الحاكمية تطورها ودلالاتها أويس العبد الله

Page 1


‫الحــاكـميـة‬ ‫تطورها ودالالتها‬

‫أويس العبد الله‬


‫تعريف الحاكمية‪:‬‬ ‫معنى الحكم لغة وشرعاً‪.‬‬

‫دالالت كلمة حيكم يف القرآن والسنة‪:‬‬ ‫" قال ابن فارس‪ :‬مادة (ح ك م) أصل واحد هو المنع‪ ،1‬وقال الراغب األصفهاني‬ ‫كمت‬ ‫َح َك َم‪ :‬أصله منع منعا إلصالح‪ ،‬ومنه سميت اللجام‪ :‬حكمة الدابة‪ ،‬فقيل‪َ :‬ح َك ْمته و َح ْ‬ ‫الدابة‪ :‬منعتها بالحكمة‪ ،‬وأحكمتها جعلت لها حكمة‪ ،‬وكذلك حكمت السفيه وأحكمته‬ ‫قال الشاعر‪ :‬أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم‪ ،‬أي امنعوهم وخذوا على أيديهم‪.‬‬ ‫والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا‪ ،‬أو ليس بكذا‪ ،‬سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه‪،‬‬ ‫ويقال حاكم لمن يحكم بين الناس‪ ،‬ويقال ال َح َكم للواحد والجمع وتحاكمنا إلى الحاكم‪.2‬‬ ‫وأما التحاكم والتحكيم‪ :‬فالعرب تقول‪ :‬ح َّكمت فالنا إذا أطلقت يده فيما يشاء واحتكموا‬ ‫إلى الحاكم بمعنى‪ ،‬ويقول العرب أيضا‪ :‬حكمت وأحكمت وح َّكمت بمعنى منعت‬ ‫ورددت‪.3‬‬ ‫وفي القرآن تأتي مادة الحكم على عدة معان منها‪ :‬الفقه والحكمة والفصل والقضاء‬ ‫والموعظة والفهم والعلم النبوة وحسن التأويل‪ ،4‬وتأتي كذلك بمعنى األمر الشرعي‪،‬‬ ‫ْف ي َح ِّكمون َ​َك َو ِّعن َدهم الت َّ ْو َراة فِّي َها ح ْكم الل ِّه ث َّم يَتَ َولَّ ْونَ ِّمن َب ْع ِّد‬ ‫كقول الله تعالى‪َ  :‬و َكي َ‬ ‫َذ ِّل َك َو َما أ ْولَـئِّ َك بِّ ْالمؤْ ِّمنِّين َ​َ‪( 5‬بمعنى‪ ،‬فيها أمر الله وشرعه)‪.‬‬ ‫ع ِّليم َح ِّكيم ‪ .6‬بمعنى أمره وشريعته‪،‬‬ ‫وكقوله تعالى‪َ  :‬ذ ِّلك ْم ح ْكم اللَّ ِّه َي ْحكم َب ْينَك ْم َواللَّه َ‬ ‫قال ابن كثير في تفسيره لهذه اآلية‪ " :‬وقوله تعالى‪ :‬ذلكم حكم الله يحكم بينكم‪ 7‬أي‬ ‫في الصلح واستثناء النساء منه‪ ،‬واألمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه "‪.‬‬ ‫ولذلك تسمى األوامر الشرعية أحكاماً‪.‬‬ ‫ومن ذلك استدالل يوسف – عليه السالم – بالحكم إلثبات األمر في قوله‪ِّ  :‬إ ِّن ْالح ْكم‬ ‫ِّإالَّ ِّلل ِّه أ َ َم َر أَالَّ ت َ ْعبدواْ ِّإالَّ ِّإيَّاه ‪ .8‬بمعنى‪ ،‬إن األمر لله وحده‪ ،‬وهو من يلزمكم بطاعته‬

‫‪ 1‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬الثعالبي‪ 11/2 ،‬ـ مطبعة الحلبي‪.‬‬ ‫‪ 2‬مفردات ألفاظ القرآن‪ ،‬مادة حكم ‪ 248‬ـ دار القلم‪.‬‬ ‫‪ 3‬تهذيب اللغة ـ ‪.114/4‬‬ ‫‪ 4‬انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي ـ عبد العزيز مصطفى كامل ـ دار طيبة ـ ط‪ :‬األولى‪ ،‬عن رسالة‪ :‬حكم من تحاكم للطواغيت‪،‬‬ ‫للهرفي‪.‬‬ ‫‪ 5‬سورة المائدة‪.43 :‬‬ ‫‪ 6‬سورة الممتحنة‪.11 :‬‬ ‫‪ 7‬سورة الممتحنة‪.11 :‬‬ ‫‪ 8‬سورة يوسف‪.41 :‬‬


‫في أوامره‪ ،‬ال طاعة غيره من الطواغيت‪ .‬وهذه اآلية نظير قوله تعالى‪  :‬أَالَ لَه‬ ‫ار َك الله َرب ْال َعالَ ِّمينَ ‪.1‬‬ ‫ْالخ َْلق َواأل َ ْمر تَ َب َ‬ ‫علَى َب ِّينَة ِّمن َّر ِّبي َو َك َّذبْتم ِّب ِّه‬ ‫ويأتي الحكم كذلك بمعنى المشيئة‪ .‬قال تعالى‪ :‬ق ْل ِّإنِّي َ‬ ‫‪2‬‬ ‫اصلِّينَ ‪‬‬ ‫َما ِّعندِّي َما ت َ ْستَ ْع ِّجلونَ ِّب ِّه ِّإ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه يَقص ْال َح َّق َوه َو َخيْر ْالفَ ِّ‬ ‫قال ابن كثير في تفسيره‪ " :‬إن الحكم إال لله‪ ‬أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله‪ ،‬إن‬ ‫شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك‪ ،‬وإن شاء أنظركم وأجلكم‪ ،‬لما له في ذلك من‬ ‫الحكمة العظيمة "‪.‬‬ ‫ت أَن‬ ‫سيِّئَا ِّ‬ ‫ب الَّذِّينَ َي ْع َملونَ ال َّ‬ ‫وتأتي كذلك بمعنى الرأي والظن‪ ،‬قال تعالى‪  :‬أ َ ْم َح ِّس َ‬ ‫سا َء َما يَ ْحكمونَ ‪ ‬أي‬ ‫ساء َما َي ْحكمونَ ‪ .3‬وقد فسرها ابن كثير فقال‪َ  :‬‬ ‫يَ ْسبِّقونَا * َ‬ ‫بئس ما يظنون‪.‬‬ ‫ْف تَ ْحكمونَ ‪.4‬‬ ‫وكذلك في قوله تعالى‪ :‬أ َ َفن َْج َعل ْالم ْس ِّل ِّمينَ َك ْالم ْج ِّر ِّمين َ​َ َما لَك ْم َكي َ‬ ‫قال ابن كثير أي أفنساوي بين هؤالء وهؤالء في الجزاء؟ كال ورب األرض والسماء؛‬ ‫ْف ت َ ْحكمونَ ‪ !‬أي‪ :‬كيف تظنون ذلك؟‬ ‫ولهذا قال ‪َ ‬ما لَك ْم َكي َ‬ ‫وجاء في الحديث‪(( :‬وإذا حاصرت أهل حصن‪ ،‬فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله‪،‬‬ ‫فال تنزلهم على حكم الله‪ .‬ولكن أنزلهم على حكمك‪ .‬فإنك ال تدري أتصيب حكم الله‬ ‫فيهم أم ال))‪ .‬بمعنى‪ :‬أنزلهم على رأيك‪.‬‬ ‫وفي الحديث اآلخر‪(( :‬فقال‪ :‬يا سعد إن هؤالء نزلوا على حكمك‪ .‬قال‪ :‬فإني أحكم فيهم‬ ‫أن تقاتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم‪ ،‬قال‪ :‬حكمت بحكم الله‪ ،‬أو‪ :‬بحكم الملك))‪ .‬بمعنى‪:‬‬ ‫نزلوا على ما تراه فيهم‪.‬‬ ‫وقد تكون بمعنى يشرع أو يقضي ‪‬فاحكم بيننا بالحق وال تشطط‪ 5‬أو يجتهد ‪‬وداوود‬ ‫وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين‪.6‬‬ ‫ومن المعاني المهمة لكلمة الحكم‪ :‬االتباع‪ .‬وهو أساس بحث الحاكمية‪.‬‬ ‫نجي ِّل ِّب َما أَنزَ َل الله ِّفي ِّه َو َمن لَّ ْم َي ْحكم ِّب َما أَنزَ َل الله فَأ ْولَـ ِّئ َك‬ ‫اإل ِّ‬ ‫قال تعالى‪َ  :‬و ْل َي ْحك ْم أ َ ْهل ِّ‬ ‫هم ْالفَا ِّسقونَ ‪.7‬‬ ‫جاء في تفسير ابن كثير‪ :‬وقوله تعالى (وليحكم أهل اإلنجيل بما أنزل الله فيه) قرئ ‪:‬‬ ‫وليحكم أهل اإلنجيل بالنصب‪ ،‬على أن الالم الم كي‪ ،‬أي وآتيناه اإلنجيل ليحكم أهل‬ ‫‪ 1‬سورة األعراف‪.54 :‬‬ ‫‪ 2‬سورة األنعام‪.57 :‬‬ ‫‪ 3‬سورة العنكبوت‪.4 :‬‬ ‫‪ 4‬سورة القلم‪.36 – 35 :‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪ 7‬سورة المائدة‪.47 :‬‬


‫ملته به في زمانهم‪ ،‬وقرئ وليحكم بالجزم‪ ،‬على أن الالم الم األمر‪ ،‬أي ليؤمنوا بجميع‬ ‫ما فيه‪ ،‬وليقيموا ما أمروا به فيه‪ ،‬ومما فيه البشارة ببعثة محمد ‪ ‬واألمر باتباعه‬ ‫وتصديقه إذا وجد‪ ،‬كما قال تعالى‪( :‬قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا‬ ‫التوراة واإلنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) اآلية ‪ ،‬وقال تعالى‪( :‬الذين يتبعون الرسول‬ ‫النبي األمي الذي يجدونه مكتوبا ً عندهم في التوراة) إلى قوله (المفلحون)‪ .‬ولهذا قال‬ ‫ههنا‪( :‬ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) أي الخارجون عن طاعة‬ ‫ربهم‪ ،‬المائلون إلى الباطل‪ ،‬التاركون للحق‪ ،‬وقد تقدم أن هذه اآلية نزلت في النصارى‪،‬‬ ‫وهو ظاهر من السياق‪.‬‬ ‫وقال الطبري في تفسيره‪ " :‬والذي نقول به في ذلك‪ ،‬أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا‬ ‫الصواب‪ .‬وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا‬ ‫المعنى‪ ،‬فبأي ِّ ذلك قرأ قارئ فمصيب فيه‬ ‫َ‬ ‫على نبي من أنبيائه إال ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه‪ ،‬ولم ينزله عليهم‬ ‫وأمرا بالعمل بما فيه أنزله‪ .‬فكذلك‬ ‫إال وقد أمرهم بالعمل بما فيه‪ ،‬فللعمل بما فيه أنزله‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اإلنجيل‪ ،‬إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه‪ ،‬فللعمل بما فيه أنزله على‬ ‫وأمرا بالعمل به أهلَه أنزله عليه‪ .‬فسواء قرئ على وجه األمر بتسكين الالم‪،‬‬ ‫عيسى‪،‬‬ ‫ً‬ ‫أو قرئ على وجه الخبر بكسرها‪ ،‬التفاق معنييهما‪ " .‬اهـ‬ ‫حيث جعل كل من ابن كثير والطبري الحكم بمعنى اإليمان والعمل؛ أي االتباع‪.‬‬ ‫لذلك تأول الخوارج – وهم عرب – آية‪( :‬ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم‬ ‫الكافرون) بمعنى‪ :‬ومن لم يتبع ما أنزل الله وخالف‪ ،‬فهو كافر‪.‬‬ ‫وفي اآلية عمومان‪ ،‬عموم (من) ويتعلق بالمكلف وتفيد أن كل مكلف لم يحكم بما‬ ‫أنزل الله تعالى‪ ،‬يتناوله الحكم المرتب على ذلك‪ ،‬ويدخل في جواب الشرط‪ ،‬وعموم‬ ‫(ما) ويتعلق بالحكم‪ ،‬فيدخل كل حكم من أحكام الله‪ ،‬وبالتالي فاألمر يشمل جميع ما‬ ‫حكم به الله تعالى‪.‬‬ ‫والعموم على ثالثة أنواع‪ :‬عموم باق على عمومه وعموم مخصوص‪ ،‬عموم مراد‬ ‫به الخصوص‪ ،‬لو حملناها على العموم فستستغرق الجميع حكاما ومحكومين‪ ،‬فلو أن‬ ‫شخصا مثالً لم يسا ِّو بين ورثته فسيدخل بالعموم‪ ،‬ومن هو الذي حكم بجميع ما أنزل‬ ‫الله تعالى ؟!‪.‬‬ ‫ولذلك قال ابن حزم في الفصل‪ " :‬أيضا ً فإن الله ‪-‬عز وجل ‪-‬قال‪( :‬ومن لم يحكم بما‬ ‫أنزل الله فأولئك هم الكافرون)‪( ،‬ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)‪،‬‬ ‫(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)‪ ،‬فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر‬ ‫كل عاص وظالم وفاسق‪ ،‬ألن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله‪ .".‬فسر‬ ‫الحكم هنا بمعنى االتباع‪.‬‬


‫والمقصود أنه يدخل في حكمها جميع المكلفين‪ ،‬وليس خاصا بالحكام كما يتوهم‬ ‫البعض‪.‬‬ ‫وعلى ذلك بنى السلف أقوالهم فيمن حكم بغير ما أنزل الله في واقعة ما‪ ،‬متبعا ً لهواه‪،‬‬ ‫أنه فاسق‪ ،‬أو مرتكب لكفر أصغر‪ .‬قياسا ً على سائر المعاصي‪ .‬حيث إن الحكم يكون‬ ‫بمعنى االتباع‪ ،‬ومن اتبع هواه في أمر ما فقد عصى وفسق‪.‬‬

‫البعد التارخيي ملطصلل ااحاكمةة‪:‬‬ ‫إن مصطلح الحاكمية ككلمة لم ترد في كتاب الله أو السنة الصحيحة لنبيه ‪ ،‬وأول‬ ‫سوق لهذه الكلمة كمصطلح شرعي في العصر الحديث هو اإلمام سيد قطب رحمه‬ ‫من َّ‬ ‫‪1‬‬ ‫الله حيث استشفه من كتابات الشيخ أبي األعلى المودودي رحمه الله وصاغه بأسلوب‬ ‫أدبي جذاب في كتابه معالم في الطريق وتفسيره في ظالل القرآن‪ ،2‬وأحدث تسويقه‬ ‫لها نقلة كبيرة وانحرافا خطيرا ً في صفوف الحركة اإلسالمية بشكل عام وفي قواعد‬ ‫جماعة اإلخوان المسلمين بشكل خاص‪ ،‬حيث نقل الجماعة من فكرة االنفتاح على‬ ‫المجتمع التي ركز عليها الشيخ حسن البنا إلى االنغالق على النفس واالبتعاد عن‬ ‫المجتمع حيث تم وصفه بالجاهلية والضالل وال بد من العزلة في فترة الحضانة وقاية‬ ‫له من التلوث باألفكار والثقافات الجاهلية‪ ،‬فتصدى للظاهرة كثير من رواد الحركة‬ ‫اإلسالمية وعلى رأسهم المستشار حسن الهضيبي‪ ،‬حيث قال في كتابه الشهير دعاة ال‬ ‫تعبيرا عن معان وأحكام تضمنتها‬ ‫قضاة‪(( :3‬جرت على بعض األلسن لفظة "الحاكمية"‬ ‫ً‬

‫‪ 1‬وقد اختار المودودي مصطلح الحاكمية‪ ،‬للتعبير عن مبدأ سيادة الله‪ ،‬وما يفرضه من وجوب سيادة التشريع اإلسالمي‪ ،‬إذ يرى المودودي‬ ‫المودودي «أن الحاكمية في اإلسالم خالصة لله وحده‪ ،‬فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحا ً يبيِّن أن الله وحده ال شريك له‪ ،‬ليس بالمعنى‬ ‫الديني فحسب‪ ،‬بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك‪ ...‬إن العقيدة اإلسالمية تقرر‪ :‬إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله‪ ،‬وإن‬ ‫حكم سواه موهوب وممنوح‪ ،‬وإن اإلنسان ال حظ له من الحاكمية إطالقا ً‪ ...‬وخالفة اإلنسان عن الله في األرض ال تعطي الحق للخليفة‬ ‫في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه‪ ،‬ألن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته‪ ..‬فليس ألي فرد ذرة من سلطات‬ ‫الحكم‪ ...‬وأي شخص أو جماعة يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي‪ ،‬الذي تدبر كل السلطات‬ ‫فيه ذات واحدة هو وال ريب سادر في اإلفك والبهتان‪ .‬فالله ليس مجرد خالق فقط‪ ،‬وإنما هو حاكم كذلك وآمر‪ ،‬وهو قد خلق الخلق ولم‬ ‫يهب أحدا ً حق تنفيذ حكمه فيهم‪.‬‬ ‫كما يرى المودودي «أن اإلسالم يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة لإلسالم‪ ،‬ويريد قطع دابرها‪ ،‬وال يتحرج في‬ ‫استخدام القوة الحربية لذلك‪ ،‬وهو ال يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته‪ ،‬واإليمان بمبادئ اإلسالم‪ ،‬إنما‬ ‫يريد أن ينتزع زمام األمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة‪ ،‬حتى يستتب األمر لحملة لواء الحق‪ ،‬وعليه فإن اإلسالم ليس له ‪-‬من‬ ‫هذه الوجهة– دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها‪ ،‬وإنما يملك مبادئ وأصوالً يذب عنها‪ ،‬ويستميت في الدفاع عنها‪ ،‬حتى‬ ‫ال تكون فتنة ويكون الدين كله لله»‪.‬‬ ‫‪ 2‬وقد تبنى النهج نفسه سيد قطب عندما اعتبر اإلسالم «إعالن عام لتحرير اإلنسان في األرض من العبودية للعباد‪ ،‬وذلك بإعالن ألوهية‬ ‫الله وحده‪( ،‬التي تعني) الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها‪ ،‬والتمرد الكامل على كل وضع‬ ‫في أرجاء األرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور‪ .‬إن معناه تحطيم مملكة البشر إلقامة مملكة الله في األرض»‪.‬‬ ‫و«مملكة الله في األرض‪ ...‬ال قيام لها َّإال بإزالة األنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر‪ ،‬وتحطيم األنظمة السياسية‬ ‫الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسالمها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة‪ ،‬تعتنقها أو ال تعتنقها بكامل حريتها»‪.‬‬ ‫«كل أولئك ال يتم بمجرد التبليغ والبيان‪ ،‬ألن المتسلطين على رقاب العباد‪ ،‬المغتصبين لسلطان الله في األرض‪ ،‬ال يسلمون في سلطانهم‬ ‫بمجرد التبليغ والبيان‪ ،‬إنه ال بد من الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان‪ ،‬لتحرير اإلنسان في األرض كل األرض»‪.‬‬ ‫«فاإلسالم في جهاد دائم ال ينقطع أبدا ً لتحقيق كلمة الله في األرض‪ ...‬وهو مكلف َّأال يهادن قوة من قوى الطاغوت على وجه األرض‪...‬‬ ‫واإلسالم يواجه القوى الواقعة في وجهه بواحدة من ثالث‪ :‬اإلسالم‪ ،‬أو الجزية‪ ،‬أو القتال»‪.‬‬ ‫‪ 3‬دعاة ال قضاة‪ ،‬المستشار حسن الهضيبي‪ ،‬ص‪.55‬‬


‫آيات القرآن الكريم واألحاديث الشريفة ثم أسندت اللفظة إلى اسم المولى عز وجل‬ ‫فقيل "حاكمية الله"‪.‬‬ ‫ثم تفرعت عن اللفظة مضافة إلى اسم المولى عز وجل أحكام‪ ،‬فقيل‪ :‬إن مفهوم‬ ‫ضا‬ ‫"حاكمية الله" كذا وكذا ومقتضى ذلك أن يعتقد الشخص كذا وكذا‪ ،‬وأن يكون فر ً‬ ‫عليه أن يقوم بكذا وكذا من األعمال‪ ،‬فإن لم يعملها وعمل غيرها فهو خارج عن‬ ‫"حاكمية الله" تعالى فوصفه كذا‪.‬‬ ‫ونحن على يقين أن لفظة "الحاكمية" لم ترد بأية آية من الذكر الحكيم‪ ،‬ونحن في بحثنا‬ ‫في الصحيح من أحاديث الرسول عليه الصالة والسالم لم نجد منها حديثًا قد تضمن‬ ‫تلك اللفظة فضال عن إضافتها إلى اسم المولى عز وجل‪.‬‬ ‫ويقول كذلك‪ :‬والتجارب وواقع حال الناس يقول لنا إن أصحاب الفكر والنظر‬ ‫والباحثين قد يلحظون ارتبا ً‬ ‫طا بين معاني مجموعة من اآليات بالقرآن الكريم‬ ‫واألحاديث الشريفة وفكرة بارزة فيها فيضعون (مصطل ًحا) لتلكم المعاني‪.‬‬ ‫غير أنه ال يمر إال الوجيز من الزمن حتى يستسهل الناس المصطلح الموضوع‬ ‫فيتداولونه بينهم ثم يتشدق به أناس قليل منهم من قرأ الكثير الذي كتبه الباحثون‬ ‫والمفكرون أصحاب النظر شر ًحا لآليات واألحاديث التي كانت هي األصل عندهم‬ ‫وتعبيرا عن المعاني التي الحظوها واألقل من هؤالء القليل من يكون قد استوعب ما‬ ‫ً‬ ‫كتبه الباحثون والمفكرون واستطاع أن يفهم ما أرادوه وأدرك حقيقة مقصدهم‪،‬‬ ‫والغالبية العظمى تنطق بالمصطلح وهي ال تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إال‬ ‫عفوا هنا وهناك‪ ،‬أو ألقاها إليها من قد ال يحسن الفهم أو يجيد‬ ‫عبارات مبهمة سمعتها ً‬ ‫النقل والتعبير‪.‬‬ ‫وقد ال يمضي كثير وقت حتى يستقل المصطلح بنفسه في أذهان الناس‪ ،‬ويقر في‬ ‫آذانهم أنه األصل الذي يرجع إليه‪ ،‬وأنه الحكم الكلي الجامع الذي تتفرع عنه مختلف‬ ‫األحكام التفصيلية‪ ،‬وينسى الناس أن اآليات واألحاديث التي لوحظ فيها المعنى الذي‬ ‫وضع المصطلح عنوانًا له هو األصل الذي يتعين الرجوع إليه‪ ،‬بل قد يغيب عنهم أن‬ ‫مراد واضعي المصطلح لم يكن غير التعبير عن معان عامة أرادوا إبرازها وجذب‬ ‫انتباه الناس إلى أهميتها‪ ،‬دون أن يقصدوا وضع أحكام فقهية‪ ،‬خاصة التفصيلية منها‪.‬‬ ‫انتهى كالمه رحمه الله‪.‬‬ ‫فمصطلح الحاكمية مثله مثل أي مصطلح آخر بدأ شرعيا ً وذا هدف إنساني نبيل‬ ‫بمضمونه بغض النظر عن المسميات التي قد تتشكل وفقا ً لنوعية الطرح األيديولوجي‪،‬‬ ‫فهو يعني باألساس تحرير اإلنسان من عبودية غير الله بكافة أشكال العبودية ومن‬ ‫كافة األصنام واألوثان التي قد تستعبده وتخطف منه كرامته واستقالله سوا ًء أكانت‬ ‫أصناما ً بشرية مشخصة أو تصنيما ً وثنيا ً ألنظمة سياسية أو اقتصادية أو دينية أو‬


‫اجتماعية أو غيرها‪ ،‬وهو ما عبر عنه القرآن أحسن تعبير ممثالً في قصة بني اسرائيل‬ ‫عندما اجتاز بهم موسى عليه السالم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم‬ ‫يعبدونها فقالوا لموسى اجعل لنا إلها ً كما لهؤالء القوم آلهة فنهرهم موسى بقوله كما‬ ‫عبر عنه القرآن الكريم (إن هؤالء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) وأتبعها‬ ‫بقوله وهو الشاهد هنا ‪‬وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون‬ ‫أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بالء من ربكم عظيم‪ 1‬حيث قرن القرآن الكريم‬ ‫هنا بين استعباد فرعون مصر لبني اسرائيل وسلبهم حريتهم وبين اتخاذ أولئك القوم‬ ‫أصناما ً من جماد يعبدونها ماديا ً من دون الله‪ ،‬فلم يقصرها على العبادة المادية الصرفية‬ ‫لألصنام الجمادية بل قرنها بصرف العبادة المعنوية لألصنام البشرية وهو ما ذكره‬ ‫رسول الله ‪ ‬وظل يؤكد عليه حتى التحاقه بالرفيق األعلى‪ ،‬فعندما نزل قوله تعالى‬ ‫(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إال ليعبدوا‬ ‫إله واحدا ً ال إله إال هو سبحانه عما يشركون) هبَّ عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى‬ ‫الرسول ‪ ‬وكان قد تنصر في الجاهلية كما يروي ذلك ابن كثير في تفسيره‪ 2‬عن‬ ‫طريق أحمد بن حنبل والترمذي وابن جرير من عدة طرق عنه فقال (إنا لسنا نعبدهم)‬ ‫يقصد األحبار والرهبان إذ انصرف فهمه إلى العبادة الشعائرية من صالة وصيام‬ ‫ونذر وذبح وخالفه فقال له ‪( ‬أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه‪ ،‬ويحرمون‬ ‫عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟) قال عدي بن حاتم بلى يا رسول الله قال فتلك عبادتهم‪،‬‬ ‫وهذا تشخيص واضح لمعنى العبادة المعنوية وهي األهم واألقوى أثرا ً إذ أن مجرد‬ ‫جبر البشر على اعتناق ما يخالف ما شرعه الله من تكريم اإلنسان وتقرير حريته‬ ‫واستقالله هو عبادة وربوية خالصة وإن لم تتشخص بعبادة سلوكية‪ ،‬وهو ما أراد‬ ‫القرآن الكريم تقريره والتأكيد عليه عندما قرر حاكمية الله في أمور البشر قبل أن‬ ‫يتأدلج هذا المصطلح فيما بعد‪.‬‬ ‫بدأ أول استخدام لمصطلح (الحكم) ‪-‬الذي تطور فيما بعد لمصطلح الحاكمية‪ -‬على‬ ‫أيدي الخوارج األول عندما اعترضوا على قبول االمام علي بن أبي طالب ‪ ‬للتحكيم‬ ‫بينه وبين جيش أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ‪ ،‬في موقعة صفين رغم‬ ‫أنهم (الخوارج) هم من ضغط على علي بن أبي طالب في البداية وأجبروه على قبول‬ ‫التحكيم إذعانا ً لخدعة رفع المصاحف على أسنة الرماح في الرمق األخير من‬ ‫المعركة‪ ،‬ولكنهم عادوا فاحتجوا الحقا ً على تولية الحكمين اعتقادا ً منهم أو تدجينا ً أوليا ً‬ ‫أليديولوجيتهم السياسية بأن ذلك يعني افتئاتا ً على حكم الله بتجييره للبشر ومن ثم بدأوا‬ ‫وكمرحلة طبيعية ببتر ولوي أعناق النصوص القرآنية لتتوافق مع األيديولوجية الوليدة‬ ‫علَى َب ِّينَة ِّمن َّر ِّبي َو َك َّذبْتم ِّب ِّه َما ِّعندِّي َما تَ ْست َ ْع ِّجلونَ ِّب ِّه‬ ‫فأوردوا قوله تعالى‪ :‬ق ْل ِّإنِّي َ‬ ‫اص ِّلين‪ 3‬واستندوا على هذه اآلية الكريمة‬ ‫ِّإ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه يَقص ْال َح َّق َوه َو َخيْر ْالفَ ِّ‬ ‫‪ 1‬سورة البقرة‪.41 :‬‬ ‫‪ 2‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬الحافظ ابن كثير الدمشقي‪ ،‬دار طيبة للنشر والتوزيع‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪.235‬‬ ‫‪ 3‬سورة األنعام‪.57:‬‬


‫بإصدار حكم قطعي آحادي كفروا به من خالفهم بأن قيام عمرو بن العاص وأبي‬ ‫موسى االشعري بتمثيل المعسكرين الشامي ومعسكر المهاجرين واألنصار في مسألة‬ ‫التحكيم بأنه اختطاف لحق الله تعالى في التشريع وإعطائه البشر في توطئة مبكرة‬ ‫جدا ً لمصطلح الحاكمية بنسخته التاريخية األيديولوجية السياسية‪.‬‬

‫مفهوم ااحاكمةة يف الفكر السةاسي اإلسالمي‪:‬‬ ‫يعتبر مبدأ الحاكمية أو توحيد الحاكمية أحد أبرز المصطلحات الدينية التي استخدمتها‬ ‫بعض المذاهب والتيارات اإلسالمية في تأصيل موقفها من الحكم والحاكم ومؤسسات‬ ‫الدولة كافة‪ ،‬حيث رفضت تلك الجماعات االشتغال بالعمل السياسي في البرلمان كونه‬ ‫يشرع قوانين من وضع اإلنسان وهي شكل من أشكال منازعة الله في إحدى‬ ‫اختصاصاته في التشريع‪ ،‬فضالً عن رفضهم الدستور الوضعي؛ كونه ينص على أن‬ ‫السيادة للشعب وهو ما ينازع الله أيضا ً في سيادته على الجميع‪.‬‬ ‫فالله هو الحكم العدل له الحكم واألمر ال شريك له في حكمه وتشريعه‪ .‬فكما أن الله‬ ‫ال شريك له في الملك وفي تدبير شؤون الخلق كذلك ال شريك له في الحكم والتشريع‪.‬‬ ‫عرف الدولة أنها التنظيم القانوني للمجتمع‪ ،‬وهنا نجد‬ ‫ففي الفكر السياسي الحديث ت َّ‬ ‫كيانين‪:‬‬ ‫األول له حق وضع القانون ابتداء وهو ما يعبر عنه (بالسيادة)‪.‬‬ ‫الثاني له حق ضمان نفاذ هذا القانون ولو باإلكراه هو ما يعبر عنه (بالسلطة)‪.‬‬ ‫فالسيادة على هذا هي مصدر السلطة‪ ،‬أما السلطة فهي ممارسة السيادة‪.‬‬ ‫‪-1‬مصطلح الحاكمية كمقابل لمصطلح السيادة‪ :‬الفكر السياسي اإلسالمي لم يستخدم‬ ‫مصطلح السيادة على الوجه المستخدم في الفكر السياسي الحديث‪ ،‬فإن المصطلح جديد‬ ‫نسبيا ً إذ يترجم كلمة فرنسية مشتقة من أصل التيني تعبر عن صفة لمن له السلطة ال‬ ‫يستمدها من غير ذاته وال يشاركه فيها غيره‪ ،‬بهذه الداللة كان يستعملها بعض ملوك‬ ‫فرنسا القدامى للتعبير عن استقاللهم بالسلطة عن البابوية‪.1‬‬ ‫أما المصطلح الذي يقابله في الفكر السياسي اإلسالمي فهو مصطلح الحاكمية‪ ،‬ويتضح‬ ‫لنا هذا في قول اإلمام الغزالي رحمه الله (الحاكم هو الشارع‪ ،‬و ال حكم إال لله تعالى‬ ‫ال حكم غيره‪ ،‬وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إال لمن له الخلق واألمر‪ ،‬فإنما النافذ‬ ‫حكم المالك علي مملوكه وال مالك إال الخالق‪ ،‬فال حكم وال أمر إال له‪ ،‬أما النبي ‪‬‬ ‫والسلطان والسيد و األب والزوج فان أمروا أو أوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم‪ ،‬بل‬

‫‪1‬‬

‫بحث بعنوان (مفهوم الحاكمية في الفكر السياسي اإلسالمي)‪ ،‬د‪.‬صبرى محمد خلي‪ ،‬موقع سودانيل يوم ‪.2111 – 11- 15‬‬


‫بإيجاب الله تعالى طاعتهم ‪ ،‬فالواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى‬ ‫طاعته )‪.1‬‬ ‫فالحاكم عند الغزالي هو الذي له حق وضع القانون ابتداء (الحاكم هو الشارع) كما‬ ‫انه مصدر السلطة (أما النبي ‪ ‬والسلطان والسيد واألب والزوج فان أمروا أو‬ ‫أوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى)‪.‬‬ ‫‪-2‬مصطلح األمر كمقابل لمصطلح السلطة‪ :‬كذلك فان مصطلح السلطة كما في الفكر‬ ‫السياسي الغربي لم يستخدم في الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬وان اشتق من كلمة سلطان‬ ‫نس ِّإ ِّن ا ْست َ َ‬ ‫عنِّي س ْل َ‬ ‫ط ْعت ْم‬ ‫اإل ِّ‬ ‫التي وردت في القرآن‪َ  :‬هلَ َك َ‬ ‫طا ِّنيه‪ 2‬يَا َم ْعش َ​َر ْال ِّج ِّن َو ِّ‬ ‫ض فَانفذوا الَ تَنفذونَ ِّإالَّ بِّس ْل َ‬ ‫أَن تَنفذوا ِّم ْن أ َ ْق َ‬ ‫طان‪ 3‬فإنها كما هو‬ ‫س َم َاوا ِّ‬ ‫ار ال َّ‬ ‫ت َواأل َ ْر ِّ‬ ‫ط ِّ‬ ‫واضح ال تعني السلطة باعتبارها ممارسة السيادة‪ ،‬والمصطلح المقابل له في الفكر‬ ‫السياسي اإلسالمي هو مصطلح (األمر) ومنه سمي من اسند إليه السلطة (األمير)‬ ‫الرسو َل َوأ ْو ِّلي األ َ ْم ِّر ِّمنك ْم‬ ‫و(أولي األمر)‪ ﴿.‬يَا أَي َها الَّذِّينَ آ َمنواْ أ َ ِّطيعواْ اللهَ َوأ َ ِّطيعواْ َّ‬ ‫‪4‬‬ ‫﴾‬ ‫وهو المصطلح الذي استخدمه الخلفاء الراشدين والصحابة‪:‬‬ ‫ فعند وفاة الرسول‪ ‬تحدث أبو بكر ‪ ‬عن السلطة فقال " إن محمدا قد مضي‬‫لسبيله والبد لهذا األمر من قائم يقوم به"‪.‬‬ ‫ ولما أراد العهد بالسلطة إلى عمر‪ ‬قال "تشاوروا في هذا األمر" ثم وصف عمر‬‫بصفاته وعهد إليه واستقر األمر عليه"‪.‬‬ ‫ وقال عمر بن الخطاب يصف السلطة " إن هذا األمر ال يصلح إال بالشدة التي ال‬‫جبرية فيها وباللين الذي ال وهن فيه"‪.‬‬ ‫ وتحدث علي ابن أبي طالب‪ ‬عن إن موت النبي‪ ‬قد أعقبه تنازع الناس في‬‫السلطة فقال‪ ...‬أن تنازع األمر بعده‪.‬‬ ‫ وخطب الحسن في أهل العراق في شأن السلطة فقال " أما والله لو وجدت أعوانا‬‫لقمت بهذا األمر أي قيام"‪.‬‬ ‫نقد المفهوم التشبيهي للحاكمية‪:‬‬ ‫إذا وضح لنا أن مصطلح الحاكمية يقابل مصطلح السيادة‪ ،‬ومصطلح األمر يقابل‬ ‫مصطلح السلطة‪ ،‬فان هناك مذهبا يرى أن الحاكمية تعني السلطة في الفكر السياسي‬ ‫‪ 1‬الغَزَ الي‪ ،‬حجة اإلسالم‪ :‬المستصفى (‪ 8/1‬و‪.)83‬‬ ‫‪ 2‬الحاقة‪.21:‬‬ ‫‪ 3‬الرحمن‪.33:‬‬ ‫‪ 4‬سورة النساء‪.51 :‬‬


‫الحديث‪ .‬وهذا المذهب قديم كان أول من قال به الخوارج الذين رفعوا شعار " ال حكم‬ ‫إال لله "‬ ‫وقد سبق الهضيبي في نقد هذا المفهوم سيدنا علي رضي الله فقال في معرض حديثه‬ ‫عن شعار الخوارج " ال حكم إال لله " (كلمة حق أريد بها باطل‪ ،‬نعم انه ال حكم إال‬ ‫لله ولكن هؤالء يقولون ال إمرة إال لله‪ ،‬وانه البد للناس من أمير بر أو فاجر‪ ،‬يعمل‬ ‫في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها األجل ويجمع به الفيء ويقاتل‬ ‫‪1‬‬ ‫به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ به للضعيف حتى يستريح بر ويسترح من فاجر)‬ ‫فعلي بن أبى طالب يقر إسناد الحاكمية لله (نعم انه ال حكم إال لله)‪ ،‬ولكنة ينكر فهم‬ ‫هذه الحاكمية بمعني السلطة التي أشار لها بلفظ اإلمرة (ولكن هؤالء يقولون ال إمرة‬ ‫إال لله)‪ ،‬ثم يبين ضرورة السلطة ألي مجتمع (وانه البد للناس من أمير بر أو فاجر)‪،‬‬ ‫ثم يبين أن السلطة ممارسه للسيادة خالل الزمان والمكان ومن أشكال هذه الممارسة‬ ‫جمع الفيء ومقاتلة العدو وتأمين السبل ‪...‬الخ والله تعالى منزه عن ذلك‪.‬‬ ‫كما يستند هذا المذهب إلى أن لفظ (الحكم) الوارد في القرآن يراد به السلطة‪ ،‬وهذا‬ ‫غير صحيح إذا أن هذه اللفظ إذا ورد في القرآن منسوبا ً إلى الله تعالى فانه يعني‬ ‫السيادة التكليفية والتكوينية‪ ،‬وإذا ورد منسوبا ً إلى اإلنسان فأنه يعني الفصل في‬ ‫الخصومات والقضاء كما في قوله تعالى﴿ وداؤود وسليمان إذا يحكمان في الحرث‬ ‫﴾وقوله تعالى﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾‪.‬‬ ‫كما يعني الحكمة النظرية كما في قوله تعالى عن يحيى عليه السالم﴿ يا يحيى خذ‬ ‫الكتاب بقوة واتيناه الحكم صبيا ﴾وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السالم﴿ ربي هب لي‬ ‫حكما وألحقني بالصالحين ﴾في تفسير البيضاوي أن لفظ الحكم ورد في القران بمعني‬ ‫الحكمة النظرية وفصل الخصومات‪.‬‬

‫عالقة السةادة بالسللة استنادا إىل مفهوم االستخالف‪:‬‬ ‫إسناد الحاكمية لله وحده‪:‬‬ ‫يقرر القرآن أن الحاكمية صفة ربوبية﴿ ِّإ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه أ َ َم َر أَالَّ ت َ ْعبدواْ ِّإالَّ ِّإيَّاه َذ ِّل َك‬ ‫اس الَ َي ْعلَمونَ ﴾‪.2‬‬ ‫ال ِّدين ْالقَ ِّيم َولَ ِّك َّن أ َ ْكثَ َر النَّ ِّ‬ ‫وعلى هذه فإن الحاكمية (السيادة) لله تعالى وحدة‪ ،‬وإسنادها إلى غيره سواء كان فرد‬ ‫ض َولَ ْم‬ ‫س َم َاوا ِّ‬ ‫أو فئة أو حتى الشعب هو شرك في الربوبية﴿ الَّذِّي لَه م ْلك ال َّ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِّ‬ ‫ِّيرا ﴾‪.3‬‬ ‫َيت َّ ِّخ ْذ َولَدًا َولَ ْم َيكن لَّه ش َِّريك فِّي ْالم ْل ِّك َو َخلَقَ ك َّل َ‬ ‫ش ْيء فَقَد َ​َّره ت َ ْقد ً‬ ‫‪ 1‬مصنف عبد الرزاق‪ ،‬اإلمام عبد الرزاق الصنعاني‪ ،‬ج ‪ /7‬ص ‪ 557‬حديث رقم‪37117 :‬‬ ‫‪ 2‬سورة يوسف‪.41 :‬‬ ‫‪ 3‬سورة الفرقان‪.2 :‬‬


‫أ– الحاكمية لله في الدنيا‪:‬‬ ‫لما كانت حكمته تعالى من خلق الكون إظهار صفاته‪ ،‬وأنه تعالى أظهر صفاته تكوينا ً‬ ‫وتكليفا ً‪ :‬فإن حاكميته لهذا الكون هي حاكمية تكوينية وتكليفية‪.‬‬ ‫‪.1‬الحاكمية التكوينية‪ :‬أي أن سننه تعالى تحكم حركة األشياء والظواهر واإلنسان‬ ‫حتما﴿ سنَّةَ اللَّ ِّه فِّي الَّذِّينَ َخلَ ْوا ِّمن قَبْل َولَن تَ ِّج َد ِّلسنَّ ِّة اللَّ ِّه ت َ ْبد ً‬ ‫ِّيال ﴾‪.1‬‬ ‫‪ .2‬الحاكمية التكليفية‪ :‬مضمونها وجوب أن تحكم قواعد شريعته حركة الفرد‬ ‫والمجتمع﴿ َو َما ْ‬ ‫علَ ْي ِّه ت َ َو َّك ْلت َو ِّإلَ ْي ِّه‬ ‫اختَلَ ْفت ْم فِّي ِّه ِّمن َ‬ ‫ش ْيء فَح ْكمه ِّإلَى اللَّ ِّه َذ ِّلكم اللَّه َربِّي َ‬ ‫أنِّيب ﴾‪.2‬‬ ‫ب‪-‬الحاكمية لله في اآلخرة‪:‬‬ ‫ولما كانت اآلخرة في التصور اإلسالمي قائمه على الظهور الذاتي فان الحاكمية‬ ‫ستكون له تعالى وحدة﴿ قَا َل الَّذِّينَ ا ْست َ ْكبَروا ِّإنَّا كل فِّي َها ِّإ َّن اللَّهَ قَ ْد َح َك َم َبيْنَ ا ْل ِّعبَا ِّد ﴾‪.3‬‬ ‫استخالف الجماعة في إظهار حاكميته‪ :‬هذا فان الله تعالى بعد أن أسند الحاكمية لذاته‬ ‫استخلف الجماعة في إظهارها في األرض‪ ،‬بأن أسند اليها السلطة‪-‬األمر‪-‬التي هي‬ ‫ممارسة السيادة‪-‬الحاكمية‪-‬في الزمان والمكان أي إظهار لها في االرض‪.‬‬ ‫أما أدلة اسناد السلطة‪-‬األمر‪-‬الى الجماعة فهي تقرير القرآن األمر شورى بين‬ ‫المسلمين‪ ،‬ومصطلح األمر كما أوضحنا يقابل مصطلح السلطة "وأمرهم شورى‬ ‫ض‬ ‫ف فِّي ْاأل َ ْر ِّ‬ ‫بينهم"‪ ،‬وكذلك عموم االستخالف في القرآن ‪ ﴿...‬ه َو الَّذِّي َجعَلَك ْم خ َ​َالئِّ َ‬ ‫﴾‪ .4‬يقول المودودي (أن الله قد وعد جميع المؤمنين باالستخالف ولم يقل أنه يستخلف‬ ‫أحدا منهم‪ ،‬فالظاهر من هذا أن المؤمنين كلهم خلفاء الله وهذه الخالفة التي آويتها‬ ‫المؤمنين خالف عمومية ال يستبد بها فرد أو أسرة أو طبقه)‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة األحزاب‪62 :‬‬ ‫‪ 2‬سورة الشورى‪11 :‬‬ ‫‪ 3‬سورة غافر‪.48 :‬‬ ‫‪ 4‬سورة فاطر‪.31 :‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.