Abdel Wahab El-Messiri

Page 1

‫رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير‬ ‫فخري كرمي‬ ‫ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫عبد الوهاب المسيري‬


‫‪2‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫المفكر عبد الوهاب المسيري‬

‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أثناء حماولة قوات الأمن امل�صرية دفعه على الأر�ض ع�شية اال�ستفتاء على التعديالت الد�ستورية يف ‪ 15‬مار�س‪ 2007‬بو�سط القاهرة‪..‬‬ ‫عبد الوهاب امل�سريي (�أكتوبر‬ ‫‪ 3 - 1938‬يوليو ‪ ،)2008‬مفكر م�صري‬ ‫�إ�سالمي‪ ،‬وهو م�ؤلف مو�سوعة اليهود‬ ‫واليهودية وال�صهيونية �أحد �أكرب‬ ‫الأعمال املو�سوعية العربية يف‬ ‫القرن الع�شرين الذي ا�ستطاع من‬ ‫خاللها بر�أي البع�ض �إعطاء نظرة‬ ‫جديدة مو�سوعية ومو�ضوعية‬ ‫وعلمية للظاهرة اليهودية‬ ‫ب�شكل خا�ص‪ ،‬وجتربة احلداثة‬ ‫الغربية ب�شكل عام‪ ،‬م�ستخدم ًا‬ ‫مفهوم النماذج التف�سريية‪� ،‬أما‬ ‫بر�أي البع�ض الآخر فقد كانت‬ ‫ر�ؤيته يف مو�سوعته متحيزة‬ ‫لليهود‪ ،‬ومتعاطفة �إىل حد كبري‬ ‫مع مواقفهم جتاه غري اليهود‪ ،‬بل‬ ‫و�صفها البع�ض ب�أنها تدافع عن‬ ‫اليهود‪.‬‬

‫ولد عبد الوهاب امل�سريي يف مدينة‬ ‫دمنهور يف م�صر يف ت�شرين �أول عام‬ ‫‪ .1938‬تلقى تعليمه الأويل (االبتدائي‬ ‫والثانوي) يف مقر ن�ش�أته‪ .‬يف عام ‪1955‬‬ ‫التحق بق�سم اللغة الإجنليزية كلية الآداب‬ ‫جامعة الإ�سكندرية وتخرج عام ‪1959‬‬ ‫وعني معيدا فيها‪� .‬سافر �إىل الواليات‬ ‫املتحدة عام ‪ 1963‬حيث ح�صل على‬ ‫املاج�ستري يف الأدب الإجنليزي املقارن‬ ‫من جامعة كولومبيا مبدينة نيويورك عام‬ ‫‪ ،1964‬وعلى الدكتوراه من جامعة رجترز‬ ‫بنيوجريزي عام ‪.1969‬‬ ‫عند عودته �إىل م�صر قام بالتدري�س يف‬ ‫جامعة عني �شم�س ويف عدة جامعات‬ ‫عربية من �أهمها جامعة امللك �سعود‬ ‫(‪ 1983‬ـ ‪ ،)1988‬كما عمل �أ�ستاذا زائرا‬ ‫يف �أكادميية نا�صر الع�سكرية‪ ،‬واجلامعة‬ ‫الإ�سالمية العاملية (ماليزيا)‪ ،‬وع�ضو‬ ‫جمل�س اخلرباء يف مركز الدرا�سات‬ ‫ال�سيا�سية واال�سرتاتيجية بالأهرام‬ ‫(‪ 1970‬ـ ‪ ،)1975‬وم�ست�شارا ثقافيا‬ ‫للوفد الدائم جلامعة الدول العربية لدى‬ ‫هيئة الأمم املتحدة يف نيويورك (‪1975‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ـ ‪ .)1979‬وهو ع�ضو جمل�س االمناء يف‬ ‫جامعة العلوم الإ�سالمية واالجتماعية‬ ‫ببلي�سربغ‪ ،‬بوالية فرجينيا يف الواليات‬ ‫املتحدة االمريكية‪.‬‬ ‫�صدرت له ع�شرات الدرا�سات واملقاالت‬ ‫عن �إ�سرائيل واحلركة ال�صهيونية ويعترب‬ ‫واحدًا من �أبرز امل�ؤرخني العامليني‬ ‫املتخ�ص�صني يف احلركة ال�صهيوينة‪.‬‬ ‫ن�شاطه ال�سيا�سي‬ ‫كان امل�سريي لفرتة ق�صرية يف بداية‬ ‫حياته منتميا �إىل االخوان امل�سلمني ثم‬ ‫انتمى اىل الي�سار امل�صري وحتديدا‬ ‫للحزب ال�شيوعي‪ ،‬وقبل وفاته �شغل‬ ‫من�صب املن�سق العام حلركة كفاية‪ ،‬التي‬ ‫ت�أ�س�ست يف نهاية ‪ 2004‬للمطالبة ب�إ�صالح‬ ‫دميقراطي يف م�صر‪ ،‬ونظمت �سل�سلة‬ ‫تظاهرات احتجاجا على �إعادة انتخاب‬ ‫الرئي�س امل�صري ح�سني مبارك لوالية‬ ‫خام�سة يف ‪ ،2005‬وقد تعر�ض لالعتقال‬ ‫من قبل ال�سلطات امل�صرية �أكرث من مرة‬ ‫يف يناير ‪ 2007‬توىل من�صب املن�سق العام‬ ‫للحركة امل�صرية من �أجل التغيري (كفاية)‬

‫وهي احلركة املعار�ضة حلكم الرئي�س‬ ‫حممد ح�سني مبارك وت�سعى لإ�سقاطه‬ ‫من احلكم بالطرق ال�سلمية ومعار�ضة‬ ‫تويل ابنه جمال مبارك من�صب رئي�س‬ ‫اجلمهورية من بعده‪.‬‬ ‫الأعمال املن�شورة بالعربية‬ ‫‪ 1‬ـ نهاية التاريخ‪ :‬مقدمة لدرا�سة بنية‬ ‫الفـكر ال�صهيوين (مركز الدرا�سات‬ ‫ال�سيا�سية والإ�سرتاتيجية بالأهرام‪،‬‬ ‫القـاهرة ‪1972‬؛ امل�ؤ�س�سة العربية‬ ‫للدرا�سات والن�شر‪ ،‬بريوت ‪1979‬‬ ‫‪ 2‬ـ مو�سوعة املفاهيم وامل�صطلحات‬ ‫ال�صهيونية‪ :‬ر�ؤية نقدية (مركز الدرا�سات‬ ‫ال�سيا�سية والإ�سرتاتيجية بالأهرام‪،‬‬ ‫القـاهرة ‪.)1975‬‬ ‫‪ 3‬ـ العن�صرية ال�صهيونية (�سل�سلة‬ ‫املو�سوعة ال�صغرية‪ ،‬بغداد ‪.)1975‬‬ ‫‪ 4‬ـاليهودية وال�صهيونية و�إ�سرائيل‬ ‫‪ :‬درا�سة يف انت�شار وانح�سار الر�ؤية‬ ‫ال�صهيونية للواقع (امل�ؤ�س�سة العربية‬ ‫للدرا�سات والن�شر‪ ،‬بريوت ‪.)1975‬‬ ‫‪ 5‬ـ خمتارات من ال�شعر الرومانتيكي‬

‫الإجنليزي‪ :‬الن�صو�ص الأ�سا�سية وبع�ض‬ ‫الدرا�سات التاريخية والنقدية (امل�ؤ�س�سة‬ ‫العربية للدرا�سات والن�شر‪ ،‬بريوت‬ ‫‪.)1979‬‬ ‫‪ 6‬ـ الفردو�س الأر�ضي‪ :‬درا�سات‬ ‫وانطباعات عن احل�ضارة الأمريكية‬ ‫(امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر‪،‬‬ ‫بريوت ‪.)1979‬‬ ‫‪ 7‬ـ الأيديولوجية ال�صهيونية‪ :‬درا�سة حالة‬ ‫يف علم اجتماع املعرفة (جزءان‪ ،‬املجل�س‬ ‫الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،‬عامل‬ ‫املعرفة‪ ،‬الكويت ‪ 1981‬ـ طبعة ثانية يف‬ ‫جزء واحد ‪.)1988‬‬ ‫‪ 8‬ـ الغرب والعامل‪ :‬ت�أليف كيفني رايلي‬ ‫(ترجمة باال�شرتاك) (جزءان‪ ،‬املجل�س‬ ‫الوطني للثقافة والفنون والآداب‪ ،‬عامل‬ ‫املعرفة‪ ،‬الكويت ‪.)1985‬‬ ‫‪ 9‬ـ االنتفا�ضة الفل�سطينية والأزمة‬ ‫ال�صهيونية‪ :‬درا�سة يف الإدراك والكرامة‬ ‫(منظمة التحرير الفل�سطينية‪ ،‬تون�س‬ ‫‪1987‬؛ املطبعة الفنية‪ ،‬القاهرة ‪1988‬؛‬ ‫الهيئة العامة للكتاب‪ ،‬القاهرة ‪.)2000‬‬ ‫‪ 10‬ـ افتتاحيات الهادئ‪ :‬ت�أليف �ستيفن‬

‫�سوندامي وجون ويدمان (ترجمة‬ ‫باال�شرتاك) (وزارة الإعالم‪� ،‬سل�سلة‬ ‫امل�سرح العاملي‪ ،‬الكويت ‪.)1988‬‬ ‫‪ 11‬ـ اال�ستعمار ال�صهيوين وتطبيع‬ ‫ال�شخ�صية اليهودية‪ :‬درا�سات يف‬ ‫بع�ض املفاهيم ال�صهيونية واملمار�سات‬ ‫الإ�سرائيلية (م�ؤ�س�سة الأبحاث العربية‪،‬‬ ‫بريوت ‪.)1990‬‬ ‫‪ 12‬ـ هجرة اليهود ال�سوفييت‪ :‬منهج يف‬ ‫الر�صد وحتليل املعلومات (دار الهالل‪،‬‬ ‫كتاب الهالل‪ ،‬القاهرة ‪.)1990‬‬ ‫‪ 13‬ـ الأمرية وال�شاعر‪ :‬ق�صة للأطفال‬ ‫(الفتى العربي‪ ،‬القاهرة ‪.)1993‬‬ ‫‪ 14‬ـ اجلمعيات ال�سرية يف العامل‪( :‬دار‬ ‫الهالل‪ ،‬كتاب الهالل‪ ،‬القاهرة ‪.)1993‬‬ ‫‪15‬ـ �إ�شكالية التحيز‪ :‬ر�ؤية معرفية ودعوة‬ ‫لالجتهاد (ت�أليف وحترير) (جزءان‪ ،‬املعهد‬ ‫العاملي للفكر الإ�سالمي‪ ،‬القاهرة ‪1993‬؛‬ ‫جزءان‪ ،‬وا�شنطن ‪1996‬؛ �سبعة �أجزاء؛‬ ‫القاهرة ‪.)1998‬‬ ‫‪ 16‬ـ �أ�سرار العقل ال�صهيوين‪( :‬دار‬ ‫احل�سام‪ ،‬القاهرة ‪.)1996‬‬ ‫‪ 17‬ـ ال�صهيونية والنازية ونهاية التاريخ‪:‬‬ ‫ر�ؤية ح�ضارية جديدة (دار ال�شروق‪،‬‬ ‫القاهرة ‪ 1997‬ـ ‪ 1998‬ـ ‪.)2001‬‬ ‫‪ 18‬ـ من هو اليهودي؟ (دار ال�شروق‪،‬‬ ‫القاهرة ‪ 1997‬ـ ‪.)2001‬‬ ‫‪ 19‬ـ مو�سوعة تاريخ ال�صهيونية (ثالثة‬ ‫�أجزاء‪ ،‬دار احل�سام‪ ،‬القاهرة ‪.)1997‬‬ ‫‪20‬ـ اليهود يف عقل ه�ؤالء (دار املعارف‪،‬‬ ‫�سل�سلة اقر�أ‪ ،‬القاهرة ‪.)1998‬‬ ‫‪21‬ـ اليد اخلفية‪ :‬درا�سة يف احلركات‬ ‫اليهودية الهدامة وال�سرية (دار ال�شروق‪،‬‬ ‫القاهرة ‪1998‬؛ الهيئة العامة للكتاب‪،‬‬ ‫القاهرة ‪2000‬؛ دار ال�شروق ‪.)2001‬‬ ‫‪ 22‬ـ مو�سوعة اليهود واليهودية‬ ‫وال�صهيونية ‪ :‬منوذج تف�سريي جديد‬ ‫(ثمانية جملدات‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)1999‬‬ ‫‪ 23‬ـ فكر حركة اال�ستنارة وتناق�ضاته (دار‬ ‫نه�ضة م�صر‪ ،‬القاهرة ‪.)1999‬‬ ‫‪ 24‬ـ ق�ضية املر�أة بني التحرر والتمركز‬ ‫حول الأنثى (دار نه�ضة م�صر‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)1999‬‬ ‫‪ 25‬ـ نور والذئب ال�شهري باملكار‪( ،‬ق�صة‬ ‫للأطفال) (دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)1999‬‬ ‫‪ 26‬ـ �سندريال وزينب هامن خاتون‪( ،‬ق�صة‬ ‫للأطفال) (دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)1999‬‬ ‫‪ 27‬ـ رحلة �إىل جزيرة الدوي�شة‪( ،‬ق�صة‬ ‫للأطفال) (دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2000‬‬ ‫‪ 28‬ـ معركة كبرية �صغرية‪( ،‬ق�صة للأطفال)‬ ‫(دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2000‬‬ ‫‪ 29‬ـ �سر اختفاء الذئب ال�شهري باملكتار‪،‬‬ ‫(ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)2000‬‬ ‫‪ 30‬ـ العلمانية حتت املجهر‪ ،‬باال�شرتاك مع‬ ‫الدكتور عزيز العظمة (دار الفكر‪ ،‬دم�شق‬ ‫‪.)2000‬‬ ‫‪ 31‬ـ رحلتي الفكرية ـ يف البذور واجلذور‬ ‫والثمار‪� :‬سرية غري ذاتية غري مو�ضوعية‬ ‫(الهيئة العامة لق�صور الثقافة‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)2001‬‬ ‫‪ 32‬ـ الأكاذيب ال�صهيونية من بداية‬ ‫اال�ستيطان حتى انتفا�ضة الأق�صى‪( ،‬دار‬ ‫املعارف‪� ،‬سل�سلة اقر�أ‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬ ‫‪ 33‬ـ ال�صهيونية والعنف من بداية‬ ‫اال�ستيطان �إىل انتفا�ضة الأق�صى‪( ،‬دار‬ ‫ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬ ‫‪ 34‬ـ فل�سطيني ًة كانت ومل َت َزلِ ‪ :‬املو�ضوعات‬ ‫الكامنة املتواترة يف �شعر املقاومة‬ ‫الفل�سطيني (ن�شر خا�ص‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬

‫امل�سريي عام ‪..1955‬‬

‫امل�سريي عام ‪..1954‬‬

‫‪ 35‬ـ ق�صة خيالية جد ًا‪( ،‬ق�صة للأطفال)‬ ‫(دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬ ‫‪ 36‬ـ العامل من منظور غربي‪( ،‬دار الهالل‪،‬‬ ‫كتاب الهالل‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬ ‫‪ 37‬ـ اجلماعات الوظيفية اليهودية‪ :‬منوذج‬ ‫تف�سريي جديد‪( ،‬دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)2001‬‬ ‫‪ 38‬ـ ما هي النهاية؟ (ق�صة للأطفال) ‪-‬‬ ‫باال�شرتاك مع الدكتوره جيهان فاروق (دار‬ ‫ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬ ‫‪ 39‬ـ ق�ص�ص �سريعة جد ًا (ق�صة للأطفال)‬ ‫(دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2001‬‬ ‫‪ 40‬ـ من االنتفا�ضة اىل حرب التحرير‬ ‫الفل�سطينية‪� :‬أثر االنتفا�ضة على الكيان‬ ‫الإ�سرائيلي (عدة طبعات‪ :‬القاهرة ـ‬ ‫دم�شق ـ برلني ـ نيويورك ـ ن�شر �إلكرتوين‪،‬‬ ‫‪2002‬م)‪.‬‬ ‫‪ 41‬ـ �أغنيات �إىل الأ�شياء اجلميلة (ديوان‬ ‫�شعر للأطفال) (دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)2002‬‬ ‫‪ 42‬ـ انهيار �إ�سرائيل من الداخل‪( ،‬دار‬ ‫املعارف‪ ،‬القاهرة ‪.)2002‬‬ ‫‪ 43‬ـ الإن�سان واحل�ضارة والنماذج املركبة‪:‬‬ ‫درا�سات نظرية وتطبيقية (دار الهالل‪،‬‬ ‫كتاب الهالل‪ ،‬القاهرة ‪.)2002‬‬ ‫‪ 44‬ـ مقدمة لدرا�سة ال�صراع العربي ـ‬ ‫الإ�سرائيلي‪ :‬جذوره وم�ساره وم�ستقبله‬ ‫(دار الفكر‪ ،‬دم�شق ‪.)2002‬‬ ‫‪ 45‬ـ الفل�سفة املادية وتفكيك الإن�سان‪( ،‬دار‬ ‫الفكر‪ ،‬دم�شق ‪.)2002‬‬ ‫‪ 46‬ـ اللغة واملجاز‪ :‬بني التوحيد ووحدة‬ ‫الوجود‪( ،‬دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2002‬‬ ‫‪ 47‬ـ العلمانية اجلزئية والعلمانية‬ ‫ال�شاملة‪( ،‬جزءان‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‬ ‫‪.)2002‬‬ ‫‪ 48‬ـ �أغاين اخلربة واحلرية والرباءة‪:‬‬

‫‪3‬‬

‫امل�سريي عام ‪..1963‬‬

‫�سرية �شعرية‪� ،‬شبه ذاتية �شبه مو�ضوعية‬ ‫(دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2003‬‬ ‫‪ 49‬ـ احلداثة وما بعد احلداثة‪ ،‬باال�شرتاك‬ ‫مع الدكتور فتحي الرتيكي‪( ،‬دار الفكر‪،‬‬ ‫دم�شق ‪.)2003‬‬ ‫‪ 50‬ـ الربوتوكوالت واليهودية‬ ‫وال�صهيونية‪ ،‬دار ال�شروق‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪.2003‬‬ ‫‪ 51‬ـ املو�سوعة املوجزة‪( ،‬جملدان‪ ،‬دار‬ ‫ال�شروق‪ ،‬القاهرة ‪.)2003‬‬

‫الأعمال املن�شورة باللغة‬ ‫الإجنليزية‬ ‫‪A Lover from Palestine and‬‬ ‫‪Other Poems (Palestine‬‬ ‫‪Information Office،‬‬ ‫‪1972 ،.Washington D.C‬‬ ‫‪Israel and South Africa:‬‬ ‫‪The Progression of a‬‬ ‫‪Relationship (North‬‬ ‫‪American، New Brunswick،‬‬ ‫‪;1976 ،.N.J‬‬ ‫‪Third ;1977 Second Edition‬‬ ‫‪Arabic ;1980 ،Edition‬‬ ‫‪.)1980 ،Translation‬‬ ‫‪The Land of Promise:‬‬ ‫‪A Critique of Political‬‬ ‫‪Zionism (North American،‬‬ ‫‪.(1977 ،.New Brunswick، N.J‬‬ ‫‪Three Studies in English‬‬ ‫‪Literature: (North‬‬ ‫‪American، New Brunswick،‬‬ ‫‪.(1979 ،.N.J‬‬ ‫‪The Palestinian Wedding:‬‬ ‫‪A Bilingual Anthology of‬‬ ‫‪Contemporary Palestinian‬‬ ‫‪Resistance Poetry‬‬ ‫‪(Three Continents Press،‬‬ ‫‪.)1983 ،.Washington D.C‬‬ ‫‪A Land of Stone and‬‬ ‫‪Thyme: Palestinian‬‬ ‫)‪Short Stories (Co-editor‬‬ ‫‪.)1996 ،(Quartet، London‬‬ ‫وفاته‬ ‫تويف فجر يوم اخلمي�س ‪ 29‬جمادى‬ ‫الآخرة ‪ 1429‬هـ املوافق ‪ 3‬يوليو‪/‬‬ ‫متوز ‪ 2008‬مب�ست�شفى فل�سطني‬ ‫بالقاهرة عن عمر يناهز ال�سبعني‬ ‫عاما بعد �صراع طويل مع مر�ض‬ ‫ال�سرطان‪ ،‬و�شيعت جنازته ظهرا‬ ‫من م�سجد رابعة العدوية مبدينة‬ ‫ن�صر بالقاهرة‪ .‬و�شارك يف �صالة‬ ‫اجلنازة �آالف امل�صريني‪� ،‬إ�ضافة �إىل‬ ‫ع�شرات العلماء واملفكرين‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪4‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫د‪ .‬هبة ر�ؤوف عزت‬ ‫ي�ستوقف املتجول يف عامل عبد الوهاب امل�سريي الأوجه املختلفة لهذا املفكر‪ ،‬فمن كتاباته‬ ‫يف الأدب الإجنليزي‪ ،‬ل�سريته الذاتية التي هي م�سريته الفكرية‪� ،‬إىل نقد ونق�ض الفكر‬ ‫ال�صهيوين والت�أريخ للجماعات اليهودية‪� ،‬إىل ق�ص�ص الأطفال التي نال عنها جوائز عديدة‪،‬‬ ‫�إىل كتاباته ال�صحفية التي تب�سط للقارىء املفاهيم الكربى وتربطها بالظواهر التي يعي�شها يف‬ ‫ظل العوملة‪ ،‬لكن يظل هناك منطق مت�صل وروح متجان�سة يف كل ما كتب عبد الوهاب امل�سريي‪،‬‬ ‫وهو �أنه كان مفكراً �إن�ساني ًا‪.‬‬

‫عبد الوهاب المسيري‪ ..‬العقل الموسوعي‬ ‫اإلسالمي في بحثه عن اإلنسان‬ ‫وميكن اعتبار اخليط الناظم يف فكر‬ ‫امل�سريي هو تقدمي الر�ؤية الإن�سانية التي‬ ‫متيز املنظور التوحيدي الإ�سالمي حتى‬ ‫و�إن مل ي�ستخدم املفاهيم امل�ألوفة �أو يفرط‬ ‫يف اال�ست�شهاد بالآيات والأحاديث‪ ،‬فقد‬ ‫نفذ امل�سريي �إىل قلب املنظومة املقا�صدية‬ ‫وفهم �أن املق�صد الأعلى هو ت�أكيد �إن�سانية‬ ‫الإن�سان من خالل ت�أكيد تنزه الله الذي‬ ‫لي�س كمثله �شيء‪ ،‬والتمييز بني الإن�ساين‬ ‫والطبيعي والغيبي و�إدراك الفارق بني هذه‬ ‫امل�ستويات التي حاولت املنظومة العلمانية‬ ‫اختزالها يف مركزية الإن�سان وم�ساواته‬ ‫بالطبيعة‪ ،‬و�إق�صاء �س�ؤال الألوهية‬ ‫والربوبية من التفكري‪.‬‬ ‫لذا فقد �صاغ امل�سريي هذه الفكرة بلغة‬ ‫يفهمها ال�سياق الثقايف و�أ�سهم يف جدل‬ ‫نقد احلداثة الذي مر يف فرتة الثمانينيات‬ ‫بجدل الدولة الدينية يف مواجهة العلمانية‬ ‫‪ ،‬وال بد من االعرتاف �أن امل�سريي قد نقل‬ ‫هذا اجلدل نقلة نوعية بتحليل العلمانية يف‬

‫منظورها الفل�سفي وتقدمي خطاب �إ�سالمي‬ ‫جديد يعيد االعتبار للإن�سان ودوره �سريا‬ ‫على نهج مفكرين من �أمثال مالك بن نبي‬ ‫وعلى �شريعتي‪.‬‬ ‫لقد �أكد امل�سريي يف كتابيه "العلمانية‬ ‫اجلزئية والعلمانية ال�شاملة" و"دفاع ًا عن‬ ‫الإن�سان" �أن ثمة �أ�سبقية الإن�ساين على‬ ‫الطبيعي‪ ،‬لأن الإن�سان قادر على جتاوز‬ ‫النظام الطبيعي املادي وعلى جتاوز ذاته‬ ‫الطبيعية املادية‪ ،‬ولأن فيه بعدا غيبيا‬ ‫ي�ستع�صي على االختزال والت�شييء‪.‬‬ ‫�إذا حُم َي هذا الفارق حينئذ ت�سري على‬ ‫الإن�سان القوانني املادية احلتمية التى‬ ‫ت�سري على الطبيعة واملادة‪ ،‬مما يعني‬ ‫تقوي�ض الإن�سان وتفكيكه ورده �إىل ما هو‬ ‫دونه‪� ،‬أي املادة‪.‬‬ ‫فالأ�سا�س الفل�سفي للإن�سانية الإحلادية‬ ‫�أ�سا�س واه‪ ،‬فمع غياب الله �أو تهمي�شه‬ ‫يتحرك الإن�سان داخل ال�سقف املادي وحده‪،‬‬ ‫ال ميكنه الفكاك منه ويتحول �إىل كائن‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫طبيعي (مادي) فيفقد ما مييزه ك�إن�سان‬ ‫(حرية االختيار‪-‬املقدرة على التجاوز…‬ ‫�إلخ)‪.‬‬ ‫ال يحفظ للإن�سان �إن�سانيته �سوى الإله‬ ‫�سبحانه وتعاىل‪ ،‬فوجوده هو �ضمان‬ ‫�إن�سانية الإن�سان‪ .‬فالإميان ب�إله متجاوز‬ ‫مفارق للمادة يعني �أنه يوجد داخل الإن�سان‬ ‫ما مييزه عن الكائنات الطبيعية املادية‬ ‫الأخرى‪.‬‬ ‫من هنا ف�إن �سمات الإن�سانية الإ�سالمية هي‬ ‫ت�أكيد الفارق بني الإن�سان والطبيعة ورف�ض‬ ‫النموذج املادي باعتباره النموذج الذى‬ ‫يودي بالإن�سان‪ ،‬فم�شروع احلداثة فهو‬ ‫م�شروع ت�أ�سي�سي يعيد تركيب املجتمع على‬ ‫�أ�سا�س �أنه غابة يت�صارع فيها الإن�سان مع‬ ‫احليوان‪ ،‬والإن�سان مع الإن�سان‪ ،‬والإن�سان‬ ‫مع الطبيعة‪ ،‬فهى احلرب للجميع �ضد‬ ‫اجلميع‪ ،‬وهذا ما �أفرز فى نهاية ما ن�سميه‬ ‫احلداثة الداروينية‪.‬‬ ‫وقد ربط امل�سريي بني الفل�سفي الفكري‬

‫والتحليل ال�سيا�سي‪ ،‬فقد ر�أى كيف �ساعد‬ ‫على هيمنة هذا النموذج الفكري على العامل‬ ‫تزايد نفوذ الدولة القومية ذات ال�سلطة‬ ‫املطلقة كما �صورها هيجل‪ ،‬وانت�شار‬ ‫النظريات ال�سيا�سية التى ظهرت لتربير هذا‬ ‫الو�ضع‪ ،‬وات�ساع نطاق القطاع االقت�صادي‬ ‫التجاري‪ ،‬و�شيوع النظريات العقالنية‬ ‫املتطرفة والنفعية‪ .‬وجوهر كل هذه‬ ‫النظريات مادي‪ ،‬فهى جتعل هدف الوجود‬ ‫غاية جمردة �إن�سانية مثل الدولة (فى املجال‬ ‫ال�سيا�سي) �أو القانون العام (يف املجال‬ ‫العلمي والتحليلي ب�شكل عام) �أو الربح‬ ‫ومراكمة الرثوة (فى املجال االقت�صادي)‬ ‫واملنفعة ال�شخ�صية (فى املجال الأخالقي)‪.‬‬ ‫وقد تابع امل�سريي التيارات الإن�سانية‬ ‫يف الغرب التي تراجع م�سلمات احلداثة‬ ‫وتبحث عن ا�ستعادة �إن�سانية الإن�سان‬ ‫واعتربها جزءا من جبهة الدفاع عن‬ ‫الإن�سان وجزءا من هذا التوجه الذي‬ ‫يحتل فيه الإ�سالم موقع ًا فريدا‪ ،‬وبذا منح‬

‫الر�ؤية الإ�سالمية و�أفق ًا جديد ًا ي�ستعيد‬ ‫فكرة حلف الف�ضول‪ ،‬فه�ؤالء يدركون �أن‬ ‫االنت�صارت التي حتققها ح�ضارتهم با�سم‬ ‫الإن�سان الطبيعي‪ /‬املادي ت�ؤدي �إىل و�أد‬ ‫�شيء مهم جدا يف الإن�سان‪� ،‬شيء ل�صيق‬ ‫ب�إن�سانيته‪ ،‬ن�سميه "القب�س الإلهي"‪ ،‬ولكنهم‬ ‫ال ي�سمونه‪ ..‬و�إمنا يدورون حوله‪ ،‬ويتجلى‬ ‫ب�شكل خفي يف كتاباتهم‪ ،‬ولذا‪ ،‬ف�إن امل�سريي‬ ‫قد نعته ب�أنه "الإله اخلفي" يف الكتابات‬ ‫النقدية الغربية‪.‬‬ ‫وما احلديث عن "حتمية امليتافيزيقا"‬ ‫�إال حديث عن الإله اخلفي‪ .‬فقد لوحظ �أن‬ ‫الإن�سان مهما بلغ من مادية ف�إنه ال يقبل‬ ‫املادة املتغرية �إطارا مرجعيا‪ ،‬و�إمنا يبحث‬ ‫عن مركز للعامل‪ ،‬وعن �إطار‪ ،‬وعن �أر�ض‬ ‫ثابتة يقف عليها وعن كليات تتجاوز‬ ‫الأجزاء‪ .‬وقد �أدرك نيت�شه �أن هذا تعبري‬ ‫عن الإله اخلفي‪ ،‬واختار م�صطلح "ظالل‬ ‫الإله" لي�شري اليه‪ .‬وقد �أدرك فال�سفة ما بعد‬ ‫احلداثة ذلك‪ ،‬ولذا ف�إن م�شروعهم ال يتلخ�ص‬

‫يف الهجوم على امليتافيزيقا الدينية �أو‬ ‫املثالية وح�سب‪ ،‬و�إمنا يف حتطيم فكرة‬ ‫احلقيقة نف�سها حتى تتم �إزالة " ظالل الإله"‬ ‫وحتطيم امليتافيزيقا بال رجعة‪ .‬وكان‬ ‫حلمهم املقرتح هو التخل�ص من ثنائية‬ ‫املطلق‪ /‬الن�سبي ل�صالح مطلق ن�سبي (ثابت‬ ‫متغري)‪.‬‬ ‫فتظل هناك ثنائيات اخلري وال�شر‪ ،‬واملقد�س‬ ‫واملدن�س‪ ،‬واملطلق والن�سبي النابعة‬ ‫من �إدراكهم الفطري لثنائية الإن�ساين‬ ‫والطبيعي‪ /‬املادي‪ .‬ولذا ت�ؤكد العالقات‬ ‫الإن�سانية الفطرية نف�سها بطريقة تتحدى‬ ‫النموذج املادي الفعال وبطريقة غري‬ ‫مبا�شرة كان يفرت�ض التخلي عنها بحيث‬ ‫تخ�ضع مثل هذه العالقات للتفاو�ض‬ ‫وبحيث يحل حملها عالقات تعاقدية‬ ‫عقالنية �صلبة‪ .‬ولكن العالقات الإن�سانية‬ ‫الفطرية‪ ،‬مع هذا‪ ،‬ت�ستمر وت�ؤكد نف�سها‪.‬‬ ‫وهو ت�أكيد يبني �أن العن�صر الرباين يف‬ ‫الإن�سان ال ميكن حموه‪.‬‬ ‫ومن املمكن القول �أن هذا العن�صر الرباين‬ ‫الل�صيق ب�إن�سانية الإن�سان وفطرته‪،‬‬ ‫وهو عن�صر ي�أخذ �شكل الإله اخلفي ‪-‬هو‬ ‫ما مينع النموذج الطبيعي‪ /‬املادي من‬ ‫التحقق الكامل‪ ،‬ومن الو�صول �إىل اللحظة‬ ‫النماذجية الكاملة ونقطة ال�صفر املادية‪.‬‬ ‫كانت الروح الإ�سالمية �إذ ًا عند امل�سريي‬ ‫ال تنف�صل عن الر�ؤية الإن�سانية وعندما‬ ‫و�صل �إىل مرحلة حتوله للمنظومة الفكرية‬ ‫الإ�سالمية كان ذلك عن طريق اهتمامه‬ ‫املبكر بالبحث عن كينونة الإن�سان يف‬ ‫املذاهب واملعارف الفكرية املختلفة‪،‬‬ ‫ف�صادف املارك�سية و�أعجبه جنوحها للعدالة‬ ‫وامل�ساواة‪ ،‬لكن �شعر بالغربة يف ماديتها‬ ‫املفرطة‪ ،‬حتى متكن من التعرف على‬ ‫املنظور املعريف التوحيدي الإ�سالمي‪ ،‬ومن‬ ‫هذا املدخل رف�ض مادية املعرفة الغربية‬ ‫و�أ�شار �إىل �ضرورة ت�أ�سي�س فقه للتحيز‪،‬‬ ‫و�أ�س�س جهد ًا بنائي ًا من خالل نقد ونق�ض‬ ‫بع�ض امل�صطلحات الفكرية واملعرفية‬ ‫واملنهجية والبحثية‪ ،‬ثم دعوته ملراجعة‬ ‫م�سلمات العلوم التي انبنت على فل�سفة‬ ‫احلداثة‪..‬وا�ستعادة الإن�سان يف ر�ؤيتها‪.‬‬ ‫وقد �إ�ستطاع من خالل الناظم اال�سالمي‬ ‫الإن�ساين �أن ي�ؤ�س�س ملعامل خطاب‬ ‫�إ�سالمي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة‬ ‫و�ضروراتها وفقه النهو�ض الذي يتعلق‬ ‫بكيانها‪ .‬يف �صراعها الفكري من �أجل‬ ‫حترير الإن�سان ولي�س من �أجل ت�أ�سي�س‬ ‫دولة فقط كما ذهبت تيارات الإ�سالم‬ ‫ال�سيا�سية‪.‬‬ ‫ومن هنا فقد تكون لديه معجمه املفاهيمي‪،‬‬ ‫وواجه امل�صطلحات التى تف�شت فى‬ ‫ع�ضد الأمة وحذر من م�صطلحات العدو‬ ‫وت�سربها‪ ،‬ونبه �إىل وحدات حتليل جديدة‪،‬‬ ‫وربط النماذج املعرفية بالتعامل املنهجي‪،‬‬ ‫وانتقد ما ميكن ت�سميته بال�سببية ال�صلبة‬ ‫وحتدث ب�صفة دائمة عن الن�سق املفتوح‬ ‫والر�ؤية الوا�سعة وا�ستهدف جوهر‬ ‫الإن�سان الذي يخرج املعاين التي تتعلق‬ ‫بالثقافة واحل�ضارة على �شاكلته (النظام‬ ‫املعريف‪ ،‬اخلرائط الإدراكية‪ ،‬اخلرائط‬ ‫املعرفية‪ ،‬املفاهيم التف�سريية‪..،‬الخ)‪ ،‬كما‬ ‫قدم امل�سريي مناذج و�أدوات تف�سريية‬ ‫غاية يف الأهمية ومقوالت لتف�سري الواقع‬ ‫وتقوميه بل وتغيريه‪ ،‬وكانت له �أجندة‬ ‫بحثية �شاملة وعامرة فهو دائم احلديث عن‬ ‫م�شروعاته العلمية املنفتحة واملفتوحة‪،‬‬ ‫وركز على �أهمية اخلريطة الإدراكية‬ ‫والنماذج الفكرية واملعرفية‪ ،‬م�ؤكدا �أن‬ ‫املعركة احلقيقية الآن هي معركة املعاين؛‬ ‫حيث يتم تكوين ال�صورة الإدراكية �أو‬ ‫اخلريطة املعرفية وعمليات �إبقاء بع�ض‬ ‫عنا�صر الواقع وت�ضخيمها ومنحها مركزية‬ ‫وا�ستبعاد �أو تهمي�ش البع�ض الآخر ح�سب‬ ‫معايري النموذج الداخلية وبعده املعريف‬ ‫الكلي والنهائي‪ ،‬ف�صياغة النموذج؛ عملية‬ ‫مركبة و�إبداعية؛ تت�ضمن عمليات عقلية‬

‫‪5‬‬

‫ال يحفظ للإن�سان �إن�سانيته‬ ‫�سوى الإله �سبحانه وتعاىل‪،‬‬ ‫فوجوده هو �ضمان �إن�سانية‬ ‫الإن�سان‪ .‬فالإميان ب�إله‬ ‫متجاوز مفارق للمادة يعني‬ ‫�أنه يوجد داخل الإن�سان‬ ‫ما مييزه عن الكائنات‬ ‫الطبيعية املادية الأخرى‪.‬‬

‫عديدة متنوعة‪ ،‬وظل يكتب حتى فارق‬ ‫احلياة را�ضيا مر�ضيا يف علمه ويف عمله‬ ‫دون �أن يهمل الوظيفة الكفاحية للعامل‬ ‫بنزوله ال�شارع ال�سيا�سي �ضد اال�ستبداد‬ ‫بال�سلطة ودفاع ًا عن امل�شاركة ال�شعبية يف‬ ‫�صنع ال�سيا�سة‪.‬‬ ‫ومل يكن دورانه مع مق�صد الإن�سانية مياثل‬ ‫امليل الليرباىل �إىل الفردية‪ ،‬فاملجتمع‬ ‫عنده كيان مركب متما�سك يت�سم بقدر من‬ ‫الوعي وله �أ�سبقية على الفرد مهما بلغت‬ ‫درجة ابداع هذا الفرد‪ ،‬فالفرد ينتمي �إىل‬ ‫املجتمع ولي�س املجتمع هو الذي ينتمي‬ ‫�إىل الفرد‪� ،‬إال �إذا كان جمتمعا �شموليا‪،‬‬ ‫واملنظومة العلمانية ال�شاملة لي�ست‬ ‫مق�صورة على العامل الغربي فهي ر�ؤية‬ ‫للكون اكت�سحت العامل ب�أ�سره وحولته �إىل‬ ‫مادة ا�ستعمالية بحيث ت�صبح كل الأمور‬ ‫مت�ساوية‪ ،‬كل الأمور ن�سبية‪� ،‬إال �أن الر�ؤية‬ ‫للعامل ومتيزها هو الذي يخرج املعرفة‬ ‫وي�شكل الثقافات وي�ؤ�س�س احل�ضارات‪،‬‬ ‫ومن هنا اهتم امل�سريي بالنماذج املعرفية‬ ‫والبناء احل�ضاري من مثل‪ :‬املنهج ـ املفاهيم‬

‫الدكتور امل�سريي بجوار النيل بالقاهرة‪..‬‬

‫ـ اخلرائط ( الإدراكية ـ املعرفية ـ الذهنية ـ‬ ‫الفكرية )‪.‬‬ ‫من هنا ف�إن اخلطاب الإن�ساين الذي قدمه‬ ‫امل�سريي هو خطاب �إ�سالمي بامتياز‪ ،‬فقد‬ ‫َع َرف الدكتور امل�سريي اخلطاب الإ�سالمي‬ ‫ب�أنه لي�س كالم الله الذي ي�سمو على الزمان‬ ‫واملكان‪ ،‬و�إمنا هو اجتهادات عقول امل�سلمني‬ ‫داخل الزمان واملكان‪ .‬ومن ثم فهو – �أي�ض ًا‪-‬‬ ‫متعدد ومتنوع‪ ،‬وتاريخ احل�ضارة التي‬ ‫بناها امل�سلمون هو تعبري عن هذه الكرثة‬ ‫والتعددية‪ ،‬وحتدث كذلك عن م�ستويات لهذا‬ ‫اخلطاب‪:‬‬ ‫‪ - 1‬خطاب �إ�سالمي ظهر مع دخول‬ ‫اال�ستعمار العامل الإ�سالمي‪ ،‬وحاول �أن‬ ‫يقدم ا�ستجابة �إ�سالمية لظاهرتي التحديث‬ ‫واال�ستعمار‪ ،‬وقد ظل هو اخلطاب املهيمن‬ ‫حتى منت�صف ال�ستينيات‪ ،‬وهو ما ن�شري‬ ‫اليه باخلطاب الإ�سالمي القدمي‪ ،‬والذي‬ ‫يعادي الغرب دون �أن يفهم منطقه الفل�سفي‬ ‫بل يكتفي مبقاومة جتليه اال�ستعماري‪.‬‬ ‫‪ - 2‬خطاب �آخر كان هام�شيًا‪ ،‬ولكن‬ ‫معامله بد�أت تت�ضح تدريجيًا يف منت�صف‬

‫ال�ستينيات‪ ،‬وهو ما ن�شري اليه باخلطاب‬ ‫الإ�سالمي اجلديد‪ .‬ونقطة االختالف بني‬ ‫اخلطابني هي املوقف من احلداثة الغربية‬ ‫ال باعتبارها �ضد ال�شعوب امل�ستعمرة بل‬ ‫باعتبارها �ضد الإن�سان يف جوهره (وهو‬ ‫ما ي�ؤدي حلروب الإبادة با�شكالها)‬ ‫كما ي�صنف اخلطاب من حيث اجلمهور �إىل‪:‬‬ ‫(‪ )1‬اخلطاب اجلماهريي (�أو اال�ستغاثي �أو‬ ‫ال�شعبي)‪ :‬وهو خطاب القاعدة العري�ضة من‬ ‫اجلماهري الإ�سالمية التي �شعرت بفطرتها‬ ‫�أن عمليات التحديث والعلمنة والعوملة مل‬ ‫يكن فيها خري وال �صالح لها‪ ،‬كما الحظت‬ ‫�أن هذه العمليات هي يف جوهرها عمليات‬ ‫تغريب �سلبتها موروثها الديني والثقايف‪،‬‬ ‫ومل تعطها �شي ًئا يف املقابل‪ ،‬لكنها ال ت�صوغ‬ ‫ر�ؤى فكرية‪.‬‬ ‫(‪ )2‬اخلطاب ال�سيا�سي‪ :‬وهو خطاب بع�ض‬ ‫�أع�ضاء الطبقة املتو�سطة ممن �شعروا‬ ‫–� ً‬ ‫أي�ضا‪ -‬باحلاجة �إىل عمل �إ�سالمي يحمي‬ ‫هذه الأمة‪ .‬وقد ر�أوا �أن العمل ال�سيا�سي‬ ‫هو ال�سبيل �إىل هذا‪ ،‬فقاموا بتنظيم �أنف�سهم‬ ‫على هيئة تنظيمات �سيا�سية ال تلج�أ للعنف‪،‬‬ ‫تتبعها تنظيمات �شبابية وم�ؤ�س�سات‬ ‫تربوية‪ ،‬واهتمام حملة هذا اخلطاب يكاد‬ ‫ينح�صر يف املجال ال�سيا�سي والرتبوي‪.‬‬ ‫(‪ )3‬اخلطاب الفكري‪ :‬هو اخلطاب الذي‬ ‫يتعامل �أ�سا�سً ا مع اجلانب التنظريي‬ ‫الفكري داخل ال�صحوة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫وحتدث عن ا�ستجابات اخلطاب اال�سالمي‬ ‫لتحدي احلداثة الغربية مفرقا يف ذلك بني‬ ‫موقف اخلطابني القدمي واجلديد يف ذلك‬ ‫الأمر و�أن كال اجليلني ‪-‬القدمي واجلديد‪ -‬مل‬ ‫ي�ؤ�س�سا منظومتهما الفكرية انطال ًقا من‬ ‫املنظومة الإ�سالمية فح�سب‪ ،‬و�إمنا نتيجة‬ ‫تفاعلهما مع احل�ضارة الغربية يف الوقت‬ ‫ذاته‪ ،‬وهذا �أمر طبيعي؛ فهي احل�ضارة‬ ‫التي فر�ضت �سيطرتها على العامل يف تلك‬ ‫اللحظة التاريخية‪ ،‬واكت�سبت مركزية‬ ‫بحكم االنت�صارات الع�سكرية التي حققتها‪،‬‬ ‫وطرحت ر�ؤيتها يف كل املجتمعات‪،‬‬ ‫وفر�ضت نف�سها باعتبارها م�ستقبل الب�شرية‬ ‫جمعاء‪ .‬و�ألقت بالتحدي الذي كان على‬ ‫اجلميع اال�ستجابة له‪ ،‬وباختالف نوع‬ ‫التحدي وح َدّته اختلفت اال�ستجابة‪ ،‬وقد‬ ‫وجد امل�صلحون الأوائل جوانب �إيجابية‬ ‫كثرية يف هذه احل�ضارة الغربية‪ ،‬بل �إنهم‬ ‫انبهروا بها‪ ،‬وهذا ما عرب عنه ال�شيخ رفاعة‬ ‫الطهطاوي وال�شيخ حممد عبده ولذا كانت‬ ‫ا�ستجابة اجليل الأول للتحدي الغربي هي‪:‬‬ ‫كيف ميكن �أن نلحق بالغرب؟‬ ‫لكن ظهر بعد ذلك نقد �إ�سالمي للحداثة‪،‬‬ ‫وهذا النقد الإ�سالمي للحداثة يختلف عن‬

‫�أ�شكال نقد احلداثة يف بقية العامل؛ �إذ �أنه‬ ‫يدرك مدى ارتباط منظومة احلداثة الغربية‬ ‫بالإمربيالية الغربية‪ ،‬ويدرك �صعوبة ف�صل‬ ‫الواحد عن الآخر (والإمربيالية كانت هي‬ ‫�أول جتربة لنا مع احلداثة‪ ،‬واال�ستعمار‬ ‫اال�ستيطاين ال�صهيوين هو �آخرها وال ينفك‬ ‫عنها)‪ .‬كما �أن النقد الإ�سالمي للحداثة يت�سم‬ ‫ب�أنه متفائل لأنه يطرح حلو ًال على عك�س‬ ‫النقد الغربي للحداثة فهو مت�شائم عدمي‪.‬‬ ‫يطرح ال�شروط الأ�سا�سية لتطوير امل�شروع‬ ‫احلداثى الإن�سانى العربى‪ ،‬ف�ضال عن‬ ‫املنطلقات الأ�سا�سية البنائية لهذا امل�شروع‪.‬‬ ‫وحتدث امل�سريي عن �سمات اخلطاب‬ ‫الإ�سالمي اجلديد الذي حتتاجه الأمة اليوم‬ ‫للنه�ضة‪ ،‬ومعامله هي‪:‬‬ ‫ رف�ض فكرة املركزية الغربية‪.‬‬‫ الر�ؤية املتكاملة واالنفتاح النقدي‪.‬‬‫ خطاب جذري توليدي ا�ستك�شايف‪.‬‬‫ ي�صدر عن ر�ؤية معرفية �شاملة‪.‬‬‫ القدرة على اال�ستفادة من احلداثة‬‫الغربية‪.‬‬ ‫ القدرة على �إدراك �أبعاد �إن�سانية جديدة‪.‬‬‫ القدرة على اكت�شاف الإمكانات اخلالقة‬‫للمنظومة الإ�سالمية‪.‬‬ ‫ ت�أ�سي�س معجم ح�ضاري متكامل وم�ستقل‪.‬‬‫ �إدراك املكون والبعد احل�ضاري للظواهر‬‫والأ�شياء امل�ستحدثة‪.‬‬ ‫ ت�أ�سي�س ر�ؤية �إ�سالمية م�ستقلة يف‬‫التنمية‪.‬‬ ‫ الإميان باحلركة والتدافع ك�أ�سا�س‬‫للحياة‪.‬‬ ‫ �إدراك م�شكالت ما بعد احلداثة‪.‬‬‫ جتاوز الإطالقات املتناق�ضة وال�سماح‬‫بالتعددية‪.‬‬ ‫ القدرة على الر�ؤية املتكاملة لل�شريعة‬‫ومقا�صدها و�إنزالها على الواقع املعا�صر‪.‬‬ ‫ القدرة على �صياغة منوذج معريف‬‫�إ�سالمي واالحتكام اليه‪.‬‬ ‫ االهتمام بالأمة كيان ًا يتجاوز الدولة‬‫املركزية‪.‬‬ ‫ حماولة تطوير ر�ؤية �شاملة للفنون‬‫الإ�سالمية‪.‬‬ ‫ جتاوز املنظور الغربي يف قراءة‬‫التاريخ‪.‬‬ ‫ويف جممل �أعماله يدعو امل�سريي اىل‬ ‫�إقامة ن�سق فكري عربي �إ�سالمي يقوم على‬ ‫الثنائية والتجاور والإن�سان الروحاين‬ ‫الديني الرباين مقابل الإرث الغربي املادي‬ ‫الطبيعي اجل�سدي‪.‬‬ ‫�إن اخلطاب الإ�سالمى عند امل�سريي كان‬ ‫البد من �أن يكون �إن�ساني ًا‪ ،‬وامل�سلم املرتبط‬ ‫بالفطرة يجب �أن يكون رباني ًا وعاملي ًا‪ ،‬ذلك‬ ‫هو املنطلق الذي �آمن به الدكتور امل�سريى‪،‬‬ ‫حينما �أكد �إن�سانية الإ�سالم وعامليته‪،‬‬ ‫ورحلته الفكرية واملعرفية كانت حماولة‬ ‫للبحث عن الإن�سان ‪ ،‬ذلك �أن الو�صف‬ ‫الأدق لرحلته هو و�صف ” رحلة البحث‬ ‫عن احلقيقة ”‪ ،‬فرغم التحوالت التى‬ ‫مر بها‪ ،‬ف�إن مكونات ر�ؤيته وعنا�صرها‬ ‫الأ�سا�سية مل تتغري ‪ ،‬رغم تغري بع�ض‬ ‫الأ�س�س الفل�سفية ‪ ،‬ورغم تغري املنهج‪.‬‬ ‫حتى ذهب البع�ض �إىل العامل الإن�سانى‬ ‫�أو ” امل�شرتك الإن�سانى ” هو مفتاح العامل‬ ‫النقدى للم�سريى وهو الذي منح ر�ؤيته‬ ‫الإ�سالمية �سمتها الأ�صيل يف نقدها للغرب‬ ‫وك�شفها للم�شروع ال�صهيوين واحتفاءها‬ ‫باللغة واملجاز و�إعادة �صياغتها لر�ؤى‬ ‫الأطفال يف ق�ص�صه الب�سيطة وحفاوته‬ ‫باملقاومة التي تتحدى ح�سابات الهيمنة‬ ‫والقوة الغا�شمة‪ ،‬و�سريه يف مظاهرات‬ ‫الدميقراطية يواجه خوذات الأمن‬ ‫وهراوات ال�شرطة‪.‬‬ ‫حياة ثرية ودرو�س كربى وعامل من‬ ‫املفاهيم والق�ضايا يحتاج �إمعان نظر‬ ‫ومرياث من احلكمة يحتاج ورثة يبنون‬ ‫على ما قدم‪ ،‬و�شخ�صية فريدة تعلمنا منها‬ ‫التوا�ضع وال�صرب والت�سليم للقدر والعزة‬ ‫بالله وال�شموخ يف �أزمنة الإنك�سار‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪6‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫مفهوم التحيز عند الدكتور عبد الوهاب المسيري‬

‫رغداء زيدان‬ ‫فقه التح ّيز‪:‬‬ ‫�أطلق امل�سريي م�صطلح "فقه التحيّز" على‬ ‫تخ�ص�ص جديد ير ّكز على درا�سة وحتديد‬ ‫عنا�صر التحيّز يف العلوم الإن�سانية‬ ‫واالجتماعية وك�شفها‪ ،‬وخ�صو�ص ًا‬ ‫التحيزات الغربية الكامنة يف املناهج‬ ‫التي يت ّم ا�ستخدامها يف العلوم الغربية‪،‬‬ ‫والتي تبدو �أنها حمايدة كما يظن كثريون‪،‬‬ ‫ولكنها تعبرّ يف الغالب عن جمموعة من‬ ‫القيم الكامنة امل�سترتة يف النماذج املعرفية‬ ‫والو�سائل واملناهج البحثية التي حتدد‬ ‫جمال الر�ؤية وطريقة البحث الغربية‪،‬‬ ‫وتقرر كثري ًا من النتائج م�سبق ًا‪.‬‬ ‫ومبا �أن العرب كما قلنا نقلة �أمينون‬ ‫للعلوم الغربية دون متحي�ص �أو نظرية‬ ‫نقدية واثقة؛ فقد �أراد امل�سريي �أن يكون‬ ‫"فقه التحيز" �أدا ًة لتحديد التحيزات‬ ‫الغربية الكامنة يف املناهج والأدوات التي‬ ‫ي�ستخدمها الباحثون العرب يف درا�ساتهم‪،‬‬ ‫لأنها بر�أيه �أكرث التحيزات �شيوع ًا‬ ‫وخطورة‪ ،‬فكثريون يرون القيم الغربية‬ ‫على �أنها قيم عاملية‪ ،‬ويتبنونها دون �إدراك‬ ‫خل�صو�صيتها الغربية‪ ،‬و�سواء كان هذا‬ ‫التبني يتم بوعي �أم بدون وعي ف�إن هذه‬ ‫التحيزات الكامنة تخلق ترابط ًا اختياري ًا‬ ‫بني الباحث وهذه الأفكار‪ ،‬ويجد الباحث‬ ‫نف�سه متحيّز ًا لبع�ض الظواهر والأفكار‪،‬‬ ‫ويهمل �أو ي�ستبعد بع�ضها الآخر مما يقع‬ ‫خارج نطاق اال�ستعارات والنماذج الكامنة‪.‬‬ ‫وقد ا�ستخدم امل�سريي كلمة "فقه" بد ًال‬ ‫من "علم" لأن الكلمة الأوىل ح�سب ر�أيه‬ ‫ت�سرتجع البعد االجتهادي واالحتماىل‬ ‫والإبداعي للمعرفة‪ ،‬على عك�س كلمة‬ ‫"علم" التي ت�ؤكد جوانب الدقة واليقينية‬

‫يرى الدكتور امل�سريي �أنّ لكل علم ا�صطالحاته‪ ،‬واال�صطالح يف العلم هو اتفاق جماعة من النا�س املتخ�ص�صني يف جمال واحد‬ ‫تتم يف �إطار معني ملدة من‬ ‫يتم عادة نتيجة تراكم معريف وح�ضاري وممار�سات فكرية‪ّ ،‬‬ ‫على مدلول كلمة �أو رقم �أو مفهوم‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫ثم يتبع ذلك حماولة تقنني هذه املعرفة‪ .‬لذلك فقد رف�ض الدكتور امل�سريي كثرياً من امل�صطلحات الغربية التي ّ‬ ‫مت نقلها‬ ‫الزمن‪ّ ،‬‬ ‫عن الغرب دون �إعمال فكر �أو اجتهاد‪ ،‬لأنها م�صطلحات نتجت عن جتربة ح�ضارية غربية‪ ،‬لها �سياقها اخلا�ص‪ ،‬ودعا بد ً‬ ‫ال من ذلك‬ ‫للنظر �إىل �أي ظاهرة يف �سياقها‪ ،‬وحماولة توليد م�صطلح من داخل املعجم العربي‪ ،‬يكون ت�سمية للظاهرة من وجهة نظرنا نحن‪.‬‬ ‫ومبا �أنّ العرب هم نقلة �أمينون لكل امل�صطلحات الغربية دون نقد �أو متحي�ص‪ ،‬ف�إنهم ّ‬ ‫توقفوا عن �إبداع امل�صطلحات اخلا�صة‬ ‫يهتمون‬ ‫بالظواهر التي حتتاج لدرا�سة يف جمتمعاتنا العربية‪ ،‬لأنهم بب�ساطة ال يبادرون لدرا�سة �إال ما يدر�سه الغربيون‪ ،‬وال‬ ‫ّ‬ ‫يهتم به علما�ؤهم من تلك الظواهر‪ ،‬وتقت�صر م�شاركاتهم على �شرح وبيان ما يقدّ مه العلماء الغربيون من ر�ؤى ونظريات‬ ‫�إال مبا‬ ‫ّ‬ ‫حولها‪ .‬واكتفوا بنقل ما ا�ستجدّ من م�صطلحات الغرب ب�أمانة ملفتة‪� ،‬سواء كانت منا�سبة ومطابقة ملا يرون �أنه قابل للتطبيق يف‬ ‫واقعنا وجمتمعاتنا �أم ال‪.‬‬ ‫لكن الدكتور امل�سريي عندما ا�ستوقفته �إ�شكالية التح ّيز عند درا�سته للظواهر الإن�سانية‪ ،‬اختار امل�صطلح‪" :‬التح ّيز"‪ ،‬بالرجوع �إىل‬ ‫املعجم اللغوي العربي‪ ،‬وفيه‪� :‬أن التح ّيز يعني االن�ضمام واملوافقة يف الر�أي وتب ّني ر�ؤية ما‪ ،‬مما يعني رف�ض الآراء الأخرى‪ .‬وقد‬ ‫اختار هذا امل�صطلح ليطلقه على جمال جديد لدرا�سة ظاهرة �إن�سانية من �صميم املعطى الإن�ساين‪ ،‬ومرتبطة ب�إن�سانية الإن�سان‪،‬‬ ‫كما كان يرى‪ ،‬وهي ظاهرة التحيز‪.‬‬

‫واحليادية والنهائية كما قال‪.‬‬ ‫قواعد التح ّيز‪:‬‬ ‫و�ضع الدكتور امل�سريي قواعد �أ�سا�سية‬ ‫ت�ساعد على فهم التحيّز ومتييزه‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ القاعدة الأوىل‪ :‬التحيّز حتمي‪ :‬وذلك‬ ‫ب�سبب املعطيات التالية‪:‬‬ ‫�أ ـ لأنه مرتبط ببنية عقل الإن�سان ذاتها‪،‬‬ ‫ي�سجل تفا�صيل الواقع كالآلة‬ ‫فهذا العقل ال ّ‬ ‫ال�صمّاء‪ ،‬فهو عقل فعّال‪ ،‬يدرك الواقع من‬ ‫خالل منوذج في�ستبعد بع�ض التفا�صيل‬ ‫ويبقي بع�ضها الآخر‪.‬‬ ‫ب ـ التحيّز ل�صيق باللغة الإن�سانية املرتبطة‬ ‫�إىل ح ّد كبري ببيئتها احل�ضارية‪ ،‬و�أكرث‬ ‫كفاءة يف التعبري عنها‪ .‬فال توجد لغة‬ ‫حتتوي كل املفردات املمكنة للتعبري عن‬ ‫الواقع بكل مكوّ ناته‪ ،‬فال ب ّد من االختيار‪.‬‬ ‫ج ـ التحيّز من �صميم املعطى الإن�ساين‪،‬‬ ‫ومرتبط ب�إن�سانية الإن�سان‪� ،‬أي بوجوده‬ ‫ككائن غري طبيعي‪ ،‬ال ير ّد �إىل قوانني‬ ‫الطبيعة العامة وال ين�صاع لها‪ ،‬فكل ما هو‬ ‫�إن�ساين يحوي على قدر من التف ّرد والذاتية‬ ‫ومن ث ّم التحيّز‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ القاعدة الثانية‪ :‬التحيّز قد يكون حتمي ًا‬ ‫ولكنه لي�س نهائي ًا‪:‬‬ ‫فالتحيّز لي�س بعيب �أو نقي�صة‪ ،‬بل على‬ ‫العك�س ميكن �أن يُج ّرد من معانيه ال�سلبية‪،‬‬ ‫وي�صبح هو حتمية التف ّرد واالختيار‬ ‫الإن�ساين‪.‬‬ ‫واللغة الإن�سانية رغم حدودها قادرة على‬ ‫حتقيق التوا�صل‪ ،‬وعلى م�ساعدتنا على‬ ‫جتاوز �أ�شكال كثرية من التحيّز‪ ،‬وعلى بناء‬ ‫مناذج معرفية هي نتاج جتربتنا احل�ضارية‬ ‫اخلا�صة‪ ،‬ولكنها يف الوقت نف�سه ت�ساعدنا‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫على التعامل مع �أنف�سنا ومع واقعنا ومع‬ ‫الآخر‪ .‬فمعنى �أنه لي�س نهائي ًا �أي �أنه لي�س‬ ‫نهاية املطاف حيث ميكن جتاوزه‪ ،‬ولكن‬ ‫النهائي هو الإن�سانية امل�شرتكة والقيم‬ ‫الأخالقية الإن�سانية‪.‬‬ ‫وقد ذكر الدكتور امل�سريي �أنواع ًا عديدة‬ ‫للتحيز‪� ،‬أظهر من خالل الأمثلة امللمو�سة‬ ‫املق�صود منها‪ ،‬وكانت طريقته بحد ذاتها يف‬

‫�إن تو�ضيح نقائ�ص النموذج‬ ‫املعريف الغربي �ست�ساعدنا ح�سب‬ ‫ر�أي الدكتور امل�سريي على‬ ‫التحرر من قب�ضته املهيمنة‪،‬‬ ‫والتي جتعلنا ن�سري يف �أبحاثنا‬ ‫املعرفية على خطاه‪ .‬فهو منوذج‬ ‫معريف معاد للإن�سان يتعامل معه‬ ‫باعتباره �شيئ ًا مادي ًا لي�س له‬ ‫�أي خ�صو�صية متيزه عن باقي‬ ‫الأ�شياء‪.‬‬

‫�شرح هذه الأنواع طريقة مبتكرة قائمة على‬ ‫عر�ض الأمثلة التي تقدم �شرح ًا واقعي ًا لهذه‬ ‫الأنواع‪ ،‬فبينّ �أن هناك حتيّز ًا للحق وحتيّز ًا‬ ‫للباطل‪ ،‬وهناك حتيّزا وا�ضحا واعي ٍا‬ ‫واع‪ ،‬وهناك‬ ‫وحتيّزا م�سترتا كامنا غري ٍ‬ ‫حتيّزا حادا وقويا‪ ،‬وحتيّز متو�سط القوّ ة‬ ‫�أو �ضعيفا‪ ،‬وهناك حتيّزا داخل التحيّز‪،‬‬ ‫حيث يت ّم الرتكيز على �أفكار بعينها دون‬ ‫�سواها‪ ،‬وهناك حتيّزا معاك�سا لهذا حيث‬ ‫يت ّم التحيّز لعدد من الأفكار تنتمي لأن�ساق‬ ‫معرفية خمتلفة ومتناق�ضة ويت ّم تبنيها‬ ‫كلها‪ ،‬وهناك حتيّزا كليا و�آخر جزئيا‪،‬‬ ‫وهناك حتيّز لي�س له نظري يف احل�ضارات‬ ‫ال�سابقة ‪ ،‬وهو ما �أ�سماه امل�سريي "حتيّز‬ ‫واقعنا املادي �ضدّنا"‪ ،‬والذي يفر�ض‬ ‫علينا �أمناط ًا من ال�سلوك تنا�سب املنظومة‬ ‫القيمية الغربية مثل ال�سرعة والكفاءة‬ ‫والتناف�س‪.‬‬ ‫اليات جتاوز التح ّيز‪:‬‬ ‫و�ضع الدكتور امل�سريي بع�ض الأ�سا�سيات‬ ‫التي ميكن من خاللها �أن نتجاوز التحيّز‪،‬‬ ‫وهذه الأ�سا�سيات ترتكز على عدة نقاط‬ ‫�أهمها‪:‬‬ ‫‪ 1‬ـ �إدراك حتمية التحيّز و�ضرورة النقد‬ ‫الكلي‪:‬‬ ‫ف�إدراك حتمية التحيّز هو �أوىل اخلطوات‬ ‫لتجاوزه‪ ،‬فالعقل الإن�ساين قا�صر ولكنه‬ ‫فعّال‪ ،‬وهو يواجه الواقع املركب ويتفاعل‬ ‫معه‪ ،‬فيبقي وي�ستبعد ويج ّرد وينفي‬ ‫وي�صحح وير ّكب وي�صوغ مناذجه املعرفية‬ ‫اخلا�صة التي يدرك العامل من خاللها‪ .‬وهذا‬ ‫الإدراك حلتمية التحيّز ي�ساعدنا على فهم‬ ‫ال�سلوك الإن�ساين املرتكز على تلك النماذج‬

‫املعرفية التي ي�صوغها العقل الب�شري من‬ ‫خالل تفاعله مع الواقع‪.‬‬ ‫ونقد التحيّز يجب �أن ال يقف عند اجلانب‬ ‫التطبيقي فقط‪ ،‬بل يجب �أن ين�صرف‬ ‫�إىل جممل البناء النظري الذي يفرز هذا‬ ‫التحيّز‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ تو�ضيح نقائ�ص النموذج املعريف‬ ‫الغربي‪:‬‬ ‫�إن تو�ضيح نقائ�ص النموذج املعريف‬ ‫الغربي �ست�ساعدنا ح�سب ر�أي الدكتور‬ ‫امل�سريي على التحرر من قب�ضته املهيمنة‪،‬‬ ‫والتي جتعلنا ن�سري يف �أبحاثنا املعرفية‬ ‫على خطاه‪ .‬فهو منوذج معريف معاد‬ ‫للإن�سان يتعامل معه باعتباره �شيئ ًا مادي ًا‬ ‫لي�س له �أي خ�صو�صية متيزه عن باقي‬ ‫الأ�شياء‪.‬‬ ‫هذا بالإ�ضافة �إىل ذلك الت�صور املغلوط‬ ‫عن قدرة الإن�سان على التحكم بالواقع‪،‬‬ ‫وتناق�ص رقعة املجهول مقابل ات�ساع رقعة‬ ‫املعلوم‪ .‬وحماولة الو�صول �إىل م�ستويات‬ ‫عالية من التعميم ال تربرها املعرفة عند من‬ ‫قاموا بهذا التعميم‪ ،‬وهذا ناجت �أ�سا�س ًا عن‬ ‫نظرتهم املادية للإن�سان‪.‬‬ ‫ويجب �أن ندر�س جوانب الق�صور التي‬ ‫ظهرت يف املجتمعات الغربية من خالل‬ ‫التطبيقات املختلفة لهذا النموذج‪ ،‬وبالتاىل‬ ‫ندر�س الأزمات التي ظهرت ب�سبب تطبيقه‪،‬‬ ‫والتي تناولها كثري من املفكرين الغربيني‪،‬‬ ‫والتي �أفرزت كما و�صف الدكتور امل�سريي‬ ‫الفكر االحتجاجي �أو امل�ضاد‪ ،‬والذي‬ ‫ينطوي على رف�ض للنماذج العلمية املادية‬ ‫العامة‪ ،‬التي تهمل الكيف وما ال يُقا�س‬ ‫واملطلقات واخل�صو�صية‪.‬‬ ‫كما يجب درا�سة الظواهر ال�سلبية التي‬

‫�صاحبت احل�ضارة الغربية‪ ،‬والتي ي�صنفها‬ ‫بع�ضهم على �أنها جمرد انحراف وهي‬ ‫يف احلقيقة �شيء �أ�سا�سي فيها ال جمرد‬ ‫ا�ستثناء‪ ،‬كالنازية والإمربيالية وغريها‪...‬‬ ‫ويجب درا�سة املراجعات اجلديدة للتاريخ‬ ‫الغربي‪ ،‬ولعلم النف�س وعلم اللغة والعلوم‬ ‫الطبيعية‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ ن�سبية الغرب‪:‬‬ ‫�إن نقد احل�ضارة الغربية ال يهدف �إىل‬ ‫الف�ضح واالنتقا�ص‪ ،‬ولكنه نقد بهدف الفهم‬ ‫واال�ستيعاب‪ ،‬وعزل ما هو خا�ص غربي‬ ‫عما ي�صلح �أن يكون عام ًا وعاملي ًا‪ ،‬وبهذا‬ ‫ن�ستعيد تبيان خ�صو�صيته وحمليته‪،‬‬ ‫فالغرب يجب �أن ي�صبح غربي ًا ال عاملي ًا‪ ،‬لأنه‬ ‫جتربة ح�ضارية يوجد يف العامل جتارب‬ ‫ح�ضارية كثرية غريه‪.‬‬ ‫وللتخل�ص من الإح�سا�س مبركزية الغرب‪،‬‬ ‫ونزع �صفة العاملية عنه‪ ،‬يجب �إدراك‬ ‫خ�صو�صية احل�ضارة الغربية والظروف‬ ‫التاريخية والثقافية التي �أفرزتها‪ ،‬وكذلك‬ ‫م�صادرها وامل�ؤثرات التي �ساهمت يف‬ ‫ت�شكيلها‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ االنفتاح على العامل‪:‬‬ ‫يجب التعرف على احل�ضارات الأخرى‬ ‫املنت�شرة يف العامل‪ ،‬التي ّ‬ ‫مت جتاهلها على‬ ‫ح�ساب االهتمام باحل�ضارة الغربية فقط‪.‬‬ ‫كح�ضارة اليابان وح�ضارات �إفريقيا‬ ‫وغريها‪.‬‬ ‫هذا االنفتاح �سي�ؤدي �إىل �إ�صالح الت�شوه‬ ‫املعريف الذي �أ�صابنا‪ ،‬واملتمثل برت�سيخ‬ ‫فكرة مركزية الغرب وعامليته‪ .‬وبالتاىل‬ ‫ف�إن �إدراك التحيّز �سيحررنا من احلقائق‬ ‫املطلقة التي حجب عنا �إمياننا بها االنتباه‬ ‫لغريها‪ ،‬كما �أن �إدراكنا للتحيّز �سيجعلنا‬ ‫منلك القدرة على النقد والفعلية وعدم تلقي‬ ‫املعارف ب�سلبية بل بوعي وتع ّقل‪.‬‬ ‫النموذج البديل‪:‬‬ ‫بعد �أن قدّم الدكتور امل�سريي نظريته يف‬ ‫فقه التحيّز قدّم ت�صور ًا عام ًا للنموذج‬ ‫املقرتح البديل‪ ،‬الذي يجب �أن نتعامل من‬ ‫خالله يف مناهجنا البحثية بد ًال عن تلك‬ ‫املطلقات التي �أفرزها حتيزنا للنموذج‬ ‫املعريف الغربي‪.‬‬ ‫هذا البديل يقوم على �أ�س�س تراعي‬ ‫خ�صو�صيتنا احل�ضارية‪ ،‬ومنطلقاتنا‬ ‫النظرية والعقدية‪ ،‬وكذلك نظرتنا للكون‬

‫والإن�سان‪ .‬فالنموذج املعريف البديل الذي‬ ‫يجب �أن ن�ستخدمه يف �أبحاثنا ودرا�ساتنا‬ ‫وحتليلنا للظواهر والأحداث ال بد من‬ ‫�أن يكون نابع ًا من تراثنا الذي هو جممل‬ ‫تاريخنا احل�ضاري يف هذه املنطقة‪ ،‬وهو‬ ‫منوذج ح�ضاري �أ�سا�سه القر�آن وال�سنة‬ ‫اللذان يحويان القيم الإ�سالمية‪ ،‬فالإ�سالم‬ ‫بالن�سبة للم�سلمني عقيدة وهو بالن�سبة لكل‬ ‫من يعي�ش يف هذه املنطقة النواة الأ�سا�سية‬ ‫للح�ضارة التي ينتمون اليها‪.‬‬ ‫وهذا ال يعني �أن نن�سخ حرفي ًا اجتهادات‬ ‫ال�سابقني من علمائنا‪ ،‬ولكن يجب‬ ‫ا�ستخال�ص القواعد الكامنة يف �إبداعاتهم‬ ‫واجتهاداتهم‪ ،‬وبالتاىل ا�ستخدامها والبناء‬ ‫عليها لقراءة الرتاث احل�ضاري لأمتنا‪.‬‬ ‫ويجب �أن نطمح للو�صول �إىل نظرية‬ ‫�شاملة نعرف م�سبق ًا �أنها لن تكون قادرة‬ ‫على تف�سري كل �شيء ب�شكل نهائي‪ ،‬لأنها‬ ‫نظرية �شاملة ن�سبي ًا وهو ما مييز كل ما هو‬ ‫ممكن �إن�ساني ًا‪.‬‬ ‫�أمّا مالمح �أو �صفات هذا النموذج البديل‬ ‫فهو منوذج ينطلق من الإن�سان‪ ،‬وهو‬ ‫غري مادي‪ ،‬توليدي ال تراكمي ال يعتمد‬ ‫تلك النظرة ال�ضيقة التي تفرت�ض �أن ثمة‬ ‫نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر‬ ‫وكل الب�شر وك�أن هناك �أمة واحدة ومعرفة‬ ‫واحدة‪ ،‬وهذا يتنافى مع العقل ومع‬ ‫التجربة الإن�سانية وتنوعنا الإن�ساين‪.‬‬ ‫�أمّا العلم البديل الذي �سينتجه هذا النموذج‬ ‫املعريف البديل فهو علم �إن�ساين‪ ،‬ال يدعي‬ ‫الكمال ولكنه اجتهاد م�ستمر‪ ،‬يدرك �أن‬ ‫عقل الإن�سان ال ميكنه الإحاطة بكل �شيء‪،‬‬ ‫فهو عقل حمدود ولكنه فعّال‪ ،‬وهو علم ال‬ ‫يهدف للتحكم الكامل يف الواقع‪ ،‬لأنه يعرف‬ ‫حمدودية الإمكانات الب�شرية‪ ،‬ولن يدعو‬ ‫�إىل ت�صفية الثنائيات املوجودة يف الواقع‬ ‫لأن هذه الثنائيات هي انعكا�س لثنائية‬ ‫اخلالق واملخلوق والإن�سان والطبيعة‪.‬‬ ‫والعلم البديل �سينظر للظواهر يف �أبعادها‬ ‫املتكاملة دون االقت�صار على بعد واحد‪،‬‬ ‫ثم يتم بعد ذلك حتديد �أكرث الأبعاد فعالية‬ ‫وت�أثري ًا دون التقيد ب�أي م�سلمات م�سبقة‪.‬‬ ‫ومن الطبيعي �أن هذا العلم �سينتج عنه‬ ‫هيكل م�صطلحي جديد له مالحمه املميزة‬ ‫والتي هي امتداد ملالمح العلم البديل الذي‬ ‫�سينتجه منوذجنا املعريف البديل‪.‬‬

‫وقفة نقدية‪:‬‬ ‫بعد هذا العر�ض املوجز لنظرية التحيّز‬ ‫التي قدّمها الدكتور امل�سريي‪ ،‬والتي‬ ‫نتج عنها جمموعة كبرية من الأبحاث‬ ‫والدرا�سات القيّمة‪ ،‬التي قدمها جمموعة‬ ‫كبرية من الباحثني يف خمتلف املجاالت‬ ‫واملحاور‪� ،‬سواء يف الأدب �أم الفن‬ ‫والعمارة �أم العلوم الطبيعية �أم العلوم‬ ‫االجتماعية �أم يف علم النف�س والتعليم‬ ‫واالت�صال وغريها؛ �أورد بع�ض املالحظات‬ ‫التي ا�ستوقفتني �أثناء بحثي هذا‪:‬‬ ‫ـ التعريف الذي اعتمده الدكتور امل�سريي‬ ‫بالعودة للمعجم العربي والذي يعني كما‬ ‫قال‪" :‬االن�ضمام واملوافقة يف الر�أي وتبني‬ ‫ر�ؤية ما مما يعني رف�ض الآراء الأخرى"‬ ‫يدل ب�شكل �أويل على �أن هناك اختيارا جاء‬ ‫بعد معرفة واطالع‪ ،‬فاملتحيّز تب ّنى �آراء‬ ‫فئة دون غريها بعد �أن اطلع على جمموعة‬ ‫الآراء الأخرى ث ّم اختار ما وجده �أقرب �إىل‬ ‫ال�صواب وفق وجهة نظره‪ ،‬و�أرى �أن حتيّز‬ ‫الباحثني العرب للنموذج املعريف الغربي‬ ‫مل يكن بعد اختيار واختبار ومعرفة‪ ،‬و�إمنا‬ ‫ب�سبب انبهار جعلهم ال يرون غريه‪ .‬وعلى‬ ‫هذا �أرى �أن م�صطلح التحيّز ال يحمل الد ّقة‬ ‫الكافية‪ .‬وعلى الرغم من ذلك �أوافق الدكتور‬ ‫امل�سريي يف �أن امل�صطلح �سيتحدد مدى‬ ‫نفعه مبدى تف�سرييته ال مبدى د ّقته �أو‬ ‫التزامه باملعايري املجردة‪( ،‬واحلديث هنا‬ ‫عن امل�صطلح الذي �سيتولد من ا�شتغالنا‬ ‫الفكري وفق منوذجنا املعريف البديل كما‬ ‫اقرتح الدكتور امل�سريي)‪.‬‬ ‫ـ ومبا �أن م�صطلح "التحيّز" هو �أداة‬ ‫لر�صد املقوالت التحليلية التي حتدد م�سار‬ ‫البحث عند الباحثني العرب‪ ،‬تلك املقوالت‬ ‫التي تتبنى النموذج املعريف الغربي‬ ‫وت�سري على خطاه‪ ،‬وتعمل وفق منطلقاته‬ ‫وتوجهاته وم�سلماته‪ ،‬ف�إنني �أرى �أنّ "فقه‬ ‫التحيّز" يجب �أن يبحث يف الأ�سباب التي‬ ‫�أدت بالباحثني العرب �إىل تبني النموذج‬ ‫املعريف الغربي دون �سواه‪ ،‬هذا التبني‬ ‫الذي �أنتج هذا الكم الكبري واخلطري من‬ ‫الأفكار املغلوطة‪ ،‬والتف�سري ال�سطحي‬ ‫للأحداث‪ ،‬والتقييم ال�سلبي للنف�س‬ ‫والواقع‪ ،‬ما �أوقع الفكر العربي بحالة‬ ‫ف�صام كما و�صف الدكتور غريغوار مر�شو‬

‫‪7‬‬

‫�إن نقد احل�ضارة الغربية ال‬ ‫يهدف �إىل الف�ضح واالنتقا�ص‪،‬‬ ‫ولكنه نقد بهدف الفهم‬ ‫واال�ستيعاب‪ ،‬وعزل ما هو خا�ص‬ ‫غربي عما ي�صلح �أن يكون عام ًا‬ ‫وعاملي ًا‪ ،‬وبهذا ن�ستعيد تبيان‬ ‫خ�صو�صيته وحمليته‪ ،‬فالغرب‬ ‫يجب �أن ي�صبح غربي ًا ال عاملي ًا‪،‬‬ ‫لأنه جتربة ح�ضارية يوجد يف‬ ‫العامل جتارب ح�ضارية كثرية‬ ‫غريه‪.‬‬

‫يف كتابه‪.‬‬ ‫�إنّ بحثنا عن هذه الأ�سباب �سي�ساعدنا‬ ‫على جتاوز هذه التحيّزات‪ ،‬والتعامل‬ ‫معها كحالة ت�ستدعي العالج‪ ،‬و�أرى �أن‬ ‫مفهوم "اال�ستالب" الذي ا�ستخدمه املفكر‬ ‫حممد �شاوي�ش ي�صلح متام ًا لتف�سري هذه‬ ‫الأ�سباب وحتليلها‪ ،‬وميكن للقارئ الكرمي‬ ‫�أن يرجع ملقاالت حممد �شاوي�ش حول‬ ‫املو�ضوع‪ ،‬وكذلك ملقال "مفهوم اال�ستالب‬ ‫عند حممد �شاوي�ش ليتبني معنى هذا‬ ‫املفهوم و�أهم �أركانه‪ .‬فالباحثون العرب‬ ‫وقعوا �ضحية ا�ستالبهم للغرب مما جعلهم‬ ‫يتبنون منوذجه املعريف بانبهار وت�سليم‬ ‫و�صل لدرجة النظر لهذه النماذج املعرفية‬ ‫والبحثية على �أنها م�س ّلمات وبديهيات ال‬ ‫جمال ملناق�شتها �أو تقييمها‪.‬‬ ‫ـ حتدّث الدكتور امل�سريي عن حتمية‬ ‫التحيز انطالق ًا من كونه من �صميم املعطى‬ ‫الإن�ساين‪ ،‬ولكنه قال �إنه لي�س نهائيا‪ ،‬بل‬

‫امل�سريي بكلية الآداب بالإ�سكندرية عام ‪..1962‬‬

‫ميكن جتاوزه‪ ،‬و�إدراك حتميته هو �أوىل‬ ‫اخلطوات يف جتاوزه‪ .‬وهنا مل �أفهم حقيقة‬ ‫كيف يكون التحيّز من �صميم املعطى‬ ‫الإن�ساين ث ّم ميكننا جتاوزه؟‪ ،‬وكيف ميكن‬ ‫�أن نقول �إنه لي�س بعيب �أو نقي�صة ثم‬ ‫ن�سعى من �أجل التخل�ص منه �أو يف الأقل‬ ‫احلد منه؟‬ ‫و�أعتقد �أن ما هو من �صميم املعطى‬ ‫الإن�ساين ال ميكن جتاوزه �إال يف حالة‬ ‫جتاوزنا احلالة الإن�سانية نف�سها‪ ،‬وهذا‬ ‫بالت�أكيد ما ال يقبله الدكتور امل�سريي نف�سه‪.‬‬ ‫و�إذا كان التحيّز لي�س نقي�صة فلماذا ندعو‬ ‫�إىل جتاوزه؟ وكم كنت �أمتنى �أن �أجد‬ ‫تف�سري ًا لهذا يف كتابات الدكتور �أو يف‬ ‫كتابات �أحد من طالبه الذين �سمعوا منه عن‬ ‫هذا و�شاركوه يف �أبحاثه اخلا�صة بالتحيّز‪،‬‬ ‫لأنني �أ�شعر �أن هناك تناق�ض ًا ال �أ�ستطيع‬ ‫التعامل معه‪ ،‬هذا �إذا جتاوزت م�س�ألة‬ ‫�أخرى لها عالقة بتربير "الظلم املعريف" �إن‬ ‫�صح التعبري‪ ،‬على اعتبار �أن الباحث الذي‬ ‫ينطلق من حتيزات م�سبقة لديه‪ ،‬ويطرح‬ ‫�أفكار ًا تربر الظلم �أو متنهجه �أو تظهره‬ ‫على اعتباره نتيجة علمية ملنهج بحثي‬ ‫مو�ضوعي‪ ،‬قد قدّم �أفكاره و�آراءه نتيجة‬ ‫ا�ستخدامه ملنهجه املعريف امل�ستند لتحيزاته‬ ‫التي هي من �صميم �إن�سانيته‪ ،‬والتي هي‬ ‫لي�ست بعيب �أو نقي�صة‪.‬‬ ‫و�أعتقد �أن الدكتور امل�سريي تناول‬ ‫"التحيّز" على اعتباره حالة �إن�سانية تظهر‬ ‫كيف �أن العقل الإن�ساين يتفاعل مع الواقع‬ ‫ويت�أثر ويبدع ويوّ لد �أفكار ًا وبالتاىل‬ ‫يتبنى مواقف معينة نتيجة هذا التفاعل‬ ‫وهذا الت�أ ّثر والإبداع‪ ،‬ويبدع مفرداته‬ ‫اخلا�صة للتعبري عن مواقفه تلك‪ ،‬رغم �أنه‬ ‫�ص ّرح �أن "فقه التحيّز" و�ضع ك�أداة لدرا�سة‬ ‫التحيزات الغربية يف النماذج املعرفية‬ ‫والبحثية التي ي�ستخدمها الباحثون‬ ‫العرب‪ ،‬والتي تنتج عن تبنيهم للقيم‬ ‫والنماذج املعرفية الغربية باعتبارها قيم ًا‬ ‫ومناذج عاملية مو�ضوعية حمايدة‪.‬‬ ‫ووفق وجهة نظري ف�إن العقل الب�شري‬ ‫�أي�ض ًا ي�ستطيع �أن يقيّم ويقوّ م ويراجع‬ ‫�أفكاره وا�ستخداماته لأنه ال يخ�ضع‬ ‫فقط ملعطيات الواقع و�أحداثه فيميل‬ ‫ملو�ضوعيتها الظاهرة‪ ،‬ولكنه يخ�ضع �أي�ض ًا‬ ‫ملا ن�سميه "ال�ضمري" �أو "احل�س ال�سليم"‬ ‫الذي يجعله ي ّتبع ما يبدو له �أنه احلق حتى‬ ‫لو خالف بهذا ما يفر�ضه الواقع ومعطياته‪،‬‬ ‫وهو ما نراه عند مفكرين وباحثني عرب‬ ‫وغربيني مل يخ�ضعوا حلتمية التحيّز‬ ‫املفرت�ضة‪ ،‬ومنهم الدكتور امل�سريي‬ ‫رحمه الله نف�سه‪ ،‬ومعه تلك املجموعة من‬ ‫الباحثني العرب الذين حتدث عنهم الدكتور‬ ‫عندما �أخربنا كيف تبلورت �إ�شكالية التحيّز‬ ‫لتتحول �إىل اجتهاد لت�أ�سي�س علم جديد‬ ‫هو "فقه التحيّز" بعد �أن توقف العرب منذ‬ ‫زمن بعيد عن �إبداع علوم جديدة نابعة من‬ ‫واقعنا‪.‬‬ ‫خامتة‪:‬‬ ‫�إن "فقه التح ّيز" كما �أ ّكد الدكتور‬ ‫امل�سريي ال يهدف �إىل التقليل من القيمة‬ ‫الإن�سانية لإبداعات الإن�سان الغربي‪،‬‬ ‫وال �إىل حتميله م�س�ؤولية كل ما حدث‬ ‫لنا من م�صائب‪ ،‬ولكنه يهدف �إىل ر�ؤية‬ ‫النموذج املعريف الغربي باعتباره �أحد‬ ‫الت�شكيالت احل�ضارية الإن�سانية ولي�س‬ ‫الت�شكيل الوحيد‪ ،‬وبالتاىل �سيكون‬ ‫ب�إمكاننا التعامل معه دون قلق‪ ،‬فال نقبله‬ ‫كله وال نرف�ضه كله بل ندر�سه كت�شكيل‬ ‫ح�ضاري �إن�ساين له �سلبيات و�إيجابيات‪،‬‬ ‫و�سيم ّكننا هذا من االنفتاح على‬ ‫الت�شكيالت احل�ضارية الأخرى‪ ،‬ور�ؤية‬ ‫ت�شكيلنا احل�ضاري اخلا�ص بنا واحرتامه‬ ‫والعمل على املحافظة عليه حتى ن�ستمر‬ ‫ككيان متما�سك له هوية حمددة ال كق�شرة‬ ‫خارجية ال م�ضمون لها ح�سب و�صف‬ ‫الدكتور‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪8‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫في حضرة عبد الوهاب المسيري‬ ‫لن تعرف عبد الوهاب امل�سريي �إال �إذا اقرتبت منه ولن يغني عن معرفته �أن تقر�أ ما كتبه �أو ما كتب عنه‪،‬‬ ‫�ستعجبك كتاباته ال �شك و�ست�أ�سرك قدراته الفكرية ونظراته الفل�سفية وقدراته التف�سريية اال�سثتنائية‪،‬‬ ‫لكن لن تكتمل بل رمبا لن تبد�أ معرفتك به �إال حني تقرتب من عامله وتدخل يف ح�ضرته �ساعتها فقط �ستعرفه‬ ‫وعليك �أن متلك القدرة على �أال ت�صبح من جماذيبه‪.‬‬

‫ح�سام متام‬

‫�أول ما عرفت امل�سريي يف عام ‪ 1997‬ومل‬ ‫�أزل حديث عهد بالقاهرة‪ ،‬كان احلديث عن‬ ‫مو�سوعته املعروفة " اليهود واليهودية‬ ‫وال�صهيونية" ميلأ الدنيا وي�شغل النا�س‪،‬‬ ‫مل �أجد يف نف�سي ميال لأن �أدخل يف زمرة‬ ‫املهللني للمو�سوعة وملا تزل معرفتي‬ ‫بها وب�صاحبها حمدودة‪ ،‬وزادين زهدا‬ ‫�أنني وجدت معظم املطبلني واملزمرين‬ ‫لها من حمرتيف الن�صب الثقايف وكذابي‬ ‫الزفة‪،‬فتملكني �شعور ب�أن هناك �شيئا زائفا‬ ‫يف الأمر‪ ،‬ومل �أكن �أعرف ما هو‪.‬‬ ‫ا�ست�ضفت الرجل يف ندوة عن املو�سوعة‬ ‫�أدرتها وقدمته فيها‪ ،‬ورغم ذلك مل �أجد نف�سي‬ ‫مرتاحا لالن�ضمام جلوقة املو�سوعة‪...‬اتهمت‬ ‫نف�سي باالنطباعية والت�سرع يف احلكم على‬ ‫النا�س‪ ،‬فتحاملت على نف�سي وانح�شرت‬ ‫يف �أحدى فرق اجلوقة التي يبدو �أنها كانت‬ ‫يف ات�ساع و�أنه ال عمل لبع�ضها يف الدنيا‬ ‫�إال الطبل والزمر وزرت الرجل ف�أعماين عن‬ ‫ر�ؤيته �صخب و�ضجيج جمموعة من امللتفني‬ ‫به واملتدثرين بردائه من غري وجه حق‪ ،‬كلهم‬ ‫يدعي التلمذة له والعمل معه بل وال�صداقة‬ ‫يف حني �أن بع�ضهم جمرد ل�صو�ص �أفكار‬ ‫ومن حمرتيف ال�شق�شقة والرطانة التي تخيم‬ ‫علينا فنظنهم م�شاريع مفكرين وهم لي�سوا‬ ‫�سوي خ�ضراء دمن ( قيل وما خ�ضراء الدمن‬ ‫يا ر�سول الله ؟ قال املر�أة احل�سناء يف املنبت‬ ‫ال�سوء )‪.‬‬ ‫�أزعجني كثريا �أن �أرى �أن�صاف مثقفني‬ ‫يتجر�أون على االدعاء جهارا نهارا ب�أنهم‬ ‫تالميذ املفكر املو�سوعي عبد الوهاب‬ ‫امل�سريي بل و�شركا�ؤه يف املو�سوعة‪،‬‬ ‫و�أزعجني �أكرث �أن الرجل ال ينكر عليهم ذلك‪،‬‬ ‫فكل يدعي و�صال بليلى ولكنها هذه املرة ال‬ ‫تنكر هذا الو�صل بل تقر لهم به‪ ،‬اغتظت من‬ ‫الرجل كثريا وهو مينح بع�ضهم جوازات‬ ‫مرور يف �أمور وق�ضايا وحتاملت على‬ ‫الرجل وغاب عن ب�صريتي مربرات الرجل‬ ‫ودوافعه‪...‬ويف حتاملي غاب عني الكثري‬ ‫وكان �أق�صى ما و�صلني من الرجل بع�ض‬ ‫�أفكاره ومنوذجه التف�سريي يف فهم امل�سالة‬ ‫اليهودية ثم امل�سالة العلمانية‪.‬‬

‫***‬ ‫وحده ال�صديق والأ�ستاذ �أ�سامة القفا�ش‬ ‫الذي فتح يل باب عبد الوهاب امل�سريي‬ ‫وا�سعا‪ ،‬وكانت هذه واحدة من �أف�ضاله‬ ‫الكثرية قبل �أن تفرق بيننا ال�سبل‪ .‬كان‬ ‫�أ�سامة القفا�ش يري �أن م�صر بل والعامل‬ ‫العربي لي�س فيه مفكر ي�ستحق و�صف املفكر‬ ‫�سوى عبد الوهاب امل�سريي‪ ،‬و�أنه ال يجوز‬ ‫�أن نطلق على غري امل�سريي هذا اللقب‪� ،‬أما‬ ‫غريه فهم مفكرون باملعنى الفالحي‪ ،‬واملفكر‬ ‫باملعنى الفالحي هو الذي �أ�صابه الفكر!!‬ ‫�أ�صر �أ�سامة على �أن يعرفني بامل�سريي‬ ‫وفكره وعطائه ‪� ،‬أعارين ورمبا اهداين‬ ‫كثريا مما كتبه الرجل �أو كتب عنه بجد‬ ‫ولي�س طبال وزمرا‪ ،‬و�أ�صر على �أن يهديني‬ ‫ن�سخة من �سريته الفكرية لتي �صدرت عن‬ ‫هيئة ق�صور الثقافة‪ ،‬و�أن تكون ن�سخة‬ ‫�شخ�صية من امل�سريي بذاته‪ ،‬كنا نق�ضي‬ ‫بال�ساعات الطوال نتناق�ش يف عامل امل�سريي‪،‬‬ ‫كان �أ�سامة �أقرب تالميذه له و�أكرثهم‬ ‫�إدراكا لأهميته وا�ستثنائيته‪ ،‬بل و�أقدرهم‬ ‫على فهم �أفكاره بل وتطويرها‪ ،‬ولوال �أن‬ ‫الأمور جتري مبقادير لكان القفا�ش االمتداد‬ ‫الطبيعي لعبد الوهاب امل�سريي �أو �شارحه‬ ‫الأكرب يف الأقل‪.‬‬ ‫جنح �أ�سامة يف �أن ي�ضعني على عتبات عامل‬ ‫امل�سريي‪ ،‬وجنح �آخرون يف �أن مينعوين‬ ‫من ان �ألج فيه ترفعا عن ان �أح�شر نف�سي يف‬ ‫زمرة املدعني والراغبني يف العي�ش على وهم‬ ‫التلمذة لهذا الرجل املحرتم‪...‬فحافظت على‬ ‫عالقة بالرجل و�أفكاره تبعدين عما �أكره وال‬ ‫متنع عني بع�ضا من فيو�ضاته‪...‬حتى قدر‬ ‫الله يل بالفتح من عنده‪.‬‬ ‫***‬ ‫كان الزمان يف مار�س من عام ‪ 2005‬حني‬ ‫تلقيت دعوة كرمية من منتدى احلكمة‬ ‫للباحثني واملفكرين يف الرباط للم�شاركة‬ ‫يف الندوة الدولية التي ينظمها ملناق�شة "‬ ‫�إ�شكالية العالقة بني الفكري وال�سيا�سي"‬ ‫‪ ،‬ويف املطار كان من �أقدار الله الطيبة �أن‬ ‫�أكون ب�صحبة عاملني جليلني جاءت الرحلة‬ ‫يل اكت�شافا لهما كما تعيد العني ر�ؤية‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫النور بعدما كانت تنكره من رمد‪ ،‬فالتقيت‬ ‫بالدكتور �سيف الدين عبد الفتاح �أ�ستاذ‬ ‫النظرية ال�سيا�سية بكلية العلوم ال�سيا�سية‬ ‫والعامل اجلليل الذي ظلمته �صعوبة �أ�سلوبه‬ ‫يف الكتابة واحرتامه الكبري لنف�سه – ورمبا‬ ‫كانت يل معه عودة‪ -‬و�أ�ستاذنا املفكر عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي والقا�سم بني الرجلني غري‬ ‫العلم والعبقرية واخللق الرفيع هو �أنني‬ ‫تعرفت عليهما بعد التبا�س و�سوء فهم‪.‬‬ ‫و�أ�ستطيع القول من دون �أي مبالغة �أن‬ ‫�سبعة ايام يف �صحبة عبد الوهاب امل�سريي‬ ‫غريت كثريا لي�س من نظرتي له فح�سب‪ ،‬بل‬

‫ومن نظرتي للحياة عموما‪ ،‬يف البداية كنت‬ ‫�صريحا مع الرجل حد الفجاجة ف�أخربته‬ ‫ب�أ�سباب زهدي يف زيارته والتقرب منه‪،‬‬ ‫وحكيت له عما بداخلة نف�سي جتاهه‪،‬‬ ‫كان ذلك ومل نزل يف قاعة االنتظار مبطار‬ ‫القاهرة‪ ،‬مل يعقب الرجل وبل جتاوز الأمر‬ ‫وت�ضاحكنا وتناق�شنا يف �أمور كثرية‬ ‫وحكايات وطرف ومواقف حتى بدا وك�أننا‬ ‫�أ�صدقاء ومعارف من ع�شرات ال�سنني‪..‬‬ ‫ون�سيت نف�سي يف غمرة هذه الدفقة الهائلة‬ ‫من الب�ساطة وال�صدق والإن�سانية التي‬ ‫رفعت بيننا حواجز كانت �ستم�ضي بالرحلة‬

‫الدكتور امل�سريي �أثناء عمله مبكتبه‪..‬‬

‫يف وترية واحدة‪ :‬احرتام وتقدير ومعاملة‬ ‫تليق بعامل مثله‪.‬‬ ‫***‬ ‫ويف املغرب ت�أكد يل �صدق من قال " ال‬ ‫كرامة لنبي يف �أهله" ملا وجدته من حفاوة‬ ‫وتقدير للرجل يفوق الو�صف‪ ،‬ففي الدار‬ ‫البي�ضاء كان يف ا�ستقباله تالمذته ومريدوه‬ ‫على مائدة غداء جمعت لفيفا من �أرقى‬ ‫الأكادمييني وال�سيا�سيني واملثقفني وكان‬ ‫قد �سبقنا اليها املفكر الفل�سطيني الرائع‬ ‫منري �شفيق‪ ،‬واجلميع يف ح�ضرة امل�سريي‬ ‫ين�صتون �أكرث مما يتكلمون‪ ،‬على غري‬ ‫تالمذته امل�صريني الذين ن�صبوا �أنف�سهم‬ ‫متحدثني با�سمه وهو مل يزل بينهم‪ ،‬حتى‬ ‫منري �شفيق املفكر االملعي واملتحدث البليغ‬ ‫ي�صر على �أنه يف�ضل �أن ي�سمع للم�سريي‪.‬‬ ‫الباحث واملنا�ضل الفل�سطيني �سعيد خالد‬ ‫احل�سن �أ�ستاذ العلوم ال�سيا�سية بجامعة‬ ‫حممد اخلام�س ي�صر على �أجازة كاملة من‬ ‫كل �أعماله وحياته حتى العائلية للتفرغ‬ ‫متاما للرجل‪ ،‬وع�شرات املحبني واملريدين‬ ‫يتناف�سون على خدمته ويكادون ي�ستهمون‬ ‫على من ينال �شرف �صحبته يف الرحلة اىل‬ ‫مدينة وجدة – مكان الندوة‪ -‬على حدود‬ ‫اجلزائر ‪.‬‬ ‫الت�أم ال�شمل وكان يل �شرف �صحبة الثالثي‬ ‫عبد الوهاب امل�سريي ومنري �شفيق و�سيف‬ ‫الدين عبد الفتاح يف رحلة ا�ستمرت �أ�سبوعا‬ ‫ما بني وجدة والدار البي�ضاء والرباط‪،‬‬ ‫وهالني هذا اال�ستقبال الأ�سطوري الذي‬ ‫كان يف انتظار الرجل بد�أ من املطار املحلي‬ ‫وحتى قاعة املحا�ضرات التي احت�شد فيها‬ ‫مئات الطالب والباحثني يتقدمهم قيادات‬ ‫اجلامعة و�أع�ضاء املجل�س العلمي وقيادات‬ ‫املدينة‪ ،‬امتلأ املدرج عن �آخره فانتقل‬ ‫احل�ضور ملدرج �ضاق بهم هو االخر ومل‬ ‫ت�سعفهم الدوائر التليفزيونية‪ ،‬وكان من‬ ‫امل�ستحيل على من يرى امل�شهد �أن يت�صور‬ ‫�أن احل�ضور جاءوا لندوة فكرية بحتة‬ ‫(عنوانها‪ :‬علمنة ال�سيا�سة) ولي�س للقاء مع‬ ‫جنم �سينمائي �أو العب كرة م�شهور �أو حتى‬ ‫زعيم �سيا�سي‪.‬‬

‫يف املغرب تعرفت على امل�سريي‬ ‫الإن�سان املت�صالح مع نف�سه الذي‬ ‫يعرف �ضعفه الإن�ساين ويتعاي�ش‬ ‫معه وال ينكره �أو يداريه؛ امل�سريي‬ ‫الذي ال يداري حبه للأ�شياء‬ ‫الب�سيطة �أو التافهة �أحيانا –‬ ‫عفوا‪ -‬وولعه بها ‪ ،‬والذي يفا�صل يف‬ ‫الأ�سعار عند ال�شراء ونحن يف ال�سوق‬ ‫ويتحايل على مكر وج�شع التاجر‬ ‫املغاىل في�ستعطفه ب�أنه قد يالقي‬ ‫العقاب من زوجته �إذا ما مل يح�صل‬ ‫على هذه الهدايا باملبلغ الذي ال ميلك‬ ‫غريه‪،‬‬

‫�شعرت باخلجل حني قارنت بني عدد‬ ‫احل�ضور ومثيله يف ندوات حا�ضر فيها‬ ‫الرجل يف القاهرة بلد الع�شرين مليون ن�سمة‬ ‫ولي�ست مدينة وجدة التي يقطع لها امل�سافر‬ ‫ع�شر �ساعات �سفر من العا�صمة‪ ،‬و�أخجلني‬ ‫�أكرث �أن الطلبة – ف�ضال عن الباحثني‪ -‬كانوا‬ ‫يناق�شونه يف �أدق �أفكاره وي�س�ألونه عما‬ ‫كان يق�صده يف �صفحة كذا من كتابه كذا‪..‬‬ ‫وبدا �أن معظمهم قر�أ كل ما كتبه امل�سريي‬ ‫‪.‬كل ما كتبه! وتفاعل معه وجاء لي�س�أل فيه‬ ‫ودون مت�سح وادعاء �صلة غري �صحيحة‬ ‫�أو ارتداء لعباءة مل تكن له‪..‬وحني انتهت‬ ‫حما�ضرته كان املئات وخا�صة من الطالبات‬ ‫– وال �أعرف �سر تعلق الن�ساء والفتيات‬ ‫به‪ -‬يحت�شدون حوله لل�سالم عليه والتقاط‬ ‫ال�صور معه‪ ،‬وكانت املرة الأوىل التي �أ�شهد‬ ‫ا�ستقباال جماهرييا ملفكر!‬ ‫بقينا يومني يف وجدة فلم �أجد حفاوة‬ ‫مبفكر كتلك التي قوبل بها امل�سريي‪ ،‬علم‬ ‫البا�شا – واىل املدينة – بقدومه ف�أومل على‬ ‫�شرفه بوليمة مغربية غاية يف كرم الوفادة‬ ‫وا�ستقبلنا يف ق�صره ا�ستقبال امللوك‪ ،‬و�أومل‬ ‫رئي�س املجل�س العلمي للمدينة ال�شيخ‬ ‫م�صطفي بن حمزة على �شرفه يف �أحد‬ ‫الق�صور العريقة‪ ،‬وتنازع النا�س – كربا�ؤهم‬ ‫وب�سطا�ؤهم ‪�-‬شرف االحتفاء به ب�صدق‬ ‫و�إ�صرار غريبني‪ ،‬حتى تعب الرجل من‬ ‫كرثة �إحلاح النا�س و�إقبالهم عليه‪ ،‬دخلنا‬ ‫�إحدى ال�صيدليات ن�شرتي له دواءا فما‬ ‫كادت الطبيبة تراه حتى �صرخت ذاهلة‪:‬‬ ‫معقول!!‪..‬الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‬ ‫عندنا ‪..‬ياللكرامة والنور!! و�أق�سمت علينا‬ ‫�أننا �ضيوفها والبد من �أن نتناول عندهم‬ ‫الع�شاء كرامة لقدوم الويل ال�صالح عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي‪..‬وبعد الأميان املغلظة‬ ‫اكتفت ب�أال ت�أخذ مقابال عن الدواء من �ضيف‬ ‫املغرب املفكر والعامل امل�سريي‪ ،‬وطلبت منه‬ ‫فقط �أن يبلغ ال�سالم جلدها الأمري املجاهد‬ ‫عبد الكرمي اخلطابي بطل الريف املغربي‬ ‫املدفون يف م�صر‪...‬وقد مازحته �سائال عما‬ ‫�إذا دخل ال�صيدلية املجاورة لبيته يف م�صر‬ ‫اجلديدة فتمنى �ضاحكا لو تعرف عليه‬ ‫�صاحبها ولكان هذا يكفيه!‪ ..‬وحني غادر‬ ‫امل�سريي اىل مطار وجدة يف طريقه للرباط‬ ‫�أ�صر ال�شيخ بن حمزة الرجل املبارك �صاحب‬ ‫االعمال اجلليلة والآيادي البي�ض يف املدينة‬ ‫على �أن يقوم بتو�صيله بنف�سه اىل املطار‬ ‫وهناك فتحت �أبواب املطار وحواجزه‬ ‫للم�سريي حتى �أبواب الطائرة من دون‬ ‫الإجراءات املتبعة وكان الع�سكر يرفعون‬ ‫�أيديهم بالتحية كما لو كانوا يف وداع زعيم‬ ‫�سيا�سي !‬

‫‪9‬‬

‫***‬ ‫ويف الرباط كنا ن�ضطر اىل �إخفاء الرجل‬ ‫حر�صا على عدم �إرهاقه بكرثة �ضيوفه الذين‬ ‫ازدحم بهم جدول الزيارة‪ ،‬وق�صرنا اجلدول‬ ‫على بع�ض املقابالت �أغلبها مع مفكرين‬ ‫وباحثني كان من �أجملها والطفها مقابلته مع‬ ‫الفيل�سوف املغربي العظيم طه عبد الرحمن‬ ‫رئي�س منتدى احلكمة للمفكرين والباحثني‪،‬‬ ‫وقد كان لقاء الكبار الذين ال يجوز لك يف‬ ‫ح�ضرتهم �إال اال�ستماع واملراقبة‪ ،‬وحني زرنا‬ ‫دار الأمان �أ�شهر مكتبات املغرب فوجئت ب�أن‬ ‫امل�سريي هو �أكرث املفكرين الذي تباع كتبهم‬ ‫باملغرب‪ ،‬التف حوله اجلمهور ي�شرتون كتبه‬ ‫ليوقعها لهم بنف�سه‪ ،‬وهو م�شهد �أزعم �أنه‬ ‫رمبا مل ي�سبق حدوثه يف بلده م�صر !‬ ‫بقينا مع امل�سريي ؛ الدكتور �سيف و�أنا بقية‬ ‫الأ�سبوع يف فيال على �شاطيء الأطل�سي‪،‬‬ ‫ن�أكل ون�شرب ونتحدث ونتجول معا وال‬ ‫نفرتق �إال �ساعة النوم ‪ ،‬فكانت �أجمل فر�صة‬ ‫يف حياتي اكت�شفت فيها عبد الوهاب‬ ‫امل�سريي ‪ :‬املفكر والإن�سان‪..‬القادر على‬ ‫�إ�شاعة البهجة وال�سعادة يف نفو�س كل من‬ ‫حوله‪ ،‬والقادر على �أن ي�صنع لنف�سه دروبا‬ ‫وطرقا اىل �أعمق ما يف النف�س الإن�سانية‬ ‫بب�ساطته ورحابة �صدره‪ ،‬والذي يتفهم‬ ‫ال�ضعف الإن�ساين فيمن حوله ويقبلهم على‬ ‫عالتهم و�ضعفهم ويظل با�شا لهم متقبال‬ ‫لهم دون �أن يجرح م�شاعرهم �أو يك�سرهم‬ ‫بو�ضعهم يف �أحجامهم احلقيقية‪..‬تعرفت‬ ‫على امل�سريي الذي ال ين�شر كتابا �إال بعد‬ ‫�أن يقدمه مبقدمة ي�شكر فيها كل من عاونه‬ ‫�أو �ساعده �أو قدم له خدمة ولو كانت �صف‬ ‫كتابته على الكمبيوتر �أو مراجعتها لغويا �أو‬ ‫�شراء ورق و�أقالم الكتابة رمبا! وهو ي�شكر‬ ‫اجلميع ويحتفي بهم باعتبارهم �شركاءه‬ ‫يف هذا العمل دومنا قلق �أو غ�ضب من �أن‬ ‫ي�ستغله �أحدهم �أو مي�شي ب�سببه كالقط‬ ‫يحكي انتفاخا �صولة الأ�سد!‬ ‫***‬ ‫يف املغرب تعرفت على امل�سريي الإن�سان‬ ‫املت�صالح مع نف�سه الذي يعرف �ضعفه‬ ‫الإن�ساين ويتعاي�ش معه وال ينكره �أو‬ ‫يداريه؛ امل�سريي الذي ال يداري حبه للأ�شياء‬ ‫الب�سيطة �أو التافهة �أحيانا – عفوا‪ -‬وولعه‬ ‫بها ‪ ،‬والذي يفا�صل يف الأ�سعار عند ال�شراء‬ ‫ونحن يف ال�سوق ويتحايل على مكر وج�شع‬ ‫التاجر املغاىل في�ستعطفه ب�أنه قد يالقي‬ ‫العقاب من زوجته �إذا ما مل يح�صل على هذه‬ ‫الهدايا باملبلغ الذي ال ميلك غريه‪ ،‬امل�سريي‬ ‫الذي حول ع�شاءنا يف �أحد املطاعم ال�شامية‬ ‫بالرباط اىل �أحلى جل�سة فكاهة ومرح‬ ‫عرفتها بنكاته غري املتكلفة �أو املتحفظة‬ ‫وقدرته الرهيبة على احلكي والتقم�ص من‬ ‫دون ادعاء وقار �أو ت�صنع ح�شمة‪ ،‬امل�سريي‬ ‫الإن�سان اخلاىل من العقد النف�سية وادعاء‬ ‫التطهر والذي يكتب حملال ومف�سرا لظاهرة‬ ‫الفيديو كليب دون �أن مينعه الوقار من‬ ‫�أن يقر ب�أنه ق�ضي ال�ساعات الطوال يف‬ ‫م�شاهدة ور�صد عوامل الرق�ص من لدن �سعاد‬ ‫ح�سني حتى روبي ونان�سي عجرم‪ ،‬ومل يدع‬ ‫لنف�سه ورعا لي�س له ومل يردد يف املو�ضوع‬ ‫وعظيات الآخرين!‬ ‫بعيدا عن م�صر عرفت على امل�سريي الذي‬ ‫يويل م�شاعر الآخرين عناية بالغة فيف�سح‬ ‫لهم يف املجل�س ويقدر لهم ر�أيهم ‪ ،‬ويجيد‬ ‫اال�ستماع اىل الآخرين خا�صة من ال�شباب‪،‬‬ ‫بل ويهتم بهم اهتماما حقيقيا و�إن�سانيا‬ ‫يتجاوز االدعاء و�إبراء الذمة‪ ،‬فرتاه يبحث‬ ‫لهذا عن وظيفة وذلك عن عالج ويتدخل‬ ‫لي�ساعد �أحد طالبه على الزواج‪ ،‬ويخرتع‬ ‫لآخر وظيفة وهمية كم�ساعد له دومنا‬ ‫حاجة حقيقية �إال الرغبة يف مد يد العون له‬ ‫و�إ�شعاره ب�أن له �أهمية يف احلياة‪..‬امل�سريي‬ ‫هو �شخ�ص ا�ستطاع �أن يتخل�ص من عقد‬ ‫و�أمرا�ض كثرية يعانيها كتاب ومفكرون‬ ‫�أ�صابتهم لعنة الت�أله‪ ،‬و�سيطر عليهم �إح�سا�س‬ ‫ب�أن الله مل يخلق الدنيا �إال لهم و�أن خلق الله‬ ‫كلهم ما عليهم �إال الطواف حولهم‪.‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪10‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫عبد الوهاب المسيري‬

‫ناقدا ادبيا‬

‫�سئل الدكتور عبد الوهاب امل�سريي عن مغزى اجتاهه يف بداية حياته الفكرية �إىل الدرا�سة الأدبية وحتوله فيما بعد �إىل جمال الدرا�سات الفكرية وال�سيا�سية‪ ،‬وما �إذا كان هذا‬ ‫ي�أئ�سا من الأدب بو�صفه "ق�ضية خا�سرة"‪ ،‬فقال‪" :‬التخ�ص�ص الأدبي ال يزال هو �أكثـر التخ�ص�صات يف العلوم الإن�سانية اقرتابا من الظاهرة الإن�سانية‪ ،‬كما �أن الأدب ال يزال ي�ؤثر‬ ‫يف حياة النا�س‪� .‬أال تزال املاليني تقر�أ �أعمال جنيب حمفوظ وحممود دروي�ش؟ وعلى ٍّ‬ ‫كل‪� ،‬أنا مل �أهجر الأدب متام ًا‪� ،‬إذ �أ�سميه حبي الأول فلي درا�سات متفرقة يف الأدب‪ ،‬فكتابي‬ ‫عن احل�ضارة الأمريكية ي�ضم درا�سات �أدبية‪ .‬كما �أنني قمت برتجمة بع�ض الأعمال الأدبية الفل�سطينية ‪ -‬الق�ص�ص الق�صرية والأ�شعار – اىل الإجنليزية‪ ،‬كما نقلت الق�صائد‬ ‫الرومانتيكية الإجنليزية الأ�سا�سية اىل العربية وكتبت تعليقا على كل ن�ص(‪.")1‬‬ ‫وهو ي�شري بالتحديد �إىل كتابيه‪" :‬درا�سات يف ال�شعر(‪ ")2‬و"يف الأدب والفكر(‪ ")3‬بو�صفهما �أهم كتاباته النقدية‪ ،‬وي�ضمان عددا كبريا من درا�ساته الأدبية التي ن�شرها ب�شكل‬ ‫يدر�س فيها الأدب الإجنليزي‪.‬‬ ‫متفرق عرب الثالثني عاما املا�ضية‪ ،‬كما �أنه كان ينوي كتابة تاريخ لل�شعر الإجنليزي ا�ستنادا اىل املحا�ضرات التي كان يلقيها عرب ثالثني عاما‪ ،‬كان ّ‬ ‫وقد �سلطت الأ�ضواء دائما على العطاء الفكري للدكتور عبد الوهاب امل�سريي يف حقل درا�سات الظاهرة ال�صهيونية وكان �صدور مو�سوعته‪" :‬اليهود واليهودية وال�صهيونية"‬ ‫تكري�سا لهذا امللمح الذي طغى على بقية مالمح �شخ�صية عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬

‫ممدوح ال�شيخ‬

‫�أول �صورة التقطت للدكتور عبد الوهاب امل�سريي (الثاين من اليمني) وعمره ثالث �سنوات عام ‪..1941‬‬ ‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫ويذهب الناقد م�صطفى عبد الغني �إىل �أن‬ ‫العامل الإن�ساين �أو "امل�شرتك الإن�ساين" هو‬ ‫مفتاح العامل النقدي للم�سريي‪ ،‬وهو عامل‬ ‫ت�ش َّكل مبكرا جدا منذ كان طالبا بكلية الآداب‬ ‫بجامعة الإ�سكندرية‪ ،‬فقد ا�ستطاع ال�شعر‬ ‫معان‬ ‫الرومان�سي الإجنليزي الو�صول �إىل ٍ‬ ‫�إن�سانية عميقة عرب لغة ب�سيطة‪ .‬ويف مرحلة‬ ‫تالية جنحت �أعمال كتاب مثل‪ :‬وليم �شك�سبري‬ ‫وت‪� .‬إ�س‪ .‬اليوت وغريهما �أن تعينه على‬ ‫بلورة ر�ؤية نقدية �أكرث ن�ضجا وتركيبا‪ ،‬وكان‬ ‫جملة ما تو�صل اليه عبد الوهاب امل�سريي‬ ‫وبعد التعمق يف �أعمال الكتاب القدماء‬ ‫مثل‪� :‬إي�سخلو�س و�سوفوكلي�س وفريجيل‬ ‫وهورا�س‪� ،‬أن �أدرك وجود ما ميكن ت�سميته‬ ‫"الثوابت الإن�سانية"‪� ،‬أي املطلق الإن�ساين‬ ‫الذي ي�شرتك فيه بنو الب�شر جميعا‪ ،‬و�شكلت‬ ‫هذه الفكرة نقطة مرجعية مطلقة(‪.)4‬‬ ‫ويف العام ‪ 1964‬كتب امل�سريي ر�سالته‬ ‫للماج�ستري عن "�أهمية ترجمة ال�شعر‬ ‫الرومانتيكي الإجنليزي للعربية" ثم ما لبث‬ ‫�أن ح�صل على درجة �أكادميية ثانية من جامعة‬ ‫كولومبيا بعنوان‪�" :‬أثر التقاليد الرومانتيكية‬ ‫يف �شعر �إبراهيم ناجي"‪ ،‬ثم ح�صل عام ‪1969‬‬ ‫على درجة الدكتوراه من جامعة رجترز‪،‬‬ ‫وكان عنوان �أطروحته‪" :‬الأعمال النقدية‬ ‫لويليام وردزورث وولت ويتمان‪ :‬درا�سة‬ ‫يف الوجدان التاريخي والوجدان املعادي‬ ‫للتاريخ"‪ .‬وينقل الناقد م�صطفى عبد الغني‬ ‫عن كتاب للدكتور امل�سريي مل ين�شر حتى‬ ‫الآن عنوانه‪" :‬من املذهب الإن�ساين �إىل ما‬ ‫بعد احلداثة‪ :‬ر�ؤية من خالل ال�سرية الذاتية"‬ ‫يروي فيه جوانب من حياته يف الواليات‬ ‫املتحدة الأمريكية‪ ،‬يقول فيه امل�سريي عن‬ ‫نف�سه‪" :‬ومت�ضي بنا رحلة ال�شاب من دمنهور‬ ‫�إىل جامعة كولومبيا للح�صول على درجة‬ ‫املاج�ستري يف الآداب ثم �إىل جامعة رجترز‬ ‫للح�صول على درجة الدكتوراه‪ .‬ويف جامعة‬ ‫كولومبيا قام بالتدري�س له �أ�ساتذة �أمثال‪:‬‬ ‫ليونيل تريلنج وبازل ويلي ومارتن دوبي‬ ‫وكارل وودرجن‪ ،‬وقد كان لكل منهم خطابه‬ ‫ولغته النقدية ونظرته اخلا�صة‪� ،‬إال �أنه يف‬ ‫و�سط هذا اخل�ضم من النقا�ش واالختالف كان‬ ‫اجلميع يلتقون يف نقطة مرجعية م�شرتكة‬ ‫هي "الثوابت الإن�سانية"‪ .‬ومل تكن احلال‬ ‫يف جامعة رجترز تختلف كثريا عن ذلك فقد‬ ‫كانت هناك �شبه معركة بني احلر�س القدمي‬ ‫الداعي �إىل املذهب التاريخي لتناول الأدب‬ ‫وبني احلر�س اجلديد �أو "�أوالد هارفارد" كما‬ ‫كان يطلق عليهم الداعني �إىل تبني "املذهب‬ ‫ال�شكالين‪ .. .. ..‬وقد كنت �أفتخر ب�أن الأدب‬ ‫هو املجال الوحيد الذي مل يفقد االت�صال‬ ‫�أبدا بـ "الثوابت الإن�سانية" فاملجاالت‬ ‫الأخرى قد تعرب عن الوجود الإن�ساين من‬ ‫خالل �أ�شكال تو�ضيحية جمردة �أو منحنيات‬ ‫بيانية �أو معادالت ريا�ضية‪� ،‬إال �أنه ال ميكن‬ ‫�إدراك ال�صورة املتعينة للإن�سان يف �أفراحه‬ ‫و�أتراحه من خالل هذه الأ�شكال �أو املنحنيات‬ ‫�أو املعادالت‪ ،‬ولعل ذلك هو �سر متيز الأدب‪،‬‬ ‫ف�صورة الإن�سان املتعينة هي عموده‬ ‫الفقري(‪")5‬‬ ‫وتت�سم كتابات امل�سريي النقدية بدرجة‬ ‫مده�شة من التنوع والرثاء �إذ كتب عن �شعر‬ ‫املقاومة الفل�سطينية وكتب نقدا لعدد من‬

‫الروايات مثل‪" :‬ال�سيد من حقل ال�سبانخ"‬ ‫ل�صربي مو�سى وهي رواية تنتمي �إىل �أدب‬ ‫اخليال العلمي‪ ،‬وكتب كذلك عن �شعر بدر‬ ‫توفيق وغازي الق�صيبي وعن ق�ص�ص ق�صرية‬ ‫للطيب �صالح وعبد ال�سالم العجيلي وتوما‬ ‫اخلوري‪ ،‬و�آخرين‪ .‬وعلى اجلانب الآخر قدم‬ ‫عبد الوهاب امل�سريي للقارئ العربي عددا من‬ ‫ال�شعراء الإجنليز من ت�شو�سر �إىل هاردي‬ ‫مرورا بال�شعراء الرومانتيكيني والفيكتوريني‬ ‫�أمثال‪ :‬وليم بليك وودذورث وكيت�س و�شيلي‪،‬‬ ‫ثم �ألفريد لورد تني�سون وماتيو �أرنولد‬ ‫وروبرت براوننج ووالت ويتمان‪ .‬وكتب عن‬ ‫احلداثة وما بعد احلداثة‪ ،‬وعن الت�شي�ؤ وعن‬ ‫الأنثوية‪ ،‬وكتب عن �شعر الهايكو وامل�سرح‬ ‫الياباين‪ ،‬كما ترجم م�سرحيات وق�صائد(‪.)6‬‬ ‫ومن النتاج النقدي للم�سريي بالإجنليزية‬ ‫كتابات عن‪" :‬الت�شي�ؤ واحلداثة وما بعد‬ ‫احلداثة"‪ ،‬و"ديالكتيك الإن�سان والطبيعة"‬ ‫والبنى الأخالقية يف �أعمال الروائيني‬ ‫الأمريكيني‪ :‬ملفيل وثورو‪ ،‬كما كتب عن‬ ‫البنيوية والتفكيكية‪ ،‬وكتب عن "�شعر‬ ‫املقاومة الفل�سطيني" وعن �أبي حيان‬ ‫التوحيدي وعن �صالح جاهني(‪.)7‬‬ ‫ويرى عبد الوهاب امل�سريي �أن الناقد الأدبي‬ ‫يواجه ثنائية �أ�سا�سية هي ثنائية الواقع‬ ‫املو�ضوعي يف مقابل الواقع الأدبي (الذاتي)‪،‬‬ ‫�أي الواقع كما ي�صوره الأديب‪ .‬ف�أي ن�ص �أدبي‬ ‫له حدوده امل�ستقلة عن الواقع‪ ،‬فهو ينتمي �إىل‬ ‫عامل الأدب قدر انتمائه لعامل الواقع‪ .‬فر�ؤية‬ ‫الأديب ال تخ�ضع لقوانني الواقع وح�سب‪،‬‬ ‫و�إمنا تخ�ضع‪ ،‬وبالدرجة الأوىل‪ ،‬لقوانني‬ ‫الأدب وتقاليده‪ .‬بل �إن الأديب ي�ضطر �أحيانا‬ ‫�إىل �أن يحوّ ر تفا�صيل الواقع اخلارجي التي‬ ‫ترد يف عمله‪ .‬ولذا حني ندر�س �أي ن�ص �أدبي‬ ‫البد من �أن نفرت�ض انف�صاله عن الواقع‪،‬‬ ‫وننظر اليه باعتباره جمموعة من العالقات‬ ‫املتداخلة داخل حدوده الأدبية‪ .‬وهذا ما عمّق‬ ‫�إح�سا�س امل�سريي بالثنائية يف العامل‪ ،‬وقد‬ ‫�أ�صبحت من املفاهيم التحليلية الأ�سا�سية يف‬ ‫منهجه البحثي‪ .‬وي�ضيف امل�سريي �أننا يف‬ ‫الدرا�سة الأدبية نحاول البحث عن املو�ضوع‬ ‫الأ�سا�سي الكامن الذي ي�ضفي على العمل‬ ‫الوحدة وي�ش ّكل معناه الأ�سا�سي‪ .‬وقد قاده‬ ‫هذا الكت�شاف النموذج كالية �أ�سا�سية لتحليل‬ ‫الن�صو�ص والظواهر(‪.)8‬‬ ‫ومثل هذه النظرة – والكالم للم�سريي‬ ‫– رغم �أهميتها و�ضرورتها لي�ست كافية‪.‬‬ ‫فالن�ص الأدبي‪ ،‬يف نهاية الأمر تعبري عن‬ ‫واقع �إن�ساين‪ ،‬ورغم �أنه تعبري غري مبا�شر‪،‬‬ ‫�إال �أنه لي�س ن�ص ًا جمردا مغلقا‪ ،‬معلقا يف‬ ‫الهواء‪ ،‬و�إمنا هو ن�ص متعني‪ ،‬جذوره يف‬ ‫الواقع‪ ،‬يوجد يف عدة �سياقات‪ .‬فهو �أو ًال‬ ‫يوجد داخل �سياق �أدبي يتكون من كل �أعمال‬ ‫الأديب ومن كل الن�صو�ص الأدبية ال�سابقة‬ ‫والالحقة التي ُكتبت باللغة نف�سها‪ .‬وفهمنا‬ ‫لن�ص �أدبي ما ال ميكن �أن يكتمل دون معرفة‬ ‫و�إدراك كاملني لهذا ال�سياق‪ ،‬فمن خالله ميكننا‬ ‫حتديد توقعاتنا بالن�سبة للن�ص‪ ،‬ومعرفة‬ ‫بع�ض التقاليد الأدبية التي تتحكم فيه‪ .‬كما‬ ‫�أن الن�ص الأدبي يوجد داخل �سياق ح�ضاري‬ ‫وتاريخي واجتماعي �أي�ض ًا‪ ،‬وكلها �سياقات‬ ‫متداخلة ت�ؤثر على العمل الأدبي وترتجم‬ ‫نف�سها �إىل عنا�صر �أدبية‪ .‬وميكننا �أن ندر�س‬ ‫ن�ص ًا �أدبيًّا ما داخل هذه ال�سياقات‪� ،‬أو ندر�سه‬ ‫داخل �إحداها وح�سب‪ ،‬ح�سبما متليه طبيعة‬ ‫الدرا�سة والهدف منها‪ .‬كما �أن حياة الأديب‬ ‫من ناحية انتمائه الطبقي واالجتماعي‪،‬‬ ‫والبيئة اجلغرافية التي يعي�ش فيها‪ ،‬وتركيبته‬ ‫النف�سية البد و�أنها ت�ؤثر‪ ،‬و�أحيانا ب�شكل‬ ‫عميق‪ ،‬على م�ضمون العمل الأدبي وبنيته‪.‬‬ ‫ولكن العمل الأدبي مع هذا لي�س جمرد وثيقة‬ ‫فكرية �أو اجتماعية ذات م�ضمون فكري �أو‬ ‫اجتماعي عام وجمرد‪ ،‬و�إمنا هو بناء له‬ ‫حدوده امل�ستقلة ومنطقه اخلا�ص وقوانينه‬ ‫املحددة و�شكله وبنيته ولغته‪ .‬وهو بناء‬ ‫يوجد يف ال�سياق الفكري �أو االجتماعي يت�أثر‬

‫به‪ ،‬وي�ؤثر فيه يف الوقت ذاته‪ ،‬ولكنه يتخطاه‬ ‫وي�ستقل عنه(‪.)9‬‬ ‫ويرى الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أن‬ ‫الناقد حينما يعود �إىل الدرا�سات االجتماعية‬ ‫والتاريخية للفرتة التي يعاجلها الن�ص‬ ‫و�إىل املعلومات اخلا�صة بحياة امل�ؤلف ف�إنه‬ ‫ميكنه �أن يف�سر بع�ض التفا�صيل التي قد‬ ‫يكون من الع�سري تف�سريها �إذا ما بقي الناقد‬ ‫داخل العمل وح�سب‪ .‬كل هذا يعني �أننا نرى‬ ‫�أن ثنائية الواقع الأدبي يف مقابل الواقع‬ ‫املو�ضوعي‪ ،‬ثنائية ف�ضفا�ضة تفاعلية �إذ‬ ‫ميكننا �أن نعمق ر�ؤيتنا للواقع املو�ضوعي من‬

‫خالل درا�ستنا للواقع كما �صوره الأديب‪ ،‬كما‬ ‫�أنه ميكننا �أن نعمق ر�ؤيتنا للعمل الأدبي من‬ ‫خالل درا�سة �سياقه االجتماعي واالقت�صادي‬ ‫والتاريخي(‪.)10‬‬ ‫وعن العالقة بني ال�شكل وامل�ضمون يف‬ ‫الدرا�سات النقدية يقول امل�سريي �إن ا�ستخدام‬ ‫ال�صورة املجازية الع�ضوية لو�صف عمليتي‬ ‫الإدراك والتف�سري غري مفيد باملرة من الناحية‬ ‫التحليلية‪ .‬وعادة ما يقال �إن الوحدة الفنية‬ ‫وحدة ع�ضوية وال ميكن ف�صل ال�شكل عن‬ ‫امل�ضمون‪ .‬ولكن هذا بال�ضبط ما يفعله معظم‬ ‫النقاد (على الأقل حتى �أواخر ال�ستينيات)‬

‫مع زوجته يف كمربدج عام ‪..1990‬‬

‫‪11‬‬

‫حني يقومون بالعملية النقدية ذاتها‪ .‬ونحن‬ ‫حني ن�ستجيب للعمل الأدبي �أو العمل الفني‪،‬‬ ‫و�ضمن ذلك املو�سيقى‪ ،‬ك�شكل منف�صل عن‬ ‫امل�ضمون‪ ،‬وحتى حينما منار�س ال�شكل‬ ‫باعتباره م�ضمونا‪ ،‬وامل�ضمون باعتباره‬ ‫�شكال‪ ،‬ف�إننا يف املرحلة التحليلية نف�صل‬ ‫الواحد عن الآخر‪ .‬ونحن حني نقر�أ العمل‬ ‫الفني �أو ن�سمعه �أو ن�شاهده‪ ،‬فنحن ال نفعل‬ ‫ذلك يف حلظة واحدة‪ ،‬و�إمنا يف حلظات‬ ‫متتالية‪� ،‬إذ �إنه يتحرك يف الزمان‪ ،‬فكل ما‬ ‫هو �إن�ساين يوجد داخل الزمان‪ .‬ومع هذا‬ ‫بعد �أن نقر�أ العمل الفني �أو ن�شاهده نحاول‬ ‫�أن نتخيله يف كليته‪ ،‬ونراه كلحظة واحدة‬ ‫خارج الزمان‪ ،‬بدال من حلظات متعاقبة داخل‬ ‫الزمان‪ .‬ثمة توتر بني التزامن والتعاقب‪،‬‬ ‫لهذا �أرى �أن من املفيد للغاية ا�ستعادة مقولتي‬ ‫ال�شكل وامل�ضمون كمقولتني حتليليتني‪� ،‬إن مل‬ ‫يكن �أي�ضا‪ ،‬كمقوالت �أنطولوجية وجودية‪.‬‬ ‫وهما مقولتان مت�صلتان منف�صلتان‪ ،‬تربطهما‬ ‫وحدة ف�ضفا�ضة تفاعلية‪ ،‬فال�شكل ال ميكن �أن‬ ‫يوجد �إال داخل م�ضمون‪ ،‬وامل�ضمون ال يتبدى‬ ‫�إال داخل �شكل‪ .‬وكما �أ�شري دائما �أف�ضل دائما‬ ‫التعامل مع النقطة التي يتقاطعان فيها(‪.)11‬‬ ‫وال ميكن جتاوز ثنائية الواقع الإن�ساين يف‬ ‫مقابل الواقع الأدبي �إال من خالل ما ي�سمى يف‬ ‫اخلطاب النقدي "�شرح الن�ص" �أو "القراءة‬ ‫النقدية املتمعنة" والتي ي�شار لها بالفرن�سية‬ ‫‪ explication detext‬وبالإجنليزية‬ ‫‪ explication‬كما ي�شار لها بعبارة‬ ‫‪ closereading‬الإجنليزية‪ ،‬ولكني‬ ‫�أف�ضل ا�ستخدام العبارة العربية "ا�ستنطاق‬ ‫الن�ص" للإ�شارة �إىل املنهج نف�سه‪ .‬والعبارة‬ ‫م�أخوذة من كلمة "نطق" والتي تعني‬ ‫حرفي ًا "و�ضح خمارج احلروف" كما تعني‬ ‫"حتدث وتكلم"‪ ،‬وكلمتا "منطق" و"نطاق"‬ ‫م�ستمدتان من الفعل نف�سه‪ .‬ويالحظ وجود‬ ‫بعدين متناق�ضني‪ :‬واحد مو�ضوعي (حدود‬ ‫– منطق)‪ ،‬والآخر ذاتي (نطق – حتدَّث)‪.‬‬ ‫وكلمة "ا�ستنطق" التي تعني حرفيا "يجعله‬ ‫يلفظ وينطق بو�ضوح" حتوي البعدين‬ ‫املو�ضوعي والذاتي‪ .‬فنحن �إذا قلنا "ا�ستنطق‬ ‫الناقد الن�ص" ف�إننا نقول يف واقع الأمر "�إن‬ ‫الناقد قد جعل الن�ص يبوح مبعناه و�شكله"‪.‬‬ ‫فالن�ص بدون الناقد ال ميكنه �أن يقول (�أو‬ ‫ينطق) ب�شيء‪ .‬ولكن العك�س �أي�ض ًا �صحيح‪،‬‬ ‫فالناقد ال ميكنه �أن ينطق �أو يقول �أي �شيء‬ ‫بدون الن�ص‪� .‬إن الناقد الأدبي ال ميكنه �أن‬ ‫يقول ما يود �أن يقول دون عودة للن�ص‪،‬‬ ‫والن�ص ال ميكنه �أن يبوح مبعناه بدون‬ ‫الناقد الأدبي‪ .‬فكلمة "ا�ستنطق" حتل �إ�شكالية‬ ‫الذات واملو�ضوع والن�ص والواقع‪ ،‬فهي تقع‬ ‫يف املنطقة التي تلتقي فيها الذات (الناقد)‬ ‫باملو�ضوع (الن�ص)‪( ،‬كل هذا يقف على‬ ‫طرف النقي�ض من املقوالت املا بعد حداثية‬ ‫التي تتحدث عن موت امل�ؤلف وموت الن�ص‪،‬‬ ‫بحيث ال يبقى �سوى الناقد وك�أنه الذات‬ ‫املطلقة‪� ،‬أو �سوبرمان نيت�شه الذي يفر�ض‬ ‫ر�ؤيته على الن�ص)‪ .‬وعملية ا�ستنطاق الن�ص‬ ‫وحماولة جتاوز ثنائية الواقع الفني والواقع‬ ‫املو�ضوعي عادة ما ت�أخذ �شكل حماولة‬ ‫الو�صول �إىل النمط املتكرر �أو املو�ضوع‬ ‫الأ�سا�سي املتواتر الكامن الذي ي�ضفي الوحدة‬ ‫على العمل‪ ،‬ويربط عنا�صره بع�ضها بالبع�ض‪،‬‬ ‫دون �أن يكون موجودًا ب�شكل مبا�شر‪ ،‬وهو‬ ‫مفهوم وثيق ال�صلة مب�صطلح "منوذج"‬ ‫(النموذج الإدراكي والنموذج التحليلي)‬ ‫والذي �أرى �أنه يحل كثريا من امل�شكالت‬ ‫التي تواجه الناقد الأدبي ودار�س الظواهر‬ ‫الإن�سانية واالجتماعية الذي يود اكت�شاف‬ ‫امل�ضمون االجتماعي �أو الفكري �أو الإن�ساين‬ ‫للن�ص‪ ،‬دون �أن يتجاهل خ�صو�صيته(‪.)12‬‬ ‫وميكن ت�صور العالقة بني النموذج الإدراكي‬ ‫الذي مت جتريده من الن�ص مو�ضع الدرا�سة‬ ‫على �أنها عالقة حلزونية‪� ،‬إذ �إن الباحث يولد‬ ‫هذا النموذج الإدراكي‪ ،‬ال من بنات �أفكاره‪،‬‬ ‫و�إمنا عن طريق تعاي�شه وتفح�صه للن�ص‪.‬‬

‫وحينما يجرد الناقد النموذج الإداركي يجب‬ ‫�أال يكون النموذج على م�ستوى عال من‬ ‫التجريد بحيث يفقد ال�صلة مع خ�صو�صية‬ ‫الن�ص وتعيُّنه �أو مع �سياقه الإن�ساين‬ ‫والفكري والإن�ساين‪ .‬حينئذ ميكن للناقد �أن‬ ‫يقف على �أر�ض �صلبة نوع ًا‪ ،‬ويتحرك داخل‬ ‫�إطار بلغ قدر ًا معقو ًال من التجريد والتحدُّد‪،‬‬ ‫فيحوِّ ل النموذج الإدراكي الذي قام بتجريده‬ ‫�إىل منوذج حتليلي‪ ،‬وذلك ب�أن يقوم بتكثيفه‬ ‫و�صقله وتن�سيقه من خالل عمليات عقلية‪.‬‬ ‫ثم يعود �إىل الن�ص الذي قد يتحدى النموذج‬ ‫ويبني �ضعف مقدرته التف�سريية‪ ،‬في�ضطر‬ ‫الناقد �إىل تعديله ويزيد �صقله وتكثيفه‪.‬‬ ‫فالعملية النقدية هي حركة من الن�ص �إىل‬ ‫النموذج ومن النموذج �إىل الن�ص‪ .‬و�أثناء‬ ‫هذه العملية يزداد النموذج التحليلى كثافة‬ ‫ومقدرة على التف�سري‪ .‬ثم يحاول الناقد تف�سري‬ ‫م�ضمون الن�ص و�شكله وبنيته ونربته وكل‬ ‫عنا�صره‪ ،‬ف�إن ا�ستطاع النموذج تف�سري عدد‬ ‫كبري من التفا�صيل والعنا�صر والعالقات‬ ‫و�شكل الن�ص وبنيته ف�إنه �أثبت �أن مقدرته‬ ‫التف�سريية عالية‪ ،‬و�إن عجز فالبد من تغيريه‬ ‫�أو تعديله(‪.)13‬‬ ‫وبعد �أن يج ِّرد الناقد النموذج الكامن يف‬ ‫الن�ص ويتفهم قوانينه اخلا�صة يكون بذلك‬ ‫قد تو�صل �أي�ض ًا �إىل ر�ؤية الكاتب ذاته التي‬ ‫ت�شف عن خلفيته الفكرية‪ ،‬ورمبا عن تركيبيته‬ ‫النف�سية‪ ،‬وعن الواقع الذي يحاول الن�ص‬ ‫حماكاته‪ .‬ولكنه حينما ي�صل �إىل هذا الواقع ال‬ ‫ي�صل �إىل واقع �إح�صائي جمرد‪ ،‬و�إمنا ي�صل‬ ‫�إىل واقع اجتماعي عبرَّ عن نف�سه من خالل‬ ‫حلظة �أدبية خا�صة‪ ،‬وهي العمل الأدبي نف�سه‪.‬‬ ‫ويف درا�ستي املقارنة بني روايتي زينب‬ ‫ملحمد ح�سني هيكل والأر�ض لعبد الرحمن‬ ‫ال�شرقاوي جردت النموذج الكامن كما يتبدى‬ ‫يف موقف ٍّ‬ ‫كل من الكاتبني من الطبيعة‪ ،‬ثم‬ ‫انطلقت من هذا النموذج لدرا�سة �أفكارهما‬ ‫ال�سيا�سية واالقت�صادية ون�ش�أتهما االجتماعية‬ ‫وعالقة هذه الأفكار بالتاريخ امل�صري‪.‬‬ ‫فالعملية التحليلية هنا تتجه من العمل‬ ‫�إىل ال�سرية‪ ،‬ومن البنية الفنية �إىل الواقع‬ ‫االجتماعي(‪.)14‬‬ ‫ورغم الطبيعة الإن�سانية ملنهج امل�سريي‬ ‫النقدي ف�إن مدر�سة "النقد اجلديد" لفتت‬ ‫نظره‪ ،‬وهي من مدار�س التوجه املو�ضوعي‬ ‫يف النظر للعمل الأدبي وهي �ش�أن مثيالتها ال‬ ‫حتيل القارئ �إىل �شيء خارج الن�ص‪ ،‬فنقاد‬ ‫هذه املدر�سة ال يلتفتون �إىل االعتبارات‬ ‫التاريخية �أو االجتماعية �أو النف�سية اخلا�صة‬ ‫بامل�ؤلف �أو احلقبة التي يعي�ش فيها‪ ،‬بل‬ ‫يركزون‪ ،‬بالدرجة الأوىل‪ ،‬على �شبكة العالقات‬ ‫املتداخلة بني ال�صورة الفنية والأفكار‬ ‫التي تكون العمل الفني‪ .‬وتعترب "املفارقة"‬ ‫و"التورية ال�ساخرة" من الأدوات التحليلية‬ ‫الرئي�سة لهذا االجتاه‪ ،‬ويرى نقاده �أن معنى‬ ‫الق�صيدة ال يوجد ب�شكل م�ستقل‪ ،‬و�إمنا داخل‬ ‫�شبكة العالقات املتداخلة يف العمل الأدبي‪،‬‬ ‫ويعلق امل�سريي على هذه الر�ؤية النقدية‬ ‫قائال‪" :‬برغم ادعاء �أقطاب مدر�سة النقد‬ ‫اجلديد �أن العمل الأدبي مكتف بذاته �إال �أنه‬ ‫ميكننا ر�ؤية الثوابت الإن�سانية ت�ؤكد نف�سها‪.‬‬ ‫ف�شبكة العالقات يف الق�صيدة يفرت�ض فيها‬ ‫�أنها متاثل (حتاكي) بع�ض العالقات الإن�سانية‬ ‫يف العامل اخلارجي‪� .‬أما "املفارقة" و"التورية‬ ‫ال�ساخرة" فهما مل ي�أتيا من فراغ جمرد �إمنا‬ ‫من املوقف الإن�ساين‪ ،‬فهما تعبري عن الطبيعة‬ ‫الإن�سانية املركبة التي ال ميكن اختزالها �أو‬ ‫ردها �إىل ما هو دونها"(‪.)15‬‬ ‫وي�شري امل�سريي �إىل �أن عددا من نقاد هذه‬ ‫املدر�سة النقدية يرون �أن جذور "املفارقة"‬ ‫الأدبية ترجع �إىل املفارقة امل�سيحية اخلا�صة‬ ‫بتج�سد الالهوت يف النا�سوت ثم �صلب‬ ‫امل�سيح وقيامه‪ ،‬وي�ضبف امل�سريي متحدثا عن‬ ‫نف�سه‪" :‬ومل يكن �صعبا على طالب الدكتوراه‬ ‫امل�سلم العربي امل�صري القادم من دمنهور �أن‬ ‫يتفاعل مع مثل هذه الر�ؤية‪ ،‬فقد ر�أى الثوابت‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪12‬‬ ‫الإن�سانية العاملية يف قلب الر�ؤية امل�سيحية‪،‬‬ ‫فهو ينتمي �إىل كل ما هو �إن�ساين"(‪.)16‬‬ ‫وبناء على هذا ي�ؤكد امل�سريي �أن الن�ص مل‬ ‫يكن قط نظاما مغلقا على ذاته‪ ،‬فثمة انفتاح‬ ‫بني العمل الأدبي من ناحية ومن ناحية �أخرى‬ ‫بني التنوع الرثي للحياة الإن�سانية‪ .‬ولذا يرى‬ ‫امل�سريي �أن على النظرية النقدية �أن تتجاوز‬ ‫حدودها اجلمالية ال�ضيقة لت�شمل "الثوابت‬ ‫الإن�سانية" وهو يطلق على هذا التوجه‬ ‫النقدي املو�ضوعي‪" :‬النظريات املو�ضوعية‬ ‫املبكرة �أو املنفتحة"(‪.)17‬‬ ‫ويف �إطار قناعته الرا�سخة بوجود "الثوابت‬ ‫الإن�سانية" كان يعيد قراءة النظريات النقدية‬ ‫بحثا عن هذه الثوابت يف عمقها‪ ،‬فهو يكتب‬ ‫مثال عن "البنيوية"‪:‬‬ ‫"كانت النظريات النقدية املو�ضوعية ترى‬ ‫العمل الفني باعتباره ن�سقا مكتفيا بذاته‬ ‫منغلقا عليها‪ .‬وقد �سمعت �أول حما�ضرة‬ ‫عن البنيوية التي تنتمي لهذا االجتاه‬ ‫املو�ضوعي املنغلق مع ت�صاعد حركة "اجلن�س‬ ‫العر�ضي" يف اجلامعات الأمريكية واجتاه‬ ‫اجليل الأمريكي ال�صاعد �إىل الهروب �إىل‬ ‫تدخني املاريجوانا واال�ستغراق يف �أحالمه‬ ‫بالفردو�س الأر�ضي املكتفي بذاته ذي ال�صبغة‬ ‫اجلن�سية الوا�ضحة‪ .‬ويف هذه املحا�ضرة‬ ‫�أطلق املحا�ضر العنان مل�صطلحاته البنيوية‬ ‫مثل‪" :‬املقابالت الثنائية"‪ ،‬و"التخطيط"‪،‬‬ ‫و"العالقات الرئي�سة" و"الطاقة اللغوية"‬ ‫و"الكالم املنطوق" و"التزامن" �أو "الآتية"‬ ‫و"التواىل الزمني" �أو "التعاقب الزمني"‪،‬‬ ‫وما �إىل ذلك من م�صطلحات‪ .‬وخل�ص يف‬ ‫النهاية �إىل اال�ستنتاج ب�أن الأعمال الأدبية‬ ‫تدور حول �أعمال �أدبية �أخرى‪ ،‬وهو ما يعني‬ ‫�أن كل الن�صو�ص املكتوبة تدور ن�صو�ص‬ ‫�أخرى‪ ..‬وهكذا‪ .‬والإطار املرجعي لهذا‬ ‫املحا�ضر كان �شكال من �أ�شكال وحدة الوجود‬ ‫الن�صو�صية حيث جميع الن�صو�ص ت�ؤول �إىل‬ ‫ن�ص واحد وبالعك�س ‪.. .. ...‬ورغم تفاخر‬ ‫البنيوية باجتاهها العلمي �أو العلموي املعادي‬ ‫للمذهب الإن�ساين (الهيوماين) بنظامها املغلق‬ ‫الذي يت�سم بال�صرامة الريا�ضية ف�إن الثوابت‬ ‫الإن�سانية قد �أكدت نف�سها يف نهاية الأمر‪.‬‬ ‫فبالإ�ضافة �إىل االجتاه البنيوي اللغوي الذي‬ ‫يحاول �إذابة �أي عمل �أدبي وحتويله �إىل‬ ‫تركيبات نحوية ومعادالت و�أ�شكال هند�سية‬ ‫والتي تذهب �إىل �أن اللغة ت�سبق الإن�سان‬ ‫والفكر‪ ،‬يوجد �أي�ضا االجتاه الأنرثوبولوجي‬ ‫الذي يحاول الو�صول �إىل �أ�سطورة الأ�ساطري‬ ‫(الأ�سطورة املطلقة) و�إىل بنية كل البنى‬ ‫(البنية املطلقة) وهل يختلف هذا كثريا عن‬ ‫عامل املثل الذي طرحه �أفالطون والذي ميثل‬ ‫عاملنا نحن جمرد ظل له؟ والغر�ض من البحث‬ ‫البنيوي هنا لي�س جمرد التالعب بالألفاظ‬ ‫والنماذج اللغوية‪� ،‬إذ �أن املعنى املق�صود ينبع‬ ‫من فكرة التماثل �أو التجان�س بني كل البنى‬ ‫التي تكوِّ ن املجتمع الإن�ساين‪ .‬فثمة متاثل بني‬ ‫طريقة �سرد الأ�سطورة وبناء العقل الب�شري‪،‬‬ ‫ولذا ميكن لأ�سطورة الأ�ساطري وبنية البنى‬ ‫�أن تقودنا �إىل فهم بنية العقل الإن�ساين‪ .‬وقد‬ ‫نتفق �أو نحتلف مع هذه الفكرة الطموحة‬ ‫�إال �أن الأهم يف �سياقنا احلاىل هو وجود‬ ‫الثوابت الإن�سانية العاملية يف مركز كل هذا‪،‬‬ ‫فهي الركيزة الأ�سا�سية واملرجعية النهائية‬ ‫�أو اللوجو�س التي متنح العمل الأدبي‬ ‫والنقدي بل العامل ب�أ�سره معناه ومتا�سكه‬ ‫الداخلي‪� ،‬أي �أن البنيوية متمركزة حول‬ ‫اللوجو�س (مرجعية نهائية ركيزة �أ�سا�سية)‪.‬‬ ‫ولعل البنيوية كانت �آخر النظريات النقدية‬ ‫املو�ضوعية املبكرة �أو املنفتحة‪ .‬فنظريات‬ ‫ما بعد البنيوية‪ ،‬حاولت �أن تفلت متاما‬ ‫من قب�ضة التمركز حول اللوجو�س �أو �أية‬ ‫مرجعيات �أو ثوابت‪ ،‬واللوجو�س يف حالة‬ ‫البنيوية هو العقل الإن�ساين‪ .‬وبدال من الكون‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫املتمركز حول اللوجو�س ووجود الثوابت‬ ‫الإن�سانية كمرجعية مطلقة ظهرت مرجعيات‬ ‫خمتلفة‪ ،‬منغلقة على نف�سها مكتفية بها"(‪.)18‬‬ ‫وهذا الن�ص يك�شف عن �سمة من �أهم �سمات‬ ‫املنهج النقدي للم�سريي هي التعميق املعريف‬ ‫والغو�ص يف الثوابت التي ت�أ�س�ست عليها‬ ‫املذاهب الأدبية املختلفة و�صلتها بعامل الأفكار‬ ‫مبعناه الوا�سع‪ ،‬فمثال قاده هذا التعمق �إىل‬ ‫�أن الرومان�سية حتاول ت�أ�سي�س عالقة مبا�شرة‬ ‫بني الإن�سان والطبيعة دون تدخل �أو و�ساطة‪،‬‬ ‫وخارج �إطار املجتمع الإن�ساين والتاريخي‪،‬‬ ‫�أي �أن جوهر الوجدان الرومان�سي �شكل من‬ ‫�أ�شكال املبا�شرة الوثنية حيث يدرك ال�شاعر‬ ‫الطبيعة بحوا�سه مبا�شرة‪ ،‬وي�ضيف امل�سريي‪:‬‬ ‫"مثلما كان الإن�سان الوثني الأول يفعل‪،‬‬ ‫مبعنى �أنه يعي�ش بني يف وحدة وجود مادية‪،‬‬ ‫ومن ثم ال توجد م�سافة بني الذات واملو�ضوع‬ ‫�أو بني‪ ،‬الإن�سان والطبيعة‪� ،‬أو بني العقل‬ ‫واملادة‪ .‬فك�أن الإن�سان يعي�ش خارج الزمان‬ ‫والتاريخ"‪)19(.‬‬ ‫وقد �شكلت احلداثة �أحد �أهم الق�ضايا التي‬ ‫�شغلت امل�سريي كناقد كما �شغلته كمفكر‪،‬‬ ‫وهو يرى �أن يجب التمييز بني تيارين‬ ‫�أ�سا�سيني داخل احلداثة الأدبية‪ ،‬فم�صطلح‬ ‫احلداثة م�صطلح عام يفرت�ض �أن كل الأدباء‬ ‫احلداثيني ي�سبحون داخل التيار نف�سه‪،‬‬ ‫وهو يعتقد �أن هناك خلال يف هذا االفرتا�ض‪.‬‬ ‫وي�ضيف‪" :‬يف درا�ستي للفل�سفة الغربية‬ ‫الحظت وجود تيارين �أ�سا�سيني منذ بداية‬ ‫امل�شروع التحديثي الغربي‪ ،‬فهناك "الر�ؤية‬ ‫املتمركزة حول الإن�سان" وهناك �أي�ضا‬ ‫"الر�ؤية املتمركزة حول الطبيعة" (�أي املادة)‪.‬‬ ‫وما �أراه �أن اخلطاب الفل�سفي الغربي ميكن‬ ‫فهمه ب�شكل �أعمق لو �أحللنا كلمة "مادة"‬ ‫حمل كلمة "طبيعة"‪ .‬ولذا حينما نتحدث عن‬ ‫الإن�سان الطبيعي يجب �أن نتحدث‪ ،‬يف واقع‬ ‫الأمر‪ ،‬عن الإن�سان املادي‪� ،‬أي الإن�سان الذي‬ ‫يعي�ش يف حيز مادي يدركه بحوا�سه اخلم�س‬ ‫ويدركه بعقله املادي دون �أن يهيب ب�أي‬ ‫مقوالت خارجة عن هذا احليز‪ .‬وقد ميزت بني‬ ‫"العلمانية اجلزئية" و"العلمانية ال�شاملة"‪،‬‬ ‫وانطالقا من هذه الر�ؤية‪� ،‬أذهب �إىل �أن‬ ‫العلمانية اجلزئية متمركزة حول الإن�سان‪،‬‬ ‫ولذا ميكن �أن نطلق عليها العلمانية الإن�سانية‬ ‫�أو العلمانية الأخالقية‪� ،‬أما العلمانية ال�شاملة‬ ‫فهي متمركزة حول املادة‪ ،‬ال ت�ؤمن �إال بحركة‬ ‫املادة وقوانني الطبيعة‪ .‬ولذا فالعامل ي�صبح‬ ‫مادة ن�سبية ال قدا�سة لها‪ ،‬وال ت�سمح بوجود‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫معايري جمالية ومطلقات �إن�سانية‪ ،‬ن�صدر عنها‬ ‫ونعود اليها‪ .‬وحينما يقوم الفنان احلداثي‬ ‫املتمركز حول الإن�سان بعملية التجريب‬ ‫فهو دائما جتريب م�ضبوط مبعايري جمالية‬ ‫و�إن�سانية و�أخالقية قد تكون حديثة وثورية‬ ‫وجذرية‪ ،‬لكنها تظل ملتزمة بفكرة املعايري‬ ‫وفكرة القيمة‪ .‬وعلى م�ستوى ال�شكل �أالحظ‬ ‫�أن هذا النوع من احلداثة الفنية يلتزم بحدود‬ ‫ال�شكل‪ ،‬ال يحطم ال�شكل متاما‪ ،‬وال ي�سقط‬ ‫يف عدمية جمالية‪ ،‬تدمر الدال واملدلول‪،‬‬ ‫ومتحو ال�شكل وامل�ضمون‪ .‬ويالحظ �أن من‬ ‫يدور يف �إطار هذه احلداثة املتمركزة حول‬ ‫الإن�سان يحتفظ مبا ميكن ت�سميته الغاية‬ ‫والهدف‪ .‬ولذا يظل هناك يف عمله الفني‬ ‫م�ضمون‪ ،‬قد ال يكون وا�ضحا بال�ضرورة‪،‬‬ ‫لكن يظل هناك م�ضمون ما‪ .‬ولأ�ضرب مثال‬ ‫على ذلك ب�أدب بهاء طاهر ور�ضوى عا�شور‪،‬‬ ‫فكالهما حداثي بال �شك‪ ،‬لكن ثمة حبكة يف‬ ‫روايتهما ولغة مفهومة مل تتفكك لتتحول �إىل‬ ‫�صيحات �أمل �أو لذة جن�سية �أو غري جن�سية‪،‬‬ ‫وال يزال الإن�سان هناك واقفا يف مركز الكون‪،‬‬ ‫واليزال هناك تاريخ وذاكرة وهدف‪.‬وهناك‬

‫�شكلت احلداثة �أحد �أهم الق�ضايا‬ ‫التي �شغلت امل�سريي كناقد‬ ‫كما �شغلته كمفكر‪ ،‬وهو يرى‬ ‫�أن يجب التمييز بني تيارين‬ ‫�أ�سا�سيني داخل احلداثة الأدبية‪،‬‬ ‫فم�صطلح احلداثة م�صطلح‬ ‫عام يفرت�ض �أن كل الأدباء‬ ‫احلداثيني ي�سبحون داخل التيار‬ ‫نف�سه‪ ،‬وهو يعتقد �أن هناك خلال‬ ‫يف هذا االفرتا�ض‪.‬‬

‫�أثناء كتابة املو�سوعة يف مكتبة الدرا�سات ال�سيا�سية والإ�سرتاتيجية عام ‪.1975‬‬

‫�آخرون مثل �إبراهيم عبد املجيد وحممد‬ ‫الب�ساطي وغريهم وغريهم ينتمون لهذا‬ ‫التيار احلداثي الإن�ساين‪ .‬يف مقابل ذلك �أرى‬ ‫احلداثة املتمركزة حول الطبيعة‪ /‬املادة‪ ،‬وهي‬ ‫عك�س ما �سبق‪ ،‬فهي تقوم بعمليات جتريب ال‬ ‫متناهية تت�سم بالعدمية اجلمالية‪ ،‬وحتاول‬ ‫�أن تفجر ال�شكل وامل�ضمون معا‪ ،‬وعاملها‬ ‫يت�ضاءل فيه الإن�سان �إىل �أن يختفي فندخل‬ ‫يف عامل ي�سود فيه قانون الأ�شياء والطبيعة‪.‬‬ ‫وهناك الكثريون ممن ميثلون هذا التيار يف‬ ‫العامل العربي ممن يكتبون بلغة خا�صة للغاية‬ ‫ت�صل "فرادتها" �إىل درجة ال ميكن �أن ن�سميها‬ ‫لغة على الإطالق‪ .‬وه�ؤالء يقومون بتجارب‬ ‫ال نهاية لها تدل على غياب الهدف واملعنى‪.‬‬ ‫وللأ�سف هذا النوع من "احلداثة" هو الذين‬ ‫هيمن يف الغرب �إىل �أن �أفرز "ما بعد احلداثة"‬ ‫حيث ت�سقط املعيارية متاما‪ ،‬وت�سود الن�سبية‬ ‫الأخالقية واملعرفية واجلمالية وال يبقى �إال‬ ‫العدم‪� .‬أو ال يبقى �سوى "الأبوريا" وهي‬ ‫الهوة التي ما لها من قرار‪ ،‬والتي يرى دريدا‬ ‫وغريه من مفكري "ما بعد احلداثة" �أنها‬ ‫الثابت الوحيد"(‪.)20‬‬ ‫وعلى هذه اخللفية يعترب امل�سريي �أن حممود‬ ‫دروي�ش �أهم �شعراء احلداثة العرب‪ ،‬وواحد‬ ‫من �أهم �شعراء العامل‪� .‬أنه ينتمي �إىل تلك‬ ‫احلداثة املتمركزة حول الإن�سان‪ .‬ولذا يظل‬ ‫�شعره يدور حول الإن�سان‪ .‬قد يبد�أ بالإن�سان‬ ‫الفل�سطيني‪ ،‬وقد يعمم لي�صل �إىل الإن�سان‬ ‫العربي‪ ،‬لكن يظل ف�ضاء �شعره الأ�سا�سي‬ ‫هو الإن�سان‪ .‬فنحن‪ ،‬يف �شعره‪ ،‬نطالع وجه‬ ‫الإن�سان يف �أق�صى حلظات وعيه بذاته‪.‬‬ ‫ويظهر هذا �أي�ضا يف لغة �شعره‪ ،‬فهي لغة‬ ‫فريدة �إىل �أق�صى حد‪ ،‬لكنك ت�سمع �إيقاعات‬ ‫ال�شعر العربي القدمي كما ت�سمع �أ�صداء من‬ ‫ال�شعر احلديث عربي ًا كان �أم غري عربي‪.‬‬ ‫ويت�سم �شعره عامة بالو�ضوح‪ ،‬ولكن ثمة‬ ‫مناذج عديدة من �شعره تت�سم بغمو�ض‬ ‫حمبب‪� .‬إن �صوت دروي�ش �صوت فريد‪ ،‬لكن‬ ‫يوجد داخل هذا ال�صوت نربات عديدة‪،‬‬ ‫فدروي�ش عنده مقدرة غري عادية على ه�ضم‬ ‫كل التجارب وا�ستيعابها ثم التعبري عنها‪.‬‬ ‫وتت�ضح �أي�ضا حداثته املتمركزة حول الإن�سان‬ ‫يف �أن لغته مفهومة‪ ،‬و�أن �صوره ال�شعرية‬ ‫حمددة املعامل‪ ،‬هذا ال يعني �أنها ب�سيطة �أو‬ ‫�ساذجة‪ ،‬فهي مركبة �إىل �أق�صى حد‪ ،‬لكنه‬ ‫تركيب ناجم عن عقل ي�ؤمن باملعنى وبالغاية‬ ‫وب�إمكانية اجلهاد الذي ميكن �أن يحول‬ ‫واقعا غري عقالين �إىل واقع عقالين‪� ،‬أي �إنه‬

‫ي�ؤمن ب�إمكان �إقامة العدل يف الأر�ض‪ .‬وهذا‬ ‫ما ال ميكن �أن ي�شاركه فيه احلداثيون الذين‬ ‫يعي�شون يف ق�ص�صهم ال�صغرية‪ ،‬كما يقولون‪،‬‬ ‫من دون �إميان مبعنى كلي �شامل(‪.)21‬‬ ‫ويف �إطار �إنحياز عبد الوهاب امل�سريي �إىل‬ ‫خيار القول بوجود �صالت بني العمل الأدبي‬ ‫وعامل الإن�سان باملعنى الوا�سع كان من‬ ‫الطبيعي �أن يطرح �س�ؤال حرية الإبداع نف�سه‬ ‫عليه‪ ،‬وهو ينتقد القول ب�أن حرية الإبداع‬ ‫مطلقة‪ ،‬فالإبداع لي�س مطلقا يتجاوز الإن�سان‪،‬‬ ‫وحرية الإبداع البد من �أن يقابلها حرية‬ ‫املجتمع يف �أن يدافع عن نف�سه وعن قيمه‪.‬‬ ‫يقولون �إن الفيديو كليب �إبداع‪ ،‬ولكن نحن‬ ‫بو�صفنا جمتمعا �إن�سانيا يحق لنا الدفاع عن‬ ‫�أنف�سنا‪ ،‬يحق لنا �أن نقدم ر�ؤيتنا‪ :‬هل املر�أة‬ ‫ج�سد يهتز؟ �أم �أنها غري ذلك؟ ر�ؤيتنا للإن�سان‪،‬‬ ‫باعتبارنا ب�شر ًا وم�سلمني‪ ،‬خمتلفة عن هذه‬ ‫الر�ؤية االختزالية املادية‪ .‬فمن حقنا �أن نقف‬ ‫�ضد هذا‪ ،‬لي�س بال�ضرورة من خالل احلكومة‪،‬‬ ‫ولكن من خالل جمعيات مدنية‪� .‬إن الإبداع‬ ‫حول نف�سه �إىل مطلق‪ ،‬وهذا نوع من �أنواع‬ ‫العلمنة ال�شاملة ال�شر�سة(‪.)22‬‬ ‫وي�ستطرد امل�سريي‪�" :‬إن العلمانية �شكل من‬ ‫�أ�شكال احللولية ووحدة الوجود املادية‪ .‬وقد‬ ‫بد�أت عملية احللول يف املجال االقت�صادي‪،‬‬ ‫ف�أ�صبح معيار احلكم على االقت�صاد معيارا‬ ‫اقت�صاديا‪ ،‬م�ستمدا منه‪ ،‬وهو مدى النجاح‬ ‫االقت�صادي بغ�ض النظر عن الثمن الإن�ساين‪،‬‬ ‫�أي �أن االقت�صاد �أ�صبح مكتفيا بذاته‪ ،‬مرجعية‬ ‫ذاته‪� ،‬أي �أنه �أ�صبح مطلقا‪ ،‬ثم انتقل الأمر �إىل‬ ‫ال�سيا�سة‪ ،‬و�إىل كل جماالت الن�شاط الإن�ساين‬ ‫الأخرى‪ ،‬بحيث �أ�صبح كل جمال منف�صال عن‬ ‫�أي مرجعية �إن�سانية عامة‪ .‬وقد حدث هذا‬ ‫يف جمال الفن‪ ،‬فالفن �أ�صبح مرجعية ذاته‬ ‫ومكتفيا بذاته و�أ�صبحت معايري احلكم عليه‬ ‫فنية‪ ،‬م�ستمدة منه‪� ،‬أي �أن الفن �أ�صبح مطلقا‬ ‫م�ؤ َّلها‪ .‬الفن احلداثي مثل جيد على ذلك‪ ،‬فلو‬ ‫على ق�صيدة من هذا الفن – ورغم �أين‬ ‫عُر�ضت َّ‬ ‫�أ�ستاذ �شعر – ف�إنني �أحتاج �إىل �أ�شهر حتى‬ ‫�أفهمها‪ ،‬وك�أن ال�شعراء كهنة‪ ،‬وك�أن ال�شعر‬ ‫مو�ضع حلول وحتفه الأ�سرار‪� .‬أنا باعتباري‬ ‫�إن�سان ًا اجتماعي ًا �أرى �أن الفن لي�س للفن‪� ،‬إمنا‬ ‫للجميع‪ ،‬وحينما يفقد الفن عالقته بالواقع‬ ‫وبالإن�سان‪ ،‬فمن حقي ك�إن�سان وككائن‬ ‫اجتماعي �أن �أت�صدى له‪ ،‬خا�صة �إذا كان هذا‬ ‫العمل الفني (الإبداع الفني) معاديا للإن�سان‬ ‫وللقيم الإن�سانية(‪.")23‬‬ ‫بل �إن امل�سريي يذهب �إىل �أبعد من ذلك معتربا‬

‫"حرية الإبداع" �صيحة يطلقونها يف وجه‬ ‫كل من يتجر�أ ويحتج على ر�أى ما‪ .‬ثمة رقابة‬ ‫على ال�سلع وعلى جودتها وتاريخ �إنتاجها‪،‬‬ ‫ورقابة على حركة املرور وعلى اجلمارك‪.‬‬ ‫فهل ميكن �أن نرتك �أمورا ت�ؤثر يف الأخالق‬ ‫والأحالم والر�ؤية دون ر�صد �أو مراقبة؟ يجب‬ ‫�أال تكون الق�ضية هي حرية الإبداع كمطلق‬ ‫و�إمنا كيف ميكن �أن ميار�س املجتمع ككل‬ ‫الرقابة دون �أن يخنق الإبداع‪ ،‬لأنه لو خنق‬ ‫الإبداع اختنق املجتمع‪ .‬لكن لو �أطلق العنان‬ ‫حلرية الإبداع ف�إن املجتمع �سيتفكك‪ .‬ويك�شف‬ ‫امل�سريي عن اهتمام �آخر وثيق ال�صلة بالإبداع‬ ‫الأدبي والفني هو الأزياء فيقول‪" :‬قد ال يعرف‬ ‫الكثريون �أن �إحد اهتماماتي تطور الأزياء‪،‬‬ ‫وبالذات �أزياء الن�ساء‪� ،‬إذ �أحاول ر�صد تطورها‬ ‫كتعبري عن تطور الر�ؤية احل�ضارية للإن�سان‪.‬‬ ‫وقد الحظت �أن مالب�س الن�ساء تزداد يف الغرب‬ ‫انكما�ش ًا يوم ًا بعد يوم من امليني �سكريت �إىل‬ ‫املايكرو �إىل البلوزةالتي تك�شف البطن �إىل‬ ‫�أن و�صلنا �إىل ما �سمّاه �أحد ال�صحفيني ‪the‬‬ ‫‪� well-undressed woman‬أي املر�أة‬ ‫قليلة الهندام‪ ،‬يف مقابل املر�أة ح�سنة الهندام‬ ‫‪( . the well-dressed woman‬ولعل‬ ‫�أح�سن ترجمة لهذه العبارة‪ ،‬هي عبارة‬ ‫عادل �إمام ال�شهرية" الب�سة من غري هدوم")‪.‬‬ ‫وم�ؤخرا �سمعت عن عر�ض �أزياء ملا ي�سمى‬ ‫"مايكرو ميني �سكريت" ‪micro mini‬‬ ‫‪ skirt‬وهي جونلة �أو ف�ستان ق�صري لدرجة‬ ‫�أنه يك�شف �أكرث مما يغطي‪� .‬أي �أن الرداء فقد‬ ‫وظيفته الأ�سا�سية‪ .‬وال �أدري ما �شكل هذا الرداء‬ ‫لأنني �سمعت عنه ومل �أره‪ .‬وحني �أخربت �أحد‬ ‫م�صممي الأزياء عن اعرتا�ضي على الأزياء‬ ‫التي ال عالقة لها ب�أي دين �أو ثقافة �أو ذوق‪،‬‬ ‫قال �إن هذه �أعمال فنية‪ ،‬و�أن اعرتا�ضي هذا‬ ‫يعد �شك ًال من �أ�شكال الرقابة على حرية الفكر‬ ‫والإبداع‪ ،‬هذا املطلق العلماين اجلديد‪ .‬وهنا‬ ‫�س�ألته‪ :‬الي�س من حق املجتمع �أن يدافع عن‬ ‫نف�سه �ضد �أي اجتاهات تفكيكية عدمية؟ وقد‬ ‫�صُ دم �صاحبنا من هذا الطرح الذي مل يطر�أ له‬ ‫على بال‪ ،‬لأنه ال يدرك (�ش�أنه �ش�أن املثقفني الذين‬ ‫يدافعون عن احلرية املطلقة للإبداع) �أنها ر�ؤية‬ ‫بورجوازية جتعل الفرد مرجعية ذاته (متام ًا‬ ‫مثل ر�أ�س املال الذي يتحرك يف ال�سوق بكامل‬ ‫حريته‪ ،‬ال يخ�ضع �إال لقوانني مادية الية غري‬ ‫�إن�سانية غري اجتماعية هي قوانني العر�ض‬ ‫والطلب والربح واخل�سارة)‪ .‬ولكن املجتمع‬ ‫لي�س هو ال�سوق‪ ،‬فاملجتمع كيان مركب متما�سك‬ ‫يت�سم بقدر من الوعي‪ ،‬وله �أ�سبقيته على الفرد‬

‫مهما بلغت درجة �إبداع هذا الفرد‪ ،‬فالفرد‬ ‫ينتمي �إىل املجتمع ولي�س املجتمع هو الذي‬ ‫ينتمي �إىل الفرد‪� ،‬إال �إذا كان جمتمع ًا �شمولي ًا‪.‬‬ ‫�إن بع�ض املثقفني الثوريني ان�ساقوا وراء هذه‬ ‫الدعوة للحرية املطلقة للإبداع واملبدعني‪،‬‬ ‫دون �أن يدركوا ت�ضميناتها الفل�سفية املعادية‬ ‫للإن�سان وللمجتمع‪ .‬عندئذ لزم م�صمم الأزياء‬ ‫ال�صمت‪ ،‬خا�صة و�أنه كان يعرف �أن خم�سة من‬ ‫كبار م�صممي الأزياء ماتوا منذ عدة �أعوام‪،‬‬ ‫من مر�ض الإيدز‪ ،‬وكانوا جميعهم من ال�شذاذ‬ ‫جن�سي ًا‪ ،‬ف�سارعت م�صانع الأزياء بالتعمية على‬ ‫اخلرب حتى ال تت�أثر �أرباحهم �سلب ًا‪� ،‬أى �أنهم‬ ‫�أدركوا البعد غري االجتماعي غري الأخالقي غري‬ ‫الإن�ساين لإبداع م�صممي الأزياء‪ ،‬باعتباره‬ ‫�إبداع ًا الينتمي �إىل املجتمع"(‪.)24‬‬ ‫وهو يتهم من يدافعون عن حرية التعبري بال‬ ‫حدود ب�أنهم جعلوا الفن مطلق ًا‪� ،‬سحبوا الإطالق‬ ‫من �أي قيم مطلقة (�أخالقية كانت �أم �إن�سانية �أم‬ ‫دينية) وجعلوها �ش�أن ًا خا�ص ًا‪ ،‬و�أمرا من �أمور‬ ‫ال�ضمري‪ ،‬وت�صوروا �أن القيم الأخالقية توجد‬ ‫يف ق�سم خا�ص يف وجدان الإن�سان منف�صل‬ ‫متاما عن عامل ال�سيا�سة وعامل االقت�صاد وعامل‬ ‫االجتماع الإن�ساين‪( ،‬وك�أن ال�ضمري الفردي‬ ‫ال عالقة له برقعة احلياة العامة)‪ .‬ولذا حني‬ ‫يتم تناول ظاهرة ما فهي �إما �أن تكون ظاهرة‬ ‫خا�صة خا�ضعة لقيم �أخالقية ما‪� ،‬أو ظاهرة‬ ‫يف رقعة احلياة العامة ومن ثم فهي منف�صلة‬ ‫عن القيمة‪ .‬ولكن هذه – والكالم للدكتور‬ ‫عبد الوهاب امل�سريي – ر�ؤية �سوقية للعامل‬ ‫وللنف�س الب�شرية‪ ،‬فالإن�سان كائن مركب‪ ،‬وكذا‬ ‫الفعل الإن�ساين‪ .‬فالأبعاد الأخالقية تتداخل‬ ‫مع الأبعاد ال�سيا�سية واالقت�صادية والنف�سية‬ ‫والفردية تتداخل مع الأبعاد االجتماعية‪ .‬ويرى‬ ‫ه�ؤالء الذين يف�صلون الأخالق عن بقية جماالت‬ ‫احلياة �أنه لو ظهرت الأخالق يف احلياة العامة‬ ‫ف�إن هذا مظهر من مظاهر التخلف‪ ،‬ويف ذهنهم‬ ‫بطبيعة احلال امل�شروع العلماين الغربي‪.‬‬ ‫�إن م�شروع النه�ضة العربي يف بداياته جعل‬ ‫�شعاره اللحاق ب�أوروبا‪ ،‬بحلوها ومرها‪،‬‬ ‫وخريها و�شرها‪ ،‬وك�أننا ببغاءات عقلها يف‬ ‫�أذنيها(‪.)25‬‬ ‫وهذه الهرولة للحاق لأوروبا كانت لها يف ر�أي‬ ‫امل�سريي ب�صمات على الفكر النقدي العربي‬ ‫املعا�صر حيث تركت هزميتنا �أمام الغرب‬ ‫ب�صماتها الوا�ضحة على م�سار هذا الفكر‪ ،‬فبعد‬ ‫هزميتنا على يد العامل الغربي يف مطلع القرن‬ ‫التا�سع ع�شر‪ ،‬يعني �أ�صابتنا حالة ان�شغال‬ ‫مر�ضي بكل احلركات الفكرية والأدبية يف‬

‫ي�ستطرد امل�سريي‪�" :‬إن العلمانية‬ ‫�شكل من �أ�شكال احللولية‬ ‫ووحدة الوجود املادية‪ .‬وقد‬ ‫بد�أت عملية احللول يف املجال‬ ‫االقت�صادي‪ ،‬ف�أ�صبح معيار احلكم‬ ‫على االقت�صاد معيارا اقت�صاديا‪،‬‬ ‫م�ستمدا منه‪ ،‬وهو مدى النجاح‬ ‫االقت�صادي بغ�ض النظر عن‬ ‫الثمن الإن�ساين‪� ،‬أي �أن االقت�صاد‬ ‫�أ�صبح مكتفيا بذاته‪ ،‬مرجعية‬ ‫ذاته‪،‬‬

‫الغرب‪ ،‬وهو ان�شغال ال ي�ؤدي بال�ضرورة اىل‬ ‫الإبداع‪ .‬فمثال‪ ،‬فكرة "الوحدة الع�ضوية"‪،‬‬ ‫فكرة �أ�صيلة يف الرتاث الغربي‪ ،‬دخيلة على‬ ‫النظرية النقدية العربية‪ ،‬وحماولة نقلها‪ ،‬ثم‬ ‫تطبيقها على تراثنا‪ ،‬فيه ظلم للفكرة ولرتاثنا‬ ‫معا‪ .‬وي�ضيف امل�سريي‪ :‬الوحدة الفنية ال�سائدة‬ ‫يف تراثنا �أ�سميها "الوحدة التكاملية غري‬ ‫الع�ضوية" (فال هي بالع�ضوية‪ ،‬وال بااللية) �أو‬ ‫"الوحدة الف�ضفا�ضة"‪ .‬انظر �أي�ضا ماذا فعلت‬ ‫"البنيوية"ثم "التفكيكية" بنا‪ ،‬وكيف نبدِّد‬ ‫طاقتنا يف حماولة فهمهما و�إدراكهما وترجمة‬ ‫ن�صو�صهما الأ�سا�سية‪ ،‬بل كيف جنهد �أنف�سنا‬ ‫غاية الإجهاد لتطبيق مفاهيمهما والياتهما‬ ‫التحليلية على كل من الرتاث وحا�ضرنا‬ ‫العربي‪ .‬وحني نو�شك على االنتهاء من هذه‬ ‫العملية تكون قد ظهرت عدة حركات �أخرى يف‬ ‫العامل الغربي!(‪)26‬‬ ‫وهو ير�سم �صورة للم�أزق الذي �أدى اليه منطق‬ ‫"اللحاق بالغرب" قائال‪" :‬لقد كانت تظهر يف‬ ‫العامل الغربي مدر�سة فكرية �أو نقدية واحدة‬ ‫كل قرن‪ :‬الكال�سيكية يف القرن الثامن ع�شر‪،‬‬ ‫والرومان�سية يف القرن التا�سع ع�شر‪ .‬ثم مع‬

‫‪13‬‬

‫نهاية القرن املا�ضي بد�أ املعدل يت�صاعد‪� ،‬إذ‬ ‫بد�أت تظهر حركة نقدية كل عقدين �أو ثالثة‪.‬‬ ‫والآن ظهر ما ال يقل عن ع�شر حركات نقدية‬ ‫يف العقدين املا�ضيني‪ ،‬مبعدل حركة كل عامني!‬ ‫وهذا تعبري عن �أزمة ح�ضارية حقيقية وعميقة‬ ‫يف الغرب ت�أخذ �شكل هذا الت�ضخم العقائدي‪.‬‬ ‫ولكن ما يهمني ت�أكيده الآن هو �أننا نظرا‬ ‫الن�شغالنا الزائد مبا يحدث يف الغرب‪ ،‬نن�صرف‬ ‫عن فهم �إجنازات بقية العامل احل�ضارية"‪.‬‬ ‫هوام�ش و�إحاالت‬ ‫(‪ )1‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى‬ ‫– �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف – كتاب قيد‬ ‫الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪� )2‬صدر عن مكتبة ال�شروق الدولية – م�صر‬ ‫– يناير ‪.2007‬‬ ‫(‪ )3‬يف الأدب والفكر‪ :‬درا�سات يف ال�شعر‬ ‫والنرث – النا�شر‪ :‬مكتبة ال�شروق الدولية –‬ ‫القاهرة – ‪.2007‬‬ ‫(‪ )4‬د‪ .‬امل�سريي‪..‬مفكر بدرجة ناقد �أدبي –‬ ‫م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق‬ ‫فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة –‬ ‫م�صر – العدد ‪ – 2008 – 19‬عدد خا�ص عن‬ ‫الدكتور امل�سريي – �ص ‪.418 – 417‬‬ ‫(‪ )5‬د‪ .‬امل�سريي‪..‬مفكر بدرجة ناقد �أدبي –‬ ‫م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق‬ ‫فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة –‬ ‫م�صر – العدد ‪ – 2008 – 19‬عدد خا�ص عن‬ ‫الدكتور امل�سريي – �ص ‪.420 – 419‬‬ ‫(‪ )6‬رحلة امل�سريي‪ :‬من نقد الأدب‬ ‫الأجنلو�سك�سوين �إىل نقد احل�ضارة الغربية‬ ‫– �صالح حزين – درا�سة – من�شورة يف‪:‬‬ ‫يف عامل عبد الوهاب امل�سريي‪ :‬حوار نقدي‬ ‫ح�ضاري – حترير‪ :‬الدكتور �أحمد عبد احلليم‬ ‫عطية – تقدمي‪ :‬حممد ح�سنني هيكل – املجلد‬ ‫الثاين‪ :‬درا�سات و�شهادات – دار ال�شروق‬ ‫– م�صر – الطبعة االوىل ‪� – 2004‬ص ‪183‬‬ ‫– ‪.184‬‬ ‫(‪ )7‬رحلة امل�سريي‪ :‬من نقد الأدب‬ ‫الأجنلو�سك�سوين �إىل نقد احل�ضارة الغربية‬ ‫– �صالح حزين – درا�سة – من�شورة يف‪:‬‬ ‫يف عامل عبد الوهاب امل�سريي‪ :‬حوار نقدي‬ ‫ح�ضاري – حترير‪ :‬الدكتور �أحمد عبد احلليم‬ ‫عطية – تقدمي‪ :‬حممد ح�سنني هيكل – املجلد‬ ‫الثاين‪ :‬درا�سات و�شهادات – دار ال�شروق‬ ‫– م�صر – الطبعة االوىل ‪� – 2004‬ص ‪183‬‬ ‫– ‪ 184‬بت�صرف‪.‬‬

‫ا�ستقبال الدكتور عند عودته من رحلة عالج بالواليات املتحدة يف ‪ 18‬يونيو ‪..2007‬‬

‫(‪)8‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى‬ ‫– �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف – كتاب قيد‬ ‫الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪ )9‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى‬ ‫– �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف – كتاب قيد‬ ‫الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد‬ ‫الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪ )10‬امل�صدر ال�سابق‪.‬‬ ‫(‪ )11‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪)12‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪)13‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف –‬ ‫كتاب قيد الن�شر ح�صلنا علىه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي – بت�صرف‬ ‫واخت�صار‪.‬‬ ‫(‪ )14‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪ .‬والدرا�سة‬ ‫املقارنة امل�شار اليها من�شورة يف‪ :‬يف الأدب‬ ‫والفكر‪ :‬درا�سات يف ال�شعر والنرث – د كتور‬ ‫عبد الوهاب امل�سريي – مكتبة ال�شروق الدولية‬ ‫– م�صر – ‪� – 2006‬ص ‪.101 – 89‬‬ ‫(‪ )15‬د‪ .‬امل�سريي‪..‬مفكر بدرجة ناقد �أدبي –‬ ‫م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق‬ ‫فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة –‬ ‫م�صر – العدد ‪ – 2008 – 19‬عدد خا�ص عن‬ ‫الدكتور امل�سريي – �ص ‪.421 – 420‬‬ ‫(‪ )16‬د‪ .‬امل�سريي‪..‬مفكر بدرجة ناقد �أدبي –‬ ‫م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق‬ ‫فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة –‬ ‫م�صر – العدد ‪ – 2008 – 19‬عدد خا�ص عن‬ ‫الدكتور امل�سريي – �ص ‪.421‬‬ ‫(‪ )17‬د‪ .‬امل�سريي‪..‬مفكر بدرجة ناقد �أدبي –‬ ‫م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق‬ ‫فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة –‬ ‫م�صر – العدد ‪ – 2008 – 19‬عدد خا�ص عن‬ ‫الدكتور امل�سريي – �ص ‪.421‬‬ ‫(‪ )18‬د‪ .‬امل�سريي‪..‬مفكر بدرجة ناقد �أدبي –‬ ‫م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق‬ ‫فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة‬ ‫– م�صر – العدد ‪ – 2008 – 19‬عدد خا�ص‬ ‫عن الدكتور امل�سريي – �ص ‪– 423 – 422‬‬ ‫بت�صرف ي�سري‪.‬‬ ‫(‪ )19‬درا�سات يف ال�شعر – عبد الوهاب‬ ‫امل�سريي ‪ -‬مكتبة ال�شروق الدولية – م�صر –‬ ‫يناير ‪� – 2007‬ص ‪.13‬‬ ‫(‪ )20‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪ )21‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪ )22‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪ )23‬امل�صدر ال�سابق‪.‬‬ ‫(‪ )24‬حوارات مع الدكتور عبد الوهاب‬ ‫امل�سريى – �إعداد وحترير‪� :‬سوزان حريف‬ ‫– كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من‬ ‫الدكتور عبد الوهاب امل�سريي‪.‬‬ ‫(‪ )25‬امل�صدر ال�سابق‪.‬‬ ‫(‪ )26‬امل�صدر ال�سابق‪.‬‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫‪14‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫العدد (‪)1996‬ال�سنة الثامنة ‪-‬ال�سبت (‪ )25‬كانون الأول ‪2010‬‬

‫المسيري يكتب رحلة التحوالت والتحديات‬ ‫د‪ .‬حممد عبدالقادر‬ ‫ما ان انتهيت من قراءة «الرحلة الفكرية»‬ ‫للدكتور عبدالوهاب امل�سريي حتى �شعرت‬ ‫ان هذا املفكر ـ الفيل�سوف قد منحني من‬ ‫عمره خم�سني عام ًا ا�ضافي ًا ‪ ،‬هي رحلته‬ ‫العلمية والفكرية التي حتوي من الثـراء‬ ‫والتنوير واالبداع ما يعادل قراءة مكتبة‬ ‫بع�شرات الكتب وامل�صادر يف �شتى فروع‬ ‫املعرفة ‪ ،‬يف هذه الرحلة جتد نف�سك امام‬ ‫مفكر مبدع وناقد ا�صيل ميثل حالة متفردة‬ ‫يف اهتماماته وانتاجه ور�ؤاه ‪ ،‬تقر�أ امل�سريي‬ ‫يف كل ما يكتب ‪ ،‬فتتفق معه او تختلف ‪،‬‬ ‫لكنك ‪ -‬يف كل االحوال ‪ -‬ت�شعر انك امام‬ ‫مفكر عميق الت�أمل ‪ ،‬ي�شق م�سالك جديدة ‪،‬‬ ‫ويفتح افاق ًا وا�سعة للفكر االن�ساين النبيل‬ ‫‪ ،‬ويقدم ا�ضافات نوعية للثقافة العربية‬ ‫االن�سانية على ات�ساعها وتنوعها‪.‬‬ ‫حمل الكتاب عنوان «رحلتي الفكرية يف‬ ‫البذور واجلذور والثمر‪� :‬سرية غري ذاتية‬ ‫غري مو�ضوعية» ليقدم �سرية فريدة يف‬ ‫بنائها و�سردها بالرغم من انها ُت�صنف‬ ‫حتت نوع «ال�سرية الذاتية» او ادب ال�سرية‬ ‫‪ ،‬وامل�سريي نف�سه يقول انه ال يدري ما اذا‬ ‫كانت نوع ًا ادبي ًا جديداً ام قدمي ًا ام خليط ًا‬ ‫منهما ام غري ذلك‪ .‬و�أرى انها �سرية لكاتبها‬ ‫لكنها تختلف عن ال�سري االخرى يف �سمتني‬ ‫بارزتني‪ :‬اوالها انها «غري ذاتية وغري‬ ‫مو�ضوعية» يف �آن واحد ‪ ،‬ذلك ان امل�سريي‬ ‫يكتبها كمثقف عربي م�صري ي�سرد رحلته‬ ‫الفكرية وال يروي ق�صة حياته اخلا�صة‬ ‫بتفا�صيلها وبالتايل فهي غري ذاتية ‪ ،‬وهي‬ ‫غري مو�ضوعية باعتبارها تر�صد حتوالت‬ ‫كاتبها يف الفكر واملنهج ‪ ،‬وهذه جوانب‬ ‫جزئية ‪ -‬على اهميتها ‪ -‬من حياة امل�سريي ‪،‬‬ ‫عالوة على انها �سرية انتقائية لالفكار التي‬ ‫طورها ‪ ،‬ولال�شخا�ص الذين � ّأثروا يف حياته‪.‬‬ ‫ّ‬

‫اما �سمة االختالف الثانية فهي ان الكاتب قدّم �سريته‬ ‫من خالل مو�ضوعات ا�سا�سية ‪ ،‬ال من خالل ت�سل�سل‬ ‫زمني ير�صد تاريخيا مراحل حياته وتطوراتها‬ ‫واجنازاتها ‪ ،‬بيد ان الكتابة من خالل مو�ضوعات‬ ‫لي�ست تقنية «م�سريية» خال�صة ‪ ،‬فاملعروف ان امل�سريي‬ ‫وزوجته د‪ .‬هدى حجازي قاما برتجمة كتاب «الغرب‬ ‫والعامل‪ :‬تاريخ احل�ضارة من خالل مو�ضوعات» و�صدر‬ ‫عن عامل املعرفة الكويتية يف مطلع عام ‪ ، 1986‬وت�شري‬ ‫ال�سرية اىل ان امل�سريي ارتبط بعالقة وثيقة مع م�ؤلف‬ ‫الكتاب (كافني رايلي) خالل درا�سة امل�سريي واقامته‬ ‫يف الواليات املتحدة ‪ ،‬ومن الوا�ضح ان فكرة الكتابة‬ ‫من خالل مو�ضوعات تقنية ت�أثر فيها امل�سريي بكتاب‬ ‫(رايلي) ‪ ،‬على ان امل�سريي رمبا كان اول من طبق هذه‬ ‫املنهجية يف بناء ال�سرية على رحلته الفكرية فعر�ضها‬ ‫من خالل عدد من املو�ضوعات الكربى التي تتفرع منها‬ ‫مقوالت ا�صغر وهكذا‪.‬‬ ‫كان ال بد من هذا املدخل حول �شكل ال�سرية التي كتبها‬ ‫امل�سريي ل�صلة ذلك مبحتوى الكتاب الذي ي�ضيء‬ ‫اجلانب االهم من حياة هذا املفكر الذي كان وما يزال‬ ‫�صاحب م�شروع ثقايف ذي ابعاد ح�ضارية �إميانية‬ ‫ان�سانية يرثي احلياة العربية وي�صقل جوانب ا�سا�سية‬ ‫يف الهوية العربية ‪ ،‬لقد قر�أت هذا الكتاب بتمعن �شديد‬ ‫ وهو ي�ستحق ذلك ‪ ،‬بل يقت�ضيه ‪ -‬ف�أيقنت ان امل�سريي‬‫قد اختار دوم ًا ان يطرق امل�سلك ال�صعب وان يرتاد‬ ‫دروب التحدي امل�ستند اىل االرادة والعزمية والثقة‬ ‫بالنف�س ‪ ،‬ومن هنا �آثرت ان �أر�صد عامل التحديات‬ ‫الذي اقتحمه امل�سريي م�سلح ًا بعقل متقد وعلم وا�سع‬ ‫وب�صرية نافذة ‪ ،‬ويف م�سار التجربة امل�سريية ميكن‬ ‫ر�صد العديد من التحديات لكنها حتديات متجاورة‬ ‫ومرتابطة بل مت�شابكة حيث عمليات الت�أثري والت�أثر‬ ‫تتبادل االدوار وتتكامل فيما بينها‪.‬‬ ‫حتدي الذات‬ ‫«والتحدي» الذي �أق�صده يف �سياق هذه املقالة هو حالة‬ ‫من اال�ستعداد او هدف ي�سعى �شخ�ص ما اىل حتقيقه‬ ‫وهو يعي حجم امل�صاعب التي حتول دون الهدف لكنه‬ ‫يح�شد طاقاته وموارده وعزميته لتحقيقه بالو�سائل‬ ‫النبيلة ‪ ،‬واما «الذات» فتعني هنا الهوية والتميز‬ ‫واالبداع والتجاوز ‪ ،‬وقد �سعى امل�سريي اىل حتقيق‬ ‫ذاته يف �صباه عرب م�شاركته يف احلركات الطالبية ‪،‬‬ ‫ثم ان�ضمامه جلمعية م�صر الفتاة ويف انتمائه فيما بعد‬ ‫حلركة االخوان امل�سلمني ‪ ،‬ثم خروجه منها والتحاقه‬ ‫باحلزب ال�شيوعي امل�صري يف منت�صف اخلم�سينيات‬ ‫حتى نهايتها ‪ ،‬وك�أن هذا ال�شاب اليافع كان يبحث مبكر ًا‬ ‫عن طريق ي�ؤدي من خالله دور ًا ملجتمعه ووطنه و�أمته‬ ‫‪ ،‬يف اول الطريق مل يرق له فكر االخوان التقليدي ‪،‬‬ ‫فغادره ليختار الفكر املارك�سي ‪ ،‬ليجد فيه بعد �سنوات‬ ‫فكر ًا مادي ًا خال�ص ًا ال ي�ستجيب ملفهوم «االن�سان ـ ال�سر»‬ ‫‪ ،‬او «االن�سان الرباين» ف�أعر�ض عنه وغا�ص يف عوامل‬ ‫الفل�سفة واالدب قارئ ًا وحماور ًا ناقد ًا يتفاعل بقوة مع‬ ‫ما يقر�أ ‪ ،‬يحلل ويقوّ م ‪ ،‬يقبل ويرف�ض بحث ًا عن م�ستقر‬ ‫‪ ،‬وبدا يل ان امل�سريي ‪ -‬من خالل �سريته ‪� -‬شديد الت�أمل‬ ‫يف كل ما يرى ويقر�أ وي�سمع وهو دائم الت�أمل يف‬ ‫ذاته وافكاره ومقوالته ومناذجه التحليلية ‪ ،‬وال يجد‬ ‫غ�ضا�ضة يف جتاوزها وتطويرها اذا ما غدت بحاجة‬ ‫اىل اعادة النظر‪.‬‬ ‫حني عاد اىل م�صر حام ًال درجة الدكتوراه من الواليات‬ ‫املتحدة كان عليه ان يتحدى ذئاب ًا ثالثة‪ :‬ذئب الرثوة‬ ‫(ينتمي امل�سريي لعائلة جتارية ثرية) ‪ ،‬وذئب ال�شهرة‬ ‫والذئب الهيجيلي املعلوماتي ‪ ،‬فيقول انه تغلب على‬ ‫الذئب االول بان وظفه يف خدمة م�شروعه الفكري‬ ‫وا�ستبدل به املعرفة واحلكمة ‪ ،‬وحقق الثانية ب�سرعة‬ ‫�شديدة حني وجد نف�سه كاتب ًا يف االهرام وع�ضو ًا يف‬ ‫جلان وطنية عديدة اما الذئب الثالث فقد تغلب عليه‬ ‫ب�صعوبة ‪ ،‬لكني �أ�شك يف ذلك‪.‬‬ ‫حتدي امل�ؤ�س�سة التعليمية البريوقراطية‬ ‫يت�صف حديث امل�سريي عن امل�ؤ�س�سة التعليمية‬ ‫امل�صرية (مدار�س وجامعات) بالنقد املرير وال�سخرية‬ ‫الالذعة ‪ ،‬ففي زمن م�ضى كان التعليم جماني ًا وممتع ًا‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬

‫‪ ،‬لكنه غدا بالتدريج غري جماين ب�سبب ثقافة الدرو�س‬ ‫اخل�صو�صية التي �سادت ‪ -‬وما تزال ‪� -‬سلوك املجتمع‬ ‫امل�صري حتى ا�صبح التعليم «ال عالقة له بالتعليم» بل‬ ‫ا�صبح جمرد اكت�ساب القدرة على اجتياز االمتحانات‬ ‫‪ ،‬ومل يركن امل�سريي يف �صباه اىل املناهج واملقررات‬ ‫املدر�سية اذ مل يجد فيها ما يطفىء ظم�أه للمعرفة (الذئب‬ ‫الهيجلي) ‪ ،‬فانطلق اىل املكتبات واال�صدقاء يقر�أ ما تقع‬ ‫عليه يداه يف االدب وال�سيا�سة والفل�سفة ‪ ،‬ويبدو انه‬ ‫يف مرحلة ال�شباب االوىل قد قر�أ الكثري من االدبيات‬ ‫املارك�سية و�أفاد منها يف تدعيم اجتاهاته نحو مقارعة‬ ‫الظلم والف�ساد االجتماعي ‪ ،‬وي�شتد نقد امل�سريي حني‬ ‫يتناول التعليم اجلامعي ويعتربه م�س�ؤوال عن «ت�أخري‬ ‫تكوين املثقف يف العامل العربي» ‪ ،‬وهو امر يعيق‬ ‫التنمية االن�سانية ‪ ،‬ال بل انه يرى ان التعليم يف م�صر‬ ‫قد ا�صبح ا�شبه بنكتة باهظة التكاليف ‪ ،‬وبخا�صة يف‬ ‫ميدان الدرا�سات العليا ‪ ،‬اذ يفر�ض اال�ستاذ على طالبه‬ ‫اراءه وحتليالته مثلما يفر�ض مذكراته التي يعدها لهم‬ ‫ل�شرائها ‪ ،‬حتى ان �آفة الدرو�س اخل�صو�صية قد بلغت‬ ‫�ساحات احلرم اجلامعي ‪ ،‬والنقد اال�شد يطول الر�سائل‬ ‫العلمية اجلامعية ومو�ضوعاتها التقليدية التي ترف�ض‬ ‫اجلديد كما ترف�ض االراء ال�شخ�صية للطلبة ‪ ،‬ناهيك عن‬ ‫ا�سلوب املحا�ضرات التلقينية ‪ ،‬يف جامعة اال�سكندرية‬ ‫ت�أثر امل�سريي ‪ -‬طالب ًا ‪ -‬ب�أ�ستاذته (د‪ .‬نور �شريف) التي‬ ‫كانت ت�صغي اكرث مما ُتلقي وحتاور اكرث مما حتا�ضر‬ ‫‪ ،‬وتعقل اكرث مما تنقل ‪ ،‬وحتث وال حتبط ‪ ،‬وهي ذات‬ ‫اال�ساليب التعليمية التي خربها امل�سريي طالب ًا يف‬ ‫الواليات املتحدة ‪ ،‬واتبع الطريق ذاته حني عاد ا�ستاذا‬ ‫لالدب االجنليزي واملقارن يف كلية بنات عني �شم�س ‪،‬‬ ‫وواجه يف هذا ال�سياق الكثري من العراقيل والعقبات‬ ‫البريوقراطية اجلامعية‪.‬‬ ‫التحدي املعريف‬ ‫ات�سمت ذهنية امل�سريي ‪ -‬كما ا�سلفت ‪ -‬باحلراك امل�ستمر‬ ‫واحلر�ص على جتاوز الذات كلما انفتحت امامه �آفاق‬ ‫اكرث رحابة وعمق ًا ‪ ،‬لقد جتاوز مناهج التحليل احادية‬ ‫البعد يف فهم الظاهرة االن�سانية املركبة ‪ ،‬وطور‬ ‫الحق ًا تلك امل�سافة الفا�صلة بني االن�سان والطبيعة ‪،‬‬ ‫واخلالق واملخلوق ‪ ،‬واجل�سد والروح لي�صل اىل اقتناع‬ ‫بالثنائيات الكونية اال�سا�سية ‪ ،‬فالكون متنوع متعدد‬ ‫ال متجان�س وهذا مناق�ض لالحادية املادية التي ترى‬ ‫جوهر ًا واحد ًا لالن�سان والطبيعة‪.‬‬ ‫ويف منهجه املعريف يرى امل�سريي ان درا�سة اية ظاهرة‬ ‫ان�سانية ت�ستلزم بال�ضرورة ادراك ظروفها التاريخية‬ ‫واالجتماعية ملعرفة اال�سباب التي تقف وراءها ‪،‬‬ ‫ومن هنا ال ي�ؤمن امل�سريي بفكرة القانون العام او‬ ‫القانون الواحد او االجابات النهائية ‪ ،‬وعليه رف�ض‬ ‫ما �أ�سماه «املو�ضوعية املتلقية ـ ال�سلبية» و�صك مفهوم‬ ‫«املو�ضوعية االجتهادية» التي ت�ؤمن بقدرة العقل‬ ‫االن�ساين على توليد املعرفة وانتاجها وابداعها‪.‬‬ ‫انها حالة من التحدي العقلي املتوا�صل و�صو ًال اىل‬ ‫مناذج معرفية تف�سريية للظواهر االن�سانية ‪ ،‬والنموذج‬ ‫املعريف كما يراه امل�سريي عبارة عن بنية ت�صورية او‬ ‫خريطة معرفية يجردها العقل من و�سط ك ّم هائل من‬ ‫العالقات والتفا�صيل واحلقائق ‪ ،‬ي�ستبعد بع�ضها ‪،‬‬ ‫ويُبقي على البع�ض الآخر في�صوغ منها ن�سق ًا عام ًا‪.‬‬ ‫ويف هذا ال�سياق قدم امل�سريي مناذجه املعرفية املهمة‬ ‫يف العلمانية اجلزئية والعلمانية ال�شاملة وا�شكاليات‬ ‫التحيز ‪ ،‬واجلماعات الوظيفية وتطبيقها على‬ ‫اجلماعات اليهودية وال�صهيونية وغري ذلك مما ال يت�سع‬ ‫له املجال‪.‬‬ ‫ويرف�ض امل�سريي ك ًال من املادية اخلال�صة واملثالية‬ ‫اخلال�صة ‪ ،‬ويرى ان ك ًال مبفرده مفهوم واحدى‬ ‫اختزايل ‪ ،‬اما حني يتقاطع املفهومان فاننا ندخل عامل ًا‬ ‫مركب ًا �أبعاده هي عامل االن�سان واال�سرار ‪ ،‬كذلك يرف�ض‬ ‫امل�سريي مفهوم الن�سبية يف طغيانه على جوانب‬ ‫احلياة كافة في�صيب القيم واملقد�س واالخالق مبا ينزع‬ ‫القدا�سة عن العامل ويجعل كل االمور مت�ساوية ‪ ،‬ويف‬ ‫هذا ال�صدد يرى ان مفهوم الن�سبية هذا قد فرغ االن�سان‬ ‫االمريكي من الداخل و�ألقاه يف مهب الريح‪.‬‬ ‫وامل�سريي �شديد النقد للحداثة الغربية وهو يقول ان‬

‫نقده لهذه احلداثة «مت�أثر اىل حد كبري بالنقد الغربي‬ ‫لهذه احلداثة ‪ ،‬وهو ما �أفدت منه �أميا افادة» ‪ ،‬وهو‬ ‫ي�ؤمن مبا �أ�سماه «الن�سبية اال�سالمية» ومفادها ان ي�ؤمن‬ ‫االن�سان ب�أن هناك مطلق ًا واحد ًا هو كالم الله ‪ ،‬وما عدا‬ ‫ذلك هو اجتهادات ان�سانية ‪ ،‬اي ان كل ما هو ان�ساين‬ ‫ن�سبي يف عالقته باملطلق الذي يوجد خارجه‪.‬‬ ‫التحدي احل�ضاري‬ ‫لعل من ابرز مالمح امل�شروع الفكري للم�سريي ر�ؤيته‬ ‫للح�ضارة الغربية التي هي يف ت�صوره ح�ضارة‬ ‫النموذج العقالين املادي ‪ ،‬ال العقالين فقط ‪ ،‬اذ‬ ‫ا�ستبعدت الكثري من العنا�صر االخالقية واالن�سانية‬ ‫لت�سبيط الواقع بغية التحكم فيه ‪ ،‬ويرى ان منجزات‬ ‫هذه احل�ضارة امنا هي ثمرة نهب موارد العامل الثالث‬ ‫وان هذه احل�ضارة ـ احلداثة ـ النه�ضة الغربية امنا متت‬ ‫على ح�ساب العامل ب�أ�سره ويورد يف هذا ال�سياق مقطعا‬ ‫من ق�صيدة لل�سياب يخاطب فيها لندن ويقول‪:‬‬ ‫ماذا �س�أكتب يا مدينة ـ فعلى مالحمك العجاف جتوب‬ ‫اخيلة ال�ضغينة‬ ‫�س�أقول انك توقدين ـ م�صباح عارك من دم املوتى وجوع‬ ‫االخرين‬ ‫وا�ستنادا اىل ر�ؤيته هذه جتاوز امل�سريي ا�ستخدام‬ ‫م�صطلح «الرتاكم الر�أ�سمايل» و�صك بديال عنه‬ ‫م�صطلح «الرتاكم االمربيايل» ويرى ان اية حماولة‬ ‫لتف�سري معظم الظواهر الغربية دون ا�سرتجاع ملفهوم‬ ‫االمربيالية كمقولة حتليلية ما هي اال حماولة ناق�صة‬ ‫اىل حد كبري ‪ ،‬وي�ست�شهد مبقولة جلارودي يقول فيها‬ ‫ان احل�ضارة االمربيالية الغربية قد «خلقت قربا يكفي‬ ‫لدفن العامل»‪.‬‬ ‫على ان من يقر�أ كتابات امل�سريي حول احل�ضارة‬ ‫الغربية قد يتفق مع جوانب منها ويختلف يف اخرى‬ ‫‪ ،‬وذلك ان امل�سريي يركز على رموز ا�سا�سية يف الفكر‬ ‫الغربي مثل نيت�شه وداروين ومارك�س وويليام جيم�س‬ ‫و�آدم �سميث وغريهم ا�ضافة اىل �سيا�سات وممار�سات‬ ‫غربية مرفو�ضة بالفعل ‪ ،‬لكن تلك احل�ضارة ‪ -‬بالرغم‬ ‫من �سلبياتها العديدة ‪ ،‬قدمت اجنازات علمية وان�سانية‬ ‫ال ميكن جتاهلها ‪ ،‬بحيث ي�صبح ا�صدار حكم ادانة‬ ‫قاطع امرا ع�سريا‪ .‬على ان امل�سريي يقول يف �سريته ان‬ ‫احل�ضارة الغربية احلديثة قد بد�أت ان�سانية هيومانية‬ ‫‪ ،‬ولكنها ا�صبحت معادية لالن�سانية ‪ ،‬وانه من ثم ميكن‬ ‫احلديث عن ح�ضارتني غربيتني حديثتني‪ :‬واحدة‬ ‫متمركزة حول االن�سان ‪ ،‬واالخرى متمركزة حول‬ ‫املادة‪.‬‬ ‫وتقديري ان العداء لالن�سانية مرتبط مبا�شرة‬ ‫بامل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية ‪ ،‬الع�سكرية االمنية ‪ ،‬االعالمية‬ ‫الغربية ‪ ،‬واالمريكية بخا�صة ‪ ،‬اي ب�صانعي القرار‬ ‫ال�سيا�سي الغربي ‪ ،‬وهذا امر قائم ميكن ب�سهولة‬ ‫قبوله والدفاع عنه ‪ ،‬ولي�س بال�ضرورة ان ميثل ه�ؤالء‬ ‫احل�ضارة الغربية بوجوهها ومكوناتها ومنجزاتها‬ ‫كافة‪ ،‬ولعل ال�سنوات االخرية ت�شري بامللمو�س اىل‬ ‫حجم املعار�ضة ال�شعبية الغربية للممار�سات العدوانية‬ ‫للزعامات ال�سيا�سية والع�سكرية الغربية‪.‬‬ ‫على ان امل�سريي ال يرف�ض احلداثة باملطلق ‪ ،‬ويرى ان‬ ‫احلداثة اجلديدة املطلوبة هي تلك التي تتبنى العلم‬ ‫والتكنولوجيا ‪ ،‬وال ت�ضرب بالقيم او الغائية االن�سانية‬ ‫عر�ض احلائط ‪ ،‬حداثة حتيي العقل وال متيت القلب‬ ‫‪ ،‬تنمي وجودنا املادي وال تفكر الأبعاد الروحية لهذا‬ ‫الوجود ‪ ،‬تعي�ش احلا�ضر دون ان تنكر الرتاث‪.‬‬ ‫حتدي ال�صهونية‬ ‫يخال اىل من ال يعرف امل�سريي عن قرب انه ا�ستاذ يف‬ ‫العلوم ال�سيا�سية او التاريخ او علم االجتماع بالنظر‬ ‫اىل ن�شاطه الوا�سع يف جمابهة ال�صهيونية واجنازاته‬ ‫الفكرية واالعالمية الغزيرة حولها‪ .‬واحلقيقة ان‬ ‫امل�سريي ‪ -‬قبل تقاعده االكادميي ‪ -‬كان ا�ستاذا لالدب‬ ‫االجنليزي املقارن يف كلية بنات عني �شم�س ‪ ،‬ثم‬ ‫يف جامعة امللك �سعود وجامعة الكويت فيما بعد ‪،‬‬ ‫وهذه م�س�ألة مثرية لالنتباه ‪ ،‬على اية حال ال�ستاذ يف‬ ‫االدب خ�ص�ص جانبا ي�سريا من حياته وفكره للمهمة‬ ‫االكادميية دومنا تق�صري ‪ ،‬وك ّر�س اجلزء االكرب منها يف‬

‫‪15‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬ ‫‪‬‬

‫‪m a n a r a t‬‬

‫درا�سة ال�صهيونية واليهود واليهودية ‪ ،‬وانفق من ماله‬ ‫اخلا�ص الكثري ليتمكن من اجناز م�شروعه التاريخي‬ ‫‪ ،‬و�أزعم ان امل�سريي يقف اليوم يف مقدمة املفكرين‬ ‫واملتخ�ص�صني العرب يف ال�ش�أن ال�صهيوين ‪ ،‬بل ازعم‬ ‫انه اعمق من كتب يف هذا املو�ضوع ت�أطريا وتنظريا‬ ‫وتف�سريا يف ال�ساحة العاملية قاطبة ‪ ،‬ومل يكن اطراء‬ ‫جمانيا و�صف د‪ .‬اني�س �صايغ للم�سريي بانه «م�ؤ�س�سة‬ ‫يف رجل ‪ ،‬ورجل يف م�ؤ�س�سة»‪.‬‬ ‫واحلقيقة ان ما اجنزه امل�سريي يف ميدان ال�صهيونية‬ ‫كمجال معريف عرب تفكيك مقوالتها وهدم مرتكزاتها‬ ‫التاريخية ومربراتها االيديولوجية ‪ ،‬امنا ميثل‬ ‫اخرتاقا ا�صيال و�شامال للفكر ال�صهيوين برمته ‪،‬‬ ‫ويكفي ان ن�شري هنا اىل «املو�سوعة» التي قدم فيها‬ ‫امل�سريي ر�ؤية فكرية فل�سفية �شاملة للمفاهيم واملقوالت‬ ‫واالطروحات ال�صهيونية واالدوار الوظيفية جليبها‬ ‫اال�ستيطاين يف فل�سطني وللجماعات اليهودية يف‬ ‫اربع ارجاء االر�ض ‪ ،‬وو�صوله اىل حقيقة موجزها‬ ‫ان ال�صهيونية معادية للتاريخ واالن�سان والقيم ‪ ،‬وان‬ ‫ت�أييد الغرب ال�سرائيل امنا هو خدمة مل�صاحلها اوال ‪،‬‬ ‫وجزء من منط فكري اكرب را�سخ يف الوجدان الغربي‬ ‫‪ ،‬واالميان الكامل بالرباجماتية امل�ستندة اىل ار�ضية‬ ‫داروينية �صلبة �شر�سة واالميان الكامل ب�شريعة‬ ‫القوة والغاب واالمربيالية والعن�صرية ال �شريعة‬ ‫العقل والعدالة ‪ ،‬وما عدا ذلك لي�س �سوى تربيرات‬ ‫ال ت�صلح لتف�سري هذا الت�أييد ‪ ،‬وال ي�ؤمن امل�سريي‬ ‫مب�س�ألة النفوذ اليهودي واليد احلديدية اليهودية‬ ‫ويراها �أ�ساطري ال �سند لها يف التاريخ والواقع ‪ ،‬كما‬ ‫ال يعرتف بوجود ثقافة يهودية او �شعب يهودي ‪ ،‬وال‬ ‫ي�ؤمن بربوتوكوالت حكماء �صهيون ‪ ،‬ويرى ان الغاية‬ ‫الكربى منها تثبيت ت�صورات وهمية يف الذهنية‬ ‫العربية ت�ؤدي اىل احباطهم ‪ ،‬وت�صورات ا�سطورية‬ ‫يف اذهان ال�صهيونية من �ش�أنها ان ُتبقي العربي‬ ‫منك�سرا من داخله‪ .‬وهو ال ينكر «املحرقة» بل يراها يف‬ ‫اطارها التاريخي كجزء من التاريخ االوروبي ‪ ،‬مبعنى‬ ‫انها لي�ست جتربة يهودية عامة ‪ ،‬بل جتربة اوروبية‬ ‫خا�صة‪.‬‬ ‫وت�سرد ال�سرية الكثري من املواقف والن�شاطات‬ ‫االعالمية للم�سريي يف الواليات املتحدة وي�شري اىل‬ ‫انه تلقى �شخ�صيا �سيال من اخلطابات من جماعة كاخ‬ ‫ال�صهيونية و�صلته يف خريف عام ‪ 1983‬تطلب منه‬ ‫التوقف عن ن�شاطه املعادي واال اردوه قتيال ‪ ،‬ويف‬ ‫‪ 21‬ـ ‪ 2‬ـ ‪ 1984‬اعرتف كاهانا ل�صحيفة «ايديعوت‬ ‫احرونوت» ب�أنه هو الذي ار�سل تلك الر�سائل ‪ ،‬وعندها‬ ‫اخذت االجهزة االمنية امل�صرية االمر على حممل اجلد‬ ‫ووفرت للم�سريي حماية �شخ�صية ‪ ،‬ان امل�سريي الذي‬ ‫اخذ على عاتقه حتدي ال�صهيونية فكرا وممار�سة‬ ‫‪ ،‬تبنى باملقابل الق�ضية الفل�سطينية التي حتولت ‪-‬‬ ‫ح�سب قوله ‪ -‬نقطة الثبات والتجاوز ‪ ،‬ذلك انها ق�ضية‬ ‫احلق فيها وا�ضح غري مُبهم ‪ ،‬وال ميكن لالن�سان ان‬ ‫يرف�ضها اال من منظور دارويني مادي �شر�س‪.‬‬ ‫وات�سعت يف �ضمريه تلك الق�ضية لت�صبح رمزا للتاريخ‬ ‫االن�ساين ب�أ�سره ‪ ،‬وال بد هنا من اال�شارة اىل ان‬ ‫امل�سريي كتب درا�سة حول االنتفا�ضة االوىل هي اهم‬ ‫ما ُكتب عنها حتى اليوم‪.‬‬ ‫التحدي الديني‬ ‫ا�شرت فيما �سبق اىل ان امل�سريي عا�ش جتربة حتول‬ ‫يف مرحلة فكرية معينة من املادية اىل الفل�سفة‬ ‫اال�سالمية ذات البُعد االمياين االن�ساين ‪ ،‬وتبقى ال�سمة‬ ‫اال�سا�سية للم�سريي انه فيل�سوف امياين االقتناع ‪،‬‬ ‫ان�ساين النزعة والر�ؤية‪.‬‬ ‫يقول الكاتب‪« :‬لقد الزمني داء الت�أمل عرب حياتي ‪ ،‬ومل‬ ‫يولد االميان داخلي اال من خالل رحلة عقلية طويلة ‪،‬‬ ‫ولذا فامياين اميان ت�أملي عقلي مل تدخل عليه عنا�صر‬ ‫روحية ‪ ،‬واىل �ضرورة اللجوء اىل مقوالت فل�سفية‬ ‫اكرث تركيبة» على ان جتاوز امل�سريي لفكر املارك�سي‬ ‫ال يعني انكار ر�ؤيتها للمجتمع ‪ ،‬فهو ما يزل يعتقد‬ ‫بان املارك�سية «ر�ؤية كلية نقدية للواقع ‪ ،‬ترى الواقع‬ ‫يف ترابطه ويف كليته ‪ ،‬وترف�ض ر�ؤية �سطح اال�شياء‬ ‫بح�ساباتها احلقيقية ‪ ،‬بل حتاول النفاذ اىل بنيتها‬

‫الكامنة او جوهرها ‪ ،‬ثم تطرح ر�ؤية ثورية با�سم‬ ‫اجلوهر او «قوانني التاريخ» متجاوزة احلقيقة املادية‬ ‫القائمة»‪.‬‬ ‫وحول العالقة بني العلمانية والدين والدولة ‪ ،‬ال يرى‬ ‫امل�سريي غ�ضا�ضة يف الف�صل بني الدين والدولة ‪،‬‬ ‫ويطلق على هذه الو�ضعية مفهوم «العلمانية اجلزئية»‬ ‫ويف حوار اجريته معه قال امل�سريي ان «العلمانية‬ ‫احتلت اجلزء اال�سا�سي يف م�شروعي الفكري ‪ ،‬فقد قيل‬ ‫لنا ان العلمانية تعني ف�صل الدين عن الدولة ‪ ،‬وهذا‬ ‫تعريف ال ب�أ�س به ‪ ،‬وانا ال مانع عندي من ف�صل الدين‬ ‫عن الدولة اذا كانت الدولة تعني جمموعة االجراءات‬ ‫ال�سيا�سية واالقت�صادية واال�سرتاتيجية ‪ ،‬فانا ومعي‬ ‫كثري من املفكرين اال�سالميني ال نحب ان نرى امل�شايخ‬ ‫يهرولون يف طرقات وزارتي اخلارجية والدفاع‬ ‫وي�صدرون الفتاوى بخ�صو�ص االمور الفقهية التي ال‬ ‫يعرفها غري املتخ�ص�صني ‪ ،‬وال احب ان اجل�س يف جلنة‬ ‫تناق�ش ا�سرتاتيجية م�صر القادمة خالل القرن احلادي‬ ‫والع�شرين ويجل�س اىل جواري احد ال�شيوخ الذي ال‬ ‫يعرف اال اقل القليل عن اال�سرتاتيجية»‪.‬‬ ‫على ان امل�سريي مييز بني هذه العلمانية اجلزئية ‪ ،‬وما‬ ‫ي�سميه «العلمانية ال�شاملة» التي تعني يف فل�سفته ف�صل‬ ‫القيمة عن احلياة ‪ ،‬بحيث ي�صبح العامل مادة ا�ستعمالية‬ ‫ال قدا�سة لها ‪ ،‬ت�سري عليه قوانني مادية واحدية‬ ‫�صارمة ال متيز بني االن�سان والطبيعة‪ .‬ان امل�سريي‬ ‫الذي خا�ض حتديه الذاتي املعريف يف م�س�ألة التحول‬ ‫‪ ،‬كان عليه ان يتلقى نقدا �شديدا من رموز الي�سار‬ ‫التقليدي ‪ ،‬ونقدا مريرا من رموز اال�صولية اال�سالمية‬ ‫الذين يرون يف اطروحة العلمانية اجلزئية مغامرة قد‬ ‫تخرجه من دائرة الدين‪.‬‬ ‫وي�شري امل�سريي اىل مو�ضوع الت�سامح الديني‬ ‫وي�ستح�ضر ذلك الزمان امل�صري الذي �سادته روح‬ ‫الت�سامح بني امل�سلمني واالقباط وعالقة املحبة التي‬ ‫كانت تربط امل�صريني ‪ ،‬وي�شيد بدور املعلمني االقباط‬ ‫يف دمنهور «حيث ن�ش�أ» ويقول هذا وي�شعر بغ�صة يف‬ ‫احللق مت�سائال ما اذا كان بامل�ستطاع اعادة انتاج تلك‬ ‫الروح يف املجتمع امل�صري «احلديث» الذي «�أ�صيب‬ ‫بع�ض افراده بلوثة يف مو�ضوع الدين»‪ .‬وامل�سريي ‪،‬‬ ‫الذي يرى �ضرورة ربط الدين بال�سلوك ‪ ،‬ي�ستغرب ان‬ ‫يرى يف اجلامعة ‪ -‬على �سبيل املثال ‪« -‬فتاة حمجبة ‪،‬‬ ‫متم�سكة ب�أهداب الف�ضيلة ‪ ،‬لكنها ال تتورع عن الكذب‬ ‫على اال�ستاذ والغ�ش يف االمتحان» ‪ ،‬ويف�سر هذا‬ ‫ال�سلوك بقوله ان املفهوم التقليدي للقيم االخالقية‬ ‫يركز على تفعيلها يف جمال احلياة اخلا�صة وح�سب ‪،‬‬ ‫وان احلياة العامة تقع خارج نطاق االخالق‪.‬‬ ‫التحدي االدبي‬ ‫لعل غزارة االنتاج الذي قدمه امل�سريي يف ميادين‬ ‫احل�ضارة واملعرفة وال�صهيونية قد حجب جانبا مهما‬ ‫من منجزاته االدبية‪ .‬علما ان هذه امليادين م�ضافا‬ ‫اليها االدب ‪ ،‬متثل جماالت معرفية مرتابطة يف‬ ‫فكر امل�سريي‪ ،‬وهو يقول انه مما �ساعد يف تر�سيخ‬ ‫النموذج املركب لالن�سان يف وعيه الباطن درا�سته‬ ‫لالدب ‪ ،‬اذ يكاد االدب يكون التخ�ص�ص الوحيد الذي ما‬ ‫يزال ينظر اىل االن�سان كان�سان ‪ ،‬ككل مركب ال ميكن‬ ‫رده اىل عن�صر او عن�صرين يف الواقع‪ ،‬وال ميكن‬ ‫تف�سريه يف �ضوئهما‪:‬‬ ‫ويتمثل التحدي االبرز الذي واجهه امل�سريي يف‬ ‫حياته االدبية االكادميية حني قرر ان يقارن ‪ -‬يف‬ ‫ر�سالته للدكتوراه ‪ -‬بني كل من «ويردز ويرث»‬ ‫و«يتمان» يف جامعة جترز بالواليات املتحدة ‪ ،‬وخل�ص‬ ‫فيها اىل ان ويتمان الذي ي�سمونه يف الواليات املتحدة‬ ‫�شاعر الدميقراطية االمريكية ‪« ،‬امنا هو يف واقع االمر‬ ‫�شاعر ال�شمولية والفا�شية وموت التاريخ واالن�سان»‪.‬‬ ‫اذ يرى امل�سريي ان ويتمان ر�أى يف امريكا الفردو�س‬ ‫االر�ضي ‪ ،‬قمة كل التطور التاريخي ال�سابق ‪ ،‬دولة‬ ‫العامل والتكنولوجيا التي �ستهدم التاريخ وتعلن‬ ‫نهايته ‪ ،‬قبل ان ي�صدر فوكوياما ر�أيا كهذا يف اواخر‬ ‫الثمانينيات مب�شرا بانت�صار الليربالية امل�ؤدي اىل‬ ‫نهاية الطريق‪.‬‬ ‫واكاد اوقن ان ر�أيا كهذا ال يروق لكثري من املثقفني‬

‫واالدباء والعرب «وبالطبع لل�شاعر الكبري �سعدي‬ ‫يو�سف الذي ترجم �شيئا من «اوراق الع�شب» لويتمان»‬ ‫فكيف يكون حال اال�ساتذة االمريكيني الذين يرون يف‬ ‫ويتمان زعيما للثورة ال�شعرية االمريكية ‪ ،‬على ان‬ ‫امل�سريي ي�سجل للمجتمع االكادميي االمريكي قدرته‬ ‫على حتكيم اال�صول العلمية يف البحث االكادميي‬ ‫ب�صرف النظر عن االراء ال�شخ�صية للمحكمني‬ ‫واملهتمني ‪ ،‬ه�ؤالء الذين منحوه ‪ -‬وان على م�ض�ض ‪-‬‬ ‫درجة الدكتوراه يف االدب‪.‬‬ ‫وحني اتفق مع ا�ستاذه د‪ .‬م�صطفى بدوي على اعداد‬ ‫ر�سالة املاج�ستري عن اثر ال�شعر الرومانتيكي وبودلري‬ ‫على جماعة ابولو وناجي حتديدا ‪ ،‬يقول امل�سريي ان‬ ‫ذئب املعرفة الهيجلي قد بد�أ ينه�شه فراح يقر�أ عيون‬ ‫االدب العربي قدميه وحديثه ‪ ،‬واملازين والعقاد وطه‬ ‫ح�سني وغريهم ليهيئ لنف�سه ار�ضا �صلبة من املعرفة‬ ‫االدبية‪.‬‬ ‫يف الواليات املتحدة ت�أثر امل�سريي ب�أ�ستاذه ليونيل‬ ‫تريلنج بل فكر ذات يوم يف ان يكتب عنه ر�سالته‬ ‫للدكتوراه ‪ ،‬هذا الناقد االمريكي ال�شهري الذي �آمن‬ ‫ب�أن املجتمعات احلديثة تق�ضي على ان�سانية االن�سان‬ ‫وفرديته وتدجنه وت�ؤدي اىل زيادة التنميط وهيمنة‬ ‫النماذج الآلية على احلياة االن�سانية ب�أ�شكالها كافة‪.‬‬ ‫وت�أثر الكاتب اي�ضا مبدر�سة النقد اجلديد ومقوالتها‬ ‫الفل�سفية والنقدية ‪ ،‬واعجب مباير ابرامز ورينيه‬ ‫ويليك وت�شوم�سكي الذي اجرى معه حوارا فكريا‬ ‫مهما يف م�صر‪ .‬واعجب مبحفوظ والطيب ال�صالح‬ ‫‪ ،‬ويف الفن كان من اوائل من اكت�شفوا فريوز ‪ ،‬ومل‬ ‫يح�سن اال�ستماع الم كلثوم ‪ ،‬واعجب بالفن االنطباعي‬ ‫والعمارة اال�سالمية وحول منزله اىل متحف‬ ‫للح�ضارة‪.‬‬ ‫اما على �صعيد امل�ساهمة يف االدب الفل�سفي ‪ ،‬فقد‬ ‫قدم امل�سريي ترجمات مهمة لنماذج من �شعر املقاومة‬ ‫وخمتارات من ق�صائد حممود دروي�ش الذي يكن له‬ ‫اعجابا �شديدا وتقديرا عاليا ‪ ،‬ال بل انه يقول ان �شعر‬ ‫دروي�ش جعل امل�سريي ي�شعر ان االن�سان الفل�سطيني‬ ‫هو االن�سانية جمعاء ‪ ،‬والن�ضال الفل�سطيني رمز‬ ‫لالن�سان يف عامل واقعي مادي‪ .‬يقول امل�سريي‪ :‬يف‬ ‫عام ‪ 1965‬قر�أت الول مرة ا�شعار حممود دروي�ش‪ .‬من‬ ‫اعماق االر�ض املحتلة جاءنا �صوت امري �شعراء العرب‬ ‫يف الع�صر احلديث يقول‪:‬‬ ‫�أ�س�أل حكمة االجداد ـ ملاذا ت�سحب البيارة اخل�ضراء‬ ‫ـ اىل �سجن ‪ ،‬اىل منفى ‪ ،‬اىل ميناء ـ وتبقى رغم‬ ‫رحلتها ـ وبرغم روائح االمالح واال�شواق ـ تبقي دائما‬ ‫خ�ضراء»‪.‬‬ ‫ويرى امل�سريي ان �شعر دروي�ش يفي�ض بروح‬ ‫جهادية تنطلق من مقدرة االن�سان على التجاوز ‪،‬‬ ‫وان ظهور دروي�ش بحد ذاته كان بالن�سبة للم�سريي‬ ‫ا�شبه مبعجزة ‪ ،‬فهذا هو �شاعر الهوية العربية ي�صدح‬ ‫بالغناء بالعربية الف�صحى يف ار�ضه برغم وجود‬ ‫دولة ا�ستيطانية احتاللية قوية م�سلحة تبذل ق�صارى‬ ‫جهدها الن تلغيه ‪ ،‬وتلغي تاريخه وتنكر وجوده‪.‬‬ ‫وكان امل�سريي دائما يخو�ض م�سرية التحدي االدبي‬ ‫‪ ،‬فيكتب ال�شعر وادب االطفال ويحلق ‪ ،‬بني احلني‬ ‫واالخر ‪ ،‬يف عامل كان يطمح فيه ذات يوم اىل ان‬ ‫يكون واحدا من نقاده الكبار ‪ ،‬لكنه �آثر ان يحا�صر‬ ‫ال�صهيونية بدال من ان حتا�صرنا ‪ ،‬وان يكر�س �شيئا‬ ‫من وقته الثمني لالدب ‪ ،‬وكان يف ذلك كله مبدعا بال‬ ‫�شك‪.‬‬ ‫وختاما ‪ ،‬ويبدو انه لي�س جلهد هذا املفكر من ختام‪،‬‬ ‫فان قيمة هذه ال�سرية تتمثل يف ت�أمل حياة رجل قدم‬ ‫منوذجا فريدا يف ادارة عقله ووقته وموارده وحياته‬ ‫ومعرفته لكي ينت�صر للقيم االن�سانية الكربى يف‬ ‫مواجهة الظلم والفكر الفا�سد‪ ،‬مب�شرا بقدرة االن�سان‬ ‫على التجاوز‪ ،‬ان العقود التي ق�ضاها امل�سريي نا�سكا‬ ‫يف حمراب املعرفة‪ ،‬مل ت�صرفه عما يجري حوله‪،‬‬ ‫فا�سلمت له «كفاية» قيادتها يف االونة االخرية باعتزاز‬ ‫وثقة ولكم هو جدير بحمل هذه الراية‪.‬‬ ‫ـــــــــــــــــ‬ ‫جريدة الد�ستور االردنية‬ ‫‪2008-01-25‬‬

‫‪2010251996‬‬

‫ﻋﺒﺪ اﻟﻮﻫﺎب اﻟﻤﺴﻴﺮي‬

‫‪manarat‬‬ ‫رئي�س جمل�س الإدارة‬ ‫رئي�س التحرير‬

‫التحرير‬ ‫‪----------------‬‬‫نزار عبد ال�ستار‬ ‫الت�صميم‬ ‫‪----------------‬‬‫م�صطفى جعفر‬

‫طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى‬ ‫لالعالم والثقافة والفنون‬

‫‪http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com‬‬


‫�صورة الزفاف عام ‪..1960‬‬


Turn static files into dynamic content formats.

Create a flipbook
Issuu converts static files into: digital portfolios, online yearbooks, online catalogs, digital photo albums and more. Sign up and create your flipbook.