رئي�س جمل�س االدارة رئي�س التحرير فخري كرمي ملحق ثقايف ا�سبوعي ي�صدر عن جريدة املدى
m a n a r a t
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
عبد الوهاب المسيري
2
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
المفكر عبد الوهاب المسيري
الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أثناء حماولة قوات الأمن امل�صرية دفعه على الأر�ض ع�شية اال�ستفتاء على التعديالت الد�ستورية يف 15مار�س 2007بو�سط القاهرة.. عبد الوهاب امل�سريي (�أكتوبر 3 - 1938يوليو ،)2008مفكر م�صري �إ�سالمي ،وهو م�ؤلف مو�سوعة اليهود واليهودية وال�صهيونية �أحد �أكرب الأعمال املو�سوعية العربية يف القرن الع�شرين الذي ا�ستطاع من خاللها بر�أي البع�ض �إعطاء نظرة جديدة مو�سوعية ومو�ضوعية وعلمية للظاهرة اليهودية ب�شكل خا�ص ،وجتربة احلداثة الغربية ب�شكل عام ،م�ستخدم ًا مفهوم النماذج التف�سريية� ،أما بر�أي البع�ض الآخر فقد كانت ر�ؤيته يف مو�سوعته متحيزة لليهود ،ومتعاطفة �إىل حد كبري مع مواقفهم جتاه غري اليهود ،بل و�صفها البع�ض ب�أنها تدافع عن اليهود.
ولد عبد الوهاب امل�سريي يف مدينة دمنهور يف م�صر يف ت�شرين �أول عام .1938تلقى تعليمه الأويل (االبتدائي والثانوي) يف مقر ن�ش�أته .يف عام 1955 التحق بق�سم اللغة الإجنليزية كلية الآداب جامعة الإ�سكندرية وتخرج عام 1959 وعني معيدا فيها� .سافر �إىل الواليات املتحدة عام 1963حيث ح�صل على املاج�ستري يف الأدب الإجنليزي املقارن من جامعة كولومبيا مبدينة نيويورك عام ،1964وعلى الدكتوراه من جامعة رجترز بنيوجريزي عام .1969 عند عودته �إىل م�صر قام بالتدري�س يف جامعة عني �شم�س ويف عدة جامعات عربية من �أهمها جامعة امللك �سعود ( 1983ـ ،)1988كما عمل �أ�ستاذا زائرا يف �أكادميية نا�صر الع�سكرية ،واجلامعة الإ�سالمية العاملية (ماليزيا) ،وع�ضو جمل�س اخلرباء يف مركز الدرا�سات ال�سيا�سية واال�سرتاتيجية بالأهرام ( 1970ـ ،)1975وم�ست�شارا ثقافيا للوفد الدائم جلامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم املتحدة يف نيويورك (1975
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ـ .)1979وهو ع�ضو جمل�س االمناء يف جامعة العلوم الإ�سالمية واالجتماعية ببلي�سربغ ،بوالية فرجينيا يف الواليات املتحدة االمريكية. �صدرت له ع�شرات الدرا�سات واملقاالت عن �إ�سرائيل واحلركة ال�صهيونية ويعترب واحدًا من �أبرز امل�ؤرخني العامليني املتخ�ص�صني يف احلركة ال�صهيوينة. ن�شاطه ال�سيا�سي كان امل�سريي لفرتة ق�صرية يف بداية حياته منتميا �إىل االخوان امل�سلمني ثم انتمى اىل الي�سار امل�صري وحتديدا للحزب ال�شيوعي ،وقبل وفاته �شغل من�صب املن�سق العام حلركة كفاية ،التي ت�أ�س�ست يف نهاية 2004للمطالبة ب�إ�صالح دميقراطي يف م�صر ،ونظمت �سل�سلة تظاهرات احتجاجا على �إعادة انتخاب الرئي�س امل�صري ح�سني مبارك لوالية خام�سة يف ،2005وقد تعر�ض لالعتقال من قبل ال�سلطات امل�صرية �أكرث من مرة يف يناير 2007توىل من�صب املن�سق العام للحركة امل�صرية من �أجل التغيري (كفاية)
وهي احلركة املعار�ضة حلكم الرئي�س حممد ح�سني مبارك وت�سعى لإ�سقاطه من احلكم بالطرق ال�سلمية ومعار�ضة تويل ابنه جمال مبارك من�صب رئي�س اجلمهورية من بعده. الأعمال املن�شورة بالعربية 1ـ نهاية التاريخ :مقدمة لدرا�سة بنية الفـكر ال�صهيوين (مركز الدرا�سات ال�سيا�سية والإ�سرتاتيجية بالأهرام، القـاهرة 1972؛ امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،بريوت 1979 2ـ مو�سوعة املفاهيم وامل�صطلحات ال�صهيونية :ر�ؤية نقدية (مركز الدرا�سات ال�سيا�سية والإ�سرتاتيجية بالأهرام، القـاهرة .)1975 3ـ العن�صرية ال�صهيونية (�سل�سلة املو�سوعة ال�صغرية ،بغداد .)1975 4ـاليهودية وال�صهيونية و�إ�سرائيل :درا�سة يف انت�شار وانح�سار الر�ؤية ال�صهيونية للواقع (امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،بريوت .)1975 5ـ خمتارات من ال�شعر الرومانتيكي
الإجنليزي :الن�صو�ص الأ�سا�سية وبع�ض الدرا�سات التاريخية والنقدية (امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر ،بريوت .)1979 6ـ الفردو�س الأر�ضي :درا�سات وانطباعات عن احل�ضارة الأمريكية (امل�ؤ�س�سة العربية للدرا�سات والن�شر، بريوت .)1979 7ـ الأيديولوجية ال�صهيونية :درا�سة حالة يف علم اجتماع املعرفة (جزءان ،املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب ،عامل املعرفة ،الكويت 1981ـ طبعة ثانية يف جزء واحد .)1988 8ـ الغرب والعامل :ت�أليف كيفني رايلي (ترجمة باال�شرتاك) (جزءان ،املجل�س الوطني للثقافة والفنون والآداب ،عامل املعرفة ،الكويت .)1985 9ـ االنتفا�ضة الفل�سطينية والأزمة ال�صهيونية :درا�سة يف الإدراك والكرامة (منظمة التحرير الفل�سطينية ،تون�س 1987؛ املطبعة الفنية ،القاهرة 1988؛ الهيئة العامة للكتاب ،القاهرة .)2000 10ـ افتتاحيات الهادئ :ت�أليف �ستيفن
�سوندامي وجون ويدمان (ترجمة باال�شرتاك) (وزارة الإعالم� ،سل�سلة امل�سرح العاملي ،الكويت .)1988 11ـ اال�ستعمار ال�صهيوين وتطبيع ال�شخ�صية اليهودية :درا�سات يف بع�ض املفاهيم ال�صهيونية واملمار�سات الإ�سرائيلية (م�ؤ�س�سة الأبحاث العربية، بريوت .)1990 12ـ هجرة اليهود ال�سوفييت :منهج يف الر�صد وحتليل املعلومات (دار الهالل، كتاب الهالل ،القاهرة .)1990 13ـ الأمرية وال�شاعر :ق�صة للأطفال (الفتى العربي ،القاهرة .)1993 14ـ اجلمعيات ال�سرية يف العامل( :دار الهالل ،كتاب الهالل ،القاهرة .)1993 15ـ �إ�شكالية التحيز :ر�ؤية معرفية ودعوة لالجتهاد (ت�أليف وحترير) (جزءان ،املعهد العاملي للفكر الإ�سالمي ،القاهرة 1993؛ جزءان ،وا�شنطن 1996؛ �سبعة �أجزاء؛ القاهرة .)1998 16ـ �أ�سرار العقل ال�صهيوين( :دار احل�سام ،القاهرة .)1996 17ـ ال�صهيونية والنازية ونهاية التاريخ: ر�ؤية ح�ضارية جديدة (دار ال�شروق، القاهرة 1997ـ 1998ـ .)2001 18ـ من هو اليهودي؟ (دار ال�شروق، القاهرة 1997ـ .)2001 19ـ مو�سوعة تاريخ ال�صهيونية (ثالثة �أجزاء ،دار احل�سام ،القاهرة .)1997 20ـ اليهود يف عقل ه�ؤالء (دار املعارف، �سل�سلة اقر�أ ،القاهرة .)1998 21ـ اليد اخلفية :درا�سة يف احلركات اليهودية الهدامة وال�سرية (دار ال�شروق، القاهرة 1998؛ الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 2000؛ دار ال�شروق .)2001 22ـ مو�سوعة اليهود واليهودية وال�صهيونية :منوذج تف�سريي جديد (ثمانية جملدات ،دار ال�شروق ،القاهرة .)1999 23ـ فكر حركة اال�ستنارة وتناق�ضاته (دار نه�ضة م�صر ،القاهرة .)1999 24ـ ق�ضية املر�أة بني التحرر والتمركز حول الأنثى (دار نه�ضة م�صر ،القاهرة .)1999 25ـ نور والذئب ال�شهري باملكار( ،ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)1999 26ـ �سندريال وزينب هامن خاتون( ،ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)1999 27ـ رحلة �إىل جزيرة الدوي�شة( ،ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)2000 28ـ معركة كبرية �صغرية( ،ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)2000 29ـ �سر اختفاء الذئب ال�شهري باملكتار، (ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)2000 30ـ العلمانية حتت املجهر ،باال�شرتاك مع الدكتور عزيز العظمة (دار الفكر ،دم�شق .)2000 31ـ رحلتي الفكرية ـ يف البذور واجلذور والثمار� :سرية غري ذاتية غري مو�ضوعية (الهيئة العامة لق�صور الثقافة ،القاهرة .)2001 32ـ الأكاذيب ال�صهيونية من بداية اال�ستيطان حتى انتفا�ضة الأق�صى( ،دار املعارف� ،سل�سلة اقر�أ ،القاهرة .)2001 33ـ ال�صهيونية والعنف من بداية اال�ستيطان �إىل انتفا�ضة الأق�صى( ،دار ال�شروق ،القاهرة .)2001 34ـ فل�سطيني ًة كانت ومل َت َزلِ :املو�ضوعات الكامنة املتواترة يف �شعر املقاومة الفل�سطيني (ن�شر خا�ص ،القاهرة .)2001
امل�سريي عام ..1955
امل�سريي عام ..1954
35ـ ق�صة خيالية جد ًا( ،ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)2001 36ـ العامل من منظور غربي( ،دار الهالل، كتاب الهالل ،القاهرة .)2001 37ـ اجلماعات الوظيفية اليهودية :منوذج تف�سريي جديد( ،دار ال�شروق ،القاهرة .)2001 38ـ ما هي النهاية؟ (ق�صة للأطفال) - باال�شرتاك مع الدكتوره جيهان فاروق (دار ال�شروق ،القاهرة .)2001 39ـ ق�ص�ص �سريعة جد ًا (ق�صة للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)2001 40ـ من االنتفا�ضة اىل حرب التحرير الفل�سطينية� :أثر االنتفا�ضة على الكيان الإ�سرائيلي (عدة طبعات :القاهرة ـ دم�شق ـ برلني ـ نيويورك ـ ن�شر �إلكرتوين، 2002م). 41ـ �أغنيات �إىل الأ�شياء اجلميلة (ديوان �شعر للأطفال) (دار ال�شروق ،القاهرة .)2002 42ـ انهيار �إ�سرائيل من الداخل( ،دار املعارف ،القاهرة .)2002 43ـ الإن�سان واحل�ضارة والنماذج املركبة: درا�سات نظرية وتطبيقية (دار الهالل، كتاب الهالل ،القاهرة .)2002 44ـ مقدمة لدرا�سة ال�صراع العربي ـ الإ�سرائيلي :جذوره وم�ساره وم�ستقبله (دار الفكر ،دم�شق .)2002 45ـ الفل�سفة املادية وتفكيك الإن�سان( ،دار الفكر ،دم�شق .)2002 46ـ اللغة واملجاز :بني التوحيد ووحدة الوجود( ،دار ال�شروق ،القاهرة .)2002 47ـ العلمانية اجلزئية والعلمانية ال�شاملة( ،جزءان ،دار ال�شروق ،القاهرة .)2002 48ـ �أغاين اخلربة واحلرية والرباءة:
3
امل�سريي عام ..1963
�سرية �شعرية� ،شبه ذاتية �شبه مو�ضوعية (دار ال�شروق ،القاهرة .)2003 49ـ احلداثة وما بعد احلداثة ،باال�شرتاك مع الدكتور فتحي الرتيكي( ،دار الفكر، دم�شق .)2003 50ـ الربوتوكوالت واليهودية وال�صهيونية ،دار ال�شروق ،القاهرة، .2003 51ـ املو�سوعة املوجزة( ،جملدان ،دار ال�شروق ،القاهرة .)2003
الأعمال املن�شورة باللغة الإجنليزية A Lover from Palestine and Other Poems (Palestine Information Office، 1972 ،.Washington D.C Israel and South Africa: The Progression of a Relationship (North American، New Brunswick، ;1976 ،.N.J Third ;1977 Second Edition Arabic ;1980 ،Edition .)1980 ،Translation The Land of Promise: A Critique of Political Zionism (North American، .(1977 ،.New Brunswick، N.J Three Studies in English Literature: (North American، New Brunswick، .(1979 ،.N.J The Palestinian Wedding: A Bilingual Anthology of Contemporary Palestinian Resistance Poetry (Three Continents Press، .)1983 ،.Washington D.C A Land of Stone and Thyme: Palestinian )Short Stories (Co-editor .)1996 ،(Quartet، London وفاته تويف فجر يوم اخلمي�س 29جمادى الآخرة 1429هـ املوافق 3يوليو/ متوز 2008مب�ست�شفى فل�سطني بالقاهرة عن عمر يناهز ال�سبعني عاما بعد �صراع طويل مع مر�ض ال�سرطان ،و�شيعت جنازته ظهرا من م�سجد رابعة العدوية مبدينة ن�صر بالقاهرة .و�شارك يف �صالة اجلنازة �آالف امل�صريني� ،إ�ضافة �إىل ع�شرات العلماء واملفكرين.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
4
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
د .هبة ر�ؤوف عزت ي�ستوقف املتجول يف عامل عبد الوهاب امل�سريي الأوجه املختلفة لهذا املفكر ،فمن كتاباته يف الأدب الإجنليزي ،ل�سريته الذاتية التي هي م�سريته الفكرية� ،إىل نقد ونق�ض الفكر ال�صهيوين والت�أريخ للجماعات اليهودية� ،إىل ق�ص�ص الأطفال التي نال عنها جوائز عديدة، �إىل كتاباته ال�صحفية التي تب�سط للقارىء املفاهيم الكربى وتربطها بالظواهر التي يعي�شها يف ظل العوملة ،لكن يظل هناك منطق مت�صل وروح متجان�سة يف كل ما كتب عبد الوهاب امل�سريي، وهو �أنه كان مفكراً �إن�ساني ًا.
عبد الوهاب المسيري ..العقل الموسوعي اإلسالمي في بحثه عن اإلنسان وميكن اعتبار اخليط الناظم يف فكر امل�سريي هو تقدمي الر�ؤية الإن�سانية التي متيز املنظور التوحيدي الإ�سالمي حتى و�إن مل ي�ستخدم املفاهيم امل�ألوفة �أو يفرط يف اال�ست�شهاد بالآيات والأحاديث ،فقد نفذ امل�سريي �إىل قلب املنظومة املقا�صدية وفهم �أن املق�صد الأعلى هو ت�أكيد �إن�سانية الإن�سان من خالل ت�أكيد تنزه الله الذي لي�س كمثله �شيء ،والتمييز بني الإن�ساين والطبيعي والغيبي و�إدراك الفارق بني هذه امل�ستويات التي حاولت املنظومة العلمانية اختزالها يف مركزية الإن�سان وم�ساواته بالطبيعة ،و�إق�صاء �س�ؤال الألوهية والربوبية من التفكري. لذا فقد �صاغ امل�سريي هذه الفكرة بلغة يفهمها ال�سياق الثقايف و�أ�سهم يف جدل نقد احلداثة الذي مر يف فرتة الثمانينيات بجدل الدولة الدينية يف مواجهة العلمانية ،وال بد من االعرتاف �أن امل�سريي قد نقل هذا اجلدل نقلة نوعية بتحليل العلمانية يف
منظورها الفل�سفي وتقدمي خطاب �إ�سالمي جديد يعيد االعتبار للإن�سان ودوره �سريا على نهج مفكرين من �أمثال مالك بن نبي وعلى �شريعتي. لقد �أكد امل�سريي يف كتابيه "العلمانية اجلزئية والعلمانية ال�شاملة" و"دفاع ًا عن الإن�سان" �أن ثمة �أ�سبقية الإن�ساين على الطبيعي ،لأن الإن�سان قادر على جتاوز النظام الطبيعي املادي وعلى جتاوز ذاته الطبيعية املادية ،ولأن فيه بعدا غيبيا ي�ستع�صي على االختزال والت�شييء. �إذا حُم َي هذا الفارق حينئذ ت�سري على الإن�سان القوانني املادية احلتمية التى ت�سري على الطبيعة واملادة ،مما يعني تقوي�ض الإن�سان وتفكيكه ورده �إىل ما هو دونه� ،أي املادة. فالأ�سا�س الفل�سفي للإن�سانية الإحلادية �أ�سا�س واه ،فمع غياب الله �أو تهمي�شه يتحرك الإن�سان داخل ال�سقف املادي وحده، ال ميكنه الفكاك منه ويتحول �إىل كائن
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
طبيعي (مادي) فيفقد ما مييزه ك�إن�سان (حرية االختيار-املقدرة على التجاوز… �إلخ). ال يحفظ للإن�سان �إن�سانيته �سوى الإله �سبحانه وتعاىل ،فوجوده هو �ضمان �إن�سانية الإن�سان .فالإميان ب�إله متجاوز مفارق للمادة يعني �أنه يوجد داخل الإن�سان ما مييزه عن الكائنات الطبيعية املادية الأخرى. من هنا ف�إن �سمات الإن�سانية الإ�سالمية هي ت�أكيد الفارق بني الإن�سان والطبيعة ورف�ض النموذج املادي باعتباره النموذج الذى يودي بالإن�سان ،فم�شروع احلداثة فهو م�شروع ت�أ�سي�سي يعيد تركيب املجتمع على �أ�سا�س �أنه غابة يت�صارع فيها الإن�سان مع احليوان ،والإن�سان مع الإن�سان ،والإن�سان مع الطبيعة ،فهى احلرب للجميع �ضد اجلميع ،وهذا ما �أفرز فى نهاية ما ن�سميه احلداثة الداروينية. وقد ربط امل�سريي بني الفل�سفي الفكري
والتحليل ال�سيا�سي ،فقد ر�أى كيف �ساعد على هيمنة هذا النموذج الفكري على العامل تزايد نفوذ الدولة القومية ذات ال�سلطة املطلقة كما �صورها هيجل ،وانت�شار النظريات ال�سيا�سية التى ظهرت لتربير هذا الو�ضع ،وات�ساع نطاق القطاع االقت�صادي التجاري ،و�شيوع النظريات العقالنية املتطرفة والنفعية .وجوهر كل هذه النظريات مادي ،فهى جتعل هدف الوجود غاية جمردة �إن�سانية مثل الدولة (فى املجال ال�سيا�سي) �أو القانون العام (يف املجال العلمي والتحليلي ب�شكل عام) �أو الربح ومراكمة الرثوة (فى املجال االقت�صادي) واملنفعة ال�شخ�صية (فى املجال الأخالقي). وقد تابع امل�سريي التيارات الإن�سانية يف الغرب التي تراجع م�سلمات احلداثة وتبحث عن ا�ستعادة �إن�سانية الإن�سان واعتربها جزءا من جبهة الدفاع عن الإن�سان وجزءا من هذا التوجه الذي يحتل فيه الإ�سالم موقع ًا فريدا ،وبذا منح
الر�ؤية الإ�سالمية و�أفق ًا جديد ًا ي�ستعيد فكرة حلف الف�ضول ،فه�ؤالء يدركون �أن االنت�صارت التي حتققها ح�ضارتهم با�سم الإن�سان الطبيعي /املادي ت�ؤدي �إىل و�أد �شيء مهم جدا يف الإن�سان� ،شيء ل�صيق ب�إن�سانيته ،ن�سميه "القب�س الإلهي" ،ولكنهم ال ي�سمونه ..و�إمنا يدورون حوله ،ويتجلى ب�شكل خفي يف كتاباتهم ،ولذا ،ف�إن امل�سريي قد نعته ب�أنه "الإله اخلفي" يف الكتابات النقدية الغربية. وما احلديث عن "حتمية امليتافيزيقا" �إال حديث عن الإله اخلفي .فقد لوحظ �أن الإن�سان مهما بلغ من مادية ف�إنه ال يقبل املادة املتغرية �إطارا مرجعيا ،و�إمنا يبحث عن مركز للعامل ،وعن �إطار ،وعن �أر�ض ثابتة يقف عليها وعن كليات تتجاوز الأجزاء .وقد �أدرك نيت�شه �أن هذا تعبري عن الإله اخلفي ،واختار م�صطلح "ظالل الإله" لي�شري اليه .وقد �أدرك فال�سفة ما بعد احلداثة ذلك ،ولذا ف�إن م�شروعهم ال يتلخ�ص
يف الهجوم على امليتافيزيقا الدينية �أو املثالية وح�سب ،و�إمنا يف حتطيم فكرة احلقيقة نف�سها حتى تتم �إزالة " ظالل الإله" وحتطيم امليتافيزيقا بال رجعة .وكان حلمهم املقرتح هو التخل�ص من ثنائية املطلق /الن�سبي ل�صالح مطلق ن�سبي (ثابت متغري). فتظل هناك ثنائيات اخلري وال�شر ،واملقد�س واملدن�س ،واملطلق والن�سبي النابعة من �إدراكهم الفطري لثنائية الإن�ساين والطبيعي /املادي .ولذا ت�ؤكد العالقات الإن�سانية الفطرية نف�سها بطريقة تتحدى النموذج املادي الفعال وبطريقة غري مبا�شرة كان يفرت�ض التخلي عنها بحيث تخ�ضع مثل هذه العالقات للتفاو�ض وبحيث يحل حملها عالقات تعاقدية عقالنية �صلبة .ولكن العالقات الإن�سانية الفطرية ،مع هذا ،ت�ستمر وت�ؤكد نف�سها. وهو ت�أكيد يبني �أن العن�صر الرباين يف الإن�سان ال ميكن حموه. ومن املمكن القول �أن هذا العن�صر الرباين الل�صيق ب�إن�سانية الإن�سان وفطرته، وهو عن�صر ي�أخذ �شكل الإله اخلفي -هو ما مينع النموذج الطبيعي /املادي من التحقق الكامل ،ومن الو�صول �إىل اللحظة النماذجية الكاملة ونقطة ال�صفر املادية. كانت الروح الإ�سالمية �إذ ًا عند امل�سريي ال تنف�صل عن الر�ؤية الإن�سانية وعندما و�صل �إىل مرحلة حتوله للمنظومة الفكرية الإ�سالمية كان ذلك عن طريق اهتمامه املبكر بالبحث عن كينونة الإن�سان يف املذاهب واملعارف الفكرية املختلفة، ف�صادف املارك�سية و�أعجبه جنوحها للعدالة وامل�ساواة ،لكن �شعر بالغربة يف ماديتها املفرطة ،حتى متكن من التعرف على املنظور املعريف التوحيدي الإ�سالمي ،ومن هذا املدخل رف�ض مادية املعرفة الغربية و�أ�شار �إىل �ضرورة ت�أ�سي�س فقه للتحيز، و�أ�س�س جهد ًا بنائي ًا من خالل نقد ونق�ض بع�ض امل�صطلحات الفكرية واملعرفية واملنهجية والبحثية ،ثم دعوته ملراجعة م�سلمات العلوم التي انبنت على فل�سفة احلداثة..وا�ستعادة الإن�سان يف ر�ؤيتها. وقد �إ�ستطاع من خالل الناظم اال�سالمي الإن�ساين �أن ي�ؤ�س�س ملعامل خطاب �إ�سالمي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة و�ضروراتها وفقه النهو�ض الذي يتعلق بكيانها .يف �صراعها الفكري من �أجل حترير الإن�سان ولي�س من �أجل ت�أ�سي�س دولة فقط كما ذهبت تيارات الإ�سالم ال�سيا�سية. ومن هنا فقد تكون لديه معجمه املفاهيمي، وواجه امل�صطلحات التى تف�شت فى ع�ضد الأمة وحذر من م�صطلحات العدو وت�سربها ،ونبه �إىل وحدات حتليل جديدة، وربط النماذج املعرفية بالتعامل املنهجي، وانتقد ما ميكن ت�سميته بال�سببية ال�صلبة وحتدث ب�صفة دائمة عن الن�سق املفتوح والر�ؤية الوا�سعة وا�ستهدف جوهر الإن�سان الذي يخرج املعاين التي تتعلق بالثقافة واحل�ضارة على �شاكلته (النظام املعريف ،اخلرائط الإدراكية ،اخلرائط املعرفية ،املفاهيم التف�سريية..،الخ) ،كما قدم امل�سريي مناذج و�أدوات تف�سريية غاية يف الأهمية ومقوالت لتف�سري الواقع وتقوميه بل وتغيريه ،وكانت له �أجندة بحثية �شاملة وعامرة فهو دائم احلديث عن م�شروعاته العلمية املنفتحة واملفتوحة، وركز على �أهمية اخلريطة الإدراكية والنماذج الفكرية واملعرفية ،م�ؤكدا �أن املعركة احلقيقية الآن هي معركة املعاين؛ حيث يتم تكوين ال�صورة الإدراكية �أو اخلريطة املعرفية وعمليات �إبقاء بع�ض عنا�صر الواقع وت�ضخيمها ومنحها مركزية وا�ستبعاد �أو تهمي�ش البع�ض الآخر ح�سب معايري النموذج الداخلية وبعده املعريف الكلي والنهائي ،ف�صياغة النموذج؛ عملية مركبة و�إبداعية؛ تت�ضمن عمليات عقلية
5
ال يحفظ للإن�سان �إن�سانيته �سوى الإله �سبحانه وتعاىل، فوجوده هو �ضمان �إن�سانية الإن�سان .فالإميان ب�إله متجاوز مفارق للمادة يعني �أنه يوجد داخل الإن�سان ما مييزه عن الكائنات الطبيعية املادية الأخرى.
عديدة متنوعة ،وظل يكتب حتى فارق احلياة را�ضيا مر�ضيا يف علمه ويف عمله دون �أن يهمل الوظيفة الكفاحية للعامل بنزوله ال�شارع ال�سيا�سي �ضد اال�ستبداد بال�سلطة ودفاع ًا عن امل�شاركة ال�شعبية يف �صنع ال�سيا�سة. ومل يكن دورانه مع مق�صد الإن�سانية مياثل امليل الليرباىل �إىل الفردية ،فاملجتمع عنده كيان مركب متما�سك يت�سم بقدر من الوعي وله �أ�سبقية على الفرد مهما بلغت درجة ابداع هذا الفرد ،فالفرد ينتمي �إىل املجتمع ولي�س املجتمع هو الذي ينتمي �إىل الفرد� ،إال �إذا كان جمتمعا �شموليا، واملنظومة العلمانية ال�شاملة لي�ست مق�صورة على العامل الغربي فهي ر�ؤية للكون اكت�سحت العامل ب�أ�سره وحولته �إىل مادة ا�ستعمالية بحيث ت�صبح كل الأمور مت�ساوية ،كل الأمور ن�سبية� ،إال �أن الر�ؤية للعامل ومتيزها هو الذي يخرج املعرفة وي�شكل الثقافات وي�ؤ�س�س احل�ضارات، ومن هنا اهتم امل�سريي بالنماذج املعرفية والبناء احل�ضاري من مثل :املنهج ـ املفاهيم
الدكتور امل�سريي بجوار النيل بالقاهرة..
ـ اخلرائط ( الإدراكية ـ املعرفية ـ الذهنية ـ الفكرية ). من هنا ف�إن اخلطاب الإن�ساين الذي قدمه امل�سريي هو خطاب �إ�سالمي بامتياز ،فقد َع َرف الدكتور امل�سريي اخلطاب الإ�سالمي ب�أنه لي�س كالم الله الذي ي�سمو على الزمان واملكان ،و�إمنا هو اجتهادات عقول امل�سلمني داخل الزمان واملكان .ومن ثم فهو – �أي�ض ًا- متعدد ومتنوع ،وتاريخ احل�ضارة التي بناها امل�سلمون هو تعبري عن هذه الكرثة والتعددية ،وحتدث كذلك عن م�ستويات لهذا اخلطاب: - 1خطاب �إ�سالمي ظهر مع دخول اال�ستعمار العامل الإ�سالمي ،وحاول �أن يقدم ا�ستجابة �إ�سالمية لظاهرتي التحديث واال�ستعمار ،وقد ظل هو اخلطاب املهيمن حتى منت�صف ال�ستينيات ،وهو ما ن�شري اليه باخلطاب الإ�سالمي القدمي ،والذي يعادي الغرب دون �أن يفهم منطقه الفل�سفي بل يكتفي مبقاومة جتليه اال�ستعماري. - 2خطاب �آخر كان هام�شيًا ،ولكن معامله بد�أت تت�ضح تدريجيًا يف منت�صف
ال�ستينيات ،وهو ما ن�شري اليه باخلطاب الإ�سالمي اجلديد .ونقطة االختالف بني اخلطابني هي املوقف من احلداثة الغربية ال باعتبارها �ضد ال�شعوب امل�ستعمرة بل باعتبارها �ضد الإن�سان يف جوهره (وهو ما ي�ؤدي حلروب الإبادة با�شكالها) كما ي�صنف اخلطاب من حيث اجلمهور �إىل: ( )1اخلطاب اجلماهريي (�أو اال�ستغاثي �أو ال�شعبي) :وهو خطاب القاعدة العري�ضة من اجلماهري الإ�سالمية التي �شعرت بفطرتها �أن عمليات التحديث والعلمنة والعوملة مل يكن فيها خري وال �صالح لها ،كما الحظت �أن هذه العمليات هي يف جوهرها عمليات تغريب �سلبتها موروثها الديني والثقايف، ومل تعطها �شي ًئا يف املقابل ،لكنها ال ت�صوغ ر�ؤى فكرية. ( )2اخلطاب ال�سيا�سي :وهو خطاب بع�ض �أع�ضاء الطبقة املتو�سطة ممن �شعروا –� ً أي�ضا -باحلاجة �إىل عمل �إ�سالمي يحمي هذه الأمة .وقد ر�أوا �أن العمل ال�سيا�سي هو ال�سبيل �إىل هذا ،فقاموا بتنظيم �أنف�سهم على هيئة تنظيمات �سيا�سية ال تلج�أ للعنف، تتبعها تنظيمات �شبابية وم�ؤ�س�سات تربوية ،واهتمام حملة هذا اخلطاب يكاد ينح�صر يف املجال ال�سيا�سي والرتبوي. ( )3اخلطاب الفكري :هو اخلطاب الذي يتعامل �أ�سا�سً ا مع اجلانب التنظريي الفكري داخل ال�صحوة الإ�سالمية. وحتدث عن ا�ستجابات اخلطاب اال�سالمي لتحدي احلداثة الغربية مفرقا يف ذلك بني موقف اخلطابني القدمي واجلديد يف ذلك الأمر و�أن كال اجليلني -القدمي واجلديد -مل ي�ؤ�س�سا منظومتهما الفكرية انطال ًقا من املنظومة الإ�سالمية فح�سب ،و�إمنا نتيجة تفاعلهما مع احل�ضارة الغربية يف الوقت ذاته ،وهذا �أمر طبيعي؛ فهي احل�ضارة التي فر�ضت �سيطرتها على العامل يف تلك اللحظة التاريخية ،واكت�سبت مركزية بحكم االنت�صارات الع�سكرية التي حققتها، وطرحت ر�ؤيتها يف كل املجتمعات، وفر�ضت نف�سها باعتبارها م�ستقبل الب�شرية جمعاء .و�ألقت بالتحدي الذي كان على اجلميع اال�ستجابة له ،وباختالف نوع التحدي وح َدّته اختلفت اال�ستجابة ،وقد وجد امل�صلحون الأوائل جوانب �إيجابية كثرية يف هذه احل�ضارة الغربية ،بل �إنهم انبهروا بها ،وهذا ما عرب عنه ال�شيخ رفاعة الطهطاوي وال�شيخ حممد عبده ولذا كانت ا�ستجابة اجليل الأول للتحدي الغربي هي: كيف ميكن �أن نلحق بالغرب؟ لكن ظهر بعد ذلك نقد �إ�سالمي للحداثة، وهذا النقد الإ�سالمي للحداثة يختلف عن
�أ�شكال نقد احلداثة يف بقية العامل؛ �إذ �أنه يدرك مدى ارتباط منظومة احلداثة الغربية بالإمربيالية الغربية ،ويدرك �صعوبة ف�صل الواحد عن الآخر (والإمربيالية كانت هي �أول جتربة لنا مع احلداثة ،واال�ستعمار اال�ستيطاين ال�صهيوين هو �آخرها وال ينفك عنها) .كما �أن النقد الإ�سالمي للحداثة يت�سم ب�أنه متفائل لأنه يطرح حلو ًال على عك�س النقد الغربي للحداثة فهو مت�شائم عدمي. يطرح ال�شروط الأ�سا�سية لتطوير امل�شروع احلداثى الإن�سانى العربى ،ف�ضال عن املنطلقات الأ�سا�سية البنائية لهذا امل�شروع. وحتدث امل�سريي عن �سمات اخلطاب الإ�سالمي اجلديد الذي حتتاجه الأمة اليوم للنه�ضة ،ومعامله هي: رف�ض فكرة املركزية الغربية. الر�ؤية املتكاملة واالنفتاح النقدي. خطاب جذري توليدي ا�ستك�شايف. ي�صدر عن ر�ؤية معرفية �شاملة. القدرة على اال�ستفادة من احلداثةالغربية. القدرة على �إدراك �أبعاد �إن�سانية جديدة. القدرة على اكت�شاف الإمكانات اخلالقةللمنظومة الإ�سالمية. ت�أ�سي�س معجم ح�ضاري متكامل وم�ستقل. �إدراك املكون والبعد احل�ضاري للظواهروالأ�شياء امل�ستحدثة. ت�أ�سي�س ر�ؤية �إ�سالمية م�ستقلة يفالتنمية. الإميان باحلركة والتدافع ك�أ�سا�سللحياة. �إدراك م�شكالت ما بعد احلداثة. جتاوز الإطالقات املتناق�ضة وال�سماحبالتعددية. القدرة على الر�ؤية املتكاملة لل�شريعةومقا�صدها و�إنزالها على الواقع املعا�صر. القدرة على �صياغة منوذج معريف�إ�سالمي واالحتكام اليه. االهتمام بالأمة كيان ًا يتجاوز الدولةاملركزية. حماولة تطوير ر�ؤية �شاملة للفنونالإ�سالمية. جتاوز املنظور الغربي يف قراءةالتاريخ. ويف جممل �أعماله يدعو امل�سريي اىل �إقامة ن�سق فكري عربي �إ�سالمي يقوم على الثنائية والتجاور والإن�سان الروحاين الديني الرباين مقابل الإرث الغربي املادي الطبيعي اجل�سدي. �إن اخلطاب الإ�سالمى عند امل�سريي كان البد من �أن يكون �إن�ساني ًا ،وامل�سلم املرتبط بالفطرة يجب �أن يكون رباني ًا وعاملي ًا ،ذلك هو املنطلق الذي �آمن به الدكتور امل�سريى، حينما �أكد �إن�سانية الإ�سالم وعامليته، ورحلته الفكرية واملعرفية كانت حماولة للبحث عن الإن�سان ،ذلك �أن الو�صف الأدق لرحلته هو و�صف ” رحلة البحث عن احلقيقة ” ،فرغم التحوالت التى مر بها ،ف�إن مكونات ر�ؤيته وعنا�صرها الأ�سا�سية مل تتغري ،رغم تغري بع�ض الأ�س�س الفل�سفية ،ورغم تغري املنهج. حتى ذهب البع�ض �إىل العامل الإن�سانى �أو ” امل�شرتك الإن�سانى ” هو مفتاح العامل النقدى للم�سريى وهو الذي منح ر�ؤيته الإ�سالمية �سمتها الأ�صيل يف نقدها للغرب وك�شفها للم�شروع ال�صهيوين واحتفاءها باللغة واملجاز و�إعادة �صياغتها لر�ؤى الأطفال يف ق�ص�صه الب�سيطة وحفاوته باملقاومة التي تتحدى ح�سابات الهيمنة والقوة الغا�شمة ،و�سريه يف مظاهرات الدميقراطية يواجه خوذات الأمن وهراوات ال�شرطة. حياة ثرية ودرو�س كربى وعامل من املفاهيم والق�ضايا يحتاج �إمعان نظر ومرياث من احلكمة يحتاج ورثة يبنون على ما قدم ،و�شخ�صية فريدة تعلمنا منها التوا�ضع وال�صرب والت�سليم للقدر والعزة بالله وال�شموخ يف �أزمنة الإنك�سار.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
6
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
مفهوم التحيز عند الدكتور عبد الوهاب المسيري
رغداء زيدان فقه التح ّيز: �أطلق امل�سريي م�صطلح "فقه التحيّز" على تخ�ص�ص جديد ير ّكز على درا�سة وحتديد عنا�صر التحيّز يف العلوم الإن�سانية واالجتماعية وك�شفها ،وخ�صو�ص ًا التحيزات الغربية الكامنة يف املناهج التي يت ّم ا�ستخدامها يف العلوم الغربية، والتي تبدو �أنها حمايدة كما يظن كثريون، ولكنها تعبرّ يف الغالب عن جمموعة من القيم الكامنة امل�سترتة يف النماذج املعرفية والو�سائل واملناهج البحثية التي حتدد جمال الر�ؤية وطريقة البحث الغربية، وتقرر كثري ًا من النتائج م�سبق ًا. ومبا �أن العرب كما قلنا نقلة �أمينون للعلوم الغربية دون متحي�ص �أو نظرية نقدية واثقة؛ فقد �أراد امل�سريي �أن يكون "فقه التحيز" �أدا ًة لتحديد التحيزات الغربية الكامنة يف املناهج والأدوات التي ي�ستخدمها الباحثون العرب يف درا�ساتهم، لأنها بر�أيه �أكرث التحيزات �شيوع ًا وخطورة ،فكثريون يرون القيم الغربية على �أنها قيم عاملية ،ويتبنونها دون �إدراك خل�صو�صيتها الغربية ،و�سواء كان هذا التبني يتم بوعي �أم بدون وعي ف�إن هذه التحيزات الكامنة تخلق ترابط ًا اختياري ًا بني الباحث وهذه الأفكار ،ويجد الباحث نف�سه متحيّز ًا لبع�ض الظواهر والأفكار، ويهمل �أو ي�ستبعد بع�ضها الآخر مما يقع خارج نطاق اال�ستعارات والنماذج الكامنة. وقد ا�ستخدم امل�سريي كلمة "فقه" بد ًال من "علم" لأن الكلمة الأوىل ح�سب ر�أيه ت�سرتجع البعد االجتهادي واالحتماىل والإبداعي للمعرفة ،على عك�س كلمة "علم" التي ت�ؤكد جوانب الدقة واليقينية
يرى الدكتور امل�سريي �أنّ لكل علم ا�صطالحاته ،واال�صطالح يف العلم هو اتفاق جماعة من النا�س املتخ�ص�صني يف جمال واحد تتم يف �إطار معني ملدة من يتم عادة نتيجة تراكم معريف وح�ضاري وممار�سات فكريةّ ، على مدلول كلمة �أو رقم �أو مفهوم ،وذلك ّ ثم يتبع ذلك حماولة تقنني هذه املعرفة .لذلك فقد رف�ض الدكتور امل�سريي كثرياً من امل�صطلحات الغربية التي ّ مت نقلها الزمنّ ، عن الغرب دون �إعمال فكر �أو اجتهاد ،لأنها م�صطلحات نتجت عن جتربة ح�ضارية غربية ،لها �سياقها اخلا�ص ،ودعا بد ً ال من ذلك للنظر �إىل �أي ظاهرة يف �سياقها ،وحماولة توليد م�صطلح من داخل املعجم العربي ،يكون ت�سمية للظاهرة من وجهة نظرنا نحن. ومبا �أنّ العرب هم نقلة �أمينون لكل امل�صطلحات الغربية دون نقد �أو متحي�ص ،ف�إنهم ّ توقفوا عن �إبداع امل�صطلحات اخلا�صة يهتمون بالظواهر التي حتتاج لدرا�سة يف جمتمعاتنا العربية ،لأنهم بب�ساطة ال يبادرون لدرا�سة �إال ما يدر�سه الغربيون ،وال ّ يهتم به علما�ؤهم من تلك الظواهر ،وتقت�صر م�شاركاتهم على �شرح وبيان ما يقدّ مه العلماء الغربيون من ر�ؤى ونظريات �إال مبا ّ حولها .واكتفوا بنقل ما ا�ستجدّ من م�صطلحات الغرب ب�أمانة ملفتة� ،سواء كانت منا�سبة ومطابقة ملا يرون �أنه قابل للتطبيق يف واقعنا وجمتمعاتنا �أم ال. لكن الدكتور امل�سريي عندما ا�ستوقفته �إ�شكالية التح ّيز عند درا�سته للظواهر الإن�سانية ،اختار امل�صطلح" :التح ّيز" ،بالرجوع �إىل املعجم اللغوي العربي ،وفيه� :أن التح ّيز يعني االن�ضمام واملوافقة يف الر�أي وتب ّني ر�ؤية ما ،مما يعني رف�ض الآراء الأخرى .وقد اختار هذا امل�صطلح ليطلقه على جمال جديد لدرا�سة ظاهرة �إن�سانية من �صميم املعطى الإن�ساين ،ومرتبطة ب�إن�سانية الإن�سان، كما كان يرى ،وهي ظاهرة التحيز.
واحليادية والنهائية كما قال. قواعد التح ّيز: و�ضع الدكتور امل�سريي قواعد �أ�سا�سية ت�ساعد على فهم التحيّز ومتييزه ،وهي: 1ـ القاعدة الأوىل :التحيّز حتمي :وذلك ب�سبب املعطيات التالية: �أ ـ لأنه مرتبط ببنية عقل الإن�سان ذاتها، ي�سجل تفا�صيل الواقع كالآلة فهذا العقل ال ّ ال�صمّاء ،فهو عقل فعّال ،يدرك الواقع من خالل منوذج في�ستبعد بع�ض التفا�صيل ويبقي بع�ضها الآخر. ب ـ التحيّز ل�صيق باللغة الإن�سانية املرتبطة �إىل ح ّد كبري ببيئتها احل�ضارية ،و�أكرث كفاءة يف التعبري عنها .فال توجد لغة حتتوي كل املفردات املمكنة للتعبري عن الواقع بكل مكوّ ناته ،فال ب ّد من االختيار. ج ـ التحيّز من �صميم املعطى الإن�ساين، ومرتبط ب�إن�سانية الإن�سان� ،أي بوجوده ككائن غري طبيعي ،ال ير ّد �إىل قوانني الطبيعة العامة وال ين�صاع لها ،فكل ما هو �إن�ساين يحوي على قدر من التف ّرد والذاتية ومن ث ّم التحيّز. 2ـ القاعدة الثانية :التحيّز قد يكون حتمي ًا ولكنه لي�س نهائي ًا: فالتحيّز لي�س بعيب �أو نقي�صة ،بل على العك�س ميكن �أن يُج ّرد من معانيه ال�سلبية، وي�صبح هو حتمية التف ّرد واالختيار الإن�ساين. واللغة الإن�سانية رغم حدودها قادرة على حتقيق التوا�صل ،وعلى م�ساعدتنا على جتاوز �أ�شكال كثرية من التحيّز ،وعلى بناء مناذج معرفية هي نتاج جتربتنا احل�ضارية اخلا�صة ،ولكنها يف الوقت نف�سه ت�ساعدنا
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
على التعامل مع �أنف�سنا ومع واقعنا ومع الآخر .فمعنى �أنه لي�س نهائي ًا �أي �أنه لي�س نهاية املطاف حيث ميكن جتاوزه ،ولكن النهائي هو الإن�سانية امل�شرتكة والقيم الأخالقية الإن�سانية. وقد ذكر الدكتور امل�سريي �أنواع ًا عديدة للتحيز� ،أظهر من خالل الأمثلة امللمو�سة املق�صود منها ،وكانت طريقته بحد ذاتها يف
�إن تو�ضيح نقائ�ص النموذج املعريف الغربي �ست�ساعدنا ح�سب ر�أي الدكتور امل�سريي على التحرر من قب�ضته املهيمنة، والتي جتعلنا ن�سري يف �أبحاثنا املعرفية على خطاه .فهو منوذج معريف معاد للإن�سان يتعامل معه باعتباره �شيئ ًا مادي ًا لي�س له �أي خ�صو�صية متيزه عن باقي الأ�شياء.
�شرح هذه الأنواع طريقة مبتكرة قائمة على عر�ض الأمثلة التي تقدم �شرح ًا واقعي ًا لهذه الأنواع ،فبينّ �أن هناك حتيّز ًا للحق وحتيّز ًا للباطل ،وهناك حتيّزا وا�ضحا واعي ٍا واع ،وهناك وحتيّزا م�سترتا كامنا غري ٍ حتيّزا حادا وقويا ،وحتيّز متو�سط القوّ ة �أو �ضعيفا ،وهناك حتيّزا داخل التحيّز، حيث يت ّم الرتكيز على �أفكار بعينها دون �سواها ،وهناك حتيّزا معاك�سا لهذا حيث يت ّم التحيّز لعدد من الأفكار تنتمي لأن�ساق معرفية خمتلفة ومتناق�ضة ويت ّم تبنيها كلها ،وهناك حتيّزا كليا و�آخر جزئيا، وهناك حتيّز لي�س له نظري يف احل�ضارات ال�سابقة ،وهو ما �أ�سماه امل�سريي "حتيّز واقعنا املادي �ضدّنا" ،والذي يفر�ض علينا �أمناط ًا من ال�سلوك تنا�سب املنظومة القيمية الغربية مثل ال�سرعة والكفاءة والتناف�س. اليات جتاوز التح ّيز: و�ضع الدكتور امل�سريي بع�ض الأ�سا�سيات التي ميكن من خاللها �أن نتجاوز التحيّز، وهذه الأ�سا�سيات ترتكز على عدة نقاط �أهمها: 1ـ �إدراك حتمية التحيّز و�ضرورة النقد الكلي: ف�إدراك حتمية التحيّز هو �أوىل اخلطوات لتجاوزه ،فالعقل الإن�ساين قا�صر ولكنه فعّال ،وهو يواجه الواقع املركب ويتفاعل معه ،فيبقي وي�ستبعد ويج ّرد وينفي وي�صحح وير ّكب وي�صوغ مناذجه املعرفية اخلا�صة التي يدرك العامل من خاللها .وهذا الإدراك حلتمية التحيّز ي�ساعدنا على فهم ال�سلوك الإن�ساين املرتكز على تلك النماذج
املعرفية التي ي�صوغها العقل الب�شري من خالل تفاعله مع الواقع. ونقد التحيّز يجب �أن ال يقف عند اجلانب التطبيقي فقط ،بل يجب �أن ين�صرف �إىل جممل البناء النظري الذي يفرز هذا التحيّز. 2ـ تو�ضيح نقائ�ص النموذج املعريف الغربي: �إن تو�ضيح نقائ�ص النموذج املعريف الغربي �ست�ساعدنا ح�سب ر�أي الدكتور امل�سريي على التحرر من قب�ضته املهيمنة، والتي جتعلنا ن�سري يف �أبحاثنا املعرفية على خطاه .فهو منوذج معريف معاد للإن�سان يتعامل معه باعتباره �شيئ ًا مادي ًا لي�س له �أي خ�صو�صية متيزه عن باقي الأ�شياء. هذا بالإ�ضافة �إىل ذلك الت�صور املغلوط عن قدرة الإن�سان على التحكم بالواقع، وتناق�ص رقعة املجهول مقابل ات�ساع رقعة املعلوم .وحماولة الو�صول �إىل م�ستويات عالية من التعميم ال تربرها املعرفة عند من قاموا بهذا التعميم ،وهذا ناجت �أ�سا�س ًا عن نظرتهم املادية للإن�سان. ويجب �أن ندر�س جوانب الق�صور التي ظهرت يف املجتمعات الغربية من خالل التطبيقات املختلفة لهذا النموذج ،وبالتاىل ندر�س الأزمات التي ظهرت ب�سبب تطبيقه، والتي تناولها كثري من املفكرين الغربيني، والتي �أفرزت كما و�صف الدكتور امل�سريي الفكر االحتجاجي �أو امل�ضاد ،والذي ينطوي على رف�ض للنماذج العلمية املادية العامة ،التي تهمل الكيف وما ال يُقا�س واملطلقات واخل�صو�صية. كما يجب درا�سة الظواهر ال�سلبية التي
�صاحبت احل�ضارة الغربية ،والتي ي�صنفها بع�ضهم على �أنها جمرد انحراف وهي يف احلقيقة �شيء �أ�سا�سي فيها ال جمرد ا�ستثناء ،كالنازية والإمربيالية وغريها... ويجب درا�سة املراجعات اجلديدة للتاريخ الغربي ،ولعلم النف�س وعلم اللغة والعلوم الطبيعية. 3ـ ن�سبية الغرب: �إن نقد احل�ضارة الغربية ال يهدف �إىل الف�ضح واالنتقا�ص ،ولكنه نقد بهدف الفهم واال�ستيعاب ،وعزل ما هو خا�ص غربي عما ي�صلح �أن يكون عام ًا وعاملي ًا ،وبهذا ن�ستعيد تبيان خ�صو�صيته وحمليته، فالغرب يجب �أن ي�صبح غربي ًا ال عاملي ًا ،لأنه جتربة ح�ضارية يوجد يف العامل جتارب ح�ضارية كثرية غريه. وللتخل�ص من الإح�سا�س مبركزية الغرب، ونزع �صفة العاملية عنه ،يجب �إدراك خ�صو�صية احل�ضارة الغربية والظروف التاريخية والثقافية التي �أفرزتها ،وكذلك م�صادرها وامل�ؤثرات التي �ساهمت يف ت�شكيلها. 4ـ االنفتاح على العامل: يجب التعرف على احل�ضارات الأخرى املنت�شرة يف العامل ،التي ّ مت جتاهلها على ح�ساب االهتمام باحل�ضارة الغربية فقط. كح�ضارة اليابان وح�ضارات �إفريقيا وغريها. هذا االنفتاح �سي�ؤدي �إىل �إ�صالح الت�شوه املعريف الذي �أ�صابنا ،واملتمثل برت�سيخ فكرة مركزية الغرب وعامليته .وبالتاىل ف�إن �إدراك التحيّز �سيحررنا من احلقائق املطلقة التي حجب عنا �إمياننا بها االنتباه لغريها ،كما �أن �إدراكنا للتحيّز �سيجعلنا منلك القدرة على النقد والفعلية وعدم تلقي املعارف ب�سلبية بل بوعي وتع ّقل. النموذج البديل: بعد �أن قدّم الدكتور امل�سريي نظريته يف فقه التحيّز قدّم ت�صور ًا عام ًا للنموذج املقرتح البديل ،الذي يجب �أن نتعامل من خالله يف مناهجنا البحثية بد ًال عن تلك املطلقات التي �أفرزها حتيزنا للنموذج املعريف الغربي. هذا البديل يقوم على �أ�س�س تراعي خ�صو�صيتنا احل�ضارية ،ومنطلقاتنا النظرية والعقدية ،وكذلك نظرتنا للكون
والإن�سان .فالنموذج املعريف البديل الذي يجب �أن ن�ستخدمه يف �أبحاثنا ودرا�ساتنا وحتليلنا للظواهر والأحداث ال بد من �أن يكون نابع ًا من تراثنا الذي هو جممل تاريخنا احل�ضاري يف هذه املنطقة ،وهو منوذج ح�ضاري �أ�سا�سه القر�آن وال�سنة اللذان يحويان القيم الإ�سالمية ،فالإ�سالم بالن�سبة للم�سلمني عقيدة وهو بالن�سبة لكل من يعي�ش يف هذه املنطقة النواة الأ�سا�سية للح�ضارة التي ينتمون اليها. وهذا ال يعني �أن نن�سخ حرفي ًا اجتهادات ال�سابقني من علمائنا ،ولكن يجب ا�ستخال�ص القواعد الكامنة يف �إبداعاتهم واجتهاداتهم ،وبالتاىل ا�ستخدامها والبناء عليها لقراءة الرتاث احل�ضاري لأمتنا. ويجب �أن نطمح للو�صول �إىل نظرية �شاملة نعرف م�سبق ًا �أنها لن تكون قادرة على تف�سري كل �شيء ب�شكل نهائي ،لأنها نظرية �شاملة ن�سبي ًا وهو ما مييز كل ما هو ممكن �إن�ساني ًا. �أمّا مالمح �أو �صفات هذا النموذج البديل فهو منوذج ينطلق من الإن�سان ،وهو غري مادي ،توليدي ال تراكمي ال يعتمد تلك النظرة ال�ضيقة التي تفرت�ض �أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر وكل الب�شر وك�أن هناك �أمة واحدة ومعرفة واحدة ،وهذا يتنافى مع العقل ومع التجربة الإن�سانية وتنوعنا الإن�ساين. �أمّا العلم البديل الذي �سينتجه هذا النموذج املعريف البديل فهو علم �إن�ساين ،ال يدعي الكمال ولكنه اجتهاد م�ستمر ،يدرك �أن عقل الإن�سان ال ميكنه الإحاطة بكل �شيء، فهو عقل حمدود ولكنه فعّال ،وهو علم ال يهدف للتحكم الكامل يف الواقع ،لأنه يعرف حمدودية الإمكانات الب�شرية ،ولن يدعو �إىل ت�صفية الثنائيات املوجودة يف الواقع لأن هذه الثنائيات هي انعكا�س لثنائية اخلالق واملخلوق والإن�سان والطبيعة. والعلم البديل �سينظر للظواهر يف �أبعادها املتكاملة دون االقت�صار على بعد واحد، ثم يتم بعد ذلك حتديد �أكرث الأبعاد فعالية وت�أثري ًا دون التقيد ب�أي م�سلمات م�سبقة. ومن الطبيعي �أن هذا العلم �سينتج عنه هيكل م�صطلحي جديد له مالحمه املميزة والتي هي امتداد ملالمح العلم البديل الذي �سينتجه منوذجنا املعريف البديل.
وقفة نقدية: بعد هذا العر�ض املوجز لنظرية التحيّز التي قدّمها الدكتور امل�سريي ،والتي نتج عنها جمموعة كبرية من الأبحاث والدرا�سات القيّمة ،التي قدمها جمموعة كبرية من الباحثني يف خمتلف املجاالت واملحاور� ،سواء يف الأدب �أم الفن والعمارة �أم العلوم الطبيعية �أم العلوم االجتماعية �أم يف علم النف�س والتعليم واالت�صال وغريها؛ �أورد بع�ض املالحظات التي ا�ستوقفتني �أثناء بحثي هذا: ـ التعريف الذي اعتمده الدكتور امل�سريي بالعودة للمعجم العربي والذي يعني كما قال" :االن�ضمام واملوافقة يف الر�أي وتبني ر�ؤية ما مما يعني رف�ض الآراء الأخرى" يدل ب�شكل �أويل على �أن هناك اختيارا جاء بعد معرفة واطالع ،فاملتحيّز تب ّنى �آراء فئة دون غريها بعد �أن اطلع على جمموعة الآراء الأخرى ث ّم اختار ما وجده �أقرب �إىل ال�صواب وفق وجهة نظره ،و�أرى �أن حتيّز الباحثني العرب للنموذج املعريف الغربي مل يكن بعد اختيار واختبار ومعرفة ،و�إمنا ب�سبب انبهار جعلهم ال يرون غريه .وعلى هذا �أرى �أن م�صطلح التحيّز ال يحمل الد ّقة الكافية .وعلى الرغم من ذلك �أوافق الدكتور امل�سريي يف �أن امل�صطلح �سيتحدد مدى نفعه مبدى تف�سرييته ال مبدى د ّقته �أو التزامه باملعايري املجردة( ،واحلديث هنا عن امل�صطلح الذي �سيتولد من ا�شتغالنا الفكري وفق منوذجنا املعريف البديل كما اقرتح الدكتور امل�سريي). ـ ومبا �أن م�صطلح "التحيّز" هو �أداة لر�صد املقوالت التحليلية التي حتدد م�سار البحث عند الباحثني العرب ،تلك املقوالت التي تتبنى النموذج املعريف الغربي وت�سري على خطاه ،وتعمل وفق منطلقاته وتوجهاته وم�سلماته ،ف�إنني �أرى �أنّ "فقه التحيّز" يجب �أن يبحث يف الأ�سباب التي �أدت بالباحثني العرب �إىل تبني النموذج املعريف الغربي دون �سواه ،هذا التبني الذي �أنتج هذا الكم الكبري واخلطري من الأفكار املغلوطة ،والتف�سري ال�سطحي للأحداث ،والتقييم ال�سلبي للنف�س والواقع ،ما �أوقع الفكر العربي بحالة ف�صام كما و�صف الدكتور غريغوار مر�شو
7
�إن نقد احل�ضارة الغربية ال يهدف �إىل الف�ضح واالنتقا�ص، ولكنه نقد بهدف الفهم واال�ستيعاب ،وعزل ما هو خا�ص غربي عما ي�صلح �أن يكون عام ًا وعاملي ًا ،وبهذا ن�ستعيد تبيان خ�صو�صيته وحمليته ،فالغرب يجب �أن ي�صبح غربي ًا ال عاملي ًا، لأنه جتربة ح�ضارية يوجد يف العامل جتارب ح�ضارية كثرية غريه.
يف كتابه. �إنّ بحثنا عن هذه الأ�سباب �سي�ساعدنا على جتاوز هذه التحيّزات ،والتعامل معها كحالة ت�ستدعي العالج ،و�أرى �أن مفهوم "اال�ستالب" الذي ا�ستخدمه املفكر حممد �شاوي�ش ي�صلح متام ًا لتف�سري هذه الأ�سباب وحتليلها ،وميكن للقارئ الكرمي �أن يرجع ملقاالت حممد �شاوي�ش حول املو�ضوع ،وكذلك ملقال "مفهوم اال�ستالب عند حممد �شاوي�ش ليتبني معنى هذا املفهوم و�أهم �أركانه .فالباحثون العرب وقعوا �ضحية ا�ستالبهم للغرب مما جعلهم يتبنون منوذجه املعريف بانبهار وت�سليم و�صل لدرجة النظر لهذه النماذج املعرفية والبحثية على �أنها م�س ّلمات وبديهيات ال جمال ملناق�شتها �أو تقييمها. ـ حتدّث الدكتور امل�سريي عن حتمية التحيز انطالق ًا من كونه من �صميم املعطى الإن�ساين ،ولكنه قال �إنه لي�س نهائيا ،بل
امل�سريي بكلية الآداب بالإ�سكندرية عام ..1962
ميكن جتاوزه ،و�إدراك حتميته هو �أوىل اخلطوات يف جتاوزه .وهنا مل �أفهم حقيقة كيف يكون التحيّز من �صميم املعطى الإن�ساين ث ّم ميكننا جتاوزه؟ ،وكيف ميكن �أن نقول �إنه لي�س بعيب �أو نقي�صة ثم ن�سعى من �أجل التخل�ص منه �أو يف الأقل احلد منه؟ و�أعتقد �أن ما هو من �صميم املعطى الإن�ساين ال ميكن جتاوزه �إال يف حالة جتاوزنا احلالة الإن�سانية نف�سها ،وهذا بالت�أكيد ما ال يقبله الدكتور امل�سريي نف�سه. و�إذا كان التحيّز لي�س نقي�صة فلماذا ندعو �إىل جتاوزه؟ وكم كنت �أمتنى �أن �أجد تف�سري ًا لهذا يف كتابات الدكتور �أو يف كتابات �أحد من طالبه الذين �سمعوا منه عن هذا و�شاركوه يف �أبحاثه اخلا�صة بالتحيّز، لأنني �أ�شعر �أن هناك تناق�ض ًا ال �أ�ستطيع التعامل معه ،هذا �إذا جتاوزت م�س�ألة �أخرى لها عالقة بتربير "الظلم املعريف" �إن �صح التعبري ،على اعتبار �أن الباحث الذي ينطلق من حتيزات م�سبقة لديه ،ويطرح �أفكار ًا تربر الظلم �أو متنهجه �أو تظهره على اعتباره نتيجة علمية ملنهج بحثي مو�ضوعي ،قد قدّم �أفكاره و�آراءه نتيجة ا�ستخدامه ملنهجه املعريف امل�ستند لتحيزاته التي هي من �صميم �إن�سانيته ،والتي هي لي�ست بعيب �أو نقي�صة. و�أعتقد �أن الدكتور امل�سريي تناول "التحيّز" على اعتباره حالة �إن�سانية تظهر كيف �أن العقل الإن�ساين يتفاعل مع الواقع ويت�أثر ويبدع ويوّ لد �أفكار ًا وبالتاىل يتبنى مواقف معينة نتيجة هذا التفاعل وهذا الت�أ ّثر والإبداع ،ويبدع مفرداته اخلا�صة للتعبري عن مواقفه تلك ،رغم �أنه �ص ّرح �أن "فقه التحيّز" و�ضع ك�أداة لدرا�سة التحيزات الغربية يف النماذج املعرفية والبحثية التي ي�ستخدمها الباحثون العرب ،والتي تنتج عن تبنيهم للقيم والنماذج املعرفية الغربية باعتبارها قيم ًا ومناذج عاملية مو�ضوعية حمايدة. ووفق وجهة نظري ف�إن العقل الب�شري �أي�ض ًا ي�ستطيع �أن يقيّم ويقوّ م ويراجع �أفكاره وا�ستخداماته لأنه ال يخ�ضع فقط ملعطيات الواقع و�أحداثه فيميل ملو�ضوعيتها الظاهرة ،ولكنه يخ�ضع �أي�ض ًا ملا ن�سميه "ال�ضمري" �أو "احل�س ال�سليم" الذي يجعله ي ّتبع ما يبدو له �أنه احلق حتى لو خالف بهذا ما يفر�ضه الواقع ومعطياته، وهو ما نراه عند مفكرين وباحثني عرب وغربيني مل يخ�ضعوا حلتمية التحيّز املفرت�ضة ،ومنهم الدكتور امل�سريي رحمه الله نف�سه ،ومعه تلك املجموعة من الباحثني العرب الذين حتدث عنهم الدكتور عندما �أخربنا كيف تبلورت �إ�شكالية التحيّز لتتحول �إىل اجتهاد لت�أ�سي�س علم جديد هو "فقه التحيّز" بعد �أن توقف العرب منذ زمن بعيد عن �إبداع علوم جديدة نابعة من واقعنا. خامتة: �إن "فقه التح ّيز" كما �أ ّكد الدكتور امل�سريي ال يهدف �إىل التقليل من القيمة الإن�سانية لإبداعات الإن�سان الغربي، وال �إىل حتميله م�س�ؤولية كل ما حدث لنا من م�صائب ،ولكنه يهدف �إىل ر�ؤية النموذج املعريف الغربي باعتباره �أحد الت�شكيالت احل�ضارية الإن�سانية ولي�س الت�شكيل الوحيد ،وبالتاىل �سيكون ب�إمكاننا التعامل معه دون قلق ،فال نقبله كله وال نرف�ضه كله بل ندر�سه كت�شكيل ح�ضاري �إن�ساين له �سلبيات و�إيجابيات، و�سيم ّكننا هذا من االنفتاح على الت�شكيالت احل�ضارية الأخرى ،ور�ؤية ت�شكيلنا احل�ضاري اخلا�ص بنا واحرتامه والعمل على املحافظة عليه حتى ن�ستمر ككيان متما�سك له هوية حمددة ال كق�شرة خارجية ال م�ضمون لها ح�سب و�صف الدكتور.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
8
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
في حضرة عبد الوهاب المسيري لن تعرف عبد الوهاب امل�سريي �إال �إذا اقرتبت منه ولن يغني عن معرفته �أن تقر�أ ما كتبه �أو ما كتب عنه، �ستعجبك كتاباته ال �شك و�ست�أ�سرك قدراته الفكرية ونظراته الفل�سفية وقدراته التف�سريية اال�سثتنائية، لكن لن تكتمل بل رمبا لن تبد�أ معرفتك به �إال حني تقرتب من عامله وتدخل يف ح�ضرته �ساعتها فقط �ستعرفه وعليك �أن متلك القدرة على �أال ت�صبح من جماذيبه.
ح�سام متام
�أول ما عرفت امل�سريي يف عام 1997ومل �أزل حديث عهد بالقاهرة ،كان احلديث عن مو�سوعته املعروفة " اليهود واليهودية وال�صهيونية" ميلأ الدنيا وي�شغل النا�س، مل �أجد يف نف�سي ميال لأن �أدخل يف زمرة املهللني للمو�سوعة وملا تزل معرفتي بها وب�صاحبها حمدودة ،وزادين زهدا �أنني وجدت معظم املطبلني واملزمرين لها من حمرتيف الن�صب الثقايف وكذابي الزفة،فتملكني �شعور ب�أن هناك �شيئا زائفا يف الأمر ،ومل �أكن �أعرف ما هو. ا�ست�ضفت الرجل يف ندوة عن املو�سوعة �أدرتها وقدمته فيها ،ورغم ذلك مل �أجد نف�سي مرتاحا لالن�ضمام جلوقة املو�سوعة...اتهمت نف�سي باالنطباعية والت�سرع يف احلكم على النا�س ،فتحاملت على نف�سي وانح�شرت يف �أحدى فرق اجلوقة التي يبدو �أنها كانت يف ات�ساع و�أنه ال عمل لبع�ضها يف الدنيا �إال الطبل والزمر وزرت الرجل ف�أعماين عن ر�ؤيته �صخب و�ضجيج جمموعة من امللتفني به واملتدثرين بردائه من غري وجه حق ،كلهم يدعي التلمذة له والعمل معه بل وال�صداقة يف حني �أن بع�ضهم جمرد ل�صو�ص �أفكار ومن حمرتيف ال�شق�شقة والرطانة التي تخيم علينا فنظنهم م�شاريع مفكرين وهم لي�سوا �سوي خ�ضراء دمن ( قيل وما خ�ضراء الدمن يا ر�سول الله ؟ قال املر�أة احل�سناء يف املنبت ال�سوء ). �أزعجني كثريا �أن �أرى �أن�صاف مثقفني يتجر�أون على االدعاء جهارا نهارا ب�أنهم تالميذ املفكر املو�سوعي عبد الوهاب امل�سريي بل و�شركا�ؤه يف املو�سوعة، و�أزعجني �أكرث �أن الرجل ال ينكر عليهم ذلك، فكل يدعي و�صال بليلى ولكنها هذه املرة ال تنكر هذا الو�صل بل تقر لهم به ،اغتظت من الرجل كثريا وهو مينح بع�ضهم جوازات مرور يف �أمور وق�ضايا وحتاملت على الرجل وغاب عن ب�صريتي مربرات الرجل ودوافعه...ويف حتاملي غاب عني الكثري وكان �أق�صى ما و�صلني من الرجل بع�ض �أفكاره ومنوذجه التف�سريي يف فهم امل�سالة اليهودية ثم امل�سالة العلمانية.
*** وحده ال�صديق والأ�ستاذ �أ�سامة القفا�ش الذي فتح يل باب عبد الوهاب امل�سريي وا�سعا ،وكانت هذه واحدة من �أف�ضاله الكثرية قبل �أن تفرق بيننا ال�سبل .كان �أ�سامة القفا�ش يري �أن م�صر بل والعامل العربي لي�س فيه مفكر ي�ستحق و�صف املفكر �سوى عبد الوهاب امل�سريي ،و�أنه ال يجوز �أن نطلق على غري امل�سريي هذا اللقب� ،أما غريه فهم مفكرون باملعنى الفالحي ،واملفكر باملعنى الفالحي هو الذي �أ�صابه الفكر!! �أ�صر �أ�سامة على �أن يعرفني بامل�سريي وفكره وعطائه � ،أعارين ورمبا اهداين كثريا مما كتبه الرجل �أو كتب عنه بجد ولي�س طبال وزمرا ،و�أ�صر على �أن يهديني ن�سخة من �سريته الفكرية لتي �صدرت عن هيئة ق�صور الثقافة ،و�أن تكون ن�سخة �شخ�صية من امل�سريي بذاته ،كنا نق�ضي بال�ساعات الطوال نتناق�ش يف عامل امل�سريي، كان �أ�سامة �أقرب تالميذه له و�أكرثهم �إدراكا لأهميته وا�ستثنائيته ،بل و�أقدرهم على فهم �أفكاره بل وتطويرها ،ولوال �أن الأمور جتري مبقادير لكان القفا�ش االمتداد الطبيعي لعبد الوهاب امل�سريي �أو �شارحه الأكرب يف الأقل. جنح �أ�سامة يف �أن ي�ضعني على عتبات عامل امل�سريي ،وجنح �آخرون يف �أن مينعوين من ان �ألج فيه ترفعا عن ان �أح�شر نف�سي يف زمرة املدعني والراغبني يف العي�ش على وهم التلمذة لهذا الرجل املحرتم...فحافظت على عالقة بالرجل و�أفكاره تبعدين عما �أكره وال متنع عني بع�ضا من فيو�ضاته...حتى قدر الله يل بالفتح من عنده. *** كان الزمان يف مار�س من عام 2005حني تلقيت دعوة كرمية من منتدى احلكمة للباحثني واملفكرين يف الرباط للم�شاركة يف الندوة الدولية التي ينظمها ملناق�شة " �إ�شكالية العالقة بني الفكري وال�سيا�سي" ،ويف املطار كان من �أقدار الله الطيبة �أن �أكون ب�صحبة عاملني جليلني جاءت الرحلة يل اكت�شافا لهما كما تعيد العني ر�ؤية
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
النور بعدما كانت تنكره من رمد ،فالتقيت بالدكتور �سيف الدين عبد الفتاح �أ�ستاذ النظرية ال�سيا�سية بكلية العلوم ال�سيا�سية والعامل اجلليل الذي ظلمته �صعوبة �أ�سلوبه يف الكتابة واحرتامه الكبري لنف�سه – ورمبا كانت يل معه عودة -و�أ�ستاذنا املفكر عبد الوهاب امل�سريي والقا�سم بني الرجلني غري العلم والعبقرية واخللق الرفيع هو �أنني تعرفت عليهما بعد التبا�س و�سوء فهم. و�أ�ستطيع القول من دون �أي مبالغة �أن �سبعة ايام يف �صحبة عبد الوهاب امل�سريي غريت كثريا لي�س من نظرتي له فح�سب ،بل
ومن نظرتي للحياة عموما ،يف البداية كنت �صريحا مع الرجل حد الفجاجة ف�أخربته ب�أ�سباب زهدي يف زيارته والتقرب منه، وحكيت له عما بداخلة نف�سي جتاهه، كان ذلك ومل نزل يف قاعة االنتظار مبطار القاهرة ،مل يعقب الرجل وبل جتاوز الأمر وت�ضاحكنا وتناق�شنا يف �أمور كثرية وحكايات وطرف ومواقف حتى بدا وك�أننا �أ�صدقاء ومعارف من ع�شرات ال�سنني.. ون�سيت نف�سي يف غمرة هذه الدفقة الهائلة من الب�ساطة وال�صدق والإن�سانية التي رفعت بيننا حواجز كانت �ستم�ضي بالرحلة
الدكتور امل�سريي �أثناء عمله مبكتبه..
يف وترية واحدة :احرتام وتقدير ومعاملة تليق بعامل مثله. *** ويف املغرب ت�أكد يل �صدق من قال " ال كرامة لنبي يف �أهله" ملا وجدته من حفاوة وتقدير للرجل يفوق الو�صف ،ففي الدار البي�ضاء كان يف ا�ستقباله تالمذته ومريدوه على مائدة غداء جمعت لفيفا من �أرقى الأكادمييني وال�سيا�سيني واملثقفني وكان قد �سبقنا اليها املفكر الفل�سطيني الرائع منري �شفيق ،واجلميع يف ح�ضرة امل�سريي ين�صتون �أكرث مما يتكلمون ،على غري تالمذته امل�صريني الذين ن�صبوا �أنف�سهم متحدثني با�سمه وهو مل يزل بينهم ،حتى منري �شفيق املفكر االملعي واملتحدث البليغ ي�صر على �أنه يف�ضل �أن ي�سمع للم�سريي. الباحث واملنا�ضل الفل�سطيني �سعيد خالد احل�سن �أ�ستاذ العلوم ال�سيا�سية بجامعة حممد اخلام�س ي�صر على �أجازة كاملة من كل �أعماله وحياته حتى العائلية للتفرغ متاما للرجل ،وع�شرات املحبني واملريدين يتناف�سون على خدمته ويكادون ي�ستهمون على من ينال �شرف �صحبته يف الرحلة اىل مدينة وجدة – مكان الندوة -على حدود اجلزائر . الت�أم ال�شمل وكان يل �شرف �صحبة الثالثي عبد الوهاب امل�سريي ومنري �شفيق و�سيف الدين عبد الفتاح يف رحلة ا�ستمرت �أ�سبوعا ما بني وجدة والدار البي�ضاء والرباط، وهالني هذا اال�ستقبال الأ�سطوري الذي كان يف انتظار الرجل بد�أ من املطار املحلي وحتى قاعة املحا�ضرات التي احت�شد فيها مئات الطالب والباحثني يتقدمهم قيادات اجلامعة و�أع�ضاء املجل�س العلمي وقيادات املدينة ،امتلأ املدرج عن �آخره فانتقل احل�ضور ملدرج �ضاق بهم هو االخر ومل ت�سعفهم الدوائر التليفزيونية ،وكان من امل�ستحيل على من يرى امل�شهد �أن يت�صور �أن احل�ضور جاءوا لندوة فكرية بحتة (عنوانها :علمنة ال�سيا�سة) ولي�س للقاء مع جنم �سينمائي �أو العب كرة م�شهور �أو حتى زعيم �سيا�سي.
يف املغرب تعرفت على امل�سريي الإن�سان املت�صالح مع نف�سه الذي يعرف �ضعفه الإن�ساين ويتعاي�ش معه وال ينكره �أو يداريه؛ امل�سريي الذي ال يداري حبه للأ�شياء الب�سيطة �أو التافهة �أحيانا – عفوا -وولعه بها ،والذي يفا�صل يف الأ�سعار عند ال�شراء ونحن يف ال�سوق ويتحايل على مكر وج�شع التاجر املغاىل في�ستعطفه ب�أنه قد يالقي العقاب من زوجته �إذا ما مل يح�صل على هذه الهدايا باملبلغ الذي ال ميلك غريه،
�شعرت باخلجل حني قارنت بني عدد احل�ضور ومثيله يف ندوات حا�ضر فيها الرجل يف القاهرة بلد الع�شرين مليون ن�سمة ولي�ست مدينة وجدة التي يقطع لها امل�سافر ع�شر �ساعات �سفر من العا�صمة ،و�أخجلني �أكرث �أن الطلبة – ف�ضال عن الباحثني -كانوا يناق�شونه يف �أدق �أفكاره وي�س�ألونه عما كان يق�صده يف �صفحة كذا من كتابه كذا.. وبدا �أن معظمهم قر�أ كل ما كتبه امل�سريي .كل ما كتبه! وتفاعل معه وجاء لي�س�أل فيه ودون مت�سح وادعاء �صلة غري �صحيحة �أو ارتداء لعباءة مل تكن له..وحني انتهت حما�ضرته كان املئات وخا�صة من الطالبات – وال �أعرف �سر تعلق الن�ساء والفتيات به -يحت�شدون حوله لل�سالم عليه والتقاط ال�صور معه ،وكانت املرة الأوىل التي �أ�شهد ا�ستقباال جماهرييا ملفكر! بقينا يومني يف وجدة فلم �أجد حفاوة مبفكر كتلك التي قوبل بها امل�سريي ،علم البا�شا – واىل املدينة – بقدومه ف�أومل على �شرفه بوليمة مغربية غاية يف كرم الوفادة وا�ستقبلنا يف ق�صره ا�ستقبال امللوك ،و�أومل رئي�س املجل�س العلمي للمدينة ال�شيخ م�صطفي بن حمزة على �شرفه يف �أحد الق�صور العريقة ،وتنازع النا�س – كربا�ؤهم وب�سطا�ؤهم �-شرف االحتفاء به ب�صدق و�إ�صرار غريبني ،حتى تعب الرجل من كرثة �إحلاح النا�س و�إقبالهم عليه ،دخلنا �إحدى ال�صيدليات ن�شرتي له دواءا فما كادت الطبيبة تراه حتى �صرخت ذاهلة: معقول!!..الدكتور عبد الوهاب امل�سريي عندنا ..ياللكرامة والنور!! و�أق�سمت علينا �أننا �ضيوفها والبد من �أن نتناول عندهم الع�شاء كرامة لقدوم الويل ال�صالح عبد الوهاب امل�سريي..وبعد الأميان املغلظة اكتفت ب�أال ت�أخذ مقابال عن الدواء من �ضيف املغرب املفكر والعامل امل�سريي ،وطلبت منه فقط �أن يبلغ ال�سالم جلدها الأمري املجاهد عبد الكرمي اخلطابي بطل الريف املغربي املدفون يف م�صر...وقد مازحته �سائال عما �إذا دخل ال�صيدلية املجاورة لبيته يف م�صر اجلديدة فتمنى �ضاحكا لو تعرف عليه �صاحبها ولكان هذا يكفيه! ..وحني غادر امل�سريي اىل مطار وجدة يف طريقه للرباط �أ�صر ال�شيخ بن حمزة الرجل املبارك �صاحب االعمال اجلليلة والآيادي البي�ض يف املدينة على �أن يقوم بتو�صيله بنف�سه اىل املطار وهناك فتحت �أبواب املطار وحواجزه للم�سريي حتى �أبواب الطائرة من دون الإجراءات املتبعة وكان الع�سكر يرفعون �أيديهم بالتحية كما لو كانوا يف وداع زعيم �سيا�سي !
9
*** ويف الرباط كنا ن�ضطر اىل �إخفاء الرجل حر�صا على عدم �إرهاقه بكرثة �ضيوفه الذين ازدحم بهم جدول الزيارة ،وق�صرنا اجلدول على بع�ض املقابالت �أغلبها مع مفكرين وباحثني كان من �أجملها والطفها مقابلته مع الفيل�سوف املغربي العظيم طه عبد الرحمن رئي�س منتدى احلكمة للمفكرين والباحثني، وقد كان لقاء الكبار الذين ال يجوز لك يف ح�ضرتهم �إال اال�ستماع واملراقبة ،وحني زرنا دار الأمان �أ�شهر مكتبات املغرب فوجئت ب�أن امل�سريي هو �أكرث املفكرين الذي تباع كتبهم باملغرب ،التف حوله اجلمهور ي�شرتون كتبه ليوقعها لهم بنف�سه ،وهو م�شهد �أزعم �أنه رمبا مل ي�سبق حدوثه يف بلده م�صر ! بقينا مع امل�سريي ؛ الدكتور �سيف و�أنا بقية الأ�سبوع يف فيال على �شاطيء الأطل�سي، ن�أكل ون�شرب ونتحدث ونتجول معا وال نفرتق �إال �ساعة النوم ،فكانت �أجمل فر�صة يف حياتي اكت�شفت فيها عبد الوهاب امل�سريي :املفكر والإن�سان..القادر على �إ�شاعة البهجة وال�سعادة يف نفو�س كل من حوله ،والقادر على �أن ي�صنع لنف�سه دروبا وطرقا اىل �أعمق ما يف النف�س الإن�سانية بب�ساطته ورحابة �صدره ،والذي يتفهم ال�ضعف الإن�ساين فيمن حوله ويقبلهم على عالتهم و�ضعفهم ويظل با�شا لهم متقبال لهم دون �أن يجرح م�شاعرهم �أو يك�سرهم بو�ضعهم يف �أحجامهم احلقيقية..تعرفت على امل�سريي الذي ال ين�شر كتابا �إال بعد �أن يقدمه مبقدمة ي�شكر فيها كل من عاونه �أو �ساعده �أو قدم له خدمة ولو كانت �صف كتابته على الكمبيوتر �أو مراجعتها لغويا �أو �شراء ورق و�أقالم الكتابة رمبا! وهو ي�شكر اجلميع ويحتفي بهم باعتبارهم �شركاءه يف هذا العمل دومنا قلق �أو غ�ضب من �أن ي�ستغله �أحدهم �أو مي�شي ب�سببه كالقط يحكي انتفاخا �صولة الأ�سد! *** يف املغرب تعرفت على امل�سريي الإن�سان املت�صالح مع نف�سه الذي يعرف �ضعفه الإن�ساين ويتعاي�ش معه وال ينكره �أو يداريه؛ امل�سريي الذي ال يداري حبه للأ�شياء الب�سيطة �أو التافهة �أحيانا – عفوا -وولعه بها ،والذي يفا�صل يف الأ�سعار عند ال�شراء ونحن يف ال�سوق ويتحايل على مكر وج�شع التاجر املغاىل في�ستعطفه ب�أنه قد يالقي العقاب من زوجته �إذا ما مل يح�صل على هذه الهدايا باملبلغ الذي ال ميلك غريه ،امل�سريي الذي حول ع�شاءنا يف �أحد املطاعم ال�شامية بالرباط اىل �أحلى جل�سة فكاهة ومرح عرفتها بنكاته غري املتكلفة �أو املتحفظة وقدرته الرهيبة على احلكي والتقم�ص من دون ادعاء وقار �أو ت�صنع ح�شمة ،امل�سريي الإن�سان اخلاىل من العقد النف�سية وادعاء التطهر والذي يكتب حملال ومف�سرا لظاهرة الفيديو كليب دون �أن مينعه الوقار من �أن يقر ب�أنه ق�ضي ال�ساعات الطوال يف م�شاهدة ور�صد عوامل الرق�ص من لدن �سعاد ح�سني حتى روبي ونان�سي عجرم ،ومل يدع لنف�سه ورعا لي�س له ومل يردد يف املو�ضوع وعظيات الآخرين! بعيدا عن م�صر عرفت على امل�سريي الذي يويل م�شاعر الآخرين عناية بالغة فيف�سح لهم يف املجل�س ويقدر لهم ر�أيهم ،ويجيد اال�ستماع اىل الآخرين خا�صة من ال�شباب، بل ويهتم بهم اهتماما حقيقيا و�إن�سانيا يتجاوز االدعاء و�إبراء الذمة ،فرتاه يبحث لهذا عن وظيفة وذلك عن عالج ويتدخل لي�ساعد �أحد طالبه على الزواج ،ويخرتع لآخر وظيفة وهمية كم�ساعد له دومنا حاجة حقيقية �إال الرغبة يف مد يد العون له و�إ�شعاره ب�أن له �أهمية يف احلياة..امل�سريي هو �شخ�ص ا�ستطاع �أن يتخل�ص من عقد و�أمرا�ض كثرية يعانيها كتاب ومفكرون �أ�صابتهم لعنة الت�أله ،و�سيطر عليهم �إح�سا�س ب�أن الله مل يخلق الدنيا �إال لهم و�أن خلق الله كلهم ما عليهم �إال الطواف حولهم. http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
10
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
عبد الوهاب المسيري
ناقدا ادبيا
�سئل الدكتور عبد الوهاب امل�سريي عن مغزى اجتاهه يف بداية حياته الفكرية �إىل الدرا�سة الأدبية وحتوله فيما بعد �إىل جمال الدرا�سات الفكرية وال�سيا�سية ،وما �إذا كان هذا ي�أئ�سا من الأدب بو�صفه "ق�ضية خا�سرة" ،فقال" :التخ�ص�ص الأدبي ال يزال هو �أكثـر التخ�ص�صات يف العلوم الإن�سانية اقرتابا من الظاهرة الإن�سانية ،كما �أن الأدب ال يزال ي�ؤثر يف حياة النا�س� .أال تزال املاليني تقر�أ �أعمال جنيب حمفوظ وحممود دروي�ش؟ وعلى ٍّ كل� ،أنا مل �أهجر الأدب متام ًا� ،إذ �أ�سميه حبي الأول فلي درا�سات متفرقة يف الأدب ،فكتابي عن احل�ضارة الأمريكية ي�ضم درا�سات �أدبية .كما �أنني قمت برتجمة بع�ض الأعمال الأدبية الفل�سطينية -الق�ص�ص الق�صرية والأ�شعار – اىل الإجنليزية ،كما نقلت الق�صائد الرومانتيكية الإجنليزية الأ�سا�سية اىل العربية وكتبت تعليقا على كل ن�ص(.")1 وهو ي�شري بالتحديد �إىل كتابيه" :درا�سات يف ال�شعر( ")2و"يف الأدب والفكر( ")3بو�صفهما �أهم كتاباته النقدية ،وي�ضمان عددا كبريا من درا�ساته الأدبية التي ن�شرها ب�شكل يدر�س فيها الأدب الإجنليزي. متفرق عرب الثالثني عاما املا�ضية ،كما �أنه كان ينوي كتابة تاريخ لل�شعر الإجنليزي ا�ستنادا اىل املحا�ضرات التي كان يلقيها عرب ثالثني عاما ،كان ّ وقد �سلطت الأ�ضواء دائما على العطاء الفكري للدكتور عبد الوهاب امل�سريي يف حقل درا�سات الظاهرة ال�صهيونية وكان �صدور مو�سوعته" :اليهود واليهودية وال�صهيونية" تكري�سا لهذا امللمح الذي طغى على بقية مالمح �شخ�صية عبد الوهاب امل�سريي.
ممدوح ال�شيخ
�أول �صورة التقطت للدكتور عبد الوهاب امل�سريي (الثاين من اليمني) وعمره ثالث �سنوات عام ..1941 http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
ويذهب الناقد م�صطفى عبد الغني �إىل �أن العامل الإن�ساين �أو "امل�شرتك الإن�ساين" هو مفتاح العامل النقدي للم�سريي ،وهو عامل ت�ش َّكل مبكرا جدا منذ كان طالبا بكلية الآداب بجامعة الإ�سكندرية ،فقد ا�ستطاع ال�شعر معان الرومان�سي الإجنليزي الو�صول �إىل ٍ �إن�سانية عميقة عرب لغة ب�سيطة .ويف مرحلة تالية جنحت �أعمال كتاب مثل :وليم �شك�سبري وت� .إ�س .اليوت وغريهما �أن تعينه على بلورة ر�ؤية نقدية �أكرث ن�ضجا وتركيبا ،وكان جملة ما تو�صل اليه عبد الوهاب امل�سريي وبعد التعمق يف �أعمال الكتاب القدماء مثل� :إي�سخلو�س و�سوفوكلي�س وفريجيل وهورا�س� ،أن �أدرك وجود ما ميكن ت�سميته "الثوابت الإن�سانية"� ،أي املطلق الإن�ساين الذي ي�شرتك فيه بنو الب�شر جميعا ،و�شكلت هذه الفكرة نقطة مرجعية مطلقة(.)4 ويف العام 1964كتب امل�سريي ر�سالته للماج�ستري عن "�أهمية ترجمة ال�شعر الرومانتيكي الإجنليزي للعربية" ثم ما لبث �أن ح�صل على درجة �أكادميية ثانية من جامعة كولومبيا بعنوان�" :أثر التقاليد الرومانتيكية يف �شعر �إبراهيم ناجي" ،ثم ح�صل عام 1969 على درجة الدكتوراه من جامعة رجترز، وكان عنوان �أطروحته" :الأعمال النقدية لويليام وردزورث وولت ويتمان :درا�سة يف الوجدان التاريخي والوجدان املعادي للتاريخ" .وينقل الناقد م�صطفى عبد الغني عن كتاب للدكتور امل�سريي مل ين�شر حتى الآن عنوانه" :من املذهب الإن�ساين �إىل ما بعد احلداثة :ر�ؤية من خالل ال�سرية الذاتية" يروي فيه جوانب من حياته يف الواليات املتحدة الأمريكية ،يقول فيه امل�سريي عن نف�سه" :ومت�ضي بنا رحلة ال�شاب من دمنهور �إىل جامعة كولومبيا للح�صول على درجة املاج�ستري يف الآداب ثم �إىل جامعة رجترز للح�صول على درجة الدكتوراه .ويف جامعة كولومبيا قام بالتدري�س له �أ�ساتذة �أمثال: ليونيل تريلنج وبازل ويلي ومارتن دوبي وكارل وودرجن ،وقد كان لكل منهم خطابه ولغته النقدية ونظرته اخلا�صة� ،إال �أنه يف و�سط هذا اخل�ضم من النقا�ش واالختالف كان اجلميع يلتقون يف نقطة مرجعية م�شرتكة هي "الثوابت الإن�سانية" .ومل تكن احلال يف جامعة رجترز تختلف كثريا عن ذلك فقد كانت هناك �شبه معركة بني احلر�س القدمي الداعي �إىل املذهب التاريخي لتناول الأدب وبني احلر�س اجلديد �أو "�أوالد هارفارد" كما كان يطلق عليهم الداعني �إىل تبني "املذهب ال�شكالين .. .. ..وقد كنت �أفتخر ب�أن الأدب هو املجال الوحيد الذي مل يفقد االت�صال �أبدا بـ "الثوابت الإن�سانية" فاملجاالت الأخرى قد تعرب عن الوجود الإن�ساين من خالل �أ�شكال تو�ضيحية جمردة �أو منحنيات بيانية �أو معادالت ريا�ضية� ،إال �أنه ال ميكن �إدراك ال�صورة املتعينة للإن�سان يف �أفراحه و�أتراحه من خالل هذه الأ�شكال �أو املنحنيات �أو املعادالت ،ولعل ذلك هو �سر متيز الأدب، ف�صورة الإن�سان املتعينة هي عموده الفقري(")5 وتت�سم كتابات امل�سريي النقدية بدرجة مده�شة من التنوع والرثاء �إذ كتب عن �شعر املقاومة الفل�سطينية وكتب نقدا لعدد من
الروايات مثل" :ال�سيد من حقل ال�سبانخ" ل�صربي مو�سى وهي رواية تنتمي �إىل �أدب اخليال العلمي ،وكتب كذلك عن �شعر بدر توفيق وغازي الق�صيبي وعن ق�ص�ص ق�صرية للطيب �صالح وعبد ال�سالم العجيلي وتوما اخلوري ،و�آخرين .وعلى اجلانب الآخر قدم عبد الوهاب امل�سريي للقارئ العربي عددا من ال�شعراء الإجنليز من ت�شو�سر �إىل هاردي مرورا بال�شعراء الرومانتيكيني والفيكتوريني �أمثال :وليم بليك وودذورث وكيت�س و�شيلي، ثم �ألفريد لورد تني�سون وماتيو �أرنولد وروبرت براوننج ووالت ويتمان .وكتب عن احلداثة وما بعد احلداثة ،وعن الت�شي�ؤ وعن الأنثوية ،وكتب عن �شعر الهايكو وامل�سرح الياباين ،كما ترجم م�سرحيات وق�صائد(.)6 ومن النتاج النقدي للم�سريي بالإجنليزية كتابات عن" :الت�شي�ؤ واحلداثة وما بعد احلداثة" ،و"ديالكتيك الإن�سان والطبيعة" والبنى الأخالقية يف �أعمال الروائيني الأمريكيني :ملفيل وثورو ،كما كتب عن البنيوية والتفكيكية ،وكتب عن "�شعر املقاومة الفل�سطيني" وعن �أبي حيان التوحيدي وعن �صالح جاهني(.)7 ويرى عبد الوهاب امل�سريي �أن الناقد الأدبي يواجه ثنائية �أ�سا�سية هي ثنائية الواقع املو�ضوعي يف مقابل الواقع الأدبي (الذاتي)، �أي الواقع كما ي�صوره الأديب .ف�أي ن�ص �أدبي له حدوده امل�ستقلة عن الواقع ،فهو ينتمي �إىل عامل الأدب قدر انتمائه لعامل الواقع .فر�ؤية الأديب ال تخ�ضع لقوانني الواقع وح�سب، و�إمنا تخ�ضع ،وبالدرجة الأوىل ،لقوانني الأدب وتقاليده .بل �إن الأديب ي�ضطر �أحيانا �إىل �أن يحوّ ر تفا�صيل الواقع اخلارجي التي ترد يف عمله .ولذا حني ندر�س �أي ن�ص �أدبي البد من �أن نفرت�ض انف�صاله عن الواقع، وننظر اليه باعتباره جمموعة من العالقات املتداخلة داخل حدوده الأدبية .وهذا ما عمّق �إح�سا�س امل�سريي بالثنائية يف العامل ،وقد �أ�صبحت من املفاهيم التحليلية الأ�سا�سية يف منهجه البحثي .وي�ضيف امل�سريي �أننا يف الدرا�سة الأدبية نحاول البحث عن املو�ضوع الأ�سا�سي الكامن الذي ي�ضفي على العمل الوحدة وي�ش ّكل معناه الأ�سا�سي .وقد قاده هذا الكت�شاف النموذج كالية �أ�سا�سية لتحليل الن�صو�ص والظواهر(.)8 ومثل هذه النظرة – والكالم للم�سريي – رغم �أهميتها و�ضرورتها لي�ست كافية. فالن�ص الأدبي ،يف نهاية الأمر تعبري عن واقع �إن�ساين ،ورغم �أنه تعبري غري مبا�شر، �إال �أنه لي�س ن�ص ًا جمردا مغلقا ،معلقا يف الهواء ،و�إمنا هو ن�ص متعني ،جذوره يف الواقع ،يوجد يف عدة �سياقات .فهو �أو ًال يوجد داخل �سياق �أدبي يتكون من كل �أعمال الأديب ومن كل الن�صو�ص الأدبية ال�سابقة والالحقة التي ُكتبت باللغة نف�سها .وفهمنا لن�ص �أدبي ما ال ميكن �أن يكتمل دون معرفة و�إدراك كاملني لهذا ال�سياق ،فمن خالله ميكننا حتديد توقعاتنا بالن�سبة للن�ص ،ومعرفة بع�ض التقاليد الأدبية التي تتحكم فيه .كما �أن الن�ص الأدبي يوجد داخل �سياق ح�ضاري وتاريخي واجتماعي �أي�ض ًا ،وكلها �سياقات متداخلة ت�ؤثر على العمل الأدبي وترتجم نف�سها �إىل عنا�صر �أدبية .وميكننا �أن ندر�س ن�ص ًا �أدبيًّا ما داخل هذه ال�سياقات� ،أو ندر�سه داخل �إحداها وح�سب ،ح�سبما متليه طبيعة الدرا�سة والهدف منها .كما �أن حياة الأديب من ناحية انتمائه الطبقي واالجتماعي، والبيئة اجلغرافية التي يعي�ش فيها ،وتركيبته النف�سية البد و�أنها ت�ؤثر ،و�أحيانا ب�شكل عميق ،على م�ضمون العمل الأدبي وبنيته. ولكن العمل الأدبي مع هذا لي�س جمرد وثيقة فكرية �أو اجتماعية ذات م�ضمون فكري �أو اجتماعي عام وجمرد ،و�إمنا هو بناء له حدوده امل�ستقلة ومنطقه اخلا�ص وقوانينه املحددة و�شكله وبنيته ولغته .وهو بناء يوجد يف ال�سياق الفكري �أو االجتماعي يت�أثر
به ،وي�ؤثر فيه يف الوقت ذاته ،ولكنه يتخطاه وي�ستقل عنه(.)9 ويرى الدكتور عبد الوهاب امل�سريي �أن الناقد حينما يعود �إىل الدرا�سات االجتماعية والتاريخية للفرتة التي يعاجلها الن�ص و�إىل املعلومات اخلا�صة بحياة امل�ؤلف ف�إنه ميكنه �أن يف�سر بع�ض التفا�صيل التي قد يكون من الع�سري تف�سريها �إذا ما بقي الناقد داخل العمل وح�سب .كل هذا يعني �أننا نرى �أن ثنائية الواقع الأدبي يف مقابل الواقع املو�ضوعي ،ثنائية ف�ضفا�ضة تفاعلية �إذ ميكننا �أن نعمق ر�ؤيتنا للواقع املو�ضوعي من
خالل درا�ستنا للواقع كما �صوره الأديب ،كما �أنه ميكننا �أن نعمق ر�ؤيتنا للعمل الأدبي من خالل درا�سة �سياقه االجتماعي واالقت�صادي والتاريخي(.)10 وعن العالقة بني ال�شكل وامل�ضمون يف الدرا�سات النقدية يقول امل�سريي �إن ا�ستخدام ال�صورة املجازية الع�ضوية لو�صف عمليتي الإدراك والتف�سري غري مفيد باملرة من الناحية التحليلية .وعادة ما يقال �إن الوحدة الفنية وحدة ع�ضوية وال ميكن ف�صل ال�شكل عن امل�ضمون .ولكن هذا بال�ضبط ما يفعله معظم النقاد (على الأقل حتى �أواخر ال�ستينيات)
مع زوجته يف كمربدج عام ..1990
11
حني يقومون بالعملية النقدية ذاتها .ونحن حني ن�ستجيب للعمل الأدبي �أو العمل الفني، و�ضمن ذلك املو�سيقى ،ك�شكل منف�صل عن امل�ضمون ،وحتى حينما منار�س ال�شكل باعتباره م�ضمونا ،وامل�ضمون باعتباره �شكال ،ف�إننا يف املرحلة التحليلية نف�صل الواحد عن الآخر .ونحن حني نقر�أ العمل الفني �أو ن�سمعه �أو ن�شاهده ،فنحن ال نفعل ذلك يف حلظة واحدة ،و�إمنا يف حلظات متتالية� ،إذ �إنه يتحرك يف الزمان ،فكل ما هو �إن�ساين يوجد داخل الزمان .ومع هذا بعد �أن نقر�أ العمل الفني �أو ن�شاهده نحاول �أن نتخيله يف كليته ،ونراه كلحظة واحدة خارج الزمان ،بدال من حلظات متعاقبة داخل الزمان .ثمة توتر بني التزامن والتعاقب، لهذا �أرى �أن من املفيد للغاية ا�ستعادة مقولتي ال�شكل وامل�ضمون كمقولتني حتليليتني� ،إن مل يكن �أي�ضا ،كمقوالت �أنطولوجية وجودية. وهما مقولتان مت�صلتان منف�صلتان ،تربطهما وحدة ف�ضفا�ضة تفاعلية ،فال�شكل ال ميكن �أن يوجد �إال داخل م�ضمون ،وامل�ضمون ال يتبدى �إال داخل �شكل .وكما �أ�شري دائما �أف�ضل دائما التعامل مع النقطة التي يتقاطعان فيها(.)11 وال ميكن جتاوز ثنائية الواقع الإن�ساين يف مقابل الواقع الأدبي �إال من خالل ما ي�سمى يف اخلطاب النقدي "�شرح الن�ص" �أو "القراءة النقدية املتمعنة" والتي ي�شار لها بالفرن�سية explication detextوبالإجنليزية explicationكما ي�شار لها بعبارة closereadingالإجنليزية ،ولكني �أف�ضل ا�ستخدام العبارة العربية "ا�ستنطاق الن�ص" للإ�شارة �إىل املنهج نف�سه .والعبارة م�أخوذة من كلمة "نطق" والتي تعني حرفي ًا "و�ضح خمارج احلروف" كما تعني "حتدث وتكلم" ،وكلمتا "منطق" و"نطاق" م�ستمدتان من الفعل نف�سه .ويالحظ وجود بعدين متناق�ضني :واحد مو�ضوعي (حدود – منطق) ،والآخر ذاتي (نطق – حتدَّث). وكلمة "ا�ستنطق" التي تعني حرفيا "يجعله يلفظ وينطق بو�ضوح" حتوي البعدين املو�ضوعي والذاتي .فنحن �إذا قلنا "ا�ستنطق الناقد الن�ص" ف�إننا نقول يف واقع الأمر "�إن الناقد قد جعل الن�ص يبوح مبعناه و�شكله". فالن�ص بدون الناقد ال ميكنه �أن يقول (�أو ينطق) ب�شيء .ولكن العك�س �أي�ض ًا �صحيح، فالناقد ال ميكنه �أن ينطق �أو يقول �أي �شيء بدون الن�ص� .إن الناقد الأدبي ال ميكنه �أن يقول ما يود �أن يقول دون عودة للن�ص، والن�ص ال ميكنه �أن يبوح مبعناه بدون الناقد الأدبي .فكلمة "ا�ستنطق" حتل �إ�شكالية الذات واملو�ضوع والن�ص والواقع ،فهي تقع يف املنطقة التي تلتقي فيها الذات (الناقد) باملو�ضوع (الن�ص)( ،كل هذا يقف على طرف النقي�ض من املقوالت املا بعد حداثية التي تتحدث عن موت امل�ؤلف وموت الن�ص، بحيث ال يبقى �سوى الناقد وك�أنه الذات املطلقة� ،أو �سوبرمان نيت�شه الذي يفر�ض ر�ؤيته على الن�ص) .وعملية ا�ستنطاق الن�ص وحماولة جتاوز ثنائية الواقع الفني والواقع املو�ضوعي عادة ما ت�أخذ �شكل حماولة الو�صول �إىل النمط املتكرر �أو املو�ضوع الأ�سا�سي املتواتر الكامن الذي ي�ضفي الوحدة على العمل ،ويربط عنا�صره بع�ضها بالبع�ض، دون �أن يكون موجودًا ب�شكل مبا�شر ،وهو مفهوم وثيق ال�صلة مب�صطلح "منوذج" (النموذج الإدراكي والنموذج التحليلي) والذي �أرى �أنه يحل كثريا من امل�شكالت التي تواجه الناقد الأدبي ودار�س الظواهر الإن�سانية واالجتماعية الذي يود اكت�شاف امل�ضمون االجتماعي �أو الفكري �أو الإن�ساين للن�ص ،دون �أن يتجاهل خ�صو�صيته(.)12 وميكن ت�صور العالقة بني النموذج الإدراكي الذي مت جتريده من الن�ص مو�ضع الدرا�سة على �أنها عالقة حلزونية� ،إذ �إن الباحث يولد هذا النموذج الإدراكي ،ال من بنات �أفكاره، و�إمنا عن طريق تعاي�شه وتفح�صه للن�ص.
وحينما يجرد الناقد النموذج الإداركي يجب �أال يكون النموذج على م�ستوى عال من التجريد بحيث يفقد ال�صلة مع خ�صو�صية الن�ص وتعيُّنه �أو مع �سياقه الإن�ساين والفكري والإن�ساين .حينئذ ميكن للناقد �أن يقف على �أر�ض �صلبة نوع ًا ،ويتحرك داخل �إطار بلغ قدر ًا معقو ًال من التجريد والتحدُّد، فيحوِّ ل النموذج الإدراكي الذي قام بتجريده �إىل منوذج حتليلي ،وذلك ب�أن يقوم بتكثيفه و�صقله وتن�سيقه من خالل عمليات عقلية. ثم يعود �إىل الن�ص الذي قد يتحدى النموذج ويبني �ضعف مقدرته التف�سريية ،في�ضطر الناقد �إىل تعديله ويزيد �صقله وتكثيفه. فالعملية النقدية هي حركة من الن�ص �إىل النموذج ومن النموذج �إىل الن�ص .و�أثناء هذه العملية يزداد النموذج التحليلى كثافة ومقدرة على التف�سري .ثم يحاول الناقد تف�سري م�ضمون الن�ص و�شكله وبنيته ونربته وكل عنا�صره ،ف�إن ا�ستطاع النموذج تف�سري عدد كبري من التفا�صيل والعنا�صر والعالقات و�شكل الن�ص وبنيته ف�إنه �أثبت �أن مقدرته التف�سريية عالية ،و�إن عجز فالبد من تغيريه �أو تعديله(.)13 وبعد �أن يج ِّرد الناقد النموذج الكامن يف الن�ص ويتفهم قوانينه اخلا�صة يكون بذلك قد تو�صل �أي�ض ًا �إىل ر�ؤية الكاتب ذاته التي ت�شف عن خلفيته الفكرية ،ورمبا عن تركيبيته النف�سية ،وعن الواقع الذي يحاول الن�ص حماكاته .ولكنه حينما ي�صل �إىل هذا الواقع ال ي�صل �إىل واقع �إح�صائي جمرد ،و�إمنا ي�صل �إىل واقع اجتماعي عبرَّ عن نف�سه من خالل حلظة �أدبية خا�صة ،وهي العمل الأدبي نف�سه. ويف درا�ستي املقارنة بني روايتي زينب ملحمد ح�سني هيكل والأر�ض لعبد الرحمن ال�شرقاوي جردت النموذج الكامن كما يتبدى يف موقف ٍّ كل من الكاتبني من الطبيعة ،ثم انطلقت من هذا النموذج لدرا�سة �أفكارهما ال�سيا�سية واالقت�صادية ون�ش�أتهما االجتماعية وعالقة هذه الأفكار بالتاريخ امل�صري. فالعملية التحليلية هنا تتجه من العمل �إىل ال�سرية ،ومن البنية الفنية �إىل الواقع االجتماعي(.)14 ورغم الطبيعة الإن�سانية ملنهج امل�سريي النقدي ف�إن مدر�سة "النقد اجلديد" لفتت نظره ،وهي من مدار�س التوجه املو�ضوعي يف النظر للعمل الأدبي وهي �ش�أن مثيالتها ال حتيل القارئ �إىل �شيء خارج الن�ص ،فنقاد هذه املدر�سة ال يلتفتون �إىل االعتبارات التاريخية �أو االجتماعية �أو النف�سية اخلا�صة بامل�ؤلف �أو احلقبة التي يعي�ش فيها ،بل يركزون ،بالدرجة الأوىل ،على �شبكة العالقات املتداخلة بني ال�صورة الفنية والأفكار التي تكون العمل الفني .وتعترب "املفارقة" و"التورية ال�ساخرة" من الأدوات التحليلية الرئي�سة لهذا االجتاه ،ويرى نقاده �أن معنى الق�صيدة ال يوجد ب�شكل م�ستقل ،و�إمنا داخل �شبكة العالقات املتداخلة يف العمل الأدبي، ويعلق امل�سريي على هذه الر�ؤية النقدية قائال" :برغم ادعاء �أقطاب مدر�سة النقد اجلديد �أن العمل الأدبي مكتف بذاته �إال �أنه ميكننا ر�ؤية الثوابت الإن�سانية ت�ؤكد نف�سها. ف�شبكة العالقات يف الق�صيدة يفرت�ض فيها �أنها متاثل (حتاكي) بع�ض العالقات الإن�سانية يف العامل اخلارجي� .أما "املفارقة" و"التورية ال�ساخرة" فهما مل ي�أتيا من فراغ جمرد �إمنا من املوقف الإن�ساين ،فهما تعبري عن الطبيعة الإن�سانية املركبة التي ال ميكن اختزالها �أو ردها �إىل ما هو دونها"(.)15 وي�شري امل�سريي �إىل �أن عددا من نقاد هذه املدر�سة النقدية يرون �أن جذور "املفارقة" الأدبية ترجع �إىل املفارقة امل�سيحية اخلا�صة بتج�سد الالهوت يف النا�سوت ثم �صلب امل�سيح وقيامه ،وي�ضبف امل�سريي متحدثا عن نف�سه" :ومل يكن �صعبا على طالب الدكتوراه امل�سلم العربي امل�صري القادم من دمنهور �أن يتفاعل مع مثل هذه الر�ؤية ،فقد ر�أى الثوابت
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
12 الإن�سانية العاملية يف قلب الر�ؤية امل�سيحية، فهو ينتمي �إىل كل ما هو �إن�ساين"(.)16 وبناء على هذا ي�ؤكد امل�سريي �أن الن�ص مل يكن قط نظاما مغلقا على ذاته ،فثمة انفتاح بني العمل الأدبي من ناحية ومن ناحية �أخرى بني التنوع الرثي للحياة الإن�سانية .ولذا يرى امل�سريي �أن على النظرية النقدية �أن تتجاوز حدودها اجلمالية ال�ضيقة لت�شمل "الثوابت الإن�سانية" وهو يطلق على هذا التوجه النقدي املو�ضوعي" :النظريات املو�ضوعية املبكرة �أو املنفتحة"(.)17 ويف �إطار قناعته الرا�سخة بوجود "الثوابت الإن�سانية" كان يعيد قراءة النظريات النقدية بحثا عن هذه الثوابت يف عمقها ،فهو يكتب مثال عن "البنيوية": "كانت النظريات النقدية املو�ضوعية ترى العمل الفني باعتباره ن�سقا مكتفيا بذاته منغلقا عليها .وقد �سمعت �أول حما�ضرة عن البنيوية التي تنتمي لهذا االجتاه املو�ضوعي املنغلق مع ت�صاعد حركة "اجلن�س العر�ضي" يف اجلامعات الأمريكية واجتاه اجليل الأمريكي ال�صاعد �إىل الهروب �إىل تدخني املاريجوانا واال�ستغراق يف �أحالمه بالفردو�س الأر�ضي املكتفي بذاته ذي ال�صبغة اجلن�سية الوا�ضحة .ويف هذه املحا�ضرة �أطلق املحا�ضر العنان مل�صطلحاته البنيوية مثل" :املقابالت الثنائية" ،و"التخطيط"، و"العالقات الرئي�سة" و"الطاقة اللغوية" و"الكالم املنطوق" و"التزامن" �أو "الآتية" و"التواىل الزمني" �أو "التعاقب الزمني"، وما �إىل ذلك من م�صطلحات .وخل�ص يف النهاية �إىل اال�ستنتاج ب�أن الأعمال الأدبية تدور حول �أعمال �أدبية �أخرى ،وهو ما يعني �أن كل الن�صو�ص املكتوبة تدور ن�صو�ص �أخرى ..وهكذا .والإطار املرجعي لهذا املحا�ضر كان �شكال من �أ�شكال وحدة الوجود الن�صو�صية حيث جميع الن�صو�ص ت�ؤول �إىل ن�ص واحد وبالعك�س .. .. ...ورغم تفاخر البنيوية باجتاهها العلمي �أو العلموي املعادي للمذهب الإن�ساين (الهيوماين) بنظامها املغلق الذي يت�سم بال�صرامة الريا�ضية ف�إن الثوابت الإن�سانية قد �أكدت نف�سها يف نهاية الأمر. فبالإ�ضافة �إىل االجتاه البنيوي اللغوي الذي يحاول �إذابة �أي عمل �أدبي وحتويله �إىل تركيبات نحوية ومعادالت و�أ�شكال هند�سية والتي تذهب �إىل �أن اللغة ت�سبق الإن�سان والفكر ،يوجد �أي�ضا االجتاه الأنرثوبولوجي الذي يحاول الو�صول �إىل �أ�سطورة الأ�ساطري (الأ�سطورة املطلقة) و�إىل بنية كل البنى (البنية املطلقة) وهل يختلف هذا كثريا عن عامل املثل الذي طرحه �أفالطون والذي ميثل عاملنا نحن جمرد ظل له؟ والغر�ض من البحث البنيوي هنا لي�س جمرد التالعب بالألفاظ والنماذج اللغوية� ،إذ �أن املعنى املق�صود ينبع من فكرة التماثل �أو التجان�س بني كل البنى التي تكوِّ ن املجتمع الإن�ساين .فثمة متاثل بني طريقة �سرد الأ�سطورة وبناء العقل الب�شري، ولذا ميكن لأ�سطورة الأ�ساطري وبنية البنى �أن تقودنا �إىل فهم بنية العقل الإن�ساين .وقد نتفق �أو نحتلف مع هذه الفكرة الطموحة �إال �أن الأهم يف �سياقنا احلاىل هو وجود الثوابت الإن�سانية العاملية يف مركز كل هذا، فهي الركيزة الأ�سا�سية واملرجعية النهائية �أو اللوجو�س التي متنح العمل الأدبي والنقدي بل العامل ب�أ�سره معناه ومتا�سكه الداخلي� ،أي �أن البنيوية متمركزة حول اللوجو�س (مرجعية نهائية ركيزة �أ�سا�سية). ولعل البنيوية كانت �آخر النظريات النقدية املو�ضوعية املبكرة �أو املنفتحة .فنظريات ما بعد البنيوية ،حاولت �أن تفلت متاما من قب�ضة التمركز حول اللوجو�س �أو �أية مرجعيات �أو ثوابت ،واللوجو�س يف حالة البنيوية هو العقل الإن�ساين .وبدال من الكون
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
املتمركز حول اللوجو�س ووجود الثوابت الإن�سانية كمرجعية مطلقة ظهرت مرجعيات خمتلفة ،منغلقة على نف�سها مكتفية بها"(.)18 وهذا الن�ص يك�شف عن �سمة من �أهم �سمات املنهج النقدي للم�سريي هي التعميق املعريف والغو�ص يف الثوابت التي ت�أ�س�ست عليها املذاهب الأدبية املختلفة و�صلتها بعامل الأفكار مبعناه الوا�سع ،فمثال قاده هذا التعمق �إىل �أن الرومان�سية حتاول ت�أ�سي�س عالقة مبا�شرة بني الإن�سان والطبيعة دون تدخل �أو و�ساطة، وخارج �إطار املجتمع الإن�ساين والتاريخي، �أي �أن جوهر الوجدان الرومان�سي �شكل من �أ�شكال املبا�شرة الوثنية حيث يدرك ال�شاعر الطبيعة بحوا�سه مبا�شرة ،وي�ضيف امل�سريي: "مثلما كان الإن�سان الوثني الأول يفعل، مبعنى �أنه يعي�ش بني يف وحدة وجود مادية، ومن ثم ال توجد م�سافة بني الذات واملو�ضوع �أو بني ،الإن�سان والطبيعة� ،أو بني العقل واملادة .فك�أن الإن�سان يعي�ش خارج الزمان والتاريخ")19(. وقد �شكلت احلداثة �أحد �أهم الق�ضايا التي �شغلت امل�سريي كناقد كما �شغلته كمفكر، وهو يرى �أن يجب التمييز بني تيارين �أ�سا�سيني داخل احلداثة الأدبية ،فم�صطلح احلداثة م�صطلح عام يفرت�ض �أن كل الأدباء احلداثيني ي�سبحون داخل التيار نف�سه، وهو يعتقد �أن هناك خلال يف هذا االفرتا�ض. وي�ضيف" :يف درا�ستي للفل�سفة الغربية الحظت وجود تيارين �أ�سا�سيني منذ بداية امل�شروع التحديثي الغربي ،فهناك "الر�ؤية املتمركزة حول الإن�سان" وهناك �أي�ضا "الر�ؤية املتمركزة حول الطبيعة" (�أي املادة). وما �أراه �أن اخلطاب الفل�سفي الغربي ميكن فهمه ب�شكل �أعمق لو �أحللنا كلمة "مادة" حمل كلمة "طبيعة" .ولذا حينما نتحدث عن الإن�سان الطبيعي يجب �أن نتحدث ،يف واقع الأمر ،عن الإن�سان املادي� ،أي الإن�سان الذي يعي�ش يف حيز مادي يدركه بحوا�سه اخلم�س ويدركه بعقله املادي دون �أن يهيب ب�أي مقوالت خارجة عن هذا احليز .وقد ميزت بني "العلمانية اجلزئية" و"العلمانية ال�شاملة"، وانطالقا من هذه الر�ؤية� ،أذهب �إىل �أن العلمانية اجلزئية متمركزة حول الإن�سان، ولذا ميكن �أن نطلق عليها العلمانية الإن�سانية �أو العلمانية الأخالقية� ،أما العلمانية ال�شاملة فهي متمركزة حول املادة ،ال ت�ؤمن �إال بحركة املادة وقوانني الطبيعة .ولذا فالعامل ي�صبح مادة ن�سبية ال قدا�سة لها ،وال ت�سمح بوجود
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
معايري جمالية ومطلقات �إن�سانية ،ن�صدر عنها ونعود اليها .وحينما يقوم الفنان احلداثي املتمركز حول الإن�سان بعملية التجريب فهو دائما جتريب م�ضبوط مبعايري جمالية و�إن�سانية و�أخالقية قد تكون حديثة وثورية وجذرية ،لكنها تظل ملتزمة بفكرة املعايري وفكرة القيمة .وعلى م�ستوى ال�شكل �أالحظ �أن هذا النوع من احلداثة الفنية يلتزم بحدود ال�شكل ،ال يحطم ال�شكل متاما ،وال ي�سقط يف عدمية جمالية ،تدمر الدال واملدلول، ومتحو ال�شكل وامل�ضمون .ويالحظ �أن من يدور يف �إطار هذه احلداثة املتمركزة حول الإن�سان يحتفظ مبا ميكن ت�سميته الغاية والهدف .ولذا يظل هناك يف عمله الفني م�ضمون ،قد ال يكون وا�ضحا بال�ضرورة، لكن يظل هناك م�ضمون ما .ولأ�ضرب مثال على ذلك ب�أدب بهاء طاهر ور�ضوى عا�شور، فكالهما حداثي بال �شك ،لكن ثمة حبكة يف روايتهما ولغة مفهومة مل تتفكك لتتحول �إىل �صيحات �أمل �أو لذة جن�سية �أو غري جن�سية، وال يزال الإن�سان هناك واقفا يف مركز الكون، واليزال هناك تاريخ وذاكرة وهدف.وهناك
�شكلت احلداثة �أحد �أهم الق�ضايا التي �شغلت امل�سريي كناقد كما �شغلته كمفكر ،وهو يرى �أن يجب التمييز بني تيارين �أ�سا�سيني داخل احلداثة الأدبية، فم�صطلح احلداثة م�صطلح عام يفرت�ض �أن كل الأدباء احلداثيني ي�سبحون داخل التيار نف�سه ،وهو يعتقد �أن هناك خلال يف هذا االفرتا�ض.
�أثناء كتابة املو�سوعة يف مكتبة الدرا�سات ال�سيا�سية والإ�سرتاتيجية عام .1975
�آخرون مثل �إبراهيم عبد املجيد وحممد الب�ساطي وغريهم وغريهم ينتمون لهذا التيار احلداثي الإن�ساين .يف مقابل ذلك �أرى احلداثة املتمركزة حول الطبيعة /املادة ،وهي عك�س ما �سبق ،فهي تقوم بعمليات جتريب ال متناهية تت�سم بالعدمية اجلمالية ،وحتاول �أن تفجر ال�شكل وامل�ضمون معا ،وعاملها يت�ضاءل فيه الإن�سان �إىل �أن يختفي فندخل يف عامل ي�سود فيه قانون الأ�شياء والطبيعة. وهناك الكثريون ممن ميثلون هذا التيار يف العامل العربي ممن يكتبون بلغة خا�صة للغاية ت�صل "فرادتها" �إىل درجة ال ميكن �أن ن�سميها لغة على الإطالق .وه�ؤالء يقومون بتجارب ال نهاية لها تدل على غياب الهدف واملعنى. وللأ�سف هذا النوع من "احلداثة" هو الذين هيمن يف الغرب �إىل �أن �أفرز "ما بعد احلداثة" حيث ت�سقط املعيارية متاما ،وت�سود الن�سبية الأخالقية واملعرفية واجلمالية وال يبقى �إال العدم� .أو ال يبقى �سوى "الأبوريا" وهي الهوة التي ما لها من قرار ،والتي يرى دريدا وغريه من مفكري "ما بعد احلداثة" �أنها الثابت الوحيد"(.)20 وعلى هذه اخللفية يعترب امل�سريي �أن حممود دروي�ش �أهم �شعراء احلداثة العرب ،وواحد من �أهم �شعراء العامل� .أنه ينتمي �إىل تلك احلداثة املتمركزة حول الإن�سان .ولذا يظل �شعره يدور حول الإن�سان .قد يبد�أ بالإن�سان الفل�سطيني ،وقد يعمم لي�صل �إىل الإن�سان العربي ،لكن يظل ف�ضاء �شعره الأ�سا�سي هو الإن�سان .فنحن ،يف �شعره ،نطالع وجه الإن�سان يف �أق�صى حلظات وعيه بذاته. ويظهر هذا �أي�ضا يف لغة �شعره ،فهي لغة فريدة �إىل �أق�صى حد ،لكنك ت�سمع �إيقاعات ال�شعر العربي القدمي كما ت�سمع �أ�صداء من ال�شعر احلديث عربي ًا كان �أم غري عربي. ويت�سم �شعره عامة بالو�ضوح ،ولكن ثمة مناذج عديدة من �شعره تت�سم بغمو�ض حمبب� .إن �صوت دروي�ش �صوت فريد ،لكن يوجد داخل هذا ال�صوت نربات عديدة، فدروي�ش عنده مقدرة غري عادية على ه�ضم كل التجارب وا�ستيعابها ثم التعبري عنها. وتت�ضح �أي�ضا حداثته املتمركزة حول الإن�سان يف �أن لغته مفهومة ،و�أن �صوره ال�شعرية حمددة املعامل ،هذا ال يعني �أنها ب�سيطة �أو �ساذجة ،فهي مركبة �إىل �أق�صى حد ،لكنه تركيب ناجم عن عقل ي�ؤمن باملعنى وبالغاية وب�إمكانية اجلهاد الذي ميكن �أن يحول واقعا غري عقالين �إىل واقع عقالين� ،أي �إنه
ي�ؤمن ب�إمكان �إقامة العدل يف الأر�ض .وهذا ما ال ميكن �أن ي�شاركه فيه احلداثيون الذين يعي�شون يف ق�ص�صهم ال�صغرية ،كما يقولون، من دون �إميان مبعنى كلي �شامل(.)21 ويف �إطار �إنحياز عبد الوهاب امل�سريي �إىل خيار القول بوجود �صالت بني العمل الأدبي وعامل الإن�سان باملعنى الوا�سع كان من الطبيعي �أن يطرح �س�ؤال حرية الإبداع نف�سه عليه ،وهو ينتقد القول ب�أن حرية الإبداع مطلقة ،فالإبداع لي�س مطلقا يتجاوز الإن�سان، وحرية الإبداع البد من �أن يقابلها حرية املجتمع يف �أن يدافع عن نف�سه وعن قيمه. يقولون �إن الفيديو كليب �إبداع ،ولكن نحن بو�صفنا جمتمعا �إن�سانيا يحق لنا الدفاع عن �أنف�سنا ،يحق لنا �أن نقدم ر�ؤيتنا :هل املر�أة ج�سد يهتز؟ �أم �أنها غري ذلك؟ ر�ؤيتنا للإن�سان، باعتبارنا ب�شر ًا وم�سلمني ،خمتلفة عن هذه الر�ؤية االختزالية املادية .فمن حقنا �أن نقف �ضد هذا ،لي�س بال�ضرورة من خالل احلكومة، ولكن من خالل جمعيات مدنية� .إن الإبداع حول نف�سه �إىل مطلق ،وهذا نوع من �أنواع العلمنة ال�شاملة ال�شر�سة(.)22 وي�ستطرد امل�سريي�" :إن العلمانية �شكل من �أ�شكال احللولية ووحدة الوجود املادية .وقد بد�أت عملية احللول يف املجال االقت�صادي، ف�أ�صبح معيار احلكم على االقت�صاد معيارا اقت�صاديا ،م�ستمدا منه ،وهو مدى النجاح االقت�صادي بغ�ض النظر عن الثمن الإن�ساين، �أي �أن االقت�صاد �أ�صبح مكتفيا بذاته ،مرجعية ذاته� ،أي �أنه �أ�صبح مطلقا ،ثم انتقل الأمر �إىل ال�سيا�سة ،و�إىل كل جماالت الن�شاط الإن�ساين الأخرى ،بحيث �أ�صبح كل جمال منف�صال عن �أي مرجعية �إن�سانية عامة .وقد حدث هذا يف جمال الفن ،فالفن �أ�صبح مرجعية ذاته ومكتفيا بذاته و�أ�صبحت معايري احلكم عليه فنية ،م�ستمدة منه� ،أي �أن الفن �أ�صبح مطلقا م�ؤ َّلها .الفن احلداثي مثل جيد على ذلك ،فلو على ق�صيدة من هذا الفن – ورغم �أين عُر�ضت َّ �أ�ستاذ �شعر – ف�إنني �أحتاج �إىل �أ�شهر حتى �أفهمها ،وك�أن ال�شعراء كهنة ،وك�أن ال�شعر مو�ضع حلول وحتفه الأ�سرار� .أنا باعتباري �إن�سان ًا اجتماعي ًا �أرى �أن الفن لي�س للفن� ،إمنا للجميع ،وحينما يفقد الفن عالقته بالواقع وبالإن�سان ،فمن حقي ك�إن�سان وككائن اجتماعي �أن �أت�صدى له ،خا�صة �إذا كان هذا العمل الفني (الإبداع الفني) معاديا للإن�سان وللقيم الإن�سانية(.")23 بل �إن امل�سريي يذهب �إىل �أبعد من ذلك معتربا
"حرية الإبداع" �صيحة يطلقونها يف وجه كل من يتجر�أ ويحتج على ر�أى ما .ثمة رقابة على ال�سلع وعلى جودتها وتاريخ �إنتاجها، ورقابة على حركة املرور وعلى اجلمارك. فهل ميكن �أن نرتك �أمورا ت�ؤثر يف الأخالق والأحالم والر�ؤية دون ر�صد �أو مراقبة؟ يجب �أال تكون الق�ضية هي حرية الإبداع كمطلق و�إمنا كيف ميكن �أن ميار�س املجتمع ككل الرقابة دون �أن يخنق الإبداع ،لأنه لو خنق الإبداع اختنق املجتمع .لكن لو �أطلق العنان حلرية الإبداع ف�إن املجتمع �سيتفكك .ويك�شف امل�سريي عن اهتمام �آخر وثيق ال�صلة بالإبداع الأدبي والفني هو الأزياء فيقول" :قد ال يعرف الكثريون �أن �إحد اهتماماتي تطور الأزياء، وبالذات �أزياء الن�ساء� ،إذ �أحاول ر�صد تطورها كتعبري عن تطور الر�ؤية احل�ضارية للإن�سان. وقد الحظت �أن مالب�س الن�ساء تزداد يف الغرب انكما�ش ًا يوم ًا بعد يوم من امليني �سكريت �إىل املايكرو �إىل البلوزةالتي تك�شف البطن �إىل �أن و�صلنا �إىل ما �سمّاه �أحد ال�صحفيني the � well-undressed womanأي املر�أة قليلة الهندام ،يف مقابل املر�أة ح�سنة الهندام ( . the well-dressed womanولعل �أح�سن ترجمة لهذه العبارة ،هي عبارة عادل �إمام ال�شهرية" الب�سة من غري هدوم"). وم�ؤخرا �سمعت عن عر�ض �أزياء ملا ي�سمى "مايكرو ميني �سكريت" micro mini skirtوهي جونلة �أو ف�ستان ق�صري لدرجة �أنه يك�شف �أكرث مما يغطي� .أي �أن الرداء فقد وظيفته الأ�سا�سية .وال �أدري ما �شكل هذا الرداء لأنني �سمعت عنه ومل �أره .وحني �أخربت �أحد م�صممي الأزياء عن اعرتا�ضي على الأزياء التي ال عالقة لها ب�أي دين �أو ثقافة �أو ذوق، قال �إن هذه �أعمال فنية ،و�أن اعرتا�ضي هذا يعد �شك ًال من �أ�شكال الرقابة على حرية الفكر والإبداع ،هذا املطلق العلماين اجلديد .وهنا �س�ألته :الي�س من حق املجتمع �أن يدافع عن نف�سه �ضد �أي اجتاهات تفكيكية عدمية؟ وقد �صُ دم �صاحبنا من هذا الطرح الذي مل يطر�أ له على بال ،لأنه ال يدرك (�ش�أنه �ش�أن املثقفني الذين يدافعون عن احلرية املطلقة للإبداع) �أنها ر�ؤية بورجوازية جتعل الفرد مرجعية ذاته (متام ًا مثل ر�أ�س املال الذي يتحرك يف ال�سوق بكامل حريته ،ال يخ�ضع �إال لقوانني مادية الية غري �إن�سانية غري اجتماعية هي قوانني العر�ض والطلب والربح واخل�سارة) .ولكن املجتمع لي�س هو ال�سوق ،فاملجتمع كيان مركب متما�سك يت�سم بقدر من الوعي ،وله �أ�سبقيته على الفرد
مهما بلغت درجة �إبداع هذا الفرد ،فالفرد ينتمي �إىل املجتمع ولي�س املجتمع هو الذي ينتمي �إىل الفرد� ،إال �إذا كان جمتمع ًا �شمولي ًا. �إن بع�ض املثقفني الثوريني ان�ساقوا وراء هذه الدعوة للحرية املطلقة للإبداع واملبدعني، دون �أن يدركوا ت�ضميناتها الفل�سفية املعادية للإن�سان وللمجتمع .عندئذ لزم م�صمم الأزياء ال�صمت ،خا�صة و�أنه كان يعرف �أن خم�سة من كبار م�صممي الأزياء ماتوا منذ عدة �أعوام، من مر�ض الإيدز ،وكانوا جميعهم من ال�شذاذ جن�سي ًا ،ف�سارعت م�صانع الأزياء بالتعمية على اخلرب حتى ال تت�أثر �أرباحهم �سلب ًا� ،أى �أنهم �أدركوا البعد غري االجتماعي غري الأخالقي غري الإن�ساين لإبداع م�صممي الأزياء ،باعتباره �إبداع ًا الينتمي �إىل املجتمع"(.)24 وهو يتهم من يدافعون عن حرية التعبري بال حدود ب�أنهم جعلوا الفن مطلق ًا� ،سحبوا الإطالق من �أي قيم مطلقة (�أخالقية كانت �أم �إن�سانية �أم دينية) وجعلوها �ش�أن ًا خا�ص ًا ،و�أمرا من �أمور ال�ضمري ،وت�صوروا �أن القيم الأخالقية توجد يف ق�سم خا�ص يف وجدان الإن�سان منف�صل متاما عن عامل ال�سيا�سة وعامل االقت�صاد وعامل االجتماع الإن�ساين( ،وك�أن ال�ضمري الفردي ال عالقة له برقعة احلياة العامة) .ولذا حني يتم تناول ظاهرة ما فهي �إما �أن تكون ظاهرة خا�صة خا�ضعة لقيم �أخالقية ما� ،أو ظاهرة يف رقعة احلياة العامة ومن ثم فهي منف�صلة عن القيمة .ولكن هذه – والكالم للدكتور عبد الوهاب امل�سريي – ر�ؤية �سوقية للعامل وللنف�س الب�شرية ،فالإن�سان كائن مركب ،وكذا الفعل الإن�ساين .فالأبعاد الأخالقية تتداخل مع الأبعاد ال�سيا�سية واالقت�صادية والنف�سية والفردية تتداخل مع الأبعاد االجتماعية .ويرى ه�ؤالء الذين يف�صلون الأخالق عن بقية جماالت احلياة �أنه لو ظهرت الأخالق يف احلياة العامة ف�إن هذا مظهر من مظاهر التخلف ،ويف ذهنهم بطبيعة احلال امل�شروع العلماين الغربي. �إن م�شروع النه�ضة العربي يف بداياته جعل �شعاره اللحاق ب�أوروبا ،بحلوها ومرها، وخريها و�شرها ،وك�أننا ببغاءات عقلها يف �أذنيها(.)25 وهذه الهرولة للحاق لأوروبا كانت لها يف ر�أي امل�سريي ب�صمات على الفكر النقدي العربي املعا�صر حيث تركت هزميتنا �أمام الغرب ب�صماتها الوا�ضحة على م�سار هذا الفكر ،فبعد هزميتنا على يد العامل الغربي يف مطلع القرن التا�سع ع�شر ،يعني �أ�صابتنا حالة ان�شغال مر�ضي بكل احلركات الفكرية والأدبية يف
ي�ستطرد امل�سريي�" :إن العلمانية �شكل من �أ�شكال احللولية ووحدة الوجود املادية .وقد بد�أت عملية احللول يف املجال االقت�صادي ،ف�أ�صبح معيار احلكم على االقت�صاد معيارا اقت�صاديا، م�ستمدا منه ،وهو مدى النجاح االقت�صادي بغ�ض النظر عن الثمن الإن�ساين� ،أي �أن االقت�صاد �أ�صبح مكتفيا بذاته ،مرجعية ذاته،
الغرب ،وهو ان�شغال ال ي�ؤدي بال�ضرورة اىل الإبداع .فمثال ،فكرة "الوحدة الع�ضوية"، فكرة �أ�صيلة يف الرتاث الغربي ،دخيلة على النظرية النقدية العربية ،وحماولة نقلها ،ثم تطبيقها على تراثنا ،فيه ظلم للفكرة ولرتاثنا معا .وي�ضيف امل�سريي :الوحدة الفنية ال�سائدة يف تراثنا �أ�سميها "الوحدة التكاملية غري الع�ضوية" (فال هي بالع�ضوية ،وال بااللية) �أو "الوحدة الف�ضفا�ضة" .انظر �أي�ضا ماذا فعلت "البنيوية"ثم "التفكيكية" بنا ،وكيف نبدِّد طاقتنا يف حماولة فهمهما و�إدراكهما وترجمة ن�صو�صهما الأ�سا�سية ،بل كيف جنهد �أنف�سنا غاية الإجهاد لتطبيق مفاهيمهما والياتهما التحليلية على كل من الرتاث وحا�ضرنا العربي .وحني نو�شك على االنتهاء من هذه العملية تكون قد ظهرت عدة حركات �أخرى يف العامل الغربي!()26 وهو ير�سم �صورة للم�أزق الذي �أدى اليه منطق "اللحاق بالغرب" قائال" :لقد كانت تظهر يف العامل الغربي مدر�سة فكرية �أو نقدية واحدة كل قرن :الكال�سيكية يف القرن الثامن ع�شر، والرومان�سية يف القرن التا�سع ع�شر .ثم مع
13
نهاية القرن املا�ضي بد�أ املعدل يت�صاعد� ،إذ بد�أت تظهر حركة نقدية كل عقدين �أو ثالثة. والآن ظهر ما ال يقل عن ع�شر حركات نقدية يف العقدين املا�ضيني ،مبعدل حركة كل عامني! وهذا تعبري عن �أزمة ح�ضارية حقيقية وعميقة يف الغرب ت�أخذ �شكل هذا الت�ضخم العقائدي. ولكن ما يهمني ت�أكيده الآن هو �أننا نظرا الن�شغالنا الزائد مبا يحدث يف الغرب ،نن�صرف عن فهم �إجنازات بقية العامل احل�ضارية". هوام�ش و�إحاالت ( )1حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. (� )2صدر عن مكتبة ال�شروق الدولية – م�صر – يناير .2007 ( )3يف الأدب والفكر :درا�سات يف ال�شعر والنرث – النا�شر :مكتبة ال�شروق الدولية – القاهرة – .2007 ( )4د .امل�سريي..مفكر بدرجة ناقد �أدبي – م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة – م�صر – العدد – 2008 – 19عدد خا�ص عن الدكتور امل�سريي – �ص .418 – 417 ( )5د .امل�سريي..مفكر بدرجة ناقد �أدبي – م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة – م�صر – العدد – 2008 – 19عدد خا�ص عن الدكتور امل�سريي – �ص .420 – 419 ( )6رحلة امل�سريي :من نقد الأدب الأجنلو�سك�سوين �إىل نقد احل�ضارة الغربية – �صالح حزين – درا�سة – من�شورة يف: يف عامل عبد الوهاب امل�سريي :حوار نقدي ح�ضاري – حترير :الدكتور �أحمد عبد احلليم عطية – تقدمي :حممد ح�سنني هيكل – املجلد الثاين :درا�سات و�شهادات – دار ال�شروق – م�صر – الطبعة االوىل � – 2004ص 183 – .184 ( )7رحلة امل�سريي :من نقد الأدب الأجنلو�سك�سوين �إىل نقد احل�ضارة الغربية – �صالح حزين – درا�سة – من�شورة يف: يف عامل عبد الوهاب امل�سريي :حوار نقدي ح�ضاري – حترير :الدكتور �أحمد عبد احلليم عطية – تقدمي :حممد ح�سنني هيكل – املجلد الثاين :درا�سات و�شهادات – دار ال�شروق – م�صر – الطبعة االوىل � – 2004ص 183 – 184بت�صرف.
ا�ستقبال الدكتور عند عودته من رحلة عالج بالواليات املتحدة يف 18يونيو ..2007
()8حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ( )9حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ( )10امل�صدر ال�سابق. ( )11حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ()12حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ()13حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا علىه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي – بت�صرف واخت�صار. ( )14حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي .والدرا�سة املقارنة امل�شار اليها من�شورة يف :يف الأدب والفكر :درا�سات يف ال�شعر والنرث – د كتور عبد الوهاب امل�سريي – مكتبة ال�شروق الدولية – م�صر – � – 2006ص .101 – 89 ( )15د .امل�سريي..مفكر بدرجة ناقد �أدبي – م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة – م�صر – العدد – 2008 – 19عدد خا�ص عن الدكتور امل�سريي – �ص .421 – 420 ( )16د .امل�سريي..مفكر بدرجة ناقد �أدبي – م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة – م�صر – العدد – 2008 – 19عدد خا�ص عن الدكتور امل�سريي – �ص .421 ( )17د .امل�سريي..مفكر بدرجة ناقد �أدبي – م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة – م�صر – العدد – 2008 – 19عدد خا�ص عن الدكتور امل�سريي – �ص .421 ( )18د .امل�سريي..مفكر بدرجة ناقد �أدبي – م�صطفى عبد الغني – درا�سة – جملة �أوراق فل�سفية – جملة غري دورية علمية حمكمة – م�صر – العدد – 2008 – 19عدد خا�ص عن الدكتور امل�سريي – �ص – 423 – 422 بت�صرف ي�سري. ( )19درا�سات يف ال�شعر – عبد الوهاب امل�سريي -مكتبة ال�شروق الدولية – م�صر – يناير � – 2007ص .13 ( )20حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ( )21حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ( )22حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ( )23امل�صدر ال�سابق. ( )24حوارات مع الدكتور عبد الوهاب امل�سريى – �إعداد وحترير� :سوزان حريف – كتاب قيد الن�شر ح�صلنا عليه خمطوطا من الدكتور عبد الوهاب امل�سريي. ( )25امل�صدر ال�سابق. ( )26امل�صدر ال�سابق.
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
14
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
العدد ()1996ال�سنة الثامنة -ال�سبت ( )25كانون الأول 2010
المسيري يكتب رحلة التحوالت والتحديات د .حممد عبدالقادر ما ان انتهيت من قراءة «الرحلة الفكرية» للدكتور عبدالوهاب امل�سريي حتى �شعرت ان هذا املفكر ـ الفيل�سوف قد منحني من عمره خم�سني عام ًا ا�ضافي ًا ،هي رحلته العلمية والفكرية التي حتوي من الثـراء والتنوير واالبداع ما يعادل قراءة مكتبة بع�شرات الكتب وامل�صادر يف �شتى فروع املعرفة ،يف هذه الرحلة جتد نف�سك امام مفكر مبدع وناقد ا�صيل ميثل حالة متفردة يف اهتماماته وانتاجه ور�ؤاه ،تقر�أ امل�سريي يف كل ما يكتب ،فتتفق معه او تختلف ، لكنك -يف كل االحوال -ت�شعر انك امام مفكر عميق الت�أمل ،ي�شق م�سالك جديدة ، ويفتح افاق ًا وا�سعة للفكر االن�ساين النبيل ،ويقدم ا�ضافات نوعية للثقافة العربية االن�سانية على ات�ساعها وتنوعها. حمل الكتاب عنوان «رحلتي الفكرية يف البذور واجلذور والثمر� :سرية غري ذاتية غري مو�ضوعية» ليقدم �سرية فريدة يف بنائها و�سردها بالرغم من انها ُت�صنف حتت نوع «ال�سرية الذاتية» او ادب ال�سرية ،وامل�سريي نف�سه يقول انه ال يدري ما اذا كانت نوع ًا ادبي ًا جديداً ام قدمي ًا ام خليط ًا منهما ام غري ذلك .و�أرى انها �سرية لكاتبها لكنها تختلف عن ال�سري االخرى يف �سمتني بارزتني :اوالها انها «غري ذاتية وغري مو�ضوعية» يف �آن واحد ،ذلك ان امل�سريي يكتبها كمثقف عربي م�صري ي�سرد رحلته الفكرية وال يروي ق�صة حياته اخلا�صة بتفا�صيلها وبالتايل فهي غري ذاتية ،وهي غري مو�ضوعية باعتبارها تر�صد حتوالت كاتبها يف الفكر واملنهج ،وهذه جوانب جزئية -على اهميتها -من حياة امل�سريي ، عالوة على انها �سرية انتقائية لالفكار التي طورها ،ولال�شخا�ص الذين � ّأثروا يف حياته. ّ
اما �سمة االختالف الثانية فهي ان الكاتب قدّم �سريته من خالل مو�ضوعات ا�سا�سية ،ال من خالل ت�سل�سل زمني ير�صد تاريخيا مراحل حياته وتطوراتها واجنازاتها ،بيد ان الكتابة من خالل مو�ضوعات لي�ست تقنية «م�سريية» خال�صة ،فاملعروف ان امل�سريي وزوجته د .هدى حجازي قاما برتجمة كتاب «الغرب والعامل :تاريخ احل�ضارة من خالل مو�ضوعات» و�صدر عن عامل املعرفة الكويتية يف مطلع عام ، 1986وت�شري ال�سرية اىل ان امل�سريي ارتبط بعالقة وثيقة مع م�ؤلف الكتاب (كافني رايلي) خالل درا�سة امل�سريي واقامته يف الواليات املتحدة ،ومن الوا�ضح ان فكرة الكتابة من خالل مو�ضوعات تقنية ت�أثر فيها امل�سريي بكتاب (رايلي) ،على ان امل�سريي رمبا كان اول من طبق هذه املنهجية يف بناء ال�سرية على رحلته الفكرية فعر�ضها من خالل عدد من املو�ضوعات الكربى التي تتفرع منها مقوالت ا�صغر وهكذا. كان ال بد من هذا املدخل حول �شكل ال�سرية التي كتبها امل�سريي ل�صلة ذلك مبحتوى الكتاب الذي ي�ضيء اجلانب االهم من حياة هذا املفكر الذي كان وما يزال �صاحب م�شروع ثقايف ذي ابعاد ح�ضارية �إميانية ان�سانية يرثي احلياة العربية وي�صقل جوانب ا�سا�سية يف الهوية العربية ،لقد قر�أت هذا الكتاب بتمعن �شديد وهو ي�ستحق ذلك ،بل يقت�ضيه -ف�أيقنت ان امل�سرييقد اختار دوم ًا ان يطرق امل�سلك ال�صعب وان يرتاد دروب التحدي امل�ستند اىل االرادة والعزمية والثقة بالنف�س ،ومن هنا �آثرت ان �أر�صد عامل التحديات الذي اقتحمه امل�سريي م�سلح ًا بعقل متقد وعلم وا�سع وب�صرية نافذة ،ويف م�سار التجربة امل�سريية ميكن ر�صد العديد من التحديات لكنها حتديات متجاورة ومرتابطة بل مت�شابكة حيث عمليات الت�أثري والت�أثر تتبادل االدوار وتتكامل فيما بينها. حتدي الذات «والتحدي» الذي �أق�صده يف �سياق هذه املقالة هو حالة من اال�ستعداد او هدف ي�سعى �شخ�ص ما اىل حتقيقه وهو يعي حجم امل�صاعب التي حتول دون الهدف لكنه يح�شد طاقاته وموارده وعزميته لتحقيقه بالو�سائل النبيلة ،واما «الذات» فتعني هنا الهوية والتميز واالبداع والتجاوز ،وقد �سعى امل�سريي اىل حتقيق ذاته يف �صباه عرب م�شاركته يف احلركات الطالبية ، ثم ان�ضمامه جلمعية م�صر الفتاة ويف انتمائه فيما بعد حلركة االخوان امل�سلمني ،ثم خروجه منها والتحاقه باحلزب ال�شيوعي امل�صري يف منت�صف اخلم�سينيات حتى نهايتها ،وك�أن هذا ال�شاب اليافع كان يبحث مبكر ًا عن طريق ي�ؤدي من خالله دور ًا ملجتمعه ووطنه و�أمته ،يف اول الطريق مل يرق له فكر االخوان التقليدي ، فغادره ليختار الفكر املارك�سي ،ليجد فيه بعد �سنوات فكر ًا مادي ًا خال�ص ًا ال ي�ستجيب ملفهوم «االن�سان ـ ال�سر» ،او «االن�سان الرباين» ف�أعر�ض عنه وغا�ص يف عوامل الفل�سفة واالدب قارئ ًا وحماور ًا ناقد ًا يتفاعل بقوة مع ما يقر�أ ،يحلل ويقوّ م ،يقبل ويرف�ض بحث ًا عن م�ستقر ،وبدا يل ان امل�سريي -من خالل �سريته � -شديد الت�أمل يف كل ما يرى ويقر�أ وي�سمع وهو دائم الت�أمل يف ذاته وافكاره ومقوالته ومناذجه التحليلية ،وال يجد غ�ضا�ضة يف جتاوزها وتطويرها اذا ما غدت بحاجة اىل اعادة النظر. حني عاد اىل م�صر حام ًال درجة الدكتوراه من الواليات املتحدة كان عليه ان يتحدى ذئاب ًا ثالثة :ذئب الرثوة (ينتمي امل�سريي لعائلة جتارية ثرية) ،وذئب ال�شهرة والذئب الهيجيلي املعلوماتي ،فيقول انه تغلب على الذئب االول بان وظفه يف خدمة م�شروعه الفكري وا�ستبدل به املعرفة واحلكمة ،وحقق الثانية ب�سرعة �شديدة حني وجد نف�سه كاتب ًا يف االهرام وع�ضو ًا يف جلان وطنية عديدة اما الذئب الثالث فقد تغلب عليه ب�صعوبة ،لكني �أ�شك يف ذلك. حتدي امل�ؤ�س�سة التعليمية البريوقراطية يت�صف حديث امل�سريي عن امل�ؤ�س�سة التعليمية امل�صرية (مدار�س وجامعات) بالنقد املرير وال�سخرية الالذعة ،ففي زمن م�ضى كان التعليم جماني ًا وممتع ًا
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
،لكنه غدا بالتدريج غري جماين ب�سبب ثقافة الدرو�س اخل�صو�صية التي �سادت -وما تزال � -سلوك املجتمع امل�صري حتى ا�صبح التعليم «ال عالقة له بالتعليم» بل ا�صبح جمرد اكت�ساب القدرة على اجتياز االمتحانات ،ومل يركن امل�سريي يف �صباه اىل املناهج واملقررات املدر�سية اذ مل يجد فيها ما يطفىء ظم�أه للمعرفة (الذئب الهيجلي) ،فانطلق اىل املكتبات واال�صدقاء يقر�أ ما تقع عليه يداه يف االدب وال�سيا�سة والفل�سفة ،ويبدو انه يف مرحلة ال�شباب االوىل قد قر�أ الكثري من االدبيات املارك�سية و�أفاد منها يف تدعيم اجتاهاته نحو مقارعة الظلم والف�ساد االجتماعي ،وي�شتد نقد امل�سريي حني يتناول التعليم اجلامعي ويعتربه م�س�ؤوال عن «ت�أخري تكوين املثقف يف العامل العربي» ،وهو امر يعيق التنمية االن�سانية ،ال بل انه يرى ان التعليم يف م�صر قد ا�صبح ا�شبه بنكتة باهظة التكاليف ،وبخا�صة يف ميدان الدرا�سات العليا ،اذ يفر�ض اال�ستاذ على طالبه اراءه وحتليالته مثلما يفر�ض مذكراته التي يعدها لهم ل�شرائها ،حتى ان �آفة الدرو�س اخل�صو�صية قد بلغت �ساحات احلرم اجلامعي ،والنقد اال�شد يطول الر�سائل العلمية اجلامعية ومو�ضوعاتها التقليدية التي ترف�ض اجلديد كما ترف�ض االراء ال�شخ�صية للطلبة ،ناهيك عن ا�سلوب املحا�ضرات التلقينية ،يف جامعة اال�سكندرية ت�أثر امل�سريي -طالب ًا -ب�أ�ستاذته (د .نور �شريف) التي كانت ت�صغي اكرث مما ُتلقي وحتاور اكرث مما حتا�ضر ،وتعقل اكرث مما تنقل ،وحتث وال حتبط ،وهي ذات اال�ساليب التعليمية التي خربها امل�سريي طالب ًا يف الواليات املتحدة ،واتبع الطريق ذاته حني عاد ا�ستاذا لالدب االجنليزي واملقارن يف كلية بنات عني �شم�س ، وواجه يف هذا ال�سياق الكثري من العراقيل والعقبات البريوقراطية اجلامعية. التحدي املعريف ات�سمت ذهنية امل�سريي -كما ا�سلفت -باحلراك امل�ستمر واحلر�ص على جتاوز الذات كلما انفتحت امامه �آفاق اكرث رحابة وعمق ًا ،لقد جتاوز مناهج التحليل احادية البعد يف فهم الظاهرة االن�سانية املركبة ،وطور الحق ًا تلك امل�سافة الفا�صلة بني االن�سان والطبيعة ، واخلالق واملخلوق ،واجل�سد والروح لي�صل اىل اقتناع بالثنائيات الكونية اال�سا�سية ،فالكون متنوع متعدد ال متجان�س وهذا مناق�ض لالحادية املادية التي ترى جوهر ًا واحد ًا لالن�سان والطبيعة. ويف منهجه املعريف يرى امل�سريي ان درا�سة اية ظاهرة ان�سانية ت�ستلزم بال�ضرورة ادراك ظروفها التاريخية واالجتماعية ملعرفة اال�سباب التي تقف وراءها ، ومن هنا ال ي�ؤمن امل�سريي بفكرة القانون العام او القانون الواحد او االجابات النهائية ،وعليه رف�ض ما �أ�سماه «املو�ضوعية املتلقية ـ ال�سلبية» و�صك مفهوم «املو�ضوعية االجتهادية» التي ت�ؤمن بقدرة العقل االن�ساين على توليد املعرفة وانتاجها وابداعها. انها حالة من التحدي العقلي املتوا�صل و�صو ًال اىل مناذج معرفية تف�سريية للظواهر االن�سانية ،والنموذج املعريف كما يراه امل�سريي عبارة عن بنية ت�صورية او خريطة معرفية يجردها العقل من و�سط ك ّم هائل من العالقات والتفا�صيل واحلقائق ،ي�ستبعد بع�ضها ، ويُبقي على البع�ض الآخر في�صوغ منها ن�سق ًا عام ًا. ويف هذا ال�سياق قدم امل�سريي مناذجه املعرفية املهمة يف العلمانية اجلزئية والعلمانية ال�شاملة وا�شكاليات التحيز ،واجلماعات الوظيفية وتطبيقها على اجلماعات اليهودية وال�صهيونية وغري ذلك مما ال يت�سع له املجال. ويرف�ض امل�سريي ك ًال من املادية اخلال�صة واملثالية اخلال�صة ،ويرى ان ك ًال مبفرده مفهوم واحدى اختزايل ،اما حني يتقاطع املفهومان فاننا ندخل عامل ًا مركب ًا �أبعاده هي عامل االن�سان واال�سرار ،كذلك يرف�ض امل�سريي مفهوم الن�سبية يف طغيانه على جوانب احلياة كافة في�صيب القيم واملقد�س واالخالق مبا ينزع القدا�سة عن العامل ويجعل كل االمور مت�ساوية ،ويف هذا ال�صدد يرى ان مفهوم الن�سبية هذا قد فرغ االن�سان االمريكي من الداخل و�ألقاه يف مهب الريح. وامل�سريي �شديد النقد للحداثة الغربية وهو يقول ان
نقده لهذه احلداثة «مت�أثر اىل حد كبري بالنقد الغربي لهذه احلداثة ،وهو ما �أفدت منه �أميا افادة» ،وهو ي�ؤمن مبا �أ�سماه «الن�سبية اال�سالمية» ومفادها ان ي�ؤمن االن�سان ب�أن هناك مطلق ًا واحد ًا هو كالم الله ،وما عدا ذلك هو اجتهادات ان�سانية ،اي ان كل ما هو ان�ساين ن�سبي يف عالقته باملطلق الذي يوجد خارجه. التحدي احل�ضاري لعل من ابرز مالمح امل�شروع الفكري للم�سريي ر�ؤيته للح�ضارة الغربية التي هي يف ت�صوره ح�ضارة النموذج العقالين املادي ،ال العقالين فقط ،اذ ا�ستبعدت الكثري من العنا�صر االخالقية واالن�سانية لت�سبيط الواقع بغية التحكم فيه ،ويرى ان منجزات هذه احل�ضارة امنا هي ثمرة نهب موارد العامل الثالث وان هذه احل�ضارة ـ احلداثة ـ النه�ضة الغربية امنا متت على ح�ساب العامل ب�أ�سره ويورد يف هذا ال�سياق مقطعا من ق�صيدة لل�سياب يخاطب فيها لندن ويقول: ماذا �س�أكتب يا مدينة ـ فعلى مالحمك العجاف جتوب اخيلة ال�ضغينة �س�أقول انك توقدين ـ م�صباح عارك من دم املوتى وجوع االخرين وا�ستنادا اىل ر�ؤيته هذه جتاوز امل�سريي ا�ستخدام م�صطلح «الرتاكم الر�أ�سمايل» و�صك بديال عنه م�صطلح «الرتاكم االمربيايل» ويرى ان اية حماولة لتف�سري معظم الظواهر الغربية دون ا�سرتجاع ملفهوم االمربيالية كمقولة حتليلية ما هي اال حماولة ناق�صة اىل حد كبري ،وي�ست�شهد مبقولة جلارودي يقول فيها ان احل�ضارة االمربيالية الغربية قد «خلقت قربا يكفي لدفن العامل». على ان من يقر�أ كتابات امل�سريي حول احل�ضارة الغربية قد يتفق مع جوانب منها ويختلف يف اخرى ،وذلك ان امل�سريي يركز على رموز ا�سا�سية يف الفكر الغربي مثل نيت�شه وداروين ومارك�س وويليام جيم�س و�آدم �سميث وغريهم ا�ضافة اىل �سيا�سات وممار�سات غربية مرفو�ضة بالفعل ،لكن تلك احل�ضارة -بالرغم من �سلبياتها العديدة ،قدمت اجنازات علمية وان�سانية ال ميكن جتاهلها ،بحيث ي�صبح ا�صدار حكم ادانة قاطع امرا ع�سريا .على ان امل�سريي يقول يف �سريته ان احل�ضارة الغربية احلديثة قد بد�أت ان�سانية هيومانية ،ولكنها ا�صبحت معادية لالن�سانية ،وانه من ثم ميكن احلديث عن ح�ضارتني غربيتني حديثتني :واحدة متمركزة حول االن�سان ،واالخرى متمركزة حول املادة. وتقديري ان العداء لالن�سانية مرتبط مبا�شرة بامل�ؤ�س�سة ال�سيا�سية ،الع�سكرية االمنية ،االعالمية الغربية ،واالمريكية بخا�صة ،اي ب�صانعي القرار ال�سيا�سي الغربي ،وهذا امر قائم ميكن ب�سهولة قبوله والدفاع عنه ،ولي�س بال�ضرورة ان ميثل ه�ؤالء احل�ضارة الغربية بوجوهها ومكوناتها ومنجزاتها كافة ،ولعل ال�سنوات االخرية ت�شري بامللمو�س اىل حجم املعار�ضة ال�شعبية الغربية للممار�سات العدوانية للزعامات ال�سيا�سية والع�سكرية الغربية. على ان امل�سريي ال يرف�ض احلداثة باملطلق ،ويرى ان احلداثة اجلديدة املطلوبة هي تلك التي تتبنى العلم والتكنولوجيا ،وال ت�ضرب بالقيم او الغائية االن�سانية عر�ض احلائط ،حداثة حتيي العقل وال متيت القلب ،تنمي وجودنا املادي وال تفكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود ،تعي�ش احلا�ضر دون ان تنكر الرتاث. حتدي ال�صهونية يخال اىل من ال يعرف امل�سريي عن قرب انه ا�ستاذ يف العلوم ال�سيا�سية او التاريخ او علم االجتماع بالنظر اىل ن�شاطه الوا�سع يف جمابهة ال�صهيونية واجنازاته الفكرية واالعالمية الغزيرة حولها .واحلقيقة ان امل�سريي -قبل تقاعده االكادميي -كان ا�ستاذا لالدب االجنليزي املقارن يف كلية بنات عني �شم�س ،ثم يف جامعة امللك �سعود وجامعة الكويت فيما بعد ، وهذه م�س�ألة مثرية لالنتباه ،على اية حال ال�ستاذ يف االدب خ�ص�ص جانبا ي�سريا من حياته وفكره للمهمة االكادميية دومنا تق�صري ،وك ّر�س اجلزء االكرب منها يف
15
m a n a r a t
درا�سة ال�صهيونية واليهود واليهودية ،وانفق من ماله اخلا�ص الكثري ليتمكن من اجناز م�شروعه التاريخي ،و�أزعم ان امل�سريي يقف اليوم يف مقدمة املفكرين واملتخ�ص�صني العرب يف ال�ش�أن ال�صهيوين ،بل ازعم انه اعمق من كتب يف هذا املو�ضوع ت�أطريا وتنظريا وتف�سريا يف ال�ساحة العاملية قاطبة ،ومل يكن اطراء جمانيا و�صف د .اني�س �صايغ للم�سريي بانه «م�ؤ�س�سة يف رجل ،ورجل يف م�ؤ�س�سة». واحلقيقة ان ما اجنزه امل�سريي يف ميدان ال�صهيونية كمجال معريف عرب تفكيك مقوالتها وهدم مرتكزاتها التاريخية ومربراتها االيديولوجية ،امنا ميثل اخرتاقا ا�صيال و�شامال للفكر ال�صهيوين برمته ، ويكفي ان ن�شري هنا اىل «املو�سوعة» التي قدم فيها امل�سريي ر�ؤية فكرية فل�سفية �شاملة للمفاهيم واملقوالت واالطروحات ال�صهيونية واالدوار الوظيفية جليبها اال�ستيطاين يف فل�سطني وللجماعات اليهودية يف اربع ارجاء االر�ض ،وو�صوله اىل حقيقة موجزها ان ال�صهيونية معادية للتاريخ واالن�سان والقيم ،وان ت�أييد الغرب ال�سرائيل امنا هو خدمة مل�صاحلها اوال ، وجزء من منط فكري اكرب را�سخ يف الوجدان الغربي ،واالميان الكامل بالرباجماتية امل�ستندة اىل ار�ضية داروينية �صلبة �شر�سة واالميان الكامل ب�شريعة القوة والغاب واالمربيالية والعن�صرية ال �شريعة العقل والعدالة ،وما عدا ذلك لي�س �سوى تربيرات ال ت�صلح لتف�سري هذا الت�أييد ،وال ي�ؤمن امل�سريي مب�س�ألة النفوذ اليهودي واليد احلديدية اليهودية ويراها �أ�ساطري ال �سند لها يف التاريخ والواقع ،كما ال يعرتف بوجود ثقافة يهودية او �شعب يهودي ،وال ي�ؤمن بربوتوكوالت حكماء �صهيون ،ويرى ان الغاية الكربى منها تثبيت ت�صورات وهمية يف الذهنية العربية ت�ؤدي اىل احباطهم ،وت�صورات ا�سطورية يف اذهان ال�صهيونية من �ش�أنها ان ُتبقي العربي منك�سرا من داخله .وهو ال ينكر «املحرقة» بل يراها يف اطارها التاريخي كجزء من التاريخ االوروبي ،مبعنى انها لي�ست جتربة يهودية عامة ،بل جتربة اوروبية خا�صة. وت�سرد ال�سرية الكثري من املواقف والن�شاطات االعالمية للم�سريي يف الواليات املتحدة وي�شري اىل انه تلقى �شخ�صيا �سيال من اخلطابات من جماعة كاخ ال�صهيونية و�صلته يف خريف عام 1983تطلب منه التوقف عن ن�شاطه املعادي واال اردوه قتيال ،ويف 21ـ 2ـ 1984اعرتف كاهانا ل�صحيفة «ايديعوت احرونوت» ب�أنه هو الذي ار�سل تلك الر�سائل ،وعندها اخذت االجهزة االمنية امل�صرية االمر على حممل اجلد ووفرت للم�سريي حماية �شخ�صية ،ان امل�سريي الذي اخذ على عاتقه حتدي ال�صهيونية فكرا وممار�سة ،تبنى باملقابل الق�ضية الفل�سطينية التي حتولت - ح�سب قوله -نقطة الثبات والتجاوز ،ذلك انها ق�ضية احلق فيها وا�ضح غري مُبهم ،وال ميكن لالن�سان ان يرف�ضها اال من منظور دارويني مادي �شر�س. وات�سعت يف �ضمريه تلك الق�ضية لت�صبح رمزا للتاريخ االن�ساين ب�أ�سره ،وال بد هنا من اال�شارة اىل ان امل�سريي كتب درا�سة حول االنتفا�ضة االوىل هي اهم ما ُكتب عنها حتى اليوم. التحدي الديني ا�شرت فيما �سبق اىل ان امل�سريي عا�ش جتربة حتول يف مرحلة فكرية معينة من املادية اىل الفل�سفة اال�سالمية ذات البُعد االمياين االن�ساين ،وتبقى ال�سمة اال�سا�سية للم�سريي انه فيل�سوف امياين االقتناع ، ان�ساين النزعة والر�ؤية. يقول الكاتب« :لقد الزمني داء الت�أمل عرب حياتي ،ومل يولد االميان داخلي اال من خالل رحلة عقلية طويلة ، ولذا فامياين اميان ت�أملي عقلي مل تدخل عليه عنا�صر روحية ،واىل �ضرورة اللجوء اىل مقوالت فل�سفية اكرث تركيبة» على ان جتاوز امل�سريي لفكر املارك�سي ال يعني انكار ر�ؤيتها للمجتمع ،فهو ما يزل يعتقد بان املارك�سية «ر�ؤية كلية نقدية للواقع ،ترى الواقع يف ترابطه ويف كليته ،وترف�ض ر�ؤية �سطح اال�شياء بح�ساباتها احلقيقية ،بل حتاول النفاذ اىل بنيتها
الكامنة او جوهرها ،ثم تطرح ر�ؤية ثورية با�سم اجلوهر او «قوانني التاريخ» متجاوزة احلقيقة املادية القائمة». وحول العالقة بني العلمانية والدين والدولة ،ال يرى امل�سريي غ�ضا�ضة يف الف�صل بني الدين والدولة ، ويطلق على هذه الو�ضعية مفهوم «العلمانية اجلزئية» ويف حوار اجريته معه قال امل�سريي ان «العلمانية احتلت اجلزء اال�سا�سي يف م�شروعي الفكري ،فقد قيل لنا ان العلمانية تعني ف�صل الدين عن الدولة ،وهذا تعريف ال ب�أ�س به ،وانا ال مانع عندي من ف�صل الدين عن الدولة اذا كانت الدولة تعني جمموعة االجراءات ال�سيا�سية واالقت�صادية واال�سرتاتيجية ،فانا ومعي كثري من املفكرين اال�سالميني ال نحب ان نرى امل�شايخ يهرولون يف طرقات وزارتي اخلارجية والدفاع وي�صدرون الفتاوى بخ�صو�ص االمور الفقهية التي ال يعرفها غري املتخ�ص�صني ،وال احب ان اجل�س يف جلنة تناق�ش ا�سرتاتيجية م�صر القادمة خالل القرن احلادي والع�شرين ويجل�س اىل جواري احد ال�شيوخ الذي ال يعرف اال اقل القليل عن اال�سرتاتيجية». على ان امل�سريي مييز بني هذه العلمانية اجلزئية ،وما ي�سميه «العلمانية ال�شاملة» التي تعني يف فل�سفته ف�صل القيمة عن احلياة ،بحيث ي�صبح العامل مادة ا�ستعمالية ال قدا�سة لها ،ت�سري عليه قوانني مادية واحدية �صارمة ال متيز بني االن�سان والطبيعة .ان امل�سريي الذي خا�ض حتديه الذاتي املعريف يف م�س�ألة التحول ،كان عليه ان يتلقى نقدا �شديدا من رموز الي�سار التقليدي ،ونقدا مريرا من رموز اال�صولية اال�سالمية الذين يرون يف اطروحة العلمانية اجلزئية مغامرة قد تخرجه من دائرة الدين. وي�شري امل�سريي اىل مو�ضوع الت�سامح الديني وي�ستح�ضر ذلك الزمان امل�صري الذي �سادته روح الت�سامح بني امل�سلمني واالقباط وعالقة املحبة التي كانت تربط امل�صريني ،وي�شيد بدور املعلمني االقباط يف دمنهور «حيث ن�ش�أ» ويقول هذا وي�شعر بغ�صة يف احللق مت�سائال ما اذا كان بامل�ستطاع اعادة انتاج تلك الروح يف املجتمع امل�صري «احلديث» الذي «�أ�صيب بع�ض افراده بلوثة يف مو�ضوع الدين» .وامل�سريي ، الذي يرى �ضرورة ربط الدين بال�سلوك ،ي�ستغرب ان يرى يف اجلامعة -على �سبيل املثال « -فتاة حمجبة ، متم�سكة ب�أهداب الف�ضيلة ،لكنها ال تتورع عن الكذب على اال�ستاذ والغ�ش يف االمتحان» ،ويف�سر هذا ال�سلوك بقوله ان املفهوم التقليدي للقيم االخالقية يركز على تفعيلها يف جمال احلياة اخلا�صة وح�سب ، وان احلياة العامة تقع خارج نطاق االخالق. التحدي االدبي لعل غزارة االنتاج الذي قدمه امل�سريي يف ميادين احل�ضارة واملعرفة وال�صهيونية قد حجب جانبا مهما من منجزاته االدبية .علما ان هذه امليادين م�ضافا اليها االدب ،متثل جماالت معرفية مرتابطة يف فكر امل�سريي ،وهو يقول انه مما �ساعد يف تر�سيخ النموذج املركب لالن�سان يف وعيه الباطن درا�سته لالدب ،اذ يكاد االدب يكون التخ�ص�ص الوحيد الذي ما يزال ينظر اىل االن�سان كان�سان ،ككل مركب ال ميكن رده اىل عن�صر او عن�صرين يف الواقع ،وال ميكن تف�سريه يف �ضوئهما: ويتمثل التحدي االبرز الذي واجهه امل�سريي يف حياته االدبية االكادميية حني قرر ان يقارن -يف ر�سالته للدكتوراه -بني كل من «ويردز ويرث» و«يتمان» يف جامعة جترز بالواليات املتحدة ،وخل�ص فيها اىل ان ويتمان الذي ي�سمونه يف الواليات املتحدة �شاعر الدميقراطية االمريكية « ،امنا هو يف واقع االمر �شاعر ال�شمولية والفا�شية وموت التاريخ واالن�سان». اذ يرى امل�سريي ان ويتمان ر�أى يف امريكا الفردو�س االر�ضي ،قمة كل التطور التاريخي ال�سابق ،دولة العامل والتكنولوجيا التي �ستهدم التاريخ وتعلن نهايته ،قبل ان ي�صدر فوكوياما ر�أيا كهذا يف اواخر الثمانينيات مب�شرا بانت�صار الليربالية امل�ؤدي اىل نهاية الطريق. واكاد اوقن ان ر�أيا كهذا ال يروق لكثري من املثقفني
واالدباء والعرب «وبالطبع لل�شاعر الكبري �سعدي يو�سف الذي ترجم �شيئا من «اوراق الع�شب» لويتمان» فكيف يكون حال اال�ساتذة االمريكيني الذين يرون يف ويتمان زعيما للثورة ال�شعرية االمريكية ،على ان امل�سريي ي�سجل للمجتمع االكادميي االمريكي قدرته على حتكيم اال�صول العلمية يف البحث االكادميي ب�صرف النظر عن االراء ال�شخ�صية للمحكمني واملهتمني ،ه�ؤالء الذين منحوه -وان على م�ض�ض - درجة الدكتوراه يف االدب. وحني اتفق مع ا�ستاذه د .م�صطفى بدوي على اعداد ر�سالة املاج�ستري عن اثر ال�شعر الرومانتيكي وبودلري على جماعة ابولو وناجي حتديدا ،يقول امل�سريي ان ذئب املعرفة الهيجلي قد بد�أ ينه�شه فراح يقر�أ عيون االدب العربي قدميه وحديثه ،واملازين والعقاد وطه ح�سني وغريهم ليهيئ لنف�سه ار�ضا �صلبة من املعرفة االدبية. يف الواليات املتحدة ت�أثر امل�سريي ب�أ�ستاذه ليونيل تريلنج بل فكر ذات يوم يف ان يكتب عنه ر�سالته للدكتوراه ،هذا الناقد االمريكي ال�شهري الذي �آمن ب�أن املجتمعات احلديثة تق�ضي على ان�سانية االن�سان وفرديته وتدجنه وت�ؤدي اىل زيادة التنميط وهيمنة النماذج الآلية على احلياة االن�سانية ب�أ�شكالها كافة. وت�أثر الكاتب اي�ضا مبدر�سة النقد اجلديد ومقوالتها الفل�سفية والنقدية ،واعجب مباير ابرامز ورينيه ويليك وت�شوم�سكي الذي اجرى معه حوارا فكريا مهما يف م�صر .واعجب مبحفوظ والطيب ال�صالح ،ويف الفن كان من اوائل من اكت�شفوا فريوز ،ومل يح�سن اال�ستماع الم كلثوم ،واعجب بالفن االنطباعي والعمارة اال�سالمية وحول منزله اىل متحف للح�ضارة. اما على �صعيد امل�ساهمة يف االدب الفل�سفي ،فقد قدم امل�سريي ترجمات مهمة لنماذج من �شعر املقاومة وخمتارات من ق�صائد حممود دروي�ش الذي يكن له اعجابا �شديدا وتقديرا عاليا ،ال بل انه يقول ان �شعر دروي�ش جعل امل�سريي ي�شعر ان االن�سان الفل�سطيني هو االن�سانية جمعاء ،والن�ضال الفل�سطيني رمز لالن�سان يف عامل واقعي مادي .يقول امل�سريي :يف عام 1965قر�أت الول مرة ا�شعار حممود دروي�ش .من اعماق االر�ض املحتلة جاءنا �صوت امري �شعراء العرب يف الع�صر احلديث يقول: �أ�س�أل حكمة االجداد ـ ملاذا ت�سحب البيارة اخل�ضراء ـ اىل �سجن ،اىل منفى ،اىل ميناء ـ وتبقى رغم رحلتها ـ وبرغم روائح االمالح واال�شواق ـ تبقي دائما خ�ضراء». ويرى امل�سريي ان �شعر دروي�ش يفي�ض بروح جهادية تنطلق من مقدرة االن�سان على التجاوز ، وان ظهور دروي�ش بحد ذاته كان بالن�سبة للم�سريي ا�شبه مبعجزة ،فهذا هو �شاعر الهوية العربية ي�صدح بالغناء بالعربية الف�صحى يف ار�ضه برغم وجود دولة ا�ستيطانية احتاللية قوية م�سلحة تبذل ق�صارى جهدها الن تلغيه ،وتلغي تاريخه وتنكر وجوده. وكان امل�سريي دائما يخو�ض م�سرية التحدي االدبي ،فيكتب ال�شعر وادب االطفال ويحلق ،بني احلني واالخر ،يف عامل كان يطمح فيه ذات يوم اىل ان يكون واحدا من نقاده الكبار ،لكنه �آثر ان يحا�صر ال�صهيونية بدال من ان حتا�صرنا ،وان يكر�س �شيئا من وقته الثمني لالدب ،وكان يف ذلك كله مبدعا بال �شك. وختاما ،ويبدو انه لي�س جلهد هذا املفكر من ختام، فان قيمة هذه ال�سرية تتمثل يف ت�أمل حياة رجل قدم منوذجا فريدا يف ادارة عقله ووقته وموارده وحياته ومعرفته لكي ينت�صر للقيم االن�سانية الكربى يف مواجهة الظلم والفكر الفا�سد ،مب�شرا بقدرة االن�سان على التجاوز ،ان العقود التي ق�ضاها امل�سريي نا�سكا يف حمراب املعرفة ،مل ت�صرفه عما يجري حوله، فا�سلمت له «كفاية» قيادتها يف االونة االخرية باعتزاز وثقة ولكم هو جدير بحمل هذه الراية. ـــــــــــــــــ جريدة الد�ستور االردنية 2008-01-25
2010251996
ﻋﺒﺪ اﻟﻮﻫﺎب اﻟﻤﺴﻴﺮي
manarat رئي�س جمل�س الإدارة رئي�س التحرير
التحرير ----------------نزار عبد ال�ستار الت�صميم ----------------م�صطفى جعفر
طبعت مبطابع م�ؤ�س�سة املدى لالعالم والثقافة والفنون
http://www.almadapaper.com - E-mail: almada@almadapaper.com
�صورة الزفاف عام ..1960