الحــاكـميـة تطورها ودالالتها
أويس العبد الله
تعريف الحاكمية: معنى الحكم لغة وشرعاً.
دالالت كلمة حيكم يف القرآن والسنة: " قال ابن فارس :مادة (ح ك م) أصل واحد هو المنع ،1وقال الراغب األصفهاني كمت َح َك َم :أصله منع منعا إلصالح ،ومنه سميت اللجام :حكمة الدابة ،فقيلَ :ح َك ْمته و َح ْ الدابة :منعتها بالحكمة ،وأحكمتها جعلت لها حكمة ،وكذلك حكمت السفيه وأحكمته قال الشاعر :أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ،أي امنعوهم وخذوا على أيديهم. والحكم بالشيء أن تقضي بأنه كذا ،أو ليس بكذا ،سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه، ويقال حاكم لمن يحكم بين الناس ،ويقال ال َح َكم للواحد والجمع وتحاكمنا إلى الحاكم.2 وأما التحاكم والتحكيم :فالعرب تقول :ح َّكمت فالنا إذا أطلقت يده فيما يشاء واحتكموا إلى الحاكم بمعنى ،ويقول العرب أيضا :حكمت وأحكمت وح َّكمت بمعنى منعت ورددت.3 وفي القرآن تأتي مادة الحكم على عدة معان منها :الفقه والحكمة والفصل والقضاء والموعظة والفهم والعلم النبوة وحسن التأويل ،4وتأتي كذلك بمعنى األمر الشرعي، ْف ي َح ِّكمون ََك َو ِّعن َدهم الت َّ ْو َراة فِّي َها ح ْكم الل ِّه ث َّم يَتَ َولَّ ْونَ ِّمن َب ْع ِّد كقول الله تعالىَ :و َكي َ َذ ِّل َك َو َما أ ْولَـئِّ َك بِّ ْالمؤْ ِّمنِّين ََ( 5بمعنى ،فيها أمر الله وشرعه). ع ِّليم َح ِّكيم .6بمعنى أمره وشريعته، وكقوله تعالىَ :ذ ِّلك ْم ح ْكم اللَّ ِّه َي ْحكم َب ْينَك ْم َواللَّه َ قال ابن كثير في تفسيره لهذه اآلية " :وقوله تعالى :ذلكم حكم الله يحكم بينكم 7أي في الصلح واستثناء النساء منه ،واألمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه ". ولذلك تسمى األوامر الشرعية أحكاماً. ومن ذلك استدالل يوسف – عليه السالم – بالحكم إلثبات األمر في قولهِّ :إ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه أ َ َم َر أَالَّ ت َ ْعبدواْ ِّإالَّ ِّإيَّاه .8بمعنى ،إن األمر لله وحده ،وهو من يلزمكم بطاعته
1معجم مقاييس اللغة ،الثعالبي 11/2 ،ـ مطبعة الحلبي. 2مفردات ألفاظ القرآن ،مادة حكم 248ـ دار القلم. 3تهذيب اللغة ـ .114/4 4انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي ـ عبد العزيز مصطفى كامل ـ دار طيبة ـ ط :األولى ،عن رسالة :حكم من تحاكم للطواغيت، للهرفي. 5سورة المائدة.43 : 6سورة الممتحنة.11 : 7سورة الممتحنة.11 : 8سورة يوسف.41 :
في أوامره ،ال طاعة غيره من الطواغيت .وهذه اآلية نظير قوله تعالى :أَالَ لَه ار َك الله َرب ْال َعالَ ِّمينَ .1 ْالخ َْلق َواأل َ ْمر تَ َب َ علَى َب ِّينَة ِّمن َّر ِّبي َو َك َّذبْتم ِّب ِّه ويأتي الحكم كذلك بمعنى المشيئة .قال تعالى :ق ْل ِّإنِّي َ 2 اصلِّينَ َما ِّعندِّي َما ت َ ْستَ ْع ِّجلونَ ِّب ِّه ِّإ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه يَقص ْال َح َّق َوه َو َخيْر ْالفَ ِّ قال ابن كثير في تفسيره " :إن الحكم إال لله أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله ،إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك ،وإن شاء أنظركم وأجلكم ،لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ". ت أَن سيِّئَا ِّ ب الَّذِّينَ َي ْع َملونَ ال َّ وتأتي كذلك بمعنى الرأي والظن ،قال تعالى :أ َ ْم َح ِّس َ سا َء َما يَ ْحكمونَ أي ساء َما َي ْحكمونَ .3وقد فسرها ابن كثير فقالَ : يَ ْسبِّقونَا * َ بئس ما يظنون. ْف تَ ْحكمونَ .4 وكذلك في قوله تعالى :أ َ َفن َْج َعل ْالم ْس ِّل ِّمينَ َك ْالم ْج ِّر ِّمين ََ َما لَك ْم َكي َ قال ابن كثير أي أفنساوي بين هؤالء وهؤالء في الجزاء؟ كال ورب األرض والسماء؛ ْف ت َ ْحكمونَ !أي :كيف تظنون ذلك؟ ولهذا قال َ ما لَك ْم َكي َ وجاء في الحديث(( :وإذا حاصرت أهل حصن ،فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فال تنزلهم على حكم الله .ولكن أنزلهم على حكمك .فإنك ال تدري أتصيب حكم الله فيهم أم ال)) .بمعنى :أنزلهم على رأيك. وفي الحديث اآلخر(( :فقال :يا سعد إن هؤالء نزلوا على حكمك .قال :فإني أحكم فيهم أن تقاتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ،قال :حكمت بحكم الله ،أو :بحكم الملك)) .بمعنى: نزلوا على ما تراه فيهم. وقد تكون بمعنى يشرع أو يقضي فاحكم بيننا بالحق وال تشطط 5أو يجتهد وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين.6 ومن المعاني المهمة لكلمة الحكم :االتباع .وهو أساس بحث الحاكمية. نجي ِّل ِّب َما أَنزَ َل الله ِّفي ِّه َو َمن لَّ ْم َي ْحكم ِّب َما أَنزَ َل الله فَأ ْولَـ ِّئ َك اإل ِّ قال تعالىَ :و ْل َي ْحك ْم أ َ ْهل ِّ هم ْالفَا ِّسقونَ .7 جاء في تفسير ابن كثير :وقوله تعالى (وليحكم أهل اإلنجيل بما أنزل الله فيه) قرئ : وليحكم أهل اإلنجيل بالنصب ،على أن الالم الم كي ،أي وآتيناه اإلنجيل ليحكم أهل 1سورة األعراف.54 : 2سورة األنعام.57 : 3سورة العنكبوت.4 : 4سورة القلم.36 – 35 : 5 6
7سورة المائدة.47 :
ملته به في زمانهم ،وقرئ وليحكم بالجزم ،على أن الالم الم األمر ،أي ليؤمنوا بجميع ما فيه ،وليقيموا ما أمروا به فيه ،ومما فيه البشارة ببعثة محمد واألمر باتباعه وتصديقه إذا وجد ،كما قال تعالى( :قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة واإلنجيل وما أنزل إليكم من ربكم) اآلية ،وقال تعالى( :الذين يتبعون الرسول النبي األمي الذي يجدونه مكتوبا ً عندهم في التوراة) إلى قوله (المفلحون) .ولهذا قال ههنا( :ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) أي الخارجون عن طاعة ربهم ،المائلون إلى الباطل ،التاركون للحق ،وقد تقدم أن هذه اآلية نزلت في النصارى، وهو ظاهر من السياق. وقال الطبري في تفسيره " :والذي نقول به في ذلك ،أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الصواب .وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا المعنى ،فبأي ِّ ذلك قرأ قارئ فمصيب فيه َ على نبي من أنبيائه إال ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه ،ولم ينزله عليهم وأمرا بالعمل بما فيه أنزله .فكذلك إال وقد أمرهم بالعمل بما فيه ،فللعمل بما فيه أنزله، ً اإلنجيل ،إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ،فللعمل بما فيه أنزله على وأمرا بالعمل به أهلَه أنزله عليه .فسواء قرئ على وجه األمر بتسكين الالم، عيسى، ً أو قرئ على وجه الخبر بكسرها ،التفاق معنييهما " .اهـ حيث جعل كل من ابن كثير والطبري الحكم بمعنى اإليمان والعمل؛ أي االتباع. لذلك تأول الخوارج – وهم عرب – آية( :ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) بمعنى :ومن لم يتبع ما أنزل الله وخالف ،فهو كافر. وفي اآلية عمومان ،عموم (من) ويتعلق بالمكلف وتفيد أن كل مكلف لم يحكم بما أنزل الله تعالى ،يتناوله الحكم المرتب على ذلك ،ويدخل في جواب الشرط ،وعموم (ما) ويتعلق بالحكم ،فيدخل كل حكم من أحكام الله ،وبالتالي فاألمر يشمل جميع ما حكم به الله تعالى. والعموم على ثالثة أنواع :عموم باق على عمومه وعموم مخصوص ،عموم مراد به الخصوص ،لو حملناها على العموم فستستغرق الجميع حكاما ومحكومين ،فلو أن شخصا مثالً لم يسا ِّو بين ورثته فسيدخل بالعموم ،ومن هو الذي حكم بجميع ما أنزل الله تعالى ؟!. ولذلك قال ابن حزم في الفصل " :أيضا ً فإن الله -عز وجل -قال( :ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)( ،ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) ،فيلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق ،ألن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله .".فسر الحكم هنا بمعنى االتباع.
والمقصود أنه يدخل في حكمها جميع المكلفين ،وليس خاصا بالحكام كما يتوهم البعض. وعلى ذلك بنى السلف أقوالهم فيمن حكم بغير ما أنزل الله في واقعة ما ،متبعا ً لهواه، أنه فاسق ،أو مرتكب لكفر أصغر .قياسا ً على سائر المعاصي .حيث إن الحكم يكون بمعنى االتباع ،ومن اتبع هواه في أمر ما فقد عصى وفسق.
البعد التارخيي ملطصلل ااحاكمةة: إن مصطلح الحاكمية ككلمة لم ترد في كتاب الله أو السنة الصحيحة لنبيه ،وأول سوق لهذه الكلمة كمصطلح شرعي في العصر الحديث هو اإلمام سيد قطب رحمه من َّ 1 الله حيث استشفه من كتابات الشيخ أبي األعلى المودودي رحمه الله وصاغه بأسلوب أدبي جذاب في كتابه معالم في الطريق وتفسيره في ظالل القرآن ،2وأحدث تسويقه لها نقلة كبيرة وانحرافا خطيرا ً في صفوف الحركة اإلسالمية بشكل عام وفي قواعد جماعة اإلخوان المسلمين بشكل خاص ،حيث نقل الجماعة من فكرة االنفتاح على المجتمع التي ركز عليها الشيخ حسن البنا إلى االنغالق على النفس واالبتعاد عن المجتمع حيث تم وصفه بالجاهلية والضالل وال بد من العزلة في فترة الحضانة وقاية له من التلوث باألفكار والثقافات الجاهلية ،فتصدى للظاهرة كثير من رواد الحركة اإلسالمية وعلى رأسهم المستشار حسن الهضيبي ،حيث قال في كتابه الشهير دعاة ال تعبيرا عن معان وأحكام تضمنتها قضاة(( :3جرت على بعض األلسن لفظة "الحاكمية" ً
1وقد اختار المودودي مصطلح الحاكمية ،للتعبير عن مبدأ سيادة الله ،وما يفرضه من وجوب سيادة التشريع اإلسالمي ،إذ يرى المودودي المودودي «أن الحاكمية في اإلسالم خالصة لله وحده ،فالقرآن يشرح عقيدة التوحيد شرحا ً يبيِّن أن الله وحده ال شريك له ،ليس بالمعنى الديني فحسب ،بل بالمعنى السياسي والقانوني كذلك ...إن العقيدة اإلسالمية تقرر :إن الحق تعالى وحده هو الحاكم بذاته وأصله ،وإن حكم سواه موهوب وممنوح ،وإن اإلنسان ال حظ له من الحاكمية إطالقا ً ...وخالفة اإلنسان عن الله في األرض ال تعطي الحق للخليفة في العمل بما يشير به هواه وما تقضي به مشيئة شخصه ،ألن عمله ومهمته تنفيذ مشيئة المالك ورغبته ..فليس ألي فرد ذرة من سلطات الحكم ...وأي شخص أو جماعة يدَّعي لنفسه أو لغيره حاكمية كلية أو جزئية في ظل هذا النظام الكوني المركزي ،الذي تدبر كل السلطات فيه ذات واحدة هو وال ريب سادر في اإلفك والبهتان .فالله ليس مجرد خالق فقط ،وإنما هو حاكم كذلك وآمر ،وهو قد خلق الخلق ولم يهب أحدا ً حق تنفيذ حكمه فيهم. كما يرى المودودي «أن اإلسالم يضاد ويعارض الممالك القائمة على المبادئ المناقضة لإلسالم ،ويريد قطع دابرها ،وال يتحرج في استخدام القوة الحربية لذلك ،وهو ال يريد بهذه الحملة أن يكره من يخالفه في الفكرة على ترك عقيدته ،واإليمان بمبادئ اإلسالم ،إنما يريد أن ينتزع زمام األمر ممن يؤمنون بالمبادئ والنظم الباطلة ،حتى يستتب األمر لحملة لواء الحق ،وعليه فإن اإلسالم ليس له -من هذه الوجهة– دار محدودة بالحدود الجغرافية يذود ويدافع عنها ،وإنما يملك مبادئ وأصوالً يذب عنها ،ويستميت في الدفاع عنها ،حتى ال تكون فتنة ويكون الدين كله لله». 2وقد تبنى النهج نفسه سيد قطب عندما اعتبر اإلسالم «إعالن عام لتحرير اإلنسان في األرض من العبودية للعباد ،وذلك بإعالن ألوهية الله وحده( ،التي تعني) الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ،والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء األرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور .إن معناه تحطيم مملكة البشر إلقامة مملكة الله في األرض». و«مملكة الله في األرض ...ال قيام لها َّإال بإزالة األنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر ،وتحطيم األنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلن استسالمها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة ،تعتنقها أو ال تعتنقها بكامل حريتها». «كل أولئك ال يتم بمجرد التبليغ والبيان ،ألن المتسلطين على رقاب العباد ،المغتصبين لسلطان الله في األرض ،ال يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان ،إنه ال بد من الجهاد بالسيف إلى جانب الجهاد بالبيان ،لتحرير اإلنسان في األرض كل األرض». «فاإلسالم في جهاد دائم ال ينقطع أبدا ً لتحقيق كلمة الله في األرض ...وهو مكلف َّأال يهادن قوة من قوى الطاغوت على وجه األرض... واإلسالم يواجه القوى الواقعة في وجهه بواحدة من ثالث :اإلسالم ،أو الجزية ،أو القتال». 3دعاة ال قضاة ،المستشار حسن الهضيبي ،ص.55
آيات القرآن الكريم واألحاديث الشريفة ثم أسندت اللفظة إلى اسم المولى عز وجل فقيل "حاكمية الله". ثم تفرعت عن اللفظة مضافة إلى اسم المولى عز وجل أحكام ،فقيل :إن مفهوم ضا "حاكمية الله" كذا وكذا ومقتضى ذلك أن يعتقد الشخص كذا وكذا ،وأن يكون فر ً عليه أن يقوم بكذا وكذا من األعمال ،فإن لم يعملها وعمل غيرها فهو خارج عن "حاكمية الله" تعالى فوصفه كذا. ونحن على يقين أن لفظة "الحاكمية" لم ترد بأية آية من الذكر الحكيم ،ونحن في بحثنا في الصحيح من أحاديث الرسول عليه الصالة والسالم لم نجد منها حديثًا قد تضمن تلك اللفظة فضال عن إضافتها إلى اسم المولى عز وجل. ويقول كذلك :والتجارب وواقع حال الناس يقول لنا إن أصحاب الفكر والنظر والباحثين قد يلحظون ارتبا ً طا بين معاني مجموعة من اآليات بالقرآن الكريم واألحاديث الشريفة وفكرة بارزة فيها فيضعون (مصطل ًحا) لتلكم المعاني. غير أنه ال يمر إال الوجيز من الزمن حتى يستسهل الناس المصطلح الموضوع فيتداولونه بينهم ثم يتشدق به أناس قليل منهم من قرأ الكثير الذي كتبه الباحثون والمفكرون أصحاب النظر شر ًحا لآليات واألحاديث التي كانت هي األصل عندهم وتعبيرا عن المعاني التي الحظوها واألقل من هؤالء القليل من يكون قد استوعب ما ً كتبه الباحثون والمفكرون واستطاع أن يفهم ما أرادوه وأدرك حقيقة مقصدهم، والغالبية العظمى تنطق بالمصطلح وهي ال تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إال عفوا هنا وهناك ،أو ألقاها إليها من قد ال يحسن الفهم أو يجيد عبارات مبهمة سمعتها ً النقل والتعبير. وقد ال يمضي كثير وقت حتى يستقل المصطلح بنفسه في أذهان الناس ،ويقر في آذانهم أنه األصل الذي يرجع إليه ،وأنه الحكم الكلي الجامع الذي تتفرع عنه مختلف األحكام التفصيلية ،وينسى الناس أن اآليات واألحاديث التي لوحظ فيها المعنى الذي وضع المصطلح عنوانًا له هو األصل الذي يتعين الرجوع إليه ،بل قد يغيب عنهم أن مراد واضعي المصطلح لم يكن غير التعبير عن معان عامة أرادوا إبرازها وجذب انتباه الناس إلى أهميتها ،دون أن يقصدوا وضع أحكام فقهية ،خاصة التفصيلية منها. انتهى كالمه رحمه الله. فمصطلح الحاكمية مثله مثل أي مصطلح آخر بدأ شرعيا ً وذا هدف إنساني نبيل بمضمونه بغض النظر عن المسميات التي قد تتشكل وفقا ً لنوعية الطرح األيديولوجي، فهو يعني باألساس تحرير اإلنسان من عبودية غير الله بكافة أشكال العبودية ومن كافة األصنام واألوثان التي قد تستعبده وتخطف منه كرامته واستقالله سوا ًء أكانت أصناما ً بشرية مشخصة أو تصنيما ً وثنيا ً ألنظمة سياسية أو اقتصادية أو دينية أو
اجتماعية أو غيرها ،وهو ما عبر عنه القرآن أحسن تعبير ممثالً في قصة بني اسرائيل عندما اجتاز بهم موسى عليه السالم البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم يعبدونها فقالوا لموسى اجعل لنا إلها ً كما لهؤالء القوم آلهة فنهرهم موسى بقوله كما عبر عنه القرآن الكريم (إن هؤالء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) وأتبعها بقوله وهو الشاهد هنا وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بالء من ربكم عظيم 1حيث قرن القرآن الكريم هنا بين استعباد فرعون مصر لبني اسرائيل وسلبهم حريتهم وبين اتخاذ أولئك القوم أصناما ً من جماد يعبدونها ماديا ً من دون الله ،فلم يقصرها على العبادة المادية الصرفية لألصنام الجمادية بل قرنها بصرف العبادة المعنوية لألصنام البشرية وهو ما ذكره رسول الله وظل يؤكد عليه حتى التحاقه بالرفيق األعلى ،فعندما نزل قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إال ليعبدوا إله واحدا ً ال إله إال هو سبحانه عما يشركون) هبَّ عدي بن حاتم رضي الله عنه إلى الرسول وكان قد تنصر في الجاهلية كما يروي ذلك ابن كثير في تفسيره 2عن طريق أحمد بن حنبل والترمذي وابن جرير من عدة طرق عنه فقال (إنا لسنا نعبدهم) يقصد األحبار والرهبان إذ انصرف فهمه إلى العبادة الشعائرية من صالة وصيام ونذر وذبح وخالفه فقال له ( أليسوا يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه ،ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟) قال عدي بن حاتم بلى يا رسول الله قال فتلك عبادتهم، وهذا تشخيص واضح لمعنى العبادة المعنوية وهي األهم واألقوى أثرا ً إذ أن مجرد جبر البشر على اعتناق ما يخالف ما شرعه الله من تكريم اإلنسان وتقرير حريته واستقالله هو عبادة وربوية خالصة وإن لم تتشخص بعبادة سلوكية ،وهو ما أراد القرآن الكريم تقريره والتأكيد عليه عندما قرر حاكمية الله في أمور البشر قبل أن يتأدلج هذا المصطلح فيما بعد. بدأ أول استخدام لمصطلح (الحكم) -الذي تطور فيما بعد لمصطلح الحاكمية -على أيدي الخوارج األول عندما اعترضوا على قبول االمام علي بن أبي طالب للتحكيم بينه وبين جيش أهل الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ،في موقعة صفين رغم أنهم (الخوارج) هم من ضغط على علي بن أبي طالب في البداية وأجبروه على قبول التحكيم إذعانا ً لخدعة رفع المصاحف على أسنة الرماح في الرمق األخير من المعركة ،ولكنهم عادوا فاحتجوا الحقا ً على تولية الحكمين اعتقادا ً منهم أو تدجينا ً أوليا ً أليديولوجيتهم السياسية بأن ذلك يعني افتئاتا ً على حكم الله بتجييره للبشر ومن ثم بدأوا وكمرحلة طبيعية ببتر ولوي أعناق النصوص القرآنية لتتوافق مع األيديولوجية الوليدة علَى َب ِّينَة ِّمن َّر ِّبي َو َك َّذبْتم ِّب ِّه َما ِّعندِّي َما تَ ْست َ ْع ِّجلونَ ِّب ِّه فأوردوا قوله تعالى :ق ْل ِّإنِّي َ اص ِّلين 3واستندوا على هذه اآلية الكريمة ِّإ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه يَقص ْال َح َّق َوه َو َخيْر ْالفَ ِّ 1سورة البقرة.41 : 2تفسير القرآن العظيم ،الحافظ ابن كثير الدمشقي ،دار طيبة للنشر والتوزيع ،ج ،4ص .235 3سورة األنعام.57:
بإصدار حكم قطعي آحادي كفروا به من خالفهم بأن قيام عمرو بن العاص وأبي موسى االشعري بتمثيل المعسكرين الشامي ومعسكر المهاجرين واألنصار في مسألة التحكيم بأنه اختطاف لحق الله تعالى في التشريع وإعطائه البشر في توطئة مبكرة جدا ً لمصطلح الحاكمية بنسخته التاريخية األيديولوجية السياسية.
مفهوم ااحاكمةة يف الفكر السةاسي اإلسالمي: يعتبر مبدأ الحاكمية أو توحيد الحاكمية أحد أبرز المصطلحات الدينية التي استخدمتها بعض المذاهب والتيارات اإلسالمية في تأصيل موقفها من الحكم والحاكم ومؤسسات الدولة كافة ،حيث رفضت تلك الجماعات االشتغال بالعمل السياسي في البرلمان كونه يشرع قوانين من وضع اإلنسان وهي شكل من أشكال منازعة الله في إحدى اختصاصاته في التشريع ،فضالً عن رفضهم الدستور الوضعي؛ كونه ينص على أن السيادة للشعب وهو ما ينازع الله أيضا ً في سيادته على الجميع. فالله هو الحكم العدل له الحكم واألمر ال شريك له في حكمه وتشريعه .فكما أن الله ال شريك له في الملك وفي تدبير شؤون الخلق كذلك ال شريك له في الحكم والتشريع. عرف الدولة أنها التنظيم القانوني للمجتمع ،وهنا نجد ففي الفكر السياسي الحديث ت َّ كيانين: األول له حق وضع القانون ابتداء وهو ما يعبر عنه (بالسيادة). الثاني له حق ضمان نفاذ هذا القانون ولو باإلكراه هو ما يعبر عنه (بالسلطة). فالسيادة على هذا هي مصدر السلطة ،أما السلطة فهي ممارسة السيادة. -1مصطلح الحاكمية كمقابل لمصطلح السيادة :الفكر السياسي اإلسالمي لم يستخدم مصطلح السيادة على الوجه المستخدم في الفكر السياسي الحديث ،فإن المصطلح جديد نسبيا ً إذ يترجم كلمة فرنسية مشتقة من أصل التيني تعبر عن صفة لمن له السلطة ال يستمدها من غير ذاته وال يشاركه فيها غيره ،بهذه الداللة كان يستعملها بعض ملوك فرنسا القدامى للتعبير عن استقاللهم بالسلطة عن البابوية.1 أما المصطلح الذي يقابله في الفكر السياسي اإلسالمي فهو مصطلح الحاكمية ،ويتضح لنا هذا في قول اإلمام الغزالي رحمه الله (الحاكم هو الشارع ،و ال حكم إال لله تعالى ال حكم غيره ،وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إال لمن له الخلق واألمر ،فإنما النافذ حكم المالك علي مملوكه وال مالك إال الخالق ،فال حكم وال أمر إال له ،أما النبي والسلطان والسيد و األب والزوج فان أمروا أو أوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم ،بل
1
بحث بعنوان (مفهوم الحاكمية في الفكر السياسي اإلسالمي) ،د.صبرى محمد خلي ،موقع سودانيل يوم .2111 – 11- 15
بإيجاب الله تعالى طاعتهم ،فالواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته ).1 فالحاكم عند الغزالي هو الذي له حق وضع القانون ابتداء (الحاكم هو الشارع) كما انه مصدر السلطة (أما النبي والسلطان والسيد واألب والزوج فان أمروا أو أوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى). -2مصطلح األمر كمقابل لمصطلح السلطة :كذلك فان مصطلح السلطة كما في الفكر السياسي الغربي لم يستخدم في الفكر السياسي اإلسالمي ،وان اشتق من كلمة سلطان نس ِّإ ِّن ا ْست َ َ عنِّي س ْل َ ط ْعت ْم اإل ِّ التي وردت في القرآنَ :هلَ َك َ طا ِّنيه 2يَا َم ْعش ََر ْال ِّج ِّن َو ِّ ض فَانفذوا الَ تَنفذونَ ِّإالَّ بِّس ْل َ أَن تَنفذوا ِّم ْن أ َ ْق َ طان 3فإنها كما هو س َم َاوا ِّ ار ال َّ ت َواأل َ ْر ِّ ط ِّ واضح ال تعني السلطة باعتبارها ممارسة السيادة ،والمصطلح المقابل له في الفكر السياسي اإلسالمي هو مصطلح (األمر) ومنه سمي من اسند إليه السلطة (األمير) الرسو َل َوأ ْو ِّلي األ َ ْم ِّر ِّمنك ْم و(أولي األمر) ﴿.يَا أَي َها الَّذِّينَ آ َمنواْ أ َ ِّطيعواْ اللهَ َوأ َ ِّطيعواْ َّ 4 ﴾ وهو المصطلح الذي استخدمه الخلفاء الراشدين والصحابة: فعند وفاة الرسول تحدث أبو بكر عن السلطة فقال " إن محمدا قد مضيلسبيله والبد لهذا األمر من قائم يقوم به". ولما أراد العهد بالسلطة إلى عمر قال "تشاوروا في هذا األمر" ثم وصف عمربصفاته وعهد إليه واستقر األمر عليه". وقال عمر بن الخطاب يصف السلطة " إن هذا األمر ال يصلح إال بالشدة التي الجبرية فيها وباللين الذي ال وهن فيه". وتحدث علي ابن أبي طالب عن إن موت النبي قد أعقبه تنازع الناس فيالسلطة فقال ...أن تنازع األمر بعده. وخطب الحسن في أهل العراق في شأن السلطة فقال " أما والله لو وجدت أعوانالقمت بهذا األمر أي قيام". نقد المفهوم التشبيهي للحاكمية: إذا وضح لنا أن مصطلح الحاكمية يقابل مصطلح السيادة ،ومصطلح األمر يقابل مصطلح السلطة ،فان هناك مذهبا يرى أن الحاكمية تعني السلطة في الفكر السياسي 1الغَزَ الي ،حجة اإلسالم :المستصفى ( 8/1و.)83 2الحاقة.21: 3الرحمن.33: 4سورة النساء.51 :
الحديث .وهذا المذهب قديم كان أول من قال به الخوارج الذين رفعوا شعار " ال حكم إال لله " وقد سبق الهضيبي في نقد هذا المفهوم سيدنا علي رضي الله فقال في معرض حديثه عن شعار الخوارج " ال حكم إال لله " (كلمة حق أريد بها باطل ،نعم انه ال حكم إال لله ولكن هؤالء يقولون ال إمرة إال لله ،وانه البد للناس من أمير بر أو فاجر ،يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها األجل ويجمع به الفيء ويقاتل 1 به العدو وتؤمن به السبل ويؤخذ به للضعيف حتى يستريح بر ويسترح من فاجر) فعلي بن أبى طالب يقر إسناد الحاكمية لله (نعم انه ال حكم إال لله) ،ولكنة ينكر فهم هذه الحاكمية بمعني السلطة التي أشار لها بلفظ اإلمرة (ولكن هؤالء يقولون ال إمرة إال لله) ،ثم يبين ضرورة السلطة ألي مجتمع (وانه البد للناس من أمير بر أو فاجر)، ثم يبين أن السلطة ممارسه للسيادة خالل الزمان والمكان ومن أشكال هذه الممارسة جمع الفيء ومقاتلة العدو وتأمين السبل ...الخ والله تعالى منزه عن ذلك. كما يستند هذا المذهب إلى أن لفظ (الحكم) الوارد في القرآن يراد به السلطة ،وهذا غير صحيح إذا أن هذه اللفظ إذا ورد في القرآن منسوبا ً إلى الله تعالى فانه يعني السيادة التكليفية والتكوينية ،وإذا ورد منسوبا ً إلى اإلنسان فأنه يعني الفصل في الخصومات والقضاء كما في قوله تعالى﴿ وداؤود وسليمان إذا يحكمان في الحرث ﴾وقوله تعالى﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾. كما يعني الحكمة النظرية كما في قوله تعالى عن يحيى عليه السالم﴿ يا يحيى خذ الكتاب بقوة واتيناه الحكم صبيا ﴾وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السالم﴿ ربي هب لي حكما وألحقني بالصالحين ﴾في تفسير البيضاوي أن لفظ الحكم ورد في القران بمعني الحكمة النظرية وفصل الخصومات.
عالقة السةادة بالسللة استنادا إىل مفهوم االستخالف: إسناد الحاكمية لله وحده: يقرر القرآن أن الحاكمية صفة ربوبية﴿ ِّإ ِّن ْالح ْكم ِّإالَّ ِّلل ِّه أ َ َم َر أَالَّ ت َ ْعبدواْ ِّإالَّ ِّإيَّاه َذ ِّل َك اس الَ َي ْعلَمونَ ﴾.2 ال ِّدين ْالقَ ِّيم َولَ ِّك َّن أ َ ْكثَ َر النَّ ِّ وعلى هذه فإن الحاكمية (السيادة) لله تعالى وحدة ،وإسنادها إلى غيره سواء كان فرد ض َولَ ْم س َم َاوا ِّ أو فئة أو حتى الشعب هو شرك في الربوبية﴿ الَّذِّي لَه م ْلك ال َّ ت َو ْاأل َ ْر ِّ ِّيرا ﴾.3 َيت َّ ِّخ ْذ َولَدًا َولَ ْم َيكن لَّه ش َِّريك فِّي ْالم ْل ِّك َو َخلَقَ ك َّل َ ش ْيء فَقَد ََّره ت َ ْقد ً 1مصنف عبد الرزاق ،اإلمام عبد الرزاق الصنعاني ،ج /7ص 557حديث رقم37117 : 2سورة يوسف.41 : 3سورة الفرقان.2 :
أ– الحاكمية لله في الدنيا: لما كانت حكمته تعالى من خلق الكون إظهار صفاته ،وأنه تعالى أظهر صفاته تكوينا ً وتكليفا ً :فإن حاكميته لهذا الكون هي حاكمية تكوينية وتكليفية. .1الحاكمية التكوينية :أي أن سننه تعالى تحكم حركة األشياء والظواهر واإلنسان حتما﴿ سنَّةَ اللَّ ِّه فِّي الَّذِّينَ َخلَ ْوا ِّمن قَبْل َولَن تَ ِّج َد ِّلسنَّ ِّة اللَّ ِّه ت َ ْبد ً ِّيال ﴾.1 .2الحاكمية التكليفية :مضمونها وجوب أن تحكم قواعد شريعته حركة الفرد والمجتمع﴿ َو َما ْ علَ ْي ِّه ت َ َو َّك ْلت َو ِّإلَ ْي ِّه اختَلَ ْفت ْم فِّي ِّه ِّمن َ ش ْيء فَح ْكمه ِّإلَى اللَّ ِّه َذ ِّلكم اللَّه َربِّي َ أنِّيب ﴾.2 ب-الحاكمية لله في اآلخرة: ولما كانت اآلخرة في التصور اإلسالمي قائمه على الظهور الذاتي فان الحاكمية ستكون له تعالى وحدة﴿ قَا َل الَّذِّينَ ا ْست َ ْكبَروا ِّإنَّا كل فِّي َها ِّإ َّن اللَّهَ قَ ْد َح َك َم َبيْنَ ا ْل ِّعبَا ِّد ﴾.3 استخالف الجماعة في إظهار حاكميته :هذا فان الله تعالى بعد أن أسند الحاكمية لذاته استخلف الجماعة في إظهارها في األرض ،بأن أسند اليها السلطة-األمر-التي هي ممارسة السيادة-الحاكمية-في الزمان والمكان أي إظهار لها في االرض. أما أدلة اسناد السلطة-األمر-الى الجماعة فهي تقرير القرآن األمر شورى بين المسلمين ،ومصطلح األمر كما أوضحنا يقابل مصطلح السلطة "وأمرهم شورى ض ف فِّي ْاأل َ ْر ِّ بينهم" ،وكذلك عموم االستخالف في القرآن ﴿...ه َو الَّذِّي َجعَلَك ْم خ ََالئِّ َ ﴾ .4يقول المودودي (أن الله قد وعد جميع المؤمنين باالستخالف ولم يقل أنه يستخلف أحدا منهم ،فالظاهر من هذا أن المؤمنين كلهم خلفاء الله وهذه الخالفة التي آويتها المؤمنين خالف عمومية ال يستبد بها فرد أو أسرة أو طبقه).
1سورة األحزاب62 : 2سورة الشورى11 : 3سورة غافر.48 : 4سورة فاطر.31 :