هنا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وبرشي‪ ،‬أَي عن جان َِبي الجبل‬ ‫رجحني‬ ‫َم ْ‬ ‫ّ‬ ‫حركة عبو ٍر كانت‬ ‫بقمته‪ ،‬يف‬ ‫ِ‬ ‫مرور ًا ّ‬ ‫تتواصل من مطالع الربيع إىل مطالع الخريف‪ ،‬مسافة تقطعها القوافل يف نحو ست‬ ‫قاس‬ ‫شتاؤها ٍ‬ ‫رجحني عىل علو ‪ 1712‬مرت ًا‪ُ ،‬‬ ‫ساعات‪ .‬وكان َ‬ ‫شتاء ألن َم ْ‬ ‫التن ُّق ُل يتعطّ ل ً‬ ‫وعنيف يبلغ الثلج فيه أحيان ًا ثالثة أمتار‪ .‬من تلك التبادالت التجارية نشأت رشاكات‬ ‫رجحني‬ ‫يف ْملكية األرايض والتجارة‪ .‬وبفضل تلك التبادالت والصداقات كان ُت ّجار َم ْ‬ ‫برشي وبعض أهلها لتسويق‬ ‫برشي‪ ،‬ويجيء ُت ّجار ّ‬ ‫يذهبون لتسويق بضائعهم يف سوق ّ‬ ‫وشقيقه عيد‪ .‬كانا ُيمضيان‬ ‫بضائعهم يف مرجحني‪ .‬من أولئك األهايل‪ :‬خليل جربان‬ ‫ُ‬ ‫رجحني‪.‬‬ ‫برشي والصيف يف َم ْ‬ ‫الشتاء يف ّ‬ ‫برشي وعيناتا ودير األحمر وأهل‬ ‫ِّ‬ ‫يشدد مفلح عىل العالقات الوثقى بني أهايل ّ‬ ‫عواد‪ )... ،‬وهي حتى‬ ‫العشاير يف الهرمل َّ‬ ‫(عالو‪ ،‬دندش‪ ،‬نارص الدين‪ ،‬جعفر‪َّ ،‬عالم‪َّ ،‬‬ ‫بقيت أقوى من التفرقة الطائفية‪.‬‬ ‫إبان سنني الحرب يف لبنان َ‬ ‫أشجار ضخم ُة الجذوع عتيق ٌة متينة‪ .‬إنها من السنديان‬ ‫نجتازها‪،‬‬ ‫يف أعايل ٍ‬ ‫تالل كنا ُ‬ ‫ٌ‬ ‫اللزاب تعطي األوكسيجني لكل ُمحيطها‪.‬‬ ‫واللزاب‪ ‬يرشح مفلح‪ ،‬ويضيف‪ :‬شجرة ّ‬ ‫َّ‬ ‫ترج ْلنا من السيارة فانساب‬ ‫عند أعىل ٍ‬ ‫تلة يف املنطقة (قالها مفلح تعلو ‪ 2000‬مرت) َّ‬ ‫أخرض أخرض‪ ،‬بني سلسلتني من‬ ‫مصغر‪،‬‬ ‫سهل البقاع عىل َّ‬ ‫منظر كام يف الخيال‪ُ :‬‬ ‫أمامنا ٌ‬ ‫ُ‬ ‫صيفية أهل الهرمل‪ ،‬والهرمل َم ْشتى البقاع‪،‬‬ ‫الجبال‪ .‬هذه َم ْ‬ ‫رجحني‪ ‬قال مفلح ‪‬هي ّ‬ ‫عىل ‪ 550‬مرت ًا‪ ،‬أَي ِبمستوى القاع‪ .‬وها َنحن هنا يف أعىل نقطة من جرود الهرمل‪ .‬هذا‬ ‫فوق َّقمتا فم امليزاب والقرنة السوداء عىل‬ ‫الذي‬ ‫أمامك‪ ،‬هناك‪ ،‬جبل املكمل‪ ،‬وهاتان ُ‬ ‫َ‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫‪ 3090‬مرت ًا‪ .‬إىل َيمينك هناك يف البعيد عيون أرغش‪ ،‬وراءها جبل األرز َوتحته ّ‬ ‫القموعة وتنحدر منها بالد عكار‪.‬‬ ‫وهذه ّ‬ ‫التلة وراءنا هنالك‪َ ،‬تحتها ُّ‬

‫‪223‬‬


‫مـع جبران في مرجحين ملعب صيفيّاته‬ ‫المتكسرة‪‬‬ ‫صديقُه بكى حين رأى غالف ‪‬األجنحة‬ ‫ِّ‬ ‫نتغ ّدى عىل ُبحرية َم ْر ْجحني ثم نعود‬ ‫َ‬ ‫إىل األمسية الشعرية‪.‬‬ ‫بادرين الدكتور نزار دندش‬ ‫هكذا َ‬ ‫عضو بلدية الهرمل مفلح َّعل ْوه‬ ‫ُ‬ ‫وزميله ُ‬ ‫ولفظها َّعالو) وكانا َتحت‬ ‫(كتابتها هكذا‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫شجرة ظليلة عىل جرس الهرمل ينتظران‬ ‫أمسية شعرية نظَّ َم ْتها يل هناك‬ ‫وصويل إىل‬ ‫مرجحني منظر عام‬ ‫ٍ‬ ‫‪‬رابطة شباب الغد‪ ‬يف ملتقى عابدين‪.‬‬ ‫هدر االسم من ذاكريت‬ ‫مرجحني؟ َ‬ ‫العالمة فؤاد افرام البستاين َي ْذ ُكر‬ ‫ِمؤرخنا َّ‬ ‫مرتبط ًا ِب ٍ‬ ‫مقال ُ‬ ‫كنت قرأْته قبل عرشين عام ًا ل ِّ‬ ‫فيه ّأن جربان أمىض طفولته يف تلك القرية‪.‬‬ ‫أتكون هي هي؟‬ ‫وانطلقنا إىل َم ْر ْجحني‪.‬‬ ‫يؤكدان ذلك يل حتى كانا معي يف السيارة‬ ‫ْ‬ ‫ما كاد مضيفاي ّ‬ ‫أتعقب خطواته من بوسطن إىل‬ ‫قضيتها ّ‬ ‫جربان؟ ست سنوات يف الواليات املتحدة ُ‬ ‫جدر يب أن أزور يف لبنان مكان ًا‬ ‫نيويورك‪ ،‬أزور جميع األماكن التي َ‬ ‫سكن فيها‪ .‬أفال َي ُ‬ ‫سكن فيه؟‬ ‫َ‬ ‫بدأْنا التصعيد يف طريق ُم َتأ َْفعِ َنة (لكنها مقبولة التعبيد) فبادرين مفلح‪ :‬نحن اآلن‬ ‫جرافاتهم ثم جاءت‬ ‫نتوجه إىل جرود الهرمل‪ .‬القسم األخري من الطريق َّ‬ ‫شقه األهايل ِب ّ‬ ‫َّ‬ ‫ففلشت الزفت عىل طول الطريق‪.‬‬ ‫الدولة‬ ‫َ‬

‫‪222‬‬


‫مثال‪ ،‬بطاطا‪.)‬‬ ‫(اتفقنا أنها‪ً ،‬‬ ‫ّ‬ ‫يؤكد أبو عقيل (‪ 75‬سنة)‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪‬عندنا هنا نبت ٌة تشفي َجميع‬ ‫أمراض الصدر‪.‬‬ ‫نبلغ املقهى‪ ،‬نجلس تحت‬ ‫حامسة‬ ‫الحورات‪ .‬يروي ِب‬ ‫ٍ‬ ‫واندفاع‪ :‬كان جربان يف طفولته‬ ‫كل صيف‬ ‫مرجحني‪ :‬وهدةٌ يف الجبال‬ ‫وصباه ي ْأيت مع َ‬ ‫والديه ّ‬ ‫رجحني‪ .‬فتح أبوه خليل‬ ‫إىل َم ْ‬ ‫َقر ُب أصدقاء‬ ‫وعمه عيد دكان ًا‪ .‬أ َ‬ ‫خليل كان أحمد فارس َّعلوه‪ .‬كان ُيميض معه معظم أوقاته‪ .‬وأحمد أَذكره‬ ‫كنت شاهد ًا عليها ولن‬ ‫وقعت قبل نحو ‪ 50‬سنة‬ ‫َ‬ ‫مصادف ٌة ُ‬ ‫جيد ًا‪ُ .‬‬ ‫فتى حني َ‬ ‫كنت ً‬ ‫رجحني‪،‬‬ ‫أنساها‪ .‬إسمع يا أستاذ‪ :‬ذات يوم قبل خمسني سنة كنا هنا يف سهلة َم ْ‬ ‫طويال‪ ،‬مع أنه أ ُِّم ّي ال‬ ‫تأمل فيه ً‬ ‫أحدهم من الهرمل بكتاب‪َ .‬‬ ‫وجاء ُ‬ ‫أخذه أحمد‪َّ ،‬‬ ‫رفيق‬ ‫عرفته‪ .‬هذا هو‬ ‫يقرأ مطلق ًا‪ْ ،‬‬ ‫همرت دمع ٌة من عينيه َوت َمتم‪ :‬ها هو‪ُ .‬‬ ‫ُ‬ ‫وان َ‬ ‫املتكسرة‪‬‬ ‫أخذنا الكتاب من بني يديه فإذا هو ‪‬األجنحة‬ ‫رجحني‪ْ .‬‬ ‫طفولتي يف َم ْ‬ ‫ّ‬ ‫العم أحمد يروي لنا كيف كانوا ثالثة‪ :‬جربان‬ ‫وعىل غالفه صورة جربان‪ .‬ثم راح ّ‬ ‫وذكر لنا‬ ‫رجحني‪َ .‬‬ ‫يرسحون البقر واألغنام يف سهلة َم ْ‬ ‫وأحمد وصادق حمد َّعالم ِّ‬ ‫جب ُله َتامثيل ُمختلف َة‬ ‫أحمد ّأن جربان كان َيجمع الوحل عن ّ‬ ‫ضفة البحرية َوي ُ‬ ‫ويرتكها حتى تنشف يف الشمس‪ ،‬ويقول لهم‪ :‬سأكون فنان ًا وأصنع‬ ‫األشكال‬ ‫ُ‬ ‫َتامثيل وتصاوير‪ُ .‬ويكمل أبو عقيل‪ :‬ثم روى لنا أحمد كيف أن هذه املنطقة‬ ‫(جرود الهرمل) كانت عاصي ًة عىل العسكر الرتكي‪ ،‬وغالب ًا ما كان الهرمليون‬ ‫(فتحت فيها صاعق ٌة قوي ٌة ذات‬ ‫يفتكون بالعثامنيني‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫السواح‪َ ‬‬ ‫ويرمونهم يف ‪‬هوة َّ‬ ‫ٍ‬ ‫عمقها نحو ‪ 500‬مرت)‪ .‬وذات يوم جاء العسكر الرتكي‪-‬‬ ‫بلغ ُ‬ ‫شتاء رهي ٍ‬ ‫ب ُفتح ًة َ‬ ‫للسخرة إىل سفر برلك‪ .‬هرب‬ ‫‪‬عسكر َز ُّن َوبه‪ ‬كام كنا نسميه‪ -‬يريد أخذ الناس ُّ‬ ‫رجحني إىل مغاور الجرود‪ ،‬ومعهم خليل جربان تارك ًا يف الدكان أخاه عيد‬ ‫رجال َم ْ‬ ‫وطلبنا من‬ ‫الذي كان بسيط ًا ساذج ًا‪ .‬يف ذلك اليوم طلع جربان ّ‬ ‫بقرادية طويلة‪ْ .‬‬ ‫بنصها الكامل‪ ،‬وهذا هو‪:‬‬ ‫أحمد (يخربنا أبو عقيل) أن َّ‬ ‫يتذكرها‪ ،‬فرواها لنا ِّ‬

‫‪225‬‬


‫رجحني‪ ،‬إىل سهلِها األخرض‬ ‫ننحدر إىل َم ْ‬ ‫أكواخها أكثر من بيوتها‪.‬‬ ‫بيوتها قليلة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الجميل‪ُ .‬‬ ‫تصلها الكهرباء بعد‪.‬‬ ‫َلم ْ‬ ‫ظل ُل ُه‬ ‫نتوقف عند مقهى ‪‬عروس مرجحني‪ُ .‬ت ِّ‬ ‫ّ‬ ‫مر عند أقدامها َ‪‬نهر الحور‪‬‬ ‫أ ُ‬ ‫َشجار َحو ٍر عالي ٌة َي ُّ‬ ‫فاصال عقاري ًا بني بالد الهرمل وبالد عكار‪ .‬بخطوة‬ ‫ً‬ ‫واحدة َنحن يف الهرمل‪ ،‬و ِبخطوة معاكسة واحدة‬ ‫َنحن يف عكار‪.‬‬ ‫فيقد ُمني مفلح إىل أبو َعقيل‬ ‫نسرتيح ً‬ ‫قليال ِّ‬ ‫فهمي َّعلوه‪ :‬أبو عقيل يختزن أخبار ًا عن‬ ‫جربان‪.‬‬ ‫بقايا خربة بيت خليل جربان يف مرجحني‬ ‫أهفو إىل َسامعه‪.‬‬ ‫‪‬هلم إىل‬ ‫وال نكاد نبدأ حتى يقرتح أبو عقيل‪ّ :‬‬ ‫البحرية كي ترى أين كان يلعب جربان‪.‬‬ ‫ت ُخرض ًا‪‬‬ ‫نتوجه إىل البحرية‪َ .‬ت ُش ُّق السيارة مساف ًة ُترابي ًة غري قصرية ُممتلئ ًة ‪‬نبتا ٍ‬ ‫َّ‬ ‫نرتجل‪ .‬يرشح أبو عقيل‪ :‬هذه ُبحرية نبع‬ ‫متوسطة العلو ْ‬ ‫(فلنعتربها ‪‬بطاطا‪!‬؟)‪َّ .‬‬ ‫شاهدت العيون ُت َف ْق ِف ُق‬ ‫الحور‪ .‬فيها عيون كثرية‪ .‬وبالفعل‪ :‬حني اقرتبنا من املياه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وتصب َجميعها يف هذه البحرية‪ .‬يلتفت أبو عقيل‪َ :‬نحن يف قلب‬ ‫خور‬ ‫الص‬ ‫حت‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫املقدمة‪ ،‬ومن هناك‬ ‫مرجحني‪ .‬هي كسفينة فينيقية َونحن عىل متنها‪ :‬من هنا عالية ّ‬ ‫ْ‬ ‫املؤخرة‪ .‬يف هذه البقعة بالذات كان جربان خليل جربان ُيميض صيفياته‪.‬‬ ‫عالية‬ ‫ّ‬ ‫الست إنصاف ّعلوه‪ :‬أنا مولودة هنا‪،‬‬ ‫صاحبته‬ ‫َنجلس يف املقهى‪ .‬تقرتب ّمنا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وعشت طفولتي وصباي عىل ضفاف هذه البحرية‪ .‬يف أيام الثلج تكون مياهها دافئة‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ويف الصيف برود ُة مياهها تشق رأْس البطيخ‪ .‬منذ طفولتي األوىل وأنا أَسمع من‬ ‫يصيفون مقابل بيت جدي‪.‬‬ ‫بيت جدي ّأنهم كانوا جريان بيت خليل جربان‪ .‬كانوا ِّ‬ ‫بيتهم هناك حيث هذه الخربة ا ُملندثرة‪ .‬طلع منهم ولد نابغة اسمه جربان راح َع‬ ‫ُ‬ ‫األمريكا‪.‬‬ ‫َستفه ُم منه عن جربان أكثر‬ ‫ويهز برأْسه َ‬ ‫مواف َق ًة‪ .‬أ ِ‬ ‫كان أبو عقيل ُيصغي باهتاممٍ ّ‬ ‫الخرض‪ُ ‬مجدد ًا‬ ‫مر بـ‪‬النبتات ُ‬ ‫رجحني‪َ .‬ن ُّ‬ ‫فيدعوين لالنتقال إىل مقهى ‪‬عروس َم ْ‬

‫‪224‬‬


‫جد مفلح َّعلوه (عضو البلدية‪ ،‬رفيقنا يف الرحلة)‪.‬‬ ‫من أميون‪ ،‬ورشيد هو ّ‬ ‫يكمل أبو عقيل كيف أحمد (تويف قبل نحو عرشين سنة) حكى لهم بتأثر شديد‬ ‫وأمالكه لبلدته‬ ‫أرزاقه‬ ‫َ‬ ‫حاد الذكاء‪ .‬وحني علم أحمد أن جربان كتب َ‬ ‫أن جربان كان ولد ًا ّ‬ ‫برشي تأثَّ ر ففعل مثله وكتب أرزاقه وأمالكه لبيت ّعلوه‪ .‬وحني قام أحمد ذات يوم‬ ‫ّ‬ ‫برشي بعد وصول جثامن جربان إليها‪ ،‬ارتجل بيتني من العتابا‪ ،‬هام‪:‬‬ ‫بزيارة‬ ‫ّ‬ ‫رضي ِ‬ ‫��ح��ك ق��ال ج�بران‬ ‫ي��ا سلمى عَ ْ‬ ‫��م��ـ��ا خ��اط��ري م��ا ش���اف ج�بران‬ ‫َول ّ‬

‫خ���واط���ر م���ا ل��ه��ا ب���ال�ش�رق ج�ب�ران‬ ‫أم���ايل ْد َف ْ��ن�� ْت��ه��ا ْ‬ ‫وال���م���وت ط���اب‪...‬‬

‫رت أننِي‬ ‫َّ‬ ‫وتذك ُ‬ ‫قرأْت يف مجلة‬ ‫‪‬الفصول‪( ‬العدد‬ ‫صيف‬ ‫السابع‪-‬‬ ‫مقاال لفؤاد‬ ‫‪ً )1981‬‬ ‫ينسب‬ ‫افرام البستاين ُ‬ ‫فيه إىل الرئيس صربي‬ ‫ت‬ ‫حامدة‬ ‫ذكريا ٍ‬ ‫متواتر ًة عن أهل‬ ‫تفيد ّأن‬ ‫الهرمل‬ ‫ُ‬ ‫أبو عقيل يدلُّ املؤلف عىل مكان بيت جربان يف مرجحني‬ ‫يولد يف‬ ‫جربان مل َ‬ ‫برشي بل يف ‪‬وادي‬ ‫ّ‬ ‫وأن َه َر َب أبيه إىل املغاور مل يكن بسبب مجيء العسكر‬ ‫م‬ ‫(قرب‬ ‫طل‪‬‬ ‫َّالر‬ ‫رجحني) َّ‬ ‫َ ْ‬ ‫سناف شكوى إىل السلطة املحلية‬ ‫الرتكي بل بسبب حادثة أخرى‪َّ :‬قدم تاجر الغنم ّ‬ ‫ويتهم أحمد ّعلوه بذلك فأرسل القائمقام مفرزة بقيادة‬ ‫يشكو رسقة بعض أغنامه َّ‬ ‫رب َمن هرب مِ ن الرجال‬ ‫سليم العازار‪ .‬عندما َ‬ ‫وصلت مفرز ُة الجيش إىل املكان َه َ‬ ‫(‪‬كمول‪ ‬بتصغري ْاس ُمها َتحبب ًا)‬ ‫زوجته كاملة رحمة‬ ‫وبينهم خليل جربان‪ ،‬فجاءت ُ‬ ‫ُّ‬ ‫غافال َع ّما حصل‪ .‬وكان‬ ‫الدكان ً‬ ‫فانتهرت أخاه عيد ‪‬املهبول‪ ‬الساذج الذي بقي أمام ّ‬ ‫َ‬ ‫جربان شاهد ًا عىل الحادثة فنظم تلك القرادية (وهي عىل وزن ‪‬سووغيتو‪ ‬الرسياين‬ ‫جناز الرجال)‪.‬‬ ‫متداول غالب ًا يف ّ‬ ‫ْال َ‬

‫‪227‬‬


‫خ��������ل��������ي��������ل ج�������ب������ران‬ ‫َّ‬ ‫دش�������������������ر ال����������دك����������ان‬ ‫وإم��������������ي َ‬ ‫����������م����������ول‪‬‬ ‫‪‬ك‬ ‫ُّ‬ ‫‪‬ي��������ا ع����ي����د ي������ا م���ه���ب���ول‬ ‫����������م����������ود‬ ‫خ�������ل�������ي�������ل َح‬ ‫ّ‬ ‫ه�����������رب عَ ال�������ج�������رود‬ ‫وخ��������ل��������ي��������ل ح������م������ود‬ ‫ع���������ن أب�������������� ًا وج�����������دود‬ ‫َس������ل�����ام������������ه ي������خ������اف‬ ‫س��������ن��������اف‬ ‫آه ي������������ا‬ ‫ّ‬ ‫ي�������������وس�������������ف ب������ش���ي��ر‬ ‫م������رت������و ِب��������إي��������دا ت���ش�ي�ر‬ ‫أس������������ع������������د ع��������م��������ار‬ ‫مل���������غ���������ارة امل�����س�����ح�����ار‬ ‫إج������������اه������������م رش������ي������د‬ ‫آه ي�����������ا ص�����ن�����دي�����د‬ ‫أن��������������ا خ��������������وك ح����س��ي�ن‬ ‫ْ‬ ‫ب�������ق������� ُت�������ل ك��������ل ات����ن��ي�ن‬ ‫وأب�������������������������و ج���������������واد‬ ‫وزاد‬ ‫غ�������������������������ول‬ ‫َّ‬ ‫َح����������م����������د ب��������ي��������ذوق‬ ‫َد ّق������������ل������������و خ�������������ازوق‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ع�����ل�����ام‬ ‫وش�������������دي�������������د‬ ‫ون��������������ادى عَ ال������������دوام‬

‫ط������������اح ب������ال������ع������رض������ان‬ ‫ال��������زغ��������ار‬ ‫والد‬ ‫عَ‬ ‫ت�������ص�������رخ وت����������ق����������ول‪:‬‬ ‫خ������ي������ك وي����������ن ط����������ار‪‬؟‬ ‫َّ‬ ‫اب���������ن ع�������م ب�������و م���ح���م���ود‬ ‫م����������ا ع�������������اد ان�������ذك�������ر‬ ‫ك�����������ان ص�������������درو ق����ل����ود‬ ‫ِم�����������ن زقّ ال�������ذخ�������ار‬ ‫م���������ن ش���������د ال�����ك�����ت�����اف‬ ‫َّ‬ ‫����������ور‬ ‫����������ج‬ ‫�������ن�������ا ْال‬ ‫ُ‬ ‫س�������ك َّ‬ ‫َ‬ ‫ب���������ت���������م���������و نْ �������ق���ي���ر‬ ‫ّ‬ ‫خ������ب������ر‬ ‫م������������ا ع��������ن��������ا‬ ‫َ‬ ‫أخ�����������������د ال�������ح�������م�������ار‬ ‫َو َدع����������������������و َ‬ ‫َ‬ ‫��������ف��������ر‬ ‫وط‬ ‫ي������ه������م������در م��������ن ب���ع���ي���د‬ ‫َ‬ ‫�������ب�������ر؟‬ ‫م��������ا ه��������و ْال‬ ‫�������خ َ‬ ‫أريض ب�������������راس ال����ع��ي�ن‬ ‫ح�������ج�������ر‬ ‫ب������ض�����رب������������ة‬ ‫َ‬ ‫ح������ك������م������و ال���������س���������داد‬ ‫ان����ف����ج����ر‬ ‫وم���������ن وق������ت������ا‬ ‫َ‬ ‫ط�������ب�������ع�������و َح��������م��������وق‬ ‫س������ل������ي������م ال����������ع����������ازار‬ ‫ّ‬ ‫ي������ت������ك������ل������م‬ ‫ص�����������������ار‬ ‫ِب�������خ�������رب�������ان ال�������دي�������ار‬

‫استفهمت من أبو عقيل عن معنى بعض الكلامت‪ ،‬فإذا بـ‪‬العرضان‪( ‬جمع‬ ‫ُ‬ ‫و‪‬ك ُّمول‪ ‬هي‬ ‫عريض) أي صدور الجبال‪ ،‬والـ‪‬قلود‪ ‬هي جحور أو ثقوب يف الصدر‪َ ،‬‬ ‫و‪‬السناف‪ ‬هو اسم تاجر غنم‪ ،‬وسليم العازار هو ضابط لبناين‬ ‫كاملة والدة جربان‪،‬‬ ‫ّ‬

‫‪226‬‬


‫مر من هنا يف جبال لبنان‪ ،‬وتكمل حتى الجليل يف فلسطني‪َ .‬ويختم أبو‬ ‫الجنويب‪َ ،‬ت ّ‬ ‫قليال‪ :‬قرنة العرشة‪.‬‬ ‫عقيل‪ :‬عند هذه القمة هناك‪ :‬القرنة السوداء‪ ،‬والتي إىل َيمينها ً‬ ‫َستفهم عن أولئك العرشة فريوي يل ّأن عرشة أشخاص رغبوا يف اختبار الشتاء عند‬ ‫أ َ‬ ‫انقضت عادوا ُيخربون ّأنهم مل يكونوا‬ ‫هبت الريح َمجنون ًة هائلة‪ ،‬فلام َ‬ ‫هذه القمة‪ّ .‬‬ ‫وعصف الريح بني الجبال‪.‬‬ ‫قصف الرعد ْ‬ ‫خائفني من املوت َبرد ًا بل أن َيموتوا من ْ‬ ‫يأزف الوقت لِنميض إىل أمسيتي الشعرية يف الهرمل‪.‬‬ ‫رفتني‬ ‫قليال يف ّأول طريق العودة لتصوير بقايا خربة بي ٍ‬ ‫نتوقف ً‬ ‫ت يبدو أنه كان من ُغ َ‬ ‫‪‬خربة كانت بيت خليل‬ ‫َ‬ ‫مستطيلتني تحت سقف ترايب عىل طراز تلك األيام‪ .‬إنها اليوم ْ‬ ‫‪‬الست إنصاف‪ ‬صاحبة املقهى التي‪ ،‬عند‬ ‫جربان‪ ‬بإجامع من كانوا معي‪ ،‬وشهادة‬ ‫ّ‬ ‫بقنينة ٍ‬ ‫وارشبها يف الساحل‪.‬‬ ‫‪‬إحفظْ ها يا أستاذ‪،‬‬ ‫ماء‬ ‫مغادريت‪ ،‬فاجأ َْتني‬ ‫ِ‬ ‫پالستيكية قائل ًة‪َ :‬‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫حولها ويف مياهها صاحبك جربان‪.‬‬ ‫ّإنها من عيون ماء ُبحرية الحور التي كان ْيلعب َ‬

‫* ‪‬النهار‪( ‬عىل حلقتني)‪ 15 :‬و ‪2001/10/17‬‬

‫‪229‬‬


‫بأن الثلج يف مرجحني يبلغ ثالثة‬ ‫ولكن إذا ْ‬ ‫املحدثني حويل ّ‬ ‫مع ُت ُه من كالم ِّ‬ ‫أخذنا ِبام َس ْ‬ ‫ب أن يكون جربان ُولِد يف‬ ‫يصع ُ‬ ‫أمتار يف الشتاء‪ ،‬وجربان ولد يف ‪ 6‬كانون الثاين (‪ُ )1883‬‬ ‫رجحني ربيع ًا وصيف ًا مع والديه‪ .‬وهو‬ ‫برشي‪ ،‬وكان يأيت إىل َم ْ‬ ‫شتاء َم ْ‬ ‫رجحني بل يف شتاء ّ‬ ‫نقال عن أحمد فارس َّعلوه قبل َخمسني‬ ‫َ‬ ‫‪‬القرادية‪( ‬كام قال يل أبو عقيل ً‬ ‫نظم تلك ّ‬ ‫صيف‬ ‫آخر‬ ‫ٍ‬ ‫عام ًا) يوم كان يف العارشة أو الحادية عرشة (نحو ‪ 1893‬أو ‪ )1894‬أي َ‬ ‫ووصلت إىل بوابة‬ ‫(إال زوجها خليل)‬ ‫سافرت بالعائلة ّ‬ ‫َ‬ ‫أمضاه يف لبنان‪ّ ،‬‬ ‫ألن َ‬ ‫والدته َ‬ ‫إيليس آيالند (مانهاتن‪ -‬نيويورك) يف ‪ 25‬حزيران ‪.1895‬‬ ‫نوستالجياه يف رسالة اىل نسيبه نخلة جربان (يف الربازيل) جاء فيها‪:‬‬ ‫وجربان يذكر‬ ‫ُ‬ ‫فيك ما مل أره يف‬ ‫رجحني‪ ،‬وأنا أرى َ‬ ‫‪ ...‬منذ يقظتي األوىل‪ ،‬منذ ُ‬ ‫صبي ًا‪ ،‬منذ أيام َم ْ‬ ‫كنت ّ‬ ‫أنسبائي كافة‪....‬‬ ‫يبادرين الدكتور نزار‬ ‫أعود إىل ُم‬ ‫رجحني‪ُ .‬‬ ‫ستضيفي حويل يف مقهى ‪‬عروس َم ْ‬ ‫َّ‬ ‫دندش‪َ :‬نحن هنا يف قلب جرد الهرمل‪ .‬وهو َمحمية طبيعية حبذا لو يصار إىل‬ ‫استصالحها للسياحة البيئية‪ .‬نسبة األمطار فيها تبلغ ‪ 1000‬ملم سنوي ًا وال َتحتاج إىل‬ ‫ري وصيانة‪ .‬تتميز‬ ‫ري ألن أشجارها َب ْعل َِّي ٌة تعيش وتنمو وحدها وال ّ‬ ‫تتطلب تكلفة ٍّ‬ ‫ٍّ‬ ‫قص األحراج‪ .‬وأردف دندش‬ ‫جرمية‬ ‫من‬ ‫إال‬ ‫تشكو‬ ‫وال‬ ‫النقي‬ ‫هوائها‬ ‫ب‬ ‫البقعة‬ ‫هذه‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫عقمة أخذها‬ ‫الحور‪( ‬إحدى عيون البحرية) قناين ُم َّ‬ ‫أنه قبل فرت ٍة مأل من ‪‬نبع َ‬ ‫إىل ُمخترب الجامعة األمريكية فكانت النتيجة ّأنها ‪‬أفضل مياه معدنية يف لبنان‪‬‬ ‫وعلق الدكتور دندش (وهو‬ ‫صالِحة للتعبئة واالستصالح بدون أية مواد مضافة‪ّ .‬‬ ‫‪‬المرشد يف الغذاء‪ :‬النافع‬ ‫خبري وأستاذ العلوم يف الجامعة اللبنانية وصاحب كتاب ْ‬ ‫ٌ‬ ‫السهلة التي نحن فيها هي عىل املقلب‬ ‫‪‬هذه‬ ‫‪:‬‬ ‫قائال‬ ‫اإلنسان‪)‬‬ ‫طعام‬ ‫يف‬ ‫والضار‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫القموعة من جهة أخرى‪ .‬فلامذا ال‬ ‫ومحمية ُّ‬ ‫اآلخر من َمحمية إهدن من جهة‪َ ،‬‬ ‫رجحني فتكتمل الصورة البيئية الثالثية عوض العبور من واحة‬ ‫حمية َم ْ‬ ‫تقوم بينهام َم ّ‬ ‫متسائال‪ :‬ماذا لو‬ ‫رجحني الجرداء‪‬؟ َويختم‬ ‫ً‬ ‫القموعة بصحراء َم ْ‬ ‫إهدن إىل واحة ُّ‬ ‫يرسمون هذه‬ ‫عدد من الرسامني ُيمضون نوع ًا من ْال ْ‬ ‫جاء ٌ‬ ‫خلوة أو السمپوزيوم هنا ُ‬ ‫املناظر الفريدة يف لبنان‪‬؟‬ ‫أجمل من هذه البقعة‪‬؟ فيستطرد مفلح‬ ‫فينهرنا‪ :‬وهل‬ ‫ُ‬ ‫َيطرب أبو عقيل للفكرة ُ‬ ‫البق ْي َعة املمتدة بني السلسلتني‬ ‫َّعلوه‬ ‫(مضيفنا باسم بلدية الهرمل)‪ :‬هذه هناك فتحة َ‬ ‫ُ‬ ‫غريب حمص وطرابلس‪ ،‬فوق النهر الكبري‬ ‫الجبليتني‪ ،‬تبد ُأ من جبال العلويني‪ ،‬تعرب ّ‬

‫‪228‬‬


231



‫‪1‬‬ ‫جبران ‪‬العاشق‪‬‬ ‫‪‬متى يندهكم الحب فاتبعوه‪ ،‬ولو ُ‬ ‫مسيجٌ بالخطر‪( ‬من ‪‬النبي‪)‬‬ ‫طريقهُ َّ‬ ‫الحب َكتب‪ ،‬كام قالئل العاشقني‪.‬‬ ‫يف ّ‬ ‫الولع كان عاشق ًا؟‬ ‫حد من َ‬ ‫أي ٍّ‬ ‫ْ‬ ‫ولكن‪ ...‬إىل ِّ‬ ‫كل واحدة من ثوانيه‪َ :‬محرق ٌة وجلجة؟‬ ‫هل أ َ‬ ‫هيب االنتظار ّ‬ ‫حتى ّأن َّ‬ ‫َحرقه َل ُ‬ ‫اشتعاال لرؤية َل ْمح؟‬ ‫ت أو‬ ‫َحرق ليايل بيضاء ُحرق ًة لسام ِع صو ٍ‬ ‫ً‬ ‫هل أ َ‬ ‫وحيد ًا عاش يف صومعته‪ .‬فهل من طبائع العشاق معانق ُة الوحدة؟‬ ‫عرف ُه ّن‪ ،‬عن ُق ْرب أو عن ُبعد‪ ،‬لفرت ٍة طالت أم َق ُص َرت‪َ ،‬بل ْغ َن اثنتي عرشة‪.‬‬ ‫اللوايت َ‬ ‫انرصافه من وجه إىل وجه آخر؟‬ ‫يبدل‬ ‫فأي‬ ‫َ‬ ‫عاشق كان هذا الذي ّ‬ ‫ٍ‬ ‫ُّ‬ ‫ليجع َل ُكم كالثلج أنقياء‪....‬‬ ‫كم‬ ‫طحن‬ ‫ي‬ ‫‪‬الحب‬ ‫ُّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫الحب جربان؟‬ ‫فهل َ‬ ‫‪‬ط َحن‪ُّ ‬‬ ‫وج ْل َد القلق عىل الحبيبة‬ ‫هل َ‬ ‫ذاق لوع َة القهر‪ ،‬ولهفة الركض وراء اللحظة الهاربة‪َ ،‬‬ ‫اللهفى؟‬ ‫الحب كام قالئل العاشقني‪.‬‬ ‫مع كل هذا‪ ،‬كتب يف ّ‬ ‫والحب‪.‬‬ ‫َفصل هنا بني جربان واملرأة‪ ،‬وبني جربان‬ ‫أ ُ‬ ‫ّ‬ ‫وتبادل رسائل‪.‬‬ ‫جربان واملرأة‪ :‬حكاي ُة عالقا ٍ‬ ‫ت ُ‬ ‫نهج حياة‪َ ،‬وت َر ْه ُبن انرصاف‪.‬‬ ‫جربان‬ ‫والحب‪ُ :‬‬ ‫ّ‬ ‫حتى االنرصاف التام؟‬ ‫فهل َن َه َج جربان هذا النهج؟ وهل َت َر ْه َبن ّ‬ ‫ّمر َتني باح لصديقه ميخائيل نعيمه‪ :‬أُوىل ليقول ‪‬ميشا‪ ،‬أَنا نب ٌأ كاذب‪ ،‬وأُخرى‬ ‫غريب يف هذا العامل يا ميشا‪.‬‬ ‫ليقول ‪‬أنا‬ ‫ٌ‬

‫‪233‬‬


‫من مجموعة ماري هاسكل لدى متحف تلفري يف ساڤانا – جورجيا‬

‫‪‬شارلوت ِت ِلر‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 35.6 × 48.3‬سنتم)‬

‫‪ُ ‬أمٌّ وابنُ ها‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 20.1 × 42.9‬سنتم)‬

‫‪232‬‬

‫‪‬بدون عنوان‪ – ‬بالقلم الرصاص‬ ‫(‪ 20.3 × 26.7‬سنتم)‬


‫مربر ًا‪ّ -‬أن ‪‬األجنحة‬ ‫‪‬حبيبته‪ ،‬فيخربها‪ِّ -‬‬ ‫املتكرسة‪ ‬ليست من صنيع الواقع وال عالقة‬ ‫لها بحياته الخاصة ‪‬بل هي من ْنسج الخيال‬ ‫حوادث وأشخاص ًا‪ ،‬وقال لها إنه َّركب حروف‬ ‫َ‬ ‫اسم البطلة (سلمى كرامه) من حروف اسمها‬ ‫شخصية سلمى‬ ‫(ماري هاسكل)‪ .‬مع أن يف‬ ‫ّ‬ ‫وجهي‬ ‫كرامه‪ ،‬ل ُِم َت ّتبعي جربان‪ ،‬حصيل ًة بني َ‬ ‫حال الضاهر وجوزفني پيبدي‪.‬‬ ‫تسجل أحاديثها‬ ‫وألنه كان يعرف أن ماري ّ‬ ‫معه وتكتب مذكراتها اليومية‪ ،‬راح ُيخربها (كام‬ ‫رأى حارث البستاين) ما يريد أن يبقى ْذكر ًا منه‬ ‫ماري هاسكل بريشة جربان‬ ‫يؤكد‬ ‫بفضلها‪ .‬ويف بضع رسائل إليها سنة ‪ِّ 1911‬‬ ‫(من مجموعة متحف تلفري‪/‬ساڤانا‪/‬جورجيا)‬ ‫حدد‬ ‫‪‬حيوات عديد ًة سابقة‪ُ ،‬ي ّ‬ ‫لها أنه عاش َ‬ ‫بعضها‪ :‬مرتني قصريتني يف سورية‪ ،‬مر ًة يف مرص‬ ‫ست مرات أو سبع ًا يف بالد ما‬ ‫حتى الشيخوخة‪ّ ،‬‬ ‫بني النهرين‪ ،‬مر ًة يف إيطاليا حتى سن الخامسة والعرشين‪ ،‬مر ًة يف اليونان حتى الثانية‬ ‫والعرشين‪ ،‬مر ًة يف الهند‪ ،‬ومر ًة يف بالد فارس‪.‬‬ ‫ومن عقدة النرسيسية لديه‪ ،‬وقد تكون مؤثِّ ر ًة عليه يف عالقته مع النساء‪،‬‬ ‫ويخلص‬ ‫إيحاؤه لِامري هاسكل بأنه جاء ‪‬كي ينرش رسالته إىل الحضارة الجديدة ّ‬ ‫خلصه إال‬ ‫اإلنسانية ِبمذهب اإلنسان يف حياته الواقعية‪ ،‬ألن اإلنسان‬ ‫األريض لن ُي ّ‬ ‫ّ‬ ‫مطابق‬ ‫اإلنسان حامل الرسالة‪ .‬ولذا كتب إىل ماري يف إحدى رسائله أن مولده‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬ ‫يوم مولد املسيح‪ ،‬يف ‪ 6‬كانون الثاين‪ ،‬وهو تاريخ والدة املسيح لدى الطوائف‬ ‫الرشقية‪.‬‬ ‫تتوقف التساؤالت‪.‬‬ ‫وال ّ‬ ‫ثالث رسائل‬ ‫كيف ُن ّ‬ ‫حلل ظاهر ًة لديه أن يكون أرسل يف يوم واحد (‪ 26‬أيار ‪َ )1921‬‬ ‫اسمهن ماري‪ :‬ماري هاسكل‪ ،‬ماري زيادة (مي)‪ ،‬وماري الخوري (زوجة‬ ‫اىل ثالث نساء‬ ‫ّ‬

‫‪235‬‬


‫ولعل بني هذا ‪‬الغريب‪ ‬وذاك ‪‬النبأ الكاذب‪ ‬حكاي َة عمر كامل من الدخول إىل‬ ‫َّ‬ ‫رسها‪.‬‬ ‫الذات الكتشاف ّ‬ ‫رجح‬ ‫أَيكون ً‬ ‫أثر يف إشاحته عن ‪‬عالقات‪ ‬مع النساء‪ ،‬كام ّ‬ ‫فعال لـ‪‬عقدة أوديپ‪ٌ ‬‬ ‫غسان خالد يف كتابه ‪‬جربان فيلسوف ًا‪ :‬سيكولوجيا العبقري املريض‪‬؟ مضيف ًا ّأن تلك‬ ‫‪‬برفضه الجامع‪ ،‬إىل عقدة النرسيسية‬ ‫العقدة لدى جربان أثّ رت عىل عالقاته الجنسية ْ‬ ‫وتالع َبه بعواطف النساء‪.‬‬ ‫التي ّولدت فيه عباد َة ذاته ُ‬ ‫ت من ظلم َلحق بها؟ ذلك أنها (كام كشف‬ ‫أثر آ ٍ‬ ‫وهل يكون لعالقته الوثقى بأمه ٌ‬ ‫تزوجت ثالث ًا (ال مرتني)‪ :‬األوىل من عبد األحد‬ ‫وهيب كريوز حافظ متحف جربان) َّ‬ ‫طويال‪،‬‬ ‫رس ًا من شخص مل ُتدم عالقتها به ً‬ ‫رحمه (لها منه ُ‬ ‫ولدها‪ :‬بطرس)‪ ،‬الثانية ّ‬ ‫والثالثة من خليل جربان قبل أن تحصل عىل طالقها النهائي من الثاين‪ ،‬ما أثار عليها‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫حفيظة أهل ّ‬ ‫يرجح جميل جرب يف كتابه ‪‬جربان يف حياته العاصفة‪َ ،‬لم‬ ‫أو هل يكون ً‬ ‫فعال‪ ،‬كام ّ‬ ‫يفسر يف پاريس قول ‪‬املوديل‪‬‬ ‫يكن ُيحب املرأة بل كان ُيحب ذاته يف املرأة‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫ليوسف الحويك عن جربان‪ :‬صديقك عِ ِّن ٌني ال خري فيه‪ ،‬وقوله هو ملاري هاسكل‬ ‫يربر إحجامه عن الوصال الجنيس‬ ‫إنه مل يضاجع يف حياته سوى امرأتني أو ثالث‪ ،‬ما ّ‬ ‫موفر ًا طاقته الجسدية للعمل‬ ‫مع ماري هاسكل وسواها‪ ،‬وعدم تفريطه بجسده ِّ‬ ‫اإلبداعي؟‬ ‫األم هذه‪ُ ،‬م ْرجع ًا ذلك إىل أن جربان مل يكن‬ ‫ويشري جميل جرب يف كتابه إىل عقدة ّ‬ ‫رجحني بينام جربان دائم‬ ‫يحب أباه الذي كان ْيؤثر أخاه بطرس ألنه كان يساعده يف َم ْ‬ ‫ّ‬ ‫دائام‪.‬‬ ‫تدلله كثري ًا وتستشعر ذكاءه فتدافع عنه ً‬ ‫الحلم والكسل‪ .‬وكانت ّأمه يف ُف ُت ّوته ّ‬ ‫حبه إىل أمه‪ .‬رمبا هذا ما يفرس أن تسع‬ ‫وكان جربان مدرك ًا أن أباه ال يفهمه فانتقل ّ‬ ‫إليهن‪ :‬يا أمي‪،‬‬ ‫كن يكربنه سن ًا‬ ‫نساء‪ ،‬بني ‪12‬‬ ‫فيخاطبهن يف رسائله ّ‬ ‫ّ‬ ‫عرفهن يف حياته‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫حلت مكان أمه بعد وفاة أمه‪.‬‬ ‫وحتى مريانا ّ‬ ‫األم‪ّ .‬‬ ‫ويف رسومه يتكرر ُ‬ ‫وجه ّ‬ ‫فبقيت هي‬ ‫اختصرت ّ‬ ‫وإن كان األمر كذلك فهل تكون ماري هاسكل َ‬ ‫كل الوهج َ‬ ‫عالقته بها ضمن العرفان بالجميل والتقدير واملبادلة‬ ‫األم والصديق َة والراعية‪ ،‬وتأَطَّ َرت ُ‬ ‫َّ‬ ‫والوفاء تحت تأثري عقدة األمومة؟‬ ‫من جلساته وماري هاسكل تتنامى شخصية جربان اإليهامية‪ُ ،‬فيخرب ماري‬ ‫يصدقها منه‪ .‬ويغايل يف استيهامه أنها‬ ‫حكايا ٍ‬ ‫ت يعرف سلف ًا ّأن سواها لن ّ‬

‫‪234‬‬


‫ومل يظهر ذلك يف ّأي ٍة من كتاباته‪.‬كانت سلطانة جميل ًة‬ ‫يرتدد عىل شقيقها‬ ‫ومثقفة َّ‬ ‫َّ‬ ‫ومطل َقة‪ ،‬وكان يراها حني ّ‬ ‫صديقه أيوب‪ .‬وبعدما مرضت وماتت‪ ،‬حمل إليه‬ ‫ترسلها‬ ‫شقيقها أيوب‬ ‫كتبتها اىل جربان ومل ْ‬ ‫ُ‬ ‫رسائل كانت ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫إليه‪ .‬عندها تأكد له ّأن سلطانة كانت تحبه يف صم ٍ‬ ‫غري واحدة‬ ‫كام هو أ َّ‬ ‫َحبها يف صمت‪ .‬وبني لوحات جربان ُ‬ ‫استلهمها من وجه سلطانه تابت (كام قال مر ًة ملاري‬ ‫هاسكل)‪.‬‬ ‫سلطانة تابت سنة ‪ 1901‬كما رسمها جربان‬ ‫حجم أمام الذي‬ ‫صمته ا ُمل ِ‬ ‫فهل كان ُقصور ًا منه ُ‬ ‫بالقلم الرصاص يف ‪ 9‬أيار ‪1908‬‬ ‫عىل ورقة من مدرسة ماري هاسكل‬ ‫ت‬ ‫أحبها بصم ٍ‬ ‫ْ‬ ‫أظهرت ُه له سلطانه تابت من ُح ّ‬ ‫ب حتى َّ‬ ‫شديدٍ َكتوم بعد وفاة زوجها من دون أن يعرف ِبام‬ ‫شقيقها‬ ‫ب (صام ٍ‬ ‫ت هو اآلخر) ّإال بعد وفاتها حني حمل إليه ُ‬ ‫كانت ُتضمر له من ُح ٍّ‬ ‫رسائل كانت َكت َب ْتها له ومل ترسلها إليه؟‬ ‫أيوب تابت‬ ‫َ‬ ‫وراسلها من بريوت حني كان‬ ‫وعرف جوزفني پيبودي‪ ،‬وكانت تكربه بتسع سنوات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫يدرس يف معهد ‪‬الحكمة‪ .‬لكنه مل ُيحافظ عليها مع أنها‪ِ ،‬شعري ًا‪ ،‬ذات أهمية الفتة‪،‬‬ ‫حد‬ ‫وكان لها كتاب عنوانه ‪‬النبي‪ :‬قصيدة ملحمية طويلة‪،‬‬ ‫هيكلي ُتها شبيه ٌة‪ ،‬إىل ّ‬ ‫َّ‬ ‫بعيد‪ ،‬مبا أصدره جربان يف ما بعد‪.‬‬

‫رسم ‪‬الوداع‪‬‬ ‫من جربان إىل جوزفني‬

‫پيبدي‬ ‫الشاعرة جوزفني َ‬ ‫وهي يف الثامنة عرشة‬

‫پيبدي كما رسمها جربان‬ ‫جوزفني َ‬ ‫بالقلم الرصاص‬

‫‪237‬‬


‫عيسى الخوري ّأسست صالون ًا أدبي ًا كان يختلف إليه أمني الريحاين دون إعجاب بها)‪،‬‬ ‫حب أثريي وعاطفة‬ ‫وإىل ثالثتهن بدأ الرسالة بـ‪‬عزيزيت ماري‪َ ‬وب َّ‬ ‫ث فيها عواطفه يف ّ‬ ‫هيولية بعيد ٍة عن الجسد؟‬ ‫ٍ‬ ‫أحبها كان يناديها بـ‪‬يا أمي‪‬؟‬ ‫نفسر أن ّ‬ ‫وكيف ّ‬ ‫كل امرأة ّ‬ ‫معظ ُم ُه َّن يكربنه بأعوام؟‬ ‫عرف نساء يف حياته َ‬ ‫رس أن يكون َ‬ ‫وما ُّ‬ ‫عظيام؟‬ ‫جعلت منه عاشق ًا‬ ‫ً‬ ‫منهن َ‬ ‫اثنتا عرشة امرأة َ‬ ‫عرف جربان‪ .‬فهل واحدة ّ‬ ‫تركها وعاد اىل‬ ‫عرف حال الضاهر يف برشي سنة ‪ 1899‬وكانت تكربه بسنتني‪ .‬ثم َ‬ ‫عادت‬ ‫بوسطن تارك ًا يف قلبها حب ًا جعلها ترفض الزواج طوال حياتها‪ ،‬فيام حياته َ‬ ‫حبه إياها‪ ،‬أن تكون أعطته َح ْب َكة ‪‬األجنحة‬ ‫فحفلت بأسامء كثرية‪ .‬وهل يكفي‪ ،‬من ّ‬ ‫املتكرسة‪‬؟‬ ‫برشي والتقى سعيدة الضاهر (شقيقة‬ ‫سنة ‪ 1956‬قصد الصحايف رياض حنني ّ‬ ‫روت يل سعيدة‬ ‫حال) ونرش حديثه معها يف كتابه ‪‬أَحاديث عن جربان‪ ،‬وفيه‪َ ... :‬‬ ‫مددة يف فراشها‪ّ ،‬أن شقيقها اسكندر هو الذي‬ ‫الضاهر‪ ،‬وكانت يف التسعني رضير ًة ُم َّ‬ ‫وأردفت‪ :‬يا‬ ‫تنه َدت‬ ‫َ‬ ‫حال دون زواج جربان من حال ‪‬ألنه من غري مقامِ نا‪ .‬ثم ّ‬ ‫وتابعت‪ :‬قبل سفر‬ ‫َغ ْب َننا‪ .‬مني كان عارف إنو جربان بدو يصري‬ ‫ّ‬ ‫هالقد عظيم؟‪َ .‬‬ ‫قطرات من دموعه‬ ‫جربان إىل أمريكا أَهدى شقيقتي حال خامت ًا مثين ًا وقارور ًة فيها‬ ‫ٌ‬ ‫ظلت حال ُمحتفظ ًة بها إىل آخر حياتها‪َ .‬لم‬ ‫وترك لها عصاه وخصل ًة من َشعره‪ّ ،‬‬ ‫برشي‪ ،‬وصل جربان إىل بيتنا فوجد حال‬ ‫َت َت َز َّوج ُوت ُوفيت عمياء سنة ‪ .1955‬ومرة‪ ،‬يف ّ‬ ‫تكلفت‬ ‫تبكي‪ .‬سألها عن السبب فلم ُت ْخ ِب ْر ُه ِبام كانت تعاين من َص ّد أخينا اسكندر‪َّ .‬‬ ‫فأعجبه الجواب‬ ‫االبتسامة وأجابته‪ :‬الحياة هكذا يا جربان‪ :‬دمعة وابتسامة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫تتنزهان مع جربان‬ ‫َ‬ ‫رص كانت حال وسعيدة ّ‬ ‫وجعله بعدها عنوان أحد كتبه‪ .‬وذات ع ٍ‬ ‫يتجادلون‬ ‫بني الكروم‪ .‬صادفا راعي ًا يعزف عىل نايه فقالت حال لجربان‪ :‬الناس‬ ‫َ‬ ‫مطمئن البال‪ .‬هنيئ ًا له‪ .‬وحني قرأت‬ ‫ويتناحرون‪ ،‬وهذا الراعي يسري وراء قطيعه‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫حال يف ما بعد قصيدة ‪‬املواكب‪ )1919( ‬وفيها األبيات عن الناي يف الغابة‪ ،‬قالت‬ ‫يل‪ :‬أتذكرين يا سعيدة يوم مشوارنا مع جربان بني الكروم؟‪.‬‬ ‫وسنة ‪ 1901‬عرف جربان سلطانة تابت وكانت تكربه بخمس عرشة سنة‪ .‬وهي‬ ‫بحبه‬ ‫شقيق ُة صديقه أيوب تابت (رفيقه يف معهد ‪‬الحكمة‪ .)‬لكنه مل ُيبح لها يوم ًا ّ‬ ‫حتى اكتشف بعد وفاتها أنها كانت ُتحِ ُّبه‪،‬‬ ‫واقترص عىل اختالجاته الخاصة دومنا إقدامٍ ّ‬

‫‪236‬‬


‫وكان عىل عطف خاص إىل موديله مارييتا‬ ‫(عمي)‪ ،‬وهنا‬ ‫لوسن التي كانت تناديه ‪‬أنكل‪ّ ‬‬ ‫رسال ٌة منه إليها‪:‬‬ ‫‪‬أمرييت الغالية‪،‬‬

‫ً‬ ‫رسالة أحىل مما تكتبني‪ .‬وال َ‬ ‫أمرية سواك‬ ‫ال أحد يكتب‬ ‫ترسم صورة بنصف السحر اللذيذ الذي يف صورتك أنت‪.‬‬ ‫إين فخور بك كثري ًا‪.‬‬ ‫يا حلويت مارييتا‪ ،‬مع أين لستُ يف صحة جيدة‪ ،‬اضطررتُ‬ ‫حارضتني‪ .‬حياة الشاعر‪ ،‬هذه األيام‪ ،‬ليست‬ ‫إىل إلقاء ُم َ‬ ‫حلم ًا يف األرض املباركة وراء البحار السبعة‪ .‬للبرش‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ب‬ ‫طريقة‬ ‫اليوم‬ ‫قاسية بتحويل الشاعر إىل آلة‪ .‬وال ُأ ِح ُّ‬ ‫هذا‪.‬‬

‫جربان وموديله مارييتا لوسن‬

‫وش َّق ُت ِك ليست كاراج ًا‪ .‬أنت ٌ‬ ‫ت لست سيارة فورد أو رولز رويس‪ِ ،‬‬ ‫ال يا مارييتا‪ ،‬ال يا أمرية‪ ،‬أن ِ‬ ‫أمرية‬ ‫وراء الجبل املسحور‪ .‬ميكن األمرية أن ّ‬ ‫‪‬عمها‪ ‬يعرف َمن‬ ‫تتخفى مبهارة‪ ،‬لكن َّ‬ ‫تعيش يف الربج العاجي َ‬ ‫تكون وأين تكون‪ .‬فاألعمام‪ ،‬كاألمهات‪ ،‬يعرفون أكثر مما تظنني‪.‬‬ ‫أخشى أن ُأضطر إىل البقاء ُأسبوع ًا آخر هنا يف هذه املدينة ذات الظالل الغريبة‪ُ .‬‬ ‫اضطررت إىل ارتباطات‬ ‫لك‪ّ ،‬‬ ‫عيل إنجازها‪ .‬فالبرشية‪ ،‬كما قلتُ ِ‬ ‫حط َمت أجنحة الشعراء‪ ،‬فال يستطيعون التحليق آن يشاؤون‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬عمك‪ ‬كثري ًا‪.‬‬ ‫استعذبتُ‬ ‫قولك يل إنّ ك اشتقت إىل ّ‬

‫ِ‬ ‫وأراك أن ِ‬ ‫سأكون سعيد ًا حني ُ‬ ‫وأمك‪ .‬وستكون لنا‪ ،‬حتم ًا‪ ،‬حفلة‪ ‬يف املحرتف‪.‬‬ ‫أعود‬ ‫ت َّ‬ ‫َ‬ ‫بتعريف إليها‪.‬‬ ‫بارك ْت ِك‬ ‫السماء‪ ،‬يا مارييتا الحلوة الغالية‪ّ .‬بلغي ّأمك تحيتي وقويل لها إين سعيدٌ ّ‬ ‫ُ‬ ‫مع أرقّ األفكار‪ ،‬وألف بركة عىل روح مارييتا العذبة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫عمك املخلص لك أبد ًا‬ ‫ّ‬ ‫خليل جربان‬ ‫ ‬ ‫نيويورك‪ 26 -‬أيار ‪1920‬‬

‫اثنتا عرشة امرأة‪ ،‬وال صورة لعاشقة‪.‬‬ ‫عشق عاصف ًا‪.‬‬ ‫اثنتا عرشة امرأة‪ ،‬وال َ‬ ‫اثنتا عرشة عالقة‪ ،‬وال حب‪.‬‬

‫‪239‬‬


‫يتوغل معها بعيد ًا‬ ‫وعرف ميشلني (إمييل ميشال) وكانت تكربه ببضعة أشهر‪ ،‬ومل ّ‬ ‫(عكس ما ّيدعي البعض عالقة جسدية بينهام) رمبا ألن ميشلني كانت ُم َد ِّرسة يف‬ ‫مدرسة ماري هاسكل ومل يش ْأ أن َيجرح كرامة هذه األخرية يف عواطفها‪.‬‬ ‫وعرف الشاعرة األمريكية شارلوت ِتلِر‪ ،‬وكانت تزيده‬ ‫وبقيت‬ ‫بسنتني‪ ،‬لكن شاعريتها مل ّ‬ ‫تفجر فيه عشق ًا كبري ًا‪َ ،‬‬ ‫عالقته بها مقترص ًة عىل عالقة شاعرة بشاعر‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وأطول‬ ‫وعرف ماري هاسكل وكانت تكربه بعرش سنوات‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ولعلها‬ ‫منه بـ‪ 13‬سنتم (هو ‪ 163‬سنتم‪ ،‬وهي ‪ 176‬سنتم) ّ‬ ‫عالقته بها َمألت مساحات وسيعة‬ ‫َنجم ُة النساء اللوايت عرف‪ُ .‬‬ ‫بالكتابات‪ ،‬ومع هذا مل يكتب لها ‪‬حبيب ًة‪ ‬ومل يكتب فيها‬ ‫‪‬عاشق ًا‪.‬‬ ‫الشاعرة شارلوت ِت ِلر‬ ‫لكن‬ ‫وعرف ماري قهوجي وكانت تكربه بأربع سنوات‪ّ ،‬‬ ‫يبق من وجهها فيه ّإال مالمح واضحة‬ ‫عالقته بها‬ ‫َ‬ ‫انكرست مبتور ًة بعد فرتة وجيزة‪ ،‬ومل َ‬ ‫َ‬ ‫يف وجه املصطفى (النبي) الذي رسمه عن وجهها‪.‬‬ ‫تعلق ًا بها بل‬ ‫وعرف ماري الخوري وكانت تكربه بتسع سنوات‪ ،‬فلم يلتهب ُّ‬ ‫بصالونها األديب يقرأ فيه أحيان ًا من نتاجه‪ ،‬فيام هي كانت ترى فيه أكثر من زائ ٍر‬ ‫يف صالونها‪.‬‬ ‫هيبها فيه كان‪ ،‬عن ُب ْعد‪،‬‬ ‫وعرف مي زيادة وكانت أصغر منه بثالث سنوات‪َ ،‬ول ُ‬ ‫‪‬عشقه‪ ‬إياها كان إشعال الكلامت يف رسائله‪ ،‬وال محاول ًة‬ ‫ضمن أسطر الرسائل‪ ،‬فيام‬ ‫ُ‬ ‫مي املرأة ذات األنوثة‪.‬‬ ‫خارج ذلك للوصول إىل ّ‬ ‫وعرف كورين روزڤلت (شقيقة الرئيس األمريكي) وكانت تكربه بثالث سنوات‪،‬‬ ‫لكنه مل يكن معها عىل تواصل‪ ،‬رمبا ألنها مل تكن لتكتب به أو إليه أو عنه‪ ،‬فبقيت‬ ‫عالقتهام حيادية‪.‬‬ ‫وعرف املسز ماسون وكانت تصغره بخمس سنوات‪ ،‬وبقيت موديله لفرتة طويلة‪.‬‬ ‫ومل يستطع جسدها أن يلهبه عاشق ًا‪.‬‬ ‫وعرف أخري ًا بربارة يونغ وكانت تصغره بست سنوات‪ .‬استقبلها يف صومعته‬ ‫كتبت‬ ‫ومدون ًة ورفيقة‪ ،‬لكنه مل يصل معها إىل‬ ‫ّ‬ ‫سكرتري ًة ومساعد ًة ِّ‬ ‫الحب الكبري الذي َ‬ ‫هي عام يشبهه يف كتابها ‪‬ذاك الرجل من لبنان‪ ،‬بعد غياب جربان‪.‬‬

‫‪238‬‬


‫يبقى جربان لغز ًا كبري ًا‪.‬‬ ‫النحات خليل جربان‪ ،‬يف الطبعة‬ ‫مل ُتعرف له عالقة جنسي ٌة واحدة مع امرأة‪ ،‬مع أن ّ‬ ‫سيد ٍة‬ ‫الثانية من كتابه‬ ‫ّ‬ ‫البيوغرايف الشهري ‪‬خليل جربان‪ :‬حياته وعامله‪َ ،‬ن َشر رسال ًة من ّ‬ ‫منديال عليه ‪‬آثار‪‬‬ ‫عالقة‬ ‫قالت له إن جربان كان عىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫جنسية مع خالتها‪ ،‬وإن معها ً‬ ‫من تلك العالقة‪.‬‬ ‫وفوجئت‬ ‫كتابك‬ ‫بدأ األمر برسالة تلك األستاذة يف جامعة بوسطن جاء فيها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬قرأت َ‬ ‫ِب ُخ ُل ِّوه من ذكر خالتي غيرتيد باري التي كان لها عالقة جسدية بقريبك جربان‪ .‬وعندي‬ ‫كتبها لها‪ .‬وحني التقاها خليل اكتشف‬ ‫عدد كبري من الصور له معها‪ ،‬ومجموعة رسائل َ‬ ‫فعال‪ .‬مل يكن‬ ‫‪ 66‬رسالة بخط جربان إىل غيرتيد بني ‪ 1906‬و‪ .1927‬كان ذلك اكتشاف ًا ً‬ ‫الرس ّية‪ ‬التي نجح يف إخفاء وجودها‬ ‫أحد يعرف غيرتيد باري‪ .‬كانت ‪‬امرأة جربان ّ‬ ‫أحد قبلذاك‪ .‬كانت تسكن يف بوسطن وال يعلم أحد‬ ‫يذكرها ٌ‬ ‫عن جميع من حوله‪ .‬مل ْ‬ ‫ت عىل ذكرها‬ ‫أنها كانت ‪‬عشيقة‪ ‬جربان‪ .‬بقي معها ‪ 21‬عام ًا عىل عالقة حميمة مل يأ ِ‬ ‫ألحد‪ ،‬ومل يرد اسمها يف مذكرات ماري هاسكل‪ ،‬وال يف رسائله إىل أصدقائه‪ ،‬وال‬ ‫يف أحاديث الناس الذين عرفوه‪ .‬أخفاها عن الجميع‪ .‬كانت بينهام عالقة ‪‬كاملة‪‬‬ ‫وظهرت‬ ‫كشفتها رسائلها إليه وفيها ‪‬الحرارة‪ ‬و‪‬الشوق امللتهب‪ ‬يف ‪‬لقاءاتهام‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫‪‬م ْح َرم ٌة‪ ‬استعملها جربان يف ‪‬لحظات حميمة‪.‬‬ ‫مع الرسائل والصور َ‬ ‫وأن‬ ‫يرى البعض أن جربان كان ‪‬يخشى‪( ‬؟!) أن يستقبل امرأة يف صومعته‪ّ ،‬‬ ‫‪‬التجمد‪ ‬الجنيس عنده‪ ،‬جعله يعيش حياته خارج الجسد‪ ،‬ما ّأدى به إىل اإلشاحة عن‬ ‫ُّ‬ ‫الجنس واالنرصاف عنه إىل اإلنتاج األديب والفني‪.‬‬ ‫باملصور‬ ‫ومنهم من ذهب إىل استنتاج (!) أن عالق ًة ‪‬مشبوه ًة‪ ‬يف مطلع صباه‬ ‫ّ‬ ‫ينفر الحق ًا من الجنس طوال حياته‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫املثيل ْف ِر ْد هولِند داي جعلت الفتى ُ‬ ‫والحب ‪‬حياة‪.‬‬ ‫الجنس ‪‬عالقة‪،‬‬ ‫عىل أن‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫فهل عرف جربان رعشة الحياة يف الحب الكبري؟‬ ‫وإن مل يعرفه‪ ،‬فهل عن إحجامٍ أم عن افتقاد؟‬ ‫الظن عن افتقاد‪.‬‬ ‫أغلب ّ‬

‫‪241‬‬


‫الحب‪ ،‬كام قالئل العاشقني‪.‬‬ ‫ومع هذا كتب يف ّ‬ ‫أي عاشق كان‪ ،‬تراه‪ ،‬جربان؟‬ ‫ُّ‬ ‫وبأي عشق‪ ،‬تراه‪ ،‬كان ينتيش؟‬ ‫ّ‬ ‫حب امرأة يف ذاتها بل كان يحب ذاته‬ ‫ي‬ ‫يكن‬ ‫مل‬ ‫‪،‬‬ ‫ا‬ ‫مع‬ ‫ودهشة‬ ‫غصة‬ ‫يف‬ ‫ونقولها‬ ‫لعله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ُ ّ‬ ‫ليتأمل كيف أنه ‪‬معشوق‪،‬‬ ‫حبه إياها‪ .‬كان يحب أن َ‪‬يعشق‪ّ ‬‬ ‫هو فيها‪ .‬كان ُي ُّ‬ ‫حب َّ‬ ‫يتهيأ لحالة ‪‬العاشق‪ ‬فرياقب ترصفاته ‪‬عاشق ًا‪ ‬ويتابع خلجاته ‪‬معشوق ًا‪.‬‬ ‫ويحاول أن ّ‬ ‫للذة أن يشعر بأنه ‪‬عاشق‪.‬‬ ‫ب‪َّ ،‬‬ ‫حب أن ُي َح ّ‬ ‫كان ُي ُّ‬ ‫بعد وجه‬ ‫أو ّربام العكس متام ًا‪ :‬كان يجعل قلبه يف حالة ُحب‪ ،‬ل ُِحرقته ْأن مل يجد ُ‬ ‫تلك الحبيبة‪ ،‬فريوح يحلم بها ويرسمها يف خياله قبل أن تصل‪ ،‬ويكتب فيها كأنها كائنة‬ ‫فعال وتصبح كلمته التي َت َج ّس َدت امرأة‪.‬‬ ‫وموجودة قبل أن تنوجد ً‬ ‫للحب ال الحب للحبيبة أو من الحبيبة أو يف الحبيبة‪.‬‬ ‫الحب‬ ‫ّ‬ ‫حب َّ‬ ‫رمبا لذلك‪ ،‬كان ُي ُّ‬ ‫قضيته مع الجسد‪.‬‬ ‫وهو‪ ،‬منذ بداية املسار‪ّ ،‬‬ ‫حل ّ‬ ‫وعن طريق صديقته شارلوت ِتلِر اكتشف نظرية فرويد يف كتاب ‪‬تفسري األحالم‪‬‬ ‫حول طاقة الجسد الجنسية اىل‬ ‫حول ‪‬إعالء ّ‬ ‫الحب وتساميه‪( ‬نظرية فرويدية ُ‬ ‫ترصد َت ُّ‬ ‫توصل جربان إىل تحويل شهوة‬ ‫مكتوبة‪،‬‬ ‫ميول‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫واستنفادها يف ميادين أخرى)‪ .‬هكذا ّ‬ ‫الخالق‪ ،‬وإىل تسخري الطاقة الجنسية ‪‬التحتية‪ ‬إىل الطاقة‬ ‫الجنس إىل طاقة اإلبداع ّ‬ ‫اإلبداعية الفوقية‪ ،‬واستغالل الزخم الحيوي يف الجسد إىل الزخم الحيوي يف الفكر‪.‬‬ ‫تضليال منه‪ .‬فهو‪،‬‬ ‫ت ومامرسا ٍ‬ ‫وما رواه عنه رفاقه من عالقا ٍ‬ ‫ت كان تحوير ًا منهم أو ً‬ ‫منذ مطلع عهده‪ ،‬كان يروي ألصدقائه ما يريدهم هو أن يعرفوا عنه‪ .‬والحق ًا أحجم‬ ‫عن الكالم وانغلق عىل أصحابه‪ ،‬وأحيان ًا عىل ماري هاسكل نفسها‪ .‬كان حذِ ر ًا ال يفيش‬ ‫‪‬بقدرما يعرفك الناس يستعبدونك‪ُ .‬كن كأيب الهول يزرع‬ ‫أرساره‪ .‬من هنا قوله‪ْ :‬‬ ‫ألحد َ‬ ‫ِب َص ْمته هالة الهيبة يف الناس‪.‬‬ ‫وح وأخبار‪ ،‬ففي مرحلة الحقة (بعد الحرب‬ ‫بعض َب ٍ‬ ‫وإذا يف رسائله األوىل َو َر َد ُ‬ ‫الرس البعيد‬ ‫بذور الرؤيا‪ّ ،‬‬ ‫العاملية األوىل) بدأ يلحظ فيه َ‬ ‫فتكتم وبقي للجميع ذلك ّ‬ ‫املغلق‪.‬‬ ‫وكثريون مِ ّمن كانوا أصدقاءه‪ ،‬مل يكتشفوه ّإال بعد غيابه‪.‬‬

‫‪240‬‬


‫الحب تصومع‪:‬‬ ‫من غرائب هذا الرجل أنه كتب إىل العشاق‪ ،‬وهو مل يعشق‪ .‬ويف‬ ‫ّ‬ ‫‪‬الحب يطحنكم ليجعلكم كالثلج أنقياء‪.‬‬ ‫عانق اللحظة‪ ،‬وانسحب‪.‬‬ ‫وظل ينقى ّ‬ ‫حتى َ‬ ‫إىل هذا النقاء َن َهد‪ّ .‬‬ ‫وأغلب الظن أنه‪ -‬وهو ذاهب‪ -‬كان وحيد ًا‪ ،‬كام لدى وصوله‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وصلت سفينته اعتالها ووحيد ًا عاد‪.‬‬ ‫وحيد ًا وصل املصطفى إىل أورفليس‪ ،‬وحني َ‬ ‫أما هكذا جربان؟‬ ‫وحيد ًا وصل من برشي إىل ‪‬الدردور‪ ‬الكبري ووحيد ًا فيه قىض‪.‬‬ ‫لعله‬ ‫أمل‪ ،‬يوم غادر‪ ،‬أن تلده امرأة ثانية ّ‬ ‫وحده بدأ انتظاره ووحده أنهاه‪ ،‬عىل ٍ‬ ‫يجد النتظاره حضور ًا يساوي االنتظار‪.‬‬ ‫الحب ومل يعشقوا‪ ،‬لهم ملكوت االحرتاق‪.‬‬ ‫الذين كتبوا ُ‬ ‫الحب ألنهم أحبوا وانصهروا بالحب‪،‬‬ ‫والذين انتظروا وأمثر انتظارهم فكتبوا‬ ‫ّ‬ ‫ْفليهنأوا عن جميع العاشقني‪.‬‬ ‫ضوءهم جربان‪ ،‬وبركان ًا لهم حِ َم ُم ُه من حجم االشتعال‪.‬‬ ‫ْول َي ْب َق َ‬ ‫كلامته يف الحب ضوء ًا رائع ًا يقرأُه العشاق يف ما بينهم أو يتلونها يف أعراسهم‪.‬‬ ‫ْول ْتب َق ُ‬ ‫يعشق‪.‬‬ ‫ب إىل ّ‬ ‫العشاق وهو مل َ‬ ‫هكذا يكون َكت َ‬ ‫الحب كام قالئل العاشقني‪.‬‬ ‫ب يف ّ‬ ‫وهكذا يكون َكت َ‬

‫* مجلة ‪‬الفصول‪ -‬العدد ‪( 7‬صيف ‪)1981‬‬

‫‪243‬‬


‫ب‪ .‬ولكن‪ :‬ملاذا بني جميع‬ ‫ب‪ .‬بل كان يسعى إىل أن ُي َح ّ‬ ‫ب أن ُي َح ّ‬ ‫كان جربان ُيحِ ّ‬ ‫فجرت فيه الحب الكبري؟‬ ‫النساء اللوايت ِ‬ ‫تكرسن له‪ ،‬ال واحدة منهن ّ‬ ‫عش ْق َنه أو ّ‬ ‫منهن عىل جامل؟ فهل كان يسعى إىل الجامل‪ ،‬هو ْال ُم ْح ِجم عن اللمس؟‬ ‫مل تكن واحدة ّ‬ ‫ت)‬ ‫منهن تبخل عليه بالعاطفة‪ .‬فهل التي كان ينتظرها (ومل تأ ِ‬ ‫مل تكن واحدة ّ‬ ‫يريدها تكون معه مغايرة؟‬ ‫حتى يومه األخري‪ -‬ال يزال ينتظرها؟‬ ‫وهل حق ًا كان‪ّ -‬‬ ‫ّربام‪.‬‬ ‫يريد ّإال ما هو ال يريد‬ ‫جربان عاشق كبري‪ .‬وعالقاته كانت سعايا ٍ‬ ‫ت ْ‬ ‫أعطته كل ما ُ‬ ‫سواه‪ :‬الحب‪.‬‬ ‫َو ْفر ُة النساء ال تخلق عاشق ًا‪.‬‬ ‫امرأ ٌة واحدة‪ ،‬امرأ ٌة‪/‬كون‪ ،‬هي التي تخلق عاشق ًا خالد ًا‪.‬‬ ‫وانتظارها طوال‬ ‫افتقاد تلك املرأ ِة‪/‬الكون يجعله يرسمها واضح ًة يف الخيال‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫تصهر كلامت‬ ‫حياة كاملة ُ‬ ‫يخلقها واضحة يف الرؤيا‪َّ ،‬‬ ‫وشد ُة الحنني إىل وصولها َ‬ ‫بنبضة هي األدنى إىل النبضة العاشقة‪.‬‬ ‫الحب‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫سي َد الحنني‪ .‬ومن هذه الثالثة األقانيم خرج‬ ‫ثري الخيال‪َ ،‬‬ ‫بعيد الرؤيا‪ّ ،‬‬ ‫وجربان كان َّ‬ ‫عاشقها‬ ‫ست َت ِّو ُج ُه َ‬ ‫عاشق ًا كبري ًا فيام َظ َّل ‪‬ينتظرها‪ ‬أن تصل‪ ،‬ومل ِتصل‪ ،‬تلك التي كانت ُ‬ ‫إىل األبد‪.‬‬ ‫ترك لها كلامته فيها وراح‪.‬‬ ‫لكنها مل تأ ِ‬ ‫ب‪َ .‬‬ ‫ت‪ .‬تعِ َ‬ ‫وصلت السفينة فاعتالها‬ ‫يف السنة الثانية عرشة‪ ،‬يف السابع من شهر الحصاد‪َ ،‬‬ ‫املصطفى‪ ،‬ووحيد ًا عاد‪ ،‬كام وحيد ًا جاء إىل مدينة أورفليس‪.‬‬ ‫عاد تارك ًا فيها كالم ًا ال متحوه‬ ‫كلامته يف أبنائها‪،‬‬ ‫األيام‪ .‬وبقيت‬ ‫ُ‬ ‫كام يف امليرتا‪ ،‬ضوء ًا عىل الصباحات‬ ‫التي تولد كل فجر‪.‬‬ ‫كلامته لنا‬ ‫هكذا جربان‪ :‬بقيت ُ‬ ‫يف الحب‪ ،‬ضوء ًا رائع ًا عىل جبني‬ ‫العاشقني‪.‬‬ ‫جربان وموديل أخرى يف محرتفه‬

‫‪242‬‬


‫ومشاهد مل‬ ‫وتذكارات‬ ‫‪‬أطياف قدمية من املحيدثة‬ ‫ويف لوحات شفيق ُّعبود‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫فالتج ُّذر‬ ‫ريشته طوال حياته‪ ... ،‬ضوء آ ٍ‬ ‫تفارق َ‬ ‫ت من هناك‪ ،‬من لبنان (‪َ )...‬‬ ‫حي ْين فينا‪( ‬منى نعيم يف ‪‬لوموند‪)2004/4/13 ‬‬ ‫واالنتامء مولودان فينا ّ‬ ‫ويظالن َّ‬ ‫ب من ‪ ،1975‬يف جلسة َج َم َع ْتنا مع ًا (شفيق عبود وعبداهلل نعامن‬ ‫ذات غرو ٍ‬ ‫كل يوم من ُمحرتيف (الدائرة‬ ‫وأنا) يف حديقة اللوكسمبور‪ ،‬قال لنا شفيق‪ :‬أميش ّ‬ ‫السادسة) اىل هذه الحديقة بني الپانتيون العظيم ومجلس الشيوخ‪ ،‬وال ْألتقط‬ ‫وعين َّي‪ .‬وحني أُميض أيام ًا‬ ‫خيلتي َ‬ ‫شعاع ًا واحد ًا من ضوء ألن نور لبنان طا ٍغ يف ُم ّ‬ ‫لون أليام طويلة وأعود‪( .‬العبارة نفسها متام ًا قالتها يل‬ ‫ب خمري َة ٍ‬ ‫قليلة اىل لبنان أ َُع ُّ‬ ‫املشرقة يف لوحاتها)‪.‬‬ ‫هلن الخال يف واشنطن سنة ‪ 1990‬حني ْ‬ ‫سأل ُتها عن ألوان الضوء ْ‬ ‫ضئيل من أصدقاء‬ ‫جمع‬ ‫ٌ‬ ‫يف كنيسة ‪‬سيدة األرز‪( ‬بوسطن ‪ 7‬آب ‪ )1931‬تالقى ٌ‬ ‫شقيقته مريانا وماري هاسكل وباربره يونغ) لنظر ِة ودا ٍع أخرية‪.‬‬ ‫جربان (بينهم‬ ‫ُ‬ ‫ضئيل‬ ‫قبل انتقال جثامن شفيق ُّعبود اىل بريوت (‪ 13‬نيسان ‪ )2004‬تالقى جمع‬ ‫ٌ‬ ‫پارك مونسوري لنظرة وداع أَخرية‪.‬‬ ‫من أصدقائه يف ْ‬ ‫عالمي ًا‪ ،‬وحني عادا اىل وطنهام‬ ‫شعا َ‬ ‫كبريان من لبنان عاشا يف ٍ‬ ‫وطن مستعا ٍر وفيهام ّ‬ ‫أركان‬ ‫الذي حلام طوال حياتهام بالرجوع إليه كان يف استقبالهام‬ ‫أصدقاء وفنانون ال ُ‬ ‫ُ‬ ‫الدولة الذين ال يحرضون ّإال الستقبال الرسميني أو جثامينهم‪.‬‬ ‫احتفال يف پاريس لنقل رفات أندريه مالرو من مدفنه‬ ‫ذات يوم من ‪ 1997‬كان‬ ‫ٌ‬ ‫وقلة‬ ‫رجل يف مقدمة الحارضين (عىل ّقلة حضوره العلني ّ‬ ‫املؤقت اىل الپانتيون‪ .‬وكان ٌ‬ ‫والت َه ُّيب‪ ،‬اسمه‪ ...‬جاك شرياك‪ ،‬رئيس فرنسا‪.‬‬ ‫واجم‬ ‫عميق الصمت َّ‬ ‫ُ‬ ‫منحه رعايته)‪ٌ ،‬‬ ‫يستعيدهم ّإال جثة يف نعش‪ ،‬بينام تتناهش‬ ‫كباره الخالدين وال‬ ‫ُ‬ ‫أ َُّي قد ٍر للبنان‪ُ :‬ي َه ِّجر َ‬ ‫متص خرياته‬ ‫َقدره منذ عرشات السنني ٌ‬ ‫حي ٌة َت ُسوس َّ‬ ‫جثث َّ‬ ‫مقدراته باسم السياسة‪َ ،‬وت ُّ‬ ‫الحكم!‬ ‫وخريات شعبه باسم ُ‬ ‫نتهون جث ًة يف قرب‪ ،‬والخالدين اللبنانيني ال تنطفئ‬ ‫ّ‬ ‫عزاءنا َّأن يوضاسيي الوطن َي ُ‬ ‫لكن َ‬ ‫مشع ًة يف عتمة الزمان‪.‬‬ ‫ويظلون‬ ‫عيونهم ولو أغمضوها‪ُّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫قناديل ّ‬ ‫* إذاعة ‪‬صوت لبنان‪ -‬برنامج ‪‬نقطة عىل الحرف‪ -‬الحلقة ‪)2004/4/13( 42‬‬

‫‪245‬‬


‫‪2‬‬ ‫جبران وشفيق عبود‪:‬‬ ‫إشعاٌع في وطن مستعار‬ ‫يف العارش من نيسان ‪ 1931‬تويف جربان يف مستشفى سانت ڤنسنت‪ -‬نيويورك‪.‬‬ ‫توفي شفيق عبود يف مستشفى پارييس‪.‬‬ ‫ويف التاسع من نيسان ‪( 2004‬بعد ‪ 73‬عام ًا) ّ‬ ‫أحباه طوال حياتهام‪.‬‬ ‫غريبان يف ٍ‬ ‫أرض غريبة غابا بعيد ًا عن ٍ‬ ‫وطن ّ‬ ‫والنور ُمطف ٌأ يف عيونهام‪.‬‬ ‫تتحقق لهام تلك الرغبة ّإال‬ ‫َحلِام بالرجوع إليه ومل ّ‬ ‫ُ‬ ‫يودعون جثامنه‬ ‫جمع من أصدقاء جربان ّ‬ ‫‪‬سيدة األرز‪( ‬بوسطن) التقى ٌ‬ ‫يف كنيسة ّ‬ ‫فبرشي التي كانت تنتظر ابنها العائد جث ًة اىل مدفن‪.‬‬ ‫قبل نقله اىل بريوت ّ‬ ‫يودعون‬ ‫ضئيل من أصدقاء شفيق عبود ّ‬ ‫يف مقربة مونپارناس (پاريس) التقى جمع ٌ‬ ‫فالمحيدثة التي كانت تنتظر ابنها العائد جث ًة اىل مدفن‪.‬‬ ‫جثامنه قبل نقله اىل بريوت ْ‬ ‫ت يف حيثام عاشا‪ :‬جربان يف نيويورك‪ ،‬وشفيق عبود يف پاريس‪.‬‬ ‫غريبان تركا َب َصام ٍ‬ ‫شع عىل العامل ال من وطنه بل من الوطن املستعار‪.‬‬ ‫كالهام َّ‬ ‫جنسيته‪.‬‬ ‫وطن غري ٍ‬ ‫كل منهام يف ٍ‬ ‫غريبان‪ٌّ ...‬‬ ‫ب رفضا أن يحمال ّ‬ ‫جربان عاش يف أمريكا ستة وثالثني عام ًا ومل يحمل ّإال الجنسية اللبنانية‪ ،‬وشفيق‬ ‫عبود عاش يف پاريس خمسة وخمسني عام ًا ومل يحمل ّإال الجنسية اللبنانية‪.‬‬ ‫أموت يف لبنان ال يف هذه‬ ‫جربان قال لصديقه ميخائيل نعيمه‪ :‬أمنيتي يا ميشا أن‬ ‫َ‬ ‫األرض الغريبة‪ ،‬وعاد إليها إمنا بدون النور يف عينيه‪.‬‬

‫وشفيق عبود قال لصديقه امللحق الثقايف لدى السفارة اللبنانية يف پاريس عبداهلل نعامن‪:‬‬ ‫ُريد أن أُدفن يف قريتي املحيدثة‪ .‬وعاد إليها إمنا بدون النور‬ ‫غدرين ْالموت هنا أ ُ‬ ‫‪‬إذا َ‬ ‫يف عينيه‪.‬‬

‫بقي عىل أهداب‬ ‫ضوء يف عينيه ٌ‬ ‫بعيد َ‬ ‫يف جميع لوحات جربان والكثري من كتاباته ٌ‬ ‫برشي ووادي قاديشا ونور لبنان‪.‬‬ ‫ريشته ونبضة قلمه‪ ،‬آتي ًا من أطياف ّ‬

‫‪244‬‬


‫أنت ومن‬ ‫كتاب جربان ‪‬البدائع والطرائف‪ ،‬كتبها جربان هكذا‪:‬‬ ‫‪‬تعال وأَخ ِب ْرين ما َ‬ ‫َ‬ ‫متحمس يهمس يف‬ ‫مواطن‬ ‫‪‬أريد أن أنتفع من أ ُّمتي‪‬؟ أم‬ ‫َسيايس يقول يف ِس ّره‪ُ :‬‬ ‫أ َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َنت؟ أ ٌّ‬ ‫كنت األول فأنت ْنبت ٌة طفيلية‪ ،‬وإن كنت‬ ‫نفسه ‪‬أَنا‬ ‫مواطن ُ‬ ‫أتوق اىل نفع أ ُّمتي‪‬؟ إن َ‬ ‫ٌ‬ ‫األخري فأنت واح ٌة يف صحراء‪.‬‬ ‫كاتب ُخ َطب الرؤساء (يف البيت األبيض) قر َأ هذه العبار َة فأَدخلها‬ ‫وال ُب ّد أن يكون ُ‬ ‫اىل خطاب القسم (يلقيه الرئيس األمريكي الجديد عاد ًة يف العرشين من كانون الثاين‬ ‫الحكم من َس َل ِف ِه)‪ ،‬وهو ما حصل مع جون كيندي يف ‪ 20‬كانون‬ ‫لدى َت َس ُّلمِ ِه مقاليد ُ‬ ‫وألن خطاب كيندي انترش عرب جميع وسائل اإلعالم يف معظم لغات‬ ‫الثاين ‪ّ .1960‬‬ ‫خطاب كيندي بتسع سنوات‬ ‫انترشت معه عبار ُة جربان تلك‪ ،‬وهي صادر ٌة قبل َ‬ ‫العامل‪َ ،‬‬ ‫يف كتاب باإلنكليزية عنوانه ‪‬جواهر من جربان‪ ،‬فيه مختارات من نصوص جربان‬ ‫وحررها مارتن وولف‪ ،‬وصدر الكتاب‬ ‫العربية ترجمها اىل اإلنكليزية أنطوين فارس ّ‬ ‫لدى منشورات ‪‬سيتاديل‪ ‬يف نيويورك سنة ‪ .1951‬لكن ‪‬جواهر من جربان‪ ‬مل يبلغ‬ ‫انتشارها عىل‬ ‫يف اإلنكليزية شهر َة كتاب ‪‬النبي‪ ،‬لذا مل تنترش تلك العبارة عن جربان‬ ‫َ‬ ‫لسان جون كيندي‪.‬‬ ‫يكون لبنان‪.‬‬ ‫ثالث ُة أحدا ٍ‬ ‫ث عن هذا اللبناين الذي ما زلنا ّ‬ ‫نتعلم منه كيف ُ‬ ‫نتعلم منه ألنه ما زال بيننا‪ ،‬هو الذي ُولِد يف َبش ِّري ذات يوم وما زال يولد يف قلوبنا‬ ‫ّ‬ ‫كل يوم عاصي ًا عىل كل موت‪.‬‬ ‫حي ًا فينا ّ‬ ‫كل يوم‪ُ ،‬وت ُو ِّفي يف نيويورك ذات يوم وما زال ّ‬

‫* ‪‬النهار‪ -‬زاوية ‪‬أزرار‪ ‬رقم ‪)2008/12/15( 575‬‬

‫‪247‬‬


‫‪3‬‬ ‫ليست من كيندي‬ ‫بل من جبران‬ ‫شي ْـپـ ِيل اىل رئيس‬ ‫يف رسالة إلكرتونية من قائد األوركسرتا الپولوين ْ‬ ‫ڤويت ِشك ْت ْ‬ ‫‪‬كنت يف وارسو نهار العيد الوطني اللبناين‪،‬‬ ‫الكونرسڤاتوار اللبناين وليد غلمية َور َد‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫مرسحي پولوين أندريه ِسي ِوي ِرين (هو أيض ًا‬ ‫وحرضت أبرز ُم ِّمثل‬ ‫يف ‪ 22‬ترشين الثاين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫عضو يف ‪‬الكوميدي فرنسيز‪ )‬يقر ُأ مقاطع بالپولونية من كتاب ‪‬النبي‪ ‬لِجربان‪،‬‬ ‫احتفاء ِب ُصدور الطبعة األوىل لرتجمة ‪‬النبي‪ ‬إىل الپولونية‪ .‬وقام الكاتب الپولوين‬ ‫ً‬ ‫الشاب ستانيسالڤ سرتاسبورغر بقراءة مقاطع من كتابه عن لبنان والرشق األوسط‪.‬‬ ‫ت لبناني ًة رافقه فيها عازف عود‬ ‫ثم كان كونرشتو قصري لعازف جاز پولوين أدى معزوفا ٍ‬ ‫بتذوقنا املآكل اللبنانية الشهية والصحية‪.‬‬ ‫من لندن‪ .‬كانت سهرة لبنانية رائعة انتهت ُّ‬ ‫وبعد أمسية موسيقية َّأد ْتها األوركسرتا السمفونية الوطنية اللبنانية بقيادة الروماين‬ ‫دشنت صباح‬ ‫بوت ِش ُيو‪ ،‬قال يل السفري الروماين إن الحكومة الرومانية َّ‬ ‫الشاب آدريان ْ‬ ‫َ‪‬نهار العيد الوطني اللبناين‪ 22( ‬ترشين الثاين) ساح ًة عىل اسم جربان خليل جربان‬ ‫ُمحاذي ًة َتامم ًا َمبنى وزارة الخارجية الرومانية يف قلب العاصمة بوخارست‪ .‬وحني‬ ‫وكتابه ‪‬النبي‪‬‬ ‫ُ‬ ‫سألته إن كان جربان َ‬ ‫مرتج ًام اىل الرومانية أجابني بنربة ُوثقى‪ُ ... :‬‬ ‫الكتب غري الرومانية رواج ًا يف بالدنا‪.‬‬ ‫بني أكثر ُ‬ ‫قصدين اىل مكتبي يف ‪‬مركز الرتاث اللبناين‪( ‬الجامعة اللبنانية‬ ‫وذات يوم َ‬ ‫(زوجته اللبنانية‬ ‫الكندي اللبناين الجذور إرنست ّتانيس‬ ‫األمريكية) املحامي والباحث‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت يل‬ ‫ُيمنى اسامعيل) يستفرس مني عن‬ ‫أسبقية العبارة الشهرية ‪‬ال َت ُق ْل ماذا َ‬ ‫فعل ْ‬ ‫َّ‬ ‫ألمتي‪ ‬وكيف هي منسوب ٌة اىل الرئيس األمريكي جون‬ ‫أ ُّمتي‪ ،‬بل ُقل ماذا‬ ‫ُ‬ ‫فعلت أنا ّ‬ ‫فأجبته أن العبارة واردة يف نص عنوانه ‪‬العهد الجديد‪ ‬من‬ ‫كيندي فيام هي لجربان‪ُ .‬‬

‫‪246‬‬


‫أمتنى العودة ألذهب إىل مرجحني وراء جبال األرز‪ ،‬حيث نَ ملك مزرعة‪ ،‬فأعيد ذكريات‬ ‫الصبا يف أحراجها‪.‬‬ ‫أمتنى الرجوع إىل لبنان‪ ،‬إىل األرز‪ ،‬ألقطف الزعرت يف الخريف‪ ،‬وأرشب الحليب عند‬ ‫رعاة املاعز‪ ،‬وأسمع صوت منجرية القصب مالئ ًا تلك الهضاب (‪.)...‬‬

‫مرجع‪،‬‬ ‫أي‬ ‫ٍ‬ ‫هذه الرسالة من جربان إىل صديق له يف لبنان يدعى منصور (مل يذكر ُّ‬ ‫أبلغ منها للداللة عىل ما كان يعصف يف قلب جربان من شوق‬ ‫بعد‪ ،‬اسمه الكامل)‪ ،‬هل ُ‬ ‫ُ‬ ‫وغمر الحنني؟‬ ‫ُالبعاد ْ‬ ‫يف رسالة أخرى إىل صديقه فليكس فارس كتب‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫املدنية السائرة عىل دواليب‪ ،‬وال ُبدّ من‬ ‫‪‬ال ُبدَّ من الرجوع إىل لبنان‬ ‫والتملص من هذه ّ‬ ‫برشي‪،‬‬ ‫املدنية املغتسلة بنور الشمس‪ .‬بىل‪ ،‬أريد أن أذهب إىل لبنان‪ ،‬إىل ّ‬ ‫معانقة تلك ّ‬ ‫وأبقى ذاهب ًا‪.‬‬

‫برشي‪...‬‬ ‫برشي‪ّ ...‬‬ ‫ّ‬

‫خيالها مل يربحه لحظ ًة واحد ًة طوال حياته‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫يف ‪ 1883/1/6‬فتح عينيه عليها‪ ،‬ويف يومٍ من حزيران ‪ 1895‬أغمض عينيه عىل عبري‬ ‫قطف منها أريج ًا‬ ‫زعرتها وهو يغادرها إىل بوسطن‪ .‬وحني عاد إليها بعد ثالث سنوات‪َ ،‬‬ ‫ب (ظهرت الحق ًا يف ‪‬األجنحة‬ ‫جدد ًا سنة ‪ً 1902‬‬ ‫عميق ًا‪ ،‬وغادرها ُم ّ‬ ‫حامال منها قص َة ُح ٍّ‬ ‫املتكرسة‪ )‬وواعد ًا إياها بالعودة إليها‪ .‬لكنه غاب عنها ثالثني عام ًا وهو يحملها يف‬ ‫برشي وعده‬ ‫عينيه‪ ،‬وبعيد ًا عنها أغمض عينيه (ليل الجمعة ‪ 10‬نيسان‪ )1931‬فام وىف ّ‬ ‫ليسجوه يف‬ ‫بالعودة إليها إال جث ًة هامدة (آب ‪ )1931‬يوم استقبله أهلها عىل أكفهم ُّ‬ ‫وصيته‪.‬‬ ‫بناء عىل َّ‬ ‫مار رسكيس ً‬ ‫غروب ‪ 16‬ترشين الثاين ‪ ،1922‬يف محرتفه الذي كان يحلو له أن يسميه ‪‬الصومعة‪،‬‬ ‫وكان يرسم وجه صديقه ميخائيل نعيمه‪ ،‬قال له‪ :‬ميشا‪ ...‬ميشا‪ ...‬نجاين اهلل وإياك‬ ‫واملتمدنني‪ ،‬ومن أمريكا واألمريكيني‪ .‬وإننا سننجو بإذن اهلل‪ .‬وسنعود إىل‬ ‫املدنية‬ ‫ّ‬ ‫من ّ‬ ‫قمم لبنان الطاهر وأوديته الهادئة‪ .‬وسنأكل من خمره وزيته‪ ،‬وسننام عىل بيادره‬

‫‪249‬‬


‫‪4‬‬ ‫جبران ونوستالجيا لبنان‬

‫بقيت يف ذاكرة جربان‪...‬‬ ‫تالل برشي كما َ‬

‫‪ ...‬وكما ظهرت يف لوحاته‬

‫‪‬تسألني هل َأو ُّد الرجوع إىل لبنان؟‬ ‫نعم‪ .‬أريد أن أرجع إىل موطن حداثتي‪ ،‬إىل مهبط الوحي‪ ،‬إىل ضفاف الوادي الذي منه‬ ‫َّ‬ ‫تغذت روحي‪.‬‬ ‫أمتنى العودة إىل مار رسكيس ألقطف زهر الصيام يف الربيع‪.‬‬ ‫أمتنى الرجوع ألج ِلس عىل رشفة مار جرجس التي يزلق عنها الطري‪ ،‬وألرى الوادي‬ ‫املقدس تجري فيه مياه نهر قاديشا ف َت َبان كخيط أبيض‪ ،‬وأنا أعلو خمسمئة مرت‪.‬‬ ‫برشي‪ ،‬ألرى ً‬ ‫َأ ُّ‬ ‫ثانية موطن خليل الكافر ومرتا البانية‬ ‫ود أن أعود كل يوم إىل لبنان‪ ،‬إىل ّ‬ ‫ويوحنا املجنون‪.‬‬ ‫برشي ألحرض حفالت أسبوع اآلالم‪ ،‬تلك التي ّ‬ ‫خلدت يف نفيس يسوع‬ ‫أمتنى العودة إىل ّ‬ ‫املصلوب‪.‬‬

‫‪248‬‬


‫ويعمل ويشارك يف اجتامعات لتأمني اإلعانات واملساعدات املالية واإلنسانية‬ ‫توقف عن الكتابة والرسم والعمل يف صومعته‬ ‫وإرسالها إىل لبنان‪ .‬وذات حقبة َّ‬ ‫النيويوركية لينرصف إىل َ‪‬ل ّم شمل الجالية عىل جمع التربعات العاجلة إىل األهايل‬ ‫الرازحني تحت نري اإلحتالل‪.‬‬ ‫أفكاره‪،‬‬ ‫وحسب بل حتى َ‬ ‫الوفية التي ّ‬ ‫دونت ال كلامتِه ْ‬ ‫وماري هاسكل (األمينة ّ‬ ‫تعلق‬ ‫مذكراتها الخاصة إعجابها من ُّ‬ ‫ذكرت يف ّ‬ ‫وكانت أقرب الناس إليه عىل اإلطالق) َ‬ ‫ودونت يف مفكرتها ليوم األحد ‪:1914/12/20‬‬ ‫جربان بشعبه يف لبنان‪ّ .‬‬ ‫‪‬سألتُ خليل عن رأيه يف التصحيحات التي أجري ُتها له عىل كتاباته اإلنكليزية األوىل من كتابه‬ ‫اإلنكليزي األول ‪‬املجنون‪ ،‬فأجابني يف حدّ ة وحزن مع ًا‪ :‬ليس يف همومي اآلن سوى لبنان وشعبي‬ ‫يف لبنان‪ .‬وسكتَ بعدها ً‬ ‫طويال‪.‬‬

‫ويف رسالة من جربان إىل ماري (األحد ‪ )1916/6/11‬كتب‪ :‬لن تكون يل حيا ٌة‬ ‫هموم كبرية حول لبنان‪ .‬مسؤوليتي كبرية‬ ‫أدبية خاصة يب طوال هذا الصيف‪ .‬يف قلبي‬ ‫ٌ‬ ‫أعضاؤها أمر التنسيق بينهم‪ .‬إنها فرصة‬ ‫َوكل إيل‬ ‫يف‬ ‫مؤخر ًا وأ َ‬ ‫الجمعية التي َّتأل َفت َّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫كل عمل عداه‪ .‬أنا سعيد‬ ‫مهمة يل‪ ،‬يا ماري العزيزة‪ ،‬كي أخدم شعبي َّ‬ ‫املعذب‪ .‬سأترك ّ‬ ‫بأن أخدم وطني وشعب وطني بالنزر القليل املتواضع الذي مينحنيه اهلل‪.‬‬ ‫سي ٌد‬ ‫ويستنهض شعبه ّ‬ ‫ضد مستعبديه وجالديه‪ :‬لبناين ال ينفصل وال َّيتحد بل هو ِّ‬ ‫ُح ٌّر مستقل‪ .‬ويل ألمة منقسمة إىل مذاهب وطوائف‪ ،‬وكل طائفة تدعي أنها أمة‪.‬‬ ‫ث شعبه الخامل لينهض إىل الفجر الجديد‪ ،‬فجر الحرية واإلستقالل‪ :‬الحياة‬ ‫ويستحِ ّ‬ ‫وج ٌّد يالحق الكهولة‪ ،‬وحكم ٌة ْتتبع الشيوخ‪ .‬أما أنتم يا بني أمي‬ ‫عزم يرافق الشبيبة‪ِ ،‬‬ ‫تتقلبون‬ ‫أطفاال َّ‬ ‫فرصتم ً‬ ‫صغرت رؤوسكم َّ‬ ‫جلودكم ُ‬ ‫وتقل َصت ُ‬ ‫َف ُولِدتم شيوخ ًا عاجزين ثم َ‬ ‫عىل األوحال وترتامون عىل الحجارة‪.‬‬ ‫البعاد عن قومه‬ ‫قلبه‬ ‫لكن الحنني إىل شعبه يقوى عليه وتقهره ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫الغربة ويعرص َ‬ ‫فيتفجع كأوجع ما يكون الحنان‪:‬‬ ‫املكسورين من ضعف‪ّ ،‬‬ ‫مثرة ٌ‬ ‫‪‬مات َأهيل وأنا عىل قيد الحياة أندُ ب أهيل يف وحديت وانفرادي‪ .‬ليتني ٌ‬ ‫يانعة يف‬ ‫بساتني بالدي‪ ،‬أو سنبلة من القمح ٌ‬ ‫طائر يف فضاء بالدي‪ .‬مات‬ ‫نابتة يف تربة بالدي‪ ،‬أو ٌ‬ ‫حبيهم كالجاحدين‪.‬‬ ‫عداءهم كالجبناء ومل يكرهوا ُم ّ‬ ‫أهيل ألنهم مل ُي ُّ‬ ‫حبوا َأ َ‬ ‫طويال‪،‬‬ ‫ويعود ُالبعاد َي ُش ُّد به من جديد‬ ‫ويعاوده الحنني الذي مل يكن يرتكه ً‬ ‫ُ‬

‫‪251‬‬


‫شبابات ُرعاته وخرير ُغدرانه‪ ...‬ال َّبد لنا يا ميشا‪ ،‬أنت‬ ‫ونرسح مع قطعانه ونسهر عىل ّ‬ ‫كنت تعرف‬ ‫وأنا‪ ،‬من الرحيل عن هذه البالد‪ .‬فأنا لن أستعيد راحتي ّإال يف لبنان‪ .‬ولو َ‬ ‫الصومعة التي اخرتتها فيه! هي ليست تقليدية كصومعتي هذه‪ ،‬بل أصلية‪ ،‬يف ضاحية‬ ‫برشي‪ ،‬تابعة لدير مار رسكيس‪ ،‬يف جبهة وادي قاديشا‪.‬‬ ‫من ضواحي ّ‬ ‫برشي‪ ...‬لبنان‪...‬‬ ‫وادي قاديشا‪ ...‬األرز‪ّ ...‬‬ ‫أحق ًا هذا الرجل كان ‪‬يعيش‪ ‬يف أمريكا؟‬ ‫الذي كان منه ‪‬يعيش‪ ‬طوال عرشين سن ًة نيويوركي ًة متواصل ًة يف الشقة العليا من‬ ‫الطابق الثالث يف املبنى الرقم ‪ 51‬عىل الشارع العارش غرب ًا يف ‪‬غرينيتش ڤيل ِْد ْج‪ ‬يف‬ ‫وظل واحد وحضور واحد‪ :‬لبنان!‬ ‫أسفل مانهاتن‪ ،‬كان ينام ويصحو عىل خيال واحد ّ‬ ‫لبنان بالتصاق‬ ‫أمر هذا الرجل‪ :‬مل يعش يف لبنان‬ ‫بالتصاق شديدٍ فعاش فيه ُ‬ ‫ٍ‬ ‫عجيب ُ‬ ‫رشقي ويل‬ ‫ولست عثامني ًا ويل فخر بذلك أيض ًا‪ .‬أنا‬ ‫فخر بذلك‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫أ َ​َش ّد‪ :‬أنا ٌّ‬ ‫لبناين ويل ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫لبناين العواطف‪.‬‬ ‫أظل‬ ‫فخر بذلك‪ ،‬ومهام ْ‬ ‫رشقي األخالق َّ‬ ‫أقصتني األيام عن بالدي‪ُّ ،‬‬ ‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫برشي‪ ،‬وبني االنتظار واالنتظار‬ ‫لكأنه أمىض حياته واقف ًا عىل محطة ُّالرجوع إىل ّ‬ ‫وأنتج ما أنتج‪.‬‬ ‫ب ما َكتب‪َ ،‬‬ ‫َكت َ‬ ‫أرض لبنان‪ ،‬حتى ولو رأى‬ ‫أفال تكون أورفليس هي نيويورك‪ ،‬وجزيرة املصطفى َ‬ ‫عال ًام أوسع من أ ُ​ُطر املكان والزمان‪،‬‬ ‫العارفون أن وراء أورفليس واملصطفى والسفينة َ‬ ‫صالح ًا لكل زمان وكل مكان؟‬ ‫برشي وتلك الذكريات‪،‬‬ ‫أفال تكون سلمى كرامة بريوت استحضار ًا لِحال ضاهر ّ‬ ‫ضد رجال الدين رافقه‬ ‫ب رافقه طوال حياته‪ ،‬ومن قه ٍر ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكل ما حمله معه من ُح ٍّ‬ ‫موت سلمى إطار ًا رمزي ًا لنفسية جربان ذات‬ ‫يكون‬ ‫ال‬ ‫أو‬ ‫الثائرة؟‬ ‫كتاباته‬ ‫جميع‬ ‫يف‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫األجنحة املتكرسة‪ ،‬مع أن حال الحقيقية مل َت ُمت بل كانت بني النساء الخاشعات‬ ‫برشي بالسواد حول جثامن ‪‬النبي‪ ‬العائد‬ ‫حول تابوت جربان يوم ّ‬ ‫تحلقت نسوة ّ‬ ‫إىل مار رسكيس؟‬ ‫مل يكن حنني جربان إىل لبنان يوتوپّي ًا مجرد ًا من واقع‪ .‬فكم مر ًة كان ضالع ًا‬ ‫حركٍ من أجل أهايل لبنان وإنقاذهم من ظلمٍ وجو ٍع‬ ‫يف‬ ‫حركة أو منظّ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫مة أو َت ُّ‬ ‫تحرك هو يف نيويورك‪،‬‬ ‫واحتالل‪ .‬وعندما وقعت الظالمة العثامنية الرشسة‪َّ ،‬‬ ‫ومنها يف الجالية اللبنانية وهو من أبرز وجوهها يف الواليات املتحدة‪ ،‬وراح يكتب‬

‫‪250‬‬


‫مدينة‬ ‫وخ ِب َر نيويورك‪ :‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫ولهذا نفهم رأْي أمني الريحاين يف جربان‪ ،‬وهو خ ِب َره َ‬ ‫يروع وضجيج ُي ِص ّم‪ ،‬يف ظالل ناطحات‬ ‫قلبها من حديد‪ ،‬بني عجيج ّ‬ ‫من العامل الجديد‪ُ ،‬‬ ‫الع ّد وال‬ ‫أقام من ال ُيحسن َ‬ ‫السحاب‪ ،‬يف املدينة التي ُتحيص وت ِز ُن وتقيس كل يشء‪َ ،‬‬ ‫بسمعها‬ ‫إنشاء وفكر ًا‬ ‫وأبدع‬ ‫ت َ‬ ‫فسمع ْ‬ ‫يحرتم املقاييس واألوزان‪َ ،‬‬ ‫أمم ُتض ّن ْ‬ ‫َ‬ ‫كلمته ٌ‬ ‫ً‬ ‫حكمته الجالسون عىل عروش الحكمة بعد أن أَمسى جربان ذا‬ ‫وردد‬ ‫َ‬ ‫عىل الرشق‪َّ ،‬‬ ‫عرش بينهم‪.‬‬ ‫عرش بني الحكامء‪ ‬أمىض حياته الوميضة يرنو إىل العرش‬ ‫ولكن هذا الذي ‪‬بات له ٌ‬ ‫برشي لبنان‪.‬‬ ‫الحقيقي الذي هو ٌ‬ ‫صغري عىل ّتلة من ّ‬ ‫كوخ ٌ‬ ‫ّ‬ ‫لبرشي‬ ‫‪‬أويص‬ ‫غيابه‪:‬‬ ‫بعد‬ ‫ته‬ ‫وصي‬ ‫يف‬ ‫لبنان‬ ‫يبقى‬ ‫حياته‪،‬‬ ‫عىل‬ ‫قلبه‬ ‫يف‬ ‫ولبنان‬ ‫هو‪،‬‬ ‫فها‬ ‫َّ‬ ‫ّ‬ ‫استنسبت‬ ‫بريع كتبي‪ ،‬وأرغب إىل املسز ماينس (ماري هاسكل بعد زواجها)‪ ،‬إذا هي‬ ‫َ‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬أن تبعث مبوجودات ُمحرتيف أو ببعضها إىل بلديت ّ‬ ‫كتابها عنه‪ ،‬مل َتجد‬ ‫كتبت َ‬ ‫وها هي باربره يونغ‪ ،‬رفيقة سنواته السبع األخرية‪ ،‬حني َ‬ ‫اختصار ًا لعنوانه أبلغ من ‪‬هذا الرجل من لبنان‪ ،‬وتقول يف إحدى صفحاته‪ :‬كان‬ ‫حلم لوطنه ِبمستقبل َمجيد‪.‬‬ ‫َي ُ‬ ‫ِبمستقبل؟‬ ‫بل بدميومة َمجيدة‪.‬‬ ‫بالتصاق‬ ‫لبنان فيه‬ ‫ش يف لبنان‬ ‫ٍ‬ ‫بالتصاق شديد فعاش ُ‬ ‫ٍ‬ ‫بىل‪ :‬هذا الرجل من لبنان مل يعِ ْ‬ ‫أ َ​َش ّد‪.‬‬ ‫مل يسكن جربان لبنان لكنه كان مسكون ًا بلبنان‪.‬‬ ‫مل يكن جربان مواطن ًا يف لبنان لكنه بات وطن ًا للبنان يف العامل‪.‬‬ ‫يرد‬ ‫ولكن‪ ...‬ال أ ََّيام وطن‪ :‬إنه لبنان اإلبداع ّ‬ ‫الخالق َت َج َّسد يف ٍ‬ ‫رجل‪ ،‬حني أراد أن َّ‬ ‫غري لبنان‪.‬‬ ‫لوطنه بعض الوفاء‪ ،‬أعلن ْأن لو مل يكن ُ‬ ‫لبنان َ‬ ‫وطنه‪ ،‬ملا كان اختار وطن ًا له َ‬ ‫دايتونا بيتش‪ -‬فلوريدا‬

‫* ‪‬النهار‪1993/2/5 -‬‬

‫‪253‬‬


‫تغم ُرها‬ ‫جالس حول املواقد يف ٍ‬ ‫ليال ُ‬ ‫فينحني‪ :‬لكم لبنانكم ويل لبناين‪ .‬لبناين َم ُ‬ ‫حولون‬ ‫طهر الثلوج‪ .‬وأبناء لبناين هم ّ‬ ‫هيبة العواصف ُوي َج ِّل ُلها ْ‬ ‫الفالحون الذين ُي ّ‬ ‫الوعر إىل حدائق وبساتني‪ .‬هم الذين يغادرون لبنان وليس لهم سوى حامسة يف‬ ‫أكفهم‪ ،‬وأكاليل‬ ‫قلوبهم وقوة يف سواعدهم‪ ،‬ويعودون إليه‪:‬‬ ‫خريات األرض يف ِّ‬ ‫ُ‬ ‫وامللح الذي ال تفسده‬ ‫الغار عىل رؤوسهم‪ .‬هم القناديل التي ال تطفئها الرياح‪ْ ،‬‬ ‫الدهور‪.‬‬ ‫وحثهم عىل املثابرة والرفض والثورة‪،‬‬ ‫سوى أنه‪ ،‬رغم اعتزازه وميلِه إىل أبناء وطنه ِّ‬ ‫يبقى دائم الحزن والكآبة‪ ،‬تالحقه الوحشة ومرارة الوحدة وقسوة الغربة‪ ،‬مع أنه‬ ‫(خصوص ًا يف العرش األخرية من حياته‪ ،‬ويف شكل أدق بعد صدور ‪‬النبي‪ )‬وجد يف‬ ‫جده يف وطنه‪ .‬لكن التكريم يف الغربة يبقى ناقص الفرح‬ ‫أمريكا تكرمي ًا ما كان ميكن أن َي َ‬ ‫يسكن لبنان يف روحه‬ ‫إذا مل يشارك فيه الوطن وأبناء الوطن‪ .‬رمبا لذلك‪ ،‬بقي جربان‬ ‫ُ‬ ‫والقلب‪ ،‬وال يعطي أمريكا سوى العقل والجسد‪.‬‬ ‫وها هو لبنان ال يغيب‪ ،‬كام عن ثوراته‪ ،‬كذلك عن أناشيده‪:‬‬ ‫وغ������ن‬ ‫أع����ط����ن����ي ال������ن������اي‬ ‫ِّ‬ ‫وأن�����ي�����ن ال�������ن�������اي ي���ب���ق���ى‬

‫ف����ال����غ����ن����ا رس ال������وج������ود‬ ‫ب����ع����د أن ي���ف���ن���ى ال���خ���ل���ود‬

‫ال��ل��ي��ل ويف ث���وب ال��س��ك��ونْ‬ ‫س��ك��ن‬ ‫ُ‬ ‫ال��ب��در ‪ ...‬ول��ل��ب��در ع��ي��ونْ‬ ‫وس��ع��ى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫الحق��ول‬ ‫البلب��ل مـ��ا ب�ين‬ ‫ْإس��معي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ف��ض��اء ن َ‬ ‫��ـ��ل��ول‬ ‫��ف��خ��ـ��ت ف��ي��ه ال�� ُّت‬ ‫يف‬ ‫ْ‬

‫األح�������ل������ام‬ ‫تَ�����خ�����ت�����ب�����ي‬ ‫ْ‬ ‫األي��������������ام‬ ‫َ��������رص��������ـ��������د‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫������ب األل��������ح��������انْ‬ ‫ي������س������ك‬ ‫ُ‬ ‫ال�������ر ْي�������ح�������انْ‬ ‫ن�����س�����م�����ة‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬

‫صوره وخياالته وهو يحلم‪:‬‬ ‫وال ميكن أن يغيب لبنان عن َ‬

‫وما سوى ِبحنينه الجارف املوجع إىل لبنان‪ ،‬استطاع استحضار سحر الطبيعة ووحيها‬ ‫البدر والحقل والكرمة وما إليها‪.‬‬ ‫فهاج فيه ْذكر ْ‬ ‫املهجر بصورة واحدة‬ ‫عن جورج صيدح‪ ،‬وهو عىل ّ‬ ‫حق‪ ،‬أن جربان ‪‬مل ِ‬ ‫يوح إليه َ‬ ‫بروح رشقية‬ ‫صوره وال مبوضو ٍع واحد من مواضيع مقاالته وقصصه‪َ .‬ك َتبها َّكلها‬ ‫ٍ‬ ‫من َ‬ ‫كأنه َأص َّم أذنيه عن ضجيج الدواليب وصفري البواخر حوله‪ .‬ومن العجيب أنك ال‬ ‫مؤلفاته اإلنكليزية طيوف الليل والفجر والوادي والنهر والضباب والبحر‪،‬‬ ‫تلمح يف ّ‬ ‫وال تسمع ناي الراعي وأناشيد الفالحني يف الكرم والبيدر واملعرصة‪.‬‬

‫‪252‬‬


‫تتلقفه ً‬ ‫ّ‬ ‫كل سؤال‪ ،‬وسيدخل القلب أكثر ّكلما غدا الناس‬ ‫جيال بعد جيل كي تجد فيه جواب ًا عن ّ‬ ‫أكثر حب ًا‪.‬‬

‫ب قالت ماري هاسكل هذا الكالم؟ أم عن إميان؟ ّربام االثنان مع ًا‪ .‬لذا‪،‬‬ ‫َأعن ُح ٍّ‬ ‫ختمت تلك الرسالة‪:‬‬ ‫وهي عرفت نسيج جربان يف ّ‬ ‫أدق تفاصيل قلبه والقلم‪َ ،‬‬ ‫طويال ً‬ ‫ونك أكثر‪ً ،‬‬ ‫حب َ‬ ‫ّ‬ ‫طويال بعد أن يعود‬ ‫سي ّ‬ ‫حب الناس َ‬ ‫كتاب َك أكثر‪ُ ،‬وي ّ‬ ‫‪‬كلما تقدّ َمت السنوات‪ُ ،‬‬ ‫جسدك إىل الرتاب‪.‬‬

‫سيتحول إىل‬ ‫جرد شاعر أو فنان‪ .‬كانت َت ْح ُد ُس أنه‬ ‫كانت تعرف أنه لن يكون ُم ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪‬ظاهرة‪.‬‬ ‫متوهج ًا كأنه‬ ‫َ‬ ‫وصدقت يف ْ‬ ‫حدسها‪ .‬فها جربان‪ ،‬بعد طويل سنوات غيابه‪ ،‬ال يزال ّ‬ ‫مات أمس‪ ،‬كأنه مات اليوم‪ ،‬كأنه مل ميت بعد‪ ،‬كأنه لن ميوت أبد ًا‪ .‬ذلك أنه َع َرف‪،‬‬ ‫دائام عىل تهيئة‬ ‫حي‪ ،‬كيف ُي ّهيئ خلوده بعد مامته ويستمر لغز ًا‪ .‬كأنه كان يعمل ً‬ ‫وهو ٌّ‬ ‫موته‪ ،‬و‪‬حياتِه‪ ‬بعد موته‪.‬‬ ‫وكل قطر ٍة من‬ ‫إذا‬ ‫كل قلبه ّ‬ ‫رصد عليه ّ‬ ‫طبيعي أن يبقى جربان حي ًا يف وطنه الذي َ‬ ‫ٌّ‬ ‫وطبيعي أن يحيا‬ ‫خذت لبنان وطني‪،‬‬ ‫حتى قال فيه ‪‬لو مل يكن لبنان وطني ّ‬ ‫قلمه ّ‬ ‫الت ُ‬ ‫ٌّ‬ ‫ضمهم إىل قلبه بكل حنان يف مقاله ‪‬لكم لبنانكم ويل لبناين‪ ،‬فهل‬ ‫يف قلوب لبنانيني ّ‬ ‫كل جنس‬ ‫طبيعي أن يبقى حي ًا إىل هذا ّ‬ ‫الحد يف أمريكا التي تصهر فيها املاليني من ّ‬ ‫ٌّ‬ ‫تكرمه بهذا الشكل ؟‬ ‫تزال‬ ‫ال‬ ‫حتى‬ ‫فيها‬ ‫عاش‬ ‫جربان‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫يكفي‬ ‫وهل‬ ‫وجنسية؟‬ ‫ّ‬ ‫مقيام فيها‪ ،‬يبقى حي ًا فيها إىل اليوم‪ ،‬هي التي عاش فيها املاليني‬ ‫ملجرد أنه كان ً‬ ‫وهل ّ‬ ‫يذكرهم اليوم أحد؟‬ ‫وماتوا وال ُ‬ ‫العالم آخر‬ ‫ليلة الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪َ 1931‬لف َظ جربان َن َف َس ُه األخري‪ ،‬كأنه يستودع َ‬ ‫‪‬قليال بعد‪ ،‬لحظ َة راحة فوق الريح‪َ ،‬وتل ُِدين امرأ ٌة أخرى‪.‬‬ ‫جملة من كتابه ‪‬النبي‪ً :‬‬ ‫ڤنسنت (نيويورك)‪ :‬مسرت خليل‬ ‫ليلتها كتب املوظّ ف يف مستشفى القديس ِ‬ ‫جربان‪ ،‬دخل املستشفى يف الحادية عرشة صباح هذا اليوم الجمعة ‪ 10‬نيسان ‪1931‬‬ ‫ليال‪ ،‬بسبب ورم رسطاين يف الكبد‪.‬‬ ‫وتوفي يف الحادية عرشة ً‬ ‫ّ‬

‫‪255‬‬


‫‪5‬‬ ‫خالدٌ في شواهد الزمان‬ ‫يف نيويورك َت ُّلفني أجواء مانهاتِن‬ ‫فأميش يف شارعه العارش غرب ًا (كان‬ ‫ميشيه جربان طوال عرشين عام ًا‪:‬‬ ‫ت‬ ‫آمن ْ‬ ‫‪ ،)1931 -1911‬ويف بايل امرأ ٌة َ‬ ‫رع ْت ُه حياتي ًا وأدبي ًا‪.‬‬ ‫ِبجربان ّ‬ ‫حتى َ‬ ‫امرأ ٌة اسمها ماري هاسكل‪.‬‬ ‫فضل‬ ‫لهذه املرأ ِة‬ ‫املتقش ِ‬ ‫ِّ‬ ‫فة الظُّ هو ِر ٌ‬ ‫رئيس ال عىل األدب اللبناين وحسب‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫بل عىل األدب العاملي الذي نبغ فيه‬ ‫جربان وال يزال ينبغ كل اليوم‪.‬‬ ‫فضل عىل موهبته‬ ‫مل تكن ذات ٍ‬ ‫ت‬ ‫(ومل َت َّد ِع ذلك يوم ًا) بل عىل َقنوا ٍ‬ ‫تحتاجها املوهبة لتعرب إىل الضوء‪ .‬فام‬ ‫تلتمع داخل نفق؟‬ ‫قيم ُة‬ ‫ٍ‬ ‫موهبة ُ‬

‫قناع املوت عند وفاة جربان يف املستشفى (‪ 10‬نيسان ‪)1931‬‬

‫الربيد نسخ َة ‪‬النبي‪ ‬األوىل من جربان إىل ماري هاسكل يف ساڤانا‬ ‫مل‬ ‫ُ‬ ‫حني َح َ‬ ‫نفسه (‪ 2‬ترشين األول ‪ )1923‬رسال ًة جاء فيها‪:‬‬ ‫ت إليه يف اليوم ِ‬ ‫كتب ْ‬ ‫(جورجيا)‪َ ،‬‬ ‫سيق َتنى واحد ًا من كنوز األدب‪ .‬يف لحظات ُظ ْلمتنا ويف لحظات ضعفنا‪ ،‬سنف َتحه‬ ‫‪‬هذا‬ ‫ٌ‬ ‫كتاب ُ‬ ‫كتاب لن تستهلكه األجيال‪ ،‬بل ستبقى‬ ‫كي نَ جد فيه ذاتنا‪ ،‬ونجد يف داخلنا األرض والسماء‪ .‬هذا ٌ‬

‫‪254‬‬


‫– ‪‬النبي‪ ‬يف طبعته الـ‪ ،109‬ومبيعاته باتت تسعة ماليني ونصف املليون نسخة‪،‬‬ ‫حلة جديدة تتفاوت طبعاتها بني التاسعة‬ ‫ونستعد إلصدار َمجموعة جربان الكاملة يف ّ‬ ‫ّ‬ ‫والخامسة عرشة‪ ،‬وقريب ًا تصدر الطبعة الثانية عرشة لكتاب باربره يونغ ‪‬هذا الرجل‬ ‫من لبنان‪.‬‬ ‫كومون‪ :‬أال تزالون تعتربون ‪‬النبي‪ ‬أكثر كتبكم مبيع ًا يف تاريخ‬ ‫وأَسأل دِ ْل ُ‬ ‫منشوراتكم؟‪ ‬فتجيب بثقة تامة‪ :‬بعد الكتاب املقدس‪ ،‬كتاب ‪‬النبي‪ ‬هو األكثر‬ ‫مبيع ًا بني جميع دور النرش األمريكية‪.‬‬ ‫سمعته من أمريكيني ضالعني يف‬ ‫ال أَستغرب هذا الجواب‪ .‬مرار ًا قرأ ُْته‪ ،‬ومرار ًا‬ ‫ُ‬ ‫الوسط األديب األمريكي‪ .‬وخالل وجودي هنا يف الواليات املتحدة َوت َن ُّقيل يف جامعاتها‬ ‫نت أدخل‬ ‫ومؤسساتها الثقافية املختلفة‪ ،‬عدا عرشات املنازل التي أزورها‪ ،‬نادر ًا ما ُك ُ‬ ‫مكان ًا منها ال يكون فيه ‪‬النبي‪.‬‬ ‫بعض ما الحظْ ُته حول تراث جربان يف الواليات املتحدة‪ّ ،‬أن ‪‬النبي‪ ‬معروف‬ ‫ُ‬ ‫أكثر من اسم صاحبه‪ .‬قد يكون من َلم َيحفظ اسم ‪‬كاهليل جربان‪( ‬كام يلفظه‬ ‫األمريكيون لصعوبة لفظ الخاء العربية) إمنا َند َر َمن مل يسمع بـ‪‬النبي‪ ‬أو قرأه أو‬ ‫عرف عنه‪ .‬كثريون من األمريكيني يعرفون ‪‬النبي‪ ‬وجربان‪ ،‬ويظنونه أمريكي ًا أو من‬ ‫الرشق األقىص‪ .‬وقليلون يعرفون أنه من لبنان‪.‬‬ ‫مع أن هذا اللبناين الضالع اليوم يف أمريكا كام القالئل من مبدعيها‪ ،‬مل يكن عىل هامش‬ ‫أطل من أعىل منرب سيايس أمريكي وانحنى له اثنان من الرؤساء‬ ‫الحياة العامة فيها‪ .‬فهو َّ‬ ‫األمريكيني‪ :‬رونالد ريغن (يوم كان يتنافس عىل قيادة العامل مع نظريه السوفيايت عهدئذ)‪،‬‬ ‫وجورج بوش (حني أصبح رئيس الدولة التي باتت وحدها تحكم العامل)‪.‬‬ ‫وكيف كان ذلك؟‬ ‫تأسست يف واشنطن ‪‬مؤسسة جربان‬ ‫يف ‪ 7‬نيسان ‪( 1983‬مئوية والدة جربان) َّ‬ ‫وأخذت تعمل لتخليد‬ ‫األمريكية‪ ‬من ِب ّل بارودي رئيس ًا وشرييل أمني نائب ًة للرئيس‪َ ،‬‬ ‫ذكراه عىل أعىل املستويات‪.‬‬ ‫يف ‪ 19‬ترشين األول ‪ ،1984‬خالل جلسة عامة للكونغرس األمريكي برئاسة رونالد‬ ‫ريغن (الدورة الثامنة والتسعني يف تاريخ الواليات املتحدة) وافق أعضاء الكونغرس‬ ‫باإلجامع عىل القرار ‪ 98/537‬مبنح ‪‬مؤسسة جربان األمريكية‪ ‬قطعة من ‪ 8000‬مرت‬ ‫مربع عىل أرض الدولة‪ ،‬جادة ماساشوستس‪ ،‬يف العاصمة واشنطن لوضع نصب تذكاري‬ ‫ّ‬

‫‪257‬‬


‫حول جثامنه‪ ،‬يف الغرفة ‪ 316‬من الطابق الثالث يف‬ ‫شقيقته مريانا تنتحب يف َقهر‪ ،‬ميخائيل‬ ‫املستشفى‪ ،‬كانت‬ ‫ُ‬ ‫تنص برقي ًة‬ ‫نعيمه ِّ‬ ‫يهيئ مراسم الجنازة‪ ،‬وباربره يونغ ُّ‬ ‫باسم مريانا إىل ماري هاسكل يف ساڤانا (جورجيا) ُتخربها‬ ‫سجى يف نيويورك يومي السبت واألحد‪،‬‬ ‫سي ّ‬ ‫أن الجثامن ُ‬ ‫سجى يف كنيسة سيدة األرز املارونية‬ ‫ُوينقل اىل بوسطن ُلي ّ‬ ‫ويصلى عليه الثلثاء‪.‬‬ ‫نهار اإلثنني‪ّ ،‬‬ ‫ودعته أمريكا عىل الشكل الالئق‪.‬‬ ‫ويوم غيابه‪ّ ،‬‬ ‫هذه الـ‪‬هريالد تريبيون‪( ‬السبت ‪ 11‬نيسان ‪)1931‬‬ ‫تنرش الخرب عىل رأس العمود الخامس من صفحتها األوىل‬ ‫تحت عنوان من ثالثة أسطر يف عمود واحد‪:‬‬ ‫‪‬خليل جربان‪ ،‬الشاعر والفيلسوف‪ ،‬مات يف السابعة‬ ‫واألربعني‪.‬‬

‫ويف النص‪:‬‬

‫نعي جربان كما صدر يف الـ‪‬هريالد تريبيون‪‬‬ ‫(السبت ‪ 11‬نيسان ‪)1931‬‬

‫‪‬خليل جربان‪ ،‬الشاعر والفيلسوف والفنان اللبناين‪ِّ ،‬‬ ‫توفي‬ ‫ليل أمس الجمعة يف مستشفى سانت ڤنست متأ ّثر ًا بورم‬ ‫رسطاين يف كبده‪ .‬كان له من العمر سبعة وأربعون عام ًا‪ .‬وكان يسكن يف ستوديو من املبنى ‪51‬‬ ‫ً‬ ‫شقيقة يف بوسطن تدعى مريانا‪ .‬وخليل جربان‪ ،‬لدى‬ ‫يف الشارع العارش غرب ًا‪ .‬مل يكن متزوج ًا‪ .‬ترك‬ ‫عبقري عرصه‪ .‬لكن شهرته تعدّ ت الرشق األوسط‪ .‬رسومه‬ ‫نحو ستني مليون ًا من قراء العربية‪ ،‬هو‬ ‫ُّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫مرتجمة إىل اثنتي ْ‬ ‫احتفال بيوم‬ ‫عشرة لغة‪ .‬قبل سنتني‪ ،‬كان‬ ‫ٌ‬ ‫عرف ْتها پاريس ونيويورك‪ ،‬وكتاباته َ‬ ‫معجبون من أملانيا وأمريكا الجنوبية‪.‬‬ ‫ميالده تقاطر إليه‬ ‫ُ‬

‫مقال عىل عمودين عن جربان الرسام‬ ‫وعىل الصفحة ‪ 23‬من العدد نفسه‬ ‫ٌ‬ ‫والفيلسوف‪.‬‬ ‫الخرب أيض ًا الـ‪‬نيويورك تاميز‪ ‬عىل صفحتها األوىل من ذاك النهار‪.‬‬ ‫ونرشت َ‬ ‫َ‬ ‫كومون (رئيسة قسم النرش يف مؤسسة ‪‬كنوف‪‬‬ ‫ل‬ ‫لوري‬ ‫بالسيدة‬ ‫اتصايل‬ ‫عند‬ ‫دِ‬ ‫ْ ُ‬ ‫أسألها عن آخر األرقام لديها من طبعات ُكتب جربان‪ ،‬عادت َإل َّي بأقل‬ ‫النيويوركية) ُ‬ ‫من دقيقة تقول يل‪:‬‬

‫‪256‬‬


‫وهكذا‪ ،‬عند الحادية عرشة صباح الجمعة ‪ 24‬أيار ‪ ،1991‬وقف الرئيس جورج‬ ‫يدشن الحديقة ويخطب فيهم عن ‪‬ذاك الرجل من لبنان‪ ،‬أمام‬ ‫بوش أمام املحتفلني ّ‬ ‫كل العامل‪.‬‬ ‫أجهزة اإلعالم التي َنق َلت َ‬ ‫الحدث إىل ّ‬ ‫عند مدخل الحديقة متثال جربان‬ ‫(للنحات األمريكي غوردن غراي)‪:‬‬ ‫جامح عىل َقلق‪ ،‬تنساب من‬ ‫رأس‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫تحته بني ثالث أرزات مياه جاري ًة‬ ‫سقسقة‬ ‫مرات خرضاء يف‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫تتأفعن بني َم ّ‬ ‫برشي‪ ،‬حوله ثالث‬ ‫ِّ‬ ‫تذكر بسواقي ّ‬ ‫إكليل من دالية‬ ‫ميامات‪ِ ،‬ش ْل ُح تفاح‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫املؤلّ ف عىل مدخل حديقة جربان (أيار ‪)1990‬‬ ‫(وسط باحة الحديقة‬ ‫عنب‪ ،‬خلفه ْ‬ ‫بني املقاعد املزروعة يف شكل دائري)‬ ‫أرض من حىص تتألأل تحت املياه‪ ،‬حولها‬ ‫مثمنة األضالع ذا ِ‬ ‫ت ٍ‬ ‫نافور ُة مياه وسط بركة َّ‬ ‫وساحتها املغمورة بالزهر الجميل والعشب‬ ‫يلف النافورة‬ ‫َ‬ ‫مر املقاعد املستدير ُّ‬ ‫َم ّ‬ ‫يظلل املشهد كله بتواشيح من الحنني والذكرى‪ .‬عىل مسند كل‬ ‫األخرض‪ ،‬وشجر الحور ّ‬ ‫واحد من املقاعد الحجرية الستة‪ ،‬عبار ٌة لِجربان من كتبه‪ .‬بينها‪:‬‬ ‫شكل من االنتظار‪‬‬ ‫كل ما عدا ذلك ٌ‬ ‫‪‬نعيش مع ًا لنكتشف الجمال‪ُّ ،‬‬ ‫ومنها‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫عنارصك‪ ،‬أيتها األرض‪ ،‬لنصنع بها مدافع وقنابل‪ ،‬وأن ِ‬ ‫ت من عنارصنا‬ ‫‪‬نستخرج‬ ‫تخلقني الليلك والورد‪،‬‬ ‫ومنها‪:‬‬ ‫جسدٌ بدون روح‪ .‬والحرية بدون فكر‪ :‬ضياع‪،‬‬ ‫‪‬الحياة بال حرية‪َ ،‬‬ ‫ومنها‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫الهائمة يف األثري‪ ،‬أليست تحسد اإلنسان عىل َألمه‪.‬‬ ‫‪‬األرواح‬ ‫عند التمثال املحفور تحته‪ :‬خليل جربان شاعر وفيلسوف‪ ،‬وقف الرئيس جورج‬ ‫بوش وقال يف خطابه‪ :‬رشفٌ يل‪ ،‬و َأ ْعنيها من قلبي‪ ،‬أن أفتتح هذه الحديقة عىل اسم رجلٍ ِ‬ ‫عم َل‬

‫الشعر‪ِّ ،‬‬ ‫الكثري من أجل ّ‬ ‫واألهم‪:‬‬ ‫وبالشعر عمل لنا جميع ًا من خالل إميا ِنه باألخُ َّوة ودعو ِته إىل الحب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تذك ُرنا باألشجار التي َّ‬ ‫تظلل حديقة هذا الشاعر ِّ‬ ‫َول ِعه بالسالم‪ .‬شجراتُ األرز التي ّ‬ ‫ظللت مكان ميالده‪.‬‬

‫‪259‬‬


‫فيها وسط حديقة عامة باسم ‪‬حديقة جربان التذكارية‪ .‬وجاء يف نص القرار الذي‬ ‫الحق‪ ،‬تقدير ًا ألديب كبري أغنى املكتبات‬ ‫وقعه الرئيس ريغن‪ :‬إن الكونغرس أعطى استثنائي ًا هذا ّ‬ ‫ّ‬

‫لغة ً‬ ‫املرتجمة إىل أكثر من خمسني ً‬ ‫عاملية بلغت مبيعاتُها رقم ًا قياسي ًا‪،‬‬ ‫القيمة َ‬ ‫األمريكية والعاملية مبؤلفاته ّ‬ ‫ح ّتى أن كتاب ‪‬النبي‪ ‬وحده بيع منه ح ّتى اليوم ‪ 7‬ماليني نسخة يف الواليات املتحدة وحدها‪.‬‬

‫ويومها أعطى الكونغرس املؤسسة مهلة خمس سنوات (‪ )1989 -1984‬كي تجمع‬ ‫مبلغ مليون دوالر إلنجاز التمثال وتجهيز ‪‬حديقة جربان التذكارية‪.‬‬ ‫ووردت يف القرار كلمة ‪‬استثنائي ًا‪ ‬ألن الدستور األمريكي مينع إقامة نصب عىل‬ ‫يشذ عن هذه القاعدة يف واشنطن سوى اثنني‪:‬‬ ‫أرض أمريكية لغري األمريكيني‪ .‬ومل ّ‬ ‫ٍ‬ ‫متثال ترششل املنترص عىل الحلفاء (عىل أرض السفارة الربيطانية)‪ ،‬ومتثال جربان‪.‬‬ ‫بعد ظهر الثلثاء ‪ 17‬ترشين الثاين ‪( 1989‬قبل يومني من انتهاء مهلة السنوات‬ ‫وفد برئاسة وزير الداخلية األمريكية مانويل لوجان يحتفل رسمي ًا‪،‬‬ ‫الخمس) كان ٌ‬ ‫واحدتها من تسعة‬ ‫وغرس ثالث شجرات أرز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫تحت املطر‪ ،‬بتدشني أرض جربان ْ‬ ‫برشي‪.‬‬ ‫أمتار جيء بها من غابة األرز يف ّ‬ ‫ويف اليوم التايل وصل إىل واشنطن فريق لوجستي هنديس إىل قطعة األرض‬ ‫عىل جادة ماساشوستس (مقابل السفارة الربيطانية ومنزل نائب الرئيس األمريكي‪،‬‬ ‫عند منتصف املسافة بني مسجد واشنطن الشهري وكاتدرائية واشنطن التاريخية)‪،‬‬ ‫َت ورشة العمل طوال سنتني‪.‬‬ ‫وابتدأ ْ‬ ‫انتهت الورشة يف واشنطن‪ ،‬وتقرر برنامج االحتفال عىل أربعة أيام من ‪:1991‬‬ ‫الخميس ‪ 23‬أيار‪ 12:00 -‬ظهر ًا‪ :‬فندق ماريوت‪ -‬واشنطن‪ :‬استقبال الضيوف‪.‬‬

‫ ‬

‫مساء‪ :‬مكتبة الكونغرس‪ -‬قراءات من جربان مع املوسيقى‪.‬‬ ‫‪ً 8:00‬‬

‫ ‬

‫مساء‪ :‬املتحف الوطني‪ -‬استقبال رسمي‪.‬‬ ‫‪ً 8:00‬‬

‫ ‬

‫مساء‪ :‬احتفال فني كوريغرايف كان من املفرتض أن يقدّ مه داين توماس‪ ،‬وبوفاته‬ ‫‪ً 9:00‬‬

‫الجمعة ‪ 24‬أيار‪ 11:00 -‬صباح ًا‪ :‬االحتفال الرسمي بتدشني ‪‬حديقة جربان التذكارية‪.‬‬

‫السبت ‪ 25‬أيار‪11:00 -‬صباح ًا‪ :‬صالة ‪‬كونستيتيوشن هول‪ -‬معرض لوحات جربان‪.‬‬

‫قدّ مه كايس قاسم‪.‬‬ ‫األحد ‪ 26‬أيار ‪ 10:30 -‬صباح ًا‪ :‬اختتام االحتفال وتوزيع املداليات الجربانية التذكارية‪.‬‬

‫‪258‬‬


‫استب َقه جربان يف مجلة ‪‬العامل السوري‪ ‬لسلوم مكرزل (وكان جربان‬ ‫ُّ‬ ‫كل هذا كان َ‬ ‫بعض جديده يف اإلنكليزية) حني كتب (يف عدد ‪ 25‬نيسان ‪ )1926‬إىل‬ ‫ينرش فيها َ‬ ‫اللبنانيني والعرب يف أمريكا‪:‬‬ ‫‪‬أن تكونَ مواطن ًا صالح ًا‪ ،‬يعني أن تقف أمام أبراج نيويورك وواشنطن وشيكاغو وسان فرنسيسكو‬ ‫سليل شع ٍ‬ ‫ً‬ ‫ب بنى دمشق وبيبلوس وصور وصيدا‪ ،‬وها أنا اآلن هنا ألبني معكم‪.‬‬ ‫قائال يف قلبك‪ :‬أنا ُ‬

‫هاتني الشمولية والكونية وقف ميشال حلبويت (مسؤول ‪‬مؤسسة‬ ‫انطالق ًا من َ‬ ‫جربان األمريكية‪ ‬يف هيوستن تكساس خالل العمل عىل إعداد حديقة جربان) وقال يف‬ ‫‪‬و ِلد جربان يف ظالل أرز لبنان‪ ،‬ومل ُي ِبد أحدٌ قبله أو َ‬ ‫مثله هذه املقاربة للحياة ومعانيها‪ .‬كان‬ ‫خطابه‪ُ :‬‬

‫ب لبنان يف جمو ٍح مل‬ ‫مي ِّثل روح لبنان‪ ،‬وكتاباتُه بلغَ ت أعمق ما يف القلب من معانٍ روحية وعاطفية‪َ .‬أح َّ‬ ‫شعب لبنان‪.‬‬ ‫حبه‬ ‫َ‬ ‫يعادله ّإال ُّ‬

‫يفقدها جربان وهو يف أمريكا‪ ،‬جعلت القراء األمريكيني‬ ‫هذه الروح اللبنانية التي مل ْ‬ ‫أحبوها واعتنقوها‪ ،‬مع أن أدباءهم وفنانيهم وأكادميييهم ما‬ ‫يرون فيه مسحة غريبة ُّ‬ ‫شعر بذلك لكنه مل َيحِ ْد‬ ‫زالوا يعتربونه ً‬ ‫دخيال عليهم (غري أمريكي)‪ .‬وقد يكون جربان َ‬ ‫عن إميانه‪ .‬وهذا ما َرمت إليه شرييل أمني (من مؤسسة جربان األمريكية) حني قالت‬ ‫يف خطابها يوم تدشني الحديقة‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫األخوة والرابط‬ ‫‪‬هدفنا ليس تكريم جربان وحسب‪ ،‬بل‬ ‫العمل عىل نرش األفكار التي َ‬ ‫ُ‬ ‫زرعها يف ُك ُتبه‪ّ :‬‬ ‫اإلنساين بني جميع الشعوب‪ .‬إنّ جربان هدية اللبنانيني إىل أمريكا‪.‬‬

‫غري ّأن هذه الكينونة بني لبنان وأمريكا ّكلفته الكثري من األعصاب‪ .‬ها هو يكتب يف‬ ‫رسالته اىل ماري هاسكل (‪ 6‬آب ‪:)1912‬‬ ‫‪‬أنا حائر بني َ‬ ‫عال َمني‪ :‬لبنان وأمريكا‪ .‬واالنتظار طويل ومرهق‪.‬‬

‫وها هي‪ ،‬يف دفرت يومياتها (‪ 31‬آب ‪ )1914‬تالحظ‪:‬‬

‫ِ‬ ‫‪‬مذه ٌل ت َ​َقدُّ ُم خليل يف اكتساب اللغة اإلنكليزية‪ .‬بات يكتب نثر ًا إنكليزي ًا هو يف قلب ِّ‬ ‫الشعر املنثور‪.‬‬

‫تراكيبها‬ ‫فضل كبري عىل انتقاله من الكتابة يف إنكليزية‬ ‫كان لتشجيع ماري هاسكل ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مرتجم ٌة عن العربية اىل ‪‬التفكري برتاكيب إنكليزية‪( ‬رسالتها إليه يف ‪ 12‬كانون الثاين‬ ‫بحامسة كثرية‪،‬‬ ‫حته ماري‬ ‫ٍ‬ ‫نص له منشور يف اإلنكليزية‪َّ ،‬نق ْ‬ ‫‪ .)1915‬وهو ما ظهر يف أول ٍّ‬

‫‪261‬‬


‫ٌ‬ ‫كلماته املنقوشة حولنا هنا عىل املقاعد‪ٌ ،‬‬ ‫وجميلة جد ًا‪ ،‬وستبقى فينا صدى كلما ٍ‬ ‫زرعها يف‬ ‫بليغة جد ًا‬ ‫ت َ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫شاملة إىل العامل اليوم‪ ،‬تُرينا العامل يتقدّ م نحو رؤيا جربان للسالم‪ ،‬فنشعر بالحاجة إىل‬ ‫ونظرة‬ ‫ذاكرتنا‪.‬‬ ‫والتسامح‪ .‬هذه الحاجة إىل السالم هي اليوم األشدّ إلحاح ًا يف املوطن الذي جاء‬ ‫تجديد رسالته يف السالم‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ولنتذك ْر هذه العبارة‬ ‫منه جربان‪ .‬سنبذل جهدنا إلعادة السالم إىل ذاك الجزء الحيوي التاريخي من العامل‪.‬‬ ‫كلمة من ٍ‬ ‫‪‬الحب ٌ‬ ‫ٍ‬ ‫صفحة من ضوء‪ .‬تلك اليدُ هي يدُ اهلل‪ ،‬وهذه‬ ‫ضوء َك َت َب ْتها يدٌ من ضوء عىل‬ ‫من جربان‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫قلوبنا‪.‬‬ ‫الصفحة هي ُ‬

‫عن ذاك ‪‬الجزء الحيوي التاريخي من العامل‪ ،‬كان الكاتب والناقد األمريكي كلود‬ ‫‪‬أكثر من حيا ٍة يف واحدة‪:‬‬ ‫براغدون كتب (سنة ‪ )1938‬يف كتابه ُ‬ ‫‪‬قو ُة جربان ٌ‬ ‫نابعة من مقل ٍع كبري للحياة الروحية‪ ،‬لوالها ما استطاع أن يكون بهذه الكونية‬ ‫ّ‬ ‫والشمولية‪ .‬أما الجمال والجالل يف تلك اللغة التي بها كسا أفكاره تلك‪ُ ،‬فهما من نحته هو‬ ‫وابتكاره‪.‬‬

‫احرتام ًا لهذا اإلطار الذي منه َنب َع جربان َون َبغ‪ ،‬تحرص منشورات ‪‬كنوف‪ ‬األمريكية‬ ‫مؤسسها ألفرد كنوف التقى جربان ونرش له ‪‬املجنون‪ ‬عام‬ ‫(نارشة مؤلفات جربان منذ‬ ‫ُ‬ ‫‪ )1918‬عىل أن تنرش عند رأس أغلفة كتب جربان هذه الفقرة‪:‬‬ ‫شاعر وفيلسوفٌ وفنان‪ ،‬ولد يف لبنان‪ ،‬األرض التي أنب َتت أنبياء‬ ‫‪‬خليل جربان‪ٌ ،1931 -1883 :‬‬ ‫عبقري عرصه‪ّ .‬‬ ‫َ‬ ‫حدود الرشق األوسط‪.‬‬ ‫وتأثريه‬ ‫وشعراء‪ .‬يعتربه املاليني من أبناء العربية‬ ‫ّ‬ ‫تخطى مجدُ ه ُ‬ ‫مرتجم إىل أكثر من عرشين لغة‪ ،‬ورسومه ولوحاته ُع َ‬ ‫رضت يف كربيات عواصم العامل‪ .‬هنا يف‬ ‫عره َ‬ ‫ِش ُ‬ ‫ً‬ ‫ماليني أمريكيني يجدون فيها صورة‬ ‫ساحرة‬ ‫أمريكا‪ ،‬حيث عاش معظم حياته‪ ،‬اشتهرت كتبه ولوحاته‬ ‫َ‬ ‫يوجه فيهم العقل والقلب‪.‬‬ ‫نبض ِّ‬ ‫ذواتهم ويشعرون فيها بصدى ٍ‬

‫الكلامت القليل ُة والعميقة من نارش جربان (هو األدرى بانتشار كتبه ألنه‬ ‫هذه‬ ‫ُ‬ ‫رس انتشار جربان يف‬ ‫ينرشها ويعيد نرشها بدون انقطاع) ّ‬ ‫لعلها ّ‬ ‫تفسر‪ ،‬يف إيجاز بليغ‪َّ ،‬‬ ‫ورس بقائه نابض ًا حي ًا يف قلوب األمريكيني‪.‬‬ ‫أمريكا‪َّ ،‬‬ ‫من هنا إشار ُة الدكتور سهيل برشوئي (أستاذ كريس جربان يف جامعة مرييالند)‪:‬‬

‫ظل سنوا ٍ‬ ‫ت َيجهله أبناء وطنه‪ ،‬كان ازدياد شهرة ‪‬النبي‪‬‬ ‫شاعر‬ ‫أمريكي كبري مثل روبرت فروست َّ‬ ‫‪‬فيما ٌ‬ ‫ٌّ‬ ‫ً‬ ‫يتجزأ من إرث أمريكا األديب‪.‬‬ ‫دليال دامغ ًا عىل مكانته يف قلوب األمريكيني‪ ،‬وعىل صريورة جربان ُجزء ًا ال ّ‬

‫ٌ‬ ‫بساطة عىل كمية ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ومن هنا رأي سعيد عقل‪:‬‬ ‫أناقة معتدلة‪ ،‬تُزعج إذا زادت‪ ،‬وال‬ ‫‪‬ميزة جربان‪:‬‬ ‫تعود ً‬ ‫نقصت‪ .‬وهذا ما جعله‪ ،‬وسوف دوم ًا يبقيه‪ ،‬حي ًا يف قلوب األمريكيني من جيلٍ إىل جيل‪.‬‬ ‫أناقة إذا َ‬

‫‪260‬‬


‫يف ‪ 7‬آذار ‪ 1930‬كتبت الشاعرة التشيلية غابرييال ميسرتال إىل صديقتها إيديال‬ ‫بورنيل رئيسة تحرير مجلة ‪‬النخل‪ ‬املكسيكية‪. :‬‬ ‫املشيعون يف كنيسة سيدة األرز‬ ‫يف بوسطن‪ ،‬عرص الثلثاء ‪ 14‬نيسان ‪ ،1931‬حني كان ّ‬ ‫ُيلقون عىل جربان النظرة األخرية‪ ،‬كانوا يعرفون أنه مل يغادرهم‪.‬‬ ‫ومساء األربعاء ‪ 29‬نيسان ‪ ،1931‬يف الحفلة التأبينية التي أقامها شارل فليرش‬ ‫استهل خطابه مستشهد ًا بعبار ٍة من جربان يف‬ ‫(قاعة متحف زوريخ يف نيويورك)‬ ‫ّ‬ ‫‪‬رمل وزبد‪ :‬رب مأتمٍ بني الناس هو عرس بني املالئكة‪.‬‬ ‫سيد حسني‪ ،‬ميخائيل نعيمه‪ ،‬باربره‬ ‫ومثله‬ ‫خطباء ذاك االحتفال‪ :‬كلود براغدون‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫حي بينهم‪.‬‬ ‫يونغ‪ّ ،‬‬ ‫شددوا عىل أنهم ال يحتفلون بإنسان مىض‪ ،‬بل بإنسان ٍّ‬ ‫والذين صباح الخميس ‪ 23‬متوز ‪ 1931‬عىل رصيف مرفأ پروڤيدنس (عاصمة‬ ‫يودعون جثامن جربان عىل متن الباخرة‬ ‫والية رود آيالند جارة نيويورك) اجتمعوا ّ‬ ‫وكيلها اللبناين ابرهيم الحتي) كي تحمله‬ ‫‪‬سينايا‪( ‬تابعة لخطوط فابر البحرية‪ُ -‬‬ ‫برشي‪ ،‬كانوا يعرفون أن الذي‬ ‫إىل مرفأ بريوت ومنه يأخذ طريقه إىل مثواه األخري يف ّ‬ ‫وتأثرياته‪ ،‬فباقية‬ ‫وريشته‬ ‫روحه يف قلمه‬ ‫غادر أمريكا مل يكن جربان بل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫جثامنه‪ .‬أما ُ‬ ‫إىل سنوات طويلة‪.‬‬ ‫يتجدد رشوق ًا مع كل فجر‬ ‫سنوات مضت ومتيض عىل ذاك الغياب األخري‪ ،‬وجربان ّ‬ ‫ٌ‬ ‫جديد‪ ،‬ال يف أرضه الصغرية التي تتفيأ ظالل األرز‪ ،‬بل يف هذه األمريكا الواسعة الرشهة‬ ‫تتحول فيها إىل أرقام مجهولة ومنسية‪.‬‬ ‫إىل تذويب ماليني وجوه وأسامء ّ‬ ‫مشع ًا عىل‬ ‫ّإال هو‪ :‬ما زال فيها ّ‬ ‫جيال بعد جيل‪،‬‬ ‫أجيالها األمريكية ً‬ ‫حامال لبنانه يف أمريكا‪ ،‬وزارع ًا روح‬ ‫ً‬ ‫الرشق يف جسد الغرب‪ ،‬وباقي ًا يف‬ ‫اسام ال‬ ‫األفكار والقلوب واملراجع ً‬ ‫يزول‪.‬‬ ‫من هنا أنه‪ ،‬يف الواليات املتحدة‪،‬‬ ‫جرد رجل‪.‬‬ ‫مل ُيعد ً‬ ‫رجال‪ُ ،‬م َّ‬ ‫نعش جربان يف كنيسة سيدة األرز‪ -‬بوسطن‪ ،‬تستندُ إليه شقيقته مريانا‬ ‫صار ظاهرة‪.‬‬ ‫وحولها أنسباء وأصدقاء‪ ،‬وخلفها باربره يونغ‬ ‫ظاهرة ‪‬أمريكية‪ ‬من لبنان‪.‬‬

‫‪263‬‬


‫وشجعته حتى أهداه إىل الفنان األمريكي الكبري ألربت بنكهام رايدر‪ ،‬طابع ًا إياه عىل‬ ‫ّ‬ ‫ورق خاص يف بضع ُن َس ٍخ خاصة أرسلها إىل الفنان الذي كان زار معرض جربان يف‬ ‫وأعجب ْت ُه إحدى لوحاته‪.‬‬ ‫نيويورك نهار ‪ 14‬كانون األول ‪1914‬‬ ‫َ‬ ‫وقلام‪ ،‬فتكتب الناقدة األمريكية‬ ‫من يومها أخذ ينترش يف الوسط األمريكي ريش ًة ً‬ ‫أليس روفايل (يف ‪ 3‬آذار ‪:)1917‬‬ ‫‪‬يقف جربان عىل الخط الفاصل بني الرشق والغرب‪ ،‬بني الرمزية والتعبريية‪ ،‬بني الرسم والنحت‪،‬‬ ‫بني ّ‬ ‫الشعر والنثر‪ .‬إنه جديد علينا‪.‬‬

‫وبعد صدور كتابه األول يف اإلنكليزية‪ :‬املجنون‪ 25( ‬ترشين الثاين ‪ )1918‬بدأت‬ ‫ف متزايدٍ وتدعوه إىل مناسباتها األدبية‪ .‬ومن‬ ‫بشغ ٍ‬ ‫أوساط نيويورك َّ‬ ‫تتلقف جربان َ‬ ‫قطفها‪ّ ،‬أن النقد ّقدمه لألمريكيني عىل أنه ‪‬عبقري عرصه وأنه‪ ،‬يف الرشق‬ ‫األصداء التي َ‬ ‫األوسط‪ ،‬رديف طاغور‪.‬‬ ‫ثم صدر ثاين كتبه يف اإلنكليزية‪ :‬السابق‪ 10( ‬ترشين األول ‪ )1920‬فاتسعت‬ ‫شهرته أكثر‪ ،‬إىل أن بلغ قمته يف ‪‬النبي‪ ‬الذي ظهر يف ‪ 28‬أيلول ‪ 1923‬ليجعل جربان‬ ‫املكرسني الخالدين‪.‬‬ ‫من ّ‬ ‫بني رشوق ‪‬النبي‪ )1923( ‬وغروب صاحبه (‪ )1931‬مثاين سنوات قضاها جربان‬ ‫مرشقة من التقدير األمريكي‪ ،‬فأوكل إىل صديقه األرشمندريت‬ ‫هالة‬ ‫ٍ‬ ‫مرتبع ًا عىل ٍ‬ ‫ِّ‬ ‫مؤلفاته اإلنكليزية اىل العربية‪ ،‬لينرصف هو إىل ترسيخ شهرته‬ ‫ترجمة‬ ‫بشري‬ ‫أنطونيوس‬ ‫ّ‬ ‫مصدِ ر ًا يف اإلنكليزية عىل التوايل‪ :‬رمل وزبد‪ 9( ‬أيار ‪،)1926‬‬ ‫وكتاباته األمريكية ْ‬ ‫‪‬يسوع ابن اإلنسان‪ 7( ‬ترشين األول ‪ ،)1928‬آلهة األرض‪ 15( ‬آذار ‪ -1931‬قبل‬ ‫بأقل من شهر)‪.‬‬ ‫وفاته ّ‬ ‫تلك السنوات الثامين كانت حافل ًة بتوسيع شبكة معارفه األمريكية‪ .‬ففي نيسان‬ ‫سيد حسني إىل املشاركة يف تأسيس مجلة ‪‬الرشق‬ ‫‪ 1925‬دعاه النارش الهندي األمريكي ّ‬ ‫داخال يف حلقات األدباء والفنانني األمريكيني‪ .‬ويف افتتاحية العدد‬ ‫فلبى‪ً ،‬‬ ‫الجديد‪ّ ‬‬ ‫األول كتب حسني‪ :‬ال نجد اليوم من ُيم ّثل الرشق يف الغرب أكثر إخالص ًا وصدق ًا من خليل جربان‪.‬‬ ‫وعشية عيد ميالده السادس واألربعني‪ ،‬دعاه إخوانه يف ‪‬الرابطة القلمية‪‬‬ ‫(‪ 5‬كانون الثاين ‪ )1929‬إىل حفلة تكريم كبري يف القاعة الكربى لفندق ماك ْآل ِبن (نيويورك)‬ ‫يكرمون فيه أديب ًا عاملي ًا‪.‬‬ ‫يكرمون فيه شاعر ًا لبناني ًا َ‬ ‫عميدهم‪ ،‬بل كانوا ّ‬ ‫ومل يكونوا ّ‬

‫‪262‬‬


‫المحتويات‬ ‫اإلهداء ‪5 . ............................................................................................................‬‬ ‫المقدمة ‪7 . ..............................................................................................................‬‬ ‫ِّ‬ ‫القسم األول‪ :‬شواهد الناس ‪13 .....................................................................‬‬ ‫ ‬ ‫‪  .1‬جربان يف ذكريات أندرو غريب‬ ‫‪  .2‬جربان يف ذكريات فؤاد خوري ‪. .............................................................‬‬ ‫‪  .3‬جربان يف ذكريات املونسنيور منصور أسطفان ‪. .....................................‬‬ ‫‪ .4‬جربان إشبيني يف عريس‪ ................................................................... ‬‬ ‫‪  .5‬جربان ونسيبة ماري هاسكل ‪. ...............................................................‬‬ ‫‪  .6‬جربان وميخائيل نعيمه ‪. ......................................................................‬‬ ‫‪  .7‬جربان ومي ‪ ...........................................................................................‬‬ ‫‪  .8‬جربان وباربره يونغ ‪. ............................................................................‬‬ ‫‪  .9‬جربان واألرشمندريت أنطونيوس بشري ‪. ..............................................‬‬ ‫‪  .10‬جربان والربوفسور جيمس فرنكل ‪. ......................................................‬‬ ‫‪  .11‬جربان وإيليا أبو مايض ‪ .........................................................................‬‬ ‫الغريب ‪. ..........................................................................‬‬ ‫‪  .12‬جربان وأمني ّ‬ ‫‪  .13‬جربان ويوسف الحويك‪ .........................................................................‬‬ ‫سكر ‪ ................................................................................‬‬ ‫‪  .14‬جربان ونخله ّ‬ ‫‪...........................................................‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪30‬‬ ‫‪37‬‬ ‫‪42‬‬ ‫‪47‬‬ ‫‪53‬‬ ‫‪56‬‬ ‫‪58‬‬ ‫‪66‬‬ ‫‪73‬‬ ‫‪86‬‬ ‫‪91‬‬ ‫‪100‬‬ ‫‪102‬‬

‫‪265‬‬


‫لرئيسي‬ ‫ففي مسافة سبع سنوات كان َ‬ ‫أكرب دولة يف العامل (رونالد ريغن سنة‬ ‫‪ 1984‬وجورج بوش سنة ‪ )1991‬أن‬ ‫يشاركا يف تكريم املبدع اللبناين الذي‪ ،‬يف‬ ‫الحادية عرشة ّإال خمس دقائق من ليل‬ ‫الجمعة ‪ 31‬نيسان ‪ ،1931‬يف الغرفة ‪3١٦‬‬ ‫من الطبقة الثالثة يف مستشفى ‪‬سانت‬ ‫ينطفئ منه سوى‬ ‫ڤنسنت‪ ‬يف نيويورك‪ ،‬مل‬ ‫ْ‬ ‫لهاث الجسد‪.‬‬ ‫ث شعلة‬ ‫أما‬ ‫فباق َي ُنف ُ‬ ‫ُ‬ ‫لهاث الروح ٍ‬ ‫جيال بعد جيل‪ ،‬ولذا سيبقى خالد ًا‬ ‫الحياة ً‬ ‫يف شواهد الزمان‪.‬‬ ‫نيويورك‬

‫جثمان جربان يف بريوت‪ ،‬وحول النعش أقرباء ومستقبلون‪،‬‬ ‫ً‬ ‫جالسة عند رأس النعش‬ ‫وتبدو مريانا شقيقة جربان‬ ‫(عن جريدة ‪‬الربق‪ 26 -‬آب ‪)1931‬‬

‫مريانا شقيقة جربان بني املطران بولس عقل‬ ‫ووزير الداخلية آنذاك يف بريوت‬ ‫(جريدة ‪‬الربق‪ 26 -‬آب ‪)1931‬‬

‫* مجلة ‪َ ‬أجنحة األرز‪ -‬العدد ‪ -20‬آذار‪/‬نيسان ‪1994‬‬

‫‪264‬‬


‫نيوجرزي ‪197 ......................................................................................................‬‬ ‫خطبة القس بارتلت عشية امليالد ‪198 ............................................................‬‬ ‫دايتونا بيتش ‪209 ..................................................................................................‬‬ ‫ضوء من جربان يف جيب كتاب ‪210 .................................................................‬‬ ‫بيروت ‪213 ...........................................................................................................‬‬ ‫‪  .1‬مدالية من الدرجة الثانية ‪214 ...................................................................‬‬ ‫‪ .2‬مش أنا‪217 .......................................................................................... ‬‬ ‫‪  .3‬ال مكان لجربان يف دولته ‪219 ...................................................................‬‬ ‫مرجحين‪221 ..................................................................................................... :‬‬ ‫ذكريات غري معروفة عن صباه يف تلك الضيعة الجبلية ‪222 ............................‬‬ ‫ٌ‬

‫القسم الثالث‪ :‬الخالد في شواهد الزمان ‪231 . .........................................‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫‪.4‬‬ ‫‪.5‬‬

‫ جربان العاشق ‪ .....................................................................................‬‬ ‫ بني جربان وشفيق عبود ‪ ....................................................................‬‬ ‫ العبارة ليست من كيندي بل من جربان ‪ ............................................‬‬ ‫وحنينه الدائم اىل لبنان ‪. ...........................................................‬‬ ‫ جربان‬ ‫ُ‬ ‫ خالد يف شواهد الزمان ‪. .....................................................................‬‬

‫‪233‬‬ ‫‪244‬‬ ‫‪246‬‬ ‫‪248‬‬ ‫‪254‬‬

‫‪267‬‬


‫القسم الثاني‪ :‬شواهُد األمكنة ‪107 .................................................................‬‬ ‫بشّري ‪109 .............................................................................................................‬‬ ‫‪.1‬‬ ‫‪.2‬‬ ‫‪.3‬‬ ‫‪.4‬‬

‫ متحفه يف برشي ‪ ................................................................................‬‬ ‫ زيارة إىل املتحف ‪. ..............................................................................‬‬ ‫برشي بعد مئة سنة ‪ ...............................................................‬‬ ‫ بيته يف ّ‬ ‫يعد له شرب أرض يف برشي ‪. ..........................................................‬‬ ‫َ لم ُ‬ ‫ّ‬

‫‪110‬‬ ‫‪116‬‬ ‫‪121‬‬ ‫‪126‬‬

‫نيويورك ‪135 .........................................................................................................‬‬ ‫بيته يف نيويورك ‪136 ...................................................................‬‬ ‫‪  .1‬هنا كان ُ‬ ‫‪  .2‬جولة بالكامريا عىل أماكنه يف مانهاتن ‪140 ...............................................‬‬ ‫‪ .3‬النبي‪ ‬هدايا يف كوكتيل نيويوركي ‪154 .................................................‬‬

‫واشنطن ‪157 .......................................................................................................‬‬

‫‪  .1‬حديقته املهملة يف قلب العاصمة األمريكية ‪158 .......................................‬‬ ‫‪  .2‬جربان العريب ال اللبناين؟! ‪161 ..................................................................‬‬

‫ميريلِند ‪165 ..........................................................................................................‬‬ ‫‪  .1‬اعرتاف عاملي به يف مؤمتر دويل ‪166 ..........................................................‬‬ ‫‪  .2‬جربان شاعر ثقافة السالم ‪169 . .................................................................‬‬ ‫‪  .3‬هنيئ ًا لك أنك من وطن جربان ‪175 ...........................................................‬‬

‫فيالدلفيا ‪179 .......................................................................................................‬‬

‫‪  .1‬التحضري لعمل كوريغرايف ‪180 ..................................................................‬‬ ‫‪  .2‬العمل الكوريغرايف ‪188 ............................................................................‬‬

‫‪266‬‬


ɕɕ ʦ ̓ ɕ 6 ɾ ɬʢ ʂɤ˾̅ ɾ 6ɥ ˷ɞɾ6 ˃ 6 ɠ ̢ ˫ ɞɾ ˪̱ ɢ˿̱ ˴6˭ ʭ ̩ ˾ʦˮ ˫˺ʢ ɢ˄˵ɶ˪ ʤ ɞ6˭ ̜6ɼɢ˄ ̨?6̯ ː6ɼ ˭̨˨̟ ̨ ̬ ˨ ʢɥ ˾̜6 ɼɞ6̡˫ ̧̓6̹ʟ̝ ̔˪6 ʟˬ̰ ˴ɢ˾ˮ6 ɬ̨̭̰̭̱ ɞ ̢ɢɐ6 ˾̔ˮ6 >˨̬̥ɞ6ʣʥ ˴ɢɾɭ6˼ ˨˪˨˯̟6̒ ɾ6ʂɹ ̔˴ɢɬɾ ̢ɢ ̩ ˫ ɏ̯ ̜̹̓6ɷ ̘̱̟6 ̥ɾ6˨̬ ˴6ɥʤ 6̘̱̟ ʟ̢̱6˨̬ ʦ˯ ɣ˨˯̠ ɞ 6 ɾ ̯̫ ̔˪6̪˯ ˭̝ʢ ˪ɞ6ʢ ˮɬɪ˨̗ ̴ɢʢ 6ɼɢ˄ ˭̝ʥ ̣ˮ 6ˁ6̹ ˫̥̎6 ˼ ˮʢ˯ 6ʢ ɼ 6 ˁ ɢʼ˹ ̭ 6 6 ̬ ̇ ɢ 6 ̫ ̦ ˨ ˨ ̢ ʥ ̥ ̥ ̓ ˺ 6 ɶ ̢ ̭ ˬ ˨ ʟ˨ ˪ + 6 ʼ˿ ̥˨˻ ̥ɞʣʯ ʀɬ ̭́ 6ɤʢ ̈́ ̭̎˻ ̩̥6ɼ̭ ˫˯̟ʢ 6 ˸̇6ɬ ˯˺ɾ ˼̫ ˕ ˴ ̍ ˭ ˬ6 ̂ ɕ˨̬ ̠́˨̫6 ɢ6̧̎ ˮɾ6 ː ̦ ɘɴ+˵ ʣ ʟɢ ˪˨˯̟6ˬ ˪6˨̢̬˿ ɬ6̢̪̱ɠ6 ˼̰ɾ6̪ ʣ˯ ̢̱ɠ6˭ ʢ ̫6ɖ˨̰ɢ ̩ ˢʥ̨ ˪ ˶ ˂ 6 ̔ ˱ ̡ ̱ 6 ́ ̈ ˼ ɢ6̪ ˼̔ ˨́ ˺ ɢ˿ ɽ˽ ɞʢ6̯ ̹̓ ˨ʵ˨ +ɚɠ ˧ ̬6˨ ̜ʢ˯ ̟ɾ6ʂ˨̨ 6̢̪̱ɠ6˨̫ 6̈́˺̴ 6ɻ˨̨6˨̥ ̨˨̟6 ʟˬ̢ 6˼̔˪6̡ 6ɖ˭̱˪ ɪ̹̝ʤ ̢ɢ6 ̜ʤ 6̀ʣ ˫̢ ʢ +̬ ̱ ˪ ˛ ̰ ɭ ʢ ɐ ˨ ɤ ɐ ̹ ̢ 6 ̰ ˭ ː ɾ ̭ ɝ 6 ̢ ɢ 6̘ 6˼̰˄ ɢ6ˬ̬ ʂ˨̬˴ ˾˺ɝ 6̥̓ ɭ6ɻ̭ ̩̓6ˁ ̣ˮ6ɤʢ ɪ +ʼ˿ 7 ʢ 6 6 + ɾ ˁ ̥ ̝ ̴ ˁ ɢ ɣ ̞ 6 ɬ ˷ɾ ̜6˨ ̢ɢ6 ˴ ̯ ɢ6 ̅˃̄ ˀ + ʾ ɏɱ ̝ʭ ̣ˮ6̓ ̓6̪ ɞʦˮ ʢ ˾ ˬ˪̭˫̱̗ ˨̟6̯ ̩ʤ ˼ʦˮ ̫ɞʢ 6 ̢ɢ6ɤɞ˾ˈ ɼ ˙̄˒ ˀ + 6˭ ˫̜6ɽ˨̩̱ ˺̴ɢ6 6ˆ̖ɞ6 ̥ɞʣʥ 6˨̬̱ ̦̱̑̔ ˶ ɋɴ + ɍ˸ɋɬ ʙ ɘ 6̡ ɕɤ̈́ ̣ˮ6˨̥ ̧̥6̯ ɬ˨̥6ˬ ɲ ̝ʭ ̦̓6 ˨̫6ʀ ́˳+ ̱ ˼ ̅ ɋˉ 6˭ʣ ˯ ʭ ɬ˒ ˽Ɋʿ ɍ ˽ ̧6 ̥ ɞʢ ɾ6ʂ˨̬ ɕɏ̡̠́ ̓ 6 3+ɫ 6˿˯ʮ ʂɻɿ (ɺ


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.