جامل عطّار
من اإلميان بعيىس إىل اللقاء بيســوع املسيح جامل عطّار
من اإلميان بعيىس
من اإلميان بعيىس إىل اللقاء بيسوع املسيح
إىل اللقاء بيســوع املســيح
مــن اإلميــان بعيىس“جــال” شــاب مغــر ّيب ،بــرزت لديــه حاجــة فطر ّيــة إىل اللــه ،فاشــتدّ يف داخلــه عطــش جــارف إىل معرفتــه .التــزم بقــوة وثبــات يف مامرســة اإلســام .عمــل عــى تعريــف اآلخريــن باإلميــان اإلســامي الحقيقــي وتشــجيعهم عــى مامرســته .عــاش بالنبــي مح ّمــد. حالــة مــن اإلعجــاب املدهــش ّ وعنــد انتقالــه إىل فرنســا ملتابعــة دروســه الجامع ّيــة حصلــت مجابهــة بينــه وبــن الغــرب واملســيح ّية ،فكانــت الصدمــة. كيــف واجــه الشــاب “جــال” اكتشــاف إميــان يختلــف متامــا عــن إميانــه وكيــف تعامــل معــه بصــدق؟ كيــف اكتشــف صــورة يســوع املتناقضــة متامــا مــع مــا تلقّنــه ســابقا؟ إنّها مســرة شــخص ّية مثرية للغاية.
جامل عطّار
تعب بصدق عن إميان راســخ وقو ّي، “هذه شــهادة واقع ّية رائعةّ ، بعيــد عن كل مواربة( ”.ســعيد أوجيبو) CHF 10.00 / 8.00 ISBN 978-2-940335-99-2
عندمــا يصطدم املســلم املؤمن بقـ ّوة النعمة
جامل عطّار
من اإلميان بعيىس إىل اللقاء بيسوع املسيح عندما يصطدم املسلم املؤمن بق ّوة النعمة
© و النرش اورانىا 2014
Case postale 128 1032 Romanel-sur-Lausanne, Suisse
جميع الحقوق محفوظة
الربيد االلكرتونيكيت info@ourania.ch : االنرتنيت http://www.ourania.ch : ISBN édition imprimée 978-2-940335-99-2 ISBN format pdf 978-2-88913-958-3
نقله إىل العرب ّية موريس صليبا
منشورات أورانيا ،سويرسا 2014 ،
فهرس املوضوعات
متهيد تقديم 9 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . مقدمة 11. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . شهادة .1يف أرض اإلسالم 17. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .2نظرة اإلسالم إىل املسيحيي 46. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ّ .3لقايئ مع اإلنجيل 53. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .4الرصاع الداخيل76. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .5من أنت؟ هل أنت يسوع؟ 101 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . رب املجد 108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .6يسوع ّ .7وعد 116 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
5
1.1يف أرض اإلسالم أبــرت النــور يف اململكــة املغربيّــة ،هــذا البلــد املخضّ ــب باإلســام حتّــى يف صميــم دســتوره .كنــت خامــس ولــد يف أرسة تتكـ ّون مــن مثانيــة أوالد .ترعرعنــا يف منطقــة ريفيّــة تبعــد عرشين كيلومـرا عــن الــدار البيضــاء ،كــرى مــدن املغــرب .مــا زلــت أذكــر جيّــدا كــم كنــت مهووســا ،منــذ الطفولــة ،بــكل مــا يتّصــل باللــه املاســة للتع ـ ّرف عــى حقيقــة هــذا تعــاىل .يبــدو يل أ ّن حاجتــي ّ اإللــه ،كانــت مرتبطــة بطبيعتــي البيولوجيــة وملتصقــة بكيــاين الفكــري .يف هــذا اإلطــار ،أشــر اىل مــا كانــت والــديت تذكّــرين بــه لربــا غالبــا“ :عنــد والدتــك كان إصب ُعــك مو ّجهــا نحــو الســاء”ّ . كان هــذا مــؤرشا آخــر عــن مــدى شــغفي الكبــر ،منــذ الصغــر، بالبحــث عــن الــرب اإللــه الجالــس عــى العــرش الســاوي.
الشــغف باللــه منذ الصغر مل تعــرف بيئتــي العائليــة واإلجتامعيــة دينــا آخــر غــر اإلســام .لــذا نشــأت عالقتــي باللــه مــن خــال هــذا الديــن باحثــا فيــه عـ ّـا يــروي غليــي الروحــي املب ّكــر .فقــد جــرى تشــجيعي عــى اإلع ـراف بهــذا الديــن ،متامــا كــا يحصــل مــع كل مســلم، مــن خــال تــاوة الشــهادة التاليــة “ :أشــهد أن ال إلــه إالّ اللــه 17
وأن مح ّمــدا رســول اللــه” .كان أيضــا اإلعـراف بهــذا اإلميــان ،مــن خــال تــاوة هــذه الشــهادة وتكرارهــا ،دليــا قاطعــا عــى حقيقــة إســامي .كذلــك بــدأت باكـرا بتــاوة بعــض املقاطــع مــن القــرآن، وحفــظ بعضهــا غيبــا حتــى قبــل دخــويل إىل املدرســة اإلبتدائ ّيــة، إذ كنــت أتلــو الســورة األوىل ،أي الفاتحــة ،املوجــودة يف بدايتــه. كل ســنة ،كان شــهر رمضــان ،شــهر الصيــام ،مناســبة يف ّ مالمئــة لتنشــئة األوالد عــى مامرســة اإلســام .كان يطلــب منهــم الصــوم بعــض األيــام فقــط مــن هــذا الشــهر بهــدف تأهيلهــم تدريجيــا عــى هــذه املامرســة .أمــا أرسيت فلــم تلزمنــي بذلــك إطالقــا .غــر أننــي اخــرت ،مبــلء إراديت ،ويف سـ ّن الســابعة ،البــدء بصــوم رمضــان ،األمــر الــذي ســمح يل غالبــا بالتباهــي عــى أوالد بــأن أصــوم أيامــا أكــر منهــم خــال هــذا الشــهر. عمومتــيّ ، وبالتــايل اكتشــفت معنــى وأهميــة الصــاة الرشع ّيــة أو الطقسـ ّية. يف الواقــع ،ادركــت باكــرا أن الديــن يقــوم عــى مامرســة مجموعــة مــن الواجبــات إلرضــاء اللــه وبأمــل الحصــول عــى نعمــة الغفــران .فالقليــل الــذي تعلّمتــه وبــدأت مبامرســته يف ـدي الرغبــة يف اإلطــاع أكــر فأكــر عــى هــذا الدين، اإلســام ولّــد لـ ّ ي رغبــة شــديدة للتع ّمــق بتعاليمــه وأركانــه. إذ اســتولت ع ـ ّ ـدي أو إىل يف ســبيل ذلــك مل يكــن بوســعي اللجــوء إىل والـ ّ إخــويت الكبــار ،ألن معرفتهــم باإلســام كانــت ســطح ّية ،وإىل ح ـ ّد 18
خاصــة أن مامرســتهم ألركان الديــن كانــت تقتــر مــا ،خرافيــةّ ، ـداي إىل أيّــة مدرســة عــى مناســبات نــادرة .كذلــك ،مل يرســلني والـ ّ قرآنيّــة ،بعكــس مــا كانــت تفعلــه بعــض األرس يف محيطنــا العائــي والســكني .ومــا زلــت أذكــر جيــدا شــغفي الكبــر عند رؤيــة األوالد مــن عمــري يغســلون اللوحــة الســوداء التــي يكتبــون عليهــا آيــات مــن القــرآن بهــدف حفظهــا غيبــا. كذلــك مل يكــن بوســعي تعلّــم يشء مــن رجــال الديــن، كاألمئــة مثــا ،نظــرا ملــكان ســكننا يف منطقــة نائيــة ال يوجــد فيهــا أي مســجد .أمــا أقــرب مســجد فــكان يبعــد ع ّنــا مثانيــة كيلومـرات .وحتّــى لــو توفّــر أي مســجد قريــب مــن قريتنــا ،ملــا أرســلني والــداي إليــه ،بــل إىل مؤسســات التعليــم الرســم ّية. يف املدرســة اإلبتدائ ّيــة كان التعليــم الدينــي يحتـ ّـل القســم األكــر مــن الربنامــج ،إذ يتــ ّم الرتكيــز فيــه دامئــا عــى تحفيــظ القــرآن وبعــض الفرائــض الدين ّيــة ال غــر .أمــا املد ّرســون فلــم يكونــوا متع ّمقــن كث ـرا بأمــور هــذا الديــن .أذكــر فقــط مد ّرســا واحــدا حــاول أن يعلّمنــا شــيئا عــن اإلســام .فــكان يش ـ ّدد عــى ـايس للتع ّمــق بأمــور الديــن .كان حفــظ القــرآن غيب ـاً كمبــدأ أسـ ّ علينــا أن نقــي ســاعات طويلــة يف اســتظهار مقاطــع مــن القــرآن دون إدراك معانيهــا .وهكــذا مل تتوفّــر يل بالتــايل إال فــرص نــادرة لإلســتامع إىل رشوح ق ّيمــة عــن اإلســام. 19
يف البدايــة اعتمــدت عــى نفــي يف تعميــق معرفتــي بهــذا الديــن وإرواء غليــي مــن العطــش إىل اللــه ،وذلــك باللجــوء إىل الكتــب ،إذ تس ـ ّنى يل اكتشــاف بعضهــا خــال مرافقتــي لوالــدي إىل الســوق بهــدف رشاء الحاجــات املنزليــة. يف ذلــك الحــن ،كنــت قــد بلغــت ســ ّن الســابعة .أذكــر ج ّيــدا حالــة الفــرح التــي غمرتنــي عنــد رؤيــة تلــك الكتــب. ومنــذ ذلــك اليــوم بــدأت مبرافقــة أيب كل أســبوع إىل الســوق، فكنــت أتجـ ّول يف الشــوارع واألزقّــة الض ّيقــة املتشــابكة واملضلّلــة. مل تكــن تجتذبنــي روائــح الفشــار أو الفســتق املكرمــل بالســكر، بــل كنــت أبحــث عــن الت ّجــار الصغــار الــذي كانــوا يعرضــون وســط البــازار ،وعــى رفــوف متاجرهــم ،بعــض الكتــب عــن اإلســام ،تلــك الكتــب األنيقــة املغلّفــة باللــون األخــر واملزيّنــة الدينــي .غــر أن ت ّعرضهــا برســوم مذ ّهبــة تشــر إىل مضمونهــا ّ لح ـرارة الشــمس كان يح ـ ّول لونهــا األخــر إىل اإلصف ـرار ،كــا هــو حــال كل الكتــب التــي نشــاهدها اليــوم يف األســواق .كنــت أغتنــم تلــك الفــرص ألطلــب مــن أيب أن يشــري يل بعضهــا. ـض عــى تلــك الكتــب عنــد العــودة إىل املنــزل ،كنــت أنقـ ّ ألفــرس مضمونهــا .غــر ّأن مل أجــد فيهــا إال إرتياحــا مؤقتــا ،إذ مــا كنــت انتهــي مــن قراءتهــا حتــى اشــعر بالحاجــة إىل اإلطــاع عــى غريهــا .كانــت تلــك الكتــب بالنســبة يل كمطــرة مــاء 20
تشــفي غليــي وكأبــواب تفتــح أمامــي نحــو الســاء ،ولكــن رسعــان مــا كانــت تضيــق يف وجهــي. أذكــر كذلــك ع ّمتــي التــي كنــت أتــر ّدد أحيانــا إىل منزلهــا، وأتطلّــع بإعجــاب إىل مكتبــة زوجهــا الــذي كان إنســانا جديــرا باإلحــرام والتقديــر .كان هــذا الرجــل يقتنــي كتبــا كبــرة، ويحافــظ عليهــا يف خزانــة ذات لــون جميــل يبهــر مخ ّيلتــي. مل أتعــ ّرف عــى أي شــخص آخــر مثلــه ،يعيــش عــى بعــد خمــس كيلومــرات مــن قريتنــا يقتنــي كتابــا واحــدا يف بيتــه. كنــت ،يف الواقــع ،أقــرب مــن تلــك الخزانــة باحــرام ورهبــة ،إذ مل يكــن يُســمح ألحــد بلمســها .ولكــن زوج ع ّمتــي كان يأخــذ منهــا أحيانــا كتابــا ويفتحــه أمامــي ،طالبــا منــي أن أقــرأ فيــه. ـر يل بعــض األمــور ي بعــض األســئلة ،ويفـ ّ ثــم كان يطــرح ع ـ ّ عــن اإلســام. عــاوة عــن الكتــب ،كانــت هنــاك مسلســات شــهر رمضــان التلفزيونيــة التــي تركّــز عــى اإلســام وعــى مح ّمــد بالــذات. ـي يف فإليهــا يعــود فضــل كبــر يف ترســيخ أجمــل األفــكار عــن النبـ ّ قلوبنــا الطريّــة ،وإىل دفعنــا إىل محبتــه والتعلّــق بــه .كان مح ّمــد أي بطلنــا املفضّ ــل ،وبطــي أنــا بالــذات ،علــا أنّــه مل يجــرؤ ّ ـي ســينام ّيئ حتّــى اآلن عــى لعــب دوره يف املــرح ممثّــل مرسحـ ّ أو الســينام .كذلــك يحظّــر عــى أي كان رســم صورتــه. 21
أمــا الكتــب التــي كنــت أقرأهــا فكانــت مل ّخصــات عــن اإلميــان ،هدفهــا التنشــئة عــى مختلــف جوانــب اإلســام .كان بعضهــا يعــرض أركان اإلســام الخمســة :الشــهادة ،الصــاة خمــس ـج إىل م ّكــة .كانــت مـ ّرات يف النهــار ،صــوم رمضــان ،الــزكاة ،والحـ ّ تكشــف يل أيضــا عــن رضورة مامرســتها يف حيــايت ،يك أصبــح مســلام ح ّقــا .أمــا البعــض اآلخــر فــكان يــرح مضمــون اإلميــان: أي اإلميــان باللــه ،وبرســله (األنبيــاء) ،وبكتبــه (التــوراة ،الزبــور، اإلنجيــل) ،ومبالئكتــه ،وباليــوم األخــر (يــوم الدينونــة) ،وبالقــدر. كنــت اتق ّبــل كل ذلــك بثقــة كبــرة ،وأومــن بهــا مــن أعــاق الصــاة ،وكيفية قلبــي .وهنــاك كتــب أخــرى تعلّمــت منهــا ماهيــة ّ مامرســتها ،وأوقــات أدائهــا أثنــاء اليــوم ،ويف أي ات ّجــاه جغــرايف يجــب تالوتهــا ،وأي مقاطــع مــن القــرآن ينبغــي اســتعاملها... تعلّمــت أيضــا مــن هــذه الكتــب طــرق الوضــوء والفرائــض التــي يجــب احرتامهــا للبلــوغ إىل النقــاوة والطهــارة. كان العديــد مــن تلــك الكتــب مســتوحى مــن نصــوص التقاليــد اإلســامية القدميــة .كانــت تــروي بشــكل يتــاءم مــع ـيي واهتاممهــم عقل ّيــة الولــد ســرة مح ّمــد وســر خلفائــه الرئيسـ ّ الشــديد يالديــن الجديــد ،وبدايات اإلســام ،وفتوحاته العســكرية، وغريهــا .فــا كنــت اح ّبــه وأعجــب بــه ،عــاوة عــن كل ذلــك، كانــت تلــك القصــص البنــاءة التــي كتبــت يك تبعــث يف القلــب 22
رغبــة شــديدة لعيــش اإلســام ولإلقتــداء بحيــاة مح ّمــد وســلوكه. فأســلوبها كان يثــر اإلحــرام واإلعجــاب بــه ،وكذلــك اإلفتخــار باإلنتــاء إليــه واتّخــاذه مرشــدا يف الحيــاة .كان كالرجــل اآليت مــن عــامل آخــر .فحياتــه كانــت دامئــا أكــر انبهــارا وجــاال وف ـرادة ورومنســية مــن حيــاة أي شــخص آخــر .فكلــا قــرأت عنــه، كان يبــدو يل وكأنــه كائــن فريــد مــن نوعــه ،ليــس كشــخصية تاريخيــة أو إنســان ،بــل ككائــن متم ّيــز متامــا يف كل يشء .كانــت الكتــب تعظّمــه ،دون اإلشــارة إطالقــا إىل ســيئاته .لقــد أصبــح ـتحق إعجــايب ،كــا هــو يف الواقــع فعــا ذلــك البطــل الــذي اسـ ّ ـس .ال ميكننــا حــال كل مســلم .إنــه الرجــل الــذي ال يُنت َقــد وال ُ َيـ ّ احتقــاره ،أو انتقــاده ،أو التقليــل مــن اإلحــرام لــه ،إال إذا ك ّنــا ال نخــاف عــى حياتنــا. مــن البديهــي إذا ،أن ال نجــد يف هــذه النصــوص مــا يــيء إىل ســمعته وكرامتــه .فــا أثــر ألي انتقــاد لــه ،وإن طفيفــا .كــا مل أســمع ابــدا ،خــال وجــودي يف املغــرب ،أيــة مالحظــة ســيئة عنــه. فإســمه ي ُنطــق بــه دامئــا بــكل احـرام ،حتــى مــن قبــل األشــخاص متســكا باإلســام .وتضــاف دامئــا إىل إســمه العبــارة الشــهرية : األقــل ّ “صـ ّـى اللــه عليــه وسـلّم” .فــكان إذا رجــا جميــا للغايــة ،يعيــش بحاميــة اللــه ومحبتــه ،يتمتّــع بــكل الصفــات األخالقيــة والروحية. وهنــاك أســاطري عديــدة تتح ـ ّدث عــن حــاالت تــرز فيهــا ذكاءه 23
وحنانــه وكرمــه وترفّعــه إىل مســتوى ال يســتطيع بلوغــه أي إنســان ـادي .فــكل ذلــك كان يزيــد إعجــايب بــه ويضاعــف رغبتــي يف عـ ّ طاعتــه واتّبــاع خطــاه.
إكتشاف اإلسالم مل أنتظــر طويــا للبــدء عمليــا بتطبيــق تعاليــم اإلســام يف حيــايت .فعنــد نهايــة املرحلــة اإلبتدائيــة بــذل والــداي كل الجهــود لتمكينــي مــن متابعــة تعليمــي ،خاصــة أين كنــت مــن بــن التالمــذة القالئــل الذيــن جــرى قبولهــم يف املدرســة اإلعداديــة الواقعــة يف قريــة تبعــد مثانيــة كيلومـرات عــن بيتنــا .كان يف تلــك القريــة مســجد كبــر .غمــرين الفــرح مــا أن شــاهدته عــن بعــد. بــدأت بالــر ّدد إليــه وأنــا يف الســنة الثانيــة إعــدادي .يف ذلــك املســجد التقيــت رجــاال وشــبابا مص ّممــن وعازمــن عــى مامرســة إســام أصيــل ،مل يتوانــوا عــن تشــجيعي عــى مامرســته وتقدميــه يل وكأنــه اإلســام الوحيــد الــذي ينبغــي اإللت ـزام بــه. كانــت املدرســة اإلعداديــة بعيــدة عــن قريتنــا ،ومل تتوفّــر لنــا ايــة وســيلة نقــل للوصــول إليهــا بســهولة .فــكان ع ّمــي يقودنــا إليهــا أحيانــا عىل ظهــر جـ ّراره الزراعــي ،وأحيانا كان أحــد األصدقاء ي ويســمح يل بالركــوب وراءه عــى د ّراجتــه الناريّــة .أمــا يشــفق عـ ّ يف الســنتني الثالثــة والرابعــة إعــدادي ،فكنــت أقطع تلك املســافات 24
الخاصــة .مل مينعنــي هــذا الواقــع مــن البقــاء فــرة عــى د ّراجتــي ّ أطــول يف تلــك القريــة لتأديــة صــاة الجمعــة ،حتّــى ولــو اضطررت أحيانــا للعــودة إىل البيــت مشــيا عــى األقــدام ...كذلــك أثنــاء العطــل املدرســية ،مل أتــر ّدد إطالقــا عــن املــي عــرة كيلومـرات للتّمكــن مــن املشــاركة يف تأديــة صــاة الجمعــة ،ألنهــا كانــت فرصــة مثال ّيــة لإلطــاع أكــر فاكــر عــى تعاليــم اإلســام واكتشــاف اإلســام الحقيقــي الــذي يعلّمــه وينــادي بــه اإلخــوان املســلمون. ترافــق هــذا التقــ ّدم مــع اقتنــايئ كتبــا أكــر ج ّديــة عــن اإلســام .فاإلعتــاد عــى الــذات أخــذ يــزداد شــيئا فشــيئا يف حيــايت، األمــر الــذي جعلنــي أذهــب وحــدي مــن حــن إىل آخــر إىل أقــرب مدينــة حيــث كانــت تعــرض عــى رفــوف متاجرهــا كتــب ذات ألــوان خــراء مذ ّهبــة .فكنــت أشــري بعضهــا حينــا يتوفّــر ـدي بعــض املــال .فــأول مجموعــة مت ّنيــت رشاءهــا كانــت كتــب لـ ّ “ الحديــث” التــي تجمــع أقــوال مح ّمــد وتتح ـ ّدث عــن األعــال التــي أنجزهــا يف حياتــه ،مبــا فيهــا التافهــة ،رغــم أن معظمهــا يــدور حــول مســائل أكــر ج ّديــة أو يــرح اآليــات القرآنيــة .مــن الناحيــة املا ّديــة ،مل يكــن بوســعي رشاء املجلّــدات الخمــس ملجموعــة “ الحديــث” التــي تضــ ّم أكــر مــن ألفــن وخمســائة صفحــة*، * يعــرف املســلمون رســميا بســت مجموعــات مــن “ األحاديــث النبويــة” جــرى اختيارهــا مــن بــن ماليــن األقــوال واألعــال املنســوبة إىل مح ّمــد والتــي تناقلتهــا التقاليــد .ولكــن يف النهايــة مل يحتفــظ إال بعــدد محــدود منهــا. 25
ولك ّنــي اكتفيــت بـراء كتــب موجــزة عنهــا ومبجموعــات صغــرة تعالــج املواضيــع الــواردة فيهــا. هكــذا أخــذت معرفتــي باإلســام تــزداد برسعــة ،حتّــى أن الكثرييــن مــن النــاس حــويل كانــوا يلجــأون إ ّيل بحثــا عــن أجوبــة لبعــض أســئلتهم الحرجــة يف مجــال الديــن ،إذ كنــت آنــذاك أحــد الشــباب اليافعــن النادريــن الذيــن يجيــدون الق ـراءة ويعرفــون تفســر األمــور .يف الواقــع ،كنــت أهــا لــرد قصــة حيــاة مح ّمــد بــكل تفاصيلهــا واإلشــارة إىل النــكات املضحكــة والبنــاءة املســتقاة مــن الس ـ ّنة .كنــت أعــرف مثــا ،كيــف تق ّبــل محمــد القــرآن يف املـ ّرة األوىل ،كيــف هاجــر مــن م ّكــة إىل يــرب املدينــة ،وأي طريق تت ّبــع ،وكيــف جــرت حاميتــه بأعجوبــة ،إلــخ .غــر أننــي كنــت أيضــا قــادرا عــى إعطــاء معلومــات وفــرة للذيــن يطلبــون م ّنــي عــن الطــرق املختلفــة ملامرســة الديــن .ويف الوقــت نفســه ،كنــت أعلّمهــم كيفيــة تأديــة الصــاة .مل أكتــف فقــط بالــكالم ،بــل كنــت أضــع ح ّيــز التطبيــق كل مــا كنــت أتعلّمــه .و هكــذا كنــت أصــوم أيامــا عديــدة خــارج شــهر رمضــان ،كــا كنــت أرغــب يف مامرســة أعــال إضافيــة ال عالقــة لهــا بالواجــب الدينــي أو مبــا يفرضــه الديــن .كنــت أقــي أوقــات طويلــة يف املســجد وأقــرأ القــرآن كل الصــاة إىل اللــه خمــس مـرات يف اليــوم باتجــاه م ّكــة يــوم .كانــت ّ مامرســة يوم ّيــة قامئــة عــى اإلميــان والصــدق .ويف شــهر رمضــان 26
كانــت تــزداد ح ـرارة إميــاين ،كــا كنــت أحلــم بإمكانيــة تأديــة ـج إىل م ّكــة ،أقــدس مــكان يف اإلســام ،األمــر الــذي فريضــة الحـ ّ يســتطيع املــرء مــن خاللــه بلــوغ ق ّمــة اإلميــان .فاللــه ســيغفر يل بعــد ذلــك كل ذنــويب وســيتيح يل الفرصــة للعــودة إىل نقــاوة قلب ناصعــة البيــاض .كنــت متطلّبــا جــ ّدا مــع نفــي فيــا يتعلّــق للصــاة يف بالنظافــة ،إذ كنــت أتوضــأ باســتمرار يك أكــون جاه ـزا ّ ايــة لحظــة .كنــت أبحــث عــن كيفيــة مامرســة األعــال الحســنة رشيــر قــد أقــدم عليــه ،وســعيا الســتحقاق تعويضــا عــن ّ كل عمــل ّ املغفــرة اإللهيــة .فــإذا مــا رأيــت حجــرا صغــرا عــى الطريــق، كنــت أرفعــه حــاال أو أبعــده عنهــا كعمــل حســن سيسـ ّجله اللــه لصالحــي .وال بــ ّد مــن اإلشــارة إىل أنّنــي كنــت ولــدا مشــاغبا وطائشــا حتّــى اللحظــة التــي ق ـ ّررت فيهــا مامرســة اإلســام.
مسلم حقّا يف املدرســة الثانويــة ،و يف إطــار مامرســتي لإلســام ،إت ّبعــت منهجــا راديكال ّيــا ميكــن وصفــه بالشــمو ّيل أو باألصــو ّيل وفقــا للمصطلــح املتعــارف عليــه يف زمننــا الحــارض .فــا يشء كان الصــاة أثنــاء مينعنــي عــن اإللتــزام باألوقــات املحــ ّددة لتأديــة ّ النهــار .فبينــا كان أصدقــايئ وزمــايئ يهرعــون بهــوس كبــر إىل اللعــب بكــرة القــدم ،كنــت أتّوجــه دون تــر ّدد نحــو املســجد 27
حاملــا يبــدأ املــؤذن بالدعــوة إىل الصــاة .حتّــى إذا ســمعته اثنــاء مبــاراة كــرة القــدم ،كنــت أتــرك رفاقــي وأغــادر امللعــب يف ســبيل لــدي أحيانــا ل ـذّة كبــرة يف الذهــاب إىل ّ الصــاة .كذلــك كانــت ّ املســجد قبــل موعــد اآلذان ،يك أقــوم مبــا كان يفعلــه مح ّمــد قبــل الصــاة اإللزاميّــة .وأحيانــا كثــرة ،وبينــا كان املصلّــون يغــادرون الصــاة ،كنــت أبقــى فيــه وقتــا أطــول يك املســجد عنــد نهايــة ّ الصــاة. أمتّــع نفــي اكــر فأكــر بل ـذّة ّ كل يوم عــاوة عــن ذلــك ،كان أحــد األمئــة ينظّــم بعــد ظهــر ّ يف بعــض املســاجد حلقــات حــول تفســر القــرآن و بعــض املراحــل والروايــات املرتبطــة بحيــاة مح ّمــد .كنــت ســعيدا باملواظبــة عــى حضورهــا كلّــا ســمحت يل الظــروف .وكــم مــن مــ ّرة قضيــت طيلــة فــرة بعــد ظهــر يــوم الجمعــة يف املســجد. كنــت أتــوق باســتمرار إىل مامرســة نق ّيــة صافيــة لإلســام، مجـ ّردة عــن كل الخرافــات .كان بوســعي أن أجــد تلــك املامرســة يف الكتــب وأن اتل ّمســها لــدى أمئــة املســاجد الكــرى يف وســط مدينــة الــدار البيضــاء .مل يكــن يف الــوارد إطالقــا أن أمــارس وصوريّــا .فاإلســام الشــعبي إســاما تقليديّــا ،غــر مســتقيم ،هشّ ــا َ واملتكلّــف مل يــر ِو غليــي أبــدا .كنــت أرى النــاس حــويل ميارســونه ألســباب عبث ّيــة .أمــا أنــا فكنــت أريــد – واآلن فقــط أدرك ذلــك – أن تكــون مامرســتي تق ّربــا مــن اللــه وات ّحــادا معــه ،بهــدف 28
الوصــول إىل الســاء .كنــت أف ّكــر آنــذاك أن الطريــق إليهــا مت ـ ّر عــر معرفــة اإلســام الحقيقــي وتطبيقــه بالطريقــة الفضــى، وكذلــك مــن خــال اإلقتــداء الصــادق واألمــن بحيــاة مح ّمــد. ـي قــدر املســتطاع .فتعلّقــي بــه إزددت تشـ ّوقا للتشـ ّبه بالنبـ ّ والتقديــر الــذي كنــت أك ّنــه لــه دفعــا يب إىل اإلقتــداء بــه بشــكل كامــل .يف الواقــع ،لــو أردت أن أكــون إنســانا تق ّيــا وورعــا ،لــكان مــن واجبــي أوال اإلستســام متامــا للــه ،ثانيــا إمتــام وصايــاه ،وثالثــا اإلقتــداء بنب ّيــه .عــاوة عــى ذلــك ،رأيــت أن القــرآن يقــول يل حرف ّيــا“ :لقــد كان لكــم يف رســول اللــه أســو ٌة حســن ُة ملــن كان يرجــو اللــه واليــوم اآلخــر و َذكَـ َر اللـ َه كثـرا” (االحـزاب . )21 ،ويف مــكان آخــر مــن هــذا الكتــاب يُشــار إىل أن بعــض النــاس كانــوا يتّهمــون مح ّمــدا بانّــه مســكون مــن الشــيطان ويصفونــه بعديــم الفكــر والــذكاء ،فخاطبــه اللــه قائــا“ :وإنّـ َـك لعــى ُخلُــقٍ عظيــم” ( القلــم .)4 ،وهكــذا يَعتــر كل مســلم وكل مســلمة مح ّمــدا كل يشء ،كونــه أرشف الخالئــق وأفضــل األنبيــاء. منوذجــا لهــم يف ّ فاإلقتــداء بــه إذا فريضــة وليــس خيــار.
اإلقتداء مبح ّمد قــررت أن أقتــدي اقتــداء دقيقــا بأفضــل املســلمني يك أصبــح مســلام حقيق ّيــا وكامــا .لذلــك بــدأت بق ـراءة ســرته املتوفّــرة يف 29
كتــب عديــدة .أجهــدت نفــي يك أتع ـ ّرف عــى أعــال واقــوال مح ّمــد يف كل مناســبة مــن حياتــه اليوم ّيــة ســعيا إىل تجســيدها يف حيــايت .كنــت أحيانــا أصحــو مــن النــوم ليــا فأقــرأ مقاطــع مع ّينــة مــن القــرآن .وإذا مــا خرجــت مــن البيــت ،كنــت أح ـ ّرك أوال رجــي اليمنــى .وعندمــا أذهــب إىل املســجد ،مل أكتــف فقــط بتأديــة الصــاة املفروضــة رشعــا ،بــل كنــت أضيــف إليهــا صلــوات أخــرى وســجدات عديــدة متهيــدا للبــدء بالصــاة الطقسـ ّية .وبعــد رضعــات إضافيــة. اإلنتهــاء منهــا ،كنــت أهــرع إىل تأديــة ركعــات وت ّ ـزي وفقــا لتعاليــم مح ّمد ،ونطــق الكلامت كنــت أرغــب يف لبــس الـ ّ التــي كان ير ّددهــا قبــل الطعــام وبعــده ،وغســل األيــدي وتنظيــف األنــف ...متامــا كــا كان يفعــل أو يشــر إىل فعلــه .وعنــد اقـراب موعــد الفطــور يف زمــن الصــوم ،كنــت آكل أوال متــرة مثلــه .وعنــد الذهــاب إىل املرحــاض ،كنــت أجهــد النفــس لإلقتــداء بــه ،علــا أن نصوصــا وفــرة يف الســرة النبويــة تشــر إىل الطريقــة التــي كان ميارســها مح ّمــد يف هــذا املجــال .إن تعلّقــي الشــديد بــه كان أجســد يف حيــايت مــا كان يفعلــه أو أن أتق ّيــد يحثّنــي عــى أن ّ حرف ّيــا بأوامــره وتعاليمــه .كنــت مقتنعــا بــأن هــذا الســلوك هــو األكــر قبــوال لــدى اللــه ،ولــذا كنــت ألجــأ بصــدق وحــاس إىل كل الوســائل املمكنــة يك أســتحق مرضــاة اللــه الرحمــن الرحيــم .كــا كان مــن الــروري أن أمــارس كل أنــواع األعــال الحســنة. 30
مل يكــن مح ّمــد بالنســبة يل ،كــا هــو الحــال بالنســبة لــكل مســلم، نب ّيــا مثــل غــره ،بــل كان آخــر األنبيــاء وأفضلهــم ،كان أمــر خالئــق اللــه و “خاتــم األنبيــاء” كــا يقــول القــرآن (االح ـزاب .)40 ،إنّــه اإلنســان الكامــل ،والنمــوذج األمثــل يف كل يشء ،باســتثناء بعــض الخاصــة بــه ،كالــزواج مــن ثالثــة عــر إمــرأة بــدال مــن األمــور ّ أربعــة لــكل مســلم ،وفقــا ملــا جــاء يف القــرآن: َــك أَ ْز َوا َج َ ِــي إِنَّــا أَ ْحلَلْ َنــا ل َ َّــات ــك ال ِ يَــا أَيُّ َهــا ال َّنب ُّ َــت َيِي ُن َ ــا أَفَــاء اللَّــ ُه ــت أُ ُجو َر ُهــ َّن َو َمــا َملَك ْ آتَ ْي َ ــك ِم َّ ــك َوبَ َن ِ ــك َوبَ َن ِ ــك َوبَ َن ِ ــات َخالِ َ ــات َع َّمتِ َ ــات َع ِّم َ َعلَ ْي َ ــك َوبَ َنـ ِ ـات َها َج ـ ْر َن َم َعـ َـك َوا ْم ـ َرأَ ًة ُّم ْؤ ِم َن ـ ًة ـات َخاالتِـ َـك الَّـ ِ ـي أَن يَ ْسـتَن ِك َح َها إِن َو َه َبـ ْ ـي إِ ْن أَ َرا َد ال َّن ِبـ ُّ ـت نَف َْسـ َها لِل َّن ِبـ ِّ َخالِ َصـ ًة لَّـ َـك ِمــن ُدونِ الْ ُم ْؤ ِم ِنـ َن قَـ ْد َعلِ ْم َنــا َمــا فَ َرضْ َنــا ـت أَ ْ َيانُ ُهـ ْم لِ َك ْيــا يَ ُكــو َن َعلَ ْي ِهـ ْم ِف أَ ْز َوا ِج ِهـ ْم َو َمــا َملَ َكـ ْ َعلَ ْي َ يــا( .االحــزاب)50 ، ــك َحــ َر ٌج َوكَا َن اللَّــ ُه َغفُــو ًرا َّر ِح ً كنــت أعتقــد أن مجــيء مح ّمــد تــ ّم اإلعــان عنــه مــن قبــل األنبيــاء وعــى لســان يســوع املســيح بالــذات حســبام جــاء يف القــرآن: َوإِ ْذ قَـ َ سائِيـ َـل إِ ِّن َر ُسـ ُ ـول ـال ِعيـ َ ـى ابْـ ُن َم ْريَـ َم يَــا بَ ِنــي إِ ْ َ شا اللَّـ ِه إِلَ ْي ُكــم ُّم َص ِّدقًــا لِّـ َـا بَـ ْ َ ـن يَـ َد َّي ِمـ َن التَّـ ْو َرا ِة َو ُم َب ِّ ً ِب َر ُســو ٍل يَـأْ ِت ِمــن بَ ْعـ ِـدي ْاسـ ُم ُه أَ ْح َمـ ُد( .الصف)6 ، 31
واإلســم “ أحمد” هو أحد األســاء األخرى التي أعطيت ملح ّمد*. لقــد أختــر مح ّمــد وأرســل مــن قبــل اللــه ليحمــل الرســالة الوحيــدة التــي أعلنهــا األنبيــاء الســابقون ،وكذلــك إلكــال الديــن: ُهـ َو الَّـ ِـذي أَ ْر َسـ َـل َر ُســولَ ُه بِالْ ُهـ َدى َو ِديــنِ الْ َحـ ِّـق لِ ُيظْ ِه َر ُه شكُــونَ( .التوبــة)33 ، َعـ َـى ال ِّديــنِ كُلِّـ ِه َولَـ ْو كَـ ِر َه الْ ُم ْ ِ أمــا هــؤالء “ املرشكــن” فكانــوا بنظــري كل الذيــن ال يؤمنــون باإلســام ،خاصــة اليهــود والنصــارى الذيــن ال يعرتفــون بوحدانيــة اللــه ألنهــم يرشكــون معــه آلهــة أخــرى. كل مــا كنــت أعرفــه عــن مح ّمــد كان مفعــا بالثنــاء .مل اقــرأ عنــه أيــة قصــص مذهلــة ،تــرزه بصــورة أقـ ّـل تقريظــا مثــل التــي اكتشــفتها الحقــا .لقــد جــرى تجميــل طفولتــه وشــبابه بالقصــص املثــرة لإلعجــاب وامله ّيجــة للنفــوس إىل أقــى الحدود .قُـ ِّدم لنا يف كتــب الـراث بأنّــه األمــن والفريــد بــن البــر .قيــل عنــه يف بعض التوســط والشــفاعة أل ّمتــه يــوم األحاديــث إ ّن اللــه وهبــه إمتيــاز ّ الديــن .وهكــذا ســيتمكّن عــدد كبــر مــن الذيــن اقرتفــوا خطايــا مميتــة واســتحقّوا نــار جه ّنــم ،مــن الخــروج منهــا واالنتقــال إىل الج ّنــة بفضــل وســاطته. * يف األناجيــل مل يعلــن يســوع إطالقــا مجــيء مح ّمــد .لقــد جــرى البحــث بكل الوســائل عــن دليــل واحــد يســمح بتأكيــد العكــس ،فلــم يعــر عــى يشء أبــدا .فــكان ال ب ـ ّد مــن تفكيــك الكتــاب املقـدّس وتفســره بأســوأ الطــرق واخـراع إنجيــل جديــد ،إنجيــل ـص كُتــب يف القــرون الوســطى ،ليــدرج فيــه توقّــع مجــيء مح ّمــد. برنابــا ،وهــو نـ ّ 32
كان مح ّمــد يتيــم األب قبــل والدتــه .ثــم فقــد أ ّمــه وهــو يف السادســة مــن عمــره .قيــل إنّــه كان أ ّم ّيــا ،وهــذا نقــص جــرى تحويلــه إىل صفــة خارقــة أضفيــت عليــه ألنّــه أىت بالقــرآن ،هــذا الكتــاب الفريــد مــن نوعــه .يف بدايــة شــبابه قــام مح ّمــد برحــات تجاريــة مــع قبيلتــه .كان يتحـ ّـى بكثــر مــن الحكمــة والهــدوء حتــى أ ّن سـ ّيدة ثريّــة – تلــك التــي اصبحــت فيــا بعــد زوجتــه – طلبــت منــه إدارة أعاملهــا فنجــح ج ّيــدا يف اســتثامرها وتنميتهــا. كــم كان قلبــي يجيــش فرحــا وســعادة عندمــا كنــت اقــرأ، مثــا ،أن رجــاال مــن النصــارى واليهــود يتم ّيــزون بالحكمــة والعلــم امتحونــه وعــارشوه ،فتبـ ّـن لهــم أنّــه “خاتــم األنبيــاء” .مــن بــن هــؤالء أذكــر الراهــب “بحــرا” الــذي كان مــن أكــر املتعلّمــن بــن النصــارى .قيــل إ ّن “بحــرا” إلتقــى الشــاب مح ّمــد أثنــاء رحلــة تجاريــة إىل بــاد الشــام بصحبــة ع ّمــه ايب طالــب .عنــد اق ـراب القافلــة مــن صومعتــه ،شــاهد الراهــب “بح ـرا” غيمــة ـتظل مــن الشــمس تظلّــل مح ّمــدا .وعندمــا حــاول مح ّمــد أن يسـ ّ تحــت شــجرة ،تدلّــت أغصانهــا لتحميــه .بعــد ذلــك امتحنــه هــذا الراهــب فوجــد عــى ظهــره عالمــة تشــر إىل أنّــه “خاتــم األنبياء”. ثــم تو ّجــه بالــكالم إىل ع ّمــه قائــا“ :خــذ إبــن أخيــك معــك وأعــده أىل بــاده .إح ِمـ ِه مــن اليهــود .واللــه! إذا رأوه وعلمــوا مبــا أعــرف عنــه ،سيســيئون إليــه كثـرا .إن مســتقبال كبـرا ينتظــر إبــن اخيك. 33
أعــده برسعــة إىل بــاده”* .وهنــاك قصــص وروايــات عديــدة مــن هــذا القبيــل متــأ مئــات الصفحــات التــي كتبــت منــذ أكــر مــن ألــف ســنة. هنــاك أيضــا مالمــح عديــدة يف حيــاة مح ّمــد وســلوكه تبــدو يل اليــوم عرضــة للشــك ومخزيــة للغايــة .وبالرغــم مــن ذلــك، كنــت كثــر اإلعجــاب بهــا .فزواجــه مثــا مــن الطفلــة عائشــة، وهــي يف التاســعة مــن عمرهــا ،مل أجــد فيــه كمســلم أي يشء يســتحق اإلزدراء أو الشــجب .ملــاذا؟ ألن البيئــة الثقافيــة التــي نشــأت فيهــا كانــت تقــوم عــى هــذه القاعــدة ،وقــد تب ّنتهــا رشفــة التــي ال تســتوجب اللــوم حتــى أصبحــت مــن األمــور امل ّ إطالقــا .مل أكــن أعــرف يف ذلــك الوقــت أن الرســول بولــس ،وهــو مبعــوث آخــر مــن قبــل اللــه ،كان قــد كتــبَ ﴿ :و َمــا ت َ َعلَّ ْمتُ ُمــو ُه، َوت ََســلَّ ْمتُ ُمو ُهَ ،و َســ ِم ْعتُ ُمو ُهَ ،و َرأَيْتُ ُمــو ُه ِ َّف ،فَهــذَا افْ َعلُــواَ ،وإِلــ ُه الس ـا َِم يَ ُكــو ُن َم َع ُك ـ ْم( ﴾.رســالة إىل أهــل فيليبــي .)9 ،4وهــذا َّ الرســول بالــذات مل يقـ ّدم نفســه إطالقــا كنمــوذج أعــى ،بــل كان يذكّــر النــاس الذيــن يخاطبهــم بأنــه يســعى لإلقتــداء بشــخص آخــر ،أال وهــو يســوع املســيح. مل أشـ ّدد كثـرا عــى رضورة اإلقتــداء مبح ّمد إالّ إلبـراز أهمية شــخصيته املق ّدســة بالنســبة للمســلمني .ولكــن يف الحقيقــة ال * إبن إسحق ،السرية النبوية ،صفحة 122وما يليها .باب “سلوك مح ّمد” 34
يتعلّــق األمــر إال باقتــداء مــن اعتــره املثــال الوحيــد الذي يســتحق أن يُقتــدى بــه ،أي النمــوذج األســمى ،وهــو يســوع املســيح .يبــدو يل أن اإلســام قــام بــكل مــا بوســعه لخطــف األضــواء عــن املســيح ومزايــاه ،بهــدف نســبتها إىل مح ّمــد أو إىل القــرآن ،حتــى أن الكثرييــن يؤمنــون بــأن القــرآن هــو كالم اللــه وهــو غــر مخلــوق. أال يكمــن هنــا هــذا التحـ ّدي األكــر؟
حاميس يف ســبيل الدين ترافــق إلتزامــي باإلســام بعــزم شــديد مــع تعريــف اآلخرين ـامي وحثّهــم عــى تطبيقــه .بــدأت هــذه باإلميــان الحقيقــي اإلسـ ّ والــدي ،فاســتنتجت أنهــا يريــدان احــرام الرســالة أوال مــع ّ الفرائــض ،ولكــن نظـرا ملســتوى املتطلبــات ،إكتفيــا بالقليــل منهــا. فكانــت والــديت تــر ّدد يوميّــا عــى مســامعي بأنّهــا ســتطبّق يومــا كل هــذه الفرائــض. خــال العطــل املدرســية ،خاصــة يف فصــل الصيــف ،كان والــدي يطلــب م ّنــي مســاعدته يف البســتان حيــث كان يهتــم بزراعــة البنــدورة .يف الوقــت نفســه ،كان يســتعني ببعــض العـ ّـال والــرش الكيــايئ وجمــع املحاصيــل الزراعيــة. ّ يف مجــال الــ ّري العــال حقّقــت أوىل انتصــارايت ،إذ كنــت أقــي فمــع هــؤالء ّ معظــم الوقــت يف رشح اإلســام لهــم ،وليــس يف العمــل .فتح ـ ّول 35
حقــل البنــدورة إىل مســجد ،كــا تح ّولَــت أيضــا أوقــات الطعــام والراحــة للتنشــئة عــى اإلســام .بالنتيجــة ،إلتــزم بعضهــم يف مامرســة ج ّديــة لإلســام وأصبحــت أنــا مرشــدا لهــم .مل أرغــب الصــاة ،بــل عــى مامرســة ج ّيــدة للديــن يك يف حثّهــم عــى ّ يســت ّحقوا رحمــة اللــه. دفعتنــي هــذه الغــرة كذلــك إىل اإلهتــام مبعــاق أصــ ّم يصــي خمــس مــ ّرات يف وأبكــم ،فعزمــت عــى تلقينــه كيــف ّ اليــوم ،وكيــف يتوضّ ــا ،وكيــف ميكــن أن يصبــح بالتــايل مســلام صالحــا .كان هــذا املعــاق أحــد أصدقــايئ .فبالرغــم مــن إعاقتــه توصلــت خاصــة بــهّ ، املزدوجــة ،نجــح يف تكويــن لغــة إشــارات ّ إىل فهمهــا مــن خــال معــارشيت لــه .وهــذا مــا ســاعدين يف تنشــئته عــى الوضــوء والتفكــر باللــه ومامرســة اإلشــارات املرتبطــة بالصــاة .وبالرغــم مــن صعوبــة تلقينــه املفاهيــم الروح ّيــة ،شــعرت بإغتبــاط شــديد عنــد رؤيتــه ميــارس بعــض الفرائــض الدينيــة. يف تلــك األثنــاء ،جــرى تشــييد مســجد بالقــرب مــن الصــاة مــكان ســكننا ،ولكــن دون إمــام ،فتط ّوعــت إلدارة ّ فيــه ولتنظيــم “حــوارات دينيــة” عــى شــاكلة مــا كان يجــري يف مدينــة الــدار البيضــاء .وقــد القــى ذلــك استحســانا كبــرا لــدى الجــران الذيــن كانــوا يقــ ّدرون كفــاآيت وج ّديتــي يف 36
أمــور ال ّديــن .وهــذا مــا يســمح يل اآلن بــرداد كالم الرجــل ـت أَت َ َق ـ َّد ُم الكبــر ،الرســول بولــس ،بأننــي يف ذلــك الوقــت ﴿كُ ْنـ ُ ِف [ اإلســام] َعـ َـى كَ ِثريِي ـ َن ِم ـ ْن أبنــاء جيــي مــن بنــي قومــي ِ ــائ﴾ (غالطيــة .)14 ،1 َــرة الشِّ ــدي َدة علىــي ت َقاليــد آبَ ِ ويف الغ ْ َ وال بــ ّد يل هنــا مــن اإلشــارة إىل مــروري يف مراحــل فــر فيهــا حــايس وتديّنــي ،غــر أن عطــي ملعرفــة اللــه كان يــزداد اشــتدادا وحــرارة.
القرآن حتّــى اآلن مل أذكــر شــيئا عــن القــرآن ،هــذا الكتــاب األســايس الــذي يشــكّل العمــود الفقــري للديــن اإلســامي .يف الواقــع، ككل مســلم مغــر ّيب ،مــن خــال الراديــو ،إذ كان إكتشــفته باكـراّ ، تيــر مــن اآليــات .وكذلــك مــن خــال يُــذاع عــره يوميّــا مــا ّ كل صبــاح بإنشــاد التلفزيــون ،إذ كانــت الربامــج اليوك ّيــة تبــدأ ّ بعــض اآليــات القرآنيــة .وهكــذا عرفــت ،منــذ طفولتــي ،أن القــرآن رف بنزولــه هــو آخــر كتــاب أوحــى بــه اللــه ،وأن مح ّمــدا تــ ّ عليــه .تعلّمــت أن أرى ذروة الكــال يف هــذا الكتــاب الــذي يُعتــر معجــزة بفضــل جاملــه اإلنشــايئ ،إذ ال يســتطيع أي امــرئ أن يــأيت بآيــة واحــدة أجمــل مــن آياتــه .وهــذه املعجــزة تش ـكّل تح ّديــا لــكل البــر اســتنادا إىل شــهادة القــرآن نفســه: 37
َــت ِمــن لَّــ ُد ْن ــت آيَات ُــ ُه ث ُــ َّم ف ُِّصل ْ ــاب أُ ْح ِك َم ْ (الــر) كِتَ ٌ يــم َخبِــرٍ( .هــود)1 ، َح ِك ٍ هكــذا ترعرعــت يف ظـ ّـل تكريــم هــذا الكتــاب ،املق ـ ّدس مســه قبــل غســل اليديــن، بنظــر للمســلمني .فلــم يكــن بوســعي ّ أو عــى األقــل ،إن مل أكــن يف حالــة مــن الطهــارة .كــا ال أنــى تلــك األوقــات الطويلــة التــي قضيتهــا يف اســتظهار آياتــه وحفظهــا وحالــة الســعادة التــي كانــت تغمــرين أثنــاء ترتيلهــا. وقــد شــ ّجعني عــى ذلــك مــا قالــه مح ّمــد نفســه وتناقلتــه عنــه الس ـ ّنة: إن مــن يتلــو حرفــا واحــدا مــن القــرآن سيحســب لــه مقــدار عــرة مــن األعــال الصالحــة .أنــا ال أقــول إن (امل) تشــكل حرفــا واحــدا ،بــل (أ) هــي حــرف ،و(ل) هــي حــرف ،و(م) هــي حــرف*. ويف حديــث آخــر ذكــره مســلم ،أحــد الذيــن جمعــوا أحاديــث الســ ّنة اإلســامية ،يقــول مح ّمــد: عــن جبــر بــن نفــر قــال :ســمعت النــواس ابــن ـي يقــول :يــؤىت ســمحان الــكاليب يقــول :ســمعت النبـ ّ بالقــرآن يــوم القيامــة وأهلــه الذيــن كانــوا معــه. * الرتمــزي ،مامرســات ،حديــث رقــم .996ال ب ـ ّد مــن اإلشــارة إىل أن األلــف والــام وامليــم هــي أحــرف يف األبجديــة العربيــة وتشــكّل اآليــة األوىل مــن الســورة الثانيــة يف القــرآن. 38
تق ّدمــه ســورة البقــرة وآل عم ـران لتدافــع كل منهــا عــن الذيــن تأملــوا يف مضمــون القــرآن وط ّبقــوه*. كنــت أتشـ ّوق بــورع كبــر إىل أن يشــهد القــرآن يــوم الديــن عــى صدقــي ومــدى تكريــس حيــايت للــه .لذلــك كنــت أغتبــط كثــرا عنــد إســتامعي إليــه أو تالوتــه ،حتّــى وإن مل أفهــم مــا يقــال .يف الحقيقــة ،القــرآن كتــاب يصعــب جــ ّدا فهمــه .غــر أن األه ـ ّم بالنســبة يل وللجميــع ليــس فهمــه ،بــل بــكل بســاطة قراءتــه واإلســتامع إىل تالوتــه وتجويــده ،ألن اللــه ســيكافئنا عــى ذلــك ،علــا أن ّ املســلم ال يهتــم يف فهــم القــرآن إلدراك إرادة ـحري”. اللــه ،بــل لكونــه كتــاب “سـ ّ
اإلميان مل يشــكّل اإلقتــداء مبح ّمــد واإلندفــاع الــورع يف ســبيل اإلســام إال بعــض الجوانــب األكــر أهميــة يف إميــاين الــذي أردتــه صافيــا ونقيّــا ومســتقيام مــن حيــث املامرســة .مبــاذا كنــت أؤمــن ومــاذا علّمنــي اإلســام عــن أمــور أخــرى مثــل اللــه والخــاص؟ بالنســبة للــه ،كنــت مقتنعــا متامــا بعظمتــه ووحدانيّتــه، وهــذا مــا يش ـ ّدد عليــه القــرآن ورســالة مح ّمــد .فوحدان ّيــة اللــه هــي العقيــدة األساسـ ّية يف هــذا الديــن ،كنــت أعتقــد أنّهــا مت ّيــز * راجــع صحيــح مســلم ،بــاب فضــل الفاتحــة وخواتيــم ســورة البقــرة والحــثّ عــى فــراءة اآليتــن مــن آخــر البقــرة الفقــرة ،)806( 254ص 554 39
اإلســام عــن باقــي األديــان ،ألنــه يرتكــز عــى استســام مطلــق للــه الواحــد األحــد. كنــت أعتقــد أن اللــه أعطــى النــاس رشيعــة ،أو ميثاقــا أحــادي الجانــب ،يلتــزم بومجبــه كافــة املؤمنــن الذيــن ْــت لَكُــ ْم يستســلمون لــه بإدخالهــم إىل ج ّنتــه “ :الْيَــ ْو َم أَكْ َمل ُ يــت لَكُــ ُم ا ِإل ْســا َم ــت َعلَ ْيكُــ ْم نِ ْع َم ِتــي َو َر ِض ُ ِدي َنكُــ ْم َوأَتْ َ ْم ُ ِدي ًنــا” (املائــدة .)3 ،اإلســام هــو آخــر الديانــات جــاء ليث ّبــت املعــر عنهــا يف وحدان ّيــة اللــه ورضورة اإلستســام إلرادتــه ّ املجســدة لهــا .فــإذا اختــار إنســان هــذه الرشيعــة ،وبالتــايل ّ دينــا آخــر فلــن يقبــل منــه ،حســبام جــاء يف القــرآنَ “ :و َمــن ـر ا ِإل ْس ـا َِم ِدي ًنــا فَلَــن يُ ْق َبـ َـل ِم ْن ـ ُه َو ُه ـ َو ِف ِ اآلخ ـ َر ِة ِم ـ َن يَ ْبتَ ـغِ َغـ ْ َ اسيـ َن” (ال عمــران .)85 ،فالديــن الــذي أراده اللــه للبــر الْ َخ ِ ِ يقــوم عــى خمســة أركان ،والــذي يط ّبقهــا ميكنــه أن يأمــل بالحصــول عــى مغفــرة اللــه .هــذا اإللــه األحــد ،اللــه ،كان ينتظــر م ّنــي خضوعــا واستســاما تا ّمــا إلرادتــه ،وفــق مــا جــاء يف القــرآن ويف الحديــث. كان يبــدو يل مــن البداهــة أن يكافئنــي اللــه ،باملقابــل ،عــى أعــايل الصالحــة وعــى احرتامــي وطاعتــي لوصايــاه! ـي قــال“ :مــن عــن أيب هريــرة ريض اللــه عنــه ،عــن النبـ ّ صــام رمضــان إميانــا واحتســابا ،غفــر لــه مــا تقــ ّدم 40
مــن ذنبــه .ومــن قــام ليلــة القــدر* إميانــا واحتســابا غفــر لــه مــا تق ـ ّدم مــن ذنبــه†. أمــا املشــكلة التــي واجهتنــي آنــذاك فكانــت تكمــن يف جهــي إن كنــت قــد مارســت أعــاال صالحــة أم ال .يف الحقيقــة، كنــت آمــل أن يرجــح وزن أعــايل الصالحــة عــى وزن أعــايل الســيئة .غــر أين كنــت ،ككل مســلم ،أستســلم إلرادة اللــه ورحمتــه ،ولكــن دون أي ضــان يؤكــد يل الذهــاب إىل الســاء، إال يف حــال اإلستشــهاد .وحتــى اليــوم األخــر ال يعــرف أي مســلم إذا كانــت أعاملــه الصالحــة كافيــة وتؤهلــه للذهــاب إىل الســاء. إن مســلمني كثرييــن ينتظــرون املــرور يف مــكان مــا للتكفــر عــن خطاياهــم أو عــن عــدم التق ّيــد بوصايــا اللــه ،وذلــك بانتظــار قـرار دخولهــم إىل الج ّنــة. يف النهايــة ،وباســتثناء أعــايل الصالحــة ،كان أمــي كبــرا برحمــة اللــه وبشــفاعة مح ّمــد .غــر أن هنــاك خطيئــة واحــدة ال يســتطيع اللــه غفرانهــا (ومل يكــن واردا أن اقرتفهــا يف حيــايت) وهــي إرشاك آلهــة أخــرى معــه. إن اللــه ال يغفــر أن يــرك بــه أحــد ويغفــر مــا دون ذلــك ملــن يشــاء ومــن يــرك باللــه فقــد افــرى إمثــا عظيــا( .النســاء)48 ، * “ليلة القدر” هو إسم الليلة التي نزل بها القرآن عىل مح ّمد † صحيح البخاري 41
بفضــل وســاطة مح ّمــد كنــت أف ّكــر بإمكانيــة الخــروج مــن جه ّنــم ،ألنــه إذا وجــد “ذ ّرة” مــن اإلميــان يف قلــوب املؤمنــن بــه ،فســيخرجهم منهــا .بالنســبة للخطايــا الصغــرة ســيصفح عنهــا تلقائيــا .امــا الخطايــا الكبــرة فســيكفّر عنهــا يف جه ّنــم لفــرة قصــرة أو طويلــة. بالنســبة يل كان واضحــا أن كل يشء يتعلّــق باللــه. ـدي ايــة وســيلة ملعرفــة إذا كنــت أســر يف الطريــق مل تتوفّــر لـ ّ الصحيــح أم ال ،ومــاذا ســيفعل يب اللــه ،هــل ســيقبل أعــايل الصالحــة ،وهــل هــي كافيــة أم ال .ولكــن هــذا األمــر مل يقلقنــي إذ ال يســتطيع أي مســلم التأكيــد بأنــه ســيذهب مبــارشة إىل الج ّنــة ،باســتثناء الشــهداء .فاملســلمون الذيــن مل يتمكنــوا مــن تطبيــق رشع اللــه واحــرام وصايــاه عنــد مثولهــم أمــام اللــه يــوم الدينونــة ،يلجــأون إىل الجــواب التــايل“ :نضــع أنفســنا بــن ـدي اللــه فهــو رحمــن رحيــم” .وعندمــا يطــرح الســؤال عــى يـ ّ الذيــن هــم أكــر ج ّديــة يف مامرســة إســامهم وأشــ ّد تقــوى وورعــا ،فيعطــون أيضــا نفــس الجــواب. إذا ،مــن خــال اإلستســام والطاعــة العميــاء للــه ولنب ّيــه، كنــت آمــل يف اســتحقاق الج ّنــة .ودون أن أدري كان قلبــي يتــوق إىل اإلتحــاد باللــه ،ولك ّنــي مل أكــن أبحــث عــن ذلــك. فلــم أكــن يف الواقــع أرى مــا بوســعه طأمنــة نفــي إال معرفتــه 42
واإلتحــاد بــه واقتســام قلبــه .فــا كنــت أحلــم بــه وأمــارس األعــال الصالحــة مــن اجلــه ال عالقــة لــه بج ّنــة املســيحيني، حيــث تعيــش النفــوس يف حضــور الــرب ويف ات ّحــاد أبــدي معــه ،بــل يتّصــل مبــارشة بالج ّنــة ذات املل ـذّات املا ّديــة التــي يصفهــا القــرآن ،حيــث يتوفّــر لنــا مــا حرمنــا منــه عــى هــذه األرض .هــذه هــي الج ّنــة الوحيــدة التــي كنــت أعرفهــا ،ومل أتصــ ّور إطالقــا وجــود ج ّنــة أخــرة تختلــف عنهــا .فاملســيحية تتح ـ ّدث عــن ق ّمــة الحيــاة عندمــا نبلــغ إىل التأمــل باللــه وإىل معرفــة حياتــه ،بينــا يصـ ّور لنــا اإلســام ق ّمــة الوجــود اإلنســاين بالحصــول عــى املل ـذّات يف إطــار مــا ّدي وذلــك يف ج ّنــة تتوفّــر فيهــا املــآكل الشّ ــه ّية املتن ّوعــة وأطيــب الخمــور اللذيــذة وأجمــل النســاء بعــدد كبــر .وبــكالم آخــر :ج ّنــة القــرآن تقتــر عــى مــآدب دامئــة شــهوانية يحلــم بهــا عــادة الرجــال .إنّهــا ج ّنــة مليئــة بامللــذّات الشــهوانية ولك ّنهــا فارغــة مــن وجــود اللــه .فالقــرآن ال يتح ـ ّدث عــن حيــاة أبديــة يقضيهــا املؤمنــون بحضــور اللــه وال عــن التأمــل بوجهــه البهــي .إليكــم هــذا املفصــل للج ّنــة كــا كنــت أقــرأه يف القــرآن: الوصــف ّ ــك الْ ُم َق َّربُــو َن ِف َج َّن ِ الســا ِبقُو َن أُ ْولَ ِئ َ ــات الســا ِبقُو َن َّ َو َّ يــل ِّمــ َن ِ اآلخرِيــ َن، يــم� ،ثُلَّــ ٌة ِّمــ َن األَ َّولِــ َن َ ،وقَلِ ٌ ال َّن ِع ِ س ٍر َّم ْوضُ ونَـ ٍةُ ،متَّ ِك ِئ ـ َن َعلَ ْي َهــا ُمتَقَا ِبلِ ـ َن .يَطُـ ُ ـوف َعـ َـى ُ ُ 43
اب َوأَبَارِيـ َـق َوكَأْ ٍس ِّمــن َعلَيْ ِه ـ ْم ِولْـ َدا ٌن ُّم َخلَّ ـ ُدو َن ِبأَكْ ـ َو ٍ ــا َّم ِعــنٍ ،ال يُ َص َّد ُعــو َن َع ْن َهــا َوال يُن ِزفُــونََ ،وفَاكِ َهــ ٍة ِّم َّ ــا يَشْ ــتَ ُهونََ ،و ُحــو ٌر ِعــ ٌن ــرونََ ،ولَ ْح ِ َــرٍ ِّم َّ ــم ط ْ يَتَ َخ َّ ُ كَأَ ْمثَــا ِل اللُّ ْؤلُ ـ ِؤ الْ َم ْك ُنــونِ َج ـ َزاء بِ َــا كَانُــوا يَ ْع َملُــونَ .ال يَ ْسـ َم ُعو َن ِفي َهــا لَ ْغـ ًوا َوال تَأْثِيـ ًـا إِالَّ ِقيــا َســا ًما َســا ًما. ـاب الْ َي ِمـ ِن ِف ِسـ ْد ٍر َّمخْضُ و ٍد ـاب الْ َي ِمـ ِن َمــا أَ ْص َحـ ُ َوأَ ْص َحـ ُ ُوب َوفَاكِ َهـ ٍة َوطَلْـ ٍح َّمنضُ ــو ٍد َو ِظـ ٍّـل َّم ْمـ ُدو ٍد َو َمــاء َّم ْسـك ٍ كَ ِث ـ َر ٍة ّل َم ْقطُو َع ـ ٍة َوال َم ْم ُنو َع ـ ٍة َوفُ ـ ُر ٍش َّم ْرفُو َع ـ ٍة .إِنَّــا أَنشَ ــأْنَا ُه َّن إِنشَ ــاء ،فَ َج َعلْ َنا ُهــ َّن أَبْــكَا ًراُ ،ع ُربًــا أَت ْ َرابًــا ـاب الْ َي ِمـ ِن �ثُلَّـ ٌة ِّمـ َن األَ َّولِـ َن َو�ثُلَّـ ٌة ِّمـ َن ِ اآلخرِيـ َن. لِّ َ ْص َحـ ِ (الواقعة)40-10 ، ال أهــدف مــن نــر هــذا املقطــع الطويــل إالّ إعطــاء فكــرة واضحــة عــن الج ّنــة التــي كنــت أنتظرهــا وأحلــم بهــا عــى غـرار كل مســلم .وهــذا مــا يوضّ ــح للقــارئ تص ّورنــا للعــامل الروحــي الــذي مل يتجــاوز هــذه اآلمــال والتطلّعــات اإلنســان ّية األرض ّيــة. هــذا مــا كنــت أريــده وأعمــل لــه ،متامــا كــا يرغــب فيــه كل مســلم حتــى يومنــا هــذا .فالج ّنــة التــي يصفهــا لنــا القــرآن ال عالقــة لهــا إطالقــا بالج ّنــة التــي يتحـ ّدث عنهــا الكتــاب املقـ ّدس والتــي تقــوم ،كــا ذكــرت ســابقا ،عــى املشــاركة بحيــاة اللــه والســعادة األبديّــة. 44
يف حقيقــة األمــر ،هنــاك هـ ّوة ســحيقة بــن عــامل املســيحيني وعــامل املســلمني ،وكذلــك بــن مفهــوم وطبيعــة اإللــه الــذي يعبــده كل فريــق .فأحدهــم يعــد املؤمنــن بامللــذّات املا ّديــة الخاصــة .إلــه القــرآن يعــد ويرحــل ،واآلخــر يرشكهــم يف حياتــه ّ أنصــاره مبــا كان يحلــم بــه البــدو يف الصحــاري القاحلــة ،أمــا إلــه املســيحيني فيقــ ّدم للمؤمنــن بــه الحالــة الواقعيــة التــي ترضيهــم ،فيق ـ ّدم لهــم ذاتــه.
45
جامل عطّار
من اإلميان بعيىس إىل اللقاء بيســوع املسيح جامل عطّار
من اإلميان بعيىس
من اإلميان بعيىس إىل اللقاء بيسوع املسيح
إىل اللقاء بيســوع املســيح
مــن اإلميــان بعيىس“جــال” شــاب مغــر ّيب ،بــرزت لديــه حاجــة فطر ّيــة إىل اللــه ،فاشــتدّ يف داخلــه عطــش جــارف إىل معرفتــه .التــزم بقــوة وثبــات يف مامرســة اإلســام .عمــل عــى تعريــف اآلخريــن باإلميــان اإلســامي الحقيقــي وتشــجيعهم عــى مامرســته .عــاش بالنبــي مح ّمــد. حالــة مــن اإلعجــاب املدهــش ّ وعنــد انتقالــه إىل فرنســا ملتابعــة دروســه الجامع ّيــة حصلــت مجابهــة بينــه وبــن الغــرب واملســيح ّية ،فكانــت الصدمــة. كيــف واجــه الشــاب “جــال” اكتشــاف إميــان يختلــف متامــا عــن إميانــه وكيــف تعامــل معــه بصــدق؟ كيــف اكتشــف صــورة يســوع املتناقضــة متامــا مــع مــا تلقّنــه ســابقا؟ إنّها مســرة شــخص ّية مثرية للغاية.
جامل عطّار
تعب بصدق عن إميان راســخ وقو ّي، “هذه شــهادة واقع ّية رائعةّ ، بعيــد عن كل مواربة( ”.ســعيد أوجيبو) CHF 10.00 / 8.00 ISBN 978-2-940335-99-2
عندمــا يصطدم املســلم املؤمن بقـ ّوة النعمة